شوال - 1328هـ
نوفمبر - 1910م(13/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من باريس
أرسلها منها محمد مختار أفندي إلى أخيه محمد سليم أفندي المسلمي أحد قُرّاء
المنار بمصر.
(س 37-48)
(س1) ما هو الرِّقّ، (2) كلمة عمومية على الحقوق التي يَفْضُل الحُرُّ
فيها العبد (مقارنة) ، وتكفي الإشارة للفروق ولو البعض.
(3) كيف أن الشريعة الإسلامية أباحت الرِّقَّ، مع أنها شريعة العدل
والمساواة.
(4-6) كيف يَحلّ استمتاع السيد بمملوكته، وكيف يتزوج المسلم أربع
حرائر، ويتمتع بالإماء بلا حصر (لأن ذلك تَوحّش) .
(7) ما سبب زيادة أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) على أربع،
اللاتي أباحتهم (كذا) الشريعة.
(8) لِمَ لا يحكم القاضي بمذهب المتخاصمين بمصر، ولو فعل ماذا يكون
الحكم.
(9) كيف كان الزواج في الجاهلية عند العرب، وهل تعدّد الزوجات كان
الغالب أم الغالب واحدة.
(10 - 11) ما هي الكفاءة المشروطة للزوجة في الجاهلية، وما هي
حقوق المرأة في الجاهلية.
سيدي الأستاذ الجليل: السيد رشيد رضا
أرجو أن تقتطع من وقتك الثمين بُرْهة تردّ فيها على هاته الأسئلة بطريق
الاختصار، أو مشيرًا إلى الكتب التي ينبغي الاطلاع عليها للاستعانة بها على دَرْء
العنوان الموضَّح أدناه، وفي الختام تَفضّلوا بقبول احترام وتسليمات.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... محمد سليم المسلمي
(أجوبة المنار)
1- ما هو الرِّقّ:
الرق والاسترقاق هو مِلْك الإنسان، ويسمَّى المملوك رقيقًا، وكان ذلك
مشروعًا عند الأمم قبل الإسلام، فأقرَّ الإسلام الناس عليه مع الإصلاح الذي يذكر
في جواب السؤال الثالث.
2- ما يفْضُل الحُرُّ به العبْدَ:
يفضل الحر العبد في الولاية والقضاء، فالرقيق لا يكون إمامًا ولا سلطانًا
للمسلمين ولا قاضيًا عليهم والعِلّة ظاهرة، ويفضله بأنه يملك ويتصرف بملكه،
والعبد لا يملك؛ ولذلك لا يرث أهله، وخفَّفت الشريعة عن العبيد بعض الأحكام،
فلا تجب عليهم صلاة الجمعة، وعليهم نصف ما على الأحرار من عقوبات الحدود
فالحر يجلد على قذْف المحصنات ثمانين جلدة والعبد يُجْلد أربعين، ويجلد الحر على
الزنا مائة جلدة والعبد خمسين جلدة. وهناك أحكام أُخَر في عدد الأزواج وعدد
الطلاق، والقَوَد من السيد وغيره من الأحرار، وليست كلها متَّفقًا عليها في حديث
سَمُرَة عند أحمد وأصحاب السنن الأربعة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:
(مَنْ قتل عبده قتلناه، ومن جَدَع عبده جَدَعْناه) حسَّنه الترمذي، وفي رواية
لأبي داود والنسائي (ومن خصى عبده خصيناه) .
3- إباحة الرق:
إنما أقرت الشريعة الإسلامية الناس من المشركين وأهل الكتاب على الرِّقّ؛
لأنه كان من الأمور الاجتماعية الراسخة التي لا يمكن تركها بمجرد تحريمها، ولا
يكون تركها فجأة خيرًا للسادة ولا للأرقاء أيضًا؛ لأن الأولين قد ناطوا بالآخرين
كثيرًا من أعمالهم الزراعية والتجارية والصناعية والمنزلية، حتى صاروا عاجزين
عن القيام بها بأنفسهم، وجرى العمل على ذلك قرونًا كثيرة، حتى ضعُف استعداد
السادة لهذه الأعمال، وصار من المحقق أن العتق العامّ دفعة واحدة يُفْضي إلى فساد
اجتماعي كبير. وأما كونه لا خير فيه للعبيد أنفسهم، إذا هو حصل دفعة واحدة
بتكليف شرعي، فهو أن هولاء صاروا بطبيعة الاجتماع عَالَة على سادتهم، حتى
إنهم إذا تركوهم لا يعرفون كيف يعيشون، ولا كيف يعملون، فكان من حكمة هذه
الشريعة الفِطْرية الاجتماعية أن تُقرّ الناس على ما جروا عليه في أصل الرق،
وتضع لهم أحكامًا تكون تمهيدًا لإلغاء الرق بالتدريج، فأمرت السادة أن يُساوُوا العبيد
في الطعام واللباس، وأن لا يكلفوهم ما لا يطيقون، وأن يعينوهم على أعمالهم
ويساعدوهم فيها، وأوجَبتْ عليهم العتق بأسباب متعددة؛ فجعلته كفارة لبعض
الخطايا؛ كالظِّهار وملامسة النساء في نهار رمضان للصائمين والحِنْث باليمين.
وجعلت للعتق أسبابًا كثيرة؛ منها أنه إذا مثَّل بعبده عَتَقَ عليه وصار حرًّا، وورد
هذا في الأحاديث المرفوعة، وكذلك التعذيب الخفي كالذي أَقْعَدَ أَمَتَه في مقلي حارّ
فأحرق عَجُزها، فأعتقها عمر بذلك وعاقبه، بل قال صلى الله عليه وسلم (من لطم
مملوكه أو ضربه فكفارته أن يُعْتقه) رواه مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه من
حديث ابن عمر، وعن سويد بن مقرن قال: كنا بني مقرن على عهد رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) ليس لنا إلا خادمة واحدة فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك النبي
(صلى الله عليه وسلم) فقال: (أَعْتِقوها) رواه مسلم وأبو داود والترمذي، وفي
رواية أنه قيل للنبي (صلى الله عليه وسلم) : إنه لا خادم لبني مقرن غيرها، قال
(فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها) وروى مسلم وغيره عن أبي
مسعود البدري من حديث قال فيه: كنت أضرب غلامًا بالسوط فسمعتُ صوتًا من
خلفي إلى أن قال: فإذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (إن الله أَقْدَر
عليك منك على هذا الغلام) ، وفيه قلت يا رسول الله: هو حرّ لوجه الله فقال:
(لو لم تفعل لفحتك النار أو لمستك النار) ولو اتبع المسلمون هذا الإرشاد وحده أو لو
كان حُكامهم بعد الخلفاء الراشدين نفذوا أحكام الشريعة كما كان ينفذها الراشدون؛
لبطل الرق في القرن الأول في بلاد الإسلام على أن الفقهاء الذين اختلفوا فيما تدل
عليه هذه الأحاديث من وجوب عتق العبد الذي يُضْرب ويهان، قد صرحوا بأن
العتق ينفذ، ولو كان المُعْتِق هازلاً أو سكران، وأن حكم القاضي به ينفذ مطلقًا،
ولو كان ظالمًا في حكمه، وأن الإقرار بالرق لا يمنع دعوى الحرية بعده، وأن
الرقيق إذا ادَّعَى أنه حرّ يُصَدَّق ويحكم بحريته، إلا إذا أثبت سيده ملكه له، وإن
من أعتق جزءًا من عبد عَتَقَ كله، ثم إن الشريعة قد جعلت جزءًا من مال الزكاة
المفروضة؛ لأجل فك الرقاب من الرق ومع هذا كله رغَّبت المسلمين في العتق
ترغيبًا عظيمًا، والآيات والأحاديث في هذه كثيرة جدًّا، فهذه عدة طرق عملية
لإبطال الرق بالتدريج بحيث لا يشقّ ذلك على المالكين، ولا يبطل مصالحهم
ومنافعهم، ولا يجعل أمر المعتوقين فوضى، ويوقعهم في مَهْمَه الحيرة في أمر
معاشهم، ومن قرأ أخبار تحرير العبيد في أمريكة، ظهرت له حكمة الإسلام فيما
شرعه للناس في هذه المسألة. ولكن المسلمين لم يقيموا دينهم كما أُمِرُوا، ولا سيما
في المسائل التي هي من شأن الحكام؛ ولذلك قال بعض حكماء الإفرنج: إن لمعاوية
الفضل الأكبر على أوربا؛ إذ هو الذي حفظ لها استقلالها بجعل الحكومة الإسلامية
حكومة شخصية موروثة، ولو سار هو ومن بعده سيرة الراشدين لَمَلَك المسلمون
أوربا كلها وسائر العالم القديم.
وقد سبق لنا بحث في هذه المسألة من قبل فلا نطيل فيها الآن.
4-6 - التسَرِّي وتعدُّد الزوجات وعدم حَصْر السَّرَارِي.
بينا غير مرة أن إباحة التسرِّي قد كان رحمة من الله بالإماء المملوكات، فقد
كانوا في الجاهلية يرون أن الإماء يباح لهن الزنا ولا يباح للحرائر، وكانوا
يتخذونهن للبغاء؛ لأجل الكسب بأعراضهن، فحرَّم الإسلام الزنا تحريمًا باتًّا وأباح
للناس أن يستمتعوا بما ملكت أيمانهم؛ ليصونوا عِرْضهن؛ وليكون ذلك وسيلة
لتحريرهن، فإن الأَمَة إذا صارت أُمَّ ولد بَطَلَ رقّها، وصارت حرّةً كالزوجة،
فما أَعْدَل هذا الحكم وما أحكمه.
ولو لم يبح التسرِّي بالمملوكة في أُمَّة حربية كالأمة الإسلامية يكثر فيها النساء
ويقل الرجال؛ لثقل على النساء المملوكات الرِّق بمنعه إياهن من أعظم وظائف
الفطرة؛ ولأغراهن ذلك بالفسق الذي لا يبيحه الإسلام بحال من الأحوال.
وأما حكمة تعدد الزوجات وما يشترط فيها، فقد بيناها بيانًا كافيًا في نحو من
30 صفحة من تفسير الجزء الرابع، فتراجع فيه من ص 344-374 أو في
المنار.
وأما كون التمتُّع بالإماء لا يشترط فيه العدد، فقد علَّلُوه بكون الأَمَة ليس لها
حقوق على السيد كالقَسْم والمساواة، فلا يضر الاستكثار منهن لذلك، والأصل
الصحيح فيه أن الحرب يُقتل أو يُفنى فيها الرجال ويبقى النساء لا كافل لهن، فيكون
من المصلحة العامة وكذا من مصلحتهن الخاصة في بعض الأحوال، ولا سيما في
القرون الأولى للإسلام أن يوزَّعْن على الرجال الغالبين لكفالتهن وكفايتهن أمر
معيشتهن، والخير لهن حينئذ أن تكون معاملتهن كمعاملة الأزواج لِمَا تقدَّم آنفًا، ولا
ضرر في الصحة لا في الهيئة الاجتماعية أن يكون للرجل الواحد نسل من نساء
كثيرات يعوض على الأمة ما خَسِرَتْه في الحرب , وإنما الضرر ما عليه أوربا الآن
من إباحة الزنا، واختلاف الرجال الكثيرين على المرأة الواحدة، فإن ذلك يقلل النسل
كما هي الحال في فرنسة، ويُحدث أمراضًا كثيرة، ولولا ارتقاء فن الطب في
أروبه لأفنتها الأمراض الزُّهْرية وغيرها، ولم يكن في التسرِّي وتعدُّد الزوجات
مفاسد منزلية كثيرة في أول الإسلام؛ لِمَا كانوا عليه من العدل ومكارم الأخلاق
وسلامة الفطرة وقلة الحاجات، وأما مسلمو هذا الزمان فإن لتعدد الزوجات فيهم
مفاسد كثيرة كما بينا ذلك في تفسير آية التعدد، وجملة القول أن منع الزنا ووجوب
كفالة النساء وإحصائهن والحاجة إلى كثرة النسل، والتوسل إلى عتق المملوكات
بصيرورتهن أمهات أولاد؛ هو الذي كان سبَبَ إباحة الاستمتاع بهن وعدم التقيد بعدد
فيهن، ولا سيما في حال كثرتهن، وذهب الأستاذ الإمام إلى أنه لا يجوز للرجل أن
يستمتع بأكثر من أربع منهن؛ قياسًا على زواج الحرائر، بل قال: إن آية إباحة
تعدد الزوجات بشرطه تدل على ذلك، والاسترقاق غير واجب في الإسلام، وإنما
أبيح للضرورة ولأولي الأمر من المسلمين منعه، إذا رأوا المصلحة في ذلك.
7 - حكمة تعدَّد أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) :
إن النبي صلى الله عليه لم يتزوج في سن الشباب والفراغ إلا بخديجة،
وكانت رضي الله عنها ثيبًا، وبعد الكهولة والقيام بأعباء النبوة ومكافحة المشركين
وغيرهم من أعداء النبوة تزوج عدة زوجات ثيبات، ومنهن أمهات الأولاد وكبيرات
السن، ولم يتزوج فتاة بكرًا إلا عائشة بنت الصديق (رضي الله عنه) ، وأسباب
ذلك بعضه سياسي كتوثيق الروابط بينه وبين القبائل كتزوجه بجُوَيْرِيَّة وهي بَرَّة بنت
الحارث سيد بني المُصْطَلَق، فقد كان المسلمون أسروا من قومها مئتي بيت بالنساء
والذراريّ، فأراد (صلى الله عليه وسلم) أن يعتقوهم وكره أن يكرههم على ذلك
إكراهًا فتزوج سيدتهم، فقال المسلمون: أصهار رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
لا ينبغي أسرهم فأعتقوهم، ومنها ما كان لأجل كفالة بعض المؤمنات السابقات إلى
الإيمان المهاجرات بعد قتل أزواجهن أو وفاتهم؛ كتزوجه أم سلمة (هند) على كبر
سنها وما عندها من الأولاد، ومنها ما كان لأجل الإصلاح وحمل الناس على
الشريعة بالقدوة؛ كزواجه بزينب بنت جحش؛ لإبطال التبني وأحكامه الضارة
الفاسدة، ومنه مكافأة صاحبَيْه ووزيرَيْه أبي بكر وعمر، وتشريفهما بمصاهرته
إياهما، وهناك مصلحة عامة هو أن يوجد في بيت النبوة عدة من النسوة يتعلمْنَ
الأحكام الشرعية الخاصة بالنساء ويعلمْنَها للمسلمات، وقد كان (صلى الله عليه
وسلم) لشدة حيائه يستحي أن يخاطب النساء بكل الأحكام المتعلقة بهن إذا لم يسألْنَ
عنها، فكان أزواجه الطاهرات خير واسطة لذلك، وهذه حكمة ما كانت تحصل لو
اكتفى بزوج واحدة، لا يدري أتعيش بعد فقهها كثيرًا أم لا، وإن شئت مزيد بيان
وتفصيل فارجع إلى ما كتبناه في ذلك في المجلد الخامس من مجلة المنار وجزء
التفسير الرابع، لا تنس مراجعة ما كتبه الأستاذ الإمام وما كتبناه في مسألة (زيد
وزينب) فإن شُبْهة الأوربيين فيها أكبر ومنشورة في المجلد الرابع من مجلد المنار
وفي ملحق تفسير الفاتحة.
8- حكم القاضي بمذهب الخصم:
السؤال في هذه المسألة مُبْهَم، والظاهر أن السائل يريد القاضي الشرعي الذي
يحكم في المسائل الشخصية على الحنفي والشافعي والمالكي وغيرهم، ولا يعقل أن
يُشْتَرط في القاضي معرفة مذاهب الناس والحكم لكل خصم أو عليه بمذهبه؛ لأن
ذلك على تعسره أو تعذره مفسدة، ويتعارض في الخصمين المختلفَيْ المذهب، على
أن المذاهب الفقهية متفقة على أن حكم الحاكم يرفع الخلاف ويجب الإذعان له.
9 - الزواج في الجاهلية:
كان الزواج عندهن أربعة أنواع؛ كما روي عن عائشة في صحيح البخاري:
(الأول الاستبضاع) وهو أن الرجل كان يُرْسِل امرأته إلى الآخر، ولا
يَقْرَبها حتى يظهر حَمْلها من الآخر؛ يفعلون هذا ابتغاء نَجابة الولد.
(الثاني) أن ما دون عشرة رجال يصيبون المرأة، فإذا حملت ووضعت
اجتمعوا عندها حسب طلبها، وقالت لمن أحبت: إن هذا ابنك يا فلان، فلا يستطيع
أن يمتنع الرجل.
(الثالث) أن من الزواني (وهن البغايا من الإماء) من إذا حملت ووضعت
اجتمع الناس، ودعوا القافَةَ فألحقوا ولدها بالذي يَرَوْن، فينسب إليه الولد لا يمتنع
الرجل منه.
(الرابع) النكاح الذى بين المسلمين اليوم، فلمَّا بعث النبي (صلى الله
عليه وسلم) هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح المسلمين اليوم، ومنها نكاح البدل وهو
أن يستبدل كلٌّ امرأته بامرأة الآخر، ونكاح الشِّغار وهو أن يزوج أحدهم مَنْ له
الولاية عليها الآخر على أن يزوجه الآخر مَنْ له الولاية عليها، وتكون كل منهما مهرًا
للأخرى لا تأخذ شيئًا، ولهم في الزواج مفاسد أخرى بيَّنَّا بعضها في تفسير الآيات
التي تشير إليها.
ومنها أنهم يرثون المرأة كما يرثون الرقيق والحيوان.
وأما تعدُّد الزوجات فكان فاشيًا فيهم غير مقيد بعدد، وقد أسلم بعضهم وعنده
خمس أو ثمان أو عشر نسوة، كما بينا ذلك في تفسير آية التعدد.
10- 11 - الكفاءة وحقوق المرأة في الجاهلية
كانت الكفاءة عندهم تُعتبر بالجنس والنسب والحسب أي الشرف، فكانوا لا
يرون العجم أكفاء لهم ولا الموالي من العرب، وهم لا يزالون على ذلك في عقر
جزيرتهم لا يزوجون عجميًا عربية صريحة النسب، فإذا ارتضوه زوجوه من
الموالي، وكان الشرفاء يترفَّعون أن يزوجوا بناتهم للأخسَّاء.
وأما حقوق النساء في الجاهلية فلم تكن شيئًا مذكورًا، وكانوا يستحلُّون أكل
أموالهن ويَعْضُلونهن أي يمنعونهن الزواج لذلك، حتى جاء الإسلام فجعل النساء
مساويات للرجال في كل شيء إلا الولاية العامة والخاصة، وذلك قوله تعالى:
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) .
__________(13/741)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رِحْلة القسطنطينية
أو إقامة عام في عاصمة الإسلام
علم قرَّاء المنار كافَّةً سبب رحلتنا في أواخر رمضان من العام الماضي إلى
هذه العاصمة، وشيئًا من خبر عملنا وسعينا فيها، أَمَا وقد عدنا منها إلى مصر في
أوائل هذا الشهر، فإننا نذكر لهم ملخص ما بلغ إليه السعي.
مسألة العرب والترك:
أشرنا في أول مقالة كتبناها عن الانقلاب العثماني عند حدوثه إلى العقبات التي
يُخْشَى أن تعوق سير الدستور، ومنها تعصُّب العناصر العثمانية لجنسياتها، وقد
وقع ما توقعنا، فقد قام كل عنصر يسعى لتقوية عنصره. فأما اليونان والبلغار
والأرمن فلا تسأل عما قالوا أو فعلوا، ولا تعجب مما اقترحوا وطلبوا، على أن
الأرمن أُعْطُوا حتى رضوا، ولا سبيل إلى مرضاة قوم لهم دولة تنازع الدولة العلية
في أملاكها، وتطمع حتى في عاصمة ملكها، وأما الأَرْنَؤُود والكرد والجركس فقد
قاموا يسعون لتدوين لغاتهم، وترقية أجناسهم، ولكل منهم في العاصمة أندية
وجمعيات، وأما العرب فأسسوا عقب الانقلاب جمعية سمَّوْها جمعية الإخاء العربي،
فكنت أنا وكل من أعرف من العرب والعثمانيين في مصر وسورية كارهين
لتأسيسها، ولما زرت سورية كنت أنفر الناس منها , ثم ألغيت؛ لأن الرأي العام
العربي لم يأخذ بيدها؛ لأنه لم يكن يحب أن يعمل عملاً ما في الدولة باسم العرب،
ذلك بأن رأينا أن بقاء الدولة يتوقف على اتحاد الترك بالعرب فيها. ولكن قام بعض
أصحاب الجرائد التركية في الآستانة بالدعوة إلى الجنسية التركية وحفظ السيادة
للعنصر التركي، والتنفير من العرب ودعوة الترك إلى الاستغناء عن اللغة العربية،
حتى عن القرآن العربي بترجمته إلى اللغة التركية، وبتطهير التركية من الألفاظ
العربية، فتألم العرب من هذه الأقوال، وزادهم تألمًا أفعال أخطأت فيها الحكومة،
بيناها في مقالات (العرب والترك) التي نشرناها في جرائد الآستانة التركية
والعربية، فلا نحب إعادتها.
رأينا الحديث قد كثر في هذه المسألة، وتناولتها أقلام الكتاب والشعراء،
فخِفْنا أن تعم وتصير مقررة عند العامة؛ فيصعب نزع سوء التفاهم، ويتعسر ما
نحب من الاتحاد والاعتصام، فكان أول سعينا في الآستانة موجهًا إلى إزالة سوء
التفاهم بين العنصرين، فكتبنا تلك المقالات الست، واخترنا لنشر ترجمتها بالتركية
جريدة إقدام؛ لأنها كانت من الجرائد التي آذت العرب بعصبيتها الجنسية،
عسى أن يزول ذلك بما ننشر فيها، ثم كان أول من كلمناه في ذلك هو الصَّدْر
الأعظم، فاعترف لنا بأن الحكومة والجمعية أخطأتا في بعض تلك الأمور، قال: ولكن ليس هنالك سوء نية وأنه سيتدارك ذلك بالفعل، وكلمت في ذلك أيضًا محمود
شوكت باشا وناظر الداخلية وغيرهما من الكبراء، وقد اتهمني بعض النابتة
العربية في أول الأمر بمصانعة الترك أو الحكومة، ثم بَلَوْني وخَبَرُوني وعلموا أني
مخلص فيما أوافقهم وفيما أخالفهم فيه؛ وبذلك تيسر لي أن أقنعهم بما اقتنعت به
بعد طول اختبار الآستانة ورجالها، وهو أن العرب والترك عنصران يكوِّنان
حقيقة واحدة؛ كالعنصرين المكوِّنين لحقيقة الماء أو الهواء، وأن الإسلام قد ألف
بينهما هذا التأليف، وزادته مصلحة بقاء هذه الدولة بهما، والخطر عليها من
تفرقهما، وأن الذين تحاملوا على العرب واللغة العربية من المتفرنجين مختلفو
الأصول؛ فنمنهم مَنْ أصله تركي ومنهم من أصله عربي، ولعلنا لو بحثنا عن
أنسابهم لوجدنا أكثر آبائهم من الروم والأرمن واليهود والنور، وأنه لا يجوز لأحد
من العرب أن يجعل ذنبهم ذنبًا للعنصر التركي، ولا أن يحمل سعي الترك لترقية
شعبهم منافيًا لأخوة العرب، ما دام خاليًا من العصبية الجنسية، كما لا يجوز لطلاب
ترقية العرب أن يقصدوا بذلك إلا التمهيد للاتحاد بالترك، والقيام معهم بتأييد الدولة
وإعزازها، هذا هو رأيي الذي وافقني عليه العقلاء من الترك والعرب في العاصمة
وإن كان يوجد فيها من المتعصبين المبغضين للعرب الذين يسترون بغضهم
بأماديح النفاق من يحرِّف كلامنا في التوفيق والتأليف عن مواضعه؛ لينفروا إخواننا
الترك منا، والله من ورائهم محيط وقد تداركت الحكومة بعض خطئها بإلغاء ما
كانت أمرت به من وجوب جعل المرافعات في محاكم البلاد العربية باللغة التركية،
وعدم قبول ما يقدم إلى الحكومة من شكوى وغيرها باللغة العربية، كانت شرعت
في هذا وذاك، ثم علمت بتعذره وبسوء أثره فمنعته، ثم إنها عينت في مدارسها
الإعدادية عشرة معلمين للغة العربية وذلك فاتحة خير إن شاء الله تعالى.
مشروع العلم والإرشاد:
هذا هو المشروع الأعظم الذي هو المقصد الأول لي من الرحلة، بل من
الحياة كلها، وهو إذا نفذ يقوي الرابطة والأخوة بين العرب والترك وبين غيرهم من
المسلمين كالأرنؤود والكرد، بل يؤلف بين المسلمين وغيرهم من الملل كما يقتضي
الإسلام؛ لأن كل ما أتصوره وأدركه من إصلاح حال المسلمين محصور فيه؛
ولذلك كان جل السعي أو كله في هذه السنة لهذا المشروع، وبعد العناء الطويل
والمراجعات الكثيرة واللجان المتعددة التي عقدت للمناقشات فيه وُفِّقنا لتأسيس جمعية
العلم والإرشاد كما عرف القراء، وقد وافقت الحكومة على تأسيسها رسميًا، وعرف
القراء مما نشرنا في الجزء السادس أن من أعضائها المؤسسين موسى كاظم أفندي
الذي صار بعد التأسيس شيخ الإسلام للمملكة ورئيس الشرف للجمعية، ومنهم
مستشار المشيخة والرئيس الثاني لمجلس المبعوثين، ورئيس كتاب مجلس الشورى
وغيرهم من خيار رجال العاصمة، فليراجِعْ مَنْ شاء أسماء وقانون الجمعية في ذلك
الجزء من منار هذه السنة.
بعد التصديق الرسمي على نظام الجمعية توسلنا بمولانا شيخ الإسلام إلى
الحكومة؛ لتقرر لنا ما وعدتنا به من المساعدة المالية لتأسيس مدرسة (دار العلم
والإرشاد) . فكتب أحسن الله جزاءه مذكرة للصدر الأعظم بعد مذاكرته في ذلك
والاتفاق معه، طلب فيها: أن تُعْطَى جمعية العلم والإرشاد ثلاثة آلاف ليرة؛ لأجل
تأسيس المدرسة المذكورة في نظامها الأساسي، وأن يقرر مجلس الوكلاء جعل
نفقات هذه المدرسة بالغة ما بلغت في ميزانية نظارة الأوقاف من ابتداء السنة المالية
القابلة، فوضعت مذكرة الشيخ موضع المذاكرة في مجلس الوكلاء الخاص، فقرر
المجلس قبول المذكرة والموافقة على المبلغ المطلوب، واستحسان نظام الجمعية،
إلا أنه ذكر في صورة القرار الذي بلغ مقام الصدارة إلى المشيخة ونظارتَيْ الأوقاف
والمعارف؛ أن المجلس استحسن أن يعبر عنها (بانجمن علم وإرشاد) بدل
(جمعية العلم والإرشاد) ، وأن تكون المدرسة تحت إدارة ومسؤولية شيخ الإسلام.
بلغنا شيخ الإسلام قرار مجلس الوكلاء، فاجتمع مجلس إدارة الجمعية يوم
الجمعة (19رمضان -23سبتمبر) للمذاكرة فيه، فقرر الاعتراض على جعل
المدرسة تحت مسئولية شيخ الإسلام؛ لأنها تكون بذلك رسمية، وقد بلغ الكاتب العام
للجمعية شيخ الإسلام ذلك كتابة، وتكلم معه في وجوب جعل المدرسة خاصة بالجمعية
خالية من الصفة الرسمية، فوافق الشيخ على ذلك ووعد وعدًا مؤكدًا بالكتابة إلى
الباب العالي بوجوب تعديل قرار مجلس الوكلاء، وجعل المدرسة مما يطلقون عليه
اسم (المكاتب الخصوصية) ، وكذلك قال ناظر المعارف ووعد بعض أعضاء الجمعية
بالكتابة إلى الباب العالي بذلك، وصرح بأن جَعْل المكتب ذا علاقة بالحكومة ضار،
وأنه خلاف ما كان اتفق عليه، ولماذا يكون ضارًّا؟
صرحنا في المادة الثالثة من نظام الجمعية الأساسي؛ بأن هذه الجمعية لا
تشتغل بسياسة الدولة العلية الداخلية ولا الخارجية ولا سياسة غيرها من الدول،
ولكنها تراعي القانون الأساسي وتؤيده، ونص المادة الثانية المبينة مقصدها هو:
(المادة الثانية: مقصد هذه الجمعية الجمع بين التربية الإسلامية وتعليم العلوم
الدينية والدنيوية والتصنيف فيها، وتتوسل إلى ذلك بإنشاء مدرسة كلية في دار
السعادة باسم (دار العلم والإرشاد) لتخريج العلماء والمرشدين) .
فالمراد من الجمعية ومدرستها الكلية هو الإصلاح الديني الاجتماعي؛ أي إنارة
عقول المسلمين النافعة بالعلوم النافعة، وتربية نفوسهم تربية صالحة؛ ليعلموا كيف
يعمروا دنياهم، مع حفظ دينهم ذي الآداب العالية أن ينال منه الخراب، ويدخل في
ذلك اقتباسهم لِمَا لا بد لهم منه من المدنية العصرية وفنونها وأعمالها، فإذا دخلت
السياسة في مثل هذا العمل أفسدته، ولا شك أن الدول الأوربية تعدُّ جعله تحت إدارة
شيخ الإسلام عين السياسية، وتتهم الدولة بأنها تريد به تهييج التعصب الإسلامي؛
لأن شيخ الإسلام هو العضو الأول في مجلس وزراء الدولة، وإذا قاومت أوربا هذا
المشروع لا يثمر الثمرة المطلوبة، ولا تُتَّقى مقاومة أوربا إلا بجعله في معزل عن
السياسية والحكومة ظاهرًا وباطنًا؛ لأن الذين اكتشفوا الأشعة التي تخترق الكثائف
حتى يُرى ما وراءها، ووضعوا المناظير المكبرة التي يرى بها ما لم تكن تَرى مثله
زرقاء اليمامة، لا يسهل على أمثالنا في ضعفنا وجهلنا أن نخدعهم، وإذا كان هذا
العمل في أيدي جمعية مخلصة ليس لها صفة رسمية؛ لا يمكنهم أن يعترضوا عليها
اعتراضًا رسميًّا، وإذا كان هذا العمل في أيدي جمعية مخلصة ليس لها صفة رسمية
لا يمكنهم أن يعترضوا عليها اعتراضًا رسميًا، وإذا اتهموها بالسياسة باطلاً سهل
عليها مع الصدق والإخلاص إقناعهم ببراءتها، كما وقع للجمعية الخيرية الإسلامية
بمصر، اتهمت بالسياسة ومساعدة مَهْدِيّ السودان على الحرب ولكن لم تلبث أن
ظهرت براءتها بإخلاص رجالها.
هذا هو رأيي ورأي محمود شوكت باشا، ذكره لي قبل أن أذكره له، ووافق
عليه شيخ الإسلام وناظر المعارف، وهو رأي أعضاء الجمعية المؤسسين أيضًا؛
ولأجل هذا يسعون في تعديل قرار مجلس الوكلاء، ولولا هذا لوافقت ناظر الداخلية
أولاً وشيخ الإسلام أخيرًا على جعل نفقات المدرسة من المالية دون الأوقاف،
ولكنني ما زلت أراجع في ذلك من أول السعي إلى آخره؛ إذ قال لي شيخ الإسلام
في يوم الإثنين 16أو 17شعبان (22أغسطس غ) : إن الوكلاء الفخام يرون من
المناسب أن تكون نفقات المكتب السنوية في ميزانية العلمية (التابعة للمشيخة
الإسلامية) وأنا أرى ذلك؛ لأن هذه خدمة دينية من جنس خدمة المشيخة، فيحسن
أن تكون نفقتها تابعة لها، فما تقول أنت يا عزيزي؟ (قلت) : ما ترونه حسنًا فهو
حسن، ولكني لا أزال أرى أن تجعل نفقات مكتبنا في ميزانية الأوقاف؛ حتى لا
يكون للمشيخة وجه للتداخل في أمره؛ إذ الأَولى أن يكون مستقلاً تمام الاستقلال دونها
إلخ ما قلته ووافقني عليه، بل قلت لغيره من العظماء: لولا أنني خشيت أن تسيء
الدول الظن بالمشروع لاقترحت أن يكون في الحجاز أو في مصر، وأقول: الآن
إذا لم يعدل مجلس الوكلاء القرار كما وعد شيخ الإسلام وناظر المعارف،
فالمسلمون لا يستغنون عن جمعية أخرى كهذه الجمعية، يكون مركزها
مصر؛ لأن جمعية الآستانة لا تأتي بالفائدة المطلوبة إذا كانت رسمية أو شبه
رسمية.
__________(13/748)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجمعية العلمية في الآستانة
كان تأليف الجمعيات ممنوعًا في البلاد العثمانية في العصر الحميدي المظلم،
بل كان لفظها ممنوعًا أيضًا، حتى كاد يمنع الاجتماع للعبادة بغير مراقبة، كما منع
لغيرها ألبتة، وقد بينا ذلك في المجلد الثاني عشر، ولهذا اندفع العثمانيون بعد
الانقلاب إلى تأليف الجمعيات كما هو شأن الناس في الممنوع إذا أبيح بعد التشديد
في منعه، فألفوا جمعيات كثيرة بأسماء مختلفة لمقاصد مختلفة، ولبعض تلك
المقاصد أصل ثابت، وبعضها نشأ عن وَهْم عارض، ولما زرتُ سورية بعد
الانقلاب، رأيت في كل من بيروت وطرابلس ودمشق جمعية تسمى (الجمعية
العلمية) ، ألفها أفراد من صنف العلماء المسلمين، ولم يكن بينها صلة، وربما كان
بعضها تقليدًا، وقد سمعت يومئذ عن جمعية دمشق؛ أن الغرض منها حفظ جاه
مؤسسيها ومقاومة رجال الدستور؛ ولذلك لم يُدْخلوا فيها خيار العلماء الأحرار
العاملين، مهما قيل فيها وفي غيرها وسواء صح أو لم يصح، فلا يمكن أن يدعي
أحد أنها عملت شيئًا لخدمة العلم أو الدين.
ولما زرت الآستانة في العام الماضي، سمعت أخبارًا متعارضة عن الجمعية
العلمية التي أُسست فيها، وكنت قد سمعت قبل ذلك أنها جمعية جمود؛ تعارض كل
إصلاح ديني أو غير دنيي، إذا لم يقم عندها دليل من فقه الحنفية عليه، وأن
مجلتها (بيان الحق) أُنشئت لهذا الغرض، فهي ترد على المجلة التركية
الإصلاحية (صراط مستقيم) التي يكتب فيها محبو الإصلاح كموسى كاظم أفندي
(شيخ الإسلام الآن) وإسماعيل حقي أفندي المناسترلي وأضرابهما من شيوخ
الآستانة وشبانها المحبين للإصلاح، وبلغني أيضًا أنها ردت على المنار في مسألة
الاستقلال والتقليد، بل كان شاع أن علماء الآستانة هم الذين أوقدوا نار فتنة 31
مارث أو 13 إبريل، المشهورة، وأن الحكومة الدستورية قتلت كثيرين منهم.
لهذا الاختبار والإشاعات كانت صورة الجمعية العلمية في ذهني غير جميلة
عندما جئت الآستانة، واتفق أن سمعتُ من بعض أكابر رجال السياسة هناك شكوى
من جمود العلماء وتعصبهم، حتى قال لي من لا أسمي منهم: إن مشروعك الذي
جئت لتأسيسه هنا لا يخشى عليه إلا من العلماء، فإنهم هم العقبة في طريق
الإصلاح، ولهم نفوذ عظيم لاتباع العامة لهم، ثم إنني علمت بعد طول الاختبار أن
كثيرًا مما كنت أسمعه عنهم باطل، وبعضه مبالغ فيه، وأنهم لم يكن لهم يد ولا
أُصْبُع في الفتنة بل كان لهم الأثر الصالح في إطفاء نارها، وحَمْل الناس مع العسكر
وغيرهم على طاعة الحكومة الدستورية، ولكن بعض رجال الفتنة قد لبسوا لها
لباس العلماء، حتى قيل: إنهم اشتروا نسيج العمائم الأبيض من خارج الآستانة.
لما عرضت مشروعي على الصدر الأعظم أول مرة، عقد له بالاتفاق مع
عميد جمعية الاتحاد والترقي لجنة علمية مؤلفة من أمين الفتوى أسعد أفندي،
ومستشار المشيخة مصطفى أفندي أوده مشلى وإسماعيل حقي أفندي المناسترلي،
وموسى كاظم أفندي من الأعيان، وكلهم من كبار شيوخ العاصمة، فلما اتفقوا على
استحسان المشروع كما ذكرت ذلك في وقته في رسائلي من الآستانة، حمدت الله
على وجود أمثالهم، واعتقدت أنه لا بد أن يوجد كثير من العلماء على رأيهم
ومشربهم ولا سيما من الشبان والكهول، وصرت أمدح علماء الآستانة، فيقول لي
بعض أهلها: لا تَقِسْ على هؤلاء فالأكثرون متعصبون غلاة في مقاومة كل إصلاح
والجمعية العلمية هي بؤرة التعصب.
ثم أسعدني التوفيق بلقاء بعض رجال العلمية في مجلس المبعوثين وغيره،
فرأيت فيهم من آيات الغيرة والإخلاص والميل إلى الإصلاح ما حمدت الله عليه،
واعتقدت أنه لا خوف على مشروعي منهم، بل رجوت أن يكونوا من خير
المساعدين عليه، إذا هو تم بمساعدة جمعية الاتحاد والترقى، وأن يقوموا هم به إذا
لم تساعدني تلك الجمعية من جهة الحكومة، ولكنني لم أطالبهم بذلك؛ لأنني لم أكن
أسمع من الحكومة إلا الوعود الجميلة، حتى تم المشروع على الوجه الذى بيناه.
ولمَّا عزمت على السفر من الآستانة إلى مصر، كتبت في جريدة الحضارة
ذلك الخطاب إلى علماء الإسلام في الآستانة وسائر البلاد الإسلامية؛ (وهو ما
ستراه قريبًا في هذا الجزء) ، وأحببت أن أجعله تمهيدًا لزيارة الجمعية العلمية في
ناديها، وإبداء شيء من التفصيل في الإصلاح الإسلامي لجمهور رجالها، فرأيت
للخطاب من التأثير فيهم فوق ما كنت أحسب، حتى كنت ألقى الواحد منهم في
الطريق أو في بعض الدور أو المعاهد العامة كالمساجد والمدارس فأجده حافظًا
لبعض جملها، يتلوها عليّ معجبًا مُثْنيًا، وقال لي بعضهم: إن رجال الجمعية
العلمية قد أعجبوا بهذه المقالة، واقترح بعضهم ترجمتها بالتركية، ونشر الترجمة
في مجلة الجمعية (بيان الحق) ، فعلمت أن ما كنت أسمعه من أنباء الدنيا في
علماء الآستانة من التعصب والجمود؛ ناشىء عن سوء فهم أو سوء قصد كما يقال
ورغبت في زيارة الجمعية في ناديها، وذكرت ذلك لبعض أعضائها، فأخبرني أنه
قد تقرر أن لا يجتمعوا فيما بقي من ليالي رمضان القليلة، (قال) : فلابد أن
نرسل إلى من يوجد منهم في الآستانة دعوة خاصة، ولا شك أنهم يُسرّون بذلك،
وموعدنا ليلة الإثنين 29رمضان، ولما جئت النادي لميقاتهم ألفيته حافلاً بجمهور
عظيم منهم غص به النادي، وبعد التحية واستراحة قليلة ألقيت عليهم خطابًا
ارتجاليًا طويلاً لا تقل مدته عن ساعتين، فتلقوه بالقبول والارتياح التام، وسألتهم
هل انتقدوا منه شيئًا؟ فلم أجد عندهم انتقادًا، بل إجماعًا على جميع مسائله وثناءً.
لا أتذكر جميع ما قلته في الخطاب من المسائل والدلائل، ولكن لم أنس مقاصد
الكلام وأقطابه، وهى ثلاث:
1- وجوب تعارف العلماء وتعاونهم على خدمة الأمة والدولة، فإن هذا
العصر عصر الجمعيات، لا يستطيع أحد أن يعمل عملاً لأمته؛ إلا ويتوقف نجاحه
التام على قوة جمعية تظاهره وتعاونه عليه.
2- تساهل العلماء في خلاف المذاهب في الأصول والفروع؛ والاكتفاء في
عقد الأخوة الإسلامية بين جميع المسلمين بالمسائل المجمع عليها.
3- إحياء هداية الكتاب والسُّنة في المسلمين، وبث دعوتهما والذبّ عنهما.
فمما قلته في المقصد الأول أن علماء الإسلام في عهد نهضتهم العلمية الأولى
في بلاد العراق والفرس ومصر وإفريقية والأندلس كانوا يتعارفون بالسياحة
وبنقل الكتب من قطر إلى قطر، حتى كان المعاصرون في الشرق والغرب ينقل
بعضهم عن بعض، كما ترى في كلام ابن خلدون عن كتب سعد الدين التفتازاني وابن
هشام. ثم ذكرت ما بين علماء المسلمين من التقاطع بين المسلمين في هذه
العصور الأخيرة على سهولة المواصلات وكثرة المطابع، وبينت أن علماء الآستانة
من أجدر العلماء بخدمة الإسلام، والتعارف بين سائر علماء الأقطار، ولكنهم على
كثرتهم وجِدّهم واجتهادهم في العلوم الإسلامية لا يكاد يُسمع لهم صوت في قطر من
الأقطار كمصر والغرب والهند، وقد كان لذلك سببان:
أحدهما: سياسي؛ وهو ظلم السلطان عبد الحميد ومنعه لمثل ذلك وقد زال.
وثانيهما: عدم التكلم والكتابة باللغة العربية، وكان من غلطتهم قراءة كتب
الفنون العربية والعلوم الشرعية بالترجمة ولا سيما التفسير والحديث والأصول، فإن
هذا يضيع عليهم زمنًا طويلاً في التحصيل، ولو كانوا يتقنون اللغة العربية نفسها
قراءة وتكلمًا وكتابة، ثم يدرسون فنونها وعلومها لكان يكون تحصيلهم أسرع وأكمل،
وتعبهم فيه أقل، ولكان لهم آثار كثيرة يعرفهم بها علماء الأقطار الإسلامية كلها،
وهذا السبب يسهل عليهم تداركه في زمن قليل، وينبغي أن يكون في مجلتهم (بيان
الحق) قسم عربي؛ لتكون وسيلة لاتصالهم بسائر علماء المسلمين الذين يعرفون هذه
اللغة مهما كان جنسهم ولغتهم.
وبينت في المقصد الثاني ما دل عليه العلم بأخلاق البشر وطباعهم، وما أفادته
التجارب من اقتضاء رد الفِرَق بعضهم على بعض، ثباتَ كل على رأيه ومذهبه
وحرصه عليه، وإغرائه بعداوة المخالف، والنظر إلى كلامه بعين السخط لا بعين
الروِيَّة والإنصاف، ومن اقتضاء التساهل التناصف والمودة والنظر إلى الأشياء
بقصد استبانة الحقيقة، وعاقبة ذلك ظهور الحق على الباطل، وأستشهد على هذا ما
كانت عليه الأمم الأوربية من التنازع والتعادي في الدين والسياسة؛ لاختلاف
المذاهب والمطامع وما آل إليه أمرها من عقد الدول المحالفات والموالاة السياسية
بعضها مع بعض، ومن حَذْو الجمعيات الدينية حَذْو الدول في الاتفاق على المخالفين
ووضع الحدود للدعوة الدينية كحدود النفوذ السياسي، وكان بين فرقهم الثلاث
الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت نزاع شديد ومعارضات قوية بعد تلك الحروب
المعروفة، فضعف ذلك واتفقت جمعياتهم كما اتفقت دولهم على اقتسام البلاد
الإسلامية والوثنية؛ كاقتسام روسية وإنكلترة لبلاد الفرس، فعلينا أن نعتبر بأحوال
الأمم، ونجتهد في إدالة الوفاق من الخلاف والحب والائتلاف من العداوة والبغضاء،
والخلاف بين الفرق الإسلامية الكبرى؛ السنية , والشيعة الإمامية , والزيدية
والأباضية أهون من الخلاف بين المذاهب النصرانية؛ التي يحكم كل فريق منها
بكفر الفريق الآخر.
وذكرت أيضًا ما اتفق عليه أئمة أهل السُّنة من عدم تكفير أحد من أهل القبلة
ومن إفتاء الفقهاء بترجيح القول الضعيف بعدم التكفير على مئة قول قوي بالتكفير،
ومقابلة ذلك بما عليه الجامدون من أدعياء العلم المتأخرين؛ إذ يكفِّرون من يخالفهم
حتى في الفروع الظنية، بل في الأمور العادية التي ليست من الدين في شيء،
وبذلك شتّتوا شمل الإسلام ومزقوا نسيجه، وذكرت لهم جمعية ندوة العلماء في الهند
وأن من مقاصدها التأليف بين أهل المذاهب الإسلامية والدعوة إلى الإسلام،
والحكومة الإنكليزية مساعدة لهم على ذلك، وما ذكره لي بعض علماء الشيعة من
ميل علماء النَّجَف وإيران إلى الوفاق، وتَرْك بعضهم تدريس الكتب التي تشتمل
على الردِّ على أهل السُّنة، وما أعلمه من ميل علماء الأباضية إلى مثل ذلك، وإن
حوادث الزمان وعبره قد أعدت المسلمين للاتفاق والاتحاد الديني، فعلى العلماء أن
يغتنموا هذه الفرصة في كل البلاد ولا سيما في الآستانة، فإذا قصروا فاتتهم الفرصة
وخرج الأمر من أيديهم , وأشرت إلى ما قاله الغزالي في القسطاس المستقيم من
كفاية المتفق عليه في الدين للهداية وقلة من يعمل به، فإن المذاهب كلها متفقة على
توحيد الله وتنزيهه وسائر أصول الإيمان، وعلى تحريم الفواحش ما ظهر منها وما
بطن، وعلى أركان العبادات وأصول جميع الخيرات، فأين من يعمل بما اتفقوا
عليه.
وذكرت في بيان المقصد الثالث أن الدعوة إلى الإصلاح الإسلامي وترقية
المسلمين في دينهم ودنياهم لا يمكن أن تكون إلا بهداية الكتاب والسُّنة؛ لما فيهما من
التأثير في النفوس بإسنادهما إلى الله عز وجل ورسوله (صلى الله عليه وسلم) ؛
ولما فيهما من الحِكَم والعبر التي لا توجد في كتب الكلام والفقه؛ ولأنها الأساس
المتفق عليه عند كل المذاهب، وقلت: قد علمت أن بعض الناس هنا كانوا يظنون
أن (المنار) قد سلك هذه الطريقة؛ لأجل أن يدون مذهبًا جديدًا، ويحمل الناس
على ترك مذاهبهم إليه، وقد صرحت بنفي هذه الشبهة غير مرة، فأنا لا أريد أن
أحدث مذهبًا جديدًا، ولا أجيز لنفسي ذلك، وإنما سلكتها لأسباب:
(1) أن المنار عام لجميع المسلمين لا لأهل مذهب واحد منهم، فوجب أن
يكون هديه بما هو الأصل المتفق عليه بينهم.
(2) للكتاب والسنة من التأثير في النفس والسلطان على القلب ما ليس لكلام
أحد كما تقدم آنفًا؛ فالدعوة إلى الإصلاح بهما أسرع قبولاً، وأقرب حصولاً.
(3) أنهما مشتملان على كل ما نحتاج إليه؛ لأجل الهداية والنهضة
الاجتماعية التي هي أصل كل ارتقاء.
(4) أن ما يذكر في المنار من الأحكام الشرعية يقصد بها: إما بيان حكمة
الشرع فيه وكونه موافقًا لمصلحة الناس في كل زمان ومكان، وإما الدفاع عن
الإسلام ورد شبهات المعترضين عليه من الإفرنج وغيرهم، وهم لا يحفلون بالرد
على أقوال الفقهاء وآرائهم الاجتهادية، وإنما يصوبون سهامهم إلى أصل الدين وهو
الكتاب والسنة، وحسبنا أن ندافع عن أصل ديننا، ونبين حقيّته وحكم أحكامه
وموافقتها للعقل والفطرة ومصالح البشر، وإني قد نشأت على مذهب الشافعي في
الفروع والأشعرى في العقائد (رحمهما الله) ، ولست أستطيع إقناع الناس بما
ذكرت، إذا أنا التزمت هذين المذهبين اللذين قرأت كتبهما، وحاولت أن أرد الشُّبَه
عن العقائد، وأبين حكمة الشريعة منهما أو بهما، وكذلك يقال في سائر المذاهب.
قلت: مثال ذلك ما جرى لأحد إخواننا الذين على طريقتنا في مصر: كان
مدرسًا في مدرسة الحقوق للشريعة على مذهب الحنفية، وكان بعض الطلبة من
المسلمين وغيرهم يُوردون الشُّبَه على بعض المسائل الفقهية، ويرون أن حكم
القانون أقرب إلى العدل وأضمن للمصلحة من الحكم الشرعي، فكان ذلك المدرس
يراجع قبل الدرس ما يتعلق بمسائله من الآيات والأحاديث إن كانت ومن أقوال سائر
أئمة الفقه، فإذا أَوْرد طالب شبهة على حكم وظهر له جواب مقنع أجاب به وإلا قال
للطالب: إن ما ذكرته لا يرد على أصل الشريعة، وإنما يرد على رأي الإمام أبي
حنيفة أو الإمام أبي يوسف (مثلاً) في هذه المسألة، وهو رأي اجتهادي ظني
عندي، وقد خالفه فيه الإمام مالك أو الشافعي (مثلاً) ، واحتج بحديث كذا
(مثلاً) ، فإن كان هنالك آية أو حديث صحيح التزم الدفاع عنه وإلا ذكر من أقوال
الأئمة الاجتهادية ما يراه أقرب إلى إقناع السائل وأمثاله بعدل الشريعة.
هذا أهم ما ذكرته وأحببت نشره، وبعد أن عدت إلى مصر جاءني العدد 80
من مجلة (بيان الحق) ، فرأيت فيها كلامًا عن هذا الخطاب فيه إشارة إلى غير ما
تقدم، وهذه ترجمة بالعربية.
__________(13/753)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حول خطبة رشيد رضا أفندي
خطب رشيد أفندي رضا أحد علماء طرابلس الشام وصاحب مجلة المنار التي
تصدر في مصر؛ خطبة شائقة في مركز الجمعية العلمية الإسلامية ليلة 29رمضان
بحضور جمّ غفير من العلماء، ألقى هذه الخطبة التي نحن بصددها باللغة العربية،
وقد فصّل القول فيها تفصيلاً استمر ساعتين من الزمن.
أبان في موقفه هذا ما رمى إليه في مقالته التي وجّهها إلى جميع علماء
المسلمين؛ المنشورة في جريدة الحضارة بعددها 24 الصادر في 8أيلول سنة 1326
مالية، وأثبت بالأدلة والبراهين القاطعة أن جمود علماء الإسلام الآن باعث على
تأخر الأمة الإسلامية وعدم سعادتها، وبعد أن أقنع جميع الحاضرين بأنه إذا ظل
العلماء على ما هم عليه، ولم يحافظوا على علو مركزهم، تظهر فيهم إذ ذاك
أعراض الانقراض والملاشاة، ثم ذكر ما تصادفه الجمعية العلمية من الموانع
والمشاكل إذا بقيت منحصرة في لجان محدودة، وأنه يجب أن يُؤسس لها فروع في
جميع المملكة العثمانية، ثم تُؤسس لها أيضًا فروع ولجان عمومية في كافة أقطار
الأرض المعمورة بالأمم الإسلامية، وبين فائدة ارتباط شعب هذه الجمعية بعضها
ببعض، وما ينجم عنها من الفوائد العظيمة إذا سارت هذه اللجان بطريقة جدية في
الاتصال بمركز الجمعية العمومي؛ في الأمور الدينية المهمة والمباحث المعضلة
الدقيقة، فهي تساعد على خدمة الإسلام خدمة حقيقية، وتوسع دائرة نظامه في العالم
المعمور.
ثم ذكر ما كان بين علماء الإسلام في المشرق والمغرب من الارتباط في زمن
سعد الدين التفتازاني، يوم كانت وسائط النقل والسفر صعبة شاقة، فقد كان حينئذ
علماء الإسلام يتبادلون المخابرات والمباحثات في دقائق الأمور، وإن آثارهم
الموجودة الآن لأعظم شاهد على إلمام كل فريق منهم بمؤلفات الفريق الآخر.
وأما اليوم فإنه من المعلوم عند الجميع أن وسائط النقل تقدمت تقدمًا عظيمًا.
ولكن من المحزن أن علماء المسلمين لم يوجد بينهم أقل اتفاق ولا تعارف، وقال:
إنه مع الفخر في هذه الخدمة الجليلة يسعى بتأسيس وتشكيل جمعية علمية إسلامية
في مصر وسائر البلاد العربية.
ثم تكلم عن شكل الجريدة التي ستكون ناشرة لأفكار الجمعية العلمية، فقال:
إن من المتعسر نشر هذه الجريدة بلغات مختلفة، ولكن من الأمور المقررة أن علماء
الإسلام مهما اختلفت لغاتهم، وإلى أي عنصر نُسِبُوا، وبأي لسان تكلموا فلابد أن
يكونوا متضلعين في اللغة العربية؛ ولذلك استصوب أن تنشر الجريدة باللسان
العربي، وتعمم بين علماء الصين والهند وجَاوَا والترك والأفغان والعجم وجميع
البلاد الإسلامية، وبهذه الطريقة المثلى يحصل التعارف بين كافة علماء هذه البلاد،
وتدور المباحثات في المسائل المهمة، وعندها تظهر هذه الجريدة حافلة بالمقالات
العظيمة التي تكون سببًا لخدمة الدين والأمة الإسلامية؛ بما يُورد فيها من الأسئلة
والأجوبة التي تمحص الحقائق للمسلمين.
ثم انتقل مؤخرًا في خطابه إلى الكلام عن اختلافات المذاهب وتعدد الفرق،
وبين أن هذه المجادلات والمناقشات التي تحصل بين الفرق المتخالفة عقيمة لا فائدة
فيها، بل إنها كانت سببًا لتفريق كلمة المسلمين، فقد ظهر بالاختبار أن هذه
الاختلافات لم تولد إلا الضرر العام، وأوضح في عرض حديثه ضرورة الاحتراس
من المجادلات والمباحثات التي تحصل من بعض الفِرَق باسم الدين الإسلامي؛ لأن
كل فريق من هؤلاء المخالفين يكفِّر ويضلِّل الفريق الآخر؛ لمخالفته له في أمور
ليست من الأهمية بمكان، فيجب على من يكون صحيح الرأي في هذه المسائل أن
يؤيد آراءه وأفكاره بالأدلة والبراهين الناصعة، ثم انتقل أيضًا إلى البحث في أحواله
الخصوصية، فذكر أنه شافعي المذهب ومقلِّد، وما ينسبه إليه بعض الناس من
الدعوة إلى الاجتهاد (كذا) هو ناشئ عن سوء التفاهم فقط، وتكلم أيضًا عن
المذاهب الأربعة، فقال: إن ظهور مجتهد بعدهم متعسر، ولا ينكر أحد أن الأحوال
تغيرت تغييرًا محسوسًا بعد زمانهم، فيجب إذًا أن تتغير بعض الأحكام.
وذكر لنا أنه يرد في مجلته على المقالات التي تنشر في جرائد أوربا اعتراضًا
على الإسلام؛ مستدلاً بالآيات والأحاديث؛ ولذلك حلت كتاباته واستدلالاته محل
الدقة والاعتبار، وقال: إنه يجب لإقناع الخصم الاستدلال من الكتاب والسنة،
وختم كلامه بأن ما ينشره في مجلة المنار يؤيد كل ما ذكره [1] .
__________
(1) العمدة في هذه المسألة ما بينا في ص 757 و758.(13/759)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إلى علماء الإسلام الأعلام [*]
(في الآستانة وسائر الولايات العثمانية ومصر وتونس والمغرب والنجف
وفارس والقوقاس وقزان والهند وسائر البلاد الشرقية) .
كنتم وكانت الأُمة الإسلامية بكم خير أُمة أخرجت للناس؛ تأمرون بالمعروف
وتنهون عن المنكر، فيخضع لكم الملوك والأمراء، وتهتدي بكم الدهماء، كنتم فبِنْتم
أو كدتم، وبعدتم عن الأمة وبعدت الأمة عنكم، فسرى الإلحاد إلى خواصها؛ لأنكم
لستم أنتم الذين تتولَّوْن تعليمهم، واستشرى الفسق والفساد في عوامّها؛ لأنكم تركتم
وعظهم وإرشادهم، فأنتم مسئولون في الدنيا والآخرة عن أُمة محمد صلى الله عليه
وآله وسلم، فبما تجيبون، وماذا تقولون؟
إذا أضعتم الأُمة أضعتم أنفسكم، ولا تغرنكم هذه البقية الضئيلة من احترام
الحكام لكم، واعلموا أن كل ما لكم الآن من بقايا الشرف والرزق يكون حينئذ على
شرف الزوال، وإن منكم من حمله الشعور بذلك على تعليم أولاده في مدارس
الحكومة أو مدارس الجمعيات النصرانية؛ ليكون آمنًا مطمئنًّا على رزقهم وكرامتهم
في مستقبل أيامهم، وإن أحدكم ليصوم وأولاده في الدار مفطرون، ويصلي وهم لا
يصلون ولا يتطهرون، أرضيتم لكم ولهم بالحياة الدنيا من الآخرة، أم تزعمون أنكم
قمتم بما يجب عليكم في هذه التربية الخاسرة.
إنكم حُرِمْتم في بعض البلاد من جميع أعمال الحكومة إلا القضاء في بعض
الأمور الشخصية، ولَلقاضي منكم بالشريعة الأحمدية أقلُّ قيمة وراتبًا من القاضي
بالقوانين الوضعية، وحرمتم في بعض البلاد من أكثرها، وستُحرَمُون فيها إذا بقيتم
على حالكم من باقيها، بل سُلبتم ما هو خير من ذلك؛ وهو التعليم العام في مدارس
الحكومة ومدارس الأمة، فلم يبق لكم إلا قليل منها في بعض البلاد التي للتعليم
الديني فيها بقية رسمية؛ هي كالعضو الأَثري الذي لا عمل له ولا تأثير في
المصلحة العامة.
ما ظلمكم أحد ولكنكم ظلمتم أنفسكم أولاً؛ فأَغْرَيْتم الناس بأن يظلموكم، فإن
كانوا لما يفعلوا في بعض البلاد فسيفعلون وسيفعلون، وإن كانوا قد فعلوا فما فعلوا
لا يذكر في جنب ما سيفعلون، وفي أيديكم الآن أن تمنعوا أنفسكم، وتحفظوا
كرامتكم، وتَستحْيوا الزعامة الروحية الاجتماعية لكم في أمتكم، وإن لكم الآن في
عهد حكم الشورى في الدولتين العثمانية والفارسية لَفرصة إن اغتنمتموها كانت
القاضية لكم، وإلا فهي القاضية عليكم، وعلى الأمانة التي في أيديكم، فكونوا ركن
هذا الحكم الركين، وحصنه الحصين، تستعيدوا في ظله مجدكم ومجد ملتكم وأمتكم.
ظلمتم أنفسكم أنكم لم تنظروا فيما تجدَّد للأمة والدولة من الحاجات في هذا
العصر، وما ساقتها الضرورة إلى اقتباسه من العلوم والفنون، وما يجب عليكم من
حفظ مرتبة التعليم والتربية لأنفسكم، فإنكم لو نظرتم في ذلك لسارعتم إلى تعلم
جميع العلوم والفنون التي لا بد للأمة والدولة منها؛ لتحفظ نفسها في هذا العصر،
ثم لاحتكرتم تعليمها إياه مع التربية الدينية التي تحفظ عليها آدابها وأموالها وصحتها
وجامعتها الملية، إنكم لم تفعلوا ذلك، ولو فعلتموه لكان خيرًا لكم ولأمتكم ودولتكم،
ولماذا لم تفعلوا؟
رأيت منكم من يعتذر عن إهمال العلماء لمثل هذا الأمر الجليل؛ باستبداد
الحكام، ورأيت منكم من يعتذر بجهالة العوام، وعدم معرفتهم لقيمة العلماء الأعلام
ورأيت منكم من يدعي أن العلماء لم يقصروا في شيء؛ وأنهم قائمون بما يجب
عليهم، ولكن الزمان قد فسد خلافًا لقول الشاعر:
يقولون الزمان به فساد ... وهم فسدوا وما فسد الزمان
ورأيت منكم الحائر الذي لا يدري كيف يعتذر، ورأيت وسمعت ما لا يتسع هذا
المقال لشرحه، وإني أذكر السبب الذي أراه أبًا لجميع الأسباب، والعلة التي أراها
هي أم جميع العلل.
ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم، ولا وقع فساد في أمتكم أو
حكوماتكم، إلا وسببه تفرقكم واختلافكم، وعلته تخاذلكم وشقاقكم، وما شدد دينكم
في شيء كما شدد في حظر التفرق والخلاف، ولا أكد شيئًا كتأكيده وجوب الاجتماع
والاتفاق، فإن كان الشيطان قد سوّل لكثير من المختلفين منا أن في الخلاف قوام
عصبيتهم، وحفظ رياستهم، فقد آن لعقلائنا اليوم أن يعلموا أن هذا التفرق سينتهي
بالانقراض والزوال، إذا لم نتداركه بالاعتصام والالتئام، فاعتصموا بحبل الله
جميعًا ولا تفرقوا، وكونوا أنتم الأمة التي تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى
عن المنكر، وأعدوا أنفسكم لزعامة هذه الأمة بحق، واهدوها إلى مصالح الدين
والدنيا بالحكمة والرفق، كما هو شأن الإسلام في الجمع بين مصالح الدارين.
ألم تروا أن أهل الملل الذين لم يُؤمروا بمثل ما أمرتم به من الاجتماع
والتعاون، ولم يُنهوا مثلما نُهِيتم عن التخاذل والتباين، قد ألفوا جمعيات دينية،
تضاهي ثروتها ثروة الدولة الغنية، فجعلوا أزمة التربية والتعليم في أيديهم،
فحفظوا جامعة دينهم في أقوامهم، ثم جذبوا إليه كثيرًا من أهل الأديان الأخرى حتى
في غير بلادهم، ألستم أًوْلى منهم باحتكار تعليم أبناء دينكم، وبتعميم الدعوة إليه في
غير قومكم، فما لكم لا تنشطون إلى ما فيه عزكم وشرفكم، وفي تركه ذلكم
وضِعَتكم، حماكم الله تعالى ووقاكم.
يخطر في بال ضعفاء العزيمة منكم أن المسلمين لا يبذلون من المال للجمعيات
الدينية مثل ما يبذله النصارى في الغرب والوثنيون في الهند، وهذا خطأ عظيم سببه
عدم التجربة، فلو أنشأتم جمعية إسلامية وأريتم الناس ثمرتها، وأقنعتموهم بفائدتها
وجئتموهم في ذلك من أبواب مصالحهم، وأشرفتم عليهم من يفاع منافعهم،
لرأيتم أنهم أسبق من غيرهم إلى الخير والتعاون على عمل البر، فما المسلمون
الحاضرون، إلا سلائل أولئك السلف الصالحين؛ الذين وقفوا تلك الأوقاف الكثيرة
على المدارس والملاجئ والمستشفيات، وجميع ما كان يخطر في البال من أنواع
البر والإحسان، حتى إن بعضهم وقف على الكلاب، وبعضهم وقف على ضمان
المتلفات والضائعات، إلخ.
هذا، وإن لكم من الأوقاف الخيرية التي ضبطتها الحكومة كنزًا عظيمًا، وإن
في أيديكم رفع يدها عنها، وجعل إدارتها إليكم بمساعدة مجلس الأمة، فإن أوقاف
جميع الملل في تصرف رجال الدين، فهل تبقى حقوق المسلمين مسلوبة في عصر
الشورى كما كانت في عصور الاستبداد، إننا إذًا لنحن المغبونون، وإنا إذًا لنحن
الخاسرون، كلا إن لنا في نجدتكم أيها العلماء ما يجعلنا أسعد الناس في هذا العصر
وآمنهم في بلادنا من الغبن والخسر.
سارعوا إلى تأليف الجمعيات في كل قطر، ولتكن جمعياتكم متعارفة متآلفة لا
يصدنكم عن ذلك اختلاف المذاهب ولا اختلاف الألسنة ولا اختلاف الحكومات، ولا
وجود بعض المنافقين فيكم؛ الذين يُوضِعون خلالكم يَبْغونكم الفتنة وفيكم سمّاعون
لهم، فيد الله على الجماعة فاجتمعوا، والاتحاد قوة فاتحدوا، واجعلوا أساس
الارتباط والاعتصام بينكم الأصول المتفق عليها والتسامح (والتعاذر) في مسائل
الخلاف، وقد فَتَح لكم هذا الباب المبارك إخوانكم علماء الهند؛ بتأسيس جمعية ندوة
العلماء، وساعدتهم الحكومة الإنكليزية على عملهم؛ ومنه التأليف بين أهل المذاهب
الإسلامية وتخريج الدعاة إلى الإسلام، فهل يليق بكم أن تنكلوا في ظل الحكومة
الإسلامية، عن مثل ما فعله إخوانكم في ظل الحكومة الإنكليزية.
يجب أن تستعينوا على خدمة مِلتكم وأمتكم في دولتي الإسلام- العثمانية
والإيرانية - بالنواب المبعوثين، وإن لكم في الاجتماع قوة لا يردّ معها طلب عادل
ولا يخيب معها قصد نافع، بل يجب أن تجتهدوا في جعل المبعوثين في الانتخاب
الآتي منكم، وممن يساعدكم على خدمة ملتكم، وإن الحكومة النيابية لا تكون
إسلامية حقيقية إلا إذا كانت الغلبة في مجلسها النيابي لعلماء الإسلام؛ أعني العارفين
بسياسته العالية، وعدالته العامة، ومساواته بين الناس في الحقوق، وإعلائه لشأن
الاجتماع، ومحافظته على الفضائل والآداب، وتحقيق هذه المقاصد كلها سهل عليكم
في هذه الحكومة، فاحْمَدوا الله أن أنقذكم من الاستبداد، وجعل الدولة للأمة التي أنتم
زعماؤها، واشكروا له ذلك بالقيام بحقوق هذه الزعامة لعلكم تفلحون.
__________
(*) نشرنا هذه المقالة بجريدة الحضارة في الآستانة.(13/761)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رمضان في عاصمة السلطنة [*]
لهذا الشهر في هذه العاصمة مظهر غريب؛ لا نعرف له نظيرًا في غيرها من
بلاد الإسلام؛ وهو يرى على أكمله وأتمه في قسم إستانبول منها أما في النهار فترى
أكثر المطاعم والمشارب والملاهي والمجامع العامة مقفلة لا يختلف إليها أحد،
وترى أمارات الصيام ظاهرة على أكثر الناس، فلا تكاد ترى أحدًا يدخن، وترى
المساجد الشهيرة عامرة بالمصلين والواعظين والمستمعين والمتفرجين الطوافين،
ولهذا كله نظير في البلاد الإسلامية الأخرى، وإنما رَوْنقه هاهنا بجمال المساجد
وزينتها واختلاف الناس من جميع الطبقات إلى المشهور منها ولا سيما جامع أيا
صوفيا العظيم، ويبتدئ هذا من وقت صلاة العصر إلى قرب المغرب، فمن الناس
من يسمع الوعاظ، ومنهم من يسمع الحفاظ وفي الآستانة كثير من حفاظ القرآن؛
بعضهم من حملة العمائم وبعضهم من حملة الطرابيش، ومنهم المرتلون المجيدون
الذين يخشع المستمع لتلاوتهم ما لا يخشع لتلاوة الحفاظ أمثالهم في مصر؛ لخشوع
جوارحهم واجتنابهم التطريب والتكلف والحركات التي اعتادها أكثر قراء المصريين
نعم، إن أئمة المساجد هنا يقرءون القرآن في الصلاة ولا سيما صلاة الجمعة، كما
يلقون خطبتها بالنغم الموسيقي الذي يشبه نغم القسيسين في الكنائس ومنهم المسرفون
في ذلك والمقتصدون.
وبينا يكون الخلق الكثير من الناس في المساجد بين العصر والمغرب، يكون
شارع (شهزاده) مكتظًا بالرجال والنساء الذين يؤمونه من جميع أرجاء المدينة،
فيكون كالمعرض العام لهم، حتى إن كثيرًا من أفراد الأسرة السلطانية يجيئونه كل
يوم في هذا الوقت، وفي الخامس عشر من الشهر وهو يوم زيارة البردة النبوية
الشريفة التي يسمونها (خرقة سعادت) ، رأينا نساء القصر السلطاني ذاهبات في
مركباتهن الكثيرة إلى جهة شارع (شهرزاده) ، وليس لهذا الشارع مَزِيَّة في السعة
أو الجمال على غيره الآن؛ ولعله كان في وقت ما أوسع الشوارع وأجملها، على
أن السكان في تلك الجهة جُلّهم أو كلهم من المسلمين، وكان يكون فيه في هذا الوقت
من تبرج النساء بزينتهن ومغازلة الرجال لهن ما لا يكون في مكان آخر في وقت
آخر إلا في معاهد النزهة في أزمنتها الخاصة؛ كالكاغدخانة ومروج
(قاضي كوي) و (حيدر باشا) و (بكقوز) ، وغيرها من المروج والوديان
والغدران وموارد المياه والشواطئ والغابات، وكل ذلك كثير في ضواحي هذه
العاصمة التي لا نظير لموقعها في الدنيا، ولكل معهد من معاهد نزهتها موسم من
أيام الربيع والصيف والخريف، يؤمه فيه الرجال والنساء بحللهن الزاهية الألوان
متبرجات بزينتهن الخاطفة للأبصار، حاسرات عن وجوههن المميلة للأعناق، ولا
تَسَلْ عما يكون هنالك من المغازلة، ولكن مع الوقوف عند حدود الأدب قلما يَعْتدُونها
إلا في المجامع الكبير التي يجتمع فيها عشرات الألوف من النساء والرجال؛ كمجمع
عيد الخضر في الكاغدخانة.
وفي هذه السنة عنيت الحكومة بالمحافظة على الآداب الإسلامية في شهر
رمضان؛ ومنها منع الخلاعة والتهتك في معرض شارع الشاهزاده في أصيل النهار
كمنع إظهار الفطر؛ وسبب ذلك أنها علمت أن من تدبير الجمعية الخفية التي شاع
أمرها، وانكشف سرها، أنها كانت تريد أن تكيد للحكومة الاتحادية الحاضرة؛
بإغراء بعض الفواجر من النساء بالإسراف في رمضان بصفة لم يسبق لها نظير؛
ليهيج على الحكومة أهل الدين والغيرة على العرض، ولولا هذا لتركت الحكومة
الأمر على حاله، ولو تركته لَمَا وقف عند الحدود المعتادة من قبل؛ لأن الناس قد
شعروا بما لم يكونوا يشعرون به من الحرية والإطلاق في شئونهم الشخصية، ودليل
ذلك ما جرى من المنكرات والفواحش في كثير من البلاد التي لم يكن فيها ذلك،
وعدم سماع الحكومة لشكوى أهل الدين والأدب والغيرة على العرض، بل قبضت
الحكومة على بعض أهل العلم والفضل؛ لمناهضتهم نساء الإفرنج اللاتي جئن بلدهم
للرقص والفحش، وأرسلتهم إلى ديوان الحرب العرقي لمحاكمتهم على ذلك العمل
الذي سمته حكومتهم المحلية ارتجاعًا. ولكن قيل: إن شيخ الإسلام لما بلغه ذلك،
كتب إلى ديوان الحرب العرقي بوجوب إطلاقهم؛ لأنهم عملوا ما هو الواجب عليهم
وقد أمسكهم ديوان الحرب أيامًا للتحقيق ثم سرحهم إلى بلدهم، وجملة القول: أن
الحكومة المركزية عنيت بحفظ آداب الدين الظاهرة في العاصمة وحكومة بعض
الولايات بإضاعتها.
طال بنا الاستطراد، فنعود إلى بيان ما يتعلق برمضان خاصة، فنقول: إن
وعظ بعض وعاظ الترك هنا يشبه وعظ بعض الشيوخ الدجالين بمصر في خلط
المسائل الدينية بالخرافات والأباطيل، وقد وقفنا على واحد منهم في جامع أيا صوفيا
فإذا هو يقول في وعظه: إن الدين يأمرنا بالذل والمسكنة والانكسار، ورأينا
بعض الواقفين للاستماع من الشبان المتعلمين يتبرم ويتأفف منه فقلت له: الواعظ
يقول هذا، والله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ
يَعْلَمُونَ} (المنافقون: 8) ، ولعله لو راجعه أحد في قوله وذكره بالآية الكريمة؛
لذكر له أنه أخذ هذا القول من بعض كتب الفقهاء أو الصوفية كالشيخ أحمد الرفاعي
رحمه الله تعالى، وقال: إنما الواجب علينا أن نهتدي بأقوال العلماء والصلحاء لا
بالقرآن؛ لأنهم أعلم منا بالقرآن، ولجعل الاحتجاج بالآية ضلالاً مبينًا؛ لأنه
يتضمن دعوى الاجتهاد وتَخْطِئة العلماء، فهذا ما تعوَّدْنَا من مثله، وما أَجْدَرَ أُمة
تروج فيها هذه التعاليم الباطلة، وهذه الحجج الداحضة، بأن تُضْرب عليها الذلة
والمسكنة، وتكون بها راضيةً مغتبطةً، لا تسعى إلى العز سعيه، أو ترفض أمر
الله ونهيه، وهذا ما حل بالمسلمين من جراء تعليم هؤلاء الجاهلين المقلدين، فقد
أعرض المستعدون لإدارة أمر الأمة عن تعاليمهم إلى تعاليم مبنية على أساس الكفر
والإلحاد وقالوا: إننا إذا بقينا على هذا الدين فنحن سائرون إلى العدم والانقراض؛
لأن الأمة الذليلة المسكينة، لا يمكن أن تحفظ استقلالها بين الأمم العزيزة الغنية،
فهكذا يوجد فينا من يهدم الدنيا والدين، وحجته على المصلحين تحريم الاجتهاد
ووجوب تقليد جميع المؤلفين الميتين.
هذا، وإن هنا وعاظًا لا يوجد لهم نظير في مصر ولا في سورية وأمثالها من
الأقطار الإسلامية، وهم وعاظ السياسة وأكثر وعاظ هذا العام يخوضون في السياسة
بإيعاز الحكومة الاتحادية، وقد سهل عليها هذا الإيعاز بأن شيخ الإسلام نهى أن
يتصدى أحد للوعظ إلا من يأذنه مقام المشيخة به، وهو لا يأذن إلا لمن يعلم أنه
يتبع رغبة الحكومة في تأييد سياستها، حتى إن الجمعية العلمية عينت واعظَيْنِ من
قبلها، وآذنت شيخ الإسلام بذلك فأمر شيخ الإسلام بمنعهما من الوعظ، فهاج ذلك
سخط الجمعية وجماهير العلماء، وأظهروا ذلك في مجلتهم (بيان الحق) ، وما
يقولونه أكثر مما كتبوه، ومنه أن شيخ الإسلام ليس له حق في منع العلماء من
الوعظ والإرشاد، وهو فرض عليهم إلا إذا كان له حق في منعهم ومنع غيرهم من
سائر فروض الكفاية كصلاة الجنازة مثلاً، وزادهم سخطًا وحنقًا ما نقل إليهم من
كتابته إلى نظارة الداخلية بوجوب منع هذين العالمَيْنِ من الوعظ بالقوة، إذا هما
تصدَّيا له، ونحمد الله أنهما لم يفعلا؛ لأنهما لو فعلا ومنعتهما الحكومة بالقوة؛ لكان
لذلك من سوء التأثير في الأمة ما لا خير فيه.
من هؤلاء الوعاظ السياسيين المعمَّمُون ومنهم غير المعممين؛ ولعله لا يوجد
في المعممين القدر الكافي للقيام بالوعظ، وبلغني أن بعض الضباط وعظ الناس في
أول جمعة من رمضان في (يكي جامع) - الكاف هاهنا تركية تقرأ نونًا - فقال في
وعظه: إن من الأمور المنافية للحكومة الدستورية وجود إمارة مكة المكرمة؛ لأنها
عبارة عن حكومة مستبدة في ضمن الحكومة (المشروطية) فيجب إلغاؤها، وأن لا
يكون في الحجاز أمر ولا نهي لغير الوالي، ومَنْ تحت إدارته من المأمورين، ومن
هؤلاء الوعاظ مَنْ حث الناس على أن يدفعوا ما عليهم من الزكاة لخزينة الحكومة مع
علمه بأن مال الزكاة خاصّ بالمسلمين وله مصارف متفق عليها لا تصرفها الحكومة
فيها، بل تضعها مع سائر أموالها، وربما تنفق منها على بناء الكنائس التي قررت
بناءها للروم والبلغار، ومنهم من استنبط من إكرام النبي (صلى الله عليه وسلم)
لكعب بن زهير (رضي الله عنه) ببردته الشريفة، وجوب تعظيم العسكر
وطاعتهم؛ لأن سبب إكرامه هذا بعد أن كان أهدر دمه قوله في قصيدته:
إن الرسول لسيف يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
قال: والمراد بالسيف العسكر، فهذا هو وجه الدلالة على ما استنبطه، ومنهم
الذين يدور وعظهم على طلب الإعانة للأسطول، فهم يفسرون الآيات الآمرة بالبذل
يستوكفون بها الأكفّ، ومنهم من يجمع الدراهم والدنانير في درسه، رأينا إسماعيل
باشا مبعوث طوقات يفعل ذلك، وهو الذي قال في درسه: إن الإسلام عبارة عن
الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، أي فمساعدة الأسطول أحد شطري الإسلام،
وقد وقفنا على درسه؛ فأعجبنا منه حثه على الاهتداء بالقرآن وتصريحه بأنه لا
حياة لنا إلا به، ومما قال: إن هذا القرآن أنزل علينا؛ لأجل أن نكون به سادات
العالم ومالكي الممالك كلها، وبلغنا عنه كلام غريب في تأييد جمعية الاتحاد والترقي
وكذا من غيره ولا نخوض في ذلك، وإن قال بعضهم: إن كلمة التوحيد معناها
الاتحاد والترقي، فالجمعية عين الإسلام، وواضعها هو الله تعالى، وكل مسلم هو
من أفرادها. وعلى هذه القاعدة يكون مَن فيها مِن اليهود والنصارى مسلمين.
ولكنهم لم يعلموا بذلك.
ووقفنا في مجلس أحد العلماء في جامع أيا صوفيا، فإذا هو أحسن مَن رأَينا
في هذه المدينة وعظًا، وهو يدافع عن الإسلام وعن علمائه بعقل، ويعرض بالشبان
المتفرنجين المارقين، يقول: يظن بعض شباننا أن الإسلام يحول دون الترقي،
وأن العلماء هم الذين يمنعون المسلمين من وسائله، وهؤلاء يهرفون بما لا يعرفون
فإن الإسلام هو دين الترقي والمدنية والعمران وحملته من العلماء هم الأدلاء على
ذلك، وما أصاب المسلمين من خير وسعادة فمنهم (قال) : أرأيتم هذه المدينة: إن
فاتحها السلطان محمدًا هو (خوجة) من أصحاب العمائم وهكذا كان جميع الفاتحين
الذين أسسوا ملك الإسلام.
يمتاز علماء الآستانة على علماء مصر بالإلمام بالسياسة علمًا وعملاً، وسبب
ذلك أن الكثير من أبواب أعمال الحكومة مفتّحة لهم، ويكون منهم الوزراء ورؤساء
المحاكم وغير المحاكم، وناهيك بمنصب القضاء الشرعي في الدولة، فإن القاضي
الشرعي يكون رئيس محكمة الحقوق والعضو الأول في مجلس الإدارة وله وظائف
أخرى في الحكومة، ولو كان العلماء مستعدين كما يجب لكان زمام القضاء كله
والإدارة بأيديهم، وسيسلب القضاة الشرعيون بعض ما كان لهم في هذا الدور من
الحكومة، والحق أن ما كان لهم هو كثير جدًّا.
***
ليالي رمضان في إستانبول
ذلك ما أحببنا بيانه في أيام رمضان، وأما لياليه فهي ليالي سرور ولهو
وعزف وقصف ورقص، وتسمع المعازف الوترية كالعود والقانون والكمنجا؛ وغير
الوترية في أكثر الملاهي التي تُدعى في البلاد العربية بالقهاوي وفي البلاد التركية
ببيوت القراءة (قراءتخانة لر) وفي غير هذه الأماكن أيضًا، فيتعجب الإنسان من
كثرة المعازف في هذه العاصمة؛ وسبب ذلك أن لأهلها نساء ورجالاً عناية بالعزف
والموسيقى، ويتعلمون ذلك في المدارس الخاصة، وترى أصحاب الطبول الكبيرة
يجولون في الشوارع من أول الليل إلى وقت الإمساك قُبيل الفجر، وناهيك بدُور
التمثيل والرقص، ولعل أكثر الناس يسهرون الليل في اللهو والسرور إلا قليلاً،
والتزاور في الليل معتاد أيضًا كما نعهد في مصر وسورية، ولكن لا يوجد في
البيوت حُفَّاظ يرتلون القرآن كما يوجد في مصر.
وقد ظهر لي أن لصلاة الجماعة وصلاة التراويح من الإقبال والعناية في
الآستانة فوق ما لهما في مصر، فالمصَلّون فيما أظن أكثر، ومُكْثهم في الصلاة
يكون أطول، ولكنك ترى أكثر المصلين في بعض المساجد من العسكر، وتجد عددًا
كثيرًا من الصبيان، ولا يخفى أن العسكر كله كان يكون من خارج الآستانة، وبعد
الدستور صار يؤخذ منها أيضًا.
***
نساء الآستانة في رمضان
يمتاز نساء الآستانة على نساء البلاد العربية بالصلاة في المساجد، يقل ذلك
منهن في غير رمضان ويكثر فيه، حتى إن من المساجد الصغيرة ما هو خاص بهن
لا يدخله من الرجال إلا الإمام الذي يصلي بهن، والواعظ الذي يعظهن بعد الظهر
وقد يكون الإمام هو الواعظ، ومنهن من يصلين في الجوامع الكبيرة، وقد اتخذ
لهن في هذه السنة حظائر في مؤخر المساجد تحجبهن عن الرجال فيها، ويدخلن من
باب خاص بهن، وإنك لتراهن قبل العشاء بنصف ساعة أو أكثر ذاهبات إلى
المساجد أفرادًا وأسرابًا؛ الأم وبناتها والجارة وجاراتها، منهن المتلفعات بالملاءات
والحبر، ومنهن لابسات الأردية والجبب، وأكثرهن سافرات، ومنهم من تصلي
التراويح في بيتها، وهذا مما يَفْضُلن به نساء مصر وسورية، إني أرى أن اختلاف
النساء إلى المساجد يُعْلي نفوسهن، ويرفع قيمتها في نظر صواحبها، وقد كنَّ
يصلين في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما حمل
المسلمين على منعهن منها في أكثر البلاد؛ إلا شدة الغيرة كراهة تبرج بعضهن في
غدوهن ورواحهن. ولنساء الآستانة من هذا التبرج حظ عظيم، وناهيك بالمتبخترات
في الشوارع والسبح في أيديهن يعبثن بها، فتكون أشد جذبًا لأبصار الرجال إليهن
من سائر حليهن وزينتهن، وكأني بهن يُجِبْنَ من يعترض عليهن في ذلك بقول تلك
الشاعرة العربية:
ولله مني جانب لا أضيعه ... وللهو مني والخلاعة جانب
ومن زينة الآستانة في ليالي رمضان قناديل منارات المساجد، ولكل مسجد من
المساجد الكبيرة هنا منارتان على الأقل ولبعضها أربع منارات، ولجامع السلطان
أحمد ست منارات، فهم يمدون حبالاً بين المنارات، ويكتبون بالقناديل فيها كلمات:
(بسم الله، الله محمد، حسن حسين، نور على نور، يا حنان، يا رمضان،
خوش كلدي) وأمثال ذلك، وما يكتبونه يقرأ من الأماكن البعيدة لوضوحه وسعته،
فهذا نبأ تاريخي عن حال أهل الآستانة في رمضان لا يخلو من الفوائد، وربما
يتغير بعضه في السنين الآتية، فيكون مما يعرف به الفرْق بين الماضي والآتي.
__________
(*) كتبناها في الآستانة لتنشر في جزء رمضان فلم تدركه.(13/765)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
حجاب المرأة في الإسلام [*]
(2)
أما ما ورد في القرآن والسُّنة في هذه المسألة من الآداب فهو قاصر على ما
يأتي:
1- الأمر للرجال بغضّ النظر عن النساء بعض الغض وكذلك للنساء، فقال
تعالى: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النور: 30) و {يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (النور: 31) فإن الواجب أن لا يطيل الإنسان النظر إلى وجه جميل يُخشى منه
الفتنة، فإن له النظرة الأولى وليس له الثانية، وقد سوَّى الله تعالى في أمر الغض
الرجال بالنساء، وهو يشعر بأن كلا الطرفين مكشوف للآخر.
2- نهى الله سبحانه وتعالى النساء عن كثرة الخروج من بيوتهن، فإن
طبيعتهن تقتضي ذلك؛ بسبب ما يصيبهن من حيض وحمل وولادة ونفاس ورضاعة
وتربية الأولاد وإدارة المنازل، وملاحظة خدمها وجميع شؤونها وأعمالها فالطبيعة
في الحقيقة تلزمهن بالقرار في البيوت في أغلب الأوقات؛ لأن أعمالهن وشؤونهن لا
تسمح لهن بكثرة الخروج؛ ولذلك قال الله تعالى: مخاطبًا نساء النبي صلى الله عليه
وسلم {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (الأحزاب: 33)
فإن كثرة خروج النساء مذموم ومضيعة لأعمالهن وشرفهن، فلا يجوز لهن الخروج
إلا لضرورة (والضرورات تبيح المحظورات) ، فإن كان ثمَّ موجب للخروج جاز
ذلك وإلا فلا، فمن موجبات الخروج قضاء بعض المصالح أو الحاجات إذا لم يوجد
من يفعل ذلك لهن، والسعي وراء العيش كذلك، والسفر للحج والرياضة البدنية
والعقلية في الأماكن الخلوية، والتمتع برؤية المناظر الطبيعية والصناعية المباحة
{قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (يونس: 101) ذلك في بعض الأحيان
لا في أكثر الأوقات، كما تفعل نساء الإفرنج في الملاهي (والتيترات) ، فإن ذلك
من الإفراط المذموم في الإسلام.
قال بعض أهل النظر: إن الأمر بالقرار في البيوت هو خاص بنساء النبي؛
لعدم حاجتهن للخروج في تلك الأزمنة؛ ولوجودهن في بيوت خاوية إذ ذاك قليلة
السكان؛ مستشهدًا على صحة رأيه بسياق الآية في سورة الأحزاب وبإفرادهن
بالخطاب في هذه الآية مع إشراكهن بغيرهم في آية {قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ
المُؤْمِنِينَ} (الأحزاب: 59) حينما أراد أن يكون الأمر فيها عامًّا للجميع وهو
قول وجيه، ولكننا نحن لا نرى مانعًا يمنع من كون المراد بأمر القرار جميع نساء
الأمة، وإنما اختصاص نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) بالخطاب هو لأنهن
أولى الناس بذلك كما سبق بيانه؛ ولشدة الرغبة في حسن سمعتهن وتطهير
أعراضهن من كل شائنة، كما قال تعالى في آخر الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) فالأمر بالقرار في
البيوت هو لنساء المسلمين واجب عندنا، ولكنه لنساء النبي أوجب، ويصح أن
يقال أيضًا: إن هذا الأمر للجميع هو للإرشاد والندب لا للوجوب، ونساء النبي بهذا
الإرشاد أولى من غيرهن؛ ولذلك قال في أول هذه الآية {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ
مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} (الأحزاب: 32) .
3- حرم الإسلام الخلوة بالأجنبية تحريمًا باتًّا لا هوادة فيه، ونهى القرآن
الشريف عن الدخول على النساء في خدورهن ومخاطبتهن في منازلهن إلا من وراء
حجاب؛ لأن استباحة حرم النساء والدخول عليهن في بيوتهن ومخاطبتهن من غير
حائل يؤدي إلى الخلوة بهن أو مغازلتهن أو رؤية شيء من زينتهن أو عوراتهن؛
لأنهن في البيوت يكشفن منهن ما لا يكشفنه في الخارج، ويبدين فيها لأزواجهن من
زينتهن ما لا يبدينه لغيرهم، ولا يجوز الاطلاع على شيء من ذلك قال الله تعالى:
{لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور: 27)
وقال: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} (النور: 58) إلى قوله {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} (الأحزاب: 53) أي فخاطبوهن من وراء ستار، ولا تدخلوا عليهن، فأين هذا
المعنى المفهوم من السياق من دعواهم؛ أنها تدل على تبرقع النساء وانتقابهن في
الطرقات، فشتان ما بين هذا وذاك، وإذا وجد داع للدخول عليهن في خدرهن وجب
الاستئذان وتنبيههن لذلك، حتى يُخْفين زينتهن وعوْراتهن واصطحاب أحد محارمهن
قال عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم) فهذه الآداب
هي خاصة بالبيوت. وللطرقات آداب أخرى غيرها والآية السابقة هي الآية الوحيدة
التي ذكر فيها الحجاب كما قلنا، وهي مع ذلك لا تدل على شيء مما زعموا.
4- ومن آداب الإسلام اصطحاب المحارم في الخروج، وعدم السفر إلا معهم
والخروج إلا بإذنهم وعلمهم، فلا يجوز لامرأة أن تخرج إلا بإذن زوجها، أو تسافر
إلا مع ذي محرم، وقد جرى عمل المسلمين على ذلك من عهد الرسول، وورد في
ذلك كله أحاديث كثيرة، منها قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله
واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي مَحْرَم) ، وقال: (لا تسافر
المرأة إلا مع ذي مَحْرَم ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها مَحْرَم) وقال: (لا تسافر
المرأة بَرِيدا إلا ومعها مَحْرَم يَحْرُم عليها) .
5- نهى القرآن الشريف عن التبرج بقوله: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ
الأُولَى} (الأحزاب: 33) ، وعن إبداء أي شيء من زينتهن في الطرقات سوى
الوجه والكفين {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) وأمر بضرب
الخُمُر: (وهي أغطية الرأس) على الجيوب وهي الشقوق التي تكون في ملابس
المرأة فوق صدرها، ومنها تظهر النهود؛ فقال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى
جُيُوبِهِنَّ} (النور: 31) ، وألزمهن إطالة أثوابهن من جميع أطرافها حتى لا
يظهر منها العنق ولا الذراعان ولا الساقان، فقال: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} (الأحزاب: 59) وهي الثياب التي تسمى الآن بالجلاليب؛ أي أنه يجب على
المرأة أن تطيل أطرافها وتمدها عليها، حتى لا يظهر منها سوى الوجه والكفين،
أما الرأس فإنه عندهن مغطى بالخمار لعدم جواز كشف الشعر، وهذه الملابس
المذكورة في القرآن هي أشبه شيء بملابس نساء الفلاحين في مصر الآن، ويمكن
عملها بطرق أخرى كثيرة (مودات) بحيث لا يظهر من المرأة إلا ما أباح الدين
ظهوره وهو الوجه والكفان، فهذه هي آداب الطرقات.
ومما تقدم تعلم أن البرقع أو النقاب ليس له في الإسلام أثر ولا عين، ولا
ندري من أين أتوْا به في الدين؛ إن هو إلا عادة ورثوها عن الأمم الأخرى، وهي لا
خير فيها بل فيها كل الضرر كما بينا ذلك؛ ولذلك لم يرد لها ذكر في الإسلام، فلو
التزمت نساء المسلمين ما أتى به دينهم القويم من الآداب المذكورة هنا؛ لفُقن نساء
العالم في العفة والفضيلة والكمال والاحتشام بدون أدنى احتياج للحجاب، وإلا فقل
لي بأبيك أي ضرر يلحق بنا إذا تركنا الحجاب واكتفت نساؤنا بما أمرن به في الدين،
فأظهرت المرأة وجهها وكفيها فقط وغضت من نظرها (وكذلك الرجال كما أمر
القرآن) ، وسارت في طريقها غير متبخترة ولا متبرجة ولا مزينة، وأقلت من
الخروج من بيتها إلا لموجب، وإذا خرجت اصطحبت أحد محارمها، ولا تخرج إلا
بإذن زوجها وبعلمه، ولا تسافر إلا مع ذي محرم، ولا تخلو بأجنبي عنها، ولا
يخاطبها رجل في بيتها إلا من وراء حجاب، فقل لي بأبيك إذا عمل المسلمون بهذه
الآداب الشريفة، فأي ضرر يحصل لنا؟ وأي حاجة لنا بالبرقع والنقاب وهما قد
جَرّا علينا من المصائب ما قد جرّا؟ فهل إذا التزمت نساؤنا آداب هذا الدين أفلا
يَفُقْنَ نساء العالمين.
على هذه الآداب الإسلامية جرى نساء سلفنا الصالح، فكن يأتين المساجد
ويحججن ويغشين الأسواق، ويسعفن الجرحى في ميادين القتال، ويخرجن في
الفلوات للرياضة ولاستنشاق الهواء، ويخطبن على الرجال ويحضرن مجتمعاتهم،
ويناقشن الأمراء وهن في كل هذا الأحوال مكشوفات الوجوه، وكن يفقن نساء
العالمين في العفة والفضيلة، ولم يكن هذا الحجاب معروفًا بينهن، وإنما هن أخذنه
بعد طول اختلاطهن بالأمم الأخرى، وتقليدهن في جميع أمورهن. وقد كثر بحث
الفقهاء في الحجاب بعد القرن الثاني، حينما امتدت الحضارة بين المسلمين وتعلقت
الأمراء به؛ لبغضهم أن يرى نساءهم وجواريهم أحد من عامة المسلمين، وقد قلدهم
في ذلك أهل الطبقة الوسطى والعليا من سكان المدن، ووجدوا من الفقهاء من يفتيهم
بأنه من الدين وهو ليس منه في شيء. أما نساء المسلمين الآخرين البعيدات عن
المدن وعن قصور الملوك والأمراء فبقين على ما ورثنه عن أسلافهن من السفور
إلى يومنا هذا، ولو كان الدين الإسلامي هو الآمر بالحجاب لوجدته بين الأمم
الإسلامية في سائر الطبقات وفي سكان المدن والفلوات وفي سائر الأوقات، ولَمَا
وجدته عند الأمم الأخرى غير الإسلامية قبل الإسلام وبعده؛ كقدماء اليونانيين
(الروم) ، والحق يقال: إن الإسلام بريء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب،
وجميع ما قيل فيه ليس له أصل في الكتاب والسنة، وإنما هو من اجتهادات الفقهاء
المحدثين بعد القرن الثاني وفتاويهم، ولسنا ملزمين باتباع آرائهم وأفكارهم الزائدة عن
الدين، بل يجب رفضها رفضًا باتًّا، وخصوصًا إذا أدت إلى ما أدى إليه الحجاب
الآن بين المسلمين مما سبق بيانه، فالعاقل من اكتفى بأوامر الدين ولم يعبأ بهوس
المخرفين ولا بآراء الجاهلين، وترك الابتداع في الدين أو تحريفه عن معناه القويم
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ
المُشْرِكِينَ} (يوسف: 108) ، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات:
55) .
(المنار)
البرقع معروف عند العرب قبل الإسلام وفي كتب اللغة؛ أنه كان خاصًّا
بالدواب ونساء الأعراب؛ كأنهن لكثرة بروزهن في الشمس كن يقين به وجوههن
منها، ثم صار من آيات الحياء، قال توبة بن الحمير:
وكنت إذا ما جئتُ ليلى تبرقعَتْ ... وقد رابني منها الغداة سفورها
وينسب إلى ذي الرُّمة:
إذا بارك الله في ملبس ... فلا بارك الله في البرقع
يريك عيون الدُّمَى غرة ... ويسفر عن منظر أشنع
وقد بينا في المجلد الثاني من المنار؛ أن الخلاف في هذه المسألة في مصر
إنما سببه العادات لا المحافظة على الشرع وعدم المحافظة عليه، فلا يوجد أحد ممن
شم رائحة الشرع، يقول: إن ما يشكو منه أعداء الحجاب من الملاءات والبراقع هو
شرعي، وما كنت أحب أن تشن الغارة على هذه العادات باسم الحجاب الشرعي،
والآية التي ذكر فيها الحجاب خاصة بنساء النبي (صلى الله عليه وسلم) حتمًا كما
بينه المحدثون، ولا سيما الطحاوي في شرح الآثار، ولكن أطلق على عادات نساء
المدن المسلمات في الستر اسم الحجاب، فلأجل هذا ينتقدها الكتاب في هذا العصر
بهذا الاسم.
كثر خوض الكاتبين والكاتبات بمصر في هذه المسألة في هاتين السنتين،
وكذلك يفعل الكاتبون والكاتبات في الآستانة وقزان والقريم والهند؛ أي في البلاد
التي سرت إليها عادات المدنية الحديثة، فأكثر المهاجمين للحجاب أو للعادات التي
تسمى حجابًا من المتفرنجين الذين يرون تقليد الأوربيين في عاداتهم، وأكثر الذين
يردون عليهم من الذين يكرهون هذا التقليد ويرونه ضارًّا، والدكتور توفيق صدقي
من المعتدلين المستقلين في رأيه، ولكن تغيير العادات في الأمة لا يمكن أن يكون
بمجرد إقامة الحجة على كونها مخالفة للشرع أو للمصلحة أو موافقة لهما، وإنما
يكون بالتغيير التدريجي في التربية والتعليم الذي تتغير به الآراء والأفكار والميول
والرغبات، فمتى كثر الذين يرون تغيير العادة يتجرأ بعضهم على التغيير بالفعل،
فيتبعه من يوافقه في الرأي ويتبعهم المقلدون الذين لا رأي لهم ومحبو الجديد كيفما
كان، وربما كان الانتقال السريع من العادة القومية الضارة إلى ضدها ضارًّا، وقد بدأ
نساء الآستانة في تغيير العادات بما هو أمثل من التغيير الذي نراه بمصر.
بينا غير مرة أن حكم الشرع في المسألة التي يسمونها مسألة الحجاب؛ هي أن
لا تخلو المرأة برجل من غير محارمها، وأن لا تبدي زينتها للرجال: بإبداء ما لا
ضرورة إلى إبدائه من بدنها وهو ما عدا الوجه والكفين، ومن المشاهد أن لابسات
الملاءات والحبر والبراقع التي يشكو منها أعداء الحجاب يبدين من زينتهن ما لا
حاجة إلى إظهاره، فإذا كان هذه هو الحجاب فالشرع بريء منه، وإنما يريد أعداء
الحجاب شيئًا آخر غير ترك هذه النوع من زينة النساء، يريدون أن يباح اختلاط
الرجال بالنساء في البيوت والمجامع العامة والخاصة، وأن يشارك النساء الرجال في
جميع أعمالهم أو أكثرها، يريدون أن يكون هذا فجأة لا أن يكون أثرًا طبيعيًّا لتربية
جديدة وتعليم جديد، كما كان يطلب زعيمهم قاسم أمين، وإلا لَمَا أكثروا من طلب
النتيجة قبل المقدمات والمسبب بدون اتخاذ ما له من الأسباب، بل يريدون أن يكون
سبب ذلك إقناع الجمهور به في الجرائد، ولا يتدبرون ما يكون وراء ذلك من الفساد
وفوضى الآداب.
وقد جاء إسماعيل بك عصبرنسكي صاحب جريدة (ترجمان) التي تصدر
في بفجة سراي (القريم) بأسلوب جديد للإقناع؛ فكتب أن امرأة من سروات
النمسة غنية لها أملاك ومعامل تدبر نظامها بنفسها، قد كتبت إليه تقول: إنها اطلعت
على حقيقة الدين الإسلامي فأعجبها، واعتقدت أنه الحق، وأحبت الدخول فيه،
ولكن صدها عنه شيء واحد هو الحجاب، فإنها لا تستطيع أن تستر وجهها وتحول
بينه وبين الهواء والنور، ولا أن تكل أمر معملها في إدارته ونفقاته ودخله إلى أحد
سواها، فهل يقبل إسلامها مع بقائها على ما كانت عليه من كشف الوجه ومزاولة
الأعمال مع الرجال مع ثقتها بعفة نفسها، أم الإسلام يجعلها متهمة في عفتها،
ويحرم عليها كشف وجهها والنظر في مصالحها؟ وكيف يسمح للمسلم أن يتزوج
نصرانية، ويأمره أن يأذن لها في البقاء على عاداتها من السفور والذهاب إلى
الكنيسة، ولا يرى ذلك خدشًا لعفتها.
أورد إسماعيل بك هذا السؤال الذي ذكرناه بالمعنى الذي بقي في ذهننا، وقال
إنه لا يمكنه الإفتاء به، بل يعرضه على علماء الإسلام في روسية والآستانة ومصر
والهند وبخارى وغيرها من البلاد الإسلامية، ويطلب منه بيان الحكم الشرعي؛
ليكون هو القول الفصل في هذه المسألة، كأنه يطلب اتفاق العلماء أو إجماعهم لتقطع
جهيزة قول كل خطيب، وقد نقل ذلك عنه بعض جرائد الآستانة ولمَّا نطلع على
جواب لأحد.
الخطب سهلٌ، فلا يمكن أن يقول أحد من العلماء: إن صحة إسلام تلك المرأة
تتوقف على ستر وجهها وترك أعمالها المالية، فأما الأعمال المالية في نفسها فهي
مباحة للنساء كالرجال بالإجماع، وأما ستر الوجه فقد قال بعض العلماء بوجوبه؛
لسد ذريعة الفتنة، لا لأنه مما تتوقف عليه العفة، وما وجب لسد الذريعة يباح
للحاجة فضلاً عن الضرورة، وهي أعلم بحاجتها وبثقتها بنفسها، على أن أكثر
نساء المسلمات في البدو والقرى وبعض المدن كالآستانة يكشفن وجوههن، ولعل
اللواتي يسترن وجوههن فلا يراها غير محارمهن لا تبلغ نسبتهن إلى الحاسرات
نسبة الواحد إلى الألف، ومن العلماء من يرى أن وجوب ستر الوجه ليس من
أصل الشرع، ولم يكن في أول الإسلام لا لذاته ولا لسد الذريعة؛ وإنما قال به العلماء
بعد ما دب دبيب الفسق في المدن الإسلامية، ويرى جميع علماء الإسلام أن إسماعيل
بك قد أخطأ في إرجاء إفتاء تلك المرأة بصحة إسلامها إن صح أن للواقعة أصلاً؛ لأن
من يطلب الدخول في الإسلام لا يجوز إرجاء قبوله ساعة ولا دقيقة.
وإذا صح هذا فلا يقاس عليه إباحة مثله للنساء اللواتي نشأن على عادة ستر
الوجه وعدم معاملة الرجال؛ لما يترتب على الانتقال الفجائي من ذلك إلى ضده من
المفاسد التي لا تقابلها مصلحة حقيقية ناجزة، وإن وقفن فيه عند حد ما يبيحه الشرع،
فكيف وهن يتعدينه حتمًا حتى إلى العشق وطلب الزواج بغير المسلمين، وقد
سمعوا بخبر التركية مع الرومي بعد الدستور الذي قطعه الترك في الآستانة إربًا
إربًا.
وصفوة القول أن هذه المناظرات في الجرائد لا تأتي بما يبغيه المتناظرون،
وإذا ظلت مصر والآستانة وما ماثلهما من بلاد المسلمين على ما نراه من التفرنج
التدريجي فسيكون نساؤنا كنساء الإفرنج في شر ما هن عليه ينتهين إلى ذلك
بالتدريج السريع أو البطيء، كما سبق رجالنا المتفرنجون في الغالب إلى شر ما
عليه الإفرنج من السكر والزنا والقمار , وأما إذا وجدت جمعيات إسلامية تتولى
التربية والتعليم للبنات مراعية حاجة العصر مع حفظ آداب الدين وأحكامه، فيمكن
أن تكون المرأة المسلمة خير نساء العالمين أدبًا وعلمًا وفضيلة، مع القدرة على
النظر في مصالحها ومصالح بيتها واتقاء كل ما يعدّ من ضرر العادات التي تنسب
الآن إلى الحجاب؛ وأهمها الخطبة والنظر إلى الخطيبة وحفظ المرأة لأموالها
وحقوقها فالعبرة بالأعمال، وإنما العمل في مثل هذا للجمعيات الخيرية.
__________
(*) تابع لما نشر في (ص689) بقلم الدكتور محمد أفندي توفيق صدقي.(13/771)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(هيئة الناسك في أن القبض في الصلاة هو مذهب الإمام مالك)
العبادات العملية الظاهرة لا مجال للخلاف في أركانها وواجباتها؛ لأنها نقلت
بالعلم الذي لا يحتمل التأويل؛ ولذلك ترى صلاة السنيين على اختلاف مذاهبهم
والشيعة الإمامية والزيدية والخوارج الإباضية وغير الإباضية كلها واحدة، وإنما
وقع خلاف بينهم في بعض الأعمال غير المرفوضة؛ كرفع اليدين عند الركوع
والقيام، والقنوت في صلاة الفجر؛ وسبب هذا الخلاف أن النبي (صلى الله عليه
وسلم) فعل ذلك في بعض الأوقات وتركه في بعضها لسبب أو لغير سبب يعرف،
فأخذ بعضهم دائمًا برواية الفعل وبعضهم برواية الترك أو عدم الفعل، وكان الأظهر
فيما عرف سببه أن يناط به، وما لم يعرف سببه أن يفعل تارة ويترك أخرى، ولا
يختلف طوائف المسلمين فيه، فإن الاختلاف في الأعمال من أسباب اختلاف القلوب
كما يعلم من أحاديث الأمر باستواء الصفوف في الصلاة، ومن التجربة الدالة على
كون ذلك من سنن الله تعالى في خلقه، وقد اهتدى إلى هذه السنة الأمم العليمة
بطبائع النفوس وأخلاقها وسنن الاجتماع، فاجتهدوا في جعل أفرادهم متفقين في
الأخلاق والآداب المنزلية والاجتماعية والعادات في اللباس والطعام والشراب وغير
ذلك، وكان هذا من أسباب اتحادهم وقوتهم واستيلائهم على البلاد الإسلامية وغيرها،
وهذه هي الحكمة في تشديد النبي (صلى الله عليه وسلم) في تسوية الصفوف
بقوله: (لتسوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفَنَّ الله بين قلوبكم) أو قال بين وجوهكم رواه
الشيخان في صحيحهما، وأصحاب السنن من حديث النعمان بن بشير (رضي الله
عنه) ، والوجوه يراد بها القلوب، فهل قدرنا هذا القسم حق قدره، وبحثنا عن
حكمته وسره؟ ، إنما حكمته وسره ما ذكرنا، وفي معناه التشديد في رفع الرأس قبل
الإمام، ولكن وُجد في خَلَف المسلمين أقوام فُتنوا بحب الخلاف فصاروا يتعلقون
بأوهى الروايات وأضعفها؛ ليخالفوا سائر إخوانهم في عمل ما ولاسيما إذا كان دينيًّا،
وكنا نرى أن أغرب خلاف بين المسلمين في صلاتهم هو إرسال اليدين في الصلاة
الذي جرى عليه إخواننا المالكية؛ لا لأنهم خالفوا سائر المسلمين فيه، بل لأننا لم
نعرف له أصلاً في كتب السُّنة: لا في موطأ مالك ولا في غيره، فكنا نقول: كيف
قال بذلك عالم دار الهجرة، ولم يَرْوِ هو ولا غيره فيه شيئًا عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، ولا عن أحد من أصحابه (رضي الله عنه) .
وقد كشف الغُمَّة في هذه المسألة صديقنا الشيخ محمد المكي بن عزوز في
رسالة له سماها: (هيئة الناسك في أن القبض في الصلاة هو مذهب الإمام مالك) ،
فبيَّن بالنقول الكثيرة من أشهر علماء هذا المذهب أنه لا خلاف بين المسلمين في هذه
المسألة، فمذهب المالكية كسائر المذاهب فيها، وأن سبب ما جرى عليه المالكية منذ
قرون هو رواية لابن قاسم في المدوَّنة عن مالك معناها الذي أوضحه المحققون أنه
يكره القبض بوضع اليمنى على اليسرى إذا قصد المصلي الاعتماد والاستناد لأجل
الاستراحة وخَصَّ ذلك بصلاة الفريضة، والمراد أنه يكره لمصلي الفريضة أن
يقصد الاعتماد والاستناد بقبض يديه، وإنما ينبغي أن يقصد بذلك السنة، ونقل عن
كثير من فقهائهم التصريح بأنه لو فعل ذلك لا للاعتماد بل تَسنُّنًا لا يكره، وأنه لا
يكره في النفل ولو قصد به الاعتماد، وإن في هذه المسألة لعبرة يتبين بها الفرق
بين المقلدين العُمْيان الذين لا بصيرة لهم في دينهم؛ وبين أهل البصيرة من
المستقلين والمتبعين للأئمة والفقهاء.
قلنا مرارًا: إنه يجب على جميع المسلمين أن يهتدوا بالكتاب والسنة، وأن
ذلك لا يمنعهم من اتباع أئمة العلم والانتفاع بكتبهم، فالمتبع لهم حقيقة لا تنقطع
صلته بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما المقلد الأعمى
الذي يتبع آباءه ومشايخه من حيث لا يعلم وجه صلتهم بالكتاب والسنة؛ فهو منقطع
عن تلك الهداية غير معتصم بحبل الله كما أمر عز وجل، فهو يأخذ عنهم الحكم
الموافق لا من حيث إنه موافق، ويأخذ عنهم الحكم المخالف وقد يدري أنه مخالف
وشبهته وشبهة من قلدهم أن أولئك الأئمة أعلمنا بالكتاب والسنة، فيجب أن نعتمد
على فهمهم لهما دون فهمنا، ونحن على تقدير تسليم أن الله يكلف كل إنسان بما
يفهمه من يظن هو أنه أجود منه فهمًا، نقول أولاً: إن معنى اتباعنا لهذا الجيد
الفهم هو أن نتلقى عنه الكتاب والسنة، ونعمل بما يلقيه إلينا من فهمه لهما وما
عليه جماهير المقلدين من الخلَف الجاهلين ليس كذلك، فإن أحدًا منهم لم يتلق شيئًا
عن إمام مجتهد، وإنما يتلقى دينه من آبائه ومشايخه المقلدين كما فهموا من مشايخهم
المقلدين ومن كتب أمثالهم عصرًا بعد عصر، وقد يكون مشايخنا مخطئين وهكذا كما
أخطأ الملايين من المالكية قرنًا بعد قرن في ترك سنة قبض اليدين، وعزوا ذلك إلى
مالك خطأ في فهم رواية ابن قاسم عنه: فما جاز في هذه المسألة عليهم ووقع منهم،
يجوز مثله على غيرهم ويقع منهم بل هو واقع لا محالة، فإن المسائل الخلافية
الكثيرة لا يعقل أن يكون المصيب فيها دائمًا واحدًا، وإنما يكون كل منهم مصيبًا في
بعضها ومخطئًا في البعض الآخر، وحكم الله في مثلها أن ترد إلى الكتاب والسنة
فإنها هي المسائل المتنازع فيها، وقد قال عز وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) أي ردوه إلى كتاب الله ورسوله في عصره وإلى سنته بعد وفاته.
فلو جرى الخلَف منا على سنة سلفنا الصالح؛ في جعل علم الدين بيانًا للكتاب
والسنة دائمًا؛ لَمَا استمر الجمهور منا على الخطأ في شيء زمنًا طويلاً؛ ولَمَا
تفرقت كلمتنا، ولو جعلنا الواسطة بيننا وبين الكتاب والسنة كلام الأئمة المجتهدين
الأولين وحدهم؛ لَمَا بعدنا عنهما هذا البعد الشاسع لا سيما إذا اتبعناهم فيما أمروا به
من رد كلامهم إلى كلام الله وسنة رسوله دون العكس، ولكن الوسائط كثرت بيننا
وبينهم جدًّا، فنحن مخدوعون بدعوى اتباع الأئمة، ولم نتلق عنهم ولم نقرأ ما كتبوه
بأيديهم، وليس لأكثر ما نعزوه إليهم أسانيد متصلة كأسانيد السنة، نميز بين
صحيحها وضعيفها وموضوعها بالرجوع إلى تاريخ رجالها.
وجملة القول: أن هذه الرسالة (هيئة الناسك) قد جاءت حجة ناصعة
على المقلدين العميان؛ الذين يزعمون أنهم باتباع آبائهم ومشايخهم آخذون بما فهمه
الأئمة المجتهدون عليهم الرحمة والرضوان من الكتاب والسنة، ومستغنون به
عن دراستهما وفهمهما والاهتداء بهما مباشرة أو بواسطة ما فسرهما به الأئمة
فقط.
هذا وإن أكثر الناس يُؤْثرون ما اعتادوه على ما يصح عن الأئمة، كما
يُؤْثرونه على الكتاب والسنة، وسترى هؤلاء يصرون على سَدْل أيديهم في الصلاة
ولا يرجعون عنه بعد ما بين لهم هذا العالم الواسع الاطلاع أن مذهب مالك وأساطين
علماء مذهبه؛ هو مذهب سائر المسلمين الثابت بالسنة الصحيحة قولاً وعملاً، وإنما
يَرْجع إلى ذلك بعض الأنقياء الذين يؤثرون الحق على العادات والتعاليم الموروثة،
وههنا يظهر فضل علماء المالكية، فإن رجعوا بالعامة إلى العمل بهذه السنة وموافقة
المنتمين إلى سائر الأئمة، فذلك مما يحمد لهم ويُحْمَدُ الله على توفيقهم للحق
والإنصاف.
وإننا نذكر عناوين أبواب الرسالة؛ ترغيبًا للناس في مطالعتها والاعتبار بها
وهي عشرة:
1- في نصوص الفقهاء على مشروعية القبض وكراهة السدل.
2- في تأويل رواية ابن القاسم كراهة القبض.
3- في احتجاج الفقهاء المحققين لسنة وضع اليد على اليد في الصلاة.
4- في اتفاق جميع شرائع الأنبياء على سُنِّية ذلك.
5- في أن القول المشهور لا ينحصر في المدونة.
6- في الفرق بين المشهور والراجح.
7- في محل اليدين عند الوضع.
8- في تكميل مهم قاطع للنزاع في المسألة.
9- في عذر الأفاضل الذين كانوا قائلين بالسدل.
10- في جواز الإفتاء بالسدل لمن علم كراهته وكونه بدعة.
فجزى الله المؤلف الجزاء الأَوْفَى؛ فإنه لم يؤيد السنة على البدعة فقط، بل
أيد الإصلاح الإسلامي بتأييد هذه السنة، وكشف شبهة البدعة عن وجهها، وهكذا
يكون نفع العلماء المستقلين الذين لا يكتفون بما ورثوه عن الآباء والمعاشر، بل
يطلبون بأنفسهم الحق اليقين.
***
(حسن الصحابة في شرح أشعار الصحابة)
الشعر ديوان العرب، ومادة الأدب، وخير أشعار العرب وأنفعها شعر
الصحابة رضوان الله تعالى عليهم؛ فإن فيه ما في شعر الجاهلية من الفوائد وزيادة
فإنه يشارك شعر الجاهلية في ضبط متن اللغة، وجواز الاستشهاد به في بيان فنونها
من النحو والصرف والبلاغة، والاستعانة به على فهم القرآن والحديث وغير ذلك
من الفوائد؛ كتاريخ العرب وأنسابهم وسائر شؤونهم، ويزيد عليه بما فيه من
النزاهة والآداب وبيان نشأة الإسلام ومبدأ تاريخه، وشيء من فضائله وآدابه،
فالرغبة في تحصيله يجب أن تكون أقوى، والعناية به ينبغي أن تكون أتم وقد كان
متفرقًا في كتب السير والتاريخ والأدب، فوفق الله لهم من عُنِيَ بجمعه وشرحه؛
ليسهل تحصيله ودرسه وحفظه وفهمه، ذلك الذي ادخر الله له هذه المنقبة هو الشيخ
علي فهمي بن شاكر الموستاري المعروف بلقب (جابي زاده) الذي كان مفتيًا في
هرسك، ثم هاجر إلى القسطنطينية، وصار معلمًا للأدبيات العربية في دار
الفنون أعلى مدارسها وأرقاها.
لقيت هذا الرجل الصالح، فألفيت عنده من العناية بأشعار العرب وأنسابها ما
لم أجده أو مثله عند أحد في دار السلطنة؛ إلا أن يكون الشيخ محمد خالص أفندي
وكيل الدرس في المشيخة الإسلامية، على ما عند علماء هذه الديار من الضعف في
هذه اللغة؛ لتقليهم علومها الآلية والشرعية بالترجمة؛ لأن السياسة قضت بأن لا
تُقَوى اللغة العربية في العنصر التركي، بل أقول قلما يوجد في مصر وسورية من
له عناية بأنساب العرب وأشعارهم وآدابهم كهذا العالم الموستاري الهرسكي، الذي
نشأ في ظل حكومة النمسا نشوءه العلمي.
رتب المؤلف ما جمعه من أشعار الصحابة على حروف المعجم، وقد طبع
الجزء الأول من شرحه لها، فبلغت صفحاته 362 وهو من قافية الهمزة إلى قافية
الدال. ومن طريقته في هذا الشرح أنه يترجم كل صحابي له شعر عند ذكر أول
شِعْر له، وهو يعزو كل شعر إلى الكتب التي نقله منها، وما كان مختلفًا في عزوه
إلى صاحبه ذكر الخلاف في ذلك، ومن طريقته في الشرح أنه يفسر المفردات،
ويبين معاني الجمل، ويشرح الوقائع التاريخية التي تشير إليها الأبيات، ويأتي
عليها بالشواهد والأمثلة أحيانًا، ويبين إعراب بعض الجمل عند ما يرى حاجة إلى
ذلك.
والكتاب يباع في مكتبة المنار، وثمن النسخة منه اثنا عشر قرشًا ما عدا أجرة
البريد، فنحث طلاب الأدب على مطالعته؛ فإنه من خير الكتب التي تطبع مَلَكَة
اللغة في النفس، وتعين مطالعها على إجادة النظم والنثر؛ وعسى أن يُقَرر في
مدارس الحكومة؛ فإنه من أفضل كتب الأدب التي ترغب في مثلها نظارة المعارف.
***
(طَلِبَة الطالب في شرح لامية أبي طالب)
هي رسالة لطيفة، شرح بها صاحب هذا الكتاب قصيدة أبي طالب عم النبي
صلى الله عليه وسلم وكافله وناصره اللامية الشهيرة، وقد سبق لنا نشر هذه القصيدة
البليغة في المنار، وياليت كل طالب للأدب يحفظ هذه القصيدة ويستفيد من بلاغتها
وهي تباع أيضًا في مكتبة المنار، وثمن النسخة منها قرشان.
***
(تحرير المرأة - ترجمتة)
ترجم (الأصمعي) كتاب تحرير المرأة المشهور بالتركية، والأصمعي هذا
معروف عند الأدباء بما ترجمه من الآثار العربية بالتركية ككتاب السياسة الشرعية
وغيره، وقد طبعت الترجمة التركية بعد الانقلاب العثماني، وكان يظن أنها تروج
في الآستانة، ولكن لم تكد نسخها تعرف فيها، حتى قرر مجلس الوكلاء (النظار)
منعه، فكان ذلك غريبًا جدًّا مع كثرة خوض كتاب الترك في مسألة النساء والحجاب
وتقبيح بعضهم للحجاب وتنفيرهم منه، حتى بَعْد منع هذا الكتاب، وربما نذكر
شيئًا من ذلك في جزء آخر، وأغرب من هذا أن الحكومة العثمانية تمنع القول في
شيء تساعد عليه بالعمل، فإنها كما قيل مساعدة لأحمد رضا بك رئيس مجلس
المبعوثين على المدرسة التي يريد أن يعلم فيها بنات المسلمين مع بنات الإفرنج
وغيرهم؛ من غير تربية دينية ولا تعليم إسلامي.
__________(13/779)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(حفلة وداع البستاني)
وصلت إلى القاهرة ظهر يوم الإثنين لستّ أو سبع خَلَوْن من شوال، فأخبرني
من لقيني من أصدقائي السوريين أنهم سيجتمعون بعد المغرب في فندق كونتننتال؛
للاحتفال بوداع صديقنا سليمان أفندي البستاني مبعوث بيروت؛ وأنه يحسن أن
أحضر الاحتفال إن لم يمنعني مانع؛ فأجبت وجئت المكان متأخرًا، وكان رفيق بك
العظم واقفًا يتكلم في مسألة سوء التفاهم بين العرب والترك ويعهد إلى البستاني
بتلافي ذلك؛ عسى أن يُرتق الفتق قبل اتساعه.
لم أسمع كلام الخطيب كله ولكني أعرف رأيه وحرصه على الاتحاد العثماني
فقد قضينا السنين الطوال في العمل لذلك سرًّا وجهرًا، والبستاني يعرف لنا ذلك
حتى قال لي في الآستانة وكنا نتكلم في هذه المسألة: إنني لا أعرف أحدًا من
إخواننا السوريين أو قال العرب موافقًا لرأيي مثلك ومثل رفيق بك أو قال
غيركما.
ثم قام يعقوب أفندي صروف فرد على رفيق بك بعد الاعتراف له بما اشتهر
به من الغيرة على الدولة والإخلاص لها، وقال: إنه لا يوجد شيء من سوء الظن
بين الترك والعرب، وإن الترك يفضلون العرب على أنفسهم، وإن القابضين على
زمام الأحكام يعملون بالإخلاص التام؛ لتوحيد العناصر، ومتى وجد الإخلاص لا
يضر الخطأ إن وجد، وإن سبب عدم نيل العرب لنصيبهم من الوظائف؛ هو عدم
تمرنهم وتدربهم على أعمال الحكومة وإدارتها كالترك.
ثم قام البستاني فأثنى على رفيق بك وغيرته وإخلاصه، وذكر أن سوء
التفاهم الواقع بين العنصرين سببه عدم الاطلاع على حقيقة الحال في الدولة، فأكثر
المناصب العسكرية في أيدي العرب وذكر منهم محمود شوكت ناظر الحربية، ومحمد
هادي باشا قائد الفيلق الثالث، وسامي باشا قائد حملة حوران، قال:
والعسكرية هي كل شيء الآن، ثم ذكر الشريف حيدر بك ناظر الأوقاف ووالي
البصرة الجديد، وأن عمال الحكومة من الترك ببيروت لا يزيدون على سبعة في
المائة، وأن الترك يشتغلون لخدمة لغتنا أكثر منا، والحكومة تعد مشروعًا لجعل
تعلم العربية إجباريًّا في المملكة، ومن البراهين على ترقيتها للغة العربية مساعدتها
لمشروع السيد رشيد رضا صاحب المنار، فإنه اقترح إنشاء مدرسة كلية عربية في
العاصمة، فتلقت الحكومة مشروعه بالقبول وقررت مساعدته عليه بالمال.
قال البستاني: هذا كما قال هو وغيره من البعوثين مثله في بيروت والشام،
ولم يكن عالمًا بأنني جئت من الآستانة، وأنني في المجلس أسمع لأنني جئت في
أثناء الخطابة، فلم يرني إلا من جلست بالقرب منهم، فقيل له: ها هو ذا السيد
رشيد فحياني، واستشهدني فأرجأت شهادتي إلى أن يتم كلامه، وبعد أن أتمه قامت
فتاة سورية عذراء فوقفت تحت العلم العثماني المحبوب وحيته بخطاب منثور مؤثر
صفقت له أيدي الحاضرين في هذه الحفلة، ورقصت له قلوبهم.
ثم قمت فقلت كلامًا حاصله أن العثمانيين الحاضرين في هذه الحفلة هم من
أرقى العثمانيين إن لم يكونوا أرقاهم في علومهم وأفكارهم، وأنهم مستمسكون
بعثمانيتهم، متحدون تحت علمهم الذي تهتف له ألسنتهم وقلوبهم، ويحييه حتى
العذارى منهم. قلت: فقد سمعتم ما فاهت به هذه العذراء العربية العثمانية في
تحية العلم العثماني بالكلام الفصيح البليغ الصادر عن وجدان، يتدفق غيرة وحمية
وإخلاصًا لا يوجد أرقى منه في نساء الآستانة نفسها، على أن نساء الآستانة أرقى
من نساء سائر الولايات العثمانية تربية وتعليمًا، ولكن لدينا في النساء السوريات من
هن في الذروة التي لا تعلوها ذروة أخرى في الآستانة ولا في غيرها من هذه
المملكة.
إن المرتقين من الأمة يجب أن يعرفوا كل شيء من أحوالها، فإذًا يجب أن
يعرف هذا الجمع أن ما نعبر عنه بسوء التفاهم بين العرب والترك واقع حتمًا، وأن
رفيق بك مصيب فيما خاطب به مبعوثنا العاقل المتروي من وجوب السعي في
تدارك ذلك وتلافيه، وكيف نكابر أنفسنا وننكر أمرًا لهجت به الجرائد في العاصمة
والولايات ومصر، وتناوله خيال الشعراء، وعرفه العامة والخاصة، وشكا منه
العقلاء، حتى قال أحد كبراء الحكومة في العاصمة لأحد مبعوثي العرب: إننا
وصلنا بسياسة الأطفال إلى درجة من سوء التفاهم، صار يخيل إليَّ فيها إذا رأيتك
مقبلاً لمعانقتي أنك واثب عليّ لتفتك بي، وأنت يخيل إليك مثل هذا.
المسألة وصلت إلى العامة، فإذا تغلغلت فيها صعب نزعها؛ لذلك كان من
حرص رفيق بك مخاطبة سليمان أفندي بما خاطبه به؛ لعلمه بأنه على رأيه في ذلك
وإنني قد بذلت جهدي في الآستانة لتلافي خطر هذه المسألة، وكلمت فيها أولياء
الأمور الصدر الأعظم وغيره (وأشرت إلى ذلك أيضًا في نبذة الرحلة في هذا
الجزء) ، والبستاني كان يسعى مثل هذا السعي، وجرى الحديث بيننا ثمة في ذلك
غير مرة، فإذا كان يقول لكم ههنا كما كان يقول في سورية: إنه لا خلاف ولا
تغاير , وما ثمَّ إلا الاتحاد والتآزر، فما ذاك إلا أنه يجري على ما تعود من الدعوة
إلى الوفاق، فهو يريد أن يسكب الماء البارد على هذه القلوب الحرى ليبرد حرارتها،
ولكنه كان يخاطب إخوتنا الترك في العاصمة بغير ما خاطبكم به، كان ينكر
عليهم كل ما يبلغه من الأمور التي تحرك العصبية الجنسية والتنافر بين العنصرين،
فهو يقول في كل مكان ما ينبغي أن يقوله مثله من دعاة الوفاق والائتلاف، فأنا
أشكر له ذلك، وأفاخر به أنه عربي سوري.
ثم بينت لهم رأيي وما وصل إليه سعيي في هذه المسألة، وهو ما تقدم في نبذة
الرحلة من هذا الجزء، وما بينت من قبل في مقالات (العرب والترك) وغيرها
من المقالات التي نشرتها في الآستانة، وملخصها أن الترك والعرب إخوة في
الإسلام وفي المصلحة العثمانية، لا يستطيع أن يفرق بينهما أحد، فهما كالعنصرين
المكونين للماء أو الهواء، وإن ما كان من سوء التفاهم فسببه أفراد من المتفرنجين
في العاصمة، فهناك ولدت هذه المسألة، ومن هناك دبت ودرجت وهناك تتلافى.
ثم ذكرت أيضًا ما وصل إليه مشروع العلم والإرشاد (وتقدم بيانه في نبذة
الرحلة فلا نعيده) ، ولكن زدت أن نظام المدرسة (دار العلم والإرشاد) مبني على
أن العلم كله بالعربية، وأن التركية إلزامية فيها، وأن بعض أعضاء الجمعية
يقترحون أن تعلم بعض الفنون التركية، والنظام الداخلي لها لما تصدق عليه
الجمعية.
بعد هذا قام البستاني فتكلم كلامًا وجيزًا لم ينقض فيه شيئًا من كلامي، ولكنه
صرح بأن أحسن ما قلته هو أن سوء التفاهم جاء في بعض الأفراد، فلا يجوز أن
ينسب إلى الترك أنفسهم، وأنه يعلم أن رفيق بك مخلص فيما اقترحه، وأنه هو
أعلم الناس بغيرته وإخلاصه، قال: إلا السيد رشيدًا، فلا أدعي أنني أعلم منه بذلك.
ثم تكلم خليل أفندي مطران فأيد رفيق بك، وذكر فضل العرب ومكانتهم
وحقوقهم، وقال وَليّ الدين بك يَكَن كلمة وجيزة في وجوب مزج العنصرين،
وجعل العرب تركًا والترك عربًا، وهذا ما كان صرح به حقي باشا الصدر الأعظم،
ثم انفضت الحفلة والجميع متفقون على وجوب إزالة الخلاف، فلله درُّ العرب ما
أشد إخلاصهم.
وقد بلغني بعد أيام أنه نشر في جريدة العلم مقالة لكاتب مجهول في تخطئة
رفيق بك وتخطئتي فيما قلناه، وأن من ضرره أنه يحرك سائر العناصر العثمانية
على المطالبة بحقوقهم؛ إذا رأوا العرب يطالبون بحقوقهم، وأن الذي حمل رفيق
بك على هذا الكلام هو طمعه في الوظائف، بل زعم الكاتب أنه طلب لنفسه وظيفة
فلم ينلها، فقام ينتقم لنفسه ويخدم الإنكليز بمقاومة الدولة وتهديدها، واستدل بكلام
البستاني على خطئه.
لم أر ما كتبه هذا الأرعن المفتات، ولكن رأيت لرفيق بك ردًّا عليه وعلى
العلم في الأهرام ومثله لا يردّ عليه؛ لأنه سيئ النية بدليل كذبه في دعواه، أن
رفيقًا طلب وظيفة، والبستاني يعلم كما نعلم أن رفيقًا لو عرضت عليه الصدارة لما
قبلها؛ لأن صحته تمنعه من العمل حتى إنه لم يقبل أن يكون مبعوثًا؛ ولأنه (أي
الكاتب) جاهل بحال الدولة، لا يدري ماذا طلبت العناصر الأخرى من الدولة بحق
الدستور وبغير حقه أيضًا، ولا يدري أن هذه العناصر لا تنتظر الكلام الذي دار في
حفلة وداع البستاني لتبني مطالبها عليه بل لا تعلم به، وإن نشر في الجرائد
المصرية، وأن كلامه هو لا يصل إليها ولا إلى أولي الأمر في الآستانة، فهو تملق
ضائع، ونحن لم نطالب بحقوق العرب في الاحتفال، وإنما طالبنا بوجوب الاتفاق؛
ولذلك لم نتعرض لبيان الحقائق فيما قاله البستاني وغيره، بل كتبنا في المنار من
قبل أنه لا يضرنا أن تكون أكثر الوظائف في الترك، وإنما يضر أن تكون في غير
الأكفاء.
* * *
(عباس أفندي البابي البهائي)
البهائية فرقة من البابية، رئيسها الآن عباس أفندي بن ميزرا حسين علي
الملقب بالبهاء أو بهاء الدين دفين عكا، وهم آخر طوائف الباطنية يعبدون البهاء
عبادة حقيقية، ويدينون بألوهيته وربوبيته، ولهم شريعة خاصة بهم، وكان عباس
أفندي محجورًا عليه في عكا، فلما صارت الحكومة العثمانية دستورية تسنى له أن
يخرج من عكا، وقد جاء الإسكندرية في هذا الشهر، وكتب مدير المؤيد نبذة عنه،
وصفه فيها بالعالم المجتهد، وبالتضلع من العلوم الشرعية، والإحاطة بتاريخ
الإسلام، وقال: إن أتباعه يعدون بالملايين وأنهم (يحترمونه إلى حد العبادة
والتقديس، حتى أشاع عنه خصومه ما أشاعوا) ، ثم قال مدير المؤيد: (ولكن كل
من جلس إليه يرى رجلاً عظيم الاطلاع، حلو الحديث، جذابًا للنفوس والأرواح،
يميل بكليته إلى مذهب (وحدة الإنسان) وهو مذهب في السياسة يقابل مذهب
(وحدة الوجود) في الاعتقاد الديني، تدور تعاليمه وإرشاداته حول محور إزالة
فروق التعصب للدين أو الجنس أو الوطن أو لمرفق آخر من مرافق الحياة
الدنيوية) .
أقول: إن عباس أفندي رجل عظيم سياسي جذاب الحديث، يخاطب كل أحد
بما يرى أنه يرضيه ويعجبه، وكان منذ ثلاثين سنة يجيء بيروت فيصلي الصلوات
الخمس مع المسلمين، وكذلك كان يعامل المسلمين في عكا، يجتمع بالعالم السني
فيوهمه أن فرقتهم لم يكن همها من الإصلاح إلا إزالة تعصب الشيعة وتقريبهم من
أهل السنة، والتوفيق بين الطائفتين كما سمعت ذلك عنه من شيخنا الشيخ حسين
الجسر (رحمه الله) ، وهو في الحقيقة زعيم دين جديد في بعض تعاليمه ومسائله،
وإن كان مبنيًّا على أصول الباطنية الذين منهم الإسماعيلية والقرامطة والدروز
والنصيرية، وهم يدعون المسلمين إلى دينهم بدعوى أنهم منهم، ويريدون أن
يجعلوهم على بصيرة في دينهم: أي وثنيين يعبدون البشر فيالله من هذا الارتقاء
والتقدم بالرجوع إلى الوراء، وكذلك يدعون النصارى بتسليم ألوهية المسيح وادعاء
أنه هو البهاء، وقد جعل قدماؤهم للدعوة أصولاً وأساليب حكيمة بيّنها المقريزي؛
وغيره من المؤرخين كالتشكيك في آيات القرآن وتأويلها بما تتبرأ منه اللغة والدين
كتأويل البهائية السموات السبع بالأديان، واختصام الملأ الأعلى باختصام أولاد
البهاء عباس وإخوته، وتفسير {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ
الغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} (البقرة: 210) بظهور البهاء وأتباعه، فهو إلههم وأتباعه
ملائكته، وعندهم أن القيامة قد قامت بظهور الباب والبهاء.
ولما كان ما ذكره المؤيد عن عظيم القوم يوهم أنه من علماء الإسلام المجتهدين
في الدين كالأئمة الأربعة مثلاً، وأن سياسته كسياسة الماسون، وكان هذا مما يسهل
عليه نشر دعوته في مصر ويحمل من يغتر بظاهر كلام المؤيد على الثقة به، رأيت
أنه يجب عليّ أن أنبه الناس إلى الحق الذي أعتقده بعد الاختبار الطويل، وما قرأته
وسمعته عن هؤلاء القوم، وما قرأته في كتبهم، وما جرى لي من المناظرة
والمحاورة مع داعيتهم بمصر ميرزا أبي الفضل.
أقول: إن عباس أفندي ليس إمامًا من أئمة المسلمين المجتهدين، وللمؤيد أن
يقول: إنه عنى بالمجتهد معناه اللغوي لا الأصولي، بل لا يعد من علماء المسلمين
لأن قومه ليسوا منهم، ولكن لا ننكر أنه مطلع على تاريخ المسلمين وعلومهم،
واجتماع مدير المؤيد به مرتين لا يكفي للحكم بإحاطته بالتاريخ، وتضلعه من العلوم
الشرعية، وقوله: إن أتباعه يعدون بالملايين غير مُسلَّم أيضًا، وطالما سمعناهم
يدَّعون ذلك؛ لأنه مما يجذب الناس إليهم، بل يجعلون هذا دليلاً على أحقية دينهم،
وقد سبق لي كلام معهم في ذلك، والمؤيد أخذ ذلك عنهم بالتسليم.
وأما مسألة وحدة الإنسان، فإنما يعنون بها دعوة الناس إلى دينهم المبني على
عبادة البشر وتقديسهم، حتى قال داعيتهم أبو الفضل في أحد الملاهي العامة بمصر
في البهاء: (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن
العزيز الجبار المتكبر) ، فتلونا نحن فاصلة الآية {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الطور: 43) ، والمسلمون يدعون إلى اتحاد البشر واتفاقهم على عبادة الله وتقديسه
وحده، وجعلهم أخوة في الإسلام، لا يفرق بينهم تعصب لدين ولا جنس ولا وطن
ولا غير ذلك، والنصارى يدعون أيضًا إلى وحدة الإنسان في النصرانية، وعبادة
المسيح عبد الله ورسوله (عليه السلام) ، فبماذا امتاز البهائية.
ألا فليعلم الناس أن هؤلاء الباطنية قد قصدوا في وضع تعاليمهم الأولى محو
الإسلام، وإزالة سلطانه من الأرض، وضعها بعض مجوس الفرس لمَّا فتح
المسلمون بلادهم وأزالوا ملكهم، واستعانوا عليها بالشيعة وهو حزب سياسي يرى
أن الحكومة يجب أن تكون (أرستقراطية) للأشراف من آل بيت النبي (صلى الله
عليه وسلم) ، فصاروا يبثون دعوتهم في هذا الحزب بحمله على الغلو في بُغْض
عمر بن الخطاب الذي فتح بلادهم، وأبي بكر وجمهور الصحابة الذين كانوا أقرب
إلى القول بحكومة الشعب (الديمقراطية) وقد وجد هذان الحزبان في الإسلام، ووجد
فيهم حزب الفوضوية أيضًا وهم الخوارج، كما وجد ذلك عند غيرهم؛ لأن وجود
هذه الأحزاب السياسية طبيعي في البشر، وكذلك خَلْقُ الغلُوِّ طبيعي في البشر؛
ولذلك نجح الباطنية في دعوة غلاة الشيعة إلى تكفير جماهير الصحابة، ورميهم
بكتمان بعض القرآن، ولم يدروا أن ذلك يعدّ طعنًا في أئمة آل البيت الذين
يتعصبون لهم؛ لأن رئيسهم عليًّا كرم الله وجهه كان يحفظ القرآن كله، فلماذا لم
يظهر المكتوم؟ إنهم يجيبون عن هذا بما لا يقبله ذو عقل مستقل كالتقية، وما كان
عليّ بالجبان فيخاف في إظاهر أساس دينه أحدًا، على أنه كان يمكنه أن يبث ذلك
سرًّا في آل بيته وشيعته، وغرض الباطنية إخراج الشيعة من الإسلام، كما كانوا
يريدون إخراج غيرهم، ولكنهم خابوا ولا يزالون خائبين، وللمسلمين من الشيعة
وغيرهم السلطان والبرهان الغالب عليهم، ولمَّا ظهر غلاة المتصوفة توسل الباطنية
بهم إلى مقصدهم أيضًا، فأضلوا كثيرًا من الناس، ولكن الإسلام ظل غالبًا على
أمره في الصوفية أيضًا إلا من كان أو صار من الباطنية، وسنزيد هذه المسألة بيانًا،
وعسى أن ينشر مدير المؤيد هذا في جريدته؛ ليزيل الإيهام الذي علق بالأذهان
من كلامه، ولا يعقل أن يكون مقصودًا له؛ لأن آحاد العامة المتهاونين في الدين لا
يمهدون السبيل لدعوة دين وُضِعَ لمحو دينهم، فكيف يفعل ذلك مثل مدير المؤيد؛
وهو من يعدّ من خواص المسلمين في علمه وسياسته.
ومن أراد أن يعرف تاريخ هؤلاء البابية وشيئًا من التفصيل في دينهم،
فيطالع كتاب مفتاح الأبواب تأليف الدكتور محمد مهدي خان، وثمنه خمسة عشر
قرشًا صحيحًا، ويوجد في مكتبة المنار وغيرها.
* * *
(أمير مكة المكرمة الشريف حسين)
سعيه المشكور في نَجْد
علمت منذ أشهر وأنا في الآستانة أن الأمير سافر من الطائف إلى نجد في
عسكر لَجِب من العرب الخاضعين له، وأن قصده من ذلك منع أمير نجد عبد
العزيز بن سعود من أخذ الزكاة من قبائل عتيبة التابعة للشريف والاعتداء عليهم؛
لأن أمير مكة هو الذي كان يأخذ زكاتهم، ثم عقد الصلح بين ابن سعود وابن
الرشيد، وبلغنا أن والي الحجاز عرض يومئذ على الشريف أن يأخذ معه ما شاء
من العسكر فأبى، وكان ذلك حكمة منه تدلّ على بُعْد نظره وسَعَة علمه بأخلاق
العرب وطباعهم، وقد ظهر أثر ذلك، فإنه أدرك ما أراد، ولم يسفك دمًا، ولا زاد
القبائل خلافًا وعدوانًا فيما بينها وبعدًا عن الدولة وتنكرًا منها وسوء ظن بها، كما
كانت تفعل بعثات الدولة العسكرية، بل أصلح إصلاحًا لم يُسْبق إلى مثله، فدل
عمله على فساد رأي الذين يريدون إلغاء إمارة مكة دفعة واحدة، ورأي الذين يرون
أن تلغى سلطة الشريف أولاً ثم تلغى وظيفته، ولا خير في هذه الرأي للدولة ولا
في ذاك بالأَوْلى، وأن محاولة سياسة عرب الجزيرة ولاسيما الحجاز وإدارتهم
بالقوانين التي تنفذ في أوربة العثمانية، تعدّ ضربًا من الجنون والاعتماد في
إخضاعهم لها بالقوة فن آخر من الجنون أشد مما قبله خطأ وخطرًا.
قرأنا في الجرائد أن الشريف فاز وأفلح فيما أراد، ونحن نعلم أن عبد العزيز
ابن سعود كان قد استعد للقتال؛ لما سمع بزحف الشريف على نجد؛ ظنًّا منه أنه
زحف بعسكر نظامي للقتال وإخضاعه بالقوة القاهرة، حتى إنه كتب في أواخر
شعبان إلى سليمان بن جبري وجماعته أهل القوعية، يأمرهم بالنفير العام، قال في
كتابه: (ولا يتبرصن منكم أحد، وترى أعرفكم عرقكم رطب لهل فزع، لكن والله
ما يذكر أحد متخلف تكون عقوبة الله عليه، الله الله في العجلة لغاية ما يكون)
ولكنه لم يذكر السبب ولا اسم الشريف، ثم علم ابن سعود أن نية الشريف صالحة
ومطلبه حق، وأن القبائل الموالية له تحارب معه كل أحد إلا الشريف، وأنه قد انضم
إلى عسكر الشريف ألفا خيال عربي من القبائل التي مر بها في طريقه إلى نجد،
فعلم أن الخير له في السمع والطاعة، ثم إن الشريف أسر أخاه (سعدًا) فعظم عليه
ذلك، ولولا ثقته بوفاء الشريف لتهوّر وأقدم على الحرب بمن معه، فإنه ما نكر
عرب الجزيرة من رجال الدولة وقواد عسكرها إلا عدم الوفاء، والوفاء هو الخلق
الذي كانت تدين به في جاهليتها وزاده الإسلام تأكيدًا عندها.
لو شاء الشريف لدخل نجدًا، وأسر أميرها عبد العزيز بن سعود آل فيصل أو
قتله إن لم يفر هاربًا، ولكنه لحكمته وسياسته العالية لم يفعل، وقد خضع ابن سعود
له وأجابه إلى كل ما طلبه، وأرسل إليه أخاه عبد العزيز عبد الله آل سعود بهديته
النفيسة؛ وهي (الصقلاوية والمحمداني وكحيلان) وهي أكرم الخيل العربية في
نجد، وجاءنا من أخبار الحجاز ونجد أنه قد تم الاتفاق بينهما على الأمور الآتية:
كتب بها ابن سعود (تعهدًا) أمضاه وختمه، وأرسله إلى الشريف وهي:
1- عدم التعرض لعتيبة كافة بحال من الأحوال؛ من تنزيل أو ترحيل أو كل
ما يحسب، ويعدّ من التعرض عليهم من زكاة أو خلافه.
2- عدم أخذ الباج (المكس) منهم بأي صورة كانت من أي قرية أمدوها،
وإذا وقع منهم ما يخالف يخبر عنه.
3- طاعة أمير مكة في كل ما يأمر به، حسبما تقضيه حقوق ومنافع الدولة
العلية.
4- القصيم وهو بريدة وتوابعها على خيرة أهله إن جاءت مضبطة منهم؛
بأنهم يختارون إمارة الأمير عبد العزيز بن سعود صاحب هذا التعهد، يبقون تحت
يده ويدفعون ثلاثة آلاف مجيدي سنويًّا باسم الخزينة العامرة السلطانية بمكة المكرمة،
وإن لم يجئ منهم مضبطة يُعَّين أميرهم برضاهم، ويدفعون المبلغ المذكور على
كل حال. وموعد المضبطة يمتد إلى آخر شوال.
هذا ما تقرر وتعهد بإنفاذه ابن سعود، وكتب وأمضاه وختمه وأشهد على نفسه
فيه كبار قومه؛ وهم محمد بن عبد الرحمن السعود وسعد بن عبد الرحمن السعود
وسعيد بن عبد الرحمن السعود، والشيخ عبد الله عبد اللطيف ومحمد بن سعود بن
عيسى وعبد الله بن إبراهيم العسكر. وإمضاء ابن سعود هكذا (خادم الدولة والملة
والوطن أمير نجد ورئيس عشائرها عبد العزيز السعود) .
وقد أطلق الشريف سراح أخيه سعد، فعاد معززًا مكرمًا يثني أطيب الثناء
على عناية الأمير الشريف به، ووضع الشريف محمد بن هندي شيخ قبائل عتيبة
وكيلاً له في نجد، وكذلك خضع ابن الرشيد، وأرسل الهدايا إلى الشريف، ودان
لأمره في عدم التعرض لعتيبة وفي الكفّ عن محاربة ابن سعود، ويقال: إن ابن
السعود وابن الرشيد كليهما عزما على التشرف بزيارة الشريف، وإنهما ربما
حضرا في الموسم.
أليس هذا الاتفاق والسلام خيرًا مما كان في عهد الاستبداد المشئوم من إغراء
ابن الرشيد بابن سعود، وإيقاع العداوة والبغضاء بين القبائل؟ أليس من العجب أن
يوجد في الدولة الآن من يظن أن اتباع خطوات عبد الحميد في هذه السياسة
السوءى هو الذي يحفظ سلطة الدولة، أليس أعجب منه أن يتوهم آخرون أن
السياسة والإدارة يجب أن تكون بالقهر والشدة والبأس والقوة لا بالعدل والحكمة، ألا
يعتبر رجالنا بإدارة الإنكليز في السودان، وكيف استمالوا إليهم العرب والزنوج؟
حتى إن فرنسة أرسلت وفدًا إلى السودان ليتعلم كيفية الإدارة فيه؛ لعل فرنسة تتبعها
في إفريقية، ألا يعتبرون بسياسة إنكلترا فيما جاور عدن من بلاد اليمن؟ لو عرف
هذا ذلك الضابط الذي خطب في (ديكي جامع) بعد صلاة أول جمعة من رمضان
خطبة استحسن فيها إلغاء إمارة مكة، لَمَا فاه بكلمة في ذلك؛ فعسى أن يترك هو
وأمثاله السياسة، فالأُمة محتاجة إليهم فيما تعلموه من فن الحرب والدفاع، وحسْبها
سياسة طلعت بك وإخوانه.
فعلى كل عثماني أن يشكر الشريف الحكيم أمير مكة المكرمة عمله السلمي
وإدارته المثلى، وعسى أن تشكره له الحكومة الدستورية بإناطة إصلاح جميع
عرب الجزيرة بحكمته وتفويضها إلى رأيه، فقد عمل لها بغير إهراق دم ولا إنفاق
درهم ما عجزت عن مثله حكومة الاستبداد؛ بسفك الدماء وخسارة الأموال في
السنين الطوال.
ومن أخبار الحجاز أن قبائل غامد وزهران (في حدود اليمن) الذين كانوا قد
انحرفوا عن الشريف ووالوا الإدريسي، قد ندموا على ما كان منهم، وطردوا وكيل
الإدريسي الذي كان عندهم، وتبرءوا منه، وأرسلوا (مرابيطهم) إلى الشريف
بالطاعة والانقياد، وأما قبائل حرب فهم في خوف ووجل، وينتظر أن يلْقُوا إلى
الأمير الشريف السلم؛ لئلا ينكل بهم تنكيلاً، فنسأل الله تعالى أن يوفقهم لما فيه
حقن الدماء وسعادة البلاد المقدسة في ظل الدولة الدستورية أيدها الله تعالى.
* * *
(الإصلاح في حكومتنا الدستورية)
يسائلني الناس مشافهة ومكاتبة عما عملته الحكومة الدستورية من الإصلاح
والفرق بينها وبين الحكومة الاستبدادية الغابرة، فأما الفرق فهو مثل الصبح ظاهر
وهل يماري في الصبح إلا الأعمى أو المكابر، كنا في آخر عهد الاستبداد على شفا
جرف من الخطر، يتربص بنا الهلاك نفسًا بعد نفس، وقد قال: لي صديق لي من
ضباط أركان الحرب في الآستانة: لو أن البلغار حاربتنا عقب الانقلاب، لدخلت
علينا العاصمة من الطاق والباب، والآن نقدر أن نحارب البلغار واليونان
والصرب والجبل الأسود في وقت واحد، ونرجو بحسَب ما تفيده قواعد فن
الحرب أن نكون الغالبين. فأبشر قراء المنار بأن الإصلاح الذي وُفقنا له في جيشنا
عظيم، ويليه الإصلاح في البحرية، فالهمة المبذولة فيه عالية، ولكن فتك عبد
الحميد في البحرية كان أشد من فتكه في سائرالنظارات، فنحتاج إلى زمن طويل
لإصلاحها كما يجب. على أن المدرعتين اللتين اشتريناهما من ألمانية قد جعلتا لنا
قيمة بحرية عظيمة عند جارتنا في البحرين الأبيض والأسود (اليونان وروسية) ،
وأن سائر النظارات موجهة وجوهها إلى الإصلاح، ولكن ليس عندنا من رجال
الإدارة مثلما عندنا من رجال الحرب، فلا بد من الانتظار والأمل، وعندي أن
مجلس الأمة لم يأت بأقل مما كان ينتظر منه وهو في بدايته، والرجاء في الانتخاب
الآتي أكبر، ولعنا نشرح ما سمعناه واستفدناه في الآستانة من آراء الوزراء والكبراء
والأعيان، ورجال جمعية الاتحاد والترقي وغيرهم من أصحاب الرأي في
إصلاح الدولة ومستقبلها، ونجعل ذلك محاورة خيالية في صورتها حقيقية في
معناها؛ إذ لا يجوز لنا أن نصرح بأسماء أصحاب تلك الآراء المختلفة.
ومما علمته في الآستانة؛ أننا كنا مخطئين في اعتقادنا أن فتنة 31 مارث أو
(13 إبريل) ؛ كانت لإسقاط الدستور وإعادة الاستبداد، فالصواب أنها كانت
لإسقاط جمعية الاتحاد والترقي ومنع سيطرتها على الحكومة، وسمعت هذا من
بعض رجال الجمعية المستقلين. وأما كون محمود شوكت باشا ليس عمريًا فاروقيًا
في نسبه لأبيه، فقد علمناه قبل رحلتنا إلى الآستانة، فوالدته عمرية ووالده من
(الفلمن) ، ولكن أسرتهم صارت عربية وهو يصرح بأنه عربي.
* * *
(الرد على أعداء الإصلاح الإسلامي)
تركنا عملنا ورحلنا إلى عاصمة دولتنا؛ لأجل السعي العملي النافع لدولتنا
وأمتنا وديننا، وكنا ونحن مجدون في هذا السعي، نأخذ المرة بعد المرة مكتوبات
من الشرق والغرب والجنوب، يطالبنا فيها أصحابها بالرد على الدجالين والمفرقين
من أعداء الإصلاح؛ كالنبهاني والشيخ أحمد جمال التونسي، وصاحب جريدة
جديدة في سنغافورة والشيخ محسن العاملي، ويرسلون إلينا رسائل وقصائد وجرائد
لهؤلاء المفرقين طلاب المال والجاه عند العامة، فما كنا نسمح بأن نضيع شيئًا من
وقتنا؛ لمطالعة ما يرسلونه إلينا من رسائل وجرائد هؤلاء المفسدين؛ لأن الوقت
والمال قد صرفا إلى ضد سعيهم، فنحن نشكر للذين طالبونا بالرد غيرتهم،
ونذكرهم بقوله تعالى: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) ، ولكنني رأيت بعض إخواننا مغرورين بالنبهاني؛ لما كتبه من
الأوراد والصلوات ونحوها، فأقول لهؤلاء المغرورين: إن هذه الكتب كمسجد
الضّرار؛ صورتها خدمة للدين وهي في معناها مفسدة ضارة.
لم يكن يوجد شيء من هذه الكتب وأمثالها في القرون الثلاثة الأولى؛ وهي
بشهادة النبي (صلى الله عليه وسلم) خير القرون؛ أيام كان الإسلام في كماله
الديني وإنما راج أمثال هذه الكتب في أيام ضعف المسلمين في الدين والعلم والمدنية،
وكانت هذه الكتب من أسباب ضعفهم؛ إذ صرفتهم عما أتاهم الله من المواهب
والقوى التي فاز بها سلفهم وعلقت آمالهم بالأموات، وصرفتهم عن تدبر القرآن
والتعبد به، وبما ورد في السُّنة من الأدعية والأذكار إلى أوراد من وضع الناس
الذين لا حق لهم في التشريع، فيضعوا للناس عبادات ما أنزل الله بها من سلطان،
وإن خلطوها بشيء من المأثور ترويجًا لها، وكتب النبهاني مملؤة بالروايات
الموضوعة المكذوبة والمنكرة والضعيفة الشديدة الضعف؛ ولذلك قلنا من قبل: إنه
لا يوثق بعلمه ولا بنقله.
كان لهذا الرجل جاه في حكومة الاستبداد الماضية؛ بتملقه لأعوان عبد الحميد
الذين كادوا يقضون معه على هذه الدولة، وكانوا يستعينون بقصائد النبهاني في
مدحهم ومدح سلطانهم على غش الأمة به من طريق الدين، وناهيك بأكاذيب
الشعراء المتملقين، وتأثيرها الذي يستتبعون به الغاوين، {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ
الغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} (الشعراء: 224-226) كان النبهاني يمدح أبا الهدى لمَّا كانت كلمته عند عبد
الحميد هي الكلمة العليا، فكان يرفعه إلى الدرجات العلى، ويجعله من أئمة الدين
وأقطاب الأولياء العارفين، فلما غلبه وبزَّه عزت العابد في الزلفي قلب له النبهاني
ظهر المجن، وصار يتقرب إلى عزت العابد بذمه، ويدعي أن عزت هو ركن
الدولة والإسلام بعد عبد الحميد الذي يربو غلوه في مدحه على كل غلو.
في ظل هذا الجاه الباطل والمدح الكاذب والغش للمسلمين والعثمانيين، كان
يروج النبهاني كتبه الملفقة، وناهيك بنفوذه في المحكمة النظامية ببيروت، وكان
يمهد بذلك السبيل لادعاء المهدية لنفسه كما نقل إلينا بعض المطلعين على مخبآته،
ومن تمهيداته ومقدماته لذلك ما كان يدعيه من الرؤى والمنامات.
أين المسلمون الذين تركوا الفواحش والمنكرات، وقاموا بما ورد في الكتاب
والسنة من الفرائض والمندوبات، والأدعية والذكر والفكر، وسائر أعمال البر، ثم
وجدوا فراغًا لقراءة أوراد النبهاني وصلواته. وأين من قرأ التفسير والحديث
الصحيح والتوحيد والفقه ثم وجد فراغًا؛ لقراءة ما لَفَّقَه من الكتب، وخلط فيه بين
الحق والباطل، ألا إن أمثال هذه الكتب هي التي خدرت أعصاب المسلمين، حتى
غفلوا عن أنفسهم، فملكت الأجانب عليهم أمرهم، فليتهم كانوا كذلك الأعرابي الذي
حلف أنه لا يزيد على ما فرض عليه ولا ينقص منه، فقال النبي (صلى الله عليه
وسلم) (أفلح الأعرابي إن صدق) رواه الشيخان وفي رواية دخل الجنة إن صدق،
فإن الإسلام ما جاء لجعل أتباعه كعباد بني إسرئيل في الصوامع، ولا كرهبان
النصارى في الأديار، بل جاء ليجعلهم سادة الأرض ووارثيها لتكون لهم مزرعة
للآخرة.
يا حسرةً على المسلمين، كيف سُلِبُوا استقلال عقولهم وبعدوا عن هداية ربهم
وسنة نبيهم وسيرة سلفهم، وساروا وراء الدجالين الذين استهووهم، وسلبوا منهم
قلبوهم وأموالهم، ومهدوا بذلك السبيل للأجانب فسلبوا ملكهم، وأزالوا من بلادهم
حكم شريعتهم، فأضاعوا دينهم ودنياهم {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ} (النحل: 33) .
كان النبهاني يشغل جمهور المسلمين بكتبه وقصائده عن الأخطار المحيطة بهم
من كل جانب، وعن كل ما يجب عليهم؛ للدفاع عن دينهم وأنفسهم؛ بالخضوع
والعبودية الظاهرة للسلطان عبد الحميد ورجاله، والخضوع والعبودية الباطنة له
ولأمثاله، وما كان انتصارهم لعبادة أصحاب القبور وتأويل عبادتهم بتسميتها توسلاً
واستشفاعًا إلا تمهيدًا لأنفسهم، وقد فضح الزمان كيدهم الأول، وكلما استيقظ
المسلمون من غفلتهم افتضح كيدهم الآخر {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ
عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (آل عمران: 179) والعاقبة للمتقين.
ومن أراد الاطلاع على جهل النبهاني وخلطه في كتبه فليقرأ كتاب (كتاب
الأماني في الرد على النبهاني) ؛ وهو مجلدان لأحد العلماء المحققين وقد طبع في
مصر.
* * *
(الطبيب الشيخ حامد والي)
قرأنا في جرائد الآستانة ونحن فيها؛ أن صديقنا الحميم الشيخ حامد والي قد
فاز بالقدح المعلى في الامتحان الأخير لمدرسة الطب العليا في برلين (عاصمة
ألمانيا) فكان صاحب الشهادة الأولى من متخرجي المدرسة في هذا العام، فسررنا
سرورًا خاصًّا؛ أن كان هذا الفوز لمن نعده من أخصّ أصدقائنا الأوفياء، وسررنا
سرورًا عامًّا؛ أن كان السبق في أعلى المدارس الأوربية لشيخ عربي شرقي نشأ في
المدارس الدينية العربية وهي الأزهر ودار العلوم المصرية، فنهنئه ونهنئ
أنفسنا وأُمتنا به.
* * *
(وفاة أمير الألاي صادق بك المؤيد العظمي)
فُجعت الحكومة العثمانية والأمة العربية بوفاة هذه الرجل الكريم، في وقت
نرى الدولة فيه في أشد الحاجة إلى مثله (ومثل كثير في الأنام قليل) في معارفه
العسكرية والإدارية وغيرته وصدقه واستقامته وإخلاصه، فهو من الأفراد الذين
خدموا الدولة في العهد الماضي خدمًا كثيرة، ولم يَتَلوّثُوا من أدارنه بشيء، فقد
كانت أيامه كلها عملاً نافعًا، وقد ولته الحكومة الدستورية قائمقامية (أو متصرفية)
جَدّه في العام الماضي، فظهر في كفاءته وحسن إدارته مالم يظهر من أحد غيره من
رجال الإدارة بعد الدستور، فظهر أنه من أعظم رجال الإدارة كفاءة في حكومتنا،
وقد سمعنا أن العسكرية كانت عازمة على رفع رتبته لتعود إلى ما كانت (رتبة
فريق) ، ولكن أراد الله أن يرفعه إلى دار كرامته (إن شاء الله تعالى) فتوفّاه إليه
ولو كان المنار صحيفة تاريخ لأَطلْنا في ترجمته، ولكن ذكرنا هذه الكلمات؛
للعبرة بأقدار الرجال، فرحمه الله وعزَّى أسرته وقومه عنه.
__________(13/785)
ذو القعدة - 1328هـ
ديسمبر - 1910م(13/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
(س 49- 50) من صاحب الإمضاء
حضرة أستاذنا العالم المفضال السيد محمد رشيد رضا الحسيني حفظه الله
وأدامه، نرجوكم الإجابة على الأسئلة الآتية بلسان منار الإسلام، ولكم الفضل، هي:
1- ما هو تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ
فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف: 86) .
2- أحقيقي ما قاله ابن خلدون من أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم من العجم.
3- هل يجوز لعربي الجنس أن يتزوج بشريفة أو قرشية؟ وهل يجوز
لأعجمي أن يتزوج بأعرابية؟ أفتونا مأجورين ولكم الشكر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد الأنور قريط
... ... ... ... ... ... ... ... ... من قبيلة أولاد علي
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بناحية فراشة
غروب الشمس في عين حمئة
(ج1) المعنى أن ذا القرنين لمَّا وصل إلى نهاية بلاد المغرب المعروفة في
عصره بالنسبة إلى بلاده، وجد الشمس تغرب في ماء كدر؛ لكثرة ما فيه من الحمأة
أو الحمَأ ومعناهما الطين الأسود، وقد ذكر الراغب في مادة (وجد) من مفرداته أن
الوجود أنواع، فيطلق على ما يُدرك بإحدى الحواس الخمس وبالعقل وبالوجدان
الباطن كالغضب والشهوة، فيقال: وجدت الشيء أو الشخص، ووجدت طعمه حلوًا
ووجدت رائحته طيبة، ووجدت صوته حسنًا، ووجدت خشونتة شديدة، ووجدت
الشبع والسرور، ووجدت برهانه صحيحًا، وقال في تفسير: {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (النساء: 89) حيث رأيتموهم، وفي تفسير {وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} (النمل:
23) ، وقوله: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} (النمل: 24) : إنه وجود
بالبصر والبصيرة، فلقد كان منه مشاهدة بالبصر، واعتبار بالبصيرة.
فقوله تعالى: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ} (الكهف: 86) بمعنى رآها، وذلك كما
نراها ونحن مسافرون في البحر تطلع منه وتغرب فيه، وكذلك نراها في السواحل،
ويرى بعض الناس أن المراد بهذه العين الحمئة البحر المحيط الغربي المعروف
بالأتلانتيك، وكانت العرب تسميه بحر الظلمات، ويجوز أن يراد بها بعض
البحيرات التي جفت أو الباقية، فإن ذا القرنين قديم لا يُعرف في أي عصر كان،
وليس هو الإسكندر المكدوني المشارك له في اللقب، وقد كانت الأرض مغمورة
بالمياه وظهرت اليابسة منها بالتدريج البطيء، كثيرًا ما حصل في الأقاليم الاستوائية
أن توجد البحيرة ثم تجف في مدة قصيرة.
زعم ابن خلدون أن أكثر حملة العلم في الإسلام من العجم
(ج2) أخطأ ابن خلدون في هذه المسألة، فقد كان للعلم في الإسلام دول أو
مناطق متعددة؛ واحدة في الشام والحجاز، وثانية في العراق وبلاد فارس، وثالثة
في مصر وما وليها من إفريقية، ورابعة في الأندلس وما جاورها. وكان في كل
منطقة من هذه المناطق العلمية ألوف من العلماء، برعوا في العلوم والفنون الدينية
واللغوية والأدبية والعقلية والنظرية والعملية، ولم يكن العجم كثيرين إلا في واحدة
منها؛ وهي منطقة البلاد الفارسية وما جاورها، على أن الذين نبغوا في العلوم
هنالك، لم يكونوا كلهم من العجم، ولا يمكن الحكم على أكثرهم أيضًا؛ لأن الإسلام
بمؤاخاته بين العرب والعجم، ومَزْجه بعضهم ببعض، صار علماء العرب ينسبون
إلى البلاد التي يقيمون فيها من بلاد العجم، وهي بلادهم مذ صارت دار إسلام،
فيقال في صاحب القاموس المحيط هو (مجد الدين الفيروزبادي الشيرازي) ، فيظن
الجاهل لنسبه أنه عجمي النسب وهو عربي صدِّيقي، كان يرفع نسبه إلى أبي بكر
الصديق (رضي الله عنه) ، قال الحافظ ابن حجر: ولم يكن مدفوعًا فيما قاله،
ويقال في صاحب الأغاني أبو الفرج الأصبهاني، فيظن أنه عجمي النسب وهو
عربي أموي. ومن الناس من يحكم في النسب بدلالة الاسم واللقب، فإذا وجد اسم
الرجل أو اسم أبيه أعجميًّا قال: إنه من العجم، وليس هذا بدليل، ولو صح دليلاً
لحكمنا بأن أكثر العجم المسلمين من العرب؛ لإطلاق الأسماء والألقاب العربية
عليهم، ولا يمكن أن يتصل قوم بقوم إلا ويأخذ بعضهم الأسماء والعادات من بعض
ولكن الأدنى يكون أكثر أخذًا عن الأعلى، فهذا عبد القادر الجيلي لم يخرجه تلقيب
أبيه أو جده (بجنكي دوست) عن كونه عربي النسب عَلويّه، وإنا نعرف الآن عدة
أعلام فارسية وتركية، قد استعملها العرب كلفظ أرسلان ونازلي، بل نرى العرب
حرفوا كثيرًا من الأعلام وغير الأعلام من لغته؛ اتباعًا للترك، ولعنا نوفي هذا
الموضوع حقه في مقال خاص؛ خدمة للتاريخ وإلا فالعرب والعجم في الإسلام
سواء.
المصاهرة بين العرب والعجم
(ج 3) يجوز للعربي أن يتزوج القرشية والشريفة العلوية الفاطمية،
وللعجمي أن يتزوج الأعرابية (البدوية) والعربية وإن كانت شريفةً، إذا هي
رضيت ورضي أولياؤها. وإنما تَرِد مسألة الكفاءة إذا لم يتفق الأولياء والزوجات
على ذلك، فليس للولي وإن كان أبًا أو جدًّا أن يزوج بنته بدون رضاه لرجل ليس
كفؤًا لها، حتى عند من يرى أن الأب ولي مجبر كالشافعية، وليس للمرأة أن تزوج
نفسها من غير كفؤ إذا لم يرضه أولياؤها، حتى عند من يقول: إن أمرها في الزواج
لنفسها كالحنفية، على ما للفريقين من الشروط في ذلك، والكفاءة تعتبر في النسب
عند بعض الفقهاء، وصرح بعضهم بأن غير الشرفاء ليسوا أكفاء للشرفاء، وأن
العجم ليسوا أكفاء للعرب؛ ولا نص على ذلك في الكتاب ولا في الأحاديث التي
يحتج بها، وإنما العبرة في ذلك بالعرف، فكل من يعدّ تزويجه في عرف قوم عارًا
عليهم، لا يكون كفؤًا لمن يلحقهم العار بين قومهم بمصاهرته. ولكن العادات
الضارة والعرف الضار ينبغي للعقلاء أن يقاوموهما، وقد حررنا هذه المسألة في
المجلدين السابع والثامن، فراجع في الأول لفظ الزواج حرف الزاي من الفهرس،
وفي الآخر لفظ كفاءة الزواج من حرف الكاف في فهرسه.
__________(13/825)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حديث إن شريعتي جاءت على 360 طريقة
(س 52) من م. م الجاوي في بتاوى
ما قولكم دام فضلكم في حديث رواه الطبراني مرفوعًا؛ وهو قوله صلى الله
عليه وسلم: (إن شريعتي جاءت على ثلاث مئة وستين طريقة فمن سلك طريقة
منها نجا) فما معنى الطريقة التي مُيزت بها الشريعة إلى ذلك العدد وكلها على هدى
وصواب؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن سلك طريقة منها نجا) وكل
واحدة منها على خلاف الأخرى؛ بدليل قوله: (منها) ، الذي يشير إلى التبعيضية
ذكر ذلك الحديث الولي الرباني الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه ميزان
الخضرية، وقال قُبيل ذلك الحديث، وسمعت سيدي عليًّا الخواص رحمه الله يقول:
إياكم والإنكار على كلام أحد من العلماء إلا بعد الإحاطة بجميع طرق الشريعة، ولم
تجدوا ذلك الكلام فيها، ثم عقب واستنبط بهذا الحديث بقوله: (فقد روى الطبراني
مرفوعًا) ، فتفضلوا يا سادات الكرام بالجواب بهذا، وقد سألنا عنه مشايخ الجاوه
مرارًا، ولم يكشف أحد على ذلك فبقينا متألمين.
(ج) هذا الحديث لا يصح بل يمكن الجزم بوضعه؛ لما يأتي من الدليل،
ولم يذكر في أي كتب الطبراني هو وسليمان الطبراني، قد أورد في معجمه
الأوسط عن كل شيخ من شيوخه ما له من الغرائب والعجائب في روايته، قال
الحافظ ابن حجر: (وفيه كل نفيس وعزيز ومنكر) ، والظاهر أن هذا من منكراته
وصنف المعجم الصغير وهو عند كل شيخ له حديث واحد، ومتى أطلق المحدثون
ما أنفرد به الطبراني عنَوْا: أنه ضعيف، ونقْل الشعراني للحديث واحتجاجه به،
لا يدل على صحته ولا على كونه صالحًا للاحتجاج به، وهذا الحديث مخالف لما
ورد في الكتاب والسنة؛ من كون سبيل الحق وطريقه واحدة، كقوله تعالى:
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (الأنعام: 153) وما فسره به النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه ابن مسعود
قال: خط رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خطًّا ثم قال: (هذا سبيل الله) ثم خط
خطوطًا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: (وهذه السبل ليس منها سبيل
إلا عليه شيطان يدعو إليه) ثم قرأ هذه الآية، رواه أحمد وابن حميد والبزار
والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه،
والآية والحديث المفسر لها موافقان للآيات والأحاديث الكثيرة الناهية عن
تفرُّق المسلمين في دينهم إلى الشيع والطرائق، وحديث الطبراني هذا يخالفها،
ومنها قوله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} (الجن: 11) ثم قال في هذه السورة سورة الجن {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ
لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً} (الجن: 16) ، فعلم من ذلك أن الطريقة المعرَّفة هي طريقة
الحق التي كان عليها الصالحون، وأن الذين كانوا على سائر الطرائق القِدَد ليسوا
على الحق، ويخالف حديث تفرق الأمة على 73 فرقة كلها في النار إلا واحدة،
وهو مع ذلك لا ينطبق على حديث شعب الإيمان كما ظن بعض أصحابنا؛ لأن تلك
الشعب تجمعها طريقة واحدة هي طريقة الكتاب والسنة على الوجه الذي كان عليه
النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، فإنَّ أَعْلاها شهادة التوحيد وأدناها إماطة
الأذى عن الطريق، ولا يمكن أن يكون التوحيد طريقة، والصلاة طريقة أخرى،
وإماطة الأذى عن الطريق شعبة أخرى، فالحديث موضوع قَطْعًا.
__________(13/828)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسافة القصر
س 53 من م. ب. ع في سمبس برنيو (جاوه)
حضرة فخر الأنام، سعد الملة وشيخ الإسلام، سيدي الأستاذ العلاَّمة السيد
محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء، أدام الله بعزيز وجوده النفع آمين.
وبعد إهداء أشرف التحية وأزكى السلام، فيا سيدي وعمدتي، أرجو منكم
الالتفات إلى ما ألقيه إليكم من الأسئلة؛ لتجيبوني عنها، وهي:
هل تُحدّ مسافة القصر بحديث (يا أهل مكة لا تَقْصروا في أدنى من أربعة
بُرْد من مكة إلى عسفان وإلى الطائف) أم لا؟ وهل أربعة البُرُد هي ثمانية
وأربعون ميلاً هاشمية؟ وعليه فكم يكون قدر المسافة المعتبرة شرعًا بحساب
كيلومتر؟ أفتونا فتوى لا نعمل إلا بها ولا نُعوّل إلا عليها، فلا زلتم مشكورين،
وكنا لكم ذاكرين.
(ج) الحديث الذي ذكره السائل رواه الطبراني عن ابن عباس، وفي إسناده
عبد الوهاب بن مجاهد بن جبير قال الإمام أحمد: ليس بشيء ضعيف، وقد نسبه
النووي إلى الكذب، وقال الأزدي: لا تحل الرواية عنه، ولكن مالكًا والشافعي
روياه موقوفًا على ابن عباس، وإذ لم يصح رفعه فلا يحتج به، وفي الباب حديث
أنس أنه قال حين سئل عن قصر الصلاة، فقال: (كان رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين) رواه أحمد
ومسلم وأبو داود عن طريق شعبة، وشعبة هو الشاكّ في الفراسخ والأميال، قال
بعض الفقهاء الثلاثة الأميال داخلة في الثلاثة الفراسخ فيؤخذ بالأكثر، وقد يقال
الأقل هو المتيقَّن، وفيه أن هذه حكاية حال لا تحديد فيها، والعدد لا مفهوم له في
الأقوال، فهل يعد حجة في وقائع الأحوال، وهناك وقائع أخرى فيما دون ذلك من
المسافة، فقد روى سعيد بن منصور من حديث أبي سعيد قال: (كان رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) إذا سافر فرسخًا يقصر الصلاة) وأقره الحافظ في
التلخيص بسكوته عنه، وعليه الظاهرية، وأقل ما ورد في المسافة ميل واحد، رواه
ابن أبي شيبة عن ابن عمر بإسناد صحيح، وبه أخذ ابن حزم وظاهر إطلاق القرآن
عدم التحديد، وقد فصلنا ذلك في (ص 416و649من المجلد السابع من المنار) .
والمشهور أن البريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، وأصل الميل مدة
البصر؛ لأن ما بعده يميل عنه فلا يرى، وحددوه بالقياس فقالوها هو ستة آلاف
ذراع، والذراع 14أصبعًا معترضة متعدلة، والأصبع ست حبات من الشعير
معترضة معتدلة، وقال بعضهم: هو اثنا عشر ألف قدم بقدم الإنسان، وهو أي
الفرسخ 5541 مترًا.
__________(13/829)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
صلاة الظهر بعد الجمعة احتياطًا
س 54 من صاحب الإمضاء في (أكراجي من ولاية ويانقا - روسية) .
حضرة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فأرجوك أن تفيدنا عن الفتوى الآتية:
ما قولكم دام فضلكم في قول رجل يَدَّعي أن الصلاة المسماة باحتياط الظهر
بدعة، والنبي (عليه السلام) ما صلاها، وليس فيها رواية من الصحابة والتابعين
والعلماء المجتهدين: (أول من بيّن في القرآن بدعية هذه الصلاة الشيخ شهاب الدين
الجرجاني) ، ومذهب أبي حنيفة والباقي من الأئمة فرضية الجمعة فقط، ما عندهم
شيء خفي عنا، فمن ادعى مشروعية احتياط الظهر، فليثبت لنا بالكتاب أو السنة
وإلا فما يقنعنا مجرد كتابة الألفاظ العربية.
إن كان مَنْ ترك الجمعة بالعذر جزاؤه من الشارع صدقة ربع دينار أو صاع
ونصف من الحنطة، وليس مأمورًا بأداء الظهر بدلاً عن الجمعة، فإن كان الأمر
كذلك فادعاء بدعية الظهر عن الجمعة ليس بصحيح، والقول بوجوب الاحتياط
للمصلي بعيد جدًّا.
محسوبكم بعد ما فهمت بدعيّة الاحتياط ما أصليها منذ عشرين سنة، وأنبه
أيضًا سامعي كلامي، وبعد ما يسلم الإمام أخرج من المسجد وأرجع إلى بيتي
وأصلي فيه ركعتين، وهذا فِعْلي موافق لقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
فَانتَشِرُوا} (الجمعة: 10) ومطابق لسنة رسول الله (بخاري 2جزء14 ص) ،
وسبّ الجهال لفعلي هذا بالاعتزال وغيره ليس بشيء عندي ولا أبالي به، وفتاوى
التاشكند أنّ نظرنا بمقتضى الوجدان والإنصاف ليست بشيء، وقولهم رد الفتوى كفر
أيضًا كذلك، الحاصل عند القول بوجوب الاحتياط شيء كبير لا جرأة لي عليه؛
لأن الشارع (صلى الله عليه وسلم) ما صلى هذه الصلاة في عمره ولا مرة انتهى.
... ... ... ... ... ... المترجم من مجلة الشورى عدد33
... ... ... ... ... ... ... ... ... السياح الحجازي
... ... ... ... ... ... ... ... أبو أديب حافظ حلمي
(ج) تراجع ص 729 و938 من مجلد المنار السابع، فهناك بيان نافع،
ثم إنا نعلم أن نية السائل في تركه لِمَا جرى عليه بعض الناس في تركه من صلاة
الظهر بعد الجمعة، ونية أولئك المصلين لها كلتاهما حسنة، المسألة متنازع فيها،
وقد قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) أي وأحسن
عاقبة ومآلا في الدنيا لأنه يزيل النزاع والتفرق ويجمع الكلمة وفي الأخرة لأنه
المرضِيّ عند الله تعالى. وإذا رددنا المسألة إلى الله تعالى بعرضها على كتابه،
وإلى رسوله (صلى الله عليه وسلم) بعرضها على سُنته، لا تجد فيهما دليلاً على
مشروعية صلاتين مفروضتين في وقت واحد بل على عدمه، وهو الأصل، فمن
كان يعتقد أن صلاة الجمعة لا تصح منه حَرُم عليه أن يصليهما، ووجب عليه
الظهر وحده، ومن صلاها معتقدًا صحتها منه أجزأته، ولم يجب عليه غيرها في
وقتها إلى العصر، ومن اعتقد أن صلاته للجمعة صحيحة ولكنها ناقصة نقصًا لا
يقتضي بطلانها، فله أن يجبرها بالنوافل الرواتب وغير الرواتب، وقد صح في
حديث ابن عمر المتفق عليه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يصلي بعد
الجمعة ركعتين في بيته، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم وأصحاب السنن الأمر
بصلاة أربع ركعات بعده وورد بلفظ: (من كان منكم مصليًا بعد الجمعة فليصل
أربعًا) أي إن شاء، والأفضل أن تكون في البيت كسائر النوافل.
ولا يتوهمن الذين يصلون الظهر بعد الجمعة أن الخطب في ذلك سهل؛ لأنه
زيادة من الخير الذي هو الصلاة، فإن فيه خطرًا عظيمًا؛ من حيث إنه شرع عبادة
لم يأذن بها الله، والشارع هو الله وحده، فمن أحدث في الشرع شيئًا، فقد جعل
نفسه شريكًا لله في ألوهيته أو ربوبيته، ومن وافقه فقد اتخذه شريكًا كما قال تعالى:
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) ، وقد
بيّنا مرارًا تفسير النبي (صلى الله عليه وسلم) ؛ لاتخاذ أهل الكتاب أحبارهم
ورهبانهم أربابًا؛ بأنهم كانوا يضعون لهم أحكام الحلال والحرام فيتبعونهم فيها،
وهم ما كانوا يضعون تلك الأحكام إلا بمثل الشبهات التي حدثت بها البدع الدينية في
الإسلام، من حيث إنها زيادة في الخير أو العبادة أو احتياط في ترك ما لا يرضي
الله تعالى، كما هو معروف في تاريخهم.
فيا أيها المسلمون لا تغلو في دينكم، وإن لكم في الفرائض والمندوبات الثابتة
في الكتاب والسنة بالنص الصريح غنية عن سواها، وقد قال النبي (صلى الله عليه
وسلم) في الأعرابي الذي حلف أنه لا يزيد على المكتوبات الخمس وسائر الفرائض
من أركان الإسلام ولا ينقص: (أفلح إن صدق) ودخل الجنة إن صدق، وياليت
السوادَ الأعظم من المسلمين يأتون جميع الفرائض القطعية، ويتركون جميع
المحرمات القطعية، وفي النوافل المشروعة ما يستغرق العمر.
وما قاله السائل في رد الفتوى صحيح، وإنما عنى أولئك المشددون المكفرون
مَنْ يرد الفتوى يحتقرها، وهو يعتقد أنها من دين الله تعالى، ويقصد بذلك احتقار
الدين لا من اعتقد خطأ المفتي.
__________(13/830)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الباطنية وآخر فرقهم البابية البهائية
(1)
قلنا في الجزء الماضي: إن البابية البهائية فرقة من الباطنية، وإن الباطنية
قد وضعوا تعاليمهم السرية منذ القرن الأول؛ لإفساد دين الإسلام وإزالة ملكه، فهم
ما وضعوا شيئًا يعتقدون حقيته وهداية الناس بدعوتهم إليها، ونقول الآن: إنهم لما
انتشرت دعوتهم وكثر عددهم، وصار لهم قدرة على الحرب، أضرموا نيران الفتن
والحرب بخروجهم على الدول الإسلامية مرارًا، وقد خابوا، ولم ينالوا ما طلبوا
بالمكيدة ولا بالقوة، ثم صار لبعض رؤسائهم قناعة بعبادة أتباعهم لهم، وبذلهم
أموالهم في سبيلهم كأئمة الإسماعيلية المتأخرين، وضعفت دعوتهم حتى جددها
البابية في هذا العصر، وإننا ننقل لقراء المنار شيئًا مما حفظه التاريخ من أخبارهم
وطرق دعوتهم وتأويلهم للقرآن، ثم نبين حقيقة دعوة فرقة البابية منهم.
قال أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي في كتابه (الفرْق بين الفِرَق)
وهو من علماء القرن الخامس، توفي سنة 429 أي منذ تسعة قرون ما نصه:
الفصل السابع عشر من فصول هذا الباب أي الخامس
في ذكر الباطنية وبيان خروجهم
من جميع فِرَق الإسلام
اعلموا أسعدكم الله أن ضرر الباطنية على فرق المسلمين أعظم من ضرر
اليهود والنصارى والمجوس عليهم، بل أعظم من مضرة الدهرية وسائر أصناف
الكفرة عليهم، بل أعظم من ضرر الدجال الذي يظهر في آخر الزمان؛ لأن الذين
ضلوا عن الدين بدعوة الباطنية من وقت ظهور دعوتهم إلى يومنا هذا أكثر من الذين
يضلون في وقت ظهوره؛ لأن فتنة الدجال لا تزيد مدتها على أربعين يومًا،
وفضائح الباطنية أكثر من عدد الرمال والقطْر. وقد حكى أصحاب المقالات أن
الذين أسسوا دعوة الباطنية جماعة منهم؛ ميمون بن ديصان المعروف بالقداح، وكان
مولى لجعفر بن محمد الصادق وكان من الأهواز، ومنهم محمد بن الحسين الملقب
بذيذان، وميمون بن ديصان في سجن والي العراق أسسوا في ذلك السجن مذهب
الباطنية.
ثم ظهرت دعوتهم بعد خلاصهم من السجن من جهة المعروف بذيذان، وابتدأ
بالدعوة من ناحيته، فدخل في دينه جماعة من أكراد الجبل مع أهل الجبل المعروف
بالبدين، ثم رحل ميمون بن ديصان إلى ناحية المغرب وانتسب من تلك الناحية إلى
عقيل بن أبي طالب وزعم أنه من نسبه، فلما دخل في دعوته قوم من غلاة الرفض
والحُلولية منهم، ادعى أنه من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، فقبل
الأغنياء ذلك منه، على أن أصحاب الأنساب صرحوا بأن محمد بن إسماعيل بن
جعفر مات ولم يُعْقِبْ.
ثم ظهر في دعوته إلى دين الباطنية رجل يقال له حمدان قرمط؛ لقب بذلك
لقرمَطَة في خطه أو في خطوه، وكان في ابتداء أمره أكَّارًا من أكرة سواد الكوفة
وإليه تنسب القرامطة.
ثم ظهر بعده في الدعوة إلى البدعة أبو سعيد الجنابي، وكان من مستجيبة
حمدان، وتغلب على ناحية البحرين، ودخل في دعوته بنو شنير.
ثم لما تمادت الأيام بهم؛ ظهر المعروف منهم بسعد بن الحسين أحمد بن عبد
الله بن ميمون بن ديصان القداح فغير اسم نفسه ونسبه، وقال لأتباعه: أنا عبيد الله
بن الحسن بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق. ثم ظهرت فتنته، وأولاده اليوم
مستولون على أعمال مصر.
وظهر منهم المعروف بابن كرويه بن مهرويه الدنداني من تلامذة حمدان قرمط
وظهر مأمون أخو حمدان قرمط بأرض فارس، وقرامطة فارس يقال لهم
المأمونية لأجل ذلك.
ودخل أرض الديْلم رجل من الباطنية، يعرف بأبي حاتم، فاستجاب له جماعة
من الديْلم منهم أسفار بن شرويه.
وظهر بنيسابور داعية لهم يعرف بالشعراني فقتل بها في ولاية أبي بكر بن
محتاج عليها. وكان الشعراني قد دعا الحسين بن علي المروروذي، قام بدعوته بعده
محمد بن أحمد النسفي داعية أهل ما وراء النهر، وأبو يعقوب السجزلي المعروف
ببندانه، وصنف النسفي لهم كتاب كشف الأسرار، وقُتل النسفي والمعروف ببندانه
على ضلالتهما.
وذكر أصحاب التواريخ أن دعوة الباطنية ظهرت أولاً في زمان المَأْمُون،
وانتشرت في زمان المعتصم، وذكروا أنه دخل في دعوتهم الأفشين صاحب جيش
المعتصم، وكان مراهنًا لبابك الخرْمي مستعصيًا بناحية البدين، وكان أهل جبله
خُرّمية [1] على طريقة المزدكية، فصارت الخرمية مع الباطنية يدًا واحدة. واجتمع
مع بابك من أهل البدين، وممن انضم إليهم من الديلم مقدار ثلاث مائة ألف رجل.
وأخرج الخليفة لقتالهم الأفشين، فظنه ناصحًا للمسلمين، وكان في سره مع بابك
وتَوانَى في القتال معه، ودله على عورات عساكر المسلمين وقتل الكثير منهم، ثم
لحقت الأمداد بالأفشين، ولحق به محمد بن يوسف الثغري وأبو دلف القاسم بن
عيسي العجلي، ولحق به بعد ذلك قواد عبد الله بن طاهر، واشتدت شوكة البابكية
والقرامطة على عسكر المسلمين، حتى بَنَوْا لأنفسهم البلدة المعروفة ببير زند؛ خوفًا
من بيان (كذا) البابكية، ودامت الحرب بين الفريقين سنين كثيرة إلى أن أظفر الله
المسلمين بالبابكية، فأُسر بابك وصُلِب بِسُرّ مَنْ رَأَى [2] سنة ثلاث وعشرين ومئتين
ثم أُخذ أخوه إسحاق وصلب ببغداد مع المازيار صاحب المحمرة بطبرستان
وجرجان، ولما قتل بابك ظهر للخليفة غدر الأفشين وخيانته للمسلمين في حروبه مع
بابك، فأمر بقتله وصلبه فصلب لذلك.
وذكر أصحاب التواريخ أن الذين وضعوا أساس دين الباطنية كانوا من أولاد
المجوس، وكانوا مائلين إلى دين أسلافهم، ولم يجسروا على إظهاره خوفًا من
سيوف المسلمين، فوضع الأغْمار منهم أساسًا مَنْ قَبِلَها منهم، صار في الباطن إلى
تفضيل أديان المجوس وتأولوا القرآن وسنن النبي عليه السلام إلى موافقة
أساسهم.
وبيان ذلك أن الثنوية زعمت أن النور والظلمة صانعان قديمان، والنور منهما
فاعل الخيرات والمنافع، والظلام فاعل الشرور والمضارّ، وأن الأجسام ممتزجة
من النور والظلمة، وكل واحد منهما مشتمل على طبائع هي الحرارة والبرودة
والرطوبة واليبوسة، والأصلان الأولان من الطبائع الأربع مدبرات هذا العالم.
وشاركهم المجوس في اعتقاد صانعَيْنِ، غير أنهم زعموا أن أحد الصانعين قديم وهو
الإله الفاعل للخيرات، والأخر شيطان محدث فاعل للشرور، وذكر زعماء الباطنية
في كتبهم أن الإله خالق النفس، فالإله هو الأول والنفس هو الثاني، وهما مدبرا هذا
العالم. وسمَّوْهما الأول والثاني، وربما سموهما العقل والنفس، ثم قالوا إنهما يدبران
هذا العالم بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الأُوَل.
وقولهم: إن الأول والثاني يدبران العالم؛ هو بعينه قول المجوس بإضافة
الحوادث إلى صانعين أحدهما قديم والآخر محدث، إلا أن الباطنية عبرت عن
الصانعين بالأول والثاني، وعبر المجوس عنهما بيزدان وأهرمن، فهذا هو الذي
يدور في قلوب الباطنية، ووضعوا أساسًا يؤدي إليه، ولم يمكنهم إظهار عبادة
النيران؛ فاحتالوا بأن قالوا للمسلمين: ينبغي أن تُجمّرَ المساجد كلها، وأن يكون في
كل مسجد مجمرة يوضع عليها الند والعود في كل حال، وكانت البرامكة قد زينوا
للرشيد أن يتخذ في جوف الكعبة مجمرة يتبخر عليها العود أبدًا، فعلم الرشيد أنهم
أرادوا من ذلك عبادة النار في الكعبة، وأن تصير الكعبة بيت نار، فكان ذلك أحد
أسباب قبض الرشيد على البرامكة.
ثم إن الباطنية لمَّا تأولت أصول الدين على الشرك، احتالت أيضًا لتأويل
أحكام الشريعة على وجوه تؤدي إلى رفع الشريعة أو إلى مثل أحكام المجوس،
والذي يدل على أن هذا مرادهم بتأويل الشريعة؛ أنهم قد أباحوا لأتباعهم نكاح
البنات والأخوات وشرب الخمر وجميع اللذات، ويؤكد ذلك أن الغلام الذي ظهر
منهم بالبحرين والأحساء بعد سليمان بن الحسين القرمطي سنَّ لأتباعه اللواط،
وأوجب قتل الغلام الذي يمتنع على من يريد الفجور به، وأمر بقطع يد من أطفأ
نارًا بيده، وبقطع لسان من أطفأها بنفخه وهذا الغلام هو المعروف بابن أبي زكريا
الطامي، وكان ظهوره في سنة تسع عشرة وثلاث مائة، وطالت فتنته إلى أن سلط
الله تعالى عليه من ذبحه على فراشه.
ويؤكد ما قلناه من ميل الباطنية إلى دين المجوس، أن لا نجد على ظهر
الأرض مجوسيًّا إلا وهو مُوَادّ لهم منتظر لظهورهم في الديار، يظنون أن الملك
يعود إليهم بذلك، وربما استدل أغمارهم على ذلك بما يرويه المجوس عن زرادشت
أنه قال لكتاسب: إن الملك يزول عن الفرس إلى الروم واليونانية ثم يعود إلى
الفرس ثم يزول عن الفرس إلى العرب ثم يعود إلى الفرس، وساعده جاماسب
المنجم على ذلك , وزعم أن الملك يعود إلى العجم لتمام ألف وخمس مئة سنة من
وقت ظهور زرادشت.
وكان في الباطنية رجل يعرف بأبي عبد الله العردي؛ يدعي علم النجوم
ويتعصب للمجوس، وصنف كتابًا ذكر فيه أن القرن الثالث عشر من مولد محمد
صلى الله عليه وسلم؛ يوافق الألف العاشر وهو نوبة المشترى والقوس، وقال:
عند ذلك يخرج إنسان يعيد الدولة المجوسية، ويستولي على الأرض كلها، وزعم
أنه يملك مدة سبع قرانات. وقالوا: قد تحقق حكم زرادشت وجاماسب في زوال
ملك العجم إلى الروم واليونان في أيام الإسكندر، ثم عاد إلى العجم بعد ثلاث مئة
سنة ثم زال بعد ملك العجم إلى العرب، وسيعود إلى العجم لتمام المدة التي ذكرها
جاماسب، وقد وافق الوقت الذي ذكره أيام المكتفي والمقتدر؛ وأخلف موعدهم وما
رجع الملك فيه إلى المجوس.
وكانت القرامطة قبل هذا الميقات يتواعدون فيما بينهم ظهور المنتظر في
القرن السابع في المثلثة النارية. وخرج منهم سليمان بن الحسين من الإحساء على
هذه الدعوى، وتعرض للحجيج وأسرف في القتل فيهم، ثم دخل مكة وقتل من كان
في الطواف، وأغار على أستار الكعبة، وطرح القتلى في بئر زمزم، وكسر
عساكر كثيرة من عساكر المسلمين، وانهزم في بعض حروبه إلى هَجَر، فكتب
للمسلمين قصيدة يقول فيها:
أغركم مني رجوعي إلى هَجَر؟ ... فعما قليل سوف يأتيكم الخبر
إذا طلع المريخ في أرض بابل ... وقارنه النجمات فالحذر الحذر
ألست أنا المذكور في الكتب كلها ... ألست أنا المبعوث في سورة الزمر
سأملك أهل الأرض شرقًا ومغربًا ... إلى قيروان الروم والترك والخزر
وأراد بالنجمين زحل والمشتري، وقد وُجد هذا القِرانُ في سني ظهوره، ولم
يملك من الأرض شيئًا غير بلدته التي خرج منها، وطمع في أن يملك سبع قرانات
وما ملك سبع سنين بل قتل بهيت، رمته امرأة من سطحها بلبنة على رأسه فدمغته
وقتيل النساء أخس قتيل وأهون فقيد.
وفي آخر سنة ألف ومئتين وأربعين للإسكندر، تم من تاريخ زرادشت ألف
وخمس مائة سنة، وما عاد فيها ملك الأرض إلى المجوس، بل اتسع بعدها نطاق
الإسلام، وفتح الله تعالى للمسلمين بعدها بلاد بلاساغون [3] أرض التبت وأكثر نواحي
الصين، ثم فُتح لهم بعدها جميع أرض الهند من لمغان إلى قنوج، وصارت أرض
الهند إلى سيترسيقا بحرها من رقعة الإسلام في أيام أمين الدولة أمين الملة محمود
ابن سبكتكين رحمه الله. وفي هذا رغم أنوف الباطنية والمجوس الجاماسبية الذين
حكموا بعَوْدِ الملك إليهم، فذاقوا وبال أمرهم، وكان عاقبة أمانيهم بورًا بحمد الله
ومنّه.
ثم إن الباطنية خرج منه عبيد الله ابن الحسين بناحية القيروان، وخدع قومًا من
كتامة، وقومًا من المصادمة، وشرذمة من أغنام بربر بحيل ونيرنجات، أظهرها
لهم كرؤية الخيالات بالليل من خلف الرداء والإزار، وظن الأغمار أنها معجزة
فتبعوه؛ لأجلها على بدعته، فاستولى بهم على بلاد المغرب، ثم خرج المعروف
منهم بأبي سعيد الحسين بن بهرام على أهل الإحساء والقطيف والبحرين، فأتى
بأتباعه على أعدائه وسبى نساءهم وذراريهم وأحرق المصاحف والمساجد، ثم
استولى على هَجَر وقتل رجالها، واستعبد ذراريهم ونساءهم.
