الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
الزكاة في القراطيس المالية
الأنواط
(س5) من الشيخ محمد بسيوني في (سمبس برنيو) .
حضرة الأستاذ الحكيم، الشيخ العظيم، سيدي السيد محمد رشيد رضا
صاحب مجلة المنار الغراء، متعني بوجوده، آمين.
وبعد، أهديكم أزكى التحية والاحترام، أرجو من فضيلة -سيدي- الجواب عن
هذا السؤال. لا زلتم مشكورين.
ما قولكم في الأنواط هل تجب فيها الزكاة أو لا؟ وما العلة في وجوبها أو
عدمه، أفتوني سيدي بالقول الصحيح المعتمد مأجورين.
(ج) بينَّا في الفتوى 28 من المجلد العاشر (ص539) أن القراطيس
المالية التي تسمى (بنك نوت وأنواط) من قبيل النقود الذهبية. وفي الفتوى الأولى
من المجلد الخامس كلام في الخلاف فيها، واعتماد كونها من قبيل النقد لا
عروض التجارة، وكون الزكاة تجب فيها، والربا يحصل بها، فليرجع إلى ذلك.
ولو قلنا: إن الزكاة لا تجب في هذه القراطيس؛ لأمكن للغني الذي يملك ألوف
الألوف من الذهب أن لا يؤدي زكاة قط؛ ولأبيح الربا بسهولة في أكثر معاملات
المصارف (البنوك) .
***
حديث من آذى ذميًّا
(س6) من محمد أفندي أحمد شمس الإسكندرية.
ملخص السؤال أنه اطلع على خطبة للشيخ بشير الغزي العالم الحلبي الشهير
فرأى حديثًا لم يطرق سمعه وهو (من آذى ذميًّا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه
خصمته يوم القيامة) وسأل عن تخريجه؛ ليباهي بتساهل الإسلام فيه.
(ج) الحديث أورده السيوطي في الجامع الصغير، وعزاه إلى معجم
الطبراني الأوسط، وأشار إلى أنه حديث حسن. وفي معناه أحاديث أخرى في
الوصية بالذميين والمعاهدين، منها حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد والبخاري
والنسائي وابن ماجه (من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من
ميسرة أربعين عامًا) وحديث علي عند الحاكم (منعني ربي أن أظلم معاهدًا ولا
غيره) والإسلام يأمر بأكثر من ذلك، فقد قالوا: إنه يجب على المسلمين إطعام
الذمي عند الضرورة، ويستحب مع غير الضرورة، كما تجب حمايتهم والدفاع
عنهم ولو بمحاربة المعتدي عليهم.
***
شرب الدخان في مجلس القرآن
(س7) من الشيخ إبراهيم حسين بهوارة عدلان (الفيوم) .
حضرة العلامة الكامل، والأستاذ الفاضل، صاحب مجلة المنار الغراء،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سيدي ومولاي: جرى الخلاف بين طائفة
من أهل العلم في حكم التدخين - أي شرب الدخان- في مجلس تلاوة القرآن الشريف
فمنهم من حرَّمَه، ومنهم من جوَّزه مع الكراهية؛ مراعاة للآداب، ولم يذعن أحد
الطرفين لقول الآخر؛ وحيث إن سيدي ممن يُرجع إليه في فصل الخلاف، فقد
حررت هذا لفضيلتكم؛ راجيًا التفضل بالجواب مبسوطًا في العدد الآتي في مجلتكم
مؤيدًا بالحجج الإقناعية بدون إحالة على ما نشرتموه سابقًا في المجلة؛ لإجماله
ولصعوبة العثور عليه الآن على مثلنا، ولفضيلتكم جزيل الشكر.
(ج) قد بسطنا الكلام في هذه المسألة في الفتوى 71 من المجلد السابع
(ص 537) ، وحاصل رأينا أن شرب الدخان في مجلس القرآن يعد محظورًا،
إذا كان العرف العام يعده من إساءة الأدب، والأوجب على كل امرئ مراعاة ما
يعتقده، وتطمئن إليه نفسه مع الاحتياط في التزام الأدب. وإن الجرأة على التحريم
من أكبر الجنايات على الدين، إذا لم يكن الدليل عن الشارع واضحًا نصًّا أو دلالة،
ولا نص في مسألتنا ولا دليل، إلا ما يقال في مسألة الأدب، وهو شيء يتعلق إما
بالعرف، وإما باعتقاد الشخص، وهو ما اعتمدنا عليه من قبل، وما نقوله الآن.
والله أعلم.
***
استعمال ساعة الذهب
ولبس خاتمه
(س8) من كتاب الشيخ عبد اللطيف أبي عوف بدنقلة (السودان) .
أرجو إفادتي بوجه السرعة على صفحات مجلتكم الغراء؛ عن حكم لبس
الساعة التي داخلها شيء من الذهب، وكذا الخاتم، ومقدار ذلك الذهب أعني عيار
12 أو أقل، ولكم الشكر.
(ج) في الفتوى 57 من فتاوى المجلد السابع (ص419) تفصيل لمسألة
التحلي بالذهب واستعماله، ومنه بعد ذكر الأحاديث الواردة في المسألة والبحث فيها
(وجملة القول أنه ثبت في الصحيح النهي عن الأكل والشرب في أواني الذهب
والفضة، مع الوعيد والنهي عن التختم بالذهب، وفي حديث مسلم أنه شبهه بجمرة
من نار، ولم أره في المنتقى. وأما مذاهب العلماء فيها: فقد حمل الأقلون النهي
على التنزيه دون التحريم، وذهب داود إلى تحريم الشرب في أواني النقدين،
وإباحة ما عداه من أنواع الاستعمال، وقاس كثير من الفقهاء غير الأكل والشرب
عليهما، حتى حرّم الشافعية اتخاذ الأواني وإن لم تُستعمل) ثم بحثنا في علة ذلك
واختلافها باختلاف الزمان. وذكرنا في آخر الفتوى أن الاحتياط أن يتجنب المسلم
ما ورد به النهي الصريح، ويراعي المصلحة فيما وراء ذلك بحسب اجتهاده مع
الإخلاص، وراجع التفصيل إن شئت (في ص 421 - 424م7) . والظاهر أن
المراد بالذهب في النهي ما يعم التبر الخالص، والمزيج من الذهب وغيره ما سُمِّي
ذهبًا، ويحتمل أن يقاس الذهب على الحريرعند من يقولون: إن الثوب المحرم منه
هو ما كان إبريسمًا خالصًا، أو ما كان الإبريسم هو الغالب فيه وزنًا أو نسيجًا.
وإنني أعتقد أن استعمال الساعة الذهبية إنما تحرم إذا كان فيها إسراف أو مخيلة،
وكذا غيرها مما لا نص في النهي عنه، وإلا فهو مباح أو مكروه في الأكثر،
والله أعلم.
***
رابطة النقشبندية
(س9) من ع0ب0ح في سنغافورة.
حضرة الفاضل صاحب المنار بمصر:
نحن معاشر أهل الطريقة بهذه الجهات، قد عثرنا على فتواكم في رابطة
أهل الطريقة، فحمدنا الله على صنيعكم، وما أيدتم طريقتنا بقولكم: (يمكن للمريد
العارف بعقيدة الإسلام أن يجمع بين التوحيد وبين تخيل شيخه، إلى أن قلتم:
فمثل هذا لا يعد مشركًا لشيخه مع ربه) ، ونحن ولله الحمد عرفنا بعقيدة الإسلام،
وأن إحضارنا صورة شيوخنا عند ذكر الله؛ لأنه من آكد الآداب، والاستمداد منه
هو استمداد من النبي صلى الله عليه وسلم، وقلبه يحازي قلوبنا إلى صاحب الطرق
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقلبه صلى الله عليه وسلم دائم التوجه إلى
الحضرة الإلهية، كما هو مقرر في كتب الطريقة، وقد عمل بالرابطة أولياء الله
الصالحين، ونحن من متبعيهم ومتبعي النبي صلى الله عليه وسلم، وسلسلة طريقتنا
متصلة إليهم وإلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يقول محرر الإمام
بسنغافورة: إن الرابطة بدعة لم يعمل بها النبي، ولا أصحابه، ولا التابعون، بل
قال الرجل: إن اختراع الرابطة لم يكن في عهد الإمام الغزالي، وعبد الوهاب
الشعراني، وعبد القادر الجيلاني، فهل يتصور أن كبار العلماء القائلين بالرابطة
أخطأوا فيها. وهذا المدعي وأضرابه مصيبون فيتركهم الناس ويتبعون المدعي
وأضرابه كلا ثم كلا، وقد تجرأ المدعي على أهل الطريقة، قال ما معناه: من قال
إن الدين الإسلامي يأمر بالرابطة فهو أكذب من خطيب سمبس؛ لأن ذلك الخطيب
وغيره قد نشروا ردودًا على مجلة الإمام بالجرائد، ومن قول ذلك الخطيب ما معناه
حيث إن الإمام قد أنكر الرابطة وقال: إنها بدعة لم يأمر بها الدين، بل هي
ممنوعة وجبت عليه التوبة، ووجب عليه إعلان توبته بمجلته وبالجرائد التي كتب
فيها مسألة الرابطة؛ لئلا يغتر الناس بقوله في الدين. اهـ أرجو من المنار بسط
الجواب، هل هي بدعة ممنوعة أم لا؟
(ج) قد علم من جوابنا السابق أن الرابطة لم يرد فيها شيء من كتاب ولا
سنة نبوية، وإنها ليست من أعمال الدين، فيطالب كل مسلم بها، ويعد مقصرًا في دينه إذا تركها، وينكر عليه إذا أنكرها، كما يعد مبتدعًا إذا فعلها. وإنما هي طريقة
في تربية النفس كغيرها من الطرق التي استخدمها الناس في التربية والتعليم،
واستفادوا منها بالتجربة ما كان عونًا لهم على مقصدهم، فمن قال: إن الدين يثبتها
أو ينفيها لذاتها فهو مخطئ؛ لأنه ليس فيها نص ديني، ومثله كمثل من يقول: إن
طريقة كذا في التعليم مطلوبة أو ممنوعة دينًا. نعم إن ما يستحدثه الناس من طرق
التربية والتعليم قد يخل عرضًا بأمر من أمور الدين، فيكون محظورًا دينًا لذلك
العارض، كما إذا اعتقد المريد أن شيخه يملك بالرابطة نفعه أو ضره، وهدايته أو
غوايته وضلاله.
واعلم يا أخي في الدين والطريقة، أنك لا تستطيع أن تدافع عن الرابطة إلا
إذا قلت: إننا لا نتخذها دينًا، وحينئذ لا يسرك كونها بدعة؛ لأن البدعة إنما تكون
ضلالاً إذا كانت في الدين. وأما البدعة في غير الدين فمنها الحسن ومنها القبيح،
كما يؤخذ من حديث مسلم (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى
يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)
ومن البديهي أنه ليس لأحد بعد انقطاع الوحي أن يسن في الدين شيئًا، وإنما هي
السنن المتعلقة بأمور الناس في تربيتهم وتعليمهم وسياستهم، وسائر مصالحهم
التي تنفعهم في دينهم ودنياهم. ولكن ما ينفعهم منها في دينهم لا يعد حكمًا دينيًّا
يطالب به الناس على أنه دين؛ لأن شارع الدين هو الله تعالى على لسان رسله -
عليهم الصلاة والسلام -، ولا شرع بعد انقطاع الوحي وختم الرسالة.
ثم اعلم أن عمل بعض الصالحين بالرابطة لا يدل على أنها من الدين؛ لأنه
لم يقل أحد من أئمة المسلمين وعلمائهم أن عمل الصالحين حجة في الدين، وقد وقع
كثير من الصالحين في البدع أو المعاصي عن جهل بالحكم الشرعي، ويجوز عقلاً
أن يخطئ بعض أولئك الصالحين في مسألة، ويصيب فيها مثل صاحب مجلة الإمام
من المعاصرين. ولو شئت لأفشيت سر الطريقة وزدت بيانًا. ولكن لا محل لذلك
هنا ولا حاجة إليه.
وجملة القول: أن صاحب مجلة الإمام قد أصاب في قوله: إن الرابطة ليست
من الدين. ولكن يظهر لي أنه بالغ في الإنكار، حتى جعل الدين محرِّمًا لها لذاتها
وإن لم يترتب عليها محظورًا أو تجعل شرعًا ودينًا، كما بالغ المنتسبون إلى
الطريقة فجعلوها دينًا؛ كأنه وقع بها التكليف من رب العالمين على جميع المسلمين
حتى صار المنكر لها كالمنكر بعض ما ورد في الكتاب والسنة من أمور الدين.
وهذا مما ننكره على الفريقين. وأوصي أهل الطريقة بترك المراء والجدل
والنبز بالألقاب، وأن يجعلوا ذلك سببًا للتفريق والخلاف في الدين، فإن ذلك
يخرج صاحبه من حضرة الدين {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105) .
_______________________(12/99)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تذكير مجلس المبعوثان ببعض شؤون الإصلاح [1]
المحاكم الشرعية
مازال حظ المحاكم الشرعية في البلاد العثمانية دون حظ المحاكم النظامية
وسائر دواوين الحكومة ومصالحها، فإننا لم نسمع حتى الآن صوتًا قويًّا من
المبعوثين في مجلس الأمة بطلب ما يجب من إصلاحها، فهل تتهيب حكومتنا
إصلاح هذه المحاكم أو تتقاعس عنها، كما فعلت الحكومة المصرية؟ !
إن المحرك للحكومة المصرية والمرسل لها إلى الإصلاح أو الممسك لها عنه،
إنما هو الاحتلال الإنكليزي، وكان الرؤساء من الإنكليز يقولون: إننا لا نمس
الأمور الدينية؛ لأنها لا تقبل الإصلاح؛ أو لأن المسلمين لا يريدون إصلاحها؛ أو
يتهموننا فيها تهمة نحن في غنًى عن التعرض لها، ثم محاولة تبرئة أنفسنا منها.
وقد ضج مسلمو مصر بعد ذلك بطلب إصلاح هذه المحاكم، فكانوا مع الإنكليز
كالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء.
إن المحاكم الشرعية في القطر المصري، أمثل منها في سائر الولايات
العثمانية من بعض الوجوه، على أن اختصاص هذه أوسع من اختصاص تلك،
وليس لمجلس الأمة في الآستانة أن يتعلل بمثل ما يتعلل به الإنكليز عند مطالبتهم
بإصلاح هذه المحاكم، فمتى نسمع صيحة أهل العلم المحبين للإصلاح في المجلس
ببيان ما يجب من إصلاحها؟
أينسى أولئك المبعوثون أصحاب الغيرة على الشرع أن هذه المحاكم كادت
تكون حجةً على الإسلام، وفتنةً للمسلمين؟ أينسى أولئك الأحرار الواقفون
للاستبداد بالمرصاد؛ أنه لا يوجد معهد من معاهد الحكومة يباح فيه الاستبداد بغير
تبعة ولا مسئولية إلا في المحاكم الشرعية؛ حيث يحكم القاضي برأيه بلا مشاورة
في الأمر، ولا مشاركة في الرأي، ولا معرفة للمتقاضين بالمسائل التي يجب بها
الحكم! ! . فهل يرضى مجلس الأمة أن تبقى هذه المحاكم على هذه الحال، وهي
منسوبة إلى الشرع الذي بُني على الشورى، وأمر الرسول المعصوم بالمشاورة
صلى الله عليه وسلم، وجرى الخلفاء الراشدين على الحكم بها؟
ألا يعلم نوابنا الكرام أن فساد هذه المحاكم مفسد لكثير من البيوت (العائلات)
التي هي مرجعها في مسائل الطلاق والنفقات وغير ذلك من أمور الزوجية؟
أيستهينون بأمر الأوقاف، وما لها من العلاقة بالأمور الدينية والأعمال الخيرية التي
لها شأن كبير في صلاح الأمة وفسادها؟
أول شيء يجب الالتفات إليه في إصلاح هذه المحاكم هو إدخال الشورى فيها
بجعلها مؤلفة من أعضاء يحكمون بأكثر الآراء، كما هو الشأن في المحاكم
النظامية، حتى ما يحكم فيها بالشرع الشريف؛ كمحاكم الحقوق التي يحكم فيها
بالمجلة , وقد سبقت مصر إلى هذا الإصلاح في محكمة القاهرة التي يرأسها
القاضي الأكبر الذي يرسل إليها من دار السلطنة العثمانية. فإقامة هذا الركن
الإسلامي في المحاكم الشرعية، يبطل استبداد القضاة في الأحكام، ويقلل ارتكابهم
لجريمة الرشوة، ويجعل القضية سريعة الإنجاز، فيصل الناس إلى حقوقهم في
وقت أقرب مما يصلون الآن، إن وصلوا! .
يلي هذا الركن وضع كتاب في الأحكام التي تختص بها هذه المحاكم؛ ككتاب
مجلة الأحكام العدلية، في سهولته، وترتيبه، وتقسيمه إلى مواد معدودة، ومسائل
محدودة، تلزم الحكم بها وبيان عدد المسألة التي يستند في الحكم إليها. ولا حاجة
إلى التذكير بفوائد هذا الكتاب التي (منها) كون المتقاضين يعلمون منه الأحكام
التي يحكم بها في دعاواهم، فيطبقونها عليها، ويطلبون الحكم بها.
(ومنها) توحيد الأحكام في الدعاوى التي موضوعها واحد، لا كما يقع الآن كثيرًا من حكم المحاكم المختلفة، بل المحكمة الواحدة في مثل هذه القضايا بأحكام
مختلفة، يؤخذ فيها مرة بقول فلان، ومرة بقول غيره. ناهيك بما في كتب فقه
الحنفية من الخلاف في التصحيح والترجيح، وما يكون في هذه الأحكام
المتعارضة من الفضائح وضعف الثقة بالدين وأهله , (ومنها) سهولة تناول الحكم
وتضييق مسالك الخلاف فيه بين أعضاء المحكمة. وبوجود مثل هذا الكتاب تتحقق
قاعدة كون الجهل ليس بعذر , وإنه ليعسر الآن على من زاول كتب الفقه عدة سنين؛
أن يعرف الحكم الذي يحكم به القاضي الشرعي في قضية ما، فما بالك بمن لم
يزاول هذه الكتب، وأكثر المسلمين لا يستطعون ذلك.
ولا بد من تعزيز هذين الركنين بثالث؛ وهو وضع نظام لسير هذه المحاكم
في أعمالها وكتبها وسجلاتها، ويجب أن تغل فيه يد رئيسها عن الاستبداد في
الأعمال؛ كعزل الكتاب، ومتولي الأوقاف، وموظفي المساجد , واستبداد غيرهم
بهم أو تقديم بعض القضايا على بعض، بل يجب أن يكون كَتَبَة المحكمة كسائر
عمال الحكومة، لا يُعزلون إلا بمحاكمة يثبت فيها عليهم ما يوجب عزلهم , وإننا
لننتظر من حكومتنا الجديدة قانونًا عادلاً لمجالس أو محاكم التأديب التي يحاكم فيها
جميع عمالها.
أما الرسوم التي تؤخذ في هذه المحاكم وتقسم بين القاضي والكتبة، فيغلب
على ظني أن المالية تبطلها، إن لم تكن قررت إبطالها بالفعل في الميزانية الجديدة
وحددت مرتبات القضاة ورؤساء الكتاب وسائر الكتبة، فإن في أخذ المحكمة للرسوم
مفاسد كثيرة لا تخفى على أُولي الأمر، وما هم لها بمهملين.
الركن الرابع من أركان الإصلاح: جعل هذه المحاكم ابتدائية واستئنافية في
كل ولاية؛ كالمحاكم النظامية، وإبقاء التمييز في الآستانة ما بقي تمييز الأحكام
العدلية فيها، وإن كان في ذلك مشقة على أهل الولايات البعيدة، وتعويق للأحكام
النهائية، يُرجى أن تتلافاها الحكومة أو يتلافاها مجلس الأمة.
وأقترح على باب المشيخة الإسلامية وعلى مجلس الأمة: أن يعهد إلى اللجنة
التي تنظر في إصلاح المحاكم الشرعية بمطالعة تقرير الأستاذ الإمام (الشيخ محمد
عبده) الذي قدمه لنظارة الحقانية في شأن محاكم القطر المصري، وما يلزم
لإصلاحها، ومطالعة لائحة محاكم ذلك القطر القديمة، والنظام الجديد الذي وضع
أخيرًا؛ فإن في ذلك عونًا كبيرًا، والله الموفق.
__________
(1) نشرها في جريدة المفيد ببيروت.(12/105)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطبة على أعضاء المجلس العمومي ببيروت
دعا كامل بك الأسعد كبير عشائر جبل عامل رفاقه أعضاء المجلس العمومي
بولاية بيروت إلى داره فيها، وأعد لهم مأدبة حضرها صاحب هذه المجلة وبعض
وجهاء بيروت. وبعد الفراغ من الطعام، وقف دعاس أفندي جريس أحد الأعضاء
وأثنى على رب الدار، وأطرى صاحب المنار، وأشار إلى رغبة الحاضرين في
استماع شيء منه في موضوع المجلس العمومي، ورأيت الأنظار موجهه إليّ تنتظر
الإجابة، فشكرت، وقلت بعد مقدمة فكاهية ما ملخصه:
إن للمجلس العمومي فائدتين: فائدة اجتماعية وفائدة عملية، أما الفائدة
الاجتماعية فهي تنشئة الأمة وتربيتها على الحكم؛ أعني حكمها لنفسها بنفسها.
إن أمر هذه المجالس العمومية من أفضل ما في القانون الأساسي من الإصلاح
فلو لم يكن للأمة أحد من قبلها ينظر في مصالحها إلا المبعوثون في عاصمة السلطنة
لأمكن أن يبقى أهل الولايات ولا سيما البعيدة عن العاصمة جاهلين لمعنى مشاركة
الأمة للحكومة في إدارة مصالحها؛ ولكن وجود أفراد من كل قضاء بكل ولاية في
مجلس قريب منهم، يشرف على أعمال حكومتهم، وينظر في مصالحهم ومنافعهم
هو الذي يعلمهم بالعمل معنى الحكومة الديمقراطية، ويجعلهم واثقين بأن حكامهم
عمال مخلصون لا سادة قاهرون، وأنهم لا يستطيعون أن يستبدوا فيهم أو يظلموهم
إلا إذا ظلموا هم أنفسهم.
إن المبعوثين يشتغلون بأمور الدولة الكلية، فمصالح الأهالي لا تتعلق بهم
مباشرة، وإنما تتعلق بحكومتهم المحلية، فذلك المجلس ينظر في القوانين العامة.
ولكنه لا ينظر في كيفية العمل بها في كل قضاء بحسب حاجته. ولكن هذه المجالس
العمومية هي التي تنظر في ذلك، فتقرر إصلاح كذا من الطرق، وإنشاء كذا من
المكاتب والمدارس في الأماكن التي تعنيها الأهالي، يرون ذلك بأعينهم، ويعلمون
أنهم نالوه برأي نوابهم ونفوذهم في حكومتهم، فبذلك يتربون على الحكم النيابي
ويعرفون قيمته، فلا يرجعون عنه، ولا يرضون بالحكم الشخصي بعده.
إن مجلسكم هذا صورة مصغرة لمجلس المبعوثان، فإذا قمتم بما عهد إليكم
كما يرجى من غيرتكم وخبرتكم، إنكم تكونون أولى من غيركم بالترجيح في
الانتخابات القابلة؛ لأن الأهالي يكونون قد وثقوا بكم عن تجربة وخبرة، كما
يكونون أكثر عناية بالانتخاب، وأكبر أملاً في المنتخَبين.
إن ما ذكرت في معنى تربية الأمة على الحكم النيابي أمر عظيم، يجب أن
يكون نصب أعينكم، فإن له علاقة عظيمة بمستقبل البلاد وعظمة الدول. إن الدولة
لا تكون دولة دستورية إلا إذا استقر الحكم الدستوري في كل ولاية من ولاياتها،
وعمرت به البلاد، وارتقى أهلها.
إن كل ولاية من الولايات تعد عضوًا من أعضاء جسم الدولة، ولا يمكن أن
يكون الجسم حيًّا قويًّا سويًّا إذا كان بعض أعضائه صحيحًا، وبعضها مصابًا بالفالج.
ثم إنني أذكركم بما لا تنسونه من أن في الأمة حزبًا يرى وجوب استقلال
كل ولاية من ولايات الدولة في إدارتها الداخلية كالولايات الألمانية والولايات
المتحدة، فإذا كانت البلاد العثمانية غير مستعدة لذلك الآن، وإذا كان هذا الحزب
الآن ضعيفًا لا يستطيع تنفيذ رأيًا، فما يدرينا ماذا يكون في المستقبل البعيد أو
القريب من أمره وأمر البلاد؟ ألا يجوز أن يقوى، بعد أن تكون الوزارة في يوم ما
من أعضائه، والرأي الغالب في مجلس الأمة هو رأيه؟ (يجوز يجوز) إذًا
كيف يكون حال ولايتنا هذه، وسائر الولايات العربية التي هي دونها، ودون
سائر ولايات الدولة في الاستعداد للاستقلال الإداري؟ إننا نعترف بأننا عاجزون
الآن عن إدارة شؤون ولايتنا بدون استعانة بإخواننا من الترك، مع أن ولايتنا
أرقى الولايات العربية، وقد قلت من قبل، وكتبت في المنار: إن الولايات
السورية تعد وسطًا في الاستعداد والارتقاء، بين ولايات الروملي وبعض ولايات
الأناطول، وبين سائر الولايات العربية كالعراق والحجاز واليمن. فيجب أن
نرقي أنفسنا، وأن نكون مصدرًا أو عونًا لسائر الولايات العربية على الارتقاء،
بل أقول: إن إخواننا الترك الذين نعترف لهم بأنهم أرقى منا، لا يستغنون الآن
عن الاستعانة بالأجانب؛ لترقية ولاياتهم، كما نحتاج نحن إليهم وإلى الأجانب.
وهذا الرأي عندي قديم، وقد كاشفت به متصرف طرابلس والوالي أيضًا،
فمن المحتم أن نوجه جل عنايتنا للحكم الذاتي، والاستغناء بأنفسنا عن الأجانب.
أيها الأعضاء الكرام: إن هذا الغرض الذي تطالبون به عظيم. ولكن قوة
الإرادة في الإنسان تصغر كل عظيم، وتسهل كل عسير، فإذا وجَّهتم عزائمكم إلى
ذلك بالإخلاص، فإنكم تصلون إلى الغاية بإذن الله.
وقلَّ من جد في أمر يحاوله ... واستعمل الصبر إلا فاز بالظفر
يري بعض الفلاسفة أن الإنسان لا يجزم إرادته بأمر ممكن إلا وينفذ،
وكان الأستاذ الإمام على هذا الرأي، وقد قال أكثر من مرة: إنه لم يجزم إرادته
بطلب شيء جزمًا تامًّا لا تردد فيه إلا وحصل، وقد كان حكماء الصوفية على هذا
الرأي، وعبر عنه بعضهم بقوله: (إن لله عبادًا إذا أرادوا أراد) أي: إذا صح
توجه إرادتهم إلى شيء تعلقت به إرادة الله، وما تعلقت به إرادة الله نفذ حتمًا،
فعلى الإنسان أن يعرف قيمة نعمة الإرادة، فيوجهها إلى خدمة وطنه جازمًا بأنه
أهل لأن يرقيه، وهو بهذا يكون أهلاً له مهما كانت معارفه، فإن تفاضل الناس
بالإرادة فوق تفاضلهم بالمعرفة فما كل عالم ينفع كل من أراد أن ينفع، فإنه ينفع
على قدر استعداده.
هذا ما أحببت أن أذكر به من أمر الفائدة الاجتماعية في المجالس العمومية.
وأما الفائدة العملية فهي قسمان: مادية، وأهمها إصلاح الزراعة، وتسهيل
المواصلات، وتعديل الأموال الأميرية. ومعنوية وهي التربية والتعليم، والبحث
في هذه المسائل يطول، وأنتم أعلم بحاجة البلاد وطرق عمرانها من رجل مثلي
ليس له مثل اختباركم؛ ولكنني أذكركم بثلاث أمور تتعلق بالتعليم، هي أهم
المسائل في رأيي: مراقبة التعليم والتربية في المدارس، وإنشاء مدرسة للمعلمين،
وإحياء لغة البلاد.
إن مدارس الحكومة ليس فيها تربية ولا تعليم نافع، بل ربما كان ضررها
أكبر من نفعها، وإنما كان حظ الحكومة المستبدة السابقة منها هو التمتع بصورة
الملك دون التربية التي تكوِّن النفوس الفاضلة، والتعليم الذي يربي العقول الكبيرة.
إن الدولة تؤلَّف في هذا العصر من عدة وزارات، منها وزارة المعارف.
وهذه الوزارة لا تكون بغير مدارس، فكان بقاء المكاتب والمدارس في عهد
الاستبداد الماضي لدولتنا؛ لأجل استكمال صورة الملك والتمتع بها، فإن التمتع
بالمظاهر الصورية له لذة كما ترون في تمثيل القصص، وإلا فإن الاستبداد كان
يحارب العلم حربًا عوانًا، فإن أردتم أن يكون التعليم نافعًا في مدارس الحكومة
فيجب أن تبدؤا بالأمر الأول؛ وهو مراقبة التعليم: بأن تطلبوا تعيين مفتشين ممن
يرضى الأهالي معرفتهم وغيرتهم وصدقهم، يتعاهدون هذه المدارس، ويراقبون
سيرة مديريها ومعلميها في التربية والتعليم , ثم إن فساد التعليم في الزمن الماضي،
قضى بأن يكون المعلمون الأكفاء فينا أندر من الكبريت الأحمر، فالإصلاح الحقيقي
للتعليم يتوقف على إنشاء مدارس؛ لتخريج المعلمين القادرين على التربية والتعليم
بالطرق العصرية القريبة. يجب أن يكون الأستاذ المعلم على علم بالفن الذي يعلمه
مهذبًا؛ ليكون قدوة للمتعلمين في الفضيلة؛ فإن فاقد الشيء لا يعطيه. ويجب أن
يكون مع ذلك عارفًا بطرق التربية والتعليم، فما كل مهذب يعرف كيف تتكون
ملكات الفضائل في النفوس، ولا كل عالم يعلم كيف ترسم مسائل العلوم في الأذهان
فلا بد من إنشاء مدرسة للمعلمين في مركز الولاية.
وأما إحياء لغة البلاد وأعني بها اللغة العربية، فالذي نطالب به الحكومة من
وسائله؛ هو جعل تعليمها في مدارسها كلها إلزاميًّا كأختها التركية، وجعل دراسة
العلوم في الولايات العربية بلغة أهلها، وفي سائر الولايات بالتركية، كما كان
بحسب القانون، والذي يقرر هذا هو مجلس الأمة في الآستانة، وإنما على
المجالس العمومية المطالبة به.
لا يقال: إن هذا يفتح علينا باب تعصب الجنسيات في الدولة، وإننا في أشد
الحاجة إلى الاتفاق والتئام الأجناس، فإن الفرق بين العرب وبين ماعدا الترك من
الأجناس واضح جدًّا.
إن الشعب العربي يعد نحوًا من ثلثي نفوس الدولة، ويقل فيه من يعرف
التركية. وأما سائر الأجناس - الألبانيين والأكراد والأرمن والروم - فكلهم يعرفون
اللغة التركية. فلا يحتاج الحكام والموظفون فيهم إلى معرفة لغاتهم؛ ليحسنوا القيام
بأعمال الحكومة فيهم، بل إن أكثرهم ليس لهم لغات علمية ذات فنون ومعاجم
تصلح للتعليم، فالأرمن قريبو عهد بتدوين لغتهم وجعلها تعليمية، والألبان والأكراد
لما يتم لهم ذلك. قرأنا بعض جرائد هذا الشهر أن الألبان قد عزموا على اختيار
الحروف العربية للغتهم التي يشتغلون بتدوينها، ومن المقرر أن غرض الحكومة
الأول من مدارسها هو تخريج الموظفين الأكفاء، فإذا كان المتخرجون فيها جاهلين
باللغة العربية التي هي لغة أكثر العثمانيين، يتعذر عليهم أن يقوموا بوظائفهم كما
يجب في أكثر بلاد الدولة، فإن من يجهل لغة قوم يتعذر عليه أن يعرف حقيقة
حالهم، وما ينبغي لهم وما يتظلمون منه. ولا يقول عاقل: إنهم يستغنون
بالمترجمين؛ لما في ذلك من العسر والنفقات، وأين يتعلم المترجمون؟ على أن
العربية ركن للتركية، فتعلُّمها يزيد المتعلم كمالاً فيها. أما جعل اللغة العربية هي
لغة العلوم، والاكتفاء من التركية في بلادنا بالقراءة والكتابة؛ فذلك أن الأمة التي لا
تتلقى العلوم بلغتها لا تكون أمة علم، وإنما يكون مبلغها من العلم؛ أن يوجد فيها
بعض المترجمين لبعض ما يقرره العلماء المستقلون، ولا يوجد فيها المحققون
والمخترعون والمكتشفون.
إن لغة الأمة صفة مقومة لها، واللغات التي يتعلمها بعض أفرادها أعراض
تعرض لها وتفارقها، فإذا تلقت العلم بلغتها، يصير صفة لها حية بحياتها نامية
بنمائها، وإذا تلقته بلغة أجنبية فقصاراه أن يكون زينة عارضة لبعض أفرادها، ولا
ارتقاء للأمم في هذا العصر إلا بالعلم، فيجب علينا أن نبذل جل عنايتنا في تحصيل
العلوم العصرية ونقلها إلى لغتنا، ولا حياة لنا بغير ذلك، وإننا في عملنا هذا لا
نبعد عن إخواننا الترك، بل نكون إخوة متساوين في المزايا والحقوق، كما يجب
أن يكون الإخوة. والمساواة الحقيقية لا تكون مع التفاوت في العلم والعرفان
(فليس سواء عالم وجهول) .
أرجو عفوًا؛ فقد أطلت عقب الأكل ووقت طلب الراحة، فإن خلطت في
الكلام؛ فربما كان سبب ذلك الخلط في الطعام، وتوجه أكثر الدم إلى المعدة، وأقله
إلى الدماغ، والسلام.
__________(12/108)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحرية واستقلال الفكر
آخر خطبة لي ببيروت
دعيت إلى حضور الاجتماع الشهري لجمعية الجامعة العثمانية ببيروت في
أوائل هذا الشهر (آذار) فاقترح عليَّ رئيسها أن أخطب فيهم بما يفتح الله به،
حاكيًا عن رغبة الجمهور، فقمت وقلت ما ملخصه بحسب ما أتذكر:
أيها الإخوان الكرام
إن المسائل التي نحتاج إلى البحث فيها واستجلاء غوامضها، كثيرة جدًّا،
فمن الناس من إذا اقترح عليه أن يخطب، يبادر إلى الكلام في الموضوع الذي
يتبادر إلى ذهنه، سواء كان مطابقًا لمقتضى الحال، يرجى أن يستفيد منه
السامعون ما يصحح أفكارهم أو يقوِّم أعمالهم أو لا. ومنهم من يرى هذه الطريقة
منتقدة، وأنه لا بد أن يخاطب الناس بما يتعلق بحالهم، وما ينبغي أن يكونوا عليه
في أفكارهم وأعمالهم، فلا يحثهم على ما لا سبيل إليه، ولا يقرر لهم ما لا يفهمون
حقيقته.
مثال من ذلك: أن بعض الخطباء يقف فيقول: أيها العثمانيون، عليكم
بالاتحاد، عليكم بالائتلاف. إن الاتحاد هو مفيض العمران، ومرقي الأوطان،
ورافع شأن الإنسان، ويكتفى بمثل هذه الخطابيات المجملة التي لا يعلم السامعون
كيف يمكن العمل بها، فإن اتحاد المختلفين في التربية والتعليم والعقائد والأفكار
والأخلاق والتقاليد والعادات من الأمور، لا يمكن أن تحصل بمجرد الحث عليها
ومدحها، وإنما يجب بيان ما يشترك فيه من يراد حثهم على الاتحاد وإقناعهم بأن
منافعهم ومصالحهم مرتبطة به، وأنها إنما تحفظ وتنمو باتحادهم واتفاقهم، وتذهب أو
تضعف بتخاذلهم وتفرقهم.
أما أنا فأقول: إن كل كلام صحيح المعنى لا يخلو من فائدة، والفكرة
الإجمالية لا تخرج إلى حيز التفصيل إلا بإبرازها بالقول أو الكتابة، ومن لم يستفد
اليوم من الكلام الصحيح فائدة تامة، يُرجى أن يستفيد غدًا، فليقل كل أحد ما يرى
أنه حق نافع، وليُقَدم الأهم على غيره، وهو ما كانت حاجة الناس إليه أكثر. وإذا
قيل لنا: ما هو أهم ما نحتاج إليه الآن؟ قلنا: إنَّا محتاجون إلى أشياء كثيرة من
العلوم والأعمال؛ لأجل أن ننهض لما نكون به أمة عزيزة؛ ولكن نهوضنا يتوقف
على أمر عظيم لا يحصل بدونه. فما هو هذا الأمر الذي هو شرط للارتقاء في كل
علم وكل عمل، بحيث يلزم من عدمه العدم؟ إلا أنه هو الحرية الشخصية
واستقلال الفكر.
قد قلت في بعض الخطب التي تكلمت فيها عن الحرية: إن استعداد البشر
للارتقاء ليس له حد ولا غاية تحدد، فإذا عاشوا ملايين من السنين يمكن أن يكونوا
في ارتقاء مستمر لا ينقطع، إذا كانت حريتهم في العلم والعمل مصونة من عبث
المستبدين، فهكذا ترتقي الأمم على قدر صيانتها واحترامها للحرية، وتتخلف عن
الارتقاء بل ترجع إلى الوراء، على قدر عبثها بالحرية، وتحكمها في الباحثين
والعاملين.
مضت سُنَّة الله في البشر بأن الفكر يسبق العمل، فإذا كانت أفكار العقلاء
والأذكياء مضغوطة ممنوعة من الحركة والنمو، فإنها لا تكون مستقلة، والأمة لا
تخطو خطوة واحدة إلى الأمام، إلا إذا أطلقنا العنان لجياد الأفكار تجول في ميادين
الكتابة والخطابة، بلا حجر، ولا ضغط، لا فرق في ذلك بين المسائل الدينية
والاجتماعية والسياسية وغيرها.
يجب علينا أن نحترم رأي من يخالفنا، كما نحترم رأي من يوافقنا؛ لأن
الفلاح متوقف على ظهور الحقائق، وظهورها يتوقف على استقلال الأفكار وحرية
البحث والكتابة والخطابة، ولا يخاف على دينه من حرية البحث إلا من لا ثقة له
بدينه، ومن كان واثقًا بأنه على حق، فإنه يعلم أن مخالفته فيه لا تزيده إلا قوة
وظهورًا، فقد نطق الكتاب العزيز بما هو ثابت عقلاً واختبارًا من أن الحق يعلو ولا
يعلى، وأنه ما تصارع الحق والباطل إلا وصرع الأول الثاني {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ
عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) {وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ
وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81) .
علينا أن نبحث بعد هذا عن أنفسنا؛ لنعلم هل نحن نحترم استقلال الفكر
وحرية القول والعمل؟ هل قمنا بحق هذا الشرط الذي يتوقف عليه كل مقومات
الحياة: الاجتماعية والسياسية، وأسبابها؟ إن حكومتنا تركت الضغط على عقولنا
وأفكارنا، والحجر على ألسنتنا وأقلامنا؛ لنكون أحرارًا في أقوالنا وأعمالنا، فهل
صرنا أحرارًا بالفعل؟
نعم، إن الحكومة تركت الاستبداد والاستعباد، وأباحت لنا الحرية طوعًا أو
كرهًا. ولكننا ما قبلناها، فإن الأفكار لا تزال مضغوطة محجورًا عليها أن تبرز من
مضيق الدماغ إلى فضاء الوجود الخارجي، والحرية الشخصية مهددة لا من
الحكومة بل منا أنفسنا.
في البلد حوادث حيوية كثيرة، لا يكتب أحد من أصحاب الجرائد رأيه فيها
بالحرية. ولماذا؟ أيخاف من (المراقب) أن يُرَمِّجها له؟ لا إن الجرائد لا تعرض
الآن على المراقبين، كما كانت تعرض في زمن استبداد الحكومة. ولكن ما سقط
مراقب الحكومة إلا وتقاسم مثل عمله من لا يُحْصى من دهماء الأمة يفتاتون على
أصحاب الجرائد وكُتَّابها، وعلى الحكومة نفسها، وربما كان هذا الاستبداد أشد
وطأة، وأثقل ضغطًا من استبداد الحكومة.
إنَّ جرائد بيروت كان لها مدير واحد لسياستها هو المراقب، وكانت نسبة
أصحابها ومحرريها إليه كنسبة محرري الجرائد الكبيرة في البلاد الحرة إلى
رئيس التحرير أو مدير السياسة. فكانوا إذا أرادوا كتابة شيء يتحرون أن يكون
بحيث يرضيه، وقد عرفوا ما يرضيه ويجيزه، فلم تكن مراعاته متعذرة عليهم.
ولكن يتعذر عليهم الآن أن يعرفوا ما يرضي هؤلاء المراقبين الذين حلوا محله؛ لأن
عقولهم وآراءهم ليس لها قاعدة ترجع إليها، ولا ميزان توزن به. فهل يمكن أن
ترتقي الصحافة أو الأفكار في بلاد يفتات على حملة الأقلام وأرباب الأفكار فيها كل
أحد، حتى البحار والحمال وبائع الحمص والفول! ! .
إننا قد تغنينا باسم الحرية في أيام إعلان الدستور، وألقينا الخطب الكثيرة في
وصفها، وأنشدنا القصائد العديدة في مدحها والتغزل بها، وكان هتاف الجماهير
للخطباء والشعراء يعلو في الجو حتى يبلغ عنان السماء، وكتبنا ذلك الاسم الجميل
(الحرية) بالخطوط الجميلة، وزينا به البيوت والمعاهد العامة والخاصة والحدائق
فظهرنا بمظهر العاشق الولهان لهذه الحرية الجميلة. ولكنني أخشى أن نكون في
عشقنا لها كعاشق أم عمرو؟ ولعل بعض الحاضرين لا يعرف خبر هذا العاشق،
فأذكره إعلامًا له، وتذكيرًا لغيره: مر بعض الناس بصديق له مرة، فرآه غير ما
يعهد، رآه قلقًا مضطربًا، فسأل عن حاله، فقال: إنني عاشق ولهان، لا يقر لي
قرار، ولا يطيب لي اصطبار، ولا يهنأ لي طعام، ولا يزور جفني منام قال له
صاحبه: من عشقت؟ قال: عشقت أم عمرو أجمل نساء العصر، قال: من هي
أم عمرو؟ ومتى رأيت وجهها المليح؟ فبرح بك هذا التبريح؟ قال: لا أدرى من
هي ولا لمحتها عيني، وإنما سمعت رجلاً ينشد في الطريق:
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ... ردي عليّ فؤادي أينما كانا
فقلت في نفسي: لولا أن أم عمرو هذه أبرع النساء جمالاً وحسنًا، وأوفرهن
من القسامة قسمًا. لما قال الشاعر فيها هذا القول! فعشقتها.
وقد طال على هذا العاشق الأحمق تلك المعشوقة المجهولة، حتى مر به
صاحبه يومًا فإذا هو يبكي ويندب، قد ساورته الأحزان، وواثبته الأشجان، فسأله
ما دهاك؟ فصاح أواه واويلاه، لقد بليت بأشد المصائب وأعظم النوائب، فقد ماتت
أم عمرو. وغلبه النشيج، وأخذ في النحيب، ولما سكت عنه الروع، قال له:
ومن أخبرك بموتها فهل رأيتها؟ قال لا؛ ولكنني سمعت الشاعر ينشد في الطريق:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار
فقلت: لولا أنها ماتت لرجعت، ولما قال الشاعر هذا القول.
نعم إنني أخشى أن تكون حريتنا المعشوقة هي أم عمرو المجهولة، فإن
الحرية الحقيقية قد تعرفت إلينا فنكرناها، ورغبت فينا فرغبنا عنها، وأحبت
القرب منا فاخترنا البعد عنها، وإلا فما بال الكثيرين منا يسلطون العامة على من
يبدي رأيًا يخالف رأيهم، أو هوى أنفسهم: يهددونه ويهينونه، فإذا لم يوجد له
عصبة تمنعه منهم فإنهم يضربونه، ومتى كانت الحكومة المستبدة تضطهد حرية
الفكر والعلم أشد من هذا الاضطهاد، وتحاول استعبادًا أقبح من هذا الاستعباد، أي
العبودتين أذل: العبودية للحكومة أو العبودية للعامة؟
كان الخطباء والشعراء يقولون في أيام عيد الحرية في مدح الأمة نحوًا مما
يقولونه في مدح الحرية نفسها؛ لإظهار التناسب بينهما، ولا يزال كثيرون منهم
يسمعوننا مدح أنفسنا، ويشيدون بفضلنا وفضل سلفنا، ويتمثلون بقول شاعرنا:
(نبني كما كانت أوائلنا ... إلخ) ، أما أخوكم هذا فيقول: إن ما كان يقال في أيام عيد
الحرية، لا ينبغي أن يقال اليوم، ولا في كل يوم إن الأعياد في عرف الناس
هي أيام السرور والابتهاج، فيحسن أن يتناسى فيها ما يسوء بالتحري فيها ما يسر
هذه أيام الجد والعمل، فيجب أن نعرف فيها ما نحتاج إليه من هذا العصر؛
لنجاري الأمم العزيزة القوية، الراتعة في بحبوحة المدنية، لا أن نمني النفس
بالأقوال التي يلذ سماعها، ونترك السنن التي نرقى باتباعها.
يا قوم، إننا مرضى، ومن كتم داءه قتله، إننا مرضى ويجب علينا أن
نداوي أنفسنا، إن الأدوية لا يقصد بها اللذة، بل يقصد بها المنفعة، فهل سمعتم أن
الأطباء يداوون المريض المدنف بإطعامه اللحوم المعالجة بالبقول والأفاوية والكنافة
والبقلاوة والأشربة المثلجة؟ لا لا، إنهم يداوونه بالمسهلات البشعة الطعم والكينا
المرة، وربما داووه بالسكين ينال شيئًا من بدنه. وكذلك تكون أدوية الأمراض
النفسية. وإنه ليسوءني أن أصرح لكم بما يؤلمكم. ولكنها الحقيقة لا بد منها، وإن
كانت مرة كالدواء: (أخوك من صدَقك لا من صدَّقك) إن من فَضْل الحرية علينا
أن صرنا قادرين على البحث عن مرضنا، وعلى الاجتهاد في معالجته، فيجب أن
نعرف قيمة هذه النعمة، وأن نشكر الله - تعالى - عليها بالعمل الذي نستفيد به
منها.
أعود فأقول: إننا لا يجوز لنا أن ندعي أننا عرفنا الحرية، وإننا نقدرها قدرها
إلا إذا كنا نحترم استقلال الفكر، فلا نعارض أحدًا في إبداء رأيه، وإظهار علمه
باللسان أو القلم، ولا يمكن أن نخطو خطوة واحدة إلى الأمام بدون هذا.
فعليكم أيها الفضلاء المحبون لخير أمتكم وتقدم بلادكم، أن تنصروا الاستقلال
الذاتي والحرية الشخصية، وأن تبذلوا جهد المستطاع في بث هذا الفكر في طبقات
الأمة، وتقنعوا أولئك الذين نسمع أخبار افتياتهم على الكتاب وأصحاب الجرائد،
بأن عملهم هذا ضار ببلادهم، وأن الذين يغوونهم بذلك هم أهل الأهواء الذين
يتبعون حظوظ أنفسهم، ولو فيما يضر بلادهم.
انصروا حرية البحث والطباعة؛ لكي تتجلى للأمة الحقائق، فتعرف ما
يضرها وما ينفعها؛ ولكي تتربى فيها العقول الكبيرة بعد رفع الضغط عنها. إن
تعلموا هذا تخدموا بلادكم أجل خدمة. وأراني أطلت عليكم في هذا الكلام الحار مع
حرارة الجو بكثرة الأضواء وازدحام الناس، فحسبي هذا، والسلام.
__________(12/113)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
خوارق العادات في الإسلام [*]
(أطوار البشر والمعجزات - المعجزات العقلية والحسية - علم الغيب -
التنويم المغنطيسي - استحضار الأرواح - الكهانة - الأحلام - السنن الكونية
والمعجزات - جرائم الأمم والأفراد والعقوبات الإلهية عليها) .
أتى على الإنسان حين من الدهر، كان في طور أشبه بطور الطفولية،
فسادت الأوهام والخرافات على العقول البشرية، وكثر بين الناس الدجالون
والمحتالون، والسَّحرة والمشعوذون، وملكوا نواصي الناس بإفكهم وكذبهم،
وصاروا يتصرفون في جميع أمورهم، فما كان أحد يقدم على عملٍ ما إلا بعد
مشاورتهم والاسترشاد برأيهم، فكان الناس في أيديهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً
عقول فاسدة، وأراء كاسدة، وأفهام ساذجة، وبصائر قاصرة، وجهل وأوهام،
وخرافات وخزعبلات تقيمهم وتقعدهم، وتفرحهم وتحزنهم، فإذا برق بارقٌ من
السماء ارتجفوا واضطربوا، وإذا نزلت صاعقة من السحاب ماجوا وارتعبوا، وإذا
أصابهم مرض ما، علقوا لدفعه الأوراق أو استنجدوا براقٍ، وإذا نظر إلى بنيهم
ناظر حوطوهم بالتمائم، وأطلقوا حولهم بخور المباخر، إذا كسفت الشمس أو
خسف القمر، صاحوا ودقوا الدفوف وقرعوا الطبول؛ لإرضاء آلهتهم على ما
يزعمون، إلى غير ذلك من الأوهام والأباطيل.
هذا كان شأن الجماهير إلا من شذ منهم وندر، وأضاء الله عقله بشيء من
نور العلم، ومع ذلك ما كان يسلم عقله من جميع ترهاتهم.
سار الله - تعالى - مع تلك الأمم في هذا الطور سير الأب الحكيم مع أبنائه
في طفوليتهم، فأكثر فيهم الهادين والمرشدين، والأنبياء والمرسلين، فأكثروا من
وعظهم ونصحهم وإنذارهم ووعدهم ووعيدهم , وخذلوا من كانوا متسلطين على
عقولهم من السحرة والمشعوذين؛ بما أجراه الله على أيديهم من المعجزات، وأظهره
لهم من الآيات البينات التي تركت السحرة مغلوبين على أمرهم حيارى في شأنهم،
ولولا تلك الآيات لما قدر الأنبياء على تخليص أممهم من حبائل الدجالين والمحتالين،
بل الأبالسة والشياطين، فكانوا إذا ظهرت تلك المعجزات بهرت منهم العقول،
وحيرت الأفكار، وأعجزت السحرة، وأدهشت الناس، فيخضع المستعد منهم لهيبة
من ظهرت على أيديهم. فيؤمنون له ويتبعونه، ويطيعونه فيما يأمرهم به {وَمَا
نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} (الإسراء: 59) ، ثم يأخذ الله المعاندين الذين خالفوا
ضمائرهم، وكابروا عقولهم وأبصارهم، ولم يميزوا بين الغالب والمغلوب،
والصادق والكذوب، بأنواع من العقوبات تناسب أحوالهم جزاء لهم وعبرة لغيرهم؛
لعلهم يرشدون.
مضت الأيام والأعوام، وتوالت القرون والأجيال، وانتقل البشر من حال إلى
حال، وارتقوا من طور إلى طور , فأخذت العقول تستنير، والأفكار تضيء
والسحر يضمحل، والأنبياء من بينهم تقل، حتى ختمت النبوة ببعثة سيد الأنبياء
والمرسلين، وأكبر الهادين والمصلحين.
كان البشر في عهد البعثة المحمدية، قد خرجوا من طور الطفولية إلى سن
الرشد، فأصبحوا لا يناسبهم من الدلائل والبراهين ما كان يناسبهم في القرون
الأولى، وقل فيهم تأثير المحتالين والدجالين والسحرة والمشعوذين 0 وصاروا
يرجون الهداية من طريقها، فساعدهم الإسلام على ذلك، ونهج بهم منهجًا لم يسبقه
به دين من قبل، فجعل الحجج العملية والدلائل العقلية رائده في جميع دعاويه،
وعليها معتمده في كل مبانيه، وقلل من شأن المعجزات الحسية بقدر الإمكان، حتى
لا تكون عقبة في رقي عقل الإنسان في مستقبل الزمان، {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن
يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 38-39) فإن البشر في عهد النبوة المحمدية، أخذوا يدركون قيمة
المعجزات الحسية، وأنها لا علاقة بينها وبين دعوى النبوة، وأنها لا يسهل تميزها
عن غيرها من أعمال السحرة والمشعوذين، والصناع الماهرين، وأنها إن أقنعت
تلك العقول القديمة، وأرهبت تلك النفوس وهي صغيرة وحملتها على الإيمان،
فإنها أصبحت لا تغني العقل فتيلاً، ولا تزيد الأمور إلا تعقيدًا، وإن الدليل إن لم
يكن له من العقل أكبر نصير، فهو أضعف ضعيف. ومن كان يطلب من النبي
صلى الله عليه وسلم تلك المعجزات، فما كان يريد بها إلا الإعنات والإعجاز،
والسخرية والاستهزاء، وإلا فإن أمامه من البراهين والآيات ما يشفي علة النفوس،
ويروي غلة العقول {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51) وأما ما أظهره الله - تعالى -
على يديه من المعجزات الحسية، فلم يكن يراد به إلا إفحام المعاندين المستهزئين،
والزيادة في تثبيت المهتدين. وقد كان جل اعتماد النبي صلى الله عليه وسلم في
إثبات دعوته على القرآن وحده. كما يتضح ذلك لمن تدبر آياته. فإنه هو المعجزة
التي تلتئم مع الدعوة، وتعلو بالعقل إلى مستوى العلم والفهم، وتناسب حال الأجيال
من بعده، فلا تقف عقبة في سبيل نظرياتهم وتفكيرهم، ومعلوماتهم واختراعاتهم،
ولا تلتبس عليهم بحيل الدجالين وتدليس المحتالين، ولا بكذب القصاصين وإفك
الراوين، وتخيل الواهمين، واختراع الكاذبين، بل تساعدهم على البحث،
وتحضهم على التفكير والنقد، والتمحيص والاستدلال والاستنتاج.
فببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ختم عصر العجائب والغرائب، وبدأ عصر
العلم والعقل، فهو الحد بين العصرين، فلذا كانت معجزاته تشمل هذا وذاك، وكان
أجلها وأكبرها والباقي منها وهو القرآن مناسبًا لزمنه-عليه السلام -، ولكل ما أتى
بعده من الأزمان فلا يناسبها غيره.
وكما ختم عصر المعجزات، وتمت النبوات، كذلك أغلق باب الكهانة،
فكأن الله - تعالى - في العصر الأول والبشر في طور الطفولية كان يتجلى
لأبصارهم، وفي العصر الثاني وهم في طور الرجولية صار يتجلى لبصائرهم أكثر
مما يتجلى لأبصارهم. فإن بصائرهم في العصر الأول كانت ضعيفة لصغرها فلا
تتحمل أن تراه، فلذا كان يظهر لأبصارهم بأنبيائه ورسله الكثيرين، وآياته
ومعجزاته، وبعض مخلوقاته: كالجن الذين كانوا يسترقون السمع من الملأ الأعلى
فيخبرون به بعض البشر؛ وذلك لأن الأب مع أطفاله يكثر التكلم معهم، وتأديبهم،
وتهذيبهم، وترغيبهم، وترهيبهم، ومكافأتهم بالماديات، أو معاقبتهم على حسب ما
يبدو منهم. فإذا صاروا رجالاً كف عن ذلك، واكتفى بإبداء بعض تعاليمه العامة
وإرشاداته المكتسبة من طول التجربة والاختبار، وتركهم يستعملون عقولهم فيما
يرونه صالحًا لهم، كذلك فعل الله تعالى (وله المثل الأعلى) بعد أن بلغ الإنسان
رشده، أعطاه الشريعة العامة والقواعد الثابتة، وأباح له التصرف في الأمور
بحسب ما يرشده إليه عقله، فبعد أن كان يوحي للأمم السابقة كبني إسرائيل مثلاً في
كل جزئية من جزئيات الأمور، اكتفى الآن بما في القرآن الشريف من القواعد
العامة والأصول الثابتة، فإنها - مع ما يوحيه إلينا العقل - كافية لهدايتنا في جميع
الأمور بعد أن بلغنا رشدنا.
لذلك أغلق الله - تعالى - باب الوحي والمعجزات والكهانة، وأخبرنا بذلك كله
صريحًا في الكتاب العزيز، فلم يبق لمحتال علينا ولا لمشعوذ أدنى وسيلة، وبذلك
خلص العقل البشري من الأوهام والخرافات والترهات، وأصبح طريق العلم أمامه
واضحًا لا يحجبه عنه حاجب، ولا يقف أمامه فيه واقف. ولكي لا يبقى هناك ثلمة
في نفس أحد من المؤمنين، يصل إليه منها شيطان من الشياطين، نَصَّ الكتاب
العزيز نصًّا صريحًا لا يقبل التأويل على أن الغيب علمه عند الله لا يعلمه إلا هو،
وأن الأمور كلها بيد الله، يصرفها كما يشاء لا يراعي فيها مجاملة أحد من عباده،
فقال مخاطبًا لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ
مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ
نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) ومثل ذلك في القرآن كثير
يصعب أن يستقصى في مثل هذه المقالة.
يقول واهم: إذا كان الغيب لا يعلمه أحد إلا الله، فما بال التنويم المغنطيسي
واستحضار الأرواح، والأحلام الصادقة تكشف كثيرًا من الغيب، وكانت الكهانة
تكشف كثيرًا منه من قبل؟
فاعلم أن الشخص في حالة التنويم المغنطيسي لا يمكنه أن يعلم شيئًا مما لم
يوجد، فلا يمكنه أن يطلع على الغيب؛ أي: لا يمكنه أن يعرف شيئًا مما لم يكن له
وجود، وهو في تلك الحالة المخصوصة، وغاية الأمر أنه لا يحجبه عن رؤيا
بعض الموجودات حاجب؛ لصفاء روحه عن كدورة المادة إذ ذاك، ومن هنا تتسع
دائرة معلوماته عن بعض الموجودات، فيمكنه أن يخبر بالقياس أو الاستنتاج مما
علم عن بعض أشياء قبل وقوعها: كالأمراض التي ستصيبه مثلاً بعد وقوفه على
حالته الجسمية، كما يخبر الطبيب عن بعض الأشياء المرضية قبل حصولها؛
لمعرفته الأمراض وأسبابها ومسبباتها وأعراضها، وكما يخبر الفلكي عن الكسوف
والخسوف قبل وقوعهما؛ أي: إن الشيء إذا لم يكن موجودًا فلا يمكن العلم بوقوعه
إلا قياسًا أو استنتاجًا واستنباطًا من موجود، وإلا فالغيب (وهو ما غاب عن
الإنسان لعدم وجوده مطلقا أو لعدم وجود ما يستدل به عليه) علمه عند الله لا يعلمه
إلا هو، ولا يعلمه أحد من عباده إلا إذا أطلع هو (جل شأنه) أحدًا على شيء منه
فيخبر به، ويفشو بين الناس، كما أطلع الله رسله (الملائكة والأنبياء) على بعض
الغيب، فعلموا وعلمه الناس منهم، وكما كان يعلم بعض ذلك بعض الجن قبل إبطال
الكهانة، واستراق السمع من الملأ الأعلى فيخبرون به بعض البشر، فيخيل للناس
أنهم يعلمون الغيب، والحقيقة أنهم أُخبروا بما أخبروا به، ولنا الآن في مسألة
استحضار الأرواح دليل قاطع حسي على إمكان اتصال البشر (ومنهم الكهنة)
بالعوالم الأخرى الروحية (ومنهم الملائكة والشياطين) ، وبذلك يمكن البشر
الاطلاع على بعض المغيبات من هذه الطريق، كما يمكنهم أن يطلعوا على بعضه
في طريق الأحلام الصادقة، فإنها من بقايا الوحي إلى بعض النفوس الصافية،
وفيها يُري الله - تعالى - بعض عباده شيئًا مما سيكون بإرادته، كما كان يوحي
إلى الأنبياء من قبل، وليس للبشر في معرفة شيء من ذلك اختيار، بل هو شيء
يفعله الله متي شاء، وكيف شاء.
أمَّا عِلم أحد من تلقاء ذاته (أي: بدون وحي أو سماع من غيره) وبغيب
حقيقي (أي: لا يستدل عليه من موجود) فهو محال، إلا على الله الفاعل المختار
الذي يفعل ما يشاء متى شاء، وكما شاء. ودعوى معرفة أحد غيره الغيب دعوى
باطلة كاذبة، لا يمكن لأحد الجزم بوقوع شيء من الغيب باليقين، وما يقع منه
مطابقًا للخبر، فلا يكون إلا اتفاقًا ما لم يكن موحى به.
فالغيب المنفي علمه في القرآن الشريف هو هذا الذي ذكرناه، أي: الغيب
الحقيقي لا مطلق الغيب. فإن الغيب أمر اعتباري، فما غاب عنك لا يغيب عن
غيرك، وما لم تعرفه لجهلك بشيء ما، يعرفه غيرك ممن علم هذا الشيء أما مسألة
إنكار المعجزات بسبب مخالفتها لما اعتاد الناس، فهي من السخافة بمكان
نعم، إن سنن الله - تعالى - في هذا العالم لا تتبدل ولا تتغير، كما نطق به
القرآن الشريف في عدة مواضع منه. ولكن خرق العادة ليس خرقًا للسنة، فإن من
سنة الله إيجاد الشواذ في كثير من الأشياء المعتادة، إذا اقتضت حكمته ذلك. ولذلك
نشاهد في عالمي الحيوان والنبات من الشواذ التي يسمونها (الفلتات الطبيعية) ما
يصعب حصره، وما قال أحد بأن هذه الشواذ خارقة لسنن الكون ونواميس الوجود،
وإن كانت خارقة للمعتاد. ولو سألتهم عن حكمة وجودها أو عن كيفية خلقتها،
لعجزوا عن الجواب. أما نحن فنقول: إن الحكمة في وجود مثل هذه الأشياء الشاذة
هي أن الله - تعالى - يريد أن يرينا شيئًا من مبلغ قدرته وعظمته وأن قدرته
تعالى لا تقف عند الحد الذي تعهدناه، بل هي أوسع من أن تحيط بها مداركنا. وأما
كيفية خلق هذه الشواذ والعلل المباشرة لتوليدها، فإنا نجهلها الآن كمال الجهل،
وربما علمنا عنها شيئًا في المستقبل. كذلك نحن نعلم حكمة إيجاد الله تعالى
للمعجزات؛ وهي أنها تخيف الناس، وتلجئهم إلى الاحتماء بالأنبياء، فيتعلقون بهم
ويؤمنون لهم ويتبعونهم، فتصلح حالهم. وتنفرهم من أعمال السحرة والمشعوذين
وتبعدهم عنهم. ولكنا إلى الآن لا يمكننا أن نفهم كيفية إيجادها، ولا الأسباب التي
تنشئها، وغاية ما نقول: إنه هكذا أوجدتها القدرة الإلهية، كما يقول الطبيعي عن
الشواذ هكذا وجدت، إن كان عقله لا يدرك كيفية وجودها.
قد يقول قائل: إن هناك فرقًا عظيمًا بين المعجزات وبين هذه الشواذ الطبيعية التي
اتخذتها مثالاً لها، فالمعجزات لا يشاهدها أحد الآن، بخلاف الشواذ فإنها تشاهد كل
يوم، فإن كانت المعجزات حقيقية وجارية على سنن الكون، فلم انقطعت الآن؟ ؟
ونقول: أما انقطاع المعجزات فهو لانقضاء زمن الأنبياء، ولو وجد داعٍ لها
الآن لوجدت، كما أن كثيرًا من الشواذ في العالم الطبيعي قد انقرضت الآن؛
لانقراض الحيوانات والنباتات التي كانت تظهر فيها. فكأن سنة الله - تعالى - في
هذا العالم هي إذا وجدت الحكمة لظهور المعجزات تظهر، ولو وجدت بعض
أنواع من الحيوانات والنباتات البائدة، لوجد فيها من الشواذ المخصوصة في
خلقتها وكيفية معيشتها ما يدهشنا الآن، ويعد من العجائب والغرائب. وقد كانت
الأحياء في مبدأ أمرها تتولد من الجمادات مباشرة؛ وهو ما يسمونه (التولد
الذاتي) ، وقامت البراهين القطعية على ذلك، والآن لا يوجد شيء منه مطلقًا، فلم
ينكره المنكرون لانقضاء عهده الآن، كما انقضى زمن المعجزات؟ ؟ إن هذا لأمر
عجاب! !
بقيت كلمة واحدة تتمة لهذا الموضوع؛ وهي أننا قلنا فيما سبق ما معناه: إن
الله - تعالى - كان يؤدب الأمم السابقة ببعض أنواع من العقوبات المادية،
كالخسف والمسخ والقحط، فهل ما يقع الآن بالأمم من ذلك هو جزاء لهم على
أعمالهم أم لا؟
الجواب: إن ما يفهم من القرآن الشريف هو أن ما يقع بالأمم من المصائب
المهلكة؛ هو عقوبة لهم على أعمالهم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
مُصْلِحُونَ} (هود: 117) ، وكذلك ما يصيب الأشخاص من المصائب؛ هو في
الغالب جزاء لهم على ذنب ارتكبوه {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر: 14) ، {وَمَا
أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) ولكن لا يفهم من ذلك أن
جميع المصائب هي سبب ما كسبه الإنسان، بل إن ذلك بحسب الغالب؛ فإن الآية
لا تدل على التعميم، وإذا فهم منها العموم فإنه يخصص بمثل قوله تعالى
{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} (البقرة: 155) الآية. أي إن بعض المصائب قد يراد بها الاختبار أو غيره لا
العقوبة، كما أن قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} (النمل: 23) لا يراد به
ظاهره، مع أنه صرح في إفادة الكلية من قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ} (الشورى: 30) الآية. فالله تعالى لم يترك البشر في هذا الطور - طور العلم
والعقل - بدون مراقبة ومجازاة لهم على أعمالهم كلا، بل هو أرحم من الأب الحكيم
لا يترك أبناءه إذا كبروا بدون تأديب لهم إذا كثر إجرامهم، بل قد يتداخل في
أمورهم ويعاقبهم على ما يجرمون. فلا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون.
(المنار)
اتبع الدكتور فيما ذكر من ترقي الدين رسالة التوحيد، وهذا هو الأصل في
نسخ الشرائع الذي يحتج به عليه الشيخ صالح اليافعي في الرسالة التي بعد هذه وهو
لا ينكره، ويرد عليه أن الخوارق لم تنقطع ولكنها لم تعد حجة للدين في هذا العصر
كالعصور الأولى.
__________
(*) بقلم الدكتور محمد أفندي توفيق صدقي الطبيب بسجن طره.(12/118)
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
__________
رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين [*]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن
سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن
لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه بلغ
الرسالة، وأدى الأمانة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإني قد وقفت على الكلمات التي كتبها في الرد عليَّ حضرة العلامة
والمفضال الفهامة الدكتور محمد توفيق صدقي - وفقنا الله وإياه للهداية والتوفيق
آمين - وحيث إني رأيته لم يأت بدليل جديد، وإنما كرر كتابة ما قد بينت للقارئين
فساده في رسالتي السابقة. أردت اختيار السكوت، وأن أفوض إلى قراء المنار
وغيرهم من علماء الإسلام تولي ترجيح أحد القولين، والحكم بتخطئة أحد
الخصمين بعد الفحص عن أدلة الطرفين. ولكن ألح عليَّ في كتابة جواب الجواب
من يعز عليَّ من أهل البيت الأطهار نخبة الأخيار سيدي أحمد بن حسين العطاس
باعلوي - سلمه الله وحفظه - وكذلك كثير من حزب الله المفلحين المصلحين
الصادقين محبي المنار الأغر، فاستخرت الله واستعنت على كتابة هذه الجملة
المختصرة؛ لأنبه أخانا الفاضل على أن ما كتبه في هذا الرد هو نفس ما كتبه سابقًا
مما قد بينا -ولله الحمد- خطأه، وأيضًا هو لم يبطل شيئًا مما كتبناه في رده لا
بنص نقلي ولا بدليل عقلي.
وأما ما ذكر من شبهات غير المسلمين: فهي مما لا قيمة لها إذا عرضها
الفاحصون على معيار التحقيق، وغاية محصلها أن تكون من أضعف الشبهات التي
ربما تعرض وتعلق بخيالات غير الواقفين على حقيقة دين الإسلام، وها أنا ذا أقدم
للواقفين بيان قيمة كل شبهة أوردها العلامة الممدوح عنهم ووجه دلالتها، ثم أتبع
ذلك بردها، وألتمس من حضرة سيدنا شيخ الإسلام، ومرشد الأنام مولانا السيد
محمد رشيد رضا منشئ المنار، أن يصلح ما فيها من القصور والخطل، وأن ينبه
أحدنا على زلته، ويدل على محل عثرته، ولولا أن بذل النصيحة في الدين واجب
لم أكتب ولا حرفًا واحدًا. ولكن امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (تناصحوا في
العلم، فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله، وإن الله مسائلكم) ،
ولنشرع في المقصود بعون الجواد المعبود فأقول:
قال العلامة الفاضل، سلمه الله ووفقنا وإياه للصواب (الكلمة الأولى في
تقرير بعض شبهات غير المسلمين على مسألة النسخ في القرآن) إلى آخر ما نقل
عنهم، وحاصله أنهم اعترضوا على صحة دين الإسلام ورسالة سيدنا محمد صلى
الله عليه وسلم بوجود النسخ الذي يسلمه المسلمون في القرآن؛ لأنه - أي النسخ -
لا يكون إلا إذا كان المنسوخ ناقصًا ومعيبًا، إما في مغزاه أي غاياته أو معناه أي
مدلول لفظه، أو بلاغته المخل بإعجازه، أو أن الحكم لا يرضاه الناس، أو أنه لا
ينفعهم، أو أنه قد يضر بمصلحتهم.
فمحصل ما ذكروه أن النسخ لا يكون إلا لذلك، وكأنهم يريدون أن صدور ذلك
من الرب واجب الوجود محال، واستنتجوا من ذلك استحالة أن يكون دين الإسلام
منزلاً من الرب؛ أي لوقوع ذلك فيه، واعتذروا عن قبول العقلاء لذلك؛ بأن سببه
كمال محمد صلى الله عليه وسلم في الدهاء والتحيل، بحيث صار يلعب بعقول
الصحابة. وذكر عنهم ما ملخصه وحاصله أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يتم له
ما أراد من التشريع إلا بعد إصلاح ما وقع في دينه من العيب والنقص، وإبدال ما
انتقده عليه المنتقدون، أو عارضه المعارضون، أو عرف أنه يكون كذلك ولو بعد
حين؛ ولذلك تعلق بدهائه إلى إخفاء عيبه وعيب دينه، بتجويز وترويج مسألة
النسخ في قرآنه، ونقل عنهم أنهم قالوا: وقد ضاع بسبب ذلك مما أتى به من
القرآن آيات كثيرة، جاء ذكرها في أحاديث المسلمين، وكأنهم يريدون بذلك أنه
كما أنه يستحيل بزعمهم أن يكون القرآن منزلاً من الله، فهو أيضًا غير محفوظ،
ولم ينقل إلينا كله. ودعوى المسلمين أن ذلك مما نسخ الله لفظه تحكم غير مقبول؛
إذ لم يقدر المسلمون على تعليل ذلك بعلة معقولة - ونقل عنهم أيضًا أنهم يزعمون:
أن ما بقي من القرآن في أحكامه شطط، وأن عباراته متناقضة مختلفة وذكر
عنهم اعتراضًا على بعض أجوبة المسلمين التي ذكرناها في رسالتنا السابقة؛
لتسوغ نسخ لفظ القرآن، حيث قلنا: ما أدَّى وظيفته لا يلزم بقاؤه، فنقل عنهم في
معارضة ذلك: أن القرآن مشتمل على مسائل خاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم
وأهل بيته، ولا فائدة منها لأحد سواه. قال: فإذا صح عند المسلمين نسخ ألفاظ
الآيات التي أدت وظيفتها، وانقضى زمنها، وما حكمة آية الرجم مثلاً مع بقاء
حكمها في شريعة المسلمين! ! انتهى.
أقول: والكلام على ما أورده عنهم من وجوه:
(أحدها) أن نقول: إن بعض هذه الشبهات كقوله: وما بقي من القرآن بعد
هذا التصحيح والتنقيح، تجد شططًا في كثير من أحكامه، فضلاً عما في عباراته
من المتناقضات والاختلافات إلى آخره، لا ترد علينا ولا على من يقول إن القرآن
الموجود فيه ناسخ ومنسوخ، وإنما ترد على خصوص مذهب الدكتور وهو لا
ينفصل عن هذه الإيرادات، ولا يستقيم مذهبه إلا إذا سلك مسلك التأويل المتناقض
لظاهر الدلالات في هذه المواضع، والتأويل إذا صار لا يصح إلا بحيث يكون
المعنى المؤول إليه، إنما يدل عليه بألفاظ غير ما عبر الله به عنه، فهو يكون لا
محالة من باب التبديل والتحريف للذين ذم الله أهلهما ونهى عنهما، وكما أن مثل
هذا التأويل مردود عند أهل الحق من المسلمين، فغير المسلمين أيضًا لا يقتنعون به،
وهو أعظم منفر لهم عن الإسلام؛ لجواز أن يعتقدوا أن ذلك إصلاح خلل،
وتكميل نقص في القرآن والدين - فاعتراضاتهم السابقة على النسخ هي واردة على
مثل هذا التأويل، وقبولهم تكذيب ما نقله المسلمون فيما تقدم ضرب من المحال.
أما نحن القائلون بجواز النسخ في الأديان، ووقوعه في القرآن، فلا ترد
علينا هذه الشبهات لا في الدين، ولا في خصوص القرآن. وإنما يلزمنا الاستدلال
على جواز النسخ عقلاً، ويحسن منا إذا بينا حسنه وحكمته في المورد المعين،
ومن قصر عن إدراك ذلك، فلا يضره ذلك ولا يضر الدين أيضًا - لأن جهلنا بالشيء
لا يستلزم عدمه في الواقع - وإنما يضر لو كان بعض ما علمنا أنه من الدين مخالفًا
للحقيقة في نفس الأمر، وليس في الإسلام شيء من ذلك. وفضلاً عن
الإيرادات والشبهات الواردة على دين أو مذهب مؤلف من هذه التأويلات
المنفرات لمن يريد انتحاله؛ التي لو أردنا إيرادها لطال بها الكلام، فإن مدلول
النسخ الذي يمكن أن ينكر وقوعه المنازعون، أو يورد الشبهات عليه الزائغون، والتأويل الذي يوكل القرآن إليه حضرة الفاضل الدكتور متحد لا فرق بينهما؛ إلا أن هذا الأخير يكون من الرب الذي يفعل ويأمر بالحكمة والعدل. فليتأمل الناظرون
ولينصفا أخونا الدكتور الفاضل، ثم ليدلنا على مورد شبهات غير المسلمين الصحيح:
أهو على من يقول بوقوع النسخ في القرآن للمصلحة الراجحة والحكمة العادلة، أم على من يعترف بصحة شبهتهم، ثم يعدل إلى التأويل المذموم الذي لم يأذن الله به، ولا دل عليه نبيه صلى الله عليه وسلم.
وليعلم القراء الكرام أن ما اعترض به علينا في نسخ الأحكام غير المسلمين،
هو وإن كان فاسدًا كما سيأتي، إلا أنه وارد عليه أيضًا؛ لأنه قائل بوقوع ذلك في
السنة، بل السنة القولية منسوخة عنده كما صرح بذلك مرات، وناسخ ذلك احتمال
تقدير سبب من جملة احتمالات؛ لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - المختلف
في رفعه ووقعه، المعارض بما هو أصح وأصرح منه ومتأخر عنه كل ذلك، مع
ترك العلة والسبب المنصوص في ذلك، كما سيأتي بيان ذلك في الكلام على
وجوب العمل بالسنن القولية النبوية، فانتظره.
فإذا عرفت ذلك، لم يبق مما ذكرته من شبهات غير المسلمين ما يخصنا
الجواب عنه دونه؛ إلا ما يورد على نسخ اللفظ فقط.
(الوجه الثاني) أن مثل هذه الشبهات فاسدة في نفسها، لا يصح أن يوردها
إلا من كان لا يجوِّز النسخ في الشرائع مطلقًا؛ أي ولا يجوز نسخ شريعة نبي
متأخر لشريعة نبي متقدم عنه مطلقًا، حتى ولا من بعض الوجوه في حكم من
الأحكام؛ لأن مَن جوَّز ذلك في شيء مخصوص، لزمه تجويزه فيما سواه إذا وجدت
العلة أو نظيرها، وبالأولى فيما هي به أولى. فإذا جاز نسخ شريعة نبي لشريعة
نبي قبله، فمن باب أولى جواز نسخ بعض شريعة لبعضها الآخر؛ لأن نسخ دين
النبي المتقدم وشريعته الثابتة المقررة عند أمته وأتباعه أشق وأبعد من كل بعيد عن
معتقداتهم الموروثة، لا سيما إذا كان قد تدين بها أنبياء كثيرون؛ لأن ما جاء به
العدد الكثير، قد تستبعد بعض العقول نسخه بما جاء به الواحد - فما يسلمه الدكتور
الفاضل من النسخ هو أولى بإيراد الشبهات مما ينكره - ولما كان نسخ بعض
الشريعة لبعضها الآخر، يكون منوطًا بمناسبة الأحكام لأفراد معتنقيها المعينين
كان كلما كثروا تتجدد الأحكام، وتعدل على الحد الوسط المشترك بين أكثر مجموع
الأمة؛ ليكون الدين شريعة عامة، فلهذا ونحوه كان النسخ في الشريعة الواحدة لطفًا
حسنًا، وعليه فالنسخ في شريعة أي نبي من الأنبياء حين حياته أبعد عن اعتراض
المعترضين عليه منه فيها بعد ثبوتها، فثبت أن حكم نسخ شريعة لشريعة أو بعضها
لبعضها سيان مطلقًا، إن لم نقل جواز ذلك في الأخير أظهر والله أعلم.
ثم نقول لمن يجوز النسخ مطلقًا: إنا لا نسلم أن النسخ لا يكون إلا لنقص أو
عيب في المنسوخ، بحيث يستلزم نقص الشارع - ومعاذ الله من ذلك - لأنا نقول:
إن النسخ في الأديان لازم ومساوق لترقي نوع الإنسان، فلنا: ترقٍّ ديني، وترقٍّ
طبيعي. ولا يكون الأول إلا لحكمة ومصلحة راجحة. فالحكم الثاني الناسخ يوجد
عندما تكون الأمة مستعدة له، وتخطو إلى التقدم من المقام الأول الذي يحسن أن
تنتهي مدة الحكم المنسوخ بجوازها له؛ لأن ما يناسب البشر في أول نشأتهم قد لا
يناسبهم، بل قد يجب أن لا يكلفوه في أوان كمالهم، وما كانت الأمم السالفة محجور
عنه لمصلحة سد الذريعة، قد يجب في هذه الأزمان رفع حجرهم عنه؛ إذ لو كلف
الجهال ونحوهم ما يتسع له العلماء، للزم وضع الشيء في غير موضعه المناسب
له، وهذا من لازمه قلب الحقائق، ولو حجر على العقلاء البحث في الحقائق
المستعدين لإدراكها وتقديرها قدرها لكان في ذلك الظلم المنزه ربنا عنه، ولو كلف
الضعيف عقلاً أو جسمًا ما لا يطيقه هو، أو ما لا يطيقه إلا من هو أكمل منه لكان
كذلك، وإذا استحال كل ذلك، فلا شك أن حالات الأمم السالفة واستعداداتهم،
تخالف حالات الأمم واستعداداتهم اليوم، فتكليف بني الإنسان اليوم بشرائع أولئك أو
العكس، أقل حالاته أن يكون تكليفًا بما لا يناسب النشوء الفطري والترقي التعليمي،
وحينئذ لو كان ذلك، تكون أحكام الدين من باب تكليف ما لا يطاق، أو من باب
الحجر على المستعد عما هو مستعد له، فيكون الدين سدًّا دون العلوم والمعارف.
ولو أطلق للأولين الحرية، وأذن لهم بولوج أبواب هي مجهولة لديهم، أو لم
يستعدوا لمعرفتها، لكان ذكر تعزيرًا لهم وتكليفًا لما لا يطيقونه، وما كان كذلك فالله
لا يرضى بقاءه، بل لا بد من تغيير وتبديل فيه مساوقين لترقي معارف البشر،
وهذا هو حقيقة النسخ، وما ذكرناه هو سببه وحكمته في الشرائع، فالنسخ لا يكون
لعيب ونقص في المنسوخ، ولا جهل الشارع - تعالى عما يقول الظالمون - بل
يكون لاستعداد المكلفين لما هو خير لهم في الحال أو الاستقبال، ونحو ذلك مما لا
يخلو عن زيادة الخيرية التي ذكر الله أنه لا بد منها في النسخ، فالنسخ يكون قبل
فحش التفاوت في مناسبة المنسوخ لحالة المكلفين، كما ذكرنا ذلك في رسالتنا
السابقة.
فثبت بما ذكرناه وما لم نذكره من الحجج البينة؛ أن النسخ في الشرائع لازم
ومستحسن عقلاً، وكذلك هو واقع فعلاً وثبت ذلك نقلاً، فإن كثيرًا من شرائع
الأنبياء قد نسخت واندثرت، وأنسيت شرائع أنبياء بعدهم، وذلك ظاهر لا نطيل
بذكره، وإن أبى المعترضون لزمهم فوق ما قدمناه من المجالات، أن تكون شرائع
الله المحكمة المحتم على البشر قبولها وامتثالها والإيمان بها متضاربة متناقضة،
وذلك بأن يجب على الشخص الواحد المؤمن بجميعها فعل الشيء الواحد وتركه في
آن واحد، وهو محال من الله وعلى العباد.
والأديان والشرائع قبل الإسلام وقع فيها كثير من الخلط والقلب - أما التكاليف
والصعوبات الشاقة، والكلمات الموهمة خلاف الواقع، والحكايات المستبعدة في
كتبهم الدينية، فمما أوجب على العقلاء منهم ومن غيرهم الجزم بأن تلك الكتب قد
وقع فيها من التحريف والتبديل، ما أوجب أن يحكم بعدم الوثوق بها، وما كان
كذلك فمن اللازم أن لا يبقى دينًا للبشر إلى آخر الدهر - ولذا ونحوه قال نبينا صلى
عليه وسلم (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم) الحديث، أفليس من اللازم أن يبدل الله بهذه
الشرائع شريعة عادلة محكمة محفوظة عن تغيير المبدلين وعبث العابثين؟ إن تلك
الكتب وشرائعها لا تصح وهي بالحالة التي عرفت حجة لله على عباده، فأرسل الله
محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وأيده بالمعجزات الباهرات والآيات
البينات، فما من دليل يستدل به على رسالة رسول من الأنبياء والرسل السابقين؛
إلا وقد أيد نبينا صلى الله عليه وسلم بمثله وبأظهر وأوضح منه، وصح لدينا نقلاً
لا يعتريه شك بأسانيد صحيحة متواترة متصلة , ولولا شهادة الله في كتابه القرآن
وشهادة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في خطابه بصحة معجزات الرسل
السابقين، لم تبلغ تلك النقول في شرائط النقل والقصص فيها إلى مرتبة الظن
فضلاً عن اليقين؛ لأنها لو وزنت بميزان التحقيق في شرائط النقل، لم تتحصل
منها ما يصح اعتباره مسندًا متصلاً عن النقلة المعروفين بشروط الرواية.
وبناءً على ما ذكرناه نقول: إذا كان وجود النسخ في تلك الشرائع غير قادح
فيها لكونها قد أيدت بالمعجزات - فهكذا وجود النسخ في الإسلام أو في القرآن،
لا يصح أن يكون قادحًا في صحته عن الله - تعالى - لما عرفت. وأيضًا فمن
يقدح بذلك في دين الإسلام ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، يكون في الحقيقة
قادحًا في صحة دين من تقدم من الأنبياء عليهم السلام، من حيث يعلم أولا يعلم،
رضي أم أبى.
ونقول في الجواب أيضًا (الوجه الرابع) : ما يدري هؤلاء المشككون أن
النسخ الواقع في شريعة الإسلام أو في القرآن، قد كان سببه تلك التهم التي
أوردها؟ فهل عندهم نقل يؤيدها ويصححها، أو دلالة عقل تعينت على ما ذكروه،
أم هو احتمال فرضوه، وأوهام توهموها، أو مماراة، أو معاندة أنتجتها الأحقاد
الموروثة؟ وهل هذا الاحتمال متعين، فما الدليل عليه؟ وهل يصح أن يقوم مقامه
احتمال من احتمالات غيره ينقض مزعومكم أم لا؟ وحينئذ لا يصح أن يدفع الثابت
ويرد باحتمال من احتمالات هذا حالها. وإذا كان النسخ في التشريع والأديان لازمًا
عقلاً وواقعًا حتمًا، يكون مستحسنًا كذلك نقلاً، وكانت رسالة نبينا صلى الله عليه
وسلم ثابتة بالحجج اليقينية بأصح ما يمكن أن تثبت بها رسالة أي رسول فتعين
ذلك الاحتمال والوهم، وحاله ما عرفت مع وجود ما يدفعه ويكذبه، باطل لا يجوز
لعاقل أن يلتفت إليه أو يعتني بإيراده.
أما قولهم: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الدهاء أن صار يلعب
بعقول أصحابه، فجعلهم يقبلون منه ما لا يُقبَل من غيره. فالجواب عنه أن محمدًا
صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي - لم يكن من أهل الحيل والدهاء، وإنما كان
من الأنبياء الأتقياء، وقد عرف بالصدق والوفاء، حتى صار ذلك وصفه الثابت
حتى عند أعدائه، أما أصحابه فقد عرفوا صدقه وصحة دينه بالدلائل الصحيحة
الثابتة، وهم لم يصدقوه فيما جاء من النسخ وغيره لضعف في عقولهم، وهو ما
جاء بما في دينه من النسخ بدعًا مما جاء به المرسلون قبله، وإذا كان كذلك فمن
البهت أن يقال: إن أصحابه صاروا يصدقون ويقبلون منه ما لا يقبل من غيره؛
لأن نقول: هو صلى الله عليه وسلم لم يأت إلا بما يأتي به المرسلون، ولم يقبل عنه
أصحابه إلا ما يقبل عن المرسلين، وإلا لانقلب الأمر، وكان النسخ في الشرائع
محالاً، وقدمت فساده عقلاً وشرعًا.
فبما ذكرناه يعرف الناظر فساد تلك الشبهة، وأنها في غير محلها، وأنها لا
يتعين ورودها على شريعة دون غيرها من الشرائع، بل لو صح إيرادها على
بعض الشرائع السابقة لركاكة ما عرف من تلك الشرائع، وعدم صلاحيته لتدين
جميع البشر إلى آخر الأبد، وللوهن في نقلها وضبطها - فإن صحة توجيهها على
الإسلام ضرب من المحال، ونقص عن الكمال؛ لما في القرآن من الدلائل
والبراهين على صحة كل أحكامه وشرائعه، وما كان فيه من منسوخ وناسخ موجود
فقد ذكر سببه وحكمته بالصراحة تارة، وبالتضمن والالتزام أخرى، يعرف ذلك
بطرق يعرفها من تلقى فهمه عمن أنزل عليه صلى الله عليه وسلم، فمنها أن يذكر
الحكم الأول مقرونًا بسببه أو بفائدته وغايته، أو غير ذلك مما يصح أن تدرك به
علة هذا الحكم، فإذا نسخه بأن أنزل بعده حكمًا يناقضه بوجه من الوجوه، فهو
يذكر سببه أو غايته، أو غير ذلك مما تعرف به الحكمة في النسخ، وهذا بخلاف
الشرائع السالفة، فإنها وإن كان فيها أشياء من الاستدلال الصحيح، إلا أنه لا يوجد
في كل شيء، ومع ذلك هو لم يبلغ بالاستدلال فيها إلى المراتب الكاملة في التحقيق
كما هي في القرآن ودين الإسلام، ومع ذلك كله نحن لا نحمل ذلك على نقص فيها
كما يقول هؤلاء المعترضون، وإنما نقول: إن تلك قد سبقت فيها الشرائع على
طريقة تناسب عقول البشر واستعدادهم إذ ذاك، وهي غير مؤيدة فناسب أن تكون
كذلك، حتى يترقى الإنسان إلى أعلى مقاماته مما تطوح به إليه خلقته وفطرته
المخصوصة، وحينئذ يناسب أن يشرع له دين بالغ في التحقيق أقصى غاياته،
فكان الأمر كذلك بدين محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) جاءتنا هذه الرسالة من الشيخ صالح اليافعي، يرد بها على الدكتور محمد توفيق صدقي ثانية، فأثبتناها على طولها؛ ليأخذ الموضوع حقه من البحث، فإنه من أهم المسائل الدينية في هذا العصر.(12/125)
الكاتب: معروف الرصافي
__________
التربية والأمهات
أنشدنا الشيخ معروف الرصافي شاعر العراق الاجتماعي لنفسه ببيروت في
المحرم سنة 1327
هي الأخلاق تنبت كالنبات ... إذا سقيت بماء المكرمات
تقوم إذا تعهدها المربي ... على ساق الفضيلة مثمرات
وتسمو للمكارم باتساق ... كما اتسقت أنابيب القناة
وتنعش من صميم المجد روحًا ... بأزهار لها متضوعات
ولم أر للخلائق من محل ... يهذبها كحضن الأمهات
فحضن الأم مدرسة تسامت ... بتربية البنين أو البنات
وأخلاق الوليد تقاس حسنًا ... بأخلاق النساء الوالدات
وليس ربيب عالية المزايا ... كمثل ربيب سافلة الصفات
وليس النبت ينبت في جنان ... كمثل النبت ينبت في الفلاة
فيا صدر الفتاة رحبت صدرًا ... فأنت مقر أسنى العاطفات
تراك إذا ضممت الطفل لوحًا ... يفوق جميع ألواح الحياة
إذا استند الوليد عليك لاحت ... تصاوير الحنان مصورات
لأخلاق الصبي بك انعكاس ... كما انعكس الخيال على المرآة
وما ضربات قلبك غير درس ... لتلقين الخصال الفاضلات
فأول درس تهذيب السجايا ... يكون عليك يا صدر الفتاة
فكيف نظن بالأبناء خيرًا ... إذا نشأوا بحضن الجاهلات
وهل يرجى لأطفال كمال ... إذا ارتضعوا ثدي الناقصات
فما للأمهات جهلن حتى ... أتين بكل طياش الحصاة
حنون على الرضيع بغير علم ... فضاع حنو تلك المرضعات
أأُمَّ المؤمنين إليك نشكو ... مصيبتنا بجهل المؤمنات
فتلك مصيبة يا أم منها ... (نكاد نغص بالماء الفرات)
تخذنا بعدك العادات دينًا ... فأشقى المسلمون المسلمات
فقد سلكوا بهن سبيل خسر ... وصدوهن عن سبل الحياة
بحيث لزمن قعر البيت حتى ... نزلن به بمنزلة الأداة
وعدُّوهن أضعف من ذباب ... بلا جنح وأهون من شذاة
وقالوا شرعة الإسلام تقضي ... بتفضيل (الذين) على (اللواتي)
وقالوا إن معنى العلم شيء ... تضيق به صدور الغانيات
وقالوا الجاهلات أعف نفسًا ... عن الفحشا من المتعلمات
لقد كذبوا على الإسلام كذبًا ... تزول الشم منه مزلزلات
أليس العلم في الإسلام فرضًا ... على أبنائه وعلى البنات
وكانت (أمُّنا) في العلم بحرًا ... تحل لسائليها المشكلات
وعلمها النبي أجل علم ... فكانت من أجل العالمات
لذا قال ارجعوا أبدًا إليها ... بثلثي دينكم ذي البينات
وكان العلم تلقينًا فأمسى ... يحصل بانتياب المدرسات
وبالتقرير من كتب ضخام ... وبالقلم الممد من الدواة
ألم نر في الحسان الغيد قَبلاً ... أوانس كاتبات شاعرات
وقد كانت نساء القوم قدمًا ... يرُحن إلى الحروب مع الغزاة
يكن لهم على الأعداء عونًا ... ويضمدن الجروح الداميات
وكم منهن من أسرت وذاقت ... عذاب الهون في أسر العداة
فماذا اليوم ضر لو التفتنا ... إلى أسلافنا بعض التفات
فهم ساروا بنهج هدًى وسرنا ... بمنهاج التفرق والشتات
نرى جهل الفتاة لها عفافًا ... كأن الجهل حصن للفتاة
ونحتقر الحلائل لا لجرم ... فنؤذيهن أنواع الأذاة
ونلزمهن قعر البيت قهرًا ... وتحسبهن فيه من الهنات
لئن وأدوا البنات فقد قبرنا ... جميع نسائنا قبل الممات
حجبناهن عن طلب المعالي ... فعشن بجهلهن مهتكات
ولو عدمت طباع القوم لؤمًا ... لما غدت النساء محجبات
وتهذيب الرجال أجل شرط ... لجعل نسائهم مهذبات
وما ضر العفيفة كشف وجه ... بدا بين الأعفاء الأباة
فدًى لخلائق الأعراب نفسي ... وإن وصفوا لدينا بالجفاة
فكم برزت بحيهم الغواني ... حواسر غير ما متريبات
وكم خشف بمربعهم وظبي ... يمر مع الجداية والمهاة
ولولا الجهل ثَمَّ نقلت مرحى ... لمن ألفوا البداوة في الفلاة
__________(12/133)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان)
أهدانا المعلم عبد الحميد الفراهي (من العلماء في الهند) بضع رسائل في
تفسير سور متفرقة من القرآن العزيز، سماها بما ذكر في العنوان , وهي: سورة
التحريم والقيامة والشمس والعصر والكافرون والمسد أو (تبت) ، وقد ألقينا على
بعض هذه الرسائل لمحة من النظر، فإذا طريق جديد في أسلوب جديد من التفسير
يشترك مع طريقنا في القصد إلى المعاني من حيث هي هداية إلهية، دون
المباحث الفنية العربية. ولكنه لا يفسر كل آيات السورة وكلماتها، ولا يتكلم على
ما يفسره بالترتيب، وإنما يتكلم عن المسائل الكلية والمقاصد التي تهدي إليها الآيات
كلامًا عامًّا مبسوطًا مفصلاً معدودًا بالأرقام. فمن فصول تفسير سورة التحريم:
(1) نظام السورة وموقع آياتها (2) سنة الله في الاحتساب (3) عمود السورة
هو الاحتساب والتشمير له (4) دين الفطرة هو الاعتدال بين الفسق والرهبانية
(5) تفرق الفسق والرهبانية (6) نزول القرآن حسب أحسن المواقع (7) شأن
نزول هذه السورة حسب الكليات (8) شأن نزول آيتين 1 -2 حسب جزئيات
الواقعة والفوائد الكلية منها وهي ست ... إلخ. وإن للمؤلف لفهمًا ثاقبًا في القرآن،
وإن له فيه مذاهب في البيان وطرائق في الاستطراد، منها القريب والبعيد، وإنه
لكثير الرجوع باللغة إلى مواردها والصدور عنها ريان من شواهدها، فقد كتب في
تفسير كلمة (صَغَت) من قوله تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (التحريم: 4) أكثر من صفحة، على أنه قد صنف كتابًا في مفردات القرآن كما
فعل الراغب الأصفهاني 0 وإن أدري أفسر القرآن كله على هذا النمط إذ هو يشتغل
بذلك الآن، ويريد طبع تفسير كل سورة عند إتمامها. وقد رأيت فيما قرأت ذكر
كتب أخرى له في القرآن والدين: كالمفردات وتاريخ القرآن والأمثال الإلهية
وأصول الشرائع، فعسى أن يتفضل بإخبارنا عنها، أهي تامة أم لا؟ أطبع منها
شيء أم لا؟ .
هذا، وقد أرسل إلينا عدة نسخ من تفسير بعض السور؛ لأجل بيعها عندنا،
وهي مطبوعة طبعًا حجريًّا عن خط فارسي حسن، فمن أحب أن يطلع عليها
فليطلبها من إدارة المنار، وثمن تفسير سورة التحريم قرشان، وما عداه فثمنه قرش
أو قرش ونصف.
***
(رحلة الحبشة)
هذه الرحلة من أحسن الرحلات أسلوبًا وفائدة وفكاهة، ألفها بالتركية صادق
باشا المؤيد العظم الفريق الأول بالجيش العثماني للسلطان عبد الحميد بأمره، وهو
الذي أرسله إلى نجاشي الحبش بكتاب منه، فكتب ما رآه وشاهده في طريقه وفي
البلاد والمواقع التي نزل بها لا سيما الصومال، وما ارتآه واستنبطه من المسائل
العسكرية والاجتماعية وما علمه من التقليد والعادات، مع شيء من كل فن، وذكر
في آخرها الوقائع الحربية بين إيطاليا والحبشة مفصلة، وختمها بذكر من نال
شرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم من الحبش رجالاً ونساء وقد ترجمها
بالعربية رفيق بك العظم وحقي بك العظم , وطبعتها شركة طبع الكتب العربية
على النسق الذي طبعت به في التركية، مزينة بالصور والرسوم ومنها صورة
النجاشي بلباسه الرسمي، ومتصلاً بها خريطتان: إحداهما رسم فيها الطريق الذي
مر به، والثانية رسمت فيها بلاد الحبش , وقد زادت صفحات هذه الرحلة على
320، وثمنها اثنى عشر قرشًا صحيحًا.
وإننا ننقل شيئًا من كلامه عن مسلمي الصومال وتعلقهم بالدولة العلية. قال
في سياق كلامه عن جيبوتي حاضرة مستعمرة الصومال الفرنسية ما نصه:
(ومنذ خرجنا إلى البر، أخذ الأهالي وكلهم من المسلمين، يفدون علينا
أفواجًا مرحبين بنا بعبارات الاحترام والتعظيم، ولم يكتفوا بذلك، بل انتظرونا
بينما كنا عند الوالي (آتو يوسف) خارج المحل، وعندما خرجنا رافقونا
مهللين مكبرين، واستمروا كذلك كلما نخرج يرافقوننا من محل إلى آخر،
وينتهزون كل فرصة لإظهار سرورهم العظيم من ورودنا لثغرهم، فإذا طلبنا مركبة
يجري العشرات منهم لإحضارها، واذا سألناهم الطريق يقدم مئات أنفسهم للقيام
بخدمتنا، وما كنا نحتاج لهم؛ لأن الوالي كان عقب وصولنا عين سكرتيره ليكون
(مهما ندارا) لنا مدة إقامتنا في جيبوتي. ولكن اعتذرت عن ذلك شاكرًا إنسانيته،
واكتفيت بجنود الشرطة الذين خصصهم لخدمتنا.
وبعد قليل من وصولنا الفندق، تكأكأ المسلمون بعضهم على بعض في
الردحة الكائنة أمام الفندق، وأخذ يزداد عددهم كثيرًا، فكانوا لا يقتنعون برؤية
الوفد المرسل من قبل خليفة الإسلام مرة واحدة، بل كانوا يريدون أن يروه كثيرًا
على قدر استطاعتهم، واستمر الزحام على هذا المنوال أمام المنزل إلى ما بعد
العشاء) .
ثم ذكر أنه قبل السفر من جيبوتي، آذنه خادم الفندق بقدوم رؤساء بعض
القبائل لزيارة الوفد السلطاني، قال:
هذا، وقد غاب الخادم قليلاً ثم جاء ومعه الزائرون، وكان عددهم ثمانية،
وهم رؤساء قبيلتي عبسا ودانجالي، وهم سمر الوجوه، لون البعض منهم يميل
للجوزي، وكلهم طوال القامة متناسبو الأعضاء، تجللهم سمات الوقار والمهابة،
ويلبس البعض قميصًا طويلاً، وعلى رأسه طاقية، والبعض ليس عليه سوى
(فوطة) وهو مكشوف الرأس. وشعرهم الكث فوق رؤوسهم يشبه العمامة
المدورة الكبيرة، يضعون في خلاله سهمًا طويلاً مصنوعًا من أغصان الأشجار مثل:
(الدبوس) الذي يربط به السيدات الغربيات قبعاتهن على شعورهن. ويستعملون
هذا السهم لحك جلد رؤوسهم عند اللزوم؛ لأنه لا يمكن وصول أصابعهم لجلد
رؤوسهم بسبب كثافة الشعر. وكان بعضهم وهم الذين كانوا يترددون على الحجاز
يتكلم اللغة العربية جيدًا، والباقون لا يعرفون منها إلا قليلاً.
وبعد المصافحة والسلام، أخذوا يدعون وهم وقوف على الأقدام للحضرة
العلية السلطانية، وأبلغني أنه سيصل مساء وفود من طرف القبائل القريبة من
جيبوتي؛ للتسليم على الوفد السلطاني، ثم جلسوا فصاروا يسألون عن أحوال
الآستانة؛ مستفسرين عن عدد سكانها، وعن مساجدها الجامعة، والمحلات
المباركة فيها، وعن الوجهة التي أقصدها وسبب سفري إليها.
(وكسوة هؤلاء الرؤساء بسيطة جدًّا، والبعض منهم حافي القدمين،
والبعض يلبس في رجله نعلاً مثل النعال الحجازية. ومع كل ذلك ترى الإنسان
يشعر بهيبتهم ووقارهم حال رؤيته لهم. وسمات الشجاعة والبسالة الظاهرة على
وجوههم تجعل كلاًّ منهم شبه تمثال للحرب والكفاح صنع من (البرونز) .
بينما كنا نتجاذب أطراف الحديث، إذا جاء الموسيو بونهور والي الصومال
الفرنسية؛ لرد الزيارة ومعه حاشية، والكل مرتدون أرديتهم الرسمية، وكان يمشي
أمام مركبة الوالي فارسان من جنود الشرطة فلما رأى الوالي المومأ إليه رؤساء
القبائل الصومالية، هش في وجوههم وصافحهم جميعًا يدًا بيد، وسأل عن أحوالهم
وصحتهم، ولم يمض قليل من وصول الوالي، حتى جاء أيضًا (آتو يوسف)
قنصل الحبشة في جيبوتي، وبعد أن مكث الوالي برهة استأذن بالذهاب مذكرًا إياي
بالاجتماع عنده في دار الحكومة مساء؛ لحضور المأدبة التي أعدها كرامًا للوفد
السلطاني، وقد كان الوالي دعاني ومن كان معي لهذه المأدبة يوم وصولنا إلى
جيبوتي) .
ثم قال بعد كلام في حال البلد وشؤونها:
(في الساعة العاشرة على الحساب الشرقي، سمعت أنغامًا وأصواتًا آتية من
بعيد، وبينما أنا أتفكر في ما عسى أن يكون ذلك، إذ أخبرت بورود وفد قبائل
عبسا، فخرجت إلى شرفة الفندق، فرأيت جمهورًا من الناس نحوًا من خمسمائة
ذوي ألوان نحاسية، كبيري الأجسام، متناسبي الأعضاء، مسلحين بالحراب
والهراوات، ويكبرون مرة، وينشدون الأناشيد الحربية مرة أخرى، وجماهير
الناس تمشي معهم محتاطين بهم للتفرج عليهم، وبعد أن وصلوا أمام الفندق، أخذوا
يسلمون علينا بلسانهم، ولما انتهوا من السلام تحلقوا، وصاروا يغنون ويرقصون،
والبعض منهم كانوا يتبارزون داخل تلك الحلقة، ويمثلون حروبهم بأصوات خشنة
مدهشة بأوضاع خفيفة وسرعة عجيبة، مما يدل على أنهم أقوام حربيون أولو بأس
شديد وميل للحرب والطعان، وبعد ذهاب هذا الوفد أتى وفد الدانغاليين، وبعدهم
وصلت وفود العرب الوطنيين بطبولهم وزمورهم، ثم انصرف الجميع شاكرين لما
لقوه منا من الإكرام، وكانت قد دنت الساعة الثامنة على الحساب الإفرنجي،
فارتديت الكسوة الرسمية البيضاء، وذهبت أنا ورفيقي؛ لحضور المأدبة التي دعينا
إليها) اهـ المراد.
وفيه من العبرة أن للدولة العلية وسلطانها نفوذاً معنويًّا في نفوس جميع
المسلمين، لم تحسن الانتفاع منه ولا النفع به في الماضي، فعسى أن تنتفع به في
هذا العهد الجديد الذي دخلنا فيه، وهو آخر الرجاء في حياة هذه الدولة، فعسى أن
لا يقطعه أصحاب النفوذ بالمنازعات الجنسية والأهواء الشخصية. وفيه أيضًا أن
الوالي الفرنسي يعامل أولئك الناس الذين يعدهم متوحشين بالاحترام؛ ليؤنسهم
بحكمه، ويأمن جانبهم، ويكسب مودتهم، ودولتنا تحتقر أمثالهم في اليمن والحجاز
والعراق، فيتبدل حبهم لها بغضًا، وميلهم إليها نفورًا وإعراضًا، فعسى أن لا
تعود إلى ذلك في هذا الزمان.
وقد انتقدنا على الرحلة ذكر الشهر الذي سافر فيه المؤلف (وهو نيسان) دون
ذكر السنة في أولها، وجريانه على ذلك في أثنائها، حتى انتهت في 12 تموز
(يوليو) , ولكن يعرف القارئ أن الرحلة كانت سنة 1896 م من ترجمة براءة
الوسام الذي أهداه النجاشي إلى صادق باشا، وترجمة المكتوبات التي أرسلها إليه
نظار النجاشي وآل بيته.
***
(عقود الجوهر في تراجم من لهم 50 تصنيفًا فمائة فأكثر)
نشرنا في آخر الجزء الماضي إعلانًا لجميل بك العظم محاسب المعارف
ببيروت عنوانه (ذيل لكشف الظنون) علم منه أنه يعني منذ 16 سنة بجمع ما فات
صاحب كشف الظنون من أسماء الكتب، وما حدث بعده منها. وقد استحسن في
أثناء بحثه أن يضع كتابًا في تراجم المكثرين من التصنيف الذين لهم خمسون مصنفًا
فمائة فأكثر، وقد أتم الجزء الأول من هذا الكتاب وسماه (عقود الجوهر) وطبعه،
وهو يذكر للعالم ترجمة مختصرة ثم يذكر مصنفاته مرتبة على حروف، فجزاه الله
خيرًا , وقد اقترحت عليه في بيروت أن يجعل الذيل رأسًا، فيؤلف كتابًا مستقلاًّ في
أسماء الكتب والفنون، فعسى أن يلقى من المساعدة ما يرجح ذلك عنده.
***
(الاشتقاق والتعريب)
قد علم قراء المنار في العام الماضي، ما كان من أعضاء نادي دار العلوم من
المناظرات في مسألة التعريب , وقد عنى الشيخ عبد القادر أفندي المغربي أحد
محرري جريدة المؤيد في أثناء ذلك، بوضع كتاب مستقل في المسألة، وطبعه في
هذا العام، فبلغ زهاء 150 صفحة بقطع كتاب الإسلام والنصرانية. وقد ترجم
المؤلف كتابه بقوله فيه: يبحث في ما يعرض للغة العربية من تكاثر كلماتها
بواسطتي الاشتقاق والتعريب، وأن هذا الأخير طبيعي في لغتنا وفي غيرها من
اللغات، وأن استعمال المعرب لا يحط من قدر فصاحة الكلام والاستشهاد على ذلك،
فهو إذًا مؤيد الرأي القائلين بجواز التعريب والتصرف في اللغة بحسب الحاجة،
بل توسع في ذلك بما لا يوافقونه كلهم عليه فيما يظن، ودعم كلامه بضروب من
الأمثلة والشواهد والدلائل، لم يسبقه إليها الباحثون، وقال في أواخر الكتاب ما
نصه:
نتائج وملاحظات
قد تحصل معنا أن الكلمات التي تستعمل اليوم في اللغة، وينطق بها
المتكلمون بتلك اللغة - قسمان: قسم عربي محض، وقسم دخيل , والدخيل أنواع
منه ما أدخل أهل اللغة أنفسهم إلى لغتهم قبل الإسلام؛ كسندس إبريق. ويسمى في
الاصطلاح معربًا , ومنه ما أدخله المولدون في صدر الإسلام ويسمى مولدًا , ومنه
ما أدخله المحدثون بعد هذين الدورين ويسمي محدثًا أو عاميًّا , والطريقة في إحداث
النوعين الآخرين المولد والعامي - قد تكون الاشتقاق: كالعربية والبارود والفسقية
قد تكون التعريب: كالبوس والبازهر والماهية، وقد تكون التصرف في الاستعمال
بأن نستعمل الكلمة على خلاف المعنى المستعملة فيه عند العرب: كالقطر
والقطائف.
