الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تعصب أوربا الديني والحج
تمهيد لمقالة من سنغافورة
أثبتنا في السنة الأولى من المنار أن الغلو في التعصب الديني ولد في أوربا،
ثم أعدنا الكرة في هذا مرة بعد أخرى، حتى في بعض أجزاء هذه السنة. ومن
العجيب أن نرى جرائدنا السياسية غافلة عن تنبيه أهل الشرق إلى هذا أو وجلة من
ذلك، وأصحابها يرون ويسمعون ويقرءون كل يوم ما يؤيده، حتى إن بعض الجرائد
الإفرنجية التى تصدر في مصر تسمعنا آنا بعد آن من آيات تعصبها عجبًا، فهم
على جهلهم بالإسلام يطعنون في أحكامه الحكيمة العادلة، ويحرفون بجهل أو بسوء
قصد بعض آيات القرآن، كما فعلت أكثر من واحدة منهن في الصيف الماضي،
بتحريف قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (محمد: 4)
الآية، إذ أَوَّلُوهَا بأن الإسلام يوجب على المسلمين أن يقتلوا كل من لقوه من الكفار
في كل مكان وكل وقت، سواء كان محاربًا لهم أم لا، ولو كان هذا معناه لما عاش
أحد من الكفار في الممالك الإسلامية وقد كان المسلمون قادرين على إبادة مخالفيهم
من الشرق الأدنى، ومن بعض بلاد أوربا أيضًا، ولكنهم كانوا يعاملونهم بأفضل
مما تعاملنا به أوربا اليوم في جاوه وسنغافورة والهند وتونس والجزائر.
وإنما الآية في كيفية القتال مع الكفار المحاربين، فهي تأمرنا أن نجعل قتل
عدونا في الحرب مغيًّا بالإثخان، وأن نكف عن القتل إذا أثخنا وظفرنا، ونكتفي
عند ذلك بأسرهم، فكأنه يقول: اقتلوا في المعركة من يقاتلكم ما دمتم خائفين على
أنفسكم، فإذا ظفرتم فكفوا عن القتل، واإسروا المقاتلين أسرًا، أفليس هذا منتهى
الرحمة ? بلى.. وهو يقول بعد ذلك في الأسرى من هذه السورة {فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا
فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ} (محمد: 4)
فهل بعد هذا من رحمة ورأفة في الحرب؟ وهل يعترض على تلك الآية إلا كل
غال في التعصب؟ وهو ما عليه الأوربيون، وأفعالهم أدل على التعصب من
أقوالهم.
إن الإنكليز لم تستقر أقدامهم بمصر إلا وحاولوا أن يثبتوا في مؤتمر طبي؛
كون الحجاز هو مهد الهيضة الوبائية، وقد ضغطوا على الخديوي توفيق باشا؛
ليكره طبيبه سالم باشا سالم بإقرار ذلك، فأمره بأن يوافقهم فلم يفعل، حتى أظهر
توفيق باشا مغاضبته إرضاء لهم، ثم إنهم لما باعوا البواخر المصرية لشركة
إنكليزية بثمن لا يزيد على ثمن ما فيها من الأثاث والماعون (الموبيليات) ؛
وإن شئت قلت: وهبوها البواخر وأرصفتها، حملوا الحكومة على إلزام حجاج
المصريين السفر في هذه البواخر دون غيرها، وكانت الشركة تسيء معاملة
الحجاج الذين يركبون بواخرها، ولكن الظلم الذى يكون في مصر ليس كالظلم الذى
يكون في مثل جاوه أو سنغافورة، بل يكون ظلمًا مفضوحًا فيها وفي أوربا؛ فلذلك
ولما بذل من السعي في تحسين معاملة الشركة للحجاج، اتفق لورد كرومر مع
الحكومة المصرية على وضع نظام معتدل لنقل الحجاج المصريين في هذه البواخر،
وكان أنفع تلك المساعي ما قام به مستر ويلفرد بلنت المستشرق الشهير، وما كتبه
في ذلك إلى لورد كرومر، وما نشر في الجرائد الإنكليزية، فهذا التحسين لم يكن
من رحمة لورد كرومر ورأفته، ولا من عدله وعدل حكومته، ولكن كان أمرًا
اضطراريًّا لابد منه، ولو كان ذلك من رحمة الحكومة أو عدلها لكان عامًّا في سنغافورة، وفي كل بلاد لها سلطان عليها.
هذا ما نقوله تمهيدًا لرسالة جاءتنا من سنغافورة، ورغب إلينا أن ننشرها في
عدة جرائد إذا أمكن، وقد شدد الكاتب النكير فيها على الأوربيين، وسمى تعصبهم
الحامل لهم على إهانة المسلمين وهضم حقوقهم تعصبًا صليبيًّا، يعني أنه تعصب
لأجل المسيحية، نعم.. إن المسيحية تتبرأ من مثل هذا العمل الذى يصفه صاحب
الرسالة، بل هي تتبرأ من هؤلاء الإفرنج عباد المال والقوة، وأعداء الضعفاء من
غير أبناء جنسهم، ولكن ماذا يعتقد، وماذا يقول مثل هذا الكاتب الذي رأى بعينيه،
واختبر بنفسه تضييق هولاندا وإنكلترا على الحجاج دون غيرهم، وهو يعلم كما
يعلم كل أحد أنه لا عذر لهم في ذلك ? أليس يعد معذورًا في كل ما قاله؟ بلى وهذا
نص رسالته:
الحج
(أوربا والإسلام)
ماذا تريد أوربا من الإسلام وأهله؟ إنها لم تزل تُحَارِبُنَا حَرْبًا صليبية كأشد
ما يكون من الحرب، متحدة متناصرة من حيث ندري ولا ندري، فإنها لا تسنح لها
فرصة إلا ووثبت على قطر، فافترست استقلاله، والتهمت ثروته، واستعبدت
أهله، ونشرت فيه الجراثيم الضارة المهلكة للعقول والأبدان والأموال (الخمر والزنا
والقمار) ، كل ذلك باسم الإنسانية، وتأييد الحقوق، وتأمين التجارة، وحب الخير
و. و. و. وما هو إلا الكذب والخداع والغدر والاحتيال، ولقد رابها ما ترى من
عطف المسلمين بعضهم على بعض، ذلك العطف الذى يوجب الإسلام أن يكون
على أقوى ما يتصور، ولكنه ويا للآسف لا يوجد منه الآن إلا اسم بدون مسمى،
ومع ذلك لم يرق لدى أوربا الرحيمة، فصاحت الصيحات المزعجة، وسمته
التعصب الديني، ونسبت إليه ما شاءت، ولونته بما أحبت، وصورته غولاً يبتلع
الإنسانية ويعيد الهمجية، ولقد نجح مسعاها، فأصغى إلى زورها من تربوا في
أحضانها من شبابنا، وَمَنْ تخرج في مدارسها المحشوة بالرهبان والقسوس
وبالملاحدة، فكانوا طليعة الأعداء وسلمًا لهم، وحبالة يصطادون بها سخاف العقول
والجهال منا، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
كبر على أوربا المتمدنة أن تكون للمسلمين ندوة عامة وهو الحج، يلتقي فيه
أهل الغرب منهم بأهل الشرق، وأهل الجنوب بأهل الشمال، فقامت لمحاربته،
فقالت: إن الحجاز ينبوع الأمراض، ولو أنصفوا لعلموا - وما أخالهم جاهلين - أن
الهند منذ ربع قرن لم يفارقها الطاعون، وهفكوغ منذ 15 سنة كذلك، وغيرها
كثير، فلماذا لا تنظر أوربا إلى تلك الجهات وتقيم عليها الحجر (الكورنتينات) ،
بل تغض عنها النظر، ولكنها في مقابل ذلك تشدد على من يأتي الحجاز أو رجع
منه، كأنما هو ميكروب مجتمع، سواء كانت الصحة هناك معتلة أو في أحسن حال،
حتى صار مفهوم لفظ الحج ملازمًا لمفهوم الحجر الصحي والتطهير! إذ لا انفكاك
عنه ولا سلامة منه، مهما كانت صحة الحجاج جيدة.
سبحان الله! لماذا كل هذه العناية، ومزيد الرعاية من أساطين التمدن
الرحماء؟ كلنا نعرف ونعتقد أنها أحقاد وسخائم صليبية، قلبت أسماؤها تغريرًا
للبسطاء، وسترًا عن أعين العمش، وما كفاهم هذا، حتى اجتمعوا فكادوا
للإسلام وأهله، وخصوا سفر الحج بقانون مخصوص! أترى الحامل على ذلك
كثرة المحبة والشفقة على الحجاج واختصاصهم بمزيد العطف؟ هكذا قال أولئك
الساسة وادعوا:
والدعاوي ما لم تقيموا عليها ... بينات أبناؤها أدعياء
لو كان ما يقولونه مما يمكن أن يكون صدقًا، لما خص أولئك الحجاج وحدهم
بهذه النعمة، وحرم منها جميع المسافرين في أقطار الأرض كلها، أترى ساسة
أوربا؛ هان عليهم جميع الناس وأشفقوا على الحجاج فقط؟ زه زه! ! إننا نسألهم
لماذا يكون الإنسان حرًّا في سفره إلى الأقطار الأربعة، بل وإلى القطب الجنوبى أو
الشمالى ومجاهل أفريقية وغيرها بلا شرط ولا قيد، حتى إذا ما قيل: إنه يريد
الحج قيد بالسلاسل والأغلال، وسيق إلى المحاجر، واحتاج إلى اجتياز عقبات
وتحمل صعوبات، أترى ذلك رحمةً وعدلاً ? بخ بخ! ! لو كان الحامل لهم على
عملهم هذا هو الرحمة؛ لكان المجلوبون كالأغنام من الهند وجاوة للعمل في أفريقية
وأستراليا في أعماق الأرض أحق برحمتهم من الحجاج؛ لأنهم أكثر وأسوأ حالا
منهم.
قالوا إن كثيرًا من الحجاج جهال مغفلون، فهم عرضة للضياع، وقد صدقوا،
وقالوا: إنهم لذلك خصوهم بقانون مفرد غريب رحمة بهم وقد كذبوا، ولو كان
الأمر كذلك لكان الأحق بهذه الرحمة فلاحي روسيا والحبشان، فلماذا لم يرحموهم
ويجربوا هذه القوانين النحسة فيهم؟ مع أنا نرى أوربا تسوق الجيوش وتجهز
الأساطيل، إذا أصاب النصارى من غيرهم أذى بحق أو أو بغير حق، ولا نراها
ترحم المسلمين، اللهم إلا في سفرهم إلى الحج، ولكن رحمة مقلوبة! فهل بلغ من
استخفاف أوربا أن ظنت أننا نصدقها في هذا؟ عجب عجب! !
هذه هولاندا تقتل أهل سمترا ظلمًا منذ أكثر من أربعين سنة، ولم ينبس أحد
من وزراء أوربا ببنت شفة! أتراهم لم يعلموا أنه لم يبق ملايين فيها إلا نحو
الربع، كلا إنه من المستحيل أن يعلم بذلك كل أهل الدنيا، ويجهله وزراء الدول
المتمدنة الرحيمة، بل الحقيقة أن أولئك المقتولين المضطهدين مسلمون، والقاتلين
الظالمين لهم نصارى.
قالوا: إن الحجاز محل الاستبداد والنهب والظلم، وقد علموا أن وجود ذلك
مسقط لوجوب الحج أو مانع من دخول الحجاز وقد صدقوا، ولكن ذلك كان في أيام
الطاغية راتب باشا، وقد طار الاستبداد معه، وقالوا: إنهم لذلك احتاطوا للمسافر
إليه , ولو رفعوا تلك الحواجز الآن ونسخوها، لقلنا: إنهم صدقوا، فكيف وقد
كذبوا أنفسهم بأنفسهم بثباتهم على العدوان، والتشديد مع سبق الإصرار على ذلك!
ولسان الحال أفصح من لسان المقال.
إنهم بما سنوه من القوانين وأوجبوه من الشروط، قد جعلوا الحجيج من
الأصناف المحتكرة؛ كالأفيون والخمر، فاختص بهم بعض الشركات القاسية
تسومهم الخسف وتنهب أموالهم، فلقد كانت أجرة الذهاب من سنغافورة مثلاً إلى
جدة، يتراوح بين 17 ريالاً إلى 20 ريالاً، وهو الآن 110 ريالات ذهابًا وإيابًا!
ولو لم يقيدوه بالشروط المخصوصة لم يزد على ما كان إن لم ينقص؛ لأن المراكب
التى تذهب من الصين إلى أوربا لا تعد كثرة، وسطوحها فارغة، وكذا كمراتها إن
لم تكن مراكب بريد، ولا يكلفها أخذ الحجيج شيئًا إلا ساعات قليلة، تنحرف بها
عن سبيلها حين إدخالهم جدة، فيكون جل ما تكسبه من الحجاج أو كله ربحًا , ولكن
كيف وأنى، وقد احتكروا بفضل رحمة الرحماء من صليبي أوربا، وصاروا من
حقوق بعض الناس، وبعض الشركات يورثونها من بعدهم! ! أفلا تكون هذه
نخاسة من مخترعات القرن العشرين؟ فهنيئًا مريئًا للأقوياء ما استحلوا من ظلم
الضعفاء، إذ لا راحم للمسلم الضعيف ولا معين.
أما المراكب التى اختصت بأخذ الحجاج من سنغافورة وجاوة، فلا كمرات
فيها، ولقد رأيت أمراء هذه البلاد وأبناءهم يركبون ظهور تلك المراكب الوسخة
بين الفحم والبهائم مضطرين، وقد اعتادوا صنوف النعم والرفاهة والنظافة،
فيمرضون ويسقمون وكثيرًا ما يهلكون، ويقاسون من العذاب والنكيل ما يرحمهم
عليه زبانية جهنم، ولا يرحمهم محبو الإنسانية من الأوربيين! وما هو ذنبهم؟
هو ذنب عظيم ألا إنه هو قصدهم الحج وذهابهم إلى الحجاز، وأوربا لا تحب ذلك،
فهي تعاقبهم وتحجزهم في تلك المراكب العفنة، ثم تسوقهم إلى المحاجر حيث
تعرى أبدانهم ويهانون، ويتلف من أموالهم ما أبقته أيدي السراق والأمطار والأنواء،
ولقد لقيت أحد كبراء هذه الجهات بعد خروجه من المحجر، فرأيته كأنما نشر بعد
ما قبر، ولو أراد أن يذهب بأحد مراكب البريد أو بمركب من غير مراكب الشركة
المحتكرة للحجيج، لأقامت الحكومة عليه وعلى الباخرة التي تقله الدعوى، وحكم
عليه وعليها بأشد أنواع العقوبات رحمة وشفقة! !
لو فرضنا أن الحكومات الأوربية تحب أن تخدم الحجيج، وأنها تعتقد أنهم
في منزلة القصار وعديمي الرشد، لعملت معهم ما تعمله، لو أرادت نقل قطيع من
البقر للذبح، فإنها تعلن ذلك الأمر والشروط المرغوبة، وتعطيه لمن يطلب أقل
أجرة عليه.
ولو فعلت هذا لما كانت تبلغ أجرة الحاج الواحد ذهابًا وإيابًا 40 ريالاً فيتوفر
لكل نفر من الحجاج من ركاب السطح 70 ريالاً، وهي شيء كبير بالنسبة لفقر
الأهالي؛ إذ الكثير منهم لا يقدر على توفير ذلك المبلغ في ثلاث سنين،
ولكنهم عندها أذل من البقر، ومعاملتها تفصح بهذا، وكان يجب عليها أن تحتم
على من منحتهم نقل الحجاج إرجاع أجرة العودة إلى ورثة من مات، ولكن الأمر
الآن بالعكس، فأنا أكتب هذه الأسطر، وأمامي أحد الأهالي وبيده 25 ورقة مات
أهلها، وقد دفع أجرة العودة إلى واحد منهم 55 ريالاً، ولكن الشركة (الكمبانية)
أبت أن تدفع له ذلك، واتفق مع أحد المنتسبين إليها أن يشتري منه تلك الأوراق
بعشرين ريالاً فقط ثم أبى، وقال: بعها لمن يريد العودة من جدة، ومعلوم أنها
هناك تباع بثمانية ريالات أو نحو ذلك، والحكومة تساعد الأوربي الظالم على
الأهالي المساكين، وذلك أيضًا رحمة وحنان! !
نعم.. إن طرحها أمر تسفير الحجيج في المزاد كما قلنا مناف لحرية التجارة
ولكن ذلك مع نفعه للمساكين أقل إثمًا من انتهاكها لحرية الأشخاص، يمنعهم من
السفر كما يشاؤون , فإذا جاز هذا، جاز ذاك بالأولى قطعًا، أما تقييدها حرية
الحجاج المساكين , وتركها لهم مربوطين بين يدي أولئك النخاسين الغلاظ الأكباد
فظلم، من أشنع وأبشع أنصاف الظلم فيما نعتقد.
ويجب أن يستثنى من يركب الكمرات من كل قيد، كما هو الحال بالهند
والصين، ومن العجب أن يكون ركاب الدرجة الأولى والثانية وخدامهم مستثنين من
الحجر الصحى والتطهير مطلقًا هنا وفي الهند والصين، ولا يستثنون إن سافروا
إلى الحجاز! فماذا يفعل التعصب الأعمى، قاتل الله الأغراض.
ومن الغريب أن مجلس (المبعوثان) المحترم، لم يَنْبَس أحد من أعضائه ببنت
شفة في هذا الصدد، وذلك إهمال أو جبن، ولا نقول لأجل أن يتحقق مسلمو
الشرق ما يقوله أعداء جمعية الاتحاد والترقي الموقرة من بغضها لكل ما يتعلق
بالدين؛ ليفصموا عرى اتحاد المسلمين من كل جهة، فإننا نتحقق كذب هذا القول
بالنسبة لعقلاء القوم وفضلائهم، وإذا كان فيهم زنادقة أو متفرنجة أو نصارى جهال
فإنني لا أبخل عليهم بنصيحة يتحققون صدقها: وهي أن منفعتهم كبيرة جدًّا في
تمسكهم بالاعتدال في كل حال، وفي اجتلاب محبة المسلمين كلهم، والسياسة
توجب عليهم الاجتهاد في ذلك، ولهم بفرنسا قدوة حيث طردت قسوس الجزويت
من بلادها وحمتهم في الشرق، فليتظاهروا بذلك لنفعه المقطوع به، ولا يكونوا
السبب في خسارة الدولة أهم قوة، يحسب لها عدوها ألف حساب وحساب؛ فلهذا
نستصرخ بأعضاء (المبعوثان) الكرام، وبأهل الجرائد وحملة الأقلام والعلماء
الأعلام؛ ليقيموا الحجة ولا يسكتوا عن المطالبة بالحق والإنصاف، فإن
أنصار الحق كثيرون في أوربا وغيرها، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سنغافورة
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... س. س. ي
__________(12/856)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشيعة وتعدد الزوجات
كتابي إلى مولاي الأستاذ الحكيم، بعد السلام عليه ورحمة الله وبركاته، كتاب
معجب بِمَا لَهُ من الأيادي البيضاء في إصلاح الأمة، ورفع (منار) الإسلام،
وإرشاد المسلمين إلى الطريق الأقوم والصراط السوي، بيد أني أعتقد أنه لابد
للجواد أن يكبو، وللصارم أن ينبو، فقد رأيت في الجزء الثامن من مناركم
(صفحة 591) ما يشعر بالنسبة إلى الشيعة ما هم منه براء، وما نسبة ذلك إليهم
إلا محض وهم وافتراء، وهي أنهم يجوزون الزواج الدائم بأكثر من أربع؛
لأنهم أوَّلوا الآية الكريمة بخلاف ظاهرها، وفهموا منها ما لم يفهمه سائر
المسلمين، بل ادعيتم إجماعهم على ذلك، مع أن إجماعهم على عدم حل التزوج
بأكثر من أربع كما ستعلم.
ولما قرأت ما كتبتموه عجبت أشد العجب؛ لعلمي بعدم صحة ما نسب لهم،
قلت: لعلي لم أطلع تمام الاطلاع على دخيلة الأمر، فعرضت ذلك على فريق
من علماء الشيعة، فاستنكروا ما عزي إليهم غاية الاستنكار، وعجبوا كيف يصدر
هذا الخطأ من فاضل نظير صاحب المنار، ثم استحضرت الكتب الفقهية التي
عليها اعتماد الطائفة الشيعية؛ لعلي أعثر لذلك على أثر، أو أقف له على خبر، فلم
أجد ضالتي المنشودة، بل وجدت خلافها، وها أنا أنقل لكم عباراتهم بالحرف
الواحد؛ لتعلموا صدق ما أقول، وتكونوا على بينة من الأمر، وتزيلوا هذا
الغشاء عن البصائر والأبصار.
قال في تذكرة الفقهاء لمؤلفها الحسن بن المطهر الحلي المعروف بالعلامة،
وهو من أعظم علماء الشيعة وأجلهم قدرًا، عاش في القرن السابع والثامن ما نصه:
(مسألة أجمع علماء الأمصار في جميع الأزمان والأقطار على أنه يجوز
للحر المسلم أن يتزوج بالعقد الدائم أربع حرائر، ولا يجوز له الزيادة عليهن؛ لما
روي عن غيلان بن مسلمة الثقفي أنه أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى
الله عليه وآله وسلم: (أمسك أربعًا وفارق سائرهن) . وأسلم نوفل بن معاوية فقال له
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أمسك أربعًا وفارق الأخرى) ، ورواية زرارة ابن
أعين ومحمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام قال: (لا يجمع ماءه في خمس) ،
وفي الحسن عن جميل بن دراج عن الصادق عليه السلام في رجل تزوج خمسًا في
عقد، قال يخلي سبيل أيهن شاء ويمسك الأربع، وحكي عن القاسم بن إبراهيم أنه
أجاز العقد على تسع، وإليه ذهبت القاسمية من الزيدية قال الشيخ رحمه الله: هذه
حكاية الفقهاء عنهم، ولم أجد أحدًا من الزيدية يعترف بذلك، بل أنكروها أصلاً
واستدلوا بقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3) والواو للجمع؛ ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات عن تسع،
والواو ليست للجمع بل للتخيير، كما في قوله تعالى: {أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ
وَرُبَاعَ} (فاطر: 1) ولم يرد به الجمع؛ إذ لو كان المراد الجمع لقال تسعة ولم
يكن للتطويل معنى، قال الشيخ رحمه الله: لو كان المراد الجمع لجاز الجمع بين
ثماني عشرة؛ لأن معنى قوله مثنى: اثنين اثنين، وكذلك قوله ثلاث معناه: ثلاثًا
ثلاثًا، وقوله رباع معناه: أربعًا أربعًا، كما في قوله: جاء الناس مثنى وموحدًا؛ أي:
اثنين اثنين وواحداً واحدًا، وهو باطل إجماعًا، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم
كان مخصوصًا بذلك فإنه جمع بين أربع عشرة امرأة، فثبت ما قلناه) اهـ.
وجاء في اللمعة الدمشقية لمؤلفها محمد بن مكي المعروف بالشهيد الأول،
وشارحها زين الدين المعروف بالشهيد الثاني، وهما من أعظم علماء الشيعة، عاش
الأول في القرن الثامن، والثاني في القرن الألف، ما نصه:
(السابعة لا يجوز لحر أن يجمع زيادة على أربع حرائر، أو حرتين وأمتين
أو ثلاث حرائر وأمة، بناء على جواز نكاح الأمة بالعقد بدون الشرطين، وإلا لم
يجز الزيادة على الواحدة لانتفاء العنت معها، وقد تقدم من المصنف اختيار المنع،
ويبعد فرض بقاء الحاجة إلى الزائد عن الواحدة، ولا فرق في الأمة بين المؤمنة
والمدبرة والمكاتبة بقسميها حيث لم تؤد شيئًا وأم الولد، ولا للعبد أن يجمع أكثر من
أربع إماء، أو حرتين، أو حرة وأمتين، ولا يباح له ثلاث إماء وحرة، والحكم
في الجميع إجماعي) اهـ.
وكلا الكتابين اللذين ننقل عنهما مطبوعان في طهران عاصمة بلاد فارس،
وقال في مجمع البيان وهو التفسير المعتمد عند الشيعة في معنى الآية {فَانكِحُوا مَا
طَابَ لَكُم} (النساء: 3) إلخ، وطريقه أن يذكر الآية أولاً ثم القراءة فالحجة
فالإعراب فالنزول فالمعنى، وهذا من جملة ما ذكره في معناها:
وقوله مثنى وثلاث ورباع معناها: اثنين اثنين، وثلاثًا ثلاثًا، وأربعًا أربعًا
فلا يقال: إن هذا يؤدي إلى جواز نكاح التسع، فإن اثنين وثلاثة وأربعة تسعة لما
ذكرناه، فإن من قال: دخل القوم البلد مثنى وثلاث ورباع، لا يقتضي اجتماع
الأعداد في الدخول؛ ولأن لهذا العدد لفظًا موضوعًا وهو تسع، فالعدول عنه إلى
مثنى وثلاث ورباع نوع من العي، جل كلامه عن ذلك وتقدس، وقال الصادق
عليه السلام: (لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من
الحرائر) اهـ.
ولو أردنا استقصاء كلام علماء الشيعة لضاق المقام وطال الكلام، وأظن فيما
أوردناه مقنعًا، ومنه تعلم أن إجماع الشيعة على عدم حل التزوج بأكثر من أربع في
العقد الدائم، وأزيدك على هذا أني رأيت في أثناء مراجعتي للكتب الفقهية، ما لم
أكن أعهده وهو استشكال لبعض علمائهم في الزيادة على أربع، حتى في المتعة مع
أن الأكثرين منهم ذهبوا إلى عدم الحد بها.
ومن المعلوم لدى الأستاذ أن العصر عصر دليل وبرهان، فلا يجمل بصاحب
مجلة معتبرة أن يورد أمرًا لم يسبره بمسبار التحقيق، ثم يعده من المسلمات
البديهيات، وعندي أن عدم التثبت في نقل الأخبار أوصل الأمة الإسلامية
إلى هذه الحالة، وجعل كل فرقة تسيء الظن بالأخرى، وكل هذا راجع على ما
أعتقد إلى عدم مراجعة كتب الفرقة المنسوب إليها تلك المقالة التى تتبرأ منها،
والاعتماد على كتب مناظريها، فإني رأيت كثيرًا ما ينسب علماء السنة إلى الشيعة
ما يتبرأون منه، وما لم يوجد في كتبهم المعتبرة، وكذلك يفعل علماء الشيعة، وخذ
لذلك مثالاً ما ينسبه أغلب المسلمين إلى الوهابية من المقالات الشنيعة، والاعتقادات
الفاسدة، ولو راجعنا كتبهم لألفيناهم يتبرأون منها، ولم تكن علاقتهم بها إلا كقول
الشاعر.
إنما أنت من سليمى كواو ... ألحقت في الهجاء ظلما بعمرو
ولا أظنكم اعتمدتم فيما كتبتم إلا على كتب أمثال ذلك (العالم الغيور) ، مع
أنكم لو أمعنتم النظر وأعملتم الفكر، لألفيتم أولئك يخبطون في بعض الأمور خبط
عشواء؛ لأنهم لا يعتمدون على المصادر الموثوقة، بل يتكلمون على السماع وهو
ما لا يجوز أن يتخذ حجة يتمسك بها، كما فعل ذاك العالم الغيور في رسالته التي
بعث بها إليكم عن أحوال العراق ونشرتموها في الجزء الأول من المجلد الحادي
عشر، وكل مطلع على أحوال العراق يقهقه ضاحكًا من عدم التثبت في أسانيدها،
والأغرب من ذلك تذييلكم لها، وقولكم: إن مجتهدي الشيعة يبيحون لأمراء العرب
التمتع بعدة نساء، مما يصادف هوى في فؤادهم، مع أن أولئك الأعراب يأنفون
أشد الأنفة من المتعة، ولا يفعلونها قطعيًّا، وهي مع حلها عند الشيعة لا ترى
عربيًا يفعلها، بل لا ترى عربية تقبل بها إلا في النادر، وربما كانت شائعة عند
الفرس لا غير، وهذا ما حمل بعض علماء الشيعة من العارفين بأحوال العراق على
الرد على ذلك العالم الغيور في مجلتنا (العرفان) ، ولما كنت أعلم منكم الإنصاف،
وأجلكم عن عدم التثبت ودعم ما تنقلونه بالدليل، مع أن مبدأكم المطالبة بالبرهان،
جئت بكتابي هذا كي تنشروه على صفحات مجلتكم الحرة؛ إحقاقًا للحق وإعلاء
لمنار الصدق، حتى إذا كان لكم دليل من كتب الشيعة على مدعاكم أتيتم به، وإني
على يقين بأنه لا يوجد بتاتًا، وبقي أمر آخر لابد من استطلاع طلائعه واستجلاء
حقيقته منكم، وهو قولكم لا يعتد بإجماع الشيعة؛ لأن المسلمين أجمعوا قبلهم،
فلعمري هذا من الغرابة بمكان؛ لأن الشيعة أقدم من بقية المذاهب المستحدثة في
الإسلام، كما يعلم ذلك كل من له مسكة من علم التاريخ، واطلاع على نشأة القوم،
وإني أنبهكم قبل ختام الكلام إلى أن كتب الشيعة أصبحت منتشرة ومطبوعًا أكثرها
في بلاد فارس والهند، والحصول عليها متيسر، فيمكنكم استجلاب شيء منها،
حتى إذا نقلتم شيئًا عنهم يكون على ثقة وتثبت والسلام.
... ... ... ... ... 30 رمضان سنة 1327
... ... ... ... ... منشئ العرفان
... ... ... ... أحمد عارف الزين
(المنار)
أُرْسِلَتْ إليَّ هذه الرسالة وأنا في سياحتي بالآستانة فأنا أعلق عليها بالإيجاز
وأنا جالس في أحد المطاعم بعد الغداء، وأبدأ كلامي بالبراءة من التعصب للمذاهب،
ثم أقول:
أشكر للكاتب بيانه وأعده له يدًا يمنها على المنار؛ إذ لا نحب أن ينشر فيه
شيء من الخطأ، ولا يعقب ببيان الصواب، ولكني أنكر عليه ما ذكره من الكلمات
الجارحة التي اعتادها الذين ينكر بعضهم على بعض انتصارًا لمذهب على مذهب،
والتشيع لقوم وإهانة آخرين، كقوله: (محض وهم وافتراء) فإن الافتراء تعمد
الكذب، ويبعد جدًّا أن يكون الذين عزوا هذا القول إلى الشيعة قد تعمدوا الكذب في
نسبته إليهم، بل لا يعقل أن يقع هذا من عاقل؛ إذ لا فائدة فيه ولا هو من المسائل
التى يرجح بها مذهب على مذهب، والخطأ في فهم آيات القرآن جائز على كل أحد،
وقد وقع من بعض الصحابة وهم أهل اللسان وشهداء البيان، وممن دونهم من
أئمة الفقه وعلماء المذاهب المنسوبون إلى السنة، كثيرًا ما يخطئ بعضهم مذهب
بعض، فنقلهم مثل ذلك القول عن الشيعة لا وجه لأن يكون من الافتراء عليهم أو
انتقاصهم لأنهم شيعة، بل لابد أن يكون له أصل، وإن لم يكن هو المعتمد في
مذهب الإمامية أو الزيدية، ونسبة الأقوال الشاذة في المذهب إلى أهل المذهب
معهود، وغاية ما يقال فيه: إن نقل المخالف لا يعتد به.
وأنت تقول: إن القاسم بن إبراهيم أجاز العقد على تسع، وإليه ذهبت القاسمية
من الزيدية, وهم من الشيعة في عرف أهل السنة. ولا يبعد أن يكون أولئك الناقلون
عن الشيعة ما ذكر قد سمعوا منهم أو قرءوا عنهم قولاً آخر من الأقوال الشاذة،
فظنوا أنه هو المعتمد في المذهب، ويكفي في بيان مثل هذا الخطأ أن يقال: إن
ما نقل عن الشيعة في مسألة كذا غير صحيح أو غير معتمد عندهم، والمعتمد هو
كذا ولا حاجة إلى مثل هذا التطويل والتهويل والتذكير بالإنصاف والدليل.
وأما القول بأنه لا يعتد بخلاف الشيعة في مسألة كذا؛ لأن المسلمين أجمعوا
قبل ذلك عليها، فلا ينقض بدعوى أن مذهب الشيعة أقدم من بقية المذاهب؛ لأن
المراد بإجماع المسلمين قبلهم هو إجماع الصحابة لا إجماع أهل المذاهب المستحدثة
أو القديمة، وجميع المذاهب حادثة في الإسلام، وقد كان الإسلام على أفضل ما
كان عليه في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعصر الصحابة والتابعين،
ولم يكن فيه مذاهب، ثم حدثت المذاهب ففرقت كلمة المسلمين، وما زادت الإسلام
إلا ضعفًا ووهنًا، ولا نبحث في قدم بعضها على بعض إلا من باب التاريخ؛ إذ لا
علاقة لذلك بالحق والباطل والخطأ والصواب، فكون مذهب المعتزلة سابقًا لمذهب
الأشعرية، لا يقتضي كونه أصح منه، وكون مذهب الجهمية متأخرًا عن مذهب
الخوارج لا يستلزم أن يكون أقرب إلى الصواب منه. ونحن نعترف بأن ذكرنا
للمذاهب أحيانًا في تفسير القرآن مخالف لمشربنا، وهو إنما يقع منا سهوًا؛ فالقرآن
فوق المذاهب كلها، ونحن لا نلتزم في تفسيره مذهبًا من المذاهب؛ لأن هذا من
تفسيره بالرأي والهوى وهو منهي عنه.
وأما ما نشرناه لذلك العالم السائح، فهو من باب النقل والناقل عدل ثقة لا شك
عندنا في عدالته، وقد يخطئ ويصدق بعض الروايات الباطلة، فينقلها بحسن
النية، ولو جاءنا رد عليه لنشرناه؛ إذ لا حَظَّ لنا غير اتباع الحق والسلام.
__________(12/862)
الكاتب: أحمد أفندي الألفي
__________
الصديق وميراث النبي صلى الله عليه وسلم [*]
سيدى الدكتور مرجليوث:
إليك ما وعدتك في جواب عن تذكرتك من الملاحظة على بعض ما جاء في
انتقادك لكتاب بلاغات النساء الذي شرحته وطبعته.
(1) جاء في انتقادك أن الكتاب لم يذكره ياقوت في مؤلفات ابن أبي طاهر
وأنه قد يكون هو كتاب المستظرفات.
وأفيدك: أنَّ بلاغات النساء هو الجزء الحادي عشر من كتاب المنظوم
والمنثور لابن أبي طاهر، أسماه باسم خاص به هو اسم بلاغات النساء.. إلخ،
وقد اخترت نشره بهذا الاسم؛ لأنه خير عنوان لمشتملاته، وأدعى لإلفات النظر
إليه، فإن غرضي من نشره هو مساعدة الحركة العاملة عندنا لترقية المرأة، وترى
عقب المقدمة التي وضعناها للكتاب إشارة إلى ذلك فلتراجع هذا، وإن كتاب
المنظوم والمنثور ذكره ياقوت في مؤلفات ابن أبي طاهر (راجع معجم الأدباء) .
(2) ثم جاء في الانتقاد: أنَّ إخراج أبي بكر لفاطمة من ميراث أبيها، كان
يقينا بتحريض عائشة التى لم تسامح عليًّا قط؛ فيما كان له من اليد في
حديث الإفك! !
أقول: إن أنباء الحوادث لا تثبت إلا من طريق النقل، وهذه كتب التاريخ
كلها خلو من ذكر ما حسبته يقينًا، ولم يشر إليه في واحد منها لا تصريحًا ولا
تلميماً، فتفردك بقول في حادثة مضى عليه 13 قرنًا موضع نظر!
إن الفكر لا يلجأ إلى الاستنتاج العقلي لمعرفة السبب في حادثة تاريخية، إلا
إذا خلت روايتها من ذكره على وجه صريح معقول، وليس ذلك في حادثتنا فإن أبا
بكر لم يخرج فاطمة من الميراث إلا أخذًا بقول أبيها صاحب الشريعة الإسلامية:
(لا نورث ما تركناه فهو صدقة) وقد اقتنعت فاطمة وَآلُهَا وأشراف الأمة حينئذ
بصحة هذا القول، وأقروا العمل به وقبلوه.
إن مثلك لا يند عنه معرفة قوة سلطة الدين على منتحلين في إِبَّان نشأته، كما
كان ذلك في عهد تلك الحادثة حينئذ، والعرب على فطرتهم البدوية وسذاجتهم
الطبيعية، فلا يمكن أن يلتئم مع ذلك أن يجنح أبو بكر إلى هضم إنسان حقه
بتحريض محرض، وأنْ يقره على ذلك الباطل أعيان الأمة، وأن يخفي كل ذلك
على رواة التاريخ فيغفلوه.
إن العيان يكذب أنَّ الموجدة الشخصية تكون سببًا في أن يمنع الإنسان غيره
من حقه، فإن كثيرًا من المتعاملين، يجني بعضهم على بعض، ومع ذلك فقل أن
يكون ذلك سببًا للجسارة على أن يهضم إنسان حق آخر خصوصًا، إذا كان صريحًا
كما في مسألة الميراث في تلك الظروف.
إن عليًّا لم تكن له يد في حديث الإفك، وإنما صدر عنه رأي في تخفيف وقعه
على محمد، وإليك ما نسبته عائشة نفسها إلى علي في هذا الشأن، وقد نقلته عن
كتاب البخاري أصح كتب الرواة الإسلاميين بالإجماع، قالت:
(ثم أصبحت فدعا رسول الله علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد
يستشيرهما في فراقي؛ فأما علي فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء
سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، فدعاها رسول الله فقال لها: يا بريرة، هل
رأيت فيها شيئًا يريبك؟ فقالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، ما رأيت منها أمرًا
أغمصه عليها قط
وقد طُوي حديث الإفك بأسبابه ونتائجه؛ لما تحققت براءة عائشة حتى إن أبا
بكر أعاد صدقته على مسطح أحد القائلين فيه، وكان قطعها عنه أثناءه.
إن عائشة لم يكن لها في حياة أبي بكر وعمر إلى أواخر زمن عثمان دخل في
شئون الأمة العامة، وبعيد أن يحصل منها تحريض في مسألة الميراث يخفى خبره
على رواة الأخبار، حتى لا يذكره منهم ذاكر؛ ويجوز باطله على أعيان الأمة في
ذلك الحين، لا يجهر بالحق منهم جاهر.
إن الميراث لم يكن راجعًا إلى علي، حتى تندفع عائشة بدافع موجدتها منه،
فتحرض أباها عليه فيه، بل الميراث ميراث فاطمة والعباس عم النبي وأزواج
الرسول ومنهن عائشة.
جاء في تاريخ الطبري رواية عن عائشة نفسها:
أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يطلبان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر:
أما إني سمعت رسول الله يقول: لا نورث ما تركناه فهو صدقة، إنما يأكل آل
محمد من هذا المال، وإني والله لا أدع أمرًا رأيت رسول الله يصنعه إلا صنعته.
لو لم تقتنع فاطمة والعباس بحجة أبي بكر، أو لو أحسا بأن الدافع إليه حقد
يضم جوانحه عليه، لأبت لهما أنفتهما العربية وهما هما صفوة بني هاشم،
وعزتهما الإسلامية وهما هما آل الرسول وبجانبهما علي وشيعته؛ أن يستخذيا
للباطل، ولأثارا على أبي بكر غارة شعواء لا قبل له بها.
قد كان علي ينفس على أبي بكر منصب الخلافة، ولكن منعه دينه أن
يتعرض لخليفة سلك مسلك الحق، ولو وجد علي في عمل أبي بكر منفذًا يدخل
عليه منه لما ونى، وقد أراده أبو سفيان رأس بني أمية (راجع الطبري) على
مناوأة أبي بكر، فاستعصم علي لعدم المسوغ، وأي مسوغ كان أدعى من أن يجبر
أبو بكر على منع فاطمة بنت رسول الله والعباس عم رسول الله ميراثهما بتحريض
عائشة؟
إن أبا بكر في حسن سياسته وقوة إيمانه أجل قدرًا، وأرجح رأيًا، من أن
يندفع بالباطل لمنع آل الرسول حقهم الصريح، وسيرته تترفع بقارئها عن أن يظن
به ذلك؛ خصوصًا أن أبا بكر لما ولي الخلافة تخلف عن بيعته من تخلف، وارتد
عن الإسلام من ارتد، فكان إزاء نارين فارتأى بحكمته مداراة المتخلفين، حتى
سكتوا عنه وراجعوه، وعزم بحزمه حرب المرتدين حتى انصاعوا إليه، فكيف مع
هذه الظروف يجسر على منع رؤوس بني هاشم وآل الرسول حقهم بالباطل؟ وبعيد
جدًّا أن يغلبوا على حقهم الصريح بغالب الباطل والغرض، مع قدرتهم على
المقاومة لو أرادوا، وبعيد جدًّا أنْ يقر العرب أجمع أبا بكر على باطل ارتكبه بدافع
التحريض، وهم الذين أنكروا على عثمان توليته بعض مناصب الدولة لأحداث
قومه حتى قتلوه.
لو أن حادثة الميراث غير معلومة السبب، وكان لابد من تلمس العلة فيها،
لكان خير رأي يتفق مع طبيعة ذلك العصر وظروف هؤلاء الناس ? أن يقال: إن
أبا بكر أراد بتقرير أن النبي لا يورث؛ توهين اعتماد علي في أحقيته بالخلافة
على قرابته من النبى؛ لأنه إذا كان النبي لا ترثه قرابته في عقار وهو ملك
خصوصي، فبالحري، أو بالأولى أن لا تتخذ قرابته وصلة للأحقية في أمر
عمومي.
(3) أما إسناد خطبة فاطمة فإن ملاحظتك عليه صحيحة، والصواب أن
زيدًا الذى سأله ابن أبي طاهر ليس هو زيد بن علي المتوفى سنة 122، بل هو
زيد حفيده كان معاصرًا لابن أبي طاهر المتوفى سنة (280) . وقد روى ابن أبي
طاهر عنه غير هذه الخطبة كما ورد في صفحة 162 من الكتاب ذاته؛ إذ قال:
حدثني زيد بن علي بن حسين بن زيد العلوي , فزيد العلوي هذا هو المتوفى سنة
122، وهو من أجداد زيد المعاصر لابن أبي طاهر.
وعليه فيكون قد سقط من إسناد خطبة فاطمة ثلاثة رجال خطأ من الناسخ
للنسخة الخطية التى طبعت عنها هذا الكتاب.
هذه ملاحظاتي أقدمها مع الثناء الجميل لك، وإعجابي الزائد بفضلك، وأود
أن تنشرها في المجلة التى نشرت فيها تقريظ الكتاب، حتى يطلع عليها قارئو
التقريظ، فلا يفوتهم ما جاء فيها من التصحيحات والملاحظات، أرجو أن ترسل
لي نسخة من العدد الذى تنشر فيه، وعلى كل حال أحب أن تتفضل بإفادتي عن
رأيك فيها، فإن الحقيقة بنت البحث، وهى ضالتنا المنشودة جميعًا.
__________
(*) كتاب لأحمد أفندي الألفي بعث به إلى الدكتور مرجليوث المدرس بجامعة أكسفورد؛ ردًّا على ما تعرض له بتقريظه كتاب بلاغات النساء من اتهام الصديق - رضي الله عنه - بحرمان فاطمة عليها السلام من ميراث أبيها صلى الله عليه وسلم؛ إجابة لتحريض عائشة رضي الله عنها، وقد بعث به لننشره بمناسبة ما أثبتناه في التفسير من الإفاضة في الموضوع، راجع (ص727- 734) من هذا المجلد.(12/868)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حركة الإصلاح في جاوة
سيدي الإمام، الداعي إلى سبيل السلام، بعد التحية والسلام: قد وصلنا
العدد التاسع من المنار المنير، وكله فوائد تهش لها أفئدة المؤمنين ? وحجة قاطعة
لألسنة الجامدين، وقد انتعش بها قوم أحبوا الهدى، وغص بها آخرون أخلدوا إلى
زينة الحياة الدنيا، ولقد أحسنتم كل الإحسان فيما انتقدتم به رسالتي الفاضل السيد
عثمان، ونحن نوافقكم عليه حرفيًّا، وإنه لكما ذكرتم حري بأن تحسنوا به الظن؛
لأنه قد بلغ من الكبر عتيًّا، وله خدم مشهورة ومآثر حسنة، وإن كانت له هفوات
معدودة.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعد معائبه
وإنني أكاد أجزم أنه سيرجع إلى الصواب، ويضيف بذلك لنفسه منقبة - إن
شاء الله - إن لم يكن أدركه الخرف؛ لأنه في العقد التاسع من العمر، نسأل الله أن
يوفقنا وإياه وإياكم لرضاه، آمين.
وكيف لا أرجو له الرجوع إلى هدي الكتاب، ونبذ تقديم آراء الرجال عليه،
وجده الأدنى السيد عقيل بن عمر كان من المجتهدين الذين لا يحتقبون الناس دينهم،
فلقد عطل ابن سعود دروس المقلدين من الحرم الشريف لما استولى على مكة
المكرمة، ولكنه لم يتعرض لحلقة السيد عقيل المذكور، بل كان علماء نجد
يجتمعون فيها، كما أنه منع جميع المفتين بمكة عن الإفتاء، ولكنه لم يمنع السيد
عقيل؛ لأنه كان يفتي بما يظهر له من محكم الكتاب وصحيح السنة.
وها هي فتاوى السيد عقيل وكتبه موجودة، وهو شيخ مشايخ العلويين في
علوم الشريعة والطريقة، وطريقتهم الأخذ بالكتاب والسنة، ومن أحق الناس
بسلوك طريق السيد عقيل حفيده السيد عثمان بن عبد الله بن عقيل.
ولقد ظهرت بشائر نفع دعوة المنار ودعائه، ومن يدعو إلى ما يدعو إليه بهذه
الجهات، فصار الناس يتأففون من حالتهم الحاضرة، ويثنون مما أصابهم من الجهل،
وابتدؤوا في تأليف جمعيات، وجمع نقود لفتح مدارس إسلامية تعلم النابتة اللغة
العربية والعلوم الدينية وطرفًا مما ينفعهم في أمورهم الدنيوية، وبالفعل قد فتحت
مدرسة في بتاوي، وأخرى في فاليمباغ وثالثة في سورابايا، ورابعة في قرسي
أستاذها الشاب الغيور الفاضل السيد محمد بن هاشم بن طاهر سبط الفاضل السيد
عثمان، وقد جعلوا لتلك المدارس نظامًا وترتيبًا نؤمل مع الزمن أن يكون مرقاة إلى
بلوغ الكمال، وقد امتحن منذ شهرين تلاميذ مدرسة قرسي للسنة الأولى، فنجحوا
نجاحًا يكاد يعد من المعجزات بفضل اجتهاد وذكاء أستاذها وجميل صبره، فلا أعد
مبالغًا إن قلت: إنها أفضل مدرسة في هذه الجهات، وإن ستين في المائة من
تلاميذها أعلم من آبائهم ولمَّا يمض عليهم بها 18 شهرًا، وإن الهمة مبذولة من
رجال النهضة في هذه البلدان في طلب مدرسين من الخارج؛ ليستفيدوا من تجاربهم
ومعرفتهم بالنظام والترتيب.
نعم.. قد صنف حضرة السيد عثمان رسالة سماها جمع النفائس، ونشرها
وصدر لكم منها مع هذا نسخة لا عذر لكم عن تصفحها، وهي أقل من 12 صفحة
وأراها (وربما أكون مخطئًا) ستعرقل هذه النهضة الشريفة، إن لم تقض عليها في
بعض البلدان؛ لما لصاحبها من الصيت والجاه، وإنني لا أشك في حسن نيته،
ولكني أقول: إنه أراد أن ينفع فضر، فعسى أن تلاحظوا ما كتبه، وتنشروا رأيكم
فيه؛ لتشدوا من همة الدعاة، وتكسروا شرة الجامدين، وتقووا هذه النهضة قبل أن
يجهز عليها أصحاب العمائم، وهي في سن الطفولية. أدامكم الله نفعًا للعباد،
وشجى في حلوق أهل الفساد.
آمين آمين لا أرضى بواحدة ... حتى أضيف إليها ألف آمينا
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... س. م. م
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بتاوي (جاوة)
(المنار)
نثني على القائمين بنشر التعليم أطيب الثناء، ونحثهم على المضي في عملهم
بدون مبالاة بأرباب النزعات والأهواء، وسنذكر رأينا في رسالة (جمع النفائس)
في الجزء الثاني عشر إن شاء الله تعالى.
__________(12/871)
الكاتب: محمد إنشاء الله
__________
مدافعة صاحب جريدة (وطن) عن نفسه
حضرة العلامة الحكيم السيد محمد رشيد رضا أدام الله فضلكم، ونفعنا بعلومكم
آمين.
أما بعد السلام والاحترام: أثني عليكم ثناء جميلاً؛ لحسن ظنكم بهذا العاجز
ومعاناة الرد على شبهاتي العديدة بالحسنى، ودفع التهم الموجهة إليّ من جرائد
الآستانة الآخذة بالظن والغير المبالية بالحقائق، وأشكر فضلكم.
إن أقوال جريدة (يني غزته) وغيرها في اتهامي بالطمع بإحراز المال
والجاه، وتوقع الإنعامات الحميدة؛ لا أجد حاجة لتفنيدها، وكل من يرجع إلى
وجدانه الصحيح يرى بطلانها عيانًا؛ لأن الدولة التي أجدها محتاجة لإعانة المسلمين،
وكنت أجتهد جهد طاقتي في جمع الإعانات المالية لهاحينًا بعد آخر، وآخذ من أهل
البر من المسلمين من بضعة أعشار القرش إلى القرش فصاعدًا وأحفظها عندي،
ومتى اجتمع مبلغ من المال أرسله إلى الآستانة، لا يعقل إنسان أني كنت أؤمل من
مثل تلك الدولة منفعة مالية؛ لأن ذلك الأمل يجب أن يكون من الغني لا من المعوز!
وعدا ذلك فإني لو كنت أنوي الفوز بالوسامات والأنماط من الدولة العلية، وكاتبت
بهذا الأمر رجال المابين، لما كنت أجد جسارة في ذم القابضين على زمام الاقتدار
فيه ورجاله المشهورين مثل عزت أفندي العابد وغيرهم، ومدح الحكومة
الدستورية في تأليفي (تاريخ السكة الحجازية) ?
والحاصل أني لم أكتب قط إلى المابين كتابًا، أنَّى لمثلي أن يكاتبه ويجد منه
أذنًا صاغية، ويتشرف بالرد الجميل منه. اللهم إني كتبت مرة إلى سعادة السيد
مصطفى ذهني باشا ناظر النافعة الأسبق؛ لكونه مشرفًا على إدارة السكة الشريفة
حوالي موعد الاحتفال بافتتاح السكة الكريمة إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم؛
بأسماء بضعة من أكابر الملة الإسلامية وأصحاب الجرائد؛ لدعوتهم إلى حضور
الاحتفال رسميًّا ودعوة رجل أو رجلين من صحافيِّي الإنكليز أيضًا لذلك الغرض،
ولا أذكر الآن؛ هل كان اسمي أيضًا في تلك القائمة أم لا؟ وكان ذلك الكتاب
كمشورة نافعة لجمع الإعانات للسكة الحجازية من مسلمي الهند وغيرها من الأقطار
الإسلامية؛ لأن الكبراء والصحافيين الذين يدعون إلى الاحتفال ويشتركون فيه، لا
شك في أنهم يصيرون بعد العودة من الاحتفال ساعين في بني قومهم بترغيبهم
وحثهم على إعانة ذلك المشروع الإسلامي العظيم، وتستفيد الدولة بحصول حبهم
الخالص أيضًا، ولا أظن أنكم ترون في مشورتي هذه غير الإخلاص والحب
الصادق لدولة إسلامية عظيمة، وكثيرًا ما كنت أقترح على سعادة الباشا الممدوح ما
أراه مفيدًا من أسباب توفير الإعانة والإصلاحات الضرورية لهذه السكة المباركة.
وأما أمر الوسام والنيشانات، فأكرر قولي في ذلك الباب كما قلت لكم قبلاً
بأني لم أؤمل قط حصولها، بل لما أرسل إليّ سعادة مصطفى ذهني باشا النيشان
العثماني من الطبقة الرابعة، كتبت إلى سعادته (لو كنتم أخذتم رأيي في ذلك الباب
قبل إرسال النيشان، فلم أكن أقبله. وأما الآن وقد أرسلتموه إلي فأرى رده من سوء
الأدب) .
وأرجو من كرمكم نشر كتابي هذا في (المنار) الأغر وإلفات رصيفاتنا الجرائد
التركية وبالأخص جريدة (يني غزته) إلى نشر كتابي الذي وجد في المابين،
والذي بنت هذه الجريدة قولها عليه بنصه مع الترجمة باللغة التركية؛ لينصف العالم
هل أنها صادقة أم لا، وإلا فالواجب الصحافي والإسلامي يحتم عليها نفي قولها
الغير الصادق باتهامي بما لست فاعله أبدًا.
والرجاء من غيرتهن الإسلامية قبول دعوتي هذه؛ ليثبتن طهارة ذمتهن
بتبرئة البريء من التهم الباطلة الموجهة إليه، وإلا فلا أكون مخطئًا في ظني
بحزب تركيا الفتاة أنه بعيد عن الإنصاف والحق كل البعد؛ ولذلك أرسل نسخة من
كتابي هذا إلى رصيفي المؤيد أيضًا أرجو منها نشره.
هذا، واقبلوا فائق احتراماتي أفندم، ودمتم سالمين
... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه المخلص
... ... ... ... ... ... ... محمد إنشاء الله
... ... ... ... ... ... ... صاحب جريدة (وطن) الهندية
... ... ... ... ... ... ... لاهور - بنجاب (الهند)
__________(12/873)
الكاتب: حسين وصفي رضا
__________
الأخبار والآراء
(افتتاح مجلس المبعوثان)
كان يوم غرة ذي القعدة الحرام يومًا مشهودًا في الآستانة العَلِيّة، تطالت إليه
أعناق العثمانيين، وحدَّجت أبصار الشاهدين منهم له والغائبين؛ إذ هو يوم من
أيامهم المشهودة، وعيد من أعيادهم المعدودة، ألا وهو افتتاح مجلس الأمة الذي
استردت به الأمة حياتها، وحفظت كيانها، وأصبح أمرها بيدها.
ولئن كان يوم إعلان الدستور هو العيد العام لجميع العثمانيين، والحد الفارق
بين عصر ترقب العدل وزمن سلطة الجائرين؛ فجدير بهذا اليوم أن يكون عيدًا
مثله عظيمًا؛ إذ به تتحقق مباشرة الأمة للقبض على أزمة الحكم عملاً، وذلك بسن
القوانين العادلة، والتصديق على إنفاذ المشروعات النافعة.
لقد كان هَمُّ (المبعوثان) في العام الماضي محصورًا في تقرير طرق
المحافظة على الدستور، والسعي في حمل الحكومة على التنازل عن واسع سلطتها؛
لتكون في يد المجلس، وبَيْنَا هُمْ يكافحون ويناضلون، ويتحاجون ويتحاورون، إذ
نجمت تلك الفتنة الهائلة، والبلية النازلة، التى كادت تلتهب جذاها في جميع
أنحاء السلطنة، فانقضت على الدستور بغية زعزعة أركانه، ونقض بنيانه،
وصدت المجلس عن عمله، وحالت دون تحقيق أمله، وكان من فضل الجيش وقائده
العظيم محمود شوكت باشا اجتثاث تلك الفتنة من أصولها، والقضاء على السلطة
الجائرة، فكانت بحمد الله صفقتنا رابحة، وصفقة ربها عبد الحميد خاسرة.
انقضى ذلك العام بخيره وشره، وقطعت قبل مغيب شمسه ألسنة الفتنة،
وأخمدت نار المحنة، وقد هل هلال هذا الشهر، وهو أول العام الثاني للمجلس؛
ونوابنا الكرام جالسون على مقاعدهم، مترقبون لطلعة سلطانهم وخليفتهم ليفتتح
مجلسهم، ثم ينصرفون بعد ذلك إلى ما تمحضوا له.
هذا: ولم تكد تبتسم شمس نهار افتتاح المجلس، إلا وقد برزت العاصمة في
لبوس من الزينة يروق الأبصار ويسر البصائر، وما كان خفقان الأعلام على الدور
والقصور والحوانيت والفنادق، إلا دون خفقان القلوب واهتزازات النفوس!
ثم أقبل الخليفة بموكبه الجليل، والنهار في مستوى شبابه يحيط به أمراء
الأسرة المالكة كالنجوم حول القمر، ولما بلغ القصر بصر بوزراء الدولة وقوادها
واقفين أمام باب القصر؛ لاستقباله إجلالاً وتعظيمًا.
بعد أن جلس الخليفة على كرسي السلطنة وأخذ كل واحد مكانه؛ وكان
المجلس حفيلاً بالوزراء والقواد والسفراء وحملة الأقلام، ناول مولانا السلطان
خطابه للصدر الأعظم وأمره بقراءته فتلاه بصوت جهوري دوى له المجلس، حتى
وعاه كل سامع عارف بالتركية، وإنه لخطاب حكيم، إني أنشره على القراء
مترجمًا ترجمة صحيحة، وهاؤم الترجمة:
* * *
(خطاب السلطان)
أيها الأعيان و (المبعوثان) المحترمون
أحمد الله جل جلاله الذي جعل جلوسي على أريكة السلطنة العثمانية في دور
الدستور السعيد، ووفقني في السنة الأولى منه أن أحضر افتتاح الاجتماع الثاني
للمجلس العمومي، وأهنئ أعضاءه جميعًا بقدومهم المأنوس.
إن الشرع الشريف يأمر بالحكومة المقيدة الشورية عقلاً ونقلاً، ويعدها لنا
كطريق نجاة وسلامة، فإذا داومنا مسيرنا في هذه السبيل، وصلنا إلى الاتحاد
والقوة اللازمين لحياتنا الاجتماعية والسياسية.
إن من أكبر أمانيَّ المحافظة على الدستور، وتأييد مبادئه، وتطبيق قواعده،
وسأشتغل بمنتهى مقدرتي مع رعيتي مستعينًا بمعونة الله، وروحانية النبي صلى
الله عليه وسلم؛ لتحقيق هذه الأماني الشريفة والوصول إلى هذه الغاية المجيدة.
إن امتناني كان عظيمًا جدًّا عندما رأيت الإخاء عامًّا شاملاً بين عموم أبناء
الوطن أثناء سياحتي في بورصه وأزميدو، كنت سعيدًا جدًّا باقترابي من أفراد
الأمة الصادقة.
إن الخدمة العسكرية التي تشمل اليوم جميع رعايانا بلا استثناء هي من نتائج
ما يأمر به القانون الأساسي؛ الذي يضمن لهم المساواة بالحقوق والواجبات، وإنني
أعد وضع هذه الخدمة العامة المعلية لقوة الدولة وعظمتها موضع التنفيذ، من أهم
الحوادث التى سينقلها تاريخ نهضتنا الوطنية؛ لأن من طبائع هذه الخدمة في
الجيش تحكيم عرى التآخي الصحيح بين أبناء هذا الوطن.
إن الرقي والانتظام اللذين أظهرهما أفراد جيوشنا أثناء المناورات البرية
والبحرية التى جرت لأول مرة في هذا العام، يحملان على أن نقدرهم حق قدرهم،
وأن نصرف مساعينا لإيصال هذه القوى إلى درجة الكمال؛ إذ عليها يتوقف الذب
عن حوزة الوطن والمحافظة التامة على السلم العام.
إن أحوالنا الداخلية - ولله الحمد - لا توجب القلق، وإن الحوادث التي وقعت
في قضاء الزيدية التابع لمتصرفية الحديدة، وفي متصرفية عسير من ولاية اليمن،
وفي قضائي بارزان ولوما من ولايتي الموصل وقوصوه، أخذت تزول بالتدابير
الرشيدة التى اتخذتها الحكومة المنفذة، حتى إن القبائل الثائرة جنحت للطاعة
والسكون، والآمال معقودة على أنها لا تتكرر فيما بعد ولا سيما متى تعممت
المعارف، وفهمت الأهالي عامة القواعد الدستورية، فيجب علينا في الوقت نفسه
أن نعمل باهتمام وسرعة في سبل إنهاض المعارف، وترقية الأحوال الزراعية
والصناعية والتجارية في ممالكنا الواسعة، وكل عمل من شأنه أن يعود على العموم
بالراحة والرفاه، وعلى البلاد بالثروة والعمران.
الأوان أكبر آمالي حصول التوازن المالي الذي هو أس أساس
الإصلاحات، وستقدم ميزانية سنة 1326 العمومية لمجلسكم، فعليكم أن تدققوا
فيها أصلاً وفرعًا وإذا كان واضعوها لم يتمكنوا من الوصول بها إلى هذا التوازن
المنشود بالرغم عما أنفقوه من الحكمة، والاقتصاد في وضع النفقات المعقولة
اللازمة، فإنهم سيتوصلون بلا شك إلى سد عجز الميزانية العمومية المقبلة، متى
استوفيت الزيادة التي ستجبى من الرسوم الجمركية، ووضعت الاحتكارات المنوي
وضعها، وتحسنت طرق جباية الأموال الأميرية، وعندئذ تزداد الثقة المالية بنا،
وقد أثبتت أعمالنا المالية الأخيرة لنا ذلك.
لقد أقمتم الدستور باجتماعكم الأول على قواعد متينة لا تزعزع، وأيدتم
النظامات الكافلة للأمن والراحة في البلاد، وستنظرون في اجتماعكم الثاني لوائح
القوانين والنظامات التي وضعتها الحكومة المنفذة، مجددًا فيما يتعلق بحياة المملكة
الاجتماعية والاقتصادية، وتأييد النظام والراحة بقوة القانون، ومن هذه
المشروعات التي تستحق الذكر نظام التجارة البرية والبحرية، وحقوق الملكية،
ونظم قضاة المحاكم المتنقلين، وإدارة الولايات وقانون الجزاء.
إن علاقاتنا مع الدول كافة ودية محضة، وبما أننا نراها جميعها متحدة على
السعي في سبيل المحافظة على السلم العام، فلذلك ترى حكومتي من واجباتها أن
تكون عنصرًا شريفًا ساعيًا معها في سبيل تأييد السلم.
إنني مع بيان فائق امتناني من المساعي الوطنية التي صرفت من قبل
هيئتيكما في الاجتماع الأول، أعلن لكما افتتاح جلساتكما اعتبارًا من هذا اليوم،
باسطًا أكف الدعاء إليه تعالى أن يوفقكما ويسهل أعمالكما إلى ما فيه خير الدولة
والأمة، إنه سميع مجيب) اهـ.
بعد أن أتم الصدر الأعظم قراءة الخطاب السلطاني، هتف الحاضرون
للسلطان، وصافحه السفراء، ثم غادر قصر النواب والقلوب هاوية إلى طلعته
الغراء، والأبصار شاخصة إلى موكبه ذي الجلال والرواء، والألسنة منطلقة
بالهتاف له والدعاء، أدامه الله رافلاً في مطارف الصحة والهناء.
وبعد فإن أعمال (المبعوثان) في هذا العام ستتناول شؤونًا جمة، تتوقف
على إنفاذها على وجهها حياة الأمة وعزة السلطنة، وهي النظر في القوانين
المسنونة والنظامات الموضوعة؛ لتأييد الحق وشمول الأمن والعدل، ومن أعظم تلك
الشؤون وآكدها؛ مشروع تعميم العلوم والمعارف بين طبقات الشعب، ومشروع
التجارة وإنشاء نظارة خاصة لها، والنظر في توسيع سلطة الولايات، وتهذيب
قانون الجزاء (الجنايات) ، وغير ذلك من الأعمال التى تجعل أعمال المجلس
في هذا العام إيجابية، وقد كانت في العام المنصرم سلبية.
ولنا الرجاء بأن يقوم أعضاء المجلس بما انتدبوا له خير قيام، ولا سيما بعد
أن تمرنوا على نسق السير في المجلس، وسمعوا كثيرًا من الصيحات والانتقادات
بحق وبغير حق، والله المستعان.
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين وصفي رضا
***
(خطاب رئيس المبعوثان)
خطب أحمد رضا بك رئيس (المبعوثان) إخوانه الأعضاء بعد انتخابه
رئيسًا خطبة حفيلة، نورد منها هذه الكلمات الحكيمة:
إن أول واجب على النائب الشريف النفس بعد اجتماعنا تحت سقف قصر ذي
شهرة بالتاريخ؛ هو شكر جلالة مولانا السلطان الذي تفضل علينا بهذا القصر،
ولي الأمل أنكم تنيبونني عنكم في القيام بتأدية هذا الواجب، ولا شك بأنكم تشتغلون
بهدوء وسكون ونظام؛ لتخدموا الأمة الخدمة التي تنتظرها منكم، ولكنكم لا تبلغون
هذا القصد إلا إذا حاذرتم تجاوز حدود الاعتدال إلى التطرف.
والواجب أن تكون الشرائع والقوانين والمطالب مما تتطلبه حالة البلاد،
وينطبق على تقاليد الأمة وأخلاقها حتى يسهل تنفيذها. فقبل أن نصوغ القوانين،
يجب أن نعد معدات التنفيذ التي تعمم نفع تلك القوانين لكل عناصر الأمة على حد
المساواة.
ولابد للوزارة التي تتولى التنفيذ من المساعدة والعون داخلاً وخارجًا أكبر من
مساعدة مجلس النواب لها بالأماني والتمني. والعون الأول هو بلا جدال ما يكون
من ناحية العاطفة الدينية قبل كل شيء، ثم من آداب الأمة ودرجة تعلمها. والنجاح
والمدنية يشبهان مركبة تدفعها قوة ذكرى العهد الماضي، فإذا لم يكن وراء هذه
المركبة روح قوية تدفعها إلى الأمام، وقوات أدبية ومادية تؤيد الدافع. فإما أنها
تقف، وإما أنها تتقهقر.
وبما أن أعمال المجلس ومجهوداته لم تأت حتى الآن بالنتيجة التامة، فهم
يظنون أن هذا المجلس لا نفع له، وقد جسموا بعض الهفوات، ومن عادة الشعب
أن يعد الخير الذي لا يدركه أو الأعمال التي لا تعود عليه بالنفع المادي والأعمال
الحسنة بنفسها؛ إذا هى مست مرافق الأفراد من الشر.
وليس ذلك غريبًا في فهم الشعوب للأمور على هذا الوجه، فإن الإصلاحات
التي تقلب كيان الأمة إذا كانت فجائية، قد تعود غالبًا بالضرر على الأفراد،
فالناموس الطبيعي يقضي بأن يكون الانقلاب تدريجيًّا وعلى مهل، فليس من
الواجب علينا وحدنا العمل فقط , بل من الواجب على كل عثماني أن يأخذ بيد أخيه
العثماني للسعي وراء نجاح الوطن، متحاشيًا البحث أو التفتيش عن سيئات أخيه
ليعيبه بها.
وإذا كان نقد الأمور حقًّا ومنحة من الحرية، فإن من الفضيلة الشريفة
للضمائر الحرة الطاهرة أن لا ترى الشيء من جهته السيئة، وبأن لا تثق بكل فكر
يقال، دون تحقيق أقوال هذا معربًا عن أملي بأن تكون الروح التي أشرت إلى
فضائلها هي الروح السائدة في هذا المجلس.
__________(12/875)
ذو الحجة - 1327هـ
يناير - 1910م(12/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
مدة حمل النساء شرعًا وطبًّا
(س 38) من صاحب الإمضاء في قفصه (بتونس)
الحمد لله وحده
مشكلة واقعية
حضرة العلامة فيلسوف الإسلام سيدى السيد محمد رشيد رضا الحسيني
منشئ مجلة المنار، دامت سعادته، وتوالت مسراته.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فمن المعلوم أن أقل مدة الحمل ستة
أشهر، أقصاها خمس سنين عند مالك، وأربعة عند الشافعي، وسنتان عند أبي
حنيفة؛ القائلين بجواز رقاد الجنين في بطن أمه ثم يفيق في خلال هذه المدة
المحدودة، ويلحق بأبيه بعد إتمام الموجبات الشرعية.
وروى مالك في الموطأ أن امرأة هلك عنها زوجها، فاعتدت أربعة أشهر
وعشرا، ثم تزوجت حين حلّت، فمكثت عند زوجها أربعة أشهر ونصف شهر ثم
ولدت ولدًا تامًّا، فجاء زوجها إلى عمر بن الخطاب فذكر له ذلك، فدعا عمر نسوة
من نساء الجاهلية قدماء، فسألهن عن ذلك، فقالت امرأة منهن: أنا أخبرك عن
هذه المرأة، هلك عنها زوجها حين حملت، فأهريقت عليه الدماء، فحشر ولدها
في بطنها، فلما أصابها زوجها الذي نكحها وأصاب الولد الماء، تحرك الولد في
بطنها وكبر.
فصدقها عمر بن الخطاب وفَرَّقَ بينهما. وقال عمر: أما إنه لم يبلغني عنكما
إلا خير، وألحق الولد بالأول اهـ، وقال ابن سينا في الشفاء: بلغني من جهة من
أثق به كل الثقة؛ أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل ولدًا نبتت أسنانه
اهـ.
وعلى هذا جرى عمل الفقهاء والمفسرين في مشارق الأرض ومغاربها قديمًا
وحديثًا، إلى أن ارتقى علم الطب والتشريح، وأجلاه للعيان علم الطبيعة الذي انتفع
بمواهبه وأسراره بنو الإنسان، ورأوا ما كان جوازه مستحيلاً واقعًا لا غبار عليه.
فقام من بين أطباء الإفرنج عندنا جماعة حكموا بمنع رقاد الجنين في بطن أمه،
ونسبوا إلى من ادعت رقادها زناها، واعتذروا لما عليه علماء الإسلام في هذا
الشأن؛ بأن علم الطب لم تنكشف أسراره في الأزمنة الغابرة انكشافها في زمننا
الحاضر.
وها هي (ذي) واقعة حال صورتها: أن امرأة فارقها زوجها منذ أربعة أعوام
بريئه الرحم، والآن ظهر به حمل نسبته لمفارقها الذي ناكرها فيه، وزعمت رقاده
في هذه الأعوام، واعترفت بعدم مسيس مفارقها لها بعد الطلاق، ونشرت معه
النازلة لدى المحكمة الشرعية من حيث لحوق الولد أو نفيه، كما نشر معها النازلة
لدى المحكمة العدلية من حيث رميها بالحمل من زنا، وإن أدري أيحكم لها أم عليها
في المحكمتين؟ بيد أن النفوس على حيرتها تتطلع إلى معرفة هذه الحقيقة الشرعية
الطبية، ولما كانت لمقامكم العلمي قدم راسخة في العلوم الشرعية، ولصديقكم
النطاسي سيدي محمد توفيق صدقي معرفة عالية في علم الطب؛ جئتكم بهذا السؤال
ألتمس إدراجه قريبًا على صفحات المنار مع الجواب عنه بما يقنع النفوس، ويرفع
الالتباس، ويزيح الإشكال، وربما كان أنموذجًا راجحًا عند تعارض الأدلة. لازلتم
ملجأ للسائلين، وقدوة للمسترشدين، والسلام من معظم حضرتم.
... ... ... ... ... ... ... ... حموده بوتيتي
... ... ... ... ... ... رئيس مجلس عدلية قفصه (تونس)
(ج) إذا قلنا: إن مسألة مدة الحمل دينية، يجب العمل فيها بما جاء في
الدين من غير زيادة ولا نقصان، فالواجب حينئذ أن نعمل بقوله تعالى في سورة
الأحقاف عن الإنسان: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف: 15) فإذا
كانت مدة الحمل والفصال ثلاثين شهرًا وهي سنتان ونصف، فكيف نجعل مدة
الحمل وحده عدة سنين من سنتين إلى خمس، ونقول: ذلك هو حكم شرعنا في
المسألة؟ فإذا كان المعلوم لكل الناس أن مدة الحمل تسعة أشهر، فمدة الرضاعة
التي يكون الفصال بانتهائها 21 شهرًا، هذا هو أقلها الذي لابد منه شرعًا وأكثرها
سنتان كما في آية 233 من سورة البقرة، ولذلك قال فيها: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: 233) وقد ذكرنا
في تفسيرها قول بعض المفسرين: إنه يستنبط من مجموع الآيتين أن أقل مدة
الحمل ستة أشهر؛ لأنها هي التي تبقى بعد طرح 24 شهرًا مدة الرضاعة التامة من
30 شهرًا مدة الحمل والفصال (راجع ص 408 ج 2 تفسير) ، فإذا عاش الولد
الذي تلقيه أمه بعد تمام ستة أشهر من حمله كالشهر السابع أو الثامن، فينبغي أن
يكون حظه من الرضاع أكثر من حظ من يولد لتسعة أشهر؛ ليكون غذاؤه من اللبن
عوضًا عما فاته من التغذي بالدم في رحم أمه، فلا تقل مدة الحمل والفصال عن
ثلاثين شهرًا وهي حكمة ظاهرة، فإن زادت ثلاثة أشهر كان ذلك من تمام العناية
بالولد. وإذا جرينا على ذلك في جميع الأحكام الشرعية المتعلقة بالحمل، نكون
موافقين لأقوال أطباء هذا العصر واستقرائهم واختبارهم؛ لأن تحديد القرآن الحكيم
لمدة الحمل والرضاعة لم ينقصه من أقوالهم شيء، بل لا يزداد القرآن بازدياد علوم
البشر إلا قوة وظهورًا.
وإذا قلنا: إن هذه مسألة دنيوية، وما يتعلق منها بالمعاملات الشرعية لا
يكتفى فيه بظواهر الكتاب أو السنة، وما يتبادر من معنى النصوص، بل يجب أن
يضم إلى ذلك اختبار الناس، وما يصلون إليه من معرفة الواقع بطريق الاستقراء
والبحث، قلنا حينئذ: إن ما قاله العلماء الذين بحثوا في المسألة من قبل كالأئمة
الثلاثة الذين ذكرت أقوالهم في السؤال، ليس نصًّا دينيًّا يجب التعبد به وعدم اعتبار
بحث غيرهم واستقرائه، بل يعمل أهل كل عصر بما يصل إليه علمهم واستقراؤهم،
وقد وقفنا على طريقة بحث الأوائل في مثل هذه المسألة؛ وهو أنهم كانوا يسألون
العجائز ويصدقونهن، كما سأل عمر - رضي الله عنه - العجائز الجاهليات في
واقعة المرأة التي نقلت في السؤال عن الموطأ، وكما كان الشافعي - رحمه الله
يسأل العجائز عن مدة الحيض والطهر، ومن الجائز أن يكذب بعضهن، ويجيب
بعضهن عن جهل.
وثقة بعض أئمة الفقه بما سمعه من عجائز زمانه لا يوجب أن يكون ذلك
دينًا متبعًا لكل من يعمل بفقهه، وإن ظهر له استقراء أتم وعلم أصح.
نعم.. إن ما قاله الفقهاء غير محال عقلاً ولا طبعًا، فإذا فرضنا أن ما نقل
إليهم من مكث الجنين في الرحم أربع سنين أو خمسًا قد وقع شذوذًا، كما نقل مثل
ذلك إلى ابن سينا، فهل يصح أن يجعل قاعدة مطردة تبنى عليها الأحكام الكثيرة
لمجرد احتمال تعدد ذلك الشذوذ الذي يسميه أهل هذا العصر فلتة طبيعة؛ كولادة
حيوان أو إنسان برأسين؟ أم القواعد تبنى على الغالب المألوف. وما جاء على
خلاف الأصل وخلاف الغالب لا يقاس عليه.
إذا نحن بنينا أحكام الحمل على ما صدقه بعض أولئك الفقهاء من أقوال النساء،
نكون قد خالفنا إطلاق القرآن، وقيدناه بقيد لا ثقة لأحد من المتعلمين به في هذا
العصر، وخالفنا الثابت المطرد في مدة حمل المرأة؛ وهي أنها لا تكاد تبلغ سنة
واحدة فضلاً عن عدة سنين، وخالفنا القياس الفقهي على تقدير صدق أولئك العجائز
فيما أخبرن به الأئمة من أن ذلك قد وقع شذوذًا، فكيف إذا لم نصدقهن، وخالفنا ما
قرره أطباء هذا العصر من جميع الملل والنحل على سعة علمهم بالطب والتشريح،
وعلم وظائف الأعضاء (PHYSIOLOGIE) ، واستعانتهم في بحثهم
واختبارهم بالآلات، والمجسات، والمسابير، والأشعة التي تخترق الجلد واللحم
فتجعل البدن شفافًا يظهر ما في داخله يرى بالعينين، وعلى بناء علمهم على
التجربة والاستقراء، واستعانة بعضهم في ذلك ببعض على اختلاف الأقطار
بسهولة المواصلة البريدية والبرقية، وعلى كثرة النساء اللواتي على حرية القول
وعدم الخجل من إظهار ما لم يكن يظهره أمثالهن في بلادهن أو غيرها من قبل،
وما لا يظهره غيرهن من سائر البلاد التي لا حرية فيها كحرية بلادهن.
ثم إننا نكون مع هذه المخالفات، اللواتي نحملها لتصديق أولئك النساء
المتهمات، قد تعرضنا لمفاسد كثيرة:
منها طعن الأجانب في شريعتنا طعنًا مبنيًّا على العلم والاختبار لا على
التحامل والتعصب، وذلك منفر عن الدخول في ديننا، ومانع من ظهور حقيته لمن
لا يعرف منشأ هذه الأقوال عندنا.
ومنها تشكيك الكثير من المسلمين في حقية شريعتنا وكونها إلهية، وأعني
بالكثير جميع الذين يتعلمون الطب، والذين يقفون على أقوال أطباء وعلماء هذا
العصر، وتطمئن قلوبهم بأقوالهم في مدة الحمل مع مخالفته لما يظنون أنه هو
الشريعة المقررة الثابتة بالكتاب أو السنة.
ومنها إلحاق الأولاد بغير آبائهم؛ وهي مفسدة يترتب عليها مفاسد كثيرة في
الإرث، والنكاح، وغير ذلك.
ومنها أنه يجرئ المرأة الفاجرة إذا طلقها زوجها أو مات عنها أن تدعي أنها
حامل منه، وأن الولد راقد في بطنها، ويكون لديها وقت واسع تستبضع فيه ولدًا
من غيره بالزنا، ثم تلحقه وتستولي على جميع ماله إن لم يكن له وارث آخر أو
على أكثره.
ومنها أن تصدق من يغيب زوجها عنها من سنة إلى خمس سنين فيما تأتي
به من ولد في هذه المدة أنه منه، وللفقهاء في أمثال هذه المسألة كلام لا محل هنا
لذكره ولا للإشارة إليه باحتراز أو غيره، فمنهم من يقول: إن هذه المرأة تصدق
في إلحاق ما تأتي به من ولد بزوجها الغائب، وإن كانت غيبته أطول من أكثر مدة
الحمل، مهما كانت المسافة بعيدة؛ كأن تكون هي في تونس وهو في داخل بلاد
الصين التي ليس فيها سكك حديدية، وذلك الاحتمال أن تطوى له الأرض كرامة،
فيجيء من الصين إلى تونس فيغشاها، ويعود إلى مكانه في ليلة واحدة! ! . أكثر
مثل هذا بعض الحنفية الذين قال بعضهم: بأن مدعي طي المسافة يكفر!
وإذا نحن بينا أحكام الحمل على الظاهر من إطلاق القرآن الحكيم المطابق
للواقع المعروف عند كل الناس، ولما يقرره الأطباء، وقلنا: إذا ثبت غير ذلك في
حق بعض النساء، يكون من الشاذ النادر الذي لا يبنى عليه حكم، فإننا نسلم من
كل تلك المخالفات والمفاسد، ولا نكون قد خرجنا عن هدي أئمتنا، فإنهم إنما كانوا
يتبعون الدليل القوي إذا ظهر لهم، ولكن المقلدين المنسوبين إليهم يفضلون العمل
بما في هذه الكتب التي بين أيديهم مهما ترتب على ذلك، فلا فائدة من مخاطبتهم
بالدليل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
***
أسئلة من جاوه
(س 39) من (وطني) في تلو سماوي جنوب آسية (سمترا)
مولاي الأستاذ الحكيم
نرى أمراء وأغنياء هذه البلاد الوطنيين منهم، يتهافتون تهافت الفراش على
إدخال أولادهم مدارس الحكومة؛ لتعليمهم لغة أوربا. ولم يفكروا يومًا أن تعليم
اللغة العربية من الأمور المطلوبة شرعًا؛ لأنها لغة القرآن. وأنَّ من المصلحين من
يرى أن لا رجوع للإسلام إلى مركزه الأول إلا بعد تعميم هذه اللغة الشريفة بين
أتباعه. وإذا جئت تقول لهم: إن الواجب الأهم على المسلمين القادرين إقامة
مدارس عربية؛ لتعليم أولادهم وأولاد الفقهاء العاجزين لغة القرآن قبل تعلم أي لغة
كانت. قالوا: ليس المطلوب شرعًا هذا، وإنما المطلوب هو تعلم الأولاد ما يجب
عليهم من مبادي الدين فقط! ! .
واستشهد بعضهم بدولة الخلافة الجديدة؛ من أنها لم تجعل لهذه اللغة مقامًا في
بروجرام مدارسها، واشتهر أنها جعلت التركية إلزامية، ثم بعض لغات أوربا
كالإنكليزية والفرنسية. ولو كانت دولة الخلافة مع وجود كثير من رجال الإصلاح
الإسلامي في مجلسها؛ ترى بعض ما يراه رجال الإصلاح من ضرورة تعميم هذه
اللغة بين المسلمين، لكانت دولة الإسلام الكبرى هي القدوة للمسلمين في المعمورة
فماذا تقول أيها الأستاذ في هؤلاء؟ وهل توجد طريقة لإقناعهم ? وهل عندكم علم
بما قررته الدولة العثمانية تجاه هذه اللغة الشريفة؟ وهل صحيح من أن الدولة
قررت جعل لغة محاكم بلاد سورية والعرب تركية، وألزمت المترافعين بذلك؟
فأدركونا بالخبر اليقين، متع الله بوجودكم المسلمين. فنحن على أحر من الجمر،
والسلام.
(ج) إنني أعتقد منذ سنين كثيرة بعد طول البحث في حال المسلمين أنهم
لا حياة لهم إلا بالاهتداء بالقرآن الحكيم، سواء منهم من يؤثر الاستقلال في فهم
الإسلام، ومن يؤثر تقليد بعض الأئمة والعلماء. ذلك بأن هداية القرآن التي أنزل
لأجلها، ليست محصورة في الأحكام العملية التي أباح جمهور المسلمين من الخلف
التقليد فيها، بل هذه الأحكام أقلها أدناها مرتبة، فإن فوقها آيات العقائد، وصفات
الله تعالى، وسننه في خلقه، وأسرار دينه، والعبر بسيرة رسله في أممهم،
والآداب العالية، والأخلاق الفاضلة، وأصول الاجتماع البشري، والسياسة،
والترغيب في رضوان الله تعالى في الدار الآخرة، والترهيب من عقابه، وغير
ذلك من الحكم المؤثرة في النفوس المصلحة للقلوب، ولا يمكن أن يستغني المسلم
عن القرآن بغيره في ذلك، بل أقول: إن تفسيره وترجمته لا يغنيان في ذلك عن
تلاوته وتدبره؛ لأن لأسلوبه من التأثير في النفوس ما حير البلغاء والعقلاء من
المسلمين وغير المسلمين من المتقدمين والمتأخرين، حتى قال فيه بعض المشركين
في زمن التنزيل: {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} (المدثر: 24) ، وقال بعض فلاسفة
فرنسا المتأخرين: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ القرآن في حال
مؤثرة من الوله والخشوع، فيجذب قلوب السامعين إلى الإيمان به جذبًا خارقًا للعادة،
أغناه عن جذبهم بالخوارق والآيات الكونية التي بأمثالها آمن الناس بالأنبياء من
قبله.
يجب على كل مسلم أن يأخذ عقيدته من القرآن، وأن تكون عقيدته مطابقة
للقرآن، ومن قال من المتكلمين: إن مسائل الاعتقاد المتعلقة بالإلهيات مقدمة على
مسائل الإيمان بالوحي والرسل وما أنزل إليهم من ربهم، فإنما يراد بهذا الترتيب ما
يحتج به على غير المتدين، فمن كان لا يؤمن بوجود الله عز وجل، لا يدعى أولاً
إلى تطبيق عقيدته على القرآن أو أخذها منه؛ فإنه ليس له عقيدة، وإنما يبدأ في
دعوته بإثبات وجود الله وصفاته بالدلائل التي جاء بها القرآن، والتي هدي إليها من
حيث هي براهين لا من حيث هي وحي، ويثني بالوحي مطلقًا، ويثلث بالرسول
والقرآن، ولا يراعى هذا الترتيب فيمن ينشأ على الإسلام، بل يؤخذ بعقيدة القرآن
من أول وهلة.
وقد ذهب جماهير المحققين من العلماء إلى وجوب معرفة الدليل على العقيدة
وامتناع التقليد فيها، والإيمان بالقرآن من أصول العقيدة، وإنكار شيء منه كفر
بإجماع المسلمين، فكيف يتسغني مسلم منهم عن معرفته، ويعد نفسه من أهل
الدليل في اعتقاده؟ ومن المعلوم في كتب العقائد أن إيمان المقلد مختلف في
صحته، بل نقل السنوسي في الكبرى وغيره الإجماع على عدم الاعتداد بإيمانه أي:
على كفره، وبعضهم قال بصحة إيمانه إذا كان مطابقًا للحق، وكان هو جازمًا به،
ومن أكبر هؤلاء أبو حامد الغزالي، وهو قد صرح في كتاب إلجام العوام عن علم
الكلام؛ بوجوب الإيمان بصفات الله تعالى كما جاءت في القرآن، وأنه لا يجوز
ترجمتها؛ لأن الترجمة لا يمكن أن تؤدي معنى الأصل تمامًا، وفي الانحراف عن الأصل خطر الكفر لا خطأ المعصية فقط.
إننا قد أفتينا في المنار من قبل بوجوب تعلم اللغة العربية على كل مسلم ?
وقول الغزالي هذا يؤيد فتوانا، بل قال لنا أحد علماء الشافعية المدرسين في الأزهر:
إنه رأى نصًّا للإمام الشافعي في ذلك، وما جرى عليه الخلفاء الراشدون وعمالهم
ومن بعهدهم من الفاتحين الأمويين والعباسيين يدل على ذلك فإنهم نشروا لغة الدين في
جميع البلاد التي فتحوها مع بعدهم عن العصبية الجنسية، وعدم التفاتهم إليها في
معاملاتهم الاجتماعية والدولية , وجميع المجتهدين والقائلين بوجوب الاجتهاد في
الدين، يجزمون بوجوب معرفة اللغة العربية؛ لأن الاجتهاد يتوقف على ذلك، كما
هو مصرح به في كتب الأصول , وإننا نذكر مسلمي جاوة بالبينات الآتية على
وجوب تعليم العربية:
(1) إن القرآن هو آية الله الكبرى على صدق نبيه محمد صلى الله عليه
وسلم في دعوى النبوة والرسالة، وطريق العلم الصحيح بكونه آية معجزة هو فهمه
الذي يعرف به وجه إعجازه، وكونه آية تشتمل على آيات كثيرة. وإن جماهير
علماء العقائد قد قرروا أن أقوى وجوه الإعجاز فيه هي بلاغته وأسلوبه، وهل
يعرف هذا إلا من يتقن العربية إتقانًا؟
(2) إن الله قد أنزل القرآن؛ هدى للمتقين ورحمة لقوم يؤمنون، ولا
يهتدي به إلا من يفهمه كما هو بديهي، ولا يفهمه من لا يعرف العربية.
(3) إن الله تعالى قد حث على تدبر القرآن في آيات كثيرة {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ
القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) - {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم
مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} (محمد: 25) - {أَفَلَمْ
يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 68) - {أَمْ لَمْ
يَعْرِفُوا رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} (المؤمنون: 69) ولا يمكن تدبره إلا بفهم لغته.
(4) إن الله قد أوعد من يعرض عن القرآن بترك تدبره والاهتداء به أشد
الوعيد، كقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 124) ... إلخ الآيات، ومن البديهي أن ترك تدبره
والاهتداء به هو عين الإعراض عنه والهجر له، الذي يخشى أن يدخل صاحبه في
زمرة من اشتكى منهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل، كما قال
تعالى في سورة الفرقان: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ
مَهْجُوراً} (الفرقان: 30) وقد بالغ بعض علماء الحنفية في التوقي من الدخول
في زمرة هؤلاء، حتى قالوا: إنه يكره أن يواظب المرء على قراءة سورتي الم
السجدة والإنسان في صلاة فجر الجمعة؛ لما في ذلك من هجر غيرهما من القرآن.
فإذا قالوا في قراءة سورتين وردت قراءتهما في السنة، فماذا يقولون فيمن لاحظ له
من فهم شيء من القرآن؛ لعدم معرفة لغته! ؟
(5) ما تقدم شرحه في وجوب أخذ العقيدة من القرآن أو مطابقتها له على
الأقل.
(6) إن الصلاة - وهي عماد الدين - المفروضة على كل مسلم ومسلمة، لا
تصح إلا بقراءة شيء من القرآن فيها وبأركان أخرى؛ كالتكبير والتشهد كلها عربية
والمقصود منها فهمها؛ لأن فهمها هو الذي يؤثر في النفس، ويذكرها بعظمة الله
تعالى ومراقبته، فتكون جديرة بأن تنهاه عن الفحشاء والمنكر كما وصفها الذي
فرضها بقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: 45)
وبأن تكون عونًا للعبد على مقاومة المصائب والنوائب، كما قال تعالى:
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} (البقرة: 45) وبأن تحول بينه وبين الهلع، كما
جاء في سورة المعارج، ومن لا يعرف العربية لا يستفيد من صلاته ذلك، ومن لم
تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدًا كما ورد.
(7) إن الخطب المشروعة في الإسلام من مفروضة ومسنونة؛ كخطبة
الجمعة والعيدين وعرفة كلها تؤدى باللغة العربية لغة الدين، فمن لا يعرف العربية
من المسلمين لا يستفيد منها، بل تكون هذه العبادة كسائر عباداته العربية رسومًا
وتقاليد صورية، والإسلام أجل وأكبر من ذلك.
(8) إن الإسلام قد جاء بدعوة جميع البشر إلى ترك الشقاق والعداوات
الجنسية والدخول في السلم كافة؛ ليكونوا أمة واحدة، ويتآخوا في هذا الإصلاح،
فلا يتعصب أحد لجنس على جنس، كما ثبت في آيات وأحاديث كثيرة، ولا يتم
هذا الارتباط والتآخي بين الداخلين في هذا السلم إلا إذا كان لهم لغة واحدة يتعارفون
بها. وهل توجد لغة لهذا الجمع الكبير من الإخوة يتعارفون بها غير لغة الدين الذي
يتعرفون به إلى ربهم عز وجل، ويرجون رحمته ويخشون عذابه؟ ؟
هذا ما اتسع له الوقت القصير من البينات على وجوب تعلم المسلمين لغة
دينهم، كتبته في أحد الأندية العامة في القسطنطينية على عجل، وقد قرب الوقت
الذي أودعه فيه بالبريد، فأكتفي به لأشير إلى شبهة ترد عليه وهي:
ينكر علينا ما تقدم بعض المتفرنجين من المسلمين، الذين غلبت في نفوسهم
نزعة الجنسية الجاهلية على نزعة الدين، فهم يحاولون مقاومة ما يجدونه في العالم
الإسلامي؛ من الشعور بخطر التفريق والميل إلى التعارف وإحياء ما اندرس من
معالم الإسلام، فيقول هؤلاء المنكرون: إن الإسلام ليس له لغة، فيمكن لكل جنس
من الأجناس التي دخلت في الإسلام أن يترجم القرآن والأحاديث إلى لغته،
ويستغني بها عن الأصل العربي، وقد بينا في المنار من قبل أن ترجمة القرآن
ترجمة تقوم مقام الأصل متعذرة، فإن القرآن معجزة تشتمل على معجزات كثيرة،
ولا يمكن أن تكون الترجمة كذلك. وإن القرآن مؤثر بأسلوبه في القلوب، ولا
تكون الترجمة كذلك، كما بينا ذلك بالإيجاز في أول هذه الفتوى، وسنزيد ذلك بيانًا
في وقت آخر.
وأما زعم أولئك الجاويين أن دولة الخلافة الجديدة؛ لم تجعل لهذه اللغة مقامًا
في بروجرام مدارسها ... إلخ ما قالوه، فهو زعم باطل، وكدنا نغتر بمثله إذ أطلعنا
بعض الناس هنا على آخر بروجرام المدارس الإعدادية، فرأينا فيه عدد الدروس
العربية مساويًا في بعض السنين للغة الأرمن ولغة البلغارالاختياريتين، وقد أشرنا
إلى هذا في مقالنا (العرب والترك) ، الذي كتبناه ونشرناه في بعض جرائد
العاصمة نصيحة لأولي الأمر، ثم راجعنا البروجرام كله فوجدنا أن دروس العربية
في النحو الصرف، وحفظ بعض المنثور والمنظوم، قد قررت فيه تقريرًا نعم..
إن ما هو مقرر غير كاف، وإن هذه البروجرامات والقوانين لا تنفذ كما يجب،
ولكم كان هذا من طبيعة الخلل الذي جرت عليه الدولة في دور الاستبداد الطويل
العريض، ونرجو أن يصلح الحال في دور الدستور، وإن كان يوجد في بعض
رجال الحكومة الآن أفراد كثيرون متعصبون للجنسية التركية تعصبًا ضارًّا وهؤلاء
هم الذين حاولوا جعل المرافعات في محاكم البلاد العربية بالتركية، وترون بيان
ذلك مفصلاً في مقال العرب والترك من هذا الجزء، ونحن ساعون في تدارك ذلك،
والله الموفق.
***
الزكاة في القراطيس المالية
(س 40) من صاحب التوقيع الرمزي في (سمبس برنيو) :
حكيم الإسلام والمسلمين، سعد الملة والدين، حضرة سيدي الأستاذ السيد
محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر، متعني الله بعزيز وجوده، آمين.
بعد إهدائكم عظيم تحيتي واحترامي، جزاكم الله عنا جزاء موفورًا، وجعل
سعيكم سعيًا مشكورًا؛ على فتياكم في حكم القراطيس المالية بوجوب الزكاة فيها ,
وهي التي نعتمد عليها، ونتمسك بها غير أني أرجو من فضيلة سيدي الجواب عما
سألت عنه، وهو: من أي طريق عدت هذه القراطيس من النقود الذهبية؟
واستمهلت حتى أرفعه إلى حضرة سيدي، فوضحوه لي أشكركم.
أرجو أيضًا سيدي أن تنظروا إلى أقوال القائلين في هذه القراطيس؛ منهم من
قال: إنها لا تجب فيها الزكاة إلا زكاة التجارة، وإنها كفلوس النحاس في عدم
وجوب زكاة العين فيها، ومنهم من قال: إنها في حكم السندات تجب فيها الزكاة
على قدر الدراهم التي بها من فضة أو ذهب اهـ.
فهل هذان القولان لهما وجه صحيح أم لا؟ تفضلوا سيدي بزيادة الإيضاح في
هذه المسألة، حتى لا أعيد ذكرها بعد. ولكم من الله جزيل الأجر، ومني جميل
الحمد والشكر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ملتمس الدعاء
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ب.
(ج) إن هذه القراطيس لا يفرق بينها وبين نقد الذهب أحد من الماليين، كما
هو معروف للمتعاملين بها، وهناك أوراق أخرى تسمى سندات مالية، تؤخذ في
مقابلة حصة معينة بالسهام من شركة مالية، وهي أشبه بعروض التجارة؛ لأن
ثمنها يزيد في السوق وينقص، وتباع كذلك وتشترى، ولكنها لا قيمة لها في ذاتها.
وقد يفتي بعض الفقهاء في المسائل المالية المستحدثة في هذا الزمن، وهو
على غير بينة من أنواعها وعرف الناس فيها، ومن كان عارفًا منهم بذلك يقيس
عرف الحادث على ما يراه أشبه به في عرف سابق مما تكلم عنه الفقهاء، فبعضهم
يرجح في ذلك جانب المعنى أو المقصد، ومنهم من يرجح جانب اللفظ أو الصورة
فمن قال: إن القراطيس المالية التي تدعى (بنك نوت) ، ويطلق عليها بعض
العرب لفظ (الأنواط) ، هي من عروض التجارة، وجعل التعامل بها كبيع
العرض بمثله أو بالنقد، فقد بالغ في الوقوف عند ظاهر الصورة، فالعروض قيمتها
ذاتية وهذه لا قيمة لها في ذاتها، ومن قال: إنها في حكم السندات والسفاتج راعى
الصورة أيضًا من جهة والمعنى من أخرى، ووجه قوله: إنها أوراق تؤخذ في مقابلة
نقد، ويسترجع مثل ذلك النقد بإعادتها، وغفل عن الفرق الكبير بينها وبين
السندات بالمعنى الفقهي، وهو أن السند يكون بدين على شخص معين، وهذه
القراطيس تروج في الأسواق المالية، فيشترى بها من كل أحد كالنقدين بلا فرق.
هذان القولان يتفقان مع قولنا في غايته من حيث الزكاة، إلا عند من يقول:
إن الدين لا زكاة فيه قبل قبضه، ويترتب على الخلاف من المسائل المهمة أن جعل
القراطيس المالية كالنقدين، يقتضي وقوع الربا فيها وهو ما نجزم به، ومن قال:
إنها عروض تجارة منع الربا فيها، وحينئذ يسهل على كل أحد أن يأكل الربا
أضعافًا مضاعفة بهذه الأوراق، التي لا فرق بينها وبين الذهب عند أحد من الماليين
وكذلك القول بأنها في حكم السندات، قد يكون موصلاً لأكل الربا ولمنع الزكاة،
ولا حاجة إلى تفصيل، فمن نظر إلى حقيقة المسألة في الواقع واحتاط لدينه، أخذ
بما قلناه، والسلام.
***
الأحاديث الموضوعة في كتاب الإحياء وروايتها
(س 41) ومنه أيضًا:
حضرة العلامة المفضال سيدي الأستاذ السيد: محمد رشيد رضا صاحب مجلة
المنار الغراء، متعني الله بعزيز وجوده آمين.
بعد إهداء أزكى السلام والتحيات العظام: تعجب بعض الأفاضل مما ذكر في
كتاب أسنى المطالب، ونصه: (اعلم أن كتاب الإحياء لسيدنا الغزالي، مع جلالة
قدره، وعلو مرتبته، ورسوخ قدمه في العلم، لا يعتمد عليه في الحديث؛ لذكره
في كتابه المذكور جملة من الأحاديث الموضوعة) اهـ (ص 268) فهل يتصور
أن حجة الإسلام شحن كتابه الجليل بالموضوعات؟ خصوصًا وقد زينت مجلة
المنار بترجمة صاحب ذلك الكتاب، وقد قلتم: وإنما صرحت بهذا ليعلم من يقرأ
ترجمة حجة الإسلام في المنار - إلى قولكم - ولعل ذلك يكون مشوقًا لهم (أي:
طلاب العلوم والأزهريين) إلى مطالعة الإحياء وغيره من كتبه (851-10 ص
595) .
وعليه، فهل يجوز لمن لا يتميز له الصحيح من الضعيف أو نحوه، رواية
أو قراءة ما فيه من الأحاديث احتياطًا أم لا؟ تفضلوا سيدي ببيان الحق؛ لئلا نكون
في ريب مما أتى به حجة الإسلام من أحاديث سيد الأنام، لازلتم في إجلال وإكرام.
(ج) إن ما قاله صاحب كتاب أسنى المطالب حق، وسنذكر ذلك في
ترجمته التي ننشرها في المنار، فإن لها بقية صالحة، وإن أبا حامد الغزالي رحمه
الله تعالى - لم يعن في أول أمره برواية الحديث وحفظه، كذلك كان الكثيرون من
الفقهاء والمتكلمين والصوفية، ولا سيما في عصره وبعد عصره، وإنما عني
بالحديث في آخر عمره. وقد جمع التاج السبكي في ترجمته هذه الأحاديث المطعون
في روايتها في عدة صحائف من طبقات الشافعية الكبرى، ووضع الحافظ العراقي
كتابًا خاصًّا في تخريج أحاديث الإحياء، وهو الذي اعتمد عليه الزبيدي في شرحه
للإحياء، وزاد عليه مباحث وفوائد، وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز لغير العارف
بالحديث، المطلع على تخريج تلك الأحاديث أن يعتمد عليها في الاستدلال، أو
يجزم برفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما أسنده الغزالي إلى الصحيحين
وغيرهما من كتب الحديث المعتبرة، وهو يفعل ذلك كثيرًا في مقام الاحتجاج
والاستدلال بعزو الحديث إلى الصحيحين أو كتب السنن. وأكثر ما فيه من
الأحاديث الضعيفة والموضوعة، قد ذكر في مقام الترغيب في العبادات والفضائل
(كصلاة الرغائب في رجب وصلاة شعبان) ، أو الترهيب والتنفير عن المعاصي
والرذائل، وهم يتساهلون في مثل هذا المقام بتأييد كلامهم بالروايات الضعيفة،
على ما في ذلك من الخلاف والتفصيل في شروط جوازه عند من أجازه. وحاش
للغزالي من تعمد إيراد الموضوعات، وإنما نقل ما نقله منها من الكتب التي أحسن
الظن بمؤلفيها؛ كقوت القلوب لأبي طالب المكي، فمعظم الأخبار والآثار الضعيفة
والمنكرة والموضوعة في كتاب الأحياء منقولة من ذلك الكتاب.
__________(12/900)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العرب والترك [*]
] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا [[**]
(4)
قد انشق ليل الاستبداد عن صبح الدستور، والعثمانيون الذين في بلادهم نيام
يَغُطّون: بعضهم يرى أحلامًا مخيفة، وبعضهم يرى أحلامًا سخيفة. والذين في
بلاد الحرية قيام يرقبون: بعضهم يتعلل بالآمال القوية، وبعضهم يلهو بالأماني
الضعيفة، فاستيقظ بصوت مؤذنه النائمون، وحمد غِبّ سُراهم المجدون، وعاود
الرجاء نفوس اليائسين، وغادر العداء قلوب المتدابرين، وأقبل المسلم بوجهه على
النصراني، والتركي على الأرمني، وعانق الشيوخ القسوس، وصافحت الشعوب
الشعوب، وأذن مؤذن بينهم {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (المائدة: 95) .
هكذا كان العثمانيون في نشوة من السرور العام، الذي كاد يكون من أضغاث
الأحلام، أو من خوارق العادات، بعد انقضاء زمن المعجزات، لتأليف الدستور
بين الشعوب الكثيرة المختلفة في الأديان والمذاهب والمشارب والعادات واللغات
والبقاع والتربية والتعليم، وهي ضروب من الاختلاف لم تعهد في أمة ولا مملكة،
وبعضها كاف لاستمرار الاختلاف والافتراق، ومنع الاتحاد والاتفاق، وإنهم لكذلك
وإذا بنبأة من بعض الترك بمصر، ونبئات من كتابهم بالآستانة، قد أجفلت الوادعين
الساكنين، وروعت الآمنين المستبشرين.
كتب أحد شبان الترك المقيمين في القطر المصري مقالات في جريدة الأهرام
يفاخر فيها العرب بقومه وجنسه معبرًا عنهم بالملة المالكة، متبجحًا بزعمه أنهم هم
وحدهم الذين أزالوا الحكومة الاستبدادية، وأدالوا منها الدستور والحرية، وأنهم هم
وحدهم الذين لهم الحق بالتمتع بثمرات الدستور الكاملة، وليس للعرب ولا لغيرهم
من الأجناس أن يطمعوا في مساواتهم في مناصب الدولة وأعمالها؛ لأن ولاياتهم
مستعمرات أو مستملكات للترك! فيجب أن يكون قصارى حظ العرب من الدستور
أن يستريحوا من أعباء الظلم، ويتذوقوا طعم العدل، فيكونوا من الترك كأهل
الجزائر من فرنسا، أو أهل الهند من إنكلترا.
هذه المعاني العالية كانت تصخ مسامع العرب أحيانًا في عصر الاستبداد،
وقلما كانت تكتب، ولا سيما في مثل مصر التي هي أرقى من جميع الولايات
التركية علمًا وعملاً وثروة وحرية، وفيها الأقلام المرهفة والألسنة الذلقة، والقلوب
الجريئة، نعم.. كانت كتبت منذ بضع سنين في جريدة (ترك) التي كانت تصدر
في القاهرة، محررة بأقلام نفر من أذكياء الترك؛ كعلي كمال بك وجلال الدين بك
عارف أسرفت تلك الجريد في الفخر بجنس الترك معبرة عنهم بالملة المالكة،
وحقرت العرب في سياق الكلام عن مراكش، ونصبت الميزان للترجيح بين الترك
والعرب والخلافة العربية، فجعلت العرب كلهم بمنزلة قبائل المغرب الأقصى،
وفاخرتهم بالترك في مدارسهم ودواوينهم وقصورهم وجيوشهم، وملأت مواضعها
بالفخر والتبجح، ناسية ما يكتب فيها وفي غيرها من الجرائد العثمانية في البلاد
الحرة في وصف مظالم خليفتهم عبد الحميد خان وإفساده للمملكة، وتخريبه للولايات
التركية والعربية والكردية والألبانية والرومية، ومنعه للعلم، وعيثه حتى في
الجيش، وفرار كتاب جريدة: (ترك) وغيرهم من ظلمه إلى مصر العربية.
ولا أقول: إن كاتب تلك التبجحات الغثة الباردة، نسي عدل الخلفاء الراشدين
وعلوم العباسيين في الشرق، والأمويين في الغرب، بل أقول: إنه عمي عن
البلاد التي أوى إليها، والمدينة التي يطبع جريدته فيها، وهو يرى العرب فيها
أرقى من قومه علمًا وثروة ومدنية، ولكنني ذكرت تلك الجريدة يومئذ بخطئها:
في تحريك العصبية الجنسية التي أماتها الإسلام، وبوجوب اتحاد العرب
والترك وضرر تفرقهم باختلاف الجنس، وبأن العرب إذا فاخروا أي جنس
بجنسهم فإنهم يفخرونه ويبذونه:
هم الأولى إن فاخروا قال العلا ... بفي امرئ فاخركم عفر الثرى
هم الأولى جوهرهم إذا اعتزوا ... من جوهر منه النبي المصطفى
وإنما كتبت ذلك الرد في المنار على جريدة ترك؛ لئلا يغريها السكوت عنها
بالتمادي في ذلك التبجح، الذي يولد الأضغان، ويؤرّث الأحقاد، وينفر المصريين
وغيرهم من الدولة العلية، ويفتح في المسلمين باب الشقاق باختلاف الجنسية،
ولكن كتاب تلك الجريدة صاحوا بعد ردي صيحة أخرى، ثم خفت صوتهم لأنني لم
أشأ أنْ تستمر المناظرة في ذلك.
ثم قام أحدهم جلال الدين بك عارف يوم احتفالنا بإعلان الدستور خطيبًا،
فقال: إننا اليوم قد تنازلنا عن كلمة (ترك) وهي محبوبة لنا، فكلنا عثمانيون لا
فرق عندنا بين الترك والعرب والروم والأرمن وغيرهم، فصفقت الجماهير المختلفة
لقوله هذا تصفيقًا، وكذلك قال غيره من سائر الخطباء العثمانيين، ونادى لسان
الحال والمقال؛ الدستور يجبُّ ما قبله كما ورد في الحديث الشريف: (الإسلام يجبُّ
ما قبله) .
فلما انبرى ذلك الكاتب التركي بعد ذلك لكتابة ما ذكرنا، تذكر الناس ما كان
كتب من قبل وما كان يقال، وأقبل العثمانيون بعضهم على بعض يتساءلون: قال
أكثر من واحد منهم: إن القوم لا يتركون ما يألفون، وإنهم سيستبدون مجتمعين كما
استبد آحادهم (كعبد الحميد) منفردين، وربما كان استبداد الجماعة أشد وأبقى من
استبداد الواحد. وقال الأكثرون: إن هذا إلا شاب مغرور، لا يزال جذعًا في
السياسة، وإن القرّح والبزَّل من ساسة الترك المحنكين لا يقولون بقوله، ولا
يدينون برأيه، ولكن لم يلبثوا أن سمعوا تلك النبئات الأخرى من جرائد العاصمة
(الآستانة) ورأوا أعمالاً من الحكومة الجديدة، استدلوا بها على التحامل على
العرب، وهضم حق العربية، فنفرت القلوب، وساءت الظنون.
قامت بعض جرائد الآستانة تضرب على نغمة التغاير بين الترك والعرب،
وتلغط بتلك الكلمات المنفرة (ملة مالكة، مستملكات، استقلال العرب، الخلافة
العربية، بُغْض العرب للترك، فَضْل الترك على العرب، عَجْز العرب عن تدوين
لغتهم، ونشر الإسلام خارج جزيرتهم) إلى غير ذلك من الكلم الدال على الجهل
بالتاريخ، أو تعمد العبث به فيما يضر ولا ينفع.
وكان من أشهر هذه المباحث التي حركت التغاير، وأحدثت التنافر، ما نشر في
جريدة (إقدام) من اقتراح تنقية اللغة التركية من الألفاظ العربية، وما أودعه
بعض الكتاب في مقالات نشرت فيها عن السنوسية، ومنها طعن بعض الجرائد في
المصريين وفي الدمشقيين خاصة، أهل هذين المصرين هم أعظم العرب حضارة،
وأوسعهم مدنية وفيهما السراة والأباة والعلماء والكتاب.
رب قول يصدر عن حسن نية، ويكون جديرًا بأن يحترم وإن كان خطأ،
يحدث من الأثر السيء ما لم يكن يراد به، ويتفاقم ذلك بمقتضى الحال وطبيعة
الزمان، وطريقة الأداء والتعبير، وكذلك كان حظ اقتراح صاحب (إقدام) بدعواه
في تنقية التركية من الألفاظ العربية - يقول هو: إنَّ هذا بحث فني محض، وإن
الغرض منه الاستغناء عن الألفاظ العربية التي يوجد في التركية ما يقوم مقامها.
ولكن لماذا طلب هذا المصلح اللغوي تطهير لغته من العربية دون الفارسية والفرنسية،
ونقول: إن هذه الفلسفة مبتسرة، كان يجب عدم الخوض فيها الآن، وإن الكلام
عندما ينقل من لغة إلى أخرى، ويتحدث به الخاص والعام، يعرض له التحريف
والتبديل، ويفسر بحسب الحال الغالبة، فقد شاع في بلاد سورية ومصر وغيرهما
من البلاد أن بعض كتاب الترك يدعون قومهم إلى الابتعاد عن العرب، حتى في
ترك الألفاظ العربية المستعملة في لغتهم، وإنهم يعبرون عن ذلك بلفظ التطهير،
كأنهم يرون اللغة العربية نجسة، قد تدنست بها التركية! ! وانتقل بعض الناس من
الملزوم إلى اللازم، فقالوا: إن هذا الكلام يعد طعنًا في كتاب الله عز وجل
وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن هذه الدعوى قد تكون مقدمة لدعوة
أخرى تترتب عليها، إذا أجيبت وعمل بها، وهي الدعوة إلى الارتداد عن دين
الإسلام؛ لأن أصله وأساسه من الكتاب العزيز والسنة السُّنِّيَّة، وإنما هما باللغة
العربية، والرسول الذي جاء به عربي صلى الله عليه وسلم.
إلى هذا الحد البعيد وصل سوء تأثير ذلك الاقتراح الفني؛ لنشره في هذا
الوقت النحيف (أو النازك كما تقول الترك) الذي يجرحه مر النسيم، ويدميه لمس
الحرير، وقد ردت بعض الجرائد العربية على هذا الرأي، فعرفه الناس وعدوه
ذنبًا للترك، ولم يعلم السواد الأعظم منهم أن من كتاب الترك أنفسهم من رد على
مقترحه، بأوسع مما رد به كتاب العرب.
وقد سمع أيضًا من جريدة طنين كلام في غمط العرب، لم يكن كطنين الذباب
فيناسب اسم الجريدة، بل كان كدوي المدافع وقصف الرعود؛ لاشتهار هذه الجريدة
بأنها لسان جمعية الاتحاد والترقي ومظهر سياستها، ومكان الجمعية من سياسة
الدولة معروف، ولا سيما في أوائل العهد بالانقلاب، فهذا من الأسباب القولية في
سوء التفاهم والتنافر بين الترك والعرب، الذي نجم قرنه بعد الدستور، فزلزل
الآمال الجميلة، وأساء تعبير الأحلام اللذيذة، وقد سمع شيء منها من بعض رجال
الحكومة الدستورية؛ كطعن سليمان بك نظيف والي البصرة في الحزب الوطني
المصري، وهو في مصر أثناء مروره بها في سفره إلى البصرة، وقد اشتهر هذا
لرد جريدة الواء عليه، ولكنه قال قولاً آخر شرًّا منه وأسوأ تأويلاً؛ قال في سياق
الكلام على الفتن التي تحدث في جزيرة العرب ما مآله: إن الدولة مستعدة لسحق
أولئك العرب بالقوة القاهرة، فإن عندها سبعة فيالق من الأبطال! ! ! فهل يصح أن
يقال مثل هذا القول بمصر أو بغير مصر؟ وهل تدرب الدولة الجند من أبناء الأمة
لأجل سحقها وتدميرها! ؟ أم لأجل حمايتها وتعزيزها؟ أما كان ينبغي له أن يقول:
إن أولئك العربان وغيرهم كانوا مرهقين بالظلم وسوء الإدارة، وسنريهم العدل
والنظام، فنجعلهم بذلك يتفانون في حب الدولة وطاعة الحكومة.
ومن أسباب سوء التفاهم أن كثيرًا من أحرار العرب الذين جاهدوا في سبيل
الدستور حق الجهاد؛ (ومنهم من هو معروف الاسم أو الشخص عند أكثر أحرار
الترك) وكثيرًا من الفضلاء والكتاب الذين أظهروا الاحتفال بالدستور بخطبهم
ومقالاتهم، جاءوا الآستانة زائرين ومختبرين، وأكثرهم كانوا ممنوعين منها
ومحرومين، فلم يعبأ بهم أحرار الترك، ولا رأوا منهم عواطف الإخاء، كما رأى
الأرمن مثلاً!
وأما الأسباب المتعلقة بحكومة العاصمة؛ فمنها إسرافها في عزل أبناء العرب
من وظائفهم، حتى إنها عزلت في وقت قصير زهاء بضعة عشر متصرفًا منهم،
ومنها بخلها بالوظائف على طلابها منهم، وجودها بها على غيرهم من العناصر
الأخرى، ومنها تعجلها بأمور تشعر بتعمد إضعاف اللغة العربية؛ كجعل المرافعات
في محاكم الولايات العربية باللغة التركية، مع علمها بأن الناس يجهلونها في الغالب،
حتى وكلاء الدعاوي (المحامين) ، وكجعل الكشوف (البياننامه) التي يقدمها
التجار من أبناء العرب في بلادهم إلى إدارة المكس (الجمرك) باللغة التركية أو
الفرنسية، مع تعسر ذلك أو تعذره عليهم، واقتضائه نفقات كانوا في غنى عن بذلها؛
وكعدم قبول عرائض الشكوى بالعربية، حتى في مجلس الأمة مع أن المشتكين
من الأمة، وهي ذات لغات متعددة، للعربية منها مكانة خاصة من حيث هي لغة
الدين الرسمي الذي يكفله مقام الخلافة، كما سنبين ذلك بعد.
ومنها ما يتعلق بنظارة المعارف خاصة؛ كإلغاء الدروس العربية من المكتب
الملكي في العام الماضي (ولكنهم أعادوها في هذا العام) ، وكجعل العربية في
المدارس الإعدادية اختيارية كاللغة الأرمنية واللغة الرومية، وعدد دروسها كعدد
دروسهما، مع كون العربية أصلاً من أصول اللغة الرسمية، يحتاج إليها في إتقانها
أكثر مما يحتاج إلى اللغة اللاتينية لإتقان الفرنسية، وكونها ينطق بها أكثر العناصر
العثمانية عددًا وأقلهم لها معرفة، وكونها لغة الدين الإسلامي الذي هو الدين الرسمي
للدولة؛ وكإرسال النظارة خمسة وسبعين تلميذًا من مكاتبها إلى أوربا؛ لتحصيل
العلوم العالية، ليس فيهم غير اثنين من أبناء العرب، وكإرسالها معلمين من الترك
إلى مدارس البلاد العربية؛ لأجل تعليم العربية نفسها وهم يجهلونها، وكتعصب
بعض المعلمين في المكاتب العالية على أبناء العرب بسماعهم ما يجرح عواطفهم،
حتى في الدروس.
ومنها ما يتعلق بنظارة الحربية، كاستحضارها الضباط ولا سيما أركان
الحرب منهم من الولايات العربية إلى سلانيك والآستانة، ثم تفريقهم في البلاد
التركية، وكإخراجها بعض التلاميذ العرب من المكتب الحربي حتى بصورة إدارية
كما أشيع في مصر وغيرها.
ولعل الشبهة أو الشبه المتعلقة بنظارة الحربية أضعف من الشبه المتعلقة
بغيرها، ولا أرى شيطان التفريق بين العنصرين يقبل وسواسه فيها؛ فالحربية في
دولتنا هي أرقى ما فيها. فنسأل الله تعالى لها ولسائر النظارات أكمل التوفيق وأتم
النظام.
ومنها ما يتعلق بمجلس الأعيان، فقد كان ينتظر أن يكون فيه أعضاء من
العرب، ولو بعدد ولاياتهم إن لم نقل بحسب عدد نفوسهم، ولكن ذلك لم يكن.
ومنها ما يتعلق بمجلس المبعوثين، وهو المظهر الأكمل للمساواة والإخاء،
ولكن أخباره في السنة الماضية لم تكن تدل على ما تحب من توثيق الرابطة بين
العرب والترك كسائر العناصر، بل وجد العرب أمورًا منتقدة، ووجوهًا متجهمة،
وسمعوا من بعض إخوانهم كلامًا لا نحب أن يكتب ويطبع، ونرجو أن يكون هذا
العام خيرًا من سابقه، وأن يكون مجلسنا وسائر أمورنا العامة في ارتقاء دائم
بالإخاء الصحيح والمساواة مع الإخلاص بسعي الفضلاء؛ محبي الوفاق من
العنصرين وسائر العناصر.
تلك كليات من أسباب ما سميناه سوء التفاهم بين الترك والعرب، وفي ضمن
تلك الكليات جزئيات كثيرة.
لا أقول: إن كل ما روي من ذلك صحيح المتن والسند، ولا أقول: إن ما
صح منها كان بسوء النية وتعمد هضم حقوق العرب، ولكنني لا أستطيع أن أنكر
قول من يقول: إنها في مجموعها تفيد التواتر المعنوي، الدال على أنه يوجد في
رجال الدولة ورجال الصحافة التركية أناس يسيئون الظن بالعرب، ولا يعطونهم
حقوقهم، ولا يعرفون قيمة اتحادهم بالترك واتحاد الترك بهم، وإنه تتوقف عليه
حياة الدولة العثمانية وبقاؤها، وإنَّ هذا الاتحاد تقتضيه طبيعة العنصرين الاجتماعية
وإن دار الخلافة والسلطنة هي الآلة التي يكون بها التركيب والتحليل، وإن
الكيماويين الاجتماعيين الذين يحركون هذه الآله هم رجال الحكومة ورجال الصحافة
وإنه يجب في هذا الدور؛ دور الانقلاب والتحول من الاستبداد إلى الدستور؛ أن
يؤخذ على أيدي المحللين بسوء القصد أو بسوء الفهم، حتى لا ينقل عن العاصمة
إلا ما يدل على إرادة المزج والتركيب والاعتصام والتأليف.
ولكن وجود هؤلاء الجاهلين بهذه الحقائق، والمسيئين إلى العرب بأقوالهم
وأفعالهم، لا ينافي كون العنصر التركي أخًا للعنصر العربي ومحبًّا له كما يحبه
هو، ولذلك قلنا فيما سبق من نُبذ مقالنا هذا: إن التغاير والتنافر محصور بين
المتزاحمين على أعمال الدولة ومناصبها وبين رجال الصحافة وحملة الأقلام،
وسأبين طريقة تداركه مع حفظ حرية الصحافة، وتنفيذ قوانين الحكومة، ولو
بترجيح الترك في المناصب ترجيحًا مقرونًا بالحكمة والذوق.
إن ما أشرت إليه من أسباب سوء التفاهم، قد سرى في أكثر البلاد العربية،
ولا سيما أرقاها وهي المصرية والسورية بسرعة الكهرباء، وكثر حديث الناس فيه
وخاضت فيه الجرائد ولها العذر، وتبارت فيه أقلام الكتاب والشعراء، فيجب
تداركه قبل أن يعم نشره، فيصل إلى سائر البلاد والبوادي، وقبل أن تضعف حجة
أمثالنا من محبي الوفاق والساعين في الاتحاد، الذين اجتهدوا ولا يزالون يجتهدون
في الاعتذار عن الحكومة، وما كل عذر يقبل، ولا سبيل إلى إيصال الأعذار إلى
الملايين.
إذا قلنا: إن الحكومة عزلت الجم الغفير من عمالها العرب؛ لأنها تظن أنهم
من صنائع أبي الهدى وعزت العابد، يقال لنا: ولماذا لم تعزل جميع رجال الدور
السابق وهم صنائع عبد الحميد، وبقية رجاله من الترك، وقد ثبت بالعيان
والبرهان أنهم خربوا المملكة؛ لأن العمل كان في أيديهم! ؟ وكم سألنا وسأل غيرنا
من الناس: ماذا ثبت على أبي الهدى وعزت العابد على الخيانات والأعمال
المخربة للدولة؟ أما أنا فلا أعرف لهما ذنبًا خاصًّا وراء ثقة عبد الحميد بهما، وما
نالا بها من مال وجاه؛ إلا أن الأول آذاني وآذى أهل بيتي بسعيه أو سعايته.
والثاني: إذا كان لم يوافق على ذلك، فإنه لم يعارض فيه، فأنا على عدم حمدي
لأحد منهما، وعدم دفاعي عنهما، لا أرى من العدل عزل كل من نال عملاً في
الحكومة بجاههما، وأعلم أن كثيرًا ممن عزل من العرب، لم يكن له صلة بأحد
منهما، وأنَّ بعض المنتمين إليهما لا يزالون في أعمالهم. وإنما أعذر الحكومة
بعض العذر بأن إكثارها من عزل العرب وغيرهم؛ كان من بعض الاضطراب،
الذي جاءت به طبيعة الانقلاب، وقد آن أن أبين شيئًا من ضرر التنافر، وطريقة
إزالة سوء التفاهم، وقطع عروق التقاطع والتدابر، وهو موضوع النبذتين
التاليتين.
***
(5)
ما كاد ليل الاستبداد ينجلي بصبح الدستور، وتنقضي أيام الاحتفال بعيده في
فرح وسرور، إلا وبادر كاتب هذا المقال إلى زيارة القطر السوري زائرًا ومختبرًا
للبلاد التي نشأ فيها، وحجبه الظلم الحميدي عنها إحدى عشرة سنة، فطفت المعاهد،
وبلوت الأفكار والسرائر، فما رأيت فيما رأيت للنزعة الجنسية العربية حركة،
ولا سمعت فيما سمعت لها دعوة، اللهم إلا نئيمًا لداعية الجمعية العربية العثمانية،
منعكسًا عن الآستانة العلية، لم يفهم منه معنى التفرقة، ولم تشتد من الجمهور فيه
الرغبة، وكنت مع هذا أنفر الناس عن هذه الجمعية، وأتشاءم من تسميتها بالعربية
لئلا يفهم منها إخواننا الترك معنى العصبية الجنسية، بل أقول طالبًا السماح والعفو
من مؤسسيها: إنني لم أكن أحسن الظن فيهم، ولا أبرئهم من الأغراض الشخصية -
دون الجنسية - في عملهم.
وكنت أقول في خطبي ودروسي في البلاد: إنه يجب على كل بلد أو ولاية
عثمانية أنْ تعنى بترقية نفسها بالعلم والثروة؛ لتكون عضوًا قويًّا عاملاً في بنية
الأمة، ومددًا عظيمًا لتعزيز الدولة، ولأجل انفراد أهلها بنفسهم، أو اعتصامهم
بأبناء جنسهم، (أي الجنسية اللغوية لا السياسية) فإن الأمم المستقلة في أحكامها
المختلفة في لغاتها ومذاهبها ومواقعها، يتحد بعضها ببعض ليقوى الجميع بالمحالفة
فكيف تضعف الشعوب العثمانية نفسها وهي أمة واحدة - بالتفرق والمخالفة؟ نعم،
إن على العرب أن يحبوا لغتهم، وأن يطالبوا الدولة بمساعدتهم؛ لأن لغتهم في
الدرجة العليا من الارتقاء، ولها في العلوم والآداب أفضل تراث، وهي لغة الإسلام
التي يتدارسها المسلمون من جميع الشعوب والأقوام، فهي رابطة الإخاء والمودة
المعنوية، بين الملايين المذعنين للديانة والخلافة الإسلامية، فترقية هذه اللغة خدمة
للدولة العلية وترقية لها؛ فكنت أرى الجماهير يتقبلون كلامي بقبول حسن، وما
كنت أرى أحدًا يعارضني بتوهم الفصل بين الترك والعرب.
هذا ما كانت عليه البلاد في العام الماضي، وكانت قد نجمت قرون الخلاف
ولكن لم يشعر بها الجمهور، فلما كثرت وكبرت كما بينا في النبذة الرابعة، تنكر
الناس في سورية ومصر، وخاضت في المسألة الجرائد العربية حتى في أمريكا،
وتبارت فيها قرائح الشعراء وتجاوبت فيها الأصوات، حتى عمت البلاد والجهات،
فاهتزت بذلك النعرة العربية اهتزازًا شديدًا، وصبغها بعضهم بصبغة الدين فكان
تأثيرها عظيمًا، ومن المعاني التي نظمها الشعراء وخطب بها الخطباء ونشرت في
الجرائد المصرية؛ أن الترك جاروا على لغة القرآن وعدوها من النجاسات! !
فانفطرت القلوب، وفاضت العيون، وضج البيت والحرم، وكاد الركن يتحطم،
وشكا القبر المعظم، وغضب الرب عز وجل.
فهل تظن حكوماتنا العليا وأصحاب الجرائد التركية في عاصمتنا أن هذه
الغارة الشعواء هين أمرها، خفيف وزرها، مأمون عواقبها، إذا ألقي حبلها على
غاربها؟ ؟ كلا، إن من عرف حقيقتها، وتفكر في عواقبها، يعلم أن الأمر إدّ،
والخطب جد، وأنه يجب أخذه بربَّانه، وتداركه في إبانه، قبل أن يستقر في نفوس
العامة، وتقتنع به الحاضرة والبادية.
إن لهذا العاجز على ضعفه صوتًا مسموعًا في البلاد العربية، وفي غيرها من
البلاد الإسلامية، وقد دافع بقدر طاقته عن الدستور والقائمين به، حتى أزال كثيرًا
من شبهات المشتبهين، ومكن الثقة في نفوس الجماهير من المتزلزلين، وهو على
ذلك وعلى حرصه على الاتحاد والاعتصام بين جميع العناصر العثمانية، لم يستطع
أن يقف في مجرى التيار الذي حركته تلك الأقوال والأفعال التي أشرنا إليها في
نفوس العرب، كما وقف في مجرى التيار الذي حركه خلع عبد الحميد في بلاد
الهند وفي غيرها من البلاد، بل رأيت أن هذا التيار قد تدفق من الدردنيل، فلابد
من السعي إلى قطعه من هناك، فكان أحد باعثين بعثاني على ترك عملي بمصر
في مثل هذا الوقت، وتيممي عاصمة الملك كما سبق القول، (وأما الباعث الآخر،
فسأبينه في مقال آخر أنشره في بعض الصحف التركية إن شاء الله تعالى) .
أحمد الله أن كانت هذه الحركة محصورة في دائرة الغيرة على اللغة العربية
والمزاحمة في الوظائف والمناصب، وصفوف المدارس والمكاتب، وأنها لم تتعد
إلى مقام الخلافة، ولا إلى أساس الحكم والسلطة، ولم يجر على لسان منتقد، ولا
خطيب، ولا من قلم كاتب، ولا شاعر دعوة إلى الانفصال من الترك، أو
الاستقلال في الحكم، ولهذا كان التدارك سهلاً، وحسن التفاهم ميسورًا.
ما رأيت خطأ بعيدًا عن السياسة المثلى خارجًا عن قواعد علم الاجتماع؛ مثل
خطأ رجال السياسة في الآستانة، الذين يلغطون في الجرائد بذكر (استقلال العرب
والدولة العربية، والخلافة العربية) يتهمون العرب بطلب ذلك، ويعدونه جهلاً
منهم؛ لأنه محال لتوقفه على المحال، وهو اتفاق زعماء جزيرة العرب وشرفائها
من جهة، وعلى مساعدة أوروبا من جهة أخرى، وما كان خطأ الحكومة في
الإصغاء إلى الواشي، والتحقيق في مسألة الشام في هذا العام، إلا كخطأ الجرائد
أو أشد.
ذلك بأن هذه الأقوال والأعمال هي التي تشغل الأفكار بما كانت خالية منه،
ويخشى أن توجه النفوس إلى ما كانت غافلة عنه، وتعدها لما لم تكن مستعدة له،
ألم تر أن علماء التربية يحرمون ذكر الألفاظ التي تدل على الرذائل، وتثير كوامن
الشهوات؛ لئلا يدعو التفكر فيها إلى الإقدام عليها، حتى إن بعض الأوربيين
حذفوا من معاجم اللغة ولا سيما التي يراجع فيها التلاميذ مثل؛ لفظ الخيانة والسرقة
كما أجمعوا على حذف ألفاظ الرَّفث، وعلى هذه القاعدة جرى عبد الحميد في منع
الجرائد من كثير من الألفاظ التي توجه النفوس إلى ما يراه مخالفًا لسياسته، ولا
نجيز للحكومة الدستورية أن تحذو وحذوه، ولكن يجب عليها أن لا تكون هي
المثيرة لتلك الأفكار الضارة، كما يجب مثل ذلك على الجرائد من غير أن يمنعها
منه القانون؛ فهذا هو مدرك قولي في النبذة الأولى من هذا المقال: إنني لم أذكر
مسألة اقتراح شيخ لحج على أمراء العرب في المنار، ولا في غيره من الصحف
(لاعتقادي أنه لا ضرر فيها، وإنما الضرر في نشرها، وخوض العامة بذكرها؛
لما سأبينه بعد) وهذا بيانه:
إن عظمة الدولة العثمانية وعزتها وسائر ما يرجى لها في مستقبلها الدستوري
يتوقف على العنصر العربي؛ ما لا يتوقف على عنصر آخر من العناصر التي
نطلب اتحادها كلها حتى التركي منها، فإن البلاد العربية المحضة أوسع من البلاد
التركية المحضة مساحة، وأغزر ثروة، وأحسن موقعًا، وأشرف بقعة؛ من حيث
هي مهبط الوحي، ومثابة الأمم الإسلامية والنصرانية تهوي إلى زيارتها من كل فج
عميق.
وأهلها أقدر على الزراعة والصناعة والتجارة، فمن تجارهم في الصين
والهند وجاوة وأستراليا وأمريكا من يملكون الملايين. وأما ذكاؤهم واستعدادهم
للعلم فهو أشهر من أن يوصف، وأما القوة الحربية فيمكن للدولة أن تجند منهم
مليونًا أو أكثر من أشجع خلق الله، وأصبرهم على القتال. ناهيك بفرسان العرب
وخيولهم إذا تدربوا على الفنون العسكرية الحديثة، وهل تكون الدولة بمأمن من
مطامع أوربا في العراق إذا أصلحت أرض الجزيرة (بين النهرين) إلا بتجنيد
أولئك الأسود، الذين يهابهم الموت ولا يهابونه. ولا تحتاج الدولة إلى نفقة كبيرة
في تجهيزهم عند الحاجة.
إن قوام الدول وعظمتها في هذا العصر على مقدار ثروتها، وإنما ثروتها
مستمدة من الأمة، وإن أرجى عناصر الأمة العثمانية لثروتها هو العنصر العربي،
وإن ما بين النهرين (دجلة والفرات) من بلاده هو أخصب البقاع تربة، أوفرها
غلة، حتى قال هيرودتس شيخ المؤرخين: إنها كانت تؤتي غلاتها مضاعفة من
مائة ضعف إلى مائتي ضعف، ثم كانت بعده هي ينبوع ثروة الدولة العباسية، ولا
يكون اشتغالها وحفظها للدولة في هذا العصر إلا بالعرب، وإن شاركهم غيرهم في
إصلاحها وثمرتها.
مركز الدولة في أوربا محفوف بالمشاكل والقلاقل، مضطرب بالمطامع
والفتن، ومركزها في الأناضول عرضة للفتن أيضًا، فليس في ولاياتها أهدأ من
الولايات العربية الحضرية؛ كبيروت وفلسطين والشام وحلب , وأما ما كان
يجري في الولايات التي تغلب عليها البداوة كاليمن؛ فسببه سوء الإدارة، وفساد
السياسة التي كانت عليها الدولة إلى آخر يوم من أيام الاستبداد ولما تصلح الحكومة
الدستورية من ذلك الفساد شيئًا، بل لم تتق أسباب سوء التفاهم الذي ننشر أسبابه
في ظل الحرية بسرعة البرق، فعليها أن تتدبر، وتعلم علم اليقين أنه لم يجر إلى
هذا اليوم شيء من السعي، ولا من التدبير لانفصال العرب من الترك، ولم يمل
إلى ذلك أحد من المشتغلين بالسياسة العامة من العرب، وأنه لا يوجد سبب من
الأسباب يوجههم إلى هذا إلا هضم إخوانهم في العاصمة لحقوقهم وأهمها التعالي
عليهم بالجنسية التركية، والتقصير في حفظ لغتهم العربية.
سوء التفاهم محصور الآن في هذين الأمرين: تعالي التركي على العربي
بجنسه، وإيثار نفسه عليه بأعمال الدولة ومكاتبها، والتقصير في نشر اللغة العربية
فأما الأول فإنني أعذر الترك فيه من جهة، وأعذل المتعصبين منهم على غيرهم من
جهة أخرى: أعذرهم من حيث إن المتعلمين منهم قد جروا على اتخاذ أعمال
الحكومة معاشًا وموردًا للرزق، وهم قلما يحسنون عملاً آخر، كما جروا على
حسبان ذلك حقًا خالصًا لهم من دون سائر العثمانيين، الذين إذا نالوا منه شيئًا
فإنما يكون من إيثار الترك لهم على أنفسهم؛ درءًا لمفسدة أو جلبًا لمصلحة، فإن
كان الدستور قد ساوى بينهم وبين سائر العناصر في كل شيء، فلا ننسى أن
تطبيق الدستور على الأمة يجب أن تراعى فيه الحكمة، ومنها أن يكون بالتدريج
ولا سيما فيما يتعلق بتغيير العرف والمعاملات المتبعة والعادات المألوفة، ومن هذا
الباب نلوم الحكومة في بعض المعاملات المخالفة للعرف، التي يمكن تطبيقها على
القانون إذا أسرعت فيها قبل إعداد الأمة لها.
فإذا نحن طالبنا الحكومة أن تجعل أعمال الحكومة مشتركة بين العناصر
العثمانية، على نسبة عدد كل عنصر منها، نكون قد طلبنا الطفرة في التغيير،
وقطعنا على متعلمي الترك أوسع أبواب الرزق التي ألفوا الدخول فيها،
وجعلناهم دون سائر الشعوب العثمانية، بعد أن كانوا فوقها من هذه الجهة التي
هي أشرف الجهات في نظرهم، فهل من الحكمة أن يكون أول حظهم من الدستور
خسران أعظم شيء عندهم؟ كلا، إنني أرى جميع عقلاء العرب يفهمون هذا
ويقدرونه قدره، وإنما ينكره ويتألم منه من هم مثل الترك في قصر همهم على
خدمة الحكومة، واتخاذ ذلك وسيلة للمعيشة، وهذه هي الجهة التي أعذل الحكومة
على عدم مراعاتها، وأطالبها بأن تعدل في هؤلاء المنتظمين في سلكها،
والمرشحين أنفسهم لذلك. وأنْ لا تشعر أحدًا منهم بأن جنسه علة للتحامل عليه؛
رفقًا بهم، وإقناعًا لهم ولغيرهم بأنها تنفذ الدستور بالعدل والمساواة بقدر الاستطاعة؛
وتفاديًا من سوء التفاهم في هذا الدور الخطر دور التحول والانقلاب.
وليعلم الفريقان أن الحكومة الدستورية، لا تكون موردًا واسعًا للرزق، ولا
ينبغي أن تطلب وظائفها لأجل المعيشة؛ لأن المرتبات الكبيرة فيها قليلة جدًّا، وما
عداها لا يكاد يصل إلى درجة الكفاف، ولا سيما مع نفقات الأسفار في هذه المملكة
البعيدة الأرجاء إذا بطلت الرشوة، كما هو المنتظر من الإصلاح في عهد الدستور،
وإنما كانت الحكومة بابًا من أبواب الثروة؛ أيام كان الحاكم مستبدًّا نهابًا مستبيحًا
لجميع ما تصل إليه يده من أموال الأمة، لا يخاف في ذلك دركًا ولا يخشى.
وإنني لأشفق على إخواننا من الترك، وأخشى أن يكونوا في عهد الدستور
وراء الروم والأرمن المزاحمين لهم في عقر دارهم وفي عاصمة الملك، إذا لم
ينزعوا من أذهان نبتتهم فكرة الارتزاق من الحكومة، وقد كان المتعلمون من
المصريين على رأي المتعلمين من الترك في أيام الاستبداد المحض والظلم،
وفي أوائل العهد بالحرية والعدل، ثم لما عمرت البلاد، صرنا نرى بعض
عمال الحكومة الذين يأخذون في كل شهر عدة ألوف من القروش راتبًا معينًا، لا
يتخلف قبضه عن اليوم الأول من الشهر، يستقيلون راغبين عن خدمة الحكومة إلى
الأعمال الحرة التي هي أوفر كسبًا، وأوسع بابًا لتحصيل الثروة، ونرى الذي
يتقاضى من الحكومة في كل شهر ثمانية آلاف وعشرة آلاف قرش يعد فقيرًا؛
إذا لم يكن له مورد آخر من الزراعة مثلاً.
وأما التقصير في نشر اللغة العربية، فلا أرى للحكومة فيه عذرًا معقولاً، فإن
قيل: إن اللغة التركية هي اللغة الرسمية، فما عداها من اللغات تجب فيه المساواة،
فإذا رجحت الحكومة اللغة العربية على غيرها، قام سائر العناصر يطالبونها
بمساواة لغتهم لها، ويعدونها مقصرة معهم غير عادلة فيهم! فالجواب عنه، يعلم
مما أشرنا إلى بعضه قبل من مزايا العربية وخصائصها التي يمكن للحكومة أن
تحتج بها على أي عنصر، يطلب مساواة لغته بها في المكاتب الرسمية ونزيده
إيضاحًا بالتفصيل بخمسة أمور:
(1) إن العربية هي لغة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهما أصل
الدين الإسلامي الذي هو الدين الرسمي للملكة، الذي يجب على خليفة المسلمين أن
ينشره ويحميه.
(2) إن السواد الأعظم من أهل المملكة مسلمون، يحتاجون إلى العربية في
فهم دينهم، وطاعة ربهم فيما حث عليه من تدبر القرآن، وليس لهم جمعيات دينية
تنشئ لهم المدارس كالنصارى، فالحكومة الوارثة لهم هي المطالبة بتعليمهم.
(3) إن الشريعة الإسلامية هي الينبوع الذي تستمد منه الأحكام التي يحكم
بها في الأحوال الشخصية والمدنية، وتطبق عليها القوانين، ومعظم كتبها التي
عليها الاعتماد في ذلك، والتي يرجع إليها عند المشكلات هي باللغة العربية،
فالدولة محتاجة في ذلك إلى تعليم هذه اللغة.
(4) إن العنصر العثماني العربي هو أكبر العناصر، وأبعدها عن معرفة
اللغة الرسمية للدولة، ولا يتيسر تعميم هذه اللغة فيهم إلا بعد اتساع مالية الدولة
بعشرات من السنين. فإذا لم تعلم الحكومة اللغة العربية لمن تعدهم في مكاتبها
للوظائف، كان نتيجة ذلك أن أكثر عمال الدولة في أوسع ولاياتها، لا يعرفون لغة
الأهالي فيتعذر عليهم إقامة العدل والنظام.
ولا يقال: إنهم يستعينون على ذلك بالمترجمين؛ لأنها لا تجد الذين يحسنون
الترجمة في كل مكان، وإن وجدتهم كانت في حاجة إلى نفقات كثيرة لهم، لا تحتاج
إلى أكثر منها لتعليم العربية ولا مندوحة عن أحد هذين الأمرين إلا بإبقاء الحكومة،
كما كانت في شر أيام الاستبداد جمعيات نهب وسلب لا يهمها إلا ملء الجيوب،
وأما الروم والأرمن وغيرهما من العناصر فاللغة الرسمية منتشرة بينهم، لا تحتاج
الحكومة إلى المترجمين إلا في القليل من بلادهم، وما ذلك بالأمر الشاق ولا
المتوقف على النفقات الكثيرة.
(5) إن اللغة العربية أصل من أصول اللغة التركية الرسمية، يقرب أن
يكون ثلث مفرداتها أو نصفها مستمدًّا منها، ولا سيما المفردات في علوم الطب
والتشريح والنبات والحيوان، فتعليم العربية في مكاتب الدولة يقوي تعليم اللغة
الرسمية ويمدها، فالتركية أحوج إلى العربية من اللغة الفرنسية إلى اللغة اللاتينية،
وإننا نرى الإفرنج يعلمون اللغة اللاتينية التي لا يوجد عندهم شعب يتكلم بها؛ لأنها
من أصول لغاتهم، فإعراض الترك عن تعليم العربية على كونهم أحوج إليها من
هذه الجهة، وعلى ما لهم فيها من الفوائد الدينية والمدنية، لا يظهر تعليله إلا بتعمد
إضعاف العربية، وهذا شيء لا يرضى به جمهورهم، وإن نزع إليه بعض
المتفرنجين المتعصبين، الذين ليس لهم رأي ولا دين.
***
(6)
زبدة المقال وخاتمته
(1) إن الجواذب التي تجذب الترك إلى العرب والعرب إلى الترك وتمزج
أحدهما بالآخر، فيكونان عنصرًا واحدًا قويًّا نافعًا؛ كالماء والهواء في كونه علة
للحياة والبقاء هي قوية جدًّا؛ لأنها جامعة بين الأخوة الدينية والمصالح المدنية
والسياسية التي لا قوام للدولة بدونها.
(2) إن الحوادث السابقة واللاحقة أعدت المشتغلين بالسياسة والبحث في
الأمور العامة، والمتزاحمين في المكاتب والمناصب، إلى شيء من سوء الفهم
والارتياب والظنة، قواها في نفوس بعض الترك شبهات أوهمتهم أن العرب
يريدون الانفصال من الدولة العثمانية والاستقلال بأنفسهم، وقواها في نفوس بعض
العرب أقوال منكرة، قالها وكتبها بعض المشهورين من الترك، وأعمال مستنكرة
من الحكومة لا يصح أن تعد أصلاً راسخًا في الدولة؛ لأنها حدثت في عهد الانقلاب
والفتن التي اضطرت الدولة إلى الأحكام العرفية، مع تبدل الوزارات وعدم انتظام
الأحزاب في مجلس المبعوثين الذي يرجع إليه الأمر كله.
(3) إنه يمكن أن تنهض حجة قيمة على التباغض بين الترك والعرب، إذا
وقع الشقاق بين المبعوثين في مسألة تعليم اللغة العربية أو مسألة المساواة بين
العنصرين المحتمة في القانون الأساسي، ولكن هذا الشقاق ما وقع ولن يقع إن شاء
الله تعالى.
وقد حضرت مذاكرة بين فاضلين من المبعوثين أحدهما عربي والآخر تركي،
فقال هذا: إنني أحب العرب أكثر من الترك؛ لأن الذي يحبب إلى الترك هو
النزعة الجنسية الدنيوية، وأما الذي يحبب إلى العرب فهو ديني، الذي عليه مدار
سعادتي الأبدية، أو ما هذا مؤداه.
(4) إن الذين قد بدت البغضاء من أفواههم للعرب في معاهد السياسة
والحكومة ومكاتب التعليم، هم على قلتهم ليسوا من العنصر التركي باليقين، وإنما
أكثرهم أوشاب وأوزاع من عناصر شتى، قد تتركوا وأسلموا من زمن بعيد أو
قريب؛ لأجل مناصب الدولة، فهم لا حظ لهم من الحياة إلا فيها، فلا عجب إذا
أبغضوا كل من يزاحمهم عليها.
(5) يجب على العقلاء السعي في إزالة سوء التفاهم وسد منافذه، مهما كان
سببه؛ لئلا يتمكن في نفوس العامة فيتعذر نزعه، وتسوء مغبته.
***
ما به يكون التأليف بين العنصرين
يجب أن يتعاون على هذا التأليف الذي تتوقف عليه حياة الدولة كل من عقلاء
الأمة وعقلاء الحكومة، ويجب أن تكون العاصمة هي البادئة بذلك، صحافتها
وحكومتها العليا.
فأما الصحافة فيجب عليها أن تترك الخوض في مسألة الجنسية النسبية
واللغوية إلى الجنسية السياسية المعبر عنها بالعثمانية، فتجعل هذه هِجّيرها بكرة
وعشيا، وتجعل تلك نسيا منسيا، ولا تذكر لفظ الترك والعرب، ولا اسم غيرهما
من العناصر الأُخَر بكلمة تشعر بالترجيح أو التفضيل، أو عصبية العنصر والقبيل،
ولعمري، إن أولئك الرجال الذين تبدلوا كلمة العثمانية (بكلمة تركية) ، فصاروا
يقولون ويكتبون (لغة عثمانية ولايات عثمانية) لهم أعلى في السياسة رأيًا،
وأصح في علم الاجتماع حكمًا، من هؤلاء الذين يقرعون الأسماع كل يوم بكلمة
(تركلر تركلر) [1] ، متوهمين أنه يمكن تحويل العناصر العثمانية إلى التركية،
أو أنهم يمكن أن يتحدوا بشعوب التتار الروسية، وتركستان الصينية، ومن
الذين يريدون إزالة الألفاظ العربية من هذه اللغة الرسمية، قال كمال بك
زعيم النهضة الحديثة: إننا اخترنا أحاسن الكلم من أرقى اللغات الشرقية،
وهي العربية والفارسية والتركية فألفنا منها لغتنا العثمانية، فهذه اللغة هي لغة
العثمانيين المشتركة، ليس للترك حق الاختصاص بها والأثرة، كما أن العربية
هي اللغة الإسلامية المشتركة بين العرب وبين الترك والفرس وأهل الهند والصين
والملاو وغيرهم من المسلمين، فنحن العثمانيين لا نسمح لأحد أن يعبث بلغتنا
العثمانية، ومن شاء أن يتعلم لغة تركستان فليتعلمها، وهي غير لغتنا الرسمية،
والأمة كلها تطالب مبعوثيها بصيانتها وحفظها؛ لسهولة نشرها، وكون أكثر كتبنا
ودفاترنا بها.
ومما يجب التنبيه عليه في هذا المقام؛ اتقاء عزو ذنب بعض الأفراد إلى
الشعب أو العنصر على الإطلاق، فإذا رأينا بعض الترك أو العرب أو الأرمن مثلاً
يعيب عنصرًا آخر، أو يدعو إلى استقلال قومه، فعلى الجرائد أن تنسب الذنب
إليه لا إلى جميع قومه وعلى هذه الطريقة جرينا في مقالنا هذا، فقد برأنا العنصر
التركي الإسلامي من بغض العرب والتحامل عليهم، وحصرنا ذلك في فئة من
الترك المشتركين في الغالب لا الخلّص.
كذلك يجب على الجرائد أن تتخول قراءها بالمقالات الداعية إلى اتحاد
العناصر العثمانية، مع بيان فوائدها للجميع. وإذا اهتدت جرائد الآستانة إلى هذا
الصراط المستقيم، تبعتها الجرائد السورية والمصرية، وكان تأثير ذلك عظيمًا،
وأحكم على العكس بحكم الطرد، وينبغى لأصحاب الجرائد التركية أن يعنوا
بالاطلاع على الجرائد العربية المنتشرة، ويترجموا المهم من مقالاتها في سياسة
الدولة العلية وإدارتها، ويعلقون عليها ما يرون فيه المصلحة للتأليف، وكذلك المهم
من أخبارها، فمن العار على جرائد العاصمة أن لا يذكر فيها شيء عن الولايات
العربية، إلا ما يكون من صُبابة الشركات البرقية، أو الأخبار الرسمية، وكل من
هذا وذاك رموز لا تعرف حقائق الأحوال، ولا تبنى على مثلها الأحكام، ولو قامت
هذه الجرائد بوظيفتها حق القيام، لجعلت لها مراسلين في تلك الولايات، فوق تتبع
الجرائد العربية وترجمة أخبارها.
وأما ما يجب على الحكومة فأهونه وأقربه أن تنصف الواقفين على أبوابها من
العرب طلاب الوظائف - وقليل ما هم - فتساوي بينهم وبين إخوانهم الكثيرين من
الترك، وترقي بعضهم من رتبة القائمقام إلى رتبة المتصرف، ومن هذه إلى رتبة
الولاية، وأنْ تزيد أعضاءهم في مجلس الأعيان. وأهمه وأعظمه ينحصر في أمور:
(أحدها) قطع عروق العصبية الجنسية من مكاتب الحكومة واستئصال
جذورها، فإنني أسمع كل يوم من أخبار هذه المكاتب ما يشعر بأن فيها كيماويين
معنويين، يحللون عناصر الوحدة العثمانية، ويفرقون بعضها من بعض، حتى بلغ
ببعض المعلمين الجهل أو سوء القصد أن قال بعضهم في الدرس: إن العرب كانوا
يجهلون علم الفلك، وإن الترك هم الذين علموهم ذلك، وهم الذين بنوا لهم المراصد!
وقال بعضهم: إنهم كانوا يجهلون فن الإحصاء، حتى علمهم الترك إياه في زمن
المأمون! وقال بعضهم: إنهم كانوا يجهلون الفلسفة، وجل ما كتب بالعربية في
الفلسفة فهو من الترك، فصار بعض الطلاب من العرب يترحمون على فيلسوفهم
المعري، ويتناشدون لاميته المشهورة بل سمعت عن معلمي بعض المكاتب ما هو
شر من ذلك وأضر، وأدهى وأمر، فيجب على نظارة المعارف أن تختار لمكاتبها
من المفتشين المنصفين المهذبين، من يكشف لها الحقيقة في ذلك، وأن تعنى أشد
العناية بتطهير معاهد العلم من هذه المفسدة، التي لا أرى شيئًا أضر على الدولة
منها.
إنه يسهل تقرير كل حقيقة فيها فضيلة لفرد أو أفراد من عنصر من العناصر،
مع تحامي إهانة غيره، لا سيما إذا كانت تلك العناصر قد وحدت بينها جنسية
أخرى أوسع من جنسية النسب واللغة، كما جمع الإسلام العرب والفرس والترك
وغيرهم فجعلهم أمة واحدة. فهل جهل أولئك المعلمون المفرقون المحللون أنهم
يجنون بتلك النزعات على دولتهم المؤلفة من عدة أجناس أكبرها وأعظمها عنصر
العرب والترك، فإذا هما انحلا تنحل والعياذ بالله، ويجنون أيضًا على ملتهم
الإسلامية، أم هم يرمون إلى ذلك؟ وكذلك يجب أن تتيقظ سائر النظارات لمثل
ذلك، فقلما يخلو شيء منها من أفراد متعصبين إلا باب المشيخة الإسلامية.
(ثانيها) العناية بتعليم اللغة العربية في مكاتبها وفي المدارس الدينية في
العاصمة وغيرها، فإن هذا يرضي العرب عامة، ويسر جميع المسلمين، ولا
يضر الترك ولا يضعف جنسيتهم، كما أنه لم يضر الفرس ولم يضعف جنسيتهم
وهم أكثر عناية من الترك بهذه اللغة من حيث إنها لغة الدين، وليسوا بمحتاجين
إليها لأجل الإدارة والسياسة؛ إذ ليس في مملكتهم ولايات عربية.
ألا إن من المحال في هذا العصر تحويل عنصر إلى عنصر أصغر منه أو
أكبر، فالحريص على جنسيته النسبية أو اللغوية في هذه الأمة العثمانية، يجب أن
يكون أمينًا مطمئنًّا عليها، والطامع من الترك في تحويل أضعف عنصر من
العثمانيين إلى العنصر التركي وإدغامه فيها، إنما هو طامع في المحال.
والمتوسل إلى مطمعه بتعظيم قومه وتحقير غيرهم، والتعصب لهم على
سواهم، إنما يطلب الشيء من ضده أو من نقيضه. ولولا أن كلاًّ من أمتنا ودولتنا
لا يقوى على مثل هذه التجارب الاجتماعية، لما كنت شديد الخوف من هذه
النزعة الجنسية فيها، فإن من يكون له ولد عزيز هو محل رجائه في إرث مجده
وماله، لا يسمح باختياره أن تجرب في جسمه الأدوية التي تجهل عاقبتها، بَلْهَ
الأدوية التي يترجح خطرها، وسوف يعلم المجربون أنهم هم الخاسرون، إذا ظلوا
في طريقهم يهرعون وأخشى أن لا يظهر خطأهم إلا حيث يعز تلافيه وتداركه.
(ثالثها) العناية بنشر العلوم والمعارف وأسباب العمران في الولايات
العربية، كغيرها من الولايات من غير أدنى فرق يمكن أن يفسر بالتعصب الجنسي
وأرى أن تكثر الدولة من المدارس الصناعية والزراعية، وتكتفي من المدارس التي
يتخرج فيها عمال الحكومة بقدر الحاجة.
(رابعها) الإخلاص التام في تنفيذ القانون الأساسي. والقيام بهذا يجمع كل
ما يراد من إعطاء كل عنصر حقه، فإن لم تفعل الحكومة هذا، فإنها تهيج عصبية
جميع العناصر عليها، حتى العرب الذين هم أشد ارتباطًا بالترك وإخلاصًا لهم ممن
سواهم، وذلك هو البلاء المبين.
قد استخف الدستور أهل البلاد العربية، فقاموا يطرون الترك، ويحثون
الناس على تعظيم شأنهم، والاتحاد بهم، وتهافتوا على جمعية الاتحاد والترقي في
كل مكان، حتى إن أهل لبنان أخذوا يتحدثون بالسعي إلى إلغاء امتيازهم، بل كتب
أدباؤهم كثيرًا من المقالات في وجوب اتحادهم بسائر العثمانيين ومشاركتهم في
مجلس المبعوثين، على أن بعض الاتحاديين قد شوهوا بعض تلك الاحتفالات بعيد
الدستور؛ إذ نفثوا فيها بشيء من سموم التعصب، كذلك الضابط الذي خطب في
حلب خطبة حقر بها العرب تحقيرًا، وشهر بهم تشهيرًا، ولكن أكثر الناس لم
يفهمها حق الفهم، ولو ألقاها في بيروت أو الشام لكان ما لا خير فيه.
ظهرت أريحية العرب بسورية ومصر وغيرتهم في مقاطعة النمسا في
تجارتها وفي الاحتفالات بالدستور، وقد ألفنا بمصر لجنة لأجل جمع الإعانات
الكبيرة للأسطول العثماني، وضعت لذلك قانونًا ليكون جمع المال عامًّا، ولكن تلك
النبئات التعصبية التي سمعت من دار السلطنة أضعفت الهمم. فإذا طال العهد على
هذا التنافر، فإن خسارته المالية والمعنوية تكون أول بوادر شؤمه، ونعوذ بالله من
أواخره.
ويسرني أن أبشر العرب بأنني رأيت من كبراء العاصمة ارتياحًا إلى حسن
التفاهم، وإزالة أسباب التنافر، ولا سيما من الصدر الأعظم حسين حلمي باشا
والعلماء الأعلام، فأنصح لهم أن يكونوا عونًا لإخوانهم على هذا الزمان كما
نصحت للآخرين {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) .
__________
(*) تابع لما نشر في (818 ج 11) من هذا المجلد.
(**) (آل عمران: 103) .
(1) كتب بعضهم في هذه الأيام مقالة في جريدة صباح بهذا العنوان يحرك بها النعرة الجنسية.(12/913)
الكاتب: رفيق بك العظم
__________
أسباب سقوط الدولة الأموية [*]
سادتي:
وعدتكم يوم الخطبة الغراء التي خطبها فينا الأستاذ الخضري في ترجمة أبي
مسلم الخراساني؛ أن أقول كلمة ألمُّ فيها بشيء من الأسباب التي دعت إلى ضعف
الدولة الأموية، وتيسر قيام الدعوة العباسية، وانتشارها في المملكة الأموية بواسطة
أبي مسلم وأضرابه من رجال الدعوة، ثم نجاحهم في الأمر، وقلبهم الدولة الأموية،
وثل عرشها، وقيام الدولة العباسية مقامها.
ولما هممت بتتبع التاريخ من أجل هذه الغاية، عذرت الأستاذ الخضري
لاكتفائه بإيراد سيرة أبي مسلم، وما كان من انتشار الدعوة العباسية؛ لأنه لو أراد
أن يطرق هذا البحث، ويتبسط في مناحيه لاحتاج إلى الوقوف أمامكم ساعات،
وأنا بعده كذلك، ومع هذا فلا نكون وَفَّيْنَا هذا البحث حقه من البيان؛ لذا ألتمس من
حضراتكم المعذرة فيما سأتلوه عليكم مختصرًا في هذا الباب، ولو أضعت وقتًا ما
في تمهيد الكلام ببحث في الخلافة؛ لارتباط هذا البحث بسقوط بني أمية وقيام دولة
العباسيين.
تمهيد
تعلمون أيها السادة أن السلف اختلفوا في: هل الخلافة واجبة شرعاً أو عقلاً؟
والذين قالوا: إنها واجبة عقلاً، قالوا: إنها وجبت بالعقل؛ لما في طباع العقلاء
من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم، إلى
آخر ما قالوه.
وتعلمون أن ما وجب بالعقل وجب تحكيم العقل فيه، ولما كان تعريف الخلافة
أنها حمل الكافة على الشرع، وإنما تحمل الكافة على الشرع بمن تتوفر فيه شروط
اللياقة لتولي أمور الأمة أيًّا كان من المسلمين، فقد ترك الشارع صلى الله عليه
وسلم أمر الخلافة لرأي الأمة، تحكم فيه ضمائرها وعقولها دون أن ينص على
شخص بعينه.
ومما يدلنا على أنه ليس هناك نص ديني من قبل الشارع على تخصيص
الخلافة بعلي أو العباس وآلهما أو غيرهم من المسلمين؛ أن أبا بكر لما احتج على
الأنصار يوم السقيفة، لم يحتج عليهم بخبر عن الرسول، بل بالكفاءة والاستحقاق
ورضا الأمة فيمن تختاره أميرًا عليها، حيث قال:
(يا معشر الأنصار: إنكم لا تذكرون فضلاً إلا وأنتم له أهل، وإن العرب
لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش؛ هم أوسط العرب دارًا ونسبًا، قد رضيت لكم أحد
هذين الرجلين) وأخذ بيدي عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح , فكثر اللغط
بين الأنصار حتى بادر عمر بن الخطاب وقال: ابسط يدك أبايعك , فبسط
يده، فسبقه بشير بن سعد من الأنصار فبايعه، وبايعه سائر الناس.
ولو كان هناك نص على علي، لما فات أبا بكر وسائر الناس، ولما قال
الأنصار منا أمير ومنكم أمير، وهم أول من نصر رسول الله في حياته، فلا
يعدلون عما أمر به بعد وفاته، وعلي نفسه اعترف بصحة خلافة أبي بكر، ولم
ينازعه عليها باسم الدين؛ إذ خطب مرة فقال:
(لقد أمر النبي أبا بكر أن يصلي بالناس، وإني شاهد وما أنا بغائب، وما
بي مرض، فرضينا لدنيانا ما رضي به النبي لديننا) .
توفي أبو بكر، فولي الخلافة بعهد منه عمر بن الخطاب ثم توفي عمر،
فصرفتها الشورى إلى عثمان، وعلي معروف المكانة من الدين والقرابة من رسول
الله، فلم يقل فريق منهم بصرفها إليه باسم الدين، وكل ما قيل وكتب بعد ذلك من
المغامز التي غمزت بها الشورى، أو غمزت بها ولاية أبي بكر وعمر ليست
بصحيحة، وما جاء من أخبار الخلاف على الخلافة بين الصحابة، لا يحمل على
غير ما يقع عادة من النزاع بين المتنافسين على الإمارة في كل أمة وجيل، لكن
صَوَّرَهُ الإمامية بعدُ بالصورة التي توافق مذاهبهم السياسية والدينية، حتى تمكنوا
من صبغه بصبغة الدين، والقول بوجوب الإمامة شرعًا لعلي وآله، وسوقها بعد
ذلك في بنيه أو بني عمه العباس باسم الدين.
علمتم أيها السادة من هذه المقدمة؛ أن الخلافة صارت إلى أبي بكر ثم إلى
عمر ثم إلى عثمان رضي الله عنهم، ولم يقم بين العرب من أجلها أدنى نزاع باسم
الدين، بل كان العقل هو المحكم والمصلحة رائد جمهور العقلاء من الأمة بقطع
النظر عما إذا كان علي (رضي الله عنه) حقيقًا بالخلافة، فإنه حقيق بلا شك ولا
ريب، وإنما كانت هناك ظروف وأحوال، إذا وصل إلينا خبر بعضها، فإنا نجهل
بعضها الآخر بتاتًا، وقد راعى جمهور الصحابة تلك الظروف والأحوال مماشاة
لسنة الطبيعة والعقل، فقدموا عليه الثلاثة الكرام، ولو كان للدين حكم باستخلاف
علي لما عدلوا عنه إلى العقل، ومكانتهم من الدين سامية، شهد لهم بها القرآن
الكريم والنبي العظيم.
إذًا فمن أين دخلت السياسة في الدين، فجعلت الخلافة حقًّا شرعيًّا من حقوق
آل البيت، ومتى ظهر النزاع عليها باسم الدين، وظهرت مقالة الإمامية التي
تلتها بدع كانت آفة المجتمع الإسلامي، ومنها مسألة المهدوية التي عانى
ويعاني المسلمون مضضها إلى اليوم؟ الجواب عن هذا يعرفه كل مطلع على
التاريخ وكلكم مطلع عليه: دخلت السياسة في الدين، وظهرت مقالة الإمامية
لما دخل الأعاجم في الإسلام، وظهر هذا الدين وأهله على الأمم، وذلك بعد
مضي صدر خلافة عثمان.
وأول من قام بهذه الدعوة عبد الله بن سبأ وإخوانه من الموالي وأبناء الملل
الأخرى الذين دخلوا في الإسلام، وابن سبأ هذا هو من الذين أحرقهم علي (رضي
الله عنه) لغلوهم فيه.
تلك البذرة الصغيرة التي بذرها ابن سبأ وإخوانه من جمعية الدعوة العلوية،
أنبتت ذلك النبات العظيم الذي قوي فيما بعد على ما حوله، فأكل دولة الأمويين في
المشرق أكلاً بعد أن دخلها الضعف من جهات أخرى، وهذا موضوع البحث، وها
أنا ذا متكلم فيه.
الموضوع
تولى عثمان (رضي الله عنه) الخلافة بانتخاب أهل الشورى، وعمل فيها
ست سنين لا ينقم المسلمون منه شيئًا، وإنما اضطرب أمره في السنين الست التالية
من خلافته، حيث اتسعت دائرة الفتح، وكثر الموالي اللاجئون إلى المدينة من
الأطراف، ودخل في الإسلام أو تحت سلطته أقوام لم يكن لهم ما للعرب يومئذ من
العصبية والقوة والأخلاق الحربية العالية، فخضعوا لجيوش العرب طوعًا أو كرهًا،
وكان استغراقهم في الحضارة، جعل فارقًا عظيمًا بينهم وبين العرب الذين كانوا
على جانب عظيم من سلامة الفطرة والأخلاق الثابتة المستقيمة، فكان ذلك من
الوسائل التي جعلت أولئك الأقوام يأتون العرب من جهة العقائد تارة والسياسة
أخرى، فألقوا بينهم أول بذرة من بِذار التفريق في الدين والسياسة بواسطة الدعاة
منهم؛ كعبد الله بن سبأ المذكور وحمران بن سودان، والأول لم يترك مصرًا من
الأمصار الكبيرة كالشام ومصر والبصرة والمدينة إلا دخله؛ لأجل بث الدعوة،
وزرع هذه البذار الجديدة في النفوس.
والأرض البكر الصالحة سريعة الإنبات بالضرورة، ولا سيما أن العرب
محبون بطبعهم للتحزب ميلاً مع العصبيات التي كانت تتنازعهم في عصر الجاهلية
فتقبلوا الدعوة إلى نصرة عليّ، وأنه أحق بالخلافة دينًا بشيء من القبول، وأخذت
تتمكن من نفوس بعضهم هذه المقالة الجديدة، حتى أفضت إلى انقسامهم إلى حزبين
ينتصر أحدهما لعلي والأخر لعثمان.
قامت الفتنة من ثم على الوجه الذي عرفناه في التاريخ، وانتهت بقتل عثمان
(رضي الله عنه) ، وقيام علي ومعاوية يتنازعان إمارة المؤمنين، وانقسم يومئذ
هذان الحزبان إلى أحزاب أخرى سياسية ودينية، كانت الغلبة فيها للقسم الذي شايع
معاوية باسم القوة والعصبية لا باسم الدين والشريعة؛ لأن الشريعة نفسها تحتاج في
تنفيذها واستمرارها إلى القوة كما تعلمون.
لما تطاحن العرب من أجل النزاع على الخلافة، بتلك الروح الدينية التي بثها
بينهم دعاة الفتنة، ورأى فريق منهم أن عاقبة هذه الحرب الآكلة، ربما أتت على
العرب ودينهم وملكهم من أجل الإمارة , أجمعوا رأيهم على الخروج عن جماعة
المتقاتلين، وألفوا لأنفسهم حزبًا سياسيًّا برئاسة عبد الله بن وهب الراسبي، غايته
نسف الخلافة وطلابها من قريش نسفًا، وأن يقام الإمام من غير قريش على شرط
أن يحكم برأيهم، وعلى ما يشيرون به أو ينتهجون له من طرائق العدل وإلا عزل
ونصب غيره، وإلا فلا لزوم لإمام أصلاً. ومعناه أن تكون الحكومة جمهورية
بالضرورة، وإليكم ما قاله عن هذا الحزب صاحب الملل والنحل قال:
(إنهم جوزوا أن تكون الإمارة في غير قريش، وكل من ينصبونه برأيهم،
وعاشر الناس على ما مثلوا له من العدل واجتناب الجور كان إمامًا، ومن خرج
عليه يجب نصب القتال معه، وإن غير السيرة وعدل عن الحق وجب عزله أو قتله،
وهم أشد الناس قولاً بالقياس، وجوزوا أن لا يكون في العالم أمام أصلاً، وإن
احتيج إليه فيجوز أن يكون عبدًا أو حرًّا أو نبطيًّا أو قرشيًّا) .
هذا رأيهم الذي أورده صاحب الملل والنحل، ومنه تعلمون أن مبدأهم
جمهوري بحت لا سيما في التشريع، يظهر لنا ذلك كل الظهور من قوله: من
ينصبونه برأيهم، وعاشر الناس على ما مثلوا له أي: على ما سنوا وشرعوا له
بالضرورة.
وقوله: وكانوا أشد الناس قولاً بالقياس. وكلكم يعلم ما هو القياس بالنسبة
لمن يريد التوسع في الأحكام بما يدور مع الزمان والحاجة؛ ولذا فقد جاز لنا أن
نسمي هذا الحزب؛ أول حزب جمهوري في مباديه ومراميه ظهر في الإسلام، ولو
لم يعجل باستعمال السلاح لتأييد مباديه، وحمل الأمة عليه بالقوة، وانتظر
ريثما تسأم جماعة معاوية الحرب القائمة من أجل الخلافة كما سئمتها جماعة علي،
لكانت مباديه هي السائدة إلى ما شاء الله في الأمة الأمية، ولا نقطع النزاع على
الخلافة منذ ذلك الحين.
ولكن من الأسف، أن ذلك الحزب لما عجل باستعمال القوة بعد مؤتمرهم الذي
عقدوه في حروراء خارج الكوفة، ودعوا من أجله بالحرورية، اضطر أمير
المؤمنين علي لقتالهم، وقاتلهم في النهروان، وكانوا نحو عشرة آلاف فقتلهم
جميعا إلا عشرة منهم أفلتوا من القتل، وتفرقوا في البلاد، وأخذوا يبثون دعوتهم
سرًّا فكان من ذلك ماذا؟
كان من ذلك أن انقلبوا إلى جمعية سرية، أقرت على الفتك بعلي ومعاوية
وعمرو بن العاص قائلة: فلنرح البلاد منهم، كما ذكر ذلك المؤرخون؛ لتبقى
إمارة المؤمنين شاغرة للأمة من المتنازعين عليها من قريش، وتختار الأمة أميرًا
عليها من شاءت من عامة المسلمين أو خاصتهم، كما هو من مقتضى مباديهم
التي مر ذكرها.
انتدب لهذا الغرض ثلاثة منهم هم عبد الرحمن بن ملجم المرادي للفتك بعلي،
وعمرو بن بكر التميمي لعمرو بن العاص، والبرك بن عبد الله الصريمي لمعاوية،
واتعدوا لسبع عشرة من رمضان، فقتل ابن ملجم عليًّا، ولم يتمكن الاثنان
الآخران من معاوية وعمرو، كما هو معروف في التاريخ.
وكانت هذه الجمعية السرية ثانية جمعية تألفت في الإسلام بعد الجمعية السبئية
التي تأسست في خلافة عثمان؛ للدعوة إلى علي كما تقدم في صدر البحث،
ومباديهما متباينة بل متضادة كما تعلمون.
بعد ذلك استصفى معاوية الخلافة لنفسه، وأدالها عن آل علي باستنزال
الحسن (رضي الله عنه) عنها، وأن يترك منازعته عليها، فتم له الأمر بهذا
وجمع كلمة العرب عليه واستمالهم إليه، فكانت له منهم عصبية كبيرة احتمى عنها
بها، وضرب ضعيفها بقويها، وقبض على زمام الخلافة بيد من حديد، وحماها
بلسان من سكر، واستمال بدهائه بني هاشم والمهاجرين وأبناء المهاجرين وجلة
الصحابة، تارة بالترغيب وتارة بالترهيب، حتى ملك ألسنتهم وقلوبهم، فانفرط
عقد الناس إلا عن بني أمية، واجتمعت كلمتهم على تأييد هذه الدولة أيما تأييد.
لكن هل زالت تلك الروح التي بثها دعاة الإمامية من الوجود، وهل أمكن
لمعاوية ومن خلفه أن يقتلعوا ذلك الغرس الذي غرسه خصومهم بالأمس؟
كلا، إن تلك الروح باقية، وذلك الغرس كان ينمو ليثمر ويأكل منه غارسوه
من غير العرب، ولو بعد قرن، وما القرن من أعمال الدول والأمم إلا كيوم مما
تعدون.
اغتصب الأمويون الخلافة اغتصابًا، والغاصب خائف كما يقولون، وهم إذا
تدرعوا بالقوة والعصبية، فخصومهم من بني هاشم متدرعون بالدين والمكانة الأدبية
التي لهم بين المسلمين، والعواطف الدينية إذا تكونت ونمت واندفعت بأهلها تدك
العروش وتزلزل قوات الدول، فاضطر الأمويون بعد معاوية إلى مطاردة بني هاشم،
والتنكر لهم، وفعل يزيد فعلته الشنعاء بأبناء فاطمة، فكان ذلك داعيًا إلى حذر
بني هاشم وسكوتهم إلى حين، وتستر شيعتهم وعملهم في الخفاء، إلى أن قامت
دولة بني مروان وآلت الخلافة إلى عبد الملك، فتولاها والفتنة مستعرة في
الأطراف، فالخوارج يريدون محو الخلافة، وشيعة المختار بن أبي عبيد الثقفي
يطالبون بدم الحسين، وعبد الله بن الزبير ينازع الأمويين على الخلافة، وعمرو
ابن سعيد الأشدق يريدها لنفسه , فماذا يصنع خليفة يستقبل مثل هذه العواطف؟
وبماذا تعيش دولة قامت في بحر من الدم؟
لا جرم أنها تلجأ إلى أقصى ما عندها من القوة، وتستعمل منتهى القسوة،
والقسوة تملأ الصدور حفيظة، وتلجئ الخصم إلى استعمال أساليب الختل، والتحيل
على أخذ الخصم على غرة منه.
ذلك ما دعا عبد الملك إلى استعمال منتهى القسوة في إخماد هذه الفتن، وألجأ
أخلافه إلا قليلاً منهم إلى انتهاج منهجه في معاملة الخارجين عليهم، واستعمال مثل
الحجاج بن يوسف في الأمصار النائية، واشتداد هؤلاء العمال على الناس، حتى
كان ذلك من جملة الأسباب التي أوغرت على الأمويين الصدور، ومهدت للدعوة
الهاشمية سبيل الانتشار في الخفاء، وعجلت على دولة بني أمية بالدمار.
بلغ من قسوة عبد الملك وإظهاره الشدة في تهديد من يناوئه؛ أن خطب بعد
قتل الزبير عام خمس وسبعين خطبة، قال فيها:
(أما بعد، فلست الخليفة المستضعف (يعني عثمان) ، ولا الخليفة المداهن
(يعني معاوية) ، ولا الخليفة المأفون (يعني يزيد) ، ألا وإن من كان قبلي من
الخلفاء كانوا يأكلون ويطعمون من هذه الأموال.
ألا وإني لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف، حتى تستقيم لي قناتكم.
تكلفوننا أعمال المهاجرين ولا تعملون مثل أعمالهم. فلن تزدادوا إلا عقوبة،
حتى يحكم السيف بيننا وبينكم! هذا عمرو بن سعيد قرابته قرابته وموضعه موضعه، قال برأسه هكذا فقلنا بأسيافنا هكذا.
ألا وإنا نحمل منكم كل شيء إلا وثوبًا على أمير، أو نصب رأيه. ألا
وإن الجامعة (أي القيد) التي جعلتها في عنق عمرو بن سعيد عندي، والله لا
يفعل أحد فعله إلا جعلتها في عنقه، والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي
هذا إلا ضربت عنقه، ثم نزل) .
نعم.. إن السيوطي أوهن سند هذه الخطبة بقوله: في إسنادها الكريمي وهو
متهم بالكذب، لكن من درس أخلاق عبد الملك بن مروان لا يستبعد عليه النطق
بهذه الخطبة، اللهم إلا الفقرة الأخيرة، فربما كانت مدسوسة عليه، ومن أجلها
شكك السيوطي في صحة الخطبة، وإلا فإن قساوة الطبع التي عرف بها عبد الملك
لا يحتاج إثباتها إلى كثير إمعان، فإن تطبعه بالقساوة أكسبه خلق الثبات والجلد،
حتى ما يعبأ بالمصائب إذا توالت عليه.
ففي رواية لابن عساكر عن إبراهيم بن عدي قال: رأيت عبد الملك بن
مروان وقد أتته أمور أربعة في ليلة، فما تنكر ولا تغير: قتل عبيد الله بن زياد،
وقتل حبيش بن دلجة بالحجاز وانتقاض ما كان بينه وبين ملك الروم، وخروج
عمرو بن سعيد إلى دمشق، يعني مشاقًّا.
ولكي ينهج ابنه الوليد في الشدة منهجه، ولا تأخذه هوادة في أمر الملك أو
الخلافة، أوصاه قبل وفاته بوصية فيها:
يا وليد اتق الله فيمن أخلفك فيه - إلى أن قال: وانظر الحجاج فأكرمه، فإنه
هو الذي وطأ لكم المنابر، وهو سيفك يا وليد على من نأوءك، فلا تسمعن فيه قول
أحد، وأنت إليه أحوج منه إليك، وادع الناس إذا مت إلى البيعة، فمن قال برأسه
هكذا، فقل بسيفك هكذا) .
على أن الوليد مع استعماله منتهى اليقظة في ولايته، لم يسلك في الشدة مسلك
أبيه، بل عدل عنها إلى الفتح والإحسان إلى الناس، وشغل المسلمين بالفتوح
والعمران، فشيد المصانع والمستشفيات والمساجد الكبيرة؛ كمسجد دمشق والمسجد
الأقصى، وكتب إلى البلاد بإصلاح الطرق، وجعل لكل أعمى قائدًا، ولكل زمن
خادمًا، وأقام الفنادق فيما بين البلدان تسهيلاً على أبناء السبيل، وأمر بحفر الآبار
في الحجاز، إلى غير ذلك من الأعمال النافعة.
وبالجملة فقد كان عُمْرَانيًّا محبًّا لرقي البلاد، حتى كان الناس على عهده لا
يتكلمون بغير العمران، ووجَّه همه إلى انتقاء العمال، فولى خالد بن عبد الله
القسري مكة، وعمر بن عبد العزيز المدينة، وموسى بن نصير بلاد المغرب،
ففتح الأندلس كما هو معروف، وكثر الفتح في زمنه، ففتح قتيبة بن مسلم ما وراء
النهر إلى بخارى وسمرقند؛ أي: التركستان، وتجاوزها إلى بلاد التبت ففتح
عاصمتها كاشغر، وأوغل مسلمة بن عبد الملك من جهة أرمينيا في جبال القفقاس.
وهكذا انتهت مدة خلافة الوليد على أحسن حال رآها الأمويون؛ إذ استفحل
ملكهم، وعلا شأنهم وشأن دولتهم، وأحبهم العرب، حتى إذا ولي الخلافة سليمان
بن عبد الملك أراد قتيبة بن مسلم أن يخلع طاعته لأسباب لا محل لذكرها، فلم
يوافقه على ذلك جند خراسان، ووقع بينه وبينهم خصام أفضى إلى قتله، فخسرت
الدولة فاتحًا من أكبر الفاتحين في الإسلام، وسار سليمان في الناس سيرة حسنة
أيضًا، لم تجعل للناقمين من دولته سبيلاً إليها، وختم أعماله بأحسن عمل له وهو
عهده بالخلافة إلى عمر بن عبد العزيز، وكلكم يعرف من هو عمر بن عبد العزيز.
إلا أن سليمان غرس بيده غرس الدولة العباسية، وقد سبقني الأستاذ
الخضري، فذكر لكم في خطبته الماضية كيفية تسميم أبي هاشم عبد الله بن محمد
بن الحنفية الذي كان الشيعة يدعون إليه، وعهده بالأمر بعده إلى محمد بن علي بن
عبد الله بن عباس، فلا لزوم للإعادة هنا.
كان الأمويون شديدة الحذر من آل علي كما ذكرنا، وكان هؤلاء بعد نكبتهم
في خلافة يزيد قليلي الجرأة على الظهور؛ لشدة العمال عليهم، ومراقبتهم لحركاتهم
وسكناتهم، ولأن الخلفاء من بني أمية كانوا مع شدة حذرهم منهم يراعون مكانتهم،
ويحسنون إليهم، فلم ينزع أحد منهم إلى الخروج عليهم لضعفهم إلا زيد بن علي،
فقد خرج في خلافة هشام، فقتل في الكوفة وقتل ابنه يحيى في خراسان، أما تسميم
أبي هاشم فقد كان بأمر سليمان بن عبد الملك؛ لأنه خاف جانبه لما رأى فيه من
النجابة والذكاء.
وربما كان هناك سبب آخر لضعف آل علي من بني فاطمة؛ وهو أن الذين
بقوا منهم أحياء بعد نكبتهم في كربلاء أطفالاً، لا يصلحون لقيادة الناس، فالتف
الشيعة حول محمد بن علي المعروف بابن الحنفية من غير ولد فاطمة، وهكذا
ساقوا الإمامة في بنيه من بعده، كما ساقها غيرهم إلى بني فاطمة أيضًا، وانتقلت
من ثمَّ إلى أبي هاشم إلى بني العباس.
لا جرم أن سليمان بن عبد الملك جنى على دولته بقتل أبي هاشم؛ لأن آل
علي كانوا لشدة ما عانوا من المراقبة والاضطهاد شديدي الحذر، بطيئي الخُطى في
الوثوب على الخلافة الأموية، والظهور لمنازعة الأمويين عليها، فتلقى العهد بها
آل العباس وهم بعيدون عن سوء الظن والمراقبة، لم يعانوا مشاق الدعوة، ولم
يذوقوا طعم الاضطهاد فيخافوا الوقوع فيه. ولذا ما لبث أن عهد إلى محمد بن علي
بالأمر، حتى نهضوا بأعباء الدعوة بجرأة عظيمة، وكان لإبراهيم بعد موت أخيه
محمد ما كان مع أبي مسلم بتفويض أمر الزعامة إليه، وقيام هذا ببث الدعوة أحسن
قيام، حتى استفحل أمرها، وظهرت على خصومها.
أحس الأمويون بهذا الخطر السريع، فبادروا إبراهيم الإمام بالقتل، فنهض
أبو العباس السفاح بعد قتل أخيه إبراهيم، وعاجل الأمويين بالوثوب عليهم قبل أن
يدب الفشل في أهله وشيعته، منتهزًا فرصة وقوع الشقاق بين الإخوة وأبناء الأعمام
من آل مروان، وتلظي المملكة الأموية بنار الفتن، وظفر بما أراد وقضى على
دولة الأمويين في المشرق، فذهب كأن لم تكن بالأمس.
على أن ظفر العباسيين على هذا الوجه وبهذه السرعة، له بواعث وأسباب
أخرى؛ كاختلال نظام الدولة وغيره، أرى أن أُلمَّ بها على قدر ما يمكنني من
الاختصار.
تعلمون أن الدولة تموت برجل وتحيا بآخر، وأن الرجال في الدول قليل،
والدولة الأموية لما فقدت رجالها، فقدت جانبًا عظيمًا من قوتها، وأعني بأولئك
الرجال الرجال المخلصين الذين يخدمون الدولة بمنتهى الصداقة، بقطع النظر عما
ينسب إلى أفراد منهم من القسوة، فيتهمونهم من أجل ذلك بالظلم؛ إذ الرجال
يصطبغون بصبغة الدولة، ويتشكلون بشكلها، والدولة الأموية لما كانت دولة مطلقة،
لزم أن يسير عمالها على سننها.
من رجال الدولة الأموية المخلصين: موسى بن نصير والحجاج بن يوسف
وخالد بن عبد الله القسري ويزيد بن المهلب، وقتيبة بن مسلم وأضرابهم، ومن
خطأ الخلفاء الأمويين أنهم لم ينصفوا أمثال هؤلاء الرجال، فأحرجوا مَنْ أحرجوه
منهم، حتى أخرجوه فقتلوه؛ كخالد بن عبد الله، وقتيبة بن مسلم، ويزيد بن المهلب،
الذين ذهبوا ضحايا سوء الظن أو سوء التفاهم، وموسى بن نصير الذي زج به
في السجن في نظير فتحه الأندلس ومات أقبح ميتة، ففقدت الدولة بفقد هؤلاء
الرجال وأمثالهم جانبًا لا يقدر من قوتها، وأخذت تنحط من ثم هيبتها.
أما الحجاج فموته في الحقيقة مبدأ أفول نجم الدولة؛ لأنه كان يدها التي بها
تضرب، وعينها التي بها تبصر، فإنه بعد أن أخمد لهم فتنة ابن الزبير كان واليًا
على الكوفة وإليه ولاية خراسان، وكلا المكانين عش الفتنة، ومنبع الدعوة
الإمامية، ومع هذا فقد ضبط البلاد، وأرهب ببطشه المنازعين للدولة، والنازعين
إلى الشغب. وأحسن في انتقاء العمال والقواد، فامتد ملك الأمويين على عهده إلى
كابل من بلاد الأفغان شرقًا، والتركستان الصينية شمالاً، ولو وجد بعد من
يخلص من الولاة للدولة إخلاصه، ويكون في مثل حزمه وعزمه لطال عمر
الدولة الأموية بلا ريب.
ولعل نوابغ الرجال يكثرون في مبدأ نشوء الدولة، وإن كانت هذه النظرية
تحتاج إلى تمحيص.
ومما ساعد أيضًا على اختلال نظام الدولة الأموية تباعد أطراف المملكة، بما
صار إليهم من الفتح إلى عهد هشام بن عبد الملك، إذا اتسعت دائرة ملكهم إلى ما لم
تبلغه قبلهم غير دولة الرومان.
فما بين النهرين المعروف بالجزيرة وإيران، وقسم من الأفغان والتركستان
والتبت والقوقاس وأرمينيا وشبه جزيرة العرب وسورية ومصر، والمغرب
والأندلس، كل هذه الممالك دخلت في حوزتهم، وأصبحت خاضعة لسلطانهم.
وضبط مثل هذا الملك المترامي الأطراف مع صعوبة المسالك والمواصلات لذلك
العهد متعذر جدًّا، ولا سيما على أمة حديثة في عهد سياسة الأمم , ولذا فقد كانت
تكون الفتنة في طرف من أطراف المملكة بين الجنود والأمراء المتنازعين على
الولاية، وتنتهي بقتل وال وقيام غيره وربما انتهت بغلبة المشاغب أو النازع وضم
البلاد إلى حوزته، واستقلاله بالولاية عليها دونه، وفصلها عن جسم الدولة،
والخليفة لا يعلم ذلك، أو لا تصل قدرته إلى إخماد نار الفتنة في تلك البلاد النائية.
مثاله ما وقع في المغرب في خلافة الوليد بن يزيد سنة سبع وعشرين ومائة،
إذ تنازع عبد الرحمن بن حبيب من ولد عقبة بن نافع الفهري فاتح أفريقية مع
حنظلة بن صفوان والي أفريقية، فكانت الغلبة للأول، واستأثر بالسلطة على البلاد
وبقيت أفريقية مستقلة عن الخلافة الأموية حتى قيام الدولة العباسية.
ومثل هذا وقع في الأندلس، وفي بعض الأطراف السحيقة، ولا يخفى ما في
هذا من الوهن والخطر على المملكة.
ثم إن من الأمور الثابتة في الاجتماع أن الدول الحربية الفاتحة، لا تزال في
أفق مجدها مادامت على الخشونة، ومادام الراعي والرعية مترفعين عن الانغماس
في الترف والاستغراق في ملاذ الحضارة، قد عرفنا هذا في كثير من الدول البائدة
كدولة اليونان، وخلفاء دارا، والإسكندر (أي البطالسة) والرومان، حتى لقد قال
مونتسيكو في تاريخه أسباب صعود الرومان وهبوطهم: (إن دخول الرومانيين إلى
الشام كان مبدأ ضعفهم؛ بسبب ما كان متسلطًا على أهلها وملوكها من الرخاوة
والترف) .
والدولة الأموية إنما هلكت في نفس تلك البيئة التي هلك بها الرومان من قبل
وبعد أن حافظت على خشونتها الأولى إلى خلافة هشام، بدأت في خلافة الوليد بن
يزيد المعروف بالتهتك، تنحط عن خشونتها التي عرفت بها، وأخذ الخلفاء من ثم
يميلون إلى الترف والراحة والاستغراق في الملاذ تبعًا لأحوال البيئة التي نشأوا فيها،
وهذا بالضرورة كان من الأسباب التي عجلت على دولتهم يضاف إليه انقسام
العرب في خراسان التي هي منبع الدعوة العلوية والعباسية إلى مضرية ويمانية،
وتنازع رؤسائهم على الولاية في إبان استفحال الدعوة.
مثاله ما وقع بين الحارث بن سريج والكرماني، وبين هذا وقحطبة، وبينهما
وبين نصر بن سيار، حتى ملت نفوس العرب هذه الحال، وسئمت ممارسة
الحرب، ورأوا أنفسهم تباع ضحايا لقحطان وعدنان، وتزهق في سبيل المتنازعين
على الخلافة من قريش، حتى قال قائلهم:
تولت قريش لذة العيش واتقت ... بنا كل فج من خراسان أغبرا
فليت قريشًا أصبحوا ذات ليلة ... يعومون في لج من البحرأخضرا
لا جرم أن الذي بث روح الشقاق بين العرب في خراسان، إنما هم أهل
الدعوة الهاشمية من علويين وعباسيين، والذي أنجح قصد أبي مسلم في نشر الدعوة
العباسية وقلب الدعوة الأموية، تواطؤ سكان البلاد الأصليين على قهر الأمويين
وفل عصبيتهم العربية، وقد عرف إبراهيم الإمام منازع الفرس وعلم أن دولته تقوم
بغير العرب من الناقمين منهم، وأنَّ العرب شديدوالعصبة للأمويين؛ لاصطباغهم
بالصبغة العربية الخالصة، فكتب فيما كتب إلى أبي مسلم أن لا يبقى في خراسان
إن استطاع، فجعل رجال الدعوة يضربون العرب بعضهم ببعض؛ لأن قسمًا كبيرًا
منهم ممن نقم من الأمويين كما تقدم في صدر الكلام قبل الدعوة، وصار من
القائمين بها العاملين على تشييد دعائمها تعبدًا واعتقادًا.
هكذا أثمر الغرس الديني الذي غرسه قبل ذلك بقرن ابن سبأ وأضرابه من
الموالي الناقمين من الدولة السائدة، واستحال على العرب في المشرق استبقاء
السلطة خالصة لهم من دون الأمم الأخرى المحكومة منهم، وقد جرت سنة الوجود
هذا المجرى في كثير من الأمم من قبل.
قال مونتسكيو: اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون للممالك حدود طبيعية،
تمسك بأعنة الملوك عن تجاوز هذه الحدود وتعدي بعضهم على بعض، ولما تجاوز
هذه الحدود الرومانيون، أهلكهم البرث؛ أي: قدماء الفرس، وبددوا شملهم
ولما تجاوزها البرث أنفسهم، اضطروا لأول أمرهم للرجوع إلى أراضيهم.
وأقول: إن العرب أصيبوا بما أصيب به الرومان والبرث، وطبائع الاجتماع
تعذر أولئك الأقوام على ما فعلوه مع العرب، وحسب العرب أن نشروا بينهم دين
الإسلام، فلا مؤاخذة ولا ملام، ولا سيما أن الإسلام يرمي بطبيعته إلى محو الحدود
والسياسة الجنسية بين الشعوب، كما ترمي إلى مثل هذا مبادي جماعات
السوسيالست أو الاشتراكيين أو الاجتماعيين لهذا العهد.
ورب قائل يقول: إن هذا الانقلاب؛ أي: انقلاب الدولة الأموية إلى عباسية،
لم تكن نتيجته كلها كما يريد أولئك الأقوام المغلوبون للعرب؛ إذ دولة الأمويين
عربية قرشية ودولة العباسيين كذلك.
الجواب عن هذا يأتي من وجهين: الوجه الأول أن أمم المشرق لذلك العهد
قلما كانت تقدر قيمة الحرية الكاملة، لفنائها في وجود زعماء الاجتماع الشرقي، أو
كما قال مونتسكيو: إن أمم آسيا لم يكن ميلهم إلى الحرية كميل أمم أوربا إليها
اليوم؛ أي: لعهده - ليحملهم على الخروج من الأسر والاستعباد، وإنما كان ميلهم
إلى تغيير الملك، ولا صبر لهم على بقائه طويلاً) .
وسواء صحت هذه النظرية أو لم تصح، فإنه يجوز لنا تطبيقها على الأمم
التي دخلت تحت حكم العرب لذلك العهد، باعتبار أن الإسلام جمع بينهم جميعًا،
فلا فرق عند الفرس وغيرهم أن يكون الخليفة أو الملك عربيًّا أو غير عربي، مادام
الملك آثلًا إلى غير الدولة التي نقموا منها، ومادام مصير أكثر السلطة إليهم، بعد
فل حد العصبية العربية التي كانت قائمة في دولة الأمويين، متسلطة بقوتها على
كل شيء.
وقد كان ما أرادوه بقيام الدولة العباسية التي لم يكن لها من العربية إلا الاسم،
وهي مصطبغة بالصبغة الأعجمية، مشتبكة مع العناصر الأخرى بالنسب والصهر،
مشاركة لهم بمصالح الدولة كما تعلمون.
هذا الوجه الأول، أما الوجه الثاني: فانتظار النتيجة الطبيعية لمثل هذا
الانقلاب، ولو في المستقبل البعيد، وتلك النتيجة هي أن اصطباغ الدولة أو الأمة
السائدة بصبغة أهل البلاد، يحيلها مع الزمن إلى عنصر هذه الصبغة، والعكس
بالعكس، إذ من الشعوب من اصطبغوا بصبغة العرب بعد الفتح، فاندمجوا فيهم،
ومن الشعوب من اصطبغ العرب بصبغتهم، فاندمج هؤلاء فيهم، وهذا ما وقع
لسكان آسيا الوسطى بعد قيام الدولة العباسية ثم سقوطها، وقيام غيرها من
الحكومات الوطنية على أنقاضها، وهكذا رأينا دولة الفرس وغيرها من الدول
الإسلامية دينًا المختلفة جنسًا قد عادت إلى أصلها، وهي قائمة إلى الآن، وستبقى
قائمة عزيزة الجانب، منيعة الجناب إلى الأبد، إن شاء الله.
وهكذا نرى الخلافة الإسلامية التي سالت من أجلها أو باسمها تلك الدماء
الغزيرة، صارت إلى غير العرب اليوم، وفي دولة هي أعز دول الإسلام مكانًا،
وأجدرها بحفظ بيضة الخلافة، ولم يمنع الدين أن تكون إليها الخلافة، كما لم يمنع
أن تكون فيمن يقع عليه اختيار الأمة ورضاها في عهد الصحابة الكرام، ولو من
غير بني هاشم، والتاريخ يعيد نفسه.
هذا ما أمكنني إيراده من أسباب انحطاط الدولة الأموية ثم انقراضها، تلوته
عليكم أيها السادة بوجه الاختصار؛ لأن الاستقصاء والتتبع وبسط كل الأسباب
والنتائج، لا تقوم به خطبة؛ لأنه تاريخ دولة بأكملها.
أما ما يقوله بعض المؤرخين: من ظلم الدولة الأموية، ويعزي إليه دمارها
فمبالغ فيه، وما كان منه صحيحًا فهو في نظري ثانوي، بالنسبة للأسباب التي
ذكرتها وتكاد تكون نتائجها طبيعية، وليس من دولة في الأرض قائمة بالعدل
المحض، حتى الدول المقيدة ناهيك بالمطلقة.