ثم ظهر المعروف منهم بالصناديقي باليمن وقتل الكثير من أهلها، حتى قتل
الأطفال والنساء، وانضم إليه المعروف منهم بابن الفضل وأتباعه، ثم إن الله تعالى
سلط عليهما وعلى أتباعهما الآكلة والطاعون فماتوا بهما.
ثم خرج بالشام حفيد لميمون بن ديصان، يقال له: أبو القاسم بن مهرويه،
وقالا لمن اتبعهما: هذا وقت ملكنا، وكان ذلك سنة تسع وثمانين ومئتين، فقصدهم
سبك صاحب المعتضد فقتلوا سبكًا في الحرب، ودخلوا مدينة الرصافة، وأحرقوا
مسجدها الجامع، وقصدوا بعد ذلك دمشق، فاستقبلهم الحمامي غلام بن طيلون
وهزمهم إلى الرَّقة، فخرج إليهم محمد بن سليمان كاتب المكتفي في جند من أجناد
المكتفي فهزمهم، وقتل منهم الألوف، فانهزم الحسن بن زكريا بن مهرويه إلى
الرملة، فقبض عليه والي الرملة، فبعث به وبجماعة من أتباعه إلى المكتفي،
فقتلهم ببغداد في الشارع بأشد عذاب، ثم انقطعت بقتلهم شوكة القرامطة إلى سنة
عشر وثلاث مائة.
وظهرت بعده فتنة سليمان بن الحسن في سنة إحدى عشرة وثلاثة مائة، فإنه
كبس فيها البصرة وقتل أميرها المقلحي، ونقل أموال البصرة إلى البحرين، وفي
سنة اثنتي عشرة وثلاثة مائة وقع على الحجيج في المتهيبر لعشر بقيت من المحرم،
وقتل أكثر الحجيج وسبى الحرم والذراري. ثم دخل الكوفة في سنة ثلاث عشرة
وثلاث مائة فقتل الناس وانتهب الأموال، وفي سنة خمس عشرة وثلاث مئة حارب
ابن أبي الساج وأسره وهزم أصحابه، وفي سنة سبع عشرة وثلاثة مائة دخل مكة،
وقتل من وجده في الطواف، وقيل: إنه كان بها ثلاثة آلاف، وأخرج منها سبع مائة
بَكْر، واقتلع الحجر الأسود وحمله إلى البحرين، ثم رد منها إلى الكوفة، ورد بعد
ذلك من الكوفة إلى مكة على يد أبي إسحاق بن إبراهيم محمد بن أبي يحيَى مزكي
نيسابور في سنة تسع وعشرين وثلاثة مائة.
وقصد سليمان بن الحسن بغداد في سنة ثماني عشرة وثلاثة مئة، فلما ورد
هيت رمته امرأة من سطحها بلبنة فقتلته، وانقطعت شوكت القرامطة، وصاروا بعد
قتل سليمان بن الحسن مبدرقين [4] للحجيج من الكوفة والبصرة إلى مكة فخصاة،
ومال مضمون لهم إلى أن غلبهم الأصفر العقيلي على بعض ديارهم.
وكانت ولاية مصر وأعمالها للإخشيدية، وانضم بعضهم إلى عبيد الله الباطني
الذي كان قد استولى على قيروان، ودخلوا مصر في سنه ثلاث وستين وثلاث مائة
وابتنوا فيها مدينة سموها القاهرة يسكنها أهل بدعته، وأهل مصر ثابتون على
السنة إلى يومنا وإن أطاعوا صاحب القاهرة في أداء خراجهم إليه.
وكان أبو شجاع فناخسرو بن بويه قد تأهب لقصد مصر وانتزاعها من أيدي
الباطنية، وكتب على أعلامه بالسواد: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله رب
العالمين، {ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (يوسف: 99) ، وقال قصيدة
أولها:
أما ترى الأقدار لي طوائعًا ... قواضيًا لي بالعيان كالخَبَر
ويشهد الأنام لي بأنني ... ذاك الذي يُرجى وذاك المنتظر
لنصرة الإسلام والداعي إلى ... خليفة الله الإمام المفتخر
فلما خرج مضاربه للخروج إلى مصر غامضه [5] الأجَل، فمضى لسبيله،
فلما قضى فناخسرو نحْبه، طمع زعيم مصر في ملوك نواحي الشرق، فكاتبهم
يدعوهم إلى البيعة له، فأجاب قابوس بن وشمكير عن كتابه بقوله: إني لا أذكرك
إلا على المتسراح، وأجابه ناصر الدولة أبو الحسين محمد بن إبراهيم بن سيمجور:
بأن كتب على ظهر كتابه إليه {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (الكافرون: 1-2) إلى آخر السورة وأجابه نوح بن منصور والي خراسان بقتل
دعاته إلى بدعته.
ودخل في دعوته بعض ولاة الجرجانية من أرض خوارزم فكان دخوله في
دينه شؤمًا عليه في ذهاب ملكه وقتله وأصحابه، ثم استولى يمين الدولة وأمين الملة
محمود ابن سبكتكين على أرضهم، وقتل من كان بها من دعاة الباطنية.
وكان أبو علي بن سيمجور قد وافقهم في السر، فذاق وبال أمره في ذلك،
وقَبض عليه والي خراسان نوح بن منصور، وبعث به إلى سبكتكين فقتل بناحية
غَزْنة، وكان أبو القاسم الحسن بن علي الملقب بن الشمتد داعية أبي علي ابن
سيمجور إلى مذهب الباطنية، وظفر به بكتورون صاحب جيش السامانية بنيسابور
فقتله، ودفن في مكان لا يعرف، وكان أميرك الطوسي والي ناحية ثارويه، قد
دخل في دعوة الباطنية فأسر وحمل إلى غزنة وقتل بها في الليلة التي قتل فيها
أبو علي بن سيمجور، وباد بذلك نصراء الباطنية من تلك البلاد، ومن هذا يَبان
شؤم الباطنية على منتحلها، فلْيعتبر بذلك المعتبرون.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: الحُرّمية بضم الحاء وتشديد الراء معناه الإباحية، وأصل الكلمة فارسي قيل معناه السرور.
(2) والبلد الذي يقال له الآن سامرا.
(3) بلاساغول بالغين المعجمية بلد عظيم في ثغور الترك وراء نهر سيحون قريب من كاشغر.
(4) المنار: أي خفراء والبدرقة بالدال المهملة والمعجمة الحفاوة.
(5) المنار: كذا في الأصل ولعل الصواب غافصه أي فاجأه وأخذه على غرة.(13/833)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جميل صدقي أفندي الزهاوي
مهاجمته بشعرياته للشرعية الإسلامية في حقوق النساء
نشرت جريدة المؤيد في شهر شعبان من هذه السنة مقالة لجميل صدقي أفندي
الزهاوي الشاعر البغدادي المشهور، ينتصر فيها بتخيلاته الشعرية للناس على
الشريعة الإسلامية الحكيمة، ومقالة أخرى يدعو فيها العرب إلى ترك اللغة العربية
الفصيحة واستعمال اللغات العامية التي يتخاطبون بها على سخفها وعسر ضبطها،
وما تحتاج من العناء والزمن الطويل لتدوينها ووضع الفنون لها لتحفظها، وتجعل
لتعلمها طريقة فنية، وعلى ما في ذلك من تمزيق شمل العرب وجعلهم أممًا مختلفة
في اللغة، فردّ عليه الكُتَّاب المسلمون في مصر وسورية والعراق، ويقال إن أهل
العلم والدين هاجوا عليه في بغداد، ورفعوا أمره إلى الحكومة فعزلته من عمله في
نظارة المعارف، وكان معلمًا للشريعة في مدرسة الحقوق.
كنت علمت بما كتبه جميل أفندي وأنا في الآستانة، فلم أر كتابته هذه أهلاً
لأن تقرأ أو يرد عليها، ولكنني رأيت نصير الحرية الفيلسوف شبلي شميل قام
ينتصر له في هذه الأيام، ويدعو الكُتَّاب إلى ذلك، فكتب في المقطم يستفتي الرأي
العامّ العثماني والمصري في حادثته، وقد بنى استفتاءه هذا على رسالة جاءته من
بغداد، يستنكر فيها كاتبها ولعله جميل أفندي نفسه عزله في عهد الدستور؛ بواسطة
مبعوث دستوري هو مصطفى أفندي مبعوث الحلة وحاكم دستوري هو ناظم باشا
والي بغداد، ويقول: إن فريقًا من الثائرين يريدون أن تفصل الحكومة بين الرجل
وزوجته؛ لأنه كفر، وفريقًا يطلب إبعاده عن البلاد الإسلامية، وفريقًا يريدون قتله.
وقد عقب المقطم على استفتاء شبلي شميل بكلام في منتهى الشدة والإنكار؛
مع اعتراف المعقب بأنه لم يقرأ مقالة الزهاوي، ولكن الظلم الفظيع الذي أصاب
الزهاوي أضرم نار السخط في صدره، وجعل دمه يغلي في عروقه.
طالبني الدكتور شميل بأن أكتب رأيي في المسألة، فرجعت إلى مقالة الزهاوي
في المؤيد؛ لأتثبت وأتبين حقيقة الذنب الذي ترتّبَتْ عليه العقوبة، فرأيته يعترض
فيها على ما ثبت في القرآن العزيز وينسبه إلى خطأ المسلمين وجهلهم، يشير بذلك
إلى أن القرآن من أوضاعهم، بل هو يصرح بذلك بقوله في الجنة (التي وصفوها
بقولهم فيها ما تشتهي الأنفس) ، وهاك جملة من تلك المقالة بنصها.
(وليست المرأة مهضومة من جهة واحدة، بل هي مهضومة من جهات
عديدة) :
ولو كان رمحًا واحدًا لاتقيته ... ولكنه رمح وثانٍ وثالث
(فهي مهضومة لأن عقدة الطلاق بيد الرجل يحلها وحده، ولا أدري لماذا
يجب رضاء المرأة في الاقتران، ولا يجب رضاها بالفراق الذي تعود تَبعته عليها
وحدها.
(وهي مهضومة لأنها لا ترث من أبويها إلا نصف ما يرثه أخوها الرجل) .
(وهي مهضومة لأنها تعدّ نصف إنسان، وشهادتها نصف شهادة) .
(وهي مهضومة لأن الرجل يتزوج عليها بثلاث أُخَر؛ وهي لا تتزوج إلا به
وحده) .
(وهي مهضومة لأنها وهي في الحياة مقبورة بحجاب كثيف يمنعها من شم
الهواء؛ ويمنعها من الاختلاط ببني نوعها والاستئناس بهم والتعلم منهم في مدرسة
الحياة الكبرى) .
(وليست المرأة المسلمة مهضومة في الدنيا فقط، بل هي مهضومة كذلك في
الأخرى؛ لأن الرجل المصلي يُعطى من الحُور العِين من سبعين إلى سبعين ألفًا
وأما المرأة المصلية فلا تعطى إلا زوجها وربما اشتهته [1] في الجنة التي وصفوها
قائلين: (فيها ما تشتهي الأنفس) على حين يشتهي هو غيرها من الحوُر العِين
اللاتي أُعطينه) اهـ.
فهذه الجملة الوجيزة من تلك المقالة كلها تهكم بالشريعة واعتراض على القرآن
العزيز، ولا يمكن أن يصدر مثلها من مسلم يؤمن بالله ورسوله (صلى الله عليه
وسلم) ، وسمعت من كثير من الذين عرفوا جميل صدقي أفندي في الآستانة أنه
ملحد لا يدين بدين، وما كان يجوز لي أن أكتب ذلك جازمًا به اعتمادًا على شهادتهم
وإن لم أتهمهم بالكذب؛ لأنني عهدت من الناس تكفير من أعلم بالاختبار قوة دينهم،
ولكن هذه العبارة كافية للجزم بأن قائلها ليس مسلمًا، ومن يقولها لا يختلف أحد من
فقهاء المسلمين في ردّته؛ لأن جميع هذه المسائل التي ذكرها ثابتة بنص القرآن إلا
الحجاب على الوجه الذي ذكره وإلا مسألة عدد الحور العين لكل مصلّ؛ فإنه عزاها
إلى الشريعة لجهله بالكتاب والسنة، فلا أصل لها في القرآن ولا في الأحاديث
الصحيحة، وإنما ورد من السبعين واثنتين وسبعين حَوْراء فمن روايات الضعفاء
والمتهمين بالمنكرات والموضوعات.
هذه الأحكام التي اعترض عليها الكاتب اعتراض تهكم وازدراء، هي من
القوانين الشرعية التي يُحكم بها في محاكم الدولة الدستورية، وهي من دين الإسلام
الذي هو الدين الرسمي للدولة العثمانية بمقتضى قانونها الأساسي، وقانون
المطبوعات الذي وضعه وأقره مجلس الأمة، لا يبيح الاعتراض والتهكم بدين
الحكومة الذي تجب عليها حمايته، بل ولا بغيره من الأديان التي أقرتها الحكومة
الدستورية في بلادها، فالدستور العثماني لا يبيح إذًا نشر مثل تلك المقالة التي
نشرت باسم الزهاوي، فالذي يَنتصر له بعد العلم بحقيقة ذنبه في نشرها، يكون
جانيًا على الدستور؛ خارجًا عن محيط الحرية التي يُشترط عند جميع الأمم أن لا
يتعدى بها حدود القوانين التي عليها العمل.
لو أن الزهاوي اتبع سبيل الحكمة والعقل، في اعتدائه حدود القانون والشرع
لقال كثير من العقلاء: إنه يستحق الرأفة في الحكم، وأين الحكمة والعقل ممن يزعم
أنه يريد إصلاح قوم، فينكر عليهم ما هو ثابت في أصل دينهم وكتاب ربهم لأنه هو
لا يفقهه ولا يدري حكمته.
كان من مقتضى الحكمة والعقل أن يفكر في عاقبة نشر هذا القول، ويعلم أن
عدم قبوله وهو الأرجح إن لم يكن القطعي المحتم يُهيج عليه الناس، فيتأذى هو ولا
ينتفعون هم على فرض أن ما دعاهم إليه نافع، وأن قبوله لا يكون إلا ببطلان
الثقة بالدين من أصله، وإذًا يقعون في فوضى تستباح فيها الأعراض والأموال،
فيكون إثمه أكبر من نفعه.
إن كان الزهاوي يرى أنه لا يمكن إصلاح حال المسلمين ما دموا متمسكين
بدينهم، وكان حريصًا على إصلاحهم، فالذي كان يُعقل منه أن يعمله هو أن
يدعوهم إلى ترك هذا الدين، إما تركه إلى إلحاد وكفر مطلق وإما إلى دين آخر يراه
يتفق مع الإصلاح، وإن كان يرى أنه يمكن إصلاح حالهم مع محافظتهم على دينهم
فالذي يُعقل منه أن يدعوهم إلى ترك ما لا يحصى من المفاسد التي فعلوها
والمصالح الكثيرة التي تركوها مخالفين للإسلام في فعهلم وتركهم، وأما هذه الذبذبة
وقوله تارةً، قال الله تعالى ويذكر آية من القرآن وإشارته تارةً أخرى إلى بعض
الآيات بقوله: (وصفوها قائلين) ، فليست من العقل ولا من الحكمة في شيء.
بعد هذا كله أقول فيما ذُكر من عزله واضطهاد الناس له، كان ينبغي أن يسأل
أولاً عن هذه المقالة، فإن اعترف بأنه هو الكاتب لها، فللحكومة أن تعزله قائلة:
إنه لا ينبغي أن يدرس الشريعة من ينكر أصلها الأَحْكم وسراجها الأنور، وللناس أن
ينكروا عليه ذلك؛ إذ لا يأمن آباء التلاميذ على أولادهم مَنْ يشككهم في عدل
شريعتهم وحقيتها، ويجب عليهم شرعًا أن يطالبوا الحكومة بمنعه من التدريس،
ويجب على الحكومة أن تجيبهم إلى ذلك، وإذا رُفع أمره إلى القاضي الشرعي
وثبت عنده أنه هو الذي تهكم بالشريعة ونسبها إلى الجَوْرِ والظلم؛ من أحكام الإرث
والطلاق وتعدد الزوجات بشرطه، فعليه أن يحكم برِدّته ويفرق بينه وبين امرأته إن
كانت مسلمةً.
هذه هي شريعة الدولة ليس لعاقل أن ينكر عليها تنفيذها، ما دامت هي
شريعتها، وإن كان هو لا يدين الله بها ولا يرى أنها عادلة، كما أن بعض رجال
القانون بمصر يرون أن في القانون المصري أمورًا منتقدةً ضارةً يجب تنقيحها أو
تغييرها، ولكنهم لا يجيزون تقصير الحكومة في تنفيذها، ما دامت مقرَّرةً في
القانون.
نعم، إننا لا نفتي الناس بجواز الاعتداء عليه بقتل ولا ضرب ولا سب ولا
على ماله بغصب ولا سلب، فإن إجازة اعتداء الناس على من يرونه مذنبًا بالكفر أو
المعصية، يوقع البلاد في الفوضى والفتن، ويسلب منها الأمن على الأنفس
والأموال والأعراض ويبطل سلطة الحكومة، ولكن لهم أو عليهم أن يظهروا له
السخط والإنكار، فإن إنكار المنكر فرض محتّم، وهو الركن الأقوى لحفظ الآداب
العامة والفضيلة، فكل أمة تكرم أهل المنكر تهبط وتفسد، وكل أمة تحتقرهم تعلو
وتصلح، وقد علمنا أن بعض سراة الإنكليز ارتكب فاحشة اللواط، فلما عُرف ذلك
عنه فضّل بخْع نفسه (الانتحار) على الظهور بين قومه مهينًا محتقرًا، ومَنْ
يُعظم ويُكرم مَنْ يعتقد أنه لا يستحق التكريم فهو منافق، ويستحيل أن ترتقي أُمة
يَفْشو فيها النفاق ما لم تتركه.
نعم، إن احترام استقلال الفكر من أعظم أسباب ارتقاء العقل والعلم، ولكن
مسألة الزهاوي لا تدخل في هذا الباب؛ لأنه لم يبد رأيًّا دينيًا في ضمن دائرة الدين
مخالفًا لبعض المذاهب بالدليل، ولا رأيًا علميًّا في ضمن دائرة العلم بعيدًا عن مس
كرامة الدين، بل أهان الأمة بالتهكم بدينها، والحكومة بالخروج على شريعتها
وقوانينها، ويعتقد كل من الأمة والحكومة أن ما كتبه يضر؛ لأنه يبطل ثقة العامة
بدينها، وما رأَينا الدكتور شميلاً استباح لنفسه مثل هذا؛ وهو أشهر كُتَّاب العرب
استقلالاً في رأيه وعمله؛ ولذلك يحترم استقلاله المسلمون كغيرهم، ويكرمونه
تكريمًا، وما أراه يُرضيه ما كتبه الزهاوي - وقد علمه - بل يرضيه منه، إما أن
يكون مسلمًا يذعن لكل ما يعتقد أنه من دينه، وإما أن يصرح بأنه ليس مسلمًا
ويظهر رأيه المخالف للإسلام؛ على أنه رأي له من التزام الأدب واجتناب جَرْح
قلوب القوم الذين يخالفهم، وما أراه يُستحسن منه في هذه الحال أن يكون مدرسًا،
يقرر شريعة يعتقد أنها ظالمة، بل لعله يحتم عليه أن يرفض هذا الدرس من نفسه
كما رفض الفيلسوف سبنسر الوسام الذي أهداه إليه عاهل الألمان؛ لأنه هو يرى
وجوب ترْك الحرب، وذلك الملك أشد الملوك استعدادًا لها.
وأما الحكومة فيجب عليها أن تحمي الزهاوي من اعتداء الناس عليه، ومن
إهانته بما يعاقب عليه القانون، وأن لا تعاقبه هي إلا بعد المحاكمة وثبوت الجرم
والحكم به، ولتعلم أن اتباعها لأهواء العامة أو الخاصة في معاقبة الناس؛ هو قلب
لمعنى السلطة وإضاعة الحكومة، فإن أهواء الناس لا تقف عند حد الشرع
والقانون ولا العقل والمصلحة، فإذا لم تُعْنَ الحكومة في كل مكان بحفظ الحرية
الشخصية أشد العناية، فإن الدستور لا تقوم له قائمة، وتظل البلاد هاوية في
الشقاء والخراب، وقد قصّرت حكومتنا الدستورية بهذه المسألة في كل الولايات
حتى إن الناس يشعرون بأن النفوذ الأعلى لا يزال لأصحاب العصبية ولعصابتهم
من الأشقياء، ويلي هذا تأمين عمالها الموظفين على وظائفهم، وعدم عزل أحد منهم
بغير محاكمة، والمُطالب بهذا عاصمة البلاد في هيئتيها النيابية والتنفيذية، فليس
الأمر خاصًّا بالعراق، بل مصدره عاصمة المملكة، فيجب على الأحرار المحبين
للإصلاح أن يطلبوه من هناك.
وليس هذا المقام مقام الردّ على شبهات الزهاوي، ومن راجع مجلدات المنار
والتفسير يجد فيها الرد الكافي.
بعد هذا ننصح لجميل صدقي أفندي فنقول: إن ما حصل هو نتيجة طبيعية
لتك المقالة تكاد تكون بديهية، وإن أهل بلادنا العثمانية لا يطيقون الجهر بمخالفة
عاداتهم، فيشغبون على صاحبه باسم الدين، وإنك رجل مستعدّ وميّال للفلسفة
والعلوم الطبيعية والأدبية، فدَعْ البحث في الدين لأهله المستعدين له، واشتغل
بخدمة الأمة من الطريق الذي يرجى أن تنفعها به، وقد قال الأستاذ الإمام: إن من
أسباب عقم الأمة أن من يتقن فيها علمًا أو عملاً أو من هو مستعد لإتقانه ذلك،
يشتغل بغيره مما لم يتقنه، ولم يخلق مستعدًّا له، فلو صرفت ذكاءك إلى وضع
كتب صغيرة حسنة الترتيب سهلة الأسلوب؛ لمطالعة العوامّ والتلاميذ وتعليمهم ما
يطبع ألسنتهم على اللغة الصحيحة، ويقوي ملكة الآداب والفضائل في أنفسهم، أو
رسائل لتعليم بعض الفنون التي تُحسنها؛ لأفدت واستفدت وكنت من المصلحين،
ولعلك تفعل ذلك بعد أن تنجلي هذه الغمرة عن قريب.
***
حجة جديدة لبراءة
الزهاوي من المقالة
بعد كتابة المقالة، جاءنا المؤيد يقول: إنهم قابلوا خط رسالة مقالة الدفاع عن
المرأة بخط بعض القصائد التي كان أرسلها الزهاوي للمريد من قبل؛ فوجدوا الخط
مختلفًا غير متشابه، فإذا أنكر الزهاوي تلك المقالة وتبرأ مما فيها من الاعتراض
على الشريعة تبرؤًا جليًّا واضحًا لا كما كتب في جريدة الرقيب، فإن ما كتبه المؤيد
الآن يصلح حجة على تأييد إنكاره، وحينئذ نطالب الحكومة والأهالي بجعل الحادثة
كأن لم تكن شيئًا مذكورًا.
__________
(1) الظاهر أن الأصل اشتهت غيره بدليل مقابله.(13/841)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
النظام الجديد للجامعة الأزهرية
نفخ الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في الأزهر روح الإصلاح، وشوّق طلابه
إلى النظام والعلوم والفنون، وقال: يستحيل أن يبقى الأزهر على حاله بعد؛ فإما
أن يصلح وإما أن يسقط ويزول، وقد ظهر صدق رأيه بعده، فقام طلاب الأزهر
وكثير من شيوخه؛ يطالبون بإصلاح التعليم، وإدخال العلوم والفنون الطبيعية
والرياضية التي تدرس في مدرسة القضاء الشرعي في الأزهر، وهاج الأزهريون
في العامين السابقين، واعتصبوا لأجل ذلك حتى انفضت حِلَق الدروس كلها من
الأزهر، ووضعت لهم الحكومة في أثناء ذلك نظامًا جديدًا لم يقبلوه، بل طالبوا
أمورًا أخرى لم تجبهم إليها الحكومة، وسنبين ذلك في مقال آخر، بعد ذلك عهدت
الحكومة إلى أحمد فتحي باشا زغلول وكيل نظارة الحقانية، أن يضع نظامًا جديدًا
للأزهر بمساعدة إسماعيل صدقي باشا وكيل نظارة الداخلية وعبد الخالق ثروت
باشا النائب العمومي، وقد عُني رئيس هذه اللجنة أحمد فتحي باشا بالأمر واشتغل به
مدة صيف هذه السنة، وراجع لأجله جميع القوانين والنظامات التي وضعت للأزهر
من 1288 إلى الآن؛ أي منذ أربعين سنة، وبعد وضع النظام الجديد طبعته اللجنة
وطبعت معه القوانين والنظامات التي أشرنا إليها في دفتر خاص، فكان سِفْرًا كبيرًا
قدمته للحكومة، وإننا ننشر في هذا الجزء من المنار المذكرة التي بيّن فيها ما يشتمل
عليه النظام الجديد بالإجمال، وسننشر بعدها قانون هذا النظام كله.
مذكرة
ببيان مشتملات المشروع
لما كانت المعاهد الدينية الإسلامية آخذة في النمو، وكان من الواجب أن يكون
نظامها وحالة التعليم فيها موافقًا لرقي الأمة وحاجتها، وجب الاهتمام بأمر هذه
المعاهد وتوحيد بروغراماتها، وتنظيم إدارتها بما يكفل الحصول على الفائدة
المطلوبة منها؛ ولذلك وضع مشروع القانون المرفق بهذه المذكرة شاملاً للقواعد
والأحكام التي تناسب حالة المعاهد المذكورة، وخلاصته ما يأتي:
1- اعتبرت المعاهد الدينية الإسلامية الموجودة الآن بالقطر المصري مجموعًا
تتكون منه جامعة واحدة سميت (الجامعة الأزهرية) نسبة إلى الجامع الأزهر
الذي هو أكبرها وأقدمها، وذكرت المعاهد الأخرى وهي الموجودة في الإسكندرية
وطنطا ودسوق ودمياط، وذكر على وجه الإجمال الغرض من هذه الجامعة؛ وهو
تعلم العلوم الدينية وتعليمها على وجه يفيد الأمة.
ويدخل في الجامعة كل معهد يؤسس في القطر المصري بإرادة سنية، ثم
لوحظ أن هناك معاهد أهلية يطلب منشئوها إلحاقها بالجامع الأزهر، وقد يوجد مثل
ذلك في المستقبل فتقرر أن مجلس الأزهر الأعلى يضع لائحة ببيان الشروط التي
يجوز بمقتضاها إلحاق المعاهد التي من هذا القبيل بالجامعة الأزهرية، وأن يصدق
على اللائحة المذكورة بإرادة سنية (راجع المادتين 1و2) .
أما الرئاسة الدينية بالنسبة لأهل العلم ومن ينتمي إلى الجامعة، فقد جعلت
لشيخ الجامع الأزهر جريًا على ما كان معروفًا من قبل، كما صار بصفته رئيسًا
لمجلس الأزهر الأعلى المنفذ العام لجميع القوانين واللوائح والقرارات المختصة
بالجامعة الأزهرية (المادتين 3و4) .
2- فُوضت الإدارة العليا في الجامعة الأزهرية إلى مجلس أعلى؛ يتألف
تحت رئاسة شيخ الجامع الأزهر من مفتي الديار المصرية، ورؤساء المذاهب،
ومدير عموم الأوقاف المصرية، وثلاثة يُختارون من ذوي المكانة والدراية، ممن
تستفيد منهم إدارة هذه الجامعة؛ نظرًا لخبرتهم ومعارفهم في المسائل النظامية
والإدارية.
وجُعل لكل معهد شيخ تُناط به إدارته، وشُكّل تحت رئاسته مجلس إدارة في
الجامع الأزهر ومعهدَيْ الإسكندرية وطنطا؛ للنظر في المسائل التي تقتضي
المشورة؛ وليكون ذلك ضامنًا لحسن سير المعاهد، وكفيلاً لأهلها فيما لهم من
الحقوق، وفيما عليهم أداؤه مما هو مطلوب منهم من الواجبات.
وأباح القانون تعيين وكلاء المشايخ في المعاهد، إذا اقتضت حالة الإدارة ذلك.
وأما بقية المعاهد فجعل أمر إيجاد مجالس الإدارة فيها مَوْكولاً إلى أحوالها
الخصوصية، فإذا ارتقت وأصبح ذلك لازمًا لها، فللمجلس الأعلى أن يقرره بقيود
وشروط مخصوصة.
وحددت اختصاصات كل ركن من أركان هذه الإدارة بما يناسبه على وجه
يضمن حسن سير النظام ورقي التعليم.
ولما كان التعليم في الجامع الأزهر يحتاج إلى مراقبة كبيرة نظرًا لكثرة طلابه
أنشئت فيه ثلاث إدارات للتعليم، لكل قسم من أقسامه الثلاثة إدارة خاصة به تحت
رئاسة شيخ مخصوص؛ ومعه ما يلزمه في ذلك من المراقبين والعمال
(راجع المواد 5 إلى 20) .
4- أما العلوم التي تدرس بالجامعة؛ فهي العلوم الدينية وعلوم اللغة العربية
يضاف إليها ما يلزم من العلوم والفنون الأخرى التي تلزم لمثل هذه الجامعة، مما
يكون فيه لطلابها عَوْن على التضلُّع من علومهم الأصلية التي هي المقصد الأول من
وجودها.
وقُسّم التعليم إلى ثلاثة أقسام أولي وثانوي وعالي، وخصصت مواد كل قسم
كما حددت مدة التعليم فيه.
ووضعت البروغرامات، بحيث ينتهي تعليم العلوم التي من النوع الأخير في
نهاية القسم الثانوي، حتى بذلك يتفرغ الطلبة إلى العلوم الأساسية في الجامعة
(راجع المواد 24 إلى 31) .
5- تكفلت (المواد 37 إلى 36) ببيان مبدأ الدراسة السنوية ونهايتها؛ وأيام
العطلة في المواسم المخصوصة لكل معهد بحسب أحوال المدينة التي هو موجود
فيها.
6- وضعت في الباب الثالث قواعد الامتحان والشهادات، وتقرر أن
الامتحانات تكون نصف سنوية وسنوية، والامتحان الأولي والامتحان الثانوي
والامتحان العالي، وفصلت طريقة إجرائه، وحددت الدرجات التي يُعتبر الطالب
التي يحوزها ناجحًا في الامتحان (راجع المواد 38 إلى 53) .
واعتبرت الشهادات ثلاثًا؛ شهادة للقسم الأولي وشهادة للقسم الثانوي وشهادة
للقسم العالي، وحددت الامتيازات التي تكون لحامل كل واحدة منها بحسب العلوم
التي يكون قد تلقاها.
وأهم ما في هذا القسم هو إلغاء درجات العالمية الثلاث، واعتبار الحاملين
لشاهدة العالمية الجديدة متساوين في الامتيازات المترتبة عليها، مع ترتيبهم بحسب
متوسط درجات الامتحان (راجع المواد 54 إلى 55) .
7- وفي الباب الرابع بيان شروط الانتساب في الجامعة الأزهرية بالنسبة
للمصريين والغرباء، والشروط التي يمكن قبول الطلبة بها في غير السنة الأُولَى.
وذكرت واجبات الطلبة والمدرسين على وجه الإجمال مما تتكفل اللائحة
الداخلية بتفصيله (راجع المواد 61إلى 75) .
8- واشتمل الباب الخامس على بيان الإجازات الاعتيادية والاستثنائية
والمَرَضية التي يجوز الترخيص بها للطلبة والمدرسين وبقية الموظفين
(المواد 76 إلى 86) .
9- وذُكر في الباب السادس الأحكام المختصة بتأديب الطلبة والمدرسين
والموظفين، وخُولت السلطة فيها لمجالس الإدارة بصفة ابتدائية بالنسبة لغير الطلبة
وللمجلس الأعلى بصفة مجلس استئناف.
وحُددت العقوبات، وكلها مما هو معروف عند الأزهريين وفي بقية المصالح
واختصت هيئة كبار العلماء بالنظر في أمر من يأتي من العلماء بما لا يناسب
وصف العالمية، وأجيز الحكم عليه من ثلثَيْ الهيئة بإبطال شهادة عالميته راجع
(المواد 87 إلى 111) .
10- ونُصّ في الباب السابع على إيجاد هيئة من كبار العلماء، يكونون من
الاختصاصيين في الفنون الأزهرية بشروط وقيود مخصوصة (المواد 103 إلى
115) .
11- وفي الباب الثامن بيان الأحكام المختصة بميزانية الجامعة الأزهرية
واستقلالها، وفيه إبطال توزيع النقود المعبر عنها ببدل الكساوي، وكذلك مثمن
الغلال القابل للانحلال، ومرتبات أولاد العلماء على النحو الذي كان معروفًا من قبل.
وتقرر إيجاد لائحة خاصة بالتقاعد، وما يعود من ذلك على أولاد العلماء المشار
إليهم (المواد 116 إلى 120) .
وشُكلت لجنة للحث على تأليف الكتب النافعة لأهل الجامعة، وجعلت لمؤلفيها
مكافآت مخصوصة، وكذلك جُعلت مراقبة الأوقاف التي للجامعة الأزهرية نصيب
فيها حالاً أو مآلاً لشيخ الجامع الأزهر ومجلس الإدارة ومجلس الأزهر الأعلى، مع
المحافظة على ما لديوان الأوقاف من الحقوق والاختصاصات في ذلك.
وشُكلت لجنة لحصر الأوقاف المذكورة، والنظر في توحيد المرتبات المأخوذة
من ريعها، وللنظر في إبدال الجرايات بنقود (المواد 121إلى 133) ، وبينت
الأحكام المختصة بمنح كساوي التشريف العلمية والمظهرية المواد (134 إلى
137) .
12- واشتمل الباب التاسع على الأحكام العمومية؛ وهي ترجع إلى بيان مَنْ
هو العالم، وإلى وجوب مراعاة شروط الواقفين، وإلى ما يجب على مجلس الأزهر
الأعلى أن يضعه من اللوائح المختصة بالمكاتب التحضيرية واللائحة الداخلية
للجامعة الأزهرية، ونظام الأروقة والحارات وترتيب درجات المدرسين والموظفين
والتقرير السنوي العام (المواد 138 إلى 146) .
13- أما الباب العاشر فيشتمل على الأحكام الوقتية، وهي نوعان عامة
وخاصة، فالأولى تختص بأرباب المرتبات الحاليين وبما للأزهر من المرتبات التي
كانت خرجت من الأزهر بأحكام سابقة؛ وبأولاد العلماء من ذوي المرتبات،
وبإبطال التمييز بين المال الذي يأتي للجامعة الأزهرية من ديوان الأوقاف العمومية
وبين المال الذي يأتيها من قِبَل الحكومة وبالعلماء الغير الخصيصين بالجامعة
الأزهرية.
وأما الأحكام الوقتية الخاصة؛ فإنها تتعلق بكيفية سريان هذا النظام، وأنه
خاص بالمنتسبين للجامعة الأزهرية ما عدا طلبة الجامع الأزهر، الذين انتسبوا فيه
قبل وجوب العمل بذلك النظام.
أما هؤلاء، فوضعت لهم أحكام مخصوصة تلائم أحوالهم، وتناسب التعليم
الذي كان متبعًا في الجامع الأزهر قبل ذلك.
(المنار)
إننا لم نكن نظن أن ينال الأزهر هذه المنح الجليلة، في هذه المدة القصيرة،
ومن السنن الإلهية المطردة في الاجتماع والعمران أن الإصلاح والترقي لا ينجح
ويثبت إلا إذا تدرج أهله فيه تدرجًا، وقد قلنا في مقدمة العدد الأول من سنة المنار
الأولى فيما بيّناه من مذهبه وخطته وترشد (أي الصحيفة) العاملين إلى أن
محاولة الطفور غرور، وأن طلب الغاية في البداية عجز وحرمان، وأن مراعاة
السنن الإلهية، ومسايرة النواميس الطبيعية، كافية بفضل الله تعالى لبلوغ كل مقصد
ونيْل كل مرام، فعملا بهذه القاعدة ننصح لإخواننا الأزهريين أن يتلقوا هذا النظام
بالقبول والشكر، والعناية بتنفيذه؛ فإنني أخشى وأنا لا أراه منتهى الكمال أن نعجز
عن تنفيذه، وأن يكون ما روعي فيه من سُنة التدرج تدرجًا سريعًا.
إن المنار عني بالحث على إصلاح التعليم وتوسيع دائرته في الأزهر منذ
أنشئ منذ 13 سنة، وكنا ننكر تلك الحالة، فيغضب منا الكثيرون؛ إذ يسمون
الشكوى من تعليم الأزهر إهانة لعلمائه، ثم اتفق سوادهم الأعظم على الشكوى مثلنا
فاتفقنا ولله الحمد، وعسى أن يكون مما نتفق فيه قبول هذا النظام والعناية بتنفيذه،
فقد أعطاهم من السلطة الدينية الرسمية ما لم يكن لهم، ووسع عليهم الرزق الذي
يعينهم على أن يفرغوا للعلم، وأباح لهم تنقيح النظام والتصرف فيه عند الحاجة إلى
ذلك، وما أظن أنهم يغلون فيطلبون الطفرة ويدعون أن ما نراه كثيرًا قليل.
وقد كان مما طلبه الأزهريون إلغاء مدرسة القضاء الشرعي، وكان هذا أشد ما
أنكرته عليهم؛ فهذه المدرسة ستكون أم الإصلاح للجامعة الأزهرية بتخريجها
المعلمين القادرين على تدريس العلوم والفنون التي يسمونها الجديدة، وقد جعلها
النظام الجديد تابعة للأزهر دون نظارة المعارف، فكأن الأزهر ربح بها ما تنفقه
الحكومة عليها، وهو يزيد على عشرين ألف جنيه، وسيعطى الأزهر ثلاثين ألف
جنيه؛ لأجل تنفيذ النظام الجديد، فهل يعذر من لا يشكر الله على هذا النظام ثم
الأمير وحكومته، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا يشكر الله من لا
يشكر الناس) رواه أحمد وأبو داود وابن حبان من حديث أبي هريرة وأحمد
والترمذي والضياء بلفظ (من لم يشكر الناس لا يشكر الله) ، وبهذا اللفظ أخرجه
السيوطي في الجامع الصغير وعلّم عليه بالصحة.
__________(13/847)
الكاتب: أحد قراء المنار
__________
جمعية المبشرين في روسية
أَنشأت مجلة الشورى التي تصدر في أرينبوغ من روسية في عددها السابع
عشر الصادر في سنة 1910 مقالة عنوانها (نحن والمبشرون) بقلم هادي أفندي
أطلاسف؛ الذي كان عضوًا في مجلس (الدوما) الأول، فاستحسنَّا نقلها لقراء
مجلة المنار الأغر، وتصرفنا فيها تصرفًا قليلاً.
بعدما بيّن حضرته في مقالته معنى التبشير لأبناء جنسه، قال: ما يأتي بعد.
إننا نعرف من الجمعيات جمعية تدعى (جمعية مبشري الكاثوليك) المقصد
الأساسي لها؛ هو التبشير بالنصرانية والاجتهاد في تنصير المجوس والوثنيين
وغيرهم من أصحاب الأديان، وهذه الجمعية المذكورة تجتهد في ذلك الصدد، وتجدّ
فيه منذ أمد غير قريب، فهي قصدت بمطلبها هذا ممالك الهند والصين من القرن
الخامس عشر بل الثالث عشر، وأخذت تنصر من أهالي تَيْنِك المملكتين بقدر ما
تستطيع، فتيسر لها أن تنصر من المجوس ما بلغ عددهم الآلاف بل الملايين، وكما
بينا عدد هؤلاء الذين تنصروا باجتهاد تلك الجمعية، يلزم علينا أيضًا أن نبين ما
صرفته في هذا الصدد؛ أي في تنصيرهم، ولا نكون مخطئين إذا قلنا: إن هذه
الجمعية لم تحظ بذلك الحظ الموفور، إلا بإتعاب نفسها القوية وصرف جهدها،
وبصرف المبالغ الكثيرة التي تعدّ بالملايين من الأصفر الرنان في سبيل ذلك.
وهؤلاء الضيوف الذين جاءونا من غير دعوة (أي المبشرون) ، ما اقتصرت
دعوتهم إلى النصرانية على البلاد التي أهلها من المجوس، بل تصرف جهدها
الجهيد الآن باتخاذ الوسائل؛ لنشر دعوتها في الممالك الإسلامية مثل سورية ومصر
وتركية وإيران.
كان عيسى عليه السلام رؤوفًا رحيمًا بجميع الناس، ووعظ أُمته بقوله هذا:
(لا تقتلوا نفسًا وأحبوا أعداءكم) ، ولكن كيف كانت سيرة هؤلاء الذين يدعون أنهم
ناشرو دينه عليه السلام لو كان حيًّا؟ الحق أن هؤلاء الذين يدعون أنهم ناشرو دين
عيسى عليه السلام، قد سلكوا مسلكًا يخالف تعليمه وهديه أشد المخالفة. منذ أمد
بعيد أُسست في روسية جمعيات كثيرة لأجل التبشير بالنصرانية، وتنصير من لم
يتنصر في هذه البلاد إلى الآن. وكثرت في الأماكن التي يكثر فيها المسلمون (بل
يصح لنا أن نقول في بلاد المسلمين كقزان وقوقاز وقرغيز وغيرها.
أسسوا تلك الجمعيات بين المسلمين , ولكن كيف كان حظهم منهم؟ هل نالوا
الحظ الموفور مثل ما نالوا من المجوس؟ لا لا إنهم ما نالوا ذلك قط، بل كان
حظهم منهم الأقل في الأقل، مثلاً في سنة 1893 صرفت جمعية أكتاي جهدها
المستطاع في هذا الصدد، فنصَّرت ثلاث مائة واثنين وخمسين نسمة. ولكن لم
يتيسر لها أن تنصر في هذا العدد الكبير غير ثمانية أشخاص فقط من المسلمين،
وفي سنة 1906 لم يقع أحد في شركهم، وأما في سنة 1907 فنصّروا مائة وأربعًا
وستين نسمة منهم ثلاث من المسلمين لا غير.
قلنا: كثرت تلك الجمعيات في الأماكن التي يكثر فيها المسلمون، فنذكر الآن
من عمل تلك الجمعيات (جمعية مبشري القرغيز) ، وكم تنصر من القرغيز بهمة
تلك الجمعية؟ إنه تيسر لها في سنة 1906 أن تنصّر 19 منهم، ولكنها لم يتيسر
لها تنصير أحد في سنة 1907 من أبناء القرغيز غير اثنين من أرذال الناس (كان
أحد هذين الاثنين مسلمًا قبل تنصّره) .
ولو جعلنا نفقات تلك الجمعية من الدنانير في هذه المدة من أجل ذلك أمام
أعيننا، لوجدناها تبلغ أربعة عشر ألفا من الروابل (كل روبل عشرة قروش مصرية)
ووجدنا أيضًا هذين الشخصين من رَغام القرغيز وأرذالها، قد بلغت قيمة كل
واحد منهما على الجمعية (سبعة آلاف روبل) ، ولوجدنا ربح هذه الجمعية أنقص
من ربح تلك التي تصدت لتنصير المجوس بكثير.
أُسست في غضون هذه الأسابيع فقط في (أيركوتسكي) جمعية تدعى أيضًا
جمعية المبشرين، فأسرعت جريدة (الربيج) (جريدة روسية تصدر في
بطرسبورج) باللوم عليها في مقالتها التي نشرتها في عددها الموفي مئتين، قالت
فيها: إن مبشرينا لا يعرفون ما يجب عليهم؛ لأنهم كُسالى من جهة وجهلاء من
أخرى، ولا يَقدرون أن يؤدوا وظيفتهم التي أخذوها على عاتقهم حق التأدية، ولكني
لا أوافق فكرة جريدة (الربيج) ، بل أريد أن أخالفها، أريد أن أمدح هؤلاء
المبشرين ولا أعيبهم، ولكن مدحي لهم يكون كأضحوكة كما أنهم كذلك، وإني وإن
لم أستحسن أن أمدحهم من حيث إنهم يحاولون دائمًا أن ينصّروا المسلمين،
ويجتهدون في ذلك بالتشمير عن ساعد جدهم، لا أرى بأسًا بمدحهم من جهة أخرى،
فإني أفهم من محاولتهم هذه أنهم بذلك ينبهون أُمة التتر التي طال مُكْثها في سياستها
العميقة وانغماسها في بحر الغفلة سنين طويلة. وكأني بهم أي بالمبشرين يعينون
بعلمهم هذا أمة التتر إعانة تذكر، ويوقظونها إيقاظًا لا يطرأ عليها النوم بعده أبدًا،
والذي لا شك فيه عندي: أن الذين بثوا روح الملية وحسّها وغيرة الدين في روسية
الوسطى؛ أي (في أطراف قزان وسمبر وستارانوف وأرينبورغ إلى آخره)
ليسوا إلا أولئك المبشرين.
والحمية الدينية وغيرتها التي يستفيدها الذي يقرأ ويطالع مؤلفات المبشرين
مطالعة جيدة، مما لا يمكن تحصيلها من مؤلفات (الإيشان) وهم (رؤساء طرق
الصوفية) ، هذا معلوم لكل إنسان، والذي لا أشك في نفعه في بث روح الملية
وحسّها وغيرة الدين للأمة؛ هو المكاتيب المشهورة (لأيمينسكي) الذي كان من أكبر
المبشرين في زمانه، وأعلمهم وأكثرهم دعاء (ولبوبيدونسف) ، وهذا أيضًا كان
كذلك، حتى إنني أعد تلك المكاتيب أنفع وأفيد من مكاتيب الإمام الرباني كرات
عديدة.
الآن تصدر في مدينة مسكوف مجلة تدعى مجلة (فيرنوست) من قِبل المبشر
(واسترغوف) المشهور في مجلس (السناتو) ، ويكتب في هذه المجلة أشياء
كثيرة في شأن المسلمين، وعلى الخصوص المقالات التي تكتب بقلم (واسترغوف)
نفسه وقلم كاتب آخر يدعى (ميدفيدسكي) ، تكون عائدة للملل غير ملة الروس
وفي هذه المجلة مجلة (فيرنوست) من تنبيه الأفكار وإحياء الشعور الإسلامي
لمن يُعْنَى بقراءتهما ومطالعتهما مطالعة جيدة، ما ليس في قراءة مجلة
(دين ومعيشت) التي من شأنها أن تكون دائمًا عقبة كأداة أمام العلوم والمعارف،
ولا أثر لها في المحافظة على الدين ولا المعيشة وإن ادعت ذلك، بل لا يمكن
لأحد تحصيل تلك التيقظات والتنبيهات من مجلة دينية محضة أيضًا.
ولو كان الأمر لي في قراءة المجلات المنبهة للإنسان من سباته العميق كما
أريد، لأمرت كل مشايخ التتر بقراءة مجلة (ففيرنوست) ؛ لكي يعتبروا بما فيها
ويكونوا بعد ذلك أثبت قدمًا في الدين الإسلامي المبين.
نرى في بادئ النظر أن المبشرين أشد الناس ضررًا للمسلمين، وإذا أمعنا
النظر لا نجدهم كذلك، بل نجدهم عكس ما نعتقد فيهم، نجدهم مما لا بد منهم في
تزييد محبة أبناء التتر لملتهم، وتثبيت جرثومة الاتفاق والاتحاد فيما بينهم، نعم،
إنهم ينصرون منا عدة أشخاص، فلينصَّروا!! وهم لا يضروننا بذلك شيئًا بل العكس
يفيدوننا لأن الذين يعتنقون النصرانية بسببهم لا يكونون إلا من الذين لا يعرفون
من الدين والشريعة شيئًا، بل يكونون من الفسقة والجهلة وشياطين الناس ولا من
المسلمين حقيقة ماذا يحصل علينا إن طهروا ملتنا النجيبة التترية وشذبوها من مثل
هؤلاءالرغام الأراذل؟ وإني لا أرى مِنْ تنصّر مثل هؤلاء أقل ضرر للإسلام، بل
أرى أنه ليست فيهم أهمية للإسلام. إن الضرر الذي يطرأ على الإسلام من اجتثاث
تلك الأعضاء الفاسدة فيه وتشذيبه وتنقيته منها، ليس شيئًا يذكر بالنسبة إلى ما
يحصل في الإسلام من المتانة، وفي المسلمين من القوة والغيرة على الدين، وهذه
الفائدة التي تحصل من ذلك مما لا تقاس بشيء، ومن أجل ذلك نحن نعدّ أنفسنا
مجبورين على مدح هؤلاء المبشرين، ونقول فيهم: إنهم منبهو التتر من سباتهم
العميق، بنداء لطيف جدًّا يعادل نداء المؤذن (حي على الفلاح) .
__________(13/853)
الكاتب: علي أفندي فهمي محمد
__________
الخلافة الإسلامية والجامعة العثمانية [*]
(2)
تنبأ المستر غلادستون مرة على ما يقال فقال: (إن الإسلام لا يطول عمره
أكثر من 200 سنة ثم يتلاشى) فقال خليل بك خالد ردًّا عليه في كتاب (الهلال
والصليب) : (إن ذلك المتنبئ، يريد بنبوءته أحد أمرين: إما أن تفني الدول
المسيحية بالقوة القاهرة كل مسلم على وجه الأرض كما تفعل روسيا، أو يتنصر
جميع المسلمين بعد مائتي سنة، ولكنا نقول ولا نخشى لومة لائم: إنه إذا تلاشى
الإسلام في ذلك الزمن فلن تكون النصرانية أطول منه عمرًا) .
وبالرغم من هذه التخرصات، لا يزال للإسلام مكانته وسعة انتشاره وتمسك
أهله به؛ مع ما بيد النصارى من قوة المال والرجال التي ليس للإسلام شيء منها،
ولكي يقف القارئ على ما عند المبشرين المسيحيين من معدات التبشير بدينهم،
ننقل له هنا شيئًا من دعاة النصرانية من الإنسكلوبيديا البريطانية: (إن عدد
جمعيات التبشير 78 جمعية، وعدد عمالها 5440 مرسلاً، ومجموع دَخْلها السنوي
399.779.1 جنيها) .
يدعون مع هذا أن الإسلام دين اعتداء مذموم وتعصب وهجوم؛ تمهيدًا
لأعمالهم؛ وإمالة للرأي العام في العالم المدني. وهل يجحد أولئك القوم ما جاء في
القرآن: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9) ، فمن ذلك يرى المنصف أن
محكمة التحكيم الدولي أو مؤتمر الهاي، الذي بذلت أوربا مجهوداتها في تكبير شأنه
وتأثيره؛ دون أن تفلح بعد الذي بلغته من الرقي المدني، لم يأت بما قد جاء به
الإسلام منذ ثلاثة عشر قرنًا. وفي حديث شريف: (لا يضيق سمّ الخياط عن
متحابين ولا تتسع الدنيا بمتباغضين) وفي حديث آخر (لا تدخلون الجنة حتى
تؤمنوا ولا تؤمنون حتى تحابّوا) .
(ثم أورد الكاتب آيات من القرآن على تسامح الإسلام، واعتباره لأديان
الأنبياء السابقين وعدها مع الإسلام دينًا واحدًا، وذكر حرية الإسلام وعدله ثم قال) .
إذا وجدت حرية دينية أو سياسية أو اجتماعية أو مساواة أو إخاء، فكل ذلك
مقتبس بل مقتضب من القرآن والإسلام، قال بوسرت سميث المؤلف الإنجليزي
الشهير في كتابه (محمد والإسلام) : (إن مسيحيًّا في العصور الماضية اعتنق
الإسلام، وجعل يقذف المسيح عليه السلام؛ ظنًّا منه أن ذلك يسر المسلمين، فساقه
الذين كانوا معه منهم إلى القاضي فحكم عليه بالقتل) ، وقد حصل مثل ذلك في
تركيا منذ 400 سنة، كما هو مدون في سجلات محاكمها؛ فإن يهوديًّا أهان مسيحيًّا
بمسه كرامة السيدة مريم العذراء، فساقه الذين سمعوه من المسلمين إلى القاضي،
فحكم عليه بالقتل كما ورد في كتاب (فتاوى علي أفندي) ، ومع ذلك لا يدخر ساسة
أوربا وسعًا ورجال الدين أيضًا في رمي الإسلام بالتعصب والاعتداء، جاء في
أنسكلو بيديا شمبرس: لا شيء أغرب من ذم قسوس من النصارى، وتطاولهم على
الدين الإسلامي واتهامهم إياه بالقسوة: من هم الذين طردوا المغاربة من أسبانيا؛
لأنهم لم يقبلوا دين النصرانية، ومن هم الذين فتكوا بالملايين في بلاد المكسيك
وبيرو؛ لعدم اعتناقهم المسيحية، وما الذي فعله المسلمون في اليونان من هذا القبيل؟
لقد عاش المسيحيون قرونًا عديدة بجانب المسلمين غير مضغوط عليهم، ولم
يجبروا في يوم من الأيام على ترك عقيدتهم أو التخلي عن قسوسهم أو كنائسهم.
ولكننا لا ننكر أن بعض المسلمين أتوا أفعالاً شائنة، ولا يعزى عملهم هذا إلى
عقيدتهم الدينية بل لأخلافهم الشخصية، وإلا وجب علينا أن نبحث هل الدين يأمرهم
بتلك الأعمال أم ينهاهم عنها، فيتضح لنا جليًّا أن الإسلام يذم كل معتد أثيم غير أننا
إذا قارنا ما ارتكبه أمثال هؤلاء الأفراد بما كانت تأتيه حكومات أوربا المسيحية
البروستانتية وغيرها ضد مذاهبها المختلفة لهان علينا كل شيء، وها هي إنجلترا
البروستانتية؛ كانت منذ 300 عام فقط تذيق الكاثوليك أنواع العذاب والذل؛
لتحملهم على ترك مذهبهم القديم واعتناق المذهب الجديد.
ولكي يقف القارئ على مقدار توحش أوربا في تعصبها الديني، ذلك التعصب
الذي كان يصدر رسميًّا من الحكومات لا من الأفراد، ننقل هنا ما كتبه الأسقف
(جودمان) عن معاملة البروتستان وهم الغالبية للكاثوليك وهم الأقلية في إنجلترا.
(إنهم أي الكاثوليك ظنوا أنفسهم أتعس حظًّا مما كانوا في زمن اليصابات؛
لأنهم كانوا يؤملون خيرًا بعد وفاتها، كما أن الذين اضطهدوهم لم يفرطوا في ظلمهم؛
خوفًا من أن تدور عليهم الدوائر، وكانوا يتحملون أشد عقوبات القانون بكل نفس
ذائقة الموت، فلم تحفظ أرواحهم قوانين البلاد، وكان إحضار قسيس كاثوليكي إلى
إنجلترا خيانة كبرى عقابها الإعدام، فقد شُنق رجل ذو وجاهة لاستقباله قسيسًا،
وأُعدم غيره لمجاهرته بالانتماء لكنيسة رومية، وكانت العقوبات تنفذ على الفور،
والبروتستان يسلبون ما يباع ويشترى في السوق من أيدي الكاثوليك، وقد أكد لي
أحدهم أن الثلث الذي بقي له من أملاكه لم يَقُم بحاجته إلا بشق النفس، حتى عجز
عن دفع المظالم عن نفسه بالرشوة، وكان أولاد الكاثوليك يؤخذون صغارًا ليشبوا
على المذهب الآخر، وكانوا لا يعاملون بالقانون الأساسي، ولا يوظفون ولا يربون
أولادهم، ولا يزوجون بناتهم اللاتي لم يكن لهن أديرة راهبات يلجأْنَ إليها. أما من
كانوا خارج إنجلترا فلم يصرح لهم بالعودة إلا بعد دفع مبلغ يعجزون عن أدائه
لفقرهم المدقع، ولم تقف المحاكم عند هذا الحد، بل كانت تسجن كل من وصل إليها
ولم تصرح لأحد بالدفاع عن نفسه. كانت حالة الكاثوليك في بدء حكم جيمس
الأول وكان قد سنّ قانونًا في عهد اليصابات خلاصته تغريم من لم يكن من
المذهب الجديد 20جنيهًا كل شهر قمري وذلك هو الذي حزب الكاثوليك على خلعها
وإجلاس غيرها على العرش، وفي زمن الملك الذي خلفها أعيد ذلك القانون، وأنت
ترى أن هذا القانون يشتمل على جملة عقوبات أخرى؛ منها أن من حرّض أو سعى
في تحريض أحد من أهل المذهب الجديد على تركه عُدّ جانيًا، وعوقب على ذلك
بغرامة قدرها 100مارك وسُجن سنة كاملة، ومنها أن من قابل قسيسًا متستّرا تحت
اسم معلم عوقب القسيس بالسجن سنة والآخر بغرامة عشرة جنيهات في الشهر) .
وقال أينسورث مؤلف (جاي فوكيس) عن الثورة الإنجليزية الدينية: (كان
إذا صاح أحد الناس بأحد المارة (كاثوليكي) فلا يكاد يلفظ الكلمة، حتى يكون هذا
التعس تمزّق إربًا إربًا، وكانت الحكومة تقبض على كل من تشتبه في أمره وتذيقه
أنواع العذاب، يستوي في ذلك الرجال والنساء؛ ليدلوها على أسماء الكاثوليك ولو
زورًا، فكانت درجات التعذيب أولاً: سحق أصابع اليدين بوضعهما بين مخالب
حديدية، ثانيًا: تعليق الشخص من رجليه في السقف وبتر أصابعهما، وثالثًا: شد
وثاقه وربطه في بلاطة تشوي ظهره حيًّا كالسمكة، ورابعًا: وضعه في حفرة
أرضية مملوءة ماء، فتخرج إليه الجرذ وتنهش لحمه حتى لا تبقي إلا العظام. ومن
العجيب أنهم كانوا يطببون المسكين بعد كل نوبة حتى يشفى، ثم يجيء دور العذاب
التالي وهكذا) .
ومهما تقوّل المتقولون وادعى المدعون، فإن الإسلام على سمو مكانته يسابق
الأديان الأخرى عند ذويها، وهي المزية التي خلت منها جميع المذاهب المسيحية
ويخشون منها نجاح دعوته؛ ولذلك يجيزون كل واسطة توصلهم إلى عرقلة مساعيه
والفوز عليه عملاً بأمر دينهم (أن يذهبوا ويبشروا جميع الأمم) ، ولما كان هذا
الأمر إلزاميًّا، تراهم متى فشلوا بالطرق السلمية عمدوا إلى نشر عقدتهم اعتمادًا
على قوات الدول المسيحية ومدافعها؛ التي تعلي شأن مدنيتها المسيحية بهذه الوسائل
الممقوتة , ولكن الإسلام بالرغم مما يحيط به من الظروف السيئة، لا يزال أهله
يعتقدون حقيته اعتقادًا راسخًا، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وله تأثير
في نفوس أهله وغيرهم على السواء، ومما يدحض فِرْية كل همّاز مشَاء بنميم ما
كتبه (دينالي) في وصف عبادة المسلمين في كتابه (الإسلام والعلم) ، قال: (ما
دخلت مسجدًا إلا واعتراني تأثير شديد، بل كنت آسف أني لم أُخلق مسلمًا) وما
كتبه (كوست) الذي قام بخدمات جليلة للنصرانية في الشرق الأقصى في كتابه
(تنصير غير النصارى) قال: (لا يدخل الإنسان إلى مسجد إسلامي إلا وتدهشه
مظاهر الإخلاص والولاء والوقار والتشبع والجلال البادية على وجوه المصلين) .
ذلك مجمل القول على الدين الإسلامي الحنيف، فمن يلومنا بعد ذلك إذا صِحْنا
بملء أفواهنا {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران: 19) .
ولا يحسبن إخواننا غير المسلمين أننا نحتقر الأديان الأخرى، كَلاّ بل نحن
على رسوخنا في ديننا، نعرف لأهل كل دين حقهم، ولكنا نقول لمن يريد منا نبذ
ديننا: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ
المُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 135-136) ، ويعجبني قول بعض كُتاب
الإفرنج: (إن الإسلام مسيحية هرطوقية أو أن المسيحية إسلام قرطوقي) ، على
أن دين الله واحد في كل زمان ومكان، ولكنها الأهواء والسلطة فرقت بين الناس،
هذا مجمل القول من الوجهتين الدينية والاجتماعية؛ لنبحث الآن عما نرمي إليه من
الوجهة السياسية.
إن أول من استعمل لفظ الجامعة الإسلامية (بانستلامزم) بمعناه المقصود الآن
أعني إزالة سوء التفاهم واستبدال الأمور السياسية والاجتماعية ونحوها به، وأن
يكون المسلمون بعضهم لبعض ظهيرًا في الحق لا في التعصب الممقوت؛ أول من
استعمل هذا الاسم هو عبد الله كويلم، عندما أسس جمعية الإسلام في لندن [1] هي
التي يطلق عليها الآن اسم جمعية الجامعة الإسلامية، ففي سنة 1903 ظهرت هذه
الجمعية إلى عالم الوجود، فقابلها أنصار الإسلام وأعداؤه هاشّين باشّين، وإنا
لموردون هنا المبادئ التي ترمي إليها هذه الجمعية؛ ليرى إخواننا المسلمون
وغيرهم أنه ليس القصد من هذه الحركة الإيقاع أو التنكيل بالغير وإنما هو تحسين
أحوال المسلمين الاجتماعية والأدبية وتَتْبعها السياسية، وذلك نقلاً عن كتاب أصدره
بالإنجليزية المشير حسين قدواي سكرتير شرف جمعية الجامعة الإسلامية) .
{سَلامٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس: 58) .
1- ترقية العالم الإسلامي في شؤونه الدينية والاجتماعية والأدبية والعقلية.
2- إيجاد حسن تفاهم بين جميع مسلمي العالم في المسائل الاجتماعية.
3- تنمية شعور الإخاء بين المسلمين وغيرهم وتبادل مصالحهم.
4- إزالة سوء التفاهم الحاصل الآن بين المسلمين وغير المسلمين.
5- مساعدة المسلمين بقدر المستطاع في سائر أنحاء العالم.
6- إيجاد معاهد علمية إسلامية في غير الأقطار الإسلامية.
7- إيجاد فروع لجمعية الجامعة الإسلامية في أنحاء العالم، وإنشاء مناظرات
ومحاضرات، وطبع ونشر الصحف التي يمكن أن تفيد الإسلام.
8- جمع الاكتتابات من جميع أنحاء العالم الإسلامي؛ لتشييد جامع في لندن،
ونحن نرى أن من مصالح العالم الإسلامي أن يُزاد على هذه المبادئ ما يأتي [2] .
9- تعضيد الخلافة في آل عثمان.
10- العمل لهذه الغاية، حتى يعترف بذلك، ويخضع له جميع أمراء الإسلام
وسلاطينه.
11- أن تساعد الخلافة العظمى مقابل ذلك الأمم الإسلامية، وتتوسط لدى
الدول الأوربية المسيطرة على بعض ممالك الإسلام في دفع ظلاماتها.
12- أن تلفت الجمعية أو الجمعيات حكومات العالم الإسلامي إلى تصرفاتها
التي تنافي أصول الدين الحنيف؛ إذا كانت تؤثر في مجموع الأُمة وتسيء سمعة
الإسلام.
فأي إنسان في قلبه ذرة من الإنسانية وفي عقله ذرة من المدنية، لا يعطف
على مثل هذه المبادئ إن لم يشجعها بكل قواه، ليس في هذه المبادئ كما هي ظاهرة
جلية ضرر ألبتة بغير المسلمين، وإنما تخاف الدول الأوربية الكبرى المسيطرة على
الشرق - وأكثر أهله من المسلمين - أن يهبوا من رقادهم متآزرين متكاتفين، فيكون
لهم بذلك قوة تقف في وجوه الطامعين المسيطرين؛ لذلك يزعجها كل عمل يقومون به
أو يحاولون إتمامه، ونحن نوجس خيفة من كل حركة تبدو من جانب هذه الدول،
وهكذا نبقى من خوف الضُّر في الضُّر، لقد قام الكثيرون من الإفرنج يحاربون جمع
كلمة المسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً حتى قام مثل ارتران يقول في ملأ من
الإفرنج: (اعلموا أيها السادة، أن هذه النهضة إذا تمت بالرغم منا فستنقلب علينا،
وتتم على ما لا نرضاه وما لا يتفق مع مصالحنا) فهم بذلك {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا
نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} (التوبة: 32) .
قال الأستاذ المرحوم عبد الله براون المستشرق الشهير في كتابه (بونابرت في
مصر) : (إنه حيث يوجد الإسلام، توجد نهضته للجامعة الإسلامية وهي صغير
بوجه عام، ولكنها كبيرة بزعمائها المفكرين، وهذه الحركة تسير بزعامة أولئك
الأبطال؛ بقصد الدفاع لا بقصد الهجوم، فهي والحالة هذه حركة عقلية سلمية لا
حربية ولا عدائية.
يحاربها الإنجليز لأنهم يخشون أن تتحقق في يوم من الأيام، فتكون القاضية
على سلطانهم في الشرق، إن هذه الجامعة الإسلامية تكون أشبه بالمحالفات المنعقدة
الخناصر بين الدول المسيحية التي هي كما قال السلطان عبد الحميد: (تحاربنا
حروبًا صليبية بشكل سياسي) ، وليس عجبي من محاربة أوربا للجامعة أو الخلافة
الإسلامية؛ إذ من الواجب عليها أن تنظر لمصلحتها السياسية والاقتصادية، وإنما
عجبي أنها تستعين ببعضنا على محاربة البعض الآخر؛ عملاً بقاعدة (فرّق تَسُدْ)
فينسى ذلك البعض الخارج على قومه {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) .
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما نشر في الجزء التاسع (ص713) بقلم علي أفندي فهمي محمد.
(1) المنار: الصواب أن أول من نبه المسلمين في هذا العصر إلى ما بهم من التقاطع والتناكر، ونبههم إلى ما يجب عليهم من التعارف والتعاون، هو السيد جمال الدين الأفغاني، وقد بدأ عمله على عهد إسماعيل باشا سرًّا وأظهره في أوربا.
(2) المنار: إن ما زاده الكاتب تعارض فيه جميع الدول القوية، ومن يقف في وجهها إذا قامت، فالأولى أن لا يكون في العمل سياسة إن كان هنالك عمل.(13/857)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(كتاب الأربعين في أصول الدين)
هذا الكتاب قسم من كتاب جواهر القرآن لحجة الإسلام الغزالي، وقد أجاز أن
يكتب مستقلاًّ كما قال في كشف الظنون، فكتب وطبعه في هذه الأيام الشيخ محيي
الدين صبري الكردي في قطع كقطع كتاب الإسلام والنصرانية، فكانت صفحاته
زهاء 360، ويبيع النسخة منه بخمسة قروش.
وإنما سماه الأربعين؛ لأنه جعله أربعين أصلاً؛ عشرة في العقائد، و10 في
الأعمال الظاهرة: وهي العبادات وكسب الحلال وآداب الصحبة والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر واتباع السنة، و10 في تزكية النفس من الأخلاق المذمومة،
و10 في تحليتها بالأخلاق المحمودة، فهو ملخص من كتابه الإحياء، وفيه من
التحقيق لبعض المسائل ما لا نظير له في الإحياء، وهاك نموذجًا منه:
***
(تحقيق مسألة القضاء والقدر وفيه وصف الساعة الدقاقة في زمنه)
قال: والقضاء هو الوضع الكلي للأسباب الكلية الدائمة، والقدر هو توجيه
الأسباب الكلية بحركاتها المقدرة المحسوبة إلى مسبباتها المعدودة بقدر معلوم لا يزيد
ولا ينقص؛ ولذلك لا يخرج شيء عن قضائه وقدره.
ولا تفهم ذلك إلا بمثال، ولعلك شاهدت صندوق الساعات التي بها تعرف
أوقات الصلوات وإن لم تشاهده، فجملة ذلك أنه لا بد فيه من آلة على شكل
أسطوانة تحوي مقدارًا من الماء معلومًا، وآلة أخرى مجوفة موضوعة فيها فوق
الماء، وخيط مشدود أحد طرفيه في هذه الآلة المجوفة. وطرفه الآخر في أسفل
ظَرْف صغير موضوع فوق الآلة المجوفة، وفيه كرة وتحته طاس، بحيث لو
سقطت الكرة وقعت في الطاس وسُمع طنينها، ثم تثقب أسفل الآلة الأسطوانية ثقبًا
بقدر معلوم ينزل الماء منه قليلاً قليلاً، فإذا انخفض الماء انخفضت الآلة المجوفة
الموضوعة على وجه الماء، فامتد الخيط المشدود بها، فحرك الطرف الذي فيه
الكرة تحريكًا يقربه من الانتكاس إلى أن ينتكس، فتتدحرج منه الكرة وتقع في
الطاس، وتطن وعند انقضاء كل ساعة تقع واحدة، وإنما يتقدر الفصل بين
الوقعتين بتقدير خروج الماء وانخفاضه؛ وذلك بتقدير سعة الثقب الذي يخرج منه
الماء، ويعرف ذلك بطريق الحساب، فيكون نزول الماء بمقدار مقدّر معلوم بسبب
تقدير سعة الذي يخرج منه الماء ويعرف ذلك بطريق الحساب. فيكون نزول الماء
بمقدار مقدر معلوم بسبب تقدير سعة الثقبة بقدر معلوم، ويكون أعلى الماء بذلك
المقدار به ويتقدر، وانخفاض الآلة المجوفة وانجرار الخيط المشدود بها، وتولّد
الحركة في الظرف الذي فيه الكرة وكل ذلك يتقدر بتقدّر سببُه لا يزيد ولا ينقص،
ويمكن أن يجعل وقوع الكرة في الطاس سببًا لحركة أخرى، وتكون الحركة الأخرى
سببًا لحركة ثالثة، وهكذا إلى درجات كثيرة حتى يتولد منها حركات عجيبة مقدرة
بمقادير محددة، وسببها الأول نزول الماء بقدر معلوم، فإذا تصورتَ هذه الصورة،
فاعلم أن واضعها يحتاج إلى ثلاثة أمور.
أولها: التدبير وهو الحكم بأنه ما الذي ينبغي أن يكون من الآلات والأسباب
والحركات، حتى يؤدي إلى حصول ما ينبغي أن يحصل وذلك هو الحكم.
والثاني: إيجاد هذه الآلات التي هي الأصول وهي الآلة الأسطوانية لتحوي
الماء والآلة المجوفة لتوضع على وجه الماء، والخيط المشدود بها، والظرف الذي
فيه الكرة والطاس الذي تقع فيه الكرة وذلك هو القضاء.
الثالث: نصب سبب يوجب حركة مقدرة محسوبة محدودة، وهو ثقب أسفل
الآلة ثقبة مقدرة السعة؛ ليحدث بنزول الماء منها حركة في الماء، تؤدي إلى حركة
وجه الماء بنزوله، ثم إلى حركة الآلة المجوفة الموضوعة على وجه الماء بنزوله،
ثم إلى حركة الخيط، ثم إلى حركة الظرف الذي فيه الكرة، ثم إلى حركة الكرة،
ثم إلى الصدمة بالطاس إذا وقع، ثم إلى الطنين الحاصل منها، ثم إلى تنبيه
الحاضرين واستماعهم، ثم إلى حركاتهم إلى الاشتغال بالصلوات والأعمال عند
معرفتهم بانقضاء الساعة، وكل ذلك بقدر معلوم ومقدار مقدر بسبب تقدّر جميعها
بقدر الحركة الأولى، وهي حركة الماء.
فإذا فهمتَ أن هذه الآلات أصول لا بد منها للحركة، وأن الحركة لا بد من
تقديرها ليقدر ما يتولد منها، فكذلك فافهم حصول الحوادث المقدرة التي لا يتقدم منها
شيء ولا يتأخر إذا جاء أجلها أي حضر سببها، وكل ذلك بمقدار معلوم {إِنَّ اللَّهَ
بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (الطلاق: 3) .
فالسموات والأفلاك والكواكب والأرض والبحر والهواء، وهذه الأجسام العظام
في العالم كتلك الآلات، والسبب المحرك للأفلاك والكواكب والشمس والقمر
والكواكب إلى حصول الحوادث في الأرض كإفضاء حركة الماء إلى حصول تلك
الحركات المفضية إلى سقوط الكرة المعرِّفة لانقضاء الساعة، ومثال تداعي
حركات السماء إلى تغيير الأرض هو أن الشمس بحركتها إذا بلغت إلى المشرق
فاستضاء العالم تَيسّر على العالم الإبصار، فيتيسر عليهم الانتشار في الاشتغال،
فإذا بلغت المغرب تعذر عليهم ذلك فيرجعون إلى المساكن، وإذا قربت من وسط
السماء وسامتَتْ رؤوس أهل الأقاليم، حمي الهواء واشتد القيظ وحصل نضج
الفواكه، وإذا بعدت حصل الشتاء واشتد البرد، وإذا توسطت حصل الاعتدال فظهر
الربيع، وأنبتت الأرض وظهرت الخضرة، وقس بهذه المشهورات التي تعرفها
الغرائب التي لا تعرفها.
فاختلاف هذه الفصول كلها مقدرة بقدر معلوم؛ لأنها منوطة بحركات الشمس
والقمر و {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: 5) ، أي حركتها بحساب معلوم-
فهذا هو التقدير، ووضع الأسباب الكلية هو القضاء والتدبير الأول الذي هو كلمح
البصر هو الحكم، وكما أن حركة الآلة والخيط والكرة ليست خارجة عن مشيئة
واضع الآلة، بل ذلك هو الذي أراد بوضع الآلة؛ فكذلك كل ما يحدث في العالم من
الحوادث شرها وخيرها نفعها وضرها غير خارج عن مشيئة الله تعالى، بل ذلك
مراد الله تعالى ولأجله دبر أسبابه، وتفهيم الأمور الإلهية بالأمثلة العرفية عسير،
ولكن المقصود من الأمثلة التنبيه، فدَعْ المثال وتنبّه للغرض، واحذر من التمثيل
والتشبيه) اهـ.
(المنار)
يرى القارئ أن هذا التحقيق لمسألة القدَر، هو عين ما ذهبنا إليه
وحققناه في المنار غير مرة، ولم نكن قد اطلعنا عليه لأحد، ولكننا رأيناه صريحًا
من آيات القرآن الكثيرة عند تتبعها وتدبرها، ومنه يعلم أن الجمهور يفهمون القدَر
الآن بضد معناه، ونحمد الله أن وفق أبا حامد وهداه إليه من قبل، وآخر ما كتبناه
في ذلك نشرناه في المجلد الثاني عشر (راجع ص 189- 200منه) .
وما كتبه في الساعة الدقاقة التي كانت مستعملة إلى زمنه، مما كان يتوق
الناس إلى معرفته بهذا التفصيل، وقد ارتاب الشيخ أحمد فارس في تسمية هذه الآلة
(ساعة) ؛ أن يكون تسميته عربية قال في ص 218 من كتابه (كَشْف المُخَبّا عن
فنون أوربا) : قال مؤلف كتاب (المخترعات العجيبة) : ذكر المؤرخون من
الفرنسيس أن أول ساعة عُرِفَتْ في بلادهم، كانت الساعة التي أهداها الخليفة
هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرنسة وذلك في سنة 807م، وكانت بدعًا في ذلك
العصر حتى إنها أورثت رجال الديوان حيرة وذهولاً، والظاهر أنها كانت من
الآلات التي يديرها الماء المنحدر، وكان لها اثني عشر بابًا صغيرًا تقع على جرس
فيطن بعدد الساعات وتبقى الأبواب مفتوحة، وحينئذ تخرج صورة اثني عشر
فارسًا على خيل وتدور على صفحة الساعة، وقلت: بودي لو أعرف اسم الساعة
في ذلك العصر، فإني أنكر هذه اللفظة، وأهل الغرب يقولون (منكالة) وهي
أنكر اهـ.
وقد عرفت من كلام الغزالي أنهم استعملوا لفظ الساعة، وفي الكتاب فوائد
كثيرة ومعظمه من الإحياء له، وفيه من التساهل في إيراد ما لا يصح من الأحاديث
مثل ما في الإحياء، وكان يرى أن العلم بكل ما ورد من الأحاديث أولى من تركه.
***
(ميزان العمل)
للشيخ أبي حامد الغزالي أيضًا وهو مختصر في علم النفس والأخلاق على
طريق الفلاسفة والصوفية والمتكلمين جميعًا، وهو مختصر لطيف حسن الترتيب
والتمثيل، وفيه فوائد كثيرة وتحقيقات مفيدة، وأنفع ما فيه خاتمته، وهي في
اختلاف الناس في المذاهب وهذا نصها:
بيان معنى المذهب واختلاف الناس فيه
لعلك تقول كلامك في هذا الكتاب انقسم إلى ما يطابق مذهب الصوفية وإلى ما
يطابق مذهب الأشعرية وبعض المتكلمين، ولا يفهم الكلام إلا على مذهب واحد،
فما الحق من هذه المذاهب؟ فإن كان الكل حقًّا فكيف يتصور هذا؟ وإن كان بعضه
حقًّا فما ذلك الحق؟
فيقال لك: إذا عرفت حقيقة المذهب لا تنفعك قط؛ إذ الناس فيه فريقان: فريق
يقول المذهب اسم مشترك لثلاث مراتب: أحدها ما يتعصب له في المباهاة
والمناظرات، والأخرى ما يسار به في التعليمات والإرشادات، والثالثة ما يعتقده
الإنسان في نفسه مما انكشف له من النظريات، والكل كامل ثلاثة مذاهب بهذا
الاعتبار؛ فأما المذهب بالاعتبار الأول فهو نمط الآباء والأجداد ومذهب المعلم،
ومذهب أهل البلد الذي فيه النشؤ؛ وذلك يختلف بالبلاد والأقطار ويختلف بالمعلمين
فمن ولد في بلد المعتزلة أو الأشعرية أو الشفعوية أو الحنفية، انغرس في نفسه منذ
صباه التعصب له والذب دونه والذم لما سواه، فيقال: هو أشعري المذهب أو
معتزلي أو شفعوي أو حنفي، ومعناه أنه يتعصب أي ينصر عصابة المتظاهرين
بالموالاة، ويجري ذلك مجرى تناصر القبيلة بعضهم لبعض.
ومبدأ هذا العصب حرص جماعة على طلب الرياسة باستتباع العوام، ولا
تنبعث دواعي العوام إلا بجامع يحمل على التظاهر، فجعلت المذاهب في تفصيل
الأديان جامعًا، فانقسم الناس فرقًا، وتحركت غوائل الحسد والمنافسة، فاشتد
تعصبهم واستحكم به تناصرهم.
وفي بعض البلاد لما اتحد المذهب، وعجز طلاب الرياسة عن الاستتباع،
وضعوا أمورًا وخيلوا وجوب المخالفة فيها والتعصب لها؛ كالعلم الاسود والعلم
الأحمر، فقال قوم: الحق هو الأسود، وقال آخرون: لا بل الأحمر، وانتظم
مقصود الرؤساء في استتباع العوام بذلك القدر من المخالفة، وظن العوام أن ذلك
مهم، وعرف الرؤساء الواضعون غرضهم في الوضع.
المذهب الثاني: ما ينطبق في الإرشاد والتعليم على من جاءه مستفيدًا مسترشدًا
وهذا لا يتعين على وجه واحد، بل يختلف بحسب المسترشد فيناظر كل مسترشد
بما يحتمله فهمه، فإن وقع له مسترشد تركي أو هندي أو رجل جلف بليد الطبع؛
وعلم أنه لو ذكر له أن الله تعالى ليس ذاته في مكان، وأنه ليس داخل العالم ولا
خارجه، ولا متصلاً بالعالم ولا منفصلاً عنه، لم يلبث أن ينكر وجود الله تعالى
ويكذب به، فينبغي أن يقرر عنده أن الله تعالى مستو على العرش، وأنه يرضيه
عبادة خلقه ويفرح بها، فيثيبهم ويدخلهم الجنة عوضًا وجزاء، وإن احتمل أن يذكر
له ما هو الحق المبين يكشف له، فالمذهب بهذا الاعتبار يتغير ويختلف، ويكون مع
كل واحد على حسب ما يحتمله فهمه.
المذهب الثالث: ما يعتقده الرجل سرًا بينه وبين الله عز وجل، لا يطلع عليه
غير الله، ولا يذكره إلا مع من هو شريكه في الاطلاع على ما أُطْلِعَ أو بلغ رتبة
(من) يقبل الاطلاع عليه ويفهمه، وذلك بأن يكون المسترشد ذكيًّا، ولم يكن قد
رسخ في نفسه اعتقاد موروث نشأ عليه وعلى التعصب له، ولم يكن قد انصبغ به
قلبه انصباغًا لا يمكن محوه منه، ويكون [*] مثاله ككاتب كتب عليها ما غاص فيه،
ولم يكن إزالته إلا بحرق الكاغد وخرقه، فهذا رجل فسد مزاجه ويُئِسَ من صلاحه،
فإن كل ما يذكر له على خلاف ما سمعه لا يقنعه بل يحرص على أن لا يقتنع
بما يذكر له ويحتال في دفعه ولو أصغى غاية الإصغاء، وانصرفت همته
إلى الفهم لكان يشك في فهمه، فكيف إذا كان غرضه أن يدفعه ولا يفهمه؟ فالسبيل
مع مثل هذا أن يُسْكَت عنه، ويُترك على ما هو عليه، فليس هو بأول أعمى
هلك بضلالته، فهذا فريق من الناس.
وأما الفريق الثاني: وهم الأكثرون فيقولون المذهب واحد هو المعتقد، وهو
الذي ينطق به تعليمًا وإرشادًا مع كل آدمي كيفما اختلفت حاله، وهو الذي يُتَعصب
له؛ وهو إما مذهب الأشعري أو المعتزلي أو الكرامي، أو أي مذهب من المذاهب
والأولون يوافقون هؤلاء على أنهم لو سئلوا عن المذهب أنه واحد أو ثلاثة، لم يجز
أن يذكر أنه ثلاثة، بل يجب أن يقال: إنه واحد، وهذا يبطل تعبك بالسؤال عن
المذهب إن كنت عاقلاً، فإن الناس متفقون على النطق بأن المذهب واحد، ثم
يتفقون على التعصب لمذهب أبيهم أو معلمهم أو أهل بلدهم، ولو ذكر ذاكر مذهبه
فما منفعتك فيه، ومذهب غيره يخالفه، وليس مع واحد منهم معجزة يترجح بها
جانبه.
فجانب الالتفات إلى المذاهب؛، واطلب الحق بطريق النظر لتكون صاحب
مذهب، ولا تكن في صورة أعمى تقلد قائدًا يرشدك إلى طريق، وحواليك ألف مثل
قائدك يناودن عليك بأنه أهلكك وأضلك عن سواء السبيل، وستعلم في عاقبة أمرك
ظلم قائدك، فلا خلاص إلا في الاستقلال.
خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به في طالع الشمس ما يغنيك عن زحل
ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث؛
لتنتدب للطلب فناهيك به نفعًا؛ إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم
ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال، نعوذ بالله
من ذلك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم اهـ.
(المنار)
ليعتبر بهذا من ترتعد فرائصهم من ذكر الدعوة إلى الكتاب والسنة
والنعي على التقليد الأعمى الذي يصرف صاحبه عن الاهتداء بهما، وليعلموا أنه ما
نبغ عالم في الإسلام إلا وكان منتهى شوطه وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة
والاهتداء بهما استقلالاً، وللغزالي في ذلك كلام كثير بين تصريح وتلويح دارى فيه
دولة المتعصبين، وناهيك بما تقدم لنا نقله عنه من كتابه القسطاس المستقيم.
وثمن هذا الكتاب أربعة قروش صحيحة.
***
(الرسالة اللدنية ورسالة ما لا بد منه للمريد)
الأولى لأبي حامد الغزالي يتكلم فيها عن العلم اللدني والإلهام والوحي
والنفس والروح والقلب. والثانية للشيخ محيي الدين بن عربي في آداب سالك
طريق التصوف، وقد طبعهما الشيخ محيي الدين الكردي معًا. وثمنهما قرشان
صحيحان.
__________
(*) المنار: الظاهر أنها فيكون بفتح النون.(13/864)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(الإسلام والمسلمون.. رأي المسيو مونتيه ناظر المدرسة الجامعة بجنيف
فيهما)
بدأ المسيو أدموند مونتيه ناظر مدرسة جنيف الجامعة بإلقاء محاضرات ست
في مدرسة فرنسا (كوليج ديفرانس) عن حالة الإسلام الحاضرة والمستقبلة , ذلك في
كل يوم اثنين وخميس في الساعة الثانية والنصف مساء ابتداء من يوم 7 الجاري،
وينتهي منها يوم 24 الجاري، أما مسائل بحثه فهي:
(صالح المسائل الإسلامية، إحصائيات الإسلام، انتشار الديانة الإسلامية،
التمسك الشديد بالدين الإسلامي، التغييرات التي طرأت عليه، الانشقاق
والاختلافات والمذاهب، عبادة الأولياء المسلمين، أرباب الطرق الإسلامية،
تصوفهم ومحافظتهم على الأصول، تأثيرهم الاجتماعي والسياسي، محاولة إصلاح
الإسلام، البابية والبهائية، مستقبل الأمم الإسلامية، الأميال نحو الحرية
والمجهودات التي تبذل في سبيل التخلص من الأجانب في الإسلام.
ولما كان المسيو أيدموند مونتيه كاهنًا بروتستانتيًا حر الأفكار، كانت أفكاره
وآراؤه في هذا الشأن من الأهمية بحيث لا يستهان بها.
لذلك أرسلت جريدة (السبيكل) إلى جنابه من يسأله عن آرائه في شأن
الموضوعات التي سيجعلها موضوع بحثه، فصرح له بالتصريحات الآتية:
أما آرائي فيها فهي كثيرة جدًّا، وإن السؤال الذي ألقيته عليّ سؤال مركب
كثير الفروع، فاسمح لي أن أحييك عليه بعده أجوبة؛ لأن الإسلام يظهر أمامنا في
مظاهر شتى.
وأول ما يبدو أمام نظر الذي يرقب حركات الإسلام ويهمه وشأنه حاله الحاضرة
فالعالم الإسلامي الذي يشاع عنه خطأ أنه في سبات عميق لا يتحرك، هو في
الحقيقة اليوم في حركة شديدة، فهو عالم يسير ويتقدم، فالترك ومصر وفارس
من جهة، يظهر فيها الشوق إلى الرقي ونور العلم ظهورًا جليًّا، ومن جهة أخرى
ترى في المستعمرات الإنجليزية والفرنسية والمستعمرات الأوربية الأخرى تلك
الحاجة بعينها، تدفع جمهور المؤمنين على طلب الزيادة في التربية والحرية.
ولكن رب قائل يقول لي: ألا تظن أن تركيا التي كانت الثورة فيها على
النسق اللاتيني سببًا في وجود مذهب سياسي جديد، ليست كسائر الجهات التي ليس
فيها إلا مجرد آمال مبهمة في الوصول إلى حالة خير من الحالة الحاضرة من
الوجهة الاجتماعية أو السياسية.
وإنني لا أذهب هذا المذهب، وفي رأيي أن العالم الإسلامي كان كأنه محقون
بسم نافع يفتك به وينتشر في جميع أعضائه، أما هذا السم فهو سم المدنية الحديثة
سم مدنيتنا التي يتحتم على كل أمة أن تعتنقها مهما يكن ماضيها، ومهما تكن
مدنيتها الخاصة بها قديمة كانت أو حديثة، وبمجرد سريان هذا السم في أي جسم
يكون من المستحيل إخراجه منه، فإن فتكه يستمر فيه ولا مناص، ويقتاد هذا
الجسم مع مرور الزمن إلى الانقلاب التام.
أما الموقف الذي سيقف فيه الإسلام حيال مدنيتنا، فينبغي أن ينظر إلى الإسلام
من وجهتين مختلفتين؛ الأولى: أن يُنظر إليه من حيث هو مجموع الأمم الإسلامية
وسكان البلاد منهم، والأجناس المختلفة التي تعتنق دين محمد صلى الله عليه وسلم
والثانية: أن يُنظر إليه من حيث هو دين الإسلام نفسه.
وإنه ليخيل لي أن الأمم الإسلامية يزداد دخولها في حظيرة المدنية الحديثة
شيئًا فشيئًا، وذلك ما يفعله أكثر الأمم الإسلامية. بعضها بقصد والبعض الآخر بلا
قصد؛ لأن الأمر في نظرهم ينحصر في مسألة إما الحياة وإما الممات؛ لأن تيار
المدنية الحديثة لا يُستطاع مقاومته، والذي يريد أن يهرب من وجهه لا بد أن
يكتسحه، والذي يريد أن يقاومه لا بد أن يسحقه. ذلك ما يعتقده كثير من المتنورين
منهم اليوم، وكثير من أبناء وطنهم يتبعون أثرهم بحكم التقليد في سبيل التقدم
الحديث.
أما من الوجهة الدينية؛ فإن الموقف يختلف عن ذلك كل الاختلاف، فإن
الإسلام بصفته دينًا كانت له غايات شبيهة بغايات النصرانية، وقد وجد فيه
التصوف والمذاهب والميل إلى المحافظة على القديم وإلى التخلص من ربقة القيود
ولا يزال كل ذلك موجودًا فيه إلى الآن، وإذا كانت المسيحية قد ضمنت لها مستقبلاً
في الرقي وفي البقاء غير محدود، فإن شأن الإسلام في ذلك شأن النصراينة تمامًا؛
فإن الإسلام إحدى ديانات التوحيد الكبرى، وإن التوحيد في الديانة لا يمكن أن
يزول، بل تبقى مبادئه بقاء أبديًّا ولو تغير في أعراضه.
إني شديد اعتقاد الخير في الإسلام نفسه بصفته دين توحيد، اعتنقته - على
الخصوص - أمم آسيا وأفريقية والمسلمون على وجه العموم.
ولطالما كانت لي علاقات شخصية مع المسلمين وأكثرهم من أصل عربي أو
بربري مغربي، وإنني لأحفظ لهذه العلاقات جميل الذكرى، وإنني شديد الاحترام
للأتراك والمصريين المتنورين الذين لقيتهم، بل إن لي من بينهم بعض الأصدقاء
المخلصين إخلاصًا تامًا، ولكني أتمسك على الخصوص بالصداقة التي نشأت بيني
وبين المتواضعين الخاشعين من المسلمين، وهم على الخصوص في مراكش؛ فإن
هؤلاء المسلمين الذين يعيشون عيشة في غاية البساطة والغرابة في نظرنا بالنسبة
لطرائق تفكيرنا - قد حافظوا على أجلّ الفضائل التي نحترمها نحن ولا شك، ولكننا
نهمل العمل بها، وإني أريد بذلك فضيلة حسن الضيافة والكرم، وفضيلة الوفاء
التام في الصداقة والأخلاق، وهم يصح أنه يقال عنهم: إنهم الأمثلة الصالحة في
هذه الفضائل، ولقد كان في خدمتي بعض المراكشيين، فأظهروا لي في كثير من
الظروف الحرجة دليلاً على إخلاصهم المتناهي، ولعمري إنني ما نسيتهم قط،
وإني على يقين من أنهم لم ينسوني أيضًا وماذا كنت أنا بالنسبة لهم؟ كنت رجل
غريبًا مسيحيًّا، ولكنني كنت مسيحيًّا غربيًّا وأصبحت صديقًا لهم.
ولي كلمة قبل أن أختم معك هذا الحديث لا يسعني إلا أن أقولها، وهي: إن
روح الإسلام (وأريد روح الديانة الإسلامية) صعب على الغريب عنها أن يقف
على سرها. ولكن الذي يقف على كنهها ويفقهها، يرى أن هذه الروح جميلة جذابة
ومتى فقهها المرء فليس في قدرة أي شيء أن يمحو من فؤاده التأثير الذي تحدثه فيه
وليس في استطاعة المرء أن ينفصل عنها. اهـ من ترجمة المؤيد بتصحيح
قليل.
* * *
(الترك والعرب)
دليل على ما سميناه سوء التفاهم وشهادة كاتب تركي للعرب
كان يجب على جرائد الآستانة أن تحمد سعي الشريف أمير مكة المكرمة في
نجد، ولا سيما إخضاع أكبر أمرائها ورئيس عشائرها الأمير عبد العزيز آل سعود
للدولة العلية، وحمله على الثقة بها، ولكنه لم يسلم من اللوم والمؤاخذة حتى قالت
بعض تلك الجرائد: إن سعيه كان حسنًا ولكنه كان مخطئًا فيه؛ لأنه ليس له صفة
ولا سلطة تجيز له أن يحل ويعقد، وقد كانت جريدة (يكي تصوير أفكار)
خاضت في مثل هذا الإنكار والتجاهل، ثم اقترحت على سليمان بك نظيف - الذي
كان إلى عهد قريب واليًا للبصرة - أن يكتب إليها شيئًا مما وصل إليه اختباره عن
عرب الجزيرة، فكتب إليها مقالاً ترجمته جريدة المفيد، فنقلناه عنها لما فيه من
الإنصاف واستقلال الرأي [1] هو: قال الكاتب:
إن السلطة العثمانية في جنوب العراق وجزيرة العراق لا تتأيد؛ ما لم تتأيد
العدالة وحسن الإدارة، ففي كل وقعة من الوقائع خطر يتطاير شرره.
إن هذه البقاع المباركة بقاع بائسة؛ وقعت عصورًا متطاولة في زوايا الإهمال
من قبل الحكومة إلا في عهد مدحت باشا.
ارتكز فَيْلَقُنَا السادس، ودق وتاده حيث كانت تجوس جيوش بابل وأشور
بسطوتها وهيبتها، فرأيناه اليوم يندحر أمام بعض القبائل البدو أيما اندحار. كانت
(الجزيرة) في الغابر بمثابة أكبر مستغل، يستمد منه العالم بأسره مؤنته، ونراه
اليوم يموت أهله جوعًا، على حين أن الأرض لم تفقد قوة النمو ولا الخصب.
وبعد، فليس ثمت من سبب لهذه المصائب إلا سوء إدارتنا التي اشترك بها
هذا العاجز مدة أحد عشر شهرًا.
كنت أعتقد قبل قدومي البصرة اعتقادًا ولدته في نفسي الأقوال المتضاربة؛
أن الأمة العربية عنصر ينقبض من الجامعة العثمانية، ولكن إقامتي بينها ومحاولتي
كشف النقاب عن الحقائق أثبتت لي أن هذا الاعتقاد وهم محض، فَسُرِرْتُ ما
شاءت حميتي العثمانية، إذا صرفنا النظر عن عائلة واحدة في البصرة مكروهة
منفور منها لا يتجاوز أفرادها عدد الأربعة، فإنا نشعر بحس واحد راسخ في نفوس
عرب الولاية كافة من بدويهم إلى حضريهم ألا وهو حب الجامعة العثمانية.
ولكن ينبغي لنا أن نعترف ونقر بأنا أسأنا المعاملة بجانب عرب البصرة في
جميع الأحايين، وقسمنا أراضيهم إلى مقاطعات تحت اسم أميرية وسنية، ودعونا
المتغلبين إلى أن يمدوا إليها أيديهم الجائرة الظالمة وعززناهم بقوة من الحكومة
ووقارها، حتى بلغنا إلى درجة التحكم بالقوت اليومي الذي كان يتناوله كل عربي
بجده وسعيه.
كل ذلك كان، وكان هذا الشعب الصادق الجليد يتلقى من الحكومة تلكم
الصدمات بصبر وثبات كأنما هي من الأقدار، ولم يك ينبس ببنت شفة.
حادثة (شطرة المنتفك) بسيطة جدًا أي إنها فاجعة بسيطة؛ سببها أن فريقًا
عسكريًّا مأمورًا بالإصلاح، ظن أن سلطته تخوله فسخ إحالة (إبطال عقد التزام
أعشار) مقاطعة برمتها. فإن عشيرة (عبوده) التي هزمت الفريق يوسف باشا
قائد أربعة عشر تابورًا وحاصرته، والتي تركت قوة أمير اللواء محيي الدين باشا
جامدة لا حراك فيها، كانت حتى في أوقات ظفرها تبرق البرقيات إلى الولاية،
تعرض إطاعتها للحكومة، وتبين أنها مضطرة لمحاربة الفريق المسوق بسائق
المطامع الشخصية؛ دفاعًا عن نفسها وذودًا عن شرفها، ولقد أثبت رجال هذه
العشيرة صدق دعواهم بالفعل؛ فإن القوة العسكرية البالغة واحدًا وعشرين تابورًا،
تخلصت من ربقة الحصار الشديد بأمر واحد تلقاه المحاصرون من الحكومة، وليس
ثمت دليل أكبر من هذا الدليل على صدق عثمانية هؤلاء وإطاعتهم للحكومة.
(أهداني قنصل روسيا في البصرة الموسيو (طوخولفا) كتابًا افرنسيًّا
عنوانه (الثورة العربية والدول) أثناء سيري إلى المنتفك، فوجدت صاحبه يملأ
الكتاب بحوادث المنتفك، ويتحرى في جميع أبحاثه أن يعثر على أمارات الانفصال
والاستقلال، فعظم الوهم لدي، ولكن حينما شهدت عائلات المنتفك، أيقنت اليقين
التام أن ذلك الكتاب مجموع نفاق وبهتان، وأنا اليوم على ثقة تامة أنه ليس في
البصرة أزمة سياسية ما، ليست تلك الأصوات التي تمتد أحيانًا إلى العاصمة،
فتنبهها من غفلتها إلا صعقات متصاعدة من أفئدة عضها الجوع بأنيابه، ولو كنا
مكان هؤلاء العرب لأتينا أشد مما يأتونه، وإذا تدبرنا وعقلنا الأمر وانقلبت تلكم
الصرخات إلى سكوت ينم إلى الأبد عن شكر) .
(المنار)
بَيَّنَّا في المقالات التي نشرناها في جرائد الآستانة، ونحن فيها أن العرب كلهم
مخلصون للدولة، لا يخطر في بال أحد منهم أن بينهم وبين إخوانهم الترك أدنى
فرق، وأن اتهام بعض رجال السياسة فيها إياهم، وما تكتبه الجرائد التركية عنهم
وفي العصبية الجنسية وما يسمعه أبناؤهم في مكاتب الدولة يخشى أن يغير قلوبهم
ووعظنا رجال حكومتنا بالحديث الشريف: (وإذا ابتغى الأمير الريبة بالناس
أفسدهم) فلم يغن النصح شيئًا، فعسى أن يقبلوا شهادة هذا الشاهد منهم، ويزيلوا
أسباب التفرق وسوء الظن، ويعلموا أنا كنا لهم ولا نزال من أخلص الناصحين.
* * *
(الاحتلال الأجنبي في إيران)
هذا الأسلوب الأوربي من أساليب الفتح، صار معروفًا عند الباحثين
والمستبصرين من أهل الشرق، ومعناه فتح البلاد بدون أن يخسر الفاتح شيئًا يُذْكَر
من الرجال والمال، فإن طريقه أن يضرب بعض البلاد ببعض، ويحدث فيها الفتن
ثم يدخل جيشه؛ بحجة إطفاء الفتنة وتأمين تجارته وحفظ رعيته في البلاد، ثم
يحكم بعضها ببعض كما ضرب بعضها ببعض، ولا يُعاب الفاتحون بهذا الضرب
من ضروب الفتح والاستعمار، بل يُحمدون بتخفيف الضرر والضرار، وإنما
تعاب الأمم التي تفتح بلادها بجهلها وتفرقها وما فيها من الخلل والضعف الذي مكن
الأجنبي من سلب استقلالها.
كانت روسية وإنجلترا تتنازعان النفوذ في فارس؛ لمجاورة الأولى لها من
جهة الشمال، والثانية من جهة الجنوب، كما تتنازعان النفوذ في البلاد العثمانية،
وقد اتفقتا بعد طول التنازع والعداء، ولكن أعقب اتفاقهما نهوض المملكتين
الإسلاميتين بالدستور: فأما العثمانية فإنها نهضت بجيش قوي منظم، فكان ذلك
مانعًا من التعرض لها بالقوة العسكرية والاحتلال الذي كان ينوي البدء به في
مكدونية، وأما الفارسية فمن سوء الحظ أنه ليس لها جيش قوي منظم، فبادرت
روسية إلى احتلال منطقة نفوذها، وهددتها إنجلترا باحتلال منطقة نفوذها أيضًا،
بادرتا بذلك صلاح حالها، وأخذها بأسباب القوة التي تحول بينهما وبينها.
لقد علم المستبصرون من الإيرانيين وغيرهم أن المراد بهذا الاحتلال
الامتلاك، فاضطربت له قلوب المسلمين في المملكة العثمانية والبلاد الهندية وبلاد
التتر الروسية ومصر وتونس، وزادهم ميلاً إلى الاتفاق والاتحاد، وظهر هذا
الاضطراب بأشد مظاهره في الآستانة وفي بعض بلاد الهند، ولم يظهر في مصر؛
لأن المشتغلين فيها بالسياسة شغلهم حليهم أو شغلوه أن يعار؟ ويتحامون الاتهام
بالميل إلى الجامعة الإسلامية.
يقال: إن الإيرانيين يفضلون أن يقاوموا محتلي بلادهم بالإعراض عن
تجارتهم، وقد أمرهم علماؤهم بذلك جهرًا، فإن لم يفد فبتأليف عصابات
كالعصابات المكدونية المؤلفة من البلغاريين واليونانيين؛ لمقاومة حكومتهم العثمانية
وإنهم يفضلون تخريب البلاد على سلب الأجانب لاستقلالهم. فأما غيرتهم وحميتهم
الملية وشجاعتهم الشخصية، فمما لا ينكر بعد ظهوره للعيان في مقاومة حكومتهم
الماضية المستبدة الملعونة، وأما آفتهم فوجود المنافقين من البابية والمتفرنجين
الذين فسد اعتقادهم بالوساوس الأجنبية، يوضعون خلالهم يبغونهم الفتنة وفيهم
سماعون لهم، وجهل العامة يمهد للمنافقين سبيل التضليل.
وعندي أن ما يصلح هذه البلاد في هذه الحال لا يدركه إلا الأفذاذ من
العقلاء العارفين بالسياسة العامة وبأحوال الأمة الروحية والاجتماعية، وإن العارف
لا يقدر أن ينفعها بمعرفته إلا إذا أقنع أصحاب الفنوذ فيها من العلماء والزعماء،
فهل يسهل تأليف جمعية من العارفين وأصحاب النفوذ؛ تقرر ما يجب أن يعمل
وتنفذه؟
* * *
(المشيخة الإسلامية والقضاء الشرعي في الدولة العلية)
خطاب من جماعة المسلمين العثمانيين إلى شيخ الإسلام ومجلس المبعوثين في
عاصمة الدولة، أيدها الله تعالى بهم وأيدهم بها:
إلى متى يكون حظ القضاء الشرعي دون حظ سائر مصالح الدولة من عنايتكم
وإلى متى تظل المحاكم الشرعية استبدادية؛ لا يقيد القضاة فيها بأحكام معنية
معروفة، يطالب بها الخصماء ووكلاء الدعاوى؛ كمجلة الأحكام العدلية، ولا
بأعضاء يُسْتَشَارُونَ في الأحكام كالمحاكم النظامية، ولا يرسل إليهم مفتشون يطلعون
على أحكامهم، ويتعرفون سيرتهم وأعمالهم في إدارة تلك المحاكم، ولا ينشأ لأجلهم
قلم مراقبة تحفظ فيه سيرتهم الرسمية، ولا مجلس تأديب يحاكمون فيه إذا جاروا
وظلموا، ألا إن هذا الإهمال لهذه المحاكم يفسد نظام البيوت التي تتألف منها الأمة،
ويضيع الأوقاف ويخرب المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، بل
يؤدي إلى الاشتباه في حقية الشريعة السمحة الحكيمة.
من أمثلة الخلل في هذه المحاكم الذي عرفناه بالرؤية والنظر والخير والخبر؛
أن عبد المجيد أفندي هاشم الجعفري كان عين نائبًا لمحكمة نابلس (بلده) ، فهاجت
سيرتُهُ الأهاليَ عليه على شرف بيته، ويقال: إن بعض الوجهاء أمر بضربه
فضرب، ولم يتحملوه إلى آخر مدته، ثم عين نائبًا لصيدا، فأحدث الفتن بين
الأهالي حتى هاجوا عليه وهموا به، فهرب إلى بيروت ليلاً، ثم عين في بلاد
الترك فكانت عاقبته النفي، وبعد الدستور عين نائبًا لطرابلس الشام، فهاجت
سيرته الناس عليه حتى هجم الألوف منهم على المحكمة الشرعية؛ لأجل الفتك به
كما رأينا في الجرائد السورية وقتئذ، وأرسلت الشكاوى البرقية عليه إلى المشيخة،
فأمرت بمحاكمته في بيروت، ولكن المحاكمة انتهت بالصلح رحمة من مفتي
بيروت به، ثم إن لجنة التنسيقات حكمت بأنه لا يجوز توليته في البلاد السورية
وعزلته المشيخة عزلاً.
بعد عزله ذهب إلى الآستانة، وطلب من المشيخة توليته القضاء، فسأله
مجلس الانتخاب عن السبب في الامتناع من ختم إعلام الحكم ببعض الدعاوى،
فأنكر الدعوى ألبتة، وزعم أنه لم ينظر فيها ولا رفعت إليه، فطلب شيخ الإسلام
حسني أفندي من خلفه في طرابلس الشام صورة ضبط تلك الدعوى مصدقًا عليها،
فأرسلت إلى المشيخة، فحاجه بها مجلس الانتخاب، فاعترف بالدعوى واعتذر عن
ختم الإعلام بكلام جمجم فيه ولم يبين، وفر من الآستانة يائسًا، ومجلس الانتخاب
يحفظ هذه عليه قولاً وكتابة.
بعد هذا كله كتب إلينا من يافا وغيرها أنه عين نائبًا لبنغازي، وأنه لا يقبلها
بل يرجو أن يرتقي إلى نيابة قضاء ولاية بيروت؛ لما ورثه من المال الكثير من
أخيه.
فنعيد الذكرى للمشيخة الإسلامية ولمجلس الأمة، ونكرر طلب إصلاح هذه
المحاكم، وعسى أن يوجد في مجلس المبعوثين من تحملهم الغيرة وحب الإصلاح
على الاستيضاح من شيخ الإسلام عن هذا النائب الباقعة أنه صح أنه تقلد القضاء في
عهده الآن.
* * *
(لجنة ترقية الوعظ الديني والخطابة في المساجد)
ألفت لجنة في الأزهر بهذا الاسم رئيسها الشيخ محمد شاكر وكيل المشيخة، ولما
بلغني خبرها وأنا في الآستانة سررت سرورًا عظيمًا، ثم بلغني أن عمل هذه اللجنة
محصورًا في اقتراح إنشاء خطب في بعض المسائل الدينية؛ كالحث على العبادات
والنهي عن المحرمات؛ لأجل أن تنشر في مجلة الملاجئ العباسية وتصل إلى
خطباء المساجد واطلعت على بعض تلك الخطب التي قبلتها اللجنة وأجازت منشئها،
فإذا هي ليست خيرًا من خطب خطيب جامع الست الشامية وخطيب جامع عزبان
ولا مثلها، نعم.. إنها أمثل من خطب خطيب جامع الحين ومن في طبقته من
العوام، وليس هذا هو الإصلاح الذي ننشده من زمن طويل، ولا العمل الذي
يحتاج إلى لجان، وإنما يكون الإصلاح بتعليم طائفة من طلاب الأزهر وغيرهم
الخطابة الدينية على نحو ما شرحناه في كتاب (الحكمة الشرعية) منذ 20 سنة؛
أي تعلمهم ليكونوا أصحاب ملكة يقتدرون بها على الخطابة ارتجالاً في جميع
مهمات الدين، وما يصلح به حال الناس في الدنيا.
* * *
(باب الانتقاد على المنار وصاحبه)
انتقد صاحب جريدة البريد التي تصدر في (ريو دي جانيرو) ما كتبناه في
خطاب علماء الإسلام؛ الذي نشرناه في جريدة الحضارة ونحن في الآستانة، وفي
المنار انتقد منه حثنا العلماء على الاستعانة بالمبعوثين؛ لأجل الوصول إلى حقوقهم
في التعليم والمناصب الشرعية، وعلى الاجتهاد في جعل المبعوثين في الانتخاب
الآتي منهم، وممن يرجى أن يساعدهم على خدمة ملتهم.
انتقد هذا؛ لأنه فهم منه أنني أريد جعل أكثر النواب من صنف العلماء الذي
يجهل أكثرهم حاجات الأمة، وإنني أريد أن يكون في المجلس نواب من غير
المسلمين، وجعل هذا منافيًا للدستور القاضي بالمساواة، قال: (وكأنه استكثر
وجود مسيحي واحد بين نواب العرب، فقام يدعو الأمة المسلمة إلى حرمان
المسيحيين قاطبة كرسيًا واحدًا في مجلس المبعوثين العثمانيين) .
(أساء سمعًا فأساء إجابةً) رويدك أيها الرصيف الكريم، إنني كنت أول
مساعد لانتخاب المسيحي العربي الذي تشير إليه، فقد كنت أيام الانتخاب في
بيروت، ورأيت جماعة من المسلمين أصحاب النفوذ يعارضون في انتخابه؛ لا
لأنه مسيحي بل لأنهم لا يعرفونهم معرفة تفيدهم الثقة به، فقلت لهم: إنني عرفته
بمصر وعاشرته وأثنيت عليه بما أقنعهم وحملهم على انتخابه ومساعدته.
إنني عندما كتبت ما كتبت في تلك المقالة، لم يخطر في بالي المسيحيون ولا
نوابهم، وإنما خطر في بالي وملأ قلبي عند الكتابة ما علمته من حيلولة بعض
الملاحدة من المسلمين الجغرافيين (أي الذين يعدون مسلمين في كتب الجغرافية)
دون خدمة رجال الدين الإسلامي لدينهم، وما علمت أحدًا من النصارى يعارضهم
ولا يقاومهم في ذلك، وأن المبعوثين من النصارى يدافعون عن امتياز طوائفهم
وكنائسهم، أفليس للمسلمين حقوق دينية في الدولة يجب أن يدافع عنها العلماء؟
وسأبين رأيي في المبعوثين من غير المسلمين، وأذكر ما أقنعت به المسلمين
وأزلت به شبهتهم على منافاة وجودهم في مجلس المبعوثين ومجلس الوكلاء؛ لكون
الحكومة إسلامية فقد ضاق عنه هذا الجزء.
__________
(1) بعد هذا رأينا في جريدة أخرى أن الكاتب ذكر أن نجدًا هدية كان أهداها مدحت باشا للدولة، وأن الشريف اعتدى على حقوق الدولة في إخضاعه ابن سعود لها! ! ! .(13/871)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
باب الانتقاد على المنار وصاحبه
انتقد صاحب جريدة البريد التي تصدر في (ريو دي جانيرو) ما كتبناه في
خطاب علماء الإسلام؛ الذي نشرناه في جريدة الحضارة ونحن في الآستانة، وفي
المنار انتقد منه حثنا العلماء على الاستعانة بالمبعوثين؛ لأجل الوصول إلى حقوقهم
في التعليم والمناصب الشرعية، وعلى الاجتهاد في جعل المبعوثين في الانتخاب
الآتي منهم، وممن يرجى أن يساعدهم على خدمة ملتهم.
انتقد هذا لأنه فهم منه أنني أريد جعل أكثر النواب من صنف العلماء الذي
يجهل أكثرهم حاجات الأمة، وإنني أريد أن يكون في المجلس نواب من غير
المسلمين، وجعل هذا منافيًا للدستور القاضي بالمساواة، قال: (وكأنه استكثر
وجود مسيحي واحد بين نواب العرب، فقام يدعو الأمة المسلمة إلى حرمان
المسيحيين علية كرسيًّا واحدًا في مجلس المبعوثين العثمانيين) .
(أساء سمعًا فأساء إجابة) رويدك أيها الرصيف الكريم، إنني كنت أول
مساعد لانتخاب المسيحي العربي الذي تشير إليه، فقد كنت أيام الانتخاب في
بيروت، ورأيت جماعة من المسلمين أصحاب النفوذ يعارضون في انتخابه؛ لا
لأنه مسيحي بل لأنهم لا يعرفونهم معرفة تفيدهم الثقة به، فقلت لهم: إنني عرفته
بمصر وعاشرته وأثنيت عليه بما أقنعهم وحملهم على انتخابه ومساعدته.
إنني عندما كتبت ما كتبت في تلك المقالة، لم يخطر في بالي المسيحيون ولا
نوابهم، وإنما خطر في بالي وملأ قلبي عند الكتابة ما علمته من حيلولة بعض
الملاحدة من المسلمين الجغرافيين (أي الذين يعدون مسلمين في كتب الجغرافية)
دون خدمة رجال الدين الإسلامي لدينهم، وما علمت أحدًا من النصارى يعارضهم
ولا يقاومهم في ذلك، وأن المبعوثين من النصارى يدافعون عن امتياز طوائفهم
وكنائسهم، أفليس للمسلمين حقوق دينية في الدولة يجب أن يدافع عنها العلماء؟
وسأبين رأيي في المبعوثين من غير المسلمين، وأذكر ما أقنعت به المسلمين وأزلت
به شبهتهم على منافاة وجودهم في مجلس المبعوثين ومجلس الوكلاء؛ لكون الحكومة
إسلامية فقد ضاق عنه هذا الجزء.
__________(13/880)
ذو الحجة - 1328هـ
يناير - 1911م(13/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
افتراق الأمة الإسلامية والفرقة الناجية
(س 55) من صاحب الإمضاء الرمزي في (شانكين - سومطرا) .
سلام الله عليكم , والرجاء من سيادتكم إيضاح ما أبهم، ولكم من الله الأجر؛
يزعم بعضهم أن افتراق الأمة إلى شيع أمر لازب، أخبر به النبي صلى الله عليه
وآله وسلم. في حديث (ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة)
رواه الطبراني.
وبناءً عليه، فلا مطمع في توحيد كلمتهم وإصلاحهم، بل لا يزالون مختلفين
وقد سألناهم عن الفرقة الناجية، فقالوا: هي المتبعة لمذاهب الأئمة الأربعة
المشهورة، فمن حاد عن أحد هذه المذاهب فهو ولا شك - بزعمهم - في الدنيا
من
المغبونين وفي الآخرة من المخذولين، (هذا ما تقوله حماة التقليد والأقرب أنه آخر
سهم في الكنانة) .
فما قولكم سيدي في الحديث، هل هو صحيح متواتر أم مطعون في الزيادة
الأخيرة؛ كما أشار إليها الأستاذ الحكيم السيد أبو بكر بن شهاب من أبيات نشرت في
الـ م7 ص 426 من المنار وهي:
وحديث تفترق النصارى واليهود ... وأمتي فرقًا روى الطبراني
لكن زيادة كلها في النار إلا ... فرقة لم تخل عن طعان
فتفضلوا علينا بالبيان الشافي المعهود من حضرتكم، لازلتم خير خلف لخير
سلف.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ح. م.
... ... ... ... ... ... ... ... ... في شاكين سمترا
(ج) أما افتراق الأمة الإسلامية فهو واقع بالفعل، ولكن لا يوجد دليل من
القرآن ولا من الحديث؛ يدل على اليأس من اتفاقهم في الأمور العامة والإخوة
الإسلامية والتعاون على مقاومة من يعاديهم كلهم، وعلى ما ينفعهم كلهم، وإن ظلوا
مختلفين في كثير من المسائل؛ بأن يكونوا في اختلافهم على هدي السلف الصالح
في عذر بعضهم لبعض واتقاء التكفير والعدوان.
وأما الحديث الوارد في الافتراق، فقد رواه غير واحد من الحفاظ منهم أحمد
وأبو داود والترمذي، وهو في الجامع الصغير بلفظ (افترقت اليهود على إحدى
وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين، وتفترق أمتي على ثلاث
وسبعين) رواه أحمد عن أبي هريرة. أقول: ورواه الترمذي عنه بلفظ (تفرقت) ،
ثم قال: في الباب عن سعيد وعبد الله بن عمرو وعوف بن مالك حديث حسن
صحيح، حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود الجفري عن سفيان عن عبد
الرحمن بن زياد الأفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمر قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل
حذو النعل بالنعل؛ إلى أن قال (صلى الله عليه وسلم) وإن بني إسرائيل تفرقت على
اثنتين وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟
قال: (ما أنا عليه وأصحابي) هذا حديث حسن غريب، مفسر لا نعرفه مثل هذا
إلا من هذا الوجه , اهـ كلام الترمذي.
فهذه الرواية التي تعين الفرقة الناجية بشيء من القوة في إسنادها عبد الرحمن
ابن زياد الإفريقي راويها؛ وهو قاضي إفريقية، قال فيه الإمام أحمد: ليس بشيء
نحن لا نروي عنه شيئًا، وقال النسائي ضعيف في الثقات، ولما نقل الذهبي
عنه هذا القول قرنه بقوله: (فأسرف) ، وروي بأسانيد أضعف من هذه وأوهى،
فالرواية إذًا لم تخل من طعن فيها.
ورواه الحاكم في صحيحه، وما انفرد الحاكم بتصحيحه لا يسلم من مقال أيضًا،
ولكن قال في المقاصد: إن الحديث حسن صحيح يعني: بزيادة كلهم في النار إلا
فرقة واحدة.
ورُوي بلفظ كلهم في الجنة إلا فرقة واحدة، فسئل عنها فقال: الزنادقة
والقدرية، رواه العقيلي والدارقطني، وهو موضوع وضعه ابن الأشرس. وفي
شرح عقيدة السفاريني ما نصه: ذكر أبوحامد الغزالي في كتاب التفرقة بين
الإسلام والزندقة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (ستفترق أمتي نَيِّفٌ
وسبعين فرقة، كلهم في الجنة إلا الزنادقة وهي فرقة) هذا لفظ الحديث في بعض
الروايات، قال: وظاهر الحديث يدل على أنه أراد الزنادقة من أمته؛ إذ قال:
(ستفترق أمتي) ، ومن لم يعترف بنبوته فليس من أمته، والذين ينكرون المعاد
والصانع فليسوا معترفين بنبوته؛ إذ يزعمون أن الموت عدم محض، وأن
العالم كذلك لم يزل موجودًا بنفسه من غير صانع، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم
الآخر، وينسبون الأنبياء إلى التلبيس، فلا يمكن نسبتهم إلى الأمة , انتهى.
(قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الإسكندرية: أما هذا الحديث فلا أصل له
بل هو موضوع كذب باتفاق أهل الحديث المعروفين بهذا اللفظ بل الذي في كتب
السنن والمسانيد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) من وجوه أنه قال: (ستتفرق
أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار) وروي
عنه أنه قال: (هي الجماعة) ، وفي حديث آخر: (هي من كان على مثل ما أنا
اليوم عليه وأصحابي) وضعفه ابن حزم، لكن رواه الحاكم في صحيحه، وقد رواه
أبو داود والترمذي وغيرهم، قال: وأيضًا لفظ الزندقة لا يوجد في كلام النبي صلى
الله عليه وسلم كما لا يوجد في القرآن، وأما الزنديق الذي تكلم الفقهاء في توبته
قبولاً وردًّا؛ فالمراد به عندهم المنافق الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر) اهـ.
(قلت) : وقد ذكر الحديث الذي ذكره الغزالي الحافظ ابن الجوزي في
الموضوعات، وذكر أنه رُوِيَ من حديث أنس ولفظه (تفترق أمتي على سبعين أو
إحدى وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلا فرقة واحدة) قالوا: يا رسول الله من هم؟
قال: (الزنادقة وهم القدرية) أخرجه العقيلي وابن عدي ورواه الطبراني أيضًا
قال أنس: كنا نراهم القدرية، قال ابن الجوزي: وضعه برد بن أشرس، وكان
واضعًا كذابًا، وأخذه عنه ياسين الزيات فقلب إسناده وخلطه، وسرقه عثمان بن
عفان القرشي وهؤلاء كذابون متروكون.
(وأما الحديث الذي أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أن أمته ستفترق إلى
ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار، فروي من حديث
أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي الدرداء
ومعاوية وابن عباس وجابر وأبي أمامة وواثلة وعوف بن مالك وعمرو بن
عوف المزني، فكل هؤلاء قالوا: واحدة في الجنة وهي الجماعة، ولفظ حديث
معاوية ما تقدم، فهو الذي ينبغي أن يعول عليه دون الحديث المكذوب على النبي
صلى الله عليه وسلم، والله أعلم) اهـ أورده السفاريني.
أقول: حديث معاوية الذي أشار إليه، رواه عنه أحمد والطبراني والحاكم بلفظ
(إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة سنفترق
على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة) ، وفيه زيادة عزاها
السفاريني إلى أبي داود فقط، وهي: (وإنه ستخرج في أمتي أقوام، تتجارى بهم
الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه، فلا يبقى منهم عرق ولا مفصل إلا دخله)
وهذا أمثل ما رواه الحاكم من ألفاظ هذه الحديث، وسنده لا يسلم من مقال، ورواه
بغير هذا اللفظ عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده، وكثير
هذا طعنوا فيه حتى قال الشافعي وأبو داود: إنه ركن من أركان الكذب، وقال ابن
حبان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة، وذكر الذهبي أن العلماء لا يعتمدون
على تصحيح الترمذي؛ لأنه روى عنه حديث (الصلح جائز بين المسلمين)
وصححه.
وجملة القول أن تعدد طرق الحديث، يقوي بعضها بعضًا على طريقتهم
المتبعة في ذلك، وأظن أنه لا تسلم رواية منها عن طعان أو مقال، كما قال ابن
شهاب خلافًا لمن اعتمد تصحيح الحاكم لبعضها، وكلها مشكلة مخالفة للأحاديث
الصحيحة كما يأتي.
وأما معنى الحديث بصرف النظر عن سنده؛ فهو أن الفرقة الناجية هي الفرقة
التي تتبع السنة التي كان عليها النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه؛ أي سنة
السلف الصالح قبل ظهور البدع، وهؤلاء هم الجماعة قلوا أم كثروا، وهم لا
ينحصرون في هذا الزمان بأهل مذهب معين من المذاهب المعروفة، على أن أهل
الأثر والحنابلة أقرب من غيرهم إلى السنة وأبعد عن البدعة، وذلك أن المسائل التي
اختلف فيها أهل المذاهب، لا ينحصر الحق فيها في مذهب دون غيره، فتارة يكون
الصواب مع الأشعرية وتارة مع الماتريدية فيما يختلفان فيه، وقل مثل هذا في
خلاف المعتزلة والشيعة وغيرهم، وفي الفروع وسائر المذاهب، ثم إن المنتمين
إلى هذه المذاهب ليسوا متبعين لائمتها حق الاتباع، فيكون أتباع المصيب هم الفرقة
الناجية، فالظاهر أن الناجين في كل زمان هم أهل الاتباع الذين يتقون الابتداع،
ولا يخلو المنتسبون إلى مذهب من المذاهب المعتد بها في الإسلام عن طائفة أو
أفراد منهم يؤثرون السنة على كل بدعة، ومجموعهم طائفة واحدة بجمعهم الاعتصام
بالكتاب والسنة {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: 13-14) .
وقد عد بعضهم هذا الحديث مشكلاً، وتوسع الشيخ صالح المقبلي في بيان هذا
الإشكال، وحله في كتابه العلم الشامخ، وإننا نلخص منه ما يأتي:
قال: (والإشكال في قوله كلها في النار إلا ملة، فمن المعلوم أنهم خير الأمم
وأن المرجو أن يكونوا نصف أهل الجنة، مع أنهم في سائر الأمم كالشعرة البيضاء
في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض حسبما صرحت به
الأحاديث، فكيف يتمشى هذا؟ فبعض الناس تكلم في ضعف هذه الجملة، وقال:
هي زيادة غير ثابتة، وبعضهم تأول الكلام بأن الفرقة الناجية صالحوا كل فرقة،
وهو كلام منتقض؛ لأن الصلاح إن رجع إلى محل الافتراق، فهم فرقة واحدة لا
أفراد من الفرق، وإن رجع إلى غير ذلك فلا دخل له؛ لأن الكلام أنهم في النار
لأجل الافتراق، وما صاروا به فرقًا) .
(ثم إن الناس صنفوا في هذا المطلب، وأخذوا في تعداد الفرق؛ ليبلغوا بها
إلى ثلاث وسبعين، ثم يحكم كل منهم لنفسه ومن وافقه بأنه الفرقة الناجية، وإنما
يصنعون ذلك لإدعاء كل منهم أنه على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وأصحابه، ثم صرح به صلى الله عليه وسلم ثم اتفق عليه جميع الفرق الإسلامية،
إنما ينحصر النظر فيمن الباقي على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وأصحابه، ومن المعلوم أن ليس المراد أن لا يقع منها أدنى اختلاف، فإن ذلك قد
كان في فضلاء الصحابة، إنما الكلام في مخالفة تُصَيِّر صاحبها فرقة مستقلة
ابتدعها) .
(وإذا حققت ذلك، فهذه البدع الواقعة في مهمات المسائل، وفيما يترتب
عليه عظائم المفاسد لا تكاد تنحصر، ولكنها لم تخص معينًا من هذه الفرق التي قد
تحزبت، والتأم بعضهم إلى قوم وخالف آخرون بحسب مسائل عديدة، حتى أدخلوا
نوادر المسائل وما لا ضرر في مخالفته، فربما لم يكن من مهمات الدين أو لم يكن
من الدين في شيء، ولكن كل تسمى باسم مدح اخترعه لنفسه، وصاروا يجعلون
المسائل شعارًا لهم من دون نظر في مكانة تلك المسألة في الدين، والخوارج
يسمون نفوسهم الشراة، والأشاعرة يسمون نفوسهم أهل السنة، والمعتزلة يسمون
نفوسهم العدلية أو أهل العدل والتوحيد؛ لأن خصمهم يثبت الصفات أمورًا مستقلة
فليسوا بموحدين أو لأنهم مشبهة إما صريحًا أو إلزامًا، ونحو ذلك مما تخبرك به
كتب المقالات والكلام، والإنصاف أن كلاًّ منهم قد اخترع ما لم يكن في زمن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة رضي الله عنهم، واختلفت البدع فمن كبير
وأكبر وصغير وأصغر، وما بينهما أعنى الكبر والصغر اللغويين لا الاصلاحيين،
فذلك مما لا سبيل إليه إلا بالتوقيف، والمفروض أن هذه أشياء مخترعة، فكيف
التوقيف على ما لم يذكر بنفي ولا إثبات إنما غايته أن يكون دخل في عموم نهي أو
نحو ذلك، فتعين الفرق، وتعدادها فرقة فرقة، وأنها هي التي أراد رسول الله صلى
الله عليه وسلم مما لا سبيل إليه ألبتة، إنما تكلموا فيها خبطًا وجزافًا، سهل لهم ذلك
وجرأهم عليه البدعة الأولى التي خالفوا بها السنة.
(فإن قلت: ومن ذا الذي بقى على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وأصحابه، ولم يشارك الناس في تحزبهم وابتداعهم، قلت: أما في العصور
المتقدمة فكان ذلك هو الغالب، ومازالوا من عام إلى عام يرذلون، وأما الآن في
زمن الغربة، فأما مَنْ يُرْجَع إليه في مسائل الدين وهم المتفقهة ففي غاية القلة،
وبذلك تصدق الغربة؛ لأن العلماء هم المعتد بهم، وبهم يصير الدين غريبًا أهيلاً
على أنهم قد قلوا في أنفسهم، لا تكاد تجد اليوم مدعيًا عنده بينة، وأما الأعصار
المتوسطة من المئتين إلى سبع مئة تقريبًا، ففيها ثورة العلماء وجلة الجهابذة الحكماء
وما شئت أن تأخذ منهم من خير وشر وجدته؛ أما الخير فبتحقيق فنون العلم وبثها،
وأما الشر فبتأييد الفرقة) .
ثم إنه قسم الناس إلى عامة وخاصة، وقال: إن العامة ومنهم النساء والعبيد
براء من البدعة، ولا يسمون أهل السنة أيضًا بل يسمون مسلمين.
قال: (وأما الخاصة فمنهم مبتدع اخترع البدعة وجعلها نصب عينيه، وبلغ
في تقويتها كل مبلغ، وجعلها أصلاً يرد إليه صرائح الكتاب والسنة، ثم تبعه أقوام
من نمطه في الفقه والتعصب، وربما جددوا بدعته وفرعوا عليها، وحملوه ما لم
يتحمله، ولكنه إمامهم المقدم، وهؤلاء هم المبتدعة حقًا، لكن تختلف تلك البدعة في
كونها ذات مكانة في الدين أم لا) .
ثم ذكر أن من الناس من تبع هؤلاء وناصرهم وقوى سوادهم بالتدريس
والتصنيف، ولكنه عند نفسه راجع إلى الحق، وقد دس في تلك الأبحاث نقوضها
لكن على وجه خفي الغرض، ومنهم من تدرب على كلام الناس، وعرف أوائل
الأبحاث، وحفظ كثيرًا من غثاء ما حصلوه، ولكن أرواح البحث بينه وبينها حائل
لقصور الهمة والرضا من الأوائل، قال: (وهؤلاء هو الأكثرون عددًا والأرذلون
قدرًا؛ فإنهم لم يحظوا بخصيصة الخاصة ولا أدركوا سلامة العامة) ، وقال: إن
هؤلاء لهم حكم الابتداع، والذين قبلهم ظاهرهم الابتداع، ورأيه أن تعامل هذه
الأقسام الثلاثة معاملة المبتدعة، وحسابهم على الله تعالى.
قال: (ومن الخاصة قسم رابع ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، أقبلوا
على الكتاب والسنة، وساروا بسيرهما وسكتوا عما سكتا عنه، وأقدموا وأحجموا
بهما، وتركوا تكلف ما لا يعنيهم، وكان تهمهم السلامة، وحياة السنة آثر عندهم من
حياة نفوسهم، وقرة عين أحدهم تلاوة كتاب الله تعالى وفهم معانيه على السليقة
العربية والتفسيرات المروية، ومعرفة ثبوت حديث نبوي لفظًا وحكمًا، فهؤلاء هم
السنية حقًا وهم الفرقة الناجية وإليهم العامة بأسرهم، ومن يشاء ربك من أقسام
الخاصة الثلاثة المذكورين بحسب علمه بقدر بدعتهم ونياتهم) .
ثم بين أن هذا هو المخرج من الإشكال ومناقضة هذا الحديث لأحاديث فضائل
الأمة المرحومة، واحتج لذلك بحديث حذيفة في الصحيحين وسنن أبي داود، قال:
كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر؛
مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بك
بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم) ، قلت: فهل بعد ذلك الشر
من خير؟ قال: (نعم وفيه دخن) ، قلت: وما دخنه؟ قال: (قوم يستنون بغير
سنتي ويهتدون بغير هدي تعرف منهم وتنكر) قلت: فهل بعد هذا الخير من شر؟
قال: (نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) قلت: يا رسول الله،
فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: وإن لم
يكن جماعة ولا إمام، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة
حتى يدركك الموت وأنت على ذلك) ثم شرح المصنف هذا الحديث، وطبقه على
أحوال المسلمين إلى عصره في القرن الحادي عشر، وأكبر العبارة فيه الأمر
باعتزال جميع فرق المسلمين، إذا لم تكن كلمتهم مجتمعة على الإمام الحق الذي يقيم
الدين وينشر دعوته في العالمين.
الإسلام دين التوحيد، وما أمر المسلمون إلا ليبعدوا إلهًا واحدًا، ويتبعوا دينًا
واحدًا، ويقيموا لهم إمامًا واحدًا، ويكونوا أمة واحدة لا يفرقهم نسب ولا لغة ولا
وطن، وقد نهوا عن التفرق كما نهوا عن الكفر، ولكن ظهر الإسلام في الأميين،
فلم تكد الأمم والشعوب تتبين بعض معارفه، حتى دخلوا فيه أفواجًا من غير دعوة
منتظمة ولا مدارس مشيدة؛ لأنهم فصلوا بعض ما عرفوا منه على كل ما كانوا
يعرفون من أديانهم، فكان هذا الإقبال السريع على الدخول فيه من أسباب تفرق
أهله شيعًا ومذاهب ودولاً وأممًا {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) ،
تنصر أحزاب السياسة أحزاب الدين وأحزاب الدين أحزاب السياسة على حزب
التوحيد، وتفريق الموحدين حتى جنوا على التوحيد نفسه؛ توحيد الألوهية بالتوجه
إلى غير الله ودعاء سواه، وتوحيد الربوبية بشرع ما لم يأذن به الله، وحتى سلط
الله تعالى على جميع هذه الأحزاب أعداء، خَضَّدُوا شوكتها وزلزلوا دولتها،
فضعف الغرور بها، وعلى قدر ضعفهم وضعفها صار بعض المسلمين يشعرون
بحاجتهم إلى الاتحاد بسائر إخوانهم، وكان أول من دعاهم في هذا العصر إلى
وجوب التعارف والاتحاد المصلح الحكيم الشهير السيد جمال الدين الأفغاني - رحمه
الله تعالى ورضي عنه - وقد صار المقتنعون بوجوب ذلك كثيرون.
إن تفرق المسلمين في السياسة والدولة، قد خَرَجَ أَمْرُ تَلاَفِيه مِنْ أيدي
المسلمين؛ لأنهم صاروا كلهم عالة على دول أوربا القوية، حتى إن أقوى دولهم
تعيش بمال أوربا، ويعمل فيها بنفوذ أوربا مالا يستطيع أحد أن يمنعه، فلا نبحث
في هذا؛ فإن له أجلاً لا بد أن يبلغه، وإنما نستفيد من حوادث الزمان في ضغط
أوربا ما نستعين به على تلافي ضرر التفرق في المذهب والجنس واللغة، فقد رأينا
ميل الفرس وإحساسهم بإخوة سائر المسلمين قد قوي بعد احتلال روسية لبعض
بلادهم وتهديد إنكلترة إياهم باحتلال البعض الآخر.
أما التفرق في المذاهب؛ فقد ضعف بقلة المذاهب وجهل المنتسبين إليها بها
وقلة انتفاعهم بعصبيتها، وتوجه كثيرون منهم إلى علوم وآداب أخرى غريبة عنها
فلم يبق أمامنا فرق كبيرة يذكرون بلقب مذهبي إلا الإمامية الزيدية من الشيعة،
والإباضية من فرق الخوارج، والوهابية من فرق أهل السنة وكانوا يسمون الحنابلة
ومعظم النزاع بينهم وبين الأشعرية، وقد تلاشى لقب أشعري وماتريدي من غير
الكتب، وأما الخلاف في الفروع فألقاب المذاهب فيه محفوظة، ولا يعرف الجماهير
من المذاهب التي ينتسبون إليها إلا قليلاً من المسائل التي يخالفون فيها غيرهم؛
كقنوت الشافعية في الصبح وسدل المالكية أيديهم في الصلاة، وقد بقي لكل مذهب
في الأصول والفروع طائفة من المنقطعين إلى تعلمها وتعليمها يتعصبون لها؛ لأنها
مورد معيشتهم ومصدر جاههم، فهم الآن دعاة التفريق وأنصاره، ولكن حوادث
الزمان ستمحق هؤلاء بإظهار دواعي الألفة والوحدة ومضرات التفرق، فيكون
المؤمنون إخوة متحابين، لا يمنعهم من ذلك الاختلاف في بعض المسائل الدينية،
بل يكون كالخلاف في المسائل العلمية والعادية.
وأما التفرق باختلاف اللغة والجنس والوطن فله في العصر دعاة من
المتفرنجين؛ هم أشد آفة وفتنة من دعاة التفرق بالمذاهب؛ لأنهم يتغلبون على
المناصب وأعمال الحكومة ومصالحها؛ بميل الحكومات إلى تقليد الإفرنج في كل
شيء، حتى صار في مسلمي مصر من يفتخر بالفراعنة وإن كان فيهم من لعنة الله،
وكلهم في الوثنية واستعباد البشر سواء، ومن الفُرْس من يفتخر بسلفه من
المجوس، بل ترى بعض الشعوب التي لا يعرف لها سلف مدني له آثار في العلوم
والفنون قبل الإسلام أشد عصبية للصنف واللغة من الشعوب التي لها سلف في ذلك،
فيجب على علماء الإسلام الأعلام أن يتحدوا ويتعاونوا في جميع البلاد الإسلامية؛
لكبح شر هؤلاء، وتحقيق الوحدة الإسلامية التي جعلت المسلمين كلهم إخوة، حتى
تسنى بها لعتيق حبشي أسود أن يعتقل أميرًا قرشيًا فاتحًا بعمامته في مكان سلطانه
وسؤدده أمام الناس، ويقوده بها إلى المحاسبة على ما أنفق من مال الأمة، ذلك
العتيق الحبشي هو بلال رضي الله عنه، وذلك الأمير هو سيد بني مخزوم سيف الله
ورسوله خالد بن الوليد رضي الله عنه.
إن الوحدة الإسلامية الدينية الأدبية التي ينشدها المصلحون تتوقف على تعميم
لغة الإسلام بين شعوب جميع الشعوب الإسلامية؛ إذ لا تآلف بغير تعارف، ولا
تعارف بغير تفاهم، ولا يسهل التفاهم بين المسلمين إلا بلغة دينهم المشتركة بينهم،
وهي العربية التي لم تعد خاصة بالعنصر العربي بالنسب، كما أن الإسلام ليس
خاصًّا به، وعلى تعارف علماء المسلمين وتعاونهم بالجمعيات العلمية الأدبية
والجرائد على توحيد طريقة التعليم الديني والاجتماعي، وقد أنشأوا يشعرون بهذه
الحاجة لحياتهم، وسيكون العمل قريبًا إن شاء الله تعالى.
__________(13/881)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
القرآن في الفونغراف
(س 56) من صاحب الإمضاء في روسية
أرجو يا حضرة الأستاذ أن تفيدنا عن السؤال الآتي:
قد انفتح البحث بطرفنا في جواز استعمال القرآن في صندوق الفونوغراف
الذي حدث في هذا الزمان، وهل يعد قرآنًا؟ وهل إذا كان قرآنًا يجوز استعمال
الصندوق للقراءة، ويجوز سماعها منه؟
وعندنا في هذه المسألة فريقان يختصمان: فريق يحرمونه بالكلية، ويقولون:
إنه استعمال للقراءة في محل اللهو واللعب، وإن الصندوق لا يستعمل للعبادة،
وفريق يجوزونه والمحسوب من جملتهم؛ لأن أهل بلاد القزان محتاجون لإصلاح
قراءة القرآن الكريم بالأنغام العربية، ولا يتيسر لكل أحد منهم أن يذهب إلى مصر
أو الحجاز، حتى يتلقى من أفواه المشايخ، وإن قلنا بجواز استعماله كنا نتعلم ونأخذ
ما في الصندوق من الأنغام العربية المطربة والأصوات المدهشة، وكنا كأبي سلامة
الحجازي وغيره من القراء.
ولا شك أن استعماله بهذا القصد؛ يكون عبادة أفيدونا ولكم الأجر والثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... أبوأديب حافظ حلمي
(ج) إذا كانت علة تحريم استعمال هذا الصندوق في القراءة؛ هي أنه
استعمال له في محل اللهو؛ فالتحريم غير ذاتي عندهم، ولا هو تحريم لإيداع
القرآن في ألواح هذه الآلة أو أسطواناتها ولا لإداراتها؛ لأجل أدائها للتلاوة، وإنما
تحريم لأجل هذا الأداء في محل اللهو واللعب الذي ينافي احترام القرآن، وإذا كان
الحكم يدور مع العلة، فيمكن أن يقال: بانتفاء الحرمة عند انتفاء تلك العلة والسماع
من الصندوق؛ لأجل العظة أو ضبط القراءة أو غير ذلك من المقاصد الصحيحة،
فإن قيل: إنه ينبغي القول بِاطِّرَاد الحرمة؛ لأجل سد ذريعة إهانة القرآن يمكن أن
يجاب بمنع كون هذه الإهانة محققة أو غالبة في استعمال المسلمين لهذه الآلة في
التلاوة، وعلى تقدير التسليم يقال: إن ما حُرِّمَ لسد الذريعة يباح للحاجة كإباحة رؤية
المرأة الأجنبية عند القائلين بتحريم رؤية وجهها؛ لسد ذريعة الفتنة إذا احتيج إلى
ذلك؛ لأجل توكيل أو شهادة، وجواز رؤية الطبيب لأي جزء من بدنها المحرم
إبداؤه بالإجماع لأجل المداواة، فالصواب أن استعمال هذه الآلة في التلاوة لا يحرم
إلا إذا كان فيه إخلال بالأدب الواجب في الاستعمال والسماع، والعمدة في ذلك النية
والعرف، وقد يكون مستحيًا إذا كان فيه عظة أو ضبط للقراءة، وربما كان واجبًا
كأن يتوقف عليه ضبط وحفظ ما تجب تلاوته في الصلاة كالفاتحة، وقد انتقدنا على
السائل تعبيره عن الأداء الصحيح والتجويد لتلاوة القرآن بلفظ الأنغام المطربة؛
فالتطريب الذي يكون من بعض القراء بمصر محظور؛ لأنه ينافي الخشوع، وإذا
كان يعني بأبي سلامة الحجازي الشيخ سلامة حجازي المصري المشهور، فليعلم أنه
ليس من القراء ولكنه من المطربين. والحاصل أن الإقدام على التحريم ليس بالأمر
السهل؛ لأنه تشريع جديد بخلاف القول بالحل؛ فإنه الأصل في الأشياء، والنيات
في القلوب، والعرف العام ليس مما يخفى فيختلف فيه الناس، ولا أنكر أن في
مصر من لا يراعي الأدب الواجب في هذا الاستعمال فالحذر الحذر.
__________(13/906)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مشروع إحياء الآداب العربية
تقاومه جريدة قبطية [*]
عزمت الحكومة المصرية على طبع بعض الآثار العربية من المصنفات النافعة
النادرة بالمال الخاص بدار الكتب المصرية (الكتابخانة الخديوية) ، وكان لديها في
الميزانية ألف جنيه؛ لتنشيط الآداب العربية، فقررت إضافته إلى المحبوس على
دار الكتب والاستعانة به على طبع تلك الآثار.
عَزْم شَرِيفٌ على عمل صالح يحمده كل أديب عربي، ولا ينتقده عاقل
أعجمي؛ لأن هذه الحكومة عربية والأمة الذي تحكمها عربية، وهي حكومة غنية
تعد الألف الجنيه قليلة منها على مثل هذا العمل التي تنفق حكومات أوربة وشعوبها
في سبيله ألوفًا كثيرة من الجنيهات، حتى صارت دور الكتب في بلادهم كباريس
ولندن وليدن وبرلين أغنى من دار الكتب المصرية بمصنفات سلفنا العرب من
المصريين وغيرهم، وصاروا يطبعون من نفائسها ما نضطر إلى ابتياعه منهم بل
صرنا نرسل أولادنا ليتعلموا الآداب العربية في أوربا وهذا عار علينا عظيم.
لم تكن العناية ببذل المال على جمع الكتب العربية ونشرها قاصرًا على
الحكومات ورجال العلم من الأوروبيين، بل رأينا بعض الجمعيات الدينية النصرانية
تفعل ذلك كجمعية اليسوعيين، فقد رأينا مكتبتها في بيروت جامعة لنفائس الكتب
العربية التي يعز نظيرها في مكتبتنا المصرية، وقد طبعت لنا كثيرًا من هذه
النفائس.
لا ريب في أن العمل الذي شرعت فيه الحكومة المصرية العربية جليل، ولا
ريب في أن المال الذي خصصته له في هذه العام من ميزانيتها قليل، فهي تتفق
أكثر منه في ضيافة أحد ضيوف الأمير يومًا واحدًا، وتتفق أكثر منه في مساعدة
التمثيل الإفرنجي الذي يرى جمهور الأمة أن إثمه أكبر من نفعه، وتتفق أكثر منه
في البحث عن أسماك النيل والوقوف على أنواعها، وهو عمل قلما يوجد مصري
ينتفع به، وإنما يُعَدُّ مثله من كماليات فروع العلوم في أوربا، وأين نحن من مبادئ
أصول هذا الفرع الآن.
على هذا كله حمد العقلاء والأدباء مشروع الحكومة الجديد، وهم يرجون منها
المزيد، ولم يكن يخطر في البال أن يلقى هذا المشروع اعتراضًا، ولا أن يصادف
امتعاضًا، حتى سمعنا نعاب صاحب جريدة الوطن القبطية يدعو بالويل والثبور،
وينعي على الحكومة المصرية عملها، ويندب الشعب المصري مدعيًا أن الحكومة
تريد بهذا العمل إفساد آدابه ومنعه من العلوم والمعارف والآداب الصحيحة التي
ترقيه وتجعله من الشعوب العزيزة الراقية، وزجه في ظلمات (الخرافات
والسفاهات والسخافات والجهالات العربية) وزعم الكاتب أنه لا يوجد في الكتب
العربية غير تلك المضار التي استفرغ كل ما في جوفه، وجعله وصفًا لها وكل إناء
ينضح بما فيه.
رأيت في بعض الجرائد بعض عبارات جريدة الوطن البذيئة في هذه المسألة
وأطلعني بعض الناس على عدد منها، رأيت الكاتب فيه لم يكتف بتحقير جميع
العرب، والقدح في كل ما كتبوا وصنفوا، حتى صرح بذم دينهم في ضمن ذلك،
فقال في سياقه البذئ: (وهل أصبح كل ما في مصر آداب العرب وتاريخ العرب
وحضارة العرب ودين العرب وكتب العرب وخرافات العرب وغلاطات العرب،
وحرم علينا أن نلم بالمفيد، وأن ينفق مالنا فيما يرقي الآداب والمعيشة، ويرفعنا من
هذا الحضيض القذر إلى مقام الذين تطهروا من سخفافات الأجداد) .. إلخ.
يعني الكاتب بدين العرب دين الإسلام، وهو يريد أن يمحى الإسلام ولغته
وآدابهما في مصر وتحل محلها القبطية، وهذا هو السبب الذي جعل مشروع طبع
الكتب العربية ينقض عليه انقضاض الصاعقة، كما قال في مقالة يوم السبت 8 ذي
الحجة، التي نقلنا هذه الجملة منها آنفًا، وهي أهون ما كتب وأقله بذاء، وما هو
بالمصاب الكبير في نفسه الذي يصعق له الناس، فيصرعون فيقومون كما يقوم الذي
يتخبطه الشيطان من المس لا يدرون ماذا يقولون.
صاحب الوطن جاهل بلغة العرب وآداب العرب وحضارة العرب، وتاريخ
العرب ودين العرب لا يعرف من ذلك ما يجيز له الحكم في نفعها وضررها , لكن
الجهل وحده لا يستطيع أن يهبط بصاحبه إلى الدرك الأسفل الذي وقع فيه صاحب
الوطن ومن عاونه على تلك الكتابة، وإنما ذلك الغلو في التعصب الديني وبغضه
لمسلمي وطنه جعله يصعق من كل شيء يستفيدون منه في دينهم، وإن كان
نافعًا للبلاد المصرية.
لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها في هذه المسألة بإعلامه أن
اللغة العربية ليست خاصة بالمسلمين، وإنما هي مشتركة بينهم وبين غيرهم في
نفس جزيرة العرب لا في مصر وحدها، وقد كانت لغة لليهود والنصارى فيها قبل
ظهور الإسلام، وقد صارت بعده اللغة الطبيعية لجميع العراقيين والسوريين
والمصريين وسائر القسم الشمالي من أفريقية، وأنه ليس في استطاعة صاحب
جريدة الوطن وصاحب جريدة مصر القبطيتين، ومن على رأيهما من المتعصبين
نسخها واستبدل القبطية بها، وإذا كان الأمر كذلك وكان من البديهيات أن ارتقاء أمة
بدون ارتقاء لغتها وآداب لغتها من المحال، وكان يجب ارتقاء المصريين عامة في
العلوم والفنون والمدنية كما يدعي، فالواجب عليه أن يشكر للحكومة عملها في خدمة
آداب لغتها ولغة أمتها لا أن يصعق عند علمه بذلك.
لو كانت علته هي الجهل وحده؛ لأمكن مداواتها بإعلامه بما قال منصفو
علماء الإفرنج في بيان فضل لغة العرب وآدابهم وحضارتهم كغوستاف لوبون
صاحب كتاب مدنية العرب، وسديو صاحب تاريخ العرب، ودرابر وغيرهم،
وقد سئل أحد علماء الإنكليز إذا أراد البشر أن يوحدوا لغتهم، فأي اللغات تختار أن
تكون لغة جميع البشر؟ قال اللغة العربية. وقد قال لي مرة مستر: (متشل أنس)
الإنكليزي الذي كان وكيلا لنظارة المالية: ما أظن أنه يوجد في العربية شعر أرق
كالشعر الإنكليزي، فقلت: وأنا أظن العكس ولا عبرة برأي ولا برأيك في ذلك،
فيجب أن نرجع إلى بالعارف باللغتين، صاحب الذوق في الشعرين، ثم لقيت مستر
(بلنت) الكاتب الشاعر الإنكليزي المشهور، والذي نظم المعلقات السبع العربية
بالإنكليزية، فذكرت له ذلك فقال: قل (لمتشل أنس) : إن العرب كانوا ينطقون
بالحكمة في شعرهم عندما كان الإنكليز مثل الوحوش يطوفون في الغابة عراة
الأجسام.
لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإعلامه أن الأمم الحية تبحث
عن الكتب القديمة في لغتها وكذا في لغة غيرها؛ لأجل الوقوف على سير العلوم
والفنون والآداب فيها توسعًا في التاريخ وتحقيقًا لمسائله، ولا سيما إذا كانت كتب
تلك اللغات من حلقات سلسلة المدنية والحضارة كاللغة العربية التي هي الحلقة
الموصلة بين المدنية الأوربية الحاضرة، والمدنيات القديمة بإجماع العارفين.
لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإعلامه بما في الكتب العربية من
الآداب والفضائل ولو بالإجمال، وبوجه حاجة الأمة التي تسير في طريق الارتقاء من
معرفة تاريخ لغتها وآثار سلفها فيه، وبأن تكونها من شعوب كثيرة لها سلف آخرون
في النسب والدين أو المدنية، لا ينافي حاجتها إلى إحياء آثار سلفها في اللغة؛ لأن
رابطة اللغة هي التي تربط هذه الشعوب بعضهم ببعض، وتجعل ارتقاءهم بها
وحياتهم العامة بحياتها.
لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإعلامه أن البشر متشابهون في
الصفات والأعراض البشرية، وأن ذلك خيره وشره يظهر في لغاتهم، فإذا كانت
عين التعصب أرته في بعض الكتب العربية طعنًا من مسلم في دين النصارى فيعلم
أن في الكتب العربية القديمة والحديثة طعنًا من النصارى في الإسلام مثل ذلك أو أشد،
إذا كان قد عمي عما يكتبه هو وغيره من قومه في هذا العصر من الطعن في
الإسلام، وحسبه منه العبارة التي نقلناها آنفًا التي جعل فيها دين العرب وآدابهم من
الأقذار التي قاءها في جريدته، ويوجد في كتب الإفرنج من الطعن في الدين
الإسلامي والمسلمين ما هو أشد من ذلك وأقبح، وكله بهتان لم يخطر على بال أحد
من أجهل جهلاء المسلمين بالإسلام، وإذا كان قد رأى أو سمع أن في بعض الكتب
العربية مجونًا؛ فليسأل المطلعين على اللغات الأوربية، يخبروه أن في بعضها من
فنون المجون ما لم يكن يخطر على بال أحد من العرب، ولا يجري على لسانه ولا
على قلمه، وهل أنتنت الدنيا إلا بفواحش بغايا أوربة، وبقيت لغاتهم منزهة عن
التعبير عن ذلك.
لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإعلامه أن طبع الحكومة
لبعض الكتب العربية؛ لا تقصد أن تستغني به عما تستفيده من الإفرنج مما لا بد لنا
منه من الفنون الصناعية والزراعية والاقتصادية، ولا أن تبطل به نظام التعليم في
المدارس، فتعلم تلاميذها الجغرافيا والقديمة بدلاً من الجغرافية الحديثة مثلاً، بل لا
نظن أن هذا مما يخفى عليه.
لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإطلاعه على نظام التعليم في
مدارس الحكومة التي يدعي أنها تريد قتل الأمة بجهالات العرب، وإخباره بأن
نظارة المعارف قد أنشأت قلمًا جديدًا لترجمة الكتب المفيدة، فهي إذا التفتت إلى
ترقية لغتها بإحياء تاريخها الماضي لفتة واحدة، فقد نظرت إلى ترقيتها بإدخال
العلوم الأوربية فيها قبل ذلك، ولك مدارسها شاهدة على ذلك، وإنما قلم الترجمة
الجديد حسنة من حسنات الناظر الجديد أحمد حشمت باشا.
ليست علة صاحب جريدة الوطن هي الجهل فنداويها بما ذكرنا، وما لم نذكر
من العلم الصحيح، فإن الجهل وحده لا يستطيع إلى أن يهبط به إلى هذه الدركة من
الخذلان، وإنما علته هي الغلو في التعصب القبطي وكراهة كل شيء ينفع الإسلام
والمسلمين وإن نفع غيرهم ولم يضرهم، وقد بلغني وأنا في الآستانة أن التعصب قد
لج به وبزميله صاحب جريدة مصر في هذا العام، حتى أنكر ذلك عليهما قومهما،
وهذه العلة لا علاج لها ولا دواء ولكن يمكن تخفيف أعراضها بحكمة الحكومة
وعدلها أو بإظهار جمهور القبط السخط عليها إن كانوا يفعلون.
نشرنا هذه المقالة في المؤيد، ثم إن الحكومة أنذرت صاحب جريدة الوطن
بهذا الذنب وكان قد أُنْذِر من قبل، فإذا أتى بعد هذا بأي ذنب يعاقب عليه القانون
تقفل جريدته. وأما القبط فقد ظهر من جمهور كبير منهم أنهم راضون من وقاحة
جريدة الوطن وتهجمها؛ ولذلك ساعدتها جريدتهم الثانية (مصر) على ذلك،
وأيدتهما جريدة (الأخبار) أيضًا، والظاهر أن القوم يريدون بهذا التهجم الذي لا
يعقل له سبب إحداث فتنة بين المسلمين والقبط، يظنون أن ذلك يكون سبب
البطشة الكبرى من إنكلترا، فلا تبقى للمسلمين في هذه الحكومة باقية.
__________
(*) ترى الكلام على هذا المشروع مفصلاً في موضع آخر من هذا الجزء.(13/908)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدين والإلحاد والاشتراكية
نصر المقتطف
الإيمان على التعطيل
يظن الكثيرون أن صاحبي مجلة المتقطف من الملاحدة المعطلين، وكنت أنا
أظن ذلك، حتى اتفق من بضع سنين أن جرت بيننا مناظرة خاصة جر إليها الكلام
العادي، وكنت أنا الموجب المثبت بالطبع، وكان آخر قولي المقبول فيها وصفوته
أن هذه الكائنات في جملتها حادثة، لم يكن شيء منها كما نعرفه الآن، وفيها من
الإبداع والنظام ما يستحيل أن يكون حصل بالمصادفة، أو يكون مصدره العدم
المحض، بل يجب عقلاً أن يكون لهذا الإبداع والنظام العجيب في العوالم العلوية
والأرضية مصدر وجودي، ولكن حقيقة هذا المبدِع المُوجد للنظام والحافظ له
مجهولة، فنحن نسميه (الله) فإذا اعترف الماديون بما قلناه وسموا ذلك المبدع
(المادة) ، فالاختلاف إنما يكون بالتسمية والألفاظ، إلخ ما دار بيننا يومئذ ووافقني
فيه مناظري أو محدثني على إثبات وجود البارئ عز وجل، وأن من كفر من علماء
أوربا بإله الكنيسة لا يمكنه أن يكفر بإله الطبيعة، وأعني بإله الكنيسة الموصوف
بما تصفه به من الأقانيم والصفات، وكنت أقول في نفسي بعد ذلك: هل الدكتور
يعقوب صروف مادي حقيقة؟ وهل كانت مناظرته لي استرسالاً في هذا البحث
العلمي أم انتصارًا لاعتقاده أم اختبارًا لي.
ذكرت في كتابي (الحكمة الشرعية) الذي كان أول شيء ألفته أو كتبته في
المسائل العلمية الدينية والاجتماعية أن أجدر الناس بقوة الإيمان بالله تعالى علماء
الطبيعة الواقفون على ما لا يعرفه غيرهم من علماء الدين بنظام الكون وآيات الله
تعالى فيه وهم العلماء المشار إليهم في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا
وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر: 27-28) فلا ريب أن المراد بالعلماء
هنا العلماء بآياته تعالى، وحكمه في نظام هذه الكائنات المذكورة في الآيات.
ثم رأيت في فاتحة جزء المقتطف الذي صدر في هذا الشهر مقالة علمية
لمحرر المقتطف، يرد فيها على أحد المعطلين الاشتراكيين، ويستدل على وجوده
تعالى بآياته في خلقه على طريقة القرآن لا على طريقة المتكلمين النظرية، ويشرح
هذه الآيات شرحًا علميًا على طريقة علماء الكون في هذا العصر، وقد أشار في هذه
المقالة إلى سبب كتابتها؛ وهو ما نشره بعض المتعطلين في باب المراسلة والمناظرة
منه.
راجعنا باب المناظرة، فرأينا فيه رسالة بإمضاء (سلامة موسى) ؛ يرتأي
فيها أن الحكومة المصرية لا يصلح حالها إلا بالسير على مذهب الاشتراكيين الذي
عنوانه (لا رب ولا سيد) ؛ أي لا دين ولا سلطة، وقال الكاتب في رسالته ما نصه: (ما هي اعتراضاتكم على الاشتراكية وعلى الالحاد؟ ماتت بالأمس زوجة لصديق اشتراكي لي، فشيعناها إلى القبر بلا صلاة، وكان على عربة المائتة علم
كبير مكتوب عليه بحروف واضحة، يكاد يقرأها الأعمى (لا رب ولا سيد) ، ولم
أر العالم اختل بذلك ولا الطريق تغيرت ولا الله ظهر ليثبت وجوده) .
وقد علق المقتطف على هذه الرسالة تعليقًا وجيزًا، ثم أيده بتلك المقالة،
فرأينا أن ننقل في المنار كل ما كتبه تذكيرًا للعالم، وعبرة للمقلدين في الكفر الذين
يقولون: لو كان أصل الدين حقًا لما أنكر وجود الله تعالى العلماء العارفون بنظام
الكائنات، وقد كثر عندنا هؤلاء المقلدون الذين قال في مثلهم الشاعر العربي:
عُمْيُ القلوب عَمُوا عن كل فائدة ... لأنهم كفروا بالله تقليدًا
وقد رأينا أن ننقل ما كتبه المقتطف في التعليق على رسالة ذلك الملحد أولاً،
ثم ننقل مقالته التي أيد فيها الإيمان، ثم نعقب ببعض ما كنا كتبناه في العام الماضي
في مسألة من المسائل التي ألم بها المقتطف، وهي حال المتدينين في الفضيلة،
وكون العمران مبنيًا على أساس الدين، والكفر داعية الفساد والخراب، وهذا نص
تعليقه على الرسالة.
(المقتطف)
نشرنا هذه الرسالة على جاري عادتنا من نشر رسائل المرسلين
ومناظرات المناظرين، ولو كانت على غير رأينا، والغرض من نشرها إطلاع
القراء على كيفية نظر الاشتراكيين في المسائل الاجتماعية، ولا شبهة أن في
الاجتماع البشري مساوئ كثيرة يجب نزعها، وأمراضًا مزمنة يجب علاجها، وأن
الاشتراكية أفادت فائدة كبيرة في التنبيه إلى هذه المساوئ وهذه الأمراض، ولكن
سير العمران لم يتوقف على الاشتراكية والمصلحون الذين لهم اليد الطولى في
إصلاح حال المجتمع لم يتبعوا خطة واحدة وطريقة مقررة؛ فبعضهم أفاد المجتمع
بنشر المبادئ الأدبية، وبعضهم أفاده بنشر المبادئ الدينية، وبعضهم بالثورة على
المستبدين: ولا تفلح طريقة من الطرق ما لم تتهيأ وسائلها وتستعد الأمم لها، وإلا
كانت كالضرب في الحديد البارد، وعلمنا واختبارنا يدلاننا على أن الأمة المصرية
سائرة في الطريق الذي يكن سيره في هذا القطر للبلوغ إلى نزع المساوئ القديمة.
قلنا الأمة المصرية ولم نقل الحكومة المصرية؛ لأن الحكومة جزء من الأمة،
والموظفون الأجانب الذين فيها من الإنكليز وغيرهم، لا يقلون عن الوطنيين اهتمامًا
بإصلاح البلاد، والإصلاح المالي مقدم على الإصلاح العلمي دائمًا، كما يشهد
تاريخ الاجتماع، فلم يخطئ لورد كرومر في سياسته المالية؛ أى تقديم الإصلاح
المالي على الإصلاح العلمي؛ لأن الإنسان إذا أصلح ماله سهل عليه بعد ذلك تعليم
أولاده وإلا فلا، والحكومة الغنية يسهل عليها إنشاء المدارس ونشر التعليم، وأما
الحكومة الفقيرة فيصعب عليها ذلك أو يتعذر.
والتعطيل أي إنكار وجود الله ونسبة الإنسان إليه من مقوضات دعائم العمران
ولا عبرة بثبوت العمران الآن بين الأقوام الذين شاع التعطيل عندهم؛ لأنهم تربوا
تربية دينة؛ فرسخ في نفوسهم عمل الواجب وكراهة الكذب، والاعتداء على الغير
ونحو ذلك من الشرور. ولكن إذا نزع مبدأ الحلال والحرام الديني تعذر وضع مبدأ
آخر يقوم مقامه ويرسخ رسوخه؛ ولذلك يوجس المفكرون شرًّا مما ستصير إليه
حال أوربا وأميركا في أواخر هذا القرن إذا انتشر التعطيل فيهما، هذا فضلاً عن
أن التعطيل غير معقول لذاته، ففرضه خطأ علميًا كما هو ضرر اجتماعيًّا،
والمجاهرة به تفضي إلى أكبر المضار على نوع الإنسان) اهـ.
وهذه مقالته الافتتاحية:
آياته في خلقه
في باب المراسلة في هذا الجزء رسالة لكاتب يرى أن التعطيل: أي إنكار
وجود الخالق لا يضر أحدًا، ونحن نرى أنه يأتي بأكبر المضار. ولكن هب أنه لا
يضر فهل هو معقول؟
في إدارة المقتطف مطبعة أو آلة طباعة، يديرها سير من الجلد تحركه
الكهربائية، فتسحب الورق من لفتين كبيرتين وتمرَّه فوق حروف الطباعة بعد أن
تحبرها، وتطبعه من وجهيه وتقص منه صفحتين بعد صفحتين، وتضع إحداهما
داخل الأخرى، وتلصقها بها وتطويهما طولاً وعرضًا أربع طيات، فيخرج المقطم
منها مطبوعًا مقصوصًا ملصوقًا مطويًا. وهي تطبع كذلك اثني عشر ألف نسخة في
الساعة، وتقصها وتلصقها وتطويها وتعدها تفعل ذلك كله من غير أن تساعدها يد أو
يرشدها عقل، ولكن لقد اشتغلت عقول مئات العلماء وعملت أيادي ألوف من العمال
مدة سنين كثيرة إلى أن صارت هذه الآلة تعمل هذا العمل، وحتى الآن لا يخرج
منها عدد واحد من المقطم إلا بعد أن تشتغل العقول وتعمل الأيادي في بلدان كثيرة
في عمل الورقة والحبر، واستخراج الفحم الحجري وتوليد الكهربائية، ناهيك بما
يلزم للآلات الكهربائية من المواد والعمال، وبما لزم لسبك الحديد والنحاس
والرصاص والنيكل ونحو ذلك من المعادن التي دخلت في عمل آلة الطباعة، وعمل
الحروف وعمل الآلات الكهربائية. ولو أحصينا جميع الذين اشتغلوا في عمل كل ما
يلزم لطبع جزء واحد من المقطم؛ لبلغ عددهم ألوفًا وعشرات الألوف، فمن يقول:
إن المطبعة تطبع الجريدة لذاتها، وينكر كل ما وراءها من العقول يخالف كل
معقول.
يزرع القمح في هذا القطر في نحو مليون وربع مليون من الأفدنة، ومساحة
الفدان أربعة آلاف ومئتي متر مربع، ولا يقل عدد السنابل في المتر المربع من
مئتي سنبلة، فعدد السنابل كلها التي تنبت كل سنة في القطر المصري وحده لا يقل
عن مليون سنبلة: أي أكثر من عدد كل سكان الأرض ست مئة ضعف، وفي كل
سنبلة بل في كل حبة من حبوبها من الدقة في التركيب، والحكمة في النوع
والصفات الموروثة والمكتسبة، والاستعداد للنمو والتوليد ما لا يوجد عشر معشاره
في آلة الطباعة المشار إليها آنفًا، فمن يستطيع أن ينكر وجود العقل الموجد لها
والمتولي شئونها؛ ولو بإيجاد القوى التي تحرك كل دقيقة من دقائقها وكل ذرة من
ذراتها.
وإذا استنرت بنور الكيمياء، وحللت دقائق حبة القمح، رأيت أن كل دقيقة
منها مؤلفة من ملايين وملايين الملايين من الذرات الصغيرة كلها متحركة ولا تحرك
أجزاء آلة الطباعة، وفيها من الصفات والخواص ما يميز القمح الصعيدي عن
البحيري والهندي عن البلدي. ثم إذا علمت أن ما يزرع من القمح في هذا القطر
ليس جزءًا من مئة مما يزرع في الأرض كلها، ولا جزءًا من مئة ألف جزء مما
ينمو من سائر الحبوب والبزور، رأيت أن عالم النبات وحده يذهل العقول، حتى لا
ترى لها مندوحة عن الاعتراف بالقوة الخارقة المدبرة.
وعالم الحيوان لا يقل عن عالم النبات في غرائبه، ترى في هذا الرسم حيوانًا
من أصغر الحيوانات الدنيا السابحة في الماء؛ طوله جزء من ثلاثة آلاف جزء من
العقدة: أي لو جمع ثلاثة آلاف حيوان منه، ونظمت طولاًَ في سطر واحد، ما بلغ
طولها أكثر من عقدة بوصة، فلا يرى إلا بالميكروسكوب (المجهر) ، راقب بعضهم
هذا الحيوان في العام الماضي ودرس طبائعه وكتب عنه يقول: رأيته أولاً كما في
الشكل الأول، ومستطيلاً وله ذنب دقيق طويل، وعند مغرز هذا الذنب في بدنه
ذنب آخر غليظ قصير فيسبح في الماء بتحريك هذين الذنبين، وبعد أن يسبح مدة
تختلف من بضع دقائق إلى بضع ساعات، يسكن ويصير كرويًا كما ترى في الشكل
الثاني، ويبقى ذنبه الطويل متحركًا متمعجًا كالأفعى، وحركته تجعل أمواجًا في
الماء تندفع إليه بما فيها من الميكروبات. وحينما تدنو هذه الميكروبات منه ينحني
عليها ذنبه الطويل، وتنفتح لها فتحة بين الذنبين فتبتلعها، على هذه الصورة يلقم
هذا الحيوان غذاءه، وقد يلتقم حيوانات صغيرة من نوعه كما ترى في الشكل الثالث
والرابع؛ فهو من الحيوانات المفترسة على صغر جسمه وحقارة قدره، وقد التقم
واحد أمامي خمس حيوانات صغيرة من نوعه في تسع ساعات وقبض على ثلاثة
أخرى ليبتلعها. لكنها تملصت منه وهربت بعد أن كاد يفترسها، وفي باطنه سائل
حامض يهضم ما يفترسه كما تهضم معدنا الطعام، ثم يسكن مدة بعد ما يتغذى الغذاء
الكافي، ويعود جسمه مستطيلاً كما كان أولاً، وتكثر المادة الحبيبية فيه، ويحدث له
حينئذ أمر من أمرين: إما أن يستدق من وسطه كما ترى في الشكل الخامس، ثم
ينقسم إلى حيوانين مستقلين كما ترى في الشكل السادس، كل منهما مثل الحيوان
الأول. وإما أن يتغير شكله وتضعف حركته ويأتي حيوان آخر يشبهه وهو في
شكله الأول، ويلتصق به كما ترى في الشكل السابع، فيمتزج الحيوانان امتزاج
التزاوج الحقيقي، ويصيران حيوانًا واحد كرويًا فيزول ذنباه، ويسكن مدة طويلة
ست ساعات أو أكثر، ثم ينفجر من أحد جوانبه وتخرج البزور منه كما ترى في
الشكل الثامن، وكل منها جزء من ثلاثين ألف جزء من العقدة، وهذه البزور تعوم
في الماء وتنمو رويدًا رويدًا، وبعد نحو ساعتين يتولد لكل منها ذنبان ويصير
حيوانًا كاملاً: أي أن هذه الحيوان الذي لا يرى بالعين لصغره، يولد ويتحرك
ويتغذى ويتزوج ويلد حيوانات كثيرة من نوعه: إما بالانقسام وإما بالولادة.
وكم في مياه الأرض من الملايين وملايين من مثله؟ وكم في هوائها وترابها
من مثل ذلك؟ وكل حيوان منها يولد ويسعى ويأكل ويتغذى ويتزوج ويلد، وفي
بنيته من الأعضاء والآلات ما يفوق آلة الطباعة المشار إليها آنفًا إتقانًا وإحكامًا؛
عدا ما فيها من ذرات العقل المدبر والأعصاب التي تشعر وتدير حركات الحيوانات،
وتكيفها حسب الأحوال التي تعرض لها حتى تهاجم وتدافع وتفترس وتهضم
وتتغذى وتتزاوج وتتوالد.
وما هي هذه الحيوانات الميكرسكوبية بالنسبة إلى الحيوانات الكبيرة؛ بالنسبة
إلى الأسماك والطيور والزحافات، وإلى الحيوانات العليا كالهر والأسد والفرس
والفيل، بل بالنسبة إلى الإنسان سيد المخلوقات في هذه الأرض، فهل يعقل أن
ليس في الكون قوة خالقة مدبرة أوجدت هذه الكائنات أو أوجدت القوى التي توجدها
وتدبرها وتدير حركاتها؟ .
هذه هي بعض الآيات البينات التي لا يغضي عقل الإنسان عنها وعن ما تدل
عليه، إلا إذا تكلف الإغضاء تكلفًا، أو كان خاملاً لا يفكر ولا يقيس ولا يستنتج)
اهـ.
(المنار)
رأينا أن نعيد هنا ما كنا كتبناه في قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} (النساء: 13) في
معنى ما جاء في تعليق المقتطف عن ضرر الكفر وإفساده للعمران، وبيان أن
الإيمان بالله تعالى لا يكفي لحفظ العمران من إفساد الكفر، حتى يضم إليه الإيمان
بالوحي والرسل عليهم الصلاة والسلام وهو:
الأستاذ الإمام: طاعة الرسول هي طاعة الله بعينها؛ لأنه إنما يأمرنا بما
يوحيه إليه الله من مصالحنا التي فيها سعادتنا في الدنيا والآخرة، وإنما يذكر
الرسول مع طاعة الله؛ لأن من الناس من كانوا يعتقدون - قبل اليهودية وبعدها،
وكذلك بعد الإسلام إلى اليوم - أن الإنسان يمكن أن يستغني بعقله وعمله عن الوحي،
يقول أحدهم: إنني أعتقد أن للعالم صانعًا عليمًا حكيمًا، وأعمل بعد ذلك بما يصل
إليه عقلي من الخير واجتناب الشر، وهذا خطأ من الإنسان، ولو صح ذلك لما كان
في حاجة إلى الرسل، وقد تقدم في تفسير سورة الفاتحة أن الإنسان محتاج بطبيعته
النوعية إلى هداية الدين، وأنها هي الهداية الرابعة التي وهبها الله للإنسان بعد هداية
الحواس والوجدان والعقل، فلم يكن العقل في عصر من عصوره كافيًا لهداية أمة
من أممه، ومرقيًا له بدون معونة الدين.
أقول: يرد على هذا من جانب المرتابين والملاحدة: أننا نرى كثيرًا من أفراد
الناس لا يدينون بدين؛ وهم في درجة عالية من الأفكار والآداب وحسن الأعمال
التي تنفعهم وتنفع الناس، حتى إن العاقل المجرد عن التعصب الديني يتمنى لو كان
الناس كلهم مثله، بل يسعى كثير من الفلاسفة لجعل الأمم مثل هؤلاء الأفراد في
آدابهم وارتقائهم. وأجيب عن هذا (أولاً) : بأن الكلام في هداية الجماعات من
البشر كالشعوب والقبائل والأمم الذين يتحقق بارتقائهم معنى الإنسانية في الحياة
الاجتماعية؛ سواء كانت بدوية أو مدنية، وقد علمنا التاريخ أنه لم تقم مدنية في
الأرض من المدنيات التي وعاها وعرفها إلا على أساس الدين، حتى مدنيات الأمم
الوثنية كقدماء المصريين والكلدانيين واليونانيين، وعلمنا القرآن أنه ما من أمة إلا
وقد خلا فيها نذير مرسل من الله عز وجل لهدايتها، فنحن بها نرى أن تلك الديانات
الوثنية كان لها أصل إلهي ثم سرت الوثنية إلى أهلها حتى غلبت على أصلها؛ كما
سرت إلى من بعدهم من أهل الديانات التي بقي أصلها كله أو بعضه على سبيل
القطع أو على سبيل الظن، وليس للبشر ديانة يحفظ التاريخ أصلها حفظًا تامًا إلا
الديانة الإسلامية وهو مع ذلك قد دون في أسفاره كيفية سريان الوثنية الجلية أو
الخفية إلى كثير من المنتسبين إليها؛ كالنصيرية وسائر الباطنية وغيرهم ممن غلب
عليهم التأويل أو الجهل، حتى إنه يوجد في هذا العصر من المنتمين إلى الإسلام من
لا يعرفون من أحكامه الظاهرة غير قليل مما يخالفون به جيرانهم؛ كجواز أكل لحم
البقر في الأطراف الشاسعة من الهند، وكيفية الزواج ودفن الموتى في بعض بلاد
روسيا وغيرها، فمن علم هذا لا يستبعد تحول الديانات الإلهية القديمة إلى الوثنية.
فاتباع الرسل وهداية الدين أساس كل مدنية؛ لأن الارتقاء المعنوي هو الذي
يبعث على الارتقاء المادي، وها نحن أولاء نقرأ في كلام شيخ الفلاسفة الاجتماعيين
في هذه العصر " هربرت سبنسر ": إن آداب الأمم وفضائلها التي هي قوام مدنيتها
مستندة كلها إلى الدين وقائمة على أساسه، وإن بعض العلماء يحاول وتحويلها عن
أساس الدين؛ وبناءها على أساس العلم والعقل، وأن الأمم التي يجري فيها هذا
التحويل، لا بد أن تقع في طور التحويل في فوضى أدبية لا تعرف عاقبتها ولا
يحدد ضررها، هذا معنى كلامه في بعض كتبه، وقد قال هو للأستاذ الإمام في
حديث له معه: إن الفضيلة قد اِعْتَلَّتْ في الأمة الانكليزية وضعفت في هذه السنين
الأخيرة؛ من حيث قَوِيَ فيها الطمع المادي، ونحن نعلم أن الأمة الإنكليزية من أشد
أمم أوربا تمسكًا بالدين؛ مع كون مدنيتها أثبت وتقدمها أعم؛ لأن الدين قوام المدنية
بما فيه من روح الفضائل والآداب، على أن المدنية الأوربية بعيدة عن روح الديانة
المسيحية؛ وهو الزهد في المال والسلطان وزينة الدنيا، فلولا غلبة بعض آداب
الإنجيل على تلك الأمم لأسرفوا في مدنيتهم المادية إسراف غير مقترن بشيء من
البر وعلم الخير وإذًا لبادت مدنيتهم سريعًا، ومن يقل: إنه سيكون أبعدها عن الدين
أقربها إلى السقوط والهلاك، لا يكون مفتاتًا في الحكم ولا بعيدًا عن قواعد علم
الاجتماع فيه، فحاصل هذا الجواب الأول عن ذلك الإيراد؛ أن وجود أفراد من
الفضلاء غير المتدينين لا ينقض ما قاله الأستاذ الإمام: من كون الدين هو الهداية
الرابعة لنوع الإنسان التي تسوقه إلى كماله المدني في الدنيا، كما تسوقه إلى سعادة
الآخرة.
وثانيًا أنه لا يمكن الجزم بأن فلانًا الملحد الذي تراه عالي الأفكار والآداب قد
نشأ على الإلحاد وتربى عليه من صغره، حتى يقال: إنه قد استغنى في ذلك عن
الدين؛ لأننا لا نعرف أمة من الأمم تربي أولادها على الإلحاد، وإننا نعرف بعض
هؤلاء الملحدين الذين يعدون في مقدمة المرتقين بين قومهم، ونعلم أنهم كانوا في
نشأتهم الأولى من أشد الناس تدينًا واتباعًا لآداب دينهم وفضائله، ثم طرأ عليهم
الإلحاد في الكبر بعد الخوض في الفلسفة التي تناقض بعض أصول ذلك الدين الذي
نشأوا عليه، والفلسفة قد تغير بعض عقائد الإنسان وآرائه، ولكن لا يوجد فيها ما
يقبح له الفضائل والآداب الدينية أو يذهب بملكاته وأخلاقه الراسخة كلها، وإنما
يسطو الإلحاد على بعض آداب الدين: كالقناعة بالمال الحلال، فيزين لصاحبه أن
يستكثر من المال ولو من الحرام؛ كأكل حقوق الناس والقمار بشرط أن يتقي ما
يجعله حقيرًا بين من يعيش معهم أو يلقيه في السجن وكالعفة في الشهوات، فيبيح له
من الفواحش ما لا يخل بالشرط المذكور آنفًا، هذا إذا كان راقيًا في أفكاره وآدابه،
وأما غير الراقين منهم فهم الذين لا يصدهم عن الفساد في الأرض وإهلاك الحرث
والنسل إلا القوة القاهرة، ولولا أن دول أوربا قد نظمت فرق المحافظين على
الحقوق من الشحنة والشرطة (البوليس والضابطة) أتم تنظيم، وجعلت الجيوش
المنظمة عونًا لها عند الحاجة؛ لما حفظ لأحد عندها عرض ولا مال، ولعمت بلادها
الفوضى والاختلال، وقد كانت الحقوق والأعراض محفوظة في الأمم من غير
وجود هذه القوى المنظمة أيام كان الدين مرعيًا في الآداب والأحكام؛ فتبين بهذا أن
طاعة الله ورسله لا بد منها لسعادة الدنيا، على أن السياق هنا؛ قد جاء لما يتعلق
بالسعادة الدائمة في الحياة الأخرى.
__________(13/913)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الباطنية وآخر فرقهم البابية البهائية [*]
(2)
وقد اختلف المتكلمون في بيان أغراض الباطنية في دعوتها إلى بدعتها،
فذهب أكثرهم إلى أن غرض الباطنية الدعوة إلى دين المجوس بالتأويلات التي
يتأولون عليها القرآن والسنة، واستدلوا على ذلك بأن زعيمهم الأول ميمون بن
ديصان كان مجوسيًا من سبي الأهواز، ودعا ابنه عبد الله بن ميمون الناس إلى دين
أبيه، واستدلوا أيضًا بأن داعيهم المعروف بالبزدهي قال في كتابه المعروف
بالمحصول: إن المبدع الأول أبدع النفس، ثم إن الأول مدبر العالم بتدبير الكواكب
السبعة والطبائع الأربع، وهذا في التحقيق معنى قول المجوس: إن أليزدان خلق
أهرمن، وإنه مع أهرمن مدبران للعالم غير أن أليزدان فاعل الخيرات وأهرمن
فاعل الشرور، ومنهم من نسب الباطنية إلى الصابئين الذي هم بحران، واستدل
على ذلك بأن حمدان قرمط داعية الباطنية بعد ميمون بن ديصان كان من الصابئة
الحرانية، واستدل أيضًا بأن صابئة حران يكتمون أديانهم ولا يظهرونها إلا لمن كان
منهم، والباطنية أيضًا لا يظهرون دينهم إلا لمن كان منهم؛ بعد إحلافهم إياه على أن
لا يذكر أسرارهم لغيرهم.
قال عبد القاهر: الذي يصح عندي من دين الباطنية أنهم دهرية زنادقة،
يقولون بقدم العالم وينكرون الرسل والشرائع كلها؛ لميلها إلى استباحة كل ما يميل
إليه الطبع، والدليل على أنهم كما ذكرناه ما قرأته في كتابهم المترجم بالسياسة
والبلاغ الأكيد والناموس الأعظم، وهي رسالة عبد الله بن الحسن القيرواني إلى
سليمان بن الحسن بن سعيد الجناني أوصاه فيها بأن قال له: ادع الناس بأن تتقرب
إليهم بما يميلون إليه، وأوهم كل واحد منهم بأنك منهم، فمن أنست منه رشدًا
فاكشف له الغطاء، وإذا ظفرت بالفلسفي فاحتفظ به؛ فعلى الفلاسفة معولنا، وإنا
وإياهم مجمعون على أن نواميس الأنبياء (كذا) ، وعلى القول بقدم العالم ما يخالفنا
فيه بعضهم من أن للعالم مدبرًا لا يعرفه.
وذكر في هذا الكتاب القول بالميعاد والعقاب، وذكر فيه أن الجنة نعيم الدنيا،
وأن العذاب إنما هو اشتغال أصحاب الشرائع بالصلاة والصيام والحج والجهاد،
وقال أيضًا في هذه الرسالة: إن أهل الشرائع يعبدون إلهًا لا يعرفونه ولا يحصلون
منه إلا على اسم بلا جسم، وقال فيها أيضا: اكرم الدهرية؛ فإنهم منا ونحن منهم،
وفي هذا تحقيق نسبة الباطنية إلى الدهرية.
والذي يؤكد هذا أن المجوس يدعون نبوة زرادشت ونزول الوحي عليه من
عند الله تعالى، والصابئين يدعون نبوة هرس وواليس ودوروتيوس وأفلاطون
وجماعة من الفلاسفة، وسائر أصحاب الشرائع كل صنف منهم مقرون بنزول
الوحي من السماء على الذين أقروا بنبوتهم، ويقولون: إن ذلك الوحي شامل للأمر
والنهي، والخبر عن عاقبة الموت، وعن ثواب وعقاب، وجنة ونار يكون فيهما
الجزاء عن الأعمال السالفة.
والباطنية يرفضون المعجزات وينكرون نزول الملائكة من السماء بالوحي
والأمر بالنهي، بل ينكرون أن يكون في السماء ملك وإنما يتأولون الملائكة عن
دعاتهم إلى بدعتهم ويتألون الشياطين على مخالفيهم والأبالسة على مخالفيهم.
ويزعمون أن الأنبياء قوم أحبوا الزعامة فساسوا العامة بالنواميس والحيل؛ طلبًا
للزعامة بدعوى النبوة والإمامة. وكل واحد منهم صاحب دور مسبع إذا انقضى دوره
سبعة تبعه في دور آخر، وإذا ذكروا النبي والوحي قالوا: النبي هو الناطق والوحي
أساسه الفاتق، وإلى الفاتق تأويل نطق الناطق على ما نراه يميل إليه هواه، فمن صار تأويله الباطن فهو من الملائكة البررة، ومن عمل بالظاهر فهو من
الشياطين الكفرة، ثم تأولوا لكل ركن من أركان الشريعة تأويلاً يورث تضليلاً،
فزعموا أن معنى الصلاة موالاة إمامهم، والحج زيارته وإدمان خدمته، والمراد
بالصوم الإمساك عن إفشاء سر الإمام دون الإمساك عن الطعام، والزنا عندهم
إفشاء سرهم بغير عهد وميثاق، وزعموا أن من عرف معنى العبادة سقط عنه
فرضها، وتأولوا في ذلك قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} (الحجر
: 99) ، وحملوا اليقين على معرفة التأويل، وقد قال القيرواني في رسالته إلى
سليمان بن الحسن: إني أوصيك بتشكيك الناس في القرآن والتوراة والزبور
والإنجيل، وبدعوتهم إلى إبطال الشرائع، وإلى إبطال المعاد والنشور من القبور،
وإبطال الملائكة في السماء، وإبطال الجن في الأرض. وأوصيك بأن تدعوهم إلى
القول بأنه قد كان قبل آدم بشر كثير، فإن ذلك عون لك على القول بقدم العالم.
وفي هذا تحقيق دعوانا على الباطنية أنهم دهرية؛ يقولون بقدم العالم
ويجحدون الصانع، ويدل على دعوانا عليهم بالقول بإبطال الشرائع. وأن القيرواني
قال أيضًا في رسالته إلى سليمان بن الحسن: وينبغي أن تحيط علمًا بمخاريق
الأنبياء ومناقضاتهم في قوله كعيسى ابن مريم قال لليهود: لا أرفع شريعة موسى
ثم رفعها بتحريم الأحد بدلاً من السبت، وأباح العمل في السبت، وأبدل قبلة موسى
بخلاف جهتها؛ ولهذا قتلته البلاد لما اختلفت كلمته، ثم قال له: " ولا تكن كصاحب
الأمة المنكوسة حين سألوه عن الروح فقال: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (الإسراء: 85) [1] لما لم يحضره جواب المسألة، ولا تكن كموسى في دعواه
التي لم يكن له عليها برهان سوى المخرقة بحسن الحيلة والشعبذة، ولما لم يجد
المحق في زمانه عنده برهانًا، قال له: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي} (الشعراء:
29) ، وقال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات: 24) لأنه كان صاحب
الزمان في وقته، ثم قال في آخر رسالته:
وما العجب من شيء كالعجب من رجل يدعي العقل، ثم يكون له أخت أو
بنت حسناء، وليست له زوجة في حسنها، فيحرمها على نفسه، وينكحها من
أجنبي، ولو عقل الجاهل لعلم أنه أحق بأخته وبنته من الأجنبي؛ ما وجه ذلك إلا
أن صاحبهم حرم عليهم الطيبات، وخوفهم بغائب لا يعقل وهو الإله الذي يزعمونه
وأخبرهم بكون ما لا يرونه أبدًا من البعث من القبور والحساب والجنة والنار، حتى
استعبدهم بذلك عاجلاً، وجعلهم له في حياته ولذريته بعد وفاته خولاً، واستباح بذلك
أموالهم، بقوله: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 23) [2]
فكان أمره معهم نقد وأمرهم معه نسيئة، وقد استعجل منهم بذل أرواحهم وأموالهم
على انتظار موعود لا يكون، وهل الجنة إلا هذا الدنيا ونعيمها؟ وهل النار وعذابها
إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب في الصلاة والصيام والحج؟ ثم قال
لسليمان بن الحسن في هذه الرسالة:
وأنت وإخوانك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس، وفي هذه الدنيا ورثتم
نعيمها ولذاتها المحرمة على الجاهلين المتمسكين بشرائع أصحاب النواميس،
فهنيئًا لكم ما نلتم من الراحة عن أمرهم، وفي هذا الذي ذكرناه دلالة على أن غرض
الباطنية؛ القول بمذاهب الدهرية واستباحة المحرمات وترك العبادات.
ثم إن الباطنية لهم في اصطياد الأغنام ودعوتهم إلى بدعتهم حيل على مرات
يسمونها التفرس والتأنيس والتشكي والتعليق والربط والتدليس والتأسيس والمواثيق
بالأيمان والعهود وآخرها الخلع والسلخ. فأما التفرس فإنهم قالوا: من شرط الداعي
إلى بدعتهم أن يكون قويًا على التلبيس وعارفًا بوجوه تأويل الظواهر؛ ليردها إلى
الباطن، ويكون مع ذلك مميزًا بين من يجوز أن يطمع فيه، وفي إغوائه وبين من
لا مطمع فيه؛ ولذا قالوا في وصاياهم للدعاة إلى بدعتهم: لا تتكلموا في بيت فيه
سراج، يعنون بالسراج من يعرف علم الكلام ووجوه النظر والمقاييس.
وقالوا أيضًا لدعاتهم: لا تطرحوا بزركم في أرض سبخة: وأردوا بذلك منع
دعاتهم عن إظهار بدعتهم عند من لا تؤثر فيهم بدعتهم؛ كما لا يؤثر البذر في الأرض
السبخة شيئًا. وسموا قلوب أتباعهم الأغنام أرضًا زاكية لأنها تقبل بدعتهم.
وهذا المثل بالعكس أولى، وذلك أن القلوب الزاكية هي القابلة للدين القويم
والصراط المستقيم وهي التي لا تصدأ بِشُبَهِ أهل الضلال؛ كالذهب الإبريز الذي لا
يصدأ في الماء ولا يبلى في التراب ولا ينقص في النار، والأرض السبخة كقلوب
الباطنية وسائر الزنادقة الذين لا يزجرهم عقل ولا يردعهم شرع، فهم أرجاس
أنجاس {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} (النحل: 21) ، {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
سَبِيلاً} (الفرقان: 44) ، وأقل حويلاً قد قسم لهم الحظ من الرزق من قسم رزق
الخنازير في مراعيها، وأباح طعمة العنب في براريها، {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) .
وقالوا أيضاً: من شرط الداعي إلى مذهبهم أن يكون عارفًا بالوجوه التي تدعي
الإنصاف. فليست دعوة الإنصاف من وجه واحد، بل لكل صنف من الناس وجه
يدعى منه إلى مذهب الباطن، فمن رآه الداعي مائلاً إلى العبادات، حمله على
الزهد والعبادة، ثم سأله عن معاني العبادات وعلل الفرائض وشككه فيها. ومن رآه
ذا مجون وخلاعة قال له: العبادة بله وحماقة، وأن الفطنة في نيل اللذات وتمثل له
بقول الشاعر:
من راقب الناس مات هما ... وفاز باللذة الجسور
ومن رآه شاكًّا في دينه أو في المعاد والثواب والعقاب، صرح له بنفي ذلك،
وحمله على استباحة المحرمات، واستروح معه إلى قول الشاعر الماجن:
أأترك لذة الصهباء صرفًا ... لما وعدوه من لبن وخمر
حياة ثم موت ثم نشر ... حديث خرافة يا أم عمرو
ومن رآه من غلاة الرافضة؛ كالسبائية والبيانية والمغيرية والمنصورية
والخطابية، لم يحتج معه إلى تأويل الآيات والأخبار؛ لأنهم يتأولونها معهم على
وفق ضلالتهم، ومن رآه من الرافضة زيديًا أو إماميًا مائلاً إلى الطعن في أخبار
الصحابة، دخل عليه من جهة شتم الصحابة، وزين له بغض بني تيم؛ لأن أبابكر
منهم، وبغض بني عدي لأن عمر بن الخطاب كان منهم، وحثه على بغض بني أمية
لأنه كان منهم عثمان ومعاوية، وربما استروح الباطني في عصرنا هذا إلى قول
إسماعيل بن عباد:
دخول النار في حب الوصي ... وفي تفضيل أولاد النبي
أحب إلى من جنات عدن ... أخلدها بتيم أو عدي
قال عبد القاهر: قد أجبنا هذا القائل بقولنا فيه:
أتطمع في دخول جنات عدن ... وأنت عدو تيم أو عَدِيّ
وهم تركوك أشقى من ثمود ... وكم تركوك أفضح من دَعِيّ
وفي نار الجحيم غدًا ستصلى ... إذا عاداك صديق النبي
ومن رآه الداعي مائلاً إلى أبي بكر وعمر مدحهما عنده، وقال: لهما حظ في
تأويل الشريعة؛ ولهذا استصحب النبي أبابكر إلى الغار ثم إلى المدينة، وأفضى
إليه في الغار تأويل شريعته. فإذا سأله الموالي لأبي بكر وعمر عن التأويل المذكور
ولأبي بكر وعمر أخذ عليه العهود والمواثيق في كتمان ما يظهر له، ثم ذكر له
على التدريج بعض التأويلات، فإن قبله منه أظهر له الباقي وإن لم يقبل منه التأويل
الأول ربطه في الباقي وكتمه عنه، وشك الغر من أجل ذلك في أركان الشريعة.
والذي يروج مذهب الباطنية أصناف: أحدهما العامة الذين قتلت بصائرهم
بأصول العالم والنظر؛ كالنبط والأكراد وأولاد المجوس. والصنف الثاني الشعوبية
الذين يرون تفضيل العجم على العرب، ويتمنون عود الملك إلى العجم , والصنف
الثالث أغنام بني ربيعة من أجل غضبهم على مضر لخروج النبي منهم، ولهذا قال
عبد الله بن حازم السلمي في خطبته بخرسان: إن ربيعة لم تزل غضابًا على الله مذ
بعث نبيه من مضر، ومن أجل حسد ربيعة لمضر، بايعت بنو حنيفة مسيلمة
الكذاب؛ طمعًا في أن يكون في بني ربيعة نبي كما كان من بني مضر، فإذا
استأنس الأعجمي الغر أو الربيعي الحاسد المطن؛ بقول الباطني قومك أحق بالملك
من مضر، سأله عن السبب في عود الملك إلى قومه، فإذا سأله عن ذلك قال له:
إن الشريعة المضرية لها نهاية، وقد دنا انقضاؤها وبعد انقضائها يعود الملك إليكم،
ثم ذكر له تأويل إنكار شريعة الإسلام على التدريج، فإذا قبل منه ذلك صار ملحدًا
خرسًا، واستثقل العبادات واستطاب استحلال المحرمات، فهذا بيان التفرس منهم.
ودرجة (التأنيس) قريبة من درجة التفرس عندهم، وهي تزيين ما عليه
الإنسان من مذهبه في عينه، ثم سؤاله بعد ذلك عن تأويل ما هو عليه، وتشكيكه
إياه في أصول دينه، فإذا سأله المدعو عن ذلك قال: علم ذلك عند الإمام ووصل
بذلك منه إلى درجة التشكيك، حتى صار المدعو إلى اعتقاده أن المراد بالظواهر
والسنن غير مقتضاها في اللغة، وهان عليه بذلك ارتكاب المحظورات وترك
العبادات.
والربط عندهم تعليق نفس المدعو بطلب تأويل أركان الشريعة؛ فإما أن يقبل
منهم تأويلها على وجه يؤول إلى رفعها، وإما أن يبقى على الشك والحيرة فيها.