والدخيل بأنواعه الثلاثة لا يحط من قدر الكلام العربي إذا وقع فيه، وإن كان
في أصله غير عربي؛ لما قدمناه من الأدلة على ذلك عند الكلام على التعريب،
والأدلة المذكورة تصلح أن تكون مقدمات منطقية نتيجتها (أن الكلمات العربية
المعربة عربية أو بقوة العربية) ، حتى لا تكون ثَمَّ فرق في صحة الاستعمال بينها
وبين تلك التي تكون عربية الأصل: بحيث يصح لك أن تستعمل كلمة (رصاص)
الأعجمية المعربة في كل موضع تستعمل فيه كلمة (صرفان) العربية. وما يدرينا
أن صرفان وأمثالها من الألفاظ القديمة التي نحسبها عربية والتي لا رائحة للاشتقاق
من مادة عربية غير عربية في أصلها، وإنما هي دخيلة.
وقد ذكرنا في جملة تلك الأدلة دليلاً لا نزاع في صدق دلالته: وهو أن علماء
البادية أنفسهم، حصروا شروط فصاحة المفرد في ثلاثة أمور: خلوصه من تنافر
الحروف، ومن الغرابة، ومن مخالفة القياس، ولم يشترطوا في فصاحته قط أن
يكون عربيًّا قحًّا، لا شائبة فيه للعجمية.
إذا راعيت في الكلمة الدخيلة التي تودعها كلامك خلوصها مما ذكره علماء
البلاغة، كان كلامك فصيح المفردات , وعليك بعد ذلك أن تراعي سائر ما اشترطه
أولئك العلماء في فصاحة الكلام وبلاغته. حتى إذا فعلت كان كلامك فصيحًا بليغًا.
لا يكون كلامك فصيحًا: إذا أودعته من الكلمات العربية ما كان غريبًا عن
أفهام المخاطبين، أو ما تنبو عنه أذواقهم وتتجافى طباعهم، مثل أن تقول: (وكان
الطهاة يغرفون ألوان الطعام بالفشليل، والفشليل كلمة معربة عن قفليز الأعجمية ,
ومعناها المعرفة كما لا يكون فصيحًا إذا أودعته من الكلمات العربية المحضة ما
كان من بابه تلك الكلمات: كأن تقول: (أتانا مختالاً في مشيته. منفشلاً للحيته)
تعني: منفشًا لها. أو تقول: (لحاه الله من رجل عفنجش) أي فظ جافي الطباع.
من هذا القبيل الكلمات الإنكليزية أو الألمانية مثلاً التي تكون مخارج حروفها صعبة
متنافرة، يتعذر أو يتعسر علينا النطق بها. ولم نعهد مثلها في مخارج لغتنا.
حتى إذا اضطررنا إلى إدخال كلمة من هذا الصنف في لغتنا، كان علينا حينئذ أن
نشذبها ونهذبها، ونوفق بينها وبين أوزان لغتنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً؛ كي
تواتينا ويسهل علينا النطق بها. وإلا كان علينا أن نهجرها، ونعد الكلام الذي
يتضمنها غير فصيح. كما إذا تضمن كلمة متنافرة مثلها من الكلمات العربية الأصل
كالهعخع وهو اسم نبات. قيل لأعرابي: أين تركت ناقتك؟ قال: تركتها ترعى
الهعخع. وكأن تقول لآخر: إياك أن تتزوج الهُمَّقعة بضم الهاء وتشديد الميم
المفتوحة. تعني الحمقاء الورهاء [1] .
واعلم أن الكلمات الدخيلة في لغتنا مهما كان أصلها، ترجع إلى قسمين: قسم
مدلوله الجوهر والأعيان مثل نرجس ولجام. وقسم مدلوله المعاني والأحداث مثل
البوس، فكلمات القسم الأول إذا شاعت بيننا وحلَّت في أسماعنا وتداولتها الخاصة
كما تداولتها العامة، وتنزهت عن أن تكون من (ألفاظ السفلة) كما سيجىء في
قول ابن المقفع - ينبغي أن يجوز لنا استعمالها وإدماجها في كلامنا؛ لأن الكلمة
التي من هذا القبيل إما أن لا يكون لها مرادف في لغتنا أو لها مرادف مهجور،
وحينئذ يكون الوجه في استعمالها ظاهرًا. وعذرنا فيه مقبولاً 0 وإما أن يكون لتلك
الكلمة مرادف معروف ومشهور، فيكون لنا الحق في أن نستعملها أيضًا؛ اقتداءً
بأهل اللغة أنفسهم الذين كانوا يتركون كلماتهم العربية إلى مرادفاتها من الكلمات
المعربة الدخيلة، مثال ذلك كلمة (كوسج) الأعجمية، فإنهم لا يكادون يطلقون
على الكوسج سواها. وقلما تراهم يستعملون كلمة الأثط العربية بل إذا وردت هذه
في كلامهم فسروها بالكوسج؛ لكونها أشهر منها وأعلق بأذهان الناس، كما يفسر
شراح الحديث كلمتي (الدجر) و (اللياء) العربيتين بكلمة اللوبياء الأعجمية
المعربة.
وقد كثر استعمال الدخيل والإعراض عن الأصيل في كلامهم، كثرة تشعر
بأن هذا الصنيع طبيعي في اللغة وضرورة لا يمكن دفعها. بل يشبه أن يكون قياسيًّا
لأهل اللغة من ورائه غاية محمودة: هي توسيع نطاق لغتهم وتسهيل أمرها على
ممارسها.
هذا في كلمات القسم الأول الذي مدلوله الجواهر والأعيان. أما القسم الثاني
الذي تدل كلماته على المعاني والأحداث كالبوس، فهذا ربما ضر الاستكثار منه فيما
أظن إذ يكون مدرجة لضياع اللغة ومسخها وتحويلها عن أصلها. وقلما نجد
العرب نقلوا إلى لغتهم فعلاً أو مصدرًا أو أسلوبًا خاصًّا من أساليب كلام الأعاجم.
وشاهد ذلك معاجم اللغة ودواوين آدابها، وإن كان شيء من ذلك فهو قليل جدًّا
ككلمتي (الهرج , والنفاق) الحبشيتين [2] .
وأكثر ما كان حدوث هذا النوع من الكلمات في زمن ترجمة الاصطلاحات
العلمية في العصر العباسي. أما في زمن الجاهلية فلعله لم يتخط القبائل التي عاشت
مع الأعاجم وكثر امتزاجها بهم: كغسان ولخم وجذام. ومثل هذا لا يصلح حجة
للقياس والجواز العام نعم، إن اللغة بمجموعها جواهر وأحداثًا محولة عن لغة
أعجمية كما أثبتناه في صدر هذا الكتاب. ولكن هذا في تحول اللغة وتولدها
المتوغل في القدم. لا في التحول التدريجي الذي يفهم من إطلاق كلمة التعريب.
والذي كان يحصل على ألسنة العرب بعد أن قامت لغتهم بنفسها واستقلت بأصولها
وقواعدها، فإنهم إذا ذاك ما كانوا يرجعون في وضع كلمات الأحداث والمعاني إلى
الاستعانة بلغات غيرهم. وإنما يرجعون إلى فضل ذكائهم وذلاقة لسانهم. وحسن
طريقة الاشتقاق في لغتهم. فهم يضعون أو يشتقون للمعاني التي تجول في نفوسهم
من الكلمات ما يغنيهم عن التطفل في ذلك على سواهم. أما الجواهر والأعيان فقد
يتعذر أو يتعسر عليهم أن يضعوا لها كلمات. بعد أن ضرب المستبضعون والتجار
في طول جزيرتهم وعرضها. وهم ينادون باسم الخيار واللوبيا والباذنجان،
والكوب والإبريق، والمسك والبنفسج والسندس والإستبرق، والفيروز والبلور
والجام والدانق، والدرهم والدينار والعربون، الي غير ذلك من أسماء الأدوات
والفرش والماعون. وقد ضاق ذرع العرب بهذه الأسماء وأعجزتهم كثرتها،
فاضطروا إلى أن يرحبوا بها، ويلقون حبلها على غاربها. اهـ المراد منه.
وثمن الكتاب خمسة قروش، وهو يباع في المكاتب المشهورة.
__________
(1) المنار: إن بعض ما مثل به من الغريب، ليس مما يثقل على اللسان كمنفشل ولكنه غير مألوف لعدم صقله بالاستعمال فهو لا ينافي الفصاحة وما كان ثقيلاً كالهعخع الذي يذكرونه في كتب البلاغة، إنما ينافي مثله الفصاحة ويكره استعماله إذا كان له مرادف يقوم مقامه، والأحسن استعماله عند الحاجة إليه، ورأيت أكثر أدباء عصرنا غافلين عن هذا وذاك.
(2) المنار: الكلمتان عربيتان: ومعنى الأولى الفتنة التي يحدث فيها تداخل واضطراب وقتل، وقول أبي موسى: إن الهرج في لسان الحبشة القتل لا يدل على أن العرب أخذتها عن الحبشة، وربما كان العكس 0 والثانية مشتقة من النفقاء (راجع ص 885م11) .(12/135)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(نصيحة لمسلمي بيروت عامةً وفتيانهم الشجعان خاصةً)
إنني في كلامي عن البلاد السورية قد فضلتكم على غيركم، ورجوت منكم
لخير البلاد ما لم أرجُه من سواكم، وإنما كتبت ما اعتقدت، بحسب ما رأيت
واختبرت؛ تنشيطًا للعاملين، وتنبيهًا للخاملين، ذلك بأنني رأيت من احترام الحرية
عندكم، ما لم أر مثله في طرابلس ولا دمشق ولا غيرهما من البلاد، ورأيت فيكم
حركة إلى العلم والتربية، لم أر نظيرها - على ضعفها - في غير بلدكم، فحمدت
الله - تعالى -على ذلك وحمدتكم.
ثم إنني أقمت في بلدكم سبعة أسابيع متصلة بعد تينكم الزيارتين المتعاقبتين،
فرأيت فيه أمرًا استنكرته وحزنت لأجله حزنًا شديدًا، فأحببت أن أنصح لكم فيه
كتابة، كما نصحت فيه لكثير منكم مشافهة وخطابة؛ عسى أن تكون الكتابة أعم
وأنفع، ولا أقول: إن هذا الأمر المنتقد خاص بكم، وإنما أرجو أن ترجعوا عنه
بمجرد النصيحة، وربما بقي عند غيركم إلى أن تتكون الحكومة الجديدة وتستقر،
فترجعهم عنه بالقوة القاهرة، إن لم يرجعوا خوفًا منها.
ذلك الأمر المنكر: هو ما ذكرته في آخر خطاب ألقيته في نادي الجامعة
العثمانية عندكم (ونشرت محصله في هذا الجزء) ؛ وأعني به إزعاج الحرية
الشخصية في بعض الأوقات لا سيما حرية أصحاب الصحف. وقد حمدكم العقلاء؛
لاستنكاركم حادثة الشام، وحملكم على المفسدين الذين أثاروا الفتنة فيها؛ كراهية
لحرية العلم والاستقلال في فهمه ونشره. ولكن جرائد الشام الآن أوسع حرية من
جرائدكم، كما يعلم ذلك جميع القراء منكم، فهل ترضون بهذا الانقلاب؟
كاد يقع الخصام بل الالتحام بين طائفتين منكم؛ لأن شيطانًا من شياطين
الإنس وسوس إلى بعضهم: أن جريدة كذا نشرت آية من القرآن الكريم، ونشر
القرآن في الصحف إهانة له، فيجب أن يهان صاحبها حتى لا يعود إلى ذلك. ذكر
ذلك في مجتمع فيه كثير من العامة والخاصة، فاشتد في الإنكار بعض الشبان،
فانبرى للدفاع عن صاحب الجريدة آخرون من أبناء حيه، فتساهل الأولون،
وانتهى الكلام بانتداب رجلين لسؤال صاحب الجريدة عن حقيقة الأمر، ولما جاءهم
للسؤال كنت عنده، وكان هو قد خرج لحاجة، فراجعنا جريدته أولاً، فلم نجد فيها
شيئًا من القرآن، وأقنعتهما بأن الإهانة لا تكون إلا بالقصد، وأن من يقصد إهانة
القرآن بعمل عمله يصير به مرتدًّا لا عاصيًا فقط، ولا يقع هذا من مسلم، وإنما
يكتب الآيات من يكتبها؛ لأجل أن يكون في كلامه روح ربانية مؤثرة ينفع بها
القارئين. وقلت لهما: إن جميع جرائد المسلمين في مصر وفي بيروت وغيرها من
البلاد تزين بعض كلامها بالآيات الكريمة وتناولت من جرائد كانت بجانبي نسخة من
المؤيد، فأطلعتهما على عدة آيات فيها، بعضها في خطبة لأحد الأساتذة بنظارة
المعارف المصرية، ومازلت بهما حتى خرجا مقتنعين بأن من من حرك هذه
الفتنة لم يكن مخلصًا في قوله، وقبَّلا يدي بعد أن كان حديثهما معي حديث الخصم
مع الخصم، فدل ذلك على حسن نيتهما.
ثم إن صاحب جريدة أخرى كتب في جريدته أن المسلمين مقصرون فيما
يجب عليهم من العناية بالتربية والتعليم، وما تقتضيه حال العصر من سعة الثروة،
وأن جيرانهم وخلطاءهم من النصارى قد سبقوهم في هذا المضمار. فوسوس شيطان
التفريق إلى بعض الفتيان المتحمسين قال: إن صاحب جريدة كذا قد أهان المسلمين
وفضل النصارى عليهم، فاضطربوا وغضبوا، وأخذ بعضهم نسخًا من بائع تلك
الجريدة فمزقها، وحاول طائفة منهم إهانة الكاتب بل أهانه بعضهم بالفعل، وطاف
آخرون على بعض المشتركين بالجريدة، فرغبوا إليهم أن يقطعوا اشتراكهم فيها.
وقد رأيت شابًّا يتأثر صاحب هذه الجريدة في بعض الشوارع، فلما رآني
استوقفته وتحدثت معه، ثم تركته تبعني، وسألني عما كتبه عن المسلمين فقلت له:
كتب كيت وكيت؛ ليحث المسلمين على إنشاء المدارس والعناية بتربية أولادهم،
حتى يكونوا أرقى الأمم وأعلمها، وعلى تحصيل الثروة؛ ليكونوا من أغنى الناس
وأعزهم. وأقنعته بأنه لا يعقل أن يكون قصد إهانة أهل دينه الذين يهان بهوانهم،
ويعتز بعزتهم، ويشرف بشرفهم، من غير أن يكون له فائدة في ذلك، ولا مجال
للقول بأن له فائدة أو ربحًا من الإهانة، ثم ذكرت له شيئًا من مفاسد هذا الشقاق
الذي يلقبه بعض أهل الأهواء بين المسلمين، وهو أضر عليهم لا سيما في هذا
الوقت من كل ما يتصور أن يضرهم. فانثنى مقتنعًا شاكرًا.
هذا ما تركت عليه بيروت يوم سافرت منها، وقد دخلت القاهرة ليلة الخميس
وفي اليوم الثاني من وصولي إليها صليت الجمعة في أحد المساجد، فإذا بالخطيب
فيه يصدع الناس بوعظ يقول فيه ما معناه: إنكم قد تركتم الإسلام، وأين الدليل
على إسلامكم وأنت تعملون كذا وكذا، حتى قال: وتشبهت نساؤكن بالعاهرات،
فقلت في نفسي: لو كان هذا الخطيب في بيروت لأنزلوه عن المنبر بالقوة، ومنعوه
من إتمام الخطبة.
مع هذا كله أقول الآن كما قلت من قبل: إن مسلمي بيروت أقرب إلى الخير
والاستعداد للترقي من غيرهم، وأبعد عن الفتن التي تحول دون الأعمال النافعة،
وأكثر ما ينتقد عليهم مما ذكر يقع منهم بحسن النية غالبًا، لا أعرف فيهم رجلاً واحدًا
يحب إثارة الفتن بسوء نية، ولعلة يندر أن يوجد له أقتال ونظراء في ذلك.
فالذي ننصح به لهم ولغيرهم هو: أن يعلموا أنه لا شيء أضر على الأمم من
التفرق والشقاق لأجل الخلاف في الفهم والرأي، سواء كان في أمر الدين أو أمر
الدنيا، فضرر أكبر الكبائر - كالقتل والزنا وشهادة الزور - هو دون ضرر التفرق
والشقاق في الأمة؛ لأن هذا الجرم هو المانع من وحدة الأمة وعزتها وقوتها، وهي
متى قويت تقدر على منع سائر الجرائم، ومتى كانت ضعيفة بالتخاذل لا تقدر على
منع شيء من المفاسد، ولا على إقامة شيء من المصالح. ولذلك توعد الله - تعالى-
على التفرق والخلاف بما لم يتوعد على غيره، بل جعل المتفرقين في الدين براء
من النبي صلى الله عليه وسلم ومن دينه فقال {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً
لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) وأنزل يوم تلاحى نفر من الأوس
والخزرج، وذكروا ما كان من مشاقة بعضهم لبعض يوم بعاث {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 103-105) .
فالمتدبر للقرآن يرى أنه تعالى ينهانا ويحظر علينا التفرق والخلاف، ويحتم
علينا أن نكون إخوة متحابين، ويفرض علينا مع ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، ومن أهان أخاه واحتقره أو آذاه؛ لأنه قال أو كتب ما يخالف رأيه، لا
يكون آمرًا بالمعروف، وهل يوجد أحد من الناس يقول: إن الإهانة والإيذاء من
المعروف؟ ؟ وإذا كان الله تعالى قد أمر نبيه بأن يجادل المشركين بالتي هي
أحسن، فهل يرضى منا أن نجادل إخواننا المؤمنين بالتي هي أسوأ وأقبح؟ أما ما
قال الله - عز وجل - {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) أما قال مع ذلك: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن
كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21) .
إن الله تعالى ما ذكر فرضية الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر مع النهي عن التفرق والاختلاف؛ إلا لأن هذه الفريضة هي سياج وحدة
الأمة وحفاظها، فإقامتها تمنع التفرق، كما قال الأستاذ الإمام: فإذا جعلنا الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر سببًا للتفريق والخلاف والعداوة بين المسلمين، نكون
قد قلبنا مقصد الدين، ونقضنا ميثاقه، وقطعنا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدنا
في الأرض {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن
يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (الرعد: 25) .
للأمر بالمعرف والنهي عن المنكر شروط وآداب، فصلناها في التفسير
المنشور في الجزئين الثامن والتاسع من مجلد المنار العاشر، ولا يصلح لها على
الإطلاق إلا أهل العلم والعرفان فأي إفساد في الدين والدنيا شر من إغراء العامة
بالافتيات على أهل العلم، وحملة الأقلام، والتصدي لأمرهم ونهيهم. بل وجد من
شياطين الإفساد والتفريق من إغراء العامة بمنع بعض خطباء المساجد من خطبة
الجمعة! ! حدثني بذلك بعض شبان بيروت، فقلت له: إن الخطبة فريضة دينية
كالصلاة، فهل يجوز لنا أن نمنع مسلمًا من أداء الصلاة؛ لأننا غضبنا منه بحق أو
بباطل؟ إذا جاز لنا هذا، جاز لنا أن نمنع كل من أذنب ذنبًا من أداء الصلاة
والصيام والزكاة والحج، وأن نشترط العصمة في كل طاعة من الطاعات. ولا
يبيح لنا ديننا أن نقول بعصمة أحد بعد الأنبياء، وقد ختم الله تعالى ببعثة نبينا
صلى الله عليه وعليهم أجمعين وسلم، ولم يقل أحد من المسلمين الذين يعتد أحد من
بعده؛ إلا ما قاله الإمامية من الشيعة في الأئمة الاثني عشر من آل بيت النبي
بإسلامهم بعصمة عليه وعليهم السلام.
فعلم مما بيناه: أن التصدي لإهانة الناس الذين يظن أو يعلم أنهم أخطأوا هو
من المفاسد المحرمة شرعًا، والقبيحة عقلاً، وكل من يغري بها شيطان رجيم يجب
عصيانه، والبعد عنه، والاستعاذة بالله من شره. والاجتماع لأجل هذه الجريمة
والتعاون عليها يزيد في قبحها وإثمها قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ
تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (المائدة: 2) .
بعد هذا كله، أقول لفتيان بيروت الذين يعرفون بلقب (الأبضايات) : إنكم
أيها الشجعان البواسل، قد عطَّرتم الأرجاء بمحمدة عظيمة، ظهرت منكم في أيام
إعلان الدستور، ولا تزالون تحافظون عليها، حتى أثنى عليكم العقلاء في غير
بلادكم، بما لم يثنوا به على سواكم؛ ألا وهي محاسنة خلطائكم وعشرائكم في وطنكم
من المشاركين لكم فيما عدا الدين من شؤون الحياة. فهل يليق بكم بعد فضيلة
مسالمة هؤلاء أن تتلوثوا برذيلة معاداة من يشاركم في كل شيء حتى في الدين،
فتكونوا كمن نزل فيه قوله تعالى: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} (الحشر: 14) ؟ حاشاكم أن ترضوا بذلك عالمين به،
وإنما يغشكم الغاشون، فلا تكونوا آلة لهم في أهوائهم.
لا أقول: إنه ينبغي أن تخدموا بلدكم بإتقان كل واحد منهم لعمله فقط، فإنكم
تستطيعون أكثر من ذلك. إنكم تستطيعون أن تتعاونوا دائمًا على منع العدوان،
حتى يصير نادرًا، وتتعاونوا على إصلاح ذات البين عندما يقع شقاق أو خصام بين
اثنين أو جماعتين. ولكنكم لا تقدرون على الهيمنة على العلماء والسياسيين،
والمراقبة على الخطباء والمحررين، ونفع الأمة بإيقاف هؤلاء عند حدود لا
يتعدونها. وإنكم إذا تصديتم لذلك تضرون الأمة ضررًا عظيمًا. ولا تستقلوا ما قلت:
إنكم لا تستطيعونه؛ فإنه أمر عظيم مقدم على كل أمر؛ لأنه يتعلق بالأمن
والراحة العمومية، وهو أول شيء تطالب به الحكومة، فإذا قمتم في بيروت بعمل
لا تزال الحكومة مقصرة فيه في كثير من البلاد، فإنكم تستحقون من الناس الثناء
الجميل، ومن الله الثواب الجزيل.
__________(12/144)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رحلة صاحب المجلة في سورية
(4)
حمص وحالها الاجتماعي:
سافرت في اليوم الثاني من شوال من بعلبك إلى حمص، والمسافة بينهما في
القطار الحديدي ثلاث ساعات، وقد وصل القطار إلى محطة حمص الساعة 8.45
دقيقة مساء، فإذا بالصديق الكريم والولي الحميم السيد عبد الحميد أفندي الزهراوي
ينتظرني فيها مع طائفة من أهل العلم وكرام البلد في مقدمتهم الشيخ أحمد نبهان
الذي حببه إلينا على البعد ما نمي إلينا من عقله وحبه للإصلاح مع علمه وحسن
سيرته.
أقمت في حمص أربع ليال وثلاثة أيام في دار الزهراوي، ولقيت فيها أكثر
أهل العلم والمكانة من المسلمين والنصارى، إذ كانت الدارغاصَّة بهم ليلاً ونهارًا،
وقد رأيت في هذه البلد من الوفاق بين الفريقين وحسن الألفة، ما لم أر له نظيرًا
في سائر البلاد السورية ولا بيروت، فإن جل ما مدحناه من أهل بيروت هو ترك
التقاتل والتسافك، ولا يزال كل فريق بعيدًا عن الآخر في المعاشرة والمعاملة إلا ما
لا يخلو منه مكان بحكم طبيعة الاجتماع وحاجة بعض الناس إلى بعض، حتى إنني
قلت لكثيرين منهم: إنني أرى الوفاق الذي حمدناه لكم على البعد سلبيًّا لا إيجابيًّا،
وصرحت بذلك في نادي الجامعة العثمانية، ودعوت الناس في خطبة خطبتها في
ذلك إلى التزاور والتعامل وغير ذلك من أعمال الوفاق الإيجابي.
وقد كنا توهمنا ونحن بمصر أن الشقاق بين مسلمي حمص ونصاراها شديد؛
لحادثة جرت في الاحتفال بعيد الحرية كبرتها الجرائد، فوجدنا الأمر على ضد ما
كتب في ذلك. فإنني ما رأيت في بيت من بيوت طرابلس ولا بيروت مثلما رأيت
في بيت الزهراوي من اجتماع الفريقين كل ليلة من ليالي الشتاء للسمر ومبادلة
الآراء.
ثم إنني لم أر في حمص ما رأيت في غيرها من الاضطراب والاعتصاب
والافتيات على الحكام، والتبرم من جمعية الاتحاد والترقي. ومن أسباب ذلك أن
أعضاء لجنة الجمعية المركزية كانت مؤلفة من أناس مؤتلفين متعارفين، لا ينقم
الناس منهم شيئًا، ولا يشكون منهم إهانة ولا شذوذًا، وقلما اتفق هذا للجنة أخرى
كما يعلم مما نكتبه بعد عن الجمعية.
نعم إنه ينتقد على أهل حمص ما ينتقد على أهل طرابلس من الخمول
والسكون، فهم لم يشرعوا في عمل مفيد للبلاد , وقد حثثت طائفة من الوجهاء على
تأليف جمعية خيرية إسلامية؛ لأجل إنشاء المدارس الأهلية، ومساعدة الفقراء على
تربية أولادهم وتعليمهم، فألفيت منهم ارتياحًا واستحسانًا، وقد مرت الشهور ولم
يشرعوا في العمل. ولكننا لم نيأس من همتهم وغيرتهم، فعسى أن يسمع منهم عن
قريب ما تقر به العين.
هذا وإن عمران حمص ينمو نموًّا عظيمًا، والزراعة والصناعة تتقدم فيها
تقدمًا مبينًا. ولكنها متخلفة عن طرابلس في ترف الحضارة، وإن كانت سابقة لها
في مضمار العمران، بل هي وسط من التأنق في الأطعمة بين مثل طرابلس
وبيروت ودمشق، وبين القرى الكبيرة التي يوجد فيها أغنياء يعيشون في بلهنية،
فالظاهر أن التأنق في حمص خاص ببعض أهل السعة والبيوت المطروقة، وإن
الفقير في طرابلس ليتنوق في طعامه ما لا يتنوق الأغنياء في كثير من المدن.
وإني لأعلم أن المصري المقيم في القاهرة نفسها الذي يزيد دخله في الشهر على
دخل الطرابلسي في السنة، لا يأكل من الحلوى في السنة كلها بقدر ما يأكل
الطرابلسي منها في شهر واحد، فقلة التنوق في الأطعمة بحمص محمدة لها عندي
إذا كانت تحفظ ثروتها من التلف في غير ذلك من ضروب السرف، وتجعل حظًّا
منها عظيمًا للتعليم والتربية.
طرابلس أيضًا
سافرنا من حمص قبيل الفجر من يوم السبت سادس شوال (31اكتوبر) في
مركبة من مركبات (شركة الشوسة) فوصلنا إلى طرابلس بعد العصر، وطفقت
أتهيأ للسفر إلى مصر، وكنت عازمًا على السفر في يوم السبت التالي لهذا السبت
(13 شوال و7 نوفمبر) . ولكن عرض ما حال دون ذلك.
جمعية خيرية إسلامية بطرابلس
وفي يوم الأربعاء (10 شوال) رغبت إلى مفتي طرابلس أن يقوم بتأليف
جمعية خيرية إسلامية كالجمعية التي بمصر، وذكرت له موضوعها وأعمالها
ووجوه الحاجة إلى مثلها في طرابلس، وأهمها إنشاء المدارس لتعليم أولاد الفقراء
على نفقة الجمعية، وأولاد الأغنياء بالأجرة. فأجاب بأنه مستعد لذلك بماله وحاله
واستحسن أن أدعو الوجهاء والأغنياء إلى ذلك، فقلت له: أنت كبير البلد وزعيمها
وأنا قد صرت غريبًا أو كالغريب؛ لأنني مسافر بعد ثلاث، فإذا لم تقم أنت بهذا
العمل لا ينجح. ثم رضي بأن يكون هو الداعي لهم إلى الاجتماع، على أنهم متى
اجتمعوا أخطبُ فيهم، فإن أجابوا الدعوة التي أوضِّحُها لهم، أُبَيِّن وجه الحاجة إليها
كان هو أول العاملين والمساعدين في التنفيذ.
وأقول ههنا: إن رشيد أفندي كرمي مفتي طرابلس على كونه سيد بلده،
وأوسع أهلها ثروة وجاهًا؛ هو أقرب وجهائها وأغنيائها إلى الخير، وأبعدهم عن
كل شر، وأطيبهم نفسًا، وأبسطهم مع القصد والروية يدًا، كما يظهر ذلك لمن
يعاشره، وخلافًا لما عليه أكثر الأغنياء في بلادنا، فهو لا يدع لطالب الإصلاح في
العلم أو العمل حجة عليه، بل يجيب كل داعٍ إلى خير كعبد الرحمن باشا اليوسفي
في دمشق. ولكن لا يقدم واحد منهم على ابتكار العمل والنهوض به، بل يقولان
مثلما كان يقول هنا حسن باشا عاصم - رحمه الله تعالى -: أوجدوا العمل وطالبوني
بالمساعدة أجبكم إليها. وإنما كان هذا يساعد بالعمل، وذانك يساعدان بالمال فهما
خير أغنياء بلادهم.
وكان عذر حسن باشا عاصم في عدم الإقدام على الابتكار وإيجاد
(المشروعات) : هو عدم الثقة بإجابة الناس وثباتهم على العمل. ولابن اليوسف في
دمشق وابن كرامي في طرابلس مع مثل هذا العذر أعذار أخرى؛ ككثرة
أعمالهما، وما لا حاجة إلى بيانه الآن من حال البلاد وغير ذلك.
ذهبت في ذلك اليوم (الأربعاء) إلى القلمون، فهيأت ثيابي وحاجي
وأرسلتها إلى الميناء في يوم الجمعة، وعدت إلى طرابلس مع كثرة الأمطار مساء؛
لأن المفتي كان وعدني بجمع الوجهاء ليلة السبت؛ لأجل تأسيس الجمعية الخيرية،
فألفيته قد أرجأ دعوتهم؛ للاشتغال بانتخاب المبعوث عن طرابلس؛ لأن الولاية
أمرت بإتمام الانتخاب يوم السبت، ولكثرة الأمطار التي كان يظن أنها تحول دون
عودتي من القلمون على قرب المسافة، وقال: إن أقرب وقت يمكن أن يجتمعوا
فيه، إذا نحن دعوناهم بعد انتخاب المبعوث غدًا هو ليلة الثلاثاء، فرأيت أن أرجئ
السفر أسبوعًا؛ لأجل إتمام هذا العمل الشريف.
ملخص خطبته
وفي ليلة الثلاثاء اجتمع في دار عمر باشا المحمدي نحو من عشرين رجلاً؛
إجابة لدعوة المفتي، وهم من وجهاء لواء طرابلس لا المدينة نفسها فقط. فخطبت
فيهم خطبة بينت فيها فوائد الجمعيات وأنواعها وتأثيرها في ترقية البشر في العلوم
والأعمال الدينية والدنيوية، وكون الخيرية منها من الضروريات التي لا يخلو منها
بلد من البلاد المرتقية، حتى إن الرجل الإفرنجي إذا مر في سياحته على بلد وأراد
أن يبذل شيئًا من ماله لمساعده فقراء أهله، فإنه إنما يرسله إلى الجمعية الخيرية في
ذلك البلد، وربما وضع أحدهم حوالة مالية في كتاب وكتب عليه (الجمعية الخيرية)
ووضعه في صندوق البريد؛ من غير أن يسأل هل يوجد في هذا البلد جمعية
خيرية أم لا؟ كأن الجمعيات الخيرية من الأمور الضرورية التي لا يمكن أن يخلو
بلد منها. وذكرت ذلك المشعوذ الذي جاء القاهرة، وأراد بعد أن ربح بألعابه فيها
ربحًا عظيمًا؛ أن يخصص ليلة يجعل دخلها للجمعية الخيرية الإسلامية فيها، فكان
ذلك سبب تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية.
ثم قلت: أيها السادة، إن حكومتكم قد دخلت في طور جديد، فصارت
ديمقراطية أمرها بيد الشعب بعد أن كانت استبدادية شبه الأرستقراطية؛ بما
للأغنياء والشرفاء من النفوذ فيها. واعلموا أن كثيرًا من الأحرار الذين انقلبت
السلطة الاستبدادية بسعيهم متطرفون في الديمقراطية، وأن معظم الأحكام ستكون
في أيديهم عاجلاً أو آجلاً، وأن الشعب سيشعر بهذا، فندب إليه كراهية الكبراء
والأغنياء فيكرههم، وتنفخ فيه روح الاشتراكية فيهيج عليهم بالفعل، فإذا جاء
طرابلس متصرف متطرف من الديمقراطيين الذين أشرت إليهم، وكان والي الولاية
منهم أيضًا، فاعلموا أن ما تعودتموه من الجاه والكرامة في وطنكم لا يبقى لكم؛ إلا
إذا كان الشعب يحبكم بتحببكم إليه قبل ذلك، وإلا دهوركم أسقطكم كما فعلت قبله
الشعوب الإفرنجية بأولئك النبلاء الذين كانوا يملكون أوروبا؛ ويتصرفون فيها
تصرفًا لم تصلوا إلى مثله من كونت ودوق ومركيز، ثم يقوم من طبقات الشعب
الدنيا من يتولى الزعامة في البلاد بحق أو بغير حق. وما أظن أن صدوركم تنشرح
لتلك الحال، ولا أن أعينكم تبتهج برؤيته. وإنني أحب أن تكونوا أنتم زعماء بلدكم
في زمن الحرية وتحت ظل الدستور؛ بأن تتحببوا إلى الشعب مذ اليوم بنشر
التربية والتعليم فيه، ومواساة الفقراء والمساكين من أهله.
إنني لا أحب الأرستقراطية وإن كنت من بيت شريف، وإنني مازلت من
دعاة الديمقراطية بلسان السياسة ولسان الدين، وإنما أميل إلى بقاء زعامة وطني
في وجهائه وإياكم أعني؛ لاعتقادي أنه لا يوجد في دهمائه من يصلح للزعامة كما
وجد في فرنسا عندما صارت ديمقراطية.
الفرق بيننا وبين فرنسا بعيد، إن فرنسا كانت قبل ثورتها المشهورة قد
استعدت ما لم نستعد بمثله نحن اليوم، حتى نبغ فيها من دهماء الشعب من
يصلحون للزعامة: بعلومهم وأعمالهم وآرائهم وأخلاقهم.
إنني لعلمي بهذا الفرق، ولما رأيت في بلاد مصر التي تمتعت بالحرية قبل
بلادنا من العبر وهبوط قوم وصعود آخرين، أقول ما أقول عن خبرة وبصيرة
وأحب أن نعتبر نحن العثمانيين بحال الأمة الإنكليزية التي هي أعرق الأمم في
الحرية وأكثرهن استفادة منها، فهي الأمة التي حافظت على كرامة النبلاء وحرمة
البيوتات فيها بعد الديمقراطية الراسخة، واستفادت من ذلك كثيرًا. ورأى أن إسقاط
الشعب لكرامة أصحاب البيوتات منا، وتسلق أفراد الطبقات الدنيا للزعامة فينا مع
ما هم عليه من الجهل يقف في طريق نهضتنا، وإن عناية وجهائنا بحفظ كرامتهم
وحرصهم على أن يكونوا هم زعماء الشعب، يكون أسرع في تقدمه إذا هم أتوا
البيوت من أبوابها، فإنهم في الغالب على شيء من الأخلاق والعلم أو الاختبار.
ثم قلت: إن خدمة الأمة والتحبب إليها، إنما يكونان بالتعاون على تربية
أولادها، وتعليمهم ما به قوام حياتهم، ومواساة المنكوبين والمعوزين من فقرائها،
وذلك لا يتيسر إلا بتأليف جمعية خيرية، يجعل معظم ريعها لإنشاء المدارس وباقية
لإعانة المنكوبين والمعوزين، وهذا ما أدعوكم إلى الاكتتاب له بلسان فضيلة المفتي
الحريص على هذا العمل المبرور، الراغب في هذا السعي المشكور، وسيجمعكم
في ليلة أخرى؛ لأجل المذاكرة في القانون الذي يوضع لذلك، وانتخاب الأعضاء
العاملين. ثم شرعنا في الاكتتاب، وافتتحه المفتي في ورقة كتبت في أعلاها ما
نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) .
هذا بيان ما تبرع به الذوات المذكورة أسماؤهم بخطوطهم أدناه؛ لتأسيس
جمعية خيرية إسلامية في طرابلس الشام؛ لنشر التعليم الديني والدنيوي على
الطريقة العصرية؛ ولإعانة المصابين والمنكوبين المعوزين بمقتضى قانون يجري
العمل بموجبه بعد إقرار المكتتبين له في اجتماع خاص، وقد جرى هذا في ليلة 16
شوال سنة 1326 للهجرة الشريفة.
أسماء المكتتبين لتأسيس جمعية خيرية إسلامية بطرابلس الشام
ونذكر أسماء المكتتبين مع الألقاب، وهم كتبوها مجردة كما هي العادة،
ونرتبها على حسب قيمة الاكتتاب.
ليرة عثمانية
100 مفتي اللواء رشيد أفندي كرامي.
100 عمر باشا المحمد من أعيان اللواء.
030 عثمان باشا المحمد.
020 علي باشا المحمد.
020 مصطفى أفندي عز الدين من كبار التجار.
010 عبد القادر باشا الملا رئيس شركة الترام والشوسي.
005 إبراهيم بك الأحمد من الأعيان.
ليرة عثمانية
005 أحمد أفندي سلطان وكيل الدعاوى (المحامي) .
005 خير الدين بك عدره من كبار التجار.
005 عبد الحي أفندي الملك من الوجهاء.
005 عبد القادر أفندي القباني البيروتي الشهير (وكان في طرابلس) .
005 عبد القادر أفندي الذوق من كبار التجار.
005 محمد فؤاد أفندي الذوق.
005 محمد سعيد بك (مميز قلم متكوبجي الولاية) الذي كان وكيل
المتصرف يومئذ.
005 محمد كامل بك البحيري صاحب جريدة طرابلس.
003 عبد اللطيف أفندي الغلاييني وكيل الدعاوى.
003 محمود أفندي الحداد من التجار.
002 الشيخ إسماعيل أفندي الحافظ رئيس كتاب المحكمة الشرعية.
002 صبحي بك شريف.
001 عبد الرحمن أفندي أديب من التجار.
336 المجموع
وقد وعدني بعض هؤلاء بأن يدفعوا أكثر مما كتبوا، منهم مصطفى أفندي
عز الدين، والشيخ إسماعيل أفندي الحافظ، كما وعد بعض من حضر وكتب اسمه
ولم يعين مبلغًا كعبد الله أفندي الثمين من كبار الوجهاء أصحاب النفوذ الأدبي في
اللواء وعضو مجلس الإدارة الآن.
هذا وإن الذين أجابوا الدعوة وحضروا الاجتماع هم زهاء خُمْس من دعاهم
المفتي , وقد أَبَى حضورها بعض المفتخرين بالمجد التليد الذين يرون أنهم
يستغنون به عن المجد الطريف، ومنهم من صار يسعى بعد ذلك في إبطال العمل
ويثبط عنه، وكان لسعيهم هذا تأثير أوقف التنفيذ إلى أجل، ولولا ذلك لما ذكرت
من أمر هذه الجمعية إلا أن جماعة من أهل الفضل في طرابلس أسسوا جمعية
خيرية إسلامية، فلهم الشكر والثناء.
يوجد في كل بلد أفراد مجردون من حب الخير، ويرون أنهم أهل لأن
يوصفوا بكل خير، ويؤلمهم منظر الخير في غيرهم؛ لأنه بعمله تحلى بما أعوزهم
وأعجزهم، فهم يقعدون بكل طريق من طرق الخير يصدون عنها ويبغونها عوجًا.
لأجل هؤلاء أحب مفتي طرابلس أن لا تؤسس الجمعية الخيرية إلا بعد دعوة جميع
الوجهاء، حتى لا يعتذر بعد ذلك أعداء الخير بأنهم لا يساعدون هذا العمل؛ لأنهم
لم يدعوا إليه عند التأسيس، ونِعْم ما أحب وما رأى.
على أن بعض من دُعِي ولم يجب ممن ذكرنا وصفهم، انتدبوا لإحباط العمل
والتثبيط عنه، حتى إن منهم من لم يستح من مخاطبة المفتي نفسه بذلك، ولما لم
يجد وجهًا وجيهًا للتثبيط قال له: إنه لا ينبغي لسماحتكم أن تقوموا بهذه الجمعية عن
دعوة فلان، فأجابه المفتي جواب العاقل الفاضل، فقال أولاً: إن هذا العمل خير لا
ريب في نفعه وفائدته، فسواء كان من دعاني إليه دوني أو مثلي أو فوقي لا فرق
في ذلك، وثانيًا: أن الداعي إلى ذلك هو واحد منا، ومن أهل العلم والشرف فينا،
وليس له منفعة شخصية ولا غرض ذاتي حمله عليه، ولا هو يريد الإقامة في هذه
البلاد، فنقول: إنه ينفرد بشرف العمل فيه حبًّا بالشهرة ... إلخ.
إنني لما علمت بمثل هذا القول الذي قيل للمفتي ولغيره، كففت عن السعي
فيما كنت آخذًا فيه من تأليف لجنة مؤقتة؛ لإدارة العمل والدعوة إليه إلى أن يشترك
في الجمعية عدد كثير تتألف منه الجمعية العمومية التي تنظر في القانون؛ وتنتخب
من أفرادها أعضاء الإدارة. وكنت أسعى إلى من أظن فيهم الخير في بيوتهم
ومحال عملهم. وإنما كففت لأرى ماذا يصنع المعذرون أو المثبطون، هل يتفقون
مع المفتي وينهضون لعمل أم يرتاحون إلى السكوت عنه؛ لأنه هو المقصود لهم
بالذات؟ فتبين بعد ذلك أنهم لا يريدون إلا إحباط العمل؛ لأنهم لا يعلمون الخير،
ولا يحبون أن يعمله غيرهم.
وقد كتبت في مذكرتي في أوائل شهر ذي القعدة ما نصه: ذكر لي غير واحد
من الوجهاء أن نجاح الجمعية الخيرية الإسلامية بطرابلس لا يرجى، وأن الذين
اكتتبوا إنما استحيوا مني، وهم لا يعتقدون أنهم يدفعون شيئًا، بل قالوا: إن المفتي
نفسه يسايرني مسايرة بأن سيبذل جهده؛ وهو يعتقد أن التقصير سيظهر من غيره.
وألح عليَّ (فلان) بأن أترك التشبث بالجمعية. وظهر لي أنه يرى أن ذلك
ينفر القوم مني؛ من حيث لا أستفيد مما أريد شيئًا ... إلخ ما كتبته في شأن أفراد
معينين، من قائل ومقول فيه.
أكتب هذا ليعلم أصحاب النية الصالحة في طرابلس كالمفتي وغيره السبب
في اكتفائي بعد ذلك بانتقاء نفر ممن يرجى نجدتهم لإدارة الجمعية موقتًا، وإيذان
المفتي بذلك في يوم الأربعاء 23 ذي القعدة (16 ديسمبر. ك1) بعد دعوة كل
واحد منهم على حدته ووعده لي ببذل الجهد في ذلك إلا واحدًا منهم (وهو محمود
أفندي الملا) ، قال: إنه لا يدخل في العمل إلا بعد أن يشرعوا فيه بالفعل. وإن
لي رجاء قويًّا في همة المفتي وغيرته وهمة أولئك الأنجاد؛ بأن ينهضوا بهذه
الجمعية نهضة صالحة بعد هدوء الاضطراب الذي أحدثه ضعف الحكومة الجديدة
والاستواء على حال ثابتة. وإنني أساعدهم بالقلم من هنا، وأكون عونًا لهم على
اليائسين الذين لم أكتب ما كتبت الآن؛ إلا ليعلموا أن كيدهم في تضليل {وَاللَّهُ
يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
حقوقنا المهضومة ونائب طرابلس الشرعي:
لقد علم القاصي والداني من عثماني وغير عثماني؛ أن حكومة الاستبداد
الماضية، قد أسرفت في الجور على بيتنا وظلم أهلينا؛ انتقامًا مني (راجع فاتحة
السنة الثانية عشرة في الجزء الماضي) ، وكان من ذلك الظلم أنه لما توفي والدنا
تغمده الله برحمته، صرت أنا المستحق بعده للتولي على جامع القلمون الذي جدده
فيها جدنا الثالث؛ بحسب نظام التوجيهات الناطق وفاقًا للشرع بأن يوجه ما ينحل
عن الوالد من الوظائف المتعلقة بالأوقاف إلى أكبر أولاده. ولكن حكومة الرشوة
والاستبداد وجهت تولية مسجدنا على رجل آخر اسمه عثمان النصري، واشتهر أنه
أعطى القاضي (نوري أفندي) على ذلك أربعين ليرة، ثم أعطاه رجل آخر اسمه
الشيخ محمود حسن - على ما شاع وذاع - سبعين أو ثمانين ليرة، فعزل عثمان
النصري بعد دعوى ملفقة، ووجه التولية على محمود حسن.
فلما أردت السفر من طرابلس إلى مصر، قدمت دعوى إلى المحكمة
الشرعية ملخصها؛ أن تولية محمود حسن على جامع القلمون غير صحيحة، وإنني
أنا صاحب الحق في هذه التولية، فأطلب توجيهها عليَّ عملاً بالنظام، وإذا فرضنا
أن توليته صحيحة، فإنني أثبت خيانته بترك معاهد الوقف عرضة للخراب وترك
عمارة ما خرب منها في زمن توليته، والزيادة في النفقات والنقص من الريع.
ووكلت عني وكيلين شرعيين ثم تهيأت للسفر، فحدث ما ذكر آنفًا من التشبث
بتأسيس جمعية خيرية، ثم جاء نبأ برقي بأن نيابة طرابلس (أي قضاءها الشرعي)
وجهت إلى عبد المجيد أفندي الجعفري وأنه سيسافر من الآستانة قاصدًا طرابلس،
ثم لم يلبث أن حضر.
عرضت الدعوى على هذا النائب فقال لي: إنني أقول لك وإن كان لا ينبغي
للقاضي أن يصرح برأيه قبل الحكم: إن حقك ظاهر، وإنني سأعيده لك بعد
استيفاء المعاملة الشرعية ولما كنت على ثقة من ظهور هذا الحق، اعتقدت أن
الدعوى تنتهي في أسبوع أو أسبوعين، فأجلت السفر وتابعت سير الدعوى بنفسي،
وأنا أظن في كل أسبوع أنني أفرغ فيه من الدعوى، وأسافر في الذي بعده، وكنت
عازمًا على الإقامة في سورية خمسة أسابيع فقط؛ لكثرة شغلي في مصر، فأقمت
ستة أشهر والدعوى على حالها، يزيدها النائب كل يوم تعقيدًا.
إنني لم أكد أجالس هذا القاضي مرتين أو ثلاثًا؛ إلا وقد جزمت بأنه سيهان
في طرابلس إهانة لم يسبق لها نظير، فكنت حريصًا على إنجاز قضيتي قبل ظهور
حقيقة حاله التي تقتضي ما توقعته بالفراسة، وكاشفت به غير واحد. ولكن هذا
القاضي لا ينجز عملاً لمن يعتمد مثلي في نيل حقه على أنه محق وقادر على إثبات
حقه.
أنشأ هذا القاضي يؤجل جلسات الدعوى، ويحث وكيلي الخصمين على كتابة
ما شاءا في جريدتها، ويماطل في قراءة ما كتبنا، وقد ثبت لديه أن تولية المدعى
عليه غير صحيحة، وأنه خائن تارك للعمارة الواجبة شرعًا، كما تبين بالكشف من
قبل المحكمة وشهادة الشهود، ومع هذا لم يحكم بشيء حتى آن الأوان وضج
الألوف من الناس بالشكوى منه، واجتمعوا عند المحكمة وهم ألوف ينادون فليسقط
القاضي الخائن المرتكب، وشكوا أمره للمشيخة الإسلامية فأمرت بالتحقيق وهم
يشكون منه أمورًا كثيرة ذكرت في جريدة لسان الحال وغيرها، منها التطويل في
المرافعات وعدم الحكم فيها بعد انتهائها كما حدث معنا، حتى امتنع الوكلاء
(المحامون) عن المجيء إلى المحكمة، ومنها أنه قد يحكم ثم يرجع بحكمه بعد
كتابته، ومنها كراهته للحكومة الدستورية، واعتزازه بكونه من جمعية (فدا كاران
ملت) ، وقد علمنا بعد ذلك أنه كان نائبًا في صيدا فأحدث فيها فتنة حتي هرب منها
ليلاً، وإن ذلك شأنه في كل بلد كان فيها حاكمًا.
لها بقية
__________(12/150)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قانون المطبوعات وتقييد الصحافة بمصر
لم تكد تستقر قدمنا بمصر بعد عودتنا من سورية (في الأسبوع الأخير من
هذا الشهر) ، حتى صخ سمعنا نبأ عزم الحكومة على العمل بقانون المطبوعات
الذي وضع عقب الثورة العرابية؛ لئلا تعيد الجرائد ذلك التهييج سيرته الأولى، ثم
سمعنا أن هذا كان عن اتفاق بين الإمارة المصرية والحكومة الإنكليزية، وأن نظار
الحكومة المصرية لم يكن لهم به من علم إلا أن يكون رئيسهم الجديد بطرس باشا
غالي، وأنهم عندما فوجئوا بطلب تقرير ذلك القانون أَبَوا، وفضلوا الاستقالة على
ذلك، وروت بعض الجرائد الإفرنجية أن سعد باشا زغلول ناظر المعارف، ومحمد
سعيد باشا ناظر الداخلية، هما اللذان عارضا وكادا يستقيلان، ثم أُقنعا فلم
يستقيلا، وأن الوزارة لم ترض أخيرًا بتنفيذ ذلك القانون إلا بعد تعديل ما واتفاق
على عدم التضييق به على المطبوعات، ولا المراقبة على الكتب التي تطبع، ولا
المطابع التي تطبعها، وإنما نخص المراقبة بالجرائد؛ لتمنعها من الإسراف في
الطعن والهجاء الذي لم يسلم منه الأمير ولا رجال الحكومة فضلاً عن غيرهم، ومن
تهييج الناس على الأعمال التي قد تحدث الاضطراب، وتثير السخط العام على
الحكومة. لقد كان وقع نبأ هذا القانون أليمًا شديدًا على رجال الصحافة وغيرهم،
ويخشون أن يكون مبدأ لشر أعظم منه إلا من هم على رأي السلطة التي أعادته.
كان للإدارة الإنكليزية في مصر مزيتان عظيمتان لا نزاع فيهما، ويقول
الكثيرون: إنه لم يكن لها من مزية سواهما، ألا وهما يسر البلاد المالي وحرية
الطباعة، وقد ذهبت العسرة المالية منذ سنتين بالمزية الأولى، وكانت إنكلترا قادرة
على تفريجها كما فرجت عسرة أمريكا التي هي أعظم منها بكثير من الأضعاف،
فإذا زالت المزية الثانية بقانون المطبوعات القديم الجديد، فأية مزية تبقى لهم في
مصر، يمنون بها على البلاد، ويفاخرون بها الأمم، وكلا الأمرين حدث بعد
مغادرة لورد كرومر لمصر وهو الذي كان صاحب المزيتين، على أن الحزب
الوطني وجرائده وأكثر الجرائد الأخرى ومنها المؤيد، كادوا يحصرون شكواهم من
الاحتلال في شخصه، فصار أكثرهم اليوم يتمثل بقول الشاعر:
رب يوم بكيت منه فلما ... صرت في غيره بكيت عليه
__________(12/160)
ربيع أول - 1327هـ
إبريل - 1909م(12/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة خلق القرآن وقدمه
(س10) من جدة (الحجاز) لصاحب التوقيع.
حكيم الإسلام بحر العلوم العقلية والنقلية، تاج رأس السنية سيدي محمد رشيد
رضا أفندي منشئ مجلة المنار الغراء، لا زال في مقام كريم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. من العجب أني لم أعثر في مجلدات المنار
على مبحث في القرآن المجيد المكتوب في المصاحف ... إلخ، تكونون كتبتموه أو
سُئِلتم عنه؛ لنكتفي عن أن نسألكم، فنروم من غيرتكم على الدين الإسلامي أن
تفيدونا بما هو الحق الذي يجب اعتقاده في مسألة القرآن الواقع فيها الخلاف بين
الحنابلة وأتباع الحنفية والمالكية والشافعية الآن، بالبيان الشافي الكافي بأدلة
الفريقين، وترجيح أي الاعتقادين على الآخر؛ لأن لكم القدح المعلى في هذا الفن،
ولكم الأجر والشكر في الدنيا والآخرة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد حسين
(ج) اعلم يا أخي قبل كل شيء، أنه ما أضر الإسلام والمسلمين شيء
كالخلاف والتفرق فيه إلى شيع ومذاهب، يوجه كل باحث منهم قواه إلى تأييد أقوال
مذهبه الذي ينتسب إليه، وتفنيد كل ما يخالفه؛ ولذلك وردت الآيات والأحاديث
الشريفة في حظر الخلاف والتشنيع على المختلفين، حتى قال عز وجل لرسوله
صلى الله عليه وآله وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ، وقال للمسلمين: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105) , ولعل
الجهل بمسألة من المسائل مع الوفاق والاجتماع، يكون أحيانًا خيرًا من العلم بها مع
الخلاف فيها والتفرق؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يبين شيئًا
فيترك بيانه؛ لأجل خلاف المسلمين في الحاجة إليه، كما فعل يوم أراد أن يكتب
لهم كتابًا لن يضلوا بعده أبدًا كما في صحيح البخاري , وقريب من ذلك ما كان حين
أراد أن يبين لهم ليلة القدر كما في الصحيح أيضًا , وغرضنا من هذا تذكير السائل
الكريم بأنه لا ينبغي له ولا لغيره أن يسأل عن شيء؛ لأجل تأييد ما يراه هو فيه
وبيان خطأ المخالف له من المسلمين.
واعلم يا أخي ثانيًا أن المحاكمة بين المذاهب؛ لأجل ترجيح بعضها على
بعض، هي من أقوى أسباب الحمل على تعصب أهل كل مذهب لمذهبهم، وملاحاة
المخالفين لهم ومعاداتهم، وقلما يوجد منتسب إلى مذهب ينظر في قول المخالف
وفي دلائله نظر المستجلي للحقيقة، بل ينظر إليه بعين النقد والبحث عن مواضع
الضعف ولو في التعبير؛ ليهجم عليه من موضع ضعف، فينتقض بنيانه ويبين
بطلانه.
إذا علمت هذا وذاك، وأنت تعلم أن المنار أنشئ للجمع والتوفيق لا للخذل
والتفريق، تبين لك العذر في عدم الإجابة إلى ذكر أدلة المذاهب في المسألة
والترجيح بينها، مكتفيًا ببيان الحق فيها، وهو ما كان عليه السلف الصالح من غير
جدال ولا نضال، ولا ما كره لنا الله من القيل والقال.
إن هذا القرآن المكتوب في المصاحف، المحفوظ في الصدور، المتلو
بالألسنة، هو كلام الله المنزل على قلب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم،
والرسول المبلغ له عن الله - تعالى - ليس فيه صنع ولا عمل. والقول بأنه
مخلوق على الإطلاق، أو باعتبار قراءته أو كتابته من البدع المذمومة التي لم يأذن
بها الله، ولا قال بها رسوله، ولا أصحاب رسوله، ولا التابعون لهم في هدايتهم،
ولا هي مما تحتاج إليه الأمة في حفظ دينها ولا مصلحة دنياها. من البدع أيضًا أن
يقال: إن حروفه مخلوقة، وإن قراءتي له مخلوقة، وربما كان ذريعة إلى ما هو
شر منه مع عدم الحاجة إليه، وضرر إضاعة الوقت في مثله.
إننا لم نخض في مسألة الخلاف في خلق القرآن اتباعًا للسلف. ولكننا بينا في
تفسير أول آية من الجزء الثالث من القرآن معنى كلام الله وتكليمه، وكون كلامه
عز وجل شأنًا من شؤونه قديمًا بقدمه. واتباع مذهب السلف يمنعنا من الخوض في
الخلاف، فنحن نبين الحق الذي نعتقده وندين الله به، وندعو إليه، ولا نزيد على
ذلك. وقد كان الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - كتب في رسالة التوحيد جملة
في مسألة هذا الخلاف، ثم اعترف بأنه أخطأ مذهب السلف في ذلك، وأمر بحذف
تلك الجملة من الرسالة في الطبعة الثانية، ولما وفقنا لطبع الرسالة ثانية مصححة
بتصحيحه حذفنا تلك الجملة منها.
ومن المعلوم أن فتنة القول بخلق القرآن حدثت في أول القرن الثالث، فخير
لنا أن نجعلها نسيًا منسيًّا، ونكون في ذلك كأهل القرن الأول والثاني. فإن قيل:
كان يكون هذا حسنًا لو رضي الناس به وجروا عليه. ولكن المسألة لا تزال تقرأ
في الكتب، فتعلق شبهة البدعة ببعض الأذهان، فوجب إبطال تلك الشبهة التي
يزعم أصحابها أنهم جاءوا بحقائق الفلسفة؛ إذ جعلوا القرآن عضين: منه كلام نفسي
وكلام لفظي، وقالوا: هذا حادث وذاك قديم. قلنا: إن المجادلات النظرية تحيي
تلك النظريات الفلسفية، وإنما نميتها بالنهي عنها وبيان الحق الذي كان عليه السلف
لا نرى غير ذلك، وبالله التوفيق.
__________(12/161)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جعل الدية على العاقلة وحكمة ذلك
(س 11) من بيروت لصاحب الإمضاء.
حضرة العالم الفاضل، والغيور الصادق، معتمد الأمة الإسلامية السيد محمد
رشيد رضا صاحب مجلة المنار الأغر.
هل قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بالدية على عاقلة الجاني (كما ثبت في
الصحيحين) جناية على الإنسان، وإجحاف بحقوق المدنية، كما يظهر ذلك من
مقالة سطرت في جريدة - لبنان - الصادرة في 16رمضان سنة 1326 عدد 777
تحت عنوان (مجلس الإدارة وجريدة لبنان) ، أو هو نهاية في العدالة ومحض خير
الأمة، وغاية في حفظ دماء البشر، وتعليم للناس ليعين بعضهم بعضًا إذا أخطأ،
وتربية لهم حتى لا يُمَكِّن أحدُهم ابنَ حيه باللعب بمسدس مثلاً، أفيدونا الجواب،
ولكم من الله الثواب.
سبب المقالة فيما يظهر أن بعض اللبنانيين يود انتخاب أناس من مجلس
الإدارة، وبعضهم يروم انتخابهم من مشايخ الصلح ومنهم صاحب الجريدة. حجة
الفريق الأول أن بعض مشايخ الصلح أخطأ في أمر ما، فلزم لهذا الإعراض عنهم،
وتيمم رجال مجلس الإدارة لذلك، قال كاتب المقالة ما نصه (بلا زيادة حرف) .
(على أنه إذا صح لنا تبديل النظام، ونزع ذلك الحق من أيدي مشايخ
الصلح؛ لخطأ ارتكبه واحد منهم، صح استبدال نظام كل حكومة عندما يرتكب أحد
رجالها جريمة من الجرائم، ومجازاة كل مأموريها. وكان مثلهم مثل العاقلة في
الشرع الشريف. فإنه إذا قتل أحد الصاغة مثلاً في قرية، وما أمكن معرفة قاتله
وجبت الدية على جميع أبناء حرفته، وهكذا مشايخ صلح وجب بحسب تلك القاعدة
إلقاؤهم جميعًا تحت تبعة ما يرتكبه أحدهم) اهـ ثم رد على من يبتغي الانتخاب
من مجلس الإدارة اللبنانية، وحض على الانتخاب من مشايخ الصلح. اهـ
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كامل الغلايني
(ج) جعل الدية على العاقلة وهي عصبة العشيرة (العائلة) خاص بقتل
الخطأ، وحكمته تكافل العشيرة وتعاونها في المصيبة، فهو من قبيل إيجاب النفقة
للمعسرين من الأقربين على الموسرين منهم، على ما في هذا وذاك من التفصيل
والخلاف. وهذا يرد زعم بعض الجاهلين بالشريعة أن الإسلام لم يقرر في أمر
العائلات شيئًا، كأن العائلة لا وجود لها في الإسلام، على أنه لا يوجد في شريعة
إلهية ولا وضيعة من أقدم الشرائع إلى أحدثها مثل ما يوجد في الشريعة الإسلامية
الغراء من إحكام روابط القرابة ووشيجة الرحم من الأحكام والآداب، ومن أهمها
مسائل النفقات، ومسألة جعل دية قتل الخطإِ على عاقلة القاتل (وربما كان لفظ
العائلة محرفًا عن العاقلة) ؛ لأنه لما كان معذورًا بخطأ، وكانت الدية ربما تذهب
بثروته لا سيما إذا تكرر الخطأ منه، جعلتها الشريعة في عاقلته يتعاونون عليها،
وقد تقدم في التفسير من هذا الجزء وفي غيره كلام في تكافل الأمة، فما بالك بتكافل
العشيرة.
وحكم العاقلة ورد في الحديث لا في القرآن، وقال العلماء في شرح بعض
الأحاديث الواردة في ذلك: إنه مخالف لظاهر قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى} (الأنعام: 164) وأجابوا عن ذلك بجعل الأحاديث الواردة في ذلك
مخصصة لعموم الآية؛ بناء على قول جمهور أهل الأصول بتخصيص القرآن
بأحاديث الآحاد، ونقلوا عن بعض العلماء والمذاهب خلافًا فيها.
قال في نيل الأوطار: وعاقلة الرجل عشيرته، فيبدأ بفخذه الأدنى، فإن
عجزوا ضم إليهم الأقرب فالأقرب المكلف الذكر الحر من عصبة النسب ثم السبب،
ثم في بيت المال. وقال الناصر: إنها تجب على العصبة ثم على أهل الديوان يعني
جند السلطان. وقال أبو حنيفة: إنها تجب على أهل الديوان دون أهل الميراث،
ولم ينكر هكذا في البحر. ولا يخفى ما في ذلك من المخالفة للأحاديث الصحيحة،
وقد حكى في البحر عن الأصم وابن علية وأكثر الخوارج: أن دية الخطإ في مال
القاتل ولا يلزم العاقلة، وحكى عن علقمة وابن أبي ليلى وابن شبرمة والبتي وأبي
ثور: أن الذي يلزم العاقلة هو الخطأ المحض وعمد الخطأ في مال القاتل اهـ.
أقول: وورد في بعض الأحاديث المتأخرة ما ظاهره نسخ العاقلة كحديث
عمر بن الأحوص أنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجني جانٍ إلا على نفسه، لا يجني والد على
والده، ولا مولود على والده) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن ماجه
وحديث أبي رمثة قال: خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فرأيت برأسه ردع حناء وقال لأبي (هذا ابنك؟ قال نعم، قال: أما إنه لا
يجني عليك ولا تجني عليه) ، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلاَ تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) رواه أحمد وأبو داود والنسائي،
والترمذي وحسنه وصححه ابن خزيمة وابن الجارود والحاكم وفيه روايات أخرى
وحديث الرجل من بني يربوع قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلم
الناس، فقالوا: يا رسول الله، هؤلاء بنو فلان قتلوا فلانًا، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (لا تجني نفس على نفس) رواه أحمد بسند رجاله رجال الصحيح
والنسائي. وقد أدخل الفقهاء الأحاديث في باب التخصيص، فأخرجوا الوالد
والولد من العاقلة والنسخ فيها أظهر. ولكن العمل جرى على الإحكام. وكما أن
العاقلة مخالفة لظاهر الآية التي استدل بها الرسول في الحديث السابق، هي مخالفة
للقياس أيضًا، وقد أجاب الفقهاء عن الأول بما علمت من التخصيص، وفَصَّل
الجوابَ عن الأمرين الإمام ابنُ القيم في كتابه (إعلام الموقعين) فقال:
(فصل) ومن هذا الباب قول القائل: حمل العاقلة الدية عن الجاني على
خلاف القياس ولهذا لا تحمل العمد، ولا العبد، ولا في الصلح، ولا الاعتراف، ولا
ما دون الثلث، ولا تحمل جناية الأموال، ولو كانت على وفق القياس لحملت ذلك
كله.
(والجواب) أن يقال: لا ريب أن من أتلف مضمونًا كان ضمانه عليه
{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) ولا تؤخذ نفس بجريرة غيرها
وبهذا جاء شرع الله - سبحانه - وجزاؤه، وحمل العاقلة الدية غير مناقضٍ لشيء
من هذا كما سنبينه، والناس متنازعون في العقل، هل تحمله العاقلة ابتداء أو
تحملاً على قولين، كما تنازعوا في صدقة الفطر التي يجب أداؤها عن الغير
كالزوجة والولد، هل تجب ابتداء أو تحملاً على قولين؟ وعلى ذلك ينبني ما لو
أخرجها من تحملت عن نفسه بغير إذن المتحمل لها، فمن قال هي واجبة عليه
ابتداء قال: لا تجزي، بل هي كأداء الزكاة عن الغير. وكذلك القاتل إذا لم تكن له
عاقلة، هل تجب الدية في ذمة القاتل أو لا بناء على هذا الأصل؟ والعقل فارق
غيره من الحقوق في أسباب اقتضت اختصاص بالحكم، وذلك أن دية المقتول مال
كثير، والعاقلة إنما تحمل الخطأ ولا تتحمل العمد بالاتفاق ولا شبهه على الصحيح،
والخطأ يعذر فيه الإنسان؛ فإيجاب الدية في ماله فيه ضرر عظيم عليه من غير
ذنب تعمده، وإهدار دم المقتول من غير ضمان بالكلية فيه إضرار بأولاده وورثته،
فلا بد من إيجاب بدله 0 فكان من محاسن الشريعة وقيامها بمصالح العباد أن أوجب
بدله على من عليهم موالاة القاتل ونصرته، فأوجب عليهم إعانته على ذلك، وهذا
كإيجاب النفقات على الأقارب وكسوتهم وكذا مسكنهم وإعفافهم إذا طلبوا النكاح،
وكإيجاب فكاك الأسير من بلد العدو، فإن هذا أسير بالدية التي لم يتعمد سبب
وجوبها، ولا وجبت باختيار مستحقيها، كالقرض والبيع وليست قليلة فالقاتل في
الغالب لا يقدر على حملها، وهذا بخلاف العمد فإن الجاني ظالم مستحق للعقوبة،
ليس أهلاً أن يحمل عنه بدل القتل وبخلاف شبه العمد؛ لأنه قاصد في الغالب، لا
يكاد المتلف يعجز عن حمله، وشأن النفوس غير شأن الأموال؛ ولهذا لم تحمل
العاقلة ما دون الثلث عند الإمام أحمد ومالك لقلته واحتمال الجاني لحمله، وعند أبي
حنيفة لا تحمل ما دون أقل المقدار كأرش الموضحة وتحمل ما فوقه، وعند الشافعي
تحمل القليل والكثير طردًا للقياس، وظهر بهذا كونها لا تحمل العبد؛ فإنه سلعة من
السلع، ومال من الأموال، فلو حملت بدله لحملت بدل الحيوان والمتاع.
وأما الصلح والاعتراف فعارض هذه الحكمة فيهما معنًى آخر؛ وهو أن
المدعي والمدعى عليه قد يتواطآن على الإقرار بالجناية، ويشتركان فيما تحمل
العاقلة، ويتصالحان على تغريم العاقلة، فلا يسري إقراره، ولا صلحه، فلا يجوز
إقراره في حق العاقلة، ولا يقبل قوله فيما يجب عليها من الغرامة، وهذا هو
القياس الصحيح فإن الصلح والاعتراف يتضمن إقراره ودعواه على العاقلة بوجوب
المال عليها، فلا يقبل ذلك في حقهم، ويقبل بالنسبة إلى المعترف كنظائره
فيتبين أن إيجاب الدية على العاقلة من جنس ما أوجبه الشارع من الإحسان
إلى المحتاجين، كأبناء السبيل والفقراء والمساكين، وهذا من تمام الحكمة التي بها
قيام مصلحة العالم، فإن الله - سبحانه وتعالى - قسم خلقه إلى غني وفقير، ولا
تتم مصالحهم إلا بسد خلة الفقير، فأوجب سبحانه في فضول أموال الأغنياء ما يسد
خلة الفقراء، وحرم الربا الذي يضر بالمحتاج، فكان أمره بالصدقة ونهيه عن الربا
أخوين شقيقين؛ ولذا جمع الله بينهما في قوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (البقرة: 276) ، وقوله: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو
عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ} (الروم: 39) ، وذكر سبحانه أحكام الناس في الأموال في آخر سورة البقرة،
وهي ثلاث: عدل وظلم وفضل، فالعدل البيع والظلم الربا، والفضل الصدقة، فمدح
المتصدقين وذكر ثوابهم، وذم المرابين وذكر عقابهم، وأباح البيع والتداين الي أجل
مسمى، والمقصود أن حمل الدية من جنس ما أوجبه من الحقوق لبعض العباد على
بعض: كحق المملوك والزوجة والأقارب والضعيف، ليست من باب عقوبة الإنسان
بجناية غيره، فهذه لون وذاك لون، والله الموفق اهـ.
فتبين مما تقدم كله أن جعل الدية على العاقلة بشروطه؛ هو من باب إعانة
من يقع في مصيبة وتلزمه غرامة، لم يتعمد سببها، وأنه من أسباب تكافل الأسر
والعشائر (العائلات) وتضامنها، وإحكام روابط المودة وتقوية وشائج الرحم بينها،
وأن من كتب ما كتب في جريدة لبنان، لم يفهم معنى كون الدية على العاقلة جملة
ولا تفصيلاً، فكيف يفهم حكمته؟ .
وهكذا نرى شأن الذين ينتقدون أحكام الإسلام تصريحًا أو تلويحًا، يقولون
ما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون، فيجنون على العلم من جهة، ويؤرثون
الأضغان الدينية من جهة أخرى، وما كان أغناهم من الحالين إذا لم يكونوا متعمدين
للإفساد، كما هو شأن الكثيرين منهم.
__________(12/185)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
القضاء والقدر
(س12) من مشترك بالسودان
جناب مدير المنار الأغر:
بعد التحية، ذكرتم في صحيفة 723 (ج10 م11) كلمة بخصوص مسألة
القضاء والقدر. ولما كان المنار هو المجلة الوحيدة في العالم الإسلامي التي يهمها
البحث في فلسفة الدين وشؤون الاجتماع والعمران. وكانت مسألة القضاء والقدر
هي الأمر الذي اعترف به الصديق والعدو أنه السبب الوحيد في تأخر المسلمين.
رأيت أن ما ذكره المنار في هذا الجزء والأجزاء السابقة، لم يشف غليل العقول ولا
هو أخرج شيئًا من أساس المبدأ الثابت في أدمغة العام والخاص القائل عنه
(تقي الدين ابن تيمية) من سنين مضت:
فمن كان من أهل السعادة أثرت ... أوامره فيه بتيسير صنعة
ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل ... بأمر ولا نهي بتقدير شقوة
وإذا كانت العباد مقسومة هذا للشقاء وذاك للسعادة، وإن هذا الاعتماد مستولٍ
على العقول، فَهِمَّة المسلمين التي تتوجه للإصلاح والتقدم، ليست إلا ضربًا من
التقليد والتشبه للأمم الحية التي لا تعرف شيئًا من هذه العقيدة المقيدة للهمم والعقول
فتزول منهم إذا زالت عنهم الأسباب الاضطرارية الداعية لهذا التشبيه؛ لأن الدين
أرسخ في الأذهان من مبدأ وقتي أثره تقليدي. اللهم إلا إذا ضرب صفحًا عن هذه
العقيدة من الدين، وتشبعت تدريجيًّا بالمبادئ الطبيعية التي تسير مع تقدم الأمم، أو
تكون هذه المسألة على خلاف ذلك، إذًا إن ما ذكرتموه في المثال (عن ولي عهد
ألمانيا وأخيه بمصر) لا يبرهن للأوربي الذي يتبرأ من هذه العقيدة؛ أنه كان من
الأزل مقرر إصابة أحد الأخوين بالحمى؛ ليتأخر عن الميعاد الذي حدده لسفره،
وأنه لا بد أن يصاب به حتمًا. بل هو يقول لك كما يقول العقل والعلم: إنه لو لم
يتعرض للأسباب التي أوجبت هذا المرض؛ لسبب عدم علمه بها لسافر في ميعاده
المحدد، إنه كان في إمكانه أن يتجنبها لو علم بها. فإذًا مسألة إصابته بالمرض
ليست محتمة له من الأزل. ولا كان الله - تعالى - مخصصها إليه بالذات. ولكنها
تخصصت له منه تعالى بسبب جهله تلك الأسباب ليس إلا.. ونقول (منه تعالى)
تخصصت لعلة هو خالق كل الأسباب التي يتعرض لها الإنسان بإرادته سواء علم
بنتائجها أو جهلها فإذا قلتم حسب مبدأكم ومبدأ (ابن تيمية) السالف: إن ولي العهد
مقدر له من الأزل أن يحضر مصر، وكان لا بد أن يمرض بمرضه هذا، لقلت لكم:
إن اللص الذي قطعت يده بسبب ما سرق كان لا بد أن يسوقه الله - تعالى -
للسرقة للزوم قطع يده الحتمي، وتكون هنا إرادة الإنسان ومسئوليته في الدنيا
والآخرة عما يفعل ضرب من ضروب السخرية، وتتميم رواية ليس لها نتيجة ...
ونكون كما قال (ابن تيمية) :
وحكمته العليا اقتضت ما قضت من الـ ... ـفروق بعلم ثم أيد ورحمة
يسوق أولي التعذيب بالسبب الذي ... يقدره نحو العقاب بعزة
ويهدي أولي التنعيم نحو نعيمهم ... بأعمال صدق في خشوع وخشية
وما دامت الأسباب التي هي حجة للنتائج مقدرة حتمية ... فالنتائج بالطبع
تابعة لهذا الإلزام. وعليه فالتقاضي والحساب في الآخرة ليس إلا لتتميم رواية
كلامية، وإذا كان هذا مبدأ المنار، فلا يلومن الأمم الإسلامية الماضية وما كانت فيه
من الاضمحلال.. ولا داعي لاستخراج نتائج فلسفية أو عمرانية للزوم الأخذ
بأسباب الترقي والهروب من القديم ... ولا عيب على حكومات الاستبداد ... ولا
مانع من البقاء في الجهل ... إلخ. إذ إن الداعين للزوم تغيير المناهج لتتغير معها
النتائج، ليسوا إلا معترفين بلزوم التسلط وتحرير القدر الإلهي القابض على
الأسباب بيد حديدية.
وعلى هذا.. هل أقول مع (المنار) للذين يعتقدون من غير المسلمين أن
عقيدة القضاء والقدر بهذا الشكل هي السبب في تأخر المسلمين: (إن ما ينتقد على
المسلمين من ذلك، لا يرجع منه شيء إلى الإسلام الخالص، فما قدره فهو الحق
الواقع في نفسه الذي لا يمكن لمؤمن ولا ملحد إنكاره) أم ماذا نقول إذا كان ما سبق
هو ما يريد المنار تقريره؟ وأشكركم سلفًا.
(ج) لكل مقام مقال، فلتحرير النزاع ولرد الشبه مقال غير مقال التذكير
بأمر مقرر، واعتقاد محرر، وقد كان ما ذكر في (ص 723ج 10م11) من
المنار من القسم الأخير. ونحن اتباعًا لهداية القرآن نكرر المسائل المهمة لا سيما
في التفسير، فنذكرها تارة بالإيجاز وتارة بالإطناب، وما أشرتم إليه هو قول
الأستاذ الإمام، والغرض منه التذكير بأن الإنسان ليس مستقلاًّ في عمله تمام
الاستقلال؛ لجهله وعجزه، والنظريات التي ذكرتموها لا تنقض شيئًا من قوله، بل
تؤيده، وحكم القضايا الممكنة غير حكم القضايا المطلقة كما هو مقرر في المنطق،
فقولك: إنه كان في إمكان ولي عهد ألمانيا أن يتجنب أسباب المرض لو علم بها،
إذًا لأنفذ الترتيب الذي وضعه لسفره، فمسألة إصابته بذلك المرض لم تكن محتمة
له من الأزل ... إلخ. قول ظاهر البطلان؛ لأن قضية مرضه جهتها الإطلاق
لوقوعها بالفعل، والإمكان لا يناقض الإطلاق , وبعبارة عامية: إنه كان لا بد من
مرضه بدليل وقوعه، وليكن ذلك لجهله بأسباب المرض , على أن هناك أمراضًا لا
تعرف أسبابها كالسرطان، وأمراضًا تعرف أسبابها، وقد يتعذر اجتنابها كالسل.
نكتفي بهذه الإشارة، ولا نضيع الوقت في المناقشة الطويلة ببيان بطلان كل
نظرية من النظريات الباطلة التي أوردتموها نقلاً أو رأيًا؛ وهي مشهورة لأن
الإطالة في ذلك لا تزيد المسألة إلا تعقيدًا كما صرحنا بذلك منذ سنين، فقد قلنا في
الدرس الرابع عشر من الأمالي الدينية التي كنا نلقيها بمصر الذي نشرناه في جزء
المنار الذي صدر في غرة جمادى الثانية سنة 1318.
(هذه المسألة من توابع البحث في العلم والإرادة؛ وهي الفتنة التي ابتليت
بها الأمم، فوقعوا في بحار الحيرة تدافعهم أمواج الشكوك، ويتلقاهم أذى الشبهات
(أي موجها) ، حتى غرق فيها أكثر الخائضين، ونجا الأقلون، ومن عجيب
أمرها أن العامة أعلم بها من الخاصة، وأن الأميين أقرب إلى اليقين بها من
الكاتبين، وإن شئت فقل إن الجهل بحقيقتها تابع لسعة العلم بمبحثها، فكلما زاد
الإنسان نظرًا فيها زاد عماية عنها؛ لأن الخفاء كما يكون من شدة البعد، يكون من
شدة القرب ... إلخ. ما قلناه تمهيدًا للقول: (بأن المسألة في نفسها بديهية عوملت
معاملة النظريات، والبديهي كلما زاد البحث فيه بَعُد عن الإدراك) ... إلخ.
لقد فتن علماء اللاهوت من النصارى في هذه المسألة كما فتن المسلمون،
وقد صنف المسلمون فيها مصنفات خاصة، فما أغنت عنهم من شيء. وكانت تعد
من المشكلات العقلية، فألبسها أهل هذا الزمان ثوب المشكلات الاجتماعية،
وزعموا أنها سبب ضعف المسلمين، وللأستاذ الإمام مقالة طويلة في إبطال هذا
الزعم وبيان أن هذه العقيدة من أسباب التقدم والارتقاء، تطلب من المنار
(ص 265 م3) ومن الجزء الثاني من تاريخه (ص 263) .
إن الناس يأخذون من دينهم في كل عصر من الأعصار ما يناسب حالتهم
الاجتماعية، حتى إن العقيدة الواحدة تكون في الأمة الواحدة مصدرًا لآثار متناقضة
في زمنين مختلفين كعقيدة القدر، كانت في زمن من الأزمان مصدر الشجاعة
والإقدام والفتح والعمران والكسب للمسلمين، وفي زمن آخر مصدر: الجبن
والكسل والتواني والتواكل والإهمال. وأكثر الذين يتكلمون في ضعف المسلمين
وأسبابه غافلون عن هذه القاعدة وجاهلون حقيقة الدين، فهم يجعلون المسلمين حجة
على دينهم والدين حجة عليهم، بدليل أثره في سلفهم أيام كانوا بدينهم سادات العالم
في كل علم وكل عمل، ومن البديهي أن الناس يتمسكون بالدين في أول ظهوره أشد
مما يتمسكون به بعد أن يطول عليهم الأمد، وتكون معرفتهم بحقيقته في أول العهد
به أصح وأقوى منها بعد ذلك.
إن السائل أو المنتقد لم يطلع فيما يظهر لنا على ما كتبناه في هذه المسألة
بقصد إيضاحها في السنين الأولى للمنار، وإننا وإن أطلنا القول فيها من قبل، نذكر
فيها الآن جملاً وجيزة، يتجلى بها الحق لمن يطلب الحق بذاته لذاته بعد الإعراض
عن النظريات الفلسفية المشهورة في المسألة، وهاك ما نريد بيانه الآن:
(1-القضاء) كان السلف يسمي هذه المسألة (مسألة القدر) ، ثم صار
الناس يقولون مسألة القضاء والقدر , وقد ورد لفظ القضاء ولفظ القدر في الكتاب
العزيز بمعان مختلفة؛ لأنهما من الألفاظ المشتركة في اللغة العربية.
ورد القضاء بمعنى: الفصل والحكم في الشيء قولاً وفعلاً، وبمعنى الإعلام
به، وبمعنى إتمام الشيء وإنهائه، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} (الإسراء: 23) أي حكم بذلك قولاً في الكتاب المنزل على رسوله. وقال: {إِنَّ
رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ} (يونس: 93) أي يحكم ويفصل بالفعل، وقال:
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} (الإسراء: 4) ... إلخ وقال:
{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} (الحجر:
66) وكلاهما بمعنى: الإعلام بذلك والإخبار بوقوعه، وقال: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ
سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 12) أي أتم خلقهن. وقال {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى
الأَجَلَ} (القصص: 29) أي أتمه. وأكثر ما ورد من هذا اللفظ قد جاء بهذا
المعنى.
ولم يرد في القرآن لفظ في القضاء يظهر فيه معنى المشيئة، ويكون أصلاً
فيما نحن فيه إلا قوله {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن
فَيَكُونُ} (البقرة: 117) - {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا
يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران: 47) ومثله في 36: 19 و 40: 68 فالآية
الأولى في مقام خلق السماوات والأرض، والثانية والثالثة في مقام عيسى عليه
السلام، والرابعة في مقام ذكر الإحياء والإماتة. وقد ورد هذا المعنى نفسه بلفظ
الإرادة قال تعالى {أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم
بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (يس:
81-82) والمعنى في التعبيرين واحد، وهو مما لم تختلف فيه الأديان: فاليهود
الذين سأل سائلهم المسلمين مستشكلاً معنى القضاء بتلك الأبيات التي أولها:
أيا علماء الدين ذِميُّ دينكم ... تحير ردوه بأوضح حجة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ... ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
يقولون بذلك , وقد أجبنا عن سؤاله في (ص 512 م3) وأجاب قبلنا غير
واحد منهم ابن تيمية الذي أورد السائل بعض أبياته. وكذا النصارى الذين منهم
الأوربيون، لا ينكرون كون الله - تعالى - إذا قضى أمرًا وأراده ينفذه بقدرته حالاً
كما هو مفهوم العبارة (ويراجع تفسيرها في المنار وفي ص 319 من ج 3 تفسير)
لأنه لو عجز عن إيجاد ما يريد لم يكن إلهًا، والإشكال في مسألة القضاء الإلهي
فرع الإيمان بوجود الله؛ إذ لا معنى للبحث في الفرع مع إنكار الأصل. فحاصل
معنى القضاء في هذا المقام: أن الله - تعالى - إذا أراد شيئًا أو أنفذه وأتمه، فإنما
يكون ذلك على نحو أن تقول للشيء: كن فيكون، بلا إمهال ولا تمكث، ولا
إشكال في هذا عند من يؤمن بالله، مهما كان دينه.
(2- القدر) القدر (بفتح الدال وسكونها) والمقدار والتقدير ألفاظ وردت
في القرآن بمعنى: جعل الشيء بقياس مخصوص، أو وزن محدود، أو وجه معين
يجري على سنة معلومة، فهي داخلة في معنى النظام والترتيب، قال تعالى:
{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} (المؤمنون: 18) أي بمقدار
معين له نظام يتعلق بتشبع الجو بالبخار ودرجة برودة الهواء، كما قال: {أَنزَلَ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرعد: 17) أي بمقدار ما يسعه كل واد
من الماء. وقال بعد أن ذكر بروج السماء وكواكبها، والأرض ورواسيها وإنباته
فيها] مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُون [، وما فيها من أسباب المعايش {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ
عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} (الحجر: 21) وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49) فهذا القدر العام بمعنى ذلك القدر الخاص أيضًا،
وقال في العموم بعد ذكر أمور خاصة {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ
الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: 8) أي إن لكل شيء من
مخلوقاته سننًا ونواميس ومقادير منتظمة؛ كسننه في حمل الإناث وعقمها وزيادة
علوق الأرحام ونقصها. ومن ألفاظ التقدير في مقام التخصيص قوله عز وجل:
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ} (يس: 39) وقال في ذلك:
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسَابَ} (يونس: 5) وقال في خلق الإنسان: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن
نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} (عبس: 18-19) وبيَّن هذا التقرير بالانتقال من طور إلى
طور في أول سورة المؤمنين. وقال في الزمن: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (المزمل: 20) وقال في سرد الدروع وصنعها خطابًا لداود - عليه السلام -
{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} (سبأ: 11) والتقدير في نسج الدرع هو
جعل حلقها متساوية ونظامها واحد. وقال في الطرق وترتيب السَّيْر بين قُرَاها في
قصة سبأ {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ
سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} (سبأ: 18) وقال في التعميم: {وَخَلَقَ كُلَّ
شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} (الفرقان: 2) ?.
فعلم من هذه الشواهد كلها: أن عقيدة القدر والمقدار والتقدير في كتاب الله
الذي هو أصل الإسلام وأساسه، هي التي تعلم المؤمنين بهذا الكتاب أن لهذا الكون
نظامًا محكمًا، وسننًا مطردة ارتبطت فيها الأسباب بالمسببات، وأنه ليس في خلق
الرحمن خلل ولا تفاوت، ولا فيه قذفات مصادفات، ولا خلل استبداد، وأنه لا
استئناف في الإيجاد والإمداد، ومن فائدة هذا الاعتقاد أن أهله يكونون أجدر الناس
بالبحث في نظام الكائنات، وتعرف سنن الله في المخلوقات، وطلب الأشياء من
أسبابها، والجري إليها في سننها، ولا نعلم أن هذا البيان كان مفصلاً في الديانات
السابقة. ولكني أقول: إنه لا يقول عاقل شم رائحة العلم أو ذاق طعمه: إن هذا
الاعتقاد هو سبب تأخر المسلمين، كيف؟ ! وإنه لهو الجدير بترقيتهم، وإن
أكثرهم أمسوا جاهلين لهذه الحقائق؛ لأنهم لا يأخذون دينهم من القرآن، وإنما
يأخذونه من كتب بعض الأموات.
(3- القدرية) كان السلف الصالحون يفهمون القدر بهذا المعنى؛ ولذلك
ضللوا القدرية الذين أنكروا الأسباب، وقالوا: (الأمر أُنُف) أي إن الله - تعالى-
يستأنف ويبتدئ ما يريد إيجاده، كلُّ شيء في وقته من غير تقدير، ولا نظام
سابق تجري عليه سنته فيه ولا أسباب يرتبط بعضها ببعض، بل قال قدماؤهم:
من غير علم سبق، وإنما يعلم الشيء عند وقوعه. وقد كفر هذه الفرقةَ السلفُ
الصالحون، وهي قد حدثت في عصر الصحابة. تلقى بدعتهم هذه معبد الجهني
عن سيسويه المجوسي. ففي صحيح مسلم وكتب السنن الثلاثة أن عبد الله بن عمر
- رضي الله عنه - سُئِل عنهم، فقيل له: إنه قد ظهر فينا ناس يقرءون القرآن،
ويتفقدون العلم، وذكر السائل (وهو يحيى بن يعمر) من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا
قدر وأن الأمر أنف. فقال ابن عمر: إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني بريء منهم،
وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أُحُد ذهبًا
فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم ساق حديث جبريل وفيه (وتؤمن بالقدر
خيره وشره) أي إن كلاًّ من الخير والشر يجري في الكون بمقادير،
وموازين وسنن، وأسباب اقتضتها الحكمة البالغة. ومن مذهبهم أن الإنسان إذا
فعل شيئًا، فإنما يفعله أنفًا أيضًا، من غير أن يكون لله تعالى علم سابق بذلك،
أو سنة يجري عمل الإنسان عليها، فالإنسان مستقل بذلك تمام الاستقلال. ثم
إن المتأخرين منهم اعترفوا بأن لله- تعالى - علمًا أوليًّا بالأشياء. ولكنهم أنكروا أن
يكون له إرادة تتعلق بأفعال العباد؛ مع أن معنى الإرادة هو وقوع الفعل من العالم
على حسب علمه.
(4- الجبرية) غلا أولئك فوقفوا في طرف، وعبدوا الله على حرف، فجاء
بعدهم آخرون وقفوا على الطرف المقابل لطرفهم وهم الجبرية، فقالوا: إن الإنسان
ليس له عمل ولا قدرة، وإنما هو كالريشة المعلقة في الهواء تحركها الأقدار، من
غير أن يكون لها إرادة ولا اختيار. وإننا نرى أكثر الناس لا سيما المتفرنجين منهم
يظنون أن عقيدة الجبر هي عقيدة القضاء والقدر؛ لأن ألفاظ الجبر راجت في
المسلمين بواسطة جهلة المتصوفة، كما بينا ذلك مرارًا كثيرة. آخرها ما في بحث
التوكل والأسباب من (ج 11 م 11) ، وقد أوردنا فيه الآيات والأحاديث وأقوال
السلف في إثبات الأسباب وإسناد عمل الإنسان إليه. فإذا قال القائل: إن الجبر من
أسباب ضعف المسلمين، فطالما أيدنا هذا القول. ولكن الجبر ما جاء المسلمين عن
دينهم، وإنما جاءهم من فلسفتهم التي لونوها بصبغة الدين لما وقعوا في جميع
علومهم وأعمالهم الدنيوية، وهذه الفلسفة شرع بينهم وبين جميع الأمم حتى الإفرنج
كما نبينه في المسألة السابقة، وكأن السائل صاحب الإشكال نسي هذا وما فيه من
تفنيد النزعات الجبرية، حتى ردنا على الإمام الغزالي في بعض ما أورده فيها
بعبارة الأستاذ الإمام المختصرة، فألصق بها تلك الشبهات المشهورة في المسألة.
(5- متأخرو المسلمين) المسلمون في هذه الأزمنة الأخيرة قد اختلط عليهم
الأمر؛ لعموم الجهل وفساد طرق التعليم حيث يوجد؛ ولذلك ترى في كلامهم ما
يدل تارة على شيء من عقيدة القدرية، وتارة على عقيدة الجبرية، وتارة على
عقيدة المعتزلة، وقد بينا في العدد الثاني من سنة المنار الأولى: أن الواحد منهم
يجمع بين العقائد المختلفة (لاضطراب اعتقاده وعدم تلقيه عن العارفين. فإن
المسلمين في فوضى دينية وعلمية؛ لأنه ليس لهم رياسة دينية ولا مدارس منتظمة)
وإنهم في الغالب يميلون إلى الجبرية في المسائل المتعلقة بإقامة الدين أو خدمة الأمة
والقيام بالمصالح العامة، وإلى عقيدة المعتزلة أو القدرية في المسائل الدنيوية فلا حجة
في حالهم على الإسلام، بل الإسلام حجة عليهم.
(6-المتكلمون) إن علماء الكلام سلكوا الطريقة النظرية العقلية في الرد
على المخالفين من الملاحدة والمبتدعة، ورد الأشاعرة على المعتزلة والقدرية
والجبرية. والمسائل النظرية مثار الشبهات والإشكاليات، وبذلك دخلت مسألة
القضاء والقدر في قالب فلسفي نظري وكثر فيها القيل، والقرآن فوق ذلك كله لا
تمسه الأوهام، ولا تنال منه الشبهات كما علمت. وإنما هي مباحث فلسفية تتعلق
بقدرة الله وإرادته، وبخلق الإنسان وغرائزه، وارتباط أعماله بعلمه وإدراكه،
وهي مشتركة بين جميع الأمم، ولا يوجد مذهب من المذاهب التي قال بها فلاسفة
المسلمين من أهل الكلام والتصوف إلا وقد قال بمثلها غيرهم، ويقول بها بعض
علماء أوربا اليوم.
(7- فلسفة المسلمين والإفرنج في الجبر) كان من فلسفة المسلمين في
الجبر الذي ألبس ثوب القضاء والقدر أن عمل الإنسان أثر طبيعي؛ لاعتقاده
بالمنافع والمضار وشعوره باللذات والآلام، فهو يتبع علمه بذلك، وعلمه صفة من
صفاته أو حال من أحواله، لا يمكن دفعها ولا الانسلاخ منها، والعلم بقسميه يحرك
الإرادة، والإرادة تزعج القدرة التي تحرك الأعضاء للعمل، وهي سلسلة ضرورية
لا يملك الإنسان باختياره إبطالها، ولا الفصل بين حلقاتها، أو منع تحرك الأخرى
إحداها بحركة الأخرى. وللغزالي شرح طويل لهذا المعنى أورد له مثالاً بليغًا،
وجرى على هذا فلاسفة الإفرنج، وأيدوا المسألة بمباحثهم الفيسولوجية
والبسيكلوجية، فقالوا: إن أعمال الإنسان آثار طبيعية منعكسة عما في مخه من
الآثار التي وصلت إليه من طريق الحواس، أو ثبتت فيه بتأثير الوراثة والعادات.
فالأعصاب الحساسة تلقي ما تحمله من إدراك الحواس إلى المخ، ثم يعود منه إلى
الأعضاء العاملة بواسطة الأعصاب المحركة التي تحرك العضلات بالفعل. فما في
المخ ينعكس إلى العضلات بواسطة الأعصاب فيحركها بسرعة أو ببطء، فما كان
بسرعة لا نشعر بأن لنا فيه اختيارًا، وما كان ببطء نشعر به، فنسمي ذلك اختيارًا
وهو حتم لا يمكن التفصي منه. وقد سبق البحث في ذلك في المجلد العاشر.
وغرضنا مما أوردناه الآن أن نبين للسائل أن الإفرنج أعرق من المسلمين في هذه
العقيدة الجبرية، فلا يخافن من تسجيلهم الضعف على المسلمين بمثل ذلك.
وإذا قال: إن هذا القول لا يخلو من شبهة على الدين، قلنا: إنه ليس على
الإسلام وحده، بل شبهة على النصرانية أيضًا، وموضوع سؤال السائل أن عقيدة
القدر عند المسلمين من العقائد المشكلة والضارة بمعتقديها، وقد بينا أن الأمر فيها
ليس كذلك. بل ربما كانت الشبهة على الإسلام هنا، ضد الشبهة التي هي موضوع
السؤال أو نقيضها، بأن يقال: إن الإسلام يثبت للإنسان عملاً ومشيئة واختيارًا؛
وبذلك جعله مكلفًا مطالبًا بالأعمال الحسنة. وإن فلسفتنا تقول لنا: إنه لا مشيئة له
في الحقيقة، بل هو مجبور مضطر في جميع ما يصدر عنه بمقتضى ذلك النظام
المطرد المنعكس في التأثر والتأثير بين مخه وأعصابه وعضلاته، فإذا كان لهذا
الوجود وما فيه من النظام مصدر واجب قديم، فيجب إسناد الأفعال التي هي أثر
الانعكاس بين مخه وعضلاته إلى ذلك المصدر الواضع هو لنظامه؛ وهو الله-
سبحانه - وإلا فإلى الضرورة العمياء، التي أبدعت هذه العوالم كلها من الهباء
(أريت كيف أن باب المباحث العلمية والنظرية في المسألة واسع جدًّا، حتى إنه
يمكن كتابة أسفار كثيرة فيه؟) .
(8- حكم الإسلام في عمل الإنسان) إن دين الفطرة لا يكلف الناس عناء
هذه الفلسفة، ولا يمنعهم النظر فيها، وإنما يرشدهم إلى الاعتقاد الحق الذي لا
يضر معه بحث، بل يمكن معه الاستفادة من كل بحث، وهو أن الله تعالى خلق كل
شيء بحكمة ونظام؛ وقدر سابق على الفعل تجري عليه السنن العامة
(النواميس) . وإن معرفة المخلوقات إنما تكون بالنظر فيها مع التأمل والبصيرة،
وإن منها نوع الإنسان الذي يعمل عن علم بما يعمل، يرجح به ما يراه صوابًا على
ما يراه خطأ، فيكثر صوابه بمقدار سعة علمه بالواقع وأسبابه، ويكثر خطؤه على
قدر جهله بالحقائق وسننها؛ لأنه يسير في ذلك على سنن الله في خلقه وقدره الذي
قام به نظام ملكه {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: 8) وأن عليه أن يتحرى
العلم الصحيح بالمصالح والعمل الصالح بحسب ما يشعر به من قدرته، وتمكنه من
ذلك مهما كانت علة ذلك وفلسفته. ونعني بالعلم هنا ما يستفاد ولو بالعادة والتربية؛
أي ما يعم العلم النظري، والعلم الحسي والوجداني، والعلم العملي؛ أي الذي
يطبعه العمل في النفس.
(9- علم الله بعمل الإنسان واختياره) إن سبق علم الله بما سيعمله الإنسان
وتقديره له، ووضع سنن اجتماعية يسير عليها في عمله - لا ينافي شيءٌ من ذلك
كونَه خلقه ذا علم وإرادة وعمل، فإن كونه كذلك هو أمر ثابت في نفسه معلوم
بالحس والوجدان، وهما أقوى أركان البرهان، ولا يقال إذا كان قد سبق في علمه
تعالى أن فلانًا سيفعل كذا فلا بد أن يفعل فيكون مجبورا على فعله؛ لأن متعلق العلم
الإلهي لا بد أن يكون وإلا لزم الجهل، فإنا نقول: إنما يصح هذا إذا كان قد سبق في
علم الله أنه يفعله مجبورًا. ولكن إذا سبق في العلم الأزلي أنه يفعله مختارًا
فلماذا لا نقول: إنه يجب أن يكون مختارًا في فعله لما ذكرتم من الدليل؟ ويرد
مثل هذا في أفعاله تعالى؛ فإنها تقع وتحدث بحسب العلم الأزلي، ولا يقال: إنه
تعالى مجبور عليها. كيف؟ ! وإن معنى الاختيار للفعل هو أن يكون تابعًا لعلم
الفاعل الذي يرجحه به على غيره، سواء كان العلم بذلك ضروريًّا أم كسبيًّا أو
نظريًّا، هذا هو المعنى الذي نسميه اختيارًا، فإن سماه غيرنا اضطرارًا أو اسمًا
آخر، فإنما يكون الخلاف بيننا في التسمية ولا مشاحة في الاصطلاح. وهذه
المسألة التي تعد من مشكلات عقيدة القدر إن صح استلزامها الجبر، ليست في
الحقيقة من عقيدة القدر في شيء؛ ولكنها مما يرد في مباحث العلم والإرادة، وقد
حللناها كيفما كانت.
(10- حكمة الجزاء على الأعمال) يبقى من المشكلات في هذا الباب مسألة
أخرى عدوها من لوازم عقيدة القدر؛ وهي كيف يجازي الله الناس على أعمال لا
مندوحة لهم عنها؛ لأنهم غير مختارين فيها؟ ونجيب عنها جوابًا غير إثبات
الاختيار ومنع الجبر، فنقول: إن الجزاء على الأعمال هو أثر طبيعي لها في الدنيا
والآخرة، وذلك أنه ما فرضت علينا طاعة؛ إلا وهي نافعة لنا في تهذيب نفوسنا
وسلامة أبداننا وحفظ حقوقنا وغير ذلك، وما حرم علينا شيء إلا لأنه ضار بنا في
أشخاصنا أو في نظامنا الاجتماعي؛ ولذلك قالوا: إن التكليف يقوم بحفظ الكليات
الخمس: الدين والعقل والعرض والشخص والمال. ثم إن كل عمل يعمله الإنسان
يكون له أثر في نفسه؛ إما في تزكيتها فتفلح وتسعده، وإما في تدسيتها وإفسادها
فتخيب وتشقى {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 9-10)
ويظهر أثر ذلك تامًّا كاملاً في الآخرة؛ ولذلك قال {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ
القِيَامَةِ} (آل عمران: 185) تقدم تفسيرها في هذا الجزء، وقد بينا كون
الجزاء أثرًا لازمًا للعمل بحسب سنة الله - تعالى - في مواضع كثيرة من التفسير
وغير التفسير، فلا نطيل فيه هنا، فالبحث فيه ينبغي أن يكون من البحث في نظام
العالم وسنن الكون والاجتماع.
(11- الخلاصة) خلاصة ما تقدم وهو القول الفصل: أن الإسلام أمر
الناس بالعلم والعمل؛ لما يجدون في أنفسهم من القدرة والاختيار، وعلمهم أن الله
خلق كل شيء بقدر ونظام، وأنه لا يعجزه شيء، فإذا قضى أمرًا وأراده يقع بلا
تخلف ولا بطء، وأن له سننًا ونواميس ينبغي لهم أن يعرفوها، وأن لأعمالهم جزاء
هو أثر طبيعي لها، يكون بعضه في الدنيا وتمامه في الآخرة. وقد انتفع المسلمون
بهذا ما فقهوه، ولم تضرهم إلا فلسفتهم المخالفة له.
هذا ما وسعه المقام لبيان الحق في هذه العقيدة، وما يتعلق بها ويضاف إليها،
وقد سلكنا سبيل الإيجاز في كل مسألة من المسائل العشر؛ لما سبق لنا من البحث
فيها من قبل، ولأن باب الفتاوى لا يسع أكثر من ذلك، فإن اشتبه السائل أو غيره
في شيء منها؛ فليسأل عنه وليختصر في السؤال بقدر الإمكان.
__________(12/189)
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
__________
رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين
لليافعي
(2)
(الوجه الخامس) أن نقول: إن عدم معرفة حكمة النسخ لا تضر مَنْ جَهِلَهَا،
بعد أن يعرف صحة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم علمنا بالشيء لا
ينفيه، وذلك أمر ضروري لكل أحد ولنكتف في الجواب الإجمالي عن شُبَه غير
المسلمين بما ذكرناه؛ خوف الإطالة الذي لا تحمله المجلات في نشراتها، وإلا فالمقام
بما له وعليه يجمل فيه الإسهاب والتنقيب عن النكات والأسباب، على أن ما
ذكرناه هو اللباب وبه فصل الخطاب لمن يريد الصواب.
أما إذا كان المعترضون من غير المسلمين متعصبين؛ لا يريدون الحق ولا
يقصدونه، فسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. ومثل هؤلاء أناس
كثيرون في هذا الزمان، فرحوا وبطروا بما عندهم من العلوم المادية والسياسية
والاجتماعية، وهؤلاء هم الذين كفروا بالنعم، وقابلوا الإحسان بالإساءة؛ إذ لم
يدركوا ما أدركوه إلا من الأنبياء، عليهم السلام، فما وافقوا فيه ما جاء به
الأنبياء - عليهم السلام - يراه العقلاء صحيحًا، وما خالفوا فيه الأنبياء فهو النقص
والخطأ، حتى إنهم أنفسهم صاروا يعرفون ما في هذا الأخير من الويلات والبليات
شيئًا فشيئًا. هؤلاء المغرورون تارات يستعجلون، فيتبعهم قاصرو الهمم، وضعفاء
العقول، أو أسراء الشهوات، فيظنون أن أوضاعهم تغني عن الشرائع الإلهية مع
استبعادهم لصحة النبوة والرسالة، فهم لا يفرقون بين الإنسان والحيوانات إلا
بالصورة التي هي في زعمهم انتخاب الطبيعة في ترقيها غير المقصود بعلم عليم،
وقدرة قادر، وإرادة مريد، ويقولون: ما في الإنسان وغيره من الأسرارالغرائب
والغايات والعجائب، إنما وجدت فترتب عليها بعد وجودها ما يليق بها بالاستعداد
الطبيعي، وبالقصد الثاني من المنفعل بداعي الضرورة، ودام ذلك بناموس الإرث إلى
غير ذلك من خرافاتهم التي تخجل ناقلها وحاكيها، فضلاً عن أن يعتقد صحتها من
يوسم بعقل، وهم لم يحملهم على ذلك إلا زهوهم ببعض العلوم التي ذكرناها مع
جهلهم بحقائق تلك المعلومات، كما اعترف بذلك كبارهم، حيث قالوا: إنما عرفنا
بعض آثار المادة، وبعضها لم يزل محجوبًا مستورًا عنا وعليه، فهم لا يمتازون عن
العوالم إلا بمزيد معرفة في الآثار فقط، أما الكنه والحقيقة فلم يدركوها ألبتة.
نحن لا ننكر النشوء الطبيعي مطلقًا، وإنما ننكر نشوءًا مخصوصًا، وننكر
استقلال الطبيعة والمادة بهذا النشوء الذي ليس هو ذاته لها، وفاقد الشيء لا يعطيه
على أن هذا النشوء الداروني يقابله الانحطاط، وبمجاراتهم على مذهبهم، ليس
اعتناء الطبيعة بأحدهما بأولى من الآخر إلا بمرجح. وأبطل كل باطل، وأفسد كل
فاسد إنكار أن يكون ما في الموجودات كالإنسان وغيره من الأسرار والغايات غير
مقصودة بالقصد الأول لغاياتها؛ لأن نقولهم ناطقة بأن القابل الطبيعي لا يجوز أن
يتخلف عن وجود ما هو قابل له؛ لأن القابل لا يكون قابلاً طبعًا إلا إذا اندفعت
الطبيعة في مجراها التكويني إليه؛ لتؤدي وظيفتها الطبيعية التي لا تمكن طبعًا إلا
منه وبه: كالبارود المسدود عليه مثلاً في صخرة ونحوها، إذا ذعر بالنار مثلاً
يفجر الصخرة بشق أو خرق. ذلك الخرق والشق هو مجرى البارود المتفرقع
ونتيجة تفرقعه الطبيعي، ولا يجوز عقلاً أن يتقدم أو يتأخر ذلك الخرق أو الشق عن
سببه الطبيعي.
فهل آلة الذكورة والأنوثة ونحوها مما أودع في الإنسان، كانت نتيجة مجرًى
طبيعي حين تكون في الرحم، وهل هذا المجرى مقارنًا للتكون غير متقدم ولا متأخر
عنه؛ بأن تكون الطبيعة قد أخذت أعمالاً طبيعية من تلك الأعضاء في الرحم، على نحو ما تتأدى بها الأعمال بعد وجود الإنسان؟ إن كان عندهم علم بهذا
فليخرجوه لنا، وإلا فقولهم بَيِّن البطلان بنفسه على ما تنصه قواعدهم المقررة عندهم فلا يبقى إلا أن يقولوا مثلنا: إن هذه الأعضاء تكونت بقدرة عالم الغايات مقصودة
بالقصد الأول حين التكون، وحينئذ لا يلزم محذور. على أن ما يستدلون به على المذهب الداروني إنما هي احتمالات ملفقة وخرص بعيد لا يتعين بها دلالة على
خصوص ما ذهبوا إليه، كما أقر بذلك كبيرهم، وهي مع ذلك لو أخذت بالمأخذ
الصحيح لا تُنافي ما جاء به المرسلون - عليهم السلام - في بيان بدء الخلق، بل تكون مؤيدة له، وليس هذا محل الرد عليهم.
وإنما المقصود تعريف الناظرين والقراء: أن مثل هؤلاء قد يوردون الشبهات
على الأديان، ولا يريدون الرجوع عنها إذا وقفوا على الجواب الصواب، وإنما
قصدهم التشكيك بما يناسب طريق أهل الأديان، فإن لم يفلحوا في هذا الافتراء
زوروا غيره؛ لما عرفت أنه ليس في معتقداتهم إلا استحالة الرسالة والنبوات [1] ،
ونحن نجيب - إن شاء الله - عن كل ما يذكرون؛ لئلا يظفروا بأحد من المسلمين
فتروج عليه شبهاتهم فيخسر الدنيا والآخرة. ولنعد إلى المقصود، فنقول: ما قدمناه
هو الجواب الإجمالي مع غاية الاختصار، وهو كافٍ وافٍ في رد هذه الشبهات؛ إذ
لم ترد على محل معين في واقعة معينة، وما كان منها كذلك فإليك جوابه، والله
المستعان وعليه التكلان.
أما قولهم: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الدهاء إلى آخره.