ومن قال: إن دولة الأمويين كانت ظالمةً، وإن ظلمها هو الذي جر عليها
الدمار، فجاهل بأحوال الاجتماع أو متعصب لدولة أخرى، ولو طولب بالدليل على
أن الدول التي قامت دولة الأمويين على أنقاضها كالفرس والروم والغوط وغيرهم،
كانت أعدل منها لما استطاع إليه سبيلاً.
والحقيقة أن الخلفاء الأمويين كانوا أشداء على خصومهم دون سائر الناس،
وكانوا في منزلة من العناية بالرعية، والاهتمام بالعدل بين الناس فوق منزلة كثير
من الحكومات المطلقة، وحسبك أن أشدهم قسوة وهو عبد الملك بن مروان استهل
وصيته لابنه الوليد حين الاحتضار بقوله: يا وليد اتق الله فيمن أخلفك فيهم،
والشواهد على مثل هذا كثيرة لا يسعها المقام، وحسب تلك الدولة فضلاً فتوحها
العظيمة، التي سودت دين العرب ولسانهم على أحسن أجزاء المعمور إلى اليوم،
وتلك الأيام نداولها بين الناس.
وبعد، فإني لست في مقام الجرح أو التعديل، وإنما أنا باحث في التاريخ،
أقول ما تبادر إلى فهمي وما بلغ إليه علمي من غير أن أقصد التحيز إلى فئة دون
أخرى، أو شخص دون آخر، وكل ما بسطته لديكم لم أرد به غير الوجهة
التاريخية. فأرجوكم الصفح عما إذا كان زل لساني بخطأ سمعتموه؛ إذ الإنسان محل
الخطأ والنسيان، والسلام عليكم.
__________
(*) خطبة لرفيق بك العظم المؤرخ المشهور، ألقاها على أعضاء نادي دار العلوم بمصر.(12/933)
الكاتب: حسين وصفي رضا
__________
المطبوعات الجديدة
كانت كثرة مواد أجزاء المنار في هذا العام، تحول دون ذكر المطبوعات التي
أهديت إليه، وإن سنة المنار في هذا الشأن عسى لا تتفق مع سنة الصحف الأخرى،
فالمنار لا يبدي رأيه في المطبوعات إلا بعد تلاوتها، وإذا لم يتسن له ذلك، أشار
إلى موضوعاتها بالجملة.
ونحن اتباعًا لهذه السنة، وجريًا على هذا السَّنَن، نذكر الكتب المهداة
بالاختصار، والرجاء أننا نوفق لقراءة ما يستحق العناية والاعتبار، فنكتب عنه في
العام القابل للمنار.
الكتب
(بلاغة الغرب)
يكاد يكون هذا الكتاب جديدًا في موضوعه، فلقد عمد محمد كامل أفندي حجاج
من موظفي المحكمة المختلطة بمصر، إلى اختيار قطع وفقرات من أحاسن كلام
مشهوري رجال القلم في فرنسا كهوجو (Hugo) ولامارتين (Lamartine)
وراسين (Racine) وأضرابهم، وترجمها بالعربية ترجمة ممتازة بالأسلوب
البليغ مع المحافظة على الأصل جهد الطاقة، فجاء ذلك كتابًا شعريًّا في مائتي
صفحة، مطبوعًا طبعًا متقنًا على ورق جيد، وهو يطلب من مؤلفه، ومن
المكتبات المشهورة في مصر.
(تاريخ الفنون الجميلة عند قدماء المصريين)
هذا الكتاب فريد في بابه، فريد في طبعه والعناية به، جميل بصوره
ورسومه، جمع فيه مؤلفه شكري أفندي صادق ناموس نادي الفنون الجميلة
المصرية، ما وعاه التاريخ لقدماء المصريين من العناية بالنقش والحفر والموسيقى،
وأثبت فيه رسوم كثير من الآثار التي لم تقو عوادي الأيام على محوها، فجدير
بعشاق الفنون الجميلة اقتناء هذا الكتاب، والتوفر على مطالعته، وهو يباع بمكتبة
المعارف بالفجالة وثمنه 15 قرشا.
(روح الاجتماع)
مؤلفه الدكتور جوستاف لوبون من مشهوري علماء فرنسا وقد عني بترجمته
بالعربية أحمد فتحي باشا زغلول وكيل نظارة الحقانية المشهور بتأليفاته النافعة،
وحسن اختياره لترجمة الكتب المفيدة، وهذا الكتاب يعد منها، ومثل هذا الكتاب
جدير بأن يفرد له فصل خاص، وهذا ما سنقوم به في أحد أجزاء السنة القابلة
للمنار.
وما رأيت فيما رأيت من المطبوعات العربية كتابًا أتقن منه طبعًا أو أجود
ورقًا، فكان بذلك طابعه خليل بك صادق صاحب مسامرات الشعب خليقًا بالشكر
والثناء , ويباع بمكتبة الشعب وإدارة المنار وثمنه عشرون قرشًا وأجرة البريد
قرشان.
(فك التقليد)
كتاب في علم الصرف، يقع في نيف ومائتي صفحة، مطبوع طبعًا نظيفًا،
مضبوط كلمه بالشكل، وهو تأليف صديقينا جبر أفندي ضومط وبولس أفندي
الخولي من أساتذة كلية الأمريكان في بيروت، المشهورين بخدمتهما للغة العربية.
والأول منهما معروف عند قراء المنار بما ذكر له فيه من التأليفات المفيدة،
وقد تصفحنا صفحات من هذا الكتاب فوجدناه من أحكم كتب هذا الفن وضعًا،
وأجمعها مادة، وأسهلها أسلوبًا، ونتمنى أن يتاح لنا قراءته، فنكتب فيه كلمة نقد،
كما رغب إلينا مؤلفاه الفاضلان.
(كتاب الفوائد)
هذا الكتاب (المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان) من تأليفات الإمام ابن
قيم الجوزية، وكفى بذلك تعريفًا بمكانة الكتاب ودلالة على نفعه، وقد طبعه محمد
أفندي الخانجي الكتبي، وهو يطلب منه بشارع الحلوجي بمصر.
(الإسعافات الطبية)
كتاب يقع في 270 صفحة بالقطع الصغير، يصف فيه مؤلفه الأدوية اللازمة
للأدواء الطارئة بأسلوب سهل، ورسوم كثيرة تعين على الفهم، وقد استهله بكلام
في وظائف الأعضاء (PHYSIOLOGIE) والتشريح، وهو من خيرة
الكتب في هذا الموضوع، بل إنه لا نظير له في بابه، وهذا النوع من
الكتب من الضروريات لكل منزل، فنثني على مؤلفه الدكتور محمد بك رشدي
رئيس حكماء محافظة مصر أطيب الثناء، ونحث قراء المنار على اقتنائه.
(زهرة الصبا)
مجموع مقالات وقصائد لعبد العزيز أفندي صبري من شبان مصر الأذكياء،
أكثرها في الوصف وبيان بعض وظائف الأعضاء، وما ينتابها من الأعراض،
والإلمام بذكر أسباب ذلك، وصفحات الكتاب 221 بالقطع الصغير، وهو يباع
بخمسة قروش في سائر المكتبات.
(أثر حسن)
هو مجموع تأبين ورثاء في الدكتور سليمان الخوري الحمصي المتوفى من
بضع سنين، مع ترجمة حفيلة له، وإثبات شهادات رجال الطب والحكومة بحذقه
ومكانته من الأطباء، لجامعه رزق الله أفندي نعمة الله عبود أحد أساتذة المدرسة
الأرثوذكسية بحمص، وهذا العمل من أسطع دلائل البر، وأحسن الوسائل لتخليد
الذكر.
***
الدواوين الشعرية
والقصص والرسائل
(خمسة دواوين العرب)
عنيت المكتبة الأهلية في بيروت بطبع المأثور من شعر النابغة الذبياني
وعروة بن الورد والفرزدق وحاتم الطائي وعلقمة الفحل، وجمعت شعرهم في
كتاب واحد سمته خمسة دواوين العرب.
وكل واحد من هؤلاء غني بشهرته عن التقريظ، ولا سيما بعد أن طفحت
كتب الأدب - منذ اشتغل مؤلفو العرب بوضعها - بذكرهم، وتخليد مقدرتهم في
شعرهم، ومنهم مثل النابغة الذي فضل شعره كثير من أئمة الأدب على كل شعر
قيل، في كل زمن وجيل، وهو زعيم سوق عكاظ الذي كان يجلس فيه من الشعراء
مجلس الرئيس المقدم والعليم المحكم، ومنهم مثل الفرزدق وهو من فحول الشعراء
الإسلاميين الذي قيل فيه (لولا شعره لذهب ثلث لغة العرب) .
وديوان النابغة أثبت في طبعه شرح البطليوسي المشهور فزاد ذلك في حسنه،
وكذلك ديوان عروة قد طبع بشرح ابن السكيت، وكلا الشارحين من أئمة الأدب،
ويباع الكتاب بثمانية قروش صحيحة بإدارة المنار وبالمكتبة الأهلية في بيروت،
وأجرة البريد قرش ونصف، وثمن كل ديوان على حدة قرشان إلا ديوان الفرزدق
والنابغة، فثمن كل واحد منهما ثلاثة.
(بدائع الشعر في الحماسة والفخر)
كتاب يقع في 254 صفحة بالقطع الصغير لجامعه بشير أفندي رمضان من
مشهوري أدباء بيروت، وهو مجموع القصائد التي وقع عليها اختياره مما قبل في
الحماسة والفخر من الشعراء الجاهليين والإسلاميين والمحدثين، وقد علق عليه
الشيخ عبد الرحمن سلام حواشي حل بها غريبه وأوضح مبهمه، فجاء كتابًا جديرًا
بالإقبال عليه من الأدباء، دالاًّ على ذوق جامعه في الشعر، وحسن اختياره للحماسة
والفخر، والمرء يعرف باختياره، كما يعرف بنظيمه ونثاره، كما قال الشاعر:
قد عرفناك باختيارك إذ كا ... ن دليلاً على اللبيب اختياره
وثمنه ثمانية قروش صحيحة، ويطلب من جميع المكتبات المشهورة.
(مناجاة الحبيب في الغزل والنسيب)
هذا الكتاب هو صِنْو (بدائع الشعر) في حجمه وعدد صفحاته، وكون جامع
ذاك هو جامع هذا، إلا أن هذا خاص بالنسيب والغزل، وإذا كان ذاك ممتازًا
بالبلاغة والجزالة، فإن هذا ممتاز بالرقة والسلاسة، ومن دلائل الإقبال عليه أنه
صار مطبوعًا خمس مرات، وهو يباع بخمسة قروش بسائر المكتبات.
(ديوان عبد الرحمن شكري)
طبع عبد الرحمن شكري شعره في كتيب، بلغت صفحاته الثمانين بالقطع
الصغير، وهو في أغراض مختلفة أكثرها في الغزل والوصف، وقد قال فيه حافظ
أفندي إبراهيم مقرظًا:
شهدت بأن شعرك لا يجارى ... وزكيت الشهادة باعترافي!
(كشف الغمة في مدح خير الأمة)
كان المرحوم محمود سامي باشا البارودي أمير الشعراء في هذا العصر غير
منازع، وأقدرهم على التفنن في مناحي الشعر غير مدافع، ولقد كان الأدباء ومازالوا
آسفين لحرمانهم من مأثور ومنظومه وبدائع آياته، متمنين أن يمثل ديوانه للطبع؛
لتعم به الفائدة والنفع، ولقد طبع له في هذا العام قصيدته الميمية المشهورة) راجع
(ص 289 م7) من المنار، وهي تتضمن سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أخذًا عن سيرة ابن هشام وإنها لمن الشعر الذي لا يطاول بلاغة وجزالة، ولا
يتحدى أسلوبًا ومنحى، وقد عني بتصحيحها وحل غريبها الشيخ ياقوت المرسي
(كاتب يد الناظم في سنيه الأخيرة) والقصيدة تطلب من إدارة الجريدة بمصر
وصفحاتها 48.
(مقالات النديم)
انتخب ابن منتصر بضع مقالات من مجلة (الأستاذ) ، التي كان يكتبها فقيد
الصحافة المرحوم عبد الله النديم، وطبعها في كتيب صغير، والمقالات في
أغراض شتى سياسية واجتماعية، ولابد أن يقبل على هذه المقالات عشاق أدب
النديم.
(كلمة حول الشورى)
رسالة ضمت بضع مقالات وقصيدتين للدكتور أيوب ثابت كان نشرها في
جريدتي (الوطن) و (الثبات) البيروتيتين، وقد جمعها منهما صديقه نجيب
أفتدي شوشاني. والدكتور صاحب هذه المقالات معروف بتحري النفع والإفاضة
فيما يكتب.
(برنامج جمعية الأعمال الخيرية الإسلامية في بيروت)
أصدرت هذه الجمعية النافعة برنامجا أودعته مقاصدها ونظامها وأعمالها،
وذكر رئيسها وأعضائها والمتبرعين لها، وقد بلغ مجموع نفقات ما قامت به من
الأعمال الخيرية 12545 قرشا و35 بارةً في تسعة أشهر، وهذا المبلغ أنفق على
تطبيب المرضى، ودفن الموتى، وإطعام المعدمين، وتسفير المنقطعين، وغير
ذلك من صنائع البر والخير، فنشكر لرئيسها صديقنا الشيخ محيي الدين الخياط
ولأعضائها الكرام تمحضهم لهذه الخدمة العظيمة، جزاهم الله أفضل ما يجازي به
المحسنين.
***
الجرائد
(لسان الشرق)
جريدة يومية أصدرها في مدينة حماه الشيخ أحمد أفندي الصابوني، وهي
من الجرائد المثليات في سورية، ولها عناية خاصة بالإلفات إلى تاريخ الشرق
المجيد، والحث على التربية والتعليم، وقيمة اشتراكها أربعة ريالات في حماه،
وليرة عثمانية في الخارج، فنتمنى لها النجاح والفلاح.
(الإصلاح)
جريدة أسبوعية لمنشئها الشيخ كرامة يلدرم في سنغافورة ولم تصدر قبلها
جريدة عربية هنالك فيما نعلم ولذلك جعلها الأدباء ميدانًا تتسابق فيه قرائحهم، ولقد
سررنا سرورًا عظيمًا بصدور هذه الجريدة العربية في تلك الأصقاع، فعسى أن
يكثر مشتركوها وينمي قارئوها.
(الحرية)
جريدة أسبوعية أنشأها في بيروت صديقنا داود أفندي مجاعص، وقد دلت
أعدادها التي صدرت منها على أنها حرية باسمها، وما أقل الحريات بين
الرصيفات! ونحن نقول: إننا عرفنا داود أفندي حرًّا من صميم الأحرار في الزمن
الذي كان كثير من أحرار اليوم يتجسسون علينا أو يفرون منا! فلا غرو إذا أقبل
على الكتابة فيها الأدباء، وتهافت على طلابها القراء، وقيمة اشتراكها ثمانية
فرنكات في الخارج.
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين وصفي رضا
***
(جمع النفائس)
لم يتسع هذا الجزء لإبداء رأينا في هذه الرسالة وموعدنا (ج 1م13) .
__________(12/948)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التفرق والخلاف بين المسلمين في سنغافورة
الحمد لله، إلى حضرة أخي العلامة السيد رشيد رضا المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قد قرأت بمناركم الأغر في العدد الأخير
المحرر آخر شعبان رسالةً مصطنعةً من بتاوى يقول كاتبها في أثنائها: إنها نبغت
في هذه السنين رجال يدعون إلى الكتاب، إلى أن قال: وقد غاظ أمرهم هذا أناسًا
عاشوا بترويج الرابطة والتوجه، وآخرين جمدوا على ما قاله بعض مصنفي
المتأخرين كابن حجر المكي، فاتخذوهم أربابًا من دون الله إلى آخره.
فيا أيها السيد رشيد، إني سأخبرك بالحق. والواقع أن ذلك الكلام لا وجود له
مطلقًا بهذه الديار، والناس في جهل لا يعرفون معنى التقليد ولا الاجتهاد، وإنما
ظهر واحد جاهل مبتدع فجعل يتذرع بذكر الكتاب والسنة كذبًا وما ذلك إلا ليطعن
على المصلحين. إني لا أعرف أحدًا بهذه الديار يعرف الشيخ ابن تيمية، وأولئك
الذين يدعون بفضل ابن تيمية هم أول من يرمون بقوله عرض الحائط فيما إذا لم
يوافق هواهم، وإني شارع في جمع رسالة اعتمدت فيها على ما يقوله ابن تيمية مما
هم مجاهرون بأقوال لا يرضى ابن تيمية بها، وها هنا المحك، فإن أذعنوا
واعترفوا وسلموا لأقوال ابن تيمية وحفظه ونقله عرفنا أن ضالتهم المنشودة الحق،
وإلا فإليك ما يقولونه واستمع به.
تأمل أيها الأخ، أولئك الذين يدعون أنهم يذبون عن ابن تيمية، ونحن نعترف
بجلالة ابن تيمية، والذي أعتقده أنهم جعلوا ذبهم عن ابن تيمية ذريعة للطعن على
من يذب عن معاوية، وكل منهما جدير بأن يذب عنه، ومعاوية بن أبي سفيان
- رضي الله عنه - أولى بالذب إن كانوا عبيدًا للحق، ونحن لا نرضى لهم أن
يلبسوا على صاحب المنار، فإن السائل أسير المسئول (؟) .
ليس هنا شيء مما يزعمونه إلا الطعن على معاوية وجواز لعنه وسبه بل كفره،
ولم يعرضوا بالشيخ ابن حجر إلا لأجل كتابيه: تطهير الجنان والصواعق المحرقة.
هذا هو الحق الذي ندين الله به ونرفعه إلى صاحب المنار؛ لينشره على
صفحات المنار إعلاء للحق، وإن لم يكن ما أقوله فليتفضلوا وليبينوا ما هي
المسائل التي اتخذنا فيها ابن حجر ربًّا - سبحانك هذا بهتان عظيم -
وأنه لا يجوز التلاعب بالدين والتغرير بالمسلمين؛ ليطعنوا على ابن حجر،
ولا ابن تيمية ولا غيرهم والكل ليسوا بمعصومين من الخطأ، ولو عرف
حقيقة مغزى ذلك الكاتب أخونا السيد محمد رشيد لما أجابه مطلقًا، وأنى له أن
يعرف ذلك، وها أنا أشرح باسمي أسفل ما أكتبه لمعرفتي ببضاعتي.
... ... ... ... ... ... ... ... حسن بن علوي بن شهاب
(المنار)
جاءنا من هذا الكاتب رسالة أخرى في هذا الموضوع أيضًا، أسهب فيها بما
لا يخرج عن معنى رسالته هذه، فاخترنا المختصرة. ومما صرح به في الأخرى
أنه لا غرض لمن كتبوا إلينا ما كتبوا إلا الاحتجاج بقول المنار على عدم الاعتماد
على كلام ابن حجر؛ لأجل كتابيه اللذين ذكرهما لا لأجل الانتصار للكتاب والسنة،
قال: (وقد أطال صاحب المنار في الرد ظنًّا بأن الحرب قائمة على قدم وساق في
المباحث العلمية العملية النافعة المفيدة، وأضاعوا عليه وقته، وإن كان كلامه لا
يخلو من فائدة) ثم قال: (إن تطويله وتعريفه في محله، ولكن أولئك يتخذونه
حجة على لعن معاوية وسبه فقط، فلا علم ولا بحث، ولا خالد ولا بكر إلا معاوية
فقط) وطلب أن يبينوا مسألة غلط فيها ابن حجر فخالف الكتاب أو السنة وقلدوه
فيها.
فظهر أنه من الذين يعرضون فيهم، وطلب منا فصل النزاع في ذلك، وذكر
أن الذي قوى الخوض في هذه المسألة: كتاب النصائح الكافية لمن يتولى معاوية،
الذي ألفه ونشره صديقه وصديقنا السيد محمد بن عقيل.
أما ما كتبناه في منار شعبان، فلا وجه فيه للاحتجاج على لعن معاوية، وهو
يعلم أنهم كانوا استفتونا في لعن معاوية، فلم نفت بالجواز، ولم ترض تلك الفتوى
السيد محمد بن عقيل، وربما كانت من أسباب تأليفه لذلك الكتاب الذي لم نفرغ
لقراءته لكثرة الأعمال والأسفار، ونحن من أولياء علي - عليه السلام والرضوان -
لا من أولياء معاوية وفئته الباغية عليهم من الله ما يستحقون.
ولكننا لسنا بسبابين ولا لعانين كما ورد في وصف المؤمن، وقد ذكرت في
ترجمة الوالد - رحمه الله تعالى - من المجلد الثامن أنه كان يقول: (لا نحب
معاوية ولا نسبه) وكيف نحب من بغى على جدنا وخرج عليه، وكان سببًا في
تلك الفتن التي كانت نكتة سوداء في تاريخ عصر النور، وهو القرن الأول لنور
الإسلام.
وبه تحول شكل الحكومة الإسلامية عن القاعدة التي وضعها لها الله - تعالى -
في كتابه بقوله في المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) إلى
حكومة شخصية استبدادية، جعلت مصالح الأمة كالمال يرثه الأقرب فالأقرب إلى
المالك، وإن كرهت الأمة كلها. فكان هذا أصل جميع مصائب الأمة الإسلامية
في دينها ودنياها.
وأما الذي أنصح به الآن لإخواني المسلمين في سنغافورة وجاوة
وحضرموت، كما أنصح به لسائر الناس: فهو أن لا يتفرقوا ولا يتعادوا لأجل
الاختلاف في هذه المسألة، ولا في غيرها، وأن يتأدب بعضهم مع بعض في
الخطاب والكتاب، وأن يعلموا أن التفرق والتعادي أشد ضررًا في الدين والدنيا من
الخطأ الذي يتفرقون ويتعادون لأجله، وأنَّ المخلص في بحثه عن الحق وبيانه له،
لا يعادي إخوانه الذين لم يظهر لهم ما ظهر له، بل يعذرهم ويرفق بهم، وإنما
يؤذي ويعادي صاحب الهوى، وقد كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يكره
التفرق والخلاف أشد من كراهته لسائر المعاصي، حتى إنه كان يريد أن يرشد
أصحابه إلى شيء فيتركه إذا رآهم تماروا واختلفوا، كما فعل يوم خرج ليعين لهم
ليلة القدر، ويوم أراد أن يكتب لهم كتابًا لا يضلون بعده، والحديثان في صحيح البخاري.
وإني لا أخشى أن تزيد الرسالة التي يؤلفها أخونا السيد حسن بن شهاب هذا
الخلاف والشقاق؛ لأن الغرض منها هو الإفحام والإلزام.
وقد ذكر السيد حسن في هامش رسالته السيد عثمان بن عقيل، وأثنى عليه
بالدين والتقوى وحسن النية على كونه من المقلدين.
وهذا ما أشرنا إليه في جزء شعبان، فإننا شممنا رائحة الإخلاص مما رأيناه من
رسائله، فرجحنا حسن الظن فيه على ما كتب إلينا مرارًا منذ سنين؛ من الطعن فيه
بكونه آلة في يد الحكومة أو حسامًا تقابل به المسلمين من طريق الإسلام نفسه؛ ولذلك
لم ننشر شيئًا من تلك المطاعن الكثيرة , ولكن لا يجوز لنا السكوت عنه إذا هو قاوم
دعوة الإصلاح، ونفر المسلمين من المنار ومن كتب ابن تيمية على الإطلاق، ولو
كان يخطئنا أو يخطئ ابن تيمية في مسألة أو مسائل معينة؛ بأن يطلع على المسألة
في كلامنا أو كلامه وعلى دليلها، ثم يقرع الدليل بالدليل، لاحترمنا قوله مطلقًا،
فإن رأيناه صوابًا أذعنا له، وإن رأيناه خطأ بينا ذلك بالدليل مع الأدب والثناء.
__________(12/953)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رحلة هذا العام إلى القسطنطينية
(1)
رحلت في العام الماضي - وهو العام الأول للدستور - إلى الديار السورية؛
لصلة الرحم التي قطعها الاستبداد عليّ إحدى عشرة سنة، ولاختبار حال البلاد،
بعدما عاثت به فيها حكومة الاستبداد، وللوعظ والإرشاد، والحث على الاتفاق
والاتحاد، وبيان مزايا الدستور وفوائده، وما يجب على الأمة من العمل للتقدم في
عهده، وقد نشرت في المنار ملخص تلك الخطب والدروس فعرفها قراؤه.
ورحلت في هذا العام - وهو العام الثاني للدستور إلى القسطنطينية عاصمة
الدولة، لأسعى في أمرين عظيمين: أحدهما: وهو أجلهما خدمة للدين الإسلامي
ولجميع المسلمين، وثانيهما: خدمة للدولة العلية من حيث هي حكومة الدستور
القائم على أساس العدل والمساواة ولعنصري الأمة العثمانية الكبيرين.
أما الأول: فهو إنشاء معهد ديني علمي في العاصمة للتربية الإسلامية
الصحيحة الكاملة؛ بالتزام آداب الإسلام العالية، وأخلاقه الفاضلة، وعبادته
المطهرة للأرواح من الفرائض والنوافل كالقيام والصيام، وكثرة ذكر الله - عز وجل - والجمع بين هذه التربية والتعليم الإسلامي الذي يكون وسيلة لسعادة الدنيا
والآخرة، كالتفسير والحديث، والتوحيد وحكمة التشريع، والأخلاق والسيرة النبوية
الشريفة وتاريخ الإسلام وأصول الفقه وفروعه، ووسائل ذلك من اللغة وفنونها؛
وكالفنون الرياضية والطبيعية والصحية والاقتصادية التي هي وسائل عمران الدنيا،
وتقوية الملة والدولة.
من منافع المعهد الإسلامي تعزيز دولة الخلافة وتأييدها؛ بجعل عاصمتها
ينبوعًا للإسلام، وكعبة معنوية لطلاب علومه وآدابه. ومنها تخريج العلماء الذين
يقدرون على الدفاع عن الدين على النحو الذي كان يدافع به الأستاذ الإمام (الشيخ
محمد عبده رحمه الله) مثل (رنان) و (هانوتو) ، وما أشد الحاجة إلى مثل هذا
الدفاع في عهد الحرية والدستور، ومنها تخريج الدعاة إلى الخير والمرشدين للأمة
الذين يقومون بما فرضه الله تعالى على المسلمين من الدعوة والإرشاد، وحرمه
عليهم من التفرق في مثل قوله عز وجل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:
104-105) وأقرب فوائد المرشدين إرسالهم إلى البلاد التي فشا فيها الجهل
وكثرت المشاغب (كاليمن والعراق والأناضول) ؛ للوعظ والإرشاد الذي ينفر
عن الشرور والفتن، والفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويرغب في البر والتعاون
بين جميع أهل الوطن، والإخلاص للدولة العلية في السر والعلن، وتعليم أحكام
الدين بأسلوب يكون في منتهى السهولة، مع مبادئ حفظ الصحة والثروة، فهؤلاء
الوعاظ الذين يمكن تخريج طائفة منهم في مدة أربع سنين أو خمس سنين، هم
الذين يطهرون البلاد بتأثير الدين من الثورات والقلاقل، ويؤلفون بين جميع
الطوائف والعناصر، ويفعلون بالتصرف في القلوب والسرائر، ما يعجز عن
بعضه من لا تأثير لهم إلا في الظواهر، كأصحاب الجرائد والحكام والعساكر.
ليس الغرض الذي أسعى إليه أن تكون الحكومة العثمانية؛ هي التي تنشئ
هذا المعهد الإسلامي، فإن الحكومات تعجز عن مثل هذه الأعمال، وان كانت قادرة
على بذل المال واستخدام الرجال؛ لأن الحكام رسميون فأعمالهم كلها رسوم، لا
يمس شيء منها سواد القلوب. ولأن ما تقوم به الحكومة تدخل فيه السياسة.
والسياسة ما دخلت في شيء إلا أفسدته كما قال الأستاذ الإمام، وإنما الغرض
أن تقوم بهذا العمل جمعية من محبي الإصلاح العلماء الصلحاء، وأن تساعدهم
الحكومة بما يمكن من الأوقاف الخيرية، وبغير ذلك كاستثناء طلاب العلم من
الخدمة العسكرية، واتخاذ الوعاظ منهم بالمرتبات الشهرية.
عرضت هذا المشروع على رئيس حكومتنا الصدر الأعظم حسين حلمي باشا،
وعلى بعض أعضاء وزارته، وعلى بعض الكبراء والعلماء هنا ومنهم محمود شوكت
باشا، وعلى بعض أعضاء مجلس الأمة العمومي من الأعيان والمبعوثين، وعلى أشهر رجال جمعية الاتحاد والترقي، فكلهم أظهروا الإعجاب والاعتراف بفوائده
ومنافعه وشدة الحاجة إليه، وقال بعضهم: إنه فكر في مثله من قبل، وكذلك قال من
ذاكرتهم فيه بمصر وسورية، وقد وعدت بالمساعدة الممكنة من كثيرين، وسأبين
ذلك في وقته، إن شاء الله تعالى.
وأما الأمر الثاني الذي سعيت إليه: فهو إزالة ما وقع أخيرًا من سوء التفاهم
بين عنصري الدولة الأكبرين- العرب والترك - وقد شرحت هذا في مقال مطول
مؤلف من ست نبذ أو فصول، نشرت في جريدة (إقدام) مترجمة بالتركية،
فصادفت استحساناً عند فضلاء الترك، وسيراه قراء المنار مجموعًا في الجزأين
الأخيرين 11 و12.
المشهور عندنا عن ساسة الترك أنهم يخافون، ويحذرون من قيام العرب
بتكوين دولة عربية أو خلافة عربية في جزيرتهم، وأنَّ هذا الخوف قديم فيهم.
ولكن، أليس قد مرت القرون ولم تظهر من زعمائهم الدعوة إلى ذلك، حتى في
الأزمنة الأخيرة التي كاد اليأس من الدولة يستولي فيها عليهم؟ بلى! فأي حجة لهم
على استمرار هذا الخوف والحذر، وبناء الأعمال عليه، وكثرة الكلام فيه؟
يقول بعضهم: إن هذا غير ممكن ولذلك لم يتشبثوا به، ولم يحاولوا تنفيذه،
ونرد عليهم بأن العرب إذا كانوا يعلمون أن هذا غير ممكن، فكيف يريدونه
والإرادة لا تتعلق بالمحال كما هو معلوم، وإذا كانوا لا يعلمونه، فلماذا لم يسعوا
إليه سعيه؟
هذه وساوس وأوهام يجب أن لا تذكر، ولا يبنى عليها قول ولا عمل في هذا
العصر؛ لئلا يصير الوهم حقيقة، وإن جميع من أعرف من عقلاء العرب متفقون
معي على وجوب تدارك ما قوي الآن من سوء التفاهم، ولما جئت الآستانة رأيت
كثيرًا من عقلاء الترك يميلون إلى هذا، ولكن العقلاء من الفريقين يرتابون في
سياسة بعض الزعماء في العاصمة.
بلغ من سوء ظن بعض ساسة الترك بالعرب ما أشرنا إلى بعضه في المقالات
التي نشرناها هنا مترجمة بالتركية، ولا سيما مسألة الشام. وهناك أمور كثيرة لم
نكتب فيها شيئًا؛ كاهتمام الكثيرين بحج الخديوي، وبما يتعجب المصريون من
إدخاله في باب السياسة؛ كحضور عزت العابد دعوة الشيخ علي يوسف اليوم
الأربعين لابنته الجديدة، وبلغ من سوء ظن العرب بالترك أن قال لي أكثر من
واحد من أذكيائهم وأهل الرأي فيهم بمصر والآستانة: إن وزراء الدولة ورجال جمعية
الاتحاد والترقي لا يقدرون مشروعيك الاصطلاحيين حق قدرهما، ولا يعرفون لك
قيمة إخلاصك وغيرتك فيهما؛ لأنك عربي.. فلما رأيت من عناية بعض الوزراء
ولا سيما رئيسهم الصدر الأعظم، وعناية كبراء رجال الجمعية ما رأيت وسمعت
من الوعود المؤكدة منهم ما سمعت، ذكرت ذلك لبعض الظانين ظن السوء فقالوا:
إن الأعمال بالخواتيم، وسترى هل أنت المخطئ أم نحن المصيبون، وإني لأرجو
أن تطيش هذه الأوهام بما أنتظر من محاسن الأعمال، وعلى الله الاتكال في
تصديق الآمال.
***
صاحب جريدة وطن الهندية وتفسير القرآن
جرى ذكر صاحبنا (مولوي محمد إنشاء الله) صاحب جريدة (وطن) الهندية
في بعض المجالس، فرأيت القوم يسيئون به الظن، فذكرت لهم ما أعرف من
فضله وغيرته على الإسلام ودولته وأهله، حتى إنني ذكرت للصدر الأعظم
ولبعض الكبراء وأصحاب الجرائد أنه لم يدفعه إلى جمع تلك الأموال الكثيرة للسكة
الحجازية إلا غيرته، وأنَّ من دلائل غيرته الدينية أنه كتب إليَّ قبل الدستور كتابًا
قال فيه: إن هذا التفسير الذي تنشرونه في المنار هو أنفع ما كتب للمسلمين، وإنه
لا شيء يرشدهم إلى ما يحييهم مثله، فأقترح عليكم أنْ تتركوا كل عمل، وتصرفوا
همتكم إلى إتمامه، وأنا أرتب على نفسي مساعدة مالية أقدمها لكم في كل شهر إلى
أنْ يتم التفسير.
هذا معنى ما كتبه، فأجبته بأنني لا أقبل على خدمة الدين مالاً من أحد، وإنني
أجتهد في إتمام التفسير ما استطعت. فكتب إلي ثانيًا يشكر لي ذلك، ويطلب
الاشتراك بمائة نسخة من كل جزء يصدر من التفسير، يجلد ويوزع على المساجد
في البلاد العربية؛ لأجل أنْ يرشد الخطباء والمدرسون الأمة به، ويطلب أيضًا أنْ
يرسل إليه عدة نسخ من كل جزء؛ لأجل أنْ ينشرها في الهند ويبيعها لنا.
وقد أرسل عدة حوالات مالية من ثمن النسخ التي اشترك فيها.
ذكرت هذا للصدر الأعظم ولغيره فأعجبوا بفضل الرجل وغيرته، وترجح
عندهم صدق قولي في إخلاصه فيما كتبه بشأن الانقلاب العثماني، وستريهم الأيام
أكثر من ذلك متى ظهر للناس كلهم إصلاح الحكومة الدستورية للدولة العلية، مع
محافظتها على الدين الذي يكفله مقام الخلافة الإسلامية على ما قرره القانون
الأساسي.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(12/956)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة السنة الثانية عشرة
قد تمت السنة الثانية عشرة للمنار بتوفيق الله - تعالى - وعنايته، فله
الحمد والشكر والثناء الحسن أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، ونسأله - تعالى - أن
يوفقنا دائمًا لإتمام عملنا؛ ويلهمنا الحكمة والسداد فيه.
كان من قضاء الله وقدره أن كتبت الأجزاء الأوائل والأواخر من منار هذا
العام في السفر، ففي أوله كنا في سورية، ويرى القارئ في جزئي المحرم وصفر
شيئًا يتعلق بأهلها وحكومتها، وفي آخره صرنا إلى القسطنطينية، ويرى القارئ
في جزئي ذي القعدة وذي الحجة كلامًا في سياستها وحكومتها، والكلام في سياسة
الدولة وشؤونها كثير في سائر الأجزاء؛ لما تقتضيه من النصيحة طبيعة الانقلاب.
(المشتركون) لا يزال المئون من المشتركين يلوون ويمطلون كما تعودوا،
وقد بينا درجاتهم في المطل والوفاء من قبل، فلا يزال جمهور أهل القطر التونسي
أشد مطلاً من غيرهم، بل زادهم تماديًا فيه عدم وجود وكيل يتقاضاهم، على أننا
ما وكلنا وكيلاً منهم ووفانا الحساب، حتى الوكيل الأخير على مكانته في الآداب،
ومنهم أفراد هم خير الناس وفاءً، وأحسنهم أداءً (كالأفاضل عبد الجليل الرَّاوش
ومحمد بن الخوجه في الحاضرة ومحمد المزيو في سفاقس وحموده بوتيتي في
قفصه) .
ولا يزال العرب في جزيرتهم وفي جاوة وسنغافورة والجزائر والمغرب
الأقصى في الذروة العليا من الوفاء، فالماطل منهم قليل، ولكن مسلمي روسيا قد
نزلوا إلى الدرجة الثانية فكثر فهم الماطلون , وأما أهل البلاد السورية فكان أحسنهم
وفاءً في هاتين السنتين أهل حمص، فأهل دمشق وللوكلاء الكمبلة الفضل الأول
في ذلك، وسنبين درجات سائر البلاد في ذلك بعد.
(الانتقاد على المنار)
نشرنا ما انتقده بعض القراء على المنار، ومنه ما كان الانتقاد موجها إلينا،
كانتقاد أحمد بدوي أفندي، ومنه ما كان موجهًا إلى كلام نشرناه لغيرنا، كانتقاد
الأستاذ اليافعي على الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي. وبقي منه شيء لم ننشره
فقد بعثت إلينا إدارة المجلة بانتقاد لبعض أصدقائنا من علماء تونس، على ما كتبناه
في تفسير الآية الأولى من سورة النساء في أبوة آدم عليه السلام، وبانتقاد لبعض
أصدقائنا في مكة المكرمة على ما كتبناه منذ بضع سنين في مسألة المتعة.
فأما هذا الانتقاد فقد أودع في رسالة طويلة جدًّا، والمسألة لا تحتمل ذلك كله، نجزم بذلك وإن لم نجد وقتًا لقراءتها؛ لكثرة شغلنا في الآستانة، ونحن
قد أشرنا إلى ما ينتقد به على هذه المسألة في هامش الصفحة 128 من الكتاب الذي طبعنا فيه تلك المحاورات، وسنريد ذلك بيانًا في تفسير {فَمَا
اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ} (النساء: 24) الآية، وقد قرب مجيئها في التفسير، فإن لم
يكتف المنتقد بذلك فليختصر رسالته ويجعلها صفحة واحدة إن أمكن وإلا فصفحتين
من صفحات المنار بأن لا يزيد على دليل تحريم المتعة شيئًا , ولا سيما إذا كانت
تلك الزيادة في بعض كلام المقلد مطلقًا أو كلام المصلح في موضع آخر.
وأما رسالة الانتقاد على مسألة أبوة آدم فقد بحثت عنها فيما عندي من الأوراق
أكثر من مرة فلم أجدها حتى ظننت أنها فقدت ثم تذكرت اليوم أنني كنت أطلعت
عليها صديقي الشيخ محمد مكي بن عزوز في اليوم الثاني من أيام التشريق،
وظننت أنها بقيت معه ولم أره بعد ذلك، ولا هو أعادها إلي، ثم وجدتها بعد
كتابة هذه الخاتمة , وقرب سفر البريد بها , وسننشرها مع الجواب عنها إن شاء
الله - تعالى - في الجزء الأول من سنة 1328 وإننا نشكر للمنتقدين فضلهم عسى
أن يكون الشكر مدعاة المزيد , وأن يكون صاحب المنار وقراؤه أسوة حسنة للناس في
انتقاد بعضهم على بعض من غير مراء ولا تحامل بل مع ازدياد المحبة
والاعتصام برابطة الأخوة.
ونسأل الله - تعالى - أن يوفقنا في المستقبل إلى خير ما وفقنا لمثله في
الماضي وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وكتب في القسطنطينية في 25 ذي الحجة سنة 1327
__________(12/960)
المجلد رقم (13)(13/)
المحرم - 1328هـ
فبراير - 1910م(13/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة السنة الثالثة عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى جعلنا أمة التوحيد، وجعل ديننا دين التوحيد، وسياستنا سياسة
التوحيد، وأعز من استقاموا منا على التوحيد، وأدْل من انحرف عن محجة التوحيد،
ليعيدنا كما بدأنا إلى التوحيد {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ * ذُو
العَرْشِ المَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (البروج: 13-16) .
والصلاة والسلام على محمد خاتم أنبيائه ورسله، وصفوته من خلقه، الذى
بعثه بتوحيد الألوهية، ليحرر الخلق من رِقِّ العبودية، للعوالم السماوية أو الأرضية
وبتوحيد الربوبية، ليعتقهم من رق التقاليد الدينية، التي ألحقها رؤساء الأديان
بالشرائع الإلهية، وبتوحيد السياسة ليكون الشعوب والقبائل أمة واحدة، تضمها
شريعة عادلة واحدة، وتتعارف بلغة واحدة، ليطلقهم من قيود الحكومة الشخصية
الجائرة، ويفكهم من أغلال العصبة الجنسية الخاسرة فاهتدى بكتابه العقلاء
المستقلون، وضل به السفهاء المقلدون، فعز باتباعه المؤمنون وذل بإعراضهم
المعرضون، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ
تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ
وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ
قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى
أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: 41-44) .
وبعد فقد تم للمنار اثني عشر عامًا، كان له منها اثني عشر سفرًا كبيرًا فهي في
هذه الأمة كنقباء بني إسرائيل، تجوب الأقطار داعيةً إلى ذلك التوحيد، مذكرةً آخرها
بما صلح به أولها، وإنها كالمطر ربما كان الخير الكثير في آخرها، وقد وعدها الله
تعالى بالاستخلاف في الأرض، وإظهار دينها على الدين كله، فلا يعذر في الإسلام
اليائسون، {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56) ، {وَهُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ} (الشورى: 28) .
(بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ) [1] ومن تمام التشبيه أن يكون على
غربته شديد القوى، فيوحد بهداية القرآن المتعددين، ويجمع بإرشاده المتفرقين،
فيعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم باتباع السنة، ويعيد إليهم ما فقدوا من استقلال
العقل والإرادة، فيخرجون من جحر الابتداع والتقليد، ويظهرون في حُلَّتَيِ المجد
الطارف والتليد، {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} (ق: 15) .
صادفت الدعوة مقاومةً من قوم وارتياحًا من آخرين، كما بينا ذلك في فواتح
ما سبق من السنين، ومن أكبر الآيات المبشرات، بأننا في إقبال حياة لا في إدبار
ممات، إن الورقات الخضراء، في شجرة الأمة الجرداء [2] تزداد خضرةً في كثرة،
لا سقوطًا ولا صفرةً، فيا لها من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء،
حفظت حياتها على طول العهد بانقطاع الماء، فكأنك بها وقد أصابها الوابل فآتت
أكلها ضعفين، وأُتي أهلها أجرهم مرتين، {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى
الحُسْنَيَيْنِ} (التوبة: 52) ، وهل نتربص بأنفسنا إلا ما وُعِدْنا من سعادة الدارين،
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا
يُعِيدُ} (سبأ: 48-49) قد تمهد طريق الإصلاح، ونادى مؤذن حيَّ على الفلاح،
فسمعه العربي والتركي والفارسي والهندي، والتتري والصيني، والملاوي
والزنجي، الحضري منهم والبدوي، فأقبل كثير من المعرضين، وعرف كثير من
المنكرين، ونطق كثير من الساكتين، ودعا كثير من المثبطين، وادعى كثير من
الكاذبين، فإن كان قد آن لمن تمهد لهم الطريق أن يقولوا؛ فقد آن للممهٍّدين أن
يسيروا، ولمن قالوا من قبل أن يفعلوا، {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ وَهُدُوا إِلَى
صِرَاطِ الحَمِيدِ} (الحج: 24) .
هذا ما أعد الله له الأمة، بعد أن طال عليها أمد الغمة، رأى أهل البصيرة من
عقلائها ما أصابها من الأدواء، وشعروا بشدة الحاجة إلى الدواء، كان مرضها
واحدًا، فكان شعورهم كذلك واحدًا، ذلك بأن الإسلام قد جعلها أمةً واحدةً في صحتها،
وواحدةً في مرضها، لم يقو على توحيده إياها اختلاف المذاهب واللغات ولا تباعد
الجهات وتعدد الحكومات، فكما كانت صحتها بالاهتداء بكتابه وسننه، كان مرضها
بالإعراض عن هدايته، التي جمعت بين حقوق الروح وحقوق الجسد، واستقلال
العقل والإرادة في العلم والعمل، ورابطتي الأخوة والفضل والبر والعدل بين جميع
الملل والنحل [3] وإنما العلاج أن يرجعوا من دينهم إلى خير ما فقدوا، ويأخذوا
لمصلحة دنياهم أحسن ما وجدوا، وكذلك فعل المنعم عليهم، الذين كلفوهم التأسي
والاهتداء بهم، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ
وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} (الممتحنة: 6) .
لقد رحضت النوازل هذه الأمة رحضًا، ثم مخضتها النوائب مخضًا، وقد آن
أن تخرج زبدها محضًا، فقد ظهرت نقطة من زمن بعيد، وكثرت ذراته من عهد
قريب، ولم يبق إلا أن ينجذب بعضها إلى بعض، وتتكون في جانب من الزق،
هنالك يظهر خير الإسلام، ويعرف فضله في جميع الأنام، وإن ذلك لواقع ماله
من دافع، إنهم يرونه بعيدًا، ونراه قريبًا، {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ
وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) .
فالمنار يذكر مريدي الإصلاح في هذا العام، بوجوب التعاون على الاستمداد
من هذا الاستعداد العام، فبادروا إلى اغتنام فرص الزمان، وتعانوا على البر
والتقوى، ولا تعانوا على الإثم والعدوان، وما ذاك إلا أن تجتمعوا على حقكم،
وتتعارفوا أنتم ومن يشعر شعوركم ويرى رأيكم، وتوحدوا طريق التربية والتعليم،
في الجمع بين علوم الدنيا والدين، قبل أن يغلبكم على الأمة أهل التربية المادية
المضطربة، والتعاليم التقليدية المذبذبة، الذين تحولوا عن التقاليد الإسلامية، إلى
التقاليد الإفرنجية الصورية، فهم يدحرجون الأمة من تقليد إلى تقليد، {وَيَقْذِفُونَ
بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (سبأ: 53) ، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} (الحج: 3) .
لقد وقف سلفنا العقار والأراضي الواسعة، وبذلوا الدثور والأموال الكثيرة،
على معاهد العلم كالمدارس والمكاتب، ومعاهد التربية والإرشاد كالرباطات والتكايا
والزوايا، وها نحن أولاء نرى الخلف، قد أنشأوا يحيون سنة السلف، فهم يبذلون
الأموال الكثيرة للأعمال العلمية والخيرية، والأحزاب والجمعيات السياسية،
أفحسبتم أن الأمة تسخو في نهضتها على الحظوظ والمنافع العاجلة، وتبخل على
الإصلاح الإسلامي الجامع بين سعادة الدنيا والآخرة، تلك إذا كرّة خاسرة، وإنا
لمردودون في الحافرة، كلا إننا أمة قد كمنت فيها وما فارقتها الحياة، وإن الإسلام
نائم في قلوب العامة فيحتاج إلى إيقاظ، وقد كثرت صيحات الموقظين، إلا
أنهم لا يزالون متفرقين ومختلفين، وقد أذّن اليوم بينهم مؤذن التوحيد، {وَجَاءَتْ
كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ
فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ} (ق: 21-22) .
إن المجتمعين أجدر بالفلاح من المتفرقين، وإن المتفقين أحق بالنجاح من
المختلفين، وإن المستقلين أولى بالثبات من المقلدين، وإن الثابتين أقوى في الجلاد
من المتزلزلين، على أننا لا نجالد أعداء الإصلاح بسيف ولا سنان وإنما نجادلهم
بالحجة والبرهان، ونحاكمهم إلى السنة والقرآن، ونصبر على ما آذونا، ونحسن
إليهم وإن أساءوا إلينا، ولكن لا نترك أمر الأمة في التربية والتعليم، يتنازعه
التفرنج الحديث والجمود القديم، فلهم دون ذلك ما يشاؤون، وليعملوا على مكانتهم إنا
عاملون، ولينتظروا إنا منتظرون، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا
رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) .
يا أهل القرآن: إن القرآن كان حجةً لكم فصار اليوم حجةً عليكم، أخبركم الله
فيه أن الأرض يرثها عباده الصالحون، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن حقًّا
عليه نصر المؤمنين، وأنه وعد الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في
الأرض، وقال {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) ،
وبين ذلك بقوله ( {مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} (التوبة: 91) ، {إِنَّمَا
السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْض} (الشورى: 42) ، فما
بال الناس يرثون أرضكم، ويخلفونكم في ملككم، وأنتم لا ترثون أرضًا، بل لا
تحفظون إرثًا، وما بالهم يسلكون كل سبيل للافتيات عليكم، وما بالكم تخربون
بيوتكم بأيديهم وأيديكم، كيف ذهبت عزتكم، وكيف خَضّدت شوكتكم، وكيف كنتم
تأخذون فتحمدون، فصرتم تعطون فتذمون، هل رضيتم بأن تكونوا من الظالمين
الباغين بَعْد أنْ كنتم خير العادلين المحسنين؟ أليس منكم رجل رشيد؟ أترضون
أن تكونوا ممن نزل فيهم {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} (الحشر: 14) ألا تتدبرون قوله
تعالى {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) .
يا أهل القرآن: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 110) ، وجعلكم الله أمةً وسطًا لتكونوا شهداء على
الناس من أفرط منهم ومن فرَّط، ولكنكم غيرتم ما بأنفسكم، فغير الله ما بكم، فتنبه
الوثنيون وأنتم غافلون، واجتمع اليهود وأنتم متفرقون، وسبق النصارى وأنتم
متخلفون، وها أنتم أولاء تستيقظون، فإن سرتم الهوينا فالناس مجدون، وإن كنتم
لا تزالون تختلفون فهم يتفقون، فلا يفرقن بينكم جنس ونسب، ولا لغة ولا مذهب،
ولا سياسة ولا مشرب، فإن تفرقتم فهى القاضية، فإنما يأكل الذئب من الغنم
القاصية، واعتبروا بتأريخ من قبلكم، وبأحوال الأمم في عصركم، وتدبروا القرآن،
وما بينه من سنن الله في نوع الإنسان، فقد آن الأوان واستدار الزمان، واتصل
القريب بالبعيد، وامتاز الغوي من الرشيد، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ
أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37) .
__________
(1) إشارة إلى حديث مسلم الذى يحتج به اليائسون وهو حجة عليهم.
(2) إشارة إلى قول الأستاذ الإمام إني أرى في هذه الشجرة الجرداء.
(3) كتبنا في المنار من قبل مقالةً في جنسية الإسلام بينا فيها أن الإسلام برابطتين اجتماعيتين أحدهما دنيوية اجتماعية وهى تربط جميع من يعيشون في داره ويخضعون لسلطانه بشريعة العدل والمساواة والبر والإحسان مهما اختلفت أديانهم، والثانية روحانية تربط الآخذين بعقائده وآدابه بأخوة أخرى.(13/3)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الانتقاد على المنار
نعيد الاقتراح على العلماء المخلصين بأن يكتبوا إلينا بانتقاد ما يرونه مُنتَقَدًا في
المنار من مسائل الدين وغيرها عملاً بما أوجب الله تعالى من التواصي بالحق
والتعاون على الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولكننا نشترط أن تكون الكتابة مختصرة بقدر الإمكان وأن تذكر المسألة
المنتقدة، ويبين المكان الذي نشرت فيه بأن يقال هي في جزء كذا من مجلد كذا وإذا
ذكر عدد الصفحة يمكن أن يُستغنى عن عدد الجزء، وأن لا يحتج علينا في المسائل
الدينية بأقوال بعض العلماء؛ بل بالكتاب والسنة، وكذا الإجماع والقياس فيما
هما حجة فيه، وأنْ لا يكون في الكلام استطراد إلى مسائل أخرى لا تفيد في
بيان المراد من الانتقاد، فمن خالف شيئًا من هذه الشروط فلنا الخيار في نشر ما
يكتبه وتركه أو نشر ملخصه، ولو بالمعنى؛ لأنه لا يمكن أن نَشْغِلَ كثيرًا مِن
صفحات المنار بالجدل والقيل والقال.
انتقاد أحمد بدوي أفندي
وليعتبر القراء ذلك بانتقاد أحمد بدوي أفندي النقاش عليه وعلى جميع المسلمين
في مسألة القضاء والقدر انتقادًا مبهمًا على غير شرطنا فقد نشرنا كلامه على عِلاَّتِهِ
وأجبنا عنه فانتقل إلى الانتقاد علينا وعلى سائر المسلمين في عقيدة القسمة {فَرِيقٌ
فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: 7) وفي علم الله تعالى بأعمال الناس
قبل وقوعها فنشرنا كلامه على علاته أيضًا وأجبنا عنه، فأرسل إلينا ردًّا آخر يزيد
على ثلاثين ورقة، أرسلها إلى إدارة المنار، وأرسلتها الإدارة إلينا في القسطنطينية
فقرأنا جُملاً مِن مواضع منها فإذا هي مملوءة بالتناقض والعسلطة والأغلاط اللغوية
حتى في بديهيات النحو، وقد لامنا كثير من القراء على ما نشرنا له مِن قبل، فماذا
يقولون إذا نشرنا له هذه الرسالة الطويلة العريضة؟ وما وعد بإرساله بعدها لتوضيح
مسائلها؟
يقول أحمد بدوي أفندي إننا ظلمناه فيما كتبناه عن إنكاره لعلم الله بجزئيات
أعمال الناس كلها قبل وقوعها وجاء بفقرات من رسالته يحتج بها علينا في ذلك ثم
إنه أهاننا بفقرات كثيرة وعيَّرنا بتقليد الغزالي كما عيَّرنا مِن قبل بتقليد ابن تيمية
فليقل في ذلك ما شاء سامحه الله تعالى نحن نتمنى لو يكون مصيبًا ونكون مخطئين
فيما فهمناه مِن كلامه، وللقراء حكمهم في ذلك.
قد انطبع في ذهن أحمد بدوي أفندي مسائل في فلسفة الدين مخالفة لما فهمه
المسلمون ولما جروا عليه من الصدر الأول إلى اليوم وهو يريد بثها في المنار
والمناضلة عنها فيه على كونه عاجزًا عن بيانها، وعن فهم ما يرد عليها لضعفه في
اللغة العربية وعلى إعجابه بها، بحيث لا يطيق قبول شيء يخالفها فنحن لا ننشر
له بعد الذي نشرناه شيئا منها لأسباب:
(منها) أن المنار لم ينشأ لنشر فلسفة الأفراد الشاذة التي تهوش بعض
الأذهان، ولا تنفع أحدًا لما فيها من البطلان في بعض المسائل والعسلطة والخطأ في
العبارة.
(ومنها) عدم الرجاء في إرجاع صاحبها عن خطئه لإعجابه برأيه وكونه لا
يفهم ما يوجه إليه من الكلام العربي الصحيح فهمًا تامًا، وأوضح الآيات على ذلك
أنه فهم من قراءة المنار في الزمن الطويل أن منشئ المنار مقلد لبعض العلماء
كالغزالي.
(وهذا ما جزم به في رسالته الأخيرة التي لم ننشرها) وأنه مع ذلك يدعو
الناس إلى تقليد نفسه!
(ومنها) إضاعة كثير من صفحات المنار فيما نعتقد أنه يضر ولا ينفع،
فلأحمد بدوي أفندي أن ينشر فلسفته في مجلة ينشئها أو كتب ورسائل ينشرها أو
يبحث عن مجلة غير المنار.
هذا وإننا بعد هذا كله نحترم استقلال الرجل بفهمه ونعذره من بعض الوجوه
على ما نراه مخطئا به، ونقول: إنه يجوز أن تكون تخطئتنا له في بعض المسائل
لضعف عبارته وكونها لا تؤدي مقصده، ولكننا نجزم بأنه على استعداده للفلسفة
الدينية قد أخطأ ويخطئ كثيرًا في فهم القرآن وفي النظر والاستدلال، ولعلَّه لو أتقن
اللغة العربية واطلع على كتب التفسير والحديث، وترك الإعجاب برأيه يجيء منه
خير كثير والله الموفق.
__________(13/20)
الكاتب: محمد البشير النيفر
__________
آدم أبو البشر
جاءنا من السيد محمد البشير النيفر المدرس بجامع الزيتونة في (تونس) ما
يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة العلامة الحكيم السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الزاهر،
أقامنا الله وإياه على الطريقة المثلى.
إنا نقرأ في فاتحة كل مجلد من مناركم وخاتمته الدعوة إلى انتقاد ما يهم انتقاده
من مسائل الدين أو السياسة وذلك - والحمد لله - من أمتن البينات على طهارة نيتكم،
وكنا نود لو يرزقنا الله سعة في الوقت حتى نكتب إليكم في شأن ما أشكل علينا من
مسائل قليلة جاءت في التفسير وغيره إحياء لشعيرة من شعائر الدين أماتها الجهل
بأصوله، وقد رأينا في باب التفسير من العدد السابع من مجلد هذه السنة (سنة
1327) رأيًا في أبوة آدم للبشر لا يرتضيه القرآن فيما نرى فبادرنا إلى الكتابة
إليكم في ذلك، ونحن في يقين من نزاهة ضميركم عن التعصب والله الموفق.
قلتم: إن للأستاذ الإمام رأيين في تفسير آية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء: 1) .
أحدهما: أن ليس المراد بالنفس الواحدة آدم لا بالنص ولا بالظاهر.
ثانيهما: أنه ليس في القرآن نص أصولي قاطع ينطق بأبوة آدم للبشر أجمعين
ويظهر لي من جانبكم الرضا عما ذهب إليه - تغمده الله برحمته - ولكن العبد
أشكل عليه الرأيان لِمَا سأُبَيِّن.
أما الأول: فلأن حمل النفس الواحدة على أصل من أصول العرب لا يرضى
به التعبير بالناس، والروايات المستفيضة في مَدَنيَّة السورة تقعد في طريق من يحمل
الناس على أهل مكة، فالظاهر الحمل على العموم، وليست الآية الكريمة كآية
الأعراف {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189) الآية لوجهين:
الأول: أن سورة النساء مدنيّة، وسورة الأعراف مكيّة.
ثانيهما: أن في حمل آية الأعراف على العموم مسًّا لمقام النبوة فما أبعد ما
بين الآيتين!
وأما الثاني: فلأن القرآن الشريف، والسنة السنية ناطقان بأبوة آدم للبشر
أجمعين وإخراج ما جاء في ذلك عن ظاهره رعيًا لمذهب دارون يشبه أن يكون من
تفسير القرآن بالرأي الذي كان يشنؤه الإمام - رحمه الله - وجريتم حفظكم الله على
طريقته في ذلك.
نداء القرآن للناس ببني آدم في مقام الوصية بأخذ الحذر من وسوسة إبليس
وفتنته ومقام التشريع العام ظاهر في أن المكلفين عن بكرة أبيهم أبناء آدم عليه
السلام، وما نقلتموه عن الأستاذ الإمام في تأويل ذلك بعيد كما يتجلى لفضيلتكم بقليل
من التدبر وأية نكتة في توجيه الخطاب إلى بني آدم إذا كان التكليف يشملهم وغيرهم.
أما السنة السنية فمن أظهر ما ورد في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم
من آدم وآدم من تراب) وما جاء في حديث الإسراء من الأسودة عن يمين آدم
وشماله، وأنها نسم بنيه أفكانت أرواح غير الآدميين في مقر آخر أم كانت في ذلك
المقر ولكن لم يهتم بها آدم - عليه السلام - ولا النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم
يسأل عنها لأنها ليس لها في الآخرة مقام معلوم، وأصرح من ذلك وهذا حديث
الشفاعة (يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم
فيقولون أنت أبو الناس) الحديث، وفي سعة علمكم بالسنة ما يغني العبد عن حشر
أكثر من هذا إن لم تكن الآيات والأحاديث نصوصًا قاطعة في الموضوع، فهي
ظاهرة فيه، (والظواهر إذا اجتمعت أفادت القطع) - كما يقول الأصوليون - ولو
ذهب ذاهب إلى أنها لا تفيد أكثر من الظن كان القائل بأبوة آدم للناس أجمعين أن
يسأله عن الوجه في إيثار ذلك الظني على هذا الظني، فإن كان الوجه عنده درء ما
عساه أن يرد على القرآن من شبهات العلماء القائلين بذلك فالذين لا يؤمنون بالغيب
أكثر من أولئك عددًا وأقوى شبهًا فهل نُؤِّول الآيات الواردة في عالم الغيب بما لا
يكدر مشربهم وينقض مذهبهم؟
أما قولكم حفظكم الله تعالى: (إن المسألة علمية لا دينية وقولكم إن المتبادر
من النفس بقطع النظر عن الروايات والتقاليد المُسلَّمات هي تلك الحقيقة الجامعة
التي يُعبَّر عنها بالإنسانية أو قريب من هذه العبارات) فللعبد فيهما نظر.
أما الأول فلأن ما بين دفتي المصحف دين لا شيء منه بجائز مخالفته وهل
يأذن الدين لأحد أن يذهب إلى ما لا يصادق عليه القرآن في تكون الجنين باسم
علمية هذا البحث، أم هل يأذن لأحد أن يقول بما ينقضه القرآن في تأريخ فرعون
باسم أن المسألة تاريخية؟
وأما الثاني فلأن تلك الحقيقة الجامعة التي يعبر عنها بالإنسانية أو البشرية أمر
اعتباري لا يصح أن يكون منشأ الخلق والإيجاد هذا ما يتسع له الوقت من البحث
وفيما آتى الله فضيلتكم من البسطة في العلم والاستقامة في الرأي ما يغني عن
التذكير بأقل من هذا والسلام عليكم أولاً وآخرًا.
... ... ... ... ... ... كُتِبَ في 27 رمضان عام 1327 هـ
(المنار)
نشكر لأخينا في الله انتقاده وتذكيره وغَيْرَته على الدين والعلم ونجلي ما أَلَمَّ به
من المسائل بما يأتي:
(1) إن الأستاذ الإمام لم ينف كون آدم أبا البشر كلهم ولا قال: إن القرآن
ينبغى أن يؤول ليوافق دارون أو غيره ولا قال إنه قد ثبت رأي الذين ينفون كون
آدم أبًا لجميع البشر ثبوتًا قطعيًا، حتى نؤول لأجله كما صرحنا بذلك في تفسير
الآية ولم يتكلم أيضًا في تحقيق المسألة في نفسها (مسألة أبوة آدم) وإنما قصارى
رأيه أنه إذا ثبت ما يقولون لم يكن ذلك مخالفًا للقرآن فيكون شبهة على الإسلام،
ونحتاج إلى التأويل، فعلى هذا يكن فهمه -رحمه الله - للآية ليس من تفسير القرآن
بالرأي سواء كان فهمه صوابًا أم خطأً، لأنه لم يحاول أن يرجع القرآن إلى رأي رآه
أو وافق عليه غيره وإنما فهم الآية وأمثالها فهمًا لا يرد عليه اعتراض ولا مجال معه
للطعن في القرآن في هذه المسألة.
(2) قلتم إنه ظهر لكم أنني راضٍ عما ذهب إليه قلتم هذا بعد نقل المسألتين
فعلم منه أنكم فهمتم أنني راضٍ عنهما كلتيهما، وقد رأيتم في كلامي الجواب عما
استدل به من تنكير ما بثه في النفس الواحدة من رجال ونساء وتفسير النفس الواحدة
بغير ما فسرها به رحمه الله تعالى وغير ذلك، وفيه الوعد بتحقيق مسألة ما يفيده
مجموع آيات القرآن المنزلة في خلق الإنسان عند تفسيرما ورد من ذلك في سورة
الحجر أو سورة (المؤمنين) ، فعلم من هذا الوعد أننا لما نبين رأيًا فيما يدل
عليه مجموع القرآن في خلق الإنسان وإنما كلامنا محصور في تفسير تلك الآية بحسب
ما فهمه الأستاذ الإمام وفهمه هذا العاجز من تلاميذه المستقلين الذي لا يقلدونه تقليدًا
في شيء ما وما كان يرضى أن يقلده أحد في شيء، وإنما كان يحث على الاستقلال،
وبعد هذا كله أقول: إن ما استظهرتموه صحيح في الجملة وتسرون وجهه فيما يلي
هذا من الوجوه والمسائل.
(3) ذكرتم أن للأشكال عندكم مثارين: فأما المثار الأول وهو كون السورة
مدنية لا يجوز أن يراد بالناس فيها أن يراد بالناس فيها أهل مكة فالخطب فيه سهل
فإنكم قد رأيتم أننا اعتمدنا كون السورة مدنية وكون الخطاب فيها ليس لأهل مكة
خاصة ولكن هذا لا يقضي كون القول بهذا شاذًا فإنه معزو إلى إمام المفسرين
ومعولهم وهو ابن عباس - رضي الله عنه - وعبر الرازي عن مقابله بالأصح
ومقابل الأصح هو الصحيح، فإن لم يكن الخطاب لأهل مكة جاز أن يكون للعرب
عامة ولا يقعد في طريق هذا كون السورة مدنية، ولا كون الإسلام دينًا عامًا كما أنه
لا يقعد في طريق غيره من الخطاب الذي وجه إلى العرب أو إلى بعض الأقوام أو
الأشخاص، فإن عموم الأحكام الشرعية معتبر فيما كان مورده خاصًا ولو شخصيًا مالم
يقم دليل على الخصوصية، مثال ذلك في العرب قوله تعالى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ
أَنفُسِكُمْ} (التوبة: 128) فإن تفسير أنفسكم بالعرب لا ينفي كون الرسالة عامة
لجميع البشر، ومثاله في الأمور الشخصية ما ورد في الإفتاء عقب استفتاء بعض
المؤمنين وأسئلتهم المعبر عنها بمثل يسألونك ويستفتونك كما هو مكرر في سورة
البقرة وسورة النساء، وكأن يكون المخاطب بالجواب هو السائل والحكم عام
بالإجماع، على أننا لم نجعل كون الخطاب لأهل مكة هو العمدة في الاستدلال على
ما فسرنا به النفس الواحدة ولا كونه للعرب وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة:
(4) وأما المثار الثاني للأشكال وهو ما ورد من الكتاب والسنة في أبوة آدم
لجميع البشر فهو على تقدير تسليمه فيهما معًا لا يقتضي كون النفس الواحدة في الآية
الأولى من سورة النساء هي آدم، إذ يجوز أن يثبت ذلك في آيات غيرها وأحاديث
ولا يكون هو المراد منها، ولم يقل الأستاذ الإمام - ولا قلنا- إن هذا الآية تنفي
كونه أبا البشر، ولكم أن تحتجوا بذلك على قوله رحمه الله: إنه ليس في القرآن نص
أصولي قاطع على أبوة آدم لجميع البشر وستعلمون ما فيه.
(5) أنكم قد ذكرتم أن حمل آية الأعراف على العموم لا يصح لأنه يمس
مقام النبوة، فإذا امتنع هناك أن يكون المراد بالنفس الواحدة آدم فلم لا يجوز أن
يمتنع هنا وهو ليس متبادرًا من اللفظ العربي بحد ذاته، حتى نقول: إننا أَوَّلْنا آية
الأعراف لتطابق القول بعصمة الأنبياء ولا حاجة إلى تأويل آية النساء، فالصواب
أنَّ عدم حمل النفس الواحدة على آدم في الآيتين ليس تأويلاً لهما؛ لأن لفظ النفس
ليس مرادفًا لكلمة آدم؛ يوضح ذلك الوجه الآتي:
(6) إن ما يراد في تفسير مبهمات القرآن لا يجعل اللفظ المبهم نصًّا ولا
ظاهرًا في المعنى الذي فسر به في الحديث ولا في القرآن نفسه إنْ وُجِدَ، ولكننا نقبل
ذلك التفسير إذا صح عندنا، مثال ذلك أن يصح في حديث أن المراد بقوله تعالى
{وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى} (القصص: 20) هو فلان بن فلان، فإننا
نقبل هذا التفسير على الرأس والعين ولكننا لا نقول: إن لفظ رجل في الآية هو نص
أو ظاهر في ذلك الرجل المعين؛ لأن العربي الذي لا علم له بذلك الحديث لا يفهم
هذا المعنى من اللفظ، ولم يَرِدْ في الكتاب ولا في الحديث تفسير للنفس في آية
النساء بآدم ألبتة، فكيف نقول: إن ما ورد في ذلك يجعلها نصًّا أو ظاهرًا، وهو لم
يرد تفسير لها؟ وهذا هو مرادنا مما قلناه في (ص486م12) إن الذين فسروا
النفس الواحدة بآدم لم يأخذوا ذلك من نص الآية ولا من ظاهرها، بل من المسألة
المسلمة عندهم، وهي أن آدم أبو البشر.
(7) استدل صديقنا المنتقد على كون جميع الناس من بني آدم بنداء الله
تعالى في القرآن لبني آدم في مقام الوصية بالحذر من فتنة الشيطان ووجه الاستدلال
عنده أنه إذا لم يكن المراد ببني آدم جميع المكلفين لا يكون في توجيه الخطاب إليهم
نكتة.
ويمكن أن يجاب بأن نكتة ذلك في الآية التي أشار إليها هي إقامة الحجة عليهم
بما كان من عاقبة وسوسته لأبيهم والعبرة في ذلك لسائر المكلفين الذين لا يعتقدون
أنهم من ذرية آدم كأهل الصين؛ هي أن الشيطان يردي من أطاعه فيجب أن يجتنبوا
طاعته كما يجب أن يجتنبها أبناء آدم، ونظير ذلك اعتبار المسلم بمثل قوله تعالى
{يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} (المائدة: 68)
فيعلم أنه لا يكون على شيء يعتد به من الإسلام حتى يقيم القرآن، وقد أشارت
عائشة إلى هذا المعنى في حديث لعن أهل الكتاب الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
فقالت (يحذر ما صنعوا) وقد بينا آنفًا أن توجيه الخطاب في القرآن إلى قوم أو
أناس معينين لا ينافي عموم التكليف فإذا فرضنا أن بني آدم هم العرب ومن كان
يساكنهم من أهل الكتاب وأن الخطاب في مثل تلك الآية خاص بهم لوجود النبي
بينهم فلا يمنع ذلك أن يَعْتَبِرَ بالموعظة التي في الخطاب مَنْ يدخل في الإسلام من
غيرهم ومن ذلك خطاب الأنصار بقوله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ
تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) وهي هداية لجميع المسلمين أيضا كما قبلها وبعدها.
(8) بعد هذا يمكن أن يقال إذا كان في البشر ألوف الألوف لا يعتقدون أنهم
أبناء آدم، ولم يسمعوا باسم آدم فما هي نكتة خطابهم ودعوتهم إلى الإسلام بنسبتهم
إلى آدم والمأثور المعقول أن يخاطب الناس بما يعرفون وأن يحمل حديث العاقل للقوم
على ما يعهدون في مثل النداء فإن أراد إعلامهم بشيء مخالف لما يعتقدون جاء به
بصيغة الخبر المؤكد كما هي سنة القرآن المطابقة لقوانين البلاغة العليا ويشيرون إلى
هذا في أول كتب المعاني وفي صحيح البخاري من حديث علي موقوفًا (حدثوا الناس
بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله؟) وفي مقدمة صحيح مسلم عن ابن
مسعود (ما أنت محدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) .
وورد في الضعاف المتعددة الطرق عن ابن عباس مرفوعًا (أُمرنا أن نكلم
الناس على قدر عقولهم) ، وهذا الوجه أي كون كثير من البشر لا يعرفون آدم ولا
يعتقدون أبوته لهم هو العمدة في جزم الأستاذ الإمام بعدم حمل آية أول النساء على
هذه المسألة المشهورة عند العبرانيين والعرب مع كون لفظها ليس نصًا ولا ظاهرًا
فيها من حيث لفظها، وقد أجاز أن يطبق كل قوم اعتقادهم عليها.
(9) إن ما أوردتموه من الأحاديث ليس نصًا أُوصوليًا في المسألة فإن
المخاطبين بقوله صلى الله عليه وآله وسلم (كلكم من آدم) لم يكن فيهم أحد من
الصينيين ولا من هنود أميركا ولا من (أهل ملقا) ولكن الحديث يكون هداية لهؤلاء
بعد دخولهم في الإسلام على الطريقة التي أشرنا إليها في بعض المسائل السابقة،
وكذلك حديث الأسودة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم عن يمين آدم وشماله لا
تدل على كونه أبا لجميع البشر، ولا يعارض هذا كونه صلى الله عليه وسلم لم يذكر
أنه رأى هنالك أو في مكان آخر نَسَم قوم آخرين من البشر كما أن ذكره لبعض
الأنبياء في ذلك الحديث لا يمنع أن يكون هنالك أو في مكان آخر أنبياء آخرون
فالحديث لم يرد في بيان مقر جميع أرواح البشر والأنبياء، ولا دليل فيه على كون
ما رآه يكون دائمًا حيث رأى، فقد ورد في مقر الأرواح أحاديث أخرى والظاهر أن
ما رآه صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الليلة قد مثل له حيث رآه لأجل أن يراه
والله أعلم حيث يكون في سائر الأوقات، وقد مُثِّلَتْ له صلى الله عليه وسلم الجنة
في عرض الحائط وهي هي التي عرضها كعرض السماء والأرض، وكذلك يقال
في حديث الشفاعة، فإنَّ تَحدُّثَ ولد آدم بالذهاب إليه هو كتحدث اتباع كل نبي ذكر
في الحديث بالذهاب إليه، ولا ينافي ذلك أن يكون في البشر أقوام آخرون لا يتحدثون
بالذهاب إلى أحد أو يتحدثون بالذهاب إلى أنبيائهم لرجائهم فيهم {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ
خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24) .
(10) إذا فرضنا أن هذه الأحاديث تدل وحدها أو مع غيرها على كون آدم
عليه السلام أبًا لجميع من وجد في الأرض من البشر بالنص أو بالظاهر فلا يقتضي
أن يكون ذلك تفيسر للقرآن إذا لم يكن لفظه نصًا ولا ظاهرًا في ذلك، والأستاذ
الإمام لم يتعرض لما ورد من الأحاديث في المسألة وإنما اكتفى ببيان كون ما يعتقده
كثير من البشر في أصلهم ومنشئهم لا حجة فيه على القرآن إن صح ولا وجه لأن
يكون حائلاً دون إيمانهم به ولم يتعرض لمثل هذا في الأحاديث.
(11) نحن نعتقد أن أسلوب القرآن في الإجمال والإبهام والإطلاق والعموم
هو من أقوى وجوه الإعجاز فيه وأسباب تعاليه عن تطرق الريب إليه وتحويم
الشبهات حوله، وليس هذا الأسلوب بالصناعة التي يقدر عليها البشر فإننا نرى أعلم
العلماء منهم في علم أو فن يؤلف فيه كتابًا فلا يمر عليه إلا زمن قليل حتى يظهر له
ولغيره الاختلاف والخطأ فيه وقد مر ثلاثة عشرة قرنًا ونيف ولم يظهر في هذا
القرآن الذي جاء به النبي الأمي الناشئ في الأميين خطأ ولا اختلاف {وَلَوْ كَانَ مِنْ
عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) والأحاديث ليس لها هذه
المزية في الإعجاز وكثير منها منقول بالمعنى ومنها ما كان يقوله النبي صلى الله
عليه وسلم عن اجتهاد لا عن وحي ولا سيما المتعلق منها بأمور العالم دون أمور
الدين، أفيصعب على بعض المسلمين إظهار هذه المزية لكتاب الله في بعض
المسائل على غير الوجه المشهور عندهم وإن لم ينقض ذلك المشهور في نفسه،
وكان ينبغي للمنتقد أن يذكر ما عنده من الجواب لمن يوقنون بأن البشر من عدة
أصول كما تمنينا في (ص 488م12) .
(12) يقول المنتقد: إن شبهات الذين لا يؤمنون بالغيب على الآيات
الواردة في عالم الغيب أقوى من شبهات الذين ينكرون كون آدم أبًا لجميع البشر أو
يعتقدون أن لهم عدة آباء فهل تؤول آيات عالم الغيب ما لا يكدر مشربهم ولا ينقض
مذهبهم، ونقول إن هذه الدعوى ممنوعة فالذين لا يؤمنون بالغيب لا يوردون
شبهات على عالم الغيب وإنما هم قوم تابعون لحسهم يقولون إننا لا نؤمن إلا بما نراه
أو نحس به وهو يعلمون أن عدم الإحساس بالشيء أو عدم العلم به لا يقتضي عدمه
في نفسه ومن تقوم عنده الحجة منهم على الوحي والنبوة لا يرى أخبار عالم الغيب
مانعة من إيمانه وما كنت أظن أن هذا يخفى على المنتقد الفاضل ولعله سرى إليه من
بعض المارقين الذين كفروا بالله ورسله تقليدًا لبعض الإفرنج إذ يسمعهم أو يسمع عنهم
إنكار الملائكة والجن، فليسألهم عن دليل هذا الإنكار هل يجد عندهم دليلاً أو
شبه؛ لالا! وإنما يقولون إنه لم يثبت عندنا بالحس ولا بالدليل العلمي، ونحن
المؤمنين نقول مثل ذلك ونزيد أنه ثبت عندنا بخبر الصادق الذي هو أصدق ممن
تثقون بخبرهم إذا قالوا لكم إن في الكون كذا كذا من الغرائب الطبيعية.
(13) أُذَكِّر المُنْتقد بمسألة لا ينبغي أن ينساها المستقل في العلم الذي يعنيه أن
يفهم القرآن فهمًا صحيحًا وقد صرحنا بها في المنار من قبل، وهي أن الاصطلاحات
الشرعية والفنية الحادثة بعد نزول القرآن والروايات والتقاليد المشهورة في تفسيره
هذان الأمران هما اللذان يحولان كثيرًا دون فهم القرآن بما تعطيه عبارته الفصحى
ويتبادر من أسلوبه الأعلى، فيجب أن يكون القرآن فوق الاصطلاحات والمسلمات
كلها، وأن يستعان على فهمه بالروايات الصحيحة التي لا تخل بما يتبادر من عبارته
وأسلوبه البليغ وحكمة كونه هداية لجميع البشر في كل زمان ومكان، وإننا نرى كثيرًا
من المفسرين يخطئون عند غفلتهم عن هذه القاعدة ويخالفون الروايات المأثورة عن
السلف عند تنبههم لها إذا رأوا الرواية مخالفة لمنا يقتضيه الأسلوب العربي بحسب
فهمهم، ومن ذلك ما سنراه في تفسير الجزء الثاني عن ابن جرير شيخ المفسرين
الأولين.
(14) أما انتقاده - نفعنا الله بغيرته على العلم والدين - قولنا إن المسألة علمية
لا دينية فإنني أجيب عنه بالإيجاز وإن لم أتذكر أنني قلت هذا في تفسير الآية ولا أجد
وقتًا للمراجعة، فأقول: إن ما يذكر في القرآن من أمور الخلق وعجائبه وأسراره
لا يراد به شرح أحوال المخلوقات، وبيان ما هي عليه في الواقع تفصيلاً لأن هذا
ليس من مقاصد الدين وإنما يذكر على أنه من الآيات على قدرة الله وعلمه وحكمته
في خلقه ورحمته بعباده، ومن المنبهات للانتفاع بما في هذه المخلوقات والشكر عليها،
ولذلك يستعمل فيها المجاز والظواهر المتعارفة بين الناس وتحديد المسائل العلمية لا
يكون بمثل هذا كقوله تعالى {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف: 86) فلا
يراد به أن ذا القرنين وجد الشمس تنزل من السماء فتغرب في عين حمئة من عيون
الأرض، ومع هذا كله لا يكون خبر القرآن إلا صادقًا، ولكننا لا نعرف أن أحدًا من
علماء المسلمين عنى كعنايتنا وعناية شيخنا الأستاذ الإمام بالدعوة إلى الاهتداء
بالقرآن كله وصرف معظم عنايتهم إلى ما كثر الإرشاد إليه في آياته كالبحث في
خلق السماوات والأرض وما فيهما من البحار والأنهار والجبال والنبات والدواب
وغير ذلك، وكالسير في الأرض والاعتبار بسنن الله في أحوال الأمم بعد معرفة
تأريخها، فإننا نرى علماء المذاهب الدينية فينا قد أهملوا أكثر ما أرشد إليه
القرآن، وجعلوا الدين كله أو جله محصورًا في الأحكام العملية التي لم يعن القرآن
بها وهي أقل ما ورد فيه ولا سيما الأحكام الدنيوية كالبيوع والشركات والمخاصمات
فلا يقال لمثلنا: إن كل ما في القرآن دين، وإن الدين لا يأذن لأحد أن يقول قولا لا
يصادق عليه القرآن فنحن الذين ندعو دائمًا إلى جعل حكم القرآن فوق كل حكم وهديه
فوق كل هدي وخبره فوق كل خبر، وإنما يقال ذلك لغيرنا من علماء المسلمين الذين
قالوا حتى في الأحكام التي هي عندهم جل الدين ما لم يصادق عليه القرآن كقولهم إن
مدة الحمل تكون في الواقع المعتبر شرعًا أكثر مما حدده القرآن من مدة الحمل
والفصال جميعًا وقد رأى صديقنا المنتقِد ما كتبناه في ذاك بالجزء الأخير من المجلد
الماضي، فإذا جاز أن يعتمد أئمة الفقه منا على قول بعض النساء اللواتي هن
مظنة الخطأ والكذب فيما لا يصادق عليه القرآن وقد نطق بغيره بناء على أن ما
نطق به يحمل على الغالب المعروف عند جمهور الناس فلم لا يجوز عند أتباعهم أن
يعتمد على قول جمهور العلماء الباحثين المدققين في مسألة علمية لم يرد في القرآن
نص فيها وإنما ذكرت مبهمة في سياق مقصد من مقاصده كحث الناس على أن
يتقوا الله في ذوي أرحامهم والضعفاء منهم لأنهم من أصل واحد أو جنس واحد
وعبر عن ذلك بالنفس الواحدة، ولكنه لم يبين حقيقة تلك النفس على أننا لم نحمل
الآية ولا غيرها من الآيات على ما قاله أولئك العلماء الباحثون في أصول البشر
وخلقهم، ولكننا اخترنا أن ندع ما أبهمه القرآن على إبهامه (ص486م12) وهو
تنكير تلك النفس وعدم تعيينها أو فهمها مما يتبادر من اللفظ العربي بصرف النظر
عما وراءه من الروايات والتقاليد المسلمات التي ليست بنص عن المعصوم
في تفسيرها (ص488م 12) .
(15) وأما انتقاده الأخير على قولنا في تفسير النفس المتبادر من اللفظ فقد
بناه على ذكر لفظ الإنسانية في عرض كلامنا وتفسيره إياه بالمعنى المشهور بين
العامة ناسيًا ما فسَّرْناه به وما عبَّرْنا به في أول العبارة عنه من قولنا هو الماهية أو
الحقيقة التي بها كان إنسانًا، ونعني بذلك الروح الإنسانية التي اتحدت بالجسد فصار
مجموعهما حيوانًا ناطقًا لولاها لم تكن هذه المواد الترابية التي تكون منها جسد
الإنسان خلقًا آخر حيًّا ناميًا متحركًا، فهل يقول: إن هذه الحقيقة الإنسانية أمر
اعتباري؟ كلا إنها خلق وجودي مستقل.
(16) بعد أن طبع تفسير تلك الآية في المنار نقحناه وزدنا فيه فوائد أثبتناها
في نسخة التفسير التي تطبع على حِدِّتِها منها أن لبعض الباحثين من المسلمين
العصريين رأيين آخرين في النفس الواحدة، أحدهما أنها الأنثى ولذلك وردت مؤنثة
في كل آية وصرح بتذكير زوجها الذي خلق منها في بعض الآيات وثانيهما أنها
كانت جامعة لأعضاء الذكورة والأنوثة وذكروا لذلك نظائر أثبتها العلم الحديث ,
فيراجع هذا في (ص331 ج4) من التفسير وسيصدر بعد زمن قليل.
هذا ما سمح لنا به الوقت من إيضاح المسائل المتعلقة بهذا الانتقاد.
وصفوة القول: إن ما أوردناه في التفسير لا ينفي القول بأبوة آدم لجميع
البشر وقد وعدنا هنالك بتحرير هذه المسألة في موضع آخر من التفسير.
__________(13/22)
الكاتب: رفيق بك العظم
__________
قضاء الفرد وقضاء الجماعة في الإسلام [1]
أيها السادة:
كلمتي اليوم في قضاء الفرد وقضاء الجماعة في الإسلام، وحيثما قلت قضاء
الجماعة فإنما أريد مدلوله العام أي القضاء والإفتاء والتشريع أو التفريع.
تعلمون أن كفالة العدل الذي هو مناط الراحة والسعادة في كل مجتمع إنما هو
القانون أو الشريعة التي تُصَان بها الحقوق، وتُرَد المظالم، ويعاقب المجرمون
المجترءون على انتهاك حرمة الراحة والأمن في الهيئة الاجتماعية، وهذه القوانين
إما أن تكون وضعية أو شرعية، وقد عرَّفها ابن خلدون بقوله:
(اذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت
سياسية عقلية؛ وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسية
دينية) ، وتعلمون أن الفقه الإسلامي، وأريد به قسم المعاملات لا العبادات هو قانون
المسلمين الشرعي مناط الأحكام التي يفصل بها في المنازعات والخصومات التي
تقع بين الناس.
أقول القانون الشرعي تجوزًا؛ إذ أن أحكام الشريعة الإسلامية وقانونها
الجامع إنما هو الكتاب والسنة وهما الأصل، أما الفقه فإنما يسمونه شرعًا باعتبار أن
مأخذه من الكتاب والسنة وعمل الصحابة والإجماع والقياس فإذا انطبق عليه تعريف
ابن خلدون فإنما ينطبق عليه من هذه الجهة؛ أي أن تلك القوانين لها أصل في
الشرع؛ لأ انها هي بعينها المفروضة من الله.
وبما أن أساس التفريع أو التشريع عند الفقهاء هذه الأصول الخمسة فقد سموا
الأحكام الفقهية شرعًا، وخالفهم في ذلك كثير من أئمة العلم والمحدثين، فقالوا: كل
حكم لا يستند إلى دليل أو لا يعرف دليله من الكتاب أو السنة فليس بشرع.
وليس من غرضي في هذا البحث الحكم بين الفريقين، وإنما الغرض منه
تقديم مقدمة تساعدنا على الانتقال إلى النظر نظرًا صحيحًا في سير القضاء وتأريخه
وكيف كان القضاء والإفتاء في الإسلام؟ وما هو ضمان العدالة فيهما؟ وما منزلة
قضاء الفرد وقضاء الجماعة من الصواب والخطأ؟ ونستطرد من ثَمَّ إلى ما تخلل
التشريع والقضاء من الشؤون التي لا يخلو بيانها من فائدة وإن كنت لا أستطيع من
البيان غير جهد المقل.
علمنا أن أساس الشرع وأصله في الإسلام هما الكتاب والسنة؛ بمعنى أن
الأحكام الدينية أي العبادات والقوانين الدنيوية أو السياسية كما يسميها ابن خلدون
وهي أحكام المعاملات والعقوبات التي وردت في الأصلين المذكورين قد قرّرها
الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم فصارت شرعًا، وهذا الشرع لا يدخل تحت
مدلول قضاء الجماعة المراد به جعل قوة التشريع لا في يد واحد، بل جماعة إلا
من حيث لزوم فهمه على وجوهه التى أرادها الشارع اى إنّ تفهم الحكم من هذا
الأصل، وتقريره هو الذي يلزم أن يناط بالجماعة دون الفرد تفاديًا من الخطا
والإثم0
وتعلمون بالضرورة أن الأحكام التي شرعها لنا الشارع كانت تشرع تدريجًا
فكلما عرضت له حادثة، أو سئل عن حكم شرع له شرعًا حتى كان من ذلك في
الكتاب والسنة نحو ست مائة وخمسين حكمًا أو تزيد اعتبرها أئمة الفقه بعد ذلك
أساسًا للتشريع فوضعوا لنا كتب الفقه التي كانت في الممالك الإسلامية، ولم تزل
في بعضها مدار الأحكام الشرعية في المعاملات والعقوبات، وما يتبعها من قضاء المظالم والحسبة وسياسة الرعية وغير ذلك إلى اليوم.
ويبدأ تدوين الأحكام الفقهية من أواخر العصر الأول وأوائل الثاني فالتشريع إذًا
له في الإسلام تأريخان: تأريخ تقرير أصول الشريعة والعمل بهذه الأصول،
وتأريخ التفريع أو الفقه والعمل به. يتخلل ذلك أيضًا تأريخان: تأريخ حفظ
الشريعة في الصدور، وتأريخ قيدها في الدفاتر والسطور.
ولبيان ذلك وبيان كيف كان يقضي الصحابة والتابعون أقول: علمنا أن أساس
الأحكام ومدارها ومعوَّل القضاء في الصدر الأول كان على الكتاب والسنة، أما الكتاب
الكريم فقد كتب متفرقًا في عهد النبوة في خلافة أبي بكر كما هو معروف مشهور،
وأما السنة السنية فقد بقيت محفوظة في الصدور إلى أواخر عهد التابعين أو كتب
منها في غضون هذه المدة شيء يسير.
فكان القضاء في عهد الخلفاء الراشدين ملازمًا للإفتاء بالضرورة؛ لأن القضاء
كان إلى الخليفة وهو لا يحفظ الأحكام التي وردت عن الشارع كلها؛ بل كان كثير
من الصحابة يحفظ كل واحد منهم شيئًا منها فاستفتاؤهم في معرفة الحكم ضروري
وإليكم ما روي عن قضاء أبي بكر وعمر.
أخرج البغوي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم
نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب
وعَلِمَ من رسول الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب
وعلم من رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى بها فإن أعياه خرج فسأل المسلمين،
وقال أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء فربما اجتمع
عليه النفر كلهم يذكر من رسول الله قضى في ذلك بقضاء، فيقول أبو بكر:
الحمد الله الذي جعل فينا من يحفظ من نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن
رسول الله جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإن أجمع رأيهم على أمر قضى
به وكان عمر يفعل ذلك فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان فيه لأبي
بكر قضاء، فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به وإلا دعا رؤوس المسلمين
فإذا اجتمعوا على أمر قضى به) .
هذه رواية البغوي عن قضاء أبي بكر وعمر، ومنها يتضح أن القضاء في
عهدهما قضاء الجماعة، وعليه يقاس قضاء من بعدهما من الخلفاء الراشدين في
الدور الأول لتأريخ القضاء في الإسلام أي إلى العهد الذي بدأ فيه التدوين والعمل
بالفروع؛ بدليل أنه كان في كل مِصْرٍ من الأمصار الإسلامية نفر من الصحابة ثم
التابعين يسمون الفقهاء لحفظهم الأحكام، وتفقههم في الدين، وكان يُسْتشارون في
النوازل عند القضاء فيها؛ لأنهم حُفَّاظ الشريعة والراوون للأخبار الصحيحة، فلا
مندوحة عن الرجوع إليهم في القضاء.
ومن الفقهاء الكبار في الصحابة علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس
وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وزيد بن
ثابت وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك ومعاذ بن جبل ومن في طبقتهم ممن
يحفظ عن رسول الله قليلاً أو كثيرًا.
وقال ابن القيم: إن عدد من حفظت عنهم الفتوى من الصحابة مئة ونيف
وثلاثون نفسًا ما بين رجل وامرأة، وكان أكثر هؤلاء موزعين في الأمصار
بالضرورة، وهم شورى القضاء حيثما وجد منهم جماعة يستشارون كما أثبت ذلك
التأريخ، وتلى هؤلاء طبقة أخرى من أصحابهم وهم التابعون صارت إليهم الفتوى
في الأمصار فكان في المدينة سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد
وخارجة بن زيد إلى غير هؤلاء , وتليهم طبقة أخرى منهم محمد بن شهاب
الزهري المشهور وأضرابه وطبقة أخرى فيهم الإمام مالك بن أنس صاحب المذهب
في المدينة، وكان من المفتين في مكة عطاء بن أبي رباح وطاووس بن كيسان
ومجاهد بن جبر وغيرهم وتليهم طبقة ثم طبقة إلى قيام الإمام محمد بن إدريس
الشافعي صاحب المذهب في مكة.
وكان من المفتين في البصرة عمرو بن سلمة الجرمي وأبو مريم الحنفي
والحسن البصري وغيرهم وتليهم طبقة فطبقة، وعلى هذا تقاس بقية الأمصار
كالكوفة ومصر والشام وغيرها، وكلها كان فيها العدد الجم من التابعين يستشارون
في الأحكام ويتناقلون الشريعة حفظًا في الصدور إلى أن دونت في السطور.
إذا أضفنا إلى هذا أن رسول الله شرع لهم الاجتهاد عند عدم وجود النص،
وأن أبا بكر وعمر كانا لا يجتهدان في مسألة إلا إذا جمعا رؤوس الناس وخيارهم
لاستشارتهم، وحكمنا أن بقية الخلفاء الراشدين كانوا كذلك وقسنا على ورعهم ورع
من بعدهم من التابعين وتابعيهم واتباعهم سنن من قبلهم خوفًا من تبعة التفرد بالرأي
واعتصامهم بالشورى مع أهل العلم والحديث بدليل ما رواه عن قضاة الجماعة في
عصرهم ابن عبد البر في جامع بيان العلم عن المسيب بن أبي رافع الأسدي المتوفى
سنة 105هـ قال: كان إذا جاء شيء من القضاء ليس في الكتاب ولا السنة سمي
(صوا) في الأمراء فيرفع إليهم فجمع له أهل العلم فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحق
إذا أضفنا هذا كله إلى ما سبق بيانه نتج لنا منه أن القضاء في العصر الأول كان
قائمًا بالشورى أو هو قضاء الجماعة الذي فيه كفالة الحقوق وتحري العدل والحق
وهو خير من قضاء الفرد وأبقى لسعادة الأمة وأضمن لبقاء الدول بلا ريب.
ليس المراد بقضاء الجماعة هو قضاء هيئة مؤلفة من أكثر من واحد فقط كما
قد يتبادر إلى الذهن؛ بل هي بالمعنى المشترك أيضًا جعل قوة التشريع القضائي
مصونة عن رأي الأفراد وتفردهم بالتشريع منوطة بالجماعة تثبتًا من الحكم
واطمئنانًا للدليل واعتمادًا على ما هو الأصلح عند الجماعة؛ إذا تعذر وجود النص.
إن مراعاة الأصلح قاعدة من أهم قواعد الشرع الإسلامي التي يُدفع بها الحرج
وتُدرأ المفاسد عن المجتمع حتى لقد كان كبار الصحابة يراعون قاعدة الأصلح عند
الضرورة مع وجود النص كما يأتي بيانه بعد، ويتنازعون على المسألة الواحدة
يجيء بها النص من عدة روايات، أو يحتاج إلى التفهم الدقيق تثبتًا من الحكم
ورغبة بمحض الخير للأمة، والعدل بين المتقاضين وبذلاً للجهد في بيان الحقيقة
للمستفتين، وقد قال ابن القيم: (تنازع الصحابة في كثير من الأحكام، ولكن لم
يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، أي المسائل التي
تتعلق بالإيمان) .
قلنا: إن المراد بقضاء الجماعة قوة التشريع القضائي في حياز جماعة لا فرد؛
لأن ذلك أسلم وأبعد عن الخطأ، وأضمن للعدل، وسببه أن الأحكام التي يرجع فيها
إلى الرأي والاجتهاد والقياس عند تعذُّر وجود النصر أو عند لزوم ترجيح رواية من
الروايات تحتاج إلى شروط قلَّما تتوفر في الفرد الواحد، وإن توافرت له فربما لا
يتيسر له تحري المصلحة وتطبيق الحكم عليها من وجهه بحيث لا يخالفه فيه غيره
ممن هو في طبقته من أهل العلم.
اعتبروا ذلك في أئمة المذاهب المجتهدين فإنه مع بذل كل واحد منهم في
تقرير فروع المذهب وأصوله متنهى الجهد في تحري صحيح الآثار والأخبار،
وتتبع أصول الشريعة، فقد اختلفوا في كثير من المسائل واختلف أتباعهم بعد
ذلك اختلافهم أيضًا فكان من ذلك انقسام القضاء الإسلامي على نفسه حتى وجد في
بعض العصور أربعة قضاة لأربعة مذاهب في مِصْرٍ واحد من الأمصار الإسلامية
هذا فضلاً عن اختلاف فقهاء كل مذهب أيضًا في المسألة الواحدة، حتى أصيب
الإفتاء بما أصيب به القضاء من التشتت والانقسام واضطراب أمر العدالة أيما
اضطراب، مع أن الأصل لهذه المذاهب واحد وهو الدين الإسلامي المبين.
لهذه العلة الخطرة كان الصحابة الكرام لا يستنكفون عند الاستفتاء من أحدهم
أن يحيل بعضهم إلى بعض في تقرير الحكم كما ثبت ذلك في كتب السنة خوف
الوقوع في خطأ يجر إلى مظلمة أو إثم، ولا سيما فيما يحتاج إلى الاجتهاد ما
يستشير خاصة المسلمين.
قلت - فيما سبق -: إن الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم شرع لنا مراعاة
المصلحة، ولو مع وجود النص واقتدى به الصحابة الكرام في العمل بهذه القاعدة
وبيانًا لهذا أقول:
لما كانت الشرائع مبنية على درء المفاسد وجلب المصالح، والشريعة
الإسلامية أحرى الشرائع برعاية هذين الأمرين فقط سن الشارع إيقاف العمل
بالنص مراعاة للمصلحة، ولكن عند الضرورة القصوى وثبوت المصلحة ولزومها
على وجه لا يقبل الشك في أن المصلحة التي تترتب على العدول عن النص أكثر
من المصلحة التي تترتب على العمل به واستن بسنته صحابته والخلفاء الراشدون
من بعده فكان ذلك شرعًا أيضًا فيه تيسير عظيم على المسلمين، وإليكم
الدليل:
في حديث لأبي داود أن رسول الله نهى أن تقطع الأيدي في الغزو، وأنتم
تعلمون أن القطع حد من حدود الله لم يستثن النص القرآني منه الغزاة لكن النبي
نهى عن إقامته في حالٍ مخصوصة خشية أن ينشأ عنه مضرة؛ وهي لحوق صاحبه
بالعدو وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم عدة أخبار أخرى من هذا القبيل لا محل
لذكرها هنا وهي مبسوطة في كتب الحديث.
وقد استن الصحابة بسنته وأوقفوا الحدود في أحوال مخصوصة تدعو إليها
الضرورة.
جاء في كثير من كتب الأخبار أن عمر كتب إلى الناس: ألا لا يجلدن أمير
جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدًّا ووهو غاز حتى يقطع الدرب لئلا تلحقه
حمية الكفار.
وروى ابن القيم في (إعلام الموقعين) : عن ابن حاطب بن أبي بلتعة أن
غِِلمة لأبيه سرقوا ناقة لرجل من مُزينة فأتى بهم عمر فأَقَرُّوا فأرسل إلى عبد
الرحمن بن حاطب فجاء فقال له: إن غِلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مُزينة
وأقروا على أنفسهم فقال عمر: (يا كُثير بن الصلت اذهب فاقطع أيديهم فلما ولى
بهم ردهم عمر؛ ثم قال: أما والله لولا أنى أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى
إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت أيديهم، وأيم الله إن لم أفعل
لأغرمنك غرامة توجعك، ثم قال يا مُزني بكم أريدت منك ناقتك؟ قال بأربعة مئة قال
عمر أي (لعبد الرحمن) اذهب فأعطه ثمان مئة) .
وغير هذا فقد أسقط عمر الحد في عام المجاعة للضرورة وتجاوز أبو بكر عن
خالد بن الوليد في حادثة مالك بن نويرة إذ قتله دون تثبت من إسلامه كما تجاوز عنه
رسول الله قبل ذلك بما صنعه ببني جذيمة لما أرسله داعيًا لا محاربًا، فذهب
إليهم وحاربهم وقتل وسبى منهم فبرئ رسول الله من عمله إلى الله، ولم يؤاخذه به،
وما ذلك إلا لحسن بلاء خالد في الحروب وخدمته العظيمة في الإسلام.
وكذلك أسقط سعد بن أبي وقاص الحد عن أبي محجن في حرب القادسية في
خبر مشهور طويل لا محل لذكره هنا، وقال: (والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى
للمسلمين ما أبلاهم) .
والشواهد على هذا من أعمال النبي وأصحابه كثيرة لا يتسع لها مقام الخطابة
ولعل هذه القاعدة سوغت بعد لبعض الحكومات الإسلامية التجاوز عن الحدود
والعقوبات البدنية كالسن بالسن والعين بالعين واستبدلت بها العقوبات الأدبية
كالحبس والتغريم مثلاً لضرورة تغير الزمان، أو لفشو المنكرات فشوًا لم ينجع في
تأديب مرتكبها إلا حبس حريتهم في السجون أو غير ذلك من الدواعي والأسباب
الزمانية.
ليس فيما ذكر غض من مقام الشريعة، أو مس لأصولها المقدسة ما دام من
أصولها وقواعدها أيضًا العدول عن النص عند ثبوت المصلحة أو درء المفسدة بأقل
ضررًا منها، والشريعة كما تعلمون مبنية على المصلحة، وقد سبق الله تعالى رسوله
والأئمة من بعده إلى تقرير قاعدة مراعاة الأصلح وهو ما يسمونه النسخ وما هو بنسخ
وإنما هو تقرير حكم اقتضته مصلحة زمان، وحال غير حكم آخر في زمان تقدمه
وأحوال اقتضته كحكم جهاد المشركين من العرب في مبدأ أمر الدعوة لحمايتها
وحماية المسلمين من أعدائهم وأعدائها وفيه الإذن بقتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ثم
تقرير حكم آخر بعده أي بعد أن انتشرت الدعوة، وقوي جماعة المسلمين،
وصاروا في مأمن من غائلة الضعف، وهو حكم الدعوة بالتي هي أحسن كما في قوله
تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ} (النحل: 125) ؛
وقوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) ، وقوله:
{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99) ؛ إلى غير ذلك من الآيات
الكثيرة.
وكحكم النهي عن الصلاة في حال السكر في قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (النساء: 43) .
وكان هذا في أحوال اقتضته ثم جاء حكم التحريم بتاتًا في أحوال اقتضته
أيضًا.
وبالجملة فإن ملخص ما تلوته عليكم ينحصر كله في المقدمات الآتية:
(الأولى) إن القضاء في العصر الأول كان مرجعه نصوص الشريعة أي
أصولها التي قررها الشارع واجتهاد الصحابة والتابعين فيما لم يرد به نص.
(الثانية) إن الأحكام التي جاءت عن الشارع لم يكن في استطاعة فرد واحد
حفظها أو يتعذر على الواحد الإحاطة بها فاحتيج في القضاء إلى استشارة
حفاظها.
(الثالثة) إن الصحابة كانوا قد يختلفون في المسألة الواحدة، إما في تطبيق
النصر أو مسوغ الحكم إذا كان اجتهاد تثبتًا من وضع الشيء في محله جهد
الإمكان.
(الرابعة) أنهم كانوا يعدلون عن النص عند الضرورة الداعية، وفي أحوال
مخصوصة تدعوا إليها المصلحة التي بني عليها الشرع اقتداء بالشارع.
(الخامسة) إن ورعهم وتقواهم وخوفهم من الوقوع في الإثم كل هذا كان
يدعوهم إلى عدم الانفراد بالحكم ومشاركة خيار المسلمين وعلمائهم في تطبيق
الأحكام إذا كانت اجتهادية على القياس الصحيح أو الرأي السالم من خطأ الفرد.
هذه المقدمات تنتج نتيجتين مهمتين: احداهما أن القضاء في الإسلام كان
قضاء الجماعة لا قضاء الفرد على نحو ما سبقت الإشارة إليه كثيرًا.
والثانية: أن الشريعة الإسلامية بما تَقرَّر فيها من قاعدتي الاجتهاد ورعاية
الأصلح كانت من الشرائع التي توافق كل زمان ومكان، وتجيز لكل ضرورة حكمًا
يوافق مقتضى المصلحة والحال، وإن خالف النص مع اعتبار هذه القاعدة شرعًا
أيضًا خلافًا لما يتقوله عليها المتقولون من أنها شريعة ضعيفة توافق زمانًا غير
زماننا هذا، ومكانًا غير مكان الأمم الراقية لهذا العهد فهي إذا صلحت لأهل ذلك
العصر لا تصلح لعصر تسير شرائعه مع مقتضيات المدنية الحديثة، وحاجتها سيرًا
تدريجيًا في كل ما يقتضيه ترقي المجتمعات.ومنشأ تقولهم هذا الجهل بحقيقة
الشريعة الإسلامية، وعدم الوقوف على أصولها وقواعدها وكلياتها يساعدهم على
ذلك ما يرونه من تعصب بعض علماء الشريعة المقلدين لما جاء في كتب
الفروع دون الأصول، وردهم لكل ما لم يَرِدْ فيها مِن أسباب التيسير، وإن ورد
في أصول الشريعة وكلياتها مع أن في كتب الفروع من الأحكام التي لا تستند إلى
دليل قطعي ما لا يعد، ومبناها الاجتهاد أو الرأي والقياس، ومع هذا فإنهم يفضلون
العمل بهذه الأحكام على الرجوع إلى أصل الشريعة مهما كان فيها من التقليد
والتضييق على أنفسهم والأمة، ومهما ترتب على ذلك من التهم الباطلة التي يرمينا
بها الباحثون في طبائع الاجتماع.
وحجة هؤلاء العلماء في هذا سد الذريعة أو خوف انتشار دعوى الاجتهاد، إذا
فُتِحَ بابُه وتطرق الفساد إلى الشريعة، وهي حجة معقولة ومسلمة لا يخالفهم فيها
عاقل، لكن فيما لو صارت قوة التشريع أو الاجتهاد إلى الأفراد وأطلق العنان لكل
قائل أن يقول هذا حكم الله ورسوله ولكل حاكم أن يحكم بما يرى ويقول.
ومعاذ الله أن يريد هذه الفوضى للشريعة الإسلامية عاقل قط، وإنما المراد أن
ينظر في المسائل التي يقتضيها تغير الزمان وتجدد المصالح والحاجات على شرط
عدم الوقوع في ذلك المحذور الذي يخشاه العلماء، وذلك بأن تناط قوة التشريع أو
الاجتهاد على المسائل الطارئة في كل عصر بجماعة من أهل العلم الواقفين على
دقائق الكتاب والسنة، والعارفين بحاجات الأمة ليقرروا لها الأحكام الموافقة
لمقتضى الحال، ثم تنال هذه الأحكام تصديق أهل الحل والعقد فتصبح قانونًا
رسميًا يتحتم العمل به في الحكومة الإسلامية التي هي في حاجة إليه لا يعدل عنه
إلى غيره من أقوال الفقهاء والعلماء، وإن مجتهدين؛ فتُضْبَطُ بهذا قوانين الشريعة
ويُؤْمَنُ عليها من تطرق الفساد ثم يكون من ذلك أن تحدد هذه القوانين تحديدًا يغني
عن الرجوع إلى كتب الفقه التي تختلف في المسألة الواحدة اختلافًا كثيرًا يؤدي في
كثير من الأحيان إلى التهويش على القضاء ويكفي أن تكون تلك الكتب شروحًا
لقوانين الشريعة المعمول بها يومئذ يرجع اليها عند الضرورة والحاجة
إلى تفسير نصوص ذلك القانون كما هو الشأن في مجلة الأحكام العدلية
المعول عليها في محاكم الدولة العثمانية دون غيرها ولهذا البحث تتمة سآتي عليها في
الكلام على القضاء في دوره الثاني وها أنا ذا متكلم فيه:
قلت - فيما سبق -: إن القضاء في الإسلام له دوران دور العمل بالأصول
ودور العمل بالفروع، وإنما اخترت هذا التقسيم لاختصار الطريق أو اختصار
البحث خوفًا من تعب القارئ والسامع من أن أدواره بعد دور التشريع الأول كثيرة
جدًّا؛ إذا اعتبرنا تقسيمه إلى طبقات المفتين والمحدثين من الصحابة والتابعين ثم
الأئمة المجتهدين ومَن بعدهم مِن طبقات الفقهاء والمقلدين من أتباع كل مذهب نعتبر
ذلك بما قسموا إليه طبقات الحنفية مثلاً، فقد قالوا: إنهم ينقسمون إلى ست طبقات:
الطبقة الأولى: طبقة المجتهدين في المذهب كأبي يوسف ومحمد وغيرهما
من أصحاب أبي حنيفة القادرين على استخراج الأحكام من القواعد التي قررها
الإمام.
والثانية: طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب
كالخصاف والطحاوي والسرخسي والحلواني والبزدوي وغيرهم وهم لا يقدرون
على مخالفة إمامهم في الفروع والأصول؛ لكنهم يستنبطون الأحكام التى لا رواية فيها
على حسب الأصول.
والثالثة: طبقة أصحاب التخريج القادرين على تفصيل قول مجمل وتكميل
قول محتمل من دون قدرة على الاجتهاد.
والرابعة: طبقة أصحاب الترجيح كالقدوري وصاحب الهداية القادرين على
تفضيل بعض الروايات على بعض بحسن الدراية.
والخامسة: طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين القوي والضعيف
والمرجح والسخيف كأصحاب المتون الأربعة المعتبرة.
والسادسة: من دونهم الذين لا يفرقون بين الغَثِّ والسمين والشمال واليمين ,
فلو تتبعنا الكلام على هذه الطبقات والأدوار التي مرت على الشريعة بالتفصيل
لاحتاج ذلك إلى كتاب مطوّل ورجل أعظم رسوخًا مني في العلم ووقوفًا على تأريخ
القضاء، لذا حصرت الكلام على القضاء من الوجهة الإجمالية في دورين؛ وإذ قد
مضى الكلام على الدور الأول فها أنا ذا أتكلم على الدور الثاني على قدر ما يمكنني
مِن الاختصار.
لما اتسعت دائرة الفتح وانتشر الإسلام في الممالك القاصية وتفرق حُفّاظ
الشريعة ورواتُها في الأنحاء مع اتساع دائرة القضاء بازدياد وسائل الحضارة
واستبحار العمران، وتجدد الحوادث التي يقتضيها تشعب المعاملات وحال الأمم
الداخلة في الإسلام من غير العرب؛ وخيف لهذا من تشتت أحكام الشريعة ودخول
الفوضى في القضاء والإفتاء؛ احتيج بالضرورة إلى أمرين مهمين: الأول تدوين
الشريعة في الكتب، والثاني وضع قواعد للتفريع عن أصول الشريعة لتطبيق
الحوادث التي تحدث في أحكام المعاملات على قوانين الشرع، وأول من تنبه
للحاجة إلى هذين الأمرين على ما أظن عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل الأموي
وسدًّا للحاجة الأولى أَمَرَ الزهري من جِلة التابعين وحُفّاظِهم بتدوين الحديث في
دفاتر وتوزيعها على الأمصار في أواخر القرن الأول ففعل كما هو مشهور
معروف.
أما الحاجة الثانية: فقد شعر بها ولكن سَدَّها بعده الأئمة المجتهدون بدليل ما
رُوي عن الإمام مالك بن أنس أنه قال: قال عمر بن عبد العزيز: يحدث للناس من
الأقضية بقدر ما يحدث لهم من الفجور.
أدرك هذا عمر بن عبد العزيز وأدركه الأئمة المجتهدون من بعده مالك
والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المذاهب التي لم يبق لها
أتباع لهذا العهد كداود الظاهري وغيره كأئمة الشيعة الذين يعمل بمذاهبهم إلى اليوم
زيد بن على وجعفر الصادق وغيرهم فلم يكتفوا بتدوين السنة في الدفاتر والكتب؛ بل
رأوا
الحاجة تدعوا إلى البيان والتفصيل والتفريع والترتيب فعمدوا إلى النظر في أصول
الشريعة من الكتاب والسنة فاستخرجوا منها الأحكام ووسعوها ورتبوها ودونوها كل
على أصول مذهبه وقواعده وأصول الاجتهاد المعروفة في كتب الأصول مما لا
يسعني بسطه الآن وكلكم أعرف مني به، فضبطوا بذلك قوانين الشرع بما بلغه
اجتهادهم وأدى إليها جهدهم فكانت كتب كل مذهب شرعًا يَعْمَلُ به أتباعه إلى اليوم.
ولسنا بصدد إطراء هذا العمل الجليل الذي قام به أولئك الأئمة الكبار،
وحسب هذا العمل أو هذه الخدمة التي خدموا بها الأمة والشرع أنها تصون منزلة
الإفتاء والقضاء عن متناول كل مَن ادَّعى أن عنده مُسْكة من العلم بالدين والوقوف
على السنة هذا لو أحسن العلماء بعد العمل بقوانين الفقه.
نعم، قد انتقد كثير من أئمة السلف ما صار إليه الحال بعد وضع كتب
المذاهب من ترك أصول الشريعة والذهاب مع التقليد البحت لكن لم يكن هذا الانتقاد
موجهًا إلى الأئمة المجتهدين إلا فيما أخطأ فيه اجتهادهم، وإنما كان جُلُّ الانتقاد
موجهًا إلى من جاء بعدهم من الفقهاء والمقلدين لتنزيلهم كلام الأئمة منزلة أصول
الشريعة والعمل بأقوالهم ما أصاب منها وما أخطأ بلا بحث في الدليل مع أن الأئمة
أنفسهم نهوا عن العمل بقولٍ مِن أقوالهم دون معرفة دليله من أصول الشريعة كما
تعلمون.
أراد الأئمة المجتهدون أن تكون طريقتهم في التفريع مهيعًا يسير فيه العلماء
في قياس الحوادث بعضها على بعض وردها إلى أصولها عند تجدد الحوادث
بعضها على بعض، وردها إلى أصولها عند تجدد الحوادث سدًا لحاجة
المتقاضين، وأطالوا في الاستقصاء والبيان والتفريع كي لا يَدَعوا وجهًا لتهجم كل
امرئ على أصول الشريعة من الكتاب والسنة ليفتي بعلم وبغير علم فيصير
القضاء إلى الفوضى والتشتت بعد انقراض طبقة حفاظ الشريعة من التابعين
وتابعي التابعين، واتساع دائرة الإسلام اتساعًا يفتقر معه المسلمون إلى قوانين
قريبة التناول من الفهم، لكن أساء من جاء بعدهم من أتباعهم مِن العلماء فَهْمَ
الغاية، فألقوا بأنفسهم في نفس الخطر الذي أراد اتقاءه الأئمة المجتهدون إذ
ساروا في سبيلين متباينين سبيل التضييق على أنفسهم إلى ما لا يبلغ بهم أدنى حد،
وسبيل التوسع إلى ما يتجاوز كل حد.
حرموا في الأول على أنفسهم الاجتهاد، ولو في المسائل التي تدعو إليها
الضرورة والمصلحة العامة التي هي من قواعد ومقاصد الشرع الإسلامي فكان من
ذلك أن أحرجوا الأمة وألجأوا بعض الحكومات الإسلامية لهذا العهد إلى العمل
ببعض القوانين المقررة عند الأمم الأوربية خصوصًا الجنائية والتجارية.
وتوسعوا في الثاني حتى ملأوا بطون الكتب بالحواشي والشروح يؤتى فيها
بعدة أقوال في المسألة الواحدة ولو تافهة أو من قبيل تقدير المستحيل، وكل هذه
الأقوال تعتبر شرعًا أو شريعة وتركوا العمل بالصحيح منها أو الأصح أو المُفتى به
أو المعول عليه إلى رأي القضاة فكان من ذلك أن أطلقوا لقضاء الفرد العنان بلا شرط
ولا قيد فوقعوا وأوقعونا فيما أراد دَفْعُه الأئمة المجتهدون، وحُرِمَ المسلمون من
قضاء الجماعة الذي هو كفيل بالعدل وذلك منذ انقضاء العصر الأول إلى
اليوم.
نعم، إن اختلاف الأقوال في المسألة الواحدة وكثرة الحواشي والشروح على
القوانين والشرائع موجودة عند كل أمة فالقانون الفرنسي مثلآ له شراح من
المتشرعين وأشهرهم دالوز وكاربانتيه وسيريه وغيرهم كثيرون؛ إلا أن القضاء
عند تلك الأمم لما كان بيد الجماعة وقوة التشريع ليست من حق فرد من الأفراد؛ بل
من حق الأمة ونوابها فدستور العمل عندهم ما أجمعت على وضعه قوة التشريع
وصادقت على قبوله الحكومة فصار قانونًا للقضاء لا يُعدّل عنه إلى تلك الحواشي
والشروح وآراء المتشرعين ويصار إليها إلا لتفسير مبهم أو تطبيق الحوادث بعضها
على بعض.
لشريعة المسلمين أصول وكليات - كما قلنا في صدر الكلام - تعتبر أساسًا
للتشريع، ومع أن أحكامها مسلمة فقد كان العمل بها في عهد الصحابة
بالشورى بين المتفقهين منهم، هذا فيما نُصَّ منها على ما يرد عليهم من النوازل،
فما بالكم فيما احتاج إلى الاجتهاد والتشريع بالقياس على تلك الأصول أو
الاستنباط منها وقد سمعتم فيما مَرَّ أنهم كانوا لا يحكمون حكمًا إلا بعد استشارة خيار
الأمة وعلمائهم وإقرارهم جميعًا على ذلك الحكم حتى اعتبر بعض الأئمة المجتهدين
بعض أحكام الصحابة لقوتها شرعًا أو أصلاً من الأصول التي يبنى عليها التفريع
سموه عمل الصحابة أو إجماعهم كما سبقت الإشارة إليه وكما ترون ذلك في كتب
الأصول.
إذا كان إجماع الصحابة على مسألة شرط في صحتها واعتبارها شرعًا يلزمنا
العمل به فقد لزم من هذا أمران:
الأول: إن إجماع الجماعة على تقرير حكم في مسألة شرط في صحة ذلك
الحكم واعتباره شرعًا لزمنا العمل به وهو ما تفعله الأمم الأوربية في تقنين قوانينها
لهذا العهد، وقد وجد له أصل في الشرع الإسلامي فتركناه وأصبحنا نغبط الأمم
الأوربية وقوانينها أو قضاء الجماعة عندها لهذا اليوم.
والأمر الثاني: أن كل أقوال الفقهاء واختلافاتهم الواردة في كتب الفروع ليست
بشرع إلا من حيث اشتمالها على أحكام يرد بعضها إلى أصول الشريعة إلا أنه غير
متوفر فيها شرط التشريع الذي مر، وإناطة ترجيح قول دون آخر من حيث قربه
من الأصل بشخص واحد لا يُكْسِبُ هذا القول أو الحكم قوة التشريع ليسمى شرعًا
أو قانونًا وجب العمل به إلا إذا اتفِقَ عليه وقرره جمهورٌ من المتشرعين أو
المرجحين وهذا ما أردته من وجوب بقاء الاجتهاد لكن لا ليتناوله من شاء فيما
شاء، كلا بل ليناط بجماعة من علماء المسلمين تقرير الأحكام التي تدعو إليها
المصلحة وتجدد بتجدد الزمان.
ولذا فإن اجتهاد الجماعة كما أنه لازم في الأصول فهو لازم في الفروع أيضًا
وذلك لجمع أقوال الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ما أصاب من تلك الأقوال محجة
الصواب والمصلحة ووافق أصول الشريعة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس
الصحيح في كتاب بعينه يعتبر قانونًا في المعاملات مجمعًا عليه من العلماء ليعرف
منه كل مسلم ما له مِن الحقوق وما عليه لا تتقاذفه أقوال الفقهاء من خلاف لآخر
ومن قول لنقيضه فتصير به إلى أهواء القضاة والمفتين يحكمون بما ترجح لديهم
وبما يشتهون.
وليس اختلاف المذاهب بمانع من أن يحكم للشافعي أو عليه بقول
للحنفية أو للمالكي بقول للشافعية مثلاً إذ كل أتباع المذاهب أبناء دين واحد وكل
أقوال كتب الفقهاء مأخذها واحد وهو الشرع، والواقع يثبت أن أحكام المعاملات
كانت في أكثر الممالك الإسلامية ولم تزل إلى اليوم جارية في القضاء على
مذهب الدولة الحاكمة وربما كان أكثر الرعية من أتباع مذهب غير مذهبها.
ومع هذا فليس ثمة نكير من العلماء على أهل الدولة فلا سبيل لهم إلى النكير
على القائلين بلزوم جمع الأقوال الموافقة لمقتضى المصلحة والعصر من كتب
المذاهب وجعلها قانونًا جامعًا في المعاملات للمسلمين؛ بل هذا خير وسيلة لإصلاح
القضاء ربما اغتفرت للفقهاء ماضي تفريقهم وحدة الأمة باسم التعصب للمذهب
وكانت خاتمة اضطراب نظام القضاء في الإسلام.
ليس اضطرب حبل القضاء في الإسلام بجديد، وليس الظلم والعسف الذي
لاقاه المسلمون من حكامهم الظالمين وحكوماتهم الجائرة إلا نتيجة توكئهم على
ضعف القضاء؛ خصوصًا ما يتعلق منه بولاية المظالم لا لنقص في الدين أو
الشريعة؛ بل لنقص في طرق التقنين والتنفيذ.
إن الدين الذي يُنزِل على الظالمين صواعقَ الإنذار ويقرن الظلم بالشرك بالله
تعالى ويأمر بإقامة ميزان العدل، ويريد سعادة المجتمع الذي يدين به ما كان ظالمًا
ولن يكون؛ وإنما المسلمون أنفسهم يظلمون.
ربما يطالبني كلكم أيها السادة بدليل على قولي إن اضطراب نظام القضاء وما
نشأ عنه من الجور ليس بجديد في الإسلام، وهذا الطلب من حقكم بعد هذا الكلام
وإليكم دليلاً واحدًا أكتفي به عن أدلةٍ لو أحصيت لكانت كتابًا ليس كالكتب مما
تقرؤون.
تعلمون أن أَحْفَل العصور الإسلامية بالعلماء والمفتين والفقهاء والمتشرعين
وأرقاها في سلم المدنية الإسلامية عصر هارون الرشيد العباسي؛ إذ الشريعة في إبان
زهوها والتفريع في مبدأ مجده والأئمة المجتهدون هم القائمون بالتشريع وإلى كتبهم
ترجع الفتوى.
في ذلك العصر الزاهر بمجد الإسلام وأمجاده العظام يرى أبو يوسف صاحب
أبي حنيفة من ضعف القضاء وتسلط عمال الجور واضطراب نظام ولاية المظالم ما
يلجئه إلى وضع كتاب الخراج لأمير المؤمنين هارون الرشيد وليس فيه إلا آية أو
حديث أو مثال من قضاء الصحابة pأحصيتأي كله من أصول تلك الشريعة الطاهرة يذكره
فيه بالرجوع إلى قضاء الله ورسوله وأصحابه أو قضاء الجماعة المتين قائلاً:
(ارجع يا أمير المؤمين إلى هذه الأصول في سياسة الرعية وجباية الخراج وتوزيع
الفيء، اقعد يا أمير المؤمنين بنفسك للمظالم وإنصاف المحكوم من الحاكم، أدرك
الزراع فقد كاد يهلكهم الظلم، فقد بلغني عن عمالك أنهم يقيمون أهل الخراج في
الشمس ويضربونهم الضرب الشديد وإنهم يفعلون بهم ويفعلون مما لا يحل لهم بوجه
من الوجوه) .
هكذا كان الحال في عصر الرشيد وأئمة الشريعة أحياء يرزقون فما بالكم بما
جاء بعده من العصور التي صار فيها التشريع إلى عدد لا يحصى من المخرجين
والمرجحين والفقهاء والمفتين، وكلهم يقول قولي أو قول فلان هو شريعة الله المفتى
بها والمعول عليه، وما هو إلا تفكك نظام القضاء وتشتت قوة الجماعة فلا حول ولا
قوة إلا بالله.
والنتيجة أيها السادة أن ضمان العدالة الوحيد إنما هو قضاء الجماعة لا قضاء
الفرد وأعني أن التشريع وحده غير كفيل بالعدل في القضاء إلا إذا أنيط كلاهما
بالجماعة بالوضع والتنفيذ، ولا تظنوا أن هذا (المطربش) الواقف أمامكم يريد
شيئًا جديدًا في الدين أو قلبًا لكيان الأحكام مع أنه ليس من علماء الدين ولا أئمته
المجتهدين.
كلا، فليس قضاء الجماعة بجديد في الإسلام؛ بل هو من عصر الصحابة
وهم واضعو أساسه المتين في الدور الأول للقضاء في الإسلام.
أما الدور الثاني فالذي أذكره أن دولتين من دول الإسلام تنبهتا إليه وعولنا
عليه؛ أولاهما: دولة الأمويين في الأندلس التي جعلت في القرن الثالث دارًا في
قرطبة لشورى القضاء؛ أعضاؤها من جلة العلماء يُرجَع إليهم في تقرير الأحكام.
والحق أقول إني لم أظفر بكثير بيان عن هذه الشورى لكن ما رأيته عنها في
ثنايا الكتب التأريخية يكفي للدلالة عليها، فقد ورد ذكرها في (نفح الطيب) في
ترجمة بعض العلماء كقوله كان فلان مشاورًا وطلب فلان إلى الشورى فأبى ونَقل إليَّ
ثقة عن كتاب من الأسف أنه غير موجود بين يدي؛ بل هو في مكتبة دمشق وهو
كتاب الأحكام للقرطبي ورد فيه ذكر هذه الشورى بقوله: (إن الشورى خالفت الإمام
مالكًا في عدة أحكام أخذت فيها بقول أبي القاسم) .
وفي هذا دليل كاف على أنه كان لديهم سلطة في التشريع، وأن الدولة الأموية
ثمة كانت مسددة الأعمال حتى قبيل وهنها وسقوطها حريصة على إجراء قوانين
العدل بين رعيتها.
أما الدولة الثانية التي تنبهت إلى مثل ما تنبه إليه الأمويون فهي الدولة
العثمانية لهذا العهد فإنها جمعت من علماء الأمة وفقهائها الموثوق بفضلهم وعلمهم
جماعة سمتهم جمعية المجلة، وذلك من بضعٍ وثلاثين سنة انتخبوا من كتب
المذهب الحنفي قانونًا جامعًا للأحكام المدنية وهو المعروف (بمجلة الأحكام العدلية)
وأقر على العمل به أهل الحل والعقد، فصار مرجع القضاء في المحاكم إلى
اليوم وستجتمع هذه الجمعية أيضًا لإدخال بعض الزيادة والتحرير عليه مما مست
إليه الحاجة ولو بأخذه من غير المذهب الحنفي.
هذا مجمل تأريخ القضاء في الإسلام وما تخلله من الشؤون بسطته لديكم مع
رجائي أن تَصْفَحوا عن كل خطأٍ بَدَر مني أو تردوه، ولو سمح الوقت لأتيت على
شيء كثير من كيفية تقسيم ولاية القضاء وترتيبها ومحاسن الفقه الإسلامي وما انتقد
عليه، وإنه لو أحسن العلماء العمل به لكان لنا منه قانون جامع لأحسن قوانين الأمم
المدنية، وربما أعود إلى هذا البحث في فرصة أخرى إن شاء الله.
__________
(1) خطبة لرفيق بك العظم المؤرخ المشهور ألقاها على طلاب القضاء الشرعي بمصر.(13/33)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
... ... تصنيف كتب في الكلام ملائمة لحاجة العصر
توحيد المذاهب الإسلامية
إصلاح نظام التعليم في المدارس الدينية
ألقى أستاذنا الفاضل موسى كاظم أفندي العضو في مجلس الأعيان، والأستاذ
في مدرستي الحقوق والقضاة محاضرة في هذه الموضوعات الثلاثة، فضبطها عنه
حضرة الأديب حسين أشرف بك أديب صاحب مجلة (صراط مستقيم) التركية،
فرأيت أن أترجمها لقراء مجلة المنار النافعة بما يأتي:
كان الراسخون في العلم من أهل الصدر الأول للإسلام يكتفون بظاهر المعنى
الذي دل عليه الكتاب والسنة ويرجعون إلى صاحب الرسالة في كل ما يشتبهون به
من المسائل على عهده، ولهذا لم تضطرهم الحاجة إلى وضع المصنفات ومراجعة
الأسفار.
ثم ظهر الاختلاف على عهد التابعين، فرأوا أن يُدوِّنوا الكتب احتفاظًا بوحدة
الدين من وقوع التفرقة، وبُعدًا بها عن مزالق الانشقاق وفقدان القوة إذا تَشَتَّتْ آراء
ذوي الرأي، واختلفت أنظار أهل النظر، وهنالك الطامة الكبرى، والخسران
العظيم.
فأخذوا يدونون العلم، وأكثر ما دونوا كان في علم الكلام، لأنه هو منشأ
الخلاف، فكان لذلك فائدة عظيمة.
على أن الفلسفة لم تكن قد دخلت بادئ بدء في المصنفات الأولى؛ لأن الأمة
لم تكن قد عانتها بعد، بل كانوا يبرهنون على مذاهبهم بنص من الكتاب والسنة،
وهي طريقة علماء السلف، ولم يكن ذلك العصر في حاجة أكثر من ذلك.
ثم انتقلت علوم الفلسفة إلى العربية، فتشعبت الآراء طرائق ومذاهب،
وعرف أبناء هذه اللغة لأول مرة ماهية مذهب (الفلاسفة المشائين) وآراء (الفلاسفة
الطبيعيين) ، وأخذوا يدخلون فيها، ويقولون بقول أصحابها على قلة عددهم، لولا أن
المشائين تغلبوا على الطبيعيين من حيث إقبال الطالبين على كتبهم حتى اضطر
علماء الدين إلى مناهضتهم جميعًا وإنقاص ما لهم من السلطة والنفوذ في قلوب
الدارسين والمفكرين، ومن الردود على المشائين والإشراقيين تألف علم الكلام ممتزجًا
بالفلسفة كما قضت الحاجة؛ لأن علماء الكلام كانوا يدرسون كتب الفلاسفة أولاً، ثم
يردون عليها، إلى أن كسدت سوق (الفلسفة الإشراقية) وكثر انتقاد أقوال المشائين
فدالت دولتها وانقرضت سلطتها، ولم يبق لها ولي ولا نصير.
لم تكد تُلقي هذه الحرب أوزارها حتى كان لعلماء الكلام من ظهور (الماديين)
في هذا العصر ميدان آخر للنضال والكفاح، فبهؤلاء يجب أن نشتغل اليوم كما كان
أسلافنا يشتغلون بالطبيعيين والمشائين والإشراقيين بالأمس.
ورب قائل يقول: كيف يجوز لنا أن تزيد من عندنا في علم الكلام ما لم ينص
عليه من قبلنا أو ليس من الواجب علينا أن نتبع الأولين في ما قالوه ونسلك السبيل
الذي انتهجوه.
فنجيبه بأن الفلاسفة الذين عني السابقون من المتكلمين بتزييف أقوالهم لم يبق
في زماننا من يذهب إلى صحة نحلهم وإذا كانت براهين أسلافنا سلاحًا قاطعًا لتلك
المزاعم فأين من يحاربنا لنصده بها وهذا الميدان خال منهم على حين نرى جهة
أخرى غاصة بأعداء آخرين لا يعمل فيهم ذلك السلاح، أو هو لا يقابل الأسلحة التي
يستعملوها، والحاجة ماسة إلى اختراع سلاح آخر يصلح أن نقابلهم به.
لا يوجد اليوم علماء معروفون يقولون إن العالم ثلاث عشرة طبقة كرية: الأولى
تراب، والثانية ماء، والثالثة هواء، والرابعة نار، والأفلاك بعد ذلك تسعة
متواليات بعضها فوق بعض، وإنها أزلية أبدية في نوعها وفي جنسها، وهي بهذا
الاعتبار قديمة.
فإذا قلنا للفلاسفة اليوم: إنكم كنتم تزعمون قبل عصور أن الأرض وما عليها
قديم ولدينا حجج تدحض مُدّعاكم وتبرهن على حدوث الأرض وما عليها؛ أجابونا
قائلين: كلا نحن لا نقول بقدم الأرض بل نذهب إلى ما تذهبون إليه من أنها
حادثة.
ومَن منهم يُصغي إلينا إذا قلنا له: إنك تقول برأي بطليموس مِن أن الأفلاك
تسعة متداخلة أزلية أبدية وهو يرى: (أن هذا الفضاء لا نهائي، ولا نهاية لما فيه
من الأجرام، وهي حادثة من حيث صورها، ولا قديم فيها إلا أجزاؤها الفردة) ،
وربما سخر منا عندما نبرهن له على فساد مالا يعتقد صحته.
فمن الواجب علينا إذًا إصلاحُ الدروس الكلامية وفقًا لحاجة هذا العصر وأهله،
ووضع مصنفات جديدة في دحض مذاهب هذه الأزمان، وأن نعلم أن الدين لا
يُناضَل عنه اليوم بسلاح الأمس لِمَا بين العدوين من البَوْنِ الشاسع والفرق العظيم.
كان المشاؤون يعترفون بوجود الله تعالى، وأنه العلة الأولى، وواجب الوجود،
ولكنهم كانوا يقولون: هو فاعل مضطر لا فاعل مختار.
أما الماديون في هذه الأيام فلا تنفعهم براهيننا على ذلك لأنهم لا يُسَلِّمون
بوجود الله سبحانه، وكان الحكماء يقولون: إن الله واحد حقيقي وباطل وصفه بتلك
الصفات المتعددة لأنها تنافي الوحدة فهو قائم بذاته، عالم بذاته، قادر بذاته، مريد
بذاته، والعلم عين الذات، والقدرة عن الذات إلى غير ذلك من الصفات الأخرى،
وبهذا قالت المعتزلة.
أما الماديون فهم يضحكون منا إذا برهنا لهم على أن الله عالم بعلمه قدير
بقدرته مريد بإرادته: لأننا متخالفون معهم من حيث المبدأ الذي يجب علينا أن
نقربهم إلينا فيه بوضع كتب حديثة تصلح لإقناعهم، ولا يتسنى لنا ذلك إلا بدرس
فنونهم، وإلزامهم بأقوالهم وآرائهم.
وبعد؛ فإن الإسلام قد مني باختلافات ذهبت بأهله مذاهب كثيرة باد أكثرها وبقي
بعضها، فالشافعية والحنبلية والمالكية يخالفوننا نحن معشر الحنفية بالفروع وإن
كانوا كلهم أهل السنة، فمن الواجب علينا أن لا ننزل هذا الاختلاف بمنزلة
الخصومة فنعد الشافعي خَصمًا لنا، بل الصواب أن نرى لنا ما لنا، ويرون لهم ما
لهم، وربما كان الحق في جانب أحد الطرفين مرة، وفي الجانب الآخر تارةً أخرى،
لأن المسألة مسألة اجتهاد، والاجتهاد يبنى على الأدلة الظنية التي يَستدل بها كلا
الطرفين ولا فرق في ذلك بينهما ولذلك نصوا على أن الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد.
كانت هذه الحال مدعاة للتفرقة وانشقاق القوة، ومباينة لما أمر الله به من
الاعتصام بحبل الاتحاد والاجتماع، وما أشد ضرر التخاصم في المذاهب والفروع؟
وفي الإسلام اليوم غير هذه المذاهب مذهب آخر وهو مذهب الشيعة، والعداوة
بينهم وبين السنيين شديدة، وفي نظري أن هذا العداء أمر منكر يجب إزالته ليتسنى
للمسلمين أن يتحدوا وإلا التهمهم الغرب قبل مرور نصف عصر، وكانت القاضية
على المسلمين أجمعين.
أجل يجب علينا أن نعتصم جميعًا بحبل الله ونتحد مع كل قائل بوحدة الله
ونبوة رسول الله ونحاول بعد ذلك تقويم الأود، وإرجاع المنحرفة إلى أصلها
ومجادلة أهل المذاهب الأخرى لا كما يُجادِل العدوُّ العدوَّ، بل بالتي هي أحسن، وذلك
بأن يجتمع العلماء من كل فريق ويقول بعضهم لبعض تعالوا إلى كلمة سواء بيننا
وبينكم نتجنب ما تقوم الحجة على بطلانه ونعمل بما تبرهن الأدلة على صحته وفي
يد كلا الفريقين كتاب الله يؤمنان به وبمن أنزله وبمن نزل عليه وبهذا ينجو
المسلمون مما مُنوا به من التفرقة والانشقاق، وأنا الكفيل بأن المسلم لا يلبث أن
يذعن للحق مهما بعد عنه.
وإني أقص عليكم هنا تفاصيل مناظرة دارت بيني وبين أحد علماء
الشيعة وكان متعصبًا، وعلى مكانة من الجَّد في وقت واحد، فبادرته أنا سائلاً:
أين هو موضع النزاع بيننا وبينكم، وفيما ترتابون من عقيدتنا فأجابني: الخلافة
هي موضع النزاع … قلت له:
إن هذه المسألة في رأيي ليست مما يستحق النزاع، قال:
كلا، بل هي ذات شأن عظيم لا ينكر فهي التي قضت على الإسلام وشتت
شمل المسلمين وقلبت بالدين رأسًا على عقب.. . إن الخليفة بعد النبي كان يجب أن
يكون عليًا، فأجبته:
تلك دعوى لا نسلم بها مالم يقم على صحتها برهان ساطع، فما هو برهانكم
على ذلك.
وهاهنا عدة أشياء كثيرة كانت كلها واهية في نظري وبعد أن أصغيت إليه
كثيرًا قلت له:
ليس كل هذا مما يتألف من دليل واحد؛ لأن ما قلته لا يفيد إلا الظن، وإن الظن
لا يغني من الحق شيئا، أنت سردت على مسامعي قضية هي من المطالب اليقينية
وأنى لمثلها من مسائل الاعتقاد أن يُبرهَن عليه بشيء من الظن الذي ربما كان مقنعًا
في مسائل الفروع.
فترك صاحبنا هذه السبيل وانتهج منهًجا آخر تكلم فيه أكثر مما تكلم من قبل،
ولكن هذا أيضًا كان واهيًا، فقلت له حينئذ:
إني أدعي أنه لم يؤثر عن النبي قول يستدل به على تعيين خليفة باسمه،
وبرهاني على ذلك أنه لو كان ثمة قول صريح في هذا الباب لما اختلف الصحابة في
ذلك الأمر، وهو على ما هم عليه من التمسك بسنته، والخنوع لطاعته.
أجل، لم يصرح النبي بذلك؛ لأن المهاجرين والأنصار وقع بينهما على الخلافة
اختلاف كان من نتيجة أن قال الأنصار: (منا أمير ومنكم أمير) فدحض الصديق
ما طلبوا بحديث (الأئمة من قريش) فأجابوه: إذًا لم يبق بيننا مدعاة للخلاف بعد
هذا، ومن ذلك تعلم أنه ليس ثمة صراحة قوله يستدل بها على تعيين خليفة بشخصه،
وإنما هم رجحوا الصديق لتوليه الصلاة بالناس في مرض النبي ولم يرجحوا عليًّا،
وهذا ما أداهم إليه اجتهادهم.
وكان أبو بكر قد سَمَّى عمر لولاية العهد قبل وفاته، فلم يبق مجال للنزاع
وجعلها عمر شورى من بعده، فوقع الاختيار على عثمان، ثم تولى منصب الخلافة
من بعدهم عليّ، هذا كل ما في الأمر، فأين ما تذكره من أن هذا المسألة هي التي
قضت على الإسلام، وقلبت الدين رأسًا على عقب.. . هل سلك أبو بكر غير منهج
الرسول؟ كلا، إنه لم يفعل ذلك باعترافكم، وهكذا فعل عمر وهو الذي افتتح
الأقطار وعلى يده دخلتم في الإسلام، وأصبح المسلمون يحكمون بلادًا فيها مائة
مليون من النفوس، ومع كل ما كان له من النصر، وللإسلام من المجد، بقي في
آخرته كما كان في أولاه يضن على قدميه بحذائين يخرج ثمنهما من بيت المال
فما هو معنى (القضاء على الإسلام) حينئذ؟
وهنا سكت صاحبنا ولم يفه ببنت شفة، فواصلت كلامي قائلاً: نحن نقدس
هؤلاء؛ لأنهم لم يحيدوا عن خطة النبي قيد أُنملة، ومن الواجب على كلِّ مَن في قلبه
ذرة من إيمان أن ينظر إليهم بالنظر الذي ننظر به إليهما، فأجابني: إن عليَّا
كان على سعة من العلم والفضل، وواقفًا على سر الكتاب، قلت له: ذلك مما
لا ريب فيه. قال:
فلماذا إذًا لم يجعلوه خليفة؟
أجبته:
أنت الآن تخرج عن الصدد، فقد عدلت عن زعمك الأول أن الإسلام قد قضى
عليه، ورحت تقول الآن: كان الأولى تولية عليّ لأنه كان أعلم وأفضل، فقال لي:
إنك يا أخي لا تدع لي مجالًا للإفصاح عن رأيي، إنني أقول: إن عليًّا واقف على سر
الكتاب ولو كان أول خليفة في الإسلام لخدمه خدمات جلى، ولتعالى الدين أكثر
مما شهدنا. قلت له:
أنت غيرت دعواك، ومع ذلك فإني أقول لك: كان من الواجب عليه إذا كان
الأمر كذلك أن يبين تصوراته في إعلاء شأن الإسلام أنَّ تَوَلِّي أمر الخلافة من قِبَلِهِ،
وفي كل حال إنه صار خليفة بعد ذلك، وكان في وسعه أن يقوم بالخدمات التي
تذكرها.
وبعد أن أَفَضْتُ البحث في هذا الباب أذعن مناظري للحق ورجع إلى إنصافه
ثم قال:
الحق أقول: إن هذه المسألة مسألة سياسية، لا مسألة دين، وما هي إلا وسيلة
جعلت في القديم لإحداث التفرقة بين فريق وفريق.
فترى من هذا أنه مهما كان بين المسلم والمسلم من الاختلاف، يرجع أحدهما
إلى الحق بعد ظهوره له؛ لأن المسلم منصف على كل حال.
ويا ليت شعري كيف يجوز لنا أن نجعل الاختلاف في المذهب سببًا للعداوة
ونحن كلنا مسلمون، في حين أن من المحظور على المسلم أن يجعل العداوة في قلبه
حتى لغير المسلمين، حقًّا إن هذه حال قد سئمتها النفوس، ونتجت منها مضار،
أزف الوقت الذى يجدر بنا فيه أن نقلع عن هذه البغضاء الشائنة، ونؤسس فيما بيننا
وبين جميع الفرق المسلمة وغير المسلمة وحدة صحيحة، فيكون الاتحاد شعارنا في
كل أين وآن، لأن بالاتحاد نجاتنا، وبالإعراض عنه اضمحلالاً.
فمن الواجب علينا أن نضع كتبًا في علم الكلام مؤسسة على مبادئ عدة؛ كأن
ندرس مذاهب الفلاسفة المعاصرين، ونجادل أصحابها ولكن (بالتي هي أحسن)
فبهذا يزول الخلاف، وتلك كانت خطة النبي صلى الله عليه وسلم في جدله.
نحن نفكر اليوم في أمر إصلاح المدارس الدينية وحسبنا أنكم تقدرون هذا
الإصلاح حق قدره - الطلبة: تلك حقيقة ناصعة فنرجوكم أن تثابروا على
الإصلاح - إنكم إذا كنتم على غير رأينا في لزوم هذا الإصلاح، فليس في
وسعنا أن نأتي بعمل، أما إذا عرفتم وجوبه، فهو أهم الإصلاحات في نظرنا.
يجب أن نُدخل على نظام المدارس القديم خمسة من الفنون الحديثة أو أكثر،
وأن نُعدِّل ذلك النظام تعديلاً هامًّا، فنبطل تدريس الحواشي والتقريرات بتة، ونُعَلِّمَ
الطالبين المتون فقط، ولكن تعليمًا حقيقيًّا، ونتوسع كثيرًا في درس اللغة والأدبيات.
ترى ماهي الحواشي والتقريرات؟ هي انتقادات قواعد لغة لا نعرفها بعد،
وأحر بنا أن ندرس تلك اللغة نفسها قبل أن نقرأ انتقاد قواعدها.
ولعل قائلاً منكم يقول: نحن لاندرس لغة العرب، بل ندرس كتبًا أنشئت بلغة
العرب، وكان خيرًا لنا لو تُرْجِمَ القرآن إلى التركية، فدرسناه بلغتنا، كما يدرس
العرب القرآن واليهود التوارة بلغتيهم.
فأجيب هذا القائل: إن ترجمة القرآن متوقفة على معرفة اللغة العربية معرفة
تامة، وهذا ما ندعو إليه الطلبة والعلماء، ونريد منهم أن يكونوا ذوي وقوف تام
على هذه اللغة، ولا يكون هذا إلا بدرس المتون أولاً، والتوسع بالأدبيات بعد ذلك
جهد المستطاع، ولا بأس إذا رجع التلميذ بنفسه إلى بعض الشروح عند مسيس
الحاجة.
ولست أدري كيف أعرض الطلبة قبلنا عن المتون وتعلقوا بهذا الشروح حتى
إذا أتموها شرعوا بقراءة الحاشية فحاشية غيرها ثم بالتقريرات فتقريرات أخرى
وبعد أن يصرف الطالب أكثر من خمس سنين على هذا المنوال في كتاب واحد
تمتحنه فيه فلا تجده على شيء! ! ولا يقدر أن يفهم معنى سطر واحد من الشعر
العربي؛ ذلك لأنه بدَّد وقته بمناقشة ما قاله العصام وما نبه إليه عبد الغفور، وبوجه
التفهم من قوله (فافهم) عند ما تعرض مسألة من المسائل.
فَكِّروا يا هؤلاء قليلاً: يجتهد عالم بتلخيص القواعد في متن يُسّهل به على
الطلبة سبيل الوقوف على أصول أحد العلوم، فيجيء غيره ينتقد ما كتبه وهو حُر فيما
يعمل ثم يجيء آخر فينتقد الانتقاد.
نحن لا نعترض عليهم لانتقادهم، فليبدوا رأيهم في مسائل العلم، والانتقاد في
الحقيقة فلسفة العلوم، ولكن الذي أستغربه هو تسابق الشيوخ إلى هذه الحواشي
والتقريرات مما تجادل به العصام وعبد الغفور، يجعلونها كتبًا مدرسية يقرأونها على
الطلبة قبل أن يدرسوا أصول العلم نفسه.
اعترِضوا على ما أقول إذا كان لكم اعتراض.
نعم إن هذه الحواشي ليست مما يقرأ قبل درس قواعد اللغة، وإنها مع ذلك لم
تؤلف عبثًا، فإن أصحابها لاحظوا من تأليفها تربية قوة المناقشة والانتقاد في نفوس
الطلبة فصنفوها، وما علينا إلا أن نستعملها في الموضع الذي وضعوها له، ولقد
كان من تحريفنا الأشياء عن موضعها أننا ظللنا جاهلين اللغة العربية، وإذا عرض
لنا بيت من الشعر، وقفنا أمامه باهتين، ننتظر من عبد الغفور، ومن العصام إمدادًا
فلا نرى مِن معين، ثم نسعى لفهم البيت من كتب اللغة فيخفق سعينا لأننا لم ندرس
الأدبيات العربية، وغاية الأمر أن إصلاح المدارس يتوقف على درس متون العربية
وكتب اللغة والأدب، ثم يلتفت الطالب إلى الفقه والتفسير والحديث، تلك العلوم
التي أهملناها، لأن الحواشي والتقريرات استغرقت منا كل وقت.
أتمنى من الطلبة كلهم أن يجتمعوا في مكان واحد، ويفكروا فيما يحوجهم
لإصلاح مدارسهم، ويستجلبوا برنامجات المدارس الدينية في مصر، فإن المدارس
الدينية في ذلك القطر قد أصلح نظامها، فأثمر التعليم فيها ثمرات شهية، وبعد
الاطلاع على تلك البرنامجات يضعون لأنفسهم برنامجًا يوافق حالهم وحال
العصر معًا ويكفل لهم التقدم في اللغة العربية، ثم يبحثون في أي الفنون الحديثة
أكثر لزومًا لهم.
أما أمر معاشكم فنحن نكفله لكم، لأن لكم أوقافًا كثيرة جدًا استولت عليها
الأيدي، وهي تغل لكل واحد منكم ثلاثة جنيهات مشاهرة، لو كان عددكم خمسة
آلاف طالب، وعدا ذلك فإن الأمة لا تنساكم، وما عليكم إلا أن تبرهنوا على
كفاءتكم، ثم إنكم في حاجة إلى تعلم لغة أجنبية، وليس في هذا ما يخالف الدين،
لأنه ليس للدين لغة خاصة به.
هذه اللغة العربية بِنْتُ ستة آلاف سنة، والدين الإسلامي لم يكن إلا منذ ألف
عام وزيادة، وهؤلاء مسلمو كريد لا يعرفون العربية ولا التركية ولغتهم لغة يونان،
فهل كان ذلك مانعًا لإسلامهم، ونحن أنفسنا لغتنا التركية، فهل نتركها لأنها ليست لغة
القرآن التي أنزل بها، وهل اليهود من العرب مسلمون لأن لغتهم عربية؟ كلا،
وإذا كانت العربية لسان الدين ولا يجوز للمسلم أن يتكلم بغيرها، فنحن آثمون لأننا لم
نترك التركية، وهذا ما لا يُسَلِّمُ به عقل ولم يَرِدْ به نص.
فالتركية من هذا القبيل لا فرق بينها وبين الفرنسية والإنكليزية؛ لأن هذه
اللغات الثلاث كلها غير العربية، وعدا ذلك فنحن ندرس في جوامعنا باللغة التركية،
فلماذا لا ندرس بالفرنسية أيضًا، ولماذا لا نتعلم في مدارسنا لغة أجنبية؟ فإذا قلتم:
إن التركية لغة أمة إسلامية، أجيبكم: إن في الصين تُرْكًا أكثر منا عددًا وهم كلهم
مشركون.
فتبيّن من هذا أن اللغة شيء والدين شيء آخر، وما التعصب في هذا الباب
إلى الجهل الذي يسخر من صاحبه الناس أجمعون.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محب الدين الخطيب
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بالقاهرة
(المنار)
بَعثتْ إلىّ إدارة المجلة بهذه المقالة المترجمة وأنا في الآستانة لأرى رأيي في
نشرها فلما قرأتها رجحت المقتضي على المانع، وأذنت بنشرها، أما المانع فهو أنه
قد سبق لنا في المنار بيان هذه المسائل الثلاث الأساسية التي بنيت عليها محاضرة
الكاظم (تصنيف كتب في العقائد ملائمة لحال هذا العصر، وتوحيد المذاهب
الإسلامية وإصلاح التعليم في المدارس الدينية) بل هي من مقاصد المنار التي أبدينا
وأعدنا القول فيها كثيرًا، وكررناه تكريرًا، فقراء المنار لا يستفيدون بنشر ترجمة
هذه المحاضرة شيئًا جديدًا في هذه المسائل التي طرقت مسامعهم وجالت في مباحثها
أبصارهم، وعلم أكثرهم ما لقى شيخنا الأستاذ الإمام من العناء في محاولة إصلاح
التعليم في الأزهر والمدارس التابعة له، وأما المقتضي فهو ما يستفيده قارئ هذه
المقالة من تشابه علل المسلمين وأمراضهم، بل وحدتها ومن اتفاق آراء العقلاء
وطلاب الإصلاح لها على اختلاف اللغات وتباعد الأفكار، فموسى كاظم أفندي من
علماء الآستانة قام يطالب في عهد الحرية ما سبقه إليه إخوانه من عقلاء العلماء في
مصر والهند من غير تواطؤ بينه وبينهم ولا اطلاع منه على أقوالهم وأعمالهم،
فالمسلمون أمة واحدة مرضهم واحد وعلاجهم واحد وأطباؤهم هم العلماء والعقلاء
العارفون بحال العصر الذين يصدق عليهم تعريف الفقيه في أقوال أحد أئمتهم (هو
المقبل على شانه العارف بأهل زمانه) .
قد أحسن الكاظم في حَثَّهِ طلاب الترك على تعلم أدبيات اللغة العربية؛ لأن اللغة
نفسها إنما تعرف بأدبياتها لا بفلسفة فنونها الصناعية، وفي حثه إياهم على تعلم
بعض لغات العلوم الدنيوية، وحجته في هذه المسألة أقرب إلى القبول مِن حجة مَن
يدعو أمثال طلاب الأزهر إلى تعلم الفرنسية والإنكليزية لأنه لا فرق بين التركية
والفرنسية في نظر الدين وأما العربيةُ فهي لغة الإسلام لا يمكن أن يفهم الإسلام حَقَّ
فهمه ويكون من علمائه إلا من يكون متقنًا لها، وترجمة القرآن ترجمةً تقوم مقام
الأصل العربي وتغني عنه في الفهم والاستنباط والهداية، هي متعذرة كما بينا ذلك من
قبل ويحتاج في فهم الإسلام إلى فهم السنة ومعرفة طرق روايتها ... إلخ إلخ، ولم
يعط الكاظم هذه المسألة حقها من البيان والتحقيق، وهي لم تكن موضوع محاضرته
وإنما جاءت بالعرض، وقد عرفت الرجل هنا وأرجو أن يكون من خير أنصاري على
ما أسعى إليه من الخير للمسلمين الذي يدخل فيه موضوع محاضرته.
__________(13/50)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رسالة جمع النفائس لتحسين المدارس
يقول الذين أرسلوا إلينا هذه الرسالة إن السيد عثمان بن عبد الله بن عقيل
كتبها ليقاوم بها نهضة المسلمين الحديثة لإنشاء المدارس وطلبوا منا أن نبين لهم
رأينا فيها كما ذكرنا ذلك في الجزء الحادي عشر، وقد تصفحنا معظم الرسالة فظهر
لنا أن كاتبها قد كتب ما يعتقد أن النافع كما هو ظننا في سائر مكتوباته وأنه لم يقصد
تثبيط المسلمين عما هو نافع لهم إرضاء للحكام أو لغير الحكام، ولكن الذين فهموا
منها تثبيط المسلمين عما ينفعهم معذورون ولا يسوغ لنا أن نقول إنهم متحاملون.
الرسالة مؤلفة من ثلاثة فصول أولها في العلم والتعليم والمدرسة وبذل المال
لهذا الأمر ونتيجة العلم، وقد جاء في ذلك بفوائد ونصائح لا بأس بها، وإن كان
فيما استدل به أحاديث ضعاف لا يحتج بمثلها، ولا نطيل في ذلك لما جرى عليه
المؤلفون من التساهل في إيراد مثل هذه الأحاديث في فضائل الأعمال ولا سيما
الغزالي - رحمه الله تعالى - ورأيته يذكر في هذا الفصل كغيره السلف الصالح
ويحث على اتباعه ويعد من ذلك قراءة رسائل وكتب أحمد بن زين وسالم بن سمير
وعبد الله بن عاوي الحداد وغيرهم ممن ليسوا من سلف الأمة، وهم أهل القرون
الثلاثة على المشهور فكأنه يعد المتأخرين من أهل حضرموت وغيرهم من السلف
ولا أدري ما هي مزيتهم على علماء هذا العصر في الهند ومصر وتونس، وعندي
أنه لا يعتد برأيه في الكتب النافعة ولا في طريقة التدريس، والفصل الثاني عشرة
أسطر في الاتفاق على العمل وبذل المال له، ولا بأس به، وأما الفصل الثالث فهو
الذي يثبط همّة مَن تَلقَّاه بالقبول على علاَّته لأنه ينفّر المسلمين من كل ما عليه
الأجانب في علومهم وأعمالهم الدنيوية التي بها صاروا أقوى وأعز من المسلمين،
حتى إن دولة صغيرة في شمال أوربا تستولي على أكثر من ثلاثين ألف ألف مسلم
في جنوب آسيا وتتصرف فيهم تصرف السيد في عبيده الضعفاء، ولو عملت الدولة
العثمانية بمثل هذه الآراء لاستولى عليها الأجانب من زمن بعيد ولم تبق للمسلمين
حكومة مستقلة.
ومن بلايا تناقض هؤلاء المقلدين أنهم يحرمون الاستدلال بالكتاب والسنة على
مَن هم أهل له ويبيحونه لأنفسهم مع اعترافهم بأنهم ليسوا من أهله ومن ذلك استدلالهم
بحديث ابن عمر (من تشبه بقوم فهو منهم) على تحريم كل شيء نافع سبقتنا إليه
أوربا، والحديث لا يدل على ذلك على أن سنده ضعيف عند رواته وهم: أحمد
وأبو داود والطبراني في الكبير، وتصحيح ابن حبان له لا يعتد به لتساهله في
التصحيح، ومعناه أن من تكلف أن يكون شبيهًا بقوم فإن التكليف يصير خلقًا بعد
تكرار العمل فيصير بذلك من القوم فيما تشبه بهم فيه فإن تشبّه بهم في الكتب من
أمور الصناعة صار صانعًا مثلهم وإن تشبه بهم في الأعمال الحربية
صار كواحد منهم في ذلك وإن تشبه بهم في كل شيء صار مثلهم في كل
شيء، ولكنه إذا تشبه بهم في بعض الأزياء أو العادات لا يصير منهم في أمور
الصناعة أو الحرب أو الدين، وإذا تشبه بهم في أعمال الدين فقط لا يصير منهم
في السياسة أو الإدارة ولا في الصناعة والزراعة. فالمسلمون في العراق
موافقون لمسلمي مصر في الدين لا متشبهون وهم ليسوا مثلهم في إتقان الزراعة فمن
الجهل الفاضح أن يقال إن من تشبه بآخر في شيء يصير مثله في غيره،
ويتفرع على هذا أننا نحن المسلمون إذا تشبهنا بالإفرنج في الأمور الحربية
والسياسية والصحية وطرق الكسب فإننا لا نكون معدودين منهم في دينهم، وإنّ
في بلادنا مَن هم موافقون لهم في دينهم، وكثير من عاداتهم، وهم مع ذلك ليسوا
مثلهم ولا يعدون منهم في الأمور السياسية والحربية مثلاً.
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الجبة الرومية
والطيالسة الكسروية (من لباس المجوس) ، ولما أخبره سلمان الفارسي - رضي الله
عنه- إن المجوس يحفرون الخنادق حوْل بلادهم إذا هاجمها العدو أعجبه ذلك،
وأمر بحفر الخندق حول المدينة في غزوة الأحزاب وعمل فيه بنفسه (بأبي هو
وأمي) صلى الله عله وآله وسلم، فبهذا البيان يظهر خطأ السيد عثمان بن عقيل في
منعه أن يكون في مدارس المسلمين شيء ما يشبه ما في مدارس الأجانب، وخطأ ما
أطالت به مجلة (دين ومعيشت) الروسية في بعض المسائل التي جعلت تكأتها فيها
حديث (من تشبه بقوم فهو منهم) وهذه المدارس النظامية في مصر والآستانة
والشام على طراز المدارس الأجنبية ولم ينكر ذلك أحد من العلماء في هذه البلاد وما
أظن أن السيد عثمان يعد نفسه في طبقة علماء الأزهر.
وقد أورد السيد عثمان في هذا المقام حديثًا آخر وهو (من أحب قومًا حشر
معهم) ، وهذا الحديث أورده الحاكم في المستدرك بلا سند فلا يحتج به ولو كان
الرجل عالمًا بالحديث لأورد ما صح بمعناه وهو حديث أنس عند الشيخين (المرء
مع من أحب) وفي المعنى حديث (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)
رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة وهو ضعيف ولكن حسنه الترمذي
وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، والمراد بالحب هنا ما يحمل المحب أن
يتقرب إلى من يحبه ويطيعه ويقتدي به، وما كل نوع من أنواع الحب يحمل على
ذلك، وقد أباح تعالى للمسلم أن يتزوج باليهودية والنصرانية والزوج يجب زوجه
فلو كان معنى الحديث أن كل محب يكون مع مَن أحبه في الدنيا والآخرة لاستلزمت
إباحة نكاح الكتابية كفر المسلم الذي يتمتع بهذا المباح، ولاستلزم ذلك الترجيح بلا
مرجح فيما إذا أحب كلّ مِن هذين الزوجين الآخر كما هو الغالب وهو محال، وأبلغ
من ذلك أن الله تعالى قال في خطاب المؤمنين مع اليهود الذين كانوا أشد الناس
عداوة لهم {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} (آل عمران: 119) فراجع
تفسير الآية في ص88ج4 تفسير القرآن الحكيم.
ومع هذا كله نقول: إن الذين ينظمون مدارسهم على طريقة الأوربيين
ويتعلمون علومهم لا يقتضي ذلك أن يحبوهم، بل نرى من المتعلمين في أوربا مَنْ
هم أشد تعصبًا من غيرهم؟ وقد ذَكَرْتُ هذا لبعض العثمانيين هنا (في الآستانة)
فقال والمتعلمون منا على الطريقة الأوربية كذلك، فالسيد عثمان ليس مختبرًا ولا
عارفًا بهذه المسائل، وقد علمت أن الحديثين اللذين أوردهما لا يدلان على مراده إن
قلنا بأنه يحتج بهما، وما كتبه ضار جدًا وإن أراد به النفع بحسب اجتهاده، وما هو
بأهل الاجتهاد سامحه الله تعالى.
ومِن تهافته أنه بعد أن استدل بالحديثين على مالا يدلان عليه لقلة بضاعته في
العربية على كونها بضاعة مزجاة شَرَعَ يحذر تَرْكَ قراءة كتب السلف الصالحين
والاستعاضة عنها بقراءة كتب التأريخ والجرائد، وذكر من مضارها أنها تورث
العقائد الفاسدة ودعوى الاجتهاد والأخذ من الكتاب والسنة، وإذا جاز لمثله أن يأخذ
من الكتاب والسنة فعلى من يمتنع ذلك؟ وإنني أنقل شيئًا من كلامه بنصه لئلا يتوهم
بعض قراء المنار أننا نرد على عالم مؤلف أخطأ فكبرنا خطأه أو بالغنا في استهجانه
أنه حصر عيوب المكاتب والمدارس في ثلاثة أشياء وذكر الأولين منها وهما في
المعنى أمر واحد هو التشبه بالأجانب، ثم قال ما نصه وصورة رسمه:
(والثالث من تلك الفواقر والخساير ترك قراءة الكتب التي يقرؤونها السلف
الصالحون التي يكتسبون منها العلوم النافعة وخشية الله والأعمال الصالحة وتبديل
تلك الكتب بكتب التواريخ المختلفة والجرائد المعتنقة التي يُورِثُ في اللسان اللقلقة
وفي القلب العقايد الفاسدة وفي الدين التساهل وتتبع الرخص بل تورث دعوى
الاجتهاد المشبه بخرط القتاد وذم التقليد بلا تقييد ودعوى استقلال الأخذ من السنة
والقرآن مخالفة لما عليه المفسرون الأعيان فما هي إلا كراكبة التان تظن أنها تسابق
الفرسان ومضادًّا لسيرة السلف الصالحين بل استخفافًا بهم بأنواع التنقيص وعنادًا
بالمكابرة والمغالطة والأدلة الساقطة) اهـ.
ولا يحسبن القارئ أننا اخترنا هذه العبارة اختيارًا لركاكتها وكثرة غلطها
ووضوح دلالتها على تجرد صاحبها من الفنون العربية كلها بل جميع عباراته كذلك
وهو مع هذا يستنبط الأحكام من الآيات والأحاديث فيحرم على الناس ما أحل الله لهم،
ويحل لهم ما حرم الله عليه، ولاسيما القول في الدين بغير علم ثم ينكر على
العلماء الراسخين مثل هذا الاستدلال.
هذا وإننا ننصح لأولئك الأبرار الأخيار الذين ينشئون المدارس أن لا يلتفتوا
إلى هذه الرسالة ولا إلى شيء من رسائل هذا الرجل ولْيختاروا لمدارسهم المعلمين
الأكفاء الذين يجمعون لهم بين علم الدين وما يلزم لهم من علوم الدنيا وأنْ
يكون لسان حالهم ومقالهم هو لسان القائلين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: 201- 202) .
__________(13/60)
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
__________
خديجة أم المؤمنين
(7)
الفصل الخامس عشر [*]
(بيت خديجة بعد الزواج)
وبدأت السيدة (خديجة) بعد هذا القران السعيد تزداد معرفة بهذا الجوهر
الكريم الذي أتاحه الله إليها، فألقت إلى يد هذا الأمين بكل ما تملك ولم يرعها أن
الكرم المستحكم في سجاياه سيحمله على إخراج نصيب كبير من هذا المال إلى
الضعيف والعائل، فإن سيدتنا لم تكن مع تدبيرها بالشحيحة الكاظة على المال الفاني،
بل كانت قد خلقت لتكون مساعدة على الجود، وهل بعد معرفتها بهذا الكُفُؤ
الشريف ترى لنفسها معه أمرًا ينافي أمره، أو رأيًا يغاير رأيه، وهي تلك العاقلة
الحكيمة المستعدة أن تزداد كمالاً كلما أشرق لها من سماء الفيض الإلهي نور منه.
وأصبح هذا البيت مثابة للمضطرين وأمنا فقصدته الأيامى، وشبعت فيه
اليتامى، وخففت فيه أحمال كثيرين ممن حُنَيت ظهورهم بكثرة الآل، وقلة المال.
كانت تلك البلاد أحيانًا تُصاب بعسر بل كل بلاد العالم لا تسلم من العسر على
الدوام فمساعدة الموسرين في زمن العسر للمعسرين أمر تقضي به الإنسانية، ولكنْ
قليل من الناس من يكون لهم حظ بالتغلب على شياطين الشكوك والأوهام التي تنهى
عن الإنفاق خشية الإملاق، أما سيدتنا فكانت ترى إنفاق زوجها ومساعدته للمعسرين
وأخذه بيد العائلين من جملة المزايا العالية التي تقرُّ بها عينها.
وفي إحدى الأزمات كانت ملائكة الرحمة تحوم في ذلك البيت حول أحد
الصبيان، وتطوف في آفاق نفسه لتطهرها من كل شر حتى لا يخرج من هذا البيت
إلا وهو إمام للناس في الخير والصلاح.
وكان هو لاهيًا عما أُعِدَّ له، وعابثًا بمثل ما يعبث به أترابه، ولم يكن هذا
الصبي يتيمًا بل كان أبوه حيًّا ولكن أبناء السعادة أبناء المجد الأبدي، أبناء المجد
السرمدي، تستأثر العناية الأزلية بكفالتهم وتربيتهم بصورة خاصةً وظاهرة يراها من
استعدت بصائرهم للاطلاع الجيد.
لم يكن أبو هذا الصبي ليسمح وهو حي أن يتربى كالأيتام في غير بيته؛ لأنه
هو ذلك الشهم الشهير والشريف الخطير (أبو طالب) ولكن اشتداد الأزمة في إحدى
السنين اضطره أن يقبل رجاء أخيه العباس وابن أخيه (محمد الأمين) بأن يأخذ كل
واحد منهما ولدًا من أولاده تخفيفًا عنه فكان هذا الأسعد الذي أخذه الأمين هو عليًّا
الذي صار الإمام أبا الأئمة، وبدر سماء السيادة في الأمة.
كانت تربية عليّ في البيت من جملة المكتوب للسيدة خديجة من حسن الحظ
فإن الغيب كان يعده لأمر جليل له علاقة بهذا البيت.
لعله لم يخطر على بال أهل هذا البيت إذ ذاك أن هذا الصبي الذي يدرج
أمامهم فيسرون به سيكون الواسطة الوحيدة لحفظ نسلهم، ومن أين كانت تعرف
السيدة خديجة، أنه لا يعيش لها من الذكور ولد، وأن هذا الصبي الصغير قد أعده
الغيب ختنًا كريمًا وبعلاً صالحًا لبنتها الصغيرة، وكيف تعلم أنه لا يتسلسل لها عقب
إلا من تلك الكريمة (فاطمة الزهراء) وأنّى يخطر في بالها أنها إنما كانت تربي هي
وزوجها جدًّا لعترة تتصل بهذا البيت سَيَعُدُّهَا العالم من أشرف العِتَر وستبقى مباركة
في الأرض دهورًا طويلة عالية المنار، عظيمة الشأن.
نعم، كل ذلك لم يخطر في البال إذ ذاك، ولم يكن الذي في القلب إلا القيام
بالواجب الذي يقضي به التضامن.
نعم! نعم كل ذلك لم يخطر في البال ولا نوى سيد هذا البيت مكافأة عمه على
تربيته التي سبقت له، فإن بين ذوي القربى لا توجد المكافأة بل يوجد التضامن
ولكن كان هذا البيت المملوء نعمًا يتقاضى وجود نفوس كثيرة تشاركه في تلك النعم
لأن لأهله نفوسًا لا تعرف الاستئثار، بل تراه من العار والشنار، لا سيما إذا بئِس
الجار.
وقد استفاد من مادة هذا البيت كثيرون كما أشرنا إليه، أما عليّ فإنما خصصناه
بالذكر ليَعرف مَن عرفه أو سمع بمناقبه العالية وفضائله الزاكية كيف كان هذا البيت
السعيد مسعِدًا للأرواح، كما كان مسعِدًا للأشباح، وليعرف القارئ بسهولة أن
البيت الذي أخذ ابن أبي طالب آدابه فيه منذ كان صبيًّا قد كان مهدًا لأكرم الآداب
وأعلاها فإن عليًّا المرتضى هو من عرفه العالم كله، هو ذلك الإمام الأكبر الخليق
أن يكون مثال القدس وزكاء النفس، هو مجمع المعالي وملتقى الأسرار العظمى
ومظهر الولاية الكبرى.
فما أكرم هذا البيت السعيد وما أعظم بركاته وقد رأينا الأمين يجد فيه مجالاً
للتخفيف عن المثقلين، والتنفيس عن المكروبين، وفيه وجد القصاد صدورًا رحبة،
وأيدي مبسوطة، ولديه خيمَّ الوجود والسخاء، كما خيم العدل والوفاء، ومنه
أشرقت الآداب العالية، والتربية الكاملة، وماذا ترى من بركات هذا البيت بعد ذلك
يا ترى؟
***
(العمل الروحي)
أشرفنا الآن على بحر كثيرة لججه، صعبة مسالكه، وصلنا إلى ساحل هذا
البحر ولا بد من جوزه، وأكثر السفن لا يوثق بها في غمراته. ولابسو ثوب
الهداية رأس مالهم الدعوى، وما حيلة الحائرين غير الرجوع إلى الله في الجهر
والنجوى.
ههنا نبأ جليل تحار العقول المستقلة بفهمه، وتشتاق أن تقف على روحه وحدّه
ورسمه، هنا قد بلغْنا من سيرة هذه السيدة الجليلة أن بعلها كان من دأبه أن يتعبد
بعض الأوقات في غار من جبل قرب مكة اسمه (حِراء) فما هو هذا التعبد وكيف
هو، وما الذي ساق نفسه إليه، وأيُّ دين فرضه عليه؟
هذا هو النبأ العظيم الذي تتمسك بنا العقول المستقلة إذ نسمعه ولا تدعنا نجوزه
إلى غيره من غير أن نوضحه، وإذا أخذنا بإيضاحه نخشى أن نبعد بالقارئ عن
سياق السيرة، ولكن يقوي عزمنا على هذا الإيضاح ظنُّنا بأن الراوي الذي يشرح
كل دقيقة فيما يمر به من حكايته قد يفيد القراء أكثر ممن يسرد الأخبار سردًا.
إن الأديان كلها رسمت أعمالاً اسمها عبادات، ولكن بعل السيد خديجة لم يكن
تابعًا إذ ذاك لدين؛ لأن دين قومه كانت عبادته عبارة عن تمجيد بعض الأحجار التي
هي عندهم تماثيل أشخاص مقدسين ولم يكن هو قد تعود هذه العبادة التي لهم.
العبادة التي عرفت في الأديان كلها هي بحسب الظاهر أعمال وحركات
يرسمها رؤساء الدين من أنبياء وغيرهم، أما لبُّها فأشواق روحية تقوم في نفس
العابد أمام معبوده ويصح أن نسميها عملاً روحيًا حينئذ.
كان بعل هذه السيدة يأتي في غار حِراء بعمل روحي تتوجه فيه روحه تلقاء
بارئ السماوات والأرض، ومشرف مكة وسائق نفوس العرب إذ ذاك إليها، ولم
يكن مقيمًا أعمالاً رسميةً.
إن البحث عن سبب تسمية تلك الأعمال الرسمية عبادة في لغتنا يكلف به
مشرح اللغة، والبحث عن أسباب اختيار الأقوام السالفين هذه الصور والأعمال
المخصوصة تحت اسم العابدة يكلف به مشرح التأريخ، أما البحث عن الأشواق
الروحية أو التعبد المحمدي في (حِراء) فمكلف به كاتب سيرة السيدة خديجة.
العبارة لا تشفي الصدر في تجلية هذه المعاني ولكن شدة ارتباط هذا الموضوع
بهذه السيرة داعية إلى السير في هذا البحر العظيم.
قد سمعنا في سيرة زوج هذه السيدة أن روحه كانت من أعلى الأرواح، ونحن
نؤمن بهذا، ولكن إذا نحن لم نتعرف بالروح ولو قليلاً فماذا يكون معنى إيماننا بهذا؟
لا جرم أن تعرفنا بالروح ضروري في هذه المقامات وهو أمر يشتهيه كل امرئ
لأن كل واحد منا تخطر في باله هذه المسألة:
ما نحن؟
هذا سؤال قد علم الذين بعُدَ نظرهم في ماضي البشر أنه من جملة فضل الله
عليهم وهو أساس ما يسمى في لغتنا دينًا وديانة وملة وأحد الأصول والأسباب في
ترقي هذا النوع الإنساني وتكمله.
هذا سؤال تحيط به محارة طال وقوف العقل فيها، ههنا مرسى سفينة العقل
الذي يحاول معرفة نفسه ومنها يبتدئ مجراه لأجل إدراك هذا الجوهر.
مواقف الباحثين كادت تتساوى أمام صعوبة هذا السؤال، إذ لا براهين عقلية
قطعية في نفي شيء أو إثبات شيء في جوابه، ولكن إذ عزَّت هذه البراهين لا
يعدم عشاق هذا المطلوب آيات كثيرة في الوجودات، ومن فضل على أهل هذه
الصورة البشرية جعل قلوبهم مستعدة لقبول ما تأتي به هذه الآيات من ضياء ولا
يُحْرَمه إلا قليل تُزمن فيهم الحيرة لأسباب محسوسة وغير محسوسة.
هذه الوجودات قد ملئت آيات، فإذا حال دونها الحجب لجَّ العقل في محارات
أو عمايات، وإذا بدت لا يحجبها حاجب نهج في هدايات أنها لمن تأمَّل مراتب
وصفوف، ولكل وجود قوة، ولكل قوة أثر، واختلاف القوى وآثارها، هو على
مقدار أشكال الوجودات وصورها وحيِّزها، ولما رزق الإنسان هذا النطق الواسع
وضع أسماء لكل ما لاح له من وجودٍ، وظن المسكين أنه بوضع الأسماء أحاط
بالحقائق وهي لم تزده عنها إلا بعدًا.
الإنسان بعض هذه الوجودات وفيه قوى تحتاج حسب عادته إلى أسماء،
فالروح للإنسان اسم للقوة العظمى التي فيه، اسم لما يكون به الإنسان مستقلاًّ متميزًا
يقول أنا ويقال عنه هو وإن عفا أثره.
آمن الناس بهذا الاسم متفقين، ولكن فيما يدل عليه قد اشتد تباينهم، وحار
نظرهم في إدراك حقائق هذه القوى التي في الإنسان وفي كيفية علاقتها بهذا الجسم
البشري الذي متى برحته أصبح لا فرق بينه وبين كثير من صفوف الجمادات، والذي
يزيد حيرتهم شدة تسامي بعض الأرواح كروح من سعدت بقربه سيدتنا صاحبة هذه
السيرة.
بحثت كالباحثين، وحرت كالحائرين، ثم وجدت كالواجدين، فما ألذها على
القلب من حيرة عقباها بلوغ الغاية، والحمد الله رب العالمين.
إليك حديث نفسي بشأنها: (أفقت اليوم من النوم ونصل حسي وشعوري من
غلافه، كما نصل هذا الفجر من غمده، فوجدتني كأنني وليد هذه الساعة، لأنني
قبل هذه اللحظة لم أكن أرى هذه الأكوان، ولم أحس بما فيها من الأصوات والألوان،
ولم أكن اشعر بملائماتي ومؤلماتي، فكأنني كنت غير هذا الموجود الجديد.
أين كانت لذتي برؤية هذه القبة، وأُنْسي بما على هذا البساط، وأنَّى كان
ابتهاجي بزواهر هذه الزرقاء، وزواخر هذه الغبراء ... ومِن حولي الآن أغاني
طيور، ورقص غصون، وأريج زهور، وبدائع نقوش، وترتيب صنوف،
وحركات نور وتجليات سكون، وفيّ أنا آثار انفعال من كل هذا قد تحرك بها ما اسمه
فكري ثم تحرك بها ما اسمه لساني فسمعتني أقول: (سبحانك ربنا ما خلقت هذا باطلاً) .
سبحانك يا فاطر يا بارئ يا مصور ولك الحمد، أنا متذكر الآن أنني أبصرت
هذه المرائي، وسمعت هذه الآمالي أمس لما بزغ الفجر بزوغه هذا، فأين ذهب
إبصاري وسمعي بين ذينك الأبصار والسمع اللذين كانا أمس وبين هذين الأبصار
والسمع اللذين أتياني الآن وأنا متذكر أن هذا الأمر وقع لي مرارًا كثيرة ألوفًا من
المرات فما هذا الاحتجاب ثم الظهور، وأين كان الإحساس محتجبًا قبل أن عرفته
أول مرة.
رباه، من أسائل عن هذا ... ؟ إن هذه الصوامت التي من حولي لا تجيب،
لعلها لا تسمعني، أو لعلي لا أسمعها، أو لعلها لا ذكر لها في هذه المسائل، وكيف
أصب على جهلي بشيء يتعلق بي، كيف لا أبحث عن أصل إحساسي وعن
احتجابه، ألا يهمني أن أعرف هل أمره كأمر هذه الشجيرات يتحاتُّ ورقها ثم يعود
ثم تيبس مرة واحدة فتصير حطبًا ثم رمادًا؟ أم أمره كأمر هذه الشمس يظهر نورها
على جهة ثم يغيب عنها ثم يعود إليها وهو لا يزول أبدًا، كيف أقنع للنفس الإنسانية
بحالة هذه الشجيرات، وهي لها من الخواص والآثار ما ليس لشيء غيرها في هذه
الأرض. كلا سأسائل، ثم كلا سأسائل.
رفعت رأسي إلى السماء فألقيت بواهر ولا مجيب، وأهويت به إلى الأرض
فألقيت بواهر ولا مجيب.
فضاء أمامي، لا أعرف له ساحلاً وحدًّا، تارة يفيض نورًا، وأخرى يحتجب
بالظلمات، أراني وأرضي محمولَين فيه ولا أعرف من هذا المتن العظيم إلا أسماء
وضعوها له لا تشرح كُنْهًا ولا تؤذن بدلالة كافية.
تتلاعب فيه النسمات لعلها ناسية أن الأمر جد، وما هو بالهزل واللعب،
وتتناغى فيه الأصوات كأنها تحسب أن في كل موجود دماغًا يأخذ بحظ منها ولعل
حسابها خائب.
بيني وبين كل ما هو محمول في الفضاء مثلي علاقة قد عرفتها بهذا النور
البازغ، فهل بزغ هذا النور لأعرفها أم لتعرفني، وهل كانت لي أم كنت لها أم كنا
جميعًا لهذا النور أم كان هو لنا، ولكني أعرف يا نور أنه لولاك ما عرفت شيئًا.
سلام عليك أيها النور يا حاملاً نعمة المعرفة إلينا، وشكرًا لمن تسبح أيها
النور بجلاله، وتهدينا إلى آيات جماله.
بالنور عرفت ما عرفت ولكن لست أدري كيف عرفت، قد نقشت السموات
والأرض على عظمتها في لوح لا يكاد يحس في دماغي، فهذا اليمُّ الذي يعجُّ الآن
أمام غرفتي أصبح لا شيء عندي على اتساعه لأنه محدود، وهذه الشمس العظيمة
التي بدأت تبزغ هذه الساعة قد غدت صغيرة في عيني لأنني أحطت بها، وهذه
الأرض التي أراها كسرير لي قد تلاشت في نظري؛ إذ وجدتها هي وكل بحورها
ذرةً طافيةً في ذلك اليم الذي لا ساحل له، أدركت في هذه الساعة أن هذه الأشياء
كلها مهما عظم حجمها في كالصفر بالنسبة إلى ما لا يتناهى، فعلمت أن ليس فيما
أحاط به حسي ما يدفع عن فكري عطشته.
راقني جمال هذه الكائنات ثم حيرني منها أنها كلها مسخرة لنا، وما نحن لها
بمسخرين فهل نحن على صغر حجمنا أكرم معنى منها؟ .
تركت حيرتي ههنا والتفتُّ إلى هذه الشجيرات التي أراها تتزين كعرائس
الأنس وسألتها فلم تجب أو لم أفهم حفيفها، وانثنيت إلى هذه اليمامات الراقصة
بأعناقها فسألتها فلم تجب أو لم أفهم هديلها، لكنني استأنست بهذه وتلك أكثر من
استئناسي بالمتحجرات لا شوق يخالط منها الجنان، ولا حركة لها إلا على يد
الإنسان، وطال أنسي بهذه الخضر المترنحات، والورق المتغنيات، حتى كدت أفقه
حديثها، وأفسر تبيانها، هذه ذكرتني بمعنى الحياة وأعادتني إلى نفسي وهي ضالتي
المنشودة وبها الهدى إلى ما أنشده.
لم أجد غير نفسي تجيبني عن نفسي بعد أن ساح حسي وفكري في هذه العوالم
المحدودة ... إياها ناجيت، وكلامها وعيت، فهي التي حدثتني أني لست إلا ذرةً
صغيرةً جدًّا سابحةً في هذا الفلك، وفي هذه الذرة الصغير ذرات كثيرة كل واحدة
منها بالنسبة إلى الذرة الجامعة هي كواحد من ألوف ألوف ألوف الألوف، وفي كل
واحدة توجد الحياة ولكن ليست كلها مركزًا للحياة لأننا نجد أن ألوفَ ألوفِ ألوفٍ من
هذه إذا أفسد وضعها لا تزول الحياة، ولكن هناك بعض ذرات إذا أفسد وضعها تزول
الحياة كلها من جميع هذه الذرات التي يتكون من مجموعها الجسم فهذه الذرات القليلة
التي هذا شأنها هي مركز الحياة.
أعظم مجالي الحياة في نظري هو الإدراك الفكري وهو قارٌّ في ذرات قليلة لا
يحاط بها.
أدهشني هذا الموقف الذي وصلت إليه، وهذا المرأى الذي وقفت عليه،
حيرني من هذه الذرات أن تسع صور السموات والأرض، وصور أعمال البشر منذ
كانوا إلى اليوم، وحيرني منها أن هذه النتائج العظيمة التي تصدر عنها إنما تصدر
إذا كانت بوضعها المخصوص، وما أسرع زوال هذه النتائج إذا اختل وضع الذرات.
رأيت هذا الأمر العجيب ولكن لا مستقر للفكر عند هذا المرأى، إذ قصاراه
أني عرفت شيئًا صغيرًا جدًّا يسع أشياء لا تحصى مع أنني إنما أبغي أن أعرف ما
هو ذلك الشيء الصغير مبناه جدًّا جدًّا العظيم معناه جدًّا جدًّا؟ ما هو ذلك الشيء
الذي بوجوده على حالة مخصوصة يكون هذا الجسم متحركًا حساسًا يحيط بالسماوات
والأرض، وبتغيره يغدو هذا الجسم ترابًا صامتًا صابرًا تحت الأقدام، ما هي تلك
الحالة المخصوصة؟ وما هو تغيرها وكيف نظامها؟ هل هو في إحاطته تلك تابع
لهذا النظام أم النظام تابع له؟ هل هو يحتاج إلى هذا النظام بعينه أم يستطيع أن
يؤلف نظامًا آخر متى تغير نظامه هذا؟ وإن كان تابعًا لهذا النظام بعينه فهل وجدت
هذه الصبغة لتزول بأسرع من لمح البصر بالنسبة إلى عمر غيرها على ما يتخلل
وجودها من الاحتجابات؟ .
محارات بعد محارات، ولكن تلوح خلالها آيات، إذ قد ملأنا رب الوجود
أمثالاً، وأتاحت لنا معرفتنا بالأمثال أن حقائق الأشياء محتجبة والظاهر إنما هو
آثارها: فهذا النور الذي يملأ الفضاء لا نعلم كنهه، وهذه الشمس وما حولها لا
ندري كيف قامت، قصارانا أنَّا عرفنا سبحها في هذا الفضاء لا يسندها عمد، ولا
يعتريها سكون، وهي مع ذلك سائرة بنظام، ودائرة بإحكام، لا تخرج عن
مستقراتها، ولا تحيد عن مجاريها، ولكن ما هو ذلك السر الذي قامت به هذا المقام
سموا شيئًا من ذلك بالجاذبية فهل هذه التسمية دالة على الكنه والحقيقة؟
إن قصارى ما نعرفه من هذه المركبات أنها قابلة للتحلل فإذا حللناها انتهينا
إلى عناصر قليل عدها لا تتحول ولا تتحلل هي الأمهات ثم هي تنتهي إلى أم واحدة
لا نعرف من أمرها شيئا.
المشاهدة هي أكبر وسائط معارفنا، ولكن آلة هذه المشاهدة عاجزة عن أن ترينا
الأشياء كما هي، ولو اقتصر الأمر عليها لكانت علومنا بهذه الكوائن خطأ من أولها
إلى آخرها.
هذه الشمس التي نحن وأرضنا في نظامها الكبير أقل من حبة رمل في جبل
عظيم ليست أمام المشاهدة الخصوصية لكل واحد منا إلا كمصباح بسيط يشتعل
ساعات وينطفئ ساعات، وما هي إلا بحجم كرة مما يلعب بها اللاعبون.
على هذه النسبة من الخطأ نرى كل شيء أقل من حجمه وعلى خلاف وضعه،
فقد نرى واحدًا وهو متعدد، وبسيطًا وهو متركب، وساكنًا وهو متحرك، وصغيرًا
وهو كبير، حتى نصل إلى ما هو صغير جدًا فلا نراه ألبتة كما دلتنا التجارب بعد
أن اهتدينا للآلات الصناعية التي تساعد بواصرنا الطبيعية أيما مساعدة.. بهذه
الآلات استطعنا أن نرى أنواعًا من الحيوانات كانت خافية على الأبصار دهورًا
دهارير، ولعلنا سنهتدي إلى ما يرينا أصغر من تلك الصغائر، ونحن في مثل هذه
الهدايات العظيمة التي جاءتنا هدية من الفاطر على يد التجارب لا نجد ما يمنعنا من
الظن بأننا مهما استعنا بالآلات نبقى في مشاهداتنا بعيدين عن كشف الأشياء كما هي
وتبقى أشياء كثيرة خافية على أبصارنا وآلاتنا مهما بلغنا بها.
فما أكرمك يا عيني عليَّ، أنتِ أنتِ كنت سبب إرشادي إلى حقيقتي إذ لم
تريها لأنني عرفت بالتجربة أنك مسكينة عاجزة لا ترين كل شيء ولا ترين شيئًا
مما ترينه على وضعه وحقيقته فاضطرت أن أقيس وجودي على وجود غيري.. لا
جرم أن لي حقيقة مستترة عنك وراء وجودي الجسمي الذي تشاهدينه كما أن وراء
النور حقائق مستترة ولا جرم أن حقيقتي هي سبب وجودي كما أن الحقائق المستترة
وراء النور هي سبب وجوده.
إن الحقيقة العظمى التي هي باطنة من وراء الأشياء كلها، وظاهرة عليها كلها
هي حقيقة واجب الوجود، حقيقة مَن لا بد لوجودنا مِن وُجُودِه، ولا بد لتشكلنا
وتنوعنا من فيض تخصيصه وجوده.. هي حقيقة من له الحياة الأزلية الأبدية لأن
الحياة التي نعرفها منه صدرت، وله العلم الأزلي الأبدي لأن العلوم التي نعدها من
فضلة أتت، وله الإرادة الأزلية الأبدية لأن الإدارة التي نجدها من لدنه أهديت، وله
القدرة التامة الشاملة لأن القدرة من عنده نشأت.. هي حقيقة مَن لا مِثال له في
كمال وجوده، وعنه صدرت أمثلة الكمال في الوجودات الظاهرة.. هي حقيقة البارئ
المصور الذي برأ حقيقة مثال كامل حيّ سميع بصير مريد، وجعل حجابه هذا
الهيكل البشري.
أصبحتُ لا أرتاب في أن الحقيقة العظمى هي التي تهدينا بآثارها وبإمداداتها
إلى كل شيء مما نعرفه، ولكن لشدة ظهورها الذي قد يعادل البطون ربما تخفى،
فإذ نطلب معرفة النفس تظهر آياتها العظمى فسبحان الله.
من عرف ربه فقد عرف نفسه ومن عرف نفسه فقد عرف ربه.
عرفت الآن من أمر نفسي أو روحي أنها لا يعرف كنهها ولم يزدني جهلي
بكنهها إلا إيمانًا بحقيقتها الجليلة المستقلة عن الجسد لأنني لم أعرف من أمر كل
جزء من أجزاء الجسد إلا مشابهته لهذه الجمادات التي أمامي وليس فيما أمامي شيء
يجمع فيه ما تجمعه هذه الروح. وقد حاولت كما يفعله بعضهم أن أنسب هذه
الخواص إلى المجموع المركب من هذه المواد على نظام خاص فلم يسلس له فكري
بل جمع عنه كثيرا لتذكره النظام الشمسي وذهابه إلى أنه إنما قام بما يسمونه الجاذبية،
ولم تقم هي به فما نفسنا أو روحنا إلا جاذبية النوع وكهربائية الخصائص والمزايا،
وهي هي مؤلفة الهياكل وناظمتها، لا بِدْع في ذلك، فالكوائن كلها من أصل لا
يرى ولم تنفصل عنه، ولا يكون الأصل تابعًا للفرع ولا ضرورة لتغير الأصل إذا
تغير الفرع، ولا يصعب فهم هذا على من عرف كيف يتجسد ما لا يرى فيصير مما
يرى، وكيف يتلطف ما يرى فيصير ممالا يرى، الصناعة بهذا ضمينة، والتجربة
فيه هادية أمينة، ولا يصعب أيضًا على مَن عرف آيات النفس التي تظهر في
بعض الأشخاص لنتعلم بها أن لها شؤونا غريبة جدًّا فوق المعهود منها والمألوف مِن
دخولها في قيد الحس، سبحان الله كم لها من انطلاق منه يظهر معه أن لا حاجة لها
بهذه الآلات العضلية والعظمية والعصبية.
نحن شاهدنا من هذا كثيرًا، وشاهد مثلنا خلق لا يحصون، والباحثون
المحققون شاهدوا أيضًا أو نقل إليهم ثقات كثيرون مجموعهم يدفع عن نفوسهم الريب
وما علمنا أنهم وجدوا لهذا الامتياز الفائق أسبابًا جلية، غاية ما صنعوا أنهم وضعوا
لبعض هذه الأمور أسماء وظن القاصرون أن هذه الأسماء تحل الأشكال، وتحكي
حقيقة الحال.
وسمعنا سماعًا لا يستطيع الريب معه البقاء أن أشخاصًا يشفون أمراضًا
معضلة بغير علاج ولم يقل لنا علماء الأبدان في تعليل هذا الأمر إلا إنه شفاء بالوهم
فيا عجبًا ما هو هذا الوهم الشافي ولماذا لا يشفى بالوهم كلُّ شخص؟ !
حالة المنوَّم تنويمًا مغنطيسيًّا هي من الأدلة الصريحة في هذا الباب على شدة
غرابة أمر هذا الموجود الصغير الكبير واستعداده لخرق الحجب الكثيفة، وقدَّ القيود
الحسية، وعمله الأعمال العظيمة من غير حركة بيديها أو واسطة يأتيها.
هذا حديث نفسي وخلاصة ما ظهر لي أن الروح خلق مستقل ذو ظهورات
فائقة، واحتجابات محيرة، هو أقسام كثيرة، نصيبنا منه عظيم، وارتقاء نوعنا
لولاه عديم، هو الحي السميع البصير المريد المستعد للظهور والاجتنان، المصنوع
آية كبرى دالة على جامع الأكوان.
وظهر لي أن خصائص الروح الشوق، ولو قلت إنَّ الروح هو الخلق ذو
الشوق لما وجدت هذا غريبًا في تعريفها. ولكل روح شوق يناسبها وعلى نسبة
شوقها تكون رتبتها وصفها في عالمها الذي هي منه، وفي عالم المثال والعيان الذي
دفعها إليه شوقها إلى الظهور.
كانت روح هذا السيد بعل سيدتنا خديجة من أعلى الأرواح، وكان شوقها
أزكى شوق وأقدسه، كانت عظيمة الشوق إلى رؤية فاطرها ولكن هل الفاطر عز
وجل يُرى؟ لعلها حارت زمنًا في هذا الأمر، ولعلها قالت لو كان يُرى لكان محدودًا
وكيف يدخل في حد من برأ الحدود، ولعلها عادت إلى زيادة التبصر فقالت هل
الرؤية مخصوصة بهذه الباصرة، وهل يشترط أن يكون المرئي متشخصًا، أليس
القصد من الرؤية العلم، ألا يمكن العلم بالفاطر مع أنه غير متشخص.
هذا ما كانت تحوم حوله هذه الروح العلوية التي كان مظهرها وبيتها الصوري
في بيت خديجة، ومطافها ومطارها ملكوت الحق، ملكوت الوجود الأعلى.
ولعلها يئست من أن تجد فيما حولها ما يَرْوى أوارها من معرفة فاطرها الذي
أشتد شوقها إليه بل لعلها غلب عليها ذلك الشوق حتى أصبحت زاهدة في كل رؤية
وكل سمع لأنها تريد أن ترى وتسمع الذي إليه طارت شوقًا ولذلك رأينا (محمدًا)
صلى الله عليه وسلم، قد حُبِّبت إليه الخلوة والانفراد؛ ولا سيما إذ شارف
الأربعين من سنيه، وكان لغار حراء الحظ من هذه الروح الحائمة على حبيبها
وطبيب شوقها.
مَن ذا الذي يعلم غير الله ما كان يقول هذا المنقطع في ذلك الغار؛ ولكن يصح
لنا أن نظن بأنه كان يساقط الدموع ويناجي المقصود المطلوب بقوله: رباه، رباه،
كيف الوصول إلى حضراتك؟ كيف السبيل إلى مشاهدات تجلياتك؟ إليك أيها
المولى من مزيد حبي قيامي وقعودي، وركوعي وسجودي، ومن مزيد شوقي ذرف
دموعي، وفرط ولعي، رحماك رحماك ياربي، كبد تذوب وعين تسيل، وفكر
يتدله، وأنت أنت مطلوبي، وأنت أنت ذو الكرم والجود.