ودرجة (التدليس) منهم قوله للغر الجاهل بأصول النظر والاستدلال: إن
الظواهر عذاب وباطنها فيه الرحمة، وذكر له قوله في القرآن: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم
بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العَذَابُ} (الحديد: 13) فإذا
سألهم الغر عن تأويل باطن الباب قالوا: جرت سنة الله تعالى في أخذ العهد والميثاق
على رسله؛ ولذلك قال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} (الأحزاب: 7) ، وذكر له
قوله: {وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} (النحل: 91) فإذا حلف الغر لهم بالإيمان المغلظة وبالطلاق والعتق وبتسبيل
الأموال، فقد ربطوه بها وذكروا له من تأويل الظواهر ما يؤدي إلى رفعها
بزعمهم، فإن قبل الأحمق ذلك منهم دخل في دين الزنادقة باطنًا واستتر بالإسلام
ظاهرًا، وإن نفر الحالف عن اعتقاد تأويلات الباطنية الزنادقة كتمها عليهم؛ لأنه
قد حلف لهم على كتمان ما أظهروه له من أسرارهم، وإذا قبلها فقد حلفوه وسلخوه
عن دين الإسلام، وقالوا له حينئذ: إن الظاهر كالقشر والباطن كالب، واللب خير
من القشر، قال عبد القاهر:
حكى له بعض من كان دخل في دعوة الباطنية ثم وفقه الله تعالى لرشده وهداه
إلى حل أيمانهم؛ أنهم لما وثقوا منه بأيمانه، قالوا له: إن المسمين بالأنبياء كنوح
وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وكل من ادعى النبوة، كانوا أصحاب نواميس
ومخاريق، أحبوا الزعامة على العامة فخدعوهم بنيرنجات واستعبدوهم بشرائعهم،
قال هذا الحاكي لي، ثم ناقض الذي كشف لي هذا السر بأن قال له: ينبغي أن تعلم
أن محمد بن إسماعيل بن جعفر هو الذي نادى بموسى بن عمران من الشجرة، فقال
له (إني أنا ربك فاخلع نعليك) ، قال: فقلت سخنت عينك تدعوني إلى الكفر برب
قديم خالق للعالم، ثم تدعوني مع ذلك إلى الإقرار بربوبية إنسان مخلوق، وتزعم
أنه كان قبل ولادته إلهًا مُرْسلاً لموسى؟ فإن كان موسى كذابًا، فالذي زعمت أنه
أرسله أكذب، فقال لي: إنك لا تفلح أبدًا، وندم على إفشاء أسراره إليّ، وتبت من
بدعتهم، فهذا بيان وجه حيلهم على أتباعهم.
وأما أيمانهم فإن داعيهم يقول للحالف: جعلت على نفسك عهد الله وميثاقه
وذمته وذمة رسله، وما أخذ الله على النبيين من عهد وميثاق أنك تستر ما تسمعه
مني وما تعلمه من أمر، ومن أمر الإمام الذي هو صاحب زمانك وأمر أشياعه
وأتباعه في هذا البلد وفي سائر البلدان، وأمر المطيعين له من الذكور والإناث فلا
تظهر من ذلك قليلاً ولا كثيرًا، ولا تظهر شيئًا يدل عليه من كتابة أو إشارة إلا ما
أذن لك فيه الإمام صاحب الزمان، أو أذن لك في إظهاره المأذون له في دعوته،
فتعمل في ذلك حينئذ بمقدار ما يؤذن لك فيه. وقد جعلت على نفسك الوفاء بذلك،
وألزمته نفسك في حالتي الرضا والغضب والرغبة والرهبة، قال نعم. فإذا قال نعم
قال له: وجعلت على نفسك أن تمنعني، وجميع من أسميه لك مما تمنع منه نفسك
بعهد الله تعالى وميثاقه عليك وذمته وذمة رسله، وتنصحهم نصحًا ظاهرًا وباطنًا ,
أن لا تخون الإمام وأولياءه وأهل دعوته في أنفسهم ولا في أموالهم. وإنك لا تتأول
في هذه الأيمان تأويلاً ولا تعتقد ما يحلها، وإنك إن فعلت شيئًا من ذلك، فأنت
بريء من الله ورسله وملائكته ومن جميع ما أنزل الله تعالى في كتبه، وإنك إن
خالفت شيئًا مما ذكرناه لك، فلله عليك أن تحج إلى بيته مئة حجة ماشيًا نذرًا واجبًا
وكل ما تملكه في الوقت الذي أنت فيه صدقة على الفقراء والمساكين، وكل مملوك
يكون في ملكك يوم تخالف فيه أو بعده يكون حرًّا، وكل امرأة لك الآن أو يوم
مخالفتك أو تتزوجها بعد ذلك، تكون طالقًا منك ثلاث طلقات، والله تعالى الشاهد
على نيتك، وعقد ضميرك فيما حلفت به. فإذا قال نعم قال له: كفى الله شهيدا بيننا
وبينك.
فإذا حلف الغر بهذه الأيمان، ظن أنه لا يمكن حلها، ولن يعلم الغر أنه ليس
لأيمانهم عندهم مقدار ولا حرمة، وأنهم لا يرون فيها ولا في حلها إثمًا ولا كفارة ولا
عارًا ولا عقابًا في الآخرة، وكيف يكون لليمين بالله وبكتبه ورسله عندهم حرمة،
وهم لا يقرون بإله قديم بل لا يقرون بحدوث العالم، ولا يثبتون كتابًا منزلاً من
السماء ولا رسولاً ينزل عليه الوحي من السماء، وكيف يكون لليمين بالله وبكتبه
ورسله عندهم حرمة، ومن دينهم أن الله الرحمن الرحيم إنما هو زعيمهم الذي يدعون
إليه؟ ومن مال منهم إلى دين المجوس زعم أن الإله نور بإزائه شيطان قد غلبه
ونازعه في ملكه، وكيف يكون لنذر الحج والعمرة عندهم مقدار، وهم لا يرون
للكعبة مقدار، ويسخرون بمن يحج ويعتمر؟ وكيف يكون للطلاق عندهم حرمة،
وهم يستحلون كل امرأة من غير عقد؟ فهذا بيان الأيمان عندهم.
فأما حكم الأيمان عند المسلمين، فإنا نقول: كل يمين يحلف به الحالف ابتداء
بطوع نفسه فهو على نيته، وكل يمين يحلف بها عند قاض أو سلطان يحلفه ينظر
فيها، فإن كانت يمينًا في دعوى لمدع شيئًا على الحالف المنكر، وكان المدعي
ظالمًا للمدعى عليه فيمين الحالف على نيته، وإن كان محقًا والمنكر ظالمًا للمدعي
فيمين المنكر على نية القاضي أو السلطان الذي أحلفه، ويكون الحالف خائنًا في
يمينه.
وإذا صحت هذه المقدمة فالباحث عن دين الباطنية، إذا قصد إظهار بدعتهم
للناس أو أراد النقض عليهم معذور في يمينه، ويكون يمينه على نيته. فإذا
استثنى بقلبه مشيئة الله تعالى فيها، لم تنعقد عليه أيمانه ولم يحنث فيها بإظهاره
أسرار الباطنية للناس، ولم تطلق نساؤه ولا تعتق مماليكه ولا تلزمه صدقة بذلك،
وليس زعيم الباطنية عند المسلمين إمامًا، ومن أظهر سره لم يظهر سر إمام، وإنما
أظهر سر كافر زنديق، وقد جاء في الحديث المأثور (اذكروا الفاسق بما فيه يحذره
الناس) فهذا بيان حيلتهم على الأغمار بالأيمان.
فأما احتيالهم على الأغمار بالتشكيك، فمن جهة أنهم يسألونهم عن مسائل من
أحكام الشريعة، يوهمونهم فيها خلاف معانيها الظاهرة. وربما سألوهم عن مسائل
في المحسوسات، يوهمون أن فيها علومًا لا يحيط بها إلا زعيمهم. فمن مسائلهم
قول الداعي منهم للغر: لم صار للإنسان أذنان ولسان واحد؟ ولم صار للرجل ذكر
واحد وخصيتان؟ ولم صارت الأعصاب متصلة بالكبد والشرايين متصلة بالقلب؟
ولم صار الإنسان مخصوصًا بنبات الشعر على جفنه الأعلى والأسفل، وسائر
الحيوان ينبت الشعر على جفنه الأعلى دون الأسفل؟ ولم صار ثدي الإنسان على
صدره وثدي البهائم على بطونها؟ ولماذا لم يكن للفرس غدد [3] لا كرش ولا كعب؟
وما الفرق بين الحيوان الذي يبيض ولا يلد ولا يبيض؟ وبماذا يميز بين السمكة
النهرية والسمكة البحرية؟ ونحو هذا كثير يوهمون أن العلم بذلك عند زعيمهم.
ومن مسائلهم في القرآن سؤالهم عن معاني حروف الهجاء في أوائل السور
كقوله: (الم) و (حم) و (يس) و (طه) و (كهيعص) ، وربما قالوا: ما
معنى كل حرف من حروف الهجاء؟ ولم صارت حروف الهجاء تسعة وعشرون
حرفًا، ولم عجم بعضها بالنقط وخلا بعضهم من النقط، ولم جاز وصل بعضها بما
بعدها بحرف؟ ، وربما قالوا للغر: ما معنى قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ
يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (الحاقة: 17) ، ولم جعل الله أبواب الجنة ثمانية، وأبواب النار
سبعة؟ وما معنى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (المدثر: 30) ؟ وما فائدة هذا العدد؟
وربما سألوا عن آيات وأوهموا فيها التناقض، وزعموا أنه لا يعرف تأويلها
إلا زعيمهم كقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} (الرحمن: 39)
مع قوله في موضع آخر: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: 92) .
ومنها مسائلهم في أحكام الفقه كقولهم: (لم صارت صلاة الصبح ركعتين
والظهر أربعًا والمغرب ثلاثًا، ولم صار في كل ركعة ركوع واحد وسجدتان، ولم
كان الوضوء على أربعة أعضاء والتيمم على عضوين، ولم وجب الغسل من المني
وهو عند أكثر المسلمين طاهر ولم يجب الغسل من البول مع نجاسته عند الجميع،
ولم أعادت الحائض ما تركت من الصيام ولم تعد ما تركت من الصلاة، ولم كانت
العقوبة في السرقة بقطع اليد وفي الزنا بالجلد، وهلا قطع الفرج الذي به زنى في
الزنا كما قطعت اليد التي بها سرق في السرقة) .
فإذا سمع الغر هذه الأسئلة ورجع إليهم في تأويلها، قالوا له: علمها عند إمامنا
وعند المأذون في كشف أسرارنا، فإذا تقرر عند الغر أن إمامهم أو مأذونه هو العالم
بتأويله، اعتقد أن المراد بظواهر القرآن والسنة غير ظاهرها، فأخرجوه بهذه
الحيلة عن العمل بأحكام الشريعة، فإذا اعتاد ترك العبادة واستحل المحرمات كشفوا
له القناع، وقالوا له: لو كان لنا إله قديم غني عن كل شيء، لم يكن له فائدة في
ركوع العباد وسجودهم، ولا في طوافهم حول بيت من حجر ولا في سعي بين
جبلين، فإذا قبل منهم ذلك فقد انسلخ عن توحيد ربه، وصار جاحدًا له زنديقا.
قال عبد القاهر: والكلام عليه في مسائلهم إلى يسألون عنها عند قصدهم إلى
تشكيك الأغمار في أصول الدين من وجهين؛ أحدهما: أن يقال لهم: إنكم لا تخلون
من أحد أمرين: أما أن تقروا بحدوث العالم وتثبتوا له صانعًا قديمًا عالمًا حكيمًا؛
يكون له تكليف عباده ما شاء كيف شاء، وإما أن تنكروا ذلك وتقولوا بقدم العالم
ونفي الصانع، فإن اعتقدتم قدم العالم ونفي الصانع، فلا معنى لقولكم: لم فرض
الله كذا، ولم حرم كذا، ولم خلق كذا، ولم جعل كذا على مقدار كذا، إذ لم تقروا
بإله فرض شيئًا أو حرَّمه أو خلق شيئًا أو قدَّره، ويصير الكلام بيننا وبينكم كالكلام
بيننا وبين الدهرية في حدوث العالم، وإن أقررتم بحدوث العالم وتوحيد صانعه،
وأجزتم له تكليف عباده ما شاء من الأعمال، كان جواز ذلك جوابًا لكم عن قولكم:
لم فرض ولم حرم كذا؛ لإقراركم بجواز ذلك منه إن أقررتم به، ويجواز تكليفه،
وكذلك سؤالهم عن خاصية المحسوسات يبطل إن أقروا بصانع أحدثها، وإن أنكروا
الصانع فلا معنى لقولهم: لم خلق الله ذلك؟ مع إنكارهم أن يكون لذلك صانع قديم.
والوجه الثاني: من الكلام عليهم فيما سألوا عنه من عجائب خلق الحيوان أن
يقال لهم: كيف يكون زعماء الباطنية مخصوصين بمعرفة علل ذلك، وقد ذكرته
الأطباء والفلاسفة في كتبهم، وصنع أرسطاطاليس في طبائع الحيوان كتابًا، وما
ذكرت الفلاسفة من هذا النوع شيئًا إلا مسروقًا من حكماء العرب؛ الذين كانوا قبل
زمن الفلاسفة من العرب القحطانية والجرهمية والطسمية وسائر الأصناف الحِمْيَريَّة
وقد ذكرت العرب في أشعارها وأمثالها جميع طبائع الحيوان، ولم يكن في زمانها
باطني ولا زعيم للباطنية، وإنما أخذ أرسطاطليس الفرق بين ما يلد وما يبيض من
قول العرب في أمثالها: كل شرقاء ولود وكل صكاء بيوض، ولهذا كان الخفاش من
الطير ولود لا بيوضًا؛ لأن له أذنًا شرقاء وكل ذات صكة بيوض؛ كالحية والضب
والطيور البائضة.
(ثم ذكر هنا كلامًا طويلاً في طبائع الحيوان والنبات الذي عرفته العرب ثم
ختم الكلام بقوله) :
فهذا وما جرى مجراه من خواص الحيوانات وغيرها، قد عرفته العرب في
جاهليتها بالتجارب من غير رجوع منها إلى زعماء الباطنية، بل عرفوه قبل وجود
الباطنية في الدنيا بأحقاب كثيرة، وفي هذا بيان كذب الباطنية في دعواها: إن
زعماءها مخصصون بمعرفة أسرار الأشياء وخواصها، وقد بينا خروجهم عن جميع
فرق الإسلام بما فيه كفاية والحمد الله على ذلك , انتهى.
__________
(*) تابع لما نشر في الجزء السابق (ص 840) نقلاً عن كتاب الفرق بين الفِرَق.
(1) الروح هنا ملك ذكر في القرآن أو الوحي، ولا يمكن الجواب عنه بغير هذا.
(2) مطالبتهم بالمودة في القربى أي من أولي أرحامه صلى الله عليه وسلم، لا يقضي جعلهم عبيدًا وخولاً لهم، فكيف والظاهر أنه أراد أقاربهم وأرحامهم والاستثناء منقطع قطعًا.
(3) الغدد جمع غدة، وهي كل عقدة في الجسد أطاف بهم شحم، وكل قطعة صلبة بين العصب.(13/922)
الكاتب: علي أفندي فهمي محمد
__________
الخلافة الإسلامية والجامعة العثمانية [*]
(3)
(لتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش جيشها)
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حديث شريف
كان المرحوم عبد الرحمن الكواكبي، وهو ذلك العالم الحر والمفكر الأبي،
يشكو من حالة الدولة السابقة، فارتاح الإنجليز إلى مطالبته بالخلافة العربية هو عن
حسن نية وبدون إنعام النظر السياسي، وهم عن خبث طوية؛ لأن تقهقر الدولة لم
يكن قاصرًا عليها فقط بل كان ماسًّا بمصالحهم، ألف المرحوم كتابه (أم القرى)
ولو أنعم نظره السياسي لرأى الضرر الذى يلحق العالم الإسلامي بوجه عام والشرق
الأدنى بوجه خاص من جراء هذا المسمى، ولم يقتصر الإنجليز عند حد استغواء
هذا العالم من الذين لا يلمون كثيرًا بالاعتبارات السياسية والظروف الخصوصية،
بل إن جرأتهم فاقت حد التصور واللياقة؛ إذ كانوا لا يعترفون بالقاضي الشرعي في
الصومال إلا إذا أقره شريف مكة، وبمثل هذا التغرير كادوا يضعون غشاوة على
بصيرة بعض أمراء الشرق، لا يقدر أحكام وضعها إلا السياسة الإنجليزية.
وإني آتي هنا على مثالين أثبت بهما جليًا؛ كيف أن الإنجليز يحاربون الخلافة
الإسلامية ثم يستفيدون بادعائهم صداقة (أمير المؤمنين) وشيخ الإسلام سياسيًّا
ولو بالتزوير والتزييف.
يعلم الكثيرون بالحركة الوطنية المتأججة نارها في الهند، ولما كان الإنجليز
في حسن تفاهم مع العثمانيين، زوروا كتابات اسم الخليفة وسماحة شيخ الإسلام،
وادعوا فيها أنهما يوصيان مسلمي الهند بالولاء والإخلاص للدولة الإنجليزية، وأقرب
هذه الكتابات ذلك الحديث الذي عزاه مكاتب التيمس إلى سماحة شيخ الإسلام في
الآستانة الذي نفى مغزاه رسميًّا، وفي ذلك الوقت نفسه كانوا يهربون الأسلحة إلى
بلاد العرب، فضبطت أخيرًا عند الشواطئ، واتضح من التحقيق أنها من صنع يد
الإنجليز، وكان لسان حالهم يقول: إنه ذلك ينافي صداقتهم للدولة العلية صاحبة
الخلافة الإسلامية.
هذه القوة الإسلامية السياسية التي يحللها الإنجليز لأنفسهم ويحرمونها على
غيرهم ترتعد فرائصهم منها، حتى إن كثيرًا من جرائدهم الاستعمارية كالديلي
تلغراف ونحوها لما هنأت جمعية الاتحاد والترقي جلالة السلطان بقولها: (إلى
صاحب الخلافة والجلالة أمير المؤمنين وسلطان العثمانيين) زأرت وزمجرت
وجردت قول العدوان وشهرت، وقالت: إن مراسلي التلغراف متشبعون بمبدأ
الجامعة الإسلامية الشديدة الممقوتة، وهكذا السياسة الإنجليزية تلتوي علينا،
وتتسقح حين ترتوي منا وتنتفخ.
نحن نود إبقاء الخلافة الإسلامية في آل عثمان ونعمل لذلك بعامل المصلحة؛
وذلك لأن الدولة العثمانية هي أقوى ممالك الإسلام في الحال، وستبقى كذلك في
الاستقبال، وهي التي بيدها الحرمان الشريفان، فينبغي أن تكون الخلافة في أيدي
العثمانيين حقنا للدماء ومراعاة للمصلحة العامة، وليس لها منازع قوي يؤمل أو
يخشى نجاحه، وإنما الدول الأجنبية تفرق بيننا، وتغري بعضنا ببعض حتى تنهك
قوانا الفرعية وتضعف السلطة المركزية، والواجب على كل عاقل مخلص أن يجعل
هذا السبب نصب عينيه.
قال حضرة الكاتب الإسلامي الكبير محمود بك سالم:
(جاء إسماعيل باشا فتتبع سعيدًا في سياسته الفرنسوية، فبالغ في مجاملة
نابليون الثالث الذي أفهمه أنه سيساعده على الوصول إلى كرسي الملكية المستقلة،
فأكثر من الترف والبذخ ليعلو على الأكاسرة والقياصرة وجبابرة الفراعنة، ووزع
الهدايا الفاخرة على ملوك أوربا وملكاتها وعلمائها ووزرائها وأغنيائها وصعاليكها
بطريقة أبكت العقلاء وأضحكت الجهلاء، ومازال كذلك حتى انكسر نابليون
الثالث سنة 1870، فنبذ فرنسا وتعلق بإنجلترا، فألهم أنه لا يكون ملكًا مستقلاً إلا
إذا قارب عدد رعاياه عدد رعايا السلطان نفسه، ومن هنا ابتدأت حروب السودان
والصومال والحبش ودارفور وأوغنده وزنجبار على غير جدوى للمصريين،
بل لفائدة الإنجليز الذين أرسلوا صموئيل بيكر باشا وغردون باشا والمرسلين
لينشروا المدنية على شواطئ النيل الأبيض والنيل الأزرق؛ تمهيدًا لسياستهم
الكبرى. وكل عاقل نظر إلى قوة الجيش المصري، وسعة تلك الأقطار، وإلى
النفقات الباهظة التي أنفقت جزافًا، وإلى الرجال الذين ماتوا هدرًا، ويعدون بمئات
الألوف، علم مقدار ما لِحُكَّامِنَا من قصر النظر وسوء التدبير) .
هذا شيء قليل جدًّا من كثير جدًّا، مما يبثه الأجانب فيها من عوامل الشقاق
والخلاف، فعسى أن تزول هذه البواعث النفسانية التي أدت بنا جميعًا إلى التهلكة.
وإني أتذكر أنه لما زار المرحوم مظفر الدين شاه إيران الآستانة في أواخر
أيامه، ذكرت جرائدها أنه لما قابل السلطان قَبَّلَ يده، فلما انتهى إليه هذا الخبر قال:
(إنها نَبَّهَتْنِي إلى واجب، فاتني أداؤه؛ لأن السلطان هو أمير المؤمنين شرعًا)
فأين هذه الروح العالية والنفس الكبيرة من محمد علي شاه إيران السابق الذي كان
يحتج بشدة على إلتجاء الأحرار إلى السفارة العثمانية، ويتغافل عن سفارتي روسيا
وإنجلترا اللتين سلبتاه بلاده، ولم تنفعاه يوم أن ثُلَّ عرشه، وقد كان يقول: إن
روسيا أحب الممالك إلى قلبه. اللهم إنك على كل شيء قدير تخرج الظلمات من
النور.
ولا أدري ما الذي يُنَفِّر العثمانيين غير المسلمين من الخلافة الإسلامية، وهي
كما شرحناها لا تنافي معنى الجامعة العثمانية الوطنية ولا تضر بهم في شيء ما،
بل بالعكس تجعل لهم منزلة خصوصية في سائر أنحاء العالم؛ لكونهم عثمانيين من
رعايا صاحب الخلافة العثمانية وإن العثماني غير المسلم الذي يتأفف من الخلافة
الإسلامية؛ إما أن يكون غير صادق في عثمانيته، وإما أن يكون قصير النظر
السياسي، قال كاتب رسائل الإسلام والمدنية لم يمزق هذا الارتباط العجيب تلك
الفتوحات السريعة التي قام بها المسلمون على عهد الدول العربية والتركية؛ بيد أن
الدول الإسلامية الأولى حاولت أن تفصل بين تينك الصفتين المدنية والدينية، فكان
عصر الانفصال مبدأ انحطاط، ولا تزال إلى اليوم خلافة السلطان الأعظم رابطة
تربط الشعوب الإسلامية من غير الأتراك بالدولة العلية فتكون بهم قوتها، وإذا جردت
السلطان من هذا اللقب لا تلبث أن ترى الدولة العلية تنحل وتصبح دولة ثانوية.
لذلك أكرر القول بأن أنصح لجمع العثمانيين بالتآزر والتماسك، فإن يد الله مع
الجماعة، ولا يهولنهم القول بالخلافة الإسلامية التي - مع احترامها لشعائرهم
الدينية - تكسبهم كثيرًا من المزايا السياسية والاقتصادية، وإني أوصيهم بما أوصاهم
به شاعر مصر حافظ إبراهيم في تهنئته إياهم بالدستور:
فتفيأوا ظل الهلال فإنه ... جم المبرة واسع الغفران
يرعى لموسى والمسيح وأحمد ... حق الولاء وحرمة الأديان
فخذوا المواثق والعهود على هدى ... التوراة والإنجيل والفرقان
وما قاله شوقي بك شاعر الأمير:
أما الخلافة فهي حائط بيتكم ... حتى يبين الحشر عن أحواله
أخذت بحد المشرفي ونالها ... لكم القنا بقصاره وطواله
طمع القريب أو البعيد بنيلها ... طمع الفتى من دهره بمحاله
ما الذئب مرتدًا على ليث الشرى ... في الغاب معتديًا على أشباله
بأقل عقلاً وهي في أيمانكم ... ممن يحاول أخذها بشماله
وإنني بما قدمته من الحجج التاريخة والنظريات السياسية، أؤمل ألا يكون
لمساعي أولئك الأعداء السياسيين المتلبسين بجرمهم بوشاح الصداقة الكاذبة أدنى
نصيب من الالتفات، فلا تهنوا ولا تحزنوا، ولا يغتب بعضكم بعضًا، واعملوا
بنص الحديث الشريف: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) اهـ.
(المنار)
نشرنا هذه الرسالة كما هي، ولم نتعرض لتخريج ما ذكر من
الأحاديث فيها ولا للبحث في مسائلها، ولكننا نقول: إن أفكار الكواكبي السياسية
مبنية على قواعد: منها اليأس من الدولة العلية، ولم يكن يريد أن يكون الخليفة
القرشي الذي يخلف الخليفة التركي سلطانًا حاكمًا سائسًا للعرب أو لغيرهم، وإنما
كان رأيه أن يكون رئيسًا دينيًا، ينظر في مصالح المسلمين الروحية الأدبية ويرقيها
وأكثر الذين يتكلمون عن سياسته لا يعرفون منها شيئًا، ولم يكن للإنكليز ولا لغيرهم
من الأجانب رأي ولا علم بتأليفه لسجل جمعية أم القرى، فإنه كتبه في حلب وزاد
فيه بمصر، ولم يكن يعلم بذلك أحد إلا أفراد من العثمانيين كصالح أفندي جمال من
حزب تركيا الفتاة، وقد ذكرنا في ترجمته المجلد الخامس أننا لم نكن موافقين له في
جميع آرائه السياسية.
__________
(*) تابع لما نشر في الجزء العاشر (ص 857) بقلم علي أفندي فهمي محمد.(13/933)
الكاتب: أحمد حشمت
__________
إحياء اللغة العربية
وطبع نوادر مصنفاتها
كانت العلوم العربية والآداب العربية في الدول العربية في الشرق والغرب
والجنوب والشمال زينة الدنيا وأساس عمرانها ومدنيتها، وعنها أخذت أوربا مدنيتها
وعلومها وفنونها، وارتقت فيها بعد أن تدلى العرب وضعفوا بذهاب دولهم وتغلب
الأعاجم عليها، وإنما ترتقي العلوم والفنون بتأييد الدول القوية لها.
لم يقم في الشرق الإسلامي بعد الدول العربية الأصلية والمستعربة دولة قوية
إلا الدولة العثمانية، ومن سوء حظ الشرق والإسلام أن كان الترك المؤسسون لها
من أهل البداوة، ولم يجعلوا عاصمتهم في مدينة من مدن الحضارة العربية كبغداد
والشام ومصر فيتعربوا، ولو فعلوا لتجددت الحضارة العربية الإسلامية واستمر
نموها، وكنا نحن السابقين لأوربا. ولكنهم لم يفعلوا ذلك؛ جهلاً منهم لا رغبة في
جعل لغتهم هي لغة العلم والحضارة؛ لأن لغتهم بقيت على بدواتها لم تدون، ولم
بوضع لها نحو ولا صرف ولا بيان في عهد قوتهم وعظمتهم، وإنما حاولوا ذلك في
هذا العصر، فالدولة العثمانية كانت سبب ضعف اللغة العربية بجهلها لا تعمدًا منها
إذ لم تكن دولة علم ولا حضارة، بل دولة حرب وقوة.
ويحاول كثير من ساستها اليوم أن يحيوا لغتهم؛ ويجعلوها اللغة الطبيعية
للشعوب العثمانية كلها، ولو كان ذلك ممكنًا لكانوا معذورين في عرف السياسة
الجنسية، ومعذولين في حكم الديانة الإسلامية، ويرى كثير منهم أن اللغة العربية
هي العقبة الكؤد في طريق مقصدهم هذا، فهم يحاولون إماتة هذه اللغة وإن كان
موتها موتًا للدين الإسلامي (وحاش لله أن يميته) ، ولهذه السياسة المبنية على
العصبية الجنسية الجاهلية، يمنع بعض حكام الترك العرب من إنشاء المدارس في
بلادهم؛ كما فعل متصرف نابلس في منع فضلاء وجهائها من إنشاء مدرسة فيها؛
وحجته في ذلك أنهم يحيون اللغة العربية فتضعف اللغة التركية عندهم، ولا نذكر
هنا ما فعلوه في المحاكم وغيرها من مصالح الحكومة في الولايات العربية، فأوجب
الشكوى واللغط.
رأيت كثيرًا من العرب العثمانيين خائفين على اللغة العربية أن تموت بمقاومة
بعض حكامهم لها، ويجهل هؤلاء أن الله تعالى قد سخر لهذه اللغة أمم الإفرنجة
يتدارسون ويحيون موات علومها وآدابها، وإن لها دولة هي أقوى من الدولة العلية
حضارة وإن كانت دونها جندية؛ وهي تحت سيادتها دون سياستها وإدراتها ألا وهي
الحكومة المصرية العربية.
التعليم في الأزهر وملحقاته من المدارس الدينية في هذه البلاد كله باللغة
العربية، وجميع مدارس الحكومة والمدارس الأهلية فيها تدرس اللغة العربية وتعلم
بعض الفنون بها؛ وبعضها بإحدى لغتي العلم في الغرب الإنكليزية والفرنسية، وقد
شرعت الحكومة تستعد لجعل تدريس جميع الفنون بالعربية.
وقد شعرت في هذه العام بإحياء المصنفات العربية القديمة في الفنون المختلفة
بطبعها في مطبعتها المشهورة، واسترشدت في ذلك بصديقنا أحمد زكي بك الكاتب
الثاني لمجلس النظار؛ لما له من الخبرة الواسعة في هذا الباب وقد جاءنا منها
الرسالة الآتية في بيان هذا المشروع، وها هي ذي بنصها:
الحكومة الخديوية المصرية
مجلس النظار
إحياء الآداب العربية
اجتمع مجلس النظار بسراى رأس التين بالإسكندرية في يوم الإثنين 21شوال
سنة 1328 (24أكتوبر سنة 1910) .
تحت رئاسة الجناب الخديوي المعظم عباس حلمي الثاني.
بحضور صاحب العطوفة محمد سعيد باشا، رئيس المجلس وناظر الداخلية.
وأصحاب السعادة سعد زغلول باشا ناظر الحقانية.
وحسين رشدي باشا ناظر الخارجية.
وإسماعيل سري باشا ناظر الأشغال العمومية والحربية.
وأحمد حشمت باشا ناظر المعارف العمومية.
ويوسف سابا باشا ناظر المالية.
وحضر الجلسة جناب المستر هنري بول هرفي المستشار المالي.
كاتب السر الثاني أحمد زكي بك.
اطلع المجلس على المذكرة المقدمة من صاحب العطوفة محمد سعيد باشا
رئيس المجلس، وعلى التقرير الذي كتبه صاحب السعادة أحمد حشمت باشا ناظر
المعارف العمومية عن الوسائل المقتضي اتخاذها لإحياء الآداب العربية بالديار
المصرية.
وبعد المفاوضة قرر المجلس الموافقة على جميع الاقتراحات التي تضمنتها تلك
المذكرة، وتكليف نظارتي المعارف العمومية والمالية بتنفيذها.
... ... ... ... ... ... ... ... ... رئيس المجلس
... ... ... ... ... ... ... ... ... (محمد سعيد)
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتب سر
... ... ... ... ... ... ... ... ... (أحمد زكي)
مذكرة
مرفوعة إلى مجلس النظار
كان من دأب الحكومات التي تناوبت الحكم على وادي النيل منذ الزمان القديم
طلب المباراة في ميادين السبق؛ لرفع منار العلوم ونشر رايات العرفان؛ سعيًا
وراء الفخر المخلد والمجد المؤبد، وكان من همها على الأخص توجيه عنايتها إلى
إعلاء شأن اللغة العربية وآدابها؛ بما كانت تبذله من الرغائب لانبعاث الهمم من
رقدتها، وانعقاد العزائم على خدمتها، وتعضيد أهل العلم وذوي الفضل على دوام
البحث والاستنباط.
غير أن نوب الزمان وطوارئ الحدثان تناولت هذه العناية فيما تناولته،
فأخمدت نارها، وحجبت أنوارها، فانحلت العزائم، وتلاشت الهمم، وكادت محنة
الدهر تقضي على ملكة الاختراع والابتكار بين أهل هذه الديار، وتفقدهم ميل النفس
إلى التصنيف والتأليف، ثم تفرع على ذلك اندثار دور الكتب واندراس آثارها بيننا،
بعد أن كانت قائمة على الدهر، تشهد للأمة المصرية بعلو كعبها وجميل أثرها في
هذا الباب.
وما زالت يد الزمن تعبث وتدمر، حتى سخر الله لهذه البلاد محيي مواتها،
وباعث رفاتها، ذلك الرجل العظيم محمد على الكبير، رأس هذه الأسرة المالكة،
فَزَاوَجَ بين ترقية الأمة المصرية ماديًّا وأدبيًّا، ومزج بين إصلاحها معاشًا ومعادًا،
حتى منحه التاريخ لقبًا ينطبق عليه بكل حق وعدل وهو (محيي مصر) .
ثم كانت سيرة خلفائه الفخام من بعده على نحو ما رسم وقدر، فكان من
حسنات المغفور له إسماعيل باشا أن جمع من هنا وهناك ما أبقته عوادي الأيام من
حطام تلك الدور النفيسة دور الكتب القيمة، فتلقف شواردها وضم أشتاتها، وأسس
دار الكتب الخديوية القائمة الآن، وأفاض عليها هو وابنه توفيق على الأخص ما
يضمن طول بقائها ودوام الانتفاع بها، فكانت غلة العقار المحبوس عليها كفيلة بتقدم
هذا المعهد وارتقائه.
ولكننا لا نزال نرى إلى اليوم أن دار الكتب هذه لم تتجاوز في مهمتها
المطلوبة منها، وهي نشر العلوم والمعارف حد الاستعداد والتأهب للعمل، وقد آن
الوقت الذي يجب أن تخطو فيه خطوتها الواسعة في هذا السبيل، وتبرز للملأ من
جليل الأعمال ما فيه سرعة ارتقاء الآداب والعلوم.
وأمامنا اليوم فرصة حاضرة، حانت لنا بالنظر في المفكرة التي وضعها
حضرة أحمد بك زكي الكاتب الثاني لأسرار مجلس النظار، وَضَّمَنَها ما عَنَّ له من
وجوه الإصلاح وضروب الوسائل التي من شأنها إحياء الآداب العربية بديار مصر.
وقد زَيَّلَهَا بِنُبَذٍ قصيرة عن عدة كتب ومصنفات بخط اليد، توصل إلى نقل صورها
بطريقة التصوير الشمسي في القسطنطينية والبلاد الأجنبية.
وقد مضى على واضع هذه المفكرة زهاء عشرين سنة، وهو يوالي البحث
والتنقيب عن أنواع الطرق الموصلة إلى تعميم المعارف واستنهاض الهمم لاجتياز
باب العمل في فنون الإصلاح المطلوب؛ لإحياء العلوم والآداب العربية؛ ولذلك
قابل أصحاب الحل والعقد ما شرحه من سديد الآراء ومحكم الوسائل بعين الرضا
والقبول، وعهدت الحكومة الخديوية إلى صاحب السعادة أحمد حشمت باشا ناظر
المعارف العمومية أن ينظر في الأمر؛ ويقرر فيها ما يرشدها إلى الطريق القويم في
هذا الباب.
ولست أرى وسيلة لشرح ما رآه سعادته في هذا الموضوع أفضل من إلفات
مجلس النظار إلى نص التقرير الجليل؛ الذي يشير فيه إلى وجوب العمل على
حسب الخطة التي رسمها صاحب المفكرة؛ مع بيان الوسائل الفعالة لإبراز هذا
المشروع إلى حيز الوجود، ولقد بادرت بإبلاغ هذا التقرير إلى نظارة المالية
مشفوعًا برأيي في الموافقة عليه من جميع الوجوه، مع تأييد كل ما أشار به سعادته
من الاقتراحات النافعة لتجديد الآداب العربية.
ولما درس سعادة سابا باشا ناظر المالية هذا المشروع، كتب إليّ كتابًا تاريخه
18أكتوبر سنة 1910 قال فيه: (إن نظارة المالية تشاهد بمزيد الرضا ونهاية
الامتنان تلك المجهودات التي مازال يبذلها أحمد بك زكي، وإنها توافق بتمام
الارتياح على الغاية التي يسعى ورائها في سبيل تجديد الآداب العربية) .
وختم سعادته كتابه بأن نظارة المالية مستعدة لأن تخصص لهذا الغرض مبلغ
الألف جنيه مصري المربوط في الميزانية؛ لتشجيع الأعمال الأدبية.
فهذه الأريحية الكريمة تدعونا إلى تدقيق البحث في الأسباب التي يكون من
شأنها استمرار هذه الحركة المباركة؛ بما يضمن ظهور آثارها بدون انقطاع.
وبما أنه من الضروري النظر في تدبير الوسائل التي تكفل لهذا العمل ما
يقتضيه من البقاء والاستمرار، وبما أن المصنفات التي نقلها حضرة أحمد زكي بك
بالفتوغرافية؛ هي ذات قيمة عظيمة من الوجهة العلمية والتاريخية والأدبية، وبما
أن معظم هذه المصنفات التي أشار إليها هي من وضع المؤلفين المصريين، ولا
نكاد نرى لها أثرًا في البلاد التي تولدت فيها وظهرت بها.
فلهذه الأسباب
أقترح على مجلس النظار تكليف نظارة المعارف العمومية بما يأتي:
أولاً - المبادرة بدون تأخير في تدبير الوسائل التي تضمن إحياء الآداب
العربية؛ حسب البيانات التي أوضحها سعادة أحمد حشمت باشا في تقريره المؤرخ
في 11 رمضان سنة 1328 (15سبتمبر سنة1910) .
ثانيًا - تخصيص المبلغ الاحتياطي المتكون بدار الكتب الخديوية لهذا الغرض
ثالثًا - الابتداء في إحياء الآداب العربية بطبع ونشر الموسوعتين الكبريين
المعروفتين باسم (نهاية الأرب في فنون الأدب) لشهاب الدين النويري (ومسالك
الأبصار في ممالك الأمصار) لابن فضل الله العمري.
رابعًا - الاستمرار على موالاة هذه النهضة التجديدية بطبع ونشر بقية الكتب
التي أشار إليها حضرة أحمد زكي بك، حسب الكشف المرفق بهذه المذكرة، ثم
سائر المخطوطات العربية الأخرى الكثيرة الندرة العظيمة الفائدة.
هذا وإنني أرى من جهة أخرى أن ضمان النجاح لهذه الحركة الخصيبة،
يوجب على مجلس النظار أن يسهل على نظارة المعارف العمومية القيام بمهمتها
بالفلاح الذي نبتغيه لهذا الإصلاح؛ فلذلك يحسن بحكومة الجناب الخديوي المعظم أن
تكلف نظارة المالية بأمرين اثنين أيضًا، وهما:
أولاً - جعل مبلغ الألف جنيه تحت تصرف نظارة المعارف العمومية بصفة
إعانة خصوصية؛ لطبع الموسوعتين المذكورتين قبل.
ثانيًا - إصدار الأوامر اللازمة إلى مطبعة بولاق الأهلية؛ للإسراع في إنجاز
أعمال الطبع بكل ما في الإمكان، وأملي وطيد في أن المجلس يتكرم بالموافقة على
ما أبديته في الاقتراحات؛ ليجري العمل بانتظام وفق المرغوب، فإن إنجاز هذا
المشروع على أجمل حال مما يجمل بحسنات هذا العصر ويكون غرة
في جبين الدهر تشهد بارتقاء العلوم والآداب بيمن مولانا الخديو ناشر رايات
العدل، ورافع أعلام العلم والفضل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... رئيس مجلس النظار
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد سعيد
... ... القاهرة في 17شوال سنة 1328، 20أكتوبر سنة 1910.
كشف
بأسماء الكتب المشار إليها في المذكرة السابق
وهي التي ستتخذ أساسًا لإحياء الآداب العربية بمصر.
موسوعات
نهاية الأرب في فنون الأدب لشهاب الدين النويري.
مسالك الأبصار في ممالك الأمصار لابن فضل الله العمري.
جوامع العلوم لفريعين تلميذ أبي زيد أحمد بن سهل البلخي.
أدب وبلاغة وإنشاء
الفاخر للمفضل الضبي.
ديوان الحماسة الصغرى المعروف بالوحشيات لأبي تمام.
سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي.
التسهيل بالتمثيل وهو المعروف بتسهيل السبيل إلى تعليم الترسيل للحميدي
رسائل وخطب وأشعار السلطان الملك الناصر يوسف صلاح الدين الأيوبي من
جمع حفيده.
مجموعة ترسل القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني.
حديث
فنون العجائب.
إكرام الضيف.
آداب الملوك
كتاب التاج للجاحظ.
محاسن الملوك.
رسائل الملوك، ومن يصلح للسفارة، ومن أمر بإرسال رسول، ومن نهى
عن ذلك، وكيف ينبغي لمن أرسل إلى ملك أن يعمل في الاحتياط لنفسه ولمن أرسله ومن ذم من الرسل ومن حمد لأبي علي الحسن المعروف بابن الفراء.
كتاب تنبيه الملوك (وسياساتهم في تدبير الأمم والممالك) .
التاريخ
كتاب المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام لمحمد بن حبيب.
ذيل تجارب الأمم وتعاقب الهمم في وقائع العرب والعجم، لابن مسكويه تأليف
أبي شجاع أحد وزراء الدولة العباسية.
درر التيجان وغرر تورايخ الزمان لأبي بكر بن عبد الله بن أيبك الدواداري
المصري.
كنز الدرر وجامع الغرر له أيضًا.
التراجم
إنباه الرواة على أنباه النحاة، للقاضي الأكرم الوزير القفطي.
نزهة الألباب في الألقاب لابن حجر.
التأليف الطاهر في شيم الملك الظاهر، القائم بنصرة الحق أبي سعيد جقمق
لابن عربشاه.
هدية العبد القاصر إلى الملك الناصر أبي السعادات محمد بن السلطان الملك
الأشرف لعبد الصمد الصالحي.
سبك النضار وكسب المفاخر، ونثر الدر ونظم الجواهر من سيرة المقر
الأشرف السيفي إقباي الأسد الظاهر، كافل المملكة الغزية في أيام قايتباي لعبد الله
ابن محمد بن عبد الله الزكي الغزي الحنبلي.
النسب
شجرة النسب النبوي الشريف، تأليف السلطان الملك الأشرف أبي النصر
قانصوه الغوري.
الجغرافيا
صور الأقاليم الإسلامية لأبي زيد أحمد بن سهل البلخي (بالخرط) .
صورة الأرض وصفة أشكالها ومقدارها في الطول والعرض، وأقاليم البلدان
ومحل الغامر منها، والعمران من جميع بلاد الإسلام بتفصيل مدنها، وتقسيم ما تفرد
بالأعمال المجموعة إليها بالخرط.
هيئة أشكال الأرض ومقدار صورها في الطول والعرض (بالخرط) .
نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، المعروف بكتاب رجار (Roger)
للشريف الإدريسي، بالخرط.
رحلة
تاريخ الأمير يشبك الظاهري، وهو رحلة الجنود المصرية وفتوحاتهم في آسيا
الصغرى في أيام السلطان الملك الأشرف قايتباي.
علم حفظ الصحة
كمال الفرحة في دفع السموم وحفظ الصحة، للقوصوني الطبيب في عصر
السلطان قانصوه الغوري.
علوم طبيعية وميكانيكية
سرور النفس بمدارك الحواس الخمس، لابن المكرم صاحب لسان العرب
الباهر في علم الحيل.
الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل (بالأشكال والصور) .
علم الحيوانات
الدر المطابق على علم السوابق (في طب الخيل، وقد ظفر به ملك الأرمن
في خزائن العباسيين عندما هاجمها مع التتر فنقله إلى بلاده وأمر بترجمته، ثم
ضاعت النسخة العربية الأصلية، وقد ظفر جنود مصر بالترجمة في بلاد الأرمن
حينما فتحوها، فترجمه إلى العربية ابن الخليفة العباسي بمصر بمساعدة بعض
الأسرى من الأرمن.
طب الطيور (مستخرج من خزانة الرشيد) .
علم المعادن
الجماهر في الجواهر لفيلسوف الإسلام بالهند أبي الريحاني البيروني.
أزهار الأفكار في جواهر الأحجار للتيفاشي.
علم الفلك
التفهيم لصناعة التنجيم لأبي الريحان البيروني.
علم الساعات والعمل بها لرضوان بن محمد الخراساني بخط بيلك بن عبد الله
القبجاقي.
علم الموسيقي
كتاب العود والملاهي للمفضل الضبي.
كشف الغموم والكرب بشرح آلة الطرب، بالصور والأشكال.
علم الحرب
العز والمنافع للمجاهدين بآلات البارود والمدافع لابن غانم الأندلسي بالأشكال.
الأنيق في المناجيق (بالصور والأشكال) .
التذكرة الهروية في الحيل الحربية للسانح الهروي.
ديانات قديمة
فلسفة الوثنيين (وهو قطعة بقيت من كتاب نمسطس الذي أحرقه بعضهم،
وترجمها أحد المسلمين مع شرح الأناشيد والألحان الموسيقية الخاصة بديانة الوثنيين
وبديانة المجوس) .
كتاب الأصنام لابن الكلبي.
فنون متنوعة
لطائف المعارف للنيسابوري.
عين السبع مختصر طرد السبع للصلاح الصفدي.
الإلمام بآداب دخول الحمام.
الكوكب الدري في أجوبة السلطان الغوري.
نفائس المجالس السلطانية في حقائق الأسرار القرآنية؛ لجمعية من العلماء في
عصر السلطان الغوري وهو في جملتهم.
الترقق في العطر للفيلسوف الكندي.
كتاب الأطعمة المستعملة في مصر على عهد سلاطين المماليك.
الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطبيب.
إحياء الآداب العربية
مقتبس من التقرير المقدم إلى صاحب العطوفة محمد سعيد باشا رئيس مجلس
النظار.
(من صاحب السعادة أحمد حشمت باشا ناظر المعارف العمومية)
بتاريخ 11 رمضان سنة 1328، 15سبتمبر سنة 1910.
رئيس مجلس النظار عطوفتلو أفندم حضرتلري
تفضلتم عطوفتكم بدعوتي؛ لدرس المفكرة المقدمة من حضرة أحمد بك زكي
(عن الأسباب والوسائل المؤدية لإحياء العلوم والآداب العربية بمصر) مع مجموعة
الكتب التي استنسخها حضرته بالفوتغرافية، واستحضرها من الآستانة وأوربا،
ولقد أمعنت النظر في هاتين المسألتين، وأُبْدِي اليوم لعطوفتكم ما أراه في هذا
الشأن.
إن هذه المفكرة تشرح بأجلى بيان؛ ما كان للقاهرة من التأثير في رفع منار
العرفان وترقية الآداب العربية، فإنها بفضل مركزها وعناية أهلها، أصبحت في
أوائل العصور الحديثة محطًا لرجال أهل العلم ومبهطًا لطلاب الفضل.
ولقد أشار صاحب المفكرة إلى مبلغ الأريحية التي يجود بها ملوك مصر
وسلاطينها؛ وإلى مقدار المساعي المتواصلة التي بذلها رعاياهم؛ لإعلاء شأن
الحضارة الإسلامية وازدهاء رونقها في بلاد الشرق، فكانت النتيجة من هذا العمل
المزدوج أن ظهرت في سماء المعارف العربية كتب جليلة حافلة بالبحث في
الموضوعات المفيدة في كل فن ومطلب. ولكن سوء الحظ قضى بأن لا يصل إلى
أيدينا من تلك المصنفات الثمينة سوى النزر اليسير.
ثم جاء دور الأفول، فكان من دواعي الانحطاط أن مصر أضاعت ذخائرها
وكنوزها في أثناء التقلبات التي أصابتها، والمحن التي توالت عليها مما لا فائدة من
ترديد ذكراه الآن.
فانطفأ ذلك السراج الوهاج، وخبا ذلك الذكاء المصري بيد أن شعاعًا ضيئلاً
من الأمل تبدى في الأفق، فانبعث معه ذلك الذكاء من مرقده بعد أن كان الناس
يظنونه قد دخل في خبر كان، ولكنه في الحقيقة إنما كان في سبات لا في ممات،
والفضل في تجدد هذه الحياة الأدبية راجع إلى محمد علي الكبير وإلى حفيده
إسماعيل.
لذلك توخى صاحب المفكرة أن يستفيد من هذه اليقظة الأدبية، فأخذ يعمل على
إيجاد الوسائل اللازمة؛ لتجديد عهد الآداب العربية في ظل خديوينا المحبوب عباس
الثاني؛ الذي تعود أن يقفوا آثار الفخام في سلوك المكارم وتجديد مفاخر المآثر.
وللوصول إلى هذه الغاية التي ما زال ينشدها واضع المشروع، قد اقترح
حضرته تنظيم دار الكتب الخديوية تنظيمًا، يشمل جميع فروع الإصلاح التي
تستوجبها مكانتها؛ لتأتي بالثمرة المطلوبة وتقوم بالخدمة الواجبة عليها.
وإنني أوافق حضرته من هذه الوجهة موافقة تامة؛ ولذلك شرعت فعلاً في
درس هذه الإصلاح درسًا دقيقًا؛ لأتمكن في وقت قريب من جعل خزانة كتبنا
النفيسة كفيلة بالقيام بجميع الأغراض التي أنشئت لأجلها أو التي يحق لنا انتظارها
منها، حتى تتكون من أقوى العوامل في نشر أنوار العلوم العربية.
ثم أشار صاحب المفكرة إلى أنه يجب إرجاع المطبعة الأهلية إلى مجيد عملها
السابق، وذلك بطبع التآليف التي تفخر بها علماء مصر، حتى يتسنى لأهل الجيل
الحاضر أن يشمروا عن ساعد الجد، ويواصلوا سلسلة الابتكار في العلوم والآداب
التي بدأ بها أجدادهم الأمجاد.
وقد رأى صاحب المشروع من الواجب عليه أن لا يقف عند الإشارة إلى
نظريات مبهمة، أو إبداء رغائب مجردة عن وسائل التنفيذ، مما لا يكون كفيلاً
باستكمال وسائل النجاح؛ فلذلك أفرغ وسعه وبذل جهده، ولم يضن بشيء من ماله
ووقته وراحته، حتى تيسرت له كل الأسباب المؤدية لتحقيق الخطة التي رسمها
لنفسه، وذلك أنه قرن العلم بالعمل وأتبع القول بالفعل، فانتهز فرصة الانقلاب الذي
حصل في الدولة العلية وشخص إلى الآستانة، وتمكن هناك من استخدام الفتوغراف
في نقل جلائل المؤلفات التي تزدهي بها الآداب العربية، خصوصًا تلك التي كانت
فيما مضى من أجمل الذخائر في الخزائن المصرية.
ولم تقف همة هذا البحاثة عند حد التنقيب، وتلمس تلك الآثار من كنوزها في
القسطنطينية، بل واصل سعيه أيضًا في ربوع العلم بأوربا؛ لاستيفاء كل المعدات
ولإتمام عمله على أحسن حال.
هذا، وقد ألمع في مفكرته بإيضاح وجيز إلى كل واحد من هذه المصنفات
النادرة، فكتب نبذة قصيرة تكشف عنها اللثام، وتبين الفوائد التي تعود على اللسان
العربي والأمة المصرية من العناية بطبعها وتعميم نشرها.
ولقد رأيت من الواجب أن أستعلم عما إذا كان لهذه المصنفات أو لبعضها أثر
ما في دار الكتب الخديوية أو في إحدى مكتبتي الأزهر الشريف والمجلس البلدي
بالإسكندرية، فوافتني هذه المعاهد الثلاثة ببيانات تسمح لي بالتصريح بأن المؤلفات
التي نقلها حضرة أحمد بك زكي، واستحضرها لا توجد أصلاً ضمن مكاتبنا
ومجاميعنا الأهلية، وإنها لم تطبع حتى الآن، وإن في طبعها نفعًا عظيمًا للمتنورين
من أبناء مصر وسائر أهل العلم على الإطلاق.
ولا ريب في أن حكومة الجناب العالي الآخذة بناصر الآداب العربية العاملة
على ترويجها وتعميم الانتفاع منها، ستقدر هذه الكنوز حق قدرها، وتعمل على
اقتنائها وإضافتها إلى خزانة كتبها النفيسة، خصوصًا وأن معظمها مما جادت به
قرائح البارعين من المصريين.
وليس من الصواب أن يقف عمل الحكومة الخديوية عند هذا الحد من الاغتباط
بالحصول على هذه المجموعة؛ وإضافتها إلى دار الكتب الخديوية، بل يتحتم علينا
أن نبادر إلى السعي في طبعها، بحيث لا يمضي قليل من الزمن حتى تصبح منهلاً
سائغًا للقاصد وموردًا عذبًا لكل طالب.
ونحن إذا نظرنا إلى أهل الشر وإلى العلماء المستشرقين في هذه الأيام، تراهم
جميعًا يتهافتون إلى الوقوف على كل ما له ارتباط بالحضارة الإسلامية، ولا شك
عندي في أن الحظ الأوفر في هذه النهضة المباركة؛ ينبغي أن يكون لمصر إن لم
تكن هي القائدة لحركتها والمدبرة لشؤونها؛ وذلك نظرًا لمركزها الطبيعي ولما كان
لها من الأيادي البيضاء على العلوم والآداب، وبهذه المناسبة أرى من الواجب علينا
أن نشكر المعاهد العلمية الغربية؛ لما تبذله من المساعي في تأييد هذه الحركة
والأخذ بناصرها، ولا غرو فإن المستشرقين الذين تفتخر بهم المدارس الجامعة في
بريطانيا العظمي وسائر أوربا وأمريكا، لا يألون جهدًا في العمل على نشر الكتب
التي صنفها جهابذة العرب، وبحثوا فيها عن شتى الموضوعات وأبعدها عن مجال
الخواطر والأوهام، فهؤلاء المستشرقون لا يزالون يدأبون على العمل مع الصبر في
التحصيل، والدرس والبراعة في التنقيب والبحث، وبذلك تيسر لهم أن ينشروا
طائفة كبيرة من أمهات الكتب العربية النفيسة وقد يترجمونها في بعض الآحايين إلى
لغاتهم، أو يتخذونها موضوعًا لمباحثهم كيما يشاركهم قومهم في الاستفادة منها، وهم
بهذا المسعى يبثون فينا روح الأمل باسترجاع كنوز آدابنا الشرقية رويدًا رويدًا،
ومن المؤكد أن هذا الأمل لا يلبث أن يدخل حيز الإمكان ويتحقق في عالم الوجود،
إذا ما تعهدته مصر بالقسط الواجب عليها من المساعدة والمعاونة على إحياء العلوم
والآداب العربية.
ولقد آن للحكومة الخديوية أن تعضد العلماء المصريين، وتفتح لهم مجال
البحث؛ ليتمكنوا من الاستمرار على التنقيب والتأليف، فيعيدوا في مصر عصر
آبائهم، ويصنعوا مثل ما صعنوا، وإني لعلى يقين من أنهم سيجدون في المجموعة
التي توفر حضرة أحمد بك زكي على تكوينها، وإيجاد جميع الوسائل التي تبعث
فيهم روح العمل فَيَخْضَلّ عود الدرس ويثمر بما يعود بالنفع العام على مصر
وغيرها من أقطار الشرق.
وأرى لاطِّراد هذا الحركة أن نبدأ منذ اليوم بطبع الموسوعتين اللتين تفتخر
بهما مصر والعرب على الإطلاق، وأعني بهما: (نهاية الأرب في فنون الأدب)
للنويري، و (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) لابن فضل الله العمري؛ لأن
هذين الأثرين الجليلين قد انعدما من بلادنا في جملة ما أضاعته من الكنوز الغوالي؛
على إثر ما انتابها من الطوارق والطوارئ.
ولقد أعيى العلماء الغربيين استكمال هذين الأثرين النفيسين، فلم يوفقوا إلى
جمع أشتات هذه الضالة المنشودة، مع ما بذلوه من الجهد في كثير من الأزمان،
حتى أتاح الله ذلك لأحد مواطنينا، فتيسر له بعد متاعب احتملها مدة عشرين عامًا،
واهتدى لجمع المواد والأجزاء التي يتألف منها هذان السفران، وأثبتها كلها
بالفتوغراف، فحق لنا بعد ذلك أن نهنئ أنفسنا على هذا النجاح الباهر.
وإذا أخذنا في طبع هاتين الموسوعتين يسعد الجناب الخديوي العالي الذي
تفضل فأظهر عنايته العالية بأمرهما، فلا شك أن الإقبال على اقتنائهما سيكون عامًّا
عند جميع الطبقات، وخصوصًا عند الفئة المولعة بالدرس وأرباب العقول المستنيرة
بمصر والشرق، بل يتعداهما إلى الجامعات ودور الكتب في البلاد الأجنبية
والمستشرقين الذين يقدرونهما حق قدرهما؛ لأنهم طالما استفادوا منهما.
وعلى ذلك فإنني أشير بتشكيل لجنة من أهل الدراية، تختارها نظارة المعارف
العمومية؛ لتهيئة هذين السفرين للطبع، ويكون من خصائصها النظر في الأصول
وضبطها بالدقة قبل تسليمها للمطبعة الأهلية؛ لأن الطبع إذا ما باشرته الحكومة
الخديوية بنفسها وأشرفت عليه برعايتها، يجب أن يكون مستوفيًا لكل أسباب الكمال؛
ليجيء مناسبًا لحاجات العلم والنقد في العصر الحاضر.
وبهذه المناسبة أقوال: إن الضرورة والعدل يقضيان بأن تكون إدارة هذا
المشروع من الوجهة الفنية موكولة إلى حضرة أحمد زكي بك؛ لواسع علمه وعظيم
شهرته خصوصًا وأنه هو البادئ بالتفكير في هذا المشروع الخطير، والمهتدي إلى
جمع شوارده بعد أن كانت مبعثرة هنا وهناك.
ولا جرم أن طبع هاتين الموسوعتين في مطبعة بولاق، سيكون جامعًا لما
ينبغي من الدقة والجمال، خصوصًا بعد أن دخل التحسين الجديد على حروفها،
ونظرًا لما هي عليه الآن من كمال الاستعداد، وبذلك تعود هذه المطبعة إلى ما كان
لها من المكانة السامية، والأثر النافع في نشر نور العرفان العربي.
أرى أيضًا مخابرة نظارة المالية؛ لتأمر المطبعة الأهلية بتوسيع نطاق القسم
الأدبي، حتى يتسنى له طبع ثلاث ملازم أو أربع في اليوم الواحد، فذلك أمر يتحتم
علينا الوصول إليه بقدر رغبتنا في تسهيل أمر الطبع، حتى لا يمضي زمن طويل
على ظهور هذا العمل الجسيم في جيز الوجود.
ولعل سعادة ناظر المالية يسمح بتخفيض شيء من مصاريف الطبع؛ للمعاونة
على ترويج هذا العمل الأدبي العميم الفائدة، الذي من شأنه المساعدة على ترقية
الأفكار وتعميم المعارف؛ إذ بفضل هذه المنحة يمكننا أن تزيد في عدد النسخ بغير
زيادة في النفقات والأكلاف، وبذلك يتسنى لنا أيضًا تخفيض قيمة الاشتراكات
وأثمان البيع تخفيضًا محسوسًا؛ يساعد على زيادة الإقبال وتسهيل أسباب الانتفاع.
بقي علينا أن ننظر في تدبير المال اللازم للمشروع في هذا العمل الخطير،
وهو متوفر لدينا لوجود المبلغ الاحتياطي في دار الكتب الخديوية، فإن هذا
الاحتياطي مخصص بطبيعة الحال؛ لإحراز واستنساخ وطبع المخطوطات العربية
وقد بلغ في آخر أغسطس الماضي 9392 جنيهًا مصريًا، ويجب الإشارة إلى أن
استخدام ذلك المبلغ الاحتياطي في هذا السبيل النافع، ستنتج عنه ثمرة مفيدة لدار
الكتب الخديوية من الوجهة المادية المحضة؛ فضلاً عما يترتب عليه من المزايا
الأدبية الكثيرة.
وعلى كل حال، فلو فرضنا أن هذا المشروع لا يكون من ورائه مغنم مادي،
فإن الحكومة الخديوية ينبغي لها أن تغتبط بهذا المسعى الذي يفضي إلى إفاضة نور
الأدب العربي في بلاد الشرق؛ وذلك لأن الجامعات في بلاد الإنكليز والمطابع
الأهلية في ديار أوربا؛ هي التي تأخذ دائمًا على عاتقها طبع المؤلفات الأهلية
الكبيرة القيمة الواسعة الحجم، ولو أدى إلى ذلك خسارة مالية فادحة، وذلك لقصور
يد الأفراد عن القيام بما تقتضيه من النفقات الجسيمة. أما مشروعنا هذا فإنه بعيد
عن ذلك بالمرة؛ لما فيه من المكاسب التي تدعو إلى الإقدام عليه والاهتمام بشأنه.
فإذا صادفت هذه الآراء والاقتراحات ما أبتغيه لها من حسن القبول لدى
عطوفة الرئيس؛ رجوته أن يسمح لي باتخاذ الوسائل اللازمة لإنجاز هذا المشروع
على أحسن حال؛ لكي يزيد في شرف هذا العصر الأسعد المشمول بيمن خديوينا
المحبوب الأمجد، الحامي لواء العلم والأدب، الراغب في تقدم لسان العرب.
... ... ... ... ناظر المعارف العمومية
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد حشمت
__________(13/937)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(الهيئة والإسلام)
كتاب جديد في استخراج مسائل علم الهيئة الفلكية الذي وصل إليه علماء هذا
العصر من ظواهر الكتاب والسنة وأقوال آل البيت الكرام وعلماء الصحابة
الأعلام عليهم السلام والرضوان، اشتغل بتصنيفه أحد علماء النجف الأعلام
(السيد هبة الله الشهرستاني) ، وقد صدر جزآن منه في أكثر من ثلاثة مئة صفحة
كصفحات رسالة التوحيد، وتفضل المؤلف بإهدائه إلينا ونحن في القسطنطينية مع
كتاب مودة وتنبيه إلى وجه الحاجة إلى مثل هذا الكتاب في هذا العصر؛ الذي كثر
فيه المشككون في الدين بشبهات منتزعة من علم الهيئة وغيره من العلوم , وقد
حالت الشواغل الكثيرة هناك وهنا دون مطالعة الكتاب التي تمكننا من بيان مزيته،
وتلخيص شيء من فوائده، فرأينا أن نكتفي الآن بذكر بعض مسائله المهمة من
الفهرس وسننقل في جزء آخر نموذجا منه للقراء إن شاء الله تعالى.
المسألة الأولى: حقيقة الفلك توافق النصوص فيها ما عليه المتأخرون وتخالف
ما كان عليه اليونانيون، (المسألة 2) : شكل الأرض وحاملها، (3) حركة
الأرض، (4) تعدد الأراضين، (5) في أن السيارات تسع، فكيف تكون
الأرضون سبعًا، (6، 7) في حقيقة السموات السبع والأرضين وترتيبهما،
(8) مركزية الشمس لحركة السيارات. (المسألة التاسعة) الصفات الخمس لجرم
الشمس، (10) في أوصاف القمر (11) عدد السيارات (12) في سكنى
السيارات، (13) المذنبات والشهب، (14) في تعدد العوالم، يذكر المؤلف في
كل مسألة أقوال علماء الهيئة، وما ورد بمعناها في الكتاب أو السنة أو كلام الأئمة
أو الصحابة رضي الله عنهم.
***
(منطق المشرقيين)
هو آخر ما ألفه الشيخ الرئيس أبوعلي ابن سينا في فن المنطق، فهو زبدة
التحقيق عنده لهذا العلم، وقد قال فيه: (وما جمعنا هذا الكتاب لنظهره إلا لأنفسنا؛
أعني الذين يقومون مقام أنفسنا، وأما العامة من مزاولي هذا الشأن؛ فقد أعطيناهم
في منطق الشفاء ما هو كثير لهم وفوق حاجاتهم) وقد طبعه في هذا العام صاحبا
المكتبة السلفية بمصر، وطبعا معه القصيدة المزدوجة في المنطق للشيخ الرئيس
أيضًا. وطبعا في مقدمته ترجمة طويلة للمؤلف، وهو يطلب من مكتبتها ومن مكتبة
المنار بمصر، وثمنه أربعة قروش صحيحة.
***
(منتخبات البارودي)
إن قوى النفس كقوى الحس، تضعف وتقوى، وتمرض وتشفى، وتهبط
وترقى بل تموت وتحيا، وإنما حياتها وارتقاؤها برقة الشعور والوجدان ودقة التوسم
والإدراك.
يدرك حديد البصر من معارف وجه محدثه ولو على بُعْد، ما لا يدركه الكليل
على القرب، ويستشف من توسيم ما يعرض لها من التأثير، ما تنقطع دون أشعة
بصر الحسير، فهذا يعيا عن إدراك دقائق معارف الوجه، وحركات الطرف، فلا
يعرف أمامه إلا شبحًا ماثلاً، وهيكلاً شاخصًا، وذاك يدرك ما وراء المعارف من آثار
الخطاب في نفس المخاطب، فيميز بين ما عرف منه وما أنكر، وما أحب وما كره.
يتوسم فيه فيوحي إليه ذلك ابنساط الأسارير وانقباضها، ولمعانها واقتتامها،
واحمرار البشرة واصفرارها، وتخاوص العينين وجحوظهما، وترنيقهما ورنوهما
وحركتهما وسجوهما، وتصويبهما وتصعيدهما، وسائر ضروب النظر، الحدج
والشزر، والشخوص والشفن، فلكل نظر أثر باعث من نفس الناظر، وأثر حادث
في نفس المنظور إليه، فمن لا يؤثر بنظر عينيه ولا تؤثر فيه نظرات العيون،
فجدير به أن يعد من الأموات لا من الأحياء، أو من مرضى النفوس لا الأصحاء.
في القرآن العزيز آيات كثيرة في تأثير النظر وأحوال البصر، كقوله تعالى:
{وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} (القلم: 51) وقوله: {فَإِذَا بَرِقَ
البَصَرُ} (القيامة: 7) ، وقوله: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ} (الأحزاب: 19) ، وللشعراء في ذلك رقائق هي المظهر الأعلى لدقائق صناعتهم
كقول الكيواني:
وانظر إلي مرنقا ... حتى أغيب من الشعور
وقول علية بنت المهدي:
ورابني منه أني لا أزال أرى ... في طرفه قصرًا عنى إذا نظرا
وقول أبي نواس حكاية:
ويُعمل الطرف نحوي إن مررت به ... حتى ليخجلني من حدة النظر
والشعر في هذا المعنى كثير يدخل في فنون شتى.
وإن من كان سميعًا خبيرًا بأنواع الأصوات، وضروب اللهجات، ودلالة كل
جرس على كيفية خاصة في النفس، وما في لحن القول وفحواه، من إيماء إلى
غير ما يدل عليه مبناه؛ ليسمع مع الكلام ما كان باعثًا عليه من نفس المتكلم، وما
ينثني عليه صدره، وينطوي عليه قلبه، من حب وبغض، ووفاء وغدر، وأمن
وخوف، ورضًى وكره، قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ} (محمد: 30) ؛ أي فحواه ومعاريضه، ومن أعجب
الكلام إليّ في استخراج خبايا السرائر من كيفية أداء القول، وجرس اللفظ، قول
امرأة كعب بن الأشرف له عندما دعاه في الليل الذين يريدون قتله، مظهرين
الالتجاء إلى حصنه، وقد نهته عن الخروج إليهم (إنني أسمع صوتًا يقطر
منه الدم) .
إن دقة الإدراك ودقة الشعور والإحساس، هما آيتا ارتقاء النفس في درجات
الكمال الإنساني، ويرى الحكماء أن مظهر هذا الارتقاء يكون في ثلاثة أشياء:
الشعر والتصوير والموسيقى، هي التي يعبرون عنها بالفنون الجميلة، فالتصوير
هو الإشعار بالأشياء برسمها في الألواح والصحف، والشعر هو تصوير الأشياء
بالقول، ومننتهي الكمال فيهما أن لا يفوت صاحبهما شيء من دقائق الصورة
الظاهرة، ولا من دقائق أنواع الشعور الباطنة.
لولا أن كان العرب على حظ عظيم من الارتقاء في الشعر؛ لما انتشر فيهم
الإصلاح الإسلامي بتلك السرعة، ثم رقى بهم في معارض المدنية حتى صاروا
الأستاذة المصلحين لجميع الأمم، ذلك بأن الإبداع في الشعر قد أعلى مداركهم،
وأودع في طباعهم الرقة وقبول التأثير بالمؤثرات الشريفة، فالشعر هو ديوان
حكمتهم، وكتاب تاريخهم، ودفتر آدابهم، وقد ارتقى بلغتهم الواسعة، وارتقت هي
به، حتى إنك لتجد فيها من الدقائق ما يسلس لك زمام التعبير عن كل محسوس
ومعقول، فتربية الخيال الشعري فيها أكبر معين على ترقيتها، وما مرضت آدابنا،
إلا بما طرأ علينا من الجهل بلغتنا وآدابها وأشعارها، حتى صار يعسر على أخطب
الخطباء وأشعر الشعراء أن يحفز همم الجمهور منا إلى دفع خطر نحذره، أو
المبادرة إلى خير عام نرجوه.
أفسدنا لغتنا فأفسدنا نفوسنا، فضعف ذوقها واعتل وجدانها، وضعف تأثيرها
وتأثرها، ولم نستعض عما فقدناه من رقائق الشعر بالبراعة في الموسيقى ولا
التصوير، وإن أقرب الوسائل إلى إصلاح ذوق آخرنا، هي الوسيلة التي صلح بها
ذوق أولنا، ألا وهي الشعر الذي لا ترتقي آداب اللغة وذوق أهلها إلا بارتقائه،
أعني أن يكون كل عربي شاعرًا وإن لم يكن ما يبلغه الكلام منه، إذا أصاب موقع
الوجدان من النفس، والإقناع من العقل.
جعل الأدباء شعراءنا أزواجا ثلاثة: الجاهليين، والمخضرمين الذين أدركوا
الإسلام منهم، والمولدين. ولكل منهم أسلوب وفنون من المعاني تختلف باختلاف
الحالة الاجتماعية التي عاشوا فيها، وقد جمعت الدواوين للمشهورين الذين منهم
حفظت أشعارهم، فوصل إلينا بعضها دون بعض، وأتى علينا حين من الدهر لا
يبالي جماهير المتعلمين منا بالموجود، ولا يبحثون عن المفقود، حتى كانت النهضة
الأدبية العلمية الحاضرة، وطفق الناس ينشرون آثار السلف، كما ينشدون ما جدده
الخلف، حتى أثروا بما لديهم من كسب وميراث، فتكاثرت الظباء على خراش،
وضاقت الأوقات عن النظر في كل ما ينشر، واشتدت الحاجة إلى اختيار أحسن ما
يروى منه ويؤثر.
عندنا شيء من مختار أشعار الجاهليين: كديوان الحماسة لأبي تمام، وقد وفق
الله تعالى نابغة هذا العصر وإمام أهله في الأدب والشعر محمود سامي باشا البارودي
الشهير؛ لجمع ما اختار من أشعار ثلاثين شاعر من فحول المولدين، في الأدب
والمديح والرثاء والصفات والنسيب والهجاء والزهد، ورتبها في كل باب على
حروف المعجم، ووضع لها هوامش في تفسير بعض الغريب والمبهم، فكان ذلك
أربعة أسفار كبار، جديرة بأن تكون ندامى للكبار وأساتذة للصغار.
فأما الشعراء الذين اختار أحاسن أشعارهم، ومثل لنا بدائع خيالاتهم وأفكارهم
فهم فرسان البلاغة السابقون، وفحول الشعر المقرمون، وأساتذته المقدمون؛ كبشار
وأبي نواس وأبي العتاهية ومسلم بن الوليد وأبي تمام والبحتري وابن الرومي
وابن المعتز والمتنبي والشريف الرضي والمعري والديلمي والتهامي والخفاجي
والطغرائي.. . إلخ.
وأما ذلك المنتخِب فهو صاحب الأدب الرائع، والذوق السليم، والنقد الصحيح،
الذي جرى مع أولئك الفرسان في كل حلبة، وضرب معهم بكل سهم، وعارضهم
في كل ضرب من ضروب الشعر، وقد طبعت بمطبعة الجريدة بحرف جديد على
ورق جيد، فكان حسن طبعها لائقًا بحسن وضعها، كما تجلى غواني العرائس
بمعارضها، أو كما تتجلى الشجعان بسابغتها وأسلحتها، فكان ذلك مما يبعث النشاط
في قراءتها، وصححها كاتب يد منتخبها (الشيخ ياقوت المرسي) أحد علماء
الأزهر.
فأجدر بهذه المختارات أن تكون ذكرى حبيب، ومدد أديب، ودرسًا لطالب
البلاغة والأدب، وعونًا على إحياء آداب لغة العرب.
__________(13/953)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حل مشكلة اليمن وسائر جزيرة العرب
إن أقصى أمانينا أن تكون الدولة العلية أقوى دول الأرض بأسًا، ومملكتها
أوسع الممالك عمرانًا، وشعوبها أشد الشعوب اتحادًا، ولا شيء أعز علينا من دولتنا
إلا ديننا، ولا قوام لديننا إلا بلغته، فلهذا كثر الكلام في مثل سورية من بلاد
الحضارة العربية بالمسألة العربية، وقد صدق ذلك الكاتب التركي الذي كتب إلى
جريدة طنين؛ أنه ليس في سورية مسألة ترك وعرب إنما فيها مسألة عربية وتركية
فأهم ما يطلبه العرب أهل الحضارة من الدولة هو المحافظة على اللغة العربية
وترقيتها؛ بجعلها إجبارية في جميع مدارسها الرسمية، وتسهيل طريق تعليمها في
المدارس الدينية والأهلية.
وأما من تغلب عليهم البداوة من العرب؛ كأهل اليمن ونجد وخليج فارس
وبوادي العراق وما بين النهرين، فنتمنى أن يدخلوا في الاتحاد العثماني كافةً،
وترتقي بلادهم في ظل الدولة، ولكننا نعتقد أن هذا الاتحاد يستحيل أن يكون بالقوة
العسكرية القاهرة، كما يرتأي المغرورون بالعاصمة، وإن إبادتهم أسهل من
إخضاعهم بالقوة لشعب لا يعدونه منهم، ولا يحترم حالهم الروحية والاجتماعية،
وإنما يسهل إخضاعهم بالإسلام والحكمة، فلهذا اقترحت على الحكومة الدستورية
مساعدة جمعية من فضلاء الأمة على تأسيس مدرسة لتخريج المرشدين الذين
يسهلون لها هذا السبيل في جزيرة العرب وبلاد الأكراد والأرنؤود.
إن جزيرة العرب لم تر الدولة العلية حاكمة فيها إلا في بعض البلاد الساحلية
وليس لها عند القوم هنالك أثر حسن ولا ذكر صالح في شىء من الأشياء، وإنما
يوجد في اليمن والعراق آثار الخراب والدمار، وتواريخ الغدر وسفك الدماء ونهب
الأموال، ويعرف عنهم هذا جيرانهم، وهم لا يفرقون بين نوع الحكم الاستبدادي
الماضي والحكم الدستوري الذي وقفت الدولة ببابه الآن، فلا ينتظرون منها إلا مثل
الأيام التي خلت من قبل، ومع هذا كله فإنني أعتقد أنه يمكن وضع قانون لإصلاح
جزيرة العرب، يكون من أوائل مواده: أن هذه البلاد كلها تابعة للدولة العلية، وليس
لأحد من أمرائها ولا زعمائها حق في معاملة دولة من الدول الأجنبية معاملة ما لا
تأذن لها بها قوانين الدولة، وأن تدفع للدولة أموالاً أميرية، وأن تقر الدولة إمام
اليمن على إمامته في طائفته، وكذا كل أمير وزعيم على إمارته بأن يكون هو
المنفذ للنظام الداخلي فيها، وأن يترك لهم سلاحهم، ويحتم عليهم حفظ الأمن في هذه
البلاد، وتكافل الأمراء والزعماء على منع الغزو، ومساعدة الدولة على نشر التعليم
وتحضير الأعراب، وتتبع ذلك الجندية.
إذا وفقت الدولة لمثل هذا العمل، فإنها تملك جزيرة العرب ملكًا حقيقيًّا من
غير سفك دماء أبنائها، ولا إضاعة الملايين من الليرات التي تأخذها من أوربا
بالربا الفاحش والذل، وتفتح لنفسها بابًا واسعًا من الثروة، وإن أبت إلا التعجيل
بإزالة نفوذ كل ذي نفوذ بالقوة العسكرية، فإنني أخشى أن يكون الخطر عليها من
هذه السياسة من أشد الأخطار؛ لأنها تكون سياسة سفك دماء، وتدمير بلاد،
وتمزيق القوة العسكرية في بلاد لا يمكنها البقاء فيها، وما وراء ذلك إلا العذاب
الواصب، أو استيلاء الأجانب.
__________(13/958)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جمعية ندوة العلماء في الهند
كنا فرحين مغبوطين بفضل الله على المسلمين بتأليف هذه الجمعية وخدمتها
العالية للإسلام والمسلمين، حتى جاءتنا جرائد الهند الأخيرة بما أحزن قلوبنا
وأبكى عيوننا من وقوع الشقاق بين العلماء المؤلفين لهذا الجمعية، فأَوَّاه، إلى متى
يفتك في هذه الأمة الحسد والخلاف؟!
الفضل الأكبر في تأليف الجمعية ونجاحها للشيخ شبلي النعماني؛ فهو العالم
المصلح الذي تشهد له تصانيفه وآثاره، فبسعيه وجدت، وبهمته ثبتت واستقرت
ووثقت بها الأمة فأمدتها، والحكومة فساعدتها، وقد حسده على ما آتاه الله من
فضله بعض العلماء الذين أعوزهم مثل عمله وعقله، وأعياهم مثل عمله
وسعيه، فلجأ إلى السلاح الذي أهلك هذه الأمة؛ وهو الخلاف الذي يكبره ويمده
الحسد والبغي: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً
بَيْنَهُمْ} (البقرة: 213) فاتهموه بالاعتزال وترك الصلاة، كما اتُّهِمَ من قبل
المصلحان العظيمان في هذه البلاد، وقاوموه فيما توخاه من تسهيل أساليب التعليم
الإسلامي؛ كما قاوم أمثالهم أمثاله من المصلحين، منتصرين للكتب المعقدة
التي ألفوها.
هذا مجمل ما بلغنا من أمر هذه الجمعية، فنسأل الله تعالى أن ينزع ما في
قلوب الحاسدين من غل، ويطهرهم من الحسد والبغي، فيتذكروا أن في الخلاف
والتفرق الهلاك، وفي التآلف والتعاون النجاة والسعادة، فحسب هذه الأمة ما فعل
فيها الخلاف من إضعافها وتمزيقها وإزالة عزها وسلطانها، إلى متى إلى متى، إنما
يتذكر أولو الألباب.
__________(13/959)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة السنة الثالثة عشرة
تمت السنة الثالثة عشر للمنار بحمد الله وتوفيقه، وقد كتبنا ثلاثة أرباع هذا
المجلد في القسطنطينية؛ تارةً في فنادقها وتارةً في المراكب البخارية التي تجول في
زقاقها (البوسفور) ، ولم يتيسر لنا تصحيح أكثر ما كتبناه فكان الغلط فيه كثيرًا،
وقد وضعنا جداول للمهم مما عثرنا عليه منه ونشرناه في الأجزاء الماضية،
ولشقيقنا السيد صالح والسيد حسين ما في الأجزاء الثمانية الأولى من التقاريظ، وقد
ذيل كل منهما ما كتبه بإمضائه، وهما اللذان اختارا بعض الرسائل التي جاءت
المنار أو وردت في بعض الصحف، ولهما بعض الهوامش؛ كالتعريف بأصحاب
الرسائل أو القصائد التي نشرت في تلك الأجزاء؛ وكتفسير بعض الألفاظ، وخبران
في آخر ص 392 كتب هذا باسم المنار، وتنبيه في آخر ص 696 نُشِرَ خَطَأً ولا
حاجة إليه.
أما الانتقاد على المنار، فلم يرد إلينا شيء منه على شرطنا في هذا العام إلا
ذكرناه وبينا ما عندنا فيه، فمن أرسل شيئًا من ذلك ولم يره، فليذكرنا به أو لِيُعِدُهُ
إليها لعله فُقِدَ أو أهملت إدارة المجلة إرساله إلينا ونحن في سفرنا، وندعو أهل العلم
والإخلاص إلى تعاهدنا بالانتقاد والنصيحة عندما يجدون ما يوجب ذلك، ونحن على
وعدنا بنشر نقدهم، فمن عاب المنار أو خَطَّأَهُ ولم يكتب ذلك إليه فهو فاسق مغتاب
لا قاصد لبيان الحق والصواب.
وأما المشتركون فالماطلون منهم كانوا أشد مطلاً، وأقل وفاء في هذه السنة
التي غبنَّا أكثر شهورها، وقد انتدب أحد الأنجاد الأمجاد في تونس لتحصيل حقوق
المنار من المشتركين، والحق أن للكثيرين منهم ومن غيرهم بعض العذر بما ألفوا
وتعودوا من عدم دفع المال إلا بالإلحاح في السؤال، ونحن قد أكرمناهم أن نلح
عليهم، ووكلنا الأمر إلى مروءتهم، وما كل أحد يخطر بباله هذا فالتقصير منا أكثر
واللوم علينا أكبر.
وفي الختام، نسأل الله تعالى دوام التوفيق والإخلاص، وله الأمر من قبل
ومن بعد، وصلاة وسلام على المرسلين، وتحية ورضوان على المصلحين،
والحمد الله رب العالمين.
__________(13/960)
المجلد رقم (14)(14/)
المحرم - 1329هـ
يناير - 1911م(14/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة المجلد الرابع عشر
بسم الله الرحمنِ الرحيم
أحمدك اللهم وأنت ولي الحمد، ولك الأمر من قبل ومن بعد، تخرج الحي
من الميت، وتخرج الميت من الحي، وتخلق الضعف من القوة وتخلق القوة من
الضعف، وتجعل العلم من الجهل، وتجعل الجهل من العلم، وتنصر الحق على
الباطل ولا تنصر الباطل على الحق، فللحق السلطان الأعلى ما وجد من يقوم به،
وإنما بقاء الباطل في نوم الحق عنه، وقد قلت وقولك الحق {إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49) {وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ} (هود: 45) .
أحمدك اللهم وأصلي وأسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين، النبي
الأمي الذي بعثته في الأميين، فزكّاهم بالتأديب والتربية الفضلى وعلّمهم الكتاب
والحكمة العليا، فكانوا بتربيته سادة العالمين، وبتعليمه أئمة العالمين، فاستجبت
فيه دعوة أبيه إبراهيم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) .
أحمدك اللهم وأسألك الرحمة والرضوان، والبركة والإحسان، لآل نبيك
الطاهرين، وأصحابه الهادين المهديين، الذين ابتلوا في سبيلك فثبتوا وصدقوا
وأوذوا لاتباع دينك فصابروا وصبروا، الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم فهاجروا
وهجروا، الذين عاهدوا فوفوا وآووا ونصروا، ولمن اتبعهم بإحسان، على هداية
السنة والقرآن، أولئك هم الصالحون المصلحون، والعاملون المخلصون (9:
101) {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ
رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً
ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيم} (التوبة: 100) .
أحمدُك اللهم وأسألك أن تهدينا صراطهم المستقيم، وتقينا كما وقيتهم من كيد
الشيطان الرجيم، وتعيذنا كما أعذتهم من شر الوسواس، الذي يوسوس في صدور
الناس، من الجنة والناس، من شياطين الجن المستترين، وشياطين الإنس
الظاهرين، الذين يقعدون بكل صراط يوعدون، ويصدون عن سبيل الله من آمن
ويبتغونها عوجًا، الذين قطعوا حبل الرابطة التي آخيت بها بين المسلمين، ففرقوا
بينهم في الجنس والوطن ومذاهب الدين، فقالوا عربي وتركي، ومصري وغير
مصري، وسني وشيعي، وأنت قلت وقولك الحق: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً
وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَاناَ} (آل عمران: 103) إلي قولك الحكيم: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:
105) .
اللهم، إنهم قد تفرقوا عن حقك، وفرقوا بين من جمعتهم بالتوحيد من خلقك،
واتبعوا سنن من قبلهم، في أيام فسادهم وجهلهم، وقد عادوا أولئك المتفرقون إلي
الاتحاد ولم يعودوا، وتابوا عن التعادي والخصام ولم يتوبوا، فغيرت ما بهم، لما
غيروا ما بأنفسهم، تصديقًا لكتابك، وإنفاذًا لسنتك، غيرت تلك النعمة التي أنعمت
بها على سلفهم من الملك الواسع، والعز السابغ والمال الوافر، وأدلت الدولة
لسواهم، وجعلتهم في حكمهم ورزقهم عالة عليهم، ولا تزال بلادهم تنتقص من
أطرافها، ويتغلغل نفوذ الأجانب في أحشائها، وقد أتى عليهم حين من الدهر
يسمعون نذر الزوال من كتاب الوحي ولا يزدجرون، ويشاهدون عبر النكال في
كتاب الكون ولا يعتبرون، {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} (المدثر: 49) ،
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 68) .
اللهم، إنك تعلم أن ما حل بالمسلمين بتركهم الاعتصام بكتابك، وإعراضهم
عن سنتك في خلقك، قد جعله الناس شبهة على كتابك الحكيم، ووسيلة للطعن في
دينك القويم، وما ظلمتهم ولكن كانوا هم الظالمين، والقرآن هو حجتك عليهم
أجمعين، أمرهم بالاتحاد والاعتصام فتفرقوا، ونهاهم عن الاختلاف فيه فاختلفوا، ولا
يزالون مختلفين، إلا من رحمتهم من المقربين {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ
الآخِرِينَ} (الواقعة: 13-14)) ومن أصحاب اليمين، {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ *
وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: 39-40) .
اللهم، إنك لم تذر المؤمنين الأولين على ما كانوا عليه، ولا تدع المسلمين
على ما انتهوا إليه، بل مزت وتميز الخبيث من الطيب، وزيلت وتزيل بين المفسد والمصلح، ووفقت من شئت لنشر دعوة التوحيد والاعتصام، بين جميع
الشعوب والأقوام، اللهم، فانصرهم وهم حزبك على أحزاب الشيطان، المفرقين
بين المسلمين في المذاهب أو العناصر أو اللغات أو الأوطان، وقهم اللهم فتن السياسة
وشرور زعمائها محبي الرياسة، الذين يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، ولقد
جاءهم من ربهم الهدى، ولكنهم آثروا عليه الشهوة والهوى، فيناضل فارسهم بسهام
البهتان، ولا بالدليل والبرهان، وينافح بالنميمة وقول الزور، ويدل بالمخيلة
والدعوى والعجب والغرور، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ
كِتَابٍ مُّنِيرٍ} (الحج: 8) ، {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي العُمْيَ وَمَن كَانَ فِي
ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الزخرف: 40) .
أحمدك اللهم عودًا على بدء؛ أن وفقتني لتأييد المصلحين، والدعوة إلي
الاتحاد والائتلاف بين المسلمين، فقد تم بفضلك وتوفيقك للمنار ثلاثة عشر عامًا،
يدعو إلي ذلك بدليلَيْ النقل والعقل، والأساليب المتنوعة من القول الفصل،
وأضرع إليك أن توفقني على رأس العام الرابع عشر في السعي إليه بالفعل، وأن
تظهر هذا الدين في الآخرين، كما أظهرته في الأولين، فقد بدا غريبًا، وعاد كما
بدا في غربته، فأتم اللهم التشبيه باستتباع ذلك لظهوره وقوته، وانصر دعاته
الصادقين، على عداته المنافقين، الذين يلبسون لباسه ويجهلون حقيقته، فيجنون
عليه ما لا يجني المنكرون له، حتى صدق عليهم ما قلته في المتفرقين قبلهم
{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ} (الحشر: 2) {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ
أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} (الحشر 14: 15) .
اللهم، إنك تعلم أن من هؤلاء المفرقين من أعماه الحسد وحب الظهور،
ومنهم من أصمه الكبر والغرور، ومنهم من أفسده الفسق والفجور، ومنهم من أبعده
الكفر بك، والصدود عن هداية رسلك، فهم أمشاج مختلفون في عقائدهم وأخلاقهم
الباطنة، مختلفون في عاداتهم وأعمالهم الظاهرة، لا يجمع بين قادتهم إلا حب المال
والجاه في الحياة، والطمع في نصب التماثيل والصور لهم بعد الممات، وتلك
عاقبة الذبذبة، فيما ابتليت به هذه الأمة من اختلاف التعليم والتربية، نال الأجانب
من نفوسهم ما يشتهون، وهم لا يشعرون، فهم لهم خادمون، ويحسبون أنهم هم
المقاومون، أولئك هم المفرقون، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، يفرقون
بين أعضاء الأمة، ويحللون العناصر التي يتركب منها جسم الدولة، أولئك هم
الأخسرون أعمالاً، والرابحون أقوالاً وأموالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا،
وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت
تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة: 16) .
اللهم، قد ضاق ذرع المصلحين، بهؤلاء المفسدين المفرقين، كلما داووا
جرحًا سالت جروح، وكلما رتقوا فتقًا ظهرت لهم فتوق، وكثرت الدعوة بالباطل،
واختلط الحابل بالنابل، وظهر في جو السياسة العارض الممطر، واضطربت
القلوب من موعد الصبح المسفر، يومئذ تظهر عاقبة الذين يعملون في السر، ضد
ما يقولون ويدعون في الجهر، ويتبرأ أهل الجنوب من شياطينهم أهل الشمال؛ إذا
ظهر ما يضمرون لما بقي للإسلام من سلطان وشبه سلطان، بإغراء أولئك الذين
قضوا على سلطة غيره من الأديان، ويومئذ يعلم المغرورون من نوكى المسلمين،
أنهم كانوا فاتنين مفتونين، ( {إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ} (الصافات: 106) ،
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) .
تطلعت رءوس الفتن، واشتعلت نارها في ألبانية فحوران فاليمن، يخرب
المسلمون بيوتهم بأيدهم، ويقتلون أنفسهم بسيوفهم، ويمهدون السبل للطامعين فيهم،
فيكفونهم أمر الحرب، وبذل المال وسفك الدم، أهلك أهل الحضارة والترف منهم
حب الشهوات، وأهلك أهل الخشونة والتقشف الجهلُ بالفنون والصناعات، وقد
أفسد الرؤساء من الفريقين حب الرياسة، وما يتبعها من فتن السياسة (أعوذ بالله
من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يلفظ من
كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها
السياسة، وكل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس
ويسوس، وسائس ومسوس) [1] فالسياسة مسار الفتن، ومصدر الإفك والكذب،
ومورد السعاية والمحل، وناهيك بسياسة أهل الضعف، في مثل هذا العصر،
الذين فقدوا كل شيء، ويدعي الواحد منهم كل شيء، ويجرد من لا يتبع أهواءهم
من كل شيء، يلبسون الحق بالباطل، وينصرون من يتبع أهواءهم من مظلوم أو
ظالم، يؤيدون المفسدين والمجرمين، ويتجرمون على البرآء الصالحين، {قُل لاَّ
تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ: 25) ، {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا
ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ} (سبأ: 26) .
يا أيها المفتون المغرور، المختال في ثوبين من الزور، اعلم أنه ليس في
طاقة أحد أن يتقن كل عمل، فيكون رئيسًا أو زعيمًا في السياسة، والعلم والدين
والأدب والكتابة والخطابة، والأمور الاجتماعية والمالية، وكل ما تحتاج إليه الأمة
لتكون من الأمم الحية، فعليك إن كنت من الصادقين أن تتقن عملاً ما، ثم تكون
عونًا وظهيرًا للعاملين، ويا أيها المفتون بالقوة، ادخر قوتك للقاء خصمك الأقوياء،
ولا تضعفها بالبغي على إخوانك الضعفاء، فرب جهاد في غير عدو، ورب
ضعة في حب العلو، ورب باغ على نفسه، وهو يحسب أنه ينتقم من خصمه،
والبغي مصرعه وخيم، {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا
السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ} (الشورى: 41-42) .
يا أهل القرآن، أقيموا القرآن، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان،
قد غلبتم على ما فرطتم فيه من حقكم، فنزا على مصالحكم الملاحدة والفاسقون من
قومكم، وكانوا هم المنافذ والكوى لدخول سلطان الأجانب في أرضكم، تركتم لهم
دنياكم فطمعوا في دينكم، يريدون إطفاء نوره والإحاطة بوليه ونصيره، فأفيقوا من
نومكم، واتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وانشروا دعوة الإسلام، واجعلوا أمامكم
القرآن، فهو حبل الله الممدود بين أهل الإيمان {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ
تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) ، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) .
هذا ما يذكِّر به المنار قراءه المصطفين الأخيار، على رأس عامه الرابع عشر،
كما هي سنته في فاتحة كل سنة، وإنها لتذكرة للخاصة، بحسب حالة الإصلاح
العامة، ويدعوهم كما يدعو جميع العلماء الذين يطلعون عليه، إلى الكتابة إليه بما
يرونه منتفدًا فيه، مؤيدًا بالدليل والبرهان، لا بقول فلان ورأي فلان، فإنما المنار
صحيفة جميع المسلمين، لا صحيفة طائفة واحدة من المقلدين، فهو يدعوهم إلى
الاجتماع على ما اتفقوا عليه، وأن لا يتعادوا فيما اختلفوا فيه، بل يردوه إلى الله
والرسول، فهو خير عمل وأحسن تأويل، {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: 9) .
... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني
__________
(1) هذه الاستعاذة للأستاذ الإمام رحمه الله تعالى.(14/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاشتراك في المنار
(1) جرى العرف في أقطارنا كلها بأن المشترك في صحيفة مؤقتة؛
كالجرائد والمجلات، اشتراكه مسانهة، كلما جاءت سنة كان مشتركًا فيها، ما لم
يؤذن صاحب الصحيفة قبل دخول السنة الجديدة أو في أولها بقطع الاشتراك.
وعملاً بهذا العرف، ترسل المنار إلى المشتركين في العام الماضي، فمَنْ قَبِلَ هذا
الجزء الأول كان مشتركًا إلى آخر هذه السنة، ووجب عليه أن يؤدي قيمة
الاشتراك كاملة وإن بدا له في أثناء السنة قطع الاشتراك وجعله نصف سنة، فمن
لم يرض بهذا الشرط، فليرد إلينا هذا الجزء.
(2) من أحب ابتداء الاشتراك في المنار هذا العام، فعليه أن يرسل القيمة
سلفًا مع طلب، وهي مبينة على غلاف كل جزء.
(3) إذا لم يصل بعض الأجزاء إلى المشترك، فالإدارة ترسله إليه إذا
طلبه بعد موعد وصوله إليه بشهر واحد، فإن طلبه بعد ذلك أو طلب بدلاً عما
أضاعه من الأجزاء، فعليه أن يرسل ثمن ما يطلبه، وثمن الجزء بمصر ستة
قروش، وفي الخارج فرنك ونصف.
__________(14/8)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة من سومطرا
(س1-3) لصاحب الإمضاء في فيلمبغ (سومطرا) .
إلى حضرة الأستاذ الأكبر مرشد الأنام، ومشيد دعائم الإسلام، السيد محمد
رشيد رضا. بعد التحية والإكرام؛ بناءً على واسع حلمكم، ووافر علمكم، أتجاسر
على أن أقدم لحضرتكم بعض المسائل الدينية التي أعيانا حلها، وقد أصبحت اليوم
بطرفنا من الوقائع الحالية، مؤملاً من حميد شيمكم أن تجيبونا عنها على صفحات
مناركم المنير، ولشدة مسيس الحاجة إلى الجواب نلح على سماحتكم في المبادرة به،
فالناس لجنابكم منتظرون، ولكم من الله جزيل الأجر، ومنا جميل الشكر، وهي
هذه:
(1) ما قولكم - لا برحتم نورًا للمبتدئين، وحسامًا مصلتًا على رقاب الملحدين
- في جبانة ببلادنا تدفن فيها أموات المسلمين، وقد اشتدت في هذه الأيام إليها حاجة
الحكومة؛ لجعلها رصيفًا على البحر لوقوف البواخر؛ بسبب لياقتها لذلك وقربها من
الميناء، وقد أضحى من المتعذر هنا وجود غيرها من الأراضي التي تجدر بأن تكون
رصيفًا، وقد أعلنت الحكومة قصدها هذا، وطلبت من المسلمين من غير إجبار أن
ينبشوا موتاهم، وينقلوهم إلى مكان آخر؛ ليتسنى لها بحث الأرض المطلوبة
وتسويتها؟ ولا برحت تكرر الطلب مع الإعلان بعدم الإكراه، فهل يجوز للمسلمين -
والحالة هذه - نبش موتاهم نظراً للمصلحة العمومية أم لا؟ فإن قلتم لا، فهل يحصل
الجواز لو فرضنا وجود الإكراه والإجبار من الحكومة أم لا يحصل؟ تفضلوا
سادتي بادروا بالجواب.
(2) وما قولكم لا زال مناركم شجًا في حلوق الدجالين، وشبًا ترتعد منه
فرائص المحتالين، في خضاب اللحية أو حلقها، هل ورد في السنة المنيفة نص
يصرح بتحريم ذلك، فإن قلتم: لا، فهل وقع الإجماع على التحريم، وما هو
الحكم فيما لم يَنُص الكتاب والسنة على تحريمه، ولا انعقد عليه الإجماع، وهل
للقياس مدخل في هذا الباب؟ أفيدونا مأجورين.
(3) وما قولكم - حفظكم الله وأبقاكم - في ضمانة الحياة، هل يجوز في
شرعنا الشريف الجنوح إليها؟ وما الدليل على عدم الجواز لو فرضنا قولكم به؟
فإن سبق لكم في هذا كلام في المنار أو غيره، فالمأمول من فضلكم عدم إحالتنا
عليه، والمكرر يحلو، جزاكم الله عن هذه الأمة خيرًا، آمين.
... ... ... ... ... ... السيد جعفر بن شيخ السقاف
(ج1 نبش المقابر وجعلها للمصلحة العامة)
المشهور في كتب الفقه أن المقابر المسبلة يحرم البناء فيها، سواء كان المبني
قبة أم بيتًا أم مسجدًا ويجب هدمه، قال ابن حجر الهيتمي: حتى قبة إمامنا الشافعي
التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة، فيتعين
الرفع للإمام. وقال: إنه لا يجوز زرع شيء فيها؛ لأنه لا يجوز الانتفاع بها بغير
الدفن.
قال الشمس الرملي: وقد أفتى جماعة من العلماء بهدم ما بني فيها، ويظهر
حمله على ما إذا عرف حاله في الوضع، فإن جهل ترك حملاً على وضعه بحق،
كما في الكنائس التي نقر أهل الذمة عليها في بلدنا، وجهلنا حالها، وكما في
البناء الموجود على حافة الأنهار والشوارع، وصرح في المجموع بحرمة البناء
في المسبلة، قال الأذرعي: ويقرب إلحاق الموات بها؛ لأن فيه تضييقًا على
المسلمين بما لا مصلحة ولا غرض شرعي فيه بخلاف الإحياء ا. هـ وتأمل تقييده
الحرمة بالتضييق بما لا مصلحة فيه، وهل يعمل بمفهومه من أنه إذا كانت هناك مصلحة عامة وامتنع التضييق باستبدال تلك المقبرة بغيرها فإنه يجوز.
وأما نبش القبور، فإن كان قبل البلى حرم إلا لضرورة وعد الفقهاء منها
الدفن بغير غسل، أو في أرض مغصوبة، أو ثياب مغصوبة، أو لغير القبلة أو
وقع في القبر مال، وغير ذلك، قال الرملي في النهاية أما بعد البلى عند من مر
(أي أهل الخبرة بتلك الأرض) فلا يحرم النبش، بل تحرم عمارته وتسوية ترابه
عليه، إذا كان في مقبرة مسبلة؛ لامتناع الناس من الدفن فيه لظنهم عدم البلى.
وقال الشعراني في الميزان الكبرى: (واتفقوا على أنه لا يجوز حفر قبر
الميت؛ ليدفن عنده آخر إلا إذا مضى على الميت زمن يبلى في مثله ويصير رميمًا،
فيجوز حينئذ، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: إذا مضى على الميت حول،
فازرعوا الموضع اهـ.
والشافعية صرحوا بمنع زراعة المقبرة المسبلة والموقوفة، كالبناء عليها
وتشريف القبور فيها؛ لأن ذلك يمنع من الانتفاع.
وفي كتاب (كشف القناع عن متن الإقناع) من كتب الحنابلة المعتبرة؛ أن
البناء على القبر مكروه، وفي المسبلة أشد كراهة، وعن الإمام أحمد منعه في وقف
عام، ثم قال ما نصه: وإذا صار (الميت) رميمًا جازت الزراعة وحرثه (أي
موضع الدفن) وغير ذلك؛ كالبناء عليه، قاله أبو المعالي. والمراد (أي بقول أبي
المعالي) : تجوز الزراعة والحرث ونحوهما إذا صار رميمًا (إذا لم يخالف شرط
الواقف لتعيينه الجهة) بأن عين الأرض للدفن، فلا يجوز حرثها ولا غرسها. اهـ.
المراد منه، ثم ذكر جواز نبش قبور المشركين؛ ليتخذ مكانها مسجدًا؛ لأن موضع
مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان مقبرة لهم؛ فاشترى الأرض، وأمر بنبشها
وجعلها مسجدا، وكذا إذا كان فيها مال. وعبر في المنتهى من كتبهم بقوله: (ويباح
نبش قبر حربي لمصلحة أو لمال فيه) .
هذا ما رأيت أن أورده من كلام الفقهاء، والمذاهب فيه متقاربة، ولا أذكر
نصًا صريحًا عندهم في الواقعة، وقد رأيت ما ذكره بعضهم من المصلحة،
وجمهورهم على أن المقبرة الموقوفة أو المسبلة ليس لأحد أن يتصرف فيها بغير
الدفن، حتى إنهم منعوا أن يحفر الإنسان فيها قبرًا لنفسه أو لغيره من الأحياء؛
ليدفن فيه عند الموت، ومن الفقهاء من يرى أنه يجوز التصرف في الوقف
بالاستبدال، وبما هو أقرب إلى مقصد الواقف، والتصرف في المسبلة أهون،
وروي عن الإمام أحمد جواز استبدال مسجد بمسجد للمصلحة، واحتج بأن عمر
أبدل مسجد الكوفة القديم بآخر، وصار الأول سوقًا، وجوز أن يباع ويبنى بثمنه
غيره للمصلحة، ولو في مكان أو بلد آخر.
أما الكتاب فلا ذكر فيه لهذه المسألة، والسنة كذلك، إلا أنه ورد فيها مما
يتعلق بالمسألة حديث بناء مسجد النبي (صلى الله عليه وسلم) في مكان كان مقبرة،
وتقدمت الإشارة إلى ذلك في كلام الفقهاء، وحديث جابر عند البخاري والنسائي
قال: (دفن مع أبي رجل فلم تطب نفسي حتى أخرجته فجعلته في قبر على حدة.
قال بعض العلماء: وفيه دليل على أنه يجوز نبش الميت لأمر يتعلق بالحي،
أي على رأي من يعد فعل الصحابي حجة، وهو خلاف ما عليه الجمهور، ولو
كان لهم عناية بالاحتجاج لهذه المسألة، لقالوا: إن هذا العمل مما لا يخفى، وقد
أقره الصحابة عليه، فكان إجماعًا، وكم قالوا مثل ذلك.
والذي أراه أن هذه المسألة كسائر المسائل التي لا نص فيها عن الشارع ترد
إلى أولي الأمر من المسلمين، وهم رءوس الناس وأصحاب العلم والمكانة فيهم،
فيتشاورون فيها، ويقررون ما يرون فيه المصلحة للمسلمين، فإذا رأوا المصلحة
في استبدال مقبرة أخرى بها استبدلوا، ولهم أن ينقلوا حينئذ رمم الموتى ويدفنوها
في المقبرة الجديدة، وإلا فلا. وأما إذا أكرهتهم الحكومة على ذلك، فالأمر ظاهر
أنهم يكونون معذورين.
(ج 2 خضاب اللحية وحلقها)
أما خضاب اللحية وكذا غيرها فهو مستحب، وقد ثبت في الأحاديث
الصحيحة الأمر به؛ كحديث أبي هريرة في الصحيحين: (إن اليهود والنصارى لا
يصبغون فخالفوهم) وهناك أحاديث أخرى، وفيها تصريح بالخضاب بالحمرة
والصفرة والحناء والكتم وهو - بالتحريك - نبات بالبادية خضابه أصفر، وإذا مزج
بالحناء جاء لون الشعر بين السواد والحمرة. وخضب النبي صلى لله عليه وسلم كما
صححه النووي والحسن والحسين وكثير من كبراء الصحابة، وكره بعض
العلماء الخضاب؛ لما ورد من وصف الشيب بالنور، وقال بعضهم: يتبع عادة
بلده؛ لأن هذه المسألة من العادات لا من العبادات، ولكن آداب السلف أعلى،
فينبغي إيثارها.
قال علي القاري في الشمائل: ثم إن القائلين باستحباب الخضاب، اختلفوا
في أنه يجوز الخضب بالسواد والأفضل بالحمرة والصفرة، فذهب أكثر العلماء إلى
كراهة الخضاب بالسواد، وجنح النووي إلى أنها كراهية تحريم، وأن من
العلماء من رخص فيه للجهاد ولم يرخص في غيره، واستحبوا الخضاب بالحمرة
أو الصفرة؛ لحديث جابر قال: أتي بأبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم فتح مكة، ورأسه كالثغامة بياضًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
غيروا هذا، واجتنبوا السواد أخرجه مسلم ثم قال: والثغامة بضم المثلثة وتخفيف
المعجمة نبات شديد البياض زهره وثمره، ولحديث أبي ذر رفعه (إن أحسن ما
غيرتم به الشيب الحناء والكتم) أخرجه الأربعة وأحمد وابن حبان وصححه
الترمذي، وتقدم أن الصبغ بهما يخرج بين السواد والحمرة. اهـ.
أقول: حديث مسلم في أبي قحافة رواه أحمد من حديث أنس بلفظ (ولا
تقربوا السواد) ، وزاد في الفردوس يعني أبا قحافة، فالنهي في الحديث خاص به،
والسواد للشيخ الهرم يستقبح. وفي الباب حديث ابن عمر عن الطبراني والحاكم
(الصفرة خضاب المؤمن والحمرة خضاب المسلم والسواد خضاب الكافر) .
والحديث منكر كما قال الحافظ الذهبي، وقال الهيتمي: فيه من لم أعرفه. وحديث
ابن عباس عند أبي داود والنسائي (سيكون قوم في آخر الزمان يخضبون بهذا
السواد كحواصل الحمام لا يجدون رائحة الجنة) ، زعم العراقي أن إسناده جيد،
ولكن قال ملا علي القاري: في إسناده مقال، ولو كان مما يحتج به لجزموا
بالتحريم، وحديث أبي الدرداء (من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة)
قال علي القاري: إسناده لين اهـ. والصواب أن ضعفه أشد من ذلك، ولا يصح
في هذه الحنيفة السمحة، مثل هذا الوعيد فيما لا ضرر فيه في دين ولا نفس ولا
عرض ولا عقل ولا مال، وهي الكليات الخمس للمحرمات في الإسلام. على أن
هذه الأحاديث الضعيفة معارضة بمثلها، وبما هو أقوى كحديث الأمر المطلق
بالصبغ في الصحيح، وحديث صهيب عند ابن ماجه (إن أحسن ما اختضبتم به
لهذا السواد، أرغب لنسائكم فيكم، وأهيب لكم في صدور عدوكم) ؛ ولأجل
التعليل الثاني، قال بعض العلماء: إن كراهة الخضاب بالسواد، تنتفي بنية الجهاد
أي: لمن هو من أهله، وحملوا على ذلك ما روي عن بعض السلف من
الاختضاب به، ومنهم ابن عمر وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما، وما ورد
من تعليل كراهة السواد؛ لكونه كان من عادة الكفار، يفيد زوال الكراهية بانتفاء
اختصاصهم بذلك، وتتجه الكراهية الشديدة بل التحريم إذا كان في الخضاب غش
محرم.
وأما حلق اللحية فهو مكروه، فإن من آداب السنة قص الشارب وإعفاء اللحية،
وفي ذلك عدة أحاديث في الصحيحين والسنن، وقد علل ذلك فيها؛ بمخالفة
المشركين والمجوس واليهود والنصارى، وذلك أن الأمم تتميز بآدابها وعاداتها
وأزيائها، وإنما يتشبه الضعيف بالقوي، والواطئ بالعلي، وقد يفضي إسراف
الضعيف في التقليد والتشبه إلى ضياع استقلاله، وتمكين من يتشبه بهم ويقلدهم من
التصرف بجميع أمره، فلا يقولن قائل: إن هذا من أمور العادات لا من أمور الدين،
وقد فقه حكمته وفائدته للمتبعين، وأشهر الأحاديث في ذلك حديث ابن عمر
مرفوعًا (خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفروا اللحى) رواه الشيخان، وإذا
زال الاختصاص زال معنى التمايز، وقد صار بعض المسلمين يعفي لحيته تشبهًا
بالإفرنج. وأما سؤال السائل في هذا المقام عن العمل؛ بما لم يرد فيه كتاب ولا
سنة ولا إجماع، فقد أشرنا إلى جوابه بالإجمال في الجواب الأول، ويراه مفصلاً
في تفسير هذا الجزء من المنار وما قبله.
(ج 3 ضمان الحياة)
لم يذكر السائل كيفية هذا الضمان ولا عقده، والمشهور أن هذا عن العقود
التي تشبه الميسر (القمار) ؛ في كون الذي يعطي المال لشركة الضمان، لا
يعطيها إياه في مقابلة عمل تعمله له أو منفعة تسديها إليه، وإنما يرجو بذلك أن
تأخذ ورثته منها أكثر مما أعطى إن هو مات قبل المدة المعينة، وجمهور الفقهاء
يصرحون بأن مثل هذا العقد باطل ومحرم؛ لما فيه من إضاعة المال الواجب
حفظه، وعدم بذله إلا فيما فيه منفعة دينية أو دنيوية معلومة أو مظنونة، وليست
كل العقود التي يحكم الفقهاء ببطلانها محرمة دينيًا فإنهم قد يشترطون شروطًا
اجتهادية، لا يحكم قاضيهم ولا ينفذ أميرهم الحكم إلا إذا تحققت في العقد، وإلا لم
يكن في ترك الشرط منها مخالفة لأمر الله ورسوله، وقد صرح بعض الفقهاء بحل
جميع العقود والشروط التي يتعاقد الناس عليها، ويشترطونها إذا لم تكن مخالفة
للكتاب والسنة الصحيحة، وهذا هو الصواب. وقد ذكرناه في المنار غير مرة،
وربما نفصل القول فيه في وقت آخر تفصيلاً.
__________(14/29)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جمعية الدعوة والإرشاد
{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ
عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 46) .
أشهد الله وملائكته والصالحين من عباده؛ بأنني سعيت إلى إنفاذ مشروع
الدعوة والإرشاد في القسطنطينية، وأنا أعتقد اعتقادًا راسخًا لا زلزال فيه ولا
اضطراب؛ أنه أنفع ما يخدم به دين الإسلام في نفسه، وأنه أقرب الطرق لارتقاء
المسلمين في دينهم ودنياهم، وأن البلاد العثمانية ستكون هي التي تجني بواكر
ثمراته، وأن سيكون من هذه الثمرات ائتلاف الشعوب العثمانية وتعاونها على
ترقية البلاد في العلوم والآداب والثروة والعمران، وشدة الاتحاد بالدولة، ومنع
الفتن والثورات الداخلية؛ لأن المرشدين للعامة إذا كانوا من العلماء الأتقياء الخطباء،
يكون تأثيرهم أقوى من كل تأثير.
سعيت إلى إنفاذ المشروع هناك، فرأيت جميع العقلاء، حتى من غير
المسلمين متفقين على نفعه وفائدته، وكونه لا يحل محله سواه، حتى إن جريدة
صباح ولاتوركي أثنتا عليه وهما لغير المسلمين، ولكن تصدى لمقاومته رجلان من
المسلمين أحدهما من رجال الحكومة وجمعية الاتحاد والترقي والآخر من المبعوثين
قاوماه في الباطن، وهما يدعيان المساعدة عليه في الظاهر. فأما رجل الحكومة
والجمعية فلا أصرح باسمه الآن، ويعرفه جميع أعضاء جمعية العلم والإرشاد التي
أسسناها هناك، وأكثر أهل البصيرة في الآستانة من العلماء وغيرهم. وأما
المبعوث فهو عبيد الله أفندي مبعوث أزمير، وصاحب الجريدة المسماة بالعرب.
أقمت في الآستانة سنة كاملة كما علم قراء المنار، ومعظم أعمالي في مصر
معطلة، ثم عدت ولا زال يبلغني من بعض أصحاب الشأن في حكومتها أنهم
يريدون تنفيذ المشروع الذي وافقوا عليه فيها، وعن غيرهم أنهم لا يريدون ذلك،
وهذا ما حملني على السعي لتنفيذه هنا بأوسع وأكمل مما وافقوني عليه هناك.
لا يختلف اثنان في أن أول ما يبدأ به في مثل هذا العمل هو مكاشفة من
يرجى منهم القيام به؛ ودعوتهم إلى الاجتماع والتشاور فيه، وهذا ما بدأت به وقبل
أن يتم اختيار الأفراد الذين أحببت أن يكونوا هم المؤسسين. قامت جريدة العلم
التي هي لسان حال الحزب الوطني بمصر ترجف بالمشروع، وتلبس على الناس
أمره، وباتفاق محمد بك فريد رئيس الحزب والشيخ عبد العزيز شاويش رئيس
تحرير جريدة العلم على مقاومته، فكان مثل خذلان المسلمين لأنفسهم ولدينهم
بمصر والآستانة واحدًا.
كانت جريدة العلم زعمت أنه يوجد بمصر جمعية تدعى جمعية الاتحاد العربي
غرضها فصل البلاد العربية من الدولة العثمانية، وإقامة خليفة عربي فيها تحت
حماية الإنكليز، وأنها تعمل أعلامًا مطرزة لترسلها إلى البلاد العربية، ثم مزجت
مشروع الدعوة والإرشاد بتلك الأوهام، وأطلقت القول في ذم العرب.
خرق في السياسة وسعاية للإيقاع بين الشعبين الكبيرين المقومين للأمة
العثمانية؛ وهما العرب والترك، عن جهل أو علم، فالشعب العربي أكثر عددًا
وأوسع بلادًا، وقيمته وقيمة بلاده المعنوية في هذه الدولة أعظم من كل شيء،
وهذا الطعن فيه يتضمن الطعن في الدولة نفسها، كما نعلم ذلك من العهد الحميدي
المظلم الذي كان يروج فيه مثل هذه السعايات والوشايات الوهمية؛ التي كانت
جريدة اللواء ترجف بها.
ليس هذا المقام بمقام البحث في هذه المسألة، وإنما ذكرتها لأبين أن جريدة
العلم بنت عليها الطعن والإرجاف في مشروع الدعوة والإرشاد، وجعلته تابعًا لها
ووسيلة إليها، وهو المشروع المقدس من أدناس السياسة وأهلها المفسدين، وكان
المغرور بما أرجف به، كان يتوهم أنه بإرجافه يقضي على هذا المشروع ويقتله
وهو جنين حتى لا يطمع أحد في وجوده فيعمل له؛ وفاته أن المخلصين لا يبالون
من رماهم بالريبة، وأكل لحومهم بالغيبة، ولا يثنيهم عن عملهم الإفك والبهتان،
وإنما يزيدهم ذلك إيمانًا وعزمًا، ويقولون حسبنا الله ونعم الوكيل.
وها نحن أولاء نسجل ما كتب في جريدة العلم مع الرد عليه؛ ليكون من مادة
تاريخ هذا المشروع الجليل، وللزمان الحكم الفصل في إظهار الحقائق للعالمين،
وإبطال أباطيل المبطلين، وإلى الله المصير والعاقبة للمتقين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(14/35)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المقالة الأولى لجريدة العلم
نشرت جريدة العلم بعد الذي أشرنا إليه في المقدمة المقالة الآتية في عددها
205 الذي صدر في 8 المحرم، وهذا نصها:
(مدرسة التبشير الإسلامي)
ما وراء الحجاب
إن فكرة إرسال مبشرين بالإسلام في أطراف الأرض؛ لنصح العامة،
وتمكين عقيدة التوحيد في نفوس أهل الشرك، قد عرضت في العهد الأخير للأستاذ
المرحوم الشيخ محمد عبده، ولقد سمعناه يقول: إنه لولا حكم عبد الحميد ووساوسه
لعرض على الدولة العلية اتخاذ الآستانة التي هي دار الخلافة مقرًّا لتلك المدرسة
الدينية.
مات الشيخ محمد عبده، ودالت دولة عبد الحميد، وحل الدستور والعدل
والعقل محل الفوضى والظلم والجنون، فخطر للشيخ رشيد فيما نظن تحقيق أماني
أستاذنا المرحوم، فذهب إلى دار السعادة، وأفضى بمشروعه إلى ذوي الحل والعقد
هناك، فرحبوا به لأنه من الضرورات اللازمة للعالم الإسلامي، وقد تمكنت
الجهالة بأصول الإسلام من نفوس عامة المسلمين وخاصتهم، حتى إن أحدهم ليسمع
آي كتاب الله أو شيئًا من سنة رسوله المصطفى، فلا يخيل إليه إلا أنها بدع أو
مفتريات تلصق بالدين!
رحب رجال الدولة بهذا المشروع، وأرادوا أن يحلوه محله الطبيعي، بجعله
تحت رعاية شيخ الإسلام الذي له دون سواه الإشراف على المعاهد الدينية، فأبى
ذلك صاحب المشروع، وزادهم نفورًا منه فيما يقولون ما اتصل بهم (إن صدقًا
وإن كذبًا) من إفراطه في الاشتغال بالمسألة العربية، وإغراقه في التحرش
بالأتراك، لقد كان يبلغهم ذلك فيظنون بالشيخ الظنون، ويخشون مغبة تسليمه مقاليد
تلك المدرسة، فأبوا إلا أن تلحق رأسًا بالمشيخة، وهم الآن فيما نعلم يشتغلون
بإقامتها واختيار المعلمين الصالحين لها، كما أنهم مشتغلون بوضع برامجها
وميزانيتها ونظامها، وربما افتتحت في المستقبل القريب إن شاء الله تعالى.
ولقد نقل إلينا من الآستانة العلية أن الشيخ رشيد رضا لم يكد ييأس من
استقلاله بأمر تلك المدرسة حتى سارع إلى الاستعانة ببعض ذوي السلطان من
العرب؛ لينشئوا مدرسة للتبشير عربية، ويدور في الأندية من الإشاعات والأقاويل
ما لا يسعنا إلا استبعاده.
فمن ذلك أن جمعية الاتحاد العربي هي التي تسعى وراء ذلك في الخفاء،
وتريد أن توجد تلك المدرسة لتخرج في الظاهر مبشرين بالإسلام، وفي الباطل
مبشرين بدعوتهم الخصوصية إلى مناهضة الأتراك والاستبداد بالوظائف، ونحو
ذلك من الأغراض الحقيرة.
ومن الأقاويل أن الموعز بذلك هم الإنكليز، يردون أن يبلغوا بذلك ما يتمنونه
من تفويض دعائم المملكة العثمانية - خلَّدها الله - ليقيموا بدلها خلافة عربية،
يضعونها في أيدي عباد الشهوات والأموال، حتى يتم لهم الاحتكام المطلق في العالم
الإسلامي - لا قدر الله - كما تم لدولة المماليك، الذين سخَّروا الخلفاء في عهدهم
لبلوغ مآربهم، وقصورهم على الخطبة والصلاة على الجنائز، والتصدر في
المواكب والمجالس.
ولقد ظلت الخلافة الإسلامية في ذلك التعس والانحطاط، حتى قيَّض الله لها
آل عثمان فرفعوا من شأنها، وأعلوا من كلمتها، ودافعوا عن بيضتها. فالإنجليز
يريدون اليوم بتشجيع تلك العصبة الغوية الغافلة؛ أن يعيدوا للخلافة الإسلامية ذلك
العهد الذي كان شرًّا ووبالاً على العالم الإسلامي جميعه، فيتخذوا من تلك العصبة
خليفة، يقيمون به دولة سلطانها الأعظم وخاقانها الأفخم الملك جورج الخامس،
ويؤسسون ملكًا يكون حاكمه العامل السير إدوارد جرتي وكعبته المقدسة لندن.
ومن الإشاعات المتناقلة أيضًا أن القائمين بهذا المشروع مخلصون، لا
يريدون إلا الخير للعالم الإسلامي، ولكنهم مع ذلك يخطئون في عدم أخذهم بالحزم
من الأمور؛ إذ استهانوا بما يحف بعملهم هذا من الشبهات، وما يعتوره من الشكوك،
ويقول هؤلاء: إنه كان الأجمل أن يتربص بالأمر قليلاً حتى تقيم الدولة العلية
مدرسة الآستانة، فتلحق مدرسة القاهرة بها، أو أن يكتفى بتلقين تلاميذ الأزهر
جميع ما يلزم المبشرين من فنون الوعظ وأساليب الإرشاد، وإذا علمنا أن برنامج
الأزهر أمثل الأشياء وأشبهها بما يرمي إليه ذلك المشروع، نعلم أن زيادة مادة أو
مادتين على ما احتواه بالفعل كافية لجعل الأزهر تلك المدرسة التي يريدونها،
ويسعون إلى إقامتها، دون أن يكون من وراء ذلك مجلبة للظنون ومثار للتهم، وإذا
ارتأى بعض القائمين بهذا المشروع عدم كفاءة علماء الأزهر لتدريب طلاب التبشير
وتمرينهم على هذا الفن الجديد، فليتقدم بنفسه: إما متطوعًا أو مأجورًا ليقوم في
الأزهر بهذا الأمر، وليكون له في العاقبة جميل الشكر وجزيل الأجر.
هذا ما رأيناه أن نقدمه من النصائح للقائمين بهذه الحركة الجديدة، ناصحين
للمخلصين منهم أن يتجنبوا مواطن الشبه، وألا يساعدوا العاملين على التحرش
بدولتهم، المناهضين لإخوانهم العثمانيين، المساعدين للدسائس الأجنبية،
المروجين للفتن الداخلية، فليتقوا الله في دينهم، وليتقوا الله في جامعتهم، وليتقوا
الله في أنفسهم، فإنما هلك من قبلهم بهذا الطيش والرعونة، وبالكدح إلى نيل
مآربهم السافلة الحقيرة.
وإذا كان الأتراك فيما تزعمون؛ قد اغتالوا ما تسمونه بالوظائف واستبدوا بها،
فإنما هم إخوانكم في الدين وشركاؤكم في الجنسية.
وإذا كانوا أصابوكم بشيء من الأذى كما تتقولون، فقد قال المثل قديمًا: أنفك
منك ولو كان أجدع.
فاتقوا الله، واحذروا أن تنصب عليكم داهية ككسف الليل المظلم، لا تجدون
منها مخرجًا، ولا ترجون بعدها فرجًا.
إلا إنني لا أخاف على الدولة العلية من رعاياها البلغاريين ولا اليونانيين ولا
الأرمن ولا العربي المسيحي، وإنما أخاف عليها العربي المسلم يطمح إلى الوظائف،
ويعمد إلى كتاب الله، فيستفز العامة بما يؤول من آياته ويحرف من بيناته، ولولا
نزعات الشياطين، لكان العالم الإسلامي كما أمره الله أمة واحدة، ولقام بدل
المفرقين منهم أمة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحفظ
حدود الله، وتصلح بين الناس، حتى لا يحب أحدهم لأخيه إلا ما يحب لنفسه،
ولكن {هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} (الأنعام: 65) .اهـ.
***
(المنار)
هذا أول ما كتبه الشيخ عبد العزيز شاويش في جريدة العلم، التي هي لسان
حال الحزب الوطني؛ إرجافاً بالمشروع من غير مشاورة أعضاء مجلس إدارة
الحزب ولا لجانه، ولكن بأمر محمد بك فريد. وقد جعل في الكلام منافذ لأجل
الخروج منها، إذا اضطر إلى الرجوع عن مقاومة هذا المشروع الإسلامي الجليل،
فبنى كلامه على (أقاويل) افتجرها، وقال: إنه يستبعدها، ورأيت بعدها بعض
أصحابه يقصدون إلى محادثتي في المشروع، ويمزجون كلامهم بالتعريض ثم
التصريح باستحسان دعوتي إياه؛ ليكون من المؤسسين، ويذكرون من الرأي في
الاستفادة منه ما يذكرون، وقد ذكر بعضهم من أمره وحاله في عمله الذي هو فيه ما
لا نذكره، فقلت لهم: إن هذا المشروع يجب أن يكون بعيدًا من السياسة والمشتغلين
بها، فلهذا السبب ولأسباب أخرى لا يمكن أن يكون الشيخ شاويش من المؤسسين
لهذا العمل والمديرين له الآن، وقد كنت عازمًا على استشارته فيه وطلب مساعدته
عليه، قبل أن يتهور في الإرجاف به وتشكيك الناس فيه. أما وقد فعل فعلته، فقد
أغنانا الله عن مساعدته.
بنى الشيخ شاويش إرجافه على الأقاويل المتفجرة، وهو يعلم أن جماهير
العامة لا يلتفتون إلى كلمة الأقاويل المستبعدة، وكلمة (إن صدقًا وإن كذبًا) وإنما
يأخذون من جملة الكلام أن هذا المشروع ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قبله
العذاب؛ لأنه سيفصل البلاد العربية من جسم المملكة العثمانية، ويؤسس فيها
خلافة لمملكة إنكليزية! ! بخ بخ لهؤلاء الزعماء الخادمين للدولة بمثل هذه الدسائس
التي كانت شر السيئات الرابحة في سوق السياسة الحميدية.
كتب الشيخ الشاويش ما كتبه، ونحن في ابتداء دعوة الفضلاء المخلصين
للإسلام إلى العمل، فعلمنا أن في الناس من ضعاف الرأي ومقلدة الجرائد الذين هم
أتباع كل ناعق، من يصدق كل ما ينشر فيها لعجزهم عن تمحيص الكلام، والتمييز
بين الممكن والمحال، فلأجل هذا كتبت المقالتين الآتيتين لأنشرهما في الجرائد
إبطالاً لإرجاف جريدة العلم، وبيانًا للمشروع في نفسه ليعلم حقيقته من لم يعلم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(14/37)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المقالة الأولى التي كتبت
ردًّا على جريدة العلم التي يصدرها الحزب الوطني
(مشروع العلم والإرشاد في الآستانة)
(والدعوة والإرشاد بمصر)
] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ [[1]
ذكر هذا المشروع في بعض الجرائد محفوفًا بأوهام غريبة عنه، ونشرت
جريدة (العلم) مقالة افتتاحية في العدد الذي صدر في ثامن المحرم، أرجف كاتبها
فيها بالموضوع إرجافًا مبنيًّا على أقاويل لا يجزم بصحتها، وكان يسهل عليه أن
يراجعني أو يراجع المنار ويرى فيه ما كتبته عن المشروع، وأنا في الآستانة بين
أولي الأمر وأهل الحل والعقد، وكذا ما كتبته جرائد الآستانة التركية والعربية من
المقالات في إزالة سوء التفاهم بين العرب والترك، والتأليف بينهم بحجج الإسلام
القيمة، وآيات السياسة البينة.
فإن كان لم يتح له الرجوع إلى صاحب المشروع، ولا مراجعة ما كتبه فإن
صاحب المشروع يكتب بيانًا وجيزًا يعلم منه خطأ تلك الأقاويل التي بنى عليها كلامه،
لعله يرجع عنه، وينقض تلك الشكوك التي أقامها حول أفضل وأقدس عمل ديني
اجتماعي، يخدم به المسلمون دينهم وهو الدعوة إلى الإسلام، ودفع شبهات
المشككين فيه والمنفرين عنه، وهو فاعل- إن شاء الله تعالى - إن كان
حسن النية فيما أخطأ فيه من قبل.
ليست فكرة الدعوة وبث الدعاة إلى الإسلام بالفكرة التي حدثت عندي في هذه
الأيام، فيقال: إنني أريد أن أخدم بها جمعية سياسية جديدة؛ إن صح ما أذاعته جريدة
العلم ولم نسمعه إلا عنها من خبر هذه الجمعية، وإنما هي أمنية قديمة، صارت
رغيبة ثم اقترنت بها العزيمة بعد تمهيد طويل، وإليك البيان بالإيجاز:
كنت في أيام طلبي للعلم في طرابلس الشام، أتردد بعد الخروج من المدرسة
إلى مكتبة المبشرين الأمريكانيين، أقرأ جريدتهم الدينية، وبعض كتبهم ورسائلهم،
وأجادل قسوسهم ومعلميهم، وأتمنى لو كان للمسلمين جمعية كجمعيتهم، ومدارس
كمدارسهم، ولما هاجرت إلى مصر وأنشأت المنار، قويت عندي هذه الفكرة،
وأحببت أن أنبه المسلمين لها، فكتبت في جمادى الأولى من سنة 1318 مقالتين
عنوان إحداهما (الدعوة حياة الأديان) ، وعنوان الثانية: (الدعوة وطريقها وآدابها)
ونشرتهما في المجلد الثالث من المنار، وكتبت مقالات أخرى في الرد على كتب
وصحف دعاة النصرانية الذين يطعنون في الإسلام، عنوانها العام: (شبهات
النصارى وحجج المسلمين) ، وكنت أقصد بذلك إعداد النفوس للقيام بهذه الفريضة؛
فريضة الاجتماع والتعاون على الدعوة، أي أنني بدأت بالكتابة في ذلك منذ عشر
سنين أو أكثر.
وفي سنة 1323 توجهت نفسي للسعي والعمل، فكتبت في المنار مقالة نوهت
فيها بالدعوة، وأشرت إلى ما تحتاج إليه من الاستعداد، وبحثت فيها عن دعوة
اليابانيين إلى الإسلام، وكان قد شاع أنهم يريدون عقد مؤتمر ديني للبحث عن أمثل
الأديان وأجدرها بالاتباع ليتبعوه، وبدأت بالسعي لتأسيس جمعية الدعوة، يكون أول
عملها إنشاء مدرسة لتخريج الدعاة، وجعلت تلك المقالة تمهيدًا لذلك، فكان لها
تأثير حسن في الأقطار الإسلامية شرقيها وغربيها، وبدأت المكاتبة في ذلك بيني
وبين أهل الغيرة من الصين إلى بلاد المغرب، وقد أشرت إلى ذلك في الجزء
الأول من المنار الذي صدر في المحرم سنة 1324 أي: منذ خمس سنين.
كاشفت يومئذ بهذا الأمر كثيرًا من أصدقائي بمصر، ورغبت إلى صاحب
الدولة رياض باشا أن يكون رئيس الجمعية التي تقوم بالاكتتاب لتنفيذ العمل، وإلى
محمود بك سالم أن يكون السر لها، وإلى حسن باشا عاصم - رحمه الله تعالى -
ومحمد بك راسم، وغيرهما من الفضلاء أن يكونوا أعضاء مؤسسين،
واجتمع بعض من دعوتهم للمذاكرة في ذلك مرارًا في إدارة المنار.
وشاورت يومئذ أحمد مختار باشا الغازي في العمل فاستحسنه هو وولده
محمود باشا، ووعدني ولده بالاشتراك بمائة جنيه في السنة عدا ما يدفعه من نفقات
التأسيس، ولكن عرض في أثناء السعي دعوة مصطفى كامل بك الغمراوي إلى
تأسيس مدرسة جامعة مصرية، وتلت ذلك العسرة المالية في مصر، فوقف
الاكتتاب للمدرسة الجامعة، ووقف أيضًا سعيي إلى مشروع الدعوة.
ثم حدث في سنة 1326 الانقلاب العثماني الذي كنا نسعى إليه في الخفاء، ثم
خلع السلطان عبد الحميد الذي كان مانعًا في بلاده من كل علم وعمل نافع يجب
على المسلمين القيام به مجتمعين، فعزمت أن أجعل مشروع الدعوة والإرشاد في
الآستانة لأسباب أهمها أمران: (أحدهما) أنني أرجو من نجاحه ومساعدته والثقة
به بالآستانة في ظل الدستور، ما لا أرجوه في مصر التي كنت أتوقع فيها مقاومة
الحزب الوطني، كما كنت أحذر مقاومته في طلب الدستور من السلطان عبد الحميد،
فاشتغل بذلك سرًّا. (وثانيهما) أنني رأيت بلاد الدولة تكثر فيها الفتن باختلاف
العناصر والأديان والمذاهب، وأنني أعلم أن لكل طائفة من النصارى العثمانيين
مدارس دينية تابعة لبطاركهم، على شدة إقبالهم على مدارس دعاة دينهم من الإفرنج،
وأعلم أن المسلمين هم المحرومون من ذلك، فقلت في نفسي: إن تأسيس
المشروع في الآستانة، تكون فائدته الأولى ترقية مسلمي الدولة العلية في دينهم
ودنياهم، والتأليف بينهم وبين أبناء وطنهم، ومنع أسباب الفتن والخروج على
الدولة من أقرب طرقها وهو الوعظ الديني، وبذلك يكون ارتقاء الأمة العثمانية
الاجتماعي والاقتصادي سريعًا، وبه تزيد ثروة الدولة وقوتها.
رحلت إلى الآستانة في أواخر رمضان من سنة 1327، بعد مكاتبة في
المشروع مع بعض معارفي فيها، ومع بعض رجال جمعية الاتحاد والترقي في
سلانيك، ظهر لي منها ميلها إلى مشروعي، حتى إنها سألت عن سفري بلسان
البرق، وتلقتني بالحفاوة في أزمير والآستانة، وقد أقمت في الآستانة سنة كاملة لا
عمل لي فيها إلا السعي لهذا المشروع، ولحسن التفاهم بين العنصرين المقومين
لهذه الدولة وهما العرب والترك اللذان شبهتهما بالعنصرين المكونين الماء أو الهواء،
وقد كتبت في هذه المسألة الأخيرة مقالات، نشرت أكثرها هنالك بالتركية
والعربية في جريدة إقدام، وجريدة كلمة الحق، ثم جريدة الحضارة، ويجدها
القارئ كلها في مجلدي المنار للسنتين الماضيتين.
عرضت المشروع هنالك على وزراء الدولة وكبرائها من رجال جمعية
الاتحاد والترقي وغيرهم، فاتفقت كلمتهم بعد البحث معي في لجنتين: إحداهما
علمية، والأخرى سياسية، على أن يصرف النظر عن البحث في مسألة تخريج
الدعاة إلى الإسلام، وإن تسمى المدرسة المراد إنشاؤها (دار العلم والإرشاد) ،
وجمعيتها (جمعية العلم والإرشاد) . وكان وصل المشروع في وزارة حسين حلمي
باشا إلى حيز التنفيذ؛ إذ قال لي: إن العمل قد تم نهائيًا، فألف الجمعية حالاً،
ونحن نصرف لكم الآن خمسة آلاف ليرة؛ لأجل الابتداء بالعمل، وفي أول السنة
المالية تزيد لكم بقدر الحاجة. ولكن استقالت وزارة حسين حلمي قبل أن نتمكن من
تأليف الجمعية.
ثم استأنفت العمل في وزارة حقي باشا، وقد عرض عليَّ ناظر الداخلية
وناظر المعارف فيها أن آخذ رخصة المدرسة باسمي، وأدع مسألة الجمعية إلى
فرصة أخرى، فلم أقبل، وقلت: يجوز أن أموت بعد مدة قليلة وحينئذ تصير
المدرسة لورثتي، وهم ليسوا أهلاً لهذا العمل، فلا بد من جمعية دائمة.
وقد فوضت إليهم اختيار أعضاء المؤسسين، فاختارهم ناظر المعارف مع
مدير شعبة الإلهيات والأدبيات في دار الفنون من صفوة رجالهم في المشيخة
الإسلامية ومجلس الأمة ونظارات الحكومة، وقد ذكرت أسماءهم في الجزء السادس
من المنار الذي صدر في آخر جمادى الآخرة سنة 1328، ومنهم شيخ الإسلام
الحال (وكان من أعضاء مجلس الأعيان والمدرسين) ومستشار المشيخة، واقترح
بعض الأعضاء أن يكون شيخ الإسلام رئيس شرف للجمعية، فقبلت.
* * *
قال صاحب مقالة جريدة (العلم) في مقالته التي أرد عليها بعد ذكر رحلتي
إلى الآستانة، وعرض المشروع على أولي الشأن ما نصه: (رحب رجال الدولة
بهذا المشروع، وأرادوا أن يحلوه محله الطبيعي بجعله تحت رعاية شيخ الإسلام
الذي له دون سواه الإشراف على المعاهد الدينية، فأبى ذلك صاحب المشروع،
وزادهم نفورًا منه فيما يقولون ما اتصل بهم (إن صدقًا وإن كذبًا) من إفراطه في
الاشتغال بالمسألة العربية، وإغراقه في التحرش بالأتراك، لقد كان يبلغهم ذلك
فيظنون بالشيخ الظنون، ويخشون مغبة تسليمه مقاليد تلك المدرسة، فأبوا إلا أن
تلحق بالمشيخة، وهم الآن فيما نعلم يشتغلون بإقامتها) .ا. هـ
أقول: (1) قول الكاتب إنهم رحبوا بالمشروع - يعني المشروع الذي عبر
عنه بالتبشير الإسلامي - غير صحيح، وإنما رحبت وزارة حسين حلمي باشا
بمشروع تربية المرشدين الذين يكونون وُعَّاظًا ومعلمين للمسلمين؛ لشدة الحاجة
إليهم في بلاد الدولة العلية، وأراد أن ينفذه كما اقترحت من غير أن يكون لشيخ
الإسلام رأي فيه، ولا إشراف عليه.
(2) لما سقطت وزارة حلمي باشا، بقيت بضعة أشهر أراجع وزارة حقي
باشا، حتى اقتنعت بوجوب تنفيذ مشروع العلم والإرشاد، لا الدعوة والإرشاد،
بواسطة جمعية لا بواسطة شيخ الإسلام، وتأسست الجمعية، وصدقت عليها
الحكومة رسميًّا، وقانونها أو نظامها الأساسي مطبوع في المنار (ج6م13) .
(3) إن كون المشروع في يد جمعية من خيار رجال العاصمة، ينافي أن
يكون بيدي، فلا محل لخوفهم مني إن صح أنهم سمعوا عني ما ينفرهم، فإن كان
جعل المدرسة تابعة للمشيخة مبنيًّا على عدم الثقة، فإنما ذلك عدم الثقة بالجمعية
التي ألفوها، لا بعضو واحد له فيها صوت واحد، وإن كان هو صاحب المشروع.
(4) الحق الذي وقع هو أنه لم يقترح أحد من رجال الدولة جعل هذا
المشروع تابعًا للمشيخة، بل كانوا كلهم متفقين على جعل المدرسة من المدارس التي
يسمونها (المكاتب الخصوصية) وعلى أن فائدتها بأن لا تكون من مدارس
الحكومية الرسمية (ولا أزيد على هذا الآن) .
(5) إننا بعد تأسيس الجمعية وتصديق الحكومة عليها، طلبنا من شيخ
الإسلام أن يستنجز الحكومة ما وعدتنا به من المال، فقال لنا بعد أن ذاكر الصدر
الأعظم واتفق معه على ذلك: اكتبوا ما تريدون من المساعدة، فكتبت صورة مذكرة،
وترجمها كاتب الجمعية العام بالتركية، وأعطيناه إياها، فأمر بتبييضها ثم ختمها،
وأخذها بيده إلى الباب العالي، وبقيت أنا ألح بعرضها على مجلس الوكلاء؛
لأجل تقريرها زمنًا طويلاً حتى عرضت، وبشَّرني شيخ الإسلام وناظر المعارف
بقبولها وصدور القرار الرسمي بمقتضاها.
(6) كان هذا في شعبان من السنة الماضية، وفي الأسبوع الأول من
رمضان بلغنا شيخ الإسلام صورة القرار الذي قرره مجلس الوكلاء، فإذا فيه أن
المدرسة تكون لها لجنة تحت إدارة ومسؤولية شيخ الإسلام، ولم يطرق سمع أحد من
أعضاء الجمعية هذا الرأي إلا في أوائل رمضان، وهو الشهر المتمم للسنة من
سعيي للمشروع هناك.
(7) لم أكن أنا الذي اعترضت وحدي على هذه الفقرة من القرار، بل
اجتمعت جمعية العلم والإرشاد بدار الفنون بعد ظهر يوم الجمعة 19 رمضان سنة
1328، وقررت باتفاق الآراء الاعتراض على قرار مجلس الوكلاء، وبلغوا شيخ
الإسلام قرارهم بالكتابة الرسمية، فقال - حفظه الله تعالى: إن الاعتراض في
محله (حقكز وار) أي معك الحق، وأنه سيراجع الباب العالي، ويقترح تعديل
قرار مجلس الوكلاء، وجعل المدرسة (دار العلم والإرشاد) خاصة بالجمعية التي
ألفت لأجلها، وكذلك قال ناظر المعارف ووعد، وقال لي أحمد نعيم بك بابان
العضو في مجلس المعارف وفي مجلس إدارة الجمعية: أظن أن الناظر كتب بالفعل
إلى الباب العالي يقترح تعديل القرار.
* * *
هذا نبأ وجيز من تاريخ المسألة، وهو يدحض جميع تلك (الأقاويل)
و (الإشاعات) التي بني عليها كلامه كاتب تلك المقالة في جريدة العلم، ومنه يعلم
كل من له مسكة من الاستقلال في الفهم والرأي أنه لا مجال للظنون والأراجيف في
هذا المشروع العظيم، ولا في سعي هذا العاجز الضعيف إليه، وهل يعقل أن أترك
عملي الكثير بمصر، وأقيم سنة كاملة في الآستانة، وأخسر من المال والوقت ما لا
غنى لي عنه، إلا لشدة إخلاصي في خدمة ديني ودولتي، كما سبق لي منذ قدرت
على خدمتهما.
أما ما قيل (إن صدقًا وإن كذبًا) من إفراطي في الاشتغال بالمسألة العربية،
فليعلم ذلك الكاتب أنه من الكذب والبهتان، وهو أغرب من اتهام الحزب الوطني
بخدمة الإنكليز في المسألة المصرية وتمهيده السبيل لامتلاكهم مصر. وذلك أن
كتاباتي في محاربة العصبية الجنسية في الإسلام، وفي أخوة المسلمين العامة،
وفي التأليف بين العرب والترك خاصة، منبثة في ثلاثة عشر مجلدًا ضخمًا من
المنار، وفي أربعة مجلدات من التفسير، ولا أطيل في هذه المسألة البديهية، فإنما
غرضي في هذا المقال بيان ما لا بد منه من أمر مشروع الإرشاد في الآستانة العلية،
ليعلم أنه لا مجال للاشتباه فيه، وأن ما تقرر هنالك لا يغني عن إنشاء مدرسة
للدعوة إلى الإسلام هنا.
وسأبين في مقال آخر جوهر المشروع المتفق على إنشائه هنا، وأنه لا مجال
فيه أيضًا للأراجيف والظنون، وأنه لا يعارضه ولا يناهضه إلا عدو للإسلام
والمسلمين، أو حاسد للعاملين، فاصبر إن الله مع الصابرين.
وما سكتنا عن بيان المشروع في الجرائد؛ لأنه سري أو لأن فيه شيئًا سريًّا، وإنما
هو طور التكوين، فمتى تم تكوينه بيناه للناس أجمعين، ولتعلمن نبأه بعد حين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) فصلت: 33.(14/41)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المقالة الثانية
وهي المقالة التي أرسلتها إلى الجرائد في بيان المشروع ووجه الحاجة إليه
برأي الجماعة التي تسعى معي في تنفيذه.
(مشروع الدعوة والإرشاد في مصر)
{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) ،
الدعوة إلى الإسلام فريضة، إذا تركها المسلمون يكونون كلهم عصاة لله تعالى
مستحقين لعذابه، وإذا قام بها بعضهم سقط الحرج عن الباقين.
والدفاع عن الإسلام عند ظهور الشُّبَه وإلقاء الشكوك في عقائده وأصوله
فرض أيضًا، فإذا سكتوا عنه حيث يظهر كانوا عصاة لله تعالى مستحقين لعذابه،
وإذا قام به بعضهم وحصلت بهم الكفاية سقط الإثم عن الباقين.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الحاجة من فرائض الكفاية أيضًا،
فإذا سكت المسلمون عنه حيث يترك المعروف من الفرائض والسنن ويظهر المنكر
من البدع والمعاصي، كان جميع المسلمين هناك آثمين مستحقين لعذاب الدنيا
بذهاب عزهم ومجدهم، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون، وإذا قام به من
تحصل بهم الكفاية سقط الحرج عن الباقين.
هذه مسائل مجملة مجمع عليها بين المسلمين الذين يعتد بإسلامهم، ولها
تفصيل وجزئيات معروفة في مواضعها من كتب الدين بشروطها وأدلتها.
وقد أهملت هذه الفرائض في زماننا هذا إهمالاً لم يسبق له نظير، كما أن
الحاجة إليها قد اشتدت اشتدادًا لم يسبق له نظير في تاريخ الإسلام.
فشا الجهل بين المسلمين، وكثرت فيهم البدع والخرافات، وقل الوعاظ
والمعلمون الذين يتصدون لإرشاد العامة أو فقدوا (اللهم إلا الدجالين المحتالين على
التجارة بدينهم) ، وانبثت دعاة النصرانية في جميع شعوبهم، يشككونهم في دين
الإسلام، ويطعنون في كتابه المنزل، وفي نبيه المرسل، ويبثون مطاعنهم
بالخطب في المحافل العامة، والتعليم في المدارس الخاصة، والوعظ في الملاجئ
والمستشفيات، وبكتب ورسائل يطبعونها وينشرونها في الناس، وأكثر المسلمين
عوام أميون، لا يميزون بين الحق والباطل ولا بين الصادق والكاذب، مما يعزى
إلى دينهم وإلى علمائهم، ووراء ذلك أموال تبذل للمرتدين، تغر الطامعين الجاهلين.
فصار من الواجب المحتم عليهم في كل البلاد أن يقاوموا هذه الشكوك
والشبهات دفاعًا عن دينهم، وأن لا يكتفوا بالدفاع كما هو شأن الضعيف، بل
يزيدوا عليه تعليم عامة المسلمين حقيقة دينهم، ويدعوا غير المسلمين ولا سيما
الوثنيين إلى هذا الدين القويم، دين العقل والفطرة، المصدق لجميع الرسل،
الجامع بين مصالح الروح والجسد، المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة.
يجب أن تقاوم هذه القوة المهاجمة لهم بمثلها، وأنى لهم مع هذا التخاذل
والتواكل والتحاسد والتباغض أن يأتوا بمثلها.
إن لكل مذهب من مذاهب النصرانية جمعيات دينية غنية بالهبات والتبرعات
ولهذه الجمعيات فروع، كل فرع منها موجه لتنصير شعب من الشعوب؛ فمنهم
الموجهون لتنصير العرب يتعلمون العربية ويتقنونها أكثر من أهلها، يؤلفون الكتب
بها، ويعلمونها في مدارسهم، وهم منبثون في البلاد العربية والآسيوية والأفريقية،
ومنهم الموجهون لتنصير الفرس، والموجهون لتنصير الترك، والموجهون لتنصير
الهنود، ولتنصير الجاويين ... إلخ.
يشعر المسلمون في مصر بالألم والامتعاض عندما يرون جريدة من جرائد
هؤلاء الدعاة، أو كتابًا من كتبهم، أو رسالة من رسائلهم، تطعن في دينهم.
يتألمون لأنهم يعدون هذا إهانة لهم، وقلما يخطر في بال أحد منهم؛ أن بعض
المسلمين ينخدع بها فيشك في دينه أو يخرج منه لأن ضروريات الإسلام معروفة
هنا بين العامة في الجملة، ومعرفتها كافية لرفض كل ما يخالفها والإعراض عنه،
ويزيدهم قلة مبالاة ما يرونه من المطاعن الجديرة بالسخرية؛ كالكتاب الذي نشرته
المكتبة الإنكليزية بمصر، لقسيس إنكليزي ذكر فيه سورة زعم أنها كانت سقطت
من القرآن أو كتمت، وما تلك السورة بسورة، وإنما هي كلام ركيك، تتبرأ منه
الصحافة والبلاغة؛ بل اللغة العربية.
إلا فاعلموا أيها الإخوة، إن هذه الجمعيات قد انتزعت في مصر نفسها أفرادًا
من المسلمين ونصرتهم، ولكنكم لا تشعرون بهم لقلتهم، فماذا ترونها تفعل في غير
مصر من البلاد التي لا يعرف فيها الإسلام كما يعرف بمصر، ولا يوجد فيها من
يدافع عنه كما يوجد في مصر.
جاءني في كتاب من سائح مسلم مشهور بسنغافورة بتاريخ 14 شوال سنة
1328 ما نصه: إني قد ترددت إلى جاوه ومتعلقاتها منذ ثلث قرن، وقد تبين لي
أن دعاة النصرانية قد أضروا بالإسلام وأهله؛ لتغلب الجهل عليهم لمنع الحكومة
الهولندية دخول الدعاة إلى الإسلام، وحجتها أنهم ليسوا علماء بل دجاجلة، وكل
من منعته أو طردته ليس من متخرجي المدارس، ولقد هالني جدًّا ما رأيته في
سياحتي هذه، فإن الداء قد تمكن وفتك بالأهالي فتكًا ذريعًا مهولاً، وبالجملة أقول:
إن المتنصرين سنويًّا من مسلمي جاوه ومتعلقاتها - هندينذرلند - لا يقلون عن مائة
ألف إنسان، وإذا دام هذا، عادت جاوه أندلسًا ثانية (إلى أن قال بعد لوم العرب
الذين هنالك على سكوتهم عن هذا الأمر) ولو وجد عالم له إلمام بفن الدعوة،
وبعض معرفة بلغة أورباوية، وكان ذا عقل واعتدال، وساح في هذه النواحي،
لأوقف هذا التيار الجارف. فكيف لو وجدت بعثة كالبعثات الأوربية.
ثم جاءني منه كتاب آخر جوابًا عن كتاب أرسلته إليه مبشرًا إياه بالسعي
لإنشاء مدرسة لتخريج الدعاة إلى الإسلام، وصل إليَّ في 11 المحرم الحال، وقد
كتب في 24 ذي الحجة الماضي، وفيه ما نصه:
(أما ما ذكرته لكم من فتك دعاة النصرانية بأهل هذه النواحي فصحيح لا
مرية فيه، بل الأمر أشد وأكبر ولا سيما في جزائر تيمور ويتووسليس وبندقيني
وفلفاني ولا قوة إلا بالله، إلى أن قال: أما ما عرفتموه عن عدم سريان سموم
أولئك الأدعياء في الأقطار التي عرفتموها فله أسباب، كلها لا توجد هنا من تصلب
الأهالي، ووجود شيء من العصبية، وقليل من العلماء وبصيص من نور التمدن،
وكثرة قراء المجلات ونحو ذلك) .
(ولو عرفتم ما عرفته عن حال من بهذه الجهات لعجبتم من بقاء عشرات
الملايين على الإسلام مع ما هم فيه من الجهل، وما يعرض عليهم من الإعانات إن
تنصروا) .
(وأسأل الله أن يمدكم بعونه وتوفيقه ليتم لكم إقامة جمعية الدعوة والإرشاد،
ويطيل عمركم حتى تروا ثمرتها ونفعها للإسلام وأهله، وأرى أن لو كاتبتم أهل
الهند ولا سيما رؤساء ندوة العلماء؛ ليمدوا لكم يد المعاونة لكان حسنا) .ا. هـ
لا يوجد قطر من الأقطار الإسلامية إلا وعنده من أنباء هؤلاء الدعاة في بلاده
ما يحرك غيرته الدينية، ويذكره بما يجب عليه لدينه من القيام بمثل ذلك. ولكن
المسلمين أصيبوا بأمراض اجتماعية، حتى صاروا على شدة تمسكهم بدينهم
وغيرتهم عليه أبعد أهل الملل عن التعاون والاجتماع لخدمته، وإذا قام فيهم من
يريد خدمة الإسلام، لا يلقى الخاذلين والمقاومين له إلا من المسلمين، إما من باب
السياسة وفتنها، وإما من باب الحسد، وهم يتهمون غيرهم ولا سيما الأوربيين
بالمقاومة التي كفوهم أمرها، والصديق الجاهل أضر من العدو العاقل.
ولكن حوادث الزمان وأحداثه قد نبهت المسلمين في جميع أقطار الأرض
وحفزت هممهم إلى التعاون على إحياء دعوة الإسلام والدفاع عنه، وإرشاد عامة
أهله إلى ما يجب عليهم في هذا العصر من الاستمساك بآدابه وأعماله، ومباراة
الأمم الأخرى في العلم والمدنية، مع الحكمة والمودة والسلام العام بين أهل الملل.
قد قطع الأوربيون حجتنا بمثل ما نقله السائح عن حكومة هولندة في جاوة،
وما قاله لورد كرومر في بعض تقاريره عن دعاة النصرانية في السودان [1] فلم يبق
لأحد منا حجة في تعصب الأوربيين. وأما من يخافون من حسد جهلة المسلمين
والمارقين منهم، فليعلموا أن هؤلاء لا قوة لهم إلا بالأراجيف وسفه القول، وليس
هذا بعذر شرعي يسقط هذه الفريضة، بل الفرائض التي بيناها في صدر المقال.
هذا العمل لا يمكن أن تقوم به الحكومات؛ لما يحدث فيه حينئذ من فتن
السياسة؛ ولأن الحكومات لا تربي أرواحًا بل عمالاً، ولا الأفراد لضعفهم،
والشرع قد أوجب علينا أن تقوم به مجتمعين بقوله: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى
الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 104) الآية، ولم
يوجد في دين من الأديان التصريح بمثل هذا في افتراض الاجتماع لهذا العمل، وما
يعضده في القرآن الحكيم من الأمر بالتعاون والاعتصام، وقد دلت التجارب على
ذلك في غيرنا من الأمم، فلهذه الأوامر الدينية والأسباب الاجتماعية استخار الله
جماعة من أهل الغيرة من المسلمين المقيمين بمصر، وشرعوا في التوسل إلى
إنشاء مدرسة؛ لتخريج الدعاة إلى الإسلام والمرشدين للمسلمين، وإقامة تلك
الفرائض، وسيعلنون الدعوة إلى التعاون على ذلك عن قريب.
* * *
(مدرسة الدعوة والإرشاد)
نبين للناس أهم ما تقرر بين الجماعة المشتغلة بتأسيس هذه المدرسة بادئ بدء
إلى أن يصدقوا على قانونها فننشره.
(1) يختار طلاب هذه المدرسة من طلاب العلم الصالحين من مسلمي
الأقطار ويفضل الذين هم أشد حاجة إلى العلم على غيرهم؛ كأهل جاوه والصين،
وما عدا القسم الشمالي من إفريقية.
(2) المدرسة تكفل لهم جميع ما يحتاجون إليه من الغذاء والمنام والكتب.
(3) يعتنى بتربيتهم على آداب الإسلام وأخلاقه وعباداته، بحيث يطرد من
المدرسة من ثبت عليه الكذب أو إظهار العصبية الجنسية أو المذهبية أو ارتكاب شيء
من المعاصي، وعلى قيام الليل وصيام أيام من كل شهر، وعلى ذكر الله تعالى وتلاوة
القرآن مع التدبر.
(4) يعلمون كل ما يحتاج إليه الدعاة من العلوم الدينية؛ كالعقائد والتفسير
والحديث والأحكام على الوجه المؤدي إلى القدرة على إقامة الحجة ودحض الشبهة،
وما يحتاجون إليه من العلوم الرياضية والكونية واللغات لأجل ذلك.
(5) لا تشتغل المدرسة ولا الجماعة المديرة لها بالسياسة المصرية ولا
العثمانية، ولا سياسة الدول الأجنبية مطلقًا.
(6) يرسل الدعاة والمرشدون الذين يتخرجون في المدرسة إلى أشد البلاد
الإسلامية حاجة إليهم؛ كجاوه والصين، ثم إلى الشعوب الوثنية، ثم إلى أمريكة
وأوربة من البلاد الكتابية، ولا يرسل أحد منهم إلى الولايات العثمانية؛ لما يترتب
على ذلك من اعتراض غير المسلمين وتهويشهم على الدولة، وإن كان لكل مذهب
من مذاهبهم دعاة في تلك الولايات، وللعلم بأنه سيوجد في الآستانة مدرسة لأجل
تخريج المرشدين لتلك دون الدعاة إلى الإسلام.
(7) سيبدأ المؤسسون بجمع الإعانات للقيام بهذا العمل، ثم يفتحون باب
الاشتراك الدائم لأجل استمراره، ويرجون نجاح السعي بما يجود به أهل الخير
والبر من الاشتراكات والتبرعات والهدايا والوصايا، والأوقاف التي يرجى أن
توقف على هذا العمل.
(8) نشرت هذا البيان بعد استشارة المتعاونين على تنفيذ هذا المشروع
واستحسانهم، وسينشر قانون المشروع الأساسي بعد التصديق عليه مذيلاً بأسماء
المؤسسين.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
***
(إصرار جريدة العلم على الإرجاف)
أرسلنا المقالة الأولى من هاتين المقالتين إلى جريدة العلم، وعزمنا على أن لا
نرسلها إلى غيرها إذا هي نشرتها؛ لأنها رد عليها؛ أرسلناها مع صديق لنا
ولزعماء الحزب الوطني، فوعد الشيخ عبد العزيز شاويش رئيس تحرير العربي
يوم الاثنين 15 المحرم بنشرها والتعقيب عليها، ثم أكد الوعد يوم الثلاثاء واعتذر
عن التأخير. ولكن بلغنا أنه حصل خلاف بينه وبين محمد بك فريد رئيس الحزب
الوطني في أمر نشرها، فكان رأي رئيس الحزب أن لا تنشر لأنها تفيد المشروع
قوة والمراد سحقه قبل أن يقوى، وكان رأي رئيس التحرير أن تنشر ويعقب عليها
بشدة تقوي الشبهة في المشروع وتزيده وهنًا على وهن، وقد انتظرت إلى يوم
الأربعاء، فلما رأيت جريدة العلم خلوًا منها، أرسلتها مع المقالة الثانية إلى جميع
الجرائد العربية في مصر والإسكندرية في مساء هذا اليوم.
***
(المقالة الثانية للعلم)
وفي صبيحة يوم الخميس 18 المحرم، صدر العلم وفيه المقالة، وفي فاتحة
باب الحوادث والأخبار منه ثلاثة أعمدة في سبي وشتمي، ووصفي بالعجز
والضعف، مع الإرجاف والإيهام بقوله: (ولو أن العلم شاء لبسط للناس، كيف
ذهب صاحب المشروع الذي هو (أقدس وأفضل عمل ديني) إلى السير غورست؛
ليعرض عليه مشروعه فيحظى برضاه، وينال إسعاده. ولو شاء العلم لبين للناس
ما في ذلك من المخازي والمآرب المكنونة.
لو كان في هذه الشتائم والأراجيف شبهة على الموضوع لنشرناها، كما نشرنا
مقالة العلم الأولى على وهنها وضعفها، ولكن فيها أمرين يحسن ذكرهما والجواب
عنهما، أحدهما: الإرجاف بعبارته التي نقلناها آنفًا، والثاني: تخطئة العلم إياي
بقولي: إنني كنت أتوقع مقاومة بعض رجال الحزب الوطني في هذا المشروع،
كما كنت أحذر مقاومتهم إياي في طلب الدستور من السلطان عبد الحميد.
أما الأول فأقول فيه: إنني لم أذهب إلى السير غورست لأحظي برضاه وأنال
إسعاده ومعونته على المشروع كما أرجف الكاتب، وأصرح بأعلى صوتي أن غاية
ما أرجوه وأتمناه من الإنكليز أن لا يقاوموا المشروع في مصر والهند؛ لأنني أرجو
من مساعدة المسلمين في هذين القطرين ما لا أرجوه من غيرهما، فإذا قاومه
الإنكليز فيهما، فلا شك في أنه يفوتنا من المساعدة ما لا غنى لنا عنه، على أنه لا
يوجد عاقل في الدنيا يقول إن طلب المساعدة على عمل نافع ممن لا نفع له فيه نفسه
ولا لقومه يخرج ذلك العمل عن وضعه، ولا سيما إذا كانت المساعدة المطلوبة سلبية
كعدم المقاومة، مثال ذلك الجمعية الخيرية الإسلامية طلبت المساعدة في السنين
الخالية من العميد الإنكليزي ومن غيره من الأجانب، وكانت ولا تزال تأخذ من
هؤلاء في كل سنة شيئًا من النقود فيما أعلم، فهل صارت الجمعية بذلك خادمة
للإنكليز وضارة بالمسلمين؟ ؟
ونحن لا نطلب من غورست ولا من غيره من الأجانب ولا غير المسلمين من
الوطنيين مساعدة مالية ولا أدبية، وإنما نطلب منهم أن لا يكونوا ضارين لنا ولا
مقاومين لمشروعنا كما يقاومه بعض المسلمين، ولا يبعد أن ننال هذه الأمنية
السلبية منهم، فقد قال الأستاذ الإمام وحلف على قوله بالله: إنه لم يقم بمشروع ينفع
المسلمين ووجد له مقاومًا فيه من الإنكليز، ولا من القبط، ولا من نصارى
السوريين، ولكنه لقي المقاومة في كل مشروع أراد به خدمة الإسلام من المسلمين
أنفسهم، أقول: ومن ذلك أنهم وشوا بالجمعية الخيرية إلى الإنكليز؛ بأنها تمد
مهدي السودان بالمال ليحارب به مصر والإنكليز، وهاجت جريدة اللواء عليه
وعليَّ اليهود عند تفسير بعض الآيات المتعلقة بهم في كتاب الله عز وجل.
إذا أثبتنا لرئيس تحرير العلم أن شيخ الأزهر أو بعض أعضاء إدارته زار
الوكالة البريطانية ولورد كرومر، فهل يعد هذا حجة على كون الأزهر صار خادمًا
للإنكليز، وقد علمنا ونحن في الآستانة أن بعض أعضاء جمعية الاتحاد والترقي
يختلفون إلى بعض السفارات؛ كاختلاف حسين جاهد بك وإسماعيل حقي بك بابان
إلى سفارة روسية، فهل يسمح لنا محرر العلم المنطقي أن نستدل بذلك على خيانة
الجمعية للدولة العلية؟ ؟
وأما الثاني فسببه أن مدير جريدة اللواء كان مقاومًا لي منذ سنته الأولى
وسبب ذلك أنني انتقدت عليه عند ظهوره أمرًا ضارًّا، فقلت في ص607 من مجلد
المنار الثاني ما نصه:
(وقد انتقدنا عليها أمرًا ذا بال، وهو الإرجاف بأن بعض الناس يسعون في
إقامة خلافة عربية، كأن الخلافة من الهنات الهينات، تنال بسعي جماعة أو
جماعات، ولا يمكن احتقار مقام الخلافة الأعلى بأكثر من هذا الإرجاف.
(مقام الخلافة أسمى من أن يتطاول إليه أحد، وقد سلم السواد الأعظم من
المسلمين زمامه لبني عثمان تسليمًا، والرابطة بين الترك والعرب هي (كما قال
المرحوم كمال بك الكاتب الشهير) موثقة بالأخوة الإسلامية والخلافة العثمانية، فإن
كان أحد يقدر على حلها فهو الله تعالى وحده، وإن كان أحد يطمع في ذلك فهو
الشيطان.
(ويعلم كل خبير بحال هذا الزمن أنه لا يرجف بالخلافة فيه إلا رجلان:
رجل اتخذ الإرجاف حرفة للتعيش وأكل السحت أو التحلي بالوسامات والألقاب
الضخمة، ورجل اتخذه الأجانب آلة لخداع بسطاء المسلمين؛ بإيهامهم أن منصب
الخلافة ضعيف متزعزع، يمكن لأي أمير أن يناله، ولأية جمعية أن تزحزحه عن
مكانه، ليزيلوا هيبته من القلوب، ويقنعوا نفوس العامة من الأغرار بإمكان تحويله
في وقت من الأوقات، وبأن المسلمين ليسوا راضين من الخلافة العثمانية جميعًا)
... إلخ.
هذا ما كتبناه في الانتقاد على اللواء عند ظهوره أي: من إحدى عشرة سنة
وشهور، وإنه لم يظهر لنا في كل هذه المدة أن الأجانب اشتغلوا بهذه المسألة، بل
الذي ظهر أن الإرجاف والإفساد لم يكن إلا من الطامعين في دنانير السلطان عبد
الحميد وأوسمته ورتبه، المتوسلين إليها بدعوى الإخلاص له ولدولته، أو الانتقام
ممن يسلطون عليهم عقارب سعايتهم، ومن يريد بالمسلمين سوءًا من الأجانب، لا
يحتاج إلى سعي ولا عمل؛ فحمقى المسلمين يكفونه كل سعي.
كبر انتقادنا هذا على جريدة اللواء في ذلك الوقت، فصارت كلما سنحت
الفرصة، تنتقم منا ضروبًا من الانتقام، حتى إنها نشرت في سنة 1323 مقالة في
العدد ال1754، ثم بعد أسبوع نشرت مقالة أخرى في ع 1762، زعمت أنها
جاءتها من جاوه تؤيد المقالة الأولى وتستدرك عليها، توهم قراءها بذلك أن في
جميع البلاد الإسلامية أفرادًا يشايعونها على الطعن فينا، ولم يخطر لمديرها ولا
لمحرريها ولا لمصححيها أن البريد إلى جاوه غدوه شهر ورواحه شهر تقريبًا،
فكيف يصدق العارفون بتقويم البلدان من قراء اللواء؛ أن العدد الأول يصل إلى
جاوه، ويكتب الكاتب ما يكتب في استحسان تلك المقالة والاستدراك عليها، وتصل
رسالته إلى مصر، وتنشر، ويتم ذلك كله في أسبوع واحد! ! وزاد طعنها فينا
معاداتها للأستاذ الإمام ودفاعنا عنه كما هو مشهور.
هذا التحامل علينا من جريدة اللواء الذي استمر من أول إنشائه إلى سنة
1323 التي أردت فيها تنفيذ مشروع الدعوة والإرشاد، وتلك التهم التي كانت
تشيعها عن مسألة الخلافة العربية؛ لتنتقم بها لدى السلطان عبد الحميد ممن تتهمهم
بها، وذلك الإطراء الذي كان يطري به مدير اللواء ذلك السلطان المخرب للمملكة،
حتى إنه قال مرة ما معناه: إنه ينبغي لكل مسلم أن يضيف إلى الشهادتين بوحدانية
الله ورسالة خاتم النبيين شهادة ثالثة بخلافة عبد الحميد ذلك كله كان هو السبب في
حذرنا من مقاومة الحزب الوطني في مشروع الدعوة إلى الإسلام، وفي مقاومة
سياسة عبد الحميد ومطالبة بالشورى والدستور في (جمعية الشورى العثمانية) .
ولو شئت أن أشرح هذه المسألة وأنشر ما صار مطويًا في صحائف اللواء من
مدائح عبد الحميد وتقديسه، ومن الإرجاف بمسألة الخلافة العربية لأجل التزلف إلى
المابين، لأمكنني أن أكتب في ذلك مؤلفًا حافلاً، ولا سيما إذا أضفت إلى ذلك
بعض الوقائع؛ كإنكار محمد بك فريد على صاحب المؤيد نشره مقالاتي في إصلاح
الدولة العلية منذ ثنتي عشرة سنة؛ لأن ذلك يسيء السلطان و..
إن الذين كنت أحذر مقاومتهم وسميتهم الحزب الوطني؛ هم مدير اللواء
وبعض محرريه، ومحمد بك فريد وبعض مقلديه، ولا أعني أحدًا غيرهم ممن
اتصلوا بهم للمطالبة بجلاء الإنكليز عن مصر، ولجعل الحكومة المصرية دستورية
ولا يهمهم غير ذلك؛ كالانتقام الشخصي ومقاومة كل مشروع نافع يقوم به غيرهم،
ومن العجائب أن تطالبني جريدة العلم بالدليل على ما كان من حذري وتوقعي
مقاومة من ذكرت للمشروع في نفس العدد ونفس المقالة التي تقاومه هي فيه، فإذا
كان رئيس تحريرها ومن على رأيه من المحررين قد نسوا ما نشروه في جريدتهم
منذ أقل من أسبوع، كما نسي سلفهم الصالح المدة بين تينك المقالتين في اللواء
اللتين أشرنا إليهما آنفًا، فهل نسوا المقالة التي نزهوا فيها أنفسهم عن المقاومة؛
وهي ما أنشئت إلا للمقاومة! ! ! يقولون الآن: إن عندنا (أقاويل) أو (إشاعات)
أو شبهات على أن هذا يراد به غير ظاهر، وهذا عين ما كنت أحذره منهم من
قبل؛ إذ المقاومة لمثل هذا المشروع لا تكون إلا بمثل هذه (الأقاويل) والأراجيف
(شنشنة أعرفها من أخزم) .
على أنني كنت أظن في هذه المرة أن زعماء الحزب الوطني لا يقاومون هذا
المشروع؛ لأن لهم في شغل الحزب، وقد تكوّن ونمي ما يشغلهم عن انتقام هو في
الحقيقة جهاد في غير عدو، وقد مرت السنين وليس بيني وبينهم ما يسوء، ولأن
الشيخ عبد العزيز شاويش هو رئيس تحرير جريدتهم (العلم) وما كنت أظن أنه
يقدم على الإرجاف بهذا المشروع الجليل؛ بناء على الأقاويل والأوهام. فإذا كانوا
قاوموا في الحال التي حسن ظني بهم فيها، فكيف كان يكون شأنهم في الأيام التي
توفرت فيها الدواعي على المقاومة.
هذا، وإنني أبرئ كل عضو من أعضاء هذا الحزب عن مشايعة اللذين أو
الذين تصدوا للمقاومة، إلإ من كان إمعة لا روية له ولا استقلال، وأرجو - وقد بينا
لهم المشروع - أن يثوبوا إلى رشدهم، ويتوبوا إلى ربهم، فإن لم يفعلوا اليوم
فسيندمون بعد ظهور المشروع للوجود، وقيام حزبهم عليهم باللائمة والتفنيد، وما ذلك
من المستعجلين ببعيد.
ولا بأس أن نفكه القراء، وقد استولى عليهم الحزن من خذلان المسلمين
بعضهم لبعض بقول الشيخ عبد العزيز، وهو يكتب باسم الجريدة التي هي لسان
حزبه فإن كان الذي أغضب الأستاذ نسبتنا تلك الفكرة إلى أستاذنا المرحوم الشيخ
عبده، الذي كان لا يلقبه في حياته إلا بأمثال: (الأستاذ الحكيم والأستاذ الإمام،
وفيلسوف الإسلام) فليخفف عن نفسه قليلاً، فإنما أول من جاء بهذا الأمر منزل
القرآن) اهـ اقرءوا واسمعوا واضحكوا! ! ولا تعجبوا من قوله كان يلقبه في
حياته، وأنتم ترون هذا التلقيب في المنار بعد مماته أكثر ورودًا في المنار.
فمكابرة الحس لا تعد عجيبة من هؤلاء الناس، ولكن احمدوا الله معي، إن صاروا
يعترفون بأن الأستاذ الإمام أستاذهم، فالحمد لله على ذلك بعد أن كان معظم ما نالني
من آذاهم؛ سببه دفاع تهمهم عنه رحمه الله تعالى كما تعلمون من مجلدات المنار.
أنا لم أقل في ردي عليهم: إن الأستاذ الإمام لم يفكر في هذا الأمر ولا ذكرته؛
لأن الكلام كان مسوقًا لبيان أن هذا المشروع ليس جديدًا عندي، فيصدق أنني أريد
أن أخدم به الجمعية السياسية التي لم نسمع بخبرها إلا من العلم، ولكنني وأنا الذي
نشرت مناقب الأستاذ الإمام في الشرق والغرب أقول: إنني لم أسمع منه رحمه الله
تعالى كلمة تدل على أنه يريد تأسيس جمعية ومدرسة لهذا المشروع في مصر، ولا
على أنه يتمنى ذلك في الآستانة، وإنما كان يرجو أن يصلح الأزهر فيكون للمسلمين
منه كل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ومنه الاستعداد للدعوة إلى الإسلام، ولم
أسمع منه شيئًا في ذلك بعد تركه للأزهر.
وأقول: إنني لا أشك في تفكير كثير من مسلمي الأقطار في هذا المشروع كما
فكرت فيه، وقد أشرت في المقالة الأولى إلى تاريخ هذه الفكرة عندي، وإلى بعض
ما كتبته من التمهيد لها، وإنني لم أستقص في تلك الإشارات، وقد تذكرت الآن حديثًا
في ذلك دار بيني وبين شيخ الجامع الأزهر، وذكرته في عدد المنار الذي صدر في
شهر المحرم سنة 1319 أي منذ عشر سنوات كاملة، ذكرت فيه للشيخ شيئًا عن
الجمعيات الدينية في فرنسة وثروتها وأعمالها، وتوقف حفظ الدين الإسلامي على
مثل هذه الجمعيات المالية التي تجمع بين الدين والعلوم الكونية، وقلت له هذه العبارة
(وإن هذا ما يدعو إليه المنار) فليراجع ذلك من شاء في أول ص158 من مجلد
المنار الرابع.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) جاء في الفصل الذي عقده اللورد في تقريره عن السودان سنة 1904؛ أنه كتب إلى جمعية التبشير للكنيسة الإنجليزية كتابًا يدعوها فيه إلى التبشير في أقاليم السودان الجنوبية، ويخبرها أنه خُصص لها قسم كبير من تلك البلاد في الوقت الحاضر، كما خصصت أقسام أخرى للمبشرين النمساويين والأمريكيين وقال: إنه ذكر في كتابه إلى تلك الجمعية الجملة الآتية التي أوردها إفادة للقراء من المسلمين، وهي: (لم يطلب أحد حتى الآن رخصة لإنشاء مدارس في جنوب السودان على نفقته؛ تعلم فيها فرائض دين الإسلام، ولو طلب أحد طلبه لحل طلبه محل القبول، أقول ذلك إظهارًا لخطة الحكومة ودفعًا لكل وهم، فإن غرض الحكومة التعليم والتهذيب لا غير، فعلى الذين يتبرعون للدخول في هذا العمل على نفقة الجمعيات أو الأفراد أن ينتفعوا من مقاصد الحكومة، وينشروا معها تعاليمهم الدينية.(14/47)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقالة العلم الثالثة
بعد نشر مقالتنا الثانية في بعض الجرائد اليومية، رجعت جريدة العلم عن
الإرجاف بكون مدرسة الدعوة والإرشاد تنشأ لهدم الخلافة العثمانية وتأسيس خلافة
إنكليزية، ونشرت في صدر عددها الذي صدر يوم الأحد 21 المحرم المقالة الآتية
بنصها، وهي:
(مدرسة الدعوة والإرشاد الإسلامي)
نشرنا في هذا الباب ما نشرنا، وكنا نحسب أنه غنية لمن كان مخلصًا من
رجال هذا المشروع، ولكننا نجد في كل يوم أفرادًا يكثرون من اللغط، ويطرحون
علينا أسئلة الاستنكار والاستهجان، زاعمين أننا أتينا بدعًا من الرأي، وزورًا من
القول، فلا بد لنا من كلمة ثالثة في الموضوع تزيده إيضاحًا وتبيانًا.
يعلم المفكرون أن أوربا كل يوم ترمينا بتلك التهمة الباطلة تهمة التعصب
الديني والجامعة الإسلامية.
طالما رمتنا بذلك، وكم جنت من وراء هذه التهمة التي تختلقها لتنال بها
مآربها من العالم الإسلامي، فتلزمه السكون والسكوت، وتقعده عن النشاط
والعمل، وتفرق بين أجزائه حتى لا يلتئم له شمل، ولا يرتق له فتق.
طالما رمتنا أوربا بذلك، وطالما جنت من وراء هذه التهمة المفتراه، فماذا
كنا ندرأ به عن أنفسنا هذه الويلات لا سيما في تلك السنين التي خضدت فيها شوكة
الحكومة الإسلامية، وأصبح الإسلام وأهله في أيدي الحكومات الصليبية.
وهل استطاع المسلمون أن ينجوا من آثار تلك التهم إلا بما كانوا يعلنونه
ويشهدون العالم عليه من أنهم أهل سلم لكل مسالم، وأرباب وفاء لكل معاهد، هل
استطاعوا أن يعدوا لأعدائهم مثل ما أعد هؤلاء لهم من مدافع مدمرة، وأساطيل
مصفحة، وكتائب سابغة الدروع تامة السلاح، هل استطاعوا أن ينافسوهم في
ميادين الاقتصاد، فيستغنوا عن مالهم، أو يزاحموهم في أسواق التجارة فيكفوا
الحاجة إليهم؟
إذًا، فماذا يبتغي أصحاب هذه المدرسة؟ قد يكونون - كما قلنا في أول كلمة
لنا - حسان القصد طاهري الضمير، ولكن إلى من يعدون خريجي مدرستهم؟ أَإلَى
أهل تونس والجزائر والمستعمرات الإسلامية الفرنسية، وهي تلك الدولة التي
لا تغفل عن مصالحها، ولا تكاد تبيح لأجنبي عنها التوغل في أعماق مستعمراتها
أو مخالطة أحد من رعاياها. أم إلى مسلمي جاوه، وتلك حكومة هولانده قد
أحاطتهم بنطاق من يقظتها، وحالت بينهم وبين العلم والنور والحرية والعوالم
الأخرى، فهي لا تسمح لأحد منهم بمقابلة أحد ولا معاشرته، إلا إذا كان هناك من
عيونها من لا يفتر عن مراقبته، ولا تأخذه غفوة عن سكونه أو حركته.
لعلهم يريدون أن يبعثوا بهم إلى أرجاء السودان؛ ليدخلوا أهله في دين
الإسلام، إذًا فهل أمنوا جانب إنجلترا ونسو مآربها هنالك، ألا والله لتعتبرن أولئك
الدعاة للإسلام أهل فتنة ودعاة ثورة، ولتقيمن لهم المحاكم المخصوصة ولتنصبن
لهم المشانق، ولتبطشن بهم بطش الجبارين، فهل أعددتم لوقايتهم ما أعدت دول
الصليب لمبشريها وحماة دينها من البأس والقوى، وهل سلكتم ما سلكه أولئك أيام
كانوا جهالاً ضعفاء من الدعوة من غير جلبة ولا ضوضاء.
أظننتم أن مريدي الشر للإسلام في غفلة عنّا، أو أنهم يسرهم أن تقوم على وجه
البسيطة مدرسة كهذه على النحو الذي يقوله أصحاب ابتداعها.
أأمنوا اتحاد دول الصليب علينا إذا علموا أننا نسعى لنشر كلمة الإسلام،
وهل غرَّهم ما يرونه من إحدى الدول العظمى التي تظهر الميل والعطف على العالم
الإسلامي، وكيف يغتر بها من يستقرئ خطواتها، ويدرس اضطرابها وتذبذبها،
وهي تلك التي لا تكاد تستقرعلى حال واحدة عدة أيام، فكم من عهد لم توف به؟
وكم من أمة خدعت بمعسول وعودها واطمأنت لزخارف أقوالها، ثم قطعت أناملها
ندمًا على ما فرط منها.
اعقلوا أيها القوم، وتدبروا الأمر قبل أن تجنوا في مغبته الخيبة، وتعجلوا
للمسلمين ما لا قبل لهم به، وإذا زعمتم أنكم تريدون دعوة غير المسلمين كما
صرحتم بذلك، فخير لكم أن تبدأوا بالجهال من بني دينكم وكثير ما هم، ثم إذا
وجدتم من أوقاتكم ومجهوداتكم متسعًا فثنوا بمن تشاءون من غيرهم، ولقد أسلفنا لكم
أنكم إذا ربحتم المسلمين، وأصلحتموهم، واكتفيتم بهم، فقد ربحتم كثيرًا وخسرتم
قليلاً.
إننا أيها القوم لسنا أعداء الإصلاح، ولا محاربي العاملين في سبيل
الإصلاح. ولكنا قد أدركنا مغبة مساعيكم، فروينا الذي رويناه، ولم ندع اعتقاد
شيء منه، وإنما بسطنا لكم القول وشرحنا لكم وعورة الطريق التي تسلكونها،
وأرشدناكم إلى أن أمامكم الأزهر الذي هو المدرسة الإسلامية العظمى، فأدخلوا فيه
ما شئتم من مواد الدراسة، وأعدوا طائفة منهم للوعظ والإرشاد، وهداية العامة من
المسلمين وغيرهم إلى الحق، والصواب من قواعد الدين الحنيف وأركانه، ولا
تستمسكوا بالألقاب والأسماء، ولا تقيموا معهدًا خاصًّا لما أردتم، فقد نمتم عن قوم
لا ينامون، وتجاهلتم أمر أعدائنا الذين لا يغفلون، وإذا لم يكن لكم بد من إقامة هذه
المدرسة فلا تدعوها بما يجلب عليها وعلى الإسلام الشقاء من الأسماء.
هذه كلمتنا للعقلاء المفكرين من المشتغلين بهذا المشروع، أما النفر المتعصب
لرأيه المتنطع في قوله، فما كان لنا أن نعنيه برد ولا نصيحة، فليأت العقلاء
المخلصون من الأعمال ما تحتمله الأحوال الحاضرة ولا تنافره الظروف السياسية،
وليقيموا ما شاءوا من المدارس على شريطة ألا يجروا بأسمائهم الضخمة وعنوانيها
الفخمة عليها شيئًا من البلاء والشقاء، وليتقوا الله في العالم الإسلامي، فلا يجلبوا
عليهم بتسرعهم وعدم تحوطهم أكثر مما نزل بهم، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم
محسنون.
(الرد على هذه المقالة)
بينت لنا هذه المقالة التي نشرت يوم الأحد 21 المحرم عدة أمور نذكرها مع
التعقيب عليها:
(1) إن أصحاب جريدة العلم يجدون في كل يوم أفرادًا يكثرون اللغط،
ويطرحون عليهم أسئلة الإنكار والاستهجان، ويرمونهم بالبدع من الرأي والزور
من القول، كل هذا صرحت به العلم، وما سمعنا من أصحاب جريدة الحزب
الوطني قبل مثل هذا الاعتراف بإنكار الناس عليهم كل يوم شيئًا من الأشياء، بل
ما رأينا المسلمين بمصر اهتموا بمواجهة فرد من الأفراد فضلاً عن حزب من
الأحزاب بالإنكار والاستهجان، وناهيك استنكار واستهجان ما يكتب في جريدة العلم
التي يتحامى الناس الجهر بالإنكار عليها؛ تكريمًا لأنفسهم وصونًا لها من هجو
جريدة تكتب بمداد من السمّ، بل العادة الغالبة أن ينتقد الناس المخطئ في غيبته
ويسكتون في وجهه، ولو علم رئيس تحرير العلم كل ما يقول الناس فيه، لتبين له
أن مقامه لم يصل في مصر إلى درجة يقبل معها كلامه في تقبيح أفضل وأقدس
خدمة يخدم بها الإسلام لا عند الحزب الوطني ولا عند الجمهور، وإنما يمكن أن
يقبله بعض الملحدين المارقين من الإسلام دينًا وجنسية. ويغلب على ظني أن في
المنكرين على الشيخ عبد العزيز شاويش بعض أعضاء الحزب الوطني، ولولا ذلك
لما غير رأيه وناقض نفسه فيما كتبه أولاً وثانيًا.
(2) تقول جريدة العلم اليوم: إن أوربا تتهم المسلمين بالتعصب الديني،
وما استطاعوا أن ينجوا من آثار تهمتها بما يعلنونه من سلمهم ومسالمتهم، وإن هذه
الخدمة تزيد في اتهامهم وعداوتهم للمسلمين، فلا ينبغي أن تكون. ونجيبها عن ذلك
بأنه إذا كانت أوربا لا يرضيها منا إلا ترك شعائر الإسلام وفرائضه أو حتى نتبع
ملتهم، أفتأمرنا جريدة العلم بأن نترك فرائض ديننا لأجل إرضاء أوربا أو
دفع تهمتها. قد بينا في مقالتنا الثانية التي أرسلناها إلى العلم كغيره من الجرائد أن هذا
المشروع قيام بثلاث فرائض إسلامية مجمع عليها، فكيف ينهانا أن نؤدي فرائض ديننا خوفًا من اتهام أوربة إيانا بالتعصب، وهو تحصيل حاصل؟ ؟
(3) تسألنا جريدة العلم في معرض الإنكار؛ إلى أين نرسل خريجي هذه
المدرسة، وفرنسة وهولندا وإنكلترا لنا بالمرصاد في مستعمراتهن وفي السودان،
وأقسم الكاتب على أن الأخيرة منهن لا بد أن تقيم لهم في السودان المحاكم
المخصوصة، وتنصب لهم المشانق، وتبطش بهم بطش الجبارين. يريد الكاتب أن
يوهم قراءه أن الرحمة والشفقة الفائضتين من قلبه الشريف على الذين سيتخرجون
في مدرسة الدعوة والإرشاد ويرسلون إلى السودان؛ هما اللتان حملتاه على هذا
الإنكار الشديد لاستعداد المسلمين لأداء هذه الفرائض الدينية، فأبرز إنكاره أولاً
بزعم أن المراد من هؤلاء الدعاة إسقاط دولة الخلافة العثمانية وإنشاء خلافة
إنكليزية، وآخر بأن الإنكليز سيبطشون بهم بطش الجبارين، ويجعلوهم عبرة
للمعتبرين، ويكون مؤسسو المدرسة هم السبب في ظلم هؤلاء المساكين! ! ! ،
ونجيبه: أولاً - بأن الناصح الغيور على المسلمين، الذي لا يعادي الإصلاح
والمصلحين، لا يستحل مثل البهتان الذي أرجف به العلم في المسألة من قبل،
وثانيًا - بأن الخوف من إيذاء المسلم في سبيل الله في المستقبل، لا يبيح له
ترك الفرائض والاستعداد لنشر الدعوة.
ثالثًا - بأن المتعاونين على هذا المشروع ومن يربونهم ويعلمونهم ليسوا ممن
قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ
كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت: 10) فهل يرضي أصحاب العلم أن يكونوا منهم.
رابعًا - إن لورد كرومر قال في تقريره الرسمي عن السودان: إن الحكومة
هناك تسمح للمسلمين بنشر الإسلام وتعليمه، فإذا أرسلنا إلى هنالك من يطلب منها
الإذن له بهذا ولم تأذن له؛ فإنه يمكنه أن يرجع إلى مصر بحجة ناهضة لجريدة
العلم أو ما يخلفها تجاهد بها الإنكليز، ولا يعرض نفسه لبطش الإنكليز.
خامسًا - إن السبب في اتهام أوربا إيانا بالتعصب الديني؛ هو السياسة في
الغالب، وقد امتاز مصطفي كامل باشا وأتباعه في الحزب الوطني بدعوة الوطنية
على وجه ينافي الوحدة الإسلامية، ونرى أوربة وغير أهل أوربة كالقبط، يتهمون
هذا الحزب وجرائده بالتعصب الديني ولم نرهم يتهمون مجلة المنار بذلك وهي
دينية؛ تقيم حجج الإسلام، وتردد شبهات النصارى وغيرهم، وتقيم الحجة عليهم؛
لأنها لا تفعل ذلك لأجل السياسة، وقد قامت جمعية ندوة العلماء في الهند بعمل
قريب من العمل الذي شرعنا فيه أو مثله، ولم تلق من الإنكليز بطش الجبارين،
بل أعطوها قطعة أرض لتبني مدرستها فيها. وغاية ما نرجو نحن بعملنا الديني
العلمي المدني الخالي من كل شائبة سياسية أن لا تعرقله وتضطهده كل حكومات
أوربة في مستعمراتها عملاً بحرية الدين، وقد صرحت هولندا بأنها تأذن لعلماء
المسلمين بالإرشاد في جاوه إن وجدوا، ولا تمنع إلا مشايخ الطرق الدجالين،
وسيكون المتخرجون في مدرستنا أبعد المسلمين عن أهواء السياسة ومقاومة
الحكومات.
وسادسًا - إذا منعنا الأوربيون من مستعمراتهم الإسلامية في إفريقية وجزائر
المحيط والهند فأمامنا اليابان والصين، فإذا تيسر لنا ترقية مسلمي الصين
بالإرشاد، وأهل اليابان بالدعوة إلى الإسلام، نكون قد عملنا أفضل الأعمال.
وسابعًا - إذا كان ذلك الكاتب في العلم يخاف على هذا المشروع من اضطهاد
دول الصليب كما ادعى، فلماذا يختار إلصاقه بمشيخة الإسلام في الآستانة،
ويقول: إن ذلك محله الطبيعي؟ أيجهل أنه لا يقيم قيامة أوربة عليه شيء كإلصاقه
بالدولة العلية، إن كان يجهل هذا فساسة الآستانة لا يجهلونه، وليعلم أن هذا هو
السبب الذي حملني على إيذان شيخ الإسلام وغيره من رجال الآستانة بأنني لا
أشتغل بالعمل هناك، إلا إذا كان بعيدًا عن السياسة ظاهرًا وباطنًا، ولم يكن له
صبغة رسمية.
(4) تسألنا جريدة العلم هل سلكنا ما سلكه أهل الصليب أيام كانوا مثلنا
اليوم جهلاء ضعفاء من الدعوة من غير جلبة ولا ضوضاء، ونجيبها نعم.. إننا
أردنا ذلك، ولكن مصاب المسلمين بوجود مثل ذلك الكاتب محررًا أو رئيس تحرير
في جريدة تنتمي إلى حزب يعتقد أنه يؤديها ولو بالباطل؛ هو الذي حال بيننا وبين
ما نشتهي من السكون والسكوت، فماذا نفعل إذا كان الذي أثار بيننا الجلبة
والضوضاء هو أقدر أهل بلادنا على الجلبة والضوضاء لأنه هجيراه في حياته،
ومورد رزقه وعنوان جاهه.
(5) ينصح لنا ذلك الكاتب المفتات بأن نبدأ بالجهال من أبناء ديننا،
فنعلمهم ونرشدهم ثم نثني بغيرهم إن وجدنا من أوقاتنا ومجهوداتنا متسعًا، كتب هذا
بعد أن قرأ في مقالتنا الثانية التي أرسلناها إليه مع كتبًا خاص، فلم ينشرها وبعد أن
نشرها المؤيد، ونشر موضوع المدرسة منها غير المؤيد؛ كالأخبار والأهالي،
وعلم الألوف من الناس كما علم هو أن هذا هو غرضنا، وليس هذا ببدع من إرشاد
جريدة العلم، فقد كنت منذ عهد قريب تقترح من إصلاح قانون الأزهر ما هو
منصوص في ذلك القانون؛ لأن رئيس تحرير هذه الجريدة جعل نفسه بغروره
مرشدًا للحكومة والأمة، وإن كان ما يأمر به تارة من تحصيل الحاصل، وتارة من
الممتنع شرعًا أو عقلاً أو قانوناً أو عادة، وماذا يهمه أن تمتع بلذة الأمر والنهي،
أن يكون إرشاده من العبث واللغو.
(6) أمرنا رئيس تحرير العلم عملاً بشنشنته؛ بأن ندخل ما نشاء في مواد
المدرسة في الأزهر، ونعد طائفة من طلابه للإرشاد والدعوة، ونبأنا أن نقيم معهدًا
خاصًّا لما أردناه! ! وهو يجهل أو لا يجهل (الله أعلم) أن امتثال أمره ليس في
أيدينا، ولا مما يدخل في استطاعتنا، إن الداعي إلى هذا المشروع هو العاجز
الضعيف صاحب المنار، وقد عيره هو بالضعف والعجز في جريدة العلم مرارًا،
وما فعل ذلك إلا إعجابًا وغرورًا بحوله وقوته، واعتزازه بحزبه، ولكنه نسي مع
ذلك انه هو قد عجز على قوته وعظمته عن تعبير شيء من مواد قانون الدراسة في
الأزهر، فكيف يقدر على ذلك هذا العاجز الضعيف الذي لا حزب له ولا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم، وإذا كان أمره لا يطاع فكذلك نهيه فليترك هذه الرياسة
العامة، في هذه المسألة الخاصة، أو ليكتف بالإرجاف والتشهير، إن كان مُصرًّا
على مقاومة هذا العمل الشريف.
(7) ناقض العلم نفسه كعادته، فأذن في آخر مقالته للعقلاء المخلصين منا
بالأعمال لتي تحتملها السياسة، وأن يقيموا ما شاءوا من المدارس (على شريطة أن
لا يجروا شيئًا بأسمائها الضخمة وعناوينها الفخمة عليها من البلاء والشقاء) ،
ونهاهم (أن يجلبوا على العالم الإسلامي بتسرعهم وعدم تحوطهم أكثر مما نزل
به) ! ! ! وغرضه من هذا الأمر - إن أطيع فيه - أن يتلذذ بنفوذه في إبطال
المشروع أو عنوانه الدال عليه، وما رأينا في غرائب هذا الكاتب وبعده عن
المعقول أبعد عن الصواب من توهمه أو إيهامه أن البلاء والشقاء سينزلان بالعالم
الإسلامي بسبب كلمة الدعوة والإرشاد، وإن الأوربيين مثله يحفلون بالألفاظ دون
المعاني والحقائق. وأما المشتغلون بتنفيذ هذا المشروع فيريدون أن يكون ظاهرهم
كباطنهم وقولهم كفعلهم، يعلمون أنهم لا يقدرون على غش الأوربيين وخداعهم إن
أرادوا ذلك - وهم لا يريدونه كغيرهم - ولذلك يصرحون بأنهم يربون طائفة من
الطلاب ويعلمونهم ما يقدرون به على الدعوة والإرشاد والتعليم، يرسلونهم إلى أحوج
البلاد الإسلامية إليهم، ثم إلى البلاد الوثنية، ثم إلى غيرها كما بينا في المقالة الثانية
من تقديم الأهم على المهم بحسب الاستطاعة، وسيسيرون على سنة الله تعالى في
أمثالهم من المصلحين، وقد وعد الله تعالى بإظهار هذا الدين كله ولو كره
الكافرون، وكان وعده مفعولاً في كل حين.