فجوابهم الذي نقوله: إن هذا اختلاف بحت، وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم سيرته مزبورة ونعوته وأخلاقه وشمائله معروفه مشهورة، فهل رأى الراءون،
أو سمع السامعون أن أحدًا ممن عرفه حتى ولو كان من أعدائه، قد وسمه بهذه
السمة أو وصفه بمدلول هذه الكلمة؟ لا. وإنما المعروف عن أعدائه - قبحهم الله
وخذلهم - إطلاقهم عليه ضد ذلك، فقالوا: إنه أُذُن - ومنهم من قال مجنون ومنهم من
قال: شاعر، وإذا رأوا آية من آيات صدقه وهي المعجزة قالوا: ساحر نتربص به
ريب المنون - وهكذا الأعداء إذا عجزوا عن المعارضة، وأرادوا الإصرار
والتعصب لمذاهبهم بعد قيام الحجة عليهم. والمؤمنون الذين صاحبوه وعاشروه
وعرفوهم، قد عرفوا صدقه وكماله، وأنه رحمة للعالمين وعلى خُلُق عظيم، قد بلغ
الرسالة حين كان وحيدًا عن الأنصار والأعوان، ولم تأخذه في الله لومة لائم، ولو
خالف ما جاء به الثقلان، فقول هؤلاء الذين هم من الناس كسقط المتاع، إنه إذا أتاهم
بحكم واتضح له بعد التجربة أنه لم يرض الناس عدل عنه، والتجأ إلى حيلته
المشهورة، وهي دعوى النسخ في الأحكام إلى آخره، نقول في جوابه: سبحانك هذا
بهتان عظيم، والواقع يكذبهم فإنه صلى الله عليه وسلم لم يراع ولم يمالئ فيما أمره
الله بتبليغه أحدًا من الناس كائنًا من كان، ولم يبال بمن لم يرض بذلك وقد آذوه في
ذلك أشد الإيذاء، فهل احتال في التخلص من إيذائهم له بحيلة ولو مرة واحدة؟ لا
والذي أرسله بالحق، بل كان يفعل كل ما أمره الله به، ولا يبالي بمانع، فلما نزلت
عليه {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر: 94) جاهرهم بالعداوة حتى حقر آلهتهم في
المجامع والمحافل علانية، وكان بأبي هو وأمي إذ ذاك وحيدًا عن الأعوان، فصبر
على مقاساة المصائب ورموه بالحجارة، حتى خضبت بالدماء نعلاه صلى الله عليه
وسلم، فهل يصح أن يقال: إنه كان يعدل عن أحكام دينه إذا رأى أن ذلك لا
يرضي الناس، وهو بالحالة التي عرفت وهو هو صلى الله عليه وسلم، كما أنه لا
يمالئ الكفار ولا يصانعهم في دين الله، كذلك هو في ذلك مع أصحابه لا يمالئهم
ولا يصانعهم في دين الله، وقد دل على ذلك وقائع كثيرة صحيحة، فمنها صلح
الحديبية: فإنه أمضاه بعزم لا يعتريه تردد، وقد استاء لذلك أصحابه وكرهوا ذلك
غاية الكراهية، ولم ينقل أنهم استاءوا بشيء كاستيائهم بذلك، حتى إن بعضهم
- رضي الله عنهم - قال له: (ألست رسول الله، ألسنا على الحق) . فلم يبال
باستيائهم في مخالفة ما أمره الله به. هذا ونحوه أعظم برهان، وأكبر دافع
ومكذب لمثل هذه الشبهة التي هي مخالفة لما هو الواقع في نفس الأمر. فلعمر
الحق إن إيراد مثل هذه الشبهات لأدل دليل على تعصب هؤلاء المعترضين، وأنهم
لم يعدلوا إلى إيراد مثل هذه الشبهات الواهية الضعيفة إلا حيث لم يجدوا غيرها،
والمسلمون لا يعتبرونها إلا دليلاً على سخف عقول قائليها، وأنهم معاندون للحق
والحقيقة، وبدلاً عن تكون مثل هذه الإيرادات شبهات؛ إنما تكون بمنزلة الحجج
الدالة على صحة رسالة سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس بعد
ظهور ضلال الخصم إلا ثبوت الحق لدينا. ونقول لهؤلاء: إنكم لا تستطيعون أن
تدلونا على حكم واحد جاء به الإسلام لا منفعة فيه، أو أنه مضرة لا منسوخًا ولا
محكمًا، بالله العجب، أيصح أن يقال ذلك في دين لم يعرف الحق من عرفه إلا
من تعليماته، ولم تبزغ أنوار المعارف إلا من مشكاته، ولم تقم ميادين العدل إلا
بتلاوة آياته. فدين الإسلام لم ينسخ منه شيء لأجل مضرة أو عدم مصلحة، وإنما
يكون ذلك فيه لأجل زيادة في الخير تارةً، وتسهيل على الأمة أخرى، ويكون تارةً
تنشيطًا لها، وتارة لتوحيد جامعتها، وتارةً لتقويتها في إظهار الحق على الباطل
ودمغه ودمغ أنصاره؛ مع مراعاة ما يليق ويناسب الجمهور الأكبر كلما كثر عدد
الأفراد، ومع ملاحظة أحوال الزمان وقوة الأعداء وكثرتهم، وما يلزم أن يكونوا
عليه بإزاء ذلك معه وبعده، فالعدد القليل الخائفون من المسلمين، قد تناسب حالتهم
أحكام هي أعظم كل خير بالنسبة إليهم، أو لا يمكنهم إلا الإتيان بها فقط، فالعدل
أن تكون التكاليف والتعاليم كذلك بالنسبة إليهم وإلى ما احتفَّ بهم من الأحوال.
إن التشريع والحالة هذه يكون بالسنة كما يكون بالقرآن، لا ينكر ذلك إلا
مكابر؛ ولذلك كان النسخ فيهما سِيَّين، فإذا كثر المسلمون وكانت قوة الإيمان
والتصديق فيهم متناسبة متقاربة وضعف بعض ما يحذرون، فلا يشك عاقل في
حسن أن يشرع لهم أحكام تناسب ذلك مع مراعاة المصلحة الراجحة، وسواء في
ذلك القرآن والسنة، فإذا صلحوا لمقاومة المهاجم أيًّا ما كان وهم بتلك الصفات التي
تكاد أن تكون متساوية، فلا يبعد أن يكلفوا ما يرونه سهلاً في اعتقادهم والواقع
ومثال الأول: كون الصلاة أول ما فرضت ركعتين بالغداة وركعتين بالعشية، فإنه
يمكن إخفاؤها إذ ذاك مع ضعفهم وقوة العدو. والمثال الثاني: إيجاب الخمس حين
وقع بعض اختلاف بين الكفار، حيث وجد فيهم من يؤمن المسلمين، وكف بعضهم
عن إيذاء المسلمين، ومن بقي من الكفار حريصًا على الإيقاع بهم، فإنما كان يكون
منه السب والضرب بالكف والعصي ونحو ذلك، والمسلمون قد زاد عددهم بعض
الزيادة، فكانوا قادرين على المدافعة في بعض الأحيان ولم يؤمروا بالهجرة ولا
القتال، فلما أمروا بالهجرة إلى طيبة (المدينة المنورة) حين اشتد عليهم أذى الكفار
مرة أخرى وظهر لهم المأوى ونصرهم الأكفاء، وكان المسلمون تتشابه صفاتهم في
صلابة الدين والنخوة والقوة البدنية والدينية فلا غرو أن يوجب الله عليهم قتل
المبطلين الظالمين، وهذا القتال هو الذي سماه الإسلام والمسلمون بالجهاد؛ وهو
قتال أهل الإصلاح لأهل الفساد الذي ينكره عقل عاقل؛ لأن غايته أن تكون كلمة
الله هي العليا.
والنصارى أنكروا على المسلمين هذا القتال، وليتهم عملوا بما قالوا حتى لا يكونوا من الذين يقولون ما لا يفعلون.
فرض الجهاد على المسلمين، وكان الواجب عليهم إذ ذاك - وهم كما
عرفت - أن لا يفروا من عشرة أضعافهم من المبطلين؛ لأن الاستشهاد ونحوه لا
تخور به عزائمهم؛ وهم بالحالة التي عرفت، ففي هذه الصورة وهي المثال الثالث لا
ضرر ولا نقص في هذا الحكم، بل لو بقي أبد الآبدين فليس فيه نقص ولا حيف
بالنسبة إلى كثير من المسلمين. وإنما إذا تبدلت الحالة، وصار أنصار الحق
كثيرين، أو كان فيهم من يضعف اعتقاده، أو يحرص على حياته أو نحو ذلك، فلا
نشك أن زيادة الخير تكون في رفع صفة الحكم كالوجوب واللزوم، ويعوض عنه حكم
يناسب صاحب الحق ويميزه عن صاحب الضلال؛ وهو لزوم أن لا يهرب المستعد
لنصرة الحق عن الاثنين من أنصار الباطل؛ لأنه إن ضعف مؤيد الحق المستعد
عن ذلك، تلزم مساواة أثر الحق لأثر الباطل، وهذا لا يصح ولا يحسن،
فالحكم المنسوخ في هذا المثال إنما هو الوجوب اللازم لا الإباحة أو الندب لمن
يطيق ذلك.
فبهذه الأمثلة يظهر للمنصف حسن النسخ سواء كان في القرآن أم في السنة؛
لأن القرآن من حين البعثة لم يزل ينزل بالأحكام. ولم يكن زمن مخصوص
بالتشريع بالسنة وزمن مخصوص بالتشريع بالقرآن، بل القرآن لم يزل ينزل على
سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يناسب حال المعينين من معتنقيه،
ولم يزالوا يزيدون والأحكام كذلك؛ ما بين أحكام مبتدأة عند وجود عللها وأسبابها،
وناسخة من خير إلى ما هو أكثر خيرًا منه، كان ذلك يكون إلى أن مكن الله لدينه،
ودخل الناس فيه أفواجًا، وصارت الأمة بحيث يصح أن تكون مثالاً لكافة الناس،
فلما آن أوان انقطاع الوحي بتحول رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الدار
الباقية، أكمل الله شرعه بما يصح أن يكون دينًا لأهل الأرض أجمعين إلى يوم
الدين.
فلمثل هذه الحكم كان النسخ - والمسلمون يعرفونها فكيف يقال: إنهم لم
يستطيعوا أن يعللوا ذلك بعلل مقبولة - وهم أيضًا يعلمون أن كل ذلك كان يكون لا
لاعتراض معترض، ولا لانتقاد منتقد. علموا ذلك بالعلم الضروري من سيرة
الشارع صلى الله عليه وسلم ومن نشوء الإسلام، ومن زعم غير ذلك فليعين
من هو المعترض والمنتقد، وعلى أي محل اعترض وانتقد، وما هو الاعتراض،
وأين السند المقبول؟ وإلا فالمسلمون لا ينظرون إلى هذه الإيرادات والشبهات إلا
بعين الاستحقار، يالله العجب! هل وجد في كفار العرب من قريش أو غيرهم من
عارض شيئًا من القرآن معارضة صحيحة؟ وهل ظفروا بشيء مما قال هؤلاء
أن في إنشائه شيئًا لم يرق له بعد إذاعته؟ ولم لم يعارضوا ما هذا حاله؟ أليس لو
وقع شيء من ذلك لتوفرت دواعي الكفار والمسلمين إلى نقله. أما المسلمون فلا بد
أن يوجد عندهم ولو لرده وتوهينه، كما نقلوا عن مسيلمة الكذاب وغيره، وأما
الكفار فهو غاية بغيتهم ومدار حجتهم، فلو وُجد فلا يعقل أن يهملوه، فعدم النقل لما
هذا حاله أدل دليل على العدم.
فلا يبقى للخصوم إلا أن يقولوا: إن هذه الشبهات احتمالات مفروضة، وقد
قدمنا أن فرض ما يخالف الواقع في مثل هذه الأشياء لا يصح عند من له مسكة من
عقل، وأيضًا تجويز مثل هذا الاحتمال الظاهر البطلان يلزمه عدم جواز النسخ
الذي عرفت حسنه عقلاً وفطرة، فلو جاز اتهام من ثبتت نبوته ورسالته بالمعجزات
والحجج البينات بهذه التهمة، أوجب أن لا يكون للبشر إلا شريعة أول نبي أرسله
الله فقط، ولما جاز أن يرسل الله رسولاً بعد رسول بشريعة تنسخ ما لا يناسب
أحوال الأمم المتأخرة، وقد عرفت أن هذا يؤدي إلى الظلم المحال على الله، وما
استلزم المحال فهو مثله محال، فينتج أن اتهام نبينا صلى الله عليه وسلم بعد
ثبوت نبوته بتهمة أنه ما أجاز النسخ في دينه إلا حيلة يتوصل بها إلى إصلاح
النقص والعيب الذي يمكن أن يرى في دينه، هو تهمة كاذبة كما قدمنا ذلك، وأن
فرضها محال.
فوجب أن يكون نسخ اللفظ وإنشاؤه في القرآن؛ كنسخ الحكم لمصالح وحكم،
ونحن وإن قصرنا عن أدراكها كلها لأسباب كثيرة. لكن نعلم أن الكتب الإلهية
وبالخصوص القرآن هي لنا أصل تعاليم الدين والنظام الاجتماعي، واستعداد الناس
متفاوت في التعليم والتعلم، ومن لازم ذلك أن تكون مواد التعليم؛ أي كتبه الدراسية
كذلك؛ فلهذه الحكمة وحكم أخرى كثيرة كان القرآن الكريم سورًا طوالاً وقصارًا
ومتوسطة، وقد أشرنا إلى ذلك في رسالتنا السابقة، فالنسخ والإنساء اللفظي هو
معلل بحكم وغايات هي من جنس ما يعلل به تعدد السور، ومن جنس ما يعلل به
البلغاء ما اختصروه من الكتب البلاغية لطوله، وقد تكون هناك علل وأسباب
أخرى، وقد صح أن بعض آيات القرآن تتفاوت في الفضل وثواب التلاوة ولا بدع
في ذلك، فان فضيلة الكلام تابعة لفضل معناه وكثرة فوائد مرماه - فإذا أنزل الله
آية هي نص في واقعة مخصوصة؛ وهي أنسب بإفهام المخاطبين المعنيين لأي
سبب، ثم بعد رسوخهم في الفهم وقبولهم لزيادة التلقي ونحوه، بحيث يكونوا قد
تزحزحوا من طور إلى طور لا يقبح، بل يحسن أن يأتي الله بآية بدلاً عنها جامعة
لما دلت عليه الأولى وزيادة عليه؛ إذ لو بقيت الأولى الدالة على المعنى
المخصوص فقط، لجاز أن تكون آيات القرآن إنما تدل على معانٍ جزئية؛ ومن
لازم ذلك الطول المفرط الذي يمكن أن يقال: إنه لا يلائم التعاليم، وللزم أيضًا
جواز تعرية القرآن من جوامع الكلم حين استعداد الناس للفهم والقبول.
وبما ذكرناه يظهر جليًّا أنه لا فرق يعتد به بين النسخ في الأحكام والنسخ
والإنساء في الألفاظ؛ لأن ناموس الترقي جارٍ في الأمرين بلا عيب ولا نقص،
ولكل حال ما يناسبه من الأفعال والأقوال [2] .
فيا حضرة أخونا الدكتور لا يهولنَّك ما يَهْذِي به المبطلون المتعصبون؛ فإنهم
على غير محجة، وليس بأيديهم حجة ونحن قد أضربنا عن كثير من الحجج
والمسوغات هنا، واكتفينا بما كتبناه خوف الإطالة. ولكن فتحنا الباب لذوي الألباب
وفيه الكفاية وفصل الخطاب لمن يريد الصواب.
أما قول المشككين: إن في القرآن من المسائل الخاصة بمحمد صلى الله
عليه وسلم وأهل بيته، ولا فائدة فيها لأحد سواه (وقد كذبوا، بل فيها من الفوائد
ما لا يقدر قدرها إلا من عرفها، وقد علم ذلك العالمون من المسلمين واستفادوا منها
وما علينا إذا لم تفهم البقر) ما هو أولى بالنسخ. قالوا: كالآيات الكثيرة من
سورة الأحزاب والتحريم، وكبعض آيات سورة الحجرات والمجادلة، فإذا صح عن
المسلمين نسخ ألفاظ الآيات التي أدت وظيفتها وانقضى زمنها، فلماذا لم تنسخ ألفاظ
أمثال هذه الآيات الواردة في حالات خاصة وفي وقائع خاصة، وقد أدت وظيفتها
وانقضى زمنها؟ والجواب أن نقول: إن هذه الآيات هي محكمة وفيها فوائد تتعلق
بالأمة أيضًا، ونحن لم نقل ولا قال أحد غيرنا: إن الخصوص والمخصوص سبب
للنسخ بل الأمر عكس ذلك ونقيضه، والمسائل والآيات الخاصة بمحمد صلى الله
عليه وسلم وأهل بيته هي أجدر بأن لا يكون ولا يقع فيها النسخ؛ لأن اتحاد من
تتعلق به الأحكام وكذلك تعين أهل البيت الواحد لذلك؛ بعيد عن وقوع التفاوت
واختلاف الحالات التي هي المسوغ الأعظم للنسخ، وهذا بخلاف ما يتعلق بالأمة
الكثيرة الأفراد المختلفة الطبائع باختلاف الزمان والبلاد - فظهر أن النسخ فيما
ذكروا أنه أولى به باطل، وأن القياس الصحيح لا يُجوِّز النسخ في ذلك، وكذلك
وقع.
أما قولهم: إنها قد أدت وظيفتها وانقضى زمنها، فجوابه: إنها حين إمكان
النسخ والتبديل لم تؤد وظيفتها ولم ينقض زمنها، وأما بعد وفاة النبي (صلى الله
عليه وسلم) فقد فات وقت النسخ، والمسلمون لا يجوزون الزيادة ولا التنقيص،
ولا يحرفون ولا يبدلون في كتب الله وشرعه بعد ثبوتها، وإنما يفعل ذلك من أبعده
الله وغضب عليه ولعنه على ألسنة أنبيائه، وهذا الاعتراض والإيراد دليل على أن
هؤلاء يقولون ما لا يفهمون اتباعًا لما تهواه أنفسهم، ومن أضل ممن يتبع الهوى
ليصد عن الحق.
أما قولهم: وما الحكمة من نسخ ألفاظ آية الرجم مع بقاء حكمها في شريعة
المسلمين؟ فجوابه أن نقول: إن مسألة الرجم للزاني المحصن قد أنزلها الله في كتابه
القرآن، وهي ثابتة في توراة موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، فكان
نزولها لحكمة توافق الكتابين؛ وليعرف المسلمون هذا الحكم العظيم، ويشتركوا في
تلقيه كغيره من القرآن، وفرق بين تلقيهم للسنة والحديث وتلقيهم القرآن، فإن
القرآن يتلى تعبدًا في الصلاة وغيرها اجتماعًا وانفرادًا، والله جل شأنه شرع هذا
الحكم بالعدل وفق الحكمة، فإن هذه الفاحشة مفسدة الأنام، وأقوى ذرائع الخصام،
مهلكة للأموال وللبلدان، ومنهكة للأبدان، ومبيدة لنسل الإنسان في أكثر الأحيان.
وإذا كان حدها الإعدام، وأقسى الأحكام، ولما كانت المضرة بما ذكر قد تتفاوت
رفع لفظ آيتها حين لا يخاف خفاء الحكم، إذا دعت الحاجة والضرورة إليه - وما
رفعه إلا تسهيل ويسر ورحمة وستر - ولئلا يظن المسلمون أن الثواب في التنقيب
والتطلع على الناس، فيتسابقوا إلى الشهادة بهذه الجريمة قياسًا على فضل تلاوة
آيتها، فرفع الله لفظ هذه الآية لهذه الحكمة، وإنما خصها دون ما سواها من آيات
الحدود؛ لأنها أشد الحدود وأغلظها؛ ولأن قباحة الزنا من المحصن فوق كل قباحة
ففي رفع هذه الآية إشارة للمسلمين على ترك التجسس للشهادة، كما قال تعالى:
{وَلاَ تَجَسَّسُوا} (الحجرات: 12) وإشارة إلى ترك الإقرار بذلك والعدول إلى
التوبة، ولذلك اشترط في الشهادة بالزناء ما لم يشترط في غيره، حتى عاقب
الشاهد الواحد والاثنين والثلاثة بعقوبة حد القذف، واشترط في ذلك المعاينة التي لا
شبهة فيها، والله يحب الستر على عباده فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ
الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} (النور: 19) وقال
صلى الله عليه وسلم: (تعافوا الحدود بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب) ،
فإذا لم ترد شهود في الحدود، فلا يبقى إلا إقرار فاعلها بها ورضاه بإقامة الحد على
نفسه بأن لم يتب، ويرجع عن طلب إقامة الحد على نفسه، فلو أقر بذلك وطلب
إقامته ثم رجع وتاب، جاز للحاكم إعفاؤه من إقامة الحد أو إتمامه بعد الشروع فيه،
وهذا هو ما اختاره شيخنا ابن تيمية - رحمه الله - وهو الحق عندنا الذي دلت عليه
السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك فيما روى بريدة
(رضي الله عنه) قال: جاء ماعز بن مالك إلى رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) فقال يا رسول الله طهرني، فقال: (ويْحَك ارجع واستغفر الله وتب إليه)
قال: فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله، طهرني، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة، قال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (فيم أطهرك) قال: من الزنا. فقال رسول الله: أبك جنون؟ فُأخبِر
أنه ليس به جنون، فقال: (أشرب خمرًا؟) فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح
خمر، فقال صلى الله عليه وسلم: أزنيت؟ قال: نعم. الحديث وفيه جاءت
امرأة من غامد من الأزد، فقالت: طهرني. فقال: (ويحك ارجعي فاستغفري الله
وتوبي إليه) الحديث رواه مسلم وفيه أنها أبت إلا إقامة الحد على نفسها وكانت
حبلى، فأبى صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليها الحد حتى تضع ما في بطنها
وتكمل رضاعته، وبعد ذلك جاءت وأقام عليها حد الرجم. وعن أبي هريرة عند
الترمذي وابن ماجه: أن ماعزًا (رضي الله عنه) فرَّ حين وجد مس الحجارة
ومس الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا تركتموه (؟)
الحديث وفي رواية (هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه) وهذا نص في أن
المقر بالزنا إذا استعفى عن الحد جاز للإمام أن يسقطه، ولذا وذاك ولأن الحدود تدرأ
بالشبهات ولا تقام في أرض العدو رفع لفظ آية الرجم، وهي حكمة بالغة، وقد دل
عليها الكتاب والسنة، وبقيت آية الرجم ثابتة الحكم بما ذكرناه وبالسنة الصريحة
مقيدًا بقيوده كما عرفت، وهي مع ذلك كله موجودة في القرآن ظاهرة للعلماء
خفية عن العوام، قال ابن عباس (رضي الله عنه) : الرجم في الكتاب لا يغوص
عليه إلا غوَّاص، وهو قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ
كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ} (المائدة: 15) ، الآية، وقيل: إنها
موجودة في غير ذلك أيضًا. فظهر بذلك الحكمة في رفع آية الرجم مع أن بدلها في
القرآن موجود، وما ذكرناه من التعليل لا ينافي ما علل به بعضهم.
قلت: وقد رأيت السيوطي - رحمه الله - قد أشار بالاختصار إلى ما ذكرته وصرح بأن القرآن الموجود بين أيدينا الآن في المصحف فيه البدل عن كل ما رفع من هذا النوع وغيره. قلت: والأمر كذلك.
وفوق ذلك كله نقول لهؤلاء المعترضين: زعمتم أن نبينا صلى الله عليه
وسلم الصادق الأمين، لم يتم له ما تم إلا بعد إصلاح العيب والنقص الذي يراه أو
يتوقعه في شرعه وكتابه الذي أنزله الله عليه، وقد كذبتم وكذبكم الواقع المعروف
من سيرته كما قدمنا ذلك، وحالة التشريع وكيفية نزول الوحي عليه صلى الله
عليه وسلم يعلم بها فساد قولكم - أليس إنه صلى الله عليه وسلم كان ينزِّل الله
عليه ما شاء أن ينزل من الأحكام والقرآن حين وقوع الحاجة إلى نزوله وبمحضر
من أصحابه غالبًا، وقد تنزل عليه صلى الله عليه وسلم عدة آيات دفعة واحدة،
والقصة الواحدة كذلك، والسورة الكاملة أيضًا في بعض الأحيان، وبعض ذلك
يكون حين وقوع السؤال ووجود السبب المُوجب ارتجالاً - ومع ذلك كله لم يكن
صلى الله عليه وسلم يعرف الكتابة، بل كان يحفظ ذلك ويحفظه أصحابه
صلى الله عليه وسلم ويتلوه عليهم، ثم يأمر أحد الكتاب أن يكتب ذلك في
سورته من غير أن يراجع المكتوب الأول منها ويتأمل المناسبة والمناسقة، وكان
يشتهر بين الناس آيات كتاب الله، ويعلمه الخاص والعام والعدو والصديق، فهلا
أمكن أعداءه أن يأخذوا عليه شيئًا مما ضعف إنشاؤه في كتابه، وردوه وأتوا بمثله
ولو بعد حين؟
إن من يراجع مكتوباته ويتأمل في تأسيس أحكامه؛ ليصلح ما فيها من العيب
والنقص، لا بد وأن يكون كاتبًا وقارئًا مطلعًا على كتب غيره؛ ليراجع ما فيها من
الآراء فيرجِّح ويضعِّف حينئذ، أو يترقى بفكره إلى أحسن مما فيها. لكن لا يمكنه
ذلك الترقي الطبيعي في الأفكار إلا بعد اطلاعه على آراء من تقدمه وإلا لبطلت
سلسلة الترقي الذي يسلمها أكثر الناس، وإذا كان لا يمكن الرد والقدح والإصلاح
والتكميل والتنقيح إلا بهذه الأسباب ونحوها غالبًا، فإن حصول علوم جميع أهل
الأرض لا سيما علوم الأمم المضمحلة والبائدة والمتباعدة، ولا سيما الخفية منها
والمهجورة، وبالخصوص في ذلك الزمن الذي بعث فيه نبينا محمد صلى الله
عليه وسلم وأن حصول ذلك كله لرجل واحد لا سيما إذا كان من العرب الذين قد
عرفوا باعتزالهم علوم سائر الأمم، لمن المحال الذي لا تسلم به عقول العقلاء، فما
بَالَكَ باليتيم الأمي صلى الله عليه وسلم الذي قد عُرِفَ منشؤه، ولم يزل أعداؤه
يتربصون به الدوائر، حتى وضعوا عليه العيون والرقباء، هل يمكن من هذا حاله
المراجعة والإصلاح؛ لما هو بمثابة تهذيب علوم أهل الأرض وتكميل أخلاقهم
أجمعين؟ فيا لعقول المتعصبين، أين يذهب بها الهوى؟
قلنا ذلك؛ لأنَّا رأينا ما لم نكن نحسب عاقلاً يقوله: رأينا من على شاكلة
هؤلاء المعترضين حين يطعنون في الإسلام، يجمعون ما قدروا عليه من أقوال
ومذاهب الأمم الغابرة، ثم يقابلون بينها وبين شرائع الإسلام وما فيه من القصص
وغيرها، ثم يقولون: إن هذا أخذه محمد صلى الله عليه وسلم عن أولئك، ثم
يقولون: قد ردَّينا الفرع على أصله، وما لم يقدروا أن يجدوا له نظيرًا، يقولون:
سيكشف المستقبل حاله، ويقولون: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد اطلع
على ذلك وحفظه وهذبه وأصلح فيه، حتى ساقه في قوالب كلامه الفصيح البليغ
الذي أعجز العرب! ! قلت: أي وأعجزهم أيضًا أن يعرفوا جميع مصادره ومآخذه.
هؤلاء يريدون أن يطعنوا في صحة الإسلام، وما درى المساكين أن ذلك ينقلب
عليهم، ويصير من أعظم الحجج المؤيدات لصحة دين الإسلام - لأنه إذا بطل
قولهم وصح أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن قبل نزول الوحي يعرف
شيئًا مما ذكره أو أن ذلك لا يمكن حصوله لبشر بدون وسائله، وإن تلك الوسائل لا
يمكن تيسرها في ذلك الزمان والمكان لا سيما لمن كان مثل محمد صلى الله عليه
وسلم - ثبت باليقين كذبهم وصحة دين الإسلام، وأنه وحي الله وأمره، والله أعلم.
إنه ما من علم يوجد عند البشر سابقين ومتأخرين إلا وقد نبه على بعض
مسائله في معرض: الاعتبار والاتعاظ ونحوه أو الاستدلال وما شابهه، يسوق ذلك
سوقًا يعرف من تأمله وحققه أنه كلام مختبر عالم بدقائقه وغوامضه؛ ولذلك تراه
يختار من كل شيء صحيحه ونقيه لا يلتفت إلى سواه، وإن أجمع أهل ذلك العصر
على سواه.
ولم يكتف بذلك، حتى أخبرنا بكثير من أخبار الأيام الآتية التي قد وقع ووجد
مصداق كثير منها عيانًا، وقد ذكر من ذلك كثيرًا مما لأمته به تعلق، وهو يذكر
ذلك في معرض التنبيه، كما أنه يذكر من أخبار الأيام الماضية ما يذكر كذلك، فيا
هؤلاء، هل يمكن المحصل بدون الوحي أن يطلع على ذلك كله مع اشتغاله بتلك
المشاغب وقيامه بتلك الوظائف، لا سيما إذا كان يتيمًا أميًّا في بلاد قاصية عن الأمم
المتمدنة وبين أمة أمية؟ فإن جوزتم ذلك، فهل يمكنكم أن تأتوا بنظيره في كل ما
حكيناه عنه صلى الله عليه وسلم والحالة ما ذكرنا؛ لأن ما يجري على
النواميس الطبيعية لا بد وأن يتكرر، بل لا بد وأن يترقى كما هي قاعدة النشوء
الطبيعي، وإذا لم تفعلوا فأنتم مفترون مكابرون، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ
يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) .
قلت: وبما ذكرناه يبطل قولهم، ولوقوع وصحة ما دلت عليه الأحاديث تبطل
دعوى أخينا الفاضل الدكتور: إن أحاديث الآحاد كلها لا تفيد غير الظن مطلقًا.
ولنعد إلى إبطال الشبهات المذكورة على النسخ زيادة على ما ذكرناه سابقًا
فنقول: إن كان اعتراضكم هذا صحيحًا، وإنه لم يتم له (صلى الله عليه وسلم)
ما تم إلا بما ذكرتم فلم لم يقم في وجهه أعداؤه إلى يومنا هذا، فيصلحوا أو يكملوا
أو ينقضوا ويبرموا ويتعاضدوا، ويتعاون فصحاؤهم وخطباؤهم وشعراؤهم؛ ليأتوا
بمثل قرآنه بزعمكم أو يأتوا بسورة من مثله؟ لم لم يفعلوا؟ وهو يناديهم: هل من
مبارز هل من معارض؟ ويتلو عليهم في كتابه {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ
عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء: 88) ، ويتلوا فيه {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (البقرة: 23) - أو -
{قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} (هود: 13) لو كان الإتيان بالقرآن أو بمثله، مما
يمكن البشر الواحد ولو بالإصلاح والتمهل كما تقولون، فهلا قدر واستطاع أن
يجيء بمثل سورة قصيرة منه جميع العرب العرباء والمستعربين والمتعربين جمعًا
وانفرادًا، ولو بعد الإصلاح والتكميل المزعوم؟ وحيث استحال ذلك بمضي تلك
المدة الطويلة، وعجز فطاحل العرب وفصحاؤهم، وفاتوا ولم يخلفهم مثلهم. لكن
من خلفهم هو أعجز منهم، علم فساد قولكم وكذبه وسقوطه.
إن نفس التحدي بسورة من القرآن معجزة؛ لأنه لا يمكن أحدًا من البشر
العقلاء أن يدعيها لنفسه من قبل نفسه، ولما يأتي به من عند نفسه، ومن يأمن أن
يأتي الزمان بمثله أو بأحسن منه، وإذا لم يكن عنده يقين بذلك، فكيف يشترط
صحة دعواه عليه ويعلقها بهذا التحدي، فما بالك بمن قد صرح بصحة جسده وكمال
عقله وتدبيره العدو المخالف والصديق الموافق. أما لو كان هذا التحدي بغير أمر
الله، لكان من أبعد كل بعيد وأمحل كل محال صدوره من سيدنا محمد صلى الله
عليه وسلم.
هذا بعض ما نقوله في الجواب عن هذه الشبهات الواهية أضربنا فيه عن
الإطالة، وما تركناه أكثر، وما عند الكاملين أكثر وأعظم، وما عند الله خير وأبقى
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37) .
فقول الدكتور الفاضل: ومنه ترى أن اعتمادهم فيها (أي في إيراد الشبهات)
إنما هو على روايات الآحاد التي يتمسك بها المسلمون، إلى أن قال ما محصله.
فهلا ردوا هذه بدلاً عن أن يقوموا في وجهنا ويردوا مذهبنا في هذه المسائل، بما
هو في الحقيقة طعن في أصول الدين، وبمثابة تسليم سكاكين للخصم ليقطع بها
منهم الوتين انتهى.
وأقول: قد عرفت جوابنا عن هذه الشبهات، وأنت إذا تأملت عرفت أن
فسادها بديهي، فلا سكاكين وإنما هي شوك مخضود، وبذاء من القول مردود، فلا
وخز نخافه ولا قطع، ونحن لم نرد عليه مكفرين له مع تأويله. ولكنا بينا فساد
بعض قوله وضعفناه، وقلنا: إنه لا حاجة تلجئنا إليه وهو حفظه الله، إنما خاف
من غير مخوف وظن السراب ماء.
وليس ما نبحث فيه مع الفاضل الممدوح مما يليق بالعقلاء أن يقولوا فيه تعصبًا
وتحيزًا ولا فخرًا وممارة، بل هو الدين وإرادة الحق وطلبه للفوز برضاء الله؛
ولذلك قلنا في رسالتنا السابقة: إن طالب الحق لا يليق به أن يستدل بأقوال الناس،
وإنما يستأنس بها بعد البحث والتنقيح. وأما ما ناقض منها حكم الله في كتابه أو في
سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنا نضجر منه ونمله ونرفضه؛ لأنه من الغلطات
التي غايتها أن يغتفر لقائلها، إذا لم يقصر، ومن تتبع الشواذ وقع في الغلطات، وأنه
لولا التأويل بحسن قصد للزم كل غالط لوازم فظيعة مكفرات، ولو التزم كل غالط
لوازم قوله لفحش الخلاف وبعد الائتلاف، ولحكم بكفر أكثرالغالطين؛ ولذلك كان
القول الحق أن لازم المذهب ليس بمذهب.
أما ما ذكره الفاضل في كلمته الثانية من التفصيل؛ فهو وإن كنا نعتقد الحق
زيادة عليه، إلا أنه قول قد قاله كثير من الأئمة، ومع ذلك فله حظ من النظر إلا
قوله في آخرها (أما الروايات التي تفيد نسخ لفظ القرآن) إلى آخره، فإنا لا نسلمه
له؛ لا سيما وقد عرفت مما قدمناه عدم مخالفة نسخ وإنساء لفظ القرآن للحكمة
والعقل، فإذا صحت الرواية عن الثقات الضابطين بالحفظ والمراجعة أو بالكتابة
المصونة: بأن آية كذا كانت قرآنًا وأنها نسخت أو أنسيت أو رفعت أو نحو ذلك
قبلنا ذلك، وحيث كان لو يقصد من هذه الروايات إثبات زيادة على القرآن الموجود
فهي غير معارضة ولا مناقضة لما ثبت من القرآن بالتواتر، حتى على قول من
يشترط التواتر في إثبات قرآنية القرآن - وترجيح المتواتر على الآحاد، إنما هو
إذا اتحدت الدلالة من جميع الوجوه حذو النعل بالنعل مع عدم معرفة المتأخر.
أما إذا لم تتحد كالعام والخاص والمطلق مع المقيد، أو ما تأخر تاريخه
فلا معارضة ولا مناقضة لا شرعًا ولا عقلاً ولأن الآخذ بالدليلين هو المتعين وإلا
للزم إهمال أحدهما - وأصل منشأ اشتراط التواتر إنما هو في الوصف بالقرآنية
الذي من أحكامها المفرعة عليها التلاوة في الصلاة ونحوها، وإثباتها في
المصحف إلى غير ذلك على خلاف مشهور في ذلك لأهل العلم والنظر؛ ولذلك
نرى الحق عدم جواز نسخ السنة للفظ القرآن المثبت في المصحف.
وأما حكمه مع بقاء اللفظ فهو محل الخلاف، والحق عندنا جواز نسخ
الحكم بالسنة الصحيحة؛ لأن ثبوت الأحكام لا يشترط فيه التواتر كما سيأتي؛ ولأن
اقتضاء الحكم للتكرار أمر زائد على مفهوم مجرد الأمر وكذلك الاستمرار كلاهما
ظني، وخبر الآحاد أقل حالاته إذا كان صحيحًا أن يكون أرجح. لكن هل ذلك
واقع فعلاً أم لا؟ ولا شك أن من بعُد غوره في فقه الدين يعرف أن ذلك لم يقع، وأن
السنة مبينة ومفسرة لما دل القرآن عليه ولو بدلالات خفية، أو تأتي بأحكام
يكون القرآن ساكتًا عنها، أو زيادة على ما فيه وهذا جمال يدرك المنصف ما
وراءه من الفوائد، اكتفينا به عن التفصيل والإطالة.
تكلم حضرة الدكتور الفاضل في الكلمة الثالثة من رسالته على قوله تعالى:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: 106) الآية -
وحاول أن يثبت أن يكون المراد بالآية المعجزة، وقال: إنها على حد قوله تعالى
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ
إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 38-39) .
أقول: واعلم أنه لم يقل أحد ممن يفسر القرآن بالمأثور أن مدلول الآية هي
المعجزة في الموضعين معًا، أو أن معناهما واحد كذلك، والمعروف عنهم أن هذه
الآية في المعجزة وتلك في آيات الأحكام، وسيأتي أن بعضهم حمل الإمحاء على
نسخ آيات الأحكام أيضًا عكس ما يقوله الدكتور الفاضل، وقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) قد عرفناك تفسير السلف لها في رسالتنا السابقة.
وأما قوله تعالى: ? {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} (الرعد:
38) فلا شك أن المراد بالآية فيها المعجزة خارقة العادة، فليس إلى أي
رسول الإتيان بها، بل ذلك إلى الله - عز وجل - يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد -
فقوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: 38) أي لكل مدة مضروبة كتاب أي مكتوب
{وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: 8) ، {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحج: 70) فالمراد
بالكتاب ما يعم معلومات الله الكونية والشرعية الدينية: بأن جعل لكل مدة مضروبة
عنده كتابًا - وبعض السلف قدرها بالنسبة، وقد اختلفوا في المحو والإثبات، هل يكون في كل شيء أم في شيء دون شيء، فقال بعضهم: يمحو الله ما يشاء إلا
الشقاء والسعادة والحياة والموت، وقيل غير ذلك أيضًا..، والذي دلت عليه
الأحاديث الصحاح أن ذلك كائن في كل شيء 00 واختلفوا هل هناك كتب وكتاب
غير هذا أم لا؟ وليس الإطالة في ذلك من غرضنا هنا، فإن شئت ذلك فارجع إليه
في مكانه - فهذان قولان في الكتاب ومدته، والقول الثالث أن المراد بالكتاب كل
كتاب أنزله الله من السماء على رسله؛ وهو قول الضحَّاك بن مزاحم، وكان
يقول في قوله: {ِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: 38) أي لكل كتاب أجل {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (الرعد: 39) منها (ويثبت) يعني حتى نسخت كلها بالقرآن
الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه. فقول الدكتور
الفاضل: يمحو الله ما يشاء من الآيات السابقة فلا يعيدها مرة أخرى للأمم اللاحقة
إلى آخره، قول مبتكر لم يدل عليه أثر، ولا قاله أحد من السلف، ولا ندري كيف
أجاز لنفسه القول في كتاب الله برأيه.
ونقول: معجزات الأنبياء التي قد أظهرها الله، لا يقال: إنه محاها أو نسخها،
بل يقال: كتبها وقدرها، وفي الواقع أظهرها وأمضاها وقد فرغ عنها. والمحو
إنما يكون لما كتبه وقدره قبل وقوعه إذا لم يوقعه، وما وقع فإنما يقال: كتبه
وأوقعه طبق ما كتب، فالدكتور غلط هنا في مواضع - وحاصله أن الكتاب في هذه
الآية إن كان كتاب المقادير والمعلومات فالانمحاء فيه لا يكون في المعجزات التي قد
أظهرها الله لتأييد أنبيائه، وإن كان المراد به كتبه التي أنزلها على أنبيائه، لكل
أجل ما يناسبه من كتب الأحكام وآياتها، فالآية نص في رد ما زعمه حضرته.
أما قوله: واعلم أن نظم الآية التي نحن بصدد تفسيرها، يعني قوله تعالى:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) الآية لا يقبل أي معنًى آخر سوى
ما اخترناه فيها؛ ولذلك ختمت بقوله تعالى: {ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 106) إلى آخر ما قاله في هذا المعنى. وأقول: نحن قد ذكرنا تفسير
السلف لهذه الآية في رسالتنا السابقة، وهم الذين تلقوا عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم بيان القرآن، وهم الذين شاهدوا الأسباب والوقائع، وهم الذين نزل
القرآن بلسانهم، فتفسيرهم للقرآن لا يجوز لنا الخروج عنه بالكلية، وما ذكره
الدكتور الفاضل واختاره هو، لم يختره من أقوال السلف، ولم يقل به أحد منهم،
وهم قد صرحوا بأن هذه الآية إنما نزلت في آيات الأحكام، فجعل ذلك على
المعجزات، إنما هو من باب الحرص والقول بالرأي في كتاب الله وهو لا يجوز [3]
فتفسير الآية في هذا المقام بالمعجزة فقط متعذر من حيث النقل، وسياقها لا
يقتضي ذلك وكذلك معناها ومدلولها، لا يصح أن يكون هو المعجزة عقلاً.
وما ذكر عن الأستاذ الإمام شيخ الإسلام المفتي الشيخ محمد عبده رحمه الله؛
فإن صح عنه ذلك، فلعله قاله من باب الاستنباط والإشارة والإيماء - زيادة على ما
يدل عليه الظاهر - ذلك هو الواجب على الصادق في موالاته. الأستاذ الإمام وما
أدراك ما مرتبته وفضله ومقدار محبة أهل الحديث له في جميع الأرض، كيف لا؟
وهو إمامهم وحامل لوائهم الذي هزم الله به المبتدعين وكسر به صولة المقلدين
الجامدين. نصر الله به السنة وأتباعها، وحفظها به عن ضياعها، سمعت بعض
الناس يقول: إن الأستاذ الإمام لا يقبل أحاديث الآحاد الصحاح - فقلت له: كيف
علمت ذلك؟ قال: لأنه قال في بعض كلامه: إننا لا نقبل الحديث إلا إذ تحققنا كما
تحققنا وجود مكة والمدينة. فقلت له: ويحك ماذا تقول؟ إن الأستاذ الإمام -
رحمه الله - يصح أن يتحقق الأحاديث الصحيحة ونحوها كذلك، وإذا اتسع علم
الإنسان ظهر له ما خفي على غيره، وكل أئمة الحديث كذلك - رحمهم الله -.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) إن القائلين برأي داروين لا يقولون باستحالة الرسالة كما قال ولا كلهم يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم محتال؛ بل يقول المحققون العارفون بسيرته منهم: إنه كان صادقا معتقدا لما يقول وليس هذا المقال بالذي يتسع لبيان آرائهم في ذلك.
(2) المنار نعجل فنقول: إن صديقنا الأستاذ اليافعي لم يأت بحكمة ظاهرة لنسخ أو إنساء عبارة القرآن ولفظه، تنطبق على ما نقل من ذلك، لا سيما ما كان معناه محكمًا، ولا يظهر معنى الترقي والاختصار في كلام الخالق الذي هو منتهى الكمال، ولو اختصر منه شيء لحذف قصة موسى من بعض السور وما يأتي قريبًا في بيان حكمة نسخ ما روي من آية الرجم غير ظاهر، لا سيما مع بقاء آيه الجلد على إطلاقها وأذكره بذلك من الآن لعله يقدح زناد فكره ويراجع ذاكرته فيما قرأه؛ لعله يجد لذلك حكمة ظاهرة، فإن معظم الأشكال عند الدكتور ومثله كثير من المسلمين وغيرهم محصور في هذا، وهو يقول بأصل النسخ وحكمته، بل كتب في ذلك أيضًا.
(3) المنار: تفسير القرآن بالرأي: عبارة عن تفسير المرء له؛ لأجل تأييد رأي ينتحله أو مذهب يتقلده فهو بمعنى تفسيره بالهوى، وليس معناه تفسيره بما يخالف المأثور عن الاولين، ولا يمكن أن يكون هذا هو المراد بحديث إنكار التفسير بالرأي على أن الحديث لا يصح، والسلف قد فسروا القرآن بفهمهم وخالف فيه بعضهم بعضًا، وأكثر ما ورد عنهم من ذلك لا يصح له سند، وكلمة الإمام أحمد فيه مشهورة.(12/201)
الكاتب: كامل باشا
__________
الدولة العثمانية بعد الدستور
وجمعية الاتحاد والترقي
تصريحات كامل باشا في سبب سقوط وزارته
نشر كامل باشا مقالاً طويلاً في سبب إسقاط الجمعية إياه من الصدارة؛ بعد
إخراجه هو ناظر الحربية، واستعفاء ناظر البحرية من الوزارة وهما من أعضائها
وإننا ننشر ترجمته برمته للبيان في الحال والتاريخ في الاستقبال، قال:
كان يوم السبت الموافق 31 كانون ثاني (يناير) في مجلس المبعوثان يومًا
عبوسًا قمطريرًا؛ لهبوب إعصار الأفكار، حتى إن بعض الأعضاء ويبلغ عددهم
زهاء السبعين تركوا المجلس وانصرفوا؛ حذرًا من نتائج هذه الزوبعة التي كانت
منحصرة بين جدران دائرة المجلس المذكور، وبينما كان الذين يبلغهم خبرها في
الخارج لا يصدقون بصحة وقوعها، كان الذين داخل المجلس في غاية القلق والتأثر
من السطوة التي يرونها من بعض أناس كانوا يتخللون صفوفهم، ومما كان يلقى
على مسامعهم: من أن تسكين هذا الهياج الذي دام نحو ساعتين، لا يتأتى إلا
بإسقاط الوزارة التي كانت قد ضعفت باستعفاء ثلاثة من أعضائها، وهذا لا يكون
إلا بقرار المجلس على عدم الثقة بها. فلما رأى الأعضاء الحاضرون ذلك، بادروا
لحسم الأزمة على الوجه الذي أريد منهم، وأقروا على عدم الثقة بالوزارة ظنًّا منهم
أنهم خدموا بذلك سلامة الوطن والمملكة، ولم يكن مبعث هذا الهياج إلا المساعي
العظيمة التي بذلت في سبيل إحداثه؛ إذ بعثت البعثات الخصوصية قبل ذلك إلى
أدرنه وسلانيك، فأذاعوا هناك أن الحكومة تقصد إعادة الحكم الاستبدادي، وبذلك
حركوا بعض ضباط الفيلق الثاني والثالث وأهاجوا سخطهم.
ثم أرسلوا باسم هؤلاء الضباط رسائل برقية إلى بعض أنحاء السلطنة، تشير
بأنهم (أي الضباط) مستعدون للوقوف أمام كل حركة تبدر من الحكومة يقصد بها
إرجاع الحكم الاستبدادي، كما أنهم أوعزوا إلى بعض ضباط الأسطول بإرسال
رسالة برقية إلى مجلس المبعوثان، يطلبون فيها عزل ناظر البحرية الذي تعين
بالوكالة، ويبلغون المجلس أنهم لا يعرفون رئيسًا لهم سوى مجلس الأمة العثماني،
وقد تُلي هذا التلغراف في المجلس، وتم لهم بذلك ما يقصدونه: وهو إظهار المملكة
في حالة فوضى أمام الناس. لذلك كنت أردت وقتئذ أن أبين ما بالمملكة من
الأضرار من جراء هذه الأزمة المفتعلة والمقصودة قصدًا، وإن أذيع المسائل المهمة
والأسرار السياسية التي لا ضرر من إفشائها، وإنما رأيت أن أؤجل إيضاح ذلك
إلى وقت آخر أكثر مناسبة منتظرا زوال هياج الأفكار المارّ ذكره، وها قد أتيت
الآن بالإيضاح الموعود مقرونًا بالأدلة الواضحة بقدر ما تسمح لي به الظروف في
الحال؛ وما يفرضه على حب تجنب المحاذير السياسية: لا يخفى أني كنت قد
ذهبت بالذات إلى المجلس النيابي في أوائل انعقاده، وأوضحت أمام الأعضاء
برنامج الوزارة السياسي الذي حاز وقتئذ قبول الهيئة المحترمة ورضاها، ووعدت
الوزارة بأنها تسير على مبدأ هذا البرنامج؛ مع أن القانون السياسي لم يصرح
بشيء عن دعوة الصدر الأعظم وشيخ الإسلام للاستيضاح منهما عن بعض الأمور
وإنما فعلت ذلك بقصد خالص من كل الشوائب؛ تطبيقًا لمصالح البلاد على الحكم
الشوروي الحقيقي، ومراعاة للإدارة الدستورية، ولوضع مثال للمستقبل، ولا
يؤخذ من ذلك أنه يتحتم على الصدر الأعظم أن يحضر إلى المجلس في الساعة
واليوم اللذين يطلب فيهما، كما أنه لا يفهم من طلب تأخير الصدر ميعاد الإيضاح
بضعة أيام أنه يريد بذلك إلغاء هذا الاختصاص الذي أعطاه القانون الأساسي للنظار؛
بناءً على حكمة كبيرة، والوارد في جميع قوانين الدول الدستورية الأساسية. أن
الإصرار في هذا الباب يعد خرقًا صريحًا لأحكام القانون الأساسي. وقد كنت
عزمت عندما وصلتني رسالة الدعوة من رئاسة مجلس المبعوثان في مساء يوم
الخميس الموافق 29 كانون الثاني (يناير) أن أذهب في اليوم المطلوب إلى
المجلس؛ للإجابة على الاستيضاح حذرًا من إخلال الأحوال الموضوعة. ولكنه
جاء في اليوم التالي (الجمعة) رسول من قبل سفير روسيا يخبرني بأن السفير
سيحضر يوم السبت إلى الباب العالي؛ لمقابلتي وللمذاكرة معي في المسألة البلغارية
حسب تلغراف ورد عليه من بطرسبرج، وفى الحقيقة حضر السفير المشار إليه في
اليوم المذكور. فلأجل ذلك ولاشتغالي ببعض مسائل سياسية مهمة، كتبت إلى رئيس
المجلس بإرجاء موعد الإيضاح يوم الثلاثاء المقبل.
وبعد عصر يوم السبت المذكور وردت عليَّ رسالة من رئيس مجلس
المبعوثان، يقول فيها: إنه بناء على بعض إشاعات وصلت إلى مسامع المجلس،
هاجت أفكار الأعضاء، وهو يرى من الضروري ذهابي في الحال إلى البرلمان
لإعطاء الإيضاح اللازم، فكتبت إلى الرئيس جوابًا قلت فيه: إن الإشاعات التي
بلغت المجلس عارية عن الأهمية، وإن لا أصل بالمرة لما قيل من حدوث هياج في
المدينة، وإني سأحضر إلى المجلس يوم الأربعاء. وكان قصدي من هذا الإرجاء:
(أولاً) أن نتوصل بما عندنا من الزمن إلى ربط المسائل السياسية المهمة
الماسة بمرافق الدولة الحيوية؛ بالأصول التي كنا نتصورها إلى هذا اليوم.
(ثانياً) أن أتمكن من استخراج الوثائق الرسمية من محافظها (دوسياتها) ؛
استعدادًا للإيضاح أمام المجلس، ولتقديمها لهيئة المبعوثان بصورة غير علنية، حتى
يقتنع الأعضاء بصفة قطعية بما سأقوله:
ورد بعد قليل رسالة ثانية من رئاسة المجلس، فأعدت جوابي الأول بإيضاح
أكثر فلم يأت بفائدة، بل أرسل أحمد رضا بك بضرورة حضوري إلى المجلس؛
لبيان الإيضاح المطلوب نظرًا لهياج الأمة والمجلس الناشئ من تبديل بعض النظار
وما عقبه من إشاعة الخلع الكاذبة (أي خلع السلطان) واستعفاء بعض النظار،
مما جعل سياسة الدولة في الخارج والداخل في حالة غموض وإبهام.
فلما رأيت هياج الأفكار الذي كان منحصرًا فقط في أعضاء المجلس دون
الأهالي؛ أي لا أثر له في الخارج، باشرت التحقيق في الحال؛ لأقف على الطرق
والمساعي التي بذلت في سبيل إحداث هذا الشغب، وعلمت أنه ازداد عدد الحزب
المعارض لي في المجلس وما تقرر لديهم من أمر معاملتي في حالة ذهابي، مما
يسبب حدوث أمور غير مرضية تحط بقدر مجلس المبعوثان. فتجنبًا لذلك كله
كتبت إلى الرئيس أعلمه بأني مستعد لتقديم الاستقالة من منصبي إلى الحضرة
السلطانية، إذا لم يراع نص المادة 38 من القانون الأساسي، ملقيًا تبعة ما ينشأ من
الاضطراب داخلاً وخارجًا على عاتق الذين كانوا السبب في حدوثها. فلم يأت
الجواب، وحصل ما حصل في المجلس من الأمور الغريبة، وقد جذبت الأحوال
المذكورة أنظار الأجانب الذين كانوا موجودين وقتئذ في دائرة المجلس، واستوقفت
أبصارهم الطرق والوسائل غير القانونية التي اتخذت للوصول إلي إجبار الأعضاء
على التصويت ضدي، وإعطاء قرار بعدم الثقة بي، كما أن شيوع هذه الأمور
التي هي بمكان من الغرابة قد شغل أفكار الجمهور.
وزد على هذه الحالة المخلة بالقانون بصفة خصوصية ذهاب رئيس مجلس
المبعوثان مساء اليوم المذكور؛ وبرفقته بعض أعضاء المجلس إلي القصر
السلطاني، وطلبه من الحضرة السلطانية فَصْلي من منصبي قبل أن أستقيل منه،
وتعيين خلفي الذي رشحته الجمعية (جمعية الاتحاد والترقي) من قبل.
ومن الأمور التي تستدعي دقة النظر المنشور السلطاني الذي استصدره
بتوجيه منصب الصدارة العظمى على حسين حلمي باشا، والذي تلي في الباب
العالي، إذ ورد فيه هذه الجملة بحروفها:
بناء على انفصال كامل باشا حسب الإيجاب من منصب الصدارة، وهو مثل
ما كان يحصل في الزمن الاستبدادي عند فصل الصدور من مناصبهم بناء على
دسائس أصحاب الأغراض، مع أنه كان يجب أن يبنى انفصالي على استعفائي.
وسبب هذا الهياج الذي لم يكن ليوجد لو لم يحدثه البعض عن قصد؛ هو
تعيين ضياء باشا في منصب نظارة المعارف التي كانت شاغرة من قبل، وتعيين
حسن باشا من أمراء الجند البحري في منصب نظارة البحرية بالوكالة بدلاً عن
عارف باشا الذي استقال وترك الخدمة بصفة رسمية، وتعيين علي رضا باشا ناظر
الحربية مندوبًا ساميًّا للدولة في القطر المصري؛ نظرًا لبعض الإجابات السياسية
الواردة فيما بعد، وتعيين ناظم باشا قائد الفيلق الثاني في منصب نظارة الحربية
بدلا عنه.
ولما كان تأليف الوزارة من حقوق الصدر الأعظم الذي يرفع إلى الحضرة
السلطانية أسماء من يعتقد قدرتهم وكفاءتهم لتولي مناصب النظار، كنت أرى وجهًا
للاعتراض على التبديل الذي حصل في الوزارة وقتئذ، كما وقع قبله تبديل نظار
الداخلية والمعارف والأوقاف والعدلية ورئيس شورى الدولة حسبما ظهر أنه
المصلحة، ولم ينبس أحد ببنت شفة اعتراضًا على ذلك.
وقد ظهر فيما بعد أن سهم الاعتراض في التبدلات الوزارية الأخيرة، كان
مصوبًا بوجه خاص إلى تعيين ناظم باشا في منصب نظارة الحربية، حتى إنه
مساء اليوم الذي كان فيه تعيين المشار إليه ناظرًا لوزارة الحرب، حضر إليَّ رجل
يدعى ناظم بك من جمعية الاتحاد والترقي، وكانت أمارات القلق واضطراب البال
بادية على وجهه، وقال: إن الجمعية تستغرب تبديل بعض الوكلاء (النظار) ،
وتستوضح منكم جلية هذا الأمر الذي حدث من غير أن يكون عندها علم به،
فأجبته بأن ليس في الأمر ما يوجب كل هذا الاستغراب، وفي اليوم التالي اجتمع
مجلس الوكلاء، واشتغلنا برؤية الأمور حسب العادة وزدنا عليها المذاكرة في
الأحوال المهمة السياسية، وافترق أعضاء الوزارة في الساعة 2 ونصف
(بالحساب العربي) ، وكلهم على اتفاق تام، ولم ينتصف الليل إلا ووردت
استقالة حسين حلمي باشا من نظارة الداخلية، وفي اليوم التالي استقال رفيق بك
ناظر العدلية، وعقبه ورود استقالة حسين فهمي باشا ويظهر أن استعفاء هؤلاء
الوزراء من مناصبهم لم يكن نتيجة اتفاق بينهم؛ إذ لا يعقل أن يكونوا اجتمعوا في
تلك الليلة ليتفقوا على الاستقالة؛ لبعد الشقة بين مساكنهم التي يحول بينها البحر.
ولكن كان حسب مشورة ونفوذ رجال الغيب (أي جمعية الاتحاد والترقي) ، ولقد
بذلت المساعي في حمل توفيق باشا ناظر الخارجية على الاستقالة أسوة بزملائه
المستقيلين، ولكن الرجل رفض الاستقالة غير متأثر بنفوذ أصحاب هذه المساعي،
ويروى أن سبب استعفاء الوزراء المشار إليهم؛ هو تبديل وزيري الحرب والبحر،
على أن وزير البحرية استقال من تلقاء نفسه، وكتاب الاستعفاء الذي رفعه إلى
الصدارة محفوظ في قلم الأوراق، والذي سُمِّي بدلاً عنه لم يعين إلا بالوكالة فقط.
إذن لا وجه ألبتة للقيل والقال في هذه المسألة. وأما مسالة تعيين علي رضا باشا
مندوبًا في القطر المصري، وإقامة ناظم باشا ناظرًا للحربية بدلاً عنه، فسأوضحها
فيما بعد مقرونة بالأسباب التي أوجبت هذا التبديل.
وفي الحقيقة إنه لم يكن هناك موجب لاستعفاء النظار الثلاثة كل على حدته
وهم خارج المجلس، بل لو كان زملائي النظار ارتأوا أثناء المذكرات وهم في
المجلس؛ أن تبديل ناظر الحربية مخالف لقواعد الشورى والدستور ومضر بمرافق
الدولة، لكنت أقدم استقالتي في الحال؛ هربًا من الوقوع تحت تبعة التهلكة والخطر
اللذين كنت أراهما يتخللان تيارات الأحوال الحاضرة. ولكن الحقيقة لم تكن كذلك،
بل كان القصد من إجبار هؤلاء النظار على الاستقالة (من قبل رجال الغيب) إنما
هو إظهار الحالة الحاضرة بمظهر الاضطراب، وأن يعدوا بذلك وسيلة لإحداث
الهياج المطلوب في مجلس المبعوثان.
ولإيضاح الأمور التي أوجبت تبديل ناظر الحربية، يجب قبل كل شيء أن
أذكر الحقيقة الآتية:
كان بعض الفتيان أو ذوي الأفكار الفنية من: المستخدمين الملكيين أو الضباط
العسكريين أصحاب الكلمة النافذة من الذين انتسبوا بعد إعلان القانون الأساسي إلي
جمعية الاتحاد والترقي؛ التي لها الخدمات المشكورة في إعادة الحكم الدستوري.
جعلوا ديدنهم وضع إدارة الحكومة تحت السيطرة والمراقبة إلي أن تتأيد الحكومة
الدستورية؛ وذلك خوفًا من عودة الاستبداد على زعمهم. على أن جميع العناصر
العثمانية قبلت أصول الشورى بكمال الحمد والشكران والسرور، وأثبتوا أنه لم يكن
ليوجد بينهم من يريد الرجوع إلى الحكم الاستبدادي، كما أن الجنود العثمانية كلها
أقسمت وتعاهدت على الذود عن أحكام القانون الأساسي، فلا موجب - والحالة هذه -
لوضع إدارة الحكومة تحت السيطرة والمراقبة المار ذكرهما. ومع هذه البداهة
كانت المداخلات باسم الجمعية في شئون الحكومة تتوالى وهو الأمر الذي أخل
بانتظام إدارة الحكومة، وعرقل مساعيها جدًّا، ووضع العقبات في سبيل معاملاتها
وأوجب طروء الضعف على القوة الإجرائية من مداخلات الجمعية التي تألفت في
الولاية العثمانية، واختل من جراء ذلك أمر الضبط والربط والنظام. كما أن انقسام
الضباط الذين هم القوة المحركة في الفيلقين الثاني والثالث إلي قسمين، ووقوع
الخلاف بين الذين ينتسبون إلي الجمعية والذين لا ينتمون إليها، أدى إلى الإخلال
بالنظام العسكري.
ولا يخفى أنه بمقدار ما تراعي فيالقنا النظام العسكري، ويكون جنودها يدًا
واحدة في اتحاده بما يشبه الجسم الواحد، بمقدار ذلك يكون التأثير في الأعداء،
وتنكسر شرتهم، وبعكس ذلك يتجرأ العدو على تجاوز حده ويتمرد ويطغى، ومن
جهة ثانية لا يعود في قدرة الجيش قمع الفتن الداخلية؛ فلذلك كله كان الواجب على
الضباط أن يتجنبوا الاشتغال بالسياسة وأن يبتعدوا عنها، وأن يراعوا سلسلة
المراتب حسب ما نص عليه القانون. ولكن بدلاً من ذلك صار الضباط يلقون
الخطب السياسية في: الملاهي (قونسر) والاجتماعات والمظاهرات، وأنشأوا
يقيمون المناورات الحربية والاستعراضات العسكرية في المراسح، فكنت ترى فرق
الجند العثماني تمر بأسلحتها، وضباطها من أمام المتفرجين في مراسح التشخيص،
وهو ما يحط بالشرف العسكري، وكل ذلك كان منشؤه ضعف إرادة على رضا باشا
ناظر الحربية، المطلوب منه حسب وظيفته منع كل هاته الأمور المخلة بنظام
الجيش، والذي لم يكن ليقدر على تنفيذ أوامره وتنبيهاته بإزاء نفوذ كلمة الضباط
المنتسبين للجمعية.
على أني أشهد أن علي رضا باشا رجل على غاية من الاستقامة والحلم.
ولكنه غير قادر على الوقوف أمام حركة الضباط التي أخلت بنظام الجيش، كما مر
ذكره آنفًا، فحفظًا لشرف الجيش وإعادة النظام والانتظام إلي صفوفه؛ تقرر تعيين
ناظم باشا قائد الفيلق الثاني الذي أثبت اقتداره بإصلاح الفيلق المذكور وإعادة النظام
إليه في مدة لا تزيد عن الشهرين ناظرًا للحربية، وبودر في الحال لإنفاذ هذا القرار
وهو الوسيلة الوحيدة لسلامة الأمة والوطن. ولكن جمعية الاتحاد والترقي التي لا
تريد إلا استبقاء نفوذها، أجبرت زملائي الوكلاء (النظار) على الاستعفاء وأخذت
مجلس المبعوثان تحت أمرها، وبذلك أعدت الوسائل اللازمة لإسقاط وزارتي.
وهنا يجب أن أسرد بعض أمور حدثت قبل سقوطي، وكانت مقدمة لإثارة الأفكار
ضدي، فكانت السبب في انفعال الجمعية مني، وإليك الأسباب.
كنت من زمن حدوث الانقلاب أروج بقدر الإمكان والزمان اقتراحات من كان
يراجعني بصفته عضوًا في الجمعية، واستمر الحال كذلك إلى أن حضر ليلة إلى
منزلي، (وذلك قبل افتتاح مجلس المبعوثان بأسبوعين) البكباشي إسماعيل حقي بك
ومعه رحمي بك الذي يدعي أنه قائم مقام الوكيل السياسي عن الجمعية، وقالا: إن
الجمعية لا تدخر وسعًا في إكرام أعضاء اللجنة البلقانية الإنكليزية المؤسسة في
لندره، الذين حضروا أخيرًا إلى الآستانة، وإنه صار دعوتهم لوليمة عشاء
يحضرونها نهار غد في منزلي، فقلت لهم: إني أجهل وصول هؤلاء الأعضاء إلى
الآستانة، ولا أعلم مركزهم ومنزلتهم في بلادهم؛ لعدم ورود شيء يعرفني عن ذلك
لا من سفير الدولة في لندره، ولا من سفير إنكلترا هنا، فأستغرب دعوتكم
لأشخاص لا معرفة لي بهم، ولم يسبق لي المقابلة معهم، إلى تناول العشاء في
منزلي من غير أن يكون عندي علم بذلك: كأنكم تدعونهم إلى فندق، وهو أمر لا
أستصوبه بعدم موافقته للأصول، بل يجب أن أتعرف بهم قبل كل شيء وأقابلهم،
وبعد ذلك أعد لهم الوليمة في يوم معين.
احتد إسماعيل حقي بك ورفيقاه من كلامي هذا، وخرجا من المنزل، وذهبا
في الساعة الرابعة من الليلة المذكورة نفسها إلى القصر السلطاني، وقابلا أحد قرناء
الحضرة السلطانية وقالا له: (اعرض لحضرة السلطان أن يسترجع الختم
السلطاني من الصدر الأعظم) : أي أن يعزله وإلا نذهب غدا بالقوة العسكرية إلى
الباب العالي، ونخرجه منها قسرًا، على أنه قد تقرر أن يعزل في أول اجتماع من
مجلس المبعوثان.
فهال هذا الكلام القرين، فأجابهم قائلاً: (وما السبب في ذلك) ، إني لا
أستطيع عرض هذه المسألة على جلالته في مثل هذا الوقت، فالأحسن أن تحضرا
غدًا؛ لنفهم ما في الأمر ونعرضه على الحضرة السلطانية.
وعلى ذلك ذهبا وعادا في نفس اليوم التالي وبرفقتهما ضابط آخر، اجتمعت
بهم بدعوة خصوصية حسب الإرادة السنية الصادرة لي، وكان معنا أحد القرناء
فسألتهم مِنْ قِبَلِ مَنْ أُرْسِلُوا؟ فقالوا: إنهم حضروا مِن قِبَلِ الجمعية، فقلت لهم:
هل الجمعية راضية عن مراجعتكم للحضرة السلطانية في مثل هذا الطلب؟ أجابوا
نعم، إن الجمعية توافق على كل ما نعمله، وعند ذلك أعدْتُ ما قلته لهم في الليل
من عدم موافقة اقتراحهم في مسألة الدعوة، وزدت عليه أن عزل الصدر الأعظم
بلا سبب ودون أن يستقيل هو من منصبه مخل بما نصه القانون الأساسي، وأن
خدمتي الآن في هذا الزمن المحفوف بالمخاطر ليس إلا تفاديًا مني في حب الوطن،
وليس لأجل التفاخر ولا لجر منفعة، قلت هذا الكلام بشدة واشمئزاز، فقاموا
وانصرفوا من غير أن يفوهوا ولا بكلمة.
وبعد ذلك صدرت إدارة سنية؛ تبلغتها بالواسطة بوجوب دعوة أعضاء اللجنة
البلقانية المذكورة إلي الشاي بعد حصول التعارف بهم، وصادف أن حضر
الأعضاء المومأ إليهم إلى الباب العالي حيث زاروني، وكان عددهم اثني عشر بين
ذكور وإناث، فدعوتهم لتناول العشاء في اليوم التالي عندي، حيث حضروا هذه
المأدبة كما حضرها أيضًا بعض أعضاء جمعية الاتحاد والترقي، فكان عدد الجميع
24 مدعوًّا ما عدا رحمي بك الذي لم يشأ أن يحضرها.
واللجنة البلقانية هذه كانت تتألف من بعض وجوه ومعتبري الإنكليز بقصد
إنساني ألا وهو: تذكير الحكومة الإنكليزية بحماية السكان البلغاريين من أهالي
مقدونية من مظالم العثمانيين، وقد طاف بعض أعضائها القطر المقدوني بعد
الانقلاب؛ ليتحققوا بأنفسهم عما إذا كان البلغاريون لا يزالون في حاجة إلى الحماية
الأجنبية، ثم حضروا إلى الآستانة، وقد قصدت جمعيتنا بإكرام هؤلاء الأعضاء:
أن نقيم الحجة لهم على الأخوة التي حصلت بين المسلمين والبلغار، وأن تكسب
بذلك رضا اللجنة المذكورة، وتحوز بواسطتها انعطاف الأمة الإنكليزية، على أن
الأمة العثمانية كانت قد اكتسبت حسن نظر وانعطاف الشعب الإنكليزي العظيم؛ بما
أظهرته عقب انقلابنا السعيد من الاستعداد لإدارة دستورية سالمة.
وهنا يجب عليَّ أن أترك الحكم إلى أرباب الفكر والإذعان في مسألة الذهاب
إلى القصر السلطاني، وطلب إسقاط الوزارة من أجل أني رفضت طلب دعوة
أشخاص إلى منزل صدر أعظم بدون إذنه، ولم يسبق التعارف بهم مما هو مخالف
لأصول وآداب المعاشرة؛ ولأني قابلت هذا الطلب الغريب بصورة معقولة، وهذا
أمر جدير بتوجيه الأنظار إليه.
لذلك صرفت الجمعية كثيرًا من المساعي لإسقاط الوزارة عقب انعقاد مجلس
المبعوثان؛ ولكنها أخفقت أمام ميل الرأي العام الطبيعي، ولما رأت الجمعية ذلك
وعلمت أن لا قبل لها بالوقوف أمام الرأي العام أوفدت من قبلها طلعت بك وأنور بك
فحضرا إليَّ ليلة، وأبلغاني بأنه تقرر أن يكون السير حسب رأيي، فشكرتهم على
قرارهم هذا، وقلت لهم: إننا كلنا جسم واحد، فيجب أن نسعى معًا في سبيل خدمة
الأمة والدولة.
مضي 15 يومًا على ذلك، فصادف أن احتفلت فرقة الأحرار في عيد مضي
610 سنوات على استقلال الدولة العثمانية، فدعيت الوزارة أيضًا إلى المأدبة التي
أقيمت لأول مرة في (برابالاس) ، فرأيت أن أحضر هذا الاحتفال احترامًا لذلك
اليوم المقدس، فلم يرق ذلك في نظر الجمعية، فأوفدت إليَّ أحمد رضا بك في اليوم
التالي، فأشار في كلامه معي إلى عدم استحسان ذهابي إلى الحفلة المذكورة، فقلت
له: إني بصفتي رئيس الوكلاء (النظار) يجب عليَّ أن أحضر الاحتفالات التي
تقام من قبل أي حزب كان؛ تذكارًا لمثل هذه الأعياد الوطنية المقدسة، وأن هذا
أمر طبيعي.
فزاد كلامي هذا في موجدة الجمعية عليَّ وجدد حزازاتها، وصارت تنتظر
الفرصة لإسقاطي، حتى تقرر تعيين رجل نشيط نادر المثال مثل ناظم باشا في
منصب نظارة الحربية، وعلمت الجمعية أن النظام العسكري سيعود قريبًا إلى
ربوع الجيش بواسطة الناظر الجديد، فلم يرق في نظرها ذلك، فأحدثت الهياج
المار ذكره.
على أن التخلص من هذه الأزمات الخطرة والرجوع إلى الحالة الطبيعية مع
توقي الضرر والهلكة هو من وظائف الحكومة المسؤولة أمام العموم، والحيلولة بين
الحكومة وبين أداء هذه الوظيفة هو بمعنى الرضا بالهلكة وقبولها.
وإذا كانت الحكومة العثمانية لا تستند إلى مجلس نيابي يحوز أعضاؤه على
حرية الفكر، فإنه لا يمكن الوقوف أمام المخاطرات والمهالك الآتية. وإذا أصرت
الجمعية على التمسك بتيار نفوذها هذا واستمرت في السير معه، فالنتيجة تكون
مجهولة بسبب مضادة الرأي العام للسير على المنوال المذكور، وذهاب الضباط
وأمراء الجند مذاهب شتى.
على أن الحكومة العثمانية تقترب شيئًا فشيئًا من مسألتين سياسيتين مهمتين،
إذا لم تنحسما بالطرق الحكيمة الضرورية في زمن غير بعيد، يخشى من أن تجد
الدولة نفسها أمام غائلة كبيرة.
الأولى مسألة كريد وقد كانت الحكومة وقتئذ اتخذت الوسائل اللازمة التي
توصل إلى حلها حلاًّ يوافق مصالح الدولة العثمانية وأهالي الجزيرة، وهو جدير
بموافقة الدول الأربع الحامية لكريد. ولا أدري بالنظر إلى الحاضرة في أي طور
ستدخل هذه المسألة المهمة الآن.
وأما الثانية: وهي المسألة البلقانية فهي أهم من مسألة كريد، وقد زاد مركزنا
إشكالاً؛ فيها تضارب المصالح السياسية بين الروسية والنمسا في هذه الآونة، فإذا لم
يحكم مركزنا في الوقت اللازم باستعمال الوسائل الرشيدة، كانت العاقبة وخيمة جدًّا
علينا.
ولا يخفى أن القوة أساس كل شيء، فإذا كان ناظر خارجية إحدى الدول لم
يشأ قبول اقتراح سفير دولة أخرى، كان من الواجب أن يظهر لمعان 300 ألف
حربة وراء ذلك الناظر مستعدة لنصرته، كما قاله البرنس ميترنيخ (ناظر خارجية
النمسا السابق) لرفعت باشا مندوب الدولة العثمانية السامي.
ولو كان عندنا في شهر أغسطس الماضي قوة مهيأة مجهزة للدفاع عن مرافقنا
في الروم إيلي، لما كانت بلغاريا تجرأت على إعلان استقلالها، ولما أقدمت النمسا
على ضم البوسنة والهرسك لبلادها، وهذا الحال يمكن تطبيقه في المستقبل، فإذا
أهملت قوانا الحربية كما كانت أهملت من قبل، لا تتمكن الدولة من الوقوف في
وجه الأعداء، وتخرج بلاد الدولة العثمانية قطرًا بعد قطر من يدها، وهذا ثابت
بدليل حدوث أمثاله مرارًا؛ لذا رأيت تعيين ناظم باشا المشهور بقدرته على إصلاح
جيشنا في بضعة شهور ناظرًا للحربية أمرًا ضروريًّا؛ ليمكن الإصلاح في مدة قليلة
قبل فوات الوقت. أفلا يعد الوقوف في سبيل الحكومة لمنعها من إصلاح كهذا؛
ضارًّا ومروجًا لمقاصد الذين يرجحون أغراضهم الشخصية على مصالح الدولة.
إن إعلان الدستور الذي كان نتيجة مساعٍ عظيمة صرفت في هذه السبيل
أكسب الدولة انعطاف أوربا عليها واطمئنانها إليها والثقة بها، فأخذ أصحاب رؤوس
الأموال يوفدون وكلاءهم إلى الآستانة، والبعض منهم حضر بنفسه للقيام
بالمشروعات المفيدة الاقتصادية النافعة للبلاد مثل: إنشاء الخطوط الحديدية،
وإرواء الأراضي من الأنهار، واستثمار المناجم والمعادن، وتجفيف المستنقعات
والبرك، مما يستلزم بذل الملايين في البلاد العثمانية، وبذلك يجد المعوزون
والفقراء من سكان البلاد الذين كثيرًا ما يلجأون بسبب ضيق ذات اليد إلى ارتكاب
المحرمات شغلاً بأجر وفير، يوفر لهم أسباب المعيشة، ويكفي الحكومة مؤنة
الاهتمام بهم وبجرائمهم المضرة بالسكان والبلاد الناشئة عن الفقر والاحتياج.
لكن اختلال النظام في المملكة المتأتي من تغير شكل الحكومة ودخول إدارة
السلطنة تحت نفوذ جمعية غير مسئولة، مما لم يحصل مثيله في الممالك المتمدنة،
استوجب بكل أسف انسلاب ثقة أوربا وعدول أرباب رءوس الأموال من الغربيين
عن إرسال ملايينهم إلى البلاد العثمانية؛ انتظارًا لرجوع المياه إلي مجاريها
الطبيعية، واستتباب الأمن في البلاد تحت إدارة حكومة شرعية يرتاح إليها أرباب
الأموال، وقد كنا آملين أن تساعد زيادة الإيرادات المنتظر حصولها من
المشروعات الاقتصادية المار ذكرها، أو من احتكار بعض البضائع التجارية
الواردة في البروتوكول العثماني النمساوي، وتزييد رسم الجمارك على سد العجز
الذي في الميزانية العمومية.
وأما الآن فإن المرء يتساءل، كيف يمكن للدولة أن تقوم بإدارة حركتها مع
نقص الملايين في ميزانيتها، ومع عدم وجود الأمل في زيادة الإيرادات بالنظر؛
لامتناع أرباب الأموال عن إنفاذ المشروعات الاقتصادية في المملكة، وأخال أن
الدول لا ترضى بسبب حالتنا هذه بزيادة رسم الجمارك وترويج اقتراح الدولة في
مسالة الاحتكار، خصوصًا وأن الحكومة مضطرة لإعاشة أكثر من 250 ألف جندي
في هذا الزمن السلمي، ولا نستطيع تخفيض هذا العدد بسبب القلاقل الضاربة
أطنابها في المملكة، وفقدان الأمن في أنحائها، وعدم مساعدة أحوال الدولة المالية
لإنفاق كل هذه المبالغ بصورة دائمة، وليس في الإمكان مع الحال الحاضرة إيجاد
منابع إيراد لها، كل هذا يجعل المرء في حيرة من حالة الدولة وكيفية إدارتها، مع
ما هي عليه من التضعضع المالي. ولو زال هذا الارتباك وحل محله النظام،
وعادت المياه إلى مجاريها الطبيعية لاستتب الأمن والراحة في المملكة، ويمكن
حينئذ صرف عدد كبير من الجند، وإدارة ما بقي منه ضمن دائرة الميزانية، كما
أن الجنود التي لا لزوم لها تنصرف إلي الانشغال بالزراعة والفلاحة في بلادها،
فيزيد بذلك المحصول في المملكة. ولكن هذه الملاحظات بعيدة جدًّا على ما أرى
عن النظر والإمعان.
كان قد ذكر على الألسن في الأيام التي دعيت فيها إلي الذهاب لمجلس
المبعوثان إشاعة الخلع (أي خلع السلطان) ، فقد اتصل بنا خبر من هذا القبيل،
عندما كان ناظر الداخلية ملازمًا لفراشه من مرض أصابه، وقد صار حينئذ اتخاذ
كل الطرق اللازمة لمعرفة ما إذا كانت هذه الإشاعة حقيقية أم هي فرية من
المفتريات التي نشرت في الجرائد الأوربية، وفي ذلك الوقت نفسه أشيعت أرجوفة
أخرى؛ بأني أنا وناظم باشا نريد إعادة الحكم الاستبدادي، وأرسل بعض ضباط
الفيلق الثاني والثالث رسائل برقية إلى بعض البلاد في المعنى المذكور، واستدلوا
على ذلك بطلب إعادة توابير الصيادة إلى الفيلق الثالث، على أن لا أصل ألبتة لكل
ما قيل من هذا القبيل، والحقيقة هي أن السكان المسلمين الذين هالهم خبر تسليح
الحكومة اليونانية للأروام القاطنين قرب الحدود في ولاية يانيا، قد طلبوا من
الحكومة إرسال أربعة توابير في أسرع ما يمكن، كما أنه قد وردت برقيات من
أهالي تلك الجهات إلى نوابهم في مجلس المبعوثان في هذا المعنى نفسه وزادوا على
ذلك أن أهالي (قالقاندلن) تسلحوا واجتمعوا، وأنهم مستعدون للقيام بما يجب عمله
إذا لم تحضر الجنود في الحال.
فبناء عليه صدر الأمر إلى نظارة الحربية بوجوب إرسال أربعة توابير من
الفيلق الثالث إلى يانيا، وأنه إذا لوحظ أن أخذ أربعة توابير من الفيلق المذكور
يؤدي إلي إضعاف قواه العمومية - خصوصًا وإن كثيرًا من جنده كان قد أرسل
طاشليجه؛ لتقوية الحدود الصربية تلقاء هياج الصربيين وقتئذ - فلا بأس من إعادة
التوابير التابعة للفيلق الثالث، والمرابطين الآن في الآستانة. هذا هو الأمر الصادر
إلى نظارة الحربية، وقد أجاب ناظم باشا عليه قائلاً: إن الفيلق الثالث أجاب: بأنه
لا يمكن أخذ جند فوق ما أخذ قبلاً من قوى فوق الفيلق، وأن المسألة انحسمت
بتدابير أخرى بلا حاجة إلى إرسال الجند إلى يانيا.
بقى عليَّ أن أشرح بعض نقط في مسألة رغبتنا في إعادة الحكم الاستبدادي،
فأقول: إنني عندما كنت صدرًا أعظم للمرة الثانية قبل 14 سنة وجدت تغيرًا
عظيمًا في أصول الإدارة، ورأيت أن نتيجة شكل الإدارة على هذا النمط سيكون
وبالاً على الدولة. فرفعت في الحال تقريرًا مفصلاً إلى الحضرة السلطانية،
وطلبت من جلالتها أن تسلم الإدارة لهيئة عمومية، تكون مسؤولة أمام العموم، وأن
تستريح من عناء الأعمال، فقبلت الحضرة السلطانية كل ما عرضته وصدرت الإرادة
السنية بتأليف الوزارة حسبما ورد في التقرير الآنف الذكر. ولكن لم يمض يومان إلا
وصار فصلي بصورة غريبة من الصدارة؛ بناء على إفساد بعض المقربين الذين
يرجحون منافعهم الشخصية على صوالح الوطن والأمة، وعُيِّنت واليًا على حلب
بقرار من مجلس الوكلاء (النظار) ، ثم نفيت إلى أزمير فبقيت هناك 12 سنة، وأنا
أذوق الأمرين من الفسدة الذين سلطوا عليَّ عن قصد. وفي النهاية صدر الأمر بنفيي
إلى رودس حسب تسويلات أصحاب المآرب.
كل هذا يعرفه الجمهور، كما يعرف كيفية خلاصي من النفي المؤبد الأخير
إلي رودس وحضوري إلى الآستانة. ولو فدى إخلافي قليلاً من مصالحهم في سبيل
صالح الوطن، وساروا على الطريق الوطني الذي سرت عليه أنا، لما دامت
الإدارة السابقة ودام معها تخريب البلاد.
وأما اتهام ناظم باشا معي بأنه يريد إعادة الحكم الاستبدادي، فيكفي لدحض ما
قيل فيه أن أقول: إن الرجل نفي إلى أرزنجان لسبب طفيف، بعد أن جرد من
رتبه وألقابه، وألقي في غيابة السجن، وقضى على هذا الحال سبع سنوات هناك
وهو لا يملك بارة واحدة، وعائلته وأولاده يئنون تحت أثقال الجوع والفقر، ولم
يعد إلى الآستانة إلا بعد إعلان الدستور، مما يثبت أن ما أشيع في حقنا نحن
الاثنين كذب وافتراء شنيع.
إني لم أقبل منصب الصدارة الذي أسندته الحضرة السلطانية إليَّ؛ وأنا في
هذا السن عقب إعلان الدستور، وفي زمن سخط الرأي العام على الإدارة السابقة
وتهيجه؛ إلا لتهدئة الأفكار التي بلغت منتهى التهيج، وللقيام بما يجب عليَّ حسب
الحمية الوطنية من المساعدة على تأسيس الحكم الدستوري، مستعينًا على ذلك
بتوفيقات الله الصمدانية، ولم يكن لي أرب في حيازة المناصب قط. وإني أتمنى
لأخلافي أن يؤدوا الخدمات النافعة للوطن المقدس والأمة والدولة، وهم بعيدون عن
كل تأثير ونفوذ. وأختم كلامي بتحويل قرار عدم الثقة بي الصادر من مجلس
المبعوثان، وتقديره على الرأي العام العادل.
... ... ... ... ... ... ... ... الصدر الأعظم السابق
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كامل
__________(12/219)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدستور
وجمعية الاتحاد والترقي وسائر الجمعيات
أعلن الدستور العثماني منذ بضعة أشهر فهتفنا له مع الهاتفين، ورحبنا به مع
المرحبين، وهمنا به سرورًا وشغفًا، وملأنا ديار مصر وسورية مقالات فيه
وخطبا. ولكن سرورنا به لم يكن سالمًا من كل شائبة، ورجاءنا فيه لم يكن خلوًّا
من كل مخافة، فقد أودعنا المقالة الأولى التي أنشأناها في الأسبوع الأول من إعلان
الدستور؛ ترحيبًا به هذه الجمل (راجع ص17م11) .
(1) (فالواجب على هذه الجمعيات المدبرة، والقوى المنفذة، أن تكفل
الدستور الذي نالته الأمة، حتى تأمن عليه من دسائس أعوان الاستبداد الذين قاموا
بتنظيم حكومة الجواسيس أعظم قيام، وأول عمل يجب عليها هو السعي لإبعاد
أعوان الاستبداد عن دار السلطنة - لا عن دار السلطان فقط - ومحاكمة من يمكن
أن يسترد منهم العدل ما وهبهم الجور والظلم، وتشكيل وزارة حرة تقوم بأعباء
السلطنة، وتنتقي الولاة والمتصرفين والقضاة ورؤساء العدلية من أخيار الأحرار،
الذين يرجى أن تصلح بهم الإدارة ويستقيم القضاء، ويحفظ الأمن، ويستقر العدل
لتندفع الأمة إلى الأعمال النافعة في ظل الدستور الظليل، ثم العناية بأمر انتخاب
النواب) ... إلخ
(2) (إذا نحن كفينا شر المستبدين الأولين، ونلنا وزارة من الأحرار
المستقلين، فالواجب علينا أن نقف عند هذا الحد من المطالب في العاصمة، وأن
تعود السيوف إلى أغمادها، وتنصرف الضباط إلى سابق شأنها، مع إحكام الروابط
الخفية بينها وبين الجمعيات السياسية، ويتوجه الأحرار إلى إصلاح حال المملكة،
بجميع الوسائل الممكنة، والحذر والحذر من عواقب نشوة الظفر، الحذر الحذر من
إهانة شخص السلطان والتسلق إلى عرشه بالبغي والعدوان، فما دام السلطان
مستويًا على عرشه فهو رئيس الأمة، ومرجع سلطتها، ومنفذ قوانينها وشريعتها،
والوزارة هي الواسطة بينها وبينه، فاعتداء المرءوس على الرئيس بإدلال القوة،
دون القانون والشريعة، مجلبة للفوضى ومدعاة للخلل، ويخشى في مثل الحال التي
نحن فيها أن يفضي إلى الخطر) ... إلخ
(3) (إن أفضل ما نفاخر به الآن هو أننا نلنا الدستور من غير إراقة
الدماء، ولا إيقاع للبلاد في فوضى الثورة، ولا غير ذلك مما يذم ويكره، فيجب أن
نحافظ على هذه الفضيلة، وأن لا نرتكب في طلب الفرع، ما عصمنا الله في طلب
الأصل، عسى أن يكون تاريخنا في هذا الطور أنظف من تاريخ جيراننا فيه) .
(4) (إن أمامنا عقبات كثيرة منها ما يتوقع من مقاومة بعض الحكام
الظالمين للحرية؛ التي يرقص لها طلاب الدستور طربًا، ويهيمون بها شغفًا،
ومنها ما هو أقرب إلى الوقوع: كالنزاع بين الأحرار المستقلين، وبين المتعصبين
والمقلدين، ومنها مسألة تكون الجنسية العثمانية، وما يقع في طريقها من جنسيات
الشعوب التي يتألف منها جسم الدولة العلية) .
(5) (الحق أقول: إنه لا يخشى علينا من سلب الحرية، وإنما يخشى
علينا من سوء استعمال الحرية، ومن الجهل بطرق المحافظة على الحرية، يخشى
أن تدفع الحمية بعض الأحرار الظافرين إلى مثل عمل المستبدين، وأن تهبط
العبودية الموروثة بكثير من الجاهلين إلى أن يكونوا عونًا على أنفسهم للحكام
الظالمين) .
هذا بعض ما كتبناه في حال السرور بإعلان الدستور في الأسبوع الأول من
إعلانه، وقد وقع جميع ما توقعناه وخفناه.
أخذت جمعية الاتحاد والترقي على نفسها كفالة الدستور وحفظه، فألفت لها
لجانًا، وأحدثت لها شعبًا في جميع بلاد السلطنة، وأبعدت أعوان السلطان عنه،
وسعت في محاكمة بعض المعروفين بالظلم منهم، وتداخلت في انتقاء الحكام
والعمال وانتخاب المبعوثين، انتدبت للقيام بكل ما قلنا إنه لازم واجب - لا لأننا
قلنا، بل لأنها تعلم ما علمنا - ولكنها لم تحسن العمل في كل ما تشبثت، فيتم
سرورنا بعملها.
سافرنا إلى الديار السورية، وزرنا أهم مدن الولايتين، ورأينا تصرف جمعية
الاتحاد والترقي فيها، وما كان من عمل (اللجنة المرخصة) التي أرسلتها من
سلانيك، فرأينا خللاً وخطلاً وسوء تصرف، كنا نعتذر عنه للناقمين عليها، حتى
إنه لم يوجد لديها من دافع عنها كما دافعنا، وليس تفصيل تصرفها في سورية من
موضوع هذا المقال الذي وضع لبيان الحال العامة.
ثم عدنا إلى هذه البلاد التي يعرف من فيها، ما لا يتيسرعرفانه لمن في سورية
فسمعنا ممن كانوا في الآستانة من العثمانيين الأحرار ومن غيرهم أمورًا منتقدة
فوق ما كنا نعلم، بل رأينا أكثر العثمانيين لاسيما الترك متغيرين عليها. وإننا نذكر
مجموع ما ينتقده الناس في مصر وسورية في موضوع مطالبنا التي أشرنا إليها آنفًا
وهو:
(1) إن سلوك الجمعية مع أعوان الاستبداد، لم يكن سلوك من يريد
القضاء على الاستبداد بإزالة نفوذ أهله وإخضاعهم للدستور، بل سلوك من اغتنم
الفرصة للاستفادة منهم، فقد كانت تأخذ المبالغ الكبيرة منهم، وتدعهم وشأنهم أو
تضمهم إليها، وقد حدثني الثقات من أهل الشام أن اللجنة المرخصة التي ذهبت لأجل
تحقيق في الحادثة التي جرت لي في آخر شهر رمضان، قد أخذت مبلغًا
عظيمًا من النقود باسم الإعانة للجمعية من رؤساء الفتنة وزعماء الاستبداد، الذين
بلغ من جنونهم في محاربة الدستور؛ أنهم تحدثوا بنصب خليفة في الشام يبايعونه
ويقاومون به الحكومة الدستورية.
(2) إنها لم تحسن في انتقاء العمال والحكام، فقد ساعدت كثيرين من
أعوان الاستبداد حتى على الترقي في الوظائف، وأهملت شأن كثير من الأحرار
والمجربين، وقد كان أكبر رجاء لي في حكومتنا الجديدة: الإنصاف في اختيار
الموظفين من الأكفاء لاسيما المجربين في مثل مصر، ويتهمون الجمعية بأنها كانت
تبيع الوظائف العالية بالمال، والله أعلم بحقيقة الحال.
(3) إنها جعلت هم لجانها في جميع البلاد النفوذ في الحكومة، لا مجرد
المراقبة عليها؛ لئلا تخرج عن القوانين، ولا مساعدتها على حفظ الأمن الذي اختل
بعد إعلان الدستور في جميع الولايات، كل ولاية بحسب درجتها في الأخلاق وحال
الاجتماع.
(4) إنها لم تحسن الانتقاء والاختيار في تأليف شعبها ولجانها، فأدخلت
فيها كثيرًا من المتقهقرين أو الرجعيين، وعادت آخرين، ظهر في بعض لجانها
التعصب للجنس التركي، حتى كأن يكون الأعضاء من الترك هم أصحاب الشأن،
ومن معهم من غيرهم كالآلات. وقد سمعت كثيرًا من الشكوى في ذلك، فكنت
أدافع بالتي هي أحسن.
(5) حمل الضباط في جميع البلاد على الاشتغال بالسياسة، وجعل نفوذهم
هو الأعلى في لجان الجمعية، وهذا خطر على الدولة، كان يجب التشديد في منعه
والاكتفاء بأن يكون بين الجمعية وبين الضباط صلة خفية كما قلنا، وانصراف كل
إلى عمله: الضباط إلى العمل العسكري المحض الذي لا شائبة فيه للسياسة،
والجمعية لمراقبة سير الدستور من غير مشاركة للضباط في ذلك، فإن ظهرت قوة
تسعى لإلغاء الدستور وإبطال مجلس الأمة أو الاستبداد والظلم، جاز حينئذ استنجاد
الجمعية بالضباط لمقاومة ذلك، وأنه لا يختلف عاقلان من علماء الاجتماع في
وجوب منع الضباط من الاشتغال بالسياسة والإدارة، حتى إذا أبوا أخرجوا من
الجيش، وفي كون الجند الذي يدخل في الثورة يكون خطرًا على الأمة، فإذا لم
يتيسر إصلاحه حالاً، وجب إخراجه من الجندية أو قتله.
(6) تصرفها مع السلطان. انتقد عليها شيء منه، لا نحب الخوض فيه.
ولكننا نقول: إن الذين يرون أن السلطان هو روح الحركة التي وجهت في هذه
الأيام إلى إسقاط الجمعية، يقولون: لولا أنها أحرجته لما كان شيء من ذلك.
(7) سيرتها في حمل الناس على انتخاب المبعوثين: رأيت بعيني ذلك في
طرابلس، وقد كنت أدافع عن الجمعية بقدر الإمكان؛ لئلا تشتد الفتنة ويستشري
الفساد.
(8) طريقة تأييد نفوذ الجمعية في مجلس (المبعوثان) ؛ بما كاد يكون
مهددًا لسائر الأعضاء، سالبًا لاستقلالهم.
(9) اتهمت الجمعية أيضًا بالتعصب للجنسية التركية، وينقلون عنها أمورًا
كثيرة في ذلك، وهو أخوف ما نخافه على مستقبل الدولة، وربما شرحنا ذلك في
مقال خاص.
(10) العبث باستقلال الوزارة، بحيث كانت الجمعية مانعة من وجود
وزارة مستقلة مسئولة أمام مجلس الأمة وحده عن عملها.
(11) الجهل بمداراة الشعور الديني في الأمة، قد أظهر بعض أعضائها
المشهورين أمورًا منكرة في نظر الدين، جعلت لأعدائها مجالاً واسعًا للتنفير منها،
وقد اعترفت هي اليوم بهذا التقصير.
(12) ظهورها بمظهر السلطة المستبدة غير المسئولة، حتى صرت تسمع
من العثماني الحر والمتقهقر، ومن الأجنبي المتطرف والمعتدل، هذه الكلمة التي
أذاعتها الجرائد: إن جمعية الاتحاد والترقي قد أزالت استبداد المابين، وأدالت منه
استبدادها هي، وتفرع عن هذه الكلمة كلام كثير منه قول الكثيرين: إن استبداد
السلطان ابن السلطان ابن السلطان أهون علينا من استبداد أوشاب من الناس، لا
يُعرفون، فإن السلطان أشرف منهم، والذل له أقل عارًا من الذل لهم، وإرضاءه
أسهل من إرضائهم؛ لأنه شخص واحد يمكن أن يعرف ما يرضيه، ولا يعرف ما
يرضي هؤلاء الكثيرين.
هذا مجمل ما خطر في بالنا الآن؛ من أقوال الناس في جمعية الاتحاد والترقي
بعد ذلك الإجماع على الثناء في أول العهد بإعلان الدستور، فهل يعقل أن يكون كله
كذبًا واختراعًا من الجماهير المتفرقين في ولايات وممالك كثيرة؟ وإلا فما سبب
شيوعه، واللهج به في البلاد والممالك.
لم يحصل بعد الدستور شيء من السلطة يحمد إلا: هدوء الآستانة، وحسن
السير في حل مشكلتي البوسنة والبلغار، كان الفضل الأكبر في ذلك لكامل باشا.
ولكن الجمعية لم تلبث أن أسقطت كامل من كرسي الصدارة وغيرت وزارته؛ لأنه
كان معارضًا لنفوذها الفعلي في الحكومة، فانتقد ساسة أوربا هذا العمل، وعدوه
استبدادًا من الجمعية في الحكومة، وقال بمثل قولهم كثير في الدولة؛ لأنهم لم
يصدقوا أنه كان مضادًّا للدستور كما ادعت.
ثم قتل حسن بك فهمي رئيس تحرير جريدة سربستي غيلة، ففهم السواد
الأعظم في الآستانة وغيرها أن الجمعية هي التي قتلته؛ لأنه كان ينتقد أعمالها،
فامتد السخط عليها وانفجر بركانه، وكان بعض أعضاء الجمعية اقترح في مجلس
الأمة تقييد حرية المطبوعات، ونشر في أثناء ذلك مقال كامل باشا الذي بين فيه
سبب إسقاط الجمعية لوزارته، وما كان من شأنه وشأنها قبل ذلك، ولم تحسن
الجمعية التصرف في شأن حادثة قتل حسن فهمي؛ الذي عد قتلاً للحرية الشخصية
واستقلال الفكرة، فثارت الآستانة على الجمعية، وكان وراء هذه الثورة يوم دفن
حسن بك فهمي، فسقطت وزارة حسين حلمي باشا التي هي وزارة الجمعية، بعد
أن أهين لمروره بمركبته من حيث تشيع الجنازة، وعدم حضورها تبعًا لزعماء
الجمعية الذين لم يحضروها، وفر أعضاء الجمعية هاربين من الآستانة، وقتل
كثيرون من البرآء وجرح آخرون، ودمرت أندية الجمعية، وإدارات بعض
جرائدها، واستحوذ الرعب على أهل العاصمة، وخافوا من سوء العاقبة.
سواء صح ما قيل في الجمعية كله أم صح بعضه، فإن حسنتها التي لا
ينازعها فيها أحد: هي أنها هي التي أخذت الدستور باليمين فلا تهبه بالشمال، فهي
أحرص على حفظه وبقائه من جميع العثمانيين، وهو الآن كالطفل يحتاج إلى تربية
وكفالة، وله أعداء فيحتاج إلى دفاع وحماية، فإذا قيل: إن الحكومة المسئولة
ومجلس الأمة يقومان بتربيته، فهل يستطيع أحد أن ينكر اختصاص الجمعية بالقدرة
على كفالته؟ وهل جاءتها هذه القدرة إلا من الجيش؟
إذًا لا بد من بقاء الجمعية، ولا بد من بقاء صلتها بالجيش. ولكن لا يجوز
بحال أن تتداخل في أعمال الحكومة، ولا أن تعبث بحرية المجلس، ولا أن تدع
ضباط الجيش يشتغلون بالسياسة، ولا أن تقاوم من يخالفها في الرأي بالقوة، ولا
حاجة بها إلى ذلك في حماية الدستور. ولكن قد يشتهيه رجال من الجمعية؛ لأنه
من تمتع القادر المنصور.
لا يوجد في البلاد قوة يمكن أن تقف في طريق الجمعية إلا قوة السلطان في
العاصمة، وقوة عصابات الأشقياء في بعض الولايات. فأما العصابات فيمكن
تذليلها بالقوة ولو بعد حين. وأما السلطان فإنه بنفوذه المعنوي المصبوغ بلون الدين
وبأعوانه الكثيرين، وبماله الكثير، وبدهائه العظيم، يمكنه في كل وقت أن يعمل
عملاً كبيرًا، فهو أخوف ما يخاف على الدستور. إذا لم يخلص له، وللناس فيه
رأيان: أحدهما: إن إزالته من أمام الدستور ضرورية؛ فإن خطره دائم بدوامه.
وثانيهما: إنه يمكن أن يؤمن خطره بأمور ترضيه، كلها ترجع إلى أن يرى ما صار
إليه خيرًا مما كان فيه، ولا يتم ذلك إلا بتأمينه على نفسه ومنصبه، وتحامي جرح
وجدانه ولو مع إبعاد رجاله المدبرين للحكم السابق عنه، ولكن الجمعية جرحته
جروحًا نغارة، وأخرجت من قصره الحرس الذي يركن إليه، ويظن أن حياته
متوقفة عليه، فهل تطيب لها بعد ذلك نفسه، ويطمئن إليها قلبه؟ أم لا بد له من
الكيد لها، والسعي للانتقام منها؟
***
الجمعية المحمدية
وافتنا أنباء الآستانة وأنا في سورية: بأنه قد ظهر فيها جمعية جديدة سميت
بالجمعية المحمدية، غرضها المطالبة بالحكم بالشريعة وتطبيق القوانين عليها، فما
وجدتني مرتاحًا لهذا النبأ على أني قد وقفت نفسي على الدعوة إلى الإسلام والدفاع
عنه، والتوفيق بين أحكامه ومصالح البشر في كل طور من أطوارهم مهما ارتقت.
وما ذاك إلا لأنني خفت أن يكون الغرض الباطن منها محاربة الدستور باسم الدين،
كما أن نفسي لم تكن مرتاحة لجمعية الإخاء العربي - وأنا من صميم العرب -؛
لأنني خشيت أن تكون مفرقة بين العرب والترك، ومحركة للعصبية الجنسية التي
أخاف على الدولة شرها، وكنت أصرح برأيي بذلك في كل محفل ومقام.
سألني الأمير شكيب أرسلان عن رأيي في الجمعية المحمدية، ونحن في ملأ
بنادي الاتحاد العثماني ببيروت، فقلت: إن خوفي منها غالب على رجائي فيها،
فإن كانت تطالب مجلس الأمة بأن يأخذوا قوانين الدولة كلها من كتب الحنفية
بالشروط المعتمدة عندهم في الفتوى، فهذا حرج عظيم، وما أظن أن مؤسسيها في
درجة من الارتقاء يطلبون فيها المحافظة على أصول الإسلام الثابتة من الكتاب
والسنة، والاكتفاء بعدم الخروج بالقوانين عنها، بل لا أرى أنهم يرضون بذلك،
وإنني أقول: إنه ليس في ديننا شيء ينافي المدنية الحاضرة المتفق على نفعها عند
الأمم المرتقية إلا بعض مسائل الربا، وإنني مستعد للتوفيق بين الإسلام الحقيقي،
وكل ما يحتاج إليه العثمانيون لترقية دولتهم مما جربه الإفرنج قبلهم وغير ذلك.
لكن بشرط أن لا ألتزم مذهبًا من المذاهب بل القرآن والسنة الصحيحة. وأرجو أن
يكون ذلك مقبولاً عند جميع العناصر العثمانية؛ إلا المقلدين المتعصبين لمذاهبهم من
المسلمين، فأورد عليَّ بعض الحاضرين مسألة الشهادة، فأجبته بما أقنعه وأقنع
غيره من الحاضرين.
وقع ما كنا نخاف وأكثر، وظهر أن هذه الجمعية هي التي قامت بالفتنة
الحاضرة في الآستانة، حتى إنها استمالت العسكر الذي جاءت به جمعية الاتحاد
والترقي من سلانيك؛ لتحافظ به على الدستور، وعسكر الأسطول أيضًا، ولا غرو
فباسم الدين تقدر أن تستميل جميع عسكر الدولة، إن هي أدلت بخراطيمها إليه.
وتفيد أخبار الآستانة أن قائدها في هذه الفتنة هو مراد بك الداغستاني الشهير؛ الذي
كان من زعماء جمعية الاتحاد والترقي من بضع عشرة سنة، فخانها مع الخائنين،
وسلم أوراقها للسلطان، ورضي بأن يتقاضى منه مالاً على ذلك، بعد أن كان من
أشد المبالغين في الطعن فيه والتحريض عليه. وبعد الانقلاب طلب أن يدخل في
الجمعية؛ لما رأى من نفوذها (وهو كالدنيا مع القائم) فأبت عليه، فحاول الانتقام
منها وإحباط عملها. فهكذا يكون الرجال المصلحون! !
***
جمعية الأحرار
كان جميع طلاب الإصلاح من العثمانيين يلقبون بالأحرار، ثم تألف حزب
في الآستانة سمي بحزب الأحرار، وصار له جمعية خاصة به، والمشهور أن هذا
الحزب على رأي صباح الدين أفندي سبط آل عثمان الشهير فيما يعبر عنه بعدم
المركزية، كما نوهنا بذلك من قبل، فهو حزب سياسي لا خطر منه إن كان ظاهره
وباطنه سواء، وإن كانت ولايات الدولة غير مستعدة لأن تكون على رأيه برمته،
وكم في أوربا من حزب يدعو إلى رأيه سنين طويلة، ولا يضر الأمة مخالفته لرأي
السواد الأعظم ولسائر الأحزاب فيها. ولكن جمعية الاتحاد والترقي تشتد في مقاومة
هذا الحزب، حتى إنها اتهمت بقتل محرر جريدة سربستي كما علمت، وذلك غلو
كان من أسباب الفتنة الحاضرة، وهو قد اتهم أيضًا بالسعي في إسقاطها، ومن
الناس من يتهم بعض رجاله بمقاومة الدستور وما لنا وللتهم، فقد اتهم أحمد رضا بك
بمشايعة السلطان على هدم الدستور أيضًا.
***
الثورة العسكرية والفتن الداخلية
بعد كتابة ما تقدم، علمنا أن شيطان الاستبداد تمكن من إحداث ثورة عسكرية
في الآستانة، غرضها الظاهر إبادة جمعية الاتحاد والترقي، ويخشى أن يكون
الباطن محو الدستور وإعادة الاستبداد الماضي، على أن إسقاطها يعيده بالطبع.
وقد فر رجال الجمعية من الآستانة، ولجأوا إلى مركز قوتهم في سلانيك ثم زحفوا
بجيشهم على الآستانة؛ ليحكموا السيف والمدفع في الأمر، فنسأل الله لهم التوفيق
والنصر، وأن يحفظ الدولة من الخطر، وقد ولدت الثورة بالعاصمة فتنة في ولاية
أطنه، فهب الترك لذبح الأرمن، وهو عمل يتبرأ الإسلام منه ومن فاعليه. ولكنه
لا يسلم معه من طعن الأمم فيه، فبهمجية هؤلاء الأقوام صار المسلمون حجة على
الإسلام.
__________(12/233)
ربيع الآخر - 1327هـ
مايو - 1909م(12/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من جاوه
(س13-16) من صاحب الإمضاء في مالاغ (جاوه)
نؤمل من فضلكم، متع الله الوجود بوجودكم، وأفاض من بحر علومكم
وجودكم: أن تفيدونا عن حكم الله ورسوله في نكاح الرجل المسلم المرأة غير
المسلمة، هل يجوز أم لا، إذا وعدته بإسلامها بعد عقد النكاح، كما هو جارٍ عندنا
لاسيما من الصينيات؟ فهل يجوز له الهجوم على نكاحها وهي على دين قومها؛
أملاً في إسلامها بعدُ؟ وهل تستثنى من غير المسلمات الكتابيات، ومن هن
الكتابيات؟ فهل الإفرنج اليوم على اختلاف مذاهبهم في النصرانية وعقائدهم
وتبديلهم يعدون كتابيين؟ تفضلوا يا سيدي أفيدونا بحكم الله - تعالى - في هذه
المسألة، فهي وإن كانت واضحة لديكم، فهي لدينا من المعضلات، فلا تهملوها
وأخواتها لوضوحها لديكم ولعله سبق كلام فيها، فالمأمول الإعادة؛ لتعم الإفادة،
فنحن في قلق حتى يفد إلينا جوابك الشريف؛ لأن السؤال من الوقائع الحالية عندنا
اهـ.
ونسألكم أيضًا أطال الله بقاءكم: عن إجماع الهيئة في هذا العصرعلى كروية
الأرض ودورانها حول نفسها وغيرها. إني يا سيدي لم أكد أفهم التوفيق بين هذا
الإجماع وبين قول الله - سبحانه وتعالى - في قصة ذي القرنين {حَتَّى إِذَا بَلَغَ
مَغْرِبَ الشَّمْسِ} (الكهف: 86) ] وحَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ [وأين يكون المطلع
والمغرب إذا كان هناك للأرض كروية ودوران؟ وإذا قلنا: إن المطلع والمغرب
هنا بحسب مرأى العين لنا، فما ينثلج الصدر بهذا؛ لأن المطلع إذا كان بنسبة مرأى
العين لنا فهو بالنسبة لقوم آخرين هناك يسمى مغربًا، وكذلك المغرب، كيف هذا
والأخبار للعموم من غير نسبة لقوم دون آخرين، وكروية الأرض أظنها تمنع أن
يكون للشمس مطلع أو مغرب في محل الخصوص. تفضلوا بينوا لابنكم المخرج من
هذا الإشكال؛ لأني يا سيدي لسوء فهمي وسقم قريحتي حاولت التوفيق بينهما بنفسي،
ولم أظفر به، وكثيرًا ما حصل الخوض بين جماعة عندنا في هذه المسألة، وما
استطاعوا الخروج من ربقة الإشكال، وكلهم أشاروا على الحقير برفع هذا السؤال
لحضرتك، والمأمول أن تجبروا خاطرنا بالإفادة متع الله بكم آمين.
ونسألكم لا زلتم سراجًا للمهتدين عن الحضور في معرض إدارة الصور
المتحركة للتفرج عليها، هل هناك في الشرع الشريف ما يحظر علينا ذلك،
تفضلوا بينوا لنا حكم الله - سبحانه - فإن عثرتم على ما يعذرنا بين يدي الباري
(جل وعز) في حضورها، بينوه لنا، وما الأصل فيها التحريم أم الحل؟ بينوا
الجميع لنا على صفحات مناركم.