على هذا المثال كانت حاله وهذا هو العمل الروحي الذي شغل به باله، وقد فهم
القريبون من فهم الروح مقدار فوائد هذه النجوى القدسية، وأما البعيدون عن هذا
الشوق فيعجبون وينكرون، وليتهم يتذكرون محن الناس وتدلهاتهم بهذه المتغيرات
من صور وأشكال لا تتوقف الحياة عليها، ولا يجدون الطمأنينة لديها، هذه المحن
والتدلهات أقضى بالعجب لَعَمْرُ الحَقِّ لو كانوا يعقلون، وأما ابتعاد روح عن
المحسوسات في سبيل الاقتراب من حضرة مَن لا تدركه الأبصار فسعي وراء مبتغى
جليل.
العمل الذي فيه لذة لا مضرة على الغير فيها لا ينكره عقل، ولأرباب الأعمال
الروحية لذات لا يستبدلون بها كل لذات المفتونين بالمحسوسات فعسى أن يتذكر
العقل المستقل هذا المعنى فلا يكبر عليه أن يفهم أقل الحكم في الأعمال الروحية
وهي لذة أربابها وانتعاشهم وتفتح بصائرهم لرؤية المعالي كما هي فلا يحزنهم شيء
بَعْدُ في نَيْلها ولا تقف هممهم أمام حَزْن في طريقها.
كانت السيدة خديجة شديدة الفهم وعظيمة الثقة ببركات هذه العمل الروحي
فساعدت عليه ولم تُلُمْ صاحبه ولا عتبته، كانت عظيمة الإيمان بالقوة العظمى،
والحقيقة الكبرى، فلم تر بأسًا بل لم تر إلا الخير بتوجه وجه زوجها الكريم تلقاء
سوانح الإمدادات الفائضة مِن لدن ذلك الملكوت الذي لا حد له.. كانت قد عرفت أن
هذا الغار في (حِراء) الفارغ من كل مشتهى حسي كان حريًا أن يكون مثابة لهذا
الشبح الشريف الحامل قلبًا قد فرغ من كل شيء غير الوَلَه بالمعالي القدسية،
والشوق إلى الحضرات الربانية، فكانت تُبارِك على هذا الغار الفارغ وتسأل الله أن
يملأه معالي وبركات، وقد أجاب الله - تعالى كرمه - سؤلها وكتب (حِراء) في
الصف الأول بين الأماكن التي تُتَوج بتمجيد الناس وتحياتهم ومحامدهم، وكم قد
ترجمت قرائح الشعراء عن احتراماتهم وتكريماتهم لهذا الغار أو لهذا المطلع الذي فاق
بدره البدور، قال قائل منهم:
سلامٌ عليك حِراءَ الشهيرْ ... أمطلع ذاك الضياء العظيم
سلامُ فؤادٍ ذكورٍ شكورْ ... بقدر الذي قد صحبت عليم
***
لأنت يتيمة عقد الوطن ... ففيك أضاء السراج المنير
بذكراك يلقى الفؤاد السكن ... فذكراك ذكرى عطاء كبير
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما في (ص549م11) من سيرة السيدة خديجة، وقد كان كاتب هذا السيرة السيد عبد
الحميد الزهراوي اضطر إلى إرجاء الكتابة لأعماله السياسية الكثيرة في مجلس الأمة.(13/64)
صفر - 1328هـ
مارس - 1910م(13/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الكشف الطبي على الموتى وتأخير الدفن
س1 من صاحب الإمضاء الرمزي بالجبل الأسود؟
إلى حضرة الأستاذ الفاضل والفيلسوف الكامل السيد محمد رشيد رضا.
في هذه الأيام صدر الأمر من نظارتنا (الجبل الأسود) : إذا مات إنسان أنْ لا
يدفن قبل أربعة وعشرين ساعة مُسْلِمًا كان أو غيره ومن أراد دفنه ينبغي أن يأتي
بحكيم (دوقتور) يجري المعاينة للجنازة ذكرًا كان أو أنثى (وهذا لا يجوز لنسائنا)
وإلا فالسجن من يوم إلى عشرة أيام أو الجزاء في حق النقدي من خمسة إلى مائة
كورون في أول مرة.
فنحن المسلمين مضطرون من هذا الأمر لأن نعتقد أنَّ تأخير الجنازة 24ساعة
لا يجوز شرعًا فإنا على قدم الخروج والهجرة مِن بلادنا وترك أوطاننا بسبب ذلك.
فأرجو من حضرتكم أن تبينوا رأيكم العلي في أسرع وقت يمكنكم الجواب
لا زلتم هادين مهديين خادمين للشريعة المطهرة المحمدية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ح. ح
ج - فقد سبق لنا الإفتاء في هذه المسألة (ص 358م10) فليراجعه السائل
على أن الظاهر من السؤال أنه يعلم أن السنة تقتضي بتعجيل الدفن بعد تحقق الموت
فإذا كان هناك ارتياب في الموت وجب تأخير الدفن إلى أن يتحقق الموت، والشرع
لا يمنع الاستعانة بالطبيب على ذلك، وإذا جاز كشف الطبيب على المرأة المريضة
إذا لم يوجد طبيبة تُغْني عنه فإنه يجوز أيضًا أن يكشف على المرأة الميتة لأجل
العلم بتحقق الموت إذا كان هنالك أدنى ارتياب فيه لئلا تكون مُغْمًى عليها فتدفن ثم
يزول الإغماء بعد الدفن فتموت أشنع ميتة، وقد وقع مثل هذا كثيرًا ولولاه لما عنيت
الحكومات التي ارتقى فيها علم الطب وكثرت فيها التجارب بالكشف على الموتى
وتأخير دفنهم، وهبْ أن بعض المسلمين علم أنَّ مَيِّتَه قد توفاه الله حتمًا بحيث صار
تأخير دفنه عدة ساعات مخالفًا للسنة فهل إكراه الحكومة إياه على هذا التأخير لأجل
المصلحة التي تعتقدها لا لأجل مصادرته في دينه يوجب عليه الهجرة مطلقًا وإن كان
يترتب عليها إضاعة ماله وذهاب شيء من عقاره وترك ذلك لغير المسلمين كما هو
الغالب فيمن يهاجرون الآن من مثل الجبل الأسود؟ المسألة فيها نظر. فإن لم يكن
في الهجرة ضرر على المهاجرين الآن من مثل تلك البلاد فليهاجروا إلى البلاد
العثمانية فإن فيها أرضًا واسعة تحتاج إلى مثلهم تتعزز بهم ويسهل عليهم إقامة دينهم
في بلادها الآن ولم يكن يسهل في زمن الاستبداد إذ كان المسلم مضطهدًا أكثر من غير
المسلم، وإنما أريد بهذا القيد أن لا يستفزهم الغيظ من الكشف الطبي فيحملهم على
ترك أرضهم وعقارهم أو بيعها بثمن بخس لأجل التعجيل بالهجرة.
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
__________(13/81)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
غروب الشمس والإفطار
س2- مِن صاحب الإمضاء في سنغافوره
إلى مطلع النور المنير حضرة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا متّع الله
المسلمين بحياته.
سيدي: اختلف أهل طرفنا فيما إذا غربت الشمس رأي العين في البحر فأفطر من
بالساحل وصلى المغرب ثم صعد في منطاد (بالون) إلى علو بعيد ورأى الشمس
من ثَمَّ بيضاء نقية لم تغرب، هل يبطل صومه؟ وبغروبها في نظره تجب عليه
الصلاة ثانيًا للمغرب، ولو كان لم يصلّ العصر فصلاَّها حينئذ في منطاده هل تقع
أداءً أم قضاءً؟ وفيما إذا كان على الساحل بناء شامخ (كبرج إيفل) بفرنسا أو
بنايات نيويورك فإن الشمس ترى من أعلاها بعد تحقق الغروب عند من هو
بالحضيض فهل لكلٍّ حكم أو حكمها واحد؟ أم يختلف الحال فقبل وجود تلك العلالي
نحكم بالغروب بمجرد اختفاء قرص الشمس تحت الأفق في نظر من بالساحل وبعد
وجودها لا نحكم بالغروب إلا بعد اختفاء قرص الشمس عن نظر من يكون بأعلى تلك
القنن، وإذا كان بقطر واحد ساحل غربي يجاوره جبل عال كجبال هملايا فهل يتحد
وقت الغروب عند مَن بالساحل ومَن بالقنن أم يختلف ويكون اختلاف العلو كاختلاف
المطالع وهل لذلك من ضابط؟
أفيدونا بما ترونه الصواب.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بن سالم الكلالي
ج - المعتبر في غروب الشمس شرعًا هو أن يغيب قرصها تحت الأفق
ويذهب شعاعها عن جدران المباني والجبال، ولكل أحد حكمه بحسب ما يشاهده
في ذلك، ومن أفطر وصلى المغرب بعد غروبها ثم ارتفع في المنطاد فرآها لا يفسد
صوم يومه ذاك ولا تجب عليه إعادة المغرب فيما يظهر لنا، لأنه لا يكلف في يوم
واحد تكرار فريضة واحدة، وقد مضت الأولى على الصحة فلا يؤثر في صحتها ما
يطرأ بعدها، وقريب من ذلك الشك في الصلاة قبل السلام يؤثر ويترتب عليه حكمه
وبعده لا حكم له؛ لأن الصلاة انتهت على الصحة وإذا فاتته صلاة العصر بغير عذر
يكون عاصيًا ولا يرفع عنه المعصية رؤية الشمس في المنطاد بل تجب عليه التوبة
وإن حسبت له صلاتها في المنطاد أداء كما أن الذي يفطر يومًا من أثناء رمضان
ثم يسافر إلى بلد تختلف مطالعه عن مطالع بلده، فيجد أهله قد صاموا بعد أهل
بلده بيوم وأكملوا عدة رمضان ثلاثين يومًا فوافقهم وصام الحادي والثلاثين فكان
هو الثلاثين له.
__________(13/102)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عدة الوفاة
س3- من صاحب الإمضاء في (حماه - سورية) .
الأستاذ الشيخ رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي المنير أمتع الله بعلومه
المسلمين، نظرًا لعلمنا أنكم وقفتم حياتكم على خدمة الدين وتمحيص الحقائق وحل
المعضلات، جئت بالسؤال الآتي أرجو منكم جوابه على صفحات المنار الأغرّ ولكم
الفضل.
امرأة كانت تحيض ثم انقطع حيضها وبعد شهرين من انقطاعه توفي زوجها
ومضى عليه بعد وفاته سبع سنين، ولم تحض وهي الآن لا تزال فَتِيّة وتريد أن
تتزوج، والمشايخ يمنعونها من الزواج بحجة الاستبراء قائلين لها لا يصح أن
تتزوجي إلا بعد أن تبلغي سن اليأس فهل يجوز في الدين الحنيف أن تبقى هذه الفتاة
المسكينة بحسرة النكاح مدة عمرها وهي لم تأت ذنبًا، وإذا كان ما أفتاها المشايخ به
صحيحًا فما هي الحكمة التي يترجح بها جانب الظلم على كفة العدالة في هذه المسألة،
أفتونا مأجورين ولكم الفضل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد جمال
ج - عدة من يموت عنها زوجها أربعة أشهر وعشر ليال بنص القرآن، فإن
كانت حاملاً فعِدّتها أن تضع حملها بالنص أيضًا، وتقدم بيان ذلك في تفسير سورة
البقرة وقد مضى على المرأة المسؤول عنها الزمن الذي علم فيه أنها لم تكن حاملاً
منه على جميع أقوال الفقهاء في أكثر مدة الحمل، فلا مانع يمنع من زواجها على
ذلك والحكم لله العلي الكبير.
__________(13/103)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأئمة الأربعة ومقلدوهم واجتهاد العامي
س 6- مِن صاحب الإمضاء الرمزي في سورا كاراتا (جاوه) .
حضرة سيدي الأستاذ الكامل السيد محمد رشيد رضا المحترم حفظه الله تعالى
آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أقدم إلى سعادتكم سؤالاً خطر
ببالي وليس يجيبني غيركم عنه وهو هذا:
ما قولكم - رضي الله عنكم - في الأئمة الأربعة ومقلديهم من عصرهم إلى
هذا الزمان هل ما دوَّنوا في كتبهم وتبعهم عليه أتباعهم؛ هل أخذوه عن الكتاب والسنة
أم من تلقاء أنفسهم؟ وهل مقلدوهم في الأحكام الشرعية على هدي أو في ضلال؟
وهل الأئمة المتأخرون مثل ابن حجر المكي ومَن هم في طبقته دوَّنوا كتب الفقه
على ما جاء به الكتاب والسنة أو مخالف لهما؟ فإن كانوا وضعوها على خلاف
السنة والكتاب فالمطلوب من فضلكم بيان ما يخالف الكتاب والسنة؟ لأجل أن نجتنبه
ونعمل بما يوافق الكتاب والسنة ونعلم بخطئهم لأن كتبهم معتبرة في الأحكام الشرعية
ويحكمون بما قرروه فيها في المحاكم الإسلامية.
أفيدوني بالجواب الشافي لأني رجل عامّيّ أخذتني الحَيْرة لما وقفت على
السؤال الذي ورد إليكم من بتاوى، وجوابكم عنه في الجزء الثامن من المجلد 12 سنة
1327 صفحة 614 من المنار فلهذا رفعت إليكم هذا السؤال أرجو من فضلكم
الجواب الشافي، ولكم من الله الأجر والثواب ولا تقدموا عذرًا في ذلك، وهذا سؤال
آخر ملحق بما تقدم.
ما قولكم في العامي المقلد، هل يجوز له الاجتهاد المطلق ويترك مذهب إمامه
أم لا؟ وكيف يبلغ رتبة الاجتهاد مَن لا يعرف قواعد مذهب إمامه أفيدوني مأجورين؟
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ب. ر س
ج - كان الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى على هدًى من ربهم يتبعون ما فهموه
من كتاب الله عز وجل وهدي نبيه - صلى الله عليه وسلم - وما أجمع عليه سلف
الأمة الصالحون من علماء الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، وما لم
يجدوا فيه نقلا يُتَّبَع قاسوه على نظيره مما ورد من آية أو حديث فهم مجتهدون
مأجورون على ما أصابوا فيه مرتين وعلى ما أخطأوا فيه مرة واحدة كما ورد في
الحديث، ومن حذا مِن أتباعهم حَذْوَهم هذا وجرى على طريقتهم في اتباع الكتاب
والسنة وإجماع سلف الأمة، كمحمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة والمزني
من أصحاب الشافعي (مثلاً) فهم مثلهم على هدًى من ربهم.
وأما المتأخرون كابن حجر المكي فهم ليسوا من الأئمة الذين ينظرون في
الكتاب والسنة ابتداءً ويقدمون ما يفهمون منهما على قول كل أحد ورأيه وإنما هم
ينظرون في كتب السابقين من أهل المذهب الذي انتموا إليه ويأخذون مؤلفاتهم منها
إما بتلخيص واختصار، وإما ببسط وإيضاح كل بحسب فهمه وقدرته على الكتابة
وما يذكرونه فيها من الأدلة منقول من تلك الكتب أيضًا فالواحد منهم لا يتحرى في
المسألة كل ما ورد في الكتاب والسنة وهدي السلف فيأخذ بالراجح، بل منهم من
يظهر له الدليل على خلاف مذهبه فلا يكتبه في كتابه، بل ربما تمَحَّل في الرد على
من أخذ بذلك الدليل الراجح من أهل المذاهب الآخر انتصارًا لمذهبه، بل يفعل هذا
مَن هم في طبقة أعلى مَن طبقة ابن حجر كالنووي فإنه في كتبه الفقهية يستدل على
صحة المسائل التي يعلم أنها مرجوحة من مسائل المذهب؛ إذ وزنت بميزان الكتاب
والسنة، وقد يصرَّح هو نفسه بذلك في غير كتب الفقه كما يقول النووي - رحمه
الله تعالى - في شرحه لصحيح مسلم أحيانًا، الأصح من حيث الدليل كذا ومن حيث
المذهب كذا، وقد يقول في بعض مسائل المذهب: إنه لا يقوم عليها دليل، ومن
ذلك - إن لم أكن واهمًا فيما أتذكره وأنا بعيد عن الكتب - مسألة الغسل من
نجاسة الخنزير سبع مرات إحداهن بالتراب، وقد نقل الغزالي عن بعض الفقهاء
الذين وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد المطلق أنهم كانوا يفتون على مذهب الأئمة
الذين اشتهروا بالانتماء إليهم ويعملون بخلاف ما أفتوا به، ويعتذرون عن ذلك بأن
السائل إنما سألهم عن الحكم في مذهب الإمام فأجابوه عما سأله من باب الأمانة في
النقل، وأنه لو سألهم عن مذهبهم لأفتوه به.
تلك الكتب التقليدية لا يقال إنها وضعت على أصل الكتاب والسنة كما يقال في
مثل (كتاب الأم) للإمام الشافعي - رضي الله عنه - لأنها وإن كان الغرض منها
بيان أحكام مذهبه لم تؤخذ من الكتاب والسنة مباشرة، ولم يلتزم مؤلفوها ذلك لأنهم
يعتقدون في أنفسهم أنهم ليسوا أهلاً للأخذ من الكتاب والسنة، ولا يقال إنها وضعت
على خلاف الكتاب والسنة لأنه لم يقصد بها ذلك الخلاف، ومطالبتنا ببيان ما فيها من
مخالفة الكتاب والسنة لأجل أن يجتنب من الإعنات فإن مَن يريد ترك تقليد تلك
الكتب واتباع الكتاب والسنة مباشرة لا يحتاج إلى قراءتها على طولها وصعوبتها
وبيان ما يوافق الكتاب والسنة منها وما لا يوافقه، بل الأَوْلى والأسهل له أن يقرأ
الكتاب والسنة ابتداءً ويعمل بهما، فإن كان لا يفهمهما بنفسه ويقول أريد أن أستعين
على فهمهما بكلام العلماء، يقال له: اقرأ التفسير وشرح الحديث ولا سيما تفاسير
السلف كابن جرير ومثل شرح الشوكاني لأحاديث الأحكام، وكتاب (الهدي النبوي)
لابن القيم واستعن بها على ذلك فإن اختلف المفسرون والشارحون فاعمل بما يظهر
لك أنه الحق من كلام المختلفين، ومَن لا يريد ترك تقليدها فلا يسمع لك فيها قولا
وإن أقمت له عليه ألف دليل.
وأما العامي المقلد فلا يجوز له أن يتصدى للاجتهاد المطلق ما دام عاميًا ليس له
من العلم ما يؤهله لذلك، بل عليه أن يستفتي في المسائل التي يجهل حكمها أهل
العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فمتى رووا له في المسألة
نصًّا صحيحًا وجب عليه العمل به، فإن لم يفهم النص استعان بهم على فهمه، وإن
العوام الذين يسألون في الوقائع التي تعرض لهم عن قول مثل ابن حجر فيها لا
يفهمون أقوالهم بل يعتمدون على المفتي في إفهامهم إياها، فإذا كانوا محتاجين
للمفتي في كل حال فلماذا يستعينون به على فهم قول مقلد قد تبع في كتبه أمثاله ولا
يستعينون به على فهم كلام الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحديثه؟
الجواب عن هذا السؤال سهل على المقلدين مشهور بينهم يقولون: إنه لا يوجد في
هذه العصور من يقْدِرُ على فهم الكتاب والسنة بنفسه وإنما قدر على ذلك في القرون
الأولى أفراد معدودون وفهم كلام هؤلاء أفراد دونهم وهكذا كان أهل كل عصر
يفهمون كلام من قبلهم مباشرة فيجب على المتأخر أن يأخذ بكلام مثل الباجوري الذي
أخذ من مثل الرملي وابن حجر اللذين أخذا من مثل الشيخ زكريا الذي أخذ عن مثل
النووي الذي أخذ عن مثل الغزالي إلى أن يصلوا إلى الشافعي، ويجيبهم أهل السنة
بأن كلام الله ورسوله أفصح الكلام فهو أسهله فهمًا، وأن الأئمة المجتهدين حرموا
الأخذ بكلامهم من غير معرفة مأخذه من الكتاب والسنة، وبغير ذلك مما بيناه في
محاورات المصلح والمقلد وفي مواضع أخرى من المنار وهي تبلغ مئات من
الصفحات فلا يمكن تلخيصها في هذا الجواب، والله الهادي والموفق للصواب.
__________(13/104)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
طريقة الشاذلية
س4- من أحد علماء سرنديب (سيلان Ceylan) .
ما قولكم يا علماءنا الأعلام شيّد الله بكم مباني الإسلام.
إن بعض أقوام يذكرون الله بالرقص والتواجد ويسمون هذه طريقة شاذلية؛ فهل
هذا القول صحيح أم لا؟ أفتونا مأجورين.
ج - إننا رأينا كما رأيتم أقوامًا يأتون ما ذكرتم وأكثر مما ذكرتم من البدع
وينسبون أنفسهم إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي ولو رآهم أبو الحسن لتبرأ منهم.
وقد سبق لنا في المنار إنكار هذه البدع مرارًا كثيرة، ونشرنا في مجلد
السنة الماضية (ص 237م12) فتوى لطائفة من علماء الأزهر في الإنكار
الشديد على ذلك فلتراجع.
__________(13/104)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عذاب القبر
س5- مِن الشيخ حسن أبو أحمد مأذون الشرع بنقيطه (المنصورة) .
في مطرية المنزلة خلاف بين طائفتين في عذاب القبر هل هو ثابت
بصريح القرآن والسنة الصحيحة أم لا؟ أرجو التكرم بإيفاء هذا الموضوع حقَّه
من غير إحالة على أعداد مضت لأني وعدتهم بذلك وعرفتهم بقولك الفصل ولكم
الفضل.
ج - قد سبق لنا بيان هذه المسألة في المنار، ونقول الآن: إنها لم يصرح
بها في القرآن، ولكن ورد فيها أحاديث صحيحة مشهورة وليراجع ما كتبناه من
قبل (ص 946 م 5) و (ص 256 م 8) .
__________(13/104)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من سنغافوره
س 7، 8، 9 من س. س. ي. في سنغافوره.
سيدنا الرشيد المرشد صاحب المنار الأغر أفدنا أدامك الله نفعًا للأنام.
1- ما حكم مجلة طوالع الملوك، وما حكم الإعلان عنها، وإلفات الناس
إلى تُرّهاتها، وهل ذلك من خدمة الدين والوطن، ولماذا سَكَتَ عنها وعن ما يقال فيها
علماء مصر؟ ألقولهم بنفعها أم لعدم اكتراثهم بما يتعلق بالدين والمصالح العامة
أم لجهلهم بحالها؟
2- بينوا لنا حال الشيخ ابن حجر الهيتمي ومنزلته في العلوم ومنزلة كتبه
فإني رأيتها كثيرة التعقيد وعباراتها سيئة التركيب وكثير منها يسهل على طالب
العلم المتوسط الحال أن يجمع ما حوته من المعاني في أقصر منها وأسلس
وأوضح، ويظهر لي أنه شديد التعصب للصوفية يتعسف في تأويل طامّات بعضهم
ثم هو يذم ويسب شيخ الإسلام ابن تيمية وينبزه بتكفير المسلمين ولعل مَن كفّره ابن
حجر في كتابه (الإعلام بقواطع الإسلام) أضعاف مَن كفّره ابن تيمية ويظهر لي
أيضًا أنه سامحه الله يتعصب ضد أهل البيت مع تظاهره بحبهم ويتأول لأعدائهم بما
هو بديهي البطلان أو قريب منه حتى خِلْت أنه مقلد محض وآل حضرموت يقدسونه.
3- إن سيدي له إلمام ومعرفة بأحوال الصوفية فما هي حقيقة التجزي
الذي يزعمونه، وهل له شاهد أو دليل عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم،
وهل عرفه الصدر الأول أم لا؟ .
حكم مجلة طوالع الملوك
والترغيب فيها بالإعلان
(المنار)
جاءتنا هذه الأسئلة في العام الماضي فلم ننشرها بل قدمنا عليها بعض ما
عندنا من الأسئلة الكثيرة عملاً بتقديم الأهم على المهم، وقد أعاد السائل علينا أسئلته
من عهد قريب وألح في طلب الجواب فنقول: أما مجلة طوالع الملوك فإننا لم نقرأها
لنرى ما فيها فلا ترسل المنار إلى صاحبها ولا هو يرسلها إلينا، ومن البديهي أننا لا
نشتريها، ولكننا سمعنا بعض من اطلع عليها من أهل الفضل يقولون: إنها مجلة
عرافة وكهانة وتنجيم وروحانيات وطلسمات، ورأينا في بعض الجرائد وصفًا لها
بنحو من ذلك في باب الإعلان ولا عجب فإن الجرائد لا تتنزه عن التكسب بإعلان
المنكرات وترويجها، كترغيب الناس في الخمور ورقص النساء المتهتكات وبعض
ضروب القمار؛ فإذا صح ما سمعناه من وصف هذه المجلة فحكم قراءتها كحكم
قراءة الكتب المشتملة على مثل ما تشتمل عليه وهو يختلف باختلاف قصد القارئ
فإنْ كان يقرأها ليأخذ بأقوالها ويعمل بما فيها مما يحظره الشرع فقراءته إياها
محظورة حظرًا شديد، وقد بينا من قبل بعض ما قاله العلماء في هذا الباب، وممن
شدد فيه ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية، ويقرب أن يكون تصديق ما فيها
من الأخبار عما وقع أو سيقع كتصديق العرافين والكهان في حديث مسلم (مَن أتى
عرافًا فسأله وهو يصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد) صلى الله عليه وآله وسلم،
وإن كان يقرأها ليعرف ما فيها ويُحذّر الناس مما فيه من مخالفة الشرع فهو مثاب
على قراءتها، ولا يخفى حكم سائر المقاصد.
وسكوت علماء مصر عنها يحتمل أن يكون سببه عدم الاطلاع عليها؛ لأنه
قلما يوجد فيهم مَن له عناية بالوقوف على أمثال هذه المطبوعات، ولكن هذا
الاحتمال بعيد، والغالب أن يكون قد اطلع عليها بعضهم دون بعض، فيوشك أن
يكون منهم من اطلع على جزء أو أجزاء لم يستنكر منها شيئًا، وأن يكون المستنكر
لبعض ما فيها قد نهى عن قراءتها أو عن نشرها بالقول دون الكتابة في الجرائد، وأن
يكون منهم من لم ينه صاحبها عن نشرها ولا الناس عن قراءتها مع اعتقاده بطلان
ما فيها وتحريم نشره وتصديقه؛ لأن المنكرات قد كثرت وأَلِفَ العلماء وغيرهم ترك
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا قليلاً منهم، ولاسيما الإنكار بالكتابة أو النشر
في الجرائد، ولكن هذا الذنب لا يصح إسناده إلى علماء مصر كافة لما ذكرناه من
الاحتمال والغالب في المسألة.
ابن حجر الهيتمي وكتبه
وأما ابن حجر الهيتمي فحاله في العلم قد بيناها في الفتوى السادسة من هذا
الجزء، فهو مقلد لفقهاء الشافعية في مرتبة الذين يرجحون بعض أقوالهم على بعض،
وكتبه من أحسن كتب متأخريهم ولكنها لا تبلغ كتب النووي في انسجامها وسلامة
عبارتها، ولا كتب الماوردي في أسلوبها وبلاغتها، ولا كتب الغزالي في بسطها
وفصاحتها، ومع هذا نرى السائل قد بالغ في هضمها إذِ ادعى أنه يسهل على طالب
العلم المتوسط الحال جمع ما حوته من المعاني في كتب أخصر منها وأسلس وأوضح،
وقد بينا رأينا فيما شُنّع به على شيخ الإسلام ابن تيمية في (ص622م12)
فليراجعه السائل، نعم إنه يتعصب للصوفية لأنه تربى من صغره على الخضوع
والتسليم للمنتسبين إلى التصوف المعروفين بالصلاح والتأويل لهم فيما يخالفون فيه
الفقه الذي هو عنده فوق كل علم لقوله في فتاويه: (إن أقوال الفقهاء إذا تعارضت
مع أقوال المفسرين أو المحدثين فالمرجح الذي يجب العمل به هو ما يقوله الفقهاء) ،
ولكن لا يظهر لي ما ظهر للسائل من تعصبه على آل البيت وإن تأوَّل لأعدائهم
كما قال، ولكنه مقلد كما خال، ومن شأن الذين يضعون الكتب في المسائل الجزئية
أن يتمحلوا ويتعسفوا ويأتوا بالضعيف واللغو الذي لا يفيد المراد ولا يؤيد المقصود،
فهذا أحد سببين في تهافت ابن حجر في كتابه (تطهير اللسان والجنان) الذي يشير
إليه السائل، والسبب الثاني هو الانتصار لقوم على قوم، ومن كان كذلك لا يظهر له
الحق في المسائل كما هو لأنه لا ينظر إليها من كل جانب، بل يوجه كل قواه
المدركة إلى البحث عما يوافق غرضه من تأييد رأي وتفيند آخر فيُكبّر الأول
ويصغر الثاني إنْ هو أدركه، وتقديس أهل حضرموت له سببه أنهم مقلدون لعلماء
الشافعية وقد جعلوا كتبه عمدتهم في المذهب كما اشتهرت كتب الشمس الرملي من
أهل طبقته في مصر.
التجزي عند الصوفية واصطلاحاتهم
لا نكتب في المنار شيئًا من حقيقة التجزي إلا إذا علمنا أنّ في الناس من
يفهمونه فهمًا ضارًّا في الدين وترجى هدايتهم بالمنار، ولكننا نقول: إنه ليس من
الأمور الدينية، وإنما هو من قبيل الاصطلاحات الفنية، وهكذا نقول في أكثر
اصطلاحات الصوفية كالفرق والجمع والسكر والصحو. فالقوم قد استعاروا لأنفسهم
ألفاظًا من اللغة أخرجوها عما وضعت لأجله وعبَّروا بها عن أذواقهم ومعارفهم كما
فعل غيرهم من أهل الفنون اللغوية والشرعية والعقلية والطبيعية فلا يشترط في
إباحة ذلك لهم أن يكون كل ما يقولون به قد نطق به الشرع من قبل، وغاية ما ينكر
عليهم في ذلك أمران: أحدهما: أن يجعلوا بعض عُرْفهم واصطلاحهم من الدين
والشرع بغير دليل شرعي، وثانيهما: أن يكون في ذلك ما ثبت بالدليل أنه مخالف
للكتاب والسنة الثابتة بلا نزاع وذلك أنه فلاسفة يدينون بالإسلام، مع الاجتهاد
والاستقلال، إذ الصوفي الحقيقي لا يكون مقلدًا إلا في بداية سلوكه فإنه حينئذ يقلد
أستاذه ومربيه دون غيره.
__________(13/108)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تزيين شعر الرأس والزي الأوربي
س 10، 11 من صاحب الإمضاء في تلمسان - الجزائر
حضرة الأستاذ الحكيم الشيخ العظيم سيدي السيد محمد رشيد رضا صاحب
مجلة المنار الغراء، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته تَعُمكُّم وتَعَمُّ جميع دائرتكم.
ثم أطلب من فضلكم فتواكم في العدد الآتي في مجلتكم عن تزيين شعر الرأس
واللحية مثل الأوربيين أيجوز شرعًا أم لا؟ وكذلك اللباس الأوربي أيجوز أم لا؟
أرجوكم الإيضاح عن هذين السؤالين ولكم جزيل الفضل والمعروف والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... حرره تلميذكم
... ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى أباجي
ج - ورد في السنة طلب تزيين شعر الرأس واللحية بالمشط والدهن والطيب
وفي الشمائل النبوية الشريفة أحاديث في فَرْق النبي - صلى الله تعالى وآله وسلم -
لشعره وسدله له، فمن زيّن شعره من المسلمين فليقصد بذلك اتباع السنة السنية سواء
وافق ما عليه الأوربيين أم خالفهم ولا يبالي بأقوال الجاهلين الذين يخوضون في
عرض كل مَن يفعل شيئا يوافق ما عليه الإفرنج وإن كان من المحاسن التي سبق
الإسلام إلى طلبها وعلم النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح - رضي الله
عنهم - بها فإننا لا نترك محاسن دين الفطرة إذا أخذ بها غيرنا، بل نُسَرّ باتباع
الناس لآداب ديننا وفضائله، وإن لم يدينوا به وفي ذلك فوائد كثيرة ليس هذا المقام
بمحلٍ لشرحها، وأما من يقصد بتزيين شعره تقليد الإفرنج فهو وضيع ضعيف العقل
والنفس؛ لأنه مقلد لمن يراهم لخسته أشرف منه وأكمل، وهكذا شأن كل تقليد؛ فإن
من يثق بمعرفته للحق أو الفضيلة أو الأدب الصحيح لا يقلَّد في شيء مِن ذلك غيره
تقليدًا، فالتقليد هو شأن الأطفال مع الكبار والاستقلال هو شأن العقلاء المستقلين
والعاقل إنما يعمل ما يعتقد أنه الأَوْلى بالدليل العقلي في الأمور العقلية والدليل
الشرعي في الأمور الشرعية وهكذا، والجاهلون يتمسكون بالعادات ويجعلونها دينًا
ينكرون على مخالفهم فيها.
وأما المسألة الثانية فيعلم حكمها مما تقدم فمن المعلوم أن الإسلام لم يحرم على
أهله زيًّا، ويفرض عليهم زيًّا آخر بل ترك الأزياء لاختيارهم وفي السنة السنية ما
يدل على ذلك فقد ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبس
الجبة الرومية من أزياء الروم والطيالسة الكسروية من أزياء المجوس ولم يقصد
تقليد القوم، وإنما جيء بذلك فلبسه، وإنما نهى عمر - رضي الله عنه - جيشه في
بلاد الفرس عن زي الأعاجم لئلا يغرهم ما غنموه من اللباس النفيس فيمتعوا بنعمته
ويغلب عليهم الترف فيضعفوا عن الجهاد وحفظ البلاد، ولذلك أمرهم في كتابه ذاك
إلى القائد عتبة بن غرقد بأن يخشوشنوا ويتمعددوا ويداوموا على التمرن على رمي
السهام ويبرزوا للشمس فقال: (عليكم بالشمس فإنها حمام العرب) ولهذا اختلفت
أزياء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وخليفة المسلمين وأكبر أمرائهم يلبسون
زي الإفرنج في هذا العصر لاستحسانه.
__________(13/111)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الرضاعة من كتابية
لبس البرنيطة
حديث (من تشبه بقوم) الزنار وأربطة الرقبة.
س12، 13، 14، 15 من صاحب الإمضاء الرمزي في (سمبس برنيو
الغربية جاوه) .
1- هل يثبت الحرمة رضاع بين الكافر والمسلم مع مراعاة الشروط المدونة
في كتب الفقه؟ كما لو رضع مسلم لكافرة أو كافر لمسلمة.
2- هل يجوز لمسلم لبس البرنيطة - القبعة- لحاجة كالاتقاء من الشمس أو
لغيرها؟
3- ما حكم التشبه بالإفرنج في الملبس وغيره بحيث لا يمكن التمييز بعلامة
ما، فهل يجوز أم لا؟ لأن ذلك مما عمَّت وطمَّت به البلوى خصوصًا عند الطبقة
العليا فإنهم يلبسون البرنيطة فوق الكوفية المعتادة لهم.
فمن الناس من قال: إنه حرام وحجته قوله عليه السلام: (من تشبه بقوم فهو
منهم) ، وبعضهم قال إنه جائز لا بأس به وحجته أنه لم يرد في كتاب الله ولا في
سنن رسله وأنبيائه أمر لأمتهم باتباع ملابسهم أو تغييرها بزي معلوم أو نهي عن
ذلك بل ربما ورد أنَّ بعض الصحابة لبس شيئًا من ملابس الكفار في الصدر الأول
للإسلام ولم ينكره أحد من الصحابة.
4- الزنار - أربطة الرقبة - فالمشهور من بعض الأفاضل المتقدمين أن
لبسه حرام باتفاق؛ ولكن المشاهد في عصرنا هذا شيوع استعماله في مسلمي الدنيا.
هل هو حرام أم لا؟ بينوا لنا رأيكم ورأي علماء مصر العصري ليسكت الهرج
والمرج فلكم منا جزيل الشكر والامتنان.
... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ب. ج. م. ع
ج - أما الجواب عن الأول فنَعَم، فمن رضع من كتابية حرم عليه أن يتزوج
أحد من أصولها أو فروعها وقد رأيتم التفصيل في أحكام الرضاعة في تفسير هذا
الجزء، وأما الأسئلة الثلاثة الأخرى فمعناها واحد وتعرفون حكمها في الفتوتين
العاشرة والحادية عشرة في هذا الجزء ومما كتبناه عن حديث (من تشبّه بقوم
فهو منهم) في الجزء الماضي؛ ولكن الزنار غير (أربطة الرقبة) التي فسرتموه بها
وما ذكر منه في كتب الفقه يراد به زنار الرهبان والقسيسين الذي هو من تقاليدهم
الدينية ولا يجوز للمسلم أن يتبع تقاليد دين من الأديان، بل يتبع في الدين كتاب الله
وسنة رسول صلى الله عليه وسلم، وأما الأزياء والعادات التي ليست من أديانهم فهي
التي يتبع الناس فيها مصالحهم إن لم تخالف نصًّا شرعيًّا، ولا نص في تحريم
أزياء المخالفين لنا في الدين التي هي من العادات لما علمت من لبس النبي صلى الله
عليه وسلم لبعض أزياء الروم والمجوس.
__________(13/113)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الكلام وقت خطبة الجمعة
س16: مِن صاحب الإمضاء الرمزي في (سمبس برنيو)
حضرة العالم العلامة سعد الملة وفخر الأمة سيدي الأستاذ السيد محمد رشيد
رضا صاحب المنار الأغر متّعني الله بشريف وجوده آمين.
بعد؛ أهديكم أطيب التحية والاحترام، أرجو أن تفيدوني بالإجابة عن هذه
الأسئلة وأشكركم سلفًا.
إنه قد جرت عادة في بعض بلاد جاوه يقرأ المؤذن أو المرقي عند صعود
الخطيب على المنبر لقراءة الخطبة آية: {ِإنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ} (الأحزاب: 56)
الآية أو شيئًا من الأحاديث كقوله صلي الله عليه وسلم (إذا قلت لصاحبك والإمام
يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت) اهـ الجامع الصغير، فهل يسن ذلك أم لا؟
ومما قاله (المؤذن أو المرقي) روي عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن يوم
الجمعة سيد الأيام وحج الفقراء وعيد المساكين والخطبة فيها مكان الركعتين، فإذا
صعد الخطيب على المنبر فلا يتكلمن أحدكم ومن يتكلم فقد لغا ومن لغا
فلا جمعة له) اهـ.
فهل صح أن هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه أو غيره، أو هو من
أقوال العلماء؟ وفي أي كتاب يذكر؟ هذا والمرجو لسيدي من فضيلتكم أن تجيبوني
وأكون ذاكرًا لكم جميل الذكر وحسن الثناء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ب
ج - هذه العادة معروفة في مصر وسورية أيضًا وما هي بسنة مأثورة
تتبع، وإنما هي عادة كما ذكرتم والحديث الأول متفق عليه في الصحيحين ولا بأس
بذكره قبل الخطبة بقصد النصيحة والتذكير، ولكن لا ينبغي أن يداوم عليه بكيفية
مخصوصة تُوهِمُ أنَّ تلاوته سُنّة مأثورة وأما الحديث الثاني (يوم الجمعة سيد
الأيام) ... إلخ فلا يصح، وأوله ذكر في بعض كتب الموضوعات.
__________(13/114)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إباحة الغناء
س- 17، 18 مِن صاحب الإمضاء في روسيا.
سيدي متّع الله الأنام بطول بقائكم وأنفعهم بأفيد كلامكم، إن لي مسألتين نشتاق
إلى بيانهما ونحتاج إلى إيضاحهما، أرجو توضيحهما في أحد أجزاء مجلة المنار
ولكم الأجر إن شاء الله.
1- قال في التفسيرات الأحمدية في تفسير الآيات المتعلقة للأحكام في سورة
لقمان: ومن الحجج الدالة على إباحته - أي التغني - ما ذكر في العوارف فمن
الآيات ما ذكر في العوارف قوله تعالي {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ} (المائدة: 83) وقوله {فَبِشِّرْ عِبَادِ *
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: 17-18) وقوله تعالي {تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} (الزمر: 23) الآية.
ومن الأحاديث ما قال: أخبرنا الشيخ الطاهر بن أبي الفضل عن أبيه الحافظ
المقدسي قال: أخبرنا أبو بكر القاسم الحسن بن محمد الخوافي قال: حدثنا أبو محمد
عبد الله بن يوسف قال: حدثنا أبو بكر بن وثاب قال: حدثنا عمر بن الخطاب رضي
الله عنه، قال: حدثنا الأوزعي عن الزهري عن عروة عن عائشة أن أبا بكر دخل
عليها وعندها جاريتان تغنيان وتضربان بدفين ورسول الله متسجٍ بثوبه فانتهرهما
أبو بكر فكشف رسول الله عن وجهه وقال (دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد) ، وسقط
هنا في البين حديثان أسقطتهما قصدًا وفيه أيضًا قال: أخبرنا أبو زرعة طاهر عن
والده أبي الفضل الحافظ المقدسي قال: أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك
المظفري السرخسي قال: أخبرنا أبو علي فضل بن منصور بن نصر الكاغذي
السمرقندي إجازة قال: حدثنا الهشيم بن كليب قال: حدثنا أبو بكر عمار بن إسحاق
قال: حدثنا سعد بن عامر عن شعبة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس رضي الله
عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أنزل جبرائيل عليه
السلام فقال: يا رسول الله إن فقراء أمتك يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم
وهو خمس مائة ففرح رسول الله عليه السلام فقال: أفيكم من ينشدنا؟ قال بدوي:
نعم أنا يا رسول الله، قال: هات، فأنشد البدوي:
قد لسعت حية الهوى كبدي ... فلا طبيب لها ولا راق
... إن الحبيب الذي شغفت به ... فعنده رقيتي وترياقي
فتواجد رسول الله صلى الله وسلم وتواجد الأصحاب معه حتى سقط رداؤه عن
منكبيه فلما فرغوا أوى كل واحد منهم مكانه قال معاوية بن أبي سفيان: ما أحسن
لعبكم يا رسول الله، فقال: يا معاوية ليس بكريم من لم يهتز عند سماع ذكر الحبيب
ثم قسم رداءه صلى الله عليه وسلم على من حَاضَرَهُمْ بأربعمائة قطعة، وهذا الحديث
أوردناه مسندًا كما سمعنا ووجدناه) اهـ.
أرجوكم أن تفيدوني عن هذه الآيات التي ذكرت هل هي دالة على ما ادعاه
وما وجه الدلالة ونحن لا نصلح ولا نفهم وجه دلالته عليه، وما الأحاديث التي
أوردها وسردها، هل هي معتبرة ومأخوذة عند المحدثين؟ أم من الخرافات التي
أنشدها وأحدثها المخترعون؟ أفيدوني يا سيدي ولكم الأجر إن شاء الله.
2- ولو دفع الفقير من مال حرام شيئًا يرجو الثواب يكفر ولو علم الفقير بذلك
الحرام فدعا للمعطي كفر (خادمي شرح الطريقة في المجلد الأول في النوع الثالث
من الكفر الحكم منه 445 في نسختنا) .
أقول: من المقرر في كتب الفقهاء والفتاوى كالمحيط وابن عابدين وغيرهما أن
مَن كان عنده مال خبيث حرام كالمظالم وكربح المغصوب والأمانة والمبيع بيعًا فاسدًا
يجب التصدق به، فيكون مأمورًا بالتصدق، فمن أتى بالمأمور به كيف يكون كافرًا؟
وأيضًا الداعي إنما يدعو لمن أتى بالمأمور به فكيف يكون كافرًا بالدعاء له؟ بينوا
ياسيدي تؤجروا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمام الديني
... ... ... ... ... ... ... أحسن بن شاه أحمد الكاتبي
ج- ليس في القرآن شيء يدل على التغني وصاحب (العوارف) إنما يستدل
بما ذكر من الآيات على السماع المعروف عندهم وهو يكون سماع قرآن وسماع شعر
أو غناء لأجل تحريك شعور النفس من خشوع أو حزن أو وجد لا على مطلق التغني
والاستدلال بالآيات على سماع الشعر أو الغناء تكلف مردود.
وأما الحديثان فأولهما وهو حديث عائشة صحيح لا نزاع فيه، وثانيهما وهو
حديث سماع النبي صلى الله عليه وسلم وتواجده موضوع لا نزاع في كذبه ترونه
في كثير من كتب الموضوعات والمشهورات على ألسنة العامة.
وقد بينا أحاديث إباحة السماع وحظره بالتفصيل في أول المجلد العاشر ,
وأما ما ذكره الخادمي مِن كفر مَن يتصدق بالمال الحرام وكفر من يدعو له تشديد
ظاهر البطلان لا حاجة إلى الإطالة في بيانه وسنكتب في المكفرات شيئًا نافعًا إن
شاء الله.
__________(13/115)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
علم الهيئة والسنة النبوية
س 19- مِن أحد المشتركين في دمشق الشام.
إلى حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ محمد أفندي رشيد رضا متّعنا الله بطول
بقاه.
لدينا كتاب مخطوط عنوانه (هيئة الإسلام وحكمة أهل الإيمان) لمؤلفه إبراهيم
القرماني الآمدي؛ افتتحه بمقدمة قال فيها بعد البسملة والحمدلة ما ملخصه:
(لما طالعت كتاب الهيئة على اعتقاد أهل السنة والجماعة للمولى العلامة أبي
الفضل جلال الدين السيوطي، وجدت مباني مباحثها مطابقًا لمضمون الأحاديث
والآثار موافقًا، لمفهوم كلام التابعين الأخيار، انتخبت منه ومن الكتب المعتبرة نحو
تفسير الإمام أبي الليث السمرقندي وتفسير الإمام القرطبي وتفسير الإمام البغدادي
وتفسير الإمام الثعلبي والقشيري وعثمان الداري وابن الجوزي وابن أبي طالب
المكي وابن كثير والكرماني و (الوسيط) والسمرقندي والصنهاجي والسمرقندي
والفتاوي الكبرى والشفا وشرح العقائد للتفتازاني ما هو لازم اعتقاده مرتبًا على
أبواب وفصول) .
ثم يلي ذلك كلام في تقديم الكتاب إلى السلطان محمد خان ابن السلطان إبراهيم
العثماني ثم أبواب الكتاب وفصوله وهي بوجه الاختصار: في عدد السماوات
والأراضين. في المسافة بين كل اثنتين منها، في الثخن والكثافة في مادة السماء. في
العرش والكرسي واللوح والقلم، بعض عجائب السماء، مكان الجنة والنار، مستقر
الأرواح، مستقر الشمس بعد الغروب، جبل قاف كون الأرض بسيطة، بيان بعض
عجائب الأرض، بيان الصخرة المذكورة في القرآن. أحوال الشمس والقمر،
الخسوف والهلال والليل والنهار والكواكب، الرياح والأمطار والقوس والرعد
والبرق والصاعقة ... إلخ إلخ، ويلي ذلك أحاديث يستشهد بها المؤلف على ما
تضمنه الباب أو الفصل أو أكثر هذه الأحاديث إذا لم نقل كلها لا ينطبق على الحقيقة،
ونحن لعدم تضلعنا من علم الحديث لا نعلم مكانها من الصحة ولذلك ننقل هنا شيئًا
منها لتقفوا عليه، قال تحت عنوان أحوال الشمس ما نصه: قال العلامة السيوطي
أخرج الديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشمس
والقمر وجوههما إلى العرش وقفاهما إلى الناس) وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن
مردويه عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وُكِّلَ
بالشمس سبعة أملاك يرمونها بالثلج كل يوم ولولا ذلك ما أصابت شيئًا إلا أحرقته)
وقال في الكلام على الرعد: أخرج أحمد والترمذي عن ابن عباس: أن اليهود
قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال (ملك من الملائكة موّكل
بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله (قالوا: فما الصوت
الذي نسمعه؟ قال: زجره حتى ينتهي إلى حيث أمره) قالوا: صدقت.
والكتاب كله على هذا النمط وقد بلغني أن هذا الكتاب ترجم إلى اللغة التركية
وطبع في الآستانة منذ عشرين سنة تحت اسم (هيئت إسلاميان) فضل به كثيرون
من تلامذة المكاتب وغيرهم؛ لأنه مخالف لما تلقوه من المبادئ المقررة في علم الهيئة
والأحداث الجوية التي لا يشكون فيها لقيام الأدلة عندهم عليها فما قولكم - رحمكم
الله - في هذا الكتاب وأمثاله؟ تكرموا بالجواب ولكم الأجر والثواب.
(ج) أكثر ما ورد في هذا الباب من الأحاديث يدخل في باب الموضوعات
المكذوبة قطعًا، أو الواهيات التي تقرب منها، وسنبين ذلك في مقال خاص بعد
إلقاء عصا التسيار والاستقرار في مقام العمل إن شاء الله تعالى.
__________(13/117)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حركة الأرض ودورانها
والاستدلال على ذلك من القرآن
س20- مِن الشيخ عبد القادر نور الله معلم مدرسة (بانياس) الابتدائية.
سألنا عن دليل حركة الأرض ودورانها، وعن استدلال بعض الناس على ذلك
بقوله تعالى {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (النمل: 88) .
وقد سبق لنا بحث طويل فى هذه المسألة فليراجعه السائل في (ص260م7)
إذ لا سبيل إلى إعادته والأدلة العلمية في ذلك مبسوطة في كتب الجغرافية ومَن يرى
الآية التي أشار إليها دالة على دوران الأرض يرد على مَن يقول: إن المراد بها
حركتها عند خراب العالم بقيام الساعة بقوله تعالى بعد ما تقدم آنفًا {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) وإتقان الصنع يناسب الإنشاء والتكوين لا ضدهما،
وهناك آيات أخرى ذكرناها في الموضع المشار إليه.
وسألنا أيضًا عن مسألة مشكلة في كتاب (تنبيه الأفهام) لرفيق بك العظم
وسنجيب عنها عندما يتيسر لنا مراجعة ذلك الكتاب بعد انتهاء سفرنا.
__________(13/119)
الكاتب: محمد الخضر بن الحسين
__________
المشورة [1]
قضت سنة الله في خلقه أن سلطة شرع الأحكام وتصريف الأوامر والزواجر
لا تستقل وحدها بردع الخليقة وقيادتهم إلى سابلة العدالة، فكثير من الناس من
يجري مع أهوائه بغير عنان، ولا يدخل بأعماله الاختيارية تحت مراقبة العقل على
الدوام، ألا ترى إلى جملة من أحكام الشريعة كيف بنيت على رعاية الوازع
الطبيعي وتغلبه على الوازع الشرعي كرد شهادة العدو على عدوه وعدم قبول شهادة
الرجل لابنه أو لأبيه وإقراره في حال مرضه لصديق ملاطف أو وارث قريب، فلا
بد إذًا من سلطة أخرى لتنفيذ تلك الأحكام المشروعة بالوسائل المؤثرة (وإن كره
المبطلون) كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالة القضاء لأبي موسي
الأشعري: (وأنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وتسمى هذه
السلطة بالسلطة القضائية، وكان زمامها في عهد نزول الوحي بيد النبي صلى الله
عليه وسلم يتولى الحكومة على الجاني ويباشر فصل النوازل بنفسه من غير أن
يدور في حسبان مسلم مطالبته بإعادة النظر في القضية أو استئنافها لدى غيره وما
كانوا يرون قضاءه إلا حكمًا مسمطًا يتلقونه بأذن واعية وصَدْر رحيب لعلمهم يقينًا
كعمود الصبح أنه حُكْم الله الذي لا يقابل بغير التسليم قال تعالى {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) وقال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا
قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36) وإن
تعجب فلا عجب لهذا، فإن الوازع الشرعي قد يتمكن من النفوس الفاضلة إلى أن
يصير بمنزلة الطبعي أو أقوى داعيًا، وسهل انقياد العرب على ما كانوا عليه من
الأنفة وصعوبة المراس وانصاعوا إلى قانون الشريعة مجملاً ومفصلاً من جهة أن
الدين معدود من وجدانات القلوب فالانقياد لأحكامه من قبل الانقياد إلى ما يدعو إليه
الوجدان وليست الشرائع الوضعية بهذه الدرجة فإن الناس إنما يساقون إليها بسوطِ
القهر والغلبة، ويحترمونها اتقاءً للأدب والعقوبة، ولا يتلقونها بداعية مِن أنفسهم إلا
إذا أدركوا منها وجه المصلحة على التفصيل.
وإنما ورد من فصل قضائه صلى الله عليه وسلم قدر يسير بالنسبة إلى مدة
حياته لما كانت عليه حالة المسلمين يومئذ من الاستقامة والتئام العواطف القاضية بأن
تكون معاملاتهم خالية من الدسائس خالصة من المشاكل، وهكذا ما ساد الأدب
وانتشرت الفضيلة بين أمة إلا اتبعوا شِرْعة الإنصاف من عند أنفسهم والتحفوا برداء
الصدق والأمانة بمجرد بث النصيحة والموعظة الحسنة فيخفت ضجيج الضارعين
وصخب المبطلين، ولا تكاد تسمع لهم في أجواف المحاكم حسيسًا.
وضم صلى الله عليه وسلم إلى السلطة القضائية فيما يخص الحق المدني سلطة
التنفيذ فيما يختص بحقوق الأمم كإشهار الحرب وإبرام الصلح وتلافي أمر الهجوم
ولم يكن مع يقينه باستماتة أصحابه في طاعته وتفاني مهجهم في محبته لينفرد عنهم
بتدابير هذه السلطة بل يطرحها على بساط المحاورة ويجاذبهم أطرافها على وجه
الاستشارة عملاً بقول تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) وقد
يترجح بعض الآراء بوحي سماوي كما نزل قوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ
أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} (الأنفال: 67) مؤيدًا لرأي عمر بن الخطاب
رضي الله عنه في أسارى بدر.
أذن له صلى الله عليه وسلم بالاستشارة وهو غني عنها بما يأتيه من وحي
السماء تطييبًا لنفوس أصحابه وتقريرًا لسنة المشاورة للأمة من بعده.
أخرج البيهقي في الشعب بسند حسن عن ابن عباس قال: قال رسول الله عليه
وسلم (أما إن الله ورسوله لغنيان عنها (أي المشورة) ولكن جعلها الله رحمة لأمتي
فمن استشار منهم لم يعدم رشدًا، ومن تركها لم يعدم غَيًّا) .
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه من العلم بقوانين الشريعة والخبرة
بوجوه السياسة في منزلة لا تطاولها سماء، ومع هذا لا يبرم حكمًا في حادثة إلا بعد
أن تتداولها آراء جماعة من الصحابة، وإذا نقل له أحدهم نصًا صريحًا ينطبق على
الحادثة قال: (الحمد الله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا) .
وعهد بأمر الخلافة إلى عمر بن الخطاب بعد استشارة جماعة من المهاجرين
والأنصار مثل عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وأسيد بن حضير وسعيد
بن زيد وغيرهم، وإنما لم يبق الأمر شوري بينهم كما صنع الخليفة الثاني أو يتركه
لآراء المسلمين عامة كما فعل النبي صلي الله عليه وسلم اعتمادًا على ما تفرسه في
عمر من الكفاءة والمقدرة وحذرًا مِن أنْ يتنازعها ذوو الأهلية فتثور ثائرة الفتنة
ويرتخي حبل الأخوة في أيدي المسلمين.
ونحا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هذه الجادة شبرًا بشبر وذراعًا
بذراع، قال مِن خطبة أرسلها في هذا الغرض: كذلك يحق على المسلمين أن
يكونوا وأمرهم شورى بينهم وبين ذوي الرأي منهم، ثم قال ومن قام بهذا الأمر فإنه
تبع لأولى رأيهم ما رأوا لهم ورضوا به لهم، وهذا إيماء إلى الحكم النيابي ويدل له
من كتاب الله قوله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وضع الإسلام
أساسه وبنى عليه الخلفاء سياستهم ثم انتقض بناؤه في دولة بني مروان، ومذ
شعرت الأمم الآخذة بمذاهب الحرية بأنه الضربة القاضية على السلطة الشخصية
طفقوا يهرعون إلى إقامة حكوماتهم على قاعدته المتينة.
وأخذ عمر بقاعدة الشورى في أمر الخلافة من بعده، ففوض أمرها إلى ستة
من كبراء الصحابة ليختاروا رجلاً منهم، وقال لهم: ويحضركم عبد الله بن عمر
مشيرًا وليس له من الأمر شيء، وضمه عبد الله بن عمر إلى الستة وتشريكه لهم
في الرأي وارد على ما ينبغي في مجالس الشورى مِن جعْل نظامها مُؤلفًا من العدد
الفرد ليمكنهم ترجيح جانب الأكثر عند الاختلاف ويُلَوِّح إلى هذا بطرْف خفي قوله
تعالى {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى
مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} (المجادلة: 7) فذكر العدد الفرد صراحة
والاقتصار عليه دون الزوج في ضمنه إشارة إلى ما ينبغي مراعاته في المجالس
المؤلفة للمناجاة.
هذا هو الأصل في الشورى، وقد تؤلف من عدد زوج ويعتبر أحد أفراد اللجنة
بمنزلة رجلين اثنين ويسمى رئيسًا لها فيرجح به الجانب الذي ينحاز إليه عند
التساوي والدليل على صحته شرعًا قول عمر بن الخطاب لأبي طلحة الأنصاري:
(إن الله أعز بكم الأنصار فاختر خمسين رجلاً من الأنصار وكنْ مع هؤلاء حتى
يختاروا رجلاً منهم، ثم قال له وإن رضي ثلاثةٌ رجلاً ثلاثةٌ رجلاً فحكِّموا عبد الله بن
عمر فإن لم يرضوا بعبد الله فَكُونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف) .
والمشورة سنة متبعة عند بعض الأمم من قديم الزمان، وردت في قصة بلقيس
حين دعاها وقومها رسول الله سليمان عليه السلام أن لا يعلوا عليه ويأتوه مسلمين
قال الله تعالى {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى
تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ *
قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (النمل: 32-34) .
ووردت الشورى في قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملائه قال الله تعالى
{قَالَ المَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ
فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ} (الأعراف:
109-111) وكأن قاعدة الشورى بين فرعون وملائه لم تطرد على أساس صحيح
بدليل ماسام به بني إسرائيل من العذاب المبين.
وقطع مجلس الشورى عند فرعون رأيه وأبرم في النازلة حكمة لأنه فوَّض
إليهم ذلك بقوله {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} (الأعراف: 110) وليس له من الأمر شيء
سوى تنفيذ أعمالهم، والعمل بما يشيرون بخلاف مجلس الشورى عند ملكة سبأ فلم
يزيدوا على أن عرضوا عليها رأيهم بطريق التلويح حين {قَالُوا نَحْنُ أُوُلُو قُوَةٍ
وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} (النمل: 33) يشيرون إلى اختيار الحرب ثم أوكلوا الأمر إليها
بقولهم {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} (النمل: 33) لأنها لم تفوض إليهم
الحكم في القضية وإنما طلبت منهم أن يصرَّحوا بآرائهم ويبوحوا بأفكارهم فقط بدليل
قولها {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} (النمل: 32) أي إلا بمحضركم وقولها
{أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} (النمل: 32) أي اذكروا ما تستصوبون فيه، ولأنها زيفت
رأيهم وأشعرتهم بأنها ترى الصلح مخافة أن يتخطى سليمان عليه السلام حدودهم
فيسرع إلى إفساد ما يصادمه من أموالهم وعماراتهم فقالت {إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} (النمل: 34) .
لا تكون قاعدة الشوري من نواصر الحرية وأعوانها إلا إذا وُضِعَ حجرُها
الأول على قصد الحنان والرأفة بالرعية، وأما المشاركة في الرأي وحدها ولا سيما
رأي من لا يطاع فلا تكفي في قطع دابر الاستبداد.
وأهم فوائد المشورة تخليص الحق من احتمالات الآراء وذهب الحكماء من
الأدباء في تصوير هذا المغزى وتمثيله في النفوس إلى مذاهب شتّى قال بعضهم:
إذا عنَّ أمر فاستشر فيه صاحبا ... وإن كنت ذا رأي تشير على الصحب
فإني رأيت العين تجهل نفسها ... وتدرك ما قد حلَّ في موضع الشهب
وقال غيره:
أقرن برأيك رأي غيرك واستشر ... فالحق لا يخفى على الاثنين
والمرء مرآة تريه وجهه ... ويرى قفاه بجمع مرآتين
وقال آخر:
الرأي كالليل مُسْوَدٌّ جوانبه ... والليل لا ينجلي إلا بمصباح
فاضمم مصابيح آراء الرجال إلى ... مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح
ولا يدخل في وهم امرئ سمع قولهم (إنما العاجز مَن لا يستبد) إنَّ اقتداءه
بسنة الشورى يشعر الناس بعجزه وحاجته إليهم فتسقط جلالته من أعينهم ويفوته
الفخر بالاستغناء عنهم؛ فإن الناصح الأمين لا تجده يجعل الفخار محورًا يدير عليه
سياسته فيلقي له بالاً وإنما يبني أعماله على مصالح يجلبها أو مفاسد يدرؤها ومَن
كان يريد التمجيد والثناء فنعته بعدم الانفراد بالرأي أفخر لذكره وأشرف لسياسته من
وصفه بصفة الاستبداد، قال تعالى في الثناء على الأنصار {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) أي لا ينفردون برأي
حتى يجتمعوا عليه، وروى أن هذا دأبهم من قبل الإسلام ولعله هذا هو الوجه في
مخالفة أسلوب الوصف به لما قبله وما بعده حيث أورد في جملة اسمية للدلالة على
الثبوت والاستمرار.
ومن فوائدها استطلاع أفكار الرجال ومعرفة مقاديرها فإن الرأي يمثل لك عقل
صاحبه كما تمثل لك المرآة صورة شخصه إذا استقبلها.
__________
(1) بقلم الشيخ محمد الخضر بن الحسين من العلماء المدرسين بجامعة الزيتونة بتونس في مسامرته (الحرية في الإسلام) .(13/120)
الكاتب: صنعة الله أفندى ييكبولاط
__________
الإسلام في البلاد المسيحية [*]
كان المسلمون في الأزمنة الغابرة لا يقصدون البلاد المسيحية إلا للفتح
والاستيلاء عليها. وكان يندر جدًّا من يقصدها لغير هذا الغرض. والسبب في ذلك
أن حوائج المسلمين الدينية والاجتماعية والاقتصادية كانت تُقْضَى على ما يرام في
غير بلادهم. ولذلك كان القاطنون في الديار المسيحية من المسلمين أندر من
الكبريت الأحمر مع وجود ملايين من المسيحيين في البلاد الإسلامية.
إن كثيرًا من المسلمين أجلوا في العصور الماضية عن أوطانهم إلى البلاد
المسيحية جزاء لمطالبتهم بالاستقلال: من ذلك أن حكومة هولاندا أجلت في القرن
السادس عشر من آسيا الشرقية (من جزائر جاوه وبورنيو وصوماتره) عدة آلاف
من المسلمين المنتمين لجنس (ملايو) إلى كابلانده في جنوب إفريقية، وفي ذلك
العصر نفسه أرغمت الحكومة البولونية كثيرًا من التتر على المهاجرة إلى بولونيا،
فبقايا هؤلاء وإن أضاعوا قوميتهم بمعناها الأوربي أي وإن نسوا لغتهم الأصلية
واستبدلوا بها لغة البلاد التي استوطنوها فإنهم لا يزالون يحتفظون بدينهم ويتمسكون
به شديد التمسك.
وأما اختلاط المسلمين بالمسيحيين بحسن اختيارهم وإرادتهم فقد بدأ منذ زمن
غير بعيد، ففي بادئ الأمر أخذ الطلاب المسلمون يقصدون أمريكا وإنكلترة وفرنسا
بقصد التعلم بمدارسها العالية، ثم اضطرت بعض الأحوال السياسية
والاقتصادية المسلمين أن يغادروا بلادهم ويهاجروا إلى أوربا أفواجًا، فكان هذا
الاختلاط هو السبب الرئيسي لانتشار الإسلام في الممالك الغربية.
ويوجد الآن في ألمانيا رجل يسعى سعيًا متواصلاً إلى نشر الإسلام فيها ألا
وهو محمد عادل بك (اشميتس - دورمولين) ، وكان مِن أمره أنه قضى عشرين
عامًا مهندسًا في الشرق ثم انتحل الإسلام، وتزوج فتاة مسلمة من أسرة كبيرة، فلما
عاد إلى وطنه (ألمانيا) طفق يدأب على نشر الإسلام بين أهل وطنه والدفاع عنه
وعن المسلمين، فألَّف في ذلك مؤلفات عديدة من أشهرها (الإسلام) ، (في الحرم)
(الآستانة - بلدة الإسلام) وقد أثبت عادل بك في مؤلفاته هذه أن الإسلام قريب جدًّا
من النصرانية الحقيقة، وأن ما عليه العالم المسيحي الآن من التقاليد والعادات مفسدة
كبيرة ومدعاة إلى الشهوات البهيمية والفقر المدقع وغير ذلك من المصائب
والأمراض الاجتماعية.
ومن مشهوري الذين يجِدُّون في نشر الإسلام في أوربا غير عادل بك عمر
رشيد بك وقرينته مادام (يلينافولاو) في مدينة مونخين.
وقد أسست في فرنسا في هذه الأيام الأخيرة جمعية (الأخوة الإسلامية) ومن
أعضائها الآنسة الفرنسية (عزيزة روشة لرون) التي انتحلت الإسلام منذ أربعة
أشهر، وهي تخدم في هذه الجمعية من غير مللٍ ولا ضجر، وقد أنشأت هذه الآنسة
مجلة سمتها (النظر إلى الشرق) مبدؤها تفهيم الإسلام للفرنسيين ومعاونة المسلمين
علي ارتقائهم وحضارتهم.
وأما البلاد الإنكليزية فإن انتشار الإسلام فيها أظهر وكلمته أعلى، وتوجد فيها
الآن جمعيات عديدة أشهرها (الأُخوَّة الإسلامية) و (الهلال) و (اتحاد الإسلام)
أسسها المهاجرون إليها من مستملكات إنكلترة والذين انتحلوا الإسلام من الإنكليز
أنفسهم، وقد شيد باجتهاد هؤلاء جوامع فخمة في لندره وليفربول وغيرهما من
المدن الإنكليزية وأسست دواوين وملاجئ للأيتام وكتاتيب لتعليم الصبيان وأنشئت
عدة من الجرائد والمجلات.
وأعظم الجمعيات المتقدمة الذكر جمعية (اتحاد الإسلام) وهي تعد مركزًا
لجميع مسلمي إنكلترة، ومن أهم مقاصدها معاونة المسلمين في ترقية شؤونهم
الاقتصادية وتهذيب أخلاقهم وترقية العلوم والمعارف في العالم الإسلامي، وهي تتخذ
التدابير اللازمة لمنع المعلومات الكاذبة عن المسلمين والإسلام في بلاد الغرب.
ومن أشهر أعضائها العاملين، محمد بن عبد الله المأمون السهروردي المحامي
الشهير وهو هندي الأصل، وقد ألَّف هذا الرجل مع حداثة سِنِّه مؤلفات عديدة في
الإسلام باللغة الإنكليزية منها (أحاديث محمد) ، (أساس الحقوق الإسلامية) ،
(شكسبير وأدبيات الشرق) ، (لا إكراه في الإسلام) وغيرها، وهو يصدر
الآن مجلة تبحث في شؤون الإسلام والمسلمين.
ويمكنني أن أعد من الذين انتحلوا الإسلام وهم ينتسبون إلى الدوائر الكبيرة
هؤلاء: لورد استينلي عبد الهادي باركنيوسون من أعضاء مجلس أعيان إنكلترة،
مازوريا المحامي الشهير براونينغ، كاليت شالدراك، وغيرهم، ومن النساء: ما دام
ولباست من مشهورات عالمات الموسيقى، ومادام شاورنيت الرسامة، وميسس
بيبس، وغيرهن.
ومن أشهر هُؤليا النساء مدام " كويليام " التي انتحلت الإسلام هي وأبناؤها
وبناتها جميعًا، وقد عين أحد أبنائها وهو أحمد كويليام معتمدًا سياسيًا للدولة العَلِيّة
في ليفربول والآخر وهو عبد الله كويليام شيخ الإسلام في إنكلترة وهو ينشئ الآن
جريدة ومجلة أسبوعية، وله مؤلفات عديدة أشهرها (الدين الإسلامي) (التعصب
والمتعصبون) وغيرهما.
وهل كان يدور في خَلَد أحد أن الإسلام تخفق أعلامه في ربوع أمريكا؟ مع
أنه ليس فيها بأقل انتشار منه في أوربا وأن شيخ الإسلام في تلك البلاد محمد إسكندر
روفيل ووب، يدأب دائمًا في توسيع نطاق الإسلام هناك ويبذل نفسه ونفيسه في هذا
الشأن، وهو يرمي في خطبه ومحاضراته ومؤلفاته إلى غرض واحد وهو تفهيم
الإسلام للأمريكيين وتعريفهم سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، وجريدته المسماة
(ته مسلم وورلد) في غاية الرواج والانتشار.
وقد أخذ مسلمو نيويورك في تشييد جامع فخم جدًّا في الأيام الأخيرة وليس
أمر الإسلام في أوستراليا مما يستهان به فقد أخذ في تشييد جامع ثان في
مدينة (آديلانيد) .
وخلاصة القول: إن الأمر الذي كنا نعده من قبيل المستحيل من قبل صار من
أقرب الممكنات، والذين كانوا يزعمون أن الإسلام لا يصلح أن يوضع في ميدان
الحياة أخذوا يتمسكون به ويقدمون النفس والنفيس في الذَّوْد عنه ونشره بين الأنام
فهذه الأمور هي أكبر برهان وأعظم دليل على أن الإسلام أكبر مساعد للحياة وأن له
قابلية عظيمة للانتشار.
__________
(*) ترجمها بالعربية من جريدة (وقت) النافعة صنعة الله أفندي بيكبولاط من نوابغ الطلاب القازانيين بالأزهر وهي منقولة من جريدة (وبرلاندأوندماير) النمسية.(13/125)
الكاتب: معروف الرصافي
__________
المطلقة [*]
معروف الرصافي
بدت كالشمس يحضنها الغروب ... فتاة راع نضرتها الشحوب
منزهة عن الفحشاء خود ... من الخفرات آنسة عروب
نوار تستجد بها المعالي ... وتبلى دون عفتها العيوب
صفا ماء الشباب بوجنتيها ... فحامت حول رونقه القلوب
ولكن الشوائب أدركته ... فعاد وصفوه كدر مشوب
ذوى منها الجمال الغض وجدًا ... وكاد يجف ناعمه الرطيب
أصابت من شبيبتها الليالي ... ولم يدرك ذؤابتها المشيب
وقد خلب العقول لها جبين ... تلوح على أسِرّته النكوب
ألا إن الجمال إذا علاه ... نقاب الحزن منظره عجيب
حليلة طيب الأعراق زالت ... به عنها وعنه بها الكروب
رعى ورعت فلم تَرَ قَطَّ منه ... ولم يَرَ قط منها ما يريب
توثق حبل ودهما حضورًا ... ولم ينكث توثقه المغيب
فغاضب زوجها الخطاء يومًا ... بأمر للخلافة به نشوب
فأقسم بالطلاق لهم يمينًا ... وتلك أليّة خطأ وحوب
وطلقها على جهل ثلاثًا ... كذلك يجهل الرجل الغضوب
وأفتى بالطلاق طلاق بتٍّ ... ذوو فتيا تعصبهم عصيب
فبانت عنه لم تأت الدنايا ... ولم يعلق بها الذام المعيب
فظلت وهي باكية تنادي ... بصوت منه ترتجف القلوب
لماذا يا نجيب صرمت حبلي ... وهل أذنبت عندك يا نجيب
ومالك قد جفوت جفاء قالٍ ... وصرت إذا دعوتك لا تجيب
أبِنْ ذنبي إليّ فدتك نفسي ... فإني عنه بعدئذ أتوب
أما عاهدتني بالله أن لا ... يفرق بيننا إلا شَعوب
لئن فارقتني وصددت عني ... فقلبي لا يفارقه الوجيب
وما إدماء ترتع حول روض ... ويرتع خلفها رشأ ربيب
فما لفتت إليه الجيد حتى ... تخطفه بآزمتيه ذيب
فراحت من تحرقها عليه ... بداء مالها فيه طبيب
تشم الأرض تطلب منه ريحًا ... وتنحب والبغام هو النحيب
وتمزع في الفلاة لغير وجه ... وآونة لمصرعه تؤوب
بأجزع من فؤادي يوم قالوا ... برغم منك فارقك الحبيب
فأطرق رأسه خجلاً وأغضى ... وقال ودمع عينيه سكوب
نجيبة أقصري عني فإني ... كفاني من لظى الندم اللهيب
وما والله هجرك باختياري ... ولكن هكذا جرت الخطوب
فليس يزول حبك من فؤادي ... وليس العيش دونك لي يطيب
ولا أسلو هواك وكيف أسلو ... هوى كالروح فيّ له دبيب
سلي عني الكواكب وهْي تسري ... بجنح الليل تطلع أو تغيب
فكم غالبتها بهواك سهدا ... ونجم القطب مطَّلع رقيب
خذي من نور (رنتجن) شعاعًا ... به للعين تنكشف الغيوب
وألقيه بصدري وأنظريني ... تري قلبي عليك به ندوب
وما المكبول القي في خضمٍّ ... به الأمواج تصعد أو تصوب
فراح يغسطه التيار غطا ... إلى أن تم فيه له الرسوب
بأهلك يا ابنة الأمجاد مني ... إذا أنا لم يعد بك لي نصيب
ألا قل في الطلاق لموقعيه ... بما في الشرع ليس له وجوب
غلوتم في ديانتكم غلوًا ... يضيق ببعضه الشرع الرحيب
أراد الله تيسيرًا وأنتم ... من التعسير عندكم ضروب
وقد حلت بأمتكم كروب ... لكم فيهن لا لهم الذنوب
وهي حبل الزواج ورق حتى ... يكاد إذا نفخت له يذوب
كخيط من لعاب الشمس أدلت ... به في الجو هاجرة حلوب
يمزقه من الأفواه نفث ... ويقطعه من النسم الهبوب
فدى (ابن القيم) الفقهاء كم قد ... دعاهم للصواب فلم يجيبوا
ففي (إعلامه) للناس رشد ... ومزدجر لمن هو مستريب
نحا فيما أتاه طريق علم ... نحاها شيخه الحَبْر الأريب
وبيّن حكم دين الله لكن ... من الغالين لم تَعِهِ القلوب
لعلَّ الله يحدث بعدُ أمرًا ... لنا فيخيب منهم مَن يخيب
__________
(*) قصيدة للشيخ معروف الرصافي الشاعر العراقي الشهير ينتصر فيها لمذهب الإمام ابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان) .(13/128)
الكاتب: حسين وصفي رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(غرائب الاغتراب، ونزهة الألباب)
تأليف السيد محمود أفندي الآلوسي الحسيني، صفحاته 451 طبع بمطبعة
الشابندر ببغداد سنة 1327.
لا نرى حاجة لتعريف قراء المنار بالمؤلِّف الجليل، وهو صاحب تفسير
(روح المعاني) الشهير، الذي يندر من لم يستفد منه من ممارسي العلوم الإسلامية،
وللمؤلف كثير من المصنفات كانت ظلمات الاستبداد الحالكة مانعة من انبلاج نورها،
حتى إذا أشرقت شمس الدستور عقد العزم آل الآلوسي الفضلاء على نشر تلك
الآثار ومنها كتاب (غرائب الاغتراب) .
الكتاب هو مجموع محاضرات أدبية، وفقرات وصفية، ومقالات في التراجم
ومناظرات في علم الكلام والفقه والتصوف، كتبها المؤلف فيما رأى ومن رأى في
رحلته من بغداد إلى القسطنطينية.
تصفحنا صفحات من الكتاب فتمثلت لنا روح المؤلف نقية طيبة كأرواح
أسلافنا الأولين: نزَّاعةً إلى الحق، وثَّابةً على الباطل، لا تطبي أنصار ذاك
بزخرف القول، ولا تداهن أرباب هذا بقول الزور، أما أسلوب الكتاب أو الكاتب
فقد طبع على غرار أهل القرون الوسطى، سجع تحتف به الصنعة البديعية، ولكن
يخال قارئه أنه لا تعمّل فيه ولا تكلف، وقد يغلو من يستنكر هذا النمط في الإنشاء
فإن لكل عصر أسلوبًا، وإنما الكلم الطيب البليغ هو ما أدَّى المراد بدون تعسف ولا
تكلف، ولا ضير على قائله بعد هذا سواء أكان مترسّلاً أم جانجًا للسجع.
قلت هذا لأنني أرى أكثر أدباء عصرنا يستنكرون السجع كثيرًا، حتى لا يبعد
أن تكون أذواقهم صارت تمجه في مثل كلام إمام البلاغة جدنا المرتضى عليه السلام
وهذا من غرائب انتكاس الطباع ومرض الأذواق.
***
(الفَرْق بين الفِرَق)
تأليف الإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي من أهل
القرن الخامس، وقد وقف على طبعه وضبطه وتعليق حواشيه محمد بك بدر
المتخرج في جامعة (بُن. ألمانيا) صفحاته 354 طبع بمطبعة المعارف بمصر
ويباع بها وبمكتبة المنار بعشرين قرشًا صحيحًا.
لقد سررنا سرورًا عظيمًا بنشر هذا الكتاب، لا لأن الأمة محتاجة إلى الاطلاع
على آثار أسلافنا العاملين بل لأن واحدًا من سراة أبنائها أهل الثراء اختار أن تكون
حياته حافلة بالعلم والعمل، هازئًا بسير أترابه المنقطعين إلى اللهو والترف، فبعد أن
ابتعد عن أسرته وخلطائه أعوامًا قضاها ينتاب فيه دور العلوم بأوربا عاد وهو
صحيح العزيمة على أن يعمل بما علم و (ومن عمل بما علم ورثه الله علم ما لم
يعلم) .
وغرض المؤلف من كتابه بيان مذاهب الفرق الثلاث والسبعين التي ورد
ذكرها في الحديث، وقد أفاض في ذلك كثيرًا فذكر فِرَقًا مزقتها عوادي الأيام، ولولا
ذكر مثل المؤلف لها لَمَا عرف أهل هذا العصر أنها وجدت في هذه الدنيا، لأنها لم
تترك أثارة من علم ولا نبأة من حالها.
والكتاب مفيد في بابه، بليغ في أسلوبه، قوي الحجة، وطبعه في غاية
الجودة، ومن محسناته فهرسان للأعلام والكنى وضعهما له ناشر الكتاب، ورتبهما
على حروف المعجم، وقد كتب له مقدمة متينة التركيب بَلِيغَةِ الأسلوب فنثني عليه
أطيب الثناء.
***
(إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان)
تأليف الإمام شيخ الإسلام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم
الجوزية، وقد عني بتصحيحه وتخريج أحاديثه وتعليق حواشيه الشيخ محمد جمال
الدين القاسمي الدمشقي.
صفحاته 48طبع بمطبعة المنار بمصر ويباع بمكتبة المنار بثلاثة قروش
صحيحة.
الطلاق من ضرورات الاجتماع التي لا بدًّ منها، ولا مندوحة عنها، وقد
اعترف كثيرون من عقلاء الفرنجة والأمريكان بذلك، بل إن بلاد أمريكا أصبح
الطلاق فيها أكثر شيوعًا منه في سائر البلاد الإسلامية، والسبب في ذلك تفريطهم
وإفراطهم، فقد أحكموا في الأول عقد النكاح إحكامًا، صيَّروا به حلها جناية وأثامًا
وقد بالغوا في الثاني في حلها حتى صارت أَوْهَى مِن بيت العنكبوت.
أما المسلمون فيرون الطلاق رخصة من الرخص التي يصار إليها عند
الاضطرار كما أرشدهم إلى ذلك دينهم، وهكذا يكون شأن الأمة الوسط: (لا تفريط
ولا إفراط) وهذه هي الخطة التي تحوم حولها القلوب، وتهفو إليها النفوس، لأن
تحريم الطلاق تحريمًا قطعيًا من الحرج الذي لا يطاق ولا تستقيم معه حال الاجتماع
وإباحته إباحة عامة من دون شرط أو قيد من العبث المخل المفسد لنظام الأسر
والبيوتات.
ولقد يظن كثيرون من الفرنجة والمتفرنجين الذين ينظرون إلى الإسلام بعيون
حَول أن الطلاق يقع بالكلمة تقذفها بادرة غضب فتصبح عقد النكاح المحكمة مفككة
محلولة، وتمسي الزوج التي لم تجن ذنبًا أجنبية غير حليلة، ويرون أن ذلك ليس
مما يلتئم مع الحكمة، أو يتفق مع المصلحة، وقد يكونون معذورين في هذا القول
الذي يتفق مع أقوال كثير من الفقهاء، ولم أنهم أطلعوا على الكتاب الذي نقرظه
اليوم لآبوا معترفين للإسلام بأنه دين المدنية والفضيلة والعمران.
استهل الإمام المؤلف كتابه بالحديث الشريف (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق)
ثم بيَّن معني الإغلاق أو الغلاق من كلام الأئمة، وأنَّ معناه الغضب أو من معانية ثم
طفق المؤلف يدلي بالحجة تلو الحجة ويأتي بالدليل بعد الدليل من الكتاب والسنة
والمأثور عن أئمة السلف الناطقة كلها بعدم وقوع طلاق الغضبان، وأفاض المؤلف
في ذلك أيما إفاضة شأنه في كل الموضوعات التي كتب فيها، ونصب ميزان
التعارض والترجيح، فأظهر أثابه الله الرغوة من اللبن الصريح، قال في استدلا له
من السنة على أن طلاق الغضبان لا يقع: (فأما دلالة السنة فمن وجوه [1] أحدها
حديث عائشة المتقدم وهو قوله:
(لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) وقد اخْتُلِفَ في الإغلاق؛ فقال أهل الحجاز
هو الإكراه، وقال أهل العراق هو الغضب، وقالت طائفة هو جمع الثلاث بكلمة
واحدة، حكى الأقوال الثلاثة صاحب كتاب (مطالع الأنوار) ، وكأن الذي فسره
بجمع الثلاث أخذه من التغليق وهو أن المطلق غلَّق طلاقه كما يغلق صاحب
الدين ما عليه، وهو من غلَّق الباب فكأنه أغلق على نفسه باب الرحمة بجمعه
الثلاث فلم يجعل له الشارع ذلك ولم يملكه إياه رحمةً به، إنما ملكه طلاقًا يملك فيه
الرجعة بعد الدخول، وحجر عليه في وقته ووضعه وقدّره فلم يملكه إياه في وقت
الحيض ولا في وقت طهر جامعها فيه، ولم يملكه أن يبينها بغير عوض بعد
الدخول فيكون قد غير صفة الكلام وهذا عند الجمهور، فلو قال لها: أنتِ طالق
طلقة لا رجعة لي فيها أو طلقة بائنة لغا ذلك وثبتت له الرجعة، وكذلك لم يملكه
جمع الثلاث في مرة واحدة بل حجر عليه في هذا وهذا وكان ذلك من حجة من لم
يوقع الطلاق المحرم ولا الثلاث بكلمة واحدة [2] لأنه طلاق محجور على صاحبه
شرعًا وحجر الشارع يمنع نفوذ التصرف وصحته كما يمنع نفوذ التصرف في العقود
المالية فهذه حجة من أكثر من ثلاثين حجة ذكروها على كلام وقوع الطلاق المحجور
على المطلِّق فيه.
والمقصود هاهنا أن هؤلاء فسروا الإغلاق بجمع الثلاث لكونه أغلق على نفسه
باب الرحمة الذي لم يغلقه الله عليه إلا في المرة الثالثة (وأما الآخرون) فقالوا:
الإغلاق مأخوذ من إغلاق الباب وهو إرتاجه وإطباقه فالأمر المغلق ضد الأمر
المنفرج والذي أغلق عليه الأمر ضد الذي فرج له وفتح عليه فالمكره [3] الذي أكره
على أمر إنْ لم يفعله وإلا حصل له من الضر ما أكره عليه - قد أغلق عليه باب
القصد والإرادة لما أكره عيه فالإغلاق في حقه بمعنى إغلاق أبواب القصد والإرادة له
فلم يكن قبله منفتحًا لإرادة القول والفعل الذي أكره عليه ولا لاختيارهما فليس مطلق [4]
الإرادة والاختيار بحيث إن شاء طلّق وإن شاء لم يطلق وإن شاء تكلم وإن شاء لم
يتكلم بل أغلق عليه باب الإرادة إلا للذي قد أكره عليه ولهذا قال النبي صلى الله
عليه وسلم (لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ولكن ليعزم
المسألة فإن الله لا مُكْره له) [5] فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لا يفعل إلا
إذا شاء بخلاف المكره الذي يفعل ما لا يشاؤه فإنه لا يقال يفعل ما يشاء إلا إذا كان
مطلق الدواعي وهو المختار، وأما من ألزم بفعل معين فلا، ولهذا يقال: المكره
غير مختار، ويجعل قسيم المختار لا قسمًا منه، ومَن سمَّاه مختارًا فإنه يعني أن له
إرادة واختيارًا بالقصد الثاني فإنه يريد الخلاص من الشر ولا خلاص له إلا بفعل ما
أكره عليه فصار مريدًا له بالقصد الثاني لا بالقصد الأول.
والغضبان الذي يمنعه الغضب من معرفة ما يقول وقصده فهذا من أعظم
الإغلاق وهو في هذا الحال بمنزلة المُبَرْسَم والمجنون والسكران بل أسوء حالاً من
السكران لأن السكران لا يقتل نفسه ولا يلقي ولده من علوٍّ والغضبان يفعل ذلك،
وهذا لا يتوجه فيه نزاع أنه لا يقع طلاقه والحديث يتناول هذا القسم قطعًا.
وحينئذ فنقول: الغضب ثلاثة أقسام [6] :
أحدها: أن يحصل للإنسان مبادئه وأوائله بحيث لا يتغير عليه عقله ولا ذهنه
ويعلم ما يقول ويقصده، فهذا لا إشكال في وقوع طلاقه وعتقه وصحة عقوده ولا
سيما إذا وقع منه ذلك بعد تردد فكره.
القسم الثاني: أن يبلغ به الغضب نهايته بحيث ينغلق عليه باب العلم والإرادة
فلا يعلم ما يقول ولا يريده فهذا يتوجه خلاف في عدم وقوع طلاقه كما تقدم.
والغضب غول العقل؛ فإذا اغتال الغضب عقله حتى لم يعلم ما يقول فلا ريب
أنه لا ينفذ شيء من أقواله في هذه الحالة، فإن أقوال المكلف إنما تنفذ مع علم القائل
بصدورها منه ومعناها وإرادته للتكلم بها.
(فالأول) يخرج النائم والمجنون والمبرسم والسكران وهذا الغضبان.
(والثاني) يخرج من تكلم باللفظ وهو لا يعلم معناه ألبتة فإنه لا يلزم مقتضاه.
(والثالث) يخرج من تكلم به مكرهًا وإنْ كان عالمًا بمعناه.
(القسم الثالث) من يتوسط في الغضبان بين المرتبتين فتعدى مبادئه ولم ينته
إلى آخره بحيث صار كالمجنون فهذا موضع الخلاف ومحل النظر والأدلة الشرعية تدل على عدم نفوذ طلاقه وعتقه وعقوده التي يعتبر فيها الاختيار والرضا، وهو
فرع من الإغلاق كما فسره به الأئمة، وقد ذكرنا دلالة الكتاب على ذلك من وجوه.
وأما دلالة السنة فمن وجوه، أحدها: حديث عائشة وقد تقدم ذكر وجه دلالته.
الثاني: ما رواه أحمد والحاكم في مستدركه من حديث عمران بن حصين قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين) [7] ، وهو
حديث صحيح وله طرق، وجه الاستدلال به أنه صلى الله عيه وسلم ألغى وجوب
الوفاء بالنذر إذا كان في حال الغضب من أن الله سبحانه وتعالى أثنى على الموفين
بالنذور وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناذر لطاعة الله بالوفاء بنذره،
وقال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصِه) [8] ، فإذا كان
النذر الذي أثنى الله على مَن أوفى به وأمر رسوله بالوفاء بما كان منه طاعة قد
أثرَّ الغضب في انعقاده لكون الغضبان لم يقصده، وإنما حمله على بيانه الغضب
فالطلاق بطريق الأَوْلى والأحرى (فإن قيل) فكيف رتَّب عليه كفارة اليمين.
(قيل) تَرَتُّبُ الكفارة عليه لا يدل على ترتب موجبه ومقتضاه عليه والكفارة
لا تستلزم التكليف ولهذا تجب في مال الصبي والمجنون إذا قتلا صيدًا أوغيره وتجب
على قاتل الصيد ناسيًا أو مخطئًا، وتجب على من وطئ في نهار رمضان ناسيًا
عند الأكثرين فلا يلزم من ترتب الكفارة اعتبار كلام الغضبان، وهذا هو الذي
يسميه الشافعي نذر الغلق، ومنصوصه على عدم وجوب الوفاء به إذا حلف به بل
يخير بينه وبين الكفارة وحكي له قول آخر بتعين الكفارة عينًا، وقول آخر بتعين
الوفاء به إذا حنث، كما يلزمه الطلاق والعتاق؛ وهذا قول مالك وأشهر الروايتين عن
أبي حنيفة.
الثالث: ما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا يقضي
القاضي بين اثنين وهو غضبان [9] ) ولولا أن الغضب يؤثر في قصده وعلمه لم ينهه
عن الحكم حال الغضب، وقد اختلف الفقهاء في صحة حكم الحاكم في حال غضبه
في ثلاثة أقوال سنذكرها بعدُ إن شاء الله.
والكتاب كله على هذا النمط من الإيضاح والتبيان، وقوة الدليل والبرهان،
وفي آخره قصيدة عنوانها (المطلقة) للشيخ معروف الرصافي الشاعر العراقي
المشهور قالها انتصار لمذهب الإمام، وقد نشرناها في غير هذا المكان من هذا
الجزء.
***
(فهرس مقتنيات دار الآثار العربية)
ولمعة في تاريخ فن المعمار وسائر الفنون الصناعية بمصر
تأليف مكس هرتس بك ناظر دار الآثار العربية، وترجمه بالعربية علي بك
بهجت وكيل دار الآثار العربية، صفحاته 331 بالقَطْع الصغير ورسومه 63، طبع
بالمطبعة الأميرية بمصر.
دار الآثار العربية هي القسم الأدنى من البناء المشمخر في باب الخلق والقسم
الأعلى خاص بدار الكتب، وهاتان الداران أنشئتا حديثًا في مصر أي منذ ثلاثين سنة
ونيّف، ولا نريد بهذا البناء الجديد الذي نقلت إليه الآثار من عهد غير بعيد؛ بل
نريد المحتويات والآثار، ويسوءنا أن دار الآثار العربية لم تنشأ إلا بعد أن عبثت
أيدي الأجانب بأكثر تلك الآثار، ونقلوها إلى بلادهم من هذه الديار، ولولا أن
المهندس سليمان المشهور رغب إلى الخديو إسماعيل باشا بجمعها وإنشاء دار لها
وتحقيق هذا لرغبته لضاعت البقية الباقية من الآثار العربية التي نراها اليوم فالفضل
في ذلك للطالب وللمجيب.
وقد أهدي إلينا (فهرس مقتنيات دار الآثار العربية) فألفيناه مرتبًا جميلاً,
مزينًا بالرسوم الكثيرة وافتتحه المؤلف بكلام عن إنشاء دار الآثار حقيرة وارتقائها في
زمن قصير، ثم تفاءل بما سيكون لها من الشأن العظيم، ثم أتى بخلاصة تاريخية
للدولة الإسلامية في مصر وما كانت عليه الصناعات في أيامها وذكر أن فن المعمار
كان له المقام الأول في تلك الأزمان، قال (لأن البنايات الفخيمة التي تروقنا اليوم
فضلاً عن أنها تحدثنا بأزمان انقضت هي من آثارها تشهد أن العمارة كانت الفن
الأجل عند العرب وأنها بلغت لديهم ما لم تبلغه عند الأمم الغربية) ويلي ذلك الكلام
عن الآثار الموجودة وبيان أنواعها وتأريخها وغير ذلك من الفوائد فنثني على
المؤلف والمترجم ثناء كثيرًا.
***
(لُجَّة النور)
خَفَتَ صوت الموسوس المغرور أحمد ميرزا غلام الذي سمى نفسه بالمسيح
حينًا من الزمان قلنا فيه لعله ثاب إلى رشده، أو رجع إلى عقله فعلم أن السخافات
ليست مما يدوم الخداع فيها، ثم حملت إلينا الأنباء أنه قضى نحبه، ولقي ربه، فقلنا
لقد استراح وأراح، وما كنا نخال أنه استخلف مِن بعده واحدًا من ضعفاء العقول
الذين استهواهم حتي حمل إلينا بريد الهند كتابًا هذه طُرّته (لجة النور - إلى
علماء العرب والشام والبغداد (؟) والعراق والخراسان (؟) لتجري أنهار
الإيقان والعرفان في زروع الإيمان! !) وهذا الكتاب الذي ينشره خليفة ذلك
الموسوس المغرور من وحي مستخلفه يعرف القارئ ما فيه من الخلط والخطأ
والعسطلة من طرته التي في أوله وقد نقلناها بنصها، وفي الكتاب كثير من
النفاق والدهان للإنكليز شأن ذلك المسيح الكذوب في كل كتبه، وقد كان يفعل هذا
حتى لا يصدّه الإنكليز عن دعوته، ولا يحملوه عن نبذ الاحتفاظ بسخافته، فما هذه
النَّبْوَة التي يحتف بها النفاق والدهان، وتعلو بالخلط والهذيان! .
***
(إمام غزالي)
رسالة باللغة التترية ذات 96 صفحة كتبها رضاء الدين أفندي بن فخر الدين
من جلة علماء روسيا النافعين، وهي ترجمة حافلة للإمام الغزالي رحمه الله تعالى،
وقد أثبت على صفحتها الأولى هذه الفقرة الحكيمة للإمام الغزالي (أستحقر مَن لا
يُحسد ولا يُقذف، وأستصغر مَن بالكفر أو الضلال لا يُعرف، فأي داع أكمل وأعقل
من سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وقد قالوا إنه مجنون من المجانين، وأي
كلام أجلّ وأصدق من كلام رب العالمين وقد قالوا إنه أساطير الأولين، وإياك أن
تشتغل بخصامهم، وتطمع في إفحامهم، فتطمع في غير مطمع، وتصوت في غير
مسمع) .
والرسالة تباع بمكتبة الشرق بأورنبورغ
***
(الإسلام ومستر سكوت)
رسالة صفحتها 77 بالقطع الصغير، تأليف الشيخ علي أحمد الجرجاوي
طبعها مؤلفها بمصر وجعل ثمنها ثلاثة قروش، وقد كتبها ردًا على مزاعم افتحارية
للمستر سكوت في الدين الإسلامي في كتاب له كان يقرأ دروسًا في مدارس الحكومة
المصرية، ثم قررت نظارة المعارف منع تدريسه إذ نبهتها الصحف إلى ذلك، وليس
بعجيب أن يلزم المسلمون بدراسة كتاب معظمه مطاعن في دينهم مادام المستر
دانلوب راسخ القدم في نظارة المعارف، بل العجيب كيف تمكن سعد باشا زغلول
رجل المقدرة والعمل من القيام بالإصلاحات العظيمة في المعارف ومستر دانلوب
مسيطر على كل ما يراد عمله فيها.
***
(حياة اللغة العربية)
مسامرة للشيخ محمد الخضر بن الحسين من علماء جامع الزيتونة العاملين
النافعين الذي يرى له القراء في (ص120) من هذا الجزء قطعة من مسامرته
(الحرية في الإسلام) وقد قسمّ مسامرته هذه إلى أقسام: منها (تأثير اللغة في الهيئة
الاجتماعية، أطوار اللغة العربية، تعدد أساليبها، طريق اختصارها، اتساع
وضعها) إلى غير ذلك، وهي في ست وخمسين صفحة مطبوعة على ورق جيد،
ويسرنا كثيرًا أن نرى من إخواننا علماء تونس هذه النهضة العالية فهي خير ما
يبعث النفوس على التفكير، ويستفزها على العمل، ويسؤنا أن لا يضارعهم في ذلك
الأزهريون، وسنشر في المنار فصلاً أو فصولاً منها.
***
(مفاسد شهادة الزور)
كراسة صغيرة الحجم، كبيرة الفائدة والنفع، جمع فيها كاتبها صديقنا الشيخ
أحمد عمر المحمصاني الآيات والأحاديث الناطقة بقبح شهادة الزور وكونها من أكبر
الكبائر ونقل أقوال أئمة الصحابة وجمهرة من الفقهاء فيها، ثم عقد فصلاً لبيان
(أضرار شهادة الزور في الشاهد نفسه وفي الهيئة الاجتماعية) وكل ذلك
صريح في استنكارها واستكبارها، ولو نقلتها الجرائد العربية لأفادت أحسن فائدة،
وأثرت في كثير من القلوب القاسية.
***
(مفردات إنكليزية وعربية)
أهدانا عبده أفندي عيد ناظر مدرسة الاتحاد الوطني ببولاق نسخة من هذه
الرسالة ورسالة أخرى في التعريفات الإنكليزية وكلتاهما تأليف وهبه أفندي عبد الله
المدرس بمدرة الاتحاد الوطني وأهدانا مصورًا (خريطة) للقطر المصري من رسم
وهبه أفندي، والرسالتان جيدتا الطبع، سهلتا المنال والوضع، والمصور دقيق
الرسم حسن التلوين فنثني على المهدي والمؤلف.
***
(مملكة جهنم)
الكونت لاون تولستوي من مشهوري فلاسفة هذا العصر الذين كتبوا وأفادوا،
ويمتاز تولستوي على كثير من الفلاسفة بكونه عمليًّا لا نظريًّا فقط، وروح فلسفة
تولستوي هي الرجوع بالناس إلى سذاجة الفطرة، وترغيبهم بالهدوء والأنى بل
أسرف في ذلك حتي حثّ على احتمال الإهانة والاستخذاء للشر! ومبادئ الرجل
قريبة من بمبادئ بعض متصوفة الإسلام، وقد ترجم له في هذه الآونة سليم أفندي
قبعين الضليع في اللغة الروسية والشهير بنقل آثاره إلى العربية قصة اسمها (مملكة
جهنم) وجعل ثمنه أربعة قروش صحيحة ويا حبذا لو أتيحت لنا مطالعتها لنكتب
رأينا فيها.
***
(الجامعة)
عاد فرح أفندي أنطون من أمريكا إلى هذه الديار وأصدر مجلته منذ ثلاثة
أشهر، وقد جاءنا الجزء الأول والثاني من سنتها السابعة فألفيناهما حافلين بالمقالات
النافعة، والبحث المقيد، مطبوعين طبعًا نظيفًا على ورق جيد، وعدد صفحات كل
جزء منها 65 وقيمة اشتراكها 60 قرشًا صحيحًا في مصر، فنرحب بالجامعة في
حياتها الجديدة.
***
(الهداية)
أصدر الشيخ عبد العزيز جاويش مجلة بهذا الاسم وجعل شعارها هذه الفقرة
(مجلة دينية علمية أدبية اجتماعية) ، وقد قال بعد أن ذكر الموضوعات التي تبحث
فيها المجلة) هذه هي أبواب الهداية وقد يستغرق ما نعده لعدة أبواب ما كان معدا من
الفراغ لباب أو أكثر، على أننا سَنَجِدُّ في ألا نخلي جزءًا من باب منها وسنصدرها
شهرية في هذه السنة (وقد تصفحنا الجزاءين اللذين صدرًا منها فإذا هما حاويان
لأكثر الموضوعات الموعود بها فنرجو للهداية انتشارًا وشيوعًا، وصفحات الجزء
من أجزائها 72 وقيمة اشتراكها ستون قرشًا صحيحًا في مصر.
***
(النبراس، المنتقد، العرفان)
حمل إلينا سورية هذه المجلات الثلاث فإذ بهن قد خطون خطوات واسعة
في الارتفاء بعد دخولهن في العام الثاني من حياتهن.
فموضوعات نافعة، وأدبيات رائعة، وطبع جميل، وورق صقيل، فنرحب
بهنَّ ونرجو لهنَّ فلاحًا ونجاحًا.
***
(الكائنات)
مجلة ذات 16 صفحة بالقطع الكبير لمنشها (الارشمندريت باسيليوس)
وموضوع المجلة ديني تأريخي وتحتوي على رسوم لكثير من القسيسين وقيمة
اشتراكها 80 قرشًا صحيحًا في مصر.
***
(الفرائد)
(مجلة عملية أدبية اجتماعية روائية) يصدرها في سان باولو (البرازيل)
إبراهيم أفندي شحاده فرح، تصفحنا الجزء الأول منها فإذا فيه مقالات مختصر مفيدة
فنرحب بهذه المجلة ونرجو لها حياة طيبة.
***
(الأستاذ)
مجلة تصدرها في بونس إيرس (الأرجنتين) يوسف أفندي خوري، جاءنا
الجزء الأول منها يحتوي على فصول عمرانية ونبذ سياسية فسررنا سرورًا عظيمًا
بهذه المجلة كما سردنا بمجلة الفرائد، وصدور المجلات في الأمة سواء في بلادنا أو
في دار هجرتها من أكبر دلائل حياتها العلمية، فنثني أطيب الثناء على إخواننا
المهاجرين الذين يتوفرون على إحياء لغتهم الشريفة في تلك الأصقاع النائية.
***
(العلم)
جريدة يومية سياسية مديرها إسماعيل بك حافظ وقد جعلها رئيس الحزب
الوطني لسان حال حزبه بعد أن تنصل من جريدة اللواء ونفض يده منها. صدر منها
إلى وقت كتابة هذه السطور بضعة أعداد قرأناها فإذا هي على نمط الجرائد الأخرى
إلا أن لهجتها أشد، وعسى أنْ تكون أكثر توفيقًا للخدمة العامة من اللواء فيما مضى،
وقيمة اشتراكها 180 قرشًا صحيحًا في القطر المصري.
***
(المناظر)
عاد صاحب هذه الجريدة العاقلة صديقنا نعوم أفندي لبكي من البرازيل إلى
بلاده سورية وأصدر في بيروت جريدته التي كان يصدرها هنالك، أصدرها بثماني
صفحات مملوءة بالفوائد ممتازة بالبحث النافع، والمناظر في نظرنا من أمثل
الجرائد إن لم يكن أمثلها، يشارك غيره في كل ما تقوم به الجرائد، ويمتاز
بصراحته ورويته وإنصافه، وبدل اشتراكه في الخارج عشرون فرنكًا، فنحث كل
شغوف بقراءة الجرائد على الاشتراك فيه.
***
(العرب)
جريدة عربية أسبوعية أصدرها في القسطنطينية محمد عبيد الله أفندي مبعوث
أزمير، قرأنا مقدمتها فألفيناها محكمة الإنشاء، غالية الإطراء، وقد قال صاحبها إنه
أنشأها لخدمة العرب! ورأيناه يقول فيها: (فنحن إذا أردنا أن نعين حقوق العرب
بالنظر إلى هذه الحقائق الراهنة قلنا إن حق العرب هو إيقاظ المسلمين وإرشادهم) ،
ويقول معرضًا فيمن يطالبون بحقوقهم السياسية من العرب في بلاد الدولة هذا وإني
لأشك في عربية بعض المدعين الذين يظنون حقوق العرب عبارة عن وجود عضو
منهم أو عضوين في الوزارة العثمانية وتوجيه بعض المناصب إلى رجال منهم) ،
فكأن عبد الله أفندي يرى أنه ليس للعرب حقوق سياسية بتة! بل إن حقوقهم لا
تتعدى أن يكون منهم واعظون ومرشدون! فلتحمد العرب هذا الخادم الناصح فقد
أشرع لهم طريق النجاح والفلاح! وليترنموا بقوله (إن العرب هم الحاكمون وإن
الترك هم الخادمون) فإنه من لحن القول ولذيذ الأحلام.
__________
(1) ذكر من وجوه دلالة السنة ثلاثة وبقي رابع وهو (الأعمال بالنية) الذي استدل به البخاري على عدم وقوع طلاق الغضبان كما تقدم نقل عبارته وكلام ابن حجر في شرحها وقد أشار إليه في الوجه التاسع الآتي (ووجه خامس) وهو حديث ابن عباس مرفوعًا (لا يمين في غضب) أخرجه ابن جرير والدارقطني كما حكيناه قبل (ووجه سادس) وهو حديث (كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله) رواه الترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا وقال غريب ضعيف، والمغلوب على عقله وإن فسر بالسكران إلا أنه يتناول الغضبان أيضًا بل هو أولى كما ستراه للمصنف موضحًا في الوجه الثاني من ترجمة (فصل وأما آثار الصحابة) .
(2) يرى الواقف على كتاب زاد المعاد، وإغاثة اللهفان الكبرى، وأعلام الموقعين أدلة ذلك وحججها سابغة الذيل واسعة الأطراف فمن أراد التوسع فعليه بمراجعتها وكلها للإمام المؤلف مطبوعة بحمده تعالى متداولة.
(3) مبتدأ خبره قد أغلق عليه إلخ.
(4) خبر ليس.
(5) رواه البخاري عن أبي هريرة.
(6) بهذا التقسيم يرد على ابن المرابط حيث قال: الإغلاق حرج النفس وليس كل من وقع له فارق عقله ولو جاز عدم وقوع طلاق الغضبان لكان لكل أحد أن يقول فيما جناه كنت غضبانًا، نقله الحافظ في فتح الباري ووجه الرد أن الغضب ليس على إطلاقه كما فهمه والمرء يدين في ذلك كما حققه المؤلف في الوجه الحادي عشر والرابع عشر ومواضع أخر.
(7) رواه النَّسائي عن عمران رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة بلفظ: (لا نذر في معصية) إلخ.
(8) رواه الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن عن عائشة.
(9) قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير متفق عليه من حديث أبي بكرة.(13/131)
الكاتب: حسين وصفي رضا
__________
رحلة صاحب المنار إلى القسطنطينية
حسين وصفي رضا
(2)
ذكرت في النبذة الأولى التي كتبتها لتنشر في (ج 11 م 12) فنشرت في
(ج 12 ص 956) أنني رحلت إلى عاصمة الدولة للسعي في أمرين عظيمين:
إنشاء معهد علمي إسلامي، وحسن التفاهم بين عنصرَي الدولة الأكبرين العرب
والترك، وأشرت إلى ما صادفته من الارتياح للعملين كليهما عند وزارة
حسين حلمي باشا ولكن استقالت تلك الوزارة قبل أن يتم على يدها ما وعدتني
به من المساعدة على إنشاء المعهد العلمي الإسلامي والعناية باللغة العربية وأهلها.
وكنت أظن أن وزارة إبراهيم حقي باشا تنجز ما كانت عزمت عليه وزارة حسين
حلمي باشا لوجود بعض أعضاء الوزارة الأولى في الثانية فكنت أراجع بعض
هؤلاء الأعضاء فأسمع كلامًا حسنًا ووعودًا جميلة وعناية شخصية بالدعوة إلى
الطعام والسمر كما لقيت من الصدر الأول، ولكن طال الأمر على ذلك فرأيت
أن أرفع المساعدة على إنشاء المعهد الإسلامي لتخريج المرشدين إلى الصدر
الأعظم رئيس هذه الوزارة ففعلت ووجدت أن عنايته بالمشروع ليست دون عناية
سلفه بل أعظم، نعم، قال لي: إن ما كان من السعي على عهد الوزارة السابقة قد
ذهب بذهابها وإنه ينظر في ذلك من جديد ولكنه ما أرجأ ولا سوّف بعد ذلك بل
أحالني على شيخ الإسلام وناظر المعارف ووعدني وعدًا جازمًا بتنفيذ ما يتفقان معي
عليه وكنت قد مهدت السبيل إلى ذلك أمام هذين الركنين العظيمين لعلوم الدين
والدنيا في الدولة فلما لقيتهما بعد أن عهد إليّ وإليهما الصدر الأعظم بالمذاكرة
شرحت المشروع لكل منهما فصادفت منهما منتهى الإصغاء والارتياح.
كنت ذكرت المشروع لمولانا شيخ الإسلام بالإجمال فاهتم به وقال لا بد لنا من
تخصيص ليلة للبحث التفصيلي فيه ثم إنه دعاني إلى الطعام والسمر عنده قبل أن
يعهد إليه الصدر الأعظم بالبحث معي في المشروع، ثم تكلمنا في ذلك واتفق أن
قابلت الصدر يوم موعد دعوة الشيخ فأخبرني بما عهد إليه وذكر ذلك بلفظ الرجاء
وكان الشيخ قد دعا في تلك الليلة خالص أفندي وكيل الدرس في المشيخة ليشاركنا
في البحث، والمراد بوكيل الدرس مدير المدارس الدينية الذي ينظر في شئونها
بالوكالة عن شيخ الإسلام الذي هو الرئيس العام لهذا القسم ولغيره من أقسام باب
المشيخة، وقد كان سبق لي الاجتماع بوكيل الدرس أكثر من مرة فرأيته في مقدمة
علماء الترك علمًا وفضلا وهمة ومروءة وسعة اطلاع في الآداب العربية، بل لم أر
في علماء العاصمة مثله في هذا ولما لقيته للمرة الأولى قال لي بعد التحية والثناء في
حضرته الغاصة بالعلماء: لا نقول في مناركم كما قال أبو الطيب المتنبي:
على لاَحِب لا يهتدي بمناره ...
بل نقول إن مناركم يهتدي به العالَم الإسلامي كله، وقد ذكرت الآن ما تفضل
به مولانا شيخ الإسلام عندما لقيته أول مرة في المنار، قال: رفع الله منار العلم
والدين على يده ولسانه، إنني أتمنى لو كان كل أحد يعرف العربية ليقرأ المنار،
ولسان الشيخ حفظه الله قد صقل اللغة العربية بإقامته زمنًا طويلاً في بلاد اليمن،
وقد استنسخ منها كتبًا نفيسة في العلوم الشرعية واللغة والتأريخ والأدب لا يوجد لها
نظير في الآستانة ولا في مصر فضلاً عما دونهما من الأمصار، وله عناية عظيمة
بنفائس الكتب فهو قد انفرد باطلاع لم يشاركه فيه أحد ممن نعرف من علماء هذه
البلاد ولا علماء مصر والشام.
كان بدء سمرنا بالفكاهات الأدبية ثم انتقلنا إلى البحث في المشروع فشرحت
لهما ولمن حضر السامر وسائله ومقاصده، ومقدماته ونتائجه، فرأيت الوجوه تندى
تهلُّلاً، والأسارير تبرق بشرًا وسرورًا، ووافقني الشيخان حياهما الله تعالى،
وزادهما إنصافًا وكمالا، على كل رأي رأيته، وكل اقتراح اقترحته، حتى خروج
مدرسة (دار العلم والإرشاد) من دائرة المدارس التي تحت رياستهما، بحيث لا
تكون تحت إدارتهما ولا مراقبتهما، على أننا لا نستغني في ذلك عن الاستضاءة
برأيهما المنير، والاستفادة من علمهما الغزير، ولكن بصفاتهما الشخصية، لا
مكانتهما الرسمية، ومن ثَم وعدتهما بإطلاع خالص أفندي على نظام المدرسة
الإداري وترتيب الدروس التي تقرأ فيها وعلى قانون الجمعية أيضًا.
وقد حدثني خالص أفندي أنه كان منذ سنين سمع من بعض فضلاء مسلمي
روسية أنني عازم على إنشاء هذه المدرسة الإسلامية العليا في مصر فسُرّ بذلك
سرورًا عظيمًا ولما سافر إلى الحجاز في آخر زمن الاستبداد عرَّج على مصر وأراد
أن يزورني متنكرًا ليتحدث معي في ذلك ولكنه بصر عن جنب بعين من عيون عبد
الحميد (السلطان المخلوع) يتبعه أينما سار فكان هذا هو المانع له من الزيارة فهذه
آية من آيات اغتباط هذا الأستاذ بهذا المشروع الذي هو خدمة عامة للإسلام
والمسلمين تقوي وجاءنا في دوام مساعدته الثمينة له، وأذكر له على سبيل
الاستطراد خلقين آخرين من أعلا الأخلاق ولا سيما العلماء وهما الإنصاف والشكر
وآيتهما أنني زرته فرأيته ساخطًا على ناظر الأوقاف خليل حماده باشا لتأخير
إصلاح بعض المدارس التي يريد تنفيذ النظام الجديد للمدارس الدينية فيها، فقلت له
إن هذا الناظر محب للإصلاح ولا يرضيه هذا التأخير، وأنا ذاهب الآن لمراجعته
في ذلك وأضمن على همته أن يأمر في الحال بإنجاز العمل، وقمت مِن حضْرته
فركبة مركبة أوصلتني إلى نظارة الأوقاف وذاكرت ذلك الناظر الحازم في ذلك فأمر
من ساعته بإنجاز إصلاح تلك المدارس وبلغ المشيخة ذلك، وإنني لم أر خالص
أفندي بعد ذلك في مكان إلا وكان يشكر لي ذلك ويحدث به الناس قائلاً: إن فلانا قد
ساعدني في مسألة المدراس مساعدة عظيمة ... وذكر هذا لمولانا شيخ الإسلام
وغيره، فما أثمن وأجل مساعدة من كان متخلقًا بهذه الأخلاق مُتصفًا بهذه الآداب.
وممن اطلع على حقيقة المشروع من أركان المشيخة الإسلامية الشيخان
الجليلان ومن أصحاب الدرجة العليا في علماء العاصمة ولا سيما علوم المعقول محمد
أسعد أفندي ناظر الدفتر الخاقاني وإسماعيل حقي أفندي المناسترلي وموسى كاظم
أفندي كلاهما من الأعيان والمدرسين في المكاتب العالية؛ كل واحد من هؤلاء
الأساطين قد أقرّ المشروع بل أعجب به كل الإعجاب فهو يعد من خير الأعوان
والمساعدين عليه فإن مشروعًا دينيًا كهذا المشروع لا يمكن تنفيذه في عاصمة السلطنة
والخلافة إذا كان رؤساء العلماء وأساطينهم معارضين له أو غير راضين
عنه.
هؤلاء هم العلماء الأعلام الذين أسعدني التوفيق بلقائهم ومذاكرتهم في المشروع
وصادفت عندهم من العناية والقبول فوق ما كنت أظن وأكثرهم قد كلم ولاة الأمور
ورغبهم في إنفاده في الوزارة السابقة والوزارة الحاضرة.
وممن ساعدني في هذا العمل بجد وإخلاص الصديقان الفاضلان أحمد نعيم بك
بابان مدير المكاتب الرشدية بنظارة المعارف ويوسف ضياء بك في قلم الترجمة
بنظارة الخارجية فهذا كان الترجمان بيني وبين الصدر الأعظم وغيره من الوزراء،
وله سعي آخر يشكر وإن لم يذكر، وأما أحمد نعيم بك فمساعدته لا تقدر قيمتها، ولا
يستغنى عنها بسواها، وإن ما يرجى منه في المستقبل من المساعدة على التأسيس
لأجلّ وأكبر مما كان في الماضي من المساعدة على التمهيد، فأسأل الله عز وجل أن
يكافئ بكرمه وجوده جميع المساعدين، ويوفقنا جميعًا لخدمة الملة والدولة والدين.
ما له حيلة سوى حيلة العا ... جز إما توسل أو دعاء
وإنني أبشر قراء المنار في جميع أرجاء العالم الإسلامي بأنه سيشرع في شهر
ربيع الأول، الذي ولد فيه المصلح الأعظم صلى الله عليه وسلم، بتأسيس مدرسة
(دار العلم والإرشاد) العالية التي يتربى فيها المرشدون الذين يقفون نفوسهم على
خدمة الدين من الطريق الذي يجمع بينه وبين العلم والمدينة الصحيحة ويدفع عنه
الشبهات بحيث يجمع المسلمون بين حقوق الروح والجسد وحسنتي الدنيا والآخرة
وربما ننشر في الجزء الآتي نظام هذه المدرسة العليا، وأسرع الآن بذكر شيء منه.
يتربى ويتعلم في هذه المدرسة طائفة من الطلاب على نفقة المدرسة فهي تنفق
عليهم لا يكلفون طعامًا ولا شرابًا ولا لباسًا ولا كتابًا، ومما يشترط فيهم أن يكون
لهم إلمام باللغة العربية والنحو والفقه، وأن تكون سيرتهم حسنة في أخلاقهم وآدابهم
وعبادتهم، وسيكون من الشدة في المحافظة على الأخلاق بالفضائل في المدرسة أن
الكذب يكون موجبًا للطرد منها، ويشترط فيها أيضًا حفظ القرآن ولكن يتسامح في
هذا الشرط الآن ويكون للمدرسة سنة تمهيدية لحفظ القرآن ولبعض العلوم والفنون
التي تقرأ في المدارس الابتدائية، وإدارة المدرسة هي التي تختار هذا القسم الداخلي
من طلاب المدرسة وتفضل بعضهم على بعض بالامتحان.
***
اللغة العربية في البلاد العثمانية
وأما مسألة العناية باللغة العربية وتقوية الرابطة بين الترك والعرب التي
سعيت لها سعيها منذ قدمت دار السلطنة فقد بلغني من الثقات أن رئيس الوزارة
الحاضرة إبراهيم حقي باشا يقدرها قدرها، ووعد بأن يهتم بها وإنني لم أوافق إلى
مذاكرته في ذلك بنفسي ولكنَّني ذاكرت غيره من أولي الشأن.
وقد ذكرت جريدة العرب التي نشرت حديثًا في العاصمة أنه تقرر أن تكون
اللغة العربية رسمية في الدولة كاللغة العثمانية بحيث يكون للدولة لغتان رسميتان
وسمعت أكثر من واحد من الناس هنا يقولون: إن هذا صحيح واستدل عليه بعضهم
بوضع مبلغ من المال في ميزانية المعارف للسنة المالية القادمة لمعلمين للعربية وهو
لا يدل عليه وإنني متتبع لهذه المسألة وواقف على أطوارها فقد كانت النظارة
تذاكرت في توظيف عشرة معلمين ثم في خمسة عشر معلمًا للغة العربية ثم استقر
الرأي على خمسة فقط سيعهد إليهم تعليم اللغة نفسه على أسهل الطرق الحديثة
لصنفين من الناس أحدهما بعض المرشحين للتعليم في المدارس، وثانيهما بعض
عمال الحكومة الذين يراد إرسالهم إلى البلاد العربية لأن الحكومة اقتنعت بأن من لا
يعرف لغة قوم لا يستطيع أن يقيم العدل أو النظام فيهم وأكثر المرشحين لأعمالها من
الترك الذين لا يعرفون العربية فهي تريد أن تعلم هذه اللغة لمن تريد أن ترسلهم إلى
البلاد العربية، نعم إن في تعليم هذه اللغة لطائفة من المرشحين للتعليم في نظارة
المعارف تمهيدًا لتعليمها على وجهها وقد كانت تعليمها مقررًا رسميًا من زمن
الاستبداد ولكنه لم يكن ينفذ بل كان ولا يزال يعهد إلى من لا علم لهم بهذه اللغة أن
يكونوا مدرسين لها في مكاتب الدولة حتي في البلاد العربية فترى المعلم التركي أو
الأرمني يعلم النحو العربي لأبناء العرب باللغة التركية.
***
المدارس الدينية في الآستانة
تألفت في العام الماضي لجنة من العلماء للنظر والبحث في إصلاح التعليم في
المدارس الدينية الإسلامية وقد رغب إليَّ الصدر الأعظم للوزراة الماضية أن أكون
عضوًا فيها، وقال: إنه يكلم شيخ الإسلام في ذلك فاعتذرت لأسباب منها أنني لم
أكن أريد المكث في الآستانة أكثر من شهر، وقد أتمت هذه اللجنة عملها بهمة
خالص أفندي وكيل الدرس وكان من الإصلاح الجديد التوسع في اللغة العربية
وفنونها وزيادة الفنون الرياضية والحكمة الطبيعية، والتأريخ وتقويم البلدان، وقد
سر أهل الآستانة سرورًا عظيمًا بهذا الإصلاح، وقد احتفل بالشروع في هذا
الإصلاح احتفالاً حضره الصدر الأعظم وشيخ الإسلام وكثير من العلماء والوزراء
والأعيان والمبعوثين، فنسأل الله تعالى أن يوفق لإنفاذه على وجهه المؤدي إلى إحياء
علوم الدين والدنيا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(13/145)
الكاتب: حافظ إبراهيم
__________
الأسطول العثماني [*]
بالذي أجراك يا ريح الخزامى ... بَلِّغي (البوسفور) عن (مصر) السلاما
واجمعي من كل روض زهرة ... واجعليها لتحايانا كماما
وانشري رياك في ذاك الحمى ... والثمي الأرض إذا جئت (الإماما)
ملك للشرق في أيامه ... همة الغرب نهوضًا واعتزاما
أيها القائم بالأمر لقد ... قمت في الناس فأحسنت القياما
جرد الرأي فكم رأي إذا ... سلّ في غمد النهي فلَّ الحساما
وابعث (الأسطول) ترمي دونه ... قوة الله وراء وأماما
يكلأ الشرق ويرعى بقعة ... رفع الله بها (البيت الحراما)
وثغورًا هن أبهى منظرًا ... من ثغور الغيد يبدين ابتساما
خصها الله بأفق مشرق ... ضم في اللآلاء (مصرا) و (الشآما)
حي يا مشرق أسطول الأولى ... ضربوا الدهر بسوط فاستقاما
ملكوا البر فلما لم يسع ... مجدهم نالوا من البحر المراما
بجوار منشآت كالدمى ... أينما سارت صبا البحر وهاما
كلما أوفت على أمواجه ... سجد الموج خشوعًا واحتشامًا
كان بالبحر إليها ظمأ ... وعجيب يشتكي البحر الأواما
فهي في السلم جوار تجتلي ... تبهر العين رواء ونظاما
وهي في الحرب قضاء سابح ... يدع الحصن تلالأ ورجاما
ما نجوم الرجم من أبراجها ... أثر عفريت من الجن ترامى
من مراميها بأنكى موقعا ... لا ولا أقوى مراسًا وغراما
وهي بركان إذا ما هاجها ... هائج الشر عداء وخصاما
جبل النار لقد رعت الورى ... أنت في حاليك لا ترعى ذماما
أنت في البر بلاء فإذا ... ركب البحر غدا موتا زؤاما
فاتقوا الطود مكينًا راسيا ... واتقوا الطود إذا ما الطود عاما
حملت حربًا فكانت حقبة ... نذرًا للموت يجتاح الأناما
خافها العالم حتى أصبحت ... رسلاً تحمل أمنًا وسلاما
بُعِثَ المشرق من مرقده ... بعد حين، جل من يحي العظاما
أيها الشرقي شمر لا تنم ... وانفض العجز فإن الجد قاما
وامتط العزم جوادًا للعلى ... واجعل الحكمة للعزم زماما
وإذا حاولت في الأفق منى ... فاركب البرق ولا ترض الغماما
لا تضق ذرعًا بما قال العدى ... رُبَّ ذي لُبٍّ عن الحق تعامى
سابق الغربي واسبق واعتصم ... بالمروءات وبالبأس اعتصاما
جانب الأطماع وانهج نهجه ... واجعل الرحمة والتقوى لزاما
طلبوا من علمهم أن يعجزوا ... قادر الموت وأن يثنوا الحماما
وأرادرا منه أن يرفعهم ... فوق هام الشهب في الغيب مقاما
(قتل الإنسان ما أكفره) ... طاول الخالق في الكون وسامى
أحرج الغيب إلى أن بزّه ... سرّه بزا ولم يخش انتقاما
قوة الرحمن زيدينا قوى ... وأفيضي في بني الشرق الوئاما
أفرغي من كل صدر حقده ... أملأ التأريخ والدنيا كلاما
أسأل الله الذي ألهمنا ... خدمة الأوطان شيخًا غلاما
أن أرى في البحر والبر لنا ... في الوغى أنداد (توجو) و (أوياما)
__________
(*) أنشدنا محمد حافظ أفندي إبراهيم لنفسه هذه القصيدة في اللية الموسيقية التي أحييت برعاية رؤوف باشا المعتمد العثماني هنا ورياسة الأمير محمد علي حليم ليخصص ريعها للأسطول العثماني.(13/150)
الكاتب: حسين وصفي رضا
__________
كتاب النصائح الكافية لمن يتولى معاوية
يلح علينا المتناظرون والمتعادون في هذا الكتاب من أهل سنغافوره وجاوه
بأن نبدي رأينا فيه ويقولون في كتبهم إلينا إنهم ينتظرون ذلك عاجلاً، وظن بعضهم
أن ما كتب عنه على غلاف المجلة لنا وأنه رأي غير صريح فطلبوا ما هو أصرح
منه.
وجوابنا للجميع أننا لم نجد فراغًا نقرأ فيه الكتاب لنبدي رأينا فيه، وإننا قد
سافرنا إلى دار السلطنة في أواخر رمضان لأجل خدمة الإسلام بما هو أجل وأنفع
من قراءة ذلك الكتاب وشغلنا بذلك عن كل شيء إلا كتابة ما لا بد منه للمنار وأن
ذلك التقريظ أو الإعلان ليس لنا وإنما هو كسائر الإعلانات التي تنشر على غلاف
المجلة يكتبها مدير مكتبة المنار، وإننا ننصح المختلفين أن يتقوا العداء واتباع
الأهواء لأجل اختلاف الآراء، فتعادي المسلمين ذنب أكبر وأضر من جرح معاوية
وتعديله، وكنا تنسمنا أن سيكون لهذا التأليف فتنة عندما أعلن المؤلف عزمه عليه
بعد أن وقع الخلاف هنالك بينه وبين آخرين في لعن معاوية واستفتينا في المسألة
فأفتينا بعدم اللعن، فإن المؤلف يومئذ كتب إلينا يقول: إنه مخالف لنا فيما أفتينا به
وأنه سيبين رأيه في كتاب حافل يؤلفه ويطبعه، وأتذكر أنني كتبت إليه أن من رأيي
أن لا يفعل ولكنني ما عاديته ولا أعاديه لأنه خالفني في هذه المسألة وهو لا يعاديني
كذلك، وهذا هو الواجب على كل مسلم، فقد نهينا عن التحاسد والتباغض والتدابر؛
وأمرنا أن نكون إخوانا، ولم يشترط المرشد الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في هذه
الأوامر والنواهي أن نكون متفقين في كل مسألة لأن هذا من المحال، فاتقوا الله أيها
المسلمون في أنفسكم وليعذر بعضكم من يخالفه وإن جادله فليجادله بالتي هي أحسن ولا
يجعله أقل من أهل الكتاب الذين نهينا أن نجادلهم إلا بالتي هي أحسن إلا إذا ظلموا
بالحرب والقتال، ولا كلام لنا مع أهل السفه والطيش والضلال.
__________(13/152)
الكاتب: حسين وصفي رضا
__________
إلى مشتركي المنار
كلمة شكوى
لقد رأينا من مطل كثير من المشتركين في السنين الأخيرة عجبًا! ولئن كان
قولنا يشمل كل بلد فيه مشتركون للمنار فإنه موجه بنوع خاص إلى مشتركي القطر
التونسي إلا قليل منهم، وإلى معظم مشتركي الجزائر، هؤلاء وأولئك نكتب لهم في
المجلة التذكير تلو التذكير فلا يبالون ولا يتذكرون! حتى إننا في الآونة الأخيرة
وضعنا لهم فقرة دائمة على غلاف المجلة وكتبنا لهم كتابات خاصة فيها بيان لما
عليهم فلم يحقق أحد منهم لنا أملا، وما كنا نحس أن قارئًا يقرأ المنار وكله عظات
ونذر وحث على التأسي بأسلافنا الكرام بأعمالهم - يسهل عليه أن يكون من أهل الليّ
والمَطْل، والإعراض عن التذكير بأداء الحقوق.
إننا نعيذ أهل هذين القطرين أن يكونوا متعمدين لهذا السكوت الطويل الذي لم
نستطع له تأويلا، وحاشاهم أن يكونوا ممن يأكلون أموال الناس بالباطل وفيهم
العلماء والقضاة والمحامون وكبار موظفي الحكومة، وهؤلاء هم عنوان ارتقاء الأمة
وأنموذج المجد فيها، وإنه ليسهل علينا أن نتلمس لهم في كل يوم عذرًا دون أن
نرميهم بمرجمات الظنون، فعسى أن يكونوا عند حسن ظننا بهم وأن تكون هذه
الفقرة أخرى كلمات الشكوى منهم، وأن يكون ما بعدها أولى كلمات الشكر لهم.
وإننا لنأسف أن يصبح مشتركو روسيا ممن يُشتكى منهم وهم الذين لم يُذكَروا
في الماضي إلا بالشكر والثناء، فلقد مرت سنين ثلاث وكثيرون منهم لم يبعثوا إلى
إدارة المجلة بما عليهم، هؤلاء هم الذين كنا نباهي بهم ونعد مسارعتهم إلى أداء
الحقوق عنوانًا على احتفاظهم بكثير من الفضائل الإسلامية ولقد يعز علينا أن يتزلزل
اعتقادنا فيهم فإننا بتنا في حيرة من أمرهم ولا سيما بعد أن كتبنا لهم تذكيرًا في جريدة
(وقت) التي تصدر في أورنبورغ مرتين فلم يزد ذلك أكثرهم إلا إعراضًا وتصاممًا.
وكذلك كانت الحال مع مشتركي جنوبي إفريقية والبرازيل والصين وبلاد
فارس وفريق من مشتركي جاوة والهند وسنغافورة فلقد كتبنا إليهم مُذكِّرين مبينين
لهم ما عليهم فلم تنفع الذكرى إلا الأقلين منهم.
ثم ما بال مشتركي السودان ارتضوا لأنفسهم في العهد الأخير ما كنا نجلهم
عنه؟ فقد كانوا من أفضل المشتركين وفاء، وأحسنهم أداء، حتى إننا في
السنين الماضية ما كنا نبعث لأحد منهم بتذكير خاص، بل كان من عادهم
المبادرة إلى الإرسال في أول شهر من شهور السنة، وكنا نعد من جملة الشواغل
الكثيرة في المحرم التوقيع علي حوالات مشتركي السودان، ولكنهم في هذا العام
وفي العام الماضي خالفوا سنتهم المحمودة، فبعثنا إليهم بمكتوبات خاصة مطالبين لهم
بما عليهم فلم يستجب لنا إلا القليلون.
أما مشتركو مصر فما زلنا نحمدهم على اعتدالهم فقد كانوا ولا يزالون على
وتيرة واحدة، يتذكرون إذا ذكروا ويعطون إذا طولبوا، ولكننا نشكو من بعضهم
ومن أهل الأقاليم ولا سيما مشتركي الوجه القبلي ومديريتي البحيرة والشرقية
ومحافظات دمياط والسويس وبورسعيد، فلقد مرت سنوات وهو لم يؤدوا إلى
المجلة حقًّا، فعسى أن يكون لهم أسوة حسنة بأهل العاصمتين مصر والإسكندرية.
وأما مشتركو سورية وفلسطين فهم من أحسن الناس وفاء، وإننا نشكر
لوكلاء مدنهما الكَمَلَة، فإنهم قد خدموا المنار أجلَّ خدمة، وعسى أن يكون مشتركو
بيروت وطرابلس الشام وحصن الأكراد وبغداد وجبل عامل أدوا ما عليهم
للوكلاء، ومن ليس لديهم وكلاء فليبعثوا إلينا بما عليهم مباشرة فنكون لهم من
الشاكرين.
هذا وإن في كل ما ذكرناه من البلاد ناسًا سبّاقين إلى الخيرات يبعثون بقيمة
اشتراك كل سنة قبل دخولها، فإلى هؤلاء نوجه عاطر الثناء ونخصهم بالتقريظ
والإطراء.
حسين وصفي رضا
***
(التأريخ الهجري الشمسي)
طبعت الكراسة الأولى من هذا الجزء وبقي فيها هذا التأريخ على ما كان عليه
خطأ لأن سنة 1285 تصرمت ودخلت سنة 1286.
__________(13/153)
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
__________
خديجة أم المؤمنين
(8)
الفصل السابع عشر [1]
(بين روح وروح أو بدء الوحي)
(1)
في (حِراء) حدثت الحادثة الأولى من التأريخ الجديد الذي سنرى فيه بعل
السيدة (خديجة) فائقًا فواقًا عظيمًا مدهشًا، وهذه الحادثة العظمى التي هي مبدأ هذا
التأريخ هي أن روح محمد صلى الله عليه وسلم، اجتمع هناك في (حِراء) بروح
غير بشري وأبلغه هذا الروح الغريب رسالة شأنها عظيم.
نحن في الفصل السابق ذكرنا من أمر الروح ما فيه كفاية، ذكرنا فيه ما لعل
القارئ ينشرح به صدره إلى القول بوجود موجودات ذات حياة على أنواع شتى
ولا يشترط في بعضها أن تكون لها أشباح كالأشباح البشرية، وهذا قد سبقنا البشر
كلهم إلى القول به ولم يشذّ عنه إلا قليل وهو كلهم قائلون أن بين الروح الذي هو
إنسان وبين الأرواح الأخرى اتصالات، فأنا كاتب هذه السطور لست بمبتدع خبرًا
ليس له مثال بذكر هذه الحادثة التي قد يراها غريبة من يحبون التباعد عن
الروحيات، ومن يؤمنون بها أحيانًا ويكفرون بها أحيانًا من حيث يشعرون ومن
حيث لا يشعرون.
هذه حادثة عظيمة في السيرة التي نحن آخذون بتحريرها، ونحن مقتنعون
بوقوعها، ولا يدعونا إلى استماع هواجس المنكِر إلا الحرص على القيام بحسن
المرافقة، فإن كان المنكِر ينكر عالم الروح من حيث هو فالحق أنَّ حيلتنا البيانية
معه قليلة، ولكني أظن أنَّ محادثتنا إياه بهذه المسألة في الفصل السابق قد تجديه،
وإن كان ينكر العلاقة بين الروح الذي هو الإنسان والأرواح الأخرى فليس لنا ما
نتوسط به إلى إبلاغه هذا المشهد غير نفسه، فليرجع إليها كثير وليدقق في حديثها
جيدًا، وإن كان ينكر صدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، في تحديثه بهذه الحادثة
مع أنه لا ينكر وقوع مثلها لغيره فالخطب في مذاكرته سهل.
كان محمد صادقًا شديد الحرص على الصدق واشتهر منذ حداثته بلقب الأمين،
قد عرفنا صدقه كما عرف الناس شجاعة أناس من الشجعان، وكرم أفراد من
الكرماء، وعِلم جماعة من العلماء، وكما عرف بنو إسرائيل صدق الإنسان موسى
الذي كان قد سمع الكلام الإلهي، وظهرت له الأرواح العلوية، وكما عرف النصارى
صدق الإنسان عيسى الذي كان روحًا من الله، وكما عرفوا صدق تلاميذه وأنصاره
الذين حكوا حكايته وبثوا بشارته.
هذا الصادق الأمين رجع ذات يوم من حراء منتقع اللون، مرتجف الصدر،
يعلوه اضطراب الوجل الحائر، وخشوع المخبت الصابر، فما وقع نظر السيدة
خديجة عليه حتى عرفت أنَّ أمرًا عظيما قد ألمَّ به، فخفق لأول وهلة قلبها، وساءلت
بسرعةِ البرق نفسها: ماذا أصاب حبيبي؟ ما خطب ذلك القلب الذي لا تفزعه
الرجال، ولا تجزعه الأهوال؟ ما بال ذلك الصدر المبسوط تثنيه الرجفات، وما
بال ذلك الطرف القرير تكاد تبادره العبرات؟ رباه رباه ماذا أصاب حبيبي؟ قل
لي أيها الحبيب ماذا اصابك؟ حنانيك قل لي قل لي.
دثروني، دثروني.
لا صبر لي عن معرفة الأمر الآن فقُصَّه عليَّ.
بينا أنا في حِراء إذ جاءني روح فقال لي اقرأ، قلت له: ما أنا بقارئ،
فأخذني وغطني غطة [2] وقال لي (اقرأ) قلت: ما أنا بقارئ، ثم غطني الثانية
وقال لي: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، قال لي: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ
الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1-5) .
ألم تسأله من أنت، من جاء بك، وماذا تريد مني.
سمعته يقول أنا جبريل جئت أبلغك رسالة ربك.
هذه هي الأولى من الكلمات التي سمعها محمد - صلى الله عليه وسلم - من
ذلك
الروح الذي ظهر له باسم جبريل وهو من النوع المسمى ملائكة، والآن قد فُتِح
لصاحب حِراء بابان: باب حَيْرة جديدة وباب هدى، فأما الحيرة فظاهرة يكاد يراها
كل من سمع هذه الحادثة فإن ظهور الأرواح غير البشرية لأفراد النوع الإنساني ليس
من المألوف، فإذا صادف أحد الأفراد شيئًا من هذا القبيل لا يقوى طبعه البشري لأول
وهلة على تحمل مواجهته والأنس به، كل واحد منا يعرف هذا من مفاجأة الأمور
التي لم تكن تخطر في باله مع أنها من الأمور التي تقع كثيرًا فكيف الحال بالأمور
التي وقوعها نادر إلى حد أنَّ بعض الناس لا يصدق بوقوعها.
إنه ليخيل إلينا أن صاحب (حِراء) قد دهش لمَّا سمع صوت ذلك الروح يناديه
(اقرأ) يخيل إلينا أنه قال في نفسه: رباه ما هذا الذي أسمع؟ رباه ليس ههنا من
بشر فهل يتكلم غير البشر؟ رباه ماذا يراد بي؟ إنني أعلم أني في يقظة لا في منام،
وأنني أسمع كلامًا لا ريب فيه، وإنني أحس بضاغط يضغطني ولا عهد لي بمثل
هذا من قبل، رباه إن هذا أمر يدهش فكُنِ اللهم عوني، وخذ بيدي، وثبت فؤادي
وقوّني على مواجهته إذا عاودني.
نعم إنه ليخيل إلينا أن المفاجَأ بذلك الروح هكذا كان يتناجى في نفسه ويناجي
ربه بمثل هذه الكلمات وهو ذاهب إلى خديجة فلما لقيها قال (دثروني دثروني)
واختصر لها الحديث اختصارًا.
دثرته خديجة وجعل العرق يتصبب منه، وقد عاوده الروح بعد ذلك، وقال
له {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ *
وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (المدثر: 1-7) .
إن من يفاجأ بمثل هذا جدير بالحيرة وهذا ما أشرنا إليه هنا، ولكن مع هذه
المفاجأة قد أونس باسم ربه فكان هذا الاسم الجليل حريًّا أن يكون دواءً شافيًا من تلك
الحيرة، وكافيًا أن يفتح باب الهدى والطمأنينة.
الروح جبريل يقول له أنا من عند ربك، جئت أبلغك رسالته، جئت ألقي
عليك وحيًا من عنده، وفي هذا الوحي الذي جاءه به مفتاح لتلك المغالق التي أشرنا
إليها آنفًا التي كانت تقف أمامه دائمًا.. في هذا الوحي مبدأ إرشاد وتعريف له بربه
خالق الإنسان. في هذا الوحي إهابة بفكره لتناول معارف عليا، وتعاليم عظمى، في
حقائق الوجود.
كانت الحيرة تردفها الحيرة، وأما هذه الحيرة فإن الهدى يردفها لأن العناية
الإلهية ظهرت أتم ظهور، والعطاء الرباني سُلِّم جليًّا لتك اليد التي كانت مرفوعة
في حِراء تلقاء السماء.
وكان أول معراج عرض بصاحب هذه اليد عليه إلى تلك الحضرات القدسية
هو إعلامه علم اليقين بأرواح عالية تتكلم هي غير الأرواح الإنسانية الحالّة في هذه
الصور البشرية وذلك بجعل واحد من هذه الأرواح وساطة بينه وبين مفيض الحياة
والعلم والإرادة.
هذه عناية كبيرة جدًّا لم يَرْوِ التأريخُ وقوعَ مثلها إلا لقليلين: منهم النبي
إبراهيم، والنبي موسى والنبي عيسى عليهم السلام.
يقول له الروح جبريل {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق: 1-2) فهذا القول العربي الجليل يصور له من النشأة المادية في خلق
الإنسان صورة يتجلى فيه عظيم قدرة البارئ المصور، وعظيم ضعف هذه الصورة
البشرية لولا روح الله الممد له.
يقول له الروح جبريل: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ
مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 3-5) وهذا القول المجيد يصور له من النشأة الروحية في
كون الإنسان صورة يدهش الألباب فيها عظيم صنع الله في ترقية الإنسان بواسطة
قصبة لا يؤبه لها لدى النظر، نعم بواسطة قصبة نعني بها القلم كان الرُّقي العظيم
العقلي لهذا الكائن الذي خصت العناية الأزلية نوعه بمزيد خصائص.
وغريب في الأمر أن المواجَه بهذا الخطاب لم يكن من أرباب اليراعة بل كان
أميَّا لا يعرف القراءة ولا الخط بالقلم فما معنى أن يكون أول وحي يوحى إليه هو
الأمر بالقراءة والتنويه بالقلم.
لا بدع، لا بدع، إن معنى ذلك هو تكرم الله عز وجل على البشر بإعطائه
آية أخرى يفقهون بها أنه قادر أن يعلم من لدنه بغير ما عرفوا من الوسائط من شاء
ما شاء إذا شاء، وأن يجعل غير القارئ قارئًا ولكن يقرئه بالروح صحفًا ربانية قد
أنزلها الله على البشر بأساليب شتى أجلها وأعلاها هذا الأسلوب.
ما أجلّ هذه العناية وما أجدر خديجة بالسرور الذي ليس فوقه بها ولكن هل
عرفت هذا السر الرباني تمامًا؟ نعم كان قلبها القوي خليقًا أن لا يفزع أمام هذه
الحادثة التي هي غريبة في ظاهرها بيد أنها كانت محتاجة أن تطرق تفسير هذا
السر وهذا المظهر الجديد من أبوابه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تابع لما نشر في (ص 64م13) من سيرة السيدة خديجة.
(2) ضمني بشدة وضغط.(13/155)
ربيع أول - 1328هـ
إبريل - 1910م(13/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العمل بخبر التلفون والتلغراف في الصوم والفطر
س21 - من السيد محمد بن الخوجه رئيس قلم المحاسبة بالوزارة في (تونس)
سيدي الأخ الكريم العلامة الجليل.
حدث عندنا تناقض بسبب هلال الفطر في رمضان الماضي فإن بعض البلاد
التونسية أفطروا يوم الخميس الموافق الرابع عشر من أكتوبر، وحيث تأخر ورود
صك الرؤية على قاضي الحاضرة إلى ما بعد عصر الخميس فإن الإعلان بالفطر
لأهالي مدينة تونس لم يقع إلا مع غروب الشمس بحيث إنهم صاموا يوم العيد كله
لأن القواعد الشرعية التي عليها عمل فقهاء تونس لم تجوّز للمسلمين بهذه البلاد أن
يعتمدوا ما يبلغهم من مشاهدة هلالي الصوم والفطر على طريق التلغراف أو التلفون
لأن التلغراف بيدِ غير المسلمين والتلفون يرد عليه (أن الصوت يشبه الصوت)
كما أن (الخط يشبه الخط) ومن أجل هذا طلبنا لعلمائنا أن يلتمسوا لنا من وجوه
الفقه ما يساعد على العمل بالتلغراف لا سيما وأن الريبة في التبليغ تنتفي إذا جعلنا
الإشعار بالرؤية في أطراف المملكة لا تكون إلا بالطريقة الرسمية أي بواسطة
تلغراف يرد من الحكومة المحلية أي الجهة التي شوهد فيها الهلال إلى مركز
الحكومة بتونس وأن يكون المخاطب بالتلغراف مأمورًا مسلمًا كما أن المخاطب
به من المسلمين.
وعسى أن فضيلتكم تتوفق للتأمل في هذه المسألة العويصة وتنشر لقراء
المنار ما يعينهم على الاهتداء لحل عقالها سواء كان ذلك بتونس أو بالبلاد الأخرى.
ج - أرسل هذا السؤال إلى مصر ومنها إلينا في القسطنطينية والخطب عندنا
في المسألة سهل لولا أن أكثر المسلمين صاروا لا يحبون السهولة واليسر في الدين
وهو من أصول الإسلام بنص الكتاب والسنة فالعمدة في الشرع على ما يحصل به
التصديق والاطمئنان من الأخبار أو العلامات التي تدل على ثبوت أول الشهر وكل
من التلغراف والتلفون طريق من طرق التصديق والاطمئنان من الأخبار أو
العلامات التي تدل على ثبوت أول الشهر وقد بينا ذلك في المنار غير مرة وقد
اطلعنا في هذه الأيام على فتوى في المسألة لشيخ الأزهر وهو أكبر علماء المالكية
وأشهرهم بمصر وأكثر أهل تونس من المالكية فنحن نورد لهم الفتوى بنصها وهي:
(صاحب الفضيلة مولانا الأكبر شيخ الجامع الأزهر حفظه الله) .
أتشرف بأن أقدم لكم دام النفع بعلمكم فيما يسأل عنه أهل السودان المالكيون
وهو أنه قد جرت العادة عندهم في هذه السنين أن يرسل إليهم بواسطة التلغراف من
الديوان الخديوي باسم بعض رؤسائه أنه قد ثبت شرعًا أن أول رمضان يوم كذا،
وربما لم ير أحد منهم الهلال مع الصحو فمنهم من يعتمد على التلغراف ويصبح
صائمًا ومنهم من يزعم أن الصوم منوط برؤية الهلال فيصبح مفطرًا، وإذا مضى
بعد وصول الخبر إليهم ثلاثون يومًا ربما لا يرى أحد منهم هلال شوال ليلة إحدى
وثلاثين من الصحو ولا يأتيهم فيها خبر بالتلغراف عما ثبت شرعًا بمصر، وأيضًا
ربما كان حكم الحاكم المخالف بثبوت الصوم مبنيًا على شهادة عدل واحد أو كان
حكمه بالصوم مبنيًا على رؤية عدلين، وإذا لم ير هلال شوال ليلة إحدى وثلاثين
مع الصحو لا يرى تكذيبهما، بل يرى تكميل العدد ثلاثين بعد رؤيتهما هلال
رمضان وكذلك حكمه بثبوت الصوم بناء على تمام شعبان الذي ثبت أوله برؤية
عدلين ولم ير غيرهما هلال رمضان ليلة إحدى وثلاثين من منذ رؤيتهما هلال
شعبان، وكل ذلك مخالف للمذهب المالكي فماذا يصنع أهل السودان في صومهم
وإفطارهم حتى يكون عملهم موافقًا للشرع والحال كما ذكر في السودان أفيدونا
مأجورين.
كاتبه الفقير إليه، أبو القاسم أحمد هاشم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين، قد نص فقهاؤنا على أن يكون الصوم عند الحاكم وإن لم يحكم بالفعل
وحكمه بالثبوت كل منهما يوجب الصوم على كل من نقل إليه سواء نقل بعدلين أو
جماعة مستفيضة ولو كان الناقل عدلاً واحدًا لأن هذا من الخبر الصادق لا الشهادة
ولو كان المنقول إليهم ممن يعتنون بأمر الهلال.
ونصوا أيضًا على الاكتفاء في الثبوت بالأمارات التي جرت العادة بها في
إشهاد الثبوت كتعليق القناديل الموقدة على المنائر حيث جرت العادة أنها لا توقد إلا
بعد الثبوت الشرعي، وكضرب المدافع كما هي العادة عندنا بمصر ومن هذا القبيل
إرسال الخبر في السلك التلغرافي بل هو في زماننا أدل وأقوى وعليه اعتمدت
الملوك والحكام في تبليغ أحكامهم ومخاطباتهم وأفتى العلماء بكفايته في ذلك وهو في
أيامنا هذه لا يرسل إلا بإذن الحاكم الشرعي بإشهار حكمه في جميع الجهات فهو
كرسول أرسله لتبليغ حكمه فيجب الصوم على كل من بلغه من أول رمضان كما
يجب الفطر على من بلغه به ثبوت رؤية هلال ومن خالف بعد بلوغه بصوم وإفطار
فهو مخالف للحق.
والصواب الذي أفتى به العلماء؛ ولا عبرة باختلاف المطالع على ما هو المذهب
إلا أن يبعد جدًّا كخراسان من الأندلس فإن كل قوم يعملون بما عندهم لا يجري
عليهم حكم الآخرين كما حكى ابن عبد البر الاتفاق عليه، واحتمال أن الحاكم
المخالف بنى الحكم على رؤية شاهد واحد في الغيم نادر جدا، وعلى فرض من
حصوله وتحقيقه ففي المذهب قولان في لزوم الصوم وعدم لزومه يجوز العمل بكل
منهما أو تقليد مذهب الحاكم والعمل عليه.
وأما البناء على تمام العدد من ابتداء رؤية العدلين ولو لم ير الهلال ليلة
إحدى وثلاثين مع الصحو لكون المخالف لا يرى التكذيب فإن كان قد حكم بالفطر
لزم الإفطار، وإن كان لم يحكم إلا بثبوت الصوم برؤية العدلين فليس ذلك حكمًا
بالإفطار إلا أن يحكم حين الرؤية بموجب لزوم الصوم فيجب العمل به في الإفطار
وأيضًا كما يجب العمل بكمال العدد إن كانت ليلة إحدى وثلاثين مغيمة، ومثل ذلك
حكم بالصوم بكمال شعبان الذي ثبت أوله برؤية عدلين ولم ير غيرهما هلال
رمضان ليلة إحدى وثلاثين من الصحو لكونه لا يرى التكذيب فيجب به الصوم قطعًا
أو كان قد حكم بموجب ثبوت أول شعبان حين حكمه بثبوته فإنه يتضمن الحكم
باعتبار تمام العدد من ابتداء الرؤية.
وأما مسألة عدم رؤية هلال شوال مع الصحو ليلة إحدى وثلاثين مع عدم
ورود خبر من مصر إليهم فإنهم يصومون يوم الحادي والثلاثين احتياطًا للخروج من
العبادة، والغرض عدم الرؤية مع الصحو فإن كان غيم اكتفوا بكمال العدد وإذا
جاءهم خبر الإفطار أثناء النهار أفطروا ولهم أن يقلدوا الحاكم في مذهبه ويعملوا
على الكمال دون التكذيب ويعملوا على رؤيتهم إن تباعد جدًا كما سبق عن ابن عبد
البر حكاية اتفاق أهل المذهب عليه والذي أراه أن الأيسر في مثل هذه الأمور تقليد
مذهب الحاكم المخالف أو اعتبار البعد جدًّا إن تحقق والله تعالى أعلى وأعلم وصلى
الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم) .
... ... ... ... ... ... ... ... الفقير إليه تعالى
... ... ... ... ... ... ... شيخ الجامع الأزهر
... ... ... ... ... ... ... ... ... سليم البشري
__________(13/161)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رسالة النبي إلى الناس كافة
س22 مِن صاحب الإمضاء في فاقوس.
حضرة الفاضل الأديب مَن شاع صيته في حل المشكلات صاحب الدراية
التامة الشيخ رشيد أفندي رضا لا زال مصدرًا لفك المعضلات.
مما ينهى لفضيلتكم أنه حصل في ناحية فاقوس البحث بين طائفة ممن يعتنون
في البحث عن أمور الدين وتجولوا في مسألة التبليغ، وهل دعوة نبينا عليه السلام
بلغت إلى كافة الأقاليم التي من ضمنها قارة أمريكا أم لا، وهل هذا الاسم كان لتلك
القارة قديمًا أو حدث فيما بعد؟
فقال بعض الحاضرين: إن دعوة نبينا بلغت كافة الأمم مستندًا إلى قوله تعالى
له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ} (سبأ: 28) فعموم هذه الآية يشمل أمريكا
وغيرها من كافة الأقاليم.
وحيث إنه عليه السلام مرسل لكافة الناس فيجب عليه تبليغ العموم ولا شك
أنه عالم بكافة المرسَل إليهم وإن بعدت جهاتهم.
وقال البعض الآخر إن أمريكا اكتشفت حديثًا، وإنه لم يوجد تأريخ من
التواريخ يدل على أن أحدًا من الصحابة ذهب إلى تلك الأقطار لتبليغ الدعوة، وأن
عدم اكتشاف القارة المذكورة في زمن المصطفى لا ينافي كون النبي صلى الله عليه
وسلم أرسل للناس كافة؛ لأن حكمها كحكم من كان في جبل ولم تبلغه الدعوة في زمن
المصطفى وبلغته بعد وفاته، فيكون ممن دخل في حكم الآية الشريفة.
ولثقتنا بأن فضيلتكم ممن يعتني بمثل هذه الأمور نطلب كشف هذا الأمر
وتوضيحه على وجه تام ولكم مزيد الشكر.
علي محمد الصواف، الكاتب بمحكمة فاقوس.
ج- ليس الأمر بالمشكل الذي يحتاج إلى الإيضاح فإن بعثة نبينا صلى الله
عليه وآله وسلم إلى الناس كافة أمر مجمع عليه معلوم من ديننا بالضرورة، ومن
المعلوم بالضرورة عقلاً مؤيدًا بالنقل أن تبليغ الدعوة للعرب كان بالتدريج وهم قومه
وأهل لغته وسكان بلاده، فهل يمكن أن يكون مكلفًا أن يبلغ البشر كلهم دعوته دفعة
واحدة، ثم إنه بلّغ من يقرب من بلاده كالروم والفرس والقبط وما أرسل بلاغًا إلى
أهل الهند والصين ولا أهل أوربا وغيرهم من الأمم التي كانت معروفة حتى يقع
الإشكال في أهل أمريكا التي لم تكن معروفة وقد أمره الله تعالى أن يقول: {وَأُوحِيَ
إِلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} (الأنعام: 19) فكل من بلغه القرآن فقد
بلغته الدعوة وتجب على المسلمين دعوة من لم يتسع عمر النبي صلى الله عليه
وسلم لدعوتهم وكذلك فَعَلَ السلف الصالحون، وقصَّر الخلف الطالحون.
__________(13/191)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
طريقة الشاذلية الدرقاوية
س 22 من السيد مصطفى منصور في (السلمية: دسوق)
حضرة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فأرجوك أن تفيدنا عن الفتوى الآتية:
انتشر عندنا في أنحاء البلاد طريق من طرق الصوفية وسمي طريقة الشاذلية
الدرقاوية نسبة إلى مولاي العربي الدرقاوي وهذه الطريقة من شعائرها الاجتماع
صباحًا ومساء على تلاوة الأوراد والأذكار إلا أن من أعمالهم في حال الذكر من قيام،
التأوه بقولهم (آه آه) معتقدين أن هذه الكلمة اسم من أسماء الله تعالى.
وقد رفع هذا السؤال إلى حضرة الشيخ عبد العزيز جاويش، فأنكر ذلك في
لواء يوم15ذي القعدة سنة 1327 قائلاً بأنه ليس من أسماء الله تعالى ولم يرد في
كتاب ولا في سنة صحيحة وأسماء الله توقيفية وليس لله إلا الأسماء الحسنى وسفّه
رأي القائلين بأنه من أسماء الله.
فرد عليه أحد شيوخ تلك الطريقة الأستاذ الشيخ محمود حجاري بقوله: (إنه
من أسماء الله تعالى مستندًا في ذلك على حديث وارد في الجامع الصغير في حرف
الدال (خ) للبخاري (ت) للترمذي عن أبي هريرة قال الشارح الغريزي وكذا
رواه مسلم) (دعوه) أي المريض (يئن) أي يقول (آه) (فإن الأنين اسم من
أسماء الله تعالى يستريح إليه العليل) وسبب هذا الحديث كما في الكبير عن
عائشة رضي الله عنها قالت (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا
مريض يئن فقلنا له اسكت فقال: دعوه) ... إلخ، رواه الرافعي في تاريخ قزوين
عن عائشة وهذا الحديث مرتبته الحسن كما قال بذلك سيدي محمد السعراني الشهير
بالواعظ ومستندًا في ذلك أيضًا بما كتبه الباجوري والأمير كلاهما على (جوهرة
اللقاني) عند قوله: (حتى الأنين في المرض) كما نقل، وقال وأما دعوى الشيخ
جاويش بأنه ليس لله إلا الأسماء الحسنى فمردود بإجماع المسلمين على أن لله أسماء
كثيرة غيرها منها الرب وهو وارد في القرآن في مواضع كثيرة ومنها (مليك)
وهو وراد في القرآن عند قوله تعالى {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر: 55) ومنها
الحنان المنان، وستار وسيد، وكلها ثابتة بالسنة وما يؤخذ من حديث (إن لله تسعًا
وتسعين اسمًا) لا يفيد الحصر وحيث إننا في حاجة إلى بيان ما عليه هذه الطائفة
فنلتمس منكم الفتوى الشرعية في ذلك جعلكم الله منارًا للحق ونبراسًا للهدى.
ج- ظهرت الطريقة الدرقاوية في أوائل هذا القرن في بلاد سورية أخذها خلق
كثير عن شيخ مغربي كان في عكا اسمه الشيخ علي نور الدين فقامت عليه وعليهم
قيامة العلماء ونسبوا إليهم القول بالحلول والاتحاد، وبعض المنكرات العملية كالجمع
بين النساء والرجال، بل قيل إن بعضهم مرقوا من الدين وصاروا إباحيين،
وجعلوا شيخهم علي نور الدين اليشرطي مثار هذه الضلالات كلها، ولكنني رأيت
بعض الشيوخ الصالحين يثني على شيخه ويقول (إنه بريء من كل ما خالفوا
الشرع فيه ومن هؤلاء المبرئين له شيخان الشيخ محمد القاوقجي الشهير وقد نشر هذه
الطريقة في طرابلس الشام الشيخ نجيب الحفار أحد علمائها المشهورين فلم نر من
تلاميذه من الفسق ولم نسمع عنه أو عنهم القول بالحلول والاتحاد، فالظاهر أن هذه
الطريقة كغيرها من الطرائق المشهورة يتبع تأثيرها حال المشايخ الذين يتصدون
لنشرها فإن كان جاهلين ضالين أضلوا العامة بها وإن كان على علم وهدى نفعوا من
ينتمي إليهم بقدر ما يصل إليه علمهم وإخلاصهم، وقلما تسلم طريقة في هذا العصر
من البدع، وبعض الشر أهون من بعض، والشيوخ هم العمدة، والذكر بالأسماء
المفرد لم يرد في الشرع الأمر به ولا العمل كما بينا ذلك من قبل، على أن
الخطب فيه سهل.
__________(13/192)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوصية المنامية المكذوبة
س 24 من صاحب الإمضاء في، دمشق الشام
حضرة الأستاذ الكامل السيد رشيد رضا رافع منار الحقيقة في الإسلام رعاك
الله.
ما قول الأستاذ الرشيد في الشيخ أحمد الداعي نفسه: - خادم الحرم الشريف -
وما يذيعه في أنحاء البلاد الإسلامية في كل سنة منذ بضع سنين غير قليلة - من
الرسائل التي يدعي بها كل مرة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم من الرؤى الشبيهة
بالوحي، وعنها يروي الوصايا الجمة التي يرى فيها المطَّلع عليها من الأنباء
المعين وقوعها من زمن مخصوص، والمغيب أمرها عن الخلق، وإسقاطه فروضًا
من الدين عن كاتب وصيته أو مستأجرها وغفر ذنوبه ووو…! وإتيانه على لعن
من لم يصدقها ويؤمن بها، إلى غير ذلك من الفظائع باسم الدين كما يتضح لكم ذلك
في رسالته هذه الأخيرة التي بعثنا بها إليكم، أفيدونا ذلك أدامكم الله نجمًا للهداية
ورجمًا لأرباب الغواية وسيفًا قاطعًا لرقاب المبتدعين وكهفًا للمستهدين والسلام
عليكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ياسين قضماني
ج - أتذكر أنني رأيت في صغري وصيةً مثل هذه الوصية أرسلت إلى والدي
رحمه الله تعالى وقد سألت بعض الحجازيين هنا في (القسطنطينية) عن الشيخ
أحمد الذي ينشر هذه الوصية منذ عشرات من السنين فلم يعرفه أحد ويجوز أن
يكون مفتجر الوصية الأولى قد مات، وأن الذين ينشرونها في هذه السنين قد
أعجبهم ذلك فهم يعيدونه بتصرف فيه معزو إلي اسم الشيخ أحمد وهذه الوصية
ينطبق بعضها على الشرع دون بعضها الآخر وعندنا من كتاب الله وصحيح أحاديث
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ما يغني عن وصايا الرؤى إن صدق الرائي فيها
فكيف إذا قام الدليل على عدم صدقه كمدعي هذه الرؤيا التي تشهد مخالفة بعض ما
فيها للثابت من الشرع وغلط ألفاظها على براءة الرسول صلى الله عليه وسلم منها.
__________(13/194)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الكبريت المسوكر
س 25 من صاحب الإمضاء في فوه.
سيدي حضرة العلامة الفاضل السيد محمد رشيد رضا الحسيني صاحب مجلة
المنار الغراء.
بعد السلام والتحية نبدي لفضيلتكم أنه الآن حصل خلاف بين بعض علماء
بندر فوه بخصوص مسألة الكبريت ولا سيما المسوكر فمنهم من قال بنجاسته، وأن
الحامل لشيء منه لا تصح صلاته، ومنهم من قال بطهارته، وقد انضم لكل من
هؤلاء أحزاب وضاعت الحقيقة بين الطرفين. نلتمس الإفادة ولسيادتكم من الأمة
الإسلامية مزيد الشكر والثناء.
... ... ... ... ... ... أمين صندوق جمعية الإصلاح بفوه
... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبد الحميد
ج - بيّنا غير مرة في المنار أن النجس هو الشيء القذر الشديد القذارة والذي
يؤخذ من مجموع كلام فقهاء المذاهب أن الشيء المتنجس يطهر بما يزيل القذارة
كالماء والنار والشمس والدبغ والاستحالة. وكل ما قالوه في ذلك حق ومجموعه هو
حكم الشرع في طهارة المتنجس وإن كان بعضهم لا يعترف بما يخالفه به الآخر ولا
يلتفت إلي دليله فيه لأنه مقلد. والكبريت ليس قذرًا في نفسه، ولا نعلم أن فيه شيئًا
من الأقذار النجسة، وسمعت بعض الناس يقول: إنه نجس لأن فيه شيئا من مادة
السبيرتو أو الكحول وقد بينّا من قبل في المنار (ص 500 و 821 و 866
م 4) أن الكحول أو السبيرتو لا يقوم دليل على نجاسته والحاصل أن
الأصل في الأشياء لا سيما إذا كانت لا قذارة فيها ولم يقم في الكبريت دليل ينقض هذا
الأصل، فلماذا نضيق على المسلمين ونوقعهم في الحرج بما لا يزيدهم صلاحًا في
نفوسهم ولا نظافة في أبدانهم مع علمنا بأن الشرع ما حثنا على الطهارة
وأمرنا باجتناب النجاسة إلا لأجل أن يكون المؤمن دائمًا نظيفًا، ومَن زَعَم أنه كلفنا
ذلك لأجل إعناتنا وإحراجنا فكتاب الله حكم بيننا وبينه قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ} (المائدة: 6) .
__________(13/195)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إصلاح الخط العربي
مزية الخط العربي الكبرى التي يمتاز بها على الخط الإفرنجي وغيره هي
الاختصار فالكلمة الإفرنجية تأخذ من مساحة الصحيفة مثل ما تأخذه الكلمة العربية
مرتين أو مرات كما ترى في اسم (محمد) ويرسم هكذا بحروف الطبع عندهم
(mohammad) ولكن في الخط العربي نقصًا ولا تشفع له هذه المزية ولا
أضعافها من المزيا لو وجدت وهو أن معرفته لا تكفي لصحة قراءته؛ بل يحتاج
عارفه إلى عدة علوم وفنون وحفظ الكثير من المفردات لأجل أن يصحح قراءته
فكلمة (ملك) على صغرها تقرأ على وجوه كثيرة:
مَلَكَ مَلَكٌ مَلَكٍ مَلْكُ مَلْكٍ مُلِكَ مُلْكٌ مُلْكٍ مِلْكُ مِلْكٍ مَلَّكَ مُلِّكَ مُلَّكٌ مُلُكٌ مُلُكٍ مُلُكٌ مُلُكٍ
ولهذه الصيغ كلها معان وتقرأ على وجوه أخرى ليس لها كلها معان مستعملة
في هذه اللغة لأن الميم فيها ثلاثة أوجه: الفتح والضم والكسر، واللام فيها هذه الثلاثة
مع التخفيف ومع التشديد وفيها السكون، والكاف فيها الوجوه الثلاثة مع التنوين
والتشديد وعدمها فيحصل من ضرب وجوه الميم وهي ثلاثة في وجوه اللام وهي
سبعة 21 صورة تضرب في وجوه الكاف وهي 12 يحصل 252 ولك أن تضيف
إليها السكون مع التشديد وعدمه فتلك ستة تضربها في 21 يحصل لك 126
فالمجموع زهاء 400 صورة ويكفي في الخلل أن تشتبه الكلمة بوجهين فقط
كالمنتخَِب بكسر الخاء وفتحها بأن لا يخطر في بال قارئها ضبط آخر لها.
ترتب على هذا الخط مفاسد كثيرة أهمها جعل اللغة العربية وعلومها عسرة
التحصيل وكتبها عرضة للغلط والتحريف، وكون قرائها كثيري الغلط واللحن حتى
إنه لا يكاد يوجد الآن في علمائها من يقرأ بدون لحن ولا غلط قط فما بالك بغير
العلماء؟ ! ولولا هذا العيب في خطنا لكان أكثر العامة الذين يتعلمون القراءة والكتابة
قويمي اللسان بهذه اللغة وإن لم يتعلموا النحو والصرف ويكثروا المراجعة في
المعاجم، ولكانت ملكتها قوية فيهم وفهمها يسيرًا عليهم، فكيف يكون شأن العلماء
منهم.
وفي هذا الخط عيب آخر ضار وهو تشابه حروفها الذي كان سبب كثرة
التصحيف والتحريف في كتبها حتى إنك ترى الألوف من أسفارها المكتوبة في
القرون الخالية لا يوثق بها أولا يستفاد المراد منها أو يحتاج فيها إلى المراجعة وإطالة
النظر ليعرف الأصل الصحيح منها.
قد اهتدى بعض الأذكياء من أوائلنا إلى هذين العيبين في خطنا فوضعوا النقط
للتفرقة بين الحروف المتشابهة، وكانت تكتب من غير نقط، ووضعوا الشكل
لأجل ضبط الكلمات لتكون القراءة صحيحة لا لحن فيها ولا غلط، ولكن هذين
العلاجين لم يشفيا العلة، ولم يرويا الغلة، فأما النقط فمع التزام أكثر المتقدمين
وجميع المتأخرين له يكثر التصحيف في مخطوطاتهم فإن نقطة الفاء إذا جاءت كبيرة
ولو بغير تعمد تقرأ قافًا، ونقطتي القاف إذا كتبتها صغيرتين أو ذهب جزء منهما
بسبب ما قرئ القاف فاء، ويقال مثل ذلك في الباء مع الياء والتاء مع النون , وكثيرًا
ما يؤخر الكاتب النقطة عن مكانها من الحرف أو يقدمها قليلا فتشتبه الكلمة بكلمة
أخرى ولا سيما في الحروف التي تكون في أول الكلمة أو وسطها نبرة دقيقة وهي
الباء والتاء والثاء والنون والياء فكلمة يبني من البناء تصير بتقديم وتأخير قليل
لنقطتي النون والباء (ينبي) من الإنباء , وبمثل ذلك تشتبه الإنباء بالأبناء وعلي ذلك
فقِسْ.
وأما الشكل فيحصل فيه مثل هذا التقديم والتأخير الذي يكون في النقط لدقته
وقرب الحروف بعضها من بعض فيترتب على ذلك الخطأ القطعي أو الاشتباه
وكلاهما شر، وهو مع ذلك عسير كأن الكاتب يكتب الكلمة مرتين مرة بحروف
كبيرة ومرة بحروف دقيقة جدًا ولذلك تركه الناس في غير المصاحف إلا قليلاً.
وهو يعسر في الطبع كما يعسر في الخط ولذلك تكون أجرة طبع المشكول مضاعفة
وأدوات الشكل يسرع إليها الكسر في المطابع لدقتها فيفسد الشكل أو يزول في أثناء
الطبع، وقلّما تجد نساخًا يضبط لك شكل كتاب ينسخه لك فيجيء صحيحًا، وأندر
من ذلك من يستطيع أن يشكل كتاًبا لم يكن مشكولاً فإن هذا عمل لا يقدر عليه إلا
المتمكنون من فنون اللغة كلها مع التمكن من العلم الذي يتضمنه ذلك الكتاب وفهم
كلامه بالقرائن والاستعانة على ذلك بمراجعة كتب اللغة وغيرها.
إذا أصلح الخط العربي بكتابته مضبوطًا غير متشابه الحروف يكون ذلك مزيدًا
في أعمار العرب والمسلمين الذين يكتبون بحروفهم لأنهم يتعلمون في أقل من نصف
المدة التي يتعلمون فيها الآن، ومزيدًا في ثروتهم لأنهم لا ينفقون حينئذ على التعليم
ونسخ الكتب وطبعها إلا بعض ما ينفقونه الآن، ويكون سببًا لسرعة ارتقائهم في
العلوم والفنون والمَدنيَّة لأن هذا يتوقف على سهولة التعليم وتعميمه، وبذلك تنتشر
اللغة العربية بين المسلمين من الأعاجم بسرعة عظيمة فيقوى فيهم الإسلام نفسه
فتنمى به آدابهم وفضائلهم ويأمنون من نزغات الإلحاد التي تدخل عليهم الآن من كل
باب من أبواب التعلم على منهاج الإفرنج فتحل روابطهم الاجتماعية وتفسد آدابهم
الملية فيفشو فيهم الفسق والخيانة؛ إذ لا يكون لهم هَمّ إلا في الاستكثار من المال
لأجل التمتع بلذات الدنيا التي ليس وراءها حياة عندهم.
إن المسلم الذي لا يفهم القرآن فهمًا صحيحًا ولا يعرف السيرة النبوية معرفة
حقيقية يسهل تحويله عن الإسلام بالتعليم الإفرنجي وإن كان من العرب الذين فسدت
ملكتهم العربية كأهل بلادنا كلهم فكيف إذا كان أعجميًّا، كنت في مجلس فرأيت أحد
الضباط الشبان يحادث طبيبًا صديقًا لي بجانبه فكان مما قاله أنه يعجب أن يراه
متدينًا مما تلقيه للعلوم العالية وأصل هذا الدين وأساسه القرآن، (قال) وهو كتاب
لم أرَ مثله كتابًا ركيكًا معسلطًا يسرع الملل إلى قارئه، قال لي الطبيب يقول هذا
وهو لا يفرق بين الاسم والفعل في العربية ولا يفهم آية فهمًا صحيحًا، فقلت له إن
هذا أحد السببين في ملله من القرآن، والسبب الثاني هو كفره المادي التقليدي الذي
حَبب إليه الشهوات والانطلاق من قيود التقوى وكرّه إليه الإيمان والعمل الصالح،
ومثل هذا القول لا يصدر عن عربي مؤمن ولا كافر فمهما كان حظ العربي من اللغة
ضعيفًا يفهم في الجملة علوَّ القرآن على سائر الكلام، قال الدكتور شبلي شميل - وهو
فيلسوف مادي مشهور - في النبي صلى الله عليه وسلم:
إني وإن أك قد كفرت بدينه ... هل أكفرنَّ بمحكم الآيات
أو ماحوت في ناصع الألفاظ من ... حجج روادع للهوى وعظات
وشرائع لو أنه عقلوا بها ... ما قيدوا العمران بالعادات
وأثبت الأستاذ جبر ضومط معلم البلاغة في المدرسة الكلية الأمريكانية
ببيروت في كتابه (الخواطر الحسان في المعاني والبيان) أن القرآن معجز ببلاغته
وأسلوبه.
وما يؤثر عن مشركي العرب البلغاء في ذلك مشهور لا محل لشرحه هنا وإنما
نقول إن أشهر وُصف وُصِف به القرآن هو كونه لا تمل تلاوته (ولا يخلقه عند
أهل التلاوة كثرة الترديد) ويظن بعض الناس أن اعتقاد حقيته والأجر على تلاوته
هو السبب في عدم الملل فإننا نعتقد حقية الأحاديث الصحيحة، والأجر في
مدارستها ولكننا إذا قرأنا صحيح البخاري كما نقرأ القرآن دائمًا على تمادي الأيام
والسنين نمل من قراءته ولا نستطيع أن نواظب عليها مع النشاط واللذة كما نواظب
على تلاوة القرآن.
والسبب الحقيقي لعدم المَلَل من تلاوة القرآن هو أسلوبه الغريب في مزج الحكم
والأحكام والقصص والأمثال والعظات والبيّنات ووصف محاسن المخلوقات وسنن االسور فى عبارات بليغة عالية مؤثرة كما بينت ذلك في العقيدة التي وضعتها
للمتوسطينمن طلاب العلوم والفنون وإنما أطلت في هذا الاستطراد لأنبه على أن
الجهل بالعربية وعدم فهم القرآن هو الذي يمهد طريق الإلحاد ومنه يعلم خطأ الذين
يقولون بترجمة القرآن كعبيد الله أفندي من علماء الترك وصاحب جريدة العرب التي
يبث فيها هذا الفكر ليقنع به قراءها وما هم بالذين يقتنعون.
ونعود إلى أصل الموضوع فنقول: إن أذكياء المسلمين من العرب والترك
وأذكياء نصارى العرب من السوريين قد فكروا في مسألة إصلاح الخط العربي في
أواخر القرن الماضي وأتذكر أن شيخنا الجسر رحمه الله تعالى قد أطلعني في أيام
الطلب على حروفٍ رسمها بعض الأذكياء قد جعل الشكل فيها متصلاًّ بالحرف
فيكون للحرف عدة أشكال مع حفظ صورته الأصلية ولم يكن هذا مرضيًا لمن اطلع
عليه من الباحثين، وبحثت مجلة المقتطف في هذه المسألة فكان من رأي الباحثين فيها
أن يكتب العرب لغتهم بالحروف اللاتينية التي يكتب بها الإفرنج واستحسن أصحاب
المجلة هذا الرأي إن لم تكن ذاكرتي مخطئة، ولكن لم يستحسنه ولن يستحسنه
المسلمون. وقد تصدّى بعض الإفرنج كالانكليزي ويلمور الذي كان قاضيًا في مصر
لترويج هذا الأمر والإقناع باختيار اللغة العامية على اللغة الفصيحة، ويرى
المطلعون على المجلد الأول من المنار مقالاً طويلاً منشورًا في موضعين (ص101
و120) في مقاومة هذا الرأي عنوانه: (صدمة جديدة على اللغة العربية) سببه أن
بعض الدعاة إلى إقناع العرب باختيار الحروف اللاتينية قد نشر مع بعض الجرائد
اليومية بمصر منشورًا يدعو فيه إلى كتابة اللغة العامية بهذه الحروف، وعين جوائز
مالية لمن يفعل ذلك، ومن البديهي أن غرض هؤلاء الدعاة هدم اللغة العربية والإسلام
جميعًا وما ذلك بالأمر المستطاع لو أنفقوا في سبيله جميع ما في أوربا من الذهب.
واخترع جميل أفندي الزهاوي من أذكياء بغداد خطًّا جديدًا هو أمثل من الخط
العربي ومن الخط الإفرنجي وعَرَضَه على الناس في مجلة المقتطف فلم يحفل به
أحد لأن المسلمين هم أصحاب الشأن في هذا الأمر ولا يرضون بأن يتغير الخط
الذي هو من مقوماتهم الملية، وقد كتبت به مصاحفهم وأسفار سلفهم ولا سيما إذا
كان التغيير بالانتقال إلى خط أعدائهم السياسيين الذين يريدون إزالة سلطانهم من
الأرض وجعلهم أُجَراء مسخّرين لخدمتهم وهم الإفرنج.
ذاكرت أحمد مختار باشا الغازي في هذه المسألة بمصر منذ سنين فكان مما
قاله لي: إننا فكرنا في هذه المسألة من قبل وتذاكرت أنا وناظر المعارف وغيره من
كبار رجال الدولة في وجوب إصلاح خطنا ليقرأه صحيحًا كل قارئ فإن ضرر هذا
الخط علينا عظيم ولا سيما في العسكرية فإننا نرسل الضباط من أركان الحرب
لخرت بعض المواقع وضبط أسماء معاهدها وطرقها وقراها فيكتبون لنا أسماء لا
نقرأها صحيحة وقد يكون الغلط والاشتباه فيها سببًا للفشل في الحرب إذا وقعت فيها
فكان من رأيي أن تكون نظارة الحربية أول من يستعمل الخط المضبوط في
جغرافيتها فذلك لا يؤثر في التعليم الديني والأدبي ولا يهيج علينا المتعصبين من
العلماء لكل قديم ولكن لم يكد ينتشر بين الناس خبر مذاكرتنا في ذلك حتى لغط
به الناس وعدوه جناية على الإسلام وبلغني أن بعضهم قال نحن لا نعتب على فلان
باشا وفلان باشا إذا قالوا مثل هذا القول لقلة مبالاتهم بالدين، ولكن نعتب على أحمد
مختار باشا - أو قال مختار بك لأنه لم يكن يومئذ باشا - الذي كنا نظن أنه مسلم
متدين ثم قال لي بهذه المناسبة: (إن الإصلاح لا يمكن أن يأتي من تحت الطربوش
بل لا بد أن يكون من تحت العمامة فإذا لم يوجد في علماء المسلمين من يقوم
بالإصلاح فلا يصلح حالهم حتى إن الخليفة الذي هو إمام المسلمين ورئيسهم الديني لا
يمكنه وقد خرج من الهيئة العلمية الدينية أن يأتي بإصلاح جديد للمسلمين ما لم يفته
ذلك شيخ الإسلام) .
هذا وإنني في السنة الماضية قد رغبت إلى المفكرين في الإصلاح اللغوي من
أعضاء نادي دار العلوم بمصر أن يبحثوا في هذه المسألة وأن يراجعوا فيها أنواع
الخط الكوفي وغيره من الخطوط الإسلامية القديمة ويختاروا منها حروفًا لا يشتبه
بعضها ببعض، ولو بالتلفيق وأن يبحثوا أيضًا في طريقة كتابتها مضبوطة بغير هذا
الشكل الدقيق العسر.
وكان بعض المفكرين من الفرس وغيرهم رأى أن تكتب الحروف العربية
المشهورة الآن مقطعة ويجعل الألف بعد الحرف المفتوح والواو بعد الحرف
المضموم والياء بعد الحرف المكسور وأن يكتب الحرف المشدد مرتين كما هو
الأصل فيه ولذلك يسميه الصرفيون مضاعفًا ورأيت كتابًا مطبوعًا على هذه الطريقة
ولكن فيها إشكالات ومعايب ولم يرضها أكثر المطلعين عليها.
ولما جئت القسطنطينية في العام الماضي عرفت فيها الطبيب إسماعيل حقي
أفندي الميلاسلي فرأيته مهتمًا بهذه المسألة أشد الاهتمام وقد وضع فيها كراسة
لإصلاح هذا الخط على أن يكتب حروفًا مقطعة ويكتب بجانب كل حرف من
حروف الكلمة حرفًا لضبط حركته يقرب من حروف العلة لأنه يرسم بتغيير ما فيها
وزاد حروفًا جديدة لضبط الخط التركي؛ لأن في اللغة التركية من الأصوات ما لا
مثل له في العربية وهو يوزع هذه الكراسة على من يرجو منهم العناية بهذا
الإصلاح جزاه الله خيرًا ولكن هذا الخط يحتاج إلي تعليم جديد ولا ينطبق علي القديم
من كل وجه وفيه علل أخرى فلا أرى أن الجمهور يقبله كما هو.
ورأيت ههنا في القسطنطينية أيضًا بحثًا وجدالاً بين الأرنؤط في المفاضلة بين
الحروف العربية والحروف اللاتينية فكان بعضهم يرجح الحروف اللاتينة؛ لأن
لغتهم تتأدى بها أداء صحيحًا لأن حروفهم وأصواتهم عين حروفها وأصواتها ولأنها
هي الأصل المستعمل عندهم وخالفهم الأكثرون محتجين بأن تلك الحروف تبعدهم
عن الإسلام والحروف العربية تقربهم منه، وقد نفذ رأي الأكثرين بعد أن انتصر
لهم أكثر المبعوثين منهم وصدر أمر الحكومة باعتماد الحروف العربية في تعليمهم
وكانوا يتعلمون لغتهم في بعض مدارس الحكومة بالحروف اللاتينية وقد ذاكرت
إسماعيل كمال بك أشهر مبعوثيهم في هذه المسألة وقلت له إذا ترجح عندكم استعمال
الحروف العربية فيحسن أن تستعملوها على طريقة إصلاحية إذ لا صعوبة في ذلك
عندكم كما يصعب على أنّ مَن أَلِفُوا الطريقة القديمة التي يكثر خطأها وتحريفها،
فقال: إنه لا يمكن أن يكون بدء هذا الإصلاح من شعب إسلامي صغير بل يجب أن
يبدأ بمثل هذا العرب أنفسهم وسائر المسلمين يتبعونهم فيه.
هذا مخلص ما أتذكره الآن من شعب هذه المسألة المهمة، وإن لي رأيًا في هذا
الإصلاح كنت أريد إرجاءه إلى الوقت الذي يسهل فيه إيضاحه ويرجى قبوله ولكن
قويت الداعية إلي التنويه به الآن وسأوضحه في فرصة أخرى بعد سبك الحروف
على الوضع الذي يتضح به.
أرى أنه يمكن إصلاح هذا الخط إصلاحًا يحافظ فيه على أشكال الحروف
المعهودة وشكولها المعروفة، أو ما يقرب منها، ولا يحتاج فيه إلى تعليم جديد
للمتعلمين، ولا إلى إبطال كتب السابقين، ويؤمن فيه مع ذلك من الاشتباه
والتحريف والتصحيف والغلط الكثير، من غير إضاعة لما فيه من مزية الاختصار
بالمرة، وليبدأ هذا الإصلاح بالطبع فهو من مسهلاته مع قلة النفقة. وإننا نشير إلى
ذلك بالإيجاز ثم نشرحه عندما يتيسر لنا سبك حروف جديدة له عند عودتنا إلى
مصر إلا أن يفهمه إبراهيم بك رمزي صاحب مسبك التمدن بمصر أو بعض ذوي
العناية هنا فيعجلوا بسبك الحروف له فيكونوا من السابقين إلى الإصلاح الذي نحمده
لهم ونشكرهم عليه.
أرى أن تكون الحروف متفرقة فهذا شرط لا يتم الإصلاح بدونه ولكن
الحروف التي تتصل بغيرها تكتب على حدتها بالصورة التي تكون عليها إذا كانت
في أول الكلمة إلا ما اشتبه بغيره منها، وكان المميز له النقط فقط فيترك على
وضعه المفرد من غير تغيير أو بتغيير قليل لا يخفى به على أحد ولا يحتاج معه إلى
تعليم جديد ولا يكتفي بالتمييز بالنقط وذلك أن تكون الباء دائمًا هكذا (بـ) والتاء
مثلها ولكن نبرتها أو سنها تكون من الأسفل كما ترسم في خط الثلث (ت) والثاء
والنون والياء وهكذا دائمًا (ث، ن، ي) والجيم هكذا (ج) والحاء مثلها ولكن
يلتقي الطرفان الأيسران منها اللذان كضلعي الزاوية أو تجعل كمثلث هكذا (ح)
وأما الخاء المعجمة فتكون هكذا (خ) بزيادة نبرة من الطرف الأيسر ويفرق بين
الدال والذال بجعل أحدهما على الصورة التي يكتبه بها المغاربة أي بزيادة شنخوب
فيكون قريبًا من الكاف الصغيرة في أول الكلمة ولا يشتبه بذلك على أحد , ويفرق
بين الراء والزاي كما يفرق بينهما في قاعدة الثلث (ر، ز) وبين السين والشين
كذلك يجعلها هكذا (س، ش) وبين الصاد والضاد هكذا (ص، ض) وبين الطاء
والظاء بجعل عمودًا إحداهما معقوفًا كما يرسم في الخط الديواني وبين العين والغين
بجعل إحداهما ذات شنخوب كما ترسم في الخط الثلث أحيانًا وبين الفاء والقاف هكذا
(ف، ق) ولا بأس بجعل نقطة الفاء من الأسفل ونقطة واحدة للقاف من الأعلى
كما يكتب المغاربة، وتكتب سائر الحروف هكذا (ك، ل، م، ن، هـ، ة، و)
والرسم الثاني للهاء يخص بالمشتركة بين التاء الهاء وهمزة الوصل تكتب ألفًا بغير
علامة أو بالعلامة المشهورة هكذا (ا) وهمزة القطع هكذا (أ) والممدودة هكذا (آ)
وأما ألف المد فيبقى على صورته (ا) إن جعلنا همزة الوصل ذات علامة وإلا
جعلناه هكذا (ا) وواو المد يكون هكذا (و) وياء المد هكذا (ي) .
هذا ما نكتبه الآن في وصف هذا الضرب على إصلاح الحروف بالاختصار
ونرجيء التفصيل وبيان الجزئيات إلى أن تسبك الحروف على الوضع الذي أشرنا
إليه.
وأما الشكل الذي يضبط به الكلام وهو الأهم فيمكن أن يستغنى فيه عن علامة
الفتح لأنه هو الأكثر، ويوضع للرفع والكسر هذه الأداة المعروفة في طباعتنا الآن
(،) ويفرق بينهما بكيفية وضعها هكذا (و -،) وإذا كان الحرف منوَّنًا توضع
مزدوجة (,،) والحرف المفتوح المنون يوضع له علامة أخرى إما العلامة
المشهورة وإما غيرها كعلامة التعجب المشهورة في المطبوعات العصرية مكررة
مرتين فقط (! !) وعلامة السكون المعهودة في شكلنا تجعل كبيرة وتبقى على حالها،
وأما الحرف المشدد فإما أن نبقي له علامته المشهورة مع تكبيرها قليلاً وإما أن
نكتبه مرتين كما هو الأصل فيه.
هذا ما أعرضه الآن موجزًا مجملاً على نادي دارالعلوم بمصر وعلى محبي
الإصلاح من العلماء وأصحاب الجرائد والمطابع والمسابك ليبحثوا فيه ولهم أن
يختاروا بعض الأشكال والشكول على بعض ولكن لا ينبغي أن يطول السكوت على
هذا الخلل العظيم والله الموفق.
__________(13/196)
الكاتب: محمد الخضر بن الحسين
__________
أطوار اللغة العربية [*]
لم يأت الباحثون عن مبدأ اللغة في أدلتهم بما تطمئن إليه النفوس ويحل منها
محل القطع أو الظن القريب منه، على أن اختلافهم في تعيين الواضع هل هو الله
تعالى أو البشر مما لا تترتب عليه فائدة في العمل تقتضي العناية بترجيح أحد
المذهبين، ومِن ثَمّ صحح المحققون أن إدخال هذه المسألة في علم الأصول من
الفضول، وزعم بعضهم أن قلب الألفاظ التي يؤدي تغييرها إلى فساد في أحكام
الشريعة كتسمية الثوب فرسًا والفرس ثوبًا يرجع حكمه إلى أصل ذلك الخلاف
فيمتنع القلب على القول بأن اللغة كلها وقعت بتعليم مِن الله ويجوز على القول بأنها
وضعت باصطلاح البشر وليس هذا البناء بمستقيم فإن مجرد إسناد الوضع إلى الله
تعالى، وإن ثبت بالحجة القاطعة لا يقتضي الوقوف عند حد ما ورد منه والإمساك
عن تغييره باصطلاح جديد.
وأقصى ما ثبت في التأريخ أن هذه اللغة كانت في قبائل مِن ولد سام بن نوح
عليه السلام وهم: عاد وثمود وجرهم الأولى ووبار وغيرها وقد انقرضت أجيال
هؤلاء إلا بقايا متفرقين في القبائل، ولا يصح شيء مما يُروى عنهم من الشعر،
وقد أنكر العارفون على مَن كتب في السيرة أشعارا كثيرة ونسبها إلى عاد وثمود، ثم
انتقلت إلى بني قحطان وكانوا يتكلمون باللسان الكلداني لسان أهل العراق الأصليين
وأول مَن انعدل لسانه إلى العربية (يعرب بن قحطان) وبعد أن نشأت منها الحميرية
لغة أهل اليمن انتقلت إلى أولاد إسماعيل عليه السلام بالحجاز، ولم تكن لغة
إسماعيل عربية بل كان عِبرانيا على لسان أبيه إبراهيم عليه السلام، ثم انخرط في
شعوب العرب بمجاورتهم ومصاهرته لجرهم الثانية حين نزل بمكة فنطق بلسانهم
وورثه عنه أولاده؛ فأخذوا يصوغون الكلام بعضه مِن بعض ويضعون الأسماء
بحسب ما يحدث مِن المعاني إلى أن ظهرت اللغة في كامل حسنها وبيانها وصار لها
شأن عظيم وتأثير بليغ.
ويدلك على عنايتهم بأمر الفصاحة ما وصل إلينا من نتائج أفكارهم وبدائع
خُطَبِهم وقصائدهم في سوق عُكَاظ وسوق مُجنة؛ إذ يَفِدون عليها في موسم الحج
ويقيمون في عكاظ ثلاثين يومًا وفي مجنة سبعة أيام يتناشدون ما وضعوه في الشعر
ويتفاخرون بجودة صناعة الكلام وعند احتفالهم يضربون قبة للشاعر العظيم في وقته
كالنابغة الذبياني ويعرضون عليه منتخبات أشعارهم، وكان بعضهم يهدد بعضا بنظم
الهجاء وتسييره في ذينك الموضعين قال: أمية بن خلف يهدد حسان رضي الله عنه.
ألا مَن مبلغ حسان عني ... مغلغة تدب إلى عكاظ
وقال حسان في جوابه:
أتاني عن أمية زُورَ قول ... وما هو في المغيب بذي حِفاظ
سأنشر إن بَقِيتُ له كلامًا ... يُنشر في المَجنة مع عُكاظ
ومِن شواهد هذا أن الحارث بن حِلزة اليشكري كان شاعرًا حكيمًا ولكنه ابْتُلِيَ
بوضح (بَرَص) ومن أجله كان عمرو بن هند ملك الحيرة يكره النظر إليه ويأبى
أن يستمع إلى خطابه إلا مِن وراء ستار، فدخل عليه يومًا وأنشد بين يديه قصيدته
المعدودة في المعلقات:
آذَنَتْنا بِبَيْنِهَا أسماء ... رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّواء
وتعرض فيها إلى شيء من الصلح بين بكر وتغلب فبهرت عمرًا برائع نظمها
واستولت على لبه بسحر بيانها فأخذته هِزة وارتياح ولم يتمالك أن أمر برفع الستار
ما بينهما.
واقتضت عناية العرب لذلك العهد بالإبداع في القول والتنافس في مقام
الفصاحة أن ظهرت معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في بلاغة ما أُنزل عليه
من القرآن، كما جاء عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن
الله لمّا أُرْسِل إلى قومٍ توفرت عندهم العناية بعلم الطب، وكما بُعث موسى عليه
السلام إلى أمة انتهى السحر فيها إلى غاية فأتاهم في مقام المعجزة بأبدع ما يكون في
قلب الأعيان وإراءتها في غير صورتها الأولى.
ثم ارتقت اللغة في صدر الإسلام إلى طورها الأعلى ودخلت في أهم دور يحق
علينا أن نسميه عصر شبابها فنمت عروقها وأثمرت غصونها بألوان مختلفة من
الأساليب.
ومِن مآثر هذه الحياة الراقية أَنْ كان كلام الناشئين في الإسلام من العرب أحلى
نسقًا وأصفى ديباجة من كلام الجاهلية في شعرهم وخطبهم ومحاوراتهم.
والأسباب التي ارتقت بها اللغة حتي بلغت أشدها وأخذت زخرفها أمور ثلاثة:
أحدها: ما جاء به القرآن الحكيم من صورة النظم البديع والتصرف في لسان
العرب على وجه يملك العقول؛ فإنه جرى في أسلوبه على منهاج يخالف الأساليب
المعتادة للفصحاء قاطبة - وإن لم يخرج عما تقتضيه قوانين اللغة - واتفق كبراؤهم
على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه اللائق به وإنْ تفاضل الناس
في الإحساس بلطف بيانه تفاضلهم بسلامة الذوق وجودة القريحة.
ومن النحاة من يحكم على بعض استعمالات يَردُ عليها القرآن بعدم القياس
عليها كما قصروا حذف حرف المصدر ورفع المضارع بعده على السماع بعد أن
أوردوا في مثاله قوله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} (الروم:
24) الآية، ولا أدري كيف يتفق لهم هذا مع علمهم بأنه صاحب البلاغة التي ليس
وراءها مطلع، وإنَّا لنعلم قولهم في أصول العربية أنَّ ما قل في السماع إنْ كان مقبولاً
في القياس صح القياس عليه، وإن وُجِدَ ما يعارضه في القياس يُوقَفُ على السماع
فنسلم لهم إجراء هذه القاعدة في كلام العرب لاحتمال أن تزيغ ألسنتهم عن القصد
فيحرفون الكلمة عن أصل استعمالها غلطًا، ولا نسلم لهم تحكيمها في كتاب الله الذي
أخرس بفصاحته لسان كل منطيق.
ثانيها: ما تفجر في أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم من ينابيع الفصاحة
وما جاء في حديثه من الرقة والمتانة والإبانة عن الغرض بدون تكلف، رُوي أن أبا
بكر الصديق رضي الله عنه قال: لقد طُفْتُ في أحياء العرب فما رأيت أحدًا أفصح
منك يا رسول الله، قال (وما يمنعني وأنا قرشي وأرضعت في بني سعد وبنو سعد
أفصح قبيلة في العرب بعد قريش) .
وإنما أغضى علماء اللسان النظر عن الاستشهاد بالحديث لأن رواته لم يَجْمعوا
عنايتهم على ضبط ألفاظه كما كانوا يتثبتون في نقله على المعنى، ولو تحقق أهل
العربية من رواية حديث بلفظه كالأحاديث المنقولة للاستشهاد على فصاحته صلى الله
عليه وسلم لاستندوا إليه في وضع أحكامها يقينًا.