وقصارى الكلام، أن جريدة العلم قد خرجت عن منهج الرشد، وأسرفت في
البعد عن الحق، بالغلو في مقاومة هذا المشروع المفروض، بما لا يقبله إلا من اتبع
كل ناعق فيما يقول، لحرمانه من حرية الفكر، وعطله من حلية استقلال
الرأي، فهاجمته أولاً بالإرجاف السياسي وإيهام الناس أنه سيكون من القوة، بحيث
يسقط دولة للمسلمين ويؤسس دولة للإنكليز، بإيهامهم بعد ثلاثة أيام أنه من
الضعف بحيث يجزم الكاتب، ويحلف بأن الإنكليز سوف يسومون أهله سوء
العذاب! ! ! حار الكاتب في هذا الأمر وحاص، وناقض نفسه عدة مرات، ثم
تنصل من عداوة المشروع ومقاومة أهله، وادعى أنه ناصح ولو كان ناصحًا لنشر
مقالتنا الثانية، وجعل النصيحة بيننا وبينه، على أننا ننصح له كما نصح لنا بأن
يحاسب نفسه فيما يكتب بينه وبين الله، ولا يقفو ما ليس له به علم؛ عملاً بكتاب
الله عز وجل، وليقل خيرًا أو ليصمت؛ عملاً بهدي المصطفى صلى الله عليه
وسلم، لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وأن يرجع إلى الحق فذلك خير من
الإصرار على الباطل، كما هي سنة السلف الصالح، فإن قبل النصيحة عاد
من التشنيع والتشهير والتشكيك والتهديد والوعيد إلى بيان محاسن المشروع والحث
عليه والترغيب فيه، ويكون عمل بحديث: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق
الناس بخلق حسن) رواه أحمد والترمذي عن أبي ذر ومعاذ. وحينئذ يجعل
النصيحة بينه وبين القائمين بإحياء هذه الفرائض التي يرجى بها تجديد دعوة
الإسلام - إن شاء الله تعالى - كما هو شأن المخلصين في نصحهم؛ الذين لا
يقصدون به الرياء والدعوى. وإن أخذته العزة بالإثم، ولم يعمل بهذه النصيحة
فحسبه غروره وتغريره، وعاقبة عدوانه ومصيره، وحسبنا الله فهو أغيرعلى
دينه من جميع عبيده المؤمنين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
__________(14/59)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إنذار للمرجفين
لئن لم ينته المنافقون، والذين في قلوبهم مرض، والمرجفون في مصر،
بمشروع الدعوة والإرشاد لنكشفن الستار عن السر الخفي الذي آلى على نفسه
ذلك الرئيس في الآستانة أن يحارب به الإسلام، وعهد باسم جمعيته السرية إلى
مندوبه في مصر أن ينصره فيه ظالمًا ومظلومًا باسم الانتصار للدولة العلية
ومحاربة أعدائها، فصديق الدولة الحقيقي من يخدم الإسلام، وأعدى أعدائها من
يخذل أي مشروع إسلامي في أي مكان، ولا خير لها في إصلاح يضع أساسه يهود
أوربا في سلانيك، ويؤيدهم فيه ملاحة الروملي والأناطول، وإن شايعهم عليه
المندوب الأخرق، ومحرره البذيء الأحمق، وتضافروا على نصر الباطل وخذل
الحق، نعم.. إننا نكشف الستر، ونفشي ذلك السر، الذي أشرنا إليه في فاتحة
هذه السنة، ولا نخشى في ذلك لومه لائم، ولا عذل عاذل، فإننا لم نحلف عليه يمينًا،
ولم نعاهد عليه أحدًا عهدًا، وإنما جاءنا من مصادر شتّى في الآستانة يتمنى رواتها لو
يعرفه المسلمون؛ ولكنهم لا يأذنون الآن بذكر أسمائهم، ولا الإشارة إلى سماتهم؛ بل
سمعنا بآذاننا، وشهدنا بأنفسنا في مقام الجهر لا في زوايا السر، ما لا يمكن دفعه
ولا يستطاع دحضه.
__________(14/67)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نهضة التعليم الإسلامي في سملك دابل
بعد حمد لله، والصلاة والسلام على المصلح الأعظم سيدنا محمد وآله وصحبه.
نقدم تحياتنا الخالصة لحضرة الإمام العلامة الداعي إلى الله على بصيرة الغيورعلى الملة الإسلامية، حضرة الأستاذ: محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار
الغراء.
سيدي، إنا لما نعلمه من تفانيكم في خدمة الإنسانية عمومًا والمسلمين
خصوصًا؛ الذي نرى أعظم شاهد عليه انتشار مجلتكم الغراء في أرجاء العالم وما
لها من التأثير العجيب في استنهاض همم المسلمين إلى ما يعلي شأنهم، ويأخذ بهم
إلى الطريق الأقوم، وتحسين حالاتهم الأدبية والمادية، ولما نعلم من شغفكم
بالاطلاع على ما يتجدد من حركات التقدم بين المسلمين في هذه الجهات، والطرق
التي يسلكونها للرجوع إلى أحوال دينهم القويم، وما جاء به سيد المرسلين، وما
كان عليه السلف الصالح من التخلق بأخلاق القرآن العزيز، والتأدب بآدابه،
والسير في حالاتهم الاجتماعية على ذلك الدستور الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا
من خلفه، الصالح لكل زمان ومكان، الموافق لحالة أي جنس من الأجناس البشرية،
إنا لما نعلم كل ذلك منكم أحببنا أن نبشركم أن حركة تقدم المسلمين في كل حالاتهم
بجهاتنا لا تزال في تقدم مستمر، وقد أدرك جميع العقلاء أن لا سبيل إلى نيل ما
يؤملون إلا بالعلم الذي به تتنور الأذهان، وتتثقف العقول، وقضية مسلمة تكاد
تكون مجمعًا عليها عند سائر الأمم؛ ولهذا لهجت الألسن، وقامت الخطباء، وكتبت
الكتاب التعليم التعليم العلم العلم، حتى أصبحت فكرة التعليم هي الشائعة
هنا، وقد أنشئت في المدن الكبرى عدة مدارس وكتاتيب، وهي وإن كانت لم تبلغ
الدرجة المطلوبة، إلا أنها الآن عاملة على إحداث حركة فكرية لا يستهان بها
يصحبها ترق في الأخلاق والآداب، وهي سائرة على سنة النمو الطبيعي، ولا بد
يومًا أن يكون لها شأن يذكر في العالم الإسلامي.
ونبشركم أيضًا، وهو ما جعلنا نتجاسر على مكاتبتكم من غير سابق معرفة،
أنا قد وفقنا بعونه تعالى إلى إقامة مدرسة بقريتنا المسماة (سملك دابل) التي لا
تبعد عن مدينة (سورت) إلا بمسافة قريبة بجهة الهند، هذه المدرسة تعاون على
إنشائها أعيان المسلمين في القرية المذكورة، وأول اكتتاب سمحت به أنفس أولئك
الكرام لإنشاء هذا المعهد العلمي يقدر بأربعين ألف روبية، ثم تعاونوا على أخذ
عقار تكفي غلته نفقات المدرسة، تأسست منها المدرسة منذ سنتين باسم (مدرسة
تعليم الدين) . أما العلوم التي تدرس فيها، فإنما هي العلوم الدينية والقرآن الشريف
والخط العربي والفارسي والأوربي والإنكليزي والقزاري مع تعليم هذه اللغات
الخمس، ويدرس فيها علم التاريخ الإسلامي بوجه خاص مع بقية التواريخ بوجه
أعم، وتدرس فيها أيضًا مبادئ العلوم الأخرى. أما المدرسون في هذه المدرسة
فكلهم من مسلمي الهنود، وتتكفل هذه المدرسة بتعليم أولاد الفقراء مجانًا، وتقوم بكل
ما يلزم لهم من السكنى والنفقة والكسوة وغير ذلك حتى من المكملات الغير
الضرورية، كل ذلك رغبة في نشر العلم، وتربية الناشئين تربية دينية تهذيبية
تزرع في قلوبهم حب الخير، وتقدح في صدورهم زناد الغيرة، وتحثهم على
النشاط والجد والسعي إلى كل ما يعلي شأنهم وبلادهم.
وقد أنشئت حتى الآن لهذه المدرسة فروع عديدة في نواحي القرية المذكورة،
وكلها عامرة بالتلاميذ، وترسل هذه المدرسة إلى نواحي القرية والأماكن النائية قليلاً
عنها المعمورة بالفلاحين المسلمين ترسل إليها بعثات تدعوهم إلى الدين الحق،
وتعلمهم واجباته الأولية، وتعود هذه البعثات يتبعها من أولاد المسلمين الفقراء
وغيرهم عدد غير قليل، كلهم يهاجرون من أماكنهم رغبة في التعليم، والمدرسة
تتكفل بكل ما يلزم لهؤلاء الغرباء، وكل تلميذ يدخل في هذه المدرسة لا يكون لوليه
أن يخرجه من المدرسة قبل أن يمضي عليه فيها ثلاث سنوات على الأقل.
وبالجملة فنحن - بتوفيق الله - سائرون بهذه المدرسة إلى طريق التقدم؛
راجين من كل من تجمعنا معه الجامعة الإسلامية والشريعة مد يد المساعدة إلينا
بالأفكار السديدة والآراء الحميدة، فالمرء كثير بأخيه، ولولا ضيق المقام لشرحنا لكم
من أخبار هذه الجهة ما ربما أحببتم الاطلاع عليه، وربما بعد هذا أرسلنا إليكم
الرسالة التي تطبع رأس كل سنة مبينًا فيها من تنجبهم مدرسة التعليم الديني، وفي أي
العلوم، وعدد التلاميذ، والمرسلين، وقدر المصروفات والتبرعات، وكيفية إخراج
ذلك ذلك، ولولا أنها مطبوعة باللغة الأوردية لأرسلنا إليكم منها نسخة الآن. لكن
عسى تحصل فرصة لنترجمها إلى العربية، فنرسلها إليكم أو نرسل إليكم رسالة
السنة القادمة لقرب موعدها.
وفي الختام نمد يد الفاقة إلى مساعدتكم، وذلك بأن تسعفونا بإرسال مجلتكم
المنار لهذه المدرسة مساعدة لإخوانكم في الدين، ولكم من الله مزيد الأجر، وفي
محلنا هذا قل أن توجد المجلات والجرائد العربية، ونحن كثيرو التلهف إلى
انتشارها هنا؛ لنطلع على ما عليه إخواننا بجهاتكم، وما هي المسافة التي قد
قطعوها في سيرهم العلمي، ونطلع على أحوال الدول الإسلامية بتلك الجهات، ولا
سيما ما يتجدد من أخبار دولتنا العلية، وما هو مركزها اليوم بين دول الأرض بعد
أن أصبحت حكومتها دستورية موافقة لروح العصر، وبناء على ذلك، فنحن نطلب
منكم أن تلفتوا أنظار أهل الجرائد المصرية والبيروتية والتي تصدر بالآستانة بأن
يمنّ علينا من شاء منهم بإرسال جريدته، وله منا مزيد الشكر والامتنان، وكذلك
المؤلفون والمتصدقون بالكتب العلمية، من سمحت نفسه منهم بإرسال كتاب أو كتب
لمكتب هذه المدرسة، فنحن له من الشاكرين، ويقلدنا بذلك منة لا نستطيع القيام
بحق شكرها، ويخدم بني ملته خدمة يحفظها له التاريخ.
أما مجلتكم، فلا تخيبوا آمالنا بتأخير إرسالها، كما أن ثقتنا بإخلاصكم في
خدمة المسلمين تجعلنا لا نشك في مساعدتكم، وإن تفضلتم بإرسال نسخة من تفسير
الأستاذ الإمام فحاجتنا إليها شديدة جدًا. أكتب لكم هذا وأنا الآن بسرباية جزيرة
جاوه، وأتيت إليها من مدة قريبة؛ لاستنهاض مواطني المهاجرين بهذه الديار،
وحثهم على مد يد المساعدة على إحياء العلم ونشره ببلادهم.
... ... ... ... ... ... محبكم: حسن أحمد منصور
... ... ... ... ... ... خادم مدرسة تعليم الدين
(المنار)
نشكر للكاتب ولسائر أهل الغيرة القائمين بأمر هذه المدرسة، والمتبرعين
لها حسن سعيهم، ونرغب إلى الكاتب أن يعجل بإرسال الرسالة التي وعد بها
مترجمة بالعربية، وأن يبين أسماء الكتب العربية التي تدرس في المدرسة؛
لنبدي رأينا فيها، وسنرسل المنار وغيره من الجرائد للمدرسة إن شاء الله تعالى.
_______________________(14/68)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريط المطبوعات الجديدة
(النسائيات)
كنا نقرأ في (الجريدة) مقالات في شؤون النساء، عنوانها العام (النسائيات)
بإمضاء (باحثة بالبادية) ، وكنت ظننت عند قراءة أول ما اطلعت عليه بهذا
الإمضاء أن كاتبه رجل، ثم علمت أنه من إنشاء الكاتبة الشاعرة الأديبة ملك
ناصف، كريمة صديقنا حفني بك ناصف وقرينة صديقنا عبد الستار الباسل الزعيم
في قبيلة الرماح العربية التي تقيم في جهة الفيوم، وكأن الكاتبة بدأت بما كتبته
للجريدة وأمضته بلقب (باحثة بالبادية) وهي في دارها التي هناك بجوار القبيلة،
وإن كانت دار مقامها عامة السنة في القاهرة.
تربت الكاتبة في حجر والدها، ومقامه في العلم والأدب والنظم والنثر
معروف، فهو من الرعيل الأول الذين تخرجوا في مدرسة دار العلوم بعد الدراسة
في الأزهر، وأخذ عن الأستاذ الإمام، ثم علم وصنف، ثم صار قاضيًا في المحاكم
الأهلية، فقتل الزمان علمًا وخبرًا، وآثار علمه وأدبه مدروسة غير دراسة،
وتعلمت في المدرسة السنية الأميرية حتى صارت من المعلمات، ثم اقترنت
بالرجل البدوي الحضري الذي عرف أوربا كما عرف القاهرة، وخبر الأحوال
الاجتماعية البادية والحاضرة، وهو من مؤسسي حزب الأمة، ولهذا خصت قرينته
(الجريدة) بمقالاتها. وغرضنا من هذا البيان أن يعرف القارئ بأن صاحبة
مقالات النسائيات جديرة بذكائها الفطري والوراثي، وبتربيتها المنزلية والمدرسية،
ثم صيرورتها ربة بيت وقرينة بعل يعرف قيمة العلم والأدب والإصلاح، جديرة
بأن تكتب ما ترجى فائدته في النسائيات التي هي أهم المسائل الاجتماعية في مصر
والعالم الإسلامي المدني في هذا العصر.
تغيرت حال الاجتماع في المدائن الإسلامية بقدر انتشار التعليم العصري فيها،
واختلاط أهلها بالإفرنج والمتفرنجين، فتجددت لكثير من الرجال آراء ورغبات
فيما ينبغي أن تكون عليه بيوتهم ونساؤهم، والنساء لا يشعرن بالحاجة إلي تغيير ما
في نظام البيوت ولا في معارفهن وآدابهم وعادتهن. واقتضت تلك الرغبات في
بعض الرجال أن يعلموا البنات كما يعلمون الصبيان في المدارس العصرية التي
أنشأتها الجمعيات النصرانية الإفرنجية، ثم المدارس التي أنشأتها الحكومة، ثم
الأهالي لمحاكاة مدارس الإفرنج وتقليدًا لهم فيها، ولما تعلم بعض البنات صار فيهن
من يرغبن فيما يرغب فيه بعض المتعلمين من التغيير، ولكن الراغبات في ذلك من
المتعلمات أقل من الراغبين فيه، على أن المتعلمات أقل من المتعلمين.
يختلف المفكرون في هذه المسالة اختلافًا كبيرًا، فمنهم من يرى أنه ينبغي لنا
تقليد الإفرنج حذو القذة بالقذة، ومنهم من يرى أن ذلك أضر علينا من جهل النساء،
وبين هذين الطرفين آراء كثيرة، والحق الذي لا ريب فيه هو أنه لا يمكن أن
ينتظم حال الحضارة الإسلامية إلا بتربية البنات وتعليمهن، ولذلك قلت في فاتحة
العدد الأول من منار السنة الأولى عند بيان مقاصد الصحيفة: (وغرضها الأول
الحث علي تربية البنات والبنين) ولكنني لم أشرح هذا المقصد كثيرًا كما شرحت
غيره من مقاصد المنار؛ لأنني أرى أن التربية والتعليم لا يفيدان الفائدة التي نحتاج
إليها إلا إذا قامت بهما الجمعيات الخيرية الملية دون الحكومة، ودون الأفراد الذين
ينشئون المدارس لأجل الكسب، فكنت لهذا أطالب الأستاذ الإمام المرة بعد المرة
بإنشاء معهد خاص لتربية البنات بالعمل وتعليمهن، يكون تابعًا للجمعية الخيرية
الإسلامية، وكان - رحمه الله تعالى - يقول: إن المال الخاص بالتعليم في الجمعية
لا يكفي لهذا العمل، فلا بد من انتظار فرصة لفتح اكتتاب لذلك، وكنا ننتظر هذه
الفرصة ونرجئ القول في الحاجة إلى هذا التغيير في حال نسائنا، وفي طريقه
وكيفيته إلى وقت الشروع في العمل، حتى لا يكون القول مثارًا للمراء والجدل.
ما فتحنا باب البحث والجدل في المسألة، ولكن سخر الله له قاسم بك أمين
ففتحه هنا بكتابه (تحرير المرأة) ؛ إذ كتب في مسألة الحجاب ما أسخط السواد
الأعظم من الناس، فردوا عليه في الجرائد والمصنفات الخاصة، وبينوا آراءهم
في التربية والتعليم النافعين لترقية النساء.
ثارت الرياح في ذلك عند ظهور كتاب تحرير المرأة، ثم كتاب (المرأة
الجديدة) الذي رد به قاسم على المعترضين، ثم سكتت زمنًا وكاد يغلق باب البحث
فيه، لولا أن فتحت (الجريدة) مصراعيه لغير واحد من الكتاب، وفي أثناء ذلك
دخلت صاحبة مقالات (النسائيات) في مضمار البحث مناضلة مناظرة للكاتبين من
الرجال، ومظهرة لهم مالا يعرفون من شؤون النساء، ثم دعت النساء مرتين إلى
سماع خطبتين لها: إحداهما في شؤونهن العامة، وما ينبغي أن يكن عليه في
البيوت. والثانية في المقارنة بين المرأتين المصرية والغربية، وبيان ما يصلح
العمل به، وأجابها إلى سماعهما المئات من المصريات. وقد نشرناهما في المنار.
الحق أقول: إن ما كتبته هذه الكاتبة في بدايتها خير مما كتبه الكثيرون من
الرجال عبارة ورأيًا، فأكثر الرجال جاءوا بالآراء النظرية والأهواء النفسية، أو
تقليد الإفرنج والمتفرنجين، وهي قد بنت كلامها على اجتهاد واستقلال، يرجع إلى
أصول ثلاثة: أحدها الدين، وثانيها الاختبار، وثالثها مصلحة المرأة المصرية،
ومن فروع هذا الأصل الأخير استنكارها تزوج المصريين بالإفرنجيات والتركيات،
وإنا لنقرها على هذه الأصول، وإن كنا نخالفها في بعض الفروع، ونشهد أن ما
كتبته مفيد للقارئين والقارئات، ونشكرها شكر المستزيد من هذه الفوائد، ونهنئ بها
بيت الزوج وبين الوالد.
طبع الجزء الأول من (النسائيات) في منتصف العام الماضي، فكان 146
صفحة، وطبع معه تقريظ من أرباب القلم المشهورين بلغت 20 صفحة وافتتح
بمقدمة حكيمة لأحمد لطفي بك السيد مدير الجريدة أحسن ما فيها مسألة (المرأة
والدين) ، وثمن النسخة من هذا الجزء عشرة قروش صحيحة، فعسى أن ترى
الكاتبة من رواج كتابها ما يبعث همتها إلى زيادة العناية، ويرغب غيرها من
الكاتبات في الكتابة والخطابة والتأليف.
(البرهان الصريح في بشائر النبي والمسيح صلى الله عليهما وسلم)
جمع هذا الكتاب من نصوص العهد القديم والعهد الجديد أحمد أفندي ترجمان،
وهو رجل واسع الاطلاع في كتب أهل الكتاب الدينية، كثير الحفظ منها، قوي
الاستحضار لها، وأعانه على تحريره وترجمة النصوص من الأصل العبراني
محمد أفندي حبيب صاحب مكتبة برج بابل (بموافقة عالمين من علماء الإسرائيلية
على صحة النصوص العبرانية والكلدانية) وفي الكتاب فوائد كثيرة دينية وتاريخية،
ومقارنات غريبة بين النصوص وتفسير بعضها ببعض، لا يستغني عنها من
تعنيهم هذه المباحث. وثمن النسخة منه قرشان، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.
(مصادر المسيحية وأصول النصرانية)
(رسالة لاهوتية تاريخية، تبين المصادر الأصلية للدين المسيحي القديم وما
ورد فيه من توحيد وتثليث واثنينية وتسبيع وتتسيع، ومقبول ومرفوض من
العناصر الدينية القديمة؛ كالمصرية والبرهمية والبوذية والبابلية والآشورية
والميثرايزمية لمؤلفها محمد أفندي حبيب، صاحب مكتبة برج بابل في مصر مؤسس
حزب الله، وهذه الرسالة مأخوذة من الكتب الدينية والتاريخية المكتوبة باللغة
الإنكليزية في الغالب، وثمنها خمسة مليمات وتطلب من مؤلفها.
(الدرة اليتيمة لابن المقفع)
طبعت هذه الرسالة الأدبية الطبعة الخامسة في مطبعة الرغائب بمصر، وتطلب
من مكتبتها، وهي غنية بشهرتها عن الوصف.
(دروس التاريخ الإسلامي)
كتاب مختصر مفيد في تاريخ المسلمين، يؤلفه الشيخ محيي الدين الخياط،
ويطبع في بيروت بنفقة المكتبة الأهلية، وقد صدر منه ثلاثة أجزاء أو ثلاثة
أقسام كما عبر المؤلف: الأول في مجمل من السيرة النبوية، والثاني في مجمل من
تاريخ الخلفاء الراشدين، والثالث في مجمل تاريخ دولة بني أمية، ويقرب الجزء
من 90 أو 100 صفحة مقسمة إلى دروس، في كل درس مسائل مختصرة،
لكل مسألة عنوان وفي آخره خلاصة وأسئلة، فيصلح هذا الكتاب أن يدرس في
المدارس الابتدائية؛ لسهولته وحسن ترتيبه، على أنه للعارفين كالمذكرات
الوجيزة التي تسمى بالأعجمية (النوتة) ، وثمن الجزء قرشان ونصف، ويباع
في المكتبة الأهلية ببيروت، والمكتبة السلفية بمصر.
(المشير)
الجريدة جديدة أسبوعية (إسلامية إصلاحية عمومية) ظهرت بتونس في
أوائل هذا الشهر، وقد كتب إلينا من نثق بعلمه ورأيه من الثناء على صاحبها
(الطيب بن عيسى) والثقة بحسن قصده، ما جعلنا نتمنى لها الثبات والنفع
العام، وعسى أن يعضدها أهل الغيرة والرأي.
__________(14/71)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أعظم رجل في العالم
اختلف أحرار الباحثين في أعظم رجل ظهر في العالم، وقد سبق لبعض
الجرائد الأوربية الاقتراح على قرائها أن يكتبوا إليها آراءهم في ذلك، وكان منهم
من صرح بأن رأيه أن أعظم رجل ظهر في البشر هو سيدنا محمد خاتم النبيين
والمرسلين، قد اقترحت هذا الاقتراح وآخر في معناه من عهد قريب جريدة الوطن
البيروتية وصاحبها مسيحي، وكان أول من أجابه كاتب من أحرار الطائفة
المسيحية، قالت الجريدة:
سألنا فريقًا من الفضلاء عمن هو أعظم رجل في العالم وفي سوريا، ولماذا؟
فوردتنا الأجوبة الآتية ننشرها بحسب ورودها:
(1)
من هو أعظم رجل في العالم، ولماذا؟
أعظم رجال العالم على الإطلاق؛ رجل وضع في عشر سنين دينًا، وفلسفة
وشريعة اجتماعية، وقوانين مدنية، وغير شريعة الحرب، وأنشأ أمة ودولة
طاولت الدهر، وكان أميًّا ذلك هو:
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي العربي نبي المسلمين.
وقد تدارك النبي لمشروعه العظيم كل حاجاته، فوفر لأمته ولتابعيه وللملك
الذي أنشأه أسباب الانتشار والخلود، بحيث إذا انقطع المسلم إلى القرآن والحديث
وجد فيهما ما يهمه من أمور دينه ودنياه، وجعل للمسلمين مؤتمرًا ينعقد كل عام في
مكة، ومن تنبه إلى فرض الحج على من يملك الراحلة والنفقة وإسقاطه عمن لا
يملكها، أدرك أن الغاية من الحج اجتماع الموسرين والوجوه من الأمة للبحث في
شؤون جامعتهم وأمور سياستها واجتماعها وتعاونها. وتدارك أمر الفقير بالزكاة
المفروضة على كل مسلم، بحيث إذا أداها المسلمون على حقها لم يبق في الأمة فقير.
وجعل نواة أبدية للإسلام بكون القرآن كتابًا عربيًّا، يتحتم على كل مسلم أن
يتفهمه بلغة العرب، وإذا لم يكن في هذا غير أن فهم العربية حتم على كل عالم
وإمام، يكفي به جامعة لسان للمسلمين.
ومهد طريق النبوغ لأفراد الأمة بكون المسلم لا يفضل المسلم إلا بالتقوى،
فكان الإسلام جمهورية حقيقية، يختار المسلون رئيسها الذي هو الخليفة، وقد
ساروا على هذه السنة حينًا من الدهر، ولن تزال المبايعة بالخلافة رمزًا من
رموزها.
وسهل اعتناق الإسلام لغير العرب بقوله: لا فضل لعربي على عجمي ولا
لعجمي على عربي.
ويسر لغير المسلمين العيش برخاء في بلاد الإسلام بقوله:
(الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله) .
ونظر في أمر (العائلة) ، فرتب أمور الزواج والتناسل والتوارث، ورفع
من شأن المرأة، وعاد إلى الأمور المدينة، فوضع قوانين وقضاء للنظر في شؤون
الأفراد.
ولم يهمل مالية الدولة، بل وضع سننًا لبيت المال.
وكان للعلم من همه نصيب وافر، فجعل الحكمة ضالة المؤمن، وأوصاهم
بأن يطلبوا العلم ولو في الصين، فكان لهذه الوصية شأن عظيم في اقتباس
المسلمين العلم من كل أبوابه وازدهاره في أيامهم.
أفلا يكون الذي فعل كل هذا أعظم الرجال؟
من هو أعظم رجل في سوريا ولماذا؟
لو عرف التاريخ اسم الفينيقي الذي اخترع الكتابة بالحروف، لكان جوابي
اسم ذلك الرجل.
وإذا صح أن نعد صلاح الدين الأيوبي سوريًّا لموته في سورية، ولإقامة أبيه
فيها، فهو أعظم رجالها لأنه انتصر في تسعين موقعة، وكان أعدل الملوك وأكرمهم
خلقًا ويدًا، فقد مات ولم يخلف دارًا ولا عقارًا، ولم يكن في خزانته يوم توفي غير
47 درهمًا.
أما التاريخ لا يعرف ذاك، وللناس على سورية هذا اعتراض، فإني أرى أبا
العلاء المعري السوري القح الذي كان شاعراً كبيرًا، ومنشئًا بليغًا، وفيلسوفًا
عظيمًا، وإنسانًا حكيمًا، ونابغة في حدة ذهنه، وفي حرية قلبه ولسانه، أعظم
رجال سوريا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... داود مجاعص
__________(14/75)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اعتصام الفئتين الكبريين من المسلمين
جاء في بعض جرائد العراق ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين وآله
وصحبه المنتخبين، قد رأينا أن اختلاف الخمسة الفرق الإسلامية في بعض ما لا
يتعلق بأصول الديانة، والشقاق بين طبقات المسلمين؛ هو السبب الموجب
لانحطاط دول الإسلام واستيلاء الأجانب على معظم ممالكها، فلأجل المحافظة على
كلمة الجامعة الدينية والمدافعة عن الشرعة الشريفة المحمدية، قد اتفقت الفتاوى من
المجتهدين العظام الذين هم رؤساء الشيعة الجعفرية، ومن علماء أهل السنة
المقيمين بدار السلام على وجوب الاعتصام بحبل الإسلام، كما أمر الله به، فقال
عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)
وعلى وجوب اتحاد كافة المسلمين في حفظ بيضة الإسلام وصون جميع الممالك
الإسلامية من العثمانية والإيرانية عن تشبثات الدول الأجنبية، وهجمات السلطة
الخارجية، وقد اتحد الرأي منا جميعًا تحفظًا على الحوزة الإسلامية أن نبذل تمام
قوانا ونفوذنا في ذلك، ولا نكف عن كل إقدام يقتضيه المقام، واثقين بكمال اتحاد
الدولتين العليتين الإسلاميتين، وعناية كل منها بحفظ استقلال الأخرى وحقوقها،
وقد أعلن لعموم الملة الإسلامية وجوب السكون والتعاون في حفظ استقلال دولتها
العلية، وحماية مملكتها وصيانة ثغورها عن مداخلة الأجانب، فيكونوا كما قال الله
تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) ونذكر عامة المسلمين
الأخوة التي عقدها الله تعالى بين المؤمنين، ونعلن لهم وجوب التحرز والتجنب عما
يوجب الشقاق والنفاق، وأن يبذلوا جهدهم في نواميس الأمة، والتعاون والتعاضد
وحسن المواظبة على اتفاق الكلمة، حتى تصان الراية الشريفة المحمدية ويحفظ
مقام الدولتين العثمانية والإيرانية - أدام الله تعالى شوكتهما بمحمد وآله وصحبه خير
البرية.
... ... ... ... ... ... الأحقر شيخ الشريعة الأصفهاني
... ... ... ... ... الراجي إسماعيل بن الصدر العاملي
(المنار)
لكل عمل وحال أجل، ولكل أجل كتاب، وقد طال الأمد على التفرق
والتدابر بين المسلمين، وقد بح صوتنا وحفيت أقلامنا من كثرة الدعوة إلى
الاعتصام. ولكن كان المفرقون يهدمون ما نبني، حتى قام يوهم الناس بعض
المفتونين بالرياسة أننا غيرنا طريقتنا؛ لأننا نشرنا تلك الرسالة المعهودة لسائح في
العراق، وما كنا مغيرين، ولكن كانوا هم المفرقين، ولم ينس القراء خطابنا في
العام الماضي لعلماء الطائفتين، بالقيام بما يجب من جمع الكلمة في الدولتين،
ونحمد الله أن أجاب دعاءنا، وهذا أول صوت من الفريقين في تلبية طلبنا، وإنا
لنرجو فوق ذلك اعتصامًا واتحادًا.
__________(14/77)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البابية البهائية
ضاق هذا الجزء عن متابعة الكلام في الباطنية سلف هؤلاء البهائية، وقد
جرى بيني وبين أحد كبار رجال القضاء في الإسكندرية حديث في شأن عباس
أفندي زعيمهم، وكنا بدار محمد سعيد باشا رئيس النظار بمصر وقد اتفق جلوسنا
في إحدى الحجرات ليلة احتفال الرئيس بعيد جلوس الأمير، وكان معنا بعض
العلماء الوجهاء.
افتتح محدثي الكلام بمعاتبتي على ما كتبت في شأن عباس أفندي، وأطراه
أشد الإطراء، وشهد له بالإسلام الكامل علمًا وحكمة وعملاً، فقال: إنه يؤدي
الصلوات الخمس وغيرها من الفرائض والنوافل، ويبين من فضائل الإسلام ما لا
يكاد يستطيعه سواه، ويسعى في نشره في أمريكة وسواها، ويحاول جمع الشعوب
عليه، فكان سبب دخول الملايين في هذا الدين المبين، قال: ولو سواك طعن في
إسلامه، وقال فيه ما قلت وأكثر مما قلت، لما كنا نبالي بقوله، ولكن لكلامك من
القيمة والاحترام ما ليس لغيره؛ ولذلك ساءني أن تتكلم في هذا الرجل العظيم وأنت
لم تعرفه معرفة اختبار، بما لعلك أخذته من غمر جاهل أو ذي غمر متجاهل، وإني
أدعوك إلى ضيافتي بالإسكندرية، وأجمع بينك وبين الرجل وأنا موقن بأنك تعجب
بدينه وعقله وعلمه وآدابه الجذابة وفصاحته الخلابة، هذا حاصل معنى ما قاله هذا
اللائم المعجب بالرجل.
ومما قلته له: إنني أسلم بما سمعته منك ومن سواك عن شمائل الرجل وأدبه
وفصاحته، ولم أكتب فيه إلا ما يدل على هذا، وهذا التسليم لا ينقض شيئًا من بناء
اعتقادي واختباري، وإن قواعد هذا الاعتقاد ليست مأخوذة عن أعداء الرجل
وأعداء قومه، بل منهم ومن كتبهم، فقد جرى بيني وبين داعيتهم هنا مناظرات
متعددة، وثبت عندي أنهم من الباطنية الذين كانوا يظهرون للمسلمين وكذا لغيرهم
أنهم منهم وعلى ملتهم، ولا يطلبون إلا الإصلاح فيها، وهؤلاء البهائية إذا دعوا
النصارى في أمريكة مثلاً إلى نحلتهم قالوا لهم: إنا نصارى مثلكم نؤمن بألوهية
المسيح وبمجيئه في يوم الدين- أو الدينونة كما تقول النصارى - وقد جاء المسيح
كما وعد في ناسوت البهاء وآمنا به واتبعناه، وكذلك يقولون للمسلمين: إنا منكم
ونطلب إصلاح حالكم باتباع المهدي المنتظر، والمسيح الموعود به، بل يقولون:
إن دين برهما ودين بوذه ودين زردشت حق، ويقولون لهؤلاء إذا لقوهم: إنا منكم،
وإن ربنا وربكم هو البهاء، أو بهاء الله دفين عكا من بلاد الشام، ولا يفصحون
عن عقيدتهم كلها لأحد دفعة واحدة، وإنما يرتقون به درجة بعد أخرى، وقد وضع
سلفهم الأولون هذه الدرجات وجروا عليها، وقلدهم الماسون فيها (أي الدرجات
فقط) وقصارى دعوتهم الرجوع إلى نوع من الوثنية ملون بلون جديد من ألوانها.
ولما بالغ محدثي بإنكار ذلك، قلت له: إنني لا أدعي معرفة الرجل والحكم
عليه بما ظهر لي منه نفسه، وإنما أحكم عليه من حيث هو زعيم هؤلاء القوم
باعترافهم واعترافه، وقد بلغني عنه نفسه أنه يدعي الإسلام ويجاري أهله في
عباداتهم عندما يكون معهم، ونحن لا نقول لمن أظهر الإسلام: إنك لست بمسلم
اتباعًا للظن، ولكننا نعلم من تاريخ هؤلاء الباطنية مثل هذا، فقد كان العبيديون
بمصر يدعون أنهم مسلمون ويبثون دعاتهم في الناس لتحويلهم عن الإسلام إلى
عبادة إمامهم المعصوم بزعمهم، فإذا كان عباس أفندي مسلمًا حقيقة لا بالمعنى الذي
تقوله الباطنية عادة، فليكتب لنا مقالة بخطه وإمضائه يصرح فيها بالنص الصريح
بأن سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب هو خاتم النبيين والمرسلين، لا دين
بعد دينه، ولا شرع ينسخ شرعه، وأن القرآن هو آخر كتب الله ووحيه لأنبيائه
ورسله، وأن معانيه الصحيحة هي ما دالت عليه مفرداته وأساليبه العربية.
فقال محدثي البارع: كيف يمكن أن تقول للبريء: إنك متهم بالجناية،
وينبغي أن تتبرأ منها وتدافع عن نفسك؟ إننا لا نطلب أن يكتب ذلك بأسلوب الدفاع،
وإنما نطلب أن يكتبه في مقال يبين فيه حقيقة الإسلام؛ إرشادًا للناس وتعليمًا أو
ردًا على المعترضين، ومثل هذا يقع كثيرًا، ولذلك اكتفينا منه بذلك، ولم نكلفه أن
يتبرأ مما سمعناه من أتباعه من القول: بألوهية والده، ونسخه للشريعة الإسلامية؛
كجعل الصلوات ثنتين بدل خمس بكيفية غير كيفية صلاة المسلمين، فإن كان لا
يكتب من تلقاء نفسه، فإننا نكتب إليه أسئلة ونطالبه بالجواب عنها، فهل يضمن لنا
ذلك المعجب بإسلامه أن يجيب عنها؟ ؟
__________(14/78)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الماسون في الدولة العثمانية
كان السلطان عبد الحميد عدوًّا للجمعية الماسونية؛ لاعتقاده أنها جمعية سرية،
وهو يخاف من كل اجتماع وكل سر، وإن غرضها إزالة الاستبداد وهو مستبد،
وإزالة السلطة الدينية من حكومات الأرض كلها وهو يفخر بالخلافة الإسلامية
ويحرص عليها، وقد تنفس الزمان للماسون بعد الانقلاب الذي كان لهم فيه أصابع
معروفة، فأسسوا شرقًا عثمانيًّا أستاذه الأعظم طلعت بك ناظر الداخلية، وأركانه
زعماء جمعية الاتحاد والترقي، وأنصارها من اليهود وغيرهم، ولأجل هذا نرى
طلعت بك لا يبالي بسخط الأمة ولا برضاها في إدارته التي استغاثت منها المملكة
بألسنة ولاياتها كلها إلا ولاية سلانيك وكذا أدرنة فيما أظن، وألسنة مبعوثيها حتى
بعض الاتحاديين، وسلانيك هي الآن مركز السلطة الحقيقية في المملكة، وإنما
الآستانة مركز التنفيذ، كأن حظ عبد الحميد أن تكون السلطة الحقيقية حيث يكون
ما دام حيًّا، وإن لم تكن في يده الخاطئة.
وإنا نتمنى أن لا يكون تصرف طلعت بك في الماسونية كتصرفه في نظارة
الداخلية، فإنني والله لم أسمع من أحد في الآستانة ولا في غيرها شهادة له بحسن
التصرف، ولا أحصي عدد الشهادات التي سمعتها عن سوء تصرفه الذي ظهر أثره
في اضطراب أكثر ولايات المملكة، فسوء تصرفه في مسألة الأرنؤد قد عرف الآن،
وإن لم تظهر عواقبه السيئة كلها. وأما سوء تصرفه في مسألة اليمن فقد ظهرت
عواقبه السيئة كلها، وأما سوء تصرفه في مسألة اليمن فقد ظهرت بوادره
ونعوذ بالله من أواخره.
نتمنى أن يكون تصرفه في الماسونية أحسن حتى لا يجني عليها ولا على
الملة والدولة، فإن الفرق بيننا وبين فرنسة والبورتغال بعيد جدًّا، وإن كان يراه
هو والدكتور ناظم بك وبعض الزعماء قريبًا، فليتدبروا ولا يغتروا بقوة الجمعية
ولا بغيرها فطبيعة الاجتماع أقوى من تدبير الجمعيات، وقد يكون مع المستعجل
الزلل.
__________(14/80)
صفر - 1329هـ
مارس - 1911م(14/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الذكر بالأسماء المفردة
(س4) من صاحب الإمضاء بطوخ القراموص
حضرة الفاضل صاحب المنار المنير الأفخم:
اطلعت على ما جاء في جوابكم على سؤال في الطريقة الشاذلية الدرقاوية
المنشور في ج3 م13 ص 194 من المنار؛ من أن الذكر بالأسماء المفردة لم يرد
في الشرع الأمر به ولا العمل ... إلخ.
وحيث إن هذا المذهب، وإن سبقكم إلى القول به العز بن عبد السلام وابن تيمية
الحنبلي وغيرهما ممن حذا حذوهما؛ مخالف للسنة ولإجماع الصوفية وجمهور
الفقهاء والمحدثين، رأيت أن أرسل إليكم بهذه العجالة؛ لتنشروها في المنار، فإن
الحقيقة بنت البحث وإليكم البيان.
(1) في الجوهر الخاص للعلامة الغمري أن الذكر ما أتى قط مقيدًا بشيء،
فليس في الكتاب ولا السنة اذكروا الله بكذا، بل اذكروا الله مطلقًا من غير تقييد بأمر
زائد على هذا اللفظ.
وفيه أيضًا: هل قول الذاكر: الله الله، يحتاج إلى تأويل خبر أم لا؟ الجواب:
أما من حيث الأكمل فيحتاج إلى خبر ليتم المعنى لا من حيث إنه يسمى ذكرًا فإنه
يسمى ذكرًا بدون ذلك؛ لأن صيغ الذكر وضعت للتعبد بها، ولو من غير تأويل
خبر.
ونقل العلامة العسقلاني في شرحه على البخاري في الكلام على حديث: (إنما
الأعمال بالنيات) أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها، وأما ما
يتميز بنفسه فإنه يتصرف بصورته إلى ما وضع له: كالأذكار والأدعية والتلاوة؛
لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة.
(2) مما يدل على الذكر بالاسم المفرد من السنة، ما ورد في الحديث
الشريف عن ثابت عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة
على أحد يقول: الله الله) ، وعن علي كرم الله وجه من حديث طويل، قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (يا علي لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول: الله
الله) ، وفي رواية حميد عن أنس: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله
الله) ، وفي الأنوار السَّنِيَّة أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا قال العبد: الله -
خلق اللهُ من قوله ملكًا مقربًا لا يزال يصعد حتى يغيب في علم الله وهو يقول:
الله الله ... ) إلى آخر الحديث.
(3) في ذيل الرسالة القشيرية: كان رجل يكثر أن يقول الله الله، فوقع يومًا
على رأسه جذع فانشج رأسه فقطر الدم فاكتتب على الأرض: الله الله. وذكر ابن
العربي أن هذا الذكر ذكر الخاصة من عباده الذين عمر الله بأنفاسهم العالم.
وقال اليافعي ذكر الأقطاب: الله الله الله بسكون الهاء وتحقيق الهمزة، كما في
شموس الآفاق. وكان العارف بالله تعالى سيدي أبو الحسن الشاذلي قدس الله روحه،
يقدمه في التلقين على لا إله إلا الله. وقال في رسالة القصد: يقول المريد: الله الله،
وكما تلقنا لقنا وعمل بها واختارها هو وجمع من الصوفية لا يحصون، واختار
الغزالي في كتاب الميزان الإكثار من ذكر الله، وذكر أنه تلقن عن بعض مشايخه: الله
الله، وقال: إنها متضمنة لمعنى الشهادتين، وفصل أخو الإمام الغزالي فقال:
للمبتدئ: لا إله إلا الله، فقال: وهو ذكر ينفي الحظوظ ويبقي الحقوق، ويسرع
ذهاب الأغيار بالأنوار، وللمنتهي هو هو، وصنف في ذلك كتابه. وذكر العلامة
العدوي على كفاية الطالب عند قول الرسالة: وليقل الذابح عند الذبح بسم الله والله
أكبر لا يشترط بسم الله، إلى أن قال: لو قال: الله مقتصرًا على لفظ الجلالة أجزأ
ولو لم يلاحظ له خبرًا؛ لأن الواجب ذكر الله، وفي بعض حواشي الخرشي: لو
لم يلاحظ له خبرًا لكفى، وإما بالصفة كالخالق والرازق فإنه لا يكفي اهـ.
هذا ما حضرني الآن على مشروعية الذكر بالاسم المفرد والعمل به، ولو
أردت أن أورد الشواهد من السنة وأقوال الأئمة على اختلاف درجاتهم ومنازعهم
لطال بنا المقام، وفي هذا القدر كفاية. وعليه ترون أن القول بخلاف ذلك
مردود بما ذكر. والله ولي التوفيق.
... ... ... ... خادم العلم الشريف أحمد محمد الألفي
... ... ... بطوخ
(ج) استدل السائل على مشروعية الذكر بالأسماء المفردة بقول الغمري:
إن الذكر ما أتى قط في الكتاب ولا في السنة مُقَيَّدًا بشيء، وبقوله: إنه لا يحتاج
في صحة كونه ذكرًا إلى تقدير خبر، وقول الحافظ ابن حجر فيما تشترط فيه النية،
ثم ببعض الأحاديث، ثم بأقوال وحكايات عن بعض المتصوفة.
فأما كلمات المتصوفة وحكاياتهم فليست بحجة عند أحد من علماء المسلمين،
حتى تحتاج إلى إثباتها والبحث في دلالتها، ومن السهو أن يعبر السائل الفاضل عن
ذلك بإجماع الصوفية؛ إذ لا يمكنه إثبات هذا الإجماع، وهو ليس بحجة لو ثبت،
ومثل ذلك قوله جمهور الفقهاء والمحدثين، وإنما الفقهاء الذين يعتد بكلامهم فهم
المجتهدون، ولم يذكر كلام أحد منهم ولا من المحدثين في محل النزاع.
وأما قول الغمري فهو لا حجة فيه من حيث هو قوله ولا صحة له في نفسه
بل هو باطل، فقد جاء الذكر في كل من الكتاب والسنة مطلقًا ومقيدًا بذكر آلاء الله
ونعمته؛ كقوله تعالى في سورتي المائدة والأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (الأحزاب: 9) ، وقوله في سورة الملائكة: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (فاطر: 3) ، وقوله في سورة الأعراف:
{فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} (الأعراف: 69) ، وكل ما ورد في الكتاب والسنة
من أنواع الأذكار كالتهليل والتسبيح والتمجيد فهو من الذكر المقيد، والأمر بذكر
الله مطلقًا من غير ذكر الاسم ينصرف غالبًا إلى الذكر النفسي؛ كذكر الآلاء
والنعم أي: تذكرها والتفكر فيها، وحيث يذكر لفظ (الاسم) يراد ذكر اللسان
كقوله تعالي في سورة الأنعام: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: 118)
وقد حققنا هذا المبحث فيما زدناه أخيرًا في تفسير الفاتحة عند شروعنا بطبعها في
الجزء الأول من التفسير، وأما ما نقله عن الحافظ في مبحث النية فليس مما نحن
فيه.
بقي ما ذكره من الأحاديث وهي موضع البحث دون سواها؛ لأن المسألة
صارت من المسائل المختلف فيها بين المسلمين، فمثل العز بن عبد السلام من أكبر
علماء الشافعية وكان يلقب بسلطان العلماء، وابن تيمية من أكبر علماء الحنابلة،
يقولان بعدم مشروعية الذكر بالأسماء المفردة، وناهيك بسعة علمهما بالكتاب
والسنة، وقد شهد العلماء لكل منهما بالاجتهاد المطلق. ويقول غير واحد
كالذين ذكر السائل أسماءهم: إنه مشروع، فيجب أن يرد هذا الخلاف إلى الكتاب
والسنة لا أن يقال: إن كلام عز الدين مردود بكلام الغمري مثلاً.
السنة النبوية هي البيان الأجلى لكتاب الله تعالى، ولم نر في كتب الناقلين لها
من الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم المعتبرة؛ أن للنبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه كانوا يذكرون الله تعالى بالأسماء المفردة، كما يفعل أهل الطريق الله الله
الله أو هو هو هو (إن صح أن هذا اسم) ، أو حق حق حق، فهل يعقل أن يترك
النبي صلى الله عليه وسلم هذه العبادة إذا فهم أنها مرادة لله تعالى من إطلاق الذكر
في بعض الآيات، وأن يتركها أصحابه - رضي الله عنهم - إذا فهموا ذلك أو رأوا
النبي صلى الله عليه وسلم فعله؟ أم يصح أن تكون هذه عبادة قد مضت بها سنتهم
ولم ينقلها أحد من الرواة؟ ثم إننا روينا من أحاديث الأذكار الكثير الطيب؛ كالتوحيد
والتسبيح والتجميد والتكبير والاستغفار، ولم نرو فيها أمرًا بقول الله الله، أو حي
حي باللفظ المفرد.
أما حديث إذا قال العبد الله ... إلخ الذي نقله عن كتاب الأنوار، فهو لا يصح
ولا يحتج به بل هو موضوع، وأما حديث: (لا تقوم الساعة ... إلخ) ، فقد
رويناه عن مسلم في صحيحه من حديث أنس، وكذا عن أحمد في مسنده والحاكم
وابن حبان وغيرهم، وكان ينبغي للسائل عزوه إلى صحيح مسلم، وعبد بن حميد
من شيوخ مسلم، وقد رواه من طريق حماد عن ثابت عن أنس بلفظ (لا تقوم
الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله) ، ومن طريق معمر عن ثابت عنه بلفظ:
(لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله) ، ورواه عبد بن حميد وابن حبان عنه
بلفظ: (على أحد يقول لا إله إلا الله) ، وكذا ابن جرير والخطيب وزادا (ويأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر) ؛ والظاهر أن المراد من الرواية الأولى ما هو
بمعنى الثانية أي: لا أحد يذكر الله وحده في إسناد الأمور إليه؛ بل يكون الناس
كلهم ملحدين أو مشركين، وهذا ما صح في الأحاديث عند البخاري ومسلم وغيرهما،
والرواية وردت برفع لفظ الجلالة لا بسكونه، واللفظ في العربية لا يكون مرفوعًا
ولا منصوبًا ولا مجرورًا إلا في الكلام المركب، وقد ذكر علماء البلاغة نكت حذف
المسند والمسند إليه من الكلام، والعمدة فيها كلها القرينة المبينة للمراد، وقد وقع
الحذف في القرآن كثيرًا، كقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: 25) أي خلقهن الله، وقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِي
جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا
لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام: 91)
أي قل الله أنزله أي: كتاب موسى إن لم يقولوه، ولو علمنا ما كان يحتف بالحديث
من قرائن الأقوال والأحوال لجزمنا بالمحذوف كما نجزم به في الآيتين، ولكننا
نقدره، ولم نطلع على تلك القرائن بما يتفق مع رواية على أحد يقول لا إله إلا الله
وروايات غلبة الشرك والكفر على الناس الذين تقوم عليهم الساعة، فنقول المعنى
لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله فعل كذا، الله قدر كذا، ولا يظهر إرادة النطق
بلفظ الجلالة مفردًا، فإن المشركين والملاحدة يذكرون الاسم الشريف بمناسبات
كثيرة.
__________(14/99)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من الهند
(س5 11) من صاحب الإمضاء:
سيدي رأيت في حاشية كتاب العلو لابن قدامة المطبوع في مطبعة المنارالأغر
على القصة المروية عن عبد الله بن رواحة مع امرأته رضي الله عنها حيث رأته
مع جارية له قد نال منها، فلامته فجحدها، فقالت له: إن كنت صادقًا فاقرأ القرآن،
فإن الجنب لا يقرأ القرآن، فقال: شهدت ... الأبيات، فقالت: آمنت بالله وكذبت
بصري، وكانت لا تحفظ القرآن. كلامًا ما نصه: لا شك عندي في أن الرواية في
هذه المسألة موضوعة ... إلخ. مع أن الحافظ ابن عبد البر قال في الاستيعاب (كما
ذكر ذلك ابن القيم في الجيوش الإسلامية وأقره) : رويناها (يعني القصة) من
وجوه صحاح، فالمسئول إيضاح الصواب.
قوله صلى الله عليه وسلم كل قرض جر نفعًا هو ربا ما هو تفصيل هذا النفع،
ويفعل الغواصون عندنا أمرًا هو أن صحاب السفينة يقرض الذين يغوصون معه
في سفينته؛ بشرط أن لا يغوصوا مع غيره، وأمرين آخرين (وهما وإن لم يكونا
من باب القرض، لكن نحتاج إلى بيان الحكم فيهما) الأول: أن يبيع صاحب
السفينة من أحد رفقائه سلعة بثمن إلى أجل، على أن يغوص معه في سفينته،
والثاني: هو أن يبيع رجل من آخر صاحب سفينة سلعة بثمن إلى أجل، على أن
يأتي إليه بلؤلؤ ليشتريه، فإذا جاء إليه به (بعد الغوص) فهو بالخيار، إن
تراضيا على ثمن حينئذ باعه منه وإن لم يتراضيا باعه صاحبه حيث شاء، وأدى
ذلك الطلب الذي عليه إلى المذكور، فهل هذه الصورة من صور الرهن؟ وهل
يحرم شيء من ذلك؟ .
ما هي ضربة الغائص المحرمة شرعًا، هل هي كل غوصه، ويفعل
الغواصون عندنا أمرًا؛ هو أن صاحب السفينة يستأجر من يغوص له مدة معلومة (
لا مرات معلومة) بأجرة معلومة، فهل ذلك جائز أم لا، وما العلة في تحريم
ضربة الغائص، هل هي جهالة اللؤلؤ الذي في الصدف أم ما هي أرجوك الجواب
بما يبين به الصواب، وبيان الدليل بما يشفي العليل، أثابكم الله، داعيكم حرر هذه
السطور بطريق الاستعجال، فأرجوكم السماح وغض الطرف، وعلى كل حال
فلسيدي إصلاح ما وقع من خطأ إن كان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... داعيكم
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الصمد الوهبي
* * *
(قصة عبد الله بن رواحة مع امرأته)
(ج5) إن العبارة التي قلتها ظاهرة في أنها إبداء رأي مني لا نقل عن
المحدثين، وقد بنيت هذا النقل على أصول الدراية، لا على نقد أسانيد تلك الرواية،
فإنني لم أطلع على إسناد ابن عبد البر لهذه القصة، وقد رأيت ما نقله ابن القيم
عن الاستيعاب في الاستيعاب نفسه، ولم يغير رأيي في القصة، وإنني أعلم أنه
ليس كل ما صحح بعض المحدثين سنده يكون صحيحًا في نفسه أو متفقًا على تعديل
رجاله، فكأين من رواية صحح بعضهم سندها، وقال بعضهم بوضعها لعلّة في
متنها أو في سندها، والجرح مقدم على التعديل بشرطه، وقد ذكروا من علامات
الوضع ما ردوا به بعض الروايات الصحيحة الإسناد؛ كرواية مسلم في صلاة
الكسوف بثلاث ركوعات وثلاث سجودات، وروايته في حديث (خلق الله التربة يوم
السبت) ؛ لأن الأولى مخالفة للروايات الصحيحة التي جرى عليها العمل، والثانية
مخالفة للقرآن.
من العبرة في هذا الباب حديث علي كرم الله وجهه في كون النبي صلى الله
عليه وسلم ما كان يقرأ القرآن جنبًا، صححه الترمذي وابن حبان وابن السكن
والبغوي وغيرهم، وقال الشافعي: أهل الحديث لا يثبتونه، وقال الخطابي: كان
أحمد يوهن هذا الحديث، وقال النووي: خالف الترمذي، أما الأكثرون فضعفوا
هذا الحديث، وعلته من عبد الله بن سلمة راويه، حكى البخاري عن عمرو بن مرة
الراوي له عنه أنه قال: كان عبد الله بن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر، وقال البيهقي
في قول الشافعي الذي ذكرناه آنفًا: إنما قال ذلك لأن عبد الله بن سلمة راويه
كان قد تغير، وإنما روى هذا الحديث بعدما كبر، قاله شعبة.
ومما يدلك على أن تصحيح ابن عبد البر لتلك القصة لم يعتد به جماهير
العلماء؛ عدم ذكرهم إياه في بحث تحريم القراءة على الجنب، حتى صرح بعض
المحدثين والفقهاء بأن أقوى ما روي في هذا الباب حديث علي الذي أشرنا إليه آنفًا،
والقصة تدل على أن هذا كان معروفًا مستفيضًا بين الصحابة، يعرفه النساء
والرجال، وما كان كذلك تكثر الروايات الصحيحة فيه. والمعروف الذي تداولوه
وبحثوا فيه حديث علي وقد علمت ما فيه، وحديث ابن عمر مرفوعًا: (لا يقرأ
الجنب ولا الحائض شيئًا من القرآن) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وهو ضعيف
، وفي المعنى حديث جابر مرفوعا: (لا يقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيئًا)
، رواه الدارقطني وهو واهٍ أو موضوع، وأقوى ما في الباب من الآثار ما صح
عن عمر بن الخطاب أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب.
لم يذكر الحافظ ابن حجر قصة عبد الله بن رواحة في ترجمته من كتابه
(الإصابة) ، وهي في كنز العمال تختلف عما في الاستيعاب، فقد عزاها إلى ابن
عساكر من رواية عكرمة مولى ابن عباس؛ وفيه أن امرأة عبد الله لما رأته مع
الجارية رجعت، وأخذت الشفرة فلقيها، فقالت: لو وجدتك حيث كنت لوجأتك بها (
أي بالشفرة) فأنكر أنه كان مع الجارية، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب، فقالت: اقرأه، فقال:
أتانا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من الصبح ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا اشتغلت بالكافرين المضاجع
قالت: آمنت بالله وكذبت بصري، قال عبد الله بن رواحة: فغدوت على
النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك، حتى بدت نواجذه، وكأن السيوطي
رجح هذه الرواية على اعترافه بضعفها على رواية ابن عبد البر فاقتصر عليها،
ويعلم السائل أن ابن قدامة أورد رواية أخرى في المسألة، وفيها أنه لما أنكر على
امرأته، قالت له: اقرأ القرآن؛ فأنشد:
شهدت بإذن الله أن محمدًا ... رسول الذي فوق السماوات من عل
وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل من ربه متقبل
وقد روى هذه الرواية من طريق أبي بكر بن شيبة عن أسامة عن نافع، وسنده
إليه ضعيف، فقد طعنوا في عبد العزيز الكناني وشيخه عبد الرحمن بن عثمان
وقالوا في شيخه عمه محمد بن القاسم: إنه قد اتهم في إكثاره عن أبي بكر أحمد بن
علي، فهذه ثلاث روايات في الشعر الذي قيل: إن عبد الله بن رواحة أنشده،
الثالثة منها ما أورده ابن عبد البر وهي:
شهدت بأن وعد الله حق ... وإن النار مسرى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
ولم يستدل الفقهاء بشيء منها على تحريم التلاوة على الجنب على أنها
أصرح شيء فيه، وما ذلك إلا لعدم اعتمادها أو وضعها.
أما وجه حكمي بوضعها فهو ما فيها من نسبة تعمد الكذب من صحابي من
الأنصار الأولين الصادقين الصالحين، وتسميته الشعر قرآنًا أي نسبته إلى الله عز
وجل القائل فيه: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِر} (الحاقة: 41) وإقرار النبي صلى
الله عليه وسلم له على ذلك بالضحك الدال على الاستحسان، كما صرح به في
بعض الروايات، وقد صرح العلماء بأن من نسب إلى القرآن ما ليس منه كان
مرتدًّا.
* * *
(حديث كل قرض جر نفعًا)
(ج6) (حديث كل قرض جر نفعًا فهو ربا) ضعيف، بل قال الفيروزآبادي:
إنه موضوع ولا عبرة بأخذ كثير من الفقهاء به، كما قال المحدثون وهم أهل هذا
الشأن، وقد بينا ذلك في ص362 وما بعدها من مجلد المنار العاشر في سياق
الفتوى في أمانات المصارف (البنوك) ، والنفع عندهم عام يشمل العين والمنفعة،
ولا يحرم إلا إذا اشترط في العقد، وقد بينا هناك في المنار جواز أن يؤدي المدين
أفضل مما أخذ.
* * *
(القرض بالشرط الفاسد)
(ج7) من أقرض الغواصين بشرط أن لا يغوصوا مع غيره، كان هذا
الشرط فاسدًا، فإنهم إذا لم يغوصوا معه لا يلزمهم إلا وفاء الدين، بل الظاهر أن
هذا وعد لا شرط، والوعد يجب الوفاء به ديانة لا قضاء عند جماهير الفقهاء، أي أن
الحاكم لا يجبر الواعد أن يفي بوعده، ولا يحكم للموعود بأن الموعود به حق له.
* * *
(البيع بشرط عمل أجنبي عن العقد)
(ج8) إذا باع صاحب السفينة للغواص سلعة بثمن مؤجل بشرط أن يغوص
معه فجماهير الفقهاء لا يعتدون بهذا الشرط، والقول فيه كالقول في مثله في المسألة
السابقة أي أن قبول المشتري له عبارة عن وعد منه، وهو لا يجب عليه للبائع
غير الثمن المسمى غاص مع غيره أم لا، نعم.. إنه يجب عليه الوفاء بالوعد ولا
سيما لمن تمتع بماله بهذا القصد.
(ج9) ومثل هذه المسألة ما بعدها؛ وهو أن يبيعه سلعة بثمن إلى أجل
على أن يأتيه بلؤلؤ ليشتريه منه بالتراضي، فإن لم يتراضوا باع لؤلؤه حيث شاء،
وأدى الثمن، وليس هذا من الرهن في شيء، فللمشتري أن يتصرف في السلعة
ويستهلكها، وليس عليه غير ثمنها إلا الوفاء بوعده ديانة.
* * *
(ضربة الغائص)
(ج10) ضربة الغائص التي ورد النهي عنها؛ هي أن يقول الغائص
للتاجر مثلاً: أغوص لك في البحر غوصة، فما أخرجته فهو لك بكذا، قالوا وقد
نهي عنه لما فيه من الغرر؛ ولأنه من بيع المجهول وهو يشبه القمار وهو غير
جائز، ومثله ضربة القانص - أي الصائد - يرمي شبكته في البحر مرة بكذا درهمًا،
والحديث في النهي عن ضربة الغائص ضعيف، رواه أحمد وابن ماجه والبزار
والدارقطني عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد قال: (نهى النبي صلى الله عليه
وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها إلا
بكيل، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء
الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص) ؛ وشهر بن حوشب مختلف فيه،
حسن البخاري حديثه، وقال ابن عدي: شهر ممن لا يحتج به ولا يتدين بحديثه.
وقد صرح الحافظ ابن حجر بضعف سند الحديث، ولكنهم قووا متنه بالأحاديث
الصحيحة في النهي عن بيع الغرر.
* * *
(استئجار الغواصين)
(ج11) استئجار الغواص للغوص مدة معلومة أو مرات معدودة جائز؛ لأن
كلا منهما استئجار لعمل معين بأجرة معلومة، والفرق بين ضربة الغائص
والاستئجار للغوص، أن الغواص في الحالة الأولى يبيع شيئًا مجهولاً لا يملكه،
وفي الحالة الثانية يعمل عملاً بأجرة، وليست الأجرة للغوص عدة مرات جائزة
لأجل تعدد المرات، ولا ضربة الغائص ممنوعة لأنها مرة واحدة، بل لما ذكرنا
من الفرق فالضربة والضربات سواء في ذلك البيع وفي هذه الإجارة، والأجير
يستحق الأجرة بمجرد العقد كما صرح به الحنابلة، ويجوز تأخيره بالتراضي،
ولأصحاب الأموال وأصحاب السفن الذين يقرضون الغواصين بتلك الشروط التي لا
علاقة لها بالقرض، ولا تقيم المحاكم لها وزنًا أن يستأجروهم للغوص قبل وقته،
ويعطوهم الأجرة كلها أو بعضها عند العقد أو بعده وقبل زمن الغوص بحسب
الحاجة، فهذه أمثل الطرق إن كانوا يخافون غدرهم وعدم وفائهم. وأما الذين
يقرضون المال لأجل أن يشتروا اللؤلؤ في موسمه، فخير لهم أن يطبقوا معاملتهم
على قواعد السلم إن أمكن.
هذا ما ظهر لنا في أجوبة هذه المسائل بناء على قواعد الفقه المشهورة المبنية
على المعاملات القضائية، وأشرنا إلى أن المتدينين يتعاملون فيما بينهم بالصدق
والوفاء بالوعود، فهم لا يختلفون إذا كان ما تعاقدوا أو تعاهدوا عليه صريحًا
مرضيًّا بينهم، وقد ثبت في الكتاب والسنة وجوب الوفاء بالعقود التي يتعاقد الناس
عليها برضاهم، وعمل المسلمين بشروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً،
والمحرم في العقود هو الغش والخداع والغرر وكل حيلة يأكل بها الإنسان مال
الآخر بالباطل، وقد شدد بعض الفقهاء كالحنفية في العقود والشروط، ووسع فيها
بعض الحنابلة وفقهاء الحديث، والذي حققه ابن تيمية بالدلائل القوية هو أن كل
عقد وكل شرط لا يخالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو
جائز، والوفاء به واجب سواء اقتضاه العقد أم لا، وهذا ما نراه ولا نحب أن نطيل
في المنار في مسائل المعاملات الفقهية؛ لأن غرضنا مما ننشره من الأحكام العلمية
في باب الفتاوى وغيره، هو بيان عدل شريعتنا وموافقتها لمصالح الناس في كل
زمان ومكان للرد على الطاعنين فيها وتمكين عقائد الجاهلين من أهلها، وبيان
المسائل الدينية المحضة وحكمها للعلة المذكورة آنفًا.
__________(14/103)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المسلمون والقبط
(1)
إنما بقاء الأمم والملل بمقوماتها التي تمتاز بها عن غيرها، فإذا قصر أفرادها
في التماسك والاعتصام بالمحافظة على تلك المقومات وما يتبعها من المشخصات،
زالت الأمة أو الملة بانقراض أهلها أو اندغامهم في أمة أخرى.
مضت سنة الله في البشر بمحافظة كل قوم على مقوماتهم ومشخصاتهم
وحرصهم عليها بقدر ارتقائهم في حياتهم الاجتماعية، فالأمة الحية المستقلة لا تتبع
أمة أخرى، ولا تقلدها في دينها ولا عاداتها ولا تقاليدها، ومثلها في ذلك كمثل
الأفراد، فالعالم المستقل لا يتقلد رأي غيره وإن كان مثله أو أعلم منه، وإنما يعمل
بما يظهر له أنه الصواب لا بما يظهر لغيره.
يتعصب بعض الشعوب لما هم عليه، وإن ثبت لهم أن المخالف لهم فيه أولى
بالصواب وأجدر بالاتباع، كما يتعصب الإنكليز لمقاييسهم ويأبون اتباع الفرنسيين
وغيرهم في المقاييس العشرية التي هي خير منها، فإذا ثبت لهم أن ما هم عليه
ضار بهم أو مقدم لغيرهم عليهم، تبدلوا به غيره بالتدريج البطيء لكيلا تتزلزل
مقومات الأمة أو مشخصاتها، فيضعف تماسكها وتشعر بعلو غيرها عليها.
كان المكونون للأمم يراعون هذه السنن فيها، حتى إن رؤساء النصارى لما
أرادوا فصل أتباع المصلح العظيم لليهودية (عيسى عليه السلام) من قومه اليهود،
تركوا من تعاليم الناموس (التوراة) ما أقره المسيح، ولم ينقضه كالراحة في يوم
السبت والامتناع عن عمل الدنيا فيه، واستبدلوا به يوم الأحد بغير أمر من المسيح
ولا من حواريه، ووضعوا لهم غير ذلك من العبادات والأعياد، حتى صارت ملتهم
من أبعد الملل عن اليهودية، كذلك فعل المصلح الأعظم خاتم النبيين (صلى الله
عليه وعليهم أجمعين) بما كان يأمر به من مخالفة أهل الكتاب وغيرهم في عاداتهم
وتقاليدهم زائدًا ذلك عما جاء به الوحي من الإصلاح في أصول دين الله وفروعه،
والحكمة في ذلك تكون الأمة وامتيازها بما تكون به قدوة لغيرها لا تابعة مقلدة.
كذلك مضت سنة الله في البشر بتقليد الضعيف للقوي وتشبهه به فيما يسهل
التقليد، والتشبه فيه سواء ذلك في الأفراد والأمم، وإنما السنة فيه أن يكون
بالتدريج والانتقال من محقرات الأمور كالأزياء والعادات إلى ما فوقها، حتى ينتهي
بأعظم المقومات التي بها التمايز كاللغات والمذاهب والأديان، ولولا التعارض بين
داعيتي التقليد والاستقلال، لكان أمر البشر على غير ما نعهد الآن، فإما أن يكون
كل منهم مقلدًا لمن قبله فيكونون كالأنعام، وإما أن يكون كل منهم مستقلاً في كل
شيء، فلا يكادون يشتركون في شيء يجمع بينهم، ويرى بعض الحكماء أنه يجب
التأليف بين جميع البشر واتحادهم، وما هذا بالذي يتم، وغاية ما يرجى من الكمال
أن يتعارفوا ولا يتناكروا في اختلافهم كما أرشد القرآن.
كان أمر الناس في الزمان الماضي متروكًا إلى طبيعة الاجتماع، تعمل عملها
بسنن الله تعالى فيهم، وهم لا يشعرون بسيرها، فيساعدوها عليه أو يقاوموها فيه
بالطرق العلمية إلا ما كان من الحروب التي توقد نيرانها مطامع الأقوياء، وقد
اتسع نطاق علم الاجتماع في هذا العصر، فصارت الأمم العالمة المتحدة تفضل قوة
العلم على قوة السلاح في محاربة الأمم الجاهلة المتخاذلة، فتسطو على مقوماتها
ومشخصاتها من الدين واللغة والتقاليد والعادات فتزلزلها، وتزيل ثقتها بها بالتدريج،
وتزين لها أن تتبدل بها ما تخيل إليها أنه خير منه، فتزيدها بذلك ضعفًا ومرضًا
حتى تكون حرضًا أو تكون من الهالكين، إما بالاستبعاد وذهاب الاستقلال، وإما
بالاندغام والاضحلال.
هذا هو السبب في بث الإفرنج دعاة دينهم، وفي بنائهم المدارس في البلاد
الإسلامية وغيرها، وفي اتخاذهم الوسائل إلى بث لغاتهم وآرائهم وعاداتهم في
مدارسنا، حتى صارت نفوس نابتتنا في البلاد المقلدة لمدينتهم في تصرف الأساتذة
من الافرنج والمتفرنجين، ينقشون فيها من الأفكار، ويطبعون فيها من الملكات ما
يغير نظام الاجتماع في بلادنا، ويجذب أموالها وميولها إليهم حتى يكون أهلها عالة
عليهم أو خدمًا لهم في كل شيء، إلى أن تصير ملكًا خالصًا لهم في الحقيقة دون
الاسم أو في الأمرين معًا، وقد صرح لورد كرومر في بعض تقاريره عن مصر
بأن الغرض من مدارس الحكومة فيها فرنجة المصريين، فهل اعتبر بهذا القول أحد
من القارئين، أو نبه عليه أحد من السياسيين؟ وهو الذي ترتب عليه تقليد
حكوماتنا لأوربا بغير اجتهاد ولا استقلال.
لا أقول ما قلته ذمًا في الافرنج بل مدحًا لهم؛ فإن هذه الطريقة هي أرقى ما
وصل إليه البشر في الفتح والاستعمار، واستيلاء الأقوياء على الضعفاء الذي هو
من سنن الاجتماع، فلهم في شرع العمران والفلسفة أن يجدوا ويجتهدوا في جذب
جميع الأمم إلي دينهم ولغاتهم وعاداتهم، وفي تسخيرها لخدمتهم ومنافعهم، وإنما
يمكن أن تلومهم الفلسفة أنهم لا يرضون أن يساووا هؤلاء المجذوبين بأنفسهم، ولا
أن يرقوهم إلى درجتهم، فالشرقي عندهم لا يمكن أن يساوي الغربي وإن اتبعه هذا
في دينه ولغته وعاداته، والإسلام يفضلهم في هذه المسالة، فهو قد سبقهم إلى تلك
الطريقة السلمية في جذب الناس إليه مع تقرير المساواة التامة بين المنجذبين إليه
الداخلين فيه، لا فرق بين الملك العظيم كجبلة بن الأيهم والصعلوك الفقير. ولا
بين السيد الشريف الفاتح كخالد بن الوليد وبين العتيق الأسود كبلال الحبشي، بل
الإسلام يساوي بين المسلم وغير المسلم في الحقوق، كما ساوى أعدل أمرائه عمر
بن الخطاب بين أكبر سيد فيه علي بن أبي طالب وبين رجل من آحاد اليهود،
والانكليزي لا يساوي الهندي بنفسه، ولا الفرنسي يساوي الجزائري بنفسه، بل
ميزوا أنفسهم علينا في عقر ديارنا وأرقى حكومتنا.
الإفرنج أرقى منا في العلم والمدنية، فنحن في حاجة إلي أخذ الفنون
والصناعات منهم بالاجتهاد والاستقلال، مع المحافظة على مقوماتنا الملية والقومية
التي تحول دون فنائنا فيهم. ولكننا لم نأخذ منهم شيئًا مما نحتاج إليه بالشرط الذي
بيناه، وإنما سرى إلينا ما سرى منهم بالتقليد لا بالاستقلال؛ لذلك كان سببًا لضعف
استقلالنا أو ذهابه لا لرسوخه وثباته، اللهم إلا ما اقتبسته دولتنا العثمانية من فنون
الحرب، فلها استقلال واجتهاد ما فيه، لعلمها بتوقف حياتها عليه، ولم يكن استقلالها
فيه تامًّا؛ لأنها لا تزال عالة عليهم حتى في تعليم الجند، فما بالك بصنع الأسلحة
والآلات والبوارج والمدرعات، ولو تواطأت دول أوربا على منع بيع
السلاح وآلات الحرب للدولة لقضين على قوتها بغير مقارعة ولا مكافحة.
من آية استقلال الأمة فيما تأخذه عن غيرها، وما تدعه من عاداتها التي هي
عرضه لها، أن يكون ذلك رأي زعمائها وعمل جمعياتها، باسم الأمة ولمصلحتها
العامة، ولسنا معاشر المسلمين على شيء من هذا الاستقلال، بل نحن مقلدون
للأفرنج حتى فيما نحسب أننا نهرب به من سيطرتهم؛ كالدعوة الوطنية التي كان
الخسار فيها علينا والربح لغيرنا، ومن الشواهد المحسوسه على ما ذكرنا من
المقدمات ما يسمونه اليوم بالمسألة القبطية في مصر.
***
سكان القطر المصري اثنا عشر مليونًا منهم أحد عشر مليونًا ونيف من
المسلمين، ويزيد عدد القبط فيه عن نصف مليون والباقي من سائر الشعوب والملل،
ودخل بعض القبط في حماية الدول الأجنبية، فلم يعد لهم من الحقوق ولا عليهم
من التكاليف مثل ما للوطنيين وعليهم، والمشهور أن نسبة القبط إلى المسلمين في
هذا القطر هي نسبة ستة إلى مئة.
في هذه الفئة القليلة من الحياة الملية ما ليس في تلك الفئة الكثير العدد،
صاحبة الحق في الملك والسؤدد؛ لأن الحاكم العام منهم، وهو صاحب التصرف
المطلق في إدارة بلادهم التابعة في السياسة والسلطة لخليفتهم، ولغة الحكومة والأمة
هي لغة دينهم، ولم تغن عنها كثرتهم، ولا سلطتهم، ولا شكل حكومتهم، ولا
تبعيتهم لخليفتهم من شيء لما قامت القبط تنازعهم ما في أيديهم، فتنزعه شيئًا بعد
شيء على سنة الكون ونظام الاجتماع، فما أجدر القبط في سيرتهم هذه بالفخر
والإعجاب.
ليس لمسلمي مصر جمعيات دينية محضة ولا مجلس ملي إسلامي كما للقبط
وغيرهم، ليس لهم أندية إسلامية خاصة بهم من حيث هم مسلمون، ليس لهم
جرائد ولا مجلات دينية محضة كجرائد غيرهم ومجلاتهم، لا يوجد فيهم أفراد ولا
جماعات ينظرون في أمورهم الاجتماعية ونسبتهم فيها إلى غيرهم، ويعملون عملاً
ما لمسابقة غيرهم أو مزاحمته في أعمال الحكومة أو الأعمال المالية أو الأدبية،
الجرائد السياسية لغير المسلمين تروج عند المسلمين، وجرائد المسلمين لا تروج
عند القبط. والمسلمون يعلمون ذلك ولا تحركهم نعرة عصبية، ولا غيرة ملية،
وما ذلك إلا من بقايا ما ورثوا من أخلاق دينهم من صفاء القلب والتساهل.
أما القبط فإنهم يعملون كل شيء للقبط باسم القبط، ويعبرون عن أنفسهم بالأمة
القبطية، ويسمون البلاد المصرية بلادهم وبلاد آبائهم وأجدادهم، ولهم مجلس ملي
وجمعيات وأندية وجرائد ومجلات قبطية محضة، ويطلبون ما يطلبون من
المناصب والأعمال في الحكومة للقبط باسم القبط على أنها حق للقبط من حيث إنهم
قبط، ويتعاونون في جميع مصالح الحكومة، فيفضل القبطي أخاه القبطي على
غيره، لا تأخذه في ذلك لومة لائم، ولا شيء عند المسلمين من هذا التعاون
والتكافل، على أن البلاد بلادهم وليس للقبط فيها مزية على غيرهم من النصارى
واليهود إلا بتمييز المسلمين لهم، ثم إنهم يتهمون المسلمين بالتعصب الذميم
والتحامل وهضم حقوقهم، فمرحى للقبط المتعاونين، ويا حسرة على المسلمين
المتخاذلين.
إن معظم أعمال الحكومة المصرية ومصالحها في أيدي القبط، ولا يمتاز
المسلمون عليهم إلا بقليل من المناصب الرئيسية التي لا حظ لهم منها غير الفخفخة
والتحلي بكساوى التشريف والأوسمة، فالمديرون على قلتهم من المسلمين وكثيرًا ما
يكونون من غير الأكفاء المختبرين، وينقلون من مديرية إلى أخرى، ورؤساء
الكتاب وأكثر العمال الذين تحت أيديهم من القبط ثابتون في أعمالهم عارفون
بقوادمها وخوافيها، متكافلون في الاستئثار بها؛ ولذلك يكون أكثر المديرين آلات
في أيديهم لا يقدر أعلاهم كفاءة أن يخالف رئيس الكتاب القبطي في شيء يريده؛
لأن العمال في المديرية وأكثرهم من القبط يتعصبون حينئذ على المدير، ويعرقلون
أعماله ويوقعونه في المشكلات مع نظارة الداخلية أو نظارة المالية، وينصرهم
إخوانهم في النظارة عليه؛ لأنهم كلهم يد على من عداهم، وعلى هذا القياس
تناصرهم في القضاء وسائر المصالح، ثم إنهم يزعمون مع هذا كله أنهم مظلومون
مهضومون، وأن المسلمين هم المتعصبون الظالمون، فمرحى للقبط المتحدين، ويا
حسرة على المسلمين المتفرقين.
هذا ما كانت عليه الفئة الكثيرة بالعدد القليلة بالتخاذل والغفلة، والفئة القليلة
الكثيرة بالتعاون والوحدة، وهذا هو الذي أطمع القبط في جعل حكومة مصر قبطية
محضة في يوم من الايام، وكان من حسن حظهم أن فتن الباحثون في الأمور العامة
من المسلمين بالسياسة، وجعلوا هجيراهم فيهم دعوة الوطنية، وصاروا يلهجون بهذه
الكلمات: إخواننا القبط، إخواننا القبط، نحن مصريون قبل كل شيء، لا دين في
الوطنية، إنما الدين في المساجد والكنائس، وبلغ من لهجم بالوطنية وإخلاصهم فيها
أن صار بعضهم يقول: لا فرق عندي بين أن يكون الخديوي مسلمًا أو قبطيًا،
وإنما المهم عندي أن يكون مصريًا، وقد سمعت مثل هذه الكلمة من بعض
المدرسين في مدارس الحكومة العالية، فقلت له: وهل تظن فيمن سمحت لهم
عاطفتك الوطنية بعرش الإمارة أن يسمحوا لك بوظيفة (قومسير) في مصلحة سكة
الحديد؟ ؟ أما وسر العقل والبصيرة إنهم لا يسمحون بذلك مختارين، وما هم على
ذلك عندي بملومين، فمرحى للقبط المتعصبين، ويا حسرة على المسلمين
المتساهلين.
***
سبق لي مدح القبط في المنار غير مرة، وتفضيلهم على المسلمين بالتعاون
والتناصر والرابطة الملية، وإن كانوا دون المسلمين في الكفاءة الشخصية إلا التملق
الذي يستميلون به الرؤساء، واتباعهم في ذلك طريق العقل والحزم وسنن الاجتماع
التي أشرنا إليها في فاتحة القول بترك المسلمين بين عامل خامل، وذكي يائس،
ونشيط مغرور شغله الكلام في مقاومة الاحتلال عن كل عمل تقوى به الأمة في
وجه الاحتلال (وهو عندي محصور في التربية الملية والأعمال الاقتصادية، كما
بينت ذلك مرارًا) وتوجيه همتهم في هذه الفرصة إلى التربية القبطية والتعليم،
وتنمية الثروة، والتغلغل في أعمال الحكومة، ولكنني أنكرت عليهم في هاتين
السنتين سيرتهم فرأيتهم قد تركوا ما عهدت فيهم من الهدوء والسكينة، واللين التملق،
وطفقوا يطعنون في جرائدهم طعنًا صريحًا في سلف المسلمين وخلفهم، ودينهم
وآدابهم ولغتهم، فعجبت من هذه الطريقة الجديدة، التي يخشى أن تعلم المسلمين
التعصب والمقاومة، فتكون كرة القبط هي الخاسرة، وصرت أقول في نفسي: ما
عدا مما بدا، وأقدح زناد الفكر لعلي أجد على النار هدى.
ولو صبروا على جدهم وتعاونهم، وتركوا المسلمين في غفلتهم وتخاذلهم،
لنالوا كل ما أملوا، ولساعدوهم باسم الوطنية على ما أرادوا، يريدون أن يثبوا
على الوظائف الإدارية العالية، كما وثبوا في القضاء، يريدون أن تترك الحكومة
العمل في يوم الأحد، يريدون أن تدرس الديانة المسيحية في الكتاتيب والمدارس
كلها، يريدون أن لا يكون للمسلمين في هذه الحكومة مزية ما، كل هذا كان سهلاً
إذا رضوا بسنة التدريج، والمسلمون أنفسهم يساعدونهم على كل ذلك؛ حتى إذا
نالوه سهل عليهم أن يجعلوا الحكومة وقفًا عليهم، ويمنعوا المسلمين منها ألبتة.
أليس بعض كتاب المسلمين يهينون في جرائد الأحزاب القوية كل من يرتقي
من المسلمين إلى منصب عال في الحكومة، ويعدونه خائنًا لوطنه، مشايعًا للإنكليز
فيه، بقدر ما يعظم القبط كبار الموظفين منهم، ويستعينون بهم على سعة نفوذهم في
الحكومة؟
أليس هذا تمهيدًا لنيل القبط هذه البقية القليلة من الوظائف؟ ألم يساعدهم
الوزراء المسلمون على ما طلبوا من تعليم دينهم في مدارس الحكومة (وهو ما لا
نظير له في حكومات الأرض) ؟ بلى، وكذلك يساعدهم المسلمون في فرصة
أخرى على كل ما يطلبون، وإذا هم نالوا بقية الوظائف الرئيسة وتمكنوا بها من
جعل تسعة أعشار الموظفين منهم، يكون لهم الوجه الوجيه في طلب إبطال الأعمال
يوم الأحد دون يوم الجعة، ولا يتجرأ مسلم يومئذ أن يفتح فمًا، أو يحرك قلمًا؛
خوفًا من تهمة التعصب الديني من جهة، ومن تحامل الحكومة القبطية عليه من
جهة أخرى.
هذا ما أقوله معتقدًا له ولا شك فيه عندي، ولذلك عجبت كيف خانهم الصبر،
وفاتهم إدراك هذا الأمر، وحرت في تعليل هذا المسلك الجديد، حتى كان مما خطر
في بالي أنهم ربما كانوا يريدون إحراج المسلمين لإحداث فتنة في البلاد، تكون
وسيلة لإعلان إنكلترا الحماية عليها أو ضمها إلى مستعمراتها، ولم أصدق ما يقوله
بعض الناس من أنهم أحسوا من المسلمين ضعفًا، ووجدوا فرصة لإخراج
أضغانهم، وشفاء غليل حقدهم، ففعلوا ذلك لمجرد اللذة بإيذاء من كان يستثقلون
اسم سيادتهم عليهم، لا أرى هذا القول ولا ذلك الخاطر بالمعقول، وإنما هناك سبب
آخر نشرحه في النبذة التالية، ثم نبين شكل هذه الحكومة الرسمي، وهل للقبط حق
فيها أم لا؟ ثم مسألة يوم الراحة الأسبوعية في الأديان الثلاثة، وما ينبغي أن يكون
عليه الحال في مصر.
(للمقال بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(14/108)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جماعة الدعوة والإرشاد
" يد الله على الجماعة " (حديث شريف)
النظام الأساسي للجماعة
اخترنا أن نوقع هذا النظام المبارك في ليلة المولد النبوي الشريف (وهي في
الحقيقة تسعة ربيع الأول) ؛ تيمنًا وتفاؤلاً، وأن نذيعه في صبيحة اليوم الذي
يحتفل فيه ليلته بتذكار تلك السعادة أي: 12 ربيع الأول، وقد تأخر هذا الجزء من
المنار، وهو جزء صفر إلى منتصف ربيع، فرأينا أن ننشر هذا النظام فيه.
***
أما أعضاء مجلس الإدارة المؤسسون الذين وقعوه فهم عشرة:
(1) محمود بك سالم المحامي المشهور الذي كان يصدر مجلة عرفات
باللغة الفرنسية، وهو يعرف عدة لغات غربية، انتخب رئيسًا للجمعية.
(2) السيد محمد رشيد رضا صاحب هذه المجلة، وقد انتخب وكيلاً
للجمعية وناظرًا لمدرستها الكلية (دار العلم والإرشاد) .
(3) الشيخ حسين والي المدرس في الجامع الأزهر ومدرسة القضاء
الشرعي، وهو من المؤلفين، وقد انتخب كاتبًا لسر الجمعية.
(4) محمود بك أنيس من وجهاء مصر، وكبار مزارعيها، وأرباب القلم
فيها، وقد كان يصدر مجلة زراعية، وانتخب أمينًا للصندوق.
(5) الشيخ أحمد زناتي معاون الديوان الخديوي، وهو من المؤلفين، وكان
ناظر مدرسة العزبة المتمدنة.
(6) الشيخ عبد الوهاب النجار المحامي الشرعي والمدرس بمدرسة
البوليس.
(7) محمد أفندي سعودي من موظفي المحكمة الشرعية العليا.
(8) محمد لبيب بك البتانوني من أدباء مصر ووجهائها، وأرباب القلم فيها.
(9) الدكتور محمد توفيق صدقي صاحب كتاب الدين في نظر العقل
الصحيح.
(10) الشيخ محمد المهدي الشهير، الأستاذ في مدرسة القضاء الشرعي.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ
وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 104-105) .
الفصل الأول
(في الجمعية ومقصدها)
(الأصل الأول) تألفت في مصر القاهرة جمعية باسم (جماعة الدعوة
والإرشاد) .
(الأصل الثاني) مقصد هذه الجماعة إنشاء مدرسة كلية باسم: (دار الدعوة
والإرشاد) في مصر القاهرة؛ لتخريج علماء مرشدين قادرين على الدعوة إلى
الإسلام والدفاع عنه، والإرشاد الصحيح، وإرسالهم إلى البلاد الشديدة الحاجة إليهم
على قاعدة تقديم الأهم على المهم.
(الأصل الثالث) يرسل الدعاة إلى البلاد الوثنية والكتابية التي فيها حرية
دينية، ولا يرسلون إلى بلاد الإسلام إلا حيث يدعى المسلمون جهرًا إلى ترك دينهم
والدخول في غيره، مع عدم وجود علماء مرشدين يدفعون الشبهات عن الإسلام
ويبينون حقيقته لأهله.
(الأصل الرابع) لا تشتغل هذه الجماعة بالسياسة مطلقًا، لا بالسياسة
المصرية، ولا بسياسة الدولة العثمانية، ولا بسياسة غيرها من الدول.
***
الفصل الثاني
(في أعضاء الجمعية ومجلس إدارتها وشعبها)
(الأصل الخامس) كل مسلم يبذل للجمعية مقدارًا من المال في كل سنة أو
كل شهر، يكون عضوًا فيها، وأعضاؤها أربعة أقسام: أعضاء مؤسسون وأعضاء
عاملون، وأعضاء معاونون، وأعضاء شرف. فالمؤسسون: هم الموقعون على
هذا النظام، وكل من يدفع للجمعية عشرين جنيهًا مصريًّا فأكثر إلى مدة شهرين من
تاريخ نشر هذا النظام في القطر المصري، ومدة ستة أشهر منها لسائر الأقطار،
والعاملون هم الذين يقومون بالأعمال؛ كجمع المال في اللجان التابعة للمركز العام،
وفي الشعب الخارجية وغير ذلك. والمعاونون: هم الذين يشتركون بالمال فقط.
وأعضاء الشرف: هم الذين ينفعون الجمعية بمالهم أو مكانتهم نفعًا عظيمًا.
(الأصل السادس) يتألف مجلس الإدارة في المركز العام من عشرة أعضاء،
تنتخبهم الهيئة العامة فيما عدا المرة الأولى، وهم ينتخبون من أنفسهم الرئيس
والوكيل وكاتب السر وأمين الصندوق.
(الأصل السابع) ناظر مدرسة (دار الدعوة والإرشاد) يكون من أعضاء
مجلس الإدارة، وهو الذي يعينه.
(الأصل الثامن) مدة مجلس الإدارة سنتان، وفي المرة الأولى فقط تكون
مدته أربع سنين؛ ليتمكن أعضاؤه المؤسسون من إحكام العمل، وفي نهاية الأربع
الأولى، وكل سنتين بعدها تقترع الهيئة العامة للجماعة على إبقاء خمسة من
الأعضاء مع ناظر المدرسة، وتنتخب بدل الستة الآخرين أو تعيد انتخابهم.
(الأصل التاسع) يجوز أن يكون للجمعية رئيس شرف، ويختاره أعضاء
مجلس الإدارة باتفاق الآراء.
(الأصل العاشر) المركز العام لجماعة الدعوة والإرشاد مدينة القاهرة
عاصمة القطر المصري، ويكون لها شعب في سائر الأقطار الإسلامية، لكل شعبة
منها مجلس إدارة، ولكل من مجلس الإدارة في المركز العام ومجالس الإدارة في
مراكز الشعب أن يؤسس لجانًا في قطره لجمع الإعانات.
(الأصل الحادي عشر) من أعمال مجلس الإدارة في المركز العام.
اختيار المؤسسين للشعب في الخارج والإدارة العامة، واستغلال أموال الجمعية
بالطرق المشروعة. والإنفاق منها في مصارفها، وإدارة مدرستها الكلية، ووضع
الميزانية السنوية، وتعيين العمال وتنفيذ قرارات الهيئة العامة.
(الأصل الثاني عشر) على الشعب جمع الإعانات والاشتراكات المالية
للجمعية، والنظر في شؤون الدعاة والمرشدين الذين يرسلون إلى بلادهم، واختيار
المندوبين لحضور الهيئة العامة السنوية.
(الأصل الثالث عشر) يتألف من الأعضاء المقيمين بالقطر المصري لجنة
من اثنين فأكثر؛ لمراقبة الأعمال المالية.
(الأصل الرابع عشر) تشرف لجنة المراقبة المالية على الدخل والخرج
وتقدم في كل سنة تقريرًا للهيئة العامة بما تراه، ولها حق حضور جلسة مجلس الإدارة
إذا أرادت؛ لمذاكرته فيما يتعلق بعملها، وليس لها حق الرأي والتصويت فيه، وعليها
أن تقدم نسخة من تقريرها إلى رئيس مجلس الإدارة قبل اجتماع الهيئة
العامة بشهر على الأقل، وعليه عرضه على المجلس حالاً.
(الأصل الخامس عشر) أعضاء مجلس الإدارة في المركز العام، يشترط
أن يكونوا من المقيمين في مدينة القاهرة أو ضواحيها.
(الأصل السادس عشر) إذا استقال أحد أعضاء مجلس الإدارة أو خلا مكانه
بسبب ما، فالباقون ينتخبون بدله بالاشتراك مع أعضاء لجنة المراقبة للمدة الباقية
لسلفه.
***
الفصل الثالث
(في الهيئة العامة للجمعية)
(الأصل السابع عشر) تتألف الهيئة العامة من كل عضو يدفع ثلاثة
جنيهات فأكثر كل سنة ومن مندوبي الشعب، وتنعقد بمن يحضر منهم، ورئيسها هو
رئيس مجلس الإدارة، ولمجلس الإدارة أن يدعو رئيس الشرف إلى رياسة الجلسة
العامة، ولأعضاء الشرف الحق في حضورها مع حق الرأي والتصويت كغيرهم.
(الأصل الثامن عشر) تجتمع الهيئة العامة كل سنة بالقاهرة في النصف
الأول من شهر ذي القعدة الحرام، وعلى مجلس الإدارة دعوة الأعضاء إليها بتذاكر
بريدية والإعلان في الجرائد.
(الأصل التاسع عشر) الهيئة العامة رقيبة على مجلس الإدارة، تبحث في
جميع أعماله السنوية وتحاسبه على تطبيقها على النظام الأساسي والنظام الداخلي،
وتنظر في الميزانية وتقرها، وتنتخب أعضاء مجلس الإدارة ولجنة المراقبة المالية،
ولها أن تقرر تعيين أعضاء الشرف.
***
الفصل الرابع
(في أموال الجمعية)
(الأصل العشرون) تتكون أموال الجمعية من الاشتراكات الموقوتة
والإعانات والتبرعات والهدايا والوصايا والأوقاف التي توقف عليها، أو ما تناله
من ريع أوقاف أخرى، ومن ريع رأس مالها.
(الأصل الحادي والعشرون) تودع أموال الجمعية مؤقتًا في مصرف من
المصارف الموثوق بها، ما عدا مقدارًا يقرره مجلس الإدارة، ينفق منه على
الإدارة والمدرسة، يكون بيد أمين الصندوق وطريقة إيداع المال في المصرف
والأخذ منه يبين في النظام الداخلي.
(الأصل الثاني والعشرون) يجب أن يضاف ربع دخل الجمعية السنوي إلى
رأس المال؛ لأجل الاستغلال، وهذا ما عدا المبلغ الاحتياطي الذي يبين في النظام
الداخلي.
(الأصل الثالث والعشرون) ليس لمجلس الإدارة أن يقرض من مال
الجمعية، ولا أن يقترض لها.
***
(أحكام عامة)
(الأصل الرابع والعشرون) تنفذ قرارات مجلس الإدارة والهيئة العامة
بالأكثرية المطلقة، فإن تساوت الآراء رجح من كان معهم الرئيس، ولا رأي لأحد
فيما يخالف نص الشارع.
(الأصل الخامس والعشرون) مجلس الإدارة في المركز العام هو الذي
يضع النظام الداخلي، الذي يبين فيه كل ما يحتاج إليه في تنفيذ النظام
الأساسي.
(الأصل السادس والعشرون) أعضاء مجلس الإدارة متبرعون بأعمالهم ما
عدا ناظر المدرسة.
(الأصل السابع والعشرون) تنشر الجماعة كل سنة كراسة في بيان:
ميزانيتها ومهمات أعمالها، وأسماء الباذلين ومقدار ما بذلوه لها، ومن لا يحب
إظهار اسمه يذكر بلقب (محسن) .
(الأصل الثامن والعشرون) يجوز تعديل ما عدا الفصل الأول من أصول
هذا النظام؛ إذا اتفق على ذلك ثلاثة أرباع أعضاء مجلس الإدارة ولجنة المراقبة،
وأكثر من نصف من يحضر الهيئة العامة من غيرهم.
... ... ... صدر بمصر في 12 ربيع الأول سنة 1329
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(14/114)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أقوال الجرائد في الجمعية ومدرستها
(مدرسة التبشير الإسلامي)
كتب الشيخ عبد العزيز شاويش في هدايته تحت هذا العنوان ما نصه:
عز على نفر لم يتح لهم التربع في دسوت المناصب في الحكومة العثمانية أن
لا تكون هذه المناصب وقفًا عليهم، يلونها دون أولئك الذين أهلهم لها ما عهد فيهم
من اختبار تام ونزاهة وافية فضلاً عن خلوص نفوسهم من شائبة الأغراض
وتمسكهم بأهداب الدستور الذي ركبوا في طلبه الأهوال ولم يضنوا عليه بإنفاق
الآجال. عز عليهم أن لا تكون مناصب الدولة وفقًا عليهم يلونه أو تراثًا لهم
يتقاسمونه فنقموا على الدستوريين أنهم أخفقوا سعيًا وأسروا ذلك في نفوسهم ثم
طفقوا يعالجون طلب الوظائف تارة بالدهان والملق وطورًا بالتهديد والوعيد، وقد
فطن رجال الدولة وأرباب الحل والعقد ثمت إلى ما يضمر أولئك النفر فما أجابوا
لهم مطلبًا ولا أنالوهم مأربًا.
عز على أولئك النفر أن يحال بينهم وبين شهواتهم وهالهم أن يفطن إليهم
رجال الدولة فجعلوا يبيتون لها الشر ويضمرون لها الكيد ناسين أو متجاهلين أن
منارها هو منار الإسلام القائم وذمارها ذماره المهيب وحرمها حرمه الممنوع وعلمها
علمه المرفوع.
زين لهم أمثالهم من الرجعيين الذين لا وازع لهم من وجدان أو دين أن يسعوا
في تمزيق شمل الجامعة العثمانية كل ممزق ويتراموا في أحضان أولئك الذين لا
يريدون بدولة الخلافة الإسلامية خيرًا انتقامًا لأنفسهم مما نالهم من الفشل ولو علموا
أنهم بذلك يحاربون الله ورسوله لما نقلوا لتحقيق مأربهم قدمًا ولا أجروا فيه قلما.
أراد أولئك النفر وهم خارجي ورجعي ودعي أن يكيدوا للدولة خلف ستار من
مشروع قبح باطنه بقدر ما حسن ظاهره وهو مشروع (مدرسة التبشير
الإسلامي) .
مرحبًا بالغيورين على الدين وهم أضر عليه من أعدائه؟ مرحبًا بأنصار
الدولة وهم ألدّ خصومها؟ ؟ مرحبًا بالذين أدنفهم الهوى بالخلافة الإسلامية وهم
أعداؤها المستترون؟ ؟
لبس أولئك الجماعة لمشروعهم لبوسه، وظهروا في مظهر من يغارون على
الإسلام، ويعنيهم ألا تقوم للفتنة قائمة، والله يعلم ونفوسهم عليهم تشهد أنهم دعاة
فرقة وفتنة وضلال.
وإلى أولئك النفر اجتماعهم خفية غير مبالين ما تجلب مقاصدهم السافلة من
الخطر على الإسلام، والويل على الدولة المؤيدة بعناية الله وقلوب المسلمين في
جميع بقاع الأرض، ثم أخذوا يهمسون بمشروعهم همسًا، ويعمون على الناس
تعمية، موهمين أنه لا يراد منه إلا أن يخرج للناس مبشرين يبشرون بالدين
الحنيف، والذي نعرفه وإن أنكروه، وقد قلناه قبل اليوم وإن جحدوه؛ إنهم أرادوا
أن يثيروا ثائرة القلوب الضعيفة إيمانها على دولة الخلافة المعتزة بآل عثمان،
ويعينوا الإنجليز على تفسير ذلك الحلم الذي طالما حلموه؛ وهو إقامة خلافة عربية
يختارون لها من يبغون؟ ؟
ذلك ما يبغونه وإن تظاهروا بإنكاره، وقد أراد الله تعالى أن يقرن سعيهم
الخبيث بالفشل الحثيث، ويقتله فكرة في الرؤوس، فما ظهر إلا في نطاق من
الشبه والريب التي لا تدفع. قد راب المسلمين أن يتسارّ من عرفوهم قبل اليوم
خارجًا على الدولة الدستورية، يقلب حسناتها سيئات، ورجعيًا ينتحب على فوات
عهد الاستبداد، وطامعًا لم ينل غرضًا فجعل الدولة غرضًا يصوب إليه السهام فترتد
إلى نحره سراعًا، نعم.. راب المسلمين أن يتسارّ أولئك النفر الذين يعرفون
بسيماهم، وقد أهاب بالأمة داعي الحق منذرًا بما يسعى إليه هؤلاء المفتونون،
محذرًا مما يضمرون ويبيتون، وقد جعلوا بعد أن كشفنا الستار عن مخبآتهم يكتبون
في - صحيفة النفاق - ما يظنونه ردًا علينا، ما هو إلا الخذلان على أنفسهم،
يجلبونه، والخزي على ذواتهم بأيديهم يسجلونه، وقد حاولوا أن يستنفروا العرب
المسلمين، ويستعدوهم علينا بدعوى أننا تهمهم جميعًا بالخروج على الدولة، وما
اتهمنا منهم إلا نفرًا في مصر يعرفون أنفسهم كما يعرفهم الناس.
يريدون أن يلقوا في النفوس بذرًا من الكراهية لدولة أعزت الإسلام، وجمعت
أمر المسلمين؛ ليشب المفتونون بهم على البغض لدولة الخلافة المعتزة بآل عثمان -
خلدها الله فيهم - ويتسنى لهم إذ ذاك فيما يزعمون أن يقيموا خليفة عربيًا يقلبه
الانكليز في أيديهم فيتقلب، ويتخذونه آلة لتنفيذ أغراضهم، وما تخفى على أحد تلك
الأغراض.
ثوبوا أيها المضلون إلى رشدكم، وأقبلوا على أنفسكم فحاسبوها، أشرًا تدبروا
للدولة أم خيرًا بها تريدون، وفتنة تلك التي تحاولون أن تثيروها أم هي خدمة
للدولة أنتم مزلفوها، وقربة تتقربون بها إلى خليفة رسول رب العالمين.
فكروا طويلاً أيها المقدمون على ما تجهلون خطره ولا تعرفون ضرره لقد
نقلنا لكم من قبل ما يحيط مشروعكم من الريب والظنون، وقلنا لكم لا ينبغي أن
يكون مثل هذا العمل الذي قدر له اثنا عشر ألفا من الجنيهات بلا كلفة، والذي
تزعمون أنه أعظم خدمة خدم بها الإسلام مما يدبر خلف ستار، ولا أن يكون
القائمون به من خصوم الملة والدولة، ولا أن يسبق الشروع فيه طوافكم ببعض
القصور، ولا أن تأبوا إشراف شيخ الإسلام عليه، ولا أن تنشأ مثل هذه المدرسة؛
لما نعلم من سيئ الأغراض وسافلها. فقلنا لكم ذلك كله، فما خشيتم لله حسابًا، وما
زدتم على أن جعلتم السباب جوابًا.
أتكيدون لدولة الخلافة أيها المضلون هذا الكيد على أعين المسلمين؟ وهل
ضعف إيمانكم ورشدكم إلى حد أن تعملوا على إيقاظ فتنة، وشق وحدة، وتمزيق
كلمة، وتفريق شمل مجموع؟ أليست هي دولة الخلافة تلك التي تحاربونها،
والرابطة العثمانية التي بالتمزيق تريدونها؟
ثم ألا تتقون الله أن تجمعوا على المسلمين كلمة دول الصليب؛ إذ توهمونها
أنكم متعصبون بالمعنى الذي تفهمه الدول لا بالمعنى الصحيح؟
اللهم أرشد بصائر عن سبيل الحق عميت، وألهم السداد قلوبًا إلى ما هو
شر نزغت، وزد المسلمين يقينًا بأن تلك النزغات محاربة لك ولنبيك ودينك
وخلافتك وأمتك، وأفض على الدولة العلية من عنايتك ورعايتك ما يمنعها من كيد
المفرقين وشر المضلين.
***
(وهنا نقل الشيخ شاويش عبارة في المشروع من جريدة الحقيقة البيروتية،
كتبها محرر مصري اغترارًا بما كتبه الشيخ شاويش في جريدة العلم، ولما علم
أصحاب الجريدة بأن جريدة العلم تعني مشروعنا، رجعوا عما كتبوا وأثنوا على
المشروع، وعلموا أن ما كتب في العلم إفك وبهتان. وسيأتي نص ما تنصلت به في
ص129. ثم قال) .
فعلى ما يظهر من هذا المشروع الجديد المستور بسجوف التعمية والدهاء؛ أن
صاحب المؤيد يريد اليوم أن يعمل على تأييد هذه الفكرة وإعلانها في ثوب التبشير
الإسلامي؛ ليتمكن هو وأنصاره من تنفيذ ما بيتوه في ضمائرهم السيئة، وذلك
بإعلان رغائبهم الممقوتة في طول البلاد العربية وعرضها تحت هذا الستار بطلاء
الخبث والحيلة، فينقلب كيان الدولة العلية من آثار التفريق الذي هو بيت قصيد
الخوارج المعروفين في مصر لكثير من الناس.
من في مصر من الأعيان وأصحاب الأموال يقدم على هذا المشروع ويرضى
بالاكتتاب فيه، مع كثرة الشكوك والظنون حوله، وإجماع الناس على أنه ما وضع
إلا لتمزيق الرابطة العثمانية، وتبديل وفاقها شقاقًا، وليجر عليها مالا يرضاه لها
من المغبة كل عثماني تجري في عروقه قطرة من الدم، وكل مسلم في قلبه ذرة من
الإيمان؟
اللهم، إنه لا يدفع مبلغ الاثني عشر ألف ليرة الذي قدر لهذا المشروع
المجهول برنامجه، المجهول رئيسه وأعضاؤه ورجاله العاملون غير (العابد)
وفائق المابينجي ووالخ؛ من رجال الدور السابق الذين تواطنوا مصر في هذه
الأيام الأخيرة، ممن لا يهدأ بالهم ولا يستقر حالهم إلا بالتفكير فيما يكدر سلام الدولة
ويوقعها في هوة المصائب والفتن، فيصطادوا بعد ذلك في الماء العكر، ويحققون
وعدهم لطالب الزعامة المنتظرة! ! !
نحن لا نقول غير ذلك ما دام هؤلاء القوم ينكرون مبادئ مشروعهم،
ويسترون عن الناس أغراضهم وحقيقة مقاصدهم من وضعه، وإلا فما معنى هذا
الكتمان إذا كان حقيقة نافعًا للعالم الإسلامي؟ ولماذا تجهل مقدماته وتغمض أسماء
القائمين به كما يقولون، والأعمال النافعة التي يراد تأييدها ونفع العالم بها، لا
يجوز أن تدغم تفاصيلها، وتطمس عن عيون الناس فوائدها؟ ؟ هذا ما نقوله الآن
ممسكين عن بقية ما لدينا من المعلومات حيت يتبين غث المشروع من سمينه؛ إلخ.
***
(المنار) تبين بهذه المقالة أن ما كتب في جريدة العلم عن هذا المشروع
الجليل، قد كان كله بقلم الشيخ عبد العزيز شاويش، ولا ندري أكتب هذه المقالة
بعد أن بينا له حقيقة المشروع، حتى اضطر إلى النكوص على عقبيه وتكذيب نفسه
في جريدة العلم أم كتبه قبل ذلك البيان، فإن كان كتبها بعد البيان، فهو مُصر على
الإرجاف حسدًا وتملقًا لمن لا يغني عنه من الله شيئًا، ولا يفسر حينئذ رجوعه في
العلم ثم سكوته إلا بإكراه أهل الغيرة الدينية من رجال الحزب الوطني إياه على ذلك،
وقد بلغنا أن هؤلاء قد ضاقوا ذرعًا بقلم شاويش الذي أهان الحزب بسبابه
وشتائمه، وفتح في وجهه أبواب السجون وهم يحبون إخراجه من حزبهم، ولذلك
لم ينتخبوه في هذه السنة لعضوية مجلس إدارة الحزب على طمعه في الرياسة أو ما
يقرب منها.
وإن كان كتبها قبل ذلك البيان، كما نحب أن نرجح تحسينًا للظن، فالواجب
عليه الآن أن يتوب ويتبرأ مما سجله على نفسه في صحيفته، وليتذكر يوم الحساب
إن كان يخاف الله تعالى أن يقول له فيه: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ
حَسِيباً} (الإسراء: 14) بل عليه أن يحاسبها قبل يوم الحساب على الجزم بهذه
الأباطيل التي ظهر بها مبلغ صدقه ورويته، ويكفر عنها بالرجوع إلى الحق
ومساعدته، كما نصحنا له في الجزء الماضي ولا يكونن من المستكبرين.
عني الشيخ عبد العزيز بمقاومة هذا المشروع الإسلامي الأكبر، وفكر في
طرق ذلك وقدر، فكان منتهى شوط ذهنه الوقاد، وفكره النقاد، أن يقضي على
المشروع بمقالة ومقالتين، يجمع فيهما من التهم والشتائم ما ينفر كل أحد من الإقدام
على المشروع فيه، وحينئذ يصدق الناس جميع ما قال، ويكفي الكافرين والمنافقين
أمر المقاومة والجدال.
لو وصل عقل الشيخ عبد العزيز إلى معنى المثل العامي (الذي يكبر الحجر لا
يضرب) واعتبر به لما كتب الذي كتب، فقد بنى كل ما قدره وزوره على شفا جرف
هار، فانهار به في مهواة الخزي والعار، بنى كلامه على اتهام الذين اجتمعوا
للتشاور في تنفيذ المشروع؛ بأنهم كانوا يريدون الاستئثار بمناصب الدولة وجعلها
وقفًا عليهم، وحرمان رجال جمعية الاتحاد والترقي منها، فلما عجزوا عن ذلك
أرادوا الانتقام من الدولة بإسقاطها، وأخذ الخلافة الإسلامية منها وإعطائها للإنكليز
(بخ بخ) ، وقد نبهنا إلى ما في هذا على ظهروه في الجزء الماضي، على أن
الشيخ شاويش قد رجع عن هذه التهمة في جريدة العلم.
ولو تركنا المشروع؛ خوفًا من سعاية الشيخ شاويش وإرجافه لصدق الجمهور
الغافل كلامه وإن كان غير معقول، ولكننا لا نترك ما فرض الله علينا من خدمة
ديننا لمثل ذلك البهتان البديهي البطلان، وإن إظهار أسمائنا كاف لنسف بنيانه،
وهدم أركانه، فإنه لا يوجد فينا أحد يتجرأ الشيخ شاويش أن يقول: إنه خطر في
باله أن يطلب منصبًا من الحكومة العثمانية أو يقبله إذا عرض عليه.
كتب الشيخ عبد العزيز ما كتب، وكانت الجماعة التي تبحث في تنفيذ
المشروع مؤلفة من عشرة رجال من المصريين الأصليين، وأكثرهم من الموظفين
في الحكومة المصرية، ليس فيهم عثماني بحت إلا كاتب هذه السطور، وليس فينا
أحد يعرف اللغة التركية التي هي شرط لنيل أقل خدمة في الحكومة العثمانية، دع
المناصب العالية التي اتهمنا الشيخ شاويش بأننا نريد أن نسلبها من أهلها ونجعلها
وقفًا علينا! ! !
أراد الشيخ شاويش أن يتزلف إلى جمعية الاتحاد والترقي بما كان يتزلف به
أمثاله إلى عبد الحميد من السعاية؛ ظانًا أنهم يقبلون في هذا الموضوع كل تهمة كما
كان يقبل عبد الحميد، وما كان عبد الحميد يصدق كل ما يقبله من تقارير أولئك
الجواسيس، وإنما كان يبني على الاحتياط، فيقبل أقوال الكاذبين على ظهور كذبها؛
رجاء أن يصدقوا في بعض الأحيان، وما عظم الاتحادين من يضعهم موضعه،
ويتجسس ويسعى لهم بمثل ما كان يتجسس ويسعى له، وكيف حاله ومقامه عندهم
وعند سائر العقلاء، وقد ظهر رجال المشروع، وعلم أن عزت العابد وفائق
المابنجي ليسوا منهم، بل كيف حاله بعد هذه الفضيحة في خاصة نفسه، وبينه
وبين ربه.
نذكر الشيخ شاويش بالله؛ لأنه نسب إلى علم الله ما ليس له به علم، فقال في
جماعة المشروع: (والله يعلم ونفوسهم عليهم تشهد؛ أنهم دعاة فرقه وفتنة
وضلال) ، وقال بعد أن زعم أن المشروع قدر له اثنى عشر ألف جنيه: (اللهم،
إنه لا يدفع مبلغ الاثني عشر ألف ليرة الذي قدر لها هذا المشروع المجهول رئيسه
وأعضاؤه ورجاله العاملون غير (العابد) وفائق المابينجي ووالخ) ، وهكذا يذكر اسم
الله ويفتات على علمه، فهل راقبه في ذلك مراقبة المؤمنين الصادقين، قال
الفقهاء: إن إسناد الشيء إلى علم الله تعالى أبلغ من الحلف به، وصرح بعضهم
بأن الكاذب في ذلك يكون مرتدًّا عن الإسلام؛ لأنه نسب الجهل إلى الله تعالى،
فهل علم ذلك الشيخ شاويش وفكر فيه.
يتكلم الشيخ شاويش ويجزم ويدعي أن ما قاله في هؤلاء العاملين هو ما يعلم
الله تعالى، ثم يعترف بأنه لا يعرف أحدًا منهم لا الرئيس ولا الأعضاء، وأنه
استنبط أنهم العابد وفائق استنباطًا؛ لأن عقله لم يستطع أن يتصورأكثر من ذلك،
فيا حسرة على قراء هذا الكاتب الذين يثقون به، كيف يحشوا أذهانهم بالأباطيل
والأكاذيب؟ ! ويا لله العجب، كيف صبر عليه الحزب الوطني إلى هذا اليوم.
***
(ما كتب في مجلة بيان الحق عن المشروع)
(والرد على جريدة العلم)
لما كتب الشيخ شاويش في جريدة العلم ما كتب من الإرجاف بالمشروع وقرأه
طلاب العلم في رواق الترك في الأزهر، كبر على غيرتهم الإسلامية ذلك، فكتب
أحد فضلائهم برأي إخوانه مقالة باللغة التركية، وأرسلها إلى مجلة بيان الحق
الغراء التي تصدرها في الآستانة العلية الجمعية العلمية المؤلفة من خيار علماء
الترك الأعلام في العاصمة وغيرها، فنشرتها وهذه ترجمتها:
(مشروع مهم)
قام في هذه الأمة الإسلامية رجال مصلحون كثيرون أرادوا أن ينقذوها من
الأدواء المادية والأدبية التي أصابتها منذ سنين كثيرة، فكادت تذهب بها إلى
حضيض التدني والانقراض، وقد باشر هؤلاء المصلحون إنفاذ مشروعاتهم بأنفسهم،
ولكنهم أخفقوا في ذلك ولم يثمر غرسهم.
وممن بذل جهده في هذا السبيل المقدس الأستاذ المحترم السيد رشيد رضا
أفندي صاحب (المنار) ، فنجح بمؤازرة كثيرين من رجال الفضل والعقل والدين
في تأسيس جمعية دعوها (جمعية الدعوة والإرشاد) ، وغايتها - كما يظهر في اسمها
أيضا - إنشاء مدرسة كبرى، يتخرج فيها العلماء والواعظون ممن درسوا
علوم الدين خاصة وغيرها من الفنون التي تتطلبها حاجة العصر.
أما قانون الجمعية الأساسي وبرنامج المدرسة فإنهما لم ينشرا بعد، ولكنا علمنا
من مقالات نشرها السيد رشيد أنهم سيقبلون في المدرسة كل مسلم من أقطار
العالم معروف بالصلاح والتقوى، ويرجح من أهل الأقطار مسلمو الصين
وجاوة وأمثالهم من سكان البلاد النائية؛ لأنهم أكثر حاجة للتنور بنور العلم،
والجمعية تضمن لطلاب مدرستها كل ما يحتاجون إليه من مأكل ومشرب ومبيت
وكتب وما أشبه ذلك، كما أنها تعنى بتربيتهم وتهذيب أخلاقهم بما ينطبق على
الآداب الإسلامية، وتقوم بمراقبتهم للمواظبة على العبادات والطاعات بكمال الدقة.
وعلى هذا، فإن المتخرجين في هذه المدرسة سيكون منهم الواعظون
والمربون في البلاد الإسلامية التي عمها الجهل؛ كالصين وجاوة، ودعاة في البلاد
التي عمتها الوثنية، فيدعون أهلها للتدين بدين الإسلام كما يدعون أهل الكتاب في
أوربا وأمريكا إليه؛ عملاً بقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّة} (آل عمران:
104) ؛ إلخ. وقوله جل وعز: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ} (النحل: 125) وقد وقعت فكرة السيد رشيد رضا أفندي وزملائه المحترمين
أحسن وقع في نفوس المسلمين، فارتاحوا لها، وشكروا القائمين بتنفيذها، وقد
بدأت الإعانات والهدايا والاشتراكات ترد عليهم من كل طرف.
ومن الغريب أن هذا المشروع بقدر ما سر المسلمين عامة، قد ساء جريدة
(العلم) ، فجاءت بما يهيج أعصابهم في التنفير عنه. يقول أصحاب التجارب:
(إن مصر أم العجائب ومصدر الغرائب) ، وقد علمنا الآن أن هذا القول لم يقل عبثًا
فإن (العلم) وهي جريدة إسلامية في الظاهر، قد خيبت ما كان يظن فيها من
الترحيب بهذا المشروع الخيري؛ الذي يراد به ترقية العالم الإسلامي مادة وأدبًا،
وأخذت تشيع عنه الإشاعات الكاذبة والمفتريات المنوعة؛ لتضل عيون الأمة في
أمور لا يتحملها عقل ولا يقبلها عاقل. من ذلك ما تزعمه من أن القائمين بهذا
المشروع يريدون أن يتذرعوا به لاستقلال العرب وإعادة الخلافة. إلى غير ذلك
مما عزته إليهم، ولو قام رجل منصف لا غرض له، وسأل (جريدة العلم) فيما
لو قيل عن الحزب الوطني: إنه يسعى إلى استقلال العرب، بماذا تبرهن على أن
حزبك لا يسعى إلى ذلك؟ لا ندري بماذا يجيب.
ليقل أصحاب الأهواء الباطلة ما يقولون، فإن الأمة الإسلامية ستختص السيد
رشيد رضا أفندي وزملاءه الغيورين بمكان خاص من قلبها؛ ما داموا باذلين
لجهدهم في سبيل السعادة والسلام، لا تأخذهم في ذلك لومة لائم وستزدان صحف
التاريخ بأسمائهم، وسيظل العالم الإسلامي مدينا بالشكر لهم إلى الأبد. والله ولي
التوفيق.
***
(مدرسة الدعوة والإرشاد)
وجاء في جريدة الحضارة المعروفة بلسان الصدق والاعتدال التي تصدر في
الآستانة أيضًا تحت هذا العنوان ما نصه:
يعلم القراء أن العلامة الكبير الأستاذ السيد محمد رشيد رضا، كان قد وفد
على الآستانة؛ ليدل الحكومة الجديدة على أمر كانت قد نسيته الإدارة السابقة؛ هو
تأسيس مدرسة لتخريج رجال جامعين بين العلوم الفنية والعلوم المسماة بالعصرية،
وقد وافقته الحكومة. ولكن بعد إقامتة عامًا تحولت في أثنائه الوزارة، واضطربت
النية، رأى أن مصر خير مجالاً لهذا العمل من الآستانة، فغادرها وقفل إلى مصر
التي هي مطلع مناره الزاهر، وهناك وجد المساعدين الطيبين على هذا العمل،
والآن جاءنا منه هذا البيان العام للنشر، ونرجوا أن ييسر الله له الإتمام عما
قريب.
(المنار: ثم ذكرت الجريدة ما بينا به مقاصد الجمعية ومدرستها في المقالة
الثانية من مقالتي الجزء الماضي) .
***
(قول جريدة الحقيقة البيروتية)
نقل الشيخ الشاويش ما كتب أولاً في جريدة الحقيقة من الإرجاف الذي تابعت
به جريدة العلم تحسينًا للظن بها، ولم ينقل ما كتب فيها بعد أن علمت من صحف
مصر الحقيقة، فرجعت إليها، وهو ما كتبته في آخر نبذة ثانية لها في العدد الذي
صدر منها في 25 المحرم، وإنما لم ننشر نحن طعنها الباطل؛ لأنها كانت
مخدوعه فيه بقول العلم، فلم نحب أن نسجله عليها مع رجوعها عنه، وهذا نص
ما قالته:
(بعد كتابة ما تقدم، وصلنا بريد مصر، فعلمنا عند مطالعة صحفه أن
صاحب مشروع مدرسة التبشير الإسلامي هو حضرة السيد محمد رشيد رضا منشئ
مجلة المنار، وأن ذلك المشروع هو الذي كان يريد حضرته مزاولة عمله في
الآستانة عند سفره إليها في الصيف الماضي، وكنا في مقدمة الذين رحبوا به
واستبشروا منه خيرًا؛ لعلمنا أن الرجل يغارعلى دينه وأمته، فلا مندوحة لنا من
مقابلته بالتهليل والتكبير؛ راجين أن يكون بالصبغة التي عهدناه عليها بعيدًا عن
ظنون جريدة العلم التي تفاءلت به شرًّا؛ عند زيارة صاحب المشروع للوكالة
البريطانية في مصر؛ لعرض الموضوع على السير غورست كما تقول، فلا
نجاريها في هذا التشاؤم؛ إذ ربما يكون غرض السيد رشيد من زيارة الوكالة
البريطانية لماجريات يضطره إليها نظام الحكومة هناك، وعلى كل حال نسأل الله
أن يحقق أمل الأمة في هذا العمل، ويبعد عنا دسائس الأشرار الفجار) .
(المنار) لا بد أن يكون أصحاب الحقيقة قد علموا بعد هذه الكتابة أيضًا؛
أن جريدة العلم لم تتشاءم بالمشروع لما زعمته من ذهابي إلى الوكالة لعرضه على
السير غورست، وإنما كان بهتانًا افتجرته افتجارًا، على أن الحقيقة قالت في هذه
المسألة نحوًا مما يقوله، بل ما قاله العقلاء هنا: وهو أن إعلام العميد بمثل هذا
المشروع من مؤسسة أحسن عاقبة من علمه به من قبل غيره؛ لاحتمال أن يصبغه
أولئك الأغيار بصبغة سياسية، تحمل العميد على مقاومته وليست مقاومته بالأمر
الذي لا يؤبه له.
***
(مدرسة العلم والإرشاد)
وجاء في جريدة (وكيل) الهندية الشهيرة، التي تصدر في (أمر تسر)
في العدد الذي صدر منها في 8 صفر تحت هذا العنوان ما ترجمه.
العلامة السيد محمد رشيد رضا؛ الذي هو التلميذ الشهير للمفتي الأعظم
المرحوم الشيخ محمد عبده، والمصلح العظيم لشتات المسلمين، يريد أن يؤسس
مدرسة عظيمة تكون حاوية لتعليم العلم وحقيقة الإسلام، وبعد التحصيل يرسل
طلابها لإشاعة فرائض الإسلام في أقطار الأرض؛ لهذا أقام حضرته في القسطنطينية
مدة سنة، شاور وباحث في هذا الموضوع كبار أهل الحكومة حتى أجابت الحكومة
التركية مطالبه، ووعدت بإعطاء خمسة آلاف جنيه في العام بشروط:
(أولها) أن يكون اسم الجمعية (انجمن علم وإرشاد) .
(ثانيها) أن تكون المدرسة تحت إدارة شيخ الإسلام.
(ثالثها) أن يكون التعليم فيها بالتركية، ولكن فخامته رد هذه الشروط وما
قبلها؛ لأنه يريد أن تكون الجمعية خالية من سلطة الحكومة، حتى لا تكون مريبة
عند أهل أوربا.
وما دامت تكون الجمعية والمدرسة مشتركة بين جميع المسلمين في الدنيا،
فأحرى أن يكون لسانها التعليمي العربي، وأن تسمى باسم عربي، وسعادته يسعى
الآن في مصر لهذا الموضوع ويجمع نفقاته، واسم المدرسة دعوة العلم والإرشاد
(الصواب دار الدعوة والإرشاد) .
***
(في سبيل الإصلاح)
نشرت جريدة المؤيد تحت هذا العنوان أربع مقالات بإمضاء محمد شكري
بالإسكندرية، ولعله كاتب مشيخة المعاهد العلمية هناك، وقد أفرع الكاتب مقالاته
الإصلاحية الإسلامية في قالب محاورة في جمعية إسلامية، وجعل الرابعة منها في
مشروع الدعوة والإرشاد وهذا نصها:
(مشروع الدعوة والإرشاد)
كان آخر المقال السابق نهاية الخطبة التي كلفني حضرة مولانا الشيخ الرئيس
بإلقائها على مسامع السادة الإخوان الموجودين بالجلسة المباركة التي انعقدت بهم
للنظر في شؤون المسلمين وأحوالهم، وكنت أرى علائم الفرح والارتياح لما ألقيه
على مسامع حضراتهم بادية على وجوههم، ظاهرة على محياهم، خصوصًا لما
كان دائرًا حول النقط الآتية التي لو نفذت لأمكن انتشال المسلمين من وهدة سقوطهم
وهوة خمودهم وجمودهم إلى أوج العز والسؤدد والسعادة والفخر الأثيل، وتلك النقط
هي:
(1) رفع غياهب الجهل عن أذهان المسلمين، وتثقيف عقولهم بالعلوم
والمعارف.
(2) ترك الخمول والكسل والجمود وضعف العزيمة جانبًا.
(3) وجوب تصدر العلماء لقيادة الأمة الإسلامية بآرائهم وإرشاداتهم.
(4) محاربة البدع بالسلاح الماضي المناسب للوقت الحاضر.
(5) معاقبة من يخالف أوامر الدين، مهما كان مركزه معاقبة شديدة،
تجعله عبرة لغيره، حتى لا يتجارى الغير على إتيان فعله أو على الافتداء به
(6) الدفاع عن الشريعة الغراء، ودحض قول كل معتد أثيم يتقول عليها
بالباطل، ويرميها بالبهتان.
(7) القيام بالدعوة إلى إعادة عرى الألفة، حتى يكون المسلم لأخيه
كالبنيان، يشد بعضه بعضًا. هذا , وما انتهيت من خطابتي ونزلت من على منبر
الخطابة، حتى صعد عليه خطيب مصقع من حضرات الأعضاء، فابتدأ وقال:
(بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله
الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: فلقد أجاد السيد وأفاد في خطبته،
وأطرب بأفكاره مسامعنا وأعجب. وإننا لنشكره على غيرته الدينية وجمعيته
الإسلامية التي من أجلها تكبد شأن السفر فجاءنا، وما جاء إلا واعظًا مرشدًا وبشيرًا
مذكرًا.
على أننا مع موافقتنا على ما جاء في خطبته من ذكر أسباب تأخر المسلمين،
وأدواء انحلال عصبيتهم، ووصف الدواء المعافي لهم من مرضهم والبلسم الشافي
لجسمهم من سقام تأخرهم وتفرقهم وانحطاطهم، الأمر الذي سنعمل به ونأخذه
نموذجًا نسير على دربه، وننسج على منواله.
إلا إننا مع هذا كله لا نوافقه على الطريقة التي يذهب إليها، ويحضنا على اتباعها لتأليف جامعتنا وتركيب وحدتنا، فإنه أثابه الله ذهب إلى أنه لبلوغ هذا الغرض، يلزمنا أن نقوم في مشارق الأرض ومغاربها لدعوة الناس لها.
وإني لأعجب؛ كيف يفوته ما ذكره في سياق كلامه في خطبته الفيحاء؛ من
أن الأكثرية في الأمة الإسلامية على ضلال عن الدين مبين، غير واقفة على أسرار
الشريعة السمحة وما تحويه من الفضائل التي يقف دون إحصائها العد والحصر،
فيذكر حضرته طلب تعميم هذه الدعوة بين عموم المسلمين، مع أنه لا يصح القيام
بالدعوة إليها وتعميمها بينهم إلا إذا كانوا على درجة من الرقي والتمدن والتقدم،
يمكنهم معها فهم معناها ومبناها وإدراك مغزاها ومرماها. أما وهم في الدرجة التي
وصفها من تمكن الجهل فيهم، وضرب أطنابه بين جموعهم، فإنني أرى - والحالة
هذه - أنهم الآن في أحوج ما يكون إلى قيام الخطباء والوعاظ والمبشرين والمرشدين؛
لوعظهم وإرشادهم وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم وإصلاح مرافق معاشهم ومعادهم،
حتى تتنور أذهانهم وتثقف عقولهم، فيصبحون في استعداد تام لمعاونته ومساعدة
نهضته عند المناداة بها، والعمل لإبرازها لأول مرة.
فالواجب علينا أيها السادة، إعداد العدد الكافي من الوعاظ والمرشدين
والخطباء والمبشرين على طريقة عصرية تؤثر في القلوب، وتملك عليها حواسها،
فتوجهها إلى ما يرمي إليه الخطيب وينادي به المبشر أو الواعظ، ثم بث هؤلاء في
بقاع الأرض، حيث يقومون بإرشاد المسلمين ووعظهم وغرس محبة إخوانهم في
قلوبهم، فإنه متى تمت هذه المهمة الأولية، كان من ورائها إبراز المهمة الثانوية؛
ألا وهي النهضة المدنية بأسهل مما يتصوره المرء وتتخيله الأذهان.
أمامكم أيها السادة النجباء والإخوان الفضلاء، مشروع يريد القيام به بعض
ذوي الغيرة الدينية والحمية الإسلامية بالديار المصرية؛ قيامًا منهم بما يفرضه
عليهم الواجب، ويحضهم على تحقيقه وإبرازه الغرض الديني، وهو ينطبق على ما
ندعو إليه ونرمي إلى السعي وراء إيجاده وإظهاره؛ ألا وهو مشروع الدعوة
والإرشاد على نحو ما يفعل المسيحيون، وغرضهم أيها السادة تخريج مبشرين
دينيين، يقومون بمهمة التبشير بالإسلام، ودعوة المسلمين إلى العمل بأوامر دينهم،
والتمكن من أصوله، والوقوف على أسراره وخفاياه الكافلة بإصلاح أحوالهم،
وفتح أبواب الرزق والرحمة أمامهم.
أمامكم تلك المدرسة، فقوموا عن بكرة أبيكم وعضدوها وأيدوها، وارفعوا
شأنها، وثبتوا قدمها، وانصروا لله بنصرها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ
يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) إنني أناديكم أيها السادة، وأنادي كافة
المسلمين الغيورين على دينهم بما ينادي به لسان حال الإسلام أبناءه الأمناء
المخلصين؛ من الأخذ بيده ورفع شأنه، وإعلاء كلمته؛ لإرجاعه إلى ما كان عليه
من علو الشأن ورفعة المقام في العصر السالف؛ عصر فتوته وشوكته بالأخذ بيد
تلك المدرسة التي هي طريق الوصول به إلى مبتغاه، والعامل الوحيد الذي
بواسطته يبلغ ما يتمناه.
إن الإسلام يا قوم يناديكم جميعًا: أن كدوا وجدوا واعملوا واكدحوا بكل ما في
طاقتكم ومكنتكم؛ لإبراز تلك المدرسة وإمدادها بالمال الوفير والعقار الكثير، حتى
تستمر في طريقها وتسير في الدرجة المرسومة لها، وتفي بالغرض المقصود منها،
فشمروا عن ساعد الجد، وأجيبوا نداءه بأن تتبرعوا بالتبرعات المالية اللائقة بتلك
المدرسة الجليلة، وقفوا الأراضي والعقار لها وتنافسوا في ذلك ما استطعتم، فإن
ذلك خير ما يتنافس فيه العاملون، واصرفوا عن أفكاركم وأذهانكم تشويش
المشوشين، وهتر الهاترين، ومكابرة المكابرين، ولا تقيموا لأقوالهم وزنًا، فإنهم
لا يبغون سوى عرقلة المسعى في إيجاد تلك المدرسة التي اتفقت الآراء على
تحبيذها، وأجمع الكل على ضرورة إيجادها، حتى لا يكون الغير قد سبقهم بها،
وهم الذين يودون أن يكونوا مصدر كل خير وأصل كل منفعة، ولو بغير حق
وبدون جدارة وكفاءة، حتى لا ينسب إليهم أحد التشدق بالكلام المزخرف، الذي لا
فائدة منه للمسلمين ولا عائدة تعود عليهم من ورائه، فيعيرهم بالمثل السائر (أسمع
جعجعة ولا أرى طحنًا) .
ليت هؤلاء المعارضين يثوبون إلى رشدهم بعد ما تبين لهم الحق، فيسيرون
مع هذا المشروع جنبًا لجنب، خصوصًا وإنهم من المسلمين الذين يهمهم شأن
الإسلام، فإننا معشر الإخوان، والحق يقال: لنحب ونود من صميم الفؤاد أن تكون
كلمة المسلمين في أي شأن من الشؤون التي تعود عليهم بالفائدة متحدة متفقة، فإن
ذلك أولى لهم ثم أولى وأنفع لمصلحتهم ثم أنفع، وفي الختام أدعو الله أن يكلل هذه
المدرسة بالنجاح والفلاح، وأرجو منه تعالى أن يحول حال المسلمين إلى أحسن
حال، آمين.
وبعد أن نزل الخطيب، قام الرئيس وقال: ما رأيكم أيها الأعضاء الكرام في
المدرسة التي أشار إليها حضرة الخطيب المتقدم. فقالوا جميعًا: إن إبراز تلك
المدرسة من الضروري اللازم الذي لا يمكن للمسلمين الاستغناء عنه، وإننا لنرى
أن يصدر من جمعيتنا قرار موجه إليهم؛ لحثهم على معاونة ومساعدة تلك المدرسة،
والعمل نحو إبرازها وإيجادها، ثم اتفق الجميع على نص القرار المشار إليه،
وكلفوني بإرساله إلى المؤيد الأغر لسان حال المسلمين في كافة أنحاء المعمورة،
وهاك هو القرار بنصه وفصه:
من (جمعية لا إله إلا الله) إلى كافة المسلمين الموحدين بالله أهل النخوة
والنجدة؛ إن من الواجب على كل مسلم أن يعمل كل ما فيه انتشار الإسلام وإعلاء
كلمة الإيمان، والتفاني في ذلك على قدر الإمكان، كما كان يعمل آباؤنا الذاهبون
الأولون في الصدر الأول من عهد نشأة الإسلام، وبزوغ شمسه المشرقة، ولذلك
اجتمعت جمعيتنا وقررت وجوب تعضيدكم لمدرسة الدعوة والإرشاد التي يراد
إنشاؤها بعاصمة الديار المصرية، بما يكفل لها الاستمرار والنمو، ويضمن لها
تنفيذ الغرض الذي يراد إنشاؤها من أجله؛ وهو تخريج مبشرين دينيين، ينتشرون
في جهات الأرض للتبشير بالدين الإسلامي، وحض الناس على اعتناق الإسلام؛
لتخليصهم من عذاب الآخرة الذي يشيب من هوله الولدان، ووعاظ يعظون
المسلمين ويحثونهم على اتباع أوامر الشرع الشريف، ولا يخفى ما في ذلك من
صلاح الحال وحسن المآل.
(فالبدار البدار أيها المسلمون؛ لمساعدة تلك المدرسة بالأموال الطائلة؛ لأن
المال هو حياة المشاريع والأساس الذي تقوم عليه وتظهر، والعمل العمل لإبرازها
في القريب العاجل، واعلموا أنكم إن تقدموا في الدنيا من حسنة فستجزون عليها في
الآخرة أضعافًا، وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال. آمين) .
... ... ... ... ... ... ... ... عن رئيس الجامعة
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد شكري
... ... ... ... ... ... ... ... ... بإسكندرية
_______________________(14/121)
الكاتب: سليمان الجادوي
__________
حال المسلمين والمصلحين
أو هل إلى الرقي من سبيل [1]
لقد أسفر حديث مضى لنا، وكان لهذا الحديث صدرًا عن حقيقتين لا مراء
فيهما، بل مقدمتين لأقضية سنفيض الكلام فيهما، هما شعور عموم المسلمين بما
حاق بهم من سيئات ما كسبوا واختلافهم في الرأي، أي سبيل للنجاة يسلكون؟ ولقد
حدا بنا الحديث إلى الإفاضة في ولع المسلمين بالخلاف، حتى في أحرج المواقف
وأضيق الأوقات، وكذلك حقت عليهم الكلمة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك،
فإنهم يعلمون أن الرقي على ضربين: مادي وأدبي، وأن الرقي المادي نتيجة
السعي والأخذ بما أخذ به الأقوام، ولا يعصم من شروره إلا التحرز بحرز الآداب
الدينية التي أرشد لها الكتاب المبين. فهل بعد هذا لأحد هذين النوعين توقف على
الآخر أو بالحري: هل يكون نصيب كل منهما من الاهتمام في الوقت الحاضر
على السواء أو أن أحدهما الأحرى بالتقديم.
ألا لا يجادل أحد في أن الأفعال مهما كانت قيمتها، لا تصدر إلا عن وجدان
نفسي تابع للتربية العامة والتلقين بالتعليم، وإن التعليم ليجمع بين المختلفين في
أساليب التربية، فيجعلهم أشبه ببعضهم في كل شبيه، ولما كان المسلمون قد
أصابهم من سيئات الشقاق والتدابر ما أصابهم، وهم اليوم أحوج ما يكونون إلى
باعث يبعثهم على سلوك سبل الارتقاء الحق متحدين، فهل لذلك من واسطة غير
توحيد التعليم، وبذلك يتضح جليًا توقف أحد النوعين على الآخر وإن سلوك طرق
الرقي المادي قبل الوصول إلى غاية في الرقي الأدبي عسير إن كان ممكنًا،
وبعكس النتيجة إن لم يكن عقيمًا.
بقي النظر في هذه القضية وهي توحيد التعليم بين المسلمين، هل للنفس في
تحقيقها من طمع؟ وهل أسبابها مهيأة؟ وهل يقوم دون الوصول إليها من عائق
عتيد؟
لا أتوقف في الجواب عن جميع تلك الأسئلة بالإيجاب، وشرحها بيت القصيد،
ذلك بأن الله ورسوله يأمران جميع المسلمين بالائتلاف والاتفاق، وبحذرانهم
مزالق الفرقة، وقد جمع الله المسلمين في اليوم وما قبله على كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم، فهم وهم بضع وسبعون فرقة تدين بما ذكر، وتطأطئ
الرؤوس إذعانًا، وهذان هما جماع الخير ومنبع الرشد، وإذا وصل الفكر إلى هذا
الحد يرقص طربًا؛ إذ يرى فواق الناقة أبعد من رقي المسلمين، ولكن تجاوزه هذا
الحد يحدث له رد فعل، يخور معه عزمه، فيسقط في اليأس واهيًا حيث يقف أمامه
عائق عتيد، وذلك هو كثرة الأعداء وقوتهم الفائقة الحد وتيقظهم لكل بادرة، ينتج
عنها صلاح المسلمين.
إن المسلمين في سائر الأقطار قد تقاسمهم غيرهم، فهم بين استقلال مستبد أو
استيلاء غريب، وكل من هذين ضنين بما غنم منهم، فلا يغفل عن أقل شيء
يضعف ضغطه عليهم، حتى يستأصل شأفته، ولا يدع سببًا أوقعهم في يده، حتى
يحرص على استدامته حرصه على سيادته، وما المستبد إلا حافظ أمين على تلك
الغنيمة التي وقعت بين يديه، حتى يستلمها من يده الغريب، وهي على تربية
العبيد.
وهذه الحكومات بين مستبدة وغريبة، قد اتخذت لها أعوانًا قلدتهم أوسمة العلم
ونياشين المعارف، وأبرزتهم للعامة حتى يكونوا مقام التقليد، فكان هؤلاء حربًا
للمسلمين، ومانعًا من ائتلافهم، ومشنعًا على كل من جاهر بهذا القصد بأنه ملحد
عدو للمسلمين، فلا تلبث الحكومات أن تؤيدهم؛ لأنهم يؤدون لها أجل خدمة، ولا
تلبث العامة أن تزدري بما ألقي إليها؛ لأنه ضد إرادة سادتهم من أولي الأمر وأهل
الدين، وهكذا تذهب صيحات المرشدين ونصائح المصلحين دون صدى، ويذهب
جهدهم سدى، وما خصهم إلا من عرفت. وربما بحث الناظر عن سبب وقوف
هؤلاء سدًا في وجه كل إصلاح وهم أحق من قام بدعوى الإصلاح؛ لمكانهم من
الدين، فأقول: إن لذلك سببين: أولهما الاعتقاد بأن شكر المنعم واجب، وأن الذي
أجلسهم على الوثير، وألبسهم من الحرير، ورفع منزلتهم، وجلعهم يعيشون عيش
المترفين لخليق بأن يكونوا حراس عرشه الذي هو أصل عيشهم، ولعلهم
برجوعهم إلى الحق يرجعون إلى العيش الضيق، والشظف الذي كان يكابده
السلف، وذلك ما يرجفون لذكراه، وربما خرج بعضهم عن منصبه لسبب، فرأيت
منه من الأفكار ما سرك، وتمنيت أن يكون ذا منصب، حتى يكون للإصلاح خير
ظهير، هذا أضعف السببين. وأقواهما شعور أكثر هؤلاء بالقصور عن درجة العلم
الحقيقي وصعوبة اعترافهم بالحقيقة، ما داموا علماء رسميين، فغالطوا أنفسهم كما
غالطهم أولو الأمر، وأنفوا من ظهور ذي حجة مبين لقصورهم.
أقول ما أقول غير قاصد فردًا أو جمعًا خاصًا، ولكن هو وصف لمن اتصفوا
بالعلم قديمًا وحديثًا إلا أهل العلم من خير القرون، فلقد كان العلم على عهدهم رتبة
يمنحها الولاة للذوات، ولكنه حكمة يختص بها الله فريقًا ممن جاهدوا في سبيل
تحصيلها، وكانوا يطلقونه على أهل الرواية وأسرار التنزيل وكذلك كان العلماء
أحرارًا في الاستنباط والفهوم، وكان العوام أحرارًا في الاتباع والتقليد، ولكن ملوك
الاستبداد لما رأوا أن الدعاوي السياسية لم ترتكز إلا على أصل ديني، اضطروا
إلى إيجاد قوة تؤيد ما هم عليه من جليل الأشياء وحقيرها، فتجعله للدين أصلاً،
ويوفق بينها وبينه ولو بالتمحل في التأويل، ولن يرضى بهاته المنزلة الدنية إلا ذو
البضاعة المزجاة في العلوم، فإن العالم الذي أشربت نفسه عزة العلم لا يرضى
أن يخدم غرض جاهل تلقاء قليل أو كثير من الحطام، وأنه ليلقى أشد صعوبة إذا
رام أن يخالف ضميره ويأتي أمرًا نهاه عنه ما تلقاه. ولم يخل قرن من الأيام الخالية
من عالم يقوم بإنكاره ما يرى ويجهر لتلك الفئة أنهم على ضلال، وما هو إلا أن
يرى صدى مقاله في آذان الملوك الذين يضرهم قوله، فيجردون عليه جيشًا من
أولئك الذين ألبسوهم حيلة العلم وقلدوهم تاج المعارف؛ إذ كانوا يوقنون أنه لا يغني
عنهم في تلك الغارة سيف ولا سنان، ولا ينفك أولئك عن مطاردة الحق حتى يخفت
صوته، ويستقر في أذهان العامة أن أولئك العلماء يجاهدون في سبيل الدين، وهم
يجاهدون في سبيل شهوة الحاكمين، ويقوم لديهم في بعض الأحايين الباعث
الآخرعلى مطاردة أولئك المحقين، وهو خوف رجوع أولي الأمر، والعامة إلى
أولئك النابغين، فيفقدون منزلتهم التي تبوؤها عن غير حق، ويظهر جليًا عليهم
القصور، فأرهفوا الحد استعدادًا لتلك الطوارئ، ونصبوا الإسلام على أسنة أقلامهم،
وقالوا: أما التقليد لكل ما ترون أولاً فليس إلا إلحاد وزيغ وضلال دون أن يكلفوا
أنفسهم مشقة الاستدالال، ولئن سألتهم عما يقصدون عن إشهار تلك الحرب العوان
ليقولن: إنا حماة الدين، وإنه ليوجب علينا تغيير كل منكر رأيناه، ما لهم لا يغيرون
ما بين بأيدهم من المنكرات، بل بالعكس تراهم قائمين عليهم وبها يأمرون.
ألم تر أنهم يبصرون الشموس كالأساطين، والمصابيح الأولوف تسرج، ونور
السراج الوهاج يضيئ ما بين اللابتين. ألم تر أنهم يبصرون المباخر الفضية
توضع في مجالس أحاديث الرسول - صلوات الله عليه - وهو ينهى عنها وهم
بها راضون، ولكن هذه المنكرات الصريحة لا تسوءهم مثلما يسوءهم من ينادي بأن
الخلاف بين فرق المسلمين يمكن تسويته، وأنهم لو أحسنوا المناظرة لما اختلفوا، وأن
تنديد بعض هذه الفرق ببعض في غير محله، ولا ينبغي الإقرار عليه. من قام بهاته
الدعوة وقرع بها أسماعهم وهي كما رأيت أقصى ما يتمنى المسلمون، لا يكون
جزاءه منهم (أي من هؤلاء العلماء) سوى رميه بالاعتزال بل بالمروق والزيغ
والإلحاد، والاستدلال على ذلك لديهم هين؛ إذ لا يتجاوز حكاية منامية رآه فيها مسود
الوجه متغير الحال، كما بلي جمال الدين الأفغاني (بسميه) وكما بلي به الشيخ محمد
عبده وبمجنون بيروت، وكما بلي من قبله الغزالي بمن لا يصلح أن يكون شراكًا
لنعله، فرموا بالزندقة والإلحاد والكفر والاعتزال (لأن في عرفهم أن الاعتزال
منصفة) ويطلقون كل هاته الألفاظ على شخص واحد مع علمهم باختلاف معانيها،
ولكن حيث كان الباعث على قذفها الغيظ والعداء، لا يرون حرجًا في جمعها في
كنانة واحد؛ إذ جعبة الغضب أوسع من جعبة الحق، ويجرئهم على ذلك مركزهم
الذي يجعل كلامهم مقبولاً، ويأمنون به مناقشة الحساب.
ألا لقد سار القلم شوطًا بعيدًا في هذا الميدان، حتى أشفق الفكر على القارئ
السآمة والتشتيت، وما كان القصد سوى التعريف بأن السبب الذي يقف في وجه
رقي المسلمين هو قوة أعداء ذلك الرقي، وبيان أن أهل الأمر هم أصحاب الفائدة
من تقهقر الأمة، وهم الذين أوقفوا لسعيهم حدودًا ولأفكارهم جنودًا ممن ذكرنا، فهم
المؤاخذون الأصليون. وإن جندهم من أولئك ليعملون على قدرعقولهم، لم يصلوا
إلى مرتبة تعرفهم بالحق، حتى يكونوا إذا لم يأخذوا به مؤاخذين، بل ذلك مبلغهم
من العلم والحياة الدنيا جل ما يطلبون، وإن منهم لفريقًا يكتمون الحق وهم يعملون،
وما أولئك إلا القليل.
ذلك العائق الذي شرحناه هو الذي حجز بين المسلمين وبين ما يبتغون، فهل
من مطمع في زواله؟ وهل إلى الرقي من سبيل؟
... ... ... ... ... ... ... ... ... سليمان الجادوي
(المنار) قلما رأيت في الجرائد كتابة في حال المسلمين أو في المسائل
الاجتماعية موزونة بميزان العقل، وصادرة عن روية واستقلال في الفكر كهذا
المقال، وإني أجيب الكاتب الفاضل بأن السبيل إلى رقي المسلمين واحدة؛ وهي أن
يكثر فيهم المصلحون من أهل العلم والبصيرة والتقوى، فيقوى حزبهم على حزب
الدجالين الجامدين، الذين حالوا بين المسلمين وبين الترقي في دينهم ودنياهم معًا،
ولا بد لهذا من سعي خاص، حتى لا يطول أمد الوصول إليه، وهو كائن بإذن الله
طالت المدة أم قصرت، ولا يهولنك كثرة أتباع الدجالين، فما ذلك تأثير دجلهم
الحادث، وإنما هي بقايا الداء الموروث، وقد يموت أكبر طاغوت منهم، فلا يشعر
الذين على رأيه بأنهم فقدوا شيئًا؛ فكثرتهم إلى قلة، وقلة المصلحين وأتباعهم إلى
كثرة، والعاقبة للمتقين.
__________
(1) قرأنا في جريدة مرشد الأمة التي تصدر في تونس هذا القسم الثاني من مقال بإمضاء سليمان الجادوي عنوانه: (هل إلى الرقي من سبيل) فرأينا فيه من نور البصيرة ما بعثنا إلى نشره في المنار.(14/134)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الباطنية وآخر فرقهم البابية البهائية [1]
جاء في كتاب الملل والنحل للشهرستاني تحت عنوان (الإسماعيلية) ما نصه:
قد ذكرنا أن الإسماعيلية امتازت عن الموسوية وعن الاثنا عشرية بإثبات
الإمامة لإسماعيل بن جعفر وهو ابنه الأكبر المنصوص عليه في بدء الأمر، قالوا:
ولم يتزوج الصادق على أمه بواحدة من النساء، ولا اشترى جارية كسنة رسول الله
في حق خديجة، وكسُنَّة علي في حق فاطمة، وذكرنا اختلافهم في موته في حال
حياة أبيه، فمنهم من قال: إنه مات وإنما فائدة النص عليه انتقال الإمامة منه إلى
أولاده خاصة كما نص موسى إلى هارون عليهما السلام، ثم مات هارون في حال
حياة أخيه وإنما فائدة النص انتقال الإمامة منه إلى أولاده، فإن النص لا يرجع
قهقرى، والقول بالبداء محال، ولا ينص الإمام على واحد من ولده إلا بعد السماع
من آبائه، والتعيين لا يجوز على الإبهام والجهالة. ومنهم من قال: إنه لم يمت
لكن أظهر موته تقية عليه حتى لا يقصد بالقتل. ولهذا القول دلالات منها أن محمدًا
كان صغيرًا وهو أخوه لأمه، مضى إلى السرير الذي كان إسماعيل نائمًا عليه،
ورفع الملاءة فأبصره وهو قد فتح عينه ومضى إلى أبيه مفزعًا وقال: عاش أخي
عاش أخي. قال أبوه: إن أولاد الرسول كذا يكون حالهم في الآخرة. قالوا: وما
السبب في الإشهاد على موته، وكتب المحضر عليه ولم يعهد ميتًا سجل على موته؟
و (أجيب) عن هذا بأنه لما رفع إلى المنصور أن إسماعيل بن جعفر رؤي
بالبصرة مر على مقعد فدعا له فبرئ بإذن الله، بعث المنصور إلى الصادق أن
إسماعيل في الأحياء، وأنه رؤي في البصرة أنفذ السجل إليه وعليه شهادة عامله
بالمدينة.
قالوا: وبعد إسماعيل محمد بن إسماعيل السابع التام وإنما تم دور السبعة به
ثم ابتدأ منه بالأئمة المستورين الذين كانوا يسيرون في البلاد ويظهرون الدعاة جهراً،
قالوا: ولم تخل الأرض قط من إمام حي قاهر إما ظاهر مكشوف، وإما باطن
مستور. فإذا كان الإمام ظاهرًا يجوز أن تكون حجته مستورة، وإذا كان الإمام
مستورًا فلا بد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين، وقالوا: إنما الأئمة تدور أحكامهم
على سبعة كأيام الأسبوع والسماوات السبع والكواكب السبع، والنقباء تدور أحكامهم
على اثنا عشر، قالوا: وعن هذا وقعت الشبهة للإمامية القطعية، حيث قرروا عدد
النقباء للأئمة. ثم بعد الأئمة المستورين كان ظاهر المهدي والقائم بأمر الله وأولادهم
نصًّا بعد نص على إمام بعد إمام، ومذهبهم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات
ميتة جاهلية، وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية، وكانت
لهم دعوة في كل زمان ومقالة جديدة بكل لسان، فنذكر مقالاتهم القديمة
ونذكر بعدها دعوة صاحب الدعوة الجديدة، وأشهر ألقابهم الباطنية.
وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنًا، ولكل تنزيل تأويلاً ولهم
ألقاب كثيرة سوى هذه على لسان قوم قوم، فبالعراق يسمون الباطنية والقرامطة
والمزدكية، وبخراسان التعليمية الملحدة وهم يقولون نحن إسماعيلية؛ لأنا تميّزنا
عن فرق الشيعة بهذا الاسم وهذا الشخص.
ثم إن الباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة، وصنعوا كتبهم
على ذلك المنهاج، فقالوا في البارئ تعالي: إنا لا نقول هو موجود ولا لا موجود،
ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، وكذلك في جميع الصفات؛ فإن الإثبات
الحقيقي يقتضي الشركة بينه وبين سائر الموجودات في الجهة التي أطلقنا عليه، وذلك
تشبيه، فلم يكن الحكم بالاثبات المطلق والنفي المطلق، بل هو إله المتقابلين وخالق
الخصمين والحاكم بين المتضادين، ويقولون في هذا أيضًا عن محمد بن
علي الباقر: إنه قال لما وهب العلم للعالمين قيل: هو عالم، ولما وهب القدرة
للقادرين قيل: هو قادر، فهو عالم وقادر؛ بمعنى أنه وهب العلم والقدرة، لا بمعنى
أنه قام به العلم والقدرة أو وصف بالعلم والقدرة، فقيل فيهم: إنهم نفاة الصفات حقيقة
معطلة الذات عن جميع الصفات، قالوا: وكذلك نقول في القدم: إنه ليس بقديم ولا
محدث بل القديم أمره وكلمته، والمحدث خلقه وفطرته، أبدع بالأمر
العقل الأول الذي هو تام بالفعل، ثم بتوسطه أبدع النفس الثاني الذي هو غير تام،
ونسبة النفس إلى العقل، أما نسبة النطفة إلى تمام الخلقة والبيض إلى الطير، وأما
نسبة الولد إلى الوالد والنتيجة إلى المنتج. وأما نسبة الأنثى إلى الذكر
والزوج إلى الزوج. قالوا: ولما اشتاقت النفس إلى كمال العقل احتاجت إلى
حركة من النقص إلى الكمال، واحتاجت الحركة إلى آلة الحركة فحدثت الأفلاك
السماوية، وتحركت حركة دورية بتدبير النفس، وحدثت الطبائع البسيطة بعدها
وتحركت حركة استقامت بتدبير النفس أيضًا، فتركبت المركبات من المعادن
والنبات والحيوان والإنسان، واتصلت النفوس الجزئية بالأبدان، وكان نوع الإنسان
متميزًا عن سائر الموجودات بالاستعداد الخاص لفيض تلك الأنوار، وكان عالمه في
مقابلة العالم كله وفي العالم العلوي عقل ونفس كلي، وجب أن يكون في هذا العالم
عقل شخص هو كل، وحكمه حكم الشخص الكامل البالغ ويسمونه الناطق وهو النبي،
ونفس مشخصة هو كل أيضًا وحكمها حكم الطفل الناقص التوجه إلى الكمال أو حكم
النطفة المتوجهة إلى التمام، أو حكم الأنثى المزدوج بالذكر ويسمونه الأساس وهو
الوصي.
قالوا: وكما تحركت الأفلاك بتحريك النفس والعقل والطبائع، كذلك تحركت
النفوس والأشخاص بالشرائع بتحريك النبي والوصي في كل زمان دائر على سبعة
سبعة، حتى ينتهي إلى الدور الأخير ويدخل زمان القيامة وترتفع التكاليف
وتضمحل السنن والشرائع، وإنما هذه الحركات الفلكية والسنن الشرعية لتبلغ
النفس إلى حال كمالها، وكمالها وصولها إلى درجة العقل، واتحادها به ووصولها
إلى مرتبته فعلاً وذلك هو القيامة الكبرى، فتنحل تراكيب الأفلاك والعناصر
والمركبات، وينشق السماء وتتناثر الكواكب وتبدو الأرض غير الأرض، وتطوى
السماء كطي السجل للكتاب المرقوم فيه ويحاسب الخلق، ويتميز الخير عن الشر
والمطيع عن العاصي، وتتصل جزئيات الحق بالنفس الكلي، وجزئيات الباطل
بالشيطان المبطل، فمن وقت الحركة إلى وقت السكون هو المبدأ، ومن وقت
السكون إلى ما لا نهاية له هو الكمال.
ثم قالوا: ما من فريضة وسنة وحكم من أحكام الشرع من بيع وإجارة وهبة
ونكاح وطلاق وجراح وقصاص ودية إلا وله وزان من العالم عددًا في مقابلة عدد،
وحكمًا في مقابلة حكم، فإن الشرائع عوالم روحانية أمرية، والعوالم شرائع
جسمانية خلقية، وكذلك التركيبات في الحروف والكلمات على وزان تركيبات
الصور والأجسام، والحروف المفردة نسبتها إلى المركبات من الكلمات كالبسائط
المجردة إلى المركبات من الأجسام، ولكل حرف وزان في العالم وطبيعة يخصها
وتأثير من حيث تلك الخاصية في النفوس، فعن هذا صارت العلوم المستفادة من
الكلمات التعليمية غذاء للنفوس، كما صارت الأغذية المستفادة من الطبائع الخلقية
غذاء للأبدان.
وقد قدر الله أن يكون غذاء كل موجود مما خلقه منه، فعلى هذا الوزان
صاروا إلى ذكر أعداد الكلمات والآيات، وأن التسمية مركبة من سبعة واثني عشر،
وأن التهليل مركب من أربع كلمات في إحدى الشهادتين وثلاث كلمات في الشهادة
الثانية، وسبع قطع في الأولى ست في الثانية، واثنى عشر حرفًا في الثانية،
وكذلك في كل آية أمكنهم استخراج ذلك مما لا يعمل العاقل فكرته فيه إلا ويعجز عن
ذلك؛ خوفًا عن مقابلته بضده، وهذه المقابلات كانت طريقة أسلافهم، وقد صنفوا
فيها كتبًا، ودعوا الناس إلى إمام في كل زمان يعرف موازنات هذه العلوم، ويهتدي
إلى مدارج هذه الأوضاع والرسوم.
ثم أصحاب الدعوة الجديدة تنكبوا هذه الطريقة حين أظهر الحسن بن الصباح
دعوته، وقصر عن الإلزامات كلمته، واستظهر بالرجال وتحصن بالقلاع، وكان
بدء صعوده إلى قلعة الموت في شعبان سنة ثلاث وثمانين وأربع ومئة، وذلك بعد
أن هاجر إلى بلاد إمامه، وتلقى منه كيفية الدعوة لأبناء زمانه، فعاد ودعا الناس
أول دعوة إلى تعيين إمام صادق قائم في كل زمان، وتمييز الفرقة الناجية من سائر
الفرق بهذه النكتة، وهو أن لهم إمامًا وليس لغيرهم إمام، وإنما يعود خلاصة كلامه
بعد ترديد القول فيه عودًا على بدء بالعربية والعجمية إلى هذا الحرف، ونحن ننقل
ما كتبه بالعجمية إلى العربية، ولا معاب على الناقل، والموفق من اتبع الحق
واجتنب الباطل، والله الموفق والمعين. فنبدأ بالفصول الأربعة التي ابتدأ الدعوة
وكتبها عجمية فعربتها.
قال للمفتي في معرفة البارئ تعالى أحد قولين: إما أن يقول أعرف البارئ
تعالى بمجرد العقل والنظر من غير احتياج إلى تعليم معلم، وإما أن يقول: لا
طريق إلى المعرفة مع العقل والنظر إلا بتعليم معلم صادق، قال: ومن أفتى بالأول
فليس له الإنكارعلى عقل غيره ونظره، فإنه متى أنكر فقد علم والإنكار تعليم ودليل
على أن المنكر عليه يحتاج إلى غيره، قال: والقسمان ضروريان فإن الإنسان إذا
أفتى بفتوى أو قال قولاً فإما أن يقول من نفسه أو من غيره، وكذلك إذا اعتقد عقدًا
فإما أن يعتقده من نفسه أو من غيره هذا هو الفصل الأول، وهو كسر على
أصحاب الرأي والعقل.
وذكر في الفصل الثاني أنه إذا ثبت الاحتياج إلى معلم، أفيصلح كل معلم على
الإطلاق أم لا بد من معلم صادق؟ قال: ومن قال: إنه يصلح كل معلم ما ساغ له
الإنكار على معلم خصمه، وإذا أنكر فقد سلم أنه لا بد من معلم معتمد صادق، قيل
وهذا كسر على أصحاب الحديث.
وذكر في الفصل الثالث أنه إذا ثبت الاحتياج إلى معلم صادق، فلا بد من
معرفة المعلم أولاً والظفر به ثم التعليم منه، أم جاز التعلم من كل معلم من غير
تعيين شخصه وتبيين صدقه؟ ؟ والثاني رجوع إلى الأول ومن لم يمكنه سلوك
الطريق إلا بمقدم ورفيق، فالرفيق ثم الطريق هو كسر على الشيعة.
وذكر في الفصل الرابع أن الناس فرقتان: فرقة قالت: يحتاج في معرفة
البارئ تعالى إلى معلم صادق، ويجب تعيينه وتشخيصه أولاً ثم التعلم منه، وفرقة
أخذت في كل علم من معلم وغير معلم، وقد تبين بالمقدمات السابقة أن الحق مع
الفرقة الأولى، فرأسهم يجب أن يكون رأس المحققين، وإذا تبين أن الباطل مع
الفرقة الثانية، فرؤساؤهم يجب أن يكونوا رؤساء المبطلين، قال: وهذه الطريقة
التي عرفتنا المحق بالحق معرفة مجملة، ثم نعرف بعد ذلك الحق بالمحق معرفة
مفصلة، حتى لا يلزم دوران المسائل، وإنما عنى بالحق ها هنا الاحتياج،
وبالمحق المحتاج إليه، وقال: بالاحتياج عرفنا الإمام وبالإمام عرفنا مقادير
الاحتياج، كما بالجواز عرفنا الوجوب إلى واجب الوجود، وبه عرفنا مقادير الجواز
في الجائزات، قال: والطريق إلى التوحيد كذلك حذو القذة بالقذة، ثم ذكر فصولاً
في تقرير مذهبه إما تمهيدًا وإما كسرًا على المذاهب وأكثرها كسر أو إلزام واستدلال
بالاختلاف على البطلان وبالاتفاق على الحق , منها فصل الحق والباطل والصغير
والكبير. يذكر أن في العالم حقًا وباطلاً، ثم يذكر أن علامة الحق هي الوحدة ,
وعلامة الباطل هي الكثرة، وإن الوحدة مع التعليم، والكثرة مع الرأي، والتعليم
مع الجماعة والجماعة مع الإمام، والرأي مع الفرق المختلفة، وهي مع رؤسائهم،
وجعل الحق والباطل والتشابه بينهما من وجه التمايز بينهما من وجه التضاد في
الطرفين، والترتب في أحد الطرفين ميزانًا يزن به جميع ما يتكلم فيه، قال: وإنما
أنشأت هذا الميزان من كلمة الشهادة وتركيبها من النفي والإثبات أو النفي والاستثناء،
قال: فما هو مستحق النفي باطل وما هو مستحق الإثبات حق، ووزن بذلك الخير
والشر والصدق والكذب وسائر المتضادات، ونكتته أن يرجع في كل مقالة وكلمة
إلى إثبات المعلم، وأن التوحيد هو التوحيد والنبوة معًا حتى يكون توحيدًا، وإن
النبوة هي النبوة والإمامة معًا حتى تكون نبوة، وهذا هو منتهى كلامه.
وقد منع العوام عن الخوض في العلوم، وكذلك الخواص عن مطالعة الكتب
المتقدمة إلا من عرف كيفية الحال في كل كتاب، ودرجة الرجال في كل علم، ولم
يتعد بأصحابه في الإلهيات عن قوله: إن إلهنا إله محمد. قال أنا وأنتم تقولون:
إلهنا إله العقول أي: ما هدى إليه عقل كل عاقل، فإن قيل لواحد منهم ما تقول في
البارئ تعالى؛ وأنه هل هو (كذا) ، وأنه واحد أم كثير، عالم قادر أم لا؟ ؟ لم
يجب إلا بهذا القدر؛ أن إلهي إله محمد، وهو الذي أرسل رسوله بالهدى،
والرسول هو الهادي إليه، وكم قد ناظرت القوم على المقدمات المذكورة، فلم
يتخطوا عن قولهم أفنحتاج إليك أو نسمع هذا منك أو نتعلم عنك؟ وكم قد ساهلت
القوم في الاحتياج، وقلت: أين المحتاج إليه وأيش يقدر لي في الإلهيات، وماذا
يرسم في المعقولات، إذ المعلم لا يعنى لعينه وإنما يعنى ليعلم، وقد سددتم باب
العلم وفتحتم باب التسليم والتقليد، وليس يرضى عاقل بأن يعتقد مذهبًا على غير
بصيرة، وأن يسلك طريقًا من غير بينة، فكانت مبادئ الكلام تحكيمات، وعواقبها
تسليمات {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي
أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) (للكلام بقية) .
(المنار)
هذا ما أورده الشهرستاني من دين الباطنية الإسماعيلية الذين كانوا يخادعون
الناس فيه زاعمين أنه مذهب إسلامي، وأن أهله هم الفرقة الناجية، وكانوا
يستدرجون الضعفاء بهذه السفسطة المموهة، ويستزلونهم بما يخيلون إليهم من
حجج العقل، فيستنزلونهم به عن العقل، ويسترضونهم بالخضوع الأعمى لكل ما
ينقلونه عن إمامهم، وقد هدم سفسطتهم العلماء الأعلام كالغزالي في كتابه القسطاس
المستقيم وغيره.
__________
(1) تابع لما نشر في (ج12 م13) .(14/138)
الكاتب: صالح علي
__________
تقرير مرفوع إلى جناب صاحب الدولة
الأمير أحمد باشا فؤاد حضرتلري
رئيس مجلس إدارة الجامعة المصرية [1]
مولاي:
إن جامعة مصرية تدرس فيها آداب اللغتين الفرنسية والإنجليزية لجديرة بأن
تكون فيها حلقة لتعليم تاريخ الأدبيات العربية، فإن هذا التاريخ يا مولاي على تعدد
موارده وغزارة مناهله، لا يزال إلى وقتنا هذا شتيتًا، لم يقم بعد من يؤلف بين
أجزائه في رسالة يعول عليها سواء بالعربية أو بأية لغة أجنبية.
ما كان [2] لأحد من رجال الأدب في العالم الإسلامي على سعته أن يفكر
في جمع مثل هذا المؤلف، فبقيت هذه الثغرة مفتوحة من وقت أن كانت سوق
الأدب نافقة إلى وقتنا هذا.
نحن لا ننكر أن بين أيدينا كثيراً من أمهات الكتب الأدبية، ولكن ليس فيها يا
مولاي ما ينقع الغلة ويبرئ العلة. فإن كتاب الأغاني مثلاً ومعجم الأدباء لياقوت،
ووفيات الأعيان لابن خلكان على جلالة قدرها، ليست إلا كتب تراجم. كما أن
كتاب الفهرست لابن النديم، وكشف الظنون لملا كاتب جلبي وكتاب اكتفاء القنوع
بما هو مطبوع للأستاذ إدوارد فان ديك Dyck Van E أولى لها أن تسمى فهارس
من أن تعد في طبقة الكتب التي تبحث في تاريخ الأدبيات العربية.
أخذ المستشرقون في أوربا منذ صدر القرن التاسع عشر الميلادي يكتبون عن
آداب العرب كتبًا بعضها يكاد يفي بالحاجة وبعضها ناقص من كل وجه، فكتب من
يدعى يوسف برلنجتن Berligton goseph رسالة صغيرة بالإنجليزية ترجمت فيما
بعد إلى الفرنسية (سنة 1823) ، ثم جاء من بعده نويل ديفر جير الفرنسي
Dcsvergers Noel صاحب كتاب (بلاد العرب L'arabie) فاختص بعض
صحائف من كتابه بهذا الموضوع (سنة 1847) ، وحذا حذوه في ذلك سديو edillot
صاحب كتاب (تاريخ العرب Arabas des L'histoire) سنة1854، وفي سنة
1890 قام أربثنوت Arbuthnot المستشرق الإنجليزي فألف رسالة عنوانها
(المؤلفات العربية Authors Arabic) غير أنها لا تفي بالغرض؛ لما فيها من
النقض. أما روسية وإيطاليا فقام فيهما عالمان هما فلادمير جرجاس Guirgass. V
والكافالييري فيلبو دي باردي Bardi de Filippo Cav. كتب أولهما رسالته
المسماة (خلاصة الآداب العربية) وألف الثاني رسالته المسماة تاريخ الآداب العربية
في عهد الخلفاء (Storia della Litteratura Arape sotto il Califfato) سنة
1864 وكلتاهما على نفاستها لا تفي بالغرض.
أما اللغة اللمانية (الألمانية) فقد كتبت فيها بعض رسائل في الأدبيات العربية،
فقام المستشرق المجري همر برجبستال Purgstall - Hammer بتأليف رسالة
عنوانها (تاريخ آداب العرب der Araber Geschichte Litteratur) ظهرت في
مدينة ويانة بين سنة 1850 وسنة 1856 في ستة أجزاء، ولكن هذا العالم مع كثرة
بحثه في الكتب العربية، لم يخرج كتابه للناس تامًّا، فاستحق قول الشاعر.
ولم أر في عيوب الناس شيئًا ... كنقص القادرين على التمام
ولكن جاء بعد العلامة بروكلمان Brokelmann الأستاذ بجامعة برسلاو
Breslau فأصدر أحدث كتاب في الموضوع سماه (تاريخ الآداب العربية
litteratur Arabischen der Geschichte) وهو يقع في جزئين اثنين، ظهر
أولهما في مدينة ويمار Weimar سنة 1897 و1898، وطبع الثاني في برلين
Berlin سنة 1902، ومما يؤسف عليه أن هذا الكتاب النفيس قد شوهت محاسنه
إغلاط كثيرة في الطبع من حيث التواريخ، وفوق ذلك فإن تبويبه ليس كما يجب أن
يكون، وعبارته جافية ليس عليها مسحة من العذوبة التي يرغب فيها الأديب، فهو
من هذا القبيل أشبه شيء بالفهارس منه بكتب التاريخ، غير أنه كتاب لا بأس به
في هذا الباب، جزى الله مؤلفه عنا خير الجزاء، هذا، ولا يفوتني يا مولاي أن
أذكر أنه قد ظهر بعد كتاب الأستاذ بروكلمان بقليل مؤلف آخر لمستشرق فرنسي هو
مسيو هيوار Huart الأستاذ بجامعة اللغات الشرقية الحية speciale ecole
vivantes orientales des langues عنوانه (الأدبيات العربية LaLlttcratute
Arabe) وهو على صغر حجمه، يكاد يكون أوفى ما ألف في هذا الفن إلى
اليوم.
إذا تقرر ذلك بان لنا أننا لا نزال مدينين لعلماء أوربا في تدوين تاريخ الآداب
العربية، وإن كان هذا التدوين لم يصل بعد إلى طور الكمال.
ظهر يا مولاي في مصر من عهد قريب كتاب صغير الحجم عنوانه (أدبيات
اللغة العريبة) ، ولكنه لم يتعرض لتاريخ الأديان، بل اقتصر على ذكر مقتطفات
يسيرة من الشعر والنثر العربي مرتبة على العصور؛ ليتيسر حفظها لطلبة المدارس
الثانوية المصرية، فهو من هذا القبيل كتاب مطالعة أدبي أو صورة مصغرة من
كتاب مجاني الأدب المشهور، لا علاقة له بتاريخ الأدبيات العربية، ذاك التاريخ
الجليل.
هذا، ومما لا نزاع فيه يا مولاي أنه بالرغم عن ضياع جزء عظيم من أمهات
الكتب العربية، لا تزال البقية لباقية على قلتها (سواء كانت من الآداب المحفوظة
أو المطبوعة في الشرق أو الغرب) كافية جدًّا؛ لإنشاء تاريخ كامل لأدبيات اللغة
العربية.
إن قيام العلماء المستشرقين بأوربا منذ القرن السادس عشر الميلادي بنشر
المتون العربية وترجمة بعضها إلى اللاتينية أولاً ثم إلى كثير من اللغات الأوربية
ثانيًا، وعنايتهم بجمع فهارس مضبوطة للمخطوطات العربية المحفوظة بخزائن
الكتب في أوربا (ذاك العمل الشريف الذي تم منه جزء عظيم للآن) وكذا نشر
فهارس الكتب المحفوظة في مساجد الآستانة وفي دار الكتب الخديوية بالقاهرة، كل
هذا يا مولاي قد ساعد علماء الإفرنج مساعدة عظيمة في درس الآداب العربية، ومن
السهل أن يساعدنا نحن أيضا على بناء هيكل بديع لتاريخ آدابنا إذا بعث الله فينا من
بين أدبائنا من يقوم بهذا العمل المجيد.
إن درس الآداب العربية منذ نشأتها، والبحث في أطوار نمائها ونهضتها ثم
سقوطها وعثرتها ثم بعثتها من رقدتها؛ إنما هو يا مولاي درس مفيد كله عبر،
وكيف لا يكون كذلك، ونحن نعرف بالبداهة أن تلكم المحاضرات النفيسة التي
يلقيها الشيخ الجليل العلامة جويدي في الجامعة المصرية، لا تخرج عن كونها بابًا
واحدً أو فصلاً من باب من أبواب تاريخ الأدبيات العربية، مقصورًا هذا الباب أو
الفصل على علمي التاريخ والجغرافيا.
إذا تقرر ذلك، علمنا أن درس هذه الأدبيات يجب أن يحل المحل الأول في
جامعة مصرية؛ إذ أن مما يؤسف عليه يا مولاي أن عدد من يعنى بهذه الأدبيات
بيننا معاشر المشارقة (سواء في مصر أو في سائر بلاد المشرق) لا يكاد يعدو
أصابع اليدين، وإذا تصفحنا أسباب هذا الجمود رأيناها ترجع إلى أمرين: ندرة
المؤلفات الكافية في هذا الفن من جهة، وانعدام المدارس الجامعة في بلادنا من
أخرى.
وبهذه المناسبة أورد هنا مسألة واحدة على سبيل الاستشهاد، ذلك أني لاحظت عند سماع المحاضرات الجليلة التي يلقيها الأستاذ جويدي أن معظم الطلبة
(إن لم يكونوا كلهم) كانوا يجهلون أسماء مشاهير المؤلفين؛ كالمقدسي وابن واضح
وابن خرداذبه وابن حوقل وغيرهم، وهي حقيقة تثبت أن ناشئتنا في حاجة كبرى
إلى تعلم تاريخ الآداب العربية على طريقة منتظمة. أليس مما يؤلم يا مولاي أن يكون
المصري المتعلم ملمًّا بآداب الإنجليزية والفرنسية قبل أن يعرف شيئًا من
آداب أسلافه؟
هذا، وإني أتشرف يا مولاي، أن أقدم في طي تقريري هذا ملحقًا يشتمل
على برنامج مختصر عن سلسلة محاضرات في تاريخ الأدبيات العربية، وهو
برنامج لا بأس من إدخاله في الجامعة هذا العام، من غير أن يحدث ضررًا أو ينشأ
عنه تهويش ما في النظام الحالي.
فبدلاً من أن يكون عدد المحاضرات واحدة فقط في أيام الآحاد، يحسن إبلاغه
إلى اثنتين: تختص أولا هما بالحضارة القديمة، وتكون الثانية للآداب العربية. ثم
لا بأس من تخفيض عدد المحاضرات النفيسة التي يلقيها العلامة جويدي إلى ثنتين
في الأسبوع، حتى يحصل هنالك فراغ يتسنى شغله بمحاضرة ثانية على تاريخ
الأدبيات العربية.
(هذا ومما تجب الإشارة إليه في هذا المقام أن تلكم المحاضرات الجليلة
التي يلقيها الأستاذ جويدي، لا تستغرق (على نفاستها) في الدفعة الواحدة أزيد من
ثلاثين إلى أربعين دقيقة؛ أعني أن هناك ثلاث محاضرات، مقدار كل منها أربعون
دقيقة، وهو ما يساوي مائة وعشرين دقيقة أو ساعتين في الأسبوع.
فلو جعلت محاضرات هذا العلامة ثنتين، مقدار كل منهما ستون دقيقة لما
اختل النظام في شيء، ولكان عدد المحاضرات مضروبًا في عدد الدقائق معادلاً
لمائة وعشرين دقيقة أي: ساعتين في الأسبوع وهو المطلوب) .
مولاي، إذا أتيح للجامعة أن تعثر على مدرس لتاريخ الآداب العربية، أصبح
عدد المدرسين ستًّا، يصيب كلاًّ محاضرتان في الأسبوع؛ أعني بذلك أيام العمل
الستة بعد استثناء أيام الجمع.
أنا يا مولاي، لا أعلم علم اليقين إذا كان ميزان دخل الجامعة، وخرجها في
استطاعته أن يحتمل مرتب هذا المدرس الجديد، غير أني أكاد أجزم أن هناك
بعضًا من الأدباء الضليعين بهذا الفن (على قلتهم في بلادنا) مستعد للتطوع في هذا
السبيل الوطني الشريف عند أول نداء، ثم هو لا يريد بعد ذلك جزاء ولا شكوراً.
مولاي، إنه ليس من الضروري أصلاً أن يكون انتقاء مثل هذا المدرس من
بين المتعممين، فإن مجرد حذق فني النحو والصرف والإلمام بكتابين أو ثلاثة من
كتب الأدب أو التاريخ، ليس كل ما يلزم توفره في هذا الباب. إنما يحب أن يكون
مدرس هذا الفن أديبًا بكل معاني الكلمة، وفوق ذلك فإنه ينبغي عليه أن يكون على
علم بالنهضة الأدبية القائمة سوقها الآن في أنحاء المشرق والمغرب، ولا يكون ذلك
كذلك حتى يكون عارفًا على الأقل بلغتين أجنبيتين الإنجليزية والفرنسية، كيما
يتمكن من تتبع خطى الحركة الأدبية في أوربا، ويطالع بإمعان أمهات الكتب التي
تكتب من آن إلى آخر بأقلام كبار العلماء المستشرقين، أولئك الذين وقفوا حياتهم
على إحياء آدابنا، بعد أن كاد يدركها العدم.
مولاي، لو كان هذا العاجز من أصحاب الألقاب الضخمة، أو ممن يتربعون
في دست الوظائف الكبرى في خدمة الحكومة لقدم نفسه طائعًا مختارًا جذلاً مرتاحًا
لخدمة الجامعة لا كأستاذ - فمعاذ الله أن أكون مغرورًا بنفسي أو مغرورًا بها إلى حد
أن تتطلع إلى ما لا تستحق - ولكن كخادم مخلص، أو بعبارة أخرى كوطني يقدم
نفسه، وما ملكت يمينه فداء للوطن المحبوب.
... ... ... ... ... ... القاهرة في 30 يناير سنة 1909
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... صالح علي
... ... ... ... بمصلحة الري بنظارة الأشغال العمومية بمصر
(المنار)
أحسن الكاتب في اقتراحه وبيانه لوجه الحاجة إليه وترشيح نفسه له، ولعله
لم يكن يعلم أن هنا لجنة تؤلف كتابًا حافلاً في تاريخ الآداب العربية، وسيظهر
الكتاب بعد زمن قريب، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) التقرير لصاحب الإمضاء في آخره، وقد نشرناه تعزيزًا لأصل اقتراحه؛ ولما فيه من أسماء كتب الإفرنج عنا وفي لغتنا.
(2) هذا التعبير خطأ فإن معناه ما صح لأحد، وليس من شأن أحد أن يفكر في ذلك.(14/144)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(نهج البلاغة)
هذا الكتاب أشهر من نارعلى علم؛ فهو غني عن التعريف به والتنويه
بفائدته، في تقويم النفس بالحكمة والتقوى، وتقويم اللسان بالبلاغة والفصاحة، وقد
كان كنزًا مخفيًّا في بلادنا السورية والمصرية؛ بل كان أهل السنة محرومين من
فائدته، وكادت الشيعة تفضلهم في البلاغة بمدارسته، حتى شرحه الأستاذ الإمام -
رحمه الله تعالى - فانتشر بذلك واشتهر، حتى طبع بشرحه عدة مرات في سورية
ومصر، وكانت الطبعة الاولى أصح تلك الطبعات، ويتفاوت ما بعدها في كثرة
الغلط وقلته.
وقد طبع في العام الماضي في مطبعة الحلبي الشهيرة مع شرح وجيز للشيخ
محمد حسن نائل المرصفي مدرس البيان بمدرسة (الفرير) الكلية، فأما الشارح
فأديب، ولكل مجتهد نصيب. وأما الأصل فيمتاز في هذه الطبعة بالشكل الكامل
وهي مزية، يعرف قيمتها من علم أنه يقل في أكثر قراء العربية من يحسن قراءة
مثل هذا الكتاب قراءة صحيحة، إذا لم يكن مضبوطًا، وناهيك بشدة حاجة طلاب
العلوم الذين يستعينون به على ملكة البلاغة مثل هذا الضبط، ولهذا يرجى أن ينتفع
بهذه الطبعة ما لا ينتفع به في غيرها.
* * *
(نهج البردة ووضح النهج)
نظم أحمد شوقي بك (شاعر الحضرة الفخيمة الخديوية) قصيدة عارض بها
بردة البوصيري الشهيرة، وجعلها تذكارًا لحج الأمير الحاج عباس حلمي الثاني إلى
بيت الله الحرام في عام 1327، وقد عني شيخ الجامع الأزهر (الشيخ سليم
البشري) بشرح القصيدة؛ عناية بنشر مديح الممدوح الأعظم صلى الله عليه وآله
وسلم؛ وعناية بما جعلت تذكارًا له من حج الأمير المعظم، على حين ترك ملوك
المسلمين وأمراؤهم هذا الركن الديني المحتم، ثم عناية بالناظم نابغة الشعراء في
مصر، ولك أن تقول نابغتهم في هذا العصر، وقد طبعت القصيدة مع شرحها في
كتاب وضع له فاتحة في الشعر وضروبه محمد بك المويلحي نابغة الكتاب في هذا
القطر، فتم بذلك التناسب ومراعاة النظير بالجمع بين كلام أشهر العلماء والشعراء
والكُتاب، وإنها مزية قلما تجتمع في كتاب، وهاك نموذجًا من دراري القصيدة:
أخوك عيسى دعا ميتًا فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
والجهل موت فإن أوتيت معجزة ... فابعث من الجهل أو فابعث من الرجم
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا ... لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسطة ... فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
لما أتى لك عفوًا كل ذي حسب ... تكفل السيف بالجهال والعمم [1]
والشر إن تلقه بالخير ضقت به ... ذرعًا وإن تلقه بالشر ينحسم [2]
سل المسيحية السمحاء كم شربت ... بالصاب من شهوات الظالم الغلم [3]
طريدة الشرك يؤذيها ويوسعها ... في كل حين قتالاً ساطع الحدم [4]
ولولا حماة لها هبوا لنصرتها ... بالسيف ما انتفعت بالرفق والرحم [5]
إلى أن قال:
علمتهم كل شيء يجهلون به ... حتى القتال وما فيه من الذمم
دعوتهم لجهاد فيه سؤددهم ... والحرب أس نظام الكون والأمم
لولاه لم نر للدولات في زمن ... ما طال من عمد أو قرّ من دعم
تلك الشواهد تترى كل آونة ... في الأعصر الغر لا في الأعصر الدهم
بالأمس مالت عروش واعتلت سرور ... لولا القنابل لم تسلم ولم تصم
أشياع عيسى أعدوا كل قاصمة ... ولم نعد سوى حالات منقصم
هذا ما قاله في مسألة عصرية أي: من المسائل التي يكثر البحث فيها في هذا
العصر، وكنت أود لو كانت القصيدة كلهاعلى هذا النسق، ولكن أكثرها على
الطريقة القديمة في المدح، وقال في وصف الشريعة ما أجاد فيه وأفاد:
شريعة لك فجرت العقول بها ... عن زاخر بصنوف العلم ملتطم
يلوح حول سنا التوحيد جوهرها ... كالحلي للسيف أو كالوشي للعلم
سمحاء حامت عليها أنفس ونهى ... ومن يجد سلسلاً من حكمة يحم
نور السبيل يساس العالمون بها ... تكفلت بشباب الدهر والهرم
يجري الزمان وأحكام الزمان على ... حكم لها نافذ في الخلق مرتسم
لما اعتلت دولة الإسلام واتسعت ... مشت ممالكه في نورها التمم
وعلمت أمة بالقفر نازلة ... رعي القياصر بين الشاء والنعم
كم شيد المصلحون العاملون بها ... في الشرق والغرب ملكًا باذخ العظم
للعلم والعدل والتمدين ما عزموا ... من الأمور وما شهدوا من الحزم
سرعان ما فتحوا الدنيا لملتهم ... وأنهلوا الناس من سلسالها الشبم [6]
ساروا عليها هداة الناس فهي بهم ... إلى الفلاح طريق واضح العظم
لا يهدم الدهر ركناً شاد عدلهم ... وحائط البغي إن تلمسه ينهدم
نالوا السعادة في الدارين واجتمعوا ... على عميم من الرضوان مقتسم
دع عنك روما وآثينا وما حوتا ... كل اليواقيت في بغداد والتوم [7]
وخل كسرى وإيوانًا يدلّ به ... هوى على أثر النيران والأيم [8]
واترك رعمسيس إن الملك مظهره ... في نهضة العدل لا في نهضة الهرم
دار الشرائع روما كلما ذكرت ... دار السلام لها ألقت يد السلم
ما ضارعتها بيانًا عند ملتأم ... ولا حكتها قضاء عند مختصم
ولا احتوت في طراز من قياصرها ... على رشيد ومأمون ومعتصم
من الذين إذا سارت كتابئهم ... تصرفوا بحدود الأرض والتخم
ويجلسون إلى علم ومعرفة ... فلا يدانون في عقل ولا فهم
يطأطئ العلماء الهام إن نسبوا ... من هيبة العلم لا من هيبة الحكم
ويمطرون فما بالأرض من محل ... ولا بمن بات فوق الأرض من عدم
خلائف الله جلوا عن موازنة ... فلا تقيسنّ أملاك الورى بهم
من في البرية كالفاروق معدلة ... وكابن عبد العزيز الخاشع الحشم
وكالإمام إذا ما فض مزدحمًا ... بمدمع في مآقي القوم مزدحم [9]
الزاخر العذب في علم وفي أدب ... والناصر الندب في حرب وفي سلم
هذا نموذج من أكرم درر القصيدة وأضوأ دررايها. وأما الشرح فأسلوبه أدبي
لا علمي أزهري، ولكل مقام مقال، وهاك نموذجًا من أفضل ما فيه وأنفعه، قال
الأستاذ في شرح بيت: (أشياع عيسى أعدوا كل قاصمة) ما نصه: عمد الشاعر
في هذا البيت إلى المقارنة بين أهل الديانة المسيحية وأهل الديانة الإسلامية: فذكر
أن المتشيعين اليوم إلى الدين المسيحي (دين الهدو والسلام) هم أهل القوة الحربية
الدائبون على إعداد المهلكات الصاعقات في الحروب، حتى كأنهم ولم يبق لهم في
شغل يشغلهم إلا استخراج الذهب من بطون الأرض وإنفاقه على مصانع الحديد
والفولاذ؛ لطبع آلات الحرب في بطون الأرض وعرض البحر، وقد أفتنوا في
أسباب الهلاك والتدمير، ولم يكفهم أن يدمدموا على الناس ويأخذوهم بالبلاء عن
أيمانهم وعن شمائلهم، ومن خلفهم ومن تحت أرجلهم، حتى قامواعلى تسخير
الرياح ليرموهم من فوق رؤوسهم بكل دهياء صيلم، على حين أن أهل الديانة
الإسلامية الذين يتهمهم الظالمون بحب الفتح والجهاد، ويشغون سمعتهم بحب الطعن
والجلاد، والولوغ في دماء العباد، هم اليوم أهل السكينة والسلام، وهيهات أن
يدانوا المسيحية في المباراة بحب الفتوح والحروب، أو يشاكلوهم في ادخار آلات
الحرب واستنباط معدات الكفاح.
وقال في شرح بيت (واترك رعمسيس إن الملك مظهره) : يقول: ما كان
لقدماء المصريين أن يفاخروا بمدينتهم التي أسمى مظاهرها هو هذا البنيان السامق،
على حين أمسى أكبر الأدلة على ظلمهم وجبروتهم، وأي مدنية هذه التي تزين
لرجل واحد أن يسوق من رعيته مئة ألف رجل أو يزيدون، فيحملهم الأثقال،
ويسخرهم في مشاق الأعمال، حتى إذا ما دقت أعناقهم، واختلفت أضلاعهم،
وفتت سواعدهم، التقط غيرهم من أمته التي أوشكت أن تفنيها ثلاثون سنة على هذه
الحال بلا أجر ولا جزاء؛ كل ذلك ليبني قبرًا لنفسه يطاول كيوان، وتبلى دونه
الأزمان.
ليس هذا بمظهر التمدن، إنما مظهره العدل الذي تصلح به أحوال الرعية،
وتستقيم به أمروهم، فتنهض بهم الدولة ويعلو شأن الأمة، والعدل أساس الملك.
* * *
(لباب الخيار في سيرة المختار)
مختصر وجيز في السيرة النبوية للشيخ مصطفي الغلاييني صاحب مجلة
النبراس ومعلم المكتب السلطاني ببيروت، سبق لنا تقريظ الطبعة الأولى منه، وقد
أعيد طبعه في العام الماضي بعد أن زيد في فوائده، وقد ختمه بطائفة من حكم
الأحاديث النبوية مرتبةعلى حروف المعجم لتحفظ، وشرحها في ذيول الصفحات،
وكنا وددنا لو أشار إلى مخرجيها أيضًا. وصفحات الكتاب 136، وثمنه قرشان
صحيحان، فنحث الجمهورعلى قراءته، ولا سيما للنساء في البيوت، والأولاد في
المدارس الابتدائية.
* * *
(الدورس العربية)
(وهي سلسلة كتب في الصرف والنحو وفنون البلاغة والإنشاء وقرض
الشعر والأدبيات واللغة، تأليف الشيخ مصطفي الغلاييني) أيضًا. وقد رتبه على
الطريقة الحديثة السهلة في التعليم، فقسمه إلى دروس صغيرة، لكل درس منها
أمثلة وتمرين وأسئلة، وطبع جزء منه طبعًا جميلاً، وقد قرأنا في جرائد بيروت؛
أن نظارة المعارف في الآستانة قررت تدريس هذا الكتاب في مدارسها رسميًّا،
فنهنئ صديقنا المؤلف بذلك.
* * *
(الجاذبية وتعليلها)
خلق الشيخ جميل صدقي أفندي الزهاوي الأديب البغدادي المشهور مستعدًّا
للفلسفة والعلوم الكونية، ميالاً إليها، فقرأ من كتبها المترجمة بالعربية والتركية ما
شاء الله أن يقرأ، استفاد من مجلة المقتطف ما شاء الله أن يستفيد، ولو تلقى هذه
العلوم في أوربة وعاش مع أهلها العاملين، لكان من المكتشفين والمخترعين، وقد
أهدانا كتابًا له سماه (الجاذبية وتعليلها) يؤيد رأينا هذا في استعداده، فقد خالف فيه
إجماع علماء العصر في الجاذبية العامة، وبحث فيه في المادة وقواها بحث المستقل
الفهم، فذهب إلى أن علة وقوع الأجسام على الأرض مثلاً؛ هو قوة الدفع من
جوانب السماء لا قوة الجذب من مركز الأرض كما يثبتون، وقد طبع الكتاب ببغداد،
ويباع بمطبعة الآداب فيها وثمنه ثلاثة قروش.
* * *
(ديوان السيد حسن القاياتي)
صدر الجزء الأول من هذا الديوان، وقد ذكر ناظمه في مقدمته أنه ليس
معجبًا بنفسه وشعره كما يعجب الشبان، ولكنه سمع الناس (يستحبون أن يعرض
المرء ببنات فكره، وهواجس صدره، ثم يتسمع فينظر أيسمع استحسانًا وشكرًا أو
استهجانًا ونكراً، فإن كانت الأولى أقدم ثم أقدم، وإن كانت الثانية أحجم ثم أحجم)
ونحن نقول: إن من كان هذا غرضه لا ينبغي له أن يحجم عن شيء يستهجن منه؛
لأنه وهو يقدر الانتقاد قدره، ويرى أن يكمل نفسه به، لا يلبث أن يتقي ما ينتقد،
حتى يبلغ الغاية من استحسان الناس لما يجيء منه بعد، ولا سيما إذا لم يغره
الاستحسان، ولو وجعل المحسن والمسيء ممن لا يصانعون سواء، بعد هذا قرأت
أبياتًا متفرقه من الديوان، فصادفت رشاقة في الأسلوب، وروحًا مؤثرة في الكلام،
فعسى أن تكون سائر أجزاء الديوان أرقى في معراج الكمال.
* * *
(شعراء العصر)
شرع أحد محبي الأدب والأدباء محمد صبري افندي من نابتة مصر المهذبة
في جمع مختارات شعراء هذا العصر في ديوان واحد يصدره جزءًا بعد جزء،
ويجمع إلى مختار كل شاعر منهم ترجمة وجيزة له ويطبع معها صورته ليجمع
للقارئ بين صورة النفس وصورة الجسم، وقد صدر الجزء الأول وفيه مختارات
من شعر البارودي وشوقي وحافظ ونسيم وبطرس كرامة وحفني ناصف وخليل
مطران وعائشة اليتمورية والأخرس وعبد الله فكري والبكري ومصطفى نجيب
ومصطفى صادق الرافعي والمنفلوطي وعبد الحميد المصري وفؤاد الخطيب وولي
الدين يكن. وفيه صور أكثر هؤلاء الشعراء المشهورين فعسى أن يروج هذا الجزء،
فيبتعث همة جامعه إلى تمام الكتاب، وثمن النسخة منه ستة قروش
صحيحة.
* * *
(ديوان نفحات الربيع)
صدر الجزء الأول من هذا الديوان لناظمه مرسي أفندي شاكر الطنطاوي وقد
أهداه إلى محمد أمين بك واصف مدير القليوبية، ووضع صورة المهدى إليه في
أوله، ويليها مقدمة طويلة في الشعر والشعراء، وهو يفضل غيره من الدواوين
بكونه ديوان معان أدبية اجتماعية، لا ديوان مدائح ومراثي شخصية، ولو كثر
الشعراء المجيدون عندنا في هذه المعاني لكان الشعراء أفعل في تربية الأمة من
أصحاب الجرائد أو مثلهم في تأثيرهم.
* * *
(الإحصاء السنوي العام للقطر المصري سنة 1910)
أهدتنا إدارة عموم الإحصاء في نظارة المالية كتابها الثاني في الإحصاء العام
عن السنة الشمسية الماضية، وهو مفصل إلى 17 فصلاً في المسائل الآتية:
(1) تربة مصر ومناخها (2) الأرصاد الجوية (3) تعداد السكان (4)
الصحة العمومية (5) المدارس (6) القضاء (7) السجون (8) سكك حديد
الحكومة (9) تلغرافات الحكومة (10) البوسطة (11) الملاحة والتجارة
(12) نتيجة استثمار قنال السويس (13) التجارة مع البلدان الأجنبية (14)
الزراعة (15) مالية الحكومة (16) الدين العمومي (17) العملة والموازين
والمكاييل والمقاييس، فنشكر لهذه الإدارة عنايتها، ونحث الأمة على الاستفادة من
هذا الكتاب، فإن الإحصاء الرسمي أصدق أصول التاريخ، وينبوع علمي الاجتماع
والعمران، وصفحات الكتاب 348 من القطع الكبير العريض، وثمن النسخة غير
المجلدة منه 20 والمجلدة 25 قرشًا.
__________
(1) العمم بالتحريك: العامة.
(2) سمي الجزاء شرًا باعتبار صورته وحده، وفسره الشارح بالبأس والقوة، وجعله من المشاكلة.
(3) يريد بالسمحاء مؤنث الأسمح، وأما الوصف فسمح وسمحة كضخم وضخمة والعلم ككتف الهائج.
(4) بالتحريك: شدة احتراق النار وحميها.
(5) الرحم بضمتين: الرقة والمغفرة والتعطف قاله الشارح.
(6) السلسال بالفتح في بيت سابق: الماء العذب والشبم البارد.
(7) التوم جمع تومة وهي: الحبة من الفضة تعمل على شكل الدرة.
(8) الأيم جمع أيام الدخان (ككتاب وكتب) .