ونسألكم لا برحتم ملجأ لحل المعضلات في الخبر المبلغ بواسطة البرق، هل
يعتبر به عندنا في الشرع كالصلاة على الغائب المبلغ خبره بواسطة البرق، وما
يترتب على ذلك في الأمور الشرعية كالهلال في الصوم أو الإفطار، هل يجوز
الأخذ بذلك؟ تفضلوا وضحوا لنا الجميع، ولكم من الله جزيل الأجر ودمتم. ...
محمد بن هاشم بن طاهر
أجوبة المنار
زواج المسلم بغير المسلمة وهل الأوربيون نصارى
ذهب بعض السلف إلى أنه يجوز للمسلم أن يتزوج بغير المسلمة مطلقًا. لكن
الجمهور من السلف والخلف على حِل الزواج بالكتابية، وحرمة الزواج بالمشركة،
ويريدون من الكتابية اليهودية والنصرانية، وأحل بعضهم المجوسية أيضًا،
وبالمشركة الوثنية مطلقًا، بل عدوا جميع الناس وثنيين ما عدا اليهود والنصارى،
ومن الناس من قال: إنهم من المشركين. ولكن التحقيق أنهم لا يطلق عليهم لقب
المشركين؛ لأن القرآن عندما يذكر أهل الأديان يعد المشركين أو الذين أشركوا
صنفًا، وأهل الكتاب صنفًا آخر، يعطف أحدهما على الآخر، والعطف يقتضي
المغايرة كما هو مقرر. وكذا المجوس في قول، وسيأتي بيان ذلك.
والذي كان يتبادر إلي الذهن من مفهوم لفظ المشركين في عصر التنزيل
مشركو العرب؛ إذ لم يكن لهم كتاب، ولا شبهة كتاب بل كانوا أميين.
والأصل في الخلاف في المسألة آيتان في القرآن، إحداهما في سورة البقرة
وهي قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (البقرة: 221) ، الآية
الثانية في المائدة؛ وهي قوله عز وجل: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا
الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} (المائدة: 5) ، وقد زعم من حرم التزوج بالكتابيات: أن
هذه الآية منسوخة بتلك، وردوه بأن سورة المائدة نزلت بعد سورة البقرة، وليس فيها
منسوخ، فإن فرضنا أن أهل الكتاب يدخلون في عداد المشركين، يجب أن تكون آية
المائدة مخصصة لآية البقرة مستثنية أهل الكتاب من عمومها، وإلا فهي نص مستقل
في جواز التزوج بنسائهم.
وقد سكت القرآن عن النص الصريح في حكم التزوج بغير المشركات
والكتابيات؛ من أهل الملل الذين لهم كتاب أو شبهة كتاب: كالمجوس والصابئين
ومثلهم البوذيون والبراهمة وأتباع كونفوشيوس في الصين، وقد علمت أن علماءنا
الذين حرص بعضهم على إدخال أهل الكتاب في عداد المشركين، لا يترددون في
إدخال هؤلاء كلهم في عموم المشركين، وإن ورد في الكتاب والسنة ما هو صريح
في التفرقة والمغايرة. فكما غاير القرآن بين المشركين وأهل الكتاب خاصة، في
مثل قوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ
البَيِّنَةُ} (البينة: 1) وقوله {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً} (آل عمران: 186) وذكر أهل الكتاب بقسميهم في معرض
المغايرة في قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} (المائدة: 82) الآية،
كذلك ذكر الصابئين والمجوس وعدهم صنفين غير أهل الكتاب والمشركين
والمسلمين، فقال في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِين
َوَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج: 17) ، فهذا العطف في مقام تعداد أهل
الملل، يقتضي أن يكون كل من الصابئين والمجوس طائفتين مستقلتين ليسوا
من الصنف الذي يعبر عنه الكتاب بالمشركين وبالذين أشركوا.
وذلك أن كلا من الصابئين والمجوس عندهم كتب يعتقدون أنها إلهية. ولكن
بعد العهد وطول الزمان جعل أصلها مجهولاً، ولا يبعد أن يكون من جاؤوا بها من
المرسلين؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ
إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24) ، وقال: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (الرعد: 7) ، وإنما قويت فيهم الوثنية؛ لبعد العهد بأنبيائهم على القاعدة المفهومة
من قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ
وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ
فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) ومعلوم أن فسق الكثير من أهل الكتاب عن هداية كتبهم
ودخول نزغات الوثنية والشرك عليهم، لم يسلبهم امتيازهم في كتاب الله على
المشركين، وعدهم صنفًا آخر، كما أن فسق الكثيرين من المسلمين عن هداية القرآن
ودخول نزغات الوثنية في عقائدهم لا يخرجهم من الصنف الذي يطلق عليه لفظ
المسلمين ولفظ المسلمين ولفظ المؤمنين، وإن كانوا هم الذين يعنيهم الخطباء على
المنابر بقولهم: (لم يبق من الإسلام إلا اسمه) ، ويطبق العلماء عليهم حديث
الصحيحين: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع) ، قالوا: يا رسول
الله، اليهود والنصارى؟ قال: (فمن) وبهذا يرد قول من حاولوا إدخال أهل
الكتاب في المشركين وتحريم التزوج بنسائهم؛ مستدلين بقوله تعالى بعد ذكر اتخاذهم
أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله: (319 سبحانه وتعالى عما يشركون) ، فإن
إطلاق اللقب على صنف من أصناف الناس، لا يقتضي مشاركة صنف آخر له فيه
إن أسند إليه مثل فعله، كما بيناه في تفسير آية {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ} (البقرة:
221) ، لاسيما إذا كان الفعل الذي أسند إلى الصنف الآخر ليس هو أخص صفاته،
وليس عامًّا شاملاً لأفراده: كاتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابًا، يتبعونهم
فيما يحلون لهم ويحرمون عليهم، فإن وصفهم الأخص اتباع الكتاب، وإن كثيرين
منهم يخالفون رؤساءهم في التحليل والتحريم، ومنهم الموحدون كأصحاب آريوس
عند النصارى وقد كثر في هذا الزمان فيهم الموحدون القائلون بنبوة المسيح؛ بسبب
الحرية في أوربا وأمريكا، وكانوا قلة باضطهاد الكنيسة لهم.
والظاهر أن القرآن ذكر من أهل الملل القديمة الصابئين والمجوس، ولم يذكر
البراهمة والبوذيين وأتباع كنفوشيوس؛ لأن الصابئين والمجوس كانوا معروفين عند
العرب الذين خوطبوا بالقرآن أولاً؛ لمجاورتهم لهم في العراق والبحرين، ولم
يكونوا يرحلون إلى الهند واليابان والصين فيعرفوا الآخرين، والمقصود من الآية
حاصل بذكر من ذكر من الملل المعروفة، فلا حاجة إلى الإغراب بذكر من لا
يعرفه المخاطبون في عصر التنزيل من أهل الملل الأخرى، ولا يخفى على
المخاطبين بعد ذلك أن الله يفصل بين البراهمة والبوذيين وغيرهم أيضًا.
ومن المعلوم أن القرآن صرح بقبول الجزية من أهل الكتاب، ولم يذكر أنها
تؤخذ من غيرهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء (رضي الله عنهم)
لا يقبلونها من مشركي العرب، وقبلوها من المجوس في البحرين وهجر وبلاد
فارس، كما في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث. وقد روى أخذ النبي
الجزية من مجوس هجر أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم، من حديث
عبد الرحمن بن عوف أنه شهد لعمر بذلك عندما استشار الصحابة فيه. وروى
مالك والشافعي عنه أنه قال: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:
(سُنُّوا بهم سُنة أهل الكتاب) وفي سنده انقطاع، واستدل به صاحب المنتقى وغيره
على أنهم لا يعدون أهل كتاب، وليس بقوي فإن إطلاق كلمة (أهل الكتاب) على
طائفتين من الناس؛ لتحقق أصل كتبهما، وزيادة خصائصهما لا تقتضي أنه ليس
في العالم أهل كتاب غيرهم، مع العلم بأن الله بعث في كل أمة رسلاً مبشرين
ومنذرين وأنزل معهم الكتاب والميزان؛ ليقوم الناس بالقسط، كما أن إطلاق لقب
(العلماء) على طائفة معينة من الناس لها مزايا مخصوصة، لا يقتضي انحصار
العلم فيهم وسلبه عن غيرهم.
وقد ورد في روايات أخرى التصريح بأنهم كانوا أهل كتاب، قال في نيل
الأوطارعند قول صاحب المنتقى: واستدل بقوله (سنة أهل الكتاب) على أنهم ليسوا
أهل كتاب. ما نصه: لكن روى الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد حسن عن
عليٍّ: (كان المجوس أهل كتاب يدرسونه وعلم يقرءونه، فشرب أميرهم الخمر
فوقع على أخته، فلما أصبح دعا أهل الطمع فأعطاهم، وقال: إن آدم كان ينكح
أولاده بناته فأطاعوه، وقتل من خالفه، فأسري على كتابهم وعلى ما في قلوبهم منه
فلم يبق عندهم منه شيء، وروى عبد بن حميد في تفسير سورة البروج بإسناد
صحيح عن ابن أبزى. لما هزم المسلمون أهل فارس، قال عمر: اجتمعوا (أي
قال للصحابة اجتمعوا للمشاورة، كما هي السنة المتبعة والفريضة اللازمة) ، فقال:
إن المجوس ليسوا أهل كتاب فنضع عليهم الجزية، ولا من عبدة الأوثان فنجري
عليهم أحكامهم، فقال علي: بل هم أهل كتاب. فذكر نحوه لكن قال فوقع على
ابنته، وقال في آخره فوضع الأخدود لمن خالفه، فهذه حجة من قال كان لهم كتاب.
وأما قول ابن بطال: لو كان لهم كتاب ورفع لرفع حكمه، ولما استثنى حل
ذبائحهم ونكاح نسائهم. فالجواب أن الاستثناء وقع تبعًا للأثر الوارد؛ لأن في ذلك
شبهة تقتضي حقن الدم، بخلاف النكاح فإنه يحتاط له، وقال ابن المنذر: ليس تحريم
نكاحهم وذبائحهم متفقًا عليه ولكن الأكثر من أهل العلم عليه.
إذا علمت هذا، تبين لك: أن العلماء لم يجمعوا على أن لفظ المشركين
والذين أشركوا يتناول جميع الذين كفروا بنبينا، ولم يدخلوا في ديننا، ولا جميع
من عد اليهود والنصارى منهم، فهذا نقل صحيح في المجوس، ومنه تعلم أن
للاجتهاد مجالاً لجعل لفظ المشركات والمشركين والقرآن خاصًّا بوثني العرب، وأن
يقاس عليهم من ليس لهم كتاب، ولا شبهة كتاب يقربهم من الإسلام، كما أن أهل
الكتاب فيه خاص باليهود والنصارى، ويقاس عليهم من عندهم كتب لا يعرف
أصلها. ولكنها تقربهم من الإسلام بما فيها من الآداب والشرائع؛ كالمجوس وغيرهم
ممن على شاكلتهم، وقد صرح قتادة من مفسري السلف: بأن المراد بالمشركين
والمشركات في الآية العرب كما سيأتي.
وعلى هذا لا يكون قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (البقرة: 221) نصًّا قاطعًا في تحريم نكاح الصينيات الذي أكثر منه المسلمون في
الصين، وانتقل الاقتداء بهم إلي جاوه أو كاد، وقد كان ذلك من أسباب انتشار
الإسلام في الصين. ولا أدري مبلغ أثره في ذلك عندكم، وبنفي كونه نصًّا قاطعًا
في ذلك، لا يكون استحلاله كفرًا وخروجًا من الإسلام؛ وإلا لساغ لنا
أن نحكم بكفر من لا يحصى من مسلمي الصين.
هذا، وإن المشهور عند العلماء أن الأصل في النكاح الحرمة، وإن كان
الأصل في سائر الأشياء الإباحة، وعلى هذا لا بد من النص في الحل، ويمكن أن
يقال إذا لم تقل: بأن هذا يدخل في القاعدة العامة بأن الأصل الإباحة في كل شيء
حتى يرد النص بحظره، فإننا نرد الأمر إلى الكتاب العزيز، فنسمعه يقول بعد
النهي عن نكاح أزواج الآباء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ
وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ
الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ
فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَن
تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا
بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (النساء: 23-24) الآية.
فنقول على أصولهم: إن قوله تعالى {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء:
24) لا يخلو أن يكون قد نزل بعدما جاء في البقرة من النهي عن نكاح المشركات،
وفي سورة النور من تحريم نكاح المشركة والزانية أو قبله، فإن كان نزل بعده صح
أن يكون ناسخًا له، وإن كان نزل قبله يكون تحريم نكاح المشركة والزانية مستثنى
من عموم: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء: 24) بطريق التخصيص سواء
سمي نسخًا أم لا، كما يستثنى منه ما ورد في الحديث من منع الجمع بين البنت
وعمتها قياسًا على تحريم الجمع بين الأختين أو إلحاقًا به، وجعل ما يحرم من
الرضاع كالذي يحرم من النسب على القول المشهور في الأصول بجواز تخصيص
القرآن بالسنة، على أن الجمهور أحلوا التزوج بالزانية. وعلى كل حال، يكون نكاح
الكتابيات ومن في حكمهن (كالمجوسيات عند من قال بذلك كما نقل الحافظ ابن المنذر)
داخلاً في عموم نص: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء: 24) وأكد حل نكاح
الكتابيات في سورة المائدة التي نزلت بعدما تقدم كله.
وخلاصة ما تقدم أن نكاح الكتابيات جائز لا وجه لمنعه ونكاح المشركات
محرم، وكون لفظ المشركات عامًّا لجميع الوثنيات أو خاصًّا بمشركات العرب محل
اجتهاد وخلاف بين علماء السلف. قال ابن جرير في تفسير {وَلاَ تَنكِحُوا
المُشْرِكَاتِ} (البقرة: 221) وقال آخرون: (بل أنزلت هذه الآية مرادًا بحكمها
مشركات العرب، لم ينسخ منها شيء) وروى ذلك عن قتادة من عدة طرق، وعن
سعيد بن جبير ولكن هذا قال: (مشركات أهل الأوثان) ، ولم يمنع ذلك ابن جرير
من عده قائلاً: بأنها خاصة بمشركات العرب، ثم قال بعد ذكر سائر روايات الخلاف:
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله قتادة من أنه تعالى ذكره عنى بقوله: {وَلاَ
تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (البقرة: 221) من لم يكن من أهل الكتاب من
المشركات، وأن الآية عام ظاهرها خاص باطنها، لم ينسخ منها شيء. وأن نساء
أهل الكتاب غير داخلات فيها ... إلخ، ما أطال به في بيان نكاح الكتابيات.
هذا ما يظهر بالبحث في الدليل، ولكننا لم نطلع على قول صريح لأحد من
العلماء في حل التزوج بما عدا الكتابيات؛ والمجوسيات من غير المسلمين، قد صرح
بحل المجوسية الإمام أبو ثور صاحب الإمام الشافعي الذي تفقه به حتى صار
مجتهدًا، وصرحوا بأن تفرده لا يعد وجهًا في مذهب الشافعي؛ فالشافعية لا يبيحون
نكاح المجوسية فضلاً عن الوثنية الصينية.
ولا يأتي في هذا المقام قول بعض أهل الأصول: إن النهي لا يقتضي
البطلان في العقود والمعاملات وهو مذهب الحنفية، فإنهم استثنوا منه النكاح،
وعللوا ذلك بأنه عقد موضوع للحل، فلما انفصل عنه ما وضع له بالنهي المقتضي
للحرمة كان باطلاً بخلاف البيع؛ لأن وضعه للملك لا للحل، بدليل مشروعيته في
موضع الحرمة كالأمة المجوسية؛ فلذلك كان النهي عن شيء منه غير مقتضٍ
لبطلان العقد، فلا يقال عندهم: إن نكاح الصينية يقع صحيحًا وإن كان محرمًا.
وأما البحث في المسألة من ناحية حكمة التشريع، فقد عنى تعالى في ذلك آية
النهي عن التناسخ بين المؤمنين والمشركين في آية البقرة بقوله: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ
إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 221) ، وقد وضحنا
ذلك في تفسير الآية، وبينا الفرق بين المشركة والكتابية فيه فيراجع في الجزء الثاني
من التفسير (من ص 357-361) ، ومنه أن أهل الكتاب لكونهم أقرب إلى
المؤمنين شرعت مودتهم؛ لأنهم بمعاشرتنا ومعرفة حقيقة الإسلام منا بالتخلق والعمل
يظهر لهم أن ديننا هو عين دينهم مع مزيد بيان وإصلاح يقتضيه ترقي البشر،
وإزالة بدع وأوهام دخلت عليهم من باب الدين، وما هي من الدين في شيء. وأما
المشركون فلا صلة بين ديننا ودينهم قط. ولذلك دخل أهل الكتاب في الإسلام
مختارين بعدما انتشر بينهم، وعرفوا حقيقته، ولو قبلت الجزية من مشركي العرب
كما قبلت من أهل الكتاب، لما دخلوا في الإسلام كافة، ولما قامت لهذا الدين قائمة.
ومن الفرق بينهما في القرب من الإسلام أو الدعوة إلي النار: أن أهل الكتاب لم
يكونوا يعذبون من يقدرون عليه من المسلمين؛ ليرجع عن دينه، كما كان يفعل مشركو العرب.
ثم إن للإسلام سياسة خاصة في العرب وبلادهم؛ وهي أن تكون جزيرة
العرب حرم الإسلام وقلبه الذي تتدفق منه مادة الحياة إلى جميع الأطراف، وموئله
الذي يرجع إليه عند تألب الأعداء عليه؛ ولذلك لم يقبل من مشركي جزيرة العرب
الجزية، حتى لا يبقى فيها مشرك، بل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم: بأن لا
يبقى فيها دينان، كما بينا ذلك في الفتوى الرابعة المنشورة في الجزء الثاني
(ص 97) من هذا المجلد، وتدل عليه الأحاديث الواردة في كون الإسلام يأرز
في المستقبل إلى الحجاز، كما تأرز الحية إلى جحرها، وهذا يؤيد تفسير
قتادة المشركين والمشركات في الآية.
وإذ كان الازدواج بين المسلمين والمشركين ينافي هذه السياسة التي هي
الأصل الأصيل في انتشار الإسلام، وكان تزوج المسلمين بالصينيات مدعاة
لدخولهن في الإسلام، كما هو حاصل في بلاد الصين، فلا يكون تعليل الآية
للحرمة صادقًا عليهن، وكيف يعطى الضد حكم الضد؟ !
وقد حذرنا في التفسير من التزوج بالكتابية إذا خُشي أن تجذب المرأةُ الرجلَ
إلي دينها؛ لعلمها وجمالها وجهله وضعف أخلاقه، كما يحصل كثيرًا في هذا الزمان
في تزوج بعض ضعفاء المسلمين ببعض الأوربيات أو غيرهن من الكتابيات،
فيفتنون بهن وسد الذريعة واجب في الإسلام.
***
كروية الأرض ومطلع الشمس
مطلع الشمس المكان الذي تطلع منه، ومغربها المكان الذي تغرب فيه، وهو
يختلف باختلاف المواقع لكروية الأرض، إذ لو كانت سطحًا هندسيًّا لما حصل هذا
الاختلاف في المطالع والمغارب. ويعبر كل قوم عن مشرقهم ومغربهم بحسب ما
يرون وإن خالفوا فيه غيرهم، فيقول بعضهم: إن الشمس تطلع من جبل كذا،
وتغرب في البحر، وبعضهم غير ذلك. وإذا رحل أحدهم إلى أقصى ذلك المكان
من جهة المشرق، يقول: قد وصلت إلى مطلع الشمس، وقد تتعارف أمم كثيرة
تختلف مواقع بلادهم ومشارقها ومغاربها على تسمية قطعة من الأرض بالمشرق،
وقطعة بالمغرب، مع أن ما يسمونه مشرقًا يكون مغربًا لقوم آخرين، وما يسمونه
مغربًا يكون مشرقًا لقوم آخرين، كما سميت بلاد مراكش بالمغرب الأقصى، حتى
إن أهل أمريكا يعبرون عنهم بذلك وإن كانت في جهة المشرق منهم، ومثل ذلك
التعبير عن بلاد الدولة العلية مثلاً بالشرق الأدنى، وعن بلاد الصين بالشرق
الأقصى.
ويطلق الإفرنج لفظ الشرق على قارتي آسية وأفريقية، مع أن بعض بلاد
أفريقية هي في جهة الغرب من بعض بلادهم.
فإذا أريد بمطلع الشمس ومغربها في قصة ذي القرنين، ما كان يسمى في
بلاده مطلعًا ومغربًا صح ذلك، وإذا فرضنا أنه كان لهم عرف في المطلع والمغرب
كبعض العرف المشهور الآن صح ذلك. وإلا ظهر أن المراد بالمطلع والمغرب في
قصته؛ أقصى المشرق وأقصى المغرب الذي تيسر الوصول إليه بأسباب السياحة
والسفر التي كانت في عصره بالنسبة إلي بلاده، فكان في سياحته كالذين يحاولون
الآن اكتشاف القطبين الشمالي والجنوبي.
هذا وإن الإشكال الذي هو محل الوقفة عندكم، يرد على استعمال لفظ مطلع
أو مشرق ومغرب مطلقًا، كما أشرتم إلى ذلك، فإذا كنتم لا تجيزون استعمال هذه
الألفاظ إلا في حقيقة لا تختلف باختلاف البلاد، فقد خطأتم جميع البشر في عرفهم
واصطلاحهم، والخطب سهل، والمراد ظاهر، ولا مشاحة في الاصطلاح.
***
الصور المتحركة
لا نرى وجهًا للسؤال عن حِل رؤية هذه الصور أو حرمتها، فالأصل الحل،
إننا لم نسمع أحدًا من علماء المسلمين قال: إن النظر إلى الصور محرم، ولا وجه
لجعل الحركة سببًا للحرمة، ويظهر لنا من هذا السؤال: أنكم لستم جاهلين لإباحة
رؤية هذه الصور. ولكن عندكم أناسًا متنطعين، يحبون التحكم والإشراف على
المسلمين بالأمر والنهي من سماء الدين، فيحلون ويحرمون بغير علم، وما جرأ
أمثال هؤلاء في المسلمين على تحكمهم، حتى ضيقوا عليهم دائرة دينهم الواسعة إلا
التقليد الأعمى، ويزعم هؤلاء المعممون المقلدون أن الاجتهاد هو الذي يضيِّع على
العامة دينهم، ويكثر الذين يتحكمون في شريعتهم، والأمر بالعكس، فإن الذي لا
يقبل منه القول إلا بالدليل، لا يستطيع أن يتحكم، ولا أن يعبث، كالذي يقول قوله
بلا دليل بدعوى: أن طلب الدليل نزوع إلى الاجتهاد الممنوع.
***
الأخبار البرقية
هذه الأخبار التي تبلغ بالآلات الكهربائية التي يعبر عنها بما ذكر والتلغرافات
هي قطعية الأداء، فكل من تثق بخبره إذا كلمك بلسانه، تثق بخبره الذي يبلغه
بالبرق، لا يتردد في هذا أحد في العالم المستعمل فيه التلغراف، ومتى صدق
الناس الخبر تبعه العمل بما يترتب عليه من الأحكام الشرعية، لاسيما إذا كان من
جهة رسمية يطرد صدق برقياتها، وكيف تطيب نفس المسلم أن يفطر في نهار بلغه
في ليله خبر برقي برؤية هلال رمضان، فصدقه تصديقًا تامًّا لا شبهة فيه ولا
احتمال (وراجع المبحث في 697 م7) .
__________(12/260)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من الجبل الأسود
(س من 17-20) من ح. ح. في نقشيك
ما قولكم دام فضلكم، ونفع المسلمين بعلومكم فيمن يخطب بالعربية في أرض
الترك، ثم يترجم بعض ألفاظ الخطبة باللسان التركي ليفهمها الحاضرون؛ لأنهم لا
يفهمون إلا باللسان التركي، ولا سيما بعض الأحكام اللازمة كصدقة الفطر مثلاً، فهل
يمنع من هذه الترجمة المذكورة وإدخال الألفاظ التركية خلال الخطبة؟
وفيمن يفتي الناس بجواز الجهر بالتكبير في الأسواق عند تشييع الحجاج في
سفرهم إلى الحج من بلادهم، مع ما يترتب على الجهر المذكور من المفاسد التي
منها: امتهان الاسم الشريف في محل القاذورات وذلك مناف للتعظيم، ومنها أن
يكون سببًا لاجتماع النساء والرجال، ومنها ضحك الكفار واستهزاؤهم بذلك الذكر
الشريف، فيكون سببًا لهذا الاستهزاء، وربما وقعت الفتنة بين القبيلين بسبب ذلك
وهل العمامة المسنونة يلزم فيها تغطية جميع الرأس، حتى لا يبقى من القلنسوة شيء
أم السنة هو الوجه المعتاد عند أهل الحرمين وغيرهم من استدارتها على الرأس،
وترك أعلى القلنسوة من غير تغطية.
وهل الإعلان بموت الميت على المنابر: بالصلاة والسلام عليك يا رسول الله
جائز أم مكروه؟ أفتونا مأجورين.
أجوبة المنار
ترجمة الخطبة بالأعجمية
لا يمنع الخطيب في مثل الحالة المسؤول عنها من ترجمة أحكام الخطبة؛ لأن
الضرورة تلجئ إلي ذلك، ما دام المسلمون مقصرين في تعلم لغة دينهم، وإلا كانت
الخطبة عند أولئك الترك وأمثالهم من الأعاجم رسمًا صوريًّا، لا تحصل به الفائدة
المقصودة من الخطبة، وبعض الأعاجم يحتاط فيترجم الخطبة ويشرحها بعد صلاة
الجمعة، وبلغني أنهم يفعلون ذلك في الصين.
***
التكبير عند تشييع الحجاج
التكبير عند تشييع الحجاج ليس مطلوبًا شرعًا، ولا يمنع إذا لم يتخذ
شعارًا دينيًّا، ولم يترتب عليه مفسدة، فإن اتخذه قوم شعارًا دينيًّا، يرون
أنه لا بد منه شرعًا أو ترتبت عليه مفسدة منع منه. ولو كان مطلوبًا شرعًا كما
يطلب في الأيام المعلومات؛ لما صح أن يكون من موانعه اجتماع النساء
والرجال، ولا ضحك الكفار {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} (المطففين: 29-30) والامتهان
لا يتحقق إلا في نحو الحانات أو الكنف، وما يعد في العرف العام إهانة.
وأما الفتنة، ويعني بها السائل فيما يظهر التخاصم الذي ربما يؤدي إلى
الضرب أو القتل، فهي محل النظر لا في موضوع السؤال، بل في شعائر الدين
الثابتة: كالأذان والصلاة والتكبير في العيد، فإذا كان الكفار يؤذون المسلمين
لقيامهم بشعائر الإسلام وفروضه، وجبت عليهم الهجرة من دار الكفر والتعصب إلى
حيث يكونون في أمان وحرية في دينهم، وقد زدنا هذه الفائدة في الفتوى؛ عملاً
بالسنة من جواب السائل، بل كثر مما سأل عنه عند الحاجة إلى ذلك.
***
العمامة المسنونة
العمامة (بكسر العين) هي كما قال بعضهم: كل ما يعقد على الرأس سواء
كان تحت المغفر أو فوقه، أو لما يشد على القلنسوة أو غيرها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس العمامة فوق القلنسوة تارةً، ويلبسها
بغير قلنسوة تارة أخرى، كما لبس القلنسوة بغير عمامة، وفي حديث عمرو بن
حريث في صحيح مسلم قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر
وعليه عمامة سوداء، قد أرخى طرفيها بين كتفيه) وفي حديث جابر عند مسلم
أيضًا: أنه دخل مكة وعليه عمامة سوداء، ولم يذكر أنه كان لها ذؤابة بين كتفيه،
قال ابن القيم: فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائمًا، وكان يلتحي بالعمامة
تحت الحنك أحيانًا، ومن فوائده أنه يمنع السقوط. ويحصل الغرض من لبسها بأية
كيفية كانت وورد في العمامة عدة روايات ضعيفة واهية , وهي من العادات لا من
أمور الدين ولكنها زي المسلمين الأولين، ومفيدة في حفظ الرأس من الحر.
***
إعلان الموت على المنارة
هذا العمل بدعة، لم يأذن بها الله - تعالى - ولا مضت بها سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وإنما نقول: إنه بدعة إذا أتى به على أنه مطلوب دينًا بهذه
الصفة؛ أي جعله في مكان أداء شعيرة الأذان وقرنه بأذكار مخصوصة. أما
الإعلام بالموت لأجل أن يسعى من يعلمون به إلى تجهيز الميت ودفنه والصلاة
عليه فذلك مشروع، وإن ورد في بعض الأحاديث النهي عن النعي، وهو في اللغة
الإعلام بالموت وإذاعته، فالمراد به نعي الجاهلية.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: إنما نهى عما كان أهل الجاهلية
يصنعونه، وكانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت، على الدور والأسواق،
ومن ذلك أنهم كانوا يرسلون راكبًا فيقول: (نعاء فلان) ويطلق النعي على أخذ
الثأر، فقد كانوا نعوا القتيل، ويحرضون على الثأر له وقال ابن الأثير: إن النعي
الإعلام بالموت والندب وقال أبو بكر العربي: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث
حالات:
(الأولى) إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح فهذا سنة.
(الثانية) الدعوة للمفاخرة بالكثرة، فهذا مكروه.
(الثالثة) الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك؛ فهذا حرام اهـ. نقل ذلك
عنه الشوكاني وقال بعده وبعد نُقُول أخرى: فالحاصل أن الإعلام للغسل والتكفين
والصلاة والحمل والدفن مخصوص من عموم النهي؛ لأن إعلام من لا تتم هذه
الأمور إلا به مما وقع الإجماع على فعله في زمن النبوة وما بعده، وما جاوز
هذا المقدار فهو داخل تحت عموم النهي اهـ. فعلى هذا يكون الإعلام المسؤول
عنه منهيًّا عنه، فأقل حالاته أن يكون مكروها , وعندي أنه يباح للناس أن
يُعْلِمُوا مَن لا يتولون ما ذكر من الأعمال، ولو للتباهي بكثرة المشيعين
والمعزين بشرط أن لا يجعلوا ذلك من الدين.
__________(12/270)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الرقص والتغني والإنشاد في مجلس الذكر
أرسل إلينا السؤال الآتي من بعض البلاد العربية؛ لنعرضه على علماء
الأزهر، فأفتى فيه من اطلع عليه بما ترى في الجواب، وهذا نص السؤال.
بسم الله الرحمن الرحيم
ما قول العلماء الأعلام السادة الكرام في قوم عوامّ يجتمعون وينشدون
بالألحان المحدثة، والنغمات المطربة، ويصفقون بالسبح، ويتمايلون بتكسر وتثن
هل فعلهم جائز أيضًا، وإذا قلنا بكراهة ذلك في أحد المذاهب الأربعة؛ هل يجوز
للإنسان التقليد ليرقص مثلهم , وما الحكم في مذهب الإمام مالك بالرقص إذا كان
بتكسر وتثن؛ كرقص المخنثين، هل هو حرام أو مكروه فقط، أفيدونا بالجواب
الشافي لا خلت منكم الديار في جميع الأقطار.
الجواب
الحمد لله أما بعد، فقد سُئل الطرسوسي - رحمه الله - في مثل ذلك، فقال
مذهب الصوفية: إن هذا بطالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم. إن الرقص والتواجد أحدثهما أصحاب السامري، لما اتخذ
لهم عجلاً جسدًا له خوار فأتوا يرقصون حوله ويتواجدون، والرقص دين الكفار
وعباد العجل، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد
وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم لا يعينهم على
طلبهم.
وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم. قال العلامة ابن حجر
الشافعي: هذا هو الحق وغيره هو الباطل، وأن الرقص بتكسر أو تثن
حرام على الرجال والنساء.
وقال العز بن عبد السلام: أما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشابهة
لرعونة الإناث، لا يفعلها إلا أرعن أو متصنع جاهل، إن الشريعة لم ترد
بهما في كتاب ولا سنة، ولا فعل ذلك أحد من الأنبياء. وإنما يفعله الجهلة السفلاء
الذين التبست عليهم الحقائق بالأهواء، وأما نشيد الأشعار بتلك الألحان
المحدثة والنغمات المطربة فهو حرام؛ لا يفعله إلا أهل الفسق والضلال. إن
هذا الغناء المنهي عنه.
قال القرطبي في نحوه: أفتى الإمام مالك بالحرمة؛ وهو مذهب أهل
المدينة والنخعي والشعبي وسفيان الثوري وأبي حنيفة وأهل الكوفة ولكل من الشافعي
وأحمد قول بمثل ذلك، ونص على الحرمة الإمام الرافعي في (الشرح
الكبير) ، والنووي في (الروضة) ، وقال الإمام الأذرعي: إنى أرجح تحريم
النغمات الملحنة وسماعها.
قال عليه الصلاة والسلام: (إن الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء
البقل) . وقال أبو العباس القرطبي: الغناء لم يكن من عادة النبي صلى الله عليه
وسلم , ولا فعل بحضرته ولا اعتنى بمن يفعله، فليس ذلك من سيرته ولا سيرة
خلفائه من بعده، ولا من سيرة أصحابه، ولا عترته، ولا هو من شريعته بل هو
من المحدثات التي هي بدعة وضلالة، وقد يتعامى عن ذلك من غلب عليه الهوى
قال عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) .
وإن رجلاً استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الغناء من غير فاحشة،
فقال: (لا آذن لك) ، ثم توعده إن عاد إليه بالضرب الوجيع، وحلق رأسه تمثيلا به
تعزيرًا، وبالنفي عن أهله، وبإحلال سلبه لفتيان المدينة. ثم قال عنه وعن أمثاله:
(هؤلاء العصاة) . ثم توعدهم بأن من مات منهم بغير توبة حشره الله
يوم القيامة كما كان في الدنيا مخنثًا عريانًا، كلما قام صرع.
ومن أدلة التحريم قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ} (الإسراء: 64) فسره مجاهد بالغناء والمزامير، ومنها قوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا
الحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} (النجم: 59-61)
أي مغنون على لغة حمير، كما قال عكرمة وابن عباس وقال مجاهد: هو الغناء بلغة
أهل اليمن.
من هذا كله تعلم أن المذاهب كلها على تحريم ما يصنع أمثال هؤلاء، وأن
فعلهم هذا ممقوت عند الله وعند العلماء والعقلاء , وأن مجلسهم مجلس الشيطان لا
مجلس الرحمن , ولا يجوز إفشاء السلام عليهم؛ لأن بينهم وبين الشريعة حربًا
عوانًا، والمحارب لا سلام ولا أمان له , فيترك السلام خوف أن يظنوا أنهم محقون
مكرمون مرضي عنهم، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يقلدهم في هذه الأباطيل مسلم
يؤمن بالله واليوم الآخر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الغني محمود المالكي
... ... ... ... ... ... ... ... ... بالأزهر
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... ... حسين والي الشافعي
... ... ... ... ... ... ... ... المدرس بالأزهر
***
العمل المذكور بالسؤال غير مشروع عند الحنفية
... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه ...
... ... ... ... ... ... ... عبد الباقي المغربي الحنفي
... ... ... المدرس بالأزهر
(المنار)
هذا التشديد في الغناء خاص بمن يفعله على أنه عبادة ودين كبعض المتصوفة
وكذا شدد فيه بعضهم مطلقًا، وقد فصلنا القول فيه تفصيلاً في الجزأين الأولين من
المجلد التاسع , وخبر الذي استأذن الرسول بالغناء لا يصح؛ وإنما ذكره تقوية
للتنفير.
__________(12/273)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إحدى الكبر وكبرى العبر
خلع عبد الحميد خان. نفيه من دار السعادة. وضعه تحت المراقبة العسكرية
ضبط أمواله وذخائره وعقاره. إباحة يلدز للأمة. تولية مولانا السلطان محمد
الخامس.
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن
تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26) .
جلت قدرة الله ونفذت مشيئته، وغلب قدره وعلت كلمته، جعل الأيام دولاً،
وجعل للدول نواميس وسننًا، فلا مبدل لسننه ولا محول لنواميس خلقه، فلا يغرنك
إملاءه للظالمين، واستدراجه للمفسدين {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ *
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ
يَأْتِيهِمُ العَذَابُ} (إبراهيم: 42-44) .
لا ينفع من قدره حذر، ولا ينفذ من محيط سننه سلطان البشر، فلا يهولنك ما
ترى من رسوخ الاستبداد، ولا يويئسنك ما تشاهد من غلبة الاستعباد، ولا يفزعنك
ما ترى من الحصون والأجناد، فقد مضت سنة الله بأن الشيء إذا جاوز حده جاور
ضده، وأن شدة الضغط توجب شدة الانفجار، وأن الأعمال بالخواتيم
{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) ، {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (الرعد: 25) .
ألا وإن مشيئته في إيتاء الملك ونزعه، وخفض الملك ورفعه، واعتزاز
السلطان وإذلاله، ليست مشيئة استبدادية مغيرة لسننه الاجتماعية، وإنما جعل لكل
شيء سببًا، ولكل أمر مقادير وسننًا، فما من أمة تفرقت كلمتها، وغلب عليها
الجهل بحقوقها، واعتقاد وجوب التقديس لأمرائها وملوكها، وكثر فيها المنافقون،
وقل فيها الصادقون، إلا وابتليت بالمستبدين ومنيت بالظالمين، يسومونها سوء
العذاب، ويقطعون بها الأسباب، فيأكلون الأموال، ويستذلون الرجال، ويجعلون
الحرائر إماء، ليتمتعوا بالمئات من النساء، ويعبثون بالشريعة والقانون، ويجنون
على الأخلاق والآداب، فيذلون أمتهم ويضعفون دولتهم، فإذا استيقظت الأمة من
سباتها، واجتمعت بعد شتاتها، وعرفت حقوقها، وغيرت ما بأنفسها من تقديس
السلاطين، وأرادت أن تجعل الحكم فيها للشريعة والقوانين , فإن الله يغير ما بها
من الذل والعبودية، فتستبدل بهما العز والحرية، من حيث يذل ظالميها، ويهلك
مذليها {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ
مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد: 11) .
لقد صدقنا وعده ووعيده، وأرانا بأعيننا مصداق كتابه، فهذا عبد الحميد خان
وأعوانه وقرناؤه وخصيانه وجواريه وغلمانه قد بغوا في الأرض، وتركوا السنة
والفرض، وعطلوا الشريعة والقوانين، واستبدوا بجميع العثمانيين، وجمعوا
القناطير المقنطرة من الأموال، وحشدوا لحمايتهم الألوف المؤلفة من الرجال،
وأقاموا حولهم المعاقل والحصون؛ ليمنعوا أنفسهم أن يصول عليها المظلومون،
{وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
نعم.. إن في ذلك لكبرى العبر، لمن يعقل ويتدبر {كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ
أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لإِحْدَى الكُبَرِ * نَذِيراً لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن
يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} (المدثر: 32-37) فقد أدبر ليل الظلم والاستبداد، وأسفر صبح
الدستور، فميز بين الإصلاح والإفساد، وذهب الغي وجاء (الرشاد) ، وكانت هذه
الحركة العثمانية إحدى الكبر، نذيرًا للمستبدين من البشر، تعلمهم أنه لا ينفع حذر
من قدر، كما تعلم من شاء أن يتقدم أو يتأخر من الأمم؛ كيف يكون السير في
الطريق الأمم، وإنما مدار التقدم والتأخرعلى العدل والاستبداد، ورسوخ جذور
إحدى الكلمتين في البلاد، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ
وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن
قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ
الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم: 24-27) .
لقد ذهبت هذه العبرة بأعذار اليائسين من روح الله، وتعلات القانطين من
رحمة الله الذين يتركون العمل، ويتفيئون ظلال الكسل، إذا غلقت في وجوههم
الأبواب، وتقطعت بهم الأسباب؛ جهلاً بعناية الله بالإنسان وسننه في نظام الأكوان
فها نحن أولاء قد رأينا عبد الحميد خان قد غلق جميع الأبواب التي يتصورالتوصل
منها إلى خلعه، وقطع جميع الأسباب التي يتخيل أنها تفضي إلى أخذه، حتى إنه
منع الاجتماع والجمعيات، وحجرعلى كثير من الألفاظ والاصطلاحات، فأبطل من
المحاكم الشرعية لفظ الحجر والجنون، وأن يحكم بالحجرعلى مجنون، ومنع لفظ
المخالعة والخلع [1] منها، ومما يطبع من كتب الشرع؛ لأنه يذكر بلفظ الخلع
(بالفتح) ، كما أبطل من جميع المطبوعات أمثال هذه الكلمات؛ عبد الحميد،
سلطان. (إلا عند ذكره) مراد. رشاد. ثورة. حرية. جمعية. مبعوثان ... إلخ
إلخ، وكان لمراقبي الجرائد في ذلك من الأمر والنهي والإثبات والمحو، ما يضحك
الثكلى، ويبكي اليائس الذي جاءته البشرى، وأمر بحذف دعاء القنوت من كتب
التعليم، وكلمة خلع النعلين مما يطبع من كتب الفقه والحديث؛ لئلا يخطر خلعه في
البال، عند ذكر خلع النعال، أو يسبق فهم المتعلمين أو المصلين، أن كلمة
(ونخلع من يفجرك) في القنوت، توجب خلع الفجارمن السلاطين، هكذا رأيناه قد
اتقى كل شيء إلا الله {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ} (القصص:
81) ، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (البقرة: 270) .
عز عليه أن يسلب بالدستور والحرية ما كان ينتحله من صفات الربوبية؛
ككونه يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، ولا حدود
لأمره ونهيه، يحمد على السراء والضراء: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) يعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويصل ويقطع ويفرق ويجمع،
ويخفض ويرفع، يسلب من يشاء ما يشاء، ويقتل من أراد متى أراد، ويبعد من
يكره، ويقرب من يحب، فرأى بعد الدستور أن أمر الشريعة والدستور فوق أمره،
وأن نفوذ جمعية الاتحاد والترقي فوق نفوذه، وأن الألسنة والأقلام التي كانت
مكرهة على ترتيل آيات إطرائه ترتيلاً، والتسبيح بحمده بكرة وأصيلاً، صارت
تسمي أعماله ووقائع عصره بأسمائها، بعد أن كانت تطلق عليها أسماء أضدادها،
إذ كانت تسمي الظلم عدلاً، والنقص فضلاً، والجهل علمًا، والسفاهة حلمًا،
والباطل حقًّا، والكذب صدقًا، والإفساد إصلاحًا، والخسر فلاحًا والتخريب عمرانًا،
والإساءة إحسانًا، إلى غير ذلك.
راعه أن يكون بشرًا يوصف بصفات البشر، وأن تكون رعيته من جنسه لا
من الغنم والبقر، فضاق بهذا الدستور صدرًا، وعجز عن مبارزته جهرًا، فلجأ إلى
الكيد والاحتيال، وفتح ما ادخره لمثل هذا اليوم من كنوز الأموال، فألف بها
الجمعية المحمدية، وبث دعاتها في العاصمة وجميع الولايات العثمانية، فطفقوا
يوسوسون لعامة المسلمين: أن الدستور مناف للدين، وأن جمعية الاتحاد تريد بث
التعطيل والإلحاد، وتحويل الحكومة الإسلامية إلى حكومة أوربية، بل بثوا فتنهم
في الجيش فشقوه نصفين، ودبروا مكيدةً لإيقاع المذابح بين العنصرين: (المسلمين
والنصارى) ، {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ
الجِبَالُ} (إبراهيم: 46) أما لو وقعت الواقعة، وقرعت الدولة هذه القارعة؛
لرجت الأرض رجًّا، وبست البلاد بسًّا [1] فكانت هباء منبثًّا [2] ولكن لطف الله بهذه
الأمة، وأراد إنقاذ هذه الدولة فانهتك الستر، وانكشف السر، وظهرت بوادر الثورة
على الدستور في القسطنطينية، قبل أن تصل دعاتها إلى جميع الولايات العثمانية،
فقتل الثائرون بعض أعضاء مجلس النواب، ودمروا على نادي جمعية الاتحاد،
فتبروا ما علوا تتبيرًا، وكادوا يدمرون المعاهد تدميرًا، فأرز [3] أهل التدبير إلى
سلانيك وهي مصدر الدستور، ومطلع هذا النور، واستصرخوا ذلك الجيش
المنصور، فلباهم سليل الفاروق، مبادرًا إلى فتح فروق، والقضاء الأخيرعلى
الاستبداد، واصطلام آخر جرثومة له في البلاد، والتنكيل بما له من الأحزاب
والأنصار {سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ القَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ
وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (الرعد: 10) [4] .
عبأ (محمود) الأمة، و (شوكة) الملة، تلك الكتائب الشعواء، وهي
كالقضاء المنزل من السماء، فكان هو منها كما قال شوقي من قبل في مدح جيش
عبد الحميد تبعًا لمدحه:
يقود سراياها ويحمي لواءها ... سديد المرائي في الحروب مجرب
يجيء بها حينًا ويرجع مرةً ... كما تدفع اللج البحار وتجذب
ويرمي بها كالبحر من كل جانب ... فكل خميس لجة تتضرب
وينفذها من كل شعب فتلتقي ... كما يتلاقى العارض المتشعب
ويجعل ميقاتًا لها تنبري له ... كما دار يلقى عقرب السير عقرب
فظلت عيون الحر حيرى لما ترى ... نواظر ما تأتي الليوث وتغرب
تبالغ بالرامي وتزهو ما رمى ... وتعجب بالقواد والجند أعجب
أو كما قال اليوم يخاطب هذا الجيش، مفتخرًا بعمله في أخذ عبد الحميد
وخلعه:
يا أيها الجيش الذي ... لا بالدعيّ ولا الفخور
يخفى فإن ريع الحمى ... لفت البرية بالظهور
كالليث يسرف في الفعا ... ل وليس يسرف في الزئير
الخاطب العلياء بالـ ... أرواح غالية المهور
عند المهيمن ما جرى ... في الحق من دمك الطهور
يتلو الزمان صحيفة ... غراء مذهبة السطور
في مدح (أنورك) الجري ... وفي (نيازيك) الجسور
(ياشوكت) الإسلام بل ... يا فاتح البلد العسير
وابن الأكارم من بني ... (عمر) الكريم على (البشير)
القابضين على الصليـ ... ـل كجدهم وعلى الصرير
هل كان جدك في ردا ... ئك يوم زحفك والكرور
فقنصت صياد الأسو ... د وصدت قناص النسور
وأخذت (يلدز) عنوة ... وملكت عنقاء الثغور
نعم.. كرَّ الفاروقي بجيشه وعيون الأمم الأجنبية شاخصة إليه، وقلوب
الشعوب العثمانية محومة عليه، وزحف على الآستانة مصوبًا مدفعه ممتشقًا حسامه
، فلقيته جنود عبد الحميد، وكانت الحرب كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود، فطل الأخ
دم أخيه، وخرق القريب صدر قريبه، فكانت جنودنا كما قال البحتري:
إذا اشتجرت يومًا ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها
ولكن شتان ما بين الباعثين، وما أبعد ما بين الداعيتين، ففريق ينصر الملة
بنصر الشورى والدستور، ويحمي الأمة بحماية مجلس المبعوثين. وفريق ينصر
الاستبداد بنصر ذلك الشبح البال، والمسرف العال، والخؤن الغال {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ
بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} (آل عمران: 13) .
أيد الله الحق على الباطل، ومكن جند الدستور من تلك الحصون والمعاقل،
حتى كأن قائده يحمل سيف جده عمر، الذي كتب الله له النصر والظفر، فكان هو
الفاروق الفاصل، بين العدل والظلم، والحق والباطل، وقد أعجب أهل الحرب في
أوربا بسرعة حركته، وحسن تعبئته، كما أعجب أهل السياسة بإحكامه للنظام،
وحفظه للأمن، وفرح العثمانيون بنصر الله الدستورعلى الاستبداد، وحكم الشورى
على حكم الأفراد {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ
* يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (غافر: 51-52) .
سقطت (يلدز) ذات الحصون المشيدة، والملاجئ المتعددة بعد أن حاصرها
جيش الدستور، وقطع عنها الزاد والماء والنور، وفيها أربعة آلاف من النساء
والغلمان والخصيان والأعوان، والحرس الداخلي والحجاب، والخدم والكتاب،
والسواس والحوذية، والأريسيين والبستانية، كانوا يأكلون كل يوم ما تشتهيه
الأنفس من أصناف الألوان، ويتمتعون بما أحبوا من بنات ألحان ومعتقات الدنان،
وقد استعد عبد الحميد فيها لكل شيء إلا الحصار، فإنه لم يكن في الحسبان -
وسبحان من لا يشغله شأن عن شأن - أراد أن يجعلها كجنة الخلد، فإذا هي يوم
الحصار دون جنة آدم في الأرض، فقد قال الله لآدم: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ
تَعْرَى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى} (طه: 118-119) وقد جاع وظمئ
في جنة عبد الحميد حتى الغادات، وصار من فيها كالسوائم يقتاتون بورق النبات،
نعم.. ذاقت يلدز طعم الجوع بعد أن كانت مئات الموائد توزع من فضلاتها على
الجموع، وتجيع الألوف من الجنود وغير الجنود، وذاقت لباس الخوف والرعب،
بعد أن كانت تخيف جميع الشعب، فصارت عبرة للمعتبرين، ومثلاً للآخرين
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (النحل: 112)
ولما ضيق عليها الحصار، ارتفع الصراخ والعويل، ممن قال فيهن شاعر
النيل:
أين الأوانس في ذراها ... من ملائكة وحور
المترعات من النعيم ... الراويات من السرور
العائرات من الدلال ... الناهضات من الغرور
الآمرات على الولاة ... الناهيات على (الصدور)
الناعمات الطيبات ... العرف أمثال الزهور
الذاهلات عن الزمان ... بنشوة العيش النضير
المشرفات وما انتقلن ... على الممالك والبحور
أمضى نفوذا من (زبيدة) ... في الإمارة والأمير
بين الرفارف والمشارف ... والزخارف والحرير
في مسكن فوق السماك ... وفوق غارات المغير
بين المعاقل والقنا ... والخيل والجم الغفير
سموه (يلدز) والأفو ... ل نهاية (النجم) المنير
دارت عليهن الدوائر ... في المخادع والخدور
أمسين في رق القبيل ... وبتن في أسر العشير
ما ينتهين من الصلا ... ة ضراعة ومن النذور
يطلبن نصرة ربـ ... ـهن وربهن بلا نصير
ولماذا صار ربهن عبد الحميد بلا نصير، ولا ولي ولا ظهير. الجواب من
سورة الشورى التي كان يمقتها: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (الشورى: 8) ، ومنها {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ
* وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (الشورى: 30-31) .
بعد أن ضيق جيش الدستور على يلدز الحصار، خيرها بين التسليم وبين
السيف والنار، فعلم ذلك العاهل، أنه جاء الحق وزهق الباطل، فأمر بالتسليم
مدعيًا إيثار السلام على الحرب والصدام، وأن العسكر المهاجم كالحرس من أولاده
لا فرق بين الداعم والهادم لاستبداده، فسلم من كان فيها من الجيش سلاحه وذخائره
مأسورًا، ثم خرج منها مذمومًا مدحورًا، وخرج وراءه رؤساء الموظفين والكتاب
والقرناء، فالخصيان والخدم فالنساء، كان عسكر الدستور يخرج كل فريق،
فيعرف غير النساء منهم فردًا فردًا، ويحصيهم بالمقابلة على الجداول التي بيده عدًّا
ثم يرسلهم محفوظين إلى المواضع التي أعدها لهم، إلى أن يصدر الحكم العمري
الفاروقي فيهم، بل ذلك حكم الله وسننه في نظام الاجتماع {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ
وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر: 18) وصدق عليهم بعد إباحة يلدز للأمة، ما نزل في
فرعون وقومه {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا
فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا
كَانُوا مُنظَرِينَ} (الدخان: 25-29) .
وقد وضع الفاروقي فروق تحت الأحكام العرفية، وشكل فيها المحاكم العسكرية
لمحاكمة منفذي الفتنة الحميدية؛ لإبطال حكومة الشورى الشرعية، وإعادة الأحكام
الشخصية الوثنية، وهذا أمر لا بد منه، ولا تقوم المصلحة العامة إلا به، والقتل
بهذه الأحكام العسكرية، هو من قبيل ما يطلق عليه الفقهاء اسم الأحكام السياسية،
وقد صرحوا بأنه يجوز قتل الثلث لإصلاح الثلثين، فإن قيل: إنها أحكام ربما
تصيب بعض البرآء، قلنا: وقد يقع مثل ذلك في أحكام القضاء {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ
تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الأنفال: 25) .
وقد كان من أمر الولايات العثمانية عندما علمت بكيد عبد الحميد خان للحكومة
الدستورية: أن كتبت إلى مجلس الأمة بوجوب خلعه، ونفض اليد من بيعته،
وإعلامه بأن الجنود مستعدة لمحاربته، والأهالي يتطوعون مع الجيش لمساعدته،
فلما أمن المجلس بأس ذلك السلطان، اجتمع المبعوثون والأعيان، واستفتوا شيخ
الإسلام، في خلع عبد الحميد وتولية رشاد، وهذه ترجمة الاستفتاء والفتوى بالعربية:
(إذا حذف زيد أمير المؤمنين بعض المسائل الشرعية المهمة من كتب
الشرع المقدسة، ومنع ومزق وأحرق الكتب المذكورة، وبذَّر وأسرف في بيت
المال بدون مسوغ شرعي، وقتل وسجن ونفى رعاياه بدون سبب شرعي وتعود
ارتكاب غير ذلك من المظالم الأخرى، ثم بعد أن أقسم بأن يرجع إلى الصلاح حنث
بيمينه، وأصرعلى إحداث فتن عظيمة تخل تمام الإخلال بانتظام أمور المسلمين
وأحوالهم، وحرض على المذابح، وإذا كانت الأخبار تتوالى من جميع أنحاء البلاد
الإسلامية طالبة خلعه؛ تخلصًا من ذلك الجور، وكان في بقائه ضرر محقق، وفي
زواله صلاح ملحوظ، فهل يجب تنفيذ ما يرجحه أرباب الحل والعقد وأولو الأمر؛
من إلزامه التنازل عن السلطنة والخلافة أو خلعه؟
(الجواب) : نعم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه الفقير السيد
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد ضياء الدين
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عفي عنه
بعدما تناول هذه الفتوى شيخ الإسلام التي هي أصح فتوى صدرت في هذه
الأزمان؛ لرد الشأن فيها إلى أولي الأمر، كما أمر القرآن، اختار أولو الأمر من
المبعوثين والأعيان، أن يخلعوا السلطان عبد الحميد الثاني؛ لأنه ثبت لديهم أنه
يصدق عليه ما ذكر في الاستفتاء من المظالم والمخازي، وأن يبايعوا بالخلافة
والسلطنة محمد رشاد أفندي ولي عهد المملكة. وهذه ترجمة قرار المجلس بالعربية.
في الساعة السادسة والنصف من يوم الثلاثاء، وهو السابع من شهر ربيع
الآخر سنة 1327 الموافق 14 نيسان سنة 1325 (مالية) ؛ تقرر في جلسة
المجلس الوطني العثماني المؤلف من مجلسي الأعيان والمبعوثين خلع السلطان عبد
الحميد الثاني، وإسناد السلطنة والخلافة إلى ولي العهد محمد رشاد أفندي باسم
(محمد الخامس) ، وذلك بناء على اختيار الخلع على التنازل الاختياري بالاقتراع
وهما الحلان المبينان في الفتوى المذيلة بتوقيع شيخ الإسلام محمد ضياء الدين
أفندي المتلوة في الجلسة.
ثم إن المجلس أرسل وفدين؛ لتبليغ قراره للسلطانين؛ ليعلما أن الأمر لأولي
الأمر، لا لرجل واحد يسمى ولي الأمر؛ لأن الله تعالى أسند في كتابه إلى الجمع،
ولم يسنده قط إلى الفرد؛ وليكون لأول عبرة للمستبدين الظالمين، والآخر سلفًا
ومثلاً للدستوريين الآخرين، فبلغ الوفدان القرارين ولسان الحال، يرتل قول الملك
المتعال {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ
وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26) .
دخلوا على عبد الحميد الجبار، الحقود المنتقم القهار، وهو في مأمنه الذي
ملأه بالمسدسات، وجعل فيه الملاجئ والمغارات والمُدَّخَلات، وله في كل حجرة
منه تمثال يمثله في حال من الأحوال، فمنها النائم على السرر المرفوعة، ومنها
المتكئ على الأرائك الموضوعة، ومنها المكب على كتابته، ومنها الممثل لقراءته
يحتاط بذلك لخيانة الجنود والأحراس، وغفلة الرقباء والأرصاد، حتى إذا ما دمر
عليه محتال، يحاول الفتك والاغتيال واتفق أن اهتدى إلى بعض حجراته التي يأرز
إليها في خلواته، يغره التمثال فيهجم عليه، فينفذ رصاص المسدسات الحميدية من
بين كتفيه، وإن عبد الحميد لا يخطئ المرمى، فقد تمرن على الرمي حتى صار
كبني ثعل أو أرمى دخلوا عليه فما وارته مخابئه ولا حمته مسدساته، ولا دافعت عنه
رجاله، ولا أغنت عنه أمواله، بل غلب على هذا المخلوع الجبن الخالع، فإذا هو
خاضع خانع، قد خرس لسان مقاله وقرأ لسان حاله {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ القَاضِيَةَ * مَا
أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} (الحاقة: 27-29) يتمنى لو كانت مكيدته
قضت على الدستور، وجعلت زعماءه وأنصاره من سكان القبور، ثم طلب أن يبقوا
عليه كما أبقى على أخيه مراد، ويحسنوا إليه لأنه بريء مما وقع من الفساد! ! ،
وطفق يلوك أباطيل الأعذار، ولو كان صادقًا لما انتهى إلى هذا (القرار) {أَمْ
نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 28) .
لماذا خضع وذل عبد الحميد وهو الجبار العنيد لذلك الوفد الذي لم يكن معه
غير ثلاثة من ضباط الجند؟ أتواضعًا كتواضع الخلفاء، أم هي شنشة الجبناء، إن
قدروا بغوا وعتوا، وإن عجزوا ذلوا وعنوا؟ أهذا هو السلطان المستبد، القاسي
المتكبر، الحريص على حياته، المحافظ بقوة الدولة ومالها على شخصه، هو
بعينه عبد الحميد، الذي دخل عليه وفد مجلس الأمة من غير معارضة ولا تفتيش،
فوقف أمامهم خاضعًا ضارعًا متوسلاً، يسألهم الإبقاء عليه، وترك روحه العزيزة
بين جنبيه؟ !
سبحانك اللهم ما أجل حكمتك، وما أعدل سنتك، ما أصدق وعدك ووعيدك،
فقد بينت لنا أن العاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وقلت {أَوَ لَمْ
يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ
قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} (غافر: 21) .
أين تلك القوة القاهرة، أين تلك الإرادة النافذة، أين تلك العظمة والكبرياء،
أين ذلك الشم والإباء، أين ذلك المسرف الغال؟ ، أين ذلك المعجب المختال، أين
السلطان عبد الحميد، الذي ظن أنه يبقى فعالاً لما يريد، فلم يكن يقبل أن يوجد في
المملكة من يقول: هذا نافع في السياسة وهذا ضار، وهذا حلال في تصرف الإدارة
وهذا حرام. أين السلطان عبد الحميد، الذي جعل نفسه هو الملك وهو الأمة، هو
القانون وهو الشريعة، الذي كان يرى أن الملك ملكه، والزمان غلامه، والناس عبيده
أو عباده، وأن له الحق أن يحرف كتب دينهم، وأن يغير أسفار تاريخهم وتاريخ
غيرهم. وإن عليهم أن يقابلوا إساءته بالشكر، وظلمه بالرضا والحمد، أين
السلطان عبد الحميد، الذي كان لا ينزل إلى موكب صلاة الجمعة في الأسبوع، إلا
بين صفوف من الجيوش كالبنيان المرصوص، فيحرم الصلاة على الألوف
من المسلين لأجل صلاته، التي يجعلها عنوانًا على خلافته، فيتزلف إليه فيها
بآيات معينة من القرآن، لا يتجرأ أن يتلو غيرها قارئ ولا خطيب ولا إمام،
ولو قرأ قارئ على مسمعه آية من الآيات التي تنذر الظالمين بالهلاك والدمار،
وتؤذنهم بالزوال والبوار، لأخذ منه باليمين، ولقطع منه الوتين، أو زجه في
ظلمات السجن، أو نفاه من الأرض. أين عبد الحميد الذي كان يزور الخرقة
النبوية الشريفة تذكيرًا للمسلمين بأنه هو الخليفة، فتحرس له الجنود طريقه إليها
طول السنة، فإذا قرب الموعد، أخليت من جانبيها الفنادق والدكاكين والأمكنة،
وغلقت الأبواب والنوافذ والكوى، وحشرت الجنود تملأ ما بين الرجا إلى الرجا؛
لئلا يطمع أحد بالدنو إليه، أو يكون في مكان أعلى منه {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ
وَمَا كَسَبَ} (المسد: 2) ، ولا وقاه ما أكدى وما وهب، ولا نفعه رأي ثقاته،
ولا سلاح حماته، بل سلمت فئته الباغية المغرورة، لفئة الدستور المنصورة،
وذم هو عمل منفذي فتنته، وتبرأ منهم، وزعم أنه كره عملهم. ولكن عجز
عنهم {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ
لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا
لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ العِقَابِ} (الأنفال: 48) .
بعد أسبوعين من خلع عبد الحميد، أنفذ الفاروقي حكم أولي الأمر بنفيه إلى
سلانيك، وأُخْرِجَ معه من دار السعادة اثنان من صغار أولاده، وإحدى عشرة امرأة
من جواريه ونسائه، وجيء به إلى محطة سكة الحديد تخفر مركبته مركبات الجنود
وأرسل كذلك مخفورًا في قطار مخصوص، ولما وصل إلى محطة سلانيك، اختار
ركوب إحدى مركبات الأجرة، إلى أن وصل إلى الدار التي أعدت له، وهي دار
ألاتيني باشا قائد الشرطة، وقد أحضر له ولمن معه طعام ذلك المساء من أحد
مطاعم السوق، وطلب قميصًا فاشتريت له أيضًا من السوق، وكان في عامة أوقاته
كاسف البال، كثير الهواجس والأفكار، وقد تضرع إلى القائد الذي استقبله بأن
يضمن له حياته، فهدأ القائد اضطرابه وسكن روعه، ولو كان عبد الحميد صاحب
عزة وإباء، لما حرص في مثل هذه الحال على البقاء , ولا أقول لفعل ما فعلت
الزباء، على أن البخع والانتحار؛ إذا كان محرمًا في الإسلام، فشدة الحرص على
الحياة ليست من شأن أهل الإيمان، فقد قال تعالى في الذين لا يؤمنون:
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ
سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أْن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 96) .
أما مولانا السلطان محمد الخامس، فقد بويع في ذلك اليوم بنظارة الحربية
باختيار أولي الأمر ونواب جميع الأمة العثمانية، فإن كان قد قال في حفلة المبايعة:
إنني أول ملك في عهد الدستور والحرية، فإننا نقول: إن مبايعته أول مبايعة
جرت على الصورة الشرعية، فقد كان سلفه يأخذون الملك بمجرد الإرث، وهو قد
ناله باختيار أهل الحل والعقد، وقد بويع بالمصافحة كما بويع الخلفاء الراشدون، لا
بلثم الراحة، وتقبيل الأذيال، كما جرى عليه أسلافه المستبدون، وأول من بايعه
الشريف حيدر بك من أعضاء مجلس الأعيان، ثم الصدر الأعظم وشيخ الإسلام،
ثم نقيب الأشراف، فرئيسا مجلسي الأعيان والنواب، فأعضاء المجلسين، فالأمراء
والضباط، ثم من حضر من خيار الناس، وقد صرح مولانا عقب مبايعته، بأن
كل رغبته ورجائه في سعادة أمته، وبعد عدة أيام حلف في نظارة الحربية يمين
التزام الشريعة والدستور، والمحافظة على حقوق جميع الأمة العثمانية، ثم حلف
أيضًا في مجلس نواب الأمة، كما استحلفهم على الإخلاص لها وله، فأقسموا
طائعين، وأطاعوا مختارين، ودعوا له مخلصين، والأمة من ورائهم تقول آمين،
والعاقبة للمتقين {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ} (الرعد: 29) .
ونسأله تعالى: أن يجعل لسان حال سلطاننا الأواب، هذه الآية الكريمة من
الكتاب {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر: 38) .
__________
(1) الخلع بالضم الطلاق بعوض، وقد رفع إلى محكمة التمييز إعلام بحكم شرعي في مخالعة فردته إلى المحكمة الابتدائية لأجل تصحيحه بحذف كلمة خلع منه، وقد نبهت إلى ذلك بالأرقام كقولها (مثلاً) يجب تغيير الكملة الرابعة من السطر الثاني والعاشرة من السطر الثالث وهلم جرًّا.
(2) أي خربت فكانت أجزاء متفتتة، أو سيق أهلها كما تساق الغنم.
(3) الهباء: الغبار والمنبث المنتشر المتفرق.
(4) أي اجتمعوا وانضم بعضها إلى بعض كذا فسر الأصمعي الكلمة في الحديث وفي اللسان أرز.
(كجلس) تقبض وتجمع وثبت، ويقال أرز إلى المكان إذا كان مأمنه ومنعته.
(5) أي ويقال لهم سواء منكم أيها الخارجون على الدستور من أسرّ القول للجنود وغيرهم بالحث على الفتنة ومن جهر به إلخ، والسارب الظاهر البارز كأولئك الجنود العصاة.(12/276)
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
__________
رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين
لليافعي
(3)
تتمة بحث النسخ
ولنعد إلى ما كنا بصدده فنقول: قد بينا في رسالتنا السابقة بعض حجج ما
ذهبنا إليه، وسنزيد ذلك إيضاحًا، فنقول: إن الكلام إذا سيق، فإنما يساق بمناسبة
المتأخر لما تقدمه وابتني عليه، ودونك ما قبل هذه الآية؛ لتعرف دلالة السياق،
وأن الكلام مسوق في أي شيء؛ أهو في ذكر المعجزات، كما قال الدكتور الفاضل
أم في ذكر الدين وشرائعه وأحكامه، ومن هنا تعرف أن ما ذكرناه عن السلف في
تفسير هذه الآية هو المناسب لسياقها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا
رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن
يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (البقرة: 104-105) ففي أول هذه الآية حذر
المؤمنين من موافقة الكافرين في إطلاق الألفاظ الموهمة؛ كقولهم راعنا، ثم
أخبرهم في آخرها بشدة عداوة الكفار لهم، وأنهم يكرهون نزول الخير إليهم، وذلك
الخير الذي تفضل الله به على عباده المؤمنين: هو الشرع التام الكامل [*] الذي
شرعه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، واختصه وأمته به، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (البقرة: 105) - وعلى مناسبة ذلك
قال: {مَا نَنْسَخْ} (البقرة: 106) من هذا الخير: وهو الشرع المحمدي
{مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) فليس من باب تفويت أو إحرامكم بعض
هذا الخير الذي تفضلنا به عليكم، بل نفعل ذلك؛ لنأتيكم بخير منه إذا نسخناه، أو
بمثله إذا قصرتم في حفظه ونسيتموه. أما قوله: {ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ} (البقرة: 106) إلى آخره، فإنما ذكره في عقب هذه الآية؛ كالدليل
بالشيء على نظيره، وذلك مثل استدلاله جل شأنه على البعث وإمكانه بالخلق
الأول، وبإحيائه الأرض بعد موتها، وقد ذكرنا في رسالتنا السابقة مناسبات أخرى
فارجع إليها، وليتأمل الفاضل في هذا المقام، وليعطه حقه من النظر.
ونقول أيضًا: نحن قد قدمنا وقلنا غير مرة: إنه قد علم من ديننا بالضرورة
أن القول بالرأي في الدين؛ وبالأخص تفسير القرآن، لا يجوز مطلقًا، فما بالك
برأي مخالف لما قاله السلف ولما نقلوه [1] .
ثم نقول لحضرة الدكتور الفاضل: هب أن السلف لم يتكلموا، ولم ينقل عنهم
في تفسير هذه الآية شيء، أفليس الواجب أن نرد كل لفظ إلى أصله، ونحمله على
معناه الحقيقي؟ ولا نقدم على القول بالمجاز ولا نعدل إليه؛ إلا إذا تعين بقرينة،
فإذا عرفت ذلك، نقول: قال في القاموس نسخه: كمنعه أزاله وغيَّره وأبطله،
وأقام شيئًا مقامه، والشيء مسخه، والكتاب كتبه عن معارضة؛ كانتسخه
واستنسخه، المنقول منه نسخة بالضم وما في الخلية حوله إلى غيرها , انتهى.
والمعنيان الأخيران لا يصح حمل الآية المتنازع في تفسيرها عليهما اتفاقًا،
فلا يبقى إلا الإزالة والتغيير والإبطال، فإذا كان المراد بالآية في قوله تعالى: ما
ننسخ من آية المعجزة، كما يقول حضرة الفاضل، فما معنى إزالتها أو إزالة مثلها
فإنه لا يزال ولا ينقل إلا ما كان ثابتًا في الخارج , وأما ما يعدم ويفوت بفوات
وانقضاء زمنه، فلا يقال: أزاله ولا يزيله، نعم.. يقال في مجاز اللغة: أزلت
حجته بمعنى بينت كذبها وعدم صحتها، فإذا أريد بالآية المعجزة، فلا يجوز حملها
على معنى الإزالة حقيقة ولا مجازًا، بقي التغيير والإبطال، والقول فيهما كالقول
في الإزالة، وهل يصح أن يقال: إن الله غيَّر وأبطل معجزات الأنبياء السابقين،
فإذا فسد التفسير بحمل الآية على المعجزة، تعين حملها على آيات الإحكام ونحوها
من آيات القرآن؛ لصحة قولنا حكم كذا، وأقمت مقامه حكمًا آخر، أو أزلت الكلمة
وأقمت مقامها كلمة أخرى، فما ذكرناه في تفسير الآية هو الحقيقة التي لا يصلح
إرادة غيرها، بذلك قال السلف كما عرفت ذلك عنهم فيما سلف، ولو جوزنا العدول
عن الحقيقة إلى المجاز بلا قرينة، ولا مرجح للعدول، وسلمنا ما قال: بأن النسخ
قد يكون بمعنى الترك، فكذلك لا يصح إرادة ما قاله الفاضل، ولا يجوز أيضًا؛
لأن ترك الشيء لا يكون إلا إذا أمكن فعل ذلك الشيء نفسه، والمعجزة الفعلية التي
وقعت وانقضى زمنها: كانقلاب عصا موسى عليه السلام حية مثلاً، لا يمكن أن
تعاد نفسها لا سيما مع عدم وجود العصا، فإن قيل: المراد مثلها، قلنا: وهذا
مجاز بتوسط تأويل، ولو سلمناه أيضًا فإنه لا يصح حمل الآية عليه؛ لأنه لا يصح؛
إلا بعد أن يثبت أن الله قدر وكتب في الكتاب الذي كتبه لكل مدة مضروبة بأن سيؤيد
محمدًا صلى الله عليه وسلم بمثل تلك المعجزات الماضية مماثلة من كل
الوجوه، فإذ قدر أنه عدل عن ذلك إلى ما يماثلها من بعض الوجوه، جاز أن يقال:
ترك هذا المثل لهذا المثل، ولا يخفى أن الهجوم على ذلك بلا توقيف جراءة
واستبداد على الله.
فإن قيل: لا نقول إنه ترك ما كتب، وقدر أنه يؤيد به محمدًا صلى الله عليه
وسلم كما ذكرتم، قلنا: إن تنظير الدكتور للنسخ في هذه الآية بقوله: {يَمْحُو اللَّهُ
مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 39) صريح فيما ذكرنا فساده.
ونقول أيضًا: إن ما هو نحو المعجزات من الأفعال التي مضت وانقضت هي
الآن معدومة، فإن قيل: المراد مثالها الموجود في بعض الأذهان، فيجوز تركه، قلنا
ذلك ممنوع؛ لأن الموجود في الأذهان المذكورة، إنما هو التصديق بتلك المعجزات
ونسخه إنما يكون بنقضه وتكذيبه وهو محال أيضًا ما في أذهانهم، لو أوجده الله
في الخارج؛ فهو لا يكون إلا نفس المعجزات الماضية التي قد عدمت، والأفعال
التي قد وقعت لا يمكن أن تعاد نفسها، وما كان كذلك فلا يقال: إنه تركه، وعليه
فالنسخ بمعنى الترك، لا يمكن أن يفرض إلا فيما يماثل من بعض الوجوه ما حفظه
بعض الناس من معجزات الأنبياء، وحينئذ لا يكون المنسوخ في الآية ما قد وجد،
ولا مثاله الموجود في أذهانهم، بل هو ما يماثل مثاله من بعض الوجوه، وهذا إنما
هو معدوم؛ لأنه غير موجود في الأعيان ولا في الأذهان، ومعلوم أن الله لم يرد
أنه نسخ أو ترك المعدوم المطلق، أو أنه أيد نبينا صلى الله عليه وسلم بخير
منه أو مثله؛ لأن الخيرية والمثلية لا يوصف بها المعدوم، فظهر بذلك أن المعنى
الذي حمل الآية عليه حضرة الفاضل لا يصح إلا فرضه في المعدوم المطلق وسياق
الكلام ومعناه يأبى ذلك، وإلا للزم وصح أن يقال: إن كل ما أوجده الله فهو بدل
ومثل ومسبب عن ترك معدوم مطلق، لم يقدر في كتاب، وهذا لم يقله أحد.
هذا بعض ما نقوله في المنسوخ الذي ذكره الله في قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) وقد عرفت أنه لا يصح أن يفرض شيئًا مما قدمنا
بيانه. أما معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم: فلا شك أنها قد وفت وقامت بتأييد
رسالته صلى الله عليه وسلم، كما قد وفت معجزات الأنبياء السابقين بتأييد رسالاتهم
وزيادة. لكن إطلاق أن هذا ناسخ لهذا لا يصح في تفسير قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) وقوله (فكل آية من آيات الأنبياء السابقين إلى
قوله: قد أتى الله بمثلها في الإقناع والهداية أو بخير منها، قلت: نعم.. والأمر
كذلك إلا أنا قد قدمنا فساد فرض المنسوخ بمعنى المعجزة، وعليه فما أتى الله ومنَّ
به على نبينا من المعجزات، فليس بدلاً عن معجزات الأنبياء السابقين؛ على معنى
أن تكون ناسخة لتلك، ولو كان كل معجزة لنبي متأخر ناسخة لمعجزات من تقدمه،
لكانت معجزات محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لمعجزات عيسى عليه الصلاة
والسلام، ومعجزات عيسى عليه السلام ناسخة لمعجزات من تقدمه، وهلم جرًّا ,
وعليه فما أتى به محمد من المعجزات؛ لا تكون بدلاً لكل معجزات الأنبياء السابقين
وإلا للزم نسخ المنسوخ حين هو منسوخ [2] .
ونقول أيضًا: يلزم الفاضل المذكور في الأدلة المتعددة المختلفة الحقائق
على صحة المدلولات المتماثلات، والمدلول الواحد تصحيح إطلاق أن كل واحد
منها ناسخ للآخر، فليتأمل الناظر وليحكم بما شاء بشرط الإنصاف.
أما قول الفاضل الممدوح: وإذا كان المراد آيات الأحكام لا المعجزات، فهل
أتى تعالى بدل الآيات المنسوخة بآيات خير منها؟ إن كان ذلك صحيحًا، فكيف
نسخ كثيرًا من أحكام القرآن بالسنة على قول بعضهم؟ وأقول: قد عرفت أنه لا
يمكن حمل ذلك على غير آيات الأحكام، ونقول: نعم.. إنه قد عوضنا بدل كل آية
نسخها ورفعها بما هو مثلها وأفضل منها، وذلك موجود في هذا القرآن الذي بين
أيدينا. أما قوله: فكيف نسخ كثيرًا من القرآن بالسنة على قول بعضهم؟ فجوابه أنه
لم يفضل أحد أحكام القرآن على أحكام السنة؛ لأن الكل من الله، والحكم الناسخ
سواء كان في القرآن أو في السنة، هو أكثر خيرًا من المنسوخ، ولا تفاوت في
نفس الحكم إلا أن هذا يكون أصح من هذا، كما سيأتي بيانه. نعم ألفاظ القرآن هي
أفضل من ألفاظ الأحاديث، ولم يقل أحد أن لفظ الحديث ناسخ للفظ القرآن، فما
أراد إيراده غير وارد، فتأمل.
ونحن قدمنا الكلام في اختلاف العلماء في النسخ فارجع إليه، فمن يجوز نسخ
القرآن بالسنة، بعضهم يقول: إن ذلك جائز لكنه لم يقع، وأما من يقول منهم
بوقوعه فلهم أن يفرقوا بين نسخ الآية ونسخ حكمها؛ بأن يقولوا: إنه من المعلوم
بالضرورة أن الدين كله سواء كان قرآنًا أو وحيًا غير قرآن - وهو السنة - إنما
عرفناه بتوسط محمد صلى الله عليه وسلم، الذي عرفنا صدقه وصحة نبوته
ورسالته، فلا يجوز لنا أن نقبل بعض ما جاء به، ونترك البعض الآخر؛ إذ لو
فعلنا ذلك لكنا مكذبين له صلى الله عليه وسلم في ذلك البعض، وذلك كفر في دين
الله، وبه كما قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85) بناء عليه يجوز أن يكون بعض أحكام السنة خيرًا من الحكم
المنسوخ الذي كان في القرآن، وإذا كان المراد بالخيرية أن يأتي بخير منها أي ببدل
ذي مصلحة راجحة، فلا قباحة في أن يقوم الحديث النبوي بدلاً عن لفظ آية
وحكمها معًا.
أما الوصية للوالدين والأقربين الوارثين فالجمهور يقولون: إن الناسخ لها إنما
هي آية المواريث، والسنة مبينة وشارحة لذلك الناسخ. هذا بعض أجوبتهم، وهو
مانع ودافع لكل إيراد، قلت الإيراد الصحيح في الآية: إنما يتوجه على مذهب
حضرة الدكتور الفاضل؛ لأنه إذا منع النسخ في القرآن مطلقًا به أو بالسنة، لزمه
أن الواجب للوالدين الوصية، والنصيب الذي فرضه الله لكل واحد منهما في آية
المواريث، وحينئذ يعترض عليه، ويقال: إنه إما أن يكون ما فرضه لها وافيًا
بحقها، أو ليس بواف بحقهما وعلى كل تقدير. إما أن يلزم النقص أو الظلم [**] لا
يقال: إن الوصية إنما ندب إليها ولم يوجبها؛ لأنا نقول: إن الاعتراض وارد على
الاستحباب أيضًا، على أن في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} (البقرة: 180) في
أول الآية وقوله: {حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ} (البقرة: 180) في آخرها دلالة ظاهرة
لا يعتريها شك، ونص في الوجوب فالاعتراضات الواردة الصحيحة إنما ترد على
مذهب الفاضل الدكتور.
قال الفاضل: وأين البدل للآيات التي نسخ لفظها وحكمها معًا؛ كقوله عشر
رضعات معلومات يحرمن الذي نسخ على زعمهم بقوله: خمس رضعات معلومات
ثم نسخ لفظ هذا الأخير، ولم يأت بدله؟ قلت: والجواب من وجوه، وهو يختلف
باختلاف مشارب الناس في هذا الموضع.
(الأول) من لم يشترط التواتر في نقل القرآن، وهؤلاء يقولون: إن آية
(؟) الخمس الرضعات المعلومات هي آية (؟) من القرآن الكريم، وهي
محفوظة بهذه الرواية ونحوها، ولها عندهم حكم القرآن المتلو، ومن يقول بذلك فلا
يرد عليه اعتراض حضرة الدكتور الفاضل ههنا من أصله، فإن كان يرد عليهم
اعتراضات أخرى، فإنهم قد أجابوا عنها.
(الثاني) قول من يقول: إن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وناسخه لا يكون
إلا قرآنًا أو سنة كذلك.
(الثالث) إنا نختار أن نقول: لا شك أن العشر الرضعات قد ثبت أنهن كن
فيما نزل من القرآن الكريم، وثبت إنهن نسخن، ونقل المنسوخ لا يشترط فيه
التواتر؛ لأن اشتراط التواتر في القرآن إنما التزمه من التزمه؛ لأن من خالف
الإجماع يكون شاذًّا مخالفًا لما نقله جميع الصحابة، من حصرهم القرآن المحكم في
هذا المصحف الموجود بين أيدينا، وإذا صرح وقيد الناقل أن ذلك قد نسخ لفظه أو
وحكمه فلا شك أن ذلك يخرجه عن الشذوذ، فلا يكون مخالفًا للمتفق عليه من القرآن
لجواز أن يكون الصحابة رضي الله عنهم تركوا نقله؛ لكونه منسوخًا لفظًا.
بقي البحث في الناسخ؛ وهو الخمس المعلومات، ثم هذه الخمس المعلومات،
هل هن قرآن محكم باقٍ لفظه وحكمه، أم ليس هن بقرآن؟ وقد قدمنا قول من لم
يشترط التواتر، وبعض من يشترط التواتر يقبل الحكم ولا يقبل القرآنية، فمن
يقول: إن القرآنية المنقولة بنقل الواحد ونحوه إذا خالفت المصحف كانت شاذة،
فمخالفة الجمهور أسقطت القرآنية؛ لاحتمال أن يكون الراوي الواحد ونحوه نقل ما
كان منسوخًا لفظه، ولم يعلم بنسخ لفظه أو أنه ظن أن ذلك قرآن. أما الحكم
المتضمنة له تلك الرواية فهو غير معارض بنقل الجمهور للقرآن، وباب الحكم غير
باب اللفظ والقرآنية، فمن هنا قالوا بقبول الحكم ورد القرآنية فتفكر.
وآية عدد الرضعات المرفوعة المنسوخة؛ هي ليست في الحقيقة مما يصح أن
يورد عليها ما أورده، الفاضل يعرف ذلك بجمع أطراف الرواية، ودونك ذلك روي
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما نزل من القرآن (عشر رضعات
معلومات يحرمن) ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهن فيما يقرأ من القرآن، رواه مسلم وأبو داود والنسائي وفي لفظ قالت: وهي
تذكر الذي يحرم من الرضاعة: نزل في القرآن عشر رضعات معلومات، ثم نزل
أيضًا خمس معلومات، رواه مسلم. وفي لفظ قالت: نزل في القرآن عشر
رضعات معلومات، فنسخ من ذلك خمس رضعات إلى خمس رضعات معلومات،
فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمرعلى ذلك، رواه الترمذي وفي لفظ كان
فيما أنزل الله -عز وجل - من القرآن ثم سقط، لا يحرم إلا عشر رضعات أو
خمس معلومات، رواه ابن ماجه , والناظر يرى أن الصديقة (رضي الله عنها) لم تذكر لا الناسخ ولا المنسوخ بلفظه ولا سياقه، ولم تبين محله، نعم..
روايتها ظاهرة في أن عدد الرضعات كان قرآنًا في الجملة، وبعضها ظاهرة في أن
العشر نسخن بالخمس، ورواية الترمذي هي صحيحة؛ ولا تتبين دلالتها على أن
الخمس التي هي بدل عن العشر أنها كانت قرآنًا، ولا تدل على أن النسخ وقع
بالخمس أيضًا، وبناء على ما تقدم فقولها - رضي الله عنها -: فتوفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن أي: إن بعض من لم يبلغه النسخ
كان يقرأ ذلك؛ وهو مع شذوذه عما نقل الجمهور لم يثبت قراءته في المصحف،
ولعله رجع عن ذلك، ثم يحتمل كلامها أن من بقي يقرأ كان يقرأ العشر والخمس
معًا، أو أنه كان يقرأ الخمس فقط؛ ظانًّا أن ذلك لم ينسخ، وهذا الاحتمال الأخير
بعيد. فهذه احتمالات , وأما حديث ابن ماجه عنها؛ فظاهر أن العشر أو الخمس
إنما هو آية واحدة، ودلت هذه الرواية على أن الكل رفع وبناء على ذلك إن من
لازم نسخ العشر، أن تنسخ الخمس معها وترفع برفعها لكونها جزءًا من آية، ولأن
الخمس إنما هن معطوفات على العامل في العشر فهي منسوخة بالتبع؛ لعدم
جواز بقاء لفظها بعد نسخ أول الآية، وإلا لبقيت غير معلومة المعنى، ومثل ذلك
لا يجوز بقاؤه أو وجوده في القرآن، فاندفع ما أورده الدكتور الفاضل؛ فقوله في
حديث مسلم رحمه الله ثم نسخن بخمس معلومات أي: بقاء حكم جزء الآية المرفوع
لفظه بالتبع، وهي الخمس المعلومات ناسخ للعشر المقصود رفعها، ونسخ حكمها
بالأصالة والذات وبقي بعض من لم يبلغه رفعها ونسخها يقرأها هكذا: لا يحرم إلا
عشر رضعات أو خمس معلومات.
قلت: وقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (النساء: 23) يصح أن
نقول: إنه بدل عن هذا المرفوع، ورواية أم المؤمنين رضي الله عنها قد أثبتت أن
حكم العدد محكم، فتحريم الأمهات المرضعات في هذه الآية وارد في رضاعة
معلومة؛ وهي الخمس الرضعات. وعائشة رضي الله عنها يتعين أن تكون سمعت
من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يقول: إن هذا كله منسوخ حكمه ولفظه،
وناسخ ذلك الإطلاق في قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (النساء: 23) فما وصل الجوف هو الرضاع المحرم، ومنهم من قال: إن الله
أطلق تحريم المرضعة، والمرجع في ذلك إلى السنة، وقد ورد أن المصة
والمصتين، والرضعة والرضعتين، والإملاجة والإملاجتين لا تحرم. وحديث
عائشة - رضي الله عنها - فيه إناطة التحريم بخمس معلومات، فوجب المرجع
إليه فيما نعتقد، وقدمنا توجيهه، بذلك اندفع اعتراض الدكتور الفاضل أيضًا، وثبت
أن الناسخ لذلك هو القرآن مفسرًا المراد منه بالسنة أو بما له حكم السنة، وظهر بما
قدمناه أيضًا النكتة في نسخ لفظ الخمس، والله أعلم.
وأما آية الرجم فقد قدمنا الجواب عن رفع لفظها وحكمته فلا نعيده. وإذ قد
فرغنا عن جواب كل إيرادات الفاضل في مسألة النسخ، فلنشرع في الجواب عما
أورده من الشبهات على وجوب العمل بأحاديث الآحاد الصحاح فنقول.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) المنار: الكلام صريح في بيان سبب إنكارهم لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم وهو أن أهل الكتاب يحسدون العرب فيريدون أن ينزل الوحي على رجل منهم فهم لذلك ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والمشركون ينكرون النبوة من حيث هي فالكلام في النبوة لا في الأحكام الجزئية التي في الوحي وهي أقل ما فيه، والشرع المحمدي عقائد ومعارف إلهية وآداب وعبر وأخلاق كريمة، وأحكام عملية والعقائد هي الأساس والكلام في ركن النبوة منها لأن غيره يبني عليه فالمناسب أن تكون الآية ما يؤيده.
(1) إن من يفسر آية بغير المروي عن واحد أواثنين وثلاثة من السلف لا يسمى مخالفًا للسلف لا سيما إذا اختلفوا وإلا لكان جميع العلماء مخالفين للسلف حتى الأئمة المشهورين وإنما مخالفة السلف المذمومة هي مخالفة سنتهم التي جروا عليها في أمر الدين والابتداع فيه.
(2) المنار: كل هذه اللوازم التي أوردها ممنوعة، ويمكن إيراد معنى المماثلة من كل الوجوه أو بعضها على التفسير المشهور للآية، وأن من يفسر الآية هنا بما يؤيد الله به الأنبياء كأبي مسلم لا يقول إذا أزال الله ما يؤيد به بعض رسله من آية في زمن رسول آخر وأيده بغيرها فإنه يكون ناسخًا للسابقة باللاحقة بل يقولون إن المعنى إذا لم يؤيد الرسول المتأخر بآية المتقدم بأن أزال تلك الآية وما أراد إعادتها فإنه يؤيده بمثلها أو بخير منها في إثبات الرسالة. ويمكن أن يفسر لفظ النسخ على هذا الرأي بما ورد في المأثور الذي هو القرآن خطًّا ومعنى فيعرفها الناس أو ننسها الناس بترك الإعلام بها فإننا نأتي بخير منها أو مثلها في تأييد رسلنا، وبذلك يبطل قول بعض الكافرين {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} (الأنبياء: 5) ما في معناه مما حكاه الله تعالى عن المعاندين.
(**) ورد عن عليٍّ وابن عباس وهما أعلم السلف بالتفسير أن الآية خاصة بمن لم يرث ويمكن للدكتور أن يقول به وهو ليس ممن ينكر التخصص وإن سمي نسخًا على أنه يمكن منع استلزام الظلم والنقص بجعل الوصية خاصة من وجه آخر كأن يكون بعض الورثة فقيرًا عاجزًا عن الكسب وبعضهم غنيًّا فيوصي للعاجز الفقير.(12/289)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(الانقلاب العثماني الميمون بخلع عبد الحميد)
(رأي جرائد مسلمي الهند فيه)
أرسل إلينا صديقنا مولوي محمد إنشاء الله، صاحب جريدة (وطن)
الغراء التي تصدر باللغة الأردية في (لاهور) مقالتين في الانقلاب: أحدهما من
قلمه نشرها في فاتحة أول عدد صدر من جريدته بعد العلم بالانقلاب الأخير وخلع
عبد الحميد، ثم ترجمها بالعربية والثانية نشرت في جريدة (أبزرور) باللغة
الإنكليزية، وسألنا رأينا فيهما، فنحن ننشرهما ثم نبدي رأينا فيهما، وهذه هي
الأولى؛ ننشرها مع إصلاح قليل لبعض الألفاظ يحدد المعنى، ولا يضيع منه شيئًا
(وعنوانها الانقلاب المشؤوم في الدولة العلية) .
لقد طير البرق إلينا اليوم النبأ المشئوم الذي فتت الأكباد، وألبس القلوب
ثوب الحداد، وقد ساد الأسف بمجرد سماعه على العالم الإسلامي في الهند وسائر
أقطار المعمورة، ومن التألم الناشئ منه تنفثت الصدور، وذلك النبأ العظيم الذي آلم
العالم الإسلامي بأسره؛ هو نبأ عزل جلالة السلطان عبد الحميد الثاني عن عرش
الخلافة والسلطنة العثمانية بقرار مجلس الأمة إجماعًا على عزله، ولا أدري هل
انعزل جلالته من عند نفسه، أو اعتزلته جمعية الاتحاد والترقي التي كانت عند
أول ظهوره في بدء إحياء الدستور العثماني أخيرًا، مظهرة عزمها على ارتكاب
هذه الجريمة الشنعاء؛ لكون أعضائها من الناقمين من جلالته، أو الخائفين من ذاته
على الدستور , ولكن علمنا بعد صدور الإرادة الشاهانية بإعلان الدستور،
وانقلاب الوزارة، وتفويض مسند الصدارة إلى سماحتلو (؟) كامل باشا الصدر
الأسبق أن المعتدلين والعقلاء من حزب تركيا الفتاة، لا يرون لزوم عزل جلالة
عبد الحميد، بعد أن صار محبًّا للدستور، وحلف على حفظه، وصرح بعزمه على
تقوية الحزب المذكور، ولا سيما الجمعية الاتحاد والترقي التي لعبت دورًا مهمًّا في
ملعب إحياء الدستور وترقية البلاد، حتى صار جلالته لا يبرم أمرًا ولا يصدر
إرادة من غير استشارة الجمعية، ويطيع لها في كل الأمور، وقبل صدارة شرف
الجمعية، وفاه بها علنًا.
وقد مال بكليته إلى الجمعية حتى عاداه حزب الأحرار من تركيا الفتاة،
وعيره بالتخلف عن فرائض الملك الدستوري؛ بوضعه نفسه تحت يد جماعة غير
مسئولة عن صلاح البلاد والعباد، وبعدما ترك استبداده بالحكومة، قد وقع نفسه
تحت نير الاستبداد الأشأم والأشر من الاستبداد الأول , ولكن كل هذه الملاينة
والانقياد لم يجد لجلالته نفعًا، وصارت الجمعية تلهو تلعب به كما تلعب الهرة
بالفارة التي تريد افتراسها وقد أخذت الجمعية تمهد السبيل لعزله، فأبعدت
عساكر الآستانة وأرسلتها إلى الولايات، ووضعت دار الخلافة تحت حماية
العساكر الموالية للدستور، والتي جاءت بها من سلانيك وغيرها، وطلبت من
جلالة السلطان عبد الحميد أن يرضى بوضع فيلق الحرس الهمايوني أيضًا تحت
أمرة نظارة الحربية، وقد رد جلالته هذا الطلب غير مرة. لكن لما رأى الجمعية
مصرة على ذلك أجاب طلبها (وإن كانت الإجابة خطأ) كما ظهر الآن؛ لأن
جلالته أراد أن يبرهن للعالم (أصالة) وللجمعية تبعًا، حسن نيته وميله إلى جهة الدستور.
إن جمعية الاتحاد والترقي؛ كانت لا تزال تعتمد على الجيش في حفظ
الدستور؛ ولذلك لم تكن تسمح بإبعاد العساكر الموالية للدستور إلى الولايات، وإن
كانت نار الفتن الداخلية متأججة في جميع الجهات، والضرورة داعية لإرسال
العساكر إلى الخارج؛ كي يمكن إخمادها وإعادة النظام إلى البلاد؛ ولما أراد الصدر
الأسبق والرجل المحنك كامل باشا استعادة النظام العسكري والطاعة في الجيش،
امتنعت الجمعية عن ذلك، وأخذت تعرقل مساعي الصدر الممدوح وحكومته في
إصلاح المملكة الداخلي؛ ظنًّا منها أن خروج الجيش من يد الجمعية يضعف
قوتها، ويحرج مركزها، ويكون خطرًا على الدستور - لا قدر الله -، وصارت
الجمعية تأخذ على مجاري أمور الحكومة بالقوة القاهرة، كأنها حكومة في حكومة بل
وفوقها، معتمدة على الجيش، وقد شوهت الدستور بسيطرتها على الحكومة ومجلس
الأمة، حتى انقسم حزب تركيا الفتاة إلى حزبين: حزب الجمعية وحزب الأحرار،
ولما غلب حزب الجمعية بفضل الجيش وكثرة أعضائها في مجلس الأمة، وانهزم
حزب الأحرار شر هزيمة في عدة مواضع، اندفع في انتقاد أعمال الجمعية بصدق
اللهجة، وكشف الغطاء عن نيتها المشوهة للدستور، وانتشر بغض
الجمعية بين الأنام، بعد أن كانوا محبين لها، لهجين بشكرها في إعادة الدستور،
وهاج أهالي الآستانة وعساكر دار الخلافة مشهرين سيف عدائهم في وجه الجمعية،
وقلبوا لها ظهر المجن، وفر جميع أنصار الجمعية من أعضاء مجلس الأمة تاركين
مراكزهم في الآستانة إلى مقر مركز الجمعية في سلانيك، وأخذت الجمعية تجند
الجنود لكبح جماح الخارجين عليها والباغين؛ بدعوى المحافظة على الدستور،
وأخيرًا قد فازت الجمعية على مخالفيها، وأجرت الأحكام العسكرية في دار الخلافة،
وأخذت تبحث عن الذين سعوا في محو الدستور وإعادة الحكم المطلق (بزعمها) .
وكلما ننظر في خلال هذه الحادثة المؤلمة من أولها إلى آخرها، نجد جلالة
السلطان عبد الحميد محافظًا على الدستور ومواليًا للعامة والوطن، لم يتعرض
لمجلس الأمة قط، بل صرح في مثل هذه الحالة الحرجة أيضًا عند تعيينه لعلي
كمال بك (كذا) صدرًا لمجلس الأمة، إن مستقبل البلاد لا يقوم إلا بالمحافظة
على الدستور، وهذا دليل بيِّن وبرهان عظيم، على كون جلالته محبًّا للدستور،
ومحافظًا عليه، بارًّا بيمينه، مجتنبًا إراقة دماء الأبرياء، ونرى المبعوثين أو
حزب تركيا الفتاة تائهين في تيه الضلالة، وناسين واجبات صلاح الدولة والمملكة؛
بإسراعهم في عزل عبد الحميد عن عرش الخلافة، وعدم تبصرهم في غوائل
الأمور خاصة عاقبة مثل ذلك الفعل القبيح؛ لأنهم لو تأملوا بحوادث انقلاب
السلطنة الأخيرة، لوجدوا أنه لم يكن لجلالة عبد الحميد يد فيها؛ لأنه كان قادرًا
على أن لا يسمح بإبعاد حرسه الخاص قبل أسبوعين من تلك الكارثة أو جمع عدد
عظيم من العساكر لحفظ مركزه -وعلى الأقل - حض العساكر الموجودة في
الآستانة الذين بغوا وطغوا على الجمعية (وأغرائهم) بالثبات والاستقلال في
الحرب، وجنود قصره على عدم قبول طاعة المهاجمين من غير مدافعة - بل
وإسلامهم للأعداء - كما صرح ضباطهم عند التسلم: (إن نسلم أسلحتنا بأمر
من جلالة السلطان؛ لأنه أبى إراقة الدماء، وقال لنا: إن المهاجمين أيضًا من
أولاده، وهو لا يرضى أن يصيبهم مكروه) وغير هذا، كان من الممكن لجلالته
أن يأخذ لنفسه حماية أقوى دولة من الدول الأجنبية. لكنه لم يفعل ذلك، بل سلم
نفسه للملة، وأثبت للملأ أنه محب مخلص للأمة والوطن، لا يريد محو الدستور
أبدًا وإراقة قطرة دم في سبيل حفظ مركزه على طريق الواجب أيضًا فكان من
واجبات الجمعية وحزب تركيا الفتاة؛ أن يحترم عواطف ذلك السلطان الشفيق،
والسياسي المحنك، الذي عند قبضه على صولجان الملك كانت السلطنة في أسوأ
الحال من الإفلاس، وعدم قوة الحربية، وخلل نظام الداخلي، وهجمات الأعداء
الخارجي، وكانت الأمة جاهلة عارية من العلوم الحديثة، منقسمة على نفسها أي
انقسام، أدى ذلك الانقسام إلى ضعفها واضمحلالها إلى حد حكم العالم بموتها، فشمر
على ساق الجد، وقوى مركزها بين الدول، وأصلح الخزانة وعمرها، حتى جعل لها
اعتبارًا ماليًّا في أسواق أوربا موازيًا لاعتبار أقوى الدول في العالم، ودرب الجيش
على قواعد الحرب الحديثة، وأكمل تسليحه بأحدث الآلات، حتى صار الجيش
نفسه اليوم عليه بعد أن كان له، وكل فضل الجيش في التربية والعدة والعدد من
بركات عبد الحميد لا غير، فانظر يا أيها القارئ، كيف انقلب الحال! ! سعى في
انتشار التعليم والعلوم الحديثة في البلاد وأقلع صدأ الجهل عن مرآة قلوب العباد،
إلى أن صاروا يفهمون معنى الوطنية والاتفاق والاتحاد، فالذين علمهم الوطنية
والاتحاد صاروا اليوم يرمونه بعدم محبة الوطن ومخالفة الدستور، إن هذا لشيء
يراد.
قضى ثلاثًا وثلاثين سنة يجد ويجتهد وراء سعادة الأمة والملة، وعمل أعمالاً
أثمرت رفاه البلاد والسلطنة: وعمَّر الطرق، وبنى السكك الحديدية، وأجرى
الترع والقنوات، وأخصب المفاوز والقفار، وأوصل الأقطار بالأقطار، وحفظ
السلطنة من الضياع أمام أعداء أشداء، حتى أقر العدو والصديق أنه من أمهر
السياسيين في السياسة، وداهية العصر في الدهاء، وفاز في كل المواقع السياسية
المشهورة بهمته الشماء، غير مضيع نفسه ومضعف مركزه، وكان في كل زمان
عاملاً نشيطًا، وسلطانًا حازمًا، لا يعرف الملل، ولا يعتريه الكلل، كان من عادته
أن يعمل ثماني عشرة ساعة في كل يوم، ويشتغل في مهام السلطنة كأدنى خادم
للملك والملة، ولم يكن له شغف بالراحة، ولا كان يعرف الاستراحة، فبعد ما
عانى من المشاق ما عانى، وعمل لصلاح البلاد ما عمل، لما رأى أن غراسه أينعت
وأثمرت، والملة لحكم الدستوري اشتاقت، أعطاها هذه النعمة مرتاح البال وصار
يغذيهم بلبان الأفضال، يقوم بإقامتهم، ويقعد بإقعادهم، كأنه ترك حمل القوم على
غاربهم؛ ليظهروا استعدادهم ومعارفهم، عادت الأمة عليه ورمته بالسعي في إعادة
الحكم المطلق من غير بينة ولا برهان، حتى إذا لم تجد مسوغًا لتجريحه،
استعانت بفتوى الشرع من شيخ الإسلام، وصوبت إليه سهام الملام، وأنزلته من
عرش آبائه الكرام، وهو في هذا الحال أيضًا راضٍ عن الأمة غير منكسر البال
بما فعلت به؛ لأنه يعرف أن القوم مخطئون، وهم لا محالة يومًا على صنيعهم
سيندمون.
فارحم الله بلطفك هذه الأمة الخاطئة التي كفرت بنعمتك الجزيلة، ولم تعرف
قدر ذلك السلطان الجليل، الذي كان خير سلطان لها في مثل هذه الحالة الحرجة،
والموقع الصعب، واهدها اللهم بجاه نبيك؛ أن تكافئ سيئتها بحسنة إعادة السلطان
عبد الحميد على سرير الملك، وإن لم تفعل ذلك، فتحفظ حياته، وتحترمه
احترامًا يليق به، وتنتفع من آرائه وتجاربه وحنكته، من حيث هو مشير مخلص،
خبير في نظم المملكة، وترقية السلطنة. إن لم تنتفع به من حيث سلطان قابض
على زمام الملك، وكن يا مولانا له ولخلفه وأمته خير نصير، إنك على كل
شيء قدير، وبالإجابة جدير.
حضرة الرصيف الفاضل
بعد السلام والاحترام؛ نرسل إليكم اليوم مقالتنا الافتتاحية التي سطرناها في
جريدتنا، في أمر عزل السلطان عبد الحميد. ومعهما مقالة أخرى المنشورة في
جريدة أوبزرور؛ وغرضنا أن تنشروهما في جريدتكم الغراء؛ لتعلم الأمة
العثمانية بأفكار المسلمين الهنديين في ذلك الباب، وإن كان ما كتبناه عن عدم العلم
بالأحوال الموجودة أو خلافا للوقائع، فلكم أن تفندوا أقوالنا؛ لنكون على بصيرة
في المستقبل فيما نكتب بأمور الدولة العلية، ولكم الفضل هذا، واقبلوا فائق
احتراماتي أفندم - ودمتم.
... ... ... ... ... ... ... ... 6 مايو سنة 1909
... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد إنشاء الله
... ... ... ... ... ... ... محرر ومدير جريدة (وطن)
... ... ... ... ... ... ... ... (لاهور بنجاب) الهند
(المنار)
وهذه ترجمة جريدة أبزرور، وهي مفتتحة ببيتين لشكسبير شاعر الإنكليز
في مصرع يوليوس قيصر الروماني قال:
خلع السلطان عبد الحميد
لقد خلع السلطان الغازي عبد الحميد خان الثاني سلطان تركيا، وخليفة
الإسلام، وأمير المؤمنين، ونودي بمن يخلفه. إن هذا الحادث المحفوف بأعظم
الأخطار الممكنة، سيؤثر تأثيرًا مزعجًا في العواطف الإسلامية في العالم بأسره،
ومن شأنه أن يؤدي إلى قلق عظيم في جميع الممالك الإسلامية من النيجر في أقصى
الغرب، إلى الصين في أقصى الشرق.
إن الزمن القصير الذي مضى على هذا الحادث، لا يبيح لنا الحكم بمقدار
تأثير خلع عبد الحميد في السياسة العثمانية ومستقبل الإسلام، فقد يكون فيه خير
لتركيا، وقد يكون بداية القضاء عليها. ولكننا نعلم علم اليقين أن خلعه قد ذهب من
مرسح العالم السياسي بشخص مفرد، كان له نفوذ عظيم في تكييف التاريخ
الأوربي مدة ثلاثين سنةً، وقبض في راحتيه على مفاتيح الأسرار الدولية في
الغرب، وكان إحسانه نقل حجارة الشطرنج على رقعة السياسة الأوربية، موضع
إعجاب ساسة المسيحيين وحسدهم وبأسهم. وكان حسن تبصره في مشاكل الشرق
الأدنى؛ هو الباعث الوحيد على إنقاذ تركيا من الوقوع في أيدي جاراتها القوية
الطماعة. إذ لا يخفى أن الدولة العثمانية إنما فقدت بلغاريا والبوسنة والهرسك على
عهد الحكومة الدستورية (؟) ، وسيفتح التاريخ فصلاً كبيرًا خطيرًا لوصف
حكم عبد الحميد العظيم الشأن، ويعترف بأن الفضل في سلامة المملكة من
الفوضى، وتحول الاتحاد الأوربي عليها عائد إلى حنكته وحكمته، فإنه لم يسبق
لملك آخر سواه من المتقدمين أو المتأخرين؛ أن لاقى ما لاقاه عبد الحميد من العقبات
الشديدة داخلاً وخارجًا، وهو معرض كل يوم للفتن المرتبة، والبلاغات الأخيرة
الواردة عليه من كل جانب، ومع ذلك فإنه كان ينجلي عنه غبار تلك الحوادث
ظافرًا فائزًا بفضل حكمته وحنكته، وهو الآن قد ترك العرش في ظروف محزنة
مفجعة، بعد أن قضى حياته في التعب والعناء، تارةً في صفاء، وطورًا في
شقاء، وهو في الحالتين قد امتاز بحسن تقديره للواجب الشريف، والدأب على
العمل لسعادة مملكته.
إن التاريخ لم يرو لنا أنكى من هذه الحادثة، وأكثر مفاجأة من هذه الفاجعة،
التي رأينا فيها سلطان الأمة الجليل، والخليفة الشيخ الذي طالما تولى الأمور بيد
قادرة، وكانت إرادته نافذة في أمته، وكان عاملاً نشيطًا لرقي وتقدم شعب متأخر.
تلك الحالة التي رأيناه فيها يهبط من علياء مجده ومكانته على أثر ثورة قام
بها (أبناؤه) ، وهو يتوسل إليهم: أن يبقوا على حياته وحياة أولاده.
ويندر أن يأتينا التاريخ برجل حامت حوله الآراء المختلفة كما حامت حول
سلطان تركيا المخلوع، فقد نادوا به منقذًا لبلاده. كما قالوا: إنه أفسد قومه.
وأطروه، فقالوا: إنه موجد الدستور العثماني ومانحه. وأهانوه فقالوا: إنه أشد
خصوم الدستور. وفرحوا به فقالوا: إنه الذي رفع الأمة المتأخرة وأحياها من العدم
ثم أساؤا إليه فقالوا: إنه منبع الانحطاط، ومصدر تعاسة الأمة العثمانية. جعلوه
عنوان المفاخرة برجل تمكن بدهائه وحكمته من رد مساعي أعداء وطنه، وزعموا
أنه ظالم مستبد ضعيف العقل، لا هم له إلا ترويج مصلحته الخاصة. على أن
خصومه وأعوانه، قد اتفقوا على الاعتراف بمقدرته السياسية، وفوزه في إفساد
مساعي الأعداء الذين أحاطوا به من كل جانب، وحبه الذي لا ينكر للإسلام
وجميع ما له علاقة به، وإنما المستقبل وحده يستطيع أن يحكم الحكم البات في
شخصيته وأعماله؛ يثني عليه، أو يقضي بعدل على الذين دسوا الدسائس لخلعه.
على أن الدور الأخير من حياته، جاء موافقًا لما علمناه من حياته الشريفة،
فإنه منع سفك الدماء، ووعد أن لا يهجر يلديز، ورضي بالخلع المقدر له من أمته
ولم يطلب من القوم إلا أن يسمحوا له أن يقضي بقية حياته مع أولاده في القصر
الذي ولد فيه، على أنهم لم يجيبوا طلبه، بل نقلوه إلى مدينة بعيدة سجينًا في
بلاده، محرومًا من جميع مظاهر الأبهة، معرضًا لمعاملة مكدرة لرجل حساس
نظيره، وهو مع كل ذلك قد تصرف بأنفته المعهودة وصبره المعروف، الذي يليق
أن يفاخر به الهيكل العثماني، والملك الكبير، والرجل الذي صح إسلامه.