ثالثها: ما أفاضه الإسلام على عقولهم بواسطة القرآن والحديث من العلوم
السامية وبما نتج عن تعارف الشعوب والقبائل والتئام بعضها ببعض من الأفكار
ومطارحة الآراء، ومعلوم أن اتساع العقول وامتلائها بالمعار مما يُرَقَّي مداركها
ويزيد في تهذيب ألمعيتها فتقذف بالمعاني المبتكرة وتبرزها في أساليب مستحدثة
فإن، كثرة المعاني ودقتها تبعث على التفنن في العبارة والتأنق في سياقها ويُوَضِّح لكم
هذا أن الناشئين في الحواضر نجدهم في الغالب أوسع غاية في اجتلاب المعاني الفائقة
وأهدى إلى العبارات الحسنة مِمَن يعادلهم في جودة القريحة وفصاحة المنطق بفطرته
لاشتمال المدن على معانٍ شتى ينتزع الذهن منها هيئات غريبة لا طريق لتصورها إلا
المشاهدة.
ولما فارقت العرب الحجاز لإبلاغ دعوة الإسلام وبث تعاليمه بين الأمم
اقتضت مخالطتهم لِمَن يُحسن لغتهم ضعف ملكاتها على ألسنتهم ودخول التغيير عليها
في مبانيها وأساليبها وحركات إعرابها وابتدأ التحريف يسري إلى اللغة في عهد
الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأشار على أبي الأسود الدؤلي
بوضع علم النحو ولم يزل أئمة العربية يحوطونها باستنباط القواعد حتى ضربوا
عليها بسياج يقيها عادية الفساد، ويحول بينها وبين غوائل الضياع والاضمحلال
وحين انتشرت المخالطة وتفشى داء اللحن أمسك العلماء عن الاستشهاد بكلام
معاصريهم من العرب ويعدون أول المحدثين الذين لا يستشهد بأقوالهم بشار بن
برد المتوفى سنة 167 واحتج سيبويه بشيء مِن شعر بشار بدون اعتماد عليه وإنما
أراد مصانعته وكف أذايته حيث هجاه لتركه الاحتجاج بشعره كما استشهد أبو علي
الفارسي في كتاب (الإيضاح) بقول أبي تمام:
مَن كان مُرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا
وليس مِن عادتهم الاستشهاد بشعر أبي تمام لأن عَضُد الدولة كان يُعجب بهذا
البيت وينشده كثيرًا.
واستشهد صاحب الكشَّاف عند قوله تعالى: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} (البقرة: 20) ببيت من شعر أبي تمام، وقال وهو وإن كان محدثًا لا يُستشهد بشعره
في اللغة فهو مِن علماء العربية فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه، فيؤخذ من
صريحه أنه يرى صحة الاحتجاج بكلام المحدث إذا كان من أئمة اللغة وليس مذهبه
هذا بسديد وقياس ما يقوله أبو تمام على ما يرويه غير صحيح فإن التكلم بالعربية
الصحيحة لعهد أبي تمام ناشيء عن ملكة تُستفاد مَن تعلم صناعتها ومدارسة قوانينها
فعلى فرض أن لا تفوته معرفة بعضها قد يذهل عن ملاحظة تلك القوانين فلا يأمن
أن يَزِلَّ به لسانه في خطأ مبين، وأبو تمام نفسه صدرت عنه أبيات كثيرة خرج فيها
عن مقاييس العربية قال ابن الأثير لم أجد أحدًا من الشعراء المُفْلَقين سَلِمَ مِن الغلط
فإما أن يكون لَحِنَ لَحْنًا يدل على جهله بمواقع الإعراب، وإما أن يكون أخطأ في
تصريف الكلمة ولا أعني بالشعراء مَن تقدم زمانه كالمتنبي ومَن كان قبله كالبحتري
ومَن تقدمه كأبي تمام ومَن سبقه كأبي نُوْاس.
أما العربي القَح فإنه يطلق العبارة بدون كُلفة في اختيار ألفاظها أو ترتيب
وضعها فتقع صحيحة في مبانيها مستقيمة في إعرابها، ولا يكاد يَلْحِن في إعراب
كلمة أو يُزيلها عن موضعها إذا ترك لسانه وسجيته ومن ثم كان قَرضُ الشعر
كالخطابة على الارتجال والبديهة شائعًا عند العرب نادرًا في عصر المولدين، ولا
يعترض هذا بأن كثيرًا من العرب يطيل المدة في عمل القصيدة كما فعل زهير في
حولياته لأنه يستوفيها في أمد قريب ويتمها على شرط الصحة ولكنه لا يخرجها
للناس إذا فرغ من عملها إلا بعد التروي وإعادة النظر في تقويم معانيها وحسن النسق
في بنائها وإحكام قوافيها لا ليخلصها من اللحن ويطبق عليها أصول العربية كما هو
شأن المُحْدَثِينَ.
ثم نشأ بهذا التحريف الذي طرأ على اللغة مرض آخر انجر إليها بسبب من
أسباب حسنها هو أن مسلم بن الوليد وأبا تمام أمعنا النظر في أشعار الفصحاء
وخطبهم وحسروا اللثام عن وجه بيانها فأبصروا فيها محاسن من فنون البديع
كالاستعارة والجناس والتورية فَشُغِفوا بها وثابروا على إيرادها في منظوماتهم توفيرًا
لحسنها واستزادة من التأنق فيها فكان الناس يقولون: إن أول مَن أفسد الشعر مسلم بن
الوليد وسمع أعرابي قصيدة أبي تمام التي يقول في طالعها:
طلل الجميع أراك غير حميد ...
فقال إن في هذه القصيدة أشياء أفهمها وأشياء لا أفهمها فإما أن يكون قائلها أشعر
من جميع الناس، وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه، وما تعاصى فهمها على
الأعرابي إلا لكونه سمع شعرًا حُشِي بوجوه من البديع خرجت به عن الأسلوب
المألوف فثقل تأليفه وبَعُد عن الأفهام تناوله.
واتبع طريقهما كثير من الأدباء وربما انتهى بهم الإعجاب بمحاسن البديع إلى
مخالفة قانون العربية وتغيير بنية الكلمة من أجلها كقول بعضهم:
انظر إليَّ بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلافِ قبل تلافي
فكأنه زاد في مصدر تلف ألِفًا يتم له الجناس مع قوله تلاف ولا نعرف في كتب
اللغة من ذكر التلاف مصدرًا لتلف وإنما يوردون في مصدره التلف بدون ألف.
ولم تقف سيئة الإكثار من البديع عند حد الشعر بل تعدى وباؤها إلى النثر
أيضًا فطفق كثير مِن الكُتَّاب يملأون رسائلهم بوجوه التحسين: الاستعارة والجناس
ونحوها، واجتهدوا أن لا يفوتهم الشعراء بواحد منها حتى إذا ما تلقيت صحيفة من
هذا القبيل وألقيت فيها نظرك ليطوف عليها بالمطالعة أدركته عند كل فقرة حبسة
والتَوَتْ أمامه طرق فهمها، وإن كانت معاني مفرداتها جلية فتحس به كيف ينتقل مِن
كلمة إلى أخرى بخطوات ضيقة كأنما حُمِل على قيد مِن حديد، وأكثر هؤلاء يهملون
النظر إلى جانب المعنى والمحافظة عن إقامته واستيفائه، وهذا ما بعث الشيخ عبد
القاهر الجرجاني حين قام ينادي بأبسط عبارة أن الألفاظ خدم للمعاني وأن المعاني
مالكة سياسة الألفاظ، وأقام الحجة في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة [1] على
أن مَزيَّة الفصاحة إنما استحقتها الألفاظ ووصفت بها من جهة معانيها وأزال كل
شبهة عرضت لِمَن اعتقد أنها مزية استحقها اللفظ بنفسه.
وأدرك غالب المحررين اليوم أن تتبع هذه الحسنات ومواصلة العمل بها في
نظم الكلام يُبدلها سيئات تشمئز منها قلوب الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بيانًا
فأقلعوا عن الإكثار منها لاسيما في خطابات الجمهور وزهدوا فيها إلا ما سمح به
الخاطر عفوا ورَمَتْه الطبيعة بدون كلفة ظاهرة.
وكانت اللغة من خلال الأَعْصُر الماضية تعلو وتضعف وتنتشر في أنحاء
المعمورة على حسب كرم الدولة وعناية رجالها بالفنون الأدبية فارتفع ذكرها حين
كان الأمير سيف الدولة يباحث أبا علي الفارسي في غوامض علم النحو وينقد شعر
أبي الطيب المتنبي بذوق لطيف ويجازيه وغيره من الشعراء بغير حساب.
وارتقي شأنها يوم قام القاضي منذر بن سعيد في مجلس الملك الناصر لدين الله
عند احتفاله برسول ملك الروم في قصر قرطبة وشرع يخطب من حيث وقف أبو
علي البغدادي وانقطع به القول فوصل منذر افتتاح أبي علي بكلام عجيب وأطال
النفس في خطبة مرتجلة فخرج الناس يتحدثون ببديهته المعجزة وارتواء لسانه من
اللغة الفصحى ولا مِرْيَة في أن كرم الدولة باعث على ارتقاء حال اللغة عند من
التفت إلى التأريخ وأقام الوزن بين الشعراء الناشئين في زمن أجواد العرب وملوك
آل جفنة وملوك لخم كزهير والنابغة وبين مَن تقدمهم مِن الشعراء.
__________
(*) بقلم الشيخ محمد الخضر ين الحسين من العلماء المدرسين بجامع الزيتونة بتونس في مسامرته (حياة اللغة العربية) .
(1) يباع كل واحد منهما بعشرين قرشًا صحيحًا بإدارة المنار وأجرة البريد ثلاث.(13/205)
الكاتب: فوزان بن سابق
__________
السائل والمسؤول
كلمة مولى
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة الشيخ المكرم ناصر السنة وقامع البدعة العالم العامل السيد محمد
رشيد رضا المحترم أدام الله بقاءه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد قرأت في المنار الأغر لا زالت
راياته منشورة، وآياته ظاهرة منصورة، في (ص814 جزء11من المجلد12)
سؤالاً ورد من محمد علي أفندي من موظفي كمرك يافا ذكر فيه أنه قد اطلع على
كتاب يُدعي صيانة الإنسان عن وساوس ابن دحلان قال (فرأيته فسر كلمة مولى بما
معناه: إن كلمة مولى مشتقة من اسم الجلالة فلا يجوز والحالة هذه إطلاقها على
بني الإنسان كأن يقال مثلاً مولانا فلان فكل إنسان قالها لإنسان غيره يشرك بالله،
إلى آخر السؤال فأجبتم على هذا السؤال بقولكم: الجواب قد غلا صاحب ذلك الكتاب
في قوله الذي نقلتموه غلوًّا كبيرًا وأخطأ خطأ ظاهرًا إلى آخر الجواب، وحيث
أن الداعي لتحريري هذا هو التنبيه لا طلب التخطئة فأرجوكم أن تسمحوا لي من
حيث اني أنبه على غلط السؤال والجواب ليتبين وجه الصواب، فأقول:
مِن الواجب أن يتنبه المسئول لمورد السؤال فلا يعتمد نقل السائل إذا كان
يعزو إلى كتاب معين سواء كان حكى اللفظ أو المعنى كهذا السائل الذي لا يفهم
منهما شيئًا إن لم يكن عنده سوء قصد فحيث إن موضوع الكتاب المسمى بصيانة
الإنسان رد علي ما افتراه دحلان على الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الكذب
والبهت في رسالته التي سماها (بالدرر السنية في الرد على الوهابية) فقد أقام الله
تعالى لرد باطله ذلك العالم الجليل صاحب صيانة الإنسان الشيخ عبد الله بن عبد
الرحمن السندي حتى زيف ما لفقه من الزور والبهتان، وأبدى عوراته لكل إنسان،
فجزاه الله عن نصرة الحق وأهله خير الجزاء، وهذا ما قاله دحلان مما وقع في
صفحة511 من الكتاب المذكور
(ويزعم أن من قال لأحدنا مولانا وسيدنا فهو كافر إلى آخر ما هذي به) ،
فهذا جواب صاحب صيانة الإنسان ننقله بالحرف الواحد قال في صفحة 513:
(وأما مسألة قولنا لأحدنا مولانا وسيدنا فنذكر ما ورد في الباب، منها ما
أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (لا يقولن
أحدكم عبدي فكلكم عبيد الله ولكن ليقل فتاي ولا يقول العبد ربي ولكن ليقل سيدي)
- وفي رواية له - (ولا يقل العبد لسيده: مولاي) . وزاد في حديث أبي معاوية:
(فإن مولاكم الله عز وجل) - وفي رواية له - (ولا يقل أحدكم ربي وليقل سيدي
ومولاي ولا يقل أحدكم عبدي أمتي وليقل فتاي فتاتي غلامي) ، وأخرج هذا الحديث
أبو داود أيضًا وأخرج أبو داود عن مطرف قال: قال أبي: (انطلقت في وفد بني
عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا أنت سيدنا فقال: السيد الله، قلنا
وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا قال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستحرينكم
الشيطان) ، وأخرج أبو داود عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (لا تقولوا للمنافق سيد فإنه إن يك سيدًا فقد أسخطتم ربكم عز
وجل) انتهى.
فقد عُلم مِن تيك الأحاديث أن النبي صلي الله عليه وسلم نهى عن إطلاق لفظ
السيد والمولى على أحدنا ورخص فيهما أيضًا ووجه التوفيق بأن للسيد والمولى
معاني فالنهي باعتبار بعض المعاني والرخصة باعتبار البعض الآخر، قال في
النهاية في مادة السود: السيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم
والحليم ومتحمل أذى قومه والزوج والرئيس والمقدم، انتهى، وقال في مادة الولي:
وهو اسم يقع على جماعة كثيرة فهو الرب والمالك والسيد والمُنْعِم والمعتق والناصر
والمحب والتابع والجار وابن العم والحليف والعقيد والصهر والعبد والمعتق والمُنْعَم
عليه انتهى.
فالنهي عن إطلاق لفظ السيد والمولى على غير الله محمول على السيد والمولى
بمعنى الرب، والرخصة محمولة عليهما بمعنى آخر مِن سائر المعاني فإن ثبت أن
الشيخ قد منع مِن إطلاق لفظ السيد والمولى على غير الله فمراده السيد والمولي بمعني
الرب، وأما بالمعني الآخر فكيف يتصور أن يمنع الشيخ منه فإنه عقد بابًا في كتاب
التوحيد بهذا العنوان باب (لا يقول عبدي وأمتي) وأورد فيه حديث أبي هريرة
المروي في مسلم الذي تقدم ذكره آنفا وفيه هذا اللفظ: وليقل سيدي ومولاي، فهذا
اللفظ صريح في جواز إطلاق لفظ السيد والمولى على غير الله بالمعني الآخر،
انتهي المقصود منه.
وله تتمة ساق المصنف فيها أحاديث كثيرة في جواز إطلاق السيد والمولي
بمعنى غير الرب على الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين لا وجه للمنع منه،
فانظر حفظك الله من أين فهم السائل أن صاحب الكتاب فسر كلمة مولي بأنها مشتقة
من اسم الجلالة إلى آخر ما ذكره حينئذ تعلم أن السؤال والجواب، قد حادا عن
طريق الصواب، وختام كتابي تقديم أزكى سلامي ولائق احترامي ودمتم محروسين
دمشق الشام، كاتبه، فوزان بن سابق.
(المنار)
لا نسلم للكاتب قوله إنه يجب على المسؤول أن لا يعتمد على نقل السائل فكلام
الناس ونقلهم يُحمل على الصدق ما لم يتبين كذبه أو يدل عليه شيء وإذا كان الجواب
مبنيًّا على السؤال وكان حًقا علي تقدير كون السؤال في محله فلا لوم على المجيب
إذا كان السؤال غير منطبق علي الواقعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجيب،
بل يحكم للناس بحسب الظواهر كما هو معلوم.
__________(13/211)
الكاتب: معروف الرصافي
__________
إلى الأمة العربية
هو الليل يغري بي الأسى فيطول ... ويرخي وما غير الهموم سدول
أبِيتُ به لا الغاربات طوالع ... عليّ ولا للطالعات أُفُول
وينشر فيه الصمت لبدا مضاعفًا ... فتطويه مني رنة وعويل
ولي فيه دمع يلذع الخد حره ... وحُزن ما امتد الظلام طويل
بكيت على كل ابن أروع ماجد ... له نسب في الأكرمين جليل
يليح من الضيم المذل بغرة ... لها البدر ترب والنجوم قبيل
مِن العرب أما عرضه فموفر ... مصون وأما جسمه فهزيل
له سلف عزّوا فبزوا نباهة ... ولم تعتورهم فترة وخمول
وساروا بنهج المكرمات تقلهم ... قلائص من سعي لهم وخيول
وكانوا إذا ما أظلم الدهر أشرقت ... به غرر من مجدهم وحجول
أولئك قوم قد ذوى روض مجدهم ... فلم تسر فيه نسمة وقبول
وقد أعطشته السحب حتى لقد علت ... على الزهر منه صفرة وذبول
رعى الله من أهل الفصاحة معشرًا ... لهم كان فوق الفرقدين مقيل
ترامى بهم ريب الزمان كأنما ... له عندهم دون الأنام ذحول
فأمست من العمران خلوا بلادهم ... فهنَّ حزون قفزة وسهول
وعادت مغاني العلم فيها دوارسًا ... تجر بها للرامسات ذيول
وقوَّضَت الأيام بنيان مجدها ... فربع المعالي بينهن محول
نظرت إلى عرض البلاد وطولها ... فما راق لي عرض هناك وطول
ولم تبد لي فيها معاهد عزها ... ولكن رسوم رثة وطلول
نظرت إليها من خلال ذوارف ... من الدمع طرفي بينهن كليل
فكنت كراءٍ من وراء زجاجة ... بعينيه كيما يستبين ضئيل
ولم أتبين ما هنالك من علي ... لكثرة ما قد دب فيه نحول
هناك حنيت الظهر كالقوس رابطًا ... بكفي على قلب يكاد يزول
وأوسعت صدري للكآبة فاغتدت ... بإرجائه تحت الضلوع تجول
وأرسلت دمع العين فانهل جاريًا ... له بين أطلال الديار مسيل
أأمنع عيني أن تجود بدمعها ... على وطني؟ إني إذًا لبخيل!
فإن تعجبوا أَنْ سال دمعي لأجله ... فإنَّ دمي من أجله سيسيل!
وما عشت أني قد تناسيت عهده ... ولكن صبري في الخطوب جميل
وإن امرأ قد أثقل الهم قلبه ... كقلبي ولم يلق الردى لحمول
أفي الحق أن أنسى بلادي سلوة ... ومالي عنها في البلاد بديل
أقول لقومي قول حيران جازع ... تهيج به أشجانه فيقول:
متى ينجلي يا قوم صبح ظلامكم ... وتذهب عنكم غفلة وذهول
وينطق بالمجد المؤثل سعيكم ... فيسكت عنكم لائم وعذول؟
تريدون للعليا سبيلاً وهل لكم ... إليها وأنتم جاهلون سبيل!
أناشدكم أين المدارس إنها ... على الكون فيكم والحياة دليل؟
وأين الغنيُّ المرتجى في بلادكم ... يجود على تشييدها ويطول!
بلاد بها جهل وفقر كلاهما ... أكول شروب للحياة قتول
أجل إنكم أنتم كثير عديدكم ... ولكن كثير الجاهلين قليل
ولو أن فيكم وحدة عصبية ... لهان عليكم للمرام وصول
ولكن إذا مستنهض قام بينكم ... تلقاه منكم بالعناد جهول!
وأى فريق قام للحق صده ... فريق طلوب للمحال خذول!
وإن كان فيكم مصلحون فواحد ... فعول وألف في مداه قؤول!
على أن لي فيكم رجاء وإن أكن ... إلى اليأس أحيانا أكاد أميل
ألستم من القوم الأولى كان علمهم ... به كل جهل في الأنام قتيل
لهم همم ليس الظباة تفلها ... وإن كان منها في الظباة فلول
ألا نهضة علمية عربية ... فتنعش أرواح بها وعقول
ويشجع رعديد ويعتز صاغر ... وينشط للسعي الحثيث كسول
فإن لم تقم بعد الأناة عزائم ... فعتبي عليكم والملام فضول!
... ... ... ... ... ... ... ... ... معروف الرصافي
__________(13/214)
الكاتب: حافظ إبراهيم
__________
رعاية الأطفال
محمد حافظ إبراهيم
شبحًا أرى أم ذاك طيف خيال؟ ... لا بل فتاة بالعراء حيالي
أمست بمدرجة الخطوب فما لها ... راع هناك وما لها من وال
حسرى تكاد تعيد فحمة ليلها ... نارًا بأنّات زكين طوال
ما خطبها عجبًا وما خطبي بها ... ما لي أشاطرها الوجيعة ما لي!
دانيتها ولصوتها في مسمعي ... وقع النبال عطفن إثر نبال
وسألتها: مَن أنت؟ وهي كأنها ... رسم على طلل مِن الأطلال!
فتململت جزعًا وقالت: حامل ... لم تدر طعم الغمض منذ ليال
قد مات والدها وماتت أمها ... ومضى الحِمام بعمها والخال
وإلى هنا حبس الحياء لسانها ... وجرى البكاء بدمعها الهطال
فعلمت ما تخفي الفتاة وإنما ... يحنو على أمثالها أمثالي
ووقفت أنظرها كأني عابد ... في هيكل يرنو إلى تمثال
ورأيت آيات الجمال ... تكفلت بزوالهن فوادح الأثقال
لا شيء أفعل في النفوس كقامة ... هيفاء روّعها الأسى بهزال
أو غادة كانت تريك إذا بدت ... شمس النهار فأصبحت كالآل
قلت انهضي، قالت أينهض ميت ... مِن قبره ويسير شن بالي؟
فحملت هيكل عظمها وكأنني ... حملت حين حملت عود خلال!
وطفقت أنتهب الخطى متيممًا ... بالليل دار رعاية الأطفال
أمشي وأحمل بائسين فطارق ... باب الحياة ومؤذن بزوال
أبكيهما وكأنما أنا ثالث ... لهما مِن الإشفاق والأعوال
وطرقت باب الدار لا متهيبًا ... أحدا ولا مترقبًا لسؤال
طرق المسافر آب مِن أسفاره ... أو طرق رَبُّ الدار غير مبال
وإذا بأيد طاهرات عودت ... صنع الجميل تطوعت في الحال
جاءت يسابق في المبرة بعضها ... بعضًا لوجه الله لا للمال
فتناولت بالرفق ما أنا حامل ... كالأم تكلأ طفلها وتوالي
وإذا الطبيب مشمر وإذا بها ... فوق الوسائد في مكان عال
جاؤا بأنواع الدواء وطوَّفوا ... تسرير ضيفهم كبعض الآل
وجثا الطبيب يجس نبضًا خافتًا ... ويرود مكمن دائها القتَّال
لم يدر حين دنا ليبلو قلبها ... دقات قلب أم دبيب نمال
ودعتها وتركتها في أهلها ... وخرجت منشرحًا رخيّ البال
وعجزت عن شكر الذين تجردوا ... للباقيات وصالح الأعمال
لم يُخجلوها بالسؤال عن اسمها ... تلك المروءة والشعور العالي
خير الصنائع في الأنام صنيعة ... تنبو يحاملها عن الإذلال
وإذا النوال أتى ولم يهرق له ... ماء الوجوه فذاك خير نوال
مَن جاد مِن بعد السؤال فإنه ... وهو الجواد يعد في البخال
لله درهم فكم مِن بائس ... جم الوجيعة سيئ الأحوال
ترمي به الدنيا فمِن جوع إلى ... عُري إلى سقم إلى إقلال
عين مسهدة وقلب واجف ... نفس مروعة وجيب خال
لم يدر ناظره أعريانا يرى ... أم كاسيًا فى تلكم الأسمال
فكأن ناحل جسمه في ثوبه ... خلف الخروق يطل مِن غربال!
يابرد فاحمل قد ظفرت بأعزل ... يا حر تلك فريسة المغتال
يا عين سِحّي يا قلوب تفطَّري ... يا نفس رقي يا مروءة والي
لولاهم لقضى عليه شقاؤه ... وخلا المجال لخاطف الآجال
لولاهم كان الردى وقفًا على ... نفس الفقير ثقيلة الأحمال
لله در الساهرين على الألى ... سهروا مِن الأوجاع والأوجال
القائمين بخير ما جاءت به ... مدينة الأديان والأجيال
أهل اليتيم وكهفه وحماته ... وربيع أهل البؤس والإمحال
لا تهملوا في الصالحات فإنكم ... لا تجهلون عواقب الإهمال
إني أرى فقراءكم في حاجة ... - لو تعلمون - لقائل فعال
فتسابقوا الخيرات فهي أمامكم ... ميدان سبق للجواد النال
والمحسنون لهم على إحسانهم ... يوم الإثابة عشرة الأمثال
وجزاء رب المحسنين يجل عن ... عَدٍّ وعن وزن وعن مكيال
__________(13/216)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(العرب والترك)
قد علم قراء المنار أن السعي في حسن التفاهم بين العرب والترك قد كان
أحد القصدين الجليلين من رحلتنا إلى دار السلطنة في آخر الخريف حيث يعود
المصريون منها ومن سائر البلاد التي يصطافون فيها لقضاء فصل الشتاء بمصر
التي لا يَفْضُل شتاءها شتاء؛ وعلموا أيضًا أنه كان مِن السعي زيارتنا لصاحب
جريدة (إقدام) ومعاتبته على ما كتب في شأن العرب وعرض مقالات عليه في
حسن التفاهم بين العنصرين اللذين هما قوام الدولة العثمانية ووعده بنشرها ولكن
أكثرهم لا يعلمون أن صاحب (إقدام) نشر ثلاثًا مِن تلك المقالات وامتنع عن نشر
ثلاث: نشر المقدمات وامتنع عن نشر المقصد الذي فيه بيان أسباب سوء التفاهم
وطرق تداركها وتلافيها، ومنها مسألة تنقيح اللغة التركية وحذف الألفاظ العربية
منها وما سمع عن جريدة (إقدام) من سوء التعبير فيها، قال في بيان سبب امتناعه
عن نشر المقالة الرابعة إن هذه أمور ملية تتعلق بنا (أي الترك) فليس له حق في
البحث فيها! !
وقد استمر على نغماته الجنسية بقلمه وقلم أعوانه حتى نشر مقالة من مقالات
عن اليمن بإمضاء (خليل حامد) وهو إمضاء مستعار لأحد الضباط هنا وقد
جاء في هذه المقالة من الطعن في العرب أنهم - في زعم الكاتب - بمقتضى
طبيعتهم يبيعون بالمال كل شيء حتى أعراضهم! !
وقد قامت لهذه العبارة قيامة العرب الذين هنا حتى إن بعض الشبان استفزتهم
حمية الغيرة على العرض التي لا يداني العرب فيها شعب مِن شعوب الأرض
فدفعتهم عند قراءة هذه العبارة والدم العربي يتبيغ في أجسامهم إلى إدارة جريدة إقدام
وإهانة صاحبها وتحقيره على نشر هذه السفاهة حتى قيل إنهم بصقوا في وجهه ولا
عجب فصاحب الغيرة على العرض قد يقتل مَن يطعن في عرضه عندما يفاجئه
ذلك، والقوانين تعذر مَن تدفعه الحدة العارضة للدفاع عن عرضه إذا أطاعها مِن
فوره ولا يعد هذا الدفاع منكرًا قبيحًا كسائر أنواع الإهانات إلا مَن لم يعرف للغيرة
على العرض معنى.
نحن لا نقول: إن الاعتداء أو الافتيات على الحكومة في القصاص أمر حسن
مشروع وإنما نقول ويقول العقلاء كافة: إن فرقًا عظيمًا بين اعتداء مبتدأ لا يدفع له
الطبع وبين مؤاخذة فورية لم توطن عليها النفس.
وكيف يستنكر من فتيان العرب مثل هذه الغيرة التي لا رأي لهم فيها ولا روية
وقد اضطربت لهذا الطعن أعصاب الكهول والشيوخ من المبعوثين كغيرهم حتى إن
بعضهم أصابه الصداع ولم يستطع في ذلك المساء تناول الطعام وذهب وفد منهم إلى
الصدر الأعظم وكان في مجلس الوكلاء فأرسلوا إليه فخرج إليهم ووعدهم هو وناظر
العدلية بتدارك الأمر وإحالة أحمد جودت بك مدير إقدام على ديوان الحرب العرفي
لتعطيل جريدته ثم محاكمته في العدلية وقد حكم الديوان بتعطيل جريدة إقدام إلى أجل
غير مسمى ولكنه لم يلبث أن أصدرها وكتب فوق كلمة اسمها كلمة (يكي) أي جديدة
أو الجديدة، وناهيك بهذا من عقوبة!! وحكم عليه أيضًا بمائة ليرة غرامة غرمها.
وقد علم ديوان الحرب أن الناس صاروا يسخرون من تعطيل الجرائد لأن من عطلت
جريدته صار يصدرها بإضافة لفظ (يكي) إليها فقرر أنه لا يجوز لمن يحكم هو
بإلغاء جريدته أن يصدر جريدة ما إلا بإذن منه ولكن هذا القرار لم ينفذ على جريدة
إقدام!
وقد كتب أحمد بك جودت مدير إقدام عندما عطلت جريدته مقالة نشرها في
جريدة (طنين) اعتذار فيها عن نفسه ولكن كان عذرًا أقبح من ذنب فإنه نفث فيها
سموم التغاير والتدابر بين العرب والترك بإيهامه القارئين لها أن العرب يتهمونه بأنه
مندفع لعداوة العرب بجنسيته التركية ويرون أن الترك أعداء العرب وانتقل من هذه
الدسيسة إلى الامتنان على العرب بفضل الترك عليهم وذكر من هذا الفضل ما يعلم
هوانه في غير محله فالظاهر أنه يريد بذلك أن يقوم كتاب العرب للرد عليه وإنكار ما
قاله مخالفًا للتأريخ ليتسنى له ولأمثاله حينئذ أن يوسعوا الخرق ويقولوا: إن العرب
يحتقرون الترك. ونحن لم نسمع أحدًا من العرب يقول: إن مدير إقدام يذم العرب
بإغراء الترك أو رضاهم.
ادعى صاحب (إقدام) في مقالته هذه أن جريدته هذه ليست جريدةً عنصريةً
ولا ترجح الترك على غيرهم من العثمانيين وأن جميع الأجناس يعترفون له بذلك،
والمشهور خلاف ذلك.
وإنه ما وجدت جريدة تركية أساءت إلى العرب أو أغضبتهم كما أغضبتهم
جريدة إقدام فهي أشهر الجرائد في التعصب الجنسي، ولأجل هذا التعصب لم تنشر
مقالاتنا التي طالبنا فيه بإنصاف العرب وحسن التفاهم بينهم وبين إخوانهم الترك وإلا
فما هو عذره، ولماذا أخلفنا وعده؟
قال بعد تلك المقدمة التي مدح بها نفسه وبرأها كما شاء (فالقول بأن التركية هي
التي دفعت جريدة إقدام لكتابة تلك الفقرة هو اتهام للترك كلهم) فانظر إلى هذه النتيجة
الخاطئة من تلك المقدمات الباطلة.
ثم قال: (نعم إن الترك فدوا في اليمن وغيرها مئات الألوف من أولادهم فهذا
الفداء ليس لأجل أن يفترقوا عن العرب بل بالعكس يقتضي محبة الاتحاد معهم!!
والتأريخ يشهد لنا بأن الذي خلص جزيرة العرب من استعمار الأجانب لها في أيام
الصليبيين إنما هي دماء الترك وذلك خدمة للإسلام، والعرب لا تنسى ذلك إلى يوم
القيامة.
ونقدر أن نقول بعبارة عامة: إن الترك بذلوا أرواحهم في سبيل العرب!!
بناء على ذلك كيف يكون الترك خصماء للعرب وسالكين سبيل الحاكمية العنصرية
فهل هذه التهم هي مكافئة على الدماء التي أراقها الترك في سبيل العرب؟ وهل بعد
هذا يكون القول بأن صاحب إقدام عدو للعرب موافقا للمنطق؟ اهـ.
الترك أخوة العرب في الدين وفي تكوين هذه الدولة التي هي تراث الإسلام في
الحكم والسلطان فإذا قلنا إن صاحب إقدام جنى على التأريخ بزعمه أن الترك أنقذوا
جزيرة العرب من الصليبيين لا نكون بإبطال الباطل ناكثين للفتل الذي جعلنا مع
الترك أمة واحدة، وكل مَن يعرف التأريخ يعلم أن جزيرة العرب كانت طول
الزمان في أمان من الإفرنج وأما ما أخذوه من سواحل سورية فقد أنقذه منهم المسلمون
كافة لا الترك خاصة.
وإذا قلنا إن سوء سياسة الدولة في سفك دماء العرب في اليمن لا يعد مِنَّة
للترك على العرب لا نكون مخلين بحقوق هذه الإخوة لا لأن الدماء التي سفكت
هناك بأمر قواد الترك وحكامهم هي دماء العثمانيين من الترك والعرب والأرناؤط
والكرد، بل لأن سفكها كان من جهل أولئك القواد بالسياسة وحسن الإدارة، وقد
خربت بلاد العرب ولم تعمر بلاد الترك، على أن الترك بعد أن تشرفوا به لم
يكونوا يعملون لأجل عنصرهم ولا لأجل عنصر العرب، وإنما يعملون لأجله كما
أخذوا من أساتذتهم العرب حتي قام أمثال (صاحب إقدام) من متفرنجي هذا العصر
يصخوب الآذان كل يوم بما يثير العصبية الجنسية ويضعف الرابطة الإسلامية وهم
يجنون على دولتهم من حيث يدرون أو من حيث لا يدرون، ويخشى أن يعلموا
سائر العناصر العصبية الجنسية، وقد ظهرت بوادر ذلك وهو أكبر خطر على هذه
الدولة فنسأل الله تعالى أن ينقذها من شرور هؤلاء الأشرار بمَّنِه وكرمه.
ثم إن (صاحب إقدام) أورد بعد بيان هذه المنن التي في رقاب العرب للترك
موازنة بين ما نشره عن ذهول (كما ادعى) من الطعن في أعراض العرب
ماضيهم وحاضرهم وآتيهم وبين إهانة بعض طلاب العرب له في إدارة جريدته
وزعمه أنهم أهانوا عند ذلك الأمة التركية كلها إهانة لم يُسمع بأن مِلَّه من الملل
أُهينت بمثلها ولم يقع من عنصر من العناصر العثمانية إهانة لعنصر آخر بمثل ذلك!
وكَبَّر هذه الدعوى وهوَّل فيها ما شاء وأشار بالنقط هكذا.... إلى أن ما طواه من
ذلك وأغضى عنه هو فوق ما قاله تصريحًا وتلويحًا، ولو كان يجب الاتحاد والاتفاق
بين العنصرين كما ادعى في هذه المقالة لما نشر خبر هذه الإهانة المزعومة بين
الترك في جريدة هي أوسع من جريدته انتشارًا، لأن ذلك يوغر صدور مَن يصدقون
هذه الدعوى مِن الترك فتنفرج مسافة الخلف، فمقالته هذه شَرٌّ مِن مقالة (خليل حامد)
وأضر، وأدهى وأمر، ولا يظهر لنا علة لنشر هذه الدعوى والتهويل بها غير تعمد
إلقاء الشقاق بين الأختين الشقيقتين: الترك والعرب، فإن ادعى أنه يريد بذلك تربية
المعتدين عليه يُقال له كان يكفي في ذلك أن تذكر ما وقع للمحكمة العرفية أوالعدلية
من غير أن تنفث في جريدة طنين سموم التفرق والخلاف وما أنت بالمقصر في
الشكوى وتعقيب الدعوى.
ثم إنه بعد إثارة هذه الفتن، وإيقاد نار الشقاق والإحن، أخذ يسخر من العرب
بطريقة أخرى غير الامتنان عليهم بمذابح اليمن وتخريبها في عصور الاستبداد التي
نرجو أن يبد لنا الله تعالى بها عصر العمران والنور في ظل الدستور، تلك الطريقة
هي استدلاله على إخلاصه وحبه إرضاء العرب بدليلين هما من أغرب ضروب
الاستدلال التي لم يبين مثلها في باب السفسطة من علم المنطق:
(أحدهما) إنه قال لناظر الداخلية عندما بلغه خبر تعطيل جريدة إقدام، إن
عنده رخصة باسم (يكي إقدام) ولكنه لا يصدرها لأجل أن يرضي العرب
وتطمئن نفوسهم لحسن نيته.
قال: لأن تعطيل الجريدة لا يُقصد به ورقة مخصوصة أو اسم مخصوص
وإنما الغرض منه إبطال هذه الإدارة أو تخريبها، وأنا أتحمل هذه الخسارة لأجل أن
تطمئن قلوب العرب وترضى خواطرهم! وذكر أن ناظر الداخلية قد أعجب بهذه
الأريحية وسُر وشَكر، وإنه يظن أن سائر الوكلاء مثله في ذلك.
لو صدق في قوله لناظر الداخلية ولم يصدر جريدته باسم (يكي إقدام) لما
شك أحد من العرب في صدقه بما ذكر من السبب، وهو ابتغاء رضاهم واستمالتهم
ولكنه قال هذا القول ولم يلبث أن خالفه وأصدر الجريدة فظهر أنه قال ذلك ليسخر
من العرب وينبه الغافل منهم إلى أن حكم ديوان الحرب بإبطال جريدته لم يكن
عقوبة ولا خسارة وإنما كان عبارة عن زيادة كلمة (يكي) في الجريدة! .
وأما الدليل الثاني: فهو أنه كان عزم على إصدار جريدة عربية واستحضر
أشهر شعراء العرب وأكبرهم من بغداد لأجل تحريرها وكلمه كلامًا حسنًا ثم لم
يصدرها.
وهذا الدليل الثاني أغرب من الدليل الأول وإن كان يشابهه ويقابله في كون كل
منهما عبارة عن وعد وُعِدَ به، وأخلف وقول قاله ولم يَصدُق فيه ويختلفان على
تقدير الصدق في القولين والوفاء بالوعدين إذ لو وَفَّى بالأول لكان دليلا على حبه
للترضية كما قال وإن لم يكن دليلا على التأليف بين العنصرين، ولو وَفَّى بالثاني لما
كان مجرد الوفاء به دليلا على حب العرب ولا على التأليف بينهم وبين إخوانهم
الترك، بل كان يجوز أن تكون جريدته العربية أشد تنفيرًا للعرب من جريدته
التركية فالعرب يعتقدون الآن بأن جريدته متعصبة هاضمة لحقوقهم مهينة لهم ويقل
مَن يراها منهم أو يعلم بما يُنشر فيها فلو نشر جريدة عربية، وقال فيها إنه يجب على
الترك تطهير لسانهم من الألفاظ العربية، أو نشر فيها تلك المقالات عن السنوسية، أو
مقالات (خليل حامد) أو غير ذلك مما ينُشر أحيانا في إقدام من العبارات التي ترمي
إلى العصبية الجنسية، لَمَا كانت الإشر آلات التحليل لهذا الجسم الواحد الذي يحيا
بروح واحد وإن كان مركبًا من عنصرين يسمى أحدهما العرب والآخر الترك.
لَمَّا ظهرت في العام الماضي أسباب سوء التفاهم بين العرب والترك كان من
أقواها ما ينشر في جريدة إقدام واشتهر ذلك في سورية ومصر ولكنني على سماعي
هذا من الكثيرين لم أكن أسيء الظن بصاحب (إقدام) ولذلك سعيت إليه، وأحببت أن
أنشر في جريدته ما أريد أن أكتبه من المقالات لإزالة سوء التفاهم وتأكيد الوفاق
والاتحاد بين العنصرين ولكنه أخلف فيما وعدني به من كل ما أكتبه كما تقدم فساء
ظني فيه وأكد سوء الظن مقالته التي نشرها في (طنين) وما فيها من موقظات
الفتنة التي أشرنا إليها.
كدنا ننجح في سعينا ونزيل تلك الأسباب التي أحدثت سوء التفاهم بما كتبناه
من المقالات هنا وفي المنار ومن المكتوبات الخاصة للأدباء والفضلاء في البلاد
العربية فجاءت هذه الحادثة المشئومة فأعادت المسألة جذعة وكان صاحب إقدام
عُذَيْقُها المُرَجب، وجُذَيْلها المُحَكك، ولم تنته شرورها إلى الآن فديوان الحرب
العرفي لا يزال يطلب الأفراد والثبات من طلاب العرب ورجالاتهم للتحقيق في مسألة
إهانة صاحب إقدام لأنه ألبسها ثوب التعصب الجنسي.
إن المقالة الأخيرة المتضمنة للطعن في أعراض العرب قد طير البرق خبرها
إلى المدن العربية الكبرى وخاضت فيها الجرائد، وكان لها من سوء التأثير فوق ما
يظن أولياء الأمور هنا فإذا كانت نتيجتها هنا أن يُعاقب كثير من الطلاب بالحبس
أو غير الحبس أو يتوسل بها إلى إقفال (المنتدى الأدبي) الذي يجتمع فيه
جمهور أولئك الطلاب للمدارسة والمذاكرة وتعلم اللغات القومية والأجنبية ليمنعوا من
أسباب الترقي كما يظن المتطيرون من الناس ويكتفي من معاقبة صاحب إقدام
بإضافة لفظ (يكي) إلى جريدته فلا يعلم إلا الله ماذا يكون لذلك من سوء التأثير
عند الأمة العربية وعند كل المخلصين لهذه الدولة.
مع هذا كله أكرر في المنار وغير المنار وما قلته للعرب في هذه الديار أنه لا
يجوز لنا بحال من الأحوال أن نجعل ذنب الأفراد ذنبًا للأمة أو أن ننسى أن الشعب
التركي الخالص المتدين يحب العرب حب عبادة، وأن العرب يحبونه حب الأخوة
الخالصة، ويجب أن نتقي الانفعال من كلا بعض المتفرنجين الفاسقين أو الملحدين
الذين يحركون العصبية الجنسية ليوقعوا الشقاق بين العنصرين، فإن حدث ما يحرك
الانفعال طبعًا فيجب أن نتقي فيما نقول وما نكتب كل ما يبعد أحد العنصرين عن
الآخر ونجعل انتقادنا على أشخاص المفسدين المفرقين فإن التفرق والتعادي بين
الترك والعرب يجلب الخطر عليهما معًا وعلى الدولة، وإن جَهِلَ المتعصبون،
وتَجَاهل المفسدون.
* * *
(اليمن ودماء العثمانيين المهدورة فيه)
إننا بعد أن كتبنا تلك العجالة في الرد على صاحب جريدة (إقدام) وتخطئته في
التفرقة بين الترك والعرب وتوسله إلى ذلك بالافتراء على التأريخ في مسألة الحرب
الصليبية والمخاتلة في مسألة اليمن رأينا أن نرجع إلى التأريخ فنقتبس منه قبسًا
يضيء سبيل الحق فيما أشرنا إليه هناك من كون الدماء التي سُفكت في اليمن لم
تكن دماء الترك وحدهم ولم يكن فيها شيء لمصلحة العرب لأنها خربت بلادهم ولم
تعمرها وبدئت بالغدر والظلم والتخريب واستمرت على ذلك إلى اليوم، ولا لمصلحة
الترك لأنهم لم يستفيدوا في مقابلة تلك الدماء التي سفكوها والأموال التي أنفقوها من
خزانة الدولة فائدة مادية ولا معنوية كما نوَّه بذلك مجلس المبعوثين في إحدى جلسات
الشهر الماضي إذ قال عبد الحميد أفندي الزهراوي مبعوث حماه: لو عصرنا تراب
اليمن لقطر دماء عثمانيًا فماذا استفدنا من ذلك؟ ؟
ويظن بعض الناس أن معظم هذه الدماء سُفكت في عهد السلطان عبد الحميد
الذي انتهى إليه الاستبداد في هذه الدولة وأقله في زمن السلطان عبد العزيز قبله،
وقد ذكرت هذه المسألة هنا فقال بعض الناس أنها بنت نصف قرن قلت بل هي بنت
أربعة قرون ثم رَجِعْتُ إلى التأريخ فجئت منه بالشهيد الآتي.
جاء في (كتاب البرق اليماني في الفتح العثماني) أي فتح اليمن لقطب الدين
الحنفي المكي الذي قال في مقدمته إنه خدم به سدة السلطان سليم بن السلطان سليمان،
(وفي مكتبة كوبريلي زاده محمد باشا نسخةً منه كتب في طرته بالذهب إنها
أُهديت إلى خزانة كتب الصدر الأعظم محمد باشا في عصره) .
إن ابتداء التصدي لفتح اليمن كان في عهد السلطان سليمان (القانوني) فإنه لما
بلغ السلطان استيلاء الإفرنج من البرتغال على بلاد الهند أمر بإعداد أسطول في
مصر وتجهيز عسكر فيه لمحاربتهم وجعل قائد هذا العسكر بيكلاربكي مصر سليمان
باشا الخادم وهو أحد مماليك السلطان سليم خان بن بايزيد خان الذي (لم يتعلم من
أخلاق سيده غير الفتك، ولم يستقر في باله مما شاهده منه غير إراقة الدماء والسفك)
فاحتال قبل سفره بالأسطول على الأمير جانم الحمزاوي الذي كان من أعظم
الناصحين في خدمة السلطنة وأمر بذبحه فقطعت رقبته بسيفه وهو يقول لا إله إلا
الله محمد رسول الله! ثم قطع رقبة ولده يوسف أمير الحج وإنما قتلهما بعد أن كتب
إلى السلطان بأنه شم من الأمير رائحة العصيان ويخشي أن يطيعه العسكر لإحسانه
إليهم فكتب إليه السلطان (ادفع شرهما) ونسي السلطان أن هذا الأمير هو الذي كان
سبب إصلاح المملكة عند عصيان أحمد باشا وأنه لم يوافقه على العصيان.
ثم أمر الباشا بسلخ الوالد والولد وحشوهما تبنا وتعليقهما على باب زويلة [*] .
قال المؤلف: (ثم إن سليمان باشا بعد قتله لجانم الجمزاوي تملح أيضًا
بصلب الأمير داود بن عمر أمير الصعيد من غير جُرم أتاه، ولا ذنب سوَّاه، غير
كثرة أمواله، وبذل يده وسعة حاله، فطمع الباشا سليمان، فطلبه إلى الديوان، فلما
جاء أخذ هداياه أولا ثم عاتبه لقصد قتله معللا، فقال ترسل إلينا قمحًا غير نظيف؟
فقال أنا ما جئت إلا بقمح مثل الجوهر اللطيف، فأمر به إلى باب زويله وعلق في
عنقه منديلا فيه قليل قمح وصلبه هناك وأحاط بجميع أمواله وخزائنه، وظفر
بكنوزه ودفائنه، وقتله وهو مظلوم، وعند الله تجتمع الخصوم، وكان أحسن أمراء
الصعيد كثير البر والصدقات، محبًا للخيرات والحسنات، يحسن كل عام إلى كل
واحد من علماء جامع الأزهر والمشايخ المسلكين في ذلك القطر الأزهر، بالخمس
مئة من الذهب فما دونها) ... إلخ ما ذكر من فضائله وفواضله.
ثم سافر سليمان باشا إلى جَدَّه ومنها إلى عدن (وكان صاحبها يومئذ عامر بن
داود بقية بني طاهر ملوك اليمن سابقًا.. . فلما بلغه وصول سليمان باشا للغزو في
سبيل الله، وقطع جادرة الإفرنج عن الإضرار بعباد الله، فتح له باب عدن، وأمر
أن تزين، وجمع له من البلاد، ما أراد من الأزواد، وتوجه هو ووزيره للسلام
عليه إلى الغراب (نوع من المراكب) الذي هو فيه فبمجرد أن رأي سليمان باشا
باب عدن قد فتح أمر عسكره بدخول عدن وأخذها فلما وصل إليه عامر ألبسه ومن
معه خلعًا ثم أمر بصلبهم على الصاري في الغراب الذي هو فيه ونهب العسكر داره
ثم شرعوا في نهب البلد) وعَد البلد من فتوحاته وأقام فيها نائبًا وكتب على بابها
أنه فتحها سنة 945.
ثم ذكر المؤلف وصول خبر غدر الباشا إلى أهل الهند فنفر منه الناس وكانوا
استعدوا لنصره وجمع العسكر له ثم كادوا له حتى رجع عنهم إلى اليمن قال:
(وكان سليمان باشا خوَّارًا خوافًا لم يُعهد منه شجاعة ولا إقدام وإنما كان يفتك بمن
وقع في يده مأسورًا مربوطًا، فركبه من ذلك (أي مما بلغوه إياه كيدًا له وإيهامًا
وليس هذا محل شرحه) خوف عظيم وتفرقت عساكره وصاروا يخدمون خوانين
الهند طمعًا في كثرة العلوفة) .
ثم ذكر خبر وصوله بمن بقى معه من العساكر إلى (مخا) وغدره بصاحب
اليمن قال: (وأرسل إلى الناخود أحمد بخلعه ومرسوم فيه الأمان وأن يكون نائبًا
عن السلطنة بمملكة اليمن كما كان وأن يصل بنفسه يدوس البساط، ويحصل له
كمال الشرف والانبساط، فلما وصل إليه المرسوم استشار أخصاءه فكلهم أشار عليه
بعدم المواجهة وقالوا له إنه لم يكن عنده شيء من الخيل ونحن عندنا سبع مئة
حصان فإن قاتلنا قاتلناه، وإن رضي منا بالإطاعة أطعناه، فلم يستصوب هذا الرأي
وركب إليه لملاقاته هو وخاصة عبيده وكانوا نحو الخمس مئة ووصل إليه طائعًا
لابسًا خلعته هو وولده وولد اسكندر رموز وهما صبيان دون المراهقة وقدم إليه من
هدايا اليمن ما قدر عليه، فلما دخل عليه أمر بقتله في الحال وذلك في ثامن
شوال سنة خمس وأربعين وتسع مئة فتشتت عبيده فنادى فيهم مناد من أراد من
العبيد السود العلوفة السلطانية عند الوزير فليأت! فاجتمعوا بأسرهم ودخل معهم من
ليس منهم طمعًا في العلوفة وأُدخلوا حوشًا كبيرًا له باب واحد وصاروا يخرجونهم
اثنين اثنين ويكتب اسمهما الكاتب بحضوره ويبرز بهما إلى خارج الباب فيرمي
رقابهما ولم يشعر بهما أحد منهم ممن داخل الحوش ولم يعلموا ما يفعل بهما عند
الباب إلى أن قتل الجميع!!) .
ثم ذكر عوده وحجه وما فعل في الحرم من الإلحاد والظلم والنهب والسلب من
أهل عرفات والحجاج ومن أميري الحج الشامي والمصري ثم عودته إلى مصر
وافتخاره أمام الوزير لطفي باشا زوج أخت السلطان سليمان بفتوحاته لعدن واليمن
وانتصاره ولا ندري على أي الأعداء انتصر وما كان صاحبا عدن واليمن إلا فرحين
به مستأمنين له من غير ضعف ولا خوف، ثم قال المؤلف رحمه الله ما نصه وهو
الحكمة البالغة والعبرة المؤثرة:
(ولو نظروا في حقيقة الحال، وتدبروا ما سيؤول إليه المآل، علموا أنهم
كانوا في غنى عن هذا العنا، وتيقنوا أنه جر إليهم محنًا وإحنا، ولقد سمعت
المرحوم محمد حلبي المقتول دفتر دار مصر يفاوض المرحوم داود باشا في حدود
سنة ثلاث وخمسين وتسع مئة فقال: (ما رأينا مسبكًا مثل اليمن لعسكرنا كلما
جهزنا إليه عسكرًا ذاب ذوبان الملح، ولا يعود منهم إلا الفرد النادر ولقد راجعنا
الدفاتر في ديوان مصر من زمن إبراهيم باشا إلى الآن فرأينا قد جهز من مصر إلى
اليمن في هذه المدة ثمانون ألفا من العسكر لم يبق منهم في اليمن ما يكمل سبعة آلاف
نفر) ا. هـ كلامه.
(قال المؤلف) قلت وقد تجهز بعد ذلك إلى هذا الزمان أضعاف ما ذكره
محمد بك رحمه الله تعالى وهلُمَّ جرا إلى آخر الزمان، وهذا سر إلهي لا يعلم حقيقته
إلا الله تعالى، والذي يلوح للخاطر أن سبب نقصان بركتهم، وتقهقر عددهم، ما
يرتكبونه من ظلم العباد، وما يتصاعد من المظلومين من الأدعية التي تصدر عن
قلوب منكسرة ليس لها ناصر إلا الله تعالى، والله سبحانه يلهم حكامنا وأمراءنا العدل
والإنصاف، ويعدل بهم عن الجور والاعتساف، إنه مجيب الدعوات، ومقيل
العثرات، اهـ.
(المنار)
إن أعجب ما في هذه النبذة التي اقتبسناها من هذا التأريخ قوله (وهلم جرا
إلى آخر الزمان) فلله در المؤرخين إن أشعة بصائرهم لتخترق حجب القرون،
فتبصر ما وراءها وتخبر بمضمرات الغيوب، فقد صدّقت حوادث هذه القرون
الأربعة قول الرجل ما أراه إلا كان يعتقد بعلة خفية لهذا الخذلان في تلك البقعة لهذه
الدولة التي كانت في تلك الأيام أقوى دول الأرض ولعلها هي ما أشار إليه في مقدمة
الكتاب من الأحاديث الصحيحة الواردة في اليمن الناطقة بأن الإيمان يماني والحكمة
يمانية وأن نفس الرحمن يأتي من جهة اليمن على أن الرجل كان متعصبًا للدولة
على الزيدية مفتخرًا بما كان يحصل لها من الانتصار، متألمًا مما كان يحدث لها من
الانكسار، ذامًّا للزيدية مشنعًا عليهم بالبدعة، مادحًا للدولة وعسكرها بنصر السنة،
ولم تكن عنده نعرة جنسية عربية فإن الإسلام نزع من قلوب العرب هذه العصبية
الجاهلية فلم تعد إليهم حتى اليوم، بل نرى المؤلف يذم عرب اليمن أحيانًا مع التعبير
عنهم بالعرب، ويمدح الترك معبرًا عنهم بالترك، ويبتهج بنصرهم ويدعو لهم وهذا
شأن العرب إلى اليوم في كل البلاد يفرحون بنصر الدولة على عرب اليمن وإن
ظلمت هنالك العباد، وخربت البلاد، حتي إنهم كانوا يقولون في السلطان عبد الحميد
لا أزال الإله دولته الغرا (م) وإن كان قد طغي وتجبر.
وقد قرأنا في جريدة الإصلاح التي تصدر في سنغافورة كتابة من عهد قريب
لبعض عرب حضرموت يتمنون فيها أن تعجل الدولة باحتلال بلادهم والاستيلاء
عليها، ولكن متعصبي فروق أمثال صاحب جريدة إقدام مجدون في التفريق، فهم
الذين يعيدون بأقوالهم وأفعالهم إلى العرب عصبية الجنس إلا إذا تدارك رجال
السياسة هذا عاجلاً كما نصحنا لهم أمس حين جئنا العاصمة، ولما يستبينوا النصح
في ضحي الغد.
اتقوا الله يا ساسة الدولة وانزعوا هذا الوسواس من صدوركم، اتقوا الله
وأصلحوا ذات بينكم، اتقوا الله فإنكم تقولون إننا في حاجة إلى المساواة والاتحاد مع
جميع العناصر العثمانية، وكيف يكون الاتحاد إذ لم يكن قبل كل شيء بين العرب
والترك؟ اتقوا فنحن في أشد الحاجة إلى الاعتصام بالأخوة الإسلامية مع جميع
المسلمين والأخوة العثمانية مع جميع العثمانيين، فلا يَهْدِمَنَّ السفهاء ما يبنيه الحكماء،
فإن الهدم أسهل وأسرع من البناء، والسلام على من اتبع الهدى، ورجح العقل على
الهوى.
***
(دار العلم والإرشاد)
رجوت في النبذة الثانية من رحلتي أن أنشر في الجزء الثالث من المنار نظام
مدرسة (دار العلم والإرشاد) بناء على الرجاء في الشروع بالعمل في ربيع الأول،
وقد حدث بعد أن كتبت ما كتبت ما أيأسني من مساعدة الحكومة بعد وعدها القطعي
أو كاد، ثم عادت المياه إلى مجاريها والمرجو من فضل الله تعالى أن يكون الشروع
في شهر ربيع الآخر وقد تمت المقدمات في ربيع الأول والله الموفق وهو
المستعان.
__________
(*) هو المعروف الآن ببوابة المتولي بمصر.(13/219)
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
__________
خديجة أم المؤمنين
(9)
الفصل الثامِنَ عَشَرَ [*]
(عظم المِنَّة باتساع المنَّة)
كان محمد صلى الله عليه وسلم قويّ القلب جدًّا تدل على ذلك سيرتُه كلها من
أولها إلى آخرها، ولكن مهما قوي القلب أمام الحوادث المعتاد وقوع أمثالها بين
الناس فلا يدل ذلك على أنه لا تأخذه روعة أمام صوت غير بشري، يهيب به إلى
أمْر غير حسي؛ لذلك لا ينبغي أن تستغرب الروعة التي أخذت لأول وهلة ذلك
القلب القوي العظيم , فإنه دعي من لدن الحق بواسطة الروح إلى وظيفة تَنُوءُ
بِحَمْلِها المنن، ويجب بِحَسَبِ حدودها قلب السنن.
إي لَعَمْر الحق لا غرابةَ في روعة تنفض الظهر، إذا حدثت لمن نودي هذا
النداء بهذا الأمر، وبديهي احتياج هذا المأمور إلى شرح الصدر، والتأييد ورفع
القدر، ولا بدع إذا ضمن له كل تأييد من أراد أن يكون قلبه محلاً لتنزلات وحيه
الأعلى.
نعم ألمت الروعة بقلب صاحب (حراء) لما نزل عليه الروح بما نزل به
عليه وقد صرح لخديجة بذلك وقال لها: (لقد خشيت على نفسي) ولكن التأييد
حافٌّ به، والإيناس صافٌّ من حوله، وناهيك أن في منزله الذي إليه يثوب روحًا
شريفًا كأن الله قد أوجده خاصة لتأييده وشرح صدره بادئ بدء هو روح السيدة
(خديجة) .
لم تكن هذه السيدة أقوى مُنَّه من بعلها الكريم ولكن هو واجهته روائع الجلال
مواجهة، فأخذته بين حيرة وشوق وخشية عجز عن القيام بالوظيفة، وأما هي
فسمعت بالأمر سماعًا، ووجدت للتفكير فيه مجالاً، ولإيناس الرفيق مقالاً.
ولو بُدهت امرأة بما بُدهت به هذه السيدة من هذا النبأ العظيم وكان ينقصها ما
حلاَّها الله به من الفطنة وبُعد الإدراك وسلامة الفطرة وما أعطاها من قوة التمييز في
وزن الأمور ومعرفة مقاييسها لتراخت مفاصلها ووهت قوتها أمام هذا الحادث
الغريب، ولكن العناية الأزلية التي لها اليد في إظهار هذا المظهر الأعلى قد أتمت
العمل من أوله إلى آخره ونسقته على أحسن منوال فلا بدع بما نراه في هذه السيدة
من الصفات التي تساعد على استقبال أمور عظيمة لأنها خلقت لتكون زوجة لذلك
الرجل الذي سيأتيه أعظم الأمور ويأتي به.
تفكرت (خديجة) في هذا الأمر وأخذت تسائل نفسها بنفسها وللأمل ههنا وجه
وللخوف وجه: فالأمل يقول لها: (إن الأمين لصادق وإن روحه لزكية قوية لا
سلطان لروح الشر عليها والروح الذي جاءه إنما بلغه باسم ربه أنه اصطفاه رسولا
والله على هذا قدير، وباختصاص من شاء بما شاء جدير، وأي شيء يمنع رب
العالمين إذا أراد أن يتكرم على هذا البيت بإنزال وحيه فيه فيغدو بعد الآن مشرقًا لا
تضاهيه المشارق، يفيض النور على القبائل والشعوب، أنت اللهم على هذا قادر
إذا أردت ولا مانع لما أعطيت، والوجل يقول لها ما هذه الحال التي أخذت حبيب
قلبي فراعته، إني لأخشى أن يكون أمرًا جسمانيًا بحتًا كما قد يعرض للأفراد، إني
لأخاف أن يصبح هدفًا لرمي الأضداد، ولكن سرعان ما غالب الأمل على الوجل،
والمِنَّة على الضعف، ووشكان ما تبدَّت لها وجوه الأدلة على أن ما أتى بعلها الكريم
هو بريد خير عظيم، ومقدمة فلاح عميم، وكانت أدلتها على ذلك عقلية ونقلية
تقدمت العقلية منها على الثانية.
الفصل التاسع عشر
(الأدلة العقلية)
لما قال: محمد صلى الله عليه وسلم لخديجة (لقد خشيت على نفسي) قالت
له: (كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب
المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وتَصْدُق الحديث، وتؤدي
الأمانة) .
إن هذا الكلام الذي صدر منها على الفور هو نتيجة معرفة سابقة، هو نتيجة
تفكر جميل قد أعطى الثمرة سريعًا، هذا الكلام الوجيز يؤلف استدلالاً عقليًا من
أعظم الاستدلالات فإنه قد أتى ساذجًا نظيفًا لا غبار عليه من التكلف، ولا شيء منه
بواقف أمام الذهن، هو قياس باهر النتيجة، مطوي بعض الحواشي، ومن أبدع
الأقيسة نظمًا، ومن أجملها وقعًا، بيد أن الأفهام كدأبها في التفاوت، وعلى سنتها
في التخالف، لا يستغني كثير منها عن تشريح هذا القياس لتطلع على قلبه وأعضائه
واحدًا واحدًا، فحينئذ يلوح لها انطواء الإفادات الغزيرة، في هذه الكلمات الوجيزة،
وتعلم من قريب أن الحكمة بيد الله يؤتيها من يشاء.
(1)
يخرج من كلام هذه السيدة أن النوع الإنساني محل لعظيم تجليات رب الأنواع
كلها، ولذلك يحب كل ما يؤدي إلى تسامي هذا النوع ويخلق الأسباب لذلك ويأخذ
بيدها لتتغلب على ما أظهره بحكمته التي لا نعلمها من أضدادها.
(2)
ويخرج من كلامها أن الله عز وجل مطلع على أعمالنا ومجاز عليها، وأنه
يحب منا أعمالاً ويكره أخرى وأن الذي يحبه منا على حسب تفكرها هو الاستقامة
ومساعدة بعضنا لبعض ولا سيما مساعدة الضعفاء.
(3)
ويخرج منه أن من يفعل الخير لا يأتيه إلا الخير، والخير الذي نعبر عنه بهذا
اللفظ قد جاء في عبارة السيدة بتفصيل أعمال كلها من باب مساعدة الإنسان للإنسان
فهذه المساعدة في نظرها كل خير أو هي كل الخير فهل يكافئ الله فاعل الخير
بغير الخير؟ إن هذا لا يكون على حسب تفكرها.
(4)
ونتيجة قياسها أو أقيستها أن هذا رسالة ربانية فيها الخير لا الضير، وأن الله
عزوجل سيتفضل بتأييد هذا المأمور في حمل هذه الأمانة على ثقلها وصعوبة تأديتها
لقوم ينكرونها ولا يعرفونها.
الفصل العشرون
(شرح حكمة السيدة خديجة)
إن محيط جلال الله الذي ليس له حد لا تبلغ سَفن العبارات شيئًا من سواحل
التعريف به حق التعريف، وإنما هي لتستعين النفس على بث حبها له عزوجل
وتمجيدها إياه وليزداد شوق النفوس إلى الكمال، وتعبدها لذلك الجلال، لقد عزت
صفات واجب الوجود عن أن ترسمها اللغات، كما عزت ذاته عن أن تحدها الجهات
وأن حقيقته لهي فوق المجاز والاستعارات.
لكن الإنسان خلق عظيم الشوق إلى تصور ربه، وغير صبور عن الإشارة
إلى وصفه، وليت شعري أنَّى يبلغ الواصفون صفة من كُنْهِهِ مُحْتَجَبٌ في خزائن
الغيب الأعظم!
لقد نفد صبر الإنسان في هذا الأمر من قديم الأزمان وأقدم على وصف ربه فلم
يجد غير الاستعارة حيلة فوصفه بما يتصف به الإنسان نفسه ولذلك وقع تناقض
كثير في أوصاف الواصفين لأن رب العالمين غير حادث ولا تشبهه الحوادث تعالى
عن ذلك علوًّا كبيرًا.
ولقد ظهر بين البشر رجال منهم أتتهم الأرواح وكلمتهم من عند الله فأيد كلام
الله بواسطة الروح ما درج عليه الناس من الاستعارة فأصبح هذا الأمر عامًا لا فرق
بين الناس فيه إلا فيما اختلفت فيه عباراتهم.
والأفكار المستقلة تؤدى إلى قبول هذا الأسلوب أيضًا لأن التفاهم في هذه
الأبواب لا يستغني عنه ولا يمكن إلا بالعبارة.
إلى الله سبحانه يرجع كل شيء فهو أنشأ الإنسان على هذا المثال، وهو علمه
ما قد عرفه إلى الآن، وخلاصة ما عرفنا من ظواهر التكوين أن البارئ المصور
عز وجل لما أراد أن يكون هذا الإنسان مميزًا عليمًا أظهر الأشياء أمامه مبنية على
التضاد وجعل تميز الأشياء بأضدادها، وأودع فيه ضدين جعل عليهما مدار سيرته
كلها في حياته هما الاستحسان وضده، وجعل مع الاستحسان الشوق والحب، ومع
ضده النفرة والبغض.
واقتضى ناموس التضاد الذي عليه مدار تمييز الإنسان أن تتخالف أفراد هذا
النوع في الاستحسان وضده فكثرت أسباب تخالفهم فنشأ بينهم الضدان المسمى
أحدهما خيرًا والآخر شرًا، واحتاجوا إلى جواذب تجذب الخير ودوافع تدفع الشر
فرجعت كل معارفهم إلى معرفة هذه الجواذب والدوافع، ومن نمي منهم علمه بها
وسما عمله على موجب هذا العلم سمّوه حكيمًا.
وهل جائز أن يكون بعض أفراد الإنسان حكيما والبارئ غير حكيم؟ كلا ثم
كلا، بل ليست حكمة الإنسان إلا من الله، والله هو العليم الحكيم، نعم بيد أننا نفقه
معنى حكمة الإنسان لأننا نميزها بضدها وليس لعلم الله وعمله وإرادته جل جلاله من
ضد.
انظر تجدنا نعرف الأسرار في كل دقيقة من الدقائق التي يؤلف الإنسان منها
شكلاً من الأشكال لأن الإنسان إنما يصنع ما يصنع للاحتياج والاستفادة وأما الذي
أراد ظهور الأشياء بهذا التنوع فلم يرد هذا لحاجة أو جدوى تعود عليه، ثم انظر
تجد أننا نسمي ما يصنعه الإنسان لا لفائدة عبثًا ولا نسمي عمل المستغني عن الفائدة
عبثًا مع أننا لا نرى فائدة في عمله لا له لاستغنائه وتقدسه، ولا للمصنوع من معدن
ونبات وحيوان وغيرها.
فإذا أمعنت النظر يظهر لك أننا لا نستطيع أن نعلم ما هي حكمة الله في ظهور
الأشياء على ماهي عليه ولكن نقص هذا العلم لم يمنعنا عن القول بأن له حكمة في
كل شيء ونعلم من هذا وضوح عجز العبارة في كشف خدور هذه الحقائق مع عدم
الاستغناء عنها.
ثم إذا رجعنا النظر إلى علاقة هذه الظاهرات بالإنسان يبدو لنا أمر يحمل على
مزيد التفكير والتذكر ذلك أن كل شيء منها يفيد الإنسان حكمة إذا تصدى لقراءته
على صفحات الاعتبار، إن الإنسان ليرى إذا تأمل نظامًا بديعًا في هذه الظاهرات
ويرى له نصيبا في كل شيء منها.
فمن هذا الوجه قد يصح لنا القول بأن من جملة حكم الله تعالى في هذه
الظاهرات تجلي آلائه وكرمه بجعل علاقة النفع، والانتفاع بين هذه الأنواع
والصنوف التي لا تحصى وبين هذا الكائن الصغير الجُرم.
هذه العلاقة ظاهرة يكاد يراها كل من تأمل في استفادتنا معشر البشر من كل
هذه الظاهرات، أما محبو الحكمة فيعمقون نظرهم ويتلمسون الأسرار في تشكلاتها
وتألفاتها على هذه الوجوه والأوضاع، ولو فرضنا أنها جاءت على غير هذه الوجوه
لتوجهت أنظارهم إلى استجلاء فوائدها ثمة أيضًا لأنها كلها من الله، وما مِن الله لا
يكون عبثًا بل يستفيد منه الإنسان حكمة أو شيئًا آخر فكأن الإنسان أكرم من كل هذه
الظاهرات وكأنه هو المقصود بأن تتكشف له الحكم والأسرار الربانية.
هذا هو الأساس الذي أقيمت عليه قواعد حكمة الإنسان، وهو مبدأ سيره
لمعرفة حكمة الله الحكيم الأعلى جل وتقدست أسماؤه.
حِكمة الإنسان في الحقيقة هدية ربانية يختص بها مرجع الأشياء من أراد
إظهاره سليم الفطرة، حادِ الفكرة، فهو يكون كثير الذكر، قليل النسيان، والكائنات
كلها عِبَر وتعليم لمن تذكر، وليست حكمة الإنسان تلقينا يُقَدَم له كل مرء، ويؤتاه
كل أحد من كتاب يُكتب، أو خطاب يُخطب، لكن مع أنه لم يكن أحد مستعدًّا أن
ينال الحكمة نجد الحكمة ذات بركة شاملة تزور بيوت غير الحكماء أيضًا فتملأها
فوائد كثيرة من غير أن يشعر أربابها بحركتها وحركة حاملي لوائها.
كانت السيدة خديجة ذات نصيب من هذه الهدية العليا الربانية هدية الحكمة،
وقد رأى القارئ آنفًا شيئًا من حكمتها وجميل تفكرها وتذكرها ونحن في هذا نشرح
ذلك الإجمال وتزيد المقام حظا من ذلك الجمال:
(1) فهي رأت أن النوع الإنساني محل لعظيم تجليات رب الأنواع وأنه
سبحانه يحب كل ما يؤدي إلى تسامي هذ النوع، وحق ما رأت فإن إظهار هذا
النوع على هذا المثال هو أوضح ضياء يرى به المدلج أن الله سبحانه أحب أن
يُعرف فاقتضت إرادته ظهور هذا النوع مستعدًا للمعرفة وعظيم الشوق إليها،
والإنسان في ظهوره جسمًا وروحًا وتفاوت أفراده بالأرواح تفاوتًا عظيمًا قد أصبح
دون ريب من أكبر الآيات في هذا الباب على ذلك الشأن العظيم من المراد الإلهي،
وأضحى مجمع أسرار وكنز حقائق لا يمارى فيها إلا من جعل النسيان بينهم وبين
الملكوت الأعظم حجبا.
ومن المُشاهد أن البارئ عز وجل يخلق الأسباب المساعدة على ترقي هذا
النوع ويأخذ بيدها لتتغلب على ما أظهره بحكمته التي لا نعلمها من أضدادها، إننا
قد شاهدنا مما جرى ويجري من الدفاع والجدال بين جواذب الإنسان إلى حنادس
الجهل، وجواذبه إلى مشارق العلم، فوجدنا الغلبة للثانية على الأولى، وحسبك أن
الإنسان بعد أن كان كسائر الحيوان لا يفقه غير حاجته إلى عشب يصد به ألم
جوعته، وماء يرد به ألم عطشته، أصبح يعرف الغوامض من أمور الكواكب،
ويحسب من حركاتها ما هو أقل من لمح البصر حتى تسنى له بذلك أن يعرف متى
يكون الخسوف والكسوف، دع عنك معرفته بما فوق الثرى وما تحته، ودع عنك
توصله إلى استخدام الروح الساري في هذه الظاهرات الدنيا نعني به الكهرباء ودع
عنك استفادته من الأرواح العليا، وإتيانه بواسطتها بالأنباء البعيدة والمحجوبة.
(2) ورأت السيدة خديجة أن البارئ عز وجل مطلع على أعمالنا ومجاز
عليها وأنه يحب منا أعمالا ويكره أخرى.. . ومن تذكر ما حررناه في مقدمة هذا
الفصل يعرف أن مثل هذا التعبير يقصد به تصوير معان من كمال الله تعالى فهو
سبحانه محيط بالوجودات كلها وقد جعل لها سننا من جملتها أن جعل أفراد النوع
الإنساني محتاجين إلى إرشاد بعضهم لبعض ومعاونة بعضهم لبعض ولا تنس أن الله
سبحانه قضى بالتضاد ليميز به الإنسان فما قرب من سننه محبوب عنده، وما بعد
عنها مكروه لديه. هيهات هيهات، أن نعرف ما معنى محبته سبحانه وكراهيته لأنه
سبحانه لا ضد له، ولكن هذا العجز لا يثنينا عن الاعتقاد بأنه يحب ما ينفعنا ويكره
ما يضرنا كما هو مقتضى حكمته ورحمته بحسب إيماننا وإنما خلق الضار والمكروه
مع النافع والمحبوب؛ ليتم ناموس التضاد الذي قضت به حكمته.
ومن أمعن النظر بكل ما سلف هنا يتبين له أن في مقدمة المحبوب لديه
مساعدة بعضنا لبعض ولا سيما مساعدة القوي للضعيف، ومن يُرزق هذا الروح لا
يكن إلا سليم الفطرة، طيب القلب، غير متهيج لنقص حظ، ولا متعال بزيادة
نصيب، فلا يكون إلا محبوبًا تأتيه المساعدة من قِبل عالَم الغيب وعالَم الحس
والشهادة.
(3) على هذا ترى هذه السيدة أن الله سبحانه لا يكافئ، فاعل الخير بغير
الخير في هذه الحياة، وأهل الملل يقولون هذا القول باعتبار ما يلقى المرء في
الحياة الثانية التي إنما تكون لنيل الجزاء، وأما في هذه الحياة فمنهم من يذهب هذا
المذهب الذي ذكرناه ومنهم من يقول: إنَّ فاعل الخير يُبتلى في هذه الحياة بالشرور.
ونحن لا ينبغي أنْ ننسى أنَّ مذهب هذه السيدة مشوق لفعل الخير؛ لأن
المجازاة عليه في هذه الحياة والحياة الأخرى مما يزيد محبيه حبًّا فيه، وإليه أذهب
وبه أثق، ولا عبرة بمن يشذ عن قاعدة هذا المذهب ممن ظاهرهم الخير والله أعلم
بسرائرهم.
هذا بعض تفصيل لما جاء مجملاً في حكمة السيدة (خديجة) ولم نسوّغ الزيادة
على هذا المقدار خشية تعب الرفيق القارئ، ومنه يعلم رفيقنا أن هذه الاستدلالات
العقلية كافية لمن كان له قلب سليم كقلب سيدتنا أن يعرف معرفة تدفع الريب أن
الروح الذي وافى معدن الخير محمدًا صلى الله عليه وسلم إنْ هو إلا روح خير وسلام
وفلاح ونعمة وإكرام، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما نشر في (ص155م13) من سيرة السيدة خديجة.(13/231)
ربيع الآخر - 1328هـ
مايو - 1910م(13/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاتحاد الشامل والتعليم الشامل
أيهما يتوقف على الآخر
س26 من الشيخ كرامه يلدرم صاحب جريدة الإصلاح بسنغافوره.
ما قول مولانا المرشد أدام الله فضله:
فيما قاله السيد محمد بن هاشم من أنه لا علم شاملاً لأفراد الأمة إلا باتحادها
وتعاونها في جمع المال لبذله في سبيل تحصيله.
وفيما قاله السيد حسن بن شهاب من أنه لا اتحاد شاملاً لأفراد أمة ما لم يتعلموا
فيجب نبذ الدعوة إلى الاتحاد والاقتصاد على الدعوة إلى التعليم فقط.
وقد تداول الكتابة هذان الرجلان في هذا الموضوع كما ترون بأعداد الإصلاح
المرسلة إليكم فنلفت نظركم العالي إليها وعلى الخصوص العدد 43 من الإصلاح
وهو الذي كتب بعد الاطلاع على ما في الصفحة 817 من المجلد12 من المنار
فنرجوكم نشر ما هو الصواب أدام الله بقاءكم.
... ... ... ... ... ... محبكم صاحب الإصلاح في سنغافوره
ج - وصلت إلينا أعداد الإصلاح ونحن في القسطنطينية وأتفق أن العدد 43 لم
يكن فيها بل وُضع بدله عدد آخر ولا شك أن ذلك كان خطأ فلم نطلع على شيء مما
كَتب المتناظران وأظن جدالهما كان في الآراء النظرية.
والذي أراه أن الدعوة إلى العلم لا تعارض الدعوة إلى الاتحاد والدعوة إلى
الاتحاد لا تعارض الدعوة إلى العلم بل يمكن الجمع بينهما، ثم إن الاتحاد العام
الشامل لجميع أفراد الأمة غاية لا تكاد تدرك، إلا أن يسمى تمني دفع الشر
المطلق أو البديهي والضروري كالوباء وجلب الخير المطلق كالصحة والغنى
اتحادا، وإنما يراد بالاتحاد الذي يبحث عليه السياسيون أن تكون الأمة متعاونة
على المصلحة العامة بأن يكون الجمهور الأكبر منها متفقًا على تلك المصلحة
مساعدًا عليه بدون مقاومة تحبط العمل أو تعرقله وتثبط عنه، وهذا الاتحاد لا
يتوقف على شمول التعليم الذي يراد به عند الإطلاق في كل أمة ما يُلَقَّن في مدارسها
عادة، ولكن التعليم إذا انتشر وكثر على طريقة واحدة مع التربية على طريقة واحدة
يكون أقوى أسباب الاتحاد، ولنورد بعض الأمثلة التي يتضح بها المراد.
التعليم المنتشر الآن في البلاد العثمانية هو المانع الأعظم للعثمانيين من الاتحاد
لاختلاف طرقه ولو كان عامًّا شاملا لكان اليأس من اتحادهم أشد وأقوى لاختلاف
طرقه ومقاصد الناشرين له، وإن التعليم في فرنسا عام يكاد يشمل الأفراد كلهم وهم
غير متفقين على الحكومة الجمهورية بل يؤيدها السواد الأعظم.
إن أهل الولايات المتحدة هم أعرق الأمم في الاتحاد ولم يكن التعليم شاملاً
لجميع أفرادهم عندما قاموا بدعوة الاتحاد وأيدوها بالسيف والنار في الحرب الأهلية
المشهورة، وإن قبائل المرته في الهند من أشد الناس اتحادًا والتعليم ليس غالبًا فيهم،
إن دولة الروسية قد احتلت بلاد الفرس ولا شك أن السواد الأعظم منهم كارهون
لهذا الاحتلال ويودون لو أمكنهم مقاومته وأكثرهم غير متعلمين، وربما كان
المتعلمون من البابية راضين بهذا الاحتلال ومؤيدين له لظنهم أن دعوتهم تكون في
ظل الدولة الروسية أشد حرية وأكثر انتشارا وقد يقال إن هؤلاء قد خرجوا من الأمة
بخروجهم من الإسلام، إن الاتحاد الجرماني لم يحصل إلا بعد انتشار التعليم الذي
أعد أمراءهم وعقلاءهم له إذ علموا أن به عزتهم ومنعتهم وارتقاءهم ولكن التعليم لم
يكن شاملاً لأفرادهم.
هذه أمثلة واقعية بها الأمر وأظن أن المتناظرين لو تأملا فيها أو في مثلها ولم
يجعلا كلامهما نظريًا فقط لاتفقا من أول وهلة ولاسيما إذا كانا قد حررا موضع
النزاع كما نبهناهما إلى ذلك في جوابنا الأول الوجيز، ثم إنني أذكر بعض الأمثلة
لتصوير اتحاد يمكن أن يحصل في أمة قبل تعميم التعليم فيها، وتعليم عام يمكن أن
يحصل بدون اتحاد سابق عليه من الجزم بأن الاتحاد على شيء بالقصد لا يمكن إلا
بعد علم المتحدين بأن مصلحتهم في ذلك الشيء كما أشرت إلى ذلك في جوابي الأول
وهذا ليس موضعًا للنزاع.
يمكن أن يؤلف أغنياء الحضرميين في جاوه وسنغافورة جمعية خيرية لجمع
المال وإنشاء المدارس في بلادهم لتعليم الفقراء مجانًا والأغنياء بالأجرة التي يستعان
بها على توسيع دائرة التعليم الذي يثمر الاتحاد ويمكن أن يتم لهم ذلك وأن ينجحوا
فيه نجاحًا يُفضي إلى تعميم التعليم هنالك من غير أن يتحد أهل البلاد كلهم عليه،
ولكن لا بد من اتحاد الذين يجمعون المال وينشئون المدارس على ذلك وهو لا يكون
إلا إذا علموا أن هذا التعليم الذي يريدونه هو الذي يُحيي بلادهم ويسعدها في دينها
ودنياها، فإذا اختلفوا في ذلك، كأن قام بعض العقلاء العارفين بأحوال الأمم وسنن
الله تعالى في ترقيها وتدليها يحثونهم على الجمع في تعليم قومهم بين علوم لغتنا
وديننا وبين العلوم الدنيوية التي لا نرتقي في ديننا ودنيانا بدونها كالرياضيات
والكونيات التي منها علم الزراعة والمعادن ومباديء الصناعة التي يمكننا بعد تعلمها
أن نحيي أرض بلادنا ونستخرج معادنها، وكعلوم التجارة والاقتصاد والتأريخ
وتقويم البلدان فقام في وجه هؤلاء المصلحين مثل الشيخ عثمان بن عقيل عدو
الإصلاح المبين فقال: (لا حاجة لكم أيها الحضرميون أو أيها المسلمون بشيء من
العلم الرائج عند الكفار) وإن ملكت به دولة صغيرة كهولندة وهي في أقصى الشمال؛
مملكة إسلامية عظيمة في الجنوب استعبدت فيها أكثر من ثلاثين ألف ألف مسلم
وإنما يجب عليكم أن تتعلموا ما أعلمه أنا فقط من علم الدين والعربية وإن كانت
عربية مملوءة بالأغلاط النحوية واللغوية في المفردات والأساليب ولا يميز بين
الصحيح والموضوع من الأحاديث!! ، فإذا اختلف أغنياء الحضرميين في جاوه فتبع
بعضهم عثمان بن عقيل اغترارا برسائله التي تحارب هولندة بمثلها المسلمين حربًا
معنوية وتصدهم عن الترقي وتبع آخرون دعاة الإصلاح فربما لا يتم لهؤلاء نشر
التعليم النافع لعدم استطاعتهم القيام به مع عدم الاتحاد والتعاون بينهم وبين الآخرين.
ويمكن أيضًا أن تتألف جمعية من الحضرميين العارفين بأحوال بلادهم وبسنن
الاجتماع وأخلاق الأمم وشئونها فتضع قانونًا لجمع كلمة السادة الشرفاء والأمراء
على المصالح والمنافع التي تحفظ نفوذهم تُنفع بلادهم وتسعى في إقناعهم بتنفيذه
بينهم فيكون ذلك اتحادا على ترقية البلاد، يمكن أن يكون وسيلة لتعميم التعليم، فإن
قيل إن العمل بهذا القانون متعذر أو متعسر لأن أولئك الشرفاء والزعماء لا يقتنعون
بما يراد إقناعهم به لعدم العلم الاجتماعي الذي يفقه صاحبه طرق حفظ المصالح
العامة ودرء المفاسد العامة فلا بد من هذا العلم قبل الدعوة إلى الاتحاد، نقول: وإن
العلم الاجتماعي الذي يثمر الاتحاد لا تجاب الدعوة إليه ما دام أهل النفوذ الروحي
كعثمان بن عقيل يقولون: إنه ضار مخالف للدين، ويصدقه أكثر الناس لأنهم
جاهلون.
لعل كل واحد من المتناظرين حصر فكره في صعوبة أحد هذين الطرفين دون
الآخر في إصلاح حال أهل بلاده (حضرموت) فكيف إذا فكر كل منهما في إصلاح
البلاد العربية العثمانية بالفعل والتي نود أن تكون عثمانية كبلادهما، وأراد أن يسعى
في توحيد التعليم وتعميمه في حضرموت واليمن والحجاز ونجد وسورية والعراق
أو أن يدعو إليه أو إلى الاتحاد عليه وعلى تعزيز الدولة ورفعة شأنها به، ألا يتمثل
أمام كل منهما من الصعوبات والعقبات ما يُرى معه إصلاح حضرموت وحدها أمرًا
ميسورًا؟ إذ ليس فيها من اختلاف المذاهب الذي هو بلاء المسلمين الأكبر مثل ما
في سائر البلاد العربية كما أنه ليس فيها من الاستعداد الحربي مثل ما يوجد في
اليمن ونجد والعراق ولا من اختلاف التربية والتعليم مثل ما يوجد في سورية
والعراق على ما فيهما من الأديان والمذاهب.
ثم كيف بهما إذا فكرا في أمر التعليم والاتحاد في البلاد العثمانية كافة على ما
فيها من اختلاف الأجناس والعناصر، إلى اختلاف الأديان والسياسات والمذاهب أو
إذا فكروا في اتحاد المسلمين كافةً من وقوع أكثرهم تحت سلطة الأجانب؟
أيقول أحدهما لا يمكن نشر التعليم فيمن ذكر إلا بعد الاتحاد العام الشامل، أو
لا يمكن هذا الاتحاد إلا بعد العلم العام الشامل، فيلزم من مجموع قولهما الدور
الحقيقي وأن كلا من الأمرين متعذر لا ينال، والدعوة إليه من لغو الكلام؟
الصواب ما قلناه في أول الجواب من عدم التعارض بين الدعوتين فيجب
الجمع بينهما والسعي إليهما وكل خطوة في العلم تكون عونًا على الاتحاد وكل خطوة
إلى الاتحاد تكون عونًا على العلم، فكل منهما يمد الآخر ويستمد منه، وقد تكون
الدعوة إلى الاتحاد أقوى تأثيرًا وأقرب نفعًا في الأمم التي سلبت استقلالها كله أو
بعضه والأمم التي يهددها الأجانب بهذا السلب بالقول أو الفعل، فإذا قلت للفارسيين
وقد تغلغلت الجيوش الروسية في بلادهم عليكم بالدعوة إلى العلم فقط وبعد أن يصير
عاما شاملا لأفرادكم تتحدون على مدافعة الاحتلال الأجنبي لا يكون كلامك مؤثرًا ولا
مفيدًا لأنهم يقولون إذا لم نتحد مذ الآن على المدافعة والمقاومة لا يتم لنا التعليم، لأن
الأجانب يمنعوننا منه كما يمنعون إخوانا في بلادهم فيجب أن نسعى إلى الأمرين
جميعًا ويكون سعينا إلى الاتحاد في المرتبة الأولى.
هذا ما عَنَّ لنا أن نوضح به هذه المسألة ولعل ما حققناه يكون هو الحكم
الفصل بين المتناظرين وإن لم نطلع على كلامهما فتكون نتيجة اختلافهما الاتفاق،
وعاقبة افتراقهما التلاق.
__________(13/260)
الكاتب: ملك حفني ناصف
__________
المرأة المصرية والمرأة الغربية [*]
المولودة، دور الطفولية، المراهقة (الملابس، والأزياء) الخطبة والزواج،
الاقتصاد المالي والمنزلي، العمل البيتي، الأخلاق والعادات، دور الأمومة.
بسم الله الرحمن الرحيم
أيتها السيدات:
إذا كان لفئة ما أن تجتمع وتبحث في شؤونها فلا أحق منا نحن نساء مصر
وفتياتها أن نكون تلك الفئة فإننا على درجة من التأخر تؤلم نفس المتفكر فيها وترجع
بالوطن خطوات واسعات عن سبيل التقدم، من دلائل تأخرنا، إن أكثرنا أخذ يقلد
المرأة الغربية بغير نظر إلى موافقة عادتها للشرع الإسلامي والآداب الشرقية
وبعضنا الآخر ظل على تقاليده القديمة سواء كانت صحيحة أو فاسدة، فما هذا
الجمود بمستحسن ولا ذاك الاندفاع بممدوح، وإني شارحة الآن عادات المرأتين في
كل أدوار حياتهما مقارنة إحداهما بالأخرى مستخلصة زبدتيهما لنعمل بها.
(1) الدور الأول: المولودة
إن حالنا الآن عند تبشير إحدانا بالأنثى شديد المشابهة جدًّا لحال الجاهلية
الأولى ولم أرنا نقصنا عنهم شيئا في ذلك إلا الوأد قال الله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ
أَحَدُهُم بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَداًّ وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ القَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ
أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (النحل: 58-59) ،
وإن الانقباض الذي نظهره عند مستهل الأنثى يؤثر في الطفلة خنوعًا للذلة ورؤومًا
إلى الضعة فتشب الفتاة واجدة الفرق العظيم بينها وبين أختها فتعتقد في نفسها أنها
أحط شأناً وأدنى مرتبة فلا تطلب من المعالي ما يطلبه أخوها ولا تنبسط نفسها إلى
ما يرفع شأنها وجنسها وتضع نفسها حيث نضعها. وليت شعري لم نكره ولادة الأنثى
وهي نصف الإنسان وأمه وزوجه وابنته، ألا يصح أن تكون الفتاة نافعة كالفتى؟ ألا
يرجع الفضل في تدبير عيش الرجل لها؟ ألم تكن في كثير من الأحيان سبب سعادته
وموضع أمله؟ وكيف نهمل تعاليم ديننا الحنيف في هذه المسألة ويتبعها أكثر
الغربيين فإن أممهم ولا سيما الشمالية منها يتساوى عندها الذكر والأنثى وقد يملكون
عليهم فتاة فيهم مَن بفضلها علما وتجربة وحذقا، يبرر الشرقيون ومَن حذا حذوهم
جزعهم هذا بأن الذكر يحفظ اسم العائلة ويرث مالها ولقبها، ولكن كم من والد مات
ذكره بموته وإن العمل وحده عليه حياة الذكر أو فناؤه، هل رفع الله الأنبياء عليهم
السلام درجات على الناس بأعمالهم أم بأبنائهم؟ ومنهم من لم يتزوج قط ومنهم من
عقه أبناؤه، أم كان أبو العلاء المعري أبا ذرية أحيت اسمه وهو الذي يعد الزواج
والذرية جناية؟ وهل يغني الولد عن الأبوين شيئا إذا كان لا يخفف حشرجة
الموت؟ فالبنت والصبي سيان وكلاهما قرة عين الوالد في حياته ولا يدري ماذا
يفعلان بعد مماته، وهل إذا ورث الفتى ثروة بددها يعد حافظا غنى أسرته أم إذا ولد
لأحدهم ذكور ضمن لهم الحياة مخلدين؟
(2) الدور الثاني: دور الطفولية
في هذا الدور نميز الصبي عن البنت في أمور شتى مع أن الغربيين لا
يفرقون ألبتة بينهما فضلاً عن أنهم يوفونهما حقهما من التربية والعناية ونحن إذا
فضلنا الذكر قليلا فلا نزال مقصرين نحو العناية به فما بالكن بالأنثى؟ ترضع المرأة
الغربية طفلها بنفسها وتنظفه اللهم إلا فئة العاملات اللاتي يضطرهن الفقر إلى
الاشتغال في المصانع والحوانيت وترك أطفالهن في مربى الأطفال بالأجرة، أما
نحن فنعد إرضاع أطفالنا عيبا لا يغتفره لنا ادعاء الغنى أو الغنى نفسه ونهمل أمر
نظافتهم للخدم ونكل ترويضهم وتربيتهم إليهم وهم من تعلمن من فساد الذوق والجهل
القبيح فيشب أطفالنا أشبه أخلاقًا بهم ونجد بيننا وبينهم جفاء وصلة منقطعة، وكيف
تعرف الأم طباع طفلها وهي لا تتعرفها بنفسها؟ ولو مرت الأمهات يومًا بالمراضع
جالسات على حافة الطرق ليراقبن حالتهن الأخلاقية لما تأخرن لحظة عن حماية
أطفالهن من جيش المراضع الهازم لمكارم الأخلاق.
أما عنايتنا بصحة أطفالنا فليست بأكثر من عنايتنا بأخلاقهم فبينا المرأة الغربية
تغذي طفلها غذاء خفيفًا سريع الهضم وتتحفظ عليه من هجمات البرد والحر وتَريننا
نطعمه أثقل الغذاء ونبادر بإعطائه اللحم وما يتعسر هضمه فتختلّ معدة الطفل
ويصاب بالإسهال والنزلات المعوية وقد يُفضي به سوء الحالة إلى الموت أخيرًا ولا
نكترث بنظافته لئلا يُحسد، ونتركه يلعب به النقيضان القر والحر فلا يلبث أن
يمرض ولا علاج له عندنا إلا الرُّقى والتمائم نثقل بها حمائله وإذا بكى متوجعًا نظن
بكاءه جوعًا فنلقمه الغذاء فوق الغذاء إلى أن يلقى حتفه، هنالك تتهم أمه صاحبتها أو
قريبتها بأنها حسدته وتركت فيه سهمًا من عينيها فتبغضها وتتشاءم من رؤيتها! وإذا
ابتدأ الطفل يتكلم ويمشي فأول ما ينطق به عندنا لعنة الآباء والأجداد ومن الغريب
أننا نجعل ذلك منه موضوع ضحك واستحسان فيظن أنه مصيب في قوله فيتمادى
في الإكثار منه وإذا مشى فإننا نحجر عليه إلا أن يمشي وسط الحجرات المزدحمة
بالأثاث والأواني فإذا لم يكسر شيئا فإنه يتهشم بصدمة أو بوقوع وإذا تأخر في
الخطو قليلا نساعده عليه بالممشاة (المشاية) وهي علة تشوية كبيرة لا نشعر بها
فإن عظام الطفل اللينة بإجهادها على المشي حين لا قدرة لها تلتوي فيشب الطفل
أعوج الساقين منحني السلسلة الفقرية أو الصدر كذلك لا نلتفت لموضع سرير الطفل
وتأثير النور في عينيه فيكثر فينا الحول والعمى، فما أعظم الفرق بين طفلنا
الشاحب اللون البذئ اللسان وبين الطفل الغربي الصحيح البدن بالاعتناء! ما أجمله
حين يذهب في الصباح والمساء ليقبل والديه وحين يستغفر أيَّا كان لأقل هفوة
ويشكر لإبداء الجميل! وإذا حرم تلك القبلة الوالدية لهفوة أتاها فلا تَسَلْنَ عن حُزنه
وبكائه إلى أن يتوب، بمثل هذا تعلم المرأة الغربية طفلها ورضى الوالدين أعظم
نعمة للأولاد وتربي فيه الضمير الحي والاعتراف بالشكر لِمَن وجب له فلا تصغر
نفسه بالضرب كما نعود أطفالنا، ما المراد من ضرب الطفل؟ المراد هو نهيه عن
إتيان شيء لا نستحسنه لا إيذاء جسمه بأنواع التعذيب البدني، وفي طرق التأديب
النفسية ما يكفل تلك الغاية بغير الشتم والضرب اللذين يضعفان همة الطفل
ويخفضان من عزته صغيرًا ويزيدان تحكمه واستبداده كبيرًا.
وبقدر ما نعطي الطفل حرية في البذاءة والإتلاف نحرمها عليه في الرياضة
المفيدة لنمائه فنمنعه الجري والتنزه ومشاهدة المناظر الطبيعية الجميلة مع أن الطفل
الغربي يعد عضوًا مهمًا في البيت كسائر أعضائه من أب وأم فيذهب به إلى بلاد
بعيدة لاستنشاق الهواء واجتلاء المناظر ويفرد له أدوات خاصة لنومه ولعبه وسائر
لوازمه ويعامل الإكرام ويُعَوَّد الاستقلال من نعومة أظفاره إلى أن يترعرع، وإذا
لحن في كلامه بادرت أمه بتصحيح خطأه والنطق أمامه نطقًا صحيحًا حتى يحاكيها
فيه، أما أطفالنا البائسون فإننا نلثغ لهم لنرضيهم ونكلمهم بلغتهم المضطربة بدل
تعليمهم لغتنا العامية لا الفصحى.
نحن نبادر بإرسال أولادنا للمدارس وهم صغار لا يدركون ماهية العلم ولا
يألفون حجر حريتهم فيضايقهم المعلمون بتدريسهم الممل الغير الجذاب، ويلزمون
أعضاءهم المخلوقة للحركة بالسكون التام فيتربى في الطفل نفور من المدرسة
والدرس فتجبره أمه على الذهاب للمدرسة فيزيده الإجبار نفورًا، وقد يكون خطؤنا
في إرسال أولادنا صغارًا جدًّا للمدرسة ومضايقة المعلمين لهم بأساليبهم العقيمة ما
ينقص من استعداد الطفل لتلقي العلم ويفسد عليه ملكاته، أما الطفل الغربي فهو أسعد
حظًا إذ تعلمه أمه في البيت طرق الملاحظة والمشاهدة وتلقنه فوائد الأشياء والأسرار
البسيطة لما يحيط به من نبات وحيوان ومطر وغيره، وتعلمه الإحسان والشفقة
بما تفعله أمامه من ضروبهما، وكذلك تعلمه القراءة والكتابة الأوّلِيّة بأسلوب مشوق
ولا ترسله للمدرسة إلا وفيه ميل إليها واستعداد لما سيلقى عليه بها، وقد جربت
ضرر إرسال الأولاد للمدرسة صغارًا في نفسي وفي إخوتي وفيمن شاهدته من
التلميذات فإني ظللت حوالي الثلاث سنين لا أفقه معنى للمدرسة ولا أكاد أفهم الغرض
من إرسالي إليها، وكذلك شاهدت النابغات من التلميذات هن اللاتي أُرسلن للمدرسة
في سن الثامنة أو العاشرة أما المرسلات صغيرات فأكثرهن لم يستفدن شيئًا غير
ضعف البنية وخسارة ما أنفق عليهن، إذا كان ولا بد من إرسال الأطفال للمدرسة
صغارًا فيجب أن تُجعل لهم فرقة مخصوصة كفرقة بستان الأطفال (garten
kinder) التي تلقى إليها الدروس مزيجًا من التعليم والرياضة ويراعى فيها مدارك
الطفل وتمر حواسه وأعضاؤه بغير إجبار يخافه أو تكرار يمله، ولو كانت الأمهات
معتنيات بأطفالهن تمام العناية فإن مثل تلك الفرقة كان يجب أن تكون في كل بيت أنعم
الله عليه بنعمة الأولاد.
للتربية عندنا إحدى طريقتين: إما القسوة أو التدليل وكلاهما ضار، فالقسوة
ترهق الطفل وتعلمه الذل، والتدليل يطوح به في مهواة الغرور، فمن دلائل قسوتنا
تخويفنا الأطفال وتصوير صور مخيفة لهم من الظلمة وملء أذهانهم بتُرَّهات لا أصل
لها (كالبعبع والمزيرة إلخ) وضربهم عند مخالفتهم لنا، ومن تدليلنا إياهم أن نعلمهم
الأنانية وتعطيهم ما يشتهون عند بكائهم بعد منعهم إياه قبل البكاء فيتعلمون من ذلك أن
الصياح ميسر العسير ومقرب البعيد فلا يتأخرون عن البكاء عند أي شيء نمنعه
عنهم وقد رأيت كثيرًا أن طفلا ينصح أخاه أو أخته الأصغر منه سنًا بأن يبكي حتى
يأخذ كيت وكيت مما كان منع عنه، أما الإفرنج فطريقتهم في تربية الأطفال خير
من طريقتنا أضعافا فيعاقبون الطفل الذي يبكي لطلب شيء بالحرمان منه فيعلم أن
البكاء لا يجدي ويطلبه بالطرق المشروعة وأن منع منه فلا يعود يتشبث به، ويعدون
في المنزل ما تمس إليه حاجة الأولاد من الحلوي واللعب خوفا عليهم من قذارة ما في
الأسواق واقتصادًا للمال والزمن.
3- الدور الثالث دور المراهقة.
هذا هو الدور الذي تتجلى فيه صفات الفتاة حسنة كانت أو سيئة وإن كانت
الأخيرة فمن الصعب تغييرها، في هذا الدور يهتم الأهلون بإرسال أولادهم الذكور
للمدرسة ولا يهتمون كثيرًا بتثقيف عقل الفتاة على أنهم قد أخذوا يقلدون الغربيين
أخيرًا في تعليم الفتاة وإنما لم يجئ التقليد نافعًا لنا ولا محكمًا في ذاته، فالفتاة
الغربية تتعلم العلوم إلى أن تحصل منها على درجة عالية أو درجة محمودة، أما
فتاتنا المصرية فلا تكاد تقرأ وتتعلم قشورا بسيطة من العلم حتى تستغني بها عن
الاستمرار في الاستفادة فهي لا تقلد الغربية في التعلم النافع وإنما تقلدها باستماتة في
تعلم البيانو والرقص، ولا أدري لماذا أخذت البيوت الشرقية تبطل العود والقانون
وتتعلم البيانو مع أن الأولين فضلا عن كونهما شرقيين فإنهما ألطف صوتًا وأشجى
نغمة وأقل جلبة وأرخص ثمنًا وأخف حملا، إن البيانو لازم جدًّا في الغرب لتحية
الجموع في المراقص والكنائس لأنه بنغماته العالية يسمع إلى مكان بعيد أما في
بيوت المسلمين حيث لا مراقص ولا كنائس فلا أجده من الضرورة بالدرجة التي
يتهافت عليه فتياتنا، نعم إن تعلم الموسيقى من الكماليات المدوحة ويقولون إنها
مهذِبة للطبع مرققة للشعور ولكن ألم يكن أولى تعلمها على الآلات الشرقية التي لا
ضوضاء لها إذ هي بذلك أدعى للحشمة فلا يتعدى صوتها البيت الذي هي به.
لو سلمنا بضرورة تقليد الغربية في تعليم البيانو لوجب محاكاتها أيضًا في
تعلمه من حيث هو فن وإتقانه لا أن تقتصر الفتاة على نقر لا تناسب بين نغماته
حتى إن سليم الذوق مع عدم تلقيه دروسًا في البيانو يمكنه نقد ذلك الضرب على
صماخ الأذن لا على البيانو فإن أذنه تنبو عنه لسماجته.
ماذا تقرأ الفتيات في سن المراهقة؟ لا يقرأن إلا الروايات الغرامية وهن في
ذلك الوقت قابلات لشدة الانفعالات النفسية فيتأثرن بحوادث العشق والهرب وتنطبع
في ذاكرتهن أشعار وجمل غرامية، مما يقرأن وتمر أمامهن صور تلك الحوادث
كالصور المتحركة فلا تعدم أن تلقى أثرًا في عقولهن اللينة، إن الآباء مَلُومون في
هذه الحالة لعدم اختيارهم كتبًا نافعة تقرأها فتياتهم، لماذا لا يختارون لهن مثل كتاب
التربية الاستقلالية [1] وفيه أمور نافعة جدًا في تربية الأطفال ومعاملة الأزواج أو مثل
كتاب كليلة ودمنة [2] أو كتب تراجم المشهورين من رجال ونساء فإن في قراءة سير
المشهورين ما يبعث القارئ على أن يقتدي بهم أو مثل كتب آداب اللغة وغيرهما
مما يلذ ويفيد في آن واحد، هذا إذا وجدت الفتاة من كتب الفلسفة والعلم ما يستعصي
عليها فهمه أو ما تتضجر من الاستمرار على قراءته لجده الخالص وجفافه، ماذا
تفعل الفتاة في سن الرابعة عشرة أو السادسة عشرة وهي ممتلئة الذهن بحوادث
(روميووجوليت) وألفاظ (فاتنتي وحبيبتي) ... إلخ، إنها تتمنى أن تسمع مثلها
وتكون مرموقة بنفس تلك العين لأن سنها كما بينت أخصب مراعي إبليس، هذا
من جهة القراءة.
أما الحرية فإن الفتاة المصرية الأولى كانت محجورًا عليه لدرجة الحبس
والفتاة الغربية لها مطلق الحرية أن تغدو وتروح وحدها وتسافر من بلد إلى آخر
قاص بغير رقابة أهلها وهذا من الخرق في الرأي وأخاف أن تغرنا زخارفه فنعمل
به لأن كثيرات من فتياتنا المتعلمات يحسبن أن الدرجة التي وصلن إليها تكفي
لإعطائهن مطلق الحرية يغدون ويرحن وحيدات، وإن حوادث الفتيات المحزنة
كثيرة جدًا في أوربا لأن الفتيات الطائشات لصفاء نيتهن يصدقن كل مدع لهن بالغرام
وتساعدهن حريتهن المطلقة على مسايرة الفتيان ثم لا يلبث الرجال أن ينفضوا من
حولهن ويتركونهن بين اليأس والعار وهما أمران أحلاهما مر.
ومن رأيي أن تمنع الفتاة في سن المراهقة هذه من الاختلاط بالشبان، وحاشا
أن أمس بكلامي هذا شرف الفتيات وإنما أحب أن أنبه إلى شيء طبيعي والعاقل من
اتعظ بغيره، ويكفي تجنبنا لمثل هذا الاختلاط المعيب أن أهله ذاتهم هم أول العائبين
له، والفتاة في هذه السن ككل إنسان تطلب الحرية ويجب أن تتروض وتخرج
وهذان لا أمنعها منهما وإنما أنصح للأمهات أن يرافقنهن، وللآباء أن يراقبوهن
مراقبة تخفى عليهن لأن المراقبة إن كانت ظاهرة قد تضع في نفس الفتاة إنها يجب أن
تُراقَب وأنها ضعيفة عن الذود عن نفسها وإذا تَمَلَّك منها هذا الشعور كان وبالا عليها
وإذلالاً لها، ثم إذا ثبتت للوالدين مقدرتها على حسن السير فلا بأس من إباحة الحرية
لها في زيارة صاحباتها وأرى أن الحرية المطلقة والحجر المطلق كلاهما ضار فكما
أن الأولى تسهل سبل الفساد لمن تريدها كذلك الآخر يخلق في الفتاة ميلاً لأن ترى كل
شيء ويعلمها طرق الغش والكذب فيكون قد جنى أهلها عليها جنايتين!.
إن صلاح الفتاة مترتب دائمًا على تربيتها الأولى فإن فسدت فقد يكون قليل من
الحرية أفضل من الحَجْر البات لأنه لا ينفع ولا تعدم الفتاة منفذًا لأغراضها فتتعلم
بذلك السرقة والخداع وقد تكون بعيدة عنهما من قبل.
أفضل طريقة لتربية البنات هي أن يرين قبل البلوغ كل شيء تصح مشاهدته
بمعني أن البنت في سن العاشرة والثانية عشرة يجب أن يريها والدها الصور
المتحركة والتمثيل والألعاب المختلفة والحوانيت الكبيرة والمتنزهات والآثار ويركبها
السيارة ويريها الحفلات وغير ذلك حتى تلم على قدر الإمكان بكل شيء حسن أو
عجيب فتستنير من جهة ولا تظل بلهاء ككثيرات من فتياتنا وحتى تكون امتلأت
نفسها من الصغر فلا تجد فيها فراغًا فيما بعد لطلب المزيد من المشاهدات فإذا
عرض لها التنزه في حياتها المستقبلة فلا بأس به وإن لم يعرض فلا تتأسف كثيرًا
لفواته.
المدارس تعجبني جدًّا طريقة (مدارس الفرير) في نقل الفتيات صباحًا ومساءً
في عرباتها الخاصة حتى لا يختلط بهن السابلة وحتى يأمن عليهن أهلهن وكذلك
يوفرن وقت من سيعطل نفسه ليستصحبنه إلى المدرسة ذهابًا وإيابًا فحبذا لو اشترت
نظارة المعارف أو استأجرت مثل تلك العربات لنقل التلميذات إلى مدارسها في الغدو
والرواح ويكون لكل قسم من أقسام البلد واحدة أو اثنتان حسب كثرة التلميذات وقِلتِهن
فإن التعليم في مدارسها أرقى بكثير من التعليم في المدارس الأُخرى وخصوصًا في
اللغة العربية التي هي لغتنا ويجب أن نتعلمها جيدًا وكذلك تُراعى فيها آداب البلد
وعاداته ودينه أفضل مما تُراعى في تلك المدارس الأجنبية التي لم تُفتح إلا لنشر
مذهب من المذاهب الدينية أو لكسب أصحابها فقط.
بعض أضداد تعليم الفتيات يرون أن تظل الفتاة جاهلة خير لها من أن تتعلم
لأن التعليم يوسع عليها حيل الاختلاط الذي لا تبرره العادة، ولا يسمح به أولياؤها
وهي نظرية فاسدة؛ لأن التربية الصحيحة تحول دون ذلك، فالفتاة الكاملة تجد من
عفتها وقدوة أهلها وآداب نفسها ما يخيفها من سوء الأُحدوثة وتَعْلَم أن سمعة الفتاة
كالزجاج الصافي يتلوث من أقل الأشياء وإذا انكسر فلا يُجْبَر، أما الفاسدة فتميل إذا
وجدت مسربًا سواء كانت عالمة أو جاهلة، وغاية الأمر أن الجاهلة أسرع شططًا
وأدنى إلى أن تشهر بنفسها وقلما تعرف نتيجة تصرفها السيئ إلا بعد وقوعها في
سوء مغبته.
الملابس والأزياء الملابس الشرقية أخف مؤنة وأيسر كلفة وأشد ملاءمة لجونا
الحار وصيفنا المحرق من الملابس الإفرنجية فهي جلباب يلبس مرة واحدة فوق
الملابس اللاصقة بالجسوم، وعند الخروج تلبس فوقه الملاءة، أما الملابس
الإفرنجية فإنها متعددة القطع مضاعفة التركيب عسرة اللبس والنزع فمن مشد يخنق
الخاصرة ويحشر الكبد والطحال ويدلي الأحشاء ويمنع الجلد من التنفس الطبيعي
اللازم له، ومن بنيقة (ياقة) منشأة كالورق المقوى لا تستطيع المرأة فيها لفت
رقبتها ولا الانثناء لقضاء أي عمل فتظل مشرئبة العنق لا عن صيد مشدودة ولا عن
وثاق، ومن صدار (chemisette) لاصق بالإبطين ضاغط على الكتفين أو
منفرج الفتحة (decolte) معرِض القفا والنحر بل الصدر والظهر إلى الحر والقر
واختلاف درجات الجو وجلب النزلات الصدرية ومن مرط (jupe) ضيق الأعلى
غير محكم الأزرار واسع الأسفل طويل الذيل كأن لابسته من ذوات الأذناب تثير
عند مشيتها الجراثيم وتضايق الرئتين والخياشيم ومن قبعة شاسعة الأرجاء مدججة
بالدبابيس مثقلة بالطيور وريشها والغصون وأزهارها وثمارها مدبجة بالأربطة
الحريرية، ومن أناشيط (بنابيغ) في أجزاء (الفستان) يضيع في ربطها وحلها
الزمن سُدًى فضلا عن تعدد الملابس لتعدد الأغراض فحلة للصباح وأخرى للمساء
وثالثة للخروج وأخرى للرقص وغيرها للاستقبال وهَلُمَّ جَرًّا، وإن الزمن الذي
يضيع كل يوم في اللبس والخلع لو صُرف في عمل نافع لأتى بالفائدة وأراح من
العناء.
على أن لنساء الإفرنج حسنة واحدة في ملابسهن مفقودة عندنا وهي البساطة
عند الخروج للنزهة أو لقضاء شغل فتلبس المرأة ثوبًا قصيرًا كي لا يعوقها عن
المشي أما نحن فنرتدي أحسن طرفنا في الخارج ونظل في الذيول نجرها، على أن
الأوربيات أحق منا بتفنن الأزياء وشدة التأنق فيها لأنهن بارزات أما نحن فأكثر ما
يرانا جدران المنازل وإن خرجنا فتحت الأزار أو في العربات وإذا فلا لزوم لاتباع
(المودة) بشغف زائد لأنها تفقر وتعل، وإن كان للغنيات حتى التمتع بصرف ما
لهن ولو فيما لا يجدي الإنسانية كالأزياء فليس للمتوسطات حق إفقار بعولتهن أو
آبائهن جريًا وراء المودة المتقلبة.
تخرج بعض نسائنا عن حدود الأدب والشرع زعمًا باتباع (المودة) ولكن هناك
فرقًا كبيرًا بين (المودة) والخلاعة فإن لبست المرأة آخر الأزياء في بيتها فما عليها
في ذلك من حرج ولكن إذا أظهرت زينتها للمارة وظلت تتلكأ وتضحك فتلك هي
الخلاعة الشائنة ولم تجئ في مجلات الأزياء (كالبرنتال واللوفر) وغيرهما ففي أي
كتاب قرأنها.
لاحظت شيئًا غريبًا في الفتيات وهو أن الفتاة التي تتبرج وتتأنق مغالية في
إظهار محاسنها وغناها تريد بذلك أن يُعجب بها الخاطبون والخاطبات هي التي
تتأخر دائمًا في الزواج، وإن تزوجت فبرجل أقل مما كان يُنتظر لمثلها وهو عقاب
طبيعي للمتبرجات لأن الرجل مهما أعجبه شكل الخليعة وكلامها فهو لا يود أن
يقتنيها لنفسه اعتقادًا أن ما أعجبه منها ظاهر لغيره أيضًا ولو فطنت الفتيات إلى أن
أول شرط يشترطه الرجل في امرأته خاصة هو الحشمة والترفع عن البهرجة لَمَا
تأخرن لحظة عن الإقلاع عما زعمنه يقربهن في أعين الراغبين في الزواج وهو في
الحقيقة يبعدهن وينفر الرجال منهن، لست بذلك ادعو النساء إلى التقشف أو البعد
عن الزينة فليس لي أن أحرم ما حلل الله، ولأن في الزينة للمرأة بعض السعادة
ولزوجها كذلك ولكن غرضي الاعتدال في الزينة إلى عدم الخروج عن المعروف.
4- الدور الرابع: الخطبة والزواج.
تتعجل الفتيات كثيرًا في انتظار هذا الدور ولو علمن مصاعبه ومتاعبه لما
تعجلنه، وأظن أن ما يشوقهن إليه هو الزخارف والحُلى الجديدة وما يقام للعروس
من معالم الزينة وما يتقاطر عليها من التهاني والهدايا ولكنهن لا يُدْرِين التبعة الكبرى
التي تتحملها المرأة بزواجها وما قد يصيبها من الآلام النفسية في عيشها الجديدة،
وشتان بين الفتاة تنام ملء عينيها ولا تسأل إلا عن نفسها ويسعى أبوها وأهلها في
إرضائها وجلب ما تشتهيه لها من ملابس وغيرها وبين الزوجة تنتظر بعلها إلى ما
بعد نصف الليل، وتبكر قبل بزوغ الشمس لتجهيز طعامه وتنظيم ملابسه؛ وتظل
يومها تشتغل في بيتها أو تلاحظ الخدم وعليها أن ترضيه وترضيهم وتخطب ود أهله
وتقوم بتربية أولاده وهي بين كثرة العمل وتنوع التبعة تحاسب حسابًا عسيرًا على
أقل هفوة [**] ، وربما وجدت منه سكيرًا فظًّا أو أحمقَ، وأدهى من ذلك أن يتحفها
بضَرَّة شرعية أو غير شرعية تأتي على ما بقي من رونق جمالها وسعادتها.
لا وسيلة للزواج عندنا إلا الخطبة ولكن بأعين الأهل والجيران والخاطبات
وقد تحسن في أعينهن من لا تحسن في عين الخاطب لاختلاف الأذواق والمشارب
فيتزوج الرجل على مجرد أوصاف قيلت له فيصور منها شكلاً في مخيلته عسى لا
يطابق العروس الحقيقة أصلاً لسوء تعبير الخاطبات وتحريفهن، وكذلك الفتاة تكاد
لا تعلم عن خاطبها شيئًا إلا اسمه وماله المبالغ في تقديره لترغيبها هي وأهلها فيه،
فإذا حان وقت المقابلة يكاد العروسان يصابان بالبكم والغشيان لفرط اندهاش أحدهما
من الآخر، وبعد المعاشرة قليلاً قد يتفقان وربما لا يتفقان وهذه المخاطرة نتيجة
اعتقادنا المقلوب في القضاء والقدر، نعم، إن القضاء والقدر لا تجدي مغالبتهما
ولكن لا يصح اتخاذهما وسيلة للإهمال في جلب المنفعة أو درء الضرر فإن هذه
المسألة مسألة اختيار محض للعقل أن يحكم فيها وحده فإذا أحسن الاختيار حسنت
عاقبته وإن قصَّر أو أهمل ساءت العقبى، على أن إسفار النساء عن وجوههن لم
يجمع الأئمة على تحريمه فضلاً عن أنهم كلهم يجوِّزونه عند الخطبة تحاشيًا من
وقوع الاختلاف ودعوى الغش فيما بعد.
أما الإفرنج فخشية أنْ يُصابوا بما أصيب به أغلب أهل الشرق من الخطبة
العمياء وما يترتب عليها من الشقاء المستمر أجمعوا رأيهم على أن يتراءى العروسان
قبل الخطبة مرارًا ويتقابلا تكرارًا ولكنهم أفرطوا في الأمر كما فرَّطنا نحن فيه،
وكلا طرفي كل الأمور ذميم، لم يكتفوا بأنْ يرى الخاطب مخطوبته عدة مرات بل
شرطوا أن يكون الزواج بعد الرضى أو الميل المتبادل بينهما، ولأجل أنْ يحصلوا
على قلب الخاطب قبل أن يعرف من هو يحرضون بناتهم على غشيان المتنزهات
والمراقص ومجتمعات الفتيان لعل الواحدة منهن تخلب فتى من الموجودين هناك
بالاتفاق وقد تذهب المقابلة بعد المقابلة سدى فتتعرض لغيره ويتعرض لغيرها إلى أن
تجد بعد طول مدة التخير فتى يكاشفها بعزم الاقتران فتظن أنها وجدت ضالتها
المنشودة فتلعن أهلها ويتردد الخاطب عليها في البيت وغير البيت وربما تمضي
الشهور أو السنون ثم يغض الفتى عن الفتاة بدعوى أن الاختيار لم يؤد إلى المرام
وأن القلوب لم تُأَلّف وإذا كان أصل الفكرة وجوب الاختيار الطويل فيما يتعلق
بالأخلاق والتأكد من الحالة الصحية كان العدول بعد الاختبار أمرًا غير مستقبح وإنما
يكون الاستقباح بعد الإعلان القطعي وهو لبس الخاتم عندهم ولا شك أن التساهل
إلى هذا الحد فيه ما فيه من العيوب مما لا يخفى على الناقد البصير.
والحق أن هذه المسألة من المعضلات الاجتماعية فلا الاسترسال في الاختبار
بمأمون العواقب، ولا الاحتجاب على الخاطب بمفيد، بل ربما كان مؤخرًا للفتاة
عن الزواج في الآوان المناسب، وربما كان في الحي الواحد فتيان وفتيات كل منهم
يبغي الزواج ولا يعلم الفتيان بوجود الفتيات لاحتجابهن الاحتجاب الشديد ولعدم
التعارف بين البيوت، ولا خلاص من هذه العقدة إلا باتباع سنة السلف من العرب
في صدر الإسلام من مباشرة الفتاة خدمة الضيوف ومقابلة زائري أهلها استطلاع
قصدهم والخروج في القرى إن كانت بها للمساعدة في بعض الأعمال، ويجب على
الفتيان في مثل هذه الحال أن لا يُظهروا غرضهم أمام الفتيات أو يتعرضوا لهن
بالخطبة فإن ذلك مغاير للذوق والأدب ومؤدٍ لخجل الفتيات وانزوائهن وراء الحجب
وينبغي أن تُعَوَّدَ الفتيات هذا الأمر من صغرهن حتى لا يستغربنه عند الكبر ويحسن
بشذوذه، وهذه الطريقة متبعة في القرى والبوادي المصرية فحبذا لو اقتدى بهم أهل
المدن، وإنما يشترط في الأخيرة أن يكون خروج الفتاة مع أبيها أو أخيها أو أحد
محارمها، وعلى كل حال فالشيء الذي لا بُدَّ من منعه هو انفراد الفتى بالفتاة وطول
المحادثة في غير ضرورة لما في ذلك من مخالفة الشرع وإثارة التهم.
هذا ما يقال في الخطبة، أما الزواج فطريقتنا فيه مختلة أيضًا فالمرأة الغربية
تدفع الصداق (الدوت) وقد يكون من جراء ذلك في بعض الأحوال أن تصير الزوجة
سيدة الرجل الآمرة الناهية، والمرأة الشرقية كانت لا تدفع شيئًَا ويدفع الرجل
الصداق فيأخذه أهلها لنفسهم ولا يشترون لها منه شيئًا وبذلك يعتبر الرجل نفسه
سيدها لا حق لها في معارضته، وهاتان الطريقتان بغير نظر إلى غنائهما أو تفضيل
إحداهما على آخر واضحتان في أن دافع الصداق هو المنفرد بالسيادة في البيت، أما
طريقتنا الآن فهي معتلة، ولذلك فالسيادة متنازع عليها بين الزوجين المصريين،
يدفع الرجل الصداق فتأتي له المرأة بما يساوي ضعفه أو ضعفيه أو أكثر، فهو بما
أنفق يظن أنه السيد وهي بما أنفقت تظن كذلك فيتنازعان على الرئاسة.
مالنا ولهذا التكليف الثقيل والبيت باسم الرجل لا باسم زوجه، فإن أعجبه أن
يفرش بيته حصيرًا فليكن وإن راقه أن يموه سقوفه وجدرانه بماء الذهب فليفعل، وإن
أحب أن يجعله جنات عدن تجري من تحتها الأنهار فحبذا رأيه، وليس للزوج وأهله
أن ينتظروا شيئًا من العروس فهي وشأنها في مالها، إن حوادث الطلاق فيها عظات
كثيرة لو انتبهنا لها، فكثيرًا ما يتنازع الزوجان على الأثاث كلُّ يدعي أنه له وإذا كان
في الرجل مروءة وتركه لمطلقته فإنها تزحم به بيت أهلها ويظل مكدسًا يرتع فيه
العث والجرذان فتجد مرعى خصيبًا، فإذا تزوجت المرأة ثانية وجد أكثره تالفًا أو
كال عليه القدم مع ما يستلزمه نقل الأثاث وترتيبه كل مرة من النفقات والتعب، وإذا
لمت الغنية مرة على هذا التدبير فإني ألوم الفقيرة المدعية مرارًا، فكم من بيوت
خربت وأرض بيعت أو رهنت لا لسبب سوى تجهيز عروس لا يلبث فرشها البهي
أن يحل لونه أو يتمزق بعد سنين قلائل فتكلف زوجها بتجديده أو يبقى خرقًا،
سمعتُ عن أب له ثلاث بنات جهزهن واحدة بعد أخرى جهازًا كان موضوع الحديث
عند معارفه، وكان له مئة فدان من أجود الأطيان يعيش بريعها عيش الرخاء فباع
ثلاثين لتجهيز الأول ورهن ثلاثين للثانية والباقي للأخيرة ولما حان ميعاد الوفاء لم
يف وإذا بالدائنين أتوا على ما ورثه وهو كل ما يمتلك وحجزوا على بيته أيضًا،
فبالله ألا يعد هذا الرجل قصير النظر أخرق؟ وهل أغناه أثاث بناته وقد أصبح
معدمًا ذليلاً؟ ! من الجنون بل ومن القساوة أن تجتهد الفتاة في تخريب بيت والديها
لتزيين بيت زوجها، ولماذا تقلد كل سيدة مَن هي أغنى منها، وهل يعد التوسط في
الغنى أو الفقر عيبًا؟
إن الأوربية لا ترمي مالها كما نفعل في أوانٍ لا نستعملها، وفي خرق تبلى
بعد زمن قصير بل تستثمر ذلك المال فتنميه وتحفظه للعود وذخرًا لأولادها بعدها
وتنفق منه على الجمعيات الخيرية والمدارس فتحيي البائسين وتحيا بحسناتها فهي
أبرع منا بمراحل في طرف الاقتصاد.
***
الاقتصاد المالي والمنزلي
لا تكتفي المرأة الغربية بتنمية مالها فقط بل تعمل ميزانية مضبوطة لواردات
بيتها ونفقاته، فلا تخرج عن حد الاعتدال في النفقات، ولا تصرف درهمًا في غير
موضعه وتفحص مشترياته بنفسها كي تتأكد من جودتها واستحقاقها لما تباع به وتهتم
برفو الثياب وتصليحها، وتعمل من كل قديم جديد، وقد تغير شكل الثوب الواحد
وزينتَه مرارًا فيَبِين جديدًا. نعم، إن فِينا تلقاء ذلك كرمًا ولكن يجب أن لا يكون
الكرم إهمال، فقد تقع بقعة صغيرة على الجلباب من الحرير الغالي الثمن فإذا
أهملناه لم يصلح للبس وأذا أعطيناه لخادم أو لامرأة فقيرة فقد ينفعها ثوب من القماش
الرخيص (الشيت) أكثر من ذلك الثوب الجميل وبهذه الحالة يكون كرمنا غير مُجْدٍ
فلو اجتهدنا في إزالة تلك البقعة أو تمويهها بشيء من الزينة (الكلفة) وجُدْنا على
تلك الفقيرة بثوب رخيص لكان أنفع لها ولنا.
إن تربية الغربية مؤسسة على العناية والملاحظة، وأما نحن فَقلّما ننتبه إليها.
تقتصد المرأة الغربية من مالها بما تظهره من براعتها وعملها فهي تخيط لنفسها
ولزوجها ولأولادها وتكوي ثيابهم، أما نحن فالبيوت المتوسطة كلها تكوي في السوق
وتخيط كل شيء حتى التافه عند الخياطات، بعشرين قرشًا يمكن المرأة الغربية أن
تحضر طعامًا لبيتها وتجعله لذيذًا ومشتهى لكثرة الجوارس (السَّلَطة) والحلوى. أما
العشرون قرشًا عندنا فتعمل بها المرأة طعامًا ولكن غير منوع ولا مشتهى.
إن الإفرنج رجالاً ونساء يعرفون كيف يجذبون الأنظار ويجعلون الشيء
المتوسط في الحسن جميلاً، قد رأيتن بضاعتهم وهي أقل متانة من بضاعتنا الشرقية
ولكنهم يضعونها من حوانيت واسعة منارة بالكهرباء ويرصونها داخل ألواح من
الزجاج فتجذب المارة ثم هم يختارون لتجارتهم محلاً من المدينة يكثر فيه الغادون
والرائحون، أما تجارنا فهم بمعزل عن ذلك التفنن، وقد يكون دكانهم في مكان غير
مطروق كثيرًا ويهملون في عرض بضاعتهم والإعلان عنها فتبور، مثل تجارنا في
حوانيتهم كمثلنا في بيوتنا ففينا من الذكاء والمقدرة وما يمكننا من جعل بيوتنا جنة
ولكن قلة العناية هي التي تؤخرنا وتعوقنا.
العمل - أما العمل البيتي أو الخارجي فإننا يجب أن نعترف للمرأة الغربية
بسبقها فيهما وإن كانت غنياتنا وأغلب غنياتهم لا يكترثن إلا بالملاهي والأزياء
ولكن المتوسطات هناك لا يأنفن من مزاولة الطبخ والكي والترتيب كما تأنفه
متوسطاتنا، وفقيراتهن يعملن ما يقوم بأودهن وأود أسرهن. أما فقيراتنا فإما أن
يتسولن أو يشتغلن بعمل قليل الكسب والشواهد كثيرة على ذلك وأقربها وهو ما نعرفه
كلنا أنَّ الخياطات المصريات لا نكاد نجد بينهن واحدة يمكنها تفصيل الثياب وخياطتها
جيدًا، وهن لعدم إتقانهن العمل يكتفين بأجرة قليلة مع ما يتكبدنه من التعب وإنفاق
العافية فتأخذ الواحدة خمسة قروش أو عشرة أجرة الثوب في حين أن الإفرنجي
تطلب جنيهين على الأقل مقابل تعبها فقط , وكذلك الطبيبات منا يكتفين بدروس قليلة
من التمريض ولا ينظرن لمثيلاتهن الأجنبيات اللاتي برعن في الطب ونلن نفس
شهادات الرجال. والمربيات والخدم المصريون لا يفقهون معنى التربية وأغلب
الخادمات لا يصلحن فنضطر أن نجلب هؤلاء من الإفرنج.
يقولون: الحاجة أُمُّ العمل، فما بالنا نكسل ونقصر ونحن في شديد الحاجة
لأمثال هؤلاء الخياطات والطبيبات والمتعلمات وغيرهن. من فروض الكفاية أن
يكون كل هؤلاء مصريات في مصر فيمنعن بعض مالها من التسرب في جيوب
الأجانب وهن ساكنات ينظرن، لقد أصبحت كلمة مصرية في أفواه الأجانب
عنوانًا على الكسل وعدم المقدرة فهلاَّ يبعث فينا ذلك التعبير روح النشاط وحب
العمل؟ هلاَّ حاكيناهن فيما تفوقن فيه علينا من العلم والعمل؟ أم هل تكفي محاكاتنا
لهن في الزي والتصنع أن نصبح مثلهن؟ إنهن أسسن الجمعيات وأدرن
المستشفيات والملاجئ وقمن يشتغلن بكل فن حتى إنهن يطلبن مشاركة الرجال في
الانتخاب لحكم بلادهن وما ذلك إلا نتيجة العلم والتربية على حب العمل.
من حب العمل عندهن الرياضة في ساعة الفراغ فترين أنهن يشتغلن حتى
وهن يطلبن الراحة، أما نحن فنكسل ونطلب الراحة في ساعات العمل، ألم تسمعن
بجمعية الصليب الأحمر وكيف تخاطر النساء فيها بحياتهن لمداواة الجرحى
والتقاطهم ونار الحرب تستعر؟ ! ليس ينفي الهم ويضمد الجراح كالمرأة الآسية.
إن النساء المنخرطات في سلك تلك الجمعية يُعَرِّضْنَ أنفسهن للهلاك وتكبد
مشاق السفر وتحمل البرد القارس إلى درجة الجليد بين سهول منشويا وحزونها وفي
الأقاليم الاستوائية التي يذيب حرها اللافح رأس الضب. وقد كان نساء العرب يفعلن
نفس هذا الفعل الشريف في الحرب ويزدن عليه تشجيع المجاهدين وتغذية الجياد قال
عمرو بن كلثوم في معلقته:
يقتن جيادنا ويقلن لستم بعولتنا إذا لم تمنعونا
وقد كانت مخاطرتهن هذه تثير الشجاعة في الرجال وتحملهم على الإقدام بدليل قوله:
إذا لم نحمهن فلا بقينا ... بخير بعدهن ولا حيينا
وقوله في موضع آخر من القصيدة:
وما منع الظعائن مثل ضرب ... ترى منه السواعد كالقلينا
الأخلاق - لا أدري أنفضل المرأة الغربية في معرض الأخلاق أم تفضُلنا فهي
أكثر منا شجاعة في اقتحام الخطوب، وإن كانت لا تقل عنا جزعًا عند المصائب
ونحن لا ينقصنا ذكاء كذكائها وإنما ينقصنا عزم وثبات كعزمها وثباتها. وهي تعمل
لتعيش ونحن نتكل إما على آبائنا أو أزواجنا فلا نعمل وهذا الاتكال معيب في نفسه
فضلاً عما تخلفة تقلبات الأيام من تخطئة فلو تعلمت كل فتاة ولا سيما مَن لا رزق
لها كيف تكسب عيشها شريفة مستقلة لما رأينا البائسات تموج بهن الطرقات
والمهيضات بعد سابغ عز وسابق نعمة ينتظرن إحسان الأخ أو أحد الأقارب وقد
تكون امرأته سيئة الخلق فيملان عشرتها أو يكون لهن من الأولاد ما ينوء بتربيتهم ذلك
الأخ أو القريب، والمرأة الغربية تعتني بكل شيء حتى التافه، ونحن بما رُكِّب في
طبعنا من المسالمة نميل إلى الإهمال والكسل، وأرانا أسلم منها قلبًا وأقل خداعًا
بالطبع ولعدم الاختلاط بالرجال أيضًا فإنها لتجوالها في الخارج تتعلم كيف ترضي
هذا وذاك لتظهر فاتنة جذابة، والحاجة تعلمها الاحتيال على العيش فهي تطلبه بكل
الوسائل الممكنة، وهي أنشط - ولا شك - منا وأثبت على العمل إلا أننا أكثر
قناعة وأرضى بالقليل.
بقية العادات - للخرافات سلطان كبير على المرأة الغربية وإن كان بعضنا يظن
أنها معصومة من الخطأ فنحن وهي سِيَّانِ في التفاؤل والتشاؤم وتصديق العرافات
والمنجمين والمشعوذين والاعتقاد بطول العفاريت والخوف من الظلمة، وعندنا
(الزار) وهو أبو الخرافات، ومفسد البيوت، وهي لا تعتقد به وإن كانت تصاب
بأعراضه العصبية، فلماذا اختارتنا العفاريت مسكنًا لها؟ وإذا فرضنا المستحيل
وصدقنا القائلين بتقمص الأرواح، فلماذا لا تلجأ إلينا روح أرسطو وابن رشد
وأبي العلاء وغيرهم من الفلاسفة والمصلحين؟ أم قضي علينا حتى في الكذب
والتُّرَّهات أن نكون دائمًا متأخرات فلا يلبسنا إلا (الشيخة رمانة وسفينة يوسف
مدلع) وغيرهم ممن لا يطلبون إلا الخلاخيل والمصوغات والسيوف المذهبة؟ إلا
أننا لم نبرع في حيلة ما إلا هذه.
تخاف المرأة أن نطلب ملابس وحليًّا فيرفض زوجها الطلب فتعمد إلى ادعاء
العفاريت والجن لتهديده، وأعرف كثيرات ادعين (الزار) فرفض طلبهن وبعضهن
ضُرِبْنَ لأجله فلم يعدن إليه. فيا ليت شعري إذا كانت العفاريت جبناء إلى هذا الحد
فلماذا لا يستعمل الرجال العصى وهي كثيرة، وإن كنت لا أوافق على ضرب الرجل
المرأة بحال من الأحوال وإنما هي تصر أن العفريت هو الذي يتكلم بلسانها ويشعر
بأعضائها وإنها أعارته ظاهرها ولا أعلم إلى أين ذهبت هي، وإذن فليضرب العفريت
فهو الذي يتألم ولا يصيبها شيء كما تزعم في غير الضرب، ولعل المتحضرات
الحديثات يدعين قريبًا أن الملائكة تقمصت بأجسامهن لأنهن أحكم تصرفًا وأحسن
اختيارًا، وأظن عفاريت الأرض نفدت بكثرة الطلبات فليصرفن همهن إلى السماء
كما صرفه مخترعو الطيارات لما ضاقت بهم فجاج الأرض، وحينذاك يأنفن من
ركوب الضأن والإبل فيمتطين المخترعات الحديثة وإن كانت لا تزال خطرة فلا
تتيهن علينا البارونة دي لا روش بما نبغ عندنا مثلها كثيرات وإن كان باعثهن (مودة
الزار) لا العلم.
لا أعلم عند الإفرنجية عادة تساوي الزار في القبح إلا محاضرة الرجل في
الرقص وما يتبع تلك العادة من التهتك والتصنع والميل عن جادّة الصواب وما ينشأ
عن حريتها المطلقة بلا قيد ولا وازع من الضرر البليغ والإخلال بالشرف، وأدهى
من ذلك أن ينتشر بينهن مذهب حرية الاعتقاد (libre penseur) وهو مذهب
من لا يصدق بالله ولا باليوم الآخر فيزعمن أنهن يجتنبن الرذائل بمحض إرادتهن
وتربيتهن ولكن هل إذا منعت الفضيلة امرأة عن إتيان ما لا يُرضي فهل يصح أن
تطبق هذه النظرية على كل امرأة؟ ألم يكن الإيمان بالله وترقب ثوابه وعقابه
مانعين لكثير من الناس عن الانتحار والكفر؟ {أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (النحل:
59) .
إن النفس أمارة بالسوء وقد تُقْدِمُ على كثير من الموبقات لولا الضمير الحي
وهو ثمرة الوازع الديني، أفلا يعقلون؟ وأرانا لا نتمسك شديدًا بديننا الحنيف وهي
بدعة وعدوى أتتنا من الغرب فهلا تفكرنا قليلاً فيما ينفعنا وما يضرنا قبل الإقدام
على التقليد، أوَكُلَّما رأينا إنسانًا يفعل شيئًا حاكيناه وإن كان في ذلك هلاكنا وخسارة
ديننا ودنيانا معًا.
المآتم - بينا الإفرنجية ورجالنا أيضًا يجتهدون في التلهي والتعزي عن
المصيبة تجدنا بالعكس: نعقد الاجتماعات لنبكي ونستأجر المعدادت لتزيد نار
الأسى في قلوبنا، وماذا يجدي الحزن وهو لا يرد ميتًا ولا يعيد مفقودًا، قال أبو
العلاء:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي ... نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنَّمُ شادِ
وإن من لوازم الإسلام أن يصبر المرء عند المُلِمّات ويترك ما فات لما هو آت،
والعاقل من يصرفه همه إذ لا غبطة في العيش مع البؤس، وإنِ العمر إلا أيام
تنقضي فلماذا لا نجعلها سعيدة بقدر ما نستطيع؟
المسرات - وإننا في جلب المسرات لمقصرات نحو أنفسنا ومَن هم في ذمتنا
من الأهل والأولاد وحبذا لو اتبعنا طريقة المرأة الغربية في ذلك فإنها تعقد الاجتماعات
وتوالي السمر وتدعو أعضاء الأسرة الواحدة وأصدقاءها لتناول الشاي أو الطعام أو
التنزه معًا فيتجاذبون أطراف الحديث ويبدي كل منهم رأيًا أو حكاية لا تخلو من فائدة
أو فكاهة ويتعاطون لعبات مختلفة لتنشيط أذهانهم وأبدانهم ويتبادل المجتمعون الدعوة
كل بدوره فيتراءى أعضاء الأسرة الواحدة وأصدقاؤها كل يوم تقريبًا فينفون همهم
ويأنس بعضهم ببعض فيظلون في وئام ووفاق.
الخدم - المرأة المصرية لا تقدر نفسها قدرها، وطالما رأيت سيدة تضاحك
الخادمات وتكاشفهن بأسرارها فلا يتأخرن في إذاعتها في البيوت الأخرى وهذا من
الخطل في الرأي. يجب أن يعامل الخدم بالرأفة ولكن لا تتعدى تلك الرأفة حدودها.
ألم تستغربن مرة مِن أن خدمنا لا يشتغلون عندنا نصف ما يشتغلون في البيوت
الإفرنجية ومع ذلك تراهم هناك أنشط وأهدأ خلقًا مما إذا كانوا في بيوتنا.
السبب بَيِّنٌ وهو أن المرأة الإفرنجية تحفظ هيبتها فيخشاها الخدم وهي لا تخالطهم إلا
عند الأمر والنهي ولا تحط من شأنها بمسامرتهم ومضاحكتهم وتفرض عليهم شغلهم
وتريه لهم أول مرة ثم تتركهم وشأنهم فيعرفون واجباتهم.
5- الدور الخامس دور الأمومة.
هذا الدور مرتبط بدور الطفولية ارتباطًا تامًا حتى يكاد يندمج أحدهما في الآخر
وعليه فكل ما قلته هناك أقوله هنا.
النتيجة:
والنتيجة أن المرأة الغربية سبقتنا بمراحل في العلم والعمل مع أننا لا نَقِلُّ عنها
ذكاء وكل ما لا يستحيل طبعًا فهو ممكن بالمعالجة واتخاذ الجد مطية إليه مهما صعب
الطريق واستعصى فإذا تدرعنا بثبات العزم وقوة الإدارة فإننا نصل إلى ما وصلت
إليه من نور العلم ورفعة المقام ولا يثبطنا قول القائلين (إن الشرق شرق والغرب
غرب) فإن التأريخ أعدل حكم وهو حافل بذكر الشرقيات اللاتي نلن من بعد الصيت
ووفرة العلم منالاً كبيرًا أيام كانت الغربيات لا ذِكْرَ لهن فاقرأن تواريخ نساء العرب
في الشرق والغرب تجدن نادر الذكاء وجزل الشعر ومتين الأسلوب ما يشهد لَهُنَّ بعلو
الكعب في العلم العمل.
إن الضعيف إذا لم يُرزق قوة التمييز خُيِّل إليه أن كل ما يأتيه القوي حسن.
ذلك مَثلنا أمام المرأة الغربية فهل تردن أن نثبت للملإ خمولنا وخلونا من التمييز أم
تردن أن نعمل على حفظ قوميتنا وتقوية روح الاستقلال فينا وفي الأجيال القادمة من
أولادنا؟ إذا أردنا أن نكون أمة بالمعنى الصحيح تَحتَّم علينا أن لا نقتبس من المدنية
الأوربية إلا الضروري النافع بعد تمصيره حتى يكون ملائمًا لعاداتنا وطبيعة بلادنا.
نقبس منها العلم والنشاط والثبات وحب العمل. نقتبس منها أساليب التعليم والتربية
وما يرقينا حتى نبدل من ضعفنا قوة، وإنما لا يجوز في عرف الشرف والاستقلال أن
نندمج في الغرب ونلاشي ما بقي لنا من القوة الضعيفة أمام قوته المكتسحة الهائلة.
وفي الختام لا يسعني أيتها السيدات إلا أن أشكر لكُنَّ حسْن إصغائكن وتأييدكن
إياي بالحضور وآمل أن نسمع ونعي ولا أخالكن إلا عازمات على ترك جمودنا
القديم وعلى العمل معًا لرفع شأننا وشأن هذا الوطن والله أسأل أن يوفقنا ويهدينا
سواء السبيل.
__________
(*) نشرنا في (ص353م12) من المنار خطبة لإحدى فضليات النساء الملمات المشهورة بمقالاتها المفيدة في شؤون النساء والبيوت وهي التي توقع على مكتوباتها في الجريدة (باحثة بالبادية) واليوم ننشر لها هذه الخطبة النفيسة التي خطبت بها كثيرات من النساء في الجامعة المصرية في 5 ربيع الآخر سنة 1328.
(1) يباع بعشرين قرشًا صحيحًا بإدارة المنار وأجرة البريد قرشان ونصف.
(2) يباع بعشرة قروش بإدارة المنار وأجرة البريد قرش ونصف قرش.
(**) في كلام الخطيبة مواضع للنقد لم نتعرض لها لأن كلامها بالإجمال صحيح ومفيد ولكننا لم
نر بُدًّا هنا من تنبيهها إلى خطأ بيّن وهو تهويلها بتكاليف الزواج وذكر أشياء تافهة عدتها من
المرغبات فيه معرضة عن ذكر السائق الفطري إليه وهو شعور كل فرد من أفراد الجنسين بأن نفسه
نزاعة إلى السكون إلى نفس أخرى تَكْمُل بها، أما تلك الزخارف الكاذبة فقد تكون من المرغبات لمن لم يضربن بسهم في التربية ولا سيما لبنات الطبقة الدنيا اللائي كن محرومات في بيوت آبائهن من مثلها والخطيبة الأديبة إنما أرادت ذم التعجل بالزواج فجاء كلامهما صريحا بالتنفير من الزواج نفسه وهو غير المراد حتمًا.(13/265)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العمران العربي [*]
وصف دار الخلافة أو القصر الحسني
حين وفد رسول ملك الروم على الخليفة
حدثني أبو الحسين هلال بن المحسن قال كانت دار الخلافة التي على شاطئ
دجلة تحت نهر مُعَلّى قديمًا للحسن بن سهل ويسمى [1] القصر الحسني فلما توفي
صارت لبوران بنته فاستنزلها المعتضد بالله عنها فاستنظرته أيامًا في تفريغها
وتسليمها ثم رمّتها وعمّرتها وجصصتها وبيضتها وفرشتها بأَجَلِّ الفُرُش وأحسنه
وعلقت أصناف الستور على أبوابها وملأت خزائنها بكل ما يخدم الخلفاء به ورتبت
فيها من الخدم والجواري ما تدعو الحاجة إليه، فلما فرغت من ذلك انتقلت وراسلته
بالانتقال، فانتقل المعتضد إلى الدار ووجد ما استكثره واستحسنه ثم استضاف
المعتضد بالله إلى الدار مما جاورها كل ما وسَّعها به وكبرها وعمل عليها سورًا
جمعها وحصنها، وقام المكتفي بالله بعده ببناء التاج على دجلة وعمل وراءه من القباب
والمجالس ما تناهى في توسعته وتعليته، ووافى المقتدر بالله فزاد في ذلك وأوفى مما
أنشأه واستحدثه وكان الميدان والثريا وحبر [2] الوحوش متصلاً بالدار [3] كذا ذكر لي
هلال بن المحسن أن بوران سلمت الدار إلى المعتضد وذلك غير صحيح؛ لأن بوران
لم تعش إلى وقت المعتضد وذكر محمد بن أحمد بن مهدي الإسكافي في تأريخه أنها
ماتت في سنة إحدى وسبعين ومائتين وقد بلغت ثمانين سنة ويشبه أن تكون سلمت
الدار إلى المعتمد على الله، والله أعلم.
حدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال حدثني أبو الفتح أحمد
بن عليّ بن هارون المنجم قال حدثني أبي قال: قال أبو القاسم عليّ بن محمد
الجوَّاري [4] في بعض أيام المقتدر بالله وقد جرى حديثه وعظم أمره وكثرة الخدم في
داره، وقد اشتملت الجريدة إلى هذا الوقت على أحد عشر ألف خادم خصي وكذا من
صقلي ورومي وأسود وقال هذا جنس واحد ممن تضمه [5] الدار فدع الآن الغلمان
الحجرية وهم ألوف كثيرة والحواشي من الفحول، وقال أيضًا حدثني أبو الفتح عن
أبيه وعمه عن أبيهما أبي القاسم علي بن يحيى أنه كانت عدة كل نوبة من نوب
الفراشين في دار المتوكل على الله أربعة آلاف فراش، قالا فذهب علينا أن نسأله كم
نوبة [6] كانوا.
حدثني هلال بن المحسن قال حدثني أبو نصر خواشاذة خازن عضد الدولة قال
طفت دار الخلافة عامرها وخرابها وحرمها [7] وما يجاورها ويتاخمها فكان ذلك مثل
مدينة شيراز، قال هلال وسمعت هذا القول من جماعة آخرين عارفين خبيرين.
ولقد ورد رسول لصاحب الروم في أيام المقتدر بالله ففرشت الدار بالفروش
الجميلة وزينت بالآلات الجليلة ورتب الحجاب وخلفاؤهم والحواشي على طبقاتهم على
أبوابها ودهاليزها وممراتها ومخترقاتها وصحونها ومجالسها ووقف [8] الجند صفين
بالثياب الحسنة وتحتهم الدواب بمراكب الذهب والفضة وبين أيديهم الجنائب على
مثل هذه الصورة وقد اظهروا العدد الكثير [9] والأسلحة المختلفة فكانوا من أعلا باب
الشماسية إلى قريب من دار الخلافة وبعدهم الغلمان الحجرية والخدم الخواص
الدارية والبراينة إلى حضرة الخليفة بالبزة الرائقة والسيوف والمناطق المحلاة
وأسواق الجانب الشرقي وشوارعه وسطوحه ومسالكه مملوءة بالعامة النظّار [10] وقد
اكترى كل دكان وغرفة مشرفة بدراهم كثيرة وفي دجلة الشذاءات والطيارات
والذباذب والزلالات والسمريات [11] بأفضل زينة وأحسن ترتيب وتعبئة وسار
الرسول ومن معه من المواكب إلى أن وصلوا إلى الدار ودخل الرسول فمر به [12]
على دار نصر القشوري الحاجب ورأي ضففا [13] كثيرًا ومنظرًا عظيمًا فظن أنه
الخليفة وتداخلت له هيبة وروعة حتى قيل له إنه الحاجب وحمل مِن بعد ذلك إلى
الدار التي كانت برسم الوزير وفيها مجلس أبي الحسن عليّ بن محمد الفرات [14]
يومئذ فرأى أكثر مما رآه النصر الحاجب ولم يشك في أنه الخليفة حتى قيل له هذا
الوزير وأُجْلِس بين دجلة والبساتين في مجلس قد علقت ستوره واختيرت فروشه
ونصبت فيه الدسوت وأحاط به الخدم بالأعمدة والسيوف ثم استدعى بعد أن طيف به
في الدار إلى حضرة المقتدر بالله وقد جلس وأولاده من جانبيه فشاهد مِن الأمر ما
هاله ثم انصرف إلى دار قد أعدت له.
حدثني [15] الوزير أبو القاسم عليّ بن الحسن المعروف بابن المسلِّمة قال
حدثني أمير المؤمنين القائم بأمر الله قال حدثني أمير المؤمنين القادر بالله قال
حدثتني جدتي أم أبي إسحاق بن المقتدر بالله أن رسول ملك الروم لما وصل إلى
تكريت أمر أمير المؤمنين المقتدر بالله باحتباسه هناك شهرين، ولما وصل إلى بغداد
نزل [16] دار صاعد ومكث شهرين لا يُؤْذن له في الوصول حتى فرغ المقتدر بالله
من تزيين قصره وترتيب آلته، ثم صف العسكر من (دار صاعد) إلى (دار
الخلافة) وكان عدد الجيش مائة وستين ألف فارس وراجل، فسار الرسول بينهم إلى
أن بلغ الدار، ثم أُدْخِلَ في أزج [17] تحت الأرض فسار فيه حتى قبل بين يدي المقتدر
بالله وأدى رسالة صاحبه ثم رسم أن يطاف به في كل الدار وليس فيها من العسكر أحد
ألبتة وإنما فيها الخدم والحجاب والغلمان السودان، وكان عدد الخدم إذ ذاك سبعة
آلاف خادم منهم أربعة آلاف بيض وثلاثة آلاف سود وعدد الحجاب سبع مئة حاجب
وعدد الغلمان السودان غير الخدم أربعة آلاف غلام قد جعلوا على سطوح الدار
والعلالي وفتحت الخزائن، والآلات فيها مرتبة كما يفعل بخزائن العرائس وقد علقت
الستور ونظم جوهر الخلافة في قلابات [18] على دَرَجٍ غُشِّيَتْ بالديباج الأسود.
مطلب دار الشجرة
ولما دخل الرسول إلى دار الشجرة ورآها كثر تعجبه فيها [19] وكانت شجرة
من الفضة وزنها خمسمائة ألف درهم وعليها أطيار مصوغة من الفضة تصفر
بحركات قد جعلت لها فكان تعجب الرسول من ذلك أكثر من تعجبه من جميع ما
شاهده، قال لي هلال بن المحسن [20] ووجدت من شرح ذلك ما ذكر كاتبه أنه نقله
من خط القاضي أبي الحسين بن أم شيبان الهاشمي وذكر أبو الحسين أنه نقله من
خط الأمير وأحسبه الأمير أبا محمد الحسن بن عيسى ابن المقتدر بالله؛ قال كان عدد
ما علق في قصور أمير المؤمنين المقتدر بالله من الستور الديباج المذهبة بالطرر [21]
المذهبة الجلية المصورة بالجامات والفيلة والخيل والجمال والسباع والطرر [22]
والطيور الكبار البصنائية [23] والأرمنية والواسيطة والبهنسية السواذج والمنقوشة
والدبيقية المطرزة ثمانية وثلاثين ألف ستر منها الستور الديباج المذهبة المقدم
وصفها اثني عشر ألفًا وخمس مئة ستر وعدد البسط والنخاخ [24] الجهرمية
والدرابجردية والدورقية في الممرات والصحون التي وطئ عليها القواد ورسل
صاحب الروم من حد باب العامة الحديد [25] إلى حضرة المقتدر بالله سوى ما في
المقاصير والمجالس من الأنماط الطبري والدبيقي التي لحقها النظر [26] دون الدوس
اثنان وعشرون ألف قطعة وأدخل رسل صاحب الروم من دهليز باب العامة الأعظم
إلى الدار المعروفة بخان الخيل وهي دار أكثرها أروقة بأساطين رخام وكان فيها من
الجانب الأيمن خمس مائة فرس عليها خمس مائة مركب ذهبًا وفضة بغير أغشية،
ومن الجانب الأيسر خمس مائة فرس عليها الجلال الديباج بالبراقع الطوال وكل فرس
في يد شاكري بالبزة الجميلة ثم أدخلوا من هذه الدار إلى الممرات والدهاليز المتصلة
بحير الوحش وكان في هذه الدار من أصناف الوحش التي أخرجنا إليها من الحير
قطعان تقرب من الناس وتشممهم [27] وتأكل من أيديهم ثم أخرجوا إلى دار فيها
أربعة فيلة مزينة بالديباج والوشي على كل فيل ثمانية نفر من السند الزراقين بالنار
فهال الرسل أمرها ثم أخرجوا إلى دار فيها مائة سبع: خمسون يمنة وخمسون يسرة
كل سبع منها في يد سباع وفي رؤوسها وأعناقها السلاسل والحديد.
ثم أخرجوا إلى الجوسق المحدث وهي دار بين بساتين [28] في وسطها بركة
رصاص قلعي حواليها نهر رصاص قلعي أحسن من الفضة المجلوة طول البركة
ثلاثون ذراعًا في عشرين ذراعًا، فيها أربعة طيارات لطاف بمجالس [29] مذهبة
مزينة بالديبقي المطرز وأغشيتها ديبقي مذهب وحواليّ هذه البركة بستان بميادين فيه
نخل قيل إن عدده أربع مائة نخلة وطول كل واحدة خمسة أذرع قد لبس جميعها ساجًا
منقوشًا من أصلها وإلى حد الجُمَّارة [30] بحلق من شبة مذهبة وجميع النخل حامل
بغرائب البسر الذي أكثره خلال لم يتغير، وفي جوانب البستان أترج حالم
ودستنبو [31] ومقفع وغير ذلك ثم أخرجوا من هذه الدار إلى دار الشجرة وفيها شجرة
في وسط بركة كبيرة مدورة فيها ماء صاف وللشجرة ثمانية عشر غصنًا لكل
غصن منها ساحات كبيرة عليها الطيور والعصافير من كل نوع مذهبة ومفضضة
وأكثر قضبان الشجرة فضة وبعضها مذهب وهي تتمايل في أوقات ولها ورق
مختلف الألوان يحرك كما يتحرك الريح ورق الشجر وكل من هذه الطيور
ويصفر ويهدر وفي جانب الدار يمنة البركة تماثيل خمسة عشر فارسًا على خمسة
عشر فارسًا قد ألبسوا الديباج وغيره وفي أيديهم مطارد على رماح يدورون على
خط واحد في الناورد خببًا وتقريبًا [32] وفي الجانب الأيسر مثل ذلك.
ثم ادخلوا إلى القصر المعروف بالفردوس فكان فيه من الفرش والآلات ما لا
يحصى ولا يحصر كثرة، وفي دهاليز الفردوس عشرة آلاف جَوْشَن [33] مذهبة
معلقة، ثم أُخرِجوا منه إلى ممر طوله ثلاث مئة ذراع قد علق من جانبيه نحو عشرة
آلاف درقة وخوذة وبيضة ودرع وزردية وجعبة محلاة وقِسِيّ، وقد أقيم نحو ألفي
خادم بيضًا وسودًا [34] صفين يمنةً ويسرةً ثم أخرجوا بعد أن طيف بهم ثلاثة
وعشرين قصرًا إلى الصحن التسعيني وفيه الغلمان الحجرية بالسلاح الكامل والبزة
الحسنة والهيئة الرائعة وفي أيديهم الشروخ والطبر زينات [35] والأعمدة ثم مروا
بمصاف من عليه السواد من خلفاء الحجاب والجند والرجَّالة وأصاغير [36] القواد
ودخلوا دار السلام وكانت عدة كثير من الخدم الصقالبة [37] في سائر القصور يسقون
الناس الماء المبرد بالثلج والأشربة الفقاع ومنهم من كان يطوف مع الرسل فلطول
المشي بهم ما [38] جلسوا واستراحوا في سبعة مواضع واستسقوا الماء فسقوا.
وكان أبو عمر عدي بن أحمد بن عبد الباقي الطرسوسي صاحب السلطان
ورئيس الثغور الشامية معهم في كل ذلك وعليه قباء أسود وسيف ومنطقة، ووصلوا
إلى المقتدر بالله وهو جالس في التاج، مما يلي دجلة بعد أن لبّس بالثياب الدبيقية
المطرزة بالذهب على سرير أبنوس قد فرش بالدبيقي المطرز بالذهب وعلى رأسه
الطويل ومن يمنة السرير تسعة عقود مثل السبح معلقة، ومن يسرته تسعة [39] أخرى
من أفخر الجواهر وأعظمها قيمة غالبة الضوء على ضوء النهار وبين يديه خمسة
من ولده ثلاثة يمنة واثنان يسرة ومثل الرسول وترجمانه بين يدي المقتدر بالله فكفّر
له وقال الرسول لمؤنس الخادم ونصر القشوري وكانا يترجمان عن المقتدر لولا أني
لا آمن أن يطالب صاحبكم بتقبيل البساط لقبلته ولكنني فعلت ما لا يطالَب رسولكم
بمثله لأن التكفير من رسم شريعتنا ووقفا ساعة وكانا شابًّا وشيخًا؛ فالشاب:
الرسول المتقدم والشيخ: الترجمان، وقد كان ملك الروم عقد الأمر في الرسالة للشيخ
متى حدث بالشاب حدث الموت، وناوله المقتدر بالله من يده جوابَ ملك الروم وكان
ضخمًا كبيرًا فتناوله وقبله إعظامًا له، وأُخرجا من باب الخاصة إلى دجلة وأقعدا
وسائر أصحابهما في شذًا من الشذاوات الخاصة وصاعدا إلى حيث أُنزلا فيه من
الدار المعروفة بصاعد وحمل إليهما خمسون بدرة ورقًا في كل بدرة خمسة آلاف
درهم وخلع على أبي عمر عدي الخلع السلطانية وحُمِلَ على فرس وركب على
الظهر وكان ذلك في سنة خمس وثلاثمائة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) ننشر تحت هذا العنوان أثاراتٍ من التأريخ تذكيرًا للخلف بسؤدد السلف، رجاء أن يبعث التذكير
على العمل، وإننا نبدأ بوصف القصر الحسني نقلًا عن نسخة خطية من تأريخ مدينة السلام للخطيب
موجودة في مكتبة مصطفى باشا الكوبريلي بالقسطنطينية مقابلين ذلك على نسخة Salmon - G
المطبوعة بباريس سنة 1904 وهي التي أخذها عن نسخة خطية في مكتبة لندره، مشيرين إلى اختلاف النسختين في الهوامش ومفسرين بعض الكلمات الغربية.
(1) وسمي.
(2) وحبر, والحير هو البستان ولكن الحبر هنا لا معنى.
(3) في نسخة سالمون بعد كلمة بالدار (قال الشيخ الحافظ) .
(4) الخوارزمي.
(5) تضمنه.
(6) نوب.
(7) وحريمها.
(8) ووقفت.
(9) الكثيرة.
(10) النظارة، والنظارة هو القوم ينظرون إلى الشيء وأما النظار فلا معنى لها هنا.
(11) كل هذه ضروب من الزوارق والسفن.
(12) ممرته.
(13) صففا، والصفف ما يلبس تحت الدروع، وأما الضفف فلا يتضح لها معنى هنا.
(14) بن.
(15) وحدثني.
(16) انزل.
(17) في كتب اللغة أنه بيت مستطيل وهو أخص من النفق ويسمى بالفرنسية tunnel.
(18) قلايات وليس لكلتيهما معنى ظاهر.
(19) منها.
(20) الكاتب.
(21) بالطرز.
(22) والطيور، وهذا الصحيح ولا معنى للطرر هنا.
(23) (البضنائية) نسبة إلى قرية صغيرة بالأهواز.
(24) الصواب: الأنخاخ وهي البسط.
(25) الجديد.
(26) تحتها للنظر.
(27) وتتشممهم.
(28) بستانين.
(29) كلمة (بمجالس) ساقطة.
(30) الجمارة، شحمة النخلة.
(31) نوع من الفاكهة، والكلمة فارسية.
(32) في نسخة سالمون بدل: في الناورد خببًا وتقريبًا، هذه الجملة (فيظن أن كل واحد إلى صاحبه قاصد) .
(33) الجوشن هو الدرع.
(34) في نسخة: بيض وسود واختار سالمون النصب.
(35) الشروخ هي النصول، والطبرزينات واحدها طبرزين فأس من السلاح ويسمي أيضًا طيرًا كما في بلاد الشام.
(36) وأصاغر.
(37) والصقالبة.
(38) حرف (ما) ساقط وهو الصواب.
(39) سبعة.(13/285)
الكاتب: حسين وصفي رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
حسين وصفي رضا
(تدبير صحة الحامل والنفساء والطفل أثناء العامين الأولين)
ألّفه بالفرنسية الدكتور أده الإخصائي بفن الولادة وأمراض النساء، وترجمه
بالعربية الدكتور فرا، صفحاته 277 وعدد رسومه 74 وقد طبع بمطبعة المعارف
بمصر ويباع بمكتبة المعارف ومكتبة المنار بعشرة قروش.
من أفضل محاسن المدنية الحديثة توزيع العلوم والأعمال وهو ما يصح أن
يطلق عليه في اللغة العربية الأَخِصّاء، فإن المرء إذا انقطع لممارسة فن واحد من
فنون العلم برع في ذلك الفن وأخصى، وأمكنه أن ينفع وينتفع، وما كانت
الاختراعات والاكتشافات في الماضي والحاضر إلا بنت الأخِصّاء، وإن الارتقاء
العظيم الذي وصل إليه الطب بفروعه - ولا سيما فن الجراحة - لم يكن لولا
الأخصاء فهو سبب كبير من أسباب عظمة مدينة هذا العصر، وما من أحد ينكر أن
الطب هو ملاك العلوم العملية وتاج مفرقها؛ ناهيك بعلم تتوقف عليه حياة الجسوم التي
بحياتها تكون حياة الأرواح، ومن ذا الذي ينكر مقاومة الطب للأمراض الوافدة
كالجدري والهيضة (الكوليرا) والطاعون وغيرها كالسل ونحوه، حتى أصبحت
مدينة القاهرة مرتاحة من ذنيك المرضين الفتَّاكين اللذين كانا ينتابانها مناوبة وهما
الهيضة والطاعون مع أن القاهرة ليس فيها من العناية بالوسائل الصحية عشر
معشار ما في باريس وغيرها من مدائن أوربا وأمريكا بتلك البلاد التي بلغ من
الاحتياطات الصحية فيها أنه أصبح من المحظور على الناس أن يلفظوا بصاقهم
على الأرض حذرًا من جراثيم مرض قتَّال فيه يستنشقها المعافى السليم.
ألا بارك الله في هذا العصر وبنيه العاملين النافعين، فإن تكاليف الحياة بفضلهم
أصبحت خفيفة الحمل على من كانوا مثقلين بها، وإنَّ مِن أنبل أعمالهم وأنفعها هذه
الكتب التي ينشرونها هَدْيًا للناس وإرشادًا، وأمامي الآن كتاب من أجلّ تلك الكتب
وأنفعها لقومي وهو كتاب تدبير صحة الحامل والنفساء والطفل.
هذا الكتاب يجب أن يدخل كل دار من دُورِنا بل كل بيت وكل كوخ إن أمكن
ليكون قيد نظر كل امرأة تحمل وتلد، ليكون لها مرشدًا يهديها إلى الطريقة المثلى
في تدبير معيشتها، والعناية بصحتها وصحة جنينها وطفلها، فتسلم من ويلات
الحمل والنفاس الكثيرة، وتقي طفلها مصارع الأدواء الوبيلة وتربيه على الأصول
الصحية، ومَن ليست بقارئة أَفْهَمها زوجها ما يجب عليه؛ فالخطب سهل والأمر
يسير غير عسير والكتاب سهل العبارة حسن الطبع.
***
(ديوان الرصافي)
نظمه معروف أفندي الرصافي الشاعر البغدادي الشهير، وعني بترتيبه
وتبويبه والوقوف على طبعه الشيخ محيي الدين الخياط، وعني بتفسير ألفاظه الشيخ
مصطفى الغلايني منشئ مجلة النبراس، صفحانه 225 وعدد قصائده وقطعه 91
طبع بالمطبعة الأهلية ببيروت، ويباع بمكتبة المنار بتسعة قروش صحيحة وأجرة
البريد قرش.
معروف أفندي الرصافي شاعر سليقي مطبوع، قدير على التبسيط في مناحي
الكلام وأساليب النظم، ولو أن حظه من الصنعة وازى حظه من القدرة لقَلّ في
هذا العصر مضارعوه، وقد امتزجت في شعره تطرية الحضارة بمسحة البداوة
فكثرالتفاوت في شعره، وليس التفاوت مما يزري بالشاعر فإننا لم نعرف شاعرًا
من الماضين أو الحاضرين لا تفاوت في شعره.
وللرصافي طريقة خاصة به في النظم وهي إبداع الغرض في قصة محكية أو
حكاية مروية، وقد تفرد في هذا النمط من النظم حتى أصبح شعره فيه لا يطاول
أسلوبا ومنحى، ومن جيد شعره في ذلك قصيدته (أم اليتيم) و (أبو دلامة
والمستقبل) .
قال في الأولى يصف شقاء أم اليتيم (ص 108) .
كأن نجوم الليل عند ارتجافها ... تشير إلى ذاك الأنين المجمجم
فما خفقان القلب إلا لأجلها ... وما الشهب إلا أدمع النجم ترتمي
لقد تركتني موجع القلب ساهرًا ... أخا مدمع جار ورأس مهوم
أرى فحمة الظلماء عند أنينها ... فأعجب منها كيف لم تتضرم
وقال في الثانية يستنكر الحروب (ص 146) .
قضت المطامع أن نطيل جدالا ... وأبين إلا باطلاً ومحالا
في كل يوم للمطامع ثورة ... باسم السياسية تستجيش قتالا
ما ضَرَّ من ساسوا البلاد لو أنهم ... كانوا على طلب الوفاق عيالا
أمن السياسة أن يَقْتل بعضُنا ... بعضًا ليدرك غيرُنا الآمالا
لا درَّ دَرُّ أولي السياسة أنهم ... قتلوا الرجال ويتموا الأطفال
غرسوا المطامعَ واغتدوا يسقونها ... بدم هريق على الثرى سيالا
نثروا الدماء على البطاح شقائقا ... وتوهموها الروضة المحلالا
والموضوعات التي في ديوان الرصافي كلها شريفة تتناول جميع شئون
الاجتماع والعمران، ومن أحسن قصائده موضوعًا، وأنبلها مقصدًا، وأصفاها
ديباجة، وأحكمها أسلوبًا، تائيته الشهيرة التي عنوانها التربية والأمهات (راجع ص
133م12من المنار) ، وبائيته التي انتصر فيها لمذاهب أهل السنة في كون طلاق
الغضبان لا يقع، وعنوانها المطلقة (راجع ص 128من هذا المجلد) وغير ذلك
من القصائد النافعة التي كان بها شعر الرصافي ممتازًا جديرًا بأن يُعَدَّ من وسائل
النهضة في البلاد العربية.
وقد جَعل الديوان صديقنا الشيخ محيي الدين الخياط أربعة أقسام: الكونيات
الاجتماعيات، التأريخيات، الوصفيات، وقد أحسن في الترتيب والتبويب وكتب له
مقدمة وَصَفَ فيها الشعر بكلام شعري، ثم قسم الشعراء إلى أطوار، ووازن بين
الرصافي وشعراء عصره، فكانت آراؤه آراء البصير بالفن، القدير في الشعر.
ولقد آلمنا أننا عثرنا على أغلاط مطبعية كنا نتمنى أن لا تقع في هذا الديوان
النفيس، وياليت صديقنا منشئ النبراس أتم تفسير جميع المفردات الغريبة في
الديوان.
***
(ديوان المصري)
ناظمه عبد الحليم حلمي أفندي المصري، عدد صفحاته 135 بالقطع الصغير
وعدد قصائده 28 وبضع قطع، طبع بمطبعة النظام بمصر ويباع بعشرة قروش
صحيحة بالمكتبات الشهيرة.
نظم عبد الحليم حلمي أفندي المصري الشعر بالأمس وهو تلميذ حزوّر فكنا
نقرأ له الأبيات فنستحسن شعره ونحمد أسلوبه، متأبين أن نرى منه في المستقبل
شاعرًا مجيدًا، وأصدر اليوم الجزء الأول من ديوانه وهو شارخ طرير، فكان به
معدودًا من شعراء العصر المشهورين، ولا أعرف شارخًا قبله في عصرنا بلغ مبلغه
من الشعر، ولئن كانت ديباجة شعره اليوم لم يتم صفاؤها وكان سَبْكُه غيرَ مُحكَم
الرصانة فإنَّ قلق خاطر الشباب شفيع له بذلك.
ولقد أحببت من أخلاق هذا الشاعر أنه لم يصب بداء الشعراء (الغرور
والعُنْجهية) فقد كتب فقرة مختصرة شعرية الأسلوب جعلها مقدمة لديوانه تدل
علي ذلك قال فيها: (إلى قالة الشعر وقراء العربية من مشارق الأرض إلى مغاربها
أزف شباب شعري وشعر شبابي بقدر ما تزودت من الأدب، ونشرت من برود
العرب، حتى إذا امتد حبل العمر، واشتد أزر الشعر، كان الفرق بين شعر الطفولة
وشعر الكهولة مرآة للناظرين، ودرسًا للمبتدئين وأعجبني منه أنه لم يتلو تلو غيره
من الذين يكتبون مقدمات لدواوينهم يعرفون بها الشعر ويتعسَّفون في ذلك ويتمحَّلون،
حتى جعلوا الشعر بتعريفاتهم من النظريات التي لا شأن للأذواق فيها، ومَن يتوهم
أنه بوصفه للشعر يزيد من عرفته روحه بصيرة فيه، أو يقربه من أرواحٍ جاهلية،
فهو لا يعرف من الشعر إلا أنه قانون صناعي نظري) ، على أن المصري قد نشر
لغيره مقدمة من نوع تلك المقدمات الموصوفة.
ومن جيد شعر المصري قصيدته النونية التي عنوانها خلع عبد الحميد
(ص 63) وقصيدته التي عنوانها (السنة الهجرية) (ص 49) إلا أنه لم
يحسن التخلص في هذه من موضوع إلى موضوع، وهذا من عيوب الشعر، قال من
قصيدته الأولى مخاطبًا عبد الحميد:
شاهدت حولك أسوارًا تفيض دمًا ... كأنما قد بناها بالدم الباني
مدججًا إذا قيل القتال سعت ... مقرونة السير بنيانًا لبنيان
تظلها ساريات قطرها عجب ... من أنسر وشواهين وعقبان
لم تبسم الناس في (تموز) من جذل ... إلا وقد عبسوا في شهر (نيسان)
نبا بك الملك واستعصت قيادته ... عليك فانزل فأنت الراقد الهاني
ولم أر قولاً أبلغ في وصف سفَّاح من قوله (أسوار تفيض دما) ولو أن في
المنار متسعًا لنشرت لهذا الشاعر مختارات كثيرة، وعسى أن يتجنب المدح في
شعره ولاسيما الملوك والأمراء، فإن العصور التي ظلم فيها الشعر بالأماديح قد
طواها الدهر.
***
(ديوان الأثر)
ناظمه رشيد أفندي مصوبع البناني، عدد صفحاته 120 بالقطع الوسط (طبع
بمطبعة الهلال بمصر) .
عرف رشيد أفندي مصوبع من مشهوري شعراء لبنان بشغفه الزائد في قرض
الشعر، وهيامه في شعابه وفجاجه، وتحليقه في أجوائه وفضائه، حتى أصبح صبًّا
به مغرمًا، ومن عرف الشاعر لا يزال في مقتبل العمر وريعان الشباب، وهو مع
ذلك قد أصدر من شعره أربعة أجزاء ضرب فيها بكل سهم، وطرق كل موضوع
استيقن أن الشاعر إنما أحرز شهرته وهو بها جدير.
وقد أهدي إلينا ديوان (الأثر) الذي أصدره في هذه الآونة فألفيناه حافلا
بالقصائد والمراثي والأماديح والغزل والنسيب والتشبيب والحنين إلى مصر إذ كان
مفارقا، ناهيك بشعر يخاطب قائله إسماعيل باشا صبري حكيم الشعراء بهذين البيتين
كما روت جريدة الأهرام:
قل يا رشيد أفديك قل ... يا شاعر المشرق والمغرب
شعرك هذا كله طيب ... أجدت فيه يا أبا الطيب
ومن جيد شعره قصيدته (ص 63) التي يقول منها:
وكم لغات تريد الناس تحفظها ... حتى يكون لهم باب ليكتسبوا
وهل سوى لغة الأعراب تؤنسنا ... وهل لآذاننا من غيرها طرب
واللهِ حين جرت في مسمعي نشعت ... روحي وأشجت كعود فوقه ضربوا
يا طول شوقي لوادي النيل أسمعها ... فيه ويا حر شوقي حين يلتهب
وطول شوقي لسوريا متى صدحت ... فيها ومالت سرورًا تحتها القضب
والديوان كله على هذا النسق.
***
(الجامعة المصرية)
أصدرت الجامعة المصرية تقريرها السنوي الثاني وقد ألمت فيه بخلاصة
أعمالها وأحوالها وذكر نفقاتها وحركة العلم فيها، وفي كل ذكر دليل بَيِّنٌ على تقدمها
وارتقائها زادها الله تقدمًا وارتقاء.
ومما جاء في هذا التقرير أن ريع الجامعة بلغ في السنة الماضية 7665 جنيهًا
ونفقتها 9000 جنيه فسد العجز من المال المقتصد سنة 908 وهو 2300 جنيه،
وأن الهبات المالية التي يتبرع بها أهل الأريحة والسخاء بلغت 2700
جنيه، وأن عدد طلابها كان إلى منتصف فبراير الماضي 403 ما بين ذكران
وإناث، إلى غير ذلك من الدلائل على توقلها في مراتب النجاح، ولكنها لا تزال في
حاجة كبرى إلى بدر الأموال ليتسنى لها مضارعة الجامعات الكبرى في أوربا
وأمريكا، وليس بكثير على أهل الثراء في هذه البلاد أن يقيموا لأبنائهم جامعة
تغنيهم عن انتياب الجامعات في البلاد الأخرى لا سيما وأن أقتالهم وأضرابهم في تلك
البلاد قد قام على أفراد منهم بتأسيس كثير من الجامعات.
وقد أصدرت الجامعة أيضًا تقريرًا عن مكتبتها ومحتوياتها والهدايا التي أهديت
إليها وهو مطبوع باللغة الفرنسية، كتب الله النجاح والفلاح لهذه الجامعة ولطلابها.
***
(رسالة في أدب اللغة وملكة الذوق)
رسالة لإبراهيم أفندي نسيم الكاتب الأول لمشيخة الجامع الأحمدي ألقاها
محاضرة في نادي موظفي الحكومة بالإسكندرية، وقد ألم فيها بأصل التدوين وتأريخه
وحكى الأقوال في أصل الخطوط ووضع العلوم ونفى مزاعم القائلين بأن التدوين في
الإسلام لم يكن إلا في القرنين الثاني والثالث، قال في ذلك: (أمَّا أنَّ العلوم الإسلامية
لم تدوَّن إلا في القرنين الثاني والثالث للهجرة فمردود بما ثبت من شيوع الكتابة بين
الصحابة وما كان من اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن ثابت ومعاوية
وغيرهما يكتبون ما يمليه عليهم من رسائل الدعوة إلى معاصريه من الملوك)
والرسالة جيدة الطبع ذات 48 صفحة بالقطع الصغير حاوية لكثير من الفوائد الأدبية
والتأريخية وثمنها مع أجرة البريد 15مليمًا وتطلب من مكتبة المنار.
***
(مقدمة السبرمان)
كراسة تقع في 29 صفحة بالقطع الصغير تأليف (سلامة موسى) وكلمة
السبرمان (mensch ueber) ألمانية معناها الإنسان الأسمى وضعها الفليسوف
نيتش الألماني وأراد بها أنه لا بد من إيجاد إنسان آخر أعلى همة وأرقى شأنًا
من الإنسان الحاضر، ويرى هذا الفيلسوف أن الذرائع التي تمكن من إيجاد السبرمان
إنما تكون بمحو الضعفاء وتنمية قوة الأقوياء لأن الضعيف في رأيه لا يستحق الحياة،
وقد رأينا مؤلف هذه الرسالة يتحمس لآراء نيتش وبليك وشوبنهور وغيرهم من
أرباب الفلسفة الشاذة التي روحها وبلاكًا حمل الناس على التفلت من جميع القيود
الدينية والأدبية وتقوية الحياة الحيوانية فيهم بحيث يكونون متسلطين جبابرة أقوياء،
بدل أن يكونوا عادلين مهذبين رحماء، وكان لمثل هذا المؤلف الجديد أن يريد أهل
الشرق على التمسك بتلك المبادئ الشاذة لو أنه رأى لها أثرًا قائمًا بتلك البلاد التي
نبت فيها أولئك الفلاسفة أنفسهم.
يظهر كل يوم في بلاد الفرنجة كثيرون بأفكار جديدة منها المفيد ومنها السخيف
ولكن الناس هنالك على بصيرة وعقل فهم يتناولون كل نافع وينبذون كل ضار غالبًا
ولكن هذا لا يمنع أن يكون لكل ناعق مُتَّبعِون، ولكل قائل مصدقون، فإن الشذوذ
واختلاف المناحي كان ولا يزال دأب البشر، ولكن المتفرنجين منا يريدون تعميم ما
يرون لهم في كل بقعة من بلاد الشرق، ناصبين أنفسهم من أمتهم منصب المصلحين
النافعين، وإنما هم من المقلدين المساكين، الذين لم تقو عقولهم على تمييز الغث من
السمين، ولقائل أن يقول لو أن فلسفة نيتش كان معمولا بفحواها قبل أن يكتبها فماذا
كان يكون حظه منها وهو لم يكن إلا حلس بيته يفكر في نظرياته وخيالاته؟ ولم
يكن من أولئك الجبابرة العتاة، الذين لا يستحق غيرهم في نظره الحياة، بل
لنفرض أن تلك الشريعة الوحشية غفلت عنه ولكنها أبادت من حوله من الضعفاء
الذين يهيئون له طعامه وشرابه، وينظفون له مأواه وثيابه، فماذا كان يكون شأنه؟
يجب أن لا نسير وراء خواطر نفوسنا، وجواذب شعورنا، بل أن نُحكِّم العقل
والروية في كل شيء، وهذا ما ننصح به لمؤلف هذه الرسالة.
***
(درس روح الإسلام)
كراسة باللغة الفرنسية وضعها الدكتور أحمد الشريف من خيرة شبان تونس
المستنيرين ردًا على مزاعم افتحارية لرجل من جهلة الفرنسيس اسمه موسيو بواجه
(Biogey. M) كتبها في إحدى المجلات الفرنسية بعنوان (بحث اجتماعي في
الإسلام أو درس روح الإسلام) وقد جاء فيها بسخافات دلَّت على مبلغ جهله
ورعونته، وشدة تعصبه وفرط بَلادته، وماذا عسى أن يقال في بواجه الذي زعم
في بحثه هذا أن الإسلام أو نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم الذي يسميه هذا
المتأدب بالآداب المسيحية بجمّال مكة يقول في القرآن (إن الذي يركب البحر
مرتين لا يكون مؤمنًا) ! ! ، ولست أدري من أي قرآن أتى هذا الجهول بهذه الآية؟
لعلها من وحي التعصب الذي يلتهب بين ضلوعه.
وغريب أن يتصدى مثل هذا الرجل للكتابة عن الإسلام وهو على هذه الحال
من الجهل وقصر النظر، ولكن التعصب يسوق إلى اقتحام كل لجة، وتوقل كل
ربوة، وأغرب من ذلك أن تحفل المجلات بمثل وساوس بواجه ومفترياته، إلا إذا
كان أصحابها موافقين له في آرائه ومروياته.
***
(الحصون المنيعة)
حمل إلينا بريد سورية رسالة بهذا الاسم لم يكتب عليها اسم مؤلفها، ولقد
نظرنا نظرة إجمالية في هذه الرسالة فإذا جدل بتمحل، ومراء ظاهر، وخطأ في
الاستدلال، وإنه يؤلمنا أن يُمنى المسلمون بمثل كاتب هذه الرسالة المتعصب إلى
رأي بعينه، والمتحيز إلى فئة دون فئة، مما جعل مثارًا للخلاف والتنازع بين
المسلمين، وقد أشار منشئ المنار إلى هذه الرسالة وكاتبها فيما كتبه تعليقًا على
رسالة البحرين في باب البدع والخرفات من هذا الجزء.
***
(سر كلومبير)
قصة مترجمة بالعربية بقلم الدكتور محمد أفندي عبد الحميد حكيم اسبتالية
قليوب، لم يسمح لنا الوقت بقراءة شيء منها ولكن ما نعهده في مترجمها من
الاعتدال في الرأي وتوخي النفع يرجح لنا أن قصته التي اختار ترجمتها حاوية
للفائدة والفكاهة.
***
(الروايات الجديدة)
أصدر نقولا أفندي رزق الله مدير إدارة جريدتي الأهرام والبيراميد مجلة
قصصية بهذا الاسم، وجعل قيمة اشتراكها 60 قرشا في مصر والسودان و22
فرنكًا في الخارج ويصدر منها في السنة 20جزءًا، جاءنا الجزء الأول منها
واسمه لويس السابع عشر فإذا هو كتاب يقع في 224صفحة بالقطع الصغير جيد
الورق والطبع وله ملحق يحتوي على قصة مختصرة ونبذه شعرية ونثرية، ونحن
وإن كنا لم نتمكن من قراءة هذا الجزء فإننا نعرف من صاحب هذه المجلة كاتبًا
بارعًا في الترجمة، حسن الاختيار للقصص المفيدة، وعسى أن يكون هذا الجزء
منها.
***
(اللطائف الأهلية)
مجلة قصصية أهدانا ناشرها صديقنا محمد أفندي جمال صاحب المكتبة الأهلية
ببيروت أجزاء منها منعنا ضيق الوقت من النظر فيها، وقد جعل قيمة اشتراكها ريالاً
في بيروت وستة فرنكات في الخارج، وهي قيمة زهيدة جدًا لا سيما وصفحات
الجزء زهاء مئة، فعسى أن يتوفر ناشرها على نشر المفيد النافع.
***
(عدل القضاء)
قصة ذات 47 صفحة بالقطع الصغير تأليف محمد أفندي حافظ، وتباع بمحل
الشيخ أحمد علي المليجي الكتبي بجهة الأزهر.
***
(الهيئة والإسلام)
جاءنا فهرس طويل لكتاب بهذا الاسم لمؤلفه (السيد محمد علي هبة الدين
الشهرستاني) من علماء النجف، وسنبدي رأينا في الكتاب بعد صدروه.
***
(الزهور)
(مجلة أدبية فنية علمية) لصاحبها ومديرها أنطوان أفندي الجميل المحرر
بجريدة الأهرام، جاءنا منها جزءان تصفحناهما فألفيناهما حافلين بالمقالات الأدبية،
والطرائف الشعرية، عبقي الشذى، رشيقي الأسلوب بيني المنحي.
ومن مقاصد صاحب هذه المجلة جعلها صلة بين أدباء الأقطار العربية، وإننا
نتمنى أن يُوفّق لما انتدب له وإن كان تحقيقه عسيرًا فيما نرى، وقد رأينا صاحب
الزهور أكثر من الوعود التي لا مطمع في إنجازها ومن ذلك نشره أسماء اثنين
وثلاثين كاتبًا وشاعرًا واعدًا بأنهم سيكتبون فيها ونرجح أنهم ليسوا بفاعلين.
ولا يضير الزهور أن يكون اسمها لم يرد في اللغة؛ فإن شيوع استعماله قد جعله
صقيلا، وقيمة اشتراكها 40 قرشًا صحيحًا في مصر و15 فرنكا في الخارج فنرحب
بها ونرجو لها الرواج.
***
(جامعة المنقول والمعقول)
(مجلة تحتوي على تمام ما بني عليه الإسلام، وكمال ما يتقوى به اللسان
والأقلام في اثني عشر علمًا عربية مفصلا مميزة عن بعضها) هذا ما كتب تحت
اسم هذه المجلة الغريبة في موضوعها ثم ذكر صاحبها (كمال الدين العراقي) بيان
تلك العلوم في أبيات من الشعر وهي العلوم المتداولة في الأزهر، جاءنا الجزء الأول
منها مذ أربعة أشهر ولعل صاحبها لم يصدر سواه وخير له أن يفعل إذا لم يكن فعل.
***
(البيان)
لا تزال هذه المجلة العربية الوحيدة في البلاد الهندية تصدر حافلة بالفوائد
والبحث النافع بهمة صاحبيها الشيخ عبد الله العمادي والسيد سليمان وهي الآن في
سنتها الثامنة وقيمة اشتراكها 12شلنا وعنوانها (india lakno-) فنرجو أن يكون
الإقبال عليها عظيمًا.
***
(الحضارة)
(جريدة عربية يومية سياسية فنية أدبية) أصدرها في الآستانة صديقنا السيد
عبد الحميد أفندي الزهراوي مبعوث حماه المعروف عند قراء المنار بمقالاته الفلسفية
ومباحثه الاجتماعية، وشاكر أفندي الحنبلي قائمقام القنيطرة قبلا، وإن جريدة
يتولى تحبيرها السيد الزهرواي صاحب القلب الجريء في الذود عن الحق، والقلم
الصريح في تبيين واجبات الحاكمين وحقوق المحكومين لهم لجديرة بأن يقتنيها كل
من يهمه شأن الدولة وحال الأمة.
وقد كتب لها مدير سياستها السيد الزهراوي مقدمة فلسفية بليغة سهلة ألمَّ فيها
بحاجات البلاد وما يجب للتقريب بين العناصر والسعي لجعلها غير كثيرة التفاوت
في الارتقاء وقال في خاتمتها مبينًا منهاج الجريدة:
(إننا ندعو إلى إقامة ميزان العدل في هذه الحكومة، ونقاوم ما نراه حيفا أو
نصرًا للحيف بقدر ما تساعدنا عليه القوانين، وندعو إلى بث روح التعارف
والتعاطف بين الشعوب العثمانية، ونرتاد لهم من الأخبار والأفكار كل ما هو نافع
في اعتقادنا، ونقاوم روح كل شقاق وتفرقة من أي جهة هبَّ، وفي أي بلد دبَّ
وندعو إلى كل ما يقوي هذه الدولة ومن ذلك تقوية عواطف الشعوب المسلمة نحوها
معتقدين أن تقوية هذه العواطف تنفع العثماني اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا كيف
كانت نحلته مسلمًا كان أو غير مسلم) .
وقيمة اشتراكها ستون قرشًا في البلاد العثمانية وعشرون فرنكًا في الخارج
وعنوانها (الآستانة: إدارة جريدة الحضارة في جادة نور عثمانية عدد 37) فنحث
قراء المنار على الاشتراك فيها.
***
(مرشد الأمة)
(جريدة علمية سياسية قضائية تجارية تصدر يوم الجمعة من كل أسبوع مدير
الجريدة ومحررها المسئول سليمان الجاوردي) وهي تصدر في مدينة تونس
جاءتنا أعداد من هذه الجريدة فاستحسنا مسلكها، وحمدنا منهاجها، وسررنا بغَيْرتِها
وقيمة اشتراكها 12 فرنكًا في الخارج، فعسى أن يكون الإقبال عليها عظيمًا.
***
(الانتقاد)
(جريدة عربية تركية سياسية هزلية فكاهية) صدرت في الآستانة لصاحب
امتيازها ومحررها (عبد الرازق) ومديرها ومحررها العربي (محمود بك زكي)
وقيمة اشتراكها 25 فرنكًا في الخارج.
***
(الإخاء)
نشرة صغيرة يصدرها جبران أفندي مسوح في كل أسبوع مرة بحماه،
ويظهر أن صاحب الجريدة عازم على جعل جريدته مسرحًا لخطراته، وميدانًا لقيد
شوارد أفكاره، وقيمة اشتراكها ريال ونصف.
***
(الوطن)
قرظنا في (ص 953م12) من المنار جريدة الإصلاح التي تصدر في
سنغافوره، وأبدينا سرورنا بها، والآن يسؤنا جدًّا أن نذكر خبر صدور هذه الجريدة
(الوطن) المكتوبة بأقلام المراء والجدل، والمملوءة بالتعريض الذي لا يلتئم مع
الدين والأدب، فننصح لكُتَّاب هذه الجريدة أن لا يسترسلوا لهوى النفس، وأن
لا ينبذوا حكم العقل، والسلام على أهل الإنصاف والسلام.
__________(13/291)
الكاتب: كاتب من البحرين
__________
البدع والخرافات
والتقاليد والعادات عند الشيعة
رسالة من البحرين
بسم الله الرحمن الرحيم
أستاذنا ووالدنا حضرة فيلسوف الإسلام جعلني الله فداك، ورزقني بِرَّكَ
ولقاك، بينما أطوف في البلاد وأنظر ما حل بالمسلمين من عالم سوء يضلُّهم بالبدع
والخرافات، أومتفرنج يقول انبذوا الدين فليس إلا تُرَّهاتٍ، أسائل عن منار الإسلام
كل غاد ورائح، كأني أمّ الحَوَار على فصيلتها تحن، أوالهيماء على ندى الماء تئن،
فلم أجد له أثرًا في مشرق خليج فارس وجزائره حتى عرجت على مغربه
ونزلت البحرين فوجدت ضالتي فوالذي فلق الحبة إني لأشد فرحًا به من الغواص حين
يجد الدر، تشرفت بقراءة الجزء الأول فاتحة السنة الحادية عشرة حتى وقفت على
كلمة عن العراق وأهله لعالم غيور (ص45) .
ولما كنت جُبْت العراق وعرفت أهله سُنِّيهم وشيعيهم، حاضرهم وباديهم،
أحببت أني أُطْلِعُ والدي على شيء عرفته منهم حتى يعلم الوالد - جعلني الله فداه -
إنما عده الكاتب بلاء نازلاً من مذهب الشيعة ووعاظهم هو كما ذكر الكاتب حفظه
الله بلاء نازل وصاعقة محرقة ليس على مذهب السنة فقط، بل على مذهب الشيعة
نفسه، وأنا أذكر ما يبثه الوعاظ في أهل القرى والأكواخ وما يعلمونهم من تقرير
علمائهم حالا وتأليفاتهم.
حتى يعلم فليسوف الإسلام أن الوعاظ لا يعلمونهم الفرائض وأحكام الحلال
والحرام أو مسألة الخلافة التي هي عند أهل السنة من فروع الدين وعند الشيعة من
أصوله، ثم أذكر اعتقادات الشيعة في القرن الرابع نقلاً من كتبهم المؤلفة في ذلك
العصر لعل أحد قراء المنار من علماء الشيعة يقف على هذا الفصل فيتنبه ويسعى
في إصلاح ملته وإن كان من المظنون أنه لا يوجد في إيران والعراق من علماء
الشيعة من له إلمام بالإصلاح الديني.
***
سبب اجتماع علماء العجم
في النجف وكربلاء
كان محل ومأوى علماء الشيعة أواخر سلطة بني العباس الحلة في العراق
وفيها يتخرج مجتهدوهم ثم ينتشرون في بلاد العجم إما للدعوة أو لالتماس دولة
تأويهم وتنصرهم، لا لرفع التقييد عنهم فقط بل لحصد أهل السنة، يدل على ذلك
حين قدم هلاكو خان إلى قومسين قاصدًا بغداد وفد عليه يوسف الحلي والد ابن
المطهر الشهير عندهم بالعلامة، وكربلاء إذ ذاك قرية صغيرة والنجف لا يبلغ
سكنته عدد الأصابع وإنما هو عبارة عن رباط يسكنه الزوار أو يلجأ إليه الدراويش
والزهاد كما فعل الطوسي، والغالب في بلاد إيران ذلك الوقت مذهب أهل السنة إلا
مدينة قم وكاشان وبعض بلاد طبرستان فإنها كانت تسكنها الشيعة.
ظهرت دولة الصفوية في القرن التاسع وأبادت السنيين من إيران إلا بقايا
منهم بعيدين عن مقر السلطنة مثل كوهستان جيلان المسماة بطالش وفيها من
السنيين حالا زهاء 15ألف نسمة، وبرفارس وبنادره مثل لنجة وبندرعباس فيها
من السنيين 50 ألف نسمة وأيالة كردستان الإيرانية أجمع ومقر حكومتها (سنندج)
وأهلها كلهم سنيون وكذلك بلوجستان أهلها كلهم سُنيَّون، وبادية ججان من التركمان
كلهم سنيون، فكان علماء الشيعة من سائر الأقطار ينتقلون إلى مقر السلطنة
أصفهان وفيها يتخرج مجتهدوهم كما فعل بهاء الدين العاملي والكركي وأضرابهم،
وقد تلقاهم الصفوية بالاحتفاء والترحيب فشيدوا لهم المدارس العظيمة والمساجد
الفخمة وآثارهم باقية إلى الآن مع أن أكثرها قد خربه ظل السلطان نجل ناصر
الدين شاه حين كان واليًا على أصفهان، حدثني بعض علمائهم أنه كان يوجد في
أصفهان في ذلك العصر أربعمائة مدرسة.
لعل القارئ إذا رأى قولي مقر السلطنة أصفهان يظن أني جاهل بتاريخ
الصفوية لِما يعلم من أن أوائل دولة الصفوية كان مقر سلطنتهم قزوين فإنهم حين
إقامتهم في قزوين كانوا لا هَمَّ لهم إلا الفتح أو بناء التكايا ليتخرج فيها الدروايش
ويبقونهم في البلاد لمدح علي وأولاده، وسب …
ضعفت الدولة الصفوية فاستولى عليها العلماء بحيث لم يكن يقدر أحدهم أن
يتصرف في شيء بدون إجازة العلماء فَقلَّ وثوق عامة الإيرانيين بعلمائهم لما عهدوا
من العلماء الأُول من التقشف والزهد ورأوا من هؤلاء الترف والبذخ واستدرار
الدراهم والدنانير بأي وجه كان، فمن ذلك الحين شرع طلابهم بالمهاجرة إلى
كربلاء لا للتحصيل، ثم الرجوع كما يفعل علماؤهم حالا بل لتحصيل الدرس
والمجاورة هناك ومن رؤسائهم الأردبيلي.