(9) الإمام أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه.(14/148)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(البعث والحياة الأخرى)
((تأييد القرآن بالعلم))
كان الذين ألفوا كتب الكلام على طريق فلسفة اليونان النظرية، يرون أن
الدليل على البعث لا يكون إلا سمعيًّا؛ إذ لا يمكن عندهم أن يستدل عليه العقل بأدلة
علمية، ولم يفهم هؤلاء قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: 29)
وقوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: 104)
وغيرها من الآيات، وقد قرأنا في المقتطف الأخير تحت عنوان (يعيدكم مرة
أخرى) ما نصه:
ألف المستر كندي كتابًا عن الفيلسوف نتشه الألماني قال فيه: إن نتشه
ذهب إلى ما ذهب إليه غوستاف لوبون وهين وفلاسفة اليونان من قبلهم، وهو أن
القوى الطبيعية تتوالى وتعود إلى ما كانت عليه، فالعالم الذي يتم عمله تنحل
عناصره، ثم تعود تتركب وتتولد فيه مخلوقات مثل المخلوقات التي كانت فيه قبلاً؛
ولذلك لا يبعد أن يكون الإنسان قد وجد على هذه البسيطة قبل الآن وانقرض منها،
وأن النوع الموجود الآن سوف ينقرض ثم يعود مرة أخرى، وعناصر الشخص
الواحد تعود فتتجمع بعد قرون كثيرة، كما اجتمعت قبلاً ويتكرر ذلك إلى ما شاء الله
ا. هـ.
أما قوله: بوجود إنسان قبل هذا الدور، فقد قال به بعض المسلمين في تفسير
{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) أي ناسًا يخلفون من قبلهم، وأما
كون النشأة الأخرى تفنى بعد إتمام دورها الطويل ثم تعود ويتكرر ذلك أبدًا، فيقول
به بعض الصوفية
* * *
(الحريق في الآستانة، والإدارة فيها)
ما أدهشني شيء في مدة إقامتي بدار السلطنة إلا كثرة الحريق، وتقصير
الحكومة في تنظيم مصلحة المطافئ، فلا تكاد تمضي ليلة لا يروع الناس فيها
بنعاب الصائحين: (يا نغين وار، يا نغين وار) أي يوجد حريق، ويذكرون مكانه
ليعلم من كان له فيه دار أو لأحد أقاربه، فيبادر إليها لإخراج من فيها بما يقدرون
على حمله من نفائسهم وكرائم أموالهم، فإنه قلما وقع الحريق في مكان وسلم، بل
تأكله النار وتأكل كثيرًا مما يجاوره قبل أن يأتي الهادمون لهدم ما حوله، فالطريقة
المثلى هنالك لمقاومة الحريق هي هدم البيوت المجاورة للمكان الذي شبت فيه
النار، وقد صار لهم ضرب من المهارة في الهدم لطول المزاولة والإدمان. وأما
إطفاء النيران فما لهم فيه يدان، وإنما ترى عند حدوث الحريق زعنفة من الأحداث،
يعدون سراعًا حاسرين عن سوقهم، يحملون على أكتافهم أدوات، فيغيرون
وينجدون، ولا يسعفون ولا ينجدون، ولا أدري كنه ما يعملون.
يدعي أهل الآستانة أن العرب وغيرهم من العناصر العثمانية لا يقدرون على
الإدارة، كما يقدرون عليه هم ومن يتعلم عندهم من أهل عنصرهم، وأنهم هم
القادرون على ذلك دون غيرهم من العثمانيين، ويا ليت هذا كان صحيحًا، إذًا
لعمرت ديارنا لأنهم هم الذين يديرون حكومتها ولم تخرب ديارهم، بل تكون أرقى
عمرانًا. ولكن ليس في المملكة عمران يمكن أن ينسب إلى حسن إدارتهم، وهم
يقولون اليوم: إن كل ما حل بالمملكة من الخراب أو التقصير في العمران فسببه
شكل الحكومة السابق وهو الاستبداد وقد استبدلنا به شكلاً آخر، وهو ما يعبر عنه
بالدستور.
آمنا بتغيير شكل الحكومة بأخذه من الفرد وإعطائة لجماعة، ولكننا ما غيرنا
الأشخاص بتربية ولا تعليم، ولذلك لم تظهر ثمرة تغيير الشكل بالعمل، ولا في
الضروريات التي لا تتوقف على تخريج نشء جديد في التربية الدستورية والتعليم
الدستوري كإطفاء الحريق.
احترق قصر (جراغان) في العام الماضي، وهو أجمل قصور السلاطين
وأبدعها شكلاً ونقشًا وزخرفًا، بلغت نفقاته على السلطان عبد العزيز ملايين من
الليرات، احترق بعد أن سعى أحمد رضا بك ففاز بجعل مجلس الأمة فيه،
وخصصت الحكومة عشرات الألوف من الليرات؛ لأثاثه ورياشه وجعله صالحًا
لاجتماع المبعوثين والأعيان فيه، ومع هذا كله لم يستعدوا لإطفاء الحريق إذا وقع
فيه، فلما وقع التهمته النار كله، ولم يهتد أحد من خدمه ولا من عسكر الإطفاء
لإطفائها.
كان العقلاء يظنون أن حريق هذا القصر (السراي) البديع الذي أحرق
القلوب، سيكون هو المربي الأكبر لحكومة العاصمة في هذا الأمر، وسيحملها على
العناية بمصلحة الإطفاء عناية تقي جميع بيوت المدينة من تدمير الحريق، وامتداده
عند وقوعه لا معاهد الحكومة فقط، وقد رأينا الحكومة عقب هذه الحادثة تشتري
آلات الإطفاء الحديثة وأدواتها وتجربها، وحضرت تجربة منها في الرحبة الشمالية
من الباب العالي بمشهد الوزراء وغيرهم، بنوا هنالك بيتًا صغيرًا من الخشب،
وأعدوا المطافئ وأوقدوا فيه النار، وأمطروا عليه الماء فلم تغن التجربة، بل أكلت
النار البيت كله.
ثم صرنا أينما جلنا في الباب العالي وغيره من معاهد الحكومة، نرى مطافئ
موضوعة؛ لتستعمل في أي موضع وقع فيه الحريق قبل أن تمتد إلى غيره،
ولكنهم لم يعلموا أحدًا كيفية استعمالها فيما يظهر، فإن العام لم يكد يمر على حريق
قصر جراغان حتى وقع الحريق في قلب الباب العالي حيث مجلس الشورى ونظارة
الداخلية، وظلت النار تأكل فيه أيامًا لم يبق من الباب العالي إلا قليل من طرفيه،
وفي أحدهما مكان الصدر الأعظم وفي الآخر نظارة الخارجية، فكانت العبرة في
ظهور عجز الحكومة عن الإصلاح، وضعفها في الإدارة أقوى في هذا الحريق منها
في الحريق الذي سبقه، وكنا نظن أن اتقاء أسباب الحريق سيمنع وقوعه في معاهد
الحكومة بعد هذه العبرة ولكننا قرأنا في الجرائد قبل صدور هذا الجزء؛ أن الحريق
قد وقع في نظارة النافعة وأكلت النار بعض الغرف فيها.
أول ما يخطر في بال كل معتبر بهذه الحوادث؛ أن هؤلاء الحكام لا يرجى
منهم إحسان الإدارة في شيء، ما داموا عاجزين عن منع الحريق أن يدمر كل يوم
في عاصمتهم؛ لأن من عجز عن منع استمرار الخراب في داره كان عن تعمير
الدور البعيدة أعجز.
وأما أهل العبرة والبصيرة من علماء الأخلاق وطبائع العمران، فإن أفكارهم
تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك كاستبانة سبب العجز عن أمر سهل كهذا، يقول
بعض الناس: إن الشعب التركي شعب حربي، ليس له ملكة في الإدارة والعمران،
وإنما ملكته الموروثة هي الحرب فقط، وقد يقال: إن إطفاء الحريق قد صار في
هذا العصر من فنون العسكرية، فما بال القوم لا يتقنون هذا الفن منها! !
ومما تذهب إليه أفكار هؤلاء المستبصرين؛ أن رجال حكومتنا ليسوا مستقلين
أو مجتهدين فيما يأخذونه عن أوربا من نظام الإدارة والقضاء وغير ذلك، وإنما هم
مقلدون للأوربيين تقليدًا، وإنما يأتي الإصلاح من المستقل دون المقلد الذي يخطئ
في الفهم أكثر مما يصيب، ويخطئ في التطبيق أكثر مما يخطئ في الفهم، وقد
أشرنا إلى هذا المعنى في مقدمة مقال (المسلمون والقبط) في هذا الجزء، فليرجع
إليه من أحب التوسع في هذه العبرة، وهي الغرض الذي نرمي إليه في هذه النبذة.
وجملة القول: إننا لا نبشر أنفسنا بصلاح حال حكومتنا بالفعل إلا بعد أن
تتقن هذه المصلحة اليسيرة المضطرة هي إليها في عاصمتها؛ وهي مصلحة
المطافئ، فتكون في الآستانة متقنة كما نراها في مصر، وعسى أن يكون ذلك
قريبًا.
* * *
(الفتنة في اليمن)
اشتدت الفتنة في اليمن وطال عليها العهد، وقد أرسلت الدولة إلى اليمن
بالخميس العرمرم، وجعلت عزت باشا رئيس أركان الحرب في نظارة الحربية هو
القائد العام للجيش هنالك؛ لأنه قد سبق له الحرب في اليمن، وكان الإمام قد أسره
ثم أنقذه فيضي باشا، وقد اجتمع هذا القائد في جدة بأمير مكة المكرمة الشريف
حسين بأمر من الآستانة، واشتهر أنه اتفق معه على طريقة التعاون على إخضاع
اليمانيين للدولة، وذلك بأن يزحف الأمير بجيش من العرب وكذا العسكر المنظم
الذي في الحجاز كما قيل على عسير؛ لمحاربة الإدريسي وإخضاعه ليتمكن القائد
من توجيه جيشه الزاحف كله إلى محاربة الإمام يحيى، عسى أن ينتهي أمر الفتنة
في وقت قريب، وهذا هو الرأي بعد أن صارت الحرب ضربة لازب في نظر
الدولة.
كان قد أشيع أن بين الأمير والإدريسي عداء، وأن الأمير سيحاربه بعد
عودته من نجد في العام الماضي، ويظن بعض الناس أن هذا هو السبب في
استعانة الدولة بالشريف على الإدريسي؛ لأنها ترى أنه لا يدخر وسعًا في التنكيل
به متى قدر، كما يظنون أن سبب إرسالها عزت باشا إلى محاربة الإمام هو أنه أشد
من غيره كراهة له. ويرد عن هؤلاء الظانين ظن السوء بأن سبب اختيار عزت
باشا هو معرفته بأرض اليمن واختباره البلاد بالفعل، وسبب الاستعانة بالشريف هو
أن يكفيها إرسال العسكر الكثير وإنفاق المال الكثير، وهي تعلم كما علم كل الناس
الذين علموا ما كان منه في نجد أنه يفضل السلم على الحرب، والحلم والعفو على
الانتقام، والخير للدولة إنما هو في حل هذه العقدة حلاً مرضيًا لا دخن فيه، ولا
تحذر عقباه ومغبته، ونحن نرى أن هذا الأمر ممكن لمن أراده بصدق وإخلاص،
كما أنه كان ممكنًا بغير دماء تسفك، ولا قناطير من المال تبذل. ولكن هكذا كان،
والواقع ينسخ الإمكان، ويتمنى كل مسلم لو تنتهي هذه المسألة عاجلاً بسلام،
ويكفي الله المؤمنين القتال، والرجاء في حكمة الأمير كبير، والله أكبر، وله الأمر
من قبل ومن بعد.
* * *
(اليهود في المملكة العثمانية)
خبرنا الآستانة بإقامتنا فيها سنة كاملة، فرأينا أن نفوذ اليهود في جمعية
الاتحاد والترقي عظيم، وأن ناظر المالية إسرائيلي النسب، وأنه جعل كاتب سره
وكثيرًا من موظفي نظارته من اليهود، فعلمنا أن سيكون لليهود شأن أي شأن في هذه
المملكة، وآمالهم في القدس وفلسطين معروفة، ومطامعهم المالية في المكان يعظم
نفوذهم فيه غير مجهولة، وقد أشرنا إلى ما يخشى من مغبة ذلك في أجزاء من
السنة الماضية، ثم جاءت أنباء مجلس الأمة العثمانية في هذه الأيام مصدقة لما قلناه
ومثبتة ما توقعناه، فقد خطب بعض النواب المستقلين والمعارضين للحكومة خطبًا،
بينوا فيها خطر جمعية اليهود الصهيونية على المملكة العثمانية، وخطبًا أنكروا فيها
على ناظر المالية بيعه أحسن موقع عسكري في الآستانة لشركة أجنبية بثمن دون
ثمن المثل بسمسرة بعض اليهود، وهم يرون أنه يمكن بيع ذلك المكان بأضعاف
ذلك الثمن، وقد دافع الصدر الأعظم في المسألة الأولى عن الحكومة وعن اليهود،
ودافع جاويد بك عن نفسه في الثانية، ونحن لا نتعرض للمحاكمة والترجيح بين
المجلس والحكومة وحزبها، وإنما ننبه الناس للتأمل والاعتبار.
* * *
(المؤتمران المصريان القبطي والإسلامي)
يرى القراء مقالة في هذا الجزء عنوانها (المسلمون والقبط) ، سيتلوها
مقالات أخرى في موضوعها، وقد كان تأثير المؤتمر القبطي الذي اجتمع في
أسيوط أن أيقظ مسلمي مصر من نومهم الاجتماعي، ونبههم إلى ما كانوا غافلين
عنه، وفتح لهم بابًا لحفظ مصالحهم ودرء الضرر عنهم كان مغلقًا في وجوههم من
قبل؛ لأن القبط كانوا أوسع حرية منهم، وأكثر انتفاعًا بالحرية مطلقًا بإجماعهم
على تأييد الاحتلال، وكونهم نصارى وقليلي العدد لا يخشى المحتلون جانبهم،
ولذلك لم تمنعهم الحكومة من مؤتمرهم، ولم يكن يخطر لها ولا لهم ببال أن يقوم
المسلمون بعقد مؤتمر آخر على أنه نتيجة طبيعية لذلك المؤتمر، فلما أرادوا ذلك لم
يكن من الممكن أن تمنعهم الحكومة، وقد اختاروا رياض باشا رئيسًا له، وهو الثقة
الأمين المعروف عند الوطنيين والإفرنج بالاعتدال والإخلاص.
من العقل والحكمة أن يغتنم القائمون بأمر هذا المؤتمر الفرصة؛ لخدمة
المسلمين فيما يعبر عنه في عرف هذا العصر بالشؤون الاقتصادية والأدبية، وأن
يكون كالمجلس الملي للقبط في البلاد مع المسلمين، بإحصاء المستخدمين منهم في
الحكومة وفي مصالح المسلمين ومزارعهم وسائر أعمالهم، ويظهر للمصريين
والأوربيين أن القبط رابحون على المسلمين، وأنهم إذا نالوا ما يطلبون لا يبقى
للمسلمين حظ في حكومة مصر، وأن ذلك يكون سيئ العاقبة، ولا سيما بعد جهرهم
بإيذاء المسلمين، وبعد هذا البيان يدعون القبط إلى الوفاق المعقول المبني على سنن
الاجتماع، فإن رضوا فبها ونعمت وإلا أعرضوا عنهم، وقالوا: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ
أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ} (الشورى: 15) .
ينبغي أن لا يشتغل هذا المؤتمر بالسياسة لا ظاهرًا ولا باطنًا، لا قولاً ولا
عملاً، ينبغي أن تكون اللجان التي تنتخب المندوبين له دائمة، وأن يكون أهم
أعمالها الدائمة إحصاء ديون المسلمين وأطيانهم المرهونة، وبيان تصرفاتهم المالية؛
لينظر المؤتمر آنًا بعد آن في طرق إنقاذهم من ضرر الربا وسوء التصرف
والإسراف الذي يكاد يذهب بثروتهم، ويجعلهم عالة على عدد قليل من الأغنياء
وأصحاب المصارف والشركات المالية، وفي ذلك من الخطر على البلاد ما فيه،
يجب أن يكون من عمله الدائم مساعدة الجمعيات الخيرية على عملها في التعليم
وإعانة المعوزين، وتعميم النقابات الزراعية في البلاد.
إن الأحزاب السياسية قد شغلت المسلمين عن الترقي الحقيقي بالعلم والتربية
الملية والمال، فاغتنمت القبط فرصة اشتغالهم بنطح صخرة الاحتلال ووجدوا في
التربية القبطية، وتوفير الثروة القبطية، إلى أن طمعوا بما أجمعوه في مؤتمرهم
هذا، فليشتغل هذا المؤتمر بهذين الأمرين ولا يعارضه أهل السياسة، فإن عمله
ينفعهم ولا يضرهم.
__________(14/155)
ربيع أول - 1329هـ
مارس - 1911م(14/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
فتحنا هذا الباب لإجابة المشتركين خاصة؛ إذ لا يسع الناس عامة، ونشترط
على السائل أن يبيّن اسمه ولقبه وبلده وعمله (وظيفته) ، وله بعد ذلك أن يرمز
إلى اسمه بالحروف إن شاء، وإننا نذْكر الأسئلة بالتدريج غالبًا، وربّما قدّمنا
متأخرًا لسببٍ؛ كحاجة الناس إلى بيان موضوعه، وربّما أجبنا غير مشترك لمثل
هذا، ولمن مضى على سؤاله شهران أو ثلاثة أن يذكّر به مرةً واحدةً، فإن لم
نذْكره كان لنا عذر صحيح لإغفاله.
(أسئلة من المحلة الكبرى)
(س12 15) من صاحب الإمضاء:
حضرة العالم العلامة المفضال السيد رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله وبعد، فأرجو من فضيلتكم الإجابة عما يأتي، ولكم
منا الشكر ومن الله أعظم الأجر.
(س1) ما حقيقة الماسونية، ولم أنصارها يخفونها عن الناس، ومعلوم أن
الحق لا يخفى، فإن كان لِلَمِّ شعث أفراد متباينة عقائدهم الدينية والجنسية والوطنية
فهذا من المستحيل طبعًا، كما لا يخفى ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَى
عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120) وإن كان الغرض
(التساوي) كما يزعمون بين أفراد البشر في جميع أرجاء المعمورة، فهو أشد
استحالة من الأول.
إذ إن الدين هو الذي يؤلف بين الأفراد فقط، فإن كان هذا دينًا فلن يتحمل
القلب دينين الماسونية والنصرانية، وهي والإسلام مثلاً، أو هي مع اليهودية..
إلخ فيتعين أن يكون الداخل فيها مجردًا من غيرها، وعلى ذلك فكل دين غير
الإسلام باطل، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل
عمران: 85) وإن كانت جارية على أحكام الإسلام، فلا معنى إذًا للتفريع
والتسمية بهذا الاسم.
(س2) على من اللوم؛ أعلى الحكومة التي بيدها الحل والربط أم على
الأمة التي لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا؟ وما هي التربية الصحيحة التي تعيد للدين
مجده وللوطن عزه؟ التربية في المدارس الابتدائية والثانوية والعالية والإرساليات
التي تذهب إلى أوربا وتعود من غير دين بالمرة؟ أم التربية على مبادئ الدين،
وكيف يكون ذلك؟ ومتى يستطيع المصلحون وهل يمكن.
(س3) ما هي البلاد التي يعظم فيها دين الإسلام، ويقام فيها بالعمل وأهلها
أشد الناس شكيمة على أعدائه.
(س4) ماذا يصنع رجل أضناه حب العلم وما بلغ عمره الخامسة والعشرين،
وما ترك بابًا إلا طرقه ولا سبيلاً إلا سلكه إليه، ولم يجد من يساعده، وكلما ظن
في أحد عونًا تقاصرت همة المطلوب، ورجع الطالب بخُفَّيْ حُنَيْن.
... ... ... ... ... ... ... ... أفيدوني أثابكم الله
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الظاهر محمد
... ... ... ... ... ... ... ... مدرس بمدارس الجمعية
... ... ... ... ... ... ... ... الخيرية الإسلامية
(الماسونية)
(ج1) الماسونية جمعية سياسية، وجدت في أوربا؛ لإزالة سلطة
المستبدين من رؤساء الدين والدنيا (كالبابوات والملوك) ولذلك كانت سرية، فإن
أهلها العاملين الساعين إلى مقاصدها كانوا على خطر من سلطة الأقوياء الذين تقاوم
الجمعية استبدادهم، وتعمل لسلب السلطة منهم وجعلها في يد الشعب، بحيث يكون
في يده التشريع والمراقبة على من ينصبه من الحكام للتنفيذ، فلهذه الجمعية الأثر
العظيم في الانقلابات السياسية التي حصلت في أوربة، ومنها الثورة الفرنسية
الكبرى من قبل، والانقلاب العثماني والبرتغالي الأخيرين من بعد، وقد كان
المؤسسون لها والعاملون فيها في أوربة من النصارى واليهود، واليهود هم
زعماؤها وأصحاب القدح المعلى فيها؛ لأن الظلم الذي كانوا يسامونه والاضطهاد
الذي يذوقونه كانا أشد مما ابتلي به ضعفاء النصارى من أقويائهم، وكذلك كان
اليهود أكثر الناس انتفاعًا من الانقلابات التي سعت إليها الماسونية في أوربة،
وسيكونون كذلك في البلاد العثمانية إذا بقيت سلطة الماسونية على حالها في جمعية
الاتحاد والترقي، وبقيت أزمة الدولة في يد هذه الجمعية، وهم يسعون مثل هذا
السعي في الروسية، ولكن الحكومة الروسية واقفة لليهود بالمرصاد، ولا يزالون
يتجرعون في بلادها زقوم الاضطهاد.
وأما الماسونية في بلاد الشرق كمصر وسورية وغيرهما من البلاد، فقد يصح
ما يقوله الكثيرون من أهلها أنها لا تعمل للسياسة ولا للدين وأنها أدبية اجتماعية،
وقد يصح من وجه آخر أن لعملها علاقة بالسياسة والدين، لكل قول وجه يصححه
فلا تناقض بينهما، هي لا تطعن في دين من الأديان ولا تبحث في ترجيح دين على
دين، ولا تدعو الداخلين فيها إلى ترك دينهم ولا إلى الإلحاد، ولا تعمل الآن في
مصر لتغيير الحكومة الخديوية، ولا في سورية لتغيير الحكومة العثمانية أو
مقاومتها، فهذا معنى كونها ليست مناصبة للدين ولا لسياسة البلاد.
وأما علاقة عملها بالدين والسياسة فمعروفة مما ذكرناه من مقصدها الذي
أنشئت لأجله، فإذا لم تشتغل بالمقصد مباشرة فهي تشتغل بالتمهيد له؛ كجمع كلمة
أهل النفوذ في كل بلد، وتكثير سوادهم وتقوية عصبيتهم وإضعاف رابطتهم الدينية
السياسية، والانتقال بهم في الإقناع من درجة إلى درجة، حتى يتم الاستعداد بهم
إلى تغيير شكل الحكومة وإزالة السلطة الدينية والشخصية، الذي هو مقصد الأخير
ولو بالثورة وقوة السلاح.
فالماسونية سياسية في الأصل، وتبقى سياسية في كل مملكة فيها سلطة
شخصية أو سلطة دينية إلى أن تزول صبغة الدين من الحكومة واستبداد الملوك
والأمراء، فحينئذ تكون الجمعية أدبية اجتماعية يجتمع أعضاؤها في المحافل؛
لإلقاء الخطب والمحاضرات والتعارف بالكبراء من الغرباء.
أما اتفاق المختلفين في الدين على هذا المقصد، فهو لا يكون عادة إلا
بالتدريج والاقتناع بأن المصلحة محصورة فيه، ومن طرقه الجرائد التي ينشر فيها
المرة بعد المرة بالأساليب المختلفة أن محل الدين المساجد والكنائس دون
الحكومات والمصالح الدنيوية، ومنها رابطة الوطنية وهي أن يكون أهل الوطن
سواء في الحكومة ومصالحها وفي جميع المصالح والمرافق، ولأجل هذا ترى
رجال الدين المسيحي كالجزويت يحاربون هذه الجمعية. وأما رجال الدين الإسلامي
من الفقهاء والمتصوفة فقلما يعرفون شيئًا من أمور العالم، فإذا علم السائل هذا
وعرف الواقع تبين له أن ما أورده من الآيات في غير محله.
***
(الحكومة والأمة)
(ج2) الحكومة ملومة على ما تقصر فيه مما يمكنها أن تعمله من الإصلاح،
والأمة ملومة كذلك، وقد يعذر كل منهما بالجهل، إذا عد الجهل عذرًا، وإنما
كانت الأمة لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا؛ لجهلها بقوتها وكيفية الانتفاع بها، وقد
تجهل حكومتها ذلك مثلها، أو تعرفه وتراه مخالفًا لمصلحتها، فتحب أن تبقى الأمة
على جهلها، وإنما ترتقي الحكومات والأمم بالزعماء الذين يؤثرون العمل للمصلحة
العامة على كل شيء، وباستعداد الأمة للاستفادة منهم والعمل بما يرشدونها إليه،
والاستعداد إنما يكون بمجموع حوادث الزمان ووقائعه، وقد يتصدى للزعامة غير
أهلها فيزيد الأمة وهنًا على وهن، إذا آثرته بجهلها على الأهل، وأصحاب النفوذ
الباطل يناهضون كل من يرونه أهلاً للزعامة الحقيقية والنهوض بالأمة؛ لئلا
يضعف نفوذهم أو يشاركهم فيه، وقد وجد في مسلمي مصر زعيم مستوف لشروط
الزعامة التي ترتقي بمثلها الأمم، فلم يؤهلهم استعدادهم لاتباعه لينهض بهم، ووجد
في القبط زعيم، فاجتمعت عليه كلمتهم واستفادوا منه، فازدادوا ارتقاء.
***
(التربية الصحيحة والتعليم والإصلاح)
(ج3) سألتم عن التربية التي تجمع بين مجد الدين وعز الوطن، أهي
التربية التي في المدارس المصرية وتربية من يرسلون إلى أوربة؟ أم التربية
الدينية؟ ولا شك أنكم تريدون أن التربية الدينية هي التي تفيد تلك الفائدة، وأنكم
تعلمون أن المدارس المصرية من أميرية وأهلية ليس فيها تربية دينية ألبتة.
وسألتم كيف السبيل إلى التربية، ومتى تكون؟ وهل هي ممكنة؟ والجواب:
أنها ممكنة لا مستحيلة، وينبغي أن تكون مسعى الجمعيات الخيرية الدينية، ولا
ندري متي يكون ذلك، وها نحن أولاء قد أسسنا جمعية دينية خيرية؛ لأجل التربية
الدينية وتخريج المعلمين والمرشدين الذين يقومون بذلك على وجهه إن أمدنا أغنياؤنا
بالمال. ولكننا نريد أن نجعل إصلاحنا خاصًّا هذا بالدين، وعمران الدنيا من طريق
الأمة لا من طريق الحكومة، أعني أننا لا نريد بعملنا إصلاح حكومة من الحكومات
ولا تربية الموظفين لها، وحسبنا أن نربي مرشدين يعلمون العامة عقيدتهم وعبادتهم
وآدابهم الدينية، وينفرونهم من المعاصي التي تذهب بثروتهم وصحتهم، فتغتال
دينهم ودنياهم؛ كالسكر والزنا والقمار والحسد والتباغض بين أهل وطنهم، وما
أشبه ذلك من المعاصي الضارة، ودعاة يقيمون الحجة على حقية الإسلام، ويدفعون
شبهات الطاعنين فيه، ويزيدون عدد المهتدين به. وأما الحكومة بأشكالها ومذاهبها
وسياستها فإنا عنها مبعدون، ولها أحزاب من دوننا هم لها عاملون.
***
(أي البلاد تقيم الإسلام وتشتد على أعدائه)
(ج4) جميع البلاد التي يغلب فيها الإسلام تعظم فيها شعائره، وما يعد فيها
من شعائره، وإن لم يكن منها كالموالد والاحتفالات المبتدعة والقبور المشرفة،
ويعمل جمهور أهل الحضارة منها بأكثر ما يعرفون أنه لا بد منه من أعماله،
ويتركون أكثر الكبائر من محرماته، وقد ترك كثير منهم بعض أركانه وأقامها
آخرون؛ كالزكاة، فإن الذين يؤدونها في جزير العرب وبلاد فارس والتتار
وبخارى وتركستان هم الأكثرون، والذين يؤدونها في مصر هم الأقلون، أعني من
الذين تجب عليهم.
وربما كان أهل اليمن ونجد أشد المسلمين استمساكًا بالدين وشدة على من
يعاديهم، ولكن عمال الدولة الفاسقين قد نشروا الفسق في المدن الكبيرة التي يقيمون
فيها كصنعاء والحديدة، وأما الأشداء من المسلمين على من يعاديهم في دينهم فهم
الذين تغلب عليهم شدة البداوة، ولم يسر إليهم ترف الحضارة الغربية وأفكارهم؛
كأهل الغرب وجزيرة العرب والفرس والأفغان، ولكن أكثرهم لا يلتزم في شدته
أحكام الدين؛ لأنهم لا يعرفونها، ولا يعرفون كيف يحفظون شرف دينهم ولا دنياهم
بها على النهج الذي سار عليه الإفرنج من العقل والحزم والحكمة والنظام، حتى إن
الأجانب يسلطون بعضهم على بعض وهم لا يشعرون، فتراهم يوقدون نار الحرب
فيفتك بعضهم ببعض باسم الدين؛ لمخالفة عادة أو خرافة تنسب إلى الدين زورًا
وبهتانًا، وربما كانوا مدفوعين إلى ذلك من أعدائهم وأعداء دينهم؛ ليمكنوا له بذلك
من أرضهم وديارهم وأموالهم رقابهم.
وجملة القول: إنني لا أعرف قطرًا ولا بلدًا في الأرض يقام فيه الإسلام كما
أمر الله تعالى في كتابه، وعلى الوجه الذي مضت به سنة رسوله صلى الله عليه
وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين، ولا على ما كان عليه المسلمون في عصر الأمويين
والعباسيين والأيوبيين، فإن الفتن التي حصلت في القرون الأولى لم تفسد دين الأمة
ولا بأسها، بل كانت تدور حول السلطة العليا أي حفظها في أهل بيت معين، لا
تتعدى ذلك إلا قليلاً.
***
(ما يصنع عاشق العلم لا يجد المساعد)
(ج5) لا ندري أي علم يعشق هذا المتيم المضنى فنرشده إلى ما ينبغي له،
فإن من العلوم ما يمكن تحصيله في كل مكان، ومنها ما لا يمكن تحصيله إلا في معاهده
الخاصة كالعلوم والفنون التي يتوقف تحصيلها على الأعمال والتجارب بالآلات،
وقلما يصدق أحد في عشق العلم وتقوى عزيمته في طلبه، ولا يهتدي السبيل إليه،
ومن الناس من يسمي التنمي والتشهي عشقًا وعزمًا وهو غالط في ذلك، قال الشيخ
محيي الدين بن العربي في أول فصل من فتوحاته عقده لبيان ما على المريد الذي لا
يجد المرشد:
إذا لم تلق أستاذا ... فكن في نعت من لاذا
وقطع نفسه والليـ ... ـل أفلاذًا فأفلاذًا
فتأتيه معارفه ... زرافات وأفذاذًا
يريد أنه ينبغي له أن يطلب الحق بالجد والاجتهاد وسهر الليالي.
وقل من جد في أمر يحاوله ... واستعمل الصبر إلا فاز بالظفر
ولو راجع المرء تاريخ النابغين من الأولين والآخرين، لوجد أكثرهم من
الفقراء والمساكين الذين لم يعتمدوا إلا على جدهم واجتهادهم دون المدارس والأساتذة
ويظهر أن العاشق في السؤال، ليس كذلك بدليل طروقه أبواب من كان يرجوا
مساعدتهم، ويعتمد على أموالهم.
نعم.. إن علوم المدارس الرسمية التي غايتها نيل شهادة تجيز لحاملها أن
يجلس على كراسي الحكومة، لا تكاد تنال في هذا العصر إلا بالمال، وطالب هذه
العلوم هو المضنى بحب الوظائف لا حب العلم، فإن المضنى بحب العلم أحد
رجلين: رجل يطلب العلم إرضاء لشهوة عقله، ومحاولة إشباع نهمة نفسه، ورجل
يحب أن يستعين به على إصلاح حال الناس، وكلا الرجلين يسهل عليه أن يجد ما
يطلبه بجده واجتهاده حيث كان، سواء وجد أم لم يجد المال، ومن يطلب العلم بهذا
القصد يحصل في الزمن القصير ما لا يحصله غيره في الزمن الطويل، ويكون ما
يحصله أنفع مما يحصله غيره؛ لأنه لا يعنى إلا بما ينفع، ومن ليس له مثل هذا
القصد يضيع زمنه بكل ما يلقى إليه، لا يفرق بين نافع وضار، ولا حق وباطل.
***
(أسئلة من (لنجه) في خليج فارس)
(س 16 19) من (أحد طلاب العلم بلنجه محمد بن عبد الرحمن بن
يوسف سلطان العلماء) .
جاءتنا الأسئلة الآتية في كتاب مطول، وكان لنا أن لا نجيب عنها؛ لأنها
جاءت على غير شرطنا في قبول الأسئلة، وهي أن تكتب في ورقة على حدتها
حتى لا نتكلف استخراجها من تضاعيف كلام آخر ونسخها، ولكننا نلخصها ونجيب
عنها عناية بمرسلها وبها، وقال السائل - زاده الله علمًا وفهمًا -: إن هذه الأسئلة
رفعت إلى والده وسيجيب عنها (ولعله فعل) وهي:
إلى حضرة من سما سماء المعارف، وأحاط بمقاصد الدين ومطالب العوارف،
قد أبديتم في المحفل الشريف (يريد موضع درس الأستاذ المستفتي أو مجلسه)
حسن سيرة المنار؛ وأنه يحيي السنة ويقمع البدعة، فلا يخفى على حضرتكم أنه
يأمر بعدم توقيف الذهن على ما ذكره المفسرون.
وعليه فلو ادعى مدع أن العدل بين الزوجتين غير واجب لوجوه:
(الأول) إخبار الله تعالى بأن العدل غير مستطاع، وأكد ذلك بالنفي بلن،
وهي وإن لم تفد التأبيد، فلا تنكر إفادتها التأكيد.
(الثاني) تقيد المنهي عنه بجعلها كالمعلقة أي: فلا بأس بما دون هذه الحالة.
(الثالث) جعله تعالى الأزواج قوامين، ولا يليق بالقوام أن يكون مذللاً مقادًا
بعنان من هو قوام عليها، والأحاديث ما فيها (من مال إلى إحدى امرأتيه) فالمراد
الميل المصير لها كالمعلقة. وما فيها (من لم يعدل) فهو بمعنى مال، فهل إذا ادعى
ذلك أحد يؤجر على ذلك أم ينكر؟ فإن قلتم يؤجر، فهو وإن قلتم ينكر عليه فما
وجه ذلك، مع أن المنار قد فسر آية التيمم بوجه لا يوافقه أحد، وأول أحاديث في
ذلك أوضح وأظهر من الأحاديث الدالة على وجوب العدل.
(سؤال آخر) كيف يؤمر بالمعروف وينهى عنه المنكر، مع قولكم إن كل
كائن بالتقدير، ولا تقولون كما تقول المعتزلة بالخلق، ولا كما تقول المجبرة، فهل
هذا إلا تناقض.
فيا سيدي إمام العصر ومقتدى المسلمين مولانا السيد محمد رشيد رضا صاحب
مجلة المنار، المرجو من ألطافكم أن لا تحقروا هذه الديار، ولا تنظروا إليها إلا
نظر الوالد إلى ولده، فإن أهل هذه الديار إلى الآن، كانوا على قدم الجد في إقامة
شعائر الدين. لكن منذ سنين قد حدث فيهم بعض المتفرنجين، فإذا هم على شفا
جرف هار لولا عناية الله ثم إرشاد العلماء الجامعين بين المعقول والمنقول، أجيبوا
جعلكم الله مجدد الملة. ا. هـ يتعلق بالاستفتاء من الكتاب.
(المنار) ههنا مسائل:
(1) العدل بين الزوجتين.
(2) تفسير المنار لآية اليتيم.
(3) مسألة التزام أقوال المفسرين الميتين في فهم القرآن أو عدمه.
(4) الأمر بالمعروف والقدر.
(العدل بين النساء)
الذي يؤخذ من مجموع الروايات في تفسير السلف لهذه الآية أن اللام في
العدل ليست للجنس بل للعهد، فالمراد بها عدل خاص لا مطلق العدل، فإن بعضهم
فسره بالعدل في الحب، وهو الذي يدل عليه التفريع بقوله: {فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ} (النساء: 129) وحديث: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا
أملك) رواه ابن أبي شيبة وأحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن المنذر من حديث
عائشة وإسناده صحيح، وفيه وردت الأحاديث التي أشار إليها السائل، وفسره
بعضهم بالوقاع، وهو وإن كان فيه من الاختيار ما ليس في الميل الذي هو سببه،
فالعدل فيه محال، وإذا كانت الآية دالة على أننا لا نكلف هذا العدل الخاص؛ لأنه
غير مستطاع ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فلا ينفي ذلك أن نكلف العدل المستطاع
في المبيت والفقه وحسن المعاملة في الحديث والإقبال ولو تكلفنا، ولا وجه لحمل
الآية على إثبات كون مطلق العدل غير مستطاع؛ لأن الآية لا يمكن أن تكون
مخالفة للواقع المعروف بالضرورة.
فالوجه الأول: من الوجوه التي ذكرها السائل مسلم، ولكنه يفيد أن العدل في
الميل غير واجب؛ لأنه غير مستطاع لا مطلق العدل، ولولا التفريع لكان الأظهر
أن يقال: إن العدل الذي لا يستطاع هو العدل التام الكامل الذي يشمل الحب وما
يترتب عليه؛ مما يعلم بالضرورة أنه لا يدخل في الاختيار مهما حرص المرء عليه
ولا ينفي هذا ولا ذاك أن يكون العدل المستطاع واجبًا، وقد تقدم معنى العدل في
التفسير من عهد قريب، وكونه من جعل الغرارتين على ظهر البعير متساويتين في
الوزن، وهذا غير ممكن على حقيقته في الأخلاق والأمور المعنوية؛ ولذلك قيل:
إن العدل التام الكامل هو صراط الحق الذي وصف بأنه أدق من الشعرة وأحد من
السيف. وهذا ما كان يحرص عليه المؤمنون طلاب الكمال كما تدل الآية.
وأما الوجه الثاني: فهو لا يدل على كونه مطلق العدل غير واجب كما هو
فرض السائل، وإنما يدل على أن بعض العدل في الميل مستطاع وواجب؛ لأن
الميل قسمان: ميل القلب وما يترتب عليه من ميل الجوارح بالالتفات والإقبال
والمؤانسة، فمن مال إلى إحدى زوجتيه كل الميل، فجعل الأخرى بذلك محرومة
من مقاصد الزوجية كلها، وهي: السكون والمودة والرحمة، كان آثمًا لأنه جعلها
كالمعلقة التي ليست متزوجة ولا أيمًا، ومن مال بعض الميل وهو ميل القلب فقط
الذي لا سلطان لاختياره عليه فهو غير آثم.
وأما الوجه الثالث: فليس بشيء، فإن العدل فيمن يقوم المرء بأمر الرياسة
عليهم، ليس ذلاً بل هو العز الحقيقي كالحاكم العادل، يكون عزيزًا بعدله ظاهرًا
وباطنًا.
هذا وإن العدل الذي يدخل في اختيار الإنسان واجب، حتى في معاملة
الأعداء كما هو منصوص في آيات كثيرة، فكيف يتعلق الاجتهاد بتفسير الآية،
فيما يخالف النصوص القاطعة المعلومة من الدين بالضرورة؟ .
فظهر بهذا أن من يستدل بالآية على عدم وجوب العدل بين الزوجتين مطلقًا
ينكر عليه؛ لأنه فسرها بما لا تدل عليه، وبما يخالف النصوص القطعية الكثيرة
المعلومة من الدين بالضرورة، وسيأتي تفسير الآية مفصلاً في موضعه.
* * *
(تفسير المنار لآية التيمم)
التنظير بين هذه المسألة وبين ما نقله المنار من تفسير الأستاذ الإمام لآية
التيمم، وإيضاحه له بالدلائل غير وجيه، فإن ذلك التفسير ليس مخالفًا لنص آيات
أخرى، وإنما هو موافق لما ورد في رخصة الفطر في رمضان، ولا مخالفًا لنص
حديث قطعي، ولم يضطر فيه إلى تأويل أحاديث تدل على خلاف ما اختاره في فهم
الآية كما قيل، بل خرجها على الأصول المعروفة على أنه إذا تعارض القرآن
والحديث ولم يظهر وجه للجمع، فالواجب ترجيح القرآن ورد الحديث إليه ولو
بالتأويل، ولا يرجح على القرآن شيء قط، ولا يعدل به عن ظاهره؛ لأجل اتباع
أحد من المفسرين أو غير المفسرين.
* * *
(التزام أقوال المفسرين الميتين والاستقلال دونهم)
المفسرون طبقات؛ منهم الصحابة والتابعون ومن بعدهم، ولم نر أحدًا منهم
التزم فهم أحد معين منهم، فمجاهد يروي التفسير عن ابن عباس، وينفرد هو
بأقوال يخالف فيها ابن عباس، وابن جرير يروي عن الصحابة والتابعين بأسانيده،
وينفرد هو بأقوال لم يقل بها أحد ممن صحت عنده الرواية عنهم، ويجزم أهل
السنة بأنه لا عصمة لأحد من أولئك المفسرين في فهمه، ولا حجة في قوله، ولا
عصمة للجمع منهم أيضًا. ومسألة إجماع المجتهدين مسألة أخرى، وفيها من
المباحث ما فيها، وحسب السائل منها ما تقدم في تفسير الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء: 59) ... إلخ.
وجملة القول: إنه لا يوجد مفسر إلا وقد انفرد بأقوال لم يقل بها غيره، ولولا
ذلك لم يكن مفسرًا ولا ممن يفهم التفسير بالاستقلال، والقرآن بحر لم يحط أحد بما
فيه من الدرر والجوهر، ولكل غائص نصيب (إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في
القرآن) ومن كان مقلدًا لا يعنيه ما يقوله المستقلون سواء وافقوا غيرهم أو خالفوه،
ومن كان مستقلاً يستفيد من بحثهم بصيرة ولا يقلدهم فيه، وإنما يعمل بما يظهر له أنه
الحق، فوجود المستقلين في فهم القرآن والسنة لا يضر أحدًا قط، ولكن فقدهم ضار؛
لأنهم حملة الحجة والبرهان، والمقلد لا حجة له وقصارى علمه أن ينقل حجة غيره،
فإذا طرأت شبهة على الدين، لا يجد لها جوابًا منقولاً عمن يقلدهم، بقي حائرًا ويكون
الدين حينئذ عرضة للزوال أو الزلزال إذا حار به أهل الشبهات الجديدة.
(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن آمن بالقدر)
بينا في المنار غير مرة مسألة القدر بما تدل عليه جملة آيات القرآن الواردة
فيها، وأنها ليست كما يقوله الفلاسفة والمتفلسفون من المتكلين، بل هي عبارة عن
إثبات النظام والحكمة في خلق الله تعالى، يجعل كل شيء بمقدار معين لا يعدوه،
فالمسببات تكون دائمًا بقدر أسبابها، ولا يكون شيء من الأشياء أُنفًا كما تزعم
القدرية المبني مذهبهم على قاعدة (الأمر أُنُف) أي إن الله تعالى يستأنف خلق كل
شيء يخلقه استئنافًا، كما يفعل الحاكم المستبد كل شيء، عندما يسنح له ويخطر
في باله استحسانه من غير بناء على نظام معين ولا التزام لمقادير مقررة من قبل،
وقد حدثت بدعتهم في العصر الأول، واتفق سلف الأمة ثم خلفها على ضلالهم في
هذه العقيدة، وأجمعوا أن كل شيء بقدر كما هو نص القرآن الحكيم، ومن شاء
التفصيل في بيان هذه المسألة فليرجع إلى الفتوى الثانية عشرة من فتاوى المجلد
الحادي عشر من المنار (ص 189، 200) .
أما فائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع جريان الأمور بمقاديرها
بحسب سنن الكون في ربط الأسباب بالمسببات، فهي لا تتجلى كمال التجلي إلا
لمن يعرف سنن الله تعالى في ارتباط الأعمال بأسبابها، وقد بينا ذلك في التفسير
وغير التفسير من أبواب المنار مرارًا كثيرة، ونشير إلى ذلك هنا بكلمة وجيزة.
جرت سنة الله تعالى بأن العمل الاختياري يصدر من الإنسان عند جزم إرادته به
، وأن جزم إرادته به لا يكون إلا بالعلم بأن فيه منفعة له أو دفع مضرة عنه في العاجل
أو الآجل، سواء كان العلم بذلك وجدانيًّا ضروريًّا أو كسبيًّا بالنظر في الأدلة. والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر قد يفيد المأمور والمنهيّ علمًا يبعث إرادته إلى العمل به
فيكون نفعا مفيدًا، ولهذا كان واجبًا، وقد ثبتت فائدته بالتجربة فالمراء فيه مراء باطل
، ولا يعارضه الإيمان بالقدر بل يؤيده ويعد دليلًا عليه.
***
(البطالة يوم الجمعة)
(س20) من أحمد حمدي أفندي النجار الدمشقي بأم درمان (السودان) ،
سيدي الأستاذ العلامة الفاضل السيد محمد رشيد رضا دام فضله.
اجتمع منذ شهرين فريق من تجار هذه البلدة مؤلف من اليهود والنصارى
والمسلمين، وقرروا فيما بينهم بأن يكون لكل ملة يوم راحة من العمل بالثلاثة الأيام
المعروفة، وهي الجمعة للإسلام والسبت لليهود والأحد للنصارى؛ لمجاراة إخوانهم
النصارى بالخرطوم جارتهم، جعلوا غرامة على من يخالف ذلك بواسطة الحكومة،
ومن ذلك الوقت أصبح عموم اليهود والنصارى يبطلون الاشتغال باليومين
المذكورين، ونفر قليل من المسلمين باليوم الثالث، ورفض باقي المسلمين البطالة
بحجة أنه محرم أو مكروه؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} (الجمعة: 10) ... إلخ، وأنه وردت بذلك أحاديث كثيرة بالبخاري وغيره من كتب
السنة، تحرم تفضيل أو تعظيم هذا اليوم على غيره، وحصلت بذلك مجادلات بينهم
كثيرة، وراجع بعضهم بعض العلماء هنا فأفتوهم بكراهة عدم الشغل بذلك اليوم
وتفضيله، وما زال بعضهم يعتقد وجوب تعظيم هذا اليوم والبطالة به، وأخيرًا
أجمع الكثيرون باستفتاء فضيلتكم بهذا الأمر فأفتونا بمعني الآية الكريمة، وبما ورد
بكتب السنة وبخلاصة ما ينبغي العمل به، فلا زلتم ملجأ لحل المعضلات
وضياء لهذه الأمة، وأطال الله بقاكم.
(ج) بُلِيَ المسلمون بالخلاف والجهل بآداب دينهم وبمنافعهم الدنيوية
ومصالحهم الاجتماعية، وقد رأيتم ما كتبناه في الموضوع في مقالات (المسلمون
والقبط) وفيه الإشارة إلى الأحاديث الصحيحة في فضيلة يوم الجمعة، وكونه عيدًا
للمسلمين كالسبت والأحد عند أهل الكتاب، ودعوى بعضهم وجود أحاديث تحرم
تفضيل يوم الجمعة على غيره باطلة وغريبة جدًّا، والأمر بالانتشار في الآية
للإباحة لا للوجوب، فهي كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (المائدة: 2)
ولم يقل أحد من العلماء بوجوب الصيد بعد انتهاء الإحرام، بل المراد إباحته بعد أن
كان محرمًا في الحرم، وكذلك الانتشار بعد صلاة الجمعة، فإن الأمر بعد النهي
يراد به رفع النهي السابق، والذي ينبغي للمسلمين أن يجعلوا هذا اليوم عيد
الأسبوع كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، وفضله على غيره وأن يجعلوه
للاستحمام والصلاة والعبادة وصلة الرحم وزيارة الأصدقاء، وإن كان البيع فيه لا
يحرم إلا في الوقت المخصوص، على أن البيع لا يحرم في يوم العيدين السنويين
عيد الفطر وعيد النحر مطلقًا، فمن احتاج أو اضطر إلى عقد بيع أو غيره في أيام
العيد أو الجمعة غير وقت صلاتها، وعقده يكون صحيحًا ولا يأثم المتعاقدان، وهذا
لا يمنع أن يجعل الجمهور هذه الأيام أعيادًا سنوية وأسبوعية، فالإسلام شرع لنا
كل ما فيه الخير لنا من غير تضييق علينا.
__________(14/178)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جماعة الدعوة والإرشاد
(2)
رئيس الشرف للجماعة صاحب الدولة
الأمير محمد علي باشا شقيق الجناب العالي الخديوي
لما علم صاحب الدولة الأمير محمد علي باشا شقيق سمو الأمير المعظم
بتأسيس هذه الجماعة سر سرورًا عظيمًا، لما حلاه الله تعالى به من الغيرة على
الدين، والعلم بشدة حاجة الإسلام إليه؛ لخبرته الواسعة بأحوال المسلمين،
واشتغاله بالمشروعات الإسلامية كالاكتتاب لتجديد بناء جامع عمرو بن العاص الذي
هو أول مسجد للإسلام في هذا القطر، صلى فيه كثير من الصحابة رضوان الله
عليهم، وما اطلع عليه من ذلك في سياحاته في الشرق الأدنى والأقصى، ولذلك
تفضل بكتاب يظهر فيه ارتياحه للعمل وتبرعه له بمئة جنيه مصري.
وقد قرر أعضاء مجلس إدارة الجماعة بإجماع الآراء اختيار دولته رئيس
شرف للجماعة، والتشرف بزيارته في قصره؛ لعرض هذا القرار عليه وشكره
على عنايته وفضله، وأنفذوا ذلك في ضحوة يوم الجمعة ثامن ربيع الآخر، فقابلهم
الأمير - حياه الله تعالى - بما عهد فيه من الطلاقة والحفاوة، وقبل رياسة الشرف
للجماعة بالشكر والعناية، ونثر عليهم من درر الفوائد التي اقتبسها من رحلته في
اليابان والصين، ما زادهم بصيرة في عملهم العظيم، فخرجوا مودعين من دولته
أجمل وداع، وهم ما بين مثن وداع.
إنه ليسر كل عاقل مخلص في هذه البلاد وكل محب لها ولخير أهلها أن
يشارك الأمراء فيها سائر طبقات الأمة في الأعمال النافعة والمشروعات العامة؛
كالجمعيات الخيرية والعلمية والدينية وإنشاء المدارس؛ لأن هذا التعاون أرجى
للنجاح وأقرب إلى الحكم الذاتي طريقًا، وقد سرنا أن كان صاحب الدولة الأمير
حسين كامل باشا عم الجناب الخديوي رئيسًا للجمعية الخيرية الإسلامية، والأمير
أحمد فؤاد باشا رئيسًا للجماعة المصرية، فلا بدع أن نزداد سرورًا أن صار الأمير
محمد علي باشا رئيسًا للجامعة الدعوة والإرشاد، وندعو الله أن يوفقه دائمًا إلى
خدمة العلم والدين، وترقية شؤون المسلمين.
***
عضو الشرف الأول للجماعة
(الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم)
زار مصر في هذا الربيع الوجيه السري، الغني السخي، الكريم ابن الكريم،
الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم، وآل إبراهيم هؤلاء أكبر تجار العرب وأجودهم ومحل تجارتهم في بمباي ثغر الهند العظيم.
كان الشيخ قاسم علم بمشروع الدعوة والإرشاد وهو في الهند، فلما جاء
القاهرة كان همه الأول فيها لقاء كاتب هذه السطور؛ لأجل مساعدة المشروع،
فزرته في فندق شبرد فكان جل حديثنا في ذلك، وكاشفني برغبته في المساعدة،
وقال لي: إن آمالنا في خدمة الإسلام معلقة بكم، فعليكم العمل وعلينا المساعدة
بالمال، وسألني إلى أين انتهيتم في المشروع؟ قلت: لا يزال في طور التكوين،
وقد وضعنا له النظام الأساسي، فكان كالنظام الذي وضعناه لجمعية العلم والإرشاد
في الآستانة، وزدنا فيه ما يتعلق بالدعوة إلى الإسلام، وألفنا له مجلس إدارة من
خيار المصريين، وقد أقروا هذا النظام بعد مراجعة ومناقشة وتحوير كما هي العادة،
ولا يمكن أن نقبل التبرعات إلا بعد إصدار النظام الأساسي، وسيكون ذلك في يوم
المولد النبوي الشريف.
ولما رد لي الشيخ الزيارة في إدارة المنار، راجعني في مسألة تبرعه
واشتراكه فيه، فسألته عن مقدار ما يحب أن يجود به، فاقترح أن يقول ذلك لي
سرًّا حتى إنه لم يصرح به أمام كاتب سره المرافق له في سياحته وهو عبد الله
أفندي البسام، وبيت البسام يلي بيت إبراهيم في تجار العرب الكرام.
بحثت معه في سبب إخفاء ما يجود به وعدم الإذن في ذكر اسمه، فعلمت أنه
الإخلاص وابتغاء المزيد من الثواب، فأقنعته بالدلائل بأن إظهار اسمه لا ينافي
الإخلاص، وأنه قد يكون نافعًا من حيث يكون قدوة في الخير، وفرقت له بين
الصدقة على الفقير والصدقة في المصالح العامة، فسكت ولم يظهر ارتياحًا، ثم
حضر الاجتماع الذي عقده للدعوة إلى التبرع؛ لإنشاء مسجد للمسلمين في لندره
عاصمة إنكلتره وهنالك دعت الحال لخطبة وجيزة في إظهار الصدقات وإخفائها
ألقيتها هنالك وسيأتي ذكرها في باب الأخبار من هذا الجزء. فازداد الشيخ قاسم
اقتناعًا، وبعد ذلك كاشفت إخواني أعضاء مجلس جماعة الدعوة والإرشاد باشتراكه
وبتبرعه.
***
(مقدار ما تبرع واشترك به الشيخ قاسم)
2000 جنيه إنكليزي تبرع ناجز
0100 جنيه إنكليزي اشتراك سنوي
بلغت إخواني أعضاء مجلس إدارة جماعة الدعوة والإرشاد ما تبرع واشترك
به هذا المحسن العظيم، وكان له به فضيلة السبق والمسارعة إلى هذا الخير،
فأجمعنا على عقد جلسة خاصة للمذاكرة في الشكر له، وأجمعنا في تلك الجلسة على
تسمية (عضو الشرف الأول لجماعة الدعوة والإرشاد) ، وعلى أن يكون باسمه
مكافأة سنوية توزع على تلاميذ (دار الدعوة والإرشاد) وعلى أن نبلغه ذلك في
كتاب شكر نحمله إليه بأنفسنا، وأننا نذكر ذلك الكتاب بنصه:
(كتاب جماعة الدعوة والإرشاد إلى الشيخ قاسم إبراهيم)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
الحمد لله الذي قدر فهدى، وأمر بالتعاون على البر والتقوى، وجعل إنفاق
المال في سبيله، أول آيات صدق الإيمان به، فقال عز وجل: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) والصلاة والسلام على إمام المصلحين،
وخاتم النبيين والمرسلين، سيدنا محمد النبي العربي الذي أرسله الله رحمة للعالمين،
وأتم به النعمة وأكمل الدين، وعلى آله وأصحابه الذين نشروا دعوته، وأقاموا
سنته، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
من جماعة الدعوة والإرشاد بمصر، إلى السابق إلى الخيرات بإذن الله،
المسارع إلى المغفرة ورضوان من الله، المساعد على إحياء الدعوة إلى الله،
السخي الكريم، المحسن العظيم، الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم التاجر العربي
في بمباي من الهند، ونزيل مصر الآن، زاده الله نعمة وتوفيقًا.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
وبعد، فقد بلغ الجماعة وكيلها السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار ما وفقكم
الله تعالى له من التبرع لها بألفي جنيه ناجزة، والاشتراك فيها بمئة جنيه مسانهة،
فاجتمع مجلس إدارتها اجتماعًا خاصًا للمذاكرة في كيفية الشكر لكم لأن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) .
وقرر باتفاق الآراء تسميتكم (عضو الشرف الأول) في هذه الجماعة، وأن
يجعل باسمكم مكافأة سنوية لطلاب مدرستها الكلية (دار الدعوة والإرشاد) لتكون
ذكرى دائمة؛ لسبقكم إلى المشاركة في تأسيس هذا العمل الذي يراد به خدمة العالم
الإنساني، بنشر الدين الإسلامي، دين الفطرة والمدنية، الجامع بين أسباب
السعادتين الدنيوية والأخروية، وقرر تبليغكم ذلك في كتاب شكر يوقع عليه أعضاء
المجلس، ويحملونه إليكم بأنفسهم، وها هو ذا فتقبلوه محمودين مشكورين، ولا
زلتم موفقين لما ينفع الناس ويرضي الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله.
وكتب في القاهرة لسبع خلون من شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وثلاث
مئة وألف من هجرة الداعي إلى طريق الحق.
***
عناية مولانا الأمير أيّده الله تعالى بالشيخ قاسم آل إبراهيم
بلغ مولانا العزيز أيده الله تعالى أن هذا السري العربي، الكريم الغيور على
الملة والدولة، قد زار مصر في هذه الأيام سائحًا، وأنه هو الذي أعطى وجمع
المال الكثير لسكة الحجاز الحديدية وللأسطول العثماني، وأنه قد تبرع الآن لجماعة
الدعوة والإرشاد بمبلغ كبير واشترك فيها، فارتاح سموه لذلك وسر به، وأجدر
بسموه أن يرتاح لخدمة دينه القويم ونجاح المشروعات العلمية الخيرية في البلاد
العثمانية وفي قطره السعيد، ومن أجدر من سموه بمعرفة قيمة كبار الرجال العاملين،
وكرام الأجواد المحسنين؟ وقد أظهر الارتياح للقاء ضيف مصر الكريم، وعين
الوقت لذلك فتشرف الشيخ قاسم بمقابلة سموه مقابلة خاصة في قصر القبة، وكان
بصحبته كاتب هذه السطور، فمكثنا زهاء ثلثي ساعة في حضرته، لقي فيها ضيف
مصر الكريم من حفاوة عزيزها العظيم وإقباله وعطفه، ما ملأ قلبه غبطة وسرورًا،
وقد كرر له الأمير عبارات الشكر البليغة المؤثرة، ورغب إليه أن يبلغ سموه كل
ما يريد من مساعدة، حتى قرأت في وجه الشيخ آيات تأثير كلام الأمير وتواضعه،
وسأله عما رآه من آثار مصر، فعلم أنه لم ير القناطر الخيرية، فقال: إنني سآمر
بإعداد باخرة من بواخر النيل الخديوية لكم، تركبونها إلى القناطر للنزهة ورؤية
هذا العمل المصري العظيم الذي هو ركن من أركان ترقي الزراعة والثروة في هذه
البلاد (وسموه حقيق بأن يفخر بهذه القناطر التي هي من أفضل ما عمل جده
الأعلى؛ من أسباب عمران هذه القطر) ثم انصرف الشيخ من حضرة الأمير وهو
يردد الدعاء والثناء.
***
(الحفاوة بالشيخ قاسم آل إبراهيم)
كان يوم الجمعة ثامن ربيع الآخر موعد زيارة أعضاء مجلس (جماعة الدعوة
والإرشاد) للشيخ قاسم، وموعد النزهة النيلية في الباخرة الخديوية، اجتمع إخواننا
الأعضاء في إدارة المنار بعد الظهر، وكان كتاب الشكر الذي نشرنا نصه آنفًا قد
كتب بخط جميل فوقعوه بأيديهم، وتخلف منهم محمد لبيب بك البتنوني فقط؛ لأنه
كن منحرف الصحة. ثم قصدنا فندق شبرد، فلقينا الشيخ ينتظرنا في بهو الحجرات
التي يقيم فيها من الفندق، فقدمت له أخانا الرئيس محمود بك سالم وهو عرفه بسائر
الأعضاء، وتلا أحدنا كتاب الشكر وأعطاه للرئيس، وقدمه الرئيس للشيخ، ثم
ذكرنا للشيخ قاسم أن هذا الوقت هو موعد النزهة النيلية التي أكرمه بها الأمير،
وأنه أذن للشيخ أحمد زناتي أن يبلغ إخوانه أعضاء جماعة الدعوة والإرشاد أن
يكونوا معه في هذه النزهة، فأجاب شاكرًا.
ركبنا السيارات الكهربائية (الأتموبيلات) من أمام الفندق إلى ساحل روض
الفرج، حيث كانت السفينة الخديوية راسية، فركبنا فيها باسم الله مجراها ومرساها،
ولما توسطت المسافة بين روض الفرج والقناطر، نصبت مائدة الشاي وما يتبعه
من اللبن وأنواع الحلوى والفطير والمثلوجات، فأصاب كل من الضيف الكريم
والجماعة ما شاء منها.
وأرست السفينة أصيل ذلك النهار الجميل عند حديقة منتزه القناطر، فخرجنا
وطفنا بالضيف الكريم القناطر كلها، ودخلنا الدار التي فيها مثل ونماذج أعمال
الري في القطر المصري، ثم عدنا إلى السفينة عند الغروب، فعادت بنا إلى ساحل
البلد.
وقد رغب الشيخ قاسم إلى الشيخ أحمد زناتي عند وداعه أن يبلغ الأمير شكره
ودعاءه على هذه العناية به، ونحن أولى بالشكر والدعاء، فنسأل الله تعالى أن يديم
التوفيق لأميرنا، وأن يحسن جزاء هذا المحسن إلى جماعتنا.
***
الرابطتان الإسلامية والوطنية
(وجماعة الدعوة والإرشاد)
أتى على المسلمين حين من الدهر وهم أعلى أهل الأرض حياة، وأشدهم قوة
ومنعة، وأكثرهم خيرًا ونائلاً، وأوسعهم كرمًا وفضلاً، ثم قضت سنن السكون أن
يكون من بعد تلك القوة ضعف، كاد يكون موتًا زؤامًا، وقد دبت فيهم الآن حياة
جديدة، تتنازع رابطة الإسلام فيها روابط أخرى كالجنسية الوطنية واللغوية.
من آيات هذه الحياة الجديدة تبرع الشيخ قاسم إبراهيم بألفي جنيه لجماعة
الدعوة والإرشاد، استكبر هذا السخاء كبراء المسلمين بمصر وغير مصر
واستكثروه، استكبروا أن يعطي مسلم مالاً كثيرًا لخدمة دينه في بلد غير بلده،
ووطن غير وطنه، لا يرجو به رتبة ولا وسامًا، ولا الزلفى من الملوك والأمراء،
ولا الجاه والشهرة عند الدهماء، وقد طال عليهم العهد، ولم يسمعوا بمثل هذا
العطاء.
لو تأمل مسلمو هذه البلاد فيما بين أيديهم لرأوا من مدارس جمعيات الإفرنج
الدينية ومستشفياتهم وجرائدهم ما ينفق عليه مئات الألوف من الجنيهات في كل عام؛
من تبرع الأسخياء الغيورين على دينهم، المجتهدين في نشره وتحويل الناس كلهم
إليه وإدخالهم فيه، وهم يقرؤون في الصحف تبرعهم بالملايين لإحياء العلم والدين،
فكيف يستكبرون أن يكون في المسلمين من له غيرة على دينه كغيرتهم، وحرص
على نشره كحرصهم، أو ما يقرب منه؟
ولو نظر المسلمون إلى ما وراءهم لرأوا من آثار سلفهم وأوقافهم في أيام
حياتهم الأولى ما يستصغر دونه كل كبير، ويعد ما يستكثرونه اليوم غير كثير،
فإن معظم بلاد المسلمين وأرضهم قد وقفت على الخير، ولكن ضاعت وقفيات أكثرها
فعادت ملكًا، وما حفظ منها ليس بقليل، ولكن ما سلم من تلك الأوقاف من
اغتصاب الأهالي ضبطته الحكومات. ولو أن مجلس العثمانية أحصى الأوقاف،
وأعاد إليها ما أكلته الحكومة منها وما تصرف به عبد الحميد وأعوانه، وفصلها من
الحكومة وجعلها بأيدي الأمة بنظام يكفل وضع ريعها في مواضعه، وصرفه على
المنافع العامة؛ كالتعليم والتربية وإصلاح شؤون الأمة لأغنى مسلمي المملكة
العثمانية عن تبرعات المعاصرين الذين غلب على أكثرهم البخل إلا على شهواتهم.
الشيخ قاسم إبراهيم رجل مسلم، أمته هي الأمة الإسلامية أينما وجدت وحيثما
حلت، ولم يترب على بدعة الوطنية المفرقة التي يعد بها المسلم من أهل بلد دخيلاً
بين المسلمين في بلد أخرى، ليس له عليهم حق الإخاء ولا المساواة، لم يترب
على هذه البدعة التي فتن بها بعض المسلمين في هذه البلاد، ولهذا جاد لجماعة
الدعوة والإرشاد مما جاد به، ووعد بأن يجمع لها أكثر من ذلك، فأين منه ذلك
الرجل المفتون بنزعه الوطنية التي رجحت بها كفة القبط في مصر على كفة
المسلمين؛ إذ قال: كيف نبذل المال لجمعية تربي الدعاة والمرشدين لأجل إحياء
الإسلام ونشره في غير مصر! !
إن سرى هذا الشعور الوطني إلى جمهور المسلمين، فأنذرهم بطشة الله تعالى
الانحلال والزوال، ونسأل الله تعالى أن يقي المسلمين شر هذا الشعور المتدفق على
مثال هذا المغرور، وشر دعاة هذه الوطنية الخاطئة الكاذبة التي كانت من أكبر
المصائب على المسلمين، على أنها لم ترض غيرهم من الوطنيين.
إن سم هذه الوطنية لم يدخل بنية مسلمي جزيرة العرب، ولا مسلمي الهند؛
لذلك نرجو أن يتبرع كثير من أغنياء تلك البلاد لجماعة الدعوة والإرشاد، كما
يتبرع الإنكليز والأمريكان والفرنسيس لجمعياتهم الدينية في الشرق الأدنى والشرق
الأقصى، ولا يضر هذا العمل بخل المفتونين بالوطنية عليه، ولا تنفيرهم عنه.
هذا، وإننا نرجو من سخاء مسلمي مصر ما لا نرجو مثله من غيرهم، فهذا
العمل عملهم، لهم من شرفه وثوابه ما ليس لغيرهم، وهم من أوسع المسلمين ثروة
وأبسطهم يدًا، والرابطة الإسلامية عند السواد الأعظم منهم أقوى من الرابطة
الوطنية، ولا قيمة لأولئك الأفذاذ الشذاذ الذين يرون الوطنية والدين ضدان،
ويرون أنه يجب أن تنسخ الوطنية آية الدين وتحل محله في ارتباط أفراد الأمة
بعضهم ببعض، حتى لا يبقى له تأثير إلا في المعابد.
هؤلاء الغلاة في الوطنية، لا يزالون قليلي العدد عندنا وأكثرهم لا يتجرأ على
إبداء رأيه كله، بل يدهن للناس حتى يوهمهم أحيانًا أنه يغار على الدين ويؤيده،
وأن وطنيته نافعة للمسلمين أو خاصة بهم، وأنه لا يريد بها إلا خدمتهم، وأنه
يخادع الإفرنج وغيرهم بذلك، حتى لا ينسبوه إلى التعصب الديني.
الإسلام والنفاق هما الضدان اللذان لا يجتمعان، فنحن لا نخادع ولا ندهن ولا
نقول بهذه الوطنية الخاطئة الكاذبة التي تحل عرى الإسلام وتقطع أخوته العامة،
وتحل محلها أخوة وطنية بين المسلمين وغيرهم. ولكنها أخوة نفاق وخداع يمقتها
الدين، ويكون الغبن والخسار فيها على المسلمين، كما نشاهد في البلاد من ارتباط
المسلمين بالقبط، وقد شرحنا القول فيه بمقالات خاصة.
حاربت القبط الحزب الوطني ما لم تحارب غيره من الأحزاب، واتهمته
بالتعصب الديني بما لم تتهم بمثله سائر المسلمين، فعلم من ذلك أن دعوة الوطنية
بمصر قد أضعفت الأخوة الإسلامية، ولم تستبدل بها أخوة وطنية حقيقية.
وقد جنت هذه الوطنية الخاطئة الكاذبة على الدين نفسه، لم تقف جنايتها عند
حد رابطته الجنسية وأخوته العامة. ذلك بأن الفضيلة والكمال والمزايا التي يتفاضل
بها أهلها، ويكونون من الزعماء والرؤساء ليست من فضائل الدين، ولا مما يعده
الدين كمالاً، فيجوز في عرفها أن يكون الزعيم الذي يقود الأمة، وتبذل له أموالها،
وتطلب منه حياتها فاسقًا عن أمر ربه، يخاصر في حله وترحاله الأخدان من
المومسات الإفرنجيات، ويألف في كل مكان ينزل فيه المواخير ويهجر المساجد.
حدثني بعض المصريين الذين التقوا ببعض زعماء الوطنية في الآستانة منذ
سنتين؛ أن هذا الزعيم المليم كان يقول: إنه مل النساء الإفرنجيات، وإنه يريد أن
يتمتع بالتركيات، ولا يدري كيف يصل إلى الفاسقات منهن، نعم.. ليس كل الذين
يلهجون بالوطنية ويرفعون كلمتها مثل هذا الزعيم، ولكن الأمة التي يشرف فيها
مثله، تكون أخلاقها وآدابها وعقائدها على شفا جرف هار، فإذا انهار بها، وقعت
في الخزي والعار، ولها في الآخرة عذاب النار.
غلاة الوطنية يمقتون الإصلاح الإسلامي وأهله؛ لأنهم يرون أن المسلمين إذا
صلح شأنهم بدينهم لا يمكن أن يسود فيهم عباد الشهوات، ولذلك كانوا للأستاذ الإمام
- رحمه الله - بالمرصاد، حتى إنهم حرضوا اليهود عليه عند تفسيره للآيات التي
وبخهم الله تعالى بها في كتابه، فلا عجب إذا وجد فيهم من يقاوم مشروع الدعوة
الإرشاد، وينفر الناس عنه بضروب من الكذب والإفك والزور والبهتان والعضيهة
والغيبة والنميمة والمحل والسعاية، وأن يجعلوه - وهو أجل ما يخدم به الإسلام -
آفة على الإسلام، فإنهم يعبرون بالإسلام عن وطنيتهم وشهواتهم وحظوظهم
وأهوائهم.
يا أهل الوطنية، لا تغلو في دينكم، ولا تقولوا على دعاة الدين غير الحق،
اتركوا لنا خدمة ديننا نترك لكم ما أنتم عليه، إن إسلامنا الصحيح يعطي غير
المسلمين في بلاد الإسلام من الحقوق ما لا تعطيه وطنيتكم التي جنت على الإسلام
وعلى الوطن. ألم تروا أن غير المسلمين لم يعارضوا المشروعات الإسلامية ولا
أهلها، ولكنكم كنتم أنتم المعارضين. فإن أبيتم إلا الطعن والمعارضة، فاعلموا أن
وطنيتكم الباطلة لا بقاء لها إذا عارضها إسلامنا الحق، فإنما بقاء الباطل في نوم
الحق عنه، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
لا أقول هذا بلسان جماعة الدعوة والإرشاد ولا بالوكالة عنهم، وإنما أقول
قولي هذا باسم الإسلام، فكل من يقاوم الإسلام يقاومه أهل الاستمساك به والغيرة
عليه.
جماعة الدعوة الإرشاد بمعزل عن السياسة وأحزابها، تطلب التعاون من كل
حزب، وتقبل المساعدة من كل أحد، وأبوابها مفتوحة لكل مسلم، وأبغض الأعمال
إليها وشر السيئات في نظرها الخصام والتعادي والتخاذل والتخاصم؛ لأنها جماعة
توحيد واعتصام، لا حزب تفريق وخصام، وقد وسعتها الحرية التي وسعت
الجمعيات المسيحية والإسرائيلية، ووسعت كثيرًا من الخيرات والشرور في هذه
البلاد، فلماذا ثقلت على قلوب أولئك المرجفين، وطفقوا ينفرون عنها حتى باسم
الدين؟
لماذا لا ينفر ذلك المرجف المسلمين عن الصحف الدينية التي تطعن في دينهم
وتشككهم فيه، وكثير منهم مشتركون فيها، ولماذا لا يرد عليها، ولا يرجف
بالجمعيات التي تنشرها؟ ؟
وجملة القول: إن المسلمين يتنازعهم في البلاد التي دب إليها التفرنج
عاملان من عوامل الارتقاء: عامل الإسلام الجامع لكل أسباب الارتقاء، وعامل
الجنسيات الجديدة التي أحدثها التفرنج، ورأينا أن المسلمين لا يرتقون ولا يرتقي
سائر أهل وطنهم إلا باتباعهم هم هدى الإسلام نفسه، وكم أقمنا على ذلك
من البراهين، ونحن مستعدون لإثبات ذلك في كل حين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(14/191)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المسلمون والقبط
(النبذة الثانية)
عجبنا من الحركة القبطية الأخيرة وحق لنا العجب، وأن نبحث عن العلة
والسبب، شرذمة قليلة في أمّة كبيرة تأكل من ثمراتها زهاء ثلاثين من المئة، وهي
زهاء خمسة أو ستة في المئة، ثم تتصاعد زفراتها، وتتعالى نبآتها وهيعاتها: قد
ظلمنا المسلمون في وطننا، وهضموا حقوقنا لأجل ديننا، وتستنجد جرائد أوربة
وقسوسها ليلزموا الدولة الإنكليزية أن تنصر الفئة القليلة لأنها مسيحية، على الفئة
الكثيرة الإسلامية، أليس خطبها من أهم ما يبحث عنه، ويبين وجه الصواب فيه؟
ليعلم لماذا لم ترض بما كانت تأكله من حقوق غيرها بالهدوء والسلام، حتى اختارت
هذا اللدد في الخصام.
***
(بطرس باشا غالي)
بلى.. كان لهذه الفئة زعيم عظيم يأخذ بحجزها، ويمسكها إذا هبت رياح
الطيش فهمت أن تطير بها، ويحل جميع مشاكلها، ويقودها بالحكمة إلى أمانيها
ومقاصدها، مراعيًا سنن الاجتماع التي أشرنا إليها في صدر النبذة الأولى من هذا
المقال، فلما اخترم ذلك الزعيم العظيم، لم يكن له خلف في عقله وحكمته، ورويته
وحنكته، فتصدى للزعامة مثل جندي إبراهيم وشنودة وأخنوخ فانوس ممن لا
بضاعة لهم إلا شقشقة اللسان، والقدرة على إثارة الأضغان، وكانت العاصفة بفقد
الزعيم شديدة فطارت بالقوم، ولم تقع بهم على ما يستقرون عليه إلى اليوم.
ذلك الزعيم هو بطرس باشا غالي الذي كان صخرة القبط التي ترتد عنها
قرون الوغول واهية، وتبنى عليها كنيسة مصالحهم فتكون ثابتة راسخة، وكان
أكبر ما أعده من آيات ترقيتهم، معرفتهم قيمة زعيمهم وخضوعهم لزعامته،
وإعلاؤهم لكلمته.
بلغ من دهاء هذا الزعيم القبطي أن جمع بين الضدين، ووضع نفسه موضع
الثقة من السلطتين، فكان - والأمير والعميد راضيان عنه - يقدم ما يشاء غير هياب
ولا وجِل، فإذا أراد أمضى، وإذا قال فعل.
كانت سهام متحمسي الوطنية من المسلمين تسدد إلى المسلمين من نظار
الحكومة وكبار رجالها دونه، على علمهم بعصبيته لطائفته وتقديمه إياهم على
المسلمين، منذ كان وكيلاً لنظارة الحقانية إلى أن صار رئيسًا للنظار.
وهو الذي أمضى وفاق السودان بعد أن امتنع عنه مصطفى باشا فهمي، وقال:
إنه حق الدولة العلية دوننا، وهو الذي رأس محكمة دنشواي؛ لأنه كان نائبًا عن
ناظر الحقانية، ولم يحدث في مصر منذ كان الاحتلال إلى اليوم ما آلم المسلمين
وهيج قلوبهم مثل هذين الأمرين، ولم تكتب أقلامهم أشد مما كتبته فيهما.
وكان من عجائب سيرة بطرس باشا أنه سلم من أسنة أقلامهم، وأسلات
ألسنتهم، فبقي عرضه وافرًا لم يكلم، وشرفه مصونًا لم يثلم، على حين وزراء
المسلمين وكبراؤهم يفرى أديمهم، وتؤكل بالغيبة والغميزة لحومهم.
يحفظ المسلمون على بطرس باشا أمورًا كثيرة في الاهتمام بطائفته وتقديمها،
وقد سألت مرة صديقًا لي من كبراء الإنكليز الذين كانوا موظفين في الحكومة
المصرية؛ أيتعصب بطرس باشا للقبط ويؤثرهم على المسلمين كما يقال؟ قال:
نعم.. قلت: أيفعل ذلك غيره من النظار المسلمين والرؤساء فيقدمون المسلم على
غيره، قال: لا.. ولكن أيهم أحسن؟ ؟
لما كانت واقعة المحاكم الشرعية، وأرادت الحكومة أن تجعل في المحكمة
الشرعية العليا عضوين من مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية، هاج المسلمون
في مصر، وحملوا على الحكومة حملة منكرة في الجرائد، واجتمع علماء الأزهر
أول مرة للإنكار على الحكومة، وكان من المتحمسين المشهرين بالحكومة من يتهم
الأستاذ الإمام بالرضى بالمشروع وتأييد الحكومة فيه، فسألته عن ذلك، فعلمت منه
أنه سعى في مقاومته سرًّا جهد طاقته؛ لأنه يضر ولا يفيد المطلوب، وقال: إن
الواضع الحقيقي له هو بطرس باشا لا ناظر الحقانية الذي يلعنه الناس، ومن
مقاصد بطرس باشا فيه التمهيد لإلغاء المحاكم الشرعية، وجعل الحكم في الأمور
الشخصية من خصائص المحاكم الأهلية؛ لأن طلبة الحقوق يتعلمون الفقه الإسلامي،
فهو يريد أن يتعود المسلمون بالتدريج حكم لابسي الطرابيش في القضايا الشرعية،
حتى لا يبقى للمسلمين في الحكومة المصرية شيء من المشخصات الملية. قاوم
الشيخ الباشا في ذلك بمثل سيعه إليه، وكان كل منهما صاحبًا للآخر عارفًا لقيمته.
على ذلك كله، كان بطرس باشا آمنًا في سربه، عزيزًا في قومه، محترمًا
من المسلمين، يزوره حتى كبار علمائهم ورجال الدين فيهم، ولم يعلم أحد ما خبأه
له القدر، حتى حمي الأمر وقضي الأجل.
بينا فيما سبق أن الإفرنج يعنون بفرنجة غيرهم ليجذبوهم إليهم، وأن
الضعيف يقلد القوي فيما يسهل التقليد فيه أولاً ثم في غيره، وأن نغمة الوطنية في
مصر هي من هذا الباب، وأن المتحمسين فيها صاروا لا يفرقون بين الوطنيين
لأجل الدين، حتى كان منهم من يرضى أن يكون أمير البلاد قبطيًّا، وكان من
هؤلاء الوطنيين المتفرنجين شاب عصبي المزاج اسمه إبراهيم الورداني، تعلم في
أوربة، فكان من حظه في التفرنج قراءة أخبار الفوضويين الذين يجعلون أنفسهم
فدية لوطنهم، ولما صار بطرس باشا رئيسًا للنظار، وكان أهم ما حدث في
وزارته مشروع تجديد امتياز قنال السويس، وقامت الجرائد الوطنية تشرح ضرر
المشروع وغبن مصر فيه، وفائدة الشركة منه، اندفع إبراهيم الورداني بما اقتبسه
من تعاليم أوربة وتربيتها لا الأزهر الذي ربما كان لم يدخله قط، ورصد خروج
بطرس باشا من نظارته، وأطلق عليه الرصاص جهرًا فأصابه، ولم يلبث أن
قضى نحبه، ولم يفر الجاني ولا أنكر بل صرح بأنه تعمد قتله؛ لأنه اعتقد أنه
جان على وطنه بوفاق السودان ومحكمة دنشواي المخصوصة من قبل، وأنه يريد
أن يجني عليه الآن بمشروع قنال السويس.
فعل الورداني فعلته، فحكم عليه بالإعدام فأعدم شنقًا، كبر الخطب على القبط
وحق لهم ذلك. ولكن المسلمين لم يقصروا في مشاركتهم في كل شيء من تشنيع
الجناية، وتشييع الجنازة، وتأبين الفقيد ورثائه، بما لم يرثوا ولم يؤبنوا بمثله
وزيرًا مسلمًا من قبله، اشترك في ذلك أمراؤهم وعلماؤهم، وكتابهم وشعرائهم، دع
رجال الحكومة من جميع الطبقات؛ فقد كان الفقيد رئيسًا لهم.
كل ذلك لم يرضِ القبط، بل أرادوا أن يأخذوا مسلمي القطر كافة بذنب
الورداني، فطفقوا يكتبون ويستكتبون بعض المتعصبين من المشاركين لهم في الدين
باتهام المسلمين بالتعصب الديني، وجعل الجناية اعتداء من الدين الاسلامي على
الدين المسيحي وأهله؛ لاعتقادهم أن هذا هو محل الضعف من المسلمين، وموضع
التأثير في تهيج الإنكليز وسائر الاوربيين عليهم؛ لاتفاق الجميع على أن لا يتركوا
للمسلمين شيئًا من المقومات ولا من المشخصات الملية، لما بيناه في فاتحة النبذة
الأولى من الأسباب الاجتماعية.
قابل المسلمون كل هذا العدوان بالحلم، فاستضعفهم القبط وأسرفوا في الطعن
والقدح في جرائدهم، وأوفدوا إلى إنكلترة من ينوب عنهم في إقناع الجرائد
الإنكليزية والنواب الإنكليز ورجال الدين والحكومة في لوندرة؛ بأن القبط مظلومون
مغبونون في مصر لأجل دينهم ووالوا ذلك، وأدمنوه سنة كاملة، احتفلوا في
خاتمتها بذكرى فقيدهم العظيم، وكان يظن أن المسلمين لا يشاركونهم في هذا
الاحتفال بعد تلك الغارة الشعواء في جريدتي الوطن ومصر على الكتب العربية
والآداب العربية والديانة العربية (الاسلامية) ، ولكن المسلمين كذبوا الظن، فهرع
علماؤهم وكبراؤهم الى مدفن الفقيد وكنيسة طائفته، وأبنوه بالنثر والنظم وأطروه
أشد الإطراء، فكان من اللائق المعقول أن تقف القبط عند هذا الحد من الظفر،
وتواتي طلاب الصلح من المسلمين الذين اعتذروا عما كتبه القبط من سوء القول؛
بأنه رأي أفراد منهم لا يؤخذونهم بشذوذهم فيه.
***
(المؤتمر القبطي وتأثيره)
لو كان للقبط زعيم عاقل كذلك الزعيم الذي فقدوه، لما سمح لهم بذلك التقحم
الذي تقحموه، ولو كان لهم زعيم له نصف عقله وحكمته، لأوقفهم عند الحد الذي
انتهى به الحول بعد مصرعه، عملاً بتحديد لبيد لمدة الحزن والرثاء ولكنهم بعد
انتهاء الحول، وبعد تلك المجاملة من المسلمين في الاحتفال التي عدها المتزاحمون
على الزعامه فيهم ضعفًا ومهانة، انبروا إلى تصديق أقوال جرائدهم بالعمل، فألفوا
مؤتمرًا قبطيًّا عامًّا في أسيوط التي سماها بعضهم (عاصمة القبط) ؛ لإثبات الغبن
الذي أصابهم وبيان المطالب القبطية التي يريدون بها مساواة المسلمين، وأولها: أن
تسمح الحكومة للموظفين منهم بترك العمل يوم الأحد، وتسمح للتلاميذ منهم في
مدارسها بترك الدراسة فيه أيضًا؛ لأن دينهم يحرم عليهم العمل فيه، وقد تقدمت
الإشارة إلى غير ذلك من مطالبهم التي يسمونها حقوقًا لهم، وليس من غرضنا شرح
ذلك وبيان حقه من باطله بالتفصيل، وإنما مرادنا بيان هذه المسألة الاجتماعية
بالإجمال.
توالى الوخز والطعن على جسم الشعب الإسلامي مدة سنه كاملة، فلم يكد
يشعر به ولا استيقظ من منامه، فلما سمع صيحة المؤتمر القبطي الشديدة المؤلفة
من أصوات الألوف من الشاكين، هب من نومه مذعورًا، فرأى أن الجسم الصغير
الذي كان يعده عضوًا منه قد انفصل وصار حيًّا بنفسه، ممتازًا بمقومات
ومشخصات خاصه به، سماها (قبطية) ، وسمى ما بقي للجسم الكبير من
المقاومات والمشخصات (إسلامية) ، وهو يريد أن ينتزعها كلها منه، ويجعله تابعًا
له عملاً بقاعدة {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} (البقرة: 249) فعز عليه
ذلك، واستعد للدفاع عن نفسه.
نعم.. رأى المسلمون أن البلاد بلادهم، والحكومة حكومتهم، والشريعة
شريعتهم، وأن غيرهم لم يكن له في مصر وجود حتى يكون له حقوق يؤبه لها؛
لأن هؤلاء الأغيار كالنقطة السوداء في الثور الأبيض أو النقطة البيضاء في الثور
الأسود. ولكنهم بتساهلهم وإهمالهم قد شاركوا هؤلاء الأغيار في حكومتهم وفي
جميع مصالحهم العامة والخاصة، حتى صارت إدارة أملاكهم وعقاراتهم وأوقافهم
الأهلية كلها بأيدي أولئك الأغيار.
ثم أرادهم أولئك الأغيار على أن لا يذكروا اسم الإسلام والإسلامية في أمور
الحكومة ولا غيرها من المصالح العامة؛ لأن ذلك ينافي المدنية العصرية، فرضوا،
وصاروا يترنمون باسم الوطنية والمصرية، ويقولون: نحن مصريون قبل كل
شيء، ويعدون المسلم غير المصري دخيلاً بينهم.
بل رأوا أنهم قد انجذبوا إلى القبطية، وصاروا يفخرون في جرائدهم وخطبهم
وأشعارهم بفرعون الذي لعنه الله تعالى على لسان موسى وعيسى ومحمد صلوات
الله عليهم أجميعن، وأخبر تعالى أنه استخف قومه فأطاعوه، واستعبدهم واستذلهم،
وكان من أغرب ما وقع في هذا الباب أن شاعرًا مسلمًا نظم قصيدة في عيد السنة
الهجرية، وأنشدها في احتفال عظيم، فافتخر فيها بأنه هو وقومه من آل فرعون،
ولم يفتخر بالنسبة إلى صاحب الهجرة الشريفة، ولا بآله وأصحابه الذين يفتخر بهم
الوجود صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين، فكيف تجمعون أيها
المفتخرون بآل فرعون بين هذا الفخر وبين قول ربكم فيكم: {النَّارُ يُعْرَضُونَ
عَلَيْهَا غُدُواًّ وَعَشِياًّ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} (غافر:
46) .
بل رأى هؤلاء الذين استيقظوا من المسلمين أن مقومات حياتهم المعنوية التي
هم بها أمة؛ قد تزلزل بعضها وزال بعض، فصارت السلطة التشريعية في بلادهم
بأيدي الأغيار والنفوذ الأدبي في أيديهم، حتى إن مجموع جرائدهم أكبر تأثيرًا في
الأمور العامة من جرائد المسلمين، وكذلك النفوذ السياسي والمالي، فثروة المسلمين
كل يوم في نقصان كما يعلم كل يوم من إعلانات الحجز وبيع الأملاك المرهونة،
رأوا هذا وأمثاله مما لا يحل لإحصائه هنا، فعلموا أن الذي أطمع هذه الشرذمة من
القبط فيهم ليس بالشيء اليسير، وإنما هو انحلال جميع روابطهم، وزلزال أو
زوال جميع مقوماتهم ومشخصاتهم، حتى إنه لم يعد أحد منهم يجسر على أن يقول
حكومة إسلامية أو مصلحة إسلامية، وتذكر العالمون بسنن الاجتماع ما ذكرناه من
القواعد في فاتحة النبذة الماضية، فعلموا أنهم صاروا عرضة للعدم والانقراض، أو
الاندغام في القبط، كما اندغم القبط فيهم من قبل، بل رأوا أن القبط قد غلوا
وأسرفوا في الطمع فيهم، حتى لم يرضوا بما كانوا سائرين إليه من الفناء فيهم باسم
مصريين، وأبوا إلا أن يكون لهم كل شيء بلقب قبط، والأمم تهتم في طور
الضعف بالألقاب والأسماء ما لا تهتم بالمعاني، فقد يمرق المسلم أو النصراني من
دينه بالفعل، ويبقى محافظًا على الاسم، لذلك حكمنا بأن القبط قد غلوا وأسرفوا في
حركتهم الأخيرة، وأنهم لو صبروا لنالوا في غفلة المسلمين وتخاذلهم كل ما يؤملون،
وإن سبب ذلك هو فقد الزعيم وإعواز خلف له، فهذه الحركة لا يعقل أن تكون
مؤدية إلى المطلوب إلا إذا كانت مبنية على وعد قاطع من السلطة الإنكليزية الفعالة،
وهو ما يظنه بعض الناس، وإن قال فيهم العميد وقالوا فيه ما يدل على خلاف
ذلك، وأما مساعدة قسوس الانكليز والأمريكان، فليست كافية إذا استيقظ المسلمون،
وعارضوا بالحكمة والعقل.
***
(مطالب القبط كلها دينية)
يقول بعض المموهين: إن هذه الحركة القبطية ليست دينية، بل هي طائفية
جنسية، يختلبون المسلمين بهذا، والمسلمون يردون عليهم من كلامهم (من فمك
أدينك) فإنهم يقولون: إن السواد الأعظم من المصريين قبط، فما الذي تمتاز به هذه
الخمسة أو الستة من المئة على الباقي وأكثره من القبط، كما يقولون؟ هل هنالك غير
الدين؟ ألم يصرحوا بأنه هو علة حرمانهم مما يطلبون؟ ألم يحرضوا قسوس إنكلترة
وجرائدها، ويطلبوا نجدتها باسم الدين؟ ألم يكن أول مطالبهم ترك أعمال الحكومة في
يوم الأحد عملاً بالدين؟ إلا أنه من سوء الحظ أو حسنه أن كان القبط ليس لهم لغة،
وإذاً لحاربوا المسلمين بلغتهم، وكانوا بحزمهم ومساعدة الإفرنج وغيرهم هم
الغالبين، ولم يكن لأحد عذر في كلمة إسلام أو مسلمين.
إذا كانت القبطية جنسية للقبط المسيحين خاصة، فأجدر بالإسلام أن يكون
جنسية للمسلمين عامة، فإن المسيحية قد فصلت الحكومة من الدين كما يقولون،
وأمرت أن يعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله، والإسلام ذو شريعة وسياسة، فما
بال الذين يأمرهم دينهم بالخضوع لكل حاكم وإن كان وثنيًّا كقيصر الروم في زمن
المسيح عليه السلام، قد أصيبوا بهذا الشره في السياسة، فلا يتبعون حاكم مصر
المسلم في بطالة يوم الجمعة دون يوم الأحد وما بال المسلمين قد أجابوا دعوة غيرهم،
فرضي حاكمهم ومحكومهم بأمور كثيرة مخالفة للشريعة في حكومتهم؟
إذا كان القبط لا يشتغلون يوم الأحد في حكومة الحاج عباس حلمي المسلم،
فيلتركوها ويستغنوا عنها تنسكًا وتعبدًا، وإلا فالمسلمون أجدر منهم بطلب جعل كل
شيء في هذه الحكومة موافقًا لدينهم؛ لأن الحاكم العام منهم؛ ولأن أكثر الأحكام تقع
عليهم؛ لأنهم أكثر من تسعين في المئة من الأمة، فلهم أن يقولوا: إننا لا نخضع
لحكم يحرم علينا وجداننا الخضوع له، ولماذا ينكر الأغيار عليهم ذلك ويسمونه
تعصبًا، وإنما أولئك الأغيار هم المتعصبون الذين يفتاتون على أمة مسلمة حاكمها
العام مسلم، ولا يسمحون لها أن توفق بين دينها وحكومتها.
يقول بعضهم: إن هذه حكومتنا وحكومة آبائنا وأجدادنا، ويقول بعض آخر:
إن لنا حق مساواة المسلمين فيها، والصواب أن الحكومة ليست حكومتهم وأنه لا
حق لهم فيها ألبته ولا لغيرهم، ولماذا؟ إن هذه البلاد عثمانية سيدها الحقيقي
سلطان المسلمين وخليفتهم، وقد فوض أمر إدارتها إلى محمد علي باشا وذريته على
قاعدة مخصوصة، اعترفت بها دول أوربا الكبرى، وهي كما قال اللورد كرومر لم
تكن محل خلاف ولا نزاع قط، وقد كان يكتب على أوراق الحكومة (الحكومة
المصرية) ، وأخيرًا صار يطبع عليها بالعربية (الحكومة الخديوية) نسبة إلى
شخص الخديوي، وبالانكليزية حروف معناها (في خدمة سموه) ، فهذه الحكومة
إذًا شخصية تابعة لشخص الخديوي، ليس لأحد من رعيته عليه حق فيها،
والمسلمون هم الذين قاموا يطلبون منه أن يمنح البلاد الدستور الذي يجعل للأمة حق
الشركة معه في حكم البلاد، والقبط لم تطلب ذلك، فكل ما ناله القبط من الوظائف
الكثيرة هي فضل وإحسان من أمير مصر المسلم المتساهل ولم يكن مؤديًا لحقوق
واجبة عليه فيه.
وأما المسلمون، فإذا لم يكن لهم حقوق عليه بحسب شكل الحكومة الشخصي
الذي أقرته الدولة الكبرى، فيمكن أن يقال: إن لهم أن يطالبوه بحقوق يوجبها عليه
دينه، فيكون الرجاء في إجابتها منوطًا باعتقاده ووجدانه.
هذا هو الحق الذي يزهق به كل باطل، وسنبين في النبذه الثالثة ما ينبغي أن
يكون عليه الأمر في مصر من السلام والتساهل، والاتفاق بين جميع المقيمين فيها.
***
(النبذة الثالثة)
(الإسلام دين وجنسية)
الإسلام دين وجنسية اجتماعية وسياسية للمسلمين، هذا هو الواقع، وإن
كرهه أقوام يودون أن يكون دينًا فقط لا رابطة بين أهله في الأمور السياسية ولا
الاجتماعية؛ لما لأولئك من المصلحة في ذلك؛ وجنسيته واسعة تشمل المنافقين
الذين يظهرون الإسلام ويسرون الكفر والإلحاد، وتتسع لكل من يرضى بحكمه
الذي هو رابطته السياسية، فجيز استخدامهم في أكثر مصالح حكومته، وقد ارتقى
فيها غير المسلمين إلى منصب الوزارة في دوله العزيزة القوية التي لم يكن في
الأرض من يقف في وجه قوتها كأبي إسحق الصابئ في الدولة العباسية، فمثل
شريعته في ذلك كمثل قوانين دولة النمسة مثلاً، كل منهما جنسية سياسة يخضع لها
شعوب مختلفون في اللغات والمذاهب والأديان، ولكن بينهما فروقًا أهمها أن الفئة
الغالبة في الجنسية الإسلامية السياسية، وهي التي تدين بالإسلام تعتقد أن أصول
شريعتها وبعض فروعها منزلة من عند الله، وبعضها الآخر من اجتهاد الناس.
لا يضر من يشارك المسلمين في الخضوع لشريعتهم أن كانوا يدينون الله بهذا
الخضوع وهو لا يدين لله به، فإن حقوقه على المسلمين المكفولة بها تكون حينئذ
مضمونة بقوة الحكومة في الظاهر وقوة الاعتقاد في النفس، وحقوقهم عليه لا تكون
مضمونة إلا في الظاهر فقط، فالمسلم المتدين لا يأكل حق غيره وإن أمن عقاب
الحكومة، وغير المسلم قد يأكل حق المسلم المحكوم به إذا أمن العقاب؛ لأن وجدانه
لا يعارضه في ذلك، إذا اعتقد أن الحكم لا يجب الخضوع له.
وتمتاز هذه الشريعة على جميع الشرائع والقوانين بأنها تخير من لا يدينون
بها بين التحاكم إلى أهلها إن رضوا بذلك وبين التحاكم إلى أهل دينهم، فهي
باحترامها الحرية لا تكره أحدًا على عقيدتها وأعمالها الدينية، ولا على أحكامها
الشخصية ولا المدنية.
***
(حال المسلمين مع أوربة)
غلب على المسلمين الجهل بحقيقة الإسلام من حيث هو دين، ومن حيث هو
جنسية، حتى رضوا بحكم الجاهلين والمارقين منهم، فارتخت روابطهم كلها،
فسهل على ساسة أوربة الافتيات عليهم، والنفث اللطيف في بقايا العقد التي تربط
بعضهم ببعض، وتنكيث قوى حبلهم من غير جلبة ولا ضوضاء كجلبة المؤتمر
القطي والجرائد القبطية.
ذلك بأنها فتحت أقفال قلوبهم وأفكارههم، وزينت لهم آدابًا غير آدابهم،
وشرائع غير شريعتهم، وجنسيات غير جنسيتهم، وسلطت بعضهم على بعض؛
ليجذبه إلى ذلك من حيث لا يشعر المسلط ولا المسلط عليه. فهذه التعاليم التي تبثها
فيهم تستل من نفوسهم كل شيء إسلامي برفق ولذة، كما تستل الراح عقل شاربها،
ولو سلكت مسلك جرائد القبط وخطباء القبط في التوسل إلى ذلك لما زادت المسلمين
إلا استمساكًا واعتصامًا بكل ما تريد أن يتركوه.
اللوم إغراء، والمنازعة مدعاة المشاحة، والتعصب مثار التعصب، فكيف
تصورت القبط أن تنال بهذه الجلبة على ضعفها، ما تعلم أوربة أنها تعجز أن تناله
بمثل ذلك على قوتها؟ ؟
أما علموا أن من استعجل الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه، إلا أنني أعتقد
أنهم كانوا على مقربة من كل ما يطلبون، وإن هذه الجلبة ما زادتهم إلا بعدًا عنه،
ولهذا قلت: إنهم لو صبروا واتبعوا منهاج الحكمة وسنن الاجتماع (كما كان يفعل
زعيمهم ونابغتهم) لنالوا من المسلمين بالمسلمين كل ما أرادوا ولكن أبوا إلا أن
يذكروا المسلمين بغبنهم، ويدعوهم إلى الاجتماع والتشاور في أمرهم، بتأليف
مؤتمر يتبينون فيه من هم، وما هي نسبتهم إلى غيرهم، وما كانوا لولا هذه
الحركة القبطية ليقدموا على ذلك.
قال بعض كتاب فرنسة: إن قطرًا إسلاميًّا قد انفصل برمته من مكة وهو
تونس، يعني أن جنسيته الإسلامية قد زالت، لا أن أكثر مسلمي تونس قد خرجوا
من الإسلام، وتركوا الحج إلى البيت الحرام. وأنا أقول: إن الجنسية الإسلامية
بمصر أضعف منها في تونس، وقد بث دعاة الوطنية رأي الجنسية المصرية في
طلاب جميع المدارس المصرية من أميرية وأهلية وأجنبية، وهم الذين سيتولون
جميع الأعمال العامة والوظائف، فكان المنتظر أن تمحو نابتة المسلمين بأيديها ما
بقي في ذلك من صبغة الإسلام، حتى لا يبقى إلا اسم مصري ومصرية: الشارع
المصري، القانون المصري، الحكومة المصرية، المصلحة المصرية ... إلخ.
ولكن القبط أبوا إلا أن يقولوا (قبطي وقبطية) ولم يحسبوا حسابًا لمقابلة المسلمين
لهم على ذلك بقول: إسلامي وإسلامية.
أليس من المعقول أن يقول المسلم المصري: إننا قد تركنا جنسيتنا الإسلامية،
ونحن أكثر من أحد عشر مليونًا؛ لأجل الاتحاد بنصف مليون من القبط لم نستفد
ولن نستفد بالاتحاد شيئًا لم يكن لنا، بل خسرنا وسنخسر كثيرًا مما كان لنا وحدنا،
فكيف رضي المغبون الخاسر، ولم يرض الرابح الظافر؟ أليس من الذل والهوان
أن نرضى بالانتقال من إسلامية إلى (مصرية) ؛ ليكون ذلك مدرجة إلى الانتقال
من (مصرية) إلى (قبطية) ، وإذا كانت هذه الجنسية المصرية التي انتحلناها
تبعدنا عن سائر إخواننا المسلمين وهم يعدون بمئات الملايين، ولا تقربنا من
جيراننا القبط وهم نصف مليون، فكيف تكون جنسية جديدة لنا ولم يتجدد لنا بها
شيء؟ صرنا نعد المسلم الشامي والحجازي دخيلاً فينا، لا نسمح أن يدخل حكومتنا،
أو يشاركنا في مصالحنا لأجل أن يكون القبطي أخًا لنا، له ما لنا وعليه ما علينا،
فأبعدنا ذاك ولم نستطع أن نقرب هذا، فمن نحن إذًا وما هي جنسيتنا؟
كان الأمير محمد إبراهيم قد عني باللغة العربية من دون سائر هذه الأسرة
الخديوية، فدخل عليه بعض أقاربه الأمراء، فرآه ينظر في بعض الكتب العربية
فلامه على ذلك وسأله عن سبب هذه العناية، فأجابه: هل نحن إفرنج وهل يعدنا
الإفرنج منهم؟ قال اللائم: لا.. قال: هل يعدنا الترك منهم؟ قال: لا.. قال:
فهل الأفضل لنا أن لا يكون لنا جنس؟ كلا.. إننا قد صرنا عربًا مصريين،
فالواجب علينا أن نعرف لغة أبناء جنسنا.
هذه هي الحكمة التي نطق بها الأمير محمد إبراهيم فحج بها لائمه. أفلا يسع
القبط ما وسع الأسرة المالكية، فيكونوا عربًا مصريين؟ ويتركوا كلمة قبط في كل
ما يتعلق بالحكومة والمصالح الدنيوية، ويجعلوها خاصة بمجلسهم الملي وشؤونهم
الدينية فيكونوا هم المفلحين، فإن القبطية تصلح أن تكون جنسية دينية لهم إن أحبوا
أن لا يمتزجوا بغيرهم من النصارى المتمصرين، ولكنها لا تصلح جنسية سياسية
دينية معًا ولا سياسية فقط؛ إذ لا يمكن أن يرضى المسلمون أن يعودوا في مصر
قبطًا، ولا في بلاد الأعاجم وثنيين ومجوسًا وبوذيين، فإذا كانوا يطلبون المساواة
حقيقة لا تمويهًا، فليتركوا العصبية القبطية والجنسية القبطية والمطالب القبطية،
فإن كل شيء ينالونه بهذه النسبة وهذا اللقب يدفع المسلمين إلى الرجوع إلى
الجنسية الإسلامية، ويخشى حينئذ أن يخسروا بحق بعض ما ربحوه بغير حق.
لا يغرنكم أن المتعلمين منكم عددهم النسبي أكثر من عدد المسلمين كما
تزعمون، فالعبرة في المقاومة للكثرة الحقيقية لا للكثرة النسبية، والمتعلمون من
المسلمين أكثر من المتعلمين منكم على كل حال، لا يغرنكم أن ثروتكم النسبية
أوسع من ثروة المسلمين كما تقولون، لا لأجل ما قلته في عدد المتعلمين بل لأن
المسلمين إذا تعصبوا عليكم لا تستطيعون أن تزرعوا أرضكم إلا إذا جعلتم أكثر
غلتها لهم؛ لأنكم لا تجدون الزراعين والعاملين فيها إلا منهم، فإذا علمتوهم
التعصب والتكافل، فإنهم يستطيعون أن يفقروكم بالاغتصاب الذي بدأ التفرنج ينفخ
روحه في مصر.
إذا كنتم لا تدركون مغبة هذه الحركة التي قمتم بها، فكيف خفي هذا الأمر
الطبيعي عن أصحاب الجرائد السورية والإفرنجية، وهم أعلم منكم بطبيعة
الاجتماع وأخلاق الأمم، فلم ينهوكم عن هذه الثورة القبطية التي تهدم ما بنوه في
السنين الطوال من محاربة التعصب والانقسام الديني والطائفي في هذه البلاد،
فبفضل جهادهم وطبيعة التفرنج الذي ينصرونه، قد صار كل ما للمسلمين في هذه
البلاد متحركًا بحركة الاستمرار لا بالحركة الطبيعية الحقيقية التي لا يفضلون بها
القبط، بل القبط تفضلهم فيها.
نعم.. كان المسلمون يتحركون بحركة الاستمرار في كل ما هو إسلامي
فأحدثت القبط لهم حركة طبيعية جديدة. ولكن الباعث عليها من الخارج لا من
النفس؛ لذلك ينتظر أن تكون قوة الدفع فيها ضعيفة، وأن لا يطول عليها الأمد،
حتى تعود إلى حركة استمرارية لا قوة فيها ولا تأثير لها إلا إذا تجدد المحرك الدافع،
فمن مصلحة غير المسلمين أن يمنعوا تجدده لينالوا كل ما يؤملون بهدوء وسلام،
وإن كلمة واحدة من لجنة مؤتمر القبط التنفيذية تحل الإشكال، وهي (قررنا أن لا
نطلب من الحكومة شيئًا للقبط، بل ندعها تختار الأكفاء لأعمالها برأيها واجتهادها،
وأن لا يذكر لفظ قبط ولا مسيحيين في المصالح الدنيوية) .
إنني أعتقد أن هذا الحل خير للقبط ولجميع المسيحيين في هذا القطر؛ لأنهم
يكونون هم الرابحين فيه، وأن الأربح للمسلمين أن يحافظوا على جنسيتهم
الإسلامية، ولكنهم يرضون بإيثار غيرهم عليهم بمساواته بهم في بعض المصالح،
ورجحانه عليهم في بعض المرافق، إذا هو ترك لهم بعض الخصائص التي صارت
أعضاء أثرية أو كادت، ولا يضره تركها لهم، وهو يعلم أنها ستزول بالتدريج.
يظن كثير من القبط وغيرهم أن المسلمين لا يستطيعون أن يتحركوا حركة
إسلامية؛ خوفًا من أوربة المسيحية أن تسمح حينئذ للإنكليز بضم مصر إلى
مستعمراتهم، والتعجيل بمحو هذه الصبغة الإسلامية الحائلة التي أوشكت تزول من
نفسها، وأن يتركوا سنة التدريج في إزالتها، وقد يصدق هذا الظن إذا هاج
المسلمون على المسيحيين، فاعتدوا على أموالهم وأو أنفسهم، وهذا ما لا يكون من
مسلمي مصر، فإن كانت القبط تحرك النعرة الإسلامية؛ لظنها أن المسلمين بين
أمرين لا ثالث لهما: إما السكوت فتنال القبط بجبنهم العلو عليهم، وإما الثورة
فتقضي إنكلترة القضاء الأخير على حكمهم، فلتعلم القبط أن هنالك أمرًا ثالثًا أعدل
وأقرب؛ وهو أن يتعصب المسلمون لجنسيتهم الإسلامية كما يتعصب القبط سواء،
بلا ثورة ولا اعتداء، وكيف يكون ذلك؟
يحصون المستخدمين من القبط في دوائرهم ومزارعهم، فيخرجونهم منها
ويستبدلون بهم أبناء جنسهم ودينهم، يقدم رجال الحكومة منهم المسلم على القبطي
بمثل الطريقة التي امتلأت بها مصلحة سكة الحديد ومصلحة البريد وغيرهما بالقبط،
يؤلفون الجمعيات الاقتصادية والاجتماعية لمباراة القبط ومسابقتهم في الزراعة
وغيرها من طرق الكسب، وحمل الفعلة والعمال من المسلمين على الاغتصاب عند
الحاجة، يفعلون هذا وأمثاله من غير ذكر للقبط ولا لغيرهم من المسيحيين إلا بخير،
فماذا تفعل إنكلترة المسيحية وأوربة المسيحية بهم في مثل هذه الحال، وما هي
من المحال، ألا يكون هذا ربحًا للمسلمين وخسارًا على القبط من غير خطر ولا
سوء عاقبة؟ بلى.. فالخير للقبط وغيرهم أن يعلموا بما ارتأيته، ولو خرج
زعيمهم النابغة من قبره الآن لما أشار عليهم بغيره، اللهم إلا أن يكونوا مدفوعين
من الإنكليز إلى ما عملوا، آخذين منهم ميثاقًا غليظًا على إجابتهم إلى ما طلبوا،
وهذا لا يعقل أن يصدر من الحكومة الإنجليزية، وإنما يقال: إن بعض القسيسين
والسياسين وعدوهم لينفذن لهم ذلك، فإن ظهر له أثر عملي اضطر المسلمون أن
يعتصموا برابطتهم الإسلامية؛ لئلا يصيروا بعد سنين قليلة أجراء وفعلة، ليس لهم
في البلاد التي كانت لهم وحدهم شأن، لا في الحكم ولا في غير الحكم.
ها أنا ذا؛ قد حللت المسألة تحليلاً، وفصلتها بسنن الاجتماع البشري تفصيلاً،
واضطررت أن أكرر بعض المعاني؛ لأجل أن تستقر في الأذهان، والنتيجة
الطبيعية محصورة في أحد أمرين كما علم من كلامنا آنفًا: إما استمرار القبط على
مطالبهم القبطية، ورجوع المسلمون إلى جنسيتهم الإسلامية، ومقاومة القبط
بالوسائل الاجتماعية والأدبية. وإما رجوع القبط عن هذه النزعة الدينية وسكوتهم
منذ اليوم عن مطالبهم، وحينئذ يبقى المسلمون على ما كانوا عليه من التساهل
والدعوة إلى الوطنية والجنسية المصرية التي يفضلون بها القبطي على المسلم غير
المصري وإن تمصر، والأمر الثاني: هو الذي يفضله الإفرنج وجميع المسيحيين
واليهود في هذه البلاد؛ لأنه غرس أيديهم وغرضهم من جهادهم، ومثلهم في ذلك
جميع المتفرنجين من المسلمين، وسنبين في النبذة الرابعة مسألة يوم العطلة
بالدلائل والبراهين.
***
(النبذة الرابعة)
(العيد الأسبوعي في الملل الثلاث)
لكل أمة من الأمم الثلاث -الإسلامية واليهودية والنصرانية- يوم في الأسبوع،
تجتمع فيه للعبادة وصلة الرحم وزيارة الأصدقاء ما لا تجتمع في غيره، فهو عيد
ملي لها في كل أسبوع، وشعار من شعائرها الدينية والاجتماعية التي يمتاز به
بعضها عن بعض، فلا تترك الأمة منها شيئًا من خصائص يومها للأخرى إلا إذا
رضيت أن تكون منها مكان التابع من المتبوع والمقتدي من الإمام، وينقص بما
تتركه من مقوماتها ومشخصاتها الملية بقدر ما تتركه، فيضعف ارتباطها
واعتصامها الذي به كانت أمة واحدة، ومتى سهل على الأمة ترك ما به كانت أمة،
فاحكم عليها بالفناء والزوال، ولا سيما إذا كانت بجوار أمة قوية تتعمد سلب
استقلالها، وتتوخى تسخيرها لمنافعها أو جعلها غذاء لها.
للمسلمين يوم الجمعة ثبتت خصوصيته بنص كتابهم القرآن وسنة نبيهم عليه
الصلاة والسلام وعمل سلفهم الصالح، ولليهود يوم السبت بنص كتابهم التوراة
وعمل سلفهم من عهد موسى صلى الله عليه وسلم، وللنصارى يوم الأحد برأي
بعض رؤساء الكنيسة لا بنص من المسيح عليه الصلاة والسلام ولا من حواريه في
الإنجيل، ولا في الرسائل التي يطلق على مجموعها العهد الجديد، وإن العهد
الجديد مبني على أساس العهد العتيق الذي هو مجموع كتب اليهود من الأسفار
المنسوبة إلى سيدنا موسى، والكتب المنسوبة إلى أشهر أنبياء بني إسرائيل عليهم
السلام، وفي الإنجيل أن المسيح عليه السلام قال: ما جئت لأنقض الناموس وإنما
جئت لأتمم، والناموس هو شريعة موسى، ولكن النصارى نقضوه بالتأويل لجمل
قالها بولس في رسالته لأهل غلاطية ورسالته لأهل رومية.
قال بعض علماء البروتستانت: إن الناموس يطلق على شريعة موسى الأدبية
والطقسية والسياسية، أما الشريعة الأدبية فمختصرها الوصايا التي أنزلها الله على
موسى في لوحين من حجر، وأما الناموس الطقسي أو ناموس الشعائر الدينية،
فكان دستورًا لعباده العامة والخاصة، وبه تعرف كيفية الذبائح والصيام والتطهير
والصلاة والأعياد، ويتدرج إلى الناموس السياسي الذي أفرز شعب الاسرائليين من
جميع الشعوب المجاورة، ولما كان ناموس الشعائر هذا يشير إلى المسيح؛ فلذلك
ألغي عند إتيانه. اهـ المراد بحروفه. والعبرة فيه أن الوصية في التوراة بحفظ
يوم السبت من الشريعة الأدبية المقارنة لتوحيد الله تعالى وعدم الشرك به، وللنهي
عن القتل والزنا والسرقة، فهي لم تنسخ بمجيء المسيح. وكيف تنسخ به هذه
الوصية وهي ركن من أركان الدين وقواعده الاساسية، ونطق العهد العتيق بتقديس
يوم السبت في الكلام عن مبدإ الخلق والتكوين.
جاء في الفصل الثاني من سفر التكوين (2 وفرغ الله في اليوم السابع من
عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل 3 وبارك الله
اليوم السابع وقدسه؛ لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقًا) ثم أكد
على لسان موسى تأكيدًا، وشدد في حفظه وتقديسه وترك العمل فيه تشديدًا.
جاء في سفر الخروج (16: 23 فقال لهم (موسى) هذا ما قال الرب: غدًا
عطلة سبت مقدس للرب. اخبزوا ما تخبزون واطبخوا ما تطبخون، وكل ما فضل
ضعوه عندكم ليحفظ إلى الغد - إلى أن قال - لا يخرج أحد من مكانه في اليوم
السابع 30 فاستراح الشعب في اليوم السابع) .
(وفيه من الوصايا) (20: 8 اذكر يوم السبت لتقديسه 9 ستة أيام تعمل
وتصنع جميع عملك. وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك. لا تصنع عملاً ما
أنت وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي دخل أبوابك 11 لأن في ستة أيام
صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع لذلك
بارك الرب يوم السبت وقدسه) ونحوه في 23: 12 و34: 21 منه.
وفي تثنية الاشتراع من الوصايا أيضًا (5، 12) احفظ يوم السبت لتقدسه،
كما أوصاك الرب إلهك 13 ستة أيام تشتغل وتعمل جميع أعمالك 14 وأما اليوم
السابع فسبت للرب إلهك، لا تعمل فيه عملاً ما أنت وابنك وبنتك وعبدك وأمتك
وثورك وحمارك وكل بهائمك ونزيلك الذي في أبوابك؛ لكي يستريح عبدك وأمتك
مثلك.
وفي الفصل الرابع من أرميا تأكيد عظيم الوصية بيوم السبت، ووعد لهم
بالجزاء على ذلك في الدنيا بدخول ملوك ورؤساء مدينة أورشليم وتسكن إلى الأبد،
وتجلب إليها الذبائح والمحرقات واللبان، ثم قال في آخر الفصل: (27 ولكن إذا
لم تسمعوا لي لتقدسوا يوم السبت؛ لكيلا تحملوا حملاً ولا تدخلوا في أبواب أورشليم
يوم السبت، فإني أشعل نارًا في أبوابها فتأكل قصور أورشليم ولا تطفئ) ا. هـ
وأرميا بقوله حكاية عن الرب.
وأما الوعيد في الأسفار المنسوبة إلى موسى على مخالفة هذه الوصية فشديدة
جدًا، ففي الفصل الحادي والثلاثين من سفر الخروج ما نصه: (12 وكلم الرب
موسى قائلاً: وأنت تكلم بني إسرائيل قائلاً 13 سبوتي تحفظونها؛ لأنه علامة بيني
وبينكم في أجيالكم لتعلموا أني أنا الرب الذي يقدسكم 14 فتحفظون السبت؛ لأنه
مقدس لكم، من دنسه يقتل قتلاً، إن كل من صنع فيه عملاً، تقطع تلك النفس من
بين شعبها 15 ستة أيام يصنع عمل، وأما اليوم السابع فيه سبت عطلة مقدس للرب،
كل من صنع عملاً في يوم السبت يقتل قتلا 16 فيحفظ بنو إسرائيل السبت؛
ليصنعوا السبت في أجيالهم عهدًا أبديًّا 17 هو بيني وبين بني إسرائيل علامة إلى
الأبد؛ لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض، وفي اليوم السابع استراح
وتنفس) ا. هـ.
وفي أول الفصل الخامس والثلاثين منه (1 وجمع موسى كل جماعة بني
إسرائيل وقال لهم هذه الكلمات التي أمر الرب أن تصنع 2 ستة أيام عمل يعمل،
وأما اليوم السابع ففيه يكون لكم سبت عطلة مقدس للرب، كل من يعمل فيه عملاً
يقتل 3 لا تشعلوا نارًا في جميع مساكنكم يوم السبت) .
وفي الفصل الخامس عشر من سفر العدد؛ أنه وجد رجل في البرية يحتطب
(35 فقال الرب لموسى قتلاً يقتل الرجل، يرجمه بحجارة كل الجماعة خارج
المحلة) فرجموه.
هذه هي النصوص التي عليها مدار تقديس يوم السبت في العهد القديم، وكان
عليها المسيح والمؤمنون به، كما يؤخذ من العهد الجديد، ففي قصة الصلب أن
المؤمنين والمؤمنات لم يخرجوا لأجل سيدهم الذي تركوه مساء الجمعة مصلوبًا
حسب رواية الأناجيل الأربعة، ولكن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة
ذهبن صباح الأحد للبحث عنه.
إن المسيح عليه السلام جاء مصلحًا في اليهود، مزحزحًا لهم عما كانوا عليه
من الجمود، ولذلك أباح الأعمال الضرورية والخيرية في يوم السبت فقط، ولم
يأمر بتقديس يوم الأحد ولا غيره، في أول الفصل الثاني عشر من إنجيل متى؛ إن
التلاميذ لما جاعوا وأكلوا السنبل يوم السبت، قال الفريسيون للمسيح: إن تلاميذك
يفعلون ما لا يحل فعله في السبت 3 فقال: أما قرأتم ما فعله داود حين جاع هو
والذين معه 4 كيف دخل بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لم يحل أكله له ولا للذين
معه، بل للكهنة فقط ... إلخ ما ذكره، وفيه ذكر مثل يفهم منه أن الضروريات
كانت تحل عندهم وهو (أي إنسان منكم يكون له خروف واحد، فإن سقط هذا في
السبت في حفرة، أفما يمسكه ويقيمه ... ) ثم قال: إذاً يحل فعل الخير في السبوت.
والقصة مذكورة في آخر الفصل الثاني من إنجيل مرقص أيضًا، وفيها أن
داود أكل وأطعم الذين كانوا معه، وأن المسيح قال: (السبت إنما جعل لأجل
الإنسان لا الإنسان جعل لأجل السبت) وتتمتها في أول الفصل الثالث منه وفي أول
الفصل السادس من إنجيل لوقا بنحو ما تقدم، وفي الفصل الثالث عشر منه؛ أنه أبرأ
في السبت امرأة كان فيها روح ضعف، فأنكر ذلك عليه رئيس المجمع
فأجابه المسيح (15 وقال: يا مرائي ألا يحل كل واحد منكم في السبت ثوره أو
حماره من المذود ويمضي به ويسقيه 16 وهذه وهي ابنة إبراهيم قد ربطها الشيطان
ثماني عشرة سنة، أما كان ينبغي أن تحل من هذا الرباط في يوم السبت) .
وفي الفصل الخامس من إنجيل يوحنا أنه شفي مريضًا وأمره بالذهاب، فحمل
سريره وذهب، فأنكرت اليهود عليه، ولما علموا أنه هو الذي أبرأه عزموا على
قتله؛ عملاً بحكم التوراة، قال يوحنا: (18 فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون
أكثر أن يقتلوه؛ لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضًا: إن الله أبوه معادلاً نفسه
بالله) .
فقد صرح يوحنا بأنه نقض يوم السبت، ولكن في عمل الخير، فالذي يتبع
المسيح حقيقة يترك عمل الدنيا يوم السبت إلا ما كان ضروريًا، ويجعل كل عمله
برًّا وخيرًا، وأما استحلال كل عمل يوم السبت وتحريم العمل يوم الأحد فهو من
تقاليد الكنيسة؛ لأجل مخالفة اليهود في شعائرهم وتقاليدهم، ويعللون ذلك بأن يوم
الأحد قد صارت له مزية، ليست ليوم السبت بقيام المسيح فيه، وسماه بولس
وغيره يوم الرب، ويمكن أن يجابوا بأن هذه المزية لا تقتضي تحريم العمل فيه،
ولم لا تقولون: إن ليوم الجمعة مزية بوقوع الصلب فيه على حسب اعتقادكم، وبه
كان فداء البشر وخلاصهم واحتمال اللعنة عنهم، فهو أجدر بأن يترك العمل فيه.
روت الجرائد أن القس أخنوخ فانوس خطيب الحركة القبطية أثبت في
المؤتمر القبطي؛ أن من يعمل يوم الأحد عملاً يقتل، وكأنه ذكر ما قلناه آنفًا عن
العهد العتيق في تقديس يوم السبت وحوله إلى يوم الأحد، والنصوص لا تقبل
التحول، فإن لفظ السبت قد تكرر مراراً وتكرر ذكر علته، وهي علة لا توجد في
غير السبت، وقد جعلها العهد العتيق عهدًا أبديًا بين الرب وبين عباده المخاطبين
بها، والأبدي لا ينسخ ولا ينقض، ولنا في هذا المقام مسائل:
(1) أن العقوبة المترتبة على ترك تقديس يوم السبت وهي القتل والرجم
هي من الناموس الطقسي أو السياسي، وقد قلتم: إن هذا قد نسخ بظهور المسيح.
(2) إذا كان هذا العقاب لم ينسخ، وإنما نسخ يوم السبت بيوم الأحد،
فصار له حكمه، فلماذا لا نرى حكومة من الحكومات المسيحية تقتل من يعمل يوم
الأحد رجمًا بالحجارة كما فعل موسى، هل تركت جميع الحكومات المسيحية هذا
الحكم، وتريد أن تقيمه أنت يا أخنوخ في مصر.
(3) إن القتل جزاء دنيوي، فإذا تركه الحكام في الدنيا، فهل يكونون
تاركين لنصوص دينهم فاسقين منه أم لا.
(4) إذا ترك هذا العقاب في الدنيا، فهل له بدل في الآخرة أو يوم الدين
(أو الدينوية كما تعبرون) أم لا، فإذا لم يكن له بدل، فلماذا يهول به أخنوخ أفندي
في خطبته.
(5) إذا كان العمل في يوم الأحد جريمة، يستحق صاحبها القتل بالرجم
كالزاني عند اليهود، وقد نسخت النصرانية رجم الزاني ولم تنسخ رجم العمل في
يوم الأحد؛ لأنه أقبح عندها، فهل جهل ذلك بطارقة القبط وغيرهم من رؤساء
الديانة النصرانية أم علموه؟ وإذا كانوا علموه، فلماذا تركوا النهي عن هذه
المعصية الكبرى، وسمحوا لأبناء دينهم بالعمل في الحكومة المصرية وبغير ذلك
من الأعمال.
(6) إذا كان جميع حكام النصارى في ممالكهم، وجميع رؤساء الدين
المسيحي في مصر وما يشابهها من البلاد، قد تركوا هذه النصيحة الدينية عن علم
أو غير علم كما يفهم من كلام الخطيب المفوه أخنوخ أفندي، فلماذا ترك هو ذلك
أيضًا، وقد خصه الله بهذا العلم وهذه الغيرة على الدين، فلم يظهر علمه ونصحه
إلا في هذه الأيام؟ ؟
إن مجال القول في هذا الباب واسع ولا فائدة في التطويل فيه، والأمر الذي
لا مراء فيه هو الواقع؛ وهو أن لكل ملة من الملل الثلاث يومًا، وأن المسلمين
واليهود من النصوص الدينية على يومهم في كتبهما ما ليس للنصارى مثله، ولا
يتحول أحد عن يومه إلا في بعض الأمور التي يضطر فيها إلى اتباع من هو أقوى
منه، وقد اتبع النصارى المسلمين في الحكومات الإسلامية؛ كحكومة مصر في
ترك العمل يوم الجمعة، كما اتبع المسلمون حكومات النصارى في ترك عمل
الحكومة يوم الأحد في مثل روسية. وقد أحست القبط بأن الاحتلال أخرج حكومة
مصر عن كونها حكومة إسلامية، بل جعلها مسيحية أو كاد؛ ولذلك طلبوا أن يترك
فيها العمل يوم الأحد.
ليس سعي هذه الطائفة الحية المعتصمة بمقوماتها الملية إلى هذا من مبتكرات
مؤتمرها الجديد، بل هو سعي قد صار قديمًا، وكادوا بإلحاحهم فيه على المحتلين،
يذهبون بحلمهم، ويرفعون درجة الحرارة في دمهم البارد إلى درجة الغليان.
استأذن بعض وجهائهم مرة على مستر دنلوب وكان كاتب السر لنظارة
المعارف، فظن دنلوب أن له شغلاً يتعلق بالمعارف، فلما أذن له، طفق يتكلم عن
وجوب ترك الحكومة العمل في يوم الأحد دون الجمعة، ويحثه على السعي لذلك
حتى غضب، وقال له: بأي حق أم بأية صفة غير نظارة الحكومة الأساسي، قم
فاخرج من هنا.
إن ما عجز عنه هذا الوجيه الغيور، كاد يظفر به ذلك النابغة المشهور، فقد
كان أقنع مستر سكوت المستشار القضائي ولورد كرومر بالابتداء بذلك في نظارة
الحقانية، وأمر المستشار بترك العمل في المحاكم يوم الأحد، فترك أيامًا ثم عاد
الأمر كما كان بسعي الأستاذ الإمام وإقناعه اللورد ومستر سكوت بسوء مغبة هذا
التغيير، كما كان دأبه في أمثال هذه الأمور.
وفي العام الماضي كثر خوض الجرائد الأوربية المصرية وبعض جرائد
المسيحيين العربية في هذا المسألة، وتحدثت بوجوب تقرير الحكومة المصرية للعيد
الأسبوعي وجعله إجباريًّا للحكومة والأمة، وكانت تحوم حول يوم الأحد لترجحه
على غيره، فتدندن وتجمجم تارة وتبين تارة أخرى، وكانت جريدة الأخبار الغراء
تختار صفوة أقوال تلك الجرائد في ذلك، وهي هي الجريدة التي تنصر ببراعتها
دينًا على دين، وحزبًا على حزب، وطائفة على طائفة وأمة أو دولة على أخرى،
من غير أن يكتب صاحبها كلمة واحدة بإمضائه، أو يصرح بأن ذلك من مذهبه
وآرائه، وإنما ينال ما يريد بعناوينه ومختاراته (كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود) .
إنني أرفع صوتي مشيدًا بالثناء على جريدة الأخبار وجرائد القبط والإفرنج
وسائر جرائد النصارى التي تؤيد ترجيح يوم الأحد على يوم الجمعة وترجيح كل ما
ينسب إلى ملتهم على غيره، أثني على أصحاب هذه الجرائد وكتابها بالارتقاء الملي،
والجهاد الأدبي الذي يجعلون به ملتهم قدوة الملل، وقومهم سادة الأقوام، وأي
ارتقاء أعلى من ارتقاء العدد القليل، يطلب فينال ما لم يكن له من العدد الكثير،
وإذا شعر خصمه بأنه قد هوجم لإزالة مقوماته ومشخصاته القومية، ونسخ شعائره
وتقاليده الملية، وأراد الدفاع عن نفسه، والمحافظة على دينه وجنسه، جعل
متعصبًا مذمومًا بمدافعته ومهاجمته، متساهلاً محمودًا في مهاجمته.
كان الغالب على المسلمين أن لا يشعروا بما يناله غيرهم منهم؛ لأن ذلك
يجري بالهدوء ولطافة النسمات، وهيمنة العاشقين في الخلوات، والنائم المستغرق
لا توقظه إلا الصيحات والصاخات. ألم تر أن المسيحيين الغيورين قد أقنعوا كثيرًا
من تجار المسلمين بترك العمل في يوم الأحد والاشتغال في يوم الجمعة؟ وهل
يستطيع جميع المسلمين أن يقنعوا مسيحيًّا واحدًا بترك العمل في يوم الجمعة
والاشتغال في يوم الأحد لا لا ولماذا؟ أليس لأن المسيحيين أعرف من المسلمين
بقيمة المحافظة على الشعائر والمقومات الملية، وأقدر في ميدان المجاهدة
الاجتماعية والأدبية، بلى وليكونن الظفر لهم في كل ما يريدون إلا أن يقتدي
بهم في ذلك المسلمون فحينئذ تكون العزة في كل مكان للكاثر.
يظن بعض الجاهلين منا أن أمر عمل الحكومة في يوم الجمعة سهل، وأنه لا
ينافي الدين في شيء، إذا أمكن للمسلم أن يؤدي فرض الجمعة، لذلك أختم هذه
النبذة ببعض ما ورد في الجمعة.
(1) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ
فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9)
فأوجب الله تعالى السعي إلى الصلاة، وترك البيع في وقتها. ومثل البيع غيره من
الكسب والأعمال التي تحول دون هذه الفريضة، وإن كانت من أعمال البر، وورد
في الأحاديث من التغليظ على ترك الجمعة ما لم يرد في عبادة أخرى؛ ومنه: (إن
من تركها ثلاث مرات طبع الله على قلبه) ، وفي رواية: (فقد نبذ الإسلام وراء
ظهره) .
(2) ورد في غسل الجمعة أحاديث متعددة صحيحة وحسنة، من أشدها
تأكيدًا حديث: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) رواه مالك وأحمد والبخاري
ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وحديث غسل يوم الجمعة واجب
كوجوب غسل الجنابة؛ رواه الرافعي عن أبي سعيد الخدري بسند صحيح.
(3) التبكير إلى المسجد، قال صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم
الجمعة غسل الجنابة) أي غسلاً تامًا مثل غسل الجنابة لأجل الجمعة (ثم راح) أي
إلى المسجد (في الساعة الأولى، فكأنما قرب بدنه) أي كأنما تصدق عليه بجمل أو
ناقة. (ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة. ومن راح في الساعة
الثالثة، فكأنما قرب كبشًا. ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة. ومن
راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة. فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة
يستمعون الذكر) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وفي فضيلة البكور أحاديث وآثار
كثيرة.
ولا يتيسر الغسل والتبكير إلى المسجد مع الاشتغال في دواوين الحكومة فلا
شك أنها عائق عن هذه الأعمال الدينية المؤكدة.
(4) يوم الجمعة عيد ملي لنا في مقابلة يومي السبت والأحد لأهل الكتاب
ففي حديث الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نحن
الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم
فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع؛ اليهود غدًا والنصارى بعد غد)
وفي معناه أحاديث أخرى، وفي بعضها التصريح بتسمية عيدًا. وفي مسند الشافعي
وغيره أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (هذه الجمعة فضلت بها أنت
وأمتك، فالناس لكم فيها تبع؛ اليهود والنصارى) ، وفي رواية لابن أبي شيبة أن
جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (تكون عيدًا لك ولقومك من بعدك ويكون
اليهود والنصارى تبعًا لك) ، فهل يرضى مسلم جعله الله ورسوله متبوعًا في
الجمعة أن يتركها ويكون تابعًا لغيره في يوم عيده الديني؟ وهذا أمر مشهور عند
المسلمين، حتى قال الشاعر:
عيد وعيد وعيد صرن متجمعة ... وجه الحبيب ويوم العيد والجمعة
ولولا خشية السآمة على القارئين لأطلت في هذه المسألة، وقد ظهر بهذه
الإشارات الوجيزة أن يوم الجمعة عيدنا الملي، فلا نعدل به غيره ولا نستبدل به
سواه، وإلا كنا تاركين لشعائرنا، جانين على ديننا وجامعتنا، وأما علة تمييزه؛ فقد
ورد من بيانها في الأحاديث الصحيحة أن الله تعالى خلق فيه آدم، وفيه تقوم الساعة،
أي ينبغي لنا أن نشكر الله في هذا اليوم على خلقه إيانا، ونستعد فيه ليوم لقائه.
إن أهل كل ملة من الملل الثلاث، يحافظون على يوم عيدهم الأسبوعي
جهدهم، يقول بعض الناس: إن من مصلحة الأمة أو البلاد أن يتفق أهلها على يوم،
يتركون فيه الكسب والعمل في الحكومة والمصالح؛ لأجل اتحاد الأمة وتقوية
الروابط الاجتماعية بينها، نقول: نعم.. وإن البلاد المصرية مؤلفة من المسلمين
وهم الأكثر، ومن النصارى واليهود وفيها بعض الوثنيين والبابية، والجميع لا
يزيدون على ثمانية في المئة، فهل من العدل ترجيح يوم الأحد عشر مليونًا أم
ترجيح يوم من أيام الملل التي يتألف منها بقية المصريين، وهم لا يكادون يعدون
مليونًا واحدًا.
الأمر ظاهر، والصواب واضح. ولكن بعض الفئات القليلة حسب أن الفئة
الكبيرة قد مات شعورها الملي، وتقطعت روابطها الاجتماعية، فصار يسهل أن
تكون تابعة لا متبوعة، وقد يقوم الدليل على صحة هذا القول من أفعال الكثيرين
الذين قطعوا الروابط القديمة؛ ليستبدلوا بها الرابطة الوطنية، فهدموا بناءهم القديم
ولم يقدروا على إقامة هذا البناء الجديد (الوطنية) إلا في مخيلات بعض الشبان،
السواد الأعظم من الأمة المصرية لم يفهموا حقيقة هذه الوطنية إلى اليوم، فالتعجيل
بالقضاء على شعائرها الملية، بمثل هذه الصيحة القبطية، مما يزيد استمساكها بها
كما تقدم.
هذا ما أحببت بيانه في هذه المسألة، وسأبحث في النبذة الخامسة من هذا
المقال في مسألة التعليم الديني. إن شاء الله تعالى.
***
(النبذة الخامسة)
(التعليم الديني في مدارس الحكومة)
لجميع الحكومات المدنية مدارس، ولا نعرف حكومة منها تعلم في مدارسها
دينين فأكثر أو أديان رعيتها، ولا مذهبين فأكثر من مذاهب الدين الواحد فيها.
في البلاد الروسية أكثر من عشرين مليونًا من المسلمين، وفيها كثير من
اليهود، ولا يلقن في مدارس حكومتها إلا المذهب الأرثوذكسي من مذاهب
النصرانية؛ لأنه مذهب الحاكم العام وأكثر الأهالي، بل الحكومة الروسية تضيق
على المسلمين في مدارسهم الدينية، فلا تسمح لهم أن يعلموا فيها كما يحبون
ويعتقدون، وقد رأينا بعض العلماء الذين نفتهم من بلادهم وأخرجتهم من ديارهم
وأقوامهم، ولا ذنب لهم إلا التعليم الذي يرقي التلاميذ المسلمين.
وفي الجزائر البريطانية كثير من الكاثوليك، ولا تسمح الحكومة لهم بأن
يلقنوا مذهبهم في مدارسها، بل المذهب الذي يدرس فيها هو مذهب البرتستانت الذي
عليه ملك الإنكليز وأكثر الشعب الإنكليزي، فهل تسمح هذه الحكومة الحرة بأن
يدرس في مدارسها دين اليهود من رعاياها، وهي لا تسمح بتدريس مذهب
الكاثوليك من مذاهب دينها؟ ولا نشرح ما يشترط على ملك الإنكليز أن يقوله عند
تتويجه من الطعن في الكاثوليكية والبراءة منها، ولا منع الحكومة الإنكليزية
الكاثوليك من إظهار بعض شعائر مذهبهم في عيد الفصح أو غيره، وقس على
ذلك سائر دول أوربة.
وفي البلاد العثمانية من الأديان والمذاهب، ما لا يوجد في غيرها، ولكن دين
الدولة الرسمي هو الإسلام ومذهبها هو الحنفي، فهي لا تسمح أن يدرس في
مدارسها غير المذهب الحنفي من المذاهب الإسلامية دع الأديان الأخرى، ولم يكن
الحنفية هم أكثر مسلمي البلاد العثمانية، وإنما كثرتهم في البلاد العربية الدولة
نفسها.
كانت البلاد المصرية ولا تزال بلاد عثمانية، لم تتنازع إنكلترة ولا غيرها
من الدول في ذلك. وإنما فوضت الدولة أمر إدارتها إلى محمد علي الكبير وذريته
بشروط منصوصة في الفرمانات التي يولي بها السلطان العثماني كل خديوي من
هذه الذرية، وكان مذهب محمد علي وذريته هو المذهب الحنفي، فلما صار
للحكومة المصرية مدارس رسمية كسائر الحكومات المنظمة، جعلت تعليم الدين
فيها خاصًّا بالمذهب الحنفي على قلة الحنفية في هذا القطر، فإن أكثر أهله شافعية
ويليهم في العدد المالكية والحنفية العدد الأقل، ولولا الحكومة وحصرها الوظائف الدينية في الحنفية، لكان وجود الحنفي في هذا القطر أندر من وجود الشافعي أو المالكي أو الحنبلي في بلاد الترك، إلا من يرحلون إلى الأزهر لتلقي
العلوم الإسلامية فيه ثم يعودون إلى بلادهم.
من المعقول أن يرجح دين الحاكم العام ومذهبه على غيره، فيكون هو الذي
يدرس في مدارس حكومته دون سواه، ومن المعقول أيضًا أن يرجح مذهب السواد
الأعظم من الأمة على مذهب الحاكم العام، وأن يترك هو مذهبه إلى مذهب
الجمهور، وإذا اتفق أن استولى حاكم على شعب مخالف له في الدين، فمن المعقول
أن يترك للشعب حريته الدينية ولا يصادره فيها، ولا يعقل أن يرضى الشعب
بإتباع دين الحاكم المتغلب باختياره، كما يرضى باتباع مذهبه إذا كان موافقًا له في
أصل الدين، إلا إذا كان الخلاف في المذهب قويًّا، يتناول ما يعد من الأصول
كمذاهب النصرانية وبعض المذاهب الإسلامية.
وأما الذي لا يوزن بميزان العقل، ولا يقاس بمقياس المصلحة، ولم ينص في
شرع ولا قانون، ولم يقل به فيلسوف ولا مجنون، ولم تفعله حكومة من حكومات
الأرض، فهو ما يطالب به مؤتمر القبط الحكومة المصرية. حكومة شكلها إسلامي،
حاكمها العام مسلم، تعترف الدول كلها أنها تحت سيادة خليفة المسلمين رعيتها
أكثر من تسعة أشعارهم من المسلمين، والباقون لهم عدة أديان ومذاهب. تطالب
هذه الحكومة بأن يدرس في مدارسها دين غير دين الحاكم العام، والسواد الأعظم
من أهل البلاد! !
إذا كان هذا من الحق والعدل والمساواة كما تدعي القبط، فالواجب على
الحكومة الخديوية أن تدرس في مدارسها كل دين ومذهب، يتبعه فريق من أهل
بلادهم كاليهودية بمذهبيها الكبيرين والنصرانية بمذاهبها الثلاث. والإسلامية
بمذاهبها في الأصول والفروع: مذهب السنة ومذهب الشيعة ومذهب الإباضية،
والمذاهب الأربعة في الفروع، وإلا فما هي مزية القبط على اليهودية؟ وأي مذهب
من مذاهبهم يرجح على الآخر، إذا لم تدرس المذاهب كلها؟ .
تقول القبط: إن لنا من الحقوق في هذه الحكومة ما ليس لغيرنا؛ لأننا سكان
البلاد الأصليين، ويجيبهم المسلمون على هذا بأربعة أجوبة:
(1) إننا لا نسلم أنكم سكان البلاد الأصليين، وسلالة الفراعنة المستكبرين،
وقد صرح المسلمون بهذا، وأيدوه بأقوال مؤرخي الإفرنج.
(2) إذا سلمنا أنكم من سلالة قدماء المصريين، فإن لنا أن نتبع فيكم سنة
أرقى الحكومات المسيحية علمًا وعدلاً وحرية في سكان بلادها الأصليين، وهي
حكومة الولايات المتحدة، فهل ترضون أن تكون حقوقكم في هذه البلاد كحقوق
هنود أمريكة في حكومتها الآن، وهم أهلها الأصلاء بغير خلاف؟
(3) إنكم تقولون: إن أكثر مسلمي هذه البلاد منكم وأقلهم من العرب
والترك والشركس، فلا مزية لكم في هذا النسب الشريف على جمهور المصريين
المسلمين، ولهم المزية عليكم بكثرتهم، وكون الحاكم العام من أهل دينهم، وذلك
سبب للترجيح متبع في الحكومات المسيحية الراقية.
(4) إن طول زمن الإقامة في بلد لا يقتضي التفضيل في الحقوق، وقصره
لا يقتضي الحرمان من شيء منها، متى كان القوم الذين طالت مدتهم أو قصرت
من أهل البلاد المقيمين فيها خاضعين لشريعتها وقوانينها، نعم.. إن الحكومات قد
حددت في هذا العصر الزمن الذي يكون فيه الغريب عنها وطنيًا داخلاً في جنسيتها
السياسية. وقد بالغت مصر في ذلك مالم تبالغ الحكومات الراقية، فجعلت المدة
التي يصير فيها الغريب مصريًا خمس عشرة سنة. فهذه الحكومة الإسلامية تجعل
لأدنى أجير قبطي من الحقوق في بلادها ما لا تجعله لأعظم أمير من شرفاء
المسلمين يقيم فيها خاضعًا لحكومتها، قبل أن تتم له تلك المدة (15سنة) فيها،
ومن نال هذه الجنسية بشرطها كان له من الحقوق مثل ما لغيره من المصريين، سواء
كانوا من آل فرعون الذي لعنه الله، أم كانوا من قوم موسى الذي كلمه الله.
كان بنو إسرائيل دخلاء في مصر وفضلهم الله تعالى في كتبه على آل فرعون
، ثم فضل الله تعالى العرب واصطفاهم بإرسال رسوله منهم، مثلما اصطفى إخوتهم
بني إسرائيل من قبلهم بإرسال رسوله منهم، كما أشار إلى ذلك في سفر تثنية
الاشتراع، فكيف تطالب حكومة مصر التي تدين الله تعالى بتفضيل الشعب
الإسرائيلي والشعب العربي في النسب على الشعب الفرعوني؛ أن تميز الشعب
المفضول في كتب الله على الشعب الفاضل بل الشعبين الفاضلين، على أن الأنساب
في دين هذه الحكومة وشرعها، لا تقتضي التفضيل في الحقوق على
قدر الفضل في النسب.
فعلم مما بيناه أن النسب الفرعوني الذي تدل به القبط غير مسلم لهم، وإذا
سلم جدلاً فهو لا يقتضي تفضيلهم على اليهود، بل اليهود أشرف منهم نسبًا؛ لأنهم
ينتسبون إلى أنبياء الله تعالى، والقبط تنتسب إلى الفراعنة الوثنيين أعداء الله تعالى،
وإذا لم يكن لهم صفة تقتضي تميزهم على غيرهم من المصريين، فقد هدم الأساس
الذي بنوا عليه طلب تعليم دينهم في مدارس الحكومة. نعم.. إن القبط لا يدينون
دين الفراعنة، بل دينًا يرجحه الإسلام على ذلك الدين، ولكن دينهم ودين اليهود
سواء في نظر الإسلام، ولما كان تعليم كل الأديان والمذاهب المعروفة في مصر
متعذرًا في مدارس حكومتها، كان من العدل والمصلحة المتبعين في الحكومات
الراقية أن لا يدرس في مدارس هذه الحكومة إلا دين الحاكم العام الذي هو دين
أكثر الشعب، ولا بأس بما جرت عليه من ترجيح مذهب الحاكم على مذهبي
جمهور الشعب، وإذا فتح باب التعدد، فإن أصحاب المذاهب الإسلامية كلها
يطلبون تدريس مذاهبهم لأولادهم في مدارس الحكومة.
حدثني الثقة أن ناظرة من ناظرات المدرسة السنية الإنكليزيات، كتبت تقريرًا
لنظارة المعارف على عهد فخري باشا، قالت فيه ما حاصله: إن الغرض من تعليم
البنات وتربيتهن على الفضيلة والتقوى لا ينال إلا بالدين، فيجب أن يكون الدين
هو الأساس الذي يقوم عليه بناء تعليم البنات وتربيتهن في هذه المدرسة، والفائدة
تتم بأي دين من الأديان الثلاثة الموجودة في هذه البلاد. ولا يجوز أن يكون في
مدرسة واحدة أكثر من دين واحد؛ لأن ذلك مفسد للتربية، فيجب أن يكون الدين
الإسلامي إجباريًا عامًا في هذه المدرسة - ومثلها غيرها أو غيرها مثلها - لأنه دين
الحكومة وأكثر الأهالي.
أهمل هذا التقرير في النظارة، وكان جزاء الناظرة الفيلسوفة التي كتبته:
إخراجها من المدرسة، وإعادتها إلى بلاد الإنكليز التي تسع فلسفتها العالية وأفكارها
السامية، بخل مستر دنلوب بها على هذه البلاد، واستبدل بها ناظرة أخرى لا
تصل إلى حل سيور حذائها، ثم بدلت الأخرى. ولكن لم تر المدرسة بعد تلك ولا
قبلها مثلها؛ لأنها كانت من أرقى نساء الإنكليز أخلاقًا وأدبًا وأفكارًا.
لو أجبرت الحكومة الخديوية أولاد القبط الذين يدخلون مدارسها على تلقي
دروس الدين الإسلامي والعمل بها، لكان لها قدوة في الإفرنج الذين تقلدهم في أكثر
أعمالها، ولا أعني بالإجبار إكراه التلاميذ بقوة على ذلك، وإنما أعني أن يكون ذلك
شرطًا لا يقبل في المدارس إلا من يلتزمه، ولكن هذه الحكومة لم تفعل ذلك لا في
عهد الاحتلال ولا قبله، لا لأن أمها الدولة العثمانية لم تفعله، بل لأنه لم يعهد في
الإسلام الذي يرمى أهله بالتعصب، وإنما عهد عند المسيحيين الذين يفخرون علينا
بالتسامح والتساهل.
في هذه البلاد معاهد للتعليم تديرها الحكومة، وينفق عليها من أوقاف
المسلمين المحبوسة على تعليم أولادهم خاصة، والحكومة تقبل في هذه المعاهد
أولاد القبط فتعلمهم على نفقة المسلمين، مخالفة في ذلك شرط الواقف لأجلهم. فهل
تسمح القبط بإنفاق قرش واحد من أوقافها على تعليم مسلم؟
إن أمر المسلمين في تسامحهم مع القبط، وترجيحهم لهم على أنفسهم لغريب،
لم يعهد له نظير في الأرض، وقف الخديوي الأسبق إسماعيل باشا واحدًا
وعشرين ألف فدان على تعليم أولاد المسلمين، وهي الأرض التي تسمى (تفتيش
الوادي) ، ووقف جده من قبله ثلاثة آلاف فدان على تعليم أولاد القبط، فكان
عطاؤه للقبط أكثر؛ لأنهم لا يبلغون ثمن المسلمين، فاستأثرت القبط بما وقف عليها
وشاركت المسلمين فيما وقف عليهم، ثم ترفع جرائدها عقيرتها مستغيثة بأوربة
المسيحية من ظلم المسلمين لهم في التعليم، ويصدقها مؤتمرها على ذلك.
من هذا القبيل؛ مساعدة أوقاف المسلمين للجامعة المصرية بخمسة آلاف جنيه
في كل سنة، وهي مفتحة الأبواب للقبط وغيرهم، وطلبتها من غير المسلمين لا
يقل عددهم عن المسلمين.
بلغ من طمع القبط في المسلمين أن طلبوا تعليم أولادهم في بعض مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية على نفقة الجمعية، فلم يقبل ناظر المدرسة، فشكوه إلى
رئيس الجمعية قائلين: إن لهم الحق في التعليم في هذه المدارس؛ لأنهم مصريون قبل
كل شيء! ! وقد جعل أعضاء مجلس إدارة الجمعية هذه الشكوى محل النظر، ومال
بعضهم إلى إجابة الطلب، لولا أن قامت الحجة عليهم؛ بأن قانون الجمعية الأساسي
قد صرح بأن الغرض من هذه الجمعية إعانة فقراء المسلمين وتربية أولادهم لا فقراء
المصريين.
اشتهرت مصر بأنها بلاد العجائب وحق لها أن تشتهر بذلك، فمسلموها يقفون
أرضهم حتى على أديار القبط، وينفقون من ريع أوقافهم الخاصة بهم على تعليم
القبط، وحكومتهم تسمح للقبط بأن يعلموا دينهم في مدارسها، وهو مالا نظير له في
الحكومات الأوربية التي تقتدي بها، والقبط تشكو من ظلمهم وتستغيث بأوربة منهم،
وتُدل عليهم بنسبها، وتدعي أنها صاحبة البلاد، وأنها أجدر بحكمها، وتسخر من
المسلمين وتدعي أنها أكبر منهم كفاءة، وأن ما أخذته من الوظائف في الحكومة وفي
المصالح والمزارع، حتى أوقاف المسلمين الخاصة بهم، فقد أخذته بحق، وهي
أولى به وأحق، وما بقي في أيدي المسلمين وهو أقل هذه الوظائف والأعمال،
فليس لهم فيه حق، بل هم هاضمون به حقوق سلائل الفراعنة وأصحاب البلاد
الأصلاء، فيجب أن يرد إليهم أو أن يأخذوا الآن نصيبًا منه.
قد علمنا بالقياس المطرد المنعكس؛ أن القبط لا يأخذون شيئًا إلا ويطلبون ما
بعده، فلا يجاب طلب إلا ويعقبه طلب، ولا ينتهي أرب إلا إلى أرب، ولا يقنع
هذه الفئة القليلة العدد، الكثيرة النشاط، الكبيرة الطمع، إلا أن يكون الحلم والنفوذ
في هذه البلاد خالصًا لها من دون المسلمين. وهذا شأن الشعوب التي تحيا وتنم مع
الشعب التي تموت وتفنى: الحي يتغذى دائمًا بما يتصل به من الأغذية، والمشرف
على الموت تنحل عناصره وتتفرق، فتكون غذاء للأحياء الأخرى، والحياة قسمان:
حياة مادية وحياة معنوية، وسنة الله تعالى في نظامها واحدة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(14/201)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(الرحلة الحجازية)
(لولي النعم الحاج عباس حلمي باشا الثاني خديوِ مصر)
في سنة 1327 حج إلى بيت الله الحرام عزيز مصر عباس حلمي الثاني،
وقد أخذ في صحبته طائفة من العلماء والأدباء والكتاب، منهم صديقنا محمد لبيب
بك البتنوني الشهير صاحب (الرحلات) المشهورة، فكتب في ذلك (الرحلة
الحجازية) وأودعها من الفوائد، ووصف الآثار والمشاهد، وتاريخ الأماكن
والمعاهد، ونظام القوافل والمسالك، وأحكام وحكم المناسك، ما لا تجده مجموعًا
في كتاب، ورتب ذلك في الرحلة أجمل ترتيب، وفصل الكلام فيه أحسن تفصيل،
وجعل فيها من رسوم المعاهد المقدسة ما زادها حسنًا وجمالاً، وزاد ما فيها من
الوصف والبيان إيضاحًا، ففيها بعد رسم الأمير الذي وضع قبل الديباجة رسم ميناء
جدة، فرسم صلاة الجمعة في الحرم المكي ترى الألوف فيه مستديرين حول الكعبة
المشرفة، ثم رسم جبانة المعلى، وباب الصفا من أبواب الحرم، ورسم آخر للكعبة
والحرم في وقت الصلاة وغير وقت الصلاة، ورسم قافلة الحجاج بين منى وعرفة،
والحجاج بخيامهم في عرفة، ورسم جبل عرفات ومنظر رمي الجمار، ومسجد
الخيف بمنى، وموكب الخديوي ذاهبًا لزيارة الشريف، ورسمه بين حاشيته من
رجال الملكية والعسكرية، ومنظر المدينة المنورة، وباب السلام بالحرم النبوي من
داخل الصحن، والقبة النبوية وباب الرحمة فيه، وغير ذلك من الرسوم الشمسية،
وفيها رسوم غير شمسية وعدة خرائط للبلاد المقدسة وغيرها؛ كخريطة العالم
الإسلامي، وخريطة مكة، والحرم المكي، وعرفات ومنى والطرق إلى الحرمين،
ومساكن المدينة، ومنظر المدينة المنورة نفسها.
ومن مباحث الكتاب المهمة بحث كسوة الكعبة، والمحمل، واحترام الأحجار
وتقديسها في الأمم، والحج عند الأمم المختلفة، ومنع الأجانب من دخول الحرمين،
ومشاعر الحج قبل الإسلام، وأصل لباس الإحرام، وماضي المدينة وحاضرها،
والكلام على المحاجر الصحية، وسكة الحديد الحجازية، والآثار القديمة بالشام،
ومدينة بطره. وجملة القول أن هذه الرحلة جديرة بأن تكون ذكرى وتاريخاً لحج
أمير مدني كعزيز مصر، التي هي في مقدمة البلاد الإسلامية مدنية وارتقاء، وقد
طبعت طبعًا نظيفًا يليق بها.
ويجدر بنا ههنا أن نقول كلمة في حج الأمير، فقد سبق لنا أن أنكرنا في المنار
على ملوك المسلمين وأمرائهم ترك فريضة الحج إلى بيت الله الحرام. والظاهر من
حالهم أنهم قد تركوا هذا الركن من أركان الإسلام عمدًا، وأنهم وطنوا أنفسهم على
تركه لا أنهم ينوون أداءه، ويتساهلون فيه بالتراخي حتى يدركهم الموت، وإلا لاتفق
لبعضهم أداؤه. وأكثرهم يعرفون أن ترك الحج عمدًا فسق واستحلاله كفر.
وإن للسياسة السوءى تأثيرًا في ذلك. وقد كان من مزايا أمير مصر عباس حلمي
الثاني تشوقه إلى الحج، وكان استأذن عبد الحميد في أيام سلطنته بذلك فلم يأذن له،
ولم يكن من المستطاع أن يحج بدون إذنه، فلما زالت دولة عبد الحميد، وصارت
الدولة دستورية لا يمكنها منعه من الحج، بادرإلى أداء هذه الفريضة.
كان نبأ حج أمير مصر في عاصمة الدولة عظيمًا، حتى إنه كان مما يخطر
على بال المطلع على ما هنالك أن الحكومة لو وجدت سبيلاً لمنعه منه لسلكتها،
والظاهر أنه لم يحفل بالأمارات ولا بالإشارات التي علم منها كراهتها لذلك، وكان
حجه حديث الآستانة وموضع بحث وتعريض في جرائدها حتى الهزلية المصورة
منها، وقد سمعت هنالك حديث الوزراء وغيرهم في ذلك، وسألني الكثيرون عن
رأيي فيه، بعضهم صرح بالسؤال واكتفى بعضهم بالتلويح والتعريض، وقال لي
الصدر حسين حلمي باشا يقولون لي كلامًا كثيرًا عن حج الخديوِ، وأنا لا أصدق
أن له مقصدًا سياسيًّا. فذكرت له وكذا لناظر الداخلية وغيرهما أنني أعتقد أنه
ليس له غرض سياسي، وأعلم أنه كان ينوي الحج منذ سنين، وأنه استأذن
السلطان عبد الحميد في ذلك فلم يأذن له، وأنني قد ذكرت هذا في المنار وفي تفسير
القرآن قبل الدستور، وسألني غير واحد هنالك هل الخديو متدين حقيقة يحج تدينًا؟
فأجبت بأن المعروف المشهور أنه يصلي ويصوم ولا يشرب الخمر قط، وهل
الحج إلا فريضة كالصلاة والصيام؟
صفحات الرحلة 266، وثمن النسخة خمسة وعشرون قرشًا ما عدا أجرة
البريد.
(كتاب التوحيد)
يشتغل صديقنا الشيخ حسين والي المدرس في الأزهر ومدرسة القضاء
الشرعي بتأليف كتاب في علم الكلام سماه (كتاب التوحيد) ، وقد تم الجزء الأول
منه وطبع على ورق جيد، افتتح مقدمة الكتاب ببضع آيات من أول سورة التغابن
جامعة لأصول العقائد وهي: الإيمان بالله والوحي إلى الرسل واليوم الآخر، ثم قال:
أما بعد فهذا (كتاب التوحيد) الذي رأيت أن أكتبه لتلاميذي الكبار في مدرسة
القضاء الشرعي، أخذت في تأليفه درسًا درسًا، فكان كتابًا منجمًا، وسلكت فيه
سبيل المؤمنين، وهي سبيل ِالجمهور من أهل السنة. ولكني نظرت إلي خصمهم
من ستر رقيق، واطلعت على حجج الفريقين، ووزنتها بميزان النصفة والعدل،
فثقلت موازين قوم وخفت موازين آخرين، وكنت على أريكة الحكم مع اليقظة
والاستقلال، وذلك أشرف المناصب. وما كنت بدعًا في هذا الأمر، فقد سبقني إليه
مثل القاضي البيضاوي فنزعت منزعه. ولكن على قدر حاجة التوحيد ومساغه،
وذلك رأي مدرسة القضاء الشرعي؛ لأنها لم تجد خيرًا من ذلك في الحالة الراهنة،
بيد أنه شعب الطرق كثيرًا وما شعبتها، ولما سار فيها أخذته الحيرة أحيانًا وما
أخذتني، وهاب من يصدون عن السبيل وما هبت؛ لأني أعددت لذلك عدتي،
والعدة في هذا الزمان أكمل منها في الزمان الماضي، وتلك سنة الله في الأشياء،
فإن الأشياء تتقدم إلى الصلاح والكمال بتقادم الزمان، والحازم من ركب لكل حال
سيساءها، ولبس لكل حرب لبوسها.
إن كل طائفة من (كتاب التوحيد) تشرح صدرك، وتترك في نفسك أثرًا
صالحًا، لا يعقبه مرض في القلب، ولا غشاوة على البصر، وتؤذنك بأن الذي
خلق الأول خلق الآخر، وأن العقول جنس واحد، وأن الهالك فيما مضى لم يشهد
الزمن الذي بعده، وأن الحي الآن قد شهد الزمنين، فهو أوسع علمًا، وأسد رأيًا.
قد خلت من قبلنا أمم، وأصبحنا في جيل غير جيل، وعدوّ غير العدوّ،
فاتركونا أيها الجهلاء نقاتل عدونا بمثل سلاحه، وإلا فادعوا آبائكم الأولين.
{إِن تَدْعُوَهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ
بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 14) .
هذا كتاب الله يقيم الشهادة إلى يوم القيامة، فينصفني في قوله، ويؤيد حجتي،
وعما قليل يفاجئ نوره الأبصار، ويقرع وعظه الأسماع، ويسكن يقينه الأفئدة ,
ثم تكون له السيطرة التامة، فيرجع الناس إليه في العلم وغيره.
{وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81)
ا. هـ.
هذا ما بين به المصنف غرضه من الكتاب وطريقته التي يسلكها، وحبذا
الطريقة وحبذا البيان، وخير منه الوفاء به، ولما نقرأ الكتاب. ولكننا نشير إلى
ملخص فهرسه.
جاء بعد تلك الفاتحة بفصول وجيزة في (أطوار التوحيد) يعنى تاريخ العقائد،
ثم بفصول في (مبادي التوحيد) يعنى مبادي هذا العلم كموضوعه ومسائله
واستمداده، ثم بفصول في (النظر) ، والمسائل العامة عند المتكلمين، فتكلم عن
الممكن والوجود، والعدم والحال، والوجوب والامتناع، والإمكان والقدم،
والحدوث والوحدة والكثرة، والعلة والمعلول، والدور والتسلسل والماهية. هذه
أمهات مسائل الجزء الأول الذي صدر من هذا الكتاب، وهو مرتب ترتيبًا حسنًا،
ومطبوع على ورق جيد، وصفحاته365 من قطع رسالة التوحيد، وثمن النسخة
منه خمسة عشر قرشًا.
(كلمة التوحيد)
عقيدة للشيخ حسين والي صاحب كتاب التوحيد، ألفها لتلاميذ السنة الأولى
من القسم الأول من طلاب مدرسة القضاء الشرعي، كما ألف ذلك الكتاب المطول
لتلاميذ القسم الثاني. وقد بدأ هذه العقيدة بكلام وجيز في تاريخ التوحيد وأمهات
العقائد وكتبها وعقائد العوام، والحديث المتواتر فيها، وأحكام العقل الثلاثة، وأهل
السنة والمعتزلة والدور والتسلسل، ثم تكلم في الصفات وتعلقها، والنبوة والإمامة،
وذكر الإسراء والمعراج والرؤيا، ثم السمعيات والكلام في هذه العقيدة على
الطريقة المعروفة في كتب المتأخرين من السنوسي ومن بعده، ولكن الترتيب أحسن
والعبارة أجلى.
***
(تمرين الإملاء، في الخلق والأدب واللغة والإنشاء)
للشيخ حسين والي كتاب اسمه الإملاء في علم الرسم سبق لنا تقريظه، وقد
قرر تدريس ذلك الكتاب في الأزهر وفي مدرسة القضاء الشرعي ودار العلوم
وكلية غردون. ولكن ينقص ذلك الكتاب كثرة الشواهد والأمثلة التي يتمرن بها
الطلاب جريًا على الطريقة الحديثة في التعليم، لهذا وضع مؤلفه كتابًا خاصًّا لذلك؛
إنجازًا لما وعد في آخر كتاب الإملاء، ولم يجعل تمرينه كلمات مفردة ولا جملاً
منثورة مختصرة، بل جاء بنبذ في الأخلاق والآداب من مختار الشعر، فجمع فيه
بين الفائدتين، وقد طبع على ورق جيد وصفحاته 304.
(مذاهب الإعراب وفلاسفة الإسلام في الجن)
توجهت همة صديقنا الشيخ جمال الدين القاسمي عالم الشام المشهور إلى جمع
ما تفرق في الأسفار العربية الكثيرة من الأقوال في الجن، فجمعها من عشرات من
المصنفات، ورتبها ترتيبًا حسنًا، فذكر آراء علماء اللغة، ونقولهم في مواضع
الجن ومراتبها، والغول والهاتف والاستهواء والعزيف والصرع والطاعون، وما
نسب إلى الجن من الأعمال، ثم ذكر أقوال المتقدمين والمتأخرين من الفلاسفة
والمتكلمين في الجن، وختم الكلام في تمثل الأرواح، وكون الجن من الأرواح،
وما جاء من علماء الإفرنج في ذلك مترجمًا من معجم لاروس الفرنسي ودائرة
المعارف البريطانية، وفي مسألة التعزيم ودعوى سكنى الجن في الخرائب وغير
ذلك. وقد نشر ذلك كله في مجلة المقتبس، ثم طبعه على حدته وهو مفيد في بابه
لا يستغني عنه من يريد تمحيص هذا المبحث، وفي هذه الرسالة من الفكاهة
والأدب وغرائب الروايات عن الجن ما يلذ لكل قارئ، فهي رسالة قد جمعت بين
اللذة والفائدة.
__________(14/226)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(مسجد في لوندره)
لوندره عاصمة دولة إنكلترة أكبر مدينة في الأرض، وأكثرها ساكنًا، وهى
لا تخلو من عدد كبير من المسلمين؛ ما بين مقيم وزائر، ومتعلم ومتظلم ومتجر,
فإن زهاء نصف مسلمي الأرض تحت سلطان هذه الدولة ونفوذها، منهم في الهند
وحدها تسعون مليونًا من النفوس بحسب إحصاء هذه السنة.
اجتماع المسلمين وتعارفهم في تلك العاصمة له فوائد كبيرة، ولا يتيسر لهم
ذلك في مدينة سكانها ستة ملايين أو يزيدون، إلا إذا كان لهم معهد معروف
يؤمونه من كل جهة، ولهذا رأى بعض المفكرين أنه ينبغي للمسلمين أن يبنوا لهم
مسجدًا هنالك، ويبنوا بجانبه ناديًا للاجتماع والخطابة، ويجعلوا فيه مكتبة للمطالعة.
سبق أذكياء المسلمين إلى هذا الرأي من ليس منهم، وأنفذه لمنفعته لا لمنفعتهم
وأراد غيره أن يعمل مثل عمله في باريس، فقد ذكرنا في ص479 من مجلد المنار
الثامن (سنة1323) أن الخواجة ليون لامبير كان رغب إلينا أن نقنع الأستاذ الإمام
رحمه الله تعالى بأن يجعل (مشروع بناء مسجد بباريس) تحت رياسته، وكان
الأستاذ مريضًا فلم نحدثه بذلك، وبعد وفاته بلغنا أنه التمس من شيخ الأزهر أن
يجعل هذا المشروع تحت رياسته، فقبل ولم نعلم ماذا كان بعد ذلك.
ذكرنا هذا الخبر في ذلك المكان أي منذ ست سنين، وعقبنا عليه بأننا نرجو
أن لا يكون مسجد باريس كمسجد لوندره الذي حدثنا الأستاذ الإمام عنه بما يأتي،
قال رحمه الله تعالى:
خطر لرجل يهودي كان مستخدمًا في الهند أن يجمع من المسلمين مالاً، يبني
به مسجدًا في لوندره، فجمع خمسين ألف جنيه، ثم جاء لوندره فبنى مسجدًا في
خارجها على مسافة ساعة في السكة الحديدية، وهو مكان لا يصل إليه أحد من
المسلمين في لوندره، فهو مغلق دائمًا لا يصلي فيه أحد، وقد اشترى الرجل أرضًا
لنفسه عند الجامع، وبنى فيها بيتًا لنزهته، فإذا علم أن بعض أمراء المسلمين أو
أغنياءهم زار لوندره، يبحث عنه ويدعوه إلى داره وإلى رؤية المسجد، ولما زار
نجل أمير الأفغان عبد الرحمن خان لندره في عهد والده، أجاب دعوة هذا اليهودي
إلى داره ومسجده، وبعد الطعام أعطاه خمس مئة جنيه، ولا يخالنَّ أحد أن الأمير
كان مبسوط الكف لكل أحد يتصل به أو يخدمه، فقد كان خالد أفندي أستاذ اللغة
التركية في مدرسة كمبردج (مهندارا) للأمير في لوندره لزم خدمته، وأعد له كل
وسائل الراحة، وهو لم ينعم عليه إلا بجنيه واحد لم يقبله. ا. هـ
ما نقلناه عن الأستاذ الإمام وقد عقبنا عليه في المنار بالتنبيه إلى افتتان
المسلمين بالأجانب، حتى في أمور دينهم، فهم يبذلون لهم من أموالهم حتى باسم
الدين ما لا يبذلونه لمن يخدم الدين منهم.
خليل خالد بك الذي ذكره الأستاذ في هذا السياق؛ هو الذي بذل وقته مع
جماعة من المسلمين رئيسها القاضي مير علي الهندي العالم المشهور، للسعي في
إنشاء مسجد في لوندره نفسها، يكون مثابة للمسلمين فيها، وقد بدأ الدعوة إلى
التبرع له في العام الماضي بالآستانة، فلم يتبرع له فيها إلى الآن إلا بنحو أربعة
مئة ليرة، وقد جاء مصر في هذه الأيام لأجل جمع الإعانات منها، فعني به بعض
أهل النجدة وألفوا له لجنة تحت رياسة رياض باشا الذي هو عدة مصر وعتادها في
أعمال الخير والمصالح العامة، وقد أعد خليل بك خالد خطبة تركية للدعوة إلى
المشروع، ترجمت بالعربية، ودعت اللجنة جمهور الوجهاء والفضلاء إلى
الاجتماع في قبة الغوري ضحوة الجمعة؛ لسماع الخطبة باللغتين فاجتمعوا، وبعد
أن قرأ بعض الحفاظ آيات من القرآن الكريم فيها ذكر عمارة المساجد، ألقى خليل
خالد بك خطبته، وتلاه الشيخ عبد الوهاب النجار فتلا ترجمتها، ثم رفيق بك أحد
أعضاء اللجنة بخطاب وجيز، تكلم فيه عن أول مسجد أسس في الإسلام، وهو
مسجد قباء، وعن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون، ثم دعي أحمد زكي بك
الكاتب الأول لأسرار مجلس النظار، فألقى خطابًا ذكر فيه ما كان من عناية
المسلمين في العصور الأولى ببناء المسجد أينما وجدوا، حتى في بلاد الأجانب،
وذكر من الشواهد على هذا المسجد الذي بناه بعض الصحابة في غلطة من الآستانة،
وحث الناس على التبرع للمشروع، وقال: إنه هو يتبرع بعشرة جنيهات على
قدر حاله، واعتذر عن إظهار ذلك مع نهي الدين عن إظهار الصدقات.
***
(إظهار الصدقات وإخفاؤها)
بعد أن أتم أحمد ذكي بك خطابه المفيد، قام كاتب هذه السطور فألقى خطابًا
وجيزًا في الاستدراك على ما قاله الخطيب في مسألة إظهار الصدقات وبيان الحق
في ذلك؛ لأجل الحث على التبرع للمسجد، قلت بعد الثناء على الخطيب ما مثاله.
لم يكن يخطر في بالي أن أقوم خطيبًا في هذا الجمع، ولكن ما قاله الخطيب
في الصدقات يحتاج إلى استدراك وإيضاح لا بد منهما؛ لئلا يظن بعض الناس أن
الدين الإسلامي يحرم الصدقات الجهرية أو يكرهها، فيقبضون أيديهم أن تجود في
مثل هذه المحافل على ما تدعى إليه من البر.
قال الله تعالى: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ
فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة: 271) فمدح إبداء الصدقات وإظهارها مطلقًا، وفضل
إخفاءها فيما يعطى للفقراء منها بما يدل على أن مقابله جائز، بل محمود أيضًا.
إخفاء الصدقة على الفقراء خير من إظهارها؛ لما في الإظهار من كسر قلوب
الفقراء المتجملين، وما في الإخفاء من الستر عليهم والتكريم لهم. وأما وضع
الصدقة في المصالح العامة، فليس فيه هذا المعنى وإبداؤها قد يكون حينئذ خيرًا من
إخفائها؛ لما فيه من حسن القدوة والترغيب في التعاون على الخير، وما زالت
القدوة الصالحة مصدر البركات وسببًا في كثرة الأعمال الصالحات، وقد أمرنا الله
تعالى أن ندعوه بأن يجعلنا أئمة في الخيرات، بمثل قوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74) .
إن من يطلب المال ليضعه في مصلحة عامة، يسره أن يجاب جهرًا، كما
يسر كريم النفس أن يجاب إلى ما يطلبه لنفسه سرًّا، والإخلاص موضعه القلب،
ولا ينافيه أن يحب المؤمن ظهور فضله بالحق، وإنما المذموم في كتاب الله أن
يحب المرء أن يحمد بغير حق، قال تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا
وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العَذَابِ} (آل عمران:
188) والإسلام دين الفطرة، فليس فيه ما يمنع المسلم أن يظهر كل ما يميل إليه
استعداده من الحق والخير، ولا سيما إذا تعدى نفعه، وكان فيه قدوة لغيره.. إلخ.
بعد هذا افتتح رياض باشا الاكتتاب بمئة جنيه، وتبرع الشيخ قاسم آل إبراهيم
نزيل مصر بمئة جنيه، وتبرع غيرهما من الأغنياء بما دون ذلك من الآحاد
والعشرات إلى الخمسين، وكان مجموع التبرعات في تلك الجلسة زهاء ست مئة
جنيه، وستبلغ الألوف في وقت قريب إن شاء الله تعالى.
* * *
(قانون الأزهر في مجلس الشورى، والاحتفال بالمتناقشين فيه)
سبق لنا ذكر قانون الأزهر الجديد، وقد نظر فيه مجلس الشورى، ونفخ
بعض مواده وأقر أكثرها، وقد كان من رأي محمود باشا سليمان رئيس حزب الأمة،
وعلي شعراوي باشا وفتح الله بك بركات وأحمد بك حبيب؛ أن لا يكون حق
تعيين شيخ الأزهر للخديوي، واقترحوا أن يكون بالانتخاب وألا يعزل، وكذلك
أنكروا أن ينعقد مجلس الأزهر الأعلى برياسة الخديوي عند الاقتضاء، وكانت
المناقشة في المادتين الناطقتين بهذين الحكمين شديدة في المجلس، وكان أشد
المعارضين لهؤلاء في رأيهم محمد باشا الشواربي وكيل مجلس الشورى.
رأى حزب الأمة هذه المناقشة فرصة لتأسيس حزب شعبي في المجلس،
يسميه الحزب الديمقراطي أو الحزب الحر، يكون أبطاله هم الذين اقترحوا أن
ينتخب كبار علماء الأزهر الشيخ له، فلا يكون للأمير تعيين من شاء ولا عزل
الشيخ الذي يختاره العلماء، وأن يكون شيخ الأزهر هو رئيس المجلس الأعلى دائمًا
فأطلقوا على الأعضاء الخمسة اسم الحزب الديمقراطي الحر، ودعوا كثيرًا من
الوجهاء إلى حفلة شاي في فندق (كونتيننتال) إكرامًا لهم، حضرها زهاء مئتي نسمة،
وألقيت فيها الخطب في المعنى المقصود.
عبرت الجرائد عن هؤلاء بحزب الأقلية، وقد قابلهم حزب الأكثرية باحتفال
آخر، كان الداعي إليه حسن باشا زايد باسمه ونيابته عن جمهور من سراة القطر
المصري، أقيم هذا الاحتفال في فندق (سفواي) وأجاب الدعوة إليه قاضي مصر
وشيخ الأزهر وكبار علمائه، وزهاء مئة وخمسين رجلاً من وجهاء القطر ورجال
الصحافة الوطنيين والأجانب، وكنت ممن دعي من الصحافيين وإن لم أبد رأيًا،
ولم أكتب كلمة في موضوع الخلاف. ونصبت للمدعوين موائد الطعام وبعد الفراغ
من العشاء، قام في القوم الشيخ حسن السرهويتي من علماء المنوفية، فشكر
الحاضرين بالنيابة عن حسن باشا زايد، ثم خطب في المعنى المقصود سيف النصر
باشا وحسين بك هلال وموسيو كولرا محرر القسم الفرنسي من جريدة الأيجبت،
ومستر منسفيلد محرر القسم الإنكليزي فيها، ثم الشيخ علي يوسف مدير المؤيد
وموسى باشا غالب.
هؤلاء هم الخطباء الذين كانوا مندوبين للخطابة، ثم اقترح الشيخ علي يوسف
على فارس أفندي نمر أحد أصحاب المقطم أن يقول شيئًا، فتكلم بعد الشكر لحسن
باشا زايد كلامًا وجيزًا في الاتفاق بين أهل القطر، وقال: إنه لا يحق له أن
يتعرض لمسائل الأحزاب، وأنه يوافق موسيو كولرا على رأيه الذي أبداه، وهو
استحسان ما جاهر به الفريقان من المختلفين في الرأي في قانون الأزهر، وهو
جعل مقام الجناب الخديوي فوق الأحزاب.
ثم اقترح عليّ الشيخ علي يوسف أن أتكلم بعد أن سألني؛ هل يوجد عندي
مانع من الكلام؟ فقلت: لا.. وهذا ما وعيته من خطابي:
أيها العلماء الأعلام. أيها السراة والفضلاء الكرام:
إنني بعد حمد الله تعالى، والصلاة والسلام على رسوله، أقول كلمة في حالنا
العامة الآن، تعلمون أننا الآن في دور انقلاب ودور انتقال من حال إلى حال، وفي
هذا الطور تكون الأمم على خطر، إذا هي طفرت إلى التقدم طفورًا، ولم تسر
على سنن الكون بالتدريج، فإن ضرر التحول السريع ولو من حال إلى أعلى منها،
ضرره أكبر من نفعه، والخوف منه أقوى من الرجاء فيه.
في هذا الطور يكثر المقلدون الذين يميلون إلى اقتباس ما عند الشعوب القوية
من خير وشر وحسن وقبيح. وفيه تكثر الاقتراحات التي يمكن تنفيذها والتي لا
يمكن تنفيذها، فكل ما نسمعه بمصر من طلب تغيير القديم طبيعي لا بد منه. يطلبون
الدستور ولهم أن يطلبوه، ولكن الوصول إلى المطلوب إنما يكون بالسير على سنن
الكون التدريجية، كذلك ميل الكثيرين إلى المحافظة على القديم طبيعي، ولا بد منه
في هذا الطور، سواء كان ذلك لتفضيل القديم على الجديد، أو للعلم بعدم إمكان
الجديد أو بعدم مجيء وقته لعدم استعداد الأمة له.
لا ترتقي الأمم إلا بطلب استبدال ما هو أدنى من قديمها بالذي هو خير منه،
ولو مقتبسًا من غيرها، ولا تبقى الأمم إلا بالمحافظة على قديمها، والتريث في
التحول عن الضار منه، حتى لا يكون طفرة تُخشى عاقبتها. وإن هذه البلاد سائرة
على طريق التحول بالتدريج، والخطر عليها عظيم من العجلة والطفور، ولكنه لا
يقع إن شاء الله تعالى.
أمامنا مثال ظاهر على هذا وهو الجامع الأزهر. كان هذا المعهد العلمي العظيم
إلى عهد قريب كأنه بمعزل عن سائر طبقات الأمة، يجري أهله فيه على ما تعودوا
من طرق التعليم بغير نظام مدوّن ولا قانون متّبع، ولم يكن أحد يعرف طريقتهم
وحالهم إلا من جاور فيه معهم. وقد وضع له في هذا العصر عدة قوانين، كان كل
منها مناسباً للوقت الذي وضع فيه، كما تقتض سنة التدريج في التحول، حتى
وصلنا إلى الحالة التي نحن فيها اليوم.
ها أنتم أولاء، ترون أمامكم في هذا الفندق المدني العصري أكابر علماء
الأزهر الأعلام، يحضرون احتفالاً جمع بين الكثيرين من طبقات الأمة المختلفين
في الدين والجنس وبعض الأفراد من الأجانب، وقد عقد هذا الاحتفال لأجل الأزهر
فإنه احتفال بالذين أقروا قانون الأزهر الجديد الذي هو أوسع وأعلى من قوانينه
السابقة.
أليست هذه خطوة واسعة في التحول عن القديم إلى الجديد، تكاد تكون وثبة
غير تدريجية؟ أليس وجود هؤلاء العلماء الأعلام بينكم، وهم الذين يعد أمثالهم في
كل الأمم أقوى المحافظين على القديم؛ آية من آيات الاستعداد لما يسمونه
الديموقراطية في لغة أهل السياسية؟
لا أقول: إن قانون الأزهر الجديد الذي تحتفلون بتقرير مجلس الشورى له
هو منتهى الكمال المطلوب لهذا الجامع ولكنه إذا تيسر تنفيذه يكون من الارتقاء
التدريجي المطلوب بل أخشى أن يكون فوق التدريجي.
قلت: إنه يخشى على الأمة في طور الانتقال من التحول السريع، ولكنها إذا
تركت إلى سنن الكون ونواميسه في الترجيح بين طلاب الجديد والمحافظين على
القديم، فإنها تسلك طريق التدريج الذي لا خطر فيه، وإنما يكون التحول الفجائي
بالقوة القاهرة التي يلجأ إليها طلاب الجديد في بعض الأمم، وهذه القوة غير
موجودة في مصر، فلا خطر على هذه البلاد من طلب ما لا حاجة إليه، ولا من
طلب الشيء قبل أوانه، فعلينا إذًا أن نحترم حرية رأي غيرنا، كما نحب أن يحترم
رأينا ولكننا نجتهد في تنفيذ ما نراه نحن هو الأصلح.
هذه كلمتي الأولى في هذا المقام، ولي كلمة أخرى في هذا الاحتفال،
والاحتفال الذي قبله. قال الأستاذ الشيخ علي يوسف في خطبته: إنه بدأ بالشكر
للذين احتفلوا بالعدد القليل من أعضاء مجلس الشورى؛ لأنه كان سبب الاحتفال
بالجمهور الكثير من أعضائه، وقال: إن المجلس حصل فيه وكذا في الجمعية
العمومية خلافات كثيرة؛ في مسائل أهم من المواد التي اختلفوا فيها أخيرًا من
قانون الأزهر، وأدل على الشجاعة الأدبية، ولم يكن أحد يحتفل بالمخالفين لرغبة
الحكومة ولا بالموافقين.
وأنا أشاركه في الشكر لهؤلاء وأولئك المحتفلين، وأعده من آيات ارتقاء هذه
البلاد وأعمالها النافعة، إننا لم نكن نبالي من قبل بالأمور العامة، والآن صرنا
نبالي بها، إن اجتماع العدد الكثير من طبقات الأمة في محفل واحد لأجل المصلحة
العامة، يرى بعضهم وجوه بعض، ويسمع بعضهم حديث بعض هذا الاجتماع
يقوي في نفوسهم حب المصلحة العامة والاهتمام بها والحديث فيها، ويسري ذلك
منهم إلى غيرهم، فيكون وسيلة إلى انتشاره في الأمة كلها، وذلك من أسباب
الارتقاء السريع الذي لا خطر فيه.
حق لي بعد هذا البيان أن أشكر لحسن باشا زايد وإخوانه العناية بهذا الاحتفال
النافع، سمعت أنه قيل: إن حسن باشا زايد لم يتعلم في الأزهر ولا في غيره من
المدارس العالية أو غير العالية، فيعرف صواب الرأي في قانون الأزهر، فيحتفل
لأجله عن بصيرة، وأنا أقول: إن الأمم لا ترقى بالمتعلمين في المدارس وحدهم.
إن عماد ارتقاء الأمم هم أصحاب المواهب الفطرية والاستعداد العالي الذي يزجي
هممهم للقيام بالمصالح العامة. حسن باشا زايد لم يتعلم في المدارس، ولكنه
باستعداده الطبيعي ومواهبه الفطرية يدير ثروة واسعة، وينفق منها على المصالح
العامة: كالجامعة المصرية ومؤتمر تحسين العميان وغير ذلك.
لو تعلم حسن باشا زايد في المدارس العالية ونال شهادتها وألقابها وهو عاطل
من هذه الحلية الفطرية، لكان لنا منه واحد من المتعلمين الكثيرين الذين لا حظ
لأمتهم منهم غير شقشقة اللسان وتنميق الكلام، ولكن حسن باشا زايد يعلم الآن بماله
كثيرًا من النابتة، فهو إذًا ليس فردًا متعلمًا ولكنه أمة معلمة.
التعليم يحتاج إلى المال، وإنما يكون ارتقاء الأمة بالأغنياء الذين يبذلون
أموالهم لترقية الأمة ورفعة شأنها، لا بالذين يدعون خدمتها بالقول فقط، أولئك
الباذلون المحسنون هم زعماء الأمة ومربوها، فنسأل الله أن يكثر فينا من أمثالهم.
***
(عقد قران صاحب المنار)
في يوم الجمعة سادس عشر ربيع الأول الأنور، احتفل في ددّه من أعمال
الكورة الشمالية بجبل لبنان؛ بالعقد لصاحب المنار على الأميرة أمينة كريمة
المرحوم الأمير (هدى) درويش الأيوبي، والأمراء الأيوبية؛ كانوا حكام هذا القسم
الشمالي من كورة لبنان، وهم ينتسبون إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي. وكان
وكيلي في العقد شقيقي السيد حسن، ووكيل الفتاة شقيقها الأمير أحمد هدى، وتولى
صيغة العقد الأستاذ السيد الشيخ عبد الفتاح الزغبي الجيلاني نقيب الأشراف في
طرابلس الشام، وحضر الاحتفال كبار العلماء والوجهاء والسادة من طرابلس
والقلمون والكورة، وكان الاحتفال أرقى ما عهد من نوعه. وقد نصبت فيه موائد
الطعام للمئين من المدعوين، وأديرت كؤوس المرطبات على جماهير الحاضرين،
وتوفرت فيه أسباب السرور، فلم يشب صفوها كدرعلى كثرة الشبان الذين يحملون
السلاح من أهل القريتين وغيرهما، وقد طير البرق خبره إلى مصر في حينه،
فنشر في الجرائد الكبرى كالمؤيد والمقطم والأهرام، فنسأل الله التوفيق في هذا
الطور الجديد في الحياة.
***
(الوطنية والإسلام)
نشرت جريدة (العلم) لسان حال الحزب الوطني بمصر في (ع 279 الذي
صدر في 11 ربيع الآخر) ترجمة كلام لمجلة (العالم الإسلامي) الفرنسية التي
تصدر بباريس، ذكر صاحبه الحركة الوطنية المصرية وعزاها إلى مصطفى كامل
باشا وخطأها بمثل قوله: وإنما كنا نعتقد فقط بأن ارتباط الإسلام بالنهضات الوطنية،
يكون سببًا لتشتيته وانقسامه على نفسه، فيفقد القوة التي اكتسبها إياه (؟) مدنيته
العمرانية، ونحن نهنئ مصر الإسلامية المولعة بالتقدم والرقي العقلي والاجتماعي،
وننتظر لها مستقبلاً سياسيًّا باهرًا، بحيث تسترد مركزها الإسلامي، وذلك بناء
على انتشار الحركة الإسلامية لا الحركة الوطنية المقيدة في دائرة من الدوائر.
(وإننا مع عدم إنكار الخدمات العظمى التي قام بها الحزب الوطني للأمة
المصرية، نخاف أن يسير بها في مأزق ضيق؛ لأنه لم يتبع الطريق الذي نراه
صالحًا) ا. هـ المراد بنص ترجمة جريدة العلم الركيكة.
وقد عقبت جريدة العلم على ذلك بهذه الجملة (يريد الكاتب أن يقول: بأن
الحزب الوطني أخطأ في عدم جعل الدين قاعدة لحركته، والجامعة الإسلامية وسيلة
لتحقيق مقاصده، وهذا هو مبدأ المجلة (أي مجلة العالم الإسلامي) التي نعرب
عنها مقال اليوم، كما أشرنا إلى ذلك سلفًا وهو ما لا نوافق عليه) .
(المنار)
إن صاحب مجلة العالم الإسلامي لم يذكر الجامعة الإسلامية، وإنما يعني أن
مصر لا ترتقي إلا بارتقاء المسلمين الذين هم السواد الأعظم بحركة إصلاح إسلامية
لا بدعوة وطنية، والحزب الوطني على خلاف ذلك؛ فإنه يفضل الحركة الوطنية
على الإسلامية.
ويقال: إن بعض أصحاب النفوذ في الحزب الوطني، سيظهرون الميل إلى
الاتحاد بالقبط وعدم مؤاخذتهم على ما كان منهم ولا غرو، فالوطنية الصحيحة التي
لا شائبة للدين فيها؛ تقتضي أن لا يمتاز وطني على وطني بسبب دينه، فإذا
قصرت القبط في حقوق الوطنية بتفضيل القبطي على غيره، فذلك لا يقتضي أن
يعاملهم زعماء الوطنية من المسلمين بعملهم؛ لأن الزعيم قدوة في الإيثار، ويجب
على القبط أن لا يعودوا بعد إلى مثل ما كانوا عليه من التحامل على الحزب الوطني
فإنه كان في هذه الأيام أقرب إليهم من سائر الأحزاب، ولم يرفع صوته الجهوري
المعروف في الدعوة إلى المؤتمر الإسلامي، بل جارى سائر الأحزاب بقدر
الضرورة.
***
(رأي مجلة الشرق والغرب، في جماعة الدعوة والإرشاد)
لدعاة النصرانية عدة صحف في مصر منها مجلة الشرق والغرب لقسوس
الإنكليز، ويكنون بالشرق عن الإسلام وبالغرب عن النصرانية، وقد بلغني أن
رأس مال هذه المجلة الصغيرة ستة آلاف جنيه، وهي من تبرعات الإنكليز
الحريصين على نشر دينهم ومذهبهم في هذه البلاد، فهل يعتبر بذلك المسلمون.
هذه المجلة أقرب إلى الأدب من أخواتها، وقد أرسلنا إليها النظام الأساسي
لجماعة الدعوة والإرشاد، فكتب أصحابها عنه خيرًا مما كتبه بعض المسلمين الذين
يدعون السبق في خدمة دينهم، كتبوا ما معناه أن الدين الحي لا بد له من الدعوة،
وأنه لا يسوءهم أن يدعو المسلمون إلى دنيهم، وأنه أعجبهم من نظام الجماعة عدم
الاشتغال بالسياسة، وههنا أدخلت المجلة شيئًا من التعريض الذي يغري الأوربيين
بمقاومتنا، فقالت: إنهم لا يستطيعون أن يفهموا أن شيئًا من الإسلام يخلو من
السياسة؛ لأن الإسلام مزج بينهما.
ونحن نجيب عن هذه التهمة التعريضية بجواب بديهي، ونرجو من إنصاف
أهل هذه المجلة نشره بالعربية والإنكليزية، كما نشروا الشبهة وهو:
إننا نعترف بأن السياسة في الإسلام قرينة الدين؛ بمعنى أن الإسلام جاء
بأحكام دينية وأحكام دنيوية سياسية ومدنية، ولكنه فرق بين الأحكام الدينية المحضة
وغيرها، ومن أحكامه أن المعاملات الدنيوية تكون عبادة دينية بإخلاص صاحبها
وتحريه الحق والعدل والمصلحة، كما يكون عاصيًا بضد ذلك، فحكام المسلمين
مأمورون بمراعاة أحكام الدين فيها، فإذا فعلوا يكونون أقرب إلى الحق والعدل،
ويجب عليهم حفظ الإسلام والدعوة إليه، فالسياسة إذًا تستلزم الدين في الإسلام.
وأما القسم الديني المحض من الإسلام، فلا يحتاج فيه إلى الساسة، بل لا
يكون إتقانه والإخلاص فيه إلا بتركها، فالذي يشتغل بالعقائد الإسلامية وإقامة
الدلائل عليها ورفع الشبهات عنها، وبآداب الإسلام وأخلاقه وعباداته علمًا وعملاً
وتعليمًا ودعوة إليها ودفاعًا عنها، لا ينبغي أن يشتغل بالسياسة ولا لأجل السياسة
بل الواجب عليه شرعًا أن يعمل ذلك لوجه الله وابتغاء مرضاته بالتقوى والهداية،
فإذا قصد مع ذلك التقرب من الحكام أو إرضاءهم، كان مرائيًا مذمومًا، وإذا عمل
لأجل السياسة فقط، كان عمله معصية لا طاعة، وكان مستحقًّا للعقاب عليه دون
الثواب، وقد أطلق في الكتاب والسنة اسم الشرك على مثل هذا الرياء.
فجماعة الدعوة والإرشاد تريد أن تخدم الإسلام، من حيث هو دين جاء لهداية
الناس وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا؛ بالتقوى والفضيلة والخير والبر،
وسعادتهم في الآخرة بالنجاة من عذاب الله والدخول في دار كرامته ورضوانه، ولا
تريد مطلقًا أن تشتغل بالقسم السياسي ولا القضائي منه، فلا تقصد أن تعد طلاب
مدرستها للقضاء الشرعي ولا للأعمال السياسية، وإنما تريد أن تعدهم لإرشاد عامة
المسلمين إلى حقيقة دينهم ودعوة غير المسلمين إلى الإسلام من غير تعرض
لحكوماتهم ألبتة، أليس هذا مما يسهل على كل أحد أن يفهمه؟ كان الصالحون من
سلف الأمة والصوفية أبعد خلق الله عن الساسية وأهلها، حتى إنهم كانوا يفرون من
الحكام، ويكرهون لقاءهم إلا لحاجة دينية؛ كالحث على الخير والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، فهل يضيق فكر الأوربيين الواسع عن التصديق باتباع جماعة
من المسلمين لسلفهم الصالح في الدين الخالص من شوائب السياسة وأهواء الحكام،
مع وجود ذلك في جميع الأمم والأقوام؟
***
(المؤتمر المصري)
اقترحنا على المؤتمر المصري أن يكون له خمس لجان دائمة في المركز العام
بالقاهرة: لجنة للإدارة، ولجنة للتعليم والتربية، ولجنة للوعظ والإرشاد وإصلاح
حال العامة في دينها ودنياها، ولجنة مالية اقتصادية لحفظ الثروة وتنميتها، ولجنة
خيرية لإعانة المنكوبين والمعوزين، وبينا كيفية تأليف هذه اللجان وعلمها،
وسننشر ذلك في الجزء الآتي.
__________(14/231)
ربيع الآخر - 1329هـ
أبريل - 1911م(14/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
فتحنا هذا الباب لإجابة أسئلة المشتركين خاصة؛ إذ لا يسع الناس عامة،
ونشترط على السائل أن يبيّن اسمه ولقبه وبلده وعمله (وظيفته) ، وله بعد ذلك أن
يرمز إلى اسمه بالحروف إن شاء، وإننا نذْكر الأسئلة بالتدريج غالبًا، وربّما
قدّمنا متأخرًا لسببٍ؛ كحاجة الناس إلى بيان موضوعه، وربّما أجبنا غير مشترك
لمثل هذا، ولمن مضى على سؤاله شهران أو ثلاثة أن يذكّر به مرةً واحدةً، فإن
لم نذْكره كان لنا عذر صحيح لإغفاله.
(سؤال عن فتوى)
(س21) من السيد عبد الله بن عبد الرحمن العطاس بسنغافوره
أرسل السائل إلينا السؤال الآتي مع جواب السيد عثمان بن عقيل عليه،
وكتب عليه ما يأتي:
هذا جواب عن ذلك السؤال، هل المجيب مصيب في تأصيله ما ذكر في
السؤال بما ذكر في الجواب أم مخطئ، وعن الأحاديث المذكورة فيه، هل هي
صحيحة مروية عن سيد السادة أم لا. وعما هو الحق في هذه المسألة، أفيدونا به
على صفحات المنار إحقاقًا للحق وإزهاقًا للباطل، فالله يديمكم ويرعاكم ويحفظكم.
وهذا نص السؤال والجواب المسئول عنه.
(هذا السؤال صدر من جماعة من المسلمين)
(من بندر سنغافوره)
ما قولكم فيما يعمله الناس في ليلة النصف من شعبان من قراءة سورة يس
المعظمة ثلاث مرات بنية مخصوصة، والدعاء المعروف بعد كل مرة هل هو
سنة وله أصل من الكتاب أو السنة أم لا؛ فإن بعض الناس يقول: إنه بدعة ليس
له أصل من الكتاب ولا من السنة، بينوا لنا حكم هذا العمل، وما هي البدعة
وأقسامها بيانًا شافيًا أثابكم الله، آمين.