لقد قال بورك: (يا لها من ثورة) ، ونحن نقول: أي قلب لا يتأثر؛ إذ
يتأمل في ارتفاع عبد الحميد إلى مستوى تزيغ فيه الأبصار، ثم سقوطه الفجائي.
من كان يظن، وهو ذاهب يوم الجمعة الفائت إلى حفلة السلاملك محاطًا بالهتاف
والدعاء، أن مثل هذه النكبة تحل به بعد يومين من أمة حوت كثيرًا من الشجعان
والأشراف والأبطال، لقد كنا نظن أن عشرة آلاف حسام، بل عشرة ملايين حسام
تجرد من إغمادها؛ لتنتقم له من نظرة احتقار أو أقل إهانة.
ولكن قضت الأقدار غير ذلك، ونقل عبد الحميد ليقضي بقية أيام حياته في
قصر الأتيني، الذي كان مسكنًا لأحد قواده.
(جواب المنار)
كنا نعلم أن الجرائد الهندية تطري السلطان عبد الحميد وتنوه به. ولكن لم يكن
يخطر ببالنا أنها تجهل أحوال الدولة العثمانية في عهده جهلاً مطلقًا، بحيث لا
تدري حقيقة شيء منها ألبتة، كما ظهر لنا من هاتين المقالتين.
كنا نظن أن أصحاب هذه الجرائد يعلمون بعض الحقائق عن الدولة وسلطانها
من الجرائد الأوربية التي لم يتمكن عبد الحميد من استئجارها لمدحه، وأنهم
يكتمون هذه السيئات، ويذيعون بعض أماديح الجرائد العثمانية التي كانت مكرهة
على المدح الباطل، وبعض الجرائد الأوربية والمصرية المستأجرة، أو المخطئة
في اجتهادها، أو المتزلفة الطامعة بنوال ذلك السلطان الذي يعطي العطاء الجم
لمن يواتيه، ويسعى إلى هلاك من يناويه.
وكنا نلتمس العذر لمن نحسن الظن فيهم ونعتقد حسن نيتهم كصديقنا صاحب
جريدة (وطن) ؛ بأنهم لا يحبون أن يبينوا الحقيقة كما هي؛ لئلا يضعف تعلق
مسلمي الهند بالدولة العلية، التي يودون كأهلها وجميع المسلمين الذين سلط عليهم
الأجانب لو تكون أقوى الدول وأعزها، وأن تبقى صلتهم بها قوية شديدة كما هي
سياسة جرائد مسلمي مصر، سواء منهم من كان يستفيد من عبد الحميد ويطمع في
المزيد، ومن ليس كذلك. كنا نعتقد مع التماس هذا العذر أن مدح الجرائد
الإسلامية في مصر والهند لعبد الحميد والدفاع عنه ضر بالدولة، سواء منه ما
كان بحسن نية، وما كان عن طمع في ماله أو رتبه وأوسمته؛ لأن ذلك يجعل
قلوب الملايين من المسلمين متعلقة بشخصه، وهذا شيء يضر (لو كان سلطانًا
مصلحًا، فما بالك وهو سلطان مفسد مخرب) ؛ لأنه يجب أن يكون التعلق بالدولة
لا بالشخص؛ ولأن في كل قوة لعبد الحميد إضعافًا للأمة العثمانية وللدولة العلية؛
إذ اتخذ الأمة عدوة له، وجعل الدولة صورًا متحركة في يده، إذا حاول أحد
الوزراء أو المشيرين أو الولاة أو القضاة فمن دونهم؛ أن يعمل عملاً ما مستقلاًّ
فيها بحسب الشرع والقانون، بتره من جسم الحكومة بترًا، وكان عاقبة أمره خسرًا
فأي سلب للاستقلال وإضعاف للحكومة يكون شرًّا من هذا، ومن الشواهد على
ذلك ما حدثني به أحمد مختار باشا الغازي غير مرة: من أنه حاول جهده أن
يقنع عبد الحميد بجعل القضاء مستقلاًّ دون السياسة والإدارة؛ ليأمن الناس على
حقوقهم وأنفسهم، واستعان على ذلك ببعض كبراء الدولة، فكان السلطان يغضب
لهذا الاقتراح، ويرفضه أشد الرفض، وهل تقوم للدول قائمة أو ترقى الأمم بغير
قضاء مستقل؟ !
وكنا نعتقد أن ذلك المدح الذي غر المسلمين بالسلطان ضارٌّ بأولئك المسلمين
أنفسهم أيضًا؛ لانصرافهم به عن استعداداتهم واتكالهم على من لا ينفعهم، وقد كتبت
في مقالة نشرت في جزء المنار الذي صدر في 17 المحرم سنة 1317 ما نصه:
إن أمام المصريين وسائر المسلمين سدًّا منيعًا من الوهم، يحول بينهم وبين
السير في طريق الترقي، فإذا استطاعوا أن يظهروه أو ينقبوه - ولا أقول أن
يدكوه - يتسنى لهم الإيجاف والإيضاع في ذلك المنهاج الواضح، والمهيع
الواسع، وإن ذلك السد هو الاعتماد على دولهم وحكوماتهم التي أمست أغلالاً في
أعناقهم، وسلاسل في أيديهم، وقيودًا في أرجلهم، وغشاوة على أبصارهم، ووقرًا
في أسماعهم، ورينا على قلوبهم، وكل ما نزل بالمسلمين من بلاء، فإنما نزل
من سماء عظمتهم واستبدادهم، وإن تعجب فعجب قول من ليس للدولة العثمانية في
بلادهم: أمر ولا نهي ولا نفوذ ولا سلطان [1] ، (إن حياتنا بين يدي المابين،
وأن السعادة ستهبط علينا من أفق الباب العالي) ، وهم يعلمون أن البلاد التي
تحت جناح المابين ونفوذ الباب العالي تنقص من أطرافها، ويتمزق أهلها كل
ممزق، ولا ينال تلك البلاد وأهلها من المابين والباب العالي؛ إلا الاعتراض على
من مزق الأشلاء وشرب الدماء.
ماذا جنى ويجني أهل جاوه والهند ومصر من الظهور القولي في حب
الدولة العثمانية؟ لعمرك إنهم لا يجنون إلا الحنظل والزقوم، فإن هولاندا
وإنكلترا كلما آنستا منهم إليها ميلاً، أو سمعنا منهم فيها قولاً، تزيدان عليهم
الضغط والاضطهاد، والقهر والاستبداد، أولا يرون أن الدولة لا ترجع إليهم
قولاً ولا تملك لهم ضرًّا ولا نفعًا.
ولا أقول لهؤلاء المسلمين: أبغِضوا الدولة , ولكني أقول: إذا أحببتموها
فاكتموا حبها، ولا ترجوا منها ما لا ينال، واعتمدوا في رقيكم على المعونة الإلهية
ثم على جدكم وكدكم، وعلمكم وعملكم، فإن رأيتم من الدولة نهضة عملية،
فانهضوا معها إن كنتم صادقين، كل عاشق يحذر العذال والرقباء، فكيف لا
تحذرون؟ ألم تعلموا أن الدولة لا ينالها من كثرة لغطكم بذكرها؛ إلا مثلما
ينالكم من الضغط الأوربي والاضطهاد.
(نعم.. إن السلطان يفرح ويسر من خضوعكم له، ولهجكم بتمداحه. ولكن
تشترون فرح شخص وسروره بمصالحكم ومصالح الدولة، أقول هذا وأنا أعتقد
أنه لُباب النصح الذي يوجبه علينا ديننا، وإخلاصنا لأمتنا ودولتنا، ومن بين لنا
بالبرهان أننا مخطئون، فإننا نرجع إلى رأيه، وإذا كان القول صوابًا، فعلى إخواننا
المسلمين أن يتدبروه، وعلى جرائدهم أن ترجع صداه، والمنتظر من الجرائد
الهندية التي تتفضل دائمًا بترجمة مقالات المنار؛ أن تنقله إلى لغتها؛ ليحيط به
قراؤها علمًا) ما كتبناه منذ عشر سنين، ولم تكن سيئات عبد الحميد قد ظهرت
لنا جلية، بل كنا نحسن الظن فيه وندافع عنه.
ظهر في هذه الأيام من صدق رأينا أن التغني بمدح عبد الحميد كان مضرًّا
بالدولة، فإنا نرى أصحاب بعض جرائد المسلمين ومن تلقح برأيها منهم، يسيئون
الظن اليوم بالأمة العثمانية وبحكومة الدولة كلها، ويزعمون أن العثمانيين أحرارهم
وجماهيرهم وعسكرهم ونوابهم كلهم مخطئون كافرون للنعمة، جانون على الدولة،
وأن عبد الحميد وحده هو المصيب، وأن استواءه على عرش السلطنة هو الذي
يحفظ الدولة والإسلام، وأن سقوطه عنه خطر على الدولة والإسلام، فيا لله
وللعقول، كيف كان هذا السلطان مصلحًا مرقيًّا للأمة والدولة، وهي بعد ثلث قرن
من إصلاحه لا تصلح أن تسوس البلاد وتحفظ كيان الدولة، ولا تعرف قيمة من
يقدر على ذلك؟ وكيف تبقى دولة يتوقف بقاؤها على وجود شيخ هرم، بلغ
من الكبر عتيًّا، لم يزدد فيه إلا كبرًا وعتوًّا.
كان من سوء إطراء الجرائد المصرية لعبد الحمد قريب مما كان في الهند،
ولما أعلن الدستور اجتمع جمهور عظيم من المصريين للاحتفال بهذا الطور الجديد
للدولة العلية، ومما كان في الاحتفال من العجائب؛ أنه كان يصيح جمهور عظيم
ليحي السلطان عبد الحميد، ولتسقط تركيا الفتاة! ! وما تركيا الفتاة إلا الأمة
العثمانية الناهضة بالإصلاح، والقائمة بأمر حكم الشورى الذي يعبر عنه بحكم
الأمة نفسها بنفسها. ما أضعف البشر الذين يوجد فيهم من يتخيل عبد الحميد في
هذا العصر، كما كان يتخيل قدماء المصريين فرعون الذين قال لهم:
{أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات: 24) ثم قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (القصص: 38) فأطاعوه وعبدوه، كما عبد كثيرون غيره من الملوك.
بعد هذا التمهيد أبين للرصيفين الفاضلين غلطهما فيما كتبا بالتفصيل، إلا ما
كان من المدائح الشعرية لعبد الحميد، وإدعاء أن العالم الإسلامي بأسره يبكيه ويحزن
لخلعه، وحسبنا أن عالمنا الإسلامي العثماني سُرَّ بذلك سرورًا لم يسر بمثله في
حياته وأبدأ بدعاوى صديقي صاحب جريدة وطن، ثم أذكر ما انفرد به الآخر فأقول:
يقول صديقنا الغيور: إن عبد الحميد أثبت للعالم حبه للدستور وإخلاصه له
واستدل على ذلك بأمور:
(1) إعلانه للدستور عند طلبه من غير سفك دم.
(2) تصريحه بذلك عدة مرات.
(3) عدم تعرضه لمجلس الأمة بسوء.
(4) وضع حرسه تحت أمر نظارة الحربية، وإخراج حرسه وعساكر
الآستانة منها، ووضعها تحت حماية عسكر الدستور الذي جيء به من سلانيك
وغيرها.
(5) أمره أخيرًا لحرسه بالتسليم لعسكر الدستور الذي دخل الآستانة عندما أراد
الاستيلاء على (يلدز) قال: وكان قادرًا على أن لا يسمح بإبعاد حرسه،
وعلى جمع جيش عظيم لحفظ مركزه، وعلى حض العسكر الذي طغى وبغى على
الجمعية على الحرب.
(6) تركه طلب حماية أقوى دول أوربا، وإنما ترك ذلك حبًّا في الدستور،
وإخلاصًا للمملكة والوطن!!
ونقول: إنه لا يصح من هذه الأدلة شيء:
(1) فإعلانه الدستور لم يكن عن رضى واختيار، بل فاجأه هذا الطلب
المقرون بإنذاره الزحف على الآستانة بالجيوش والكتائب إذا لم يجب إليه، فجمع
مستشاريه وأعوانه الذين أفقر الدولة لإغنائهم، وأذلها لإعزازهم، ومن يرجع إليه
عند المشكلات من غيرهم وهو سعيد باشا، وطفقوا يأتمرون الليل بطوله،
فأجمعوا أمرهم في الصباح على أن المقاومة بالقوة غير مستطاعة؛ فإن عساكر
حصون الآستانة متفقة مع عسكر سلانيك، فهي تساعد ولا تقاوم، بل قيل له: إن
دسائسهم متصلة بحرسه، فصدق ذلك، وناهيك باحتياطه وحذره وجبنه،
واستفتى شيخ الإسلام في عصيان عسكر سلانيك؛ ليحاربهم باسم الدين، ويوقع
الفشل فيهم، فقال له شيخ الإسلام: لا يمكن الإفتاء بعصيانهم وخروجهم على
الخليفة؛ لأنهم يطلبون منه أمرًا مشروعًا؛ وهو جعل الحكم بالشورى كما أمر الله -
عز وجل-. فلما لم يجد في قوس المقاومة منزعًا، أمر بالإجابة على كره، وعزم
على استعمال سلاح المكر والحيلة والكيد الذي فتك به الدستور ورجاله أول مره،
كما ظهر في الفتنة الأخيرة واضحًا جليًّا كالشمس ليس دونها سحاب. ولعل هذا قد
علم الآن عند إخواننا الرصفاء في الهند، فإنهم قد كتبوا ما كتبوا عندما علموا
بنبأ الانقلاب، وقبل العلم بالأسباب.
(2) وأما أقواله وتصريحاته بحب الدستور: فهي دعوى لا دليل عليها،
ومثله إظهاره الرضا عن جمعية الاتحاد والترقي وكونه منها أو رئيسها، وقد كان
يستعمل هذه المصانعة والمراوغة والدهان في أيام جبروته وعنفوان استبداده، وإننا
نعرف عنه من ذلك ما لا نود ذكره الآن.
(3) وأما عدم تعرضه لمجلس الأمة، فلم نفهم ماذا يعني به الكاتب. أيعني
أنه لم يرسل حرسه لقتل نواب الأمة، أم ماذا يعني؟ هل كان يمكن التعرض
لهؤلاء النواب مباشرة وأقوى جند الدولة يحرسهم، والأسطول معه ظهير؟ كلا
إن هذا لم يكن ليأتيه من له مسكة من عقل أو إدراك؛ لأنه على فحش قبحه في
أعين الأمم والدول غير معيد للاستبداد، ما لم تسقط القوة الذي أوجدته؛ فلذلك
وجه عبد الحميد كيده وفكره لإسقاط جمعية الاتحاد والترقي بتنفير الأمة منها باسم
الدين، وإلى التفريق والشقاق بين الجيش؛ ليضرب بما يستميله إليه منه ما يبقى
في جانبها وجانب الدستور، وإن هلكت بهذه الملكية الأمة وسقطت الدولة.
(4) وأما مسألة تغيير حرسه، واستبدال بعض عسكر الدستور بعسكر
الآستانة، فقد راوغ فيه مرارًا ثم أنفذه بالقوة، ولم يكن من سبيل إلى المقاومة
فيه، بعد أن شرعت الحربية في إعدام الذين يخالفون الأوامر العسكرية بحسب
القانون، مع علم الحرس وعبد الحميد أن الأسطول تابع للحكومة ولعسكر الدستور
لا للمابين، وأنه يمكن أن يدمر يلدز عليه وعلى حرسه تدميرًا.
(5) وأما أمره لحرس يلدز بالتسليم عندما وصل إليهم جيش الدستور بعد
استيلائه على حصون الآستانة بالقوة القاهرة؛ فسببه يقينه بأن المقاومة في هذا
الوقت تفضي إلى تدمير يلدز بالمدافع، بعدما كان من حصرها وقطع الماء والزاد
والنورعنها، وفي ذلك ذهاب حياته العزيزة، الذي جعل الدولة والأمة حفاظًا لها مدة
ثلث قرن.
(6) وأما دعواه أنه كان يمكن أن ينال عبد الحميد حماية أقوى الدول
الأجنبية؛ ولكنه لم يفعل حبًّا في الدستور، فنقول فيها: إن هذا لم يكن في
استطاعته، لاسيما بعد أن يئس من الفوز والظفر بمكيدته الأخيرة.
ويا ليت شعري، كيف يتصور رصفاؤنا في الهند أن يحارب الألوف من
عسكر الآستانة إخوانهم الذين جاءوا من سلانيك؛ لتأييد الدستور، إذا لم يكن
السلطان هو المحرك لهم؟ خرجوا عن طاعة قائدهم، وصاحوا في مواقع كثيرة:
ليسقط الدستور وليعش السلطان، وحاولوا قتل جميع أعضاء لجنة الاتحاد والترقي
فعلى أي دعامة كانوا يستندون؟ وأية قوة كانوا يعززون؟ أما أنه لو لم تظهر
الدلائل الحسية القاطعة بعد ذلك على أن عبد الحميد كان هو المدبر لهذه الفتنة
والمنفق عليها، لكان العقل وحده حاكمًا بذلك.
وإذا كان عبد الحميد قادرًا على إفساد الجيش الذي جاءت به الجمعية عليها،
ودفعه للتنكيل بها وبالدستور، فكيف كان يكون دفاعًا في مكيدته، لو كان الحرس
الذي رباه في حجر الرفاهة والدلال بقي عنده؟ أفلا يدل هذا على أن الصواب؛
هو ما فعلته الجمعية من إخراج ذلك الحرس الفاسد (الذي لم يطع نظارة الحربية
إلا بالقوة) من قصر هذا السلطان الذي مرد على الاستبداد، حتى امتزج بلحمه
ودمه وعصبه؟ أليس هذا الدليل أصح من دليل صديقنا على كون الرضا بإخراج
ذلك الحرس كان خطأ.
هذا هو القسم الأول من الكلام؛ وهو ما يتعلق بالدفاع عن سيرة عبد الحميد
في عصر الدستور وأما القسم الآخر منه وهو في سيرته قبل الدستور، فيشتمل
على عدة دعاوى، لم يقترن شيء منها بدليل.
1- قال: (إنه أصلح الخزانة وعمرها، حتى جعل لها اعتبارًا ماليًّا في أسواق
أوربا موازيًا لاعتبار أقوى الدول في العالم) ونقول: إن هذه الدعوى
أغرب ما كتبه الرصيف الصديق، وإنني لا أذكر أن أحدًا من الذين كانوا يطرون
عبد الحميد بالإكراه أو بالأجرة قال ذلك، أو ما يقرب منه، بل كانوا يطرونه
بأمور أخرى لا تظهر مخالفتها للحس كهذه، فقد أفسد عبد الحميد مالية الدولة،
حتى لم يعد لأحد من أوربا ولا من غيرها ذرة من الثقة بها، ولم يعد أحد يقرض
الدولة قرضًا ما إلا بضمان يستولي به على مورد من مواردها بالفعل، حتى
صارت موارد الدولة الأساسية في يد إدارة الديون العمومية وغيرها، وبهذا صار
لبعض الأمور المالية شيء من النظام. وحسبك أنه لم يكن للدولة في هذه السنين
ميزانية تجري عليها الحكومة، بل كان عبد الحميد يغتال الملايين من الدخل،
ويسلط عمال الحكومة على الاستعاضة عن مرتباتهم التي لا يصل إليهم منها إلا
القليل بسلب الأمة ونهبها بشرط أن يجعل له كبارهم كالولاة والمتصرفين نصيبًا مما
ينبهون.
وحسبك أن الحكومة قد عجزت إلى الآن عن تقديم الميزانية إلى مجلس
الأمة، وفر موسيو لوران المالي العظيم الذي جاءت به الحكومة من فرنسا؛ لينظم
ماليتها متعجبًا من الخلل الذي وجده، معترفًا بأن إصلاحه من أشق الأمور، حتى
أنه كاد يكون متعذرًا.
نعم.. إنه عمر بخراب مالية الدولة ماليته الشخصية، فكنز الملايين في
صناديق يلدز، وفي مصارف أوربا وأمريكا، وأنفق الملايين على الشهوات
والجواسيس، وهو يعلم أن عسكر الدولة كان يموت جوعًا وعريًا، حتى إنهم
كانوا يقتاتون في نجد ببذر الحنظل، فقطع أمعاءهم والعياذ بالله.
2- قال: إنه درب الجيش على قواعد الحرب الحديثة. ونقول: إن الدولة
العثمانية هي دولة حربية بالطبع، وكان السلطان محمود رحمه الله تعالى؛ هو
الذي بدأ بجعل نظام عسكريتها على الطراز الأوربي، وقد سارت الجندية فيها على
ناموس الارتقاء. ولكن اعترضها من سوء سياسة عبد الحميد ما جعل سيرها
بطيئًا، وعرضةً لضروب من الخلل والفساد؛ منه ما حل بدور الصناعة
البحرية والعسكرية (الترسانة والطوبخانة والبارود خانه) ، حتى رجعت
القهقرى، ولو سارت على سنة الترقي لاستغنينا عن شراء السلاح من أوربا بأثمان
غالية، كانت من وسائل سلب المابين للأموال المخصصة للعسكرية، وكم ظهر في
ذلك من الخيانات، وهذا الضرب من الفساد يجعلنا عالة على أوربا في قوتنا
الحربية (ومنها) مقاومته للتعليم العسكري في الآستانة، حتى إنه حاول غير
مرة إبطال المدرسة الحربية التي زعبها بالجواسيس، (ومنها) ترقية الضباط
بالإرادة السنية من غير استحقاق، (ومنها) نفيه وإذلاله للضباط المتعلمين
البارعين ... إلخ ما لا محل لتفصيله هنا، ولو كان المقربون منه جاروه على كل
وساوسه في العسكرية؛ لجعلها أثرًا بعد عين. ولكن نحمد الله تعالى أن مكنها من
القضاء عليه قبل أن يقضي هو عليها.
(3) قال: إنه سعى في انتشار التعليم وبث العلوم الحديثة، ونقول: إن
التعليم من ضروريات كل دولة وكل أمة في هذا العصر، وكان من مقتضى سنة
الارتقاء أن نكون فيه مثل اليابان، إن لم نكن مثل الفرنسيين أو الألمان. ولكن عبد
الحميد حارب العلم في أمته ودولته أشد المحاربة، حتى جعل أكثر مدارسها ملاعب
أطفال (راجع ص 110 و11 من منار هذه السنة) ، وأبطل امتحان طلاب
العلوم الدينية، فتركوا الطلب والاشتغال، واعترفوا في جميع البلاد بعد إعلان
الدستور وصدور الأمر بامتحانهم: أنهم عاجزون عن الامتحان، فأعفاهم مجلس
الأمة منه في هذا العام؛ ليستعدوا له.
وقد علم العامة كالخاصة في جميع بلاد الدولة؛ أن العلم الديني والدنيوي
هو أكبر الجرائم في نظر السلطان عبد الحميد، فصاروا يتحامونه، وحدثت في
السنين الأخيرة من حكمه المشئوم بدعة تفتيش الحكومة لبيوت الناس، وأخذ
الكتب منها ومعاقبة أصحابها، فصار الناس يحرقون كتبهم بأيديهم، ومنهم من
دفنها في الأرض، حتى أحرق في سوريا عشرات الألوف من الأسفار القديمة
والحديثة في سنة واحدة.
فانظر ما أشد حرص عبد الحميد على العلم وعنايته بنشره، وما أكثر المجتهدين
والمخترعين المكتشفين في أيامه.
وقد ألقيت خطبة في رحبة القشلة العسكرية ببيروت في أواخر رمضان
الماضي، بينت فيها كيف كان ظلام الجهل ممدودًا على البلاد العثمانية، وكيف
كان الهدم واقعًا في ذلك الظلام ببناء الدولة: معارفها وقضائها وإدارتها وماليتها
وعسكريتها، وبناء الأمة: ثروتها وآدابها، ولعلنا نراجع الذاكرة فنكتب ما تملينا
علينا منه.
(4) قال: إنه (قضى ثلاثًا وثلاثين سنة يجد ويجتهد، وراء سعادة المملكة
والملة) والصواب: أنه أشقى المملكة شقاء لا نظير له، وإخواننا مسلمو الهند
الذين يقولون هذا القول، لم يروا، ولم يختبروا. ونحن نسمع بآذاننا، ونرى
بأعيننا بل الشقاء وقع على رؤوسنا، أحاط بنا من كل جانب بسوء سياسته.
(5) قال: إنه عمر الطرق، وبنى السكك الحديدية، وحفر الترع والجداول
والصواب: أنه لم يفعل من ذلك شيئًا للأمة إلا سكة حديد الحجاز، التي حمله على
الرضا بها، وسواسه الذي يخيفه من إقامة خلافة عربية بالحجاز. وما سمح به من
امتيازات السكك الحديدية للأجانب؛ فسببه أنه كان من موارد ثروته؛ لأنه كان لا
يسمح بامتياز إلا إذا أخذ لنفسه مبلغًا عظيمًا من المال، وكثيرًا من سهام الشركة،
فقد كان يبيع مصالح المملكة بذلك بيعًا؛ ولذلك كان يعطي هذه الشركات من
الضمانة الكيلو مترية، ما لا يعهد له نظير في مملكة أخرى.
ونسأل صديقنا الكاتب أن يدلنا على مكان الترع والجداول التي أحيا بها
الزراعة، أين هي؟ وما هي الثروة التي تجددت للفلاحين منها؟
(6) قال: إنه حفظ المملكة من الضياع، ونقول: إنه أضاع بسوء
سياسته ثلثها، ولو بقي على عرش استبداده سنة أخرى لأضاع الولايات المكدونية
الثلاثة، فإن جمعية الاتحاد والترقي ما عجلت بهذا الانقلاب قبل أن تتم عدته؛ إلا
لعلمها علم اليقين أن الدول اتفقت على ذلك، وأنه لا عاصم منه إلا الدستور.
وكان كثير من السياسيين يقدرون أن الدولة لا تكاد تعيش مع ذلك الحكم أكثر
من خمس سنين، وأن سبب تأخر سقوطها هو تنازع الدول فيما بينهم. وقد سمعت
كلمة من أحمد مختار باشا الغازي أكبر مشيري الدولة وقواد جندها، وأعلمهم
بحالها، سمعتها منه مرات كثيرة في السنين الأخيرة من حكم عبد الحميد؛ وهي
أكبر شهادة نطق بها لسان وأيدتها وقائع الأحوال، وقد صار نقلها عنه الآن جائزًا
فلعل إخواننا مسلمي الهند يعتبرون بها، قال: (لو اجتمعت أوربا واتفقت على
أن تضر بالدولة الإسلامية؛ كما أضر بها عبد الحميد لعجزت) .
هذا ما نبين به خطأ الجريدتين بالإيجاز، ونزيد كلمة في الرد على ما انفرد
به صاحب جريدة الأبزرور، إذ قال: إن الدولة فقدت البلغار والبوسنة والهرسك
على عهد الحكومة الدستورية , ونقول: إن هذا غلط عظيم، فإن هذه الولايات قد
ضاعت منا بحربنا الأخيرة لروسية، وإنما كانت تلك الحرب برأي عبد الحميد
ودسائسه؛ ليشغل الأمة عن الدستور، ويتمكن من إبطاله، وقد بذل مدحت باشا
(رحمه الله تعالى) جهده في سبيل تلافيها فعجز، ولا يقال: إنها كانت برأي
مجلس الأمة الأول، لما هو معلوم.
وقال: إن أعداءه شهدوا له بالدهاء والسياسة، ونقول: إننا لا ننكر أن له دهاء
ومراوغة في السياسة الخارجية، كان يستعين عليها برشوة نساء السفراء أو
إهدائهن الجواهر الثمينة. ولكن نطلب من الكاتب أن يأتينا بشهادة لها قيمة من
الأعداء أو غير الأعداء بأن عبد الحميد رقى ثروة أمته ومالية دولته، أو أجرى
فيها العدل أو نشر العلم، أو أجرى على طريقة ميكادو اليابان.
وقال: لا ينكر حبه للإسلام، ونقول: أما دين الإسلام نفسه، فلم ير من
ملوكه عبث مثله بكتب الحديث والعقائد والفقه من: منع بعضها وتحريف البعض
الآخر، ولو كان في غير عصر المطبوعات، وكان جميع المسلمين تحت سلطته لما
بعد عليه أن يطمع في تحريف القرآن، وتغيير آيات الشورى ونحوها فيه. وأما
أهله فقد كان الاضطهاد عليهم في دينهم شديدًا، من حيث لا يضطهد غيرهم، كما
كان الظلم أشد وطأة عليهم من غيرهم. نعم.. إنه كان ولوعًا بإحياء لقب الخلافة
والحرص على تعظيم المسلمين الذين تحت سلطة الأجانب له؛ لأجل أن تحترمه
دولهم، فلا تنغص عليه التمتع باستبداده.
وأما ما ذكروا من كثرة عمله فهو على المبالغة فيه عمل ضار في الغالب؛
لأنه نظر في رسائل الجواسيس الذين يمشون ويمحلون برجال الأمة، وقد قيل:
إن هذه الرسائل محفوظة كلها في (يلدز) ، وربما عجز واحد عن قراءتها في مثل
المدة التي جلسها عبد الحميد على كرسي السلطنة , وأما زعمهم أنه كان لا يحفل
باللذات فهو باطل، فإنه كان يشرب أجود أنواع الخمور، وجمع مئات من الغواني
الحسان؛ للتمتع والغناء والعزف والرقص والتمثيل وغير ذلك.
وليعلم إخواننا مسلمو الهند أننا لم نقل ما قلنا إلا عن علم وخبرة وتأييد
للمصلحة العامة بالحق والصدق؛ إذ لسنا من الذين يتوسلون بالشر إلى الخير،
وبالباطل إلى الحق، وأننا لسنا من المتشيعين لجمعية الاتحاد والترقي التي كان لها
الأثر العظيم في هذا الانقلاب الميمون، فقد رأوا أننا جمعنا في الجزء الماضي من
اتنقاد المنتقدين عليها، ما لم يجمعه كاتب.
ونختم الرد بكلمة في الخطرعلى الدولة؛ فإن الكاتبَيْنِ يخافان أن ينزل بالدولة
الهلاك بعد عبد الحميد. ونحن نقول: لا شك أن عبد الحميد كان يسير بالدولة إلى
الدمار والهلاك كما مرت الإشارة إلى ذلك، فإن سقطت (لا قدر الله لها إلا العلاء
والارتقاء) . فإنما يكون هو الذي أسقطها، وإن نجت فإنما تنجو بالدستور الذي
هو آخر سهم في الكنانة.
***
(استغاثة أهل البيت الحرام جميع بلاد الإسلام)
جاءتنا الرسالة الآتية من صديقنا الغيور الأستاذ السيد عبد الله بن صالح
الزواوي رئيس اللجنة العليا بمكة لجمع الإعانات؛ لتعمير عين زبيدة ونشر المعارف
في الحرمين.
الحمد لله وحده
جناب ذي القدر العلي، والمفخر السني، كريم الشيم، عليّ الهمم، حضرة
الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا المحترم، محرر المنار الأغر، زاده الله
مجدًا وعلوًّا وقربًا من ملك الملوك ودنوًّا، بعد إبلاغ جزيل السلام وأداء مراسم
التعظيم والاحترام، نعرض أنه لا يخفى على أنظاركم السليمة ما هو معلوم لدى
جميع أهل هذ الدين القويم؛ أعني ما لهذه البلدة السعيدة من خطارة القدر وسمو
المرتبة؛ بكونها موضع بيت الله الملك الرحيم، ومسقط رأس النبي عليه أفضل
الصلاة والتسليم. منها ظهر الدين ونما، حتى برز التمدن منه بأبدع الأشكال،
وانتشرت التعاليم، وكثر العلماء حتى علوا إلى أعلى ذروة الفضل والكمال. كيف
لا، وهي تخت ملك الملوك، ومقر بيته السعيد الذي يخضع تجاهه الملك
والصعلوك، وقد اغتصبت في الأزمان الغابرة حقوقها، ولم يلتفت أحد من القائمين
بإدارة مصالحها من المتولين عليها إلى ملاحظة دوام علوها ورقيها؛ بنشر العلم
والتعليم، ومساعدة المعلمين والمتعلمين؛ فلذلك قل فيها العلم وأهله، وقلت
الصنائع وعارفوها. والآن بحمد الله - تعالى - تغير الحال، وأملنا أن تعود إلى
أحسن مآل، حيث إن القائمين بإدارة مصالحها الآن أهل همة علية ونجدة وأريحية
عرفوا الحق لأهله، فقاموا باسترداد ذلك المجد، وحرضوا العلماء ووعدوهم
بالمساعدة، وأذنوا لهم بالكتابة إلى إخوانهم المسلمين في استحصال كل وسيلة؛
لترقية العلم والصنائع بإنشاء المدارس، والسعي في طلب المساعدة من أولي
الغيرة والحمية في جميع أنحاء العالم، ممن اتصف بصفة الإسلام؛ لأن هذه البلدة
واجب لها الحق على جميع المسلمين الخاص منهم والعام، وهذه العلوم والمعارف
هي غذاء الأرواح، والسبب في جلب الطاعة والخيرات، والانقياد والفوز بجميع
المكارم والأرباح، كما أن الماء للسكان والحجاج وكل ذي روح؛ هو قوام
الأشباح وقد قل وجوده في هذه السنين بسبب الخراب الواقع في العين المنسوبة إلى
السيدة زبيدة، حتى صار الناس لا يشكون سوى قلته، وضاعت مصالح أكثر الفقراء
بسببه، بحيث لا يحملون إلا همه، ونسيت بقية أتعاب المعيشة في جنب هذا
التعب العظيم خصوصًا، والخراب في قنوات العين جسيم، والحاصل أن جلب
الماء وتصليح قنواته يحتاج إلى المال الخطير، وأيدي أهل هذه البلاد خالية من
القليل منه والكثير، ولكنه بحمد الله - تعالى - بيد أهل الخير من المسلمين في
بقية الأقطار كثير، وقطعًا لا يبخلون بشيء منه على هذه البلاد وإصلاحها؛ بتكثير
المياه فيه، وبناء مدارس لتعلم العلوم والحرف والصنائع لساكنيها، حتى يحوزوا
عظيم الأجر حيث إن ذلك أهم المهمات، وأعظم القربات، وزيادة الخيرات
والمبرات، وفضل ذلك عظيم، وأجره جسيم، والدرهم الواحد الذي يصرف في
هذه البلدة، يقوم بمئة ألف درهم في غيرها، وأفضل من تجب إعانتهم جيران
بيت الله العظيم؛ القاطنون بواد غير ذي زرع عند بيت الله الكريم، وحجاج
بيته القادمون إليه من كل فج عميق؛ لأداء الفرض المعظم، فساعدوا ساعدوا على
إجراء الخيرات، وتقربوا إلى الله زلفى بفعل المبرات، لمثل هذا فليعمل العاملون،
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وقد تشكل مجلس مخصوص لهذا المهم الجليل من
أهل العلم، والأمانة، والديانة، والغيرة، والحمية، أهالي ومجاورين في رقعة
بطي هذا الكتاب مع تعليمات مجلسهم؛ ليعلم منه تيقن حصول الأمن التام - إن شاء
الله تعالى- في صرف ما يتحصل لهم في موضعه، لا تتطرق إليه يد غاصبة
أصلاً، فنسأل الله - سبحانه - لنا ولكم حسن التوفيق إلى إحراز الفضيلة والمنزلة
عنده من أقرب طريق، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله على
سيدنا محمد سيد الأنام وبدر التمام، ودمتم.
(المنار)
هذا هو المنشور الذي طبع، وأرسل إلى أصحاب الجرائد في الأقطار
الإسلامية، وقد زاد صديقنا رئيس اللجنة في النسخة التي أرسلها إلينا بخطه الذي
نعرفه ما يأتي:
(ثم المرجو من عالي همتكم وعنايتكم بالأمور العامة؛ القيام ببذل الجهد
لدى العموم بالتشويقات في هذا العمل الخيري، وجمع الإعانة وإرسالها إلينا، أو إلى
يد وكيل هذا المجلس في أقرب محل لكم، حيث إن للمجلس وكلاء في عدة من
البلدان منها جدة، الوكيل بها حضرة الحاج زنيل عبد الله علي رضا، وعدن
الوكيل بها محمد أفندي بن حسن علي، وسنبين أسماء الوكلاء أيضًا وننشرها في
الجرائد حتى في مصر والشام، وقد كتبنا إلى مصر عدة كتب ولخصوص الخديوي
المعظم، وصار إرسال كتاب الخديوي من طرف الولاية الجليلة وتصدق
عليه من مقامها، وكذلك كتبنا عدة كتب إلى الجهات خصوصًا: الهند وجاوه
وبخارى وقازان وبلدان العرب، وأرسلت المقالة الطويلة المعنونة بعنوان (أهل
الحجاز يستصرخون) ، وساعدنا في التحارير جملة من المعربين وغيرهم المقيمين
هنا، وحيث إن مجلتكم الغراء لها الشيوع في جهات كثيرة؛ فعسى أن تتفضلوا
دوامًا بتحريض المسلمين على المساعدة في هذه الأعمال، وتذكروا أمر الحجاز
واحتياجه للماء والتعليم، وتحسنوا لمن فيه الهمة والقدرة على المساعدة ماديًّا
ومعنويًّا بذل ذلك، وتفيدونا بالإرشاد إلى ما ينفع، فإننا مقرون بالعجز، وعندنا
القابلية للتعلم، وبذلك تنالون عظيم الأجر والثواب ودمتم.
... ... ... ... ... ... ... 15 ربيع الآخر سنة 1327
... ... ... ... ... ... ... ... ... رئيس القومسيون
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الختم)
(المنار)
قد شاع وذاع على الألسنة وفي الجرائد: أن الماء قد قل في حرم الله - عز
وجل - حتى بلغ ثمن القربة الصغيرة من الماء عدة قروش، وكاد الفقراء يموتون
عطشًا. ومن المسائل المعروفة في الشريعة أنه يجب عند الضرورة بذل الماء
وكذا الطعام لكل إنسان محترم؛ ولكل حيوان محترم (غير مهدور الدم) وجوبًا
شرعيًّا، سواء كان الإنسان مؤمنًا أو كافرًا، وسواء كان الحيوان طاهرًا أم نجسًا،
فماذا نقول في جيران بيت الله، وعُمار حرمه، وحجاجه المقيمين لشعائره،
وحقوقهم آكد، وبرهم أفضل، ومساعدتهم أكبر أجرًا، وإعانتهم أحسن ذخرًا.
إن المنار يذكر اللجنة ودولة الشريف أمير مكة؛ بالمال الكثير المتجمع من
أوقاف الحرمين بمصر، ولا أدري، هل كتب إلى الخديوي يطلب المساعدة أم
يطلب هذا المال. ثم ندعو كل من علم بما ذكر لبذل ما تجود به نفسه مما أنعم الله
عليه؛ لإغاثة حرم الله، ومن يعمره ويحجه. وإن إدارة المنار تقبل ما يرسل إليها
من المساعدات، وتعطي به وصلاً مطبوعًا، وتنشر اسم المرسل إلا أن ينهاها عن
التصريح به فنكني عنه، وتكفل إرسال ذلك إلى اللجنة في مكة المكرمة زادها الله
تكريمًا ورخاء وهي لجنة مؤلفة من خيار علماء مسلمي الأقطار المجاورين لبيت
الله؛ فهي موثوق بها، وبهذا نكتفي عن ذكر أسمائهم. وقد علمتم أيها المسلمون،
أن سلفكم قد وقفوا على الحرمين عقارًا كثيرًا، فلا تكونوا أقل منهم غيرة وعملاً
للخير {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} (التغابن: 16-17) .
***
(خلع السلطان عبد الحميد وتولية مولانا السلطان محمد الخامس)
قد ابتهج جميع العثمانيون بخلع عبد الحميد وتولية هذا السلطان الدستوري
المهذب الأخلاق، ماعدا أعوان الأول على نهب البلاد. ولما بشرنا البرق بذلك،
اجتمع جمهور من العثمانيين في بعض السمار، ودعوا صاحب هذه المجلة
للخطابة، فخطب فيهم مصدرًا خطيته بقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ} (آل عمران: 26) الآية , وبين أن مشيئة الله في نزع الملك وإيتائه منفذة لسننه
الاجتماعية في ذلك، ومنها أن إرادة الأمة إذا اجتمعت لا يعارضها شيء؛ لأن يد
الله على الجماعة كما ورد في الحديث. وبينا أن جمهور الأمة كان يظن أو يعتقد
أن عبد الحميد أعطى الدستور مختارًا، وأنه كما كان يدعي مخلص له محافظ
عليه، فلما ظهرت الفتنة الأخيرة، وعلم أنه المدبر لها لإسقاط الدستور، اجتمع
رأي السواد الأعظم من الأمة على خلعه، ولا رادَّ لرأي السواد الأعظم إذا
اجتمع.
ثم احتفل العثمانيون في حديقة الأزبكية بذلك، فخطبنا أيضًا في الموضوع،
فذكرنا الحاضرين بخطبتنا هنالك يوم أعلن الدستور، وكيف كان جمهور من
المصريين يصيحون في وجهنا بالدعاء لعبد الحميد ... إلخ (راجع 466م11)
وكيف حصحص الحق، وظهر صدق قولنا , وأطلنا في بيان سلطة الأمة وسيئات
الحكم الحميدي، وانطباق الدستورعلى الشرع، فرأينا من استحسان الناس لهذا
الخطاب، وإطرائنا به، ما لم نر له نظيرًا.
هذا وإن كل ما بلغنا من أقوال مولانا محمد الخامس وتصرفه وتواضعه
واقتصاده، يبشرنا بأنه سيكون خير سلطان جلس على سرير آل عثمان، حقق
الله ذلك.
***
(الدولة العلية الدستورية والدين ورأي غير العثمانيين من المسلمين)
يرى القارئ في باب المناظرة من هذا الجزء، رأي جريدتين من جرائد
مسلمي الهند في الحكومة الدستورية وحكم عبد الحميد الاستبدادي مع الرد
عليهما.
وقد اجتمعنا في هذا الشهر بالأمير الأفغاني (نواب بهادر صاحب خان عبد
القيوم) من كبار رجال الحكومة الخارجية في (بيشاور) على حدود الهند من
جهة الأفغان، وقد سألنا عن حال الدولة الحاضرة، فبينا له الحقائق، فأخبرنا أن
أهل الهند والأفغان يجهلونها، وأن الشائع في تلك البلاد بين المسلمين أن حزب
تركيا الفتاة يريد إبطال الحكومة الإسلامية من الدولة، وأن يجعلها حكومة
أوربية ليس لها صيغة دينية، وأنهم يحسنون الظن بعبد الحميد ويسيئونه في
جمعية الاتحاد والترقي، وقال بعد أن بينا له الحقائق: إنه يحسن أو يجب أن
يذهب وفد من الآستانة إلى الهند، يطوف فيها ويظهر الحقيقة لأهلها، وقد سافر
إلى الآستانة ليختبر الحال بنفسة. فلتعتبر الجمعية ولتفكر كثيرًا.
ولا شك أن جهل جرائد مسلمي الهند للحقائق، وتشيع أصحابها لعبد الحميد
هو الذي أحدث هذا الضرر الفادح أو قوَّاه، إذا صح ما يرتأيه بعضهم من كون
الإنكليز هم الذين يشيعون هذه الإشاعات؛ ليوهموا المسلمين أنه لم يبق في
الأرض حكومة إسلامية. إن أصحاب الجرائد المصرية الذين يشيعون على
الحكومة الدستورية الجديدة، يمدون المسلمين في هذا الغي، ويخدمون الأجانب
الحاكمين على الملايين من المسلمين خدمة عظيمة. وهكذا يجد الأجانب من المسلمين
الجاهلين أو المستأجرين من يخدم سياستهم ويخذل المسلمين.
***
(الأحكام العرفية في الآستانة)
أعلن القائد محمود شوكت باشا الأحكام العرفية في الآستانة؛ لتطهيرها من
أعوان عبد الحميد على إعادة الاستبداد، فأوجس الناس خيفة من ذلك. وعندي
أن فائدة هذه الأحكام لا تقل عن فائدة خلع عبد الحميد وأسره ونفيه، فإن الطفور
من أسفل درك الاستبداد إلى أية درجة من درجات الدستور من المُحالات الاجتماعية،
وإن كان من الممكنات النظرية والقولية ولذلك عجزت الحكومة في العاصمة وفي
الولايات عن أن تخطو خطوة واحدة في طريق الحكم الدستوري، حتى صارالناس
يلهجون في كل مكان بقولهم: إن سير الحكومة لم يتغير، وإننا لم نستفد من
الدستور شيئًا وإن لكاتب هذه السطور في ذلك كلمات، صارت تؤثر عنه في
الديار السورية منها: (إن الحكومة الاستبدادية سقطت والحكومة الدستورية ما
تكونت) ومنها (إننا أحوج الآن إلى حكومة عرفية منا إلى حكومة دستورية) وقد
قلت لناظم باشا إذ لقيته في بيروت أول مقدمي إليها في آخر شعبان من السنة
الماضية: إن الحكومة والأمة في حاجة شديدة إلى رؤساء محنكين قادرين،
ينفذون فيها الدستور بشيء من الاستبداد الباطن، المطبق على القانون في الظاهر
يكونون كمن يربي الطفل لكن على الاستقلال، لا على التقليد والاتكال، (قلت) :
وأرجو أن تكون أنت منهم لما لك من التجربة والاختيار.
كان من سبب عجز الحكومة عن تنفيذ الدستور الخوف من سخط الأهالي
عليها، إذا عاملتهم بما لم يتعودوه، وكان خوفها من الموظفين أشد، فقد كان من
سياسة عبد الحميد أن يحشر في كل دائرة من دوائر الحكومة أضعاف من يحتاج
إليهم العمل فيها، ورأت الحكومة الدستورية أنها مستغنية عن كثير من هؤلاء.
ولكنها لم تتجرأ على إخراجهم؛ لئلا يكثر سواد الناقمين منها والساخطين عليها
حتى قيل: إن موسيو لوران الفرنسي الذي جيء به لإصلاح خلل نظارة المالية
قال: إن أهم مبادئ الإصلاح إخراج الجم الغفير من هؤلاء الموظفين الذين
لا عمل لهم. فلم يجبه كامل باشا إلى ذلك، وفي هذه الفرصة فرصة الأحكام
العرفية يمكن تنفيذ ذلك وغيره، وتكوين حكومة دستورية محترمة، فتكون حلقة
الاتصال بين الماضي والحاضر.
***
(الشريف أمير مكة المكرمة والإصلاح)
جاءنا من أنباء الحجاز أن أميره الشريف، يبذل قصارى جهده في الإصلاح
وعمران الولاية وحفظ الأمن العام فيها، وقد وُفق إلى تأمين البلاد بدرجة لم يعدلها
نظير في السنين المظلمة الماضية، وقد وجه همته إلى نشر العلم، وتأليف أعراب
البادية، وتأمين سكة الحديد الحجازية. وآخر ما جاءنا من أخباره في ذلك أنه
أخذ العهد والميثاق على مشايخ حرب أن يقوموا بحراسة الخط الحديدي بدلاً من
تخريبه، وهو قد كفل لهم أن تعرض الدولة عليهم ما فاتهم من الانتفاع بنقل
الحجاج وتوفيهم أجورهم، وكتب إلى الآستانة بذلك فعسى أن تمضي الآستانة له
عهده، فإن هذه الطريقة التي سلكها هي الطريقة المثلى لحفظ وامتداد ظل الأمن،
وأما توهم مقاومة الأعراب بالقوة، واستقلال الجند بحفظ الخط فهو من وسوسة
الغرور ونزعات الشياطين التي تجعل حرم الله تعالى في خوف دائم، وخلل
ملازم، فنسأل الله أن يوفق هذا الأمير الدستوري إلى سائر ما تحتاج إليه البلاد
المقدسة من الإصلاح، ويوفق الدولة تأييده في ذلك.
***
(الأمير محمد أرسلان نجل الأمير مصطفى الشهير)
قتلت الفئة الباغية على الدستور هذا الأمير، وكان مبعوث اللاذقية، فاهتزت
لموته سوريا ولبنان، ورثاه فيهما كل ذي قلم ولسان، ونحن نشاركهم في ذلك ونعزي
الوطن بتعزية والده عنه.
__________
(1) كلمة قالتها في تلك الأيام جريدة يومية من جرائد المسلمين بمصر.(12/297)
جمادى الأولى - 1327هـ
يونيو - 1909م(12/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
استعمال الورق النشاف
في الاستنجاء والمقوى في الحذاء
(س 21 و22) من ص0م0في كرموس (السودان) .
سيدي الفاضل
ترددت كثيرًا في كتابة هذا لحضرتكم ولكني أقدمت لعلمي أنكم تسرون لنشر
التعاليم الدينية لهداية المسلمين، ووقوفهم على خلاصة الدين الحنيف.
جمعني مجلس مع لفيف من إخواني الضباط، وقد لاحظ أحدهم أني أضع في
حذائي فرشة من الورق المقوى؛ لأن به اتساعًا، فانتقد عليَّ بقوله: إن استعمال
الورق مثل هذا الاستعمال مخالف للدين الذي تدين به. وقد تناول كل منا البحث في
هذا الموضوع، حتى استدرجنا البحث والكلام في: (1) هل الورق المخصوص
الذي يوضع في البواخر مطهر، و (2) هل يجوز للمسلم استعماله، و (3) إن
كان جاز للضرورة، هل تعاد الصلوات التي يكون صلاها المسلم المسافر في مثل
هذه البواخر؛ لأنه يمنع من حمل الماء لمحلات الخلاء، و (4) هل الورق
(الذي يسمى ورق النشاف) مطهر؛ لأنه يلتقط ويمتص السوائل.
ووقف بنا البحث لهذا الحد، ولم نجد جوابًا شافيًا، وانتقلنا لمواضيع أخر،
كما هي عادتنا عند وجود عقبات لا نجتهد في إزالتها.
انفض المجلس، وأنا مشغول في إيجاد نص صريح يحل لي هذه الألغاز،
ولما لم أجد أمامي غير من أوقف نفسه لهداية العالم الاسلامي، طرقت بابكم بعد
التردد الكثير، عشمي أن أستفيد من حضرتكم لأفيد إخواني، ولكم الفضل علينا
ومن الله الأجر.
(ج) استعمال الورق الذي يوضع في مراحيض البواخر والورق النشاف
في الاستنجاء جائز، ولو مع وجود الماء وإمكان استعماله، فلا يتوقف جوازه
على الضرورة، ولا تجب إعادة صلاة من استنجى به؛ لأنه أحسن تنقية من
الحجارة التي ورد النص بالاستنجاء بها، ومن كل ما في معناها مما ذكر في كتب
الفقه، وليس هذا محل خلاف يذكر، فلا يكن في صدر أحد منكم حرج منه. ثم إن
ما قاله لكم صاحبكم في تحريم وضع المقوى في الحذاء خطأ، وفيه جرأة على
الدين بتحريم ما لم يحرمه الله، والأصل في الأشياء الإباحة، فلا تغلوا في دينكم
ولا تقولوا على الله إلا الحق.
***
لعب الشطرنج
(س 23) من كورتي (السودان) لصاحب الإمضاء بنصه.
سيدي الفاضل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية المسلم لأخيه، وبعد، فراجيك التكرم
بالرد على السؤال الآتي على صفحات جريدتكم الغراء:
هل لعبة الشطرنج المعروفة محرمة أو مكروهة في عموم المذاهب الأربعة أو
بعضها يقول بالحرمة أو بالكراهة أو الإباحة، مع العلم بأن الشيخ الدرديري ذكر
في (الشرح الصغير) على أقرب المسالك في باب جمل في الجزء الثاني، قال
في (المتن) : (واللهو حرام) وذلك كاللعب بالنرد المسمى في مصر بالطاولة،
فيحرُم كان بعِوَض أو بدونه؛ لأنه يوقع العداوة، ويصد عن ذكر الله وعن
الصلاة، وكالشطرنج والشجة والطاب والمنقلة، واستظهر بعض كراهة المنقلة
والطاب، ومحله بدون عِوض وإشغال على محرم وإلا فيحرم اتفاقًا. اهـ.
ثم قال الشيخ العدوي في حاشيته على الرسالة عند قول المتن في باب جمل:
عَلَّقَ على الأفعال المحرمة (ومنه القمار) قوله: ومنه القمار ... إلخ، وقال في
المصباح: قامرته قمارًا منه باب قاتل، وقمرته من باب قتل، انتهى. أي: إذ في
لعب الشطرنج ونحوه مغالبة، فقوله: ونحوه كالنرد والطاب ونحو ذلك حرام وإلا
بدونه شيء، انتهى.
فيؤخذ منه ذلك كله: أنه هذه اللعبة محرمة في مذهب الإمام مالك، فإذا قلتم:
بالحرمة أو بالكراهة، فما هو السبب في ذلك، وإذا كان السبب كونها تورث
العداوة كما ذكر أعلاه، فالمسابقة بالخيل تورث العداوة أيضًا مع أنها جائزة في
مذهب الإمام مالك، أفيدوناعلى ذلك مأجورين، ولكم الشكر.
وفي الختام تفضل بقبول
تحياتي واحتراماتي
... ... ... ... ... ... ... ... يوزباشي مأمور كورني
... ... ... ... ... ... ... ... عثمان عارف الرفاعي
(ج) صرح الإمام مالك في بعض أجوبته بكراهة الشطرنج وأطلق، فحمل
أكثر أصحابه ذلك على كراهة التحريم، وقال الإمام الشافعي فيه: إنه لهو يشبه
الباطل أكرهه ولا يتبين لي تحريمه. فحمل أصحابه ذلك على كراهة التنزيه،
واشتهر بين الناس أن الشافعي أباح الشطرنج، والصواب ما قلنا، ولا نعرف نصًّا
عن الشارع في تحريم الشطرنج ولا غيره مما ذكر من اللعب إلا النرد (الطاولة) ،
ولنا في ذلك فتوى مفصلة في المجلد السادس (راجع ص 373 - 378 منه) .
****
معاوية بن أبي سفيان
(س 24) من سنغافورة
سأل سائل من سنغافورة عن معاوية، هل ثبت موته على الإيمان، وهل يجوز
لعنه. وقال: إن بعض السادة الحضارمة ألف كتابًا يثبت فيه جواز لعنه، وكيت
وكيت ... إلخ، فطعن الناس فيه.
نقول: قد سأل بعض هؤلاء الحضارمة عن مسألة اللعن من قبل، فأجبنا بما
نراه. وأما مسألة موته فهي مما يفوض إلى الله - تعالى - من جهه الباطن، ونحن
لنا الظاهر؛ وهو أنه مات مسلمًا ودفن بين المسلمين , وقد علمنا أن القوم
مختلفون ومتعادون في ذلك، فنوصيهم بترك الكلام فيه؛ لأنه يخشى شره، ولا
تُرجى منه فائدة، بخلاف تحقيق بَغْيه على علي - كرم الله وجهه - فتلك من أهم
مسائل تاريخنا.
__________(12/337)
الكاتب: رفيق بك العظم
__________
الانقلاب الميمون
وأثر السلطان عبد الحميد في الدولة ومقاومته للدستور
(استدراك على المنار)
صديقي الأستاذ الحكيم
نشرتم في العدد الماضي رسالة الفاضل مولوي إنشاء الله ورسالة جريدة
أبزرور الهندية في الانقلاب العثماني، وفيها ما يدل على أن نبأ خلع السلطان عبد
الحميد أثر تأثيرًا سيئًا في الأقطار النائية الإسلامية، وأنهم يرون أنه قد افْتِيتَ عليه
بالخلع؛ لما له من المآثر الكثيرة في الدولة، وقد عدد الكاتب تلك المآثر الموهومة
وعقبتم عليها برأيكم في الخلع، وتفنيدكم لأقوال الكاتب، وبسطتم الكلام بسطًا وافيًا؛
إلا أنه يمكن أن يستدرك عليكم في الأدلة على بيان خطأ الكاتب في الدعاوى التي
استخلصتموها من مقاله، ورددتم عليها، فرأيت أن أكون متممًا لمقالكم مع زيادة في
الإيضاح؛ إقناعًا لإخواننا مسلمي الهند ومن حذا حذوهم في الاعتقاد الحسن
بالسلطان عبد الحميد، فأقول:
إن النقط الست الأولى التي تتعلق بسيرة عبد الحميد بعد الدستور، لا أريد أن
أكتب على كل نقطة منها بمفردها زيادة عما كتبه المنار الأغر، بل أقول فيها كلها
كلمة إجمالية، وأكتب على النقط الأخرى التي تتعلق بحياته بعد الدستور، كل نقطة
بمفردها.
أما كلمتي الإجمالية: فهي أن السلطان عبد الحميد لم يكن يومًا قط مخلصًا
للدستور، والدليل على ذلك أنه أعطاه مكرها، كما ذكر ذلك المنار الأغر، ومن
طالع كتاب خواطر نيازي يتضح له ذلك، وأنه لم يأل وحواشيه جهدًا في غضون
الحركة الأولى في استنباط الوسائل التي تفت في عضد الأحرار في سلانيك؛ لما
طالبوه بإعادة القانون الأساسي وهددوه بسوق الجيش إلى الآستانة، فأصر على
رفض طلبهم ومقاتلتهم بقوة جنود الأناضول، وفعلاً استدعى عدة توابير من رديف
أزمير وأمر بسفرهم إلى سلانيك، وقبل أن تتحرك هذه الجنود من أزمير، اطلعت
على كتاب ورد لبعضهم من صديق له ثمة يقول له فيه: إني أسافر متطوعًا مع
جنود أزمير إلى سلانيك لا لقتال الجيش المطالب بالحرية بل للانضمام إليه مع
جنود أزمير والتوجه إلى الآستانة؛ لإكراه ذلك الجبارعلى رد حرية الأمة التي
سلبها إياها، والضباط هنا في منتهى التحمس للوصول إلى هذه الغاية، فليطمئن
بال الأحرار في مصر، فاستودعكم الله، ولا أدري هل أراكم بعد اليوم أم لا.
ولما وطئت أقدام الجنود أرض سلانيك، أعلن الضباط في الحال انضمامهم
بجنودهم إلى جيش الحرية، وانعكس هذا الخبر بالسلك البرقي إلى الآستانة، فسقط
في يد السلطان وأعوانه، وكانوا طلبوا جنودًا أخرى من جهات الأناضول، فأوقف
سفرها ناظر الحربية، وأقنع السلطان بلزوم العدول عن هذا الرأي؛ لما فيه من
الخطر، فلم يسعه بعد ذلك إلا التسليم بمطالب جيش الحرية؛ ليتسع له الوقت في
التفكير والتدبير خصوصًا في تفريق وحدة الجيش المتواطئ على نصرة الدستور.
أخذ بعد ذلك في تدبير المكايد، فبث جواسيسه وأتباعه بين الجنود المعسكرة
في الآستانة، يغرونهم بالمال، وألف بواسطة درويش وحدتي جمعية الاتحاد
المحمدي، وأعطاها هو وأعوانه هذا الاسم الشريف؛ ليكون آلة للتمويه على
البسطاء والتغرير بهم باسم الدين؛ اذ ليس في الأمة فرد واحد ينتقد على الحكومة
الدستورية مادامت قائمة باسم العدالة والمساواة، فلا يستطيع السلطان وأعوانه
تحريض الجنود على الأحرار الدستورين، لمطلق أنهم أعوان الدستور؛ لذلك
جاءوهم من جهة الوتر الحساس فيهم، فجسوه باسم الدين وحرضوهم على المطالبة
بأحكام الشرع، والشرع في عرف العامة هو السلطان، والسلطان هو الشرع؛ لأنه
الآمر المطلق المطاع، فالنتيجة بالضرورة هي محو الدستور، ومحو كل من يقول
به في تركيا، وإعادة السلطة الاستبدادية إلى السلطان.
ثبت ذلك بالبينات القاطعة والأدلة المحسوسة، وهي النقود الكثيرة التي
وجدت مع الجنود الثائرة، ثم التقارير السرية التي وجدت في يلدز من جواسيس
السلطان وأعوانه، وفيها بيان عن نجاح الخطة الموضوعة لإثارة خواطر الجنود؛
كتقارير علي كمال بك وطيار بك وغيرهما التي نشرتها جرائد الآستانة بالحرف
ونشرت مجلة (ثروت فتون) ، بعضها مصورة بالفوتوغراف إثباتًا للحقيقة وقطعًا
للشبه، ثم ثبت ذلك بإقرار كثير من أعوان السلطان وحواشيه المقبوض عليهم؛
كجوهر أغا وحقي بك ويوسف سكه زان باشا الذي قبض عليه وهو يحمل نقودًا
تبلغ الأربعين ألف جنيه، فأقر أنه كان يريد أن يغري بها جنود الفيلق الثالث،
وغير هؤلاء كثيرون ممن أقروا بتدبير هذه المكيدة، أو ثبت عليهم الاشتراك فيها
بالأوراق التي وجدت معهم، وأهم من ذلك إقرار درويش وحدتي صاحب جريدة
(وولقان) ومؤسس جمعية الاتحاد المحمدي، فإنه أقر لمخبر جريدة (اعتدال)
الأزميرية لما قبض عليه هناك من عهد قريب؛ إذ قال له: إن السلطان هو الذي
دبر هذه المكايد، وإن لديه أسرارًا كثيرة سيذكرها في المجلس العسكري.
وزد على هذا ما ظهر من اتساع نطاق هذه المؤامرة بواسطة أشياع السلطان
وأتباع صاحب جريدة (وولقان) بحيث كان المراد بها تحريض المسلمين في كل
الولايات على فتك بعضهم ببعض؛ ليستوجب ذلك تداخل أوروبا، واقتناعها بعدم
استعداد الأمة العثمانية للحكم الدستوري. بدأت هذه الحركة المشؤومة في ولاية أدنة
وأطراف ولاية حلب، ثم ظهرت في أرضروم بين الجنود، وظهرت في ديار بكر
فأطفئت في الحال، ولم يقف دون شبوب هذه النار في كل الولايات العثمانية إلا
سرعة حركة جيش الحرية ودخوله الآستانة، ثم مبادرته إلى خلع السلطان عبد
الحميد. ولو نجحت هذه المؤامرة الخبيثة، لما بقي في تركيا حجر قائم على حجر،
ولدمرها السلطان كما دمرت مدينة أدنة التي أصبحت أطلالاً بالية، ولو أردنا أن
نأتي على تفصيل هذه الحوادث لاحتجنا إلى مجلد من المنار، فهل يقال بعد هذا:
إن السلطان عبد الحميد كان مخلصًا للدستور، وإنه أعطاه برضاه؟ وهل وجد في
تاريخ العالم ملك تنزع من صدره الرحمة، وينزل بالنفس الأمارة بالسوء إلى هذا
الحد من حب الانتقام لنفسه، ولو بتخريب المملكة التي تأسست على دماء مئات
الألوف من المسلمين، ثم يلصق مثل هذه الجناية بالإسلام وشرائعه الطاهرة؛ إذ
يثير مثل هذه الفتنة باسم الدين الإسلامي، وتحت ستار الشريعة؟
إنا نعتقد أن إخواننا المسلمين في الهند وغيرها أرفع عقولاً، وأبعد عن
التصديق بكل ما كان يقال في جرائد المنافقين عن مزايا السلطان التي تكاد تماثل
مزايا آلهة اليونان الواردة في أساطير القوم، وأنه كان من أنصار الدستور، مع أنه
هو الذي قتل واضعي الدستور مدحت باشا وإخوانه، وعطل القانون الأساسي مدة
ثلاث وثلاثين سنة، قتل في غضونها ألوفًا من شبان الأمة المائلين إلى الحرية،
منهم من ماتوا في السجون، ومنهم من ماتوا في المنفى؛ لكثرة ما عانوه من شظف
العيش، ومنهم من ماتوا إغراقًا في البحار، وآخر من كادوا يموتون تعذيبًا في
السجن من أولئك الأحرار صديقنا الحر الغيور حسين بك طوسون، وطائفة من أهل
أرضروم وفيهم مفتيها الذي مات في السجن شهيد الحرية والإنسانية. وجريمتهم أن
حسين بك طوسون الذي قضى أكثر أيام حياته بعيدًا عن وطنه مجاهدًا في سبيل
الحرية، ذهب بصفة خفية إلى أرضروم، وبث في طائفة من أفاضل أهلها فكرة
المطالبة بالقانون الأساسي والتخلص من الاستبداد، فأجابوا نداء الضمير والحقيقة،
وقاموا بالحركة الدستورية التي كانت في أرضروم منذ سنتين، فقضي عليهم جميعًا
وجيء بهم إلى الآستانة فزج بهم في سجونها، ولولا قيام جيش الحرية في
سلانيك، وإعلان الدستور، لماتوا في التعذيب عن آخرهم، كما مات من قبلهم.
وكذلك كان مع الشاب المهذب المرحوم محمود فائز أفندي [1] الذي كان
يحرر جريدتنا (الشورى العثمانية) ، وسافر إلى أزمير قبل إعلان الدستور بستة
أشهر مضحيًا حياته في سبيل الحرية، فقبض عليه وعلى عدد غير قليل من أفاضل
أهل أزمير، وزج بهم في السجون، ولاقوا من أنواع العذاب ما لا يوصف، وبعد
هؤلاء الخمسة والعشرون الضباط الذين جيء بهم من سلانيك وسجنوا في الآستانة
قبل إعلان القانون الأساسي ببضعة عشر يومًا.
كل هؤلاء كانوا عرضة للموت في السجون كما مات من قبلهم، لولا أن
تداركهم الله بقيام الجمعية في سلانيك، وظهور قوتها المتحدة بقوة الجيش،
وإرغامها السلطان عبد الحميد على إعلان القانون الأساسي، وخروج هؤلاء
المظلومين من غيابة السجن وأسر التعذيب. هذا ما أردت إضافته على ما كتبه
المنار الأغر؛ ردًّا على القسم الأول من كلام الكاتبين.
(1) وأما القسم الثاني والدعاوى الست التي لخصها المنار الأغر: فالأولى
منها المالية؛ ويكفي أن نضرب له مثلاً أو مثلين على مبلغ خللها وضعفها في عهد
السلطان الماضي؛ إذ وجوه الضعف والخلل مما لا يمكن إحصاؤه في هذه العجالة،
فالمثل الأول أن الحكومة الدستورية وجدت فيما وجدت من الخلل في المالية عدة
ملايين من الجنيهات دينًا على الدولة لجهات متعددة، لم يجدوا لها قيودًا رسميةً
فسموها الديون السائرة، واضطروا أن يعلنوا في الجرائد عنها، وكلفوا كل من في
يده مستند من أصحابها أن يراجع الحكومة في غضون مدة محدودة، وعلى هذا
فقس كل أحوال المالية , وما سبب هذا الخلل فيها إلا استئثار السلطان بواردات
الدولة، مما لا تستطيع حصره نظارة المالية؛ لتناوله لتلك الواردات مباشرةً بغير
واسطتها؛ ولأجل هذه الغاية كان ألّف منذ بضع سنين لجنة في يلدز من حواشيه
سماها اللجنة المالية؛ لمراقبة مالية الدولة في الظاهر وسلبها في الباطن، فكان أول
قاعدة وضعتها تلك اللجنة أن لا يُنفق قرش واحد من خزائن الولايات إلا بعد
استئذانها، حتى مرتبات المأمورين ونفقات الجنود التي هي طبيعية في كل ولاية
داخلة في ميزانيتها الخصوصية، وكان من ذلك أن صارت هذه اللجنة كلما اجتمع
مبلغ من المال في ولاية، تطلب إرساله إليها في الحال، وهذه تضعه تحت أمر
السلطان ينفق ما شاء منه على جواسيسه ومقربيه ومصالح الدولة، ويستأثر لنفسه
بما شاء، حتى تعطلت أمور الولايات الإدارية، وفشت الرشوة في المأمورين؛
لكي يعتاشوا بما يحصل لهم منها من النقود، وحتى صارت الفيالق العسكرية إلى
حالة من الفقر والضعف وفقد الحاجيات العسكرية، لا يمكن أن يصورها كاتب بقلم
ولا يصدقها إلا من شاهدها بعينه من العثمانيين، وإليك مثالاً منها.
لما حدثت مسألة العقبة، وتصدى الإنكليز في مصر إلى التداخل فيها، ورأت
الحكومة العثمانية وجوب إرسال الجنود إلى العقبة، وأوعزت إلى الفيلق الخامس
الذي مركزه دمشق، بإرسال تابورين من المشاة وبطارية مدافع إلى العقبة، لم
يوجد في الفيلق كله عشرون حصانًا لأجل المدافع؛ لأن خيل السواري والطوبجية
الخاصة بالفيلق الخامس انقرضت عن آخرها، ولم يشتر غيرها، فاحتيج للإتيان
بها من الآستانة، وترتب على ذلك تأخير الحملة العسكرية، وعزل والي سورية
ناظم باشا يؤمئذ؛ لأن قائد الفيلق ألقى عليه تبعة الإبطاء؛ لعدم تعجيله بدفع نقود
تكفي لتجهيز خيول هذه الحملة ولوازمها الأخرى، مع أن خزينة الولاية كانت
خالية من النقود.
هذا مثال من الأمثلة المحسوسة التي يحتاج استقصاؤها إلى كتاب ضخم،
يبين ماذا أصاب الدولة من الضنك المالي والاضطراب الإداري في عصر السلطان
الماضي، مع تنوع الضرائب والجبايات وتوالي طلب الإعانات المستحدثة، ومنها
التجهيزات العسكرية التي استمرت تجنى من الأمة عشر سنين أو أزيد، وتحشر
نقودها إلى المابين، ولما أعلن الدستور لم يجدوا لها حسابًا مضبوطًا، ولم يعرفوا
وجوه الإنفاق التي ذهبت فيها تلك الملايين من النقود التي جبيت باسم الجندية،
والجندية كانت في أحط دركات العوز والنقص في المعدات الحربية، كما أثبت ذلك
العيان الذي ليس بعده بيان.
(2) كونه درب الجند على قواعد الحرب الحديثة. فأنا أضيف على ما
كتبه المنار ردًّا على هذا الزعم: أن كل ما صرفه السلطان عبد الحميد من العناية
بأمر الجندية، كان طلاء ظاهره حسن وباطنه قبيح، فقد كان يرسل إلى ألمانيا
بعض الضباط؛ لأجل إتمام تعلم الفنون العسكرية، وقلما ضم إلى الآليات ضابطًا
من هؤلاء عند عودته؛ ليستفيد الجنود من معارفه الجديدة، بل أكثرهم كان يضم
إلى المابين والدوائر العسكرية الأخرى؛ ليكونوا مغلولي الأيدي عن العمل. وكذلك
أتي بضباط ألمانيين كهوبه باشا وغولس باشا وغيرهم؛ لأجل تنظيم الجيش
وتدريبه؛ ولكنه غل أيديهم كما غل أيدي الضباط العثمانيين المتعلمين في ألمانيا،
فمنعهم من كل عمل يترتب عليه حياة الجيش ونظامه الحربي، كما منع عنهم كل
مادة من مواد الترقي؛ من ذلك أنه حظر على الجيش إجراء المناورات الحربية منذ
عشرين سنة، والمناورات الحربية أس النظام العملي في جيوش الأمم، بل زاد في
النكاية فمنع حتى ما يسمونه (ألاي تعليمي) حتى لا يجتمع أربعة توابير في
مكان واحد تحت السلاح ولو كانوا في أقصى المملكة، وحتى أصبح التعليم العملي
مفقودًا ألبتة في الفيالق، وكما منع الجيش من التمرن على الفنون العملية منع عنه
كل المستحدثات الحربية الحديثة: كالتلفون والأتومبيل الحربي والبالون؛ كل هذا
توهمًا منه أن جيشه عدو له، حتى كان الجيش أشبه بآلة معطلة [*] ، وحتى انسل
منه الضباط الألمانيون راجعين إلى بلادهم؛ لما لم يروا ما يمكنهم من ترقية هذا
الجيش المحروم من كل وسائل الترقي الأدبية والمادية.
وأكبر دليل على ذلك، ما بلغه رجال الدولة من الخوف والاضطراب عقب
إعلان الدستور، وقيام النمسا والبلغار على الدولة: الأولى لأجل البوسنة والهرسك،
والثانية لأجل الاستقلال حتى اضطرهم ذلك إلى التعجيل بحل هاتين المشكلتين؛
تفاديًا من الوقوع في الحرب التي كانت خطرًا مؤكدًا على الدولة؛ لضعف الجيش
حتى لقد رأيت كتابًا من أحد المشيرين الكبار، بعث به لصديق له في مصر لأول
عهد الدستور، يقول فيه: نسأل الله أن يمنع عنا غائلة الحرب مع البلغاريين في
هذين الشهرين ريثما نلم شعثنا، وإلا فنحن في خطر كبير إذا وقعت الحرب الآن،
وأخبرني ضابط كبير برتبة لواء في الفليق الثاني (فيلق أدرنة) مع ناظم باشا لما
تعين قائدها للفيلق المذكور عقب الدستور وفي أثناء المفاوضات مع البلغار، فقال:
إن القائد المومأ إليه مع ما بذل من الجهد في تنظيم الجيش وتدريبه، ولم شعثه
وتجهيزه بالمعدات اللازمة، كان يقول بعد مرور شهر عليه في قيادة هذا الفيلق:
الآن يمكننا أن نقف أسبوعًا واحدًا في وجه البلغاريين، وبعد شهر آخر يمكننا أن
نقف شهرًا واحدًا، وبعد أربعة شهور يمكننا أن نزحف على عاصمة البلغار.
فانظر إلى ما كان عليه الجيش من الضعف يومئذ، وكيف كان أكبر
مشيري الدولة وقوادها يتشاءمون من وقوع الحرب مع البلغار، حتى بات كل قواد
الجيش وضباطه في هم ناصب، ودأب على العمل ليل نهار في الستة الشهور
الأولى؛ لأجل استرداد ما سلبه السلطان عبد الحميد من قوة الجيش المعنوية
والمادية في العشرين السنة الأخيرة لحكمة المشؤوم.
(3) أما التعليم فيكفي أن نقول فيه: إن المتعلمين في تركيا أقل نسبة
من المتعلمين في بلغاريا [**] التي انفصلت عن الدولة في عهد السلطان عبد الحميد
فسبقتها أشواطًا كبيرة في مضمار المعارف والعلوم، ولو أطلق السلطان عبد
الحميد حرية التعليم في الثلاث والثلاثين سنة التي حكمها، لما وجد إلى اليوم أمي
في تركيا، مع إن الأميين فيها الآن ربما زاد عددهم عن خمسة وثمانين في المئة،
والمدارس الموجودة في تركيا قد صارت إلى حالة من الخلل خصوصًا في الخمسة
عشرة سنة الأخيرة من ملك عبد الحميد؛ لا يستطيع وصفها قلم، وحسبك أن دار
الفنون في الآستانة لما أريد تنظيمها بعد الدستور، لم يجدوا في فرع الطبيعات منها
ولا آلة واحدة من آلات العلوم الطبيعية التي يطبق فيها العلم على العمل، كما أنه
لا يوجد كتاب رسمي يدرس في مدارس الآستانة في أي فن من الفنون، بل إن
المعلمين يملون دروسهم إملاء، وناهيك بمعلم يدرس وهو يحاسب نفسه على
الكلمات، ويخشى من هفوات اللسان بألفاظ علمية حرمتها نظارة المعارف بأمر
السلطان.
أما مصادرة العلماء وتشتيت الفضلاء وقتل النابغين أو إبعادهم، وإحراق
كتب العلم، فهذا مما لا يحتاج إلى دليل، وقد عثروا على تقارير رسمية من دائرة
التفتيش في نظارة المعارف مرسلة إلى المابين في كيفية إحراق الكتب المصادرة،
ينبئ بأن ألوفًا من الكتب أحرقت مرة واحدة في موقد حمام شنبر لي طاش على
أيام متوالية؛ تفاديًا من إحراقها في نفس النظارة، بعد أن ظن الناس أن حريقًا وقع
فيها لأول يوم بدئ بإحراق الكتب فيها، وقد نشرت جرائد الآستانة في الأسبوع
الماضي هذه التقارير؛ لتبرهن على ما نال العلم وأهله في عصر السلطان عبد
الحميد.
وهذه قليل من كثير مما أصاب العلم وأهله من المصادرة والاضطهاد في
عصره، وفيه كفاية للمقتنعين.
(4) أما أنه أسعد المملكة بكده مدة حكمه، فهذا أمر تفنيده يطول
خصوصًا لمن ليس هو من هذه المملكة وبعيد عنها، ويكفي أن يقال: إنه ليس في
تركيا شركة وطنية من الشركات العامة الصناعية أو التجارية؛ لأن السلطان كان
يمنع تأليف هذه الشركات إلا إذا كانت أجنبية وأعطيت اسم العثمانية. وكانت
الرشوة متفشية في دوائر الحكومة إلى حد سلبت معه الأمنية على الأموال والأرواح
وأصبحت السيطرة لأهل البغي والفساد وأرباب النفوذ. وكان المأمورون
مضطرين لمماشاة هؤلاء ومحاباتهم؛ لقلة رواتبهم وعدم أخذهم لها واحتياجهم إلى
المال من غير طرقه المشروعة، فليس ثمة عدالة ولا قانون إلا هوى الأنفس وإرادة
الحكام، فكيف تكون حالة مملكة هذا شأنها، وأية سعادة ترجى لأمة تلك حكومتها؟
نترك الجواب على هذا للكاتبين الفاضلين فإنهما على ما نعتقد من المنصفين.
(5) أما كونه عَمَّر الطرق وأنشأ السكك الحديدية والترع، فهذا لا شيء منه
في تركيا؛ فإن فيها ضريبة تسمى ضريبة العملة المكلفة، وهي تلزم كل مقتدر على
العمل أن يعمل في إصلاح الطرق بنفسه، أو يدفع أجرة عامل للحكومة،
وهي ريال فأكثر في السنة. وقد قال لي مرة بعض الناقدين: إن هذه الضريبة لو
أنفقت في سبيلها منذ وضعها إلى اليوم؛ لأمكن للدولة أن تمد بها خطوطًا بدل
الخطوط الحديدية من الفضة، على أنه لم يعمل بها طريق مرصوص بالحجر
صالح لمرور الجنود والمركبات إلى اليوم. أما السكك الحديدية فالحقيقة أنها كثرت
في زمانه؛ إلا أنها كلها كما قال المنار الأغر: في يد شركات أجنبية وفي مصلحتها
دون مصلحة الرعية والدولة، ولا يوجد في العالم شركة سكة حديد تتمتع بامتيازات
تضر بالرعية والدولة كما يوجد في بلادنا، ولنضرب لهم مثلاً سكة حديد بغداد التي
أخذتها شركة ألمانية، فقد أعطيت هذه الشركة الحق بالبحث عن المعادن، وتملكها
على مسافة عشرين كيلو مترًا من جانبي الخط أي: من ساحل البحر الأبيض في
الآستانة إلى مصب دجلة والفرات من البحر: المحيط الهندي، وفوق هذا قد
تحملت الدولة الضمانة الكيلو مترية لهذه الشركة ثلاثة عشر ألف فرنك عن كل كيلو
متر، وذلك في نظير مبالغ زهيدة أعطيت للمقربين ورجال الدور الماضي،
وبعض أسهم استأثر بها السلطان ونفر من أعوانه. فهل توجد أمة في العالم تباع
مرافقها، وتوهب أراضيها على هذه الصورة، ويكون أشد العاملين على جر هذه
المضار عليها سلطانها وحكومتها؟
إن الأمثلة على مثل هذا كثيرة، وإن صفحات المنار لتضيق عن جزء منها
فأنا أكتفي من البيان بما تقدم، كما أكتفي بما قالة المنارعن النقطة السادسة؛ لأن
النفس ضاقت من الاسترسال في هذا الموضوع، والفؤاد اضطرب من إمعان الفكر
في تلك الظلمة التي كشفها الله عنا بفضل منه، فلم يبق في استطاعة القلم تجاوز
هذا الحد من البيان؛ لما ساورني من الآلام النفسية التي كانت ملازمة لي ولكل
الأحرار العثمانيين مدة ذلك الدور المشؤوم، وقد خففها الله عنا بانقضاء ذلك الدور
الماضي، وظهور شعلة من نور الرجاء في المستقبل، كنا نأمل أن تنسينا ما فات؛
لو لم يسئنا تلقي إخواننا المسلمين لهذا الانقلاب المجيد بغير ما تلقاه به العثمانيون؛
لخلو أذهانهم عن أمثال ما ذكرناه من سيرة عبد الحميد، فيدعو ذلك إلى الرجوع
لتلك الذكرى المنغصة؛ بما أردنا به رد الشبهة وجلاء الحقيقة لإخواننا المسلمين في
البلاد النائية. على أنا لا ننسى لهم هذا التأثر بأحوال المملكة العثمانية وأخبار دولة
الخلافة، وإن كان تأثرًا بضد الواقع، فإنه محمول منهم على حسن النية وعدم
الوقوف على دخائل الأمور في الدولة العلية، ولا ريب عندنا في أن اهتمامهم بهذا
الانقلاب وخلع السلطان عبد الحميد يدل على اهتمامهم بشؤون إخوانهم المسلمين
العثمانيين، ورغبتهم الخالصة في سعادة الدولة العلية ومجدها وقوتها، وإنا لنرجو
أن تتحقق هذه الرغبة لهم، ولنا في دور مولانا السلطان محمد الخامس بعد أن ثبت
عدم تحققها في عصر السلطان المخلوع؛ إذ كان ما رؤي من خليفتنا الجديد إلى
اليوم يدل على محبة خالصة للأمة، وميل عظيم للإصلاح، وتمسك بمبادئ
الشورى والعدل، جعله الله مبدأ حياة جديدة للدولة وعدًّا مؤكدًا للمسلمين.
وحسب إخواننا في الأقطار النائية دليلاً موجبًا لسرورهم؛ مؤكدًا لآمالهم في
مستقبل دولة الخلافة هذا الانقلاب العظيم الذي قام به إخوانهم المسلمون في البلاد
العثمانية، ودعمه الجيش بقوته العظيمة. وأي دليل على أن هناك حياة عالية،
ونفوسًا نزاعة إلى الرقي ستنهض بالدولة إلى منزلة تسر لها - إن شاء الله -
قلوب الأمة الإسلامية أعظم من هذا الدليل، لا سيما وأن القائمين بهذا الانقلاب إنما
جددوا حكومة الشورى الإسلامية التي طوى صحيفتها الأمراء الجبارون منذ آخر
عهد الخلفاء الراشدين، ولم تستطع أمة من المسلمين استرداد هذا الحق المسلوب
منها إلى اليوم، فاستطاع ذلك العثمانيون والله مع المصلحين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... رفيق العظم
__________
(1) توفي هذا الشاب شهيد الواجب في الفتنة التي أثارها أعوان السلطان عبد الحميد منذ شهر في أدنة، حيث كان يقيم مؤقتًا، فأراد أن يصلح بين المتقاتلين من الأرمن والمسلمين، وينصح لهم بترك القتال، فأطلق عليه أحدهم رصاصة ألقته صريعًا، يتخبط بدمائه رحمه الله.
(*) المنار: كان يعتقد أن الجيش اذا اجتمع مسلحًا طلب الدستور؛ ولذلك منع المناورات والاجتماع، حتى اجتهد في منع حرب اليونان، فلم يجد إلى ذلك سبيلاً.
(**) إن 50 في المئة أو نصف الأهالي في البلغار متعلمون.(12/340)
الكاتب: محمود أفندي شكري الآلوسي
__________
الذكر ورابطة النقشبندية
لما اطلع السيد محمود شكري أفندي الألوسي عالم العراق المصلح الشهير
على ما كتبناه في رابطة النقشبندية - استحسنه وفضله على جميع ما كتبه العلماء
في ذلك، وأرسل إلينا القصيدة الآتية، وقال: إنها للشيخ عثمان بن سند النجدي
نزيل البصرة - رحمه الله - وكان من رجال أواسط القرن الثالث عشر في إبطال
الرابطة التي يقول بها المتصوفة.
أخل الفؤاد إذا ما كنت ذاكره ... تكن فتى بسلاف الذكر قد سكرا
فكيف يدعو لإخلاء الفؤاد من الـ ... ـأغيار طرًّا ليصفو الذكر للفقرا
فكيف يدعو إلى تصوير صورته ... في خاطر فيه نور الله قد سفرا
فأصقل فؤادك بالذكر اللذيذ وكن ... ممن عن الغير في أذكاره نفرا
لم يحل قط شهود الله في خلد ... إلا إذا لم يكن فيه سواه يرى
وإن يكن من أناس من يشاهدهم ... مولاه يذكر ما أنوارهم نظرا
إذ صورة المصطفى صحت بها كتب ... وما بتصويرها أصحابه أمرا
لو كان من ديننا تصوير مشيخة ... لكان أجدر لكن تقتفي الأثرا
فحسبنا باتباع المصطفى شرفا ... إن مال نحو اتباع غيرنا وجرى
فيا مريد الهدى استمسك بعروته ... وقل إذا السالك استهداك معتبرا
دع التوجه إلا للذي فطرا ... واسلك على الشرع واترك ما سواه ورا
فسالك لسبيل المصطفى ثبتت ... أقدامه ومريد غيره عثرا
إن الطريق إن عرفتها عمل ... بالشرع فاعمل به وانظر لما نظرا
وبعد تخلية فاعمل بتحلية ... وإن تحلية أخذ بما أمرا
من سار لله نقى السر من كدر ... لا ينظر الله سرًّا أشرب الكدرا
وأخرج عن النفس والأغيار تحظ به ... لم يحظ بالله مملوء الحشا غيرا
ولا تظن اشتغالاً بالعلوم شقى ... إن الشقاء لمن غير العلوم يرى
فالعلم يحمله من كل ما خلف ... عدو له فهم من غيرهم أمرا
ينفون تحريف ذي الأبطال عنه فكم ... مدقق منهم دين الهدى نصرا
لاتحتقر سالكًا علمًا فسالكه ... سام وتاركه بالجهل قد حقرا
وارج الحوائج من مولاك لا بشر ... وإن سما من مقام الصالحين ذرى
لو كان مستلبًا منه الذباب ولم ... يقدر الله إنقاذًا لما قدرا
فافزع إلى الخالق المعبود معتصمًا ... في كل ما حدث إن جل أو صغرا
واعبد كأنك مولى العالمين ترى ... فإن تكن لا ترى مولاك فهو يرى
واحذر دسائس نفس ربما قتلت ... ففي الدسائس منها دقق النظرا
الذكر ركن عظيم من طريقتهم ... وخيره ما عن المختار قد أثرا
جد في السير للرحمن مقتفيًا ... آثار من فات كل الخلق حين سرى
وكل مؤمنة أو مؤمن فله ... حق عليك فأحبب منهما الأثرا
واخش احتقارك للعاصي لمعصية ... فرب عاص تعدى ذنبه غفرا
فمكر ربك لا تأمن وكن رجلاً ... مستمسكًا أبدًا من شرعه بعرى
لا ناظرًا عملاً لكن لرحمة من ... كل الأنام اليه دائمًا فقرا
معلقًا منك آمالاً بذيل ندى ... من فضله الجم ذرات الورى
غمرا اذكره في خلوة أو جلوة لترى ... مما له عند أملاك سموا ذكرا
وبالنواجذ فاعضض شرع مرسله ... ودع أقاويل أقوام جرت هذرا
ما خالف الشرع مردود وقائله ... بذا روينا عن الهادي لنا خبرا
والدين أكمله المولى فليس به ... نقص فيكمله من نقصه ظهرا
إن الأطبا أساة الدين هم علما ... قد دققوا في معاني السنة النظرا
حامون حوزتها عن كل مؤتفك ... مزين في طريق الله كل فرا
لا توقعن نظرة يومًا على عمل ... إن رمت إخلاص أقوام بدوا غررا
إخلاصهم عرف الرفاق زاد على ... أن لا يكون لإخلاص له نظرا
لا مثل من حقروا أعمال غيرهم ... واستعظموا كل فعل منهم صدر
__________(12/350)
الكاتب: محمد بن الشيخ الطاهر الحلي
__________
النساء والحجاب والتعليم
وردت إلينا هذه القصيدة من بغداد في معارضة الشيخ محمد بن الشيخ
الطاهر الحلي لقصيدة الشيخ معروف الرصافي التي نشرناها في الجزء الثاني:
لنعم مؤدب الخفرات بيت ... يقمن به إلى يوم الممات
يقرن به كواكب في بروج ... ولا يعدونه متبرجات
فما لك ياغيور نظمت شعرًا ... نثرت به عقود البينات
تعرض في نساء القوم قدمًا ... وتعرض عن أوامر صادعات
فقد قال الإله (وقرن) أمرًا ... يؤدب فيه خير الأمهات
فإن تفهم سوى المعنى فبين ... وإن تزعم له نسخًا فهات
نشدتك هل قصدت بذا بيانًا ... على حسن اقتدار والتفات
أو استنبطت ذا من فعل خير النـ ... ـساء العالمات العاملات
فإن تك آمنًا في العلم بحرًا ... تحل لعائليها المشكلات
فقد كان المعلم خير زوج ... بحجرة بيته لا المدرسات
وقد كان الأولى سألوا علومًا ... بنيها لا البعيد من العدات
فمن تغدو على القسيس كيما ... تعلم ضرب عود أو كرات
وتأتيها الرجال تنال منها ... فتؤتى في منازلها وتأتي
كمن أخذت عن المختار علمًا ... وعلمت البنين أو البنات
قياس لا ينسم في هواء ... ولا ينساغ في ماء فرات
فهل هذا لعمر أبيك إلا ... كتسوية الذين مع اللواتي
وما ذكر كأنثى نص فيها الكتـ ... ـاب لقول إحدى العالمات
ونقصان النساء حجى ودينًا ... صحيح في مسانيد الروات
أأم المؤمنين إليكِ نشكو ... مصيبتنا بهتك المؤمنات
يريد الله أن يغضضن طرفًا ... ويدنين الجلابب ساترات
ولا يبدين زينتهن إلا ... لطفل ليس يعلم بالهنات
ويُسألن المتاع ورا حجاب ... ويلقين الرجال محجبات
فكيف يليق أن تلقي حجابًا ... وتبرز للعيون الشاخصات
ونرضى أن تلوح بكشف وجه ... ولو بين الأعفاء الأبات
فتلك مصيبة يا أم منها ... نكاد نغص بالماء الفرات
__________(12/351)
الكاتب: باحثة البادية
__________
خطبة خطيبة مصرية على النساء
نشرت الجريدة مقالات مفيدة في شؤون النساء والبيوت لكاتبة مصرية مسلمة لقبّت نفسها بهذا اللقب (باحثة بالبادية) ثم إنها دعت بلسان الجريدة
النساء إلى سماع خطبة لها في شؤونهن مع الرجال فأجاب دعوتها مئات منهن
فاجتمعن يوم جمعة في نادي حزب الأمة، وسمعن منها هذه الخطبة.
أيتها السيدات: أحييكن تحية أخت شاعرة بما تشعرون، يؤلمها ما يؤلم
مجموعكن، وتجذل بما تجذلن به، وأحيي فيكن كرم النفس؛ لتفضلكن بتلبية
الدعوة لسماع خطبتي. إن أطلب بها إلا الإصلاح ما استطعت، فإن أصبت كان ما
أرجو، وإن أخطأت فما أنا إلا واحدة منكن، والإنسان يخطئ ويصيب. فمن رأت
في خطبتي رأيًا مخالفًا لما تعتقد، أو أحبت المناقشة في نقطة ما فلتتفضل بإبداء
ما يعِنّ لها بعد انتهاء كلامي.
أيتها السيدات: ليس اجتماعنا اليوم لمجرد التعارف، أو لعرض مختلف
الأزياء ومستحسن الزينات. وإنما هو اجتماع جدي أقصد به تقرير رأي لنتبعه،
ولأبحث فيه عن عيوبنا فنصلحها , فقد عمت الشكوى منا، وكثرت كذلك شكوانا
من الرجال. فأي الفريقين محق في دعواه؟ وهل نكتفي من الإصلاح بمجرد
التذمر والشكوى؟ لا أظن مريضًا طاوع أنينه فشفاه، يقول المثل العربي: (لا
دخان بلا نار) ، ويقول الفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر: (إن الآراء التي
تظهر لنا خطأ، لا يمكن أن تكون خطأ محضًا، بل لا بد أن يكون فيها نصيب من
الصحة والصواب) إذن فنحن والرجال متساوون في صحة الدعاوى وبطلانها،
كلنا متظلمون، وكلنا على حق مما نقول، بيننا وبين الرجال الآن شبه خصومة وما
سببها إلا قلة الوفاق بيننا وبينهم. فهم يعزون هذه الحالة؛ لنقص في تربيتنا وعوج
في طريقة تعليمنا، ونحن نعزوها لغطرستهم وكبريائهم، وهذا الاختلاف في إلقاء
المسئولية زادنا اختلافًا في العيش، وأوسع هوة الجفاء بين الرجال والنساء في
مصر، وهو أمر لا ننظر إليه بعين الارتياح، وإنما نأسف له ونتوجس منه، لم
يخلق الله الرجل والمرأة ليتباغضا، ويتنافرا، وإنما خلقهما الله ليسكن أحدهما إلى
الآخر فيعمر الكون؛ إذ في ائتلافهما بقاؤه ولو انفرد الرجال في بقعة من الأرض
وانعزلت النساء إلى أخرى، لانقرض الحزبان وحقت عليهما كلمة الفناء.
تُدركن معنى قولي هذا من صعوبة الرد على هذا السؤال: أي الجنسين أصلح
للبقاء في الدنيا النساء أم الرجال؟ فإذا أجابت إحداكن: الرجال؛ لأنهم يقومون
بشاق الأعمال من بناء واختراع وزرع وغيره - لعارضتها بقولي: ولأجل من
تُتجشم تلك الصعاب، ولا نساء يتسلسل منهن النسل لعمار هذا الكون؟ إذا قلنا
النساء لأنهن مدبرات البيوت وأمهات النشء؟ لقلت: ومن أين يأتي النشء، ولا
أب له؟ هذا قياس على نظام الطبيعة الحالي، ولا نتوسع بالافتراضات
والمتوهمات، فقد كان الله قادرًا على خلق نظام آخر للتوالد، وهو قادر على
خلق مثله. ولكنا للآن لم نسمع إلا بمثال واحد لهذا الشذوذ هو: مثال سيدنا عيسى
عليه السلام. فالمرأة والرجل للكون كالخبز والماء للجسم، أو الشمس والماء
للزرع، ولو استعاضت إحدانا باللبن عن الماء، فإن اللبن بالتحليل يحتوي
الماء، فالكتب السماوية كلها مجمعة على أن أصل البشر من آدم وحواء، والقائلون
برأي دارون لم ينكروا ضرورة لزوم الذكر والأنثى للتوالد من الحيوانات
الأولى التي زعموا أنها ارتقت بالتدريج إلى مصاف الإنسان، كذلك الحال في كل
جسم حي نامٍ، فإن النباتات كلها فيها الذكورة والأنوثة، والزهرة على
لطافتها وصغر حجمها تحتوي شكلين مختلفين من العروق: أحدهما لقاح للآخر،
كذلك جعلهما الله لينتج منهما الحب الذي فيه بقاء النوع، وسلط عليه الريح تسفيه
إلى الأرض، فإذا ما جاده الغيث أو لقي ريًّا نبت ونما وصار شجرًا مما وقع منه،
فنظام التوالد هذا مطرد في كل الأجسام الحية من حيوانات ونبات، لا شك فيه ألبتة،
وإذا راجعنا إحصائيات العالم كله، وجدنا أن عدد الذكور والإناث فيه يكاد يكون
واحدًا أو بفرق قليل جدًّا، هذا دليل على أن الله خلق رجلاً لكل امرأة، هذا بقطع
النظر عن الحروب وغيرها مما قد يخل بهذا التوازن الطبيعي الدقيق، إذن فمحاولة
الاعتزال بين الرجال والنساء مستحيلة، وعليه فلا فائدة من هذه الغارات القلمية
الشعواء بيننا وبينهم، والأوفق أن نسعى للوفاق جهدنا، ونُزيل سوء التفاهم
والتحزب؛ لتحل بدلهما الثقة والإنصاف؛ ولنبحث أولاً في نقط الخلاف.
يقولون: إننا بتعلمنا نزاحمهم في أشغالهم، ونترك أعمالنا التي خلقنا الله لها
فليت شعري، ألم يكونوا هم البادئين بمزاحمتنا، كانت المرأة في العهد السابق؛
تغزل الخيط وتنسج ثيابًا لها ولأولادها، فاخترعوا آلة الغزل والنسيج فأبطلوا عملها
من هذا القبيل، كانت المرأة المتقدمة تغربل القمح وتهرسه وتطحنه على
الرحى بيديها، ثم تنخله وتعجنه فتهيئ منه خبزًا، فاستنبطوا ما يسمونه (الطابونة)
واستخدموا فيها الرجال، فأراحونا من ذلك العمل الكثير. ولكنهم عطلوا لنا عملاً
ثانيًا. كانت كل امرأة من السالفات تخيط لنفسها ولأفراد بيتها فتفننوا لنا آلة للخياطة،
يشتغل في استخراج حديدها وصناعتها الرجال، ثم جعلوا منهم خياطين يخيطون
لرجالنا ولأولادنا، فأدوا لنا بذلك عملاً ثالثًا، كنا نكنس حجرنا أو تكنسها الخادمات
بمكانس من القش، فاستنبطوا آلة الكنس التي يكفي أن يلاحظها خادم صغير،
فتنظف الرياش والأثاث، كانت الفقيرات والخادمات يجلبن الماء لبيوتهن أو لبيوت
سادتهن، فاخترع الرجال القُصب (المواسير) والحنفيات تجلب الماء بلا تعب،
فهل ترى عاقلة الماء يجري عند جارتها في أعلى طبقات منزلها وأسفله وتذهب
لتملأ من النهر، وقد يكون بعيدا؟ أو هل يعقل أن مدنية ترى خبز (الطابونة)
نظيفًا طريًّا لا تتكلف له سوى ثمنه، تتركه لتغربل وتعجن، وقد تكون ضعيفة البنية
لا تتحمل تعب تجهيز القمح وعجنه، أو فقيرة لا تستطيع تأجير خدم له، أو وحيدة
لا مساعدة لها عليه، أظن الرجال لو كانوا محلنا لما فعلوا سوى ما فعلناه، وما من
امرأة تقوم بهذه الأعمال كلها إلا القرويات اللاتي لم يدخل قراهن التمدين، بلى
إنهن يستعضن عن الرحى بوابور الطحين، وبعضهن عن الملء من البحر
(بطلومبات) يضعنها داخل دورهن.
ولست أريد من قولي هذا أن أذم الاختراعات المفيدة التي اخترعها الرجال؛
لتسد كثيرًا من أعمالنا، أو لأقول: إنها زائدة عن حاجتنا، وإنما كان هذا الشرح
ضروريًّا؛ لبيان أن الرجال هم البادئون بالمزاحمة، فإذا ما زاحمناهم اليوم في
بعض أشغالهم، فإن الجزاء الحق من جنس العمل.
على أن مسألة المزاحمة هذه ترجع للحرية الشخصية، فزيد راق له أن يكون
طبيبًا، وعمرو ارتأى أن يكون تاجرًا، فهل يصح أن نذهب للطبيب ونقول له:
لا تحترف هذه الصناعة بل كن تاجرًا، وهل يمكننا أن نجبر التاجر على أن
يصير طبيبًا؟ كلا، فكل له حرية يفعل ما يشاء، ولا ضرر ولا ضرار، أو هل
يجوز أن يمنع مهندس قديم من يحترف هذه المهنة من غيره؛ لأنه كان يكتسب ربح
بلد بأكمله، فجاء له هؤلاء المهندسون الجدد يقتسمون أرباحه؟ ولو جاز ذلك قوة
لما صح أن يجوز شرعًا وحرية، ولما قامت من أجله الشحناء بين الرئيس
روزفلت وشركات الاحتكار، فإذا كان المخترعون والصناع أبطلوا جزءًا كبيرًا من
أعمالنا، فهل نقتل الوقت بالكسل، أو نبحث عن عمل يشغلنا؟ لاغرو أننا نفعل
الثاني، ولما كانت أشغال منزلنا قليلة، لا تشغل أكثر من نصف النهار، فقد تحتم
أن نشغل النصف الآخر بما تميل إليه نفوسنا من طلب العلم، وهو ما يريد أن
يمنعنا عنه الرجال؛ بحجة أننا نشاركهم في أعمالهم.
لا أريد بقولي هذا أن أحث السيدات على ترك الاشتغال بتدبير المنازل
وتربية الأولاد، إلى الانصراف لتعلم المحاماة والقضاء وإدارة القاطرات، كلا.
ولكن إذا وجد منا من تريد الاشتغال بإحدى هذه المهن، فإن الحرية الشخصية
تقضي بأن لا يعارضها المعارضون، يقولون: إن الحمل والولادة مما يجبرنا على
ترك الشغل؛ ويتذرعون بذلك إلى جعلها حجة علينا. ولكن من النساء من لم
تتزوج قط، ومنهن العقيمات اللاتي لا ينتابهن حمل ولا ولادة، ومنهن من مات
زوجها أو طلقها، ولم تجد عائلاً يقيم أوَدَها، ومنهن من يحتاج زوجها لمعونتها،
وقد لا يليق بهؤلاء أن يحترفن الحرف الدنيئة، بل ربما يملن إلى أن يكن معلمات
أو طبيبات حائزات لما يحوزه الرجال من الشهادات، فهل من العدل أن يمنع مثل
هؤلاء عن القيام بما يرينه صالحًا لأنفسهن قائمًا بمعاشهن؟ على أن الحمل والولادة
إذ كانا معطلين لنا عن العمل الخارجي، فهما معطلان لنا عن الأعمال البيتية أيضًا
وأي رجل قوي لم يمرض، ولم ينقطع عن عمله أحيانًا؟
يقول لنا الرجال ويجزمون: إنكن خلقتن للبيت، ونحن خلقنا لجلب المعاش
فليت شعري، أي فرمان صدر بذلك من عند الله؟ من أين لهم معرفة ذلك والجزم
به، ولم يصدر به كتاب؟ نعم.. إن الاقتصاد السياسي ليأمر بتوزيع الأعمال،
ولكن اشتغال أفراد قلائل منا بالعلوم لا يخل ذلك التوزيع، وما أظن أصل تقسيم
بين الرجال والنساء إلا اختياريًّا بمعنى أن آدم لو كان اختار الطبخ والغسل، وحواء
السعي وراء القوت، لكان ذلك نظامًا متبعًا الآن، ولما أمكن أن يحاجنا
الرجال بأنا خلقنا لأعمال البيت فقط، وها نحن أولاء لا نزال نرى بعض الأقوام
كالبرابرة مثلاً، يخيط رجالهم الثياب لأنفسهم ولأفراد بيتهم، ويتجشم نساؤهم مشقة
الزرع والقلع، حتى إنهن ليتسلقن النخل لجني ثمارها. وهاهم نساء الفلاحين
والصعايدة يساعدون رجالهم في حرث الارض وزرعها، وبعضهم يقمن بأكثر
أشغال الفلاحين؛ كالتسميد، والدراس، وحمل المحصولات، ودق السنابل
والبراعم (الكيزان) وسوق المواشي، ورفع المياه بما يسمونة بالقطوة، وغير
ذلك من الأعمال التي ربما شاهدها منكن من ذهبت إلى الضِّياع (العِزب) ورأت
أنهن يقدرن عليه تمام القدرة كأشد الرجال، ونرى مع ذلك أولادهن أشداء وأصحاء
فمسألة اختصاص كل فريق بشغل مسألة اصطلاحية لا إجبار فيها , وما
ضعفنا الآن عن مزاولة الأعمال الشاقة؛ إلا نتيجة قلة الممارسة لتلك الأعمال، وإلا
فإن المرأة الأولى كانت تضارع الرجل شدة وبأسًا. أليست المرأة القروية كأختها
المدنية؟ فلماذا تفوق الأولى الثانية في الصحة والقوة؟ هل ترْتَبن في أن امرأة من
المنوفية تصرع أعظم رجل من رجال الغورية لو صارعته؟ فإذا قال لنا الرجال:
إننا خلقنا ضعيفات، قلنا: لا، وإنما أنتم أضعفتمونا بالمنهج الذي اخترتم أن نسير
فيه. حدثتني سيدة عالمة أنها في سياحتها بأميركا رأت بعينها هنودها الحمر تتحرك
آذانهم من تلقاء نفسها تجاه الصوت الذي يترقبونه كآذان الخيل والحمير. ذلك
نتيجة استعمالهم لها، وقد توارثوه أيضًا وهم في حاجة إليه؛ لتستمع زئير السباع
وعواء الوحوش التي ربما تهاجمهم في فلواتهم. كذلك نجد حواس الوحشيين أقوى
من حواسنا بكثير؛ فهم يشمون رائحة الوحوش من بعيد. أما نحن فلا ولم يكذب
من قال: إن الوظيفة تُكوِّن العضو. هؤلاء العميان يعتمدون كثيرًا على حاسة
السمع بعد فقد حاسة البصر، فتقوى فيهم بالتدريج تلك الحاسة إلى أن تبلغ غاية قد
تعد من الخوارق عندنا، فهل بعد أن استبعدنا الرجال قرونًا طوالاً حتى خيم على
عقولنا الصدأ، وعلى أجسامنا الضعف. يصح أن يتهمونا بأنا خلقنا أضعف منهم
أجسامًا وعقولاً؟ إنهم لو انصفوا ولم يتحزبوا لما عيرونا بأننا قليلات النبوغ، وأنه
لم يسمع بإحدانا غيرت قاعدة في الحساب والهندسة مثلاً. وليتفضل أحدهم باختبارنا
عما استنبطه من تلك القواعد؟ أو ليست قواعد الحساب هي بعينها من زمن اليونان
الأول إلى الآن، ونظريات الهندسة لم تزل تلك التي كان يعرفها قدماء المصريين
والرومان. نحن نعترف لرجال الاختراع والاكتشاف بعظيم أعمالهم. ولكني لو
كنت ركبت المركب مع خريستوف كلومب لما تعذر عليّ أنا أيضًا أن أكتشف
أميركا. وحقيقة أن النساء لم يخترعن اختراعات عظيمة. ولكن كان منهن النابغات
في العلوم والسياسة والفنون الجميلة أي: فيما سمح لهن بممارسته، وبعضهن فُقن
الرجال في الفروسية والشجاعة كخولة بنت الأزور الكندي، فقد عجب منها عمر
بن الخطاب، وأعجب باستقتالها في فتوح الشام حينما أرادت تخليص أخيها من
أسر الروم، وجان دراك التي قادت جيش الفرنسيس بعد انكساره أمام الإنكليز،
فشجعتهم على استمرار القتال، وأصلت محاربي وطنها حربًا عوانًا. ولن أضرب
مثلاً بالنساء اللاتي تولين المُلك فأحسنَّ سياسته: ككاترينا ملكة روسيا، وإيزابلا
ملكة أسبانيا، وإليزابث ملكة إنكلترا، وكيلوباترة، وشجرة الدر امرأة الملك
الصالح، وأم طوران شاه التي حكمت مصر، فقد يقول معارضونا: إنه دبره لهن
الوزراء وهم رجال على أنه لو صح هذا القول في عهد الدستوريين كالملكة فكتوريا
مثلاً، أو لهلمينا ملكة هولانده الحالية، فلا يصح تطبيقه على أيام الحكم المطلق.
إننا الآن في ابتداء القيام بتعليم البنات، فقول بعضهم بالاقتصارعلى هذا،
وذاك مثبط للهمة، ورجوع إلى الوراء، في حين أنه لا خوف من مزاحمتنا لهم
الآن؛ لأننا لا نزال في الدور الأول من التعليم، ولا تزال عاداتنا الشرقية تثنينا
عن الاستمرارعلى الدرس الكثير، فليهنأوا بوظائفهم، وما داموا يرون مقاعد مدرسة
الحقوق والمهندسخانة والطب والجامعة خالية منا، فليقروا عيونًا، ولينعموا بالاً،
فإن ما يتخوفون منه بعيد. وإذا فرض واشتاقت إحدانا لتكملة معلوماتها في إحدى
تلك المدارس، فأنا واثقة أنها لن تُقَلد وظيفة أو تشتغل خارجًا، وإنما تفعله لإطفاء
شوق النفس للعلم أو الشهرة، ولما نفعله. فإذا كنا لم نشتغل بالمحاماة، ولا بتقلد
الوظائف الحكومية، أفلا تشغلنا عن تربية النشء إلا قراءة كتاب أو خط جواب؟
أظن ذلك مستحيلاً. على أن الأم مهما تعلمت وبأي حرفة اشتغلت، فلن ينسيها ذلك
أطفالها، أو يفقدها عاطفة الشفقة والأمومة، بل بالعكس إنها كلما تنورت أدركت
مسؤوليتها. ألم ترين الفلاحات والجاهلات يظل يبكي طفل الواحدة منهن ساعات
وهي تسمعه ولا تتحرك إليه. فهل يا ترى كان شغل هؤلاء أيضًا تحضير القضايا أو
الاشتغال بالتحرير والقراءة.
ولا يغيظني أكثر من أن يزعم الرجال أنهم يشفقون علينا. إننا لسنا محلاًّ
لإشفاقهم، وإنما نحن أهل لاحترامهم، فليستبدلوا هذا بذاك، والإشفاق لايتأتى إلا
من سليم لعليل، أو من جليل لحقير. فأي الصنفين يعتبروننا؟ تالله إنا لنأنف أن
نكون أحد هذين.