قدم الأفغان وفعلوا ما فعلوا، ثم ظهر نادر شاه ونفى العلماء والطلاب
وتصرف في الأوقاف أجمع فهاجروا إلى كربلاء فصار يجمع كبير له شهرة عند
أهل إيران في ذلك الوقت ورئيسهم الآغا البهبهاني الشهير في أوائل سلطة القاجار
ثم انتقل إلى النجف ثم إلى (سر من رأى) (سامرًا) في أوائل هذا القرن ثم عاد
إلى النجف فكان هؤلاء يكتبون لهم الرسائل التقليدية ويبعثون تلاميذهم بها إلى
إيران لرواجها والشيعة يبعثون إلى علمائهم ومقلدتهم الدراهم بقصد الخمس والزكاة
وشيء يسمونه رد المظالم؟ وما هو ردُّ إذا ذهب حاكم مثلاً إلى ولاية ومص دم أهلها
ثم عزل وأراد أن يذهب لزيارة أحد أئمتهم أو إلى مكة أعطى للمجتهد جزءًا من ألف
جزء وطهر له ماله، وقد شاهدت علاء الدولة في كرمان شاه بقومسين أهدى لابن
الحاج ميرازا حسين خليل ما يبلغ ألف ريال مجيدي فأحل له ما يملك وهو يملك
أربعة ملايين من الفرنكات وأمثال ذلك كثير فإذا وصلت هذه الدنانير إلى المجتهد فلا
بد من تفريق بعضها على طلبته والمتخرجين عليه حتى إذا ذهبوا إلى إيران روجوا
رسالته.
قد قلت إن عامة أهل إيران قلَّ وثوقهم بعلماء إيران أجمع فانحصر تقليدهم
في علماء العراق وكانت الرسائل تخرج إليهم منه فكان علماء العجم بعد تحصيلهم
العلوم العقلية يذهبون إليه أفواجًا إما للمجاورة أو لطلب الرزق أو للإقامة مدة ثم
الرجوع إلى إيران بالإجازة [1] وهو يتعهد بترويج رسالة الشيخ وإيصال الحقوق إليه،
والشيخ يتعهد بالكتابة إلى الشاه والحكام في التوصية به، وهؤلاء الذين تخرجوا
في العراق واختاروا الرجوع إلى إيران لا هم لهم إلا معارضة الدولة وأخذ الرشى من
الحكام والولاة أوتكفيرهم وشكواهم على مجتهدي العراق، ولما لم يكن للناس
اعتقادهم فيهم لما يرونه من أفعالهم فهم لا يبالون بجمع الدنيا من أي وجه أتت، وهذا
الشيخ تقي الأصفهاني هو وأخوته وأنجاله تبلغ غلتهم في كل يوم عشرة آلاف فرنك
أو ما يقرب منه، وطغام أهل إيران إذا ذهبوا إلى العراق لزيارة مشهدي علي
والحسين وأولادهم، ورأوا من علماء هذه البلاد الانزواء وعدم التردد إلا لصلاة
الجماعة والزيارة والدرس وإذا خرجوا من بيوتهم متلثمين جاعلا واحدهم عباءته على
رأسه وسبحته في يده وقد شاهدوا من علماء إيران ركوب العربات واتخاذ
الحدائق والجنات وكثرة التزوج حتى إن أحدهم ليبلغ زواجه حد المئة من النساء
ازدادوا محبة لهم ورغبوا في حمل الدراهم إليهم وحسبوا أفعالهم من الزهد والتدين،
ولم يعلموا المساكين أن هؤلاء مثل أولئك إلا أن عادات وأخلاق أهل البلاد تختلف ولو
انتقل علماء العراق إلى إيران لفعلوا كما شاهدنا.
وقد شاهدت علماء العراق يبعثون خدام قبر علي وأولاده إلى خان قين
لاستقبال الزوار من العجم والترك والالقاء إليهم بأن فلانا هو الأعلم الأتقى،
وبالجملة فظن الكاتب حفظه الله لم يخالط الشيعة في العراق ولم يعاشرهم فظن أن
هذا المجمع العلمي يُرسل منه رسلا للدعوة، أو رأى أن أكثر قرى العراق شيعة
فظن أنه من فضل علمائهم وأنهم يرسلون الدعاة حالا ولو قال من سنين خلت لأمكن
تسليمه مع أن التأريخ يأبى ذلك فإنه قبل إرغام الرعية عبد الحميد على المساواة لم
يتمكن الشيعة من بناء المساجد والنداء فيها بولاية علي، يعلم ذلك كل عراقي دع
إرسال دعاة منهم إلى البادية، وأظن أن الفضل في ذلك عائد إلى الصفوية ومن في
زمنهم من العلماء كالاردبيلي، وهجمات دولة الصفوية على العراق وقتلهم علماء
أهل السنة وإلزام العامة بالتشيع أو القتل معروف مشهور، لذلك فإنك لا تجد من أهل
بادية العراق أعني بادية غربي الفرات من فيه رائحة التشيع اللهم إلا قليلا من
العرب لا يبلغ عدد فرسانهم المئتين يدعون بالخراعل وأناسا من الشطين يدعون
بشمر الجرباء، وأريد بقولي بادية أهل العراق أهل الخف والحافر الذين لهم قدرة
على النجعة ولهذا سلموا من ضغط الصفوية وإلزامهم لهم بالتشيع.
تأتي منحدرًا من الشام على ضفاف الفرات قاصدًا العراق فترى عرب عنزة
كالجراد المنتشر إلى أواسط العراق ثم ترى شمَّر على أفخاذهم عبده فسنجاره حتى
تنتهي إلى نصف الفرات الآخر فترى عرب المنتفك وعرب الظفر إلى قرب البصرة،
ثم تنحدر فترى مطير الدوشان فعريب دار، ثم تنحدر من الكويت فتري العجمان
المناصير آلا مرة بني هاجر وعربًا لاحصيهم إلا خالقهم، فهذه القبائل من العرب
الذين عددتهم معاملتهم مع أهل النجف وكربلاء فزبالاء سوق الشيخ والسماوة
الخميسية فبغداد منحدرًا إلى البصرة ثم الزبر والكويت فالحساء والقطيف وقطر
وليس يوجد فيهم شيعي ولا قدرة له على إظهار مذهبه عندهم مع أن أكثر بيعهم
وشرائهم مع الشيعة وأكثر أهل البلاد التي يقتاتون منها شيعة ولاسيما العراق.
وقد قلت الوعاظ ولم أقل الدعاة لأن هؤلاء لا يذهبون للدعوة وليسوا أهلاً لذلك
لأنهم لا يعرفون معنى دينهم فضلا عن أن يدعو إليه ولم يذهبوا إلى بادية السنة أبدًا
اللهم إلا للبيع والشراء كما ذكرت، وعند ذكر الوعاظ لا بأس بالإشارة إلى شيء
من ذكر عزاء الحسين عند الشيعة.
مستند الشيعة على استحباب إقامة عزاء الحسين خبر يروونه عن دعبل
الشاعر أنه وفد على علي بن موسى فصادف وفوده أيام المحرم فقال له اتل علينا
من مراثيك لجدنا وأحضر نساءه وراء الستر.. . ولا يوجد في كتب الشيعة المروية
عن أئمتهم ما يدل على إقامة العزاء المعروف عندهم وفي كتب متأخريهم بل لم
يذكروا عن علمائهم الأقدمين شيئًا من ذلك حتى في زمن آلا بويه زمن حريتهم ولا
يوجد لهم تأليف في ذلك سوى مصادر عربية موضوعة يعلم من تصفحها ذلك،
وأول من ألف في ذلك ملا حسين الكاشفي ألف كتابًا سماه روضة المحبين بالفارسية
والعربية في القرن التاسع فكان ملا العجمي يقرأ منه فصلاً فيبكي الحاضرون ولا
يعرف أنهم يقرؤنه بعد الصلاة أو في سائر السنة مثل الشيعة حالاً اللهم إلا في سابع
المحرم إلى العاشر، والعجم يسمون قراء عزاء الحسين (روضة خان) ومعناه قارئ
الروضة وشيعة العراق يدعونه قارئًا نسبة إلى الكتاب المعروف.
ويظهر أن عزاء الحسين المعروف حالاً عند الشيعة لم يكن يعرف قبل
الصفوية اللهم إلا جلسات خفيفة، فدولة الصفوية رتبت الجلوس في العشر المحرم
كلها كما أحدثت دولة آل بويه قبلهم الديالمة الجلوس في اليوم العاشر، والشيعة
حالاً زادوا في الطنبور نغمة المحرم صفر جمادي الأولى رمضان لا يبعد أن يقال
ثلث السنة أسواقهم مغلقة، وبيوتهم بالشمع محرقة، لا بسين السواد وأظنه حدث في
أواخر أيام دولة الصفوية على زمن عالمهم المجلسي.
ذكرت قبلاً أن أهل الخف والحافر من بادية العراق لا يوجد فيهم رائحة
التشيع، نعم إن الشاوية، والبقارة أهل بيوت القصب والأكواخ الذين لا قدرة لهم
على النجعة كلهم شيعيون إلا القليل، يذهب إلى هؤلاء القارئ أو الواعظ، أو
الروضه خان لطلب الرزق لا للدعوة كما يظن الكاتب ثم يجمعهم وينصب منبرًا أو
يعلو فوقه وذلك في أيام المحرم وصفر ويعلمهم معالم دينهم الحالي وهو ذكر فضل
أهل البيت عليهم السلام، وأن الدنيا خلقت لأجلهم، وأن كربلاء أفضل من مكة
وأن زيارة الحسين أفضل من الحج، وأن القرآن الذي في أيدينا ليس بالقرآن الذي
أنزل على محمد وإنما أمرنا بقراءة هذا تعبدًا وإلا فقرآتنا عند صاحب الزمان إذا
ظهر يخرج به ويحرق هذا، ثم يعلمونهم هذا الرجز المشهور عند الشيعة بـ (ناد
علي) .
نادِ عليًّا مظهر العجائب ... تجده عونًا لك في الرغائب
ويذكرون لهم في فضل هذه الاستغاثة أحاديث عن أهل البيت حاشاهم عن ذلك
وإنها تدفع الهم والغم وتجلب الرزق، ووعاظ العجم يقولون على المنابر: (نادِ
علي بدرنماز [2] ثم يعلمونهم قذف الصحابة والبراءة منهم وأنهم ارتدوا إلا
أربعة وأنهم ضربوا فاطمة حتى أسقطت حملا يدعى بمحسن وأن موتها من ضرب
الصحابة برأهم الله ممن قالوا، وأن أم كلثوم التي تزوجها الخليفة عمر ليست بنت
علي وإنما هي بنت من الجن، وشيء يتعب القراء ويضحك العجائز، ثم يعرجون
على قتل الحسين وأنهم ذهبوا بنسائه حاسرات، وأن من بكى على الحسين لا
تصيبه النار أبدًا ولو فعل ما فعل، وأن من دفن عند الحسين يحشر معه ولهذا
ترى هؤلاء المساكين ينقلون موتاهم من مسيرة أيام منتنة والعجم ينقلون موتاهم من
مسيرة 400 فرسخ ويذكرون لهم في ذلك كله أخبارًا أغلبها منقول من كتاب قيس
ابن سليم الهلالي [3] .
وأما الصلاة وأحكام الدين فلا أثر لها عند هؤلاء المساكين أصلا، نعم الشرك
بالله والغلو في أهل البيت فإنك لو حلفت لأحدهم بالله ألف مرة لم يرض وإذا حلفت
بالعباس بن علي ارتعدت فرائصه بعد الرضى والتسليم، ولعل القارئ يحملني في
كلامي على المغالاة فإن شاء فليذهب أو ليسأل عما يفعل عند قبر الحسين في يوم
عرفة فإنه لا يسمع إلا: ارزقني احملني أغثني، أو ليطلب كتاب تحفة الزائر أو
زاد المعاد [4] وهما تأليف عالمهم الشهير بالمجلسي فإنه يرى العجب العجاب.
أما أهل الخف والحافر ففيهم من الأخلاق الحسنة ما يطرب العرب والعربية
مثل الإخلاص لله بالتوحيد وصدق اللهجة والأمانة والعفاف وكرم النفس والأخلاق
الحسنة، أما الصلاة والصوم فلا يُجبِرون عليهما أحدًا كما يفعل في بادية نجد
ولكنهم إذا نزلوا خطوا مسجدًا عند بيت الشيخ، والشيخ لا بد أن يكون عنده كاتب
له من أهل الحاضرة يقرئ أولاده القرآن ويعلمهم الكتابة ويقيم صلاة الجماعة
ويجري عقود الزواج، وأهل البادية يسمونه الخطيب ويسمونه في بادية أهل نجد
مطوِّع أو بالفتح وأظن الفضل في ذلك كله عليهم لأهل جزيرة العرب.
***
اعتقاد الفرقة الإمامية في القرن الرابع
نقلاً من كتب علماء ذلك العصر [5]
قال الشيخ محمد بن بابويه القمي الشهير عندهم بالصدوق صاحب كتاب (من
لا يحضره الفقيه) في رسالته المطبوعة في طهران (باب الاعتقاد في القرآن: إنه
كلام الله ووحيه وتنزيله وقوله وكتابه وإنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
تنزيل من حكيم عليم، وإنه القصص الحق وما هو بالهزل، وإن الله تبارك وتعالى
محدثه ومنزله وربه وحافظه والمتكلم به.
باب الاعتقاد في مبلغ القرآن: اعتقادنا أن القرآن الذي أنزل على محمد صلى
الله عليه وسلم هو ما بن الدفتين وهو بأيدي الناس ليس بأكثر من ذلك ومبلغ سوره
عند الناس مئة وأربعة عشر سورة، وعندنا الضحى وألم نشرح سورة واحدة، وألم
تر ولإيلاف سورة واحدة، ومن نسب إلينا أنَّا نقول أكثر من ذلك فهو كاذب - إلى
أن قال: باب الاعتقاد في نفي الغلو والتفويض - اعتقادنا في الغلاة والمفوضة
أنهم كفار بالله جل اسمه، وأنهم شر من اليهود والنصارى والمجوس والقدرية
والحرورية ومن جميع أهل البدع والأهواء المضلة وإنه ما صغر الله جل جلاله
تصغيرهم بشيء كما قال تعالى ? {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ
ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ
الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم
بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 79-80) إلى أن قال:
وكان الرضا يقول في دعائه: اللهم إني أبرأ إليك من الحول والقوة، ولا
حول ولا قوة إلا بك، اللهم إني أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نعلمه في أنفسنا،
اللهم لك الخلق ومنك الأمر وإياك نعبد وإياك نستعين اللهم لا تليق الربوبية إلا بك
ولا تصلح الآلهية إلا لك فالعن النصارى الذين صغروا عظمتك والعن المضاهين
لقولهم من بريتك، اللهم إنا عبيدك وأبناء عبيدك لا نملك لأنفسنا نفعًا ولا موتًا ولا
حياتًا ولا نشورًا، اللهم من زعم أن لنا الخلق وعلينا الرزق فنحن إليك منه برآء،
رب لا تذر على الأرض منهم ديَّارًا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا
فاجرًا كفارًا.
يقول الكاتب: فيا ليت علي بن موسى الرضا صاحب هذا الكلام يخرج ويرى
ما يفعل عند قبره في طوس من الوثنية التي بعث جده صلى الله عليه وسلم لإزالتها
والعجب من علمائهم كيف أنه لا يوجد كتاب من فقههم إلا وفيه: لا يجوز البناء
على القبور والسرج عليها وتجديدها وبناء مساجد عليها، ثم لا ترى منهم منكرًا
لذلك بل يعدونه من أفضل القربات استدلالاً بما قال الشيخ محمد حسن النجفي
صاحب كتاب الجواهر المتوفى في أواسط القرن الثالث عشر على عدم جواز البناء
على القبور عند ذكر صاحب المتن أنه لا يجوز.
وقال أمير المؤمنين لبعض أصحابه ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى
الله عليه وسلم في هدم القبور وكسر الصور، وقال أيضًا: كل ما جعل على القبر
من غير تراب القبر فهو ثقل على الميت، وقال الكاظم لا يصلح البناء على القبر.
انتهى بعض ما استدل به صاحب الكتاب.
وفي كتاب محمد بن يعقوب الكليني عن سماعه قال سألت الصادق عن زيارة
القبور وبناء المساجد عليها فقال: (أما زيارة القبور فلا بأس ولا يبنى عليها مساجد)
قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدًا فإن الله لعن
اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) , واستدل صاحب الجواهر على أنه لا
يجوز حمل الجنائز بقوله وفي دعائم الإسلام عن علي أنه رُفِعَ إليه أن رجلا
مات بالرستاق فحُمل إلى الكوفة فأنهكهم عقوتة وقال ادفنوا الأجسام في
مصارعها، وفي السرائر أنه بدعة في شريعة الإسلام، والعجب من فقهائهم
المتأخرين فإنهم حين يذكرون في كتبهم عدم جواز البناء على القبور وإيقاد السرج
عليها يقولون: (وينبغي أن يستثنى من ذلك الأئمة لأن قبورهم من البيوت التي
أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، هذا هو دليلهم على عبادة القبور وجعلها أوثانًا
تعبد من دون الله.
وأخبار أهل البيت مروية في كتبهم يضربون بها عرض الحائط.
(المنار)
يعلم القراء أن من مقاصدنا التأليف بين المسلمين المفترقين في المذاهب
والآراء بعضهم مع بعض وكذا بينهم وبين غيرهم من أهل الملل الذين يعيشون
معهم، وقد بينا هذا المقصد في فاتحة العدد الأول من السنة الأولى واستقمنا على
ذلك إلى هذا اليوم وسنستقيم عليه فيما بقي من عمرنا إن شاء الله تعالى، ومن رأينا
في هذا التأليف أن يتفق المتعاونون عليه والساعون إليه على أن ينتقد كل منهم أهل
الدين أوالمذهب الذي ينتسب إليه فما ينافي هذا التأليف دون المخالفين له إلا أن
يضطر إلى انتقاد المخالف اضطرارًا فحينئذ ينتقد مع التلطف، واتقاء ما يثير رواكد
التعصب وقد صرحنا بهذا الرأي عند الكلام فيما شجر بين أهل بيروت من الخصام
والصدام منذ بعض سنين.
ومن سيرتنا العملية في ذلك أننا أكثرنا من انتقاد البدع والخرافات التي فشت
بين المنتسبين إلى السُّنة والمذاهب التي تعزى إليها ولاسيما بدع الموالد والقبور
لأننا من أهل السنة وإن كنا لا نتعصب لمذهب من مذاهب أهلها، بل ندعو إلى
الاجتماع على ما اتفقوا مع سائر المسلمين الذين يعتد بإسلامهم عليه، وتُحَكِّم فيما
اختلفوا فيه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، عملاً بقوله عز
وجل {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) ولم أنتقد بدع الشيعة التي يأتونها
في يوم عاشوراء أو غيره من الأيام بل كنت أجيب دعوة جمعيتهم بمصر كل سنة
إلى المأتم الذي يقيمونه في تكيتهم بالحمزاوي لأجل التأليف، وأعد هذا من إزالة
الضرر الأشد وهو التفرق والنزاع بالضررالأخف وهو حضور مجتمع ترى فيه
البدع كالذين يأتون مضرجين بالدماء مما يضربون رؤوسهم بالسيوف ...
ولما نشرت منذ سنتين رسالة ذلك العالم الغيور عن العراق لما فيها من التنديد
بسوء إدارة الحكومة الحميدية التي كنا نحاربها قفيت على الرسالة بما يزيل ما فيها
من سوء التأثير الذي يخشى أن يزيد في الخلاف فقلت إن نشر دعاة الشيعة مذهبهم
بين أعراب العراق ينفع من الجهة الدينية إذا كانوا يعلمونهم الفرائض وأحكام
الحلال والحرام وحصرت ضرره الذي خشيه الكاتب في الجهة السياسية لما ذكرت
آنفًا من بيان مفاسد الحكومة الحميدية، ولوكتب إلينا أي كاتب من الشيعة انتقادًا
على تلك الرسالة لنَشرناه في المنار كما هي عادتنا في نشر الانتقاد علينا بله الانتقاد
على ما ننشره لغيرنا، ولكن بعض غلاة متعصبي الشيعة في الديار الشامية ألف
رسالةً في الرد على المنار لنشره تلك الرسالة وجعل معظم كلامه فيها البحث في
مسألة المتعة التي لم يسبق لنا قول في المنار بحرمتها، بل سبق لنا قول يشبه أن
يكون ترجيحًا لقول الشيعة فيها أودعناه (محاورات المصلح والمقلد) وأنكر عليها
الناس وهو الذي أشرنا إليه في تفسير قول تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ} (النساء: 24) الآية ومع هذا قام الشيخ المتعصب يشنع علينا بأننا أنكرنا
حِلَّ المتعة وخالفنا بذلك الكتاب والسنة والإجماع، وطفق يحرِّف الآية ويفسرها
بالهوى والرأي، ويتحكم في الأحاديث لإثبات ذلك بالسفسطة كما هي عادة المقلدين
المتعصبين، وقد كذَب صاحب الرسالة العراقية فيما كتبه في مسألة نشر مذهب
الشيعة بين الأعراب المنتسبين إلى السنة، وما يؤيد ذلك مما كنا نشرناه في المجلد
الثاني نقلاً عن بعض المختبرين ونصرح باسمه الآن فنقول: هو سليمان أفندي
البستاني مبعوث بيروت الذي أقام في العراق عدة سنين وهو لا يتعصب لأهل
السنة على الشيعة ولا للشيعة على أهل السنة لأنه نصراني لا يفرق بين
أحد منهم.
أطْلعنا بعض الأصدقاء على رسالة الشيعي المتعصب فقرأنا منها جملاً متفرقة
أحزنتنا لأن وجود مثل مؤلفها بين المسلمين من أصعب العقبات في طريقنا الذي
نسير فيه للتأليف بينهم، وتذكرنا رسالة وردت علينا من البحرين في الشيعة ونشر
مذهبهم أرسلها سائح آخر مختبر عندما قرأ رسالة ذلك العالم الغيور المختصرة فلم
ننشرها بل لم نقرأها لأننا خشينا أن تكون مخالفة لمشربنا ثم رأينا الآن أن تُنْشر
ليتبن الأمر على حقيقته في هذه المسألة مع الوعد بنشر ما يمكن أن يرد من الرد
عليها من الأدباء المنصفين، ومهما يكن من الأمر فإننا نطلب الاتحاد ونسعى إليه
والله الموفق.
__________
(1) كأنه انغرس في أذهان دهماء إيران أنه لا يمكن الاجتهاد إلا بعد شرب ماء الفرات.
(2) بدرنماز: أبو الصلاة كما تقول العرب لأصل الشيء أمه فالعجم تنسبه إلى الأب.
(3) كتاب قيس يزعمون أنه أُلِّفَ في القرن الأول وأن قيسًا صاحب كتاب صَحِبَ خمسة أوستة من أئمتهم، والمتقدمون من علماء الشيعة يقولون إنه موضوع لا أصل له، والمتأخرون منهم يقولون بصحته، ومن أراد ذلك فلينظر إلى كتب رجالهم مثل كتب مبرزا محمد وغيرها المطبوعة في طهران وتبريز.
(4) كلا الكتابين طبعا في طهران وتبريز وأصفهان وبمبي.
(5) طبعت في طهران وتبريز.(13/303)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رحلة القسطنطينية
(3)
حال الآستانة العمرانية والاجتماعية
موقع هذه المدينة مشهور في جماله ومحاسنه الطبيعية ولو كانت هذه الدولة
التي استولت عليها من عدة قرون دولة عمران ومدنية لجعلتها زينة الأرض ومثابة
الأمم، ولكان لأهلها من السائحين مورد من أغزر موارد الثروة، ولكنك لا تجد فيها
أثرًا من آثار العمران القديم للسلاطين السابقين الذين دوخوا الدول إلا المساجد، ولا
شيئًا يُعْتد به من آثار العمران الحديث إلا المعسكرات من الثكنات والمدارس،
فصوفية عاصمة البلغار وأثينا عاصمة اليونان والقاهرة عاصمة مصر، كل أولئك
أرقى من عاصمة الدولة عمرانًا، فالآستانة موقع جميل، ومعسكر كبير، لا تغيب
الجنود عن عينيك فيها دقيقةً من الزمان، فعسى الله أن يسخر لها الرجال الذين
يعمرونها بعمران المملكة، لا بالاستقراض من الأجانب بالربا الذي يجعلها تحت
سيطرتهم، وعرضة عند الحوادث لمداخلتهم، أما العمران المعنوي وهو العلم
والأدب فلها حظ منه تفضل به مصر وسورية، وهو أن التعليم فيها أعم وأشمل،
وتربية النساء أسمى وأنبل، ذلك بأن أموال المملكة كانت تجبى إليها حتى لا يبقى في
كل ولاية إلا الضروري الذي لا يمكن الاستغناء عنه مع إباحة الرشوة والسلب والنهب
فكثرت فيها المدارس للذكور والإناث، على أن الآداب الإسلامية الموروثة لا تزال
أقوى في بيوت هذه المدينة منها في بيوت مصر فلا ترى امرأة في نافذة ولا على
سطح إلا أن تكون مستورة البدن والرأس كما تكون في السوق، ولا تسمع من
البيوت ولا في الأسواق والشوارع صخبًا ولا هجرًا من القول كما تسمع في أسواق
القاهرة وشوارعها، ولا يتبرج فيها النساء كما يتبرجن بمصر إلا في بعض المواسم
كآصال أيام رمضان في جهة الشاه زاده، وإلا في بعض الضواحي حيث يسرحن
ويمرحن في متنزهات مظهرات لزينتهن، على أن الكثيرات منهن يسفرن عن
وجوههن في الأسواق والشوارع ولكنهن مع ذلك يغضضن من أبصارهن كما أمر الله
تعالى، وإذا خرجن في الليل من دار إلى دار يخرجن بالجبة أوالعباءة العربية
المعروفة وبالقناع الأبيض وذلك يكون زيهن الغالب في المتزهات.
فجملة القول: أن آدابهن حسنة في خروجهن إلى حاجهن في الأسواق
والشوارع وبيوتهنَّ نظيفة مرتبة ولأولادهن حظ عظيم من النظافة والآداب، ويقول
المختبرون من أهل البلد ومن الغرباء المقيمين فيه أن آداب غير المتعلمات أو
المتعلمات على الطريقة القديمة منهن أعلى أخلاقًا وأقوى عفةً وأبعد عن الريبة من
المتعلمات على الطريقة الحديثة الإفرنجية، وهن أشد عناية بالنظافة أيضًا فالتفرنج
في البيوت هوالخطر الأكبر الذي ينذر البيوت الإسلامية بالفساد، في هذا البلد وغيره
من البلاد ويقال إن أحمد رضا بك رئيس مجلس المبعوثين يريد أن يربي بنات
المسلمين في المدرسة التي يسعى في إنشائها مع بنات الإفرنج والروم والأرمن تربية
ليس لها من صبغة الدين شيء، فإذا تم هذا المقصد فبشِّر بيوت هذا البلد بالخراب
المعنوي والفساد الذي لا يفوقه فساد.
إن علم النساء المسلمات في الآستانة دون علم الأوربيات ولكن تربيتهن الدينية
والأوربية أعلى من تربية الأوربيات كما شهد بذلك غير واحدة من هؤلاء بعد الاختبار
التام ومنهن من صرحت بأن التفرنج آفة مفسدة لنساء الترك، نعم إنه يمكن أن
تترقى معارفهن وآدابهن ولكن يجب أن يكون الدين هوأساس التربية، وأن تكون
العناية به فوق العناية بالعلم وليس في أوربا شعب يربي البنات على الإلحاد أو ترك
الدين، وإن أثبت الشعوب الأوربية مدنية هو أشدها عناية بتربية النساء والأطفال
تربية دينية.
إن بين إستانبول وقسم غلطه وبك أوغلي تباينًا عظيمًا في العادات ونظام
المعيشة وحالة العمران على أن المسافة بينهما تقطع بدقيقتين إذ الفاصل بينهما هو
الخليج المشهور وعليه جسران للمشاة والركبان ومنهم من يقطعه بالزوارق. تشبه
إستانبول في عاداتها بلاد المشرق الإسلامية القديمة كطرابلس الشام فأزياء
النساء فيها كأزياء النساء في مدن سورية إلا ما امتزن به وقد ذكرناه آنفًا، وأزياء
الرجال فيها كأزياء الرجال في مدن سورية، الطربوش، والعمامة البيضاء،
والعمامة المطرزة والعمامة الخضراء والمناديل الملونة كل ذلك من أزياء الرؤوس
وكله كثير، وأما سكان قسم غلطه فتكثر فيه مزاحمة الكمم والقلانس للطرابيش
المجردة ويقل فيه غير ذلك.
يتعشى أهل إستانبول بعيد المغرب كأهل سورية وتقفل أكثر المطاعم بعد
العشاء بقليل على حين يبتدئ أهل القسم الآخر بالطعام وتظل مطاعمهم مفتوحة إلى
قرب منتصف الليل ويسهرون كثيراً ولا يسهر أولئك إلا قليلاً.
ويكثر الفسق العلني والسري في قسم غلطه والفسق العلني ممنوع في
إستانبول.
وآداب الرجال العمومية حسنة كآداب النساء فلا تكاد تنكر على رفيع ولا
وضيع قولاً خشنًا ولا كبرًا وترفعًا ولكنك كثيرًا ما تنكر عليهم إخلاف الوعد وما
في معنى الإخلاف حتى يقلّ أن يثق المختبر بقولٍ يسمعه وسبب ذلك تأثير الاستبداد
الشديد، وما كان من الضغط والمراقبة على عهد عبد الحميد، فذاك هوالسبب الطبيعي
لفشو الكذب والإخلاف والتقلب في كل الأمم، ولهذه العلة كثر الكذب والإخلاف
والتقلب وعدم الثبات في جميع البلاد العثمانية كما كثر ذلك من قبل في مصر
ولاسيما على عهد إسماعيل باشا.
كنت كتبت في المنار وقلت في بعض الخطب التي ألقيتها في العام الماضي
بالبلاد السورية إن أرقى البلاد العثمانية الآستانة وما يقرب منها من ولايات
الرومللي وأوسطها سورية وأدناها العراق والحجاز واليمن.
وقد تبين لي أن هذا القول خطأ فالآستانة لا تفوق سورية إلا بكثرة عدد
المتعلمين من الرجال والنساء وبالآداب الاجتماعية كما تقدم؛ فهي ليست أرقى في
العمران الحديث من بيروت ولا في العمران القديم من دمشق، وليس النابغون من
أهلها كالنابغين من سورية في العلوم الإسلامية، ولا في الفنون، والعلوم الأوربية،
ولا في الأدبيات، ولا في التجارة والزراعة , ولا أهل الإدارة والقضاء منهم أرقى
ممن تسنى لهم أن يشتغلوا بهما من السوريين بمصر، وكذا في بلاد الدولة على قلتهم
وليس الضباط المتعلمون في المدرسة الحربية من أهل الآستانة بأرقي في الفنون
الحربية من الضباط السوريين ولا العراقيين إلا أنهم أكثر وأما ولايات الرومللي وكذا
الأناضول فهي دون الولايات السورية في الجملة.
وأما النسبة بين الآستانة ومصر فهي أن عامة أهل الآستانة أرقى من عادة أهل
القاهرة وخاصة أهل القاهرة النابغين أرقى من خاصة أهل الآستانة النابغين إلا في
الجندية، وأما من جهة الثروة والعمران فمصر أغزر ثروةً وأرقى عمرانًا، وقد
تقدمت النسبة بين البلدين في النساء وتربية الأولاد.
هذا ما تبين لي في هذه الشهور نصصته على غره، غير متحرف إلى جهة،
ولا متحيز إلى فئة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(13/314)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
انتشار الإسلام في إفريقية
نشرت جريدة الديبيش كولونيا مقال للدكتور كارل كوم الذي قام بسياحات كثير
في إفريقية وأحدثها سياحته فيما بين نهر النيجر والنيل قالت [1] : (إن الدكتور كارل
كوم يرى أن إفريقية ستكون في يوم قريب قارة إسلامية محضة ما عدا بعض
الجهات التي ينتسب أهلها إلى المسيحية اسمًا كجنوب إفريقية وأوغنده والحبشة
ولقد عاقت طبيعة البلاد في أواسط إفريقية دون أن يكتسحها سيل الإسلام الجارف
في طريقه عدة قرون فلما وطأتها أقدام الأوربيين وانتهت تلك المنازعات القديمة
بينهم على الحدود، وانفسح المجال أمام التجار المسلمين أخذوا ينشرون نفوذهم
ويوسعون دائرة سلطانهم فتوغلوا في الغرب والشرق والجنوب حتى انتشر الإسلام
بين أهالي هذه الجهات بسرعة غريبة ومدهشة بنتيجة مساعي الأوربيين أنفسهم
الذين ذللوا تلك العقبات باكتشافاتهم الجغرافية وبتقويم شؤون البلاد وتحسين وسائل
الثروة بها وأحوالها الاقتصادية.
وقد شعر بحرج هذا المركز الصعب وكلاء فرنسا وبريطانيا وأخذت هذه
المسألة تتعقد أمامهم فلا يعرفون لهم منها مخرجًا بعد أن تغلب الإسلام على الجنوب.
وبعد أن طعن الدكتور كوم تعصبًا وتمحلا على تعاليم الإسلام زاعمًا بأنها تلقي
بذور التعصب في قلوب المتدينين به استنتج أنه يجب على كل مسلم مقاتلة الكفار
إلى أن يأسرهم أو يقتلهم وقال لا توجد ذريعة أنجع من إدخال القبائل الوثنية في
الدين المسيحي لتكون حصنًا متينًا للدفاع.
ثم قال: ولا يوجد الآن غير طريقين لنجاة الرقيق: أولهما في السودان
العربي إلى مكة مارًا بالسودان المصري وقد حاولت القوة الفرنسية في بحيرة تشاد
بقياد الكولونل مول أن تقطع هذا الطريق حتى تمكنت من ذلك ولكن الطريق الثاني
لا يزال مفتوحًا ويمر ببنغازي ولا يمكن إغلاقه إلا إذا استولت بريطانيا العظمى
على درافور.
وقد نشرت مجلة المستر فول مقالة وجهت فيها أنظار ولاة الأمور الإنكليز
لوجود ثلاثة عشر ألف شاب مسلم على بعد خمسة أيام من مقر الإنجليز قد أجمعوا
أمرهم على أن يجوبوا أنحاء البلاد الإفريقية للدعوة إلى الإسلام.
ولاحظت أن الوثنيين يقبلون الدين الإسلامي بسهولة ورغبة، ومن انتحل
منهم المسيحية لا يلبث إلا قليلاً ثم يعلن إسلامه مثل رفاقه، واستنتجت على دعواها
بسهولة مبادئ الدين الإسلامي بزيادة المسلمين المضطردة في الهند فقد بلغ عدد
الذين ينتحلون الإسلام من أهلها نحوعشرة آلاف شخص في كل سنة وكذلك الحال
في الصين حيث يَنْمي عدد المسلمين كل يوم بنسبة ظاهرة تدعو لمزيد الدهشة
والاهتمام) .
__________
(1) ترجمت الجرائد اليومية هذا المقال بالعربية وعنها أخذنا مع تصحيح قليل.(13/317)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإسلام في الهند
جاء في مجلة العالم الإسلامي الفرنسية مقال عن الإسلام في الهند أحببنا
ترجمته لما فيه من الحقائق التي يجهلها إخوانهم المسلمون قال الكاتب [*] : انتشر
الإسلام في الهند سنة 1001 ميلادية وقد ازداد عدد أتباعه حينما تقلصت سلطة
الإسلام في تلك الديار وامتدت سلطة الاحتلال الإنكليزي خلافًا للمأمول وهو يمتد
اليوم على صورة مدهشة فقد كان عدد أهله في الهند سنة 1897 واحدًا وستين
مليونًا ونصف مليون فأصبح عددهم سنة 1901 ثلاثة وستين مليونًا منهم 97 في
المئة من أهل السُّنة وإليك تفصيل العدد.
54 مليونا في الولايات الهندية الشرقية الإنكليزية كبمباي ومدراس.
8 ملايين ونصف في الولايات التابعة كحيدر آباد.
270 ألفًا في المستعمرات الإنكليزية كسيلان.
730 ألفًا في البلاد التي لم تدخل تحت الإحصاء كولايات أوريسا.
وقد يوجد من المسلمين في المقاطعات الفرنسية الهندية 20 ألفا وفي
المستعمرات البرتغالية 8 آلاف ونصف ألف، وفي المستعمرات الأومانية 10.000
آلاف من الهنود والفرس والعرب والإفريقيين.
أما عدد المسلمين في الولايات المستقلة فإليك بيانه: في ولاية نابل ثلاثة
ملايين ونصف مليون، وفي ولاية بوتان أربع مئة، وفي ولاية أفغانستان 6ملايين
وأما بحسب المذاهب فعدد المسلمين في الهند ينقسم إلى أهل سنة وشيعة فأهل السنة
66مليونا و222ألفا و507والشيعة مليونان و577ألفًا و429 والمجموع
68.799.936
فإذا اعتبرنا زيادة مليونين في الولايات الهندية الإنكليزية فيكون عدد المسلمين
في الهند سبعين مليونًا.
أما حركة هذه الملايين الاجتماعية والسياسية فقد كانت بطيئة إلا أنها ابتدأت
تؤثر في الدولة الإنكليزية فلا تمضي مدة إلا ويحدث حادث لهذه الدولة من هذه
الجموع ولو كان المسلمون متّحدون الاتحاد المطلوب لما أقام الإنكليز ساعة في تلك
البقاع على أن التكافل بينهم قد بدا طلعه فاتحد فريق كبير منهم وبدأوا بإعداد القوة
وسيجتازون عما قريب كل عقبة وصعوبة وقد ظهر للناس أخيرًا أنهم يميلون زلفى
إلى الدولة العثمانية.
فلسوف يقوى الإسلام في الهند ويمتد بواسطة العلم الذي ينتشر بينهم بسرعة
ولا غَرْو فإن هذا الدين من مطالبه العلم، وسوف يسود على كل تلك الديار على أن
الإنكليز هم الذين علموهم لغتهم فتسلحوا بها وأصبحوا يطالبون بحقوق الإنسان
الحرة ويتقاضون من الإنكليز مراكزهم الاجتماعية ومناصبهم السياسية.
__________
(*) ترجمته بالعربية جريدة المفيد البيروتية وعنها نقلنا.(13/319)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
صدى العلم من الحجاز
جاءتنا كراسة بهذا الاسم فيها تفصيل عن (حفلة توزيع الجوائز على التلامذة
الفائزين في الامتحان السنوي في المدرسة الصولتية بمكة المكرمة تأسيس العلامة
المرحوم الشيخ رحمة الله الهندي صاحب كتاب إظهار الحق) ، وهي مفتتحة
بخطاب من مدير تلك المدرسة موجه إلى كل قارئ يستفز به الهمم ويحدو العزائم
إلى مساعدة هذه المدرسة الفذة في نوعها المفيدة في الجملة بالتبرعات المالية؛ لأن
قيامها بها وهي لا تزال قائمة بتبرعات الهنود الأسخياء الذين عرفوا قوة التعاون
والتكافل أكثر من غيرهم من مسلمي الأرض، وإنه ليجدر بمسلمي هذه البلاد أن يمدوا
إليها يد السخاء وما نرى أنهم يرضون كما رضيت دولتهم بأن يكون الجهل ضاربًا
أطنابه في مكة المكرمة ذلك البلد الحرام الذي كان ينبوع سعادتهم ومهيع العلم والحكمة
من قبل.
ألا وإنه ليحزننا أن تبقى البلاد التي نزل بها الوحي وانبثق منها نور الإسلام
الذي قلب كيان العالم وقتل الوثنية ونفخ روح العلم وأشرع سبيل استقلال الفكر إنه
ليحزننا أن تبقى متسكعة في دياجير الجهل موثقة بأغلال التقاليد، فهلا عناية من
دولتنا الدستورية التي يفتخر سلطانها بلقب (خادم الحرمين) بتلك البلاد بعض
عنايتها ببلد من بلاد الرومللي، على أنه قد آن للمسلمين وقد مضى زمن التفكير أن
يدأبوا على العمل، وعلى الله قصد السبيل.
__________(13/320)
جمادى الأولى - 1328هـ
يونيه - 1910م(13/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإكراه على الإسلام بالسيف
س 27 من س. ع التلميذ في مدرسة الحقوق بالآستانة.
إلى فليسوف الإسلام وفخر الأمة سيدي الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب
مجلة المنار الأغر مَتَّعَنِي الله بطول بقائه آمين.
رأينا في الجريدة التي يصدرها مجد عبيد الله مبعوث آيدين في الآستانة مسألة
عجبنا من صدورها من مسلم وازداد عجبنا ضعفين؛ إذ سمعنا أن كاتبها صاحب تلك
الجريدة يعد من علماء الترك، ثم ازداد عجبنا أضعافًا مضاعفة؛ إذ بلغنا أن تلك
الجريدة تصدر بمساعدة الحكومة ونفقتها وهي هي الحكومة الدستورية المؤلفة من
هيئتين: إحداهما تسمى التشريعية، وأخرى تسمى التنفيذية وكل منهما مؤلفة من
المسلمين وغير المسلمين.
تلك المسألة هي التي جعلها أعداء الإسلام أشد مطعن وهي ادعاء أن الإسلام
قام بالإكراه والإجبار لا بالدعوة والحجة، وأنه يجب على المسلمين الآن أن يكرهوا
الناس على الإسلام بقوة السيف فقد قال في العدد الحادي عشر من تلك الجريدة
المسماة باسم (العرب) ما نصه:
(إن أكبر مرشد في الإسلام هو النبي عليه الصلاة والسلام كان يحمل كتاب
الله في يد والسيف في اليد الأخرى، فكان إذا رأى من لا يقبل الحق الذي يدعوه إليه
في الكتاب أرغمه بالسيف، فأنتم يا معشر المرشدين المكلفين بوظيفة الإرشاد
{َقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) .
(ثم إن الخلفاء الراشدين والأمراء المرشدين الذين جاؤوا بعد النبي عليه
الصلاة والسلام قد اقتفوا كلهم هذا الأثر الجليل) اهـ بحروفه إلا كلمة أسوة في
الآية الكريمة فكان مكانها في تلك الجريدة كلمة (قدوة) وهي بمعناها، ولكن لا
يجوز نقل القرآن بالمعنى وما أظن أن صاحب الجريدة تعمد ذلك وإن كان يوجب
ترجمة القرآن، لأنه لا يخفى عليه أن تعمد تغيير ألفاظ القرآن بمعناها في العربية
كفر وردة مقررة عن الإسلام.
فما قول المنار في هذه الدعوى؟ أحق ما يقول محمد عبيد الله أفندي وبعض
الطاعنين في الإسلام من الإفرنج في هذه المسألة أم هو باطل؟ إن قلتم بالأول فهل
تقولون أيضًا بما فرعه عليه محمد عبيد الله أفندي من وجوب قيام خليفة المسلمين
وجميع أمرائهم ومرشديهم بإكراه غير المسلمين بقوة السيف (وما معناه من المدافع
والبنادق) على قبول القرآن واتباعه أم لا؟ إن قلتم: نعم فلماذا يترك الخليفة وغيره
من الأمراء والمرشدين حكم دينهم والتأسي بنبيهم صلى الله عليه وسلم؟ وهل يجب
على مجلس المبعوثين في الدولة العلية أن يلزم الخليفة بذلك أم لا؟ وإذا كان يجب
ذلك على المجلس وتركه فهل يكون أعضاء المجلس من المسلمين فاسقين بترك هذه
الفريضة أم ماذا يكون حكمهم؟ وإن قلتم: لا يجب ذلك فكيف تقولون بالأصل دون
التفريع عليه؟ أفتونا وعلمونا مما علمكم الله.
ج - الحمد لملهم الصواب ونقول وبالله التوفيق:
(إن تلك الدعوى التي ادعاها صاحب تلك الجريدة باطلة بأصولها وفروعها
ولا يقول بها من يعرف حقيقة الإسلام إلا إذا تعمد الكذب والبهتان بقصد إيقاع الفتن
بين المسلمين وغير المسلمين وإلجاء دول أوربا إلى الاتفاق على الإيقاع بالدولة
العلية، ولا يعقل أن يأتي هذا من رجل عاقل له صفة رسمية في هذه الدولة، فنحن
لا نبحث في قصد كاتب تلك الجمل التي نقلها السائل ولا في التأثير السيئ الذي
يخشى أن يثيره صدورها من مثله، ولا في صحة ما شاع من إعانة الحكومة على
نشر جريدته، وإنما نخص كلامنا فيما هو اللائق بباب الفتوى من بيان الحقيقة
فنقول:
بينا الحق في هذه المسألة في مواضع متعددة من المنار والتفسير خاصة
ولا سيما تفسير آيات القتال في سورة البقرة وكذا تفسير {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) منها فراجع تفسير {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ
تَعْتَدُوا} (البقرة: 190) الآيات من ص 203 إلى 212من جزء التفسير الثاني،
وتفسير {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) من ص 35- 40 من جزء التفسير
الثالث، ولا يذهبن ظنك إلى أن حكمنا على من يذهب إلى هذا الرأي بالجهل أو سوء
القصد حكم بدا لنا الآن نريد أن نلصقه بهذا الرصيف الجديد، كلا إن هذا هو
رأينا منذ سنين طويلة فراجع إن شئت ص 205ج2 تفسير تجد فيها أن المسلمين لم
يكونوا في قتالهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا مدافعين وإننا قلنا بعد هذا
البيان ما نصه: (وهل يصح أن يقال فيهم: إنهم أقاموا دينهم بالسيف والقوة، دون
الإرشاد والدعوة، كلا لا يقول ذلك الأغر جاهل، أو عدو متجاهل، ولا تنس ما
نقلناه بعد ذلك عن الأستاذ الإمام في ص 210، 211 من هذا الجزء وكذا في ص
39 من الجزء الثالث من التفسير ومنه قوله في آخره: (ولا التفات لما يهذي به
العوام، ومعلموهم الطغام؛ إذ يزعمون أن الدين قام بالسيف وأن الجهاد
مطلوب لذاته فالقرآن في جملته وتفصيله حجة عليهم) ، وإذا راجعت الجزء الرابع
من التفسير تجد فيه بيانًا لهذه المسألة أيضًا، والأصل في هذه المسألة قوله تعالى:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) وهي مدنية وقوله
تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى
يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99) ومثل قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ
عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) وقوله عز وجل: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ
فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} (ق: 45) وكذلك تقييد آيات القتال بجعله
دفاعًا والنهي عن الاعتداء فيه كآية (190 من سورة البقرة) التي ذكرنا معظمها
آنفًا والراجح في علم الأصول أن المطلق يحمل عليه المقيد وعليه الشافعية.
والسنة العملية تؤيد هذه النصوص الواضحة فإن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم لم يأذن أحدًا من المسالمين له بحرب أبدًا، وإنما كانت غزواته كلها دفاعًا فكان
المشركون قبل فتح مكة حربًا له وللمؤمنين؛ آذوهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم،
وكانوا يجهزون الجيوش فيسوقونها إليهم في دار الهجرة؛ ليستأصلوهم كما فعلوا في
بدر وأُحُد والخندق فهم معهم في حرب دائمة يصيب منهم ويصيبون منه، فلما
رضوا منه بالصلح عشر سنين فرح بذلك ورضي منهم بأشد الشرائط وأثقلها على
المؤمنين وهو في قوة ومنعة منهم قادر على الحرب وسبق له الظفر فيها، ثم كان
المشركون هم الذين نقضوا الميثاق.
وقد بلغ من تقرير الإسلام للسلام أن شدد في المحافظة على عهوده إلى درجة
ليس وراءها غاية وهي أن المشركين الذين عاهدوا المسلمين المهاجرين إذا وقع
قتال بينهم وبين المسلمين الذين لم يهاجروا وطلب هؤلاء المسلمين من إخوانهم
المهاجرين أن يعينوهم على المشركين المعاهدين لهم فإنه يحرم نقض عهدهم
بمساعدة المسلمين عليهم قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم
مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} (الأنفال: 72) .
كنت أظن أن محمد عبيد أفندي من أوسع علماء الترك اطلاعًا على السيرة
النبوية الشريفة؛ لأنه من أعلمهم باللغة العربية نفسها لإقامته الطويلة في البلاد العربية
فكيف راجت عليه هذه الدسيسة الأوربية والأوهام العامية؟ ليأتنا بحديث واحد في
إثبات دعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ القرآن في يد والسيف في
أخرى ويعرض القرآن على من يلقاه فإن آمن وإلا أنحى بالسيف على هامته ففلقها.
ما رأينا حديثًا في ذلك صحيحًا ولا حسنًا ولا ضعيفًًا بل لم نر ذلك في
الموضوعات التي كذبوها عليه صلوات الله وسلامه عليه!
هل يمكن أن يقول مثل عبيد الله أفندي إنه استنبط ذلك من حرب الصحابة؛ إذ
كانوا يعرضون على من يتصدى لحربهم الإسلام فإن لم يجيبوا فالجزية فإن لم
يقبلوا كان السيف حكمًا بينهم وبينهم؟ ! ما أراه يجرؤ على القول بأن هذا يؤيد قوله
ذاك وإن سلمنا له أنه من السنة المتبعة. إن اتباعهم لهذه الطريقة إنما كان بعد تقرير
الحرب والتصدي لها وإنما كان سبب الحرب بين الخلفاء الراشدين وبين الروم
والفرس اعتداء الروم والفرس لا اعتداء الصحابة العاملين بقوله تعالى: {وَلاَ
تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) والذين صاروا بمقتضى هذه
الآية وأمثالها يكرهون القتال وإن فرض عليهم لضرورة المدافعة عن أنفسهم ودينهم
وتأمين دعوته كما شهد الله لهم بذلك في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} (البقرة: 216) .
ذلك بأن الروم والفرس كانتا أمتي حرب وقد ضريتا بما جاورهما من جزيرة
العرب فأظلت سلطة كل منهما بعض العرب المجاورين لهما، لذلك وللعصبية الدينية
ساءهما دخول أكثر العرب في الإسلام وتجدد دولة لهم تابعة لدين مبين فكان كل
منهما يهدد دعوة الإسلام في جواره ويعتدي على المسلمين فلم يكن للمسلمين بد من
محاربتهم، ولما كان المسلمون يجوزون قبل الشروع في كل قتال أن يمتنع بأحد
السببين: إسلام المحاربين لهم أو الخضوع لهم بدفع شيء من المال لا يثقل دفعه إلا
على من وثق بقوته على الحرب؛ لمنع دعوة الإسلام الجديدة من الانتشار في
الأرض، فكانوا يعرضون أحد هذين الأمرين والحرب مقررة قبل ذلك بما سبق من
الاعتداء، ولم يكن عرضها هو السنة المتبعة في الهداية والإرشاد، فإن النبي صلى
الله عليه وسلم دعا كسرى وقيصر وغيرهما إلى الإسلام ولم يهددهما بالسيف وإنما
دعاهما بالحكمة والموعظة الحسنة اتباعًا لما أمره الله تعالى به في قوله: {ادْعُ إِلَى
سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) .
لو ذكر محمد عبيد الله أفندي عبارته تلك في سياق الكلام عن الجهاد وأحكامه.
لتيسر لنا أن نتمحل لها تأويلا ولكنه ذكرها في سياق الإرشاد وذكر العلماء المرشدين
في صحيفة قال: إنه أنشأها لإرشاد العرب وحثهم على إرشاد العالم فما هي المناسبة
لذكر السيف والإرغام على قبول الحق وإنما موضع الحق القلوب وهي لا يصل
إليها السيف، بل السيف وذكر السيف مما يزيدها نفورًا، ويجعل بينها وبين الحق
حجرًا محجورا.
ليست هذه المسألة هي التي شذ فيها وحدها هذا الرجل فإن له شذوذًا في مسائل
أخرى دينية وتأريخية كادعائه أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ما تمت ولا تتم إلا
بترجمة القرآن إلى جميع اللغات، وكادعائه أن غير العرب من المسلمين يمكنهم
الاستغناء في دينهم عن معرفة اللغة العربية وعن القرآن العربي المنزل من عند الله
تعالى آية للعالمين معجزًا للبشر على مر السنين، بترجمته إلى التركية والفارسية
وغيرهما من اللغات.
وإن كان المترجم يترجم بحسب فهمه فيختلف مع غيره فيكون لكل أهل لغة
قرآن، وإن كانت الترجمة لا يمكن أن يتحقق فيها الإعجاز كالقرآن المُنزل من عند
الله ولا يصح التعبد بتلاوتها ولا يتحقق فيها غير ذلك من خصائص القرآن، وقد سبق
لي مناظرة معه في هذه المسألة بمصر منذ سنين، وكإنكاره أن للبشر أرواحًا مستقلة
هي غير الجسم المحسوس وأعراضه.
وقد ناظرته في ذلك بدار الشريف علي حيدر بك ناظر الأوقاف، وكادعائه أن
جميع العرب مسلمون وإنكاره أن يكون في النصارى عربي واستدلاله على ذلك
بعبادتهم لرجل يهودي أو قال: إسرائيلي. (يعني: السيد المسيح روح الله ورسوله
عليه الصلاة والسلام) فلا عجب أن يشذ في مسألة السؤال، ولكن العجب من جرأته
على نشرها في صحيفة تنشر في عاصمة المملكة حيث المحكمة العرفية العسكرية
المراقبة لكل ما يحدث التنافر بين العناصر العثمانية المختلفة في اللغات والأديان.
وللسياسة أسرار ولا بحث لنا فيها الآن.
مما يقوي فراستنا في سريان هذه المسألة إلى قائلها من بعض الكتب الأوربية
الطاعنة في الإسلام أنها تكاد تكون ترجمة لعبارة قالها بعض أولئك الطاعنين في
مؤلف له وأشار الأستاذ الإمام إلى الرد عليها في رسالة التوحيد فإنه بعد أن قرر قيام
الإسلام بالدعوة والحجة، وانتشاره السريع، بموافقته للفطرة، قال رحمه الله تعالى
في الرد على قائل تلك العبارة وأمثاله ما نصه:
(قال من لم يفهم ما قدمناه أو لم يرد أن يفهمه: إن الإسلام لم يطف على
قلوب العالم بهذه السرعة إلا بالسيف فقد فتح المسلمون ديار غيرهم والقرآن بإحدى
اليدين والسيف بالأخرى يعرضون القرآن على المغلوب فإن لم يقبله فصل السيف
بينه وبين حياته. سبحانك هذا بهتان عظيم، ما قدمناه من معاملة المسلمين مع من
دخلوا تحت سلطانهم هو ما تواترت به الأخبار تواترًا صحيحًا لا يقبل الريبة في
جملته، وإن وقع اختلاف في تفصيله، وإنما أشهر المسلمون سيوفهم دفاعًا عن
أنفسهم، وكفًّا للعدوان عنهم، ثم كان الافتتاح بعد ذلك من ضرورة الملك ولم يكن من
المسلمين مع غيرهم إلا أنهم جاوروهم وأجاروهم فكان الجوار طريق العلم بالإسلام
وكانت الحاجة لصلاح العقل والعمل داعية الانتقال إليه.
(لو كان السيف ينشر دينًا فقد عمل في الرقاب للإكراه على الدين والإلزام به
مهددًا كل أمة لم تقبله بالإبادة والمحو من سطح البسيطة مع كثرة الجيوش ووفرة
العدد وبلوغ القوة أسمى درجة كانت تمكن لها وابتدأ ذلك العمل قبل ظهور الإسلام
بثلاثة قرون كاملة واستمر في شدته بعد مجيء الإسلام سبعة أجيال أو يزيد فتلك
عشرة قرون كاملة لم يبلغ فيها السيف من كسب عقائد البشر مبلغ الإسلام في أقل
من قرن، هذا ولم يكن السيف وحده بل كان الحسام لا يتقدم خطوة إلا والدعاة من
خلفه يقولون ما يشاؤون تحت حمايته مع غيرة تفيض من الأفئدة وفصاحة تتدفق عن
الألسنة، وأموال تخلب ألباب المستضعفين، إن في ذلك لآيات للمستيقنين.
جلت حكمة الله في أمر هذا الدين: سلسبيل حياة نبع من القفار العربية، أبعد
بلاد الله عن المدنية، فاض حتى شملها فجمع شملها فأحياها حياة شعبية ملية، علا
مَده حتى استغرق ممالك كانت تفاخر أهل السماء في رفعتها، وتعلو أهل الأرض
بمدنيتها، زلزل هديره - على لينه - ما كان استحجر من الأرواح فانشقت عن
مكنون سر الحياة فيها، قالوا: كان لا يخلو من غلب (بالتحريك) قلنا: تلك سنة الله
في الخلق لا تزال المصارعة بين الحق والباطل والرشد والغي قائمة في هذا العالم
إلى أن يقضي الله قضاءه فيه، إذا ساق الله ربيعًا إلى أرض جدبة ليحيى ميتها،
وينقع غلتها، وينمي الخصب فيها، أفينقص من قدره أن أتى في طريقه على عقبة
فعلاها، أو بيت رفيع العماد فهوى به؟)
__________(13/321)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حديث منع الدين بنصارى من ربيعة
س 28: من الشيخ محمد سالم الكلالي بسنغافورة.
سيدي الأستاذ المحدث السيد محمد رشيد رضا المحترم متع الله المسلمين
بحياته.
بعد السلام: قد أشكل على العبد الفقير ما جاء في الصفحة الـ 333 من
الجزء الخامس من كتاب تهذيب التهذيب، لابن حجر في ترجمة عبد الله بن عمر
القرشي حديث: (إن الله يمتنع (كذا) هذا الدين بنصارى من ربيعة) انتهى فما هو
صواب عبارة هذا المتن؟ ثم ما معناه وهل هو صحيح أم لا؟ أفيدونا لا زلتم مصدرًا
للإفادات في المشكلات والسلام.
ج - صواب متن الحديث: (إن الله سيمنع هذا الدين بنصارى من ربيعة)
فالتحريف من الطبع فيما يظهر والنسخة المطبوعة عندي بمصر ولا أعلم أنها توجد
هنا - في الآستانة - ومعنى المنع الحماية ومنه منع الأنصار النبي صلى الله عليه
وسلم مما يمنعون منه نساءهم وأهلهم في حديث الهجرة؛ أي: حمايته، وهو
يحمل على من أسلم منهم، وأما سنده فقد رواه عن سعيد بن عمرو بن سعيد ابن
العاص وأخرجه عنه النسائي ورجاله كلهم في تهذيب التهذيب لديكم فراجعوا تراجمهم
فيه وفي غيره مما لديكم. وما أراه يصح عنه، ولكن ليس لدي الآن وأنا في السفر ما
أراجع فيه، ولا الحديث من المشهورات فيحفظ ولا هو مما يتعلق به عمل فيضر تأخير البيان فيه.
__________(13/344)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قوة الاجتماع والتعاون
الاجتماع والتعاون قوة لا تغلب إلا بقوة مثلها، قوة بها ترتقي أمم وتعتز،
وبها يسود قوم على قوم، وبها تنمي الثروة، وبها يتغير شكل الحكومة والدولة،
وبها كان كل شيء ويكون كل شيء.
عشرة مجتمعون متعاونون، يغلبون المئين والألوف من المتفرقين المتخاذلين
إذا ألفوا شركة مالية قطعت أسباب الكسب على أضعاف أضعافهم في العدد من
التجار، وإذا كونوا عصبة للبغي والعدوان سلبوا راحة الألوف من الناس، وإذا
قاموا بالأعمال الاجتماعية أحدثوا تغييرًا عظيمًا في العمران، وإذا نشروا العلوم
والفنون أفادوا ما لا يفيده الكثيرون من العلماء الأعلام.
لماذا كانت الحكومة الاستبدادية القليل أفرادها أقوى من الأمة الكثير عددها؟
أليس لأن الحكومة جماعة متعاونة، والأمة أفراد متفرقة؟ ولماذا كانت الأمة
الدستورية أقوى من حكومتها؟ أليس لاجتماعها على رأي واحد في شكل الحكومة
وكيفية سيرها؟ فإلى متى يظل المنحطون من الأمم والشعوب غافلين عن هذه
الحقيقة جاهلين طريق هذه القوة - قوة الاجتماع والتعاون - التي بها يرتفع شأنهم،
ويعلو قدرهم، ويساوون تلك الأمم التي ينظرون إليها كما ينظر أهل الأرض إلى
الكواكب اللامعة في جو السماء، ويحسدونها على ما أوتيته من السناء والبهاء، وهذه
أخبار التأريخ الماضية، وحوادث الأجيال الحاضرة، تعلمهم أن الاجتماع مع التعاون
هو القوة التي تذهب بشقائهم، وتشفيهم من أدوائهم، وتحقق لهم أمانيهم التي يتمنون،
وتعبر لهم الرؤى الصالحة التي يرون.
لو أردت أن أبين فوائد الاجتماع والتعاون بطرق الخطابة أو الشعر لاحتجت
إلى إنشاء الدواوين، ولو أردت أن أجمع الشواهد والوقائع في فضلها لصنفت
الأسفار الكثيرة في التواريخ، ولكنني لا أريد هذا ولا ذاك، إن أريد إلا تذكير
القارئين بمسألة صارت من الضروريات، لا يحتاج فيها إلى نظم الأدلة وترتيب
المقدمات، أريد أن أذكرهم ليعملوا، لا ليعلموا ما لم يكونوا يعلمون، ولا لأجل أن
يتسلوا عند الفراغ بما يقرؤون، أريد أن أقول لهم: يا قوم إنكم ضعفاء في العلم
وأنتم أذكى الناس أو من أذكاهم، وإنكم فقراء وأنتم أقدر البشر على الكسب أو من
أقدرهم، وإنكم مهضومون مستضعفون لغير ذنب تجنون، إلا تفرقكم وتخاذلكم،
إنه لا ينقصكم إلا الاجتماع والتعاون فاجتمعوا وتعاونوا، ولا يفرقن بينكم اختلاف
ديني ولا جنسي مع العلم بأن الحاجة أو الضرورة تقضي باجتماعكم على ما به قوام
مصلحتكم المشتركة.
لا أدعوكم إلى اجتماع مبهم أو خيالي، ولا إلى تعاون مطلق أو إجمالي، بل
أدعوكم إلى الاجتماع لإزالة موانع الاجتماع، ثم للتعاون على ترقية شأن الاجتماع
بالعلم والثروة، وإعلاء شأن الأمة والدولة، بأن تكونوا أصحاب القدح المعلى الذي
يؤهلكم له ذكاؤكم الفطري وأخلاقكم الموروثة التي ينوء بها التأريخ؛ إذ يفاخر
بأجدادكم جميع الأمم والشعوب:
يا قوم إن لكم من مجد أولكم ... إرثًا قد أشفقت أن يفنى ويتقطعا
يا قوم بيضتكم لا تفجعن بها ... إني أخاف عليها الأزلم الجذعا
إن الدولة لا ترتقي ولا تعتز إلا بالأمة، وإن الأمة بأخلاقها وعلومها وثروتها،
وإن الوراثة أكبر عون للمرء على التربية والعلم والعمل، فتعاونوا على نشر التعليم
والتربية، تعاونوا على ترقية الزراعة والصناعة والتجارة، فقد آن لكم أن تخرجوا
من مأزق الأعمال الفردية، إلى فضاء الأعمال الاجتماعية، فلو صار واحد منكم
أغنى من قارون، وأعلم بالحكمة من لقمان، وأخطب في العلوم الإلهية والحكمة
الأدبية من علي بن أبي طالب، وأعدل من عمر بن الخطاب، وأدهى في السياسة
العصرية من بسمرك، وأنشط من غليوم؛ لما اعترف لكم أحد بحق، ولا مكنكم
أحد من الإصلاح في الأرض، إلا بعد أن تجتمعوا وتتعاونوا.
يجب أن تؤلفوا الشركات المالية ولا تنسوا بها المعنى الاجتماعي الأدبي، لا
تنسوا أنكم إذا خلطتم أموالكم بعضها ببعض تختلط أرواحكم بعضها ببعض فيزول
سوء تأثير الاختلاف الطبيعي بينكم سواء كان اختلافًا في الدين والمذهب، أو
الجنس والمشرب.
يجب أن تؤلفوا الجمعيات العلمية والخيرية لتعميم التربية والتعليم بين جميع
الطبقات ليكون أفراد الأمة كسلسلة إذا تحركت حلقة منها تحركت سائر الحلقات.
يجب أن تطالبوا الأغنياء ببذل الإعانات العظيمة لنشر العلم وإنشاء المدارس
فمن بخل على الأمة بفضل ماله فعليكم أن تبينوا للأمة أنه عدوها وأنه يجب عليها
أن تمقته وتحتقره، وأما من يجود عليها بما يرفع شأنها فعلموها كيف تعظم شأنه
وترفع قدره، استعينوا على هذا بالكتاب والشعراء، فهم الذين يربون لكم الأغنياء.
يا أصحاب الأقلام: إن في أيديكم قوة تعمل ما لا تعمل السيوف والمدافع، إن
من تعظمونه بالحق يكون قدوة وإمامًا في الخير لأهل عصره، ولمن يأتي من بعده
وإن من تحتقرون ولو بالباطل يكون محتقرًا في زمانه ومحتقرًا في التأريخ حتى
تستحي ذريته أن تنتسب إليه، فاعرفوا قيمة أنفسكم كما عرفها بشار؛ إذ قال:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا
أبني حنيفة إنني إن أهجكم ... أدع اليمامة لا تساوي أرنبا
اعرفوا قيمة هذه السلطة المعنوية التي لا تظهر قوتها على كمالها إلا في
الجرائد، واستعملوها في إصلاح حال الأمة فبذلك يعلو قدركم، ويرتفع ذكركم،
وتنالون من الناس أحسن الشكر، ومن الله تعالى أكبر الأجر.
وأنتم يا أصحاب الجرائد أولى أصحاب الأقلام بهذا العمل؛ لأن صحفكم تجعل
لكلامكم من التأثير ما ليس لكلام غيركم الذي لا تقبلون نشره فيها؛ فحرضوا الكُتَّاب
والشعراء على هذا الإصلاح، ونوهوا بفضل من يساعدكم عليه، ولا تبالوا بمن عداه
بل أدبوه كما تؤدبون بخلاء الأغنياء.
يا أصحاب الجرائد: لا تفتننكم سياسة الحكومة فتجعلوا عنايتكم محصورة في
أعمالها وأقوالها، اجعلوا جل عنايتكم في إصلاح حال الأمة، فلن تصلح دولة أمتها
جاهلة متخاذلة، فبإصلاح الأمة يتم لكم ما تريدون من إصلاح الحكومة، فهي كل
شيء، ويجب أن يكون لأجلها كل شيء.
__________(13/345)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كيف تنال الأمة حقوقها
إن للأمم حقوقًا طبيعية وشرعية، وإن حقوقها كحقوق الأفراد تغصب منها
وتغلب عليها، وإن الغاصب لها قد يكون واحدا منها أو واحدًا من غيرها وقد يكون
جماعة منها أو من غيرها، وأعني بالفرد الذي يغصب حق الأمة: الحاكم المستبد
المطلق، الذي يرجع إليه الأمر كله في سياستها، إن شاء عدل، وإن شاء ظلم،
وإن شاء أشرك غيره بالحكم، وإن شاء انفرد، وأعني بالجماعة: الحكومة المقيدة
كيفما كان شكلها ونوعها.
إذا ظلم الأفراد وغصبت حقوقهم يختصمون إلى الحكام، فإما أن ينصفوهم
وإما أن لا ينصفوهم، وأما الأمم فليس لها محاكم تختصم إليها؛ لأن حكامها هم
الذين يغصبون حقوقها، وماذا تفعل وخصمها هو الحكم، وكيف تنتصف منه إذا
جار وظلم؟ ومتى تسترد حقوقها منه إذا اعتز وغلب؟
لا تنال حقوق الأمم بنظم الأقيسة وترتيب المقدمات، وإقامة الحجج وإيراد
البينات، ولا بالرجاء والتعليل، ولا بالبكاء والعويل؛ لأن الغاصب لا يكون فاضلاً
عادلاً فيقنعه البرهان، ولا رؤوفًا رحيمًا فيؤتى من ناحية الوجدان، وإنما يكون فظًّا
غليظ القلب، لا يخضع إلا للقوة والبأس، فيعطي بالقوة كما يأخذ بالقوة.
كيف تصير الأمة المغلوبة على أمرها ذات قوة تسترد بها حقها، إذا كان
الحاكم واقفًا لها بالمرصاد، مانعًا إياها بقوته من إيجاد قوة لها؟ أنقول: إن اليأس من
قوة أمة هذه حالها أقوى من الرجاء فيها؟ أم نقول: يجب أن تثور على حكومتها ثورة
تشيب النواصي، وتزلزل الرواسي، وتجعل الرفيع وضيعًا، والذليل عزيزًا؟ أم
هنالك حيلة أخرى يكتفى منها بالقوة المعنوية، عن القوة المادية؟
هذه المعاني قد انتقلت من أوربا إلى الشرق، وكثر الحديث بها في هذا العصر
ولا سيما بعد الانقلاب العثماني والانقلاب الفارسي، وربما تكون قد جالت في
أدمغة زعماء الأرنؤوط الذين أوقدوا نار الفتنة في هذه الأيام، وكانوا عونًا على
الدولة وعلى أنفسهم، لأولئك الأعداء الذين أجمعوا كيدهم على إسقاط هذه الدولة بل
على محوها واقتسام تراثها بدون حرب طحون تسفك فيها دماؤهم، وتغتال بها
أموالهم، فهم إنما يحاربونها حربًا معنوية، يغرون عناصر أمتها بالعداوة والبغضاء
ويضربون بعض أعضائها ببعض حتى تقضي على نفسها قضاء وشيكًا أو بطيئًا.
يقول لسان حال هؤلاء الساسة أو لسان مقالهم للترك: إنكم أنتم الفاتحون
وأصحاب السيادة القادرون، ولا حياة لكم ولا شرف، بل لا بقاء لكم ولا وجود إلا
بتعصبكم لجنسكم، وجعل زمام الأمة في أيديكم، فإن هذا المزية إذا فاتتكم تكونون
وراء سائر العناصر المنسوبة إلى دولتكم؛ لأنهم أقدر منكم على الكسب، ولا
تقدرون أن تسبقوهم بالعلم، فاعتمدوا على هذه الكتائب قبل الكتب، فهي التي تحفظ
لكم السيادة على العجم والعرب.
ويقولون للعرب: إنكم العنصر الأكبر في هذه الدولة، ولكم الحق الأول في
السلطة والخلافة، وبلادكم قلب الأرض، وموطن الدين ومهبط الوحي، ولغتكم لغة
القرآن الذي يدين به فيتعبد بها ثلاث مائة مليون من الناس ولكم من السلف في
المدنية والعلم ما يدل على أن استعدادكم أعلي من استعداد الترك، بل ومن غير
الترك من شعوب الأرض، وهو قد خربوا بلادكم بعد عمرانها، وحالوا بينكم وبين
الاستفادة من كفاءتكم ومزاياها، وقد آن أوان طلب الحقوق، والمؤاخذة على العقوق.
ويقولون للأرنؤوط: إنكم شعب مجيد، وإنكم أولو قوة وأولو بأس شديد، وإنكم
أقوى من الترك استعدادًا للمدنية؛ لأنكم من الشعوب الأوربية، وبلادكم قابلة لذلك
إذا هي استقلت بالحكم، وألقت عن كاهلها أثقال سلطة الترك، فدونوا بلغتكم
الحروف اللاتينية، ولتتحد البلاد الشمالية بالجنوبية، وستنالون كل أمنية، بمساعدة
أوربا عاشقة الإنسانية.
ويقولون للأرمن: إنكم أذكى العثمانيين أذهانًا، وأطلقهم لسانًا، وأجرؤهم
جنانًا، وأقدرهم على الكسب والأعمال، وأسبقهم إلى الاتحاد على طلب الاستقلال،
وقد جمعتم من المال، وركبتم في عصر نيرون الترك ما ركبتم من الأهوال، حتى
اقتحمتم العقاب، وذللتم الصعاب، فلا تهنوا ولا تنوا في الأمر، ولا يصدنكم ما
تنالون من الدولة عن طلب الملك، وإن أوربا المسيحية، لزعيمة لكم بتحقيق هذه
الأمنية، فخذوا الأهبة وانتظروا الفرصة، وأعدوا لها الشعب كله، بتعليم المدارس،
ووعظ الكنائس، ووضع صور ملوككم، وصور يتامى وأرامل المقتولين منكم،
في بيوت عامتكم وخاصتكم، مع تحريك الأشجان، وإثارة الأضغان، بالأناشيد
والألحان.
ذلك ما يوسوس به شيطان السياسة الجنسية، في إغراء الشعوب العثمانية،
وما هو إلا كيد وخداع، جدير بالعصيان لا بالاتباع، وأما ملك الإلهام، الداعي إلى
الوفاق والسلام، فإنه يصبح بهؤلاء الأقوام: لا تستحبوا العمى على الهدى،
واستجيبوا لداعي العقل دون داعي الهوى، واعلموا أن تفرقكم وانقسامكم، وعداءكم
وخصامكم، وإلجاء الدولة إلى تفريق قوتها في بلادكم، لمقاومة فتنكم وثوراتكم،
هو الذي يحول دون ارتقائها وارتقائكم، ويفضي - والعياذ بالله - إلى هلاكها
وهلاككم، وإرث الدول الأوربية لأرضكم ودياركم، ووالله إنكم لتكونن حينئذ أبعد
عن الاستقلال، وأقرب إلى الخزي والنكال، إنكم تملكون اليوم في حجر هذه الدولة
جميع أسباب الارتقاء ولا تملكون غدًا في حجور أوربا إلا أسباب التدلي
والاستخذاء:
لا مرحبًا بغد ولا أهلاً به ... إن كان (تفريق العناصر) في غد
لا أقول: إن الدولة نفسها ترقيكم. بل أقول: إنه لا يرجى أن ترقيكم، لا لأنها
لا تريد، بل إنها إن أرادت لا تقدر، وإنما يجب عليكم أن ترقوا أنفسكم، وترقوها
بترقيتكم، فقد صار أمرها في أيديكم، نعم إن العنصر التركي هو الذي يدير اليوم أمر
الحكومة؛ لأن له الكثرة في مجلس الأمة، وإن منكم من يسيء الظن به، ويعده
غاصبًا لحق غيره ومانعًا له من الوصول إلى مطلبه، وإن هؤلاء ليكبرون الصغير،
ويغفلون عن الأمر العظيم.
الخطب سهل والأمر طبيعي ولا ضرر في كون الغلبة في الحكومة لعنصر
يرجح قومه على غيره من الأعمال، وإنما الضرر أن يكون أمر الحكومة في أيدي
العاجزين عن الإصلاح، وإن القادرين عليه من جميع العثمانيين لقليلون، وإننا
الآن في دور تجربة فندعهم يجربون، ولا يجوز لنا أن نتمادى في سوء الظن، ولا
أن نؤاخذهم على كل ذنب، فنجعل ما يقترفه الشخص ذنبًا للعنصر والشعب، بل
يجب على العقلاء المحبين للإصلاح العناية بأمرين أحدهما يتعلق بإصلاح الحكومة
والآخر يتعلق بإصلاح الأمة.
أما إصلاح الحكومة فله طريقان لا بد من الجمع بينهما؛ أحدهما: حسن اختيار
المبعوثين، وأعضاء المجالس العمومية. وثانيهما: مراقبة العقلاء وأصحاب الجرائد
للحكام والعمال في النظارات عامةً، ونظارة المعارف خاصةً، والانتقاد على
الظالمين والمفسدين منهم، والسعي في زلزالهم، ولا يتم شيء من ذلك إلا بالاجتماع
والتعاون.
وأما إصلاح الأمة فله طريقان أيضًا لا بد من الجمع بينهما، أحدهما: نشر
التعليم الأهلي مع التربية الصالحة، وثانيهما: الأعمال المالية التي تنمي ثروة البلاد،
ولا يتم شيء منهما إلا بالاجتماع والتعاون.
قد أشرت في مقالة (الاجتماع والتعاون) إلى شيء مما يتعلق بالتربية والتعليم
والاستعانة على ذلك بالأغنياء، وإنما قصدت بذلك تنبيه الأذهان، وتوجيه الهمم
وتحريك الأقلام، دون التفصيل والاستقصاء، وعسى أن أبين في مقال أو مقالات
أخر كيفية الاجتماع والتعاون على كل من إصلاح الحكومة وإصلاح الأمة بشيء
من التفصيل، وأحوج العثمانيين إلى ذلك العرب والترك والكرد والأرنؤوط، وأما
الأرمن والروم والبلغار واليهود فلهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، وطرق
معبدة هم فيها يهرعون، فلا يحتاجون إلينا، ولا إلى معرفة طرق تعليمنا وسعينا،
بل نحن المحتاجون إلى معرفة سعيهم، وطرق تربيتهم وتعليمهم.
إن الاجتماع والتعاون على ذينك الإصلاحين هو الأمر العظيم الذي غفل عنه
الذين يتحدثون ويكتبون في مسألة حقوق العناصر، هو القوة المعنوية التي تغني عن
الثورة، وتنال الأمة به من حقوقها ما لا ينال بالسيف والمدفع، مع أمن الخطر على
الدولة، التي يجب الاتفاق على حفظ كيانها، وتعزيزها ورفعة شأنها، قبل كل
سعي، ومع كل سعي، وبعد كل سعي.
يسمع في البلاد العربية قليل من الكلام، ويوجد في بلاد الأرنؤوط كثير من
السلاح، وكذلك في صحاري الجزيرة والعراق، ولا يصلح البلاد بهذا ولا ذاك، على
أن السلاح هنا وهناك لم يقتن للاستعانة به على الإصلاح، وإنما يقتنى ليكافح
ويدافع به الناس بعضهم بعضًا، وقد يَسُلُّونَهُ في وجه الحكومة إذا أحسوا بالظلم،
وكانت الحكومة ولا تزال بشؤم الماضي عاجزة عن تأمين تلك البلاد وحماية الأعزل
فيها من عدوان شاكي السلاح، وأما البلاد التي يشكى فيها من الحكومة ويطالب
بعض العناصر فيها بحقوقه فهي أشد البلاد إخلاصًا للدولة، وأبعدها عن الخروج
والفتنة.
أما العرب فقد خرج صوتهم من عاصمة الملك، ورددت صداه سوريا
ومصر، وهل يوجد أحد أعرف من العاصمة وسورية ومصر بقيمة الدولة وأغير
عليها وأحرص على عزتها ورفعة شأنها؟ كلا وإنما ذكرت هذه الجملة استدراكًا على
كل ما تقدم لأبين أن الباحثين في حقوق العرب أكثرهم في هذه البلاد، وإنهم أعرق
العثمانيين في الغيرة والإخلاص، على ما كان من سوء التفاهم بينهم وبين القابضين
على أزمة الأمور كما بينا ذلك بالتفصيل في مقالاتنا (العرب والترك) بحسب ما
أدانا إليه اجتهادنا إلى ذلك الوقت.
نحن نعتقد أن الإسلام قد حرم العصبية الجنسية، وجعل المسلمين إخوة على
اختلاف أجناسهم وعناصرهم، وكنا نعتقد أن أشد التعصبات الجنسية ضررًا على
المسلمين في هذا العصر تعصب العرب والترك للعربية والتركية، ولذلك سعينا هنا
(في الآستانة) جهد طاقتنا بالقول والكتابة، لسد هذه الثغرة التي فتحتها السياسة،
وقد قلت ولا أزل أقول: إن الإسلام قد أبعد العرب عن النعرة الجنسية حتى صاروا
أبعد الأمم عنها، وإنه لا يقدر أحد على إعادتها إليهم أو إعادتهم إليها اللهم إلا من
يتحاملون عليهم من الترك فهم وحدهم القادرون على هذا الأمر، وقد عجز عنه
الإفرنج إذ حاولوه من قبل.
إن سيرة ساسة الترك ومتولي أزمَّة أمورهم وكتَّاب أشهر جرائدهم هي سيرة
من يريد تحريك الجنسية العربية لا مفر من ذلك إلا بادعاء كونهم لا يعلمون ماذا
يعملون، فإذا تحقق هذا؛ فإن نهي مثلي عن نهوض العرب باسم العرب ما عاد له
فائدة، فما عليَّ إذًا إلا أن أذكرهم في جنسيتهم بأمرين لا مندوحة عنهما، ولا يمكن
أن يحل محل العرب سواهم فيهما: أحدهما: جعل أساس نهضتهم تعزيز الدولة
العلية. وثانيهما: أن يكونوا حلقة التعارف والاتصال بين جميع الشعوب الإسلامية،
فالأمر الأول يجب على المسلم وغير المسلم منهم؛ لأنهم العنصر الأكبر لهذه الدولة،
والأمر الثاني يجب على مسلميهم خاصة؛ لأنهم أولى بالإرشاد الإسلامي وأقدر
عليه من غيرهم، فحقوقهم أعظم، والواجبات عليهم أثقل، وأمامهم الصراط
المستقيم، فليتبعوه إن كانوا فاعلين، والله الموفق والمعين.
__________(13/348)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
النهضة المصرية والدستور
مصر بلاد ممتازة في إدارتها الداخلية، تابعة للدولة العلية العثمانية، فكل
مصري عثماني، وما كل عثماني مصريًّا، فبينهما العموم والخصوص المطلق
كالمهندس والمتعلم مثلاً، فكل مهندس متعلم، وما كل متعلم مهندسًا.
مر على العثمانيين والمصريين زهاء ثلث قرن وهما على طرفي نقيض، أو
حرفي تباين؛ إذ هؤلاء يرسفون في قيود العبودية، وأولئك يرفلون في حلل الحرية،
ثم تحول شكل الحكومة العثمانية فجأة فَطَرَفَتْ من هاوية الاستبداد المطلق إلى قنة
الحكم النيابي المقيد، فأحدث هذا الطفور شيئًا من رد الفعل فقامت الحكومة العرفية
تحوط وتحمي حمى الحكومة الدستورية، فلولا الجند العثماني لما ذكر الدستور جهرًا
في هذه البلاد، ولولا الجيش لما طمع أحد في استقرار الدستور فيها.
وأما مصر فكانت تنطق؛ إذ كانت البلاد العثمانية صامته واجمة، وكان
العثماني الحر لا يستطيع أن يتكلم في بلده، فالمصريون قد طلبوا الدستور بصوت
أندى من صوت العثمانيين وأصرح، هم طلبوه جهرًا؛ إذ كنا نطلبه سرًّا، ولكن لم
يكن لهم جيش كجيشنا يلبي نداءهم ويجيب دعاءهم، ولم تكن بلادنا كبلادهم محتلة
بجيش أجنبي، ولا حكومتنا كحكومتهم محاطة بنفوذ دولة أجنبية قوية، فوجب أن
يكون طلبهم بالحجة، وتربية الإحساس وجمع الكلمة، فكل من الفريقين قد سعى
إلى مطلبه في محيط الإمكان، ولم يطمع في تجاوزه إلى المحال.
قويت حجة المصريين بعد إعلان الحكومة الدستورية في بلاد الدولة العَلِيّة
التي هي أمهم وهم أقدر أولاد هذه الأم على رفع بلادهم، وترقيتها بجدهم واجتهادهم
وقد انتشر فيهم التعليم ونمي في نفوسهم شعور القومية، واتسعت دائرة التكافل
والتعاون على المصالح العامة، فأنشأوا بأموالهم ألوفًا من الكتاتيب الابتدائية وأنشأوا
مدرسة الجامعة المصرية، وعندهم عدة جمعيات خيرية وعلمية، وكثر قراء
الجرائد والمجلات فيهم، وبلادهم متصل بعضها ببعض بالسكك الحديدية فلا يحدث
في زاوية من زواياها حادثة ذات بال إلا ويطوف خبرها جميع أرجائها في يوم
أو يومين، فأنى للبلاد العثمانية أن تشاركها بهذه المزايا كلها؟ فمن أنكر على
المصريين استحقاق الحكم النيابي الذي يتمتع به العثمانيون زاعمًا أن استعدادهم دون
استعداد إخوتهم له فهو إما جاهل مليم، وإما ظالم مبين.
أنا أشهد أن مصر قد صارت أقوى استعدادًا للحكم النيابي بفضل النابغين من
أبنائها وأبناء أختها سورية الذين جذبتهم إليها جامعات اللغة والجوار والعادات، وبما
استفادته من مشاركة أبناء الشعوب الأوربية، وبما ساقه إليها الاحتلال الإنكليزي من
ضروب العبر في سيطرته على حكومتها، وتصرفه في إدارتها وماليتها، وبما نفحه
استثقال السلطة الأجنبية في نفوس أهلها من حب الخلاص مع بقاء سيادة الدولة
العلية عليها ودوام ارتباطها بها في السياسة الخارجية.
مع هذا كله أقول: إن مصر لا تزال مقصرة في أمر عظيم هو الركن الأعظم
والبرهان القاطع لشبهات الاحتلال، ولو اهتمت أحزابها وجرائدها به كالاهتمام
بالسياسة؛ لكانت أقرب إلى النجاح والفلاح، إلا أن هذا الأمر العظيم هو ما يدل عليه
بالإيجاز لفظ (الاقتصاد) وبيانه بالتفصيل والإطناب، تدخل فصوله في كثير من
الأبواب، وما من باب منها إلا وقد دخله كثير من المصريين، فالأفراد منهم
يعرفون جميع الجزئيات، ولكن الأحزاب والجماعات لما تقم بما يجب من الكليات.
نريد من الاقتصاد أن تكون رقبة البلاد لأهلها خالصة لهم من دون الأجانب
وأن يكونوا أحرارًا في تصرفهم بها، نريد أن يقف سريان امتلاك الأجانب للأرض
عند الحد الذي وصل إليه، وأن نضع عن الوطنيين إصرهم وأغلال الديون التي
غلوا بها أيديهم إلى أعناقهم، وقيودها التي قيدوا بها أرجلهم، ثم نريد أن تكون ثروة
البلاد قوة في أيدي أبنائها يوادون بها من شاؤوا من الأمم ويحادون بها من شاؤوا
فيعملون بها ما لا يعمل السيف ولا القلم فتكون هي العون والنصير لهم في مقاصدهم
السياسية والاجتماعية.
المال هوالقطب الذي تدور حوله أفلاك السياسة في جو هذه المدنية؛ فلولاه لما
زحف أهل الشمال على أهل الجنوب في الشرق والغرب واستولوا على بلادهم باسم
الفتح والاستعمار، أو النفوذ والاحتلال، وإن أصحاب الأموال في أوربا لهم الذين
يتصرفون في سياستها كما يشاؤون، وبيدهم ميزان الحرب والسلم فهم الذين يزنون
ويرجحون.
ما كان لأهل الشمال أن يكونوا أقوى من أهل الجنوب استعدادًا للأعمال المالية،
إن زعامة المال فيهم ليست إلا بأيدي رجال منا، إنها كما يعلم الخبيرون في أيدي
اليهود، وهم منا (نحن الشرقيين) نسبًا وموطنًًا وإنما ظهرت براعتهم في أوربا
باستقرار العدل والحرية فيها، ويلي اليهود في الاستعداد سائر إخوانهم السوريين
والفلسطينين، وإن سورية ومصر لأختان شقيقتان، وقد تمازج أبناؤهما منذ القرن
الماضي فكانا كمزاج الماء بالراح، فاستفاد كل من الآخر ولولا أن قام بعض الكتاب
بما قام به من سياسة التحليل، وإضافة ذنوب الأفراد إلى الشعب والقبيل، لكان
الاتحاد أقوى والاستفادة منه أتم.
كل سوري بل كل عربي يجيء مصر ويقيم فيها يحسبها وطنه ويرى أهلها
قومه وإخوته، لسانهم لسانه، وعاداتهم عاداته، ومحاكمهم محاكمه، فإذا أثرى فيها
كان هو التابع لثروته، ولم تكن ثروته هي التابعة له إلى بلاده، تجذبه مصر إليها
فيكون عضوًا من أعضائها، أو مادة من مواد غذائها، ولا يجذب هو شيئًا من
ثروتها إلى بلاده لتكون غذاءً لها، فالمالي من السوريين أو العرب يمد حياة مصر
المادية بكده وكدحه، كما يمد العالم والأديب منهم حياتها المعنوية بلسانه وقلمه،
فينبغي للمصريين أن يحكموا روابط الاتحاد بينهم وبين من يتصل بهم من إخوانهم
المشاركين لهم في جميع مصالحهم ومنافعهم ويستعين بعضهم ببعض على ما تجب
العناية به من النهضة الاقتصادية.
إن حوادث الزمان قد أعدت النفوس لإحكام هذا الاتحاد وتوثيق روابطه
فاستعدت له، وقد ترجم عن هذا الاستعداد مدير (الجريدة) في السنة الماضية بمقالة
له اقترح فيها إخراجه من حيز القوة إلى حيز الفعل، وإن وراء ذلك لقوة أخرى
لمصر هي غافلة عنها، وما رأيت أحدًا نبه إليها، وهي زعامة ارتقاء الأمة العربية
بأسرها، ولا سيما الولايات العثمانية منها، فقد دبت الحياة إلى هذه الولايات بفضل
الدستور، وتوجهت وجوه العقلاء إلى إحياء اللغة العربية بالقول والكتابة والعلوم
والفنون، وإن عاصمة دار السلطنة لهي التي تحفز همتهم إلى ذلك، وإن سورية
لمبسوطة الذراعين لعناق مصر وناشزة الشفتين لتقبيلها.
فالذي أقترحه على مصر الآن هو أن تبادر إلى تأليف جمعية أو لجنة اقتصادية
أعضاؤها من جميع الأحزاب والعناصر الخاضعة للقوانين المصرية ومن أصحاب
الجرائد لأجل القيام بما أشرنا إليه آنفًا، ويجب أن يكون أول عملها إحصاء ديوان
الأهالي، والنظر في الطرق القريبة لوفائها وتحويل مدها إلى جزر لا تفيض بعده
ثائبةً، ثم النظر في مسائل المضاربات والشركات وتلافي ضررها العظيم، ولا
أحاول الإحاطة ببيان كل ما يجب أن تعمله لمنع اغتيال الأجانب لثروة البلاد ولتنمية
هذه الثروة وتثميرها، بل لا يستطيع ذلك مثلي، فإنما أنا مذكر بالأمور الكلية التي
أرى البلاد قد استعدت لها أو يجب أن تستعد لها، وإن وراء ما ذكرته من المبادئ
غايات لا تحصى فوائدها.
إنني قد ذكرت إخواني المصريين بمثل هذا غير مرة، ذكرتهم به منذ ثلاث
عشرة سنة أول مقدمي إلى مصر في خطب خطبتها ومقالات كتبتها في المنار
والمؤيد، ثم أعيد التذكير {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى: 9- 10) .
إذا كانت السياسة قد شغلت قلوبهم وأفكارهم، وملكت عليهم ألسنتهم وأقلامهم،
فهم يعلمون أن هذا العمل لا يعارض سياستهم بل يدعمها ويعززها، فإذا لم يكن الآن
وسيلة عاجلة للحكم النيابي فربما يكون غدًا أرجى الوسائل وأقربها، فإن نالت البلاد
ما تطلبه من هذه الحكم بالوسائل التي يراها الأحزاب أقرب فليس بضارهم أن
يجمعوا بين حكم أنفسهم بأنفسهم وبين حفظ ثروتهم من اغتيال الأجانب، وقد يضرهم
أن لا يكونوا جامعين لهما، فإنا نرى الحكومة العثمانية - وقد صارت دستورية -
مغلولة الأيدي دون ما تبتغي من الإصلاح لقلة المال، وقد كان دينها قبل الدستور
قريبًا من دين الحكومة المصرية، ولكن الأمة العثمانية على فقرها وتأخر عمرانها
ليست مدينة للأجانب كالأمة المصرية على سعة ثروتها وعمران بلادها.
لا بد لكل من يتصدى لأمر عظيم أن يرجو الفوز ويخاف الخذلان وأن يعد لكل
أمر عدته، وحجة المصري على وجوب حكمه لبلاده لا تزال ناهضة ما دامت رقبة
البلاد في يده لا حقوق فيها للأجانب، والآن قد صار زهاء خمسها ملكًا للأجانب أفلا
يخشى أن يطغى هذا السيل الآتي حتى يغمر نصف أطيان القطر أو أكثر من
النصف في زمن قريب إذا لم تقم في طريقه السدود التي تصد طغيانه؟ ألا يخشى
أن يتحد يومئذ أصحاب الأطيان من الأجانب وأصحاب الديون على الفلاح الوطني
كما هي عادتهم ويقولوا: إن هذه البلاد ليست لكم وحدكم أيها المصريون فيصح
قولكم: نحن أولى بحكمها وإنما هي لنا ولكم، ونحن أقدر على الحكم منكم، أو يجب
أن يكون مشتركًا بيننا وبينكم كما قال لورد كرومر. يومئذ لا تنفع الحجج ولا تفيد
المظاهرات ولا يغني الاغتصاب شيئًا إلا غناء قد يكون إثمه أكبر من نفعه.
قد رأيتم العبرة في العسرة المالية التي صدمت البلاد في هذه السنين الأخيرة ,
رأيتم كيف أصبح أصحاب الأراضي الواسعة أحير من الضب، وأعجز من أسير
الحرب، هذا ولم يكن أصحاب الأموال في أوربا متّحدين على تعمد حربكم حربًا
اقتصادية، وهل يعجز دهاة السياسة الإنكليزية أن يحملوهم على هذا الاتحاد في يوم
من الأيام.
لكل قطر طبيعة واستعداد والقوة الطبيعية أنفع من القوة المتكلفة، والأمة
المصرية مستعدة لمغالبة كل أمة من أمم الأرض، بقوتي الثروة والعلم، وليست
مستعدة لمقاومة دولة كبيرة بالحرب، ولا سيما في هذا العصر، فليكن اعتمادها
على ما هو قريب من استعدادها، وعناية الله كافلة لها نيل مرادها.
__________(13/353)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تأريخ التجنيد العثماني [*]
كان قانون أخذ العسكر موضوع جلسة يوم السبت في مجلس الأمة كما يراه
المطالع في باب هذه المذاكرات من هذا العدد، وقد صدَّره قومسيون العسكرية في
المجلس بمقدمة تأريخية باحثة عن طرق التجنيد في الدولة منذ تأسست إلى يومنا
هذا فأحببنا اقتطاف المهم منها لمحبي التأريخ:
(إذا استثنينا الرومان فقلَّ أن نصادف في تأريخ عسكرية الأمم إشارة لوجود
أجناد دائمية منتظمة، وفي القرون الوسطى كان هذا الامتياز للعثمانيين وبعد قرن
من ذلك أسس شارل السابع ملك فرنسا أجنادًا دائمية.
كانت أجناد العثمانية إلى سنة 730هـ، مؤلفة من المتطوعين وعبارة
عن جيش مؤقت يقبل فيه كل راغب من الشبان، لم يكن لباس الجند واحد بل
كان يلبس كل واحد ما يشتهي ويحمل السلاح الذى يريد، وكان الفرسان أسمى مقامًا
من الرجّالة، والأسلحة يومئذ عبارة عن الحسام والسنان والترس والقوس، وكان
هذا الجيش المتطوع يدعى (آقينجي) (معناه السيل الجارف) ويوجد غير هذا
الجيش جند يدعون العساكر الخاصة يقيمون دائمًا في قاعدة الحكومة.
فلما اتسعت الفتوحات لم يبق من الممكن الاكتفاء بذلك الجيش القليل
الصعب جمعه وترتيبه ومست الحاجة إلى إيجاد صنوف الرجالة ففي عهد السلطان
أورخان ائتمر أخوه الوزير الأعظم علاء الدين باشا وخليل باشا الجاندارلي ورتبا
خطة لإيجاد عسكر دائمي فوضعوا أساس الجند المسمى (يكيجرية) (معناه العسكر
الجديد وقد عربها العرب بكلمة إنكشارية) وأوجبوا أن يكون الزي العسكري مطردًا
ولموا في هذا الجيش من أولاد النصارى الذين أدخلوهم في طاعتهم.
قد نشأ بين الإنكشارية هؤلاء كثير من القواد البرية والبحرية الذين لا يبلى
ذكرهم ولم يكن في ذلك العهد جيش يضارعه عند أمة من الأمم.
وكان كبيرهم الأعظم يلقب آغا وهو في مقام ناظر الحربية، ومن عاداتهم
تقديس القدور التي يطبخ بها وهي تعطى لهم من قبل السلطان ويجتمعون حولها.
وكان من يبرز على أقرانه في الحرب والطعان من الرجالة والفرسان يكافأ
على ذلك متى بلغ الأربعين أو الخامسة والأربعين من العمر فيعطى من البلاد
المفتوحة خراج مقاطعة مثل لواء أو قضاء أو خراج قرية واحدة فقط، فما كان من
الإقطاع تبلغ وارداته من 3000 إلى 20000 أقجة يسمى تيمارا، وما كانت وارداته
من 20000 إلى 100000 أقجة يسمى زعامة فكل ذي تيمار عليه أن ينفق عن
حساب كل 3000 أقجة على فارس قادر تام اللأمة، فإذا وقعت حرب كان هؤلاء
مع رجالهم المكلفين بنفقاتهم حاضرين مع الملك، ويسمى هؤلاء بالفرسان ذوي
الأطيان (الأراضي) وقد بلغ عددهم في عهد السلطان سليمان القانوني مائة وخمسين
ألفًا وفي عهد محمد الرابع بلغ عددهم مائة وتسعة وسبعين ألفًا ومائتين.
أما عدد العساكر في تلك الأمصار فكان هكذا: القبوقولي 74148 والفرسان
أولو الأطيان مع فرسان الألايات الممتازة 174192 والعساكر البحرية 5572
المجموع 263912 وأما القول بأن القانوني دخل بلاد المجر بثلاث مائة ألف مقاتل
معهم 300 مدفع فهو من روايات المؤرخين الأجانب.
فى بدء أحداث الإنكشارية كان الواحد منهم يعطى في اليوم أقجة واحدة
والأقجة سكة عثمانية فضية وزن ثلث درهم فضة من عيار التسعين ثم تنزل
عيارها فاقتضى ذلك أن يزاد لهم إلى ثلاث أقجايات وفي أواخر القرن العاشر زيد
لهم إلى خمس وفي القرن الحادي عشر زيد لهم سبع ثم زيد لهم في أواخر أمرهم إلى
سبع وعشرين أقجة، في اليوم ولم يكن من مساواة في العطاء بل كان بعضهم يأخذ
أكثر من بعض، أما آغاهم فكان يأخذ خمس مائة أقجة في اليوم.
كان هذا الجيش أسمى جيش في الدنيا ولم يكن يؤب من فتح إلا إلى فتح آخر
حتى رفع مركز السلطنة العثمانية إلى الذروة العليا التي امتازت بها بين الدول
ولكن أمر الزمان عجيب فإن هذا الجيش الذي كان سبب هذه النعم العظيمة ما لبث
أن طغى واستكبر، واستولى عليه الغرور والأشر، فدخل عليه الفساد من كل باب
وتوصل إليه المكروه بجملة أسباب، فعاد شؤمًا على الدولة بعد أن كان يمنًا ,
وبؤسًا بعد أن كان نعمى، حتى بلغ بعد القرن الثاني عشر مبلغًا من تفكك الروابط
وشيوع الفوضى وقلة الطاعة وكثرة عدم المبالاة ليس ورائه مبلغ فأصبح بعد تلك
البسالة العظيمة التي امتاز بها يكثر فيه الفارون من مواطن الزحف حتى من أمام
الجيوش التي هي أقل منه عددًا.
وكانت العسكرية في أوربا قد بدأت تخطو خطوات واسعة في درجات الكمال
فيومئذ صرفت وجوه الآمال عن مغالبة الخصوم بالهجوم والفتوح وبقيت الأفكار
مشغولة بأمر الدفاع عما في اليد؛ لأن القوة العسكرية أصبحت على وشك الاضمحلال
ألبتة.
جال هذا الأمر في فكر سليم الثالث ونظر إلى عاقبة أمر الدولة إذا ظل زمام
المدافعة بيد هؤلاء الإنكشارية الذين كثر فيهم الفشل واستولى عليهم الخطل فتبدى له
رأي ونهض له بقوة: ذلك أنه أحدث عسكرًا على قواعد تناسب الزمان والمكان
وجعل له عنوان (نظام جديد) وجمع من هذا النظام الجديد ثلاثين ألفًا وعزم على
إلغاء الإنكشارية، ولكن هذا النظام الجديد لم يستطع الوقوف أمام بأس الإنكشارية
إلا نحو ست سنين ولم يتمكن سليم الثالث من تلك الأمنية العظيمة التي كان يتقاضى
الظفر بها بقاء الدولة.
لكن الذي لم يتيسر لسليم الثالث تيسر لمحمود الثاني الذي رأى أن إلغاء هذه
العساكر العظيمة بإصدار الأوامر ليس من الممكن، وأن هذا الأمر لا يتم إلا
بالتنكيل والتشريد بهم فاستفتى في قتلهم على إثر تمرد وبغي وطغيان فأفتي فيه
وتوسل إلى اجتثاث هذه الشجرة من أصلها بما هدته إليه الفطنة المتوقدة وكان ذلك
في يوم السبت في 11 ذي القعدة من عام 1241 هـ - 17 حزيران 1826م.
أما آغا الإنكشارية حسين آغا فإنه كان مقتنعًا بفوائد النظام الجديد فأعطي
لقب باشا ونصب سر عسكرًا ولقبت العساكر الجديدة بالعساكر المحمدية المنصورة
هكذا وضع أساس النظام الجديد لعسكريتنا وعلى هذا يكون عمر جيشنا الجديد سبعًا
وثمانين سنة.
ينقسم تأريخ الجيش الجديد إلى ثلاثة أدوار: الأول دور اللّم، والثاني دور
القرعة، والثالث دور التكليف العسكري، فالدور الأول من 1241 إلى 1260؛
أي: عبارة عن تسع عشرة سنة كانوا يلمون العسكر ممن صادفوه من الشبان
الأقوياء لم يستأنس الناس في بدء الأمر بهذه الطريقة؛ لأنهم كانوا قد تعودوا رؤية
هيبة الإنكشارية وأنكروا من هذه الطريقة أنها من سنن الإفرنج.
ولم تكن مدة التجنيد معينة أيضًا وفي 1244- 1245وقعت الحرب بين
الدولة والروس (التي انتهت بمعاهدة أدرنه) فكان من البديهي أن لا تظهر الثمرات
المنتظرة من النظام الجديد لقصر المدة وفي تلك الأثناء أخذ بخدمة الدولة المارشال
مولتكه الذي ظفر في محاربة ثلاث دول في بحر ست سنين واطلع من إمارة
بروسيا الصغيرة إمبراطورية ألمانيا العظيمة ولكن حالت الحوائل دون الاستفادة
من خدمة هذا الرجل العظيم، فإن الدولة في تلك السنين كانت قد شغلتها حوادث
وحروب المورة والبوسنة والهرسك والتيه دلنلي ومحمد علي وكان عدد الجيش
الجديد هكذا: العساكر المنتظمة 80000 والرديف 130000 والعساكر البحرية
5000 الجميع 215000 وكان سوى هؤلاء نحو من عشرة آلاف من الخيالة
المنتظمة ونحو أربعة ألايات من الخيالة العتق.
وأتوا بعد ذلك بمعلمين من ألمانيا فحصل إصلاح في ترتيب الجيش ولكن
طريقة اللّم كانت لا تزال على حالها فلذلك لم تصل الإصلاحات إلى الدرجة
المطلوبة ودام الأمر على هذا المنوال إلى 1260 ففي هذه السنة وضع أساس جديد
للدولة بمعرفة رشيد باشا الكبير وقرئ خط كلخانة الذي يتضمن هذا الأساس
فدخلت عسكريتنا الجديدة في دورها الثاني.
من هذا التأريخ ألغيت طريقة اللّم، ووضعت طريقة القرعة، وحددت مدة
العسكرية، ووضع قانون لأخذ العسكر على هذه الطريقة من قبل ضباط
بروسيانيين جعلت بموجبه خدمة العسكر الموظف خمس سنين والرديف سبعًا ومن
دخل في أسنان العسكرية تسحب قرعته فإن أصابته القرعة تلك السنة يؤخذ وإن لم
تصبه يترك إلى السنة التي بعدها، فإن لم تصبه مدة السنين الخمس يعفى من
الخدمة، وقد قسمت البلاد العثمانية إلى دوائر رديفية فأصبح للعسكرية نظام حقًّا،
وفي حرب القريم ظهرت ثمرات عظيمة من هذا النظام، وقسمت الأجناد كلها إلى
ستة كان كل جند (أردو) فيه حين السلم ستة ألايات رجالة وأربعة ألايات خيالة
وألاي واحد مدفعي سيار فكان عدد الأجناد حين السلم هكذا: النظامية 150000
ونحو من ذلك عدد الرديف بحيث يتكون من النظامية والرديف وقت الحرب
300000.
وفي خط كلخانة يوجد نص على أنه يؤخذ للعسكر من غير المسلمين ولكن
اقتضاءات الزمان منعت من ذلك.
وفي عام 1286 حدث تحوير في ترتيب العسكرية فجعلت مدة الخدمة ثلاثًا
للعسكر الموظف، وسنتين للخدمة الاحتياطية، وستًّا للخدمة الرديفية، وثمانيًا
للمستحفظية وكان عدد الأجناد في ذلك العهد هكذا: النظامية والاحتياطية
237000 والرديف 350000 أو يزيد على هذا المقدار، وكان عدد أجناد الدولة
كلها في زمن محاربة روسية 759000 ولكن لاستمرار الحرب ثلاث سنين
وضياع كثير من الأرواح تضعضع هذا الجيش ومست الحاجة بعد ذلك لتحويرات
فيه ففي عام أربع وتسعين حول اسم السرعسكرية إلى نظارة الحربية وقسمت
اللوازم والاستعدادات العسكرية إلى شعب ودوائر وأخذت الأجناد شكلاً آخر جديدًا
وفي عام ثمان وتسعين أتي بجماعة من ضباط الألمان من صنوف مختلفة في الجيش
الألماني وأخذت آراؤهم في الإصلاح العسكري وكان يرأسهم كيلر باشا، وبعد سنة
جيء بالبكباشي فوندرغولج باشا فأرشد هذا إلى طرق كثيرة للإصلاح العسكري
بالرغم عما كان يحول بينه وبين الإصلاح من الموانع التي هي معهودة ومعروفة في
ذلك العهد.
إلى هذا الرجل يُعزى النظر في ترتيب الدروس أحسن ترتيب في المدرسة
الحربية، وإليه يعزى السبب في تغيير طريقة القرعة ووضع قانون أخذ العسكر
المعمول به إلى عهدنا هذا.
أما حرمان أبناء وطننا غير المسلمين من خدمة العسكرية مع أن لهم حقًّا
بالشرف الذي يحصل من خدمة الأوطان فكان خطأً من حكومتنا لا يعفى عنه،
وكان من دواعي انكسار خاطر هؤلاء الشركاء في الوطن، والأغرب من ذلك حرمان
أهل هذه العاصمة من هذا الشرف أيضًا.
فمن موجبات الشكر أن أول شيء تفكرت فيه حكومتنا بعد التغير الجديد السعيد
في الوطن هو الإسراع لدفع هذا الخطأ المنافي للقانون الأساسي.
هذا هو تأريخنا العسكري ومنذ الآن سينال أبناء وطننا من غير المسلمين
نصيبهم من شرف الدفاع عن حياض الوطن، ويقفون مع زملائهم المسلمين صفًّا
واحدًا أمام كل عدو معرّضين حياتهم للمقاومة في سبيل مقصد واحد هو إعلاء شأن
الرابطة الوحيد التي تضم قلوب جميع العثمانيين حول وطنهم العزيز.
__________
(*) نقلناها من جريدة الحضارة التي تطبع بالآستانة.(13/358)
الكاتب: عن رحلة ابن جبير
__________
العمران العربي [*]
وصف الجامع الأموي
هو من أشهر جوامع الإسلام حسنًا وإتقان بناء وغرابة صنعة واحتفال تنميق،
وتزيين وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه، ومن عجيب
شأنه أنه لا تنسج به العنكبوت ولا تدخله ولا تلم به الطير المعروفة بالخطاف،
انتدب لبنائه الوليد بن عبد الملك - رحمه الله - ووجه إلى ملك الروم بالقسطنطينية
يأمره بإشخاص اثني عشر ألفًا من الصناع من بلاده وتقدم إليه بالوعيد في ذلك إن
توقف عنه فامتثل أمره مذعنًا بعد مراسلة جرت بينهما في ذلك مما هو مذكور في
كتب التواريخ فشرع في بنائه وبلغت الغاية في التأنق فيه وأنزلت جدره كلها
بفصوص من الذهب المعروف بالفسيفساء وخلطت بها أنواع من الأصبغة الغريبة
قد مثلت أشجارًا وفرعت أغصانًا منظمومة بالفصوص ببدائع من الصنعة الأنيقة
المعجزة وصف كل واصف فجاء يغشي العيون وميضًا وبصيصًا وكان مبلغ النفقة
فيه حسبما ذكره ابن المعلى الأسدي في جزء وصفه في ذكر بنائه مائة صندوق في
كل صندوق ثمانية وعشرين ألف دينار ومائتا ألف دينار فكان مبلغ الجميع إحدى
عشر ألف ألف دينار ومائتا ألف دينار، والوليد هذا هوالذي أخذ نصف الكنيسة،
الباقية منه في أيدي النصارى وأدخلها فيه؛ لأنه كان قسمين قسمًا للمسلمين
وهو الشرقي وقسمًا للنصارى وهو الغربي؛ لأن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه
دخل البلد في الجهة الغربية فانتهى إلى نصف الكنيسة وقد وقع الصلح بينه وبين
النصارى ودخل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - عنوة من الجانب الشرقي
وانتهى إلى النصف الثاني وهوالشرقي فاختاره المسلمون وصيروه مسجدًا وبقي
النصف المصارع عليه وهو الغربي كنيسة بأيدي النصارى إلى أن عوضهم منه
الوليد فأبوا ذلك فانتزعه منهم قهرًا، وطلع لهدمه بنفسه وكانوا يزعمون أن الذي
يهدم كنيستهم يجن فبادر وقال: أنا أول من يجن في الله، وبدأ الهدم بيده فبادر
المسلمون وأكملوا هدمه.
ذرعه في الطول من الشرق إلى الغرب مائتا خطوة وهما ثلاثمائة ذراع
وذرعه في السعة من القبلة إلى الجوف مائة خطوة وخمس وثلاثون خطوة هي مائتا
ذراع فيكون تكسيره من المراجع الغربية أربعة وعشرون مرجعًا وهو تكسير مسجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أن مسجد رسول الله صلى الله عليه من القبلة
إلى الشمال، وبلاطاته المتصلة بالقبلة ثلاثة مستطيلة من الشرق إلى الغرب سعة
كل بلاط منها ثمان عشرة خطوة والخطوة ذراع ونصف، وقد قامت على ثمانية
وستين عمودًا منها أربعة وخمسون سارية وثماني أرجل جصية تتخللها،
واثنتان مرخمة ملصقة معها في الجدار الذي يلي الصحن وأربع أرجل مرخمة أبدع
ترخيم مرصعة بفصوص من الرخام ملونة قد نظمت خواتيم وصورت محاريب
وأشكالاً غريبة قائمة في البلاط الأوسط تقل قبة الرصاص مع القبة التي تلي المحراب
سعة كل رجل منها ستة عشر شبرًا، وطولها عشرون شبرًا، وبين كل رجل ورجل
في الطول سبع عشرة خطوة وفي العرض ثلاث عشرة خطوة فيكون دور كل رجل
منها اثنين وسبعين شبرًا، ويستدير بالصحن بلاط من ثلاث جهاته الشرقية والغربية
والشمالية سعته عشرة خطى وعدد قوائمه سبع وأربعون منها أربع عشرة رجلاً من
الجص وسائرها سوار فيكون سعة الصحن حاشا المسقف القبلي والشمالي مائة ذراع
وسقف الجامع كله من خارج ألواح رصاص.
وأعظم ما في هذا الجامع المبارك قبة الرصاص المتصلة بالمحراب وسطه
سامية في الهواء عظيمة الاستدارة قد استقل بها هيكل عظيم هو غارب لها يتصل
من المحراب إلى الصحن وتحته ثلاث قباب: قبة تتصل بالجدار الذي إلى الصحن،
وقبة تتصل بالمحراب، وقبة تحت قبة الرصاص بينهما، والقبة الرصاصية قد
أغصت الهواء وسطه فإذا استقبلتها أبصرت منظرًا رائعًا ومرأى هائلاً يشبهه بنسر
طائر كأن القبة رأسه والغارب جؤجؤه ونصف جدار البلاط على يمين نصف الثاني
على شمال جناحاه وسعة هذا الغراب من جهة الصحن ثلاثون خطوة فهم يعرفون
هذا الموضع من الجامع بالنسر لهذا التشبيه الواقع عليه، ومن أي جهة استقبلت
البلد ترى القبة في الهواء منيفة على كل علو كأنها معلقة من الجو، والجامع مائل
إلى الجهة الشمالية من البلد وعدد شمسياته الزجاجية المذهبة الملونة أربع وسبعون
منها في القبة التي تحت قبة الرصاص عشر وفي القبة المتصلة بالمحراب مع ما
يليها من الجدر أربع عشرة شمسية.
وفي الجامع ثلاث مقصورات مقصورة الصحابة رضي الله عنهم وهي أول
مقصورة وضعت في الإسلام وضعها معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه -
وبإزاء محرابها عن يمين مستقبل القبة باب حديد كان يدخل معاوية - رضي الله عنه -
إلى المقصورة منه إلى المحراب وبإزاء محرابها لجهة اليمين مصلى أبي الدرداء
- رضي الله عنه - وخلفها كانت دار معاوية رضي الله عنه وهي اليوم
سماط عظيم للصفارين يتصل بطول جدار الجامع القبلي ولا سماط أحسن منظرًا منه
ولا أكبر طولاً وعرضًا، وخلف هذا السماط على مقربة منه دار الخيل برسمه
وهي اليوم مسكونة وفيها مواضع للكمادين وطول المقصورة الصحابية المذكورة
أربعة وأربعون شبرًا وعرضها نصف الطول، ويليها لجهة الغرب في وسط الجامع
المقصورة التي أحدثت عند إضافة النصف المتخذ كنيسة إلى الجامع - حسبما تقدم
ذكره - وفيها منبر الخطبة ومحراب الصلاة وكانت مقصورة الصحابة أولاً في
نصف الخط الإسلامي من الكنيسة، وكان الجدار حيث أعيد المحراب في المقصورة
المحدثة فلما أعيدت الكنيسة كلها مسجدًا صارت مقصورة الصحابة طرفًا في الجانب
الشرقي وأحدثت المقصورة الأخرى وسطًا حيث كان جدار الجامع قبل الاتصال
وهذه المقصورة المحدثة أكبر من الصحابية.
وبالجانب الغربي بإزاء الجدار مقصورة أخرى هي برسم الحنفية يجتمعون فيها
للتدريس وبها يصلون، وبإزائها زاوية محدقة بالأعواد المشرجية كأنها مقصورة
صغيرة، وبالجانب الشرقي في زاوية أخرى على هذه الصفة هي كالمقصورة كان
وضعها للصلاة فيها أحد أمراء الدولة التركية وهي لاصقة بالجدار الشرقي،
وبالجامع عدة زوايا على هذا الترتيب يتخذها الطلبة للنسخ والدرس والانفراد عن
ازدحام الناس وهي من جملة مرافق الطلبة.
وفي الجدار المتصل بالصحن المحيط بالبلاطات القبلية عشرون بابًا متصلاً
بطول الجدار قد علتها قسيٌّ جصية مخرمة كلها على هيئة الشمسيات فتبصر العين
من اتصالها أجمل منظر وأحسنه.
والبلاط المتصل بالصحن المحيط بالبلاطات من ثلاث جهات على أعمدة
وعلى تلك الأعمدة أبواب مقوسة تقلها أعمدة صغار تطيف بالصحن كله، ومنظر
هذا الصحن من أجمل المناظر وأحسنها، وفيه مجتمع أهل البلد، وهو
متفرجهم ومتنزهم كل عشية، تراهم فيه ذاهبين وراجعين من شرق إلى غرب من
باب جيرون إلى باب البريد؛ فمنهم من يتحدث مع صاحبه ومنهم من يقرأ لا يزالون
على هذه الحال من ذهاب ورجوع إلى انقضاء صلاة العشاء الآخرة ثم ينصرفون،
ولبعضهم بالغداة مثل ذلك، وأكثر الاحتفال إنما هو بالعشي فيخيل لمبصر ذلك أنها
ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم لما يرى من احتفال الناس واجتماعهم لا
يزالون على ذلك كل يوم، وأهل البطالة من الناس يسمونهم حراسين.
وللجامع ثلاث صوامع: واحدة في الجانب الغربي وهي كالبرج المشيد تحتوي
على مساكن متسعة وزوايا فسيحة راجعة كلها إلى أغلاق يسكنها أقوام من الغرباء
أهل الخير، والبيت الأعلى منها كان معتكف أبي حامد الغزالي رحمه الله، ويسكنه
اليوم الفقيه الزاهد أبو عبد الله بن سعيد من أهل قلعة يحصب المنسوبة
لهم وهو قريب لبني سعيد المشتهرين بالدنيا وخدمتها، وثانية بالجانب الغربي
على هذه الصفة، وثالثة بالجانب الشمالي على الباب المعروف بباب الناطفيين.
وفي الصحن ثلاث قباب: إحداها في الجانب الغربي منه وهي أكبرها، وهي
قائمة على ثمانية أعمدة من الرخام مستطيلة كالبرج مزخرفة بالفصوص والأصبغة
الملونة كأنها الروضة حسنًا، وعليها قبة رصاص كأنها التنور العظيم الاستدارة،
يقال: إنها كانت مخزنًا لمال الجامع، وله مال عظيم من خراجات ومستغلات
تنيف - على ما ذكر لنا - على الثمانية آلاف دينار صورية في السنة وهي خمسة
عشر ألف درهم مؤمنية أو نحوها، وقبة أخرى صغيرة في وسط الصحن مجوفة
مثمنة من رخام قد ألصق أبدع إلصاق قائمة على أربعة أعمدة صغار من الرخام
وتحتها شباك حديد مستدير، وفي وسطه أنبوب من الصفر يمج الماء إلى علو
فيرتفع وينثني كأنه قضيب من لجين يَشْرَهُ الناس لوضع أفواههم فيه للشرب
استظرافًا واستحسانًا ويسمونه قفص الماء، والقبة الثالثة في الجانب الشرقي
قائمة على ثمانية أعمدة على هيئة القبة الكبيرة لكن أصغر منها.
وفي الجانب الشمالي من الصحن باب كبير يفضي إلى مسجد كبير، في وسطه
صحن قد استدار فيه صهريج من الرخام كبير، يجري الماء فيه دائمًا من صفحة
رخام أبيض مثمنة قد قامت وسط الصهريج على رأس عمود مثقوب يصعد الماء
منه إليها، ويعرف هذا الموضع بالكلاسة، ويصلي فيه اليوم صاحبنا الفقيه
الزاهد المحدث أبو جعفر الفنكي القرطبي ويتزاحم الناس على الصلاة فيه
خلفه التماسًا لبركته واستماعًا لحسن صوته.
وفي الجانب الشرقي من الصحن باب يفضي إلى مسجد من أحسن المساجد
وأبدعها وضعًا وأجملها بناء يذكر الشيعة أنه مشهد لعلي بن أبي طالب - رضي الله
عنه - وهذا من أغرب مختلقاتهم، ومن العجيب أنه يقابله في الجهة الغربية في
زاوية البلاط الشمالي من الصحن موضع هو ملتقى آخر البلاط الشمالي مع أول
البلاط الغربي مجلل بستر في أعلاه، وأمامه ستر أيضًا منسدل يزعم أكثر النساء أنه
موضع لعائشة - رضي الله عنها - وأنها كانت تسمع الحديث فيه وعائشة - رضي
الله عنها - في دخول دمشق كعلي - رضي الله عنه - لكن لهم في علي - رضي
الله عنه - مندوحة من القول وذلك أنهم يزعمون أنه رؤي في المنام مصليًا في ذلك
الموضع فبنت الشيعة فيه مسجدًا، وأما الموضع المنسوب لعائشة - رضي الله عنها -
فلا مندوحة فيه، وإنما ذكرناه لشهرته في الجامع.
وكان هذا الجامع المبارك ظاهرًا وباطنًا مُنَزَّلاً كله بالفصوص المذهبة مزخرفًا
بأبدع زخاريف البناء المعجز الصنعة، فأدركه الحريق مرتين فتهدم وجدد وذهب
أكثر رخامه فاستحال رونقه، فأسلم ما فيه اليوم قبلته مع الثلاث قباب المتصلة بها.
محرابه من أعجب المحاريب الإسلامية حسنًا وغرابة صنعة يتقد ذهبًا كله، وقد
قامت في وسطه محاريب صغار متصلة بجداره تحفها سويريات مفتولات
فتل الأسورة كأنها مخروطة لم ير شيء أجمل منها وبعضها حمر كأنها مرجان،
فشأن قبلة هذا الجامع المبارك مع ما يتصل بها من قبابه الثلاث وإشراق
شمسياته المذهبة الملونة عليه، واتصال شعاع الشمس بها وانعكاسه إلى كل
لون منها حتى ترتمي إلى الأبصار منه أشعة ملونة يتصل ذلك بجداره القبلي
كله عظيم لا يلحق وصفه ولا تبلغ العبارة بعض ما يتصوره الخاطر منه، والله
يعمره بمنه.
وفي الركن الشرقي من المقصورة الحديثة في المحراب خزانة كبيرة فيها
مصحف من مصاحف عثمان - رضي الله عنه - وهو المصحف الذي وجه به إلى
الشام، وتفتح الخزانة كل يوم إثر الصلاة فيتبرك الناس بلمسه وتقبيله ويكثر
الازدحام عليه.
وله أربعة أبواب: باب قبلي ويعرف بباب الزيادة، وله دهليز كبير متسع
وله أعمدة عظام، وفيه حوانيت للخرزيين وسواهم، وله مرأى رائع، ومنه يفضي
إلى دار الخيل، وعن يسار الخارج منه سماط الصفارين، وهي كانت دار معاوية
- رضي الله عنه - وتعرف بالخضراء. وباب شرقي وهوأعظم الأبواب ويعرف
باب جيرون. وباب غربي ويعرف بباب البريد وباب شمالي ويعرف بباب الناطفيين.
وللشرقي والغربي والشمالي أيضا من هذه الأبواب دهاليز متسعة يفضي كل دهليز
منها إلى باب عظيم كانت كلها مداخل الكنيسة فبقيت على حالها وأعظمها منظرًا
الدهليز المتصل باب جيرون، يخرج من هذا الباب إلى بلاط طويل عريض قد قامت
أمامه خمسة أبواب مقسمومة لها ستة أعمدة طوال وفي وجه اليسار منه مشهد كبير
حفيل كان فيه رأس الحسين بن علي - رضي الله عنهما - ثم نقل إلى القاهرة.
وبإزائه مسجد صغير ينسب لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وبذلك المشهد ماء
جار، وقد انتظمت أمام البلاط أدراج ينحدر عليها إلى الدهليز، وهو كالخندق العظيم
يتصل إلى باب عظيم الارتفاع ينحسر الطرف دونه سموًّا قد حفته أعمدة كالجزوع
طولاً وكالأطواد ضخامة، وبجانبي هذا الدهليز أعمدة قد قامت عليها شوارع مستديرة
فيها الحوانيت المنتظمة للعطارين وسواهم، وعليها شوارع أخر مستطيلة فيها الحجر
والبيوت للكراء مشرفة على الدهليز وفوقها سطح بيت به سكان الحُجَر
والبيوت.
وفي وسط الدهليز حوض كبير مستدير من الرخام عليه قبة تقلها أعمدة من
الرخام ويستدير بأعلاه طرة من الرصاص واسعة مكشوفة للهواء لم ينعطف عليها
تعتيب، وفي وسط الحوض الرخامي أنبوب صفر يزعج الماء بقوة فيرتفع إلى الهواء
أزيد من القامة وحوله أنابيب صغار ترمي الماء إلى علو فيخرج عنها كقضبان
اللجين، فكأنها أغصان تلك الدوحة المائية، ومنظرها أعجب وأبدع من أن يلحقه
الوصف.
وعن يمين الخارج من باب جيرون في جدار البلاط الذي أمامه غرفة لها
هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان صفر قد فتحت أبوابًا صغارًا على عدد ساعات
النهار ودبرت تدبيرًا هندسيًّا فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر
من فمي بازيين مصورين من صفر قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد
منهما.
أحدهما تحت أول باب من تلك الأبواب، والثاني تحت آخرها،
والطاستان مثقوبتان، فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الدار إلى الغرفة،
وتبصر البازيين يمدان عنقيهما بالبندقتين إلى الطاستين ويقذفانهما بسرعة
بتدبير عجيب تتخيله الأوهام سحرًا وعند وقوع البندقتين في الطاستين يسمع لهما
دوي وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلوح من الصفر لا يزال كذلك عند
كل انقضاء ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات ثم تعود إلى
حالها الأول، ولها بالليل تدبير آخر؛ وذلك أن القوس المنعطف على تلك الطيقان
المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة، وتعترض في كل دائرة زجاجة من
داخل الجدار مدبر ذلك كله منها خلف الطيقان المذكورة. وخلف الزجاج مصباح يدور
به الماء على ترتيب مقدار الساعة فإذا انقضت عم الزجاج ضوء المصباح وفاض
على الدائرة أمامها شعاعها فلاحت للأبصار دائرة محمرة ثم انتقل ذلك إلى الأخرى
حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها، وقد وُكِّل بها في الغرفة متفقد لحالها
درب بشأنها وانتقالها يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى موضعها وهي التي
يسمونها الناس المنجانة.
ودهليز الباب الغربي فيه حوانيت البقالين والعطارين، وفيه سماط لبيع الفواكه،
وفي أعلاه باب عظيم يصعد إليه على أدراج وله أعمدة سامية في الهواء وتحت
الأدراج سقايتان مستديرتان: سقاية يمينًا، وسقاية يسارًا، لكل سقاية خمسة أنابيب
ترمي الماء في حوض رخام مستطيل، ودهليز الباب الشمالي فيه زوايا على
مصاطب محدقة بالأعواد المشرجبة هي مخاصر لمعلمي الصبيان، وعن يمين
الخارج في الدهليز خانقة مبنية للصوفية في وسطها صهريج. ويقال: إنها كانت
دار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، والصهريج الذي في وسطها يجري الماء
فيه ولها مطاهر على الصفة المذكورة. وفي الصحن بين القباب المذكورة عمودان
متباعدان يسيرًا لهما رأسان من الصفر مستطيلان مشرجبان قد خرما أحسن تخريم
يسرجان ليلة النصف من شعبان فيلوحان كأنهما ثريتان مشتعلتان، واحتفال أهل هذه
البلدة لهذه الليلة أكثر من احتفالهم بسبع وعشرين من رمضان المعظم.
__________
(*) نقلاً عن رحلة ابن جبير من وصفه للجامع الأموي إذ زاره في سنة 80 هـ.(13/364)
الكاتب: حافظ إبراهيم
__________
تربية البنات [*]
كم ذا يكابد عاشق ويلاقي ... في حب مصر كثيرة العشاق
إني لأحمل في هواك صبابة ... يا مصر قد خرجت عن الأطواق
لهفي عليك متى أراك طليقة ... يحمي كريم حماك شعب راق
وأديب قوم تستحق يمينه ... قطع الأنامل أو لظى الإحراق
كَلِف بمحمود الخلال متيم ... بالبذل بين يديك والإنفاق
إني لتطربني الخلال كريمة ... طرب الغريب بأوبة وتلاق
ويهزني ذكر المروءة والندى ... بين الشمائل هزة المشتاق
ما البابلية في صفاء مزاجها ... والشَّرب بين تنافس وسباق
والشمس تبدو في الكؤوس وتختفي ... والبدر يشرق من جبين الساقي
بألذّ من خلق كريم طاهر ... قد مازجته سلامة الأذواق
فإذا رزقت خليقة محمودة ... فقد اصطفاك مقسم الأرزاق
فالناس هذا حظه مال وذا ... علم، وذاك مكارم الأخلاق
والمال إن لم تدخره محصنًا ... بالعلم كان نهاية الإملاق
والعلم إن لم تكتنفه شمائل ... تعليه كان مطية الإخفاق
لا تحسبن العلم ينفع وحده ... ما لم يُتَوّج ربُّه بخلاق
كم عالم مدّ العلوم حبائلاً ... لوقيعة وقطيعة وفراق
وفقيه قوم ظل يرصد فقهه ... لمكيدة أو مستحلّ طلاق
يمشي وقد نصبت عليه عمامة ... كالبرج لكن فوق تلّ نفاق
وطبيب قوم قد أحلّ لطبه ... ما لا تُحِلّ شريعة الخلاق
قتل الأجنة في البطون وتارة ... جمع الدوانق من دم مهراق
أغلى وأثمن من تجارب علمه ... يوم الفخار تجارب الحلاق
ومهندس للنيل بات بكفه ... مفتاح رزق العامل المطراق [1]
متعنت تَنْدَى وتَيْبَس كفه ... بالماء طوع الأصفر البرَّاق
لا شيء يلوي من هواه فحدّه ... في السلب حد الخائن السرَّاق
يلهو ويلعب بالعقول بيانه ... فكأنه في السحر رقية راق
في كفه قلم يمجّ لعابه ... سمًّا وينفثه على الأوراق
يرد الحقائق وهي بيض نصّع ... قدسية علوية الإشراق
فيردها سودًا على جنباتها ... من ظلمة التمويه ألف نطاق
عريت عن الخلق المطهَّر نفسه ... فحياته ثقل على الأعناق
لو كان ذا خلق لأسعد قومه ... ببيانه ويراعه السباق
من لي بتربية النساء فإنها ... في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعبًا طيب الأعراق
الأم روض إن تعهّده الحيا ... بالري أورق أيما إيراق
الأم أستاذ الأساتذة الأولى ... شغلت مآثرهم مدى الآفاق
أنا لا أقول دعوا النساء سوافرًا ... بين الرجال يجلن في الأسواق
يدرجن حيث أردن لا من وازع ... يحذرن رقبته ولا من واق
يفعلن أفعال الرجال لواهيًا ... عن واجبات نواعس الأحداق
في دورهن شؤونهن كثيرة ... كشؤون رب السيف والمزراق
كلا ولا أدعوكم أن تسرفوا ... في الحجب والتضييق والإرهاق
ليست نساؤكم حلًى وجواهرًا ... خوف الضياع تصان في الأحقاق
ليست نساؤكم أثاثًا يقتنى ... في الدور بين مخادع وطباق
تتشكل الأزمان في أدوارها ... دولاً وهن على الجمود بواق
فتوسطوا في الحالتين وأنصفوا ... فالشر في التقييد والإطلاق
ربوا البنات على الفضيلة إنها ... في الموقفين لهن خير وثاق
وعليكم أن تستبين بناتكم ... نور الهدى وعلى الحياء الباقي
__________
(*) قصيدة لشاعر مصر الكبير محمد حافظ إبراهيم أنشدها في حفلة أقيمت ببورسعيد لإعانة مدرسة البنات وقد سلك شاعرنا في هذه القصيدة مسلكًا في انتقاد الأخلاق والعادات كان من الأدلة الكثيرة على تفوق حافظ وعسى أن يجنح الشاعر للتوفر على قرض هذا الأسلوب من الشعر فإنه من خير الأدوية لأدواء الناس.
(1) الذي يكثر طرق أبواب الرزق.(13/371)
الكاتب: حسين وصفي رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(فلسفة النشوء والارتقاء)
وهو الجزء الأول من مجموعة الدكتور شبلي شميل الشهير، صفحاته 367
بقطع المنار وحروفه، طبع بمطبعة المقتطف بمصر سنة 1910 ويطلب من مؤلفه
بمصر.
أهدى إلينا صديقنا الدكتور شبلي شميل هذا الكتاب الذي أعاد طبعه مرة ثانية
في هذه الأيام لنفاد الطبعة الأولى ولرغبة الكثيرين من أصدقائه في ذلك وقد أثبت
على صفحته الأولى هذه الفقرة: (طالع هذه الكتاب بكل تمعن ولا تطالعه إلا بعد أن
تطلق نفسك من أسر الأغراض لئلا تغم عليك وأنت واقف تطل على العالم من شرفة
عقلك تتلمس الحقيقة من وراء أستارها) ونحن لم نتمكن من التوفر على مطالعته
لنبدي رأينا فيه بحرية وإخلاص، ولكن هذا لا يمنعنا أن نقول: إن فلسفة
النشوء والارتقاء لا تنافي الإسلام بجملتها كما أنها لا تلتئم معه ومع العقل في
تفصيلاتها، ولم يكن لصديقنا الدكتور ولا لواضعيها؛ إذ وضعوها مطمع في أن تكون
قضية مسلمة بكلياتها وجزئياتها.
ولو أن الدكتور شميل اقتصر في كتابه هذا على شرح فلسفة دارون وهكسلي
وآرائهما في أصل الأنواع وأدلتهما على تحولها وارتقائها وتأييد مذهبهما بآرائه
الخاصة دون التعرض للشرائع الإلهية والأديان المتبعة؛ لتقبله أهل الاستعداد له
بقبول حسن، أما محاولة الدكتور لإرادة القراء على الأمرين فطمع في غير مطمع،
وهذه الحكومة الفرنسية على تشددها في محاربة زعماء الدين بقوتي الدليل
والإكراه لم تتمكن من نزع الدين من النفوس على كونه دينًا تسليميًّا بحتًا لا يسوغ
للعقل أن ينكر منه شيئًا، وإن كان غير معقول فما بالك بدين الإسلام الذي ينبذ كل
منكور عقلاً، بل هو الدين الذي فك العقول من عُقلها، وأشرع سبيل استقلال الفكر،
وأرشد إلى النظر في أسرار الكون والحكم على الأشياء بالعقل دون الهوى؛ لا جرم
أن دينًا هذا مكانه من أفئدة أهله لا يقوى على زلزاله منها شبهات مرجعها آراء
ومرويات لرجال الدين ربما يكون الدين بريئًا منها.
لو أتيح للدكتور شميل أن ينظر في الإسلام نظرة تنفذ إلى صميمه على الشرط
الذي وضعه لقراء كتابه؛ لآب اليوم وهو مسلم قلبًا ولسانًا، وهاهو اليوم على كونه لم
يعن بفهم فلسفة الإسلام بعض عنايته بحل طلسمات مذهب دارون نراه وهو
المنصف المستقل الفكر يقول: إن القرآن هو أحكم الشرائع التي يتبعها البشر، وإن
محمدًا أعظم رجل في التأريخ. حتى إنني قلت له مرة: إذًا أنت مسلم. فقال: بل
محمدي. بل هذه كلمته في خاتمته الحفيلة التي هي صورة مصغرة للكتاب قال:
(ص352) .
(خذ مثالاً شريعة القرآن فإنها بين الشرائع الدينية الشريعة الوحيدة الاجتماعية
المستوفاة [1] التي ترمي إلى أغراض دنيوية حقيقية بمعنى أنها لم تقتصر على
الأصول الكلية الشائعة بين جميع الشرائع، بل اهتمت اهتمامًا خاصًّا بالأحكام الجزئية
فوضعت أحكام المعاملات حتى فروض العبادات أيضًا، وهي من هذه الجهة شريعة
عملية مادية حتى إن الجنة نفسها لم تخرج فيها من هذا الحكم من أشجار وأثمار وأنهار
إلى آخر ما هنالك، وطالما جرى أتباعها عليها صلحت أمور دنياهم على سواهم ...
إلخ) ثم ذكر بعد ذلك مزج علماء المسلمين لنظريات الفلسفة اليونانية في كلامهم
حتى صرفوا بذلك الدين عن حقيقته وحولوه عن غايته (إلى المرامي المجردة
والمنازع النظرية وسائر علوم الجدل الأدبية المقامة عليه حتى إلى ما لا علاقة له
بالدين مطلقًا [2] ) .
إلى غير ذلك من الأقوال التي تدل على أن الدكتور الفاضل إنما هو منكر
للغواشي التي علقت بالدين ساخطًا على تقاليده وخلط كثير من أهله بين جوهره
ونظرياتهم. ونحن نقر الدكتور على هذا الرأي بل نحن إنما نكتب ونخطب سعيًا
وراء هدم تلك التقاليد التي تتبرأ منها ومن المصرين عليها.
والكتاب مطبوع طبعًا متقنًا على ورق جيد ويطلب من مؤلفه بميدان توفيق
بمصر.
***
(إرشاد الأريب، إلى معرفة الأديب)
وهو القسم الأول من الجزء الثالث من الكتاب، تأليف ياقوت الرومي الشهير
المتوفى في القرن السابع وعني بنسخه وتصحيحه الدكتور مرجليوث الأستاذ بجامعة
أكسفورد، صفحاته 215 بقطع المنار، طبع بمطبعة هندية بمصر سنة 1910.
أهدى إلينا الدكتور مرجيلوث الجزء الذي أصدره في هذا الشهر من هذا
المعجم الجامع النافع وهو يتضمن تراجم اثنين وأربعين واحدًا من أعلام الأدب أولهم
حبشي بن محمد بن شعيب الشيباني، من أهل واسط المتوفى في منتصف القرن
السادس وآخرهم الحسن بن ميمون النصري، ولبعضهم تراجم مطولة تحتوي على
عشرات الصفحات كترجمة السيرافي النحوي المعروف، فهي زيادة على أربعين
صفحة، ولآخرين منهم تراجم مختصرة جدًّا لا تبلغ إلا أسطر قليلة كترجمة الحسن
بن علي المدائني النحوي، والتراجم مرتبة على حروف المعجم ومن يلاحظ أن هذا
الجزء أو القسم لم يتم به حرف الحاء يعلم أن هذا الكتاب من أحفل موسوعات الأدب
في تراجم مشهوري أدباء العرب.
وأحفل مترجمي هذا الجزء سيرةً هم من أعلام النحاة وربما يتعجب أدباء هذا
العصر؛ إذ يسمعون هذا؛ لأنهم يرون نحاتهم صارفين أيام حياتهم في تتبع المناقشات
العقيمة، وتفهم الاختلافات السقيمة، وإن واحدهم ليحار حيرة الضب؛ إذ عرض له
أن يكتب كتابًا إلى أحد خلطائه أو رهطه ولو اطلع مطلع على ما يكتبون لسخر منهم
واستهزأ بهم ولأخذته الحيرة؛ إذ يرى كثرة اللحن والتراكيب السخيفة والخروج فيما
يكتبون عن الحدود والرسوم التي أفنوا أعمارهم في تفهمها وتفهيمها ولكن لا عجب في
ذلك فإن أئمة النحاة في الماضي كانوا يعدون النحو أداة أو مرقاة تتوقل فهومهم بها إلى
الوقوف على (أسرار البلاغة) و (دلائل الإعجاز) حتى تصير البلاغة ذوقًا لهم
فيتمكنون من فهم كلام الله فما دونه في البلاغة ويتمرنون على احتذاء الكلام البليغ في
المكتوبات والخطب، ولكن نحاة هذا العصر حسبوا أن النحو غاية لا وسيلة على
تمحلهم في الكلام على الغايات والوسائل فصرفوا الأشياء عن أوضاعها وحرفوا الكلم
عن مواضعه فأصبحوا لا قيمة لهم ولا احترام وقد كانوا أجلاء مكرمين وصناعتهم من
أشرف الصناعات.
وقد أعجبتني طريقة المؤلف في التراجم فهو يذكر اسم الرجل ونسبه وموطنه
وتحصيله، وما تفرد به، وما نقم الناس منه، وما وقع له مع أدباء عصره، ويثبت
له ما يؤثر من شعره، كل ذلك بأسلوب سهل حسن الإنشاء. ولعلنا ننشر في
المنار المناظرة التي جرت بين متّى بن يونس القنائي الفليسوف وبين أبي سعيد
السيرافي النحوي في تفضيل النحو على المنطق. وهي مثبتة في هذا الجزء عسى أن
يكون في نشرها عظة بالغة لنحاة عصرنا.
وياقوت الرومي هذا أعرف من أن يعرف وهو مؤلف هذا المعجم، ومعجم
الشعراء وغير ذلك من الموسوعات التي تعجز عن تأليفها الجماعات، وهو من
الشعراء المجيدين، ومن أحسن ما يروى له قوله:
تنكر لي مذ شبت دهري فأصبحت ... معارفه عندي من النكرات
إذا ذكرتها النفس حنت صبابة ... وجادت شؤون العين بالعبرات
إلى أن أتى دهر يُحَسِّنُ ما مضى ... ويوسعني من ذكره حسرات
فكيف ولما يبق من كأس مشربي ... سوى جُرَعٍ في قعرها كدرات
وكل إناء صفوه في ابتدائه ... ويرسب في عقباه كل قذاة
والكتاب مطبوع طبعًا نظيفًا على أجود ورق، ومجلد تجليدًا متقنًا وكنا نتمنى
أن يضع الناشر أرقامًا للمترجمين تدل على عددهم في كل جزء فإن ذلك من
المحسنات، وأن يعنى بوضع فهارس لجميع الأعلام والبلدان التي في الكتاب، ولعله
يفعل بعد طبع جميع ما لديه من الأجزاء، وإننا نشكر له عنايته بنشر هذا السفر
العظيم فلقد خدم بذلك لغتنا الشريفة أجل خدمة.
***
(النظرات)
كان الشيخ مصطفى لطفي المنفلوطي كتب قطعًا ومقالات في جريدة المؤيد
عُني بانتقاء ألفاظها وجملها ومعانيها مما يحفظ ويقرأ فاستحسنها فريق من الناس
الذين يحبون التنميق والتزويق وتبهرهم زخرفة اللفظ، وغر الكاتب تلك النعوت التي
كانت تنعته بها جريدة المؤيد فسارع إلى جمع تلك القطع وطبعها في كتاب مصدر
برسمه وبترجمة له ملأت قسمًا كبيرًا من الكتاب!!
قرأنا لهذا الكاتب الجديد والشاعر القديم بعض قصائده وبضع مقالات فلم
نعرف له منحًى خاصًّا يتوخى القصد إليه فيما يكتب وينظم، وظهر لنا أن هذا الشاعر
أو الكاتب أو الجامع للصنعتين ليس من سراق الشعر فقط بل هو من سراق النثر
أيضًا، ومن قرأ مقالته (مدينة السعادة: ص38) التي يدل بها ويفخر وكان قارئًا
قصة (الكوخ الهندي) لفرح أفندي أنطون؛ علم أن بضاعة الكاتب مزجاة، وآراءه
قد اغتصبها من سواه، وأنه ليس له في مثل هذه المقالة إلا التغيير والتبديل في نسق
الكتابة وأسلوب الكاتب، وكذلك مقالته (غرفة الأحزان: ص 143) فإنها ملخصة
من قصة (حواء الجديدة) لنقولا أفندي الحداد، ومقالته (أين الفضيلة: ص 15)
مأخوذة من قصة الكوخ الهندي لفرح أفندي أنطون أيضًا ومقالته (الكأس الأولى: ص
5) أخذ موضوعها من قصيدة للشيخ نجيب الحداد عنوانها: (في الجرعة الأولى
البلاء: ص 57ج1) من القسم الشعري من كتاب (مجالي الغرر) وغير ذلك من
القطع الكثيرة التي سرق بعضها معنى، وبعضها معنًى ولفظًا كما سيأتي بيانه. مثال
ذلك سرقته لكلمة زوج صخر أخي الخنساء: (إني أصبحت لا حيًّا فأرجى ولا ميتًا
فأنسى) ص 28، وسرقته لبيت البكري المعروف:
أشعرة في الرأس أم ... أول خيط الكفن
أخذه فقال عن الشعرة البيضاء في رأسه: (أو خيط من خيوط الكفن ص
115) . ولقد كنت نصحت للمنفلوطي يوم كان شاعرًا أن يتجنب السرقة في شعره،
وذلك في مقالة في (ص 859م31) من المقتطف بعنوان (نقد الشعر) بعد أن نشر
فيه المنفلوطي قصيدة عنوانها (من القصر إلى القبر) (ص25) من مقدمة النظرات
أغار بها على أربعة أبيات من قصيدة المعري التي مطلعها (أحسن بالواجد من
وجده) وحشرها بين بيوت قصيدته، ولكنه لم يستطع أن يعمل بنصحي؛ لأنه لو
عمل به لكان اليوم فقرًا من النعوت التي جاد بها عليه المؤيد فهو شاعر وكاتب ولكن
بأفكار غيره وأساليب سواه.
وأريد أن أنبه هنا إلى أمر ربما خفي على أولئك المخدوعين بلفظ المنفلوطي:
وهو أن كتابة المنفلوطي خالية من كل فكر للكاتب. خذ مثلاً مقالة (الغد) ص1 وهي
من أشهر مقالاته فإنك تجده جال فيها في دائرة ضيقة لم يخرج بها عن قول زهير:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عمي
وأية فائدة يجني القارئ من حكاية أقوال في الغد خلاصتها أنه أمر غيبي لا
يعلم ما سيكون به إلا الله تعالى، على أنه قد سرق أكثر معانيها من مقالة
لفيكتور هوجو في نابليون الثاني راجع ص10، من كتاب بلاغة الغرب، ومقالة
(المستقبل لله) ص 98 من منتخبات الشيخ نجيب الحداد، وإن مقالة (العلماء
والجهلاء) ص 323 التي يفضل فيها خلط السوقة الذي يسميه علمًا على تحقيق
العلماء الفلاسفة دليل على أنه لا يعرف من العلم إلا تمحلات الأزهر اللفظية التي
عرفها فألفها ومن ذا الذي يستسهل الزعم بأن اختراع التلغراف واكتشاف الكهرباء
والراديوم وغير ذلك مما لا محل لذكره هو دون ما يقع من الكلمات الصحيحة في
هذيان الدهماء ولغطهم.
وكذلك مقالته (يوم الحساب: ص 106) فإنها لا تخرج عن فحوى قصة من
كتاب قصص الأنبياء وغيره من الإسرائيليات المدسوسة على الإسلام وأئمته من
حكاية العجائب عن يوم الحساب ونجاة كثير ممن ران على قلوبهم لحسنة فذة مع أن
الله يتوعد هؤلاء بأشد العقوبات، ويقول في شأنهم: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الجَحِيمِ} (المطففين: 15-16) ولكن المنفلوطي
يصادم هذا النص الصريح بزعمه وهل يكون ذو الرين ممرطلاً في حياض المآثم
أكثر ممن وصفه المنفلوطي بقوله: (لا يتقي مأثمًا ولا يهاب منكرًا ولا يخرج من
حان إلا إلى حان ولا يودع مجمعًا من مجامع الفسق إلا على موعد اللقاء) ص 107
ويقول عن موصوفه هذا: إن الله غفر له؛ لأنه كان يجود على رب أسرة معدمة.
كأن أعمال الله تعالى فوضى لا نظام لها جلت حكمته وتعالى عن وهم الواهمين علوًّا
كبيرًا.
ومما دلنا على أن آداب المنفلوطي ليست على حال من الكمال يغبط عليها
وأن علمه بأحوال زمانه ناقص - قوله: إنه بصر بالشيخ محمد عبده وقاسم بك أمين
يتناجيان ويقول أولهما لآخرهما: إنك أفسدت المرأة بكتابك، ويقول الآخر: إنك
أردت أن تحيي الإسلام فقتلته. وليس هذا القول مما يلتئم مع الأدب أو يتفق مع الواقع
وإنما يدل على أن المنفلوطي لم يفهم مرامي (قاسم) ومناحي (الإمام) ، وما كان
لتأثير دروس هذا في إصلاح أهل الإسلام.
وكم من عائب قولاً صحيحًا ... وآفته من الفهم السقيم
ومن القطع السخيفة الخالية من الفائدة والمعنى قطعة (الشعر البارد: ص
11) وهي لا معنى فيها سوى أنه يقول: إنه يقرأ شعرًا في الجرائد لا يستحسنه على
شغفه الزائد بالشعر وأنه يسمي الشعر الذي لا يستحسنه (الشعر البارد) . فهل يصح
أن ينشر مثل هذا القول في الجرائد ثم يطبع في كتاب على حدته ويسمى
(المختارات) وإذا كان هذا شأن مختارات المنفلوطي من تافه الموضوع وسخيف
المعنى فماذا عسى أن يكون شأن غير مختاراته؟
وأريد أن أنبه الظانين أن المنفلوطي لا يقع الغلط في كلامه بأنه يخطئ كثيرًا
في الاستعمال، وإني ذاكر كلمات وقعت عليها عيناي عرضًا وأنا أقلب صفحات
الكتاب فمن ذلك كلمة (الميِّت: ص7) أراد بها المَيت وهذا غير ذاك، واستعماله
كلمة (بسيطة: ص 12و303) بمعنى ساذجة، و (البسطاء: ص 89 و90
و401) يريد الأغرار، و (البساطة: ص 399) بمعنى الغرارة وهو استعمال
غير صحيح، وإيراده كلمة (فخيم: ص 25، وص25 مقدمة) والصواب فخم من
دون ياء، وتذكيره للكأس (ص27 مقدمة) و (ص 307) ، والكأس لا يجوز
تذكيرها ألبتة، وإيراده مصدر جثا يائيًّا (ص 315) وإنما هو واوي، واستعماله
كلمة الرِياسة أو الرِآسة مكسورة الراء تليها همزة (ص13و15) وهذا خطأ محض،
وجمعه لبائس على بؤساء (ص87، 397) ، والصواب أن يجمع جمع المذكر
السالم فيقال: بائسون وبائسين، وقوله: (غفوت إغفاءة: ص 164)
والصواب أغفوت إغفاءة وقوله: (جهل مشين: 103) والصواب شائن؛ لأن
الفعل ثلاثي لا رباعي، وتذكيره للسن (ص155) وإنما هي مؤنثة قال ابن سيده في
(ج16 ص 190) من المخصص ما نصه: (والسن مؤنثة والأسنان كلها مؤنثة
وكذلك السن من الكبر) وتأنيثه للرأس ص84 والرأس مجمع على تذكيره (راجع تاج
العروس: ج4م156) وإدخاله (الـ على كل) (ص 156) وقد قال في اللسان:
(إنه لم يجئ عن العرب) ولا ينفي هذا إجازة بعض المتوسعين لذلك.
ومن فقراته الركيكة التي ليست من الأسلوب العربي الفصيح قوله: (لتحققت
أنه أبله إلى النهاية من البلاهة: ص 8) وهويريد أن يقول: إنه جم البلاهة.
وقوله: (وكما أن في الأغنياء الجيوب فقراء الرؤوس ص 297) وهواستعمال ركيك
غير عربي وقد سرق بذلك كلمة الأستاذ الإمام الفصيحة الماثورة: (لأني في شغل
شاغل من هؤلاء المرزوئين في عقولهم أولا وفي بيوتهم ثانيًا) ص 559ج2 من
تاريخ الأستاذ الإمام، وقوله: (كان كل ما في المسألة: ص78) وهذا من استعمال
العامة وما هو من الأسلوب العربي في شيء، وقوله: (فما خلَّصت من بينهم: ص
84) وهو من استعمال العامة وما هو من الأسلوب العربي في شيء، وقوله:
(فما خلصت من بينهم: ص 84) وهو من استعمال العامة أيضًا وكلمة (خلّصت)
لا معنى لها هنا؛ لأن معناها نجيت وإنما يريد أن يقول: نجوت لأنه هو الذي نجا
ولم يكن منجيًا لسواه.
هذا ما رأينا أن ننبه إليه من خطأ المنفلوطي وهو ما عثرنا عليه ونحن ننظر
في الكتاب نظرة إجمالية مما يدل على أن الكتاب مملوء بالأساليب الركيكة والخطأ
في الاستعمال؛ دع أن أكثر موضوعاته سخيفة تافهة عقيمة من الأفكار إلا ما كان منها
مسروقًا. وقد تذكرت الآن كلمة لعزيز مصر عباس الثاني يحسن إيرادها هنا فإنها
كلمة حكيمة؛ ذلك أنه كان في موسم من المواسم الرسمية خلا إلى الأستاذ الإمام في
حجرة خاصة يفاوضه في شؤون هامة فجاءه واحد من رجال حاشيته وقال: إن
الشيخ فلانًا ينتظر سموكم ليتلو أبيات التهنئة فقال له الأمير: (إننا في حاجة إلى
الأفكار لا إلى الأشعار) هذه هي الكلمة الحكيمة التي يجب أن يكون المنفلوطي
وأشياعه كثيري الإصغاء إليها؛ ليعلموا أن الأمة في حاجة إلى الأفكار لا إلى زخرفة
الألفاظ.
أما الحكم على أخلاق هذا الكاتب فلا يستطيعه مثلي، وقد ذكرت آنفًا أنه نشر
لنفسه ترجمة طويلة عليها توقيع (أحمد حافظ عوض) وفيها شؤون خاصة لا
يعرفها إلا المترجم نفسه، أضف إلى هذا أن أسلوبها وأسلوب النظرات واحد.
على أننا نترك ما يمكن أن يكون فيه مجال للقال والقيل والتمحل والتأويل
ونرجع بالقارئ إلى مقالة المنفلوطي (طبقات الشعراء) التي نشرها في ص271
من السنة الثانية لمجلة سركيس من دون إمضاء تلك المقالة التي كتب فيها عن نفسه
ما يأتي بنصه وفصه: (المنفلوطي: شعره كالعقود الذهبية إلا أن حبات اللؤلؤ فيها
قليلة فهو يخلب بروائعه وهو أزهري وحسبه أنه نابغة قومه ... إلخ) .
وقد نشر هذه المقالة في النظرات ص326 ولكنه حذف منها ترجمة نفسه
فكيف يكون الحكم على مثل هذا مستطاعًا وهو الذي وضع نفسه بتمداح نفسه فوق
الشيخ محمد عبده والشيخ عبد الكريم سلمان وسعد باشا زغلول؛ لأنه سمى نفسه
نابغة قومه الأزهريين، وهؤلاء من مصاص الأزهريين) .
(اللهم عرفنا بأقدار أنفسنا فذلك اللهم أنفس ما تعطي وأفضل ما تهب) [*]
وعسى أن يتاح لنا تصفح الكتاب برمته لنكتب لمؤلفه عظة بالغة.
***
(الإنسانية)
(مجلة علمية أدبية أخلاقية اجتماعية انتقادية عمرانية نصف شهرية) .
أصدرها في مدينة حَماة الشيخ حسن الرزق المشهور باستقلال الفكر واستنارة
الذهن وحب العلم وقد انتدب لخدمة أمته بهذا المجلة بسائق الرغبة في إعلاء شأنها
بقدر المستطاع، وهي ذات اثنتين وثلاثين صفحة بالقطع الصغير، وقيمة اشتراكها
في البلاد العثمانية ريال وربع، كتب الله لها النجاح.
***
(العلم)
(مجلة تخدم العلم والدين وتبحث عن أصول الترقي ماديًّا وأدبيًّا) .
لمنشئها السيد محمد علي هبة الدين الشهرستاني من أعلام علماء النجف
(العراق) ومشهوري كتاب العصر هنالك وهي تصدر بثماني وأربعين صفحة
بالقطع الصغير حاوية لكثير من الموضوعات الدينية والعلمية والأدبية وقد
أعجبنا من منشئها قوله في مقدمتها: (ولدينا الانتقاد الصحيح خير من الإطراء في
المديح) وهذا القول لا يصدر إلا من أرباب النفوس المهذبة بالعلم الصحيح. وقيمة
اشتراكها ريال وربع فنرجو لها الانتشار.
***
(التلميذ)
(مجلة مدرسية أخلاقية شهرية تصدرها الجمعية العلمية في المدرسة العثمانية
ببيروت) ولقد سررنا كثيرًا بصدور هذا المجلة التي ستكون خير سبيل لتمرين
التلاميذ على قرض الشعر والإنشاء وقوة البحث والمناقشة، أولئك التلاميذ المرجون
لنهضة وطنهم وإعلاء شأن أمتهم، فإن مدرستهم تلك هي من أحسن مدارس بيروت
التي تخرج فيها فريق من خيرة نابتة سورية وعسى أن يتولى رئيس المدرسة
تصحيح المجلة فقد آلمنا ما رأيناه فيها من الخطأ في الإملاء والخروج عن قواعد
النحو، وقيمة اشتراكها ريال وربع فعسى أن ينمي قارئوها ويكثر مشتركوها.
***
(الذكرى)
جاءتنا نشرة من بيروت بتوقيع محمد طاهر أفندي التنير من مهذبي نابتة
بيروت يقول فيها: إن والده السيد عبد الوهاب سليم التنير قد عزم على إصدار مجلة
اسمها الذكرى غرضها إرشاد المسلمين إلى انتهاج الطريقة المثلى، وإنه سيساعده في
كتابتها فريق من علية القوم، ونحن نعرف التنير غيورًا فاضلاً مطلعًا فنرحب بمجلته
ونرجو أن يوفق للخدمة الصحيحة.
حسين وصفي رضا
__________
(1) شريعة موسى مادية عملية أيضًا ولكنها غير مستوفاة، وشريعة عيسى وإن كانت حكمًا ومواعظ تعتبر أصولاً كلية إلا إنها في جملتها نظرت إلى العالم الروحاني أكثر من الحياة الدنيا بخلاف شريعة محمد فإنها نظام اجتماعي عملي مادي قانوني حقيقي اهـ من هامش الكتاب.
(2) إن الأسئلة التي ترد على مجلة المنار من أطراف العالم الإسلامي والتي يتجشم صاحب المنار المفضال مشقة الرد عليها مضطرًّا تدلك على مبلغ تقهقر القوم في فهم الدين (وبعد أن ذكر أمثلة من تلك الأسئلة قال) وغير ذلك من الأسئلة التي تضطرب لها عظام النبي في قبره والقرآن وشريعته بريئان منها لو أنهم يفقهون اهـ من هامش الكتاب.
(*) هذه الفقرة للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده.(13/374)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
إيقاظ الفتن في البلاد العثمانية
(مناجاة ودعاء)
اللهم الطف بهذه الأمة وبدولتها، واحفظها من فتن المفسدين في الأرض،
اللهم إنك تعلم أن المخلصين قد بذلوا جهد طاقتهم في النصح وإصلاح ذات البين
وسعوا إلى ذلك من كل طريق يرونه نافعًا، اللهم إنا لا نملك بعد حسن القول
والسعي إلا الاستغاثة بك ودعاءك فلا يغلبن مكرهم السيء ما يرجو من لطفك
وعنايتك، اللهم إنه لا يخفى عليك كيد الذين يفسدون في الأرض وينبزون
المصلحين بلقب الإفساد، ويلقون العداوة والبغضاء بين عبادك، ويعيبون بعملهم
السيئ من يعملون الصالحات بالتأليف بين القلوب وجمع الكلمة على الخير، اللهم
إنك تعلم أن من هؤلاء من يفوّق سهام كيده ومكره للأمة العربية التي شرفتها
وفضّلتها بخاتم أنبيائك ورسلك وخير كتبك المنزلة لهداية خلقك، وخاطبت سلفها
الصالح بقولك الحق: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110) ولكل
من تبع ذلك السلف من الخيرية بقدر اتباعه لهم.
اللهم إنهم حسدوها أن جعلت كتابها عربيًّا مبينًا فهم يريدون ترجمته ليكون
عرضة لتحريف المحرفين، واختلاف المتفقين، اللهم إنك أنزلته لتجمعهم عليه،
وهم يحاولون ترجمته لكل شعب من المسلمين ليتفرقوا فيه، اللهم إنه حبلك المتين
الذي أمرتنا أن نعتصم به ولا نتفرق عنه بقولك: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ
تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) وهو بيناتك التي قلت فيها: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ} (آل عمران: 105) اللهم إنهم يزعمون
أن رسالتك خاتم رسلك ما تمت إلى الآن، وأنها لا تتم إلا بترجمة القرآن، وأنت قلت
وقولك الحق: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ
دِيناً} (المائدة: 3) اللهم إنهم يزعمون أن دينك لم يقم بالحجة والبرهان، وأن نبيك
صلى الله عليه وسلم كان يكره الناس عليه بالسيف والسنان، وأنت قلت وقولك الحق:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99) .
* * *
(المقصد)
بينا في أول مقال كتبناه عن الانقلاب العثماني واستبدال الحكم النيابي بالحكم
الشخصي المطلق أنه يخشى في هذا الطور الجديد الذي دخل العثمانيون فيه من
عاقبة اختلافهم في الأجناس واللغات والأديان وجددنا في التأليف بينهم سعيًا جديدًا
غير ما كنا نسعى إليه سرًّا في جمعيتنا (الشورى العثمانية) المؤلفة من جميع
العناصر العثمانية. ظهرنا بالتأليف الجهري فخطبنا في كنيسة الأرمن في القاهرة
خطبة جعلها الإخلاص مؤثرة في نفوس حاضريها من العثمانيين المختلفين في
الأديان والمذاهب، حتى قال لنا فارس أفندي نمر محرر المقطم يومئذ: إن هذه
الخطبة وحدها تضاهي عملك في التأليف والوفاق مدة عشرة سنين، ثم سحنا في
البلاد السورية وخطبنا مرات عديدة في ذلك وتكلمنا وكتبنا كثيرًا ورأينا لعملنا وعمل
غيرنا تأثيرًا حسنًا أعان عليه في تلك البلاد ذكاء الأهالي وأخلاقهم الحسنة.
بينا نحن نرى الولايات السورية أهدأ الولايات العثمانية وأشدها اغتباطًا
بالحكومة الدستورية، ونرى من البلاد العربية كاليمن والحجاز وقد هدأ ما كان يقع
فيها من الكفاح والغارات فصارت أشد خضوعًا للدولة من ولاياتها الأوربية التي هي
مهد قوتها وعظمتها فالعاصمة نفسها مكمومة بديوان الحرب العرقي والدماء تخضب
ولايات الأرنؤوط، ومقدونيا تتمخض بما تتمخض به، بينما نحن على ذلك وإذا
بغراب ينعب من أول هذه السنة الهجرية بصوت عربي غربي غريب يُخشى شره
ولا يرجى خيره.
صاح الغرور يغر العرب ويغريهم بإخوانهم الترك، يقول: إن العرب هم
الحاكمون والترك هم الخادمون، ويطرئ الأمة العربية بالشعريات التي تحفز
النفوس إلى طلب ما لا يطلب ونيل ما لا ينال، ولم يفهم أحد من العرب معنى
كونهم هم الحاكمين والترك هم الخادمين إلا أن الكاتب يفهمهم أن الأمر يجب أن
يكون كذلك وأنه عليهم أن يطلبوا هذا الواجب؛ لأن الأمر في الواقع ليس كذلك،
ولكن هذا التغرير لم يؤثر في إغراء العرب لا لأن قائله متهم عندهم ببغضه إياهم
بل كان له دافع آخر من نفوسهم وهو اعتقادهم أن الترك إخوتهم في الدين وحكامهم
الذين رجعوا بإعلان الدستور إلى هدي الإسلام بمشاركتهم إياهم في الحكم فلا خادم
في العناصر ولا مخدوم، وما القول بذلك إلا من نزغات الشياطين ووساوس
المفسدين.
تهافت قول هذا الناعق وتناقض فهو تارة يطرئ العرب ويغلو في مدحهم،
وطورًا يعرض أو يصرح بالطعن في جميع الطاهرين منهم كأمير مكة المكرمة
والمبعوثين وطلاب المناصب والخدمة في الدولة والكتاب الخادمين للدولة من طريق
خدمة العرب؛ إذ يكتبون بالعربية، وتارةً يدعي أنه خادم الإسلام وناشر دعوته
ومبتغي ارتقائه بارتقاء العرب، ثم يدعو إلى ترجمة القرآن بلغة المسلمين
ليستغنوا عن القرآن المنزل من عند الله تعالى، ويزعم أن الإسلام قام بالإكراه كما
أشرنا إلى ذلك في المناجاة التمهيدية. وهذا أشد مطعن يسدده الأوربيون إلى قلب
الإسلام، ويذكر سيدنا عيسى (عليه الصلاة والسلام وعلى نبينا وسائر النبيين) بلقب
رجل يهودي، وبعد هذا كله يخص بطعنه الصريح من قضى زهرة عمره في خدمة
الإسلام والدفاع عنه.
هنالك ما هو شر من ذلك وهو السعي في مقاومة المشروع الأعظم لخدمة الإسلام
وهو إنشاء مدرسة دار العلم والإرشاد التي يتربى فيها الوعاظ والمرشدون ليقوموا بما
أوجبه الله تعالى من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العامة عقائد
الإسلام وآدابه وأحكامه مع التنبيه إلى مصالح الدنيا كترقية الزراعة وكل ما ينمي
ثروة الأمة ويعزز الدولة، فقد حدثني الثقة أن شيطان الفساد بعد أن مدح المشروع
قبل أن يتقرر عاد إلى التنفير منه بعد أن علم بأنه تم أو كاد فهو ينفر كل من يظن أنه
يساعده على هذه المقاومة بما يرى أنه يصيب موقع التأثير من وجدانه والإقناع من
فكره. يقول للملاحدة: إن تأسيس مدرسة إسلامية عربية في الآستانة يجعل للدين قوة
معنوية (جزويتية) تقضي على حريتكم وتذهب بجميع مقاصدكم.
ويقول للمتعصبين مثله للجنسية: إن هذه المدرسة تقوي اللغة العربية وتحييها
فتزاحم التركية في عرشها الأعلى. ويقول للمتدينين الجامدين: إن هذه المدرسة تحيي
علوم التفسير والحديث والفلسفة فتفسد عليكم التعليم المقرر في مذهب الإمام الأعظم.
وينفر بعضهم عنها بالطعن في شخص الداعي إلى تأسيسها، وكأنه لا يدري أننا
نطلب أن تؤسسها جمعية من الفضلاء والعلماء وأن يكون التعليم فيها بما يرضونه
ويختارونه، ويكون أيضًا بمراقبتهم الدائمة، فهل يضر المدرسة مع هذا أن يصدق
الكذوب ويكون الطعن في شخص الذي نبه إلى هذا العمل النافع صحيحًا؟
إذا كان خذلان مفسدي المسلمين لمصلحيهم قد وصل إلى هذه الغاية فهل
يستبعد بعد ذلك شيء مما ذكرنا عن غراب التفريق والتنكيث؟! ما ذكر مشروع
(العلم والإرشاد) لعالم ديني أو غير ديني، ولا عاقل عربي أو أعجمي، مسلم أو
غير مسلم، مستمسك بدينه أو متهاون فيه إلا وأعجب به وأعترف بفائدته ونفعه وبأنه
لا يحل محله سواه في فائدته ومنفعته حتى إن بعض الملحدين قال: إننا نحب أن يتعلم
الإسلام على وجهه؛ فإن المسلمين يكونون بذلك أقرب إلى الترقي الذي يصدهم عنه
المتعصبون باسم الدين، كما يكونون بذلك أقرب إلى الترقي الذي يصدهم عنه
المتعصبون باسم الدين، كما يكونون أبعد عن إيذاء المخالفين، وأما سائر الوساوس
فظاهرة البطلان.
بلغني خبر هذه السعاية فكان أول شيء سبق إلى ذهني عند سماعه فاتحة كلام
نشر في جريدة العروة الوثقى وهو على ما أتذكر:
(أسف يصهر الجسم وحسرة تذيب الأكباد على قبيل من أمة، أو شخص
منها ذي همة، يستخير الله في عمل ينقذ أمته من ضعة، أو يعود عليها بمنفعة، ثم
يعرض له في أثناء عمله من ينجم كقرن المعز ليفقأ عين العامل، ويعرقل عليه
عمله) ... إلخ.
وتلا هذه الذكرى في خاطري ما كنت سمعته من الأستاذ الإمام محرر تلك
الجريدة (العروة الوثقى) في هذا المعنى - رحمه الله تعالى -: (والله إنني ما
تشبثت بخدمة للإسلام أو المسلمين وقاومني فيه أحد من غير المسلمين، ما قاومني
في شيء من ذلك إنكليزي ولا قبطي ولا سوري مسيحي، وإنما لقيت مقاومة كثيرة من
المسلمين أنفسهم في خدمة الإسلام والمسلمين) ، نعود من هذا الاستطراد إلى أصل
الموضوع وهو إيقاظ الفتن في البلاد العثمانية فنقول: إن ناعق الفتنة لم يكتف
بتغرير العرب وإغرائهم بإخوانهم الترك بل عمد إلى إلقاء الشقاق بين المسلمين
والنصارى منهم فنفخ روح العصبية الدينية في الفريقين فجرح كل واحد في دينه
جراحًا داميًا، وأغرى كلاًّ منهما بالآخر، ومزق نسيج الوحدة الجنسية بينهما بإيهامه
من يقرأ كلامه من النصارى أنه بتهكمه بدينهم يتكلم باسم الإسلام ويرضي المسلمين،
وبإنكاره أن يكون النصراني عربيًّا مع علمه أن النصرانية كانت في العرب قبل
البعثة المحمدية كاليهودية، ويرى القارئ في فتاوى هذا الجزء سؤالاً عن حديث:
(إن الله سيمنع هذا الدين بنصارى من ربيعة) ؛ أي: يحفظه ويؤيده، وما رأيت ولا
رأى الراؤون أسخف من اختراع هذه العلة للتفريق؛ أي: جعل العربية
والنصرانية ضدين لا يجتمعان، وناهيك بسخافة ينقضها العيان.
اطلعنا على ما كتبه في ذلك موقظ الفتن فبادرنا إلى مقابلة الضد بضده،
ومقاومة الشر بالخير، والقذف بالحق على الباطل، فكتبنا مقالة في تذكير أهل
سورية وبيروت بما فيه خيرهم وخير دولتهم من الوفاق والوئام، ونشرناها هنا في
جريدة الحضارة وسيراها القراء في المنار السادس، ونرجو أن تكون دامغة لباطل
موقظ الفتن؛ لأنها حجة داحضة لشبهته التي اخترعها خياله، وناهضة في بيان أن
مسلمي العرب يتبرؤون من كل وسوسة تفرق بينهم وبين إخوتهم في الوطن
والجنس واللغة والمصلحة والتابعية العثمانية كما يتبرأ الخير من الشر، والنفع من
الضر، وأن موقظ الفتنة لم يترجم عن ضمائرهم ولا قال ما قال بالنيابة عنهم وهو
ليس منهم، وإن كان يحزننا أن وجد منهم من يترجم عنه ويكتب له ما يريد باسمه
واسم نفسه، وهو لم يقل ما قال أيضا باسم الإسلام وقد علموا أنه جنى على الإسلام
أكثر مما جنى على النصرانية، وينبغي أن يبرؤوا الحكومة الدستورية من الإقرار
والإعانة على هذا الفساد وإن شاع أنها تساعد هذا المفسد على عمله، فإن صح ما
يقال من مساعدتها إياه؛ فلا بد أن تكون المساعدة لزعمه أنه يعضد الإصلاح
ودعواه، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ
هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) .
كل من اطلع على ما كتبه المفسدون يعرف من يقصد منهم بهذا الكلام؛ إذ لا
ينطبق على كثير من المفسدين ولو كان كل الفاتنين كمن ذكرنا لفسدت الأرض
وهلك الناس، ومن لم يطلع عليه ولا وصلت إليه وسوسته فخير له أن لا يعرفه،
على أنه إذا ظل سادرًا في إفساده، سادلاً أذيال غروره وعناده، فسننقل الكلام من
حيز الإبهام، ونأتي بالشواهد والنصوص من كلامه المؤيدة لما قلنا تحذيرًا من كل ما
يكتبه وما يقوله، ولعل ديوان الحرب العرفي يكفينا ذلك بمنعه من أمثال هذه الفتن
قبل أن يظهر أثرها الرديء، فإن الرجل وإن كان متهمًا بسوء النية عند جميع العرب
يخشى أن يؤثر كلامه في بعضهم أو يكون سببًا لسوء ظنهم بحكومتهم الدستورية
وفقها الله لكل إصلاح، وجعل أيامها الدائمة إن شاء الله تعالى أيام خير وفلاح.
* * *
(المسلمون في روسيا وسياسة الحكومة) [1]
أيها السادة: سأبحث لكم عن سياسة الحكومة مع المسلمين، لست أجد حاجة
للبحث عن سياسة الحكومة العامة بعد خطابات ماقلاقوف وغيره من المبعوثين،
وإني أعلم أن السكون والكلام سواء؛ لأن الحكومة والنظار لا يعيرون أسماعهم لنداء
الأمة ولا سيما للمسلمين، ولكني أراني مضطرًا إلي الكلام خشية أن يحمل سكوت
المسلمين على رضاهم بحالة الفوضى الضاربة أطنابها في كل مكان.
أيها السادة: إني غير ذاكر لكم الحوادث المؤلمة النازلة بالمسلمين ولا سيما
إقفال المدارس وطرد المعلمين وأئمة الدين واحدة واحدة ولكني سأبحث عن سلوك
الحكومة هذه السبيل.
أيها السادة: إن المسلمين متضررون وواقعون تحت حيف الحالة الحاضرة
والاختلال في روسية، وإن مسالمتهم وضعفهم وحلمهم كل ذلك جعلهم عرضة
لمصائب ورزايا أعظم وأكبر (هرج ومرج في المجلس) .
الرئيس: أرجو التزام السكوت والسكون.
مقصودوف: إن مصيبة المسلمين بالمبشرين هي أعظم ما ينغص حياتهم، وقد
تتولى الدهشة رفقاءنا أعضاء المجلس لهذه الشكوى ويقولون: كيف يستاؤون من
بضع مئات من الرهبان والقسوس وهم لا يرغمونكم بالقوة على قبول دعوتهم
وانتحال دينهم بل ينشرونها بالوعظ والإرشاد ولكن لو اقتصر الأمر على ذلك لما
تضجرنا ولا تذمرنا ولكننا نتضجر ونتأفف لا لدعوة بضع مئين من الرهبان
والقسوس، ولكن لأنهم يرمون إلى غاية سياسية وراء ذلك، فهم لا يكتفون بالدعوة
الدينية بل يبتغون من وراء ذلك صبغنا بالجنسية الروسية، فنحن لا نشكو من وعظهم
وإرشادهم ولكن من مآرب الحكومة باتخاذهم آلة لها لتنفيذ أغراضها منا. لا يخفى
عليكم جميعًا أن الحكومة في سياستها للمسلمين منذ نحو عشرين أو ثلاثين سنة كانت
على خطة (بوبيدانوسجف) وكما كان هذا واعظًا كان إيلمنسكي مبشرًا، فعملاً بأفكار
هؤلاء أقفلت مدارسنا وضيق على ظهور صحافتنا، ثم أملنا عقب إعلان المساواة
الدينية والمدنية في القرار العالي بأن ننجو من وطأة الرهبان وإغرائهم الحكومة
بنا، ولكن خاب منا هذا الأمل؛ لأن الحكومة لا تزال تصغي وتعمل بما يمليه عليها
الرهبان. وما تريد أن تعلمه من أحوال المسلمين ترجع فيه إلى الرهبان. ومما
يجدر بالتأمل في مثل هذه الأمور التقرير الذي رفعه المسيو (ألكسي) ناظر
مدرسة الرهبان العليا في قزان إلى نظارة الخارجية ولو وقف الأمر عند هذا الحد
لأضربت عن ذكره ولكن دائرة الأديان الأجنبية من نظارة الداخلية تهتم به اهتمامًا
عظيمًا. ومما يستدعي النظر أنه قد ألفت جمعية غايتها الوقوف على حركة
المسلمين والحيلولة بينهم وبين آمالهم الملية.
وإليكم فكر الناظر (ألكسي) وملاحظة (أن مسلمي روسية منتهجون سبيل
الاتحاد الإسلامي وهم يؤسسون المدارس والجرائد والمجلات ويقبلون على التعليم
وبالاختصار فهم دائبون وراء استنارة أفكارهم وترقية مداركهم وغاية ذلك الاتحاد
الإسلامي) ولا أصل على ما أعلم لما يذكره ذلك الراهب من انتشار فكرة الجامعة
الإسلامية بل إن الأفكار والسعي وراء الترقي لا علاقة له بذلك كما لا يخفى. ثم إن
الإسلام في نظر المسيو (ألكسي) عبارة عن الجهاد وسفك الدماء. ويزعم أن النابتة
الحديثة تستحسن هذا الأمر. فاعلموا أيها السادة أن حكمة الإسلام وسيرته تنقضان
هذا الزعم، وإنما غاية الإسلام الترقي والمدنية، والتأريخ شاهد على ما قامت به
بغداد والأندلس من رفع منار العلم. وما يبتغيه المسلمون ليس الاتحاد الاسلامي
وإنما الترقي والمدنية وإصلاح حالتهم الاجتماعية، فإن كان هذا مما لا يرضى عنه
الراهب فذاك أمر آخر.
ثم إذا كان المسلمون ينشئون الجمعيات الخيرية فأي دخل لهذا بالجامعة
الإسلامية؟ إن كل من يظن أن لهذا الراهب الذي قدم تقريره لنظارة الداخلية وقوفًا
على أحوالنا فهو مخطئ؛ لأنه يجهل لغتنا وكل ما كتبه عنا مترجم مما كتب
بالفرنسية. ونظارة الداخلية تبني سياستها نحونا على أمثال تلك الكتابات وهي آخذة
في وضع خطة جديدة نحو المسلمين وبها تريد تفريق الدين عن القومية فهي لا
تهاجم دينهم الإسلامي بل هيئتهم القومية.
أيها السادة: إن الدين والقومية واحد في المسلمين ولا يمكن تفريق أحدهما
عن الآخر، ولم يفترقا منذ عصور. وفي موقفي هذا قد أعلنا وأعلن رفقاؤنا مرارًا
وتكرارًا أن مسلمي روسية إنما هم شعب مسلم؛ أي: إنهم ليسوا روسيين مسلمين فهم
أمة يجدر بها أن تعيش كأمة. وقد قلت ذلك ولا أزال أعيده حتى يلجم لساني ويكم
فمي.
وسنحافظ على قوميتنا محافظة لا نخرج بها عن دائرة الإخلاص لتابعيتنا
فسنحافظ على لغتنا القومية وسندأب على ترقية شأنها ورفع آدابها شأن كل الأمم
وإني أصرح للحكومة بأن كل ما يضعوه في سبيلنا من العقبات والموانع وما يعدونه
من التدابير سيكون عقيمًا؛ لأننا نعد المعارضة لقوميتنا تصدٍ لديننا؛ وعلى ذلك فلا
الحكومة ولا دائرة المذاهب الأجنبية تقدر أن تفصل ديننا عن قوميتنا، وأن تُضعف
أحدهما وتُخمد الثاني، فنحن سنعيش أولاً كمسلمين، وثانيًا كشعب بمقومات خاصة
في روسية، وإني واثق أننا سنقاوم التدابير الجديدة التي تعدها دائرة المذاهب الأجنبية
ضدنا بنفس الروح التي أظهرناها في مقاومة (إيوان غروزني) الذي حاول
تنصيرنا بالسيف.
أيها السادة: إنني أختم كلامي بأن أعلن بأننا نحن مسلمي روسية سنعيش
كشعب حر في روسية الحرة (تصفيق في الجناح الأيسر) .
* * *
(تعصب أوربا الديني)
إلزام النمسا والمجر لمسلمي بلادهم باتباعهم في أحكام الزواج والطلاق.
نشرنا في المجلد الماضي (ص438و499و856) وفي غيره نبذًا ومقالات
بينا فيها أن الغلو في التعصب الديني منبعه أوربا. ونحن في كل آن نرى الآيات
والشواهد على ذلك من غير تتبع ولا استقراء، من ذلك ما رأيناه في هذه الأيام في
جريدة (صداي ملت) التي يصدرها بعض روم الآستانة باللغة العثمانية هنا
(الآستانة) .
وماذا رأينا فيها؟ رأينا عجبًا! رأينا أن الحكومة قررت أن دين المسلمين لا
يتفق مع مدنيتهم في أحكام الزواج والطلاق؛ لأنه يبيح تعدد الزوجات فيجب إلزام
المسلمين وإكراههم على اتباع محاكم الدولة في ذلك وعدم السماح لهم بجعل ذلك على
حسب شريعتهم والرجوع إلى محاكمهم الشرعية التي كانوا يحكمون فيها بما يتعلق
بالأمور الشخصية، ولا يبعد أن يمنعوهم بعد زمن قريب أو بعيد عن الحج؛ لأن فيه
مشقة أو تعرضًا للمرض وهم لشدة حبهم للمسلمين يحولون بينهم وبين ما يؤذيهم،
ومن الصوم؛ لأنه مانع من حرية التلذذ الذي هو منتهى الحظ من هذه المدنية، ومن
الصلاة؛ لأن فيها اجتماع على غير ما تحب الدولة العادلة.
لو فعلت هذه الفعلة التي فعلتها النمسا الحكومة العثمانية أو حكومة مراكش أو
الأفغان لقامت قيامة أوربا وأمريكا والعالم المسيحي كله حتى التابعين للحكومة
الإسلامية التي تفعل ذلك وتجاوبت أصداؤهم بالصياح والشكوى من تعصب
المسلمين والتحريض على إبادتهم من الأرض، فاعتبروا أيها المنصفون.
* * *
(اعتصاب الزيتونيين)
اعتصب طلاب جامع الزيتونة بتونس عن تلقي الدروس طالبين تغيير الحال
بما ينجح الأعمال وينفع في الحاضر والمآل، وبعد أن كادت تخذلهم السياسة نصرهم
الاتحاد فأجيبوا إلى معظم ما طلبوا، وقد كنا كتبنا مقالة نرحب فيها بهذه النهضة فلم
يتسع لها هذا الجزء.
* * *
(الإنكليز في بلاد العرب)
كتبت التيمس مقالة فيها تلويح ينبئ عن تصريح بما توجهت إليه عزائم
الإنكليز من العمل في بلاد العرب فعسى أن تستيقظ الدولة إلى هذا الصوت لا إلى
صوت ذلك الموسوس المفرّق. ولعلنا ننقل المقالة في المنار السادس ونقفّي عليها بما
يعنّ لنا من النصيحة.
__________
(1) خطبة لصدر الدين أفندي مقصودوف ألقاها على أعضاء مجلس الدوما بروسية منقول من مجموعة مذكرات المجلس وقد نشرت في جريدة ترجمان التترية التي تصدر بباغجه سراي ونحن ننشرها مترجمة بالعربية.(13/384)
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
__________
خديجة أم المؤمنين
الفصل الحادي والعشرون [1]
(الدليل النقلي)
اقتداء الناس بعضهم ببعض أمر قد ألفته طباعهم عظيم الألفة. وربما كان من
سنخ غرائزهم، ومن مادة تصورهم؛ إذ رأيناه عريقًا في مرافقة الأجيال، والتنقل
في الأنسال، وموغلاً في الرسوخ والاستقرار، والدوام والاستمرار، لا يزحزحهم
شيء عنه، ولا يفصل بينهم وبينه فاصل.
هذا الاقتداء نفع البشر كثيرًا، وأضر بهم كثيرًا، فأما نفعه إياهم؛ فلأن الأكبر
سنًّا، والأكثر فهمًا، والأشد قوة، والأغزر تجربة، يجعلون المقتدين بهم يبتدئون
حيث انتهوا هم، ويمهدون لهم ما لا يستطيعون أن يمهدوا لأنفسهم، ولو بقي الطفل
والغبي والضعيف والغر خالين من طبيعة الاقتداء لراحت أكثر التجارب
والاختراعات والتفكيرات والأعمال العظيمة سدى، ولولا الاقتداء لما تعددت
الأعمال والصناعات، ولا كثرت البدائع، ولا ارتقى التمدن، ولا نمي العمران،
ولا سما النظام , وأما إضراره بهم؛ فلأنه ساق أحيانًا إلى الاقتداء بالجاهلين
والمفسدين، ووقف أحيانًا بأقوام مع ما سن لهم أسلافهم وقفة الصخور، وجعلهم
يحرمون مما يأتي على أيدي الحكماء من الهدى متى خالف ما عرفوا من قبل، وإن
أصبح ما عرفوا منكرًا لدى أهل زمانهم أجمعين.
البحث عن نفعه وأضراره، ووضع الموازين للدرجات فيه، ولا قرابة بينه
وبين موضوعنا، ولكن اتخاذ الناس بعض كلام الآخرين من جملة الأدلة هو الذي
حملنا أن نقدم هذه الكلمات في وصف عراقته، وبيان أن بعضه نافع كما وقع للسيدة
(خديجة) .
كان للسيدة (خديجة) ابن عم قد شبع من الأعوام، وارتوى من حديث الأنام
وقد تعلم العبرانية وقرأ بها الأسفار، وعرف بها الأديان ورضي بدين ابن مريم -
عليه السلام - دينًا وهو (ورقة بن نوفل) .
هذا الشيخ الجليل كان جديرًا أن يكون إمامًا لخديجة تتخذ قوله حجة، وهديه
معتصمًا؛ لأن هناك وجوهًا كثيرة تدفع عن نفسها الريب بأن هذا الرجل أعلم منها
بهذه الأمور، وأنه لا يصدر عنه إلا النصح لها، فهو بالدرجة الأولى ابن عمها، بل
بحسب السن مع القرابة هو في مقام أبيها، فلو أن ورقة غشاش مخادع لما كان منه
الغش والخداع لبنت عمه فكيف وهو مستمسك إذ ذاك بدين ذلك الإنسان المملوء قدسًا
الذي كان أكبر همه حث الناس على التحاب ونفع بعضهم لبعض، ونهيهم عن
التشاحن وإيذاء بعضهم لبعض، وهو مع قرابته وسمو التعاليم التي تزكت بها نفسه
كان في نظر خديجة سامي الهمة جدًّا.
ذلك ما حملها على الإسراع إليه لتقص عليه الخبر وترجع في هذا الأمر إلى
علمه، وأخذت معها بعلها ليقص هو نفسه على سمعه ما رأى.
كان ورقة بحسب ما قرأ وعرف مصدقًا بأن ليس هذا الهيكل البشري إلا
مظهرًا لشيء يحمل فيه هذه المدة القصيرة بإذن الله وهو الروح، وأن للروح
ظهورات غريبة في بعض الهياكل، وأنه توجد أرواح من شأنها الاجتنان عن
الحسن والعيان تتمكن من الإنسان من حيث لا يشعر، صنف منها يحب جذبه إلى
سبل التكمل، وصنف منها يحب بقاءه في حضيض البهيمية، يقال في العربية
للأول: ملائكة. وللثاني: شياطين.
كان مصدقًا بكل هذا ومؤمنًا أيضًا بأن بعض الأوراح الذين هم الملائكة
يختصهم الفاطر المصور بمزيد خصائص ويجعلهم نواميس؛ أي: وسطاء
الوحي الأعلى للذين يريد سبحانه أن تكون ظهورات الروح فيهم ساميةً جدًّا.
كان قد قرأ الأنبياء وعرف مجيء الأرواح إليهم وعرف أنه يقوم أنبياء كذبة
وأنبياء صادقون، وأن لهؤلاء وهؤلاء علامات، فنحن لما سمعنا ذهاب خديجة إلى
هذا العالم المسيحي خطر ببالنا أنه لا يكون سهلاً تصديقه بقدسية الروح الذي أتى
محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ لأن يوحنا الرسول يقول في رسالته الأولى: (أيها
الأحباء لا تصدقوا كل روح بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله؛ لأن أنبياء كذبة
كثيرين قد خرجوا إلى العالم، بهذا تعرفون روح الله، كل روح يعترف بيسوع
المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله) ، ولكن الذي خطر ببالنا أن وقوعه
صعب قد رأيناه أمرًا واقعًا، فإن ورقة بعد أن سأل بعل ابنة عمه بضع مسائل قال
له: هذا هو ناموس موسى؛ أي: الروح الذي جاءه. والظاهر أنه لم يقل هذا القول
ولم يصدق هذا التصديق إلا بعد أن عمل الامتحان الذي أوصى به يوحنا الرسول
وظهرت له العلائم الدالة على أن هذا الروح من الله على حسب ما تعلم من الكتب.
نحن لا ندعي العلم بتفسير هذه الكلمات التي ليوحنا ولا طريقة الامتحان التي
أشار بها ولكن نظن أن ذلك العالم القريب من ذلك العهد بالنسبة إلى زماننا هذا كان
لا يجهل هذا التفسير - وكذلك لا ندعي العلم بتفسير قول موسى لبني إسرائيل: (إن
نبيا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم) ولا تفسير الإصحاح الثاني والأربعين
من (أشعياء) ولكن يظهر لنا أن ورقة قد فهم من قول موسى هذا ومن أشعياء أنه
سيكون نبي من العرب يكون مقامه حوالي سلع ذلك الجبل المعروف في البلاد
العربية.
وهذا نص ما في أشعيا:
(1 هو ذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سرت به نفسي، وضعت
روحي عليه فيخرج الحق للأمم 2 لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته
3 قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يطفئ، إلى الأمان يخرج الحق
4 لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته 5 هكذا
يقول الله الرب خالق السموات وناشرها، باسط الأرض ونتائجها، معطي الشعب
عليها نسمة، والساكنين فيها روحًا 6 أنا الرب قد دعوتك بالبر، فأمسك بيدك،
فأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم 7 لتنفتح عيون العُمي، لتخرج من
الحبس المأسورين، من بيت السجن الجالسين في الظلمة 8 أنا الرب هذا اسمي
ومجدي، لا أعطيه لآخر، ولا تسبيحي للمنحوتات 9 هو ذا الأوليات قد أتت،
والحديثات أنا مخبر بها، قبل أن تنبت أعلمكم بها 10 غنوا للرب أغنية جديدة،
تسبيحة من أقصى الأرض، أيها المنحدرون في البحر وملؤه والجزائر وسكانها 11
لترفع البرية ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار، لتترنم سكان سالع من
رؤوس الجبال ليهتفوا 12 ليعطوا للرب مجدًا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر) .
قد قلت وأعيد قولي: إنني لا أدعي العلم بتفسير هذه الكتب ولكني لما رأيت
ورقة قال لزوج بنت عمه: هذا هو ناموس موسى. بحثت عن منشأ قوله هذا فوجدت
فيما ذكرت آنفًا من قول موسى وأشعيا ما يشبه أن يكون مأخذًا، فمن أراد أن يقول
لي: لا يفهم من قول موسى وأشعيا ما فهمت. لا تجدني آسفًا على عدم إصابة ظني
بخصوص ما حمل ورقة بن نوفل على قوله هذا، فإنه يجوز أن يكون قد عرف ذلك
بغير ما ظننته، ولست في هذا المقام بذي حجاج ومناظرة. إن أنا ههنا إلا كاتب
سيرة أجتهد باستقصاء فروع حوادثها وتفسيرها على قدر فهمي ومبلغ ما وصلت إليه
من النقول.
وههنا مسألة جليلة لا نستطيع مفارقة هذا المقام من غير أن نوضحها ونسهل
فهمها على القارئ وهو أن الأرواح قد تعلم بعض الأشياء قبل وقوعها إذا كشف الله
تعالى لها عنها بواسطة النواميس أو واسطة غيرها. هذا المعنى كان بنو إسرائيل
يقولون به، كما كان كثير من الأمم الأخرى تذهب إليه، وقد جاءت كتبهم حاملة
سلسلة من أخبار هؤلاء البشر الذين كان الروح الإلهي ينزل عليهم فينبئهم بما
سيكون، وتبتدئ هذه السلسلة المهمة في كتبهم بحديث نوح الذي أُنْبِئ فأنبأ بأنه سيكون
طوفان ويموت كل من على وجه الأرض، وهُدي إلى صنع الفلك فصار
الطوفان ونجا هو وأولاده ونساؤهم وتناسلوا بعد الطوفان، ثم تفرقوا، ثم اصطفى الله
من هذه الأنسال إبراهيم [2] وكان ينزل عليه روحًا من عنده، وشاخ إبراهيم وزوجته
سارة من غير أن يصير لهما نسل، ولكن حبلت منه أخيرًا هاجر جارية زوجته،
ونزل عليها الروح وقال لها: سيكثر نسلك فلا يعد من الكثرة. فولدت له إسماعيل،
ثم أنبئ أن زوجته سارة ستحبل وتلد بعد هذه الشيخوخة وطول هذا العقم فولدت له
إسحاق، وأنبئ أن نسل إسحاق سيكون كثيرًا أيضًا، وغضبت سارة على هاجر
فطردتها وغلامها، فنزل على هاجر الروح وقال لها: لا تخافي لأن الله قد سمع
صوت الغلام وسيجعله أمة عظيمة. وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية برية
فاران التي قال عنها موسى: إن الله سبحانه تلألأ فيها.
وتأخذ كتب بني إسرائيل بعد ذلك بسرد أخبار مَن تناسل مِن إسحاق بن
إبراهيم، وأما أخبار مَن تناسل مِن أخيه إسماعيل فلا تذكرها، فابن إسحاق يعقوب
وهو إسرائيل كان الروح ينزل عليه، ويوسف بن يعقوب كان الروح يجيء إليه.
ويوسف هو سبب مجيء بيت يعقوب إلى مصر، وهناك تناسلوا وكثروا حتى
ولد فيهم موسى صاحب الشريعة الشهيرة، هذا أيضًا كان يُنَبَّأ وينزل عليه الروح
وهذا قال لقومه: (إن نبيًّا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم) .
وأسس موسى لبني إسرائيل مُلكًا على الوحي الروحي، وخلفه بعد موته تلميذه
يوشع بن نون، وبعد موت يوشع بدأ الفساد والضعف يحل بهم ثم انتشلهم داود
وسليمان، وتعاظم الملك في أيام سليمان، ثم طرأت عليه بعده الطوارئ حتى زال،
ولم يخل زمان من أزمنة ملوكهم وبعدها من نبي أو عدة أنبياء، حتى نزل الروح
أخيرًا على مريم أم عيسى وبَشَّرها بأنه يكون لها ولد من غير أن يمسها بشر، وقد
ولدت مريم عيسى على هذه الصورة التي بشرت بها وصار نبيًّا أيضًا، ولكن قومه
كذبوه، ولم يصدقه إلا قليل، وقد كذبوا من قبله أكثر الأنبياء الذين كانوا ينذرونهم
بزوال الملك إذا ظلوا على الفساد.
أنا لا أعرف لماذا يكذب بعض الناس بأشياء هم مصدقون بمثلها، أو يصدقون
بأشياء هم مكذبون بمثلها، هذا أمر وقع كثيرا ويقع دائمًا أمام أعيننا وأسماعنا فهل
التصديق والتكذيب بحسب وزن الأشخاص؟ وما هو الميزان في الأشخاص؟ أم
بحسب وزن العقل؟ وما هو سبيل العقل في التصديق والتكذيب بمثل هذا؟
أنا أرى أن من آمن بسعة قدرة الله، وبعجائب صنع الله، ونفذت
بصيرته لرؤية آثار روح الله، وآمن بمجيء ناموس الله لعبده موسى لا ينبغي له أن
ينكر قدرة الله في إخراج عيسى ابن مريم بغير واسطة بعل، ولا يجدر به أن
يكذب نزول روح الله عليه كما نزل على أخيه موسى، ومن آمن بعجائب موسى
وعيسى ابني إسحاق وبنزول روح الله عليهما لا ينبغي له أن يستبعد نزول هذا الروح
على أخ لهما من بني إسماعيل.