(الجواب)
نسأل الله تعالى التوفيق للصواب، اعلموا وفقني الله وإياكم لمرضاته، أن هذا
العمل الذي ذكرتم له أصل من السنة، وقد عمل به الخاص والعام من العلماء
والصلحاء وعامة المسلمين في الأمصار والأعصار من غير إنكار، ممن يعتبر قوله
أما أصله فقد قال العلامة الشيخ علي بن محمد الخازن في تفسيره لباب التأويل في
معاني التنزيل في قوله تعالى: {فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} (الدخان: 3) إلى قوله تعالى:
{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) وروى البغوي بسنده أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان. وعن ابن عباس رضي الله
عنهما أن الله يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة
القدر. انتهى. وقال العلامة السيد علي بن عبد البر الونائي في رسالته المتعلقة
بفضائل ليلة النصف من شعبان، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قال: يكتب الآجال من شعبان إلى شعبان. اهـ. وقال
العلامة الشيخ سليمان الجمل في حاشيته على تفسير الجلالين، وعن ابن عباس
رضى الله عنهما أن الله يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلمها إلى أربابها
في ليلة القدر. اهـ.
وأما قول أكثر المفسرين: إن قوله تعالى: {فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} (الدخان:
3) هي ليلة القدر، وقال الشيخ الجمل في حاشيته ما معناه: إن المراد منه ظهور
تلك الأمور التي قدرها المولى عز وجل في قوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) أي ظهورها للملائكة في ليلة القدر، وليس المراد أن تلك الأمور لا
تحدث إلا في تلك الليلة، فقد جاءت الأخبار الصحيحة بأن الله تعالى قدر تلك
الأمور في ليلة النصف من شعبان وسلمها للملائكة في ليلة القدر، انتهى.
ثم قال: وهذا يصلح أن يكون جمعًا بين القولين، وقال أيضًا: وإذا تقاربت
الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى انتهى. وقال السيد علي
الونائي في رسالته المذكورة: وعن عثمان ابن العاص أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: إذا كان ليلة النصف من شعبان نادى منادٍ هل من مستغفر فأغفر له هل
من سائل فأعطيه، فلا يسأل أحد إلا أعطاه إلا زانية أو مشركة وفي رواية: ما لم يكن عشارًا أو ساحراً أو صاحب كوبة أو عطربة وفي رواية عن
عائشة رضي الله عنها: إن الله يطّلع على عباده في ليلة النصف من شعبان، فيغفر
للمستغفرين، ويؤخر أهل الحقد بحقدهم، ثم أورد أحاديث كثيرة في فضل ليلة نصف
شعبان إلى أن قال: ومما ينبغي ليلة النصف من شعبان أن يقرأ الإنسان بين
صلاتي المغرب والعشاء سورة يس بتمامها ثلاث مرات: الأولى بنية طول العمر
له ولمن يحبه، الثانية بنية التوسعة في الرزق مع البركة في العام، الثالثة بنية أن
يكتبه الله من السعداء، ويأتي بالدعاء المشهور وهو: اللهم يا ذا المن ... إلى آخره.
انتهى.
وأما تعريف البدعة وأقسامها فهي تعتريها الأحكام الخمسة منها واجبه، وهي
كل ما يتوقف فعل شيء من الواجبات الشرعية به فهو واجب أيضًا؛ للقاعدة
المقررة، ومنها مندوبه كبناء الرباطات والمدارس ونحوها، ومنها مباحة كالتوسع
في لذيذ المأكل، ومنها مكروهة كزخرفة المساجد، ومنها محرمة ومكفرة كبدعة
الرافضة والوهابية، وعليها قول الإمام الشافعي رضي الله عنه: ما أحدث وخالف
كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو أثرًا فهو البدعة الضالة، انتهى. فيما ذكر من الأحاديث
ونصوص هؤلاء الأئمة يعلم أن قراءة يس في هذا السؤال له أصل وأي أصل، وأن
القائل بأنها بدعة؛ لعله متمسك بالعلم الجديد، أو أنه من قسم الخامس من المبتدعة؛
لأنهم يضعفون الحديث الصحيح إذا خالف هواهم، ويصححون الحديث الموضوع إذا
وافق هواهم، فمن أراد الاطلاع على هذا فعليه برسالتنا الآتية -إن شاء الله تعالى-
المسماة بإعانة المرشدين على اجتناب البدع في الدين، وإلى هنا انتهى الجواب.
(المنار) اعلم يا أخي قبل الجواب عن هذه الفتوى أن مصيبة الدين بالتقليد
الذي ذمه علماء السلف كافة وأهل البصيرة من الخلف، ليست هي عبارة عما
أجازه بعض المؤلفين من رجوع الجاهل إلى الإمام المجتهد، فيما لا يعلم حكمه من
أمر دينه وأخذه بفتواه، وإن لم يذكر له دليلها من الكتاب والسنة، وإنما مصيبة
التقليد السوءى؛ هي أنها صرفت المسلمين عن الكتاب والسنة، وعن كتب الأئمة
المجتهدين في الفقه وغيره، وعن الثقات الأثبات السابقين إلى تحقيق كل علم،
صرفتهم عن هؤلاء إلى أناس من الجاهلين المقلدين لأمثالهم، المتهجمين على
الفتوى والتأليف والاجتهاد بغير علم، وإنما يأخذ الناس بأقوالهم لثقتهم بهم وثقة
العامي قريبة المنال، فإننا نرى في كل بلاد أناسًا من أدعياء العلم تثق بهم العامة؛
لأنها تراهم أمثل من تعرفهم في ظاهر الصلاح أو قراءة الكتب، وهي لا تميز بين
الكتب التي يعتمد عليها والتي لا يعتمد عليها، ونعرف أن كثيرًا من هؤلاء الموثوق
بهم دجالون من أهل التلبيس، ومنهم من قرأوا قليلاً من مبادئ العلم، وولعوا بكتب
من لا ثقة بدينهم ولا بعلمهم، ودرسوا وأفتوا بها، وهم لا يميزون بين ما فيها من
حق وباطل، وصحيح وسقيم، وإنما تعجبهم هذه الكتب المحشوة بالأحاديث
الموضوعة والخرافات والبدع؛ لسهولتها وعدم توقف فهمها على معرفة
الاصطلاحات العلمية، كاصطلاحات علماء الحديث والأصول في نقد الحديث وما
يحتج به منه، وما لا يحتج به.
نعرف في بلادنا كثيرًا من الشيوخ الذين وثقت بهم العامة، حتى في المدن
التي فيها كثير من العلماء الذين يعتد بعلمهم ونقلهم، وأنهم ليكونون أكثر في البلاد
التي تقل فيها العلماء وفي القرى، ومما يؤكد هذه الثقة حسن السمت ومظهر
الصلاح والانتساب إلى بيوت العلم والشرف، فهؤلاء هم مثار الجهل والبدع في
هذه الأمة، ولا سيما في هذه القرون الأخيرة، وقد ذكر بعض أخبارهم ابن الجوزي
وغيره من العلماء.
يدعي هؤلاء أنهم علماء مقلدون للأئمة، ولا يعرفون من كلام الأئمة شيئًا،
ولا يقفون عند حدود ما أفتى به المشهورين من الفقهاء المنتسبين إلى أولئك الأئمة
رضي الله عنهم، وهم مع هذا يحاربون متبعي الأئمة بحق إذا دعوهم إلى الحق
بدلائل الكتاب والسنة، بل يحاربون الكتاب والسنة باسم أولئك الأئمة، قائلين:
إن فهمهم لهما أصح من فهم فلان الذي يدعوكم إليهما الآن، سلمنا أن فهمهم أصح،
فليأتنا هؤلاء الجاهلون بنصوصهم في تفسيرها، وليحاربونا بها، إنهم إنما يجيئون
بكلام أمثالهم من العوام الذي تجرءوا على التأليف ويلصقونها بالأئمة، والأئمة برآء
منها، وماذا تفعل بثقة الجاهلين بهم، وقد انسد في وجههم باب التمييز بين الحق
والباطل.
من هؤلاء الشيوخ في بلاد جاوه الشيخ عثمان بن عبد الله بن عقيل، شيخ له
سمت ونسب واطلاع على كثير من الكتب التي لا يعتد بها ولا تصلح للفتوى منها.
يقول هذا الشيخ الوقور: إنه شافعي المذهب، وإن عمدته من كتب فقهاء
الشافعية المتأخرين كتب ابن حجر الهيتمي، (أفلح الأعرابي إن صدق) ابن حجر
يقول في فتاواه الحديثية: إن الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب
ليس مؤلفه من أهل الحديث لا يحل. ومن فعله عذر عليه التعذير الشديد، وذكر
أن أكثر الخطباء كذلك، وأنه يجب على الحكام أن يمنعوهم من ذلك (راجع ص32
من هذه الفتاوى المطبوعة بمصر) فلماذا لم يأخذ الشيخ عثمان بهذه الفتوى؛ فهو
يسئل عن مسألة هل لها أصل في الكتاب والسنة، فيورد أحاديث من رسالة الونائي
ويقرها وهي لا تصح، وليست نصًّا في المسألة، ثم ينقل رأي هذا الرجل ويقره،
ويجعل ذلك فتوى بأن للمسألة أصلاً في الكتاب والسنة، وهذا الونائي ليس إمامًا
مجتهدًا ولا محدثًا حافظًا يعتد بنقله، وما نقله ليس نصًّا فيما ارتآه، فكيف جاز
للشيخ عثمان بن عقيل أن يفتي برأيه، لعل هذا الونائي مثل ابن عقيل هذا،
وستكون فتاوى السيد عثمان ورسائله مما يفتي به مثله من بعده، وتعارض بها
نصوص الكتاب والسنة بناء على ادعائه الانتساب إلى الإمام الشافعي، وإن لم
يعرف قوله ولم يفت به، هذه مقدمة لم نر بدًّا من بيانها.
***
(أقوال المحدثين والثقات في عبادات ليلة النصف من شعبان)
روي في الموضوعات والواهيات والضعاف التي لا يحتج بها أحاديث في
كثير من العبادات منها؛ صلاة ليلة الرغائب من رجب وليلة نصف شعبان، ولكن
هذا الشعار الإسلامي المبتدع المعروف الآن لم يرد فيه شيء من ذلك، ولكنه
عمل به في الجملة منذ القرون الأولى، ولهذا اغتر بصلاة رجب وشعبان بعض
الفقهاء والصوفية كأبي طالب المكي وأبي حامد الغزالي على جلالة قدرهما،
وسبب ذلك قلة بضاعتهما في نقد الحديث، وقد بين خطأهما المحدثون والفقهاء
كالإمام النووي الذي هو عمدة الشافعية، وأطال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث
الإحياء في بيان ذلك، وقد نقل كلامه شارحه السيد مرتضى الزبيدي ثم قال:
وقال التقي السبكي في تقييد التراجيح: صلاة ليلة النصف من شعبان وصلاة الرغائب
بدعة مذمومة. اهـ.
وقال النووي: هاتان الصلاتان بدعتان موضوعتان منكرتان قبيحتان، ولا تغتر
بذكرهما في القوت والإحياء، وليس لأحد أن يستدل على شرعيتهما بقوله صلى الله
عليه وسلم: الصلاة خير موضوع، فإن ذلك يختص بصلاة لا تخالف الشرع بوجه
من الوجوه، وقد صح النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة. اهـ.
ثم قال الزبيدي: وقد توارث الخلف عن السلف في إحياء هذه الليلة بصلاة
ست ركعات بعد صلاة المغرب كل ركعتين بتسليمة، يقرأ في الركعة منها
بالفاتحة مرة والإخلاص ست مرات، وبعد الفراغ من كل ركعتين يقرأ سورة يس
مرة، ثم يدعو بالدعاء المشهور بدعاء ليلة النصف، ويسأل الله تعالى البركة في
العمر، ثم في الثانية البركة في الرزق، ثم في الثالثة حسن الخاتمة. وذكروا أن
من صلى بهذه الكيفية أعطي ما طلب، وهذه الصلاة مشهورة في كتب المتأخرين
من السادة الصوفية، ولم أر لها ولا لدعائها مستندًا صحيحًا في السنة إلا أنه من
عمل المشايخ، وقد قال أصحابنا: إنه يكره الاجتماع على إحياء ليلة من هذه الليالي
المذكورة في المساجد وغيرها، وقال النجم الغيطي في صفة إحياء ليلة النصف من
شعبان بجماعة: إنه قد أنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز منهم عطاء وابن
أبي مليكة وفقهاء المدينة وأصحاب مالك، وقالوا: ذلك كله بدعة، ولم يثبت في
قيامها جماعة شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وممن قال
ذلك من أعيان التابعين خالد بن معدان وعثمان بن عامر ووافقهم إسحق بن راهويه،
والثاني كراهة الاجتماع في المساجد للصلاة، وإليه ذهب الأوزاعي فقيه الشام
ومفتيهم. اهـ.
(المنار) الخلاف الذي ذكره في قيام ليلة النصف من شعبان بما ذكر قد
صرح بكراهة أصحابهم له أي الحنفية، والكراهة إذا أطلقت عندهم تنصرف إلى
التحريم، ونقل مثل ذلك عن الشافعية والمالكية، فالنجم الغيطي من فقهاء الشافعية،
وقد رأيت قبله قول السبكي والنووي الشافعيين في صلاتها، وأما الحنابلة فهم أشد
من غيرهم نبذًا لما لم يثبت في السنة، ومن استحبها من علماء الشام كانوا
مجتهدين، وليس لهم أتباع الآن، ومذاهبهم ليست مدونة، ونص الفقهاء على أنه لا
يفتى بها.
وقد بيّن المحدثون في كتب الموضوعات كل ما ورد في صلاة شعبان وقيامها
وهو مما لا يعمل به ولو في الفضائل، قال في الفوائد المجموعة بعد إيراد شيء
منها واغترار بعض الفقهاء كالغزالي وبعض المفسرين بها ما نصه: (وقد رويت
صلاة هذه الليلة - أعني ليلة النصف من شعبان - على أنحاء مختلفة كلها باطلة
موضوعة، ولا ينافي هذا رواية الترمذي من حديث عائشة - رضي الله عنها -
لذهابه صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، ونزول الرب ليلة النصف إلى سماء الدنيا،
وأنه يغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب) فإن الكلام إنما هو في هذه الصلاة
الموضوعة في هذه الليلة، على أن حديث عائشة رضي الله عنها هذا فيه ضعف
وانقطاع، كما أن حديث علي الذي تقدم ذكره في قيام ليلها، لا ينافي كون هذه
الصلاة موضوعة على ما فيه من الضعف حيثما ذكرناه. اهـ.
أما (حديث) (تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان) فقد رواه ابن جرير
والبيهقي عن عثمان بن محمد بن المغيرة وهو ابن الأخنس بن شريق الثقفي قال:
في الميزان حدث عن محمود القزاز مجهول، وقال ابن المديني روى عن سعيد بن
المسيب مناكير.
وأما قول ابن عباس المذكور، فإن صح عنه لا يفيد في الباب شيئًا، وقد نقل
عن الجمل أن هذا المعنى ثبت في الأحاديث الصحيحة، وليس قوله بشيء، فهذه
كتب الصحاح في أيدينا ليس فيها ذلك، والجمل ليس بمحدث بل يغتر بما يرى في
كتب التفسير التي لا تميز بين صحيح وسقيم، وقد قال المحدثون: إن بعض
المفسرين والفقهاء اغتروا بما ورد في هذه الليلة، على أنه إن صح لا يفيد في تأييد
فتواه، وقد صرح ابن العربي بأنه لا يصح مما ورد في هذه الليلة شيء، وهو ما
قاله الزبيدي في شرح الإحياء.
وأما حديث: (إذا كانت ليلة النصف من شعبان) فقد ذكروه بألفاظ مختلفة،
وهو حديث عليّ الذي قال في الفوائد المجموعة بضعفه، وقد رواه ابن ماجه من
أصحاب السنن عن ابن أبي سبرة وهو ضعيف كما صرح محشي هذه السنن نقلاً
عن الزوائد، بل نقل عن الإمام أحمد وابن معين أنه كان يضع الحديث، وروى
ابن ماجه حديث عائشة أيضًا، وقد علمت أنهم صرحوا بضعفه وانقطاع سنده عن
الترمذي. وهو أمثل ما ورد في هذه المسألة، وروى ابن ماجه أيضًا حديث: (إن
الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)
وهو عن الوليد بن مسلم المدلس عن عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف. ورواه غيره
أيضًا.
ويعارض هذه الروايات في خصوصية ليلة النصف من شعبان أحاديث
الصحيحين في نزول الرب كل ليلة إلى سماء الدنيا وقوله: هل من مستغفر هل من
تائب، وحديث مسلم في عرض الأعمال كل اثنين وخميس، والمغفرة لغير
المشركين والمتشاحنين.
وجملة القول أن الشعائر التي تقام في ليلة النصف من شعبان ليس لها أصل
صحيح في الكتاب ولا في السنة، وأن الروايات التي ذكرها ابن عقيل غير
صحيحة، وهو لجهلة بالحديث لم يرجع فيها إلى كتب المحدثين، بل نقلها عمن لا
يعتد بهم، ثم أنها لا تدل على مشروعية ما سئل عنه وهو قراءة يس والدعاء
بالصفة التي ذكرها، وإن هذه العبادات في تلك الليلة وليلة الرغائب قد حدثت في
القرون الأولى فقبلها كثير من العباد والمتصوفة، وأنكرها المحدثون والفقهاء؛
لعدم ثبوت أصلها ولأن الله تعالى قد أكمل الدين، فمن زاد فيه كمن نقص منه؛
كلاهما مبتدع.
وقد أنكر عثمان بن عقيل على الذين يصححون أو يضعفون الأحاديث بالهوى
وهو منهم، فإنه يتكلم في الأحاديث بغير علم، ولو كان من أهل العلم بها لما اعتمد
في نقلها على الونائي والجمل وترك البخاري ومسلمًا وأصحاب السنن الأربعة
وأضرابهم، كما ينكر على الذين يفتون بالدلائل من الكتاب والسنة بعلم،
ويفتي بها بغير علم، ولو كان في بلاد لها حكومة إسلامية لمنع من الفتوى وعوقب
عليها، ولكن جاهه وقوته في الاستناد على حكومة غير إسلامية في بلاد ليس فيها
علماء ومحققون.
وأما ما ذكره في مسألة البدعة، فلا يصح على إطلاقه، وقد ثبت في الحديث
الصحيح أن كل بدعة ضلالة، ولذلك صرح بعضهم بأن البدعة الشرعية لا تكون
إلا ضلالة، وأما البدعة اللغوية فهي التي تعتريها الأحكام الخمسة، فكل ما لا دليل
عليه في الكتاب والسنة من أمر الدين كالعبادات والشعائر الدينية فهو بدعة سيئة
وضلالة محققة، وعليها تحمل الكلية في الحديث، وما في معناه من الأحاديث
الكثيرة، وأما ما سوى الأمور الدينية المحضة؛ وإن كانت نافعة في الدين؛ كالعلوم
والفنون المسهلة لفهمه والتفقه فيه - فهي التي تعتريها الأحكام الخمسة فيحكم فيها
بحسب ما فيها من النفع أو الضرر أو عدمها.
مثال ذلك: أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يتم الجهاد في هذا
الزمان إلا بالعلوم والفنون العسكرية التي لم تكن في العصر الأول، ولا دليل
عليها بخصوصها فهي واجبة حتمًا، وإن كانت من العلم الجديد الذي يجهله فيعاديه
الشيخ عثمان بن عقيل، فقد قال في آخر فتواه: (فيما ذكر من الأحاديث ونصوص
هؤلاء الأئمة، يعلم أن قراءة يس في هذا السؤال له أصل وأي أصل، وأن القائل
بأنها بدعة لعله متمسك بالعلم الجديد أو أنه من قسيم الخامس - كذا - من
المبتدعة) ... إلخ، وأنت ترى أن الأحاديث التي ذكرها ليس فيها ذكر لقراءة يس،
فهل يكتب مثل هذا من يعقل ما يكتب، وإذا كان يفتي بالشيء ويعزوه إلى أحاديث الرسول - صلى تعالى عليه وسلم - ولا ذكر له ولا إشارة فيما أورده منها على كونه مما لا يحتج بمثله، فهل يلتفت إلى قوله: لعل القائل بأنها بدعة متمسك بالعلم
الجديد ... إلخ، ثم ما هو العلم الجديد الذي يعاديه ويعرض بأهله، وماذا عرف هو من العلم القديم، ومن قال: إن الونائي من الأئمة الذين يؤخذ بأقوالهم، وتجعل
آراؤهم أحاديث نبوية! !
(تتمة لا بد منها) إن الذين يقرءون سورة يس في ليلة النصف من شعبان
يذكرون قبل قراءتها كل مرة حديث (يس لما قرئت له) وقد قال الحافظ السخاوي:
إن هذا الحديث لا أصل له، كما في كتاب (تمييز الطيب من الخبيث) وكتاب
(اللؤلؤ المرصوع) فهل يدلنا الشيخ عثمان على أحد من أصحاب العلم القديم قال إن
هذا الحديث صحيح، وإلا فلماذا لا ينكر على الجماهير كذبهم على النبي صلى الله
عليه وسلم، وقد ورد فيه من الوعيد ما ورد؟
***
(استقبال القبلة عينها أو جهتها، والفتوى بالقول المرجوح)
(س 22 و 23) من صاحب الإمضاء في مكة المكرمة.
أفيدونا يا مولانا وسيدنا بيانًا شافيًا:
في قول الإمام الغزالي في إحيائه وقول الأذرعي باعتماد الاكتفاء في استقبال
القبلة في الصلاة بجهتها في البعد؛ مستدلاًّ بالكتاب والسنة وفعل الصحابة والقياس،
هل يجوز للشخص أن يعمل ويبني المسجد عملاً به أو لا؟ فإن قلتم بالجواز، فما
قولكم في قولهم: لا يجوز الإفتاء إلا بالقول الراجح؟ وإن قلتم لا يجوز لذلك، ويفهم
منه أنه لا يجوز الإفتاء بالقول المرجوح، كما لا يخفى على المشمرين في تحصيل
العلم وعدم جواز الإفتاء به، هل هو على الإطلاق أو مقيد بما إذا لم يختره جماعة
ممن يعتمد في كلامه ونقله، وقد أخبرني من به ثقة بأن هذا القول قد اختاره جماعة
من الفقهاء، وما ذكره الفقهاء من أنه يجوز العمل بالقول الضعيف ما لم يشتد ضعفه
وأنه لا يجوز الاستدلال بالحديث الضعيف، إذا لم يكن فيه مقوى من طرق متعددة
تؤيد ذلك التقييد، وفي فوائد المكية يجوز القضاء والإفتاء بالقول المرجوح لحاجة
أو مصلحة عامة، وفيها أيضًا أن الأصح من كلام المتأخرين كالشيخ ابن حجر
وغيره أنه يجوز الانتقال من مذهب إلى مذهب من المذاهب المدونة، ولو بمجرد
التشهي، سواء انتقل دوامًا أو في بعض الحادثة، وإن أفتى أو حكم أو عمل بخلافه
ما لم يلزم منه التلفيق ا. هـ.
فعند الإمام مالك وأحمد وأتباعهما رضي الله عنهم أنهم لا يبطلون الصلاة عند
استقبال الجهة، وكذا هو قول عندنا معاشر الشافعية فقد قال: الغزالي والأذرعي
-رحمهما الله تعالى- بجواز ذلك، كما يؤخذ من شرح البهجة بزيادة، وصرح به
في التنبيه. اهـ، وفي الأصول قاعدة معتبرة؛ وهي أن المعلول يدور مع علته،
وعلته هنا وجود المشقة من حيث الأبعد عن بيت الله العظيم، مع أن القاعدة: المشقة
تجلب التيسير، والأمر إذا ضاق اتسع، فإن كان المصلي يشترط في استقبال عين
القبلة، وكذلك المسجد يشترط مبناه أن يسامتها بجميع مركوزه، وهما في مسافة البعد
كأرض الجاوي والهندي وغيرهما من سائر المملكة، فما تقول؟ فإن قلتم: يشترط
على كل واحد منهما أن يحتاط مع بيت الإبرة المعروف ليعلم عينها، فماذا يستحق
الذي أفتى من الجم الغفير باعتماد الاكتفاء بالجهة؛ لأنه فهم منها أنه صادق بمحاذاة
عين القبلة أولاً، كما يؤخذ من الغاية التي ذكرها العلامة البيجرمي على فتح
الوهاب ا. هـ.
فمنوا بالإعانة، فلكم الفضل الظاهر والشكر الباهر، ودام فضلكم، وعلا
قدركم، ولا زلتم مأجورين بجاه جدكم الأمين؛ سيدي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل
... ... ... ... ... ... ... ... أحمد جاوي
(ج) قد اضطرب كلام أصحابنا الشافعية في مسألة القبلة، وما كان ينبغي
لهم ذلك، فالحق واضح فيها، وكلام الشافعي نفسه صريح جدًّا.
من كان في الحرم يرى الكعبة يستقبلها قطعًا، ولا تصح صلاته إذا خرج عن
محاذاتها، ومن كان بعيدًا عنها لا يراها، فإنه يستقبل الجهة التي هي فيها ويتعرفها
بالاجتهاد، فمن علم أن الكعبة في هذه الجهة لم يكن له أن يتحول عنها، فإن كان
عنده من وسائل الاجتهاد ما يعلم به أن البيت يحاذي خطًّا معينًا لم يكن له أن يتعداه،
وإلا جاز له التيامن والتياسر في الجهة كما يؤخذ من حديث الصحيحين: (شرّقوا أو
غرّبوا) وما يؤيده. والعمدة أن يعتقد أنه متوجه تلقاء البيت بما عنده من أسباب
الاجتهاد، لا يكلف غير هذا؛ لأن غير هذا لا يستطاع ولا يدخل في الوسع.
فسّر الشافعي في رسالته شطر المسجد الحرام بتلقائه، ثم قال ما نصه: فالعلم
يحيط أن من توجه تلقاء المسجد الحرام ممن نأت داره عنه على صواب بالاجتهاد،
فللتوجه إلى البيت بالدلائل عليه؛ لأن الذي كلف العباد التوجه إليه وهو لا يدري
أصاب بتوجهه قصد المسجد الحرام أو أخطأ، وقد يرى دلائل يعرفها فيتوجه بقدر
ما يعرف، ويعرف غيره دلائل فيتوجه بقدر ما يعرف وإن اختلف توجههما. اهـ.
وتلقاء الشيء: تجاهه ونحوه كما ذكر في مادة (وجه) من لسان العرب.
والتجاه: الجهة التي تستقبلها بوجهك، ومنه قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام:
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} (القصص: 22) أي سار في الجهة الموصلة إليها
ونحا نحوها.
وقال كما رواه عنه المزني في مختصره ما نصه: (ولا يجوز لأحد صلاة
فريضة ولا نافلة ولا سجود قرآن ولا جنازة إلا متوجهًا إلى البيت الحرام، ما كان
يقدر على رؤيته إلا في حالتين، وذكر صلاة النافلة على الراحلة، وصلاة شدة
الخوف رجالاً أو ركبانًا، ثم قال: فلا يصلي في غير الحالتين إلا إلى البيت إن
كان معاينًا فبالصواب، وإن كان مغيبًا فبالاجتهاد بالدلائل على صواب جهة
القبلة) . اهـ. وكلامه في كتاب الأم على طوله، لا يخرج عن هذا المعنى
الذي اختصره المزني عنه، وقد صرح فيه بلفظ الجهة تصريحاً.
وذكر الشيرازي في التنبيه قولين في البعيد، لم يرجح واحدًا منهما على
الآخر، فقال: (والفرض في القبلة إصابة العين، فمن قرب منها لزمه ذلك بيقين،
ومن بعد منها لزمه الظن في أحد القولين، وفي القول الآخر لمن بعد
الجهة) . اهـ.
أقول: لم أر في كلام الشافعي قولين في المسألة، وعندي أن ما صرّحوا فيه
عنه بلفظ الجهة، وما لم يصرحوا فيه به واحد، والمراد أن يعرف سمت الكعبة
بالاجتهاد، فمتى عرفها واستقبلها كان معتقدًا أنه متوجه تلقاء الكعبة في الجملة،
وأنه مول وجهه شطرها؛ لأن الذي يعرف جمهور المكلفين بالاجتهاد في حالة البعد
هو الجهة، وكلما بعد الإنسان عن الشيء الذي يستقبله، تتفرج المسافة التي بينه
وبينه وتتسع.
ولو كان في المسألة قولان مختلفان لكان الفرق بينهما في العمل أن من علم أن
الكعبة في جهة الشمال، كان له على القول الثاني أن يتوجه في صلاته إلى القطب
الشمالي، وأن ينحرف عنه يمينًا أو يساراً، وإن علم بالدلائل أنه لو خرج خط
مستقيم منه إلى الكعبة لأصابها في حال استقباله، ولو خرج من حيث توجه منحرفًا
عنه لم يصبها. وهذا هو الذي يترتب على عبارة التنبيه دون عبارة مختصر
المزني. ولذلك اضطربت أقوال المتأخرين من الشافعية والحكم واضح كما قلنا،
فإن جماهير المكلفين لا يعرفون في حالة البعد بالاجتهاد إلا الجهة التي فيها الكعبة،
وذلك كاف عند الشافعي، ولا يفهم من كلامه غيره، وهو لا ينافي أن الواجب على
من كان عنده علم خاص بتحديد نقطة معينة من الجهة أن يعمل بعلمه، ولا يجوز له
التيامن والتياسر، إذا اعتقد أنه يخرج به عن محاذاة الكعبة، وهذا التفصيل يؤخذ
من تصريح الشافعي بأن على كل مجتهد في القبلة أن يتوجه بقدر ما يعرف، ولا
حرج في هذا ولا مشقة على أحد.
فعلم من هذا أن المعتمد أن للشافعي قولاً واحدًا في المسألة، وهو ظاهر
الكتاب والسنة ومقتضى القياس، والذي عليه عمل الناس، وتلك الفلسفة التي
اضطرب فيها المتأخرون إنما أخذها بعضهم من عبارة بعض، ولا يحتاج من
يقول بالجهة في موافقة الشافعي - رحمه الله تعالى - إلى الإفتاء بالقول المرجوح.
فالعمل الذي يوافق مذهب الشافعي هو أن يجتهد المصلي في تعرف جهة
الكعبة بالشمس والكواكب والرياح والجبال ويعمل باجتهاده، ومن كان على علم
بتقويم البلدان (الجغرافية) ، وكان معه بيت الإبرة، فإن علمه بسمت القبلة يكون
أقوى مما يصل إليه المجتهد بالعلامات التي ذكروها، فيجب عليه بقدر ما يعرف،
ويعتمد في بناء المسجد علم أوسع أهل البلد علمًا بذلك.
وأما الفتوى بالقول المرجوح، فقد قيل ما قيل مما عرفه السائل، والحق أن
العالم المجتهد لا يكون له في المسألة الواحدة قولان مختلفان: أحدهما راجح والآخر
مرجوح، وهو يجيز العمل بهما، ولكنه قد يقول القول فيظهر له خطؤه، فيرجع
عنه بقول آخر، فلا يبقى الأول قولاً له، وقد يتردد في المسألة فلا يكون له فيها
قول، وإن نقل عنه قولان مختلفان كان أحدهما مرجوعًا عنه أو مكذوبًا، فإن وجد
المرجح وإلا تساقطا. فمن سئل عن قول عالم مجتهد في مسألة، وجب عليه أن
يرجع إلى كتبه، وينظر قوله فيها ويجيب به، فإن لم يجد كتبه بحث عن ذلك في
كتب أقدم أصحابه، وتحرى وميز بين ما يعزونه إليه تصريحًا، وما يطلقون القول
فيه أو يذكرونه ترجيحًا أو استنباطًا، فإذا لم يظهر له نقل عنه يطمئن قلبه له
فعليه أن يمسك عن الفتوى معزوة إليه، وكتب الفقهاء المنتسبين إلى المذاهب
مملوءة بالأقوال التي لم ينقل عن أئمة تلك المذاهب فيها شيء.
قال ابن القيم: قد اختلطت أقوال الأئمة وفتاويهم بأقوال المنتسبين إليهم
واختياراتهم، فليس كل ما في كتبهم (أي الفقهاء المنتسبين إلى الأئمة) منصوصًا
عن الأئمة، بل كثير منها يخالف نصوصهم، وكثير منهم لا نص لهم فيه، وكثير
منه تخرج على فتاويهم، وكثير منه أفتوا به بلفظه أو بمعناه فلا يحل أن يقول: هذا
قول فلان ومذهبه إلا أن يعلم يقينًا أنه قوله ومذهبه. اهـ.
وبناء على هذا تضاربت أقوال أهل المذهب الواحد واختلفت، واحتيج إلى
الترجيح بينها، فالراجح والمرجوح إنما هما من كلام أولئك المنتسبين الذين لم
يعرفوا قول الإمام قطعًا، ومن كان من أهل الترجيح أفتى بالراجح عنده، وليس
لغيره أن يفتي. وقد بينا في الفتوى السابقة أن الناس صاروا يفتون بأقوال الجاهلين
الذين يتجرءون على التأليف؛ لما وقع فيه المسلمون من الفوضي في العلم والدين
بترك الأدلة، ويجعلون أقوال هؤلاء من المذهب، ويقدمونها على ما يعرف من
نصوص الكتاب والسنة، بإلصاقها بالأئمة، لا دعاء أولئك الجاهلين أتباعهم وما هم
لهم بمتبعين.
وما أفتى به الغزالي وأمثاله مخالفًا للمعروف من مذهب الشافعي، فإنما أفتوا
بما ظهر لهم بالدليل أنه الحق لا بمذهب الشافعي، وقد كان بعضهم يلصق مثل هذه
الفتاوى بالشافعي، لا على معنى أنها قوله وفتواه، بل عملاً ببعض أصوله كقولهم:
قد صح الحديث بهذا، وهو يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقولهم: إن في
هذا سعة، وهو يقول: إذا ضاق الأمر اتسع، والحق أن الاتباع الحقيقي للشافعي
وغيره من الأئمة رضي الله عنهم إنما هو تقديم الكتاب والسنة على أقوالهم وأقوال
جميع الناس، وقد عمل بهذا كثير من المنتسبين إلى الشافعي وغيره، كما بيناه
مرارًا في مواضع من المنار، وإنما صار الناس يلتزمون تقليد الفقيه الواحد في كل
ما يعزى إليه بعد القرون الثلاثة التي هي خير القرون بشهادة الصادق المصدوق
صلى الله عليه وسلم، وما نسب كبراء الفقهاء المتقدمين إلى الأئمة إلا لجريهم على
أصولهم وطريقتهم في استنباط الأحكام دون اتباع أقوالهم في الفروع، ذكر هذا
المعنى ابن الصلاح وأقره عليه النووي بقوله: هذا موافق لما أمرهم به الشافعي ثم
المزني في أول مختصره وغيره بقوله (أي المزني) : (مع إعلامية نهيه عن
تقليده وتقليد غيره) أي نهي الشافعي عن تقليده فيما ينقله من علمه في ذلك
المختصر.
وجملة القول: أن من سئل عن حكم الله ورسوله في مسألة بينها من كتاب الله
وسنة رسوله إن علم، ومن سئل عن رأيه واعتقاده فيها بينه بدليله إن استبان له،
ومن سئل عن قول إمام بينه من كتبه أو نقل صريح عنه يعتد به إن علمه، فإن
أفتى بالدليل على أصله صرح بذلك، وإلا أمسك عن الفتوى، وقال: لا أدري والله
أعلم.
***
(قول شيئًا لله والاستمداد من الأولياء)
(س24 - 26) من مكة المكرمة
من المعترف بالتقصير عبد القادر ملا قندر البخاري إلى رفيع مقام أستاذه
الأجل العلامة السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامية حفظه رب البرية.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فقد كلفني بعض الإخوان
المخلصين في صاحب المنار؛ أن أرفع وأقدم لرفيع مقامكم السؤال الآتي؛ راجيًا
إجابة سؤاله على صفحات المنار وفي أقرب عدد يصدر منه، أثابكم الله جزيل
الثواب ورفع أعلامكم المنيرة.
هذا هو السؤال:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد، فما قولكم أيها العلماء الكرام في هذه الأبيات.
شيئًا لله يا عبد القادر ... محيي الدين في القلب حاضر
جيلاني بالله بادر ... المدد يا عبد القادر
أيكفر قارئها أم لا؟ وهل يلزمه تجديد النكاح أم لا؟ وهل يجوز الاستمداد من
الأولياء الكرام بعد الممات، كما يجوز الاستمداد في الحياة؟ وهل يسمع الأولياء
نداءً أم لا؟ بينوا لنا الأحكام بالتفصيل، ولكم عند الله أجر جزيل، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته.
(قول: شيئًا لله)
(ج) صرح بعض الفقهاء بتكفير من يقول مثل هذا القول؛ لأنه دعاء لغير
الله تعالى و (الدعاء هو العبادة) ، كما رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في
الأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه مرفوعًا، ومن
ذلك قول بعض فقهاء الحنفية في سرد المكفرات من منظومة له (ومن قال شيء
لله بعض يكفر) .
ومن الفقهاء من لا يطلق القول في تكفير صاحب هذا القول، بل يفضل فيه
باحثًا عن قصد القائل واعتقاده، فإذا كان يعتقد أن عبد القادر الذي يدعوه (ومثله
كل من يدعى من دون الله ولو نبيًّا أو ملكًا) قادر على إجابة دعائه؛ لأن له سلطة
وراء الأسباب العادية والسنن الإلهية التي تجري عليها أعمال الناس، أو يعتقد أن
له (أي للمدعو من دون الله) تأثيرًا في الإدارة الإلهية؛ بأن يريد الله تعالى بدعائه
والتوسل به ما لم يكن يريده قبل ذلك، إذا كان يعتقد أحد هذين الأمرين يظهرالقول
بردته والحكم بشركه؛ لأنه بالأول جعل من دعاه شريكًا لله تعالى في التصرف
المطلق والامتياز على سائر المخلوقين بالخروج عن سنة الله تعالى في ارتباط
الأسباب بالمسببات، وبالثاني جعل البارئ - سبحانه وتعالى - محلاًّ لتأثير
الحوادث.
القول الأول شديد جدًّا ولكنه هو الأحوط للناس، حتى لا يقولوا مثل هذه
الأقوال التي صرح بعض العلماء بكفر صاحبها. والثاني هو الأحوط للمفتي لئلا
يخرج من الملة من هو من أهلها بقول تلقفه من غير أن يعلم أنه يعتقد ما ينافي
التوحيد.
والذي أراه هو أنه ينبغي العالم المستفتى في مثل هذا أو الذي يأمر بالمعروف
وينهى عن المنكر أن يبين للمستفتي أو لمن يعلم أنه يقول هذه الأقوال حقيقة التوحيد
ومعنى العبادة وحقيقة الشرك الجلي والشرك الخفي؛ ليحكم وجدانه واعتقاده في مثل
هذا القول الذي يدل على ضرب من الشرك بنوع ما من أنواع الدلالة قد يكون هو
الباعث على القول، وقد يجري اللسان بالكلمة مع عدم تصور ما تدل عليه مطابقة أو
التزامًا.
إذا فهم من ينطق بتلك الأسجاع حقيقة التوحيد والعبادة وحقيقة الشرك، وكان
يعلم من نفسه أنه لم يقصد بها معنى من معاني الشرك الجلي، ولا ما ينافي التوحيد
أو يدخل في معنى العبادة، فيكفيه أن يتوب عن القول الذي اختلف فيه، ولا يجدد
عقد نكاحه، وإن ظهر له أن قوله من الدعاء الحقيقي الذي هو العبادة، كما في
الحديث الصحيح أو مع العبادة كما في رواية أخرى ضعيفة السند، وأنه تسرب إليه
الشرك، فعليه أن يتوب ويجدد إسلامه على مذهب الشافعية القائلين بأن المرتد إذا
تاب قبل انقضاء عدة امرأته عادت إلى عصمته بغير عقد، وإذا تاب بعد انقضائها
احتاج إلى عقد جديد، عمل بذلك.
(الاستمداد من الصالحين)
مسألة الاستمداد من الصالحين في الحياة وبعد الممات مشتبهة، لا يتجلى
الحق فيها إلا بيان حقيقة الاستمداد، وقد يأتي فيها التفصيل الذي ذكرناه في المسألة
الأولى.
الاستمداد: طلب المدد، وهو ما يمد الشيء أي يزيد في مادته الحسية أو
المعنوية، فمن طلب من مخلوق مددًا جسمًا؛ كالزيادة في ماله ورزقه، والنماء في
زرعه بغير الأسباب التي جعلها الله شرعًا بين خلقه، فقد طلب ما لا يطلب إلا من
الله تعالى، وهذا ينافي التوحيد؛ لأنه عبادة لغير الله تعالى.
ومن طلب من المخلوق مددًا معنويًّا فهو على نوعين: نوع يعد شركًا كطلب
الزيادة في العمر، فإن هذا مما لا يطلب إلا من الله تعالى، فمن طلبه من غيره فقد
أشركه معه، ونوع لا يعد شركًا؛ لأنه داخل في دائرة الأسباب، وهو ما يطلبه
المتصوفون من أهل العلم بزيارة الصالحين وقربهم أو ذكر مناقبهم وسيرتهم،
وتصور أحوالهم من الزيادة في حب الخير والصلاح والتقوى، ويعبرون عن هذه
الزيادة التي يجدونها في نفوسهم بالبركة والمدد، ولكنهم لا يدعونهم من دون الله،
ولا يفعلون ما لم يفعله السلف.
وإنما كان هذا ممّا لا بأس فيه لأهل، ولا حرج في طلبه بلسان الاستعداد
وتوجه القلب - إن شاء الله تعالى - لأنه منتظم في سلك الأسباب، فإن الإنسان
يتأثر بأحوال غيره إذا رآها أو تصورها أو سمعها، فإن كانت تلك الأحوال حسنة
صالحة ازداد رغبة في الصلاح، وإن كانت بالضد زاد ميله إلى مثلها، فالذين
يعاشرون الظلمة المستبدين أو الفساق المستولغين تقوى في نفوسهم داعية الظلم أو
الفسق والانغماس في الشهوات، وتصور وقائعهم وقراءة أخبارهم لا تخلو من مثل
تأثير معاشرتهم، ولا سيما إذا كانت أخبارهم مكتوبة بمداد الثناء والتعظيم في قسم
الظالمين، والاستحسان وتمثيل الغبطة ورغد العيش في قسم الفاسقين.
كل هذا مجرب معروف، وإنك لتجلس إلى الحزين الكئيب، فيسري إلى
نفسك شيء من امتعاضه وكآبته، وتجلس إلى المغبوط المسرور فتجد في نفسك
أثرًا من السرور وانشراح الصدر، وتعاشر أهل الجد والنشاط فينالك نصيب من
نشاطهم وتعاشر أهل الخمول والكسل فيصيبك سهم من خمولهم.
وقد رأينا أثر الخير والصلاح في أنفسنا من بركة بعض مشايخنا، كما رأيناه
ولله الحمد في أنفس تلامذتنا. كنا إذا نمنا عند شيخنا الناسك أبي المحاسن القاوقجي
-رحمه الله تعالى- نزداد رغبة في العبادة من صيام وقيام؛ إذ نرى ذلك الشيخ الكبير
في السن والقدر يصوم الأيام الفاضلة، ويقوم طائفة من الليل لا يجيء الثلث الأخير
منه إلا ونستيقظ، ونحن رقود في حجرة بجانب حجرته على صوت تكبيره
وقراءته وبكائه، وأما شيخنا الأستاذ الإمام فكان إذا قام من الليل، لايسمع له صوت
ولا يشعر له بحركة، وكنا نرى أثر مجالسه الخاصة في زيادة الإيمان بالله عز وجل،
والثقة به جل ثناؤه، والغيرة على الدين، وعلو الهمة في الخير.
__________(14/250)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أمير الألاي صادق بك
وجمعية الاتحاد والترقي
يتساءل الناس في هذه الأيام من هو صادق بك، وما هي مكانته، وما شأنه
في هذا الإصلاح الذي حصل في حزب الاتحاد والترقي في مجلس المبعوثين.
في هذه الأيام عرف في مصر وفي كثير من البلاد اسم صادق بك، والناس
واقفون في الحكم له أو عليه، وأصحاب الجرائد قد أمسكوا عن التعريف به، سواء
منهم المتشيع للاتحاديين والمتتبع لعوراتهم والمعتدل في كلامه عنهم، وقد ذكرت
على مسمع غير واحد من محرريها شيئًا من فضل الرجل الذي يعرفه كل الخواص
في الآستانة، فكتب بعضهم جملة صالحة، ولكني أرى الناس لا يزالون يتساءلون
فأحببت أن أكتب في المنار كلمة أخرى في التعريف بهذا الرجل الذي يقل مثله في
الرجال.
اشتهر أن الانقلاب العثماني كان بتدبير جمعية الاتحاد والترقي في سلانيك
ومناستر، وعرف الخاص والعام أن الانقلاب كان من عمل الجيش، بهذا علا مقام
كل ضابط عثماني، ورفع اسم نيازي بك وأنور بك على كل اسم، ولكن خفي اسم
صادق بك وهو أجدر بالظهور، وصار كل من ينسب إلى جمعية الاتحاد والترقي
يفخر ويسمو بأنه رب الدستور وحاميه، فتزاحم على أبوابها طلاب الشهرة ورواد
المنفعة وعباد القوة. وانفض من حولها الكثيرون من العاملين المخلصين، وانبرى
لمعارضة حزبها في مجلس الأمة حزبان، كان خيار رجالهما من الاتحاديين، ومن
بقي في حزبها أزواج ثلاثة:
(1) بعض الزعماء (كالبكوات رحمي وطلعت وجاويد) ومن استعذب
مشربهم وأذعن للسري والجهري من أحكام جمعيتهم؛ لأنه يرى فيها رأيهم، وهم
الأقلون.
(2) طلاب المنافع، واتباع كل ناعق.
(3) المستقلون المخلصون الذين يرون أن بقاءهم في الجمعية خير من
خروجهم منها وأرجى لتقويم عوجها.
ورد في الحديث الشريف: (إن لكل شيء شرة [1] ولكل شرة فترة، فإن
صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه) رواه
الترمذي بسند صحيح.
وقد جرت سنة الله أن الشيء إذا كان في شرة إقباله يقبل الجمهور كل مدح فيه
وإن كان ظاهر البطلان، ويرد كل انتقاد عليه وإن كان كالشمس في رابعة النهار،
وكان يظن أن شرة إقبال الاتحاديين يطول زمنها، فكذب الظن بسوء تصرف الزعماء
وقلة كفاءتهم وبمجافاة بعض مقاصدهم لمصلحة المملكة وتقاليدها، ولما تقتضيه
طبيعة العصر في سياسة الشعوب المختلفة في الملل واللغات، ولاستعجالهم في حب
الظهور والاستئثار بجميع الأمور، فما سددوا وما قاربوا وقد أشير إليهم
بالأصابع، فلم يلبثوا أن سقطوا، وصدقت عليهم الحكمة النبوية في هذا
الحديث الشريف.
رفعت الأمم اسم (الاتحاد والترقي) بعمل صادق بك الخفي وإخلاصه العظيم،
فتدفق الثناء على الاتحاديين في أنهار صحف الشرق والغرب، حتى صار بحرًا
زاخرًا، طفت فوقه أسماء كثيرة فرآها الناس سابحة في الثناء، منها ما له قيمة
كالفلك ومنها ما هو كالغثاء، ورسب في قاعه اسم صادق بك كما يرسب الدر في
أعماق البحار، فلم تهتف باسمه الجرائد، ولم ينوه به في تلك الخطب والأغاني
والقصائد، كما نوه باسم نيازي وأنور اللذين كانا سيفين من سيوفه تحركهما يده العاملة
وتصرفهما أوامره النافذة، ألا إن صادق بك هو (قومندان) الانقلاب العثماني وموجد
الدستور.
واسأل عن ذلك كتاب (خاطرات نيازي) فهو يخبرك اليقين، {وَلاَ يُنَبِّئُكَ
مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 14) فصادق بك أجدر رجال الدستور بالظهور وأحقهم
بالثناء، وكلهم يعرف له هذا الفضل، ولكنه هو الذي أحب الخمول وترفع عن
الثناء والمكافأة على عمله من الجمعية أو الحكومة، فهو الزعيم الذي لم يأخذ مالاً
ولا وسامًا، حتى إن شوكت باشا رغب إليه أن يقبل يوم عيد الدستور من السنة
الماضية وسامًا مرصعًا، تقرر إنعام السلطان به عليه فلم يقبل، زرت صاحبًا لي
من الاتحاديين قبل ذلك العيد بيوم واحد، فقال لي: لو جئت قبل ربع ساعة لوجدت
صادقًا هنا، وقد أخبرني بكذا وكذا. وذكر مسألة الوسام ومسائل أخرى.
إنني لما جئت الآستانة في عام 1327 كان صادق بك لا يزال عميد الجمعية
المسئول (أي رئيسها ويسمونه المرخص العام؛ لأن من نظامها أنه ليس لها رئيس،
ويشبه الخلاف أن يكون لفظيًّا) ولما عرضت مشروع الدعوة والإرشاد (أو العلم
والإرشاد كما سميناه هناك) على الصدر الأعظم، قال لي: هذا مشروع نافع لا بد
منه، ولا يتم هنا شيء إلا إذا رضيت به جمعية الاتحاد والترقي، وسأكلم صادق
بك في المشروع ثم أخبرك هل يمكن تنفيذه أم لا، ودعا حاجبه وقال له: اذهب
غدًا إلى صادق بك، وقل له: إنني أحب أن أراه، ثم أخبرني الصدر أن صادقًا
اقترح تأليف لجنتين للبحث معي في المشروع: إحداهما علمية دينية والأخرى
سياسية إدارية. وبرأيه تألف اللجنتان وبعد البحث الطويل أقرتا المشروع، فقال
لي الصدر الأعظم: إن المشروع قد تم نهائيًّا، فألف الجمعية وتعال أخصص لك
المال اللازم للتفنيذ، وقد علم قراء المنار من قبل أن وزارة هذا الصدر (وهو
حسين حلمي باشا) قد استقالت قبل أن يتم لنا تأليف الجمعية، وأزيدهم الآن ما هو
المقصود هنا؛ وهو أن صادق بك ترك العمل في الجمعية، ولماذا؟
كان من رأي صادق بك بعد أن استقر أمر الدستور وتألف مجلس الأمة؛ أن
تترك الجمعية للحكومة الحرية في عملها، وتكتفي بالمراقبة عليها، فلا تتعرض
لشيء إلا إذا رأت الدستور مهددًا بالزوال، وقد اتفق مع محمود شوكت باشا على
منع الضباط من الاشتغال بالسياسة، ولما كان لا مندوحة له عن الاستمرار في
خدمة الجمعية، عول على الاستقالة من الجيش، وبعد هذا الاتفاق خطب محمود
شوكت باشا خطبتيه الشهيرتين في الفيلق الأول بالآستانة والفيلق الثاني بأدرنة،
وصرح في الخطبة الثانية بقوله: إن أخانا صادق بك لما كان يريد البقاء في جمعية
الاتحاد والترقي فسيقدم لي استقالته.
كان الذين تواطئوا على الاستقلال بزعامة الجمعية والسيطرة على الحكومة،
قد استمالوا إليهم قبل هذا الاتفاق كثيرًا من الضباط بضروب من الاستمالة، فصار
لهم عصبية منهم. ولما صار طلعت بك ناظر الداخلية كان أقدر من غيره على هذه
الاستمالة، فأدخل في الوظائف الإدارية كثيرًا من الضباط، وقد كنت مدعوًّا عنده
في بعض الليالي، فجاء اثنان منهم ونحن سامرون معه في الليل، فكان الواحد منهم
يجلس في مكانه ويعبث بمكتبه ويبحث في أوراقه، ورأينا أن حديثه معنا قد تلجلج،
وأن من حسن الذوق أن ننصرف ليخلو لهما وجهه، وندع الحديث إلى وقت آخر،
فاستأذنا وانصرفنا.
كان ارتباط زعماء الجمعية بالضباط واشتغال الضباط بالسياسة من أعظم
الأخطار التي تهدد الدولة، وقد انتقدته الجرائد الأوربية بأشد مما انتقدت غيره من
أعمال الجمعية بعد ظهور الخلل فيها، وانتقده الجم الغفير من الضباط كما سمعت
بأذني من بعض أركان الحرب منهم وعنهم، حتى كان يخشى أن يقع الشقاق في
الجيش نفسه بالتنازع بين أنصارها والساخطين عليها من الضباط، وقد وافق
صادق بك محمود شوكت باشا على تلافي هذا الأمر، ولم يقدرعلى تنفيذه بالفعل.
كتب صادق بك استقالته من الجيش، وكتب مذكرة للجمعية المركزية اشترط
فيها لبقائه عاملاً في الجمعية باسم المرخص أو المدير المسئول شروطًا منها أن
يترك طلعت بك نظارة الداخلية، وجاويد بك نظارة المالية، وأحمد رضا بك
رئاسة المجلس؛ لأنه لا يعني على رأيه أن يكون زعماء الجمعية من رؤساء
الحكومة؛ لما لهم من القوة التي تمكنهم من الاستبداد، فكبر ذلك على هؤلاء
الزعماء بعد أن مكنوا لأنفسهم في الأرض، ورأوا أنهم صاروا في هذه الدولة هم
الأئمة الوارثين، وكان قد ظهر من رياستهم تنفير جميع العناصر العثمانية من
إخوانهم الترك. وتقدم اليهود في نظارة المالية على غيرهم، وإعلاء كلمة الماسونية،
والإسراف في نشرها، وتقديم المقدمين فيها على غيرهم في جميع المناصب
والأعمال، وجعل مقام الخلافة كالمجرد من كل سلطة ونفوذ.
كبرت شروط صادق بك على أولئك الزعماء، فكانوا منها في أمر مريج لأن
ترك السلطة والدولة بعد التمكن منها لا تسمح به النفس، ومخالفة صادق بك ليست
بالأمر السهل، فرأوا بعد الروية والتفكير أن يجتهد في إقناعه بالتنازل عن بعض
تلك الشروط؛ وأهمها عندهم ترك السلطة وحرية الحكومة بعدم سيطرة الجمعية
عليها، وقد بلغني يومئذ ممن أثق به من الاتحادين أن طلعت بك قصد دار صادق
بك غير مرة في الليل، ولم يأذن له صادق بلقائه، ولما رأى أنه لا يسهل عليهم
إجابته إلى ما طلب وأنهم خائفون منه أن يحاول تنفيذ مطالبه بالقوة، وعلم - كما
قيل لي يومئذ - أنهم يراجعون من استمالوه من الضباط لتأييدهم، أمنهم من اعتماده
على السيف في ذلك؛ لأن هذا هو الذي ينكره ويخشاه، فكيف يكون هو البادئ به،
وآذنهم بأنه يترك لهم جمعيتهم ويسترد استقالته من الجيش وكذلك فعل، وكان هذا
آيات إخلاصه الكثيرة.
ترك لهم هذا الصادق كلا من الجمعية والحكومة، فبعد أن قلبوا وزارة حسين
حلمي باشا؛ لأنه لم يستطع الصبر على أن يكون آلة معدنية في يدي طلعت وجاويد،
جاءوا بحقي بك فجعلوه صدرًا والناس مختلفون فيه، فظهر بعد الاختبار أنه
أصبر الناس على ما لم يطق قبوله كامل باشا، ولا الاستمرار عليه حسين حلمي
باشا، وتفاقمت الخطوب من سياسة طلعت وجاويد حتى ضج مجلس الأمة بالشكوى،
وبلغت أصوات المعارضين عنان السماء بعد أن أزعجت سكان الأرض، حتى
اضطر طلعت بك إلى الاستقالة من نظارة الداخلية، فصوبت سهام المعارضة بعده
إلى جاويد بك خاصة وإلى رجال الوزارة عامة، وإلى جاهد بك صاحب جريدة
(طنين) الذي هو المحامي عن جمعية الاتحاد والترقي بقلمه المسموم الذي سماه
بعض أدباء الآستانة من الترك (سفيه القوم) .
إنني أقمت في الآستانة سنة كاملة، وقفت فيها على غوامض سياستها
ومخبآت صناديق أسرارها، ووردت في ذلك موارد قلما تتيسر كلها لأحد، فقد
عاشرت كثيرين من العلماء والوجهاء والأدباء والضباط والمبعوثين والأعيان
ورجال الحكومة وغيرهم، ومنهم من لهم صلة بالأسرة السلطانية، ومنهم الاتحادي
وغير الاتحادي، وقد استفدت من مجموعهم الجزم بعدة مسائل أذكر منها ما يفيد في
هذا المقام:
(1) إن مولانا السلطان متبرم من القوم وغير راض من الحال العامة،
وينتظر أن تغيرها الحوادث إلى أحسن مما هي عليه، ولا أزيد على هذا في هذه
المسألة.
(2) إن بعض زعماء جمعية الاتحاد والترقي يريدون أن تبقى الدولة في
أيديهم، يديرونها كما يقررون فيما بينهم بزمامي حزبهم في مجلس الأمة ورجالهم
في وزارات الباب العالي وسائر المصالح، ويؤيدهم في ذلك طائفة من ضباط
الجيش.
(3) يجب على كل وزير أو رئيس عمل منهم أن ينفذ كل ما تقرره اللجنة
العليا للجمعية في الحكومة.
(4) يديرون نظام حزبهم في المجلس بطريقة تجعله آلة في أيدي من فيه
من زعماء الجمعية؛ كطلعت بك ورحمي بك وجاويد بك وخليل بك، ومن يليهم في
النفوذ؛ كمجاهد بك وإسماعيل حقي بك، فإذا اتفق هؤلاء مع لجنة سلانيك على
أمر جمعوا حزبهم للمذاكرة فيه، وهو متفق عليه بين الزعماء ومن يقنعون به قبل
الاجتماع ممن يسهل إقناعهم، ومن نظام حزبهم أنه إذا أقر الثلثان من حاضري
الجلسة فيه أمرًا، وجب على الباقين اتباعهم بغير مناقشة، فكان إذا حضر الجلسة
ستون وهم نصف أعضاء الحزب، واتفق أربعون منهم على المسألة تبعهم الباقي
هم 120، فينفذ في المجلس على أنه رأي أكثر أعضائه، وإنما هو رأي الأقلين
من حزب واحد من أحزابه.
(5) إن هؤلاء الزعماء كلهم من شيعة الماسون، يجتهدون في نشرها
وجعل رجال الحكومة من أعضائها، كما ينشرونها في ضباط الجيش، وقد يكون
هذا تمهيدًا للفصل بين السياسة والدين، وتجريد السلطان من صفة الخلافة
الإسلامية.
(6) إن من لوازم تشيعهم للماسونية قوة نفوذ اليهود فيهم وفي الدولة؛
وذلك يفضي على فوز الجمعية الصهيونية في استعمار بلاد فلسطين الذي يراد به
إعادة ملك إسرائيل إلى وطنهم الأول، وإلى ابتلاع أصحاب الملايين من اليهود
لكثير من خيرات البلاد.
(7) من أهم مقاصد هؤلاء الزعماء، جعل السيادة والسلطة في المملكة
العثمانية للشعب التركي، والتوسل بقوة الدولة إلى إضعاف اللغة العربية وإماتتها
في المملكة، وتتريك العرب مع إبقائهم ضعفاء بالجهل والضغط وذبذبة اللسان،
ومنع الألبانيين والأكراد من تدوين لغتهم وجعلها لغة علمية. وهذا من المقاصد
السرية التي لا يعترفون بها على استعجالهم بتنفيذه بالعمل وبكتابة جريدة طنين.
ومن آثار هذه السياسة هذه الحرب الطحون في اليمن والبلاد الألبانية، وقد
كان من أسهل الأمور تنفيذ الإصلاح المعقول في هذين القطرين في ظل السلام
والأمان.
قد وقفنا في الآستانة على كل هذا، ورأينا أهل الرأي والغيرة من سكان
هذه العاصمة يتوقعون الفتن ويخافون العواقب من سياسة هذا الرهط من زعماء
الاتحاديين، ولم أحب أن أشرح تلك الأمور وأبين ما فيها من الخطر؛ بل سعيت
إلى الإصلاح هنالك ما استطعت، فلم يغن نصحي لهم شيئًا، ولما عدت إلى مصر
أشرت بلطف إلى ما يخشى من خطر اليهود والماسونية في هذه المملكة الإسلامية،
وتركت الشرح والتفصيل والتشنيع والتقريع؛ لأنني لم أر ذلك من الحكمة.
كان صادق بك كل هذه المدة بالمرصاد، يراقب الحوادث من بعد لا يحرك
فيها قلمًا ولا لسانًا، ولا يجرد لها سيفًا، حتى إذا ما رأى قوة المعارضين
للاتحاديين ووزارتهم من أحزاب المجلس قد عظمت، ورأى أن أهل الاستقلال
والإنصاف من حزب الاتحاد نفسه متبرمون من الحكومة من تأييد أولئك الزعماء لها
ومن سياستهم الماسونية ولوازمها، حتى إذا ما رأى ذلك خانه الصبر، وعز عليه
أن يدع الدستور الذي أخذه بقوة يمينه والجمعية التي شرفها بعمله وإخلاصه آلة في
يد هؤلاء الرهط الذين لم يحسنوا التصرف ولم يقيموا الميزان، فمد يده إلى
المستقلين المنصفين من حزب الاتحاد، وبذل لهم مظاهرته فيما يقيمون به عوج
أولئك الأفراد، ويحولون بينهم وبين الاستبداد، ويصلحون ما حدث في الأمة
والدولة من الفساد، فاشتدت عزائمهم، وصاحوا في وجوه أولئك الزعماء تلك
الصيحة المزعجة، واقترحوا عليهم تلك الاقتراحات المنصفة، فارتفعت أصوات
التأييد والتفنيد، فكانت أصوات طلاب الإصلاح أجهر، وعددهم أكثر، فأظهر
الزعماء الرضا واجمين، وذلت أعناقهم لها خاضعين، ثم ولوا إلى أنصارهم
مدبرين، ورجعوا إلى ضباطهم مستنصرين، فإذا ليث الغاب قد انكشف عنه
الحجاب، ففزع حقي باشا إلى مولانا السلطان، وقال: إنه لا يكون في العاصمة
صدران، فإما قبول استقالتي وإما دفع صادق بك بالتي، وإخراجه من المدينة
ريثما تعود إليها السكينة، فأوحى إلى محمود شوكت باشا أن يخرج صادقًا ففعل وما
كاد، ونبأنا البرق أن صادقًا أبى أولاً ثم أجاب.
كان أول ما طرق مسامعنا في هذه الحادثة قول البرقيات العامة: إن الأمير ألاي
صادق بك (وذكرها بعضهم صدِّيق) أبى أن يطيع الأمر بالخروج فاستكبرت الأمر،
واستعظمت الخطب، ورأيت الناس حولي غير مبالين، فقلت: إن هذا هو البلاء
المبين، ولابد أن ننتظر تفسيره إلى حين، فإن الدولة لم يظهر فيها بعد الانقلاب إلا
رجلان عسكريان: أحدهما صادق بك موجد الدستور، وثانيهما حامي بيضته وهو
محمود شوكت باشا فاتح إستانبول، ولكل منهما مكانة في الجيش عظيمة، فإذا
تصادما وقع الخلل في الجيش وذهبت الثقة بالدولة، ولا يعلم العاقبة إلا الله تعالى،
وإني لا أصدق أن صادقًا الضابط المخلص الكامل يعصي أمر رئيسه، وأحمد الله
أن صدق ظني، ولم تلبث البرقيات أن شهدت بصحة قولي، ثم جاءت صحف
الآستانة ورسائلها بالتفصيل، وعلى الله قصد السبيل.
(مطالب المصلحين في حزب الاتحاد)
جاءت مطالب المصلحين مصدقة لجميع ما كنا علمناه في الآستانة من حقيقة
ما عليه زعماء الاتحاد، ومن تأثير سياستهم، وقد حدثنا به خواص أصحابنا،
وأشرنا إلى المهم منه في المنار، وهاك مطالبهم العشرة التي قرروها وأعلنوها:
1 - أن لا يسعى المبعوثون إلى الامتيازات والمنافع لأنفسهم ولا لغيرهم.
2 - أن لا يقبل المبعوثون وظائف الحكومة وأعمالها.
3 - أن يكون قبول أحد المبعوثين نظارة من النظارات بقرار الثلثين من
فرقة الأكثرية، ويكون إعطاء الرأي بالطريقة السرية.
4 - أن يعتني بتنفيذ القوانين وبالمراقبة على النظار.
5 - أن يعتني بمسألة اتحاد العناصر (كما كان) وأن يبذل الجهد في سبيل
ترقي الزراعة والصناعة والتجارة والمعارف على نسبة الاحتياج.
6 - أن يحافظ على الآداب والأخلاق العمومية الدينية مع الاقتباس من
المدنية الأوربية.
7 - أن يحافظ على عادات السلف ضمن دائرة القانون الأساسي.
8 - أن يعجل بقانون نصب وعزل عمال الحكومة الموظفين.
9 - أن يعدل في القانون الأساسي بعض المواد المتعلقة بحقوق الخلافة
والسلطنة.
10 - أن تقاوم مقاصد الجمعيات المؤسسة على السّر.
كل مطلب من هذه المطالب حجة على الاتحاديين الذين كانوا يصفون جمعيتهم
بالجمعية المقدسة، وعلتهم سياسة أولئك الرهط من الزعماء، دع أخذ الامتيازات
والسمسرة لطلابها، ودع التوسل بالمبعوثية إلى المناصب وهو ما يعيبون به غيرهم
بالتهمة، ودع عدم تنفيذهم القوانين والحكومة في أيديهم، وحمايتهم للنظار
ونصرهم على كل حال، ودع عدم وضعهم قانونًا للعزل والنصب؛ ليكون الأمر
كله تابعًا لمشيئة الأفراد، ودع تنفيرهم عناصر الدولة كلها من الحكومة ومن
العنصر التركي الذي لا ذنب له سواهم، وتأمل مسألة المحافظة على الآداب
والأخلاق الدينية وعادات السلف، فإن اقتراحها يدل على أنه يراد بها درء مفاسد
هي أشد خطرًا على الأمة ولا سيما على العنصر التركي من جميع تلك المفاسد
السياسية والإدارية، فإنما الأمة بمقوماتها ومشخصاتها من العقائد والشعائر والآداب
والأخلاق، وقد كانت كلها عرضة للفساد، بجعل الصلاة في مدارس الحكومة ولا
سيما الحربية أمرًا اختياريًّا، ومن إباحة تهتك النساء، بل الأمر أعظم من ذلك فقد
سمعت بأذني بعض الزعماء يجادل معممًا من رفاقه الاتحاديين فيما ترتقي به الأمة،
فالمعمم يقول: إننا نرتقي بالمحافظة على آدابنا وأخلاقنا وشعائرنا، وسائر مقومات
حضارتنا الإسلامية، وباقتباس الفنون والصناعات من أوربة، والزعيم يقول:
بل يجب أن نمشي وراء فرنسة في كل خطوة، ونتبع سننها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع
في الأمور المادية والمعنوية جميعًا، وأن نعصر رجال الدين عصرًا.. إلخ.
ثم تأمل مسألة الخلافة الإسلامية والجمعيات السرية، وتذكر مقاصد الماسون
في الحكومات ومقاصد الصهيونيين في فلسطين، وقل رب احكم بالحق وأنت أحكم
الحاكمين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الشرة، بكسر الشين وتشديد الراء: الحدة والنشاط، وهي ضد الفترة.(14/265)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المسلمون والقبط
(النبذة السادسة)
(إنما نطلب حفظ حقوقنا لا إضاعة حق للقبط)
إذا كنت أكتب لأجل ِإيذاء القبط أو التحريض على إيذائهم، أو لأجل محض
مدافعتهم، ومنعهم مما لا أراه حقًّا لهم، فلا حملت بناني قلمًا، ولا حفظت كما
أمرني الرسول صلى الله عليه وسلم ذمة ورحمًا، بل أشهد الله أنني لا أكتب إلا
لأجل الخير والمصلحة دون الإيذاء والمفسدة، ولفوائد إيجابية لا لأغراض سلبية،
وإذا كان المؤتمر المصري يجتمع ليأتمر بتخطئة القبط في مطالبها فقط، فلا خير
في هذا المؤتمر، وأجله أن يكون عمله سلبيًّا فقط.
إنني منذ خبرت حال مصر، رأيت أن للقبط روابط ملية. دون الرابطة
العامة المصرية بها يتعاونون ويتناصرون، وعليها يجتمعون ويتحدون، ولها
يتعلمون ويتربون، وإليها يرجعون. فهم بها أمة كما يقولون. وليسوا عضوًا من
جسم الأمة المصرية، إذا اشتكى عضو من سائر الأعضاء تألموا له بل هم جسم
تام مستقل بمقوماته ومشخصاته القومية. وإنما يتصل بما يجاوره؛ ليتغذى منه
ويمد حياته لا ليمده ويغذيه.
هذا ما رأيت عليه القبط، فأكبرته وحمدتهم عليه.
ورأيت المسلمين على غير ذلك، رأيتهم يتخاذلون ويتفرقون، ويمتص
غيرهم مادة حياتهم ولا يشعرون، تتعادى أحزابهم ويصفون أكثر النابغين فيهم
بخيانة الأمة والوطن. وهو وصف لا ينطبق على أحد منهم، وإنما علتهم الضعف
وأقتل سببيه تخاذل أمتهم، ليس لهم تربية ملية تجمعهم، ولا وحدة في التعليم
تضمهم، وثروتهم عرضة للزوال بإسرافهم، لا يشعر بعضهم بمصاب بعض،
وليس لمجموعهم شرايين ولا أوردة يكون به جسمًا واحدًا يمد بعض أعضائه
بعضًا بالغذاء ودفع الأذى.
هذا ما رأيت عليه المسلمين، وفيهم من النابغين ما ليس في القبط. ليس
عندهم قضاة كقضاتنا، ولا محامون كمحامينا، ولا إداريون كإدارينا، ولا أطباء
كأطبائنا، ولا كتاب ككتابنا، ولا شعراء كشعرائنا. أعني أن النابغين فينا أكثر
وأرقى من النابغين فيهم. ولكنهم أرقى منا في الحياة الملية، والمقومات القومية،
التي يكون بها أفراد الشعب كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وكالجسم الواحد إذا اشتكى
له عضو تداعى له سائر البدن بالحمى والسهر، كما وردت الأحاديث في وصف
المؤمنين، وقد فقد المسلمون قوة هذه الصفات التي جعلها الله سر دينهم وآية إيمانهم
فلم يغن عنهم النابغون شيئًا.
هذا التفاوت بين شعبين يشارك أحدهما الآخر في جميع مرافق الحياة تحذر
عواقبه، ولا تؤمن مغبته، أحدهما قوي بالاتحاد والتكافل، والآخر قوي بالكثرة
ضعيف بالتخاذل دأب المتحدين الطمع في سلب مرافق المتخاذلين، وبذلك ساد
بعض الشعوب على بعض، وكثيرًا ما كانت الفئة القليلة هي التي تسود الفئة
الكثيرة، والطامع قد يوغل في حقوق الغافل بغير رفق، والعنف في الإيغال قد
يفضي إلى العنف في الدفاع، فيكون من ذلك ما لا خير فيه للبلاد، فأحببت منذ
سنين أن أنبه المسلمين على ما تصان به حقوقهم، مع حفظ المودة بينهم وبين من
يعيش معهم، فكتبت في ذلك كثيرًا. ولكن المسلمين كانوا في شغل عن ذلك، فيقل
فيهم من قرأ ما كتبت، ويقل فيمن قرأ من فهم، ويقل فيمن فهم من اعتبر، ويقل
فيمن اعتبر من حدث غيره بما أصاب من العبرة. وهكذا شأن الغافلين المغرورين
ينتبهون بالحوادث لا بالأحاديث.
إنني مؤمن، والمؤمن لا ييأس من روح الله، ولا يقنط من رحمة ربه، ولو
يئست من حياة المسلمين، لما رأيت شيئًا من الخطر على البلاد في استمرار غفلتهم
إلى أن تصير وظائف الحكومة وثروة البلاد في غير أيديهم، سواء أوغلت القبط
في ذلك برفق أو بعنف، فإن الأمراض التي تموت بها الأمم تكون كداء السكتة،
يذهب بحياة المرء وهو لا يشعر بأنه يموت. ولكنني أعتقد أن في مسلمي مصر
حياة ضعيفة، لم تصل إلى درجة التكافل والتضامن، وأن الخير في تقويتها بالدعوة
إلى حفظ المصالح، لا بالدعوة على دفاع المهاجم، وأن هذا لا يكون إلا قبل أن
يغلبوا على مصالحهم، ويروا أنفسهم مسخرين لمن كانوا دونهم، يومئذ يخشى أن
لا يروا في أيديهم إلا سلاح الكثرة، فيستعملونه للضرورة فيما يضر البلاد من
الاعتصابات والفتن، فتلافي ما يخشى في المستقبل مذ الآن هو الذي يحملنا على
هذا البيان.
ما رأيت استحسانًا عامًّا لشيء نشر في الجرائد بعد رد الأستاذ الإمام على
هانونو كاستحسان ما كتبته في هذه الأيام من المقابلة بين المسلمين والقبط. يذكر
لي لك كل من أراه. وكتب إليّ وإلى المؤيد غير واحد يشكرون لي ذلك ويطلبون
المزيد منه، أذكر هذا تمهيدًا لقول بعض هؤلاء الحامدين الشاكرين: لماذا لم تنبهنا
من غفلتنا بمثل هذه المقالات قبل اليوم؟
ولهؤلاء أقول: إنني قد فعلت، وقلما قررت حقيقة في هذه الأيام إلا وقد بينتها من قبل
في المنار أو في بعض الجرائد اليومية، ولكن المسلمين كانوا في غمرة ساهين، لا
يعنون بما يكتب ولا يحلفون به إلا ما يكون عند الحوادث المؤلمة، والصيحات
المزعجة، ثم لا يلبثون أن ينسوا ويعودوا إلى سابق لهوهم وسهوهم، حيث خشيت أن
نكون كما قال شاعرنا من قبل في مثله الذي يشبهنا فيه بالغنم الراعية، تظل غافلة
متمادية في رعيها، حتى إذا ما سمعت نبأة صائح ترتاع وترتفع رؤوسها تاركة
الارتعاء، فإذا سكت الصائح عادت إلى سابق شأنها، أعني بهذا القول ابن
دريد في مقصورته:
نحن ولا كفران لله كما ... قد قيل في السارب أخلى فارتمى
إذا أحس نبأة ريع وإن ... تطامنت عنه تمادى ولها
صاحت القبط منذ ثلاث سنين مثل صيحتهم في هذه السنة، فكتبت مقالة في
المنار عنوانها (المسلمون والقبط) كان لها باعتدال الرأي والأدب في العبارة أحسن
الوقع، فنقلها بعض أصحاب الجرائد اليومية، ولخصها بعض آخر، فلم تلبث
القبط أن سكتت صيحتها، وسكنت في الظاهر دون الباطن ثورتها، فنسي
المسلمون ما كان، حتى تجددت الصيحة في هذا العام، بأقوى وأدوم مما كان في
سابق الأعوم.
افتتحت تلك المقالة بهذه الجملة:
(سبق لنا قول في هاتين الطائفتين بمصر بينا فيه أن المسلمين من حيث هم
أفراد أرقى من القبط في كل علم، وأن القبط من حيث الاجتماع والتعاضد الملي
أرقى من المسلمين، فلهم مجلس ملي وجمعيات وجرائد دينية تبحث دائمًا في
مصالحهم العامة من حيث هم قبط، وهم يتعاونون ويتحدون في المصالح. وهذا ما
حمدتهم وأحمدهم عليه، وأتمنى لو يوفق المسلمون لمثله، وإن كنت أعلم أنه لو
أنشأ المسلمون جمعية للرابطة الإسلامية كجمعية الرابطة المسيحية، لما وجدوا في
القبط مثل أحمد بك زكي يقوم فيها خطيبًا، ويجعل عنوان خطابته (مصريون قبل
كل شيء) بل يخشى أن يقوموا كما تقوم أوربة، ويقول الجميع: إن المسلمين
في مصر يحيون التعصب الإسلامي والجامعة الإسلامية، ويدعون إلى ارتباط
بعضهم ببعض؛ لمقاومة النصارى في مصر بل في جميع الأرض) .
ثم بينت نسبة القبط إلى المسلمين في العدد وفي أعمال الحكومة، وأنهم أكثر
فيها من المسلمين، وهم يدعون على ذلك أنهم مظلومون مهضومون، ويطلبون
لأنفسهم سائر أعمال الحكومة التي في أيدي المسلمين، وأنهم يسمون أنفسهم أهل
البلاد، ويُدلون ويفخرون على المسلمين بالانتساب إلى آل فرعون ذي الأوتاد،
الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، ويجهرون بأن المسلم فيها أجنبي محتل،
وأتاوي معتد، وينكرون أن يكون للمسلمين فيها حق من حيث هم مسلمون فاتحون،
على ادعائهم الحقوق فيها من حيث هم قبط مسيحيون، وبينت فيها مواثبتهم
للمسلمين من أضعف جانب يرونه فيهم، وهو تهييج الإنكليز وسائر الأوربيين
عليهم بتهمة التعصب الإسلامي، وكون هذه المواثبة قد تفضي إلى ندم المسلمين
على ما قاموا به من دعوة الوطنية، واعتقاد أنها كانت خسارًا عليهم وربحًا وفوزًا
للقبط، وأنهم إذا خسروا مودة المسلمين، فلا يمكن أن يجدوا عوضًا خيرًا منها؛
فإنهم لا يقدرون على استغلال أرضهم بعد ذلك.
وبينت هنالك أن القبط لا يمتازون على غيرهم من نصارى المصريين
ويهودهم، وإنما ميزهم المسلمون عناية بهم، وبحثت في دين الحكومة الرسمي،
وذكرت مساعدة بعض رجال الدين من الإنكليز لهم، وأن المساواة التي يطلبونها
هي امتياز على المسلمين من وجه آخر.
نصحت للقبط في تلك المقالة نصيحة لو عقلوها وعملوا بها ما وقعوا في
السيئة التي ندموا الآن أن اجترحوها، وقد سبني في هذه الأيام كتابهم في جرائهم
ولو عقلوا قولي لاستبدلوا الثناء بالهجاء، فقد بينت لهم الآن كما بينت لهم من قبل؛
أن المسلمين يغلب عليهم النسيان والتواكل، وأنه لا شيء يحول دون سلب القبط
منهم كل ما في أيديهم إلا هذه الجعجعة بالقبطية والمسيحية التي تدفعهم بالرغم
منهم لمقابلتها بالجنسية الإسلامية، وهذا نص نصيحتي لهم منذ ثلاث سنين:
فالرأي عندي للقبط أن لا يغتروا بترجيع بعض الجرائد الإفرنجية لأصواتهم
في الشكوى من المسلمين والقول بتعصبهم، ولا من سرور بعض الإنكليزية إن كان
ما قيل حقًّا فإنهم مهما أصابوا من تعضيد في مشاقة المسلمين، فهو لا يكون خلفًا
صالحًا لمودتهم فيما أرى. فأنصح لهم أن يتوبوا مما فعلوا، ويعتذروا عنه،
ويعودوا إلى سابق شأنهم، أو إلى خير منه إن استطاعوا. والمسلمون تغلب عليهم
سلامة القلب، فلا يلبثون أن يغفروا لهم، وينسوا ما كان منهم، ففي حديث أبي
هريرة عند أبي داود والترمذي: (المؤمن غر كريم) أي ليس بذي نكر ولا مكر ولا
خدّاع.
ولولا أنني أحب الوفاق، لما نصحت لهم بهذا. فإنني أعلم أن هذه المشاقّة لا
تزيد المسلمين إلا قوة في رابطتهم الإسلامية التي أدعو إليها، وحفظًا لحقوقهم التي
أغار عليها، ولكنني أفضل أن يكون تنبيهي لهم بغير هذا:
(أحب أن يعتصموا بحبل الله جميعًا ولا يتفرقوا، وأن يكونوا مع ذلك على
وفاق ووئام مع من يعيش معهم، وأنصح للمسلمين أن لا يكتبوا شيئًا في الرد على
القبط، ولو لم يكتبوا في الماضي ما كتبوا لكان خيرًا لهم وأحسن؛ إطفاء لتلك الفتنة
وخذلانًا لموقظيها. ولكن لا بأس ببيان عدد الموظفين منهم في كل مديرية، وذكر
الوقائع في تعصب بعضهم لبعض، وتعاونهم الملي المحض من باب بيان الحقيقة
والاعتبار بها، بشرط أن يتحرى الصحيح، ولا تمزج الرواية بشيء من التأنيب
والتجريح، فضلاً عن الهجر والتقبيح) .
لم تعمل القبط بهذه النصيحة؛ لاعتقادها أن المسلمين قد قضي عليهم، وأنهم
أمسوا مشلولين لا حراك بهم، وزادها غرورًا أن رأت المسلمين نسوا تلك الغارة
الشعواء، ولم يأخذوا حذرهم من مثلها، ولا سمعوا نصيحتي بإحصاء الموظفين؛
لبيان أن القبط غابنون غير مغبونين، فها هم أولاء قد استدركوا في هذه المرة ما
فاتهم في الغابرة، فكانت كرة القبط كرة خاسرة.
إنني على تنبيهي للمسلمين، وحرصي على حفظ مصالحهم ومرافقهم،
ورغبتي في ترقيتهم، أجري على ما تعودت من المحافظة على مودة كل من يعيش
معهم، ويشاركهم في أوطانهم، ولهذا قلت: إنني أحب نصحهم بغير هذه الوسيلة؛
ولذلك أشرت عند الحركة الأولى إلى ما يسكنها، وقد سكنت وأبت القبط إلا أن
تعود إلى تحريكها، وثبت لنا أن المسلمين لا ينتبهون إلا بمثل هذه الصيحات
المنكرة في وجوههم.
نبهت قبل هذا على النسبة بين المسلمين والقبط في مصر، وبينهم وبين
غيرهم في الأقطار الأخرى بمقالات اجتماعية شخصت الحال تشخيصًا، وذكرت
بما يجب تذكيرًا. وأنَّى للغافل الذكرى؟ كتبت في الجزء الأول من مجلد المنار
الثامن الذي صدر في المحرم سنة 1323 (مارس سنة 1905) مقالاً عنوانه
(حياة الأمم وموتها) ، عرفت فيه حياة الأمة بأنها أثر روح يسري في أفرادها،
فيشعرهم بأن مكان كل واحد منهم من مجموع الأمة مكان أحد أعضائه من جسده،
فهو يلاحظ في كل عمل منفعة نفسه ومنفعة أمته معًا، كما أن عمل كل عضو في
البدن يكن سبب حفظ حياته من حيث هو سبب لحفظ حياة البدن كله، وقارنت بين
حياة الأفراد وحياة الأمم، وبين حياة الأجسام وحياة النفوس، وضربت المثل لأمة
تموت بالوارث المسرف، ولأمة تحيا بالتاجر المقتصد، ذلك ينقص ماله الكثير كل
يوم، وهذا يزداد ماله القليل كل يوم. وأول ما يخطر في بال المصري في هذا
المقام ورثة شريف باشا وأجراؤهم وخدمهم من القبط، أولئك أضاعوا ثروتهم
الواسعة فصاروا فقراء، وهؤلاء امتصوا تلك الثروة فصاروا أغنياء.
قلت في تلك المقالة: (معرفة شؤون الأمم والشعوب أخفى على الأكثرين من
معرفة حال الأفراد والبيوت، فكم من جاهل يفضل أمة على أخرى؛ لأنها أصح
دينًا وأعدل شريعة، أو لأنها أشرف أرومة، وأعرق في المجد جرثومة، أو لأن
تراثها من سلفها أكثر، ومزاياها الجنسية أشهر، أو لأنها أكثر عددًا ومددًا، وأعز
عشيرة ونفرًا، وإذا صح أن يكون هذا كله أو بعضه للأمة التي تموت زمنًا من
الأزمان. فإنه لا يبقى إلا ريثما تتصل بها أمة حية، فترى هذه تمتص جميع مزايا
تلك ومقوماتها الحيوية، وتلك تتحمل آفات هذه وعللها البشرية، حتى تكون
إحداهما في عليين، والأخرى في أسفل سافلين.
(يسهل على القارئ في الشرق القريب أن ينظر فيما بين يديه من الشعوب
التي تضمها جنسية سياسية أو لغوية، وتفصل بينها روابط نسبية أو ملية، فإنه
يرى شعبين يمتاز أحدهما بكثرة العدد وكثرة المال وقوة الحكم وقوة العلم، ثم يجد
نفسه تفضل قليل المزايا منهما على كثيرها؛ لأنه يرى الشعب الكثير المزايا يتمزق
ويتفرق، فتذهب مزاياه بذهاب الأعوام. والشعب القليل المزايا ينمو ويسمو
ويجتمع ويتألف فيعتز ويشرف بإقبال الأيام، يرى الشعب الكبير يتخاذل فيتضاءل،
والشعب الصغير يتلاءم ويتعاظم، وما ذلك إلا أن في أحدهما نسمة حياة تدفع عنه
الأعراض الضارة بالشعوب فيقوى ويزكو، وتغذيه كل يوم بغذاء جديد فينمو
ويسمو، وليس في الآخر شيء من هذه الحياة، فهو كجسم العاشق يذوب ويضمحل
ويحقر ويذل) .
ثم بعد مقارنة أخرى بين شعبين يحيى الكبير منهما ويموت الصغير، فندت
رأي من يجعل للصغر والكبر دخلاً في الحياة والاتحاد بما نصه:
(لا يغرنك ما ترى من آيات الحياة في أمة تقطعت روابطها، وانفصمت
عروة الثقة بين أفرادها، وبغض إليها النظام، وفقدت التلاحم والالتئام، وإن كان
ما نراه أخلاقًا كريمة، ومعارف صحيحة، وثروة واسعة، وسلطة نافذة، مع العلم
بأن هذه الأشياء كلها هي آثار الحياة توجد بوجودها وتذهب لذهابها، فقد يكون
ذلك من بقايا إرث قديم، يعبث به الفساد الحديث، إلا أن ترى العلم والأخلاق
تقرب البعيد، وتجمع الشتيت، وتزيد في الثقة بين الناس، وتدعو إلى التعاون
على البر والإحسان، وترى الثروة تجمع مع ملاحظة مصلحة الأمة، وينفق جزء
منها على المنافع العامة) ... إلخ.
وقد كتبت في تلك السنة (1323) مقالة أخرى عنوانها (المسلمون والقبط
أو آية الموت وآية الحياة) كان سببها ما كتبه المؤيد وكتبته جريدة الوطن في مسألة
(التعليم الديني والحكومة) وما طلبه القبط من مساواتهم بالمسلمين، فيما يشترط
في إعفاء حفاظ القرآن من خدمة العسكرية. وذكرت في هامشها أنني (طالما
عزمت على كتابة مقالات في المقابلة بين مسلمي مصر وقبطها وبين المسلمين
والنصارى عامة ثم أرجأتها) ، وسبب الإرجاء؛ انتظار الفرص التي تنبه الأذهان
إلى ما يكتب والنفوس إلى العبرة به.
وجملة القول أننا نرى أن القبط يطلبون ما ليس بحق شرعي لهم، وإنما
يطلبونه بقوة الاتحاد الملي وضعف المسلمين وتخاذلهم، ونرى المسلمين تضيع
حقوقهم الشرعية وهم غافلون. ونرى أن القبط قد أيقظوا المسلمين ونبهوهم قبل
الوصول إلى حد اليأس الذي تخشى عاقبته.
ونرى أن بيان حق كل ذي حق ومكان كل من الآخر؛ هو الذي يمكن أن يبنى
عليه الصلح الثابت، والوفاق الدائم، وسنبين في النبذة التالية مكان كل من هذه
الحكومة، وهل هي حكومة إسلامية أم لا؟
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(14/273)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
النبذة السابعة
هل الحكومة المصرية إسلامية أم لا؟
إنني بحثت وأبحث في مقالي هذا عن الحقيقة الكائنة لا عن الرغيبة التي أحب
أن تكون، والعاقل هو الذي يحب جلاء الحقائق، وبيان الواقع الكائن، ويستفيد
منه عبرة، ويزداد بصيرة، فيسلك إلى مقاصده في طريق النور لا طريق الظلمة.
ولو تدبرت القبط هذا لكافأتني جرائدها بالحمد والشكر، لا بما جاءت به من السب
والهجر.
من هذه الحقائق التي أبينها في هذه النبذة وقد أشرت إليها من قبل أن
المسلمين يعدون أنفسهم أمة جنسيتها الإسلام، وأنه يجب أن يكون لهم حكومة
إسلامية، وأن جنسيتهم هذه واسعة عادلة لا تفرق في العدل بين المسلم وغيره،
وذات سماحة وحرية، لا تمنع أهلها أن يشاركوا غيرهم فيها وفي جميع مرافق
الحياة، كما ولوا القبط في القديم والحديث إلى هذا اليوم أكثر أعمالهم في الحكومة،
وكذا في عقارهم وأرضهم وأوقافهم.
بالغوا في التسامح وأسرفوا في الجود والسماحة في أيام قوتهم، وقنعوا من
السلطة باسم السيادة وكونهم هم المعطين وغيرهم هو المعطى، حتى إذا ما حل بهم
الضعف صار ما أعطوه للأجانب حقوقًا وامتيازات يستعملون بها عليهم، ويزيدون
فيها بقوتهم ما شاءوا، ويفسرونها كما أرادوا. وقد كان هذا بتكافل الدول القوية
واتحادها بالتدريج، فأذاقوا المسلمين مرارة تفريطهم لقمة بعد لقمة، وجرعة في إثر
جرعة، فتجرعوه كارهين مكرهين، كما بذلوه من قبل راضين مرضيين.
وأرادت القبط أن تقيس نفسًا على الدول الكبرى، فتسمي ما سمح لها به
المسلمون حقوقًا واجبة، وتزيد فيها ما تشاء، فأنشأت تطلب لنفسها الزيادة فيما
سمته حقوقًا وإزالة ما بقي للمسلمين من امتياز إسلامي بمشاركتها لهم فيه. وقد كان
هذا مما يسيغه المسلمون المساكين جرعة بعد جرعة، كما أساغوا تلك الامتيازات
مع الاعتراف لهم بأن الحكومة حكومتهم. ولكن أبت جرائد القبط ومؤتمر القبط إلا
أن تنازع المسلمين اسم السلطة كما نازعتهم معناها. وأنها لإحدى الكبر التي لم يئنْ
للمسلمين في مصر أن يسيغوها مختارين.
مضت سنة الله في أهل السيادة الذين يضيعون سيادتهم بسوء تصرفهم أن
يكون آخر ما يهتمون به الأسماء والألقاب والرسوم والشارات الظاهرة، كما هو
معروف في تاريخ الشرق والغرب.
دع ذكر ملوك الطوائف وأمراء المسلمين من الأندلس إلى فارس والهند،
واعتبر بحال أمراء جبل لبنان من مسلمي الشيعة، تجدهم في آخر عهدهم بعد أن
ملكت النصارى حتى من خدمهم وإجرائهم معظم ما كان لهم، كانوا يقنعون من
الامتياز باللقب ولبس الأحذية الحمر التي كانت خاصة بهم من دون الفلاحين، حتى
كان الشيخ منهم يكون له الحقل أو الكرم الواحد من الأرض والعقار، فيهدي إليه
الفلاح النصراني حذاء أحمر (جزمة) ويظهر له أنه جيء به، فلم يرد أن يلبسه
تأدبًا معه فيهبه الشيخ إياه، وربما كان آخر ما يملكه.
أصابت القبط موضع التأثير من قلوب المسلمين بقولها: إن حكومة مصر
ليست إسلامية (أو حركت الوتر الحساس من نفوسهم كما تقول الإفرنج) وقد جعل
هذه الدعوى خطيبهم في مؤتمر أسيوط قضية مسلمة، فحمد الله وحمد نية
المصريين أن كان الذين يقولون منهم: إن هذا البلد إسلامي لا يتجاوزون عدد
الأصابع، وهذا ألطف ما قالوه في هذا الباب؛ لأنهم قالوه بعد العلم بأن المسلمين
تألموا من مؤتمرهم وعزموا على إنشاء مؤتمر إسلامي.
نعم إن المسلمين مفتونون بالحكومة في كل مكان، وهذا هو الواقع وإن أضر
بهم في هذا الزمان، فإنه صرفهم عن ترقية أنفسهم، والاعتماد على
استعدادهم ومواهبهم، ألم تروا أن المسلمين بمصر قد أهملوا أمر الأمة، وتركوها
للمرابين والمقامرين والقوادين والخمارين يغتالون ثروتها، ويجنون على دينها
وعرضها وصحتها، وجعل أصحاب الجرائد وغيرهم من المتصدين والمتصدرين
للأمور العامة يجاهدون الحكومة والاحتلال المسيطر عليها، وقد ترك للأمة حريتها
تعمل ما تشاء فلم تعمل شيئًا يذكر، ولماذا؟ لأن الزعماء شغلوها بفتنة السلطة عن
نفسها، حتى إنهم كانوا يعدون من يجب أن يكون همّ الأمة الأكبر في ترقية نفسها
بالتعليم والتربية والثروة خائنًا للأمة خادمًا للاحتلال؛ لأن الواجب عندهم
قبل كل شيء هو إزالة الاحتلال ثم إصلاح الأمة بالحكومة المستقلة.
مقاومة الاحتلال بالسهل الممكن وهو الكلام طبيعي لا اعتراض عليه،
والانتقاد على الحكومة - والحرية واسعة - طبيعي لا بد منه، وإنما المنتقد هو جعل
المسلمين همهم كله في ذلك، وإهمالهم أمر تربية الأمة وتكوينها، وقد سلم من هذا
الانتقاد القبط، فكوّنوا أنفسهم حتى صاروا على قلتهم يقولون (الأمة القبطية) بحق،
وإنما أخطأوا أخيرًا بما نازعوا المسلمين في شكل الحكومة وتصريحهم بأنها غير
إسلامية.
الحق الواقع أن جمهور المسلمين يرون أن حكومة مصر إسلامية وشعورهم
في هذا رقيق جدًّا، يجرحه القول اللطيف؛ ولهذا كان لورد كرومر وهو ذلك
الشجاع الجبار، يتحامى أن يلمس أي شيء له علاقة بالدين، وهذه هي سنة
السياسة عند الفحول المقرمين من أهلها، وعليها جرى الكثيرون في إبقاء بعض أمراء
المسلمين في البلاد التي ملك الإفرنج أمرها كله؛ كسلاطين جزائر جاوه
وباي تونس وبعض النواب في الهند؛ لتتوهم العامة أن حكامها من أبناء دينها.
هذا هو شعور الجماهير، وإني لأعرف من المسلمين من يرى أن الخير
للمسلمين أن تعلن هذه الحكومة رسميًّا أنها غير إسلامية، وأن تترك للمسلمين جميع
شؤونهم الملية يديرونها بأنفسهم كما تركت مثل ذلك للقبط وغيرهم؛ كالمحاكم
الشرعية والأوقاف والمعاهد الدينية كلها.
يرى هؤلاء أن هذا الإعلان إذا حصل، يذهب بغرور المسلمين بهذه الحكومة
التي لا حظّ لهم من عنايتها، ويبد لهم من بعد اتكالهم استقلالاً واعتمادًا على عملهم،
ومن بعد كسلهم نشاطًا وإقدامًا على ترقية أنفسهم، حتى إذا ما ارتقوا وتكونوا
بتوحيد التربية الملية والتعليم الحر، فصاروا أمة واحدة تكون حكومتهم تابعة للرأي
العام المستقل في الأمة؛ لأن هذه هي عاقبة جميع الأمم المرتقية.
تقول القبط: إن هذه الحكومة مصرية لا إسلامية وحاكمها العام حاكم مدني لا
حاكم ديني، وقد يحتج من يرى هذا بأنها تشرع ما لم يشرعه الإسلام من القوانين،
وتبيح ما لم يبحه من الفسق. وقد يرد عليهم الجمهور بأن خطأ الحكومة في هذه
المسائل كخطأ الأفراد، فكما يخالف أفراد المسلمين هداية دينهم فيزنون ويسكرون،
تخالف حكومتهم هذه الهداية فلا تمنع الزنا والسكر، وحكم الفقه أن المعصية لا
تخرج صاحبها من الإسلام إلا إذا جحد تحريمها، وكان مجمعًا عليه معلومًا من
الدين بالضرورة. وكما تكون الأمة يكون أولياء أمورها لأنهم منها. وقد عرض
لهذه الحكومة من سلطة الأجانب ما جعلها غير مختارة ولا مستقلة في كل شيء
إسلامي، لكن السلطة الأجنبية لم تمح منها كل ما هو إسلامي.
إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تستولي على مال من يموت من
المسلمين عن غير وارث، ولا تستولي على مال من لا وارث له من القبط وغيرهم
من النصارى واليهود؟
إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تتولى هي القضاء الشرعي
الإسلامي في الأحكام الشخصية، وتدع مثل ذلك لغير المسلمين يحكمون فيه بما
يعتقدون؟ إن القاضي الأكبر الذي يتولى السلطة الشرعية العليا من قبل خليفة
المسلمين، يحكم بين الناس بمذهب الخليفة والأمير وكذلك سائر القضاة. ولا يحكم
أحد منهم بين المتخاصمين بأحكام المذهب الذي يتقلدونه، بل جعلوا قضاء مصر
حنفيًّا محضًا كالقضاء في بلاد الترك الحنفية، وأهل مصر شافعية ومالكية إلا
القليل.
إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا لا تترك للمسلمين أوقافهم كما
تركت للقبط وغيرهم أوقافهم، فإذا كان الخديوي كما تقول القبط حاكمًا مدنيًا فقط،
ونسبة المسلمين والقبط إليه من حيث هو حاكم واحدة، فهل يرضون بكل ما يتفرع
على هذا الأصل، ويجعلون له الحق أن يعطي من أوقاف القبط للمنافع المشتركة
(كالجامعة المصرية) كما يعطي من أوقاف المسلمين.
إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تضع هي القوانين للمعاهد الدينية
التعليمية كالأزهر وغيره من جوامع العلم الديني، وتولي هي المشايخ عليه ومشايخ
المذاهب، وترفع بعضه في الرتب العلمية الدينية على بعض. ولماذا تولي أئمة
الصلاة وخطباء الجمعة، ولا ترى لها مثل هذا الحق في معاهد الديانة النصرانية
من الأديار والكنائس وقسوسها ورهبانها وسائر رجال دينها، وإنما تكتفي ببعض
الرسوم الدالة على أن هذه الديانة من الديانات التي أقرتها الحكومة في بلادها، ولها
عليها حق الحماية وحفظ الحرية الدينية. وليس لكل أهل دين هذا الحق في كل
حكومة، فالبابية ليس لهم حقوق دينية في بلاد الدولة العثمانية كالنصارى مثلاً.
إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تترك العمل في الأعياد الدينية
الإسلامية، وتحتفل بها احتفالاً رسميًّا كما تحتفل بالمولد النبوي الشريف دون أعياد
القبط وغيرهم، ودون مولد سيدنا عيسى عليه السلام، ومثل ذلك الاحتفال بمحمل
الحج وكسوة الكعبة المعظمة.
لست أعني بهذه الأمثلة والشواهد أنها كلها من الفرائض أو السنن في أصل
الإٍسلام، أو من الأحكام التي فرضها الدين على الحكام، فالصحابة والتابعون
والأئمة المجتهدون لم يحتفلوا بذكرى المولد ولا المعراج، كما تحتفل الحكومات
الإسلامية الآن، وإنما أعني أن هذه الخصائص من آثار كون الحكومة إسلامية.
تريد القبط أن تمحو هذه الخصائص، ومن وسائلها على ذلك طلب ترك
العمل في يوم الأحد، وطلب جعل أموال الحكومة المصرية شرعًا بينهم وبين
المسلمين، لا يتفق شيء منها في مصلحة إسلامية إلا ويتفق مثله في مصلحة قبطية،
وهذا أصل عام، يتفرع منه إذا قبل محو جميع خصائص المسلمين في هذه
الحكومة. وتحتج القبط على حقيقة هذا الطلب بأن هذه الحكومة مصرية لا إسلامية،
فهذا هو الأصل عندها، فإذا قبلته الحكومة ترتب عليها ما طلبوا أو أكثر مما
طلبوا من الفروع.
وإذا محصنا المسألة وبينا حقيقتها ترى أن المطلوب هو إخراج هذه الحكومة
عن كونها إسلامية بإزالة كل اختصاص للمسلمين فيها، ولكن أبوا أن يعترفوا بهذا
الأصل ويطلبوا هدمه، ورجحوا أن يهدم بهدم ما بني عليه. وهذا من الدهاء والحكمة
؛ لأن طلب إبطال الفروع أخف على النفوس من طلب إبطال الأصول، فإنه من قبيل
الدعوى بالدليل، ولأن من اعترف بالأصل لزمه الاعتراف بالفروع. فما جروا عليه
هو الأقوى والأنفع لهم، وهو أشد على المسلمين في باطنه وحقيقته، وأخف في
ظاهره وصورته.
إن الدولة العثمانية أمّ الحكومة المصرية واقفة أمام مثل هذه المسألة في بلادها،
فقد قام النصارى بعد الدستور يطالبون بنحو ما تطالب به القبط. ولكنهم لا
يزالون يخفون أكثر مما يظهرون، وليس موضوع كلامي إبداء رأيي أو ميلي في
تخطئة هذا أو ذاك ولا تصويبه، وإنما رأيت الأمر غمة على المسلمين والنصارى
كافة، وما رأيت أحدًا يتجرأ على بيان الواقع فأحببت أن أبينه كما هو لا كما يجب
أن يكون.
الواقع أن الحكومة العثمانية حكومة إسلامية قبل الدستور وبعده، وأن الحكومة
المصرية مثلها وتابعة لها في كونها إسلامية، وإنما تختلف في شيء واحد وهو أنها
مستقلة في إدارتها الداخلية بعهد (فرمان) من السلاطين. وأن الاحتلال الأجنبي
مسيطر عليها.
وقد صرّح القانون الأساسي للدولة بأن دينها الرسمي هو الإسلام، وأن
سلطانها هو خليفة المسلمين. والدين في حكومتها أظهر منه في الحكومة المصرية
التي هي تحت سيادتها. فإن شيخ الإسلام هنالك هو العضو الأول في مجلس
النظار وباب المشيخة الإسلامية من أكبر نظارتها. وإذا تناقش مجلس الأمة من
المبعوثين أو الأعيان في مسألة، وقال أحد منهم: إنها مخالفة للدين؛ لا يستطيع أحد
أن يقول: لا ضرر في ذلك، بل يدفعون ذلك بعدم التسليم له، فلو كان جميع
المبعوثين من المسلمين عالمين بالشرع الإسلامي، وأرادوا أن يطبقوا جميع
القوانين على أحكامها لفعلوا بلا معارض.
هذا هو الواقع هنا وهناك، وهو يثقل على القبط وسائر النصارى، وإن كان
إنجيلهم يأمرهم أن يخضعوا لكل حاكم، وأن يعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله،
ويفخرون بأن دينهم فصل بذلك بين الدين والحكومة، ولكنه لا يثقل على اليهود
الجامع كتابهم بين الدين والحكومة، بل يكتفي هؤلاء من الحكومة بأن تمنحهم
الحرية في دينهم وكسبهم، وقد وجدوا من هذه الحرية في بلاد المسلمين أيام قوتهم
وأيام ضعفهم ما لم يجدوه في بلاد أخرى في الحالتين.
النصارى أحرص الناس على السلطة والحكم، وللتربية الإفرنجية في نفوسهم
تأثير عظيم في ذلك، فهم لا يرضون من الحكومتين العثمانية والمصرية تمام الرضى
إلا بالانسلاخ التام من الإسلامية، ولكن هذا الانسلاخ مما لا يستطاع إلا بالتدريج
البطيء في الزمن الطويل، فإن الأشخاص والأقوام والحكومات تتكون كطبقات
الأرض بفعل الزمن الطويل، وما كان كذلك لا يمكن تغييره دفعة واحدة كما قلنا،
ولهذا بينت من قبل أن القبط قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، ومنعهم
بغضهم للعرب أن يهتدوا فيه بحكمة شاعرهم التي سيرها مثلاً وهي:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
قلت: هذا لأن ما يطلبونه هم وإخوانهم من سلخ الحكومتين من الإسلامية لا
يمكن أن يحصل إلا بالتدريج وبموافقة المسلمين لهم عليه. وقد وجد من المسلمين
الجغرافيين (أي الذين يعدون من المسلمين في إحصاء الجغرافية، وإن لم يعرفوا
ما هو الإسلام) من يرون هذا الرأي، ويسعون هذا السعي بالدعوة إلى حل
الرابطة الإسلامية، والاستعاضة عنها بالرابطة الوطنية أو الجنسية.
وقد صار لأصحاب هذا الرأي أحزاب وزعماء يقودون المسلمين إلى حيث
يجهلون، وترك رجال الدين زعامة الأمة وقيادتها لهم، وهم يعلمون أن منهم الملحد
ومنهم الفاسق الذي يشرب الخمر ويزني ويلوط، ومنهم الذي يحل الربا، وأمثال
هؤلاء الزعماء أحرص على سلخ الحكومة من الدين من النصارى؛ لأنه يتعذر عليهم
أن يجمعوا بين شهواتهم وأهوائهم والزعامة في قومهم وبين الحكومة الإسلامية.
لو صبرت القبط والنصارى في البلاد العثمانية لكفاهم هؤلاء المسلمون
الجغرافيون الأمر، كما بينته من قبل، ألم يروا أنه لا يوجد مشروع إسلامي إلا
ويكونون هم المقاومين له؛ لأنهم يخشون قوة الدين على زعامتهم ووطنيتهم، وإن
كان من قوم لا عناية لهم بالزعامة، ولا يحبون أن يقربوا من نار السياسة، ولكنهم
إذ لم يصبروا، يخشى أن يجيء الأمر على ضد ما طلبوا.
يحسن أن يقنعوا الآن بما لهم في الحكومتين من الحرية الواسعة، وجواز
مشاركة المسلمين في أكثر أعمال الحكومة، أو كل ما لا يختص بالدين منها،
والقبط أجدر بهذه القناعة من غيرهم؛ لأن أكثر أعمال الحكومة الخديوية في أيديهم
وليتدبروا حال الحكومات الأوربية العريقة في الحكومة النيابية، كيف لا تزال على
ندرة المخالفين لشعوبها في دينها تفضل مذهب الجمهور والحكومة على غيره،
حتى إن فرنسا وهي الجمهورية التي صرحت بأنه لا دين لحكومتها، لا يمكن أن
تجعل من اليهود المالكين على أزمة القوة المالية فيها قوادًا للجيش ولا للأساطيل ولا
رؤساء للجمهورية، دع معامتلها لمسلمي الجزائر وتونس.
إن لتصريح القبط وغيرهم بهذه المسألة عواقب تتوقع؛ ولا سيما إذا أجيبوا
إليها:
(منها) تنبيه غيرة المسلمين الغافلين إلى وجوب إقامة حكومتهم لشريعتهم،
ولا يمكن للحكومة العاقلة أن تخالف رغبة الجمهور العظيم من رعيتها إلى رغبة
النزر اليسير ولو فيما ترغب هي فيه.
(ومنها) تصدي الدولة العلية للمداخلة في الأمر باسم الخلافة والسيادة، إذا
أجابت الحكومة بعض المطالب تفريعًا على الأصل الذي تقرره القبط، وهو أنها
غير إسلامية.
وقد سمعنا هذه الأيام صوت مجلس المبعوثين في الآستانة يبحث عن
القاضي الأكبر والقضاء في مصر، ويطالب بالمحافظة على الشرع فيها، وعهد
إلى شيخ الإسلام بالبحث عن ذلك وإيضاح ما يقف عليه للمجلس، وما نظن أن
الحكومة الإنكليزية تحب فتح هذا الباب في هذا الوقت.
(ومنها) أن المسلمين في جميع الأقطار يعدون مصر باب الحرمين
الشريفين ومعهد علوم الدين، فإذا علموا أن حكومتها خرجت عن كونها إسلامية،
يألمون بالطبع، وتتفرج مسافة الخلف بينهم وبين النصارى، وذلك لا يرضى به
محب للإنسانية.
(ومنها) أن الإنكليز يحسبون لسخط رعاياهم المسلمين في الهند وغيرها
حسابًا إذا هم وافقوا القبط على ذلك جهرًا، والمسلمون أشد أهل الهند إخلاصًا لهم
في هذا الوقت.
(ومنها) أن هذا يذهب بكل أمل المسلمين في هذه الحكومة، فيكون علة
لرجوع المسلمين إلى استعدادهم الذاتي واعتمادهم على أنفسهم، وحينئذ يخشى أن
تخسر القبط منهم أكثر مما تربح من الحكومة، وأن يعود الأمر إلى نصابه بقوة
الاتحاد التي فقدها المسلمون باتكالهم على حكومتهم.
(ومنها) أن القبط ترجح على المسلمين رجحانًا ظاهرًا، يخشى أن يترتب
عليه مع تعصب بعضهم لبعض فتن كثيرة، وهذا مما لا ترضى به حكومة في
الدنيا ولا يعقل أن يرضى به الإنكليز.
وصفوة القول أن فتح باب هذه المسألة كان من الخطأ الذي يضر القبط دون
المسلمين، فإنه أيقظ هؤلاء، فإذا استمروا على يقظتهم كان فيه الخير العظيم لهم،
وإذا عادوا إلى غفلتهم كان ضرره على القبط تأخير مطالبهم، وبعدما كان قريبًا
منها عنهم.
نعم.. إن القبط يستفيدون من هذه الحركة اكتناه استعداد المسلمين، فإذا فاز
المؤتمر المصري اضطروا إلى معاملة المسلمين معاملة جديدة، ورضوا أن يكونوا
منهم مكان الأخ الصغير من الأخ الكبير الذي يكون رئيس العشيرة أو بما دون ذلك،
وإذا خاب المؤتمر بسعي المفرقين من المسلمين، علموا أن السيادة في هذه
البلاد ستكون لهم ولو بعد حين.
وسيكون المؤتمر المصري موضع النبذة الثامنة من مقالنا هذا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(14/279)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
النبذة الثامنة
المؤتمر المصري
إن بركات هذا المؤتمر قد سبقت وجوده فإن القبط لما علموا بالعزم عليه
اضطروا إلى سلوك سبيل الأدب في التعبير، وتنكب السبيل التي سار عليها كتابهم
في الجرائد، وهي سبيل الغميزة والتعيير، ولكنهم لم يرجعوا عن مقصد من
مقاصدهم، وأهمها إنكار كون حكومة مصر إسلامية، وادعاء أنهم أعلى كفاءة من
المسلمين، وأنهم أخذوا معظم وظائف الحكومة بحق الكفاءة، ويطلبون ما يطلبون
من سائرها بحق الكفاءة.
غرهم اتحادهم وتخاذل المسلمين، وطعن بعض أفرادهم وأحزابهم ببعض ولا
سيما بالنابغين منهم في الحكومة، فادعوا ما هو بديهي البطلان في مسألة الكفاءة
الشخصية، وما يكاد يكون حقًّا ظاهرًا في كفاءة العصبية الملية لولا أن انبرى
أولئك الأكفاء الفضلاء إلى تأليف هذا المؤتمر الإسلامي المصري، وكل ما هو
مصري فهو إسلامي إذا عرف المسلمون أنفسهم، وتعاونوا على القيام بمصالح
قطرهم؛ لأن غيرهم قليل، فيكون بالضرورة مدغمًا فيهم، وليس له وجود مدني
خاص بدونهم، ولكن وجودهم المدني وقد اجتمعوا وتعاونوا لا يتوقف على وجود
غيرهم.
لولا غرور القبط باتحادهم، وتخاذل المسلمين وتفرقهم لما طلبوا الرياسة
الإدارية بدعوى الكفاءة. وكيف تعرف كفاءة المرء في أمر ليس له فيه عمل، ولم
تسبق له فيه تجربة، ومن ذا الذي يشهد لهم بهذه الكفاءة وشهادة المرء لنفسه باطلة
ولم يشهد بها المسلمون ولا المحتلون وهم أبناء دينهم، فإذا كانوا يعتدون بشهادة
أولياء الأمور فليتركوا الأمر إليهم، وإلا فليأتوا بشهدائهم إن كانوا صادقين.
أما أنا فأقول: إن هذا المؤتمر هو الذي يشهد لهم أو عليهم. ولا أعني
بشهادته ما يأتي به خطباؤه من البينات والحجج فقط، وإنما أعني شهادة الحال دون
شهادة المقال، فإن لسان المقال قد يكذب وقد يختلب لب السامع بالشعريات المتخيلة،
فيبرزها في صور الحقائق المقررة، كما فعل خطباء القبط في مؤتمرهم. وأما
لسان الحال فهو الصدوق الذي لا يعرف الكذب، والمحق الذي لا يأتيه الباطل
فنجاح المؤتمر المصري بالثبات والنظام والعدل والإنصاف والاتحاد والتعاون هو
الذي يشهد للمسلمين على القبط، وشهادته لا تكون بذلك إلا حقًّا؛ لأن تلك الصفات
هي روح الحق.
أبطأ مسلمو مصر في هذا المؤتمر، كما أبطأ إخوانهم مسلمو الهند في مثله
من قبل، سبق وثنيو الهند مسلميها في عقد المؤتمر السنوي والجمعية الملية،
والمسلمون هنالك أقل من الوثنيين عددًا، وسبق قبط مصر مسلميها في إنشاء
المجلس الملي وفي عقد مؤتمر قبطي، والمسلمون في مصر هم الأكثرون عددًا،
فما هو سبب ذلك، ههنا وهنالك.
كان المسلمون هم أصحاب العزة والسلطان الغالب في الهند كمصر، فعاش
الفريقان الزمن الطويل بعد دخول الأجانب في بلادهم، مغرورين بسابق عزهم
وسلطانهم، ولم يشعروا بحاجتهم إلى حياة اجتماعية جديدة في هذا العصر الجديد
كما شعر الهندوس هناك والقبط هنا لعدم غرورهما، وإنما استيقظ مسلمو الهند قبل
مسلمي مصر؛ لأن الغرور بالحكومة الإسلامية قد زال من نفوسهم من قبل، وإن
أبقت لهم إنكلترة بعض النواب الأمراء كالتماثيل الأثرية أو المومياء في متاحف
العاديّات، وبقي مسلمو مصر مغرورين متكلين على حكومتهم مشغولين بسلطة
الاحتلال المسيطرة عليها، حتى زلزلت القبط هذا الغرور باتحادها وتكافلها، وفغر
أفواهها لابتلاع الحكومة كلها، كما أيقظ مسلمي الهند اتحاد الهندوس وتكافلهم
وتقدمهم عليهم بعد أن كانوا دونهم، فليس لقلة المسلمين النسبية في الهند ولا لكثرتهم
في مصر دخل في هذه المسألة الاجتماعية، وإنما هي فتنة السياسة والغرور بشكل
الحكومة، قد أذهلا الأمة عن نفسها، وصرفاها عن استعمال مواهبها، حتى كادت
تفقد نفسها ومواهبها.
إن الأمم الأوربية التي يجب أن تعتبر بحالها هي التي أصلحت حكوماتها،
ولم تكن حكوماتها هي التي أصلحتها، فإذا ارتقت الأمة ترتقي الحكومة بالضرورة،
وقد قال السيد الأفغاني الحكيم: العاقل لا يُظلم ولا سيما إذا كان أمة.
يجب على زعماء الأمم أن يوجهوها إلى قواها الذاتية، وثروتها الطبيعية،
وأن ينموا هذه القوى والثروة، حتى تكون مصدر سعادة الأمة، وأن يحولوا دون
افتتان العامة بالسياسة، والاشتغال بأمر الحكومة، فإن ذلك يشغلها عما تحسنه
وتقدر عليه بما لا تحسنه ولا قبل لها به، وقد ورد في الحديث الشريف: (اعملوا
فكل ميسر لما خلق له) رواه الشيخان في صحيحيهما.
يعني أنه ينبغي للإنسان أن يعمل ويشتغل بما يميل إليه استعداده، فإنه هو
الذي يرجى أن يتقنه، ومن حكمة الله في اختلاف الاستعداد أن يتقن مجموع
البشر جميع الأعمال، فمسألة الحكومة والسياسة فتنة عظيمة في كل الشعوب ولا
سيما في دور الانقلاب الاجتماعي والانقلاب السياسي.
إن للأمة حقوقًا على العلماء والكتاب والأغنياء الذين يهتمون بالأمور العامة
ويتصدون لها. منها خدمة مصلحتها الدينية والأدبية، ومنها خدمة مصلحتها
الاجتماعية، ومنها خدمة مصلحتها الاقتصادية، فإذا حصروا عملهم في السياسة أو
جعلوه كله باسم السياسة أضاعوا عليها هذه المصالح والمنافع التي لا قوام لها ولا
بقاء إلا بها، ولا سيما في مثل هذه البلاد التي ليس لها من أمر سياسة نفسها إلا
الكلام بقدر ما تسمح به حرية الحكومة. وإني أعتقد أن الأمة لا ترتقي إذا كان همها
كلها موجهًا إلى شيء واحد، وناهيكم إذا كان ذلك الشيء هو السياسة التي لا يشتغل
بها في كل الأمم إلا القليلون، ولا يحسنها ممن يشتغل بها إلا الأقلون.
أمرنا الكتاب العزيز أن نسير في الأرض ونعتبر بأحوال الأمم، فإذا نحن
بلونا أخبار الشعوب الغربية وسبرنا غور ترقيهم، نرى أنهم ما وصلوا إلى ما
وصلوا إليه من العزة والثروة إلا باهتمام النابغين منهم بترقية الأمة، والاستعانة
على ذلك بالجمعيات والشركات وتوزيع الأعمال بحيث يشتغل بكل نوع منها
طائفة لا تشتغل بغيرها حتى تحسنها.
إذا اختبرنا حالهم في التربية وخدمة الدين نظن أنه لا هم لهم من الحياة غير
دينهم، ذلك بأن لهم جمعيات دينية كثيرة قد تبرعوا لها بالأموال، ووقفوا لها
الأوقاف حتى صارت تملك الملايين من الجنيهات، وقد عمت التربية الدينية عندهم
ثم فاض طوفانها على جميع شعوب الأرض، فأنشأوا فيها المدارس والملاجئ
والمستشفيات، وطفقوا يبثون فيها دينهم وينشرون كتبهم مترجمة بجميع اللغات،
وإن الفقراء منهم ليساعدون هذه الجمعيات على قدر حالهم، حتى إن منهم من يحرم
نفسه من شرب الشاي أو من سكره أو من اللحم شهرًا أو شهورًا أو سنة، ويجعل
ما كان ينفقه في ذلك للجمعيات الدينية، كما يعلم ذلك من كتبهم وجرائدهم.
أذكر مثالاً صغيرًا من ذلك وقع في هذه البلاد: كتب قسيس إنكليزي يقيم في
شبين الكوم في جريدة دينية؛ أنه يريد أن يطوف القرى في الأرياف للتبشير
بالإنجيل، وأنه يحتاج إلى دراجة (بيسكلت) لذلك ولا يملكها. فما لبث أن أمطرت
عليه بلاده الدراجات الجيدة، حتى صار بيته مخزنًا لها لا يكاد يسعها، وتبع هذا
من الدراهم والهدايا ما لا حاجة بنا إلى عده.
وإذا دققنا النظر في أعمالهم المالية نظن أنه لا هم لهم من الدنيا إلا المال
والاحتيال على جمعه، وتصريف أمور العالم كله به، وناهيكم بمصنوعاتهم التي
يعيش العالم كله بها، ولا تكاد تقع عين أحد منا إلا عليها.
وإذا بحثنا في العلوم والفنون كل منها على حدته، فإنه يسبق على أذهاننا عند
الوقوف على عنايتهم بكل علم وحده أنهم لم يشتغلوا بغيره، ولا يحفلون إلا ببلوغ
الغاية منه، حتى إنهم جعلوا لكل فرع من فروع العلم الواحد جمعيات خاصة لأجل
إتقانه.
فإذا أردنا الاعتبار بحالهم مع الاستضاءة بنور العقل، فعلينا أن ننظر في
حاجات أمتنا ومصالحها العامة، ونختص بكل منها طائفة تشتغل بها دون غيرها؛
لأن إتقان العمل الذي هو سلم الترقي لا يكون إلا بذلك.
عندنا جمعيات خيرية وتعليمية ودينية ونقابات مالية وزراعية وشركات
تجارية وصناعية، وتألفت عندنا مجالس المديريات لأجل تعميم التعليم، وهذه
المصالح كلها لا تزال ضعيفة ونفعها محصورًا في دائرة ضيقة، فهي الآن
كالأعضاء المتفرقة يجب اتصالها؛ ليكون عمل كل منها متممًا لعمل الآخر، أو
كالشرايين المنفصلة يجب اتصالها بالقلب لتستمد منه وتمده، أو كالأسلاك البرقية
التي يصل كل منها بين بلدين أو أكثر من المملكة، ولا تتصل بالمركز العام الذي
يصل بعضها ببعض، وما دامت مصالحنا متفرقة على هذا النحو لا نكون أمة
متحدة، فيجب أن يكون لجميع مصالح الأمة العامة سمط واحد تنتظم فيه حباتها
ويزاد عليها، حتى تكون عقدًا كاملاً، يجب أن تتصل هذه الأعضاء العاملة فتكون
جسمًا واحدًا، يعمل كل عضو منها عمله الخاص به؛ لأجل منفعة سائر الأعضاء.
فالسمط الذي نحتاج إليه لتكوين عقدنا الاجتماعي، بل الدماغ أو القلب الذي
نحتاج إليه ليمد جميع أعضاء الأمة بالحياة هو هذا المؤتمر.
ما سرني شيء في مصر كما سرني تأليف هذا المؤتمر، وإنما يتم السرور-
إن شاء الله تعالى - بنجاحه ودوامه، وإني أقترح عليه ما يغلب على ظني أن
غيري يقترحه، والحق يزيد قيمته ويعلو شرفه بكثرة طلابه، ولكن لا ينقص شرفه
بقلتهم، فإن الحق كالجوهر الخالص، شرفه ذاتي له، وإنما يعلو ويغلو بمعرفة
الناس لهذا الشرف وتنافسهم فيه أي: بأمر عارض غير ذاتي.
كفاني قانون المؤتمر أمر اقتراح سلبي لابد منه، ولا يرجى بقاء المؤتمر
ونفعه إلا به، وهو عدم الاشتغال بالسياسة؛ فالسياسة ما دخلت في شيء إلا أفسدته
كما قال الأستاذ الإمام، فيجب أن تترك لنفسها ويفوض أمرها على أحزابها، وأن
يشتغل المؤتمر بما دونها من مصالح الأمة فيجمع متفرقها، ويكمل ناقصها، ويوحد
وجهتها؛ ليكون عمل الكل موجهًا إلى غاية واحدة.
للمؤتمر عمل عارض مؤقت وأعمال دائمة مقصودة لذاتها، فالعمل العارض
الموقت هو تمحيص مطالب المؤتمر القبطي، وبيان حقه من باطله.
يقول الله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46) الآية. ولا أحسن من بيان الوقائع وإثبات الحق بالإحصاء
الصحيح، وبذلك يثبت المؤتمر أنهم طلبوا من أعمال الحكومة ما لو أعطوه
لأضحت الحكومة قبطية خالصة، ويسهل على المؤتمر أن يثبت ما يعترف به
بعض القبط من تعصب رؤسائهم لهم في جميع المصالح، وتقديمهم على المسلمين،
ومن كان هذا شأنهم فإسناد الوظائف الرئيسية إليهم يخشى أن يفضي إلى ما لا تحمد
عقباه من التعصب والغلو في الخلاف، حيث تكون الحكومة كلها في أيديهم.
وليس فيما قاله القبط في مؤتمرهم وما يكررونه كثيرًا في جرائدهم أمر ذو
بال إلا تصريحهم بأن هذه البلاد ليست إسلامية وحكومتها ليست حكومة إسلامية.
إن القبط على احتراسهم في مؤتمرهم وتحاميهم الألفاظ التي تكبر المؤاخذة
عليها، صرحوا بأنه لا يقول: إن هذه البلاد إسلامية، للمسلمين فيها ما ليس
لغيرهم إلا أفراد لا يجاوزون عدد الأصابع، صرح بذلك خطيبهم توفيق بك دوس
المحامي، ولجريدتيهم كلام كثير في ذلك، أوضح مما قاله خطيب مؤتمرهم. وعلى
هذا بنوا وجوب تعليم الدين المسيحي في مدارس الحكومة وبطالة يوم الأحد.
فيجب على المؤتمر أن يبين ما يترتب على هذه الدعوى، وهو أنه إذا كانت
الحكومة الخديوية تعترف من نفسها أنها غير إسلامية أو يكرهها المحتلون على ذلك
فإن المسلمين لا يرضون أن تكون محاكمهم الشرعية تابعة لها، ولا أوقافهم
ومدارسهم الدينية تحت إدارتها، ولا وضع تركات من يموت منهم عن غير وارث
في خزينتها، بل يطلبون حينئذ أن يستقلوا بجميع أمورهم الدينية كالقبط وغيرهم.
فأما الحكومة فلا تعترف بهذا، وأما المحتلون فلا يتحملون تبعته.
لا أحب أن أطيل في المسألة القبطية أصولها وفروعها، وإنما كتبت ما كتبته
من قبل لتنبيه المسلمين إلى ما هم في أشد الحاجة إليه، وهو أن يعرفوا أنفسهم ممن
معهم، ويعرفوا ما لهم وما عليهم، وأنا واثق بأنه يسهل على المؤتمر المصري أن
يبين للمنصفين من شعوب المدنية وغيرهم أن القبط غابنون لا مغبونون، وأن
المسلمين مغلوبون بتساهلهم لا غالبون، وأن الخير للقبط أن يقنعوا بما هم فيه من
النعم، وأن لا يطلبوا شيئًا باسم القبط، ولا ينازعوا في صبغة الحكومة الإسلامية،
وأن يعودوا عما تجرءوا عليه من تهمة المسلمين بالتعصب الديني عليهم لنصرانيتهم
ومن تحريض أوربة عليهم، وعن اللهجة البذيئة التي سنتها لهم جرائدهم.
كل هذا مما يسهل على المؤتمر بالبراهين، ولكن القبط لا تذعن له إلا إذا
رأت من المسلمين الحزم، ومجاراتها في توثيق الرابطة الملية والتعاون الديني على
الترقي. فإذا هم عرفوا حدهم واعترفوا بحق غيرهم، فإني أحب للمسلمين أن
يستوصوا بهم خيرًا، ويعطوهم أكثر مما يستحقون، كما كانوا من قبل يفعلون،
ولا أحب للمسلمين أن يرجعوا بصفقة المغبون الذي لا هو محمود ولا هو مأجور.
***
(أعمال المؤتمر الدائمة)
أما أعمال المؤتمر الدائمة فكثيرة، لا يمكن شرحها في هذا المقال، وإنما
نشير فيما نقترحه في خاتمته إلى أصولها وقواعدها.
وأما فائدته فأكبرها عندي ما أشرت إليه آنفًا؛ من توحيد المصالح والأعمال
العامة التي تقوم بها الأمة دون الحكومة ومساعدتها عليها وتوجيهها إلى المقصد
الصحيح الذي ترتقي به الأمة في معارج الكمال المادي والمعنوي، ويدور ذلك كله
على أربعة أقطاب
(1) التربية الملية والتعليم.
(2) إرشاد العوام إلى تحسين معيشتهم في آدابهم وأعمالهم وصحتهم
ومعاملتهم لمن يعيش معهم من موافق ومخالف.
(3) حفظ ثروة الأمة وتنميتها بالوسائل الحديثة، والتوقي من الغوائل التي
تغتالها.
(4) مواساة العاجزين والبائسين وإعانة المنكوبين والغارمين.
سيشرح خطباء المؤتمر هذه المقاصد كلها أو بعضها، ويبينون وجه الحاجة
على ما يتكلمون فيه، وما ينبغي أن يقرره المؤتمر ويقوم به، وإنما يقرر المؤتمر
المطالب العامة بالإجمال. وأما التفصيل الذي يترتب عليه التنفيذ، فيتوقف على
تأليف لجان تختص كل لجنة بعمل من الأعمال، ويكون روح الأعمال كلها تكوين
الأمة وتوحيد وجهتها في حياتها الاجتماعية.
فإذا بحثنا في مقصد التربية والتعليم، نرى أن تربية أبنائنا وبناتنا مفرقة
لأجزاء أمتنا، ممزقة لأعضائها، حائلة دون أن نكون أمة متحدة، لا مكونة للأمة.
أي أن التربية والتعليم اللذين نتنافس فيهما، ونبذل النفيس لأجلهما، ونظن أن
فيهما عزتنا وارتقاءنا، هما حائلان دون كل ما نطلبه من وحدة الأمة وارتقائها.
***
المدارس والتربية والتعليم
ما هو المقصد العام من المدارس، ومن يدير هذه المدارس ويحقق لنا ما
نقصد منها، وهل الذين تخرجوا في هذه المدارس متحدون في أفكارهم ومقاصدهم،
متوجهون إلى توحيد الأمة وجعلها مثلهم.
لا بقاء للأمة إلا بالمحافظة على عقائدها وآدابها وشعائرها الدينية وأخلاقها
وعاداتها ولغتها، وهي مقوماتها ومشخصاتها التي تكونت بها بالوارثة وفعل القرون
كما تتكون المعادن في الأرض، فإذا طرأ على هذه المقومات والمشخصات بفعل
الزمن ما يعيبها ويشوهها، ويجعل الاستفادة منها قليلة، كان الواجب على المربين
والمعلمين أن يزيلوا تلك العيوب كما يزال الصدأ عن الحديد، لا أن يزيلوا الجوهر
نفسه ويضعوا مكانه جوهرًا آخر.
قال صلى الله عليه وسلم: (تجدون الناس معادن فخيارهم في الجاهلية
خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) رواه الشيخان. والأمم معادن كالأفراد، وعمل
المربين فيها كعمل الصنّاع في المعادن، وبعملهم تظهر مزاياها ومنافعها، فمهرة
الصناع يصقلون الحديد الأسود؛ حتى يكون أبيض لامعًا كالمرآة، حتى تفضله
بلونه على الفضة المهملة في المكان الرطب، يتغير لونها ويزول بهاؤها.
كذلك الأمم تظهر محاسنها ومنافعها في زمن دون زمن بالتربية والعلم،
وجوهرها هو جوهرها، لا يتغير في نفسه إلا بزواله وفنائه أو إدخاله في جوهر
آخر، كما يمزج قليل من المائع في غيره، فيغيب عن العين ويزول ذلك الوجود
الخاص به. فقد كان كل من الشعبين الإنكليزي والفرنسي جاهلاً لا مزية في عالم
المدنية ثم تعلما وارتقيا، وبقي كل منهما ممتازًا بمقوماته ومشخصاته، فمنها في
الأول الرصانة والثبات والبطء في التحول عن الشيء ولو قبيحًا، وفي الثاني
الذكاء والخفة وسرعة التحول، ولكل من الخلقين المتضادين منافع ومضار، ولكن
المنافع هي التي تغلب على طور الحياة والارتقاء، والمضار هي التي تغلب في
طور الضعف والانحطاط.
غرضنا من هذا المثل أننا محتاجون إلى تربية تزيل الصدأ الذي طرأ على
جوهر أمتنا حتى يظهر جوهرها نقيًّا ويسهل الانتفاع به، وإلى تعليم نعرف به
طرق استعمال مواهبنا الفطرية وخيرات بلادنا فيما يرقينا ويرفع شأننا، ولكن أمر
تربيتنا وتعليمنا ليس في أيدينا، فلا رأي لسراتنا ولا لأهل العلم والبصيرة منا في
أكثره.
نلقي بناتنا في مدارس الراهبات ومدارس الأمريكان، فهل يتعلمن فيها آداب
ديننا وأحكامه، ويتربين على عبادته وأخلاقه؟ ألا إننا نعلم أنهن لا يتعلمنها ولكن
يتعلمن ما ينفر منها، ويبعد عنها، فيخرجن لا نصرانيات على آداب النصرانية،
ولا مسلمات على الآداب والفضائل الإسلامية، وهل يرجى صلاح بيوت هذا شأن
رباتها؟ أم يرجى أن تكون الأمة المكونة من هذه البيوت أمة متحدة مرتقية؟
عندنا مدارس أهلية ابتدائية للبنات، فهل نجد فيها من الفضيلة وآداب الإسلام
وعباداته ما نفقده في مدارس الإفرنج؟ لا لا.
إن أمثل المدارس مدارس الحكومة ولا غناء فيها، فجميع مدارس البنات في
هذا القطر غير صالحة للتربية التي نحن في أشد الحاجة إليها، ولا يرجى أن توجد
المدارس الصالحة، ونحن في هذه الفوضى بالمصادفة، ولكننا إذا خرجنا بهذا
المؤتمر من هذه الفوضى، فإننا نجد ما نرجو كما نحب؛ لأنه يكون برأي الأمة
وتدبيرها.
إن جميع المدارس المصرية من إفرنجية وأهلية وأميرية غير صالحة للتربية
الملية التي ترتقي بها الأمة بتزكية جوهرها الفطري وحفظ مقوماتها الملية، كل هذه
المدارس تجذب المتعلمين والمتعلمات فيها إلى التفرنج، فتفتنهم بلغة غير لغتهم،
وآداب غير آدابهم، وعادات غير عاداتهم، كما تخفض مقام ملتهم وقومهم في
أنفسهم، وتعلي فيها مقام أقوام آخرين، كلها آلات محللة بل سيوف مقطعة لمقومات
الأمة ومشخصاتها، لا همّ للمتخرجين والمتخرجات فيها إلا أن يجدوا مالاً يبذلونه
للأجانب ثمنًا لما عندهم من الملذات والزينة، بل يبذلون القناطير منه في القمار
والمضاربات، وما لا لذة فيه إلا الهوس والخبل وفنون الجنون.
فعلى المؤتمر أن يتدارك هذا الفساد قبل أن يعم، ويتعذر تداركه بفشوه في كل
الطبقات والإجماع على استحسانه.
تلك إشارة على وجه الحاجة إلى المؤتمر في أحد تلك المقاصد العامة
والأقطاب التي تدور عليها مقاصد الأمة، فقس عليه سائرها.
وجملة القول أن المرجو من المؤتمر أن يكون سلك النظام للأعمال الحرة
التي تقوم بها الأمة من الجمعيات والنقابات والشركات، يوحد وجهتها ويساعد كلاًّ
منها بقدر الطاقة.
ليس المراد من ذلك أن تكون الجمعيات جمعية واحدة، ولا الشركات شركة
واحدة، ولا النقابات كذلك، ولا أن تتغير قوانينها ونظاماتها، ولا أن يكون المؤتمر
مسيطرًا عليها، فإن ذلك ينافي توزيع الأعمال، ومباراة العاملين، ولا ترتقي الأمم
إلا بهذا التوزيع الذي هو وسيلة الإتقان.
وإنما المراد أن هذه المصالح كأعضاء البدن: العينان تبصران، والأذنان
تسمعان، واليدان تعملان، والرجلان تسعيان، وكذلك الأعضاء الباطنة كالمعدة
والكبد تعمل أعمالها، كل هذه الأعمال الاختيارية وغير الاختيارية تجري على
نظام واحد غايته حفظ البدن كله، والقلب يمدها كلها بالدم الذي يعينها على أعمالها،
وبالنظام المقدر، والقدر المعين، والنظام قوام الوجود، ومعيار الأعمال، ووسيلة
الكمال.
__________(14/287)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اقتراح صاحب المنار على المؤتمر المصري
بسم الله الرحمن الرحيم
] وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ [[1]
أحيي رجال هذا المؤتمر الكرام الذين هم موضع الرجاء في ترقية أهل هذا
القطر السعيد وإعلاء شأنه، وأكاشفهم بما عندي من الرأي، وإن كنت أظن أن
غيري سبقني إليه كله أو بعضه.
إن هذا المؤتمر هو الذي يمثل حياة مسلمي مصر الاجتماعية ودرجة ارتقائهم
وما يرجى لهم من المزيد، وقد سبقهم إلى مثله مسلمو الهند. وإنما نجاحه بثباته
ودوامه، ولا يثبت ويدوم إلا بما تقرر من جعله بمعزل عن السياسة، وحصر
أعماله في ترقية الأمة بالتربية والتعليم والكسب والاقتصاد والتكافل والتضامن في
المصالح والمرافق. وأما تمحيص مطالب القبط وبيان ما هو الحق في هذه المسألة،
فهو أهون أعمال المؤتمر العارضة.
فأقترح على المؤتمر أن يكون له خمس لجان دائمة، تعمل وتسعى لتحقيق
مقصده العالي:
(الأولى اللجنة الإدارية)
يناط بهذه اللجنة كل ما يتعلق بالنظام والإدارة العامة، ويكون أعضاؤها
مختارين من جميع الأحزاب والطبقات.
* * *
(الثانية لجنة التربية والتعليم)
يناط بهذه اللجنة النظر في التربية الدينية العملية والتعليم في جميع المدارس
الأهلية التي للجمعيات والأفراد، وما كان وسيكون لمجالس المديريات لتوحيد
نظامها وموادها وتوسيع دائرتها، فإنه لا شيء يضر البلاد ويفرق كلمة الأمة
كاختلاف التربية والتعليم، ويتألف أعضاء هذه اللجنة من أعضاء تلك الجمعيات
والمجالس ومن نظار المدارس الشخصية. والجمعيات التعليمية عندنا هي الجمعية
الخيرية الإسلامية، وجمعية العروة الوثقى، وجمعية المساعي المشكورة.
وأقترح أن يكون من أعمال المؤتمر التي تنظر فيها هذه اللجنة أولاًّ ثم تحوله
إلى اللجنة الإدارية، مساعدة الجمعية الخيرية الإسلامية على إنشاء مدرسة كلية
إسلامية للبنات، يتربى فيها البنات على عبادات الإسلام وآدابه وأخلاقه، ويعلم
فيها تدبير المنزل، وكل ما تحتاج إليه ربات البيوت بالعمل، وما يعلي أفكارهن
ونفوسهن من العلوم، فإن البيوت لا تصلح إلا بالتقوى والفضيلة والنظام والعلم
والأدب التي تتحلى بها النساء، ويفضن منها على أولادهن.
* * *
(الثالثة لجنة الوعظ والإرشاد)
تناط بهذه اللجنة العناية بأمر العامة في القطر كله بتعيين وعاظ في كل جهة،
يطوفون البلاد والقرى، يعلمون الناس أمر دينهم، وما لا بد منه من أمر دنياهم؛
كالمحافظة على الصحة والألفة والمودة بينهم وبين من يعيشون معهم على اختلاف
مللهم ونحلهم؛ وكالحذر من المرابين والغاشين والمقامرين والدجالين الذين يأكلون
أموالهم بالباطل، وينفرونهم من البدع والخرافات والعادات الضارة في الاحتفالات
والأفراح والأحزان وغيرها، ومن المعاصي الفاشية في الأرياف كالاعتداء على
الأموال والأعراض والنفس والثمرات والزروع وغير ذلك؛ كشرب المسكر
والحشيش، ويكون أعضاء هذه اللجنة من الأزهريين، ومتخرجي دار العلوم،
وجماعة الدعوة والإرشاد.
* * *
(الرابعة اللجنة المالية الاقتصادية)
يناط بهذه اللجنة النظر في ديون الأهالي، وبيان طرق الإرشاد والمساعدة
على وفائها بقدر الإمكان، وفي حفظ الثروة مما يغتالها بجهل أربابها وسفاهتهم؛
كالربا الفاحش الذي أهلك الفلاحين، وفي ترقية الزراعة والتجارة والصناعة في
البلاد. ويكون أعضاء هذه اللجنة من رجال النقابات الزراعية والشركات المالية
على اختلاف موضوعها، ومن كبار المزارعين والتجار. وأظن أن الكثيرين من
أعضاء المؤتمر يبينون هذه المسألة بالإيضاح الذي ليس وراءه غاية يصل إليها مثلي
* * *
(الخامسة اللجنة الخيرية)
يناط بهذه اللجنة النظر في أحوال العجزة والبائسين المستحقين للإعانة على
ضروريات المعيشة، أو على الكسب، أو التربية والتعليم. وتتألف هذه اللجنة من
بعض أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية، وجمعية الملاجئ العباسية، وجمعية
الإسعاف، وجمعية رعاية الأطفال، ومن غيرهم من أهل الفضيلة والفطنة.
ويكون من أهم أعمالها جمع ما يمكن من مال الزكاة وصدقات التطوع وجلود
الأضاحي وغير ذلك؛ وصرفها في مصارفها الشرعية بلا محاباة.
وإني أعرف من الناس من يحار في البحث عن المستحقين للزكاة الشرعية، فإن
أكثر المستجدين الذين يتكففون الناس في الطرق لا يوثق باستحقاقهم؛ لاتخاذهم
الشحاذة حرفة وكسبًا، فإذا وجدت في المؤتمر لجنة من أهل العدالة والتقوى والعلم
يضعون الزكاة في مصارفها الشرعية، فأهلها يسرون بدفع زكاتهم إليها وتوكيلهم
بصرفها للمستحقين لها. وبقيام المؤتمر بهذه وظهور فائدته للناس بسعيه - يقيم هذا
الركن الإسلامي الذي هدم في هذه البلاد، حتى لم يبق منه إلا أثر دارس، وهو ما
امتاز به الإسلام على جميع الأديان.
أقترح على المؤتمر تأليف هذه اللجان ووضع النظام لأعمالها، وأن يكون هو
الصلة بين الجمعيات والنقابات والشركات والمجالس التي تخدم البلاد، فيمدها
بالرأي والمال، ويستمد منها ما يساعده على توحيد المصلحة وتوجيهها إلى المقصد
من ترقي الأمة المادي والمعنوي مع محافظة كل منها على الاستقلال في العمل،
فتكون كأعضاء الجسم، كل عضو يعمل عمله لمصلحة البدن كله.
ويكون المؤتمر كالقلب الذي يمد كل عضو بالدم النقي الذي يقوى به على
عمله.
وأقترح أن يكون للمؤتمر مركز عام في القاهرة، تجتمع فيه اللجان في
الأوقات التي يعينها النظام في أثناء السنة، وتضع كل لجنة منها تقريرًا ينظر
فيه المؤتمر في وقت انعقاده كل سنة، وينفذ ما يمكن تنفيذه إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الطلاق: 6.(14/295)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
كيف خلق الإنسان [*]
بينا في بعض مقالات نشرت في الصحف اليومية أن مذهب داروين؛ وإن
كان من أحسن المذاهب العلمية الآن لتفسير المسائل الطبيعية، إلا أنه لم يبلغ درجة
اليقين، فهو لا يزال ظنيًّا لا قطعيًّا، ويجب على أتباعه أن يعرفوا عنه هذه الحقيقة،
وقد أوردنا عليه فيما نشر بعض احتمالات تقوض أهم أركانه، وتدك أكبر أسس
بنيانه، حتى إن كبيرًا من أعظم أنصاره في الشرق لم يقدر على الرد علينا. وقد
سألني بعض الإخوان قائلاً: إذا كنت تشك في صحة مذهب داروين، فكيف تفسر
لنا علميًّا خلق الإنسان أولاً من طين؟ فأردت أن أجيبه في هذه المقالة على هذا
السؤال. وقد رأيت أن أبدأ بسرد تلك الاحتمالات التي أوردتها على هذا المذهب،
ثم أتبعها بالجواب، فأقول:
أما الاحتمالات فهي:
(1) إذا قلنا: إن بعض الأعضاء الأثرية في نوع ما من الأنواع كان
مستعملاً في هذا النوع بعينه من قديم الأزمان، ولاختلاف الظروف والأحوال التي
أدت إلى إهمال هذا الاستعمال فيما مضى من الأجيال، ضمرت هذه الأعضاء
وصارت آثارًا للدلالة على أصولها في نفس هذا النوع لا على أنها كانت أعضاء
في نوع غيره، فبماذا يا أنصار هذا المذهب تثبتون تغير الأنواع وانتقالها من نوع
إلى آخر؟ ؟
مثال ذلك عضلات الأذن الظاهرة للإنسان والجسم الصنوبري
(Body Pineal) الذي في مخه، وتقولون عنه: إنه كان عينًا ثالثة في
الحيوانات التي ارتقى عنها الإنسان. فلماذا لا نقول: إن هذه العضلات وتلك
العين الثالثة كانت للإنسان نفسه في أول الأول، خلقت ابتداءً معه لمنفعة لها إذ ذاك،
ولتغير الظروف والأحوال فيما بعد أهمل استعمالها لتلك الأسباب التي تزعمونها،
فضمرت حتى صارت آثارًا دلت على ما كان له في قديم الزمان لا على أنه انتقل من
نوع إلى نوع؟ ومثل ذلك يقال في سائر الحيوانات التي توجد فيها مثل
هذه الأعضاء الضامرة؛ أي أن كثيرًا من الحيوانات كانت لها هذه العين الثالثة ثم
زالت أو ضمرت؛ لعدم الاحتياج إليها وإهمال استعمالها، وكذلك تجدها في
الحيوان المسمى بالإفرنجية هاتريا (Hatteria) ؛ وهو نوع مخصوص من
الأورال (جمع ورل) (Lizards) كانت له هذه العين فأهمل استعمالها، فضمرت
فيه وبقيت إلى الآن مغطاة بالجلد، وبمثل هذا التعليل يمكننا أن نعلل ضمور
الحوض والطرفين السفليين في الحيات؛ أي أن بعض هذه الأعضاء الأثرية
المشاهدة الآن في أنواع الحيوانات كانت في قديم الزمان أعضاء نامية في نفس هذه
الأنواع لا في أنواع غيرها، كانت موجودة قبلها، أما باقي الأعضاء الأخرى
الأثرية فيمكن تعليلها بعلل أخرى كما سيأتي:
(2) إذا سلمنا أن بعض الأنواع ارتقى عن البعض الآخر، واستدللنا على
ذلك بمثل الأسنان التي تظهر في الفك الأعلى لأجنة الحيتان والحيوانات المجترة،
ثم تذهب وتزول قبل أن تولد، وقلنا: إن ذلك دليل على ارتقائها من نوع غير
نوعها، فبماذا نثبت ارتقاء جميع الأنواع بعضها من بعض؟ مع أن مثل هذا
البرهان لا يوجد إلا في بعض الأنواع دون البعض الآخر؛ أي أننا إذا سلمنا أن
الأنواع كانت أقل مما هي عليه الآن بقليل، فلا يمكننا أن نسلم أنها جميعًا كانت
قليلة جدًّا (أي نحو أربعة أو خمسة مثلاً) كما ذهب إليه داروين أو واحدًا فقط كما
ذهب إليه غيره ممن اتبعه، فإذا سلمنا أن الحمار والحصان من أصل واحد، فلا
نسلم أن الكلب والإنسان كذلك.
ومثال ذلك في اللغات: أننا إذا قلنا: إن بعض الكلمات في بعض اللغات مشتق
من اللغات الأخرى؛ لوجود تشابه في حروفها ومخارجها، فلا يمكننا أن نقول: إن
كل كلمة في أي لغة مشتقة من كلمة أخرى في لغة أخرى قبلها، بل إن كثيرًا من
الكلمات قد وضع في اللغات وضعًا وخلق خلقًا، ولم يكن له سابق في لغة قبله، فكيف
إذًا نثبت أن الإنسان - أو غيره من بعض الأنواع الأخرى - لم يخلق نوعًا مستقلاًّ
عن غيره من الأنواع، وأي برهان صحيح نقيمه على ذلك سوى الظنون والأوهام،
مع ملاحظة أن مثل البرهان السابق (أي ظهور الأسنان بعض أجنة الحيوانات ثم
زوالها) إن صح في بعض الأنواع فلا يصح في نوع الإنسان، ولا في
أكثر الأنواع الأخرى. وإلا فما هي الأعضاء الأثرية التي تثبت ذلك فيه؟ ؟
(3) لنا أن نقول: إن سنة الله في الخلق هي أن يخلق أجنة الحيوانات
المتماثلة على طريقة واحدة، ثم ينوعها بحسب أنواعها المختلفة؛ أي أن أجنة
بعض الحيوانات المختلفة في نوعها تكون في مبدأ الأمر متشابهة كل الشبه، ثم
تتنوع شيئًا فشيئًا، حتى يختلف بعضها عن بعض، فكما أن جنين الذكر والأنثى
هو في الأصل واحد، ومنه يشتق الذكر والأنثى، فكذلك أجنة كثير من الحيوانات
هي في الأصل واحدة؛ لأنها خلقت في مبدأ الخلق من شيء واحد كما سيأتي
بيانه، ثم اشتقت منها الحيوانات المختلفة. وكما أنه لا يصح أن يقال: إن الذكر
كان أنثى وارتقى لوجود آثار الأنثى فيه، وبالعكس كذلك لا يصح أن يقال: إن
الإنسان كان حيوانًا آخر وارتقى؛ لوجود آثار من الحيوانات الأخرى فيه؛ كالزائدة
الدودية التي هي عبارة عن أعور طويل في الحيوانات الأخرى ذوات الثدي،
وكالأقواس الخيشومية (arches Branchial) في جنين الإنسان التي تقابل
خياشيم الأسماك، فإن هذه الأشياء الأثرية وجدت في الإنسان، كما وجدت آثار الأنثى
في الذكر، وبالعكس لأن الجنين لكل من هذه الحيوانات المختلفة كان أصله واحدًا في
شكله ومادته وخواصه، ثم تنوع فوجدت آثار بعض الحيوانات في البعض الآخر؛
لتشابه أجنتها في مبدأ الأمر ولتكونها على طريقة واحدة ومن مادة واحدة. ومثل ذلك
أيضًا الجلد والعضل والعصب والعظم، فإنها خلقت جميعها من خلايا (بروتوبلاسمية)
واحدة في أصلها وشكلها، ثم تنوعت أثناء نشوئها، وحافظت خلاياها على خواص
الخلايا (البرتوبلاسمية) الأولى وصفاتها بدرجات متفاوتة، بحيث صار بعض هذه
الخواص في بعض هذه الخلايا أصليًّا، وفي البعض الآخر أثريًّا مثل خاصية
الانقباض التي توجد في الخلايا العضلية ظاهرة واضحة وفي غيرها طفيفة غير
خافية، وإن كانت في الخلايا الأصلية متساوية.
ويلحق بهذا الوجه وجه رابع وهو أن تقول:
(4) إن بعض هذه الآثار يمكن تعليله بأنه من بقايا التكون التدريجي؛ أي
مما يتخلف عنه، وذلك أننا أثناء تكون الجنين نشاهد بعض أشياء توجد ثم تزول أو
تبقى آثارها، ولا فائدة منها بحسب علمنا، ولا يمكن تعليلها بما يعللون به
الأعضاء الأثرية الأخرى. مثال ذلك:
(1) غشاء الحدقة (membrane Pupillary) فإنه يظهر في الجنين
طامسًا العين ثم يزول قبل أن يولد ببعض شهور، ولا يمكن أن يقال: إنه كان
مستعملاً في حيوانات سابقة، وإلا لكانت عمياء وضاعت فائدة أعينها بوجوده.
(2) غشاء البكارة؛ فإنه بقية من بقايا التكون التدريجي، وهو منتهى ما
يقولونه عنه. وكذلك.
(3) الحاجز المهبلي الذي يوجد في بعض النساء، وهو ينشأ من اتحاد
إحدى أنبوبتي ملر (Ducts Mullerian) بالأخرى.
(4) جفون العينين؛ فإنها تتكون ثم تلتحم ثم تتفتح في الجنين، ولا يعلم
أحد حكمة هذه التقلبات، فكذلك يمكن أن يقال: إن ظهور الشعر في جميع جسم
الجنين الإنساني مثلاً ثم ضموره من أغلبه بالتدريج، هو من هذا القبيل؛ أي أنه لا
يدل على أن الإنسان كان أولاً حيوانًا ذا شعر طويل كغيره من الحيوانات، ولما
ارتقى ضمر شعره.
وما يقوله أنصار داروين في تعليل هذه المسائل الأربعة المذكورة هنا، نقوله
نحن في تعليل وجود الأعضاء المتخلفة عن التكون التدريجي، وهذا أيضًا وجه
آخر في تعليل مثل الزائدة الدودية في الإنسان. وإن اعترفوا بالعجز عن تعليل
بعض هذه المسائل، وأقروا بجهلهم حكم كثير من أعضاء الجسم: كالثيموس
(Thymus) والجسم السباتي (Carotid) والجسم العصعصي (Coccygeal
Body) وغيره، اعترفنا نحن أيضًا بجهلنا حكمة بعض الأعضاء الأثرية، وحينئذ
فلا فرق بين مذهبنا ومذهبهم سوى أنهم أكثر جرأة منا على التهجم على دعوى معرفة
أسرار الكون والاغترار بما عرفوه، وإن كان كل يوم يظهر أنهم فيما يزعمون كاذبون
عاجزون.
وأما كيفية خلق الإنسان؛ فالجواب القطعي عنها لا يعلمه إلا الله. وأما الظني
فيمكننا أن نقول: لا يخفى أن أجنة الحيوانات بعضها يتكون في الرحم والبعض
الآخر خارج الرحم؛ كالتي تتكون في التجويف البطني في الإنسان وغيره، وفي
بيض الطيور وفي مياه البحار: كالقنافذ (hedgehogs or Seaturchins) وغير
ذلك. والذي يظهر فيها كلها أن اللازم للتكوين هو حيوان منوي غالبًا [1] وبويضة
ووسط مغذ، سواء كان ذلك الوسط جدر الرحم، أو غشاء البريتون، أو زلال
البيض، أو مياه البحار، أو غير ذلك.
وعليه فيحتمل أن الله تعالى خلق أولاً حيوانات منوية وبويضات من مادة
واحدة [2] وهما خلايا حيوانية كما خلق الأميبا (Amoeba) وغيرها من الحيوانات
ذات الخلية الواحدة، ولاختلاف الوسط والظروف صارت هذه الحيوانات
المنوية والبويضات مختلفة متنوعة، فمن بعضها خلق الإنسان الأول (آدم وحواء)
ومن البعض الآخر خلقت الحيوانات الأخرى.
وذلك بأن تلقحت البويضة بالحيوان المنوي، ثم التصقت ببعض المواد
البروتوبلاسمية الأولى التي كانت توجد في البحار وعلى شواطئها، ومن هذه المادة
البروتوبلاسمية صارت البويضة تمتص غذاءها كما تمتصه أحيانًا من البريتون في
الحمل خارج الرحم، وصارت تنمو وتكبر الآن في بطون الأمهات، ولما تم نموها
انفجرت وخرج منها الإنسان كما يخرج من الكيس الأمنيوسي. ولعل الله تعالى
ساق له إذ ذاك بعض الحيوانات الأخرى؛ كالدببة المشهورة بهذا الأمر فأرضعته،
أو كان يوجد مواد زلالية مغذية في البحار فصار يشرب منها، أو كان يمتص
عصيرًا يسيل من بعض أشجار قريبه كان عصيرها مغذيًا، أو كان يشرب ماء فيه
حيوانات دقيقة جدًّا فيتغذى بها. وما يقال فيه يقال في الحيوانات الأخرى الشبيهه
به التي يجوز أن يقال في كيفية تغذيتها الأولى أيضًا: إنها وجدت بعض نباتات
طرية هلامية مغذية. فازدردتها في مبدأ نشأتها، حتى كبرت وصار يمكنها أن
تأكل غيرها من النباتات أو الحيوانات الأخرى.
فإن قيل: وكيف يوجد ذكر واحد وأنثى واحدة، مع أنه يحتمل أن الحيوانات
المنوية والبويضات كانت كثيرة. قلت: ذلك هو عين ما يحصل الآن في الإنسان
وغيره، فمع وجود حيوانات منوية تعد بالملايين، وكذلك بويضات في كل جماع،
فلا يتكون منها غالبًا إلا ولد واحد.
وإن قيل: لم لم يخلق الآن حيوانات بهذه الطريقة من جديد، قلت: ولم لم
يتولد الآن من الجمادات أحياء جديدة؟ أليس ذلك لاختلاف حال الزمان وطبيعة
الأرض الآن عما كانت عليه في مبدأ الخليقة؟ أما إذا وجدت تلك الأحوال الأولى،
فلا يبعد أن يتكون فيها حيوانات جديدة، كما لا يبعد أن يتكون فيها أيضًا بطريق
التولد الذاتي خلايا بروتوبلاسمية جديدة.
أما مسألة التذكير والتأنيث، فما يقال فيها الآن يقال نحوه أو ما يقرب منه في
الخلايا البروتوبلاسمية الأولى التي صار بعضها حيوانات منوية ملقِّحة (بالكسر) ،
والبعض الآخر بويضات ملقَّحة (بالفتح) . والله تعالى أعلم بأسراره في خلقه.
__________
(*) للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي.
(1) حاشية للكاتب - تكون المسيح بدون أب؛ أي بدون حيوان منوي له نظير في عالم الحيوانات الصغيرة ولا نعلمه الآن بالتحقيق في الحيوانات الكبيرة كما يزعم بعضهم ففي بعض الحيوانات الصغيرة يوجد ما يسمى بالتولد البكري (prathenogenesis) أي إن الأنثى بعد أن يلحقها الذكر مرة تلد عدة أجيال (generations) بدون احتياج للذكر فابنتها أو ابنة ابنتها تحبل وتلد بدون أن يمسها ذكر ومن ذلك قمل النبات. ومن المعلوم أن ما يحصل في بعض الحيوانات على سبيل القاعدة قد يحصل مثله على سبيل الشذوذ في الحيوانات الأخرى فالقاعدة في الأرانب مثلاً أن تلد كثيرًا وقد وجد في النساء من ولدت ستة أولاد ولا ينافي ذلك كون مريم وابنها آية للعالمين فإن في كل ما خلق الله آية للعالمين {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية: 4) .
(2) المنار: أي خلق ذلك في الطين اللازب من الحمأ المسنون.(14/303)
الكاتب: ملك حفني ناصف
__________
النسائيات [*]
(30)
حرية المرأة في الإسلام
يود بعض النساء المسلمات التشبه بالغربيات في زيهن وأنماط معيشتهن؛ ظنًّا
منهن أن الحرية إنما ألقت مراسيها عند الغربيات، وأنهن أي المسلمات محرومات
منها شرعًا. ولو تدبرن أمور دينهن، وبحثن في القوانين التي يتبعها الغرب،
لرأين أن نصيبهن من الحرية الحقيقية أوفر من نصيب الغربيات. ولا يخلبهن زي
الغربية وكثرة تجوالها في الشوارع والبلاد، فإنما حريتها هذه كمن يعطيك درهماً
ويأخذ منك دينارًا؛ لأن ركن الحرية الأقوى أن يكون الإنسان حرًّا في التصرف
بماله، حرًّا في معاشرة غيره. والإسلام يعطي هذه الحقوق للمرأة فضلاً عن أن
يبيح لها السفور والسفر، وإن كان مع الاشتراط.
كانت المرأة قبل ظهور الإسلام مزدرأة إلى الدرجة القصوى، ففي بلاد
العرب كانت تحسب كبعض أمتعة البيت، حتى أنها كانت تورث كما يورث العقار
والأنعام، وللوارث حق إبقائها لنفسه أو بيعها لمن يشاء، وكانوا يئدون بناتهم خشية
العار أو الفقر، وكان تعدد الزوجات فاشيًا فيهم بغير حد محدود، وكذلك كانت
الحال في بلاد الفرس وعند اليهود. هذا في الشرق، وأما في الغرب فلم تكن المرأة
بأسعد حظًّا، إذا كانت كمية مهملة عاطلة من التربية والتعلم معدودة كالبهيمة، حتى
إن مجامعهم المقدسة كانت تبحث في: هل للمرأة نفس كالرجل؟ وقام بينهم خلاف
شديد من أجل ذلك، وحتى لعب بعض مقامري الإنجليز بامرأته بعد أن خسر ماله.
انتهى بتصرف من كتاب الإسلام دين الفطرة لمؤلفه الأستاذ: عبد العزيز جاويش.
ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في:
(1) كل التكاليف الشرعية إلا النادر، وذكر القرآن المرأة بجانب الرجل
في كثير من آياته.
(2) في الحقوق المدنية؛ فللمرأة أن تبيع وتشتري، وتهب وتقف، وتعقد
ما شاءت من العقود بغير إذن أو سيطرة، مع أن قوانين الغرب لا تبيح للمرأة شيئًا
من ذلك، وتشترط أن يكون لرجل المرأة حق التصرف في أموالها بغير قيد ولا
سؤال. وقد ضايق هذا الأمر النساء هنالك، فهببن في بعض الممالك يطالبن بحقهن
فأعطينه ولكن اللاتي لم يطالبن لم يعطين شيئًا.
(3) يتضح من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يبيح للمرأة
حرية الرأي، فقد بايعه المؤمنات مع المؤمنين مرارًا، وإهمالنا هذا الأمر ليس
بدليل على أن الإسلام يحرمه كما تحرمه قوانين الغرب. ولا يزال يرن في آذاننا
صدى ضوضاء المطالبات بحق الانتخاب ووقوف النواب في وجوههن وإرجاعهن
بخفي حنين، وقد لقين من السجن والضرب عذابًا أليمًا.
(4) يبيح الإسلام للمرأة الراشدة أن تزوج نفسها بنفسها، وأن توكل من
شاءت في العقد.
(5) يعطي المرأة حق الطلاق إذا اشترطته في العقد. أما إذا لم تشترطه
هي أو وليها فكأنها تنازلت عنه لبعلها.
(6) ومن أعظم نعم الإسلام على الزوجين المتباغضين الطلاق. ولا حاجة
لبيان الشقاء المقيم إذا تعاشر الزوجان على غير ألفة، أو افترقا على غير إباحة
الزواج ثانية، أو أصيب أحدهما بما يكره الآخر معاشرته عليه؛ كالجنون أو
البرص أو غيره، ويرشد الدين الحنيف أن لا يستعمل الطلاق إلا في الضرورة
الشديدة، وقد حرمه بعض الأئمة إذا كان بلا سبب، قال ابن عابدين: (وأما
الطلاق فالأصل فيه الحظر أي الحرمة، والإباحة للحاجة إلى الخلاص فإذا كان بلا
سبب أصلاً لم يكن فيه حاجة إلى الخلاص، بل يكون حمقًا وسفاهة رأي، ومجرد
كفران النعمة وإخلاص الإيذاء بها وبأهلها وأولادها؛ ولذا قالوا: إن سببه الحاجة
إلى الخلاص عند تباين الأخلاق، وعروض البغضاء الموجبة عدم إقامة حدود الله
تعالى، فحيث تجرد عن الحاجة المبيحة له شرعًِا يبقى على أصله من الحظر؛
ولذا قال الله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} (النساء: 34) أي لا
تطلبوا الفراق) . اهـ. وقال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229) وقال أيضًا: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء: 19) وقال جل من قائل: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ
وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35)) ولم يقل:
إن يريدا طلاقًا؛ لأن الأصل في الزواج دوام العشرة، ولكن إذا لم يفلح الزوجان أو
أحدهما في إدامة العشرة فلا مناص من الطلاق. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
أبغض الحلال إلى الله الطلاق.
(7) يوجب الإسلام تعلم العلم على كل مسلم ومسلمة، وقد كانت نساء
النبي رضي الله عنهن يفتين الرجال والنساء، ويلقين عليهن دروس الحكمة ومكارم
الأخلاق، ولم يهمل تعليم النساء قط إلا بعد سقوط دولة العرب، وترك الناس تعليم
الدين الحنيف، ألم يشتهر النساء أيام العباسيين والأمويين بالعلم والفضل؛ حتى
برعن في الفقه والأدب والغناء بما لم يبق بعده زيادة المستزيد. ولم يكن تعلم العلم
مقصورًا على النبيلات منهن وبنات الخلافة، بل شمل الجواري والعامة.
(8) لو اتبع المسلمون دينهم كما يجب؛ لعلموا أن من فروض الكفاية أن
يكون من نسائهم لنسائهم من يكفي من المعلمات والطبيبات، حتى لا يحتجن لغير
النساء في أمس الأمور بهن كالتعليم والاستشفاء.
(9) يبيح الإسلام للمرأة السفور عند أمن الفتنة. والظاهر أن هذا السفور
هو الغاية التي يسعى إليها أكثر النساء الشرقيات الآن، ويتخذن تقليد الغربيات في
اللبس والمأكل وشكل المعيشة وسيلة إليه، ويزعمن أن ليس لهن من الحرية ما
لأخواتهن الغربيات، مع أن الإسلام لم يجعل علينا في الدين من حرج، وقد كانت
النساء يخرجن سافرات إلى أن عم الجهل، فمنع بعض الخاصة نساءهم من
الخروج، فصارت عادة قلدهم فيها غيرهم، وقد تغالى فيه بعضهم حتى كانت
المرأة لا فرق بينها وبين السجين، قال أبو الطيب المتنبي في رثاء أخت سيف
الدولة بعد قوله:
صلاة الله خالقنا حنوط ... على الوجه المكفن بالجمال
على المدفون قبل الترب صونًا ... وقبل اللحد في كرم الخلال
وقال في أخت سيف الدولة الأخرى رثاء أيضًا:
وهل رأيت عيون الإنس تدركها ... حتى حسدت عليها أعين الشهب
وعادة الحجاب ليست قاصرة على النساء فقط، فإن في صحراء أفريقية
الكبرى قبيلة اسمها قبيلة الملثمين، كل رجالها يضعون اللثام على وجوههم، ولا
تفعله نساؤهم.
(10) لم يبق بعد ذلك عند الغربيات أمر يفضلن به نساءنا إلا تحريم تعدد
الزوجات عند المسيحيات منهن (لأنه مباح عند اليهود) . ومن المسلمين من يحرم
التزوج بأكثر من واحدة، ولا يبيح الطلاق إلا إذا حكم به قاض يفصل في الدعوى،
فسلام على الإسلام، وسلام على حريته الحقة، وسلام على متبعيه حق الاتباع.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (باحثة البادية)
__________
(*) مقالة جديدة للأديبة المعروفة بلقب باحثة بالبادية.(14/308)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مذكرة عن أعمال
المبشرين المسيحيين في السودان
(أرسلها إلينا صديق عارف خبير عندما أسسنا جمعية الدعوة والإرشاد)
(1) ليس للمبشرين عمل في الجهة البحرية من فاشوده إلا في الخرطوم.
أما قبلي فاشوده، فلهم فيه أربع نقط على النيل الأبيض، وهي: تنجه والكنيسة وبور
والمنجلة، كما أن لهم مركزًا في واو عاصمة مديرية بحر الغزال، ولا يؤذن
لهم الآن في التبشير في غير العاصمة من هذه المديرية.
(2) إن الطريقة الوحيدة التي يعتمد عليها المبشرون في تنصير الأهالي
تنحصر في فتح المدارس التي يلقنون فيها أصول الدين المسيحي لأولاد الأهالي
الذين يدخلون تلك المدارس.
(3) يعتمد المبشرون في حمل الأهالي على إرسال أولادهم إلى مدارسهم
على الإحسان إلى الآباء والتودد إليهم. ففي واو مثلاً يعطون لآباء التلامذة 3
أرطال ذرة يوميًّا، كما يعطونهم أيضًا بعض الأقمشة أو بعض الحلي المستعملة
عندهم، ومن طرق الإحسان التي يستعملونها لهذه الغاية التطبيب، فهم يداوون
كثيرين من مرضى الأهالي الذين يكونون عن مقربة من مركزهم.
(4) يعلم المبشرون في مدارسهم أصول الدين المسيحي، والقراءة والكتابة
بلغة إفرنجية، ومبادئ العلوم الضرورية كالحساب، وعدا هذا فهم يقسمون التلاميذ
إلى جماعات يختص كل جماعة منهم بتعليم صنعة من الصناعات؛ كالتجارة
والحدادة والبناء.
فيبدءون عملهم بتشييد مسكن لهم وبجواره كنيسة ومدرسة، ثم يأخذون قطعة
أرض ويجرون فيها تجارب زراعية، والذين يعملون لهم فيها هم الأهالي
المجاورون لهم في مقابلة مكافأة تعطى لهم والتلامذة أنفسهم.
وقد يوجهون همتهم إلى تجارب في كل ما يظنونه يعود على الأهالي
والحكومة بالربح والرفاهية، فيربون النحل ويعملون له الخليات على الطرز
الأوربي، ويستخرجون منه الشمع إلى غير ذلك من التجارب على مقدار ما تسمح
به قوتهم المالية ومعارفهم العملية.
(5) إن أشد القبائل استعدادًا للتدين بما تدعى إليه هي قبائل النيام نيام.
هذه القبائل ليس لها تقاليد دينية تصدهم عن اعتناق أي دين يدعون إليه، ويقابل
هؤلاء في سهولة انقيادهم (الدنكا) في شدة تمسكهم بعوائدهم، وهؤلاء الدنكا لهم بعض
معتقدات دينية أذكر أن اللورد كرومر فصل بعضها في أحد تقاريره.
* * *
(مساعدة الحكومة للمبشرين)
إذا صرفنا النظر عما يحصل من بعض أفراد الموظفين الإنكليز، ونظرنا
إلى أعمال الحكومة العمومية وإلى أعمال الأكثرين من رجالها، صح لنا أن نصف
الحكومة السودانية بالنزاهة في هذا الباب. بل إن الحكمة قد تفعل أحيانًا ما لا
يرضي المتعصبين من المسيحيين. ففي بحر الغزال وغيره من البلاد الوثنية
تحتفل الحكومة بالأعياد الإسلامية احتفالاً شائقًا تدعو إليه مشايخ القبائل ورجال
قبائلهم، كما أنها تبطل يوم الجمعة أشغالها، وفي رمضان لا تشتغل بعد الظهر،
ولعل هذا بعض ما دعا أحد زعماء المرسلين الأمريكان إلى لوم الإنكليز في خطبة
ألقاها في العام الماضي.
على أني قد شعرت في آخر الأمر بأن الحكومة تريد أن تظهر مجاملتها
لهؤلاء المبشرين، فقد ساعد أحد مديريها إحدى الإرساليات على إحضار أولاد
الأهالي إلى مدارسها بنفوذ الحكومة.
عرفت ذلك من مصدر يوثق به، ولكن لست أدري هل كان هذا العمل بناء
على رغبة المدير خاصة أم رغبة الحكومة الرئيسية؟ والحكومة تمنع الآن
المرسلين من التبشير في داخل بحر الغزال، ولكن سبب هذا المنع إداري محض.
فالحكومة تستعمل الأهالي في حمل بضائعها، وفي حمل عفش ضباطها
ومستخدميها، فهي تخشى من أقلام المبشرين إذا اطلعوا على هذه الحقيقة،
خصوصًا إذا شاهدوها بأعينهم.
(مقدار نجاح المبشرين في مهمتهم)
(7) للآن لم ينجح المبشرون في عملهم، وعدم نجاحهم هذا قد يغر قصار
النظر من المسلمين فيجزمون بعدم نجاحهم في المستقبل، ولكن المرجح عندي أنه
إذا طال زمن إهمال المسلمين، فالمبشرون ناجحون في المستقبل. أتاحت لي
المصادفة مقابلة بعض أهالي أوغندا واستطلعت منهم حالة بلادهم، ففهمت منهم أن
البلاد صارت مسيحية أو كادت؛ وذلك للمجهودات التي يبذلها المبشرون، حتى لقد
نشروا كتبهم المقدسة كلها هناك مترجمة بلغة الأوغنديين، ومكتوبة بحروف
إنكليزية؛ يعني أن القارئ يقرأ كتابة انكليزية، ولكنه ينطق بكلمات أوغندية.
لست أجهل أن هناك بعض عبارات تستوجب وجود الصعوبات في سبيل
هؤلاء المبشرين في السودان المصري مثل: وجود العساكر السودانية المسلمين بين
هؤلاء الوثنيين، وأن هذه الأصقاع هي مجال واسع لتجار السودان وغيرهم من
المسلمين، ولكن المتأمل في طريقة هؤلاء المبشرين في تنصير الأهالي، لا يسعه
مع علمه بكل هذا إلا الحكم بترجيح نجاحهم، وإلا فما هي قوة هؤلاء الأطفال الذين
يلقى بهم بين أيدي هؤلاء المبشرين، الذين يلقنونهم أصول الدين المسيحي كأنها
حقائق لا نزاع فيها؟ أليس الأجدر بالمتأمل أن يحكم بأن هؤلاء الأطفال يصيرون
رجالاً مسيحيين كالمسيحيين المولودين من أبوين مسيحيين؛ لأن ما يتلقاه هؤلاء
الأطفال من أصول الدين المسيحي لا يجد له مزاحمًا ولا معارضًا في نفوسهم
فيزعزعه، كما أنه ليس هناك رجال دين آخر يبثون أصول دينهم في نفوسهم كي
تغالب ما ألقي إليهم.
__________(14/311)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(سمير الليالي)
جمع أمين أفندي صوفي السكري من أدباء طرابلس الشام مسائل وفوائد كثيرة
من الكتب والصحف التي طالعها، فكانت كتابًا كبيرًا يدخل في بضعة أجزاء. وقد
طبع الجزء الأول منه في 1327 على نفقة الشيخ عبد الله الرفاعي الكتبي في
طرابلس وهي الطبعة الثانية له. وهذا الجزء زهاء مئتي صفحة، أكثرها في
جغرافية المملكة العثمانية، وأقلها في جغرافية الممالك الأوربية، فيجد قارئه كلامًا
مفصلاً في وصف الولايات العثمانية لا يجده في غيره من الكتب العربية المتداولة،
وليت المؤلف وقد أضاف إلى هذه الطبعة فوائد كثيرة لو صحح ما فيه من الإحصاء
بمراجعة الإحصاءات الأخيرة، فهو يذكر أن مسلمي مصر تسعة ملايين؛ أخذًا من
إحصاء سنة 1897 م وهم في إحصاء 1907 زهاء 11 مليونًا، وذكر أن نفوس
السودان المصري 11 مليونًا، ولعله يعد من السودان المصري جميع ما انفصل منه
حتى زيلع ومصوع، كما هو مقتضى سياسة الدولة العلية، ثم إنه لم يلتفت إلى
ما حل به من الأوبئة والحروب. وإنني لم أراجع من الكتاب إلا إحصاء المسلمين،
فنبهت إليه وإلى سببه؛ لئلا يكون منفرًا عن الكتاب صادًّا عن فوائده، وأهمها
وصف الولايات العثمانية. والكتاب يطلب من المكتبة الرفاعية بطرابلس الشام.
* * *
(كتاب النصائح الكافية والردود عليه والانتصار له)
يتذكر القراء أنه ذكر في المنار كتاب (النصائح الكافية لمن يتولى معاوية)
للسيد محمد بن عقيل المقيم في سنغافورة، الذي أحدث عند طبعه وانتشاره ضجة
عظيمة، فأعجب به جماهير العلويين في الأقطار المختلفة، وأنكره آخرون وعدوه
ميلاً عن السنة إلى التشيع، ورد عليه بعض وانتصر له بعض.
أما السيد محمد بن عقيل فهو رجل سني من حزب المصلحين حسن النية وقد
كان كتب إليّ بعزمه على تأليف كتاب، يجمع فيه ما ورد في كتب المحدثين
والمؤرخين من جرح معاوية بن أبي سفيان، وتخطئته في خروجه على أمير
المؤمنين علي كرم الله وجهه، وما تبع ذلك من الفتن والسيئات، وكان الذي وجه
عزمه إلى ذلك خلاف وقع في مسألة جواز لعن معاوية وعدم جوازه، واستفتيت
يومئذ في الواقعة وأفتيت بعدم اللعن، فكتب إليّ هذا الصديق أنه مخالف لي في هذه
الفتوى، وأنه سيبين حجته في هذا الكتاب الذي توجه إلى تأليفه، فكتبت إليه يومئذ
بأنه لا ضير في مخالفته إياي، ولكنني أرى أن يترك وضع هذا الكتاب لما يترتب
عليه، إذا وضع بهذا السبب وبعد هذا الخلاف من القيل والقال، واتباع الهوى في
التفرق والخلاف، فلم يقتنع بصحة رأيي، وقد ظهر له صدقه بعد ذلك، ولكنه لا
يزال يرى أن نفع الكتاب أرجح من ضرر ما كان من الخلاف.
* * *
(الرقية الشافية)
كان أول من غلا في التشنيع على كتاب (النصائح الكافية) رجل من
العلويين اسمه السيد حسن بن شهاب، يظهر لي أنه كان يحسد السيد محمد بن عقيل
على ما آتاه الله من المكانة العلمية الأدبية في قومهم (الحضارمة) ، وغير قومهم
في مهاجرهم (سنغافورة) وغيرها، فأراد وقد سنحت له الفرصة أن يرفع من قدر
نفسه، ويضع من قدر محسوده، فألف رسالة سماها (الرقية الشافية من نفثات
سموم النصائح الكافية) وصار يكتب إلى من يعرف من علماء الأقطار يستنجدهم
بحماسة وشدة؛ للرد على هذا الكتاب، وقد كتب إليّ بإمضائه وغير إمضائه في
ذلك.
كان من رأيي - وأنا شديد الحرص على التأليف بين المسلمين، شديد النفور من
الخلاف والتفرق - أن لا أقرأ كتاب (النصائح الكافية) حتى لا أحكم له ولا عليه،
فلم أنجد ابن شهاب وحزبه فيما استنجدوني فيه، فاتخذوني عدوًّا لأجل ذلك، وما زال
أهل الأهواء يحدثون العداوة بين المسلمين؛ بمعاداة من لا يتبع أهواءهم ولا يعدل
آراءهم.
وقد رد على كتاب الرقية الشيخ أبو بكر بن شهاب المدرس بمدرسة دار
العلوم بحيدر آباد الدكن، وهو أشهر علماء الحضارمة في هذا العصر بكتاب سماه
(وجوب الحمية عن مضار الرقية) قرأت عدة مباحث منه، فظهر لي تهافت حسن
بن شهاب وضعفه، وأن الجهل وحده لا يهبط بصاحبه إلى مثل تلك الشتائم
والدعاوى والتمويهات لولا مساعدة الحسد واتباع الهوى، وأين السيد حسن بن
شهاب من السيد محمد بن عقيل.
وأين الثريا وأين الثرى ... وأين معاوية من علي
* * *
(نقد النصائح الكافية)
يظهر لك الفرق بين من يكتب ما يمليه عليه الهوى، ومن يكتب ما يمليه
عليه العلم والهدى، إذا قابلت بين ما كتبه السيد حسن بن شهاب وما كتبه الشيخ
جمال الدين القاسمي الدمشقي، فقد كتب رسالة سماها (نقد النصائح الكافية) ، انتقد
بها النصائح معتصمًا بحبوة الأدب، متحليًا بحلية الثناء على المؤلف والاعتراف
بفضله، وكان الإمام مالك رحمه الله تعالى، يقول: كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد
عليه إلا صاحب هذا القبر. ويشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
قسم القاسمي نقده إلى مقدمة و 14 مبحثًا وخاتمة، أكثرها في مسائل علمية؛
في أصول الفقه، وأصول الحديث والمناظرة والأحكام التي تتعلق بموضوع الكتاب؛
ككون التفسيق والتضليل لا يكون إلا بمجمع عليه، وكون أخوة الإيمان لا ترتفع
بالمعاصي، ومنها ما يتعلق بمعاوية خاصة؛ ككون الوقيعة فيه تستلزم رفض
مرويه ومروي من من أقام معه من الصحب (وهذا غير مسلم على إطلاقه) ،
وكونه بلغ رتبة الاجتهاد (وما كل مجتهد يعمل دائمًا بما أداه اجتهاده إلى كونه هو
الحق، وإلا لزم أن يكون كل مجتهد معصومًا من المعصية عامدًا عالمًا) .
ومن مباحثه أن من عدل المؤلف إذا ذكر لأحد ما عليه أن يشفعه بماله. أي
والعكس، ولا نزاع في هذا إذا أريد بالمؤلف المؤرخ والمحدث الذي يحكم بالجرح
والتعديل، ويريد أن يبين حال من يترجمه لمن يقرأ كتابه. وقد يكون لبعض
المؤلفين غرض من ذكر ما للمرء فقط أو ما عليه فقط؛ كتحقيق مسألة معينة أو
العبرة ببعض الخطآت والخطيئات، أو التأسي ببعض المناقب والحسنات، وقد
جمع صديقنا الناقد أحسن ما قيل في معاوية من الحقائق ومن الشعريات، ولم يذكر
في مقابلتها ما عليه، وما نكب به الإسلام والمسلمون على يديه، فإن كان غرضه
من هذا البحث أن ابن عقيل قد قصر؛ إذ ترك أحد الشقين، فهذا مشترك الإلزام؛
لأنه هو قد قصر أيضًا بترك الشق الآخر، والصواب أن كل واحد منهما قد ذكر ما
يرمي إلى غرضه.
وجملة القول أن كل واحد من الكاتبين في هذه المسألة وغيرها يؤخذ من
كلامه ويترك، ويقبل منه ويرفض، وليس من غرضنا تحرير المسألة بما يصل
إليه اجتهادنا، وإنما نود لو يكون كل ناقد كالقاسمي في أدبه وإخلاصه وتحريه ما
يرى أنه الأنفع للناس، فما فرق كلمة المسلمين إلا أهل الجدل والمراء بالهوى.
__________(14/313)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جماعة الدعوة والإرشاد
طلع الصباح وبرح الخفاء، وعلم الخاص والعام أن جماعة الدعوة والإرشاد
ليس لها مقصد سياسي؛ لأن الجمعيات السياسية لا تكون جهرية عمومية، يقبل
فيها كل من أراد أن يدخل فيها بحسب قانونها. وهذه هي الحجة التي دحضت كل
شبهة حتى من نفوس الأحداث، وعوام الناس الذين هم أتباع كل ناعق، لا يفرقون
بين معقول وغير معقول.
قد يصدق الواحد من هؤلاء أنه يمكن إنشاء مدرسة لإنشاء دولة، وهو ما لا
يصدقه العاقل المفكر الذي يميز بين الممكن والمحال من الأمور العادية، فإذ قيل له:
إن هذه المدرسة ليست لشخص معين ولا لأفراد معينين، وإنما هي لجماعة مكونة من
كل من يدفع ثلاثة جنيهات في السنة؛ لمقصد الجمعية العلني المجرد من السياسة،
وهؤلاء هم أصحاب الرأي في هذه الجماعة، فلهم أن يعزلوا جميع أعضاء مجلس
الإدارة ويولوا غيرهم، فهل تصدق أو تعقل أن يسمح أصحاب المقصد السياسي
الخطير بدخول كل من شاء في عملهم، وجعله من أصحاب الرأي والنفوذ فيه، وأن
يكون له إخراجهم من مجلس إدارته وتوسيد أمر الإدارة إلى من شاءوا؟ لقال من يقال
له هذا القول: إن هذا لا يصدق ولا يعقل، فمن يتوهم بعد ظهور نظام جماعة الدعوة
والإرشاد أن لمن أسسوه غرضًا سياسيًّا فهو منسلخ من العقل، قد استهواه شيطان
الوهم، ولا قيمة لتوهم مثله ولا لقوله، ولا لرضاه ولا لسخطه، ومن أظهر آيات
الجهل والانحطاط أن يوجد في المخلوقين بصورة البشر من يصدق الطعن في مثل هذا
العمل، حتى يحتاج إلى الدفاع عنه.
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
***
(الاشتراك في جماعة الدعوة والإرشاد)
علم كل من قرأ النظام السياسي لهذه الجماعة أن من اشترك فيها بثلاثة
جنيهات فأكثر في السنة ودفعها، يكون من أعضاء الهيئة العامة فيها الذين لهم حق
الانتخاب والمراقبة على أعضاء مجلس الإدارة. ونزيدهم علمًا بأن قيمة الاشتراك
يجوز أن تدفع أقساطًا كما يشاء المشترك. ومن يشترك بأقل من ثلاثة جنيهات في
السنة، يعد عضوًا من أعضاء الجمعية المعاونين، ولا يكون له حقوق أعضاء
الهيئة العامة.
وكل من دفع للجماعة شيئًا من المال على سبيل التبرع أو على سبيل
الاشتراك، يعطى وصلاً مطبوعًا مختومًا بخاتم الجماعة وخاتم رئيسها أو وكيلها
(وقسائم الوصول المستعملة الآن مختومة بخاتم الوكيل) ويزاد على ذلك توقيع
المتسلم الذي يقبض النقود، وتوجد الآن دفاتر قسائم للتبرعات وللاشتراكات بيد
الوكيل (صاحب هذه المجلة) وسائر الدفاتر بيد أمين الصندوق محمود بك أنيس،
وقد أذن مجلس الإدارة لكل منهما بالقبض. ومتى تألفت اللجان تعطى قسائم
أخرى، ويعلن ذلك في الجرائد.
***
(جمعية الرابطة الإسلامية)
كانت شبهة الشيخ عبد العزيز جاويش إذ طعن في مشروع الدعوة والإرشاد
في بدء السعي؛ لتكوينه أنه عمل سري لا يعرف أعضاؤه ولا قانونه. وقد راجت
هذه الشبهة في سوق من لا يميزون بين الشبهة والحجة، ولا بين البرهان
والسفسطة، إلى أن ظهر قانون الجماعة، وعرف أعضاؤها. ثم علمنا أن للشيخ
عبد العزيز جاويش جمعية اسمها جمعية الرابطة الإسلامية، ينشر دعوتها في
تلاميذ المدارس المصرية، وتجبى نقودها منهم في كل شهر، ولا يعرف لها قانون،
ولا أعضاء، ولا أمين صندوق، فما هو مقصدها وأين تذهب الأموال التي
تجبى لها؟ وكيف يكلف أولئك التلاميذ بذل أموالهم، وهم لا يعلمون أين تذهب تلك
الأموال ولا على أي شيء تنفق؟ ومن أعطى منهم ما فرض عليه في كل شهر لا
يعطى وصولاً موقعًا باسم أحد ولا يختمه، وإنما يعطى ورقة صغيرة كبطاقة الثوب
عليها خاتم الجمعية، فإذا كان هذا المال يجبى لغرض صحيح شرعي، فلماذا
يستخفي مؤسس الجمعية به (إن كان هنالك جمعية) ؟ ولماذا جعل موردها خاصًّا
بالولدان الذين يسهل أن يقادوا إلى حيث لا يعلمون، دون الرجال الذين يبحثون
ويحاسبون؟ ولماذا يجعل نفسه غير مسؤول عما يأخذه من المال بعدم إمضاء
الأوراق والبطائق على الأقل؟ فعسى أن تكشف للجمهور هذه الغوامض.
* * *
(الماسون في جمعية الاتحاد ومجلة دين ومعيشت)
ذكر في الجزء الأول من هذه السنة أن زعماء جمعية الاتحاد والترقي
المشهورين من الماسون، وأن الماسونية قد راجت بسعيهم، وأنهم أسسوا لها شرقًا
عثمانيًّا رئيسه طلعت بك الذي كان ناظر الداخلية، وهو الآن رئيس فرقة الاتحاد
والترقي في مجلس المبعوثين، وتمنينا لو يكون تصرف طلعت بك في الماسونية
أحسن من تصرفه السيء في نظارة الداخلية، وأشرنا عن بعد إلى ما في رواج
الماسونية في رجال هذه الدولة الإسلامية من الخطر، ولم نشأ أن نشرح ذلك؛ لئلا
يلصق الناس عمل طلعت بك وأوليائه من زعماء جمعيته بالدولة العلية بسوء فهم أو
سوء نية؛ لما لهم من النفوذ في الحكومة الحاضرة.
وقد ترجمت مجلة (دين ومعيشت) الروسية ما كتبناه، وزادت عليه بسوء
النية أو سوء الفهم - الله أعلم - أن أركان الدولة والقائمين بأعمالها (جميعًا من
الخفير إلى السلطان) ماسونيون، وجعلت الماسونية في رجال الدولة مفضية إلى
هدم الدولة الإسلامية وتأسيس دولة ماسونية، وأظهرت الريب في خبرنا، وتكهنت
في استنباط الباعث عليه، وذكرت احتمال أن يكون غليان الدم العربي والعصبية
الجاهلية، ثم ذكرت ما يرد هذه التهمة التي لا موجب لذكرها مع حسن النية بقولها:
(إنها مخالفة لمسلكه وخطته وهو الجامعة الإسلامية) ثم قالت ما ترجمته:
فإن كان في أعضاء الاتحاد والترقي وعلى الأخص طلعت بك حمية إسلامية،
فليردوا وليكذبوا أقوال المنار، وإن سكتوا يكون المنار صادقًا بالطبع.
(المنار)
إننا نبادل مجلة دين ومعيشت، وإن كنا لا نقرأها ولا نعرف لغتها؛ لما في
المبادلة بين أرباب الصحف من الفوائد والصلة المعنوية باستمداد بعضهم من بعض،
كما نبادل الجرائد الهندية لأجل ذلك.
وقد ذكر لنا بعض أصحابنا وتلاميذنا الروسيين بعض تهافت هذه المجلة في
المسائل الدينية، والرد على المنار في بعضها، وأن غايتها تعويق إخواننا مسلمي
التتار عن الترقي المدني والديني، ولم نكن نرى أن هذه المجلة مما يعنى بالرد
عليها؛ لأن وجود مثلها في هذا العصر مما تقتضيه طبيعة الاجتماع، وصدها
المسلمين عن الترقي، ومحاولتها إبقاءهم على الجمود، وحبسهم في مضيق أوهام
بعض المؤلفين في القرون المتوسطة والأخيرة المظلمة، لا يخلو من فائدة؛ لأن من
طباع البشر أن ينقسموا في كل أمر عام يدخلون فيه إلى ثلاثة أقسام: قسم يغلو في
طلب الانسلاخ من القديم والإيغال في الجديد؛ وهم أهل الإفراط. وقسم يغلو في
مقاومة كل جديد والمحافظة على كل قديم؛ وهم أهل التفريط. وقسم يسددون
ويقاربون، فيهدون إلى ترك الضار من القديم واقتباس النافع من الجديد بالتدريج؛
وهم الأمة الوسط. ومجلة دين ومعيشت لسان حال أهل التفريط في مسلمي روسية،
وفائدتها مقاومة أهل الإفراط؛ ليكون كل منهما ممهدًا لأهل العدل والاعتدال فيما
يدعون إليه من الأمر الوسط الذي هو خير الأمور.
كنا نظن أن أصحاب هذه المجلة يكتبون ما يكتبون من خطأ وصواب بحسن
النية، ولكن لم يظهر لنا شيء من حسن النية في خوضهم بذكر مسألة العصبية
الجاهلية، وهم يعلمون أنهم لا يقدرون أن يجمعوا من كل ما عرفوه من الكتب
والصحف في إنكار هذه العصبية والتشنيع على أهلها مقدار ما يوجد في مجلد
واحد من مجلدات المنار الأربعة عشر، ولا في إيهامهم قراء مجلتهم أننا قلنا: إن
رجال الدولة كلهم من الماسون من السلطان إلى الخفير (سبحانك هذا بهتان عظيم)
وإنما عزونا ذلك إلى بعض زعماء الجمعية، ونعني بهم طلعت بك ورحمي بك
وناظم بك وجاويد بك وجاهد بك وأضرابهم.
ما أجهل أصحاب هذه المجلة بأحوال الآستانة وتلك الجمعية؛ إذ اقترحوا على
طلعت بك تكذيب المنار، قد يسهل على طلعت بك أن يكذب الصحف فيما هي
صادقة فيه من الأمور التي لا يعرفها كل أحد في العاصمة، كما كذب وقوع الشقاق
في حزب الاتحاد والترقي أخيرًا، ثم عرف عالم المدنية كله أن ذلك حق لا ريب
فيه، ولكن لا يسهل عليه أن يكذب خبر المنار في مسألة الماسونية؛ لأنه أشهر من
نار على علم؛ ولأن طلعت لا يرى رأي أصحاب تلك المجلة في وجوب البراءة
من الماسونية.
قالوا: إذا لم يكذب طلعت بك أو جمعيته المنار في هذا الخبر، تعين أن
يكون صادقًا، فها هم أولاء لم يكذبوه، بل قد صدقه طلاب الإصلاح منهم
المقاومون لأولئك الزعماء، فقرروا إبطال المحافل الماسونية من العاصمة، فما
يقول أصحاب (دين ومعيشت) بعد هذا؟ ألا فليعلم أصحاب هذه المجلة أن
صاحب المنار مسلم، قد ربى نفسه على الصدق، حتى كان في أيام طلب العلم
يقول لأشد إخوانه صحبة له: إذا حفظت علي كذبة واحدة في جد أو هزل، فلك
حكمك في {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} (النساء: 9) ولا يكونوا ممن قيل
فيه:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
* * *
(دار السلطنة)
يحسب الناس للفتن الداخلية في دار السلطنة حسابًا، ويظنون أن زعماء
جمعية الاتحاد والترقي الذين غُلبوا على زعامتهم بفوز المصلحين بمطالبهم العشرة،
لا بد أن يجمعوا كيدهم، ويكروا على المخالفين لهم كرة شديدة بدعوة حماية
الدستور مما يسمونه الارتجاع. أما نحن، فنرجو أن تكون هذه العاصمة آمن ما
كانت من الفتن الداخلية، وأبعد عن المخاوف الاستبدادية والارتجاعية، ذلك بأن
زعماء جمعية الاتحاد والترقي المغلوبين على زعامتهم ومقاصدهم، أولو ذكاء وفهم،
واستفادوا بمصارعة الحوادث وتكرار التجارب خبرة وعبرة، فلا بد أن يكونوا قد
عرفوا خطأهم كله أو بعضه، وأقله أن يكونوا قد اعتقدوا أن دولة عريقة في
الإسلام وارثة لمقام الخلافة الإسلامية، لا يمكن أن تدور رحاها على قطب
الماسونية، وأن العناصر العثمانية لا يمكن إدغامها في العنصر التركي. وإنما
الممكن هو ائتلافها معه بإقامة الدستور، فإن لم يكونوا قد علموا هذين الأمرين،
فهم يعلمون أن إخوانهم الذين قاموا بأمر الإصلاح في حزب الجمعية وأنصارهم
والموافقين لرأيهم من الضباط وغيرهم، لا يمكن اتهامهم بمقاومة الدستور، إذا
وكل الأمر إلى جاهد بك، فهو لا يخجل من اتهام صادق بك أبي الدستور ومثل
طاهر بك المبعوث بالارتجاع، وقد علم القراء أن صادق بك أبو الدستور،
وليعلموا أيضًا أن طاهر بك هذا هو صاحب العدد الأول (برنجى نومرو) في
جمعية الاتحاد والترقي، ولكن رحمي بك ذا الروية والأدب العالي، والدكتور ناظم
بك ذا الدهاء والتدبير الدقيق، وطلعت بك وجاويد بك صاحبي الذكاء والفطنة؛
هؤلاء الرؤساء العاملون لا يقدمون على ما يقدم عليه مثل جاهد بك ولا نظن فيهم
أنهم يرضون بتعريض الدولة للخطر؛ لأجل استعادة زعامتهم والإصرار على
مقاصدهم، فالعاصمة في أمان، والدستور على أحسن ما كان إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(14/316)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقدمة مقالات المسلمون والقبط
اقترح علينا أن نطبع مقالات (المسلمون والقبط) في كتاب على حدتها؛
ليسهل تعميم الذكرى بها، ففعلنا وجعلنا لها هذه المقدمة.
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا
آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت: 46) .
الإسلام دين الرحمة والعدل، والعلم والعقل. فأما حكومته الإسلامية المحضة
كحكومة الخلفاء الراشدين، ومن كان أقرب إلى سيرتهم كعمر بن عبد العزيز
وصلاح الدين، فهي حكومة لم ير البشر لها مثالاً بأعينهم، ولا في تواريخ من قبلهم
في الجمع بين الرحمة والعدل وحرية الدين والعلم والعمل لمن فتح المسلمون
بلادهم.