قال قائلهم: لا تعلموا البنات من الحساب إلا القواعد الأربع؛ لأنهن لن
يحتجن لأكثر منها. فمن أين له أننا لن نودع نقودنا في مصرف، أو نبيع وثيقة
(كمبيالة) أو يغالطنا وكيل في قياس قطعة أرض؟ إنه إذا ادعي بذلك تفضيل
الرجال على النساء في علم التكهن والرجم بالغيب أيضًا، لقلنا: لم تصح هذه
الفراسة، فقد أظهر الواقع غير ذلك. أما ما يذهب إليه من تفضيل لغة في التعلم،
فذلك ما لا أفهمه؛ لأني أعتبر اللغات كلها نافعة، ولو وجدت من يعلمني البربرية أو
الصينية لتعلمتها. إذا كان لآداب اللغة فإن الفارسية والألمانية والإنكليزية وغيرها
ملأى بذلك. أما تعليم تدبير المنزل وتربية الأطفال، فيجب أن نشكر للدكتور
نظمي اهتمامه بها وحثه عليهما.
أيتها السيدات: العلم منير للعقل على أي حال، سواء عمل به أو لم يعمل،
فماذا يضرنا أننا لا نشتغل بمسح الكرة الأرضية ولا بالسياحة. ولكن نعلم مواقع
البلاد وأبعادها، إن الطبيب يتعلم الجبر في تلمذته؛ ولكنه لا يشتغل به في صناعته.
كلنا نسمع بأخبار السياسة والرجال يشتغلون بها؛ ولكنهم لا يحدثون أنفسهم بأن
يولوا مكان ذلك الملك المقتول أو السلطان المعزول، فهل نقول لهم إذا كنتم لن
تتملكوا في تلك الأمم، فلا يجوز لكم أن تعرفوا سياستها وأخبارها. نسمع في هذه
الأيام أن جيش الدستور في تركيا زحف من سلانيك إلى الآستانة وأن
حصن اسكودار تأخر في التسليم، ألا يحسن بنا أن نعرف من (الجغرافيا) ما
يهيئونا لفهم تلك الأخبار بعدما لاكتها أفواه الكبار والصغار؟ لو لم يكن للعلم لذة في
ذاته، لما اشتغل بتحصيله الملوك وهم واثقون أنهم لن يكونوا مهندسين، ولا بحارة،
ولا سائقي قاطرات. وهل تفضل السيدة التي تعرف أن تطبخ البطاطس وتنسق
الأزهار فقط، أم التي تعرفهما أيضًا ولكنها تعلم متى يؤكل البطاطس، وهل يوافق
زوجها المريض بالسكر أو جسمها السمين الذي تريد تضميره، وهل وجود أُصُص
(قصاري) الزرع في حجرتها ليلاً صالح لرئتيها الضعيفتين أم مضرٌّ بهما؟ فهذه
تعرف تدبير المنزل وتلك تعلمه , ولكن زيادة واحدة بعلم النبات تحفظ لها صحتها
وصحة عيالها من التلف، فضلاً عما تشعر به من السرور الناشئ عن العلم، نحن
نعلم أن نقص تربيتنا الأولى وتربية إخواننا الشبان لا شك؛ نتيجة جهل أمهاتنا،
فهل نعرف الداء ولا نداويه، وقد قال الحديث الشريف: (لا يلدغ المؤمن من جحر
مرتين) .
إن المدارس مهما اجتهدت في تثقيف عقول النشء وتهذيبها، فإن المنزل له
تأثير خاص على الأطفال، وإذا شعر تلميذ أن أمه عالمة أو لها نصيب من علم،
فإنه يسعى جهده ليريها أنه أهل لحبها وتقديرها إياه، فيجتهد ليحفظ سلسلة العلم؛
لتكون الصلة شديدة بينه وبينها 0 فتعلمنا الحالي ناقص، يجب أن يزاد عليه لا أن
ينقص منه.
أما ما أشكل على الرجال من علة فسادنا؛ فهو ما ينسبونه خطأ للتعليم،
وحقهم أن ينسبوه للتربية. يرى كثيرون أن العلم يهذب، ولكني لا أعتقد ذلك، بل
أصرح أن العلم والتربية منفصلان تمام الانفصال إلا في علوم الدين فقط. ودليلي
على ذلك أن كثيرين من المبرزين والمبرزات في العلوم لا خلاق لهم. وأن
الكتاب الواحد قد يدرسه معلمان مختلفان في فريقين كل على حدة، فتتعلم الفرقتان
الكتاب. ولكن نجد أثر الهمة وعلو النفس في واحدة ولا نراه في الثانية، فهذا
ناشئ من تأثير روح العلم في تلاميذه لا من العلم، وإلا فلو كان من العلم لتساوت
الفرقتان؛ لأن الكتاب واحد، والعلم لا يختلف.
يظن بعض الناس أن أحسن التربية تقبيل أيدي الزائرات، وتكتيف
اليدين خضوعًا. ولكن ما أبعد هذا عن الحقيقة. التربية الحسنة هي التي تؤهل
الشخص لأن يدرك نفسه من سواه، وما أحزم من قال: (ما هلك امرؤعرف قدر
نفسه) .
التربية الحسنة هي التي تعود الإنسان من صغره احترام الغير إذا استحق
الاحترام، حتى ولو كان عدوًّا. فالتعلم لم يفسد أخلاق الفتيات، وإنما هي التربية
الناقصة. تلك التربية في الحقيقة يجب أن تكون من أعمال البيت لا المدرسة، ولما
كانت بيوتنا لم تبلغ الدرجة التي تؤهلها لإحسان تربية الأطفال، فقد وجب علينا أن
نضاعف مجهوداتنا؛ لإصلاح شأن أنفسنا أولاً ثم إصلاح النشء، ولا يتم ذلك في
لحظة كما قد يتوهم، ومن الظلم أن نلقي مسئولية الفساد كلها على المدارس، فإن
المدارس لها تأثير في التربية. ولكن ليس عليها كل الذنب، بل العيب في الأسر.
ومن عيوبنا نحن النساء، أننا لا نكترث كثيرًا بالنصح، فإذا قامت سيدة تريد
تقرير مبدأ أو إظهار حقيقة، قال أكثرنا ما لها ولهذا، أو إن كانت تغار فلتعمل مثلنا
وغير ذلك من الألفاظ.
ومن عيوبنا السخرية والتهكم، فكثير منا تنتقد من تصادفه، وتعيب عليه لا
لعيب حقيقي يستدعي الانتقاد. ولكن لولوع بالانتقاد في ذاته، فربما انتقدت في
ساعة واحدة اثنين على خصلتين متضادتين، ولا يمكن أن يكون الشيء ونقيضه
منتقدًا، فإذا رأت امرأة سمينة قالت: إنها (كالبرميل) وكيف على ساقيها، وإذا
وجدت سيدة قليلة الكلام قالت: إنها متكبرة، وإن سمعت أخرى تتكلم كثيرًا عابت
عليها وقالت: إنها تتصنع الخفة.
ومن عيوبنا الصلف والاغترار، كنت وأنا طفلة أحفظ قصيدة سمعتها. ولكني
كنت أخلط فيها وألحن كثيرًا غير عالمة بالطبع ما كنت واقعة فيه من الخطأ،
وكانت زميلاتي الصغيرات لا يعرفن القصائد، ولم يسمعن بها، فكنت إذا قلتها
أمامهن عددنها غريبة عليهن ووسمنني بالذكاء، فما لبثت أن اغتررت بقصيدتي
وصرت أفتخر بها، حتى إذا ألقيتها ذات يوم أمام والدي أراني خطئي، وبين لي أنها
كانت مجموعة نتف من هنا ومن هناك، لا ارتباط لأجزائها ولا قافية لها، وأعطاني
كتابًا فيه شعر، فأدهشني أكثر؛ لأني كنت أحسب أن لا شعر في الدنيا
إلا تلك النتف التي كنت استظهرتها، فإذا كان تركني ولم يبين لي خطئي، فربما
كنت استرسلت في الغرور، والإنسان مهما بلغ من العلم فإنه لا يزال يقبل الزيادة
فيه، ومهما كبر فيما يعرف فإنه لا يزال طفلاً إزاء ما يجهل؛ كالبحر تستعظم منه ما
رأيت، وما لم تره أعظم. وكيف أصلح خطئي اذا كنت لا أشعر به، ولا أقبل
نصيحة من يراه.
يشكو الرجال من تبرجنا في الطرقات وحق لهم؛ لأننا خرجنا عن المألوف
والجائز، نحن نزعم أننا نحتجب. ولكنا ما بلغنا حجابًا ولا بلغنا سفورًا، لا أريد
أن نرجع لحجاب جداتنا، ذلك الذي يصح أن يسمى وأدًا لا حجابًا، فقد كانت
السيدة تقضي عمرها بين حوائط منزلها، لا تسير في الطريق إلا وهي محمولة
على الأعناق، ولا أريد سفور الأوربيات واختلاطهن بالرجال فإنه مضر بنا، إن
نصف إزارنا السفلي اليوم مِرْط (جونيلة) لا يتفق مع كلمة حجاب، ولا مع
معناها، ولا مع الحكمة منه، أما نصفه العلوي فهو كالعمر كلما تقدم قصر، كان
الحجاب الأول قطعة واحدة تلتف بها المرأة، فلا يظهر من هيئتها شيء، ثم طرأ
عليه تكمش بسيط؛ ولكنه كان واسعًا يكفي لستر الجسم، ثم تفننا فيه فصرنا نضيق
وسطة ونقصر رأسه، وأخيرًا فصل له كمان، وصار يلتصق بالظهور ولا يلبس
إلا مع المشد، ويربط من أطرافه إلى الوراء، حتى تظهر منه الآذان ونصف
الرأس أو أكثره، فتبين الورود والرياحين والأشرطة المزين بها الرأس، أما البرقع
فأشف من قلب الطفل. ما الغرض من الإزار؟ الغرض منه ستر الجسم،
والملابس والزينة اجتناب الزينة التي نهى الله عنها، فهل يتفق هذا مع المئزر
الحالي وقد أصبح (فستانًا) يُظهر النهدين والخصر والأعجاز، فضلاً عن أن
بعض السيدات ابتدأن يلبسنه أزرق وبنيًّا وأحمر، الأولى أن لا نسميه مئزرًا بل
(فستانًا بطرطور) فإنه في الحقيقة كذلك، وعندي أن الخروج بدونه أحشم لأنه
على الأقل لا يسترعي النظر، هبي أن مسألة الحجاب قد اختلف فيها الأئمة، فإذا
كان تفنن بعضنا هذا يراد به التحيل على الخروج بلا إزار، فليس عليهم فيه من
حرج إذا كشفن وجوههن بشرط ستر الشعر والجسم، وأرى أن أوفق لباس
للخارج هو تغطية الرأس بخمار وسدل رداء أشبه (بالبالطو) المسمى
(Gachepoussive) عند الفرنجة على الجسم إلى الكعب، ويكون طويل
الكمين إلى المعصمين، وهذا اللباس مستعمل في الآستانة، كما روت لي إحدى
السيدات للخروج إلى المحلات القريبة. ولكن من يضمن لنا أننا لا نقصره ونضيقه
حتى نمسخه (فستانًا) آخر؟ وحينئذ تضيق بنا حيل الإصلاح، لو أننا متربيات
من صغرنا على السفور، ولو أن رجالنا مستعدون له لأقررت بالسفور لمن تهواه.
ولكن مجموع الأمة غير مستعد له للآن، وإن كان بعض نسائنا العاقلات لا يخشى
من اختلاطهن بالرجال، إلا أننا يجب أن نتحفظ على غير العاقلات أيضًا، إننا
سرعان ما نقلد، وقل أن نبحث عن حقيقتنا فيه، ألا ترين أن تيجان الماس أصلها
للملكات والأميرات، فأصبحت الآن يلبسها المغنيات والراقصات، ولعل الشعراء
يعدلون عن كنايتهم الملكات بـ (ياربة التاج) فقد أصبحت تلك الكناية شاملة لسواهن
على أن تَفَنُّنَنَا في المئزر الحالي هو ذاته تقليد للأوربيات. ولكنا فُقناهن في
التبرج، فإن المرأة منهن تلبس أبسط ما عندها عندما تكون في الطريق، وتلبس
ما شاءت في البيت أو في السهرات. ولكننا بخلاف ذلك، نظل أمام أزواجنا بجلباب
بسيط جدًّا، ثم إذا خرجت إحدانا عمدت لأحسن ثيابها فلبسته، وأثقلت نفسها
بالمصوغات، وأفرغت عليها زجاجات العطر الطيب، وياليتها تقتصر على
ذلك بل تجعل من وجهها حائطًا تنقشه بالدهان، وتصبغه بمختلف الألوان، وتتكسر
في مشيتها كأنها الخيزران، فتفتن المارة أو على الأقل يتظاهرون لها بأنها فتنتهم.
إني واثقة أن أغلب هؤلاء المتبرجات يفعلن ما يفعلن وهن خاليات الذهن من سوء
القصد. ولكن من أين للرائي أن يتبين حسن نيتهن، ومظهرهن لايدل عليه؟
حجابنا يجب أن لا يحرمنا من استنشاق الهواء النقي، ولا من شراء ما يلزمنا
إذا لم يقدر آخر على شرائه لنا، ويجب أن لا يمنعنا عن تلقي العلم، ولا أن يكون
مساعداً على فساد صحتنا أو سببا في تلفها، فإذا لم أجد في بيتي حديقة واسعة أو
رحبة طلقة الهواء، وكنت فرغت من العمل، وأحسست من نفسي بملل أو كسل،
فلم لا آخذ نصيبي من هواء الضواحي المنعش الذي خلقه الله للكل، ولم يَحبسه في
صناديق مكتوب عليها (خصوصي للرجال) وإنما يجب أن نختار الاعتدال، وأن
لا نخرج للنزهة وحدنا؛ اجتنابًا للقيل والقال، وأن لانمشي الهوينا وأن لا نلتفت
يمنة ويسرة، وإذا لم يكن أبي أو زوجي يحسن اختيار ما أشتهيه من الملابس غير
الموجود لها عينة يمكن جلبها للمنزل، فلم لا يأخذني معه لاختيار ما يلزمني، أو
يدعني أشتري ما أريد؟ وإذا لم أجد من يحسن تعليمي إلا رجلاً، فهل أختار الجهل
أو السفور أمام ذلك الرجل مع أخواتي من المتعلمات، على أنه ليس هناك ما
يجبرني على السفور، بل إنه يمكنني التقنع والاستفادة منه، وهل نحن في إسلامنا
أعرق أصلاً من السيدة نفيسة والسيدة سكينة - رضي الله عنهما - وقد كانتا
تجتمعان بالعلماء والشعراء؟ وإذا اضطرني المرض لاستشارة طبيب لا يمكن إحدى
النساء القيام بعمله، فهل أترك نفسي والمرض، وقد يكون خفيفًا فيعضل بالإهمال
أم أستشفيه فيشفيني؟
إن حبس المصرية تفريط، وحرية الغربيين الآن إفراط، ولا أجد أصلح لأن
تقتبس منه إلا حالة المرأة التركية الحاضرة، فإنها وسط بين الطرفين، ولم تخرج
عما يجيزه الإسلام، وهي مع ذلك مثال الجد والاحتشام.
بلغني أن بعض كبرائنا (أريد كبراء الوظائف) يعلمون بناتهم الرقص
الإفرنجي والتمثيل، وهما أمران أحلاهما مر، وأعدهما تطرفًا ممقوتًا واستماتة في
تقليد الغربيين؛ لأن العادة يجب أن لا تغير إلا إذا كانت مضرة، والأنماط الغربية
لا يقبلها قوم بينهم إلا إذا رأوا ضرورتها وصلاحيتها، فأي صلاح لنا من محاضرة
الرجال والنساء ورقصهم معًا؟ أو ظهور بناتنا أمام الرائين (المتفرجين)
بصدورعارية، يمثلن أدوار الحب والخلاعة على (المرسح) ؟ إن ذلك مناف للدين
الإسلامي، هادم للفضيلة، مدخل لضار العادات بيننا، فعلينا أن نحاربه ما استطعنا،
ونظهر احتقارنا لمن تفعله من المسلمات القليلات؛ اللاتي إذ شجعناهن بسكوتنا،
فإنهن لا يلبثن أن يعدين الغير منه.
وعلى ذكر الحجاب والعادات، أذكركن بمسألة تئنّ منها السعادة، وتكاد تندثر
في بيوتنا، تلك هي مسألة الخطبة والزواج، يرى أكثر عقلاء الأمة أن لا بد
للخطيبين من الاجتماع والتكلم قبل الزواج، وهو رأي سديد لم يكن النبي صلى الله
عليه وسلم والصحابة يفعلون غيره، وهو مُتبع عند جميع الأمم بأسرها، والأمة
المصرية أيضًا إلا في طبقة واحدة هي طبقة أهل المدن، إذا ائتلف العروسان عندنا
فهو من محاسن الاتفاق (الصُّدف) وكيف يمكن الجمع بين شخصين لم ير
أحدهما الآخر، ولم يختبره على أن يقضيا العمر معًا؟ إن إحدانا إذ اتفق ورأت
عرضًا في إحدى زياراتها سيدة استثقلت ريحها، فإنها لا تصبر على
مجالستها فضلاً عن النظر اليها، وتسرع بالتملص منها، فكيف تصبر على
مضض الحياة إذا استثقلت أيضًا بعلها، وهي لم يمكنها التصبر على ثقل الغربية
لحظة واحدة في غير بيتها؟ يشير قوم باتباع خطة الغربيين من وجوب معاشرة
الخطيبين زمنا؛ ليتمكن كلاهما من استطلاع طلع صاحبه؛ ولكني أصرح
باستهجان هذه العادة، وأعتقد أنها مبنية على وهم، لا على أساس متين. إذ من
نتائج معاشرة المتشابهين الألفة ومن الألفة الحب. وإذا أحب الإنسان شخصًا لم ير
عيوبه ولم يمكنه فحص أخلاقه، فيتزوج العروسان حينذاك على حب باطل وعلى
غير هدى، فلا يلبثان أن يتنازعا وتفشل ريحهما. إنما الطريقة التي أود عرضها
على مسامعكن هي أن يتراءى العروسان ويتكلما بعد خطبة النساء المتبعة، وقبل
العقد، ويجب أن لا تظهر العروس إلا مع أحد محارمها، وتكون في أبسط لباسها.
قد يعترض على هذا الاقتراح بأن اجتماعًا واحدًا أو اثنين أو أكثر قليلاً، لا
تكفي بأن يقف الواحد على أخلاق الآخر. ولكنها على أي حال كافية لأن يشعر
الواحد باجتذاب دم الآخر له أولاً، على أن من صدقت فراسته يمكنه تبين الأخلاق
من العينين ومن الحركات والسكنات، فيتبين إن كان صاحبه متصنعًا أو طائشًا أو
سكينًا وغير ذلك. أما معرفة ماضي العروسين وبقية أحوالهما، فيجب أن يسأل عنها
من المعارف والجيران والخدم وغيرهم. وخوفًا من أن يتخذ الشبان فاسدو الأخلاق
تلك الطريقة ذريعة لرؤية بنات الناس من غير قصد الزواج، يجب على
الولي أن يتحرى سلوك الخاطب، ويتبين الجد من كلامه قبل السماح له برؤية ابنته
أو موكلته. لربما تستصعبن قبول هذه الفكرة والعمل بها. ولكن كل شيء يخال لنا
صعبًا عند الابتداء فيه، وإذا مارسناه سهل وذل، على أننا إذا كنا نعتقد بفساد
طريقتنا القديمة، ونتألم منها، ونحجم عن الإقدام على ما نراه مفيدًا لنا
مقلالا لحوادث الشقاء في زواجنا، فما أشبه يومنا بالأمس، وما أشد إثمنًا،
وما أبعدنا عن قول الشاعر:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... حياة لنفسي مثل أن أتقدما
وما الفائدة من تعلمنا إذا كنا لا نستطيع تغيير عادة مضرة، لا هي من الدين
ولا من الحكمة، وقد رأينا رأي العين سعادتنا العائلية مزعزعة، تكاد تقتلعها
صرصر تلك العادة العاتية؟! وما مثلنا في ذلك إلا كمثل رجل غرق وأشرف على
التلف، فلما بصر بقطعة خشب يمكنه النجاة بالتعلق بها أبى؛ لئلا يكون بها مسمار
فيجرح أصبعه، فابتلعته اللجة، وقد كان يمكنه النجاة لو لم يقدر الخوف من
المسمار، وما أدراه أن ظنه وتخوفه في محلهما، ولماذا نأبى أن يرانا خاطب بحجة
أننا ربما لا نعجبه، أوليست مضرة رغبتنا عنه أو رغبته عنا أخف بكثير من
تعاقدنا على الزواج قبل الرؤية، والإنسان لا يفعله في شراء دابة، فكيف يفعله في
اختيار قرين.
إن امتناعنا عن أن يرانا الخاطبون صرف كثيرًا منهم إلى الأوربيات،
فيتحمل أحدهم أن يتزوج من خادمة أو عاملة يعتقد أنه سيهنأ معها، على أن يقترن
ببنت الباشا أو البك المخبأة في (علبة البخت) . وليعذرني صديقاتي الغربيات على
هذا القول، فإني لا أريد به إهانة لهن، وإنما هن يعرفن قبلنا: أن امرأة ذات
حسب مرغوبة في شبان قومها لا تتركهم إلى فتى من غير دينها وجنسها، فضلاً
عن أن كل بلاد لها مدنيتها الخاصة بها، وتقرير أحوال مدنيتنا لا يقتضي أننا نعيب
مدنية الآخرين. قسمًا بالله لو جاء البارون روتشيلد أو المستر كارينجي إلى ابنة
كاتب عندنا مرتبه أربعة جنيهات شهريًّا (يخطبها) لما رد بغير الخيبة، فإذا لم
نعمل على تدارك هذا الخلل في مجتمعنا، لم نلبث أن يحتلنا نساء الغرب أيضًا،
فنقع في احتلالين: احتلال الرجال واحتلال النساء، وثانيهما شر من أولهما؛ لأن
الأول إذا كان حصل على غير رضانا فإن الثاني جلبناه بأيدينا والنساء
شديدات التعلق بالأقارب، فلا يبعد أن تلم كل زوجة منهن أخاها وأباها وابن خالتها
وصاحبها حولها، فيفسدون ما بقي لرجالنا من موارد الرزق، فنخرج وإياهم من
بلدنا بخفي حنين، وإن يشأ يذهبكم ويأت بخلق كثير [*] .
بعض رجالنا يفضلون عنا الأوربيات لتدبيرهن. حقيقةً أن الفقيرة منهن
ترتدي بلباس نظيف مرتب، وترين بيتها على قلة أثاثه نظيفًا مرتبًا، وطعامها لذيذًا
متنوعًا، وأولادها مؤدبين أصحاء، ومع ذلك نفقاتها قليلة. نرى كل يوم نساء
ضباط الإنكليز ماشيات في الطرق بلباسهن التيل الأبيض البسيط، وأولادهن
لابسين القبعات الجميلة والأحذية البيضاء، ومنظرهم يأخذ باللب، لا يقاربهم في
شكلهم عندنا إلا أولاد (الذوات) الذين تخدمهم المربيات (والدادات) ، أما سائر
أطفالنا فهم في حالة يرثى لها من الإهمال. ولكن هل من تتزوج منهن مصريًّا تدبر
له، كما كانت تفعل لو كان زوجها أوربيًّا؟ كلا، والحس يؤيد ما أقول. فإن أغلب
رجالنا الذين تزوجوا منهن يئنون ويصرخون من تبذيرهن واتباعهن أهواءهن.
فالمرأة الغربية تعتقد أنها من جنس أرقى من المصري، فإذا تزوجته ظلت رئيسة
له يعمل بإشارتها، وحسبت أنه ملزم بالصرف على ما تشتهي وجلبه لها، حتى
ولو كان في الصين، فهي مدبرة مع الغربي مسرفة مع المصري، وإذن ضاعت
أفضليتها من هذا القبيل. وبعضهم يدعي أنه يفضلها؛ لأنه يمكنها الخروج معه في
نزهه وروحاته وغدواته، ولا أظن الرجل يحب أن تراقبه زوجته وتلزمه لزوم
الظل، فإنه داعية للملل على أنه لو كان هذا الرأي صحيحًا، لما تأخر أكثرنا عن
تنفيذه، وأنا أول من تفعله. ولا أجد للمرأة الغربية التي تقبل الزواج من مصري ما
يفوقها علينا إلا أمرًا واحدًا لا أرانا نحسنه؛ لأننا لم نمارسه ولا أريد أن نمارسه؛
ذلك أنها ماهرة في اجتذاب القلوب، وفي نصب الشباك للرجال، فإذا صادت
بحركاتها وغنة صوتها مصريًّا، فليعلم أنها دربت على ذلك في عشرين غربيًّا قبله
فهل يقبل وفيه غيرة الشرقيين وأنفتهم أن تطعمه طبيخًا حقيقة لذيذًا، ولكنها
أنضجته على نار غيره، وكرع فيه قبله خلق كثير.
وبفرض أن الزوجة الشرقية الراقية نقصت قليلاً عن أختها الغربية، فلماذا لا
يرشدها بعلها إلى مواضع خطئها بالرفق، ويريها ما يجب وما لا يحب، وإن أحب
شيء عند الزوجين المتحدين؛ أن يبذل أحدهما وسعه ليرضي الآخر. فانصراف
شبابنا لتلقي العلوم الحديثة بأوروبا يجب أن يكون لخير البلاد لا لشرها، فكما
يتعلمون لنفع أنفسهم، يجب أن يقرنوا ذلك النفع بنفع مواطنيهم أيضًا؛ وإلا فلو
اتبع كل واحد يرى عيبًا في صاحبه طريقة هؤلاء الشبان لما كان لأحد خل، ومن
ذا الذي ترضى سجاياه كلها، فواجبهم الوطني يقضي عليهم بأن يدخلوا كل ما يرونه
صالحًا في بلادهم مع الاستغناء عن الأجنبي على قدر الإمكان فصانع الحرير
الوطني إذا رأى معامل أوروبا وسرعتها، وجب أن يشتري الآلات اللازمة
لسرعة إنجاز العمل، لا أن يدخل تلك الصناعة بعينها ويقضي على صناعته
الجميلة، فيكون قد اقتبس شكلاً، وأبطل آخر، فنحن إذا اتبعنا كل شيء غربي
قضينا على مدنيتنا، والأمة التي لا مدنية لها ضعيفة هالكة لا محالة. فشبابنا
يدعون أنهم يأتون بنساء أوربا؛ لأنهم رأوهن أرقى من نساء مصر، إذن يجب أن
يحضروا لنا تلاميذ أوربا؛ لأنهم أرقى من تلاميذ مصر، وعمال أوربا أرقى من
عمال مصر؛ لأن النظرية واحدة، فماذا تكون الحال لو تم ذلك؟ وهل إذا سافرت
زوجة مصرية لأوربا، ورأت الأطفال هناك أجمل بشرة وأحلى منظرًا من مثلهم
في مصر، أيصح أن تترك أولادها، وتأتي بغيرهم من الغربين أم تجتهد لتجميلهم
وتقريبهم من الشكل الذي أعجبت به؟ وإذا كانت أحط فتاة غربية تتزوج مصريًّا
يتبرأ منها أهلها، أفنرضى نحن عنها وقد شغلت محل فتاة منا، وصار زوجها مثالاً
لغيره من الشبان؟ أنا أول من يعجب بنشاط المرأة الغربية وأقدمها، وأول من
يحترم من تستحق الاحترام منهن. ولكن يجب أن لا ينسينا احترام الغير منفعة
الوطن، والمصلحة العامة فوق الإعجاب. وإننا في كثير من أمورنا نسير وفق
ما يراه الرجال، فليرونا ما يحبون وكلنا مستعدات للسير بمقتضاه بشرط أن لا يكون
ظلمًا لنا، ولا إجحافًا بحقوقنا.
يؤلمني أن درجة احترام الرجال لنا ليست بالدرجة التي تجب، وإذا بحثنا
وجدنا أننا نحن اللاتي وضعنا أنفسنا في هذا الموضع غير الحسن؛ لأن الإنسان
ينزله الناس في المنزلة التي يختارها هو لنفسه ويسير عليها، كما قال زهير:
(ومن لم يكرم نفسه لا يكرم) لا يكرم المرء نفسه بأن يقول: سعادتي وحضرتي، أو
البك والباشا على نفسه كبعض الجهلاء الذين تصلهم رتب جديدة، وإنما لا يستهين
بذاته فيهينها، ويشعر عن نفسه بالضعة فيهينه الغير أيضًا، فهل نحن نضع أنفسنا
في الموضع اللائق بها؟ كلا. يحكى أن أحد الخلفاء بينما كان يروض نفسه في
الطريق إذ سمع صوتًا في خربة، فاتجه نحوه، فوجد فيها زبَّالاً يقول:
وأكرم نفسي إنني إن أهنتها ... وحقك لم تكرم على أحد بعدي
فقال له: وأي إكرام لنفسك وأنت تحمل التراب والأقذاز؟ قال: نعم، أفعل
ذلك لأكفي نفسي مهانة السؤال من مثلك. إن معتقداتنا وأفعالنا كانت سببًا عظيمًا في
قلة احترام الرجل إيانا، أيعتبر رجل عاقل امرأة تعتقد في السحر والشعوذة وكرامة
الأموات، وتجعل من الدلالات والبلانات بل ومن الشياطين عليها سلطانًا؟ أيحترم
المرأة ولا حديث لها إلا (فساتين) جارتها، ومصوغات صاحبتها، وجهاز فلانة،
وأخبار علانة؟ هذا فضلاً عما انطبع في ذهنه من أن المرأة أضعف منه وأقل ذكاء.
إن تهاوننا في هذه النقطة اعتراف بأن حالتنا مرضية فهل هي كذلك؟ وإذا لم تكن،
فماذا يرقينا في أعين الرجال؟ يرقينا حسن التربية والتعلم الصحيح، فإذا حسنت
تربيتنا، وتعلمنا علمًا حقًّا لا قشور بعض اللغات الأجنبية، و (دوري ص فاسول)
والعلم يشمل أيضًا تدبير المنزل والصحة وتربية الأطفال. وإذا تركنا الخلاعة
في الطريق جانبًا، وإذا برهنا لأزواجنا بحسن سلوكنا، وقيامنا بواجباتنا حق القيام
إنا آدميون نشعر، وإن لنا نفوسًا لا تقل عن نفوسهم، فلا نسمح لهم بحال من
الأحوال بإيلام شعورنا أو بالاستهانة بنا، إذا فعلنا كل ذلك، فمن أين يجد الرجل
العادل طريقًا لاحتقارنا؟ أما غير العادل فكان حريًّا بنا لا نقبل الزواج منه.
يرقينا أن نطرح الكسل أرضًا، فإن عمل أكثرنا في المنزل هو القعود على
(الشلتة) كل النهار أو الخروج للزيارات، كأن رد فعل القعود أدار لولب أرجلنا،
ونفخ في شراع حبرنا فلم نقو على ضبط جماحنا. والتي تعرف القراءة منا ففيم
تقضي أوقات فراغها؟ في قراءة الروايات فقط، فهلا قرأت قانون الصحة أو
بعض الكتب المفيدة فتنتفع وتنفع؟
إن انغماسنا في الكسل أو الترف أدى إلى ضعف أجسامنا وشحوبنا، فيجب
أن نبحث لنا عن عمل نزاوله في منازلنا. والمتأمل يرى لأول نظرة: أن الطبقات
العاملة هي الأقوى صحة، والأكثر نشاطًا، والأنجب نسلاً. ألا ترين إلى أولاد
(الذوات) فأكثرهم مرضى، أو نحفاء يتأثرون لأقل العوارض، مع ما يبذل له
آباؤهم من الاعتناء بهم، بعكس أولاد الطبقة الدنيا مثلاً؛ فإنهم في إهمال شديد من
والدتهم. العمل يخرج الفضلات الزائدة في الدم، ويقوي العضل، ويبعث على
النشاط , والطبقة أو الأمة العاملة يزداد نسلها فتعتز بأبنائها، وإن الأمة الألمانية
لشاهد حسي على ما أقول؛ فإن التعداد يظهر أن النسل هناك يزداد بسرعة هائلة،
حتى ضاق رحب ألمانيا بأهلها، فأخذوا يبحثون عن أرض يستعمرونها؛ ليصرفوا
فيها الزائد من السكان، والذين زاروا أوروبا أخبروا أن أهل تلك البلد مجدون،
نشطون رجالاً ونساء، بعكس المرأة الفرنسية: فإن ترفها الزائد كان سببًا في قلة
نسلها فضلاً عن انصراف كثير من تلك الأمة عن الزواج، وقد بح صوت
الاقتصاديين والاجتماعيين في الندء على مواطنيهم بالاعتدال واتباع الطريق القويم.
لاحظت وأنا في البادية أن بين نساء البدو ورجالهم كثيرًا من العجائز ممن
بلغوا الثمانين والمائة، وقد رأى معظمهم أربعة أعقاب من ذريته، مع إني لم أرى
في القاهرة ولا في المدن الأخرى ما يشبه ذلك. ولا شك أن هذا نتيجة عيشتهم
الطبيعية واعتدالهم، فإنهمم كلهم مبكرون في كل شيء: في الاستيقاظ، وفي النوم
وفي تناول الأغذية. وكلهم عاملون، ولم أر بينهم امرأة واحدة حتى من نساء
أغنيائهم تقضي النهار بالكسل كما نقضيه نحن، فإذا كان الفلاسفة والأطباء يبحثون
عن إكسير الحياة، فها أنا قد اكتشفته: هو العمل والاعتدال في المعيشة أو العيش.
ولعل في هذا القدر من المرأة كفاية اليوم.
بقي علينا أن نبين الطريق العملي الذي يجب أن نسير عليه، ولو كان لي
حق التشريع، لأصدرت اللائحة الآتية:
(المادة الأولى) تعليم البنات الدين الصحيح أي: تعاليم القرآن والسنة
الصحيحة.
(المادة الثانية) تعليم البنات التعليم الابتدائي والثانوي، وجعل التعليم
الأولي إجباريًّا في كل الطبقات.
(المادة الثالثة) تعليمهن التدبير المنزلي علمًا وعملاً، وقانون الصحة
وتربية الأطفال، والإسعافات الوقتية في الطب.
(المادة الرابعة) تخصيص عدد من البنات لتعليم الطب بأكمله وفن التعليم،
حتى يقمن بكفاية النساء في مصر.
(المادة الخامسة) إطلاق الحرية في تعلم غير ذلك من العلوم الراقية لمن
تريد.
(المادة السادسة) تعويد البنات من صغرهن الصدق، والجد في العمل،
والصبر، وغيره من الفضائل.
(المادة السابعة) اتباع الطريقة الشرعية في الخطبة، فلا يتزوج اثنان قبل
أن يجتمعا بحضور محرم.
(المادة الثامنة) اتباع عادة نساء الأتراك في الآستانة في الحجاب والخروج.
(المادة التاسعة) المحافظة على مصلحة الوطن، والاستغناء عن الغريب
من الأشياء والناس بقدر الإمكان.
(المادة العاشرة) على إخواننا الرجال تنفيذ مشروعنا هذا.
(المنار)
نرجئ رأينا في هذه الخطبة إلى الجزء السادس، ولكن لا نرجئ الثناء على
الخطيبة التي كانت في هذا العصر أول مذكرة لنا بخطيبات سلفنا من الصحابيات
فمن دونهن.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) لعلها أرادت أن تتمثل بالآية [إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ] (إبراهيم: 19) .(12/353)
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
__________
رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين
لليافعي
(4)
بحث أحاديث الآحاد وهل هي من أصول الدين
قال الفاضل حفظه الله: الكلمة الرابعة بيان أسباب أن أحاديث الآحاد لا تفيد
اليقين. ونحن نقول: هذه دعوى قد سبقه بها كثير ممن لم يبعد غوره في طلب هذه
المسألة، وكان الأجدر بهؤلاء الباحثين أن يبحثوا عن جري الإنسان النظري
الطبيعي، أهو مفطورعلى الصدق والتصديق، أم على الكذب والتكذيب؟ إن من
أمعن النظر وحققه، وجرب الواقع ومحصه، يرى أن الانسان مجبول على قول
الصدق، ومفطورعلى تصديق كل ما سمع. هذه هي حالته الطبيعية؛ لما نرى أن
الصغار الذين هم في حالة السذاجة وعلى الجري الفطري الطبيعي الذين لم تملهم
الحوادث والطوارئ والأحوال المكتسبة - لا يكادون يكذبون خبرًا ولا يكذبون في
خبر. نعم، قد نرى من بعضهم في بعض الأحيان ما يشوش هذا الخلق الطاهر؛
كالذهول والنسيان؛ ولكننا إذا اعتنينا بهذه النكتة السوداء المكدرة لصفاء هذا
المجراء الطاهر المستقيم، نرى ذلك مرضًا من الأمراض العارضة المختلفة
باختلاف أسبابها، وباختلاف المتأثر والقابل، فالنسيان بأقسامه؛ قد يظن بعض
الناس أنه لازم طبيعي للبشر، وليس الأمر كذلك، وإنما هو مرض أو أشبه
بالمرض، ويصح أن يقال: إن كل ما انتقش في الحافظة لا يزول ويمحى بالكلية،
وإنما إذ صرفت همة الإنسان وقصده الشواغل، فهو يذهل عن بعض ما انتقش في
حفظه، فإذا استعجل وترك التفتيش عما في الخزانة المحكمة المصونة، ولم يميز
ما يأخذ منها، فربما ركبت له هذه الحركة الفكرية الخفية الغير المنتظمة صورة بدل
صورة، أو صورة مركبة مما في هذه الخزانة لما قدمنا أو لأنه ضعف أخذه لها
حين حفظها لضعف قصده ونحوه، وحينئذ إذا أراد أن يخبر عن ذلك وقع في خبره
الخلل. ودواء ذلك صدق القصد ابتداء واستمرارًا وانتهاء أي: وحينما يريد أن
يحدث بذلك. وذلك يكون بالمراجعة والمذاكرة مع من يشاركه في ذلك، وعلى
الأقل بالرجوع إلى نحو كتاب؛ دفعًا للطوارئ التي تتناوبه وتشوش استمرار شعوره
بما حفظ. يوضح ذلك أن الإنسان كثيرًا ما يتذكر ما نسيه، والوجدان شاهد ذلك 0
وكما أن الذهول يكون فيما حفظه الإنسان، كذلك يكون فيما يتلقاه ويشاهده في
الخارج والواقع. وانتقاش الأشياء في الحفظ يختلف قوة وضعفًا باختلاف الاستعداد
والتوجه، وقوة الاكتساب حين الأخذ. فظهر بذلك أن النسيان ليس بوصف ذاتي
لكل إنسان لا ينفك عنه؛ إذ لو كان كذلك لم تحفظ شيئًا؛ لامتناع قيام الشيء الذاتي
ونقيضه بمحل واحد، فالقوة التي تحفظ بها ليست هي قوة النسيان ولا سببه، وإنما
النسيان ذهولنا عن تمييز ما حفظناه لسبب ما - مما قدمناه- وإذا كان الصدق
والتصديق هو أصل الفطرة، فما يعارضه من نسيان وكذب، فإنما يكون لأسباب
طوارئ وعوارض لمن انحرف ومال عن مقتضى الفطرة الطبيعية، وقد عرفت
دواء النسيان ودواء الكذب الذي لا يضاهيه دواء: هو استشعار خوف الله المطلع
على كل خفية. وعليه فلا يبعد أن يقول: يمكن أن يكون مضى على البشر زمان
لا يعرفون فيه غير الصدق والتصديق؛ لعدم أسبابه أو ضعفها 0 وعليه فما نراه من
تصديق بعضهم بعضًا في جميع شؤونهم هو إرث بقاء، ولذا نراهم يستهجنون
الكذب والكذابين، حتى رسخت قباحته وصارت من الضروريات، واستحسنوا
الصدق حتى صار من المستحسنات وبما قررناه يثبت: أن الاصل في أخبار الآحاد
هو إفادة العلم واليقين. إلا إن فساد الأخلاق قد غير من ذلك كثيرًا ممن خرج عن
الفطرة وعن الدين. لكن لا يجب أن لا يبقى من ذلك شيء يفيد الصدق، إذا كان
المخبر والمخبر ممن تهذبت فطرتهم، وقوي تمكنهم بالدين مع استعمالهم لجميع
الأدوية المانعة لطروّ مرض النسيان، فليتأمل الناظر.
فقول الفاضل: (إن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين) إن أراد أن بعضها لا تفيد
ذلك لضعف حامله؛ إما لأنه عُرف بالخلط والخبط في أخباره، أو لأنه كان مظنة
لذلك؛ فهو صحيح في بعض الحالات لا في بعضها الآخر، حيث يعلم أنه يشارك
المخبر في مضرة الكذب، وأنه لا غرض له فيه، أو أنه يخاف عقاب المخبر إن
كذب عليه، ففي هذه الصورة قد يفيد خبر الواحد الفاسق الظن الراجح أو العلم
لبعض الناس؛ ولذلك لم يأمر الله برد خبره ولا قوله إلا بعد التبين , وإن أراد
حضرته أن كل فرد فرد من أخبار الآحاد وأحاديثهم لا تفيد كل فرد فرد من المخبَرين
(بفتح الباء) العلم، فالواقع والعقل يكذب هذه الدعوة. ولا عبرة بقول من تقدمه
بهذا الإطلاق كائنًا من كان. نقول ذلك إيثارًا للحق والحقيقة غير طاعنين في ذواتهم
وفضلهم.
إنه مهما قال من خالف ما ذهبنا إليه، ومهما جهد في التشكيك والتشويش مما
يظن أنه تحقيق، فإنه لا يستطيع أن يغير الفطرة التي لا يكاد أن يخرج عنها فرد
من البشر مختارًا أو ملجأ، وإن من خالفنا فإنه لا وجود لخلافه لا في الواقع ونفس
الأمر، ولا في الاعتقاد، وخلافه لا يتحقق بأكثر من الوجود في القول والعبارة؛
لأن الإنسان ملجأ بالضرورة في أكثر شئونه إن لم نقل في كلها إلى من يعتمد عليه
في التعاون، ولا واسطة لذلك تقوم مقام الإفهام والتفاهم في الأمر والأخبار.
ولما كان الإنسان مدنيًّا بالطبع، كان التصديق في الإفهام والتفاهم طبيعيًّا له.
ولما كان الارتفاق والاجتماع البشري يشتمل على كثير من العلوم أكثرها ضروري
له، فمن اشترط لهذه العلوم غير طرقها، كان محصل قوله ونتيجته إنكار هذه
العلوم وإهمالها الذي من لازمه تفكيك هذا الاجتماع البشري، ومحو علوم هذا
الارتفاق وهو غالط. ومنشأ هذا الغلط أخذ المتأخر قول من تقدمه أصلاً ثابتًا بدون
نقد، وتثبت فيه كما يقال: إن العلم واحد لا يكون بعضه أقوى من بعض، أو إنه
لا يقبل الزيادة والنقصان، أو إنه لا يتفاوت في جزئياته أي: لا يتفاوت في من قام
به من الأشخاص، أو أن الطرق المؤدية إليه شرائطها واحدة، وإن مقدماتها لا
تقبل احتمال التغير، حتى بفرض المانع الذي لم يتحقق وجوده، ونحن لا نقبل هذه
الأقوال ونحوها على إطلاقها، لكن بعد التفصيل والتقييد. فمن اشترط في علم
المعلوم تحقق علته وسببه في نفس الأمر، وصفاته ولوازمه كذلك، وعدم الموانع
كذلك، فقد كلف نفسه ما لا تطيقه، وطمع فيما يكاد أن لا يكون للبشر فيه مطمع،
والعبرة عندنا في ذلك اطمئنان النفس، فإن كان ذلك كسبيًّا فلا بد من بذل الجهد في
الدليل بحسب الاستطاعة. والحاصل أن العلوم كثيرة والطرق المؤدية إليها كذلك؛
وهي مختلفة وطرقها كذلك، ولكل شرائط لا يمكن التزامها في الأخرى، فعلوم
الاجتماع والارتفاق: كاللغات ومتعلقاتها، وعلوم الشرائع والأديان وملحقاتها،
وكذلك علوم الآثار والتاريخ والطب، ونحو ذلك، لا يمكن كل أحد أن يكتسبها
بالعقل أو بالحواس مباشرة ودائمًا، فلا بد من الواسطة، فنشترط فيها أن تكون مما
تطمئن النفس إليها لا مطلقًا، بل بعد بذل الجهد المستطاع، وبناء على ذلك فمن
بلغه حديث ولم يقصر عادة ثم اطمأنت إليه نفسه، فقد حصل له العلم واليقين، ولا
عبرة باحتمالات لم تشوش جزمه، واطمئنان نفسه، والمسلمون تطمئن أنفسهم إلى
هذه الأحاديث المكتوبة عن الثقات الضابطين والأئمة العارفين، فهي تفيد أكثرهم
العلم.
ونقول لحضرة الفاضل ومن قال بقوله: ما دليلكم على أن أحاديث الآحاد لا
تفيد اليقين؟ فإذا قال: إن كل فرد فرد من البشر يجوز منه وعليه الكذب والذهول
والنسيان، وكل من جاز عليه ذلك جاز أن ينسى الخبر ويكذب فيه، واستنتج أن
كل فرد فرد من البشر يجوز أن ينسى خبره أو يكذب فيه. فإذًا ترتب على ذلك
كبرى وهي: كل من كان كذلك فخبره يحتمل أن يكون منسيًّا أو محفوظًا، وكذبًا
أو صدقًا، فالنتيجة أن كل فرد من البشر يحتمل أن يكون خبره منسيًّا أو
محفوظًا، وكذبًا أو صدقًا. هذا غاية ما يمكن أن يقولوه في الاستدلال، وهو كما
تراه يفيد أن خبر كل فرد فرد يحتمل الصدق والكذب. ونحن لا نسلم صحة الكبرى
التي أسس عليها، وأهل المنطق لم يقولوا بذلك، بل قالوا: القضية قول يصح أن
يقال لقائله: إنه صادق فيه أو كاذب. ولم يتعرضوا لنسبة ذلك إلى المخبر فتفكر.
وما ذكره الفاضل - حفظه الله - فإما أن يكون مراده: أنها لا تفيد اليقين في
حد ذاتها أعم من الواقع والذهن، وإما أن يريد أنها لا تفيد ذلك في أحدهما. وعلى
كل تقدير فهو ترجيح لأحد الاحتمالين بلا مرجح؛ لأن لا دليله يفيد ولا ينتج إلا أنه
يمكن أن تفيد اليقين، ويمكن أن لا تفيده، كما أن صريحه أنه يحتمل أن تكون
الأخبار صادقة ويحتمل أن تكون كاذبة فالاقتصار على أحد الاحتمالين مغالطة،
وهذا إن سلم إنما يكون قبل الاختيار والفحص في المعنيات الخارجية. أما إذا نظر
في ذلك وفرضناها في الخارج فهي لا تكون إلا صادقة أو كاذبة. فإن قال: مرادنا
أن ما كان محتملاً للصدق والكذب لا يفيدنا أحدهما اليقين بذاته، فصح قولنا: خبر
الآحاد لا يفيدنا اليقين، كما أنه لا يفيدنا نقيضه. قلنا: هذا لا يصح إلا بعد ثبوت
وتسليم أشياء كثيرة: فمنها ثبوت أن كل فرد من المخبرين (بفتح الباء) يجب
أن يستشعر احتمال النسيان والذهول والكذب وجوازه في كل أخبار المخبرين
(بكسر الياء) ودون القول بوجوب ذلك ووجوده في الواقع كذلك خرط القتاد،
لجواز أن يكون فيهم من لا يستشعر ذلك أصلاً أو يستشعرها. لكنها تكون عنده
ضعيفة بحيث لا تمنعه عن التصديق بخبر الآحاد؛ لأن الواقع والمشاهد أن أكثر
الناس يجزم بخبر الآحاد ويصدقون بها. وما ذلك إلا لما ذكرناه وأنه دليل على
صحة ما قدمناه؛ من أن من فطرة الإنسان وطبيعته الصدق والتصديق، وأن ما
يعرض لذلك من احتمال النسيان والكذب طوارئ عارضة نادرة، والنادر قل أن
يلتفت إليه في أكثر أمور العامة وأكثر الناس عامةً.
وأيضًا هذه الطوارئ العارضة، قد عرف الناس أنها لا تكون إلا لأسباب:
إما أعراض للكاذب، أو تقصير في الضبط والحفظ، وما لم يقو احتمال وجودها لا
تقوى أن تكون مانعة للجزم والتصديق بالخبر إلى غير ذلك. فإن أبى إلا المناقشة،
وقال: لا عبرة بالعوام إذا كان التحقيق عند المحققين أن هذه الاحتمالات عارضة
ومانعة عن التصديق بأخبار الآحاد. قلنا: يلزمك أولاً - أن كل ما يجزم به العوام
من كل ما أدركوه كذلك أن لا يكون علمًا في حقهم، وثانيًا - أنا لا نسلم اتفاق
المحققين على ما ذكرت، بل أكثرهم يعطون كل خبر مما يوجد في الخارج ما
يستحقه، وهم يعلمون أن بعض المخبرين صادقون وبعضهم كاذبون وكذلك أخبارهم
إن سلمنا أن بعضهم يقول: إن خبر الآحاد يفيد الظن الراجح أو إنه لا يفيد العلم،
فإنما يقول: إن ذلك شأنه في حد ذاته لا بالنظر إلى حال المخبرين والواقع في
نفس الأمر. وإن أراد بعضهم غير ذلك فقوله عندنا ركيك، ولا بد أن يكون فعله
وعمله يكذب قوله، ولا خير في قول يكذبه فعل قائله.
ونقول أيضًا: إنا لا نسلم الصغرى التي أسست عليها دليلك لا كلية ولا دائمة
بيانه أن الكاذب لا يجب أن يكذب دائمًا، ونحن يمكن أن نميز كذبه في بعض
الأحيان، وإذا كان يجوز أن نعرف ما يحتمل أن يكون كذبًا وما لا يحتمل، لم تصح
أن تصدق الصغرى كلية دائمة، وإذا كان يوجد كثير من الناس أهل كمال وفضائل
لا يكذبون، ونحن نعرفهم بسيماهم وبالتجربة الصحيحة، بطل صدق الكذب في
أخبار الآحاد كلية، فالأخبار التي لا تؤخذ إلا من مثل هؤلاء لا يصح أن يفرض
فيها احتمال كذب الراوي، فهي صادقة وسالمة عن أن يشوشها احتمال الكذب.
أما احتمال الذهول والنسيان فقد قررنا أنه: إما أن يكون سببه مرض طارئ
وحادث، ومن كان مصابًا بمرض في حافظته لا بد وأن يكثر ذهوله ونسيانه، ومن
كان كذلك حاله فهو يعرف لكل من عاشره وخالطه، وإما أن يكون سببه تقصير في
الحفظ والضبط، وهذا يعرفه من قارنه وصاحبه في الطلب والتلقي حين المذاكرة
والمراجعة. وكل من عرف بما ذكرناه فحديثه مردود عند أهل الحديث، إلا أن
الثاني قد يتقوى بالشواهد والقرائن في بعض الحالات، فظهر أنه مع ندور طروء
هذه العوارض، يمكن أن نميز من تكون هذه الاحتمالات في أخباره ومن لا.
ونقول: إذا صح أن يوجد في البشر من يجب أن يكون صادقًا لتُقاه وورعه
وعدالته، ولا نظن أن حضرة الدكتور ينكر وجود هؤلاء بالكلية، فإذا سلم قلنا له
إنه يمكن الاحتراز عن الذهول والنسيان بأشياء وطرق كثيرة: كالمراجعة
والمذاكرة والكتابة والدرس والتدريس وكثرة الحاجة إلى العمل. وهذه موانع للنسيان
ومعينة على الحفظ مع سلامة المحل وصدق القصد، وهذه من المجربات الذي اتفق
على تجريبها كل الناس وشهدوا بصحتها، فمن نازعنا في ذلك ألزمناه أن يطعن في
جميع المجربات، بل في المحسوسات بلازمات لا محيص له عنها إن شاء الله.
فظهر ظهورًا لا غبار عليه أن قول المعارض الفاضل - حفظه الله -: إن كل فرد
فرد من البشر الآحاد يجوز عليه الذهول والنسيان في خبره، لا يصح لا دائمًا ولا
كلية، لا في المخبرين (بالكسر) ولا في المخبرين (بالفتح) ولا في الخبر كذلك
كما تقدم، وإذا بطل دليلهم ثبت أن بعض أخبار الآحاد تفيد بعض الناس العلم وهو
المراد.
ونقول: إن من ذهب إلى أن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين- أي العلم - فقد خالف
البرهان وخالف ما اتفق عليه الناس في جميع شؤونهم. ألا ترى اعتماد كل فرد منهم
واطمئنانه إلى خبر أبيه وأمه، وزوجه وإخوانه، وأقاربه وأقرانه، وأصدقائه
وجيرانه، وغيرهم. ونراهم يرسلون أموالهم مع هؤلاء، ومع الخدم والأعوان
والأولاد الصغار المميزين؛ اعتمادًا ووثوقًا بأخبارهم، لا فرق بين المرسل والمرسل
إليه، يكون ذلك مع الاطمئنان الكامل، والطمأنينة لا توجد مع احتمال النقيض. إن
التاجر ونحوه، والمرابي البخيل المقتر يعتمد على مثل ذلك في معاملاته ومراسلاته،
وفي مصدره ومورده من أموره وثروته التي هي عند بعضهم أعز عليه من نفسه،
فلولا حصول العلم الذي تطمئن إليه نفسه لم يقدرعلى فعل وترك ما ترك؛ اعتمادًا
على أخبار لا يثق بها، بل هي تحتمل الصدق والكذب، مثل من ذكرناهم جميع
البشر في جميع شئونهم، فإذا رأينا من يشكك بالقول دون الفعل يبدي احتمالات قد
تصدق على بعض الأخبار بعد تعيينها، فهل يصح أن نقول: يجب أن تكون جميع
الأخبار كذلك، في الواقع تحتمل ذلك، أو أن نقول: إنه لا يوجد من يصدق بأخبار
الآحاد وتفيده اليقين؟ وهل يجوز لنا اعتماد قول هذا القائل لاسيما إذا كان قوله
يخالفه فعله؟ وهل يوجد فرد من البشر سليم العقل لا يحصل له العلم، ولا يعتمد
على خبر الآحاد في جميع حالاته.
نحن لا ننكر أنه يكون في بعض أخبار الآحاد ما يفيد الظن، بل بعضها لا تفيد
أكثر من الشك، وبعضها نقطع بكذبه إلا أنا لا نكابر الواقع، ونقول: إن كل فرد
فرد دائمًا لا يفيد العلم واليقين مطلقًا لما عرفت أنا إن قلنا بهذا القول فقد أسأنا
الظن بأفراد الإنسان كلهم حتى الأمراء والعلماء، ولئن جزمنا بذلك فمع مخالفتنا
للعقل، فإنا لا يمكنا أن نعيش بينهم بعيشة طيبة. ومن الأدلة على ما ذكرناه فوق
ما تقدم؛ أن الله أرسل أكثر رسله فردًا فردًا ولم يرسلهم دفعة إلى الناس كجمع
التواتر الذي يزعمه التواترية؛ وما ذلك إلا لأن خبر الآحاد الذي ذكرناه قد يفيد
العلم. فإن قيل: إن الرسول مؤيد بالمعجزة، قلنا: إن التأييد بالمعجزة إنما يكون
في بعض الأحيان. وأيضًا ليست هي شرطًا في الإرسال؛ لأنها إنما تكون إذا وجد
الجاحد المكذب أو من حصل له الشك أو نحوه. أما على قول التواترية فذلك لا
يصح، ومن لازمه أن لا يحكموا بإيمان من آمن برسول من رسل الله عليهم السلام
إلا بعد أن يرى المعجزة أو غيره بها عدد التواتر، ويتحقق أنها معجزة لأن ما سوى
ذلك لا يفيد العلم واليقين. لكنه خلاف المعلوم بالضرورة من سيد الأنبياء - عليهم
السلام - وخلاف ما علمناه بالضرورة من تلقي البشر عنهم وتصديقهم، والإيمان بهم
وبشرائعهم.
أفليس من المعلوم أن الرجل الواحد من البدو الأعراب وغيرهم، كان يأتي
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيؤمن به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم
يحكم بإيمانه، وأكثر أولئك وغالبهم لم يروا معجزة ولم يسألوا عنها، غايته أن
بعضهم له فراسة تدله على أن هذا الرجل صلى الله عليه وسلم صادق؛ لأنه يدعو
إلى البر والعدل، فبذلك حصل لأكثرهم الإيمان، وبعضهم حَلَّفَ النبيَّ صلى الله
عليه وسلم واكتفى بذلك، حيث اطمأنت إليه نفسه، وأولئك أعلى المؤمنين بعد
الأنبياء إيمانًا، حتى إنهم بذلوا أنفسهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا؛ ولتكون
كلمة الله هي العليا. إن من يشترط التواتر في إفادة الأخبارِ العلمَ واليقينَ، يلزمه
أن يقول: إن هؤلاء السادات لا يصح إيمانهم، وإنهم لم يحصل لهم إيمانا. نحن لا
نقول: إن حضرة الدكتور يقول ذلك ويلتزمه لا هو ولا من وافقه من العلماء،
يقولون: إن أخبار الآحاد تفيد الظن، ولكنا نقول: إن اختياره ذلك تبعًا لهم هفوة
من لازمها ما ذكرناه، وما استلزم الباطل فهو مثله ويجب الرجوع عنه.
ونقول أيضًا: لو صح ما قلتم، لم يصح أن يوصف أحد من أفراد البشر غير
المعصومين بأنه صادق؛ لأن المتكلم بغير الواقع في الأخبارلا يكون صادقًا،
والقول بذلك يناقض ما دل عليه القرآن الكريم مثل قوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ
الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119) ، وأخبر بأنه ينجي الصادقين بصدقهم، فوصفهم
بالصدق، وأنه ينجيهم بصدقهم الموجود، ومدح الذي جاء بالصدق والذي صدق به،
وأن الصدق ينفع يوم القيامة، ومدح الصادقين والصادقات، وذم وتوعد الذي
يكذب بالصدق إذا جاءه والذي يعرض عن الصدق. وبعض هذه الآيات هي وإن
كان سبب نزولها خاصًّا. لكن في العدول إلى الألفاظ العامة ما يؤيد ما تقرر عند
أهل الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب 0 فظهر بذلك أن الصادق
والصدق الذي هو العلم موجود، وأنا مأمورون بقبول ذلك واتباعه، وما ذكره الله
مما قدمناه: إنما هو الصادق والصدق من الآحاد ولو كان العام واليقين والصدق لا
يحصل إلا من أخبار الجموع المتواترة لم يصح أن يوصف الواحد والاثنين، بل
ولا العدد المعين بصفة الصدق، وهذا بين البطلان عرفًا وعادة ونقلاً وعقلاً.
لا ندري ما العذر المقبول لمن سمع قوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119) إذا رد خبر الصادق الذي قد عرف صدقه وأنه من الصادقين
العدول؟ فإن قيل كيف نعرف أنه صادق، وصدق الشخص في بعض الأمور مما
يصح أن يخفى علينا؟ قلت: قدمنا الكلام في أنه هل يمكن أن نعرف الكذب
والكاذب أم لا؟ وسيأتي مزيد كلام عليه، أما كون الشخص ممن عرف بالصدق
فذلك بين، وهو لا يسمى صادقًا إلا بعد أن يعرف بالتجربة ويتصف بالتقوى؛ لأن
التصديق والإيمان قد اعتبر معرفتها بالدلائل الظاهرة، وذلك من باب الاستدلال
بالأثرعلى المؤثر، وبلازم الشيء على الشيء، كما قال تعالى: ?? {فَإِنْ
عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ} (الممتحنة: 10) الآية، ونحن لا
نعلم ما في القلوب، لكن لما كان الإيمان بالأنبياء وشرائعهم من لوازمه أشياء ظاهرة،
يتعين أن لا يوجد بعضها إلا بسبب الإيمان، ساغ أن يستدل بها على وجود
الإيمان، فكان العلم بها علمًا بالإيمان.
ونقول أيضًا: إن الله - جل وعلا - كما أمرنا بأن نصدق الصادقين، لم
يأمرنا برد خبر الفاسق بمجرد سماعه، بل أمرنا بالتبين كما قال تعالى: {إِن
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6) الآية، وفي ذلك من الحقائق الدقيقة
والجليلة ما لا يقدر قدره إلا من رزقه الله الفهم في كتابه، كما قال بعضهم: كأنه
تعالى يعلمنا ويرشدنا إلى قواعد هي من أصول العدل، وأنفع خلال الاجتماع
والارتفاق، وأعظم أسباب الظفر والسلامة، فقوله تعالى: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6) هو أمر بالتأني والتبصر في خبر الفاسق صراحة،
وإلى ما شاركه وماثله من بعض الوجوه إشارة؛ وما ذلك إلا لأن الفاسق قد يصدق،
فلا يليق أن يهمل خبره بالكلية، بل لا بد من التنبه والحزامة والاستعداد، فلا نبقى
في غفلة وسبات ربما أضرت بنا، ولا نصدقه فيما يضر بمن أخبر عنهم؛ لئلا
نندم على ما فرط منا؛ ولئلا نخسر مودة أعوان وأنصار ونحوهم، والتبين والتأني
في نحو ما ذكرناه هو؛ كالاقتصاد في الأخذ والعطاء ونحوه من أمور الثروة
والاقتصاد.
قلت: ولما كان المخبر لا يخلو؛ إما أن يكون معتبرًا في الرواية وهو الثقة
الضابط أو لا يكون كذلك وهو الفاسق في الأخبار والرواية. وإما أن يكون بين بين
وهو غير المعروف حاله، فالثاني صرح بحكمه في هذه الآية، ولما كان مفهوم
حكم الفاسق يتناول الشيئين اللذين ذكرناهما لم يوجب التبين والتأني، بل ترك ذلك
إلى عرفنا وما تطمئن إليه أنفسنا، وهذه حكمة بالغة في تأسيس القواعد تفهم من
حكم واقعة شخصية معينة في القرآن. ومن جهة أخرى نحن إذا عرفنا حكم الفاسق
فكأنه نبه به على حكم مقابله وهو: الضابط الثقة العدل؛ لأنه قد انغرس في الفطر
والعقول أن الشيء يعطى نقيض حكم مقابله، وذلك مقتضى التقابل. ومفهوم الأمر
بالتبين. إما النهي عنه كما عرفت وهو حكم المقابل، وإما الندب إلى عدمه، وإما
الإباحة، وإما الإرشاد إلى أن حكم ذلك راجع إلى العرف وما تطمئن إليه النفس كما
قدمنا ذلك، وعلى كل تقدير فمفهوم هذه الآية مخالف لما ذهب إليه حضرة الفاضل:
من أن أخبارالآحاد لا تفيد اليقين، أو أنها تفيد الظن المذموم، وذلك ظاهر لا نطيل
بتفصيل وجوهه.
نحن أشرنا إلى الاحتجاج بعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر
الأنبياء عليهم السلام في إرسالهم الآحاد للتبليغ عنهم، وتلك حجة لا مناص لمن
يشترط التواتر في ذلك عنها، وحضرة الدكتور الفاضل لم يجب عن ذلك ولا عن
غيره بجواب شافٍ، فأما قولك: إن أولئك كانوا نوابًا وولاة أمور ولاهم الرسول
صلى الله عليه وسلم، فليس الأمر كذلك، بل فيهم من ليس كذلك. ولو سلم فليس
طاعة ولاة الأمور في الدينيات بآكد من طاعة العلماء. بل المعروف من دين
الإسلام أن من لم يعلم شيئًا، فالواجب عليه أن يسأل أهل العلم لا فرق في ذلك بين
أمير ومأمور، على أنه قد دل القرآن الكريم على وجوب الدعوة إلى دين الله، وقد
تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بذلك، وقد أجاز وأمر بالتبليغ عنه
إجازة عامة لكل أحد؛ بشرط أن لا يكذب عليه، وكل عالم هو في الحقيقة نائب في
التبليغ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وطاعته فيما يبلغ عن الله ورسوله صلى الله
عليه وسلم واجبة.
أما قول الفاضل فوجوب طاعتهم إنما هي لأنهم ولاة أمور. فجوابه إنا لم
يكن بحثنا في وجوب الطاعة، وإنما البحث في التصديق بالخبر في أمر ديني
محض، ومن المعروف شرعًا أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، على أنه
قد اختلف المفسرون في المراد من أولي الأمر في قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) فمنهم من قال: هم الأمراء، ومنهم من قال:
هم العلماء. أما قوله: إن الرسول يمكن أن يعلمه الله بالوحي فيتدارك الخلل في
أقرب وقت إلى آخره، فنقول: هذا لا يمنع استدلالنا على وجوب العمل بأخبار
الآحاد؛ لأنه إذا وجب التصديق على المرسل إليهم، أو من بلغهم الحكم، فاستدراك
ذلك بالتكذيب والعزل ونحوه لا يضرنا في الاستدلال؛ لأنه على كل تقدير وقع
للمخبرين (بالفتح) العلم بخبر هؤلاء، وعلى الأقل وجب عليهم العمل بذلك وهو
المطلوب. ونقول أيضًا: إنه لم يتبين بالوحي كذب هؤلاء كمن مات النبي صلى
الله عليه وسلم وهو على ولايته، أيا ترى ماذا يفعل الناس؟ أليس من لازم ذلك
أنك ألصقت بالدين تهمة شنيعة وهي: وجوب طاعة الأمراء في كل شيء حتى
الدينيات المحضة، وهذا مما لم يوجبه لأنفسهم الأمراء المستبدون، وإنما يتداخلون
في هذه الأمور بتوسط فتاوى العلماء، فيا خيبة الأحرار، وياللبشرى للمستبدين من
رواج هذا المذهب، ولنكتف بالتنبيه على مثل ذلك لظهور فساده، فإن دعت حاجة
عدنا بالتفصيل التام لهذا المقام، إن شاء الله.
ونقول أيضًا: إنه قد تواتر النقل الذي لم يشذ عنه فرد من الأمة الإسلامية،
أن الأصحاب الكرام رضي الله عنهم قد احتجوا على من بعدهم وبعضهم على بعض
بما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان العمل لا يجب بخبر الآحاد، ولا
يلزم التصديق به، لم يسغ لأحد منهم الاستدلال والإنكار واللوم إلا إذا كان معه عدد
كثير يؤيدون خبره، بأن يكونوا مثله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحيث
يكن ذلك لا من المخبر ولا المخبر (بالفتح) علم أن من اشترط التواتر في
وجوب العمل بالأخبار، قد خالف طريقهم التي درجوا ومضوا عليها وأمرهم الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم بسلوكها في التبليغ، ولو كان ما زعمه حضرة
الدكتور الفاضل صحيحًا لا نسد باب التبليغ عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال حضرة الفاضل في الكلمة الرابعة: أولاً - قد يكون الراوي كذوبًا
لكنه منافق ومتظاهر بالصلاح إلى آخره، وأقول: إن أراد أن ذلك قد يكون شاذًّا
ونادرًا، وأن أهل الحديث يعرفون ذلك، فذلك مسلَّم، وقد وجد من هذا حاله ليشكك
المسلمين في الرواية وغيرها، وقد أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، لكن
أهل الحديث قد عرفوا هؤلاء وكشفوا عن حالهم، ومن كان بهذه الصفة هو مهما
بالغ في التستر، فلا يمكنه أن يروج حيلته عليهم؛ لأنه لم يعرف بعد الفحص أن
أحدًا من أئمة الحديث اعتمد ووثق من بان أن حاله كذلك، فمثل من هذا حاله إنما
يعمد إلى العوام، حيث يكون بعيدًا عن العارفين من أهل الحديث، فحديثه لو وجد
فإنما يوجد فيما يتتبعونه من الشواذ المناكير ونحوها التي إذا كتبوها يفردون لها كتبًا
مخصوصة؛ لئلا يغتر بها أحد من العامة في العمل بها، أما في الرواية المعتبرة
عندهم فمثل ذلك معروف تركه، ومن عرف طريقة المحدثين في الأخذ والتحمل
والأداء؛ وشرائطهم في الرواية والرواة الذين يطلقون على ما رووه الصحة
والتحسين، يعرف أنه لا يمكن الدخيل أن يدس فيه كذبًا أو يروج فيه زورًا، ومن
ذا الذي يمكنه أن يمضي كل عمره في التستر وكتمان جميع أسراره، حتى من
أصدقائه وخلانه الذين يمكن أن تفلت على أحدهم ساقطة من أمره. إنه لا يمكنه
إرضاء الناس كلهم؛ ليستروا عليه لاسيما أهل الورع، على أنه إن كان لأحد الناس
القدرة على ذلك، فإن لأهل الحديث طرقًا يعرف بها حال أمثال هؤلاء؛ لأن من
شرط الراوي الثقة: أن يكون معروف الاسم والنسب، والذي لا يعرف كذلك هو
مجهول عندهم. وأما ما يرى من أن بعض الرواة غير منسوب في بعض كتب
المحدثين، فذلك نادر وهم لا يكتفون بذلك إلا فيمن عرف حاله، ومن تتبع ذلك
عرفه.
ولهم طريق أخرى في معرفة المتستر المشار إليه، وذلك بمعرفة بلده ومنشئه
وأخرى أن يكون ممن عرف بالطلب والأخذ عن أهل هذا الفن المشهورين، قال
بعضهم: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون لا يؤخذ عنهم الحديث، يقال: إنهم ليس
من أهله، وأخرى: وهي أن لا يكون ما يرويه مخالفًا لما رواه المعروفون عن ذلك
الشيخ، وأخرى: وهي أنه لا بد يكون الراوي ممن عرف بالفهم والمعرفة وكثرة
السماع والمذاكرة، وأخرى: وهي ما إذا كان لذلك الشيخ رواة فشُرط أن لا يتفرد
برواية شيء دونهم، وأخرى أن لا تكون في مروياته نكارة. أقول: والمنافق الذي
يريد أن يشكك المسلمين ويشوش عليهم دينهم لا يسلم من وجود النكارة في حديثه؛
لأن ذلك غرضه الذي تظاهر بالصلاح والتقوى لأجله، وإن لم يفعل فتستره لم يعد
عليه بفائدة، فظهر أن ما يسميه أهل الحديث بالصحة، وما يعتمدون عليه في
الاحتجاج، لا يصح أن يوجد فيه ما يروى عن المنافقين، ولا ما هو مكذوب لا
أصل له، وفوق كل ذلك لطف الله وعفوه عن الخطأ والنسيان {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن
نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: 286) وقد صح أن الله قال: (قد قبلت) .
أما تجويز كون بعض الرواة قد يخطئ المراد إذا حدث بالمعنى، فجوابه أنهم
(رحمهم الله) لم يهملوا ذلك، بل اشترطوا للتحديث بالمعنى شروطًا لا يمكن لأحد
منهم أن يروي الحديث بالمعنى بدونها: فمنها أن يكون ممن عرف بمعرفة معاني
الحديث، ذا اقتدارعلى اختيار الألفاظ العربية الصالحة لذلك، فإن قيل: كيف
نعرف أنه فعل الواجب المشروط. قلت: لأنه ثقة ضابط من أهل الصدق والإيمان
فهو يتحرى الصواب؛ تدينًا وخوفًا من الله، تعالى. فلا بد - والحالة هذه - أن
يرى ما هذا حاله، إما بالشك أو أنه إذا أوجس من نفسه قصورًا في التعبير، يصرح
بأن هذا نقل بالمعنى؛ كأن يقول أظن معناه كذا، وحينئذ ينظر حال الراوي المذكور،
فإن كان ممن عرف بالمعرفة مستكملاً للشروط قبل حديثه وإلا رد، وفوق كل ذلك
نعرف خطأه إن أخطأ في التعبير بالمعنى؛ بأن ننظر في الأحاديث التي رواها عن
شيخه غير هذا الراوي، فإن وافق معناها معناه وإلا عد حديثه من الشواذ أو
المناكير، فهذه طريقة فوق ما تقدم تشترط عندهم في من يحدث بالمعنى، وبها
يعرف خطؤه إذا ضعفت معرفته المشروطة بعض الضعف، وبذلك يكون مطعونًا،
فإن كثر منه ذلك تركها. فلا خوف على الحديث من الكذب ونحوه، وقد نقاه الأئمة
الكبار والحفاظ الأبرار، وكتبوه بعد التحري وكمال الفحص مطابقًا لشرائطهم،
ولبعضهم شرائط أكثر من غيرها، وما ذكرناه هو المجمع عليه عندهم وهذه الكتب
التي كتبوها قد نقلتها عنهم الأمة نقلاً عامًّا، وأجمع أهل العلم بعد الفحص على أكثر
الصحيح، ووسموا كل حديث بسمته وبينوا حاله، وقربوا البعيد لمن يريده بغاية
السهولة، وبما ذكرناه يندفع كل طعن يمكن أن يقال.
قال: وقد ينسى شيئًا مما سمعه ويقع في الغفلة بسبب ذلك بدون أن يشعر به.
وقد قدمنا الكلام على مسألة النسيان، ونقول: أولاً - إن الأئمة الحفاظ الثقات
والعدول الأثبات لا يكاد مسلم يسيئ الظن بحيث يتهمهم بإهمال ما سمعوه من حديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن يعرضوه للذهول والنسيان؛ لأنا نعلم من
اعتنى وتعهد ما سمعه بالمذاكرة والمراجعة ونحوها كالكتابة؛ فإذا حدث مع كمال
الاحتياط والأناة والتأني والتبيين، لا يقبل العقل عدم شعوره بالنسيان البعيد التوقع؛
إن وقع علمنا ذلك بالتجربة الصحيحة المطردة التي أجمع عليها البشر كلهم كما
قدمنا الكلام على ذلك، إن من يقع له السهو في أمر ما، فإنا جازمون بأنه لم يقع له
ذلك إلا بتقصير وقع منه فليتهم نفسه. ولذا قلنا غير مرة: إن الراوي الثقة إن وقع
له سهو نادر فهو يذكر المروي بالشك، ما لم يتبين.
إن من لم يكن بالحالة التي عرفت ليس عند أهل الحديث من الأثبات، فهم لا
يأخذون بحديثه ولا يصححونه ولا يقبلون مروياته، فما فرضه الفاضل إنما يكون
في غير رواة الحديث الصحيح المحتج به، فالإيراد ليس في محله وليس رجال
الحديث الصحيح إلا مثل من قد جربته من خلانك الذين طالت صحبتك معهم، حتى
عرفتهم وعرفت صدقهم ونصحهم، فإذا أرسلت أحد هؤلاء برسالة تلقاها منك حتى
حفظها، ثم لم يزل يرددها على لسانه وقلبه، فإن كان له شريك فهو يتذاكر في ذلك
معه أو يتصفحها في مكتوب عنده، أفلا يكون مطمئنًّا بخبره عنك من عرف حاله
مثل معرفتك؟ فإذا كان خبر مثل هذا مما تطمئن النفس إليه، ولا يقبل التشكيك فيه،
فما بالك برجال ثقات، ضباط، علماء، أتقياء، حفظوا حديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وجعلوه شغلهم لا يرحلون ولا يقيمون إلا في خدمته، وحفظه،
وتنقيته مما يشوبه، قد انقطعوا لذلك، ووقفوا أنفسهم عليه بالكتابة، والمراجعة،
والمذاكرة، والدرس، والتدريس، والدعوة إليه، والعمل به، يأتمرون بأمره،
وينتهون وينهون لنهيه، صدقوا بخبره، ووعظوا واتعظوا بعبره، امتلأت قلوبهم
رهبةً وخوفًا من مخالفته، والكذب عليه صلى الله عليه وسلم معتقدين أنه هو الدين،
الذي هو حق اليقين.
فإن قيل هذا معروف، ولكن الكتابة كانت نادرة في زمن الصحابة، قلت:
إن كثيرًا من الصحابة كان يكتب أو يستكتب، والبعض الآخر مع كمالهم في الحفظ
والاحتياط زيادة عن غيرهم، فالذي يروى عنهم قليل بالنسبة إلى المكثرين الذين
يكتبون منهم والذين تبعوهم بإحسان رضي الله عنهم، فذلك القليل لا يمكن أن
يحدثوا به مع الذهول بدون أن يشعروا بما فيه من الخلل والنسيان، وليس ما تراه
من الأحاديث هو مرويًّا عن واحد منهم، وإنما هو مروي عن مجموعهم، أما ما
نقله الفاضل حفظه عن عمران بن حصين رضي الله عنه؛ فهو لا يدل على مدعى
الفاضل وغايته إن صح أن يكون جرحًا في من عناه، على أنه يحتمل التأويل؛
لأنه لم يعين المجروح ولا وجه جرح معين، وعمران المذكور رضي الله عنه قد
حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحاديث كثيرة، قال: إن حفظ الأحاديث
إذا كانت طويلةً - إلى قوله - عسير جدًّا، وخصوصًا إذا ألقيت مرة واحدة.
وأقول: لم يوجد حديث واحد من الأحاديث الصحاح طويل مفرط، حتى إنه يندر
أن يوجد فيها ما يقارب المفصل من سور القرآن في الطول، والنبي صلى الله عليه
وسلم لم يلق عليهم هذه الأحاديث دفعةً واحدةً، ولا الرواة يأخذونها عن المشايخ كذلك
بل كان صلى الله عليه وسلم يتخولهم الموعظة، وتارة قد يعيد لهم معنى ما حدثهم به
في الأيام الماضية، فمن سمع ما كان قد سمعه تذكره وأتقنه، ومن سمع جديدًا
حفظه هو أو غيره، وكان صلى الله عليه وسلم يكرر الكلمة حتى يقولوا ليته سكت،
وعادته المطردة أنه كان يكرر الكلمة ثلاثًا لتحفظ عنه، وهم رضوان الله عليهم
يتدارسون ويتذاكرون ما تعلموه منه صلى الله عليه وسلم، وكانوا يجلسون لذلك في
المسجد حلقًا، وكان يتناوبون الحضور لأخذ العلم منه صلى الله عليه وسلم، وإذا
غزا كان يأخذ من كل فرقة منهم طائفة؛ ليخبروا إخوانهم إذا رجعوا إليهم، مع ذلك
كله هم أزكى العرب وأصقلهم أذهانًا، وغير خاف ما امتاز به العرب من قوة الحفظ
وصفاء الأذهان والذكاء المفرط، حتى إنهم كانوا يحفظون القصائد الطوال التي
تنشر في المواسم مرة واحدة لأول وهلة، فهل يستبعد أحد أن يحفظ الواحد من
الصحابة رضي الله عنهم الجملة القليلة من الأحاديث التي يلقيها عليهم الرسول
صلى الله عليه وسلم متفرقة في أيام وسنين وأعوام كثيرة؛ وهم بالصفة التي عرفت،
وهم مع ذلك لا يزالون يتذكرونها تارة من نفس قائلها صلى الله عليه وسلم،
وتارة من أقرانهم وإخوانهم وأصحابهم للعمل والإرشاد وغير ذلك كما تقدم ,
والأحاديث إنما رويت عن مجموعهم رضي الله عنهم، على أن المكثرين منهم قد
صح أنهم كانوا كتبوا واستكتبوا ما سمعوه وحفظوه عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وبعضهم عن بعض، وكتابتهم لم تكن ككتاب يصنف في هذا الزمان، وإنما
كانوا يكتبون ذلك وقعات، كلما سمعوا شيئًا كتبوه، وبعضها أشبه بدفاتر التجار
اليوم. فاعتراضات حضرة الفاضل الثاني والخامس والسادس؛ هي في الحقيقة
ليست بواردة على ما عندنا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي
واردة على أحاديث فرضية قدرها الفاضل في ذهنه، وليس الحقيقة والواقع في
الرواية عندنا إلا ما عرفناك فانتبه ولا تغفل.
هذه الاعتراضات هي أشبه شيء بما إذا رأى بعض الناس بناء عظيمًا كمنارة
وقال: كيف نصبت هذه، ومن الذي حملها فنصبها دفعة واحدة، فإذا أخذ هذا
العجبُ، فإنما ذلك لعدم علمه، ولو دري أنها إنما بنيت بالتدريج لم يكن كذلك، كما
يقال: إذا عرف السبب زال العجب.
هذا وإنه ليسوؤنا من حضرة الفاضل حفظه الله إيراد مثل هذه المغالطات مع
علمه بما ذكرناه، ونحن لم نكن نظن أنه بهذه المثابة، وكذلك عجلته على ما ذكر:
من أنه يريد أن يطبع رسالة فيما نحن بصدده؛ قبل أن تتم المناظرة ويتبين له
الصواب من الخطأ، فنرجو من حضرته أن لا يطبع ذلك إلا بعد انتهاء المناظرة،
وبعد أن يتكلم مع شيخ الإسلام السيد محمد رشيد رضا؛ لأجل أن يصلح ما شاء أن
يصلحه، على أن الدين الحق لا يعدم أنصارًا، والله المستعان.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(12/371)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(كتاب دلائل التوحيد)
لقد مَنَّ الله تعالى على دمشق الشام بالشيخ محمد جمال الدين القاسمي؛ ليكون
فيها واسطة من وسائط الانتقال، وحلقة من حلقات الاتصال، بين الماضي الذي قد
تدهور فيه المسلمون من عدة قرون، وبين المستقبل الذي ينشده المتبصرون،
ويسعى إليه المصلحون، فهو بصير في العلوم الإسلامية المتداولة في العصر،
متطلع إلى ما يتجدد من المطبوعات العربية في كل مصر، مجيد في الانتقاء من
رديئها والانتقاء من جيدها حريص على الاستفادة منها والإفادة بها، وهو يدرس
ويطالع وينسخ ويصحح ويصنف وينشر.
وآخر ما وصل إلينا من مؤلفاته المطبوعة كتاب (دلائل التوحيد) في الكلام،
ألفه في سنة 1325 وطبع في سنة 1326، وهو في أسلوبه ومباحثه مصدق
لما قلناه آنفًا في وصف مؤلفه، لم يقلد فيه المتكلمين كالسنوسي، وواضعي
الشروح والحواشي لعقائده، ومن حاكاهم من المتأخرين الذين صارت كتبهم
كالمتعبَّد بتلاوتها على علاتها وعدم كفايتها، ولم يستقل بجميع مسائله بنفسه،
ويجعله خلوًا من كلام غيره، بل أورد فيه زبدة مما طالعه في كتب أساطين
المتقدمين من الفلاسفة والمتكلمين: كابن مسكويه والنصير الطوسي والفارابي وابن
رشد والراغب والغزالي والعز بن عبد السلام وابن حزم وابن تيمية وابن
القيم والقاضي عياض والماوردي وجمال الدين الخوارزمي والمرتضى
اليماني صاحب إيثار الحق، والمتأخرين كالأستاذ الإمام، ولكنه لا يذكره
باسمه ولا بهذا اللقب الذي اشتهر به، وإنما يشير إليه بكلمة (حكيم) أو حكيم من
المتأخرين، وقد نقل أيضًا عن المنار ولم يسمه ولا ذكر اسم صاحبه، بل يشير إليه
ببعض الألقاب كما فعل في هذا الهامش بعد سوق الدليل العشرين. وما ذلك
إلا لأن اسم الشيخ محمد عبده أو محمد رضا أو المنار، كانت في زمن السلطان
عبد الحميد تخرب الديار، وتسوق إلى البوار، أما مقاصد الكتاب بالإجمال فهي
كما كتب المؤلف في طرته:
(الخطبة في فضل إقامة البراهين؛ لتأييد أصول الدين، ثم تمهيدات في سر
معرفة التوحيد، وما يتقاضاه الإيمان من الإيقان، وفي تمثيل انمحاء الباطل لظهور
آية الحق، وفي أن النظر قانون الاستدلال وفي غير ذلك، ثم مطالب الكتاب وهي
أربعة: المطلب الأول في الأدلة الواضحة على (وجود الله تعالى) وهي خمسة
وعشرون دليلاً وفي طيها فوائد جمة، المطلب الثاني في تحقيق مسائل من العلم
الإلهى: كاستحالة اكتناه ذات الخالق تعالى وبطلان الحلول والاتحاد وغيرهما،
المطلب الثالث في المادة، وشبه الماديين وإبطالها جميعها بالحجج القاطعة، وفيه
مقالات من الطبيعيين تقرب من الثلاثين، المطلب الرابع في مسائل من علم
النبوات: كآيات النبوة وإثبات الخوارق علمًا، وبيان المنة على العالمين ببعثة خاتم
النبيين، وكون القرآن أعظم الخوارق، وبيان خصائصه عليه السلام وفضائله
وشرف أخلاقه وشمائله المؤيدة لنبوته والمبرهنة على عموم رسالته، ثم الخاتمة في
فائدتين) اهـ.
وصفحات الكتاب مائتان بل تزيد، ولم يتيسر لنا إلا مطالعة القليل منه؛
فعسى أن يكون مزلزلاً لتقليد المقلدين، ومرقاة لاستقلال المستعدين، وثمن النسخة
منه ثمانية قروش.
***
(العقائد الدينية للناشئة الإسلامية)
كتيب وجيز للشيخ محمد عبد اللطيف خضير من علماء دمياط طبعه في هذا
العام، وأهدانا نسخة منه، ورغب إلينا فيه شيئًا من المعنى الذي أشرنا إليه في
تقريظ الكتاب الذي قبله؛ من حيث عدم التزام أسلوب وترتيب العقائد المتداولة:
كسرد الصفات العشرين (التي جعل السنوسي مدار عقيدته عليها) ونحو ذلك، ولكنه
على عدم التزام ذلك لم يخرج عنه بالمرة، راعى السهولة فيما استقل فيه، فسدد
وقارب، وجاء ببعض مسائل ودلائل نظرية تعلو على أفهام الناشئين الذين وضعه
لهم، ولولا رجوعه في ذلك إلى بعض الكتب المتداولة لكان يسهل عليه أن يأتي بما
هو أسهل منها وأنفع، أو ليت اقتباسه من كتب المتقدمين كان كله: كاقتباسه من
رسالة التوحيد، وجملة القول: إنه من أحسن ما كتب لتعليم المبتدئين، وثمن النسخة
منه قرش واحد، وهو يطلب من المكتبة العمومية بدمياط؛ فعسى أن ينال ما
يستحقه من الرواج والانتشار.
***
(تحفة الأنام في مختصر تاريخ الإسلام)
ألف هذا التاريخ في أواخر حياته الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت
رحمه الله، تعالى. وهو يشتمل على مقدمة وجيزة في أصل العرب وجزيرتها
وظهور النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أربعة أبواب في الخلفاء الراشدين، وفي
الأمويين والعباسيين والعثمانيين، وفي الكلام على سلطنة محمود الثاني يذكر حادثة
إبراهيم باشا المصري وغيرها من الحوادث الكبيرة ومسألة الوهابية، كما يذكر في
أخبار سلطنة عبد المجيد حرب القرم، وحادثة جدة، وحادثة لبنان، وهو مختصر
ليس في الأيدي مثله ولا ما يغني عنه، فعسى أن يعم نشره، ويباع في مصر
بمكتبة المنار مجلدًا تجليدًا بيروتيًّا بثمانية قروش مصرية، ومن أراد عددًا كثيرًا
منه فليطلبه من المكتبة الأهلية ببيروت.
وإننا ننقل ههنا كلامه في الوهابية، قال رحمه الله تعالى ما نصه:
(ثم في غضون ذلك ظهرت الطائفة الوهابية في بلاد نجد، واستولوا على
مكة المكرمة والمدينة المنورة وباقي بلاد الحجاز، حتى قاربوا بلاد الشام من جهة
دمشق.
وهم قوم كثيرون من عرب نجد؛ اتبعوا طريقة الشيخ عبد الوهاب (؟) وهو
رجل ولد في الدرعية بأرض العرب من بلاد الحجاز، طلب أولاً العلم على مذهب
أبى حنيفة في بلاده، ثم سافر إلى أصفهان وأخذ من علمائها، حتى اتسعت
معلوماته في فروع الشريعة وتفسير القرآن الكريم، ثم عاد إلى بلاده سنة
(1170) ، ثم أدته ألمعيته إلى الاجتهاد، فأنشأ مذهبًا مستقلاًّ وقرره لتلامذته،
وشاع أمره في (نجد) و (الإحساء) و (القطيف) و (عمان) و (بني عتبة)
من أرض (اليمن) ، ولم يزل أمرهم شائعًا، ومذهبهم متزايدًا، وجماعتهم تكثر،
إلى أن صدرت الإرادة السنية إلى محمد علي باشا عزيز مصر بقتال وردع هذه
الطائفة؛ خوفًا من انتشار شرهم في البلاد الإسلامية، فأطفأ سراجهم، وبدد شملهم،
وأخفى ذكرهم، وقد توفي زعيمهم سعود سنة (1229) فساد الأمن في طريق
الحج، وبهذه السنة حج محمد علي باشا بعد أن لم يكن أحد يتمكن من أداء هذه
الفريضة.
وهاك رسالة من كلامهم تدل على مذهبهم واعتقادهم:
اعلموا - رحمكم الله - أن الحنيفية ملة إبراهيم: أن تعبد الله مخلصًا له الدين،
وبذلك أمر الله جميع الناس وخلقهم له، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ
وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) فإذا عرفت أن الله - تعالى - خلق العباد
للعبادة، فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد؛ كما أن الصلاة لا تسمى
صلاة إلا مع الطهارة، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ
شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (التوبة:
17) . فمن دعا غير الله؛ طالبًا منه ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب خير أو دفع
ضر، فقد أشرك في العبادة، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ
مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا
لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: 5-6) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ
تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوَهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا
مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 13-
14) فأخبر تبارك وتعالى: أن دعاء غير الله شرك، فمن قال يا رسول الله، أو يا
ابن عباس، أو يا عبد القادر؛ زاعمًا أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده،
ووسيلته إليه - فهو المشرك الذي يهدر دمه وماله إلى أن يتوب من ذلك، وكذلك
الذين يحلفون بغير الله أو الذي يتوكل على غير الله، أو يستعين بغير الله فيما لا
يقدر عليه إلا الله، فهو أيضًا مشرك، وما ذكرنا من أنواع الشرك؛ هو الذي
قاتل رسول الله المشركين عليه، وأمرهم بإخلاص العبادة كلها لله تعالى، ويصح ذلك
أي: التشنيع عليهم بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله في كتابه.
(أولها) أن يعلم أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله يقرون أن الله هو:
الخالق الرازق المحيي المميت المدبر لجميع الأمور؛ والدليل على ذلك قوله
تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن
يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ
أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (يونس: 31) ، وقوله تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ
العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ
يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: 84-
89) إذا عرفت هذه القاعدة وأشكل عليك الأمر، فاعلم أنهم بهذا أقروا، ثم توجهوا
إلى غير الله يدعونه من دون الله فأشركوا.
(القاعدة الثانية) أنهم يقولون: ما نرجوهم إلا لطلب الشفاعة عند الله،
نريد من الله لا منهم، ولكن بشفاعتهم. وهو شرك، والدليل على ذلك قول الله
تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا
عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ
لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 3) وإذا عرفت هذه القاعدة فاعرف:
(القاعدة الثالثة) وهي أن منهم من طلب الشفاعة من الأصنام، ومنهم من
تبرأ من الأصنام وتعلق بالصالحين مثل: عيسى وأمه والملائكة والدليل على ذلك
قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ
رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الإسراء: 57) ورسول
الله لم يفرق بين من عبد الأصنام ومن عبد الصالحين في كفر الكل، وقاتلهم حتى
يكون الدين كله لله، وإذا عرفت هذه القاعدة فاعرف.
(القاعدة الرابعة) وهي أنهم يخلصون لله في الشدائد وينسون ما يشركون،
والدليل عليه قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا
نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: 65) ، وأهل زماننا يخلصون
الدعاء في الشدائد لغير الله، فإذا عرفت هذا فاعرف أن المشركين في زمان النبي
أخف شركًا من عقلاء مشركي زماننا؛ لأن أولئك يخلصون لله في الشدائد، وهؤلاء
يدعون مشايخهم في الشدائد والرخاء، والله أعلم بالصواب اهـ.
وهذه الرسالة والقواعد التي أسسها ذلك الشيخ لا شبهة فيها؛ لأن هذا هو
الدين الذي جاء به النبي والأنبياء من قبله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين
لكن هذا الشيخ لم يتحقق ولم يحقق هذه المسألة، واتبعه قومه من بعده؛ فأفرطوا
وفرطوا وقصروا، حتى تولد منهم بسبب هذه القواعد تنقيص وتحقير ما عظمه الله
وأمرنا بتعظيمه ومحبته وتوقيره، وقاسوا المسلمين المخلصين في التوحيد
بالمشركين، حتى قاتلوا المسلمين في أفضل البقاع، واستحلوا دماءهم وأموالهم،
كما وأن أكثر العوام من جهلة المسلمين قد تغالوا وأفرطوا وابتدعوا بدعًا تخالف
المشروع في الدين القويم، فصاروا يعتمدون على الأولياء الأحياء منهم والأموات،
معتقدين أن لهم التصرف، وبأيديهم النفع والضر، ويخاطبونهم بخطاب الربوبية،
وهذا غلو في الدين القويم وخروج عن الصراط المستقيم، وقد ورد في الحديث
المرفوع: (دين الله تعالى بين المغالي والمقصر) .
وهنا شيء لا بد لك من معرفته؛ وهو أن الحب لله وفي الله، والحب مع الله
بينهما فرق من أهم الفروق، وعنه تعلم جهل وخطأ الوهابية وشيخهم، فإن الحب
لله وفي الله هو من كمال الإيمان في الله، والحب مع الله هو الشرك المنهي عنه،
وقاتلهم عليه النبي صلوات الله وسلامه عليه، والفرق بينهما أن الحب في الله ولله
تابع لما يحبه الله: كحب الرسل والملائكة والأولياء والعلماء والكعبة والمدينة وبيت
المقدس؛ لأن الله يحبهم ويحب من يحبهم ويعظمهم، والحب مع الله على نوعين:
نوع يقدح في أصل التوحيد وهو شرك: كعبادة الأوثان والأصنام والأنداد من
المشركين؛ لأنهم عظموا وأحبوا مع الله ما يبغضه الله، والنوع الثاني يقدح في
كمال الإخلاص والتوحيد ومحبة الله، ولا يخرجه عن الإسلام: كمحبة ما زينه الله
للنفوس في النساء والبنين والذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث؛ فإن
محبتها طبيعية ومحبة شهوة: كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، فإن أحبها لله
ليتوصل بها إليه، واستعانته على مرضاته وطاعته كانت من قسم الحب لله، وفي
الحديث: (حبب إليَّ من دنياكم النساء والطيب) ، وإن أحبهما لموافقة طبعه
وشهوته وهواه كانت من المباحات. لكن ينقص من كمال محبته لله والمحبة فيه.
وإن كان حبه لها مراده ومقصوده، وقدمها على ما يحبه الله ورضاه منه كان ظالمًا
لنفسه متبعًا لهواه، فالأول محبة السابقين، والثانية محبة المقتصدين والثالثة محبة
الظالمين، فتأمل ذلك وما فيه، فإنه معترك النفس الأمارة والمطمئنة والله تعالى
يوفقنا وإياك والسلام اهـ، ولم يذكر مثالاً للحب مع الله، وكأنه اكتفى بما عزاه
منه إلى أكثر عوام المسلمين من الغلو في الصالحين وحبهم لهم: كحب الله، وهو
عين ما ينكره الوهابية، وما أظن أنهم كانوا يتهمون بذلك جميع أفراد المسلمين وإلا
كانوا مجانين.
__________(12/387)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رسالة المحجوب
(من باب الانتقاد على المنار)
أرسل إلينا بعض علماء تونس رسالة، كان كتبها رجل اسمه السيد عمر
المحجوب التونسي في الرد على الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي في زمنه،
وطلب منا أن نبين رأينا فيها، فتصفحناها هي وما ألحق بها في نحو من نصف
ساعة، فلم نجد فيها شيئًا يزيد على ما تلوكه العامة في هذه المسائل، وعلمنا من
الذيل الذي ألحق بها أنها طبعت معه بعد الحادثة التي وقعت معنا بدمشق في آخر
رمضان من السنة الماضية؛ لتكون ردًّا علينا فيما شاع من أن سبب تلك الفتنة
تأييدنا لمذهب الوهابية، فيارحمتا لهؤلاء الجهلاء المساكين الضعفاء الذين تهيجهم
الأكاذيب إلى إظهار جهلهم، وطاعة انفعالاتهم العدائية لمن هو لهم صديق غير عدو،
وإن كانوا لا يميزون.
قد علم الخاص والعام أن حادثة الشام لم تكن مقاومة لمذهب الوهابية ولا
انتصارًا للسنة السنية، وإنما كانت انتصارًا للاستبداد على الدستور، وإيثارًا
للظلمات على النور، وإن خطيبي فتنتها الشيخ عبد القادر الخطيب والشيخ صالحًا
التونسي قد حاولا مع رؤسائهما من مدبري تلك الفتنة إثارة فتنة أعظم منها باسم
الإسلام؛ إذ نشروا تلك الجمعية الفسادية التي أطلق عليها (تمويهًا وخداعًا) اسم
الجمعية المحمدية؛ لذلك اختفيا عن الأنظار ووليا الأدبار لما نصر الله الدستور،
وخذل الغرور، وأنشأت الدولة العلية تحاكم زعماء الفتنة الذين كانوا يحرضون
على الثورة، ثم ظهر الخطيب فاستنطق ورفع أمره إلى الآستانة. ومعلوم أن
صالحًا التونسي من دعاة أبي الهدى دجال عبد الحميد اللذين كفى الله المسلمين
شرهما (والعاقبة للمتقين) .
وإننا ندعو صاحب الذيل الطويل لتلك الرسالة، هو وجميع من على رأيه من
علماء تونس إلى المناظرة جهرًا فيما يزعمون أن المنار أخطأ فيه، بأن يذكروا
المسألة التي يزعمون أنها خطأ والدليل من الكتاب والسنة، وكذا الإجماع والقياس
على ذلك، مع التصريح بأسمائهم، ونحن نجيب عن أقوالهم ونجعل أهل العلم
والفهم في المشرق والمغرب حكمًا بيننا وبينهم. وإنما نشترط أن يصرحوا بأسمائهم
لتعلم قيمة المحق منهم والمبطل في الحال، ويحفظ التاريخ ذلك لأعقابهم في
الاستقبال.
على أن صاحب الذيل المشار إليه لم يذكر وراء مسألة الاجتهاد من خطأ
المنار إلا مسألة طهارة العطر الإفرنجي والكحول، وكذا ما سماه تحليل مفتولة
العنق، والمضروبة على الرأس، ولبس القبعة الإفرنجية. المسائل الثلاث التي
كانت موضوع فتوى الأستاذ الإمام منذ سنين، فإن فرضنا أن ما كتبه المنار فيها
كان خطأ؛ فليدلونا على كتاب من كتب الفقه أو الحديث أو التفسير ليس فيه مسائل
كثيرة منتقدة؛ لمخالفتها للكتاب أو السنة، أو لما رجحه العلماء الآخرون المخالفون
لأولئك المؤلفين لها في اجتهادهم أو فهمهم.
إذا كان صالح التونسي وعبد القادر الخطيب الدمشقي قد تصديا للفتنة بدمشق
بباعث السياسة، وهما يعلمان أنهما باغيان مخطئان، فيحتمل أن يكون أحمد جمال
الدين صاحب ذيل هذه الرسالة حسن النية له شيء من العذر بجهله، وهل يرجى من
مثله أن يفهم دقائق مباحث المنار الاجتهادية، وهو إلى اليوم لم يفهم معنى العبادة،
بل اتبع فيها الشيخ المحجوب الذي لم يعرف كيف كان أساس دعوة الإسلام النهي
عن عبادة غير الله تعالى إلى عبادته وحده، كما نبينه قريبا؟ فكيف يتكلم في مثل
شيخ الإسلام ابن تيمية الذي لم يسمح الزمان له بنظير. أما رسالة الشيخ المحجوب
فليس فيها شيء إلا وقد سبق لنا تحريره في المنار، ولا يفهم العامة ورؤساؤهم من
أصحاب العمائم من إعادة القول في بيان مواضع الخطأ فيها إلا أن المنار ينتصر
للوهابية، على ذلك الشيخ الذي ينتسب إلى ما لا يفهمه من السنة السنية، وما كان
لينتصر لمذهب من المذاهب أو يتعصب لفئة الفئات، إنما يؤيد الكتاب والسنة
ويحكمهما في أقوال المتقدمين والمتأخرين. وأما أمثال هذا المعترض المسكين فإن
قصارى علمه أن يحفظ كلمات من بعض شيوخه المعاصرين أو المؤلفين المتأخرين
الذين ليس لأكثرهم من العلم إلا نسخ كتب القدماء؛ مع زيادات يستميلون ببعضها
العامة وببعضها الآخر الملوك والأمراء،
يظهر أن الشيخ المحجوب كان ممن يعبر عنهم بالأدباء، ولم يكن من العلماء،
فقد ظهر في رسالته تشميره في الهجاء والشتم، وقصوره في مسائل الدين والعلم،
وهو لم يذكر في رسالته كلام خصمه، فيوازن بينه وبين رده، فنكتفي إذًا
بالإشارة إلى بعض خطئه وضعفه؛ ليعلم أنه لا يوثق بعلمه مع عدم التعرض لخطأ
خصمه وصوابه.
قال في (ص4) في رد إنكار خصمه ما تفعله العامة عند قبورالأولياء
والصالحين من: الاستغاثة والتوسل والتعظيم (معاذ الله أن يعبد مسلم تلك المشاهد
أو أن يأتي إليها معظمًا لها تعظيم العابد، أو أن يخضع لها خضوع الجاهلية
للأصنام، وأن يعبدها بركوع أو سجود أو صيام) ونقول: إن هذا القول يدل على
أن المحجوب لم يكن يعرف الواقع الذي عليه الجمع الغفير من العامة، أو أنه يعرفه
ويقول غير ما يعلم، وأنه لا يفهم معنى العبادة، بل يتوهم أنها عبارة عن الصلاة
والصيام وسائر التكاليف الشرعية فقط، كما قال صاحب الذيل في (ص19) في
تقوية رده: (وما درى - أي ابن عبد الوهاب - أن العبادة الشرعية هي التكاليف
التي اشتملت عليها الشريعة، سواء كانت معقولة المعنى أو تعبدية) وقد جهل
صاحب الذيل كصاحب الأصل: أن أول شيء دعا إليه النبي صلى اله عليه وسلم
هو أن يعبد الله وحده وأن لا يعبد سواه، دعا إلى ذلك قبل أن تشرع التكاليف
العملية من: الصلاة والزكاة والصيام، فهل يصح أن يقال: إن المراد بالنهي عن
عبادة غير الله تعالى هو أن تكون التكاليف التي ستشرع بالتدريج خاصة بالله تعالى؟
هل يصح أن يكون معنى العبادة شيئًا لم يكن معروفًا ولا مشروعًا؟ ؟ يا حسرة
على المسلمين الذين ابتلوا بأمثال هؤلاء المؤلفين.
على أن أمثال هؤلاء الضعفاء يعذرون إذا جهلوا معنى العبادة؛ لأن من كانوا
يستطيعون تحديد الحقائق من العلماء عدوا معنى العبادة من البديهيات، فلم يهتموا
ببيانه؛ ولذلك لم يشتهر عنهم نقل في تحديده. وأما الأقوال المشهورة فيه عن
اللغويين وغيرهم فليست حدودًا، بل لا يبلغ بعضها أن تكون رسومًا تامةً أو ناقصةً
ذلك مرات كثيرة، ومنه أن أعظم مظاهر العبادة الدعاء، وفي حديث البراء عند
أحمد وابن أبي شيبة وأصحاب السنن (الدعاء هو العبادة) وفي رواية ضعيفة
للترمذي من حديث أنس (الدعاء مخ العبادة) وهل يكابر أحد في دعاء الألوف
والملايين من عامتنا للموتى من الصالحين، إلا إذا كان لا يخجل من إنكار
المحسوسات؟ ألا إنهم لا ينكرونه ولكنهم يؤولونه لهم: بأنهم لا يقصدون به العبادة،
وإنما يقصدون التوسل! ! ألفاظ يلوكونها ولا يفهمونها، الرسول صلى الله عليه
وسلم يقول: الدعاء هو العبادة أي: هو الفرد الأعظم من أفرادها، والركن الأكمل
من أركانها، كقوله: (الحج عرفة) فتجويز دعاء غير الله؛ كتجويز الصلاة لغير الله
بدعوى عدم قصد العبادة، وتسميتها توسلاً أو ما يشاء أهل التأويل من الأسماء،
قال المحجوب (ص4) : (دوامًا ما جنحت إليه، وعولت في التفكير عليه من
التوجه إلى الموتى، وسؤالهم النصر على العدا، وقضاء الحاجات، وتفريج
الكربات، التي لا يقدر عليها إلا رب الأرضين والسماوات، إلى آخر ما ذكرته
مواقدًا به نيران الفرقة والشتات، فقد أخطأت فيه خطأ مبينًا، وابتغيت فيه غير
الإسلام دينًا، فإن التوسل بالمخلوق مشروع ووارد في السنة القويمة، ليس
بمحظور ولا ممنوع، ومشارع الحديث الشريف بذلك مفعمة، وأدلته كثيرة محكمة
تضيق المهارق عن استقصائها، ويكل اليراع إذا كلف بإحصائها) ثم ذكر أثر
استسقاء عمر بالعباس - رضي الله عنهما -، وحديث طلب عمر الدعاء من أويس
القرني، ومسألة الشفاعة، والوهابية لا ينكرون أثر الاستسقاء، ولا الدعاء، ولا
الشفاعة، وكتب ابن تيمية التي هي عمدتهم في هذا الباب مثبتة لهذه المسائل مبينة
لها أتم بيان، وهم يحتجون بها على الذين يدعون أصحاب القبور، فيقولون: إن
عمر والصحابة لم يدعوا العباس أن يسقيهم الغيث، كما يدعو جمهور عامتنا
الأموات: أن يقضوا لهم حاجاتهم، وإنما كان توسلهم بالعباس هو جعله إمامًا لهم
في الاستسقاء، فصلى بهم ودعا وهم أمنوا على دعائه، ويقولون: إنه ورد فيه أن
عمر رضي الله عنه قال: (اللهم، إنا كنا نتوسل إليك بنبينا، وإنا نتوسل إليك بعم
نبينا فاسقنا) وهذا دليل على أن الميت لا يتوسل به وإن كان حيًّا عند الله تعالى.
وأقول: إن المسألة ليست من باب ما يسمونه اليوم بالتوسل؛ وهو أن يدعو غير
الله - تعالى - ويطلب منه شيئًا ما، وإنما هو استسقاء كما تقدم، ويحتجون به من
وجه آخر، وهو دعاء العباس الذي ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح وهو: (اللهم،
إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة) وهو نص في أن كشف الضر لا
يكون بسبب الأشخاص؛ وإنما يكون بالتوبة إلى الله والرجوع إليه وحده، وفي
الحديث روايات لا تصح.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(12/393)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(جمعية الاتحاد والترقي)
استحسن العقلاء في سورية ما كتبناه في الجزء الثالث من مجمل ما ينتقده
الناس على هذه الجمعية، وكتب إلينا غير واحد يقول: إن المعتدلين من أعضاء
الجمعية أنفسهم استحسنوه، وعدوه من النصح الخالص، وقد استنكره آخرون مع
ما عهدوا من تأييدنا للجمعية في المناظرات والخطب زيادة عما يكتب في المنار،
وقد يعذر المستنكر لذلك؛ إذ لم يكد يصل ذلك الجزء إلى سورية إلا وقد ظهرت
خفايا ثورة الآستانة، وعلم الناس أنها دبرت في يلدز لمحو آية الدستور وإعادة
استبداد عبد الحميد إلى شر مما كان عليه، وفر أعضاء الجمعية إلى سلانيك
مستنصرين مستصرخين ينفضون غبرة الموت قتلاً وغيلةً عن رءوسهم.
نعم.. إننا كتبنا ما كتبنا قبل ظهور تلك المكيدة. ولكننا قبل طبع الكراسة
الأخيرة من ذلك الجزء، علمنا ببعض بوادر الفتنة فأشرنا إليها بما هو صريح في
الميل إلى الجمعية والدعاء لها بالانتصار , ومع هذا كله نرى أن التعريف بما ينكر
الناس عليها، وما يقولون فيها ضروري، لاسيما من يحمد سعيها ولا ينكر فضلها.