هذا أقوله للذين صدقوا بما هنالك من العجائب والغرائب الموسوية والعيسوية،
وأما الذين لا يصدقون بهذي وتلك، ولا يُحَكِّمون إلا الحس والعقل فهؤلاء أمضي بهم
إلى التجارب والمشاهدات، وأنا واثق أنَّا لا نعدم في خزائنها كثيرًا مما يؤيد أن بعض
البشر يخبرون عن بعض الحوادث قبل وقوعها.
فإن قال لي هؤلاء: نعم قد يوجد أناس على هذا النحو ولكن ليس هذا سبب
إخبار من روح كما تقولون: قلت لهم: إذا توافقنا في ثبوت الأصل فلا ضير علينا
بعد ذلك بالاختلاف في الأسباب وأسمائها.
وإن قالوا لي: ما الفرق بين هؤلاء الذين قد نراهم في أزمنتنا هذه من هذا القبيل
وبين من تحدثوننا عنهم؟ قلت له: إن هذا الفرق ظاهر؛ لأن الاختصاص كله من الله
فهو يعطي إنسانًا معرفة بعض الوقائع الآتية ويجعله شارعًا وقائد أمم ومؤيدًا بتأييد
عظيم لا تحيط به العبارة، ويعطي إنسانًا آخر مثالاً صغيرًا من هذه المعرفة من غير
أن يجعله شارعًا وقائد أمم ومؤيدًا بتأييد عظيم، فالأول يقول: أنا نبي. أو: أنا
رسول. ويظهر الله صدقه فيما يقول، والثاني لا يستطيع أن يقول هذا، وإن قاله لا
يظهر قوله حقًّا، فهل ينكر هذا الفرق الكبير ذو بصيرة لا يعدوها الإخلاص إلى
الله والأدب مع مجالي أمره، ومظاهر سره؟!
لقد كان ورقة على ما ظهر لنا شديد الإخلاص متوغلاً في علم الروح ومعرفة
النواميس الإلهية وأخبارها، وكان على نور فِراسة من ربه وسرعة استطلاع، فلما
سمع هذا النبأ الجديد تفرس بصاحبه وتذكر ما نقل عن الأنبياء وأصحاب النواميس
من قبل، وتذكر قول موسى لقومه بني إسحاق: (سيقيم الله نبيًّا مثلي من إخوتكم)
وما إخوتهم إلا بنو إسماعيل فقال له: هذا هو الناموس الذي نزل على موسى.
تم تذكر إيذاء الناس للأنبياء مع قول أشعيا: (لترفع البرية صوتها، الديار
التي سكنها قيدار) وقيدار هو ابن إسماعيل، وقوله: (لتترنم سكان سالع) وسالع
أو سلع جبل على مقربة من (يثرب) من أشهر جبال العربية فلاح له أن قريشًا
ستضطر هذا النبي إلى مفارقة بلده (مكة) فقال له: (ليتني فيها جذعًا - أي:
شابًّا- إذ يخرجك قومك) .
وبعد برهة قليلة توفي ورقة، أما (خديجة) فاستمسكت بكلام هذا الرجل أيما
استمساك، وأضافت علومه إلى ما قد عرفته هي بدلالة عقلها وتجربتها فأصبح إيمانها
بنبوة بعلها ورسالته إلى الناس أثبت من الرواسي.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تابع لما نشر في (ص 231م13) من سيرة السيدة خديجة بقلم السيد عبد الحميد الزهراوي.
(2) إبراهيم بن تارخ بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح بن أرفكشاد بن سام بن نوح (كذا في التكوين) .(13/393)
جمادى الآخرة - 1328هـ
يوليو - 1910م(13/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رسالة التوحيد للأستاذ الإمام وصالح التونسي
س 29 من أحد طلاب العلم بدمشق الشام.
سيدي الأستاذ الإمام العلامة فيلسوف العصر ونادرة الدهر ناصر السنة وقامع
البدعة من ذكرنا بمناره أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) .
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبره وإحسانه نطلب من فضيلتكم كما
عودتمونا نشر الحقائق وإبانة الحق والصدع به بالحكمة والموعظة الحسنة أن
تشرحوا لنا معنى كلام حكيم الشرق الأستاذ الإمام: (هذا النوع من العلم علم تقرير
العقائد وبيان ما جاء في النبوات كان معروفا عند الأمم قبل الإسلام ففي كل أمة كان
القائمون بأمر الدين - إلى قوله: وتآخى العقل والدين لأول مرة في كتاب مقدس
على لسان نبي مرسل) .... إلخ.
حيث إن جاسوس أبي الهدى وصاحب الفتنة السورية الرمضانية.. . بدأ
بقراءة هذه الرسالة وتتبع ما تشابه منها ابتغاء الفتنة، ولأجل أن يطعن في الأستاذ
الإمام، وصار يحرف الكلم عن مواضعه فأخذ الآن يتبجح ويتكلم عليه ويحرف كلامه
على غير مراده؛ ذلك أنه أَوَّلَ القائمين بأمر الدين بأنهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
مستدلاًّ على ذلك بقول الإمام: وتآخى العقل والدين لأول مرة ... إلخ فقال: قوله:
لأول مرة دليل على أن الأنبياء السابقين جاؤوا بدين غير مؤاخ للعقل وهذا ينافي
اعتقاد الإسلام.... إلخ، مع أنه - على ما يظهر من قول الأستاذ الإمام - القائمون
هم رؤساء الأديان الذين حرفوا وابتدعوا.
ولما بلغ صاحب المقتبس محمد أفندي كرد علي هذه الترهات أخذه الغضب لله
عز وجل ولرسوله صلى الله عله وسلم فذكر في مقتبسه اليوم عدد 374: أن شيخًا
من مشايخ الجمود فعل كذا وكذا. ليحذر الناس عامة والدمشقيين خاصة من ضلاله
وإضلاله وفساده وإفساده ... ثم سيدي تعلمون أنه كما أن للحق أنصارًا كذلك للباطل
أنصار، ولكن العاقبة للحق كما قال عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ
فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) وقال عز وجل:] وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ
إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [والآن جئنا راجين كشف مراد الإمام رضي الله عنه لينجلي
الحق لطالبه وأدام المولى النفع بكم.
(ج) أنتقد قبل الجواب ما جاء في السؤال من الطعن في شخص الشيخ صالح
بما لا حاجة إليه في إيضاح السؤال ولا سيما ما حذفته من ذلك الطعن وإن كنت
جريت في السنين الأخيرة على نشر الأسئلة بنصها ثم أقول:
إن مراد الأستاذ من القائمين بأمر الدين رؤساء الأديان كما فهمتم وصرح بذلك
رحمه الله تعالى في الجامع الأزهر عندما كان يقرأ الرسالة درسًا يحضره الجم الغفير
من المجاورين والعلماء والمدرسين الذين لا يبلغ الشيخ صالح مد أحدهم ولا نصيفه.
والسياق يأبى حمل الكلام على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لأنه بحث في تأريخ
علم الكلام الذي يسمى عند النصارى بعلم اللاهوت، وهو علم استحدث بعد الأنبياء
عندنا وعند أهل الكتاب، ناهيك بما قال علماء السلف في ذم هذا العلم عندما ظهر
في أمتنا، وقد ذكر مؤلف الرسالة في درسها بالأزهر بعض مذاهب أهل الكتاب في
المسائل الكلامية المعروفة عندنا ومذاهبهم فيما لا نظير له عندنا كطبيعة المسيح
(عليه السلام) ومشيئته، كل ذلك في شرح هذه العبارة التي حرفها هذا الرجل
بسوء النية والنظر بعين السخط وحملها ما لا تحمل.
ومن دلائل سوء النية إذا صح ما روي لي عنه أنه ضلّل مؤلف الرسالة؛
لأنه بدأها بسورة الفاتحة دون ما اعتاده أكثر المؤلفين من الحمدلة والتصلية، وهذه
العادة وإن كانت حسنة ليست واجبة ولا سنة نبوية متبعة، وحديث (كل أمر ذي
بال) على ما في روايته من المقال، يتحقق العمل به بالقول ولا يتوقف على الكتابة،
ولذلك رأينا كثيرًا من أساطين العلماء لم يذكروا في أول كتبهم حمدلة ولا تصلية بل
بدؤوا بعد البسملة بالمقصود كمختصر الإمام المزني لمذهب الشافعي بل رأينا كتاب
(الأم) للإمام الشافعي لم تذكر التصلية في أوله استقلالاً.
فيا حسرة على الشبان الأذكياء الذين يبتلون بمعلمين يشغلون أذهانهم بمثل هذا
الجهل، ويوهمونهم أنه من دقائق العلم، ويربونهم على استنباط ما يلقي الشقاق والفتن
بين المسلمين، ويغشونهم بأن هذا هوالنصر للدين, ألا يخطر ببال أولئك الطلاب أن
رسالة التوحيد طبعت منذ ثلاث عشرة سنة وقرئت درسًا في الأزهر على أكثر من
ألف أزهري من الطلاب والعلماء، وأعيد طبعها مرتين، وانتشرت في جميع أقطار
الأرض، ودقق النظر فيها كثير من العلماء الذين كانوا يحسدون مؤلفها ويتمنون لو
يجدون له عثرة ينتقدونها، وكثير من العلماء المحبين له الذين يحرصون على تذكيره
إذا نسي وتنبيهه إلى خطئه إذا أخطأ، وأنه لم يسمع من أحد من أولئك ولا هؤلاء
انتقاد على شيء منها إلا ما ذكرناه في السنة الأولى للمنار في انتقاد الشنقيطي،
وأشرنا إليه في مقدمتنا للطبعة الثانية، فلو رأوا فيها غير ما ذكر شيئًا منتقدًا لما سكتوا
عنه مع توفر الدواعي لذكره؛ فإن ما كان يؤثر عن هذه الرجل لم يكن كالذي يؤثر
عن غيره من حيث العناية به وعدمها.
لا أقول: إن إجازة الجماهير من العلماء لشيء هي دليل على كونه صوابًا في
نفسه. وإنما أقول: إنها بالقيد الذي ذكرناه دليل على كون ذلك الشيء موافقًا
لاعتقادهم. فإذا أمكن لأحد أن يماري فيه فلا يكون مراؤه ظاهرًا مقبولاً عند المستقلين
المنصفين. فليتأمل أولئك الطلاب هذا، وليعلموا أنه لا يوجد كلام قط لا يمكن حمله
على غير المراد منه حملاً يقبله الكثير من الناس المشتغلين بالعلم. وليطالعوا كتاب
حجج القرآن، ويتأملوا كيف استدل جميع أصحاب المذاهب المبتدعة في الإسلام
بآياته التي هي في منتهى البلاغة في البيان على تلك المذاهب المتناقضة {يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} (البقرة: 26) .
هذا، وإن للأستاذ الإمام منزعًا عاليًا في تآخي الدين والعقل في الإسلام لا يدرك
مثل الشيخ صالح مرماه فيه، وقد بينه رحمه الله في سياق حكمة كون الإسلام آخر
الأديان، وكون نبيه محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، لا يفهمه مثل الشيخ
صالح؛ لأن فهمه يتوقف على المعرفة أو الإلمام بتأريخ الأمم والأديان وعلم الاجتماع
البشري، وسنن الله تعالى في الترقي، وحكمته في نسخ الشريعة المتقدمة بخير منها،
وبما عند الله أهل الكتاب من كتب الأنبياء عليهم السلام، وبمسألة تحريفها هل هو
لفظي أم معنوي فقط كما يقول أئمة الحديث كالبخاري، على أنه لو قرأها بحسن النية
والإخلاص؛ لاستفاد منها في دينه ما لا يستفيده من كتاب آخر من كتب العقائد
المعروفة، ولكنه ينوي بقراءتها تلمس عبارة يمكن حملها بالتحريف والتأويل على
غير ما وضعت له ولكل امرئ ما نوى، لا أعجب لتصديه للإنكار على رسالة
التوحيد دون الكتب الكثيرة المؤلفة في الطعن في الإسلام نفسه، والكتب التي نشرها
بعض الجاهلين من المسلمين ومحشوة بما يتبرأ منه الإسلام، ومنها ما هو منسوب
لطائفته الرفاعية التي فيها أن الشيخ أحمد الرفاعي وصل إلى درجة صارت
السموات السبع في رجله كالخلخال، وأن الله تعالى وعده أن لا تحرق النار جسدًا
يمسه هو أو أحد خلفائه إلى يوم القيامة!!
لا أعجب له بعد أن ترك دروسه في الشام وجاء الآستانة ليسعى في إبطال ما
قام به بعض العلماء والفضلاء هنا من تأسيس جمعية إسلامية لأجل إنشاء مدرسة
إسلامية عربية عالية لتربية العلماء والمرشدين الجامعين بين التقوى وعلم الدنيا
والدين والاستعانة بهم على تعميم التعليم الإسلامي، وهي أول جمعية أسست في
الإسلام للقيام بهذه الفريضة أو الفرائض الكثيرة.
شبهته في مقاومة هذا العمل الإسلامي العظيم على ما بلغني عنه أن الداعي إليه
وهابي يخشى أن يبث في المدرسة مذهب الوهابية، ولماذا لم يسع في إبطال جميع
مدارس الحكومة التي تقرأ فيها العلوم الطبيعية التي يرى هو كفر جميع الذين
يقرؤونها وإنا على كوننا لا نرى رأيه هذا نعلم أن الكثيرين يخرجون من هذه
المدارس بغير دين؛ لأن الدين لا يعلم فيها على وجهه الصحيح المعقول، ومنها ما لا
دين فيها ألبتة، ولماذا لم يسع في إبطال مدارس الجمعيات النصرانية التي تعلم
أولاد المسلمين مع العلوم الطبيعية دين النصارى وتجبرهم على حضور عبادتهم في
الكنائس؟ ألم يجد خدمة يخدم بها الإسلام إلا السعي في مقاومة جمعية إسلامية
غرضها إغناء المسلمين عن مدارس غيرهم ورفع هذه الشبهات الهاجمة عليهم من
تعليم العلوم والفنون الدنيوية لا ترى الدولة ولا الأمة لها غنى عنها؟! أما شبهته تلك
فمدفوعة من وجهين:
(1) إن الداعي إلى هذا العمل لخدمة الدين والدولة والأمة ليس وهّابيًّا؛ لأنه
ليس مقلدًا في عقيدته بل هو ناصب نفسه للدفاع بالبرهان عن عقائد الإسلام المثبتة
في كتابه وسنته وسيرة سلفه الصالح، ويقبل انتقاد كل منتقد ومناظرة كل مناظر فلماذا
لم يكتب إليه ببيان ما يزعم أنه أخطأ فيه؟
(2) لو فرضنا أنه وهابي فماذا تضر وهابيته هذا العلم الذي يقوم به
جمهور من العلماء ويكون تحت مراقبة جمعية علمية مؤلفة من جميع علماء الأرض؟
إن الجمعية الخيرية الإسلامية بمصر قد كان سبب تأليفها مشعوذ روسي فهل نقص
ذلك من قدرها أو حال دون انتفاع المسلمين بها؟ يا حسرة على مسلمي هذا الزمان
أصبح بأسهم بينهم شديد وضعفوا أمام جميع الأمم فهم يخربون بيوتهم بأيديهم ولا
يقاومون إلا من يسعى لخيرهم ورفعة شأنهم وحفظ دينهم ودنياهم، ولا يقنطنا هذا من
رحمة ربنا والسعي فيما أوجبه علينا فالله لا يصلح عمل المفسدين، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ
مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) .
__________(13/419)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إنفاق ريع الوقف على العلم
س 30 مِن صاحب الإمضاء الرمزي في (فلفلان)
سيدي الأستاذ الجليل
يوجد في أحد بلداننا مسجد له أوقاف تغل غلة وافرة تزيد عما يلزم له لنحو إمام
وخطيب ومؤذن وقد اجتمع له أكثر من ثلاثة آلاف ليرة إنكليزية.
وقد اختلف في إنفاقها فقال بعضهم: يعمر وينفق منها على ما في ذلك البلد
من المساجد الأقرب إلى المسجد الغني. وقال آخرون: بل يفتح بها مدرسة لتعليم
العلوم الشرعية بجوار المسجد الغني؛ لأن عمارة المساجد بالعبادة لا بالتزويق.
وقال غيرهم: بل يؤخذ بها كتب نافعة للقراءة والمطالعة وتعمل مكتبة بجوار
المسجد. فماذا يرى حضرة الأستاذ في هذه المسألة لتقطع جهيزة قول كل خطيب؟
ودمتم نافعين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م ع
ج - إن الإفتاء في مسألة هذا الوقف يتوقف على معرفة شرط الواقف إن
كانت معروفة، فإن لم يكن هناك شروط تتبين بها جهة ما زاد عن مصالح المسجد أو
كان الشرط أن يصرف الزائد في الخير مطلقًا فأفضل الخير وأنفعه العلم، وهل
تنفع المساجد وتصح الصلاة إلا بالعلم؟ فالرأي إذًا أن تبنى بجوار المسجد مدرسة
يعلم بها المسلمون أحكام الدين وآدابه وتأريخه وما يتوقف ذلك عليه من علوم
اللغة العربية وآدابها، وكذا ما يعينهم على أمر معاشهم كالحساب ومسك الدفاتر
وعلم التجارة والزراعة وغير ذلك من العلوم والفنون النافعة إن تيسر، على أن
بعض العلماء المحققين (كابن القيم) قد أقاموا الدلائل على جواز بل تفضيل صرف
ريع الأوقاف الخيرية المعينة بشرط الواقف فيما هو أنفع مما نص عليه الواقف فمن
شاء الوقوف على ذلك فليراجع هذا البحث في كتاب (أعلام الموقعين عن رب
العالمين) المطبوع في الهند ومصر.
__________(13/423)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سبب فرض الصلاة
س 31 مِن عبد القادر أفندي جبر بفاقوس (شرقية)
مولانا الفاضل صاحب مجلة المنار الأفخم
بعد تقبيل الأيدي نرجو من فضيلتكم إفتاءنا عن الصلاة: لأي سبب فرضها الله
على الإسلام؟ وما سبب نزولها؟ والله يبقيكم، وما سبب الركوع والسجود؟ وما
المراد منهما؟
(ج) شرع الله الصلاة وفرضها علينا، لنتحقق بها بالعبودية له التي تطهر
بها نفوسنا من الميل إلى الفواحش والمنكرات والإقدام على ارتكابها وتقوى على
الهلع والجزع، وتتحلى بالشجاعة والكرم والسخاء، وقد بين الله لنا ذلك في آيات من
كتابه كقوله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت:
45) وقوله: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ
مَنُوعاً * إِلاَّ المُصَلِّينَ} (المعارج: 19-22) وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ
هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (المؤمنون: 1-2) فصلاة الخاشعين ولا صلاة إلا لهم
تكون لها كل تلك الفوائد بما تتضمنه من مراقبة الله تعالى وتزكية الروح بذكره
وتغذية الإيمان. كما بينا ذلك بالتفصيل في تفسير {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} (البقرة: 238) فراجعه في المنار أو في (ص431 440من جزء التفسير الثاني،
وكذا في ص 37 و128منه) وهنالك ترى حكمة الركوع والسجود أيضًا.
__________(13/424)
الكاتب: أحمد المقبلي
__________
بحث التحسين والتقبيح [*]
أحمد المقبلي
(1)
اختلف الناس هل للأفعال في نفس الأمر حقائق متقررة في نفسها، هي أهل
لأن ترعى وتؤثر على نقائضها وتستتبع الرفع من شأن المنصف بها كالصدق
والإنصاف وإرشاد الضُّلاَّل مثلاً، وحقائق هي في نفسها أهل لأن يُعدل عنها
وتستتبع الوضع من شأن من اتصف بها من تلك الحيثية كالكذب والظلم مثلاً، فقالت
المعتزلة وأكثر العقلاء وجماعة من الحنفية: نعم. والمراد بالحنفية هم المعروفون
بالماتريدية نسبة إلى أبي منصور الماتريدي وكذلك أفرد من غيرهم كالإمام المحقق
الشهير ابن تيمية، حتى عدها عليه السبكي مما خالف فيه الإجماع أو الأكثر.
وقد دل ذلك على نزول درجة السبكي فإن دعوى الإجماع كاذبة وكذلك الكثرة مع
أن مخالفة الأكثر غير ضائرة {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَو حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف:
103) وللسبكي هذا مع فضله نوادر نحو هذا تنادي على من سبكه مع ابن دقيق العيد
وابن تيمية، فإن هذين الرجلين لا يُلز بهما قرين، ولم ينفرد ابن تيمية فكم من
الحنابلة مَنْ صنف في الحط على الأشعري وأتباعه كما تجده في التراجم للذهبي
وغيره ومن جملة ما ينقم عليه هذه المسألة، فيقل القائلون بها؛ لأن المذاهب
المشهورة بين مطبقة على خلاف الأشعري أو مختلفة مع تهجين المخالف له هذه
المقالة، فلا يغرنك شيوعها في هذه المقلدة كالسبكي وولده، فلهم حوامل قد كررنا
أسبابها إن كنت موفقًا، ومن عدل بالله غيره فقد شابه الكفار {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ} (الأنعام: 1) والحمد لله على العصمة.
وقال سائر الأشاعرة: لا، إنما تلك الحقائق معناها أن الشارع أمر بها ونهى
عنها ولو عكس لانعكس معانيها. هذا تحرير محل النزاع، وأما ذكرهم العاجل
والآجل عند المعتزلة فمن أكياسهم، والمعتزلة لا ينظرون إلى عاجل ولا آجل؛ لأنهم
يحكمون بلزوم الرفع الذي منه المدح وكونه معرضًا للثواب، والوضع الذي منه الذم
وكونه معرضًا للعقاب للطاعة والمعصية من حال فعلهما، وإنما منع الاتصال
التكليف؛ لأن المكلف يصير باتصال الثواب والعقاب ملجأ إلى فعل الطاعة وترك
المعصية وعدم الإلجاء عندهم شرط في التكليف، وهذا أيضًا عندهم في التكليف وهو
أخص مما نحن فيه، وأما ما نحن فيه فلا يقولون بلزوم الثواب والعقاب فيه، فالغلط
عليهم من جهتين: ذكر الثواب والعقاب وهما من لوازم التكليف لا من لوازم
التحسين والتقبيح، والتكليف أخص. وذكر العاجل والآجل وسيأتي تتمة لهذا قريبًا.
ومن المغالطة والخلط لمحل النزاع بغيره قولهم في هذا المقام: الحسن والقبيح
يطلقان لمعان منها موافقة الغرض ومخالفته. وحينًا يقولون: ملائمة الطبع ومخالفته
ومنها كذا ومنها كذا. وهذا اصطلاح لهم ليس بلغة كما صرح به السعد وغيره، وليس
باصطلاح للخصم حتى يذكر في مقام تلخيص محل النزاع، وقد أنكر هذا ابن
الملاحمي وقال: ينبغي لهم صرف فطنهم إلى محل النزاع ثم المحاجة فيه، والعجب
أن ابن الحاجب وتبعه العضد أهملوا محل النزاع وذكروا هذه الأمور وأخذ السعد في
الترميم والأمر أجلى من ابن جلا، والحق أبلج، والباطل لجلج، وكذلك سائر
المعتزلة ينكرون هذا الاصطلاح.
وإدخاله في تحرير المسألة ورد مراد الخصم إليه وشدد النكير في الغايات على
الرازي في ذكر ذلك، فتنبه لهذا وإن رأيت في كتب الأشاعرة قولهم: يطلق الحسن
والقبح لثلاثة معان اتفاقًا، فإنما مستندهم كلام أسلافهم من دون معرفة كلام الخصم كما
مضى نظيره، وهم في كل المذاهب يجعلون نقل أسلافهم حجة على خصمهم في أنه
يقول القول مع أنه يتبرأ منه، وهو مثل ما يقال في الحمصيات: (شهد عليك من هو
أعدل منك) وقول قراقوش: (أندفن؟ لو نفتح على نفوسنا هذا لما اندفن أحد) كما
حكاه السيوطي في رسالة صنفها لحكاياته قال: لئلا تنكر مع تطاول الزمان مع أنها
محققة عنده لقرب عصره أو معاصرته له. والذي أظن أن الأشاعرة وضعت هذا
الاصطلاح لئلا يتعطل معنى الإحسان والإساءة لغة؛ لأنهما من ألفاظ العرب وقد نفوا
عنهما وهذا لا ينفعهم مع اعترافهم أن تلك المعاني ليست بلغوية ولكنه يكسر من
سورة الاستهجان بإثبات اللاغية في اللغة لأشهر اللفظيين منها في أشهر معنيين فى
إشارة لقولهم: (ما أحسن ما فعل فلان مع فلان، وما أقبح فعله مع فلان) ؛ إذ معناه
الإحسان والإساءة قطعًا لا تلك المعاني التي تذكر الأشاعرة سترًا لهذه العورة. ولهذا
نظائر مع كثير ممن أوقعته زلته في لازم شنيع فتبينه لذلك تقف عليه.
نعم، ههنا شيء مما ينبغي صرف النظر إليه: وهو اعتراف الأشاعرة
والاتفاق منهم ومن سائر الناس أن التحسين والتقبيح بمعنى الكمال والنقص ثابت
في نفس الأمر وهذا يكاد يلحق الخلاف بالوفاق فإن الكمال يستتبع الرفع من شأن
من اتصف به والنقص يستتبع الوضع من شأن من اتصف به، ولا شك أن من الرفع
المدح للمتصف بالكمال ومن الوضع الذم للمتصف بالنقص، بل إطلاق الكمال
والنقص مدح وذم، فقولنا: كامل لا يمدح وناقص يذم. مثل قولنا: كامل لا
كامل، وناقص لا ناقص ويمدح لا يمدح ويذم لا يذم. ومعنى الاستتباع أنه يناسب
العقول وتقبله ولا تأباه وتفرق بينه وبين نقيضه فترى ذم المحسن مناقضًا لما ينبغي
عند العقل وفي نفس الأمر، ومدح المسيء كذلك كما ترى أن الذم والمدح متناقضان.
وهذا هو معنى الاستحقاق عند المعتزلة ولا يريدون بالاستحقاق الوجوب والحتم وما
زادوه من قيد الحتم في أي موضع فلموجب آخر لا بالنظر إلى هذا المحل وهذا صريح
في كتبهم وسيأتيك إن شاء الله قريبًا زيادة إيضاح لمذهبهم.
فإن أنكرت الأشاعرة الاستتباع بهذا المعنى فقد رجعت عن الإقرار بالكمال
والنقص وعطلت معناهما خلصنا من محارات تحقيق مذهبهم فإنا تارة ننظر إلى هذا
المعني فنحكم عليه بالوفاق، وأخرى إلى تصريحهم بنفي الحكمة بأبلغ ما يمكنهم من
العبارة فيتبين بالحقيقة الشقاق، هكذا يذكر جماعة من الفريقين كالعضد وابن تاج
الشريعة كما يأتي وغيرهما , وفيه عندي وقفة فإنهم إنما يثبتون الوصفين فيما هو من
قبيل الغرائز كالعلم والجهل وكالصدق والكذب؛ أي: كونه شأنه الصدق وشأنه
الكذب. وأما في مثل: صدق وكذب، وحصل الصدق وحصل الكذب وحصل العلم
وحصل الجهل المركب مثلاً فيحتاج كونهم يقولون ذلك إلى نقل صحيح عنهم
والمتتبع من كلامهم خلافه فيسلمون من المناقضة ويقرون على الخلاف وإنما التبس
على الناظر ما كان بمعنى الثبوت وما كان بمعنى الحدوث فصادف بمعنى ذي صدق
كمال عندهم لا بمعنى حصل الصدق وأوجده. وكيف وقد أنكروا هذا المعنى الأخير
في مطلق الفعل وقالوا: معنى آكل أنه ذو الأكل لا أنه فعل كما يأتي تحقيق ذلك وهذا
تحقيق بليغ قد فات العضد وأضرابه من الفريقين والحمد لله على العثورعلى الحقيقة.
واعلم أن هذا محل النزاع بتمامه، ثم النزاع هل أدرك العقل شيئًا من تلك الأمور
الثابتة في نفس الأمر؟ ثم هل هذه الحقيقة بعينها مما أدركه؟ نزاع آخر [1] لا ينافي
الكلام في النزاع الأول خلافًا ولا وفاقًا، أما إنه لا ينافيه مع فرض الوفاق هناك
فظاهر، وأما مع فرض استقرار الخلاف؛ فلأن المخالف هناك قد يتنزل ههنا. فتيقظ
لهذا تسلم من الزلل إن شاء الله تعالى.
وقد تضمن تصحيح التحسين والتقبيح أن البارئ تعالى مبين للحكم فقط إما
بالفعل أو بالسمع وليس الحكم في ثبوته واقفًا على اختيار مختار، بل هي كسائر
الماهيات المجردة، والعجب ممن أقر بهذا ثم شغفه مدح الأسلاف، وإيثار الخلق
على الحق ففرع فروعًا تنادي عليه بعدم الإنصاف، ولقد أغرب في ذلك ابن تاج
الشريعة، ولم يتمسك من الإنصاف بأدنى ذريعة، فإنه نصر التحسين والتقبيح
نصرًا مؤزرًا، وسجل على المخالف فعل من استمسك بأوثق العرى، ومن نظره
المحقق الموفق، وكلامه المنمنم المنمق، على أثر البحث (قوله) على أن الأشعري
يسلم الحسن والقبح عقلاً بمعنى الكمال والنقصان.
ولا شك أن كل كمال محمود وكل نقص مذموم، وأن أصحاب الكمالات
محمودون لكمالاتهم وأصحاب النقائص مذمومون بنقائصهم وإنكاره الحسن والقبح
بمعنى أنهما صفتان لأجلهما يحمد أو يذم الموصوف بهما في غاية التناقض، وأن
إنكارهما بمعنى أنه لا يوجد في العقل شيء يثاب الفاعل أو يعاقب لأجله، (فنقول) :
إن عنى أنه لا يجب على الله الإثابة أو العقاب لأجله فنحن نساعده على هذا، وإن
عنى أنه لا يكون في معرض ذلك فهذا بعيد عن الحق؛ وذلك لأن الثواب والعقاب
آجلاً وإن كان لا يستقل العقل بمعرفة كيفيتهما لكن كل من علم أن الله عالم بالكليات
والجزئيات فاعل بالاختيار قادر على كل شيء، وعلم أنه غريق نعمة الله في كل
لمحة ولحظة ثم مع ذلك كله ينسب من الصفات والأفعال ما يعتقد أنه في غاية القبح
والشناعة إلى الله تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا فلم ير بعقله أنه يستحق بذلك مذمة، ولم
يتيقن أنه في معرض سخط عظيم وعذاب أليم فقد سجل على غباوته ولجاجه،
وبرهن على سخافة عقله واعوجاجه، واستخف بفكره ورائه، حيث لم يعلم بالشر
الذي في ورائه، عصمنا الله تعالى عن الغباوة والغواية، واهدنا هداية المعداية) ,
انتهى بحروفه.
ثم أخذ في الخبط فقال: لما أثبتنا الحسن والقبح العقليين وفي هذا القدر لا
خلاف بيننا وبين المعتزلة أردنا أن نذكر بعد ذلك الخلاف بيننا وبينهم وذلك في
أمرين:
(أحدهما) أن العقل عندهم حاكم مطلق بالحسن والقبح على الله تعالى وعلى
العباد، أما على الله تعالى فإن الأصلح واجب على الله تعالى بالعقل فيكون تركه
حرامًا على الله تعالى به فالحكم بالوجوب والحرمة يكون حكمًا بالحسن والقبح
ضرورة، وأما على العباد؛ فلأن العقل عندهم يوجب الأفعال عليهم ويبيحها ويحرمها
من غير أن يحكم الله تعالى بشيء , وعندنا الحاكم بالقبح والحسن هو الله تعالى
وهو متعال أن يحكم عليه غيره، وعن أن يجب عليه شيء وهو خالق أفعال العباد
على ما مر جاعل بعضها حسنًا وبعضها قبيحًا، وله في كل قضية كلية أو جزئية
حكم معين وقضاء مبين، وإحاطة بظواهرها وبواطنها، وقد وضع فيها ما وضع
من خير أو شر وهو نفع أو ضر، ومن حسن أو قبح.
(وثانيهما) أن العقل عندهم موجب للعلم بالحسن والقبح بطريق التوليد بأن
يولد العقل العلم بالنتيجة عقيب النظر الصحيح وعندنا العقل آلة لمعرفة بعض من ذلك
أو كثير مما حكم الله تعالى بحسنه أو قبحه، لم يطلع العقل على شيء منه بل
معرفته موقوفة على تبليغ الرسل، لكن البعض منه قد أوقف الله عليه العقل على أنه
غير مولد للعلم بل أجرى عادته أنه خلق بعضه من غير كسب وبعضه بعد الكسب؛
أي: ترتيب العقل المقدمات المعلومة ترتيبًا صحيحًا على ما مر أنه ليس لنا قدرة
إيجاد الموجودات. وترتيب الموجودات ليس بإيجاد، انتهى.
ولنتبعه شيئًا فشيئًا حتى يتبين غلطه ولغطه في مذهب المعتزلة ومذهبه.
والتصدي لقول فرد إبطالاً وتصحيحًا لا ينبغي، إلا أن هذه المذاهب قد استقرت
والرجل يتكلم فيها على أهل ذلك المذهب جميعًا فيكون تخصيص كلام معين أقرب
إلى الإنصاف، وإيضاح الاهتداء من الاعتساف، فإذا انضم إلى ذلك كون الرجل
من مشاهير ذلك المذهب، ثم كون ذلك الكلام في كتاب متداول معروف بالكمال متلقًّى
بالقبول من الفحول كهذا الكتاب الذي ذكر هذا الكلام فيه وهو (التنقيح) وشرحه
(التوضيح) كلاهما له كان أفضى إلى مطلوب طالب الحق فنقول: (قوله) :
أحدهما أن العقل حاكم عندهم مطلق على الله تعالى وعلى العباد. (قلنا) : ما تريد
بقولك: حاكم؟ أتريد به أنه مدرك للحكم الثابت في نفس الأمر الذي أقررت فيه آنفًا
وبلغت في نصرته كل مذهب؟ فإن الأحكام الخمسة ترجع إلى الحسن والقبح كما
ذكرت أنت الآن فلا بد لك من الإقرار بهذا وإلا ناقضت نفسك، أم تريد أن العقل
محصل للحكم ومنشئ له في نفس الأمر فلم يقل بهذا أحد، أم تريد - وهو الأقرب من
غرضك - أن البارئ تعالى إذا أخرج فردًا من ماهية الحسن والقبح إلى الوجود فكما
يلزم أن يسمى بمطلق الفعل فاعلاً يلزم أن يسمى بفعل العدل عدلاً وكذلك نقيضه، فإن
كان نزاعك لهم من حيث المعنى (فإن كنت تريد أن صفة العدل ونحوه ثابتة في نفس
الأمر فإن فعله العبد ثبتت واستقرت وإن فعله البارئ تعالى خرج عن صفة نفسه
كما يأتي من تحقيق كيفية اتصاف الفعل بالأحكام ثم بعد خروجه عن صفة
نفسه يحكم فيه البارئ تعالى بأحد الأحكام قلنا [2] : حاصل هذا الأمر مناقضة كلامك
الأول وزيادة جهالة من إخراج الشيء عن صفة نفسه وجعل صفات النفس من
الممكنات الذي لم يقل به عاقل فيما يعرف؛ فإن صفات النفس واجبة وإلا لما كان
للنفس وكان مذهب الأشعري الذي بالغت في تهجينه أقرب إلى المعقولات؛ لأنه لم
يثبت للفعل صفة ألبتة وإنما قال: مستتبعات الأحكام بمحض اختيار المختار، وحكم
الواحد القهار. وإن كان نزاعك للمعتزلة في إطلاق الألفاظ فالأمر قريب وهذا بحث
عملي وقد جروا على مقتضى اللغة العربية وقد جاء في القرآن ما ظاهره
معهم {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (الأنعام: 54) {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا
نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً} (الفرقان:
16) {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِياًّ} (مريم: 71) .
(فإن ادعيت منعًا عقليًّا أو شرعيًّا كان بحثًا غير هذا وصفت القاعدة عن اللغط
وسوء المناظرة. والمعتزلة قد أطلقوا لفظ واجب على الله وقبح منه ولم يطلقوا باقي
الألفاظ المأخوذة من ألفاظ الأحكام وأنت قست لفظ حرام وللألفاظ خصوصات تنشأ
عنها إيهامات لاعتراف نظرائهم شرطوا في إطراد الحقيقة في حق البارئ تعالى إن لا
قوهم خلاف الصواب فلا ينبغي أن يتقول عليهم ما لم يقولوه. ومن نظر تعليله لكلام
المعتزلة بقوله: أما على الله تعالى فلأن الأصلح واجب وأما على العباد فلأن العقل
عندهم يوجب الأفعال ويبيحها. فمن نظر هذا حكم على الرجل إما بعدم معرفة مذهب
المعتزلة وإنما يتكلم بحسب الوهم وإما بأنه حين سدد نظره إلى اللجاج طاشت الحرارة
في دماغه فلم يدر ما قال. وهذا أقرب؛ لأنه كلام لا يفعله عاقل ولهذا الصنع نظائر
في كلام المجادلين فتنبه له.
واعلم أن المعتزلة اختلفوا فيما بينهم في معنى الوجوب على الله تعالى فقالت
البصرية: معناه في حق غيره وهو في حقه أحق وأولى. فإن قلت: فمن لوازم
الوجوب والقبح والثواب والعقاب وذلك لا يعقل في حق البارئ تعالى قلت: هما
من لوازم التكليف، والتكليف عندهم طلب البارئ تعالى الفعل المتصف بالحكم من
المكلف مع مشقة تلحق المكلف ومع إرادة المُكَلِّف تعالى. وقولنا: طلب ليس من
عباراتهم. إنما يقولون: إعلام البارئ المكلف شأن الفعل الموصوف ... إلخ، والذي
ذكرناه أولى فالتكيف غير معقول في حق البارئ تعالى والتكليف إنما يكون من
البارئ تعالى ولا يصح من غيره؛ لأن التكليف مصلحة خالصة؛ أي: جلب منفعة
أو دفع مضرة ولوازمه عندهم الثواب الدائم والعقاب الدائم، والعالم بكل مصلحة وكل
مفسدة والقادر على الوفاء كما يريد هو البارئ تعالى، وهذا كله صريح في كتبهم
شهير لمن له أدنى معرفة فيها، وإنما التجاسر على الرواية وعدم المبالاة هو الذي
كثر الشقاق، وسلى عن الوفاق، ولا يخلو مذهب من عدم إنصاف الخصم وإن
اختلفوا قلة وكثرة، فاتق الله أيها الناظر وقدر أنك قد وقفك بين يديه وسألك عن هذا
ولا تغتر وخذ قول أهل المذاهب من كتبهم فبالتجربة أنهم لا ينصفون في النقل
وأصله أنه لا يحتفل بقول من عزم على خصومته فيجهل قوله فيجهل عليه فالله الله
{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء: 36) .
وحاصل مذهبهم أن المدح والذم من لوزام التحسين والتقبيح، والثواب والعقاب
من توابع التكليف. والبصرية يوجبون الثواب ويحسنون العقاب فقط وللبارئ تعالى
أن يسقطه عقلاً، ولزوم الثواب وحسن العقاب وهما المحسنات للتكلف عندهم كما
مضى، ومعنى الاستحقاق عندهم أنه يحسن لا أنه يجب، والبغدادية يقولون يجب
الثواب وجوب جود بمعنى أن صفات الكمال تقتضي توفر دواعي الحكيم إلى فعله
وما خلص الداعي إليه وجب أن يفعله الحكيم ومع هذا يطلقون أن الثواب تفضل؛
أي: ليس له جهة وجوب في نفسه.
فاعرف مذهبهم فكم غلط عليهم إخوانهم البصريون فضلاً عن غيرهم ويكفي في
حسن التكليف عنده سابقة الإنعام، ويقولون بوجوب العقاب ولا يجوزون العفو عقلاً؛
لأنه لطف للمكلفين واللطف واجب عندهم فمذهب الفريقين في الثواب والعقاب
متعاكس، هكذا حكاية مذهب البغداديين، وقالوا عنهم: إنه لا يحسن العقاب إلا حسن
ولا يحسن إلا إذا انتفع به الغير، وتعميم الانتفاع يحتمل اللطف وغيره كالتشفي
فتحرر أنه قد يقع مقتضى العقاب وهو العصيان ويقع شرط حسن وقوعه وهو يتضمن
الانتفاع وقد يخلوعن الشرط؛ إذ لا ملازمه بين المقتضي المذكور وشرط حسن
الوقوع فيجب حينئذ أن لا يقع، اللهم إلا أن يقولوا: لا يُمَكِّن المكلف من العصيان إلا
مع العلم بحصول الشرط المذكور. وهذا بعيد ويحتاج إلى نقل عنهم معتبر فتعميم
منع العفو غير سديد وحكايته عن البغدادية كما ترى. والظاهر الغلط عليهم في بعض
كلامهم فهذا كثير الوقوع في حكاية المذاهب، وإن كان ذلك في كتب إخوانهم البصرية
فإن كثيرًا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض فليحفظ هذا فإنه نفيس جدًّا.
(قوله) العقل عندهم يوجب الأفعال ويبيحها ويحرمها. قد عرفت سقوطه مما
مضى وأنه لا معنى له إلا بالمعنى المتفق عليه بين الحنفية والمعتزلة. (قوله)
وعندنا الحاكم بالحسن والقبح هو الله تعالى. (قلنا) ما تريد بالحاكم المبّين للحكم
الثابت في نفس الأمر؟ فذلك قول المعتزلة حتى شنع عليهم الأشاعرة بأن البارئ
تعالى عندكم كالقاضي والمفتي وسيأتي لزوم هذا على قول الجميع، أم تريد أنه
محصل للفعل صفة الحسن والقبح فقد كنت قررت ثبوت ذلك لا باختيار المختار وأن
الاختيار مؤخر عنه عند ذكر أن الله يأمر بالعدل والإحسان في هذا الكلام؟ أم تريد أن
البارئ تعالى هو الملزم لنا أن نأتي الحسنى ونترك القبح فذلك قول المعتزلة وهو
المراد بالتكليف عندهم. فأخبرنا ما هذا الخلاف بينك وبينهم؟
(قوله) ثانيهما: أن العقل عندهم موجب للعلم بالحسن والقبح بطريق التوكيد
بأن العقل يولد العلم بالنتيجة عقيب النظر الصحيح: (قلنا) هذا مجازفة عليهم أو
بُهت لهم ولم يقل منهم أحد أن العقل يولد العلم وهم متفقون أن العلوم الضرورية
يخلقها الله تعالى ابتداءً وأما النظرية فاختلفوا فيها، فقال بعضهم مثل مقالتك هذه: يخلقها
الله والنظر شرط عادي فقط. وقال أبوالحسين: ليس النظر يولد العلم إنما الناظر
يستفصل بنظره ما أجمل عند العقل فعند العقل ثبوت حكم الكبرى عمومًا فينظر في
نسبة الوسط منها فيجده فردًا من أفرادها؛ فيلزمه ثبوت حكم الكبرى للصغرى وهو
النتيجة، فنقول مثلاً: هذا الضرر العاري عن نفع ودفع واستحقاق ظلم وعند عقله أن
كل ظلم قبح فتظهر له النتيجة وهي اتصاف هذا الضرر العاري عن نفع ودفع
واستحقاق بالقبح، ولهذا قال مختار في (المجتبى) وهو تلميذ تلميذه: (النظر
تجريد الغفلات، لا ترتيب المقدمات) وما حكيناه عن أبي الحسين هو ما حكاه
تلميذه ابن الملاحمي في كتابه (الفائق) وقد ذكر الطريقة التي تسميها المعتزلة إلحاق
التفصيل بالجملة فصرح بما ذكرناه وهذه الطريقة عند المعتزلة هي البرهان عند
المنطقيين إلا أن متكلمي المعتزلة يقدمون الكبرى التي دلالتها عموم على الصغرى
التي دلالتها خصوص ثم يقولون: والخاص لاحق بالعام، أو التفصيل لاحق بالجملة.
القول الثالث: قول من قال بالتوليد فقالوا: النظر معنى يتولد عنه العلم عند
كمال شرائط النظر. ولم يقل أحد: إن المولد له العقل كما ذكر وإنما العقل آلة
للإدراك فقط عند الجميع.
(قوله) وعندنا أن العقل آلة لمعرفة بعض من ذلك؛ إذ كثير مما حكم الله
تعالى بحسنه أو قبحه لم يطلع العقل على شيء منه بل معرفته موقوفة على تبلغ
الرسل لكن بعض منه أوقف الله عليه العقل. (قلنا) هذا غير مذهب المعتزلة [3] ولم
يقولوا: إن العقل يستقل إلا بأحكام يسيرة كوجوب شكر المنعم ودفع الضررعن النفس
وإنصاف الغير وكالظلم والعبث والكذب. وأما ما رميتهم به بمضمون هذا الكلام وما
قبله وأوهمت أنهم يدعون معرفة جميع الأحكام بعقولهم وأنهم مثلاً يدركون وجوب
صوم آخر يوم من رمضان وحرمة صوم أول يوم من شوال وأن عقولهم غنية عن
تبليغ الرسل ولا فائدة لها عندهم حتى يتحقق الخلاف بينك وبينهم؛ لأنك إنما فضلت
نفسك عنهم بذلك؛ فإن كنت تحكي عن قوم تختص أنت بمعرفتهم يسمون معتزلة فلا
يعنينا التعرض لك ولهم. وإن كان المراد بهم هؤلاء المشاهير: واصل بن عطاء
وعمرو بن عبيد والجاحظ والنَّظَام وأبو الهذيل والكسبي وجعفر بن مبشر وجعفر
بن حرب وأبو الحسين الخياط وأبو عبد الله البصري وأبو علي هاشم والقاضي
عبد الجبار وأبو الحسن والخوارزمي وغيرهم ممن لا يحصى عددهم ولا يستقل
بدراية مذهب رواية ولا تخفيه زاوية. فهذه مصنفاتهم ومقالاتهم المتواترة عنهم وبين
ظهراني أتباعهم في بطون كتب الأشاعرة قد بينوها وكرروها وطووها ونشروها
كالخريت الفخر الرازي وغيره ولم يفتر عليه أحد ما ذكرت اللهم إلا أن يروي ذلك
عنهم مغمور مسجل على نفسه بالغباوة والجهالة فيكون سلف لك في هذه الضلالة
عصمنا الله عن الأهواء ووفقنا لما هو أقرب للتقوي آمين.
إذا تقرر هذا فلنقدم على حجج الفريقين تنبيهًا على كيفية صيرورة الفعل
متصفًا بالحسن والقبح؛ فإنه من تمام تحرير محل النزاع لتتوارد الحجج على أمر
معروف، ومحل مكشوف. اعلم أنهم يحكون خلافًا بين الجبائية وسائر المعتزلة،
ويقولون: إن الجبائية يقولون: يحسن ويقبح لوجوه واعتبارات. والبغدادية يقولون:
لعينه. ويحكي بعض الأشاعرة عن بعض المعتزلة أنه لصفة من صفاته. والأقرب
أنه خلاف في العبارة وبيانه أن مراد الجبائية بالوجه الذي وقع عليه الفعل الوجه
الذي له دخل في تحسين الفعل وتقبيحه، ولأجله سمي حسنًا أو قبحًا؛ إذ مطلق
الفعل وحده أو مع ألف وجه لا يصير ويسمى لأجله حسنًا وقبحًا. لا يعتبره عاقل
قطعًا ككونه حركة مثلاً إلى جهة اليمين في وقت الضحى في قعر المنزل وغير ذلك.
وإلا للزم كون كل فعل حسنًا وكونه قبحًا، وهو معلوم البطلان. والبغدادية لا
يقولون: إن مطلق الفعل قبح قبح ولا هو مع وجه ملغى. كذلك لما ذكر فتبين أنه
مطلق الفعل متركبًا مع وجه أو وجوه لها دخل في صيرورته وتسميته حسنًا وقبحًا.
وأنا أنبهك على وجه غلطهم وهو أنهم يأخذون الفعل متركبًا مع وصف ملغى أو
غير تام كالسجدة مثلاً ثم يقولون: لو كانت السجدة حسنة أو قبيحة لنفسها لما كانت
طاعة للرحمن وكفرًا إن كانت للشيطان. والجواب: أن مراد البغدادية بالفعل ليس
السجدة مطلقة ولا هو مع القيود التي صارت بها سجدة بل ذلك كله مع قيود أخر صار
بها عبادة للرحمن ومتى كان كذلك لم يخرج عن كونه عبادة إلى كونه كفرًا إلا بنقصان
قيد وزيادة آخر. والمقيد بقيد غير للمقيد بآخر، وكذلك القول في لطم اليتيم تأديبًا
وظلمًا وغير ذلك، وحاصله: أن الظلم مثلا بعد تمام كونه ظلمًا لا يخرج عن كونه
قبيحًا ما دام كذلك فلذا قالوا: إنه ذاتي أي: ما دام الظلم مستجمعًا لما صار به الفعل
ظلمًا، فلا يخرج عن القبح فتأمل هذا فإنه بحث نفيس بديع، وهو مما ترك الأول
للآخر والحمد لله وحده.
ثم اعلم أنه ليس من ضرورة مطلق الفعل الحسن والقبح إن أريد بالحسن ما له
مزية راجحة على مزية الطرف الآخر. والمعتزلة يطلقون الحسن على ما عدا القبيح.
حتى المباح بمعنى ما لا حرج في فعله وتركه؛ فعلى هذا لا يخلو فعل عنهما ثم
المطلق قد يتقدم بقيد أو قيود ولا يتحصل منها إلا اسم مثل مطلق السر؛ فإنه مع
الأحكام لمطلق الفعل. وقد يتقيد بقيد يتحصل له به اسم وحكم مثل كونه عدلاً وظلمًا
وصدقًا وكذبًا. ثم الوجوه والاعتبارات التي يتحصل بها الحكم هو شيء مقدور
وضابطه: ما حكم وأدرك العقل عند الحسن والقبح. ثم قد يزيد على تلك الوجوه
المعينة وجه أو وجوه. فإذا اعتبر المجموع فتارة يتأكد الحكم الأول فقط مثل الزنا في
المسجد في رمضان مثلاً وقد يتصف المجموع بحكم مخالف لحكم المزيد عليه.
والمزيد عليه باق على ما هو عليه فإنه مع الزيادة مغاير له مع عدمها؛ فلا بعد ولا
إحالة في اتصاف كل منهما بغير ما اتصف به الآخر. فإذا حكم العقل مثلا بحسن
الصدق وقبح الكذب ثم فرضنا أنه جاء دليل عقلي أو شرعي بأن الكذب الذي فيه
عصمة نبي واجب، والصدق الذي به هلاكه حرام؛ لم ينقض ذلك علينا قاعدة
الحسن والقبح، بل ولا هذه الصورة التي أدرك حكمها العقل. إنما أدرك حسن صدق
غير مقيد بكونه يهلك به نبي، وقبح كذب غير مقيد بكون ينجو به نبي، يحكى عن
بعض البوادي أنهم يبيتون الضيف مع أزواجهم ومحارمهم ويقولون: هم أكرم الناس
وأقراهم للضيف. فهؤلاء ضموا إلى إكرام الضيف هذه الخسة وسمَّوا المجموع بإكرام
الضيف والذي يفعل ذلك إنما يسمى ديوثًا ونحوه. وإكرام الضيف إنما هو جزء فعلهم
هذا وهو إكرام الضيف فيما عدا هذه الخسة. ومع تناهي فعلهم هذا في القبح لا
يخرج إكرام الضيف من كونه من أشرف الخصال وأفضلها. ولا يكاد فعل يخلو عن
مفسدة ولو مجرد المشقة وفوات الدعة ولا عن مصلحة ولو اللذة وإطلاق عنان النفس
فإنها ما منعت من شيء إلا اشتاقت إليه ولكن يعتبر الأرجح ويضمحل عنده
المرجوح، وهذا يحتاج إلى معاودة التأمل وعدم الاستعجال مع نقاوة غريزة وذهن
صاف سيَّال.
فإن قلت: هذا يخالف قولهم: قبح الكذب لكونه كذبًا والظلم لكونه ظلمًا والعلة
موجودة بتمامها مع كل عارض مقدر في الكذب؛ لأن حقيقته مقررة لا تزول إلا
بزواله بخلاف الظن. (قلت) إنما حكمنا بقبح ما أدرك العقل قبحه بضرورته. وأما
تصيدكم العلة ثم إلحاق ما لم تدركه الضرورة العقلية؛ فلا يفيد اليقين لعدم القطع بعدم
الفارق، وإنما غايته الظن الذي الأصل منعه ما لم يدل على الاستغناء به دليل فدعه
{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ
شَيْئاً} (يونس: 36) {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12) فما يؤمننا أن
يكون هذا منه وما لم تلجئنا الضرورة العقلية؛ فلا علينا أن نكل أمره إلى خبر
الشرع، ونذعن له بالطاعة والسمع، فكل ما لم تضطرنا إليه الضرورة العقلية،
فنحن فيه سمعية. وهذا أوسط الأمرين بين تقريط الأشاعرة وإفراط المعتزلة.
فإن قلت: فهل يجوز تساوي طرفي الفعل في كون كل منهما مصلحة؟ وإذا
جاز فهل يجوز أن يأمر الحكيم بأحدهما معينًا؟ وإذا جاء فما المخصص حينئذ؛ لأنك
قدمت أن الترجيح بمحض الاختيار؟ وإن جاز في حق القادر نظرًا إلى الذات فإنه
يمتنع بالغير لمكان الحكمة.
قلت: جواز استواء الطرفين في المصلحة لا مانع منه وأمر الحكيم بذلك كذلك.
والمرجح حينئذ محض الاختيار كالهارب يختار إحدى الطريقين بلا مرجح،
والذي قدمنا منعه هو حيث لا داعي إلى الفعل يرجح في نفس الأمر؛ لأنه يكون
عبثًا. وهو ممتنع الوقوع حكمة في حق الحكيم، وعادة فقط في حق غيره. كما يأتي
تحقيق ذلك في أواخر مسألة التحسين والتقبيح إن شاء الله تعالى. وأما هذا فقد قام
الداعي في كل من الطرفين على حدة فلا مانع من تخصيص أحدهما بمحض الاختيار،
وترى أناسًا ينقضون من فرق بين المسلمين ويغلطونهم، وإنما الغلط عند من لا
يفرق. وإذ قد أتينا على غرضنا من تحرير محل النزاع وما يتعلق به؛ فلنذكر المعتمد
من حجج الفريقين وبالله الاستعانة.
(لها تتمة)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) ننقل هذا الفصل من كتاب تحت الطبع اسمه (العلم الشامح، في إيثار الحق على الآباء
والمشايخ) للشيخ أحمد المقبلي من مجتهدي اليمن في القرن الحادي عشر وقد تخبط في موضوعه
أكثر علماء الكلام ولم يأتوا إلا بتمحلات ولا مقنع فيها ولكن المصنف بحث بحثًا مستفيضًا محررًا تحريرًا فآثرنا إتيانه في المنار.
(1) أي: هذا نزاع آخر اهـ مصححه.
(2) هو جواب قوله: فإن كنت تريد.
(3) أي: ما حكيته عنهم هو غير مذهبهم، ويصح أن تقرأ العبارة: هذا عين مذهب المعتزلة؛ أي: ما ادعيته مذهبا لك ولعله الصواب اهـ مصححه.(13/425)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ذكرى
للسوريين عامة وأهل بيروت خاصة [*]
البلاد السورية من أرقى البلاد العثمانية استعدادًا في العلم والعمران، وإن
بيروت أرقى هذه البلاد بل هي من أثمن الدرر في تاج آل عثمان.
قد زادت قيمة بيروت في نفوسنا بعد الدستور أضعافًا مضاعفة، وصرنا نباهي
بها ونفاخر بعد أن كنا نشكو من تلك المَعَرّة الفاضحة: معرة العصبية الجاهلية باسم
الدين التي كانت حجابًا دون محاسنها الكثيرة، ومزاياها الجمة، فقد كانت تتلفع
بذلك الثوب المنكر وتتدجج بسلاح البغي والعدوان، فكلما سمعت هيعة جردت
سلاحها هذا، وقالت به هكذا وهكذا، تتوهم أنها تجاهد في سبيل الله، وتفتك بعدو لها
ولله، وإنما كانت تجاهد في غير عدو، بل كانت تحارب نفسها وهي لا تدري،
فيطعن بعض أبنائها صدور الأبناء الآخرين وهو لا يرى ولا يبصر، حتى إذا ما لاح
صبح الدستور ألقى الإخوة السلاح من أيديهم وطفق بعضهم يعانق الآخر ويقبله وهو
يبكي على ما فرط في ذلك الليل البهيم، ويبسم لما يرجو في هذا النهار المنير.
كان بعض عقلائنا يقولون: إن علة تلك الأحقاد والإحن هي الحكومة
الاستبدادية التي لا تجد حفاظًا لسلطتها إلا التفريق بين رعيتها، ولا سيما أهل الذكاء
والعلم منهم. وكان بعضهم يقول: إن علة ذلك التدابر والتباغض هي دسائس
أصحاب المطامع من الأوربيين. وهناك فريق ثالث يجمع بين القولين، ويثبت كلتا
العلتين، ولا خير لبيروت ولا لما يجاورها من البلاد في فوز هاتين السياستين،
وإنما خيرها في اتحاد أبنائها على ترقيتها وعمرانها ورفعة شأنها، وكل من السياستين
عقبة كؤود في طريق سعادتها هذه.
فرحنا بعد إعلان الدستور من خلع بيروت ذلك الثوب الذي كانت تتلفع به
أحيانًا في تلك الظلمات ونبذ ذلك السلاح الخاطئ الذي كانت تحزبه مفاصل
أعضائها فتبيين بعضها من بعض، وأشبعناها ثناء وتقريظًا، وأرويناها حمدًا
وشكرًا، راجين أن يكون الشكر مدعاة المزيد، وذلك أثر الشكر الطبيعي في نفوس
أهل النجدة وعلو الهمة كأهل بيروت.
تلك المحمدة التي عكس لنا البريد صوتها وأرانا البرق نورها ونحن في مصر
قد هاجت شوقنا لرؤية بلادنا ترفل في حللها الزاهية، في نور شمس الدستور
الضاحية، بعد أن تركناها منذ سنين دخلت في جمع الكثرة وهي تتعثر في ذلك
الثوب الخلق، في ذلك الطريق الذي في مثله يقول الراجز:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق ... مشتبه الأعلام لمَّاع الخفق
تسير على غير الهدى، إلى حيث تقع في مهاوي الردى، في تلك الحنادس،
بما يخفق من بروق الوساوس، التي تغريها بإعانة المستبد فيها على استمرار
استعبادها، أو تمكين الطامع فيها من ازدرادها (لا سمح الله) .
زرت بيروت وغيرها من البلاد التي أعدها كلها وطني الخاص فكنت على
تفضيلي بيروت على سائر أخواتها من المدن بنات سورية أرى أن الوفاق السلبي
وحده لا يثمر ما نحب من عمران البلاد وارتقائها. وأعني بالوفاق السلبي ترك ما كان
من التنازع والتخاصم، والتشاتم والتلاحم، وإنما تعمر البلاد وتسعد بالوفاق
الإيجابي، وهو إنما يكون بالاختلاط وكثرة التزاور والاشتراك في الأعمال المالية،
والجمعيات العلمية والأدبية.
بذلت لهم نصحي وهم قومي الذين أفخر بهم إذا صلحوا وأصلحوا، وتصيبني
معرتهم إذا أساؤوا وأفسدوا، راجيًا أن يكون ذلك الوفاق الإيجابي بالتدريج وأنا لا
أزال مع سائر العقلاء من إخوانهم البعيدين عنهم في مصر والآستانة وأمريكا وأوربا
ننتظر أن يكونوا هم السابقين إلى رفع قواعد بيت الاتحاد على أساس الدستور
ليكونوا في مقدمة زعماء الارتقاء في تلك الديار في هذا الطور الجديد، ولتكون
مدينتهم ينبوع مدنية تلك الأوطان في ظل الدولة العلية أيدها الله تعالى.
بينا نحن على ذلك الانتظار إذا بجرائد بيروت نفسها تعيد على أسماعنا في هذه
الأيام شيئًا من حوداث ليالي الاستبداد الحالكة: بعضها صريح، وبعضها جمجمة
وتلويح، وقد جاء العاصمة أناس منها فإذا هم يتشاءمون ويتطيرون ويرون أن
بعض علل التفرق السابق أو كلها قد عادت جذعة أو كادت.. . فالله الله يا بيروت
في نفسك، وفي أبناء جنسك، فإن أعداء قومك وأعداء دولتك يتربصون بك الدوائر
ويكيدون لك المكايد.
اسمعي يا بيروت وعي فإذا سمعت سمعت سورية كلها وإذا وعيت وعت،
وإذا لم تلقي السمع، ولم تفرقي بين الضر والنفع، فعليك إثمك وإثم سورية كلها.
إنك ترين في بعض صحف المفسدين الذين يلبسون لك ثياب الناصحين كلامًا
في التفرقة بين المسلمين والنصارى فإياك أن تغتري بهم، أو تنخدعي لهم، نعم إن
الكريم ينخدع ولكن في الخير، ولا عذر له في الانخداع لدعاة الشر، إنهم يقولون: لا
حق للمسيحي من السوريين أن يتكلم في شؤون المسلمين. ونحن مسلمي السوريين
وعلمائهم وكتابهم نقول: إن لهم أن يتكلموا في شؤوننا كلما رأوا الفائدة للبلاد في
كلامهم معنا فيها، ولا نسيء الظن فيهم؛ لأن المصلحة مشتركة بيننا وبينهم.
إنني لا أسيء الظن بكم أيها الإخوة الأذكياء الفضلاء، ولا ببلدكم وإن لم تخل
كغيرها من الجهلاء وإنما المحب مولع بسوء الظن في كل أمر يتعلق بمحبوبه، فهذا
ما يدعوني إلى هذا التنبيه.
إن رجائي في عقلاء الطائفتين وفضلائهم لعظيم، وإن مما زاد هذا الرجاء قوة
ورسوخًا تأسيسهم لنقابة الصحافة في بيروت، وعسى أن يشترك معهم جميع أصحاب
الصحف اللبنانية. والمنتظر من هؤلاء الكتاب النبهاء - وقد اجتمعت كلمتهم - أن
يجمعوا كلمة قومهم على الوفاق ويجتثوا شجرة الخلاف الخبيثة من أصولها،
ويردوا بالإجماع على كل من ينبز بلدهم بلقب التعصب الذميم وإن كان من آبائهم
أو إخوانهم المهاجرين أو المقيمين، فإنني أرى بعض جرائدنا في أمريكا لا تزال
تركب متن هذا الخطأ: خطأ الاتهام بالتعصب الديني وهو هو الذي يثير كوامنه،
ويحرك سواكنه، ويقوي ضعيفه، ويحيي ميته، فما لهم لا يذكرون.
اذكروا أيها الأذكياء الألباء ما يجمع، وتناسوا ما يفرق، إلى أن تنسوه ببركة
التعاون والإخلاص، اذكروا أن لكم جامعة كبيرة وهي اللسان، وجامعة أخرى وهي
الديار، وكل منهما جامعة شريفة لها ذكر مجيد في التأريخ، وجامعة أخرى
وهي العثمانية التي تصل حبلكم بحبل كثير من إخوانكم الشرقيين، وما أعز من
يكثر إخوانه ويتعدد أعوانه (وإنما العزة للكاثر) . ومن أكبر خطأ بعض الجرائد في
المهاجر التنفير من هذه الحكومة التي يرجى لكم في ظلها ما لا يرجى لغيركم إن أنتم
أتفقتم على تعزيزها بترقية بلادكم وجمع كلمتكم، ولا حجة لتك الجرائد إلا سوء
سيرة رجال الدولة في أدوار الاستبداد البائدة وقياس الآتي على الماضي، وهل يقاس
الضد على ضده؟! كلا إن السوريين لم يذوقوا من بأس الاستبداد ما ذاق الأرمن
ونرى هؤلاء يسارعون اليوم إلى اقتطاف ثمار الدستور ويشاركون في الواجبات
ليشاركوا في الحقوق.
نراهم يعلمون ولدانهم في المدارس النظام العسكري كل يوم ترغيبًا لهم في هذه
الخدمة الجلية، وما نصارى السوريين دون الأرمن ذكاءً وعلمًا بل هم في هذا العنصر
العربي ركن عظيم، تبًّا لمنكريه بأقوالهم، ومحاولي تقويضه بإفسادهم، فتذكروا
وتدبروا، ولا تنازعوا ولا تدابروا، واتحدوا وتعاونوا على ترقية البلاد بالعلم
والثروة؛ لتكونوا كما يؤهلكم استعدادكم الركن الأعز الأكرم في هذه الدولة، وما ذلك
على الله بعزيز، وهو إذا شاء يهبكم اجتماع الكلمة وكفى.
__________
(*) نشرناها في جريدة الحضارة التي تصدر بالآستانة.(13/441)
الكاتب: حسين سليمان
__________
الفطرة وأسباب الترقي في الكون
حسين سليمان
كان الله ولا شيء معه إلهًا في ذاته منزهًا بألوهيته، فليس بكم ولا كيف
محتجبًا في أزله منزهًا عن التحديد فليس بالجسم التعليمي الذي تحده الأبعاد، ولا
بالشيء المفروض الموهوم الذي تكيفه الأفكار تخيلاً وافتراضًا، وإنما هوالكائن في
ذاته لا تحيط به العقول ولا تصل إليه الحواس، وكيف والحواس لا تدرك إلا
أعراضًا لا تلبث أن تزول، سبحانه لا يعلم شأنه إلا هو.
كان الله ولا شيء معه فلا سماء ولا أرض، ولا طول ولا عرض، كان
مصدر الخير ومفاض النعمة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه عز
وجل: (كنت كنزًا مخفيًّا لا أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني)
أراد الله أن يُعرف بنفسه ويمتاز بألوهيته التي يظهر فيها مظهر الكمال المطلق من
قدرة غالبة وإرادة حكيمة وعلم واسع فأبدع من الخلق ما شاء وكون مملكة متأثرة
بتلكم الصفات الثلاث: فالإرادة رتبتها، والقدرة أبرزتها، والعلم حفظها من عبث
الجهل الذي هو سبب الفساد في كل شيء.
نعم فطر الله الكون على قواعد ونواميس كلية وأقام عليه هذا العالم الأكبر:
عالم الحياة الحادثة والحركة المتجددة، فأوجد مقوماتها قوًى وكتلاً مختلفة التركيب
والعناصر، وقد أثبت العلم أن خلقه البارئ سبحانه وتعالى ينقسم إلى قسمين: مادة
ونفس، فالمادة عبارة عن الأجسام، والجسم عبارة عن كل كتلة أشغلت فراغًا سواء
أمكن النظر إليها أم لا كالهواء والماء فإنهما لا لون لهما فلا تدركهما الأبصار.
والنفس عبارة عن معانٍ مجردة لا تشغل فراغًا ولا تتزاحم مع غيرها من
أنواعها، ولا يزاحمها أيضًا غيرها، والدليل على ذلك قريب وهو أنه يوجد في
الإنسان طريقان: طريق خاص بالأشياء الجسمانية هو الفم يوصل الغذاء إلى قاعة
جسمانية أيضًا هي المعدة بحيث لا يمكن أن يشغل فراغها شاغل لا يصح أن لا يقف
عند حد محدود في كميته، وذلك كالغذاء النازل فيها فمتى امتلأت دفعت، وطريق
نفساني مورده الحس المشترك، وقاعه الحافظة تقبل من المعلومات ما لا يتناهى لا
تضيق بعلم دون آخر بل هي قابلة لأن تتناول كل المعلومات التي تصل إليها مهما بلغ
مبلغ كميتها.
وقد قيل في النفس آراء كثيرة لا حاجة بها هنا، ومن المادة والنفس كان
التكوين، فكانت هذه المجموعة وأودعت السلطة أرقى نفس فيها أفيض عليها من لدن
البارئ جل وعلا صفة العلم فكان الإنسان بها خليفة وملكًا سخر له غيره من عالم
المخلوقات.
وانقسمت المادة باعتبار مميزاتها إلى ثلاثة أقسام: حيوان، ونبات، وجماد،
وهي مرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا يقتضي أن يكون وجود الثلاثة في آن واحد؛ إذ
لا غنى للحيوان عن النبات ولا للنبات عن الحيوان، والكل تقلّه الأرض وتعطيه من
خواصها ما يحتاج إليه، ويظهر من ذلك أن الكائنات كلها لم توجد دفعة واحدة كما
هو رأي الفلاسفة، وإنما وجدت بترتيب حيث كانت العوالم العلوية الفياضة، ومنها
سار التأثير في العالم السفلي ومن ذلك ربما يصدق قول بعض المنجمين الذين
يرصدون الأفلاك فيستنتجون من أشكالها حوادث جوية ووقائع أرضية [1] .
قد يظن إنسان أن النبات ليس محتاجًا إلى الحيوان، كلا فإن النبات محتاج في
حياته إلى الحيوان؛ فإنه يتنفس كالحيوان وبينهما في هذه الصفة ارتباط شديد
فالحيوان ينقي الهواء للنبات والنبات ينقي الهواء للحيوان. وإليك الغابة دليل وهي
المكان الطبيعي الذي لا يخلو من وجودهما فهما يتبادلان منفعتهما، والغرض من هذا
الارتباط العظيم بقاء ذلك الكون إلى أجله المحدود تتوارد عليه عوامل الترقي كلما
كشف العلم عن أسراره، وأبان البحث والتنقيب خفاياه {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن
قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) .
أيها السادة: الترقي في الكون لا يقتضي تغييرًا ولا تبديلاً في نواميسه {لاَ
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: 30) وإلا لانقلبت الحقائق، وذلك ضرب من المحال
وإنما ترقي الكون عبارة عن تحسين مادة اجتماع العناصر التي تتآلف منها كتناسب
الأوضاع وتوفيق الألوان واتحاد المشارب، واقتراب ما تنافر منها بالمعالجة بالعلم
والتربية، انظروا إلى الإنسان الأول واحتياجاته فكم علم حتى عمل حتى وصل إلى
ما هو عليه الآن من المدنية الباهرة، والذي يكفل ذلك إنما هو العلم الصحيح، هذا
مبدأ صحيح وقاعدة يجب الاعتماد عليها وإلا ساءت الحال وقبح المآل، فإذًا يجب
على المتعاونين والمتعاقدين قبل دخولهما في التعاون والعقد الاتحاد والائتلاف، وما
أحرى الزوجين أن يكونا كذلك، فهما إن لم يأتلفا كانا مدرسة شقاء لأبنائهما ومهيع
فساد لذريتهما، فتعارف الرجل وامرأته قبل الاقتران بها أمر ضروري طبيعي حتى
يتم ذلك التقسيم الشرعي في قوله تعالى: {الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ
وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (النور: 26) فالخبيث يرى الخبث
فضيلة في غيره، والطيب لا يرى فضيلة في غير الطيب، وإلا وجب حل العقدة وفك
الشركة، وقد جاء في الحكم عن العرب (إن لم يكن وفاق ففراق) فمهما تغيرت تلك
المبادئ الطبيعية أو تنكرت فعلى ممر الزمان يضطر إلى الرجوع إليها. هذا ما حدا
بالأوربيين الآن إلى أن يحلوا عقدة الزواج بمجرد اختيار أحد الزوجين وقد بلغ
التنافر بعضهم إلى حد مدهش هو ما روته بعض الصحف من طلاق امرأة زوجها
لكون لون شعره لم يأتلف بصبغ أثاث منزلها الذي أنفقت فيه مبلغًا طائلاً! وما أظلم
تلك المرأة التي لم تر بيع أثاثها أولى من بيع بعلها! بل ما أظلم الشريعة أو القانون
الذي يقرها على صنعها، فعقدة الزواج عندنا يا حضرات الإخوان عقدة ذنب عقدت
مصالح أسرية كثيرة يجب أن نضعها دائمًا على خارتة البحث والتفكير.
والترقي في الكون له أسباب كثيرة، وأول أساس فيه المال وما ورد في
شريعتنا الغراء من مقال الزهد في المال والتحذير من فتنة الدنيا، فإنما الغرض منه
البعد عن أكبر رذيلة تلصق بالإنسانية ألا وهي الحرص الذي هو عبارة عن حب
المال لذاته، وهذا أقبح ما يكون في الإنسان.
ومن الترقي في الكون الاقتصاد في المادة للمحافظة على قوتها النامية؛ لأن
الاقتصاد هو التوسط، فإذا أضعف الأرض نبات ضروري كالقطن مثلاً وجب أن
يستنبت فيها عامًا بعد عام حفظًا لحياة الأرض ويمكننا أن نقيس على هذا المثال
الكبير غيره حتى نصل إلى أقل الخلائق. النملة تدخر قوت شتائها من صيفها
فمخالفة هذه القاعدة عصيان للترقي وجفاء للتقدم، والفلاح الذي يزرع الأرض قطنًا
عامين متواليين طمعًا في سعة الرزق جاهل غبي يختار كثيرًا ينقطع عنه على قليل
يدوم عليه، وقد قالت العقلاء: (قليل تدوم عليه خير من كثير تنقطع عنه) .
ومن الترقي في الكون المدنية العلمية وذلك بإيجاد الصناعات والصعود بها إلى
مدارج الترقي حتى تصل إلى تسخير الجماد ليأخذ عن الحيوان ما يجهده كاستخدام
البخار والكهرباء لإراحة الحيوان واتجاه قوى الإنسان الجسمانية إلى مساعدة القوى
العقلية، وهذا سبب صحيح لترقي العمل والصناعة، فإن الصانع المفكر لا يشك في
أنه يأتي بصناعة متقنة لا يوفق لها الصانع المسخر وشتان بين من يعمل بواسطة عقله
ومن يعمل بما اعتادت عليه يداه، إني لا أغلو في هذه المكان إذا قلت: إن في خبايا
الكون إلى الآن أسرار تستخرجها العقول على مدى الأيام، وقد أثبت العلم أن عقول
أهل الطينة الحارة أذكى من عقول أهل الباردة. فأحتسب على الشرق إن استعمل
عقله أن يأتي بما لم تستطعه الأوائل.
ومن الترقي في الكون العمران، والإنسان وإن كان مكلفًا بهذه الوظيفة السامية
إلا أنه من العجيب أنه إذا اتسع به الفضاء أدركته الوحشة ومال إلى الأنس فانضم
إلى غيره من بني جنسه ليعاونه أولاً على مصالحه، وليأتنس به ثانيًا فإذا ضاق به
المكان كره الزحام ومال إلى الأثرة وحب النفس وتنازع البقاء مع أقرب الناس إليه،
وود لو كان هو كل الإنسان فما أعجب هذا الإنسان، نعم يوجد في المزاحمة كبير
فائدة من حيث العمران، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرزق عند
تزاحم الأقدام) إلا إنه يلزم أن يكون الناس على نظام يكفل لكل حقه فيقف الأجشع
عند حده، ويساق العالة إلى العمل متى قدر عليه، وذلك بحرمانه من الصدقة
والإعانة. وقد ورد عن أبي مسلم الخراساني زعيم الدعوة العباسية أنه مما أوصى به
أولاده عند قرب منيته: أن لا يعينوا كلاَّ ولا يعطوا عالة فيكون في جسم الأمة
أعضاء تألف الكسل في العمل وحتى لا يوجد دجال ولا ذو عرافة وشحاذ قادر على
العمل.
هذا القانون هو النظام الذي يسنه الله لعباده إما بطريق الوحي وإما بإلهام
حكماء الأمة وعقلائهم وضعه لذلك، تجد عالم الوثنية قائمًا في بعض الجهات على
قواعد وقوانين وضعها الرؤساء لا تخرج عن النظام والترتيب في المعيشة بل قد
تكون أشد في التكليف من الأوضاع الإلهية وقد أكد لي خبير أن اليابان على ما هم
عليه من الوثنية على كعب عالٍ في الأخلاق، ويؤيد ذلك بزوغ شمس الحكمة من
الهند من قديم الزمان؛ أي: قبل أن يصل إليهم الإسلام وعلى أثر ذلك نقول: إن
فطرة كل مخلوق هي قيامه بالعمل لنفسه أولاً، ولما خلق لأجله ثانيًا فالمعادن متى
أخذت قسطها من خواص الأرض وظلت نافعة كان ذلك لفائدة غيرها، وكذلك النبات.
ترى النخلة تبحث بجذورها على الماء فقد تدركه على بعد مائة ذراع أو أكثر وذلك
بجهد لو قام به حيوان لأَنَّ أنين التعب الكادح. وكثيرًا ما شوهدت جذور النخلة
تساقط من بين جدران الآبار إلى الماء وبينها وبين تلك الآبار مسافة واسعة، كل ذلك
الغرض منه حفظ حياتها لتؤدي وظيفتها التي خلفت لأجلها، ألا وهي تقديم الرطب
الجني لبني الإنسان. وكذلك الحيوان يعمل أولاً لقوام حياته ومنه ما يبذل تلك الحياة
الثمينة التي تعب في نموها ويتقدم بها إلى غيره ضحية لينتفع بها ذلك الغير كدودة القز
المعلومة التي تظل تعمل لتقدم لنا مادة من أنفس المواد لطافة وأغلاها قيمة؛ ألا وهي
الحرير، ومنه ما يتفضل علينا بما يخرجه من بطنه شرابًا مختلفًا ألوانه فيه شفاء
للناس كما أخبر بذلك خالق النحل وموفقها إلى هذا العمل الكبير الذي لا يطابق بنيتها
حيث قال: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا
يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ
مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 68-69) .
أيها السادة ما الذي ترونه في هذا الترتيب؟ هل في هذا الترتيب خرق؟ حاشا.
هل في هذه الفطرة ظلم وشر؟ كلا، فمن أين يجيء الشر ومتى يكون المخلوق
شريرا؟
انظروا إلى الترتيب الآتي أيضًا: تتكون المعادن من مادة الأرض فتنقصها،
وكذلك النبات والحيوان ثم تعود تلك الأشياء إليها ولو باستحالة الصورة فتسد موضع
النقص منها، وهذا سر البقاء للكون، فإذا أراد الله إذهابه اختلفت هذه النسب فيحصل
الفساد، ذلك ما جنح له كبار علماء التفسير في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي
الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} (الرعد: 41) فإذا أراد
الله القضاء على العالم أنقص الأرض، والإنقاص من الطرف مبدأ طبيعي عند إرادة
إبادة الشيء. وذهب قوم إلى أن طرف الأرض عبارة عن قطبيها. ولكني أقول: إن
طرف الأرض هو مجموع سطحها فكل نقطة فيه تسمى طرفًا فكأن مجموع سطحها
أطراف لها. ولذلك عبر سبحانه وتعالى بلفظ الجمع فقال: {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} (الرعد: 41) ولو كان النقص من القطبين كما فهم بعضهم لعبر الله تعالى بلفظ
المثنى؛ أي: من طرفيها كما هي سنة القرآن الكريم في الإخبار. على أن الجزء
الذي فيه الانقلاب والتغيير من الأرض إنما هو سطحها، وهو الذي يعقل أن يعتريه
النقص.
جعل الله بقاء هذا الكون بتبادل الأشياء الثلاثة، وغذاء بعضها من بعض،
فالأرض تأكل نباتًا وحيوانًا، والنبات يأكل أرضًا وحيوانًًا، والحيوان يأكل من
الثلاثة. وهذه الثلاثة تنقسم إلى مراتب بحسب القوة والضعف بحيثيات مختلفة؛ فمن
حيث إن الحركة والقوة في العمل ظاهرة للحيوان كان هو أقواها وأرقاها ومن
حيث إن الأرض هي أم الكل منها تخرج وإليها تعود كان الجماد أقواها وأبقاها وإذا
بحثنا في الأشياء الثلاثة نجد في كل منها شيئًا من الضرر في غير ذاته؛ أي: بالنسبة
لغيره، فقد يكون الجماد سامًا كالمعادن الحريفة الشديدة القبض وكذلك بعض النبات
والحيوان، ومن الغريب أن للحيوان الغير الناطق خاصة يميز بها من النباتات السام
من غير فيجتنبه والطيب من الخبيث فيرعاه ولا يعقل أن تكون الأجسام السامة عديمة
الجدوى، بل قد تكون نافعة لكذا وضارة بكذا. على أن العمدة في الطب القديم
والحديث على الجواهر السامة ومن يصدق منا أن البقدونس وهو النبات الطيب المفيد
للمعدة والمثانة يقتل الببغاء بمجرد تعاطيه.
علم مما تقدم أن الكائنات الثلاثة متماسة، وأن منها ما لا يجد قوته إلا
بالافتراس، وأن الإنسان على ترقيه العظيم ما هو إلا حيوان مفترس، إلا أن ما أوتيه
ما من الذكاء والتدبير جعل طبيعة الافتراس فينه منتظمة: الإنسان يصطاد الحيوان
فإن كان دينه يلزمه بتذكيته (ذبحه) ذكاه، وإلا خنقه أوعبطه أو وقذه. وفي الذبح
بالطريقة الشرعية تخفيف على الحيوان بشرط مراعاة أحكام الذبح الواردة، ولذا كان
الذبح من أهم المقاصد الشرعية والديانة الموسوية لها فيه شروط مؤكدة، ولا يعد
الذبح تعذيبًا للحيوان فإنه يؤدي به وظيفة خلق لها قال تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ
فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (النحل: 5) والطبيعة الغذائية في الحيوان كله
تشهد بأن الإنسان من الحيوانات أكالة اللحم ولو امتنع عن أكل اللحم أربعين يومًا
ضعف مزاجه جدًّا، وربما يمرض مرضًا شديدًا لو استمر أكثر من ذلك. اللهم إلا إذا
تعود الأمر وحينئذ يصير أكل اللحم ضارًّا له، الذبح عبارة عن قطع الودجين وإنما
يقطعان في لحظة فلا يكاد يحس الحيوان؛ لأن الجسم حينئذ يكون انفصل عن المخ
الذي هو مركز الإحساس.
نعم ليس في ذبح الحيوان تعذيب، وإنما التعذيب هو أن يعيش عاملاً فوق
طاقته، أو يكون على خلاف طبعه وهي الحال التي تقضي على ذوي العقول
بالانتحار تخلصًا من شر الحياة، ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله
في البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة) ، وجاء عن بعض الفلاسفة أنه
ترفع عن أكل اللحم مدة حياته كأبي العلاء المعري. وقد فهم قوم أن الذي حمله على
ذلك رأفة منه وشفقة على الحيوان. هذا إن لم نعتقد أنه ناشئ من فاقة كان عليه ذلك
الحكيم، كما جاء في بعض رسائله، ومثل هؤلاء من يضرب على نفسه بسور من
حديد حتى لا تلزمه الحاجة الواسعة فيشقى في طلبها، على أن الأمر ليس كذلك
فحاشا أن يجهل المعري ومن نحا نحوه من الفلاسفة أسرار التكوين وإنما الغرض
من ذلك أن يكسر سورة نفسه فتتجرد من حجاب الجسم الكثيف الذي تزيده الشهوات
واللذات ظلمة، فتصفو صفاءها الذي ظهر في شعره الحكيم، وهذا هو السبب الحقيقي
الذي فرض الشارع لأجله الصوم تقليلاً لتلك الشهوات.
إذا تقرر هذا المبدأ أقول: ليس في الحيوان شر قط خصوصًا ما كان منه أبله؛
إذ لا فكر توجد به أمراض القلب كالحقد والحسد والغرور والأثرة وغير ذلك من
أمراض الإنسان. فكما أن العقل زينة له، كان هو مصيبة عليه، ذلك مذهب
عامة الفلاسفة، يدلك على ذلك ترفع الأسد عن العودة إلى فريسته مهما نهكه الجوع؛
لكونه يأنس من نفسه قوة تهيئ له طعامه متى شاء.
ربما ائتنس الإنسان بوحوش الحيوان ورافق الثعبان فلا يرى منه إلا المسالمة
المطلقة ويأمن له أكثر من أخيه الإنسان، قال أبو العلاء المعري رحمه الله:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى ... وصَوَّت إنسان فكدت أطير
وهذه الحكمة مبنية على ما تقدم من أنه قد يوجد الإنسان بين جماعات أدنياء،
من الناس، فلا يأمن على حياته منهم ويفضل وجوده مع الوحش على وجوده مع
هؤلاء الناس، وما كان خلقه من الحيوان الأذى والضرر كما تظن فإنه لا يخرج
أيضًا بهذا الخلق عن كونه يؤدي وظيفة اضطرته إليها الطبيعة فيه كالفأرة مثلاً تترقب
فرصة الليل السادل خيمته على العباد فتبيت تقرض طول ليلها فتفسد الأثاث
والرياش، ويعلم الله أنها لا تعلم له قيمة ولا تتصور له لطافة، وما ذلك إلا لكونها
خلقت حادة الأسنان ترتاح كثيرًا لتشغيلها. وكذا العقرب ليس بينه وبين غيره ثأر
فيخرج ليأخذ به بذنبه، ولكنه لكونه خلق أعمى تراه يخشى دائمًا في سيره فيتحصن
بذنبه وهذا خلق فيه فلا لوم عليه.
فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك فكيف أباحت الشريعة الرشيدة لنا قتل هذه
الحيوانات؟ قلت: إن هناك مبدأً عمرانيًّا ضروريًا هو إتلاف الحقير لحفظ العظيم.
ويقابله في ذلك قاعدة أصولية هي: إتلاف الثلث لإصلاح الثلثين جائر.
فإذا كان من خلق الفأرة العبث بالأشياء الصالحة وجب قتلها حتى تحفظ تلك
الأشياء من التلف كما إذا كان عضو من الأعضاء ضارًّا بالجسم وجب قطعه وعلى
ذلك أباح الشارع أيضا الحكم بالإعدام على القاتل، وهو ذلك العمل الذي هوعبارة عن
إزهاق الروح ومصادرة البارئ جل وعلا في منحه عباده صفة الحياة؛ فكيف يصح
للشارع وهو الذي ينكر ذلك العمل الفظيع بالأمس أن يأتي به اليوم وقد استفظعه من
غيره؟
يقال ذلك إذا كان الغرض من الإعدام الأخذ بثأر المقتول فقط ثم إنه لا فائدة
تحصل للمقتول أو لأهله من قتل القاتل. كلا إنما الغرض من القصاص تأديب من
كان في نفسه مطمح إلى هذا الجرم، فيرى أنه مقتول لا محالة والنفس عزيزة
خصوصًا إذا كانت الجرأة على القتل بعامل ليس له كبير تأثير فيها كالاختلاس مثلاً
أما إذا ضاق بها الأمر وكرهت البقاء عليه كالذل والضيم والظلم وهتك العرض ورد
الصائل تقابلت الصدور بالسهام ورأت اللذة في آلام الحمام:
يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول
وهذه حالة استثنائية عسى ألا يؤاخذ القانون مرتكبها؛ لأن النفوس في ذلك
تفقد رشدها بخلاف القتل بأسباب سافلة ولا يتأتى ذلك إلا من الجبناء فكان القصاص
لأحدهم أعظم رادع. هذا هو معنى الحياة الذي استنتجه عقلاء التشريع من قوله
تعالى: {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 179)
لولا هذا النظر ما استفاد أهل المقتول من القاتل شيئًا، أما أخذ الدية فهو أمر ثانوي قد
يكون فيه سلوان لأولياء الدم متى كانوا فقراء وليست بمتيسرة في كل الأوقات، على
أن المروءة والإباء يأبيان أخذ الدية خصوصًا متى كان القتل حاصلاً بسوء القصد
وذلك يشفي صدر أهل القتيل بموت عدوهم، وليس هذا بشيء ولا بمبدأ عمراني
متى قصر النظر عليه فلو قابلنا كل شيء بشيء مثله في التلف لما مكثت الدنيا أكثر
من مائة عام، مثلاً: عمرو هدم بيت زيد وزيد يهدم بيت عمرو وخالد مزق ثوب بكر
وبكر يمزق ثوب خالد.
أما إذا كان القتل اتفاقًا وهو ما يسمونه بالقضاء والقدر أو كان بمحض الخطأ
فإن الدية لا بأس بها متى تيسرت.
ومن الترقي في الكون التمتع بحرية العدل وإقامة قانون تدين إليه جميع
الرؤوس يكفل التساوي بين الناس في حقوقهم، ذلك القانون كان في قديم الزمان
عبارة عن أحكام اصطلاحية تتفق عليه الأمة سواء أكانت حكيمة؛ أي: مطابقة
للناموس العام كالشرائع السماوية والأحكام الديمقراطية أم موافقة لأجواء
البلاد وأجسام سكانها كالأحكام العرفية التي تختلف كثيرًا باختلاف الأجيال واستعداد
الأجسام، يأتي في الأمة جيل لا يردع إلا بالسوط، كما يأتي فيها عينها
جيل يؤدبه الصوت.
هنا توجد قاعدة ينبغي أن نذكرها لمناسبة ذكر العدل ألا وهي قولهم: (التساوي
في الظلم عدل) كيف يكون التساوي في الظلم عدلاً؟ وكيف يصح أن يكون الظلم
مصدرًا للعدل والعدل مصدرًا للظلم مثلا؟ نعم قد يضطر الإنسان أحيانًا إلى استعمال
الظلم معتقدًا أنه ظلم إذا لا بد منه ولكنه حينئذ لا يسمى ظلماً وإنما يسمى سياسة
وهذه القاعدة واسعة الدائرة تشمل القيام على حقوق الإنسان والدخول في شخصيته
متى كان لا يحسنها وذلك كالحجر على السفهاء والقيام على اليتامى والوصايا على
القاصرين ومصادرة السكارى والضرب على أيدي المقامرين ومنع الربا واحتسابه إلى
قدر معلوم وغير ذلك كما هو خاص بالأحوال الشخصية التي ربما يقال: إن الاتفاق
فيه يبررها. نعم إنه يوجد في قواعد التشريع أيضًا قولهم: لا مشاحة في الاصطلاح
ولا حكم بعد الاتفاق، والملك يتصرف في ملكه كيف يشاء. وبنيت على تلك القواعد
أحوال أهمها: إباحة القتل للمتبارزين كما هو قانون نابليون إلا أن مثل تلك الاتفاقات
قد تضر بالمجموع الكلي؛ إذ إنه مركب من الأفراد فساغ إذًا للحكومة القائمة عليه
المسؤولة عنه أن تضرب على ما يتطرق إليه من الفساد ولو أدى ذلك إلى
مصادرة الأفراد.
بقي لنا في هذا المركز نقطة يجب أن تعرض لها لأوافيكم علمًا بها، حاشا
فإنكم عالمون متمدنون أعلم مني بها، وإنما أرجو أن تنشروها فيعرفها الجاهل ألا
وهي كلمة الحرية التي كثير من جهالنا ينطقون بها ولا يفهمون معناها الحقيقي. نعم
كثير من الناس من يجهل معنى هذه الكلمة، بل بعضهم يفهم منها عكسها عكسًا
مضطردًا ويرى أن الحرية في إطلاقه يعني في الأرض بسكر وعربدة وتهتك وابتذال،
وأن الرجل والمرأه في ذلك سواء. فتحرج متبرجة على ما يخالف جميع أجناس
النساء الكاملات تحجب وجهها وتكشف زنديها، وتستر رأسها وتكشف عن ساقيها ,
وإذا كست زندها بالقفازين (الجوانتي) أظهرت جبينها. ولبعض الرجال
معايب ربما ساوت هذه المعايب المتقدمة مما يدل على الإنسان المصري في هذه
البلاد معكوس الحال ولو أمكنه أن يمشي برأسه لانقلب يمشي عليه حبًّا في
العكس المضطرد ما هذه الحرية؟ !
أيها السادة: إن الحرية كما لا يخفى عليكم عبارة عن التساوي الممكن بين
أفراد الناس. وهو المبدأ الذي يجب المحافظة عليه، ومحب الحرية أول من يحترم
حقوق الغير محافظة على حقوقه هو أيضًا، وهو أول من يقول الآداب وتربية النفس
لتتمثل الناس بأحاسن العادات ومكارم الأخلاق فتتمتع بمواهبها وتطلق عنان فكرها
في ميادين حريتها بما لا يخرج عما وضعه قانون عمرانها وأقره عقلاء أمتها.
الإنسان - أيها السادة - مطلق مقيد وليس هذا بعجيب، بل هذا من لوازمه،
وليس ذلك حاطًّا من كرامته ولولا ذلك لأشبه الحيوان لأنه لو كان مطلقًا فقط لأشبه
سوام الماشية وعمل الحيوان كالكلاب والقطط، ولو كان مقيدًا فقط لأشبه أذلاء
الحيوان كالحمار والبغل والجمل، فجهة إطلاقه هي جهة حريته يتصرف فيها كيف
يشاء لا يسأل عما ملك ولا عما وهب بشرط أن لا يخرج ذلك عما ترضاه. وجهة
تقييده هي قيامه بواجباته كإدانته لأمه وأبيه وزوجه وبنيه، وفصيلته التي تؤويه
وملازمته عادات قومه الضرورية التي قد يختل النظام بتركها كترك لغته
باستعمال غيرها واحتقاره مصنوعات بلاده وغير ذلك مما نراه سببًا في انحطاط
كثير من الأمم. وإدانته أيضًا لجامعته ووطنه حتى يعمل هو أيضًا لغيره كما قدمناه في
قسيميه الحيوان والنبات.
أيها السادة: إني أذكر لكم نتيجة استنتجتها مما كتبه العلامة ابن خلدون في هذا
المقام تحت عنوان (المقدمة الثانية في قسط العمران من الأرض وأن الربع الشمالي
منها أكثر عمرانًا من الربع الجنوبي وذكر السبب في ذلك) أفاض الحديث هذا العالم
الجليل، وبعد أن عرف الأرض وخططها، وذكر منها خطوط الطول والعرض،
ومدار الكواكب، واختلاف مسقط أشعة الشمس باعتبار الزوايا الثلاث؛ برهن على
أن الجزء الشمالي منها كثير العمران؛ وذلك بسبب توفر الرطوبة فيه حيث قال:
(وإفراط الحر يفعل في الهواء تجفيفًا ويبسًا يمنع من التكوين؛ لأنه إذا أفرط
الحر جفت المياه والرطوبة وفسد التكوين في المعدن والحيوان والنبات؛ إذ التكوين لا
يكون إلا بالرطوبة) ولا بأس هنا بذكر جملة فلكية عن هذا الأستاذ إتمامًا للموضوع
قال: (إذا مال رأس السرطان عن سمت الرؤوس في عرض خمسة وعشرين فما
بعده؛ أي: بعد هذا العدد نزلت الشمس عن المسامتة فيصير الحر إلى الاعتدال أو
يميل عنه قليلاً فيكون التكوين ويتزايد على التدريج، إلى أن يفرط البرد في شدته
لقلة الضوء وكون الأشعة منفرجة الزوايا، فينقص التكوين ويفسد، إلا أن فساد
التكوين من جهة شدة الحر أعظم منه من جهة شدة البرد؛ لأن الحر أسرع تأثيرًا في
التجفيف من تأثير البرد في الجمد؛ فلذلك كان العمران في الإقليم الأول والثاني قليلاً،
وفي الثالث والرابع والخامس متوسطًا لاعتدال الحر بنقصان الضوء، وفي السادس
والسابع كثيرًا بنقصان الحر، وإن كيفية البرد لا تؤثر عن أولها في فساد التكوين كما
يفعل الحر؛ إذ لا تجفيف فيها إلا عند الإفراط بما يعرض لها حينئذ من اليبس، كما
بعد السابع؛ فلهذا كان العمران في الربع الشمالي أكثر وأوفر والله أعلم) اهـ.
هذا الربع هو عبارة عن قارة أوربا، وهي حقيقة أعظم القارات عمرانًا
ونتيجتي من موضوع هذا العمران الكبير هي أن الحضارة والعمران الغربي إنما هو
نتيجة طبيعة القارة، لا أن للأوربيين عقولاً استثنائية تتفاوت عن غيرها كما يفهم
بعض المفتونين بالغرب، وإذا كنا نحن - أيها السادة - لا نجد من طبيعة جونا
معينًا كهؤلاء، أفلا يجمل بنا أن نعاض ذلك من أنفسنا قوة وشجاعة حتى نتساوى
مع أولئك الأوربيين ولعل ذلك سر ذكاء أهل البلاد الحارة، فإن الله الحكيم
العليم يبعث بالمعونة على قدر المؤونة، فأعطانا ما أنقصه منا من خاصة
أرضنا ذكاء، وجلدًا حبذا لو قدرناه واستعملناه.
ومن أسباب الترقي في الكون المطاوعة لمقاديره والتصرف في حوادثه، وذلك
ما يعبرعن ضده بالجمود. قال أفلاطون: (لا تكرهوا أولادكم على أخلاقكم فإنهم
خلقوا لزمان غير زمانكم) ، وهذا أمر ضروري إن لم يكن طوعًا فليكن كرهًا،
ولشريعتنا فيه نظر حكمة ورشاد، قال الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ
بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: 106) يعني: إذا نسخ الله حكمًا أنى لنا بأحسن
منه أو بمثله في زمان أو حال يناسبه حيث كان لا تناسبه حاله الأولى وليس ذلك
بكبير على الله؛ لأنه ليس الغرض منه أن الله تعالى يجهل موافقة الأحكام لأوقاتها
حاشا فهذا شيء مستحيل عقلاً، إنما الغرض من ذلك وضع مبدأ للمكلفين
يتصرفون فيه بحسب ضروراتهم. والنسخ بالبداهة لا يتأتى إلا في المعاملات
المبنية على الأوامر والنواهي. وليس بمعقول أن ينسخ توحيد بغيره، ولا أن تبدل
صلاة بصلاة، بل قد يتبدل الحكم بغيره للتخفيف أو التشديد كنسخ الوصية للأقارب
بالميراث وعدة الوفاة من الحول إلى أربعة أشهر وعشر، ذلك كما قال العلامة
الخطيب الشربيني؛ لأن الأحكام شرعت والآيات نزلت لمصالح العباد وتكميل
نفوسهم فضلاً من الله ورحمة. وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص كأسباب
المعاش فإن النافع في عصر قد يضر في غيره , اهـ.
وكان لسيدنا عمر - رضي الله عنه - في ذلك أحكام خاصة منها: إيقاع الطلاق
ثلاثًا دفعة واحدة، وإقامة صلاة التراويح في عشاء رمضان. وأحكام استثنائية كثيرة
في معاملة أهل الذمة لا تخرج عن كونها سياسية أكثر منها شرعية.
ومن الترقي في الكون إيجاد قوة الجماعة كاشتراك الأفراد في الأعمال،
وأهمها: عقد الشركات ومن يكن في ريب من ذلك فليسأل عنه الجالية الأوربية
النازلة بنا حيث إنا لم نوفق لها حتى الآن. نسأل الله حسن التوفيق.
هذا أيها السادة ما حضرني من أسباب الترقي الضرورية، وهناك أسباب
كمالية لا تخرج عن تحسين ذلك النظام البديع منها الجمعيات والمنتديات
والمتنزهات، وهي وإن كانت كمالية إلا أنها لا بد منها لكل أمة بغية الوصول إلى
الكمال، والله الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) محاضرة للشيخ حسين سليمان مفتش مدارس العروة الوثقى بالإسكندرية ألقاها في نادي موظفي الحكومة بالإسكندرية بتأريخ 14ربيع الآخر سنة 1328.(13/445)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسماء عربية لمسميات إفرنجية
عني أعضاء نادي دار العلوم بمصر بالتنقيب عن أسماء عربية لبعض
المسميات الإفرنجية وما لم يجدوا له أسماء عربية وضعوا له اسمًا جديدًا أو عربوه.
والاشتقاق والتعريب ليسا جديدين في اللغة بل هما جائزان وواجب أن يصار إليهما
عند الحاجة. ونحن ننقل للقراء ما وقع عليه الاختيار في الاجتماع الأول لأعضاء
النادي، وسنثبت كل ما يختارونه على أن كثيرًا من هذه الكلمات قد استعملت من قبل
وأقر الأعضاء على استعمالها إقرارًا وهذا هي الكلمات:
استمارة: يرى أعضاء النادي استعمال (استئمارة) ، وقد وجدت هذه
الكلمة في الكتب القديمة بلفظ استيمار بالتسهيل، وحذف التاء، ولكنهم رأوا إثبات
التاء لالتزامها في الاستعمال الحاضر وعدم المانع منه والكلمة مرة من استأمر؛ أي:
أخذ أمره.
أنفيتياترو: ترجمت بلفظة (مُدرَّج) منذ زمان وقد كاد اختيار الأعضاء
يجمع عليها.
بلوك نوت: تعريبها (إضمامة) ومعناها الأوراق منضمة.
بُويه: نظرت اللجنة فيما يستعمل التلوين فوجدته على نوعين: نوع يتخلل
أجزاء الأجسام فاختارت له كلمة (صبغ) كصبغ الثياب والورق وما أشبه، ونوع
يعلو السطوح فاختارت له كلمة (طِلاء) كطلاء المباني والأواني وغير ذلك.
تخته بوش: وهو ما يسميه الإفرنج veranda وتعريبه (نجيرة) فقد
جاء في لسان العرب أن النجيرة سقيفة من خشب ليس فيها قصب ولا غيره.
ترابيزه أو طاولة: رأت اللجنة من هذا المسمى أنواعًا: فمنها ما هو للأكل وهذا
(خِوان) ويسمى حين وضع الأكل عليه (مائدة) ، ومنها ما توضع عليه
الأشياء المختلفة وهذه (منضدة) مشتقة من النضد وهو جعل المتاع بعضه فوق
بعض ويخصصه بعض اللغويين بحر المتاع وخياره، ومنها ما هو للكتابة خاصة
وهذا يطلق عليه كلمة (مكتب) المستعملة.
ترسينة: إن ما يخرج عن البناء منه ما هو مغطى وهذا يسمى (كُنّة) ومنه
ما هو مكشوف وهذا (طَنَف) والكلمتان في العربية موضوعتان لما يخرج من
الأجنحة في الدار، على أن هناك لفظة تؤدي المعنى وهي (شرفة) وقد كثر
استعمالها، وقد ورد في الأغاني بهذا المعنى كلمة (مستشرف) .
جول: اختارت لها اللجنة لفظة (مرمى) على أن كلمة (محج) الشائعة في
سورية تؤدي نفس المعنى.
خارطة: وصحيحها (خريطة) .
دوسيه: تعريبها (ملف) .
شماعة أو تعليقة: وجدت اللجنة لما تعلق عليه الملابس نوعين: أولهما ذو
عمود متوسط وشعبات بارزة فاختارت له كلمة (غِدان) وهو في اللغة (قضيب تعلق
عليه الثياب) والثاني يثبت في الحائط فاختارت له لفظة شجاب.
طابور: الكلمة عربية حُرفت وصحيحها تابور.
كارت فيزيت: سبق اختيار (بطاقة الزيارة) ولا مانع من الاستغناء عن
المضاف إليه فيقال: (بطاقة) كما يقول الإفرنج: (كارت) .
وقد رأت اللجنة أيضا استبدال (سينماتوغراف) بكلمة (خيالة) [1] وهي
كل ما تراءى لك من الصور. (وفونغراف) بـ (الحاكي) وميموغراف (بمطبعة
النضح) و (تيب ريتر) بمطبعة الأزرار؛ لأنها اتخذت قاعة عامة في تسمية
المطابع وهي أن تستعمل كملة مركبة من مطبعة مضافة إلى أكبر مميز لتك
المطبعة. على أن كلمة (الآلة الكاتبة) أو (الكاتبة) فقط أقرب من مطبعة الأزرار.
__________
(1) المنار: الصواب أن يقال: استبدال (خيالة) بكلمة (سينما توغراف) .(13/457)
الكاتب: حسين وصفي رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(تقرير السر ألدن غورست سنة 1909)
أصدرت إدارة جريدة المقطم هذا التقرير منذ أكثر من شهر مترجمًا بالعربية
حسب عادتها وقد أهدت إلينا نسخة منه ضاق المنار الخامس عن الكتابة عنها،
وهذا التقرير حافل بالتفصيلات عن إدارة القطر المصري وروح الأعمال فيه، وقد
سرنا من هذا التقرير الفصل المعقود عن حال المعارف في القطر المصري ونماء
حركة التعليم ووفرة عدد الطلاب وكثرة الكتاتيب والعناية بتعليم العلوم باللغة العربية
بالتدريج مما يدل على أن هذا القطر السعيد ستكون بحار العلم فيه زاخرة وثماره
يانعة إن شاء الله تعالى.
تَقَدُّمُ العلم في هذه البلاد نَامٍ سريع، ولا نريد بتقدم العلم توفيق قومنا
للاختراعات المفيدة والاكتشافات الجيدة، وإنما نريد كثرة سواد طلاب
العلم والراغبين فيه، فإننا لسوء الحظ لا نزال بعداء عن الوصول إلى هذه
الغاية على أننا سائرون في الطريق وعلى الله قصد السبيل، وإنه ليحزننا أن تكون
التربية في ارتكاس وانتكاس وتَدَلٍّ وانحطاط، وليس العلم بملبغ إيانا أملاً إذا لم نتربَّ
تربية صحيح تغرس في نفوسنا عشق الفضيلة وحب الخير لكل البشر وغير ذلك من
الشيم التي تنطوي تحت هاتين الكلمتين الكبيرتين، وإنه ليؤلمنا أن تكون مدارس
الحكومة والمدارس الأهلية شرعا في إهمال أمر التربية وعدم العناية بشأنها اللهم إلا
مدارس الأجانب التي تخلق تلاميذها بأخلاق يخرجون بها من قوميتهم ونحلهم فيكون
الخسار بذلك عليهم وعلينا. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فتن قومنا بالسياسة فصرفتهم أكاذيبها عن العمل النافع لهذه الأمة التعسة
وصدفت بهم عن الطريق المعبد والسبيل اللاحب، فتاهوا في بيداء طامسة الصوى
والأعلام، وأوغلوا في تأويل الرؤى والأحلام، وخدعوا الناس بزهوالقول وزخرف
الوعود دون الحث على القيام بالأعمال الجسام، اللهم عونًا وغفرًا، هل جنى من
قبلنا من السياسة ما كان يطمحون إليه حتى تكون لنا أسوة حسنة بهم فَنَجِدّ في السير
على آثارهم ونقتفي سيرتهم فتكون متابعتنا لهم حذوالقذة بالقذة؟! اللهم لا.
فنهضة أيها القوم وأوفضوا سراعًا وانسلوا من كل حدب إلى مهيع العلم
الصحيح والتربية الصالحة، ولا يتم ذلك إلا بنشر التعليم الأهلي، وإن أهل الثراء
وعاضدي العلم كثيرون بحمد الله في هذه البلاد، ولا نرى أنهم يرتضون لأنفسهم أن
يكونوا دون جمعية الغسالات في فرنسا التي أنشأت مدارس كثيرة، أو دون تلك الفتاة
الأمريكية التي أسست إحدى عشرة مدرسة كلية.
ولعلنا ننشر الفصل الذي في التقرير عن المعارف في المنار السابع.
***
(مبادئ الفلسفة القديمة)
مجموعة فيها كتاب (ما ينبغي أن يقدم قبل تعليم فلسفة أرسطو) وكتاب
(عيون السائل في المنطق ومبادئ الفلسفة) تأليف أبي نصر الفارابي الفيلسوف
الإسلامي الشهير من أهل القرن الرابع عنيت بنشرها المكتبة السلفية لصاحبيها
محب الدين أفندي الخطيب وعبد الفتاح أفندي القتلان، طبعت بمطبعة المؤيد بمصر
سنة 1328 وعدد صفحاتها 35 وثمنها قرشان ونصف قرش، وتباع بمكتبة المنار
وبالمكتبة السلفية بمصر.
أهدت إلينا المكتبة السلفية هذا الأثر القديم لأحد فلاسفة الإسلام الأعلام مُصَدَّرًا
بترجمة حفيلة للمؤلف فيها بيان أصله ومنبته وطلبه للعلم، وحكاياته مع معاصريه من
العلماء والأمراء، وذكر ملخص تأريخ الفلسفة في زمانه ومنحاه في الفلسفة، وبيان
مصنفاته، وغير ذلك من الأشياء التي تعرف بالمؤلف تعريفًا تامًّا ومما جاء فيها
بعنوان (فلسفته) ؛ أي: فلسفة المؤلف ما نصه:
(ولم يكن للفارابي فلسفة خاصة به، أومذهب فيها أُثِرَ عنه، وغاية ما
يمكننا التوسل به للوصول إلى معرفة آرائه ومبادئه هو مصنفاته التي كان أكثرها
في الرقاع والكراريس المبعثرة والفصول والتعاليق كما ذكرنا.
ومن أهم ما صنفه كتاب في (إحصاء العلوم) والتعريف بأغراضها لم
يسبق إليه، ولا ذهب أحد مذهبه فيه، وقد قسم الفارابي العلوم في هذا الكتاب
المختصر إلى ستة أقسام:
1- علوم اللغة
2-علم المنطق وفيه الخطابة والجدل
3- الرياضيات وتشمل الهندسة والحساب ومبحث النور وفن النجوم
والموسيقى وجر الأثقال والأحجام، ويدخل في علم النجوم مباحث الفلك والتكهن
والأحلام وعلم الجو والهواء.
4-العلوم الطبيعية وهي عشرة.
5- العلوم المدنية وتشمل القضاء والخطابة.
6- علم الكلام وما وراء الطبيعية.
وهذا التقسيم كثير أوجه الشبه بتقسيم العلوم الذي اصطلح عليه علماء أوربا
في العصور الأخيرة، والفارابي كما ترى يقدم المنطق والرياضيات وأكثر العلوم
الطبيعية المحضة فالعلوم الاجتماعية، ويلاحظ قراء كتب الفارابي أنه قد ألم بالتمييز
بين الأصول والفروع وذلك ما أسس عليه خطته في تقسيم العلوم ثم هذبه هربرت
سبنسر ونقحه.
نقلنا هذه الفقرة؛ ليطلع عليها أهل الجمود الذين باتوا يحرمون ممارسة هذه
العلوم والتوفر على دراستها؛ عسى أن يتزحزحوا عن مواقف جمودهم فيخرجوا من
مأزق مناقشاتهم وتمحلاتهم النظرية إلى فضاء العلوم الصحيحة الدينية العلمية
والدنيوية العملية، وإذا كان يعز عليهم احتذاء الأوربيين فلهم أسوة حسنة بأسلافهم
العاملين.
والكتاب مفيد في بابه بل لا نظير له فهو كفهرس جامع لتعريفات الفلسفة
القديمة وشرح وجيز لأصولها وله فهرس حاوٍ لأسماء الأماكن والأعلام الواردة في
الكتاب. وهذا من محسنات الكتاب، ومنها جودة الطبع والترتيب. فنحث الراغبين
في تعرف الفلسفة القديمة على اقتنائه.
***
(القطار السريع لعلم البديع)
رسالة مختصرة في علم البديع ألفها حفني بك ناصف القاضي بالمحاكم الأهلية
ومدرس علم الأدب بالجامعة المصرية تحقيقًا لرغبة بعض طلاب مدرسة الحقوق.
وقد اختار المؤلف شرح بديعية تقي الدين لمكانتها من الشهرة ومنزلتها بين الأدباء؛
ولأن في أبياتها ذكر الأنواع البديعية، مثال ذلك قوله في مطلعها مشيرًا إلى حسن
الابتداء وبراعة الاستهلال:
لي في ابتدا مد حكم يا عرب ذي سلم ... براعة تستهل الدمع كالدِّيم
وقد أعجبنا هذا الكتاب أكثر من كل كتب البديع التي رأيناها فهو مختصر مفيد
(إن لم يحفظ على الغيب، فإنه يوضع في الجيب) كما قال مؤلفه، ويمكن للطالب
أن يضرب بسهم في علم البديع إذا قرأ هذا الكتاب فهو يغنيه عن الأستاذ.
أنا من كارهي علم البديع لا من محبيه ومع ذلك فإني أرى معرفته ضرورية
لممارسي العلوم العربية؛ لأنه حلقة من سلسلتها فلا يحسن أن يبقى طالب هذه العلوم
في محارة من فقدان هذه الحلقة ويصبح كمنتحلي مذهب دارون مضطربًا متلمسًا
لحلقته المفقودة، على أن حفني بك قد أشرع السبيل للرُّغَّاب في علم البديع وأدناهم
من هذه الحلقة، ولكن من أين للدارونيين بحفني بك آخر يدينهم من منتآهم الواسع.
وقد نشر هذه الرسالة السيد حسين رافع وطبعها طبعًا متقنًا وجعل ثمنها قرشًا
ونصف قرش. وتطلب من المكتبات المشهورة.
***
(الاستمناء)
ماذا يقول الملاحدة والكافرون بالله تقليدًا في أمراض الأفراد والأمم الأدبية،
وما رأيهم في علاجها يا ترى؟ هل يستسهلون الزعم أن تبيين أضرار هذه
الأمراض وسوء عاقبتها للمبتلين بها يأخذ بشكائم نفوسهم ويزجرهم عنها؟! إن كانوا
يزعمون هذا - وهم زاعمون - فلا مُشَاحّة في أنهم مكابرون للحق مدابرون.
لا ريب في أن الاستمناء من أفتك تلك الأمراض الأدبية في عقول الشبان
وجسومهم، ولئن انتهى عن ممارسته منتهٍ بتبيين ضرره في جسمه وعقله فقد يزدجر
بإزائه مائة ممن تأدبوا بآداب الدين وتخلقوا بأخلاقه فالدين وحده هو العلاج الشافي
من هذه الأمراض الوبيلة، لا سيما وأن الشبان يؤتون من ناحية الوجدان لا من ناحية
الإقناع والبرهان وهم المبتلون بهذه العلة التي تتأصل في كثيرين منهم تأصلاً ينتهي
بموته أو جنونه، لذلك كان حقًّا على مؤلف هذا الكتاب (الاستمناء) الدكتور هـ.
فورنيه، أو مترجمه بالعربية الدكتور مقصود أن يشير إلى نهي الدين عن الاستمناء
وإيعاد مزاوليه بأشد العقوبات، والنصوص مستفيضة في الدين الإسلامي على تحريم
الاستمناء وعده من الموبقات الكبائر، ولا يصح الاعتذار عن ذلك بأن الكتاب فني
صحي؛ فإن الغرض منه الفائدة لا الدراسة.
وفي الكتاب فوائد كثيرة أبلغها عظة ذكر مصير ممارسي الاستمناء، وما
مصيرهم إلا الموت بالسل أو بعد الجنون المطبق وهم في زهرة الشباب ونضارة
العمر، وقد انتقدنا في هذا الكتاب ذكر طرق الاستمناء الكثيرة التي يتعلم منها
الشبان ما كانوا يجهلون، هذه غائلتها فما فائدتها؟!
وهو يباع بعشرة قروش صحيحة في جميع المكتبات.
***
(القضاء والنواب)
كراسة صغيرة تقع في 18 صفحة بحجم المنار لمؤلفها شكري أفندي العسلي
الدمشقي (قائمقام) الناصرة. ألم فيها بتأريخ القضاء في الإسلام وأدواره وأقسامه بعد
بحث ودرس. قال: (وقد أنشأت هذه المقالات بعد أن طالعت مقدمة ابن خلدون
وحاشية ابن عابدين وتكملته والأشباه والنظائر والأحكام السلطانية وتاريخ الطبري
وتاريخ الكامل لابن الأثير ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة والميزان للشعراني
وسراج الملوك وغيرها) .
وهي مفيدة في بابها فنشكر للمؤلف صنعه ونحمده على هديته.
***
(معنى الحياة)
كتاب لطيف الحجم والشكل يقع في 150 صفحة بالقطع الصغير تأليف اللورد
أفبري من أعضاء مجلس الأعيان الإنكليز وقد عني بترجمته بتصرف وديع أفندي
البستاني، أودعه مؤلفه نصائح لنابتة قومه؛ ليكونوا باتباعها سعداء في الحياة الدنيا،
ومن آكد تلك النصائح وأجلها تربية قوة الإرادة وصدق العزيمة والشجاعة والثبات
وغير ذلك من كرائم الأخلاق وفضائل الشيم التي يستفيد ذووها ويفيدون، وقد أرشد
إلى فوائد مراعاة الاقتصاد واحتجان الأموال وكون هذين هما أساس مجد الأمم، وقد
أنكرنا على المتجر ترجمته لبعض الفصول بالشعر، وتمنينا لو كان أحكم إنشاءً وأصح
عبارة، ويطلب من مكتبة المعارف بمصر وثمنه ثلاثة قروش صحيحة.
***
(النصيحة الإحسانية)
قصيدة طويلة للسيد عبد الله بن علوي بن عبد الله العطاس يحث فيها على
ممارسة العلوم والأعمال العمرانية، وحبذا هذا الصنع من الأستاذ الناظم وعسى أن
يكثر من هذا النصائح نظمًا ونثرًا.
***
(الاتحاد الإسلامي)
جريدة إنكليزية أصدرها في طوكيو عاصمة اليابان أحمد أفندي فضلي الضابط
بالجيش المصري قبلاً ومحمد بركة الله أفندي الروسي. وقد أخذا على عاتقهما تفهيم
اليابانيين حقائق الإسلام، فنعم العمل عملهما، وحبذا الصنع صنعهما. وقيمة اشتراكها
شلنان في العام أوعشرة قروش صحيحة، وهي قيمة تافهة لا تكاد تفي بنفقات البريد
فنحث القراء على الاشتراك فيها ومساعدتها بما في الإمكان.
حسين وصفي رضا
__________
(1) المنار: الصواب أن يقال: استبدال (خيالة) بكلمة (سينماتوغراف) .(13/459)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(جمعية العلم والإرشاد)
قد عرف القراء موضوع هذه الجمعية العلمية الخيرية التي رحلنا إلى دار
السلطنة لأجل السعي لتأسيسها فيها، وقد طال الأمد على منتظري خبر تأسيسها
حتى يئس أشدهم غيرةً وحرصًا، وكتبوا إلينا ينصحون لنا بترك السعي لها في هذه
العاصمة، ولو يئسنا كما يئسوا؛ لعدنا أدراجنا كما اقترحوا، ولكن اليأس مرض
صار وبائيًّا في بلادنا، ونحمد الله تعالى أن نجانا منه فلم يجد إلى قلبنا سبيلاً. نعم
إنني كدت أيأس من بعض من كنت أرجو مساعدتهم من الكبراء، ولكن رجائي في
الله وثقتي بتوفيقه لم يزد في مظنة اليأس إلا قوة ورسوخًا.
بعد السعي الطويل مدة ثمانية أشهر وقع الاتفاق من أصحاب الشأن على
تأسيس الجميعة؛ لتكون هي التي تؤسس المدرسة العالية التي نوهنا بها من قبل
ووقع الاختيار على أن يكون المؤسسون اثني عشر وهم:
1- الشريف جعفر باشا حفيد الشريف عبد المطلب أحد أمراء مكة المكرمة
السابقين.
2- مصطفى أفندي مستشار المشيخة الإسلامية.
3- مصطفى عاصم أفندي الرئيس الثاني لمجلس المبعوثين وأحد علماء
الآستانة.
4- موسى كاظم أفندي من العلماء وأعضاء مجلس الأعيان.
5- محمود أسعد أفندي من العلماء وناظر الدفتر الخاقاني.
6- حسن فهمي أفندي مبعوث سينوب وأحد علمائها.
7- سني الدين أفندي معاون مشاور الحقوق بنظارة الأوقاف.
8- فؤاد بك أحد أعضاء مجلس شورى الدولة ورئيس كتابه.
9- إسماعيل حقي بك مدير قسم الإلهيات والأدبيات في دار الفنون ومدرس
الأصول والكلام فيها.
10- أحمد نعيم بك بابان أحد أعضاء مجلس المعارف.
11- تحسين بك أحد أعضاء ديوان المحاسبات.
12- محمد رشيد رضا صاحب المنار.
وتقرر أن يكون شيخ الإسلام رئيس شرف لهذه الجميعة دائمًا.
هذا وقد دعي الأعضاء إلى الاجتماع الرسمي الأول لانتخاب رئيس لهم في
27جمادى الأولى بدار الفنون، فأما فؤاد بك وتحسين بك فهما في أوربا مع حاشية
ولي العهد، وأما الباقون فمنهم من كان له مانع فكتب ورقة بانتخابه أو وكل من
ينتخب عنه، فالذين حضروا هم الشريف جعفر باشا ومستشار المشيخة وموسى
كاظم أفندي وإسماعيل حقي بك وأحمد نعيم بك وكاتب هذه السطور. وقد اتفقنا
جميعًا على انتخاب الشريف جعفر باشا رئيسًا لهذه الجمعية. وعقدت الجلسة الأولى
برياسته فقرئ فيها النظام الرسمي الذي وضعه هذا العاجز فتقرر أن ترسل نسخ منه
إلى جميع الأعضاء ليدققوا النظر فيه وإن استحسنه كل من قرأه منهم، وأن يصدق
عليه بعد المذاكرة في الجلسة الثانية التي تنعقد يوم الأحد الآتي ثم يقدم إلى نظارة
الداخلية. وتقرر أيضًا أن يجتمع الأعضاء في ضحوة كل يوم أحد، فالحمد لله أولاً
وآخرًا، وإياه نسأل تمام التوفيق.
(تنبيه)
ما ذكر في بعض جرائد العاصمة العربية من أن الجمعية قررت أن تكون
مدرسة دار العلم والإرشاد مؤلفة من صنفين كل صنف 20 طالبًا لا صحة له
فالجمعية لم تقرر في أمر المدرسة شيئًا.
(النظام الأساسي لجمعية العلم والإرشاد)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 103-104) .
الفصل الأول
(في تأسيس الجميعة ومقصدها)
المادة الأولى: تأسست في دار السعادة جمعية باسم (جمعية العلم والإرشاد)
المادة الثانية: مقصد هذه الجمعية الجمع بين التربية الإسلامية وتعليم العلوم
الدينية والدنيوية والتصنيف فيها، وتتوسل إلى ذلك بإنشاء مدرسة كلية في دار
السعادة باسم (دار العلم والإرشاد) لتخريج العلماء والمرشدين.
المادة الثالثة: لا تشتغل الجمعية بسياسة الدولة العلية الداخلية ولا الخارجية
ولا بسياسة غيرها من الدول، ولكنها تراعي القانون الأساسي وتؤيده.
الفصل الثاني
(في أعضاء الجمعية ومجلس إدارتها)
المادة الرابعة: للجمعية رئيسان: رئيس شرف ورئيس عامل، فرئيس
الشرف هو صاحب المشيخة الإسلامية، والرئيس العامل ينتخب من أعضاء
مجلس إدارة المركز العمومي.
المادة الخامسة: أعضاء الجمعية ثلاثة أقسام: أعضاء عاملة، وأعضاء
معاونة، وأعضاء شرف. فالعاملون هم الذين يقومون بأمور الجمعية بالفعل،
والمعانون هم الذين يشتركون فيها بمبلغ معين من المال يؤدونه في كل سنة أو كل
شهر بالأطراد، وأعضاء الشرف هم عظماء الأمة الذين ينفعون الأمة بمالهم أو
مكانتهم من الفضل والكمال نفعًا عظيمًا.
المادة السادسة: مركز الجمعية العمومي دار السعادة ويكون لها في الخارج
شعب، لكل شعبة منها مجلس إدارة.
المادة السابعة: أعضاء مجلس الإدارة في المركز العمومي اثنى عشر عضوًا
وهم المؤسسون للجمعية ما داموا، فإذا استقال أحدهم أو خلا موضعه بسبب ما
فانتخاب بدله ومجازاة من يخل من الأعضاء بنظام الجمعية الأساسي كل منهما
يكون بمقتضى مواد النظام الداخلي للجمعية.
الفصل الثالث
(في الهيئة العمومية)
المادة الثامنة: تجتمع الهيئة العمومية للجمعية كل سنة مرة في وقت معين
بدار السعادة، وتتألف هذه الهيئة من أعضاء مجلس الإدارة من المركز العمومي ومن
مندوبي الشعب الخارجية.
المادة التاسعة: الهيئة العمومية رقيبة على مجلس الإدارة وهي تدقق النظر
في ميزانية الجمعية وفي أعمال مجلس الإدارة مدة السنة وتقرر ما تراه في ذلك، وما
تقرره يكون نافذًا بالأكثرية المطلقة فيما عدا ما اشترط أكثرية ثلثي الآراء.
الفصل الرابع
(في أموال الجمعية)
المادة العاشرة: تتكون أموال الجمعية من الاشتراكات الموقوتة والإعانات
والتبرعات والوصايا والهدايا والأوقاف الخيرية التي توقف عليها ومن ريع رأس
مالها ومن أجور التعليم في المدارس التي ستنشئها، والمبلغ الاحتياطي يحفظ وينمى
بحسب ما تراه الهيئة العمومية.
المادة الحادية عشرة: مجلس إدارة الجمعية ليس له أن يقرض من مال
الجمعية ولا أن يقترض لها إلا بقرار من الهيئة العمومية.
المادة الثانية عشرة: تنشر الجمعية في كل سنة كراسة في بيان ميزانيتها
ودخلها وخرجها وأسماء الباذلين ومقدار ما بذلوه لها، ومن ينهى عن التصريح
باسمه يذكر بلقب (فاعل خير) .
الخاتمة
المادة الثالثة عشر: يجوز تعديل أحكام هذا النظام عند الحاجة بقرار من
الهيئة العمومية بأكثرية ثلثي الآراء من أعضائها المرتبة.
(رأي محمد عبيد الله أفندي في صاحب المنار ومشروعه)
نشره في العدد الرابع من جريدته الذي صدر في 14صفر سنة 1328،
وهو:
(المدرسة العربية)
مشروع الأستاذ الفاضل صاحب المنار
إن الأستاذ الفاضل السيد رشيد رضا صاحب المنار الأغر أشهر من أن ننوه
بفضله للقراء؛ إذ عرفه وانتفع بعلمه كل منور العقل من الأمة الإسلامية، وقد قدم
الآستانة هذا الفاضل منذ أشهر لمقصد شريف ومشروع جليل يدل على مزيد
اهتمامه بإصلاح الأمة الإسلامية وغيرته عليها، وذلك أنه ينوي فتح مدرسة عربية
في دار الخلافة يدرس فيها كل علم نافع ولا سيما العلوم العربية.
وهو لم يزل مقيمًا في العاصمة يقابل رجال الحكومة من حين إلى آخر
ويفاوضهم في هذا المشروع طلبًا للمعونة من الحكومة بما يلزم لمشروعه من المال
ونحن وإن لم نعلم بالتفصيل ما هي العلوم التي تدرس في هذه المدرسة، وكيف تكون
طريقة التعليم فيها، وكم مدة التحصيل إلا إننا نعتقد اعتقادًا جازمًا أن مدرسة عربية
يرأسها مثل الأستاذ، ويقوم بتدبيرها وترتيبها؛ لجديرة بأن تكون كثيرة المنفعة كبيرة
الجدوى، خصوصًا والعلوم العربية اليوم في أشد الحاجة إلى مجدد كهذا العربي
الصريح يسعى في نشرها وإصلاح طريقة التعليم فيها، فقد أصبحت يضرب
بصعوبة تعلمها المثل عند الناس، وعليه فنحن ننادي أولي الأمر من رجال الحكومة
بأندى صوتنا أن يلتفتوا إلى مشروعه بكل اهتمام، ونسترعيهم السمع إلى ما ينزع
إليه من الأمر النافع. وليس ذلك ببعيد من الحكومة التي هي اليوم تضرب على نغم
الإصلاح في كل أمر من أمور الأمة.
***
(المنتدى الأدبي)
أسس بعض النجباء من طلبة العرب في المدارس (المكاتب) العالية في
الآستانة ناديًا سموه (المنتدى الأدبي) وساعدهم على ذلك كثيرون من أهل الفضل
والسعة إعانة لهم على ما قصدوا من أمر التربية والتعليم.
كانوا قبل ذلك متفرقين قلما يعرف أحد منهم أحدًا أو يستفيد من علمه وأدبه أو
تجربته إلا ما يكون بين المتجاورين في مواضع الإقامة من التلاقي والاجتماع في
الملاهي العامة التي تسمى في مدن البلاد العربية بالقهاوي، ويسمى الملهى منها في
الآستانة (قراء تخانة) ؛ أي: بيت القراءة تسمية لها بخير ما يكون فيها وهو قراءة
الجرائد فقط، ولا يحسبن القارئ أنها كحجرات المطالعة أو غرف المطالعة المعهودة
في بعض البلاد التي يوجد فيه كتب كثيرة تقصد لأجلها لا لأجل اللهو بلغو الحديث
أو اللعب بالنرد وشرب المنبهات.
قام أعضاء إدارة النادي بشؤونه قيامًا يحمدون عليه فأحسنوا الإدارة ونشطوا في
تحصيل مبالغ الاشتراك، وضبطوا الدخل والخرج، واقتصدوا في النفقة بقدر
الاستطاعة، حتى كان عملهم - وهم متبدؤون فيه - موضع الإعجاب، ولكن رأى
بعض إخوانهم من أعضاء النادي أنه كان من الإمكان أن يحسنوا ويقتصدوا أكثر
مما فعلوا، واستحسن هؤلاء أن يستبدل بهم غيرهم ليجربوا كما جربوا، ورأى
الآخرون أن هذا مخالف للقانون فيجب أن يتموا مدتهم التي عينها قانون المنتدى،
فقال المعارضون: نعدل مادة القانون ونعيد الانتخاب. فاجتمعت الجمعية العمومية
للمنتدى وبعد المناقشة وأخذ الآراء تقرر برأي الأكثرين أن يبقى القانون على ما هو
عليه، وأن لا يعاد إلا انتخاب من نص فيه على انتخاب بدل عنهم أو إعادة انتخابه.
وكان صاحب هذه المجلة وكاتب هذه السطور حاضرًا تلك الجلسة وكذلك حضرها
صديقنا عبد الحميد أفندي الزهراوي فنشهد أن الخلاف بين الأعضاء فيما ذكر لم
يكن بدعًا من الخلاف في الأندية والجمعيات أو مجالس النواب، ولا كان مزلزلاً
لرجائنا في نابتتنا الجديدة في مدارس دار السلطنة.
نؤدي هذه الشهادة وقد سئلناها؛ لأن بعض الجرائد العربية نشرت مقالة بإمضاء
(سائح متلهف) أسرف بها في انتقاد المنتدى الأدبي إسرافًا لم نشك عند قراءتها في
تعمده للتحامل لغرض ليس لنا أن نفتات عليه فيه، ولا نرى فائدة في بيان ما نرى
من قوادمه وخوافيه، وقد تكون له نية حسنة، استجاز أن يتوسل إليها بتلك الوسيلة
السيئة، ومن كان حسن النية لا يصر على خطئه وهو يعلم، ولا يدافع عن نفسه إذا
ظهر له الحق وتبين، وقد أساء بعض أعضاء المنتدى الظن ببعض إخوانهم الذين
يرجى خيرهم، ولا يخشى أن تضر مثل تلك البادرة إن صح عزوها إليهم، فأنصح
لهم جميعًا أن يغفروا الهفوات، ويجذب كل منهم أخاه إليه بخير ما يراه من جاذب
الفضيلة فيه، فالكيس من استكثر من الأصدقاء، والأحمق من استكثر من الأعداء.
* * *
(خليل حمدي حمادة باشا)
فجعت المملكة العثمانية في هذه الشهر بوفاة هذا الرجل المصلح الإداري
القدير، والسياسي المحنك الخبير، نابغة البلاد السورية والمصرية والحجة
الناهضة على علو استعداد الأمة العرببة، شهد بفضله الإنكليز وغيرهم من الإفرنج
بمصر، وأذعنت له قلوب جميع العثمانيين في الآستانة، فإن كتم الشهادة له
الحاسدون والمتعصبون منهم، فقد نطق بها المنصفون والمستقلون فيهم، وناهيك
بشهادة مولانا السلطان محمد الخامس الذي كان يلقبه بالغيور، (غيرتلي) ، والصدر
الأعظم حسن حلمي باشا الذى قال عنه: إنه جاء يعلمنا كيف تدار الأمور. ثم بشهادة
صاحب جريدة (يكي غزته) وهي أقرب جرائد العاصمة إلى الاستقلال، وجريدة
(صباح) الواقفة عند نقطة الاعتدال.
ليس أكبر فضل الفقيد في رأيي أنه ما نيط به عمل إلا وأتقنه، وإن كان آية
في حسن إدارة الجمارك المصرية، وكان يأتي بالمعجزات في إصلاح نظارة
الأوقاف العثمانية، بل أكبر فضله أنه كان على حسن قيامه بأعباء الحكومة،
موجهًا فضل عنايته وهمته إلى إصلاح شأن الأمة، وكان عمله في ذلك بالقطر
المصري جمعية الحمالين في الإسكندرية وتربية أولاده وتعليمهم، وجمعية مكارم
الأخلاق، والملاجئ العباسية، وما خدم به جمعية العروة الوثقى، ولم يدع إلى
خدمة عامة إلا وكان له فيها الرأي الصحيح، والباع الطويل، فهذه هي المنقبة التي
تحيا بها الأمم وتتفاضل عظماء الرجال.
كان رحمه الله أشد من رأيت اهتمامًا بالمشروع الإصلاحي الذي سعيت له
سعيه هنا، قَدَّرَه قَدْرَه، وأدرك فكره البعيد ما فيه إصلاح الأمة وخير الدولة وكان
وهو ناظر الأوقاف يعدني بأن يرتقي في مساعدته من مال الأوقاف إلى عشرين
ألف ليرة في السنة، وكان بعد الخروج من نظارة الأوقاف أشد اهتمامًا بنجاح
المشروع وأرجى الناس في مساعدته لأنه أعلى من نعرف الآن همةً في السعي
والعمل للمصلحة العامة، فهو في هذه الفضيلة من طبقة الأستاذ الإمام وحسن باشا
عاصم رحمهم الله تعالى، وعزى هذه الأمة المبتلاة بقحط الرجال عنه وعنهما بإيجاد
من يخلفهم في ذلك، ونخص بالتعزية كبير بيت حمادة الحاج محيي الدين أفندي
وسائر الأسرة الكريمة، ونسأل الله تعالى أن يحيي ذكر فقيدنا بذريته المباركة، كما
هو حي بآثاره الحميدة.
__________(13/465)
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
__________
خديجة أم المؤمنين
عبد الحميد الزهراوي
الفصل الثاني والعشرون [*]
(الإيمان والآيات وخوارق العادات)
قال بعض الناس في تلك الأيام: لا عجب إذا آمنت خديجة ببعلها فإن رابطة
الزوجية تستدعي مثل ذلك ولكن ذا القدرة العظيمة قد أتى هؤلاء القائلين بما يعارض
مزاعمهم؛ إذ طفق بعض من سمع هذا النبأ يؤمن به، ولم يبق المصدق به خديجة
وحدها فاضطروا أن يخترعوا أسبابًا أخرى للإيمان به.
حرب فكرية قامت أمام هذا النبأ الجديد عند شيوعه، ارتجّت له مكة وما
حولها، انقسمت الأفكار، تباينت الأنظار، وفي مثل هذه المواقف يعرف الراجحون
بحسن الفطرة، وقوة الفطنة؛ إذ يكونون من السابقين في رؤية الدقائق، والوصول
إلى الحقائق.
قال نفر منهم:
(لقد عرفنا محمد طول هذه السنين فما عرفنا الكذب صاحبًا له، ولا عرفناه
صاحبا للخداع، وقد قام اليوم يخبرنا بأمر وقع له ليس هو بدعًا من الأمور، ولا
هو بضارنا شيئًا، أتانا يخبرنا بأمر يشبه ما نسمعه عن أمر موسى نبي بني
إسرائيل، ولم يكن أمر موسى إلا نافعًا لقومه فلعل الله سبحانه يريد أن يهدي إلينا نفعًا
بواسطة هذا الرجل الصادق الأمين منا) .
قالوا:
(يقول صاحبنا: إن روحًا أتاه وأوحى إليها ما أوحى، ولا شيء من هذا ببعيد
عن العقل إذا تأدب العقل ووقف أمام بحر القدرة الأزلية الأبدية وقفة العارف أن هذا
بحر لا حد له، ويقول: إنه أمر بتبليغ الناس هذا الوحي وما سيتلوه) .
قالوا:
(إن هذه الدعوى عظيمة فإن كان ما ادعاه حقًّا كان من العار العظيم والضرر
الكبير أن نرد هدية ربنا عز وجل الذي أهدى إلينا العقل من قبل، وهو يعزز اليوم
تلك الهدية بهدية أخرى ربما كانت من نوعها وربما كانت من نوع أعلى.
وهل يرد حامل العقل مثل هذه الهدية بعد أن يذيقه العقل طعم الرشد والمعرفة ويأتيه
بروائح ما يهب الفاطر جل وعلا من صنوف المعارف؟! وإن كان ما ادعاه غير
حق فإن حبله سيكون قصيرًا؛ لأن لدينا عقولاً ولا يضرنا حينئذ ظهور أمره) .
وقال نفر:
(لماذا يدعي الصادق الأمين هذه الدعوى إن لم تكن صحيحة، هل فقد عقله؟
كلا، فإنا لا نزال نرى صحته واعتداله على أتمها، هل تغيرت أخلاقه؟ كلا فإن
من الأخلاق ما يرسخ مع كثرة الأعوام وقل أن يئيض الصادق مائنًا، كلا، بل الأمر
جد، والدعوى صدق، وإن لهذا الأمر لناصرًا من قوة ساقته بعد أن عاش أربعين
سنة إلى الإتيان بهذا الأمر الغريب الصعب عليه، وإن الإيمان بقدرة الله تعالى
ليدعونا إلى إجابة هذه الداعي من لدنه، وإن الإخلاص ليدفعنا إلى إعلاء الكلمة التي
تنزلت إلينا فضلاً من ربنا ورحمة، إنا به مؤمنون) .
كان في مقدمة هذا النفر أبو بكر ذلك الرجل الذي لم يعرف إلى ذلك الوقت
بعيب عند قومه، وليت شعري لماذا تجول الظنون وتحوم في تلمس الأسباب لإيمان
أمثال هؤلاء الأفاضل مع اتفاق العقلاء على أن الذي رسمنا صورته من تفكراتهم هو
المطابق لحكمة المعتدلين؟!
القائل: إن خديجة إنما آمنت ببعلها؛ لأنه بعلها هو في سعة من ظنه هذا إذا
شاء ولكن بما مهدنا له من المثل بإيمان أبي بكر نتمنى أن يكون انتفع بمعرفة أن
طريقة إيمان خديجة كانت أعلى مما يظن.
إن الذي آمن به أبو بكر ثم مئات ثم ألوف غيره لا يجوز للعاقل المنصف أن
يحرم زوجته العاقلة من شرف الطريقة التي آمن بها هؤلاء الأفراد ثم الجماعات.
إن ظنون الناس تكون على حسب أخلاقهم وطباعهم وتصوراتهم، فالذين
يصرون على ادعاء أن السيدة خديجة لم تؤمن بهذا الروح الجديد إلا لأن صاحبه هو
بعلها، هم إما جامدون في معرفة الأخلاق البشرية على شيء يستعيذ العاقل بالله من
تفاهته وهو القسم الرديء منها، وإما هم مجبولون على العناد، وإما هم مستعظمون
لتصديق الإنسان بالأمور العظيمة من غير أدلة وآيات.
نحن لا نسوغ لأنفسنا أن نعيب أحدًا ممن كان حظهم قليلاً من علم أخلاق
الناس، ولا ندعي أن نستطيع بالكلمات القليلة التي نقولها الآن بمساعدة وإذن من
الصدد أن نودع في أفكارهم علمًا جديدًا واسعًا، ولكنا نستطيع أن نذكرهم بأن أخلاق
الأفراد ليست على شاكلة واحدة بل منها ما هو في أسفل السفل ومنها ما هو في
أعلى العلى، ومن الناس من يغلب عليه من الصدق والإخلاص ما يملك قلوبهم
ويجعلها بعيدة عن التصنع والرياء، وعن الارتياب بالأمور التي ليست غريبة عن
محيط القدرة والحكمة والعناية الأزليات إذا حدث بها المعروفون عندهم بالصدق
والأمانة، ويجعلها قريبة من كل ما فيه تمجيد اسم الفاطر جل وعلا، وتعظيم مظاهر
أمره وسره، وبعد هذه التذكرة نستطيع أن نقول لهم: إن سيدتنا هذه كانت من أهل
هذا الخلق الجليل كما تشهد سيرتها، ومتى زحزح هؤلاء عن مركزهم في علم
الأخلاق سهل عليهم أن يشتركوا معنا في معرفة أنه ليس محكومًا على خديجة
بالحرمان من الإيمان الصحيح المبني على أسباب صحيحة، لا على كونه بعلها.
وأما المجبولون على العناد، والغرور والإعجاب، فلا نتعبهم بسماع أقوالنا؛ إذ
ربما أتت ثقيلة عليهم، ولا نتعب أنفسنا بمخاطبتهم إذ قد تأتي علينا ثقيلة، فلهم
دينهم فيما توقفهم فيه جبلتهم، ولي ديني فيما يمشي معه قلبي.
وبقيت لي كلمة مع الذي يستعظم تصديق الإنسان بالأمور العظيمة من غير
أدلة وآيات كثيرة، إن هذا معذور في نظري والتفاهم بيني وبينه سهل؛ لأني لا
أطلب أن يترك ما بيده من النظريات بل أمشي معه في الحديث - وهي في يده -
فنبلغ معه غاية حسنة تصلح أن تكون ملتقى لنا، مهما تشعبت حولها آراء أخرى لكل
واحد منا.
أنا أقول معك يا صاحبي: إن الذي يطالبه غيره بالتصديق له أن يطالب هو
بالأدلة والآيات، ولكن إذا سمعت بمصدق ولم تسمع قصة طلبه للدليل والآية؛ فلا
تحكم بأنه آمن من غير دليل وآية إلا إذا كنت تعرفه من قريب وتعرف أن بضاعته
كلها تقليد الآباء والمعلمين.
أنت تعرف أن أبا بكر وأمثاله ممن صدقوا محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن
لهم آباء سبقوهم في تصديقه، ولا معلمون حملوهم على تأييده، وتعرف أنهم كان
لهم حلوم راقية رائقة، وألباب زكية فائقة، فهل تظن أنهم صدقوه بغير آيات بينات
وأدلة ساطعات.
المشارب في الاستدلال مختلفة، وأخشى أن يكون مشربك فيه كمشرب الذين لا
يعدون الآية إلا الأمر الخارق للعادة؛ ولذا رأيت أن لا أودع هذا المقام من غير أن
أحادثك بالآيات والخوارق بعد أن أسلفت طريقة خديجة على النحوين لتعلم كيف
يمكن أن يكون إيمان كل مؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام.
إذا وقع شيء خارق للعادة لا يستطيع أحد حينئذ أن ينكر أنه آية عظمى، ولكن
ما هي العادة؟ وهل يمكن أن تخرق؛ أي: تخالف؟ وهل وقع شيء من هذا؟
يعنون بالعادة عادة الأشياء وطبيعتها، ويعبر بعضهم عنها بسنة الله تعالى في
الكوائن، والذين بحثوا في إمكان خرق العادة لم يفرقوا بين شيء وشيء بل جعلوا
الكلام في هذه الموضوع على إطلاقه، ومن هنا اشتد خلافهم. والذاهبون إلى وقوع
الخوارق لم يذكروا في الأمثلة التي أوردوها من صور هذه الخوارق إلا شيئًا يسيرًا
جدًّا لا يصلح أن يلتفت إليه خصومهم فضلاً عن أن تكون به قناعتهم.
إن لله عز وجل سننًا في كل موجود، أو نقول: إن لكل موجود عادة وطبيعة.
والشمس مثلاً من جملة الموجودات، فهل يقول الذين يعتصمون بالخوارق: يمكن أن
تصير هذه الشمس برغوثًا وتبقى هذه الأرض على حالها ويظل الناس يبصر
بعضهم بعضًا بغير نور ويحيون هذه الحياة عينها متمتعين بحدائق وفواكه ولحوم
وشحوم، ومياه جارية، وأزهار زاهية، وصيف وشتاء وربيع وخريف ... إلى
آخره ... إلى آخره؟
أنا لا أعرف ماذا يقولون، ولكني مع إيماني كإيمانهم أو أكثر بعظيم قدرة الله
تعالى يجدونني إذا قالوا في هذه المسألة: (نعم) مفارقًا لهم وقائلاً: إذا تغيرت سنة
الله سبحانه في الشمس فصارت هي برغوثًا تتغير سنته في أيضًا فأصير أنا غير
إنسان وغير باحث عن الخوارق.
الذكي يفهم من هذا المثال: أن بحث الخوارق المدون في كتب جميع الملل لا
يقف أمام نفخة من روح الله الحكيم إذا أراد عز وجل إعلان الغيرة على حكمته
وسنته، ويفهم أيضًا أن الدين الذي هو من أكبر هدايا العناية الأزلية لا يتوقف عليها؛
إذ لو توقف عليه وكان لا بد في ظهور صدق المأمور بتبليغه من ظهور خارقة لما
تيسر تصديق أحد؛ لأن كل واحد حينئذ يخترع فيقترح صورة من الخوارق لسنن
الله، وناظم الكون سبحانه لم يشأ إلى الآن نثره على ما يهواه المقترحون.
الاقتراحات لا حد لها ولا عد ولا نظام، هذا يقترح مثلاً أن تصير الشمس
برغوثًا، وآخر يقترح أن يصير المشتري عصفورًا، وآخر يقترح أن يكون المريخ
طرطورًا، وآخر يقترح أن يصير القمر قمريًّا، وآخر يقترح أن يكون عطارد
عطارًا، وآخر يقترح أن تكون الزهرة زهرة لا تذبل أبدًا، وآخر يقترح أن ينضب
البحر كله وتظل الأنهار جارية، وآخر يقترح أن يصير البحر كله برًّا أو البر
بحرًا والناس كلهم سمكات مؤمنات مصليات صائمات، وآخر يقترح أن يكون التراب
كله ذهبًا، وتنبت عليه أشجار التفاح والليمون والأعناب والزيتون، وآخر يقترح أن
يصير الوقت كله ليلاً وتحبس الشمس في حجرة من حجرات الملوك، وآخر يقترح أن
يصير الوقت كله نهارًا ويذهب النوم إلى الشجرات الدائمة اليقظة.. إلى آخره.. إلى
آخره.
نعم إن مبدع منظومات الكون لم يشأ إلى الآن نثرها، ونستطيع أن نقول:
إنه ينثرها على حسب الاقتراحات لتأييد الرسل. فما معنى مباحثاتنا معشر البشر بأنه
هل يستطيع ذلك أم لا يستطيع بعد إيماننا بعدم تحدد قدرته، وبعد سماعنا وحيه يرشدنا
بهذا الكلام العالي {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) .
بعد تقرير هذا أقول: إن البشر لا يستطيعون أن يعرفوا كل سنن الله تعالى
أو عادات الأشياء وطبائعها. بل لا يستطيعون أن يعرفوا جميع أسرار كائن من
الكائنات وجميع طبائعه بالتمام، ثم هم لا يعرفون أيضًا مقدار عنايته عز وجل
بالإنسان، وأنه مازال يمده بصنوف الهدايات، وأنه قد يشاء إعلان آية له لإظهار
عنايته به فيريه شيئًا مثلاً على خلاف ما تعلمه من عادات بعض الأشياء التي لا
يترتب على تخلف المعروف من عادتها نثر المنظومات. ومن أمثلة ذلك أن النار
شأنها الإحراق وقد تقتضي سنته تعالى لإعلاء معارف الإنسان وهدايته أن يريه
النار غير محرقة لسبب تتعلق القدرة بإخفائه.
إن مثل هذا يقع ونعده من جملة سنن الله تعالى؛ لأن من جملة سننه إبداع هذا
الإنسان وإطلاعه على واسع القدرة، وبديع الصنعة، واحتجاب الحكمة واختصاص
العناية.
ومن هذا التفصيل يتبين للقارئ أنا مؤيدون للآيات لا منكرون لها، وقصارى
ما نقول: إن الدين لا يتوقف على الخوارق بقدر ما يقترح المقترحون ويظن
الظانون، ويخترع المخترعون. وإنما يؤيده الله تعالى بآيات تنشرح لها البصائر
المستعدة، ولا نقول: إن هذه الآيات فيها تحويل لسنة الله تعالى أو عادة الأشياء
وطبائعها؛ إذ لا تبديل لسنته سبحانه، وإنما فيها معونة ربانية نعرفها بآثارها.
وربما كرهنا التعبير بالخوارق الذي اصطلح عليه المدونون، وإن كانت
المناقشة على الألفاظ بغيضة إلينا وبعيدة عن رأينا، ونحب التعبير بالآيات كما عبر
القرآن الحكيم. ويالله ما أكثر الآيات على أن ما أتى به هذا المختار هو فضل رباني
وأمر روحاني!!
لقد أنبته الله نباتًا حسنًا، وشمله بالعناية منذ كان في الصبا ثم الشباب وهو غير
شائن ذلك الإهاب حتى دخل الكهولة وتاق إلى التكمل، وفي هذه السن بدأه بتحبيب
العزلة وتفريغ الفكر من الصور الفواني؛ ليشرق فيه الجلال الذي لا يفنى ثم أعلن
لروحه روحًا من لدنه كما منح هذا من قبله رجالاً كثيرين من المصطفين كإبراهيم
وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى. ومن الآيات أن هذا الوحي
صالح مصلح لنا، ولم نجده طلب منا أن نعبده من دون الله، وإنما قال لنا: أنا عبد
الله جئتكم ببلاغ من عنده أنه وحده له الحكم، وأنه وحده إليه المرجع والمآب. ولو
قال لنا: أنا إلهكم. لوجدنا مقترحين عليه أن يجعلنا خالدين، إذًا لوجدناه عاجزًا.
الحمد لله لقد جاءنا هذا الرسول بآيات كثيرة لا نستطيع عدها: جاءنا بالعلوم
وهو أميّ، وجمع كلمة الشعوب وهو وحيد، ورفع الله له من الذكر ما لم يرفع لمثله
وجعل هديه باقيًا، وصوته عاليًا، وروح تأييده ساريًا؛ ولذا ليس اليوم بنا من
تعجب حين نسمع إيمان أقرب الناس منه وأعرفهم به، بل نحن بخديجة وأبي بكر
مقتدون، ولربنا على هذه العنايات والآيات شاكرون، وبوحي الله لهذا المصطفى
مؤمنون.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما نشر في (ص393م13) من سيرة السيدة خديجة بقلم السيد عبد الحميد الزهراوي.(13/473)
رجب - 1328هـ
أغسطس - 1910م(13/)
الكاتب: أحمد المقبلي
__________
بحث التحسين والتقبيح [*]
أحمد المقبلي
(2)
احتجت المعتزلة بوجوه: (الأول) أن استحقاق المدح على العدل، والإحسان
والذم على الظلم والعدوان ضروري، والمنازع مباهت ولا يرتاب منصف آثر الحق
على الخلق في صحة هذه الحجة، وأما تسليم الخصم لها [1] ثم يقولون: هو ليس محل
النزاع، إنما محل النزاع بمعنى استحقاق المدح عاجلاً والثواب آجلاً إلى آخره. وقد
عرفت غلطهم على المعتزلة، وأنهم إنما يقولون: الثواب والعقاب من لوازم التكليف
الذي هو أخص من الحسن والقبح، وأعجب منه ذكرهم العاجل والآجل كما مضى.
ومن نازعنا في هذه التخطئة فهذه كتب المعتزلة والحمد لله فليأتنا بشيء من كتب
أبي الحسين وغيره من المعتزلة، أعني كتبهم المعتمدة، لا ممن أخذ النقل عن
المعتزلة من كتب الاشاعرة وإن كان من أتباعهم كصاحب الفصول.
بل كتبهم مشحونة بالتفصيل الذي أسلفناه وهو شاهد صدق على خطأ هذا
النقل. فإن أبيت الاحتجاج [2] بما حكاه الدامغاني عن بعض الإمامية وقد
نوظر فانقطع ثم قال: الحجة إجماعنا أيتها العصابة الإمامية. وأنت فتقول:
الطريق إلى رد ما قلت اتفاق هذه الجماعة من الأشاعرة أهل التحقيق. قلنا:
نزاعنا ليس في التحقيق إنما في صحة الرواية وهي تنبني على التحري وعدم
المجازفة، ولهذا ترى ابن الصلاح والنووي وابن حجر العسقلاني وغيره ممن
غلب عليهم علم الحديث لا يكادون يقيمون لهؤلاء المشار إليهم بالتحقيق هنا ميزانًا لما
كان صناعة أولئك عمدتها الرواية، ثم إن الطريق الذي عرفنا به كون الأشاعرة ناقلين
عن المعتزلة هو الطريق الذي عرفنا به كون المعتزلة قائلين بالمقالة فما
ترى لو حضرك أشعري ومعتزلي وقال المعتزلي: هذه مقالتي. وقال الأشعري:
بل مقالتك هذه. على أيهما كنت تعتمد؟ وارجع إلى الحمصية وحكاية قراقوش
لعمرو.
أما من دفع هذه الضرورة وقال: لا نعرف بين تعذيب زيد بأنواع العذاب،
والتلعب به بأشنع ما يستهجنه أولو الألباب، وبين إكرامه بأنواع النعم ومرافق
الارتفاق، بل بين سب الله تعالى بعد معرفته بصفات الكمال وجلائل النعم، وبين
حمده وشكره على ذلك الجود والكرم. وقال: إنما الفرق بين هذه الأشياء ونحوها
بميل الطبع ومرون الإنسان عليها للتعارف عليها أو للتأديبات الشرعية أوغير ذلك،
فالجواب عن هذا: أنَّا نفرق بين تلك الأمور التي ذكرتم وبين كون الفعل يترتب
عليه حسن المدح والذم، فأنتم قد سلمتم لنا هذا الفرق وسميتم ما سميناه تحسنًا وتقبيحًا
كمالاً ونقصًا. وأما إنكاركم بعد هذا الإقرار وقضاؤكم بأن المدح والذم لا ينشآن عن
فعل ألبتة، وإنما يمدح على الشيء ويذم؛ لأن الشارع أمرنا بذلك وما بين ذلك الفعل
والمدح الذي رتبه عليه الشارع بالنظر إلى ذاتيهما إلا ما بين الضب والنون، ولم يكن
أمره أيضًا المرجح بل بمحض الاختبار، ولو عكس وأمر بالعكوف على سبه
وكفران نعمته وعبادة الشيطان وأوجب الكفر وحرم الإيمان، وقال: أنا أحق باللعن
والشيطان بالعبادة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا؛ لكان ذلك عندكم كنقيضه لا فرق
بينهما. فلعمري ما أنتم أحقاء بعد ذلك بالمناظرة ولا بمن يرتجى منه الإنصاف ولا
جئتم بأقرب مما جاء به السوفسطائية، ولا أدليتم بأمتن مما أدلوا به، وما نقول لمن
أقر على نفسه بذلك إلا: قد قلب فؤادك وبصرك كما لم تؤمن بالحق أول مرة، ولم
تبال أين يقع قدمك في نظرك أول خطوة ولو سرنا معه على نمط الجدل لقلنا له: قد
ادعينا نحن وأكثر الفرق كما عرفت أنَّا أدركنا هذا المعنى المتنازع فيه بضرورة
عقولنا، وفرقنا بينه وبين تلك الأمور التي لم يبلغ فهمك إلى غيرها فنحن نصادقك
على اعترافك على نفسك بالجهل بهذا الأمر الذي هو الهدى كل الهدى، فمن أين سنح
لك الحكم علينا بعدم العلم بما ادعينا العلم به ضرورة حتى زعمت أننا ظننا أحد تلك
الأمور التي ذكرت أمرًا خارجًا عنها، وحكمك إنما هو جهل مركب فإنك في الحقيقة
قد شككت في صحة عقولنا لما ادعينا العلم بما جهلت.
وهبني قلت هذا الصبح ليل ... أيعمى المبصرون عن الضياء
***
الحجة الثانية
إذا لم يقبح من الله شيء جاز كذبه الصادق وتصديقه الكاذب، فلا يعلم صدق
نبي قط ولا يوثق بخبر من أخباره تعالى، واعترضها ابن الحاجب وقرره العضد.
ولنعتمد تقريره ليقوم مقام ما هو في معناه من ألفاظ غيره ولفظه: لا نسلم امتناع
إظهار المعجزة على يد الكاذب والكذب على الله تعالى امتناعًا عقليًّا وإن كنا نجزم
بعدمه عادة؛ لأنهما من الممكنات، وقدرته شاملة، ولو سلم امتناعه فلا نسلم أن
انتفاء القبح العقلي يستلزم انتفاءه لجواز أن يمتنع لمدرك آخر أو لا يلزم من انتفاء
دليل معين انتفاء العلم بالمدلول) والجواب، قوله: لا نسلم امتناع إظهار المعجزة
على يد الكاذب، والكذب على الله امتناعًا عقليًّا. قلنا: إنما يلزمكم سد باب النبوة
وعدم الوثوق بالشرائع مع عدم التسليم. قوله: وإن كنا نجزم بعدمه عادة. قلنا:
أتريد أن التجربة أفادتك أن المعجزة لا تظهر إلا على صادق، وأن الله تعالى لا يخبر
إلا بالصدق، والسؤال وارد على نبوة كل نبي وعلى كل خبر من جهته تعالى.
ومن قد سلم لك إمكان فرد على أصلك الفاسد؟! أم تريد أنه عند المعجزة وعند سماعنا
بخبر من أخباره تعالى يخلق الله لنا علمًا ابتدائيًّا أجرى عادته بذلك؟! وحاصله: أن
العلم الحاصل لمن عرف المعجزة حاصل عندها لا بها. فهذا قول بأن المعجزة في
نفسها لا دلالة لها على نبوة النبي. والذي علمناه من نفوسنا أن هذا العلم الضروري
لم يحصل لنا إنما عرفنا وجه الإعجاز، وأنه من فعل الله تعالى فقلنا: هذا صدقه الله
تعالى، ومن صدقه الله تعالى فهو صادق كسائر الاستدلالات، ولو اختلت إحدى
مقدمتي الدليل لبطلت، فإن قلت: نحن ننظر في المعجزة فيحصل العلم بخلق الله
تعالى لغيرها من الأدلة. قلنا: إنما يكن حصول العلم بعد صحة كل من المقدمتين،
وها هنا الكبرى غير صحيحة فإن من صدّقه الله فهو صادق؛ لا دليل على صحتها
على أصلكم، هي وقولنا: ومن صدقه الله فهو كاذب. سواء. ويقال لهذا القائل:
متى تزعم أن الله يخلق هذا العلم الضروري؟ أبعد معرفة وجه دلالة المعجزة فهو لا
يتم حتى تعرف أن من صدقه الله تعالى فهو صادق؟ أم تزعم أنه من رآها أو سمعها
حصل له هذا العلم؟ فهذا معلوم كذبه ضرورة، إن قلت: خلق الله علمًا بصدق نبيه
ممكن فمن أين لك القطع بعدمه؟ قلنا: كم ممكن نحن قاطعون بعدمه لا عن دليل،
كقطعنا بأنه ليس في حضرتنا رجل له ألف رأس، وقطع أحدنا بأنه لا يثبت جثمانه
في الملأ الأعلى بأن الله يقدر على قطع ما بيننا، وأن الجبل الذي رأيناه في اللحظة
الأولى لم يتحول بعد خطيبًا، وغير ذلك من العلوم العادية.. حقًّا فهذا العلم الذي
تدعونه نرده بالعلم الابتدائي.
ولقد تجاسر من ادعى هذا العلم على أهل السماوات والأرض، ولو قال أحد
قولاً يحتمل الصدق والكذب وقال للمخاطبين: معكم علم قد خلقه الله لكم بصدق
قولي. لكان تكذيبه من أهون شيء مع استواء الأمرين في الإمكان فكيف بهذا الذي
يدفعه كل عاقل؟! فإن ادعيتم أن هذا العلم الضروري بصدق المعجزة وصدق الله
تعالى لا عن دليل حاصل لنا بعد سماع لفظ الخبر ورؤية المعجزة أو سماعها من
دون نظر وإن دعوانا كذبكم مخالفة للضرورة.
كان للسوفسطائية أن يردوا تكذيبنا لهم بذلك حين ادعوا أن لا علم عندهم ألبتة
في أي شيء، فقلنا: هم بعد إدراكهم لماهية العلم وإدراكهم لاتصافهم به منكرون
للضرورة، فلهم على هذا أن يقولوا: تكذيبكم لنا كذب. إلا أنهم يدعون على الناس
عدم العلم وأنتم تدعون عليهم العلم فادعوا ما هو الأصل، فكان دعواهم أقرب من
دعواكم وكنتم أكثر منهم لجالجًا، وأقبح اعوجاجا، وأدركتم ما كان فاتهم؛ لأنهم لا
يمكنهم دعوى العلم الضروري؛ لئلا يثبتوا العلم، فانقطعوا وأنتم أثبتموه ثم صرتم
تدعونه على من خالفكم فيما أعياكم فكنتم كمن قال، فأدركتم ما تمنى وأحال.
وكنت فتى من جند إبليس فارتقى ... بي الحال حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أدركت بعده ... دقائق فكر ليس يدركها بعدي
قوله: لأنهما من الممكنات وقدرته شاملة. قلنا: مسلم، والذي قصد خصمك
وهو عدم وثوقك بالنبوة وصدق خبر الشارع مبني على ذلك، قوله: ولو سلم امتناعه
فلا نسلم أن انتفاء القبح العقلي يستلزم انتفاءه بجواز أن يمتنع لمدرك آخر إذ لا يلزم
من انتفاء دليل معين انتفاء العلم بالمدلول. قلنا: أما خصمك فقد كفاه هذا الدليل
المعين، وأما أنت فقد فاتك هذا الدليل على أصلك الفاسد. فقال: خصمك جوز
على الله تعالى الكذب وتصديق الكاذب ولم يقل. فاقطع على تصديق الله تعالى
الكاذب وعلى كذبه سبحانه في إخباره، فجوابك بجواز دليل يدل على امتناع ذلك
في حقه تعالى؛ لا ينافي ما ألزمك من عدم الوثوق بالشريعة، والذي يدفع الإلزام
هو وجود دليل لا جوازه.
واعلم أن الدليل الذي يذكرونه هنا هو العادة وقد عرفت سقوطه.
وقد يقول بعضهم: هو صادق لذاته؛ لأنه متكلم لذاته. وجوابه بعد تسليم الكلام
القديم وتنوعه؛ لئلا ينتشر البحث: أنه لا فرق عندكم بين الصدق والكذب بالنظر إلى
البارئ تعالى، فلعله كاذب لذاته ويلزمكم أن تتعلق قدرته بالكذب بمعنى أنه يقدر على
أن يخبر بالشيء لا على ما هو به؛ لأن ما بالذات لا يتناقض كما أنه لما كان قادرًا
لذاته؛ أي: قدرة واجبة لا يحتاج في ثبوتها إلى غير ثبوت الذات، لم يكن من
الممكن أن يعجز، لا يقال: قد علم من ضرورة دين الأنبياء صلوات الله عليهم وصفه
بأنه صادق أبدًا؛ لأنا نقول: صدقهم لا يمكن الجزم به مع بقاء هذا الإشكال فليتأمل
هذا البحث فلم يجد المحققون فيه إلا المغالطة والتلبيس. انظر هذا المحقق الذي
صار المحقق كالعلم له كيف ألزم أنه يجوز كذب الشرائع فقال: يجوز أن يكون
هناك دليل يدل على الصدق، وهل لغير هذا المضيق يعد الدليل؟ يا هذا، لا مخبأ
بعد بوس، ولا عطر بعد عروس، ثم نقول: هب أن هناك مدركًا هو مستندكم، لكن
هذه كتبكم قد طبقت البسيطة، وقد بالغنا في التتبع لها فما وجدناكم ذكرتم شيئًا إلا
هذه الأعذار الباردة، والمغالطات التي لا طمع في الاعتماد عليها والمساعدة، وما هذه
حال من تصدى لنصيحة الأمة، وزعم أنه كفاها مُهِم الملاحدة وكشف الغمة، متى
يدرك هذا المدرك الناظرون، ويهتدي به الحائرون، فإنا قد شارفنا تمام ألف عام
وألف شهر من موت نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كأنكم أودعتم ذلك المدرك إمام
الإمامية فلا يظهر إلا بظهوره، واستعملتم في تبيينه رموز الباطنية التي لا يبدونها إلا
لمن يثقون بغروره. وأعجب من هذا جواب الإمام الرازي فإنه قال في النهاية ما
معناه: صدق النبي متوقف على مقدمتين: إحداهما: أن المعجزة نازلة منزلة قول
الله له: صدقت. والثانية: أن من صدقه الله فهو صادق، فنحن وإن كنا لا يمكننا
القطع بالثانية إلا مع القول بالتحسين والتقبيح العقليين، لكن المعتزلة قطعوا بصحة
الأولى مع أنها خبر يحتمل الصدق والكذب ولم يضرهم ذلك فلم يضرنا القطع
بالثانية مع الاحتمال. انتهى.
ولم يحضرني الكتاب المذكور حتى أنقل صورة لفظه، فإن تيسر لي ذلك
ألحقته، وإلا فعلى الناظر استيعاب ذلك؛ فإن هذا الفعل محل ريبة، أو لا يقول
هذا القول مسلم: كيف من هو من أعلام المسلمين؛ إذ هو كالصريح أن المتشرعة
على غير يقين من صحة الشرائع، سبحان الله العظيم، وما أظهر ركة قوله: إن
الأولى خبر يحتمل الصدق والكذب. وما صدور مثل هذا القول عن مثله ينبغي أن
يحمل ألبتة على ظاهره؛ لوضوح قلة الإنصاف فيه، ثم وإن ظهور بطلانه يغنينا
عن التصدي لجوابه؛ إذ هذا البحث إنما يخاطب به المنتهى المحيط بتحقيق مذهب
الفريقين المتحلي بالإنصاف إذا وجد. وقد سلك هذه الطريقة الجويني في الإرشاد
وحيث أورد على نفسه أنه لا معنى للمطالبة الشرعية مع القول باستحالة أثر القدرة
الحادثة؛ لأنه اختار في الكتاب المذكور أنها مثل العلم سواء. فأجاب بأن المعتزلة
يلزمهم على أصولهم كذا، وكذا وعَدّه إلزامات. ولم يتعرض للحل أصلاً، وهو دأبه
في المضايق في الكتاب المذكور، فيقال له: هب أنه لزم المعتزلة ما ذكرت فماذا
يغني عن طالب الحق أن يعترف أنك على باطل وتلطخ صاحبك بباطل آخر،
فإنما غرضي معرفة الحق، وكشف عوراتكم لا يقضي وطري.
***
الحجة الثالثة
لزوم إفحام الأنبياء فيقول المرسل إليه للرسول: يجب عليّ طاعتك أم لا؟ فإن
كانت لا تجب استرحت، وإن كانت واجبة فبالعقل أم بالشرع؟ فعلى مذهبهم لا بد أن
يقول بالشرع، فيقول: لا يلزمني إجابتك حتى يثبت الشرع عندي ولم يثبت بعد؛
لعدم معرفتي صدقك، ومجرد الدعوى لا يكفي فكم ادعى هذا الشأن كاذب وأنا لا
ألزم نفسي تعرف الشرع حتى يجب علي التعرف فقد تمانع الأمران. وأجابوا عن هذه
الحجة أولاً بالمعارضة للمعتزلة بأن وجوب النظر عندهم نظري. فنقول: لا أنظر
في صحة دعواك حتى يدرك عقلي وجوب النظر وليس ببديهي، فلا يدركه حتى
أنظر. والجواب: إنا نقطع أن من عرض له حيرة في شيء يخشى من إغفاله
ضررًا فإنه يناله هم وغم يضر به، فإن أزال ذلك يتبين حقيقة الأمر بالنظر أو بالأخذ
بالأحوط حيث يتهيأ في بعض الصور، وإن كان الأخذ بالأحوط من نتائج النظر إلا
أنه ربما أمكن بأدنى تأمل؛ فإن العقول تقبل لومه وذمه لتركه إزالة ذلك الضرر،
وهو خاصية القبح كما مضى. فكيف من خوفه الرسول بخزي الدنيا والآخرة
وعذابهما، وفوت كل نفع، وإدراك كل ضرر لا يجد من نفسه مزعجًا للنظر بحث
يذم على إغفاله هذا، سيما في هذه الصورة مكابرة ظاهرة، فالنظر واجب يدرك
وجوبه بأدنى التفات بحيث يعد من الأوليات ويلحق بها. وقد ضرب له الغزالي مثلاً
في بحث النظر نفسه.
فقال ما معناه: لو قيل لإنسان: الأسد خلفك مقبل عليك وهو آخذك إن
لم تجد الهرب. فإذا قال: لا حامل لي على الهرب إلا العلم بصدق خبرك وأنا لا
أعلمه حتى ألتفت ولا ألزم نفسي الالتفات حتى يتحتم عليّ الالتفات. قال: فإن هذا
معدود من الحمقى لا من العقلاء، فعده إياه من الحمقى وإخراجه من زمرة العقلاء من
دون تحاش؛ يدل على أن هذه القضية يعلمها كل عاقل بضرورة عقله. وهو معنى
الذم الذي قلنا: هو خاصية القبح ومقابل القبح الواجب، وهذا منه قول بالوجوب
والقبح العقليين، وتجنب عبارة الخصم أمر سهل لا يقع النزاع فيه بين المحصلين،
فقد وضح الفرق بين الأمرين، وأن هذا الإشكال غير وارد على المعتزلة.
وأجابوا ثانيًا بالحل وحاصله: أن وقوع النظر لا يتوقف على وجوبه، وقالوا
أيضًا: وجوبه لا يتوقف على وقوعه، أما الأول فلإمكان وقوع النظر ممن يجب
عليه. وأما الثاني؛ فلأن النظر واجب بالشرع، نظر أو لم ينظر. وهذا الجواب
من المغالطة بمكان. ومن ترويجات (العضد) تخييله الفرق باعتراض الوجه الأول
وترك الثاني وهما من واد، والجواب عن الأول: أن إمكان معرفة صدق النبي لا
يوجب اتباعه، بل الموجب معرفة صدقه بالفعل، وقد فرضنا امتناع المرسل إليه عن
تعرف ما لا يجب عليه تعرفه. ولو قال النبي - كما قلتم -: يمكنك معرفة صدقي
قبل العلم بوجوب المعرفة لكان من جوابه: نعم، ولكن ليس لك إلزامي بنفس
الإمكان؛ إذ الممكنات كثيرة، هذه أحدها فإن ادعيت لهذه الحادثة خصوصية يبلغ بها
الوجوب فهو أول المسألة ولا جواب للرسول حينئذ. وبهذا اعترضه العضد وغيره.
والجواب عن الثاني: أن هذا من تكليف الغافل الذي اتفقنا على امتناعه، ودعوى
الفرق بينهما بأن هذا يمكنه النظر وذاك لا يمكنه لا يكفي؛ لأنا الآن فرغنا من بيان
أنه لم يقم حجة على الممتنع في النظر فهو معذورعن النظر، وإذا عذر لعدم الحجة
فلا عقاب على ما المرء معذور عنه؛ فلا يتحقق في حقه الوجوب الشرعي الذي
ادعيتم؛ إذ لا يجتمع بوجوب الفعل والعذر عنه؛ لأن المعذور لا يذم، وتارك الواجب
يذم، والفرق المدعى خارج عن الجامع، ومجرد ترويج أن يجمعهما عدم قيام الحجة
والإمكان في حق هذا دون ذلك لا يتم فارقًا؛ لخروجه عن محل النزاع. ومثله الفرق
بين التكليف بالمحال لنفسه والمحال لغيره كالتكليف بالجمع بين النقيضين وتحمل
الواحد منَّا جبل أحُد إلى مكة مثلاً.
ولا يلتبس عليك هذا بالتكليف إيجاد ما علم عدم وجوده؛ فإنه لا إحالة فيه ألبتة،
فإنه لو أخبر الصادق أنك لا تقوم من مقعدك ريثما تتلو الفاتحة؛ فإنك تعلم تمكنك من
القيام والبقاء على السواء كما كنت قبل خبره. لكن خبر الصادق دل على وقوع أحد
الجائزين، فإنه لا بد للجائز من أحدهما، ولا دخل للعلم في تأثير إحالة ولا إمكان.
وكيف يؤثر التابع في المتبوع. فليتأمل جدًّا، ومحل هذه مسألة الأفعال، فإن ذكر
وإلا فقد كفاك هذا أيها المدرك. فليتأمل هذا طالب النجاة، وليتخبط بتعامي التعصب
من اتخذ إلهه هواه. أما قولهم في هذه المقام: الوجوب عندنا ثابت بالشرع نظر أو لم
ينظر فمصادرة، فإن ذلك نتيجة البحث فكيف يجعل بعض مقدماته؟!
وحاصله أنَّا نقول: لو كان الوجوب بالشرع دون أن يدركه العقل؛ لزم
إفحام الأنبياء فلا يقوم لهم حجة لانسداد طريق الشرع بعدم النظر، ولا يمكن إلزام
النظر قبل ثبوت الشرع، فلما لم يجدوا مخلصًا عن إفحام الأنبياء رجعوا إلى نفس
الدعوى وقالوا: الوجوب عندنا قد ثبت بالشرع قبل النظر فيمن يصل إليه فينظر أو
لا ينظر فكأنهم قالوا: عدم قيام الحجة للنبي لا يضرنا؛ لأن نفس الوجوب لا يتوقف
على لزوم امتثال المكلف ذلك الواجب، إذا حققت هذي عرفت أنه كلام فارغ، فإنه
قد قال خصمهم: سلمنا الوجوب كما تدعون لكن يلزم عليه إفحام الرسل فكيف يقال:
الوجوب ثابت عندنا بالشرع نظر أو لم ينظر؟! والمطلوب إنما هو التخلص من إفحام
الأنبياء؛ لتقوم لهم الحجة على المكلف، وليس النزاع في نفس ثبوت الوجوب؛ إذ قد
سلم تنزلاً إنما الكلام في لزوم عدم قيام حجة الأنبياء فاعرف أن هذا الخبط من
الأذكياء له شأن، والله المستعان. وأما حجج نقاة التحسين والتقبيح العقليين
فالتعويل عليه أضعف من التعويل على نقص حجج المثبتين لهما كما سيتضح لك.
الحجة الأولى
ما اعتمده ابن الحاجب في مختصر المنتهى، وهي أنه لو حسن الفعل وقبح
لغير الطلب لم يكن تعلق الطلب لذاته. والجواب: أن هذا مبني على أن الطلب صفة
ذاتية متميزة عن العلم والإدارة، وخصمكم ينكر ذلك كله، ولم يتم لكم ذلك بدليل
ناهض، فهو بناء على غير أساس، ومع تسليمه فالمتعلق بالكسر من حيث إنه
متعلق تابع لمتعلقه؛ فلا يتحقق التعلق بدونه وذلك لا ينافي كون تعلقه لذاته كما قاله
الجميع في العلم. ولهذا اعترضه سعد الدين، وزبدة هذا وحاصله: أن تعلق المتعلق
بشيء وكان ذلك الشيء ذا أوصاف متغايرات، فالطلب تعلق بفعل له صفة الحسن
مطلقًا، لا بمطلق الفعل. ووضع هذه الحجة الساقطة مبني على نفي الحكمة بل على
إحالتها، فليتأمل.
الحجة الثانية
لو كان يثبت للفعل صفة الحسن والقبح لا باختيار مختار كما قالت المعتزلة،
والبارئ تعالى ليس إلا مبينًا لما ثبت في نفس الأمر لم يكن تعالى مختارًا في الحكم
بل يكون كالمفتي والقاضي بين الحكم، ثم يلزم أو يتوعد على عدم الامتثال وتوعد
عليه بالثواب العقاب. الجواب: إن أردت أنه ليس مختارًا في جعل الحكم حكمًا
فهو عين مذهب خصمكم، وهو أول البحث كما مر توضيحه. وإن أردتم أنه ليس
بمختار في التبيين والإلزام على معنى أنه ليس له أن يخبر بحكم غير ثابت في
نفس الأمر ولا أن يلزم به؛ فهو كذلك أيضًا؛ لأن الإخبار لا بد أن يطابق وإلا كان
كذبًا، وكذلك الإلزام لا بد من وجه حامل عليه كما مضى تقريره، وكل ذلك لا ينافي
الاختيار وإن أردتم أنه يصير مضطرًّا إلى التبيين حتى يكون بمنزلة الواجب غير
المختار؛فلا وجه للزومه، وهو ظاهر.
وعلى الجملة فهذه الحجة بينة السقوط؛ لأن اللازم منها غير مذهب الخصم أو
ما عدم لزومه بين، أما التشنيع بقولكم: كالمفتي والقاضي فشيء يستخف به
الجاهلون ولم يجئ بشيء بِدع، فإن هذا شأن الماهيات كلها كماهية القديم والواجب
والممكن والمستحيل والضد والنقيض والنفي والإثبات وسائر الماهيات؛ فإنها متقررة
بخصوصياتها التي بها تمايزت وتقررت وعلمت؛ ولذا تقرر الله سبحانه على من لم
يفرق بين ماهيتين بالاستفهام والتعجب والإنكار كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) - {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ
أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: 21) - {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} (النحل: 17) - {أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 28) إلى غير ذلك. وقال الله سبحانه: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ
رَبِّكَ مَكْرُوهاً} (الإسراء: 38) وقال تعالى: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
} (هود: 56) وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (الأعراف: 33) وقال تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} (البقرة: 205) وقال
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ
وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} (النحل: 90) وقال تعالى: {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَرَسُولُهُ} (النور: 50) {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} (يونس: 44) -
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (النساء: 40) - {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} (الرحمن: 60) إلى غير ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله
وسلم مما يدل على أن المنهيات والمأمورات متقررة كتقرر القديم والحادث والنفي
والإثبات، فمن قال: لا فرق بين الإحسان والإساءة إلا بحسب اعتبار الاعتراف،
وأنه لا معنى للفاحشة مثلاً إلا ذلك المتعارف، وإلا فهي والإيمان سواء في الخلو
عن الحكم وفي نظر الشارع، وإنما اتفق الأمر بأشياء، والنهي عن أشياء لمجرد
الإحسان لا لحامل أيضًا، فمن كان هذا شأنه فو الله ما في إنصافه مطمع، لكن كثرة
المقلدين للأشعري في هذه الهفوات ألجأ المتدينين إلى الإعذار معذرة إلى ربنا
وكفى به حكما.
ثم إنَّا نبين الآن أن الأمر - أعني كون الحكم - غير واقف على اختيار مختار
في كونه حكمًا لازمًا لزومًا بينًا على قواعد الأشاعرة. وبيانه: أن الحكم عندهم
خطاب الله والخطاب القولي الذي هو من صفات الفعل اتفاقًا على وفق النفسي وعبارة
عنه فقوله مثلاً: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) لا بد أن يكون
معنى حل البيع وحرمة الربا متضمنًا له الكلام النفسي والنفسي غير مختار فيه،
وتعلقه لذاته كما هو شأن القديم، وهم أيضًا مصرحون بأن الحكم قديم، والقديم غير
مختار فيه اتفاقًا، والبارئ تعالى إنما يبين لنا ما ثبت في الأزل، ويلزمنا امتثال
الجري على مقتضاه؛ فالحكم إذًا ثابت بلا اختيار مختار اتفاقًا. ويتعين على هذا
محل النزاع وينحصر في جهتين:
إحداهما: هل يعلل ثبوته الأشاعرة: لا لقدمه. المعتزلة [3] . نعم لإمكان
التعليل. ثانيهما: هل يدرك العقل مستقلاً بعض جزئياته؟ المعتزلة: نعم؛ لإمكان
معرفة الموجب له، وهو كون الفعل ظلمًا مثلاً وإحسانا. الأشاعرة. لا؛ لأنه غيب
محجوب. وهذا التحقيق والإلزام مع وضوحه لم أر من ذكره ولا ما يقرب منه. ولا
زلت أسائل من أظنه أهلاً لأن يُسأل فما كان مطمح نظري إلا أن يفهموا السؤال ولم
يكن. وإما لاستيقان واستقلال عقولهم بحقيقة الأمر وشفاء السائل فمرام بعيد، ومرمًى
حال دونه حجب التقليد، فليتأمله من بقي من المنصفين بعين الجد والإنصاف [4] . كل
مبتكر محل لإجالة النظر ولا يمنعه الالتفات لقولهم: ما ترك الأول للآخر فإنه يكفي
في معارضة هذه اللفظة قولهم: كم ترك الأول للآخر. ولله در ابن مالك حيث يقول:
(إذا كانت العلوم منحًا إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يُدَّخر
لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين) ، نعوذ بالله من حسد يسد باب
الإنصاف ويصد عن جميع الأوصاف، انتهى.
الحجة الثالثة
السمعية
وهي أشفها بحسب الظاهر وهي قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولاً} (الإسراء: 15) ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أنه لا يعذب بدون بعثة
الرسول، ومن قال: العقل مستقل لقيام الحجة يلزم على قوله أن يسوغ التعذيب.
الجواب: أن هذه مصادرة على المطلوب [5] ؛ لأن النزاع في جواز التعذيب لا في
وقوعه، وكم من جائز غير واقع وما قاله العضد وجرى عليه السعد وقلدهما الناس
أنه إنما لزمتهم الحجة لمنع العفو عقلاً عند المعتزلة فغلط على غلط؛ لأن هذه الحجة
ذكرت لرد هذا المذهب، وقد عرفت أن القائل به أعم من ذلك ولا ملازمة بينه وبين
منع العفو عقلاً والقائل بعدم العفو عقلا شرذمة من البغدادية وسائر أهل هذه المقالة
قائلون بجواز العفو عقلا وكثير منهم يقولون بجوازه سمعًا ونحن منهم كما هو قول
أكثر الأمة والمحققين المنصفين غير المتعجرفين، بل صريح الكتاب والسنة اللذين لا
يعدل بهما، ولا يعول على غيرهما.
ومن عجائب العضد والسعد أنهما ذكرا هذا الكلام السابق فيما يختص الجبائية
من الرد فكان غلطًا على غلط، وهذه مسألة خلاف بين المعتزلة والجبائية. بل
البصرية بأسرها يجوزون العفو عقلا والكعبي وأتباعه يمنعونه، فهي ما اشتهر فيه
الخلاف بين أهل المصرين لكن مثل هذه الأشياء أصلها ما ذكرت لك آنفًا من عدم
الإحاطة بمذهب الخصم لعدم صرف الهمة إليه، فيجهله فيجهل عليه، شنشنة من
عدم الإنصاف، الذي هو أصل الخلاف، فهذا شيء كثير جربناه في نقل الأشاعرة
عن المعتزلة والعكس بحيث يمتنع المنصف من قبول أحدهم على الآخر، والغلط
على المعتزلة أكثر منه في العكس فجرب إن كنت تدعي أنك صادق الهمة فليس شاهدًا
بأسوأ التجربة.
نعم هذه الآية الكريمة حجة على البغدادية في منعهم العفو عقلاً. وهذا مذهب
ركيك قادهم إليه القول بوجوب اللطف مع القول بأنه لا وجه للتعذيب سواه،
والمذاهب ثلاثتها كل منها أوهى من الآخر - أعني مذاهب البغدادية المذكورة - غير
أنه بقي لهم هنا عذر إن لم ينصوا على خلافه، وهم أنهم إنما عللوا الواقع من العذاب
بأنه إنما وقع؛ لأنه لطف وكل لطف واجب، فإذا جاء الشرع بعدم تعذيب أهل
الفترات مثلاً؛ فلا يلزمهم القول بتعذيبهم، فليتهم يحفظ هذا حذرًا من الغلط عليهم،
وهو وجه وجيه يبعدهم عن التشنيع، إن أدركه من علم الله سبحانه حسن الصنيع.
لا يقال: في الآية وجه آخر من الاحتجاج غير ما ذكروه، وهو أن قولهم: ما
كنت فاعلاً وما كنت لأفعل. فحواه: إن هذا الأمر لا يلائم حالي ولا يليق بي
كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} (القصص: 59) ، وهو بمعنى الأول، ثم قال: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي
القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (القصص: 59) وغير ذلك من الآيات وغيرها لا
تجد الاستعمال إلا هكذا؛ ولذا يفسرها الزمخشري وأضرابه من فحول العربية بقولهم:
(أي: ما صح وما استقام وليس بمستنكر أن يدل مجموع كلام على معنى لم يحصل
للأفراد مع تفرقها، كما قالوا في قولهم - كان يفعل كذا -: أنه يفيد الاستمرار،
وقد قيل ذلك في يفعل على انفراده ومدلول الفعل المطابقي من حيث هو إنما هو
الحدث الذي من شأنه، وحقيقته التقضي) وقد قال السعد في موضع من حاشية
الكشاف: واعتبارات البلغاء دلالة رابعة، كما أن العادة طبيعة خامسة. هذا لفظه
وقد مر لنا عليه هناك مناقشة. وفي الكشَّاف بل في فن البيان كله شيء كثير من هذا
فليختبر، فهذا تنبيه وهو معنى خصوصية التراكيب التي وضعوا لها في المعاني،
ومن ذلك دلالة الاستثناء في: جاءني القوم إلا زيدًا. فإن أفراد هذا التركيب لا يدل
على عدم مجيء زيد، لكن زعم بعضهم أن دفع فهم عدم مجيء زيد كدفع الضرورة،
وذكر ذلك في المطول، فمع تمام ذلك يكون مما ذكرنا والله أعلم.
وإذا كان لا يليق بالحكيم ولا يلائم شأنه التعذيب قبل البعثة فهو معنى أن
الحجة لا تقوم قبل الشرع؛ إذ لو قامت حينئذ لكان التعذيب ملائمًا، ثم رأيت الإسنوي
قد أشار إلى هذا الوجه في شرح المنهاج بعد أن قلته نظرًا فنقول: لا يضرنا ذلك؛
أما أولاً فهي محتملة بقوة أن المراد عذاب الاستئصال بدليل السياق؛ لأن العذاب
مطلق، فهو مع القيدين على سواء - أعني الدنيوي والأخروي - والسياق معين لأحد
القيدين، وإن عممنا فلا يضرنا أيضًا؛ لأنا نقول: إنه قد يقال ذلك في ما يحافظ عليه
أعم من أن يكون متحتمًا أوغير متحتم بقول: ما كنت لأترك إخراج الزكاة وما كنت
لأترك فضيلة صدقة النفل. وحاصله تنزيل ما ليس بحتم منزلة المتحتم بجامع العدم
على المحافظة، والآية من القسم الثاني جمعًا بين الأدلة، فالبارئ تعالى لسعة رحمته
وبالغ حكمته يقول: ما كنت لأكتفي بمجرد حجة العقل حتى أردفها بحجة السمع،
مبالغة في الإعذار، وقطعًا لتعلة المبطلين الأغمار، كما قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو
مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48) وحكى
عنهم هنا على فرض عدم الرسول الاعتلال بعدمه، كما كان يعتل المبطلون بكون
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قارئًا كاتبًا، وليس ذلك من شرط النبي صلى الله
عليه وآله وسلم. ولهذا أسند الارتياب إلى المبطلين وقال هنا: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم
بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} (طه: 134) وفي
هذه الآية نفسها دليل على ما نحن فيه لمن له فهم وذوق، والله الموفق.
ونظير هذه المسألة أن المعتزلة قالوا: لو كان للكافر لطف في المقدور ولم يفعله
له لم تقم عليه الحجة. سهل لهم اقتحام ذلك ما رأوا من مبالغة الله سبحانه وله الحمد
بالألطاف وأنواع الترغيب والترهيب وقد نقض ذلك سبحانه بقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ
البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: 149) واعتذارهم بمشيئة الإكراه ساقط؛
إذ لا نسلم تسميته ذلك هداية لغة، ولعلنا نتعرض لهذه المسألة فنستوفي الكلام منها،
وإلا فهذا تنبيه كاف للمنصف.
هذه الحجج الثلاث هي التي اعتمدها ابن الحاجب وشراح كتابه، وغيرها ركيك
كقولهم: يلزم أن يكون فعل العبد كالإيمان مثلاً أشرف من فعل الله تعالى كالشيطان.
وهذه هي الشبهة التي زعموا أن ضرارًا رجع عن الاعتزال من أجلها. ونظير هذه
الحجة ما قاله المشركون للمسلمين: أنتم تحللون ما تقتلون وهو المذكاة وتحرمون ما
يقتله الله سبحانه وهو الميتة فأنزل الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ
شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ
رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ
وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ * أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ
الكِتَابَ مُفَصَّلاً} (الأنعام: 112- 114) وعزى هذا الحديث السيوطي في أسباب
النزول إلى الحاكم وأبي داود وغيرهما من حديث ابن عباس. وأخرج الطبراني
وغيره عن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: 121) أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمدًا فقولوا له: ما تذبحه
أنت بيدك بسكين فهو حلال وما ذبح الله بشمشار من ذهب - يعني الميتة - فهوحرام،
فنزلت هذه الآية: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} (الأنعام:
121) قال: الشياطين من فارس وأولياؤهم من قريش.
__________
(*) تابع لما نشر في (ص425م13) .
(1) ينظر أين جواب أما، لعله سقط من الناسخ شيء هو الجواب وفيه ما يصلح لعطف (ثم يقولون) عليه، كأن يكون هكذا: وأما تسليم الخصم لها فلعل المنصفين يلتزمونه ثم يقولون: هو ليس محل النزاع إلخ، ويمكن تصحيح الكلام بتقديرات أخرى فتأمل اهـ مصححه.
(2) لعل الصواب إلا الاحتجاج اهـ مصححه.
(3) أي: تقول المعتزلة في الجواب: نعم إلخ، وسيأتي جواب الأشاعرة بعد السؤال الثاني اهـ مصححه.
(4) تأملناه فوجدناه حقًّا بل هو ما هدانا الله إليه قبل الاطلاع على هذا الكتاب بسنين ولنا كلام يدل عليه وللمصنف فضل التقدم بحسب علمنا فإننا لم نره لأحد من قبله، ومما يؤيد القرآن من السنة في هذه المسألة حديث الأعرابي الذي أسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلموه الصلاة فعلموه الفاتحة وسورة (إذا زلزلت) وأرادوا أن يعلموه سورة أخرى فقال: حسبي هذه حتي أعمل بها {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتركوه وشهد له بأنه فقه في دينه وما كان فقهه إلا العزم على ترك كل ما يعتقد أنه شر وفعل كل ما قدر عليه مما يعتقد أنه خير، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على تحديد الخير والشر باجتهاده وعقله اهـ مصححه.
(5) الأشبه مغالطة اهـ من هامش الأصل.(13/505)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أبو حامد الغزالي [*]
(8)
تكفير المقلدين له
ورأيه في الردة والكفر
الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره
وشره من الله تعالى، والإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله
وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إلى ذلك سبيلاً.
هكذا فسّرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن صدق عليه هذا التفسير كان
مؤمنًا مسلمًا لا يخرجه من الإسلام إلا تكذيبه لشيء مما جاء به الرسول صلى الله
عليه وسلم من أمر الدين عالمًا أنه جاء به غير متأوّل فيه، وما عدا ذلك من مخالفة
أحكام الدين بالقول أو الفعل أو الاعتقاد يعد خطأً، وسببه الغالب الجهل ومن الجهل ما
يعذر صاحبه فيه كجهل الدقائق والأمور الخفية ومنها ما لا يعذر فيه إلا إذا كان قريب
العهد بالإسلام كتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق
والقول على الله بغير علم، والحساب على الله تعالى.
وقد مضت سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضي الله عنهم
بتحامي تكفير أحد ممن يُظْهِر الإسلام ويصلي إلى القبلة وإن ظهرت عليه آيات
النفاق، وكانوا يعذرون من أخطأ في شيء من أمر دينه ويتلطفون في تعليمه وما زال
أمر المسلمين على هذه السنة حتى ظهر فيها الابتداع وصار لأهله فرق وشيع
يدعون إليها ويناضلون دونها، فكان منهم أن كفروا من يخالفونهم فيما انفردوا به،
وإن كان المخالفون هم السواد الأعظم الذين نقلوا الدين بالقول والعمل وحافظوا عليه
قبل ظهور تلك البدعة.
وقد كان من أمر أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه أن قاتل الخوارج المبتدعين
وصلى على قتلاهم ولم يكفرهم ببدعتهم، فكان مما امتاز به أهل السنة
والجماعة على أهل البدعة والفرقة أن أهل السنة لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة،
لأنهم يجمعون الكلمة ويتقون التفرق في الدين لشدة نهي كتاب الله عنه ووعيده لمن
يقترفه، ولم تكن السنة مذهبًا ولا مذاهب لبعض المسلمين فيتعصبون لها على
غير أهلها، بل كان كبار العلماء كأئمة الفقه الأربعة وشيوخهم من السلف يعذرون كل
من خالفهم في اجتهادهم ويصلون معه كما كان يفعل الصحابة - رضي الله عنهم -.
ثم حدثت المذاهب في الجماعة المنسوبة إلى السنة فكانوا شيعًا كل شيعة تنتمي
إلى إمام من العلماء الذين كانوا على السنة وتتعصب لما نقل عنه وعن أتباعه وكل
من انتسب إليه ثم تدرجوا من التعصب لما سموه مذهبهم، ثم إلى التضليل، ثم إلى
التكفير لهم وللعلماء والمستقلين إذا خالفوا مذهبهم وهم مع هذا يعترفون بأنهم مقلدون
وليس من شأن المقلد أن يبحث في تخطئة أحد؛ لأنه تابع لغيره ولا علم له في نفسه
وقد حدث من جراء هذه العصبات فتن كثيرة سودت بها صحائف التاريخ.