وأما حكومات من دون أولئك الكملة من المسلمين التي نشكو نحن من بعض
ملوكها ونصفهم بالظلم، فقد كان ظلمهم وشرهم فيها دون ما عرف من ظلم غيرهم
من فاتحي الملل الأخرى، ولهذا انقرضت جميع الملل والأديان من البلاد التي غلب
النصارى أهلها كأوربة، وبقيت الملل والمذاهب في الممالك التي فتحها المسلمون
إلى هذا الزمن الذي تغيرت فيه طبيعة العمران، وصار من المتعذر على الأقوياء
إكراه أهل الدين على ترك دينهم بالقوة القاهرة، أو إبادتهم كما عامل مسيحيو
أوربة الوثنيين في عامة البلاد والمسلمين في الأندلس وفرنسة.
كان المسلمون في كل أيام قوتهم وسلطانهم، ينوطون الكثير من أعمال
حكومتهم بغيرهم من أهل البلاد التي فتحوها، مع السماح لهم بأن يتحاكموا إلى
رؤسائهم في جميع القضايا التي لا يحبون أن يتحاكموا فيها إلى المسلمين، فكان لهم
حكومة خاصة بهم في البلاد الإسلامية وحكومة مشتركة بينهم وبين المسلمين. كل
هذا من فضل الإسلام وتسامحه، ولا يزال يعترف بذلك المخالفون لنا: بعضهم
يعترف به عملاً باستقلال فكره واحترام اعتقاده [1] ، وبعضهم لإقامة الحجة علينا
في بعض الأوقات كما وقع من بعض القبط في هذه الأيام.
وكان المسلمون يبذلون المعاملة الحسنى لمن يدخل بلادهم من المخالفين،
ويعبرون عنهم بالمعاهدين والمستأمنين، ويعبرون عن الداخلين في حكمهم بأهل
الذمة؛ أي الذين حفظت حقوقهم بذمة الإسلام، والوصايا النبوية بالجميع كثيرة
مشهورة.
لولا الدين الإسلامي لما عرفت العرب الفاتحة تلك الرحمة والعدل والتسامح
التي هي زينة التاريخ، فللدين الإسلامي الفضل في ذلك، ولم تكن تلك القسوة من
الأوربيين (ولا سيما في أسبانية التي جعلها المسلمون جنة أوربة) خالية من حجة
دينية لرؤساء الدين، فإنهم كانوا يرجعون إلى التوراة التي هي أصل المسيحية في
مثل هذه الأحكام دون ظواهر بعض نصوص الإنجيل في الرحمة.
جاء في الفصل العشرين من سفر تثنية الاشتراع (10 حين تقرب من مدينة
لكي تحاربها استدعها إلى الصلح 11 فإن أجابتك إلى الصلح، وفتحت لك، فكل
الشعب الذي فيها يكون للتسخير ويستعبد لك 12 وإذا لم تسالمك بل عملت معك
حربًا فحاصرها 13 وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد
السيف 14 وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها فتغتنمها
لنفسك، وتأكل غنمية أعدائك التي أعطاك الرب إلهك 15 هكذا تفعل بجميع المدن
البعيدة عنك جدًّا، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم 16 وأما مدن هؤلاء الشعوب
التي يعطيك الرب إلهك نصيبك، فلا تستبق منها نسمة ما) .
ههنا تأمرهم التوراة بإبادة جميع الأحياء المغلوبة حتى النساء والأطفال والبهائم، وفي الفصل 33 من سفر العدد الأمر بطرد سكان الأرض التي يقدرون عليها، حتى
لا يبقى منهم أحد. كأن هؤلاء هم الذين يعجزون عن إبادتهم بالسيف. كل ما سمح به
المسلمون ومنحوه لغيرهم في أيام قوتهم فضلاً وإحسانًا صار في أيام ضعفهم حقوقًا
وامتيازات للأقوياء من الأجانب، يميزون به أنفسهم على المسلمين في ديارهم،
ويؤيدونه بالقوة ولا يعدونه فضلاً للمسلمين، ولا تسامحًا من الإسلام.
هذا شأنهم فيما بقي للمسلمين من البلاد، وأما ما أخذوه من المسلمين فصار
ملكًا لهم أو جعلوه تحت حمايتهم، فلم يبقوا لهم شيئًا فيه من النفوذ ولا المشاركة في
السلطة ولا الحرية. ولكنهم أبقوا في بعض البلاد أشباحًا، حفظوا لها لقبها الأول،
وجعلوها رقية لنفوس العامة الجاهلة، حتى لا يشعروا بأنهم فقدوا ملكهم كما تشعر
الخاصة التي تسهل مراقبتها والسيطرة عليها، وليس لأمير منهم ولا سلطان ولا
نواب أن يستقل بالأمر في شيء ما.
ومنهم من لا يسمح له أن ينظر في ورقة ترسل إليه ولو من أقاربه إلا بعد
أن يقرأها الرقيب الأجنبي السائد على بلاده أو الحامي لها، ولا أن يجتمع بأحد
قريب ولا غريب إلا بحضرة الرقيب، وناهيك بتصرفهم في الأموال والأوقاف
والمساجد في بعض تلك البلاد.
ليس هذا بعجيب ولا غريب، فإن للقوة أن تتحكم في الضعف كما تشاء.
ولكن العجيب الغريب هو ما جرى عليه قبط مصر في هذه السنين الأخيرة، وما
وصلوا إليه في هذا العام من استضعاف المسلمين أشد من استضعاف الدول الكبرى
لهم.
أحسن المسلمون معاملة القبط من عهد الفتح إلى هذا اليوم إحسانًا لم يروا
هم ولا غيرهم مثله من فاتح قط، حتى إنهم على شكواهم من المسلمين في هذه
الأيام يقولون بألسنتهم ويكتبون بأيديهم: أن عمال الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، قد
جعلوا كل أعمال الحكومة في أيديهم، وأنهم كانوا كذلك في عهد محمد علي باشا
ومن بعده، وأن أكثرها لا يزال في أيديهم، ثم أنهم الآن يدعون أنهم مهضومو
الحقوق؛ لأنهم محرومون من بعض الوظائف العالية التي هم أحق بها وأهلها، وأن
المسلمين ممتازون عليهم بها وبأمور أخرى؛ كتعليم الدين الإسلامي في المدارس،
وترك الحكومة العمل يوم الجمعة، وإنفاقها على المحاكم الشريعة. فيطلبون أن لا
يكون للمسلمين مزية ما في الحكومة الخديوية؛ لأنها في رأيهم ليست حكومة
إسلامية، وإنما هي حكومة مصرية فهم أحق بها؛ لأنهم أعرق في الجنسية
المصرية من سائر المصريين، فما هو في أيديهم منها يجب أن يبقى لهم؛ لأنهم
أخذوه بحق. وما بقي في أيدي المسلمين يجب أن يشاركوهم فيه؛ لأنهم احتكروه
بغير حق. وهذا الذي بقي في أيدي المسلمين من الوظائف هو منصب المديرية
ومأمورية المركز.
سمحت لهم الحكومة بتعليم دينهم في مدارسها، وهو ما لم تعمله حكومة في
أوربة ولا غيرها، فإذا جعلت يوم عيدهم الأسبوعي الديني (الأحد) شعارًا لها في
ترك العمل، وجعلت منهم مديرين ومأموري مراكز؛ عملاً بهذه الحجة التي يدلون
بها وهي أنها ليست إسلامية، فإنه يخشى أن يترتب على ذلك ما تخشى مغبته
وتسوء عاقبته من تعرض السلطان للدخول في ذلك باسم الخلافة، ومن مطالبة
المسلمين للحكومة برفع سيطرتها عن محاكمهم الشرعية، وأوقافهم ومعاهدهم
الدينية. ومن تهيج مسلمي الهند على الحكومة الإنكليزية إذا اعتقدوا أنها هي التي
أزالت الصبغة الدينية من حكومة مصر التي هي سياج البلاد المقدسة ومدخلها؛
ولذلك استنكر رجال الاحتلال مطالب القبط مع عطفهم الديني عليهم، كما استنكرتها
الحكومة.
أما مسلمو مصر وهم السواد الأعظم من أهلها، فكانوا غافلين عن سعي القبط
وتعصبهم غير مبالين به؛ لأنهم مغرورون بكثرتهم، وإن كانت كثرة تشبه القلة أو
تضعف عنها؛ لتخاذلهم وانحلال الرابطة التي توحد بينهم. وهذا هو الذي أطمع
القبط، فظنوا أنهم ينالون كل ما يطلبون من جعل السيادة في هذه الحكومة خالصة
لهم من دون المسلمين. ولا أضرب لهم المثل الذي ضربه لهم بعض الناس (لا
تطعم العبد الكراع فيطمع في الذراع) بل أقول: هذا شأن الأقوياء بالاتحاد مع
الضعفاء بالتفرق والانقسام.
رأت القبط أن تهاجم المسلمين من أضعف جانب فيهم، وهو رميهم بالتعصب
الديني وبغض القبط وسائر المسيحيين، وظلمهم وهضم حقوقهم، واتباع خلفهم في
ذلك إثر سلفهم.
جردوا هذا السلاح في وجوه المسلمين، فذعروا وصبروا على ما لم يتعودوا
من إهانة القبط لهم جهرًا بما ينشر في الجرائد، فقالت القبط: إنهم ماتوا فلا خوف
من مدافعتهم، فلتظهر وحدتنا في مطالبنا وقد فعلوا.
ألف المؤتمر القبطي فحضره 1150 مندوبًا عن القبط، يحملون 10500
توكيلاً عن إخوانهم في القطر المصري كله، وافتتح المؤتمر مطران أسيوط التي
سماها بعضهم عاصمة القبط، فأحدث هذا المؤتمر دويًّا في مصر أيقظ المسلمين
ودعاهم إلى تأليف مؤتمر مصري حقيقي؛ للنظر في الحال الاجتماعية العامة،
وتمحيص مطالب القبط وتحسين أمور المسلمين أو المصريين.
ما كان يخطر في بال القبط أن المسلمين يتجرءون على عقد مؤتمر لهم، ولا
أن الحكومة تسمح لهم به إذا شاءوه، فصرحوا بأن الحكومة هي التي أوحت إليهم
بعقده، وأرادوا أن يخيفوا الحكومة بمثل ما أخافوا به الأمة، فأنشأوا يطعنون في
الوزارة ويرمونها بالتعصب الديني وتحريض المسلمين عليهم، ويرجفون بأن
(المسيحية تتعذب) ؛ ليحرضوا كل من في مصر من النصارى على المسلمين،
وحاولوا أن يحملوا نصارى السوريين على عقد مؤتمر لهم فخابوا؛ لأن القبط
يعجزون عن العبث بالسوريين واستخدامهم لأهوائهم.
وأما دسائسهم في إنكلترة فقد ظهرت لكل أحد، ولكن لم تغن عنهم شيئًا؛
لأنها مبنية على التهم الباطلة التي كذبتها سيرة المسلمين الهادئة الساكنة.
لقد سرتني هذه الحركة القبطية؛ لأنها وسيلة لاختبار حياة المسلمين،
وسيكون المؤتمر المصري هو الذي يظهر هذه الحياة ودرجتها، فإذا نجح المؤتمر
وانجلى عن حياة في المسلمين، فلا يسوءني أن تنال القبط ما يقول بعض المعتدلين:
إنه هو الحق الوحيد من مطالبها؛ وهو جواز أن يكونوا رؤساء إدارة كما صار
رؤساء للمحاكم ولغيرها من المصالح. وإذا خاب الأمل (لا سمح الله) في هذا
المؤتمر فلا أسف على شيء آخر يفوت.
كتب الناس في المسألة؛ لأنها أهم ما يكتب فيه بمصر الآن، فألقيت دلوي
بين الدلاء وكتبت مقالاً طويلاً في فصول متعددة نشرتها في المؤيد والمنار. قصدت
بها مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن كما أمر الله عز وجل، ولا أحسن من بيان
سنة الاجتماع في هذه المسائل والتمييز بين حقها وباطلها؛ ليزداد الباحثون بصيرة
في بحثهم، وتنبيه المسلمين إلى الاجتماع والتعاون على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم
ولا يضر سواهم، ولأجل أن تكون مقدمة لبيان رأيي فيما يجب أن يقوم به المؤتمر
من الخدمة العامة لهذه البلاد.
بلغ هذا المقال من التأثير في نفوس المسلمين فوق ما كنت أظن، واقترح
علي كثير من الكبراء والدهماء أن أطبعه في رسالة على حدته فأجبت، وها هو ذا
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________
(1) راجع كتاب الإسلام والنصرانية، وخطبة موسيو رينيه ميليه في مؤتمر أفريقية الشمالية بباريس في (ص 818) من مجلد المنار الحادي عشر.(14/295)
جمادى الأولى - 1329هـ
مايو - 1911م(14/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
(السموات السبع وكون الاختلاف رحمة)
(س27، 28) من م. ب. ع. في الأزهر
حضرة العلامة الناصر للكتاب والسنة، سيدي الأستاذ محمد رشيد رضا
صاحب المنار الأغر، نفعني الله والمسلمين بوجوده.
بعد إهداء واجبات التحية والاحترام، أرجو منكم الجواب عن الأسئلة الآتية
في المنار؛ تعميمًا للنفع، ولكم الفضل والشكر وهي:
(1) ما معنى سبع سموات طباقًا في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ
سَمَوَاتٍ طِبَاقاً} (الملك: 3) وما قولكم في قول أهل الجغرافيا: إن السموات
ليست بأجرام، وإنما هي أهوية، وفسروا السماء بمعناها اللغوي وهو: (كل ما
علاك فهو سماء) ، فهل هذا القول ينافي تلك الآية وآية {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ
فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) أم لا؟ وقولهم: إن
الأمطار تتكون من ماء البحار. وهل يجوز لهم ولمن تبعهم اعتقاد ذلك كله اعتمادًا
على علمهم وخبرتهم؟ أفيدوني بما هو الحق، وإن سبق لكم البحث عن هذه
المسألة في المنار؛ لأنها منشأ لتكفير من يتجرأ به معتقدًا ذلك.
(2) ما مراد قوله صلى الله عليه وسلم اختلاف أمتي رحمة عن ابن عباس
مرفوعًا بلفظ: اختلاف أصحابي لكم رحمة، فهل لي أن أقول: إن في اختلاف أمته
- صلى الله عليه وسلم- رحمة إنما هو اختلافها قبل مجيء البينة أو لعدم وجودها
أصلاً، وإن وجدت كان اختلافها ضررًا لا رحمة، وكذا يجوز الاختلاف بين
المسلمين قبل مجيء البينة، وإن اختلفوا بعد مجيئها وتبينها كانوا آثمين تاركين
لهداية القرآن لقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105) هذا، واقبلوا فائق
سلامي واحترامي.
(المنار) أما الجواب عن السؤال الأول، فقد سبق بيانه في المنار، ونقول
فيه ما يفتح به الآن: السماء في اللغة ما كان في جهة العلو، وأطلق في القرآن
على السقف، وعلى السحاب والمطر، وعلى مجموع ما نرى فوقنا من الكواكب
في فلكها وبروجها، وسماها بناء، وقال: بناها، وبنيناها، والمعنى: ترتيب
أجزائها وتسويتها كما يبنى الجيش والكلام، قال في الأساس: وكل شيء صنعته
فقد بنيته.
وأشار أن منها القربى التي نمتع أبصارنا بزينتها، ومنها البعدى التي لا نراها.
وهو يذكر السماء بلفظ المفرد غالبًا بالمعنى الذي ذكرناه آنفًا، وهو مجموع ما نراه في
الأفق فوقنا. وذكرها بلفظ الجمع وخصه بسبع في عدة آيات، فالمراد بالجمع هذه
السبع، وعبر عنها بالطباق كما في آية سورة الملك المذكورة في السؤال، وبالطرائق،
فقال في أوائل سورة المؤمنين: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} (المؤمنون:
17) وسمى هذه الطرائق حبكًا على التشبيه، فقال في أوائل سورة الذاريات:
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ} (الذاريات: 7) وهي الطرائق المعهودة في الرمل، فالسبع
الشداد والطباق والطرائق والحبك تنبئ عن شيء واحد معروف عند العرب الذين
نزل القرآن بلسانهم، وقد سمى هذه السبع سموات؛ لأن كل واحدة منها تعلو
المخاطبين، ويصعدون إليها نظرهم من فوق، ووصف بها السماء المفردة في آية
سورة المؤمنين؛ لأن جهة العلو أو الخليقة التي في جهة العلو تشتمل عليها، كما قال
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ} (البروج: 1) وقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} (الطارق: 11) والبروج منازل الكواكب، وهي بهذا المعنى أمور اعتبارية كالحبك
والطرائق، والرجع: المطر وهو جسم مادي، يختلف التعبير باختلاف الاعتبار.
ذهب بعض الغافلين الذين يظنون أن الله تعالى خاطب الناس بما لا يفهمون،
وأقام عليهم الحجة العقلية بما لا يعقلون، إلى أن السماء والسموات من عالم الغيب
كالجنة والنار، فلا تعرف حقيقتها وإنما يجب الإيمان بها إذعانًا لخبر الوحي، ولو
كان الأمر كذلك لما ذكرت في الآيات التي يقيم الله بها حجته على عباده؛ ليعلموا
أنه الخالق المتفرد بالخلق والإبداع، والعلم المحيط، والحكمة البالغة، والقدرة
والمشيئة، كما استدل على ذلك بالأرض وما فيها، فقرن السماء بالأرض وبالإبل
والجبال وغير ذلك من عوالم الأرض.
السماء اسم جنس يطلق على جهة العلو وعلى كل ما فيها، والقرائن هي التي
تعين المراد، فإذا سمع العربي قوله تعالى في سورة الحج: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن
يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ
كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} (الحج: 15) فهم أن السماء هو سقف البيت؛ لأنه هو الذي يمد
السبب أي الحبل إليه، ويعلق ويربط به من يراد شنقه ثم يقطع.
وإذا سمع قوله تعالى في سورة نوح: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً} (هود:
52) فهم أن المراد بالسماء المطر، وهذا الاستعمال كثير في كلامهم:
إذا نزل السماء بأرض قوم
وإذا سمع قوله في سورة إبراهيم يصف الشجرة: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي
السَّمَاءِ} (إبراهيم: 24) فهم أن السماء جهة العلو. وإذا سمع قوله: {وَأَنزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً} (البقرة: 22) فهم أن السماء هي السحاب. لا لأن الله تعالى وضح
ذلك بقوله في وصف تكوين السحاب: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا
فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (الروم:
48) أي فترى المطر يخرج من أثناء هذا السحاب بتحلله منه، بل لأن ذلك هو الذي
يفهمه أهل اللغة من علم منهم بهذه الآية ومن لم يعلم.
ومن قال من الجاحدين كما حكى الله عنهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ} (الأنفال: 32) {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ} (الشعراء: 187) لم
يكونوا يعنون بالسماء عالمًا غيبيًّا لا يعرف إلا بالوحي، وإنما كانوا يعنون بالسماء
الجوّ الذي فوقهم.
ذكرت السماء في أكثر من مئة موضع في القرآن بهذه المعاني، ولم يشتبه
أحد من العرب في فهم شيء منها لا مؤمنهم ولا كافرهم. ولم يفهموا من السموات
السبع والطرائق والحبك والطباق إلا الكواكب السبع السيارة ومداراتها في أفلاكها
التي تشبه طرق الرمل؛ يسلكها السفر في الموامي والبوادي، وخصها بالذكر لكثرة
رصدهم لها واهتدائهم بمشارقها ومغاربها في أسفارهم، هذا ما كانوا يعرفونه، وما
يتبادر إلى أفهامهم من إطلاق القول، ولو أريد به عالم غيبي لا يرى ولا يعرف إلا
من الوحي؛ لما ذكر في سياق الاستدلال كما تقدم، ولما قال في سورة الرعد:
{خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (لقمان: 10) ، وما في معناها؛ كقوله
في سورة ق: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) ، بل كان يذكر ذلك في سياق الإيمان بالغيب والكلام عن
الآخرة.
وكانوا يسمون السبعة السيارة: الدرايء بالهمز، وقالوا: كوكب دريء بالهمز
فيقال بغير همز. وقيل غير المهموز نسبة إلى الدر، يشبهونه باللؤلؤ في حسنه
وصفائه وفيه نزاع. والدريء بالهمز هو الذي يدرأ من المشرق إلى المغرب، وهو
مضيه ومده. ويسمونها الشهب. وأما الخنس الكنس فالمشهور أنها ما عدا الشمس
والقمر من الدراري؛ لأنها هي تخنس أي تنقبض، وتكنس وتختفي كاختفاء الظبي في
الكناس عند طلوع الشمس. وهي: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد، وقد
اكتشف علماء الفلك في هذا العصر سيارات أخرى بما استحدثوا من مرايا المراصد
المقربة للبعيد. وقال بعض الغافلين: لماذا ذكر الله تعالى تلك السيارات
السبع فقط، وهو يعلم أنه خلق غيرها؟ وقد علمت حكمة ذلك مما تقدم؛ وهي إقامة
الحجة على الناس بما يعرفون دون ما كانوا يجهلون، فإن المجهول لا تقوم به
الحجة، وقد يكون لقوم فتنة وفي الحديث: (ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه
عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) ذكره مسلم في مقدمة صحيحه.
***
(حديث اختلاف أمتي رحمة)
قال الحافظ السخاوي: زعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له لكن ذكره
الخطابي في غريب الحديث مستطردًا، وأشعر بأن له أصلاً عنده. ونقل تلميذه
الديبع عن السيوطي أن نصر المقدسي ذكره في الحجة، والبيهقي في الرسالة
الأشعرية بغير سند، وأن الحليمي والقاضي حسينًا وإمام الحرمين ذكروه في كتبهم.
وقال ابن حجر الهيتمي في الدرر المنتثرة: حديث اختلاف أمتي رحمة.
الشيخ نصر المقدسي في كتاب الحجة مرفوعًا، والبيهقي في المدخل عن القاسم بن
محمد (من) قوله، وعن عمر بن عبد العزيز قال: ما سرني لو أن أصحاب
محمد لم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة (قلت) : هذا يدل على أن
المراد اختلافهم في الأحكام، وقيل: المراد اختلافهم في الحرف والصنائع (كذا)
ذكره جماعة. وفي مسند الفردوس من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس
مرفوعًا: (اختلاف أصحابي رحمة لكم) قال ابن سعد في طبقاته: حدثنا قيصر بن
عقبة، حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم بن محمد، قال: كان اختلاف أصحاب
محمد رحمة للناس، انتهى.
(المنار) ما عزاه السخاوي إلى كثير من الأئمة هو الصواب، وكثيرًا ما
نرى المتأخرين يضعفون ويجبنون أمام ما يجدونه في كتب بعض المتقدمين، مما لا
يعرف له أصل فيهابون أن يردوه عملاً بالأصول والقواعد المتفق عليها في رد كل
حديث لا يعرف له سند يوثق به. وهذا البيهقي يقول: إن القاسم بن محمد ذكره من
قوله، فما يدرينا أن بعض الناس سمعه منه، فظن أنه يرويه حديثًا فرواه عنه، فكان
هذا سبب ذكره في الكتب التي ذكروا أصحابها.
وأما رواية الديلمي في مسند الفردوس عن جويبر عن الضحاك فلا تصح،
قال ابن معين في جويبر: هذا ليس بشيء. وقال الجوزجاني: لا يشتغل به، وقال
النسائي والدارقطني وغيرهما: متروك الحديث. وشيخه الضحاك هو ابن مزاحم
البلخي المفسر، فقد اختلفوا في حديثه، ولكنهم صرحوا بأنه لم يلق ابن عباس ولا
أخذ عنه، فيكون الحديث منقطعًا.
وأما ما عزي إلى عمر بن عبد العزيز فهو لا حجة فيه صح عنه أو لم يصح،
على أن الظاهر أنه يرد اختلافهم فيما لا بد من الخلاف فيه؛ لكونه طبيعيًّا وهو
الخلاف في المشارب والعمل بالدين من الأخذ بالعزائم والرخص، فلو كانوا كلهم
متشددين مبالغين في الزهد والنسك كأبي ذر، وفي العبادة وكبح الحظوظ والشهوات
كعثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو، لوقعت هذه الأمة في الغلو والحرج الذي
وقع فيه بعض الأحبار والرهبان من أهل الكتاب من قبل، ولو كانوا كلهم كمعاوية
وعمرو بن العاص في حب النعيم والزينة والرياسة، لكان ذلك فتنة لمن بعدهم في
الدنيا، يسرعون بها إلى ترك الدين، أو يجعلونه ماديًّا محضًا؛ لأن القدوة أشد
تأثيرًا في نفوس البشر من التعاليم القوية.
استكبر بعض العلماء أن يجعل الاختلاف في الدين أو في الإمارة والسلطان
رحمة، وقد ثبت بالشرع والعقل والتجربة أنه نقمة لا تزيد عليها نقمة؛ ولذلك قالوا
إن المراد بالحديث - أي على فرض صحته - الاختلاف في الحرف والصناعات،
ولهم أن يستكبروا ذلك، فإن القرآن ما شدد في شيء كما شدد في الشرك وفي
الاختلاف والتفرق، والآيات في هذا كثيرة تقدم تفسير بعضها وسرد الكثير منها في
التفسير وغير التفسير من المنار، فليراجعه السائل في تفسير آية {تِلْكَ الرُّسُلُ} (البقرة: 253) من أول الجزء الثالث، وتفسير {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 105) من الجزء الرابع، ومظانه من المنار.
كان أهون الاختلاف اختلاف الصحابة وغيرهم من السلف في فهم الأحكام،
مع عذر كل منهم لمخالفه، بحيث لم يكونوا شيعًا تتفرق في الدين، وتتعصب كل
شيعة منها لبعض المختلفين، فإن مثل هذا الاختلاف طبيعي في البشر لا يمكن
إنفاؤه كما بيناه في التفسير، وهو من أولئك الأخيار لم يكن نقمة ولا ضارًّا، ولا
يظهر أيضًا كونه رحمة يمن الشارع بها على الناس، ولكن لما جاء دور التقليد
والتشيع والتعصب للمذاهب حلت النقمة، وتفرقت الكلمة، وذهبت الريح والشوكة
إلى أن وصلنا إلى هذه الدرجة من الضعف: ذهب ملكنا، وصارت المملكة
الكبيرة من ممالكنا تقع في قبضة الأجانب، فلا يبالي بهم سائر المسلمين، فأين
الوحدة والأخوة والتواد والتراحم وتمثيل مجموعهم بالجسد الواحد؟ ؟ كل ذلك قد
زال، وكان مبدأ زواله ذلك الاختلاف.
***
(أسئلة من أعرابي بالشرقية)
(س29 - 31) من صاحب الإمضاء في مركز (أبو كبير) بالشرقية
حضرة الأستاذ الكبير السيد رشيد رضا المحترم.
نرجو من حضرتكم الإجابة على المسائل الآتية بواسطة منار الإسلام المنير
ولكم الفضل، وهي:
1 - إذا أصيب رجل بالجنون وكان متزوجًا، فبأي عدة تعتد زوجته.
2 - أصحيح ما يقال: من أن لكل ولي متوفى ملك (كذا) ، ينوب عنه
لقضاء الحاجات التي يطلبونها الناس من الله بواسطة الولي، كما يقولون علماء
الأرياف بذلك.
3 - من ابتدع الصاري الذي يذكرون الله حوله أهل الطرق؟ وهل يجوز
لهم الذكر برقص وتثنّ وتواجد وزعيق، وترجمة يسمونها بلسان الحال.
ودمتم محفوظين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... أنور محمد قريط
... ... ... ... ... ... ... من قبيلة أولاد علي بناحية فراشه
الجواب
(زوجة المجنون)
إذا جن الرجل تبقى امرأته على عصمته، ولكن يثبت لكل من الزوجين حق
الفسخ إذا جن الآخر. والعدة تتعلق بمعنى في المرأة لا في الزواج، إلا أنها في
الوفاة يجب عليها أن تحد على زوجها، فجعل أجل العدة والحداد واحدًا؛ إكبارًا
لحقوق الزوج والوفاء له. فإذا فسخ نكاح المجنون اعتدت امرأته عدة المطلقة.
***
(دعوى أن لكل ولي ميت ملكًا يقضي الحاجات عنه)
من أصول التوحيد أن يدعى الله تعالى وحده في قضاء الحاجات، وأن يعتقد
أنه هو الذي يقضيها وحده بلا واسطة معين ولا مساعد، وأن له تعالى سننًا في
ربط الأسباب بالمسببات، وقد هدى الله الناس على أن يعرفوا هذه الأسباب
بحواسهم وعقولهم، فأعرفهم بها أكثرهم انتفاعًا بنعم الله تعالى في هذا العالم، ومن
أصول العقائد أن الملائكة من عالم الغيب، وأن الله تعالى لا يظهر على غيبه أحدًا
إلا من ارتضاه من رسله، فيخبرهم بما شاء من نبأ الغيب؛ لهداية عباده كالملائكة
والجنة والنار، ولا يجوز لمؤمن أن يفتات على الله ورسوله في الخبر عن عالم
الغيب، فيقول: إنه يوجد ملك يعمل كذا وملك يعمل كذا؛ لأن هذا من أقبح
الكذب على الله عز وجل. ونحن لم نجد في كتاب الله ولا في الأحاديث الصحيحة
عن رسوله صلى الله عليه وسلم ما يثبت وجود ذلك الملك الذي يقولون: إنه يقضي
حاجات الناس التي يسألونها بواسطة الوالي، على أن هذا السؤال غير مشروع كما
أشرنا إلى ذلك {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ
بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) .
(ابتداع الصاري الذي يذكرون عنده)
لا نعرف من ابتدع نصب هذا العمود أو السارية ليجتمع الناس عندها في
احتفالات هذه الموالد، ولا أعرف مثل هذا إلا في هذه البلاد، ولا أدري أيوجد فيما
لا أعرفه من بلاد المسلمين الأخرى أم لا.
(الذكر بالرقص والتثني والتواجد والصياح)
الذكر بهذه الكيفية مبتدع في الملة، وفيه عدة منكرات بينها كثير من العلماء،
وقد عذر بعضهم من يغلبه حالة من الأفراد، فيصدر منه بعض هذه المنكرات بغير
اختيار. ولكنهم لم يعذروا من يتعمدون الاجتماع لذلك، ويأتونه مختارين تعبدًا به
كما هو المعهود لهؤلاء المقلدة المعروفين في هذا الزمان. وقد فصلت هذه المسألة
تفصيلاً في كتابي (الحكمة الشرعية) وذكرت فيها أقوال المؤلفين المنتسبين إلى
المذاهب المختلفة، ولم يقل أحد من العلماء بأن ذلك من الدين، ولا أنه قربة يتقرب
بها إلى رب العالمين، وإنما أباحه بعض المتساهلين، ومن الفتاوى التي ذكرتها
هنالك ما في تنقيح الحامدية لابن عابدين المشهور، قال بعد نقولٍ عن عدة من
العلماء في تلك الأمور كلها (منها قول مصلح الدين اللاري بإباحة الرقص بشرط
عدم التكسر والتثني) ما نصه: والحق الذي هو أحق أن يتبع، وأحرى أن يدان له
ويستمع أن ذلك كله من سيئات البدع، حيث لم ينقل فعله عن السلف الصالحين،
ولم يقل بحله أحد من الأئمة المجتهدين، رضي الله عنهم أجمعين، قال الأستاذ
السهروردي في عوارف المعارف وناهيك به من كتاب، وقد تكلم على السماع في
خمسة أبواب منه بما هو حق التحقيق ولب اللباب؛ وإن أنصف المنصف وتفكر
في اجتماع أهل الزمان، وقعود المغني بدفه، والمتشبب بشبابته، وتصور في
نفسه هل وقع في مثل هذا الجلوس والهيئة بحضرة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وأصحابه، وهل استحضروا قوالاً وقعدوا مجتمعين لاستماعه، لا شك بأن
ينكر ذلك من حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنه،
ولو كان في ذلك فضيلة تطلب ما أهملوها، فمن يشير بأنه فضيلة تطلب، ويجتمع
لها لم يحظ بذوق معرفة أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه
والتابعين، ويستروح إلى استحسان بعض المتأخرين، وكثير يغلط الناس بهذا كلما
احتجّ عليهم بالسلف الماضين، يحتج بالمتأخرين، فكان السلف أقرب إلى عهد
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديهم أشبه بهدي النبي - صلى الله عليه
وسلم - اهـ وهو الصواب الذي نقول به (راجع ص 926 من المجلد الأول طبعة
ثانية) .
__________(14/340)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العالم الإسلامي
والاستعمار الأوربي
(1)
الدول الأوربية التي ورثت ملك المسلمين الواسع في المشرق والمغرب
أربع: إنكلترا وهولندا وروسيا وفرنسا. كل دولة منهن سائدة على أكثر مما
تسود عليه الدولة العثمانية من المسلمين. فمسلموا الهند من رعية الإنكليز قد بلغوا
في الإحصاء الأخير تسعين مليونًا، وهم زهاء ثلث أهل الهند، وكان لهم السيادة
على جماهير الوثنيين، وهؤلاء الإنكليز يسودون الملايين الكثيرة من المسلمين
وغيرهم بأسماء مختلفة، فلهم مستعمرة الكاب وبلاد الترنسفال وفيهما كثير من
المسلمين، وقد جعلوا لهذه مجلسًا نيابيًّا، ومثلها أسترالية وزيلاندة فسيادتهم عليها
ليست كسيادتهم على مملكة زنجبار الإسلامية.
وناهيك بحكمهم للسودان بعنوان الشركة مع الحكومة المصرية، وتصرفهم في
مصر نفسها بسيطرة الاحتلال، وتصريحهم بأن القول الفصل في كل شيء فيها إنما
هو لحكومة ملك الإنكليز، وقد تتجلى الحقيقة الواحدة في مظاهر مختلفة، وتتشكل في
صور متعددة، فيكون لكل مظهر في صورة أحكام خاصة به عند الحكماء، وإن
اشتركت كلها في مقومات الحقيقة الجنسية أو النوعية دون مشخصاتها، فالإنكليز
أقدر أمم الأرض على الاستعمار وأبرعهم في السيادة على الأمم؛ لأنهم يراعون
الحقائق في أجناسها وفصولها المقومة، وفي مشخصاتها المختلفة، ويسايرون
الطبيعة في سنتها، ويحكمون العقل أكثر مما يحكمون القوة فيها، ولذلك سادوا على
أمم وشعوب وقبائل كثيرة تعد بمئات الملايين، واستفادوا من ثروتها وخيراتها
ما لم يستفده غيرهم من المستعمرين، ولم يمنعوا بالقوة أحدًا ممن سادوا عليهم أن
يرتقوا في العلوم والأعمال، ولا هم يتعمدون ترقيتهم فيها إلا بمقدار ما يفيدهم هم من
توسيع دائرة الثروة، وقد يحولون بينهم وبين ما فوق ذلك من الترقي من
حيث لا يشعرون.
يليهم في هذه البراعة الهولانديون، فدولتهم على صغرها تتصرف في أكثر
من ثلاثين مليونًا من المسلمين تسخرهم لمنافعها، وتستعملهم في تلك الجزائر
الخصبة (جزائر جاوه) كما تستعمل الأنعام، وهم أجهل من رعايا الإنكليز
وأضعف عقولاً ونفوسًا، وليس لهم من الاستعداد الموروث ولا من سابقة العلم
والمدنية والسلطان مثل ما للهنود والمصريين؛ ولذلك لا تحس منهم بحركة، ولا
تسمع لهم ركزًا، ومن عجائب خمولهم وضعف استعدادهم أن الذين يرحلون منهم
لطلب العلم يقيمون السنين الطوال بمكة أو مصر، ثم يعود من يعود منهم إلى بلاده
وهو لا يعرف من أمر العالم الإسلامي ولا من أحوال هذا العصر شيئًا قط؛ لأنهم
يحبسون أنفسهم على أفراد من متفقهة الشافعية، يتعبدون ببعض كتب متأخري
الشافعية كابن حجر الهيتمي والرملي، فإن تجاوزوها فإلى كتب الشيخ زكريا
الأنصاري والنووي.
لو جردت من هذه الكتب ما يعمل به الذين يتعلمون أحكام المذهب من
الجاويين وغيرهم من مسائل العبادات، وما يقرب منها من الأحكام الشخصية
لأمكنك جمعه في مائة ورقة، يمكن تعلمها في شهر أو شهرين أو ثلاثة، ولتكن
مئتي ورقة، وليكن تعلمها في سنة، فما بالهم يقضون السنين الطوال في مدارسة
أحكام المعاملات؛ كالبيوع والشركات وأحكام الجنايات والجهاد والرقيق، وغير
ذلك مما لا يعمل ولا يحكم به أحد في بلادهم، ويمر العمر ولا يحتاجون إلى معرفة
شيء منه؟ ! ولا يعرفون شيئًا في هذا الزمن من علم القرآن، وسنن الله تعالى في
الأمم؛ كأسباب قوتها وضعفها وعزها وذلها وسيادتها على غيرها وسيادة غيرها
عليها؟ ؟ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (يوسف: 109) [1] بلى قد ساروا، ولكن لم ينظروا ولم يتفكروا ولم يعتبروا كما
أمروا، فهم لا يعلمون من أمر عاقبة الذين من قبلهم شيئًا، لا يستقرون ولا
يختبرون شيئًا من أحوال الأمم بأنفسهم، ولا يقرءون التاريخ وعلم تقويم البلدان
(الجغرافية) ، ولا علم الاجتماع وحقوق الدول والأمم، بل تراهم يقيمون السنين في
مصر ولا يقرءون جرائدها، ولا يعرفون طرق الإدارة وشؤون العمران فيها،
والقرآن يحثهم على السير في الأرض؛ لينظروا ويتفكروا ويعتبروا لا ليتدارسوا
كتب ابن حجر والرملي فقط {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا
أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) .
كانت هولندة قانعة؛ وهي دولة صغيرة في أقاصي الشمال باستعمار هؤلاء
الملايين في الجزائر الاستوائية من الجنوب، وتسخيرهم في استغلال أرضهم لها،
وتركهم في شؤونهم الروحية والاجتماعية، لا توقظهم من نومهم ولا تدع أحدًا
يوقظهم، ثم إنها تصدت في هذه السنين الأخيرة إلى تسخير أرواحهم وقلوبهم لها؛
لتأمن في المستقبل استيقاظهم على يد غيرها، فوجهت عنايتها إلى تنصيرهم
وتعليمهم لغتها، أي إلى استبدال مقوماتهم الملية بغيرها.
كان يروعها ما تجده من شدة تمسكهم في دينهم، وتعريضهم أنفسهم للهلاك في
سبيل الحج إلى بيت الله الحرام، فظنت كما يظن بعض المغرورين من المسلمين
أن تنصير المقلدين عسير؛ لأن المقلد لا يصغى للبرهان، ولكن الهولنديين يعلمون
ما يجهله هؤلاء المغرورون من طباع البشر وأخلاقهم، ومنها أن الميل إلى
الاستدلال طبيعي فيهم، فإذا منعوا باسم الدين من البحث في البرهان والدليل على
أصول دينهم وفروعه، فإنهم لا يمتنعون من التفكر فيما يلقى إليهم من الدلائل على
بطلان هذا الدين الذي لا يعرفون حقيقته، وإن هذه الدلائل تروج عند الجاهلين؛
وإن كانت مقدماتها تؤلف تارة من الجدل والسفسطة وتارة من المقدمات اليقينية على
بطلان بعض التقاليد التي يسمونها إسلامًا، وما هي من الإسلام في شيء.
سلك الهولنديون لتنصير المسلمين طريقًا لم يسبقهم إليه أحد فيما نعلم وقد
نجحت التجربة التي جربوها في ديفو، وهي بلدة بين بتاوي وبوكر، نفوسها
زهاء أربعة آلاف، بثوا فيها الدعاة (المبشرين) ومنعوا مسلمي العرب وغيرهم
من المستنيرين أن يدخلوها ألبتة، وقد جمع أولئك المبشرون جميع ما يعرفون من
سيئات مسلمي تلك البلاد وخرافاتهم وضلالاتهم التي راجت بينهم باسم الدين،
وسعي شيوخ الطريق الدجالين، وبينوا لأهلها فسادها، وكون الدين الذي جاء بها
لا بد أن يكون باطلاً مثلها، ومسخوا لهم بعض أحكام الإسلام ومسائله بتأويلها
وصرفها عن حقيقتها، وأيدوا ذلك كله بسوء حال المسلمين، وكونهم أحط من
النصارى علمًا وعملاً وآدابًا وثروة وسيادة، وأوهموهم أنه لا علة لذلك غير الدين،
فتنصر جميع أهل تلك البلدة وبغض إليهم المبشرون المسلمين، حتى إن المسلم
إذا دخلها لا يجد له فيها مأوى، ولا يسقيه أحد فنجان قهوة، ولا جرعة ماء، بل لا
يجد من يقابله ولا من يكلمه. فهل بعث المسيح ليوقع العداوة والبغضاء بين الناس
إلى هذا الحد، أم دين السياسة الأوربية عليها الملام شيء ودين المسيح عليه السلام
شيء آخر؟
سر هولندة نجاح هذه التجربة، فبثت دعاة النصرانية في تلك الجزائر يدعون
الأعرق منها في الجهل فالأعرق، والأبعد عن حقيقة الإسلام فالأبعد، وإذا دامت
الحال على هذا المنوال، فستكون جاوه كما قال ذلك السائح العاقل أندلسًا ثانية، ولا
عجب فمسلمو جاوه أجهل المسلمين بالإسلام وأشدهم خمولاً، وقد استيقظ أناس من
المسلمين في كل قطر إسلامي كبير، وأنشأوا يوقظون غيرهم، ولا يزال مسلمو
جاوه نائمين يغطون، وقد ابتلوا بأناس من العرب يدعون العلم وما هم من أهله،
يبغضون إليهم العلم الصحيح الذي يعرفهم أنفسهم ومكانتهم من حكومتهم ومن سائر
الناس، ويحرمون عليهم إنشاء المدارس العلمية على الطرق العصرية المعروفة في
مصر، وأن يتعلموا غير تلاوة ألفاظ القرآن للتبرك وبعض أحكام الفقه، وما يتعلم
ذلك إلا قليل منهم.
إذا حرم هؤلاء الدجالون على المسلمين أن يعلموا أنفسهم ما يقوم به أمر
دنياهم، ويحفظ به أمر دينهم في مدارس نظامية، فهل يحرمون على حكومة
هولندة أن تنشئ لهم مدارس تعلمهم فيها لغتها، وما نرى فيه مصلحتها من علوم
الدنيا، وعلى دعاة النصرانية أن ينشئوا لهم مدارس أخرى ينصرونهم فيها؟ كلا،
إن قد شرعت الحكومة الهولندية في ضبط ما كان لرؤساء تلك الجزائر الذين يلقبون
بالسلاطين (! !) من الأرض والغابات والمرافق؛ لتتولى هي استغلال ما كانوا
يستغلونه، وجباية ما كانوا يجبونه، وتجعل رزقهم محصورًا فيما تجود به عليهم
من خزينتها كل شهر أو سنة، وتقول: إنها ستنفق ربع ذلك على المدارس التي
تنشئها لتعليم الأهالي، وقد وضعت قانونًا جديدًا لهذه المعاملة؛ وهي تحمل أولئك
السلاطين المساكين على إقراره وإمضائه، فمن لم يرض منهم بترك ما كان له من
امتياز وسلطة صورية، وأن يكون كعمال الحكومات الذين يعطون عند عجزهم
راتب التقاعد (المعاش) ، عزلوه من سلطنته، ونصبوا مكانه شبحًا آدميًّا آخر
وسموه سلطانًا، وهي خير للرعية من أولئك السلاطين الذين لا يمنعهم عن الظلم
إلا العجز.
(روسية) مسلمو روسية أكثر من مسلمي البلاد العثمانية، ويناهزون عدد
مسلمي جاوه، وأكثرهم من التتار والترك والجركس والقرغيز والفرس، وبعضهم
يعد في القانون روسيًّا محضًا والبعض الآخر من المستعمرات، ومنهم الجاهلون
الغافلون الذين لا يعرفون من أمر العالم شيئًا قط، بل يعيشون كالأوابد والسوائم إلا
أنهم أشداء شجعان لا ضعفاء كالجاوبين، ومنهم المغرورون بما عندهم من بقايا
العلوم الإسلامية؛ كالفقه الذي يرون أنهم أغنياء به عن كل ما في العالم من العلوم
الدينية والدنيوية، ومنهم الذين دبت فيهم روح الحياة الملية، وتوجهت نفوسهم إلى
الارتقاء الاجتماعي وأكثر هؤلاء من التتار، وحكومتهم واقفة لهم بالمرصاد، فلا
يرضيها أن يرتقوا بدينهم ولغتهم، ولا هي تستطيع أن تنصرهم ولا أن تبدل لغتهم،
بل عجز دعاة النصرانية في روسية عن تنصير أعرق مسلمي بلادها في الجهل،
وأبعدهم عن العلم؛ لأن حظ عامة مسلمي تلك البلاد من عقائد الإسلام وأخلاقه
وآدابه أكبر من حظ أكثر المسلمين في أكثر الأقطار، فهم أرقى من الروسيين روحًا،
وأزكى نفسًا، وأعلى أدبًا، وأكثر في الجملة كسبًا، وجذب الأعلى إلى الأدنى
عسير.
إذا دبت في الأمة روح الحياة، فلا يزيدها الضغط والاضطهاد إلا حياة وقوة؛
لأنه يلم شعثها، ويجمع متفرقها، ويزيل ما بينها من الأضغان والأحقاد والتنازع
والخلاف، ويجعلها إلبًا واحدًا على من ينازعها أسباب ترقيها ومادة حياتها،
فالمصلحة لروسية أن تدعهم يعملون لأنفسهم ما شاءوا، وأن تظهر لهم الرغبة في
ترقيهم بشرط اجتناب السياسة والتحيز إلى دولة أخرى، ومن مصلحتهم مواتاتها على
ذلك واتقاء فتن السياسة ظاهرًا وباطنًا، وحصر سعيهم في دائرة العلوم النافعة من
دينية ودنيوية، والأعمال التي ترقي الثروة مع التربية الإسلامية (راجع
مقالة ألمانية والعالم الإسلامي في هذا الجزء) .
(فرنسة) سكان المستعمرات الفرنسية أربعون مليونًا أو يزيدون، أكثرهم
من المسلمين، وقد أخطأت فرنسة في طريقة إدارتها وسياستها في الجزائر، وظهر
لها أنها قد أخطأت ولما يظهر لها الصواب، وقد كتب ساستها وعلماؤها مما لا
نحصي له عددًا من المصنفات والمقالات في الإسلام والمسلمين، والجزائر
والجزائريين، وذكروا آراء كثيرة فيما يراه كل كاتب أمثل الطرق لحكم المسلمين،
وما أفاد ذلك شيئًا.
بذل الفرنسيون جهدهم في تنصير الجزائريين فلم يفلحوا، وحاولوا أن
يبدلوهم بلغة العرب لغة فرنسة، فلم ينجحوا، أخذت الحكومة أوقافهم ومكنت
اليهود من أملاكهم فصبروا، جربت أخذهم بالسيئات؛ لتفسد بأسهم وتأمن عاقبة
استعبادهم، ولم تجرب أخذهم بالحسنات ليبلغوا رشدهم، وتربح شكرهم وودهم،
ولعلها لولا طمع يهود الجزائر في مسلميها، ومساعدة يهود باريس لهم، وناهيك
بنفوذهم فيها؛ لوجد هناك من الأحرار من ألجأ حكومتها إلى جعل الجزائر زينة
بلاد المغرب في العمران، ومثابتها في العلم والعرفان، وإذًا لكان ما تبغيه الآن من
استعمار ما بقي في أيدي المسلمين في تلك الأوطان أقرب منالاً وأحسن حالاً.
كان أكبر خطئها الاستعماري في الجزائر إزالة صورة الحكم الإسلامي منها
بإزالة معناه، وجعل الحكومة فرنسية محضة مع العلم بأن صفة الحاكمية هي أشد
الصفات تمكنًا في نفوس المسلمين، فنزعها منهم يحدث في نفوسهم جرحًا لا يندمل،
ثم اقتدت بإنكلترة بعض الاقتداء في استعمار تونس، فسمت نفسها حامية لها لا
حاكمة فيها، وأبقت لها أميرها (الباي) ، ولكنها لم تجعل له ولا لرجال حكومته
من الأمر شيئًا قط لا صورة ولا حقيقة، وكان إبقاؤه أحد الأسباب التي جعلت
نصيبها من النجاح في تونس أوفر، وميزان السكون إلى حكمها أرجح، حتى زعم
بعض رجالها أنهم قطعوا رابطتها الإسلامية التي تربطها بمكة على أن تونس ما
زالت كما كانت أوسع من الجزائر علمًا بالإسلام، فالعلوم الإسلامية ليست هي التي
تبعد المسلمين عن الأوربيين، ولكن الأوربيين هم الذين يبعدون المسلمين عن
أنفسهم، وليس الاتفاق بينهم بالمحال، وإنما هو من الممكنات التي يعرف طريقها
أهل الرأي والبصيرة من المسلمين.
وتريد فرنسة أن تتبع خطوات إنكلترة استعمار مملكة مراكش، فقد كادت لها
كيدها، وعبثت كما تشاء بقبائلها وسلطانها، ففاض طوفان الفتن، واندفع السيل
الآتي يقذف جلمودًا بجلمود، حتى حاصرت القبائل مدينة فاس والسلطان عبد
الحفيظ فيها، وتسنى لفرنسة أن تسوق جيشها إليها لإنقاذ الأوربيين وحماية السلطان
من الثائرين، كما فعلت إنكلترة بمصر، فدخلت عاصمة المملكة الحسنية (ولم
تمنعها كرامات مولاي إدريس من دخولها، كما كان يقول المغاربة. كما أن
كرامات شاه نقشبند لم تمنع روسية من دخول بخارى، كما كان يقول أهلها) ووكل
السلطان الفقيه النحوي الأصولي المحدث إلى القائد الفرنسي حمايته وحماية عرشه
من أهل بلاده الثائرين، كما فعل قبله الخديوِ توفيق باشا، وقضى الله أمرًا كان
مفعولاً.
حذرنا مملكة المغرب الأقصى من هذه العاقبة في السنة الأولى من سني المنار،
وجزمنا بأنها إذ دامت على تلك الحال من الجهل والفساد فإنها لا بد أن تقع في يد
أوربة، وبينا لها طريق النجاة التي تحفظ استقلالها، وأعدنا الذكرى وكررناها بعد
ذلك، وكان المنار يرسل إلى السلطان وكبار رجاله ولكنهم قوم لا يعقلون، وقد
أبسل السلطان الذي يسمونه جاهلاً، ولم يعتبر السلطان الذي يسمونه عالمًا، بل
أبسل المملكة بأسرها، وتلك عاقبة الجهل والغرور، ولله عاقبة الأمور.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) في سورة يوسف والمؤمن ومحمد.(14/347)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقرير اللجنة التحضيرية للمؤتمر المصري
المنعقد في القاهرة في 29 أبريل سنة 1911
أيها السادة:
تحييكم لجنة المؤتمر المصري تحية الإخوان المتضامنين، وتشكركم على
أنكم لبيتم نداءها لعقد هذا المؤتمر، واجتمعتم من أطراف البلاد المصرية؛ لخدمة
المصلحة العمومية والنظر في التوفيق بين العناصر المؤلفة للوحدة المصرية التي
كاد يتصدع بناؤها، من جراء مؤتمر الأقباط.
إن الأقباط قد اشتغلوا فيما يشبه الخفاء بتحضير ما سموه جمعيتهم العمومية،
حتى لم يكن بين خبر انعقادها وبين انعقادها بالفعل إلا أيام. ولا شك في أن العمل
على هذه الطريقة مريب، حتى إذا كان الغرض من جمع الجمعية العمومية؛ النظر
في المقاصد القبطية الصرفة التي تتعلق بأحوالهم الشخصية، فكيف به وقد ظهر في
الجمعية العمومية.
إن الأقباط يستقلون ما في أيديهم من السلطة التي مظهرها الوظائف،
ويستكثرون ما في أيدي المسلمين منها، يستظهرون بما سموه كفاءتهم الذاتية،
ويشكون من عدم تقرير أولي الأمر لهذه الكفاءة، يتناسون التقاليد القومية ويطلبون
عطلة يوم الأحد بجانب عطلة يوم الجمعة، يعتبرون أن بين مصلحة
المسلم وبين مصلحة القبطي منافاة، ويريدون أن يحصلوا على امتياز خاص،
يجعل لهم في الهيئات النيابية في بلدنا أعضاء من الأقباط، يدافعون عن مصلحة
الأقلية، كأن الأكثرية والأقلية في الأمم مترتبة على العقائد الدينية، لا على
المذاهب السياسية، يرسلون مبعوثيهم إلى الأمة الإنجليزية؛ لبث شكاوى لا
تشف إلا عن تعصب المسلمين على المسيحيين في مصر.
ذلك كان شكل حركتهم، وتلك كانت مطالبهم، ولا شك في أن الشكل الذي
أخذته هذه الحركة القبطية مريب في ذاته، مفض إلى الظن بأن الأقباط عولوا على
أن يكونوا وحدهم أمة مستقلة، وتذرعوا بهذه المطالب، حتى يصلوا بمعونة إنكلترا
المسيحية إلى أن يكون لهم في مصر؛ وهم الأقلية الضعيفة حق السيادة على
الأكثرية الإسلامية العظمى، ومن البديهي أن عملاً هكذا لا بد أن يؤثر في نفوس
المسلمين أسوأ تأثير، وينتج نتائجه الطبيعية؛ وهي استحكام البغضاء بين الأقلية
الصغيرة وبين الأكثرية الكبيرة، وذلك ليس من مصلحة الأقلية نفسها ولا من
مصلحة الجامعة القومية.
لهذا الاعتبار وإشفاقًا عن الوطن من أن يكون مرسحًا لمظاهر العداوات الدينية
قامت هذه اللجنة بدعوة المؤتمر المصري العام؛ ليبحث في عمل الأقباط وتقديره،
وليزن مطالبهم بميزان العدل، وليبين النافع منها والضار، والممكن وغير الممكن،
ويقرر لهم ما يراه حقًّا من غير أن يحوجهم إلى السعي بإخوانهم وشكايتهم إلى
غيرهم، فإن المصريين أولى بإنصاف المصريين.
إلى ذلك دعت اللجنة بانعقاد المؤتمر أولاً وبالذات، ولكنه لما أن مؤتمرًا
عظيمًا كهذا يجب أن يأتي بأكمل ما يمكن أن يأتي به من الفائدة، رأت اللجنة أن
يتناول المؤتمر البحث أيضًا في المسائل الاجتماعية والاقتصادية، وكل ما له علاقة
بسعادة الأمة ما عدا المسائل السياسية داخلية كانت أو خارجية؛ لأن الظروف التي
فيها مصر الآن من الجهة السياسية لا تسمح بدخول هذا المؤتمر في السياسة من
غير أن يضحي تضحية تامة كل الأغراض التي اجتمع لأجلها، وأن اللجنة لا تشك
في أن كل مؤتمِر من المؤتمِرين، قد حضر إلى هذا المؤتمر عالمًا يقينًا بأن جميع
التقارير التي لها علاقة بالسياسة عن قرب قد أهملت؛ لخروجها عن برنامج
المؤتمر، كما أنها لا تسمح بأي وجه ما لأي مقترح أن يبدي اقتراحًا خارجًا عن
البرنامج المنشور.
* * *
(الأكثرية والأقلية)
لا شيء أضر على البلاد من نتائج ذلك الخطأ الذي يتسرب إلى عقول بعض
المصريين على العموم وكثير من الأقباط على الخصوص. ذلك الخطأ الفاضح هو
تقسيم الأمة المصرية باعتبارها نظامًا سياسيًّا إلى عنصرين دينيين: أكثرية
إسلامية، وأقلية قبطية؛ لأن مثل هذا التقسيم يستتبع تقسم الوحدة السياسية
إلى أجزاء دينية أي تقسيم الشيء إلى أقسام تخالفه في الجوهر. الأمة باعتبارها
كائنًا سياسيًّا ونظامًا سياسيًّا إنما تتألف من عناصر سياسية، كذلك فأيما مذهب
من المذاهب السياسية اعتنقه أفراد أكثر عددًا وأثرًا كان أكثرية وكان الآخر أقلية،
وعلى هذا يمكن فهم الأكثرية والأقليات في كل أمة، وليس للدين في ذلك دخل
غير أن لكل أمة دينًا رسميًّا، وذلك ضروري بل مشخص من مشخصاتها، ودين
كل أمة هو دين حكومتها أو دين الأكثرية فيها، على ذلك يكون من السهل فيهم انقسام
الأمة باعتبار المذاهب السياسية إلى أكثرية وأقليات كلها غير ثابتة، بل متغيرة
بتغير المذاهب السياسية وانتشارها قلة أو كثرة، ولكن من غير المفهوم بالمرة أن
يكون في الأمة أكثر من دين رسمي واحد، وعليه فلا معنى للاعتراف بأقليات
دينية تعمل في السياسة بهذه الصفة، أو تكسب حقوقًا عامة أكثر من أن
يخلى بينها ويبن القيام بواجباتها الدينية عملاً بحرية الاعتقاد.
دين الأمة المصرية هو الإسلام وحده؛ لأنه دين الحكومة ودين الأكثرية في
آن واحد. ذلك أمر بعيد بطبعه عن المناقشات في المصالح الدنيوية العامة التي
تكون بين الأكثرية وبين الأقليات السياسية. ولا شك في أن العمل في السياسة
بالنسبة للأفراد وبالنسبة للمجاميع لا يصح أن تكون قاعدته المنفعة. ويسرنا أن
الأحزاب السياسية في مصر قد سارت على هذا النحو، ولم تلحظ في هيئة تأليفها
ولا في برنامج أعمالها اختلاف المعتقدات الدينية.
بعد ذلك، كيف يمكن الاعتراف بأن أقلية دينية تباشر بهذه الصفة الأعمال
العمومية، ويكون لها مطالب خاصة كأنما هي أقلية سياسية. لا يمكن الاعتراف
بذلك إلا إذا أمكن أن يكون للأمة دينان في آن واحد، وأن يكون أساس الأعمال في
المصالح العامة هو الدين. ذلك غير ميسور التحقق ولا مسلم به في النظر. فمن
الخطأ أن يكون من الأشياء المسلم بها اعتبار أن الأمة السياسية تتألف من عناصر
دينية.
الحقوق والمرافق في مصر، إنما هي على الشيوع بين جميع المصريين على
السواء، لا امتياز لأحد منهم على أحد بسبب كونه مسلمًا أو مسيحيًّا أو يهوديًّا،
ومن الظلم الصارخ أن يقع هذا الامتياز لفرد من الأفراد أو لمجموع من المجاميع؛
بسبب أنه على دين المصريين (الإسلام) أو على دين غيرهم. حسب العالم ما
كان من جراء الانقسامات الدينية، فلا نأتي في القرن العشرين لنجعل الاعتقادات
الدينية أساسًا للامتيازات بين الأفراد في الحقوق الوطنية.
لا نغفل أن نصرح هنا بأن الأحوال في مصر كانت متمشية على هذه القاعدة
من زمن غير قريب، ولكن الحكومة وبعض الصحف قد تركت الناس تفهم أن حفظ
بعض المراكز للأقباط في مجلس الشورى إنما هو للدفاع عن الأقلية، فكان من
نتائج ذلك أن اعتقد بعض الناس هنا أن الأقباط بصفتهم أقلية مسيحية يصح أن
يكونوا بهذه الصفة أقلية سياسية لها مصالح قد تنافي مصالح الأكثرية. وكان هذا
هو الأساس الذي بنى عليه كثير من الأقباط شكاواهم ومدعياتهم. تجسم هذا الفهم
في العقول، واختلط بشيء غير قليل من الطمع في أن يجعل الأقباط لأنفسهم
مركزًا خاصًّا، وتضامنًا خاصًّا، وأندية خصوصية، وجرائد سياسية خاصة للدفاع
عن مصالحهم السياسية، وسمتهم جرائدهم الأخيرة بالأمة القبطية. وقد دل كل ذلك
على أن الخطأ الذي وقعت فيه الحكومة بادئ الأمر قد غذى أطماعهم وقوى شهوتهم
في أن يؤلفوا بصفتهم مسيحيين جامعة قبطية، تندرج في أطماعها من سلم إلى سلم،
حتى تحوز بين يديها السلطة في مصر؛ اعتمادًا على هذا الاحتلال المسيحي،
وعلى أن المصريين أخوف ما يكون من أن يرموا بالتعصب الديني. ولقد ظهرت
هذه المقاصد بارزة في صحفهم بادئ الأمر ثم في مؤتمرهم الأخير.
ولكن علاقتهم بالمبشرين من الأمريكان ورجال الكنائس الإنكليزية والجرائد
الإنكليزية قد خدعتهم كثيرًا؛ إذ جعلتهم يظنون أن في طاقة الاحتلال أن يجعل
مصر مرسحًا للعداوات الدينية، وأن يجعل للأقليات الدينية امتيازات خصوصية
بوصف أنها أقليات دينية، وإلا فإن أولي الرأي من الأقباط كانوا يكرهون إلى عهد
قريب أن يطالبوا بحق من الحقوق السياسية بصفتهم أقباطًا، بل كانوا في مقدمة
الذين يقولون: إنهم مصريون قبل كل شيء، ولا شك في أن المصري قبل كل
شيء لا يطالب بحق إلا بوصف كونه مصريًّا فقط، والمجموع المصري لا يطالب
بحق إلا بوصف أنه مجموع مصري فقط، دون أن يصف نفسه بالمسيحية أو
بالإسلامية.
على أن وصف الأقباط مجموعهم بالأقلية القبطية أو بالجمعية العمومية للأقباط
ومطالبتهم بحقوق أو شكواهم من عدم تنفيذ القوانين بهذا الوصف، واستنادهم على
إخوانهم في الدين من الأمريكان والإنكليز، وبعثهم المبعوثين في إنكلترا؛ لبث
شكواهم.
كل ذلك لا يدل إلا على أنهم يرمون المسلمين بالتعصب الديني. ذلك صريح جدًّا
على الرغم من تلطف خطبائهم في العبارات إلى حد أكثر من التلطف، بل تصريحهم
في مؤتمرهم بأنهم عائشون مع المسلمين على غاية الوفاق، وليس من البعيد أن
التوفيق بين تصريحاتهم في المؤتمر من محاسنة المسلمين لهم (وهذا الواقع) وبين
الأشكال التي اتخذوها لأعمالهم، والوسائل التي اختاروها لإنجاح مقاصدهم، ينتج
في عمومه أنهم وضعوا المسلمين في جانب، وأخذوا يساومون الإدارة الإنكليزية في
مصر على الوظائف التي في يد المسلمين، وهم يظنون أن المسلمين يكفيهم في كل
هذه المساومة أن لا يرموا بالتعصب الديني؛ أو أن يشهد لهم بأنهم حسنوا
السلوك مع إخوانهم الأقباط.
كل ذلك إنما كانت نتيجة اعتبار أن الأقلية الدينية يصح اعتبارها أقلية سياسية
ويصح لها بذلك أن تقوى فتحوز السلطة ومظاهرها باسم الدين، فيجب علينا أن
نصرح بأننا لا نعرف أقلية دينية بين مصالحها وبين مصالح المصريين منافاة، أو
أن مصالحها في حاجة لرعاية خاصة واستثناء في القوانين العامة المطبقة في مصر
على جميع المصريين على السواء. وليس لمجموع ديني أن يكون له من المطالب
السياسية بهذا الوصف إلا فيما يتعلق بالأمور الدينية، وما يتبعها كتنظيم
البطركخانات الملية ... إلخ. وإلا فكل مطلب سياسي من مجموع ديني لا تكون
نتيجته إلا التفريق بين المصريين في المعاملة.
ومع اعتبار أن الشكل الذي تمت عليه مطالب الأقباط ليس مقبولاً؛ لما فيه
من جعل الدين أساسًا للتفريق في المعاملة، فإن اللجنة تقدم للمؤتمر نتيجة بحثها في
تلك المطالب.
(1)
(مطالب الأقباط)
1- عطلة يوم الأحد:
كما أن لكل حكومة دينًا رسميًّا واحدًا، كذلك لها يوم عطلة واحد في الأسبوع،
سواء كان الدين يوجب عطلة ذلك اليوم أو لا يوجبها، وليس لنا أن نبحث في
نصوص الأصول الدينية في هذا الموضوع، بل الذي نراه بين ظهرانينا؛ أن
الإنكليز والفرنساويين والطليان وغيرهم من الموظفين في الحكومة المصرية،
يشتغلون يوم الأحد ويبطلون يوم الجمعة، ولم نسمع إلى اليوم أنهم تركوا دينهم ولا
أنهم طلبوا إلى الحكومة - وهم قادرون عليه - إعفاءهم من العمل يوم الأحد،
ولقد أعفت الحكومة الموظفين المسيحيين من التبكير إلى مصالحهم يوم الأحد، حتى
تؤدى الصلاة، ولا شك في أن المسيحيين الموظفين فيها من المذاهب المختلفة قد
رأوا هذه الرخصة كافية للتوفيق بين قيامهم بأمر الدين وبين واجبهم الرسمي، ولم
يطلبوا عليه المزيد، وكذلك كان الأقباط إلى هذا الشهر الفائت عند انعقاد جمعيتهم
العمومية لا يرون عطلة يوم الأحد، وأقرب الفروض إلى فهم هذه النظرية هو
تعطيل يومين في الأسبوع يوم الجمعة للمسلمين ويوم الأحد للمسيحيين، ولقد ترك
اليهود من غير يوم مع تحرجهم في السبت أشد من تحرج المسيحيين في العمل يوم
الأحد، فإذا قسمت الأيام بين العناصر الدينية وجبت عطلة الأعمال ثلاثة أيام في
الأسبوع! !
اصطلحت الحكومات الإسلامية على جعل يوم الجمعة هو يوم البطالة الرسمي
فأصبحت عطلة ذلك اليوم عادة للحكومات الإسلامية، وواحدًا من تقاليدها القديمة
التي تمتاز بها عن غيرها، فهي بذلك لا يجوز لها أن تعطل غير يوم الجمعة من
أيام الأسبوع، إذا أمكن أن يعطل النظر في مصالح الناس يومين اثنين غير أيام
الأعياد القومية. ذلك، ولأن عطلة يوم الجمعة جزء من السيادة، جرت حكومة
لبنان وهي حكومة مسيحية واليها مسيحي وأكثرية الشعب فيها مسيحية على أن
تعطل يوم الجمعة؛ حفظًا لتقاليد الدولة العلية ذات السيادة عليها.
على أنه من الضروري البحث فيما إذا كان الأقباط غير الموظفين وغير
تلامذة المدارس يشتغلون يوم الأحد أم هم يعتقون أن من يشتغل فيه يقتل؟ الواقع
أن الأقباط في مزارعهم يشتغلون كل الأيام من غير فرق، كما أن المسلمين
يشتغلون في مزارعهم كل أيام الأسبوع من غير تفريق بين الجمعة وغيرها إلا وقت
صلاة الجمعة، فما هي الحاجة لهذه البدعة الجديدة وهي إبطال مصالح الحكومة
ومدارسها يوم الأحد أيضًا.
الظاهر أن الدافع إلى ذلك هو الطمع في انتهاز فرصة الاحتلال المسيحي؛
لإبطال التقاليد الإسلامية والاستهانة بالأكثرية، وتقسيم الشعائر القومية نصفين
متساويين بين أقلية صغيرة بعض أفرادها على دين الإنكليز وبين الأكثرية الكبرى
الإسلامية، تعطل الحكومة أعمالها يومين، كما يجب عليها جريًا على هذا المبدأ
الاحتفال رسميًّا بأعياد الجماعتين على السواء، مع عدم ملاحظة طابع الحكومة
ووصفها الإسلامي، ومع عدم اعتبار أن هناك أكثرية دينها يجب أن يكون الدين
الرسمي لا غيره، وتقاليدها هي التقاليد الرسمية لا غيرها، أمر لم يكن له مثيل في
حكومة من حكومات العالم ولا في إنكلترا نفسها التي ليس لحكومتها إلا دين رسمي
واحد.
لا يظهر أن لهذا الطلب دافعًا غير الطمع في إخضاع الأكثرية إلى أحكام
الأقلية الدينية؛ لأن الطلب مجرد عن المنفعة العملية؛ إذ لو فرض أن الحكومة
تعطل يوم الأحد - وذلك لن يكون بالضرورة - فما الذي يكره الأقباط الفلاحين على
عدم كسر الأحد، وهم يكسرونه مختارين، فأما أصحاب المحلات التجارية القليلون
الذين يقفلون محلاتهم يوم الأحد، فذلك لأن ارتباطهم بالبنوك والحركة التجارية
العامة تقضي بذلك كما يقفل المسلمون أنفسهم، وإذا كان الأفراد الأقباط يشتغلون
مختارين يوم الأحد، فأي نتيجة عملية ينالها المؤتمرون في جمعيتهم
العمومية منذ ذلك المطلب؟
وعهدنا في أولي الرأي من الأقباط أن يدركوا إدراكًا صحيحًا مقدار الخطأ
الذي ارتكبه جماعة المؤتمرين منهم؛ بتقرير مثل هذا القرار الذي مع كونه غير
ميسور الإجابة مطلقًا لا يخلو من الضرر؛ لما فيه من دواعي التفريق بين أفراد
الأمة الواحدة، ولما يستتبعه من سوء الظن بالأقباط، بل يسرنا أن لا يفكر
المسلمون كثيرًا في العوامل الباعثة على مثل هذا الطلب، وأن يقابلوه بغاية
التسامح، ونطلب إلى هذا المؤتمر أن يقرر بعدم إمكانه وعدم فائدته، وبأنه مضر
بالجامعة القومية، فيجب إغفاله والتجاوز عنه.
2- قاعدة التوظيف في الحكومة:
ليس في قوانين التوظيف في الحكومة المصرية شرط يمنع المصري الكفء
من الوصول إلى أرقى المناصب مهما كان دينه، ولكن الاستقراء يدلنا على أن
بعض الوظائف الإدارية كوظيفة مدير إقليم لم يشغلها إلى الآن غير مسلم، مع أن
الوظائف الأرقى منها؛ كوظيفة قاضي الاستئناف أو وكيل نظارة من النظارات،
أو مركز ناظر، أو رئيس نظار، شغلها ويشغلها الأقباط. ولا طريق لتفسير هذا
التضاد إلا أن تكون الحكومة في تطبيق قانون التوظيف تلحظ الكفاءة من جميع
الوجوه الممكنة، ومن تلك الوجوه الاعتبار الذاتي لحاكم الأقاليم؛ لأن هؤلاء الحكام
الإداريين يلزمهم كثيرًا في تصريف الأمور نفوذهم الذاتي أكثر من قوة القانون،
فمن المسائل الكثيرة التي يجب عليهم القيام بها بمقتضى وظائفهم حمل الأهالي على
المشروعات المفيدة؛ كالمجالس البلدية المختلطة، وكترقية التعليم بوسائل الاكتتاب،
والإصلاح بين العائلات وبين العربان، وعلى العموم فإن تنفيذ الأوامر الإدارية
تسهله كثيرًا اعتبار الحاكم الذاتي، متى أضيف إليها سلطة وظيفته.
ومن المسلم أن الرجل لا يتم له هذا السلطان على محكوميه في حكومة
كالحكومة المصرية، إلا إذا اعتقد الناس فيه عدم التحيز لطائفة دون طائفة وأقرب
الناس إلى ذلك من الحكام هم المسلمون؛ لا لأنهم مسلمون بل لأن التعصب والتحيز
لا يكون من شعار أفراد الأكثرية الدينية، ولكن الحوادث العامة تدل على أن من
دأب الأقلية الدينية - إذا أحبت أن لا تفي في الأكثرية - أن تجتهد في إثبات ذاتيتها
بصفتها مجموعًا خاصًّا مستقلًّا، ولا تفتأ تعطي كل يوم مثلاً جديدًا على تضامنها،
ولقد يؤدي الإفراط في التضامن إلى الوقوع فيما لا يتفق مع نزاهة الحاكم، ذلك
أمر يكاد يكون عامًّا في جميع الأقليات الدينية، وإن كان لدينا من الأمثلة على
نزاهة بعض كبار الموظفين من الأقباط، وعدم تحيزهم وقيامهم بالواجب العام خير
قيام، إلا أن تطبيق الحكومة في قانون التوظيف في الوظائف الإدارية العالية يدل
على أنها تخشى من جراء الإفراط في التضامن بين أفراد الأقلية
ومن الأسف أن الأقباط بقراراتهم الأخيرة في الجمعية العمومية، قد صدقوا
نظر الحكومة فيهم، وأعطوها برهانًا قاطعًا على أنهم يشتغلون بوصف أنهم أقباط
قبل كل شيء، مع أن حاكم الإقليم يجب أن يكون مصريًّا قبل كل شيء.
أجل، إن مما يستحق الأسف أن يظهر الأقباط في مصر بهذا المظهر الذي
تأباه عليهم وطنيتهم، فقد جمعوا جمعيتهم العمومية؛ ليقصروا عملهم فيها على ما
يتعلق بهم وحدهم من الشؤون العامة، ثم صرح بعض خطبائهم بوجود فتور في
العلاقات بين المسلمين وبين الأقباط. ثم طلبوا أن يكون لهم امتياز خاص في
الهيئات النيابية المصرية، بأن يجعل للمسلمين دائرة انتخاب خاصة، وللأقباط
دائرة انتخاب خاصة، ثم يحاسبون على ما يدفعونه من ضريبة الخمسة في المائة
المخصصة للتعليم، يقررون كل هذه الفروق، في حين أنهم يقررون فيما يتعلق
بالوظائف بفناء طائفتهم القبطية في الأمة المصرية، إذ يقولون: إنهم لا يطلبون
وظيفة مدير ولا وزير، بل يطلبون أن لا يكون تنفيذ القانون مانعًا لأي مصري من
الدخول في أية وظيفة ثبتت كفاءته لها.
وبالتوفيق بين جميع نقط التفريق بين العنصرين التي ذكرها الأقباط في
جمعيتهم العمومية، وبين تقريرهم قاعدة الكفاءة بمعناها الأخص لوظائف الإدارة.
يبين أن تقرير الكفاءة ليس غرضًا من أغراضهم الجدية. ولكنهم يرمون إلى
غرض آخر؛ هو التذرع إلى الاختصاص بالسلطة في جميع فروع الحكومة.
نعم.. ليكون الأقباط منتخبين نتيجة منطقية في مطالبهم، يجب أن
يقولوا: إنهم أمة صغيرة مع الأمة الكبيرة، تقاسمها في أيام العطلة، وتقاسمها في
الخمسة في المئة من الضريبة، وتقاسمها في النواب عن البلاد للدفاع عن الأقلية،
وتقاسمها في الوظائف أيضًا، غير أنهم قد رأوا أن نصيبهم من الوظائف أظهر من
أن يستر كالمقاصد الأخرى، فرأوا أن يتذرعوا في هذا الطلب بأنهم مصريون قبل
كل شيء، ولكن في بقية الأغراض الأخرى هم أقباط قبل كل شيء.
إن لم يكن الأمر كذلك، وكان الأقباط حقيقة يريدون أن يكونوا مصريين قبل
كل شيء، يقررون الوظائف بالكفاءة والنيابة بالكفاءة، ويعتبرون أن لا مسلم ولا
قبطي كما اعتبر المسلمون ذلك، فانتخبوا نوابًا من الأقباط في مجالس المديريات
وفي الجمعية العمومية، كما سيجيء بيانه، فلماذا يريدون اختصاص الأقباط
- وليسوا أقلية سياسية - بدائرة انتخاب خاصة، يجمعونهم من أطراف البلاد؛
لينتخبوا كأنما لهم مذاهب سياسية تخالف مذاهب المسلمين.
لا جواب على ذلك إلا أنهم ظنوا خطأ؛ أن الاحتلال الإنكليزي يستطيع أن
يرضي الأقلية، فيذهب بتقاليد البلاد، ويمحو مظاهر المساواة والعدل في أرجائها.
أو أن هذا الاضطراب الذي قاموا به يروق في عين الإنكليز، وهو ظن أبلغ في
الخطأ من سابقه.
ولئن كانوا بتقرير الكفاءة يستقلون ما في أيديهم من الوظائف، فإنه إذا كانت
نسبة الموظفين منهم في المعارف إلى المسلمين 6 في المائة، فإن نسبتهم للمسلمين
في نظارة الداخلية 59.61 في المائة، وليست نسبة مرتباتهم لمرتبات المسلمين قليلة
في هذه النظارة؛ لأن نسبتهم في المرتبات هي 40.28 في المائة، مع أن نسبتهم
العددية للمسلمين لا تتجاوز 6.43 في المائة، وبالنسبة للثروة لا تتجاوز 10 في
المائة، كذلك نسبتهم في نظارة الحقانية 15 في المائة في عدد الوظائف و 14.5 في
المائة في المرتبات، كذلك في نظارة المالية نسبتهم إلى المسلمين 46 في المائة
غير الصيارف الذين عددهم 1877، مع أن عدد المسلمين منهم لا يتجاوز الخمسين.
كما يظهر من الإحصاء التفصيلي المرفق بهذا التقرير.
كل من يقرأ هذه النسبة بين عدد الأقباط في مصر وبين الموظفين منهم، لا
يرى مناصًا من الميل إلى فكره القائلين بأن الرئيس القبطي متى حل في مركز
الرئاسة تطرف في تطبيق معنى التضامن بينه وبين أبناء دينه، فكانت النتيجة
أن المصالح التي يكثر فيها الرؤساء الأقباط؛ كالباشكاتب، والمراقبين في المالية،
ورؤساء الحركة والبضائع في السكة الحديد لا تكاد تقبل توظيف المسلمين بها،
ولا شك في أن هذه الملاحظة يجب أن تكون درسًا للحكومة تستفيد منه كلما همت
بتعين رئيس قبطي في المصالح.
ولقد كانت هذه الحال غير مجهولة عند المسلمين، ولكنهم كانوا يرون
التصريح بها داعيًا إلى التفريق بين عنصري الأمة، وموطئًا لاتهامهم بالتعصب
بوجه ما. ولكن الأقباط قد رفعوا أصواتهم عالية بأنهم مظلومون فيما يتعلق
بالتوظيف، محرومون من بعض السلطة في الحكومة طالبين الوظائف الرئيسة في
الإدارة. فلم يبق بعد ذلك معنى لعدم إظهار الحالة السيئة التي سارت عليها المصالح
الأميرية إلى الآن.
مهما كان من الاعتبارات التي تقف في طريق القبطي؛ ليكون حاكمًا لإقليم،
سواء كان ذلك من حيث أن في أيدي الأقباط من الوظائف الرئيسية الأخرى ما يزيد
عن الكفاية، أو من حيث أنه لا توجد مديرية من المديريات ولا مركز من المراكز
فيه للأقباط أكثرية أو أقلية كبرى، كما يبين من الإحصاء المرفق بهذا التقرير. أو
من حيث كون المدير أو المأمور عليه بمقتضى وظيفته واجبات يومية لها مساس
عن قرب بالأمور الدينية. فإن ما سميناه بالإفراط في التضامن بين الرئيس القبطي
وأبناء دينه، قد يكون هو أكبر الموانع في الرضى بجعل القبطي مديرًا أو مأمورًا
خصوصًا بعد اليوم الذي ظهر فيه أولو الرأي منهم بالعمل لاختصاص الأقباط
الأقلين بالسلطة دون المسلمين الأكثرين. فإن أول المطلوب في أمر الحاكم أن لا
يكره المحكومون سلطته عليهم. وقد كان الأهالي بعيدين بعض الشيء عن فكرة
التمييز على طريقة ظاهرة معينة بين الموظف القبطي وبين الموظف المسلم.
ولكنهم الآن قد شعروا تمامًا بأن تسامحهم قلب عليهم تعصبًا، وانتخابهم للنواب
الأقباط دون المسلمين في بعض المراكز لم ينل في نظر الأقباط أي اعتبار من
الاعتبارات.
وأنه ليسر اللجنة أن يجيء اليوم الذي فيه يعم الاقتناع بأن الرئيس القطبي
كالرئيس المسلم، يسوي بين الناس في عدله وتصرفاته؛ ليكون مصريًّا قبل كل
شيء.
على هذه الاعتبارات تطلب اللجنة إلى المؤتمر أن يقرر بالرضى عن الطريقة
المتبعة في تطبيق الكفاءة بالنسبة لحكام الأقاليم وإلفات نظر الحكومة إلى ما هو واقع
في بعض المصالح لتضع لذلك حدًّا يمنع من العبث بالمصالح العامة.
3 - وضع نظام لمجالس المديريات يكفل للأقباط تمتعهم بالتعليم الأهلي:
أباح القانون لمجالس المديريات ضرب الضرائب على الأطيان، بحيث لا
تتجاوز الخمسة في المائة من الضريبة الحالية، وهذه الضريبة تصرف إما على
المشروعات العمومية أو مدارس ابتدائية أو صناعية وزراعية. وهذا لا يعارض
الأقباط فيه، وإنما معارضتهم واردة على ما ينفق على الكتاتيب الأولية ومدراس
معلمي الكتاتيب. ولا ندري وجه هذا الاعتراض، وهم يعترفون أنه لا مانع في
قانون مجالس المديريات يمنع من قبول التلاميذ الأقباط في الكتاتيب، إلا أن يكون
الاعتراض بأن هذه الكتاتيب لا تعلم الدين المسيحي.
إن الجزء الأعظم من الكتاتيب التي تديرها مجالس المديريات إلى الآن
والكتاتيب التي تعينها نظارة المعارف، إنما هي كتاتيب بناها المسلمون، وأجروا
عليها الأوقاف تعبدًا؛ ليتعلم فيها صبيان القرى القراءة والكتابة والقرآن وطرفًا من
الحاسب. وليس في البلاد قانون يمنع صبيان الأقباط من التعلم فيها. وأما مدارس
معلمي الكتاتيب، فإنها تضم جماعة من الفقهاء، يتعلمون شيئًا من أصول التربية،
وأطرافًا من مقدمات العلوم ليكونوا بعد ذلك معلمين للقرآن وغيره في تلك الكتاتيب،
فالقبطي لا يجيد تعلم القرآن ليعلمه لأبناء المسلمين؛ لذلك صار من غير الموافق
أن يكون في هذه المدارس أقباط، ولا غبن في ذلك عليهم؛ لأن العرفاء الأقباط
يتعلمون في الأديرة وما شاكلها؛ ليعلموا الدين في الكتاتيب القبطية.
فإن كان الغرض جعل الدين المسيحي والدين الإسلامي يعلمان في مكاتب
القرى، فذلك غير مستطاع ولا مأمون النتيجة؛ لأن أصول التعليم في تلك الكتاتيب
لا تزال إلى الآن دينية بحتة. لذلك لا يصح الاستشهاد بتخصيص حصة آخر النهار
في المدارس الأميرية لتعليم الدين الإسلامي أو الدين المسيحي؛ لأن هذه المدارس
ليس طابعها في التعليم كطابع الكتاتيب الدينية التي معظم ما فيها من التعليم هو
تعليم القرآن، كما أن الاستشهاد بعمل مديرية القليوبية غير صحيح، لأنها لم تعلم
الدين المسيحي في الكتاتيب الإسلامية بل في المدارس الابتدائية جريًا على نظام
نظارة المعارف.
وأما الكتاتيب فإنها إسلامية إلا في ثلاث قرى وجد فيها عدد من الأقباط يسمح
بإنشاء كتاب مسيحي في كل منها. فأنشئ في كل قرية منها كتاب مسيحي صرف.
وتلك هي أفضل طريقة للتعليم الأولي.
وعلى هذا فالشكوى من نظام مجالس المديريات فيما يتعلق بالتعليم أقرب
إلى أن تأخذ صورة التجني من أن تأخذ صورة الشكوى الجدية. والدليل على ذلك
أعمال مجالس المديريات إلى الآن.
وإن اللجنة في هذا المقام لا يسعها إلا أن تظهر عدم الرضى عن الخطة التي
اختطها بعض مجالس المديريات؛ لتعليم الدين المسيحي في الكتاتيب الإسلامية؛
لأن ذلك خلط في الأنماط التعليمية لا يكون من ورائها إلا نتيجة سيئة؛ وهي إيجاد
متسع للمناقشات الدينية في هذه الأوساط التي لا يزال يغلب عليها الجهل. ولكن
يسرنا أن هذه الطريقة لم تكن عامة في المديريات جميعها، وربما تظهر التجربة
فساد الرأي، ويرجع مجلس المديرية عنه إلى المذهب العام الذي اتخذه معظم
المديريات؛ وهو جعل كتاتيب خاصة بالمسلمين وأخرى بالأقباط.
(مديرية القليوبية) عدد سكانها 433546 منهم 8703 أقباطًا، ومجموع
ضريبة الخمسة في المائة هو مبلغ 13868 جنيهًا، يدفع الأقباط منها 689 جنيهًا،
وحظهم في التعليم أضعاف ما يستحقون بنسبة ما يدفعون من الضريبة، فإن مجلس
المديرية عنده مدرستان ابتدائيتان في بنها: إحداهما للبنين وبها 182 تلميذًا منهم
47أقباطًا وميزانيتها السنوية 900 جنيهًا، والثانية للبنات وبها 115 تلميذة منهن
35 قبطية وميزانيتها السنوية 500 جنيه، وتعليم الدين في هاتين المدرستين في
الحصة الأخيرة من النهار، متى جاءت تلقى كل فريق التعليم الديني في غرفة
خاصة. وسيكون للأقباط ذلك الحظ أيضًا في الثلاث المدارس الابتدائية المقرر
إنشاؤها في مراكز المديرية، فإذا كان متوسط ما يصرف على المدرسة الواحدة
800 جنيه في السنة، وكان الأقباط على نسبة الثلث في كل مدرسة كما هو الآن
في المدرستين الموجودتين، كان مقدار ما يصرف على الأقباط في ميزانية مجلس
مديرية القليوبية هو ألف جنيه سنويًّا.
أما الكتاتيب: فإن المجلس قد قرر بشأنها أن تبقى كما كانت مفتوحة الأبواب
للمسلمين وغيرهم في جميع القرى. ومما يستحق الذكر أن المجلس ضم إليه كتابين
قبطيين ليديرهما، وقرر إنشاء كتاب قبطي صرف في إحدى القرى، وتبلغ نفقات
إنشائه 300 جنيه، وتبلغ نفقات الثلاثة الكتاتيب 210 جنيهات سنويًّا، فهل يمكن
أن يقول الأقباط: إنهم مظلومون في ضريبة الخمسة في المائة في هذه المديرية؟
(مديرية الشرقية) لم يبتدئ مجلس هذه المديرية فعلاً في أمر التعليم، بل
كل أعماله تجهيزية، ولم يظهر له طريقة اتبعها في ذلك يمكن لأحد أن يأخذ عليه
أو يشكو منها.
(مديرية الدقهلية) قرر مجلسها أن القرى التي يقل فيها عدد الأقباط، يقبل
أبناؤهم في الكتاتيب الموجودة بها. وأما في التي يحتمل عددهم فيها إنشاء كتَّاب
قبطي فالمجلس مستعد لإنشائه، وقد قرر هذا المجلس منح مدرسة قبطية للبنات
إعانة سنوية وصرفها لها فعلاً من سنة 1910، وقرر المجلس أيضًا إنشاء كتاب؛
لتعليم أبناء الأقباط في صهرجت الكبرى، وسينفذ القرار في هذا العام. أما في
غير التعليم الأولي فالأقباط والمسلمون سواء.
(مديرية الغربية) لم يشرع المجلس حتى الآن في اتخاذ طريقة للتعليم،
ولكن المجلس عندما يقرر الإعانات في المعاهد الأهلية، لا بد أن يعامل كتاتيب
الأقباط وكتاتيب المسلمين على السواء.
(مديرية المنوفية) لم تنته المدارس والكتاتيب التي قرر المجلس إنشاءها،
وطلبات إعانة المدارس القبطية تحت نظر المجلس.
(مديرية البحيرة) كذلك في هذه المديرية تصرف الإعانات لجميع الكتاتيب
على السواء. وأما المدارس الابتدائية فمفتوحة للأقباط والمسلمين بحسب بروجرام
نظارة المعارف. ويوجد الآن في مدرسة شبراخيت 26 تلميذًا قبطيًّا منهم 5 مجانًا.
ومجموع تلامذة المدرسة 208، وكذلك في مدرسة المحمودية 12 قبطيًّا منهم اثنان
مجانًا، وعدد جميع التلاميذ 205، ويلاحظ هنا أن نسبة الأقباط للمسلمين في هذه
المديرية هي 1 وثلاثة أعشار في المائة.
(مديرية الجيزة) قرر المجلس أن دروس القرآن بعد الظهر. وأما قبل
الظهر فللتعليم العام في الكتاتيب للمسلمين وغير المسلمين، وقد قرر هذا المجلس
في 27 يوليو سنة 910 أنه إنما بلغ عدد الأقباط في الكتاتيب 36 تلميذًا، يعين لهم
المجلس معلمًا يلقنهم الدين المسيحي في الوقت الذي يتلقى فيها المسلمون دروس
القرآن.
(مديرية بني سويف) المعاهد التابعة للمجلس هي مدرسة بني سويف
الصناعية وتلامذتها من المسلمين والأقباط، وتقرر إنشاء مدرستين ابتدائيتين
أخريين سيكون الحال فيهما كذلك، وقد تقدمت طلبات إعانة من الجمعية الخيرية
القبطية، والمدرسة الإنجليزية، والمدرسة الطليانية، والمجلس ينظر في تقديم
الإعانة إليها جميعًا.
(مديرية الفيوم) في مدرسة الصنائع وفي مدرسة البنات الأمر سائر على ما
هو عليه في غيرها. وأما التعليم الأولي فقد قرر المجلس إنشاء كتاتيب للأقباط،
يعلم فيها الدين المسيحي في القرى التي يسمح عددهم فيها بذلك، وقرر أيضًا أنه
متى كان عدد التلامذة الأقباط في الكتاتيب الإسلامية يسمح بوجود معلم للديانة
المسيحية، يعين المجلس لهم معلمًا دينيًّا.
(مديرية المنيا) في هذه المديرية وضعت اللجنة العلمية المبادئ التي تتبع
في الكتاتيب، وكان من أعضائها عضوان مسيحيان من قبل مطران المنيا وهذه
القواعد هي:
1 - إن مواد التعليم في الكتاتيب واحدة، وأن يعلم في الكتاتيب المسيحية
الكتب الدينية التي اقترحها العضوان المسيحيان ويخصص لها الحصص المخصصة
في الكتاتيب الإسلامية؛ لتعليم الديانة والقرآن، وللكتاتيب المسيحية الحق في
تغيير تلك الكتب بشرط تصديق اللجنة العلمية وبلغ هذا القرار لسيادة مطران
المنيا ومطران بني سويف.
2 - أن تكون الكتاتيب مفتوحة الأبواب لجميع التلامذة بصرف النظر
عن اختلاف دينهم.
(مديرية أسيوط) قرر مجلس هذه المديرية إدارة 79 كُتَّابًا منها 9 كتاتيب
للأقباط، يتولى المجلس الصرف عليها جميعها بلا استثناء، ويكون التعليم فيها
جميعًا مجانًا. وأما الثلاث مدارس الابتدائية فهي مفتوحة الأبواب للجميع، وفي
هذه المدارس الثلاث 20 في المائة من الأقباط، والأقباط فيها يعلمون دينهم
كالمسلمين على السواء.
أما المعاهد العلمية فقد خصص لها المجلس إعانة 2000 جنيه في السنة، تأخذ
المعاهد القبطية منها حظها.
(مديرية جرجا) يدر المجلس أربع مدارس ابتدائية للصبيان، وفيها 410
تلميذًا منهم 188 أقباطًا، فيكون نسبتهم للمسلمين هما 24 وثلاثة أرباع في المائة،
مع أن نسبة ما يدفعه الأقباط من الضرائب في المديرية هي 20 في المائة، وهذه
المدارس قد بنيت على نفقة المسلمين خاصة، وقد أنشأ المجلس مدرسة للبنات فيها
70 تلميذة منهن 14 قبطية، وقد تنازل المسلمون للمجلس عن 29 كتابًا، ولم
يتنازل له الأقباط عن شيء، وقد أدارها المجلس وفتح أبوابها للمسلمين والأقباط
على السواء، فيها الآن عدد غير قليل من الأقباط، وقد أوجد المجلس دروسًا
خصوصية في مراكز المديرية؛ لإرشاد معلمي الكتاتيب، وتلقي هذه الدروس مباح
للمعلمين المسلمين والمعلمين الأقباط على السواء. أما فيما يتعلق بتعليم الدين، فقد
اتبع فيه المجلس طريقة نظارة المعارف في مدارسها. وأما في الكتاتيب فما ينشئه
المجلس منها للأقباط خاصة يعلم فيها الدين المسيحي.
(مديرية قنا) اتبع مجلس هذه المديرية في غير التعليم الأولي الطريقة
المتبعة في المديريات الأخرى. أما في التعليم الأولي فالكتاتيب مفتوحة لأبناء
الأقباط، وفي القرى التي يكثر فيها عددهم قرر المجلس إنشاء كتاتيب خاصة بهم،
وتقرر فعلاً بناء أربعة كتاتيب مسيحية في جهات مختلفة: وبروجرامها هو
بروجرام الكتاتيب الإسلامية، مع إبدال دروس القرآن بدروس الديانة المسيحية،
حسبما يقرره رؤساء الديانة.
(مديرية أسوان) لم ينشئ المجلس كتاتيب إلى الآن في هذه المديرية لا
للمسلمين ولا للأقباط، وفي غير التعليم الأولي الأمر على ما هو عليه في
المديريات الأخرى.
هذا هو بالإجمال طرف من الواقع في مجالس المديريات نعرضه على
المؤتمر؛ ليرى ما إذا كان هناك محل للشكوى من تصرف هذه المجالس، وهل
هناك حاجة لوضع نظام جديد يكفل تعليم أبناء الأقباط أكثر من النظام الذي اتخذته
هذه المجالس؛ وهي لم تكد تخطو خطوة صحيحة بعد في سبيل التعليم لجدتها.
ومن الضروري أن نلفت النظر في هذا المقام على حالة التعليم في نظارة
المعارف بالنسبة للأقباط، وإن لم تكن موضعًا للشكوى، ولكنها كان من شأنها أن
تجعل إخواننا الأقباط راضين بحالهم من غير أن يتعرضوا على الإلحاح في قسمة
ضريبة الخمسة في المائة بين المسلمين وبين الأقباط، تلك الضريبة التي ظهر أن
ليس لهم حق في الشكوى من طريقة توزيعها، والتي إن لم يأخذوا أكثر من حقهم
فيها فلن يغبنوا قياسًا على حالهم في المرافق المصرية الأخرى، ولو انتظروا إلى
أن تملك مجالس المديريات خطة سيرها النهائي لكانوا أحسنوا صنعًا.
يوجد في المدارس الابتدائية لنظارة المعارف 6639 تلميذًا من المسلمين
يقابلهم 1348 من الأقباط، فتكون نسبة الأقباط للمسلمين في التعليم الابتدائي 17
في المائة، وفي المدارس الابتدائية للبنات 493 مسلمة معهن أربع قبطيات فقط،
فتكون النسبة 2.9 في المائة. وأما المدارس الثانوية فعدد تلامذتها 1628
والأقباط 541، فيكون نسبة الأقباط إلى المسلمين في هذا النوع 24.6 في المائة،
وأما في المدارس الخصوصية؛ كمدرسة الزراعة، ومدرسة الفنون والصنائع،
ومدرسة الصناعة بالمنصورة.. إلخ، فإن نسبة عدد الأقباط للمسلمين هي 2.62
في المائة. أما في المدارس العالية فإن متوسط نسبة الأقباط إلى المسلمين في هذا
النوع من التعليم هو 29.2 في المائة. على ذلك يكون متوسط نسبة التلامذة
الأقباط إلى المسلمين في نظارة المعارف 17.26 في المائة، فأين تلك الحقوق
المهضومة للأقلية، حتى يمكنها التصدي للدفاع عنها بالطرق المختلفة.
نزيد على ذلك أن من ميزانية نظارة المعارف مبلغ 30000 مسمى إيراد
المكاتب الأهلية، وهذا الإيراد هو ربع أوقاف إسلامية أهمها اثنان: أحدهما: وقفه
المرحوم إسماعيل باشا الخديوِ الأسبق وقدره 21918 فدانًا؛ ليصرف ريعه على
ما تحتاجه المكاتب الأهلية. والثاني: وقفه المرحوم توفيق باشا الخديوِ السابق
وهو أملاك في القاهرة؛ نصف للمكاتب والنصف للمساجد، وهذان الوقفان
إسلاميان يجب صرفهما كشرط الواقفين على المكاتب الإسلامية. ولكن هذا الربع
يصرف الآن على عشرين مدرسة تابعة لنظارة المعارف، سميت مدارس المكاتب
الأهلية وعدد تلامذتها 4505 منهم 3551 مسلمًا و867 قبطيًّا و87 من ديانات
أخرى، فيكون التلامذة الأقباط ينتفعون من الوقف الإسلامي الصرف بربع ريعه
تقريبًا، ولم يقل المسلمون في ذلك شيئًا.
زد على ذلك أن كتاتيب أوقاف المسلمين يصرف عليها من ديوان الأوقاف
سنويًّا 16500 جنيه، وفيها من الأقباط عدد غير قليل، وكذلك الكتاتيب التي
تعينها الحكومة يصرف عليها من ميزانية الحكومة 23000 جنيه في السنة وفيها
3239 تلميذًا من الأقباط.
يبين من هذا الإحصاء المختصر أن حال الأقباط في التعليم سواء كان أوليًّا أو
غير أولي، هي حالة يغبطون عليها. فلا يغلو الذي يقول: إن هذا المطلب أشبه
بالتجني منه بالشكوى الصحيحة.
كان العدل أحق أن يتبع؛ لأنه خير واسطة للرضى بين العناصر المؤلفة
للأمة، ولقد يكون التسامح من أنفع وسائط التوفيق بشرط أن يعترف بأنه تسامح،
وأن لا يشعر بأنه غفلة أو استكانة؛ لأنه في هذه الحالة يكون عظيم الضرر على
المصلحة وعلى أخلاق العنصرين جميعًا.
العدل يقضي بأنه إذا حق للأقلية الدينية أن تطلب أن يصرف على أبنائها في
الكتاتيب بنسبة ما تدفعه من ضريبة الخمسة في المائة، مع أن مجالس المديريات لم
تملك بعد ميزان خطتها التعليمية، فقد حق للأكثرية أن تطلب تعليم أبنائها من
نظارة المعارف العمومية على نسبة ما يخص الأكثرية من الميزانية العمومية.
العدل يقضي بأن نسبة التلامذة الأقباط في المدارس الأميرية لا يجوز أن
تزيد على نسبة ما يدفعه الأقباط من الأموال الأميرية.
قد تلاقي هذه الفكرة بادئ بدء غضاضة على النفوس؛ لأنها تنتج حرمان
شخص يريد التعلم من أن يتعلم بحجة أنه قبطي، ولكن الذي يقدر الأشياء تقديرًا
صحيحًا لا يلبث أن يقتنع بأن هذه القاعدة بعيدة عن الانتقاد سليمة من الجور.
نعم.. هي فكرة بعيدة عن الانتقاد؛ لأن أبناء المسلمين يريدون أن يتعلموا
كما يريد أبناء الأقباط أن يتعلموا، ولا يمكن إيجاد توفيق عادل بين الإرادتين إلا
قبول الطرفين كل على نسبة ما يدفعه لخزينة المعارف من النقود؛ وإلا فإن الأقباط
يدفعون من الأموال الأميرية على نسبة العشر مما تدفعه الأكثرية، فيكون كل ما
زاد عن 10 في المائة من التلاميذ الأقباط يتعلم مجانًا على مصاريف الأكثرية في
حين أن أبناءهم أنفسهم محرومون من التعليم الذي يسعون إليه.
حقيقة كان ينبغي للأكثرية من باب إكثار عدد المتعلمين، أيًّا كان أن يتعلم
أبناء الأقلية في مدارس الحكومة مجانًا على مصاريفها؛ كان ينبغي ذلك لو أن
المدارس تقبل عددًا غير محدود، فأما وتلامذة التعليم الابتدائي وتلامذة التعليم
الثانوي بل تلامذة التعليم العالي كلهم يقفون على أبواب المدارس، وفي أيديهم
المصاريف المدرسية فترتج أمامهم أبوابها؛ لأن المدرسة قد استوفت العدد المقرر لها،
بل العدد الذي تسعه بالفعل ولا تسع غيره، أما والحال كذلك فتكون الأكثرية
محقة فيما إذا طلبت أن لا يزيد عدد التلامذة الأقباط في مدارس الحكومة عن العشر.
ذلك هو العدل، ومؤتمر أسيوط يقول: إن العدل أحسن الطرائق لحسن
التفاهم واستدامة المودة بين العنصرين.
فإذا كان العدل داعيًا للتوفيق، فإن التسامح أدعى إليه. وقد ثبت جليًّا أن
الأقباط يأخذون بتسامح المسلمين من ضريبة الخمسة في المائة أكثر من حقوقهم؛
لذلك يكون الطلب المتعلق بتلك الضريبة باطلاً ولا محل له.
4- وضع نظام يكفل تمثيل كل عنصر مصري في المجالس النيابية:
حتى هذا المطلب فإنه على جماله، قد كسي هو أيضًا ثوبًا من التعرض شوه
جماله وحوله عن مركزه العالي، وطبعه بطابع بقية المطالب الأخرى. يتلخص
هذا المطلب في أن الأقلية الدينية غير ممثلة تمثيلاً كافيًا في الهيئات النيابية؛ لأن
أفرادها أشتات في المراكز والمديريات المختلفة، فيراد تعديل قانون الانتخاب بكيفية
تمكن الأقباط من أن يمثلوا في الهيئات النيابية في مصر.
والواقع أن قانون الانتخاب على صورته الحالية لا يستطيع أن يمثل جميع
أجزاء الأمة في المجالس النيابية، ونعني بأجزاء الأمة أجزاءها السياسية لا الدينية،
فإن من الأقباط في كل حزب من الأحزاب المصرية التي يمثل كل منها خطة
خاصة - وإن كانت تلك الخطة كثيرة التقارب بعضها من بعض - إلا أن بينها مع
ذلك من الفوارق ما يجعلها متغايرة نوعًا ما، فإذا كان المراد تقليد قانون الانتخاب
البلجيكي وجب أن لا تكون الأقليات المختلفة أقليات دينية، بل أقليات سياسية كما
هو الحاصل في تلك البلاد.
يقولون في ذلك قولاً يدل بظاهره على التودد للمسلمين والتقرب منهم، ولكنه
يشف دائمًا على شبه إنذار بأنه إن لم توافق الأكثرية على منح الأقلية الدينية
نظامًا يكفل لها تمثيلها في المجالس النيابية، كان الإخاء المصري لفظًا لا معنى له،
والمساواة معنى معطلاً من كل نتيجة عملية.
على أن الذي يريد الإخاء الحقيقي والمساواة الكاملة بحسب الإمكان، لا ينبغي
له أن يدعو إلى بناء كيان سياسي للأقلية الدينية، بل يجب عليه أن يمحو الفروق
الدينية بالمرة من الاعتبارات السياسية، ويدعو المسلمين لانتخاب الكفء ولو قبطيًّا،
والأقباط لانتخاب الكفء ولو مسلمًا، وأن يمزج المصالح المشتركة بين المسلمين
وبين الأقباط، حتى لا يشعر أحدهم في الأعمال العامة بمخالفة جاره إياه في دينه،
ولا يحاول جمع الأقباط في صعيد واحد؛ لتكون لهم دائرة انتخاب بعينها؛ لأن هذا
يدل دلالة واضحة على أن الأقباط لا يستريحون ولا يصدقون بالإخاء والمساواة إلا
إذا مكنوا من انتخاب أقباط مثلهم، وذلك بالضرورة قسمة والقسمة تنافي الوحدة.
وذلك تفريق للعناصر الدينية المختلفة وتعليم لها على أن تجمد على اعتبار الاعتقاد
الديني فارقًا قوميًّا يرجح على المصلحة العامة، ذلك تنبيه إلى أن المسلم من شأنه
أن لا يدافع عن مصلحة القبطي، والقبطي من شأنه أن لا يدافع عن مصلحة المسلم،
إن سلوك مثل هذا الطريق لا يتفق مطلقًا مع ما يقولون به من المساواة، وما
ينادون به من أن الأقباط مصريون قبل كل شيء.
لو أن طائفة المتعلمين في البلد أو بعض بطون هذه الطائفة المتعلمة؛
كالمحامين أو المهندسين أو الأطباء أو المعلمين ... إلخ. أو أن حزبًا من الأحزاب
السياسية ذا مبادئ معروفة وخطة مرسومة؛ قام فأظهر أن مبادئه ليست ممثلة في
الهيئات النيابية، وطلب تعديل قانون الانتخاب لكان ذلك واضحًا مفهومًا. ولكن
أقلية دينية تقول بالمساواة، وتظهر بالسعي في محو الفروق بين أفراد الأمة
تجيء في الوقت عينه تصرح بأن لها حقوقًا تنافي حقوق الأمة، وأنها لا بد لها من
أن تعتبر نفسها أقلية سياسية؛ كالأقليات السياسية البلجيكية؛ لتجعل انتخاباتها في
معزل عن انتخابات المسلمين؛ لأنها لا تأمن المسلمين على مصالحها في الهيئات
النيابية، وما أجدر الذي يطلب هذا الطلب إلا بأن يقول: نحن الأقباط أقلية دينية،
كلنا على مذهب واحد في السياسة يخالف مذهب الأمة المتعصبة علينا، فحفظ
وجودنا السياسي يقتضي أن تكون لنا دوائر انتخاب خاصة.
والذي يقول ذلك، يجب عليه أن يعترف بأنه يرمي إلى أن تصير أقليته يومًا
من الأيام أكثرية تحوز في يدها السلطة على البلاد. وذلك هو الأمل الذي تعيش به
كل أقلية من الأقليات السياسية. ولكن لا يستطيع الأقباط بوصف أنهم أقلية دينية
أن يصبحوا أكثرية سياسية، ما داموا يمزجون الدين بالسياسة، وما دام برنامجهم
أنهم أقباط قبل كل شيء.
إذن يجب علينا أن نصرح بأن هذا المطلب خطأ في أصله، ولكن مسئولية
الخطأ واقعة على الحكومة كما بينا سابقًا؛ لأنها تركت الناس يفهمون أنها تحفظ
للأقلية الدينية مراكز سياسية للدفاع عن مصالحها، فأما لو كانت تنتخب ما تراه هي
كفؤًا لأي كرسي يخلو في مجلس شورى القوانين، من غير نظر إلى أقلية دينية،
فمرة يصيب الانتخاب قبطيًّا ومرة يصيب مسلمًا، وحينًا يكون في المجلس خمسة
من الأقباط أو ستة، وأحيانًا لا يكون ولا واحد. لو كانت الحكومة جرت على هذا
المبدأ في مجلس الشورى؛ لما وقع الأقباط في هذا الخطأ العظيم، ولما ظنوا أن
أقليتهم الدينية يمكن أن تعتبر أقلية سياسية، ولكن ذلك كان.
ومع هذا كله، فهل يمكن للأقباط أن يشكوا من معاملة المسلمين إياهم في
الانتخابات العمومية؟
انتخب أحد الأقباط في مركز قليوب، ونال الانتخاب ضد أكبر أعيانها
المسلمين، وهو الوكيل الدائم لمجلس شورى القوانين، وما انتخبه إلا المسلمون.
انتخب كذلك بمركز السنطة أحد الأقباط، وكل منتخبيه من المسلمين.
انتخب أحد الأقباط نائبًا عن مركز الصف، وعدد مندوبي الانتخاب في هذا
المركز أربعون مندوبًا ليس منهم أقباط إلا أربعة.
انتخب أحد الأقباط نائبًا عن مركز بني مزار وعدد مندوبيه 50، وليس منهم
أقباط إلا خمسة.
انتخب أحد الأقباط نائبًا عن مركز الفشن وعدد مندوبيه 36، وليس منهم
أقباط إلا أربعة.
انتخب أحد الأقباط نائبًا عن مركز ديروط، وعدد مندوبيه 58 منهم خمسة
أقباط فقط.
انتخب أحد الأقباط نائبًا عن مركز أبو تيج، وعدد مندوبيه 37 منهم ستة أقباط
فقط، كذلك انتخب قبطي نائبًا في الجمعية العمومية عن مديرية الجيزة، وليس لها
إلا نائبان فقط أحدهما مسلم والآخر قبطي، مع أن عدد مندوبي الانتخاب في
المديرية 173 ليس فيهم إلا قبطيان.
كذلك انتخبت مديرية المنيا عنها نائبين للجمعية العمومية: أحدهما مسلم
والثاني قبطي، مع أن مجموع مندوبي الانتخاب في المديرية هو 273 منهم 24
قبطيًّا فقط.
أمام هذه الإحصائية، يجب أن يدرك إخواننا الأقباط - ونخص منهم الشبان-
أن علاقات المودة والثقة، لا يمكن أن تجد مظهرًا أوضح من هذا المظهر لإقناع
كل منصف أن المسلمين لا يقيمون وزنًا لاختلاف العقائد الدينية فيما يتعلق
بالانتخاب، فأية مصلحة من مصالحهم قد ضحيت أكثر مما تضحى مصالح
المسلمين بالطريقة الحاضرة للانتخاب؟
على أن المسلمين في الهيئات النيابية الكبرى ليسوا ممثلين تمثيلاً يفوق
تمثيل الأقباط. فإن الجمعية العمومية فيها 76 عضوًا منهم خمسة أقباط، أي بنسبة
سبعة في المائة، وكذلك مجلس شورى القوانين عدد أعضائه ثلاثون منهم ثلاثة
أقباط، أي أن نسبتهم للمسلمين تساوي 10 في المائة، على أن نسبتهم لمجموع عدد
السكان لا تتجاوز 6.43 في المائة.
كذلك في المديريات التي يرشح الأقباط فيها أنفسهم للانتخاب، فإنهم ممثلون
فيها تمثيلاً فوق نسبتم العددية، فمديرية الجيزة يمثل أقباطها في الجمعية العمومية
على نسبة 50 في المائة، وفي مجلس المديرية يمثل الأقباط على نسبة 10 في
المائة، مع أن نسبتهم في تلك المديرية 2 وثلاثة أخماس في المائة من سكان
المديرية.
كذلك مديرية المنيا أقباطها ممثلون في الجمعية العمومية على نسبة 50
في المائة؛ لأن أحد مندوبيها قبطي. وهم ممثلون في مجلس المديرية على نسبة
16 وستة أعشار في المائة، ونسبتهم إلى المسلمين في هذه المديرية هي كذلك 16
وتسعة أعشار، كذلك في مديرية أسيوط في مجلس مديريتها عضوان من الأقباط،
أي نسبتهم في المجلس ناقصة نوعًا عن نسبتهم العامة لعدد السكان؛ لأن المرشحين
فيها من الأقباط على ما يظهر أقل حظًّا من إخوانهم في المديريات الأخرى،
ويلاحظ على كل حال أن منتخبي هؤلاء هم من المسلمين.
على أي جهة قلب هذا المطلب لا يمكن فهم معناه إلا على أنه مظهر
للروح العامة المنتشرة في مطالب الأقباط، وهي أن مؤتمريهم يرمون إلى حيازة
السلطة في أيديهم؛ ليرجحوا كفة الأقلية الدينية على كفة الأكثرية في حكم البلاد.
لذلك وجريًا على قاعدة أن الأقلية الدينية لا يصح أن يكون لها بهذا الوصف
امتيازات سياسية خاصة، تطلب اللجنة إلى المؤتمر أن يقرر بعدم صلاحية هذا
المطلب على الحالة التي هو عليها؛ اتقاء لنتائجه المضرة بالوحدة القومية، وبأن
الحالة الراهنة قاضية بتعديل قانون الانتخاب بطريقة تتفق مع مقتضيات الحالة
الاجتماعية الحاضرة.
(له بقية)
__________(14/353)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مختارات
آراء أديسون
في مستقبل البشر السعيد بالصناعة
لكبراء الرجال في قياس الآتي على ما قبله، وفي سير الاجتماع البشري
والعلوم والفنون والأعمال، وقد يصور أحدهم المستقبل في صور خيالية، يقول:
إن حصولها من المحالات العادية، ثم يقع ما تصوره في زمن بعد زمنه. نقول
هذا تمهيدًا لنشر ما نقلته إحدى الجرائد الأمريكية من آراء أديسون؛ صاحب
الاختراعات الكهربائية الشهيرة في مستقبل البشر، نقلناه عن جريدة مرآة الغرب
العربية التي تصدر في نيويورك قالت ما نصه:
نشرت مجلة كوسوبوليتان أفكارًا منسوبة إلى أديسون أمير رجال الاختراع،
والأجدر بأن ندعوها نبوات لتقدم خيرات العلم والصناعة قال ما معربه:
إن الاختراع لا يزال حتى اليوم في دور الطفولية، وسينمو مع الأيام فيبلغ درجة
الرجولية فالكمال، ورجوليته غير بعيدة، فسيرى بنو القرن الآتي الآلات المعدنية
مثل الدماغ الصحيح دقة وسرعة وتباريه إدراكًا.
ولسوف ينظر الناس أن كل الأصناف المراد نسجها وصنعها توضع أصولها
في أحد جانبي الآلة، فتخرج من الجانب الآخر تامة النسج والصنع، وذلك
كأصناف الأقمشة والأزرار والخيوط والورق، فإنها تصبح بدلات تامة خارجة في
صناديق من ورق معدة للاستعمال.
وهكذا قل عن الكتب، فإنها ستغادر الآلة مجلدة تجليدًا متقنًا. والقطع الخشبية
توضع في الطرف الواحد قطعًا متفرقة، فتظهر من الطرف الآخر رياشًا
ومفروشات؛ كالكراسي والمقاعد والمناضد وهلم جرا.
ومن نبوات أديسون؛ أن الإكثار من معدات القتال سينتهي: إما إلى ثورة
عمومية أو إلى سلام شامل، وقد يحدث قبل صحة هذه النبوة حرب واحدة أو أكثر.
إن كل حكومة لا تبالي بمراعاة السنة الطبيعية القادمة تسقط بأيدي شعبها
الذي تحكمه. ويعني أديسون بتلك المراعاة اعتبار مجلس الهاغ السلمي محكمة
الكون العليا.
ونظر أديسون أيضًا إلى المستقبل نظرة سياسية وصناعية، فقال معتقدًا أن
نزاعًا صناعيًّا هائلاً سيظهر للوجود، فيهدد كثيرين من ملوك الأرض وعظمائها،
ويقلق مراكزهم وهو الآن بارز في أوربا، وسيمر بعد عشر سنوات مقابل
(صندي هوك) فمدخل ميناء نيويورك؛ ليحل في هذه البلاد.
وسوف لا يعود من أثر للفاقة بعد انقضاء مائة سنة منذ الآن، حتى لا يعود
من الممكن تحديد رخص المصنوعات بين ضرورية وكمالية لشعوب الأرض.
وإن طوفًا صناعيًّا غامرًا لمحمول على قوادم الأيام القادمة، فلينتظره الناس
وينعموا به، وهو على فخامة جوهره رخيص القيمة زهيدها.
أنى للإنسان أن يتصور استمرار الظفر ودوام سلطانه؟ إن الفاقة إنما رافقت
الشعوب التي كانت تستخدم أيديها في كل أعمالها، وحيثما يكن العمل قاصرًا على
الأيدي تكن المشاق والمتاعب والأعواز موفورة، أما وقد ابتدأ الإنسان باستخدام
دماغه فالفقر يتلاشى ويبيد.
إن الشيء الذي عرفنا كيفية التمسك بأطرافه اليوم هو ما يجب أن نعرف كل دقائقه
غدًا، وإن نحن الآن إلا موالون للدرس تعلمًا وتمكنًا من استخدام قوى الطبيعة.
وعندما نتمكن من معرفة كل تلك الدقائق، يصبح لنا المقدرة على تغيير شكل الوجود.
والانقلابات العظيمة والفخمة عن قريب تقرع الأبواب. وهي التي لا نستطيع الآن
تخيلها إلا في الأحلام. سيفجر المخترعون على العالمين ينابيع الثروة والإسعاد،
ولكن على الشعوب يتوقف حفظ الحكومات ومقامها ضنًّا بالإثراء والهناء
العموميين.
ومن معتقدات أديسون أن سيصبح للرجل العامل في المستقبل القريب إرادة
غير اعتيادية بحيث يشير إلى حكومة إنكلترا آمرًا بالهدوء، فتصدع بإشارته،
ويطلب إليها أن تقوم بخدمته فلا تتردد بالأمر، وقد بنى أديسون هذه الاعتقادات
تصورًا بأن قد يطرأ على قوانين الدول وجدران كيانها بعض التشقق والتغيير،
فلا تعود تقوى على التشامخ لدى رجل العمل، بل يصبح للأخير سلطة على
تقويض أركان أية حكومة يأنس منها امتناعًا عن خدمته العملية.
ويعتقد أديسون أن المدنية الحالية يجب تحويرها أيضًا وتصليح قواعدها؛
لأنها ليست أهلاً لتواجه بها الأمم أيام الإثراء المقبلة، وينتظر أيضًا أن سيبدأ
بتمثيل هذه الرواية مع حكومات الشعوب في أثناء الخمسين سنة الآتية.اهـ
بحروفه.
__________(14/373)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بيان أمير الألاي صادق بك
في الدستور والجيش
والسياسة العثمانية
والماسونية والاتحاد والترقي
نشرنا في الجزء الماضي مقالاً؛ ذكرنا فيه بعض ما علمناه في الآستانة عن
هذا الرجل العظيم، فنقله المقطم إلا قليلاً منه والمؤيد برمته، وعدته بعض الجرائد
الإفرنجية من أحسن ما كتب في بابه، ثم جاءتنا جرائد الآستانة بمقال لصادق بك
نفسه، يدل على صدق قولنا ورأينا فيه وفي أحوال الدولة، ونشرت ترجمته في
بعض الجرائد المصرية، فرأينا أن ننقله عن المؤيد بتنقيح لفظي قليل، وهو هذا:
ألجأتني الضرورات إلى ترك السكوت الذي حاولت أن ألتزمه حتى الآن.
أنا جندي؛ ولذلك أربأ بقلمي عن زخرف القول والتفنن في إبداء الرأي،
والذي دفعني إلى كتابة هذا البيان الصادق؛ رغبتي بقطع الأقاويل المبنية على
إشاعات مؤسفة تتعلق بشخصي مباشرة، وليس بينها وبين الحقيقة صلة أو شبه
صلة.
لا أبحث هنا في مكانتي من انقلاب 10 تموز (23 يوليو) وحسبي أن
أقول: إن العثمانية لا تحيا إلا بالدستور، ولا ترتقي ارتقاء صحيحًا إلا بالاتحاد،
وإن اليوم الذي يعلن فيه إفلاس الدستور هو الذي تقبر فيه العثمانية، وإن العامل
الأدبي الذي دفعني قبل الدستور إلى الدستور؛ هو العامل الذي يدفعني اليوم إلى
حبه لغير ما غرض ولا فائدة، وإن قوام العثمانية الناهضة منوط بفكرة الاتحاد
والترقي السامية، وبالجمعية التي تمثل هذه الفكرة تمثيلاً أدبيًّا. ومن الواجب على
العناصر التي أضعف الاستبداد حياتها أن تتمسك أكثر من غيرها بهذا النظام،
وتنزله منها بمنزلة الروح. ومن الواجب على الجمعية أن ترتقي في دائرة
النواميس الطبيعية؛ بأن تكون جمعية العثمانيين من غير تفريق بين أجناسهم
وأديانهم، وما دام في أندية الجمعية وفي لجانها المركزية رجال رسميون، فالجمعية
تكون بمنزلة حكومة ثانية، وفي ذلك ما فيه من الضرر وقطع الأمل من المستقبل.
يجب على الجيش العثماني أن يكون في معزل عن المناقشات الشخصية
ومنافساتها، وما يتولد عن ذلك من المذاهب السياسية. وأن يكون للجيش مكان
فوق الأحزاب، يمثل الصلة الجامعة بين العثمانيين؛ ليكون محترمًا من الجميع،
وبتعبير آخر يجب أن لا يكون الجيش مرتبطًا بحياة وسياسة أشخاص معينين، بل
بحياة الدستور الأساسية وهكذا يجب دائمًا أن يكون.
إن فكرة الاتحاد والترقي هي روح الجيش، كما هي روح السلطنة،
والضامن لتحقيق هذه الفكرة السامية هو الجيش العثماني الذي هو أشد جيوش
الأرض ميلاً إلى الديمقراطية (أو قال: تمثيلاً للديمقراطية أي حكم الأمة لنفسها) .
الجيش مظاهر لجميع العوامل الفكرية التي لها مساس بفكرة الاتحاد والترقي
مظاهرة مطلقة لا شرط لها ولا قيد. كذلك أنا أعتقد بصفتي واحدًا من هذا الجيش
وبصفتي فردًا تهمه عثمانيته.
لم يكن الانقلاب العثماني نتيجة لجهاد دهاة كبار يمثلون الحياة الفكرية في
السلطنة، كما هي الحال في غاريباري وكافور وأمثالهما. وإنما كان انقلابنا ثمرة
قوة كبيرة، تجمعت من قوى رجال صغار، اجتهدوا في أحداث هذا الانقلاب.
وكان عهدنا بهؤلاء المجددين الصغار أن يبلغوا أمانيهم بسرعة وسهولة، إذا هم لم
ينقصوا من قوتهم.
يزعم نفر منها؛ أنهم يمثلون قوة الانقلاب بأشخاصهم. ولكن ما أشبه هذا
بحال بولونيا في وقت احتضارها. ومتى ظهرت قوة الأشخاص في مجموع
الحكومة، ظهرت معها عوارض الفوضى في السلطة. وما التبدلات الأخيرة [1] التي
كانت نتيجة فعلية لأقوال طلعت بك في مأدبة (بكقوز) إلا أساس الإصلاح المطلوب.
ولما كان كاتب هذه السطور من الضباط الذين شغلتهم واجبات الدستور
بشؤون السياسة، كنت أنظر بعين الاهتمام إلى الجيش، وضرر هذه الصلة التي يمت بها إلى الجمعية منذ زمن طويل.
ظهرت العثمانية اليوم بمظهر أمة عسكرية قبل كل شيء؛ ولذلك كانت مسألة
الجيش في العثمانية المؤلفة من عناصر مختلفة هي المسألة الحيوية. وسيكون اتحاد
العناصر أول ثمرة لفكرة الاتحاد والترقي. على أن هذه الثمرة لا يمكن أن تلائمها
جامعة الشخصيات في وقت من الأوقات؛ لأن الأشخاص معرضون للانتقاد
والمؤاخذة بحسب نتائج أعمالهم، مهما كانوا من ذوي النية الصالحة، وهم أيضًا
مهددون بالسقوط السياسي جزاء خطئهم في التدبير وفي الإدارة. ونتيجة ذلك أن
الجيش إذا كان آلة في يد رجال السياسة أو اعتقد الناس أنه تلك الآلة، لا يلبث أن
تنفصم عروته الجامعة، ويصبح في جهة الأغراض والتحزبات. (وأقول أيضًا من
قبيل الاستطراد: إن دور التحزب الذي يمثله ضابط واحد، لا يقل ضرره عن
دور التحزب الذي يمثله الجيش كله) .
وإن قيام بعض الضباط بوظيفة مندوب عن الجمعية، أو بأي وظيفة أخرى
بدون أن يستقيل من الجندية مخل بأخلاق الجيش ومفسد لنظامه.
حب الوطن والغيرة القومية هما مصدر شجاعة الجيش المرابط على الحدود؛
للدفاع عن البلاد والمقيم في البلاد للمحافظة على الدستور. ومن هذه الوجهة لا
يجوز أبدًا أن يكون للجيش العثماني صلة باللجان الماسونية أو غيرها.
قد تكون الماسونية نافعة للإنسانية، ولكن ذلك لا يمنع وجوب بقائها في دائرتها
الخاصة، وليست مقاومتي للماسونية أكثر من الاجتهاد في منعها من الانتشار في
صفوف الجند، وأنا أحترم كل عامل من العوامل النافعة للإنسانية. ولكن يجب أن لا
يكون لهذه العوامل علاقة بالسياسة. وقد علمتنا التجارب أن أجمل محافل الإنسانية
عنوانًا، كانت تجيء نتائج أعمالها معكوسة متى لعبت بها أصبع السياسة، وأن
الغرباء ملوثي الأيدي الذي يتربصون بنا الفرص، لا يتأخرون ساعة عن الاستفادة
من مواضع الضعف فينا. وخلاص القول: إننا أدركنا الآن كيف يصعب
على أناس مثلنا يؤلفون جامعتهم من جديد؛ أن يحلوا مشاكلهم المنزلية، ويعيدوا
مياه الصفاء إلى مجاريها.
على أنه ليس من الصواب في شيء أن نجاري العامة في أفكارها، من أجل
خطة فلسفية ننتصر لها. وأن الذي يفسح المجال للتعصب ويجعل للعامة سلطة
الحكم، هو الذي يحفر لهذه السلطنة قبرها، ومن الواجب على كل ذي رأي سليم
أن يجتنب طرق الأبواب التي تروج فيها سلطة العامة، فبينا يكون المختلفون
منهمكين في اختلافاتهم يتقدم المترقبون للفرص؛ ليستفيدوا من تلك الحال
المساعدة لهم بطبيعتها، وعندئذ تضيع الغاية وينقلب القصد.
إن في مسألتنا الأخيرة وما حام حولها من الأراجيف والسيئات عبرة للمعتبر.
وما كان أسهل حل للمسألة بالسكون لولا وجود تلك الأراجيف. ومن دواعي
السرور أن جماعات الحزب ائتلفت بسرعة، وأصبح ائتلافها خطوة في سبل
الارتقاء. وأن كل تفرد وسلطة يظهران في بلادنا عن علم أو غير علم لا يأتيان
بنتيجة غير القوة الشخصية. وإذا رأى الجيش أن رجال الانقلاب قد ضحوا أنانيتهم
واتقوا التفرد والسلطة، وكانوا حول مبدئهم إخوانًا، فهو لا يتردد في القيام
بواجباته المادية والأدبية نحو وطنه وما ذلك بالأمر العزيز.
أنا كتبت (مذكرات) في أسباب استقالتي من وظيفة (مرخص مسؤول)
لجمعية الاتحاد والترقي، وعن حالة الجمعية الآن وقبل الآن، وسأنشر ذلك متى
حان حين نشره. والذي أحاوله الآن الاحتجاج على الذين اتهموني بدون إنصاف
بأني رجعي، ورموني بغير ذلك من التهم، وبينما أنا أكتب هذه النشرة؛ راجيًا
فيها منهم باسم سلامة الوطن أن يكفوا عن هذه السفاسف، كنت أحمل بين جنبي
نفس جندي صمم على طلب التقاعد من وظيفته (الإحالة على المعاش) وأملي
بكل إخواني الضباط الذين لهم صلة فعلية بانقلاب 10 تموز (23 يوليو)
وامتزجت حياتهم العسكرية بحياتهم السياسية، والذين يشتركون بأعمال غير
أعمالهم العسكرية أن يستقيلوا من الجندية، وينصرفوا بعد ذلك للسياسة بالشروط
المشروعة، أو أن يتركوا كل علاقة بالأعمال السياسية، ويتفرغوا لواجباتهم
الجندية تمام التفرغ. وفي رأيي أنه قد حل وقت انتباه أصحاب المقامات العالية؛
لتنفيذ هذا القسم من مواد القانون.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الأميرآلاي
... ... ... ... ... ... ... ... ... صادق
(المنار) حاصل ما كتبه صادق بك:
(1) أن الانقلاب الذي نقل الدولة إلى الحكم النيابي الدستوري قد كان من
عمله وعمل من كان معه من صغار الضباط؛ وأثر فكرة سارية في جماعة من
دهماء الناس، ولم يكن بتدبير بعض الزعماء والكبراء كغاريبالدي الإيطالي.
(2) أن إيهام الناس أن الانقلاب قد أحدثه بعض الزعماء المعينين، فيجب
أن يكونوا هم كفلاء الدستور وأصحاب السلطة هو خطأ وخطر على الدولة.
(3) أن فكرة الاتحاد والترقي (أي المعنى الذي يفهم من هاتين الكلمتين)
يجب أن تبث في جميع الأمة؛ لأنها عنوان لكل ما نحتاج إليه في حياتنا الجديدة،
وهو أن تتفق الشعوب والأقوام في المملكة العثمانية، وتتحد على القيام بما ترتقي
كلها به من العلوم والأعمال. ومن الخطأ الضار أن يجعل عنوان الاتحاد والترقي
اسمًا لحزب أو جماعة من الأمة يكون منهم كبار الحكام، ويكون لهم أندية خاصة
يعرفون بها ويمتازون على غيرهم.
(4) يجب أن لا يكون للماسونية عمل في سياسة الدولة العمومية، وأن لا
يدخل فيها ضباط الجيش، ولا تنشر فيه.
(5) يجب أن يكون الجيش بمعزل عن السياسة والتحيز إلى فئة معينة من
رجال الأمة؛ لأن كل فئة يجوز أن تخطئ، وأن يسقطها خطؤها ويخفض مكانتها،
وحينئذ يتطرق هذا السقوط إلى الجيش الذي يمثل شرف جميع الأمة، وأن وظيفة
الجيش هي حفظ الحدود من العدو الخارج وحفظ الدستور في الداخل وهي أشرف
الوظائف، فيجب أن لا يتعداها إلى غيرها، وأن يكون دائمًا هو أكمل المظاهر
لفكرة الاتحاد والترقي. وأن يكون مظهرًا للحقيقة التي تجمع كلمة عناصر الأمة
وترقيها بعدم تفرقه أو تحيزه إلى فريق من المتفرقين، بل يكون فوق الأحزاب
والفرق كلها ليكون محترمًا منها كلها، وقد وضح هذا المعنى وأصاب في قوله: إن
تحيز واحد من الضباط إلى فئة سياسية ضار كتحزب الجيش كله.
(6) أنه يجب على الضباط الذين كان لهم عمل في الانقلاب، وعلى
غيرهم من الذين يشتركون بأعمال غير أعمالهم العسكرية أن يستقيلوا من الجندية
أو يتركوا السياسة ويطلقوها ألبتة، كما فعل هو بعزمه على طلب التقاعد حين
اضطر إلى الاشتغال بالسياسة، وكتب هذا البيان.
(7) أنه قد حان الوقت في رأيه لتنفيذ مواد القانون المتعلقة بهذه المسألة،
فعلى أصحاب المقامات العالية في السلطة أن ينفذوه. يعني أن تنفيذه في أول العهد
بالانقلاب وهو عسكري محض كان متعذرًا، أما وقد ثبت مجلس الأمة وتكونت
الحكومة الجديدة، فلم يبق لترك تنفيذه عذر.
وروح المقال أن بعض الأفراد جعلوا أنفسهم زعماء لجمعية الاتحاد والترقي،
واحتكروا لأنفسهم حماية الدستور وتنفيذه، زاعمين أنهم هم الذين أحدثوا الانقلاب،
وجعلوا الجمعية عصبية لبعض الأمة على سائرها، ومزجوها بالماسونية وبنوها
على قواعدها، وأن بعض ضباط الجيش يؤيدونهم وينصرونهم في سياستهم
الماسونية، وأن في هذا خطرًا على السلطنة.
هذا، وإن أغرب أعمال احتكارهم أن يتهم من لم يكن له عمل ولا رأي في
الانقلاب مثل صادق بك قطب رحى الانقلاب بأنه رجعي؛ لأنه غار على الدستور
وعلى السلطنة، وأراد أن يعارض مثل ذلك المتهم في بيع المصلحة العامة بمنفعته
الخاصة، ويمنع رهطه من الاستبداد والتفرد بالسلطة، وهذا عين ما كنا بيناه من
قبل {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(14/375)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شيء من مناقب صادق بك
منقول من خواطر نيازي
نشرت جريدة (إقدام) التركية في الآستانة بعد مقالة صادق بك نبذة من كتاب
(خواطر نيازي) في صفة صادق بك وعمله في الانقلاب. نذكر ملخصها وهي
من حديث كان بينه وبين أحد الأعضاء، وكان نيازي قبل ذلك ينفذ الأوامر التي
ترد إليه من صادق بك ولا يعرف مصدرها، حتى عرفه في ذلك اليوم وتشرف
بتقبيل يده ولحيته، قال:
إن (صادق بك) وحيد بين الوحيدين، وهو صاحب السيف والقلم، وهو
الكاتب لأهم البيانات والأوامر والمصور لأهم التدابير (في أمر الانقلاب)
إن الأعضاء المبجلين في هيئة الإدارة الذين عاشرتهم مدة طويلة، يجتهدون بالآراء
الصائبة الصادرة من آثار كرامات البك المومأ إليه.
إن هذا الرجل المحترم شخصه جدًّا عند الهيئة المركزية في مناستر، قد سخر الأفكار
العامة بكمال درايته وبأخلاقه، وكان يجذب الميول وأنواع الشعور العمومية دائمًا إلى
نقطة واحدة، ويسوقها إلى إخلاص لا يطالب بمكافأة. أما حبيب بك وفخري بك
وضيا بك والمصور إبراهيم شاكر أفندي فلم يتأخروا عن الامتثال (لصادق بك)
المتواضع، الذي كان في زمن الاضطراب تمثالاً مجسمًا للشجاعة، وكان كالأسد
المتهيج. هؤلاء الأربعة كانوا يضعون تواقيعهم على مقررات مهمة هي جرأة بين
الجرآت. وإذا بدا لهم أقل إحجام في سبل الإنفاذ بادروا إلى المخاطرة في ذلك
بأنفسهم.
يوم قدوم شمسي باشا استولى على جميعنا اضطراب خشية؛ لأنا أمعنا النظر
في مقدار جهل الباشا واستبداده وظلمه وتمرده، ولا سيما كونه محاطًا بجماعة من
الألبانيين في زي الجنود لا يعرفون شيئًا ويفدون الباشا بأرواحهم. وبقينا في
وجل من احتمال ظهور حرب داخلية، فأعملنا الفكر في ألف تدبير لمحو وجوده،
ورأينا في إنفاذه ألف عائق. فأصر (صادق بك) وضيا بك وحبيب بك على
وجوب إزالة هذا الوجود السام في أثناء تأدية وظيفته. ولكي لا نضيع الفرصة
بالمناقشة والمذاكرة عرضوا أنفسهم وفي دقيقة الاضطراب، وضع كل منهم يدًا
على القرآن العظيم الشأن ويدًا على مسدسه، وأحكموا الميثاق بهذه الدرجة من الجد.
(ثم ذكر كيفية تنفيذ ذلك بيد ملازم فدائي وقال) :
هؤلاء يا عزيزي هم الذين يقومون بوظائفهم في هيئة إدارتنا وهم مشغولون
جدًّا. فلا يجدون وقتًا للأكل ولا للنوم. ولقد ظلوا كغرباء عن هذا السرور العام
والفرح الملي؛ لأن الوظيفة أهم وأقدس، ولهذا لا يراهم أحد ولا يمكنون أحدًا من
رؤيتهم، ولكنكم ما دمتم ترغبون كثيرًا، هلموا أذهب بكم إلى الدائرة التي يشتغلون
فيها اليوم بإيفاء وظائفهم في منزل (صادق بك) .
أشكركم فلنبادر سريعًا.
وأخذنا نمشي ونتحادث، فأطال البحث في تمكن (صادق بك) من العلوم
الدينية والفلسفية والفنون العسكرية والأدبيات، وأطنب في وصف دهائه وعشقه
للحق والحقيقة وهيامه بها وبمكارم أخلاقه، وثبات طباعه واتساع قدرته، وفرط
توكله وشدة شجاعته وكمال تواضعه.
(وقص عليّ كيف خدم أعضاء الجمعية في حال وهنها لما انتسب إليهم
أهل بيته، وما أظهرته من الإخلاص بنته العذراء وزوجته المحترمة وجعل يعد
عليّ أمثالاً كثيرة من هذا الإخلاص حتى وصلنا إلى المكان المقصود قبل أن يتم
كلامه، وطرقنا الباب فأدخلونا إلى حضرة الهيئة المحترمة في الغرفة المظلمة التي
يجتمعون فيها، فقبلت يد المشار إليه ولحيته) . اهـ المراد منه.
__________(14/380)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بيان هادي باشا الفاروقي
في وظيفة الجيش
ومسألة تداخله في السياسة
جاء في جريدة الحضارة الشهيرة التي تصدر في الآستانة بالعربية ما نصه:
على أثر الاختلاف الذي ظهر أخيرًا في حزب الاتحاد والترقي، لقي محرر
جريدة رومللي القائد الباسل هادي باشا الفاروقي مفتش الفيلق الثاني في الرومللي،
وسأله عن مداخلة الضباط، وعلى الخصوص ضباط الفيلق الأول في هذه
الاختلافات فقال: إنه لم يكن له علم قطعي بذلك، ثم صرح بما يأتي:
إن وظيفة الجيش والأشخاص الذين يتألف منهم؛ هي أن يكونوا دومًا
متأهبين للمدافعة عن الوطن، وأن يواصلوا السعي بكل عزم وغيرة إلى الكمال؛
ولأجل أن يصل الجيش إلى هذه الغاية المقدسة لا بد أن يكون كتلة واحدة مهيبة،
ولذا تكون مداخلة بعض الضباط بشؤون السياسة مضرة جدًّا؛ إذ إنها تولد الحرص
والاختلاف، وتخل برابطة الجيش وتضر بوحدته. وأنا من جهتي أقبح هذه الأفعال.
وإذا كان يوجد ثمة من يتداخلون هذه المداخلات، فهم لا شك خونة جهلاء؛ لأنهم
يكونون بذلك حطوا من مقام الجيش الذي هو أرفع وأعلى من اختلافات الأحزاب
ومبارزات السياسة.
إن وظيفة الجيش العليا هي الذود عن الوطن والمحافظة على الدستور
(المشروطية) عند الاقتضاء لا غير. وإذا ظهر خلل في إحدى شعبات الإدارة،
فأمرها يكون موكولاً إلى غيره. وإني أقول مكررًا: إن إدخال فكر السياسة في
الجيش أمر لا يعبر عنه إلا بالجهل والخيانة والجناية، ورغمًا من الواقع فإني موقن
بأن الجيش العثماني عار عن هذه الشائبة، وأنه إذا كان يوجد ثمة شيء من هذا
القبيل فالمرجع الإيجابي يتوسل لإزالتها.
(وقال المحرر: إن هذا الشهم المقدام العالم العامل بوظيفته العسكرية، كان
يتكلم هذا الكلام والشرر يتطاير من عينيه، كأنه واقف أمام عدو هائل) .
__________(14/381)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ألمانيا والعالم الإسلامي
(مترجم عن جريدة الوقت التي تصدر في أرينبورغ من روسيا)
إن العلاقة الودية التي وطدت بين ألمانيا والعالم الإسلامي قد أقامت الجرائد
الروسية وأقعدتها، وأوقعتها في الشبهات الكثيرة، حتى إن سوء الظن جعل جريدة
(نوفيه فريميه) تحسب له ألف حساب، واضطرت أن تبث ما في ضميرها؛
وهو الخوف من أن ألمانيا الآن قد أوشكت أن تضع قدميها على تركستان الشرقية
المحدودة بحكومات الصين وروسيا وإنكلترا، وإذا حصل هذا فكأنها قد وضعت
قدميها في وسط حبل ممتد من مسلمي الصين إلى الحكومة التركية الإسلامية الحرة،
وتقول: إن مذهب كونفوشيوس المشهور في الصين سينقرض، ويقوم مقامه
الإسلام، فتصير حكومة الصين حكومة إسلامية، ثم لا تلبث إلا قليلاً حتى تعلن
حربًا عوانًا مسلحة بالتعصب الإسلامي، فتترك العالم المتمدن في حيرة كبيرة
ودهشة شديدة. وهي تستنبط هذه الأحكام الغيبية من أقوال مكاتب جريدة (التيمس)
في بكين عاصمة الصين. الدكتور موريسون الذي ساح في آسيا الوسطى كلها. وله
اطلاع تام على أحوال مملكة الصين. يقول هذا الدكتور: إن دين الإسلام أخذ
ينتشر في الصين بسرعة غريبة، وإن اتفاق المسلمين واتحادهم فيها قوي جدًّا.
ويورد على ذلك أدلة واضحة عنده، فهو يقول: إن القاطنين في الصين من
تركستان في ولايات غانسو، وصي، وجو، ووان، ويون، وإلانان، كلهم
مسلمون. ويقول في كلامه المؤكد عن شجاعتهم وبسالتهم: إننا لا ننسى أبدًا
يعقوب خان الذي كان في تركستان، وجعلها في سنة 1886 حكومة مستقلة تمامًا،
فأقامت بذلك حكومة الصين وأقعدتها، ثم جعلتها في حالة لم ترض بها حكومة
الصين، ولم ينشرح لها صدرها، ثم إن حادثة قبيلة (بانتاي) المشهورة بالشجاعة
التي استولت في ذلك الوقت على القسم الغربي من ولاية (يون ونان) ، وجعلت
مدينة (إلافسو) مقرًّا للملك ليست مما ينسى؛ بل مما يبقى ذكره مركوزًا في
الأذهان على ممر الدهور والأعوام.
ثم يقول: نعم.. نحن إذا نظرنا إلى حالة المسلمين الحاضرة في تلك البقعة
نجدها الآن في هدوء وسكون تام. ولكن إذا لاحظنا العلاقات والارتباطات التي
حصلت الآن بينهم وبين مسلمي تركية نجدها تتزيد وتتقوى يومًا فيومًا. وهم الآن
قد تنبهوا كثيرًا عن ذي قبل، فكثير منهم يقصد بلاد المدينة لأجل التعلم فيها أو
للسياحة فقط، فيأتي منها لأبناء جنسه بمعلومات جمة، ويبث فيهم روح المدنية
والترقي، وهو يؤيد قوله هذا بأقوال العلماء الكبار من الروسيين (فافاسييلف) (و)
(آ. أيوانف) الذين لهم اطلاع كثير على مملكة الصين: وإنهم أيضًا يتشاءمون
كما يتشاءم.
فبناء على رأي ذلك الدكتور موريسون؛ إن ألمانيا قد علمت بتلك الأحوال،
ولم يشعر بها أحد قبلها، وعزمت على أن تضع قدميها على كاشغر أي على
تركستان الصيني، ومن يضع قدميه هناك يمد الحبل منه إلى الطرفين: طرف
تركية من جهة وطرف الصين من الجهة الأخرى.
ومما يوقع تلك الجرائد الروسية في أشد الشبهات، ويضطرها إلى اختلاق ما
يسعهم أن يختلقوه هو ما كان قبل الآن من جعل تبعة الدولة العلية في الصين
تحت حماية سفير فرنسا، وإقامة سفير ألمانيا مقامه في هذا الحين، يدل على ذلك
أن قونصل ألمانيا نشر من مدة قريبة جدًّا إعلانًا قال فيه: بناء على القرار الذي
حصل بين تركية وألمانيا، يجب على كل من يقيم في الصين وهو من تبعة الدولة
العلية أن يكون تحت حماية سفير ألمانيا، وفي ولاية (كاشغر) أصدر أمرًا
بإحصاء عدد تبعة الدولية العلية التي كانت تقيم في ولاية كاشغر، وتسجيل أسمائهم
ومحل إقامتهم فيها.
فجريدة (نوفيه فريميه) تستنتج من ذلك النتائج الآتية تقول: إن ثقة
الأتراك بالنمساويين أقوى من ثقتهم بالفرنساويين، واعتبارهم لهم أيضًا أشد من
اعتبارهم للفرنساويين، فالنمساويون هنا أحرزوا قصب السبق في إستامبول، ولهم
القدح المعلى في الشرق الأدنى والأقصى أيضًا. ثم تشرع في تعداد الفوائد التي
تحصل للنمسويين من جراء دخول تبعة الدولة العلية في الصين تحت حماية سفير
ألمانيا. وفي ظنها أن النمسويين يستفيدون:
أولاً - أنهم يطلعون على أحوال المسلمين هناك في الصين والهند ومسلمي
روسية في آسيا الوسطى.
وثانيًا - أن حكومة ألمانيا تنتهز فرصة حصول المشاجرات والمنازعات التي
تصدر أحيانًا بين حكام وعمال الصين وبين تبعة الدولية العلية؛ لتتداخل في أعمال
حكومة الصين.
وثالثًا - أنها تجذب قلوب مسلمي الصين إلى نفسها.
ورابعًا - أنها توسع تجارتها في الصين الغربي وفي تركستان بواسطة أغنياء
المسلمين الذين يتجرون فيهما.
وخامسًا - أن نفوذ ألمانيا يقوى بذلك في إستامبول أكثر من ذي قبل.
ثم إن هذه الجريدة تنتقم في عدد آخر من ألمانيا وعالم الإسلام جميعًا فقد
رسم فيها الرسم الذي أصفه بما يأتي: صورة الأرض فيها كتاب مكتوب عليه
(الإسلام) وعلى ذلك الكتاب رجل محدودب في زي المسلم له أربع قوائم
كالدواب، وعلى ظهره صورة رجل نمسوي الشكل راكب عليه، إحدى قدميه في
طرف الكتاب والأخرى في طرفه الآخر، وفي فمه (مشتوك) يدخن به. وتحت
ذلك الرسم مكتوب كذا: (ليس الآن في الدنيا شرقان يسميان الأقصى والأدنى،
فالآن قرب الشرق الأقصى والأدنى واتصلا فصارا واحدًا أي شرقًا أدنى فقط) .
فهذه الجريدة تمثل بذلك ألمانيا قد سخرت عالم الإسلام أجمع، وجعلته مطية
لها إلى مقاصدها، والمسلمون قد اغتروا بمخادعتها لهم.
ثم إن اجتماع جمهور عظيم في الآستانة منذ زمن غير بعيد، واحتجاجهم على
روسية في شأن إيران، وعلى إظهار محبتهم لعاهل آلمانيا، وعلى الرجاء في
حمياته لعالم الإسلام قد هيج خواطر جرائد روسية وإنكلترا تهييجًا شديدًا حتى
أقامها وأقعدها. وقد تورمت منه جريدة (روسكي أصلوفا) وقالت: (إن المسلمين
الآن يريدون أن يعرفوا عاهل ألمانيا خليفة لهم) واستهزأت بالمسلمين بعباراتها
السخيفة الممزوجة بالمغالطات الدينية كقولها: (هل يجوز للمسلمين أن يجعلوا لهم
سلطانًا بروتستاني المذهب، وهل يسمح لهم دينهم بذلك؟)
كأن أصحاب هذه الجرائد يظنون أن عالم الإسلام الذي يبلغ عدده ثلاث مائة
مليون نسمة، ليس لهم عقل كعقولهم يميز به صديقه من عدوه الألد، ولا لهم فكر
يتفكرون به فيما يستفيدون منه، ليسوا كما تظنون يا أصحاب هذه الجرائد! بل من
بينهم من يعرفون ما يضرهم وما ينفعهم، وليسوا محرومين من قوة الإدراك التي
يميزون بها الجيد من الرديء والخبيث من الطيب، فإذا نظر عالم الإسلام إلى
روسية بصورة غير صديق له فهذا ليس من المسلمين، بل من الجرائد المشوقات
والمحاولات لتضليل الحكومة الروسية ولإثارة خواطر المسلمين وغيرهم من الملل
غير ملة الروس، مثل جريدة روسكي أصلوقا ونوفي فريميه، اللتين من شأنهما أن
تدوسا النعم التي أمامهما تحت أقدامها، وأن تحاولا صيد ما هو في الهواء. اهـ.
(المنار) بعد أن جاءتنا جريدة (وقت) بهذه المقالة انقطعت عنا، وبلغنا
أن الحكومة الروسية قد أقفلتها هي ومجلة (شورا) ، وهما خير صحف مسلمي
التتار في روسية، وقد علمنا أن ما ذكر في الجرائد من شدة ضغط الحكومة
الروسية على مسلمي التتار في بلادهم من إقفال جرائد ومدارس؛ فسببه سياسة
الآستانة، فإن بعض المفتونين فيها بالأماني الجنسية يلغطون بإظهار الطمع في
اتحاد الترك العثمانيين بتتار روسية وأهل تركستان عامة وجعلهم دولة واحدة قوية،
وقد نصحنا لهم في مقالات (العرب والترك) التي نشرناها في جرائد الآستانة أيام
كنا فيها أن ينزعوا هذه الأمنية من مخيلاتهم، ويحرموا ذكرها على ألسنتهم
وأقلامهم؛ لأن إظهارها يضر بالدولة وبأولئك المسلمين بما يحمل روسية على العود
إلى سياسة الخشونة مع الدولة، وعلى الحذر من مسلمي بلادها والضغط عليهم،
وأين قوة الدولة من قوة روسية والصين الحاكمتين على أكثر من ثلث البشر.
لروسية العذر في الحذر والاتهام بتلافي هذا الأمر، وكيف ترضى أن يطمع
الترك في بلادها، وهي هي التي لم يمنعها من أخذ القسطنطينية إلا أوربة. وقد
زاد حذرها ما هدرت به شقاشق المتهور عبيد الله مبعوث آيدين في الانتصار لدولة
فارس عليها بالاستعانة بعاهل الألمان، وما كان يخشى من مساعدة ألمانية والنمسة
للترك على نفوذهم المعنوي إلى تركستان؛ ليتخذوه وسيلة لترويج تجارتهم
وسياستهم، فأمثال هؤلاء الجاهلين بالسياسة من رجال الآستانة، يجنون بغرورهم
على دولتهم وبلادهم، وعلى إخوانهم المسلمين من غير بلادهم، وما يدرينا أن تلك
الشقاشق كانت من أسباب في اتفاق روسية وألمانية في سياستهما المشرقية؛ بما
كان في اجتماع القيصرين في بوتسدام وهو اتفاق علينا وعلى إخواننا الفرس.
وإنني أنصح لمسلمي روسية أن يتقوا فتنة السياسة ولا ينخدعوا لبعض
الأغرار في الآستانة، ويجتهدوا في ترقية أنفسهم مع تأمين حكومتهم في الظاهر
والباطن من التحيز إلى حكومة أخرى، فإن تحيزهم يضرهم ويضر من يتحيزون
إليه، ودولتنا عاجزة عن حفظ بلادها وإدارتها، وعن إرسال قاض شرعي إلى
مسلمي جزيرة كريد التابعة لها باعتراف الدول (ولكن بالقول دون الفعل) فكيف
تستطيع أن تمد نفوذها إلى بلاد دولة أقوى منها؟
ولو جعل مسلمو التتار وجهتهم العلمية مصر دون الآستانة لكان خيرًا لهم،
فقد أخبرني غير واحد منهم في الآستانة أنهم هنالك في موضع الريبة عند سفارة
حكومتهم، وأن جواسيس السفارة منهم منبثون بينهم، فهذا هو سبب ضغط دولتهم
عليهم، فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديدًا.
أما ألمانيا فلا نعرف لها إلا حسنة عملية واحدة في مساعدة دولتنا؛ وهي
تعليم جيشها وتنظيمه، وقد سأل بعض المفتونين من رجالنا بفرنسة أن تسمح
لضباطنا أن يتمرنوا في جيشها فأبت. ولو أخلصت دولة أوربية قوية لدولتنا
وللإسلام، وعرفت كيف تستفيد منا، وتفيدنا بالإخلاص لبذت أوربة ودول
الأرض كلها.
__________(14/382)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شعر أعراب الحجار في هذا العصر
لما عزم الشريف أمير مكة المكرمة على تجهيز جيش من العرب إلى اليمن؛
لمساعدة الدولة على السيد الإدريسي في عسير، أرسل هذه الأنشودة يستفز بها
قومه، وقيل: إن بضعة أبيات من أولها من كلامه وباقيها من كلام الشريف زيد بن
فواز أمير الطائف.
كيف البصر يال حسن [1] وآل بركات ... نزالة المشرق ومن في تهامه
نسمع طواريكم [2] تسوّن خيرات [3] ... ومن لا مشأ يغشاه منا ملامه
وإن حامن المقدود كم جاوكم فات ... والعمر له في اللوح خط العلامه
ننصا [4] معادينا على كيف ما جات ... والموت دون العز ما به ندامه
من هو تمنى دارنا بالدبارات [5] ... جينا وما هي له ولا للكرامه
ما دون من ينصا [6] بلدنا تعلات ... ولا نستمع من قال شور الرخامه [7]
حِنّا [8] عمدناهم بخيل وسلات ... والذل ما سر الظبي والنعامه
مرسا كداده [9] دونه الموت حومات ... ما يخرجه منا يكون القيامه
أحيا لنا الله عزنا بعدما مات ... أحياه أبو فيصل لنا بالقرامه [10]
ما عادا به مقعاد فيّه وقيلات ... وأنتم لكم عادات يهل [11] الشهامه
قلته بعد ما شفت فيكم عدالات ... واللي يحسّب يدّرق فالجهامه [12]
ترى مقابلكم معادي وشمّات ... يبقى عليكم دورت النهزامه [13]
لا تكربون [14] من الحكايا والأصوات ... مغزا تهامه كسب ولاّ سلامه
مع شيخكم فالمقديه والخطيات ... حظه جلا عنكم وعنا الغمامه
حِنّا على الدين الحنيفي بالآثبات ... مراقبين الشرع بالاستقامه
للخارجين عن الطريقه علامات ... تنبيه شيطان الفتن من منامه
وعقول جهال العرب راحت أشتات ... فرّق شرايط دينهم من كلامه
دخل عليهم بالزخارف وحيلات ... يقول أجدد دينكم عن عدامه
حاشا وكلا ديننا بالحقيقات ... مازاعه أضغاث الكرا من حلامه
جانا من القرآن تفصيل آيات ... نعرف بها حِلَّهُ ونعرف حرامه
الدين منا منبعه بالرسالات ... نحن مقاديمه ونحن خطامه
من هو تمنا عندنا للإمارات ... ياكم قصرنا رايم عن مرامه [15]
***
وهذه قصيدة عقيل لما قدموا مكة المكرمة وتلقاهم الأمير؛ ليغزوا معه إلى
اليمن، فتقدم شاعرهم ليحمسهم ويحمس الأمير ويجاوب الإدريسي، وقال:
يا الله إنك تعز الدين والصادقين ... والمماري بدينه وإننا ناصله
ربعنا للحرايب كلهم مشتهين ... مع الذي يحب العز والطايله
سيدي عزنا من عزكم كل حين ... نحمد الله بعز الدين ومواصله
سيدي ذكر راعي اليمن [16] لا يبين ... أشهر السيف وتأتيك العرب صايله
ناض برق من القبله وبه سعين ... هل وبله على صبيا وأنا أخايله
العبادل أهل الطولات في كل حين ... يا مزاعم فحول قريش ذي عايله
بمشيئة الله نزوره إن كان هم منكرين ... ناصل الذي بدع بدعه وهي مايله
كل ساحر تبطل سحره الذي يبين ... ناصل الذي يقول الملح ما ياكله
يا الله إنك تعز أشرافنا الناصحين ... هم أهل الحكم والعليأ هل الطايله
جوك الأشراف في ظل سيدنا حسين ... والسعد مشتهر في بيرقه شايله
سار والنصر يتليه والله عوين ... نسألك يا رفيع السماء تأصله
__________
(1) أي يا آل حسن.
(2) أخباركم الطارئة.
(3) استخارات في المشي مع الأمير، وكان يمكن أن يقال (تسوى استخارات) كما يقال (مشى) بدل (مشأ) .
(4) أي نقصد.
(5) أي التدابير والحيل.
(6) أي يقصد.
(7) أي الدنية.
(8) أي نحن.
(9) أي قتادة جد الأشراف ولعل الكاتب هو الذي حرف؛ فهم ينطقون بالقاف مرققة كالكاف المفخمة أو الجيم المصرية.
(10) أي الشهامة والقتوة.
(11) أي يا أهل.
(12) أي الضباب والظلام.
(13) لعلها: (دورة الانهزامه) .
(14) أي تشدون.
(15) أي كم رددنا قاصد عن قصده.
(16) راعي اليمن: سائسها وصاحبها.(14/387)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(المؤتمر المصري)
في 30 من ربيع الآخر 29 أبريل انعقد المؤتمر المصري تحت رياسة شيخ
وزراء مصر وعظمائها مصطفى رياض باشا في المكان الأفيح المعروف
(بلونابارك) من مصر الجديدة، وهو ملعب كبير يسع بضعة آلاف رجل، وقد
زين بالأعلام، وأقيم للرئيس وكبار أعضاء اللجنة التحضيرية فيه محراب
واسع، وجعلت المجالس فيه أقسامًا مرتبة؛ منها مكان لوجهاء العاصمة، ومكان
لأصحاب الصحف، وأمكنة أخرى لأصناف الأعضاء وفود المديريات، يعرف كل
قسم منها بلوح مكتوب عليه ما يدل الداخل على مكانه. وقد افتتح الرئيس المؤتمر
بالخطاب الآتي:
أيها السادة، دعوناكم وكلكم من أهل المكانة وأصحاب المنافع وذوي الآراء
والكتاب والمفكرين، وكلكم ممن تهمهم مصالح البلاد العليا، وكلكم من يغار على
رقيها وتوثيق روابط جامعتها؛ لتتشاوروا في بعض المسائل العمومية الشاغلة
للرأي العام في الحالة الحاضرة.
من بين هذه المسائل مسألة ما كنا نود لها وجودًا؛ وهي ما يسمونه بمطالب
الأقباط؛ لأن حالة البلاد لا تسمح بتقسيم المصالح بين أبنائها تبعًا لانقساماتهم الدينية
ستعرض عليكم موضوعات أخرى أدبية واقتصادية؛ لتقرروا فيها الوسائط
التي تساعد على رقي حالة التعليم، ونمو الثروة العمومية.
أبنائي الأعزاء:
إني وإن كنت لا أشك في أنكم ستحكمون في مداولتكم ورغباتكم رح العدل،
والميل إلى تأييد الروابط الوطنية بينكم وبين سائر إخواننا وأبنائنا من أبناء الديانات
الأخرى، ولكن ذلك لا يمنعني من أن أوصيكم بأن تراعوا في مباحثكم وطلباتكم
فوق روح العدل والإنصاف روح التسامح والانعطاف الذي عرفت به ديانتنا
السمحاء، والله أسأل أن يكلل أعمالنا بالنجاح والسلام.
وقد صفق الحاضرون وهتفوا بالدعاء لدولة الرئيس عند حضوره وفي خاتمة
خطابه.
وبعد أن أتم الرئيس خطابه، قام أحمد لطفي بك السيد مدير (الجريدة)
وشرع يتلو تقرير اللجنة التحضيرية (وهو الواضع الأول له) ، وساعده على
تلاوته صديقاه أحمد بك عبد اللطيف وعبد العزيز بك فهمي المحاميان. وهؤلاء
الثلاثة كانوا مع بعض إخوانهم من حزب الأمة هم الواضعين لنظام هذا المؤتمر
والقائمين بأهم أعماله، وقد أتم المؤتمر اجتماعاته بحسب برنامجه الذي تراه بعد
وكان النظام حسنًا والكلام معتدلاً.
نشرنا في هذا الجزء طائفة من تقرير اللجنة التحضيرية الذي صادف إعجاب
الجماهير من الناس، وسننشر باقيه في الجزء الآتي، ويرى القراء أن معظم ما فيه
من المسائل جاءت موافقة لمقالاتنا (المسلمون والقبط) وكذلك الخطب المعتدلة
الأخرى التي كانت كالشرح لهذا التقرير. ولا حاجة إلى نشرها كلها في المنار، بل
نكتفي بنشر برنامج المؤتمر المبين لها وما أقره من مطالبها، وربما نختار شيئًا
منها بعد.
* * *
(بروجرام أعمال المؤتمر المصري الأول)
يوم السبت 30 ربيع الثاني سنة 1329الموافق 29 إبريل سنة 1911
(الجلسة الأولى)
من الساعة 10 أفرنكي صباحًا إلى الظهر:
(1) افتتاح المؤتمر بخطبة دولة الرئيس.
(2) تلاوة تقرير لجنة المؤتمر.
(الجلسة الثانية)
من الساعة 5 مساء إلى الساعة 8 ونصف:
(3) في أن عناصر الجنس المصري كلها من أصل واحد - سعادة الدكتور
أباتا باشا.
(4) عطلة يوم الأحد - الأستاذ محمود بك أبو النصر.
(5) العوامل الاجتماعية للحركة القبطية - الأستاذ محمد حافظ رمضان.
(6) تمحيص مطالب الأقباط وإزالة موجبات الشقاق - صالح بك حمدي حماد.
(7) نظرة عامة حول مؤتمر الأقباط - إبراهيم بك غزالي عضو مجلس
مديرية أسيوط.
(يوم الأحد أول جمادى الأولى الموافق 30 أبريل)
(الجلسة الثالثة)
من الساعة 4 ونصف إلى الساعة 8 ونصف مساء:
(8) الأقلية الدينية والمجالس النيابية - الأستاذ أحمد عبد اللطيف.
(9) الكفاءة في التوظف - الأستاذ إبراهيم بك الهلباوي.
(10) وسائل ترقية المرأة المسلمة المصرية - باحثة بالبادية.
(11) التعليم العام الأستاذ - محمد بك أبو شادي.
(يوم الإثنين 2 جمادى الأولى الموافق 1 مايو)
(الجلسة الرابعة)
من الساعة 4 ونصف إلى الساعة 8 ونصف مساءً:
(12) التعليم العام وحظ المسلمين والأقباط فيما تنفقه الأمة عليه - سعادة الشيخ
علي يوسف.
(13) التعليم العلمي النافع للصناعة والزراعة والتجارة - علي بك الشمسي.
(14) الصناع في مصر إبراهيم بك رمزي.
(15) حماية وترويج المصنوعات الوطنية الأستاذ جبرائيل كحيل بك.
(16) ضرورة ترك بدع المآثم والمقابر الأستاذ محمد بك يوسف.
(17) إصلاح القضاء عبد الستار أفندي الباسل.
(18) الوسائل المؤدية للتوفيق بين العناصر المختلفة في مصر أحمد بك
لطفي المحامي.
(يوم الثلاثاء 3 جمادى الأولى الموافق 3 مايو)
(الجلسة الخامسة)
من الساعة 4 ونصف إلى الساعة 8 ونصف مساءً:
(19) ضرورة مراعاة أحوال الزمان والمكان في تطبيق الأحكام الشرعية
الشيخ عبد العزيز جاويش.
(20) حالة مصر الاقتصادية والمالية - يوسف بك نحاس.
(21) التعاون المالي والنقابات الزراعية - الأستاذ عمر بك لطفي.
(22) مستودعات التأمين الأستاذ - محمود بك أبو النصر.
(23) الربا الفاحش وضرورة العقاب عليه - الأستاذ هاشم محمد مهنا.
(24) أضرار الربا الفاحش - الأستاذ محمد بك علي.
(25) حالتنا الاقتصادية الزراعية - أحمد أفندي الألفي.
(يوم الأربعاء 4 جمادى الأولى الموافق 3 مايو)
(الجلسة السادسة)
من الساعة 4 ونصف إلى الساعة 8 ونصف مساءً:
مناقشة الاقتراحات التي وردت في تقرير اللجنة، وفي المواضيع التي تليت
بالجلسات السابقة وغيرها مما ورد بالمواضيع والطلبات التي لم تصر
تلاوتها. اهـ.
(المنار) هذا هو النظام والبرنامج الذي سار عليه المؤتمر كما وضعته
اللجنة التحضيرية. ولقب الأستاذ قد أطلق على المحامين (وكلاء الدعاوى) وهو
اصطلاح وضعه مدير (الجريدة) ، وقلده فيه كثير من الكتاب، فصار معروفًا في
مصر، وإنما نبهت عليه؛ لئلا يظن قراء المنار في غير مصر أن هؤلاء الأساتذة
من علماء الأزهر وغير الأزهر من المعاهد الدينية، وهؤلاء لم يخطب أحد منهم
في هذا المؤتمر، ولم يره أحد من شيوخهم الكبار.
(الجلسة الأخيرة)
حضر دولة الرئيس الساعة الخامسة والدقيقة العشرين فقابله المؤتمرون
بالهتاف.
وبعد أن استراح قليلاً في السرادق الخاص بدولته وكبار القوم، أعلن افتتاح
الجلسة ثم وقف الأستاذ عبد العزيز فهمي، وتلا محاضر جلسات المؤتمر منذ
افتتاحه إلى اليوم. وذكر أن جميع التقارير حفظت مع أوراق المؤتمر. وطلب أحد
الحاضرين أن تحفظ هذه العبارة (وقد لوحظ أن الوقت يسمح بتلاوة خطبة الأستاذ
الشيخ عبد العزيز جاويش) فرد عليه الأستاذ أحمد عبد اللطيف بأن لجنة المؤتمر
كانت قد عينت ميعادًا لقبول الخطب، فلم يأت خطاب من الأستاذ الشيخ عبد العزيز
جاويش في الميعاد المعين؛ ولذلك لم يذكر في بروجرام المؤتمر، وهذا هو السبب
في قولنا: وقد لوحظ.. إلخ.
ثم وقف الأستاذ أحمد عبد اللطيف وأخذ يتلو اقتراحات المطروحة على
المؤتمر المصري فيما يتعلق بمطالب الأقباط، وهذه صورتها:
(الاقتراحات المطروحة على المؤتمر المصري الأول)
مطالب الأقباط:
(أ) هل يرى المؤتمر إمكان قسمة الحقوق السياسية في مصر بين طوائفها
الدينية المختلفة، أو أن المؤتمر يقرر أن الأمة المصرية هي في مجموعها كل لا
يقبل التجزئة في الحقوق السياسية، وأنه مع ما لكل طائفة دينية من الحرية التامة
في عقيدتها، فإن للحكومة المصرية دينًا رسميًّا واحدًا هو الإسلام.
(ب) هل يرى المؤتمر من حقوق أية طائفة دينية في مصر؛ أن تطلب
عطلة يوم الأحد أو غيره من الأيام؟ أو أن المؤتمر يرى الاقتصار على أن تكون
العطلة الرسمية هي يوم الجمعة.
(ج) ألا يرى المؤتمر أن تكون قاعدة التعيين في وظائف الحكومة هي
الكفاءة من جميع وجوهها: علمية وإدارية وأخلاقية معًا.
وألا يرى المؤتمر أن الأقباط تجاوزوا فيما نالوه من تلك الوظائف الحد
المقبول، وهل يرى وجوب إلفات نظر الحكومة إلى تحقيق أسباب امتلاء الكثير
من مصالحها بالموظفين الأقباط، مع وجود الأكفاء من المسلمين وغيرهم من
المصريين؟
وهل يجب السعي وراء الحكومة في إعادة اللجنة المستديمة بنظارة المعارف؛
لامتحان طالبي التوظف، حتى لا يقع مثل هذا الغبن في المستقبل.
(د) هل يرى المؤتمر تعديل قانون الانتخاب بما يجعل لكل طائفة دينية
مصرية دائرة انتخاب خاصة، أو أن حق الانتخاب يبقى كما هو شائعًا بين جميع
المصريين على السواء.
وهل يوافق المؤتمر على السعي لدى الحكومة في أن تجعل للكفاءة العلمية
حظًّا أوفر مما هو الآن في المجالس النيابية؟
(هـ) هل يوافق المؤتمر على إعطاء كل طائفة من طوائف الأمة
المصرية ما تجبيه منها مجالس المديريات من ضريبة الخمسة في المائة؛ لتنفقه كما
تشاء؟ وهل يرى المؤتمر أن الأقباط متمتعون من التعليم بجميع أنواعه بأكثر مما
ينفق مع نسبتهم العددية، ونسبة ما يؤدونه من الضرائب؟
(و) هل يرى المؤتمر أن للأقباط الحق في أن يطلبوا من الحكومة
بصفتهم طائفة دينية أن تنفق من خزينتها العمومية على مرافقهم الطائفية
الخاصة!
فوافق المؤتمرون على جميع تلك الاقتراحات بعد أن حصل جدال في بعضها
وخصوصًا الاقتراح الثالث، فان بعضهم طلب أن تراعى النسبة العددية في إسناد
الوظائف إلى الأكفاء، فرد عليه الأستاذ عبد العزيز فهمي قائلاً: إن تقسيم الوظائف
بناء على النسبة العددية مخالف للاقتراح الأول الذي وافق عليه المؤتمرون وهو
أن الأمة واحدة لا تقبل التجزئة، وأن اعتبار النسبة العددية يؤدي إلى المنازعات.
ثم حض الحاضرين على التزام الهدوء والسكينة، وقال: إن العالم ينظر إلينا الآن،
ثم تكلم أيضًا الأستاذ أحمد عبد اللطيف وقال: إنه لا يمكن في بلدنا ولا في أي بلد
آخر أن تقسم الوظائف بناء على النسبة العددية.
وقال سعادة الشيخ علي يوسف: إننا قررنا فيما تقدم أن الحكومة إسلامية، وأن دين
الإسلام هو دينها الرسمي، فإذا قسمنا الوظائف على النسبة العددية، نكون قد قسمنا
الحكومة إلى شطرين مبنيين على الدين، وهذا مخالف لمصلحة الأمة، على أنه
يرى أن المدير لا يمكنه أن يكون قبطيًّا؛ لعدم مقدرته على إدارة شؤون المديرية
التي يتولاها كما يجب من السلطة والنفوذ.
فبقي بعضهم يعترض، فقام الأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش وقال: إن
الكفاءة الإدارية تستوجب الثقة، ولقد دلتنا التجارب على أن الأكثرية لا يمكنها أن
تثق بالأقلية، واستنتج من ذلك أن المدير يجب أن يكون مسلمًا؛ لتتم تلك الثقة
المطلوبة. واقترح أن يضاف إلى اقتراح المؤتمر هذه الكلمات (أن تكون الكفاءة
الإدارية كفيلة باستقامة الأحوال) ، وبعد مناقشة طويلة في هذا الشأن تقرر إبقاء
الاقتراح على حاله، ثم طلب الأستاذ أحمد عبد اللطيف إلى المؤتمرين أن يوافقوا
على جعل اللجنة التحضيرية لجنة تنفيذية.
ثم دارت المناقشة على الاقتراحات المعروضة على المؤتمر، فقبل ما قبل
ورفض ما رفض منها، كما هو مبين فيما يلي:
اقتراحات المؤتمرين وغيرهم
(1)
اللجنة التنفيذية
لا بد لتنفيذ قرارات هذا المؤتمر من لجنة دائمة تباشر هذا التنفيذ. ويعلم
حضرات المؤتمرين أن اللجنة التحضيرية قد انحلت حيث انتهى عملها، ولا يمكن
أن تصير لجنة تنفيذية دائمة إلا إذا أقرها المؤتمر على ذلك، فهل تقرونها لجنة
تنفيذية، يكون من جملة وظيفتها دعوة هذا المؤتمر للاجتماع عند الاقتضاء، وأن
تنتخب لها مجلس إدارة، وأن تضم إليها من تؤمل فيه المساعدة في مهمتها.
اقتراح مقدم من حضرات محمد بك حافظ رمضان وحسن بك عبد الرزاق
والشيخ محمد عمر الإنجباوي المحامي الشرعي بمصر. إبراهيم بك غزالي عضو
مجلس مديرية أسيوط. محمود بك أنيس بمصر. سليمان أفندي فهمي من موظفي
المالية سابقًا والآن بالسنطة. محمود أفندي حمدي المحامي بكفر الزيات. محمد
أفندي البدوي رئسي نقابة تشل الزراعية. إبراهيم أفندي فوزي بشارع محطة
مصر بالإسكندرية. محمد أفندي راغب بطنطا. محمد أفندي كامل بدرب القمح
بالسيدة بمصر. إبراهيم بك دويدار عمدة شبرامنت. حسين بك عابدين. لجنة
المؤتمر بمديرية المنوفية. سليمان أفندي فهمي سليمان المحامي. علي عبد السلام
بالسويس.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(14/389)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اتفاق الدول
والمانع لها من قبول دولتنا فيه
ذكر المقطم في عدده الذي صدر في 18 من هذا الشهر (27 مايو) عظمة
الأمة الإنكليزية والأمة الأمريكية، وخبر اتفاقهما اتفاقًا يقرب من التحالف قال:
(وإن فرنسا واليابان قد تشاركانهما في هذا الاتفاق، ولا يبعد أن تشاركهما فيه
روسية أيضًا حليفة فرنسا، وإذا نزعت أسباب الخلاف الجوهرية من بين إنكلترة
وألمانيا سهل ضم التحالف الثلاثي إلى هذا الاتفاق، فيتفق نحو ست مائة مليون من
الذين في يدهم الثروة والسلطة) .
ثم بحث المقطم في حظ مصر والمملكة العثمانية من هذا الاتفاق، واستدل
بدخول اليابان فيه على أن اختلاف الدين لا يمنع الدولة العلية أن تحذو حذوها
(في نقض كل حاجز يمنعها من الاستفادة من الأوربيين والأمريكيين والنسج على
منوالهم) ، ولكن لم يذكر لنا المقطم من مزايا اليابان في هذا المقام إلا شيئًا واحدًا،
وقال:
الظاهر أن الصبغة الدينية في اليابان ضعيفة جدًّا؛ لأن كثيرين من رجالها
تنصروا، فلم يسمعوا كلمة لوم من أحد، وبعض الذين تنصروا صاروا وزراء
وقوادًا، ولم يطعن أحد في وطنيتهم، بل زادهم تنصرهم رفعة في عيون أهل
وطنهم، فهل تقابل الدولة العثمانية بالترحيب لو شاءت الانضمام إلى التحالف
الأوربي أو الاتفاق الأوربي، وهل يرضى بذلك حزب المعممين الذين لا يرضون
من سلطان العثمانيين أن يتنازل عن شيء من حقوقه الدينية كخليفة للمسلمين.
هذه مسألة من أهم المسائل، ويظهر لنا أن كثيرين من رجال الدولة العلية الذين
في يدهم الحل والعقد الآن يودون أن تزال كل الموانع التي تمنع العثمانيين من
الانضمام إلى الاتحاد الأوربي مهما كانت (أي ولو كانت حقوق الخليفة الدينية ورفع
شأن المتنصرين، وهم عاملون على إزالتها ولو ببطء) ، ثم ذكر أن ما يرضيهم لا
يرضي غيرهم، وأن هذا هو السبب الأكبر للخلاف بين زعماء جمعية الاتحاد
والترقي.
هذا هو رأي المقطم، ويظهر لنا أنه غالط فيه من وجوه، ونبين ما عندنا في
ذلك بالإيجاز في المسائل الآتية:
(1) إن السبب الصحيح لقبول دول أوربة وأمريكة التحالف والاتفاق مع
اليابان؛ هو قوة اليابان الحربية التي كسرت بها أكبر دولة أوربية، لا ضعف
الدين ولا تعظيم شأن المتنصرين! فالصين أكثر تساهلاً من اليابان في الدين، ولا
نرى تلك الدول راغبة في محالفتها والاتفاق معها، بل هم طامعون في بلادها
يتربصون بها الدوائر، والعثمانيون أشد تساهلاً في الدين من اليونان، ولكن أوربة
ترجح كفة اليونان الذين يذبحون المسلمين في كريد بغير ذنب إلا دينهم وميلهم إلى
دولتهم، ولولا الدول الأوربية لما عجزت الدولة العلية عن تربية الكريديين بمثل ما
كبحت به إنكلترة ثورة الهند المشهورة.
(2) إن هذه المنقبة التي ذكرها المقطم لليابان في معرض حث العثمانيين
على الاقتداء بهم، ليست من المناقب التي تحلت بهم الأمم الأوربية ولا سيما الذين
بدأ بذكرهم وذكر عظمتهم وهم الإنكليز، فهم من أشد الناس تمسكًا بدينهم وقوة فيه،
ويبذلون للدعاة إليه في كل سنة قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، وإذا أسلم
الرجل منهم لا يرتفع قدره فيهم، ولا يرقى إلى المناصب العالية وكراسي الوزارة،
بل كانوا يرجمون مسلمي ليفربول بالحجارة، وهو يعلم أنهم لا يساوون أهل الهند
بأنفسهم لا في الحقوق ولا في مراتب الشرف. وغيرهم من الأوربيين أشد منهم
في هذا الأمر الأخير، ولا سيما روسية. فلماذا يحثنا المقطم على الاقتداء في هذا
الباب باليابانيين دون الأوربيين، على أن تنصر المسلمين في المملكة العثمانية أندر
من الكبريت الأحمر، فليس له وقائع يحتج بها.
(3) نحن نوافق المقطم على القول بأن الأوربيين يرضيهم أن يضعف
دين المسلمين ولا سيما العثمانيين، وأن يعظموا شأن من يتنصر ويرفعوا قدره
ويولوه الوزارة وقيادة الجيش، وسبب هذا شدة عناية الأوربيين ومثلهم الأمريكيون،
وبنشر دينهم وإضعاف الإسلام الذين يرونه أقوى الأديان التي تقدر على الثبات أمام
هجماته التي يريدون بها تنصير البشر كلهم، بدليل ما يبذلونه من الملايين في هذه
السبيل، ولأن لهم في بلاد المسلمين مطامع معروفة، ولكننا لا نوافق المقطم على
أن ضعف ديننا يكفي لإدخال دولتنا في الاتحاد الأوربي، وإنما يؤهلنا لذلك شيء
آخر وهو القوة، فالمصريون أشد تساهلاً في الدين من الأفغانيين؛ لأن المسلم إذا
تنصر في مصر لا يضطهد ولا يهان، وإذا تنصر في الأفغان يمزق، ويكون جزرًا
للنسور والعقبان، وقد تركت إنكلترة للأفغان بلادهم لقوتهم، واحتلت بلاد
المصريين لضعفهم.
(4) ماذا يعرف المقطم من أمر أصحاب العمائم في البلاد العثمانية عامة
وفي الآستانة، حيث النفوذ السياسي خاصة، فيعرض بذكرهم في هذا المقام؟ هل
يضمن لنا الكاتب الفاضل قبول دول أوربة دخول دولتنا في اتحادهم، إذا ضمنا له
قبول أصحاب العمائم لذلك، أؤكد للرصيف الكريم أنهم يرضون ذلك ويتمنونه،
ويرون أن من حقوق الخليفة عقد مثل هذا الاتفاق إذا كانت المصلحة العامة تقتضيه
وهم لا يجهلون أنه من المصلحة العامة، ولعلهم أقرب إلى كل وفاق بين الدولة
وغيرها، وبين عناصر الأمة من أولئك الذين يظن المقطم فيهم أنهم دعاة الوفاق؛
لأنهم يتبجحون بذلك قولاً، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
(5) أشار المقطم إلى أن سبب الخلاف بين زعماء جمعية الاتحاد والترقي
هو الدين وما يقتضيه من حقوق الخليفة، وأن أصحاب العمائم هم الذين عارضوا
أولئك الزعماء الذين يريدون أن يزيلوا كل ما يحول دون اتحاد الدولة بأوربة، مهما
كان، وليس الأمر كذلك، فإن شيخ الإسلام وحزبه من أصحاب العمائم في المشيخة
الإسلامية وغيرها، كلهم من أنصار الذين يظن المقطم أنهم هم الذين يزيلون تلك
الموانع. وأما الحزب الآخر فزعماؤه من حملة الطرابيش لا من حملة العمائم،
وليس لهؤلاء في الدولة سياسة خاصة يتولون زعامتها، وليسوا كبعض الرهبنات
النصرانية إلبًا على المخالف؛ لأن الإسلام ليس فيه امتياز لبعض الأصناف على
بعض. وهذا الزي الذي عليه أكثر صنف العلماء، قد ابتدعه الحكام، ولم يكن في
الصدر الأول ولم يكن عامًّا في زمن من الأزمان.
(6) إن المتدينين من أصحاب العمائم وغيرها يعتقدون وجوب العمل
بالشريعة في حقوق الخليفة وغيرها، وليس في الشريعة نصوص تمنع من عقد
العهود بين المسلمين وغيرهم، فقد عاهد النبي صلى الله عليه وسلم المشركين في
الحديبية بشروط كان لهم فيها الرجحان، حتى كره ذلك الصحابة، ولم يقبلوه بعد
المراجعة فيه إلا بمحض الإذعان الذي هو شرط الإيمان، وليس في الشريعة أيضًا
نصوص تمنع من استعمال غير المسلمين في أعمال الحكومة، وقد استعمل
الصحابة الروم والقبط في دواوينهم، وكذا من بعدهم إلى يومنا هذا، ولم نر مثل
هذا التساهل من أوربة في منتهى مدنيتها، نعم.. لا يتساهلون هذا التساهل مع
المرتد جهرًا. وهؤلاء المتدينون ظاهرهم كباطنهم، فالاتفاق معهم أسهل وأثبت.
على أنه ليس لهم في المملكة جمعيات سياسية؛ لتنفيذ ما يعتقدون أنه الحق
والصواب، وقد خالفت الحكومة اعتقادهم في مسائل كثيرة، ولم يقاوموها بقول ولا
فعل.
أما غير المتدينين منا فهم منافقون، يحبون إضعاف الدين من حيث هو دين
لا من حيث هو سياسة؛ لتستقر زعامتهم وزعامة أمثالهم، لا لأجل مساواة أوربة
والاتحاد بها، وهم متفقون على إبقاء الدين آلة سياسية، وقد ظهر من خطبهم
وقوانينهم السرية ما يدل على ذلك. وهذا هو الذي ينفر أوربة منا ويبعدها عنا
دون اتباع الدين من حيث هو دين، ومن حيث هو شريعة ظاهرها كباطنها.
هذا ما أحببنا بيانه للمقطم الأغر، فلعله يترك التعريض بأصحاب العمائم في
مثل هذه المباحث، سواء في ذلك قلمه وأقلام أنصاره الذين عرض أحدهم بأصحاب
العمائم في مقام الدفاع عن الماسونية، ولم نعهد أن أصحاب العمائم قاوموا الماسونية،
ولا شهروا بها كما يفعل اليسوعيون وغيرهم من رجال النصرانية، فإن كانوا يقيسون
أولئك على هؤلاء فهذا قياس مع الفارق، يعرفه من محَّص المسائل ووقف على
الحقائق.
__________(14/395)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
احتلال فرنسة لمملكة المغرب الأقصى
بينا غير مرة ما ارتقى إليه فتح الأقوياء بالعلم والنظام والآلات الحربية لبلاد
الضعفاء بالجهل والخلل وفقد الآلات الحديثة، ذلك الفتح المبني على قواعد
الاقتصاد في المال والرجال ومبادلة المنافع، مع حفظ الموازنة بين الدول الكبرى،
فقد صارت الدول تقتسم الممالك فيما بينها بالاتفاق القولي، فتمكن كل منها الأخرى
من اتخاذ الوسائل للاستيلاء على حصتها بما يسمونه الاحتلال أو الحماية أو حفظ
النفوذ؛ وما أشبه ذلك من الأسماء اللطيفة التي يخف وقعها على القلوب، ويلوح
من ورائها خيال الأمل للمغلوب، فلا تتوجه قواه كلها للدفاع.
ما أبقى على كثير من الممالك الجاهلة المختلة إلا تنازع الأقوياء عليها، وهو
عرض لا يدوم، وها نحن نراها قد اتفقت بعد خلافها، وكان من أثر هذا الاتفاق
أن ظهرت الثورة في بلاد فارس، فاحتلت الجنود الروسية في منطقة نفوذها منها
وهي الجنوبية، وبدأت إنكلترة في التمهيد لاحتلال حصتها وهي المنطقة الشمالية.
وظهرت الثورة في المملكة المراكشية فاحتلتها الجنود الفرنسية في هذا الشهر،
كما أشرنا على ذلك في مقالة (العالم الإسلامي والاستعمار الأوربي) وهذا هو
أثر الاتفاق بين فرنسة وإنكلترة على اقتسام ما بقي من القسم الشمالي من أفريقية
سنة 1904م، وقد دخل في منطقة النفوذ الفرنسي في هذا الاتفاق ما بين حدود
طرابلس ومصر إلى السنغال وبحيرة شاد، ومنه مملكة برنو ومملكة ودّاي، وأكثر
من نصف الصحراء الكبرى بما فيها من الواحات، وقد شرعت في احتلال تلك
البلاد كلها. وأما مراكش فقد جعلوا لها معاهدة خاصة جعلوا لأسبانية نصيبًا من
النفوذ فيما يقرب من حدودها فيها، ونرى فرنسة قد احتلتها بجنودها.
تسقط الممالك الإسلامية مملكة بعد مملكة، فلا يروع ذلك أهل الممالك
الأخرى من المسلمين؛ لأن السواد الأعظم من المسلمين جاهل بالسياسة وأساليبها
والنافع والضار منها. وأما الذين يشتغلون بالسياسة منهم فأكثرهم قد انحلت
رابطتهم الإسلامية بتأثير التعليم الأوربي، واستبدلوا بها رابطة الجنس أو الوطن،
ومع هذا كله يتهمهم المتهمون بالجامعة الإسلامية: إما للتحريض عليهم وإما لزيادة
التنفير عن هذه الجامعة، حتى لا يبقى مسلم تحدثه نفسه بإمكانها أو استحسانها.
كنا نعرف أخبار الثورة في البلاد المغربية من المقطم والأهرام، وقلما نرى
حديثًا عنها في جريدة من جرائد المسلمين، وأما جرائد الآستانة والجرائد الفارسية
فلا قيمة لمراكش عندهن، وأن سقوط ثمرة من شجرة أهون عليهم من سقوطها،
وإذا ثبت بهذا أن ما يسمونه الجامعة الإسلامية لا مسمى له، فليتق الله هؤلاء
الفاتحون في هؤلاء الجاهلين المساكين الذين يستولون على بلادهم وليراعوا فيهم
حقوق الإنسانية.
قد سمعنا من فرنسة صوتًا جديدًا، سمعناها تعترف بخطئها في سياستها
الإسلامية، وتقترح إنشاء قلم مخابرات للوقوف على حقيقة أحوال المسلمين الذين
دخلوا والذين يراد إدخالهم في محيط سلطانها؛ لأجل أن تتمكن من رفع الظلم عنهم
وإقامة العدل والمدنية فيهم، فإن صح الخبر وسلكت مسلك إنكلترة في السودان
المصري، فإنها تجد كثيرًا من عقلاء المسلمين عونًا لها، ويخف على نفوسهم
احتلالها لمراكش.
وسنبين مرادنا بهذا في المقالة الثانية التي تشفع بها مقالة (العالم الإسلامي)
التي في هذا الجزء.
__________(14/398)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تبرع
(تبرع محسن باشتراك عشر نسخ من المنار)
جاءنا كتاب في البريد هذا نصه:
السلام عليكم ورحمة الله. وبعد، فقد خصصت مبلغ ستة جنيهات مصرية
للخير، ولما كان مناركم المجلة الدينية الوحيدة في العالم التي حاربت الباطل ثلاث
عشرة سنة بقوة عزيمة وثبات جأش، لم يعهدا إلا في أوديد (كذا) أمثال الشيخ
محمد عبده وجمال الدين الأفغاني رضي الله عنهما، فكانت في هذا الباب ركن
الحق الركين، وعماد الدين المتين، أردت تعميمًا لفائدتها وزيادة في نشرها؛ أن
أخصص بعض ذلك المبلغ أو كله لاشتراكات في هذا المجلة لمن لا يقدر على دفع
القيمة من أفراد المسلمين الذين تفيدهم هذه المجلة أكثر من سواهم، ولذا فسيردكم
المبلغ على عدة دفع، فإذا رأيتم جعله جميعه بدل اشتراكات في المجلة من أول
محرم هذه السنة - فعلتم، وإلا جعلتم بعضه كذلك والبعض الآخر ثمنًا لكتب
تختارونها من مكتبة المنار، ولما كنت ذا إيراد قليل، فسأرسل لكم كل شهر إن
شاء الله تعالى جانبًا من ذلك المبلغ حتى ينتهي، والآن أبادر بإرسال 200 قرش
فيكون الباقي لكم 400 قرش مصري، ولولا أن المدح يؤذيني كثيرًا، لأظهرت
اسمي والسلام على من اتبع الهدى.
لحضرتكم الخيار المطلق فيمن تهبونه اشتراك سنة في المجلة أو تهدونه كتابًا
أو أكثر مما تنتخبونه من كتب إدارة المنار، بما يعادل مبلغ الستة جنيهات
مصري.
(المنار) نشرنا خبر هذا التبرع في المؤيد تعجيلاً بشكر هذا المحسن،
وتنويهًا بإخلاص هذا المخلص، فجاءتنا الرسائل تترى من طلاب العلم وغيرهم
بطلب النسخ المتبرع بها، وقد رجحت الإدارة السابقين من المستحقين.
* * *
(تبرع محسن بثلاثين نسخة من جريدة الحضارة)
تبرع محسن غني بثلاثين نسخة من جريدة الحضارة الشهيرة التي تصدر في
الآستانة باللغة العربية مدة سنة كاملة من ابتداء المحرم الماضي. وهذه النسخ
توزع على من يشتركون في المنار من أول هذه السنة ويدفعون بدل الاشتراك سلفًا.
__________(14/400)
جمادى الآخرة - 1329هـ
يونيه - 1911م(14/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
(القدر وحديث خلق الإنسان شقيًّا وسعيدًا)
(س 32 و 33) من دمياط.
من مصطفى نور الدين حنطر إلى المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا.
سلام عليك أيها الرشيد المرشد، سلام عليك أيها القائم لله بالحجة على أهل عصرك،
سلام عليك أيها الوارث لرسول الله، محيي ما أماته الناس من سنته، المصلح لما
أفسدوه من شريعته، سلامه عليك وعلى أمثالك من عباد الله الصالحين المجددين
لهذه الأمة في هذا القرن ما اندرس من أمر دينها، سلام عليك ورحمة الله وبركاته.
أما بعد....
فإني أرجو إفادتي عن أمرين، فإنكم خير من يرجى للإفادة (الأول) إنكم قد
تكلمتم على القدر وعلى حقيقة معناه في مناركم المنير مرارًا وقد عاودتم الكلام عليه
في هذا المنار الأخير عند تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (النساء: 71) ومما قلت في هذا الشأن قولك: (ثم إنك إذا ذكرتهم يسلون في
وجهك كلمة القدر ومثل الحديثين اللذين ذكرهما الرازي) أما أنا إذا ذكرتهم بهذا
المعنى الصحيح أعتقده قديمًا وقلت لهم: إن القدر عبارة عن أن المسببات تجيء على
قدر أسبابها لا تزيد عنها ولا تنقص، وإن أمور الكائنات جارية على نظام محكم
وناموس متقن وسنة حكيمة فإنهم يشهرون في وجهي حديثًا جاء في البخاري عن
عبد الله - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة،
ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا، ويؤمر
بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه
الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه
الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع،
فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة) .
هذا الحديث أيها الأستاذ مشكل من وجوه:
أولاً - أنه ينافي صريح القرآن، فإنه يفيد أن الأمور مكتوبة على وجه
التحتيم والجبر على أمر بعينه لا على معنى ارتباط الأسباب بالمسببات، ولا ريب
أن ذلك يخالف صريح القرآن، فإنه من أوله إلى آخره يحث على الأخذ بأسباب
السعادة والبعد عن أسباب الشقاوة، ويدل على أن للسعادة أسبابًا سواء كانت دنيوية
أو أخروية، وأن للشقاوة أسبابًا كذلك.
ثانيًا - أن تحتيم الشقاوة الذي يستفاد من لفظ الكتابة المذكورة في هذا الحديث،
يشبه أن يكون ظلمًا منه تعالى، والله منزه عن الظلم كما جاء في غير موضع من
القرآن.
ثالثًا - أن هذا الحديث مؤيد لعقيدة أهل الجبر التي ما كانت تعرف في
الصدر الأول، وإنما فشت في المسلمين بعد ذلك، وصارت من أقوى عوامل
ضعفهم وانحطاطهم.
رابعًا - أن هذا الحديث معارض بحديث (كل مولود يولد على الفطرة) ،
فهذا يفيد أن كل مولود يولد على الخير، وذاك يفيد أن البعض يولد شقيًّا والبعض
سعيدًا. وبالجملة فإن هذا الحديث قد أشكل عليّ أمره، ولم أجد حكيمًا يشفي ما في
صدري سوى حكمتكم الشافية، فأرجو أن تسعفوني بالدواء الناجح؛ لما سببه لي
هذا الحديث من الأمراض والشبهات.
الثاني: إني رأيت في مناركم الأغر التنويه بفضل الشيخ القاوقجي وأنه من
مشايخكم، ولكني وجدت له منظومة يتعبدون بتلاوتها أرباب طريقة القادرية بدمياط،
وهو يقول في أولها:
يا ربنا بالهيكل النوراني ... قطب الوجود ومنجد العيان
غوث الورى وغياثه وملاذه ... الباز عبد القادر الجيلاني
ويقول في آخرها:
أو أنشد القاوقجي يدعو راغبًا ... يا ربنا بالهيكل النوراني
ولا يخفى أن قوله: (ومنجد العيان) وقوله: (غوث الورى وغياثه وملاذه)
ينافي التوحيد، بل هو من الشرك الجلي، فإن القرآن يقول: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ
بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} (الأنعام: 17) ويقول: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن
دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} (الزمر: 38) الآية،
ويقول: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} (الفتح: 11) ويقول: {قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ
أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} (الأحزاب: 17) ؛ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدًّا، بل
أكثر القرآن جاء لإثبات التوحيد ونفي الشرك. فقد حملتني الغيرة عليك وعلى
شيخك فأعلمتكم بذلك؛ لتمحو عن سيرة شيخكم ما يشينها وتثبتوا لها ما يزينها،
وإني كنت مصدقًا بنسبة هذه المنظومة إلى الشيخ القاوقجي رحمه الله، قبل أن أعلم
من حضرتكم التنويه بفضله وأنه شيخكم، فالأمل إفادتي بما هو الحق، والحقيقة
جعلكم الله ملجأ للسائلين وإمامًا للمتقين، وإن يكن عندكم مانع من إفادتي بجريدة
المنار، فأرجو الإفادة بكتاب مخصوص يكون عنوانه هكذا.
... ... ... ... ... ... (دمياط. مصطفى نور الدين حنطر)
الجواب
(القدر وحديث: إن أحدكم يجمع خلقه)
ليس في الكتابة الإلية لما يكون عليه الإنسان في مستقبل أمره شيء من معنى
الجبر والإكراه الذي تبادر إلى فهمكم، وإنما هي عبارة عن ضبط الأمر الذي يجري
بقدر ونظام، ومثاله من أعمال البشر (ولله المثل الأعلى) سير القطارات الحديدية
بنظامها المعروف، وسير البريد في البر والبحر يكتب لهذا وذاك نشرات يذكر فيها
الأيام والساعات والدقائق التي يسير فيها البريد والتي يصل فيها إلى بلد كذا وبلد كذا،
وليس في هذه الكتابة ما يجعل سير القطارات والمراكب وحركات عمالها خارجة عن
نظام الأسباب والمسببات في خواص النار والماء والبخار، ولا ما ينافي اختيار
العمال الذين يتولون الأعمال في هذه القطارات والمراكب، ونقل البريد منها في
أعمالهم.