إننا لخصنا الكليات التي يرجع إليها انتقاد المنتقدين من غير موافقة لهم على
كل ما ينتقدونه، وسكتنا عن بعض الجزئيات الفظيعة التي هي من قبيل تعيين
بعض الأشخاص والأعمال المنكرة. وهل تؤمن عاقبة أشخاص يعملون بقوة في
مملكة واقعة في أشد الحرج، وهم لا يسألون ولا ينتقدون؟ وقد كان الصحابة
يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم في بعض رأيه في السياسة والحرب، حتى
يرجع عنه، فهل كانت الجمعية أجدر بالتقديس منه؟
إننا صرحنا هناك بفضل الجمعية علينا في الانقلاب، وإنما ذلك الفضل لأفراد
ربما كان العمل الآن في أيدي غيرهم ممن لم يكن لهم عمل قط في الانقلاب، وقد
دخل في الجمعية خلق كثير منهم من لا خلاق لهم؛ ولكنهم أصحاب دهاء أو حظ
على ما يقال، وقد ينتخب بعضهم للجنة العليا، كما أن اللجان المركزية في بعض
البلاد فيها من نعرف ومن لا نعرف، ممن لا خلاق لهم، ولا عرفان، ولا إخلاص
فهل يقول عاقل: إن مصلحة الأمة أو مصلحة الجمعية أن تعد الجمعية مقدسة في
جميع أعمالها؟
وقد أيدناها أيضًا في ذلك المقال من حيث الحاجة إلى بقائها، وتأييد الجيش
لها، إذا حدث ما يخشى منه على الدستور مع اعتزاله للسياسة في عامة أحواله،
فهل فوق هذا التأييد من تأييد؟ على أنه تبين أن الجيش حام للدستور على حال.
إنه وايم الحق، قد راعنا عندما عدنا من سورية إلى مصر ما سمعناه من
أحرار الترك وسائر العثمانيين: من الإنكار على الجمعية في تصرفها، وعلمنا أن
الإنكار والاستياء في الآستانة أشد، فخشينا أن ينتج ذلك مما لا تحمد عاقبته إذا لم
تتداركه الجمعية، فكان ذلك هو الباعث لنا على كتابة ما كتبنا وما كنا إلا ناصحين.
***
(طعن المؤيد في الدولة العلية الدستورية)
ظهر المؤيد بمظهر الساخط الماقت للحكومة الدستورية في الدولة العلية، وقد
كادت تنقضي السنة الأولى لها وهو يكتب عنها بقلمه وأقلام بعض محرريه ومكاتبيه
شر ما يسمع وما يقرأ، وشر ما يتخيل ويتصور، وقد أرضى بذلك بعض الأغرار
من المصريين المخدوعين بما كانوا يقرؤون في الجرائد من إطراء عبد الحميد ,
ولكنه أسخط العقلاء وخواص الأمة المصرية، حتى إننا سمعنا بعض الكبراء الذين
يعرف صاحب المؤيد صدقهم واستقلالهم يقول: إنني لم أر أحدًا من الخواص يعذر
المؤيد على خطته هذه.
وقد اختلف رأي أهل التعليل في سبب اختيار صاحب المؤيد لهذه الخطة،
فقال بعضهم: إنه قد أسخط في سنيه الأخيرة جمهور أهل بلاده من جميع الطبقات
حتى الأزهريين، وهو يعلم أن حسن الظن بعبد الحميد خان غالب فيهم، فأنشأ
يدافع عنه ويطعن في الحكومة الجديدة؛ ليستميل بذلك الجمهور الساخط، ومن
هؤلاء من يقول: إن الجمهور سخط على المؤيد؛ لتذبذبه واتباعه لهواه دون
مصلحة الأمة، ومنهم من يقول: بل لاعتداله في الكلام عن الحكومة والمحتلين،
وهذا هو الأقل.
ويقول آخرون: إن سبب اختيار المؤيد لهذه الخطة؛ هو اتفاقه مع عزت
باشا العابد وغيره من أعوان عبد الحميد على إسقاط الحكومة الدستورية وإعادة
الحكم الحميدي السابق، ولما خلع عبد الحميد وأخرج من عاصمة السلطنة، كان
الإصرار على الانتصار له دعوى الثبات على الرأي.
ومن الناس من يقول: إن المواطأة بين عزت العابد وحزبه، إنما هي على
تأسيس دولة عربية وخلافة جديدة، وقد تنصل المؤيد من هذا، ولعن من يسعى إليه
ومنهم من يظن أن صاحب المؤيد يخدم بذلك إنكلترا التي تحب أن تمحو نفوذ الدولة
الديني من مصر والهند وإن جاملتها في أوربا، وإن لها يدًا في تحريك سخط
مسلمي الهند على الحكومة العثمانية الجديدة، وهذا إغراق في سوء الظن.
ومنهم من يرى أن صاحب المؤيد لما كان يعلم أن جمعية الاتحاد والترقي
تعتقد أنه من جواسيس الحكومة الحميدية وشيعة عزت العابد، لاسيما بعد أن أظهر
ضلعه في أول العهد بالانقلاب وميله إلى الماضي، وأنها لا بد أن تتخذه خصمًا
وعدوًّا هاجمها هي وحكومتها بقوة؛ لعلها تخافه فتسعى إلى استمالته، فلا يحرم من
الكرامة في الآستانة وسورية في كل مصيف.
ومنهم من يرى أنه لعلمه بما كان من فتك عبد الحميد خان بالدولة والأمة،
اعتقد منذ حدث الانقلاب أن الدولة لم يبق فيها رمق فتنهض بحكومة دستورية، فإما
أن يعود عبد الحميد إلى استبداده، وإما أن يسقط الدولة بتدميره الماضي وكيده
الحاضر، فصار يكتب ما يكتب وهو يظن أن الأيام ستصدقه بفشل الدولة وسقوط
الدستور أو ما هو أعظم من ذلك، فيظهر بمظهر السياسي الخبير والمحب الغيور.
ويظن أنه لا يبعد أن يكون سمع من كبار الأجانب أو عنهم بنفسه أو بواسطة عزت
العابد شيئًا من هذا المعنى؛ لأن الأجانب شعروا بالدسائس التي كان يدبرها عبد
الحميد وأعوانه، واعتقد الكثيرون منهم أن قوة الدولة ستكون قسمين يتصادمان
فيتساقطان، وقد أعدوا لذلك عدته، ونحمد الله أن كذب هذا التشاؤم.
لماذا تضاربت الظنون، واختلفت الآراء في إنحاء المؤيد على الحكومة
الدستورية في الدولة العلية؟ أليس لأنه كان في زمن عبد الحميد يدافع عنها بالحق
وبالباطل، فيخفي عيوبها ويجعل سيئاتها حسنات؟ نعم.. ومن العجب أن يعكس
الأمر الآن، فينحي عليها بالحق وبالباطل، ويجعل حسناتها سيئات.
يقول: إنه يعتقد حقية ما يكتب، ونقول: لماذا لم يختر من الحق إلا ما يسوء
ويضر نشره، ومتى كان السياسي صوفيًّا صديقًا يقرر العقائد كما هي مهما ترتب
عليها؟ أليس عند هؤلاء الصديقين من الأسرار الباطنة ما لا يجوزون نشره لأنهم
يخشون ضره؟
يقول: إنه يقصد بهذه الشدة النفع؛ بإرجاع جمعية الاتحاد والترقي عن
غرورها الذي يراه ضارًّا، نقول: ولماذا يخفى عليه غروره في هذه الدعوى،
فيتوهم أن هذه الجمعية تنتظر جريدته العربية لتترجمها وتعمل بنصائحها، وهي لم
تحفل بما قام في وجهها من الأحزاب والكتاب الذين هم أبلغ منه قلمًا، وأعلم بمكان
الانتقاد، ولماذا خفي عنه الآن عما كنت أعده كغيري عذرًا له في دفاعه عن
الحكومة الحميدية؛ وهو أن إظهار سيئات الدولة وعيوبها يسقط منزلتها من نفوس
المصريين وغيرهم من قراء المؤيد، فيكون ذلك ضعفًا لها على ضعف؟ أليس
إسقاط نفوذ الدولة الآن أشد ضررًا من إسقاطه في العصر الماضي؛ عصر الظلم
والتخريب والتدمير؟ بلى.. إن خطة المؤيد الجديدة يخشى ضررها، ولولا أن
الجرائد التي تناقضها في القطر المصري نفسه أوسع منها انتشارًا لأضلت وأضرت
الجمهور، وما يرجوه صاحب المؤيد من التأثير في نفوس لجنة جمعية الاتحاد
والترقي، لا يوازي هذا الضرر لو حصل على أنه يطعن الدولة لا الجمعية وحدها.
إن خطته هذه قد سلبته أنفس حلية كانت له في أنفس المسلمين، لا سيما
مسلمي الدولة العلية الذين يهتم لهم سائر مسلمي الأرض؛ وهي أنه صاحب الجريدة
الإسلامية العربية الكبرى التي تدافع عن الخلافة والسلطنة وتؤيد نفوذها، والآن
نرى الجرائد العثمانية في عاصمة الدولة وولاياتها تنطق بلسان واحد صائحة أن
المؤيد عدو الدولة والخلافة، عدو الدين والملة، وقد أحرقه جماهير الناس في بلاد
كثيرة حتى بلاد الحرمين، ونادوا بإسقاطه، وما كان أغناه عن التصدي لهذه العاقبة
التي لم تكن في حسبانه.
نعم.. إن صاحب المؤيد صار من عدة سنين على غير ما كنا نعهد منه؛
صار لا يبالي برأي أحد ولا بنصحه، ولا يحسب للعواقب حسابًا، ويرى أن الدنيا
كلها إذا قامت عليه اليوم؛ فإنه يسهل عليه أن يستميلها إليه غدًا، ولكننا رأينا هذه
الشاكلة قد أضرته ولم تنفعه. هذا هو رأينا إن كان يقبله، وهو يعلم أننا لا نقول إلا
ما نعتقد، ونتمنى لو يقدر بالفعل على استمالة الدولة العلية والأمة العثمانية بما
يكتبه بعد، فيرجع عن اجتهاده ذاك إلى ضده، والله الموفق.
__________(12/397)
جمادى الآخر - 1327هـ
يوليو - 1909م(12/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهجرة وحكم مسلمي البوسنة فيها
(س25) من صاحب الإمضاء في البوسنة [1] بعد السلام عليكم يا فضيلة
الأستاذ الأكبر، والعلامة الفهامة الهمام الأوحد، حجة الإسلام، وإمام أهل الحق
وفخر الأنام، العالم العامل، الفاضل الكامل المحقق، والبحر النحرير الفيلسوف
الحكيم المدقق، الأديب اللبيب، وفريد العصر، ووحيد الدهر، سيدنا ومولانا
ومرشدنا الشيخ: محمد رشيد رضا، عمره الله وحياه بأحسن الحياة.
أقول: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ذي العظمة والكبرياء، والصلاة
والسلام على سيدنا ومولانا وقرة أعيننا رسوله الداعي إلى سبيل الهدى سيدنا محمد،
وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين المهتدين بهداه، والذين اتبعوهم بإحسان
إلى يوم الحشر والجزاء.
أما بعد: فقد أخبرني بعض المصاحبين بأن واحدًا من علماء الآستانة قد اتفق
أن ألقى وعظًا في جامع بمدينة عندنا، فمن جملته أن قال فيه بوجوب الهجرة
علينا، وعدم صحة النكاح ونحوه؛ بعدما ألحقت النمسا وضمت (ولاية البوسنة
والهرسك) إلى أملاكها وملكها، وشدد أيضًا فقال بعدم صحة أركان الإسلام
تحت حكومتها مطلق الصلاة، فالجمعة داخلة في ذلك، ونحو الصيام والحج والزكاة،
فاضطرب منه أكثر من سمع ما قال اضطرابًا شديدًا؛ ظنًّا منهم بأن حقيقة الأمر
كما قال.
فيا سيدي ومولاي وقرة عيني، ويا ناصر الحق والسنة، ويا قامع البدع
الدينية الذليلة الشنيعة، ويا كاشف الغمة عن هذه الأمة المرحومة، ويا مقتدى الأمة،
وقدوة الأئمة، ويا رحمة الله لهذه الأمة الحنيفية، أرجو من حضرتكم أن تتفضلوا
بالجواب الواضح الشافي عن قول ذلك العالم، على نحو ما اهتديتم بالكتاب والسنة
السنية، مع البراهين والأدلة الشرعية المرضية القوية، كما هو دأب جنابكم على
صفحات المنار المنير، أدام الله ضياءه إلى يوم الحشر والقرار، وبارك في عمر
سعادة صاحبه، وعامله نحو ما عامل المقربين من عباده المتقين، وجزاه نحو ما
يجزي المحسنين من عباده المخلصين، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير،
الداعي والمستدعي.
قارئ المنار المنير، وصديقكم المطيع الخالص، وصديق أصدقاء المنار
المنير وصاحبه ومحبهم، وعدو عدوهم ومبغضهم، العبد الضعيف النحيف الحقير
الفقير إلى رحمة ربه العلي القدير، تراب أقدام أنصار الحق محمد ز. هـ. د.
تارابار من طلبة المدرسة الفيضية بمدينة تراونيك (بوسنة) .
(ج) لا شك أن ذلك التركي قد أخطأ في جملة ما قاله، والصواب أنه لا
تجب الهجرة وجوبًا عينيًّا على من كان متمكنًا من إقامة دينه، آمنًا من الفتنة فيه،
وهي الإكراه على تركه، أو المنع من إقامة شعائره والعمل به، وهو نحو مما قالته
عائشة، ففي البخاري أنها سئلت عن الهجرة فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمن
يفر بدينه الى الله ورسوله؛ مخافة أن يفتن، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام،
والمؤمن يعبد ربه حيث شاء. والأصل في المسألة آية {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ} (النساء: 97) وستأتي، وفيها أحاديث وآراء للعلماء نذكر أهمها: فأصح ما ورد
فيها حديث ابن عباس عند أحمد والشيخين وأصحاب السنن الثلاثة عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم
فانفروا) ، وروي مثله عن عائشة في الصحيحين، وروى أحمد والنسائي وابن
ماجه والطبراني وغيرهم عن عبد الله بن السعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو) ، وهو يوافق حديث ابن عباس في وجوب
النفر على من استُنْفِرَ للجهاد الشرعي وترك وطنه لأجل ذلك، وهذا لا وجود له
الآن.
وأما حديث جرير بن عبد الله عند أبي داود والترمذي: (أنا بريء من كل
مسلم يقيم بين أظهر المشركين) وتعليله ذلك بقوله: (لا تتراءى ناراهما) ، فقد
صحح البخاري وأبو حاتم -مخرجاه- وغيرهم إرساله إلى قيس بن أبي حازم، وفي
الاحتجاج بالمراسيل الخلاف المعروف في الأصول، ورواه الطبراني موصولاً
وهو لا ينطبق على أهل (بوسنة) ؛ لأنهم ليسوا بين أظهر المشركين، وقد كان
للإسلام سياسة خاصة في مشركي العرب، وفي الباب حديث عن معاوية رواه أحمد
وأبو داود والنسائي وقد أشرنا إليه في الجزء الماضي؛ وهو أنه قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا
تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) وهذا الحديث قال الخطابي: (إسناده
فيه مقال) .
أما أقوال العلماء في أحكام هذه الأحاديث، فنذكر منها ما أورده الشوكاني في
شرح المنتقى في الجمع بينها قال: وقد اختلف في الجمع بين أحاديث الباب، فقال
الخطابي وغيره: كانت الهجرة فرضًا في أول الإسلام على من أسلم؛ لقلة
المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين
أفواجًا، فسقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به
أو نزل به عدو. انتهى قال الحافظ (ابن حجر) : وكانت الحكمة في وجوب
الهجرة على من أسلم؛ ليسلم من أذى من يؤذيه من الكفار، فإنهم كانوا يعذبون من
أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه، وفيهم نزلت {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي
أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ
وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (النساء: 97) الآية. وهذه الآية باقية الحكم في حق من
أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها، وقال الماوردي: إذا قدر على إظهار
الدين في بلد من بلاد الكفر، فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل
من الرحلة عنها؛ لما يترجى من دخول غيره في الإسلام. ولا يخفى ما في هذا
الرأي من المصادمة لأحاديث الباب القاضية بتحريم الإقامة في دار الكفر، وقال
الخطابي أيضًا: إن الهجرة افترضت لما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى
المدينة إلى حضرته؛ للقتال معه وتعلم شرائع الدين، وقد أكد الله ذلك في عدة آيات،
حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} (الأنفال: 72) فلما فتحت
مكة، ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل، انقطعت الهجرة الواجبة وبقى
الاستحباب. وقال البغوي في شرح السنة: يحتمل الجمع بطريق أخرى، فقوله:
(لا هجرة بعد الفتح) أي من مكة إلى المدينة، وقوله: (لا تنقطع) أي: من دار
الكفر في حق من أسلم إلى دار الإسلام، قال: ويحتمل وجهًا آخر؛ وهو أن قوله:
(لا هجرة) أي: إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان بنية عدم الرجوع
إلى الوطن المهاجر منه إلا بإذن، فقوله: (لا تنقطع) أي: هجرة من هاجر على
غير هذا الوصف من الأعراب ونحوهم، وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه
الإسماعيلي بلفظ انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار؛ أي: ما دام في الدنيا دار كفر، فالهجرة واجبة
منها على من أسلم وخشي أن يفتن على دينه، ومفهومه أنه لو قدر أن لا يبقى في
الدنيا دار كفر أن الهجرة تنقطع لانقطاع موجبها، وأطلق ابن التين أن الهجرة من
مكة إلى المدينة كانت واجبة، وأن من أقام بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه
وآله وسلم إلى المدينة بغيرعذر كان كافرًا، قال الحافظ: وهو وإطلاق مردود. وقال
ابن العربي: الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضًا
في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، واستمرت بعده لمن خاف على نفسه، والتي
انقطعت أصلاً هي القصد إلى حيث كان. وقد حكى في البحر أن الهجرة عن دار
الكفر واجبة إجماعًا حيث حمل على معصية فعل أو ترك أو طلبها الإمام بقوته
لسلطانه، وقد ذهب جعفر بن مبشر وبعض الهادية إلى وجوب الهجرة عن دار
الفسق؛ قياسًا على دار الكفر، وهو قياس مع الفارق، والحق عدم وجوبها من دار
الفسق؛ لأنها دار إسلام، وإلحاق دار الإسلام بدار الكفر بمجرد وقوع المعاصي
فيها على وجه الظهور ليس بمناسب لعلم الرواية ولا لعلم الدراية، وللفقهاء في
تفاصيل الدور والأعذار المسوغة لترك الهجرة مباحث، ليس هذا محل بسطها.
اهـ. ما أورده الشوكاني وهو زبدة ما قيل في شرح الأحاديث من علمائه.
أقول: إنك تجدهم قد اختلفوا في كل وجه من وجوه المسألة إلا اثنين:
أحدهما: عدم التمكن من إقامة الدين بالفتنة؛ وهي حمل المسلم على الكفر أو
مخالفة دينه في فعل أو ترك أو بالجهل.
وثانيهما: الجهاد الديني؛ أي: المتعلق بحماية دعوة الإسلام وأمن أهله على
دينهم وحقيقتهم. ففي هاتين الحالتين تجب الهجرة بلا خلاف؛ أي: على من
عجز عن إقامة دينه، سواء كان واحدًا أو جمعًا، وعلى من احتيج إلى جهاده،
وكان نفره مما يعزز المسلمين ويفيدهم في الدفاع المطلوب شرعًا، فأما هذا الوجه
فمن البين الظاهر أنه لا يتحقق في أهل بوسنة الآن كما تقدم، وما أظن أن
الوجه الأول متحقق فيهم أيضًا، وهم أعلم بأنفسهم.
ويدخل في باب الوجه الأول الهجرة إلى طلب العلم الواجب عند الحاجة إلى
ذلك، فإن لم يهاجر من يتعلم ويعود ليعلم أثم جميع المسلمين الذين فقدوا هذا العلم في
وطنهم، وكذلك الهجرة من المكان الذي فشا فيه الفسق والمجاهرة بالمنكرات،
وصارت التربية على التقوى والصلاح متعذرة فيه، وقد روى ابن وهب عن مالك أنه
قال: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارًا ولا يستقر فيها. واحتج بصنيع
أبي الدرداء في خروجه من أرض معاوية حين أعلن بالربا، فأجاز بيع سقاية
الذهب بأكثر من وزنها، رواه أهل الصحيح، وقال مالك في موضع آخر: إذا ظهر
الباطل على الحق، كان الفساد في الأرض. وقال: لا تنبغي الإقامة في أرض يكون
العمل فيها بغير الحق. اهـ
أقول: وإنما يكون هذا من الأفراد الذين يتعذر عليهم إزالة المنكر، فإن وجد
جمع يقدر على إزالة المنكر، وجب عليه دون الهجرة.
ومن قال: إنه لا يظهر له دخول هذا في الوجه الأول، قلنا: لك أن تعدّه
وجهًا آخر وهو ظاهر. ولا حاجة إلى قياس الفسق على الكفر؛ ليصح ما ذكرمن
الهجرة من حيث يفشو الفسق ويتعذر الصلاح أو يتعسر إلى حيث الصلاح والخير.
وجملة القول أن المسلم يجب عليه أن يقوم بالحق والخير كما يرشده دينه،
فإن عجز عن ذلك في بلاد، وجب أن يهاجر منها إلى حيث يقدر عليه، وإلا كان
ظالمًا لنفسه، وقيل له يوم الحساب إذا اعتذر باستضعاف الكفار أو الفساق له ومنعه
من العمل بدينه: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجر فيها؟
أما ما زعمه ذلك الواعظ التركي؛ من عدم صحة النكاح وأركان الإسلام في
بوسنة بعد إلحاقها بالنمسا، فهو باطل، لا يصدر مثله إلا من جاهل، ولولا إباحة
ما حرم الله على المسلمين من التقليد لما كان لهذا الجاهل من سبيل لتشكيك أولئك
المسلمين الذين سمعوا وعظه في عبادتهم وعقود زوجتهم؛ إذ الوعظ ببيان كتاب الله
وسنة رسوله لا يأتي فيه شيء من هذه المزاعم والأباطيل، فمتى تستنير بصائر
جماهير المسلمين ويعتصمون بحبل الله، حتى إذا حاول أن يعبث بدينهم عابث
طالبوه بما عنده من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءهم
بهديهما قبلوه، وإلا ردوا ما جاء به ورفضوه.
لا فرق في العبادة والنكاح بين المسلم في دار الكفر والمسلم في دار الإسلام،
وإنما هنالك أحكام تتعلق بالمعاملات السياسية والمدنية والحربية، وأدخل بعضهم
في السياسية صلاة الجمعة , ومن البديهي أن الهجرة لم تكن حتمًا لازمًا في زمن
كزمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لنصره والأخذ عنه، ولما كان من اشتداد
المشركين في إيذاء المسلمين قبل فتح مكة، ومع ذلك لم يرد في السنة من التشديد
على من لم يهاجر شيء مما زعم هذا الجاهل، فقد روى أحمد ومسلم وأصحاب
السنن وغيرهم من حديث بريدة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا
لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك
فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم
ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا فلهم ما
للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم
يكونوا كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا
يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم
الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) ... إلخ.
وأما ما قالوه في دار الكفر ودار الإسلام فلا حاجة إلى بسطه هنا، وقد سبق
لنا بحث فيه من قبل، فليراجعه من شاء.
__________
(1) إن السائل من المغالين في حب المنار وصاحبه، فهو يطرينا بالألقاب والنعوت التي نخجل من ذكرها؛ وإنما ننشرها عملاً بما جرينا عليه أخيرًا من نشر الأسئلة بنصوصها كما جرى عليه علماؤنا من قبل، إلا من أذن لنا بتصحيح بعض أغلاطه اللفظية.(12/410)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطبة جمعة في سوء حال المسلمين في هذا الزمان
(س26) من م. ا. ص في سنغافورة
سنغافورة في 7 جماد الأول 327
حضرة العلامة الفاضل السيد: محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المنيرة
بمصر، قد أتى على المسلمين بهذه الأصقاع حين من الدهر وهم لا يسمعون
الخطبة في مساجدهم غير خطب ابن نباتة أو نحوها، فتعودوا سماع فضائل
الشهور، وبيان قرب الساعة والحث على ترك الدنيا إلى غير ذلك، ولما كان
الزمان في تقلب دائم، حصلت الفرصة في الجمعة الماضية للغيور الأديب الشاب
المحبوب عباس بن محمد طه فأنشأ خطبةً تناسب الأحوال الحاضرة بهذه الجهات
تمام المناسبة، ثم رقى المنبر بالجامع الكبير المسمى: (مسجد سلطان) فخطب
خطبة تؤثر في نفوس الغيورين، وإن خطيب المسجد لم يخطب في ذلك اليوم؛
نظرًا لما كان عليه من العذر، ثم طفق الجامدون بعد فراغ الصلاة يشيعون أن
الخطبة لا تليق أن تكون خطبة للجمعة؛ لأن فيها تكفير المسلمين وذمهم ومدح
الكفار، مع أن خطبة الجمعة دينية محضة، وما في هذه الخطبة من أمور الدنيا
وتقبيح أحوال المسلمين ورفع شأن الكافرين مُخل لنظر الدين؛ ولذلك قال هؤلاء:
إنهم لا يريدون أن يصلوا الجمعة في هذا الجامع إذا أعيدت تلك الخطبة، حتى بالغ
بعض الناس في سب ذلك الخطيب، وسمعت ذلك أنا والشيخ عبد القادر وغيره،
فعلمنا أن كره المغفلين هذه الخطبة قد بلغ الغاية، وإننا قد اطلعنا على الخطبة عند
بعض معارفنا، فنقلت منها عدة نسخ، نسخة منها لتقديمها إلى مجلتكم المنيرة،
وهذه هي الخطبة:
(الحمد لله الذي جعل الجمعة من أسباب الاجتماع. تُقرأ فيه المواعظ لتمزق
غشاء الأسماع، فتتأثر منها القلوب والطباع، وتفتح بذلك أبواب الخير والانتفاع،
أحمده سبحانه وتعالى على جزيل الفضل والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له المنان، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالبيان، اللهم
صلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه في كل وقت وأوان، أما بعد، فيا
عباد الله: إن ما حل بنا من ضعف وهوان , وفساد في الأعمال وخسران , من
سوء تربية في الصغر تولد منه في الكبر فساد وطغيان , وتهاون بالصلاة وتجاهر
بالعصيان، وموت شعورعند سماع أوامر ونواهي القرآن , وكثرت الخرافات
والأوهام. أدخلها الجاهلون وصبغوها بصبغة دين الإسلام , ومعظم أهل زماننا هذا
هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان , والمصيبة في الأعمال والأديان , أعظم منها
في الأموال والأبدان , ونحن نعلم كل ذلك علم اليقين , وأهملنا شعائر الدين , فوقعنا
في شدائد متراكمة , ونظرت إلينا الأجانب نظر تحقير وملامة , وإن التباعد عن
الاهتداء بهدى الشرع الكريم وعدم التمسك بعروة الدين القويم، قد أدى بنا ذلك إلى
الإهمال، والانحطاط وشر المآل، وديننا يأمر بالتعاون والاتفاق، ونحن نسعى إلى
التنافر والافتراق، حتى ذهبت أعمالنا أدراج الرياح، وضاعت أوقاتنا بين الجد
والمزاح، ولا نقدر على القيام بمهام الأعمال، ولا على مثابرة الأشغال، فآلت أمورنا
إلى أسوء الحال، وخابت الآمال، وإننا لو اتحدت كلماتنا، وصرنا حزبًا متعاونًا
ساعيًا في مصالح أمورنا، في ديننا ودنيانا، لكان أكبر الأعمال هينًا، ونجح نجاحًا
مبينًا، وإذا نظرنا إلى حال الأمة الغربية، ذات السعادة والرفاهية، وجدنا أنها
تدرجت على أصول الإسلام، وبذلت الجهد في التعاون والاتحاد والالتئام؛ كان
أكبر المشروعات عندها من أسهل الممكنات، وإن كان عندنا يعد الناس نجاحه من
المستحيلات، وهم يعقدون الشركات وينشئون الجمعيات؛ ليعود ذلك على أبناء
ملتهم بالنفع والفضائل، ونحن ننشئ الجمعيات للتلوث بأدران الخمول والرذائل،
ويعود ذلك علينا بضعف الديانة، وتضييع الصيانة، كانت المواعظ عندهم داعية
إلى التقدم السريع، وعندنا قد صارت سلمًا إلى تأخرنا الشنيع، فيا ذوي الأبصار؟
أين التبصر والاعتبار؟! وما هذه الغفلة والاغترار؟! فليت شعري ما اعتذاركم بعد
الإنذار، أما علمتم أن الله لم يخلق الدنيا عبثًا؛ بل جعلها دار سعي واختبار، يعقبها
بدار جزاء وقرار، وجعل لنا العقول؛ لنميز بها النفع والأضرار، وأمرنا بفعل
الخيرات ونهانا عن الأوزار، ومن أطاعه أدخله الجنة ومن عصاه أدخله النار،
وليس لنا عليه بعد ذلك حجة ولا أعذار.
عباد الله، تعاونوا واتفقوا , واعتصموا بحبل اللَّه جميعًا ولا تفرقوا (الحديث)
قال صلى الله عليه وسلم: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لأخراك كأنك
تموت غدًا) . إلى آخر الخطبة.
وما دعاني إلى إفادتكم بهذه الواقعة إلا لنصرة الحق وحضرتكم أهل لذلك.
(المنار)
وجاءنا سؤال آخر عن خطبة هناك الظاهر أنها هذه بعينها، وهذا نصه:
سنغافورا 13 جماد الأول (؟) سنة 1327.
(س27) من س. ح. س.
حضرة العلامة الفاضل السيد: محمد رشيد رضا صاحب المنار بمصر، لا
يخفى أن من طبيعة الإنسان حب الفخر والشهرة، ويوجه كل قوته إلى الوصول
إليه بأي وجه كان، ولا يجول بخاطره أنه أمام الملأ من الأكابر كالذبابة، لولا ذلك
لما تجرأ بعض الناس على تلاعب بعض أمور العبادة، فقلب الخطبة على غير
وجهتها التي شرعت لأجلها، فخطب على منبر أكبر الجوامع هنا خطبة تقشعر من
سماعها الأبدان؛ يكفر فيها المسلمين ويقبح أعمالهم، ويستحسن أعمال الكافرين،
وذلك بمسمع من العباد والعلماء؛ ظنًّا منه أن ذلك مما يوجب فخره، ولا يدري أن
الأمر بالعكس، وقد أفتى العلماء بمنع أن تخطب خطبة الجمعة مثل تلك الخطبة؛
ولذلك جئتكم بهذه الرقعة سائلاً عن رأيكم الصائب في ذلك.
(ج) إن المصريين ليعجبون من استنكار بعض مسلمي سنغافورة لهذه
الخطبة؛ التي يسمعون كل جمعة في مساجدهم ما هو أشد منها إنكارًا لحال
المسلمين وتركهم لهداية دينهم، وإضاعتهم لمصالح دنياهم، وتقدم سائر الأمم عليهم،
ومن ذلك عبارة يكررها في الخطبة الثانية الشيخ (خالد النقشبندي) خطيب مسجد
(الست الشامية) المشهور بالصلاح وحسن الخطبة، وهي (اتقوا الله، فقد تقدم
الأجانب وتأخرنا. اتقوا الله، فقد نشطوا وكسلنا) .. إلخ، وهو نحو مما قاله
خطيب سنغافورة، فلماذا استنكر هناك ولم يستنكر هنا؟ لا سبب لذلك إلا أن
العلماء والعوام هنا أعلم ممن هناك بالإسلام والمسلمين وما يحتاجون إليه، وهذه
هي الخطب التي يسمونها الخطب العصرية، ويرجون فائدتها ونفعها، وينتقدون
الخطب القديمة التي معظمها: مدح للشهور، والمواسم بالباطل، وذم للدنيا وتزهيد
فيها، على أن تلك الخطب القديمة المشهورة في جميع البلاد الإسلامية لا تخلو من
وصف المسلمين بترك الإسلام، وإضاعة الكتاب والسنة، والضراوة بالمعاصي
والمنكرات، وناهيك بتلك العبارة المشهورة التي حفظناها من الخطباء لأول عهدنا
بالصلاة في صغرنا وهي: (لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه)
ومهما أكثر المكثرون من الإنكار على المسلمين، ووصفهم بإضاعة الدين، فهم لا
يأتون بأبلغ من هذه العبارة، ولا يكونون إلا شارحين لها.
ماذا ينتظر السائلون عن هذه الخطبة من المنار وهو نبه منذ سنته الأولى إلى
وجوب إصلاح الخطابة في المساجد الجامعة، وترك تلك الخطب المحشوة
بالأباطيل المميتة للهمم، وقد كتبت قبل إنشاء المنار فصلاً طويلاً في الخطابة
أودعته كتابي (الحكمة الشرعية) فهل ينتظرون مني أن أجيز تلك الخطب السخيفة
المألوفة، وما فيها من الأحاديث الموضوعة، وأنكر ما يجيء به أذكياء الخطباء من
المنبهات التي تزلزل ذلك الجمود القديم.
يظهر أن أنكر ما استنكروه من هذه الخطبة هو اقتباس الخطيب قوله تعالى
{هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} (آل عمران: 167) يريد أن الذين
تلبسوا بتلك المنكرات التي نهى عنها هم يوم إذ أدخلت عليهم الخرافات والأوهام
وتلبسوا بها أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، وليس هذا تكفيرًا صريحًا، ولا هو
في قوم معينين بذواتهم، وإنما هو في قوم يأتون ما نهى عنه الإسلام ويتركون ما
أمر به، فماذا يريدون أن يقول الواعظ فيهم؟!
أخرج ابن أبى شيبة في المصنف عن عبد العزيز بن أبي داود وابن أبي
حاتم عن مقاتل، أن الصحابة أخذوا في شيء من المزاح، فأنزل الله فيهم: {أَلَمْ
يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ
أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) ومن المعروف عند أهل القرآن أن الفسق والظلم والكفر كثيرًا ما
ترد فيه على مورد واحد، كما بيناه في تفسير {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 254) وروى مسلم والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن ابن مسعود قال:
ما كان بين إسلامنا وبين إن عاتبنا الله بهذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ} (الحديد: 16) ... إلخ
إلا أربع سنين، وعنه قال: لما نزلت هذه الآية، أقبل بعضنا على بعض: أيُّ شيء
أحدثنا، أيّ شيء أضعنا؟ فإذا كان رب العزة يعظ أفضل المؤمنين من السابقين
الأولين بمثل هذه الآية، فهل يستنكر في مسلمي زماننا مثل تلك الخطبة؟ ما هذا
الغرور الذي أصابنا؟! نسيء ونطلب الشكر على إساءتنا! وليراجع السائلون
تفسير {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ} (البقرة: 214) في الجزء الثاني من
تفسير القرآن الحكيم (311 ص- 311) ولينظروا ما هي النسبة بين أولئك
المخاطبين بالآية عند نزولها، وبين أهل عصرنا هذا وهم مخاطبون بها أيضًا،
ومثلها كثير ننبه دائمًا في التفسير عليه، ونحث مسلمي زماننا على وزن أنفسهم
بميزان القرآن، ثم سيرة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرة أصحابه عليهم
الرضوان، ولو شئنا أن نعزز ذلك بالأحاديث والآثار لفعلنا، ولكن المنصف
يكتفي بما ذكرناه، والمغرور أو صاحب الهوى لا يقنعه شيء يخالف هواه. أما إذا
كان السائل الثاني يعني بما ذكره خطبة غير التي أرسلها السائل الأول منهما، وفيها
تكفير للمسلمين صريح، وتحسين لأعمال الكفار التي هي من كفرهم، فلا مندوحة
لنا عن إنكار ذلك بشدة، أما الأعمال التي ليست من كفرهم فمنها الحسن والقبيح،
قال تعالى في اليهود: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} (المائدة:
66) .
__________(12/416)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أم كلثوم
بنت النبي صلى الله عليه وسلم
(س28) من خليل رشدي أفندى ملحس التلميذ بمكتب نابلس الإعدادي.
الحمد لله وحده:
حضرة الفيلسوف العظيم، والأستاذ الحكيم، الإمام العلامة بحر فهامة سيدي
المرشد السيد: محمد رشيد رضا منشئ مجلة (المنار) الإسلامي، نوَّر الله قلبه،
وأدام مجده على مدى الدوران آمين.
بعد إهداء ما يليق بحضرتكم من التحيات الذاكية، أعرض لجنابكم بأن
تتكرموا على هذا العاجز بنشر سؤالي الآتي على صفحات مجلتكم (المنار) الأغر،
وسرد جوابه بما يتراءى لكم، ولحضرة فضيلتكم الشكر والمنة سلفًا:
لا يخفى على جنابكم أحوال تلامذة المدارس من جهة المباحثة مع بعضهم
البعض، فيوم من الأيام اجتمعت أنا وبعض رفقائي للمباحثة، وسرنا نتباحث إلى
أن وصل بحثنا عن السؤال الآتي:
(1) ما هو أصل اسم بنت النبي صلى الله عليه وسلم الملقبة به
(أم كلثوم) ؟
(2) لأي سبب لقبت به (أم كلثوم) ؟
وطال بنا الجدال في هذا الموضوع، وانقسمت أفكارنا إلى آراء كثيرة،
وحيث إنه لم نوفق لمعرفة السؤالين المرقمين أعلاه، قر بنا القرار بالتفسير من
فضيلتكم، وأخذ رأيكم في هذا الموضوع، فكلفوا هذا العاجز بالسؤال من جنابكم.
ولأجل ذلك حررت لفضيلتكم هذا التحرير؛ راجيًا إرشادنا في هذا البحث،
والله الملهم إلى الحق والصواب، ولكم الأجر والثواب، والسلام على من اتبع
الهدى ودين الحق ودمتم.
(ج) لا أدري، كيف وجدتم ذلك المجال الواسع للخلاف وانقسام الأفكار في
هذه المسألة، وهي لا تحتمل عندنا خلافًا، فالعرب كانت تسمي أيمن وأم أيمن،
وسلمة وأم سلمة، والمعروف أن بنت النبي صلى الله عليه وسلم سميت أم كلثوم
ابتداءً ولم يكن كنية كنيت بها بعد أن سميت باسم آخر، وفي الصحابيات كثيرات
سمين بهذا الاسم، وكلثوم من الكلثمة وهي استدارة الوجه.
__________(12/420)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عهدٌ موضوعٌ
زعموا أنه من النبي صلى الله عليه وسلم للنصارى
(س29) من أحد العلماء في حمص.
إن مجلة (روضة المعارف) التي تصدر في بيروت، أدرجت في عددها
الثالث عشر من هذه السنة صورة عهد للنبي صلى الله عليه وسلم، تزعم أنه أملاه
على سيدنا معاوية رضي الله عنه لأهل الذمة، ولدى البحث في كتب الحديث
والسير والتاريخ ما وجدت هذا العهد بهذا اللفظ الطويل الذي نقلته هذه المجلة،
ونقلته عنها جريدة لسان الحال، فأرجوك أيها الفاضل أن تفيدني عن درجة هذا
العهد من الصحة والحسن، وعمن خرجه منه المحدثين، وفي أي كتاب هو، وهل
هذا اللفظ المنقول كله مروي محفوظ عن أئمة هذا الشأن الموثوق بهم الذين يعول
على نقلهم، فيكون حجة في العمل، لقد رأيت في هذا طولاً كبيرًا وألفاظًا لا تشبه
ألفاظ صاحب الرسالة في عهوده، ورأيت بعض الصحابة المدرجة أسماؤهم بصفة
شهود كان قد مات قبل هذا التاريخ، وبعضهم لم يكن أسلم، فأرجو إيضاح الجواب
على كل جملة؛ ليكون الإنسان على بصيرة، لا زلت مرجعًا لحل الإشكالات
وتحقيق المسائل، وليكن الجواب على صفحات مجلتكم؛ ليطلع عليه القراء الكرام.
(ج) قد اطلعنا في مجلة روضة المعارف على هذا العهد الملفق الموضوع،
فساءنا اندفاع قومنا في تيار المجاملة إلى هذا الحد الذي يتهجم فيه على نشر هذه
الأكاذيب الموضوعة على النبي صلى الله عليه وسلم، على حين نحن في غنى
عنها بما عندنا من الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة وسيرة السلف المعروفة.
إن هذا العهد المكذوب لم يروه أحد من المحدثين، ولا يحتاج من له أدنى شمة
من علوم الدين إلى اطلاع واسع ليعرف أنه مصنوع موضوع، فذلك واضح من:
عبارته في أغلاطها، وأسلوبه في ركاكته، وما فيه من الاصطلاحات الحادثة ومن
المبالغة والتكرار، ومن مسائله التي توهم أن الإسلام وجد في الأرض؛ لأجل
تعزيز النصرانية، وخدمة أهلها والدفاع عنهم، والخضوع والذل لهم، وإعانتهم
على المعاصي والجنايات إذا ارتكبوها، فإن مما جاء فيه: (وان جر أحد من
النصارى جريرة أو جنى جناية، فعلى المسلمين نصره ومنعه - أي حمايته -
والذب عنه، والغرم عن جريرته) فهل يعقل من شم رائحة الإسلام أن النبي الذي
يقول كما في صحيح البخاري: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) يأخذ
العهد على أمته بأن ينصروا مرتكبي الجرائم والجنايات من النصارى، ويحموهم
ويدفعوا عنهم؟! وهل يتفق هذا مع قوله تعالى في الآية التي أذن فيها للمسلمين
بالجهاد والدفاع عن أنفسهم: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ} (الحج: 41) .
وفي هذا العهد كثير من أمثال هذه المسائل الباطلة بالإجماع التي لا يبيحها
الإسلام لأحد، بل يعد استباحتها كفرًا وردة عن الإسلام.
أما ما يدل على كذب هذا العهد مما يتوقف العلم به على الإلمام بالتاريخ،
فربما يعذر ناشروه بجهلهم له، ولكنهم لا يعذرون بجهل المسائل المعلومة من الدين
بالضرورة ثم إن هنا مسألة تاريخية تكاد تكون معروفة عند العامة وقد جهلها ناشرو
هذا العهد؛ وهي مسألة التأريخ بالهجرة ففيه: (كتبه معاوية بن أبي سفيان بإملاء
رسول الله يوم الإثنين في ختام أربعة أشهر من السنة الرابعة من الهجرة بالمدينة)
فمن المشهور أن هذا التأريخ قد حدث في خلافة عمر بن الخطاب بمشاورة الصحابة
- رضي الله عنهم - ولم يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أبو بكر
رضي الله عنه. وما ذكر مختلق العهد هذا التاريخ إلا ليُظهر كذبه علمُ التاريخ،
فالمروي في صحيح البخاري: أن معاوية أسلم في عام الفتح، أي: في السنة التاسعة
للهجرة، فكيف كان يكتب للنبي في السنة الرابعة؟! ثم إن ختام الشهر الرابع للهجرة
وهو شهر جمادى الآخرة، لم يكن يوم الإثنين وإنما كان يوم الجمعة؛ وذلك أن الهجرة
كانت في شهر ربيع الأول، ولما أراد الصحابة في عهد عمر التأريخ بالهجرة جعلوه
من أول السنة القمرية التي حدثت فيها، فكان في ذلك زيادة شهرين كما هو مشهور،
ثم إنه أكثر من الشهود؛ ليظهر كذبه أيضًا، وهاك البيان بالإيجاز.
في ذكر هؤلاء الشهود أربعة أنواع من الغلط: أحدها وأهونها: الأسماء
المحرفة والمصحفة: كالفضيل بن العباس صوابه الفضل، وحسن بن ثابت صوابه حسان، وأبو درداء صوابه الدرداء، ويزيد بن ثابت صوابه زيد.
والثاني: من لم يكن أسلم كمعاوية.
والثالث: من كان قد مات أو استشهد كحمزة.
والرابع: من لا وجود لهم في الصحابة كداود بن جبير، والعاصي أبو حنيفة،
وإساف بن يزيد وكعب بن كعب، ولو استقصينا كل ما في هذا العهد المكذوب من
الخطأ، لأفضى بنا ذلك إلى تطويل نحن في غنى عنه بهذا القول الوجيز.
__________(12/421)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رسم المصحف
(س28) من صاحب الإمضاء في قزان
(روسيا) في 6 جمادى الآخرة:
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة الأستاذ الفاضل السيد رشيد رضا حفظه الله، ومتعنا وسائر
المسلمين بعلومه الشريفة، أما بعد: فإن من المسائل التي تدور بيننا الآن مسألة
رسم المصاحف المطبوعة في بلدة قزان، حيث إن العلماء صرحوا بأن
رسم المصاحف يجب فيه الاتباع لرسم المصاحف التي كتبت بأمر سيدنا عثمان
رضي الله عنه، وفي رسم المصاحف القزانية مخالفة كثيرة لرسم تلك المصاحف،
فتشكلت بقزان لجنة من العلماء والقراء؛ لتفتيش رسم هذه المصاحف ونصوص
العلماء فيه، وتكلموا في وجوب الاتباع وعدمه، فذهب كثير منهم إلى أنه ينبغي
اتباع رسم المصاحف العثمانية، وأن الرسم سنة متبعة على ما نص عليه أبو عمرو
الداني والشاطبي والجزري والسيوطي والزمخشري وغيرهم، وبعضهم قالوا: إنه
لا يجب اتباع الرسم؛ محتجين بقول شيخ الإسلام العز بن عبد السلام حيث قال:
(أما الآن فلا يجوز كتابة المصاحف على المرسوم الأول؛ خشية الالتباس ولئلا
يوقع في تغيير من الجهال) ويجيب الفريق الأول عن هذا: بأن المواضع التي يتوهم
فيها الالتباس يمكن التخلص منها بالنقط والإشكال، ثم فتشوا المصاحف المطبوعة في
الديار الإسلامية من الآستانة ومصر والهند وغيرها، فوجدوا فيها أيضًا مخالفة كثيرة
لرسم المصاحف العثمانية، فما ندري ما سبب عدم اعتنائهم في هذا الباب؟ أأهملوا
في رسم كتابنا المقدس، أم لا يقولون بلزوم الاتباع. وإذا كان الاتباع واجبًا كما يقول
به أكثر الأئمة، فما ينبغي أن نصنع لنقرأ برواية حفص المعروفة في بلادنا في مثل
كلمة (آتان) في سورة النمل آية 36، فإنه كتب في مصاحف سيدنا عثمان رضي
الله عنه كلها بغير ياء بعد النون، والحال أن حفصًا يقرأه آتاني بياء مفتوحة بعد
النون، فكيف يكون زيادة ياء بعد النون في مثل هذه المواضع؛ تخلصًا من الالتباس
والتلفيق في القراءة. وهل يجوز مخالفة الرسم لأجل الضرورة في مثل تلك
الضرورة، وما نصنع في الكلمات التي حذفت فيها الألفات في بعض المصاحف
المطبوعة والمكتوبة القديمة مثل: كلمة الأعلام والأحلام والأقلام والأزلام والأولاد،
وتلك الكلمات كتبت في بعض المصاحف (الأعلم والأحلم والأقلم) بحذف الألف
بعد اللام، والحال أن قاعدة الخط العربي تقتضي إثبات الألف في مثلها، وليس فيها
نص صريح من علماء الرسم في حق الحذف أو الإثبات، هل ينبغي فيها اتباع قاعدة
رسم الخط العربي وإثبات الألفات، أم نقول: إنهم كانوا يعتبرون الظهور وعدم
الالتباس؛ ولهذا كانوا يحذفون الآلفات فيما ظهر المراد منه مثل الكلمات المذكورة،
فنحذف الألفات فيهن. ورسم المصاحف المطبوعة هنا ليس على نسق واحد، في
بعضها تلك الكلمات مكتوبة بألفات بعد اللام، وفي بعضها بحذف الألفات، وإن
المصحف الذي يحفظ في بلدة بترسبورغ عاصمة الروسية في المكتبة الإمبراطورية،
ويظن كونه واحدًا من مصاحف سيدنا عثمان رضي الله عنه، قد حذف فيه الألفات في
مثل هذه المواضع، والعلامة شهاب الدين المرجاني القزاني الذي أفنى عمره في خدمة
العلم وصنف كتابًا مفيدًا في رسم المصحف، وكان مأمورًا بتصحيح المصاحف
المطبوعة من جهة الحكومة، قد حذف الألفات قصدًا في مثل هذه الكلمات، ولزيادة
الاطمئنان ولكون المسألة عامة مهمة ومتعلقة بعموم أهل الإسلام اتفقنا على المراجعة
إلى (؟) جنابكم المحترم بالاستفسار في تلك المسألة؛ رجاء أن تتفضلوا بإبداء
ملاحظاتكم العالية في صفحات المنار، والسلام والإكرام.
رئيس اللجنة المتشكلة لتفتيش رسم المصاحف المطبوعة ببلدة قزان
... ... ... ... ... ... ... ملاّ صادق الإيمانقولي القزاني
(ج) إن ديننا يمتاز على جميع الأديان بحفظ أصله منذ الصدر الأول،
فالذين تلقوا القرآن عمن جاء به من عند الله صلى الله عليه وسلم حفظوه وكتبوه،
وتلقاه عنهم الألوف من المؤمنين، وتسلسل ذلك جيلاً بعد جيل، وقد أحسن التابعون
وتابعوهم وأئمة العلم في اتباع الصحابة في رسم المصحف وعدم تجويز كتابته بما
استحدث الناس من فن الرسم، وإن كان أرقى مما كان عليه الصحابة رضوان
عليهم؛ لأنه صنعة ترتقي بارتقاء المدنية؛ إذ لو فعلوا لجاز أن يحدث اشتباه في
بعض الكلمات باختلاف رسمها وجهل أصلها، فالاتباع في رسم المصحف يفيد
مزيد ثقة واطمئنان في حفظه كما هو وبعد الشبهات أن تحوِّم حوله، وفيه فائدة
أخرى وهي حفظ شيء من تاريخ الملة وسلف الأمة كما هو.
نعم إن تغير الرسم واختلاف الإملاء يجعل قراءة المصحف على وجه الصواب
خاصة بمن يتلقاه عن القراء، ولذلك أحدثوا فيه النقط والشكل وهي زيادة لا تمنع
معرفة الأصل على ما كان عليه في عهد الصحابة. ثم إنه يجعل تعليم الصغار
عسرًا؛ ولذلك أفتى الإمام مالك بجواز كتابة الألواح ومصاحف التعليم بالرسم
المعتاد كما نقل.
قال علم الدين السخاوي في شرحه لعقيلة الشاطبي: قال أشهب رحمه الله:
سئل مالك رضي الله عنه: أرأيت من استكتبته مصحفًا، أترى أن يكتب على ما
أحدث الناس من الهجاء اليوم؟ فقال: لا أرى ذلك، ولكن يكتب على الكتْبة الأولى.
قال مالك: ولا يزال الإنسان يسألني عن نقط القرآن فأقول له: أما الإمام من
المصاحف فلا أرى أن ينقط، ولا يزاد في المصاحف ما لم يكن فيها , وأما
المصاحف الصغار التي يتعلم فيها الصبيان وألواحهم فلا أرى بذلك بأسًا. ثم قال:
(أشهب) والذي ذهب إليه مالك هو الحق؛ إذ فيه بقاء الحال الأولى إلى أن يعلمها
الآخر، وفي خلاف ذلك تجهيل الناس بأوليتهم. وقال أبو عمر الداني في كتابه
المسمى (المحكم في النقط) عقيب قول مالك: هذا، ولا مخالف لمالك في ذلك من
علماء الأمة. اهـ.
فالذي أراه هو الصواب أن تطبع المصاحف التي تتخذ لأجل التلاوة برسم
المصحف الإمام الذي كتبه الصحابة عليهم الرضوان؛ حفظًا لهذا الأثر التاريخي
العظيم الذي هو أصل ديننا كما هو، لكن مع النقط والشكل للضبط. ولو كان لمثل
الأمة الإنكليزية هذا الأثر، لما استبدلت به ملك كسرى وقيصر ولا أسطول الألمان
الجديد الذي هو شغلها الشاغل اليوم. وأما الألواح والأجزاء وكذا المصاحف التي
تطبع لأجل تعليم الصغار بها في الكتاتيب، فلتطبع بالرسم المصطلح عليه اليوم من
كل وجه؛ تسهيلاً للتعليم، ومتى كبر الصغير وكان متعلمًا للقرآن بالرسم المشهور،
لا يغلط إذا هو قرأ في المصاحف المطبوعة برسم الصحابة مع زيادة النقط
والشكل، وكذلك يكتب القرآن في أثناء كتب التفسير وغيرها بالرسم الاصطلاحي؛
ليقرأه كل أحد على وجه الصواب. وبهذا نجمع بين حفظ أهم شيء في تاريخ ديننا،
وبين تسهيل التعليم وعدم اشتباه القارئين.
أما ما احتج به العز بن عبد السلام على رأيه فليس بشيء؛ لأن الاتباع إذا لم
يكن واجبًا من الأصل، فلا فرق بين الآن الذي قال فيه ما قال وبين ما قبله وما
بعده، بل يكتب الناس القرآن في كل زمن بما يتعارفون عليه من الرسم، وإذا كان
واجبًا في الأصل وهو ما لا ينكره، فترك الناس له لا يجعله حرامًا أو غير جائز
لما ذكره من الالتباس، بل يزال هذا الالتباس على أنه لا يسلم له.
وأما ما طبعه المسلمون من المصاحف في الآستانة وقزان ومصر وغيرها من
البلاد، غير متبعين فيه رسم المصحف الإمام في كل الكلمات؛ فسببه التهاون والجهل
والاعتماد على بعض المصاحف الخطية التي كتبت قبل عهد الطباعة، فرسم فيها
بالرسم المعتاد الكلمات التي يظن أنه يقع الاشتباه فيها، إذا هم كتبوها كما كتبها
الصحابة: كلفظ (الكتاب) بالألف بعد التاء، وهو في المصحف الإمام بغير ألف؛
ليوافق في بعض الآيات قراءة الجمع فكتبوه بالألف , ولم أر مصحفًا كتب أو طبع
كله بالرسم المعتاد.
ونحمد الله تعالى أن وفق بعض الناس إلى طبع ألوف من المصاحف برسم
الصحابة المتبع، وأحسن المصاحف التي طبعت في أيامنا هذه ضبطًا وموافقة
للمصحف الإمام المتبع هو المصحف المطبوع في مطبعة محمد أبي زيد بمصر
سنة 1308؛ إذ وقف على تصحيحه وضبطه الشيخ رضوان بن محمد المخللاتي،
أحد علماء هذا الشأن، وصاحب المصنفات فيه، وقد وضع له مقدمة بين فيها
ما يحتاج إليه في ذلك، فالذي أراه أنه ينبغي للجنة القزانية أن تراجع هذا المصحف،
فإنها تجد فيه حل عقد المشكلات كلها - إن شاء الله تعالى - ككلمة الأقلام وأمثالها
وهي بغير ألف، وكلمته (ءاتاني) التي رسمت في المصحف الإمام (اتن) ،
فيرون أن هذا المصحف وضع فوق النون ياء صغيرة مفتوحة هي من قبيل الشكل؛
لتوافق قراءة حفص، فهي فيه هكذا (ءاتنىَ) .
وجملة القول: إننا نرى أن الصواب الذي ينبغي أن يتبع ولا يعدل عنه هو أن
تطبع الأجزاء والمصاحف التي يعلم فيها المبتدئون بالرسم الاصطلاحي؛ لتسهيل
التعليم، وهو ما جرت عليه الجمعية الخيرية الإسلامية هنا بإذن الأستاذ الإمام رحمه
الله تعالى، فهي تطبع أجزاء القرآن كل جزء على حدته بالرسم الاصطلاحي
وتوزعها على التلاميذ في مدارسها. وأما سائر المصاحف فيتبع في طبعها رسم
المصحف الإمام، كالمصحف الذي ذكرناه آنفًا، وإذا جرى المسلمون
على هذا في الآستانة ومصر وقزان والقريم وسائر البلاد الإسلامية، فلا يمضي
جيل أو جيلان إلا وتنقرض المصاحف التي طبع بعض كلماتها بالرسم الاصطلاحي
وبعضها برسم الصحابة. ولا ضرر من وجودها الآن؛ إذ هي مضبوطة بالشكل
كغيرها، فالاشتباه والخطأ مأمونان في جميع المصاحف ولله الحمد.
__________(12/423)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بحث في خطبة العقيلة المصرية
(باحثة بالبادية)
نشرنا في الجزء الخامس هذه الخطبة، ووعدنا بأن نبين رأينا فيها في هذا
الجزء، وكنا نريد أن نطيل القول فيه، فكثرت علينا المواد العارضة فسامتنا
الاختصار فكان ما لابد منه.
إن الخطيبة تساهم بعبارتها وأفكارها كتاب الطبقة الثانية من الرجال بمصر،
ولكني رأيت عبارة مقالاتها النسائيات في الجريدة أصح من عبارة الخطبة، فيظهر
أنها لم تعن بتحرير الخطبة عنايتها بتحرير المقالات، كما يفعل الذين يكتبون
الخطب قبل إلقائها، ولابد لذلك من سبب ينهض عذرًا.
أودع في الخطبة من الحكم ما هو جدير بأن يحفظ ويضرب به المثل، ولا
تخلو من الملح والأفاكيه التي تستملح في الخطب؛ لما فيها من تجديد النشاط وذود
الملل، ولم أر فيها على طولها شيئًا تمنيت لو لم يكتب- وإن نطق به - إلا كلمة
واحدة في نساء الإفرنج. ورأيت مسائلها المستمدة من الصحف، أكثر من مسائلها
المستمدة من الكتب، فليت نساءنا يكثرن من قراءة الصحف، فإنها دروس تكرر
فتثبت مباحثها في الذهن.
ينتقد بعض الناس من الخطبة كثرة المباحث النظرية والمسائل البديهية،
ككون الزوجين الذكر والأنثى خلقا للموادة لا للمباغضة، وكون العالم لا يعمر
بدونهما، وكونهما سواء في القوة والاستعداد أو متفاوتين، وغير ذلك من المسائل
الفلسفية والاجتماعية، كمسألة تعليم أحد الصنفين كل ما يتعلمه الآخر أو عدم تعليم
البنات، ومسألة خلق النساء للبيوت والعمل فيها والرجال لكسب المعاش، ومسألة
الحجاب، ويرى هؤلاء المنتقدون أن القسم الأول من الخطبة لو كان كالقسم الثاني؛
في الأمور العملية الواقعة من العادات والمعاملات بين الرجال والنساء، لكان خيرًا
وأنفع.
ونقول: إن ما ذكرته الخطيبة من هذه المباحث نافع ولابد منه، وإن كان
بعضه خطأ في نظرنا وبعضه يعلو أفهام كثيرات من حاضرات الخطبة، وإنما نفعه
أنه يحرك أذهانهن وينبه أفكارهن، فتخرج به عقول بعضهن من مضيق ليس فيه
إلا صور الزينة والأثاث والرياش إلى فضاء واسع فيه كل شيء، ومتى فكرت
الواحدة منهن في مسألة من تلك المسائل، يكون لها فيها رأي خاص قد يخالف رأي
الخطيبة وقد يوافقه، وذلك ضرب من ضروب ترقية الفكر التي يطلبها المحبون
لإصلاح الأمة.
نعم ... إن القسم الآخر الذي يبحث فيه عن العادات والأخلاق والآداب التي
هي مناط السعادة بين الصنفين هو أنفع وأولى بالعناية، وقد أجادت الخطيبة وأفادت
بما ألقته على المستمعات لها من النصائح والمباحث، وذكرتهن بما يغفل عنه
أكثرهن من أمر الصلة بينهن وبين الرجال، وما يجب أن تكون عليه، ولكنه قلما
يفيد الرجال فائدة جديدة؛ لأنهم يعرفونه في الغالب لما سبق لكتابهم من الخوض فيه،
وهم ينتظرون أن يستفيدوا من كتابة المرأة في النساء أكثر مما يستفيدون من كتابة
الرجال عنهن، وعسى أن تكثر الفوائد لكل منهما فيما تجود به الخطيبة من الخطب
والمقالات من بعد، فإن أول الغيث قطر، وقليلها لا يقال له قليل.
لقد قربت الخطيبة مسافة التفاوت بين الرجال والنساء في العقل والفهم، كما
قربت مسافة التفاوت بين المرأة المصرية والمرأة الغربية، وما قالته أشبه بكلام
السياسيين الذين يراعون المصلحة فقط منه بكلام الفلاسفة الذين يتحرون الحقيقة
فقط.
أرادت أن ترفع من شأن صنفها في أنفسهن وأنفس الرجال، وأن ترغب
رجال وطنها في الوطنيات وتنفرهن عن الأجنبيات، فجاءت من الخطابيات في هذا
المقام بما يناسبه.
ونرجو أن تعيد الكرة فتبحث في مسألة التفاوت بين الرجال والنساء فيما
يتعلق بالبيوت والخطبة والزواج والحياة الزوجية بحث المؤرخ الحكيم، والاجتماعي
الخبير، وأن تكون مستقلة في ذلك غير مقلدة لمن كتب من الرجال في هذه المسائل،
ولا مستمدة منهم شيئًا، بل من البحث في العادات والاختبار للأحوال لعلها تستطيع أن
ترشدهن إلى ما يرقق حجاب جهلهن، فيجعله كبراقع وجوههن، فيبصرن ما بين
الرجال وبينهن، مما يحول دون ما يجب من الألفة والود بينهم وبينهن، إذا كانت
المشاكلة في الأخلاق والعادات، والمساهمة في الأهواء والرغبات معيارًا
للمساواة بين النساء والرجال، فلا مندوحة لنا عن القول معها بأن السواد الأعظم
من أهل هذه البلاد لا يزال ذكرانهم وإناثهم في مستوى واحد؛ ولذلك يرضى جماهير
الرجال بما يفتحره نساؤهم كل يوم من بدع التبرج والتهتك، فقد مسن الرجال وفنكت
النساء، فصار جمهور الفريقين في المجانة سواء؛ ولذلك نرى الزواج لا يزال
كثيرًا.
وإذا نظرنا في المسألة من وجه آخر؛ نرى أن الرجال مهما فسدت أخلاقهم
أرقى من النساء عقولاً وأفكارًا، وأن المتعلمين والمهذبين منهم أكثر، وأنه يوجد
عدد كثير ينمو عامًا بعد عام قد تغير رأيهم ووجدانهم في الزواج، فهم يطلبون فيه
حياة إنسانية عالية، لا تحصل بمجرد دواعي النسل ومقدماته ولا بالنسل نفسه؛
وهو الغاية الطبيعية الشرعية له، وإنما هي عبارة عن حاسة زائدة على الحواس
الخمس، يدرك بها كل من الزوجين من الأُنس وسكون النفس وشعور الود والرحمة
والإخلاص ما لم يكن يدرك حقيقته قبل الزواج، وإنما يشعر كل أحد باضطراب في
نفسه يصاحبه علم ضروري بأنه لا يزول إلا بالسكون الذي يكون بالزواج بعد
إحكام عقد الزوجية (كما بينا ذلك في مقالات الحياة الزوجية من المجلد الثامن) .
ولكن المرتقين يعرفون من أركان ذلك وشروطه ومن قيمته مالا يعرفه من دونهم.
يعلم هؤلاء المرتقون في مراتب الإنسانية أن تلك الحياة التي تتلمسها فطرتهم
لا تنال إلا إذا اقترنوا بمن هن على مقربة منهم في الفهم والخلق ومعرفة قيمة الحياة
الزوجية، فهل يوجد كثيرات من هذا الطراز في نسائنا؟
إن الشاب من هؤلاء ليبحث السنين الطوال عن فتاة مهذبة الأخلاق، ذكية
الفؤاد، وإن لم تكن ذات جمال بارع ولا رزق واسع، بل منهم من يشترط عدم ذلك،
ثم هو لا يظفر بمطلبه، على أن المعرَّضات (أي للخطبة والزواج) كثيرات في
البيوت وفي الشوارع والأسواق، وقد تعرف الفتاة هي وأهلها الخاطب فيرضون
مقامه وعيشته ودينه وأخلاقه، ثم يصدهم عن قبول خطبته عادة من أسخف العادات،
وإن كانوا يظنون أنهم لا يكادون لا يجدون صهرًا مثله، ومنهم من يرد خطبته لأن
الفتاة لا يعجبها زي ثيابه.
ومن هؤلاء من تزوج بعد التحري الطويل في السنين الطوال، فلم يكن في
زواجه إلا شقيًا. أعرف شابًّا من هؤلاء رغب عن الزواج زمنًا طويلاً، عرّض له
فيه بعض رؤسائه الأغنياء في الحكومة برغبتهم في مصاهرته، فتجاهل ذلك وسعى
في الخروج من دائرة رياستهم؛ لخجله من العمل فيها مع رد رغبتهم، ثم تعاونت
عليه الفطرة والعفة، فلم ير بدًّا من طاعتهما في طلب الزوجة، فكان من رأيه أن
يقترن بفتاة متعلمة تكون دونه جمالاً، ومثله أو دونه مالاً؛ حتى لا يحجبها الإدلال
عليه بجمالها ومالها عن معرفة قيمته، والغبطة بالاقتران به، وماذا كان بعد الظفر
بهذا القران؟ كان أن تلك الدميمة عاملته بالصلف والزهو، وحاولت استعباده
لهواها، وألحت في ذلك إلحاحًا، ولجت في عتو ونفور، حتى عيل صبره، ولم
ينجح فيها وعظه ولا هجره، ولم يلق من أهلها إلا ناصرًا لها عليه، ومغريًا لها بسوء
معاملته، والتهكم بصلاته وديانته، فأنشأ يستشيرني في طلاقها، وأنا أقول له:
اتق الله وأمسك عليك زوجك {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ
خَيْراً كَثِيراً} (النساء: 19) ثم طلقها، ولو شاء أن لا يعطيها شيئًا لفعل؛
فإنها رضيت بأن تبرئه من حقها، ولكنه أعطى الحق وزيادة.
لست أحكم على المرأة وأهلها بقول أحد الخصمين، فإنني كنت واقفًا على
جميع وقائع القضية؛ إذ كان الرجل يستشيرني في كل شيء، فآمره بالحلم والصبر
وحسن الخلق مع الثبات على مطالبه الشرعية، كستر الرأس والصدر والساعدين
والعضدين في حضرة غير المحارم من الأقارب الذين اعتادوا زيارتهم؛ امتثالاً
للشرع لا اتباعًا للظنة , ولو شئت لذكرت غير هذه الوقعة من أمثالها.
أليس عجيبًا أن يجهل قدر أمثال هؤلاء الرجال مع حرص زوجاتهم على
تحبيب أنفسهن إليهم، والاستعانة على ذلك بالعزائم والطلسمات والبخور والتناجيس
والتولات؟ وهم يقولون لهن: غير هذا أولى لكن، وأدنى إلى حظوتكن، تبذلن
بعض عنايتكن، في تدبير أمر بيوتكن؛ لتكون العيشة فيها راضية والحياة معكن
هنيئة، واعلمن أن الخرافات التي يعبر عنها بالروحانيات، لا سلطان لها على
نفوس العقلاء، فاستمالتنا بها كاستمالتنا بالإسراف في الزينة مما تمجه أذواقنا،
وتشمئز منه نفوسنا، وأنَّى لهن بفهم هذا الكلام وتصديقه؟ إنهن لا يفهمن منه
إلا أنه احتقار لهن، وميل عنهن إلى غيرهن.
ليس الغرض من هذا إثبات كون الرجال كلهم مظلومين مع النساء، كلا..
إن منهن من لا ترى بعلها إلا محمولاً في السحر من حانات الأزبكية ومواخيرها إلى
بيتها، فيلقى فيه كأنه ميت لا يعي ولا يتحرك، إلا أن يقول هجرًا أو يأتي نكرًا،
وإنما الغرض منه بيان أن المهذبين لا يكادون يجدون مهذبات يعرفن قيمتهم، وإن
خير النساء عفة وأدبًا ليفضلن في الغالب المجان الفاسقين من الرجال؛ لتصيبهم
إياهن بالتطرز والتطرس والتورن [1] على أن حظهن منهم بعد الزواج يكون في
الأكثر دون حظ فواجر الأجنبيات والوطنيات؛ لأنهم في الغالب من الذواقين.
ليس بين الرجال والنساء عندنا الآن خلاف كبير في مسألة توسعهن في العلوم،
ولا في مسألة مزاحمتهن لهم في الأعمال، فما ذكرته الخطيبة في ذلك جاء قبل
أوانه، وإنما أكبر الخلاف في كون جمهور عظيم من المتعلمين يطلبون حياة جديدة
في البيوت فلا يجدونها؛ لذلك قل التزوج في هذا الصنف، وأكثر المتزوجون من
أفراده الأغنياء من استخدام الأوربيات؛ ولذلك يتزوج بعض المتفرنجين بهن حتى
صار في مصر احتلالان أجنبيان - كما قالت الخطيبة - أحدهما في المواقع
العسكرية، وثانيهما وهو أشأمهما في البيوت.
قالت: إن الرجال يخطئون في إناطة فساد النساء بالتعليم، وحقهم أن ينيطوه
بالتربية. وقالت: إنه لا صلة بين التعليم والتربية إلا في تعلم الدين.
قد أحسنت في جعلها أمر التربية أهم من أمر التعليم، ولكنها افتأتت علينا بما
نسبته إلينا؛ فإننا نشكو من فساد التربية أكثر مما نشكو من فساد التعليم وقلته، وليس
الانفصال بين التربية والتعليم بالمقدار الذي ادعته، فإن التعليم الصالح يمد التربية
الصالحة ويغذيها، وهي الأصل في الصلاح، فيمكن أن يكون الأمي صالحًا بحسن
التربية، ولكنه لا يبلغ مرتبة من ربي وتعلم. وأما من تعلم ولم يترب على الأعمال
الصالحة فيكون شرًّا من الجاهل الذي لم يؤخذ بالتربية؛ لأنه يكون أعلم بوجوه الشر
وأجرأ على العمل بها.
إذًا لابد من تربية البنات وتعليمهن؛ ليحسنَّ إدارة بيوتهن، ويكنَّ قرة عين
لأزواجهن في أنفسهن وأولادهن {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ
وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74) .
__________
(1) تطرز الرجل وتطرس: تنوَّق في اللباس فلم يلبس إلا فاخرًا، ويقال أيضًا: تطرس في الطعام: إذا تنوق فيه، وتورن: أكثر من التدهن والتنعم.(12/428)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجزية وتجنيد أهل الذمة
جرى الصحابة في فتوحاتهم على جعل الجزية التي يفرضونها على أهل الذمة
جزاء على حمايتهم والدفاع عنهم وعدم تكليفهم منع أنفسهم وبلادهم - أي حمايتها-
والدفاع عنها؛ ولذلك كانوا يفرضونها على من هم أهل للدفاع دون غيرهم،
كالشيوخ والنساء، فكان ذلك منهم تفسيرًا وبيانًا لمراد الكتاب العزيز منها، وكأن
العثمانيين سموها لأجل ذلك بدل عسكرية.
ولما كان من مقتضى الدستور العثماني تجنيد جميع العثمانيين، وتكليفهم تَعَلُّم
الفنون العسكرية وأعمالها؛ لأجل الاشتراك مع المسلمين في الدفاع عن أنفسهم
وبلادهم التي هي بلاد جميع العثمانيين، كان من لوازم ذلك وضع الجزية أو بدل
العسكرية عنهم.
وههنا مسألتان يظن الجاهل بحقيقة الشريعة الإسلامية وأصولها أن الدستور
مخالف لها فيها: إحداهما أنه لا يجوز تكليف أهل الذمة الدفاع عن أنفسهم ولا عن
البلاد التي يقيمون فيها؛ ما دام للمسلمين ولاية عليها. والثانية أن الجزية فرض
لازم، لا يجوز وضعه بحال.
فأما المسألة الأولى: فيصح أن يقال فيها: إننا لا نسلم أنه لا يجوز تجنيد
أهل الذمة إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك برأي أهل الشورى، فإن المصلحة
العامة هي الأصل والأساس للحكومة لا تترك لغيرها، وإنما يترك غيرها لها، وقد
سبق لنا تقرير هذا الأصل وإثباته غير مرة، على أننا إذا سلمنا جدلاً أنه لا يجوز
إكراههم على مساعدتنا على الدفاع عن أنفسنا وأنفسهم، وبلادنا وبلادهم، فلنا أن
نقول: إن أمر التجنيد لا ينفذ إلا بعد أن يقرره مجلس النواب العام الذي اشتركنا
نحن وإياهم في انتخاب أعضائه، وجعلناهم وكلاء عنا؛ ليقرروا ويضعوا القوانين
التي تقوم بها مصلحة الجميع، وهذا ينافي كون التجنيد بالإكراه، وإن كره بعض
رؤساء الدين المتعصبين منهم، فإن هؤلاء الرؤساء ليسوا نوابًا عن أهل دينهم في
وضع القوانين.
وأما المسألة الثانية: فيدلك على الحق فيها هذه النصوص التي ننقلها عن
رسالة الشيخ (شبلي النعماني) العالم الشهير، نشرت في أواخر السنة الأولى
من المنار، حقق فيها ما ذكرناه من كون الجزية جزاء الحماية والدفاع وأورد في
الاستدلال على ذلك هذه النصوص المروية، فقال:
ولعلك تطالبني بإثبات بعض القضايا المنطوية في هذا البيان؛ أي: إثبات أن
الجزية ما كانت تؤخذ من الذميين إلا للقيام بحمايتهم والمدافعة عنهم، وأن الذميين
لو أدخلوا في الجند أو تكفلوا أمر الدفاع لعفوا عن الجزية، فإن صدق ظني فأصغ
إلى الروايات التي تعطيك الثلج في هذا الباب، وتحسم مادة القيل والقال.
(فمنها) ما كتب خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا حينما دخل الفرات
وأوغل فيها، وهذا نصه: (هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه:
إني عاهدتكم على الجزية والمنعة فلك الذمة والمنعة، وما منعناكم (أي حميناكم)
فلنا الجزية، وإلا فلا، كتب سنة اثنتي عشرة في صفر) (ومنها) ما كتب نواب
العراق لأهل الذمة وهاك نصه: (براءة لمن كان من كذا وكذا من الجزية التي
صالحهم عليه خالد والمسلمون، لكم يد على من بدل صلح خالد ما أقررتم بالجزية
وكنتم. أمانكم أمان وصلحكم صلح، ونحن لكم على الوفاء) .
(ومنها) ما كتب أهل ذمة العراق لأمراء المسلمين وهذا نصه: (إنا قد
أدينا الجزية التي عاهدنا عليها خالد، على أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين
وغيرهم) .
(ومنها) المقاولة التي كانت بين المسلمين وبين يزدجرد ملك فارس حينما
وفدوا على يزدجرد وعرضوا عليه الإسلام، وكان هذا في سنة أربع عشرة
في عهد عمر بن الخطاب، وكان من جملة كلام نعمان الذي كان رئيس الوفد:
(وإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم، وإلا قاتلناكم) .
(ومنها) المقاولة التي كانت بين حذيفة بن محصن وبين رستم قائد الفرس،
وحذيفة هو الذي أرسله سعد بن أبي وقاص وافدًا على رستم في سنة أربع عشرة في
عهد عمر بن الخطاب، وكان في جملة كلامه: (أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى
ذلك) .
فانظر إلى هذه الروايات الموثوق بها، كيف قارنوا بها بين الجزية والمنعة،
وكيف صرح خالد في كتابه بأنا لا نأخذ منكم الجزية إلا إذا منعناكم ودفعنا عنكم، وإن
عجزنا عن ذلك فلا يجوز لنا أخذها.
وهذه المقاولات والكتب مما ارتضاها عمر وجُلُّ الصحابة فكان سبيلها سبيل
المسائل المجمع عليها. قال الإمام الشعبي وهو أحد الأئمة الكبار: أُخذ (أي سواد
العراق) عنوة وكذلك كل أرض، إلا الحصون فجلا أهلها، فدعوا إلى الصلح والذمة
فأجابوا وتراجعوا، فصاروا ذمة وعليهم الجزاء ولهم المنعة، وذلك هو السنة،
كذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدومة) .
ولا تظن أن شرط المنعة في الجزية إنما كان يقصد به مجرد تطيب نفوس
أهل الذمة وإسكان غيظهم، ولم يقع به العمل قط، فإن من أمر النظر في سير
الصحابة واطلع على مجاري أحوالهم، عرف من غير شك أنهم لم يكتبوا عهدًا ولا
ذكروا شرطًا إلا وقد عضوا عليها بالنواجذ، وأفرغوا الجهد في الوفاء بها، وكذلك
فعلهم في الجزية التي يدور رحى الكلام عليها، فقد روى القاضي أبو يوسف في
كتاب الخراج عن المكحول، أنه لما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين لهم وحسن السيرة
فيهم، صاروا أشداء على عدو المسلمين، وعيونًا للمسلمين على أعدائهم. فبعث أهل
كل مدينة رسلهم يخبرونهم بأن الروم قد جمعوا جمعًا لم ير مثله، فأتى رؤساء أهل
كل مدينة الأمير الذي خلفه أبو عبيدة عليهم فأخبروه بذلك، فكتب والي كل مدينة
ممن خلفه أبو عبيدة إلى أبي عبيدة يخبره بذلك، وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة
فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين، فكتب أبوعبيدة إلى كل وال ممن خلفه في المدن التي
صالح أهلها؛ يأمرهم أن يردوا عليهم ماجبي منهم من الجزية والخراج، وكتب إليهم
أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم
قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم،
ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم، فلما قالوا ذلك لهم
وردوا عليهم الأموال التي جبوها منهم، قالوا: (ردكم الله علينا ونصركم عليهم، فلو
كانوا هم لم يردوا علينا شيئًا، وأخذوا كل شيء بقي حتى لا يدعوا شيئًا) .
وقال العلامة البلاذري في كتابه (فتوح البلدان) : حدثني أبو جعفر الدمشقي
قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع،
وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا
منهم من الخراج، وقالوا: (قد شُغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم) ،
فقال أهل حمص: (لَولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم،
ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. ونهض اليهود فقالوا: والتوارة لا يدخل
عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد، فأغلقوا الأبواب وحرسوها. وكذلك
فعل أهل المدن التي صُولِحت من النصارى واليهود، قالوا: إن ظهر الروم
وأتباعهم على المسلمين صرنا على ما كنا عليه، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي
للمسلمين عدد.
وقال العلامة البلاذري في كتابه (فتوح الشام) يذكر إقبال الروم على المسلمين
ومسير أبي عبيدة من حمص: (فلما أراد أن يشخص دعا حبيب بن مسلمة، فقال:
اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم؛ فإنه لا ينبغي
لنا إذ لا نمنعهم أن نأخذ منهم شيئًا، وقل لهم: نحن ما كنا عليه فيما بيننا وبينكم من
الصلح ولا نرجع عنه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنا
كرهنا أن نأخذ أموالكم ولا نمنع بلادكم) فلما أصبحَ أَمَرَ الناسَ أن يرتحلوا إلى
دمشق، ودعا حبيب بن مسلمة القوم الذين كانوا أخذوا منهم المال، فأخذ يرد عليهم،
وأخبرهم بما قال أبو عبيدة، وأخذ أهل البلد يقولون: (ردكم الله إلينا، ولعن الله
الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا إلينا، بل غصبونا
وأخذوا مع هذا ما قدروا عليه من أموالنا) ، وقال أيضًا يذكر دخول أبي عبيدة
دمشق: (فأقام أبو عبيدة بدمشق يومين، وأمر سويد بن كلثوم القرشي أن يرد على
أهل دمشق ما كان اجتبى منهم الذين كانوا أمنوا وصالحوا، فرد عليهم ما كان أخذ
منهم، وقال لهم المسلمون: نحن على العهد الذي كان بيننا وبينكم، ونحن معيدون لكم
أمانًا) .
أما ما ادعينا من أن أهل الذمة إذا لم يشترطوا علينا المنعة أو شاركونا في الذب
عن حريم الملك، لا يطالبون الجزية أصلاً. فعمدتنا في ذلك أيضًا صنيع الصحابة
وطريق عملهم، فإنهم أولى الناس بالتنبه لغرض الشارع، وأحقهم بإدراك سر
الشريعة، والروايات في ذلك وإن كانت جمة، ولكن نكتفي هنا بقدر يسير يغني عن
كثير:
(فمنها) : كتاب العهد الذي كتبه سويد بن مقرن أحد قواد عمر بن الخطاب
لرزبان وأهل دهستان، وهاك نصه بعينه: (هذا كتاب من سويد بن مقرن لرزبان
صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان، أن لكم الذمة وعلينا المنعة،
على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنا
به منكم فله جزاؤه في معونته عوضًا عن جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم
ومللهم وشرائعهم، ولا يغير شيء من ذلك، شهد سواد بن قطبة، وهند بن عمر،
وسماك بن محرمة، وعتيبة بن النهاس، وكتب في سنة 108) اهـ (طبري ص
2658) .
(ومنها) الكتاب الذي كتبه عتبة بن فرقد أحد عمال عمر بن الخطاب، وهذا
نصه:
(هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل
أذربيجان، سهلها وجبلها، وحواشيها وشفارها، وأهل مللها كلهم؛ الأمان على أنفسهم
وأموالهم ومللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ومن حشر
منهم في سنة وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك)
اهـ (طبري صحيفة 2262) .
(ومنها) العهد الذي كان بين سراقة عامل عمر بن الخطاب وبين شهربراز،
كتب به سراقة إلى عمر فأجازه وحسنه، وهاك نصه:
(هذا ما أعطى سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
شهربراز وسكان أرمينية والأرمن - من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم
وملتهم، أن لا يضاروا ولا ينقضوا، وعلى أرمينية والأبواب الطرّاء منهم والتّناء [1]
ومن حولهم فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة، وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب رآه
الوالي صلاحًا، على أن توضع الجزاء عمن أجاب إلى ذلك، ومن استغنى عنه
منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء، فإن حشروا وضع ذلك
عنهم. شهد عبد الرحمن بن ربيعة، وسلمان بن ربيعة، وبكير بن عبد الله، وكتب
مرضي بن مقرن وشهد) . اهـ (طبري صحيفة 2665 و2666) .
(ومنها) ما كان من أمر الجراجمة، وقد أتى العلامة البلاذري على جملة من
تفاصيل أحوالهم، فقال: حدثني مشايخ من أهل أنطاكية: أن الجراجمة من مدينة
على جبل لكام عند معدن الزاج، فيما بين بياس وبوقا يقال لها الجرجومة، وأن
أمرهم كان في استيلاء الروم على الشام وأنطاكية إلى بطريق أنطاكية وواليها، فلما
قدم أبو عبيده أنطاكية وفتحها لزموا مدينتهم وهموا باللحاق بالروم؛ إذ خافوا على
أنفسهم، فلم يتنبه المسلمون لهم ولم ينبهوا عليهم، ثم إن أهل أنطاكية نقضوا
وغدروا، فوجه إليهم أبو عبيده من فتحها ثانية، وولاها بعد فتحها حبيب بن مسلم
الفهري فغزا الجرجومة، فلم يقاتله أهلها، ولكنهم بدروا بطلب الأمان والصلح،
فصالحوه على أن يكونوا أعوانًا للمسلمين وعيونًا ومسالح في جبل اللكام، وأن لا
يؤخذوا بالجزية، ثم إن الجراجمة مع أنهم لم يوفوا ونقضوا العهد غير مرة، لم
يؤخذوا بالجزية قط، حتى إن بعض العمال في عهد الواثق بالله العباسي ألزمهم جزية
رؤوسهم، فرفعوا ذلك إلى الواثق فأمر بإسقاطها عنهم. اهـ.
(المنار)
لفظ المنع في هذه الكتب والعهود معناه: الحماية، كما أشرنا إلى ذلك في رواية
منها.
__________
(1) الطراء الغرباء الذين يطرؤون جمع طارئ، والتناء المقيمون.(12/433)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التعصب الديني في أوربا
تتهم أوربا أهل الشرق عامةً والمسلمين خاصةً بالغلو في التعصب الديني،
الذي يفضي إلى إيذاء المخالف في الدين أو المذهب، وغمط حقوقه. وقد كتبنا
في المجلد الأول من المنار مقالات بينا فيها أن مهد التعصب هو أوربا، وأن
الشرقيين عامة والمسلمين خاصة لا يبلغون مُدّ أوربا ولا صاعها، ولا يردها ولا
مترها في التعصب. وحسبك أنها أكرهت جميع من كان فيها من الوثنيين ثم من
المسلمين على النصرانية، إلا من هاجر وترك أرضه وماله. من حيث بقيت جميع
الأديان في الشرق لا سيما الممالك الإسلامية منه. ثم إنها سفكت من الدماء الغزيرة؛
لأجل الخلاف في المذاهب النصرانية نفسها، ما لم يعرف له نظير في الشرق.
وقد انقلبت فيها طبيعة الاجتماع بالعلوم والأعمال الدنيوية وكثر الملحدون، وأعطت
أكثر الحكومات الأوربية الحرية حقها في كل شيء، ولم يقو ذلك كله على التعصب
الديني، لا من مثل روسية التي لا تزال حكومتها نفسها متعصبة فقط، بل من مثل
إنكلترا العريقة في الحرية. وقد نقل إلينا البرق والبريد في هذا العام أن الحكومة
الإنكليزية لم تمكن الكاثوليك من القيام بتقاليدهم الدينية في عيد الفصح. وجاء البرق
في هذه الأيام بأن تلاميذ المدارس البروتستانت والكاثوليك في ليفربول، قد
تشاجروا فيها تشاجرًا أدى إلى إقفال الحكومة خمسين مدرسة منها، وأن أمهاتهم
شاركنهم في هذا الجهاد الديني، وقد نشر في جريدة الأخبارأحد الكتاب مقالة في
ذلك فكهة، هذا نصها:
التعصب الديني الإنكليزي
هل الصغار غير الكبار
جاء في نبأ برقي من لندن أنه أقفلت خمسون مدرسة في ليفربول؛ لوقوع
مشاجرات بين أولاد البروتستانت والكاثوليك، اشتركت أمهاتهم فيها.
فإذا فرضنا أن في كل مدرسة من هذه المدارس 100 تلميذ نصفهم متساهلون
والنصف متعصبون، فيكون عدد الذين اشتركوا في هذه المعركة على أقل تقدير:
ألفي تلميذ من صميم الناشئة الأنكلوساكسونية. أما أسلحتهم، فأولها: (البوكس)
الإنكليزي. وثانيهما: (الرفس) بالجزم الإنكليزية. وثالثها: (المضاربة) بأدوات
المدارس، من ألواح الإردواز والبراجل والمقاشط والمساطر، وغيرها مما لا تخلو
منها جعبة تلميذ.
ولا بد أن حضرات الأمهات المتدينات المتعبدات المتقيات من طائفة
البروتستانت حملن معهن إلى هذه المعركة ما وجدنه أمامهن من أحذية قديمة،
وأرجل كراسي، ومقشات، وزجاجات فارغة، كما حملت بعض الكاثوليكيات
الأيقونات والصلبان تبركًا وذخيرة لهذه الحرب الدينية المقدسة.
ومع أن النبأ البرقي لم يأتنا بتفصيل واف عن أسباب هذه الحركة الصبيانية
الملّية التعصبية، فإنه لا شبهة في أنها نشأت إما عن نفار مذهبي، أو عن جدال
ديني احتدم بين هؤلاء الصغار، فازدرى به المدرسون؛ لما هو مشهور عن
أكثرهم من التباعد عن التداخل في كل أمر غير الفرض المدرسي.
أما الأمهات المصونات؛ فالراجح أنهن أتين لمساعدة أولادهن وإنقاذهن من
خطر الملاكمة، ثم رأين الحاجة داعية إلى المداخلة الفعلية فتضاربن.
ولو لم يكن الخطب جللاً لما أقفلت 50 مدرسة دفعة واحدة، حتى لا يعود
التلاميذ إلى المخاصمة فالمقاتلة، وربما كانت العودة داعية إلى اشتعال نيران الحقد
الديني بين غيرهم من تلاميذ المدارس التجهيزية، فالجامعة الذي يبلغ عدد طلبتها
790 طالبًا؛ لأن الكل منقسمون إلى: بروتستانت وكاثوليك، وما أثر في التلاميذ
الصغار يؤثر فيهم، وبذلك يعيد الإنكليز أيام الحروب الدينية، ويبرهنون لنا على
أن ذاك الرقي المدني الهائل، وحفظ أشعار شكسبير، وامتلاك المستعمرات التي لا
تغيب عنها شمس، لم ينفع في تربية الأخلاق. وأن دعوى اللورد كرومر بأن بلاد
الشرق عامة ومصر خاصة مهبط التعصب الديني دعوى يكذبها اليوم فعل أبناء
ليفربول الذين تجمعهم الجامعة الوطنية، وتضمهم مدرسة واحدة، ولم يحضر منهم
أحد إلى مصر؛ ليتلقى دروس التعصب من المسلمين والأقباط.
وإذا كان صغار الأمة عنوان كبارها وصورة لأخلاقهم، فلا مراء في أن
هؤلاء الإنكليز يحملون لبعضهم من الأحقاد الدينية أثقالاً مثقلة؛ لأن تربيتهم البيتية
والمدرسية متشابهة، وما يتعلمونه مع شاي ليبتون ووسكي بوكانان هنا وهناك مساو
تمامًا لما يتلقنه صغار ليفربول الذين لم يكادوا يشبون عن الطوق، حتى عرفوا
كيف يتعصب فريق منهم للوثير، وفريق للقديس بطرس، والفضل في ذلك راجع
إلى السيدات المهذبات اللائي لا يكتفين بحقوقهن، بل يطالبن بأن يكن مساويات
للرجال في حق الانتخابات السياسية.
ولا يقتصر التعصب على هؤلاء الإنكليز من الأمم التي نظنها أرقى منا طبائع،
وأفضل أخلاقًا، بل يشترك فيها الفرنسوي والإيطالي والألماني والروسي - بنوع
أخص - فإذا درست أخلاق أحدهم، تجده يقطر تعصبًا دينيًّا جنسيًّا، وإن لم يكن
متدينًا؛ وذلك بحكم المعاشرة والروابط الاجتماعية والبيتية.
فالتعصب صفة من صفات الإنسانية، لم يقو العلم ولا التربية على استئصال
شأفتها من النفوس. وربما متنا ومات أبناؤنا وأحفادنا قبل أن نصل إلى درجة ننسى
فيها التعصب.
... ... أحد المتعصبين
__________(12/438)
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
__________
رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين
لليافعي
5
بقية بحث أحاديث الآحاد وكونها من أصول الدين
قال في الاعتراض الثالث من هذه الكلمة: فكأنهم يثبتون صحة الروايات
بعدالة الرجال، ثم يثبتون عدالة الرجال بالروايات، مما لا يخفى على أحد فساد
ذلك. إلى قوله: وربما أدَّانا ذلك إلى التسلسل أو الدور في البرهان.
وأقول: إن هذه مغالطة من الفاضل أيضًا؛ إذ لا يلزم ذلك، اللهم إلا إذا كان
المعدِّل والجارح لغيره هو المعدل لنفسه. أما إذا كان المعدل والجارح قد عرفت
عدالته بالإجماع، ونقل هذا الإجماع بالإجماع أو بما يقاربه كالتواتر، بل لو نقلت
عدالته بأسانيد أخر - فلا فساد، ولا يلزم شيء مما ذكر الفاضل.
وقوله: إن أكثر هذه الروايات مقتضية إلى آخره. فجوابه أنهم (رحمهم الله)
يروون ما تلقوه على نحو ما يسمعون، فما كان له سبب ذكروه وهو كثير، إنما قد
يترك بعضهم ذلك لسبب ومناسبة؛ حيث لم ير لذلك ضرورة؛ ولذلك تراه في
موضع آخر يذكر السبب والمناسبة، وقل أن يهملوا ذلك. وأما ما كان يلقيه عليهم
صلى الله عليه وسلم بما يشبه التعليم والتشريع العام، فلا يلزم أن يطلب له سبب،
وأكثر الأحاديث وآيات الأحكام كذلك فلا محذور.
أما قوله: وقد أيدنا فيه الأستاذ الكبير العلامة المحقق صاحب المنار الأغر فنقول
فيه: إن كان يعني ما كتبه شيخ الإسلام المذكورعلى إثر ما كتبه أخونا العلامة خاتمة
المحققين: رفيق بك العظم - حفظهما الله - فنحن قد رأينا ذلك، ولم نر فيه تأييدًا
لحضرة الدكتور الفاضل، وغايته أن يكون رجح أن ما كتبه المجيبون لم يدفع
الشبهة تمامًا على أن حضرة العلامة المحقق رفيق بك العظم - حفظه الله - إنما ذكر
تاريخ الكتابة عند العرب، وبين بعض حالاتها في الإسلام وذلك في خطبة ألقاها،
والخطب لا تحتمل الاستقصاء في الاستدلال أو أن يغاص فيها وراء عويصات
المسائل.
ونقول أيضًا: قد عرفت مما كتبناه سابقًا وما قدمناه حال الصحابة - رضي
الله عنهم - في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأنهم كيف يروون عنه
صلى الله عليه وسلم، وعرفت أنه كيف كان يبين لهم، وعرفت أن حفظهم لما
روينا عنهم ليس بالمستبعد، وأن المكثرين منهم وغير المكثرين قد كتبوا في حياته
أو استكتبوا، وهم لم يزالوا يكتبون بعد وفاته ما فات بعضهم عن البعض الآخر،
والفاضل الدكتور هو إن قدر أنْ يثبت كراهية بعضهم، فهو لا يستطيع يبين علة
منصوصة لذلك غير ما ذكرناها عنهم في رسالتنا السابقة. وقلنا: إن من كره ذلك؛
فإنما كره أن يكتب رأيه. أما أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فقد كتبها كثير
منهم بمرأى ومسمع منه صلى الله عليه وسلم، ومنهم - رضي الله عنهم - فلم
ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك ولا هم أنكروا ذلك، ولم يتلف بعضهم ما
عند البعض الآخر بالإحراق، وغايته أن بعضهم أتلف مكتوبات نفسه ورأيه، وهذا
بخلاف فعلهم بالقرآن الذي كان عند بعضهم غير ما أجمعوا عليه. وبذلك يظهر
ظهورًا لا غبار عليه أن كتابة الحديث لم تكن في معتقدهم مكروهة مطلقًا وحاشاهم من
ذلك. فقد كان الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - وغيرهم من كبار الصحابة؛
- رضي الله عنهم - إذا وقعت واقعة ووجدوا فيها حديثًا عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لا يعدلون به سواه؛ بل يحكمون بمقتضاه ويحفظونه ويكتبونه في
رسائلهم إلى عمالهم، فكتابة الحديث بالصفة التي ذكرناها كانت من عملهم ومما
أجمعوا عليه: فعلاً وتقديرًا.
وغاية ما يثبت عن بعضهم أنه كره كتابته في كتاب واحد لا يرجع إلى سواه،
ويكون مرتبًا كما كتب القرآن، يعمل به الناس ويتركوا ما لم يكن فيه، على أنهم
قد عزموا على ذلك، وكان ميل أكثرهم إلى الفعل، ومن كره ذلك؛ فإنما كرهه
رجوعًا بعد الموافقة على الكتابة، ومع ذلك هو لم يكرهها ويتركها لأجل أن الحديث
شريعة مؤقتة، ولم يستدل على الترك بما يدل على أنه فهم أن الأحاديث شرعية
موقتة - كما بينا ذلك في رسالتنا السابقة - وهم صرحوا بأنهم لم يتركوا كتابة
الحديث بالصفة المذكورة؛ إلا خوف الالتباس بالمصحف، وبعضهم لم يقل: إلا
جردوا القرآن.
فالأصل الذي بنى عليه الفاضل الدكتور مذهبه إنما هو احتمال من عنده وظن
توهمه، لم يسبقه إلى تخيله أحد من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، بل قولهم
وعملهم وأمرهم يناقضه مناقضة النقيض لنقيضه، وما هذا حاله لا يصح فرضه -
على أنه لو لم يوجد عنهم ما يناقضه فلا يصح أن يجعل مثل ما هذا حاله أصلاً؛
لمخالفته نصوص القرآن - بل لو لم يوجد في القرآن ما يناقضه، فلا يصح كذلك
لمخالفته ما يوجبه العقل للرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولو تغاضينا عن ذلك
كله، فغايته أن يكون احتمالاً من جملة احتمالات قاله غير معصوم وخالف إجماع
المسلمين، والله جل شأنه قد ذم من يتبع غير سبيلهم وتهدده، فما رأيك باحتمالٍ هذا
حاله، كيف يعول عليه، أم كيف يسوغ للمنصفين الاعتماد عليه والمفاضلة دونه
وهو على كلِّ تقدير ومهما فرض فاسد مدفوع. فهذا بعض ما نقوله في شبهة
الفاضل في عدم كتابة الحديث، وقد ذكرنا بعض أدلته في رسالتنا السابقة والمقام
جدير بالإطالة، ولكن فيما ذكرناه كفاية لمن يريد الله له الهداية.
أما من بعد الصحابة من رجال الأسانيد والأئمة المحدثين الذين رووا عن
الصحابة - رضي الله عنهم - وروى عنهم من بعدهم من الأئمة كذلك، فهم الذين
كتبوا الأحاديث وأجمعوا على كتابتها، وكانوا كلهم رحمهم الله يكتبون، وكان
المحدثون - رحمهم الله - يكتبون كل مروياتهم عن الشيخ حين الدرس، يكتب ذلك
الطلبة كلهم، ويقابلون ويصححون على الشيخ أو من كتابه، كل ذلك يكون بغاية
الاحتياط مع كمال الفحص والتنقيب عن كل ما يحدث به.
فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك، لِمَ لَمْ تكن جميع الأحاديث بنقل الجموع
والتواتر، قلنا: إن الأحاديث الصحاح هي هكذا في نفس الأمر ودليله تلقيهم ذلك
بالقبول، وسبب كونها آحادًا إنما هو لأن أهل الكتب المعتبرة لا يثبتون إلا ما
يرويه الأثبات الضابطون ومن سواهم لا يروون عنه؛ لئلاّ يغتر به من لم يعرف
حاله تقليدًا لمن روى عنه؛ ولأنهم يختارون الاختصار، فلذا وذاك يختارون في
مصنفاتهم الأمثل من الأسانيد ويتركون ما سواه، ونحن قد قلنا: إنهم لو اختاروا
طريقة التواترية لكان كل حديث أو أكثر الأحاديث متواترة في أكثر الطبقات،
فليتأمل الناظر. وإن أراد مصداق ما ذكرنا، فليفرض أي حديث مما اتفقوا على
صحته، ثم ليتتبع طرقه في كتبهم، فلا نشك أنه حينئذ يوافقنا على ما قلناه على أنه
إن وجد في أثناء سنده تفرد راوٍ، فذلك الراوي لا بد وأن يكون ممن أجمع على
حفظه واعتباره وكماله وضبطه بالكتابة، ورُبَّ رجل يعدل رجالاً
فتَفَكَّرْ.
قال حضرة الفاضل في الكلمة الخامسة ما مؤداه: إن المسلمين خالفوا
القرآن بإيجابهم العمل بالأحاديث إلى آخره، واستدل ببعض آيات في ذم الظن الذي
أجبنا عنها في رسالتنا السابقة، وزيادة على ذلك نقول: قد قدمنا في هذه الجملة
المختصرة الأدلة القطعية على أن أخبار الآحاد ليست مما تفيد الظن فقط؛ بل هي تفيد
اليقين أيضًا، فلا بد للفاضل أن ينقض ذلك أولاً بأدلة أصح مما سقناها، ثم لا بد
له من أدلة جديدة تدل على أن جميع أحاديث الآحاد الثقات الضابطين الذين تنطبق
عليهم شرائط أهل الحديث لا تفيد العلم، ولو لبعض الناس. ثم لا بد له من دليل
يدل على أن المراد بالظن في هذه الآيات ما يرى أنه الظن الراجح، وبدون ذلك لا
يصح ولا يتم له الاستدلال بهذه الآيات على رد العمل بالأحاديث، نحن لا نرى أن
هذه الآيات مما تدل على ذم العمل بالأحاديث، ومن أراد ذلك منها فقد حمَّلها ما لا
تحمله؛ لأن من تفكر في هذه الآيات وأمعن النظر فيما اشتملت عليه مما سماه الله ظنًّا
فيها يراه لا محالة، إنما هو مما يسميه الناس في زماننا هذا بالشك.
فالقرآن إنما يذم ما يكون بمرتبة الشك، بل بمرتبة الوهم والخرص فقوله
تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن
شَيْءٍ} (الأنعام: 148) هو استدلال منهم بالمشيئة والقضاء والقدر الذي لم يعرفوا
سره ولا ما هو، ولا آمنوا به على رد وإنكار دين الله وشرعه، وعلى تكذيب رسوله
صلى الله عليه وسلم، فكأنهم يقولون: إن كل ما فعلناه هو حَسَن ودين مقبول عند
الله، حتى الغصب والسرقة وقتل النفس التي حرم الله إلى غير ذلك مما يقوله إخوانهم
الجبرية اليوم، فهل يصح هذا الاستدلال؟ وهل هو ظن راجح؟ وما المرجح؟ وهل
أخبار الثقات الضابطين مثل ما ذمه الله عن المشركين في هذه الآيات؟ وما لم تتحد
العلة ويُعلم انتفاء المانع لا يصح القياس.
والفاضل - حفظه الله - كثيرًا ما يستدل بهذه الآية ونحوها على رد وذم
العمل بالأحاديث الصحاح في زعمه. وقد سبقه إلى الاستدلال بها على ذلك
الخوارج، واستدل بها بعض العلماء على رد القياس المساوي والأولوي، وبعضهم
على رد وجوب الأخذ بالعمومات القرآنية مطلقًا، أو الذي قد وقع فيها تخصيص أو
احتمال، وعلى رد الأخذ بالاستصحاب، وعلى رد الاجتهاد بترجيح أحد
الاحتمالين الراجح. واستدلالهم على ذلك أظهر من استدلال الفاضل على ما نحن
بصدده، فليسلم بما هو أولى من استدلاله، فإن سلم لزمه القول بأن ما سوى
المنصوص في القرآن ليس من الدين مطلقًا، ولا يجوز العمل به، وعليه فلا ندري
ماذا يقول في الوقائع التي لم ينص عليها القرآن. إنه مهما يريد أن يقول فيها؛
فالحديث أولى من قوله ورأيه، وأقرب إلى العلم واليقين منه، وإلا لزمه أن الدين
ناقص غير كاف لفصل كل ما وقع.
ونقول: إن ما استدل به هؤلاء المشركون قد سماه الله ظنًّا وذمهم عليه، وإذا
كان الظن يطلق على الراجح من الاحتمالين، وعلى المتردد بينهما على السواء
وهو الشك، وعلى ما هو دون ذلك؛ كالوَهْم والحزر والخرص ونحوه، فهو
مشترك لفظي؛ إنما يدل على ما يراد منه بقرينة على الراجح، ولما كانت هذه
المعاني متفاوتة ومختلفة الحقائق فلا يصح أن يقاس هذا منها على ذاك، إلا إذا
استكملت شروط القياس؛ كاتحاد العلة، وأن لا يكون في المقيس أو المقيس عليه
وصف يصلح أن يناط به حكم غير الحكم الذي يراد أن يطرد فيها مع عدم المانع
كذلك. ومن صحح النظر فيما ذمته هذه الآية؛ يرى أنه لا يصح قياس الأحاديث
الصحيحة عليه بوجه من الوجوه مطلقًا، وكذلك العمومات والقياس والاستصحاب
ونحوه، كل ذلك لا تدل الآية على ذمه. وهذه لا تتعارض بل هي مرتبة، وأعلاها
نص القرآن ثم نص الحديث. وهذا الثاني مقدم على العموم مطلقًا، وقيل على
العموم الذي قد تطرقه الاحتمال، وليس شيء من هذه الأشياء من الظن المذموم،
حتى عند من يجعل كل ذلك من الظن؛ لأن كل ما ذمه الله - تعالى - من الظن في
غير هذه الآية من كتابه؛ فإنما هو شقيق ما ذمه في هذه الآية؛ ولئلا يدخل في ذلك
الظن الراجح، كالقياس، وما ذكرناه بعده ونحو ذلك أيضًا قوله تعالى: {إِنَّ
بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12) أي: بعض الظن الذي هو بمثابة ظن
المشركين غير المستند إلى حجة تُرجّحه فهو إثم؛ لأنه من ظن ضعفاء العقول
الذين ليس لديهم علم وبصيرة، وإنما هم يخرصون بالحرز والوهم الكاذب،
ومفهوم الآية أن البعض الآخر أي: كالظن الراجح ونحوه ليس كذلك، وحينئذ نقول:
إما أن يجعل الظن مراتب لا يتناول حكم إحداها الأخرى. وذلك مثل ما قلنا سابقًا،
أو يجعل كالمتواطئ في إفراده، وهذا مع ضعفه، فالظن الراجح مستثنى كما
عرفت أيضًا. وإما أن نجعل كل ما هو نظير ومثيل ما ذمهم عليه هو الظن، وكل
ما كان مدركه أقوى مما ذكره الله عن المشركين وذمهم عليه هو من العلم، وعلى
كل تقدير فاستدلال الفاضل الدكتور بهذه الآية ونحوها على ذم العمل بالأحاديث
الصحاح فاسد، فما ذمه الله عن المشركين في وادٍ والأحاديث في وادٍ آخر. وبما
ذكرناه تنحل عقدة الإشكال التي كثيرًا ما تورد مثل هذه المسائل، فتأمل ذلك،
واشكر الله على أفضاله.
قال أخونا الفاضل: وقد أقر الأستاذ الفاضل الشيخ اليافعي بأن الظن إنما يذم
إذا عارضنا به الأمر القطعي. ثم رد عليّ بأني ومَن على مذهبي كثيرًا ما أعارض
نصوص القرآن الشريف الصريحة وأخالفها؛ لأجل الأحاديث الآحاد، إلى قوله:
وإليك بعض الأمثلة على ذلك.
وأقول في الجواب: قد قدمنا الكلام على آية الوصية للوالدين والأقربين
الوارثين، وهنا نقول للأخ المكرم حفظه الله: إن تجويز معارضة نص القرآن
بالحديث الصحيح لم يقل أحد من المسلمين به فيما أعلم، والحقير لا يقول به أيضًا،
هذا فصل.
(الثاني) إن من جَوّز نسخ القرآن بالسنة متواترة كانت أو مشهورة أو
آحادية، لا يلزمه أن يقول بوقوع ذلك فعلاً.
(الثالث) إن من يُجوّز نسخ القرآن بالحديث الصحيح هو لم يعارض به
نص القرآن، وإنما إذا صح حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متأخر
عن نزول آية ولم يمكن التوفيق بينهما، فالمعارضة إنما هي بين الحديث واستمرار
الحكم أي: بقائه أو عمومه وإطلاقه، وقد اختلف في الأول كبار العلماء -
رحمهم الله -، وقد قدمنا بعض الكلام على ذلك. أما الثاني والثالث فقد
قال بجوازه ووقوعه الجمهور. لكن قال شيخنا: ابن القيم - رحمه الله - مع
تجويزه النسخ بجميع أقسامه ما معناه؛ أن كل ما يظنه الناس معارضة بين السنة
والقرآن فليس الأمر كما يظنون، بل لا بد أن تكون السنة مبينة لآية من القرآن، هي
في الحقيقة ناسخة أو مخصصة لما يظن منه أن السنة خصصته أو قيدته، وعلى كل
تقدير فأهل العلم كلهم متفقون هؤلاء وهؤلاء على أنه لا يجوز إهمال وإلغاء شيء
مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، سيَّان مَنْ جَوَّز وقوع المعارضة ومن التمس
لها موافقة من آيات الكتاب العزيز، لأن المرمى والمحط واحد.
قال الأخ الفاضل: حرموا أكل الحمر الأهلية للحديث مع أن الله يقول:
{قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} (الأنعام: 145) الآية، ويقول: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ} (البقرة: 173)
الآية إلخ، وأقول: إن الحصر في هاتين الآيتين قد عارضته آيات أخرى في
القرآن نفسه [1] وإذا أخذ المطعوم المحرم أعم من لحم الحيوان فالمعارض أكثر.
وحينئذ إما أن يقال الحصر منسوخ أو مخصوص بوقت نزولها، وكلا التقديرين
مخالف لمذهب الفاضل؛ لعدم تجويزه النسخ أي: وقوعه، ولقوله: إن الخصوص
بوقت دون وقت لا يكون في القرآن، وإنما يكون في الحديث؛ لأنه - أي الحديث -
شريعة مؤقتة بزعمه، وهو هنا لا محيص له من التزام أحد الاحتمالين رضي أم أبى.
ثم نقول: إذا كان الحصر منسوخًا أو مقيدًا بحين النزول، فلا يكون الحديث
المذكور معارضًا لنص القرآن المحكم بلا خلاف، وإنما هو من باب الزيادة على ما
في القرآن أو ما سكت عنه، ومَن لا يجوّز ذلك فقوله غير مؤيد بحجة ولا بشبه
حجة، على أنا نقول: إن الله حرم الخبائث والخبيث في القرآن كما حرم الإنفاق
منه، فلِمَ لا يجوز أن يكون لحم الحمر الأهلية من ذلك، والحديث مبين لما أجملت
تلك الآيات، وبذلك يندفع الاعتراض من أصله.