إن ظهور فتنة التكفير التي أحدثها أهل البدعة في المنتسبين إلى السنة جعل
مصابها عامًّا في المسلمين حتى كانت السبب في وقوف حكمة العلم دون بلوغ غايته
المرجوة فيهم بل في رجوعه القهقرى؛ لأن الاشتغال به صار محصورًا في تفهم كل
جيل بعض كتب الأجيال التي قبله دون أن يكون له حكم مستقل في المسائل ومن لا
يكون له حكم لا يكون له علم وهذا هو معنى ما نقل من إجماع سلفنا على أن المقلد لا
يسمى عالمًا وعلى إطلاق أهل القرون الأولى لفظ العالم بمعنى المجتهد،
ولفظ الجاهل على المقلد وإن قتل الكتب بحثًا وفهمًا، وكيف لا يرجع العلم القهقرى
إذا كان من أنعم الله عليهم بالقرائح الذكية والأذهان اللوذعية لا يستطيعون أن
يشكروا الله عليها باستعمالها في استنباط مسائل العلوم إما خوفًا من تكفير أناس إياهم
إذا هم جاؤوهم بغير ما وقف جهلهم عنده، وإما لاعتقادهم أن ذلك من العبث؛ لأنه لا
ينتفع به أحد، وإن هم استعملوا عقولهم والحال ما ذكر فإنها لا تأخذ حظها من
الاستقلال، ولا تبلغ الغاية في حلبة السباق، ومن تصباه جمال العلم فجعله عاشقًا
مستهترًا، لا يجد له من غرامه مهربًا، تمتع به في خلواته، وحجب محاسنه عن
أصدقائه وعداته، فإن اضطر إلى الكلام، لاذ بالكنايات والإشارات والألغاز
أصبو إلى الشرق إن كانت منازلها ... في جانب الغرب خوف القيل والقال
أقول في الخد خال حين أنعتها ... خوف الوشاة وما في الخد من خال
فمتى تستنير عقول عامة المسلمين بمبادئ العلوم التاريخية فتعلم أن أصحاب
العمائم من المقلدين الجاهلين، قد اتخذوها عسكرًا لمحاربة العلم والدين بتضليلهم
وتكفيرهم للعلماء المستقلين المصحلين، وأنهم بذلك مخالفون لهدي السنة التي كان
عليها الأئمة الذين يدعون اتباعهم والانتساب إليهم؛ لأن أولئك الأئمة متفقون على عدم
تكفير أحد يشهد بوحدانية الله تعالى وبصدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في
جميع ما جاء به عن ربه عز وجل وإن خالف في مباحثه ما هو المشهور عنهم، بل
وإن خالف النصوص متأولاً لا جاحدًا، وقد صرح بعض فقهائهم بناءً على ذلك
الأصل المجمع عيه عند السلف (عدم تكفير أحد من المسلمين) بأنه إذا وجد منه
قول قوي بكفر أحد وقول واحد ضعيف بإيمانه فيجب أن يفتى بهذا القول ويحكم
بإيمانه.
بعد هذا التمهيد أقول: إن أبا حامد الغزالي رحمه الله تعالى كان من أصحاب
تلك اللوذعية والفطانة التي لا يرضى من أوتيها بكفر نعمتها وعدم استعمالها، وإن
بدعة التكفير كانت قد انتقلت في زمنه من المبتدعين إلى المنتسبين إلى السنة، وإنه
جبن في أول عهده بالاستقلال في العلم عن إظهار ما خالف فيه اجتهاده ما عليه
جمهور أهل عصره ثم أظهر بعض ذلك في الإحياء مع المداراة، ونوع من المجاراة،
ثم قوي دينه وكمل يقينه فصرح في بعض كتبه المختصرة (كالقسطاس المستقيم)
بما لم يصرح بمثله في الإحياء الذي ذم فيه التقليد في مواضع كثيرة، وجرى فيه على
تقليد الشافعي في أكثر الأحكام أو جميعها.
هاج ذلك منه أصحاب العمائم، وسكنة الأثواب العباعب، وعجزوا عن
مناظرته فجردوا عليه سلاح الجهل والابتداع، ورموه بالكفر والإلحاد، كما يفعل
أقتالهم وأضرابهم، إلى الآن، فلم يعبأ بجهلهم، ولم يرجع إلى باطلهم، ولا سكت
عن إنارة الأذهان، بما وصل إليه من العلم والعرفان، وهكذا كان المصلحون وهكذا
يكونون، إلى أن تستنير العامة فتميز بين الأدعياء الجاهلين، فيعود للأمة الإسلامية
مجدها، وتطلع بعد الأفول شمس سعدها، والعاقبة للمتقين، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ
حِينٍ} (ص: 88) .
فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة
كتاب وجيز كتبه في هذه المسألة أبو حامد رحمه الله تعالى جوابًا لمن بلغه
تكفير بعض المتعصبين إياه، قال في أوله بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على
رسوله وآله وأصحابه ما نصه:
(أما بعد، فإني رأيتك أيها الأخ المشفق، والصديق المتعصب، موغر الصدر
منقسم الفكر، لما قرع سمعك من طعن طائفة من الحسدة على بعض كتبنا المصنفة
في أسرار معاملات الدين، وزعمهم أن فيها ما يخالف مذهب الأصحاب المتقدمين،
وأن العدول عن مذهب الأشعري، ولو في قيد شبر كفر، ومباينته ولو في شيء نزر
ضلال وخسر، فهوّن أيها الأخ المشفق المتعصب على نفسك، لا تضيق به صدرك،
وفل من غر بك قليلاً، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} (المزمل: 10) واستحقر من لا يحسد ولا يقذف، واستصغر من بالكفر والضلال لا
يعرف، فأي داع أكمل وأعقل من سيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم وقد قالوا: إنه
مجنون من المجانين، وأي كلام أجل وأصدق من كلام رب العالمين، وقد قالوا: إنه
أساطير الأولين، وإياك أن تشتغل بخصامهم، وتطمع في إفحامهم، فتطمع في غير
مطمع، وتصوت في غير مسمع، أما سمعت ما قيل:
كل العداوات قد ترجى مودتها ... إلا عداوة من عاداك من حسد
ولو كان فيه مطمع لأحد من الناس، لما تلي على أجلهم رتبة آيات الياس،
أوما سمعت قوله تعالى: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً
فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلاَ
تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ} (الأنعام: 35) وقوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ
السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} (الحجر: 14-15) وقوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ
بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} (الأنعام: 7) وقوله تعالى: {وَلَوْ
أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا
إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (الأنعام: 111) اهـ.
أقول: يريد أبو حامد رحمه الله تعالى أن مثل هؤلاء الشيوخ الحاسدين
المتعجبين على تقليدهم للأشعري كمثل أولئك المشركين لا في الشرك والكفر بل في
الحسد والتعصب، وجعل همهم كله في إهانة من حسدوه وإظهار أنه على باطل،
وعدم توجيه أذهانهم إلى فقه ما هو عليه والنظر في دليله، لتوجيهها إلى مكابرته أو
تأويله، وهكذا يفعل أشباههم في الحسد والتعصب اليوم، ندعوهم إلى الكتاب
والسنة، ونطالبهم بالآية والحجة، فيأبون إلا النبز بالألقاب، والهجر والسباب، ثم
ذكر أبو حامد أن هؤلاء لم يبق فيهم استعداد لمعرفة الحق في الإيمان والكفر وعلل
ذلك بقوله: (وأنَّى تتجلى أسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم، ومعبودهم سلاطينهم،
وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم، وشريعتهم رعونتهم، وإرادتهم جاههم وشهواتهم،
وعبادتهم خدمتهم أغنياءهم، وذكرهم وساوسهم، وكنزهم سواسهم، وفكرهم استنباط
الحيل لما تقتضيه حشمتهم، فهؤلاء من أين تتميز لهم ظلمة الكفر من ضياء
الإيمان؟) ثم ذكر أن جل بضاعتهم في العلم البحث في النجاسة، وما أشبه ذلك
مما لا يجلو بصيرة، ولا يطهر سريرة.
زلزال المقلدين وشأنهم
بعد تلك الفاتحة ذكر أبو حامد فضلاً في حال المقلدين موجهًا الكلام إلى مخاطبه
قال: (فصل) فأما أنت إذا أردت أن تنتزع هذه الحسكة من صدرك، وصدر من
هو في حالك، ممن لا تحركه غواية الحسود، ولا تقيده عماية التقليد، بل تعطشه
إلى الاستبصار لحزازة أشكال، أثارها فكر وهيجها نظر، فخاطب نفسك وصاحبك،
وطالبه بحد الكفر؛ فإن زعم أن حد الكفر ما يخالف مذهب الأشعري أو مذهب
المعتزلي أومذهب الحنبلي أوغيرهم فاعلم أنه غر بليد، قد قيده التقليد، فهو أعمى،
من العميان، فلا تضيع بإصلاحه الزمان، وناهيك حجة في إفحامه، مقابلة دعواه،
بدعوى خصومه؛ إذ لا يجد بين نفسه وبين سائر المقلدين المخالفين له فرقًا وفصلاً،
ولعل صاحبه يميل من بين سائر المذاهب إلى الأشعري، ويزعم أن مخالفته في
كل ورد وصدر كفر من الكفر الجلي، فاسأله من أين ثبت له أن الحق وقف عليه؟
حتى قضى بكفر الباقلاني إذا خالفه في صفة البقاء لله تعالى، وزعم أنه ليس هو
وصفًا لله تعالى زائدًا على الذات؟ ولم صار الباقلاني أولى بالكفر بمخالفته الأشعري
من الأشعري بمخالفته الباقلاني؟ ولم صار الحق وقفًا على أحدهما دون الثاني،
أكان ذلك لأجل السبق في الزمان؟ فقد سبق الأشعري غيره من المعتزلة فليكن الحق
للسابق عليه، أم لأجل التفاوت في الفضل والعلم؟ فأي ميزان ومكيال قدَّرَ درجات
الفضل حتى لاح له أن لا أفضل في الوجود من متبوعه ومقلده؟ فإن رخص
للباقلاني في مخالفته فلم حجر على غيره؟ وما الفرق بين الباقلاني والكرابيسي
والقلانسي وغيرهم؟ وما مدرك التخصيص بهذه الرخصة؟
وإن زعم أن خلاف الباقلاني يرجع إلى لفظ لا تحقيق وراءه كما تعسف بتكلفه
بعض المتعصبين زاعمًا أنهما جميعًا متوافقان على دوام الوجود، والخلاف في أن ذلك
يرجع إلى الذات أو إلى وصف زائد عليه خلاف قريب لا يوجب التشديد؛ فما باله
يشدد القول على المعتزلي في نفيه الصفات، وهو معترف بأن الله تعالى عالم محيط
بجميع المعلومات، قادر على جميع الممكنات، وإنما يخالف الأشعري في أنه عالم
وقادر بالذات أو بصفة زائدة فما الفرق بين الخلافين؟ وأي مطلب أَجَل وأخطر من
صفات الحق سبحانه وتعالى في النظر في نفيه وإثباتها؟
فإن قال: إنما أكفر المعتزلي؛ لأنه يزعم أن الذات الواحدة تصدر منها فائدة
العلم والقدرة والحياة وهذه صفات مختلفة بالحد والحقيقة، والحقائق المختلفة تستحيل
أن توصف بالاتحاد أو تقوم مقامها الذات الواحدة فما باله لا يستبعد من الأشعري قوله:
إن الكلام صفة زائدة قائمة بذات الله تعالى، ومع كونه واحد هو توراة وإنجيل
وزبور وقرآن وهو أمر ونهي وخبر واستخبار، وهذه حقائق مختلفة وكيف لا وحد
الخبر ما يتطرق إليه التصديق والتكذيب ولا يتطرق ذلك إلى الأمر والنهي؟ فكيف
تكون حقيقة واحدة يتطرق إليها التصديق والتكذيب ولا يتطرق، فيجتمع النفي
والإثبات على شيء واحد فإن تخبط في جواب هذا أو عجز عن كشف الغطاء فيه
فاعلم أنه ليس من أهل النظر وإنما هو مقلد، وشرط المقلد أن يسكت ويسكت
عنه لأنه قاصر عن سلوك طريق الحجاج ولو كان أهلاً له كان مستتبعًا تابعًا
وإمامًا لا مأمومًا، فإن خاض المقلد في المحاجة فذلك منه فضول، المشتغل به صار
كضارب في حديد بارد، وطالب لصلاح الفاسد، وهل يصلح العطار ما أفسد
الدهر؟! ولعلك إن أنصفت علمت أن مَنْ جعل الحق وقفًا على واحد من النظار
بعينه فهو إلى الكفر والتناقض أقرب، أما الكفر؛ فلأنه نزله منزلة النبي المعصوم
من الزلل الذي لا يثبت الإيمان إلا بموافقته، ولا يلزم الكفر إلا بمخالفته، وأما
التناقض فهو أن كل واحد من النظار يوجب النظر، وأن لا ترى في ذلك إلا ما رأيت
وكل ما رأيته حجة، وأي فرق بين من يقول قلدني: في مجرد مذهبي وبين من
يقول: قلدني في مذهبي ودليلي جميعا وهل هذا إلا التناقض؟) اهـ.
أقول: أيعتبر بهذا من يجلون في هذا العصر أبا حامد ويعبرون عنه بالإمام
وحجة الإسلام فيكفون عن الطعن في العلماء المستقلين الذين يدعون الأمة إلى
البصيرة في دينها والاهتداء بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أم يحملهم
الحسد على الإصرار على الطعن فيهم وتنفير العامة منهم لذلك اللقب الممقوت عندهم
(الاجتهاد) ويوهمونها أن دعاة الكتاب والسنة يمنعونها من اتباع الأئمة، الصواب
الذي يمنعها من ذلك أولئك المقلدون الجاهلون الذين لم يتبعوا الأئمة في الاهتداء
بالكتاب والسنة ولا قرؤوا كتبهم وإنما يريدون أن تكون العامة وراءهم متبعة لهم
والمستقلون لا يدعون أحدًا إلى اتباعهم وتقليدهم في شيء قط، وإنما يدعونهم إلى
الرجوع إلى الأصل.
(حد الكفر وتعريفه)
قال أبو حامد: (فصل) لعلك تشتهي أن تعرف حد الكفر بعد أن تتناقض
عليك حدود أصناف المقلدين، فاعلم أن شرح ذلك طويل ومدركه غامض، ولكني
أعطيك علامة صحيحة فتطردها وتعكسها لتتخذها مطمح نظرك وترعوي بسببها عن
تكفير الفرق وتطويل اللسان في أهل الإسلام وإن اختلفت طرقهم ما داموا متمسكين
بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صادقين بها غير مناقضين لها فأقول:
(الكفر هو: تكذيب الرسول عليه السلام في شيء مما جاء به. والإيمان
تصديقه في جميع ما جاء به - إلى أن قال في إجمال التفريع على هذه التعريف -
فكل كافر مكذب للرسول وكل مكذب فهو كافر فهذه هي العلامة المطردة
المنعكسة.
(فصل) اعلم أن الذي ذكرناه مع ظهوره تحته غور بل تحته كل الغور؛ لأن
كل فرقة تكفر مخالفها وتنسبه إلى تكذيب الرسول عليه السلام، فالحنبلي يكفر
الأشعري زاعمًا أنه كذب الرسول في إثبات الفوق لله تعالى وفي الاستواء على
العرش، والأشعري يكفره زاعمًا أنه شبّه وكذب الرسول في جواز رؤية الله تعالى
وفي إثبات العلم والقدرة والصفات له، والمعتزلي يكفر الأشعري زاعمًا أن إثبات
الصفات تكفير للقدماء وتكذيب الرسل في التوحيد. ولا ينجيك من هذه الورطة إلا أن
تعرف حد التكذيب والتصديق وحقيقتهما فيه فينكشف لك غلوُّ هذه الفرق
وإسرافها في تكفير بعضها بعضًا.
فأقول: التصديق إنما يتطرق إلى الخبر بل إلى المخبر وحقيقته الاعتراف
بوجوه ما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن وجوده إلا أن للوجود خمس
مراتب ولأجل الغفلة نسبت كل فرقة مخالفها إلى التكذيب؛ فإن الوجود: ذاتي،
وحسي، وخيالي وعقلي، وشبهي. فمن اعترف بوجود ما أخبر الرسول عليه السلام
عن وجوده بوجه من هذه الوجوه الخمسة فليس بمكذب على الإطلاق فلنشرح هذه
الأصناف الخمسة، ولنذكر أمثالها في التأويلات:
أما الوجود الذاتي: فهو الوجود الحقيقي الثابت خارج الحس والعقل ولكن يأخذ
الحس والعقل عنه صورة فيسمى أخذه إدراكًا، وهذا كوجود السماوات والأرض
والحيوان والنبات وهو ظاهر بل المعروف الذي لا يعرف الأكثرون للوجود معنًى
سواه.
وأما الوجود الحسي فهو ما يتمثل في القوة الباصرة من العين مما لا وجود له
خارج العين فيكون موجودًا في الحس ويختص به الحاس ولا يشاركه غيره، وذلك
كما يشاهده النائم بل كما يشاهده المريض المتيقظ؛ إذ قد تتمثل له صورة ولا وجود
لها خارج حسه حتى يشاهدها كما يشاهد سائر الموجودات الخارجة عن حسه بل قد
تتمثل للأنبياء والأولياء في اليقظة والصحة صور جميلة محاكية لجواهر الملائكة
وينتهي إليهم الوحي والإلهام بواسطتها فيتلقون من أمر الغيب في اليقظة ما يتلقاه
غيرهم في النوم؛ وذلك لشدة صفاء باطنهم كما قال تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِياًّ} (مريم: 17) وكما أنه عليه السلام رأى جبريل كثيرًا، ولكن ما رآه في صورته إلا
مرتين، وكان يراه في صور مختلفة يتمثل بها، وكما يرى رسول الله صلى الله عليه
وسلم في المنام وقد قال: (من رآني في النوم فقد رآني حقًّا فإن الشيطان لا يتمثل
بي) ولا تكون رؤيته بمعنى انتقاله من روضة المدينة إلى موضع النائم بل هي
على سبيل وجوده في حس النائم فقط، وسبب ذلك وسره طويل، وقد شرحناه في
بعض الكتب، فإن كنت لا تصدق به فصدق عينك فإنك تأخذ قبسًا من نار كأنه
نقطة، ثم تحركه بسرعة حركة مستقيمة فتراه خطًّا من نار، وتحركه حركة مستديرة
فتراه دائرة من نار والدائرة والخط مشاهدان وهما موجودان في حسك لا في الخارج
عن حسك؛ لأن الموجود في الخارج هي نقطة في كل حال وإنما تصير خطًّا في
أوقات متعاقبة فلا يكون الخط موجودًا في حالة واحدة وهو ثابت في مشاهدتك في حالة
واحدة.
وأما الوجود الخيالي فهو صورة هذه المحسوسات إذا غابت عن حسك، فإنك
تقدر على أن تخترع في خيالك صورة فيل وفرس وإن كنت مغمضًا عينيك حتى
كأنك تشاهده وهو موجود بكمال صورته في دماغك لا في الخارج.
وأما الوجود العقلي فهو أن يكون للشيء روح وحقيقة ومعنًى فيتلقى العقل
مجرد معناه دون أن يثبت صورته في عقل أو حس أو خارج كاليد مثلاً؛ فإن
صورتها محسوسة ومتخيلة ولها معنى هو حقيقتها وهي القدرة على البطش، والقدرة
على البطش هي اليد العقلية، وللقلم صورة ولكن حقيقته ما تنقش به العلوم وهذا
يتلقاه العقل من غير أن يكون مقرونًا بصورة قصب وخشب وغير ذلك من الصور
الخيالية والحسية.
وأما الوجود الشبهي فهو أن لا يكون نفس الشيء موجودًا لا بصورته ولا
بحقيقته لا في الخارج ولا في الحس ولا في الخيال ولا في العقل ولكن يكون
الموجود شيئًا آخر يشبهه في خاصة من خواصه وصفة من صفاته وستفهم هذا إذا
ذكرت لك مثاله في التأويلات فهذه مراتب وجود الأشياء.
(فصل) اسمع الآن أمثلة هذه الدرجات في التأويلات، أما الوجود الذاتي فلا
يحتاج إلى مثال وهو الذي يجري على الظاهر ولا يتأول وهو الوجود المطلق
الحقيقي، وذلك كإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن العرش والكرسي والسموات
السبع فإنه يجري على ظاهره ولا يتأول؛ إذ هذه أجسام موجودة في أنفسها أدركت
بالحس والخيال أو لم تدرك.
وأما الوجود الحسي فأمثلته في التأويلات كثيرة، واقنع منها بمثالين: أحدهما:
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش
أملح فيذبح بين الجنة والنار) فإن من قام عنده البرهان على أن الموت عرض
أو عدم عرض، وأن قلب العرض جسمًا مستحيل غير مقدور ينزل الخبر على أن
أهل القيامة يشاهدون ذلك ويعتقدون أنه الموت، ويكون ذلك موجودًا في حسهم لا في
الخارج ويكون سببًا لحصول اليقين باليأس من الموت بعد ذلك؛ إذ المذبوح ميؤوس
منه ومن لم يقم عنده هذا البرهان فعساه يعتقد أن نفس الموت ينقلب كبشًا في ذاته ويذبح.
المثال الثاني: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عرضت عليَّ الجنة في
عرض هذا الحائط) فمن قام عنده البرهان على أن الأجسام لا تتداخل وأن الصغير
لا يسع الكبير حمل ذلك على أن نفس الجنة لم تنقل إلى الحائط، لكن تمثل للحس
صورتها في الحائط حتى كأنه يشاهدها ولا يمتنع أن يشاهد مثال شيء كبير في جرم
صغير كما نشاهد السماء في مرآة صغيرة ويكون ذلك إبصارًا مفارقًا مجرد تخيل
صورة الجنة؛ إذ تدرك التفرقة بين أن ترى صورة السماء في المرآة وبين أن تغمض
عينيك فتدرك صورة السماء في المرآة على سبيل التخيل.
وأما الوجود الخيالي فمثاله قوله صلى الله عليه وسلم: (كأني أنظر إلى يونس
بن متى عليه عباءتان قَطَوْنيَّتان يلبي وتجيبه الجبال، والله تعالى يقول: لبيك يا
يونس) ، والظاهر أن هذا إنباء عن تمثيل الصورة في خياله؛ إذ كان وجود هذه
الحالة في خياله سابقًا على وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد انعدم ذلك
فلم يكن موجودًا في الحالة ولا يبعد أن يقال أيضًا تمثل هذا في حسه حتى صار يشاهده
كما يشاهد النائم الصور ولكن قوله: (كأني أنظر) يشعر بأنه لم يكن حقيقة النظر بل
كالنظر والغرض التفهيم بالمثال لا عين هذه الصورة. وعلى الجملة فكل ما يتمثل في
محل الخيال فيتصور أن يتمثل في محل الإبصار فيكون ذلك مشاهدة وقَلَّ ما يتميز
بالبرهان استحالة المشاهدة فيما يتصور فيه التخيل.
وأما الوجود العقلي فأمثلته كثيرة فاقنع منها بمثالين: أحدهما قوله صلى الله
عليه وسلم: (آخر من يخرج من النار يعطى من الجنة عشرة أمثال هذه الدنيا) فإن
ظاهر هذا يشير إلى أنه عشرة أمثالها بالطول والعرض والمساحة وهو التفاوت
الحسي والخيالي ثم قد يتعجب فيقول إن الجنة في السماء كما دلت عليه ظواهر
الأخبار فكيف تتسع السماء لعشرة أمثال الدنيا والسماء أيضا من الدنيا؟! وقد يقطع
المتأول هذا العجب فيقول: المراد به تفاوت عقلي لا حسي ولا خيالي كما يقول مثلاً
هذه الجوهرة أضعاف الفرس؛ أي: في روح المالية. ومعناها المدرك عقلاً دون
مساحتها المدركة بالحس والتخيل.
المثال الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى خمر طينة آدم بيده
أربعين صباحًا) فقد أثبت لله تعالى يدًا، ومن قام عنده البرهان على استحالة يد لله
تعالى هي جارحة محسوسة أو متخيلة فإنه يثبت لله سبحانه يدًا روحانية عقلية - أعني
أنه يثبت معنى اليد وحقيقتها وروحها دون صورتها - إن روح اليد ومعناها ما به
يبطش ويفعل ويعطي ويمنع، والله تعالى يعطي ويمنع بواسطة ملائكته كما قال عليه
السلام: (أول ما خلق الله العقل فقال: بك أعطي وبك أمنع) ولا يمكن أن يكون
المراد بذلك العقل عرضًا كما يعتقده المتكلمون؛ إذ لا يمكن أن يكون العرض أول
مخلوق بل يكون عبارة عن ذات ملك من الملائكة يسمى عقلاً من حيث يعقل الأشياء
بحوهره وذاته من غير حاجة إلى تعلم وربما يسمى قلما باعتبار أنه تنقش به حقائق
العلوم في ألواح قلوب الأنبياء والأولياء وسائر الملائكة وحيًا وإلهامًا فإنه قد ورد في
حديث آخر أن: (أول ما خلق الله تعالى القلم) فإن لم يرجع ذلك إلى العقل تناقض
الحديثان ويجوز أن يكون لشيء واحد أسماء كثيرة باعتبارات مختلفة فيسمى عقلاً
باعتبار ذاته، ولكن باعتبار نسبته إلى الله تعالى في كونه واسطة بينه وبين الخلق،
وقلمًا باعتبار إضافته إلى ما يصدر منه من نقش العلوم بالإلهام والوحي، كما يسمى
جبريل روحًا باعتبار ذاته وأمينًا باعتبار ما أودع من الأسرار و (ذا مُرَّة) باعتبار
قدرته، و (شديد القوى) باعتبار كمال قوته و (مكينا عند ذي العرش) باعتبار
قرب منزلته، ومطاعًا باعتبار كونه متبوعًا في حق بعض الملائكة.
وهذا القائل يكون قد أثبت قلمًا ويدًا عقليًّا لا حسيًّا وخياليًّا وكذلك من ذهب إلى
أن اليد عبارة عن صفة لله تعالى، إما القدرة أو غيرها كما اختلف فيه المتكلمون.
وأما الوجود الشبهي فمثاله: الغضب والشوق والفرح والصبر وغير ذلك مما
ورد في حق الله تعالى، فإن الغضب مثلاً حقيقته أنه غليان دم القلب لإرادة التشفي
وهذا لا ينفك عن نقصان وألم، فمن قام عنده البرهان على استحالة ثبوت نفس
الغضب لله تعالى ثبوتًا ذاتيًّا وحسيًّا وخياليًّا وعقليًّا نزله على ثبوت صفة أخرى
يصدر منها ما يصدر من الغضب كإرادة العقاب، والإرادة لا تناسب الغضب في
حقيقة ذاته ولكن في صفة من الصفات تقارنها وأثر من الآثار يصد عنها وهو الإيلام.
فهذه درجات التأويلات.
(فصل) اعلم أن كل من نزل قولاً من أقوال صاحب الشرع على درجة من
هذه الدرجات فهو من المصدقين، وإنما التكذيب أن ينفي جميع هذه المعاني ويزعم أن
ما قاله لا معنى له وإنما هو كذب محض وغرضه فيما قاله التلبيس أو مصلحة الدنيا
وذلك هو الكفر المحض والزندقة.
ولا يلزم كفر المؤولين ماداموا يلازمون قانون التأويل كما سنشير إليه. وكيف
يلزم الكفر بالتأويل وما من فريق من أهل الإسلام إلا وهو مضطر إليه فأبعد الناس
عن التأويل أحمد بن حنبل رحمة الله عليه.
وأبعد التأويلات عن الحقيقة وأغربها أن تجعل الكلام مجازًا أو استعارة هو
الوجود العقلي والوجود الشبهي، والحنبلي مضطر إليه وقائل به فقد سمعت الثقاة من
أئمة الحنابلة ببغداد يقولون: إن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى صرح بتأويل ثلاثة
أحاديث فقط: أحدها قوله صلى الله عليه وسلم: (الحجر الأسود يمين الله في
الأرض) والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع
الرحمن) والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: (إني لأجد نفس الرحمن من قبل
اليمين) فانظر الآن كيف أوَّل هذا حيث قام البرهان عنده على استحالة ظاهره؛
فيقول اليمين تقبل في العادة تقربًا إلى صاحبها، والحجر الأسود يُقَبَّل أيضًا تقربًا إلى
الله تعالى فهو مثل اليمين لا في ذاته ولا في صفات ذاته ولكن في عارض من
عوارضه؛ فسمي لذلك يمينًا. وهذا الوجود هو الذي سميناه الوجود الشبهي وهو
أبعد وجوه التأويل.
فانظر كيف اضطر إليه أبعد الناس عن التأويل وكذلك كما استحال عنده وجود
الأصبعين لله تعالى حسًّا؛ إذ من فتش عن صدره لم يشاهد فيه أصبعين فتأوله على
روح الأصبعين، وهي الأصبع العقلية الروحانية، أعني أن روح الأصبع ما
به يتيسر تقليب الأشياء، وقلب الإنسان بين لمة الملك ولمة الشيطان وبهما يقلب
الله تعالى القلوب فكنى بالأصبعين عنهما، وإنما اقتصر أحمد بن حنبل رضي الله عنه
على تأويل هذه الأحاديث الثلاثة لأنه لم تظهر عنده الاستحالة إلا في هذا القدر؛ لأنه
لم يكن ممعنًا في النظر العقلي، ولو أمعن لظهر له ذلك في الاختصاص بجهة
فوق وغيره مما لم يتأوله.
والأشعري والمعتزلي لزيادة بحثهما تجاوزا إلى تأويل ظواهر كثيرة، وأقرب
الناس إلى الحنابلة في أمور الآخرة الأشعرية وفقهم الله فإنهم قرروا فيها أكثر الظواهر
إلا يسيرًا، والمعتزلة أشد منهم توغلاً في التأويلات، وهم مع هذا - أعني
الأشعرية - يضطرون أيضًا إلى تأويل أمور كما ذكرناه من قوله: إنه يؤتى بالموت
في صورة كبش أملح وكما ورد من وزن الأعمال بالميزان فإن الأشعري أَوَّلَ
وزن الأعمال فقال: توزن صحائف الأعمال ويخلق الله فيها أوزانًا بقدر درجات
الأعمال، وهذا رد إلى الوجود الشبهي البعيد فإن الصحائف أجسام كتبت فيها رقوم
تدل بالاصطلاح على أعمال هي أعراض فليس الموزون إذًا العمل، بل محل نقش
يدل بالاصطلاح على العمل، والمعتزلي تأول نفس الميزان وجعله كناية عن سبب
به ينكشف لكل واحد مقدار عمله وهو أبعد عن التعسف في التأويل بوزن الصحائف.
وليس الغرض تصحيح أحد التأولين بل أن تعلم أن كل فريق وإن بالغ في ملازمة
الظواهر فهو مضطر إلى التأويل إلا أن يجاوز الحد في الغباوة والتجاهل فيقول:
الحجر الأسود يمين تحقيقيًّا، والموت وإن كان عرضًا فيستحيل فينتقل كبشًا
بطريق الانقلاب، والأعمال وإن كانت أعراضًا وقد عدمت فتنتقل إلى الميزان
ويكون فيها أعراض هي الثقل. ومن ينتهي إلى هذا الحد من الجهل فقد انخلع
من ربقة العقل) اهـ.
__________
(*) تابع لما نشر في (ص833) من المجلد الثاني عشر.(13/525)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التعاون والتخاذل [*]
نحن في زمن فاز فيه المتعاونون، وهلك فيه المتخاذلون، سعد فيه أمم
بأعمال الجماعات، وشقيت أمم بأسرة الأفراد، فالأمم فيه درجات بعضها فوق
بعض فأعلاها ما كثرت فيه الجمعيات، المتعاونة على الخير بقدر كثرة الخيرات،
ويليها ما قلت فيه الجمعيات فقاتها من الخيرات والمنافع ما فضلها به ما فوقها،
ويعبر عن هذه الأمم بالأمم الحية العزيزة، والحياة والعزة فيها متفاوتة - أو مقولة
بالتشكيك كما يقول المنطقيون - فلذلك يخاف ويرجو بعضها بعضًا، وأية أمة عاقلة
تأمن سنة الله في تنازع البقاء، وطمع الأقوياء في الضعفاء.
وأما الأمم الذليلة التي تقابل هذه الأمم فهي في دركات متفاوتة أيضًا أدناها
منها في القسمة العقلية ما ليس فيها جماعات تتعاون على الخير ولا على الشر، ولا
يخذل بعض أفرادها بعضًا في الأعمال النافعة، يليها في السفل الأمة التي يتخاذل
أفرادها في الخير فلا ينبري فيها أحد لعمل نافع لها إلا ويتصدى بعض الأفراد
لمناهضته وخذله، وأما الأمة التي تعد في الدرك الأسفل فهي التي تتألف فيها
الجماعات لتأييد الباطل وعمل المنكر، ولخذلان الحق ومقاومة المعروف.
لا يخذل فرد من الأفراد، ولا جماعة من الجماعات، عملاً من أعمال الخيرلأمته
مع الاعتراف بأنه خير، وإنما يخذلونه ادعاء أنه شر ما أو يشتمل على الشر أو
يترتب عليه شيء من الشر.
ومنهم من يعتقد صحة ما يدعي لجهله كنه العمل، أو لأن بغضه أو حسده
للعامل يقلب صورة العمل في مخيلته ويلونه بغير لونه، فهو ينظر إلى ما في
خياله ويحسب أنه عين ما في الخارج، ومنهم من يضل على علم ويتعمد الفرية
والبهتان، إرضاء لحسده أو حسد من يغريه بالمقاومة والخذلان، أو اعتذارًا عن
الامتناع عن المساعدة التي تنتظر من مثله، وهو يبخل بها ولا يعترف ببخله.
الحسود الذي يبغي بحسده، والشحيح الذي يطيع شحه، وصاحب الهوى الذي
يتبع هواه بالباطل لا مطمع في اتقاء شرهم إلا بإصلاح نفوسهم أو مقابلتهم بقوة لا
قبل لهم بها فإن كان الأول متعذرًا على العامل فالثاني مما يتيسر له، إلا إذا فقدت
الأمة استعداد الخير وكانت في حكم سنن الله في عدد الهلكى، وأما من يخذل العمل
النافع لاعتقاده أنه ضار؛ فعلاجه سهل وطبه حاضر إذا كان مخلصًا تقيًّا سواء كان
سبب اعتقاده الجهل المطلق، أوالسخط الذي أراه العمل بغير صورته الحقيقية، ولكن
قد يعسر التمييز بينه وبين سيء النية، أو تجهل الطريق لإيصال العلاج إليه.
ليس بيني وبين معالجة المخلص الحسن النية إلا أن يصل صوتي إلى أذنه أو
يلقى كتابي بين عينيه، فيقرأ أو يسمع الحجة التي أدلي بها إليه، وكأني به وقد زال
عنه الغشاء، وانكشف له الغطاء، فاستبق باب المتاب، واستغفر ربه وأناب.
أقول له: الخلاف بين البشر سنة غريزية فيهم لا مطمح في تبديلها فإذا جعلنا
الخلاف في الرأي والفهم سببًا للتنازع والتخاذل، نكون سجلنا على أنفسنا الفشل
الدائم والهلاك البطيء أو العاجل، ولا يختلف الناس في شيء كاختلافهم في الأمور
الاجتماعية وما به تترقى الأمم أو تتدلى؛ لأن كل واحد يدعي العلم بذلك وإن كان يقل
في الناس ذو العلم الصحيح التفصيلي بمسائل الاجتماع البشري وإصلاح أحوال الأمم
يقل ذلك في الشعوب التي استبحر فيها العمران وارتقت علومه، ويكون أندر من
الكبريت الأحمر في سائر الشعوب، فإن وجد فيها كان مجهول القدر، غير متمكن
من كل ما يقدر عليه من النفع، بل ربما كان علمه سبب بلائه ومحنته، واضطره
إلى الهجرة من وطنه، وكأين من نبي كريم، وعليم حكيم، وصوفي كبير،
وسياسي خبير، كفاه قومه على ما تصدى له من إصلاحهم بإهراق الدم، أو النفي
من الأرض، أو الضرب أو السب ثم ظهر في حياته أو بعد مماته أنه كان هو
المصيب وكل من ناوأه من المخطئين الخاطئين.
إذا تذكر المخالف هذا ووعاه انتقل إلى البحث في ضعفنا، وحاجتنا إلى دفع
الخطر عن أنفسنا، وكون ذلك لا يتم لنا إلا بالتعاون والتناصر، مع ترك التخاذل
والتدابر، فإن لم نفعل ذلك كان ما بقي لنا من القوة الممسكة ممزقًا، وكنا نحن
الممزقين.
فإذا هو فقه هذا وتدبره؛ أقول له: إننا أقوام نجتمع في أمور وتتفرق في أمور
فإذا نظر كل منا إلى ما يخالفه فيه غيره دون ما يوافقه فيه وجعل ما به الخلاف
قاضيًا على ما به الوفاق تمزقت قوانا، وإذا نظر كل منا إلى ما به الوفاق فعززه
وقواه تتحد قوانا ويستفيد كل منا ويفيد.
المختلفون منا في المذاهب متفقون في أصل الدين، فلماذا يضع أهل كل مذهب
مسائل الخلاف بينهم وبين أهل المذهب الآخر نصب أعينهم فيجعلونها سببًا
لإضعاف كل منهم للآخر ولا يجعلون ما به الوفاق من أصل الدين سببًا لتقوية كل
منهم للآخر وذلك لا يمنع كلاًّ منهم أن يتفق مع من يوافقه في المذهب على أعمال
أخرى تنفعهم ولا تضر غيرهم.
لماذا يختصم السني والشيعي في بخارى مثلاً؟ ولا نفع لأحد منهما في
اختصامهما وإنما الخسار عليهما معًا، والربح كله للروسية السالبة لاستقلالهما
والمستعبدة لهما معًا. ولماذا يتقاتل الزيدي وغير الزيدي في اليمن؟ وهو مما يضعف
كلاًّ منهما، ولماذا لا يتحدون فيما هم متفقون فيه كأصل الدين والوطن فيقوى كل
منهما بقوة الآخر ويبقى حرًّا في مذهبه لا يجادله أحد فيه إلا بالتي هي أحسن، فلا
يعامل المسلم أخيه المسلم الذي يوافقه في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم
الآخر بشر مما أمره الله تعالى أن يعامل به أهل الكتاب الذين يخالفونه في الإيمان
بخاتم النبيين والمرسلين، وما أنزل عليه من الكتاب المبين، فإن استكبر مخالفته إياه
في فهم بعض النصوص حتى فهم كلمة التوحيد فليعلم أن آفة المخطئ الجهل وإنما
يعالج مرض الجهل بالعلم والحلم دون العدوان والبغي.
والمختلفون منا في الدين متفقون في أمور أخرى يقوى كل منهما بالارتباط مع
الآخر بها، كالوطن واللغة والجنسية السياسية، فلا ينبغي أن يشتغل كل من المسلم
والنصراني بمقاومة الآخر بما به الخلاف، بل على كل منهما أن يشتغل بالتعاون
مع الآخر بما به الوفاق، فينهضان معًا بعمارة البلاد وتنمية الثروة وكل ما يتم به
تعزيز الدولة، وهناء المعيشة.
والمختلفون منا على اللغات متفقون على واحدة أو أكثر من الجامعات العظيمة
التي أشرنا إليها كالدين واللغة والوطن والجنسية، فليعمل كل قوم في هذه الدولة مع
كل من يشاركهم في جامعة ما لتقوية تلك الجامعة ناظرين دائمًا إلى جهة الوفاق،
متسامحين فيما لا عدوان فيه من جهة الخلاف، ومن يعب منهم أخاه أو يخذله فيما
يخالفه فيه من غير عدوان ولا بغي من ذلك المخالف فذلك إما غِرٌّ مفتون، وإما أحد
الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
إذا كان من المصلحة العامة أن يكون الأقوام والجماعات أحرارًا فيما يخدمون
به الجامعة الخاصة والجامعة العامة فمن المصلح أيضًا أن يكون الأفراد أحررًا فيما
يخدمون به اللغة والوطن والدين والدولة ومن يكيد لأحد منهم ليحبط عمله، فهو من
المفسدين كالذين يكيدون لمدرس؛ لكيلا ينتفع بدرسه، أو مؤلف ليصرفوا الناس عن
تأليفه، أو لصاحب صحيفة ينشرها أو خطبة يخطبها، أو مدرسة يؤسسها؛ فينبذونهم
بالألقاب، ويصدون عنهم الناس.
سيقول المحرفون: إن في هذا القول منعًا لحرية الانتقاد، وإبطالاً لفريضة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كلا، ثم كلا، ليس هذا من المنع لما ذكر
وإنما هو عين الانتقاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا فليكن الانتقاد
والأمر والنهي، بيان لبطلان الباطل ولحقية الحق من غير تهييج للعصبية، ولا
إغراء بالإصرار على الخطية، ألا وليحاسب أنفسهم المغرورون الذين يدعون القيام
بهذه الفريضة، ثم يخذلون العاملين بالسعاية والغيبة، ولا يوجهون إليهم الانتقاد فيما
بينهم وبينهم، ويا عجبا لماذا يسكتون عن كثير من المنكرات المجمع عليها،
ويعنون بتحمل الإنكار في المسائل المجتهد فيها!! ألا إن الحاسد المكابر لا علاج له،
يبدأ به حسده فيقتله، ألا وإن فيما قلناه مقنعًا للمخلصين، وذكر فإن الذكرى تنفع
المؤمنين.
__________
(*) نشرنا هذه المقالة والتي تليها بجريدة الحضارة التي تصدر في الآستانة.(13/538)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نابتة المدارس والمكاتب [*]
أناخ الصيف بكلكله، وضرب الحر بجرانه، فأنشأت المدارس والمكاتب
توصد أبوابها، وتنثر على البلاد أزاهر طلابها، وتهدي إليهم جَنَى جناتها، فمن
طلابها من يغادرها موقتًا لزيارة الوطن، وصلة الرحم، ويعود إليها جم النشاط،
وافر الاغتباط؛ ليتم المدة، ويكمل العدة، ومنهم من يودعها الوداع الأخير، بقلب
الحفيظ ولسان الشكور، وهم المتخرجون الذين تم فصالهم، وبلغوا في هذه المعاهد
رشدهم، وآن لهم أن يخدموا الملة والأمة بالاستقلال، ويطلبوا بالثبات في خدمتهم
درجة الكمال.
يرى الكثيرون من الناس أن الطالب الذي يغادر معهد العلم لأجل صلة الأهل
ومودة القربى لا يطلب منه في مدة الصلة إلا الراحة من تعب الدرس، وترويض
الجسم وترويح النفس، بما يباح له من اللعب والهو، وأن المتخرج قد استراح من
عهد التحصيل والتعلم، ودخل في طور الاستلال والتنعم، فما عليه إلا أن يهتم
بجمع المال، والتمتع بما يقدر عليه من الحلال، ومنهم من لا يرى قيد الحلال
ضروريًّا، ولكنه ربما يشترط المحافظة على عرف الكبراء، وعادات الأغنياء، فما
عرفوه من المنكرات كان عنده معروفًا، وما أنكروه من الفضائل والخيرات كان
عنده منكرًا.
لهذا كان سيرة الكثيرين من طلاب العلوم والفنون سيئة في اعتقاد الأمة،
وصورتهم المعنوية مشوهة في نظرها العقلي، فهي تتهم نابتة العلوم الدنيوية بتهمة
ونابتة العلوم الدينية بتهمة أخرى، وقد يكون لكل من الفريقين أنصار من الأهل
والأصدقاء، وأصحاب الحاجات والخلطاء، يعتزون بهم، ويقتنعون من الجاه
بعصبيتهم، فينصر أحدهم الآخر ظالمًا كان أو مظلومًا، ويؤيده لائمًا ومُليمًا،
فيسري بذلك دود الفساد في جسم الأمة حتى تكون من الهلكى، ويتعارض الجاه بين
رجال الدين ورجال الدنيا، فيتصادم حزباهما، ويقع الشقاق بينهما.
أيها النابتة الجديدة، قد آن لهذا التباين أن يزول، قد آن للمتعلمين أن يتجردوا
من الأهواء والحظوظ، قد آن لهم أن يعلموا أن للعلم فائدة فوق فائدة الحرفة، وثمرة
أشرف من ثمرة الكسب والتجارة، قد آن لهم أن يعلموا أن المدرس والحاكم،
(عامل الحكومة) والطبيب والمهندس، ووكيل الدعوى ومحرر الجريدة منكم إذا لم
يكن لهم غرض من عملهم إلا الكسب الذي يعيشون به؛ فلا فرق بينهم وبين الصائغ
والحائك والحداد والنجار والحمال، كل أولئك يعملون ما لابد للأمة منه لأجل أن
يعيشوا بثمرة عملهم.
تذكروا أن لكم وراء الكسب بعلمكم وعملكم عملاً تقدرون عليه ولا يقدر عليه
غيركم، ومقامًا عاليًا يسهل عليكم العروج إليه دون سواكم، تذكروا أنكم أنتم
المطالبون بإخراج أمتكم من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ورفعها من حضيض
الفساد إلى أوج الرشاد، وإنقاذها من مضيق الفقر والفاقة، إلى بحبوحة الغنى
والثروة، أنتم المطالبون بذلك بمعرفتكم قيمة أنفسكم، وبحسن سيرتكم في خاصة
أنفسكم، وبتعارفكم وتآلفكم وتعاونكم فيما بينكم، وبهدايتكم وإرشادكم لغيركم، وعلى
كل من الراحلين إلى البلاد منكم واجبات، أذكركم بها بهذه الكلمات.
ينبغي أن يوطن كل واحد منكم نفسه على خدمة الأمة ورفع شأنها وأن يراها
أهلاً لذلك بما منحها الله من القوى إذا هو شكر الله عليها باستعمالها في ذلك، فمن
يوطن نفسه على ذلك ويحملها على الاستعداد له تعل همته، وتعظم مروءته،
وتتعلق آماله بمعالي الأمور، ويتنزه عن سفسافها، ومن لم يرج عن نفسه الإصلاح
كان جدير بأن لا يرجوه غيره منه، وأن لا يكون مصلحًا بعلمه ولا عمله، ومن لم
يكرم نفسه لا يكرم.
يشتبه على بعض الناس تكريم النفس وحملها على معالي الأمور بالعجب
والغرور، والفرق بينهما كالفرق بين الظلمات والنور، والظل والحرور، فالأول
يكون عالي الأخلاق حسن الأعمال مع التواضع والنزاهة والبراءة من التبجح
والدعوى فهو قدوة حسنة في أخلاقه وآدابه وأعماله، وأما الثاني فهو يدعي ما ليس
فيه، ولا تهمه إلا حظوط نفسه، ويحب أن يحمد بما لا يفعل، ويحتقر العاملين،
ويغمط الحقوق، فيكون قدوة سيئة في أخلاقه وأقواله وأفعاله.
إن المعجب المغرور يرى نفسه في مرآته جميلاً ولكنه في مرآة غيره دميم
مشوه، فهو لا يغش ولا يخدع إلا نفسه الخبيثة، وأما عالي الهمة وكبير النفس فإنه
يراها دائمًا مقصرة؛ لأنه لا يعمل عملاً إلا وهو يرى أن الواجب عليه والمستطاع له
أكثر منه وأكمل، ولا يحجبه عن اعتقاده هذا حمد الحامدين له، ولا ثناء الراضين
عن عمله، المعجبين بعلمه وأدبه، فإذا فطنتم أيها الأخوة لهذا الفرق فاجعلوه ميزانًا
لكم في محاسبة أنفسكم؛ لئلا تكونوا حسانًا في مرآة أنفسكم قباحًا في مرآة غيركم.
إن من الناس من يكون استعداده لمعالي الأمور والقيام بالمصالح العامة قويًّا،
ومنهم من يكون استعداده لذلك ضعيفًا، منهم من تحرك هذه الذكرى همته للعمل
الذي يقوي الاستعداد، ومنهم من لا يقيم لها وزنًا، ولا يفهم لها معنًى، فمن رأى
أنها هدته إلى كنز ما كان يعرفه، أو زادته شوقًا إلى شيء كان يحن إليه ويألفه،
فليحمد الله تعالى، وليبشر بأن سيكون ممن ترتقي بهم أمتهم، وتعتز بهم دولتهم،
وتعمر بهم بلادهم، ومن رأى أنها من لغو القول، أو من قبيل تكليف المشي على
الماء، أو العروج إلى السماء؛ فليعلم أنه خلق ليكون أجيرًا يعمل ليأكل فلا يغشن
نفسه بدعوى ما لم يخلق له.
ألا وإن العمل يقوي الاستعداد الضعيف، فمتى وضعتم هذا الغرض الشريف
(ترقية الأمة) نصب أعينكم ووطننتم أنفسكم على السعي له في طريقه والدخول عليه
من بابه، فإنكم في كل يوم تزدادون فضيلةً وهمةً وإقدامًا.
ألا وإن التخلية مقدمة على التحلية، فينبغي أن تطالبوا أنفسكم بأن يراكم قومكم
في منصرفكم هذا اليوم خيرًا مما فارقوكم عليه خلقًا وأدبًا ورأيًا وعملاً وقولاً، يجب
أن لا يروا منكم ما ينكرون، وأن لا يسمعوا منكم ما يكرهون، يجب أن يروا منكم
العفة والنزاهة والتقوى والصدق والغيرة والحماسة والفتوة، يجب أن لا تدعوا لهم
مجالاً للشك في دينكم، ولا إخلاصكم لأمتكم ودولتكم، فإن ارتفعت همتكم إلى ذلك
فأبشروا؛ فإن فوزكم فيما تريدون من إيقاظ الأمة وعزة الدولة سيكون قريبًا.
لا تظنوا أن من كان فاقدًا لشيء من تلك الفضائل، أو مبتلى بشيء من
المعايب، وتكلف إخفاء عيبه، وإظهار فضيلة ليست خلقًا له، يعد مرائيًا منافقًا،
فإن الرياء والنفاق هو أن يصر المرء على عيبه، ويرضى بالبقاء عليه، ويحاول أن
يوصف بضده، أو أن يعمل العمل أمام الناس ليقولوا: فلان عمل. وهولا يرغب في
ذلك العمل ولا في أن يكون من أهله، ولست في هذا أرغبكم بالرياء وإنما
أرغبكم في التكلف الذي هو طريق التخلق، فالحلم بالتحلم، كما أن العلم بالتعلم،
والترك داعية النسيان والهجر وسيلة السلوان، على أن من يتكلف الخير رياءً،
أقرب إلى الخير والكمال ممن يعمل السوء جهارًا، وقد قالوا: الرياء قنطرة
الإخلاص.
أراني أطلت عليكم في مسألة واحدة ما كنت أريد الإطالة فيها؛ كيلا يفوتني
القصد فيما يبنى عليها، وهو ما ينبغي أن تحثوا الناس عليه، وترغبوهم فيه، وإنني
أذكر منه ما خطر ببالي من المهمات.
أول ما تعنون به الترغيب في العلم في المكاتب والمدارس الرسمية والدينية
الأهلية على حسب الرغبة والميل وتيسر الأسباب.
لا حديث كحديث العلم والتعليم يجب التوسع فيه، والتبسط في أرجائه ومناحيه،
فبينوا للأمة فوائد التعليم الأهلي الوطني وأقنعوهم بأن ترقي الأمة لا يكون إلا به،
ورغبوهم أيضًا في مكاتب الحكومة، وبينوا لهم كيف يتوقف ترقي الدولة على
نابغي المتخرجين في مكاتبها الملكية والعسكرية والعلمية والقضائية وكيف تتزاحم
العناصر العثمانية فيها؛ لأن هذا العصر هو عصر المباراة بين العناصر.
من فروع أحاديث العلم أو أصوله مسألة اللغة فبينوا للأمة وجه الحاجة إلى
إتقانها لغتها، وجعلها هي القطب لترقيها في نفسها وبينوا لها وجهة توقف ترقية
الدولة على إتقانها لغتها، وجعلها هي القطب لترقيها في نفسها، وبينوا لها وجه
توقف ترقية الدولة على إتقان لغتيها: لغتها الرسمية المنسوبة إلى مؤسسها وهي
العثمانية، ولغتها الدينية من حيث هي أكبر دول الإسلام وهي العربية، التي تستمد
منها الدولة علوم الدين والأدب والقضاء.
ويحسن الانتقال من الترغيب في التعليم العسكري إلى الترغيب في الجندية
نفسها، حببوا هذه الخدمة الجليلة للأمة، بينوا لها الفرق العظيم بين الجندي البائس
الحقير الجائع العاري الحافي في زمن عبد الحميد، وبين الجندي العزيز الكريم
الشبعان الكاسي الذي خصص له في ميزانية الحكومة الدستورية أكثر من أربعة آلف
قرش في السنة؛ ليبين كل من العرب والأرنؤود لأهل بلادهم أنه لا يليق بهم أن
يكونوا أشد العناصر تقصيرًا في هذه الخدمة الشريفة من حيث هم أجدر العناصر
بالسبق إليها والتبريز فيها لما هم عليه من الشجاعة والحمية والإقدام.
أخبروا أهل كل مدينة وكل قرية وكل حلة وكل دار تحلون فيها عن همة أبناء
وطننا الأرمن أنهم يمرنون جميع أولادهم في جميع مكاتبهم ومدارسهم على التعليم
العسكري بلغتهم فسيكون جميع أفراد هذا الجيل الجديد من الأرمن جنودًا، سواء منهم
الغني والفقير والرفيع والوضيع، يقولون: من دخل من أبنائنا في جندية الدولة كان
متعلمًا متمرنًا لا يلقى تحكمًا ولا إهانة بل يكون سابقًا مقدمًا سريع الترقي، ومن لم
يدخل منهم لا يضره هذا التعليم الذي يروض بدنه ويعلي همته ويزيد نشاطه وقد
يفيد في يوم ما، فإذا رضي بعض قومكم بأن لا يكون للتعليم الأهلي عين في بلادهم
ولا أثر بعد العلم بأن التعليم عام في الأرمن شامل لجميع ذكرانهم وإناثهم، فهل
يرضون أيضًا أن يسبقوهم في ميدان الشجاعة والإقدام، كما سبقوهم في حلبة العلم
والعرفان، إن كانت قد مرضت عقولهم ولقست نفوسهم حتى رضوا بالأولى فهل
خمدت حميتهم وتضاءلت شجاعتهم فيرضوا بالأخرى؟ هذا ما لا يعترفون به أبدًا بل
لا يعترفون بالأولى أيضًا، وإنما يعتذورن عنها، فطالبوهم بإزالة العذر بالقول
والعمل.
من هذا الباب أدخلوا على قلوبهم، من هذه النافذة أشرفوا على خفايا الغيرة من
زوايا سرائرهم، بهذا الأسلوب من القول حركوا سواكن النجدة والحمية من نفوسهم،
ثم أقنعوهم بأن الإحصاء الدقيق لنفوسهم هو الوسيلة الأولى من وسائل الخدمة
العسكرية الشريفة، وأن للإحصاء فوائد أخرى أهمها تكثير عدد المبعوثين.
على ذكر المبعوثين أقول: إنني أعلم أنه لا بد لكم من الخوض في أمر
المبعوثين، وأعلم أن كثيرًا منكم يغلون أو يغرقون في تنقدهم فأوصيكم في هذا المقام
بثلاث:
1- أن يكون جل كلامكم في ذلك علميًّا كبيان معنى الحكومة النيابية، وما
ينبغي أن يكون عليه النواب المبعوثون من العلم بالمصالح العامة ومن الصفات
والأخلاق كاستقلال الرأي والإخلاص والشجاعة وحسن البيان وقوة العارضة، وما
يترتب على ذلك من ترقية الأمة وعمران بلادها، ومن إصلاح حال الدولة ورفعة
شأنها، فالبحث في هذا هو الذي يعد الأمة إلى حسن الاختيار في الانتخاب الآتي.
2- أن تذكروا المحسن من المبعوثين بإحسانه والهمام بهمته؛ لتعرف الأمة
قدره وتكرمه؛ فيكون الشكر مدعاة المزيد من حسن خدمته والارتقاء فيها، وما
وجب شكر المحسن في الشرع وحسن في نظر العقل إلا ليكون مدعاة المزيد من
الإحسان، وليكون ذلك رافعًا لهمة المستعد الخامل وشجاعة الجبان المتوكل.
3- أن تتنزهوا عن الطعن في الضعفاء العاجزين والذين رضوا أن يكونوا من
غيرهم كقدح الراكب، أو صدى الناعب، وحسبكم أن تكونوا أدباء نزهاء غير
غاشين ولا مخادعين، وأن تتحاموا بذلك إخراج الأضغان، وتأريث العداوة
والبغضاء، انظروا إلى الحسن وكبروه وأعلوا شأنه، وغضوا أبصاركم عن القبح
وادفنوه بالإعراض عنه والإهمال له.
ما وصلت إلى هذا الرجا من أرجاء القول إلا ورأيتني أمام ميدان واسع، ويأذن
لي ما بقي من المقال بالايجاف والإيضاع فيه، رأيتني أمام مسألة مقاومة الجامدين
والغافلين من الأمة لإصلاح المصلحين وتنفير العامة عنهم ليحبط عملهم أو يبطئ
نموه فتتأخر ثمراته، هذا مرض من أعضل أمراض هذه الأمة قد قوي في هذا
العصر باختلاف طرق التربية وأساليب التعليم، وقد أشرنا إلى هذا في أوائل المقال.
فعليكم أيها الشبان العقلاء أن تتبعوا في علاجه طريق التحصيل المنطقية في تمييز
الضروب المنتجة من الضروب العقيمة دون طريق الإسقاط. عليكم أن تعظموا
شأن الإصلاح والمصلحين ولا تذكروا خصومهم بسوء، عليكم ببيان الحق للأمة
فمتى بان وظهر زهق الباطل وإن لم تحاربوا أهله جهارًا، عليكم أن تكبروا قيمة
حرية الفكر واستقلال الرأي، وأن تدعوا المخالفين إلى المناظرة الأدبية بالكتاب،
دون السعاية والاغتياب، والتنابز بالألقاب، فمن أعرض عن ذلك ظهر عجزه،
وبطل كيده وسحره، {فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا
صَاغِرِينَ} (الأعراف: 118- 119) .
لا ترضوا بالترفع عما يزيد الشقاق في الأمة بل وجهوا عنايتكم للتأليف بين
العناصر المختلفة، والأديان والمذاهب المتعددة، اجمعوا ولا تفرقوا، بشروا ولا
تنفروا، يسروا ولا تعسروا، إن يد الله مع الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم
القاصية، بذلك يقوى استعداد الأمة للإصلاح القريب، والعاقبة للمتقين.
عليكم أن تحثوا الأمة على النشاط في الكسب، رغبوها في ترقية الزراعة
وفي الاستعانة على ذلك بتعلم طرقها الحديثة في مدارس الحكومة، رغبوها في
إحياء الصناعة الوطنية والاستزادة منها، استعملوا المصنوعات الوطنية ورغبوا
الأغنياء والحكام في استعمالها؛ فإن هذه هي الطريقة المثلى لرواجها، رغبوا أهل
الوطن في الاشتراك المالي في الزراعة والصناعة والتجارة فإن هذا أقرب طرق
الألفة والاتحاد.
وأخص طلاب العلوم الدينية بأن يترفعوا عن الظهور بمظهر الفاقة، أو
يرضوا لأنفسهم بشيء من المهانة، وأذكرهم بأنهم أجدر الناس بعزة النفس وكرامتها،
والزهد فيما في أيديهم من حطامها، فعليهم أن يكونوا قدوة في أخلاقهم وفضائلهم،
لتقبل أقوالهم في الحث على الفضيلة والتقوى، علموا الناس السنة، نفروهم من
البدعة، فكل حديث في الدين بدعة سيئة، وأما الابتداع في أمور الدنيا فتعتريه
الأحكام الخمسة، ابنوا وعظكم دائمًا على آيات القرآن، وامزجوه بالأحاديث
الصحيحة مع عزوها إلى مخرّجيها، قاوموا دجل الدجالين، واجمعوا بين مصالح
الدنيا وحكمة الدين {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ
الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} (القصص: 77) .
__________
(*) المدارس في عرف الآستانة: معاهد العلم الديني القديمة وإن قرئ فيها غيره، والمكاتب: معاهد العلم النظامية العصرية، وكتبنا هذه المقالة في الآستانة فالكلام فيها موجه إلى العثمانيين أولاً وبالذات، ففيها ما هو خاص بهم وأكثر نصائحها عامة، وما ننشره هنا أصح مما نشر بجريدة الحضارة وفيه زيادة.(13/542)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البهتان العظيم
كنت سامرًا مع ناظر الداخلية بداره في أوائل المحرم فذكرنا سوء التفاهم بين
العرب والترك فذكر أن عبيد الله أفندي مبعوث آيدين سينشئ جريدة عربية في
العاصمة لأجل هذه المسألة، وفهمت منه أن ذلك برأي الحكومة ومساعدتها قلت:
يخشى أن تزيد هذه الجريدة في سوء التفاهم فإن مديرها مشهور بالتعصب على العرب
فلا يثقون بقوله ولا بنيته فهلا اخترتم لهذا العمل غيره. قال الناظر: إنه يظهر لنا أنه
محب للعرب غال فيهم ولعلكم سمعتم ما ذكرتم عنه من بعض مناظريه من مبعوثي
العرب. قلت: لا وإنما أنا أعرفه بنفسي فإنه كان بمصر وكان يصرح في المحافل
العامة بما يستنكره العرب، وبأنه ينبغي للترك أن يستغنوا عن اللغة العربية حتى عن
القرآن العربي بأن يترجموه بلغتهم وقد جرت بيني وبينه مناظرة في ذلك. قال
الناظر: أما الاستغناء عن القرآن العربي بترجمته فلا أوافقه عليها ولكنني أعرفه
محب للعرب.
وفي ذلك الشهر نفسه أصدر عبيد الله أفندي جريدته وكان من أمرها ما عرف
الخاص والعام فقد قامت عليها قيامة الجرائد العربية في مصر وولايات سورية كلها،
وفي أمريكة تفضح مقاصد صاحبها وفي إلقاء الشقاق والبغضاء والتعصب الذميم
الجنسي والديني بين العرب وشكوه إلى الحكومة وطعنوا في الحكومة، ولا سيما
نظارة الداخلية؛ لما شاع وذاع من مساعدتها له وصار يضرب باسمه المثل في
التفريق والإفساد بين جميع الناطقين بالضاد. ونحمد الله أن جاء ما سعى إليه في
جريدته من إثارة الفتن بين المسلمين والنصارى في بيروت وسائر البلاد السورية
بضد ما سعى إليه فقد تمكنت الألفة والوحدة الوطنية بين الفريقين واتفقت جرائدهما
على ذلك.
من غرائب هذا الرجل أنه يجمع في جريدته بين الأضداد والنقائض فيمدح
الشيء ويذمه مطلقًا، ويثبت الشيء وينفيه كذلك، ويحث على الأمر وينفر عنه فإذا
اعترض عليه في بعض ما يكتبه أمكنه أن يدعي لنفسه الطرف الآخر ويستدل عليه
ببعض ما كتبه، فهو في مشربه وحاله وعقله وأخلاقه ليس أهلاً لأن يناظر أو
يجادل، وإنما اهتمت الجرائد العربية بشأنه لاعتقادها أن الحكومة هي التي دفعته إلى
هذا العمل ولأجل أن تتخذ فتنته ذريعة لجمع الكلمة بين أبناء الوطن العربي لمقاومة
من اتفقوا على أنه عدو لكل عربي.
ومن غريب أمره أنه لا يستحيي من مكابرة الحس، وإعطاء الضد حكم الضد،
فهو يصرح بأن العرب كلهم مسلمون وأنه لا يعقل هو ولا أحد من الترك أنه يوجد
في العرب نصراني , ومثل هذا في المكابرة ما بهتني به، ويا له من بهتان عظيم قلما
يوجد في المخلوقين بشكل الإنسان من يرضى لنفسه التصريح بمثله!! وهو بهت
الإنسان جهرًا في كتابة تطبع وتنشر بضد ما هو مشهور به وتحريف كلامه
المعروف عندهم والإصرار على ذلك بعد إنكار الجماهير عليه في الأقطار المتفرقة
والبلاد الكثيرة.
أحمد الله تعالى أن عرف لي كل من يعرفني إخلاصي في الدعوة إلى الوفاق
والاتحاد بين المتفرقين في الأديان والمذاهب والأجناس والمشارب، فكم دعوت
المسلمين إلى الاتحاد وكم سعيت في هذه السبيل , ولما حدث ما حدث بعد الدستور
من سوء التفاهم بين العرب والترك سعيت إلى تلافي ذلك بالقول والكتابة والسعي
عند أولي الأمر في العاصمة، لكن لم يظهر لي أحد من أولي الأمر العناية بما سعيت
إليه إلا حسين حلمي باشا في وزارته ولكن سر به كثيرون من الفضلاء، وكنت
نشرت عدة مقالات في ذلك بجرائد العاصمة التركية والعربية قبل ظهور جريدة
الحضارة وعدة مقالات في هذه الجريدة.
حدق عبيد الله نظره في هذه المقالات ودقق النظر ليجد فيها عبارة تقبل
التحريف بمراد ظاهر؛ ليجعله تكأة له في هجوي وذمي والتنفير عني وعن مشروعي
فلم يجد، فعمد إلى البهتان المبين فنقل من إحدى مقالاتي في جريدة الحضارة جملاً
محكية عن ساسة أوربا الذين يريدون القضاء على هذه الدولة بتفريق عناصرها مع
الرد على أولئك الساسة وتحذير العثمانيين من الإصغاء إليهم وحثهم بالبراهين على
الاتحاد الذي فيه خيرهم أجمعين. فزعم أولاً أنني كتبت تلك العبارة عن لسان
الأوربيين لأجل تفريق العثمانيين وأنه لا يوجد في الأوربيين من يغرينا بالتفرق،
وإنما هم يدعوننا إلى الوفاق!! ثم سكت مدة وصار ينقل تلك العبارة ويعزوها إليّ
مباشرة، وترجمها إلى التركية غير مرة لينفر إخواني الترك مني، ولم يخجل من
ادعائه أنني أنا الذي أقول تلك الأقوال وأدعو العثمانيين إلى التفرق والانفصال، فمثله
كمثل من يعمد إلى مثل قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ
آخَرُونَ} (الفرقان: 4) الآية وقوله: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى
عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان: 5) فحذف من الآيتين لفظ (قالوا) وزعم أن القرآن
يطعن في القرآن وفي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم - سبحانك هذا بهتان عظيم -
وقد روينا في الصحيحين والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أدرك
الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) .
أنكر عليَّ عبيد الله أولا أن في الأوربيين من يرى في ترويج سياسته
تفريق العثمانيين بعضهم من بعض ولا سيما الترك والعرب، أنكر ذلك وهويعرفه
كما هي عادته وفي كلامه ما يشعر به صرح به في العدد الأخير من جريدته الذي
أعلن فيه إيقاف إصدارها الآن، ولكن الغافلين من قرائها الذين ينسون عند قراءة كل
عدد ما كتب في غيره بل عند كل جملة ما يناقضها من الجمل قبلها قد يصدقونه فيما
بهتني به ومن الأخلاق التي رسخت في هذه العاصمة، وفي رجال هذه الحكومة خلق
التسليم والتصديق بالشر والارتياب في الخير طبع هذا الخلق في نفوس الكثيرين منهم العهد الحميدي الذي لم يكن لهم فيه من شاغل إلا الوسوسة والتجسس والاتهام بالشر.
هذا وإننا نحن الذين عشنا في شر أيام العهد الحميدي في مصر بعيدين عن
استبداده وعن وساوسه أعرف بسياسته من الذين عاشوا فيه وأعرف بسياسة أوربا
أيضًا وقد أشرت في مقالات (العرب والترك) إلى بعض سعي الإفرنج من استقلال
العرب وعبيد الله يعرف شيئًا من هذا ولكنه يتعمد كتم الحق واظهار الباطل لما له من
الهوى في ذلك. ويمكنني أن أنقل كلمة وجيزة في هذا الباب من الكتاب المسمى
(الدول المعظمة أمام الانقلاب العربي) الذي ألفه أوجين جونغ الذي كان واليًّا لفرنسا
في الهند الصينية وهي قوله في ص 228 ما ترجمته:
(إن العناصر التي تتكون منها الدولة العثمانية وهي الألبان والمكدونيون في
أوربا والروم في جزائر الأرخبيل والأرمن والأكراد والعرب في آسيا كلها أصبحت
منذ زمن تتحرى طريق الانفصال من هذه الشجرة التي نخرها دود الفساد، فلو نظرنا
إلى كل من هذه العناصر نجد العنصر التركي أدناها (أدونها) إلا أن السبب الذي
ساعده على استبقاء نيره على عاتق هذه العناصر إلى اليوم إنما هي معونة العنصر
العربي له الذي هو في نفسه أكثر عددًا من جميع تلك العناصر وفي جملتها العنصر
التركي، وما وفق الترك إلى ضمان إخلاص العرب لهم وارتباطهم بهم على كونهم
يظلمونهم كسائر العناصر إلا باستنجادهم الديني لشعورهم الديني وجعل المصلحة
التركية عين المصلحة الإسلامية.
فالعرب اليوم قد شعروا بوجودهم وصاروا يأنفون أن يخدعوا بعد ذلك وأن
يحافظوا على سلاسل أسرهم وأغلال استعبادهم، فيكفي أن يمد العرب إمدادًا قليلاً
حتى تتهدم الدولة العثمانية من نفسها كما ينهدم القصر المبين من ورق اللعب) اهـ
فهذه كلمة وجيزة من أحد الكتب الكثيرة التي ألفها الأوربيون لإغراء أوربا بفصل
العرب من الترك وإسقاط هذه الدولة - لا سمح الله - وقد صدق في قوله: إن
العرب مخلصون لهذه الدولة ولإخوانهم الترك وإن سبب ذلك الإسلام. وكذب إيهامه
لقومه أننا تحولنا عن إخلاصنا، ولكن إذا بقيت جريدة عبيد الله تنفث سموم
التفريق والإفساد حتى أنست العرب ما كتبته (إقدام) وغيرها من قبل، ولم تتدارك
هذه الحكومة ذلك وسائر ما نصحنا لها بتداركه فلا يعلم إلا الله مصير الأمور، ونحن
قد نصحنا قومنا ونصحنا حكومتنا كما أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: (الدين
النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم.
__________(13/549)
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
__________
خديجة أم المؤمنين
عبد الحميد الزهراوي
الفصل الثالث والعشرون [*]
(إعلان الدعوة، واحتمال الأذى، والثبات)
لم تقف فضائل السيدة خديجة، عندما ذكرناه إلى الآن من سيرتها بل هي
كالينابيع الثرورلا تغيض. والآن يشرف القارئ معنا على مجلى من أعظم المجالي
لفضائل هذه السيدة الجليلة.
جاء الآن دور الثبات في سبيل الحق، وهذا الثبات لا نجده في كل عصر إلا
في صحائف أفراد ندرتهم بين بني آدم أعظم من ندرة الياقوت بين الحجارة، وكثرة
فوائدهم أعظم من قطرات الغيث.
لقد مر على بني آدم ألوف من الأعوام، وفي كل عصر وجد منهم ألوف الألوف
ومن كل هذا العدد العظيم لا نعرف مائة ثبتن في سبيل الحق مع شدة المعارضة ثبات
(خديجة) أما ثبات بعلها الكريم فلا ينبغي أن نقيس به بعدما قدمناه ثبات أحد، فإنا
قد وصلنا في الفصول السابقة إلى بيان أنه مؤيد أعظم تأييد، وأنه سمع الوحي
الإلهي آمرًا إياه أن يقوم بأعباء الرسالة والتبليغ، فأصبح الفرق بينه وبين غيره
عظيمًا جدًّا منذ أتاه هذا الوحي، وعندنا معشر المؤمنين به أنه هو المختار الأعظم
والمصطفى الأكبر، فلذلك لا نرى ثباته في سبيل الحق يعادله أو يقاس به ثبات.
ظل هذا المختار ثلاث سنين يدعوا سرًّا ثم أمر أن يجهر بالأمر فلم يجد إلى
جانبه زوجة تثبط وتخوف أو يضعف قلبها فتؤثر الراحة وطمأنينة البيت على
النصب واحتمال الأذى، بل وجد قرينة صالحة القلب للوقوف معه بالصبر والسكينة
أمام المعارضين والمعارضات وما أشد ما كان أمام هذا الداعي إلى غير ما عرف
القوم! وما أحوج هذه الحالة إلى قلوب كلما كبر المعاندون كيدًا تقول: الله أكبر!
الله أكبر، كنا المعاندون أفرادًا وجماعات قد امتلكت الأنفة والعزة نفوسهم،
واجتذبت قلوبهم، وامتصت من أفئدتهم النداوة فأصبحت نسمات الهدى تزعجها،
وحرارة الإنذار تكاد تحرقها.
قريش وما قريش؟! قبيلة ترى لنفسها السبق بكل فضيلة والشرف على كل
فصيلة، ولها أنوف شامخة كأنها تطاول السماء، وأعناق متلعة كأنها تتصيد كل علياء
تعاد كل قوم بالنجباء فتكْثُرُهم، وتفاخر من تشاء بالعظماء فتفخرهم، مثلها بين القبائل
كالشمس مكانة، وكالروضة نضرةً وعبيرًا، هذه القبيلة التي حالها ما وصفنا من قوى
الشكيمة وشدة الإباء ومزيدا التعالي كانت قد أصيبت من الاقتداء بمضرته إذا
كانت بعض العقائد التي صادفتها في موردها ومصدرها في البلاد المجاورة قد
التصقت بعقولها حتى أصبحت ترى التصدي لاقتلاعها منها اعتداء على حقوقها،
وانتهاكا لحرماتها.
هذه القبيلة كان لها من نور الذكاء ما يبهر الناظرين ولكن قد تراكمت على
أفكارها سحائب من آثار التقليد حالت بين ذكائها وبين الحقائق العالية حتى رأيناها
تدرج مع البلداء في مدرج واحد من تأليه صور صماء عمياء بكماء جامدة قد صنعتها
الأيدي فقامت تحسب أن هذه الصور تضر وتنفع وتجلب وتدفع وتقرب إلى الخالق
الأعظم وتشفع، وراحت تعلن أن لهذه الصور مجدًا، وتستحق شكرًا وحمدًا، وظلت
تصنع لها ما تصنع الأمم لآلهتها من ذبح القرابين، ونذر النذور، وتوجه القلوب،
وإخبات الصدور، وتعلق القلوب.
نعم ساورت تلك العقائد قلوبها حتى صارت الأنفس فيها لا تنبسط لشيء
انبساطها لتمجيد تلك الآلهة ولا تقبض لشيء انقباضها للطعن فيها أو النقص من
تكريمها.
هذه حال القوم الذين أمر هذا الرسول أن يقوم فيهم منذرًا وداعيًا إلى معرفة
الله تعالى وتوحيده، وكانت قريش تعرف هذا الاسم الجليل الدال في هذه الأمة على
واجب الوجود موجد السماوات والأرض ولكن لم تكن تعرف ما ينبغي أن يكون عليه
جلال الذي يعبر عنه بهذه الكلمة من الكمال والبعد عن مشابهة الحوادث، وقد جرها
الجهل بالله تعالى وسننه وآياته إلى ما جر كثيرًا من الأمم إليه من جهل كثير من
الحقائق. وإني ما أشبه نتائج الجهل به عز وجل إلا بسلسلة طويلة يستدرج بها ذلك
الجاهل إلى أسوأ النهايات إذا لم تتداركه الأسباب من عناية الرؤوف الرحيم جلت
آلاؤه، وتعالت أسماؤه.
ولقد كاد حظ قريش من هذه السلسلة - سلسلة الجهل - يصل بها إلى مستقر
لا تغنيها فيه الرفعة على أمثالها ممن يضرب الجهل خيامه عند خيامهم، ولا تجديها
القوة اليسيرة التي كانت تجدها في اجتماعها ذلك.
كاد الاتكال على الأصنام يعفّي كل آثار الفطرة منها، ويطمس كل رسوم
الذكاء، ويذهب بما تركه فيها من المحاسين بعض فضلاء الأسلاف قبل عهدهم بهذه
الآلهة التي فتنوا بها، أصبحت لا تعي ما هو فضل الله، وما هي رحمة الله، وما هي
عناية الله، وغدت بعيدة عن معرفة ما هو الروح، وما هي خصائص الروح، وما
هي عبادة الروح للأحد المحيط بكل شيء، وراحت معرضة عن العلم بمراقي الأمم
واتساع دائرتها، وعن معرفة وظيفتها من تتميم إرادة الفاطر بإظهار البدائع على
يدها، وظهور آلائه وآثار عنايته عليها، وأصبح قصارى ما يجول بفكر الواحد من
هؤلاء القوم أحد شيئين يشيلان في ميزان العقلاء: شيء يرضي به وهمه في
التزلف إلى تلك الحجارة التي اتخذها آلهة، وشيء يرضي به وهمه في الكبرياء،
ولم يدر مغرورهم أن التزلف إلى تلك الحجارة وأمثالها هو منتهى التسفل العقلي،
وأن تلك الكبرياء لا تجديهم شيئًا إذا دهمهم داهم خارجي كما وقع لهم يوم أبرهة.
هذه السلسة الطويلة من نتائج الجهل بالله تعالى وسننه وآياته أصبحت قيدًا
لمداركهم قد أحكمت حلقاته فهم لا يستطيعون ما دام موجودًا أن يبرحوا ما هم فيه
لأن جاذبًا منه يجذبهم من حيث لا يرونه كلما تحركوا.
هذه هي السلسلة التي اقتضت عناية البارئ أن تظهر آية عظيمة في قدها
وتخليص تلك الفطرة من قيدها، واقتضت الحكمة البالغة والتدبير الأسمى أن يكون
ذلك بواسطة من أنفسهم، وأن تجري الهداية على سننها في الأولين فيلاقي الواسطة ما
يلاقي، ويصبر ما يصبر، ويتم الله ما يريد. ولذلك لما قام هذا المصطفى يعلن هذه
الدعوة لقي تلك الصوادم، وما تلك الصوادم؟ جهل وغرور، وكبرياء وعتو، وقسوة
وفظاظة، وتعصب للمألوف، ونفرة من الوعظ والنصح، وإباء أمام الإنذار، وطغيان
وبهتان وعدوان، وإقدام على قتل الذي يذكر آلهتهم بما يكرهون.
أي قلب لولا التأييد الرباني يجد إلى الصبر سبيلاً أمام هذه الصوادم؟ وأي
ناصية لولا العون الرحماني تظهر للقاء هذه الصوادم؟ وأي امرأة غير (خديجة)
ترى بعلها في جوف هذه الغوائل ثم لا تزيده إلا حمدًا على القيام بوظيفته وإيناسًا
بوقوفها معه في وجه كل خصم لدود؟
أوذي (عليه صلوات الله وتسليماته) بأنواع الأذى لما أسمعهم الدعوة،
تكاثر المفتاتون عليه والمفترون، وظاهر سوادهم الجاحدون والممترون، من أقرب
أقربائه ظهر الجافون المتباعدون عنه، والهازئون به والساخرون منه، دع عنك
البعداء، ومن أكل قلبهم حسد أو بغضاء، قال المفترون: هو يطلب الملك علينا.
وقالوا عن الوحي الآلهي: هو شعر جاء إلينا. وقد حشروا ما عرفوه من الغيوب،
وأرادوا عزوها إليه؛ لينفروا الناس منه وينتقموا لآلهتهم التي بدههم يجحودها،
وكشف لهم عوار جمودها، وأيسر ما فعلوه سبهم إياه والهزء به والافتراء عليه
ومجافاته، ثم مجافاة من لم يجافه. فعلوا كل هذا وهو متدرع بالصبر، مثابر على
الصدع بالأمر، وفي هذا كانت معه هذه الدرجة الشريفة الفاضلة تعلم محبي الحق
كيف يكون الصبر من أجله، وتهدي إلى الأجيال الآتية أجمل صورة
لثبات الجأش أمام الصعوبات.
ويا ما أحلى الصبر إذا كانت عاقبته كعاقبة صبر هذا الرسول الكريم! فقد كانت
العقبى ذلك الفوز العظيم الذي يقل في الدنيا من لم يسمع خبره. ولنعم عقبى
الصابرين.
خلاصة الدعوة
أما الدعوة الشريفة التي أعلنها فهذه أصولها:
1- العلم بأن لا شيء يستحق التأليه إلا الله الخلاق العظيم الذي لا يشبه
الحوادث ولا يشبهه شيء منها.
2- العلم بأن هذا البارئ المصور ذو عناية خاصة بالنوع الانساني، ومن
عنايته به إتحافه بصنوف الهدايات ومنها الهداية بواسطة وحي أعلى للرسل
المصطفين.
3- العلم بأن هذا الداعي الجديد إلى الله هو رسول مصطفى قد أرسله الله بدين
يدعو إلى السعادة في هذه الحياة وحياة أخرى يوم الجزاء.
4-العلم بأن الإيمان بهذا الرسول يقتضي الإذعان والتسليم إلى كل ما جاء به.
هذه أصول الدعوة التي كان مأمورًا أن يبدأ بها الناس. وهي ملخصة
بهاتين الجملتين الشريفتين (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فمن قالهما مطمئنًا بهما
قلبه دخل تحت اللواء المحمود لواء المحمدية الذي يظل مئات الملايين في يومنا هذا.
والرسالة المحمدية لم تكن لقريش ولا للعرب خاصة بل هي للناس كافة ولكن
البدء بالعشيرة الأقربين كان هو الذي تقتضيه الحكمة حتى إذا أجابوا كانوا عونًا
للدعوة لا عونًا عليها.
***
الفصل الرابع والعشرون
(بعد عشر سنين)
بعد عشر سنين من عهد الرسالة كان المؤمنون قد كثروا وأخذ العناد من
الخصوم يزيد، وجعل الحسد يلتهب في قلوبهم لهذا النجاح الذي كانوا يحسبونه
محالاً وكم يحسب أمثالهم مثل هذا الحسبان.
كان الجاحدون في نار من ذلك الحسد، والمؤمنون في جنة من الفرح بنعمة الله
ورحمته، كان الجاحدون يفكرون كيف يزهقون هذا الروح الجديد، والمؤمنون
ينتظرون من مولاهم إعلاء شأنه، كان الجاحدون حيارى في هذا الداعي، فطورًا
يسبونه وطورًا يهزؤون به، وأحيانًا يرجعون إلى أنفسهم ويحاسبون حسهم وعقلهم
فيه؛ فيجدونه بعيدًا عن المين وسائر المظان التي كانوا يظنون. وكان المؤمنون من
يقينهم في حظ عظيم من الطمأنينة وانشراح الصدر وفرح الضمير. كان الجاحدون
يرجعون إلى تلك الحجارة فيشكون إليها المحمديين وما أتوه من مخالفة قومهم وتأييد
ذلك الرجل الذي لا يذكر آلهتهم إلا بسوء. وكان المؤمنون يرجعون إلى من لا تدركه
الأبصار متوجهة إليه وجوههم، مسلمة إليه قلوبهم لا يتوكلون إلا عليه ولا يأخذون إلا
بسننه. كان الجاحدون عكوفًا حول تلك الأصنام الجامدة، وكان المؤمنون يقولون:
سبحان الله، سبحان الله عما يصفون، تعالى الله علوًّا كبيرًا. كان الجاحدون كثيري
الغم والهم، وكان المؤمنون مع شدة ما لاقوه من الأذى فرحين مستبشرين قد أبدل الله
لهم مرارة الصبر حلاوة، وذلة القلة عزة.
وفي أواخر تلك السنين العشر الشداد كان على سرير الاحتضار شخص عزيز
جدًّا عند المؤمنين. ولم يُشَمِّت الجاحدين في تلك الأيام شيء مثل مغادرة هذا الشخص
لذلك العالم الإسلامي الذي نشأ وترعرع بينهم بالرغم منهم.
كان في هذا الشخص العزيز روح ترفرف في هذا المحيط الصغير، تارة
ترفع البصر إلى مقرها الأقدس عند المحيط الأعظم فتحاول الطيران إليه، وتارة تلقي
به على هذا المحيط الذي أنست به فتظل مرفرفةً عليه، وجانحة إلى العكوف لديه،
وكان جاذب من قلوب هذه العالم الإسلامي يتمنى بقاءه، وجاذب من أمر الله وسنته
يقضي بطيرانه، وأمر الله أعلى وإليه المصير.
هل عرف القارئ من هذا المودع العزيز ذلك كان شبح سيدتنا (خديجة)
فقف أيها القلم خاشعًا، لقد ماتت من تركت للفضائل حياة لا تفنى، لقد انتهى هذا
العمر الذي أمدك بهذه المواد السامية، ولن تجد لك أيها القلم شرفًا بعد هذه السيرة إلا
إذا سرت بنقل التاريخ المحمدي.
سبحان رب الكون هذا حكمه ... في الروح سيمت بهذا الواقع
مرآتها هذا الشخوص بها ترى ... زمنًا وترجع للمحيط الواسع
لقد مرت روح سيدتنا خديجة بهذه الدار فرأينا منها ما نقلناه للقارئ والآن هي
لدى المحيط الواسع. فهل تتجلى اليوم على هذه العالم الذي مرت به وترى أن تلك
الكلمة التي قاست في سبيلها مع بعلها الكريم ما قاست قد أعلاها الله تعالى وعظم
شأنها ونصرها العرب وغير العرب وأصبحت برور الأرض وبحورها مملوءة كل
هذه العصور إلى يومنا هذا بمن يقول من جميع أجناس البشر (لا إله إلا الله محمد
رسول الله) .
وقد ولدت سيدتنا خديجة من زوجها الكريم بنين وبنات وبقيت لها من بنتها
السيدة فاطمة الزهراء ذرية مباركة في أكثر أقاليم الأرض والحمد لله ولكن هل
تتجلى اليوم تلك الروح الشريفة وترى أن كل المؤمنين يعدون اليوم أولادها،
فالسلام عليك يا أم المؤمنين، سلام الله ورحمته وتحياته على روحك الطاهرة
يا أماه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تابع لما نشر في (ص473م13) من سيرة السيدة خديجة بقلم السيد عبد الحميد الزهراوي.(13/553)
شعبان - 1328هـ
سبتمبر - 1910م(13/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
محاربة المنار للتقليد ومذهبه
س32 من صاحب التوقيع بسمبس (برنيو)
حضرة العلامة المفضال العظيم، الفهامة الأستاذ الحكيم، سيدي السيد محمد
رشيد رضا صاحب المنار الأغر شيد الله بوجوده منار الإسلام، واهتدى بهديه الأنام.
وبعد إهداء كل تحية واحترام، فلقد كان المنار منذ سنين حارب فيها التقليد
والمقلدين، ودعاهم إلى الاهتداء بالسنة وكتاب رب العالمين، وحسم بسيف الدليل
والبرهان ألسنة المبتدعين، وعنى توحيد المذاهب الإسلامية المختلفة طبقًا للكتاب
والسنة النبوية، إن ذلك لحق. ولكن رأيت في ذلك داء يجب تداركه بالعلاج حيث
توهم كثير من الناس أن صاحب المنار لم يتمسك بمذهب من مذاهب الأئمة الأربعة
رضوان الله عليهم بل هو مستقل بمذهبه، حتى قال بعضهم: إذا كان هو قد خرج
من مذاهب الأئمة ورفض كتب المتقدمين , وأخذ يجتهد فإني لا أتبعه بل أتبع العلماء
المتقدمين وأَطَّلِعُ على كتبهم وأقرأ فيها فإن للاجتهاد شروطًا كثيرة بل نقل ابن حجر
عن بعض الأصوليين أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد؛ أي: مستقل فما رأيكم
في هذا الوهم؟ فهل تستحسنون أن تزيلوه وتبينوا مقاصدكم بالاستقلال أم تسكتون
عليه؟ هذا والسلام نِعْمَ الختام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ب. ع
(ج) قد تكرر بيان هذه المسألة في المنار، وصرحنا غير مرة بأننا لم نقصد
قط أن ندون لنا مذهبًا نحمل الناس على اتباعه، وأننا لا ندعو أحدًا إلى تقليدنا بل لا
نجيز له ذلك وإنما ندعو المسلمين إلى البصيرة في دينهم اتباعًا لقوله تعالى لنبيه صلى
الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) فنحن باتباعه صلى الله عليه وسلم ندعو إلى الله - عز وجل
- بفهم كلامه والتأسي برسوله مع البصيرة؛ أي: الدليل والحجة، فمن ظهرت له
الحجة والبصيرة فيما نكتبه فاتبعها لا يكون مقلدًا لنا، وإنما يكون متبعًا للبصيرة
التي يرضاها الله له، ولا ننهى أحدًا عن طلب البصيرة في الدين من كتب الأئمة
المتقدمين بل نأمر بذلك ونحث عليه، ونحب لكل الناس أن يستفيدوا منها كما استفدنا
ونستفيد دائمًا. وإنما نذكرهم بأن يطلبوا منها البصيرة بفهم كلام الله وكلام رسوله
واستبانة سنته، لا لأن يجعلوا كلام العلماء هو المقصود لذاته. فقد ذكر الإمام المزني
صاحب الإمام الشافعي رضي الله عنهما في أول مختصره لمذهب الشافعي أنه نقله
ليستعين به الطالب له. قال: مع إعلامه بأنه؛ أي: الشافعي لا يجيز له ولا لغيره
أن يقلده به. فنحن نستعين بالمفسرين على فهم القرآن ولا نقلد أحدًا منهم في فهمه
وإنما نتبع البصيرة متى استبانت ونستعين بكتب المحدثين والفقهاء على فهم السنة
ولا نقلد أحدًا منهم في رأيه وإنما نتبع البصيرة، ونحث إخواننا على طلب البصيرة
في الكتاب والسنة بقدر الاستطاعة وإن كانوا متبعين لبعض المذاهب فهي لا تمنعهم أن
يكون لهم حظ من الاعتداء والبصيرة.
وليعلم السائلون وغيرهم أن الأصل في التقليد هو الثقة فقد جرت عادة الناس
باتباع من يثقون به، ولهذا راجت بين المسلمين بدع وضلالات كثيرة باسم الإسلام
كطوائف الباطنية، فمتى انقطع الناس عن فهم الكتاب والسنة انقطعت الصلة الحقيقية
بينهم وبين دين الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وحرموا البصيرة
التي هي سبيل الله واتبعوا السبل المختلفة مخالفين لقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: 153) ولذلك نهى أئمة الفقه الأربعة وغيرهم من أئمة السلف عن التقليد
الذي هوالأخذ بكلام من يثق المقلد بهم من غير بصيرة في الكتاب والسنة، وكيف لا
ينهون عن ذلك ويعلمون أنه يصد الناس عن سبيل الله ويحملهم على الاستغناء بكلام
غير المعصومين الذين لا يسلم أحدهم من الخطأ مع حسن القصد فكيف إذا وثق
الناس بفساد السريرة المتعمد لهدم الشريعة كالباطنية، وقد كان أحدهم يرجع عن
كلامه بعد أن يكون نقل عنه. وقد رجع الشافعي بمصر عن مذهبه الذي وصل إليه
اجتهاده قبل ذلك فصار الناقلون لعمله يقولون: المذهب القديم والمذهب الجديد وقد
رأيت قول صاحبه المزني في عدم إباحته تقليد أصوله.
وخلاصة القول:إننا ندعو المسلمين إلى الاهتداء بكتاب الله تعالى وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم كل بقدر استطاعته. وإن طالب الاهتداء من العامة يمكنه أن
يسأل العلماء عن ذلك عند الحاجة إليه لا عن رأيهم وفهمهم لكلام المقلدين فقط
كمتأخري الفقهاء، وقد فصلنا القول في ذلك من قبل تفصيلاً، ولا يتم هذا الاهتداء إلا
بالعناية باللغة العربية. ولا شيء أضر على الإسلام في هذا العصر ممن يدعو إلى
ترجمة القرآن إلى اللغات المختلفة؛ ليستغني المسلمون بالترجمة عن القرآن المنزل
من عند الله عز وجل بلسان عربي مبين، فالغاية من هذه المفسدة إذا وقعت لا سمح
الله أن يكون الأعاجم من المسلمين عرضةً لترك الدين وسنوضح ذلك إن شاء الله
تعالى.
__________(13/569)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
هل يعتد بإيمان أهل الكتاب بعد الإسلام
س33 من أحد علماء تونس المستقلين صاحب الإمضاء.
مقام حجة الدين وإمام أئمته المصلحين سيدي محمد رشيد رضا صاحب المنار
الزاهر أعلى الله به كلمة الحق.
علمت بما اطلعت عليه من مجلدات المنار الأغر رأيكم في معنى الإسلام وهو
ما هدتني الفطرة إلى فهمه من قوله تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ
مِن قَبْلُ} (الحج: 78) ولم أكن أقرأ المنار، ولكن أشكل عليّ - حفظكم الله
تعالى - ما يلوح من كلامكم في هذا الغرض من أن الإسلام الذي تكون به النجاة في
الآخرة هو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح من أي أمة كان صاحبه وفي أي
زمان وجد ومكان فهل رأيكم - رفع الله بكم قواعد الدين - أن الذين هادوا
والنصارى اليوم يفوزون يوم الجزاء برضوان الله تعالى؛ إذا هم آمنوا بالله واليوم
الآخر وعملوا الصالحات وإن كفروا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والذي
كنت أفهم من معنى الإسلام ولن أزال أفهم أنه الإيمان بالله واليوم الآخر وتصديق
الرسل، فمن آمن بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قبل بعثة نبينا صلى الله
عليه وسلم مُسلم عندي بلا شك، كتبت إليك؛ لأكون على بينة من رأيكم فإني لا
أدين بالظنون واللوائح، ولا أسكن إلى ما تمليه عليَّ الظواهر، وقد استفدت هذا
الخلق من قراءة ما تكتبون والله يحفظكم.
... ... ... ... ... ... ... ... (أحد القراء بتونس)
ج - لكل مقام مقال ونحن قد صرحنا من قبل في بعض المقامات بأن الإيمان
هو كما عرفه النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم
الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى، وفسرنا الإسلام في التفسير بما علمه
السائل الفاضل ورضيه، وقال: إن الفطرة هدته من قبله إلى فهمه وهو ما يتبادر من
القرآن الحكيم، ونفسره في مقام آخر بما جاء في الحديث من الأعمال أو الأركان
الخمسة، وفي مقام آخر بأنه الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم في
مجموعه ونحن نرى السائل هنا فسر الإسلام بالإيمان بالله واليوم الآخر وتصديق
الرسل. وهذا التفسير ليس هو الذي فهمه من القرآن، ولا هو الذي ورد في الحديث
في جواب جبريل، ولا هو الذي يفسره به العلماء، وهو يعرف ما ورد في الحديث
وما قاله علماء العقائد في تفسيره كما يفهم المراد من استعمال القرآن، وإنما غرضه
هنا أن يبين أن الإيمان بالرسل من أصول الدين الإسلامي وهو كذلك.
ثم إننا بيَّنَّا في مقام آخر أن المقصد من الدين الذي جاء به جميع الرسل من
عند الله هو الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل الصالحات؛ لأن هذا هو ما تتزكى به
الأنفس وترتقي به الأرواح وتستعد لمنازل الكرامة في الآخرة والنجاة من العذاب.
والرسل عليهم الصلاة والسلام هم الوسيلة لتعليم البشر هذه المقاصد وهل
يمكننا أن نقول غير ذلك في مقام تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ
رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) وفي تفسير {لَيْسَ
بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ
وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ
الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} (النساء: 123-124) .
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السُّدِّيِّ قال: التقى ناس من المسلمين
واليهود والنصارى فقال اليهود للمسلمين: نحن خير منكم، ديننا قبل دينكم، وكتابنا
قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم ولن يدخل الجنة إلا من كان
هودًا. وقالت النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم، ونبينا صلى
الله عليه وسلم بعد نبيكم، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم فنحن خير منكم؛ نحن
على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا فأنزل
الله تعالى {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ} (النساء: 123) إلى قوله:
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (النساء: 125) فأنت ترى أن القرآن الحكيم قد ناط دخول الجنة
وسعادة الآخرة بالإيمان والعمل الصالح في مقام إنكار المفاخرة بين أهل الكتاب
والمسلمين.
وذلك أن أهل الكتاب جعلوا مقصد الدين وقطبه الذي يدور عليه أم النجاة
والسعادة في الآخرة هو الانتماء إلى أنبيائهم وأنهم إنما ينجون بجاههم لا باتباعهم
وإقامة ما جاؤوا به من الهداية فكان مثلهم ومثل من اتبع سننهم من المسلمين كمثل
عبيد جعلهم سيدهم في مزرعة؛ ليعمروها وينتفعوا بها ويستعينوا بما فيها من ثمرات
على إصلاح شأنهم وإعداد أنفسهم لمقام خير منها في جوار السيد وأرسل إليهم عبدًا
آخر من عبيده المتعلمين المهذبين بكتاب بين لهم فيه ما يوجبه عليهم من الأعمال
فبلغهم هذا العبد الرسول رسالة سيده وسيدهم فصدقوه وأقام بينهم عاملاً بالكتاب حتى
مات، ثم لم تكن فتنتهم إلا أن تركوا العمل بالكتاب واتباع ذلك الرسول الفاضل في
أعماله وآدابه واعتقدوا أن ذكر اسمه بالخير والمبالغة في تعظيمه وتعظيم كتاب السيد
بالقول يغنيان عن العمل الذي تعمر به المزرعة ويرتقي به أهلها ويكونون أهلاً لما
وعدهم به السيد من المقام الكريم إذا هم أقاموا كتابه.
أرأيت إذا كان أهل المزرعة فريقان: فريق منهم صدقوا الرسول ولم يعملوا بما
جاء به من عند السيد. وفريق آخر لم تبلغهم رسالته أو بلغتهم على وجه لا يحرك إلى
النظر ولا يؤدي إلى الاقتناع ولكنهم علموا بالنظر العقلي أو بتعليم رسول سابق كان
أرسله السيد من قبل أن الذي يرضيه من عمران المزرعة هو كذا وكذا، وأن الذي
يحب أن يكونوا عليه من العلم والآداب فيما بينهم هو كذا وكذا وعملوا بذلك بقدر
طاقتهم على حسب اجتهادهم أيكونون مرضيين عند سيدهم أم لا؟ وهل يعقل أن
يكذب العبد الطائع الخاضع رسول سيده ومولاه ويرفض دعوته ويرد رسالته؟ كلا
إنه لا يعقل أن تبلغ المؤمن بالله واليوم الآخر القائم بالأعمال الصالحات دعوة رسول
من عند ربه فيردها ويجحدها وإنما يفعل ذلك من فسد إيمانهم وساءت أعمالهم فاتبعوا
أهواءهم.
فأنا لا أصدق أن المؤمن بالله واليوم الآخر العامل للصالحات من أهل الكتاب
تبلغه دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم على وجهها ويردها؛ لأن من كان على
شيء من العِلم والخير، وتبين له علم أعلى من علمه وأكمل، وخير أرقى مما هو
عليه وأفضل؛ يرى نفسه مضطرة إلى قبول ذلك ولا يصرفه عنه وهو من مقتضى
فطرته إلا حسد وعتو وكبر ملكن على نفسه أمرها ويندر أن يكون ذلك من المؤمنين
الصالحين، فأنا أحكم على من بلغته دعوة الإسلام بشرطها وردها بقوله عز وجل:
{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا
تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) وفي القرآن دلائل كثيرة
على ما قلنا.
بعد كتابة هذا راجعت كتاب (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) لأبي حامد
الغزالي رحمه الله تعالى فرأيته يشير إلى أن من بلغته الدعوة بدليلها تنبعث نفسه
بطبعها إلى النظر إن كان من أهل الدين والخير، قال بعد بيان حكم الضالين من هذه
الأمة ما نصه: (وأما من سائر الأمم فمن كذبه صلى الله عليه وسلم بعدما قرع سمعه
على التواتر خروجه وصفته ومعجزته الخارقة للعادة كشق القمر وتسبيح الحصى
ونبع الماء من بين أصابعه والقرآن المعجز الذي تحدى به أهل الفصاحة وعجزوا
عنه فإذا قرع سمعه ذلك فأعرض عنه وتولى ولم ينظر ولم يتأمل ولم يبادر إلى
التصديق فهذا هو الجاحد الكاذب وهو الكافر ولا يدخل في هذا أكثر الروم والترك -
كان الترك في زمن الغزالي وثنيين - الذين بعدت بلادهم عن بلاد المسلمين بل
أقول: من قرع سمعه هذا فلا بد أن تنبعث به داعية الطلب ليتبين حقيقة الأمر إن
كان من أهل الدين ولم يكن من الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فإن لم تنبعث
هذه الداعية؛ فذلك لركونه إلى الدنيا وخلوه عن الخوف وخطر أمر الدين وذلك كفر،
وإن انبعث الداعية فقصر في الطلب فهو أيضًا كفر بل ذوالإيمان بالله واليوم الآخر
من أهل كل ملة لا يمكنه أن يفتر عن الطلب بعد ظهور المخايل بالأسباب
الخارقة للعادة فإن اشتغل بالنظر والطلب ولم يقصر فأدركه الموت قبل تمام
التحقيق فهو أيضًا مغفور له ثم له الرحمة الواسعة. فاستوسع رحمة الله تعالى
ولا تزن الأمور الإلهية بالموازين المختصرة الرسمية) اهـ.
هذا وإن السائل الكريم يعلم أن المسلمين لا يعنون بالدعوة إلى دينهم ولا سيما
على الوجه الذي يحرك إلى النظر في هذا العصر - ولكل عصر من المحركات
النظرية ما هو خاص به - بل هم لا يبالون بتعليم المنسوبين إلى الإسلام حقيقة
الإسلام فقد أهمل هذا الدين حتى صار علماؤه على قلتهم جاهلين بكتابه وسنته
وعاجزين عن النهوض بحجته إلا أفرادًا شذاذًا يظهر الواحد منهم بعد الواحد في
بعض الأقطار بالمصادفة والاتفاق بل باستعداده الخاص وحوادث الزمان، وأكثر
هؤلاء الملايين من المسلمين لم يلقنوا شيئًا من أمر دينهم حتى إن منهم في بعض
أنحاء الهند من لا يعرف من الإسلام إلا جواز أكل لحم البقر الذي يخالفون به
جيرانهم الوثنيين، ومنهم في روسية من هم أجهل من هؤلاء بل أخبرني أحد أئمة
العسكر البحرية أمس أنه كان يسأل الجماهير من أفراد العسكر الأناطوليين عن دينهم
ونبيهم فيقولون: ديننا العسكرية البحرية ونبينا السلطان عبد الحميد. ولولا الأوقاف
التي وقفها السلاطين والأمراء وأهل الخير من الأمة على العلماء الذين يشتغلون
بعلوم الدين وبعض المناصب الشرعية التي يقصد بها الرزق لما رأيت في الآستانة
ومصر وتونس وفاس وغيرها من البلاد عشر معشار من تجد من المعممين الذين
يذيبون أدمغتهم في حل رموز هذه الكتب المعقدة أو المعسلطة التي اختاروها من
تصانيف المسلمين بعد ضعف العلم فيهم حتى كأنها كتب منزلة يتعبد بها، وما هي
- والله - بالكتب التي يمكن لقارئها أن يظهر بها حقيقة دعوة الإسلام وحجة الله به
على العالمين، بل نرى أكثر الممارسين لها قد نفروا المسلمين عن الإسلام فما
بالكبغيرهم.
هذا ما حملنا على بذل النفس والنفيس في السعي إلى تربية إسلامية وتعليم
إسلامي تظهر بهما دعوة الإسلام وحجته وتنقذ الملايين المسلمين من الجهل بدينهم
ودنياهم الذي صاروا به حجة على الإسلام تنفر عنه الأنام، وفتنة للكافرين، تبعدهم
عن حقيقة الدين {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ
الحَكِيمُ} (الممتحنة: 5) .
__________(13/572)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الصلاة مواقيتها وجمعها وغايتها
س 34 - من كاتم لاسمه في مصر القاهرة
حضرة الفاضل الشيخ رشيد رضا المحترم بعد التحية والإكرام أرجوالإجابة
على ما يأتي:
1- ما هي الآيات الشريفة التي تؤيد إقامة الصلاة في مواعيدها المقررة؟
2- هل الجمع بين صلاتين جائز وفي أي ظروف؟
3- ما رأيكم في موظف بمصلحة تقضي عليه وظيفته أن لا يقيم صلاته أثناء
تأديته أعماله فهل عليه من حرج إذا جمع بين صلاتين مثلاً ليؤديهما أثناء خلوه من
العمل؟
4- إذا كانت الغاية من الصلاة هي الإخلاص للخالق بالقلب مما يؤدي
إلى تهذيب الأخلاق، وترقية النفوس، وكان من المحتم على كل مسلم أن يقيم
صلاته بمواعيد فكيف يعقل - والناس على ما ترى - أن كل الصلوات التي تقام
في المساجد والبيوت، هي بإخلاص عند كل المسلمين؟ وإذا كان الجزء
القليل منها هو المقصود من الدين، والمبني على الفضيلة، فلماذا لا تترك الحرية
التامة للناس في تحديد مواعيد إقامة صلواتهم؟ وإلا ما الفائدة التي تعود على النفس
من الركوع والسجود بلا إخلاص ولا ميل حقيقي للعبادة بل اتباعًا للمواعيد واحترامًا
للتقاليد؟
(ج) 1- أما الجواب عن الأول فحسبك في التوقيت المطلق منه قوله تعالى:
{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (النساء: 103) ؛ أي: فرضًا
مكتوبًا مقيدًا بأوقات محددة، وفي التفصيل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ
الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ} (الإسراء: 78) , وقوله سبحانه:
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (الروم: 17-18) وكانوا يعبرون عن الصلاة بالتسبيح
وبالذكر.
2- أما الجواب عن الثاني فالجمع إنما يكون عند جماهير العلماء في السفر
وكذا في المطر عند الشافعية لأجل المحافظة على الجماعة، وقد تأول بعض العلماء
بذلك حديث ابن عباس الثابت في كتب الصحاح والسنن المشهورة (صلى النبي
صلى الله عليه وسلم بالمدينة سبعًا وثمانيًا الظهر والعصر والمغرب والعشاء) ؛ أي:
الظهر والعصر ثمانيًا؛ لأن كل واحدة منهما أربع ركعات، والمغرب والعشاء سبعًا؛
لأن الأولى ثلاث والثانية أربع فالنشر فيه غير مرتب على اللف , وفي رواية عنه
في صحيح مسلم وسنن الشافعي: (صلى الظهر والعصر جميعًا والمغرب والعشاء
جميعًا من غير خوف ولا سفر) روي عن مالك أنه قال: أرى ذلك في المطر.
وعليه العمل عند الشافعية، ولكنهم اشترطوا له شروطًا لا يدل عليها الحديث بل
ظاهره أنه رخصة تؤتى عند عروض شاغل قوي ويدل على ذلك ما قاله راويه ابن
عباس في تعليله كما في سنن الشافعي: (لئلا يحرج أمته) ولو فرضنا أن ذلك كان
في وقت المطر لكان المطر مثالاً لنفي الحرج لا شرطًا للرخصة على أن ذلك لو كان
في جماعة وقت المطر كما يرى الشافعية لتوفرت الدواعي على نقله فرواه كثيرون.
فالظاهر من هذه العبارة أن الجمع في الإقامة رخصة لمن كان يلحقه في أداء الصلاة
في وقتها مشقة، والحرج والعسر مرفوعان بنص القرآن العزيز. فحمل بعض
الفقهاء لها على وقت المطر أو وقت المرض كأن كان يعلم أنه يصيبه دور الحمى في
وقت الثانية فيجمعها مع الأولى كل ذلك من قبيل المثال لمن ينظر في الأمر نظرًا عامًّا
غير مقلد فيه، والشيعة تجيز الجمع مع الإقامة كما هوالمشهور عنهم. ولا أدري
أيعدون ذلك رخصة كما هو ظاهر هذه الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أم
يعدونه عزيمة لكثرة ما يأتونه كما يروى عنهم؟
3- وأما الجواب عن الثالث فقد علم مما قبله وملخصه أن الأصل في الصلاة
أن تؤدى في أوقاتها المعروفة وذلك ثابت بالكتاب والسنة وعمل جماهير المسلمين
سلفًا وخلفًا، وأن للرخصة وجهًا لمن شق عليه أداء بعض الصلوات في وقتها وما
أظن أن عملاً من أعمال مصالح الحكومة وما في معناها كالشركات الكبيرة يمنع
العامل فيه من أداء الصلاة في وقتها دائمًا إنما يكون ذلك نادرًا؛ فإن صلاة الفريضة
تؤدى في خمس دقائق أوأقل، ورأيت كثيرًا ممن خبرت حالهم من هؤلاء العمال
يستثقلون الصلاة لأجل الوضوء، وإنما يشق عليهم منه غسل الرجلين غالبًا، فإن
كوبًا من الماء يكفي لغسل الوجه واليدين إلى المرفقين، ويسهل ذلك على المرء
أينما كان. ولكن غسل الرجلين قد يشق على العامل في أحيان كثيرة، والمخرج من
هذه المشقة أن يمسح ولو على جوربيه، فالحنابلة وغيرهم من علماء السلف يجيزون
المسح على كل ساتر للرجلين كاللفائف، ودليلهم أقوى. ولما أفتيت في المنار بهذا
صار كثير من تاركي الصلاة يحافظون على صلاتهم في أوقاتها يتوضؤون في
الصباح فيسبغون الوضوء، ويغسلون أرجلهم ويلبسون جواربهم وفوقها الخفاف
فالأحذية أو الأحذية فقط ثم يذهبون إلى أعمالهم، فإذا أراد أحدهم أن يتوضأ في
أثناء العمل وهو في عمله يمسح على الساتر كائنًا ما كان، ويحسن هاهنا أن نذكر
القارئ بما ختمت به آية الوضوء وهو بعد ذكر طهارة الرجلين {مَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: 6) .
4- وأما الجواب عن الرابع فهو يتضح لكم إذا تدبرتم تفاوت البشر في
الاستعداد وكون الدين هداية لهم كلهم لا خاصة بمن كان مثلكم قوي الاستعداد لتكميل
نفسه بما يعتقده أنه الحق وفيه الفائدة والخير بحيث لو ترك إلى اجتهاده لا يترك
العناية بتكميل إيمانه وتهذيب نفسه وشكر ربه وذكره. وقد رأيت بعض المتعلمين في
المدارس العالية والباحثين في علم النفس والأخلاق ينتقدون مشروعية توقيت
الصلوات والوضوء وقرن مشروعية الغسل بعلل موجبة وعلل غير موجبة على
الحتم ولكن تقتضي الاستحباب، وربما انتقدوا أيضًا وجوب غير ذلك من أنواع
الطهارة بناءً على أن هذه الأمور يجب أن تترك لاجتهاد الإنسان يأتيها عند حاجته
إليها والعقل يحدد ذلك ويوقته!!
هؤلاء تربوا على شيء وتعلموا فائدته فحسبوا لاعتيادهم واستحسانهم إياه أنهم
اهتدوا إليه بعقولهم ولم يحتاجوا فيه إلى إيجاب موجب ولا فرض شارع، وأن ما
جاز عليهم يجوز على غيرهم من الناس، وكلا الحسابين خطأ فهم قد تربوا على
أعمال من الطهارة (النظافة) منها ما هو مقيد بوقت معين كغسل الأطراف في
الصباح (التواليت) وهو مثل الوضوء، أو الغسل العام، ومنها ما هو مقيد بعمل من
الأعمال، وتعلموا ما فيه من النفع والفائدة، فقياس سائر الناس عليهم في البدو
والحضر خطأ جلي.
إن أكثر الناس لا يحافظون على العمل النافع في وقته إذا ترك الأمر فيه إلى
اجتهادهم ولذلك نرى البيوت التي لا يلتزم أصحابها أو خدمها كنسها وتنفيض فرشها
وأثاثها كل يوم في أوقات معينة عرضة للأوساخ، فتارة تكون نظيفة وتارة تكون غير
نظيفة، وأما الذين يكنسونها وينفضون فرشها وبسطها كل يوم في وقت معين وإن لم
يصبها أذى ولا غبار فهي التي تكون نظيفةً دائمًا، فإذا كانت الفلسفة تقضي بأن
يزال الوسخ والغبار بالكنس والمسح والتنفيض عند حدوثه وأن يترك المكان
أوالفراش أوالبساط على حاله إذا لم يطرأ عليه شيء فالتربية التجربية تقضي بأن
تتعهد الأمكنة والأشياء بأسباب النظافة في أوقات معينة؛ ليكون التنظيف خلقًا وعادةً
لا تثقل على الناس ولا سيما عند حدوث أسبابها، فمن اعتاد العمل لدفع الأذى قبل
حدوثه أو قبل كثرته فلأن يجتهد في دفعه بعد حدوثه أولى وأسهل. وعندي أن أظهر
حكمة للتيمم هي تمثيل حركة طهارة الوضوء عند القيام إلى الصلاة ليكون أمرها
مقررًا في النفس محتمًا لا هوادة فيه، وقد قال لي متشل أنس وكيل المالية بمصر في
عهد كرومر: إنه يوجد إلى الآن في أوربا أناس لا يستحمون مطلقًا وإننا نحن الإنكليز
أكثر الأوربيين استحمامًا وإنما اقتبسنا عادة الاستحمام من أهل الهند ثم سبقنا جميع
الأمم فيها. فتأمل ذلك وقابله بعادات الأمم في النظافة التي هي الركن العظيم
للصحة والهناء واعتبر هذه المسألة في الأعمال العسكرية كالخفارة عند عدم
الحاجة إليها لئلا يتهاون فيها عند الحاجة إليها وجعلها مرتبةً موقوتةً مفروضةً
بنظام غير موكولة إلى غيرة الأفراد واجتهادهم.
وإذا تدبرت ما ذكرنا فاعلم أن الله تعالى شرع الدين لأجل تكميل فطرة الناس
وترقية أرواحهم وتزكية نفوسهم ولا يكون ذلك إلا بالتوحيد الذي يعتقهم من رق
العبودية والذلة لأي مخلوق مثلهم وبشكر نعم الله عليهم باستعمالها في الخير ومنع
الشر، ولا عمل يقوي الإيمان والتوحيد ويغذيه ويزع النفس عن الشر ويحبب إليها
الخير ويرغبها فيه مثل ذكر الله عز وجل أي: تذكر كماله المطلق وعلمه وحكمته
وفضله ورحمته وتقرب عبده إليه بالتخلق بصفاته من العلم والحكمة والفضل
والرحمة وغير ذلك من صفات الكمال.
ولا تنس أن الصلاة شاملة لعدة أنواع من الذكر والشكر كالتكبير والتسبيح
وتلاوة القرآن والدعاء فمن حافظ عليها بحقها قويت مراقبته لله عز وجل وحبه له؛
أي: حبه للكمال المطلق وبقدر ذلك تنفر نفسه من الشر والنقص وترغب في الخير
والفضل، ولا يحافظ العدد الكثير من طبقات الناس في البدو والحضر على شيء
ما لم يكن فرضًا معينًا وكتابًا موقوتًا، فهذا النوع من ذكر الله المهذب للنفس وهو
الصلاة تربية عملية للأمة تشبه الوظائف العسكرية في وجوب اطرادها وعمومها وعدم الهوادة فيها، ومن قصر في هذا العمل القليل من الذكر الموزع على هذه
الأوقات الخمسة في اليوم والليلة فهو جدير بأن ينسى ربه وينسى نفسه ويغرق في
بحر من الغفلة، ومن قوي إيمانه وزكت نفسه لا يرضى بهذا القليل من ذكر الله
ومناجاته، بل يزيد عليه من النافلة ومن أنواع الذكر الأخرى ما شاء الله أن يزيد،
ويتحرى في تلك الزيادة أوقات الفراغ والنشاط التي يرجو فيها حضور قلبه وخشوعه
وهو الذي استحسنه السائل.
وجملة القول: إن الصلوات الخمس إنما كانت موقوتة لتكون مُذَكِرةً لجميع
أفراد المؤمنين بربهم في الأوقات المختلفة؛ لئلا تحملهم الغفلة على الشر أو التقصير
في الخير. ولمريدي الكمال في النوافل وسائر الأذكار أن يختاروا الأوقات التي
يرونها أوفق بحالهم.
وإذا راجعت تفسير {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} (البقرة: 238) في الجزء
الثاني من تفسيرنا تجد بيان ذلك واضحًا وبيان كون الصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر إذا واظب المؤمن عليها، ومن لا تحضر قلوبهم في الصلاة على
تكرارها فلا صلاة لهم فليجاهدوا أنفسهم.
__________(13/576)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جمع القرآن وعدم ضياع شيء منه
س 35 صاحب الإمضاء في الإسكندرية
قال السائل في كتاب خاص: إنه عرضت له شبهة في مسألة جمع القرآن.
ثم شرح ذلك بقوله:
(تعلمون أيها السيد أن القرآن الكريم جمع في خلافة الصديق رضي الله عنه
كما تعلمون بل تتيقنون عدم حفظ واحد له جميعه وإلا لما كان هنالك معنًى لتلقفه من
صدور الرجال - على ذلك لا أتردد في ضياع شيء منه خصوصًا وأنهم لم يجدوا
حافظًا لآية {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} (التوبة: 128)
... إلخ السورة , إلا خزيمة بن ثابت فإذا صح هذا وهو الواقع أستنتج من ذلك جواز
موت صحابي آخر قبل الجمع انفرد على الأقل بما انفرد به خزيمة هذا إن لم نقل:
اثنين أو ما فوق العشرة. فما قول السيد في ذلك؟ وما الدليل على عدم الضياع
وطريقة الجمع يتسرب إليها الشك في كل مكان بالدليل العقلي؟
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ع. م
ج - أعجب ما في هذا السؤال زعم السائل أنني أتيقن عدم حفظ أحد من
الصحابة - رضي الله عنهم - للقرآن كله واستدلاله على هذه المسألة بتلقفه من
صدور الرجال، فأما أنا فإني أوقن أنه قد حفظ القرآن كله جمع كثير من الصحابة
في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يصرح المحدثون إلا بعدد أفراد معروفين
منهم فقد صرحوا بأنه قتل في حرب أهل اليمامة سبعون من القراء وكان ذلك سبب
اقتراح عمر جمع القرآن على أبي بكر رضي الله عنه، وبأن أهل الصفة من فقراء
الصحابة كانوا منقطعين في المسجد لحفظ القرآن والعبادة ويعرف السائل أن العرب
كانوا من أجود الناس حفظًا على أن البدو في جميع الأمم أجود حفظًا من الحضر
والعرب أذكى الأمم بدوًا وحضرًا حتى إنه كان من حاضريهم من يظن أن من شأن
الإنسان أن يحفظ كل ما سمع كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنه وقد رأى
رجلاً استكبر حفظه لرائية عمر بن أبي ربيعة حين سمعها مرة واحدة فقال: وهل
يسمع الإنسان شيئًا ولا يحفظه؟ فقد كانوا يحفظون ما يسمعون من حسن وقبيح ما
يعجبهم منه وما لا يعجبهم؛ فكيف تكون عنايتهم بحفظ كلام الله عز وجل وهم يؤمنون
بأنه سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة، وأنهم يتقربون به إلى ربهم وينالون رضاه؟
وقد تعمدوا ذلك وحرصوا عليه وعنوا به أشد العناية وقد رغبهم الله ورسوله بحفظه.
على أن حفظه أن يضيع شيء منه لا يتوقف على حفظ الكثيرين له كله بل
يكفي فيه حفظ الكثيرين لكل سورة من سوره وهل يعقل أن تنزل سورة ولا
يحفظها الجم الغفير من أهل الصفة المقيمين في المسجد لأجل حفظ القرآن من النبي
صلى الله عليه وسلم؟ وكذا من غيرهم من المقيمين في المدينة وكان أكثرهم يصلي
مع النبي صلى الله عليه وسلم لا يتخلف عنه أحدهم إلا لعذر عارض وكان يقرأ
القرآن كله في الصلاة كما كان يدارسهم إياه سورة سورة على النحو الذي يتدارسه مع
جبريل عليه السلام؛ إذ ورد في الصحيح أنه كان يعارضه القرآن في رمضان كل
سنة مرة أي كل ما نزل منه وفي آخر رمضان من عمره الشريف عارضه جبريل
القرآن مرتين وكان قد تم نزوله أو كاد فعلم من ذلك أنه حان أجله الشريف صلى الله
عليه وآله وسلم.
إن الذين تولوا جمع القرآن في المصحف بأمر أبي بكر ثم بأمر عثمان كانوا
يحفظونه وإنما كانوا يجمعون المكتوب في الصحف والعظام وغيرها ويراجعون
القراء الحافظين لأجل أن لا يبقى مجال لدعوى أحد من المنافقين أو غيرهم أن عنده
شيئًا منه يخالف المجموع في المصاحف فيشكك به بعض الضعفاء أو الجاهلين،
ولو رأى المنافقون أن في جمع القرآن شبهةً ما لأذاعوا بها وأكثروا الإرجاف ولم
يقع شيء من ذلك ولو وقع لقامت له القيامة وعرفه كل الناس.
أما آخر سورة التوبة فقد كان يحفظها الجم الغفير ومنهم جامعو القرآن وقد
التمسوها ممن كتبها وهم بها عالمون فوجدوها عند خزيمة أو أبي خزيمة الأنصاري
كما رواه البخاري والترمذي عن زيد بن ثابت الذي كان يتولى الجمع، وكذلك آية
{مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (الأحزاب: 23) ... إلخ فقد
روى البخاري والترمذي عن زيد رضي الله عنه أنه قال: فقدت آية من سورة
الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها فالتمستها فوجدتها مع
خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة
رجلين وذكرها فألحقتها في سورتها من المصحف.
فأنت ترى أنه التمس شيئًا كان يعرفه، كيف لا وهو أحد الحفاظ المشهورين
الذين جمعوا القرآن كله عن النبي صلى الله عليه وسلم؟! فقد روى البخاري ومسلم
في صحيحيهما من حديث أنس رضي الله عنه قال: جمع القرآن على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد
ابن ثابت، وأبو زيد، قيل لأنس: من أبو زيد. قال: أحد عمومتي. وقد قال علماء
الأصول: إن العدد لا مفهوم له. أقول: ولا سيما في مثل هذا الخبر الذي يخبر
صاحبه عما علم أو بعض ما علم عن قومه، وكان أكثر الحفاظ من فقراء المهاجرين
أهل الصفة رضي الله عنهم. نكتفي الآن بهذا الجواب المجمل الموجز الذي كتبناه في
مركب يجري بنا في زقاق (بوسفور) القسطنطينية، ونظن أنه يكفي السائل فإن لم
يكفه؛ فليراجع ما كتبناه من قبل في أحد مجلدات المنار وما كنت أظن أنه لم يقرأه
وهو على ما أعهد ولوع بالمنار حريص على تتبعه، وسنفصل هذه المسألة تفصيلاً
فيما سنكتبه من أصول الدين لطلاب مدرسة (دار العلم والإرشاد) ثم ننشره على
سائر الناس إن شاء الله تعالى.
__________(13/581)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
هدايا الجرائد إلى مشتركيها
س 36 - من صاحب الإمضاء الذي رغب إلينا كتمان اسمه من بيروت
سيدي الأستاذ المرشد الشيخ محمد رشيد رضا منشئ المنار دام مجده.
بعد التحية، إلى السيد المفضال أرجو من سيادته وإحسانه الجواب عن سؤالي
الآتي بيانه في جزء المنار القادم في رجب وله الثناء الجميل وذلك:
ما قولكم - دام نفعكم - في البند الرابع من (البيان) الذي أذاعته جريدة
الحقيقة البيروتية وهو (تقدم إدارة الجريدة لكل خمس مائة مشترك من مشتركيها
هدية بالاقتراع تبلغ قيمتها خمسة وعشرين ليرة أفرنسية في كل سنة موزعة على
عشر نمر منها حسبما هو مبين أدناه:
1- ورقة بنك عقاري.
1- ساعة ذهبية.
2- ساعة فضية.
2- ليرة أفرنسية.
4- نصف ليرة أفرنسية.
10- الجمع.
وتضاعف هذه الهدايا بزيادة المشتركين على نسبة خمسة وعشرين ليرة لكل
خمس مائة مشترك اهـ.
فهل يجوز لجريدة الحقيقة أن تعطي مشتركيها المذكورين (الهدية) على
الوجه المرقوم؟ وهل يجوز لمشتركيها قبول هذه الهدية؟ أفيدوني ولكم مزيد الفضل
(مستفيد) .
ج - لا أعرف ما يمنع جواز إعطاء هذه الهدية ولا قبولها.
__________(13/584)
الكاتب: عن كتاب العلم الشامخ
__________
بحث الكلام في الاختلاف [*]
قد نوه الله سبحانه بالاختلاف في الدين وكرر ذلك في كتابه العزيز تكريرًا
كثيرًا؛ لعلمه سبحانه وتعالى بضرره في الدين، وكم كرر ذلك في بني إسرائيل
قائلاً: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: 14)
ونحوها فكأنه يقول: أحذركم مثل فعلهم مدلين بالشبه وعدم تبين ذلك في دينكم،
فإنكم إن فعلتموه فعلتموه بعد قيام الحجة عليكم ولا يحملكم عليه إلا البغي لا
التدين وأن من أراد الله واتبع رضوانه؛ فإنه يهديه سبل السلام ويخرجه من
الظلمات إلى النور. فصدق الله تعالى ما وجدنا الخلاف إلا في محل قد تبين
الحق فيه، وأدلى المخالف للحق بشيء لا ينبغي الاستناد إليه، فهو إنما جعله
صورة والحامل الحقيقي البغي لنيل حظ دنيوي.
وقد يكون البلاء من النظر في شيء النظر فيه تكلف ما لا يعنى، وقد تمم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنهى عن مظان الخلاف وحذر منها كالجدل في
القدر. وقال الله تعالى: {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101)
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اتركوني ما تركتكم) وكَمَّل الله سبحانه
على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فلم يبق شيء يقربنا إلى الجنة إلا بينه لنا،
ولا شيء يقربنا إلى النار إلا بينه، وما عفا الله تعالى عنه وسكت عنه رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فلا يريد الله سبحانه أن نبحث عنه بمجرد عقولنا القاصرة
فإنها إنما جعلت الدنيا في قدر محدود في علم الله سبحانه.
وجاءت الرسل بتتميم ما تتم به النعمة وتؤكد الحجة فما عدا ذلك فضول يخاف
ضرره ولا يرجى نفعه، وقد قام بمراد الله تعالى في ذلك خير القرون فكانوا
يحاذرون الاختلاف أشد المحاذرة ويصرحون بذلك وما فرط منهم تلافوه أشد التلافي،
ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، كما كان من طلحة والزبير وعائشة
رضي الله عنهم. ولقد صبر من بقي من الصحابة بعد خلافة النبوة على أمراء الجور
أشد الصبر وأقبلوا على صلواتهم وصيامهم وجهادهم وسائر القرب يتواصون بالحق
والصبر والمرحمة، ويحاذرون شق عصا المسلمين وكل ما يجر على الخلاف وهو
المانع والله أعلم لسيوفهم الباترة، التي استولت على أبطال العرب والأكاسرة
والقياصرة، من أن تجتمع على الملك الجائر حتى يقعد مكانه عادلاً.
ثم مضوا الأمثل فالأمثل إلى أن ظهرت البدع بسبب التنقير عما سكت الله عنه
ورسوله ولو كان لهم من ذلك خير لوقفهم الله على تلك المطالب على لسان رسوله
ولم يتركهم يتخبطون، لكن النفوس طماحة والدعوى عريضة فتكلم بعض الناس
على ما سكت الله عنه وبحثوا في كلام الفلاسفة واختلطوا بهم في أيام الدولتين
وناظروهم فاحتاجوا إلى تحرير الجواب على شبههم ورأوا أن تلاوة القرآن التي
كانت جواب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجواب أصحابه رضي الله عنهم
لا تقنع الخصم ولا تنصفه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوصي
أمراء الأجناد أن يدعوا إلى إحدى ثلاث: الدخول في الإسلام، أو الجزية، أو
الحرب. لم يجعل منها أن تنتشر أخبارهم وصحفهم وحكمتهم وشبههم وفلسفتهم ثم
يناظرهم فقهاء الصحابة بهذا الاتصاف المولد بعد الصحابة هو الداهية الدهياء.
ثم حدثت بين المسلمين أنفسهم نوادر كالكلام في القدر ومسألة خلق القرآن
والتعرض لما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم واتصل بذلك المناظرة عند الملوك
والأمراء وصارت عصبية، والدعوى من الجانبين أن ذلك تدين وما هو إلا إنهم
لما تعدوا طورهم ولم يقفوا على حدهم الذي وقفهم الله ورسوله صلى الله عليه وآله
وسلم عليه، تركهم الله وشأنهم ولبسهم شيعًا وأذاق بعضهم بأس بعض فكان خليفة
يوافق هؤلاء فيذيق مخالفيهم العذاب الأليم، ويخلفه الآخر وينقض ما فعله الأول
وينكل هؤلاء ويوطيء شأن هؤلاء حتى استحكم الشر وصار الناس شيعًا، يولد
المولود في قوم فلا يسمع من الإنصاف شيئًا بل يجد شيعته مطبقين على أن مخالفهم
ليس على شيء وإنما هي فتنة وحادثة في الإسلام ويمدحون نفوسهم بكل خير
وينزهونها من كل شر ويعزون إلى المخالف نقيض ذلك.
ترى المعتزلة يقولون في كتبهم: كان الناس على دين واحد فحدث الجبر في
إمارة معاوية والمروانية ثم حدث القول بتكليف ما لا يطاق من فلان وقت فلان ثم
حدث القول بعدم خلق القرآن ثم حدث كذا من فلان في وقت كذا مع ذكر أسباب
وروايات، فيأتون على جميع مذاهب مخالفيهم أنها حوادث. تجد ذلك في حكاية الملل
والنحل وأفراد المقالات لا في كتاب ولا في ألف كتاب ثم تنظر كتب المتسمية بالسنية
يقولون: كان الناس جميعًا قبل حدوث القدرية على أن الله خالق أفعال العباد ليس
للعباد منها إلا النسبة المسماة بالكسب ومجمعون على كذا وكذا بجميع مذاهبهم كل
على ما يراه ويعتقده، ثم حدث رأي المعتزلة بأن العبد ممكن وحدث كذا وكذا إلى
آخر مذاهب المخالف، كذلك وتسمى المعتزلة نفسها بالعدلية، وأهل العدل والتوحيد
وأهل الحق، والفرقة الناجية، والمنزهون لله عن النقص، وغير ذلك. وتسمى
خصومها بالمجبرة القدرية المجوزة المشبهة الحشوية المرجئة وغير ذلك. والأشاعرة
وسلفهم مثل ابن كلاب والمحاسبي وغيرهم يسمون نفوسهم بأهل السنة ويسمون
المعتزلة المبتدعة القدرية، وقس على هذا.
فترى الضعيف الرأي والدين بل القوي الذي لم يتداركه الله سبحانه بفضل
عناية وتوفيق يرى تطبيق من نشأ فيهم ولقنوه كتبهم وقد ملأت الأرض مع شحنها
بالتحذير من كتب المخالف والجلوس إلى المبتدع؛ فكما فعلته قريش فيملأ قلبه ويطرق
سمعه ذلك في كل ما كرر النظر والجم الغفير قد رأيت ما فعلوا، ومن يرد الله
هدايته يتهم هذا ويبعده عقله، لكن قليل ما هم إنما تراه يشيب على ما شب عليه،
ويمضي عمر المتدين بالقيام والصيام، وطالب العلم بالتصنيف والكلام على الخلاف
والوفاق، وربما يعرف المذاهب خيرًا من أهلها ويعلم أنه قد صار بينه وبين من لقنه
مراحل، ثم همه كله مصروف إلى ما نشأ عليه يثبته ويهدم مقابله، ما نجد خلاف
هذا إلا في الندرة من النادر من المباحث؛ ولذا تجده يقول في المبحث إذا أراد مخالفة
شيعته: الله يحب الإنصاف يتبجح بأنه قد أنصف، وهذه الكلمة دليل عدم الإنصاف
وأنه لو كان ديدنه الإنصاف كما يدعي لما استغرب هذه النادرة التي وقعت؛ لأنه
طول عمره بزعمه جار على الإنصاف فهذا مثل من قال: فرسي والحمد لله. وإنما
يفعلون ذلك فيما لا ينفر عنهم.
بلى قد تجد أحدهم ينتقل من مذهب إلى آخر بسبب شيخ أو دولة أو غير ذلك
من الأسباب الدنيوية والعصبية الطبيعية؛ ولذا تجده ينتقل من مذهب برمته إلى آخر
برمته كما رووا أن ابن عبد الحكم أراد مجلس الشافعي بعد موته فقيل له: قال
الشافعي: الربيع أحق بمجلسي. فغضب وتمذهب لمالك وصنف كتابا سماه: الرد
على محمد بن إدريس فيما خالف فيه الكتاب والسنة. هكذا ذكر ابن السبكي. وقد
علم الله سبحانه والراسخون في العلم أن الحق لم يكن برمته عند فرقة والباطل عند
البواقي، وإن كان كل منهم يدعي ذلك، بل عند كل قوم حق وباطل لكن الحق والحمد
لله لا يخرج عن مجموعهم وما الحق كله إلا عند من بقي على ما كان عليه النبي صلى
الله عليه وسلم ولا بد له من الخطأ في اجتهاداته أيضًا في المسائل المعفوعن الخطأ
فيها لا في المهمات فالمفروض أنه وقف على ما وقفه عليه الله ورسوله صلى الله عليه
وآله وسلم فلا خطأ، وقل لي: من ذا الذي وقف على ما وقف، وقنع بما جاء عن الله
وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يتمذهب ويؤثر الأسلاف على الكتاب
والسنة، ويترك هذا الداء الدوي ويتمسك بالإنصاف في ما يأتي ويذر؟ لا والله ما
أعرف أحدًا في هذه الكتب التي قد طبقت البسيطة إلا وقد تخبط وخلط، وتعسف
لمذهبه وما أنصف، ورد كتاب الله تعالى إلى عقيدته وحرف.
أما المتكلمون فهو صنيعهم وإن كان في تضاعيف كلامهم ما ينفع في الجملة
وصنعتهم بدعة، وما ابتدع قوم بدعة إلا وتركوا سنة، ولا يخلص من الخير
إلا الشيطان لعنه الله. ولكن هؤلاء المحدثون الذين يزعمون الثبوت على السنة
وينهون عن الكلام قد سرت فيهم المفسدة أكثر منها في غيرهم؛ لأنهم قاعدون في
طريق الشريعة والمفسدة والحرب والفتك والحيات والعقارب والسموم والسباع في
الجادة أعظم ضررًا منها في ثنيات الطريق مع أنهم دائهم [1] جاء من الخوض في
الكلام وصاروا أشد عصبية من المتكلمين؛ لأن المتكلمين بنوا أمرهم على التفتيش
وأن لا يلام الطالب على المباحثة وإيراد الأسئلة واختراع التعليلات، بل يعدون ذلك
ظرافة وكمالاً فربما انكشف للمتأخر مع تعاقب الأنظار تقارب كلام الفريقين ونحو
ذلك كما انكشف لأتباع الأشعري بطلان الجبر، ثم تشبثوا بالكسب، ثم تبين عواره
فصاروا إلى مذهب المعتزلة من حيث المعنى، كما مضى. وليس ثبوت الاختيار
يختص بالمعتزلة حتى ينفر عنه إنما هو دين الله وحجته فمن حقق من المتأخرين هون
ما عظم سلفه ولانت عريكته، وأما المحدثون فإنما أخذوا شيئًا بأول رؤية ثم لم
ينفّروا كأن ذلك بدعة وصدقوا ولكنه بدعة من أوله إلى آخره فما لهم دخلوا فيه، كان
دخولهم من غير نية لكن دس لهم الشيطان: أنتم أهل السنة فمن يذب عنها إن تركتم
هؤلاء؟ فلا اقتصروا على ما هم عليه، ولا هم بلغوا إلى مقاصد القوم ليتمكنوا
من الرد عليهم.
__________
(*) منقولة عن كتاب العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ لأحد مجتهدي القرن الحادي عشر الذي يطبع بمطبعة المنار.
(1) لعل الأصل (مع أن داءهم) .(13/585)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التربية القويمة والسياسة الحكيمة [*]
الثقة والظنة
إظهار الثقة بالإنسان مجلبة لما تحصل به الثقة، وابتغاء الظنة فيه مدعاة لما
تتحقق به الظنة، فالمعاملة بالثقة أصل الصلاح والإصلاح، والمعاملة بالظنة أصل
الفساد والإفساد.
رب ولدك مراعيًا هذين الأصلين تحل بينه وبين الرذائل، بما تطبعه في نفسه
من ملكات الفضائل، لا تذكر له الرذيلة ولا تنهه عنها ولم يأتها؛ لأنه لا ينهى عن
الشيء إلا من جعل عرضة لإتيانه، ولا تتهمه بفعل شيء ولا تجعله في موضع
المراقبة ليتقي السوء، بل اشغله بالصالحات عن السيئات، وحل بينه وبين أسبابها
وطرقها حتى لا تخطر بباله إن استطعت، فإن علمت أنه سمع بشيء منها ورآه
فاذكر له مضار ذلك الشيء ومهانة أهله وسوء أحدوثتهم وما ينتظر من العاقبة السوءى
لهم، اذكر له ذلك من باب بيان الواقع، وإظهار الحقائق، مُؤيدًا بالدلائل والشواهد،
واجعل نفسك وإياه من طبقة شريفة عالية لا يليق بشرفها أن تعاشر أولئك المسيئين
ولا أن تجعلهم موضوع أحاديثها إلا قليلاً تقصد به العبرة بأحوال البشر والشفقة
عليهم من ظلم الظالمين منهم الذين يكونون بفساد تربيتهم قدوة سيئة لفاقدي العلم
وفاسدي التربية.
إذا علمت أن ولدك يعرف ولدًا أو رجلاً غير مؤدب وأنه عُرضة لمحادثته
ومعاشرته، فلا تنهه عن ذلك نهيًا صريحًا يشعره بأنك تمنعه منه بسيطرتك عليه، بل
أشعره بأنك تعلم أنه يحتقره في نفسه ولا يرضى لها أن تتخذه صاحبًا ولا عشيرًا
وابن على هذا نصحه بأن لا يظهر له الإهانة والاحتقار في وجهه ويكتفي من ذلك
بالإعراض عنه كما أمر الله تعالى بقوله: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) وإذا تعرَّض ذلك الذي لا أدب له وبدأه بالحديث
فليكن جوابه جواب مسالمة وتخلص يفهم مخاطبه منه - مع الأدب - أنه لا يجب
مجاراته والاسترسال في الحديث معه، كما وصف الله الكملة من عباده بقوله: {وَإِذَا
خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} (الفرقان: 63) أي: قالوا قولاً يسلمون به من
الإثم، ولا يقارعون الجهل، ولا يُنجي من شر الشرير مثل البُعد عنه وترك الإساءة
والإحسان إليه.
إن نفس الولد تشبه الصحيفة البيضاء النقية، وإن سمعه وبصره هما القلمان
اللذان يكتبان فيها أنواع العلوم ويرسمان فيها صور الأخلاق والآداب، فينبغي أن لا
يسمع إلا حسنًا ولا يرى إلا حسنًا، يتحتم هذا في طور التقليد الذي يسلم فيه بكل ما
يروى ويحاكي كل ما يرى، وكلما قويت فيه ملكة التمييز بنفسه بين الحق والباطل
والحسن والقبيح يذكر له بالتدريج كل ما هو معرض له من سيئات العالم وشروره
بالأساليب التي تنفره من الباطل والشر وترغبه في الحق والخير.
ألم تر إلى علماء التربية كيف يتحامون في كتب التعليم ذكر ألفاظ الجرائم
والشرور والفحش والرفث لكيلا تشتغل نفوس النشء بها قبل أن تقوى بالحق
والفضيلة وحب الخير؟!
دخل في الإسلام بيت من بيوت الأمريكيين: رجل وامرأته وأولادهما ومنهم
ابنة معصر ذكية الفؤاد وكانوا في مصر فرغبوا إلى بعض معارفهم من المصريين
أن يدلهم على عالم من علماء الإسلام يأخذون عنه ما يحتاجون إليه من أحكام الإسلام
فدلهم صاحبهم على الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى -؛ لأنهم كانوا
يعرفون اللغة الفرنسية ولا يعرفون من العربية إلا قليلاً والأستاذ كان يحسن هذه
اللغة، ولأن الأستاذ هو الرجل العارف الكامل الذي يُرجى أن يُمَثِّل الإسلام الأعلى
لأمثال هؤلاء الإفرنج الذين تربوا تربية عالية وأخذوا حظًّا عظيمًا من العلوم،
فكانوا يلقونه ويسألونه ويسرون بما يجيبهم ويتلقونه بالإذعان.
كانوا يتذاكرون يومًا فجرى لفظ اليأس على لسان الأستاذ فقالت له تلك البنت
الشابة منهم: أتأذن لي يا سيدي أن أسألك عن أمر اشتبه عليّ في قولك؟ قال: نعم.
قالت: كيف يذكر مثلك لفظ اليأس وأنت تعلم أن الألفاظ التي لها مدلولات ضارة
إذا أُلقيت واستعملت فلا بد أن تؤثر في نفوس السامعين تأثيراً ما، أليس هذا
صحيحًا؟ قال: بلى، وإنني قلت مرة كلمة في تصوير تأثير الكلام، قلت: إنني إذا
ألقيت الكلمة وأنا وحيد ببيتي في حندس الظلام فلا بد أن تبقى تلك الكلمة
معلقة في الهواء حتى تصادف نفسًا مستعدة فتؤثر فيها. قالت الفتاة: أتأذن لي
أن أفسر قولك هذا بما فهمته؟ قال: نعم. قالت: إن الإنسان يكون علمه بالشيء قبل
أن يتكلم به إجماليًّا مبهمًا فإذا تكلم به انتقل إلى حيز التفصيل والتجلي ويستدعي ذلك
إعادته وسماع الناس له فيؤثر في نفوسهم، - أو ما هذا معناه -. قال: أحسنت.
وغرضنا من ذكر هذه الواقعة أن أرباب التربية العالية يتحامون ذكر الألفاظ التي تُذكِّر
بالمعاني الضارة إلا عند الضرورة.
ألا وإن حب الخير وإيثاره من مقتضى الفطرة وهو الغالب على الناس ولولا ذلك
لفسدت الأرض، وإنما يقع الشر في الغالب لعدم تربية فاعله على التمييز الصحيح
بينه وبين الخير له في عاجله وآجله، فهو عرض يعرض من الجهل وسوء التربية.
من آيات هذا أنك ترى الطفل من ابتداء عهده بالتمييز يسر إذا وصفته بالخير،
ويزداد رغبة فيه، ويمتعض إذا وصفته بضده وربما بكى وانتحب. وهذا أعون
صفات الفطرة السليمة على التربية القويمة.
إذا رأيت من وليدك أمارة الكسل وأردت أن تنشطه على العمل؛ فصفه بالنشاط
وأظهر له أنك تثق به وترى أنه أهل للقيام بالعمل الذي توجهه إليه، وإذا أتى شيئًا
منه فاحمده عليه، فبذلك يتجدد له من الهمة والنشاط ما لم يكن له من قبل. صفه
بالجرأة والشجاعة؛ يكن جريئًا شجاعًا. صفة بالصدق والأمانة؛ يكن صادقًا أمينًا.
اجعله محلاًّ لثقتك في حب العلم والعمل؛ تجده أهلاً لها.
لا تتهمه برذيلة من الرذائل؛ فإنك بذلك تُسَهِّل عليه ارتكابها (فإن اللوم إغراء)
ومن يهن يسهل عليه الهوان. فالمرء يشق عليه بمقتضى الفطرة أن يعرف
بالباطل ويوصف بالشر ولو بحق؛ ولذلك يخفي عيبه. وإخفاؤه إياه يكون عونًا
للمربي على تنفيره منه وحمله على تركه؛ فإذا فضح أمره؛ هان عليه
التهتك والمجاهرة بالمنكر، بل ربما يتهم المرء ببعض المنكرات اتهامًا باطلاً فيحمله
ذلك على إتيانها، وقد يعزى إليه ما لم يفعل من المعروف والخير؛ فيحمل نفسه على
تحقيق الظن به، كما روي عن بعض السلف أنه سمع بعض الناس يقول: إن هذا
الرجل يقوم الليل كله. فعز عليه أن يوصف بما ليس فيه ويكذب من أحسن الظن به
فصار يقوم الليل كله وكان قبل ذلك لا يقوم إلا بعضه، ومن أمثال العامة في بلادنا
(من ائتمنك لا تخنه وإن كنت خوانًا) .
نعم إن هذه الطريقة لا تطرد في الكبار كما تطرد في الولدان، ولكنها تفيد في
سياسة الرجل، كما تفيد في تربية الأطفال، بل تفيد في سياسة الأمم والشعوب فإنك
إذا أردت أن تحث قومًا على عمل من الأعمال النافعة؛ فلا ينبغي أن تصفهم بالبعد
عنه والكراهة له والجهل بمنافعه وفوائده وضعف الهمة عن القيام به وشح النفوس
وبخلها أن تجود بالمال في سبيله، إنك إن تصفهم بذلك؛ تزدهم إعراضًا وضعفًا
وخمولاً وإذا أنت وصفتهم بالمروءة والنجدة وعلو الهمة وسخاء النفس وبسط الكف؛
ترى نصحك مسموعًا وإرشادك مقبولاً.
كانت السياسة الحميدية في دولتنا شر سياسة أخرجت للناس؛ لأنها بنيت على
أساس الظنة والريبة في الأمة ولا سيما في المتعلمين من أفرادها، وقد ورد في
الحديث الشريف: (إذا ابتغى الأمير الريبة في الناس أفسدهم) رواه أبو داود.
وكذلك فعل عبد الحميد أفسد أمته عليه حتى صار أكثر المقربين منه المتمتعين
بالسلطة والثروة في ظله يتمنون زواله، فما بالك بمن كان يطاردهم، ويضيق عليه
مسالك الحياة ولا نذكر من نفاهم من الأرض، أو زجهم في غيابة السجن.
إنه اتهم جماهير المتعلمين بعدم الإخلاص له وبتمني زواله فصاروا كذلك،
ولماذا يكون الناس غير مخلصين لملكهم وأميرهم ولحكومتهم ودولتهم؟ إن
الإخلاص هو الأصل ولا يتحول الناس عن الأصل إلا لسبب موجب يعرض لهم،
أفلم يكن من العقل والحكمة أن يبحث ذلك الجبار عن سبب ما كان يتهم به عقلاء
الأمة والعارفين بمصالحها من كراهتهم إياه وعدم إخلاصهم له، ويستعين على ذلك
ببطانته وخاصته، ثم يزيل ذلك السبب العارض، ويرجع بخيار أمته إلى الأصل
الثابت؟! بلى، ولكنه ما كان يثق بأحد ثقة تامة فيستعمله في ذلك، فكانت قاعدة
سياسته السوءى أن يبحث دائمًا عن عيون الناس ومفاسدهم ويصدق كل ما يلقى إليه
في ذلك أو يأخذه بالتسليم احتياطًا ويبني عليه ما يبنيه على ما يصدقه ويوقن به، ولا
يبحث عن محاسن الأخيار وفضائل الفضلاء ليستعين بهم على إصلاح الفاسد وتقويم
المائل، بل لا يصدق ما يبلغه من ذلك، فكان كل واحد عنده ظنينًا مريبًا، فكيف
يستطيع مع ذلك أن يصلح عملاً، أويتقي زللاً؟
استعمل في ذلك الألوف من عمال الحكومة في جميع أعمالها ومصالحها،
والمئين من الجواسيس في عاصمتها وولاياتها، وكذا في مصر وعواصم أوربا
وأشهر مدنها، واشتهر أمر سياسته هذه حتى بلغ إفسادها من الأمة أن صار أبناء
الرجل وبناته العذارى يتقربون إلى السلطان بالوشاية والسعاية فيه؛ فيصب عليه
سوط العذاب، أو يسام النفي من البلاد، ويأخذ أولاده الجَعْل على ذلك وهم
فرحون، - إلى هذا الحد وصل فساد سياسة عبد الحميد في هذه الأمة ولا سيما في
العاصمة فهو ما أفسد الناس عليه فقط بالتهمة والريبة وإنما أفسدهم أيضًا في أنفسهم
حتى قطع أقوى صلات الصلاح وأمتنها بينهم وهي صلة الأولاد بالوالدين.
كان الأستاذ - رحمه الله تعالى - يقول: أخوف ما أخافه من استبداد عبد
الحميد وظلمه هو إفساده لأخلاق العثمانيين لا لإدارتهم، فإن إصلاح الإدارة من بعده
يسهل إذا كانت الأخلاق صالحة، ولا يحتاج إلى زمن طويل إذا كانت الأخلاق
سليمة، ومتى فسدت الأخلاق؛ فإن إصلاحها لا يسهل إلا بعشرات من السنين كما
جربنا في أنفسنا - يعني المصريين - فإن إسماعيل باشا أفسد الإدارة وأفسد الأخلاق،
فلما وجدنا ريح الحرية وأردنا أن ننهض بالإصلاح، كان فساد الأخلاق هو الذي
عاقنا لا فساد الإدارة، ولولا ذلك لكانت هذه المدة التي أبيح لنا فيها ما نشاء من التربية
والتعليم والكتابة والخطابة والاجتماع كافية لأن نرتقي فيها ونكون أمة.
وقع ما كان يتوقع ذلك الإمام الحكيم فقد أفسدت السياسة الحميدية السوءى
أخلاقنا حتى صار الإصلاح عسيرًا علينا مع الحرية على مقربة مما كان في زمن
الاستبداد فإن الذي كان يتصدى للإصلاح في عهد عبد الحميد كان يتهم بعدم
الإخلاص له، والذي يتصدى له الآن قد يتهم بعدم الإخلاص للدستور ولرجاله، أو
العثمانية وعناصرها، ولا يزال كثير من الكبراء على ما تعودوا في العهد الحميدي
يصدقون التهم وإن كانت سعاية إفك وبهتان، ويرتابون في طالب الإصلاح وإن
قام على صدقه الدليل والبرهان، وكذلك شأن الأمم والشعوب في طور
الضعف والجهل.
أخطأ كثير من المصريين بإساءة الظن بإخوانهم المخالفين لهم في الرأي،
واتهامهم بخيانة الوطن ويقع كثير من العثمانيين في مثل هذا الخطأ وضرره عظيم.
أنا لا أقدر أن أصدق بوجود أحد يريد بأمته أو دولته سوء، ولكن يوجد في كل أمة
أفراد قلائل تغلب عليهم الأثرة حتى إنهم لا يبالون في طلب حظوظهم بالمصلحة
العامة، ويوجد أفراد قلائل يضادونهم فيغلب عليهم الإيثار حتى إنهم لا يبالون
بمصلحتهم الخاصة إذا عارضت المصلحة العامة أو عاقتهم عنها، وأكثر الناس لا
يرضون أن تمس المصلحة العامة بسوء بل يودون حفظها وإن كان أكثر سعيهم
لأنفسهم لا لأمتهم، والذين يتصدون للقيام بالمصالح العامة بالعمل والتعليم أوالكتابة
والخطابة يخطئون ويصيبون ويتفقون في الرأي ويختلفون، ولا يجوز اتهام أحد منهم
بقصد السوء لأمته، وإنما ينبغي أن يتناظروا بالحجة والبرهان، مع اعتراف كل
منهم للآخر بأنه يريد الخير ويطلب الحق، إلا أن يظهر من بعض الناس ما يدل على
اتباعه لهواه في الانتقام من غيره كالبهتان المبين، والتحريف الظاهر، فذلك الذي لا
يناظر ولا يراجع بل يترك للزمان حتى يفضح بهتانه، ويتولى خذلانه، مع بيان
الحق في نفسه، والتحذير من الباطل ورجسه.
لقد كان عجب الناس من خطاب إبراهيم حقي باشا الذي أعرب فيه عن قاعدة
السياسة في وزارته أن يتبع فيها قوله تعالى: {ِإنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (النحل: 90) وشاع في العاصمة أنه سيكون من فروع هذه القاعدة طلبه العفوعن
المتهمين بالجرائم السياسية من العثمانيين واستعادة اللاجئين إلى أوربا منهم، ولكن
لم يعجب الجمهور طلبه إعطاء معاش التقاعد لرجال عبد الحميد المنفيين في
(رودس) ؛ لأنه إسراف في الإحسان إلى شر المسيئين، وأعجب من ذلك الطلب
تعليله إياه بأنه لم يثبت عليهم شيء رسميَّا.
على أن سياسة دولتنا أصعب السياسة وأعقدها، فلا ينطبق عليها كل ما ينطبق
على غيرها من قواعد علم الأخلاق وعلم الاجتماع، فنسأل الله أن يوفق رجالها
ويؤيدهم بروح منه؛ ليكونوا مصدر الحياة والخير والبركة لها وللشعوب المكونة
لأمتها، آمين.
__________
(*) نشرنا هذه المقالة والتي تليها بجريدة الحضارة.(13/591)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحق للقوة والقوة بالحق
كن قويًّا بالحق يعرف لك حقك كل أحد: العلم قوة، والعقل قوة، والفضيلة
قوة، والاجتماع قوة، والثروة قوة، فاطلب هذه القوى بالحق؛ تنل بها كل حق
مفقود، وتحفظ كل حق موجود.
الوالدان يفضلان العالم من أولادهما على الجاهل، والغني على الفقير،
والقوي على الضعيف؛ يكرمانه بذلك بالمكالمة والمعاملة؛ فيكون بين إخوته الذين هم
دونه كأنه من طبقة غير طبقتهم، فهل يلام غيرهما على مثل هذا التفضيل والتكريم؟
الإخوة أنفسهم يعتزون بأخيهم القوي بالعلم أو المال أو العقل أو الأخلاق أو
العصبية ويفضلونه على أنفسهم وإن كان أصغر منهم سنًا ولا يوجد أفراد من الناس
بينهم من المساواة مثل ما يكون بين الإخوة ولا سيما إذا كانوا أشقاء أفلا يكون
غيرهم أجدر بتفضيل القوي وتكريمه؟!
الجماعات كالأفراد في احترام القوة وحفظ حقوق أهلها وتكريمهم وتفضيلهم
على أمثالهم سواء كان أهلها أفرادًا أم جماعات، فالعشائر في القبيلة الكبيرة،
والعناصر في الأمة العظيمة، تتفاضل فيخضع ضعيفها لقويها ويعترف له بحق
التقدم عليه، وبغير ذلك من الحقوق ومكان كل منهما من الآخر كمكان الأخ من
أخيه، فما قولك في القبائل والشعوب الأجنبية بعضها مع بعض وكل منها غريب
عن الآخر يرى مصلحته غير مصلحته وربما كانت قوته آفة عليه لا منفعة له؟ .
القوي بأي نوع من أنواع القوى أكثر حقوقًا من الضعيف؛ لأنه أقدر على كسب
الحقوق. فإنما يكسب الناس ما يكسبون بصفاتهم ومواهبهم التي يكونون بها أقوى
استعدادًا ممن عداهم.
المباراة والتنازع بين الأقوياء والضعفاء من السنن الاجتماعية في البشر،
وأعدل أحوال القوي مع الضعيف: أن يرضى بحفظ حقه الذي يكسبه بقوته من
الطرق المشروعة فلا يبغي على الضعيف بغير حق مشروع، وأفضلها: أن يكون
إمامًا له ومرشدًا، وحاميًا له من اعتداء غيره وعضدًا، وشرها: أن يبغي عليه
ويهضم حقوقه {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} (ص: 24) .
إنما كانت المباراة والمنافسة سنة من سنن الفطرة؛ لأن الله أودع في نفس
الإنسان حب الكمال والسبق والتفوق فهو بذلك يزكي نفسه ويطهرها من أدران
النقائص التي تشينها عند المعاشرين والأقران، وبه يحملها على ما بعد في بيئته من
معالي الأمور وكرائم الشيم، وبه يوسع دائرة وجوده بالنعرة والتعصب والترقية لكل
ما ينسب إلى نفسه كالأهل والعشيرة والقوم والأمة والدولة والوطن والمذهب الديني
والعلمي والسياسي والصناعة، يباري في كل ذلك من يخالفه وينافسه، ويلح في
ذلك ويبالغ بقدر ما يرى من المزاحمة والمعارضة من المخالفين، فإذا فترت
المزاحمة من المخالف؛ فترت الهمة، وضعفت العزيمة، وانحط شأن
الأفراد والجماعات والأقوام. فمن استطاع أن يجعل جماعة أو قومًا بمعزل عن
المباراة والمنافسة مع غيرهم؛ فقد استطاع أن يقضي عليهم بالضعف والخمول
وإضاعة الحقوق الموجودة، واكتساب المزايا والفواضل المفقودة.
المباراة والمنافسة من الفضائل، ومعارج الارتقاء للشعوب والقبائل، لولا ما
يعرض فيها من البغي، واعتداء حدود الحق والعدل، فلو أن الناس يتبارون في
المسابقة إلى الخير والفضل متحريًا كل فريق منهم أن يكون أكمل من الآخر من
غير بغي عليه ولا عدوان؛ لكان ارتقاء البشر أسرع وأقرب، ولكن القوة تغري
صاحبها بالطغيان، وتجمح به في البغي والعدوان، فالحق يكتسب بالقوة ويحفظ
بالقوة. وأنواع القوة كثيرة - كما أشرنا إلى ذلك في صدر المقالة - ولبعض القوى
من الغناء والفائدة في بعض المواطن ما ليس للأخرى. وأعلى القوى وأشرفها
وأغناها قوى النفس: العقل والعلم والأخلاق، فإذا وجدت؛ تبعها غيرها إلا الكثرة،
وإذا فقدت؛ لا يغني عنها غيرها حتى الكثرة، وإن القوي ليقوي الضعيف
بمباراته ومعارضته ويقضي عليه بإهماله ومحاسنته، بأهون مما يقضي عليه بسحقه
وإبادته.
الأمثلة لما ذكرنا من الأصول والقواعد الاجتماعية كثيرة تراها بين يديك في
سائر الأقوام وتقرؤها في تاريخهم: إنما نسخ الإسلام بعض الأديان وأضعف البعض
الآخر في البلاد التي دخلها بعدم معارضتها وترك أهله لمنازعة أهلها. وقد حدث
في الإسلام مذاهب كثيرة ما بقي منها إلا ما جرى بين أهلها التعارض والتنافس،
ولولا بادرة العصبية التي بدرت من المأمون في مقاومة اللغة الفارسية؛ لذابت
وتلاشت في اللغة العربية بقوة الإسلام كما زالت اللغة القبطية من مصر.
واضطهدت اليهود في أوربا قوى الكثرة والسلطة، فلجأ هؤلاء إلى قوة الرأي
والحيلة، فقلبوا سلطة الملوك وصار لهم مكانة عالية في أعظم الممالك الأوربية
وأرقاها.
تزاحمت الشعوب الأوربية وتنافست فارتقت وعزت وصار بعضها قريبًا من
بعض في القوى الكسبية كالعلوم والفنون والصناعات والأخلاق والاجتماع والاتحاد
وبقي التفاوت عظيمًا في قوتي الكثرة والثروة، اتفقوا على تأمين الشعوب الضعيفة
بالقلة - كسويسره - من بغي القوة بالكثرة، وتحالف المتقاربون في القوى الحربية؛
ليأمن القوي من بغي الأقوى، فالقاعدة التي بني عليها هذا التحالف هي أن
المزاحمة والمنافسة في السبق والتفوق في كماليات الحياة تقضي بطبعها إلى
المناصبة والمقاومة وهذه تفضي إلى البغي والعدوان ولا يحول دون البغي والعدوان
إلا تكافؤ قوى الأقران.
علينا - نحن معاشر العثمانيين - أن نكون على بصيرة في حياتنا الجديدة
التي نستقبلها للدستور، ولا بصيرة للجاهل بمثل ما أشرنا إليه من سنن الاجتماع،
ومن لا يعتبر بأحوال الأمم والشعوب في هذه السنن.
نحن أمة مؤلفة من شعوب شتى لا جامعة لها كلها إلا اعتقادها أن ارتباط بعضها
ببعض يكون لها قوة عامة يعتز بها كل واحد منها وتكون مباراته ومنافسته للآخر من
غير بغي ولا عدوان سببًا لقوة الوحدة العامة بقوة أفرادها.
يجب أن تتبارى عناصرنا في تقوية أنفسها بالعلم والثروة وأن يعلم كل عنصر
منها أنه إذا بقي متخلفًا عن إخوته؛ فإن أمه الدولة تفضل عليه إخوته من العناصر
الأخرى في جميع أعمالها كما تفضل أم الأولاد ولدها العالم على الجاهل.
إن مباراة العناصر العثمانية بعضها لبعض مع الاتفاق على البر بوالدتهم
الدولة العَلِيّة والإحسان بها ورفع شأنها هو الذي يسرع ترقيهم وترقي الدولة، فعليها
أن ترغبهم في المباراة والمنافسة وتمنعهم من البغي والاعتداء فيهما فقط، وأن لا
تحابي عنصرًا منهم محاباة لا يأذن بها شرعها ودستورها.
بل أقول: إنه ينبغي للولايات وللألوية وللأقضية أن تتبارى وتتنافس في
العمران، بل ينبغي للمدن والقرى وللشركات والأفراد في البلد الواحد أن تتبارى
في ذلك. فالمباراة هي السائق القوي للارتقاء السريع مع ارتقاء البغي من بعضهم
على بعض.
أعجبني اهتمام أهل بيروت والشام بأمر السكة الحديدية التي يقال: إنها ستكون
بين طرابلس والعراق ومذاكراتهم في جعل طريقها من بلديهم. وإن كنت أرى
أنهم غالطون في رأيهم وحسبانهم أن تلك السكة تضر بتجارتهم أو تنقصها وفي
حسبانهم أن إيثار بيروت والشام على طرابلس أمر ميسور. والصواب عندي أن وجود
هذه السكة يزيد جميع البلاد السورية والعراقية عمرانًا فتنموالثروة فيها كلها ومنها
بيروت والشام، ولكن الزيادة النسبية في طرابلس تكون أكثر منها في بيروت وذلك لا
يضر بيروت بل يفيدها؛ ولا سيما إذا اتصلت بطرابلس بخط عريض وذلك من أيسر
الأمور.
وجملة القول: إن هذا العصر هوعصر المباراة والمنافسة: من سبق فيه ساد
وعلا، ومن تخلف فيه خاب وخسر، وامتهن واحتقر، فعلى العقلاء من كل عنصر
وفي كل ولاية وكل بلد أن يحثوا قومهم على ذلك، وأن تكون وجهتهم فيه ترقية الأمة
والدولة بترقية أنفسهم ليكونوا بعلومهم ومعارفهم وثروتهم واجتماعهم حصنهما
الحصين، وركنهما الركين.
__________(13/597)
الكاتب: السر ألفرد شارب
__________
الإسلام في نيازالاند [*]
قول لحاكمها
لما رزت نيازالاند منذ 20سنة لم يكن الإسلام موجودًا إلا في بقعة أوبقعتين
جاءهما به بعض العرب ومن ذلك الحين انتشر الإسلام انتشارًا عظيمًا لا سيما في
السنوات الأخيرة، وقد امتازت قبيلة (الياوس) بالميل إلى الإسلام ونشره وأما
القبائل المقيمة غربي بحيرة نيازا فليس بينها مسلم وقد تغلبت البعثة
الإسكوتلاندية الدينية هناك فمال القوم إلى النصرانية، أما الإسلام فقد كان انتشاره
من ساحل إفريقية الشرقي وليس من السودان. والفضل الأعظم في نشره للعرب
جاؤوا من زنجبار وقد نمت هذه النهضة الإسلامية بدون مساعدة وليس فيها شيء
من قبيل الدعوة الجامعة، وفي جميع بلاد (باو) من بحيرة نيازا إلى الساحل
الشرقي يوجد في كل قرية تقريبًا جامع وإمام، وليس في هذه النهضة شيء من
التعصب أو العداء فإن جماعة الياوس يميلون إلى الحكومة، ولا تزال هذه النهضة
حتى الآن خالية من كل أذى، على أنه مما لا ريب فيه دائمًا أن الإسلام معارض
للنفوذ الأوربي، أما الحكومة فقد جرت على خطة النزاهة فلم تفضل دينًا على دين
آخر، ولا خوف من هذا القبيل ما دامت هذه خطة الحكومة، ولا أظن أن النهضة
الإسلامية تنتشر إلى جنوبي (زمباسي) نظرًا لقوة النفوذ الأوربي هناك اهـ.
وقد نشرت هذا القول جريدة الدايلي تلغراف من كبريات جرائد لندرة، وقَفَّت
عليه بهذه المقالة.
(إن نهضة الإسلام لجديرة من إنجلترا بعناية أكثر من العناية المبذولة الآن
في سبيلها نظرًا لاتساع ملك إنجلترا على المسلمين، ولأن لها منهم رعايا أكثر من
رعايا سلطان الدولة العثمانية، ولقد قلنا مرارًا: إن كثرة عدد المسلمين في المملكة
الإنجليزية جعل واجباتها نحو الإسلام ذات صفة خاصة.
على أنها فرطت في إهمال هذه الواجبات وإذا بأمة أخرى تغتنم الفرص
السانحة وتدرك ما جهله الإنجليز وتفعل ما لم يفعلوه.
(فالواجب الأول المفروض على إنجلترا نحوالإسلام هو أن تفهم هذا الشعب
ولا سبيل إلى هذا التفاهم إلا بتعليم جميع الإنجليز الذين يختلطون بالمسلمين لغات
الشعوب الإسلامية وطريقة فكرتهم وشرائعهم، إلا أن الدولة لم تقتصر على إهمال هذا
الواجب إهمالاً تامًّا ولكنها لم تعين له النفقات ولم تبذل في سبيله من الاهتمام ما هو
جدير به، على أن مراسلنا في برلين يقول في رسالته الأخيرة: إن ألمانيا تهتم
كثيرًا بما أهملناه فقد أنشؤوا في ألمانيا مجلة تأريخ ومدنية الشرق الإسلامي، وفي
أكثر من مدرسة جامعة ألمانية يوجد قسم خاص لتعليم لغات الشرق وآدابه، وقد
سعى الألمان بواسطة هذه المباحث وراء التدخل بين المسلمين لمصلحته الخاصة،
وقد أشار مراسلنا في برلين إلى وجود مدارس ألمانيا في مراكز عديدة في
المملكة العثمانية، وإنهم ينوون إنشاء مدرسة جامعة ألمانية في آسيا الصغرى أو ما
بين النهرين، وهي مساع سلمية تبذلها ألمانيا في سبيل تعزيز روابط العلاقات بينها
وبين الدولة العثمانية، فهل سعت إنجلترا السعي الواجب في سبيل تعزيز روابط
الصلات بينها وبين الشعوب الإسلامية التي تتولى أمورهم؟ .
وأهم هذه البلاد هي الهند ومصر، نحن نرسل إليهما نخبة من رجالنا لتولي
أمورهم وهم ما بين إنجليزي وإسكوتلاندي وأرلندي، ولكننا لا نبذل الجهد لإفهام قومنا
في إنجلترا بالذات هذه الحقيقة بحيث يدركون ما يفعله رسل دولتنا هناك، فإن
مدارسنا الجامعة لا تحفل بالدروس الشرقية كما أن المدارس العامة لا تتعرض لها،
والذين يعرفون اللغة العربية في إنجلترا أو يعلمون شيئًا من الإسلام وحياة المسلمين
هم أندر من الكبريت الأحمر، إن من مصلحة حكومة الهند وسلطتنا في مصر أن
نعد بعض رجالنا ليقفوا على حركة الإسلام وسيره، لا يفهم من قولنا هذا أنه لا
يوجد في إنجلترا من يعلم ذلك. والحقيقة أن فيها عددًا غفيرًا من هؤلاء العالمين
الذين يهتمون بهذا الأمر.
فعندنا الجمعية الآسيوية الملوكية وجمعية آسيا الوسطى وعندنا بعض
أساتذة جامعاتنا ولهم اهتمام تام باللغة العربية والإسلام، على أن الدروس في تلك
المدارس ليس فيها ما يحفز الإنسان إلى السعي والاهتمام، وكان يجب على الحكومة
أن تعين مبلغًا كبيرًا إعانة لمعهد شرقي عظيم يدفع بكثير من شباننا إلى الانقطاع لنقل
حقيقة الشرق إلى الغرب، وهذا النقل ضروري لمصلحة الغرب، وإلا فإن الغرب
لا يمكن أن يدرك حقيقة الشرق؛ لأن إدراكه له يؤدي إلى سقوطه، ومنذ خمسين سنة
زعم (رانك) أن الإسلام يضعف كلما أثرت فيه المؤثرات الغربية، ومع ذلك فقد
تواترت النهضات الإسلامية من ذلك الحين، ففي إفريقية ظهر المهدي وأمثاله
والسنوسي، وانتشرالإسلام جنوبًا فجرف كل دين آخر في سبيله وأوجد وراء بحيرة
تشاد المدن الكبيرة وهي ذات نظام وشرائع تختلف كثيرًا عن الهمجية السابقة ولم
يؤثر في الهنود اختلاطهم بالإنجليز. وهذه الدولة العثمانية التي سميت قبلاً
(بالرجل المريض) قد نهضت نهضة وطنية على قاعدة لا تختلف عن الإسلام في
شيء، وكل هذا هو من قبيل وضع خمر جديدة في زجاجات قديمة، ولا نعلم حتى
الآن ماذا تكون النتيجة، على أن حالة مصر تفيدنا أن الغرب كان عجولاً وكان الأولى
به أن بتدبر الأمر طويلاً، فدراسة هذه المسائل من مقتضيات المصلحة الوطنية
الإنجليزية وجدير برجال سياستنا أن يعتنوا به عناية خاصة اهـ.
(المنار)
عسى أن يكون لمحاربي العربية عظة بهذا الكلام، وأن يعلموا أن محاربة
العربية محاربة للإسلام.
__________
(*) كلام للسر ألفرد شارب حاكم نيازالاند نشره في جرائد لندرة وترجمته بالعربية جرائد مصر اليومية.(13/601)
الكاتب: علي بن شهاب
__________
الدعوة إلى التعليم في حضرموت
لصاحب الإمضاء
ليس مشروع الدعوة حديث العهد عند الأمة الحضرمية؛ فإنه من المشروعات
التي اهتمت بها منذ ثماني حجج لكونه من الحاجيات الضرورية لحياة الأمة ونمائها
ولذلك لا يألو جهدًا بعض ذوي الهمم العالية في استنهاض همم أبناء جلدتهم إلى القيام
بتأسيس مدرسة في إحدى مدن حضرموت جامعة لأنواع العلوم تشرق من جوانبها
أنوارها عسى أن يحيوا ما اندثر من مجد أسلافهم القديم، ويقتدوا بإخوانهم من أبناء
ملتهم سيرًا في سبيل النهضة.
ولكن يا للعجب! إن هذا المشروع لم يتم إلى الآن مع أن الحضرميين
الموجودين الآن في هذه الجزائر ينيفون على أربعين ألف نسمة غالبهم في سعة من
الرزق لو فرضنا أن عشرة آلاف منهم - أعني ربعهم - في الدرجة الأولى
ونصفهم متوسطون والربع الأخير مقلون وجعلنا نصف الربع الأول - أعني ثمنهم -
ممن تبلغ ثروتهم الملايين ومئات الألوف ووزعنا المطالب عليهم لجاءت النتيجة كما
يأتي:
... ... عدد ... ... ... على كل واحد ... الجملة
الثمن الأول ... 5.000 ... ... ... 5.000 روبية 250.000 روبية
الثمن الثاني ... 5.000 ... ... ... 2.500 روبية 125000 روبية
النصف المتوسط 20.000 ... ... 1.000 روبية 200.000 روبية
المقلون ... 10.000 ... ... ... 1 روبية ... 10.000 روبية
... ... ... ... ... ... ـــــــــــــــــــ ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... 585.000 حاصل الجمع ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
فتكون هذه دفعة واحدة فيشترون بها عقارات من هذه الأراضي ذات ريع
كثير ويكون الريع على قدر ما تحتاج إليه المدرسة. فهذه الأمة الموجودة في هذه
الجزائر هي بالنسبة إلى الموجودين في الجهة الحضرمية الذين أنهكهم الفقر المدقع
والجهل المظلم أقل عددًا.
أليس لنا في أغنيائنا في هذه الأقطار رجل كريم يظهر الغيرة العربية والحمية
الإسلامية والشفقة الإنسانية والرأفة الأخوية؛ فينهض بأمته ويجبر كسرها؟ أليس
فينا من يبرهن أننا من سلالة أولئك الرجال الماضين الذين بذلوا جهدهم حتى
ملؤوا الكائنات نورًا؟! فمتى نرى إخراج هذا المشروع وإبرازه إلى الوجود؟ وأَنَّى لنا
ذلك؟! ومن لنا والأمة غارقة في غياهب الغفلة ودياجير التقليد والأوهام؟! والله
إنهم لاهون بغناهم، لا يفكرون فيما أصاب هذه الأمة ولا يبالون بها ترقت أم تدلت،
اعتزت أم ذلت، بل كل ذلك لديهم سواء.
فيا للخجل! أليس عارًا أن نرى بأعيننا ونسمع بآذاننا ما حل بقومنا من
السقوط إلى الدرك الأسفل والانحطاط والتدلي في الهيئة الاجتماعية ولا تستفز أحدًا
منا الغيرة ولا الحمية لإنقاذها من ربقة الذل وانتياشها من وهدة الجهالة؟!
فإذا عرفنا هذا؛ علمنا أننا بعيدون عن أوامر ديننا، منحرفون عن سبيل الإسلام
السوي. لقد شوهنا وجهه وأضررنا بسمعته عند بقية الأمم ولو كان فينا قطرة من دم
آبائنا الكرام وذرة حمية للجامعة القومية؛ لتآزرنا واتحدنا على إحياء الشعور وإيقاظ
النائمين وإنارة الأفكار والحث على الإنفاق. فتداركوا أيها الحضرميون الوقت قبل
فواته وقبل أن يتخطفكم الداء الغربي ويضع الأغلال في أعناقكم كما وضعها في
أعناق الهنود والمصريين والجاويين ولسوف تندمون ولا ينفع الندم. تفكروا واعملوا
قبل نزول البلاء ولا تتهاونوا مثلما تهاون إخواننا التونسيون والجزائريون
والمراكشيون متكلين على الخرافات حتى دهمهم البلاء ولم تغنهم خرافاتهم ونحن الآن
محتذون مثالهم وسائرون في طريقهم نتخبط كأن بنا مسًا من الشياطين!
أشفقوا أيها الحضرميون على دينكم وقومكم ووطنكم وسمعة سلفكم ومستقبل
أيامكم وأولادكم فإننا لفي غرور عظيم. وإذا نظرنا بعين الحق والإنصاف ونفي
الحماقة والتعصب الأعمى نرى ما يوجب الاضطراب واليأس من تكاسلنا وتنافرنا
في جانب بقية الأمم التي تسابق إلى تنازع البقاء.
ناشدتكم الله أيها الرجال المخلصون في خدمة الوطن والأمة. ما الفائدة في فتح
المدراس في جاوه وحدها لأبناء العرب؟ هل تعود على الوطن وأهله بكل ما نرجوه
له من الفوائد؟ لا أظن؛ لأن أبناء العرب هنا لم يعرفوا معنى الوطن بل هم
يكرهون ذكر أرض العرب! وإن قلت: يكرهون العرب أنفسهم ولا يحبون إلا من
نشؤوا بينهم.. لما كنت مبالغًا! فالفائدة عائدة لشخصيتهم فقط لا لمجموع أهل وطنهم
كما توهم الأغرار.. إذا فرضنا أن ابن العرب المستعجم حاز القدح المعلّى في لغة
الأجانب والكتابة والحساب ونال الشهادة المدرسية في الهندسة وما أشبه، فهل
تظنون أن الحكومة الأجنبية تمنحه رتبة وتعطيه راتبًا يوازي نصف أو ربع ما
تعطيه لأحد الأوربيين؟ كلا. فرضنا أنه صار كاتبًا في الحكومة أو عند أحد التجار
الإفرنج براتب شهري قدره عشر روبيات إلى خمس عشرة روبيه فيعيش بهذه فيبقى
مدة حياته في هذه الجزائر. فهل للوطن إذًا فائدة أو لأبناء وطننا التعيس الحظ؟ كلا.
فحينئذ لا يكون في فتح المدارس هنا كل الفائدة لأبناء العرب الذين يولدون هنا إلى
تلك المدارس فتكون العاقبة محمودة لهم ولوطنهم وملتهم جميعًا.
فهل تليق بنا هذه الغفلة مع أن للعرب خصوصًا وللمسلمين عمومًا علماء
وأغنياء في غالب مستملكات الأجانب؟
فبأي شيء تعاملهم الأجانب؟ هل أحد منهم نال رتبة والٍ أو حاكم أو أعطته
راتبًا يوازي راتب أقل واحد من الأوربيين؟ أو هل نظرت إليهم بعين الشرف
والعز والاحترام؟ كلا، وإنما هم ينظرون إليهم بعين الاحتقار كما ينظرون إلى أرذل
حيوان ولسان حالهم يقول: لو كان هؤلاء يُعَدّون من بني الإنسان لكان لهم سلطة
على بلادهم ولأصلحوا ذات بينهم. فكيف تريدون الأجانب على إكرامكم وأنتم لم
تكرموا أنفسكم، فمن أي باب تطلبون الشرف؟ فالشرف هو في ترقية الوطن، ولمِّ
شعث أبنائه، والأخذ بناصر المظلوم، وانتياش الجاهل من حمأة الغفلة، وبذل
العلوم المفيدة وبذل المال لتأسيس المدارس. وفقنا الله إلى ما فيه صلاحنا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... بتاوى (جاوه)
... ... ... ... ... ... ... ... ... علي بن شهاب
__________(13/604)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قانون حق التأليف [*]
المادة الأولى: لكل نوع من النتائج الفكرية والقلمية حق لصاحبها يسمى (حق
التأليف) .
المادة الثانية: النتائج الفكرية والقلمية هي جميع أنواع الكتب والمؤلفات
والرسوم والألواح والخطوط والمحكوكات والهياكل والخطط والخرائط والمسطحات
والمجسمات المعمارية والجغرافية والطوبوغرافية وكل المسطحات والمجسمات الفنية
والترانيم والتواقيع (نوطة) الموسيقية.
المادة الثالثة: إن حق التأليف يتضمن طبع ونشر هذه الآثار والاتجار بها
وترجمتها للسان آخر أو إفراغها لرواية تمثيلية، ويشمل الدروس والمواعظ والخطب
والمسامرات التي تلقى لأجل التعليم والتربية أو الفكاهة. أما الخطب التي تلقى في
مجلس المبعوثان والأعيان والمحاكم والاجتماعات العمومية؛ فلكل إنسان أن يضبطها
وينشرها، وإنما جمع خطب خطيب أو دروس أستاذ وتدوينها وطبعها هو حق من
حقوق صاحبها.
المادة الرابعة: المقالات والرسوم التي تنشر في الجرائد اليومية والموقتة إذا
كانت مقيدة بعبارة مثل (حقها محفوظ) و (نشرها وترجمتها ممنوع لغير صاحبها) ؛
فحقها محفوظ. ولكن المقالات والرسوم والأخبار اليومية غير المقيدة بمثل هذا القيد
لا يعتبر فيها حق التأليف على شرط أن يبين مأخذها.
المادة الخامسة: لا يجوز استعمال أسماء الجرائد والمجموعات والرسائل
والكتب الموجودة من قبل أحد وإنما لكل إنسان أن يضع لمؤلفاته أسماءً وعنوانات
عمومية.
المادة السادسة: إن حق التأليف عائد للمؤلف في حياته، أما بعد وفاته فهو
عائد أولاً لأولاده وأزواجه لمدة ثلاثين سنة من تأريخ وفاته، ثانيًا: لآبائه وأمهاته،
ثالثًا: لأحفاده بالتساوي. وعليه؛ لا يجوز طبع ونشر هذه المؤلفات أوترجمتها للسان
آخر في هذه المدة من قبل أحد غير مؤلفها أو ورثته.
المادة السابعة: إن حق التأليف في الألواح والخطوط والنقوش والرسوم
والأشكال والخرائط وجميع المسطحات والمجسمات المعمارية والجغرافية
والطوبوغرافية بعد الوفاة هو ثماني عشرة سنة، أما حق التأليف في الترانيم
والتواقيع الموسيقية فهو كالكتب والمؤلفات (ثلاثون سنة) .
المادة الثامنة: ليس في القوانين والنظامات والأوامر والتعليمات الرسمية
والإعلانات التجارية والصناعية حق للتأليف ولكن للذين يعلقون عليها ويشرحونها
حق محفوظ في هذه التعاليق والشروح.
المادة التاسعة: إن مدة حق التأليف للآثار التي لم تنشر في حياة المحرر تبتدئ
اعتبارًا من تأريخ نشرها.
المادة العاشرة: لا يجوز تمثيل رواية منثورة أو منظومة أو تمثيل قسم منها
من غير إذن المؤلف، ولا يتضمن حق طبع هذه الآثار ونشرها حق تمثيلها.
المادة الحادية عشرة: إن تمثيل الروايات المنثورة والمنظومة في المسامرات
التي ترتبها المكاتب والجمعيات الخصوصية لا لمقصد الانتفاع غير تابعة لحق
التأليف.
المادة الثانية عشرة: يجوز أخذ بعض القطع من أي أثر كان لضرورة أو لفائدة
من الآثار الأدبية والعلمية والكتب المخصوصة بالمدارس وفي الانتقادات على شرط
أن يذكر اسم المؤلف.
المادة الثالثة عشرة: لا تنشر المكاتيب إلا برخصة من صاحب تلك الآثار إذا
كان حيًّا أو من عائلته إذا كان متوفًى.
المادة الرابعة عشرة: يمكن ترجمة أثر من الآثار من قِبل واحد أو أكثر ضمن
أحكام هذا القانون، وحق كل مترجم من ترجمته كحق التأليف اعتبارًا من وفاة
المترجم.
المادة الخامسة عشرة: إن حق التأليف في الآثار التي تنشرها الدوائر الرسمية
والجمعيات المعروفة لدى الحكومة بصورة رسمية عائد لتلك الدوائر والجمعيات.
المادة السادسة عشرة: إذا ألف أو ترجم أثر من قبل أشخاص متعددين من
غير مقاولة؛ فحق التأليف أو الترجمة عائد إليهم كافة على التساوي، وإذا توفي
أحد الشركاء؛ فحق استفادته من الأقسام التي نشرت لتاريخ وفاته والمسودات التي
أعدت للنشر ينتقل لورثته، وتعتبر مدة الثلاثين سنة في حق التأليف، ومدة الخمس
عشرة سنة في حق الترجمة اعتبارًا من وفاة آخر شريك في التحرير. وإذا كان يوجد
مقاولة مخصوصة بين الشركاء؛ فيجري حكم المقاولة تمامًا، وإذا حدث خلاف ما؛
يرجع إلى المحكمة.
المادة السابعة عشرة: إذا لم يبق لأثر صاحب ما، كأن توفي مؤلفه بلا
وارث أو انقطعت الوراثة أو حدثت أسباب أخرى؛ فكل إنسان له الحق بطبع
ذلك الأثر وترجمته.
المادة الثامنة عشرة: يمكن لكل أحد أن يطبع الآثار المطبوعة قبلاً والتي لا
صاحب لها وفقًا للمادة السابقة، وأما الذين يودون طبع أثر لم يطبع حتى الآن؛
فيعطى لهم بناءً على استدعائهم امتياز من قبل نظارة المعارف لمدة عشر سنوات إلى
خمس عشرة سنة، وحينئذ لا يجوز لغير صاحب الامتياز أو ورثته طبع هذا الأثر في
ظرف هذه المدة. وإنما إذا لم يباشر طبع الأثر في مدة سنة أوعطل سنة بعد مباشرة
طبعه؛ فيعد الامتياز كأن لم يكن.
المادة التاسعة عشرة: إذا نفدت بعد وفاة المؤلف نسخ أثر من الآثار المعتبرة
التي يرجى منها فائدة للعموم ولم يتيسر طبعه لسبب من الأسباب كفقر ورثة المؤلف
أو إهمالهم أو عدم اتفاقهم؛ فنظارة المعارف تستكمل أسباب طبع هذا الأثر مع مراعاة
حقوق الورثة.
المادة العشرون: على مؤلفي الآثار أن يعطوا ثلاث نسخ مطبوعة من أثرهم
لنظارة المعارف في الآستانة ولمديرية المعارف في الخارج ويقيدوه ويسجلوه؛
ليحفظوا بذلك حق تأليفهم. أما الآثار التي ليس لها إلا صورة واحدة كالألواح
والتماثيل والتعاليق (المدليات) فهي مستثناة من هذه المعاملة.
المادة الحادية والعشرون: يقيد في الدفتر المخصوص الذي ينظم في نظارة
المعارف ومديرياتها لحق التأليف ماهية المؤلف واسم الأثر وموضوعه وتاريخه
ومحل طبعه وعدد صحائفه، ويوضع له رقم بالترتيب، وبعدها يوقع عليه من
صاحب الأثر أو وكيله الرسمي.
المادة الثانية والعشرون: يؤخذ في دوائر محاسبات المعارف ربع ليرة
عثمانية فقط خرجًا للقيد والتسجيل، ويعطى بمقابله من قبل نظارة المعارف
أو مديرياتها علم وخبر يعتبر بمقام سند للتصرف يكون معمولاً به إلى أن يثبت
عكسه بالمحاكمة.
المادة الثالثة والعشرون: تجري معاملة قيد المطبوعات الموقتة في كل آخر
سنة عند إراءة النسخ التي نشرت وتسجيلها.
المادة الرابعة والعشرون: لا تسمع دعوى حق التأليف في المؤلفات غير
المسجلة إلى حين تسجيلها، تعلن في آخر السنة الآثار التي قيدت وسجلت في
ظرف السنة وأسماء مؤلفيها رسميًّا بواسطة الجرائد.
المادة الخامسة والعشرون: لصاحب الأثر أو المترجم أو صاحب الامتياز أو
ورثتهم أن يبيعوا أو يتركوا في ظرف المدة النظامية حق التأليف أوالامتياز تمامًا
أو موقتًا أو بتعيين عدد النسخ لآخر بموجب مقاولة بمقابل بدل أو بلا بدل، ويكون
المشتري أو الآخذ حينئذ قائمًا مقام أصحابها ضمن شروطها. حتى إنه إذا توفي قبل
إكمال المدة تعد ورثته متصرفة في المدة الباقية.
المادة السادسة والعشرون: يجب تسجيل مقاولة البيع أوالترك في نظارة
المعارف في الآستانة وفي مديرياتها في الخارج ويؤخذ نصف ليرة
عثمانية خرج قيدية ولدى إبراز المقاولات التي لم تقيد على هذه الصورة إلى المحاكم
يؤخذ ثلاثة أضعاف الخرج المذكور جزاءً ويرسل إلى صندوق المعارف.
المادة السابعة والعشرون: المحررون وأصحاب الصناعة الذين يشتغلون
لاسم غيرهم يعتبرون بائعين حق تأليفهم إذا لم يوجد مقاولة خصوصية.
المادة الثامنة والعشرون: ليس للطابع أن يحدث تغييرًا ما في الأثر بدون إذن
المحرر، وإذا جرى ذلك؛ منع نشر الأثر بواسطة المحكمة وتعلن صورة
الإعلام بالجرائد وليس للطابع أن يسترد الأجرة التي أعطاها للمحرر.
المادة التاسعة والعشرون: إن طبع كتاب وتمثيله في المدة الحقوقية من غير
إذن صاحبه يعد تقليدًا، وكذلك تمثيل رواية منثورة أومنظومة في المدة الحقوقية من
غير رخصة أصحابها وطبع التواقيع (نوطة) الموسيقية أو استنساخ الخرائط
والألواح والرسوم وأنواع الخطوط بالفوطوغراف أو بوسائط أخرى وإعمال قوالب
للآثار القلمية والموسيقية بالوسائط الصناعية وإعمال الألواح لها (بلاكات) هو
بحكم التقليد يجازى المقلدون توفيقًا للمادة الثانية والثلاثين.
المادة الثلاثون: إن نسبة الآثار في التأليف والفنون النفسية لغير أصحابها
يعد انتحالاً وكذلك من قدم وأخر عبارات كتاب أو أناشيد موسيقية، أو حرف طرز
إفادتها كله بصورة يفهم منها الأصل وأسندها لنفسه يعد بحكم المنتحل.
المادة الحادية والثلاثون: التنقيدات والشروح والحواشي لا تعد انتحالاً وكذلك
إذا نقل المؤلف بعض جمل وفقرات من أثر آخر لأثره، ونوه بأنه أخذه من محل
آخرلا يكون منتحلاً.
المادة الثانية والثلاثون: من طبع الآثار التي لها حق التأليف بدون رخصة من
أصحابها أو توسط بطبعها أو مثل رواية منثورة أو منظومة يغرم بخمس وعشرين
ليرة عثمانية إلى مائة ليرة جزاءً نقديًّا ويحبس من أسبوع إلى شهرين، وتضبط منه
الآثار التي طبعها، وتعطى إلى أصحابها. وكذلك من طبع مثل هذه الآثار في
الخارج، ومن أدخلها إلى الممالك العثمانية يغرم بخمسة وعشرين ليرة عثمانية إلى
مائة ليرة جزاءً نقديًّا، والذين يبيعون هذه المطبوعات وهم عارفون بها أو
يعرضونها للبيع يغرمون بخمس ليرات عثمانية إلى خمس وعشرين ليرة
جزاءً نقديًّا.
المادة الثالثة والثلاثون: إذا أقيمت دعوى الضرر والخسارة من قبل صاحب
الأثر المتضرر يعطى بحقها قرارًا من المحكمة نفسها مع أساس الدعوى.
المادة الرابعة والثلاثون: يعامل الطابعون الذين يطبعون كتبًا زيادة عن
المقاولة التي عقدوها مع المؤلف معاملة الذين خالفوا الأمانة، وتضبط النسخ الزائدة
التي طبعوها، ويؤخذ منهم بدل ما باعوه منها ويعطى كل ذلك لصاحب الأثر.
المادة الخامسة والثلاثون: تطبق أحكام المادة الثانية والثلاثين التي بحق
المقلدين بحق المنتحلين أيضًا.
المادة السادسة والثلاثون: لأصحاب الأثر المشترك أن يراجعوا المحكمة
على الانفراد، ويطلبوا الضرر والخسارة التي لحقتهم بسبب التجاوز على حقوقهم
التصرفية من قبل الغير.
المادة السابعة والثلاثون: لا يجوز للدائنين حجز آثار المؤلف التي لم تطبع.
وإذا صدر حكم في بيع الآثار والمؤلفات التي حجز عليها؛ يعتنى كثيرًا بعرضها للبيع
ووقاية أصحابها من الغدر.
المادة الثامنة والثلاثون: النظام المتعلق بطبع الكتب والمؤرخ في 8 رجب
سنة 289 و 30 آب سنة 288 منسوخ بهذا القانون مع الفقرات المذيلة عليه.
المادة التاسعة والثلاثون: إن الذين طبعوا أثرًا قبل نشر هذا القانون بدون أن
يحصلوا على رضى صاحبه أو ورثته عليهم مراجعة صاحبه أو ورثته واستحصال
رضائهم. وإذا استمروا على بيع الآثار المقلدة من غير رضى أصحابها؛ يجازون
بمقتضى هذا القانون.
المادة الأربعون: إن تنفيذ الأحكام القانونية على الجرائم المعينة بهذا القانون
متوقفة على شكاية شخصية.
المادة الحادية والأربعون: إن حق التأليف في الآثار التي نشرت بلا إمضاء
أو بإمضاء مستعار راجعة إلى ناشرها إلى أن يظهر محررها نفسه.
المادة الثانية والأربعون: ناظر المعارف والعدلية مأموران بإجراء هذا
القانون.
... ... ... ... ... ... في 10 جمادى الأولى سنة 1328
... ... ... ... ... ... ... ... وفي 6 مارس سنة 1326
__________
(*) نشرته جريدة الحضارة ثم طبعته على حدة.(13/607)
الكاتب: جمال الدين القاسمي
__________
تعارض العقل والنقل في الإسلام [*]
جمال الدين القاسمي
(نص السؤال)
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى جناب المكرم الأخ في الله مفيد السائلين وقدوة الناسكين، إمام المحدثين،
سالك منهج الراشدين: شيخنا الفاضل الأمجد محمد جمال القاسمي سلمه الله من كل
شر وجعلنا وإياه من أتباع سيد البشر آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ومرضاته. أما بعد، فإنه وصل إلينا
عزيز كتابكم، تلوناه مسرورين بسني خطابكم، وحمدنا الله على ما أولاكم، أصلح
الله أحوالنا وأحوالكم، وأحسن عواقب الجميع إنه ولي التوفيق.
وبعده، إني نظرت في أماكن من كلام الشيخ محمد عبده رحمة الله عليه مثل
توسطه في ذم السياسة وذم التقليد ومحبته لطريق السلف وحثه على النظر فيه في
أصول الاعتقاد وحثه على مآخذ الأئمة من الكتاب والسنة واحترام أهل الحديث
وأهل الإثبات وتمييزه طريقهم عن غيره، فحق لي أن أقول: هو العالم الحبر الذي
ينبغي أن تشد إليه الرحال. وودت أني سألته في حياته إيضاح قاعدة في أصل
الاعتقاد قد رسمها في كتاب الإسلام والنصرانية في تقديم العقل على ظاهر الشرع
عند التعارض، قال في كتابه:
(اتفق أهل الملة الإسلامية - إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه - على أنه إذا
تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم
بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في علمه.
والطريق الثانية: تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما
أثبته العقل. (وقال) وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل
النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهدت بين يدي العقل كل سبيل) اهـ كلامه.
فقسمها ثلاثة أقسام: الأول: التقديم عند التعارض مطلقًا، والثاني: التفويض،
والثالث: التأويل، فالأول: لولا ذمه لتقليد الفقهاء فضلاً عن الآراء الفلسفية؛ لقلنا
هذا تقليد لهم بناءً على أصلهم، والثاني: التفويض وفيه ما فيه، والثالث: لولا
تمييزه وإعلاؤه طريقة السلف؛ لقلنا: عنى بالتأويل اصطلاح المتفلسفة الذي حقيقته
التبديل. وكذلك (قال) وهذا الذي عليه عمل النبي صلى الله عليه وسلم. ففهمنا من
ذلك أنه بنى تلك الأصول على وجه يمكن أنه من السنة لكن لم نحط به علمًا خلاف
ما يتوهم؛ ولأنه بعيد من الغباوة والتقليد بغير الوقوف على الحقائق. وإني لعلى
نظر بل على قدم أن العقل عقلين: عقل صحيح وعقل فاسد، وأن النقل نقلين: نقل
صريح صحيح، ونقل غير صحيح. فالعقل الصحيح، موافق للنقل الصريح،
لا تعارض ولا تنازع بينهما وما حصل من التنازع فهو من سوء الأفهام ليس هو
اختلال في العقل الصحيح، ولا قصور من النقل الصريح، ومع هذا لم يرتفع عني
وجه الإشكال بالكلية، بل على هنية، لما في ذلك من الإجمال واحتمال التفاصيل؛ ما
يحتاج إلى فهم سيَّال، وفكر وقاد، فاستشكلت ذلك جدًّا.