إن الكتابة عبارة عن ضبط العلم بالشيء، والعلم نفسه لا يتعلق بالأشياء تعلق
إيجاد وتكوين، وإنما يتعلق بها تعلق انكشاف وإحاطة، فلا إجبار ولا تحتيم، وإنما
يكتب الشيء على ما يكون عليه، ونحن نعرف بالضرورة من أنفسنا؛ أن ما نحن
عليه هو أننا مختارون في أعمالنا الصالحة وغير الصالحة، وهي أسباب السعادة
والشقاوة. وكونها مكتوبة لا يمنع هذا، كما أن كتابة سير القطارات والمراكب من
أول الشهر مثلاً لا يقتضي أن يكون سيرها بغير الأسباب، بل هو بالأسباب، ومن
العلماء من ينظم هذه الكتابة في سلك التمثيل بكون علم الله بالأشياء ثابتًا لا
يتغير {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} (طه: 52) .
ومن الفرق بين كتابة الناس والكتابة الإلهية؛ أن الناس يعلمون بما أوتوا من
العلم بالأسباب؛ أن قوة البخار إذا كانت كذا، فإن القطار أو المركب يسير في
الساعة كذا ميلاً، وأن المسافة بين مصر والإسكندرية كذا ميلاً، وبين الإسكندرية
والآستانة كذا ميلاً، وأن السير يكون في ساعة كذا، فيكون الوصول في ساعة كذا،
ولكنهم لا يعلمون ما عساه يطرأ من الأسباب التي تحول دون ذلك، فيترتب عليها
الإخلال بهذا النظام، كما يقع ونشاهده ونسمع به؛ من تعطل آلة أو حدوث رياح
أو سيول تجرف بعض الخطوط الحديدية. والله سبحانه يعلم جميع ما يطرأ على
عبده مما يجري في سلسلة الأسباب الظاهرة للعبد، والأسباب الخفية عنه، ولا
يخفى على الله شيء.
والمسألة التي ذكرت في آخر الحديث من أدق العلم بالله وسنته؛ لأنها مخالفة
بحسب الظاهر لسنة الله تعالى في كون المرء يموت على ما عاش عليه؛ لأن
الأعمال تؤثر بالتكرار في النفس، فتطبعها على الحق والخير أو على ضدهما،
فكيف يمكن إذًا أن يعمل الإنسان بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا
ذراع فيعمل بعمل أهل النار، والعكس.
الجواب عن هذا لا يفهمه حق الفهم إلا خواص الغواص على دقائق المعاني،
ويمكن تقريبه إلى أذهان الجمهور بالمثال، فمثل الذي يعمل بعمل أهل الجنة حتى
يقرب بتزكية نفسه وتهذيبها منها، فيترك العمل لها، وينغمس في الباطل والشر
الذي هو عمل أهل النار؛ كمثل رجل ضعيف البنية مستعد للأمراض القاتلة،
جرى على قواعد حفظ الصحة في طعامه وشرابه وعمله ورياضته، حتى لم يبق
بينه وبين المتمتعين بكمال القوة والصحة إلا فرق قليل، فاغتر بنفسه وأسرف في
أمر صحته بالتعرض لمرض قاتل كالسل أو الهيضة أو الطاعون فهلك، ومثل الذي
يعمل بعمل أهل النار من اقتحام الباطل واقتراف أعمال الشر، حتى تكاد تحيط به
خطيئته وتصير الأباطيل والشرور ملكة حاكمة عليه، فيترك كل ذلك فجأة وينقلب
إلى ضده؛ كمثل رجل قوي البنية كامل الصحة غرته قوته، فأقبل على ما يفسد
الصحة كشرب المسكرات والإسراف في الشهوات، حتى إذا ساء هضمه وضعفت
قواه وكاد يكون حرضًا أو يكون من الهالكين، تنبه من غفلته وثاب إلى رشده،
فجرى على قوانين الصحة بغاية العناية والدقة، فنجا مما كاد يبسله ويهلكه.
كل من هذا وذاك مما يقع قليلاً، والأكثر أن من يطول عليه العهد في مزوالة الأعمال
النافعة أو الضارة لا يعود عنها، والأعمال البدنية كالأعمال الروحية وسنن الله تعالى
فيهما متشابهة.
فتبين بهذا أن الحديث لا يخالف ما في القرآن من إثبات الأسباب، واختيار
الإنسان ومطالبته بالعمل، ولا يثبت عقيدة الجبر، ولا يشير إلى اتصاف البارئ
تبارك وتعالى بالظلم؛ لأنه لا يفيد معنى التحتيم والجبر، بل كل ما يفيده هو أن
كل ما يعمله الإنسان ثابت في العلم الإلهي على ما يكون عليه في الواقع، والواقع
أن سعادة الإنسان أو شقاءه بعمله الاختياري، ولو علمت أنا أن الأمير يسافر في
يوم كذا من القاهرة في ساعة كذا، فيصل إلى الإسكندرية في وقت كذا، ثم يسافر
منها في ساعة كذا من يوم كذا إلى الآستانة، فيصل إليها يوم كذا إلى آخر ما يمكن
أن أقف عليه من حاشية الأمير مثلاً لو علمت هذا وكتبته في دفتر عندي أو في
المنار، فهل يقتضي ذلك أن يكون ذلك السفر بإجبار مني؛ لأنني علمت به، وأن
يكون الأمير غير مختار فيه؟ لا لا، فإن تعلق العلم والكتابة ليس تعلق إلزام ولا
إيجاد كما قدمنا، وإنما أعدناه لزيادة الإيضاح.
ثم إن الحديث لا يناقض حديث: (كل مولود يولد على الفطرة) سواء كان
المراد بالفطرة الخير أو الاستعداد المطلق؛ لأنه إنما يدل على علم البارئ تعالى بما
يطرأ على الفطرة السليمة من التربية الحسنة والقدوة الصالحة، التي تسوقها إلى
الارتقاء في الحق والخير، فيكون صاحبها تام السعادة، أو من التربية السيئة وقدوة
الشر التي تفسدها وتجعل صاحبها شقيًّا. فإذا بنت شركة (كشركة واحة عين شمس)
عدة بيوت بناء حسنًا محكمًا مزينًا، وقالت: إنني شدت كل بيت من هذه البيوت
وأحكمت بناءه وزينته، وكانت تعلم أن الذين يقيمون فيها فريقان: فريق يزيدون
بيوتهم حسنًا وزينة، وفريق يصدعون بناءها ويشوهون زينتها، وقالت في مقام آخر:
إن هذه البيوت سيكون بعضها حسنًا جميلاً وبعضها مشوهًا قبيحًا، فهل يكون
القولان متناقضين؟ لا لا.
***
(الشيخ محمد القاوقجي)
كان الشيخ أبو المحاسن محمد القاوقجي الطرابلسي رجلاً منقطعًا للعبادة والعلم
وكان له عناية برواية الحديث واشتغال به وبالفقه والتصوف، وكان على الطريقة
الشاذلية. ولما شرعت في طلب العلم رويت عنه الأحاديث المسلسلة، وهي تدخل
في مصنف ليس بالصغير، وحضرت بعض دروسه في الحديث خاصة. وكنت
شديد الميل إلى التصوف الحقيقي؛ لكثرة مطالعتي في إحياء العلوم للغزالي قبل أن
أبدأ بطلب العلم، فطلبت منه أن أسلك هذه الطريقة على يده، فعاهدني وعهد إلي
بقليل من الذكر فلم أقبل، وقلت: بل أريد السلوك التام الذي قرأت عنه في الكتب
كسلوك الغزالي وأضرابه، فقال: يا ولدي لسنا من رجال هذا السلوك، وإنما
الطريق عندنا للتبرك والتشبه بالقوم.
وقد أجازني بكتاب دلائل الخيرات بالمناولة، وله فيها سند على المؤلف. هذا
كل ما أخذته عنه، ولم أقرأ أوراده ولا حفظت شيئًا منها، وكنت أنكر في نفسي
من دروسه في الحديث بعض الحكايات المأخوذة من كتب الصوفية، الذين لا
يزنون كل ما يوردونه بميزان الشرع كالشعراني. وأوراده كلها على المألوف من
متأخري أهل الطريق، وإنني لم أطلع عليها، ولكنني حضرت في صغري بعض
مجالس الذكر التي كان يعقدها، ولم أكن يومئذ أنكر في نفسي ما أسمعه منها لأنه
مألوف، ولما صرت مستقلاًّ بفهم ديني والحجة على عقيدتي لم يبق في ذهني عن
ذلك الرجل إلا تلك الأحاديث التي رويتها عنه، وذلك المثال الجميل الذي عهدته في
ذلك الشيخ القانت؛ عندما كنت أصلي معه أو أسمع صلاته في الليل، أو خطبته
التي ما عهدت الناس يبكون في خطبة سواها. ولا أدري أجميع ما ينسب إليه هو له،
وأنه بقي عليه إلى آخر حياته أم لا، وما أظن أن مثله يعتقد ما فهمتم من تلك
الأبيات، وربما كان يعني بها ما ذكرناه من فهم علماء الصوفية للمدد والتبرك في
ص 263 و 143.
***
(الدخول في الجمعيات السرية ورؤساؤها وأتباعها)
(س 34 - 37) من صاحب الإمضاء في دمشق الشام.
حضرة مدير مجلة (المنار) الإسلامية.
نرجوكم الإجابة على هذه الأسئلة الآتية، ولكم منا الشكر، ومن الله عظيم
الأجر.
هل يجوز لمؤمن أن يدخل جمعية سرية مختلطة من دون أن يقف على
(كذا) ؟
وهل ورد في النهي عن ذلك في شيء من الآيات والأحاديث؟
هل يجوز لمسلم أن يدخل على جمعية رئيسها من غير أبناء دينه؟
هل يباح لمسلم أن يلقب بفارس الهيكل، وما أشبه هذا اللقب المختص في
هذه الأزمان ببعض الجمعيات الغير المتدينة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ابن الأمير محمد سعيد
(ج) المؤمن حر، يجوز له أن يدخل في كل عمل مشروع، وكل جمعية
عملها مشروع، وإن كان بعض أعضائها أو رئيسها من غير المسلمين، فالعبرة
إنما هي بالعمل، هل هو جائز شرعًا أم لا؟ فإذا تألفت جمعية خيرية لإسعاف
الذين يصابون بالمصائب؛ كالجريح والحريق (كجمعية الإسعاف في مصر) ، أو
جمعية طبية خيرية كالجمعيات التي تتألف لمقاومة بعض الأمراض؛ كالرمد
الصديدي والسل الرئوي، أو لتحسين أحوال العجزة كالعميان، أو ترقية بعض
العلوم النافعة كالطب والزراعة، فيجوز للمسلم أن يدخل فيها مع غيره، ولا يضره
أن يكون رئيسها غير مسلم؛ إذ ربما كان غير المسلم أقدر على النفع فيها من
المسلم. فالجمعيات في هذا الزمان كالأحلاف التي كانت في الجاهلية؛ منها ما هو
على خير وما هو على شر. فأما ما كان من حلفهم على الفتن والغارات فهو الذي
قال فيه صلى الله عليه وسلم: (لا حلف في الإسلام) رواه مسلم.
وأما حلفهم على التعاضد والتساعد ونصر المظلوم كحلف الفضول فهو الذي قال
فيه صلى الله عليه وسلم: (وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة)
وقال: (شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا لو دعيت إلى مثله في الإسلام
لأجبت) هكذا أورده ابن الأثير مختصرًا، وفي كتب السير (لقد شهدت) ويعني
حلف الفضول الذي عقدته قريش في تلك الدار بعد حرب الفجار، والمتحالفون فيه هم
بنو هاشم وبنو المطلب ابني عبد مناف وبنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة بن كلاب
وبنو تيم بن مرة، تحالفوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا في مكة مظلومًا من أهلها أو من
غيرهم إلا قاموا معه، حتى يردوا إليه مظلمته، وإنما سمي حلف الفضول
تشبيهًا بحلف كان قديمًا بمكة أيام جرهم؛ على التناصف والأخذ للضعيف من القوي
وللغريب من القاطن، قام به رجال من جرهم كلهم يسمى الفضل منهم؛ الفضل
بن الحارث والفضل بن وداعة والفضل بن فضالة. قاله ابن الأثير في النهاية.
وقيل: إنهم تحالفوا على أن يردوا الفضول على أهلها، ولا يقر ظالم على
مظلوم، فالمراد بالفضول ما يؤخذ ظلمًا أي فاضلاً عن الحق زائدًا عليه.
والذي لا يجوز للمسلم هو أن يدخل في جمعية، يتحالف مع أهلها ويتعاهد
على أمر مخالف للشرع؛ ومنه أن يطيعهم فيما يأمرونه به بقرار الجمعية كائنًا ما
كان أي: ولو مخالفًا للشرع كإعطاء الشيء إلى غير أهله، وقتل من لا يجوز قتله
شرعًا، كما هو شأن بعض الجمعيات السياسية السرية. ولا ينبغي له أن يدخل في
جمعية لا يعرف مقصدها؛ لأنه ربما كان مقصدًا محرمًا؛ ولأنه لا يليق بالعاقل أن
يلتزم القيام بما يجهل حقيقته وعاقبته، فإن دخل في جمعية على أنه ليس فيها شيء
مخالف للشرع الثابت، ثم ظهر له فيها ما يخالفه ولم يستطع إزالته، وجب عليه
أن يتركها ويتبرأ منها.
وأما لقب (فارس الهيكل) فلا يحظر على أحد أن يلقب به نفسه أو ولده، إلا
إذا ترتب على ذلك مفسدة أو محرم كغش أو إيهام باطل، وإلا فالألفاظ مباحة للناس
في الأسماء والألقاب لا يكره منها إلا ما يدل على معنى مكروه أو فيه دعوى
العظمة، كما ورد في الحديث الصحيح النهي عن التسمي بملك الأملاك وملك
الملوك.
***
(التقيد بمذهب معين والتلفيق)
(س 38) من صاحب الإمضاء في مديرية الشرقية.
في 17 - 5 - 1329.
حضرة العلامة الهمام السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار المنير.
بعد واجبات الاحترام. نرجوكم الإجابة على الفتوى الآتية وهي:
هل يجوز التقيد بمذهب أحد الأئمة في الصلاة، أم يجوز له أن يأخذ من كل
مذهب ما يوافقه، أعني إن كان مالكيًّا؛ ولصعوبة الغسل من الجنابة في مذهب
مالك يريد أن يغتسل على مذهب الشافعي، أيجوز له ذلك أم لا؟ نرجو سرعة
الجواب، أجزل الله لكم الأجر والثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... أنور محمد قريط
... ... ... ... ... ... ... ... من قبيلة أولاد علي بفراشة
(ج) جمهور القائلين بالتقليد يمنعون التلفيق في المسألة الواحدة، وهي أن
يقلد في كل فرع منا إمامًا، فيأتي بحقيقة لا يقول بها أحد منهم، كأن يراعي مذهب
الشافعي في الغسل ولا يراعيه عند الصلاة في ستر العورة وطهارة البدن والمكان.
ويجيزون أن يقلد في كل مسألة إمامًا، وقال بعضهم: إن التلفيق جائز بشرطه،
وإنه لازم لمذهب الحنفية، فإنه مؤلف من آراء عدة مجتهدين يخالف بعضهم بعضًا،
وقد حررنا ذلك في مقالات المصلح والمقلد، فراجعها في المجلدين الثالث والرابع
من المنار على أنها مطبوعة في كتاب على حدتها.
__________(14/424)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العالم الإسلامي
والاستعمار الأوربي
(2)
إن دول الاستعمار دول تجارة وكسب، فهم يفتحون الممالك لتمتيع شعوبهم
بخيراتها، وتمكينهم من ثروتها، ولا ينشرون من علومهم وفنونهم في الممالك التي
يفتحونها إلا المقدار الذي يسخرون به أهلها، ويستخدمونهم في استخراج تلك الثروة
لهم، ويقطعون به روابطهم الاجتماعية التي تربط بعضهم ببعض، ويزيلون
مقوماتهم ومشخصاتهم الملية التي يكونون بإحكامها أمة واحدة متحدة في الشعور
بمصلحتها العامة.
أهالي المستعمرات الأوربية يجعلون فريقين: فريق الفلاحين والفعلة الذين
يقومون بالأعمال الشاقة في استخراج الأقوات والنبات والمعادن من الأرض،
وفريق المالكين المترفين الذين ينفقون ما يفضل لهم عن سادتهم المستعمرين في ثمن
ما يجلب من أوربة من اللباس والأثاث والرياش وسائر أنواع الماعون والزينة
والخمور، وما بقي من ذلك يبذلونه لبغايا تلك البلاد أو بيوت القمار الأوربية.
هؤلاء المترفين الذين يجرفون معظم ثروة البلاد إلى أوربة هم الذين
يتعلمون لغات هذه الدول المستعمرة، ويأخذون من قشور علومهم وفنون عاداتهم ما
يشوه في أعينهم ويقبح في أنفسهم كل ما يربطهم بأمتهم من عقيدة وشعار وخلق
وعادة مهما كانت حسنة ونافعة، ويزين لهم ما يرون عليه سادتهم المستعمرين
وإن كان من الفواحش والمنكرات التي يشكو منها حكماؤهم وعقلاؤهم، ويكون أكثر
الأغنياء الذين لم يتعلموا هذه الأساليب المدنية الخادعة مقلدين لمن تعلموها
يحذونهم حذو النعل للنعل فيها.
للسياسة الاستعمارية لغة خادعة كلغة التجار؛ لأن الغرض منها هو عين
الغرض من التجارة (الكسب بالحق وبالباطل) ، يزيد التاجر سلعته بزخرف القول
المموه، ويوهم كل من يعرضها عليه أنه يختصه بالرعاية والإكرام، ويؤثر
مصلحته على مصلحة نفسه، ولا يريد أن يربح منه شيئًا أو إلا شيئًا تافهًا لا يوازي
بعض تعبه في جلب السلعة ونفقته على نقلها وحفظها، ومنهم الذين يزعمون أن
الأثمان محدودة، وأنهم يطرحون منها عشرين أو ثلاثين في المائة في أيام معدودة.
وأهل الاستعمار، يقولون في بعض الأطوار: إننا لا نبغي فتحًا، ولا نحاول
ملكًا، وإنما شغفتنا الإنسانية حبًّا، فحملتنا على بذل أموالنا، وإرهاق رجالنا؛
لأجل تعليمكم وتمدينكم لتكونوا مثلنا، هكذا كانوا يقولون لمثل السلطان عبد العزيز
صاحب مراكش من قبل.
ويقولون في طور آخر: إننا بما أوتينا من الرحمة والرأفة بالبشر، وحب
تعميم العدل بين الأمم، نريد أن نزيل استبداد هذا الحاكم، ونطهر الأرض من ظلم
هذا السلطان الغاشم؛ ليتفيأ الناس ظل العدل، ونبدلهم من بعد خوفهم نعيم الأمن،
كذا قالوا في السلطان عبد الحفيظ قبل أن يظهر لهم المواتاة التي كان عليها أخوه
عبد العزيز.
ويقولون في طور آخر: إن الرعية قد ثارت على حاكمها وتألبت على ملكها،
ونحن الكافلون لاستقلاله، المسئولون عن حفظ عرشه، فلا مندوحة لنا عن
نصره والمحافظة على ملكه، حتى إذا زال الخوف، واستقر الأمن، وانتظمت
الحكومة المحلية، وصارت قادرة على منع الفتن الداخلية رجعنا أدراجنا، لا
نريد من صاحب العرش الذي حفظناه أن يثل، والشوكة التي منعناها أن تخضد،
جزاء على عملنا، ولا شكرًا على خدمتنا؛ لأننا إنما نفعل ذلك لوجه الإنسانية؛
وحبًّا في تعميم المدنية، واستبدال الحرية بالعبودية، هذا ما قاله الإنكليز في احتلال
مصر بالأمس، وهذا ما يقوله الفرنسيس في احتلال فاس اليوم.
صدق حكيمنا ابن خلدون في قوله: (إن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب
في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده) نقول: ولكنه قلما يقتدي به في
معالي الأمور وأسباب القوة التي بها كان غالبًا؛ لأن المغلوبين يستحوذ عليهم
الخمول والكسل، ويصيرون عالة على الغالب في عامة شئونهم.
وقد يخدع الغرور بعض المتفرنجين المقلدين، فيتوهمون أنهم بتقليدهم
للإفرنج في أسلوب التعليم ودعوة الوطنية وشكل الحكومة، قد ساروا على
طريقهم إلى الاستقلال الذاتي والكمال المدني، وهيهات هيهات، لا تجد أكثرهم إلا
مخدوعين، وطريق المستقلين غير طريق المقلدين.
قال بعض كبراء الإفرنج في بيان درجات الفتح الاستعماري: إن أولها فتح
دعاة النصرانية (المبشرين) لبعض المدارس، ثم لبعض المستشفيات والملاجئ،
ثم وقوع الشك والزلزال في نفوس بعض المتعلمين فيما كانت عليه الأمة من العقائد
والمقومات الاجتماعية، ثم حدوث فكرة الرابطة الوطنية التي تنقسم بها الأمة إلى
شطرين: شطر المتفرنجين الذين يهدمون أركان مقوماتها القديمة؛ تقليدًا لأوربة،
وشطر المحافظين على القديم، ثم رواج تجارتنا برواج التقاليد والعادات الأوربية
التي يسهل التقليد فيها، ثم حدوث أو إحداث الاحتكاك الذي يتبعه الاعتداء على
بعض المبشرين أو غيرهم من الأوربيين أو النصارى الشرقيين، ثم المداخلة
السياسية فالعسكرية؛ لحماية مصالحنا وأموالنا أو قومنا وأهل ديننا، ومهما كان
الاسم الذي نسمي به سيطرتنا على البلاد بعد الاحتلال العسكري فالمعنى واحد،
وهو أننا نكون السادة، فنفعل ما نشاء ونحكم ما نريد.
ذلك قولهم بأفواههم يضاهئ لاحقهم به سابقهم، ولهم أقوال أخرى في الإسلام
والمسلمين والصليب والهلال، بلغة أصرح من لغة الاستعمار التجارية، وهم
يفهمون هذه اللغة؛ لأنهم هم الواضعون لها، وقد صار فينا من يفهمها، وهم الذين
شعروا بأنهم يبيتون منها بليلة السليم، ومفازة من ضل عن الطريق القويم، ولكن
أكثر الناس لا يفهمون الكنايات والمعميات الاستعمارية والخطابات السياسية الرسمية
إلا إذا فسرتها تلك الكلمات الصريحة المأثورة عن زعماء أوربة، كقول ذلك
الإنكليزي في الصليب والهلال، والفرنسي في كون الرأفة التي يجب أن يعامل بها
المسلمون هي السيف والنار، والألماني في كيفية إزالة سلطة الترك من البلقان من
غير حرب ولا قتال، على أن أكثر المسلمين لم يسمعوا تلك الأقوال، ومنهم أهل
المغرب الأقصى الذين هم أقرب المسلمين إلى أوربة بأرضهم، وأبعدهم عنها
لجهلهم.
إن الفتح الاستعماري الأوربي تجاري كما قلنا، ولكن السياسة ممزوجة فيه
بالدين، خلافًا لتمويهات المخادعين، ومن الأصول المتفق عليها بين الدول الكبرى
في أوروبة إزالة السلطة الإسلامية من الأرض، ولذلك اقتسموا جميع الممالك
الإسلامية في أفريقية، ولم يتعرضوا لمملكة الحبشة النصرانية، ويفتاتون على
الدولة العثمانية إذا أخمدت بالقوة ثورة المكدونيين والألبانيين المسيحيين، ويقرونها
على تنكيلها باليمانيين المسلمين، ولا أريد بما أكتب من هذا المقال الدفاع عن
الحكومات الإسلامية، فإنني أعلم أن أوربة لا تستولي على دولة إسلامية بمجرد
قوتها عليها، وإنما تلك الحكومات هي التي تمكنهم من مقاتلها، وتوطئ لهم المسالك
للاستيلاء عليها، فهم يخربون بيوتهم بأيديهم، فلا يجدي الدفاع عنهم، وإنما أريد
أن أطالب هؤلاء المستعمرين؛ بأن يراعوا حقوق الإنسانية في هؤلاء المساكين
الجاهلين، وأرى أن هذا من الممكنات، وأنه خير للفريقين فيما هو آت.
يوشك أن لا يوجد في المليون من أهل مملكة مراكش رجل واحد يفهم معنى
احتلال فرنسة لها أو لغة الاستعمار التي ينطق بها رجال السياسة عندما يتكلمون
في شأن هذا الاحتلال مع السلطان ورجاله، ولكن ما لا يفهم ولا يعقل في مراكش
قد يعد من البديهيات في مصر، ولا سيما عند أرباب الصحف وقرائها، فطالما
كتب هؤلاء وقرؤوا في الكتب والجرائد الأوربية، وترجموا عنها أقوال زعماء
السياسة في بيان مقاصدهم من البلاد التي يستعمرونها وبيان أعمالهم فيها، وهم
يعرفون حقائق كثيرة تدل على ذلك من مكاتبيهم في تلك المستعمرات، وممن
يلاقونه من أهلها في مصر ذاهبًا إلى الحجاز أو إلى أوربة أو عائدًا من سفره. ومع
هذا كله نسمع لسان الاستعمار الأوربي يمنّ علينا كل يوم بأنه لا غرض لأوربة من
بلادنا إلا ترقيتنا وتمديننا وتربيتنا وتعليمنا، حتى تصير مثلهم أهلاً لأن نحكم في
بلادنا ونستقل بأمرها؛ حبًّا بالإنسانية؛ وجريًا على ما تعودوه من الفضيلة والعدل
والحرية.
أنحت الجرائد الفرنسية التي تصدر بمصر على الجرائد الوطنية، ووبختها
وهددتها إن استنكرت احتلال فرنسة في المغرب الأقصى، وقالت: إن هذا اللوم
لفرنسا يعود بالضرر على القطر المصري! ! ومما قالته جريدة (النوفل) في هذا
الشهر في هذا السياق: (إن فرنسة أبدت في مستعمراتها الإسلامية من التسامح
وحسن الذوق، ما لا يجوز معه أن يوجه إليها هذا اللوم، على أنه ليس مبنيًّا على
أساس صحيح، وهو أمر يعرفه المصريون، كما يعرفون أن فرنسة صديقة لهم
صادقة لا تتخلى عنهم عند الشدائد) ! !
أما المصريون فيردون افتئات هذه الجريدة عليهم، ويقولون: إننا لا نعرف
شيئًا من هذا التسامح كما تدعين بل نعرف ضده، وإننا كنا مخدوعين بصداقة
فرنسة لنا إلى يوم حادثة (فاشودة) ، ولم يبق أحد بعدها يعتقد هذه الصداقة.
وقالت جريدة (لاريفورم) بعد استنكار اهتمام الجرائد المصرية بمسألة
المغرب الأقصى، وبيان الاختلاف بينها وبين مصر في الأحوال الاجتماعية ما
معناه: إنه يجب على أصحاب هذه الجرائد أن لا يندبوا حظ المغرب، ويرثوا له،
بل يجب أن يعدوا تداخل الأجانب في شؤونه نعمة وسعادة له لا نقمة ولا شقاء؛
لأنه يعدّ له مستقبلاً زاهرًا (إن فجر الاستقلال أخذ يبدو للمصريين، فعليهم أن
يواصلوا السعي لإدراكه، وهم يحطون من قدر أنفسهم، إذا أنزلوها منزلة المغاربة
الذين لم يعملوا حتى الآن إلا ما يجلب لهم الذل والهوان، وليدعوا فرنسة وشأنها،
فإنها ليست بحاجة إلى من يعلمها معنى العدل والحرية) ! !
نحن نعلم علم اليقين أنه ليس في تونس والجزائر من الحرية والتسامح عشر
معشار ما في الهند - إن صح أن يقال: إن فيهما حرية وتسامحًا - ونحن على ما
نعرف من فضل الإنكليز على جميع المستعمرين، نسمع آنا بعد آن ما نسمع من
تخوف ساستهم من يقظة أهل الهند ومطالبتهم بحقوقهم الاقتصادية، وآخره ما كتبته
جريدة التيمس في هذا الشهر عن علاقة أوربة بالشرق؛ فقد ذكرت أن هناك ثلاث
مسائل عظيمة تتسع وتكبر بالتدرج، وهي المسألة الهندية، والمسألة الصينية،
ومسألة الشرق الأدنى. ومما قالته في الأولى هذه الجملة الجديرة بالاعتبار:
(إن بريطانية العظمى لم تقرر خطتها السياسية في الهند، وستضطر إلى
ذلك عاجلاً، فلا زيارة الملك ولا غيرها من المجاملات يكفي لتحويل الحركة
الحاضرة في الهند عن محورها الحقيقي، والمسألة التي يتوقف عليها رضا الهند
بالحكم البريطاني، تندرج في طلب رسمي قدمه بعض كبراء الهند بشأن إطلاق
حرية الهند الاقتصادية والمالية، ولا يخفى أن إجابة هذا الطلب بأية صفة كانت
تخفض سلطة إنكلترة ولا سيما من الجهة المالية) فتأمل.
وأما مسألة الصين فهي تراها خطرًا على صناعة أوربة وتجارتها في
المستقبل؛ لأن هذه الأمة صناعية، وقد أنشأت تتقدم ببطء، وما كان كذلك يكون
راسخًا ثابتًا، ولا يمكن لأوربة أن تخضعها وإن اقتطعت بعض أطرافها وقتلت ألوفًا
من أهلها. وأما مسألة الشرق الأدنى فالخوف منها محصور في ضعف الدولة
العثمانية الذي يغري الدول بها، ويخشى أن يفضي إلى سفك الدماء، وذكرت تخبط
فارس في دستورها وعجز أفغانستان عن حفظ مركزها.
وقرأنا لها في العام الماضي مقالاً، تنبه فيه أوربة على التأمل في يقظة
الشرق وطلبه للترقي، وتحثها على قطع الطريق عليه من أوله قبل أن يصل إلى
الغاية أو يقاربها، فيخرج من ذلة العبودية لأوربة فيكون مساميًا أو مساويًا لها، فإذا
كان هذا رأي مستعمري الإنكليز وهم أمثل طريقة، وأقرب إلى مراعاة سنن
الطبيعة، فماذا عسى أن يكون رأي غيرهم.
ألا فليعلم أولئك المستعمرون أن أهل الرأي والبصيرة من المسلمين يعتقدون
أن أوربة تريد من استعمار بلادهم أن تتخذ مالها دولاً، وتتخذ أهلها عبيدًا وخولاً،
(لكنها لا تسميهم عبيدًا بل أحرارًا) وأن لا تبقي لهم في الأرض سلطانًا يحكم،
ولا شرعًا ينفذ، ولا ثروة يستقلون بالتصرف فيها، ولا تربية ملية يحيون بها.
وإن أرفقهم في ذلك الإنكليز، وأشدهم وأقساهم الفرنسيس والروس، وربما كان
الاستبداد اللين أدوم من الاستبداد القاسي الخشن، فإذا قدر مسلمو الهند اليوم على
إخراج الإنكليز من بلادهم لا يفعلون، وإذا قدر غيرهم على ذلك لا يتلبثون به
ساعة ولا يستأخرون.
ألا وليعملوا أننا لا نجهل أن أكبر قوتهم علينا، أننا عون لهم بظلمنا وجهلنا
على أنفسنا، وأنه لولا ذلك لم يكن لهم حجة على استعبادنا عند محبي العدل
والحرية من قومهم. وأن من عرف حقوقه قلما تضيع حقوقه، وأن القوة الآلية
المستبدة قليل عمالها، لا يدوم لها السلطان على الشعوب الكثيرة إذا اتفق أفرادها،
وأن المسلمين قد قاربوا سن الرشد الاجتماعي، وأن الخير للإنسانية أن يرشدوا
متعارفين مع إخوانهم فيها لا متناكرين، ومتقابلين لا متدابرين، ومتحابين لا
متشاقين، ومتفقين لا متشاكسين، والوسيلة إلى ذلك معروفة ميسورة لمن سبقونا
في هذا الرشد، وهي أن يخلصوا النية في مساعدتنا على الارتقاء الحقيقي، مع
محافظتنا على ديننا ولغتنا، ونحن نفصل لهم القول في ذلك إن كانوا فاعلين.
لو أراد المستعمرون ذلك من قبل لارتقى الشرق ارتقاء عظيمًا، ولكانت الهند
غير الهند الآن، وجاوه غير جاوه الآن، وكذلك تونس والجزائر، أعني أنها
كانت أرقى عمرانًا، وأوسع علمًا وعرفانًا، وإذًا لكانت منافع أوربة منها أعظم،
وكان قضاؤها بذلك على سائر الحكومات الفاسدة التي تنسب إلى الإسلام أسرع،
وفوق هذا وذاك أنه كان يكون ارتقاء الإنسانية في جملتها أوسع. ألم تروا إلى
مصر، كيف كان يعد السلطان عبد الحميد رؤيتها ذنبًا سياسيًّا بمنع منه العثمانيين
ما استطاع، ويعاقب عليه من اقترفه إذا كان من أهل العلم وأرباب الأقلام، وهل
كان سبب ذلك إلا أن من يرى ما في مصر من الحرية وحركة العمران يزداد
سخطًا على حكومته الاستبدادية المخربة.
لم تكن هذه الحرية في مصر لمحض رغبة الإنكليز في ترقية المصريين،
وإنما كان لها أسباب: (منها) ما سبق لمصر من الأخذ بأسباب العلوم والمدنية
الأوربية، حتى صاروا يدركون من حقوقهم ما لا يدركه أهل زنجبار الذين لم
تعاملهم الإنكليز كما تعامل المصريين؛ على عدم المعارض لها فيما تفعله في بلادهم،
(ومنها) ما كان عندهم من الحرية قبل الاحتلال، ومثل إنكلترة لا ترضى
كغيرها أن تجعل البلاد التي يكون لها نفوذ فيها دون ما كانت عليه في الحرية،
(ومنها) أن الإنكليز كانوا يستفيدون من تلك الحرية، ما لم يكونوا ليستفيدوه من
ضدها. (ومنها) أخلاق عميدهم السابق لورد كرومر. (ومنها) كثرة الأوربيين
في هذه البلاد وما لهم فيها من الامتيازات، ومعارضة بعض دولهم القوية للاحتلال
الإنكليزي إلى سنة 1904م، وعدم مواتاتهم له إلى اليوم في التضييق على
المطبوعات، الذي حمل عليه الحكومة المصرية أخيرًا. (ومنها) وهو يلي
امتيازات الأوربيين الصفة التي احتلوا بها البلاد، والحجج التي يحتجون بها على
إطالة الاحتلال، وما يعترفون به من شكلها الرسمي.
على هذا كله حصر الإنكليز التعليم بمصر في المضيق الذي يتعذر أن يتخرج
فيه الرجال المستقلون الأكفاء، كما جعلوا السيطرة على الحكومة مانعة أن يترقى
فيها المستعد للاستقلال، فيبلغ فيه مستوى الكمال، حتى إنه لا يكاد يوجد في مصر
من يتقن اللغة الإنكليزية كتابة وخطابة كما يوجد من يتقنون الفرنسية، منذ كانت
هذه اللغة عمدة المصريين في المعارف الأوربية.
لو شاء الإنكليز أن يرقوا التعليم والتربية لفعلوا، ولكن لورد كرومر قال في
أحد تقاريره: إن الغرض من مدارس الحكومة بمصر فرنجة المصريين أي: إزالة
مقوماتهم الملية التي كانوا عليها، وجعلهم مقلدين للإفرنج كتقليد الغراب للحجل في
المشي أنساه مشيته، ولم يتعلم مشية الحجل، ومن أراد شاهدًا على هذا، فليقرأ ما
كتبه اللورد في كتابه (مصر الحديثة) عن هؤلاء المصريين المتفرنجين وما ذمهم
به، وحينئذ يجزم بأن مراده بفرنجة المصريين ما قلناه آنفًا.
أما الشواهد الوجودية على هذا المعنى فهي أصدق شهادة وأقوى برهانًا،
تريك كيف يهدم هؤلاء المتفرنجون مقومات أمتهم ومشخصاتها بالتقاليد الأوربية،
وباسم الوطنية والمدنية، وكيف يجرفون ثروة بلادهم على أوربة، حتى إن بعض
النساء في أعلى البيوت المصرية لا يشترين ثيابهن وزينتهن وسائر حاجهن إلا من
أوربة مباشرة، وإن الواحدة منهن لتشتري في كل سنة بالألوف الكثيرة من
الجنيهات، ولو ابتاعت بعض ذلك من مصر لجاز أن يكون لبعض التجار الوطنيين
نصيب في ربحه.
الحر من الإنكليز يعلم ويعترف بأن الإنكليز لم يرقوا المصريين أنفسهم، وقد
قال بعض من كان يجلس إلى لورد كرومر من المصريين: إنك أيها اللورد قد
خدمت الحكومة المصرية وأصلحت ماليتها ورقيتها، ولكنك لم تعمل للمسلمين شيئًا
في ترقيتهم، وهم جاهلون لا يعرفون كيف يرقون أنفسهم. فقال اللورد: إن الذي
لا يرقي نفسه لا يرقيه غيره، وكان حسبهم أن لا نعارضهم في ترقية أنفسهم، ومع
هذا أقول: ليعملوا وليطلبوا مني المساعدة أساعدهم. فقال المصري: إنه لا يوجد
عندنا رجال هم أهل لمثل هذا العمل، فقال اللورد: بل عندكم رجلان هما الشيخ
محمد عبده ورياض باشا، فساعدوهما بالمال والحال يعملا لكم ما تشاءون.
لا لوم على الإنكليز في هذه الخطة ولا تثريب، وكيف يجوز أن نلوم
الأجنبي أنه لا يرقينا ولا يجتهد في رفعنا إلى مساواته، ونحن لا نرقي أنفسنا،
فإننا حتى هذا اليوم لم نشرع في العمل العظيم الذي ترتقي به الأمم؛ وهو التربية
الملية الاستقلالية التي يتخرج بها عظماء الرجال الذين ينهضون بالأمم، من الظلم
بل من الجنون أن نقصر في تربية أنفسنا، ونجعل تبعة هذا التقصير على الأجنبي
الذي نصيح كل يوم: أنه خصم لنا أو عدو مبين، ولو كان جميع الأوربيين في
مستعمراتهم كالإنجليز لا أقول في مصر، فيقال ليست مستعمرة رسمية لها، بل في
السودان لما كان لنا عليهم حجة في هذا المقام، وإن كانوا يستطيعون أن يعملوا لنا
ما لا نعمله لأنفسنا. ولكن غيرهم يمنعون العلم، ويقيدون الحرية، ويراقبون كل
من دخل مستعمراتهم، ويتبعونه الجواسيس ولا سيما إذا كان من العثمانيين.
تلك إشارة إلى سياسة الأوربيين وتفاوتهم فيها، وأما تعصبهم الديني ومحاولتهم
تحويل المسلمين عن دينهم فهم فيه سواء، كلهم مصداق لقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ
مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً} (البقرة: 109) وقوله:
{وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120) وليس
الإنكليز بأمثل من غيرهم في هذا الباب، فقد اجتهد دعاتهم في تنصير مسلمي الهند
وغيرهم فلم ينالوا إلا الخيبة، ولا يستقر نفوذهم في مكان إلا ويكون وراءهم دعاة
الدين، بل نرى بعض جرائدهم السياسية تنفث في مصر سموم التعصب الذميم
بعبارات تدل على الحقد والسخيمة والجهل الفاضح.
لهم في مصر جريدة اسمها (اجيبسيان غازيت) تطعن في القرآن، حتى في
أسلوبه وبلاغته، وقد قالت في هذه الأيام: إنه على لهجته السقيمة غير المنطقية،
قد أثر في العرب أكثر من تأثير توراة (وايكلف) في (الأنكلو ساكسون)
ولوثر في الألمانيين، ودانتي في الإيطاليين، وكل بصير يراقب المسلمين لا يسعه
إلا أن يندهش من تأثير هذا الكتاب في رجوع الإنسانية القهقرى! !
هذا ما يقوله من لا يفهم جملة من العربية على وجهها، ولكننا لا نظن أنه
يجهل التاريخ كما يجهل العربية، وإذا هو يعلم أنه لم يوجد كتاب في الأرض دفع
الإنسانية إلى الأمام ورفعها إلى الأوج كالقرآن، وأن المسلمين بلغوا به ما بلغوا
من السيادة، ولما تركوه إلى مصنفات الجاهلين (المقلدين) رجعوا القهقرى، وهو
وأمثاله يخافون أن يعودوا إلى هديه، فلذلك ينفرهم عنه وينسب تقهقرهم إليه.
أما مبلغ علم صاحب هذه الجريدة بالعربية؛ فإنك تجد مثالاً مضحكًا في تفسيره
لقول الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
فإنه سخر من اللغة العربية واستشهد بهذا البيت، وحمل الحياة فيه على
الحياة الحسية الحيوانية، ولو فهم معناه لعلم أن القبطي الذي فسره له قد غشه،
ولقبع في كسر بيته خجلاً، إن كان حيًّا يتأثر من الخطأ الفاضح؛ لأنه يعلم حينئذ أنه
لو وجد لشكسبير مثل هذا البيت، لانتفخت أنوف الإنكليز؛ عجبًا به وفخرًا
أضعاف انتفاخها الآن.
ومما سخرت به هذه الجريدة الغالية في التعصب من الإسلام والمسلمين،
تمنيها لو سمي شارع كلوت بك (جنة المسلمين) ، وقالت: إن هذه التسمية تحدث
عن المسلمين حماسًا دينيًّا في الأحياء المجاورة له! !
هذا الشارع لا تغيب فيه الحانات الملأى بالخمور الأوربية عن سالكه طرفة
عين، وهو وما يقاربه مثوى البغايا التي بلتنا بها المدنية الأوربية، وقد صار هذا
المتعصب يعد هذا الخزي الأوربي التي تتعمد به أوربة إفساد آدابنا وديننا وسلب
ثروتنا من سيئات الإسلام. فإذا كان هذا هو الأدب والتسامح الإنكليزي في الجرائد
السياسية، فما بالك بجرائدهم الدينية كجريدة (المسيحي) وغيرها! وهل يعتبر
بذلك المسلمون؟ !
قد زين لأمثال هذا المتعصب عقله الإنكليزي الذي يتيه به على جميع البشر؛
أن هذا السخف الذي يسخم به جريدته مما ينفر المسلمين عن القرآن، ويحول بينهم
وبين الاهتداء به، فتدوم لقومه السيادة عليهم، ونحن نرى بعقلنا الشرقي المذموم
عنده أن تأثيره يكون بضد ما أراد ما زين له عقله، نرى أن إيقاظ المسلمين بمثل
هذه الأصوات المنكرة أقرب إلى بعثهم من مرقدهم، وتنبيههم إلى ما يراد بهم،
وإرجاعهم إلى روح القرآن التي تحييهم كما أحيت من قبل سلفهم (ويا ليت كل ما
يكتب في ذلك يترجم بالعربية) ومزاج الحي يدفع عن نفسه الأذى، ويقتضي
المزاحمة والتنازع على الغذا، وتنازع الأعداء المتزاحمين، غير تنازع الإخوة
المتراحمين.
وحاصل ما نريده مما تقدم كله أن يطلبه عقلاء قومنا اليوم من مستعمري
أوربة؛ أن يعاملونا معاملة الإخوة، فيتركوا لنا ديننا وآدابنا ولغتنا وحرية العلم
والتربية وجميع شؤون الاجتماع، ويساعدونا على الارتقاء في الاقتصاد وجميع
شؤون الكسب والعمران، ويشاركونا في الربح مشاركة الأخ لأخيه.
إذا أجابت هذه الدعوة كل دولة من الدول القوية المستعمرة، أمنت كل واحدة
على مستعمراتها، وزادت في خيراتها وبركاتها، وإن فعلته واحدة منهن كان لها
العاقبة وحدها، حيث تكون من آسية أو أفريقية. وإن لم تفعله ولا واحدة منهن
احتقارًا للمسلمين بضعفهم، فيوشك أن يظهر من غيب الله ما ليس في الحسبان،
فهذه ألمانية تحسد دول الاستعمار؛ إذ تراهن متمتعات بما تقدر بقوتها وعلمها أن
تتمتع بمثله وتتربص بهن الدوائر، وهذه دولة اليابان تمد عينيها باحثة عن المسالك
التي تسير فيها نفوذها السياسي وراء مصنوعاتها وسلعها التجارية، فما يدرينا لعله
يظهر في المسلمين زعماء تثق بهم هاتان الدولتان أو إحداهما، ويكون من وراء
هذه الثقة تغيير ألوان هذه المستعمرات بما هو أقرب إلى الأخوة الإنسانية وارتقاء
العمران، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
__________(14/432)
الكاتب: محمود سالم
__________
عليكم باللغة العربية
سيدة اللغات
مقالة لمحمود بك سالم رئيس جماعة الدعوة والإرشاد
(نشرها بمجلة الطلبة المصريين)
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 192-195) (قرآن مبين)
أيها الطلبة الأنجاب، أبناء مصر التي شرفها الله فذكرها مرارًا في كتابه
الحكيم، عليكم بتعلم (اللغة العربية) لغة أجدادنا الأشراف الصالحين، الذين تركوا
أحسن ذكر بين الأمم، وما زال تأثير أعمالهم المفيدة يعم الأقطار بفتوحات الدين
الحنيف المستمرة، وانتشار الشريعة المطهرة التي أينما حلت وقوي سلطانها،
أحيت طيب المبادئ وسامي الأفكار.
اللغة العربية أقدم اللغات الحية. هي لغة إبراهيم الخليل وزوجته السيدة هاجر
المصرية وابنهما إسماعيل صادق الوعد، الذين أكرمهم الله ببناء البيت العتيق؛
ليكون مثابة للناس وأمنًا.
لا شك في أن علماء الآثار يعرفون لغات أخرى أقدم من العربية، ولكن كلها
ماتت ودفن ذكرها في القراطيس، وأغلبها اندثر وانمحى من صحيفة الكون إلى يوم
البعث حين يخرج أهلها من الأجداث كأنهم جراد منتشر. وجدت حديثًا أبنية شاهقة
أسستها أمم راقية في أساليب العمران محفورة كتابات غريبة على جدرانها الآئلة إلى
السقوط وسط الصحاري أو في أحضان الجبال. ولما قرئت أخيرًا تلك الكتابات
العجيبة علم أنها تقرب من زمن عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام، وأنها
بلغة عربية متينة تكاد ألفاظها وتراكيبها وقواعدها تكون كلها من مستعملات لغتنا
الفصحى الحالية. وهذا ما أدهش العلماء، حتى إنهم وصفوا لغة القرآن المجيد
باللغة التي ليس لها طفولة وشيخوخة؛ لأنها من يوم عرفت وهي كالغادة الحسناء
في حلل الشباب والعافية، كأنها من الأبكار العرب الأتراب لأصحاب اليمين.
ومما ننقله في هذا الموضوع، ما ذكره في شأن لسان العرب العلامة أرنست
رينان ذاك المستشرق الطائر الصيت، الذي فاقت شهرته الأقران في كتاب (تاريخ
اللغات السامية) حيث قال:
من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القوية، وتصل إلى درجة الكمال
وسط الصحاري عند أمة من الرحل. تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها
ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها. وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم
علمت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغيير يذكر، حتى إنه
لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة. لا نكاد نعلم من شأنها
إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى. ولا نعلم شبيهًا لهذه اللغة التي ظهرت
للباحثين كاملة من غير تدريج، وبقيت حافظة لكيانها خالصة من كل شائبة.
تجد اللغة الفرنسية لا يفهم كلام كتابها وشعرائها الذين ماتوا قبل ثلاث مائة
سنة إلا من مهر في حل الطلاسم. وكذلك اللغة الإنكليزية وباقي لغات أوربة التي
تتباهى الآن وتتيه فخرًا وإعجابًا. وكل تلك اللغات الحديثة في تغيير مستمر وتبديل
مستديم. فبون بعيد بين لغة (موليير) مثلاً ولغة (زولا) عند الفرنسيس. وبون
أبعد بين لغة (ملنن) ولغة (روسكن) عند الإنجليز.
أما أمة العرب التي كرمها الله ورفع شأنها باصطفاء عبده الأكرم من بين
أشراف أشرافها؛ ليكون خاتم النبيين، فقد جعلت لغتها آلة تحمل شريعتها التي
ستدوم ما دامت الأفلاك؛ إذ لا نبي بعده ولا دين بعد هذا الدين. فاكتسبت تلك اللغة
المشرفة بين لهجات البشر مركزًا لا يباريها فيه لسان، من وقت أن صارت منطق
الملائكة أنفسهم في السماء، وامتزجت بالكتاب المجيد امتزاج الروح بالجسد.
وقد أوتيت الأمة العربية أرقى هبات البلاغة، وأجمل صفات الفصاحة؛
لتتهيأ لقبول تلك المعجزة الباقية المستمرة ما دامت الصحف والكتب. تلك المعجزة
التي ظهرت على يد نبي أمي لا يعرف قراءة ولا كتابة، وكانت لأئمة البيان
والكلام حدًّا يقف أمامه العاقل باحترام، ويبهت أمامه المعاند بخذلان.
(وصفت العرب من قديم الزمان بالبيان والبلاغة، وقد استقصى العلماء
شعراءهم، فوجدوهم يربون على شعراء سائر الأمم الأخرى مجتمعة؛ لأن الشعر
سليقة عند العرب، حتى لتجد رعاة الإبل يقصدون القصائد ارتجالاً) .
لسان العرب له الاحترام الأكبر عند فحول علماء الأمم الأجنبية، فإنهم عرفوا
مكانته فوصفوه بأعلى الصفات، وبذلك ارتفع قدر الأمة العربية نفسها عند من يقدر
الأشياء حق قدرها.
قال القسيس الإنجليزي س. م. تزويمر وهو من كبار البروتستانت في كتابه
المشهور (جزيرة العرب. مهد الإسلام) .
(يوجد لسانان لهما النصيب الأوفر في ميدان الاستعمار المادي ومجال
الدعوة إلى الله وهما: الإنجليزي والعربي، وهما الآن في مسابقة وعناد لا نهاية
لهما؛ لفتح القارة السوداء مستودع النفوذ والمال، يريد أن يلتهم كل منهما الآخر،
وهما المعضدان للقوتين المتنافستين في طلب السيادة على العالم البشري. أعني
النصرانية والإسلام) .
وقال إنجليزي آخر وهو القسيس الشهير جورج بوست:
(لغة العرب تفوق كل لغة في الانتشار إذا نظرنا إلى اتساع الأقطار التي لها
فيها سلطان. وهي تفوق أيضًا كل لغة إذا نظرنا على التأثير في مستقبل الأعمال
البشرية، ولا نستثني من كل تلك اللغات إلا لغتنا الإنجليزية) .
وقال أحد علماء الإنجليز المتمكنين من علوم العرب، يصف لسانهم نقلاً عن
كتاب (تزويمر) المذكور آنفًا:
(إنه خالص من شوائب الدخيل، غني بنفسه عن غيره. وفيه مقدرة عجيبة
على إيضاح المعاني وإظهار الأفكار، ومفرداته لا تحصى ولا تعد، وقواعده
النحوية في غاية المتانة، وبالاختصار به يسهل عرض الموضوعات الدينية
والفلسفية والعلمية، بطريقة لا تفوقها لغة إلا الإنجليزية وبعض لغات أخرى قليلة
رقاها الدين النصراني في أوربا الوسطى) .
ولنستشهد بكلمة لأحد الفلاسفة الظرفاء، أراد مدح المعارف الدنيوية عند أهل
أوربا والصنائع اليدوية في الشرق الأقصى، فقال:
(استوى الكمال على ثلاثة أشياء: مخ الإفرنج، وأيدي أهل الصين،
ولسان العرب) .
حقًّا ليس للغة العرب مثيل في كمالها إذا قارناها بأخواتها، فإن قلنا: إن
(العبرية) لغة مقدسة عند أهل التوراة والإنجيل، فالعربية بالقرآن أقدس. وبجانب
فرد واحد يقرأ التوراة باحترام وتجلة، نجد مائة مسلم يتلون الكتاب المجيد حق
تلاوته باحترام أعظم وإجلال أظهر. وإن قلنا: إن (اللاتيني) لسان العبادة في
الكنائس الكاثوليكية، فلسان الإسلام أعم في مساجد المشرقين والمغربين بين أهل
التوحيد جميعًا، والصلاة به متواصلة تواصل ساعات الزمن. ألا ترى المؤذن
يدعو المؤمنين إلى صلاة الفجر في جزر الفيلبين في أقصى الشرق باللسان العربي
المبين، فتتبع تكبيراته تكبيرات المئات والألوف من أهلها، يتردد صداها من مئذنة
إلى مئذنة، ومن جبل إلى جبل، ومن واد إلى واد. فإذا قضيت صلاته في تلك
الجزر، تنقل الأذان منها إلى غيرها، تنقل الفجر في مطالعه فسمعته في الصين
وسيبيريا، ثم في الهند وفارس، ثم في مكة المكرمة والمدينة المنورة، والقدس
الشريف والقسطنطينية المحمية، ثم في مصر المحروسة بحماية الله، ثم في
تونس الخضراء. ثم في الجزائر والسودان، ثم في المغرب الأقصى، ثم يصل
هذا الصوت الرخيم إلى الأوقيانوس حتى شواطئ الأمريكان في أقصى الغرب،
فهكذا كلما طلع الفجر وبزغ النور قام الناس للصلاة والفلاح؛ لعبادة الخلاق العظيم
الذي يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا.
مع دوران الشمس تسمع أمواج الأذان كأمواج البحر المتلاطم، تطرد الموجة
الشرقية أختها الغربية لتوقظ العباد الصالحين من نومهم العميق، فلا تفوت لحظة
من الزمن إلا وفيها لله عبادة وللقرآن ترتيل.
فإن قيل: إن اليونانية القديمة ثم اللاتينية ثم الإنكليزية أو الألمانية وكانت
وما زالت آلات ومبادلة الأفكار بين الإفرنج، فإن لساننا العربي كذلك آلة كاملة
لمبادلة الأفكار والعلوم بين المسلمين في آسيا وأفريقيا وجهات أخرى كثيرة.
وإن قيل: إن لغة الفرنسيس لغة أهل السياسة في أوربا، أجبنا أن لغة العرب
رابطة أقوى منها في مثل هذه الشؤون الاجتماعية؛ لأن الأمم الإسلامية جمعاء
مرتبط بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا بواسطتها، فالعالم المسكوبي مثلاً يعرف بها
شؤون أهل رأس الرجا الصالح ثم يرشد أهل وطنه. والعالم البوسنوي يعرف بها
أحوال القطر المصري وينبه أبناء جنسه. والعالم الجاوي يتناول بذلك اللسان العام
الجامع معلوماته عن أحوال القسطنطينية والقوقاز وفارس، وهكذا تتبادل الأفكار
المفيدة.
لغة الكتاب العزيز تنشر في أنحاء المسكونة العلوم الأدبية والأخلاقية
والاجتماعية والسياسية والشرعية وغيرها. فهي الرابطة القوية والعروة الوثقى
التي لا انفصام لها. بها تتقارب الأجناس المختلفة وتتشابه الأضداد بالتدريج في
الأحكام والأخلاق والمبادئ، وبها تتساوى الناس في معرفة الشريعة الغراء، لا
فرق في ذلك بين السود والبيض، والصفر والحمر. فهي أقوى رابطة (بروح
القرآن وفي ظله) وتفوق متانة كل روابط الجنسية والوطنية وغيرها.
اللغة العربية لها الفضل على أكثر اللغات الجديدة في مشارق الأرض
ومغاربها، فلو أخرجت من قواميس الأسبانيول والبرتغيز وسكان أمريكا الجنوبية
والوسطى مثلاً جميع المفردات العربية، والحلى التي اكتسبتها رطانتهم من العرب،
لما عرفت تلك الأمم أن تبدي فكرًا ساميًا، ولتاهت في مجاهل العي والبكم،
ولعجزت الآن أن تتباهى بشعرائها وأدبائها.
وأين تكون لغة الفرنسيس أنفسهم لو جردناها من كل ما يزينها من مختلفات
فصحاء الحجاز.
فما بالك باللغات الإسلامية مثل الفارسية والتركية والهندوستانية والجاوية
والملايو، وغيرها من ألسنة السودان والتتار والبربر وإخوانهم. حقًّا لو أخرجنا
المفردات العربية التي في تلك اللغات - كما يطلب ذلك بعض المتفرنجين من كتابها-
لبقيت كهيكل الميت. عظامًا مفككة لا حياة فيها.
لغة العرب هي لغة المستقبل؛ لأن النبي العربي هو خاتم النبيين، فشريعته
باقية إلى يوم القيامة (كما قدمنا) ، والقرآن الكريم حامل تلك الشريعة المطهرة هو
السبب في بقاء اللغة العربية حية بين الشعوب؛ لأنهم لا يفهمون دينهم على وجهه
الصحيح من هذا الكتاب الكريم الأبها. فلذلك تموت جميع اللغات الأخرى أيًّا كانت
وتبقى لغة العرب في بهائها وجمالها. وقد أجاد أحد علماء الإفرنج المشهورين
بعلومهم الواسعة، إذ كتب قصة خيالية، فرض فيها سياحًا في أجواف الأرض
تحت قعر البحر العميق وجعل هؤلاء السياح يخترقون طبقات القرى الأرضية حتى
وصلوا إلى وسطها أو ما يقرب من ذلك , ولما أرادوا الرجوع إلى وطنهم فكروا في
ترك أثر يحفظ ذكرهم إلى أبد الآبدين، إذا وصلت علماء الأجيال المستقبلة إلى
محط رحالهم، فاتفقوا فيما بينهم أن ينقشوا على الصخور كتابة باللغة (العربية) ،
هذا ولما سئل جول فرن كاتب هذه القصة، عن سبب اختياره تلك اللغة العربية،
قال: إنها لغة المستقبل ولا شك في أن يموت غيرها وتبقى هي حية حتى يرفع
القرآن نفسه، فتأمل أيها القارئ اللبيب، واعلم أن طعن الطاعنين في لغة أجدادك
الأماجد ثرثرة لا يعتد بها.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 9) .
اعتاد بعض المتفلسفين من أمد بعيد الطعن في لساننا العربي الفصيح؛
لأغراض في النفس، ومنشأ هذه الأغراض: إما تعصب ديني طائش السهم، وإما
الجشع الاستعماري الذي يعمي ويصم، فقامت في زمننا حرب عوان بين علماء
الإفرنج المستشرقين؛ سببها اختلافهم في الحكم عن لغتنا باستطاعتها أو عدم
استطاعتها التعبير عن الأفكار الدقيقة وتدوين العلوم المنعوتة بالحديثة، ففريق
نصرها وفريق خذلها. فأما الناصرون لها فقد مر عليكم شيء من أقوال بعضهم،
وأما الخاذلون فمنهم من رماها بالفقر المدقع في مادة التعبير، والعي المعجز عن
تأدية الغرض من اللغات، وهذا ظاهر بهتانه. ومنهم من اعترف لها بالغنى،
ولكن زعم أن غناها مفرط زاد عن الحد، وشبه أهلها برجل كثر ماله كثرة لا حد
لها، فعجز عن حصره وتدبيره وفاته الانتفاع به.
هذا بعض ما رميت به لغتنا، فيجب علينا معشر المصريين أن ننهض
بالعلوم القوية وبالفنون الأدبية، حتى لا يجرؤ عاقل بعد الآن إلى الحكم على لساننا
المبين إلا بعد أخذ رأينا، ولا يصح أن تعطى الفتاوى الطويلة العريضة من الأجانب
في أمور العربية، ونحن أحياء نرزق من غير أن يكون لنا صوت مسموع.
لا شك أن أول واجب علينا أن نعتني بلغتنا الجميلة، وأن نتفانى في حبها
وخدمتها كما فعل من سبقنا في العصور الماضية من أهل الفضل والإحسان الذين
تغلبوا على الشهوات، وصرفوا الأموال، وسهروا الليالي، وجابوا البلاد في التماس
حرف من حروفها جهلوه، فاستفادوا وأفادوا. وأنتم أيها الطلبة الأفاضل، سيكون
لكم شأن عظيم في القريب العاجل، فاستعدوا لذلك قبل أن تفوت الفرص.
لغتنا سلاحنا الماضي البتار في جهاد هذه الحياة، ودرع النجاة. فبها نحيي
علوم أجدادنا الواسعة الدائرة، ونظهر كنوزهم الثمينة المدفونة في مكاتب الصين
والهند والسودان، وفي أوربا خصوصًا أسبانيا والقسطنطينية، ولو لم نستخرج إلا
الألفاظ الاصطلاحية العديدة التي نسيت ونحن في حاجة إليها لكفانا. فإن العلوم لا
تفهم ولا تنشر إلا بالأسماء، وما دمنا نستعمل ألفاظًا أجنبية، فإننا لا نقدر على
تعليم عامة الأمة إلا بكل صعوبة، وإن تعلمنا نحن بعد الجهد الجهيد من كتب
الأجانب.
أسماء الحيوان والنبات والجماد موجود أغلبها في العربية والاصطلاحات
الطبية الفلكية والفلسفية، موجودة كذلك في كتبنا، ومن الجهل أن ندعي أنها لا
توجد، وكذلك مصطلحات باقي العلوم والفنون المدفونة في بطون السطور التي
تركها لنا آباؤنا الأولون. فلا ضرورة تلجئنا لِليّ الألسنة بمعجرفات مستهجنة كما
يفعل بعض المتفيهقين الثرثارين؛ في التعبير عن مصطلحات موجودة نظائرها في
كتبنا.
ولا مانع من تعريب الكلمات الأعجمية الدالة على المسميات المستحدثة أو
استعمالها على عجميتها عند الضرورة، كما أدخلت اصطلاحات عربية كثيرة في
قواميس الشعوب الإفرنجية وغيرها.
ومن يدعي من أهل العجمة أن سيدة اللغات فقيرة، فليفتح عينيه، فإنه يجد
في نفس رطانته ألفاظًا فنية متعددة أصلها عربي، وليرجع إلى الحق إن كان من
أهله {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج:
46)
***
{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ البَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا
بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً} (الفرقان: 53) لمصر مقام خطير بين الشعوب
الإسلامية؛ لمكانها من ملتقى الأبحر، ولترقيها العلمي العظيم من يوم أن أيقظ محمد
علي الكبير أذهان أهلها، وأنشأ بينهم المطابع التي كانت ينبوعًا صافيًا رويت
بفيضه جميع الأقطار. وأزهرها المنيف له الفضل على أغلب طلاب العلوم
الشرعية المنتشرين في أنحاء المسكونة فهذه (الجامعة الإسلامية) كالشمس الباهرة،
يستضيء بها عباد الله المخلصون.
وتأثير مصر يزداد يومًا فيومًا في القاطنين بالأراضي المطهرة، سواء أهل
مكة والمدينة أو البقاع التي بارك الله حولها، ومنها ينتقل ذكر مصر المحبوبة إلى
باقي أوطان المسلمين في المشارق والمغارب.
وظيفة مصر الأدبية ستزداد أهمية في المستقبل؛ لأنها وسط عالمين إسلاميين
كبيرين: هما العالم الأسيوي والعالم الأفريقي اللذان يريدان أن يتعانقا باشتياق عظيم
ويتحابا.
ولا يخفى أن مصرنا هي القنطرة التي تصل بين الحبيب وحبيبه، وأن لها
مزايا كبيرة في هذا الشأن عند أهل الذكر.
ومن جهة أخرى، فإن قطرنا المبارك سيتخذ كوصلة تربط العالم الإفرنجي ذا
المعارف المنعشة والفنون الجميلة بأمم عديدة، جمدت على ما وجدت عليها آباءها
من أسباب الفوضى والانحلال.
وها هي (الجامعة المصرية) أول خطوة في ذلك الطريق السلطاني الجديد.
فماذا نعمل في وظيفتنا هذه الجديدة، هل نوصل تلك المعارف والفنون
باستقلال رأي مكيفين لها حسب مبادئنا وأذواقنا الإسلامية، حتى نكون باب نعمة
على إخواننا من عرب وعجم أو نكون آلة صماء تعمل حسبما تحرك، ولا تعمل إلا
شرًّا، فنهيئهم لأن يصيروا فريسة سائغة وغنيمة باردة، ستؤدي وظيفتنا حسبما
تكون تربيتنا، فإن حسنت التربية حسنت النتيجة والعكس بالعكس، ولا تكون
التربية جيدة إلا إذا تأسست على مبادئ محمدية، ولا تكون المبادئ محمدية إلا إن
استخرجناها من الكتاب العزيز، وهذا لا يتأتى إلا إذا أحطنا باللغة العربية وعرفنا
أسرارها، وفقنا كل مخلوق في إظهار محاسنها وعجائبها لا أن يسبقنا علماء
الأجانب، مثل: أساتذة (كمبريدج) و (لايدن) و (برلين) وغيرها، ويتركونا
وراءهم تائهين في مجاهل الحواشي الثقيلة السقيمة، لاهين بما فيها من سفسطة
دقيقة عقيمة.
من يخدم اللغة العربية، فإنه يخدم الإسلام، وخدمة الإسلام تؤدي إلى ترقية
بني الإنسان كلهم أجمعين. فهل يحجم الطلبة المصريون عن جهاد علمي يكون لهم
بعده الفخر الأبدي، ولمصرهم العزيزة ولجماعة الموحدين الحظ الأوفر؟
برقي اللغة العربية يسود القرآن، وتنتشر علومه، وتزيد الشعوب العربية
ارتباطًا فتقوى وتترعرع، وفي آن واحد يقوى ويترعرع المجموع الإسلامي كله.
فلينظر الطلبة المصريون إلى علو مكانتهم في المستقبل وسط الأمم المختلفة.
تلك المكانة الخطيرة التي تشبه أن تكون (رقابة أدبية عالية) شرطها الأول خدمة
لسان النبي القرشي عليه أفضل الصلاة والسلام؛ لأجل فهم كتاب الله المجيد على
وجه يوصل إلى سعادة العالم بالعمل به. وليتدبروا كثيرًا معنى الآية الحكيمة.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيداً} (البقرة: 143) .
... ... ... ... ... ... ... القاهرة في 5 جمادى الآخرة
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود سالم
__________(14/441)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقرير اللجنة التحضيرية [*]
للمؤتمر المصري
(5 - جعل الخزينة العمومية مصدرًا للإنفاق على جميع المرافق المصرية)
هذا هو الحاصل بالفعل في جميع مصالح الحكومة، إن جميع المصريين
من مسلمين وأقباط تنفق على مرافقهم العامة على السواء من الخزينة المصرية.
ولا يجد المطلع على ميزانية الحكومة مصرفًا اختص به عنصر. فعسى أن يكون
المقصود بهذا الطلب هو المحاكم الشرعية التي ورد ذكرها في مناقشة الجمعية
العمومية للأقباط، ولكن هذه المحاكم مفتوحة الأبواب للمتقاضين من المسلمين ومن
الأقباط؛ ولتسجيل العقود وتقسيم المواريث ... إلخ، لا فرق في ذلك بين المسلم
والقبطي، فهي بهذه الصفة من المرافق العامة.
على أنه لو كانت المحاكم الشرعية خاصة بالمسلمين دون غيرهم، فإنها لا
تكلف الخزينة العمومية نفقات أصلاً، بل إذا عجزت إيراداتها عن مصروفاتها سنة
زادت إيراداتها عن مصروفاتها سنة أخرى. ومتوسط الفرق بين الإيرادات
والمصروفات لمصلحة الخزينة العمومية في الخمس سنين الأخيرة هو مبلغ 4171
جنيهًا سنويًّا، يصرف هذا المبلغ في المرافق العامة بالضرورة بين المسلمين وبين
الأقباط، فلا معنى للشكوى من المحاكم الشرعية أو التعريض بذكرها في المؤتمر
القبطي، بوصف أنها يصرف عليها من الخزينة العمومية، وبوصف أنها خاصة
بالمسلمين.
وإنه ليحسن في هذا المقام أن نذكر مثلاً لما تصرفه الخزينة العمومية على
المرافق القبطية خاصة، لا لنحاسب على ذلك، ولكن ليرى الأقباط بالحس؛ أن
المناقشة في أمر المحاكم الشرعية لم يكن لها محل في جمعيتهم العمومية التي كثر
التصريح فيها؛ بأن مقاصدها محو الفروق الدينية والأخذ بأسباب الإخاء المصري.
إن مساجد المسلمين ومعابدهم - أثرية كانت أو غير أثرية - يصرف على
عمارتها وترميمها من خزينة ديوان الأوقاف الإسلامية خاصة. وأما كنائس الأقباط
ومعابدهم فإن الأثري منها يصرف على عمارته وترميمه من خزائن الحكومة بمقدار
الثلثين، ولا تتكلف الأوقاف القبطية إلا مقدار الثلث فقط، وحسب ذلك أن يكون
ميزة للأقباط على المسلمين.
وفوق ذلك، فإن أوقاف المسلمين تنفق على تعمير تلك الكنائس والأديرة؛
لأن العمال المكلفين بالقيام بهذه الأعمال إنما ينقذون رواتبهم من ديوان الأوقاف
الإسلامية.
وإننا لنشعر بأن إيراد هذه الأمثلة الجزئية، ليس متفقًا مع ما نحب تقريره من
التسامح ومساعدة إقامة الشعائر الدينية أيًّا كانت والاحتفاظ بالآثار، إلا أن الضرورة
ملجئة إلى التمثيل هذه الجزئيات؛ دفعًا لما عساه أن يتوهم من أن الخزينة المصرية
تحابي المرافق الإسلامية دون غيرها.
ولذلك ترى اللجنة أن هذا الطلب لا محل له.
(6 - النتيجة)
نقول: إن المصريين والمستوطنين في مصر من الجنسيات المختلفة، وعلى
العموم كل من يهتمون بالأحوال المصرية ويرجون التقدم لهذه الأمة، بل كثير من
الأقباط الذين تعلموا من التجارب، يرون أن المؤتمر القبطي لم يكن له محل من
الوجود، وأن مطالبهم التي أخذت شكل الإنذارات خالية عن الأسباب التي تبررها
في أعين الذين يعلقون أهمية في تأليف الأمم الناهضة؛ على تضييق دوائر الفروق
بين الأفراد، وتوسيع دائرة المشابهات بينهم، ويعتقدون حقيقة أن الدين لله وأن
مصر للمصريين.
أيها السادة:
هبوا معنا أن مواطنينا أخطأوا في تقدير الحالة الحاضرة، وما يجب أن
تضحيه الأفراد والمجاميع، أيًّا كان لونها في سبيل تعضيد الوحدة القوية، فإن
الطريقة الوحيدة لتصحيح هذا الخطأ هي إقناعهم به وإقناع الأمة بوجوب التجاوز
عنه.
إن الأمة يجب أن تبني علاقة أفرادها على التسامح من جهة وعلى التضامن
جهة أخرى، ولا يتوفر ذلك إلا إذا عاملت أبناءها جميعًا بما تقتضيه المحبة
والرحمة، وما يؤكد التآزر على تحصيل المنافع المشتركة. فلنطرح ظهريًّا كل ما
جاء في مؤتمر الأقباط من دواعي التفريق في الوحدة القومية، ولنوسع لإخواننا
صدورنا، ونستأصل من نفوس المصريين ذلك الضيق الذي لحقها من جراء ذلك
المؤتمر.
وإنه من الخطأ أن تتشبث العقول بتلك الفكرة التي أنتجها مؤتمر الأقباط،
وهي فكرة محاسبتهم لأخذ ما في أيديهم من المصالح العامة؛ لأن في ذلك مجاراة
لهم على التفريق، إنما ينبغي إصلاح ما طرأ من الفساد على الطرق المتبعة في
الانتفاع بالمرافق العامة. فإن المسلم والقبطي كلاهما ابن الأمة المصرية، وكلاهما
له الحق الكامل في خدمتها والاعتزاز بتلك الخدمة. وإنها لو رجعت إلى نفسها
لشعرت بأنها تحن إلى المسلم والقبطي على السواء.
ليست مصر قليلة الواجبات الوطنية، ولا هي يعوزها ميدان العمل لخيرها،
حتى تشغلها عناصرها بما لا فائدة فيه من التنازع على المراكز أو التخاصم على
شيء من الحقوق التافهة. بل على الضد من ذلك، إن لهذه الأمة الناهضة شؤونا
اجتماعية واقتصادية، لا تكفي في تحقيقها مجهوداتنا الحالية ولا أضعاف أضعافها.
فإن الرقي لا يجيء بالصدفة، ولكنه نتيجة متناسبة مع عمل العاملين.
حقيقة كان يكون من الضرر على جامعة الأمة أن تبين ظلامات الأقباط،
وتغمض الأكثرية جفونها على تلك الظلامات، مع القدرة على التذرع إلى كشفها أو
كشفها بالفعل. يكون من التهاون في حقوق الإنسانية، بل التهاون في حق الوطن،
بل التهاون في حق الذات؛ أن تترك الأكثرية أقلية مهما كان وصفها مهضومة في
حق من حقوقها؛ لأن مثل هذا التهاون أكبر العوامل على العبث بالتضامن الذي هو
أساس الوجود القومي.
أما وقد ظهر بالبرهان أن أفراد الأقباط متمتعون من الحقوق بأكثر مما يتمتع
به بقية الأفراد الآخرين من المصريين، فالواجب على الأقباط أن يرجعوا عن مزج
المعتقدات الدينية بالمصالح القومية، وأن لا يجعلوا من جامعتهم الدينية جامعة
سياسية خاصة، والواجب على المسلمين أن يعتبروا المطالب التي تشف عن هذا
الغرض كأنها لم تكن.
ويسر اللجنة أن تأمل بحق أنه إذا انعقد مثل هذا المؤتمر، يكون الأقباط إلى
جانب المسلمين عاملين فيه؛ للبحث فيما يرقي الأمة المصرية جميعها، حتى يحق
القول بأن الدين لله ومصر للمصريين.
(2)
(حالنا الاجتماعية)
حالنا من الجهة الاجتماعية، يصفها جميعنا بأنها أقل الحالات ملائمة لتمدننا
الحديث، فليس من الضروري الإطالة في شرحها، وضرب الأمثلة على مقدار
الضعف السائد من معظم الوجوه في تأليف جمعيتنا المدنية. كما أنه ليس من
الحكمة أن تثقل كواهلنا، ونحملها فوق طاقتها بالاقتراحات والمشروعات
الاجتماعية. فإن الخير كل الخير هو في أن نترك الآن ما لا نستطيع إلى ما
نستطيع، حتى نتفق في سيرنا مع قواعد التدريج الطبيعي، وقل أن يفشل الذي
يقلد الطبيعة في سيرها، ويقيس قواه بمقياس مضبوط قبل استخدامها في العمل،
وأنه لا ضرر على رقينا المنشود من هذا النمط؛ لأن المشروع الواحد الذي يتم هو
نفسه، يكون أكبر مساعد لإتمام غيره، فحسبنا من المقاصد الاجتماعية الآن أن
نهتم بالمدرسة.
إننا إذا أصلحنا المدرسة أصلحنا العائلة والأمة كلها، فالمدرسة هي الأساس
الذي يجب أن نبني عليه الآن، والمشروع الاجتماعي الذي يجب أن نلفت إليه
النظر قبل كل مشروع اجتماعي آخر.
إن نسبة القارئين والكاتبين في المصريين عمومًا قليلة أمام مطالبنا الكبيرة من
التحول الاجتماعي، بل نسبة تجعل بيننا وبين أن نعيش في زمننا الحاضر بونًا
بعيدًا.
أيها السادة:
نحن نعيش في هذا الزمن تحت سلطان العلم الذي وضع يده على كل شيء
في الوجود، وضع يده على الزراعة والصناعة والتجارة وهي مصادر رزقنا،
وضع يده على الأخلاق والروابط الاجتماعية وهي قوام جمعيتنا، وضع يده على
السياسة وتدبير الممالك وهي مناط سعادتنا وشقائنا، وضع يده على حركات نفوسنا
ووضع لكل شيء ضوابط لا مجاوزة لها. فإن لم يحسن التفاهم بيننا وبين هذا
السلطان القادر، يستحيل علينا أن نعيش في زمانه، ولا واسطة لهذا التفاهم إلا
المدرسة.
فليس تعليم الأمة زخرفًا تزدهي به، ولا زينة تباري بها زميلاتها، ولكن
تعليم الأمة ركن لحياتها، وشرك لازم لوقايتها من الفناء.
قد يجد الأميون الطيبون من المتعلمين ما لا يرضيهم في السلوك والأخلاق
الاجتماعية، فينسبون ذلك للعلم وبضعف إيمانهم بضرورة التعليم، إلا أنه لا ذنب
للعلم ولا للتعليم، ولكن الذنب على الجهل وطرائق التعليم، فكلما رأيتم اعوجاجًا
في المتعلمين، فأصلحوا المدرسة تصلح أبناؤكم وأحوالكم.
من ضعف الوطنية ومن الضرر بالنظام؛ أن يفرغ كل جهده في كسب
الحقوق، ولا يفكر في أداء الواجبات، كل يريد من الأمة أو من الحكومة أن تعطيه
حقه، ولا يريد أن يقوم نحو الجمعية بواجبه، ومن قصر النظر أن يظن المرء
بسهولة الحصول على حقه، إذا لم يكن الأفراد المتضامنون معه يؤدون واجباتهم،
فإذا استمرت هذه الشهوة الفاسدة شهوة التمتع بالحقوق دون النظر إلى الواجبات،
فكل إصلاح اجتماعي مستحيل، وعلى الأخص نشر التعليم وإصلاح المدرسة.
نحن نطلب إلى الحكومة أن تعلم، نطلب إليها ذلك؛ لأنها تصدت لأخذ
الأموال من الأمة للتعليم؛ ولأنها تسير في التعليم. ولكننا على كل حال نضيع
الوقت في الطلب، نظلمها إذا طلبنا منها أن تصلح المدرسة على أنماط التربية التي
تخرج الرجال. ذلك لأن الحكومة مهما كان نوعها وهيئة تأليفها، ليست
اختصاصية في التربية والتعليم، بل ليست التربية والتعليم في الحقيقة من شأنها؛
لأن التعليم يجب أن يكون حرًّا بعيدًا عن كل المؤثرات؛ ولأن المدرسة يجب أن
تكون أمة مصغرة مستقلة، يعلم فيها كل ما هو جار في الخارج أي: في الأمة
الكبيرة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالجهود الذاتية للأفراد والمجاميع الحرة غير الداخلة
في نظام الحكومة، لا سبيل إلى ذلك إلا بأن يريد كل مفكر وكل مثر أن يؤدي
واجباته العامة تلقاء كسبه لحقوقه، ومن الأسف أن علية المفكرين يقصرون عملهم
العام على السياسة، وعلية المثرين لا يقومون إلا قليلاً بواجبات الغني نحو قومه أو
نحو المدرسة.
تقول اللجنة ذلك، ويسرها أن نعترف أن هذه السنين الخيرة كانت ميدانًا
لتناظر المفكرين في التعليم، ومباراة الأغنياء في بر التعليم، فهي بذلك قوية الأمل
في أن يزيد إدراك العلماء والأغنياء لواجبهم نحو التعليم. ومتى أضيف إلى ذلك
الأمل في مجالس المديريات أمكن القول بأننا نبتدئ في سلوك خطة نحو التربية
والتعليم لا تلبث أن تجني الأمة ثمارها.
غير أن لنشر التعليم أصولاً مجربة. وأن لإصلاحه والاستفادة منه في تخريج
الرجال أنماطًا علمية، ولا يسع هذا المؤتمر أن يبحث في هذه التفاصيل. فتقتصر
اللجنة على أن تقترح على المؤتمر أن يطلب أو يشجع طلب عقد مؤتمر للتعليم
والتربية في الخريف القادم، يكون الغرض منه درس الحالة التعليمية في مصر
ووصف العلاج النافع لها، وإرشاد المجاميع التعليمية كمجالس المديريات وغيرها
من الجمعيات الأخرى إلى أقرب الطرق وآكدها في تعليم الأمة، وبماذا تبتدئ في
مشروعاتها التعليمية، وكيف يتم إصلاح المدرسة على مقتضيات الزمن
الحاضر.
(3)
(الحالة الاقتصادية)
إذا كانت حالتنا الاجتماعية داعية إلى الإصلاح، فإن حالتنا الاقتصادية إلى
الإصلاح أدعى لأنها عدم.
نعم أيها السادة بوصف كوننا مجموعًا ليس لنا مع الأسف وجود اقتصادي
إيجابي، بل وجودنا سلبي محض؛ لأننا نتأثر بالحركات الاقتصادية في مصر من
غير أن يكون لنا فيها أدنى تأثير.
نشتغل في تجارة القطن، وما وصفنا الحقيقي فيها إلا أننا عمال في البنوك
الأجنبية، تابعون في تصرفنا لا للحركة المالية العامة كما هو شأن كل تجاري
يشتغل لنفسه، ولكننا تابعون للذين يشتغلون لأنفسهم من الأجانب، ولذلك إذا سقط
منا تاجر أو أفلس - وذلك مع الأسف ليس بالقليل - تأثرت بإفلاسه التجارة
المصرية تأثرًا حقيقيًّا؛ خلافًا لما لو كان لنا في الحركة مركز مصري خاص، إذ
في هذه الحالة لا يكون لخسارة التجار تأثير مضر بثروة البلاد؛ لأن هذا التاجر يخسر
ما يكسبه الآخر، فما أجدر خسارته أو إفلاسه بأن تسمى تحولاً للمال من يد
مصرية إلى يد مصرية، والمال على كل حال باق في مصر.
نشتغل في الحركة المالية الصرفة أي: في أشغال البنوك، فما نصيبنا من
هذا الشغل إلا أننا مقترضون دائمًا لا مقرضون، ومدينون لا دائنون.
نقترض من البنوك لتوسيع ثروتنا، ونغلو من الأسف في حب ذلك التوسيع،
فنأخذ المال بالفوائد التي لا يسمع بها في العالم المتمدن، ونقسطها على أقساط
ندفعها من حاصلات الأرض، وحاصلات الأرض متغيرة بتغير السنين بين
الإخصاب والإجداب، فكثيرًا ما يقع أن ما تنتجه الأرض المرهونة للمزارع المدين
لا يفي إلا بقسط البنك. فيكون معنى ذلك أن المزارع يشتغل لغيره، وأن المصري
يشتغل لتنمية ثروة غير بلاده، فإذا وقفت حركة أعماله واستغرقت ديونه أملاكه
- وذلك أيضًا أصبح مع الأسف كثير الوقوع - تأثرت الحالة الاقتصادية المصرية
بمقدار أهمية أملاك ذلك المزارع المصري في تكوينها؛ لأن انتقال أمواله من يده،
إنما يكون دائمًا ليد غير مصرية، خلافًا لما إذا كان منا الدائن ومنا المدين، ومنا
المرتهن ومنا الراهن، فإن الحالة الاقتصادية للأمة لا تتأثر بخسارة أحدهما أو
انتقال ماله إلى يد الآخر؛ لأن المال يبقى مصريًّا على كل حال.
نشتغل في الصناعة شغلاً بطيئًا قليل الأهمية؛ لأنه ليس لنا رؤوس أموال
تشتغل شغلاً مفيدًا في السوق المالية؛ لذلك لا تخطو الصناعة في بلدنا خطوة إلى
الأمام، حقيقة أنها لا تشجع ولا تحمى من جانب الحكومة، ولكن ذلك ليس هو
وحده السبب الأكبر في عدم تقدمها، بل أكبر الأسباب في ذلك هو قلة وجود رؤوس
أموال مصرية في سوق المال تستعمل في المشروعات العامة.
نحن في بلدنا تتأثر حالنا المالية بكل أزمة مالية تقع في أي بلد من البلاد.
ولا نستطيع أن ندفع عنا أية أزمة خارجية مهما كانت؛ لأن سوقنا ليست لنا، بل
ليس لنا فيها أدنى نصيب.
نحن في بلدنا تتأثر حالنا الاقتصادية بأية إشاعة من الإشاعات مهما كان مبلغها من
الفساد. فإنه يكفي لقبض البنوك يدها عنا والقسوة في مقاضاتنا أن يشيع في الناس
خبر أية حركة سياسية، بل يكفي أن يخلق كاتب عنا رواية تدل على التعصب
الديني أو التحرش بالأجنبي حتى توصد البنوك أبوابها.
فنحن على هذه الحالة لا مأمن لنا من الوجهة المالية، لا من داخل البلاد ولا
من خارجها. وقد أخذنا درسًا مفيدًا من الأزمة المالية التي وقعت في سنة 1907.
إذن أين نحن من المستوى الاقتصادي الذي يتفق مع رغباتنا الأكيدة في التقدم
إلى الأمام.
مع الأسف أن الذي يجيب على هذا السؤال، يرى نفسه مكرهًا على
الاعتراف بأننا لسنا من الحال الاقتصادية على شيء أصلاً. وليست حركتنا
الاقتصادية إلا سلبية صرفة.
لا يفهم من ذلك أننا ننكر جميل رؤوس الأموال الأوربية التي دخلت مصر،
فحسنت كثيرًا من أحوال الأفراد، وصقعت الأملاك العقارية، ولكن الذي يفهم منه
أنه يجب أن يكون للمصري وجود اقتصادي عام أي: حركة فاعلة في السوق،
وليس له من ذلك شيء، يجب أن يكون لمصر وجود فاعل، ثم يجب أن يكون
لأموالها بوصف أنها أمة مزاحمة مالية مع بقية رؤوس الأموال ذات الجنسيات
المختلفة التي تتزاحم في السوق المصرية.
أيها السادة، لا يغلو الذي يقول: إن كل جهد لتقدمنا ضياع وقت، وكل رقي
نرجوه أمنية لا تتحقق، مادامت حالنا الاقتصادية على ما هي عليه.
إن مدنيتنا نتيجة مقدمتها الكفاءة الاجتماعية والاقتصادية، فما لم نحصل على
المقدمات، يستحيل علينا أن نبلغ النتيجة.
إنه يجب علينا أن نأخذ من فورنا بأسباب إصلاح حالنا الاقتصادية. ومن
المشكوك في نفعه أن نطرق مشروعات اقتصادية شتى، عساها تكون فوق طاقتنا
المالية، فنبقى في النقطة التي ابتدأنا منها. بل النافع هو أن نقصر جهدنا على
مشروعات يمكن تحقيقها، وتكون من أهم القواعد التي يبنى عليها صلاحنا
الاقتصادي.
لنبدأ من هذا اليوم؛ لأننا قد تأخرنا كثيرًا. وكل تأجيل في الابتداء في العمل
تأجيل للنتيجة. وليس تأجيل البدء في العمل قاصرًا على أن يفوتنا زمن بغير عمل،
ولكن مادامت التجربة دلت على أن الأعمال إنما تسير على قاعدة الربح المركب،
فإن تأجيل العمل لابد أن يسير على قاعدة الخسارة المركبة. ولو استطعنا أن
نقف في مركزنا الحالي لهان الأمر، ولكن لا سبيل إلى الوقوف: فإما التقدم وهو
البدء في العمل من اليوم، وإما التأجيل وهو التقهقر إلى الوراء ونتيجته الخراب.
وماذا نعمل من اليوم أيها السادة؟
نشرع في إنشاء بنك مصري؛
أيها السادة، لسنا والحمد لله فقراء في المال، فإن للمصريين في البنوك نقودًا
ودائع لا غلة لها، تفي من اليوم بأن تكون رأس مال لبنك مصري محترم. ولسنا
والحمد لله فقراء في الرجال الماليين، فإن كثيرًا من رجالنا قد جمعوا بأنفسهم
ثروات عظيمة من غير أن يكون عند أحدهم رأس مال إلا عمله أو قليل من الحطام
الموروث. ولسنا ضعفاء الثقة بعضنا في بعض، قد أثبتنا في السنين الأخيرة أن
لدينا مجاميع تقوم بالأعمال العامة، ومثل هذه المجاميع يستحيل أن يبنى لها أساس
إلا على الثقة. إن المال والرجال والثقة هي الأركان الثلاثة اللازمة لمشروع مالي
عظيم مثل هذا المشروع. فما الذي يعوقنا عن السير فيه؟ .
لا يقال: إن من العقبات الشديدة خوف مزاحمة البنوك الأجنبية؛ لأننا وإن
اعترفنا بأن البنك المصري سيزاحمها، ولكنه لا يعطل عمل واحد منها، ولا يؤثر
تأثيرًا كبيرًا على مقادير كسبه؛ لأن مصر لا تزال كالبلد البكر في الاستغلال، وأن
البنوك الموجودة فيها إلى الآن على كثرتها لا تفي بحاجاتها. فإن الأراضي
المصرية القابلة للزارعة لم تزرع كلها بعد. والفدان المزروع لم يأت إلى اليوم
بكل ما يستطيع أن يأتيه من الغلة، والأرض غير القابلة للزراعة لم يقنط أحد من
احتوائها على معادن مختلفة؛ كالرصاص والبترول ونحوهما. وبالجملة فالبلاد لا
تزال بكرًا من حيث الاستغلال وتحتاج في استغلالها إلى أموال طائلة، لا تفي بها
الأموال الأجنبية الموجودة في مصر الآن.
إنما تكون فائدة البنك المصري أن لا يتأثر بالإشاعات المكذوبة، فلا يقفل بابه
عن الناس، فتحذو حذوه البنوك الأخرى؛ لأنه بنك البلد وأعلم بما يجري فيه،
فائدته تشجيع المشروعات الاقتصادية المختلفة التي تعود عليه وعلى البلاد بالربح
العظيم، فائدته الرحمة بالفلاحين عند الحاجة يعطيهم بفوائد معتدلة ومناسبة،
وهو مع ذلك يربح ولا يخسر، فائدته أن يجعل لمصر صوتًا في سوقها المالية،
ويدافع عن مصالحها كما تدافع البنوك عن مصالح بلادها، فائدته هو ومشروع
النقابات الزراعية، ومشروع مستودعات التأمين، أن تتحقق في الوجود الكفاءة
المالية التي هي الأساس المتين للرقي المطلوب.
على ذلك تقترح اللجنة على المؤتمر أن يقرر وجوب إنشاء بنك مصري
برؤوس أموال مصرية.
__________
(*) تتمة لما نشر في الجزء السابق ص 353.(14/449)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المؤتمر المصري [*]
(ب) التربية والتعليم:
1 - ضرورة عقد مؤتمر للتربية والتعليم في الخريف القادم؛ للبحث في
أنماط التعليم والتربية واختيار الأصلح منها للقطر المصري.
اقترحته لجنة المؤتمر وحضرتا عبد السلام أفندي ذهني المحامي ببني سويف،
ومحمد أفندي كامل صادق المصري، وأحمد بك لطفي المحامي الذي يقترح
أيضًا تخصيص مبلغ من مال هذا المؤتمر؛ للإنفاق على مؤتمر التربية والتعليم
المذكور، فهل أنتم موافقون على هذا الاقتراح مع إحالته على اللجنة التنفيذية للعمل
على تنفيذه؟
2 - السعي لدى الحكومة لفصل المكاتب الأهلية ومدارس الأوقاف عن
نظارة المعارف، وجعلها إدارة قائمة بذاتها، تراعى فيها شروط الواقفين.
(اقترحه سعادة الشيخ علي يوسف) .
وجاء أيضًا مثل هذا الاقتراح من حضرة محمود بك أنيس وحامد محمد
الإسكندراني ومصطفى حسن من بني سويف.
3 - إلفات نظر الحكومة إلى جعل تعليم الدين في مدارسها قاصرًا على
دينها الرسمي؛ منعًا للتنافر الذي أحدثته الطريقة الجديدة التي اتبعتها الحكومة من
سنة 908؛ واقتداءً بما تجري عليه الحكومات المتمدنة التي يعلم الدين في
مدارسها.
(اقترحه سعادة الشيخ علي يوسف أيضًا) .
فهل يوافق المؤتمرين على هذين الاقتراحين؟
4 - إنشاء إدارة معارف أهلية، تضم شتات المدارس الأهلية، وتقوم
بالتعليم الوافي بحاجات القطر.
اقترحه محمد بك أبو شادي المحامي بمصر، وطلب السعي لدى الحكومة في
زيادة ميزانية المعارف العمومية. واقترحه أيضًا لفيف من طلبة المدارس الأهلية
والأجنبية بمصر عددهم 30 طالبًا. باحثة البادية. عمر أفندي صنوه بالإسكندرية.
أحمد بك رمزي المحامي الذي يطلب السعي لدى الحكومة لزيادة ميزانية التعليم.
أحمد محمد مليجي رئيس لجنة المؤتمر بمركز الصف.
5 - السعي في جعل التعليم الابتدائي إجباريًّا مجانًا للذكور والإناث.
اقترحه حضرات أحمد بك رمزي المحامي. عبد السلام أفندي ذهني المحامي،
السيدة باحثة البادية وهي تطلبه على الخصوص لمدارس البنات. مرسي عبد
الرحمن البارودي بجرجا.
6 - وجوب نشر التعليم العلمي من صناعي وزراعي في أنحاء القطر،
والاهتمام بالعلوم التي تفيد الصناعة والزراعة؛ كالكيمياء الصناعية والاقتصاد
الزراعي، والهندسة الميكانيكية والكهربائية وغير ذلك.
اقترحه حضرة علي بك الشمسي في خطابه الذي تلاه على المؤتمر.
وقد اقترح الاهتمام بالتعليم الصناعي والزراعي كل من حضرات حسن بك
يونس الذي يستلفت مجالس المديريات لذلك. سليمان أفندي فهمي سليمان المحامي
الذي يرى إنشاء مدارس زراعية في عواصم المديريات وكلية زراعية. علي بك
ثروت رئيس نقابة عمال الصنائع اليدوية، ويطلب تشجيع التعليم الصناعي. حسن
المسيري ببهتيم ويطلب مدرسة زراعية في كل مركز. حسين علي عيد بالفشن،
وهو يطلب الاهتمام بالمدارس الصناعية. سيدة باحثة بالبادية. عبد المعطي أفندي
أمين المغربي. مرسي عبد الرحمن البارودي بجرجا. علي عبد السلام بالسويس.
وهؤلاء الثلاثة الأخيرون طلباتهم هي المدارس الصناعية.
7 - إنشاء مدارس للمساحة والتجارة ومسك الدفاتر؛ لتخريج أناس أكفاء
يشتغلون في البنوك وفي عمل الدوائر والصرافة.
اقترحه حضرات أحمد بك سامي مفتش ورق التمغة بالمالية سابقًا. نقابة
ناهية الزراعية. سليمان أفندي فهمي سليمان المحامي، وهو يطلب إنشاء مدرسة
تجارية عالية. حسين بك هلال عن لجنة ميت غمر وهو يطلب السعي لدى
الحكومة ولدى مجالس المديريات في الاهتمام بتوسيع التعليم التجاري وإنشاء
مدارس له. لجنة المؤتمر الفرعية بالقناطر الخيرية التي تقترح أيضًا إدخال مسك
الدفتر للسنتين الثالثة والرابعة من مدارس الحكومة الابتدائية. لجنة المؤتمر
الفرعية بمديرية المنوفية، وتطلب أن يسعى المؤتمر لدى ديوان الأوقاف لهذا
الغرض. أحمد بك رمزي المحامي.
8 - إنشاء مدارس متجولة؛ لتعليم المزارعين والمزارعات الوسائط الحديثة؛
لتحسين الحالة القروية صحيًّا واقتصاديًّا، وهي المسماة بالمدارس الفنية الزراعية
المتجولة التي انتشرت في بلجيكا وكندا والولايات المتحدة بأمريكا وأفادت كثيرًا.
اقترحه حضرات عبد الحميد سعيد والدكتور محجوب ثابت ولفيف من
المصريين طلبة العلم بفرنسا وإنجلترا.
9 - وضع كتب أخلاقية سهلة يفهمها العامة، وعمل لجنة لمراقبة الأخلاق
في معاهد التربية والتعليم الأهلية.
اقترحه سيد بك محمد. ولجنة المراقبة على الأخلاق اقترحها أيضًا عبد
السلام أفندي ذهني المحامي.
10 - إيجاد مدارس ليلية لتعليم الشعب بالقرى.
اقترحه سعد الدين مصطفى رحاب من العسيرات.
11 - الإكثار من معاهد الجنباز والرياضة البدنية.
اقترحه عبد السلام أفندي ذهني المحامي.
اقترحه سعادة حسن باشا مدكور.
12 - توحيد برامج التربية والتعليم اقترحه حضرة أحمد بك لطفي المحامي،
فهل توافقون على إحالة جميع هذه الاقتراحات على اللجنة التنفيذية؛ لكي تنفذ منها
ما يمكن تنفيذه، ويكون لها أن تنتظر عمل مؤتمر التربية والتعليم والاستعانة بما
يراه موافقًا لهذه البلاد من الأنماط التعليمية.
السعي لدى الحكومة لتوسيع نطاق مدرسة الممرضات وتعليم الطب للنساء
أسوة بالرجال، وتعليم المرأة التفصيل والتطريز وخدمة المنزل وتربية الأطفال،
وإنشاء مدرسة لذلك.
اقترحته السيدة باحثة البادية.
قبلت هذه الاقتراحات كلها وعددها 12 بالإجماع.
(ج) المسائل الاجتماعية:
1- الاهتمام بالوعظ والإرشاد؛ لترقية الحالة الأخلاقية.
اقترحه حضرات محمود حسن فرويز بأسيوط. الشيخ رشيد رضا. حسن بك
يونس الذي يطلب السعي لدى ديوان الأوقاف؛ لتعضيد مشروع الوعظ والإرشاد.
محمود بك أنيس، وهو يرى المساعدة على ذلك بجمع ضريبة اختيارية سنوية لا
تقل عن خمسين قرشًا على كل شخص، تصرف في هذا السبيل وغيره حامد محمد
المليجي الإسكندراني. عدد 160 شخصًا من الأزهريين. مرسي عبد الرحمن
البارودي. حسن المسيري. محمد أفندي كامل صادق الذي يرى أن الوعظ
والإرشاد يكون تحت مراقبة لجنة يعينها مؤتمر التربية والتعليم.
فهل المؤتمر يوافق على أن هذا الاقتراح مفيد وواجب تشجيعه أم لا؟
قُبِلَ
2 - إعطاء الحرية للنساء لسماع الوعظ في المساجد وبالصلاة فيها؛
أسوة بالتركيات وبالمسيحيات واليهوديات، وجعل التعليم الديني إلزاميًّا في
مدراس البنات. وإيجاد أستاذ مسلم عاقل في كل مدرسة بنات؛ لإرشادهن لمكارم
الأخلاق الدينية ومحاسن العادات القومية.
اقترحته السيدة باحثة البادية.
فهل توافقون على هذا الاقتراح وتشجعون عليه وتحيلونه على اللجنة
التنفيذية؛ للسعي لدى الحكومة لإجراء ما يخصها من ذلك؟
رفض الشق الأول وقبل الثاني
3 - محو البدع والعادات السيئة؛ كالأذكار القبيحة والإسراف في
المآتم والأفراح، وخروج النساء لتشيع الجنازات ومبيتهن في المقابر، والإسراف
الزائد في تشييد القبور والأحواش.
اقترح بعض ذلك حضرة محمد بك يوسف المحامي بمصر في تقريره الذي
تلاه في إحدى جلسات المؤتمر، وبعضها اقترحه حضرات محمد أفندي زكي
إبراهيم بالحنفي بمصر. خيري أفندي بشبين الكوم. عبد الحليم أفندي جميعي
بالإسكندرية. حسن بك يونس. باحثة البادية. فهل تعضدون رأي المقترحين؟
قُبِلَ
4 - ضرورة إنشاء ملاجئ للفقراء من الأيتام والأرامل والعجزة.
اقترحه حامد محمد المليحي الإسكندراني.
فهل المؤتمر يستحسن هذه الفكرة ويشجع عليها، ويحض المحسنين والواقفين
على أن يجعلوا لها من مبراتهم نصيبًا.
قُبِلَ
السعي لدى الحكومة في استصدار قانون يحدد المهور.
اقترحه حضرتا عبد الحليم أفندي جميعي بالإسكندرية - حسين المسيري ببهتيم.
رُفِضَ
5 - السعي لدى الحكومة لتشكيل لجنة من العلماء؛ لاستنباط أحكام شرعية
من كل المذاهب، تنطبق على أحوال الزمان والمكان، حتى يمتنع الحرج على
الناس من الأحكام المأخوذ بها الآن.
اقترحه حضرة الشيخ عبد العزيز شاويش في خطابه الذي ألقاه بإحدى جلسات
المؤتمر، فهل توافقون في إحالة هذا الاقتراح على اللجنة التنفيذية؛ لبحثه ولتتخذ
نحوه ما يلزم؟
أن يطلب من الحكومة مراقبة المبشرين في مصر، حتى لا يخرجوا عن
حدود واجباتهم الدينية اقترحه حضرة أحمد بك لطفي المحامي.
قُبِلَ.
8 - السعي لدى الحكومة؛ لمنع تعدد الزوجات بلا ضرورة والطلاق بلا
موجب، اقترحه حضرة صادق أفندي عثمان ناظر مدرسة الصادق ببني سويف،
وباحثة البادية في تقريرها الذي تلي بالمؤتمر، فهل توافقون على فائدة هذا الاقتراح
وعلى إحالته على اللجنة التنفيذية، لتحري ما يلزم نحوه؟
... ... ... ... حُذِفَ مِنَ الْبُرُوجْرَام.
9 - السعي لدى الحكومة لتعيين قضاة المحاكم الأهلية من بين المتمرنين
على أعمال القضاة؛ كالمحامين الذين أمضوا في المهنة عشر سنوات مثلاً،
وترقية القضاة بالأقدمية فقط، وأن يكونوا غير قابلين للعزل وصرف إيرادات
المحاكم في ترقية حال القضاء.
اقترحه حضرة عبد الستار أفندي الباسل.
فهل توافقون على إحالته على اللجنة التنفيذية؛ لبحثه وإجراء ما يلزم نحوه؟
قبل بالإجماع.
10 - السعي لدى الحكومة لاستصدار قانون، يجعل منزل العائلة
وحصة معلومة من ملكها غير قابلين للبيع، وذلك حماية للأهالي من خطر التجرد
من كل ملك.
اقترحه حضرة عبد الرحيم حسين من ساحل سليم ومحمد أفندي كامل صادق
من مصر، فهل توافقون على هذا الاقتراح وتحيلونه على اللجنة التنفيذية لإجراء
اللازم نحوه؟
قُبِلَ بِالإِجْمَاع.
11 - إنشاء لجان لمصالحة العائلات.
اقترحه حضرتا حسن بك يونس ومرسي عبد الرحمن البارودي بجرجا،
والأول يرى السعي لدى الحكومة لتعين مجالس في المراكز لهذا الغرض.
... ... ... ... ... تقرر الاكتفاء بما هو موجود بتلك اللجان
12 - إيجاد المستشفيات الخيرية والصيدليات بكل مركز من مراكز
المديريات وكل قسم من أقسام المدن.
اقترحته باحثة البادية في تقريرها الذي تلي بالمؤتمر.
واقترحه مرسي عبد الرحمن البارودي بجرجا وحسن المسيري ببهتيم، فهل
تستحسنون هذا الاقتراح، وتشيرون على الأهالي بالعمل به؟
قُبِلَ بِالإِجْمَاع
13 - السعي لدى الحكومة لتحصيل تركات من يتوفى من المسلمين من
غير وارث؛ لصرفها في شؤون المسلمين.
اقترحه حضرة محمود بك أنيس ومحمود حمادة بالزيتون.
فهل توافقون على هذا الاقتراح؟ أم توافقون على إبقاء الحالة كما هي الآن،
مع إلفات الحكومة إلى الاستيلاء أيضًا على تركات المتوفين عن غير وارث من
باقي المصريين.
رفض الشطر الأول وتقرر الثاني بالإجماع.
14 - استلفات الحكومة لإلغاء المادة 78 من لائحة الصيارفة؛ لما تقتضيه من
حصر وظائفهم في يد فئة مخصوصة، مع أن الحكومة تصرف سنويًّا على
هذه الطائفة زيادة عن 90.000 جنيه.
اقترحته لجنة المؤتمر الفرعية بالمنوفية وحضرة محمد بك علي المحامي
بأسيوط.
فهل توافقون على هذا الاقتراح، وتحيلونه على اللجنة التنفيذية؛ لإجرء
اللازم نحوه؟
قُبِلَ بِالإِجْمَاع.
15 - استلفات نظر الحكومة إلى وجوب الحرص على اللغة العربية، ووضع
كل محرراتها بها؛ إذ هي اللغة الرسمية للبلاد، وإن كان للحكومة الحق
بعد ذلك أن تضعها فيما تشاء من اللغات الأخرى.
اقترحه الشيخ عبد العزيز جاويش ومحمود بك أبو النصر.
فهل توافقون على هذا الاقتراح، وتحيلونه على اللجنة التنفيذية لإجراء اللازم
نحوه؟
قُبِلَ بِالإِجْمَاع.
(د) المسائل الاقتصادية:
إنشاء مصرف وطني مصري برؤوس أموال مصرية.
اقترحته اللجنة التحضيرية للمؤتمر.
واقترحه أيضًا حضرات يوسف نحاس بمصر. هاشم أفندي محمد مهنا
المحامي بقنا. حسين علي عيد بالفشن. محمد كمال بشارع محمد علي بمصر،
الشيخ مصطفى فرغلي. رضوان التاجر بأبوتيج. حسين بك عابدين عضو
الجمعية العمومية عن مديرية الجيزة. أمين باشا الشمسي. إبراهيم بك دويدار عمدة
شبراخيت بمديرية الجيزة. حسن بك يوسف بمنفلوط. محمود بك بسيوني المحامي
بأسيوط. عبد الحميد بك سعيد والدكتور محجوب ثابت ولفيف من المصريين
بباريس وإنجلترا. عبد الرؤوف أفندي زكي وإلياس أفندي الأيوبي المترجمين
بمحكمة الإسكندرية المختلطة. متولي أفندي عامر بمحكمة الإسكندرية المختلطة
علي أفندي سليمان بشارع راغب باشا بالإسكندرية محمود حسن قزوير بأسيوط.
محمد أفندي كامل بالفشن. الدكتور أحمد أفندي حلمي قاسم. سليم أفندي ديمتري
بولاد بالمحلة الكبرى. حسين بك هلال عن لجنة المؤتمر الفرعية بميت غمر.
توفيق أفندي الترجمان مدير مدارس أوقاف الحلمية. محمد بك بهجت مفتش
الأوقاف العمومية سابقًا. محمد متولي من أبو قراميط. أحمد أفندي رمزي المحامي،
أحمد محمد مليجي رئيس لجنة المؤتمر الفرعية بمركز الصف. حسن المسيري
ببهتيم. سيد أحمد بك زعزوع ببني سويف. محمد أفندي زكي بإسنا. محمد أفندي
كامل صادق بمصر. محمد أفندي عبد الملك حمزة المحامي بأسيوط.
فهل تقررون إنشاء هذا المصرف على شرط أن يكون مجلس إدارته كله أو
أغلبيته من المصريين؟ وهل تكلفون اللجنة التنفيذية بالبدء في تحقيق هذا المشروع
فورًا بانتخاب لجنة من الاختصاصيين؛ لدرس وتحضير قانون هذا المصرف في
أول جلسة تعقدها اللجنة التنفيذية؟
قُبِلَ بِالإِجْمَاع.
2 - وجوب السعي لدى الحكومة؛ لإصدار قانون بتقرير عقوبة على
من يشتغلون بالربا الفاحش؛ حماية للأهالي من أطماع المرابين.
اقترحه حضرات محمد علي بك المحامي بأسيوط. هاشم أفندي محمد مهنا،
وقد تلوا تقريرهما عليكم، وحضرات حسين بك هلال عن لجنة ميت غمر الفرعية،
السيد عبد المطلب غيث عمدة النخاس. محمد بك متولي من سحيم غربية.
وكل مقترحي إنشاء البنك الوطني المصري تقريبًا وكثيرون من أصحاب
الاقتراحات الأخرى وجهوا نظر المؤتمر لعمل ما يلزم؛ لمنع الربا الفاحش رحمة
بالأهالي الذين يشكون مر الشكوى من المرابين خصوصًا في الوجه القبلي.
فهل تقررون ذلك، وتحيلونه على اللجنة التنفيذية؛ للسعي لدى الحكومة
بتنفيذه.
قُبِلَ بِالإِجْمَاع.
3 - السعي لدى الحكومة؛ لإيجاد مراقبة فعلية على الوازنين لعدم الإضرار
بالأهالي، اقترحه عبد الحفيظ أفندي عوض من كفر غنام دقهلية. مرسي عبد
الرحمن البارودي بجرجا.
فهل تقرون على هذا الاقتراح، وتحيلونه على اللجنة التنفيذية لإجراء اللازم نحوه؟
قُبِلَ بِالإِجْمَاع.
4 - استلفات الحكومة لإلغاء بدل القرعة العسكرية؛ لإضراره بالفقير
الذي يخرج من ملكه أو يستدين لدفع البلد. اقترحه حضرة حسن بك يونس.
فهل توافقون على هذا الاقتراح، وتحيلونه على اللجنة التنفيذية لإجراء اللازم
نحوه؟
تَقَرَّرَ حَذْفُهُ.
5 - السعي لدى الحكومة في عدم بيع شيء من أملاك الميري الحرة للشركات
الأجنبية، وعلى الخصوص بالطريقة الجارية الآن، وتجزئتها وبيعها
للمصريين.
اقترحه حضرة يوسف أفندي أحمد الخبير بأسيوط.
فهل توافقون على هذا المقترح، وعلى إحالته على اللجنة التنفيذية لإجراء
اللازم نحوه؟
قُبِلَ بِالإِجْمَاع.
6 - تعضيد النقابات الزراعية وتعميمها في جميع البلاد، والسعي لدى
الحكومة في سن قانون لها هي وشركات التعاون.
اقترحه حضرات يوسف بك نحاس. عمر بك لطفي المحامي، الذي يرى
أيضًا تشكيل نقابة عامة من جميع كبار المزارعين؛ للإشراف على جميع النقابات،
وإعطائها ما يلزم من الإرشادات المفيدة. هاشم أفندي محمد مهنا المحامي. حسن
علي عيد بالفشن. أمين باشا الشمسي. إسماعيل أفندي الأجزجي بطنطا. السيدة
باحثة البادية. حسن بك هلال عن لجنة ميت غمر الفرعية. فضل الزمر رئيس
نقابة ناهيه الزراعية. توفيق أفندي الترجمان. السيد عبد المطلب غيث من
النخاس شرقية. سليمان أفندي فهمي سليمان المحامي بطنطا. أحمد بك رمزي
المحامي. علي عبد السلام بالسويس. حسين المسيري ببهتيم. محمد أفندي كامل
صادق بمصر الذي يرى أيضًا تشكيل نقابات للتأمين على المواشي.
فهل أنتم موافقون على هذا الاقتراح، وتكلفون اللجنة التنفيذية بالسعي لدى
الحكومة لسن القانون المذكور.
قُبِلَ بِالإِجْمَاع.
7 - إنشاء مستودعات تأمين عامة.
اقترحه حضرة محمود بك أبو النصر
هل توافقون على هذا الاقتراح وتحيلونه على اللجنة التنفيذية؛ للنظر في أحسن
طريقة لتنفيذه؟
قُبِلَ بِالأَغْلَبِيَّةِ.
8 - السعي لدى الحكومة في إنشاء نظارة خاصة بالزراعة؛ اقترحه
سليمان فهمي من موظفي المالية سابقًا.
واقترح حضرة حسين بك هلال عن لجنة ميت غمر الفرعية السعي لدى
الحكومة؛ أن تتخذ الطرق الفعالة لمراقبة البذور اللازمة لتقاوي القطن، حتى
يتحسن صفته، والسعي لديهما لتحسين الري والصرف حتى تزيد المياه الصيفية
وتقل المناوبات، ولا تتلف الأراضي لعدم تطهير المصارف سنويًّا.
فهل حضراتكم تقررون إحالة هذين الاقتراحين على اللجنة التنفيذية؛
لتدرسهما وتتخذ بشأنهما ما تراه لازمًا وممكنًا؟
قُبِلاَ بِالإِجْمَاع.
9 - تحسين الصناعة المحلية، وإدخال ما يمكن ابتكاره فيها بالمواد
الأولية الموجودة بالبلاد، وأن يستعمل الأهالي مصنوعات البلاد ترويجًا
لها.
اقترحه حضرة حسين بك هلال عن لجنة ميت غمر الفرعية.
قُبِلَ بِالإِجْمَاع.
10 - حماية الصناعة الوطنية بتأسيس الشركات الصناعية، وتعضيد
الموجودة منها.
اقترحه حضرة إبراهيم بك رمزي بتقريره الذي تلي. عبد الخالق بك مدكور،
وهو يطلب حماية التجارة بالصفة المذكورة كتقريره الذي تلي. ومثله حضرة
حسن بك يونس وجبرائيل بك كحيل، وهو يطلب لهذا الغرض السعي لدى
الحكومة؛ لإصلاح التعريفات الجمركية وتخفيض مصاريف النقل في السكة الحديد
في تقريره الذي تلي على الطريقة التي بينها ومحمد أفندي كامل صادق وهو يطلب
ما يطلبه حضرة جبرائيل بك كحيل.
قُبِلَ بِالإِجْمَاع.
11 - السعي لدى الحكومة لسن قانون خاص بالعمال؛ لحماية مصالحهم لسبب
ما يحصل لهم من العوارض أثناء العمل وتحديد ساعات العمل وإنشاء محاكم
تحكيم للفصل في المفاوضات بين العمال وأصحاب المعامل.
فهل يستحسن المؤتمر هذه الاقتراحات، ويشجع عليها ويحيلها على اللجنة
التنفيذية؛ للسعي لدى الحكومة في تحقيق ما يلزم تحقيقه بواسطتها؟
قُبِلَ بِالإِجْمَاع.
(هـ) اقتراحات أخرى:
1 - اقتراح خاص بتحسين حالة الري، ونشر التعليم ببلاد النوبيين
بمديرية أسوان، وتسمية النوبيين باسمهم هذا الحقيقي بدل تسميتهم باسم البرابرة
كما يفعل الناس.
اقترحه خليل أحمد رئيس جمعية الاتحاد النوبي بإسكندرية، واقترحه مكاري
يعقوب بإسكندرية.
فهل توافقون على هذا المقترح وتستحبون عليه (؟) وتحيلونه على اللجنة
التنفيذية؛ للسعي لدى الحكومة لإجراء اللازم فيما يختص بها؟
2 - عمل ميدالية تذكارًا لهذا المؤتمر تكون من ثلاث درجات: ذهبية
لدولة الرئيس، وفضية لجميع أعضاء المؤتمر العاملين، وبرونز لجميع
أعضائه المساعدين، وتخول اللجنة التنفيذية حق منح هذه الميدالية إلى كل من
يساعدها على تنفيذ قرارات المؤتمر.
اقترحه سعادة حسن باشا مدكور.
قُبِلَا بِالإِجْمَاع.
***
ومما يستحق الذكر أنه لما عرض الاقتراح بإنشاء مصرف وطني صفق
الحضور كثيرًا وتوالى الهتاف من كل جهة.
وعلى أثر ذلك، تبرع حضرات الوجهاء الأماثل لملوم بك السعدي
بمائة وخمسين فدانًا، وعلي بك السعدي بمائة فدان، ومصري بك السعدي بمائة فدان
، وسلطان بك السعدي بعشرين فدانًا، وجعلوها ضمانًا للبنك بعد إنشائه. وتقدر قيمة
هذه الأطيان بنحو سبعين ألف جنيه.
ثم ختمت الجلسة بتلاوة خطبة دولة الرئيس، وهذا نصها:
(خطبة المؤتمر الختامية)
(لدولتلو رياض باشا رئيس المؤتمر المصري)
أيها السادة:
إني على الرغم من حالتي الصحية قبلت مع السرور رئاسة المؤتمر، وأقبل
الآن رئاسة لجنته التنفيذية؛ اعتقادًا مني بأن ميولكم الشخصية متجهة إلى تحقيق
الوحدة القومية ومبدأ التسامح والتوفيق بين جميع عناصر الأمة المصرية.
وإني سعيد الآن بأن اعتقادي فيكم قد تحقق بما أظهرتموه من الإخلاص في
العمل، ومن اللهجة المعتدلة التي جريتم عليها في خطبكم وتقاريركم. سعيد بما
رأيته من غيرتكم على حفظ النظام وعدم الخروج عن حدود البرنامج الذي رسمتموه
لعملكم. تلقاء ذلك اسمحوا لي يا أبنائي الأعزاء أن أشكركم على مساعيكم الشريفة،
وأدعو الله أن يتوج عملكم بالنجاح.
وفي الختام أنصح لكم أن تتخذوا ما جريتم عليه في جلسات هذا المؤتمر من
مبادئ التسامح والاعتدال ومكارم الأخلاق قانونًا دائمًا، ونموذجًا مستمرًّا في
معاملاتكم مع غيركم من أبناء وسكان هذه البلاد على السواء، ولتكن مصلحة مصر
العام رائدكم على الدوام. وفقنا الله جميعًا لما فيه الخير العام والسلام. اهـ.
__________
(*) تتمة ما قرره المؤتمر المصري من الاقتراحات تابع لما نشر في الجزء السابق ص 389.(14/457)
الكاتب: نقلا عن جريدة المؤيد
__________
ملكة بهوبال الهندية في إنكلترة [1]
في بلاد الإنكليز تقيم الآن أميرة مسلمة؛ أتت لتشهد حفلة تتويج الملك جورج
الخامس مع باقي ملوك الهند وهم كثيرون. وقد اهتمت بأمرها الصحف والمجلات
الإنكليزية؛ لأنها الأميرة المسلمة الوحيدة الشرقية التي تحضر هذه الحفلة الشائقة
رسميًّا، وقد حاول كثيرون من الصحافيين والصحافيات التشرف بمقابلتها،
واستأذنوا فلم يؤذن لهم إلا محررة واحدة جميلة في إحدى المجلات الإنكليزية،
قدرت أن تستميل بجمالها ودهائها الحاشية، فسمحوا لها بشرف المثول بين يدي
الأميرة الهندية العظيمة، فلعل ذكر بعض ما كتب عنها لا يخلو من الفائدة.
هي الأميرة (بيجوم [2] ملكة بهوبال) والبلاد التي تحت حكمها من أحسن
بلاد الهند وأخصبها، يبلغ مسطحها مقدار مسطح الوجه البحري في بلادنا تقريبًا،
ورعاياها يقدرون بسبعة ملايين من النفوس، وهي تقيم بضواحي لندرة بجهة
ريدهل بمنزل أثري جميل، تحيط به حديقة غناء بين حاشيتها المؤلفة من رئيس
وزارتها وأمناء أسرارها، وخادماتها الهنديات والأوربيات ووصيفاتها الوطنيات،
وهن من أبكار الهند الجميلات المشهورات بشعورهن الجميلة السوداء الملقاة على
ظهورهن، ووجوههن السمراء الجذابة، ومعها طبيبها الخاص، وهي متبعة في
معيشتها النظام الشرقي، ومحافظة على عادات الشرقيين في الحجاب، فهي
محتجبة عن الرجال ولا تقابل أحدًا من الأجانب بدون النقاب، أما النساء فإنها
تقابلهن مكشوفة الوجه سواء كنّ أوربيات أو شرقيات.
وهي مشهورة بولائها العظيم لحكومة الهند، حتى إنها منذ ثماني سنوات
قدمت للورد كارزون حاكم الهند العام كمة (طاقية) بديعة الصنع هدية منها لجلالة
ملك الإنكليز. وهذه الكمة مكللة بالجواهر الثمينة ومطرزة تطريزًا شرقيًّا بديعًا،
ومعها خطاب شكر وولاء للملك، تقول فيه: بأنها ليست هي وشعبها فقط الموالين
المخلصين لحكم إنكلترا لبلادها، بل إنها تريد أن تعبر بهذا الخطاب عن سرور
وولاء جميع الرعايا المسلمين في الهند. وإن هذا الولاء هو مطابق لديانتها أي
للشريعة الإسلامية الغراء التي تأمر بإطاعة الله والرسول وأولي الأمر! !
وهي لم تبرح بلادها قبل الآن إلا مرة واحدة في سنة 1901، عندما أدت
فريضة الحج بمكة المكرمة، وهذه هي الدفعة الأولى لزيارتها لإنكلترا ولأول مرة
في التاريخ لملكات بهوبال. وهي متواضعة كريمة الأخلاق مشهورة بالإحسان
لفقراء بلادها ومحبة للتقدم والارتقاء، وتعتقد أن تقدم الهند لا يكون إلا إذا اعتنق
الوثنيون وغيرهم من الهنود الديانة الإسلامية، فهي لهذا تكلف المستنيرين من
رجال مملكتها بأن يبثوا المبادئ الإسلامية بين قبائل الهنود. وهي محافظة على
الصلاة والصيام حسب الشريعة، ولا يفوتها وقت بدون أداء فريضة الصلاة،
ومشهورة بالشجاعة والإقدام، ومما يذكر عنها أنها عندما كانت في طريق الحج
هاجمها جماعة من الأعراب، فأمرت حشيتها بقتالهم وكانت هي تقودهم بنفسها،
فأصلوهم نارًا حامية، حتى ارتدوا عنها خائبين، ولم يستفيدوا شيئًا إلا ما أصابهم
من نيران رجال حاشية الأميرة الشجاعة.
ولقد قابلت جلالة الملك والملكة في قصر بكنهام، فأحسنا ملاقاتها وأكرماها،
ورأت منهما كل انعطاف واحترام أثر في فؤادها. وكان معها نجلها الصغير (سهل
زاده حميد الله خان) ، فكان موضع رعاية خصوصية من جلالة الملكة.
والإنكليز يؤدون لتحيتها الرسمية 21 مدفعًا. وقد كتبت عنها الصحف
الإنكليزية والمجلات قصصًا كثيرة مختلفة، وحكايات غريبة متنوعة عن عاداتها
وأخلاقها ومأكلها ومشربها، حتى إنهم قالوا: إن الأميرة مأكلها عجيب، وإنهم
يأتونها بماء الشرب من الهند، وإنها لا تأكل ولا تشرب من إنكلترا شيئًا أصلاً،
مع أنهم لم يطلعوا على شيء مما كتبوه عنها ولا عجب، فهذه هي عادة الأوربيين
معنا معشر الشرقيين، وعن كل شيء لا يعرفون حقيقته.
ولقد كذبت تلك الآنسة الإنكليزية الصحافية في مجلتها كل ما نسب للأميرة من
الحكايات والخرافات، وقالت: إنها لم تجدها كما كانت تظن أنها تلك الأميرة الشرقية
الأتوقراطية الحاكمة على شعبها بالطريقة الاستبدادية. ووصفتها وصفًا مقرونًا
بالإعجاب؛ إذ قالت: إنها رأت فيها ذكاء نادرًا ولطفًا ورقة وجمالاً. وقالت: إن
الأميرة محبة للفنون الجميلة، ووقت زيارتها كانت ترسم أحد المناظر الطبيعية
البديعة بالضاحية التي تقيم فيها. وقد رأت عندها كثيرًا من الحلي الذهبية والأدوات
والأواني الشرقية الثمينة التي لا تقدر بثمن. وعلمت من محادثتها لها أنها تنظر دائمًا
لإنكلترا كأنها وطن لها. وهي تجتهد في البحث والتنقيب عن كل ما يرقي بلادها
وشعبها، وستأخذ معها من إنكلترا وأوربا كل ما تراه مفيد لنجاح بلادها وأمتها.
وقد تركت ابنها الأكبر (نصر الله خان) في بلادها؛ ليدير شؤون المملكة
حتى عودتها، وتشتغل الآن في تأليف كتاب عن تاريخ حياتها، قد أوشكت أن
تنتهي من الجزء الثاني منها، وستجتهد بأن تصف في الجزء الثالث زيارتها الحالية
لأوربا ولإنكلترا خصوصًا وصفًا تعتقد أن سيكون فيه فائدة لشعبها المجتهد، وأن
يوقظ في نفوس قومها روح النشاط ومجاراة الإفرنج.
وتتبع في مأكلها قواعد وآداب الشريعة الغراء في الاعتناء بالذبح والنظافة
ونحوه، فلا تأكل إلا ما ذبح بيد إمام معيتها وطبخ بإشراف أطبائها المسلمين،
وتلبس رداء على الطراز الشرقي وهو برنس ذو ذيل طويل، وعلى وجهها نقاب
أسود موضون بالذهب ومطرز تطريزًا جميلاً فيه ثقبان لعينيها، وعلى رأسها تاج
صغير من الذهب الوهاج، وفي يديها قفازان من الحرير الأبيض، ولا يسمحون
بالدخول عليها لأحد من الأجانب خصوصًا الأوربيين إلا بإذن خاص منها؛ بشرط
أن يكون ذا صفة عمومية، ولا تقابل أحدًا من الأجانب إلا وفي يديها هذان القفازان،
وهي كثيرة الابتسام لزائريها.
حقق الله آمال الأميرة فيما ترجوه من ترقية بلادها وأمتها.
(المنار) هذه المملكة عربية الأصل شريفة النسب من آل بيت الرسول
عليهم السلام، وناهيك بسلفها الصالح السيد صديق حسن خان صاحب المصنفات
الشهيرة التي هي من دعائم إحياء العلم والدين رحمه الله تعالى. وقد تبرعت في
هذه السنة لمدرسة عليكرة بمائة ألف روبية مساعدة على ما يراد من تحويلها إلى
جامعة تسمى (الجامعة الإسلامية) (وهذا اللفظ يهابه ساسة المصريين،
والحكومة الإنكليزية تساعد عليه مسلمي الهند) ومائة ألف روبية تساوي 650 جنيهًا
مصريًّا. واشتراكها الشهري في جمعية ندوة العلماء عشرون جنيهًا إنكليزيًّا ومبراتها
كثيرة. وما نقلته عنها المجلة الإنكليزية من الاستدلال بوجوب طاعة أولي الأمر
على طاعتها لملك الإنكليز لا يصح كما علم مما فسرنا به أولي الأمر من عهد
قريب، ولها أن تستدل بمراعاة المصلحة العامة، وهي أساس السياسة في الإسلام.
__________
(1) نقلنا ما يأتي عن المؤيد وهو مترجم عن الإنكليزية بقلم أحمد أفندي عبد الرحمن وقد تصرفنا بعض التصرف في تصحيح الترجمة، والهنود يكبون بهوبال هكذا (بوفال) .
(2) الهنود يكتبون اسمها (بيكم) بالكاف المفخمة وهي كالجيم المصرية.(14/468)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بلاغ محمود شوكت باشا إلى مفتشي الفيالق
ومفتشي الرديف وقواد التوابير والفرق المستقلة
إن الخدمة الشريفة التي قام بها الجيش في انقلابنا الخيري الحميد الأخير هي
معلومة لدى الجميع، وطبيعي أن الجيش كان مضطرًّا إلى تكوين التحول الجديد
وتسكين الاضطراب الذي حدث في الأحوال العامة، وتأييد مقصد الانقلاب، فكان
اشتغال أعضائه بالسياسة يومئذ أمرًا ضروريًّا، ولكن بعد الانقلاب وتأسيس
الدستور (المشروطية) لم يبق محل لاشتغال الجيش بالسياسة، وأنا منذ سنة
ونصف تقريبًا أوصيت الوصايا اللازمة شفاهًا بكل عزم وإخلاص في الآستانة وفي
أدرنة؛ بأن يحصر الجيش همته في وظيفته العسكرية المقدسة، وإني أقول بلسان
الشكر: إن هذه الوصايا تلقيت بالطاعة من قبل رفاقي الأعزاء، وإنه بهمة رفاقي
الضباط الذين بطبيعتهم يقدرون سمو الوظيفة حق قدرها، حصل في هذه المدة
القليلة نجاح مهم في انتظام الجيش اعترف به الصاحب والعدو، وبهذا النجاح
وجدنا الجيش لم يتوان في طريق التكامل خطوة واحدة، على أنه منذ سنة ونصف
وقف أمام سبع محاربات في اليمن وعسير وشمال الأرناؤوط وحوران والكرك،
ثم اليمن وعسير ثانيًا، وعصيان الماليسور كل ذلك لم يثن عنان مطيته عن التقدم
إلى الأمام، وأن الجيش وفقه الله ما دام يدأب على هذا الجد والاجتهاد، فهي يعلي
شأنه وسطوته دومًا، وأن النقطة الوحيدة التي يعلق عليها الأمل في سبيل الوصول
إلى هذا المقصد؛ هي أن يجرد الضباط رفاقي أذهانهم وأنفسهم من الأفكار
والمقاصد غير اللائقة، ويقفوا وجودهم على الوظيفة العسكرية فقط.
إن التكامل والانحطاط في الجيش منوط بسعي رفاقي، فكلما زاد ارتباطهم
بالوظيفة تتجلى آثار التعالي بصورة جديدة كل يوم، وإن الحالة التي يولدها عكس
ذلك هي السقوط ليس غير. على أن السقوط يكون سريع الوقوع لا تدريجًا كالترقي،
وآثاره تظهر في الحال، وعلى هذا التقدير يكون الجيش قد أودى بوطنه ودولته
التي هو مكلف بالعمل لبقاء وجودها، وهذه النتيجة تثبت أنه يجب على الجندي أن
لا يتفكر في شيء غير الوظيفة، وأن لا يعيش إلا لأجلها فقط؛ لأن الوطن الذي
يعزه أكثر من نفسه لا يعيش إلا بارتباطه هو بوظيفته.
إن السياسة من شأنها توليد المطامع والاختلافات، فهي بالطبع موجبة لإهمال
الوظائف العسكرية وداعية للتباين في الأفكار، وهذا ما يؤدي إلى خراب المملكة.
وإني لمشاهداتي وتجاربي، أعلم أن جميع رفاقي الضباط قد شعروا بقدسية الوظيفة،
وعدلوها بأرواحهم وضمائرهم فيجب عليهم أن ينزهوا أفكارهم ومقاصدهم عما
سواها، وإني أسدي الاحترام لرفاقي الذين يمعنون النظر في الوظيفة ويتلقونها على
هذا الوجه، وأحبهم أكثر من محبة الوالد لولده، كما أنه لا يجوز أن أتوانى ألبتة
في معاقبة الذين لا ينظرون إلى هذه الحقائق، والنتائج التي صورتها بنظر الاهتمام،
فيهملون وظائفهم في ميلهم إلى الأفكار الخارجة عن المسلك ويشتغلون بالسياسة،
ومجازاتهم تنوطها بي صلاحيتي القانونية، ولأجل أن يطلعوا على هذه النصائح
والوصايا نشرناها لجميع المراجع، فأوصيهم وصية خاصة بعمل ما يقتضيه الحال.
(المنار) من أصول السياسة أن الجنود الذين يتصدون للسياسة ويحدثون
الانقلابات بالثورة والسلاح، يكونون خطرًا على المملكة إذا بقي لهم نفوذهم في
الجيش، ومن أحكام السياسة أن يقتل هؤلاء ولو بالحيلة إذا لم يؤمن جانبهم. ومن
أسباب تعجيل الإنكليز بالحرب السودانية عقب الاحتلال؛ تعريض عسكر الثورة
العرابية للهلاك والزوال وقد تم لهم ذلك من غير أن يشعر الناس بسببه. ونحمد الله
أن كان انقلابنا سليمًا، قد قدر محمود شوكت باشا وأعوانه من القواد والضباط
العقلاء (كمحمد هادي باشا وصادق بك) على تلافي الخطر، وإن كان يفهم مما
كتبه هؤلاء الثلاثة أن في الضباط من لا يزال يشتغل بالسياسة؛ بإغراء أولئك
الزعماء المعروفين من جمعية الاتحاد والترقي، ولا شك أن هذا من الجناية
والخيانة كما قال محمد هادي باشا والفاروقي، فعسى أن يوفق محمود شوكت باشا
في أقرب وقت إلى تنفيذ ما أشار إليه في هذا البلاغ من غير فتنة، وحينئذٍ نأمن
من الخطر الداخلي ويستقر أمر الدستور فينا.
__________
(1) بعد صدور الجزء الماضي من المنار نشرت جرائدنا هذا البلاغ مترجمًا عن الجرائد التركية وهو كبلاغ صادق بك وهادي باشا يؤيد ما كنا بيناه من قبل.(14/471)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رأي الأمير صباح الدين
سأله أحد محرري جريدة الطان الفرنسية بباريس عن رأيه في الأزمة
الاتحادية، أو ما يراد وضعه من الإصلاحات في المملكة العثمانية، فأجابه بما يأتي:
إن ضعف طائفة من جمعية الاتحاد والترقي لا يدل على أن الحكومة
العثمانية دخلت في دور تقهقر، فإن هذه الأزمة إنما تدل على قرب دور حرية
حقيقية. إن جمعية الاتحاد والترقي لما قبضت على زمام الأمور؛ بقصد أن تعلي
شأن الوطن المشترك بين جميع العناصر العثمانية، أخذت ترتكب بعض خطيئات
حكومة الدور السابق باسم الدستور، وذلك من أهم الأسباب التي ولدت هذا الاستياء
العام، وكانت النتيجة أن بقيت أمور الإدارة على جانب عظيم من عدم النجاح
بدرجة لا تقل عن إدارة الدور السابق.
كنت وضعت خطة جدية هي أوفق لحاجيات الولايات، وأحفظ لعادات
العناصر وتعاملهم، وأضمن للمحافظة على وحدة المملكة، وآمن لإقامة العدل، فلو
أنهم أنفذوا برنامج هذه الخطة لما بقي مجال لحدوث سلسلة ثورات مشؤومة. إن
الترك في أشد الحاجة على زيادة قابليتهم للارتقاء، ولا يمكنهم أن يبقوا دومًا
مستهلكين، ولكنهم ويا للأسف لم يبذلوا شيئًا من السعي لإخراج هذا التجديد إلى
حيز الفعل حتى الآن. وإن جمعية الاتحاد والترقي لم تكن لتكفل نجاحًا في السياسة
الداخلية، ولم تظهر أثرًا من الحكمة في السياسة الخارجية.
وإن مثل هذه السياسة إذا ولدت استياء عامًّا، يتزايد في كل يوم، يكون أمرًا
طبيعيًّا، ولا يعجب أحد من عدم انتظام كل الأمور للحال، ولكن مما يوجب الأسف
أن رؤساء الاتحاد والترقي قد أظهروا سرعة انفعال بدرجة أنهم لا يتحملون انتقادًا
مهما كان معقولاً، وصادرًا عن حسن طوية.
__________(14/473)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مصاب مصر بوفاة رجلها العظيم
مصطفى رياض باشا
رئيس المؤتمر المصري
قضى الله ولا رادّ لقضائه أن لا نفرغ من تلخيص أعمال المؤتمر المصري؛
بنشر خطبة رئيسه الختامية إلا ويفاجئنا من الإسكندرية نبأ وفاة هذا الرئيس العظيم،
وطيّ سجل حياته الشريفة، ففي يوم السبت 20 جمادى الآخرة (17 يونيو)
تغدى كعادته في داره برمل الإسكندرية، ونام لا يشكو ألمًا ولا سقمًا، وكان من
عادته المضطردة أن يخرج من حجرة نومه على رأس الساعة الرابعة أو يتأخر عدة
دقائق، فيشرب الشاي ممزوجًا بعصير الليمون، ويقابل من عساه يزوره ثم يركب
إلى النزهة ويعود عند المغرب، فلما جاءت الساعة الخامسة، ولم يخرج كعادته
افتقد فإذا هو ميت. عاش عيشة شريفة. ومات ميتة هنيئة - رحمه الله تعالى -
وأشهد أنني ما رأيته يائسًا من الحياة متوقعًا للموت كما رأيته في هذه السنة فقد
سألته غير مرة قبل المؤتمر وبعده عن صحته، فكان يجيب بأنه لا يشكو من شيء،
ثم يستدرك بقوله: (خلاص خلاص) ويشير بيده وبرأسه إلى الذهاب وقرب
الموت.
هذا هو الرجل الجدير بأن يرثى ويؤبن، هذا هو الرجل الحقيق بأن يؤرخ،
هذا هو الرجل الذي ينبغي أن نجعل سيرته في موضع الأسوة، وأخلاقه وأعماله
في مكان العظة والعبرة، فإنه من فحول الرجال الذين تنتجهم الفطرة السليمة في
بعض الأجيال، وهو حجة على أن أعظم ما يتفاضل به الناس هو جوهر النفس
وصفاتها وأخلاقها، لا ما يتلقى في المدارس من مصطلحات العلوم والفنون. فإن
العلم بهذه الاصطلاحات - وإن كان لا بد منه كالحرف والصناعات - ليس هو الذي
يجعل الرجل عظيمًا زعيمًا بإصلاح حكومته، أو ترقية أمته، وإنما هو من الآلات
التي تعين العامل على عمله إن خيرًا وإن شرًّا، فكم من عالم حافظ لأحكام الشرع
والقوانين لا يقيمها، بل يستعين بها على الفساد في الأرض، وكم من عالم
بالاقتصاد يقذفه إسرافه في هاوية الفقر، وإننا نرى مصداق ذلك بأعيننا كل
يوم.
إنني أدع للخطباء والشعراء تأبين نابغة مصر ورجلها العظيم، ورثاءه بما
يمثل مقامه في نفوس أمته، وعرفانها لقدره وقيمته، وأذكر أحاسن أخلاقه، وغرر
صفاته التي امتاز بها في عصره، وفضل بها جميع وزراء مصره.
إنني أعد له صفات وأخلاقًا يقل أن تجتمع في رجل واحد، وقد اجتمعت فيه،
وهي: سلامة الفطرة وكرم الجوهر، الاستقلال في الرأي والعمل، الابتكار
والتصدي للإصلاح، والإخلاص وحسن النية، العدل، حب الحق وكارهة الباطل،
الشجاعة وقوة الإرادة، العفة والنزاهة، الثبات والاستقامة، النجدة والمروءة،
السخاء وعلو الهمة، الاقتصاد والنظام، إيثار المصلحة العامة على المنفعة الخاصة
قوة الإيمان ومراقبة الله عز وجل وهو روح الفضائل كلها.
بهذه الأخلاق والصفات كان رياض باشا كالفلك تمر عليه الحوادث، وتنتقل
البلاد بحكومتها وشؤون الاجتماع والعمران فيها من طور إلى طور، وهو ثابت لا
تتغير أخلاقه، وقد خدم الحكومة المصرية من عهد عباس الأول إلى عهد عباس
الثاني، وذلك نحو نصف قرن. وكان خلقه مع كل واحد من هؤلاء الأمراء واحدًا
على اختلافهم في الأخلاق والآراء والسلطة المطلقة من كل قيد وكل سيطرة،
والسلطة المقيدة بالقوانين ومراقبة الأجانب وسيطرتهم.
سن إسماعيل باشا لرجال حكومته وأغنياء رعيته سنة الإسراف في البذخ
والانغماس في النعيم؛ فامتلأت القصور بالخمور والنساء الغربيات والشرقيات
والشماليات والجنوبيات، حتى كان يكون في القصر الواحد منهن العشرات والمئات،
وكان يتبع ذلك ما يتبعه من المعازف واللهو والطرب، وبقيت دار رياض باشا
ممتازة بين دور الوزراء والكبراء؛ كامتياز نفسه بين نفوسهم لم يدنسها شيء من
ذلك.
ثم سنت لكبراء المصريين والواجدين منهم سنة الاصطياف في أوربة،
فكانت الملاهي والحانات والمواخير مكتظة بهم، والدنانير تفيض فيها من أيديهم
فيضان النيل في أرضهم. وأما رياض باشا فكان يعيش في أوربة كما يعيش في
مصر عيشة الاعتدال والشرف والعفة، ومراعاة قوانين الصحة.
أخبرني في سياق حديث معه أنه لم يدخل دار من دور اللهو في أوربة ولا
دار التمثيل (الأوبرة) في باريس إلا قليلاً مع إسماعيل باشا بصفة رسمية، وأنه
لم يدخل المعازف وآلات الطرب داره إلا مرتين: إحداهما في زفاف ولده محمود
باشا فإنه جاري فيها رغبة أمه، والثانية إجابة لولي العهد لإحدى الدول الكبرى
(أظنه ولي عهد إنكلترة) فإنه زاره زيارة رسمية؛ إذ كان رئيس الحكومة واقترح
عليه أن يسمعه الموسيقى الوطنية، فلم تسعه إلا إجابته.
ولا يحسبن القارئ أن هذا الوزير كان يعيش عيشة القشف والخشونة، كلا إنه
كان متمتعًا بجميع الطيبات بالسعة مع الاعتدال وحسن النظام والشرف كما يليق
بمقامه العظيم، ولهذا بلغ الثمانين وهو متمتع بصحة بدنه، وسلامة حواسه وعقله،
يعرف ذلك من كان يلقاه مثلنا، وظهر ذلك للجمهور في رياسته للمؤتمر التي كانت
خاتمة أعماله الطيبة، فقد كان يجلس عدة ساعات في اللجنة التحضيرية وفي
المؤتمر العام لا يتحرك حركة غير عادية، وذلك ما تقصر عنه عافية كثير من
الشبان.
وكان هو الضابط بعقله ونفوذه المعنوي لسير المؤتمر ومناقشات أعضائه،
لولاه لخشي من تنازع الأحزاب فيه أن يجر إلى الفشل، فقد تحدث الواقفون على
خفايا الأمور أن بعض أصحاب الأثرة والأنانية كانوا يبغون ذلك؛ لأنهم لم يكونوا
هم الداعين إلى المؤتمر والقائمين به، وقد عرف من شنشنتهم مقاومة كل خير يقوم
به غيرهم، ويذمونه وينفرون منه كما نفروا الناس عن الجامعة المصرية وعن
جماعة الدعوة والإرشاد، على أنه لولا قبوله لرياسة المؤتمر لكان محل الريبة عند
الإنكليز وسائر الأوربيين، ولقاوموه خشية أن يجعله أصحاب الأثرة مظاهرة
سياسية تخشى فتنتها، ولا تؤمن مغبتها، وقد صرحت الجرائد الأوربية بما يثبت
هذا.
قلنا: إن رياض باشا كان مستقلاًّ في رأيه وإرادته وعمله، لم يعبث باستقلاله
نفوذ الخديويين، ونقول أيضًا: إنه لم يعبث باستقلاله نفوذ الاحتلال الذي تصرف
كما يشاء في تصريف من عداه من نظار مصر فمن دونهم من الرؤساء؛ ولذلك لم
يرض البقاء في الوزارة على عهدهم، بل رأى تركها أشرف من ترك استقلاله
الذاتي، ولم يكن فيما عارضهم فيه من المداخلة في أعمال الحكومة الداخلية (دون
الاحتلال نفسه) طالب شهرة ولا منفعة، بل كان عاملاً بما يعتقد أن مصلحة البلاد
لا تقوم إلا به، مخلصًا لها فيه، ولهذا أثنى عليه لورد كرومر كغيره من رجال
أوربة العارفين بالشؤون المصرية.
أدركنا هذا الرجل وقد شبع من جاه الدنيا وروي، فلم يكن كثير المبالاة بمدح
ولا ذم، وهو الآن أغنى عن المدح والذم وأبعد عن الانتفاع به أو التأذي منه،
فغرضنا مما نكتب عنه العبرة والحث على التأسي والقدوة. لا نفعه ولا سرد مسائل
تاريخه، عسى أن يستفيد منه من لهم بصيرة في تربية أنفسهم أو تربية أولادهم إن
كان وقت تربية أنفسهم قد فات.
يظن كثير من الناس أنهم يربون أولادهم ويعلمونهم؛ ليكونون رجالاً عظامًا،
وإنما كانوا ظانين واهمين؛ لأنهم لا يعرفون ما هي العظمة الحقيقية، وما هو
الطريق الموصل إليها، يظنون أن العظمة في المناصب الكبيرة ذوات الرواتب
الكثيرة، وألقاب العزة والسعادة، أو العطوفة والدولة، وإن كان صاحبها عاطلاً من
الاستقلال عاريًا من الفضيلة، كلاًّ على أولي السلطان والقوة، أينما يوجهوه لا يأت
بخير، وإن الطريق الأدنى إليها هو أخذ ورقة الشهادة الدراسية من مدارس مصر،
والطريق الأعلى أخذ ورقة مثلها من مدارس أوربة، وقد أخطأوا في الأمرين؛
فليست العظمة الحقيقية في المناصب العليا، وإن من الناس من يفضحه منصبه،
ويظهر فساده ومهانته، وليس الطريق إلى هذه المناصب هو الشهادة الدراسية وإن
كانت الشهادة شرطًا للاستخدام في الحكومة، وإنما يكون الإنسان عظيمًا بجوهر
نفسه وعقله، وعلو أخلاقه وآدابه، فإذا نال العاقل الزكي النفس الكريم الأخلاق
منصبًا كان هو الذي يشرف المنصب بالاستعانة به على الإصلاح والنفع، فإن
كان مع ذلك واسع العلم، كان علمه أكبر عون له على أعماله النافعة، وإن كان لم
يؤت من العلم إلا قليلاً هداه عقله وأخلاقه إلى الاستعانة بأهل العلم، فجعل علم
غيره آلة له وعونًا على الإصلاح الذي يريده. على حين يبعد العالم الفاسد الأخلاق
عنه أهل العلم، ويصطنع أهل الجهل، فيضر الناس ويمنع غيره أن ينفعهم،
فالعلم لفاسد الأخلاق كالسلاح في يد المجنون.
(للترجمة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(14/474)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سياحة السلطان
والاستفادة من منصبه الديني
لما نجم قرن الفتنة في بلاد الأرنؤوط عام أول اقترح بعض المبعوثين منهم
ومن غيرهم أن ترسل الحكومة إليهم جماعة من الناصحين، وقالوا: إننا نعتقد أنه
يمكن استمالة زعمائهم بالنصح والإرشاد، فإذا لم يصدق اعتقادنا فالحكوة قادرة على
أن تخضعهم بالقوة القاهرة بعد ذلك كما هي قادرة الآن، وإنما الحكمة تقتضي أن
يكون الكي بالنار آخر العلاج. فأبى زعماء الاتحاديين يومئذ قبول هذا
الاقتراح، وعدوه منافيًا لكرامة الدولة وعظمتها، كأن عظمتها عندهم لا تتحقق
بالحكمة والرحمة، وإنما تتحقق بسفك دماء الأمة بأيدي جندها الذي نظم لحمايتها،
وكانوا يقولون: إن إخماد نار هذه الفتنة يتم في أيام معدودات، ولكنه لم ينته في
العام الماضي إلا بخسارة كبيرة، وسفك دماء غزيرة، وذهاب محمود شوكت باشا
نفسه إلى ميدان القتال، واستعانته بالخطابة والإشراف على القلوب من شرفة
التأثير الديني، ومع هذا كان سكون الفتنة على دخن، فعادت في هذا العام أشد ما
كانت وأوسع انتشارًا، فسيرت الحكومة إليهم كما سيرت إلى اليمن جيشًا عرمرمًا،
وقال بعض المتشيعين لها: إن نار الثورة ستنطفئ في أسبوع أو أسبوعين، فكذبت
الوقائع قولهم، وقد مرت الشهور ولم تزدد الفتنة إلا شدة.
في أثناء هذه المدة زالت سيطرة أولئك الزعماء الاتحاديين عن الحكومة،
وضعفت في مجلس الأمة، فرأى من قاموا مقامهم أن فتنة الأرنؤط قد عظمت،
وأن الدول الأوربية أنشأت تخاطب الحكومة في شأنها وما يتعلق بها، بدأت بذلك
روسية وتلتها النمسة وإيطالية، فعدنا إلى ما كنا عليه زمن عبد الحميد من
سيطرتهم علينا أو كدنا، فترجح لهم أن يلجؤوا إلى النصح ويستعينوا بنفوذ السلطان
الديني في إخماد تلك الثورة، وكان سلفهم يرون وجوب إضعاف نفوذ الخلافة في
الحكومة وداخلية البلاد وجعله سياسيًّا محضًا، فقررت الحكومة أن يسافر مولانا
السلطان إلى بلاد الأرنؤوط بعد أن يزور سلانيك وأن يصلي الجمعة إمامًا بالناس،
وأن يدعى الثائرون بأمره إلى الطاعة على أن يعفو عن المجرمين عفوًا عامًّا،
ويدفع دية قتلاهم، حتى لا يتنازعوا فيها؛ جريًا على عاداتهم وتقاليدهم، وكذلك
كان.
مولانا السلطان محمد رشاد طيب النفس طاهر القلب يؤثر الرحمة على
الانتقام؛ لهذا كان مسرورًا مغتبطًا بهذا الرأي، وقد سافر إلى سلانيك ثم سافر منها
إلى مناستر وقصوه، وقد اجتمع للتشرف بالاحتفال به ألوف كثيرة، وفاض معين
إحسانه على المدارس والملاجئ وجمعية الاتحاد، ونقل البرق عن السائح عبد
الرشيد أفندي الروسي إلى أشهر جرائد المسلمين هنا أنه أمّ الناس في صلاة الجمعة،
وكانوا زهاء ثلاث مئة ألف أي: من الجند والأهالي والوفود، فكبرت الجرائد
العربية بمصر وسورية لهذا الخبر ونوهت به، وقالت: إن خليفتنا أحيا سنة
الراشدين وقام بوظيفته الدينية الكبرى، ثم جاءت جريدة (صباح) من الآستانة
وفيها ذكر الاحتفال وأن السلطان صلى مأمومًا. وكان الإمام صديقنا إسماعيل حقي
أفندي المناسترلي.
في فضاء قصوه قد انتصر السلطان مراد الأول على جيش الصرب وبوسنة
وهرسك والأرنؤط والأفلاق والبغدان في ملحمة عظيمة قتل فيها ملك الصرب،
ودانت تلك البلاد كلها لآل عثمان، ولكن السلطان قتل بعد الملحمة بيد جريح كان
بين القتلى، وله مشهد يزار، وإن كانت جثته نقلت إلى بروسة ودفنت فيها،
فزيارة السلطان لمشهده فيه تذكار تاريخي لسلفه العظام الفاتحين الذين غلبوا تلك
الشعوب على أمرها هنالك، ولكننا صرنا الآن في عصر غير ذلك العصر الذي كنا
نفتح فيه الممالك؛ في عصر قد صارت الصرب فيه مملكة جديدة، والجبل الأسود
مملكة جديدة، والبلغار مملكة جديدة، واليونان مملكة جديدة، وصارت هذه
الممالك التي كانت تحت قهر سلطاننا تهددنا فيما بقي لنا، وتغري جيرانها
بالاستقلال مثلها، فالفتح المبين الذي نرجوه من سليل أولئك الفاتحين؛ هو أن
يحفظ لنا البلاد الألبانية بنفوذه الديني المؤثر في نفوس مسلميها، وبالمساوه بينهم
وبين سائر أهل البلاد في العدل والرحمة، وإيثارهما على سياسة أولئك المغرورين
بالشدة والقسوة.
ثم إننا نرجو أن تشمل سياسة العدل والرحمة بلاد اليمن التي طال العهد
ومرت القرون، ولم تر من الدولة إلا السيف والنار، والظلم والعار، وإهلاك
الحرث والنسل، كما صرح بذلك مكاتب جريدة (طنين) التي عطلت فظهرت
باسم (سنين) ، وهي لسان أولئك الزعماء المعروفين من الاتحاديين، الذين نقضوا
ما أبرمه حسين حلمي باشا من الاتفاق مع إمام اليمن على ما فيه حفظ سيادة الدولة
وحقوق الإمام في قومه، وحقن الدماء وعمران البلاد، وآثروا عليه إضعاف الدولة
والأمة بإزهاق الأرواح، وإضاعة الملايين من الأموال، وزيادة البلاد خرابًا على
خراب.
في هذه الفترة التي ضعف فيها نفوذ أولئك الزعماء، وقوي فيها نفوذ الخلافة،
نرجو أن يصيب اليمن نفحة من الرحمة التي لها السلطان الأعلى في قلب مولانا
محمد رشاد، فأهل اليمن أحق بهذه الرحمة من أهل ألبانية إن لم يكونوا مثلهم سواء،
فإذا كان الشعبان سواء في العثمانية في نظر السلطان، من حيث هو في القانون
الأساسي سلطان جميع العثمانيين، فينبغي أن يكون لأهل اليمن امتياز ما في نظره،
من حيث هو في ذلك القانون خليفة المسلمين، فالحجة لم تتعد الدستور فيما يطلب
للفريقين.
أما هذا الامتياز؛ فلمجاورتهم للحرمين الشريفين، وكونهم سياجًا لهما،
فإن بلاد اليمن إذا وقعت في يد دولة أجنبية - لا سمح الله تعالى - يزول نفوذ الدولة
من الحجاز وسلطتها عليه؛ ولما ورد فيهم من الأحاديث الشريفة التي يحترمها
الخليفة من حيث هو خليفة أشد من احترامه للقانون الأساسي.
روى الشيخان وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاكم أهل اليمن
هم أرق أفئدة وألين قلوبًا، الإيمان يمان والحكمة يمانية) وآخر الحديث في الإيمان
والحكمة رواه كثيرون، وروى أحمد والطبراني وغيرهما عن محمد بن جبير بن
مطعم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاكم أهل اليمن مثل السحاب
خيار من في الأرض. ثم استثنى الأنصار بإلحاح واحد منهم.
وروى الطبراني عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أين
أصحاب اليمن هم مني وأنا منهم، وأدخل الجنة فيدخلونها معي. أهل اليمن
المطروحون في أطراف الأرض المدفوعون عن أبواب السلطان، يموت أحدهم
وحاجته في صدره لم يقضها) .
والأحاديث فيهم كثيرة، ويدخلون فيما ورد في العرب عامة كحديث؛ أحبوا
العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي. رواه
الطبراني والحاكم وغيرهما بسند صحيح. وحديث: (إذا ذلت العرب ذل الإسلام)
رواه أبو يعلى بسند صحيح.
لا شك عندنا في حب مولانا محمد رشاد للعرب وحبه للرحمة، فإذا لم ينل
أهل اليمن حظ من عنايته، فلا شك أن علة ذلك تكون من حكومته لا منه، ويكون
ذلك دليلاً على أن عنايتها بمسألة الألبانيين هي من ضغط أوربة، كما تدعي
البرقيات والجرائد الأوربية، لا من إيثار الرحمة على القسوة، والله نسأل حسن
العاقبة، وما فيه الخير للملة والدولة.
__________(14/477)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جماعة الدعوة والإرشاد
(مكان إدارتها ومدرستها)
استأجرت هذه الجماعة القصر الشرقي من قصري الروضة بالمنيل من وقف
علي شريف باشا، الذي هو عن يمين كُبري الملك الصالح بالنسبة إلى المتوجه
إلى الجيزة؛ لتنشئ فيه مدرستها الكلية (دار الدعوة والإرشاد) ، ويكون مركز
إدارتها، وسيجلب إليه في الشهر الآتي كل ما يحتاج إليه من الفرش والمقاعد
والماعون، ثم ينشر نظام المدرسة، ويختار لها المعلمون والتلاميذ الداخليون
والخارجيون، وتفتح بعد رمضان الآتي إن شاء الله تعالى.
* * *
(الأعضاء المؤسسون)
أرسل إليّ الشيخ قاسم آل إبراهيم عضو الشرف الأول والسابق بماله إلى
التأسيس حوالة من باريس على أحد المصارف بمبلغ ألف جنيه إنكليزي، وهو
القسط الثاني من تبرعه، فجزاه الله أفضل الجزاء، وقد أثنت على هذا السخيّ
الكريم أشهر الصحف الإسلامية في مصر وسورية والآستانة وروسية والهند
وغيرها من الأقطار.
وقد تبرع للجماعة فقيد القطر وزيره الأكبر المرحوم مصطفى رياض باشا
بمائة جنيه مصري، وكان يرجى منه أن يوالي تبرعاته بمثل ذلك في كل عام،
فرحمه الله تعالى وأكرم مثواه.
وتبرع لها عبد الستار أفندي الباسل شيخ قبيلة الرماح بالفيوم بخمسة وعشرين
جنيهًا مصريًّا، وتبرع كل واحد من الفضلاء الذين نذكر أسماءهم هنا بعشرين
جنيهًا مصريًّا قبل مضي شهرين من إعلان نظام الجماعة الأساسي، فكانوا كلهم من
الأعضاء المؤسسين وهم عبد الله بك فائق مأمور عمل كسوة الكعبة المشرفة،
والدكتور عبده أفندي إبراهيم مفتش الصحة في السنبلاوين، ومحمد نجيب أفندي
المعاون الأول لمركز إمبابه، وإبراهيم بك الهلباوي المحامي الشهير بمصر،
وحنفي بك ناجي، وإبراهيم أفندي داود، كلاهما من وجهاء مصر، وإبراهيم بك
غزالي من أعيان أبنوب، وحسن بك عبد الرزاق المحامي الشهير بمصر، وكذلك
السيد محمد نصيف وكيل إمارة مكة بجدة تبرع بخمسة وعشرين جنيهًا إنكليزية.
وتبرع لها آخرون تبرعًا لم يكونوا به من الأعضاء المؤسسين، وقد نشرت
أسماء بعضهم في الجرائد اليومية، وستنشر أسماء الباقين، واشترك فيها بعض
أهل الغيرة اشتراكات سنوية، وستنشر أسماءهم كلهم في الجرائد اليومية أيضًا،
وتنشر أسماء الجميع في الكراسة التي تصدرها الجماعة في آخر سنتها، وقد وعد
كثيرون بالتبرع والاشتراك في الخريف الآتي، وهو موعد موسم القطن جعله الله
مباركًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(14/480)
رجب - 1329هـ
يوليو - 1911م(14/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
اتخاذ بعض مسلمي جاوه الناقوس وفتاوى في ذلك
(س39) من صاحب الإمضاء في مكة المكرمة.
حضرة علامة الزمان، ونور حدقة العرفان، القائم بإحياء شريعة سيد ولد
عدنان، العالم المحقق، والفاضل الكامل المدقق، الجامع بين المعقول والمنقول،
والمشيد أركان الفروع والأصول، سيدي وعمدتي وإمامي وقدوتي، السيد محمد
رشيد رضا، أدام الله وجوده وإنعامه وجوده آمين.
(ما قولكم دام فضلكم ونفعنا الله بعلومكم)
في أهل بلد يضربون الناقوس للإعلام بأوقات الصلاة المكتوبة ونحوها،ولا
يكتفون به عن الأذان والإقامة، ولم يقصدوا بذلك التشبه بالنصارى، بل لإنهاض
المسلمين للصلوات بسماع صوته، مع كونه صار معتادًا عندهم في بلادهم،
والنصارى قد تركوه بالكلية، هل يجوز لهم فعل ذلك أو لا؟ وهل يكفر فاعله أو لا؟
بينوا لنا حكمه بالجواب الشافي، فلكم الأجر من الملك الباري، سيدي.
(وقد رفعت هذه المسألة إلى بعض العلماء فأجاب بما صورته)
الجواب (1)
إن ضرب الناقوس لا يجوز بحال للنهي عنه، قال الشبراملسي نقلاً عن
ابن حجر ما نصه في سيرة الشامي: (اهتمّ صلى الله عليه وسلم كيف يجمع الناس
للصلاة، فاستشار الناس، فقيل: انصب راية، ولم يعجبه ذلك، فذكر له القنع؛
وهو البوق، فقال: هو من أمر اليهود، فذكر له الناقوس، فقال: هو من أمر
النصارى، فقالوا: لو رفعنا نارًا، فقال: للمجوس، فقال عمر: أَوَلا تبعثون رجلاً
ينادي بالصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم أنت فناد بالصلاة) قال
النووي هذا النداء دعاء إلى الصلاة غير الأذان؛ إذ كان شرع قبل الأذان. قال
الحافظ ابن حجر: وكان الذي ينادي بلال الصلاة جامعة. اهـ.
وهو كما ترى مشتمل على النهي عن الناقوس والأمر بالذكر ا. هـ. ع.ش وقد
عدّ الفقهاء ضرب الناقوس من المنكرات التي يمنع الكفار من إظهارها في بلاد
المسلمين، قال في المنهج مع شرحه: ولزمنا منعهم إظهار منكر بيننا كإسماعهم
إيانا قولهم الله ثالث ثلاثة، واعتقادهم في عزير والمسيح عليهما السلام، والناقوس
وعيد لما فيه من إظهار شعار الكفر ا. هـ وقال في النهاية: ويُتلف ناقوس أَظْهَرُوه.
اهـ. وحيث ورد النهي فيه بخصوصه، وصرح بأنه من أمر الكفار أي شعارهم،
وعده الفقهاء من جملة المناكر التي يمنعون من إظهارها في بلادنا، فكيف يجوز لنا
فعله وإظهاره ببلادنا وجعله من شعار ديننا، فما هو إلا مخالف للنهي وفعل للمنكر
والمنهي عنه، وجعل شعار الكفار شعارًا للمسلمين، ما أقبحه من شعار نهى عنه
صلى الله عليه وسلم وتركه الكفار وخلفهم فيه المسلمون، لكن مع حرمته لا يكفر
فاعله؛ لأنا لا نكفر أهل القبلة بالوزر، ولم أر أحدًا من العلماء قال بجوازه فيما
أعلمه من كتب المذهب، والعلم أمانة. وأما اعتياد الجاويين له مع عدم قصدهم
التشبه بالكفار، ومع ترك الكفار له فلا يصيره مباحًا؛ لأن ما ورد النهي عنه
بخصوصه، وصرح الفقهاء بتحريمه لا ينقلب مباحًا كما هو ظاهر، والخير كله
في الاتباع والشر كله في الابتداع. وأما ما اعتاده المسلمون في بعض البلاد
الجاوية من ضرب الطبل الكبير؛ لجمع الناس للصلاة، فلا بأس به؛ لأن كل طبل
مباح إلا طبل اللهو كالكوبة، وهذا ليس منه فهو مباح كطبل الحجاج. قال
الشرقاوي: الناقوس قطعتان من خشب أو نحاس أو نحو ذلك، تضرب إحداهما في
الأخرى للإعلام بأوقات الصلوات مثلاً ا. هـ فيعلم منه أن ما تضربه النصارى من
الصفر (أي النحاس) المجوف الكبير للإعلام بالساعات يكون من جملة الناقوس،
والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى.
... (2) وأجاب بعض آخر بما صورته.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم هداية للصواب، وإليه
المرجع والمآب. أما ضرب الناقوس للإعلام بدخول وقت الصلاة فحرام وإن كان
لغرض جمع الناس للجماعة؛ لأن هذا الداعي لا يقتضي تجويز ارتكاب الحرام،
بعد أن نهى الشارع عن الناقوس بخصوصه، وعين للإعلام الأذان المخصوص،
وحينئذ يجب منع الناقوس؛ لخصوصه الإعلام، يزاد في المؤذنين بقدر الحاجة،
وإلا كان في عدم المنع افتيات على الشارع، ويأثم الراضي به إن كان له قدرة على
إزالته ولم يزله، لكنه لا يكفر؛ إذ كل حرام لا يوجب الكفر، كما هو مذهب أهل
السنة خلافًا لما زعمه البعض من التكفير، فإنه زلة فاحشة وغلطة فاشية؛ لأن باب
التكفير خطر، والإقدام على الحكم به على أحد المسلمين أشد خطرًا أو أعظم جرأة
على ما حث عنه (؟) العلماء،وطوق عنان ألسنتهم عن المجازفة فيه والتعرض له،
ما لم يكن لفظ صريح أو فعل كذلك يدل على التكفير، ثم إن المقتضي لتحريم
الناقوس ليس هو التشبه بما هو من شعار الكفار، كما زعمه البعض الآخر المجوز
له، بل المقتضي له النهي فيه بخصوصه، فلعل المخلص من ارتكاب الحرام في
الناقوس هو أن يقوم الأذان على الناقوس، بحيث يصير القصد به الإعلام كما هو
الغرض، فإذا ضرب الناقوس بعد ذلك لقصد جمع الناس لا الإعلام بدخول الوقت،
فلا بأس به، والحالة ما ذكر والله أعلم.
... (3) وأجاب بعض آخر بما صورته:
الحمد لله وحده، لضرب الناقوس نظائر كثيرة من البدع، بعضها حرام
وبعضها مكروه، فالقياس أن ضرب الناقوس حرام؛ لأن فيه بدعة وشبها لدين
الكفار، وأنه يجب على من له شوكة ومنزلة منع ذلك؛ لأن العوام قد يعتقدون أنه
مشروع مثل: الأذان والإقامة، فتأمل بإنصاف، والله أعلم.
وهذه الأجوبة التي نقلناها لكم بحروفها مما لا يشفي الغليل، وكيف لا
والحديث الذي ساقه المجيب الأول، لا تكون دلالته على المعنى قطعية، لا يحتمل
لفظه غير هذا المعنى، والنهي إنما يكون للتحريم إذا كانت دلالته على المعنى كذلك
كما في الأصول، وقد قال ع. ش؛ وهو كما ترى مشتمل على النهي عن الناقوس
والأمر بالذكر ا. هـ وهو لم يصرح بأن النهي للتحريم، ولو عمل عليه فسياق آخر
كلامه من قوله والأمر بالذكر مانع عنه؛ لأن الأمر ليس محمولاً على الوجوب؛
لأنه إنما يكون للوجوب إذا كانت دلالته قطعية كما في النهي، وإن قول المجيب
الثاني: ثم إن المقتضي لتحريم الناقوس ليس هو التشبه إلى أن قال: بل المقتضي
له النهي فيه بخصوصه صريح في أن ذات الناقوس حرام، وقوله: فلعل المخلص
إلى آخر جوابه صريح في أنها ليست بحرام، فتعارضا، وإذا تعارضا تساقطا فلم
يكن في الجواب نتيجة، وإن قول المجيب الثالث: لضرب الناقوس نظائر كثيرة
من البدع بعضها حرام وبعضها مكروه، فالقياس أن ضرب الناقوس حرام فيه
غموض يحتاج إلى البيان، وكيف لا، وإنه لم يصرح للقياس بأنه أعلى أو أدنى أو
مساو، وإنه لم يذكر المقيد حتى يعلم مما ذكر، وإن العلة التي ذكرها صريح في
أن علة التحريم هي المشابهة لدين الكفر، وقد عارضه المجيب الثاني بقوله: ثم إن
المقتضي لتحريم الناقوس ليس هو التشبيه إلى آخره، على أن العلة التي ذكرها
فيها تساهل؛ لأنه علل البدعة بكونها بدعة، فهو من تعليل الشيء بنفسه، فحكمه
لا يخفى على من له أدنى مسّ في علم الأصول، فمن فيض مولانا أن تفتونا
بالجواب، فلكم الأجر والثواب، من الملك الوهاب.
... ... ... ... ... ... ... من الحقير الراجي القبول
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحافظ الجاوي
(ج المنار) ما كان يخطر على بالي أننا وصلنا من الجهل بالمسائل
العملية والشعائر المعلومة بالضرورة من ديننا إلى حيث صرنا نعد ضرب
الناقوس في مساجدنا مسألة نظرية، يستفتى فيها المفتون، فيجعلون عهدتهم
كلام مثل الشبراملسي، يستنبطون منه الحكم، ثم تكون فتواهم موضع النظر
ومحل النقد والبحث.
يا رباه! ما هذا التناقض في العقائد والعبادات والآداب الذي ابتلي به
المسلمون منذ انحرفوا عن هداية كتابك العزيز وسنة نبيك الكريم، إنهم يتركون
العلوم والفنون والصناعات الواجبة عليهم لحماية دينهم وملكهم؛ لأن غيرهم سبقهم
في هذا العصر إليها، ويزعمون أنهم بتعلمها والانتفاع بها يكونون متشبهين بالكفار،
ثم إنهم يتخذون نواقيس الكنائس في مساجدهم، ويعدون ذلك من المسائل
الاجتهادية التي تختلف فيها الأنظار، فيترك بعضهم أخذ الحكمة التي هي ضالة
المؤمن عن غير أبناء دينهم، ويأخذ بعض آخر منهم شعائر الدين نفسها عن أولئك
الأغيار!!
إن الله تعالى أخبرنا بأنه أتم دينه وأكمله، فلا يجوز إذًا لأحد أن يزيد فيه ولا
أن ينقص منه برأيه الذي يسميه قياسًا أو غير ذلك من الأسماء، والزيادة والنقص
أو التغيير في الشعائر أغلظ من مثله في أعمال الأفراد في خاصة أنفسهم، وأغلظ
ذلك ما كان موافقًا لعبادة غير المسلمين؛ كاتخاذ الناقوس للإعلام بالصلاة. ولا
يجوز أيضًا ما ليس كذلك؛ كاتخاذ الطبل للإعلام بها. كل ذلك بدعة في الدين،
وكل بدعة فيه ضلالة. وأما البدعة التي تعتريها الأحكام الخمسة فهي البدعة في
الأمور الدنيوية والاجتماعية، وإن كانت مفيدة في تأييد الدين؛ كالفنون اللغوية
والرياضية والطبيعية.
الفتاوى التي أوردها السائل صواب في جملتها وحاصلها، ولا أدخل معه في
باب مناقشة أصحابها في عبارتهم، فإن أمثال هذه المناقشات والاستنباط من كلام
المؤلفين والمفتين وجعلها كنصوص الشارع؛ هو الذي جعل أكثر كتب المتأخرين
مملوءة باللغو مبعدة عن حقيقة الدين.
لا موضع للمراء في كون ضرب الناقوس للإعلام بالصلاة بدعة في عبادة
هي أظهر شعائر الإسلام، فمثل هذا لا يحتاج القول بتحريمه إلى دليل؛ لأنه معلوم
من الدين بالضرورة، والأدلة العامة عليه كثيرة، كقوله تعالى:
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21)
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أحمد ومسلم: كل بدعة ضلالة وكل
ضلالة في النار وتقدم المراد بالبدعة آنفًا، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث
الصحيحين عن عائشة: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) والمراد
بأمرنا أمر ديننا، فلا يرد ما قاله بعضهم في سائر الأحداث أنها تعتريها
الأحكام الخمسة، بل العموم في الحديث على ظاهره.
على أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أن جعل شعار ديني للنصارى شعارًا دينيًّا
للمسلمين من غير قسم الحرام. وإلا لجاز تغيير جميع شعائر الإسلام، والجمع بين
الكفر والإيمان.
هذا، وإن من أراد أن يأخذ من كلام الفقهاء ما يستدل به على ردة من
ضرب الناقوس، مستحلًّا له في مثل واقعة السؤال، فإنه لا يعوزه ذلك من كلامهم،
وقد كفر بعضهم من عمل ما هو دون ذلك. وناهيك بابن حجر الهيتمي الذي هو
عمدة أهل جاوه في دينهم، فإنه شدد في المكفرات تشديد الحنفية، كما يعلم من
كتابه (الإعلام في قواطع الإسلام) فإنه ذكر كثيرًا من المكفرات باللازم القريب بل
البعيد جدًّا. وما لنا وللتكفير والمتوسعين فيه، حسبنا أن ننكر هذه الضلالة أشد
الإنكار، ونحث كل من يصل إليه صوتنا في تلك البلاد على إزالتها ما استطاع إلى
ذلك سبيلاً.
***
(عبادة نهر في البحرين برؤيا امرأة)
(س40) من صاحب الإمضاء بجزيرة البحرين
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي الفاضل صاحب المنار المنير أدام الله وجوده.
ثم سلام الله عليك ورضوانه، وبعد، فقد حدث في بلادنا توًّا حادث يستحق
الذكر، وذلك أن امرأة من عامة المسلمين ادعت أن أحد المشايخ أو الأولياء على
زعمها، أتاها في المنام وأخبرها أنه على مسافة نصف ميل من البلاد يوجد نهر
جار (وهو كذلك إذ إن هذا النهر معروف من القدم) وعلى حافة النهر يوجد
صخرة كبيرة (وهذه أيضًا مشاهدة منذ حين) وإنه ضرب بيده تلك الصخرة،
فتفجر منها الماء العذب، وأمرها أن تخبر أهل البلاد كي يأتوا ويغتسلوا ويشربوا
من هذا الماء لأن كل من شرب أو اغتسل منه برئ من جميع العلل والعاهات.
وبالفعل إن هذه المرأة أخبرت أهل البلاد بذلك فصدقها كثير من الناس، وذهبوا إلى
ذلك النهر، وأخذوا يغتسلون ويشربون منه، وينقلون منه إلى القرى المجاورة،
وبسرعة البرق انتشر هذا الخبر بأطراف البلاد، فتهافت الناس على هذا النهر
كتهافت القطا، وعكفوا عليه عكوفهم على الحجر الأسود، معتقدين فيه كاعتقادهم
بالله، حتى كثر الضجيج والازدحام عليه بما يفوق حد التصور، حتى أصبح هذا
النهر الصغير في بلادنا شبيهًا بنهر الكنج بالهند. ولقد ذهبت بنفسي مع بعض
الأصدقاء لمشاهدة ذلك، ولكثرة الزحام لم أقدر أن أتصل بذلك النهر إلا بعد شق
النفس، فرأيت أن النهر لم يتغير عما كان عليه سابقًا، ولقد رثيت لحالة بعض
الأطفال الذين يكادون يموتون غرقًا؛ لكثرة ما تغطسهم أمهاتهم في الماء؛ ابتغاء
البركة والتقديس، فما قول سيدي الأستاذ في ذلك؟ وهل الشرع يبيح مثل هذا؟
وهل من العدل أن يترك هؤلاء العامة على ضلالهم؟ أجيبوا عن ذلك على صفحات
مناركم الزاهر؛ أدامكم الله نبراسًا يهتدي به من ضل عن محجة الصواب. واقبلوا
في الختام فائق احترام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الداعي المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ناصر مبارك الخيري
(ج) حاش لله، لا يبيح دين التوحيد هذه الضلالة بل الوثنية الظاهرة، وما
حيلتنا والمسلمون قد لبسوا دينهم مقلوبًا، فأنكر كثيرون منهم النفع والضرر عن
طريق الأسباب؛ زعمًا منهم أن ذلك ينافي التوحيد الذي يقصر النفع والضرر على
الخالق عز وجل؛ ولذلك قصّروا كلهم في علوم هذه الأسباب التي قوي بها غيرهم،
حتى سلبهم ملكهم، والأسباب لا تنافي التوحيد بل تؤيده؛ لأنها سنن الله تعالى.
ولكن الذي ينافيه هو التماس النفع ودرء الضر من المخلوقات التي جرت سنة الله
بجعلها أسبابًا عامة لذلك، وهو ما فشا فيهم بتوسعهم بما سموه الكرامات، فقدسوا
الأنهار والأشجار والأحجار، وطلبوا منها جلب المنافع ودرء المضارّ، وهذه هي
الوثنية الجلية بعينها، فتقديس نهركم ليس بالأمر الذي لا نظير له عندهم، بل له
نظائر في جميع الأقطار الإسلامية أو أكثرها.
جعل الحجر الأسود في الكعبة مبدأ للمطاف؛ لكيلا يختل النظام بطواف
الناس من أماكن مختلفة، فيختلط الحابل بالنابل، فصار بذلك من شعائر الحج، وقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم عنده: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع وكذا
أبو بكر رواه ابن أبي شيبة والدارقطني، وقال مثل ذلك عمر جهرًا (رواه
الشيخان) ونحمد الله أن صان المسلمين من عبادته بطلب النفع منه والاستشفاء به،
وصان بيته من الشرك أن يعود إليه. فإذا كان هذا الحجر الذي لمسه أفضل
الأنبياء والمرسلين من إبراهيم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام لا ينفع ولا يضر،
فكيف ينفع أو يضر مثل عمود الرخام المعروف في المسجد الحسيني بمصر، وهو
لا يمتاز عن غيره من العمدة التي هناك ولا عن غيرها، أوينفع ذلك الماء الذي
صور الشيطان لتلك المرأة الخرقاء في نومها أنه جرى كرامة لولي من الأولياء.
إن موسى كليم الله عليه السلام قد ضرب بعصاه الحجر، فانفجر منه الماء،
فشرب منه بنو إسرائيل. ولكن لم يعبدوه ولم يستشفوا به، ولم يتبركوا به، ولم
يقدسوه لا بأمر موسى ولا باجتهاد منهم؛ لأن ذلك يهدم التوحيد الذي جاء به موسى،
فكيف يبيح دين التوحيد أن يقدس ماء ليس له مثل تلك المزية، بل ليس له مزية
ما على غيره بدعوى تلك الرؤيا الشيطانية.
أما والله لو رأيت بعيني من أعتقد أنه من أولياء الله الصالحين ضرب صخرًا،
فانفجر منه الماء لما قدست ذلك الماء، ولا استشفيت به لأجله. وإني لأعلم أن من
الماء ما هو سبب لشفاء بعض الأمراض لمعادن تتخلله، ولكن لا يوجد في الدنيا
شيء ينفع أو يضر كرامة منصوبة لأحد من الأولياء.
لو كان في الدنيا شيء ينفع لأجل من اتصل به من الصالحين، وكان طلب
النفع منه مشروعًا، لكان أولى الأشياء بذلك الحجر الأسود، وقد علمت ما ورد فيه
ثم الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحتها أصحابه الكرام بيعة الرضوان،
وقد قطعها عمر رضي الله عنه وأخفى أثرها بإقرار الصحابة كلهم؛ لما علم أن
بعض من لم يفهم الإسلام بدأوا يتبركون بها. ومن المصائب أن صرنا محتاجين
إلى إقناع المسلمين بالتوحيد، وأن نرى من الصعب أن يقتنعوا به، فهل يستغرب
مع هذا أن يظهر فيهم الدجال ببعض هذا الغرائب التي يسمونها كرامات، فيخضع
له الكثيرون.
***
صعود السيد المسيح إلى السماء
(س41) من صاحب المضاء بصيدا
حضرة العلامة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا حفظه الله.
(1) هل صعد السيد المسيح إلى السماء بجسمه أم بروحه.
(2) هل نزوله في آخر الزمان إلى الأرض، وحكمه بالشريعة المحمدية
مأخوذ من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة، أفيدونا نفعنا الله
بعلمكم
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحد المشتركين
... ... ... ... ... ... ... ... أحمد إسماعيل القطب
أما الصعود فلم يذكر في القرآن، وإنما جاء فيه لفظ الرفع، قال تعالى:
{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (النساء: 157-158) كما قال في إدريس
{وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِياًّ} (مريم: 57) وقد أسند الرفع إلى الله تعالى للإشارة على أنه
ليس للمرفوع فيه كسب ولا اختيار، وهو يحتمل الرفع المعنوي؛ كقوله تعالى في
الذي آتاه آياته فانسلخ منها {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} (الأعراف: 176) ولم يقل أحد
إن المراد لرفعناه بجسمه. والجمهور يقولون: إن عيسى رفع بروحه وجسده، قيل
بعد وفاته، وقيل قبلها، والله أعلم.
وأما نزوله في آخر الزمان، وحكمه بالشريعة المحمدية، وكسره للصليب
وقتله للخنزير، فليس لها نص في القرآن، وإنما وردت بذلك أحاديث روى
بعضها الشيخان، والله أعلم.
***
(إتيان الزوج في غير المأتى)
(42) من أحد المشتركين في جدة
ملخص السؤال أن أحد مدرسي الشافعية في جدة، ذكر في درسه أن إتيان
الرجل امرأته في غير موضع الحرث من الذنوب الصغائر. فأجابه أحد السامعين
بكلام خلاصته أنه لا يجوز إفشاء هذا النص؛ لئلا يتجرأ به الجاهل على هذه
المعصية التي وردت في النهي عنها الأحاديث الشريفة، ونص عليها الشافعي نفسه
في الأم، وما ورد فيها يدل على أنها من الكبائر. فاستاء المدرس واستفتى في ذلك
مفتي الشافعية بمكة المكرمة فأفتى بإقراره على ما قرر، وبزجر المعترض وتعزيره.
قال سائلنا: (وحيث وجد في الصحاح وفي الأم للإمام الشافعي ما يخالف ما
أورده المدرس المذكور، حصل إشكال عند طلبة العلم، ولهذا قدمنا إلى فضيلتكم
السؤال والجواب، ونسترحم إمعان النظر فيهما وبيان الحقيقة بنشرها في مجلتكم
الغراء؛ لإزالة الإشكال الواقع، والرد على الضلال المبين المخالف لأحاديث سيد
المرسلين) ... إلخ.
(ج) إننا نعهد أن عمدة الشافعية من أهل الحجاز واليمن وحضرموت
وجاوه في المذهب كلام ابن حجر المكي الهيتمي، وهذا قد صرح في الزواجر بأن
هذه المعصية من الكبائر؛ مستدلاًّ بما ورد في الأحاديث من الوعيد والتشديد فيها،
ومنه تسميتها في الحديث كفرًا، ولعن فاعلها. وهذا بناء على ما اعتمده في تعريف
الكبيرة، فما بال ذلك المدرس ترك في هذه المسألة ما جزم به ابن حجر في
الزواجر، وهو خير كتبه؟ وما بال مفتي مكة شايعه على ذلك؟ لعل بعض
الشافعية لا يعتمدون بما يحققه ابن حجر في الزواجر؛ لأنه يستدل عليه بالكتاب
والسنة، وما أظن أن مفتي مكة يعد أفضل مزية لهذا الكتاب سببًا لعدم الاعتماد
عليه، ولا ندري ما هي الحكمة له في نصر ذلك المدرس في هذه المسألة.
هذا، وإنه ينبغي للمدرس وللمفتي أن يتحرّيا ما هو الأقرب إلى هداية
المتعلمين والسائلين بترك المنهيات وفعل المأمورات، وعلى هذا كان ينبغي إما
التصريح بأشد ما قاله العلماء في هذه المعصية، وإما السكوت عن تسميتها صغيرة
أو كبيرة، فإن هذا بحث علمي لا حاجة إلى ذكره في دروس العوامّ. على أن كون
المعصية تسمى صغيرة بالنسبة على غيرها أو باعتبار آخر لا يقتضي أن يستهان
بها، ويتجرأ على ارتكابها، ولكن العوام وأصحاب الأهواء يتجرءون بمثل هذا
على المعصية. وقد بينا في التفسير معنى الكبيرة والصغيرة بما يقطع عرق الغرور
والجرأة على ما يسمونه الصغائر. ولا أحب أن أخوض في أدلة واقعة السؤال في
المنار.
__________(14/502)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بحث الاجتهاد والتقليد
فصول من مختصر كتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول
لابن أبي شامة الفقيه الشافعي
(فصل) وصح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من
الناس؛ ولكن يقبض العلماء فيقبض العلم، حتّى إذا لم يترك عالمًا، اتخذ الناس
رؤساء جهالاً، فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا، وما أعظم حظ من بذل نفسه وجهدها
في تحصيل العلم؛ حفظًا على الناس لما بقي في أيديهم منه، فإن هذه الأزمنة قد
غلب على أهلها الكسل والملل وحب الدنيا، قد قنع الحريص منهم من علوم القرآن
بحفظ سورة ونقل بعض قراءاته. وغفل عن علم تفسيره ومعانيه واستنباط أحكامه
الشريفة من مبانيه. واقتصر من علم الحديث على سماع بعض الكتب على شيوخ
أكثرهم أجهل منه بعلم الرواية فضلاً عن الدراية، ومنهم من قنع بزبالة أذهان
الرجال وكناسة أفكارهم، وبالنقل عن أهل مذهبه. وقد سئل بعض العارفين عن
معنى المذهب، فأجاب: إن معناه (دين مبدل) ، قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا مِنَ
المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا} (الروم: 31-32) ألا ومع هذا
يخيل إليه أنه من رؤوس العلماء، وهو عند الله وعند علماء الدين من أجهل الجهل،
بل بمنزلة قسيس النصارى أو حبر اليهود؛ لأن اليهود والنصارى ما كفروا إلا
بابتداعهم في الأصول والفروع، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لتركبن
سنن من كان قبلكم ... ) الحديث.
(فصل) والعلم بالأحكام واستنباطها كان أولاً حاصلاً للصحابة رضي الله
عنهم فمن بعدهم، فكانوا إذا نزلت بهم النازلة بحثوا عن حكم الله تعالى فيها من
كتاب الله وسنة نبيه، وكانوا يتدافعون الفتوى، ويود كل منهم لو كفاه إياها غيره،
وكان جماعة منهم يكرهون الكلام في مسألة لم تقع، ويقولون للسائل عنها: أكان
ذلك، فإن قال لا قالوا دعه حتى يقع، ثم نجتهد فيه، كل ذلك يفعلونه خوفًا من
الهجوم على ما لا علم لهم به؛ واشتغالاً بما هو الأهم من العبادة والجهاد، فإذا
وقعت الواقعة، لم يكن بد من النظر فيها.
قال الحافظ البيهقي: وقد كره بعض السلف للعوام المسألة عما لم يكن، ولم
يمض به كتاب ولا سنة، وكرهوا للمسئول الاجتهاد فيه قبل أن يقع؛ لأن الاجتهاد
إنما أبيح للضرورة ولا ضرورة قبل الواقعة، فلا يغنيهم ما مضى من الاجتهاد،
واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا
يعنيه) ، وعن طاووس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على المنبر:
أحرج الله على كل امرئ مسلم سأل عن شيء، لم يكن فإنه قد بين ما هو كائن،
وفي رواية: لا يحل لكم أن تسألوا عما لم يكن، فإنه قد قضى فيما هو كائن (قلت)
وهذا معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} (المائدة:
101) ... إلخ وعن عبد الرحمن بن شريح أن عمر بن الخطاب كان يقول: إياكم
وهذه العضل، فإنها إذا نزلت بعث الله لها من يقيمها ويفسرها.
(قلت) إنما يضطر إلى الاجتهاد في الأحكام الحكّام، ولم يأتِ الاجتهاد لغير
الحكام؛ لحديث معاذ: إن لم أجد في كتاب الله تعالى فبسنة رسول الله، وإن لم أجد
في سنة رسول الله أجتهد برأيي. لأنه كان حاكمًا، وقوله عليه السلام: أقضي بينكم
برأيي فيما لم ينزل علي فيه شيء وهو حاكم، وكذلك قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ
إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ} (الأنبياء: 78) لأنهما كانا حاكمين، فالاجتهاد بمنزلة
الميتة، قال الثعلبي والشافعي: لا يحل تناولها إلا عند المخمصة. والذي ليس بحاكم
ويجتهد برأيه، فمثله كمثل رجل يقعد في بيته ويقول: جاز أكل الميتة لفلان، ويجوز
أكلها لي أيضًا. فكذلك لا يجوز لأحد أن يحتج بقول المجتهد؛ لأن المجتهد
يخطئ ويصيب، فإذا كان شيء يحتمل أن يكون صوابًا وخطأ فتركه أولى
مثل: الشبهات من الطعام، تركه أولى من تناوله.
(وعن) الصلت بن رشد قال: سألت طاووسًا عن شيء، فقال: أكان هذا،
قلت: نعم، قال: الله الذي لا إله إلا هو، قلت: الله الذي لا إله إلا هو، قال:
إن أصحابنا حدثونا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: يا أيها الناس لا تعجلوا
بالبلاء قبل نزوله، فيذهب بكم ههنا وههنا، وإن لم تعجلوا قبل نزوله، لم ينفك
المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا
تستعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إذا فعلتم ذلك لا يزال منكم من يوفق ويسدد،
وإنكم إن استعجلتم بها قبل نزولها تفرقتم) ، وكان إذا سئل عن الفتوى يقول:
(اذهب إلى هذا الأمير الذي تقلّد أمور الناس وضعها في عنقه) ؛ إشارة إلى أن
الفتوى والقضايا والأحكام من توابع الولاية والسلطنة.
(قلت) بهذا السبب أخذوا سنن اليهود والنصارى، وزادوا عليهم
حتى صاروا ثلاثًا وسبعين فرقة، وحكم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم
من أصحاب النار، كما شهد للعشرة بأنهم من أصحاب الجنة، وقال مسروق: سألت
أبيّ بن كعب عن شيء، قال: أكان بعد؟ قلت: لا. قال: فاصبر حتى يكون، فإذا
كان اجتهدنا لك رأينا، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت مائة وعشرين
من الأنصار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما منهم أحد يحدث بحديث إلا
ودّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ودّ أن أخاه كفاه إياه. وفي
رواية يسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول.
ثم بعد الصحابة أراد الله أن يصدق نبيه في قوله: (تفترق أمتي على بضع
وسبعين فِرقة، أعظمها فرقة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحللون
الحرام ويحرّمون الحلال) ، رواه البزّار في مسنده عن جبير بن نفير عن عوف
بن مالك الأشجعي عنه صلى الله عليه وسلم، فكثرت الوقائع والنوازل في التابعين
ومن بعدهم، واجتهدوا بآرائهم لمن اضطر ومن لم يضطر، ووصلت إلى من
بعدهم من الفقهاء، ففرعوا عليها وقاسوا واجتهدوا في إلحاق غيرها بها،
فتضاعفت مسائل الفقه، وشككهم إبليس ووسوس في صدورهم، واختلفوا كثيرًا من
غير تقليد، فقد نهى إمامنا الشافعي عن تقليده وتقليد غيره كما سنذكره في فصل،
وكانت تلك الأزمنة مملوءة بالمجتهدين، فكل صنف على ما رأى، وتعقب بعضهم
بعضًا مستمدين من الأصلين الكتاب والسنة، وترجيح الراجح من أقوال السلف
المختلفة بغير هوى.
ولم يزل الأمر على ما وصفت إلى أن استقرت المذاهب المدونة، ثم
اشتهرت المذاهب الأربعة، وهجر غيرها فقصرت همم أتباعهم إلا قليلاً منهم،
فقلدوا بعدما كان التقليد لغير الرسل حرامًا، بل صارت أقوال أئمتهم عندهم بمنزلة
الأصلين، وذلك معنى قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) فعدم المجتهدون، وغلب المقلدون، وكثر التعصب وكفروا
بالرسول [1] حيث قال: يبعث الله في كل مائة سنة من ينفي تحريف الغالين
وانتحال المبطلين وحجروا على رب العالمين مثل اليهود أن لا يبعث بعد أئمتهم
وليًّا مجتهدًا، حتى آل بهم التعصب إلى أن أحدهم إذا أورد عليه شيء من الكتاب
والسنة الثابتة على خلافه، يجتهد في دفعه بكل سبيل من التآويل البعيدة نصرة
لمذهبه ولقوله، ولو وصل ذلك إلى إمامه الذي يقلده لقابله ذلك الإمام بالتعظيم،
وصار إليه وتبرأ من رأيه مستعيذًا بالله من الشيطان الرجيم، وحمد الله على ذلك.
ثم تفاقم الأمر حتى صار كثير منهم لا يرون الاشتغال بعلوم القرآن والحديث،
ويرون أن ما هم عليه هو الذي ينبغي المواظبة عليه، فبدلوا بالطيب خبيثًا،
وبالحق باطلاً، واشتروا الضلالة بالهدى، فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين،
ثم نبغ قوم آخرون صارت عقيدتهم في الاشتغال بعلوم الأصلين، يرون أن الأولى
منه الاقتصار على نكت خلافية وضعوها. وأشكال منطقية ألفوها، وقال عمر بن
الخطاب: اتهموا الرأي على الدين. وقال سهل بن حنيف: (اتقوا الرأي في دينكم) وقال عبد الله بن مسعود (يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فيهدم الإسلام) .
(قلت) ما عبدت الشمس والقمر إلا بالرأي، ولا قالت النصارى ثالث ثلاثة،
ولا إن الله هو المسيح ابن مريم، ولا اتخذوا لله ولدًا إلا بالرأي، وكذلك كل من
عبد شيئًا من دون الله إنما عبده برأيه، فانظر إلى قول السامري: {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ
لِي نَفْسِي} (طه: 96) وقال عبد الله بن عمر: إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم
أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا. وقال
الأوزاعي: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك رأي الرجال وإن
زخرفوه لك بالقول وقال أيضًا: إذا بلغك عن رسول الله حديث فإياك أن تقول
بغيره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مبلغًا عن الله تبارك وتعالى وقال
أيضًا: العلم ما جاء عن أصحاب محمد وما لم يجئ عن أصحاب محمد فليس بعلم
يعني ما لم يجئ أصله منهم. وقال الشعبي: إذا جاءك الخبر عن أصحاب محمد
فضعه على رأسك، وإذا جاءك عن التابعين فاضرب به أقفيتهم وقال سفيان الثوري:
العلم كله بالآثار وقال ابن المبارك: ليكن الذي تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي
ما يفسر لك الحديث وقال أحمد بن حنبل: سألت الشافعي عن القياس، فقال: عند
الضرورات. فكان أحسن أمر الشافعي عندي أنه إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به
وترك قوله. وقال الشعبي: القياس كالميتة إذا احتجت إليها فشأنك بها. قلت ما
أحسن قول القائل:
تجنب ركوب الرأي فالرأي ريبة ... عليك بآثار النبي محمد
فمن يركب الآراء يَعْمَ عن الهدى ... ومن يتبع الآثار يهد ويحمد
وقول بعض المغاربة:
لا ترغبن عن الحديث وأهله ... فالرأي ليل والحديث نهار
وقول القائل:
انظر بعين الهدى إن كنت ذا نظر ... فإنما العلم مبني على الأثر
لا ترض غير رسول الله متبعًا ... ما دمت تقدر في حكم على خبر
ولم يختلف المفسرون فيما وقفت عليه من كتبهم في أن قوله تعالى:
{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) تقديره إلى
قول الله وقول الرسول، فيجب رد جميع ما اختلف فيه إلى ذلك، فما كان أقرب
إليه اعتمد صحته وأخذ به، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ردوا
الجهالات إلى السنة، وفي رواية يرد الناس من الجهالات إلى السنة، وهذه كانت
طريقة العلماء الأعلام أئمة الدين، وهي طريقة إمامنا أبي عبد الله الشافعي، ولهذا
قال ابن حنبل: ما من أحد وضع الكتب حتى ظهر خطؤه [2] أتبع للسنة من الشافعي.
ثم إن الشافعي - رحمه الله - احتاط لنفسه، وعلم أن البشر لا يخلو من
السهو والغفلة وعدم الإحاطة، فصح عنه من غير وجه أنه أمر إذا وجد قوله على
مخالفة الحديث الصحيح؛ الذي يصح الاحتجاج به أن يترك قوله ويؤخذ بالحديث،
أنبأنا الفاضل أبو القاسم عمن أخبره الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي؛ أنبأنا
أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال: سمعت الربيع بن
سليمان يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنته ودعوا ما قلت. وقال صاحب الشافعي المزني في
أول مختصره: اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله لأقربه على من
أراده مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره؛ لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه.
أي مع إعلامي من أراد علم الشافعي نَهْي الشافعي عن تقليده وتقليد غيره، قال
الماوردي صاحب الحاوي: قوله ويحتاط أي كطلب السلف الصالح، يتبعون
الصواب حيث كان، ويجتهدون في طلبه وينهون عن التقليد.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) (المنار) قد يكون المراد كفر بعضهم، وهم الذين تركوا الكتاب والسنة ألبتة، وحصروا دينهم فيما ارتآه رؤساؤهم، وقد يكون من باب (كفر دون كفر) الذي ترجم له البخاري في صحيحه، ويظهر أنه سقط شيء من الكلام وهو بيان ما به الكفر، والحديث الذي ذكره بعد هذه الجملة لا يظهر اتصاله بها وهو ملفق من حديثين: حديث التجديد وحديث: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) رواه البيهقي في المدخل مرسلاً.
(2) (المنار) : هاهنا سقط ظاهر ولعله: (إلا الشافعي وما رأيت إلخ) .(14/510)