وطلب التسليم لقاعدة صاحب الإسلام والنصرانية أعوذني إلى أن أنظر في
كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية المسمى بـ (الجمع بين العقل والصحيح والنقل
الصريح) وهو بهامش كتابه (منهاج السنة في الرد على الرافضة) فسرحت نظري
في أول الكتاب واسترسلت به نحو فصلين؛ فعسر علي التسليم للتقديم مطلقًا؛ فأوقفني
ذلك الكتاب على نثيل أبحاث موارد طرق شتى متباعدة الأعماق، متخالفة المساق،
متبانية المذاق، فمنها ما هو ملح أجاج آسن كدر، ومنها ما هوعذب صاف فرات
سائغ للشراب، وما بينهما في الأقل والأكثر مزج من الجانبين. فصوبت نظري
مليًّا في ذلك؛ فإذا الناس في تنوع طرقهم إلى مواردهم يهرعون سراعًا أقطاعًا
وأرسالاً وأشتاتًا، لا يصدهم وذح قذى ما في مواردهم، فسبحان الله! لقد استعذب كل
أناس مشربهم.
ثم علوت أعلى نثيل تلك الموارد، دنف البدن من زواعج التفكير، شعث
القلب لهفًا، متفطر الكبد ظمأً، مرتجف الأعظم وجلاً، مفتقرًا للم شعث قلب، وضم
فطرة كبد، ونعش ظمأ، وسكون أعظم، وتمريض طبيب، فاستجرت بذلك إليكم؛
كي أستضيء بنور علمكم، وأستصبح بمشكاة فهمكم، وأستعين بباسق فضلكم،
إلى معرفة أصول الإيمان الذي أنزلت به الكتب، وأرسلت به الرسل، وما يتوقف
وجود الإيمان على وجوده، وما يعدم من عدمه، ولكم في ذلك إن شاء الله الأجور
الوافرة، والمقامات الفاخرة في الدنيا والآخرة، وفقنا الله وإياكم السداد، وألهمنا
وإياكم الرشاد، إنه رؤوف بالعباد، هذا ما يلزم.
وأبلغ سلامي فريد عصره، نابغة دهره، مفيد المستفيد، إمام وقته، بركتي
ومحبتي الشيخ عبد الرزاق البيطار والشيخ الأخ محمد ديب وإخوانكم السادة الأبرار،
وأولادكم الأطهار، ومحبيكم الأخيار. ومن لدينا مخدومكم محمد وابن عمه أحمد
والمشايخ أهل النهى السادة الفضلاء كافة بيت الآلوسي: علي أفندي ومحمود
شكري أفندي وكافتهم، والشيخ عبد الرزاق الأعظمي وكافة من تلامذة هؤلاء وأساتذة
تصحبهم، فعند ذكركم يودعونا السلام عليكم ومن يحبكم، وأنتم في أمان الله وحسن
رعايته والسلام.
... ... ... ... ... ... غرة ربيع ثاني سنة 1324 هـ
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المحب الداعي
... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز بن محمد السناني
ثم ذيله بقوله:
صاحب هذه القاعدة المذكورة [1] أقواله في الحث على التمسك بالدين الحق
وإيضاح مآثره وتقديمه وتقديسه لأصوله في سائر أقواله في كتبه ومجالسه ومحافله
يخالف ما تتخيله من التناقض فيها اللهم إلا وهمًا وليس العصمة لغير الأنبياء
صلوات الله وسلامه عليه أجمعين.
(جواب الشيخ جمال الدين القاسمي)
باسمه تعالى وبحمده
إلي الشيخ الإمام الرباني، الشيخ عبد العزيز السناني، أبقاه الله مفيدًا للطالبين،
وداعيًا للحبل المتين، وقائمًا بنصر السنة القويمة، والمحجة المستقيمة، سلام الله
عليكم ورحمته وبركته ورضوانه.
أنهي إليكم أنه وصلني عزيز خطابكم، وكريم كتابكم، فحمدت المولى على
صحتكم، ودعوت لكم بدوام إفادتكم، وعموم النفع بمباحثتكم.
تضمن كتابكم الجميل، أهم بحث جليل، ومسألة جديرة بالتحقيق، وإعارتها
النظر الدقيق، مسألة اضطربت فيها الأنظار، وأعملت فيها من عهد السلف الأفكار،
وصنفت فيها المصنفات، وتنوعت فيها المذاهب والمقالات، مسألة هي أشهر
المسائل الكلامية، ومحك أفهام الفئة السلفية والخلفية، مسألة من وقف منها على
الصواب، بعد اجتيازه عقبات الارتياب، فقد فاز فوزًا عظيمًا، وكان في الأمة
إمامًا حكيمًا.
قبل أن نتكلم في هذ البحث أريد أن أذكر أمرًا أراه من أوجب الواجبات،
وأهم المهمات، ألا وهو: إطراح العصبية المذهبية، والحمية القومية، والالتفات في
كل مسألة إلى دليلها، والبحث مع برهانها، فإنا عن الحق نبحث، وإليه نسعى،
والحق ما قوي فيه الدليل واتضح معه البرهان، فمن أدلى ببرهان ناصع وحجة قويمة
فهو المحق الواجب اتباعه، المتحتم اقتفاؤه، من أي مذهب كان، ومن أي فرقة
وجد، وفي أي جيل نشأ. والحاصل أنا أبناء الدليل، وأتباع البرهان، أقول هذا
أولاً.
ثانيًا: في الآداب التي يفترض - فيما أراه - سلوكها والأخذ بها، والدعوة
إليها، وهي من لوازم التمهيد الأول: رفع التنافر من الفرق، ومحوالتضليل
والتفسيق من النفوس، وإقامة الأعذار، لسائر أهل الأنظار، ما داموا داعين إلى
الدين، متمسكين بشرعه المتين، يصلون صلاتنا، ويستقبلون قبلتنا، وأن يتحقق أن
الكل طالبون للحق، جادون للحصول عليه، ساعون وراءه، فيعذرهم بذلك
ويرحمهم، ثم من أخطأ منهم الدليل، ونكب عن سواء السبيل، فيما يعتقد خصمه؛
فإنه بعد بذله جهده معذور بالاتفاق ومأجور بنص الشارع، وعلى خصمه أن يحمد
مولاه، على ما هداه، ويشكره على ما أولاه، ويقول: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما
كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
لا أنكر أن المرء إذا بحث وفحص وجد ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي
يخالفون به أهل الحديث كله انحرافًا، ووجد أن الحق مع أهل الحديث باطنًا
وظاهرًا، ولكن آسف لأن تكون هذه المسائل مدعاة للتفرق، سائقة للتحزب
والتعادي، باعثة على التنابز بالألقاب، مثيرة أحيانًا للطعن بإنسان إثر الترامي
بشظايا اللسان، هذا وديننا واحد، وكتابنا واحد، وقبلتنا واحدة، وأصول إيماننا
واحدة، من أين أتينا ومن أي صوب رمينا؟ أتينا من نبذ الوحدة، والزهد في
التآلف، والرغبة عن التضام، من دخلاء أفسدوا جامعتنا، أو من غلاتنا، أو من
مقصرين عن فهم روابط الدين، فإنا لله! !
نحن في عصر أحوج إلى الرجوع إلى المتفق عليه، والدعوة بالحكمة إليه،
فمن انقاد، واعتنق سبيل السداد، وإلا فلا تفسيق ولا تضليل، ما دام على قانون
التأويل، وقد صرح بذلك حجة الإسلام عليه الرحمة.
إنما عجلت بهذا التمهيد أنا لسنا من قوم يتحزبون لفريق دون آخر، ولا ممن
يعادي المخالف عداوة قلبية، بل ممن يبين الحق الذي يراه، ويجادل بالحكمة
والموعظة الحسنة من يأباه، فإن اهتدى فلنفسه، وإن أصر معتقدًا حجية ما لديه
وصحة ما ينتحله فيكشف له غلطه، فإن رجع (فذاك) وإلا بأن عاد إلى مشربه،
وقد استحكم في قلبه قواعد مذهبه، فما عليك إلا إبانة الرشاد، والله الهاد.
(مبحثنا في دعوى تعارض العقل والنقل)
ماذا يقول العاقل من هذه الجملة التي دبت على الألسنة، ومشت مع الزمان،
وصقلها مرور الأيام، وامتزجت بكلام أهل النظر وتآليفهم قرنًا بعد قرن، وجيلاً
بعد جيل، حتى أصبحت أصلاً أصيلاً، وغدت ركنًا ركينًا، يتحاكم أهل النظر
إليها ويعولون في مشكلاتهم عليها.
لعمر الحق إن بثها في أسفار العلم، وتلقينها لرواد الفهم، لمما يندهش له
الفكر، ويتألم له القلب السليم، لا يعده ذوالفطنة الوقادة، والفطرة الصحيحة، إلا
من الدخائل على أصول الدين، دخائل الخلف المبتدعين.
من ينكر أثر هذه الجملة على أصول الدين؟ ومن لا يألم لما جنته على قواعد
اليقين؟ يكاد ينخلع القلب مما ترمي إليه من إمكان تعارض العقل والنقل، وتباين
الأمرين، ومعاذ الله أن يوجد تعارض أو شبه تعارض أو إمكان تعارض بين العقل
والنقل، بل العقل في النقل والنقل في العقل، وما هما لتعرف الحق إلا كالرؤية
المشروطة بسلامة البصر وانبساط الضياء، فلا عقل بدون نقل، ولا نقل بدون
عقل. العقل والنقل متآخيان في هذه الملة الحنيفية، وممتزجان في أصولها
وفروعها، كلياتها وجزئياتها، امتزاج الماء في العود والروح في الجسد،
ومتلازمان تلازمًا لا يقبل الانفكاك بوجه ما كلزوم نظام الكواكب لسيرها
المقدر.
(شهرة هذه القاعدة)
حدثني تحرير إمام أن حشويًّا من بيروت نقم على الأستاذ عليه الرحمة هذه
القاعدة بدعوى تفرده بها، وعدم سماعه لها، فأسِفت لأن يصل الحال بالحشوية إلى
إنكار المشهورات سيما مثل هذه القاعدة التي هي أصل للمتكلمين أجمعين، وما بنا
من حاجة إلى التعريف بشهرتها من الأسفار الموجودة وتأييدها، فإنها بديهية، إلا
أن البديهي قد ينبه عليه، لغشاوة تحول دون النظر إليه، قال السيد الزبيدي في
كتابه (إيثار الحق على الخلق) : تقديم العقل على السمع أولى عند التعارض؛ لأن
السمع عُلم بالعقل فهو أصله ولو بطل السمع والعقل معًا. وهذه من قواعد المتكلمين.
وقال الإمام ابن فورك في كتابه (تأويل المتشابه) : ما صح من الخبر المروي
في باب الصفات فهو مرتب على دلائل العقول ليجمع بين الدليلين، ويوفق
بين الحجتين.
وقال حجة الإسلام الغزالي في كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) : ما قضى العقل
باستحالته فيجب فيه تأويل السمع به.
ويكفي أن شيخ الإسلام ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان ألف كتابه المسمى
(موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) ، لمناقشة هذه القاعدة حيث قال في أوله:
(قول القائل: إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية أو السمع والعقل أو النقل
والعقل ونحو ذلك من العبارات فإنه يجب تقديم العقل، هذا الكلام قد جعله الرازي
وأتباعه قانونًا كليًّا فيما يستدل به من كتب الله وكلام أنبيائه) إلى آخره، وكلام
الأئمة في هذه القاعدة شهير إلا أن الحشوي لا يعلم ولا يريد أن يعلم.
أذكرني كلام هذا الحشوي - والشيء بالشيء يذكر- ما وقع من حشوي آخر
غبي قيل له: إن السبكي في (جمع الجوامع) رد على من زعم انقراض الاجتهاد
من عصر الأربعمائة وصحح بقاءه إلى عصره فأخذته الرجفة، وآلى بأنه قرأه
ودرسه، وسبره وفحصه، ولم ير لتلك المقالة من أثر، فقيل له: لو قرأته
لدريته ثم ترامى على محاوره فتوسل إليه ألا يضن عليه بموضع ذلك من الجمع
فقال له: راجع ما قاله في بحث خلو الزمان عن مجتهد. وهو قوله: (والمختار
أنه بعد جوازه لم يثبت وقوعه) أي: وقوع الخلو، فسقط بين يديه، وكاد يقضى
عليه، والقصد أن تلك العبارة شهيرة وإن كانت في كل كتاب تكسى من الألفاظ أسلوبًا
خاصًّا قد يخفى أنها هي هو.
(سبب تأصيل هذه القاعدة)
قدمنا ما يلم بالنفس من التألم لدعوى تعارض العقل والنقل، وأنها عبارة ما كان
ينبغي إعارتها أدنى نظر، فإنه متى أجرى بالنقل على طريقه الصحيح تصافح مع
العقل بادئ بدء. ولكن يضطرنا للكلام عليها ما يتوكأ عليه كثير من الخائضين في
الكلام مع الفرق، والباحثين في علم الكلام، أرى بعد ثبوتها في كتب الأئمة
واندراجها في مباحثهم أن لها وجوهًا بعضها صحيح وبعضها فاسد. وإليك البيان:
لما حدث في عهد السلف الخوض في الصفات والبحث في المعاني عن
مروياتها وذاع ذلك وانتشر بين حملة الآثار وبين أرباب النظر، انقسمت الناس في
ذلك ثلاثة أقسام: فريقان منهم متطرفان وفريق معتدل:
أما الفرقة الأولى المتطرفة: فهي الفئة المشبهة فإنها غلت في الإثبات غلوًّا
خرجت به عن المعقول رأسًا، فأجرت كل ما ورد على ظاهره المعهود في
المخلوقين. والمفهوم عند الإطلاق على الأجسام، فانتهى بهم الأمر إلى التجسيم
البحت، والتحديد الصِّرْف، وأخذت آراؤهم الحمقى يتلاعب بها الهوى كيف شاء،
وتفرقوا إلى مشبهة الحشوية ومشبهة الشيعة الغالية ومشبهة الحلولية، كما تراه في
كتب المقالات.
ولعل هذه الفرقة هي التي استثناها الأستاذ الإمام رحمه الله بقوله: (إلا قليلاً
ممن لا ينظر إليه) ، وفي الواقع هم شرذمة قليلون إذا نسبوا لغيرهم ولقوة جمودهم
لم يتم لهم وزن كما أقيم لغيرهم.
وأما الفرقة الثانية: فقامت في مقابلة أولئك، وغلب عليها النظر والتأويل
وأوهمت أن الأولى تنقل ما لا يليق بالتوحيد، وتروي ما لا يصح في الدين، فرمتها
بكفر أهل التشبيه والتمثيل، ومروق أهل الإلحاد والتعطيل، وقضت على تلك
المرويات بأنها مجازات وردت على مناحي معروفة للعرب، معهودة في لغتهم
وأساليبهم، ثم برهنوا على ذلك بأنه حملها على حقيقتها محال؛ لما يلزم من الحدوث
وحلول الحوادث به. يعنون بحقيقتها ما هو معروف لهم من صفات الخلق وأحوالهم،
قالوا: فلما جاء النقل بما يوهم محالاً عند العقل؛ كان للعقل التقديم على
النقل وملاحظته أولاً وبالذات، فما أمكنهم أن يتأولوه على قولهم تأولوه، وإلا قالوا:
هو من الألفاظ المتشابهة المشكلة التي لا ندري ما أريد بها. وبالجملة فجعلوا قاعدتهم
الكلية العقلية أصلاً محكمًا، والمروي المنقول فرعًا له، فكان العقل عندهم مقدمًا على
النقل مطلقًا. وهؤلاء الفرقة أيضًا من الغلاة في التنزيه المتعصبة فيه.
ولذلك كانت فرقة جائرة غير معتدلة ولا مقتصدة؛ فإن دعواها في سائر
المرويات أنها مجازات، وأن العقل مسيطر على النقل يصرفه كيف شاء - كدعوى
أن النقل يقبل كيفما كان أحاله العقل أم لا، صح سنده أم لا؟ في أن كليهما طرفان
جائران، والقصد والتوسط خيرهما. ولذا قال السيد الزيبدي: (ومن البدع بدع
المشبهة على اختلاف أنواعهم وبدع المعطلة على اختلافهم أيضًا فغلاتهم يعطلون
الذات والصفات والأسماء ومنهم الباطنية ودونهم الجهمية، ومن الناس من يوافقهم في
بعض ذلك دون بعض. ثم قال: فالفريقان المشبهة والمعطلة إنما أتوا من تعاطي علم
ما لا يعلمون، ولو أنهم سلكوا مسالك السلف في الإيمان بما ورد من غير تشبيه
لسلموا، فقد أجمعوا على أن طريقة السلف أسلم ولكنهم ادعوا أن طريقة الخلف
أعلم، فطلبوا العلم من غير مظانه، بل طلبوا علم ما لا يعلم فتعارضت أنظارهم
العقلية وعارض بعضهم بعضًا في الأدلة السمعية؛ فالمشبهة ينسبون خصومهم
إلى رد آيات الصفات ويدعون فيها ما ليس من التشبيه. والمعطلة ينسبون
خصومهم إلى التشبيه ويدعون في تفسيره ما لا تقوم عليه حجة، والكل حرموا
طريق الجمع بين الآيات والآثار، والاقتداء بالسلف الأخيار، والاقتصار على
جليات الأبصار، وصحاح الآثار. انتهى.
وطريق الجمع هو طريق السلف المقتصد ويأتي بيانه على حدة. وهو طريق
الفريق المعتدل. والمقصود أن الفرقة الثانية القائلة بالتنزيه البحت، المحكمة للعقل
في النصوص تحكيمًا مطلقًا، القائلة بتقديمه على النقل بطريقها الذي بيناه؛ فقاعدتها
المذكورة فاسدة بإطلاقها؛ إذ لو قيل لها: ما هو العقل؟ وما ميزانه؟ وهل يمكن عدم
التناقض في مناحيه؟ وهل يمكن حمل الأمة على سبيله حملاً لا ينازعهم وجدانهم
في قضية منه؟ لكان الجواب: الحيرة في الأولين، والسلب في الآخرين؛ فإن العقل
لا يمكن تحديده في هذا المقام بالكنه ولا بالعرض، وليس له ميزان ومعيار خاص
لتباين الآراء في التأويلات العقلية، وجواز أن يهدم في اليوم ما بنى منها في الأمس.
والمشاهدة قاضية بمنازعة الوجدان لكثير من مسائله، وتناقض الأنظار فيها
تناقضًا جليًّا بما لا يجد الواقف عليه سكون نفس ولا اطمئنان قلب؛ فإذن ليس مع من
يدعي تقديم العقل مطلقًا أو معارضة المعقول ما يجزم بأنه معقول صحيح متفق عليه
معلوم بالضرورة، وما سبيله كذلك؛ فلا تصح الدعوى المذكورة فيه على إطلاقها.
ومن ادعاها أظهر تناقضه واضطر إلى ما يعدل رأيه، ويلطف مشربه، ويصحح
مذهبه.
وأما الوجه الآخر الذي تصحح به هذه القاعدة، وتسلم عند كل منصف، ويكون
عليها مسحة من الحق ولمعة من الصواب؛ فذلك في مثل ما قصده الأستاذ -
عليه الرحمة - في حج خصمه النصراني وإفحامه، فقد زعم خصمه أن من قضايا
الدين ما يعلو على متناول العقل والفهم بل يناقضه، وأنه يجب مع ذلك التسليم به
تدينًا، وأنه لا أثر للعقل في باب الدين أصلاً لاطراحه معه جانبًا، ولزوم الخضوع
الأعمى، شاء العقل أم أبى، فناقشه الأستاذ بأن هذه يستحيل أن تقبله الفطرة السليمة
أو تأتي به شريعة موحاة، وأنه من أوضاع الذين انحرفوا بعد ما تبين لهم الهدى،
وأنه لو صح ذلك على زعم الخصم لكان الأحرى به أن ينبذه وينتهج ما هو خير له،
وذلك في دين أساسه العقل، وقوامه العقل، ودعائمه العقل، ومبانيه العقل، فقصده -
عليه الرحمه - هدم ما بنوه من ذلك الأصل الفاسد الذي يتبرأ منه العقل السليم،
وإبانة أن الدين الحنيفي نزل مؤاخيًا للعقل بل العقل مرده وإليه تحاكمه. ولذلك أكثر
التنزيل من التنبيه على العقل والنويه به في مثل قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (يس:
68) (لعلهم يعقلون) {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ} (العنكبوت: 43) في آيات
لا تحصى. وبالتحاكم إلى العقل يعلم الخصم أن ليس مرد ديننا هو الخضوع الأعمى
لكهنة الباطل الذين انتحلوا لأنفسهم الربوبية في التشريع وردوا عقائد شعبهم إلى
أهوائهم وكلفوهم ما لا يطيقون من اعتقاد ما يحيله العقل كالثالوث والاستحالة …
بل الدين الحنيفي دين العقل، دين النظر، دين التدبر، فمن استعمل عقله
ونظره وفكره من الملاحدة وتأمل في محاسنه وقابل بينه وبين غيره من الأديان لم
يلبث أن يعتنقه اعتناقًا يمتزج به في لحمه ودمه حتى يستميت في الذود عن حماه.
ثم ترقى الأستاذ عليه الرحمة إلى نكاية الخصم بأن العقل يقدم على النقل إذا
عارض قضاءه؛ ليعلم الخصم أن الأساس الأكبر والمرجع الأعلى هو العقل، وأن
ليس في الدين ما ينافيه، ولا ما ينقضه لابتنائه عليه، حتى لو وجد ما يعارضه
بادئ بدء لروجع العقل فيه فيجريه على أصله وقاعدته ويقضي للواهم أن لا
تعارض.
رأي الأستاذ - رحمه الله - أن التفويض والتأويل كليهما من قضاء العقل
في المسألة؛ وهو كذلك لأنه لولا ذلك لكان الأمر إما على حقيقته المعهودة كما فهمه
الجل وهو محال، وإما على أنه فوق العقل وذلك غير معهود في مبدأ الدين المتين.
وإنما كان التفويض أحد وجهي قضاء العقل؛ لأن للعقل أن يقول للباحث: بعد
ما وضح وثبت صدق الخبر بذلك من المعصوم الذي استنارت حجته فما عليك إلا
الإيمان بما جاء به تفصيلاً فيما فصل وإجمالاً فيما أجمل، ومنه أوصاف الربوبية
وما يضاف إلى سموها؛ فيكفيك الإذعان للمنقول منها، ولم تكلف الخوض في
اكتناهها فهو ما لا تبلغه قوتك، ولا تصل إليه قدرتك، وربما عثر بك الحال، إلى
الزلل في المتعال، فتكون جاوزت قدرك، وتعديت طورك، وهذا القضاء قضاء
مرضي لا يأباه القلب ولا يجافيه ذو اللب.
كما أن قضاء العقل بالتأويل قضاء مقبول، لا تحيله العقول، بل هو الذي
آثره جمهور النظار الفحول، وقد طالعت من ذلك كتاب ابن فورك - رحمه الله -
فرأيته توسع في توجيه المروي من الصفات توسعًا غريبًا أقام في كل فصل من
الشواهد العربية نظمًا، ومن مُثلِهم نثرًا ما يقنع الباحث بل يدهشه حتى يخيل للناظر
أن ليس وراء ذلك مرمًى. وقد حاول رد طريقة السلف وما روي عنهم إلى مشربه،
ورد شبه الطاعنين على المحدثين في طريقة غريبة، وإن تعسف في كثير من
التأويل، ونوقش في توجيهه كل ما روي في الباب ولو موضوعًا. فذاك بحث آخر.
والقصد أن تأويلاته سائغة، وفي لغة العرب متسع لها وترحيب بها، ومن ينكر
وفرة المجاز في اللغة ورقة أساليبه، وبديع كناياته، ولطيف مواقعه، وأسرار
إعجازه وبلاغته. لا جرم أنه باب من أبواب الخطاب عظيم، وركن من أركان
اللغة قويم، على أن من المروي ما لا يمكن معه إلا المجاز مهما حاول محاول لحديث
(قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن) وحديث (الحجر الأسود يمين الله
في الأرض) .
نعم ثمة في باب الصفات ما هو أرقى من المذهبين المذكورين مذهب التأويل
والتفويض. وذلك من إثبات تلك الصفات بلا تأويل ولا تمثيل إثباتًا حقيقيًّا يليق
بالذات العلية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - عليه الرحمة والرضوان - في رسالته
المدنية: (مذهب أهل الحديث وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من
الخلف أن هذه الأحاديث تمر كما جاءت ويؤمن بها وتصدق وتصان عن تأويل
يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل، وقد أطلق غير واحد ممن حكى
إجماع السلف منهم الخطابي مذهب السلف أنها تجري على ظاهرها، مع نفي
الكيفية والتشبيه عنها، وذلك أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى
حذوه، ويتبع فيه مثاله؛ فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية؛ فكذلك
إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فنقول: إن له يدًا وسمعًا. ولا نقول: إن
معنى اليد القدرة ومعنى السمع العلم) .
ثم قال عليه الرحمة والرضوان: (وبعض الناس يقول) : مذهب السلف أن
الظاهر غير مراد. ويقول: أجمعنا على أن الظاهر غير مراد. وهذه العبارة خطأ إما
لفظًا ومعنًًى، أو لفظًا لا معنًى لأن الظاهر قد صار مشتركًا بين شيئين: أحدهما: أن
يقال: إن اليد جارحة مثل جوارح العباد، وظاهر الغضب غليان القلب لطلب
الانتقام. وظاهر كونه في السماء أن يكون مثل الماء في الظرف. فلا شك أن من
قال: هذه المعاني وشبهها من صفات المخلوقين ونعوت المحدثين غير مراد من
الآيات والأحاديث. فقد صدق وأحسن؛ إذ لا يختلف أهل السنة أن الله تعالى ليس
كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، بل أكثر أهل السنة من أصحابنا
وغيرهم يكفرون المشبهة والمجسمة. لكن هذا القائل أخطأ حيث ظن أن هذا المعنى
هو الظاهر من هذه الآيات والأحاديث. وحيث حكى عن السلف ما لم يقولوه، فإن
ظاهر الكلام هو ما يسبق إلى العقل السليم لمن يفهم بتلك اللغة. ثم قد يكون ظهروه
بمجرد الوضع، وقد يكون بسياق الكلام.
وليست هذه المعاني المحدثة المستحيلة على الله هي السابقة إلى عقل المؤمن بل
اليد عندهم كالعلم والقدرة والذات، فكما كان علمنا وقدرتنا وحياتنا وكلامنا ونحوها
من الصفات أعراضًا تدل على حدوثنا يمتنع أن يوصف الله بمثلها. فكذلك أيدينا
ووجوهنا ونحوها جسام محدثة لا يجوز أن يوصف الله بمثلها. ثم لم يقل أحد من أهل
السنة: إذا قلنا: إن لله علمًا وقدرة وسمعًا وبصرًا أن ظاهره غير مراد. ثم يفسره
بصفاتنا. فكذلك لا يجوز أن يقال: إن ظاهر اليد والوجه غير مراد ولا فرق بين ما
هو من صفاتنا جسم أو عرض للجسم. ومن قال: إن ظاهر شيء من أسمائه وصفاته
غير مراد فقد أخطأ؛ لأنه ما من اسم يسمى الله به إلا والظاهر الذي يستحقه المخلوق
غير مراد به. فكان قول هذا القائل يفضي إلى أن يكون جميع أسمائه وصفاته قد
أريد بها ما يخالف ظاهرها. ولا يخفى ما في هذا الكلام من الفساد.
والمعنى الثاني: إن هذه الصفات إنما هي صفات الله سبحانه على ما يليق
بجلاله، نسبتها إلى ذاته المقدسة كنسبة صفات كل شيء إلى ذاته. فيعلم أن العلم
صفة ذاتية للموصوف، ولها خصائص، ولا يدرك لها كيفية. كما يعلم أن له
ربًّا وخالقًا ومعبودًا ولا يعلم كنه شيء من ذلك. بل غاية علم الخلق هكذا يعلمون
الشيء من بعض الجهات ولا يحيطون بكنهه وعلمهم بنفوسهم من هذا الضرب.
ثم قال: أفيجوز أن يقال: إن الظاهر غير مراد بهذا التفسير؟ لا يمكن، فمن قال:
إن الظاهر غير مراد بمعنى أن صفات المخلوقين غير مرادة قلنا له: أصبت في
المعنى، لكن أخطأت في اللفظ، وأوهمت البدعة، وجعلت للجهمية طريقًا إلى
غرضهم، وكان يمكنك أن تقول: تمر كما جاءت على ظاهرها مع العلم بأن
صفات الله ليست كصفات المخلوقين، وأنه منزه مقدس عن كل ما يلزم منه حدوثه أو
نقصه. ومن قال: الظاهر غير مراد بالتفسير الثاني - وهو مراد الجهمية ومن
تبعهم من المعتزلة والأشعرية وغيرهم - فقط أخطأ. اهـ كلامه.
وقد سبق شيخ الإسلام إلى هذا الإمام ابن بطة - رحمه الله - حيث قال في
الفصل الثامن من كتابه: (ثم نهاية شغبهم أن إثبات هذه الصفات يقتضي التشبيه
والتجسيم لما نراه في الشاهد. وهذا الشغب ينعكس عليهم ويعلم بطلانه بذلك، ألا
ترى أن في الشاهد أن الفاعل للأشياء المتقنة العالم الخبير الحي السميع البصير
جسم؟ والله سبحانه حي سميع بصير عليم خبير فاعل وليس بجسم، فإثبات الصفات
له على ما جاء به النص عنه أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم لا يوجب التجسيم
ولا التشبيه بل كل شيء يتعلق بالمحدث مكيف، وصفات البارئ لا كيفية لها،
فالتجسيم والتشبيه منتفيان عنه وعن صفاته. وبالله التوفيق) .
وكذلك جود في إيضاح هذا المشرب الإمام ابن القيم رحمه الله في (طريق
الهجرتين) في مباحث التوبة فننقله عنه ونجعله مسك الختام.
قال رحمه الله بعد أن ناقش من أوقع الأمة في أودية التأويلات وشعاب
الاحتمالات والتجوزات:
(فإن قلت: فهل من مسلك غير هذا الوادي الذي ذممته فنسلك فيه، أو: من
طريق ليستقيم عليه السالك؟ قلت: نعم بحمد الله الطريق واضحة المنار بينة
الأعلام مضيئة للسالكين، وأولها أن نحذف خصائص المخلوقين، عن إضافتها إلى
صفات رب العالمين؛ فإن هذه العقدة هي أصل بلاء الناس فمن حلها؛ فما بعدها
أيسر منها، ومن هلك بها؛ فما بعدها أشد منها، وهل نفى أحد ما نفى من صفات
الرب ونعوت جلاله إلا لسبق نظره الضعيف إليها واحتجابه بها عن أصل الصفة
وتجردها عن خصائص المحدث؟ فإن الصفة يلزمها لوازم باختلاف محلها فيظن
القاصر إذا رأى ذلك اللازم في محل المحدث أنه لازم لتلك الصفة مطلقًا فهو يفر
من إثباتها للخالق سبحانه، حيث لم يتجرد في ظنه عن ذلك اللازم، وهذا كما فعل من
نفى عنه سبحانه الفرح والمحبة والرضاء والغضب والكراهة والمقت والبغض
وردها كلها إلى الإرادة فإنه فهم فرحًا مستلزمًا لخصائص المخلوق من انبساط دم
القلب وحصول ما ينفعه، وكذلك فهم غضبًا هو غليان دم القلب طلبًا للانتقام، وكذلك
فهم محبة ورضًا وكراهةً ورحمةً مقرونةً بخصائص المخلوقين؛ فإن ذلك هو السابق
إلى فهمه وهو المشهور في علمه الذي لم تصل معرفته إلى سواه، ولم يحط علمه
بغيره ولما كان هو السابق إلى فهمه لم يجد بدًّا من نفيه عن الخالق، والصفة لم تتجرد
في عقله عن هذا اللزم فلم يجد بدًّا من نفيها) .
(ثم لأصحاب هذه الطريق مسلكان: أحدهما: مسلك التناقض البين وهو
إثبات كثير من الصفات، ولا يلتفت فيها إلى هذا الخيال بل يثبتها مجردة عن
خصائص المخلوق، كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغيرها، فإن كان
إثبات تلك الصفات التي نفاها يستلزم المحذور الذي فر منه فكيف لم يستلزمه إثبات
ما أثبته؟ وإن كان إثبات ما أثبته لا يستلزم محذورًا فكيف يستلزمه إثبات ما نفاه؟
وهل في التناقض أعجب من هذا؟ والمسلك الثاني: مسلك النفي العام والتعطيل
المحض هربًا من التناقض، والتزامًا لأعظم الباطل وأمحل المحال، فإذًا الحق
المحض في الإثبات المحض الذي أثبته الله لنفسه في كلامه وعلى لسان رسوله من
غير تشبيه ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تبديل) اهـ.
وبالجملة فهذا المذهب الأخير مع المذهبين قبله كلها إجمالاً من المعقول، أعني
مما أبان العقل فيها معاني سليمة مما يوهم محالاً عنده، وبه يعلم أن ليس في
الدين ما ينافر العقل أو يعارضه بل هما كالسدى واللحمة في كونهما قوام الثوب،
وكالروح والجسم في حفظ الحياة.
هذا ما رآه الفكر القاصر في القصد من تنويه الأستاذ المرحوم بالعقل، أعني
حج خصمه وإعلاء منزلة العقل في الدين الإسلامي، وتنبيه خصمه على أن بالعقل
يميز الإنسان بين أحوال الماضي والحال فيفرق تبعًا لذلك بين الشرائع، فلا بد أن
يعثر بسبب تعضيد العلم والبدائه على الدين الذي يجب أن يكون خاتمة الأديان
كلها، وباقيًا بقاء النوع الإنساني.
والأستاذ المرحوم - وإن كان يجري في كلامه أحيانًا على قواعد النظار
والمتكلمين ويدافع بها - فهو لم يخرج عن حبه للسلف واعتقاده بمشربهم وأذكرنا ليلة
كنا في ضيافته في داره وسمرنا معه أكثر من ثلث الليل أيام رحلتنا إلى تلك الأقطار،
وقد كنت قرأت في مواضع من كلامه ميلاً لمذهب الخلف المؤولين من الأشاعرة
وغيرهم وقد أفضى البحث بنا إلى مسألة الصفات أني قلت له: (إني لأعجب من
هؤلاء المتأولين المندفعين على رفع الظواهر المكبرين لإطلاقها، أفهم أَغْيَرُ من
الله على ذاته المقدسة حيث أطلق في كلامه وعلى لسان رسوله تلك النعوت الجليلة
التي تأبى كثرتها التأويل الذي لا يؤمن في أكثره من التعطيل؟! أفليس الإثبات على
الطريقة السلفية هوالأصوب والأقرب؟!) ، فرأيته - رحمه الله - أقر على ما قلت
وصدق ما ذكرت، ولم ينتصر لمذهب الخلف، ولم يشر إليه مع أنه ليلتئذ في غير
هذا المبحث حاور وناقش وحقق ودقق، هذا ما أتحققه منه، رحمه الله ورضي عنه.
(نتيجة البحث)
أوضحنا أن قصد الأستاذ هو التنويه بالعقل في الشرع وملاحظة أنه الأصل في
إثبات قواعد الإيمان وهذا مما لا ريب فيه، فإن وجود الله تعالى ووحدته في
ألوهيته، وما يجب له من جلائل النعوت، وتصديق رسوله برسالته بما نصبه دليلاً
على صدقه - كل ذلك مما نظر فيه العقل وتدبره فآمن به. وهذه الأصول التي هي
قوام الشرائع إنما مستند ثبوتها النظر العقلي اتفاقًا، فملحظ تقديم العقل على النقل
إنما هو رعاية العقل في النقل بالوجوه التي قدمناها. وبه يظهر أن كلامه - رحمه
الله - موجه لما تقتضيه حكمة التشريع في الإسلام، وسره وتفوقه على ما عداه من
الأديان التي حرفها أربابها. وعلى تسليم أنه وافق آراء الفلاسفة في هذه القاعدة كغيره
من أئمة المتكلمين؛ فلا غضاضة عليه في ذلك فقد خرجناها على وجه لا يبعد
عن الصواب.
وجلي أنه ليس كل ما للفلاسفة مذمومًا، بل المذموم ما نقض شرعًا أو هدم
ركنًا. وكلمة فيلسوف معناها (محب الحكمة) ، والحكمة متقبلة من أي لسان؛ لأنها
مساوقة للحق كما أشرنا له قبل. قال الإمام ابن عبد البر حافظ المغرب وإمامه في
كتابه (جامع بيان العلم وفضله) في باب جامع في الحال التي تنال بها العلم:
(وروينا عن علي رضي الله عنه أنه قال في كلام له: العلم ضالة المؤمن فخذوه ولو
من أيدي المشركين، ولا يأنف أحدكم أن يأخذ الحكمة ممن سمعها منه) .
أشرتم إلى أن التفويض فيه ما فيه والحق لكم؛ لأنه في طيه إشعار بأن الناس
خوطبت بما لا تعقله ولا تفهمه، ولا هو من لغتها مع أن اللسان عربي مبين لقوم
ساروا في الفصاحة ونبغوا في البلاغة ولم يتطالَّ عليهم فيهما، ومعلوم أن أشرف ما
في القرآن المأمور بتدبره هو ما جاء فيه من نعوت الرب وصفاته الجليلة، فإذا لم يعلم
أحد معناها فأنى يستدل بها؟! وفيه سد لباب الهدى والبيان منها، وحينئذ فقول أهل
التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف قول فيه ما فيه، واحتجاج من
احتج لهم بالوقف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} (آل عمران:
7) من الغلط في الاستدلال فإن المراد بتأويله ما يؤول إليه الأمر، فتأويل ما أخبر
الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر هو نفس الحقيقة التي أخبر عنها ذلك في حق الله
تعالى، هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره. ولهذا قال مالك وربيعة
وغيرهما: (الاستواء معلوم والكيف مجهول) وكذلك قال ابن الماجشون وأحمد بن
حنبل وغيرهما من السلف: إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وإن علمنا
تفسيره ومعناه.
فلفظ التأويل في الآية إنما أريد به التأويل في لغة القرآن وهو الذي تعرفه
السلف وهو الذي أراده الله في مثل قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي
تَأْوِيلُهُ} (الأعراف: 53) ، وقال يوسف: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ} (يوسف: 100) فجعل في الآية الأولى ما يؤول إليه أمرهم من العذاب وورود
النار تأويلاً , وفي الآية الثانية نفس سجود أبويه له تأويل رؤياه.
وأما التأويل الذي هوالتفسير وبيان المراد به فهذا لا يصح إرادته من الآية؛
لأن الصحابة والتابعين فسروا جميع القرآن وكانوا يقولون: إن العلماء يعلمون
تفسيره، وما أريد به وإن لم يعلموا كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وكذلك لا يعلمون
كيفيات الغيب؛ فإن ما أعده الله لأوليائه من النعيم لا عين رأته ولا أذن سمعته ولا
خطر على قلب بشر فذاك الذي أخبر به لا يعلمه إلا الله.
نعم من وقف في الآية على قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ} (آل عمران: 7) أراد منها هذا المعنى، وأنه يعلم تأويله وهو منقول عن ابن
عباس أيضًا وهو قول مجاهد ومحمد بن جعفر وابن إسحاق وابن قتيبة. والقول
الأول منقول عن أبي بن كعب وابن مسعود وعائشة وابن عباس وعروة بن
الزبير وغير واحد من السلف والخلف، فلا منافاة بين القولين، لانفكاك
الجهتين.
والتأويل المنفي غير التأويل المثبت، ولشيخ الإسلام بسط لهذا المبحث في
كثير من المؤلفات الشهيرة.
وأما ما ذكرتموه من أن التأويل حقيقته التبديل الذي هو اصطلاح المتفلسفة؛ أي:
ولذلك اعترفوا بأنه غير أسلم؛ لما فيه من خطر رفع الظواهر المنتهي إلى تغييرها
وتغيير البراهين أو أكثرها مع أن القصد بإيحائها والإعلام بها هو إفادة الأمة
ونصحها وهدايتها، فمن التكلف أن يعدل عن البيان الناصح الرافع للبس المزيل
للإجمال إلى أسلوب يوقع الأمة في أودية التأويلات، وشعاب الاحتمالات
والتجويزات.
ما بحثتموه في التفويض والتأويل هو من نقد المدققين في باب الصفات الذي
تجلى لهم ذلك المشرب المعتدل في أزهى حلله، ومع ذلك فنقدهم لا يحبط من قدر
من ذهب إلى التفويض والتأويل، ولا يقضي عليه بالتفسيق والتضليل؛ فإن ذلك
قصارى جهدهم، وغاية نظرهم، وقدمنا أن للعقل قبولاً ما ولا ملام على من بذل
جهده، وأخلص قصده، نعم يلام من جمد على التقليد المحض بعد أن وضحت
الحجة، استبانت المحجة.
وقد قدمنا أن الحجة قويت في الإثبات بلا تشبيه ولا تأويل، وقد نقل
الشعراني في (اليواقيت والجواهر) عن الشيخ ابن عربي رحمه الله أنه حذر
من التأويل وناقش منتحليه في مواضع من فتوحاته فمنها قوله:
(اعلم أنه يجب الإيمان بآيات الصفات وأخبارها على كل مكلف) ، قال: (وقد
أخبر الله تعالى عن نفسه على ألسنة رسله أن له يدًا ويدين وأصبعًا وأصبعين وعينًا
وعينين وأعينًا ومعية، ضحكًا وفرحًا وتعجبًا وإتيانًا ومجيئًا واستواءً على العرش
ونزولاً منه إلى الكرسي وإلى سماء الدنيا، وأخبر أن له بصرًا وعلمًا وكلامًا وأمثال
ذلك) ، قال: (وهذا كله معقول المعنى مجهول النسبة إلى الله تعالى يجب الإيمان
به؛ لأنه حُكم حكم به الحق على نفسه فهو أولى مما حكم به مخلوق وهو العقل) .
وقال أيضًا: (جميع الأحاديث والآيات الواردة بالألفاظ التي تنطلق على
المخلوقات باستصحاب معانيها إياها لولا استصحاب معانيها إياها المفهومة من
الاصطلاح؛ ما وقعت الفائدة بذلك عند المخاطب بها مما يخالف ذلك اللسان الذي
نزل به هذا التعريف الإلهي قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ
لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) يعني: يبين لهم بلغتهم ما هو الأمر عليه. ولم يشرح لنا
الرسول المبعوث بهذه الألفاظ هذه الألفاظ بشرح يخالف ما وقع عليه الاصطلاح،
فننسب تلك المعاني المفهومة من تلك الألفاظ إلى الحق جل وعلا كما نسبها إلى نفسه،
ولا نحكم في شرحها بمعان لا يفهمها أهل ذلك اللسان الذين نزلت فيهم الألفاظ
فنكون من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ومن الذين يحرفونه من بعد ما
عقلوه وهم يعلمون بمخالفتهم، فيجب علينا أن نقر بالجهل بمعرفة كيفية النسبة) قال:
(وهذا هو اعتقاد السلف قاطبة لا نعلم لهم مخالفًا) ، وأطال في ذلك.
وقال أيضًا رحمه الله: (اعلم أن من أعجب الأمور عندنا كون الإنسان يقلد
فكره ونظره وهما محدثان مثله، وقوة من القوى التي جعلها الحق تعالى خديمة للعقل
وهو يعلم من ذلك كونها لا تتعدى مرتبتها في العجز عن أن يكون لها حكم قوة
أخرى كالقوة الحافظة والمصورة والمخيلة، ثم إنه مع معرفته بهذا القصور كله يقلد
قواه العاجزة في معرفة ربه، ولا يقلد ربه فيما يخبر به عن نفسه في كتابه وسنة نبيه
فهذا من أعجب ما طرأ في العالم من الغلط، وكل صاحب فكر أو تأويل فهو تحت
هذه الغلط بلا شك) .
(فانظر يا أخي ما أفقر العقل وما أعجزه حيث لا يعرف شيئًا مما ذكرناه إلا
بواسطة القوى المذكورة وفيها من العلل والقصور ما فيها، ثم إنه إذا حصل شيئًا من
هذه الأمور بهذه الطرق يتوقف في قبول ما أخبر الله به عن نفسه ويقول: إن
الفكر يرده فيقلد فكره ويزكيه ويجرح شرع ربه) ، وأطال مع ذلك ثم قال:
(وبالجملة فليس عند العقل شيء من حيث نفسه، وإذا كان كذلك؛ فقبوله ما صح عن
ربه وأخبر به عن نفسه أولى من قبوله من فكره بعد أن علم أن فكره مقلد لخياله
وخياله مقلد لحواسه) انتهى.
(بقية البحث)
ذكرتم أنه يفهم من كلام الأستاذ - رحمه الله - أنه بنى تلك الأصول على
وجه يمكن أنه من السنة ... إلخ، وكذلك ظاهر كلامه بادئ بدء إلا أنا بمعونة ما
قدمناه من أن قصده من مبحثه هو التنويه بالعقل في نظر الشرع يعلم أن مراده أن
الكتاب العزيز وصحيح السنة والعمل النبوي - كلها مما مهدت السبل بين يدي العقل
فكان العقل يقفوها أينما اتجهت، ويساوقها كيفما سارت، إلا أن ثمة أثرًا من السنة
يؤيد مذهب التأويل الذي يتبادر من سياق تقديم العقل، وللأستاذ في تآليفه أسلوب
غريب يباين المعهود فقد لا يراد من سبكه البليغ ما عهد إرادته من غيره.
هذا ما سنح لسقيم البال، في فهم كلام هذا الإمام المفضال، وما كنت أظن أن
أختلس من وقتي هذه الكلمات فلدي من العوائق عنها، ما لا يسمح لي بالدنو منها،
اللهم إلا أن بركة دعائكم، واغتنام بديع فوائدكم، مما يرجى معه شرح الصدر،
وتسهيل الأمر، وأرجو أن تدققوا فيما كتبت، وترشدوني إلى ما فيه سهوت؛ فإن
القصد الوقوف على الحق، وإعتاق الفكر من أغلال الرق، والحقيقة بنت البحث،
وأراني بانتظار جوابكم الميمون، وإرشاكم الحصون، نفعنا المولى ونور أذهاننا
بمعارفكم، إنه خير مجيب.
ما حملني على إطالة الجواب وتكبير البحث نوعًا ما إلا إبلاغه لمسامع
إخواني وصحبي ممن لم يتأهلوا بعد لمطالعة الكتب الكبيرة في هذا الموضوع،
وفيهم حرص على الوقوف على تحقيق ذلك، فأردت أن أقدمه بين يدي مستقبلهم
نموذجًا يشرفون منه على مجمل تلك المباحث الكبيرة، فلا ملام فيما تخلله من
النقول المعروفة لديكم.
زارني أثناء كتابتي هذه الأستاذ العلامة الشيخ طاهر الجزائري فقرأ كتابكم
وجانبًا كثيرًا مما كتبت، فاستحسن التوسع في هذا الموضوع، وقال: إنه يقل دونه
مجلد، وأكد عليَّ أن تدققوا فيما كتبنا وأن لا تضنوا علينا بما ظهر لكم من المناقشة
لتعم الفائدة وهو يسلم عليكم.
وإني أهدي أعظم التسليمات لحضرات السادة الآلوسيين الكرام شموس الهدى
الأعلام السيد محمود شكري أفندي والسيد علي أفندي وحضرة العلامة الشيخ عبد
الرزاق أفندي الأعظمي ومن يصحبهم من الأساتذة، ومن كمل التلامذة، بارك الله
في حياتهم، ونفع الأمة بعلومهم، ومن عندنا العلامة الشيخ عبد الرزاق أفندي
البيطار والشيخ محمد ديب الغنيمي وأشقائي يهدونكم السلام ويرجون دعواتكم
الصالحة في الأوقات الكالمة الراجحة.
قاله بفمه وأمر برقمه وكتب هنا بقلمه الفقير محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي
في 7جمادى الأولى سنة 1324.
(جواب الجواب)
لم يمض على إرسال الجواب لذلك السؤال ردح من الزمن حتى أرسل إلينا
صاحب السؤال العالم البركة الصالح الشيخ عبد العزيز السناني المتقدم ذكره بجواب
كنا نود وايم الحق أن نستعيض عن تلك المدائح بالمناقشة والانتقاد، ولكن أبى الحق
إلا أن يظهر ويكون له التأثير القوي، والنفوذ الخارق في أمثال هاته المباحث
الخطيرة ولو كره المعاندون، ونحن نذكر نص الكتاب حفظًا لتلك الآثار خشية أن
تغتالها أيدي الضياع مع تصرف يسير، وحذف لجمل خصوصية لا تفيد فائدة عامة
وهاك صورته:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى جناب الأجل الأمجد العالم الفاضل أوحد زمانه، مفزع السائلين، مرشد
الناسكين، إمام المحدثين، الموفق لمنهج الراشدين، شيخنا وبركتنا الشيخ محمد
جمال الدين القاسمي سلمه الله تعالى من كل شر وجعلنا وإياه من أتباع سيد البشر
آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومغفرته ومرضاته.
وبعد، وصل إلينا كتابكم الشريف، المفيد بالجواب السداد الموجز المنيف،
المقيد لشوارد المسائل المهمة، والأنموذج لما حوته جل كتب الجهابذة المحققين أهل
النظر الكبار، فيا له من جواب ما أجله وأشرفه!! كيف لا وقد حل حزازة الصدر،
في الذود بما عقده الأستاذ الحكيم من أصول الدين، وانبلج به مأخذ الوجه المستقيم من
الكتاب والسنة وأفادنا فوائد، وعاد إلينا بعوائد كنا عنها في سدف، فاستضاءت لنا
وجوهها، فأتى بما فوق ما أملنا، فلا خاب أملنا، ولا أفلس مفزعنا، تالله لقد حط عنا
مؤنة النظر والتكلفات، وحذرنا صعب العقبات المتحريات (كذا) بالهلكات، وفتح
لنا أبواب سني الطرق وأقوم السبل، وجعل بالسعادتين، فيا فوز من أهل لجني تلك
الثمرات؛ فلزم أن نحفظه ونستحفظ عليه، ونجعله عدة لمراقي سني السير، ومردًّا
لطامح الفكر، وجامح الخطر، وكذلك من نظر في الجواب من أهل التحقيق طلب
منا صورة لسؤال الباعث للجواب رغبة لنسخهما، ولا غرو؛ إذ كان صدره من
ذوي السهم الراجح والمال الرابح، والدرجة العليا من أهل العلم الذين شرفهم الله
بشرف العلم، وكرمهم بوقار الحلم، فلله الحمد جل ثناؤه حيث كلف لدينه حفظاء من
خلقه، يحملون قواعد شرائعه، ويذبون عن عراه بغي من بغاه، ويدفعون عنه كيد
كل شيطان وضلالة، وجعلهم لأهل الدين أعلامًا، وللإسلام والهدى منارًا، ولأهل
الحق قادة، وللعباد أئمة وسادة يتحرون جزيل الثواب من الله، ويتوخون رضى الله
بالصواب.
ثم قال في وصف العلماء المصلحين، الذين يقومون بالإصلاح ويقاومون
به:
فلم يكن يثنيهم عن النصيحة لله ما منهم - يريد الجهلة - يلقون، بل كانوا
بعلمهم على جهلتهم يعودون، وبفضلهم على بغضهم يأخذون، ويجعلون لمن بعدهم
آثارًا على الأيام باقية، وسبلاً إلى الرشاد هادية، جزاهم الله على أمة نبيهم أفضل
جزاء، وحباهم من الثواب أجزل ثواب، (إلى أن قال) :
وهم الطائفة الموعودة بالبقاء لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وجعلهم مفزعًا
بما أودعهم الله من نور العلم، يكشف بهم سدف ظلم الجهل، والتباس الضلال،
فمن نعمه جل شأنه أن جعل من تلك الطائفة في زمننا من اتصف بتلك الصفات،
فنسأل الله أن لا يحرمنا فضلهم، والاقتباس من نور علمهم. (إلى أن كتب
ما يلي) :
هذه مسألة أهمتنا غاية، وحدثتني نفسي بمراجعة صاحب المنار ألتمس
إيضاحها، فقصرتم نجعتنا، وأرحبتم صاحبنا، وأزلتم سدفنا، جزاكم الله عنا وعنه
أفضل جزاء، وأجزل ثواب.
وجميع الإخوان المحبين أخذوا بنسخ السؤال والجواب المذكور، وذلك
لإعجابهم به جزاكم الله عن الجميع خيرًا.
... ... ... ... ... ... في: 27جمادي الأولي سنة 1327
... ... ... ... ... ... ... ... ... المحب
... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز المحمد السناني
__________
(*) سؤال من الشيخ عبد العزيز السناني عن عبارة للأستاذ الإمام في كتاب الإسلام والنصرانية
وجهه إلى الشيخ محمد جمال الدين القاسمي عالم دمشق العامل الشهير وجواب هذا عنه وإذعان
السائل لجوابه.
(1) يعني الأستاذ الإمام صاحب قاعدة الجمع بين العقل والنقل.(13/613)
الكاتب: صالح مخلص رضا
__________
التقاريظ
صالح مخلص رضا
(ديوان الخطيب)
للشعراء تأثير في إيقاظ الأمم معروف لا ينكره إلا من أنكر التأريخ. وأنت تعلم
منزلة حسان بن ثابت وتأثير شعره في أوائل الدعوة الإسلامية، ثم إنك لا تجهل
مقام مثل الشاعر فيكتور هوغو في أمته، ولقد طلع في هذه الأثناء هلال في فلك
شعراء العربية جاء بمثال من الشعر لم نجد غيره حذاه، ذلك الشاعر هو فؤاد أفندي
حسن الخطيب أحد موظفي المعارف في حكومة السودان المصري، جاء ببدايات من
نظمه برز فيها على كثير من نهايات غيره، انتهج بالشعر العربي منهجًا جديدًا
وصدر ديوانه هذا بمقدمة في تأريخ اللغة العربية والشعر لم ينسج على منوالها
الشعراء والكتاب وإليك مثال من قوله في العتاب:
أإخواننا الأتراك مدوا لنا يدًا ... من الود إنا قد مددنا لكم يدا
أخذنا بأهداب العتاب وإنما ... أتينا به من كل ضغن مجردا
فقلتم وقلنا غير أن قلوبنا ... على العهد ترعى حرمة العهد سرمدا
وما نتقاضى ثورة دموية ... فلسنا عطاشا نطلب الدم موردا
ولكننا نرجو إخاء موطدًا ... يعز علينا أن يكون مهددا
ومن قوله في الغزل:
بعد موتي عناصر الجسم تنحل ... فيمتصها النبات طعاما
فاذكريني إذا تكللت بالزهـ ... ـر ففيه هباء جسمي أقاما
وانشقيه فإن فيه أريجًا ... عاطرًا كان في فؤادي غراما
والديوان قد طبع طبعًا حسنًا على ورق جيد بمطبعة المنار، ويباع في مكتبتها
بثلاثة قروش صحيحة، ولتلامذة المدارس العالية بقرشين.
***
(كتاب الكلية العلمانية الفرنسوية)
أهدت إلى إدارة المنار الكلية العلمانية الفرنسوية في بيروت كتابها السنوي
وفيه بيان فروعها وشروطها وقوانينها.
وهي أربع دوائر: دائرة التعليم العام، ودائرة الإعداد للمدرسة الطبية،
والدائرة الصناعية، والدائرة التجارية. وتنوي إنشاء فرع زراعي في نواحي
البقاع حيث الخصب وسعة الأرض، ولا صبغة دينية لهذه الكلية، ولعلها أول بعثة
علمية غربية جاءت إلى الشرق باسم العلم عاريًا عن اسم الدين. فإنها ذكرت أنها لا
تتعرض لدين التلامذة كما أنها لا تعارض أحدًا بدينه وربما سهلت له الطريق كما
تقول.
وقد ذكر في مقدمة كتابها هذا أن غاية هذه البعثة العلمانية إنما هي خدمة فرنسا
خارج فرنسا في مستعمراتها وفي البلاد الأجنبية ونشر لغتها ومبادئها، إلخ.
فهل يعتبر أهل البلاد ومن بيدهم زمام الأمور؟ ويعلمون بأنهم أولى من أولئك
الفرنسيين بترقية لغة البلاد وآداب الشرق، وأنهم إن لم يسبقوا إلى ذلك سبقهم القوم
العاملون، وأن إهمال المعارف واللغة والآداب مضيعة للجامعة القومية وتفريق
للعناصر الوطنية ولو أنشئ في كل بلد وكل قرية نواد باسم اتحاد العناصر أو
الاتحاد والترقي.
__________(13/634)
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
__________
مقدمة خديجة [*]
عبد الحميد الزهراوي
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر الله تعالى والثناء عليه والشكر له قبل كل شيء
دخل هذه الدار عدد لا يحصى من بني آدم بمجموعهم عمرت القرى والأمصار،
وتحركت أفلاك العلوم والأعمال، وتعاقبت أسلاك الاجتماع والأحوال، وإذا
فتحت كتب السير والتاريخ لا تجد ذكرًا لعشر من دخلها ولا لعشر عشرهم ولا
للواحد في ألف الألف منهم، فلماذا يعنى المؤرخون بهذا القليل من بني آدم ويهملون
الكثير منهم؟
ليس بعجيب ما صنع المؤرخون، فإن الأكثرين من بني آدم متشاكلو
السيرة، متشابهو الحالة والغاية، على ما بين سيرهم من التغاير، وبين أحوالهم من
التفاوت، وذلك أن حاصل أمرهم تعب وكد ومزاحمة وحيرات وحسرات في
تحصيل ما اشتهوا أو تعودوه من المطالب جل أو حقر، فماذا عسى أن يذكر
المؤرخ من حكايات هؤلاء التي يمكن أن تكتب كلها هكذا: (جاؤوا إلى هذه
الدنيا فاشتغلوا بأسباب معايشهم وعاشوا خاضعين للغالب وذهبوا غير تاركين أثرًا في
هذه الدار إلا إن كان ولدًا على شاكلتهم) .
وأما أولئك الأفراد القليلون الذين لهم بعد مماتهم وجود ظاهر بالآثار فإن في
سيرهم للتاريخ ذخرًا من غرائب الاستعداد الإنساني، وبدائع مظاهره وجلائل مآثره،
وأمثلة التفاوت بين أفراده، والارتقاء والتكامل في مجموعه، بواسطة آحاد من
جملته، بذلك يستمد التاريخ جدته كل يوم، ويأخذ المزيد لرونقه عند كل فرد وكل
قوم. وأولئك الأفراد صنوف: فرسول مبشر، وحكيم مبصر، وكاتب مفكر،
وشاعر مذكر، وفاتح مغير، ومخترع محير، وكاشف منور، وباحث مصور،
واجتماعي محور، وشرعي مقرر، ونصاح مبرر، ولساني مفسر، ومفضال
ميسر.
هؤلاء الصنوف أقطاب التاريخ على أخبارهم يدور، ومآثرهم مشرقة منها
يستمد النور، ووراءهم في الذكر يأتي من اشتهروا بخلق من الأخلاق، ومن عرفوا
في عشيرة بطيب الأعراق، ومن هنا يظهر لنا أن الشهرة ليست بشيء عند التاريخ
إذا لم تؤيد بمآثر، ولولا هذا لتعب المؤرخون في سرد أسماء كثيرة لا يستطيعون أن
يبيضوا وجوه دفاترهم بشيء من أعمال أصحابها ممن كانوا كبارًا في العيون؛ لأنهم
أبناء أماجد مثلاً وهم لم تمجد لهم همة، ولم تؤثر عنهم منقبة، ويظهر لنا أيضًا أن
إعراض التاريخ عن ذكر من لم تبهر مآثرهم هو أحسن درس في الأخلاق ألقاها
علينا المؤرخون عن عمد أو بالتصادف وذلك لأن النفوس إنما يغريها بالباقيات
الصالحات تذكار أهلها وتمداحهم، وإنما ينهنهها عن الخمول سرعة انطفاء الخاملين
وطول إشراق الباقي ذكرهم في العالمين.
نعم إن مَن لهم الباقيات الصالحات التي يبقون ويذكرون بها هم أفعل الحداة
بالنفوس وأنهض بها إلى المكرمات؛ فحكاية أحوالهم هي أفضل مآخذ الأخلاقيين
الذين يجتهدون في أن يفهموا قارئهم كيف يتكمل الإنسان وكيف يصير من الأقطاب
أقطاب التاريخ.
اللهم إني أستسقي جودك وإحسانك لأرواح المؤرخين الذين تركوا كنوزًا كثيرةً
لنفوسنا من سير الأقطاب من آبائنا، وأستغفرك عن زلة زلها أكثرهم من حيث لا
يشعرون وهي: إهمالهم كثيرًا من سير الأقطاب من أمهاتنا.
لقد علمنا أن الفرق ليس بكبير في الفطرة بين الرجل والمرأة، وليست المرأة
بمحرومة من المزايا التي يعلو قدر المتحلي بمثلها من الرجال، ذلك أننا نرى لهن
عقولاً سليمةً، وقلوبًا كريمةً وهممًا عظيمة، وهل للرجال ينابيع للمكارم غير هذه
العقول والقلوب والهمم؟ ، ونرى الأديان اعتبرت المرأة كالرجل في التكليف
بالعقيدة والعبادة والآداب، ونرى الاجتماع اعتبر المرأة كالرجل في التكليف بالعمل
وما زال نصيبها منه كبيرًا وتابعًا لتقسيم الأعمال على حسب مرتبة محيطها من العالم
ثم على حسب مرتبتها من محيطها. وهذا غير ما نعلمه من فضل بعض الفاضلات
الماضيات اللاتي تصلح سيرهن أن تكون هدى للرجال قبل النساء، ولولا تلك الزلة
التي ذكرناها للمؤرخين؛ لكان اللاتي نعلمهن أكثر وما اللاتي نعلمهن الآن من
الفاضلات بقلائل.
من هؤلاء سيدة قد سمع بفضلها العالم كله ولكن العارفين بتفاصيل فضائلها
ومزاياها قليلون، الشرق سمع بهذه السيدة والغرب، الترك يعظمون اسمها والعرب
وفارس والهند، والأفغان والسند، وفي أرض الصين تعظم، وفي الدنيا الجديدة
تكرم، وإذا فتحت دفاتر المؤرخين - عفا الله عنهم - لا تجد فيها تحت اسم هذه السيدة
الجليلة إلا كلمات يسيرة في ترجمة حالها، وشرح خلالها، ولكنا نحن شاكروهم
على هذه الكلمات التي يملأ سناها العقول والقلوب فتهتدي بها على قلتها إلى عظيم
أمرها كما يدرك المبحرون عظمة المنار إذا كانت أشعته عظيمة السطوع.
ولقد كنت تفكرت في أن أكافئ والدتي بعض المكافأة فتبينت بعد طول
التفكير أن عظيم فضلها عليَّ هو أبعد من أن يوفى شيء من حقه ولكن تراءى لي أنه
يسرها أن أعلن للملأ فضل جنسها وأذكرهم بما نسوه من احترام حقوق هذا الجنس.
ولم أجد أحسن طريقة إلى هذه الغاية الجليلة من شرح سيرة هذه السيدة التي هي
إحدى جدَّاتها.
فمن مدد تلك الكلمات القليلة التي تركها لنا المؤرخون في ترجمة حال هذه
السيدة أؤلف هذه القصة الحقيقية، وإلى روح والدتي أرفعها هدية على راحة
خشوعي وضعفي، ومن خزائن رحمة الله ورضوانه أستنزل تحية طيبة مباركة
لهذه الروح البارة.
ومن راقه هذا المؤلف الصغير وحصلت له به لذة وفائدة؛ فلي حق أن أرجوه
شيئًا، ولا أرجوه إلا أن يكون مساعدًا في إقامة حقوق المرأة وكرامتها وآدابها. إن
النساء أمهاتنا معشر الرجال وعلى حسب تربيتهن نكون، فلنطلب من محيطنا أن يهذب بالعلم الأمهات، ويسعى لترقية مداركهن وآدابهن.
__________
(*) بقلم السيد عبد الحميد الزهراوي مؤلف سيرة السيدة خديجة.(13/636)
رمضان - 1328هـ
أكتوبر - 1910م(13/)
الكاتب: عن كتاب العلم الشامخ
__________
بحث في الخلاف [*]
ولنوضح لك صورة من كثير صور من شطارة أهل وقتنا الذين هم كما ذكرنا
خير الناس [1] سيرة اليوم فيما علمنا وكيفية تصرفهم فإنه إنما تعد معائب من غلبت
عليه مناقبه.
(كفى المرء نبلاً أن تعد معائبه)
وضعوا عن زكاة الغنم على كل شاة أربعة دراهم من ضَرْبهم وستسمع الآن
قدرها فتؤخذ على مئتي شاة مثلا ثمان مئة درهم مع أن الواجب شاتان ولم يكونوا
قَبْلُ يعتدّون بنصاب الشاة والبقر ثم ذكروا النصاب لكن تؤخذ قيمة نحو ما ذكر
كالمتعينة لا من عين المال وهذا حق المال الشرعي بزعمهم ولا ندري بأي وجه
تعين ما ذكر من الصورتين ولا كيف تكون الثالثة وكثير من المآخذ له نحو ذلك من
المداخل هذا ما سمعنا في بعض الجهات ويزيد قليلا وينقص كذلك في بعض الجهات
والمقصود التقريب.
هذا حين يريدون الأخذ وأما حين يريدون إنصاف المظلوم من الظالم فيأمرون
بأخذ الدية ألف حرف والحرف عبارة عن أربعين درهمًا في ضربهم وهي تخرج
الدية تقريبًا من الذهب مئة دينار وستين أو سبعين دينارًا فيسقطون نحو أربعة
أخماس الدية، وعلى هذا فَقِس حال خير الناس الذين يجب شكر الله على أن أنعم بهم
نظرًا إلى سائر الأرض، وسألت بعض قضاتهم حسن الخيمي ما هذه الدية التي
تحكمون فيها؟ فقال: قال الإمام: يعني المتوكل إسماعيل بن القاسم إمام العصر:
تكون هذه الدراهم قيمة عن نوع آخر من أنواع الدية يعني لأن أنواعها عندهم كلها
أصول من أهل الإبل والذهب وغيرها على السواء ويخير الجاني عندهم أيضًا،
فقلت للقاضي: تعال ننظر في قيمة تلك الأنواع فنظرنا فما رأيناها إلا متقاربة بالنظر
إلى الأرض التي كنا فيها صنعاء وما والاه وعلى الجملة فإنما ذلك الجواب ترميم
والمسألة مائلة عن السنن كأخواتها في جميع الفرق إنما الغرض التمسك
للتنبيه.
صورة أخرى قليل نَفْعُها لهم كثير ضررها بل بليّة عظيمة على جميع الناس
في وقتنا هذا ضَرْبة فضة من عمل الكفار يسمَّى القروش فأخذت هذه الدولة منها
وضربتها دراهم وخلطوا فيها نحاسًا نحو الربع تقريبًا ليكثر عدده فيربحوا بزعمهم
ذلك القدر الزائد وهي سُنّة اقتدوا بها عن من مضى من الأتراك وغيرهم الذين
يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، لكن لم تر الناس إذ ذاك
المصارفة وزنا لأنه لا يصلح لهم بيع الفضة بالنحاس وهو ربا أيضًا فصارت
الضربة كسائر السلع يرتفع عنها تارة وينخفض أخرى ويبيعون الدراهم بالقروش
بالعد لا بالوزن ففعلوا هذا الباطل وهم يعلمون حين دَعَتْهم الضرورة إلى الصرف ثم
نهاهم الإمام عن الصرف مع إصراره على الضربة وشدة حاجتهم إلى المُصَارفة
فكان عملهم معهم كما قال:
أَلقاه في اليمّ مكتوفًا وقال له ... إياك إياك أن تَبتلّ بالماء
ومن مفاسد الخلاف استحلال الأعراض وهو واضح فانظر ما في هذه
المصنفات من العياط والهتور والتكفير بلا دليل، حتى إن الأشاعرة أصلوا أنه لا
يُكفّر أحد من أهل القبلة وإنما الكفر البواح ولا كفر بالتأويل ثم تجد في تضاعيف
كُتبهم المناقضة وكذلك الماتريديّة في كلام إمامهم الأعظم أن لا يُكفَّر أحد من أهل
القبلة، ولم أر التكفير أسهل على أحد ولا أكثر منه في متأخري الحنفية كأنهم
يكفرون بكل إلزام ولو في غاية الغموض، ومنع بعض الناس قريبًا من بعض
مُتفقِّهتهم نعله فقال: كفرت لأنك هوَّنت العلماء وهو تهوين للشريعة ثم للرسول ثم
المرسل ونحو هذا يفعلون في كل شيء، وفعل بعضهم شيئًا من مُنْكرات الدولة فقال
المظلوم: هذا ظلم وحاشى السلطان من الأمر والرضى به، فقال أنا خادم الدولة
المنتمية إلى السلطان فقد نسبت الظلم إلى السلطان فهوَّنْتَ ما عظَّمَتْ الشريعة من
أمر السلطان فكفرت فأخذوه وجاءوا به إلى القاضي وحكم عليه بالردة ثم جدد إسلامه
وفعل ما يترتب على ذلك، وهاتان الحكايتان في مكة عصرنا مجرد مثال ولا تزال
ألسنتهم رطبة بذلك وهو في رسائل المتأخرين وفتاويهم وسائر كتبهم وهي عظيمة
هونها عموم الجهل وكساد الإنصاف، ونَفاق النِّفاق والاعتساف، نسأل الله حسن
الخاتمة لنا ولجميع أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم رأيت كتاب التمهيد لأبي شكور السالمي من الحنفية وإذا هو لم يكد يسلم منه
أحد من التكفير لأن من أول الكتاب ... إلخ، يقول: قال أهل السُّنة والجماعة كذا،
وقالت الأشاعرة، وقالت الفلانية ولا يزال يحكم بالكفر، كقوله قال أهل السنة
والجماعة إن الله تعالى لم يزل كان خالقًا [2] موصوفًا بهذه الصفة وقالت الأشعرية
والكرامية: ما لم يَخْلق الخلق لم يكن خالقًا وهذا كفر. انتهى صورة لفظه ومن العجب
أن يسمي نفسه أهل السنة والجماعة في كل محل ثم يعد أفراد الفرق الذين يتسمون
بذلك كالأشعريه وغيرهم، وغيره لم يبلغ هذا الحد بل يقع منهم ذلك نادرًا يقول
بعض الأشاعرة: قال أهل السنة وخالفت الماتريدية أو الحنابلة أو نحو ذلك على أن
ذلك شائع باعتبار التسمية بذلك إنما اخترعها صاحبها ولم يوافقه عليها الخصم ولكل
أن يدَّعي (ولَيْلَى لا تقرّ لهم بذاكا) وهذا المذكور لا أدري ما أقول فيه فإنه يحكى
الأقوال ويجيء بما لا يوجد في أي كتاب ولا هو مما يتركب على الناقل ولا هو
نادر وأما المعتزلة فإنما مدلول المعتزلي عنده من يصح أن ينسب إليه كلما ألقته
الشياطين، أو جالت به وساوس المجانين، فلْيُطالع وعلى الجملة فإكثار الاطلاع
سيما على الكتب المشهورة في كل فرقة يزيد المهتدي بصيرة وطمأنينة في الهدى مع
التوفيق والتسديد، وإخلاص النية للعزيز الحميد.
وأما المعتزلة فهم فريقان وليسوا كلهم يُكَفِّرون بالتأويل كما تراه في كتب
الأشاعرة ولكن صار كل من الفرق يحكى الشر عن مخالفه ويكتم الخير بل يروي
الكذب والبَهْت كما قدمنا وكما تذكر الأشاعرة أن المعتزلة تنكر عذاب القبر ترى ذلك
فاشيًا بينهم حتى القُشيري في التخيير شَرَح الأسماء الحسنى وكأنه استند في ذلك إلى
الكشف، وأما النقل فباطل وهو شبيه قذف الغافلات فإن المعتزلة لا يكاد يظن قائلا
يقول هذا إلا شذوذًا مثل المِرِّيسِيّ وضرار وهما بيت الغرائب مع أن ضرارًا ليس
من المعتزلة في روايتهم لأنهم رَوَوْا عنه القول بالرواية بحاسة سادسة ورووا عنه
القول بخلق الأفعال وأنه رجع عن الاعتزال بسبب شبهة أن يكون فِعْل العبد أَشْرَف
من فعل الله تعالى وعلى الجملة فليس شذوذ عن الفريقين بغريب وإنما المنكر إلزام
المعتزلة قوله وإنما هذه المسألة كسائر المسائل بل لا بد فيها من شذوذ كشذوذات
العنبري والظاهرية وهذا شيء كبير يطالعك عليه كتب المقالات ودَعْ عنك
المتكلمين.
ومن المضحكات عند المحدثين أنهم ينقمون على أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب رضي الله عنه حتى يُجرِّحون من يقول ودَّ أنه معه في كل المواطن كشُرَيْك
القاضي ومن لا يحصى [3] ثم تراهم يفتون بكفر من لا يساعدهم على نوادر ما عليها
معرَّج ويرون ما المعلوم خلافه لكل من عرف ذلك بلا حياء كما حَكَى الذهبي أن
ابن دِحْيَة قال في يحيى بن نعمان: ضالّ مضلّ عَجَّزَ الله وقال: (نحن أقدر منه)
وهو قول القدرية جميعهم وهذه الجملة الأخرى الظاهر أنها من قول ابن دِحْيَة
ويحتمل أنها من قول الذهبي مع أنه لم يعترضها ومن قال: إنه أََقْدَر من الله فهو كافر
تصريح لا من باب التأويل، ونحو هذا ما حُكي في ترجمة عمر بن إبراهيم العلوي
أنه جاروديّ لا يرى الغُسْل من الجنابة فلو صدق لكان قد أنكر ضروريًّا من الدين
ولم يعاملوه بذلك وكلماتهم متناقضة إذا تكلموا في غير فنهم وهكذا كل دخيل وليس
لهم في ذلك العناية مع أن قوله جاروديّ لا يرى الغُسْل من الجنابة يفهم من هذه
العبارة أنها وصف كل من كان جاروديّا فيتسع الخَرْق على الراقع، وكما مضى ذكره
من قولهم من قال: إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى فهو كافر وغير ذلك، وكمن
قال في صالح بن حي ذاك الأواه: إنه قد استَصْلَبَ منذ زمان ولم يجد من يصلبه يعني
لأنه يرى الخروج على أهل الجور كرأي الحسين بن علي ثم حفيده زيد بن علي
ومن تبعهم من الزيدية بل وابن الزبير ومن تابعه من فضلاء الصحابة والتابعين بل
طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم إلا أن خطأهم كان واضحًا لأن إمامهم لم
يكن يتشبث به الريب ولقد كانوا فتنة لهذه الأمة كما قال عمار رضي الله عنه:
(واللهِ إنها لزَوجة نبيكم في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتلاكم بها ليعلم إياه تطيعون أم
هي) فرضي الله عنها وعن طلحة والزبير وعن علي ومن هو من ذلك القَبِيل
كالحسين السِّبْط وزيد بن علي وأبعد الله مَرْوَان وابن جرموز، وابن ملجم والحجاج
ويزيد وابن زياد ومن هو من ذلك القَبِيل أميرهم ومأمورهم. ولعَمْري لمقاصد
أئمة الزيدية في قيامها وسيرها أشبه بالصالحين من السلف لولا دَغَل من الهوى
وغلو فيما يعود على الرياسة وداؤها كمين ما يظهر إلا بعد أن يستحكم وبعد
الاستحكام لا يمكن علاجه كالكلب ولقد دخل داؤها في كل ذي مقصد حتى في الوعَّاظ
الذين رأس مالهم التحذير من الدنيا التي قُطْبها الرياسة، فتيقظْ من الأحوال لما ذكرنا
وغير ما ذكرنا مما يطلعك عليه كتب الجرح والتعديل وكتب السير والأخبار
والحكايات والآثار مع التيقظ في كل باب لزواياه وخباياه.
وليْتهم شفاهم ما في الكتب أعني المختلفين حتى يختص هذه المفاسد من له
اطلاع على الكتب ويسلم مِن ذلك العامة.
ولكن استولى عليهم الشر فصاروا يكررونه على المنابر كل جمعة كأنه
الذي وصّاهم الله بالتذكير به لينفعوا المؤمنين وأمرهم بالسعي إليه فالخارجي يلعن
أمير المؤمنين والرافضي يلعن الخلفاء الراشدين والسُّنِّيّ يسب الشيعي والشيعي يسب
الباغي والجبري وهذه سنة سنية سنّها مَن سنّها في سب علي رضي الله عنه فيالها من
شنيعة ما أخزاها، وفضيحة عمّ بلاها، ولولا أَنْ عَمَّهم الوهن في دينهم لقام أهل كل
جامع حين سمعوها والعجب ممن يُحْسِن الآن لواضعها كأنه يريد أن يشارك فيها
لما تأخر عن وقتها فأخزى الله المحاباة في الدين، والضِّنَّة بالأنفس والأموال والبنين،
ولقد ضاهت هذه الأمة أهل الكتابَيْنِ في قولهم {وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى
عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ} (البقرة: 113) وبعضهم يقول في بعض فوق ما ذكرنا والإنصاف أن الحق لم
يخرج عن أيديهم جميعًا والحمد لله فعند كلهم كل الحق، وكل قد ابتدع وإن اختلف
قلة وكثرة وصغرا وكبرا ومن يطلب الحق وقد هيَّأه الله ويسَّره يعرف هذا من ذلك
{فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) .
ومن مفاسد الخلاف سدّ باب الجهاد لأعداء الإسلام مع أنه فرض كفاية وهو
سَنام الدين، ولا انقطاع له إلى يوم الدين ولما استحكمت العداوة بين فرق المسلمين
تركوا الكفار وصرفوا هممهم في حرب بعضهم بعضا، وإنما استحكم ذلك من حين
استحكم التفريق وصاروا أجنادًا مجنَّدة وقد كان في الدولتين حين كان السلطان واحدًا
جهاد الكفار مستمرًّا مع عدم استقامة الخلفاء على الحق، ولكن كم بين تلك الأحوال
وهذه الأحوال لو يستطيع أحدهم اليوم أن يستعين على خصمه من المسلمين بالكفار
لَفَعَلَ [4] وليتهم تصالحوا على أن يأمن بعضهم بعضا ويشتغل كل منهم بمن يليه من
الكفار ويستعين بعضهم ببعض ولكن ذاك لو كان المراد مطلوب الله منهم ولو اتبعوه
لكانت يدهم واحدة كما قدمنا، نعم مَنْ اتصلَتْ مملكته بالكفار حفظها منهم كحفظه من
مخالفه المسلم وهذا نوع من الجهاد ولكن المطلوب صرف هِمم المسلمين لحرب
الكفار والغزو وإن لم يخشوهم إلا من باب حفظ الملك ولكن عداوة في الله ولتكون
كلمة الله هي العليا في جميع أرضه وهذا هو الفرض الذي لا يَسُوغ الاجتماع على
تركه.
ومن مفاسد الخلاف سدّ باب التفقُّه في الدين ومعرفة الكتاب والسنة حتى
صار المتشوِّف لذلك مُتَّفقًا على جنونه وخذلانه عندهم ويصرحون أن الاجتهاد قد
استحال منذ زمان، وإنما دسَّ لهم الشيطان ذلك لأنه لو بقي الباب مفتوحًا لوقع
لمتأخري المجتهدين أن يوافقوا هذا في مسألة وذاك في أخرى ويصير لبعضهم أتباع
فينتقض عليهم استقرار المذاهب ويختلط الأمر حتى يعود كما كان في وقت الصحابة
رضي الله عنهم، وهذا يقرر مَغْزَى الشيطان لعنه الله تعالى قد دس لهم ذلك.
ومن لم يصرح بذلك فعَمَلُهُ عليه تراه يدأب أكثر عمره في العربية وأصول
الأدلة ومعرفة الحديث ثم إذا صار مدرسًا متمكنًا في تلك الفنون أخذ في كتب التفاريع
المدونة من الباب الذي دخله الجاهل بتلك الفنون وكأن الكتاب والسُّنة مع هذه التفاريع
أجنبية لا تتراءى نيرانهما ولو نظر في شيء من الأدلة ووقع في نفسه شيء ما ينبغي
أن ينظر فيه لَمَا قدر على التظاهر بذلك لأنهم يقومون عليه ويردون ما جاء به بلسان
واحد ويقولون هذا يَنْقِم على الأئمة ويخالفهم يرى نفسه خيرًا منهم، وأقل أحواله معهم
أن يسقط جَاهُهُ عندهم وحرموه هذه الأرزاق وإن كان له ضدّ منافس قد يسعى به
إلى الدولة يقضون فيه على حسب ما يقضي الهوى في القضية حتى إن السُّبْكيَّ ذكر
أنه نظر في مسألة السماع فرآها حلالاً ثم قال: الحمد لله الذي جعلنا من مقلدي إمام
إذا تاقت نفوسنا للنظر في مسألة لم تقع إلا على قوله فانظر هذه الكلية التي تدل على
عراقة هذه التحرير في الكمال والدين.
وكذلك ذكر أن الذين بلغوا درجة الاجتهاد من علماء الشافعية مع عدم المخالفة
ليسوا بمقلِّدة إنما وافق اجتهادهم اجتهاده، قال: ولا يخرجهم ذلك عن الانتساب إلى
الشافعي فانظر طبقات المذكور ترى فيها العجائب ومن فعل نحو فعله صار وجيهًا
عند أهل ذلك المذهب في حياته وبعد موته وأما من قال: أنا أتَّبع هذه الآية وهذه
السنة وإن خالفت الإمام فذلك المتخبِّط المدعي الذي لا يُرْفع إلى كلامه رأس
بل يُنهى عنه وعن كتبه وهذا في جميع هذه الأحزاب المحزَّبة فصار الباب مغلقًا،
حتى صار المعروف منكرًا، وذِكْر التعلق بالكتاب والسُّنة وترك المذاهب المنبوذة
كالزندقة عندهم خلا أنهم لا يقولون الكتاب والسنة هو الضلال خشية أن يكون كفرًا
بواحًا ولكن يقولون قد انسد باب معرفتهما وما عرفوا أنه إذا انسد باب معرفتهما فقد
سقطت حجتهما فوجودهما وعدمهما على السواء ولكنهم لا يعبؤون بهذا، ويقولون قد
أخذ ثمرتهما الأئمة وفعلوا ما يجب فالحجة اليوم كلامهم لا غير، وصارت تلاوة
الكتاب مجرد تعبد والحذر أن يتدبره التالي فيخالف الأئمة فيضل وكذلك السنة إلا أن
قراءتها بركة وربما يتحصل لهم بذلك مراتب دنيوية ووجه في الناس وإلا كان فعلهم
مجرد عبث.
وهذا الذي وصفناه من يظن ولم يعرف حال الناس ما يسوغ له أن يقع هذا أبدا
ومن عرفهم علمه ضرورة فذِكْرنا لنحو هذا مجرد إنكار فمن يجهله لا يصدقه في
علماء الإسلام الذين طبَّقوا الأرض ومن يعرفه يقول وما ثمرة هذا الهذيان؟ وهيهات
ليس الشأن في معرفة ذلك من أحوالهم إنما الشأن في السلامة من الوقوع معهم فإنا
رأينا الفضلاء فعلوا كما ذكره صاحب (كليلة ودمنة) من شأن السلطان ووزيره في
(شرب الماء) فهذا هو سدّ باب التفقه في دين الله لأن دين الله الكتاب والسنة والفقيه
إنما هو من عرفهما وأما معرفة هذه التفاريع فمجرد استغناء عن عين الحكم فالمسمى
بالمفتي والحرَّاث والسوقة سواء إذ أولئك لا يخلون من أحكام قد قلدوا فيها فما زاد
عليهم هذا المفتي إلا بكثرة الصور التي جمعها وليست من الفقه في كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم في شيء ألا تراه معترفًا أنه لا يقدر على معرفة النسبة
بين ما عنده وبين الكتاب والسنة.
وأعجب مما ذكر أنهم جروا على هذا النمط فيما بين المتقدم والمتأخر
فيعتبرون المتأخر ويطرحون المتقدم عصرًا فعصرا إلى يومنا هذا مثلاً لو قال
المنتسب إلى الشافعي من الطلبة قال الشافعي لسخروا منه وقالوا يرى نفسه أهلاً
لمعرفة قول الشافعي [5] بل لو قال قال الرافعي وإنما المصرية منهم اليوم مقصورون
على (الرملي) يقولون لا يجوز الإفتاء بغير قوله، ويقولون أخذ علينا العهد بذلك،
لا ندري أي الأباليس أخذ عليهم ذلك لكنا سمعنا ذلك منهم، وأهل مكة يقولون لا
نعدل بقول ابن حجر الهَيْتَميّ فصار شأن العلماء المتقدمين وكتبهم كشأن الكِتَاب
والسُنَّة، ولذا ترى تلك الكتب مهجورة. لقد وجدتُ في باب السلام أربعة عشر مجلدة
عرضها صاحبها بثمن مجلدة صغيرة من المحظية مع أن في تلك مثل (العزيز)
شرح الوجيز، ثم لم تَنْفُق وأرجعها الدلال لصاحبها وهذا في الشافعية آكد منه في
غيرهم وكل قد فعله حتى سمعنا من بعض الطلبة أنه لا يجوز العمل على قول
المتقدِّم لأن المتأخر قد ميز الصواب من الخطأ.
ونقول لهم لو خلقكم الله سبحانه في العصر المتقدم عليكم وأنتم على الحال
الذي أنتم عليه الآن أكانت حجة الله عليكم قائمة عليكم؟ فلا تراهم يجيبون إلا بنعم
فنقول ننتقل معكم إلى العصر الذي قبل كذلك حتى نبلغ إلى عصر الصحابة ثم إلى
عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيعترفون بالحق ويصرون إلى ذلك الحال
المألوف بمجرد الهوى وكأنه لم يسمع، وكأنك لم تقل، ونقول لهم هل المتأخر
أفضل من المتقدم حتى رجحتم اتباعه؟ فيقولون: بل المتقدم أفضل، فنقول فقد
عدلتم عن الأفضل، وقد يقول أحدهم إنما هو استقصار لنظرنا عن معرفة قول
الأول فنقول لا فرق بين كتاب وكتاب وليس من اللازم أن المتأخر أجلى بيانًا
وأوضح عبارة وبرهانًا بل لا يزالون مختلفين وكلام الله ورسوله أصح وأوضح،
وأجلّ وأجلى وأشرح، وإذا بلغ عجزكم إلى ما ذكرتم قلنا يا أغبى الناس، وأدناهم،
ثم لا نسلم لكم معرفة كلام أحدث المصنفين، ولا كلام أشياخكم المدرسين، على قدر
ما اعترفتم به على نفوسكم من سوء الحال، وسقوط الشأن وضيق المجال، فاتقوا
الله في هذه الصحف والأقلام، والمساجد التي صدعتموها بالخصام، ولكم بباقل
أسوة في شعره، فلقد كان أعرف منكم لقدره، حيث يقول مترجما عن عذره
يلومون في حمقه باقلا ... وللصَّمْت أجدر بالأموق
خروج اللسان ومد البنان ... أحب إلينا من المنطق
وهذا باعتبار شبيه قول الإمامية: غير المعصوم يجوز عليه الخطأ، قلت
لبعضهم: فهل المعصوم حاضر أبدًا عنه المكلف لكلما عرض عليه كي يصونه عن
الخطأ؟ قال: لا بل لا بد من واسطة غير معصوم، قلت: فإذًا ذلك مسلم
والمعصوم موجود هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يدل هذا الدليل مع تسلميه
إلا على معصوم واحد لا على ثلاثة عشر معصومًا فانقطع ويناسب هذا المحلّ قولي:
بَرئتُ من التمْذهُب طول عمري ... وآثرتُ الكتاب على الصِّحاب
ولي في سُنّة المختار صلى ... عليه الله ما يشفي التهاني
ومالي والتمذْهُب وَهْوَ شيء ... يروح لدى المُماري والمُحابي
وأما مَن يريد الحق صرْفًا ... ويُوجِل قلبه ذِكْر العقاب
ويرجو حسن عُقْباه إذا ما ... تميَّزت المنازل في الثواب
وفيه هِمّة عاقت وتاقت ... سقوط الشأن أو حسن المآب
وقد رُزق الحياء فلا يسوّي ... برب العالمين بني التراب
فلا والله لا يرضى صنيعًا ... أباه كل مَنْ تحت السحاب
لئن أبقى الإلهُ لهم صوابا ... لقد ضلّوا كثيرا عن صواب
رضيتُ لهم من الوجه الذي لم ... يخلّ من الشريعة بالنِّصاب
وأثري من سوى هذا فإني ... أرى إنصافهم شَيْب الغراب
لعَمْري إنما حاولت أمرًا ... بعيدًا عن شكوك وارتياب
ولكن حبهم حَلْوى هواهم ... أذاقهم الإصابة طعم صاب
فلم تر من يسدد سهمه في ... حيال الحق في رجع الجواب
وغاية أمرهم لَغَط وبَهْت ... ورفض للمروءة والعتاب
يقولون ادعى أمرًا عظيمًا ... يكاد لديهم يدعى بصابي
وقالوا ليس يعرف من إمام ... مقامًا وَهْوَ للإنصاف آبي
لئن كنتم غَلَوْتم في إمام ... وما هبتم مفارقة الكتاب
تبرّضْتم ثِمادا ثم قلتم ... تجنّبْ وارد البحر العُباب
وقلتم قد حُجِبتم أن تنالوا ... بدون إمامكم فَهْم الخطاب
فمن ذا بالفلاح أحق منا ... ولم يُر دون فهم من حجاب
وقلنا حُجة الرحمن فينا ... إلى يوم القيامة والحساب
ولو لم يخلق النعمان أو مَنْ ... يضاهيه من العُلَما النِّجاب
ولكن ذا الكتاب وذا حديث من ... النبي وذا اللسان بلا استراب
ويستفتي الذي قصرت يداه ... بغير تحزب وبلا انتساب
كأعراب زمان الصحب كانوا ... وأعلام سُقُوا صَفْوَ الشراب
ومن مفاسد الخلاف ترك الجمعة والجماعة وهما من شعار الإسلام أما الجمعة
فلكثرة التحكم في شرائطها وإنما هي صلاة من الصلوات أقرب ما يشترط فيها اتحاد
الجماعة لأنها شرعت لاجتماع المسلمين في هذا اليوم وكانوا يعطلون مساجد
الجماعات لها وهذا أمر فرضي في مصر اليوم يصلون في المساجد بلا تقيد بقيد
حتى أن الشافعية يصلون الجمعة ثم يصلون الظهر على الإطلاق ورأيت مصريًّا
في مكة فرغ من الجمعة ثم قام فصلى الظهر فقلت ما هذا فقال: أنا شافعي مذهبنا
نصلي الجمعة ثم نصلي الظهر فقلت: لعل ذاك في مصر لتعدد الجمع على غير شرط
التعدد وهاهنا ليس إلا جمعة واحدة فاستفاق فليت شعري لِمَ لَمْ يصلوا الجمعة في مكة
أربع مرات كسائر الصلوات نظرًا إلى أساليبهم المخترعة ولعل ذلك يكون بعدُ إن
تمادى نزول عيسى عليه الصلاة والسلام فتساهلوا في هذا الأمر الواضح وحافظوا
على ما ليس كذلك كاشتراط إمام عادل كزعم بعضهم أعني السلطان أو اشتراطه
ولو جائرًا أو اشتراط أربعين أو مِصْر جامع أو نحو ذلك مما اتفق وقوعه في
زمنه صلى الله عليه وآله وسلم من دون دليل على الاشتراط وهذه أمور مطولة في
الفروع والمقصود أن الخلاف هو الذي عطل الجمعة ولم يكن ذلك في عصر
الصحابة رضي الله عنهم ولقد صلوا خلف الحجاج ولله دَرُّ عثمان رضي الله عنه
وأرضاه وقد قيل له: أنت إمامنا ويصلي للناس اليوم إمام بدعة؟ يعني أيام حصره
فقال رضي الله عنه خيار أعمالهم الصلاة إن لم يقتدوا بهم فيها فبم يقتدون؟ أو كما قال رضي الله عنه.
ولقد غَلَتْ الزيدية حتى حرموا حضور صلاة الجمعة في بلد السلطان الذي
ليس على شرطهم وقالوا لا تصح الصلاة ويعيد الظهر بل قال قائلهم: ويُنْقض وضوء
الخطيب للمعصية لأن بعض المعاصي عندهم ينقض الوضوء وما شئت من غلو.
وكذا اشتراط الأربعين عند الشافعية وتراهم في البلدان الصغار يَعدّون الجماعة
كما يعدُّ الغنم، شيء لم يؤنس في السلف ولا متشبث إلا آثار ضعيفة وتركت
الجماعة لذلك في غير المجامع الكبار ولم يكن شيء مما تشبثوا به يصلح لتخصيص
كتاب الله تعالى وأعجب منه اشتراط المسجد مطلق أو المسقَّف كقول المالكية
وسائر شرائطها مما ينبئك ويلزمك إن كنت ذا همة أن لا تعدل بكتاب الله وسُنة
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومما يصلح مقصدًا للمتمكن أن يَجْمع ما وَضَحَ أنه بدعة في الفروع في كل
فرقة فينجِّي من ذلك التصنيف الكثير وما باب من أبواب الفقه إلا تعصبوا فيه أو لم
يتعصبوا لكن بنوا على أصل منهار ثم فرعوا فروعًا وطال الدليل إلى أن تصير تلك
الفروع - سِيَّمَا الأبْعَدُ - إلا نزل في عداد الأجنبية ثم لم يلتفتوا إلى النظر في
الأصل المبني عليه فإنه لو كان صحيحًا ما أدى إلى الأمور المستشنعة لكن يصممون
إلى أن يخرج أحدهم عن الجماعة ويخرج خصمه في الباب الآخر تحقيقًا لشر
الخلاف وإظهارًا لعظم المفاسد فيما نهى الله سبحانه عنه ويراها مسألة فرعية سهلة
ويقولون مسائل الاجتهاد أمرها هيِّن إنما الشأن في العقائد وهذا من اصطلاحاتهم
وربما تكون تلك العقيدة التي رفعوا شأنها ليست من الدين لا إثباتًا ولا نفيًا ولا
يظهر لها مفسدة وتلك الفرعية السهلة قد صارت مفسدتها من أعظم المفاسد وهاك مثالا من ذلك.
فمما استعظموه من العقائد أن الإنسان إذا أراد أن يكلم زيدًا وجد لنفسه حالة لم
يكن قبل إرادة التكلم ولا بعدها وهذا القدر متفق عليه فقالت الأشاعرة: هذه حالة
مستقلة فينا وهي في البارئ صفة مستقلَّة كذلك ونسميها الكلام ثم نعبر عنها بالألفاظ،
وقالت المعتزلة: الذي يجده الإنسان إنما يرجع إلى علمه بمعنى ما سيكلم به زيدًا
وترتيب اللفظ الدال عليه مع علمه بالقدرة على ذلك وإرادة التكليم فليس ما نجده
بصفة مستقلة ومدلول كلَّم وتكلّم في اللغة فعل الكلام والتكلم وهو اللفظ فقط وإطلاقه
على ما في النفس مجاز، فقط كسائر الملكات فلا صفة للبارئ تعالى نفسية تسمى
كلامًا إنما كلامه فعله فمعنى تكلم خلق الكلام في جسم من الأجسام وإنما قالوا في جسم
لأن الكلام عَرَض لا بد له من محل والبارئ تعالى ليس محلاًّ للأعراض فتعيَّن اشتراط
المحل عندهم والكلام على هذه الصفة في البارئ تعالى وغيره من
فضول الكلام ومعنى تكلم في اللغة معروف فلنقتصر عليه لا سيما في حق البارئ
تعالى، ونقول تكلم حقيقة لغوية ولم يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم على غير هذا
فانظر هذا الذي طبق الأقطار هل هو من الدين في شيء إن كنت ممن جعله الله أهلاً
لذلك.
__________
(*) نقلا عن كتاب العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ.
(1) يريد الزيدية.
(2) يوشك أن يكون أصل العبارة أن الله تعالى كان في الأزل ولم يزل كما كان خالقًا، إلخ.
(3) تقدم قريبا كلام الذهبي في الجرح بالتشيع وأن المراد به إذا بلغ الخط على الشيخين فتكرير المصنف رحمه الله لمثل هذا عنهم داخل في قوله ومن مفاسد الخلاف استحلال الأعراض فالمحدثون أتقى لله من مثل هذا فهم الذين رَوَوْا أن حب علي رضي الله عنه علامة الإيمان وبغضه علامة النفاق فكيف يرضون لأنفسهم بالنفاق الذي صاحِبُه في الدرْك الأسفل من النار فليس هذا إنصاف لهم من المصنف رحمه الله اهـ من هامش الأصل.
(4) إنهم قد استطاعوا وفعلوا والأَوْلى أن لا نعيد ذكر ذلك ونحن نسعى في تلافيه.
(5) طبع في هذه الأيام كتاب (الأم) للإمام الشافعي وبهامشه رسالته في الأصول مختصر المزني فقال بعض علماء الشافعية في مصر والحجاز إن طبع هذا الكتاب مفسد للمذهب وفيه ضرر عظيم وهم ينهون عنه وينأون عنه، فرحم الله المصنف وكل عالم مستقل اهـ مصححه.(13/665)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الفسق العلني والدستور [*]
حدثنا غير واحد من الفضلاء الذين جاؤوا العاصمة من طرابلس الشام أن
بعض سماسرة الفسق جاءها بثُلَّة من النساء الروميات العاهرات اللواتي يتَّجِرْن
بأعراضهن فأنشأن يرقصن كل ليلة في بعض الملاهي وهن في هيئة منكرة من التبذل
والتبرج والتهتك تغري من رآها بالفسق ثم يعدْنَ إلى منازلهن وقد جذبن إليهن من
جذبن من الفسَّاق يختلفون إليهن جهرًا فيبذلون لهن أموالهم وصحتهم وشرفهم ودينهم
ويخرجون حاملين منهن جراثيم داء الزهري (الحب الإفرنجي) وسُمّه القتال المعدي
فيلقونه في بيوتهم وبيوت من يؤاكلونهم ويشاربونهم حتى إن الدكتور ماريا أحد أطباء
البلد المشهورين قال لبعض محدثينا: إنه عرض عليه كثيرون من المصابين بهذا الداء
بعد استقرار هؤلاء العاهرات في طرابلس وكان ذلك نادر الوقوع فيها فكم يكون
عدد الذين عُرِضوا على غيره وعدد الذين لم يعرضوا على الأطباء لجهلهم وإهمالهم.
وأخبرنا أولئك المخبرون أن علماء طرابلس وأهل الدين والشرف فيها حرجت
صدورهم واضطربت قلوبهم وضاقت عليهم نفوسهم وشكَوْا الأمر إلى حكومته فلم
تُشْكِهم ولا أجابتهم إلى إزالة المنكر القبيح الذي لم تتعوّده بلدتهم، وظن الجماهير من
الناس أن المجاهرة بالفسق من لوازم الحكومة الدستورية فهو بلاء واقع ما له من دافع
لأن رجال الدستور هم الذين يحمونه، وأطلعني أحد هؤلاء على كتاب جاءه من
صديق له وكلاهما من مستخدمي الحكومة وأعضاء جمعية الاتحاد والترقي يقول فيه
إن عدد الارتجاعيين يكاد ينمو ويزداد في طرابلس وقاها الله وسائر البلاد من شر
الارتجاع وأهله، وسنبين لهم بالبرهان خطأهم في سوء ظنهم هذا بالدستور ورجاله.
إن طرابلس الشام قد امتازت منذ القرون الماضية والأيام الخالية بمزايا قلما
توجد بلدة في الدنيا تفوقها أو تضارعها فيها وهي المحافظة على شعائر الدين وآدابه
الاجتماعية، والخلوّ من مَواخِير الفسق ولو سرية، وحانات السكر العلنية، وبيوت
القمار الخصوصية، ولا أذكر أنني رأيت في السنين التي عشتها فيها أحدًا من
السكارى إلا رَجُلين أحدهما زنجي كبير السن كان يجول في حارة النصارى فيتجمع
له الصبيان يعبثون به ويسخرون منه، وقد اعتاد السكر في خدمته لبعض النصارى
في أيام شبابه، والثاني شاب من أولاد الصناع كان يشرب سرًّا وربما خرج مترنحًا
ثملاً فكان لافتًا لأعناق الناظرين المتعجبين، ومحرِّكًا لألسنة المحوقلين
والمسترجعين، وأذكر أمر مدرعة فرنسية وقفت في ميناء طرابلس فخرج بعض
ضباطها إلى البلد فجعل يجول فيها فطلب من التُّرْجُمان أن يذهب به إلى ماخور
النساء أو يأتيه بامرأة يتمتع بها فلما سمع أهل السوق هذا هَمُّوا بالضابط فأنذرهم
بعض الأذكياء مَغبَّة الأمر وأسرع بإعلام الحكومة فأرسلت إليه من رجال الشحنة
والشرطة من حافظ عليه إلى أن عاد إلى البحر بعد ما أفهمه الترجمان أن هذه البلدة
ليس فيها نساء للفسق.
إن بلدة هذا وصفها وقد كانت ولا تزال من أكثر البلاد اشتغالاً بالعلم الديني
بالنسبة إلى عدد السكان جديرة بأن تضيق ذَرْعًا بالفسق العلني يفاجئها شر مفاجأة
وقد كان لحكومتها سلطان من الدستورعلى منع هذا المنكر المخالف لآداب القوم
العمومية ولكن مُتَصَرِّفها السابق كان جاهلاً خاملاً بليدًا وأما المتصرِّف اللاحق فلم
يبلغنا أنهم شكوا إليه ذلك ولعلهم لم ييأسوا من الحكومة ولعل المتصرِّف الجديد لا
يقصر في تلافي هذا الأمر الأمرّ، وإزالة هذا العمل المنكر، وهو قد رأى بعينيه،
وسمع بأذنيه، وعمل بيديه ورجليه، في منع ما هو دونه من المنكرات في العاصمة
كمنع تبرج النساء واختلاطهن بالرجال في مثل يوم عيد الدستور ومنع الصبيان من
الحمامات، كل ذلك عناية من الحكومة الدستورية العليا بالآداب الإسلامية، ولا
يتوهَمَّن أن الأمر قد استقر فهو يدوم بحركة الاستمرار، وإنه يُغْتفر في الدوام ما لا
يُغْتَفر في الابتداء، فالأمر لا يزال في أوله ولا تزال أخطاره محصورة في دائرة
ضيقة، فيجب أن يُرَقَّع قبل اتساعه، وتداوى العلة قبل إعضالها.
قد استفظع هذا المنكر أهل العلم والدين والغيرة على العرض وهم السوادُ
الأعظم في طرابلس الشام وأكثرهم لا يعرف من شره إلا أنه عَمَلٌ محرم في الشرع
فماذا يقولون وماذا يعملون؛ إذا علموا بما وراءه من الشرور والرزايا في هتك
الأعراض واغتيال الأموال وفُشُوّ الأمراض وفساد داخلية البيوت وهو ما سنشرحه
في مقالة أخرى.
يجب على أهل العلم والدين أن يعيدوا الكَرَّة بمطالبة الحكومة المحلية بمنع هذا
المنكر من بلدهم المخالف لآدابهم العمومية التي نص القانون على وجوب احترامها
وذلك يكون في كل مكان بحسبه، وجمهور أهل العلم والدين والمروءة هم المحكمون
في عرف بلدهم وآدابه، ولأنه هتْك لحرمة الدين الذي كفل القانون الأساسي حفظه
واحترامه بل لم يقبل إلا لبنائه على أساسه، واقتباسه من نبراسه، فإن لم تبادر
الحكومة المحلية إلى إجابة طلبهم فليرفعوا الأمر إلى حكومة العاصمة ولو بلسان
البرق.
لا تصدقوا وسوسة شيطان الارتجاع بتفضيل تلك الحكومة الاستبدادية البائدة
على الحكومة الدستورية الدائمة إن شاء الله تعالى في حفظ الشرع وآداب الدين،
فإنا قد رأينا من هذه الحكومة أكثر مما كنا نتوقع من اتقاء ما يخدش الشعور الديني،
ولم يكن أحد يستطيع أن يحتج بالدين على شيء في العصر الحميدي المظلم فاعلموا
الآن أنكم أقدرعلى حفظ دينكم وعرضكم إذا عرفتم كيف تحفظونه فحكومة الدستور
هي حكومة الأُمة وحكومة الاستبداد هي حكومة رجل واحد لا قيمة فيها للأمة ولا
لدينها ولا لعرضها ولا لشرفها.
ألم يبلغكم أن أهل البصرة أرادوا أن يصبوا تمثالا لأبي الدستور (مدحت باشا)
فمنعتهم الحكومة العليا من ذلك لأنه مخالف للشرع الإسلامي، ألم تعلموا أن مجلس
الوكلاء قرر منع انتشار كتاب تحرير المرأة إذ طبع مترجمًا بالتركية لئلا يكون سببًا
لكثرة الخوض في مسألة رفع الحجاب عن النساء، حتى عدّ بعض الناس الحكومة
مغالية في ذلك، أَفترَوْن أن هذه الحكومة ترضى بأن يثْلمَ أولئك الروميات الفواجر
شرفكم ويهتكن آدابكم الدينية والقومية ويسلبن أموالكم في زمن يقاطع العثمانيون فيه
تجارة اليونان المباحة - ويفسدن أمر الصحة العمومية، ويزدن في أسباب التعدي
والجنايات، حاش للحكومة أن ترضى بذلك إذا كنتم أنتم تكرهونه وتمقتونه،
فاطلبوا المقاصد بأسبابها، وَأْتُوا البيوت من أبوابها، واتقوا الله لعلكم تفلحون.
__________
(*) نشرنا هذه المقالة والتي تليها بجريدة الحضارة.(13/681)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مضار البغاء ومفاسده
للزنا مضار ومفاسد كثيرة في الصحة والأخلاق والروابط الزوجية والحياة
الاجتماعية والاقتصادية والإنتاج؛ لأجلها كان محرمًا في الأديان فإن الله تعالى لم
يحرم على الناس شيئًا إعناتًا للناس ولا منعًا لهم من التمتع باللذات التي لا ضرر فيها
وإنما حرم عليهم كل ما هو ضارّ وأباح لهم كل ما هو نافع وما كان فيه نفع وضَرّ
فالترجيح في الشريعة لما فيه دفع المفسدة وحفظ المصلحة والمنفعة جارٍ على الطرق
الموافقة لنظام الفطرة وقوانين المنطق المعقولة، وأشدُّ الزنا ضررًا وأكثر مفاسد
البغاء المستباحُ الذي يتخذه العواهر حرفة تكون معروفة في البلد فكل مَنْ شاء ذلك
تيسر له متى شاء ما دام يملك أجرة البغي.
هذا الضرب من الفسق هو الذي يسرع إفساد الصحة والآداب وتقليل النسل
وإيقاع الشقاق في البيوت حتى تصل إلى درجة يستباح فيها أكثر الأعراض وتفشو
القيادة والدياثة حتى لا يوثق بنسل أحد إلا النادر من الناس وأكثر الشبان الجاهلين لا
يعرفون من أمر هذه المفاسد شيئًا فيقضي الفسق على حياتهم الجسدية والأدبية
والمنزلية من أول النشأة ولا يعرفون من أين جاءهم البلاء بل لا يدرون به إلا بعد
وصوله إلى حد اليأس ولا سيما في البلاد الصغيرة - كطرابلس الشام التي سرى
إليها البغاء الآن - التي ليس فيها مستشفيات تداوى فيها الأمراض والأدواء التي
تتولد من الزنا كالزُّهْرِي والسَّيَلان، ويَعتبر بما يرى فيها من العبر من كان لا
يعرف ذلك من الشبان.
أول رزايا البغاء وأسرعها حصولاً انتشار المرض الزُّهْرِيّ القتال ويا لَيْتَ
هؤلاء الشبان المساكين يعرفون شيئا من عواقب الزهري وما ينتهي إليه لَيْتَهم
يدخلون المستشفي في مثل الآستانة ومصر فيشاهدون بأعينهم بعض المصابين بهذا
الداء ومنه الذي فقد بصره وسمعه ومنهم من سقطت أسنانه وتآكل لسانه، ومنهم من
استؤصلت منه أعضاء التناسل، وأهونهم حالا من كان قريب عهد بالمرض وقد
انتشرت البثور على جسده ولم تصل سمومها إلى أعضائه الرئيسة، ويا لها من
مناظر تَشْخَص لها الأبصار وتَرْجُف لهولها القلوب.
يا ليت هذا الداء الخبيث لم يكن مُعْدِيًا إذًا كان يكون وباله على أولئك الفساق
وحدهم، وهم له مستحقون، ولكنه من الأدواء التي تسْري بضروب من العدوى لا
يعرف طرق التوقِّي منها إلا من لهم إلمام بعلم الصحة وهم في بلادنا قليلون، فيا
حسرة على أهل بيت يُغْوي الشيطان أحدهم فيقوده إلى تلك المواخير النجسة فيعود
حاملاً إلى أهله الأبرياء المساكين ذلك السم القتال فيلقح به امرأته وأولاده وإخوته
وأخواته وربما أصاب به والديه فإنه قد ينتقل بفضل الطعام وسؤر الشراب وبالتقبيل
واللمس إذا كان هناك جرح أصابه ذلك السم ولو جرح الخِلال في اللثة.
ومن رزايا هذه الفاحشة ومصائبها أن من افْتُتِنَ بها يصير يؤثر الحرام على
الحلال فإن كان أعزب تضعف داعية الزواج الشرعي في نفسه ولذلك يقل الزواج في
جميع البلاد التي يفشو فيها الزنا ومضار ذلك كثيرة منها قلة النسل ومنها الأيامَى
من النساء وذلك مدعاة لخروجهن من حظيرة العفة والصيانة حتى إن العوانس
والعذارى الأبكار يلجأن أحيان يلتمسن الأخدان في البيوت السرية، فكيف يكون حال
الأرامل؟ وإن كان متزوجًا يهجر امرأته ولو جميلة ويأوي إلى بَغِيّ دونها جمالاً
وفَتاءً وإن شاركه فيها من لا يحصى من أسافل الناس وبذلك يضعف غيرته على
العرض ويضيق ذرع امرأته ويخونها الاصطبار فتنتقم منه والجزاء من جنس
العمل.
يتوهم بعض المغرورين بأنفسهم أنه يسهل عليهم الجمع بين التهتُّك في الفسق
وبين صيانة نسائهم عنه وإن قل نصيبيهن منهم، وإنما ذلك هو الجهل والغباوة
وعدم الخبرة والتجربة فما ذكرناه من إفضاء تهتك الرجال في الفسق إلى فساد نسائهم
هو من القضايا المعقولة الثابتة بالتجربة المؤيدة بحديث (عِفّوا تَعِفّ نساؤكم) فإن
استبْعَدَتْه عقولهم الضعيفة فليعلموا أن المشاهدة والتجربة أقوى حجة من نظريات
الفلاسفة الحكماء، أفلا تكون أقوى من نظريات الجهلة الأغبياء؟ ، ولو كانت
النظريات المتبادرة إلى الرأي أقوى من علم المختبر للشيء والعالم به من المشاهدة
أو خبر التواتر عن المشاهدين والمجربين لكان من المردود بادئ الرأي ادعاء رغبة
الفاسق عن زوجته الجميلة الطاهرة المقصورة عليه إلى عاهرة دونها في كل شيء
ولكنه واقع، ومن أغرب وقائعه أن امرأة في مصر بحثت عن سبب هجر زوجها
لمضجعها زمنًا طويلاً فعلمت أنه يأوي إلى بعض مواخير الفسق الخفية فذهبت إلى
قوَّادة الماخور وأعطتها صورتها ورغبت إليها أن تعرضها في الصور اللواتي عندها
على فلان (الذي هو زوجها) فلما عَرَضت الصورة عليه جذب بصره حسن صورة
امرأته ولم يفطن لها لأنه لم يخطر في باله أن تعرف ذلك المكان أو تميل إلى
الفاحشة مثله وكانت أجمل من جميع النساء اللواتي يختلفن إليه فلما طلبها من القوادة
طلبت منه مالاً كثيرًا فوق ما كانت تطلبه عادة فبذله وبعد أن اجتمع بامرأته وهو لا
يعرفها وأظهر لها أنه كان أسعد الناس بلقائها وأنه ما سُرَّ في حياته بامرأة كسروره
بها تعرفت إليه ووبخته وقالت له: كيف تكون أسعد الناس بقربي في الحرام مع
الخسارة وبذل المال لهذه القوَّادة الملعونة ولا تكون أسعد الناس في الحلال مع حفظ
المال.
ألا فليعلم أهل طرابلس الشام ومن على شاكلتهم من المتعرضين لإنشاء البغاء
في بلادهم أنهم إذا لم يتداركوا هذا الأمر قبل ثباته واستقراره فإن أعراضهم على
خطر وأن ما عندهم من الغيرة والحماسة الآن سيكون في أول العهد بهذا البلاء سببًا
لسفك الدماء ثم تضعف الغيرة رويدًا رويدًا حتى تكثر القيادة والدياثة كما في جميع
البلاد التي فشا فيها البغاء والبشر متشابهون في الاستعداد لذلك والعلل مربوطة
بمعللاتها والأسباب موصولة بمسبباتها.
إن الغيرة على الأعراض في مثل طرابلس الشام شديدة عند جميع طبقات
الناس حتى إن أجهل الجاهلين وأفسقهم ليندفع إلى قتل من يعلم أنه اعتدى على
عِرْض أيَّة امرأة من عشيرته بلا مبالاة ولا حذر من العاقبة فإذا استقر أمر هؤلاء
المومسات اللواتي فتحْنَ باب البغاء في هذه البلدة وترتب على ذلك أثره الطبيعي من
فساد البيوت وابتذال الأعراض فلابد أن يكثر سفك الدماء فيها، فهل تفكر العلماء
والفضلاء وأهل الغيرة والنجدة في هذه العواقب ولم يبالوا بها أم هم عنها غافلون؟
يغلب على ظني أنه لو جمع بعض العقلاء فتيان البلد الشجعان (الأبضايات)
وبين لهم أن هذه الفتنة ستكون سببًا لتهتك الأعراض وسفك الدماء وفساد الصحة
وإضاعة الأموال لسبقوا العلماء إلى السعي في منعها وتلافي شرها قبل تمكنها
ورسوخه.
إنما أخرت الإشارة إلى ذهاب المال لأنه في نظر أهل وطننا دون العرض
والنفس ولكنهم إذا اعتادوا هتك العرض يرجحون المال فإن البلاد التي فشا فيها الزنا
كلها قد كثرت فيها القيادة والدياثة لأجل المال حتى إن الرجل لَيَتّجر بعرض امرأته
وبناته، وهذا مما يعده أكثر بلادنا من المحال الذي لا يتصور وقوعه منهم لظنهم أن
شدة الغيرة صفة من صفاتهم الطبيعية التي لا تتغير وكان غيرهم يظنون هذا الظن
الباطل ولم يشعروا ببطلانه إلا بعد موت الغيرة بفشو الفسق على أن المال عزيز
عند كل الناس في كل مكان وزمان والمحافظة على الثروة هي أساس قوة الأمم
وعِزَّتها في هذا العصر، ولست أعني بإضاعة الفسق للثروة وذهابه بالأموال ما
يتبادر إلى أذهان الأكثرين الذين أوجه إليهم هذا الخطاب من الشفقة على الشاب
الفقير الذي يضيع معظم كسبه بجعله من نصيب هؤلاء المومسات وإنما أعني ما هو
أعظم من الشفقة على هؤلاء الظالمين لأنفسهم أعني أن هذا البغاء يذهب بحظ عظيم
من مال الأمة إلى جيوب الأجانب الذين أذلوها وبَزّوا دولتها باستعلائهم عليها بالثروة
فإن معظم المومسات في الشرق من اليونان والرومانيات والنمساويات والفرنسيات
... إلخ، وهن يرسلن معظم ما يسلبنه من فساقنا إلى بلادهن فيكون نقصًا من ثروتنا
ومزيدًا في ثروة أممهن ودولهم ولولا ما يأخذه اليونانيون واليونانيات من مصر
وغيرها من البلاد الخارجية لاضمحلت دولتهم وضعفت أمتهم بالفقر المدقع.
إن مفاسد البغاء في بلاد إسلامية صغيرة مثل طرابلس الشام ستكون أعظم
وأكثر من هذه في البلاد التي آدابها غير إسلامية وفي البلاد الإسلامية الكبيرة التي
يسهل فيها إخفاء الفسق قبل أن يخِفّ وَقْعه على الجمهور بالاعتياد الذي يضعف
الدين ويفسد الفطرة، فلا يمكن بيان تلك المفاسد بالتفصيل في مقالة أو مقالات قليلة
وإني لأعجب من سكون حَمَلَة الأقلام في طرابلس عن ذلك وعن حفز الهمم لمقاومته
وحثها على تلافيه كما أعجب من ضعف العلماء والفضلاء في المطالبة بمنع هذا
المنكر.
هذا وإنني قد بلغت خبر ما حل بطرابلس مولانا شيخ الإسلام وهو الذي
عرفت منه النجدة والغيرة فإذا شكا أهل هذه البلدة إلى الحكومة الإدارية ولم تُشْكِهم
فليرفعوا الأمر إليه وأنا الضمين لهم بأنه يأخذ بيدهم ولعله عهد إلى نِظارة الداخلية
بوجوب الاهتمام بسماع شكوى الأهالي في مثل منع هذه المنكرات فيجب على أهل
طرابلس أن يكونوا قدوة صالحة لغيرهم في الخير ولا يكونوا قدوة سيئة لهم
بالسكوت على مثل هذا المنكر الذي سيحل بهم مثلهم والله الموفِّق والمعين.
__________(13/684)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
حجاب المرأة في الإسلام
محمد أفندي توفيق صدقي
(1)
تباينت آراء الناس في مسألة الحجاب في هذه الأيام، وكثرت فيها مناقشات
الكتاب، فمنهم من ضلّ الطريق، ومنهم من هدي إلى سواء السبيل، ولما كانت
هذه المسألة من أكبر مسائلنا الاجتماعية الحاضرة، رأيت أن أفيض القول فيها
وأمحِّصها تمحيصًا ينبلج به الحق، وينقشع به الباطل، مؤيدًا قولي بالحجة العقلية
والبرهان ومعززًا له بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وآي القرآن الكريم
فأقول:
الحجاب عادة قديمة موجودة قبل الإسلام وبعده وعند أمم لم تعرف من هذا
الدين الكريم شيئًا فلم يكن الإسلام موجده ولا مؤيده، وهو الآن عند المسلمين يكاد
يكون قاصرًا على نساء الطبقة الوسطى والعالية، وقد خرج في هذه الأيام الأخيرة
عن معناه الحقيقي، وأصبح ضربًا من ضروب الزينة والتبرج، تظهر به النساء
كاسيات عاريات، مظهرات لمحاسنهن مخفيات لعيوبهن، فهن يخدعن به الرجال،
ويغررن الناظرين بتلك المظاهر المرونقة الكاذبة التي لولاها ما بالى أحد بالنظر إلى
تسعة أعشارهن ولا وجه مفتون عينه إليهن. ولا أعلم أن أحدا من العقلاء يستحسن
هذا الحجاب الكاذب أو ينتصر له، ولا أظن أن غيرة الرجال تلتئم معه، أو تقنع به
فليس الخلاف بين العقلاء في أمر هذا الحجاب الحالي، وإنما خلافهم في الحجاب
الحقيقي، وهو ستر المرأة وجهها وكفَّيْها عن الأجانب عنها، فيقول قوم: إنه نافع
ومفيد وإن الدين يأمر به، ويقول آخرون: إنه ضارّ لا فائدة فيه وإن الدين بريء
منه، وكلا الفريقين يؤيد رأيه بالأدلة، والحق يقال: إن دلائل الفريق الأول
سفسطة باطلة، ودلائل الفريق الثاني يقينية قاطعة، ولولا خوف التطويل لسردنا
دلائل الأولين، وأدحضناها بالبرهان المبين، ولكنا نكتفي بذكر دلائل الآخرين،
فإنها هي الحق اليقين، وليس بعد الحق إلا الضلال المبين. أما مضار الحجاب فهي
كثيرة متنوعة تأتي هنا على بعضها:
أولاً: إن الحجاب يحول دون انتخاب الرجال لأزواجهم، فيجعل الزواج تابعًا
للصدفة والاتفاق بدلاً من الاختيار والانتخاب، فمن أسعده حظه صادفته امرأة حسناء
توافق مشربه وهواه، ومن أشقاه وقع في قبيحة شوهاء، لا يمكنه أن يقيم معها إلا
على البغضاء والشحناء؛ فيكثر بينهما الشقاق، المؤدي إلى الطلاق، أو تعدد
الزوجات، ولا يخفى ما يجرّه علينا ذلك من المصائب الاجتماعية والأخلاقية
والدينية؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لأحد الأنصار وكان قد خطب امرأة:
(أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: انظر إليها فإنه أحرى أن يُؤْدَم بينكما) والنظر
إلى النساء لأجل الزواج لا يتفق بحال من الأحوال مع الحجاب؛ فإننا إذا كشفناه
عنهن لمن يريد الزواج لعرَّضناهن للخجل والاستحياء والسخرية والازدراء،
ولأصبحن كالسلع في الأسواق تتناوبهن أعين المشترين، وهو أمر تنفر منه الطباع
السليمة وتأباه المروءة، ولا يتفق مع كرامة المرأة في شيء فتقع في حضيض الذل
والإهانة وتتعرض لهزء الهازئين. وسخرية الساخرين العابثين بالأعراض، وللعب
الشبان الفاسقين ولا دواء لهذه الأمراض سوى سفور النساء للرجال في جميع
الأحوال، واتخاذ ذلك عادة لهم حتى تتقي أمثال تلك المعائب والمضارّ التي تنشأ
للمتزوجين والمتزوجات من الحجاب، ولا يخفى أن إصلاح مسألة الزواج عليها
إصلاح البيوت وإصلاح الأمة بأسرها.
ثانيًا: إن الحجاب يكثر من حوادث التزوير في سائر العقود كما لا يخفى،
وهو عقبة كَؤُود في سبيل صحتها وفي الشهادة والمحاكمة، فكم من امرأة سُلِبَتْ
أموالها بسبب الحجاب؟ وكم من فتاة عقد عليها بدون إذنها وكان المتكلم غيرها من
وراء ستار؟ وكم من نساء رُمِِينَ بالإفك والبهتان من غير علمهن وهن مُحْصَنات
غافلات؟ وكم من شاهدة زورًا تخفي خجلها أمام أعين القضاة بالبرقع والنقاب،
وتفتري الكذب ولا يُعْلم من أمرها شيء، إلى غير ذلك من الرزايا والمصائب التي
جرها علينا الحجاب، وإني والله لأعْجَب غاية العجب؛ كيف يصح العقد على فتاة
لم ترها ولم ترك، وربما إذا نظر أحدكما للآخر اشمأز منه ونفر، فكيف بعد ذلك
يمكننا أن نقول: إن الرضى حصل بين الطرفين مع أنه رضى باللسان فقط، وكل
منهما يوجس خيفة من منظر الآخر، على أن الرضى اللساني أيضًا في كثير من
الأحوال لا يحصل من جانب الفتيات، ويكون صادرًا من إحدى قريباتهن كما هو
معروف.
ثالثًا: إن الحجاب يفسد صحة النساء ويمنعهن من الرياضة البدنية، ومن
استنشاق الأَهْوية النقية في الأماكن الصحية، فتسوء بِنْيتهن، وتكثر أمراضهن
وتعتلّ صحتهن، ويلدن المعلولين والمعلولات.
رابعًا: إن الحجاب لا شك أنه أكبر مانع لإتمام التربية والتعليم والتهذيب،
وعائق لتثقيف عقل المرأة وتوسيعه وتكبيره بالتجربة وممارسة الأعمال ومخالطة
الرجال في بعض الأحيان في اجتماعاتهم الصالحة؛ كالتي تحصل في المساجد
للصلاة ولتعليم الدين، ومانع لها من مشاهدة المناظر الطبيعية، وبدائع الاختراعات
الصناعية، فيبقى عقلها ضيقًا، وذهنها فارغًا، ومخّها خرقًا خاويًا، فلا تبثّ في
أذهان بنيها وبناتها سوى الأضاليل والتُّرَّهات، والخرافات والخزعبلات، فتفسد
عقولهم وآدابهم وأخلاقهم. ولا يخفى أن التعليم في الصغر كالنقش في الحجر؛
ولذلك يصرف الواحد منا وقتًا طويلاً وتعبًا كبيرًا؛ لتطهير عقله مما زرعته فيه أمه
الغبية الجاهلة منذ طفوليته ونشأته، ومن كان في شك مما أقول فما عليه إلا أن
يقارن بين عقول نسائنا وأبنائنا ليتضح له صِحّة ما أقول. وقد علمتُ بالاختبار أن
جمهور البنات اللاتي يأخذن الشهادات من مدارسنا لا تمتاز عقولهن بعد الحجاب عن
البنات الجاهلات إلا شيئًا يسيرًا، فإن مَدارك أكثرهن تجدها قاصرةً ضيقةً مفعمةً
بالأباطيل والتُّرَّهات والأوهام والخرافات، معجبةً بما تعلمنه من القشور الفارغات.
خامسًا: إن الحجاب يمنع الفقيرات أو غير المتزوجات من الحصول على
أقواتهن إلا بشق الأنفس، ويضيق عليهن أنفسهن ويعسر عليهن الأعمال أو
الاشتغال بأي عمل يكتسبن منه رزقهن؛ من نحو خدمة أو صناعة أو زراعة أو
تجارة، لا يخفى ما يجلبه البرقع على التاجرات مثلاً (والتجارة أخف شيء يمكن
عملهن به) من الضيق والحرّ والعَرَق والإضرار بالصحة وعسر الحركة، والله
تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) .
سادسًا: إن الحجاب كثيرًا ما يحرم الرجل لذة الخروج مع زوجه وأولاده
واصطحابهم في رياضاته وأوقات فراغه، ويمنعهم من مشاركته في أنسه ولذاته،
وهي أمور ضج منها المجربون؛ فنشأ عن ذلك كثرة هجران الرجل لزوجته وأولاده
وعدم اجتماعه بهم إلا وقت نومهم، وهو يقضي معظم وقته في الأماكن العمومية
(كالقَهْوات) بين الميسر والخمر والفسق والسعي في اصطياد الغواني، مع أنه لو
خرج مع زوجته لتمتع كل منهما بالآخر، ونال كل منهما حظه من لذة الحياة
والائتناس برفيقه ومشاهدة المناظر الطبيعية والصناعية، واكتفى كل منهما بالآخر
واستفاد من حديثه، وامتنع الرجل من النظر لغير امرأته، وامتنعت هي من النظر
إلى غير زوجها؛ لحياء الواحد منهما من الآخر وخشيته ومراقبته لوجوده معه، ولا
يخفى على أحد فوائد ذلك من الوجهة الأدبية والاجتماعية، وقد كان صلى الله عليه
وسلم يخرج مع بعض نسائه إلى الأماكن الخلوية؛ لاستنشاق الهواء النقي
ولمسابقتهن جريًا والمزاح معهن بالقول الحسن.
سابعًا: إن البرقع أو النقاب المستعملين الآن مما يشوق النفوس لرؤية ما تحته
فإن ألذ شيء إلى الإنسان ما مُنِعَ عنه، فهو يحمل أهل الفسق والفجور على
التعرَّض للنساء في الطريق ومغازلتهن، والسعي في كشف سترهن كما هو حاصل
الآن بكثرة، فإن أنواع البراقع تظهر عادة الأعين والحواجب، وهي في أغلب
النساء جميلة؛ فيغترّ الناظر ويظن أن باقي الوجه جميل مع أنه قد يكون منفرًا إذا
كشف جميعه؛ لذلك قيل في أمثلة العامة: (إن البرقع غشاش) وقد سمعت من
بعض الشبان الفاسقين أن أحدهم يسعى وراء المرأة المتبرقعة زمنًا طويلاً،
ويصرف مالاً كثيرًا في الحصول عليها وتعبًا كبيرًا، حتى إذا نجح معها وقادها إلى
إحدى دور الفسق وكشفت عن وجهها نفر منها وندم على ما فعل، وحاول أن
يخلص منها بكل وسيلة، ولولا الحجاب ما اغتر هذا الغرور بكل واحدة؛ ولذلك
تكثر مداعبة النساء المتبرقعات في الطرق من الرجال وتقل مداعبة السافرات؛ لأن
الجمال الحقيقي قليل جدًّا، والنقاب يزين جميع النساء للرجال، ويوهمهم أنهن كلهن
جميلات، فهو كالشيطان يغري الإنسان ويحمله على الفسوق والفجور. هذا، وإن
تعود الرجال لرؤية جمال النساء يقلل من التأثر بهن والافتتان بحسنهن، والإنسان
المتعود على ذلك يملك نفسه أكثر ممن لم يتعود، والخلاصة أن الحجاب منبع
الرذائل، والسفور أصل الفضائل، ولا شك أن الحجاب هو السبب الوحيد في أكثر
ما وقعنا فيه من المصائب والرزايا والبلايا. ولا أعلم له من فائدة واحدة سوى غيرة
الرجال الكاذبة من رؤية غيرهم لوجوه نسائهم، مع أن الرؤية لا ضرر فيها ولا
ضرار، والقول بأن الحجاب الحقيقي يقلل من الزنا إذا سلم، فهو مدفوع بأن الزنا
يمكن تقليله بوسائل أخرى؛ كالتي أتى بها الدين الإسلامي الحنيف (وسيأتي بيانها)
من غير أن يكون لها من المضار ما للحجاب مما سبق بيانه، وهي إذا اتبعت تمامًا
فإن الزنا يكاد يمحى من الوجود، وهذه الوسائل تنحصر في ثلاث مسائل، وهي:
1- التربية الدينية.
2- وإقامة الحدود مع الترغيب في الزواج وتيسيره.
3- والإتيان بآداب للرجال والنساء.
وسيأتي ذكرها تفصيلاً، وليس من بينها الحجاب؛ لأن ضرره أكثر من نفعه
ويمكن الاستغناء عنه بأشياء أخرى غيره، وإليك الدليل:
أجمع علماء المسلمين وأئمتهم على أن الوجه والكفَّين ليسا بعورة في الصلاة
وأن كشفهما غير مبطل لها، وعلى ذلك جرى عملهم من عهد الرسول صلى الله
عليه وسلم إلى اليوم، وقال ابن جرير في تفسيره (إن للمرأة أن تبدي من بدنها ما
لم يكن عورةً كما أن ذلك للرجال؛ لأن ما لم يكن عورةً فغير حرام إظهاره) ،
وحكى القاضي عياض عن العلماء أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها وكفَّيْها في
طريقها وعلى الرجال غض البصر عنها، وقال: إن ذلك إجماع المسلمين، وروي
عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه
وسلم وعليها ثياب رِقاق فأعرض عنه، وقال: (يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت
المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا) وأشار إلى وجهه وكفيه، ولذلك أبيح
لنساء المسلمين أن يحضرْنَ صلاة الجماعة في المساجد وهن مكشوفات الوجوه في
زمن رسول الله وزمن أصحابه وأتباعهم. وأوجب الدين الإسلامي على المرأة أن
تكشف وجهها في الحج مدة الإحرام كلها، بحيث يبطل حجها إذا هي غطت وجهها،
والإحرام مدته طويلة فتبقى فيه النساء مختلطات بالرجال في سائر مواقف الحج
وهن كاشفات لوجوههن، فلو كان في ذلك مفسدة لما أوجبه الإسلام وقرره، ولو
فتشت القرآن من أوله إلى آخره والأحاديث الصحيحة، لَمَا وجدت فيهما أمرًا واحدًا
يوجب ستر المرأة وجهها وكفيها بل بالعكس، نجد أن القرآن يستثنيهما في قوله:
{وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) كما عليه إجماع المفسرين.
وقد عدل عن الأمر بتغطيتها إلى تغطية غيرها في قوله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ
عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (النور: 31) ، أم استشهادهم على الحجاب بآية {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ
مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} (الأحزاب: 53) فسيأتي بيان معناها على أن
هذه الآية هي الآية الوحيدة التي ذكر فيها لفظ الحجاب وسترى أنها لا تنهض بها لهم
حجة.
ولم يرد في القرآن الكريم مطلقًا ذكر للتبرقع والانتقاب أو ما في معناهما
ولو كانا واجبين لورد ذكرهما مرة واحدة بل مرارًا كثيرة، وإذا كانت نساء
المسلمين في عصر التنزيل محتجبة، فما معنى قوله: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} (طه: 131) وقوله: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النور: 30) وقوله: {وَلَوْ
أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} (الأحزاب: 52) فكيف يُعْجبه حسنهن وهو لا يراهن؟ وما
فائدة عدم مد الأعين إليهن وغض النظر عنهن وهن محتجبات.
(البقية تأتي)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) بقلم الدكتور محمد أفندي توفيق صدقي.(13/689)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب الخمسة والمئة
وكتاب الهمسة في الأصول الخمسة
ألّف حضرة العالم الفاضل السيد محمد طيب العلوي المكي مدرس درجة
التكميل في مدرسة دار العلوم بلكنو (الهند) التي أنشأتها ندوة العلماء كتابين سمى
أحدهما: (كتاب الخمسة والمئة، في نصر الفئة) ، ويحتوي هذا الكتاب على
خمسة ومئة من الأدلة عدا الممهدات والتنبيهات.
والكتاب الآخر سماه (الهمسة في الأصول الخمسة) جعله كالمدخل إلى
التوغل في علوم البلاغة، وقد تقرر تدريسه في مدرسة دار العلوم المذكورة،
والكتابان لم يطبعا بعد، وقد بعث لإدارة المنار بأنموذجين من الكتابين المذكورين؛
لينُشرا في المنار وها هما:
أنموذج من كتاب الخمسة والمئة
الأول: أن الله أرسل الرسل ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه، وليجمعوهم
على كلمة واحدة، ويعلموهم كيف الطريق إلى مرضاة الله، وما هي الأسماء التي
يرضاها الله لنفسه فيُدْعا بها، فلو وُكِلُوا بعد إرسال الرسل إلى عقولهم لكان إرسال
الرسل فضلاً؛ لأن دليل العقل قد كان، وكيف يرسل الرسل لرفع الخلاف ثم يَحْكم
على ما يأتون به ما هو منشأ الخلاف، وإنما قلنا: إن العقل هو منشأ الخلاف لثلاثة
أوجه:
(الأول) أن الحاجة إنما وقعت عند الاختلاف، والاختلاف إنما وقع بين
العقلاء لاختلاف عقولهم، فكانت عقولهم هي منشأ الخلاف.
(الثاني) أن العقل مختلف في ذاته قوة وضعفًا وغفلة وتنبيهًا وباعتبار ما
يقارنه من العوائد والمعارف، وإذا كانت العقول مختلفة اختلفت آراؤها ومتى اختلفت
الآراء وقع التشاحّ والتحزُّب، فكيف يقول من أرسل لرفع هذا الخلاف: إن كلامي إن
خالف عقولكم فلا تقبلوه، بل أَوِّلوه بحسب ما ترون، فإن هذا ليس رفعًا للخلاف بل
هو أمر زائد؛ إذ لكل أحد أن يقول: إن هذا الكلام لا يقبله عقلي؛ لأنه يخالف مألوفي أو يخالف دليلي أو هذا الكلام يقوي رأي فلان وهو خصمي.
(الثالث) أن العقول لو لم تكن مختلفة لم يُحْتَجْ إلى حَكَم؛ لأن الناس إنما
يرجعون إلى الحَكَم عند الاختلاف، فإذا ثبت أن العقول هي منبع الخلاف امتنع أن
تكون هي الحَكَم؛ فالحَكَم ما سواها، فإذن ثبت أن كلام الشارع هو الحكم، فلا
يُؤوَّل إذا خالف بعض أدلة المعقول ولا سيما والرسل جاءت لتبين للناس ما لا تصل
إليه عقولهم، وليَكْفُوهم مَؤُونة البحث بعقولهم وليكفُّوهم عن الخلاف فيما بينهم، فلو
ردوهم إلى عقولهم لزادوا الطين بلة.
قال: فهذا دليل واحد من الخمسة والمئة ليس بأعلاها ولا أدناها، ثم قال:
أنموذج من كتاب الهمسة
في الفنون الخمسة
(لو) يستعملها الناس في الإخبار عن سبب عدم الخبر الذي هو الجزاء،
تقول لو جئتني لأكرمتك؛ يعني أن سبب عدم إكرامي هو عدم مجيئك، وقد تخبَّط
الناس هاهنا مدة إلى أن حقق ذلك العلامة التفتازاني في شرحيه المطوَّل والمختصر،
إلا أنه جوز وقوع الشرطية في الكلام موافقًا لاصطلاح المناطقة، فإن معنى
الشرطية عندهم هو الإخبار بأن بين المقدم والتالي تصاحُب، فمعنى إن جئتني
أكرمتك ليس الوعد بالإكرام بل هذه القضية كاذبة أو محتملة عندهم أي معناها لأن
الاحتمال من معناها (أنْ جاء زيد) مصاحب لأكرم زيد، ومعنى مصاحبتهما أنهما
مجتمعان على الصدق في الواقع، والظاهر أنهما لا يجتمعان وإن احتملا الاجتماع
فمعناها عندهم محتمل، وعند أهل اللسان متعيَّن، حتى إنه يقول: إن فلانًا
وعدني، ثم إن المصنف حقق معنى قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ
اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) ، وبين أنه لا يصح مجيئه على اصطلاح المناطقة،
فإن العرب لاتعرف ذلك بل ولا علماؤها، فإن أبا هلال حين ذكر المذهب الكلامي
نص على أنه لا نظير له في كتاب الله، ثم أيد ما قدره من أن المراد ليس نفي الآلهة
المستقلة الذي يجزم به الناس فطرة، ودليلكم هذا بأقداركم لا يثبت به لعلم، فكيف
يستدل على المعلوم بما لا يثبت به العلم بل المراد أن الله تعالى لو كان معه من
يتداخل في أمره لفسد نظم السماوات والأرض؛ وذلك لأن الشفاعة لا تكون إلا
للمدافعة عمن أوجبت عليه القاعدة أمرًا لا يحبه، وهذه المداخلات مخلة بالانتظام
قطعًا، ولهذا عقبها بقول {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} (الأنبياء: 23) ثم بقوله {لاَ
يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (الأنبياء: 27) .
__________(13/694)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تنبيه
كتاب الدارس في المدارس
هو كتاب خَطِيّ لم يطبع بعد، والموجود منه نسخة واحدة قديمة عند حضرة
الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الرازق أفندي البيطار من علماء دمشق الأعلام، وقد نقل
عنه نسخة حضرة العالم المؤرِّخ رفيق بك العظم، وهو الكتاب الذي أُلْقِيَ عليه ذلك
الدرس في دمشق، وتراه منشورًا بهذا الجزء من المنار ص681، وقد فاتنا هذا
التنبيه عَقِيبَ نشره.
__________(13/696)
الكاتب: حسين وصفي رضا
__________
الأخبار والآراء
(درس على كتاب الدارس في المدارس) [1]
أيها السادة:
إن تاريخ كل أمة سواء كان مجيدًا أو غير مجيد، لا يخلو مستقبله من ارتباط
بماضيه، لا من حيث التشابه بين طرفيه بل من حيث النتائج التي تترتب عليها
نهضة الأمم أحيانًا وتغير مجرى الحياة الاجتماعية بأن تسرع بخطى الشعوب إلى
مراقي الصعود.
معناها إذا كان ماضي الأمة عظيمًا محترمًا في التاريخ، تحرص على أن
يكون أعظم احترامًا في حاضرها، أو على أن تسترد ذلك الاحترام إذا فقدت شيئًا
منه. وإذا كان ماضيها سيئًا غير محترم في التاريخ تَدْأب على التخلص منه وتطلب
لنفسها حاضرًا أسعد منه، فالنتيجة واحدة في الحالين ولكن لِمَنْ؟ ومن يتحصل
على مثل هذه النتيجة من الأمم؟
تتحصل عليه أمة تعلم أن لها تاريخًا فتدرسه وماضيًا فتبحث فيه وترجع إليه
لا سيما إذا كان تاريخًا مجيدًا له آثار معروفة في الوجود، وأثر محقق في الاجتماع
والأمة كالفرد فخورة بالماضي الجميل، إذا تمثل لها نَفَخَ فيها من روحه فملأها
نشاطًا ودفعها إلى الأمام أشواطًا.
وإن أمة لا تعرف تاريخها فأَحْرى بها أن يتنكر لها الزمان، وتذري بها
الشعوب؛ لجهلها بماضيها وأن تنكرها الإنسانية وتنكرها السماء والأرض.
إن المدنية الإسلامية التي رفع منارها أسلافنا الطاهرون، وغيرت شكل
الأرض ومجرى الاجتماع، كان لمدينتكم هذه حظ وفير منها ولا سيما في التوفر
على إنشاء معاهد العلم ودور التربية والتهذيب.
هذا أيها السادة، ما دعاني لأن أقف بينكم خطيبًا؛ أفتح صحيفة من ماضي
التاريخ فيما يتعلق بأسلافكم الغابرين ومدينتكم الفيحاء، وفيها ذكرى للذاكرين،
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) .
إن هذه الذكرى ما ترونه في هذا الكتاب الضخم المشتمل على ألف وثلاث مئة
وستين صحيفة؛ وهو كتاب (الدارس في المدارس) تأليف المؤرخ العلامة الشيخ
محمد بن محيي الدين النعيمي وهو خاص بما أنشئ من معاهد العلم والمساجد
ودور العجزة (التكايا) في دمشق، وقد بلغ عدد ذلك مئتين وبضعًا وثمانين، لو
وزعت المدارس منها على السنين منذ إنشاء أول مدرسة في القرن الخامس أي سنة
ثلاث وتسعين وأربع مئة إلى عهد المؤلف في أوائل القرن العاشر؛ لأصاب دمشق
كل سنتين مدرسة تنشأ أو دار للعجزة والمرضى تُشاد، هذا فضلاً عما أنشئ من
المدارس بعد ذلك التاريخ، ولم يدركه المؤرخ المذكور، وهذا فهرست الكتاب نتلو
عليكم بعضًا من أسماء المدارس التي جاءت فيه، ولا أطيل خوفًا من ضيق الوقت.
أما تواريخ إنشاء هذه المدارس بالضبط، والأوقاف التي حبست على الطلبة
فيها، والعلماء الذين نبغوا منها ودرَّسوا فيها، كل هذا مذكور في صلب الكتاب،
وليس في الوقت متسع لتلاوته عليكم كما ترون من حجم الكتاب، وحسبكم أن ممن
درسوا في هذه المدارس وتولَّوْا رياستها أو نبغوا فيها من علماء الشريعة مثل:
الحافظ الذهبي صاحب التاريخ المشهور، الإمام ابن تيمية صاحب التآليف
المشهورة، وقاضي القضاة صدر الدين الأوْزاعيّ صاحب الجامع الصغير وغيرهم
من مشاهير العلماء، ومن علماء الطب مثل الرؤساء ابن أبي أصيبعة صاحب
تاريخ الأطباء، ومهذب الدين بن الحاجب ونجم الدين اللبودي وموفق الدين ابن
المطران ومهذب الدين الدخواز وعماد الدين الدنيسري وأضرابهم.
ومن علماء العقليات والرياضيات والموسيقى مثل محمد بن أبي الحكم الباهلي
وعز الدين السويدي وأبي الفضل الحارثي المهندس الذي كان باب البيمارستان
النوري القائم إلى اليوم من عمل يده وأضرابهم.
وها أنا ذا أقرأ لكم مثالاً واحدًا من ترجمة هؤلاء الرجال؛ فاسمعوا ما قال
تاريخ الدارس هذا في ترجمة أفضل الدين ابن أبي الحكم نقلاً عن الصفدي قال:
(محمد بن عبد الله بن المظفر بن عبد الله الباهلي) ؛ هو أفضل الدين أبو
المجد ابن أبي الحكم من الحكماء المشهورين، كان طبيبًا حاذقًا، وله يد طولى في
الهندسة والنجوم (أي علم الفلك) ، وله في سائر الآلات المطربة يد عمّالة وعمل
أرغنا وبالغ في إتقانه، وقرأ على والده وغيره في الطب، وكان في دولة نور
الدين بن الشهيد ولمَّا عُمِّرَ البيمارستان والمستشفى النوري بدمشق، جعل أمر الطب
فيه إليه، إلخ ما قال.
هؤلاء الرجال الذين ذكرتهم لكم، وهذا الفاضل الكبير منهم، وعدد كثير
مثلهم من أهل الشهرة بالعلم والفضل، درسوا في هذه المدارس أو تخرجوا على
رؤسائها ومشايخها، ثم ملؤوا المكتبة العربية بالمؤلفات النافعة في كل فن، ومن
راجَع منكم كتاب الكواكب لابن عروة الحنبلي في أكثر من مئة مجلد، وتاريخ
الحافظ ابن عساكر في أكثر من عشرين مجلدًا، وهما موجودان اليوم في المكتبة
العمومية في مدرسة الملك الظاهر بدمشق، وقاس عليهما ما ألفه علماء تلك القرون
الأفاضل؛ وما قبلها من الكتب في علوم الشريعة والأدب واللغة والتاريخ والتراجم
والفلك والطب والرياضيات كالهندسة والحساب وغير ذلك من العلوم، يعلم مقدار ما
لهذه المدارس ومؤسسيها من الفضل على الأمة، وما للنابغين فيها من الأثر العظيم
في الوجود بما سهروه من الليالي الطوال في التحرير والتحبير، وما عانوه من
النَّصَب في وضع كتاب العلم لإفادة الناس، حتى ملؤوا بها المكاتب ونشروا العلم،
وما قولكم في أن عالمًا واحدًا من علماء الطب؛ وهو موفق الدين بن المطران
المتوفَّى سنة سبع وثمانين وخمس مئة، ترك في مكتبته عشرة آلاف مجلد في
الطب والعلوم الحكمية كما ذكر ذلك ابن أبي أصيبعة في ترجمة ألموما إليه.
ولا يظننَّ أحدكم أن هذه المدارس كانت مدارس دينية فقط، وأن أكثر علمائها
وطلبتها من طلبة العلوم الشرعية وآلاتها.
كلا، فإن فيها مدارس لغير العلوم الشرعية كالطب مثلاً، ومن هذه المدارس
المدرسة الدخوازية والدنيسرية واللبودية كما سترون ذلك فيما يأتي إن شاء الله.
فضلاً عن هذا، فقد أخبرنا التاريخ أن معاهد العلم كانت مشاعًا بين طلابه من
كل فن، وأن الطبيب أو الفلكي مثلاً، كان يلقي دروسه في أي مدرسة كانت من
مدارس العلم له فيها وظيفة، بل في الجوامع والمساجد أيضًا لأنها كانت قبل أن
توجد المدارس على شكلها المعهود؛ أي قبل القرن الرابع أشبه بمدارس للعلم، بل
هي المدارس عينها، ومازالت كذلك معاهد للعبادة والعلم معًا إلى اليوم كما تعلمون.
وأذكر لكم مثلاً واحدًا على أن المدارس، كانت شائعة لطلاب كل علم ما نقله
ابن أبي أصيبعة في ترجمة رفيع الدين الجيلي قال: (وكان مقيمًا بدمشق وهو فقيه
في المدرسة العذراوية داخل باب النصر، وله مجلس للمشتغلين عليه في أنواع العلوم
والطب، وقرأت عليه شيئًا في العلوم الحكمية) .
واعلموا أيها السادة أن كثيرًا من علماء الشريعة مثل الجيلي، جمعوا بين
العلوم الشرعية والعقلية والطب والفلك والرضيات، وكلهم من خريجي هذه
المدارس بالضرورة، وممن جاء ذكرهم من هؤلاء في هذا التاريخ وأذكره مثالاً
للباقين: أحمد بن الحسين الدمشقي، وإليكم ما جاء من ترجمته في هذا الكتاب نقلاً
عن ابن كثير قال:
(الجمال المحقق أحمد بن عبد الله بن الحسين الدمشقي) اشتغل على مذهب
الشافعي، وبرع فيه وأفتى وأعاد، وكان فاضلاً في الطب، وقد وَلِيَ مشيخة
الدخوازية (مدرسة طبية) ؛ لتقدمه في صناعة الطب على غيره، وعاد المرضى
بالبيمارستان النوري على قاعدة الأطباء، وكان مدرسًا بالشافعية بالمدرسة
الفروخشاهية ومعيدًا بعدة مدارس، إلخ ما قال.
هذا يدلكم على أن العلوم كانت مشاعًا بين العلماء، وأن العالم بالشرع قد
يكون عالمًا بعلوم أخرى من العلوم النظرية والعملية؛ كالفلسفة والطب والموسيقى
والفلك والرياضيات، وغيرها من العلوم التي قامت على دعامتها المدنية الإسلامية،
وكانت الحلقة الوسطى بين المدنية القديمة والمدنية الحديثة حتى اعْتَرَفَ بفضله
على التمدن الغربي كثير من علماء التاريخ؛ كدربي ومنتسكيو وكوستاف لوبون،
وأفردوا للمدنية الإسلامية كتبًا خاصة، أتوا فيها على ذِكْرِ ما تركه التمدن الإسلامي
من آثار الترقي والعلم التي يجهلها أهله لهذا العهد يا للأسف وللعار.
نحن الآن أيها السادة بصدد علماء دمشق في القرون الوسطى، وإنما هم حلقة
من سلسلة ذلك التمدن الإسلامي الذي أَخْنَى عليه الزمان، وإذا سمحتم لي فإنني
أختم كلامي بنبذة من تاريخ تلك السلسلة بعد استبقاء الكلام على كتاب الدارس هذا
إن شاء الله.
(2)
علمنا مما سبق عدد المدارس ودور العَجَزة التي أنشئت في دمشق، ولكن من
الذي أنشأ هذه المدارس ورفع بنيانها، وأدرّ الخيرات عليها وأنفق من ماله على
طلابها، أهي الحكومة أو الأفراد أو الجماعات؟ .
بلغ بنا الضعف أن صرنا كالأطفال؛ نطلب كل شىء من الحكومة كما يطلب
الطفل كل شيء من والديه، أما أسلافنا فلم يكونوا كذلك، بل كانوا استقلاليين أكثر
منهم اتِّكاليين، يعرفون قيمة الاعتماد على النفس، فكان الفرد الواحد يقوم بما تقوم
به الجماعة، ولا يطلب من الحكومة أمرًا، ولهذا فإن كل ما جاء ذكره في هذا
الكتاب من المساجد والتكايا والمدارس إنما أنشأه الأفراد، وقام بماله أهل السخاء
والجود من أسلافكم الطيبين لمحض الخير وإرادة نشر العلم وخدمة الوطن والدين.
لم يختص بهذا العمل الجليل والشرف الرفيع الملوك والأمراء وذوو السلطة
كما قد يتوهم البعض، كلا بل كان الأفراد من كل الطبقات من أهل اليسار يتسابقون
إلى تشييد المعاهد العلمية؛ حِسْبة لله وحبًا بعمل الخير واستبقاء للذكر الحسن في
الوجود.
فالتجار والعلماء والسيدات هم الذين أسسوا هذه المدارس، كل مدرسة يؤسسها
شخص بمفرده، ويحبس عليه من ملكه ما يكفي ريعه لبقائها، بل أقول لكم والخجل
يكاد يمنعني من التكلم، والحزن يوشك أن يعقل لساني أن العُبْدان عُبْدان أسلافكم،
أيها السادة شيدوا بأموالهم بعض هذه المدارس ورفعوا منار العلم، فيا للفضيلة كم
ترفع العُبْدان إلى منزلة السادة في حين ينحطّ السادة إلى منزلة العبدان.
إن العُبدان كانوا أرفع نفوسًا وأَسْخى كفوفًا منا الآن، يا للخجل والخسران.
إن الكلام وحده لا يغني عن برهان، وإنكم تنتظرون مني الدليل على هذا
البيان، وإليكم أمثلة من عمل العلماء والتجار والسيدات والعبدان.
قال المؤرخ في فصل عَقَده لمدراس الطب:
(المدرسة الطبية الدخوازية)
المدرسة الدخوازية بالصاغة العتيقة بقرب الخضراء قِبْليّ الجامع الأموي،
أنشأها مهذب الدين عبد المنعم بن علم بن حامد المعروف بالدخواز في سنة إحدى
وعشرين وست مئة بالصاغة العتيقة كما تقدم، وأول من درس فيها وَاقِفُها، ثم من
بعده بدر الدين محمد بن قاضي بعلبك ثم عماد الدين الدنيسري وهو بها إلى
الآن إلخ.
(المدرسة الدنّيسرية)
غربي البيمارستان النوري والصلاحية بآخر الطريق من قبله، قال الذهبي
في العبر في أخبار سنة ست وثماني وست مئة.
(عماد الدين أبو عبد الله محمد بن عباس الربعي، الرئيس الطبيب ولد
بدنِّيسر سنة ست مئة وسمع بمصر من علي بن مختار وجماعة وتفقَّه للشافعي،
وصَحِبَ البهاء زهيرًا وتأدب به وصنف، إلى أن قال نقلاً عن الآسدي (العماد
محمد بن عباس الحكيم البارع في الطب، صاحب المدرسة للأطباء بالقرب من
بيمارستان نورالدين الشهيد) إلخ.
(المدرسة اللبودية)
اللبودية النجمية مدرسة خارج البلد ملاصقة لبستان الفلك المشيري، أنشأها
نجم الدين يحيى بن محمد بن اللبودي في سنة أربع وستين وست مئة (إلى
أن قال نقلاً عن ابن أبي أصيبعة) كان علامة وقته، وأفضل أهل زمانه في العلوم
الحكمية) .. إلخ
هذا عمل العلماء واسمعوا مثالاً من عمل التجار عن سبيل الخير والعلم
والمنفعة العامة، لم يعمل مثله أحد من أغنياء هذا الزمان.
(المدرسة المزلّقية)
المزلّقية بطريق مقابر باب الصغير الآخذ إلى الصابونية، أنشأها تاجر
الخاص الشريف شمس الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي بكر المعروف بابن
المزلّق ميلاده سنة أربع وخمسين وسبع مئة، وكان أبوه لبانًا أدركه جماعة، وهو
يباشر مَلْبَنَة عند جامع يلبغا فنشأ ولده هذا، ودخل في البحر، وحكى عن نفسه أن
أول سفرة سافرها كسب فيها مئة ألف دينار وثمان مئة درهم، وانفتحت عليه الدنيا
وعمر أملاكًا كثيرةً، وأنشأ على دَرْب الشام إلى مصر خانات عظيمة بالقنيطرة
وجسر يعقوب والمنية وعيون التجار. أنفق على عمارها ما يزيد على مئة ألف
دينار وكل هذه الخانات فيها الماء، وجاءت في غاية الحسن ولم يسبقه أحد من
الملوك والخلفاء إلى مثل ذلك، وهو صاحب المآثر الحسنة بدرب الحجاز، ووقف
على سكان الحرمين الشريفين الأوقاف الكثيرة الحسنة، وعين للحجرة الشريفة -
على الحال بها أفضل الصلاة وأتم السلام - الشمع والزيت في كل عام إلى آخر ما
قال.
وهذا مثال آخر لتاجر غيره أيضًا.
(المدرسة الرواحية)
شرقي مسجد ابن عروة بالجامع الأموي ولصيقة شمالي جيرون وغربي
الدويلق وقبلي السيفية الحنبلية: قال ابن شداد بانيها زكي الدين أبوالقاسم التاجر
المعروف بابن رواحة وقال الذهبي في تاريخه العبر في من مات سنة اثنتين
وعشرين وست مئة (والزكي ابن رواحة هبة الله بن محمد الأنصاري التاجر
المعدل واقف المدرسة الرواحية بدمشق وأخرى بحلب) إلخ.
ومن أمثلة عمل النساء
(المدرسة العالمية)
العالمية شرقي الرباط الناصري غربي سفح قاسيون تحت جامع الأفرم،
واقفتها الشيخة الصالحة العالمة اللطيفة بنت الشيخ الناصح الحنبلي المتقدِّم ذكره في
المدرسة التي قبل هذه (وهي المدرسة الشيخية بانيها الشيخ أبو عمر الكبير)
وكانت فاضلة لها تصانيف، وهي التي أرشدت ربيعة خاتون بنت نجم الدين أيوب
أخت الملك صلاح الدين إلى وقف المدرسة الصاحبية بقاسيون على الحنابلة إلخ …
ومن أمثلة عمل العُبْدان
(المدرسة الصلومية)
الصارمية داخل باب النصر والجابية قبلي العذراوية بشرق، قال القاضي عز
الدين بانيها صارم الدين أزبك مملوك قايمازا النجيبي ورأيت مرسومًا بعتبتها
ما صُورته.
بسم الله الرحمن الرحيم
(هذا المكان المبارك إنشاء الطواشي الأجلّ صارم الدين جوهر بن عبد الله
الحر عتيق الست الكبيرة الجليلة عصمة الدين عُذْزَى ابنة شاهنشاه رحمها الله تعالى
إلخ) .
أرأيتم أيها السادة، بماذا قامت هذه المدارس وبمن، وكيف أن الأفراد من
أسلافكم كانوا يعملون ما لا يعمله الجماعات منكم اليوم، إن الأفراد هم الذين
ينهضون بالأمم، وإن المدنية الأسلامية التي تَلَوْتُ عليكم حلقة من سلسلتهاالعظيمة،
كان للأفراد شأن عظيم في وضع دعامتها وتشييد بنيانها.
تعلمون أيها السادة ما كان لترجمة كتب أهل التمدن القديم؛ كاليونان والفرس
إلى العربية؛ من الأثر الكبير في تأسيس المدنية الإسلامية في بغداد على عهد
الخلفاء العباسيين، وقد يتوهم البعض أن الذي عني بترجمة هذه الكتب إنما هم
الخلفاء وحدهم، وأخصّهم أمير المؤمنين المأمون، والحال أن للكثير من الأفراد
ورجال الفضل والنبل من الأمة يدًا لا تنكر في هذا السبيل.
وهذا يدلكم على أن عمل الأشخاص منفردين، لا يقل تأثيرًا في الهيئة
الاجتماعية عن عملهم مجتمعين، ولذا لا أبالغ إن قلت: إن نوابغ الأمة الذين
خدموا بذكائهم وعلمهم المدنية وشيدوا أركانها الرفيعة، إنما قاموا بهذه
الخدمة، وقامت تلك المدنية بفضل أهل السخاء والجود من محبي العلم والترقي
وأنصار النجاح الذين كانوا ينفقون من مالهم على المترجمين للكتب العلمية إلى
اللغة العربية، ومن هؤلاء الأفاضل الأجواد الذين رصدوا جزءًا كبيرًا من أموالهم
على المترجمين للكتب العلمية في تلك العصور؛ عليّ بن عيسي العباسي ومحمد
بن موسى بن شاكر الرياضي الشهير، وعليّ بن يحيى الكاتب وابن المدبر
الكاتب وثاوري الأسقف، ومحمد بن عبد الملك الزيات وبختشوع الطبيب والعدد
الكثير من أمثالهم المولعين بالترقي والعلم الذين كان ينفق كل واحد منهم أموالاً
طائلة على نقلة العلوم إلى اللغة العربية، حتى لقد نقل ابن أبي أصيبعة عن محمد بن
عبد الملك الزيات أنه كان ينفق في الشهر الواحد على المترجمين ألف دينار،
قال هذا فضلاً عما كان ينفقه الخلفاء من بني العباس لهذا القصد.
وإنا والله لنتمنى أن تجمع هذه الألف دينار في كل شهر من ألف غني من
أغنيائنا اليوم؛ لتنفق في سبيل نشر العلم وترقية الناشئة من أبناء الأوطان ولو فعلوا
ذلك اليوم لعوضها عليهم أبناؤهم أضعافًا مضاعفة في الغد، بل لو فعل ذلك أهل كل
ولاية عثمانية لأصبحت المملكة العثمانية بعد عشرين سنة جنة قطوفها العلم
وسياجها القوة والحياة.
ولْنعدْ إلى ما كنا بصدده فنقول:
يمثل هذا البذل على ترجمة كتب العلم ونشرها بين الكافة والاستفادة منها ظهر
أركان النهضة في الشرق الذين ارتفع بهم شأن التمدن الإسلامي، وذلك مثل بني
موسى بن شاكر المهندسين الرياضيين في عصرهم، وبني بختشوع وبني سهل
وبني ماسويه وبني حنين وبني ثابت بن قرة وبني زهرون وأبي عثمان الدمشقي
وابن كرنيب ويحيى بن عدي المنطقي وأبي الفرج الطبيب وأبي نصر الفارابي
والفخر الرازي وأضرابهم من العلماء الذين ظهروا في الشرق في عصور متفاوتة
إبان التمدن الإسلامي.
ومثل بني زهر ويحيى بن السمينة وأبي القاسم المرحيطي إمام الرياضيين
والفلكيين في عصره، وابن السمح الغرناطي المهندس وسعيد بن عبد ربه وأبي
جعفر الترحالي وأبي الوليد بن رشد وابنه محمد وأضرابهم ممن ظهروا كذلك في
الغرب.
ومثل ابن الهيثم البصري صاحب التأليف الغزيرة في الرياضيات والفلك
والمبشر بن فاتك وعلي بن رضوان وتلميذه إفرائم ابن الزفات والشيخ السديد
رئيس الأطباء شمس الرئاسة بن جميع الإسرائيلي، ورشيد الدين أبي خليقة
وأمثالهم ممن ظهروا في مصر.
كل هؤلاء من علماء الفلسفة والطب والرياضيات والحكمة الطبيعية وغيرها
من العلوم، ونسبتهم كنسبة واحد في المئة، ممن ظهروا في عصرهم وبعده في
الشام وبغداد ومصر وفارس والمغرب والروم أي آسيا الصغرى وغيرها من
الأمصار الإسلامية في الشرق والغرب، وإنما وَضَعَ لهم الأساس أفراد من الأمة
قدَّروا قدر العلم، فشيدوا معاهده وترجموا كتبه وأكرموا أهله، فتكوَّن من عمل
أولئك وهؤلاء وتعاونهم جيلاً بعد جيل بناء تلك المدنية العظيمة التي فقدناها بعدُ،
ولم نستطع اللحاق بأبناء التمدن الحديث؛ لإعراضنا عن العلم وغفلتنا عن تحدي
الأمم الراقية، وقبض أَكُفّنا عن إمداد معاهد العلوم وتشييد دورها، مع أنَّا قد يُطلب
منا الآن ونحن جماعات، فلا نجيب ما كان يعمله الأفراد من أسلافنا من تلقاء
أنفسهم وبمحض رغبتهم بالعلم والمعارف؛ وحبهم للارتقاء فما هذا الفرق العظيم.
وبالجملة أيها السادة: إننا أمة ذات ماض مجيد وتاريخ جميل، وقد ترك لنا
أسلافنا درسًا لا يمحوه الزمان، وقد نقش في كل زاوية من المشرق ومكان، فلا
يبلغ بنا ضعف النظر أو ضعف القلوب والهمم وفساد الأخلاق، واستحالة الدم إلى
أن نتناساه، ولا نقرأ صُحُفه الزاهية التي يدعونا كل سطر منها إلى التذكر والتفكر
والسعي الحثيث إلى الترقي الذي مناطه العلم، والعلم يحتاج إلى المال، فالمالَ
المالَ، الكرمَ الكرمَ، الانتباهَ الانتباهَ، وإلا قضي علينا بالدمار، ولحق بنا العار،
وتبرأ منا أسلافنا الطاهرون، ولا يكون ذلك إن شاء الله ما دام فينا الكرام الغيورون
والرجال المفكرون والسلام عليكم.
***
(حياة الزيتونيين)
كتبت مقالة في المجلد الثاني عشر من المنار (ص65) عن إضراب
الأزهريين عن حضورهم دروسهم، إلا أن يجابوا إلى مطالب لهم طلبوهها،
وحبّذتُ صنعهم ذاك وعددته نهضة لهم، وكان الكُتَّاب يسمُّون عملهم اعتصابًا.
ولكن تلك النهضة أو ذلك الاعتصاب كانت نتيجته الفشل؛ لأن مقدماته ألّفت من
التنازع، ولأن أولي الأمر هنا رابهم أمر الأزهريين، وأكبروا مطالبتهم لهم بأن
يتوفروا على إصلاح حالهم فخذلوهم، وذلك شأن أرباب السلطة يزدرون طلاب
تغيير الحال، ويعدونهم من المجترمين المذنبين.
اعتصب الأزهريون في العام الماضي، وليست حالهم دون حال إخوانهم
الزيتونيين، بل ربما كانوا أرقى منهم، فكان من المنتظر أن ترن أصداء خطب
الأزهريين في جامع الزيتونة، فتزلزل قواعد الجمود وتتداعى لها أركان الخمول،
وشاء الله أن يحذو طلاب جامع الزيتونة حذو طلاب الجامع الأزهر في طلب
تغيير حال إلى ما هو أصلح للمآل وأنجح للأعمال، وإنما المدرستان أو الكليتان
تسيران على نمط واحد؛ هو ذاك الطراز القديم طراز الافتراضات، وكثرة
التمحّل والتأويل فيها، حتى صارت العلوم في هذين المعهدين مناقشات نظرية
عقيمة، تؤخّر على طلاّب الدنيا ولا تلحق بأهل الدين.
صاح صائح التونسيين واعتلى خطيبهم المنبر؛ طالبًا حياة جديدة تبعثره من
قبر الخمول والجمود، فأجفلت لصيحته قلوب واغتبطت أفئدة، وإنما أجفل أولئك
الذين يستطيعون انتياشه، ولكنهم لا يرضون منه إلا أن يبقى سادرًا لاهيًا،
ويحسبونه عاقًّا مارقًا إذا تطالَّ إلى المجد، وطمح إلى العلوّ والسموّ.
لقد تفتحت مغالق قلوبنا؛ إذ حملت إلينا ريح الغَرْب أريج إخواننا الزيتونيين
الذين اعتصموا في مطالبهم بالأناة والصبر، وجنحوا للسكينة والحِلْم واستمسكوا
بالعروة الوثقى التي لا انفصام ولا خذلان لمن استمسك بها. تمثلناهم غادين رائحين،
ولهم من آداب الدين الحنيف وعِظاته روادع من الأدب وزواجر من الحياء، ومن
سيرة أعلام قرطبة وأئمة بغداد وأدباء غرناطة درس حكيم، يهديهم إلى الطريقة
المثلى، فكنا نشعر بسرور لا يُدانيه سرور، ونقول في أنفسنا: تالله لو أعطيت لهم
العلوم الصحيحة النافعة لفاق الخَلَف السَّلَف، والله يؤتي فضله من يشاء، فهو لا
يختص بجيل ولا قَبِيل.
طال الأمد على سكون المسلمين وركونهم إلى مخلفات قرون الظلمات التي
ضعف فيها شأن العلم، وجمدوا على التقاليد الخلقة التي لا تنهض بها حجة، ولا
يقام عليها دليل، ولم تكن حالهم إذ أخذوها قضية مسلّمة إلا كحال أولئك الذين
نزل فيهم قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22) ولو رجعوا إلى تاريخ أسلافهم في عصور السعادة؛ لاحتذوا حذو
أولئك، ونبذوا طريقة هؤلاء ظِهْريًا ويا بُعْد ما بينهما.
ولم يكن للمسلمين، وقد أحاطت بهم العظات، وطافت بهم النذور أن يرتضوا
لأنفسهم بقاء التسكع في دياجير الجهل، والتمرطل في حياض الخمول، وهم الذين
أرشدهم دينهم إلى الضرب في مناكب الأرض، والنظر في أسرار الكون والاعتبار
بتأريخ الأمم التي بادت وانقرضت؛ لكفرها بأنعم الله، وجَعَلَ العزة وصفًا لأهل
دينه، لا تنفك عنهم ما داموا مؤمنين.
ليس بعجيب أن ينهض المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها؛ ما دام
القرآن الحكيم محفوظًا في صدورهم، متناولاً بين أيديهم؛ وهو الذي يُنْحي على
التقليد وأهله، ويستفز الهمم ويَحْدوا العزائم إلى طلب الآخرة بالعمل الصالح،
وطلب الدنيا بالسير في مناكبها وعلومها، إنما هي وسيلة موصلة إليهما، ليس
بعجيب أن ينهضوا، وإنما العجيب أن يلبثوا في عماية عن أمره ونهيه معرضين
عن نذره وعظاته؛ لذلك قلنا ولا نزال نقول: إن إصلاح المسلمين لا يأتي من ناحية
دينهم وعلمائه حَمَلة القرآن، فنحن اليوم نقرظ عمل الزيتونيين، ونعده مبدأ حياة
جديدة ستكون زاخرة بالعلوم النافعة حافلة بالأعمال الرافعة - إن شاء الله تعالى -
ونثني على أولئك الزعماء الفضلاء الذين نظَّموا الاعتصاب، وساروا بهم على نهج
التُّؤَدة والرزانة، ونحمد للحكومة جنوحها للين، وإجابتها لمطالب التونسيين، بعد
تلك الذبذبة والتغشم والإنذار والوعيد، وإحراجها صدر العدل بسجن فئة من زعماء
الطلاب، وإننا نقول الآن: عفا الله عما سلف، ونهنّئ إخواننا الطلاب المجتهدين
بفوزهم وفلْجهم، ونرجو أن تبقى نفوسهم دائمًا ظَمْأى إلى ما لم يأتوا من العلوم،
وأعيذهم أن يُخْدعوا بأماديح المادحين، ويركنوا إلى الغاشّين المتَفَيْهِقين، فليس ما
أحرزوه هو كل الإصلاح، وإنما هو وشل من بحر، وعلى الله قصد السبيل،
ولعلنا نُوَفَّق لكتابة مقال مطول في هذا الموضوع.
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين وصفي رضا
__________
(1) ألقى هذا الخطاب العلاّمة المؤرخ رفيق بك العظم في حفلة حافلة في مدينة دمشق أَرْصَد ريعها لجمعية البعثات العلمية.(13/697)
الكاتب: محمد عاكف أفندي
__________
الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده [*]
كنت كتبتُ رسالةً بيّنت فيها فساد زعم الذين يتَّهمون الشيخ جمال الدين
الأفغاني بالمروق، وأوضحت بطلان هذا البهتان بأجلى بيان، وطبعت تلك الرسالة
ونشرتها فتداولتها الأيدي، واشتهرت بين الناس، وبعد ذلك سمعنا ببهتان جديد؛
وهو أن الأستاذ لم يكن مارقًا ولكنه كان وهّابيًّا.
عجبًا هل يعرف هؤلاء الذين يَهْرفون بما لا يعرفون معنى رَمْيهم الناس
بالمروق تارة وبالوهّابية تارة أخرى؟ أم هل درى أولئك الخرّاصون الأفّاكون
ناشرو الإفك والبهتان أنهم بعملهم هذا يدخلون تحت طائلة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} (النور: 19) إلخ؟
وأما الوهّابية فهي بالحقيقة اسم للذين اعتنقوا هذا المذهب وهم معظم سكان
بلاد العرب، ومذهبهم ليس بينه وبين مذهب الحنبلية فرق كبير.
عجبًا أَصَار من الدين عندنا أن نثق بكل كلام يراد به إيذاء أي شخص
والطعن عليه؟ وكيف يجوز أن نعمد إلى رجل صحيح العقيدة صالح الأعمال،
ونقول: إنه رجل صالح لكنه مارِق من الدين، ثم يتلقّى الناس هذا القول وينتشر
من دون تروّ ولا نظر في أعمال وأحوال مَنْ نسب ذلك إليه، فلا يمضي قليل زمن
حتى يشيع بين الناس بأن فلانًا مارق وأن فلانًا زنديق.
ثم كيف يجوز لنا الحكم بمجرد نقل قوم لا يعرفون من أحوال من يحكمون
عليه بهذه الافتراءات، ولا من كلامه شيئًا يصحح حكمهم؟
إننا نعلم أن أكبر جُرْم في الإسلام هو أن يحكم الإنسان على عقيدة إنسان آخر
ويتحكّم فيها، وينسبه إلى الزندقة تارةً وإلى الوهّابيّة تارةً أخرى؛ بمجرد
اختلاف في المشرب أو لأقل سبب، مع أن الواجب الإسلامي يأمرنا باحترام عقيدة
مطلق إنسان، ما دام يوجد دليل واحد على إسلاميته ضد تسعة وتسعين دليلاً على
الكفر، وأنه لا يجوز الحكم بالكفر مع وجود ذلك الدليل.
إن اتهام كبار المصْلِحين بالوهَّابية في بلاد العرب، وبالفرماسونية في بلاد
الترك، وبالبابية في بلاد العجم، وبالدهرية والمروق في بلاد الروسيا، صار أمرًا
معروفًا ومشهورًا جدًّا. وإن تَعْجَبْ فعَجَب نعت خيرة رجال الإسلام بتلك النعوت
مثل جمال الدين الأفغاني، مع أنهم هم وحدهم المعروفون بالمدافعة عن الدين
الإسلامي، وهم أنفسهم المجتهدون في ترقية بنيه بتربيتهم تربية صحيحة، وهم
الذين أفْنَوْا عمرهم الثمين بإنشاء المدارس؛ ليجعلوا لأبناء أُمتهم حظًّا من العلوم التي
تنهض بهم من حضيض الذلّ إلى أَوْج العزّ، وتؤهلهم للجهاد في معترك هذه الحياة
ليخرجوا من أسر المغلوبية.
إذا اعترض علينا معترض من أهل الملل الأخرى قائلاً: إنكم تتهمون أفضل
رجالكم وأَعْلمهم وأَعْقلهم وأَعْلاهم قدْرًا وأشدهم غيرة على ملتكم بالمروق والدهرية
والفرماسونية والوهابية، مع أنهم لا يريدون لكم إلا الخير والرقي والسعادة فلماذا؟
ألأن دينكم لا يجتمع مع العقل والعلم والفضل والأدب والحمية وحسن الخلق؟ فماذا
يكون جوابنا ترى؟ .
إذا بحثنا في تاريخ الرجال الغيورين في القطر المصري الذين يدأبون على
منفعة الإسلام، ويخدمون المسلمين خدمة صادقة، نجد أنهم تلامذة جمال الدين
الأفغاني، وأنهم إنما نبغوا بفضل تربيته القويمة.
ولو كان الرجل مارقًا من الدين كما يقولون؛ لَمَا قدر أن يُوجِد رجالاً ممتلئين
غيرة على الدين وأهله، يخدمونه أجلّ الخِدَم (لأن فاقد الشيء لا يعطيه) ولا هَمَّ
لهم سوى ترقي الإنسانية بكل همة ونشاط.
إن جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى، ضاقت عليه الأرض بما رحُبت،
سواء كان في الأفغان أو العجم أو تركيا أو أوربا، ولم يُسْمح له أن يقيم في إحدى
هذه البلاد ناعم البال منشرح الصدر، ولو كان من محبي المال والجاه والمناصب
العالية لترك ما اضطهد لأجله، وهو خدمة الإسلام الجلية وإلقاء الدروس النافعة
للعالم الإسلامي، ولمّا حاول إيقاظ المسلمين من نومهم العميق المؤدي إلى النوم
الأبدي؛ إن لم يُسْعف بالمنبِّهات من مثل إرشاد جمال الدين.
نعم.. لو أن جمال الدين ترك خدمة الإسلام، واشتغل ببث أفكاره في العالم،
ولم يعمد إلى إيقاظهم، لانهالت عليه سُحُب الدنانير، ولكان موضع الاحترام،
وصاحب المقام الذى لا يرام في جميع البلاد.
ولكن تلك الروح العالية والإرادة القوية والنفس السامية، لم تنزل به في هذا
الحضيض حضيض المجد الزائل، فما زال مشمِّرًا عن ساعد الجِدّ، مجتهدًا بترويج
مقاصده الخيرية، يصارع الأيام ويكافح النوائب غير هيّاب، ولا وجل وثَبَتَ في
موقف يتعذر على غيره الوقوف فيه، حتى صح أن يقال عنه: إنه كان شهيدًا في
حياته، وصدقت عليه عبارة كمال بك التركي (أحسن شيء وأفضله في هذه
الدنيا أن يكون الإنسان شهيدًا في حياته) .
هذا وإن الذين يفترون على جمال الدين الأفغاني بالمروق والوهابية، تراهم لا
يألون جهدًا برمي الشيخ محمد عبده بأكثر مما رَمَوْه به (كان الكفر والمروق على
نسبة النفع للأمة) ، نعم.. إن لهؤلاء الأّفاكين مصنع كفر، لا يفتأ يصوغ من حُلي
الكفر أجودها لهؤلاء الرجال العظام، فأنا أرجو منهم بعد النظر في مؤلفات الشيخ
محمد عبده أن يثبتوا لي علامات الوهابية التي ينكرونها عليه، ولو بأي صفة كانت
ويظهروها للملأ.
إن بعض الناس يقول: (إنه لا موازنة بين زهد الشيخ محمد عبده وبين
علمه) [1] ، وربما كان كذلك، وهل إذا مضى الشيخ محمد عبده عمره معتكفًا
بالمساجد، مواظبًا على صلاة النافلة، أكان يفيد الإسلام أكثر مما أفاده؟ إننا لا نظن
ذلك، بل إن رَدّه على عالم إفرنجي مثل هانوتو ومُدافَعته عن حقوق الملايين من
المسلمين؛ هي في نظرنا أحسن عملاً، وأكثر ثوابًا من الاعتكاف وصلاة النافلة.
انظروا إلى قول عمر رضي الله عنه لأبي قلابة التابعي (إن اكتسابك الرزق
لعيالك أحسن عندنا من إقامتك في المسجد) وهل يعجز أبو قلابة عن تربية عياله
وأولاده في زمن يعيش فيه الناس بقليل من النفقة عيشة الرفاهية من غير تجشم
مشاق الكسب؟ ومع ذلك فقد أمره عمر رضي الله عنه بالكسب ونهاه عن الإقامة
في المسجد.
أما محمد عبده فإنه لم يكن مثل أبي قلابة، ولا هو في زمن مثل زمنه، بل
هو في زمن يُحتاج فيه أن يشمر عن ساعد الجدّ؛ لأجل تربية عائلة تبلغ الملايين
من الأشخاص.
ها نحن اليوم معشر المسلمين ليس لنا مثل جمال الدين ومحمد عبده، وقد
مَضَيا إلى خالقهما، وتركانا كالماشية بلا راع، بل إننا أصبحنا واقفين موقف
الحَيْرى، لا ندري ماذا نعمل، ولا نهتدي طريق النجاة.
فالواجب عليها أن نذكر مثل هذين الأستاذين بالخير؛ لأنهما خدما الدين،
وكانا من حُماته، وأن نسأل لهما من الله الرحمة والغفران؛ لكي ينالا جزاء عملهما
الصالح.
نعم.. ويجب أن نعترف بفضلهما وإرشادهما؛ لئلا تجهلنا الأجيال المقبلة
وتعيينا، حيث إننا لا نعرف لأهل الفضل فضلهم ولأجل أن يعلم القوم الآخرون أننا
أناس نعرف فضل المصلحين وأننا لسنا ممن يَكْفرون بالنعم، ويحسن أن أورد هنا
حكاية صغيرة، وأجعلها ختامًا لهذا الموضوع، وهو أنه قابلني قبل خمس سنوات
رجل إفرنجي، وقال لي: (إنكم قوم محرومون من معرفة الصناعة، وأنتم
معذورون في هذا، أما في عدم تفكّركم في معرفة قدر الرجال فلستم بمعذورين، بل
إن هذا ذنب لكم لا يغتفر وهو من أشنع الذنوب {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
__________
(*) كتب محمد عاكف أفندي الكاتب المعروف هذه المقالة ونشرها بجريدة شُوَرى التي تصدر في
أوربنبورغ في الروسية تحت هذه العنوان فنقلناها عنها.
(1) عبارة الأصل مشوشة.(13/709)
الكاتب: علي أفندي فهمي محمد
__________
الخلافة الإسلامية والجامعة العثمانية [*]
(1)
] أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [[**]
إن الدين أعظم مهذب للنفوس، وآثاره تظهر في الناس بقدر استعدادهم للخير
أو الشر، وبهذا كان التدين الذي لولاه لَمَا ثبت دين؛ إذ لو توحدت الفكرة الدينية
لزالت الصعوبات؛ لأن كل فريق مضطر أن يناضل الآخرين؛ ليثبت لهم أنه على
حق، وما هي البراهين التي تحمله على تصديق فريق وتكذيب آخر؟ لماذا نعتبر
والد إبراهيم مخطئًا في عبادة الأصنام، ولماذا نحبذ فعل إبراهيم عليه السلام؛
لتحطيمه تلك الأصنام وعبادته الحي القيوم الذي لا يغفل، ولا ينام؟ {وَلَوْ شَاءَ
رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118 - 119) الآية.
يتأمل الإنسان فيما حوله من الكائنات، فيجدها سائرة بنظام واحد ميسرة لما
خلقت له {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} (الملك: 3) ، وما الطبيعة
إلا ذلك الناموس الذي يخضع له كل شيء في الوجود، وإني بقدر ما وصل إليه
بحثي أعتقد اعتقادًا راسخًا أن الإسلام هو الدين الطبيعي، أو دين الفطرة التي فطر
الله الناس عليها، ذلك هو الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وإن جميع مبادئه
موافقة للنواميس الطبيعية، وإني أؤمل أن كل محب للحقيقية يسلّم معي بهذا
الاعتبار، ويعترف بما للإسلام من المزايا النافعة والمبادئ الشريفة.
طَرَق كثير من كُتاب الغرب باب الكلام في الإسلام، ونبيه عليه الصلاة
والسلام، ومن سوء حظي أني لم أتمكن من الوقوف على آراء السابقين، وإن فزت
ببعض آراء اللاحقين مثل دانيل ولوثر وملانشون وهربولت، ولكن أرى هؤلاء
الناس يتطاولون على ما ليس لهم به خبر، شأن كثير من بني الإنسان في كل زمان
ومكان، ليست دهشتي من الذين يذمون الإسلام مثل هانوتو ولورد كرومر بأكثر من
دهشتي لمارتين لوثر وهو ذلك الحرّ الأبيّ، المفكر الذي كون المذهب البروتستاني
بالرغم من سلاسل وأغلال الفاتيكان في العصور الوسطى، ولكن الأغراض
السياسية تسربت إلى نفوس هؤلاء الكتاب فأعمت بصيرتهم، فلم يَخُطّوا إلا ما توحيه
إليهم أغراضهم. إلا أن الحق لا يعدم أنصارًا، وإنا لذاكرون هنا في مقدمة هذه
الرسالة بعض آراء المصنفين من كُتَّاب الغرب في الإسلام، والنبي صلى الله عليه
وسلم ليرى كل منصف أن الإسلام لا يعدم من الأعداء ظهيرًا، وكفى بالله وليًّا
ونصيرًا.
كتب مستر جون ويغنبورت الرحالة الشهير في كتابه (تاريخ محمد) :
(هل في الإمكان إنكار فضل رجل (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) قام
بإصلاحات عظيمة خالدة لبلاده؛ بأن جعل جميع أهلها يعبدون الله الواحد القهار،
ويهجرون عبادة الأصنام، ذلك الذي منع قتل الموءودة وحرم شرب الخمر ولعب
الميسر) , وكتب إدوارد جيبون (إن دين محمد خال من الشكوك والظنون، والقرآن
أكبر دليل على وحدانية الله، بعد أن نهى النبي عن عبادة الأصنام والكواكب. وهذا
الدين أكبر وأجلّ من أن تدرك أسراره العويصة عقولُنَا الحالية) .
وكتب مستر ديفونويت في كتابه (اعتذار إلى محمد والإسلام) : (إنه لَمِن
الحماقة أن نظن أن الإسلام قام بحد السيف وحده؛ لأن هذا الدين الذي يهدي للتي
هي أَقْوم، يحرم سفك الدماء ويأمر بالمعروف ونهى عن المنكر. ويجب أن نعترف
هنا بأن علوم الطبيعة والفلك والفلسفة والرياضيات التي أنعشت أوربا منذ القرن
العاشر مقتبسة ومقتطفة من القرآن، بل إن أوربا مدينة للإسلام بأكثر من ذلك؛ لأنه
الدين الذي أمر بالدستور والديموقراطية وينهى عن الاستبداد في قوله
تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) ، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) ، منح الإسلام الإنسان جميع حقوقه المدنية، ولتتذكر أوربا
أنها مَدِينة للمسلمين أنفسهم بحفظ آداب الغرب القديمة حينما كانت هي في ظلام
دامس، فحفظوا آثار فلاسفة اليونان، وأنشؤوا علوم الطب والهندسة وغيرها،
وبعبارة أخرى إن المسلمين هم أساتذة أوربا أثناء همجيتها من القرن التاسع إلى
القرن الثالث عشر) .
وكتب كاتب مقالة تحت عنوان (الشرق والغرب) جاء فيها: (لقد ساوى
الإسلام بين جميع الناس في الحقوق السياسة، ورفع عن كواهلهم الضرائب الفادحة
في قديم الزمان، وحفظ لهم جميع حقوقهم، وذم استعباد الإنسان للإنسان) ومع ذلك
فإن ساسة أوربا وخصوصًا الإنجليز منهم، لا يدخرون وسعًا في التطاول على
الإسلام ورميه بكل نقيصة، وأنه داعية للتأخر بمناسبة وبغير مناسبة، من ذلك أنه
عندما حصل اعتصاب طلبة الأزهر، قالت (التيمس) والجرائد التي على شاكلتها
إن الأزهريين ميالون للتأخر، وهذه الافتراءات تنافي ميل علماء الإسلام وتعاليمه
على خط مستقيم، قال أحد فضلاء الإنجليز في إحدى الجرائد بهذه المناسبة: (إننا
نعتقد أنه إذا كان ثمة دين خال من مبادئ التقهقر؛ فما هو إلا الدين الإسلامي
الحنيف) ، وهل يقدر إنسان على نسيان ما قام به علماء الأزهر وشيخ الإسلام نفسه
في أثناء تلك الحركة الدستورية التي قامت سنة 1882، مَن غير العلماء أصدر
قرارًا ضد توفيق باشا، ألم يكن شيخ الإسلام في الآستانة هو الذي قال للسلطان:
(إن الشورى ليست من روح الإسلام فقط بل إنه يأمر بها أمرًا، ومن قام في مجلس
المبعوثين وخطب الخطب العصماء بوجوب مساواة جميع العناصر العثمانية
بصرف النظر عن الملل والنحل في مصالح الوطن غير العلماء؟) .
ولقد قام العلماء بمثل هذا العمل في روسيا، فإنه لما كان الأرمن والتتر يفتك
بعضهم ببعض سنة 1905على مرأى من البوليس الروسي في باكو، كان رجال
الدين المسلمون أول من نهض لحسم النزاع بين الطوائف والعشائر، وها هم رجال
الدين الإسلامي يبذلون جهدهم في سائر البلاد، ويحثون التتر على تشييد المدارس؛
لنشر العلوم الحديثة لترقية أبنائهم وإلقاء المحاضرات التي تعصمهم عن ارتكاب
الآثام.
ولكن الحكومة لسوء الحظ، تحاول إيقافهم عن مساعيهم الحميدة؛ خوفًا من أن
يستنير الأهالي، فيسعوا لإسقاطها أو يتوسعوا بطلب حقوقهم منها.
ومن عجيب ما يلاحظ أن مسيحيي تلك الجهة ومعظمهم من الفلاحين، قد
تأثروا بإرشاد رجال الدين الإسلامي وسعيهم وراء العلوم والمعارف، فدخل
الكثيرون منهم في دين الله أفواجًا، واضطرت الحكومة أن ترسل إلى تلك النواحي
مرسلين خصوصيين؛ لمقاومة تلك الحركة الضارة في نظرها. هذا هو الإسلام
وهؤلاء هم رجاله، ومع ذلك فإن سواس الإنجليز لا يخجلون من أن يَصِمُوه
ويَصِمُوا رجاله بالتأخير والتقهقر.
ولا شك في أن آراء أولئك المنصفين من رجال الغرب أكبر حجة عليهم؛ إذ
أقروا بأن هذا الدين القويم لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فتم بذلك قوله
تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) .
ولا عجب أن يقر أولئك الناس بفضل النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن
أقروا بعجزهم عن معارضة فَحْوى آيات الذكر الحكيم القائل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ
رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) ، {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) ،
{وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) وهذه
الآيات مِصْداق للحديث الشريف (أدبني ربي فأحسن تأديبي) أو كما قال.
يدّعون أن الإسلام خال من الوطنية، فهل يقتنع أولئك المفترون بما جاء في
الذكر الحكيم {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ
الأَصْنَامَ} (إبراهيم: 35) ألا يخجلون من حكاية أبي رئبال الذي دل صاحب
الفيل على طريق وطنه وخان بلاده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجم قبره،
كما فعل هو ذلك بيده الشريفة، ألم يأتهم نبأ الحديث المتداول (حب الوطن من
الإيمان) .
يدعون أن الإسلام دين تواكل وتقاعد لا عمل ولا نشاط فيه، وهذا قول مردود،
ودعوى كاذبة بنص الذكر الحكيم {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39)
والحديث المتداول على الألسنة أيضا (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك
كأنك تموت غدا) والحديث الشريف (ليس بخيركم من أخذ من هذه وترك هذه إنما
خيركم من أخذ من هذه وهذه) يدعون أن الإسلام لا يلائم بعض العلوم الحديثة، مع
أنها في الحقيقة ونفس الأمر فِرْية يدحضها ما حواه القرآن الشريف أصل هذه الدين
الحنيف؛ من الحث على العلم والسعي واكتشاف أسرار الطبيعة، قال تعالى:
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) ، {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (يونس: 101) ، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ
لاَ يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) ، {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ
اللَّهُ مِن شَيْءٍ} (الأعراف: 185) ، {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} (الذاريات:
21) .
يزعمون أن الإسلام استعبد المرأة؛ ويستدلون على ذلك بالحجاب أو النقاب،
ولا يفقهون أن ذلك يُعْزى إلى العوائد التقليدية أكثر مما يعزى إلى الأصول الدينية،
ولقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة، فلم يجعلها متاعًا له كما يزعمون؛ نظرًا
لإباحة الطلاق وتعدد الزوجات، ولا يدرون أن هذه التصرفات تكون لأسباب غير
عادية، وأنه إذا فرط فيها المسلمون فذلك راجع لأخلاقهم الشخصية، وليس إفراطهم
هذا من الدين في شيء , قد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النساء: 3) إلى قوله تعالى {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} (النساء: 3) ثم جاء بعد ذلك {وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (النساء: 129) وفي حديث شريف (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) وفي قوله
تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً
وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21) فمن ذلك يرى المنصف
أن تعدد الزوجات والطلاق، أمران يكادان يكونان محرمين في الإسلام.
لقد أباح الإسلام للمرأة حتى القضاء، فماذا منحها غيره من الأديان من هذه
الجهة. ينكر هؤلاء القوم على المرأة مطالبتها بحقوقها بصفتها حقوقًا لا هبةً، كما
هو الحاصل الآن في أمريكا وأوربا، ثم يطنطنون باستعباد المرأة في الإسلام،
وهي تطالبهم ببعض ما منَحه الإسلام لها فيسخرون منها، جاء في الذكر الحكيم:
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ} (النساء: 34) وهي ميزة لا تكاد تذكر، والسبب فيها أن الرجل بناء
على النظامات الكونية هو الذي يسعى ويكد، وهي أكثر منه راحة في خدرها بوجه
العموم، وهي معرضة للتأثيرات القلبية والنفسانية التي قد تتغلب على العقل، فكان
الرجل في هذا المعنى كشكيمة لتطرف النفس والعقل.
يدعون أن الإسلام دين حرب وعداء، لا سلام وصفاء، ويقيمون على ذلك
دليلاً معكوسًا من الفتوحات التي نمت في صدر الإسلام، ولو أبصر هؤلاء المدعون
لعلموا أن تلك الفتوحات لو تمت على أيدي غير المسلمين؛ لأذيقت تلك الأمم التي
غلبت على أمرها أنواع الذل والمسكنة؛ بناء على قواعد الاستعمار الأوربية التي لا
يسع المقام شرحها، جاء في القرآن {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا
وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً
بَصِيراً} (النساء: 58) هذا ما كان يعمل به الفاتحون من أمراء الإسلام، أفلا
تخجل أوربا إذا قارنت به عملها اليوم في الشعوب التي أخنى عليها الدهر، فوقعت
تحت سلطانها، جاء في القرآن الكريم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) ، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33) ، {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ
قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى
لاَ انفِصَامَ لَهَا} (البقرة: 256) ولم يكن القتال في الإسلام؛ إلا لتأييد الدعوة
وللدفاع عنها، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ
لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) هذه بعض آيات من الذكر الحكيم، فأين
أمرها مما قال المستر موط المرسل الأمريكى في خطاب ألقاه على جمهور من
المراسلين في الشرق الأدنى: (بواسطة مئة رجل نظيركم يحتملون الصعاب
وعشرين ألف جنيه يقدر الله أن يلاشي الإسلام وينتاش بلاد العرب من قبضة
الشيطان) .
إن نصارى الشرق لم يأمنوا الإكراه على ترك دينهم بفضل شجاعة أفرادهم
ولا بعجائب كنيستهم، ولكن الذي وقاهم ذلك إنما هو ما أوردناه من الآيات القرآنية
فإنها ضمنت لهم سلامة استقلالهم الديني، وصانت عقيدتهم من كل اعتداء، ولو
كان المسلمون الآن كما كانوا في صدر الإسلام، لما أمكن أولئك المرسلين أن يأتوا
بمعشار ما يفعلونه في الشرق الآن، بل لانتشر الإسلام في سائر أنحاء العالم؛ لأنه
دين مُساوِق للطبيعة ملائم للنوع الإنساني في جميع أطوراه، يقبله كل عقل فطري
لم تدنسة التقاليد.
بل لو كان المسلمون الآن كما كانوا عليه في صدر الإسلام، لما قَدَرَتْ أوربا
بأن تستعمر شبرًا واحدًا من بلادهم أو بلاد الشرق، أو تستعبد قبيلة واحدة فيها،
قال الأستاذ الإمام المرحوم الشيخ محمد عبده: (إن الأزهر كالأسد محبوس في
قفص، والحكومة المصرية كالحارس على بابه، فإذا فتح ذلك الباب كان أول
فريسة لذلك الأسد ذلك الحارس) [1] ، ونحن نزيد على ذلك أنه لو فتح ذلك الباب،
وتنسم ذلك الأسد نسيم الحرية، لأعاد الشرق إلى الشرق والغرب إلى الغرب.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) لِعَليّ أفندي فهمي الكاتب المعروف.
(**) (المائدة: 50) .
(1) المنار: تفتقر هذه العبارة إلى إثبات ورودها عن الأستاذ الإمام.(13/713)