قال الفاضل: قالوا بحرمة الذهب والفضة والحرير للأحاديث التي رووها،
والقرآن يقول:] قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [
الآية (الأعراف: 32) ، قلت: وليس الأمر كما أطلق، وأهل الحق - رحمهم
الله - لم يحرموا إلا الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وعلى الرجال لبس
الذهب في غير السلاح، والحرير الخالص لغير الضرورة، والآية ليست نصًّا في
تحليل ذلك، بل لم يذكر فيها شيء من ذلك بخصوصه، وكان سبب نزولها في
زينة مخصوصة حرمها المشركون؛ وهي ستر العورة، فكانوا لا يجيزون، بل
يحرمون سترها عند الطواف، وكانوا يحرمون بعض الرزق الطيب فأمر الله عباده
المؤمنين؛ أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد، وأن يأكلوا ويشربوا من الطبيات من
الرزق، ونهاهم عن الإسراف في الأمرين أي: اللباس والأكل والشرب، ورد
على المشركين بأن قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم أي: اسئلهم من حرم زينة
الله التي أخرج لعباده والطبيات من الرزق الآية، فالآية لا يعارضها الحديث؛ لما
عرفت أن ما أحل لنا من ذلك هو مقيد بعدم الإسراف، وأيضًا قوله: {مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} (الأعراف: 32) المراد بالزينة فيه: الزينة التي
أمرهم بأخذها عند كل مسجد، وتلك معلومة لدى المخاطبين - رضي الله عنهم -،
لم تكن هي ذهبًا وفضة ولا حريرًا، على أن سوى الأكل والشرب في آنية النقدين
من كل استعمال لما ذكره جائز للنساء، وهن ممن يدخل في الخطاب، وأيضًا كل
ما يطلق عليه لفظ الزينة، لا يمكن الدكتور أن يجوزه لكل أحد بلا تقييد، ولا نظنه
يجوز للرجال لبس النساء ولا العكس مطلقًا، وإذا كان الأمر كذلك، فكان الأولى به
أن لا يعترض علينا بهذه الآية في الأحاديث، لا سيما وقد عرفت أن آخر الآية إنما
هو مبني على ما ذكره في أولها.
إن من يعارض الأحاديث، ويحلل كل ما يطلق عليه لفظ الزينة بهذه الآية،
قوله أشبه شيء بقول من يجوز أكل وشرب وتناول واستعمال كل ما على الأرض
وكل ما يخرج منها، بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعا} (البقرة: 29) الآية، فكما أن هذا لا يصح، فتحليل استعمال كل زينة بكل
صفة لا يجوز مثله، والآية لا تدل عليه.
قال: حرموا أن تنكح المرأة على عمتها وخالفوا قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا
وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء: 24) إلى قوله بعد أن ذكر سائر المحرمات، وليس من
بينهن المرأة على عمتها أو خالتها. وأقول: هذه الآية قد دندن حولها الخوارج
وأطالوا بما لا طائل تحته، وقد خالفوا إجماع مَن تقدَّم عليهم علمًا وفضلاً، ً
وخالفوا نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد حذر
منهم وذمهم وقال: إنهم يمرقون من الدين، استدلوا بعموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم
مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء: 24) وهو غير مراد على إطلاقه لوجود نصوص
القرآن بتحريم محرمات لم تذكر في هذه الآية؛ كالمشركة وزواج الأَمة لمن يقدر
على زواج الحرة والزانية، والملاعنة، والمطلقة ثلاثًا حتى تنكح زوجًا غيره،
والعقد بالربيبة قبل أن يطلق أمها ويدخل بها على خلاف في ذلك بين العلماء، كما
اختلفوا في المشار إليه في قوله: {مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء: 24) وقد اختلفت
طرق أهل العلم في الرد عليهم، ونحن إذا ناقشناهم الحساب قلنا لهم: إن الله ذكر
ما ذكر من المحرمات منبهًا بها على ما لم يذكره مما اتحدت فيه علة التحريم،
وليس المراد الحصر بالعدِّ ولا إقامته مقام الرسم والحد؛ وبناء على ذلك نقول: إن
الله لم يذكر الجدات، ولا بنات الأولاد، ولا أم المرضعة، ولا بنات الأخت والأخ
من الرضاعة، ولا سائر من يحرمن من الرضاعة، فكما أنه لم يصرح بذكر مَن
ذكرناهن وهن محرمات غير داخلات في قوله: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء:
24) فكذلك تحريم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها من كل امرأة، لو
فرضت ذكرًا حرمت على الأخرى - لا يحل أن تنكح عليها - فقوله: {وَأَن
تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} (النساء: 23) لا يأبى دخول الجمع بين إحداهما وبنت
أختها وأخيها في المنع والنهي، بل دخولهما ظاهر لأهل العلم بالقرآن، لا سيما وقد
دل الحديث الصحيح أو المتواتر عند بعضهم على ذلك.
ولو سلمنا بالمعارضة فهي ليست لنص الآية. وإنما هي بين عمومها أو
استمرار الحكم وتأبيده وهو ظني كما تقدم، والحديث أقل حالاته أن يكون أرجح،
وإذا وقعت المعارضة فالجمع بين الدليلين هو الواجب إذا أمكن، وإلا لزم إهمال
أحدهما بلا موجب، وهو لا يجوز. هذا على قول مَن يقول إن الأحاديث الصحاح
إنما تفيد الظن، أما على ما اعتمدناه من أنها قد تفيدنا العلم، فالأمر واضح ظاهر
ولا قباحة فيه.
قال الفاضل حفظه الله: أوجبوا القتل مطلقًا على من ارتد عن الإسلام
للحديث، والقرآن يقول:] لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [ {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ
فَلْيَكْفُرْ (الكهف: 29) } (البقرة: 256) وأقول: قوله أوجبوا القتل مطلقًا
ليس بصحيح على إطلاقه، بل لو منع الإمام عن قتل المرتد لمصلحة؛ كمهادنة
ومعاهدة ومأمنة بشروط ألجئ إليها، لا يجوز قتله، فقتل المرتد قد يختلف حكمه
باختلاف الحالات، وهذا الاختلاف الذي قد يرى أنه تسهيل في بعض الأوقات
والأحوال، إنما يستفاد من الأحاديث والسنن لا من القرآن , ومن تفكر فيما اشتمل
عليه صلح الحديبية من الأحكام عرف ذلك، فلنكتف بالإشارة إليه.
أما ما ذكره حضرة الفاضل فهو ليس في حكم المرتد، وإنما الآية الأولى في
شأن الكفار من أهل الكتاب، هل يجبرون على الإسلام أم لا؟ وأما الآية الثانية
فليس فيها تجويز الكفر لهم، ولا حكم الإكراه لهم منا، بل هو مسكوت عنه كله،
إنما هو في الكافر الأصلي؛ فالإيراد ليس في محله.
ونحن نسأل حضرة الفاضل: هل يقول بإقامة الحدود والتعزيزات على فعل
بعض الواجبات والفرائض الذي أجمع عليه المسلمون، ودل عليه الكتاب والسنة
كما قال تعالى: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (التوبة: 5) إلى غير ذلك مما يدل على أن المسلم يجبر على التدين والخضوع
لأحكام الدين. أم هو يقول بعدم جواز إقامة الحدود ونحوها. فإن قال بالأول وهو
ظننا به، فقد وافقنا ونقض اعتراضه بنفسه، وإلا كان مخالفًا وواقعًا في أقبح مما
ظن، وزعم أنَّ غيره واقع فيه.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: ليته بين المعارضة بالشواهد كما تعودنا من إسهابه (رحمه الله) .(12/441)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الانقلاب العثماني الميمون
ورأي صاحب جريدة وطن الهندية فيه وفي عبد الحميد خان
أرسل إلينا صديقنا الغيور مولوي محمد إنشاء الله صاحب جريدة (وطن)
الهندية ما يأتي، فننشره مع تصحيح قليل لبعض الألفاظ من جهة اللغة والنحو ونجيبه عنه وهو:
حضرة الصديق الفاضل:
استلمت كتابكم الخصوصي مع العدد الرابع من مجلة المنار، وشكرت
فضلكم وقد وصلني في نفس ذلك البريد أعداد من جريدة اللواء أيضًا خلاف المعهود
وقد نشرت هذه الجريدة كتابي في أحد أعدادها، وردَّت عليه في العدد الآخر
حسب ما رأت، فأشكره على لطفه أيضًا.
وجنابكم تعلمون أني أظن حضرتكم محبًّا مخلصًا للإسلام والمسلمين؛ فلذلك
أكلفكم في بعض الأحيان تكليفًا ما، وأطالع مقالاتكم وكل ما تسطرون في أمر
الإسلام والمسلمين بمزيد العناية والتبجيل؛ بل وأسعى في إشاعته جهد طاقتي
وحسب استطاعتي؛ ليستفيد العالم الإسلامي الهندي من آرائكم الحكيمة، وكذلك لا
أشك في كون حضرة علي فهمي كامل بك أيضًا محبًّا غيورًا للملة والوطن. ولكن
اعذروني يا سيدي بأني لا أرى بدًّا من أن أقول لكم كلمة صادقة؛ وهي أنني كنت
دائمًا لا أرى رأيكم صحيحًا في أمر السلطان المخلوع، وإن ما كتبتم في العدد
الأخير من مجلة المنار فقد قرأته بكمال الأسف والحيرة، وليكن في علم حضرتكم
أني لا أظن عبد الحميد ملكًا معصومًا؛ بل أرى فيه من حيث هو إنسان من
التقصيرات ومواقع الضعف البشري ما يجب أن يؤخذ عليها، ولا يخفى عليكم
وعلى الذين طالعوا كتابنا تاريخ مشروع السكة الحجازية، بأنني أول مَن كتب
بالصراحة التامة في ذم عمال عبد الحميد وعدم كفايتهم؛ حين لم تكن في استطاعة
أي جريدة من جرائد مصر وسوريا أن تكتب في هذا الباب بمثل تلك الصراحة؛
لأني كتبت ذلك في شهر يناير سنة 1908، وأظنكم غير ناسين مجريات مشروع
السكة الحجازية، فإنه لما شاع اقتراحي هذا أول مرة خالفه السلطان عبد الحميد أشد
الخلاف، وكتبت جريدته الرسمية (المعلومات) : أن هذا المشروع يكون أشد ضررًا
للدولة العلية، ولكن يغفر الله للمشيرين المرحومين شاكر باشا وعثمان باشا غازي؛
فإنهما بعد أن تأثرا من مكتوباتي المتوالية أيّدا المشروع حق تأييده، وكانت نتيجته
ما كان.
إن حضرتكم وحضرة محرر جريدة اللواء تقولان: إن مخلصكم هذا (محرر
جريدة وطن) ومسلمي الهند لا يعلمون من الحالات الأصلية للدولة شيئًا، فأقول
بكل الأدب: إن قياسكما هذا ليس بصحيح، فإن سوء إدارة ولاية الحجاز والحالة
السقيمة التي كانت لاحقة للجيش العثماني المرابط في الولايات البعيدة، والمظالم
التي كانت تجلبها يد الجاسوسية على البلاد والعباد، كانت حديث كل ناد من أندية
القوم في الهند والسند وأفغانستان، ولم يكن الفرق غير أننا خبيرين بذلك، والعثمانيون
هم واقعون تحت نير هذا الاستبداد عملاً يذوق بعضهم من طعمها المر
ويتأوه من شدائد هذه المظالم والآلام، وتعلمون حضرتكم حق العلم أن مسلمي الهند
لم يكونوا بوجه ما منعمًا عليهم من السلطان المخلوع، ولا مرهونين بهمة من الأمة
التركية. إن الأتراك أو الخليفة لم تُعْطِ ولا درهمًا واحدًا في إعانة مسلمي الهند حين
ما ابتلوا ببلاء أو انتابتهم نائبة، مع أن مسلمي الهند لم يقصروا قط في مدِّ يد
الإعانة للعثمانيين، حتى إن محرر جريدة وطن غير كونه مقترحًا لمشروع السكة
الحجازية والبغدادية، جمع لها من أموال الإعانة زهاء مليون قرش، وأرسلها إلى
اللجنة العليا في الآستانة، ولم تستطع جريدة من جرائد العالم الإسلامي أن ترسل
مثل هذا المال لإعانة ذلك المشروع العظيم من الاكتتاب العام، وكذلك أرسلت في
إعانة منكوبي جزيرة أقريطش آلافًا من الروبيات - احتسابًا وخالصًا لوجه الله - ما
أردت أن أمن بها على أحد، ولما تشفع لي دولتلو ذهني باشا في حضرة السلطان
بعطاء امتياز منذ سنتين، وصدرت الإرادة بإعطائي الوسام العثماني من الدرجة
الرابعة، كتبت إلى حضرة الباشا المشار إليه؛ إنني لم أر من المناسب أن أرد
عطاءكم، مع أنني لا أحسبه شيئًا بمقابلة الأجر الذي يحصل لي من الله الكريم؛
لأن تلك الصلة الدنيوية لا يمكن أن تفيدني فائدة ما، ولا يفوتكم أن هذا الامتياز لم
يكن ليعتد به؛ لأن الذين زاروا الآستانة العلية من الأجانب من أي صنف وطبقة
كانوا تَحَصَّلوا على امتيازات أجلَّ وأفضل من ذلك الامتياز، وغير ذلك فإني لم أكن
أخدم هذا المشروع رغبة في صلة.
يظنون بأن السلطان عبد الحميد هو الباني والمحرك لفكرة اتحاد الإسلام.
ولكني أعلم حق العلم أنه لم يَسْعَ قط لإشاعة هذه الفكرة في مسلمي الهند ولا أحد من
أعوانه، ولو كان كذلك، لكان لا بد أن أكون أول من يعلم به، وكيف كان من
الممكن السعي في نشر أفكار اتحاد الإسلام بين مسلمي الهند؛ حينما لم يكن قنصل
الدولة العلية في ثغر بمبي عالمًا بأسماء الجرائد الإسلامية التي كانت مشغولة في
جمع الإعانات للسكة الحجازية أيضًا، وإني أعلم وأكثر مسلمي الهند مثلي في العلم:
بأن الوسائل الأصلية لترقية المملكة العثمانية لم توجد في عهد عبد الحميد إلى حد
يجب أن نفتخر به، حتى قلت بنفسي في تأليفي كتاب (تاريخ خاندان عثمانية)
الصادر في سنة 1897 ما مفهومه: (لعلي أرى بجنب الجامع الحميدي وحميدية
خسته خانه، وأمثال ذلك من المشروعات ترعة أو سكة حديدية أيضًا يفتخر بها
العصر الحميدي إلى الأبد. ولعلكم تتعجبون من سماع هذا الأمر: إن جريدتي
(وطن) كانت ممنوعة الدخول في الآستانة وبعض الممالك المحروسة كجريدة
(وطن) المصرية، وإن كانت جريدتي لا يكون فيها غير مدح عبد الحميد وتأييد
الخلافة العثمانية شيئاً، بل هي مخصوصة لذلك الأمر.
ولكن مع ذلك كله، أعتقد أنا وجميع مسلمي الهند بوثوق تام أن تركيا الفتاة
أو الأمة العثمانية قد ارتكبت خطأ جسيمًا في عزل عبد الحميد، بل كفرت نعمة الله
تعالى، وقد علمتم من صاحبزاده عبد القيوم عظيم الأفغان؛ أن الصدمة التي
أحَسَّ بها مسلمو أفغانستان والهند من عزل عبد الحميد، كيف كانت شديدة عليهم،
وكل يوم يرد عليَّ من الكتب من أقطار الهند ما لا أستطيع نشره في الجريدة، وفيها
ما فيها من إظهار التألم والتأثر في النفس، وأخاف لو نشرت أفكار المنار واللواء
في جريدتي أن تأتي غالبًا بما هو عكس المقصود، واسمحوا لي أن أقول لكم بكل
الأسف: إن ما كتبتم حضرتكم تعلقيًا على مقالتي أو في مكان آخر من مجلتكم هو
خارج عن حد الاعتدال يشف عن ميلكم إلى الاتحاديين؛ ولذلك ترموني وجميع
مسلمي الهند بالجهل بأحوال الدولة العلية، إن حضرتكم أو حزب تركيا الفتاة أو
الرجعيين من العثمانيين الذين يرومون عود عصر الاستبداد، كلكم من المناظرين
أو فريق من المتخاصمين، لا تستطيعون أن تبدوا أو تقيموا رأيًا صحيحًا. وأما
نحن معاشر المسلمين في الهند ففي وسعنا أن نقيم الرأي الصحيح؛ لأننا لسنا من
فريق، ولا واسطة لنا بهم غير الأخوة الإسلامية والتعلق الأدبي الذي هو روح
الإسلام، وإنكم مثل الجندي الذي يكافح ويناطح الأعداء في ميدان القتال، لا يرى
غير ما يكون حواليه، ولا يكون همه إلا قتل مبارزيه. ونحن كالمتفرجين من بعيد،
نرى كل ما يجري بين الفريقين المتحاربين، وإنكم من الذين آذاهم العصر
الحميدي حتى اضطروا لترك الأهل والوطن، فلا بد أنكم تسرون بزوال السبب
الذي جر عليكم هذه البلاد، وإن يكن هو السبب البعيد والقريب غيره، وإلا فلم
يكن يليق بحضرتكم أن تصوبوا سهام آيات الإنذار من القرآن الكريم إلى عبد
الحميد الذي لم يبق له (شيء من) الحول ولا الطول، وهو الآن تحت رحمة
أعدائه الذين لا تُشفى غلتهم إلا بشرب دمه.
إن ما فعلوا بعبد الحميد هو ليس غير عزله من سرير السلطنة. ولكن ترون
مئات من الملوك والخلفاء والقواد العظام الذين دالت دولتهم، قد صار مصيرهم
أسوأ من عبد الحميد: إيش مضى على نابليون؟ وما جرى على مدحت باشا؟ قد
قتل السلطان عبد العزيز وعزل السلطان مراد. بل الفاروق (رضي الله عنه)
وذو النورين (رضي الله عنه) والإمام علي (رضي الله عنه) ، كلهم فازوا
بالشهادة وإن لم ينزلوا من دست الخلافة، وأراد القاتل اغتيال معاوية (رضي
الله عنه) وقتل الحسين (رضي الله عنه) مع رفقائه رضوان الله عليهم في أشد
المصيبة، ولقد نجد التاريخ مملؤًا من أمثال هذه الحوادث الجسام، فما لنا أن نخص
مفهوم الآيات القرآنية بعبد الحميد وحده، بل يجب علينا أن نحترز من مثل ذلك
الخطأ.
واعلموا أن ظنكم وظن جريدة اللواء؛ بأن الإنكليزفي الهند يسعون في إلقاء
بذور الشقاق بين مسلمي تلك الأقطار والعثمانيين؛ للقضاء على الاتحاد الإسلامي
والخلافة، فأقول لكم بكل الاحترام: إن ظنكم هذا ليس في محله بل أسأتم حيث
ظننتم هذا؛ لأن الأمة الإنكليزية أمة حرة عادلة عاقلة، لا تتداخل أبدًا في مثل تلك
الأمور.
إن مسلمي الهند كانوا يجلون عبد الحميد؛ لكونه سلطان المملكة العثمانية
وأحبوه؛ لأنه في رأيهم كان حافظ هذه السلطنة من المخاطرات الجسيمة لا غير.
فكان تبجيلهم له ومحبتهم منه لأجل خدماته الجليلة التي خدم بها السلطنة والخلافة
الإسلامية، وإن كان عطل الحكومة الدستورية السابقة فلأنه يحسبها مضرة أشد
الضرر في حق الدولة والملة.
إن المسلمين الهنديين يعلمون بأنه ليس من أحد في هذه الدنيا غير فان وباق
غير الله الواحد القهار، إن الحجز على بسمارك ما صار سببًا لخراب ألمانيا،
وعزل عمر بن الخطاب خالدًا - رضي الله عنه - عن القيادة العامة لجند
المجاهدين؛ لئلا يحسبه المسلمون سببًا للفتوحات، ويتركوا الاتكال على الله
تعالى وعلى شجاعتهم، وقد هلك آلاف من الصحابة الكرام بطاعون عمواس
وفازوا بالشهادة في ميدان القتال، ومع ذلك لم تقطع سلسلة الفتح الإسلامي،
كذلك عبد الحميد أيضًا لم يكن ليعمر إلى الأبد إن كان يموت فكان لا بد من مشي
الأمور كما كانت تمشي قبل أيامه وفي عصره. ولكن مع كل هذه المُسلِّمات
لن نتصور نحن المسلمين الهنديين عزله طاعة كبرى للدولة؛ لأن في آرائنا أن
الدولة العلية فقدت بهذا الأمر إحدى يديها وعينيها، وصارت ذات يد واحدة وعين
واحدة فقط بعد أن كانت ذات يدين وعنينين.
نحن نقول: إن عبد الحميد لما أخذ كل أمور المملكة في قبضة يده قد أحسن
نظرًا إلى الحالة الطارئة على البلاد في تلك الأيام؛ لأنه لو كان القوم كلهم أو جزء
قويٌّ من أجزائهم يرى مثل رأي مدحت باشا، لكان من المحال سقوط ذاك الرجل
المصلح، ولا يذهب من خاطركم ما فعله القواد العثمانيون العظام في حرب الروسية
الأخيرة من أخذ الرشوة، وكيف كان حال العمال في ذلك العهد، فكان كل تبعة
الجور والاستبداد على الوزراء والولاة.
هذا هو حلمي باشا الصدر الأعظم الحالي لما كان واليًا في اليمن، أي شيء
فعل في تلك البلاد التعسة؟ لذلك رأى السلطان عبد الحميد أن العافية في أن يأخذ
كل أمور المملكة في يده، ويقبض عليها بيد من حديد، ومن الظاهر أن ترقية القوم
الذين قد خيم الإدبار بجرانهم، لا يكون ممكنًا إلا بالحكم المطلق.
كان حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطلقًا، وكان حكم الصديق
(رضي الله عنه) والفاروق (رضي الله عنه) أيضًا كذلك.
لا ننكر أن اجتماع الاختيارات في يد رجل واحد أعني عبد الحميد، قد صار
في آخر الأمر موجبًا للخراب أيضًا؛ لأن الرجل الواحد لا يستطيع أبدًا أن يحكم
على بلاد واسعة الأرجاء مترامية الأطراف، وقد اندكت قواه بكثرة الأشغال فظهر
عليه ضعف الكهولة والشيخوخة، حتى صارت أكثر الأمور في يد رجال المابين،
وهم يبرمون كما يشاؤون. ولكن نية عبد الحميد لم تكن سيئة قط؛ لذلك لما رأى أن
جزءًا كبيرًا من القوم صار أهلاً للحكم الدستوري، أعاده عليه وأعطاه حقه،
والظاهر أن هيئة الإدارة التي تشكلت في سنة 1908 هي من أحسن ما يكون.
ولا يسعكم إنكار أن المتعلمين المتنورين الآن في بلاد العثمانية قليلون جدًّا،
والجزء الأعظم من تركية آسيا مملوءٌ من المسلمين الذين يميلون إلى بقاء القديم
على قِدمه أكثر من الذين يرون الدستور حياة البلاد ومخلص العباد من شرك الظلم
والفساد، ومحبو القديم هم يقدرون اقتدار جلالة السلطان حق قدره، ولا يبغون أن
يكون السلطان مسلوب الاختيار، فإن بقاء السلطان عبد الحميد على سرير الملك،
وقيام مجلس (المبعوثان) على العمل بإصلاح الحكومة والبلاد هما الأمران اللذان
كانا يبعثان الطمأنينة في نفوس الفريقين، وبهذه الطريقة كان من الممكن أن يأخذ
الدستور مجراه الطبيعي على سبيل التدريج والترقي، ولا تقع السلطنة في أخطار
الحرب الأهلية والفتن الداخلية. ومن الجانب الآخر لا يكون بوسع الأعداء
الخارجية أن يتلاعبوا مع الدولة العلية؛ لخوفهم من سياسة عبد الحميد ودهائه
المشهور والمعلوم. ولكن الانقلاب الأخير (المشأوم) قد فتح الدور الجديد قبل
أوانه، وزلزلت أركان حالة البلاد زلزالاً شديدًا.
إن محمود شوكت باشا قد يستطيع أن يعدم كل جهال الآستانة وصوفتائها.
ولكنه لا يستطيع أبدًا أن يمحو من الوجود الملايين من المسلمين القاطنين في بلاد
العراق وكردستان وجزيرة العرب والأناضول وغيرها الذين هم من محبي الحالة
القديمة والحكم المطلق، لا شك في أنهم ساكتون وصامتون الآن، وسيسكتون
إلى بقاء الإدارة العرفية والسيادة العسكرية، ولكن متى وجدوا انفراجًا من هذا
الضغط ولو قليلاً، فلا بد من انفجار المادة المشتعلة الكامنة الآن تحت هذا الضغط
الشديد (لا قدر الله) .
إنكم تقولون: إن الخليفة والسلطان هو موجود وجالس على عرش السلطنة.
ولكن حجتكم هذه غير نافعة؛ لأن جلالة السلطان محمد الخامس هو كآلة صماء في
يد فريق ليس له وجاهة خصوصية وقوة ذاتية. ونقول بعبارة أخرى: إن يدًا وعينًا
واحدة من يدي وعيني الدولة تعملان الآن، واليد والعين الأخريين معطلتان، بل
تريد اليد العاملة والعين المستعملة في ذلك الوقت قطع اليد الأخرى وقلع العين
الثانية من جسم الدولة، وصلاح الدولة منوط باتحادهما في العمل؛ أعني: كان من
الواجب أن يكون الفريقان من أنصار عهد القديم والدور الجديد متحدين في ترقية
شأن الدولة وصلاح المملكة مثل اليدين والعينين، ويكون الصدر أو الرأس عبد
الحميد، فيعملان حسب إشارته وينجحان في أعمالهما.
إنكم تقولون: إن الحركة الجديدة في الدولة العثمانية هي: عين التوحيد
والإسلام. ولكن التاريخ يقضي بخلاف ذلك. إن الفتيان من الأتراك (تركيا الفتاة)
يتبعون أثر أقدام فرنسا؛ التي أسقطت الملك أولاً والعلماء الروحانيين ثانيًا،
وقطعت علاقة العبد بالله تعالى أخيرًا، فصاروا بذلك من الماديين الدهريين. إن
صبغة تعاليم الإسلام لتجدون في إنكلترا ألبتة (كذا) ولعل تركيا الفتاة إن لم يكن
بوسعها أن تتقلد الخلفاء الراشدين، فكان اللازم عليها قراءة تاريخ إنكلترا، لا ريب
أنه قبل قرون من هذا العهد، قد فعل كرامول في إنكلترا كما فعل شوكت الآن في
الآستانة، ولكن أيش صارت نتيجة ذلك الفعل القبيح غير إراقة الدماء أعوامًا متواليةً،
وأخيرًا قد حلت الملكية محلها، وثبت أن محوها محال.
تقولون: إن عبد الحميد كان منبع جميع الشرور والمظالم. ولكن ما تقولون
في أمر تركيا الفتاة والمشير شوكت باشا، فإنهم أنفسهم من الذين رباهم العهد
الحميدي الزاهر، هل تسبونه على تهيئة مثل تلك النابتة النابغة؟
نقلتم أقوالاً للغازي مختار باشا في ذم عبد الحميد، وكأنكم ليس لكم علم بأن
عبد الحميد كان واقفًا من مدة على سوء نية الرجل وأمياله العدائية نحوه. ولكن لم
يتعرض قط لشأنه بل كان ينعم عليه ويكرمه، كما كان يسعى في جلب الفتيان
الثائرين عليه من أوربا بالشفقة الأبوية والعفو السلطاني، أليس هذا سماحًا وكرمًا
منه لا يوجد له نظير الآن.
إن جمعية الاتحاد والقائد شوكت باشا يستطيع أن يأسر عبد الحميد ورجال
الدور السابق، ويعدم من يشاء من معانديه، أفلم يكن يستطيع عبد الحميد أن يذلل
المختار في زمان اقتداره؟ ولكن التاريخ يشهد له بأجلى بيان؛ أنه لم ينتقم من أحد
لنفسه قط، بل كان يشدد ويلقي القبض على الذين يعدُّهم أعداء الدولة والملة. إن
مراد بك وغيرهم من رفقائه يساقون الآن إلى السجن المؤبد أو المشانق، ومن الذي
لا يعلم أنهم كانوا من أشد أعداء عبد الحميد، فعفا عنهم وطلبهم إلى الآستانة وأنعم
عليهم، وعلى كل حال إن المسلمين الهنديين متألمون ومتأسفون جدًّا من جراء هذا
الانقلاب؛ لظنهم أنه يضر بالدولة والملة العثمانية ضررًا بليغًا. ولكنهم إذا وجدوه
مفيدًا بحقها، وثبت لهم ذلك من كر الليالي والأيام فلا بد من أن ينعم به بالهم، وتقر
به أعينهم، ويقولون (الخير فيما وقع) وإلا فقد أفتى العالم الخارجي كله بأن (لا
خير فيما وقع) .
إنكم تنسبون تألم المسلمين الهنديين إلى دسائس الأجانب، وأكثر العقلاء يرون
أن تركيا الفتاة مغرورة من جهة الأغيار في ارتكاب ذلك الخطأ الجسيم.
إن عبد الحميد لم يكن قط بانيًا لتحريك اتحاد الإسلام. ولكن قد وجدت هذه
بالحركة في عصره بين المسلمين بناموس الارتقاء البشري، وأيقنت أوربا مثل يقينه
بعدم تناهي كنوز يلدز، وإن الثلاثمائة مليون من المسلمين كلهم في قبضة عبد
الحميد، وكان ذلك اليقين كظن ثروة عبد الحميد الغير متناهية (بزعمها) مباركًا
في حق الدولة، والأسف كل الأسف على ضياع هذا الاعتقاد بعزل عبد الحميد
وتحريات ثروته! ! !
إن اتهام عبد الحميد بالجبن كالبصق على السماء، ينزل على وجه الرجل
نفسه، لقد قال له الوزراء حين قدوم جنود الروسية في سان استفانوس أنْ يهرب
إلى بروصه. لكنه لم يتزعزع من مكانه ولم يرض بترك دار الخلافة، ولما طلب
الروس الأسطول، قال عبد الحميد: إنني أركب في السفائن وأدمرهم بيدي وأغرق
معها. ولكن لا أقبل أن أسلمها للعدو أبدًا. هل يمكن طمس الحقيقة التاريخية التي
تظهر بذكر ثبات عبد الحميد وقوة جأشه عند وقوع الزلزلة في القصر، وفرقعة
الديناميت على بضعة أقدام من مركبته، حيث لم يكترث ذلك الطود العظيم بهذه
الحوادث أبداً! ! ! وأكبر من ذلك أن يتهمه فاضل مثلكم بعقر الخمور (أستغفر الله)
لأن وجود الخمر في قصره من لوازم ضيافات الأورباويين الذين كثيرًا ما كانوا
يدعون كل يوم على مائدته؛ ولأجل ذلك لم يكن يشترك عبد الحميد قط في الطعام
معهم. وتقول جريدة اللواء: (إن أنصار العهد القديم والرجعيين يمدون الجرائد
الخارجية بالمال ويأخذونها وسيلة لنشر أفكارهم) يمكن أن يكون في مصر جريدة
ما مثل ما قالته - ولكن لا يوجد في الهند عثماني واحد يحض جرائدها ببذل المال
على تنقيص تركيا الفتاة والحكومة الدستورية، ومع ذلك فرصيفتنا اللواء تقول
كذلك، وتظهر خطأها القياسي كالواقعة الحقيقية، فيمكن لنا أن نستدل ببقية بياناتها
بأنها قياسات لا أصل لها.
إن جريدة المقطم وغيرها من الجرائد التركية قد تجاوزا حد الآداب في ذم عبد
الحميد، لم تكن تفعل واحدة منهم هكذا في عصره، ومن العجب أن أكثر جرائد
العرب والشام وغيرها ينقلون مقالات المقطم في أشهر صحفهن، وهن يعلمن أن
آراء هذه الجرائد كانت دائمًا مخالفة للحقوق التركية والمصرية في معاملة مصر؛
وفرحها وسرورها بعزل عبد الحميد يكشف الغطاء عن نيتها، ويظهر لنا جليًّا أنها
ترى هذا العزل حسب مرادها.
إن كان عبد الحميد ليس له عون ولا نصير، فلمَ يعدمون الآلآف المؤلفة من
النفوس في الآستانة وسائر الجهات؟ لاشك في أنه فضل حقن الدماء، ولم يرض
أن يكون مثل شاه العجم. إنه كان محبًا للملة، وخادمًا مخلصًا للوطن لا طالب الجاه،
وكان يحب الحياة لكن لا للتنعم والالتذاذ بنعمات الدنيا الفانية، بل لخدمة الوطن
والملة وظنه أن حياته رحمة إلهية لصالح العباد والبلاد.
إن خير ما كتب في ذلك الشأن هو قول رصيفتنا اللواء: (إن عزل عبد الحميد
عن عرش الخلافة ليس قتله بل إحياءه؛ لأنه خلص من متاعب الحكومة) ولكن
أقول: إن عزله وإن يكن في حقه إحياء فلا يكون في حق الدولة إلا موتاً ونكالاً،
لا يوجد رجل في جميع المملكة محنكاً مثله بل وأقل منه أيضاً في السياسة الخارجية؛
لذلك أرى من الواجب على الأمة أن تكرم مقامه، وتستشيره في الأمور المتعلقة
بالسياسة الخارجية، ويكون العمل منوطاً بالأكثرية لا على إشارته.
ولقد طال المقال رغم إرادتي الاختصار؛ لذلك أختم رسالتي بتقديمي فائق
الاحترام لحضرتكم، وأرجو منكم نشرها كما ترون مناسبًا والرد عليها سالكين
مسلك الإنصاف والحق وترك المجادلة بالباطل، والسلام.
وقد أرسلت نقولاً من ذلك إلى بعض جرائد أخرى أيضًا؛ عسى أن يتكرموا
بنشره.
في 12 يونيو سنة 1909.
... ... ... ... ... ... ... كاتبه المخلص محمد إنشاء الله
... ... ... ... ... ... ... محرر ومدير جريدة (وطن)
... ... ... ... ... ... ... ... لاهور (بنجاب) الهند
(جواب المنار)
مقدمات ومسائل حول المقصد
(1) كان لنا ألا ننشر رسالة صديقنا هذه؛ لأنه لم ينشر مقالتنا في الرد
على رسالته الأولى؛ لأن الفائدة في نشر أمثال هذه المناظرات في الصحف هي
بيان جميع ما يجب بيانه لقرائها في المسائل المتناظَر فيها؛ لأجل أن يكون حكم
أولئك القراء صحيحًا لبنائه على العلم بالمقدمات التي يبنى عليها الحكم. ولكن
صديقنا خشي من نشر ردنا عليه؛ أن يأتي بضد ما يراد منه كما قال، فكأن قراء
جريدته لا يرضون منها إلا أن تكتب لهم ما يوافق ميلهم وهو يوافقهم على ذلك،
وهي خطة فيها من النقد ما لا محل لشرحه هنا.
أما نحن فإننا ننشر ما هو مخالف لرأينا ولمشرب جمهور قراء المنار؛ لأنه
إن كان حقًّا قبلناه، وإن كان باطلاً دحضناه، وفي اعتقادنا أن الحق يدمغ الباطل
فإذا هو زاهق.
(2) لا نسلِّم لرصيفنا وصديقنا المناظر لنا ما يدعيه من أن رأيه في عبد
الحميد والدولة هو رأي جميع مسلمي الهند، فإنه يتعذر عليه أن يعرف آراء أولئك
الملايين، وهو لا يعرف أكثرهم ولا هم يعرفونه. وإنما قصارى ما يمكن أن يظن
هو؛ أن جمهور قراء جريدته موافقون له في رأيه وميله، وما هم إلا عدد قليل في
أولئك الملايين. وقد اعتاد مثل هذه الدعوى بعض الجرائد المصرية وما زلنا
ننكرها عليها، وإننا نرى بعض جرائد إخواننا مسلمي الهند تنشر من الرأي ضد ما
ينشر صاحب (وطن) ، بل ترد عليه فيما يكتبه كجريدة (وكيل) التي تصدر في
(أمرتسر) ، وبلغنا عن مسلمي عليكره أنهم مسرورون راضون عن هذا الانقلاب
العثماني، وناهيك بمن هنالك، إنهم أنور مسلمي الهند عقولاً، وأرجاهم لخدمة
العلم والملة.
(3) إن صديقنا المناظر احتج برأي عبد القيوم عظيم الأفغان، وإن هذا
الرجل العاقل المنصف لم يفارقنا إلا وهو مقتنع بأن تشاؤم الكثيرين من مسلمي الهند
والأفغان وخوفهم من عاقبة هذا الانقلاب؛ إنما سببه الجهل بالحقائق، وإن لبعض
الجرائد تأثيراً سيئًا في ذلك، وإنه يجب السعي في إزالة هذا الجهل، حتى إنه
اقترح إرسال وفد تركي يجوب البلاد الهندية والأفغانية؛ لإزالة سوء الفهم والجهل
بالحقيقة. وقد كان هذا من المعقول في أول العهد بالانقلاب. أَمَا وقد طال العهد
ونشرت الحقائق في الجرائد، فقد رأينا المنصفين من إخواننا مسلمي الهند مقتنعين
بما ظهر لهم من الحق؛ ولذلك كان إصرار صديقنا صاحب جريدة (وطن) على
ما كان عليه غريبًا عندنا يصعب تأويله.
(4) قرأنا رسالته هذه قبل نشرها على بعض أهل الرأي والاستقلال من
مسلمين وغير مسلمين فعجبوا واستغربوا، وقالوا ما نذكره مع إنكاره على إطلاقه
وإجلال صديقنا وتبرئته من سوء النية: إنه لا يعقل أن تكون هذه كتابة عارف
مخلص.. وليس في هؤلاء من هو من جمعية الاتحاد والترقي، ولا من المنتصرين
لها، بل هم ممن يعرفون لها وينكرون عليها.
حقًّا إنه يصعب على العقل المجرد من الهوى؛ أن يتصور أن إنسانًا يعرف
حقيقة حال الدولة العثمانية وحقيقة ما فعله عبد الحميد من الأفاعيل الضارة بها
وبالأمة، ثم يكتب كلمة في مدحه والدفاع عنه، ويكون مخلصًا محبًّا للمصلحة
العامة؛ ولذلك بنينا ردنا السابق على قاعدة جهل جرائد مسلمي الهند بمفاسد عبد
الحميد ومضار حكمه؛ إذ لا وجه يتضح لاتهامهم بسوء النية وعدم الإخلاص.
ولكن صديقنا ومناظرنا ينكر ذلك في رسالته هذه، ويدعي أنه هو وغيره من
مسلمي الهند واقفون على جميع سيئات الحكم الحميدي، وإنهم أعلم بها وأقدر على
الحكم فيها من العثمانيين الذين ذاقوها وتقلبوا فيها. ويبني دفاعه عن عبد الحميد
ومدحه على ادعاء حسنات له لا دليل عليها، ولا يستطيع أن يزيد فيها على
الدعاوي والمدائح الشعرية، كما بينا ذلك في ردنا الأول عليه، وزاده بيانًا صديقنًا
رفيق بك العظم في مقالته التي نشرها في الجزء الماضي، ونزيده نحن بيانًا في
هذا الجزء.
(5) إن كتابة صديقنا لهذه الرسالة بعد اطلاعه على ما اطَّلع عليه من
كلامنا وكلام غيرنا في الانقلاب، لم نجد لها من تأويل مع ما نظن من إخلاصه إلا
أن جريانه على مدح عبد الحميد سنين طويلة، جعل حسن اعتقاده فيه أمرًا وجدانيًّا
كدين العجائز، لا يقبل بحثًا ولا استدلالاً يخالفه، أرجو منه العفو والسماح عن
إبداء رأيي هذا، فإننا لم نر وجهًا آخر نفهم معنى إصراره وتناقضه وتهافته فيما
يكتبه أولاً وآخرًا.
(6) إننا لا نعتقد صدق ما يظنه بعض الناس هنا من أن الإنكليز هم الذين
أحدثوا في الهند فكرة سوء الظن بالدولة العثمانية في طورها الدستوري، وإن كنا
نعتقد أنهم يحبون أن تنتشر هذه الفكرة؛ ليضعف تعلق المسلمين الديني بهذه الدولة
وأن كل من يبطل ثقة المسلمين بالدولة العلية في البلاد التي للإنكليز فيها نفوذ يكون
خادمًا لهم في الواقع، ونفس الأمر، وإن لم يكلفوه ذلك ويغروه به.
(7) إننا لا نعتقد أيضًا أن السلطان عبد الحميد هو الذي سعى في بث
نفوذ الدولة الديني في مسلمي الأقطار أو في دعوتهم إلى التآخي والاتحاد مع سائر
المسلمين. هو أقل وأصغر من ذلك، فمثله لا يسعى في عمل كبير كهذا. وإنني
موافق لصديقي المناظر في كون هذه الفكرة المنبثة في المسلمين من روح التعارف
والوحدة المعنوية ليست إلا أثرًا من آثار سنة الترقي في البشر. وقد كان شيخنا
الأستاذ الإمام يقول: إن الحرب الروسية العثمانية هي مبدأ هذه الحركة، والصوت
المحدث لهذه اليقظة الإسلامية العامة. وقد كان هو وشيخه السيد جمال الدين يكتبان
في أثناء تلك الحرب المقالات المنبهة والموقظة. وقد رَأَيَا قبل ذلك أن إنكلترا
حاربت الأفغان، فلم يكن أحد من المسلمين في مصر والآستانة وغيرهما يحفل بذلك.
(8) إنني لا أتعجب من منع جريدة (وطن) الهندية من دخول البلاد
العثمانية في عهد عبد الحميد، وإن كان لا يخشى أن ينتشر بدخولها من الأفكار ما لا
يحبه لجهل العثمانيين بلغتها، ولا مَنَعَ جريدة (وطن) المصرية - إن صح أنها
أرسلت ومنعت على كونها قبطية لا يطمع صاحبها بنشرها في غير مصر - لأن
العاقل إنما يعجب مما جاء على خلاف المعهود، ومثل هذا المنع هو المعهود في
أيام عبد الحميد؛ لأن سياسته كلها وما يتعلق منها بمنع الصحف والكتب خاصة
هي سياسة جنون، وهل يتعجب العاقل من المجنون إذا آذى من يحسن إليه؟ .
(9) إن ما ذكره من سيئات عبد الحميد يناقض من وجود ما ذكره في
الرسالة الماضية التي نشرناها في الجزء الرابع التي ادعى فيها أنه أصلح مالية
الدولة ورقى عسكريتها ومعارفها وعمَّر داخليتها، بل يناقض بعض ما جزم به في
رسالته هذه كما سيأتي.
(10) إننا بينا له خطأه فيما أطرى به عبد الحميد من الأعمال التي نسبها
إليه وكان يعمل ضدها، فلم يستطع أن ينفي شيئًا مما أثبتناه، وهو مع ذلك
يصر على إطرائه بعبارات شعرية، ودعوى ظَهَرَ بطلانُها لكل أحد كدعواه أنه منع
الدستور لاعتقاده أن الأمة لم تكن أهلاً له، ثم أهلها له ومنحها إياه.
(11) لا نسلّم له أنه أول من كتب بالصراحة في ذم عمال عبد الحميد،
فإن جرائد المشرق والمغرب قد فاضت بذم عماله وبذمه هو أيضًا قبل سنة 1908
التي كتب صديقنا فيها، ولم يشذ عنه ذلك إلا الجرائد التي كانت تحت سيطرة
ظلمه وجبروته أو المستأجرة بماله لمدحه، أو الجاهلة بحال الدولة العثمانية أو التي لا
يهمهما شأنها كبغض جرائد أمريكا وأسبانيا مثلاً، (وعسى أن لا يعود صاحبنا إلى
دعوى مثل هذه الأولية التي يسخر العقلاء من انتحال بعض الجرائد المصرية
مثلها) .
(12) إن ما ذكره عن جريدة (معلومات) غير صحيح، فهي لم تكن
جريدة رسمية، ولم يكتب ما كتب فيها عن مشروع سكة الحديد الذي كان اقترحه
الكاتب بأمر خفي أو ظاهر من السلطان عبد الحميد، وإنما ذاك رأي محررها في
ذلك الوقت وهو صديقنا السيد عبد الحميد أفندي الزهراوي الشهير، وهو الذي حدثنا
بذلك عن نفسه. وإنما ذكرنا هذا الأمر مع كونه ليس من موضوعنا الخاص
لغرضين: أحدهما: كونه مثالاً لعدم الثقة بمعلومات صديقنا صاحب (وطن) عن
الدولة العلية. وثانيهما: معارضته في قوله: إن خطأ اللواء في بعض ما ذكره عن
الهنود، يقتضي عدم الثقة بكل ما يكتبه.
(13) دعواه أننا نحن السياسيين والمؤرخين العثمانيين لا نستطيع أن نحكم
في قضية الانقلاب العثماني حكمًا صحيحًا؛ لأننا من قبيل الخصم يحكم كل لنفسه،
وأن مسلمي الهند هم الذين يستطيعون ذلك. هي دعوى غير مسلمة؛ لأن التشبيه
في غير محله، وإلا قلنا: إنه لا ثقة بما كتب مؤرخون فرنسا وساستها عن ثورتهم
وحكومتهم؛ ولأن إخواننا مسلمي الهند غير واقفين على حقائق الأحوال، فيكون
حكمهم فيها أجدر بالصحة.
(14) إننا نعتقد إخلاص مسلمي الهند في حبهم للدولة، ونعد صديقنا
ومناظرنا من أشدهم غيرة وإخلاصًا، بل نقول: إن خطأه جاء من شدة غيرته.
المقصد وفيه مسائل
(1) اعترف صاحبنا (بأن الوسائل الأصلية لترقية المملكة العثمانية لم
توجد في عهد عبد الحميد) ... إلخ، واعترف بأن أخذ أزمة المملكة بيده (صار
في آخر الأمر موجبًا للخراب) وهذا مناقض لرسالته الأولى بِرُمَّتِها ولبعض مسائل
رسالته هذه، كما أشرنا إلى ذلك في التمهيد والمقدمات.
(2) ادعى مع ذلك الاعتراف بأن عبد الحميد كان محسنًا في إبطال
الدستور الأول واستبداده بالحكم المطلق، واستدل على ذلك بدليلين: أحدهما
سوء حال الدولة وعدم استعدادها للحكم الدستوري؛ بدليل ما حصل مِن سقوط
مدحت باشا المصلح، ومِن أََخْذ القواد العثمانيين الرشوة في الحرب الروسية،
وسوء حال العمل في ذلك العهد، وعجز حلمي باشا عن إصلاح اليمن. وثانيهما:
كون حكم الإسلام هو الحكم المطلق.
نجيب عن دليله الأول من وجهين: أحدهما إنما يصح كونه محسنًا في ذلك لو
كان عدل في حكمه المطلق وأصلح، وهو لم يكن إلا ظلومًا مفسدًا زادت الرشوة في
زمنه أضعافًا مضاعفة. وثانيهما: أنه كان يمكنه أن ينفذ الدستور مع الرجال
المستعدين لذلك، الذين وضعوه كمدحت باشا وإخوانه كما فعل ميكادو اليابان
فيكون في أول الأمر دستورًا في الصورة وحكمًا بين المطلق والشورى في الحقيقة،
وبذلك يقوى استعداد الأمة بسرعة. هذا ما نقوله مؤخرًا في الدليل نفسه؛ لأننا لا
ننكر كون الأمة العثمانية لم تكن في عهد مدحت باشا مستعدة للدستور بنفسها؛ بل
صرحنا بذلك مرارًا في خطبنا ومقالاتنا المنشورة في المنار. أما الجزئيات التي أيد
بها ذلك فهي مجال للبحث، فإن عبد الحميد اغتال مدحت باشا بالحيلة الخفية بعد ما
نقله من ولاية إلى ولاية، والأمة لم تفطن لكيده. وإن حسين حلمي باشا عجز عن
إصلاح اليمن؛ لأن كل إصلاح مع استبداد عبد الحميد وخرقه كان محالاً، على أن
حلمي باشا كان حسن الإدارة في اليمن، لا ينكر أهلها ولا غيرهم ذلك.
ونجيب عن دليله الثاني بمنع زعمه أن حكومة الإسلام حكومة فردية مطلقة وقد
أساء جدًّا في قوله: إن حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحكم الصِّدّيق
والفاروق - رضي الله عنهما - كان حكمًا مطلقًا - بَرَّأهُمْ الله مما قال - وإنما ذلك
هو حكم الشورى الكامل، وحكم التقييد بالشرع في الظاهر والباطن، وقد بينا ذلك في
المنار غير مرة مؤيدًا ببراهين الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الأربعة. فليراجع
صاحبنا تفسير {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) من المجلد الحادي
عشر، ومباحث الحكومة الإسلامية في المجلد الرابع، وغيرهما من المجلدات،
وليستغفر الله تعالى مما قال.
(3) أذكر بعد زعمه أن حكومة الإسلام التي قام بها النبي - صلى الله عليه
وسلم - والخلفاء الراشدون كانت حكومة مطلقة، زعمه أنني قلت: إن الحركة الجديدة
في الدولة العلية هي عين التوحيد والإسلام، ورده ذلك بزعمه أن فتيان الترك
القائمين بهذه الحركة يتبعون خطوات فرنسا بإسقاط الملك فعلماء الدين، ثم بقطع
العلاقة بين الناس وربهم، واختيار مذهب الدهريين.
ونقول في جوابه: إن زعمه هذا من سوء الظن المتعلق بمنكوبات الصدور
ومخبآت الغيب للمستقبل. وإذا كان صاحبنا ومناظرنا لا يعرف حقيقة الدولة
الحاضرة وحال القائمين بها، فكيف يعرف ما خُبِّئ لها في الغيب؛ بل كيف يمكنه
أن يدعي الاستدلال بالحاضر على الغائب. إن الأحرار الذين بأيديهم حديث الحركة
هم النابغون من العثمانيين العرب: (كالقواد محمود باشا وهادي باشا وعلي رضا
باشا) ، والترك: (كأنور بك من الضباط وغيره) والألبان (كنيازي بك من
الضباط وغيره) ولم يعرف عن أحد منهم الكفر وانتحال مذهب الماديين. وكذلك
النابغون من المبعوثين والأعيان؛ لم يعرف عنهم ذلك إلا ما نقل عن رضا نور
مبعوث أدرنه من ذلك القول الذي اعتذر عنه، وهو لم ينقل على وجهه. ولم يعرف
عنهم أنهم يفضلون الحكومة الجمهورية على الملكية.
نعم.. إنني لا أنكر أنه يوجد في متفرنجي الترك - وكذا غيرهم من
العثمانيين - كثير من الملاحدة؛ لفساد التربية في البلاد والتعليم في مدارس الحكومة،
ولا يبعد أن يوجد منهم أفراد في مجلس (المبعوثان) وفي لجان جمعية الاتحاد
والترقي. ولكن يوجد في هؤلاء الملاحدة من هم أحرص على جعل الدولة إسلامية
من جميع المتنطعين في التدين؛ لأنهم يعرفون من فائدة ذلك ما لا يعرفه المتنطعون.
فالملحد الغالي الذي يخشى من غلوه على شكل الحكومة الإسلامي قليل. واختلاف
الآراء والأهواء في الحكومة طبيعي في كل أمة، فقد كان في عصر الإسلام الأول من
يَميل إلى جعْل الحكومة حكومة أشراف؛ كشيعة عليّ كرم الله وجهه، ومن قال منا
أمير ومنكم أمير، ومن يميل إلى الديمقراطية المعتدلة وهم الأكثر , ووجد في ذلك
العصر الخوارج وناهيك بمذاهبهم في الحكومة.
ونقول من وجه آخر: إذا كان ما ذكره عن فتيان الترك أو العثمانيين ونابتتهم
المتعلمة صحيحًا، وكانوا هم المعدين لإدارة المملكة بمقتضى طبيعة الحال. ألا
يكون من سوء إدارة عبد الحميد أنه لم يرب في ثلث قرن من يصلح لإدارة دولة
إسلامية كدولته؟
إن مناظرنا الصديق يحتج علينا تارة: بأن عبد الحميد رقّى التربية والتعليم
في الدولة حتى صارت أهلاً للدستور، فتكرم وتفضل بالإنعام عليها به مختارًا
مسرورًا، وتارة يحتج علينا بأن هؤلاء المتعلمين ملاحدة، لا ينتظر منهم إلا الإلحاد
والإفساد. وليت شعري! ماذا يفيد بقاء عبد الحميد في الملك مع التعليم والتربية
التي تنتج مثل هذه النتيجة؟ أكانت كل رغبة مناظرنا وغرامه من التمتع بالحكم
الإسلامي الحميدي هو أن يبقى لعبد الحميد استبداده إلى أن يموت على فراشه؟ أليس
ما ظهر من عدل الله فيه مما يزيد الذين آمنوا إيمانًا؟
أما ما أشار إليه الصديق المناظر من استحسان الاعتبار بحال الإنكليز،
والاقتباس من سيرتهم وتاريخهم، وكونهم أقرب إلى الحكومة الإسلامية الصحيحة
من غيرهم، فهو مقارب لرأي أخيه ومحبه، هذا وقد نبهت إلى هذا في خُطَبٍ
وأقوال كثيرة، وكتبته في المنار أيضًا في بعض المقالات ولعل الصديق رآه،
وسنعود إليه بالبيان الكافي إن شاء الله تعالى.
(4) يقول صديقنا: إن المشير أحمد مختار باشا الغازي سيئ النية وعدو
للسلطان عبد الحميد أي فلا يحتج بقوله فيه. ويقول لي: (كأنكم ليس لكم علم بأن
عبد الحميد؛ كان واقفًا من مدة على سوء نية الرجل وأمياله العدائية نحوه) .
وأقول: أولاً - كيف كان يعلم وهو في الهند من العلاقة بين مختار وعبد
الحميد ما لا أعلمه وأنا في مصر أسهر الليالي الطوال مع مختار باشا، ونتحدث في
أحوال الدولة بالحرية التامة، ويذكر لي كثيرًا من الأسرار؛ وهو يعلم أني أمين
عليها، ومنها رأيه في السلطان ورأي السلطان فيه. وثانيًا - لماذا يكون مثل أحمد
باشا سيء النية لعبد الحميد وشديد العداوة له، مع ما ذكر صديقنا المناظر من إنعامه
عليه وإكرامه له؟ هل يعقل أن يكون لذلك سبب إلا اعتقاد هذا المشير الذي بذل في
سبيل الدولة دمه غير مرة أن عبد الحميد جان عليها ومخرَّب لها، وهو الذنب
الذي لا يغفره عند هذا الرجل العظيم الإنعام، ولا الإكرام الشخصي. وثالثًا -
ليراجع صديقنا (ص 6و7) من منار هذه السنة، يجد فيها أن السلطان عبد الحميد
كان يتهم مختار باشا بأنه يساعد جريدتي المنار والقانون الأساسي؛ لأنهما أنشئتا
لمقاومته نفسه. ولو شئت لذكرت له كثيرًا من أمثال هذه الوقائع والحوادث
والمكاتبات الرسمية السرية؛ ليعلم أنني إذا قلت فيه إنه لا يعرف حقيقة ما كان عليه
عبد الحميد في دولته ورجالها، فإنما أقول عن علم واختبار لا يمكن لمثله أن يصل
إلى ذرة منهما؛ لأن قصارى ما يصل إليه نتف متعارضة في الجرائد.
وما قيل في أحمد مختار باشا يقال في محمود شوكت باشا وأمثاله من
المشيرين وقواد الجيش وغيرهم من العقلاء الذين لم يصب أشخاصهم شر عبد
الحميد وبغيه. فإذا كان مثلي في غيرته على الدولة والملة متهمًا عند الصديق
(سامحه الله) ؛ لأن بغي عبد الحميد وحكومته أصابنا في أنفسنا وأموالنا وأهلينا،
فبماذا يتهم هؤلاء؟ على أنه لو فكّر قليلاً لعدّ اضطهاد الحكومة الحميدية لمثلي من
أسباب التعديل، لا من أسباب الجرح؛ إذ لولا الصدق والإخلاص لسهل عليّ أن
أكون مطوقًا بذهب عبد الحميد دون سلاسل غضبه، ولا يعقل أن يكون بين أمثالنا
وبينه عداوات شخصية.
(5) نرى آخر ما استقر عليه رأي صديقنا؛ إنه كان يجب إبقاء عبد
الحميد على عرشه ومشاركة جماعة الدستور له واستعانتهم بتجاربه على إقامة
الحكومة الجديدة. ولكنهم لم يفعلوا ذلك؛ إيثارًا للانتقام منه.
ونقول: إن أكثر العقلاء من الأجانب والعثمانيين العارفين بالتاريخ يرون أنه
كان يجب قتله عند الانقلاب الأول وإراحة الأمة من شره، وإن جمعية الاتحاد
والترقي التي كانت تدير القوة غلّبت العفو والسماح والرحمة على الشدة والانتقام،
وظنت أنها تستطيع أن تنسخ سنة من سنن الاجتماع البشري، فتحدث انقلابًا في الحكم
غير ملطخ بالدم، وقد كنت أنا ممن حذر من التعدي على شخص السلطان، ودعا إلى
الاستفادة من تجاربه في الأمور الخارجية في أول مقالة كتبتها بعد إعلان الدستور.
ولكن أبى الله ذلك فأبى عبد الحميد أن يعيش مع حكومة الشورى والدستور:
(يرضى القتيل وليس يرضى القاتل) فأخذ يكيد لها كما كاد لسابقتها، فوقع في البئر
التي حفرها. أما آن لك أيها العاشق لعبد الحميد أن تعرف الحقيقة التي عرفتها
الأرض والسماء، ولم يبق منفذ للشك فيها.
(6) يقول: إن محبي الحكم المطلق من مسلمي العراق وكردستان وجزيرة
العرب والأناطول، سَيَهُبُّون إلى مقاومة الدستور بعد انقضاء مدة الأحكام العرفية.
يعنى أن مِن خَطَرِ الحكومة الدستورية على الدولة أنها مضادة لما عليه السواد
الأعظم من المسلمين، وستكون سببًا للثورات والفتن الداخلية.
ونقول: إن البلاد التي ذكرها إن كانت جديرة بعدم فهم منافع الدستور؛ لعموم
الجهل فيها كما بينا ذلك في الكلام على تفاوت البلاد العثمانية في الاستعداد والعلم،
فهي أيضًا لا تعشق الحكم المطلق تفضيلاً له على المقيد بحجة دينية أو عقلية،
وإنما يخشى من الفتن فيها؛ لأن الزعماء الذين كانوا يتحكمون فيها بالدماء
والأعراض والأموال؛ شعروا بأن أيديهم ستغل وسلطتهم ستزول، فهم لأجل هذا
أحبوا ويحبون مقاومة الحكومة الدستورية كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً. ولكن
الحكومة ستطهر البلاد من شرهم في مدة أقصر من المدة التي دنسها بهم عبد الحميد
إن شاء الله تعالى.
(7) يقول: إذا لم يكن لعبد الحميد أنصار محبون، فمن هؤلاء الذين
تشنقهم الحكومة العرفية كل يوم.
ونقول: إن أعوان عبد الحميد على تخريبهم المملكة لتعمير بيوتهم وإذلال أهلها
لأجل تنفجهم وتعاظمهم لا يعقل أن يكونوا غير محبين له وللتمتع بنعيم سلطته، فهم
كأولئك الزعماء الذين ذكرناهم في المسألة السادسة.
(8) أنني لا أقول شيئًا في طعنه بمولانا السلطان محمد الخامس إلا دعوته
إلى التوبة والاستغفار من هذه المعصية، فإن لم يُجب الآن، فإنه سيجيب بعد زمن
بعيد أو قريب يعلم فيه أن محمداً الخامس في بني عثمان كعمر بن عبد العزيز في بني
أمية، كما أن عبد الحميد شر من يزيد، فسلطاننا الآن ليس آلة في يد أحد، كما أن
الشرع والدستور ليسا آلة في يده يستعملها بهواه، كذلك المسلَّط بالبغي الذي أدال الله
لنا منه.
ومن التناقض أن يطلب صاحبنا الجمع بين الدستور واستبداد السلطان،
وأعجب من ذا أن يعد هذا من الإسلام.
(9) قال: إن المقطم تجاوز الحد في ذم عبد الحميد، وإن جرائد بيروت
تنقل عنه ... إلخ.
ونقول: إن المقطم كان دائمًا يطعن في عبد الحميد وحكمه. ولكن يتحامى
الطعن الشخصي الصريح الذي يخشى أن يعاقب عليه القانون المصري الذي يعد
السلطان سلطانًا له، وبعد سقوطه زال هذا المانع. أما كونه كان (مخالفًا للحقوق
التركية والمصرية) وسيئ النية، فنطلب من صديقنا المناظر الجمع بينه وبين ما
مدح هو به الإنكليز من العدل وحسن النية وإرادة الخير، فإنه لا يختلف اثنان في
كون المقطم كان ولا يزال مؤيدًا لسياسة الاحتلال؛ لأن مذهبه في حسن نية الإنكليز
كمذهب صاحبنا. وأما كون جرائد سورية لم تكن تذم عبد الحميد في عهده فهذا من
البديهيات التي لا حاجة إلى الكلام فيها. على أن أكثر هذه الجرائد السورية جديدة
حدثت بعد الدستور.
(10) قال: إنني اتهمت عبد الحميد بشرب الخمر واستغفَر هو الله من هذه
التهمة بالنيابة عني، وقال: إن وجود الخمر في قصره كان لأجل ضيوفه
الأوروبيين (الذين كثيرًا ما كانوا يُدعون كل يوم على المائدة) يريد أن يبرئ كل
من كان في القصر من الشرب.
وأقول لصديقي ومناظري الفاضل: إنني أعجب لقلبه الشريف الذي يملأه
الحب، حتى لا يدع فيه مجالاً لشيء يزاحمه، وأتمنى لو أفوز بدوام حبه وصداقته
ثم أؤكد له القول بأنني لم أستدل على شرب عبد الحميد للخمر بما نقلت الجرائد
من وجود طائفة من الخمور في يلدز كما فعل اللواء، فإنني أعلم منذ سنين أنه
يشرب الخمر، وإن أكثر من في يلدز كان يشربها بلا نكير، وأنها هناك من
المؤونة الضرورية؛ أعرف هذا من الثقات الذين أكلوا فيها وخالطوا أهلها. وكثيرًا
ما كان يذكر في البرقيات العمومية والجرائد شرب عبد الحميد للخمر في سياق
الكلام عن صحته ومرضه، ومنها أنه في أوائل العهد بالانقلاب كان يتغذى بالروم
المعتق.
(11) قال: إن عبد الحميد لم ينتقم لنفسه من مختار باشا وأمثاله من أحرار
الترك؛ لإيثاره الحلم والعفو.
وأقول: إنه لم يكن قادرًا على أن يعامل مختار باشا بأكثر مما عامله به،
وصديقنا لا يعرف من معاملته له شيئًا قط ولا حاجة إلى إعلامه به. وأما انتقامه
من الأحرار فلم يدخر فيه وسعًا؛ فقد قتل رئيسهم مدحت باشا وكثيرين غيره،
وسجن ونفى خلقًا كثيرًا. وعوالم المدنية كلها تعرف ذلك، حتى إن الإفرنج يلقبونه
بالسفاح وبالسلطان الأحمر. ولا أحب أن أناقشه فيما ذكره من مدح أخلاقه؛ فإنها
شعريات لا يؤبه لها، وما أحببت له ذلك التشبيه الذي ذكره عند الكلام في شجاعته؛
لأن أدبه في نفسي أعلى من ذلك. والذي عليه المحققون؛ أن جمود عبد الحميد في
موضعه يوم الزلزلة؛ قد كان من شدة الخوف واضطراب الأعصاب. وما قاله في
مسألة الأسطول كلام في الهواء، لا عمل يستدل به. وليكن عبد الحميد شجاعًا
فماذا جنينا من شجاعته التي لم نر أحدًا قال بها إلا صاحب الوطن، أو جبنه الذي
يضرب به المثل غير الحنظل والزقوم.
(12) أعاد صاحبنا صدى قول المؤيد: إن من ضرر الانقلاب الأخير
إظهار كنوز (يلدز) ومخبآتها؛ إذ عَلِمَ من ذلك أنها ليست كما يظن الأوروبيون،
وكان توهمهم أن فيها ما لا يحصى من الملايين قوة خفية للدولة تخيفهم من الإقدام
على مناوئها، فهي كتوهمهم تعلق جميع المسلمين به.
ونقول: إن هذا القول لا يصدر عن سياسي عارف إلا إذا أراد به
الخلابة والمخادعة لفساده من وجوه (منها) : أن الوهم البين الواضح هو ما تخيله
صاحبا (المؤيد ووطن) من أنه يمكن أن يوجد عشرات من الملايين من النقد
الذهبي لا يعرف مكانه الأوربيون الذين يديرون ثروة العالم. ومن الشواهد الصغيرة
على ذلك ما ذكرته جرائد الآستانة من أن مدير البنك العثماني فيها لاحظ أن عددًا يؤبه
له من قراطيسه لا يعود إليه في دورة التعامل، فجزم بأنه في (يلدز) وهو
ما وجد فيها. (ومنها) : أنهم يعرفون موارد الدولة أكثر مما كانت تعرفها
نظارة ماليتها. (ومنها) : أنهم كانوا يعلمون أن عبد الحميد يودع في كل سنة ما
يزيد على نفقاته والمال الاحتياطي لها في بيوتهم المالية (البنوك) ، وهم يعرفون
مقدار ما أودعه في تلك البيوت. (ومنها) : أن الاعتماد على الوهم في صيانة
الدولة وحفظها مما لا يجنح إليه عاقل؛ لأنه عرض زائل، فإنْ أفاد عبد الحميد مدة
وجوده فهو لا يفيدها بعد موته. (ومنها) : أننا ما رأينا آية ولا علامة لخوف
دولة من الدول من ثروة عبد الحميد وخلافته عند حدوث الحوادث، ونزول الكوارث
وإنما كانوا يطلبون منه الأمر الشائن المذل له ولدولته، فإذا راوغ وهددوه أجاب
صاغرًا، وخنع متضائلاً، ولم ينس أحد تهديد فرنسا له في مسألة الأرصفة،
وإنكلترا في مسألة العقبة، وإيطاليا في مسألة البريد. وما كان يساورنا من الذل
والمهانة من سياسته معهم. ثم إنهم انتزعوا في أيامه معظم الولايات الأوروبية من
الدولة، حتى إنه لو بقي سلطانًا سنة أخرى، لذهبت الولايات المكدونية التي هي
سياج العاصمة بلا نكير. فاتقوا الله أيها المنتصرون لذلك المدمر المخرّب، فقد
وضح الحق في ذلك لكل أحد.
(13) بقي ما انتقده الصديق عليّ من إيراد آيات الإنذار من القرآن في
المقالة التي كتبتها للعبرة بالانقلاب الأخير. قال: إنه لم يكن يليق بي أن أصوّب
سهام آيات الإنذار من القرآن الكريم إلى عبد الحميد الذي لم يبق له شيء من الحول
والطول، وإن ما جرى له ليس أمرًا كبيرًا بالنسبة إلى ما جرى لغيره من الخلفاء
والملوك والكبراء، وذكر بعض من قتل وعزل من المتقدمين والمتأخرين.
وأقول: إن الصديق - نفعنا الله بمودته - قد حفظ شيئًا وغابت عنه أشياء؛
أهمها أن الكلام في تلك المقالة ليس من باب إظهار الشجاعة بمقاومة عبد الحميد،
بعد أن صار مثلي ليس له سلطة. ولا خطر في بالي أن عبد الحميد يقرأها أو يعلم
بها. وإنما هي تذكير لقراء المنار بعواقب الظلم والإفساد والبغي والغرور بالقوة
والغنى والملك والسلطان، ومحاولة الفرد إذلال الأمة وقهرها؛ ليهنأ له التمتع بلذة
السيادة ولوازمها فيها: ولو قتل عبد الحميد غيلة كما قتل عمر بن الخطاب - رضي
الله عنه - لم تكن العبرة التي شرحناها تامةً في شأنه.
إن صديقنا نظر في المسألة من الجهة الشخصية، فعد سقوط سلطة عبد
الحميد كقتل عمر وعثمان والحسين - رضي الله عنهم - وأسر نابليون وعزل
بسمارك وقتل مدحت باشا. وما أبعد الفرق بين هذه الحوادث، وأشد اختلاف وجوه
العبرة فيها. لو صح ما رمى إليه لَمَا كان لنا فائدة فيما ذكره الله تعالى من العبر في
هلاك المفسدين والظالمين؛ كفِرْعَون وآله، ومن عينهم، ومن أَبْهَمَ قصصهم من
السابقين؛ بل لكان ذكرها في كتاب الله تعالى من اللغو الذي يتنزه كلام الله عنه.
قَتْلُ عمر لم يكن إلا كموته، فما خاب به سعيه، ولا حبط عمله، بل لا يزال
يضرب المثل بعدله. وفي قتل عثمان من وجوه العبرة ما ليس في قتل عمر؛ لأن
لينه لبني أمية الطامعين أوجد في الأمة مقدمات الاستبداد، وولّد فيها جراثيم الفساد،
فأنتج ذلك من الشر ما أنتج. وفي قتل الحسين عبرة أخرى مِن حيث إنه لم يعدّ
للظالمين العدة الكافية بحسب سنن الله تعالى، ولم يكن تأثير ظلمهم قد بلغ الحد الذي
يوجب سقوط دولتهم. وأما نابليون فلم يكن إلا مفسدًا في الأرض مغرى بسفك الدماء،
فالعبرة في خذلانه يعد من باب العبرة في خذلان عبد الحميد.
والحاصل أننا نذّكر صاحبنا بأن العبرة بالحوادث العامة غير مسألة الشماتة
بقتل الأفراد أو عزلهم، وذلك مما لا يخفى عن علمه. فوهمه لولا أنه متألم مما
جرى لعبد الحميد تألمًا ملأ جوانحه؛ لحسن اعتقاده بسياسته، وهو مخطئ معذور
في ذلك، فعسى أن يكون قد استبان له الحق فصار من أنصاره، كما يليق بفضله
وإخلاصه.
__________(12/450)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رسالة المحجوب
(من باب الانتقاد على المنار)
(2)
وقد ادعى المحجوب أن الأحاديث التي تدل على جواز دعاء غير الله تعالى
- كما يفعله العوام - كثيرة مشاريعها، مفعمة تضيق المهارق عن استقصائها، ولم
يأت منها بشيء قط، فإن أثر الاستسقاء ليس حديثًا مرفوعاً، وطلب الدعاء من أويس
ليس محلاًّ للنزاع، فإن الدعاء يطلب من الأعلى للأدنى؛ إذ لا خلاف في فضل
عمر على أويس، وكل ما ورد في الشفاعة خاص بالدار الآخرة، والوهابية
يعترفون به كله ويفرقون بينه وبين الشفاعة التي أنكرها الله تعالى على المشركين،
كما فرق ابن تيمية بينهما في كتبه المتداولة، وفد بينا ذلك في التفسير وغيره مرات.
قال المحجوب: (وأما ما جنحت إليه من هدم ما يبنى على مشاهد الأولياء
من القباب، من غير تفرقة بين العامر والخراب، فهي الداهية الدهيا، والبلية
العظمى، من الظلم الذي أضلك الله فيه على علم) ثم إنه بعد سرد جمل وأسجاع من
هذا السباب أوَّلَ الأحاديث الواردة في النهي عن البناء على المقابر بقوله: (إن محل
ذلك الزجر، ومطلع ذلك الفجر، في البناء على مقابر المسلمين المعدة لدفن عامتهم لا
على التعيين؛ لما فيه من الحجر على بقية المستحقين، ونبش عظام السابقين) ثم
جعل محل الإباحة كون البناء في ملك الباني وأنه لا حرج فيه، ثم ذكر أن المسألة
محل خلاف بين النظار، وأن هذا المنكر ليس متفقًا عليه! !
أقول: ما أفسد الدين في أمة من الأمم إلا مثل هذا التحريف للنصوص ممن
يلبسون على الجهل لباس العلماء، فتتبعهم العامة على تحريفهم فتضل عن دينها،
ولمثل هذه الغاية الرديئة منعوا العلم بالكتاب والسنة زاعمين بجهلهم أنه لا يفهمهما أحد
بعد قرن كذا. ألا يكفي لمن له أدنى إلمام بالعربية وإن كان عاميًّا أن يضرب بتأويل
المحجوب وتحريفه عرض الحائط، إذا سمع الأحاديث الشريفة الواردة في ذلك، وقد
ذكرناها ونشير هنا إلى بعضها.
فمنها حديث أنس في الصحيحين وغيرهما، وحديث عائشة وابن عباس عند
أحمد والشيخين وغيرهم، وحديث أسامة عند أحمد في لعن أهل الكتاب؛ لأنهم
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت عائشة: (يُحذِّر ما صنعوا) أي: يحذر النبي
صلى الله عليه وسلم أمته من مثل ذلك، وفي رواية لأحمد والشيخين والنسائي أنه
صلى الله عليه وسلم قال: (أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره
مسجدًا) الحديث.
وفي رواية لابن سعد: (ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم
وصالحيهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد. فإني أنهاكم عن ذلك) والروايات في
ذلك كثيرة، وهي تدل في جملتها وتفصيلها على أن مدار النهي والحظر تعظيم
قبور الصالحين وجعلها في مواضع العبادة؛ كراهة أن يحدث ما حدث فينا حيث اتبع
الجماهير منا سنن أولئك الذين لعنهم الرسول صلى الله عليه وسلم شبرًا بشبر وذراعًا
بذراع. فعظموا أصحاب القبور تعظيمًا وصل إلى حد العبادة، إذ صاروا يخشعون
ويضرعون إليهم بالدعاء وطلب الحاجات.
أما إن العلماء لو كانوا يعظون الأمة بهذه الأحاديث لما بنت على قبور
الصالحين القباب والمساجد وتعرضت للعنة الله ورسوله , ولكن قصَّرالكثيرون من
المطلعين على هذه الأحاديث، ثم خلف من بعدهم خلف لا يعرفون الحديث ولا
يفهمونه، فصاروا يحرفون ما يسمعون، ويؤولون للعوام والخواص ما يعملون،
حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه مع وجود الأحاديث بنصوصها وتفسير المحققين لها.
أورد ابن حجر الفقيه جملة من هذه الأحاديث في بيان الكبيرة الـ (93 -98)
من كتابه (الزواجر) وهي: (اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها
أوثانًا، والطواف بها، واستلامها، والصلاة إليها) ثم قال:
(عَدُّ هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية، وكأنه أخذ ذلك مما
ذكرته من هذه الأحاديث. ووجه أخذ اتخاذ القبر مسجدًا منها واضح؛ لأنه لعن من
فعل ذلك بقبور أنبيائه، وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله يوم
القيامة، ففيه تحذير لنا كما في رواية (يحذر ما صنعوا) أي: يحذر أمته بقوله
لهم ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك فيلعنوا كما لعنوا. واتخاذ القبر مسجدًا معناه:
الصلاة عليه أو إليه، وحينئذ فقوله - أي: قول ذلك الإمام الذي نقل ابن حجر قوله
في كون هذه الأمور الستة من الكبائر - مكرر، إلا أن يراد باتخاذها مساجد الصلاة
عليها فقط، نعم.. إنما يتجه هذا الأخذ إذا كان القبر قبر معظم من نبي أو ولي كما
أشارت إليه رواية (إذا كان فيهم الرجل الصالح) ومن ثم قال أصحابنا: تحرم
الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركًا وإعظامًا، فاشترطوا شيئين أن يكون قبر
معظم، وأن يقصد بالصلاة إليه ومثلها الصلاة عليه التبرك والإعظام، وكون هذا
الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث المذكورة لما علمت، وكأنه قاس على ذلك كل
تعظيم للقبر؛ كإيقاد السرج عليه تعظيمًا له وتبركًا به، والطواف به كذلك، وهو
أخذ غير بعيد، سيما وقد صرح في الحديث المذكور آنفًا بلعن من اتخذ على القبر
سرجًا، فيحمل قول أصحابنا بكراهية ذلك على ماذا لم يقصد به تعظيمًا أو تبركًا
بذي القبر [1] .
(قال) وأما اتخاذها أوثانًا، فجاء النهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم:
(لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد بعدي) أي: لا تعظموه تعظيم غيركم لأوثانهم بالسجود
أو نحوه [2] ، فإن أراد ذلك الإمام بقوله: (واتخاذها أوثانا) هذا المعنى، اتجه ما
قاله من أن ذلك كبيرة بل كفر بشرطه، وإن أراد أن مطلق التعظيم الذي لم يؤذن
فيه كبيرة ففيه بعد. نعم.. قال بعض الحنابلة: قصْد الرجل الصلاة عند القبر
تبركًا بها عين المحادة لله ورسوله وإبداع دين لم يأذن به الله؛ للنهي عنها ثم إجماعًا،
فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد أو بناؤها
عليها، والقول بالكراهية محمول على غير ذلك؛ إذ لا يظن ظان بالعلماء تجويز
فعل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن صاحبه، وتجب المبادرة لهدمها
وهدم القباب التي على القبور؛ إذ هي أضر من مسجد الضرار؛ لأنها أسست على
معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نهى عن ذلك وأمر صلى الله عليه
وسلم بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح
وقفه ونذره) . انتهى.
(المنار)
ذكرنا هنا ما قاله ابن حجر نقلاً وتفقهًا لا لأن ما جاء به أظهر من
الأحاديث الشريفة، بل ليعلم من لم يطلع عليه وعلى أمثاله من أقوال العلماء
المدققين أن التحريف الذي جاء به ذلك المحجوب تنبو عنه النصوص النبوية
الشريفة، ويخالفه كلام العلماء المحققين في شرحها، وأن خصمه ما ضل في هذه
المسألة - كما زعم - على علم. ولكنه هو ضل على تحريف وجهل، وهكذا كل
كلامه منبئ بجهله أو تعمده التحريف. ولعل من طبع هذه الرسالة لو استشار كبار
علماء تونس كالشيخ سالم أبي حاجب لأشاروا عليه بعدم طبعها؛ لأنهم يرون من
العار نسبتها إلى واحد منهم.
ثم ذكر المحجوب مسألة زيارة القبور، فجاء فيها بما هو مشهور على ألسنة
العامة، وخصمه لا ينكر الرخصة في زيارة القبور , ولكنه ينكر أن تزار لغير ما
صرح به في الحديث من سبب الزيارة، وهو العبرة وتذكر الآخرة، وما غلط به
الغزالي من مسألة الاستمداد لا يقوم حجة عليه؛ لأنه لا يدخل في مفهوم الحديث بل
يخالفه، على أن الغزالي لا يبيح تعظيم القبور ودعاء من دفن فيها، وغير ذلك مما
نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك حرَّف حديث (لا تشد الرحال) فألحق به قيد (نذر الصلاة فيها) ولو
جاز لنا أن نقيد الآيات والأحاديث بما لا تدل عليه عبارتها لما سلم لنا من ديننا
شيء، ومن جهله بالحديث أنه جعل غاية الاحتجاج وعمدة البراهين على زيارة قبر
النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم حديث: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)
(كما في ص 11) وأهون ما قال المحدثون في هذا الحديث: إنه ضعيف، كما ترى
في الجامع الصغير للسيوطي، وكأن المحجوب قد حجب والعياذ بالله تعالى عن
جميع كتب السنة حتى مثل الجامع الصغير.
ثم احتج (في ص 12) ببناء سليمان لقبر الخليل عليهما السلام، وببعض
روايات حديث المعراج: أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عند
قبر جده إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيصلي ركعتين ففعل. وزعم أن هذا حديث
صححه المحدثون الثقات وهو كاذب في ذلك، بل قال شيخ الإسلام في تفسير سورة
الإخلاص: إنه موضوع، ولم يكن لإبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم قبر مبني
قبل الإسلام ولا في العصر الأول له. على أنه إذا صح لا يكون حجة على
خلاف ما قلناه؛ لأنه لا يعارض الأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها؛ إذ لا يدل
على أن القبر كان عليه مسجد، ولا على أنه صلى الله عليه وسلم صلى إليه أو
عليه معظمًا له، بل به تصدق كلمة (عنده) بالصلاة في مكان هناك، وإن بعد عن
القبر.
فإن فرضنا أنه هذا الحديث يعارضها والجمع بينه وبينها متعذر، وجب القول
بنسخه دونها؛ لأن أحاديث المعراج كانت في أول الإسلام وأحاديث النهي عن
القبور كانت قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إنه كان يقولها قبل
الموت بخمس ليال ويقول: (اللهم إني بلغت) ثلاث مرات، ثم قال: (اللهم
اشهد) 3 مرات كما في حديث كعب بن مالك عند الطبراني , وأنى للمحجوب أن
يطلع على هذا؟
وحرَّف أيضًا النهي عن وضع السرج على القبور، فقال (في ص 13) بحمله
على تقدير صحته على فعل ذلك للتعظيم المجرد عن انتفاع الزائرين، قال:
(وأما إذا كان القصد به انتفاع اللائذين والمقيمين، فهو جائز بلا مَيْن) وهذا من
التحكم في حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالهوى، وقد علم مما مر عن ابن
حجر فساد تحريفه. وبناؤه التحريف على فرض صحة الحديث من دلائل جهله
بالرواية.
وحرف أيضًا وأوَّل النذور والذبائح لأصحاب القبور، وزعم أن تلك النذور لا
تفعل على أنها من باب الديانات. وبطلان هذا بديهي لكل مختبر، إلا أنه يجوز أن
يكون لم يطلع على ما اطلع عليه من تلك البدع، فأطلق النفي كعادة أمثاله من الذين
يكيلون جزافًا.
وحرف أيضًا الأحاديث الواردة بطمس القبور وتسويتها؛ زاعمًا أن المراد
طمس ما كان من ذلك للجاهلية، وأنه لا بأس باتباع المسلمين لسننهم، بل زعم أن
المسلمين إنما يحفرون القبور تحت البناء وهذا لا دليل على منعه، والجاهلية يبنون
على القبور (انظر: ص 15) ، وهذه سخافة لا يكاد يرضاها لنفسه عاقل، فإذا
كانت الأحاديث صريحة في منع تعظيم القبور بالبناء عليها، فهل يعقل أن يكون
هناك فرق بين تقدم بناء المسجد على لا قبر أو تأخره عنه؟ ؟ على أن المسلمين
يفعلون الأمرين معًا كما هو مشاهد في مصر وغيرها.
أما صاحب الذيل لتلك الرسالة (أحمد جمال الدين) فهو أجهل من المحجوب
وأكثف حجابًا، فلا يستحق أن يقام له وزن فيرد عليه، وبماذا يخاطب من يرمي
شيخ الإسلام ابن تيمية بالانحراف عن السنة وتحقير السلف، وهو الذي امتاز على
جميع علماء الإسلام بنصر السنة وخذل البدعة والدعوة إلى اتباع السلف، وإظهار
خطأ من خالفهم من المتكلمين والصوفية والفقهاء بالحجج والبينات النقلية والعقلية،
ولولا هذا لما تكلم فيه أحد كما علم مما نشرناه من ترجمته في المجلد الماضي، وإن
له رحمه الله كتابًا في المسألة التي يعبرون عنها بالتوسل، جمع فأوعى، سيطبع
وينشر فنرى ما يقول عباد القبور فيه.
أرسل إلينا هذا الكتاب لأجل طبعه، ونحن نكتب هذا الرد على المحجوب
فاختصرنا فيه؛ لأن البيان المطول في مسألة التوسل التي هي أم هذه المسائل
سيظهر في هذا الكتاب عن قريب، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) أي إن وضع السراج والقنديل على القبر له حالان: حال كراهة إذا كان القبر غير معظم، ولم يوضع السراج عليه بقصد تعظيم، وحال حرمة من الكبائر إذا كان قبر معظم كقبور الأولياء.
(2) أي كالدعاء عنده والطواف به وتقبيله والتمسح به، وهو ما يفعل بقبور الصالحين في المساجد والزوايا والقباب كل يوم.(12/472)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال بعيد الدستور العثماني
قرر مجلس الأمة العثمانية المؤلف من المبعوثين والأعيان أن يكون مثل اليوم
الذي أعلن فيه الدستور من كل عام عيدًا وطنيًّا للعثمانيين، تحتفل فيه
الحكومة رسميًّا، وصدرت إرادة السلطان الدستوري الأول مولانا محمد الخامس
بذلك، وقد علم من صحف عاصمة السلطنة أن الاحتفال الأول فيها سيكون ذا بهجة
وفخامة لم يعهد لهما نظير، يشترك فيه الأهالي مع الحكومة بمحض أريحيتهم
واختيارهم راضين مسرورين، لا كاحتفالات عيد الجلوس الحميدي التي كان عبد
الحميد ينفق على الرسمي منها وغير الرسمي، حتى إنه كان يرسل مقدار الزينة
من يلدز إلى دور الكبراء؛ لعلمه أنه لا يكاد يوجد فيهم من ترتاح نفسه إلى إنفاق
شيء مما ملكته يده على ذلك، وإن كان مما نهبه بجاه عبد الحميد من مال الأمة، أو
ما باعه للأجانب من مصالحها.
سبق لنا بحث في فلسفة هذه الاحتفالات في المجلد الرابع من المنار في مقالة
عنوانها (الشعور والوجدان، وشعائر الأمم والأديان) (في ص 641) وفي
استدراك عليها (في ص 675) ، وقد بينا هنالك أن الأعياد من الشعائر التي تحيي
شعور الأمم بالمعنى الذي وضع العيد لأجله، سواء كان دينيًّا أو اجتماعيًّا، ومما
قلناه في المقالة:
(إن أهل الغرب اتخذوا لملوكهم أعيادًا لإحياء الشعور الوطني الذي
يمثله رئيس الدولة في الملكية، وللدول الجمهورية منهم أعياد باسم الحكومة التي
يعتزون بها ويعززونها. وقد قلدهم الشرقيون في الاحتفال بأعياد ملوكهم وأمرائهم
لإرضائهم، إذ كانوا لا وطن لهم ولا وطنية، ولا دول عزيزة بحكومتها قوية، ولا
شك أن هذه الأعياد شعائر تبعث الشعور بحب السلطان أو الأمير في نفوس الذين
يعتقدون النفع فيه للدولة والأمة، فينتفع بهذا المستبدون، ويغتر به المغترون،
حتى يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون.
وقد مزجنا في هذا بين ما هو مقصود من هذه الاحتفالات بأعياد الملوك
والأمراء إلفًا، وما كان ينبغي أن يقصد، ثم استدركنا على ذلك في الجزء الذي
نشرت فيه المقالة بعد ذكر الاحتفال بقدوم الأمير من أوروبا، فبينا أن الشرقيين لم
يتبعوا الغربيين في ذلك، وإنما يحتفلون بالملوك والأمراء لذواتهم لا لمعنى وطني
عام، قلنا: (الصواب أن الشرقيين أشد الناس تعظيمًا لملوكهم منذ القدم، وحسبك
أنهم عبدوهم من دون الله، وأنهم لا يزالون يقدسونهم بقدر ما لهم من السلطة
والاستبداد. وأما مسألة إحياء الشعور، فنرى بعض الجرائد تنوه بضدها ذاهبة إلى
أن هذه الاحتفالات منبعثة عن الشعور بعظمة من احتفل لأجله وحبه، وربما يصح
هذا من بعض المحتفلين الذين لهم فيه منافع تولد هذا الشعور، وإنما الظلم في
إسناده إلى الأمة مع أن القائمين به أفراد معدودون معروفون) . اهـ. المراد منه
هنا.
وأقول الآن: إن الاحتفال لذكرى جلوس السلطان عبد الحميد قد كانت من
أسباب انتشار الشعور بعظمته في نفوس من لم يذوقوا ظلمه، ونفوس من ذاقوه من
حيث لا يعلمون أنه منه، وكذا من عرفوا. ولكن شعورهم هؤلاء بعظمته في أمتهم
كان يزيدهم شعورًا بمقته وبغضه، ولم يحل دون ذلك الشعور كله كون النفقة على
الاحتفال الرسمي منه كانت من مال الحكومة، وعلى غير الرسمي من أموال
المرائين في الغالب.
إن تقوية الشعور بعظمة الأمراء والسلاطين في نفوس الأمة، يضعف فيها
الشعور باستحقاقها للسلطة وأهليتها للحكم الدستوري فتبقى ذليلة مهينة، ويقابل هذا
كون الاحتفال بعيد الدستور يقوي في الأمة الشعور بكرامتها واستحقاقها
للحكم الذاتي، وإذا كان سلطانها راضيًا لها بذلك مشتركًا معها فيه - كما هو
شأن سلطاننا محمد الخامس أيده الله تعالى - كان ذلك مما يحببه إليها ويرفع
مكانته في نفوسها، مع العلم بأن عزته بعزتها وعظمته بعظمتها دون العكس.
لهذا المعنى وضع عيد الدستور للأمة العثمانية، وتعلقت به الإرادة السلطانية
ولهذا المعنى يحتفل العثمانيون بهذا العيد الوطني حيثما كانوا، وأينما حلُّوا،
وستكون عنايتهم بذلك على قدر فهمهم لقيمة الدستور، وشعورهم بفائدته.
ألفنا نحن العثمانيين المقيمين بمصر لجنة لجمع المال، والقيام بما يحسن من
الاحتفال، وشاركنا في ذلك إخواننا المصريون، وما هم إلا مثلنا عثمانيون (وإذا
قوبل الخاص بالعام، يراد بالعام ما وراء الخاص) وسيكون احتفالنا في حديقة
الأزبكية بكيفية لم يعهد لها نظير في الأعياد القومية ولا الرسمية، تتجلى فيها
الحديقة متلالئة بالأنوار الكهربائية، وأبدعها ما يمثل منها الشارات العثمانية،
وتأتلف فيها أصوات أشهر المطربين بنغمات أحسن آلات الموسيقيين، وتعرض
فيها الصور المتحركة البديعة، ولا سيما صور حوادث الآستانة الأخيرة، وغير
ذلك من أسباب الأنس التي تتوخى في هذه المراسم.
وقد ألف أهل الإسكندرية لجنة لإقامة احتفال عمومي أيضًا، وسيكون هنا
وهناك زينات خاصة يقيمها الأفراد على بيوتهم أو أمكنة أعمالهم، فتتجلى بهذه
الاحتفالات عثمانية المصريين وإخلاصهم للدولة العلية، كما يتجلى فيها حبهم
للدستور ومعرفتهم لقيمته.
يذهب بعض رجال الدين إلى أن هذه الأعياد الوطنية والسياسية محظورة في
الإسلام؛ لأنه لم يأت إلا بعيدين فقط هما: عيد الفطر وعيد النحر، فالزيادة عليهما
بدعة. وقد سمعنا هذا القول من أحد العلماء فقلنا له: إن البدعة الدينية إنما هي فيما
يعمل على أنه من الدين، فقولك هذا إنما يصدق على الموالد التي صبغت بصبغة
الدين، دون هذه المواسم المشتركة بين أهل الأديان المختلفة التي لا صبغة للدين
فيها. نعم.. يتجه أن يقال: إن الدين يحظر من المواسم الدنيوية ما وضع منها
لمقصد ضار؛ كتعظيم الملوك الظالمين وتقوية سلطتهم دون ما وضع لمقصد نافع؛
كتعزيز الأمة ورفعة شأنها.
***
المشتركون الماطلون
بعض الماطلين في القطر المصري معذور بما أصابه من العسرة المالية،
وبعضهم يعتذر بها بغير حق، ولكن ما بال أهل سنغافورة وجاوة وروسيا الذين كنا
نعدهم أحسن المسلمين وفاء، كادوا يكونون كأهل تونس مطلاً وهضمًا.
__________(12/478)
رجب - 1327هـ
أغسطس - 1909م(12/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التعصب الديني عند الإفرنج
كتبنا في الجزء الماضي نبذة في التعصب الديني عند الإفرنج، بينَّا فيها أن
مهد الغلو فيه أوروبا لا آسيا، وقبل أن ينشر الجزء ظهر في الجرائد الإفرنجية
المصرية ما يؤيد رأينا ويثبته.
أشاعت هذه الجرائد أنه وقع خلاف في لجنة الاحتفال بعيد الدستور العثماني
سببه الاختلاف في الدين، وأن صاحب المنار قال في اللجنة: إنه لا يقبل أن يكون
رئيسها نصرانيًّا. وطفق محررو تلك الصحف يشنعون على هذا التعصب الإسلامي
الشرقي الذي تخيلوه فخالوه، فشنعوا عليه كدأبهم وعادتهم وقياسهم على أنفسهم.
ويقال: إن بعض محرري تلك الصحف من السوريين، وكأنهم لما تلقوا لغات
الإفرنج وآدابهم تفرنجوا، فأخذوا منهم محضاء التعصب يحركون به ناره كلما
سنحت السوانح أو عنت البوارج، وهاك ما قاله في ذلك جريدة (النوفل) نقلاً عن
ترجمة الأخبار لها: (قلنا في عدد سالف: إن الشيخ محمد رشيد رضا صاحب المنار
ارتأى أنه يجب أن لا يرأس نصراني جمعية الاحتفال بالدستور العثماني، والشيخ
رشيد هذا كان إلى اليوم يعد حرًا مريدًا للدستور، عدوًّا لحكم السلطان عبد الحميد،
وقد حارب الخليفة السابق بصفته مسلمًا باذلاً جهده في سبيل تقويض حكمه المبني
على الظلم والاعتداء والنهب والسلب والفتك بعباد الله، وقد كان شديد اللهجة في
كتاباته إلى حد أنه ألزم أن يفر من تركيا ويلجأ إلى القطر المصري.
والآن قد تغيرت الأحوال واعتقل عبد الحميد في سجنه الحالي في سالونيك،
محجوبًا نظره عن الإشراف على ما يجري في البلاد، وأصبح تحول بينه وبين
الحياة، وبينه وبين الطبيعة سيوف الحراس، فقد هذا الظالم الذي طرده العالم من
بينهم قوته، ولكن أولاً هل سقط مع عبد الحميد كل ما كان قائمًا في أيامه؟ إننا لنشك
في ذلك؛ لأنه إذا كان مثل الشيخ رشيد رضا يجعل بين المسلم والنصراني فارقًا،
فماذا يفعل غيره؟ أفلا يجوز أن نعتقد أن أحرار الأتراك ما كادوا يستولون على
كرسي السلطة حتى تناسوا مطالبهم القديمة بإقامة العدل وتأليه الحرية.
إن الشيخ رشيدًا سيندم على ما جاهر به، غير أن ندمه لا ينفي أنه قال ما
قال، ولقد أصبح الآن يجوز للنصارى العثمانيين أن يشكوا في إخلاص إخوانهم
المسلمين) . اهـ
(المنار) لما اطلع أعضاء لجنة الاحتفال بعيد الدستور على هذه الكتابة، كتبت
اللجنة إلى هذه الجريدة وسائر الجرائد التي ذكرت الخبر المختلق تكذيبًا له. ونحن
نزيد على هذا التكذيب كلمة نقولها لكاتب تلك النبذة في جريدة النوافل وهي:
قلتم: إنه يجوز للنصارى العثمانيين أن يشكوا في إخلاص المسلمين لهم،
بعد أن نقلت لهم صحفكم تلك الكلمة عن صاحب المنار دون صحفهم العربية، وكان
من مقتضى التساهل الذي تدعونه أن لا يصدقوها عنه؛ لما يعلمون بالاختبار
الطويل من تساهله، وكتابته في الدعوة إلى الوفاق اثنتي عشرة سنة حتى باسم
الإسلام، وسعيه مع بعض أصدقائه المسلمين في تأليف جمعية سياسية سرية مؤلفة
من جميع العناصر العثمانية؛ لأجل جمع كلمتهم وتوحيد مصلحتهم، أو كان ينبغي
لهم مع تصديقها أن يحملوها على غرض صحيح غير التعصب كأن يكون مراده - لو
صح الخبر - أن جعل الرئيس من كبراء المسلمين كأمراء البيت الخديوي مثلاً،
يجعل للجنة من النفوذ والاحترام وقبول الدعوة إلى الاكتتاب ما لا يرجى مثله، لو
كان الرئيس نصرانيًّا؛ لأنه ليس في نصارى العثمانيين من له مثل هذا النفوذ. هكذا
شأن المتساهل يتروى ويتثبت في الخبر الذي يثير الخلاف وينافي الائتلاف، فإن أيقن
بصدقه التمس له مخرجًا صحيحًا.
فإذا كان النصارى يعذرون على رأيكم بعدم الثقة بإخلاص أحد من المسلمين
لخبر يحتمل الصدق والكذب، والقرائن تدل على كذبه، ويحتمل على تقدير صدقه
أن يكون قيل لغرض صحيح لا للتعصب، أفلا يعذر المسلمون بالأولى إذا كانوا
يرون الرجل من علماء دينهم وسلالة نبيهم والدعاة إلى الإصلاح الديني فيهم.
يقضي السنين الطوال وهو يدعوهم إلى التسامح والائتلاف مع النصارى وغيرهم
بالقول، ويجعل نفسه قدوة في ذلك بالعمل، ثم يرميه النصارى بالتعصب ويجعلونه
حجةً على عدم ثقتهم بأحد من المسلمين.
بلى، ولكن نحمد الله تعالى أن كان أهل الشرق من المسلمين والنصارى لم
يصلوا إلى هذا الحد من التعصب الذي ينفثه فيهم كتاب الإفرنج والمتفرنجين منهم؛
ولذلك رأينا الفريقين قد هزءوا بما كتب في تلك الجرائد الإفرنجية عن صاحب
المنار، حتى قبل تكذيب اللجنة له.
__________(12/499)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجنسيات العثمانية
واللغتين العربية والتركية
إن من شؤون مدنية هذا العصر المحافظة على أجناس الموجودات حسية
كانت أو معنوية، فترى الغربيين أئمة هذه المدنية إذا رأوا نوعًا من الحيوانات
الأرضية أو الجوية أو المائية أخذ في النقص حتى خيف من انقراضه، حرموا
صيده إن كان مما يؤكل، وقتله إن كان مما لا يؤكل، وإن كان ضارًّا كما يحافظون
على العاديات والآثار القديمة جميعًا، ونراهم أيضًا يرغبون في بقاء نموذج من
الأديان والمذاهب الدينية وغير الدينية، واللغات المستعملة وغير المستعملة، حتى
إنهم أحيوا بعض اللغات التى ماتت وبقي أثرها، وجعلوا يتدارسونها ويتنافسون في
معرفتها.
ما كان لهذه المدنية أن تحافظ على أجناس الحيوان والجماد وتسمح بانقراض
بعض أجناس الناس [1] ، بل هي أشد محافظة على أجناس الناس ومقوّمات
جنيستهم من اللغة وغيرها، واعْتَبِرْ ذلك بالأجناس المكونة لمملكة النمسا
(الإمبراطورية) تَلْقَهُ واضحًا جليًّا.
كان الجنس في العصور الماضية ينقرض بانقراض أفراده كلهم أو جلهم
بالموتان والأوبئة أو بالحرب، وما يعقب الأغلب فيها من العبودية والذل الذي
يقلل النسل رويدًا رويدًا، حتى لا يبقى منهم أحد أو يبقى منهم حثالة ممزقة في
الأرض، لا تسمى شعبًا ولا تعد قبيلة.
وهنا ضرب من ضروب انقراض الجنس يتحقق بانحلال رابطة الجنسية
وزوالها، لا بانقراض الأشخاص وانقطاع الأنساب وهو أن يدخل الجنس في دينِ
جنسٍ آخر أو لغته فيمتزج به ويلابسه في تقاليده وعاداته، حتى يذوب فيه
ويصير من عناصره المكونة لذاته، كما امتزجت الأجناس السورية في الجنس
العربي باللغة في جميع الأفراد وبالدين في أكثرهم، ونسيت جنسيتهم النسبية
وزالت جنسيتهم اللغوية، وصاروا كلهم عربًا.
هذا النوع من زوال الجنس أو الجنسية هو من الترقي والكمال في الإنسانية
لا من النقص أو المرض الذي يعرض لها؛ لأن الإنسان عالم اجتماعي فكلما اتسع
نطاق الاجتماع وقل التفرق والانقسام فيه زادت الإنسانية كمالاً، ولهذا يرى حكماء
الاجتماع أن منتهى الكمال البشري في هذه الحياة أن يكون الناس كلهم أمة واحدة لا
يفرق بينهم نسب ولا لغة ولا وطن ولا دين، ويستحيل أن يتحولوا إلى هذا دفعة
واحدة، وإنما يكون مثل هذا باندغام بعض الأجناس في بعض بالتدريج البطيء، وإن
الأمم الكبرى التي تجتهد بنشر لغاتها وآدابها في أرجاء العالم تطمع كل واحدة منها في
أن تكون لغتها هي لغة البشر كلهم في المستقبل البعيد؛ لكي يكون لها الإمامة وبقاء
التاريخ والذكر في الزمن المستقبل على ما يكون لها من السبق إلى الاستفادة من
توسيع دائرة جنسيتها في الحال. ولا ينافي هذا ما نشاهد عليه الإنكليز - وهم أطمع
الأمم في هذه الغاية - من شدة محافظتهم على جنسيتهم وغلوهم في أثرتهم لما عليه
الإنسان من الحرص والبخل بمميزاته وخصائصه، سواء كانت شخصية أو قومية،
وإن هذا البحث ليتسع لتفصيل ليس هذا المقال بموضعه، وإنما ذكرناه فيه تمهيدًا
ومقدمة لا مقصدًا. وعندي أن الإسلام يرمي إلى هذه الجامعة العامة [2] .
ومن فروع هذا المبحث التي لا مندوحة عن ذكرها في باب التمهيد؛ أن هذا
النوع الكمالي من زوال الجنسيات أو تحول بعضها إلى بعض، لا يكاد يرضى
شعب من الشعوب بأن يكون هو المدغم في غيره لأجل تحقيقه، فضلاً عن أن
يرضى بذلك إيثارًا لمقومات جنس آخر على مقومات جنسيته، وسبب ذلك ما
ذكرناه آنفًا من حرص الإنسان على خصائصه ومميزاته؛ وإن كانت ضارة كبعض
التقاليد والعادات، وإنما له طريقان: أحدهما الغلب والقهر، وطبيعة المدنية
الحاضرة تأباه؛ لما ذكرناه في فاتحة الكلام. وثانيهما التحالف والاتحاد في المصالح
والمنافع، بحيث يأخذ كل جنس من الآخر أمثل ما عنده بمقتضى سنة الانتخاب
الطبيعي، إلى أن تغلب مقومات جنسية أحدهما في مجموعها على مقومات جنسية
الآخر، ويصيران جنسًا واحدًا وهو ما يطمع فيه بعض الغربيين في مستعمراتهم:
كفرنسا في الجزائر، والشعوب العثمانية أحوج إليه ولن يكونوا أمة واحدة بدونه.
ينتج ما تقدم من المقدمات أن الدولة العثمانية لا تستطيع في هذا العصر أن تحل
رابطة جنس من الأجناس التي تتكون منها أمتها بالقهر والإكراه، ولا بالخلابة
والإقناع، بل سبيلها اللاحب أن تؤلف بينها في المنافع والمرافق، والمصالح
والوظائف، وتوحدها بجنسية الشريعة والقانون، دون جنسية اللغة والدين، حتى
يتمازج منها ما هو مستعد للمزج، وينبذ مزاج وحدتها الجديدة من لا يقبل ذلك من
الأجناس كما ينبذ مزاج الجسم المعتدل ما عساه يدخل فيه من الأجسام الغربية.
أعني بهذا النبذ - واللبيب يفهم - ما تقتضيه طبيعة الاجتماع من ذلك، لا أن
الدولة نفسها تنفي من بلادها الآن بعض الأجناس. ذلك أن الجنس الذي لا تقبل
طبيعته الوحدة العثمانية التي ذكرناها (كجنس الروم فيما يظهر) ؛ لجذب جنسية
أخرى هي أقوى منها في حقه، يتسلل أكثر أفراده في بلادها بالهجرة أو سبب آخر،
ويتصلون بجنسهم الذي تربطهم به عدة روابط؛ لكونه أقوى على جذبهم من الجنس
الذي يرتبطون فيه برابطة واحدة.
أما تنازع البقاء بين الجنسيات اللغوية في الشعوب العثمانية الذي ينتهي
باستيفاء طوره الاجتماعي إلى تغلب الأمثل، فسيكون على أشده بين العربية
والتركية؛ لأنهما اللغتان الحيتان للشعبين الكبيرين في الأمة، والأولى منهما لغة
الدين يكفله منصب الخلافة. والثانية لغة السلطنة الرسمية، وليس للغات سائر
الشعوب شركة في هذه المزايا.
إن الأرمن شعب صغير وعهده قريب بتدوين لغته وجعلها لغة علمية، ولا
يطمع أحد من عقلائه بنشر هذه اللغة في شعب آخر، فهي لغة قاصرة محصورة
غير قابلة لحياة النشر والامتداد؛ لعدم الحاجة إليها عند غير أهلها. واللغة التركية
مزاحمة لها فيهم أنفسهم، فهي أملك لألسنتهم من لغتهم.
وأما الألبان والأكراد: فهم حتى اليوم لم يدونوا لغتيهم، ويجعلوهما لغة علم،
ولا يطمعون في نشرهما وتحويل أحد من الشعوب الأخرى إليهما، والتركية مزاحمة
لهما في الشعبين وكذا العربية لا سيما في بعض بلاد الأكراد؛ كالسليمانية وغيرها،
ثم إن الدين يجذبهم إلى هذه، والإرادة تجذبهم إلى تلك، فزيادة عناية كل شعب من
هذين الشعبين بلغته ومحاولته إحياءها تقليدا لما ذكرناه من طبيعة المدنية الغربية لهذا
العهد، لا يفيده إلا أثقالاً تعوقه عن تحصيل العلوم، ومجاراة غيره بالترقي فيها؛
لأنه إن ترك العربية قصر في دينه الذي هو أعز شيء عليه، وإن ترك التركية قصر
في عثمانيته وما يترتب عليها من الفوائد، فلم يبق إلا أنه يضيع بعض زمن
التحصيل في دراسة لغته القومية، ولا أرى العقلاء منهم يطمعون في تأسيس دولة؛
لأنهم يعلمون أنه لا فرق في ذلك بين شعبيهما وبين الشعب الأرمني؛ من حيث إنه
طمع في غير مطمع يضر الطامع ويضر الدولة، فيقوى عليهما الطامعون فيهما،
ولَضرر الشعب الصغير من أكبر ضرر الأمة الكبيرة. على أنَّ محاولة تمزيق السلطة
محرم في الإسلام، فالشعب الإسلامي الذي يفارق الجماعة يجني على دينه وعلى
دنياه، فالتنازع الحقيقي في لغات الشعوب العثمانية إنما هو بين العربية والتركية.
يرى بعض الترك الغالين في عصبية الجنس أنه ينبغي للدولة أن تجعل اللغة
التركية وحدها لغة التعليم، وتلزم جميع العثمانيين بتعلمها، وتجعلها اللغة الرسمية
في جميع معاملات الحكومة حتى التقاضي والمرافعة في المحاكم، إلى أن تحول
العرب فمن دونهم من العثمانيين إلى الجنسية التركية. ويظنون أن هذا أمر ممكن
حتى في عصر الدستور وما ظنهم هذا إلا إثم وغرور.
ويرى بعض العرب بنزعة دينية وبعضهم بنزعة جنسية أنه ينبغي للدولة أن
تجعل اللغة العربية هي لغة العلم، ثم تجعلها بعد انتشارها اللغة الرسمية؛ لأنها لغة
الشعب الأكبر من الشعوب العثمانية ولغة الدين لجميع مسلميها ومسلمي سائر الآفاق
الذين يرتبطون معها برابطة الخلافة، ويغفلون عما بيناه في القسم التمهيدي من هذا
المقال من شأن المحافظة على الجنسية، لاسيما في شعب يرى لنفسه حق السيادة،
فإن تنازل عنها بالدستور فإنه يصعب عليه أن يترك من مميزاته ما حفظ لنفسه الحق
في استبقائه بنص القانون الأساسي، وهي جعل لغته هي اللغة الرسمية للدولة.
إن غوائل اختلاف اللغة في الدولة لا تنكر، وإن فوائد توحيدها ووحدة الأمة
بها لا تجهل، وإن رجحان العربية في الدين والعلم والسياسة لَهو أوضح وأظهر،
فإنها هي التي تتوفر الدواعي على تعميمها؛ لأن الناطقين بها أكثر من الناطقين
بغيرها، وإرجاعُ القليل إلى الكثير أسهل من عكسه؛ ولأن للترك والكرد والألبان
باعثًا نفسيًا يبعثهم على تعلمها؛ وهو الحاجة إلى فهم كلام ربهم - عز وجل -
وحديث نبيهم صلى الله عليه وسلم وحكم سلفهم الصالح - رضي الله عنهم -
وكتب أئمتهم في التفسير والحديث والفقه وغيرها من علوم الدين - رحمهم الله -
والوقوف على تاريخ دينهم. ومن الجهل أن يقال: إنهم يستغنون عن ذلك كله
بالترجمة لما سنبينه في فرصة أخرى، ولأن جعلها اللغة الرسمية هو الذي يزيل
خطر تفرق الأجناس، فإذا اتفق عليها المسلمون الذين يشاركون فيها غيرهم من
الملل في البلاد العربية، لا يبقى للروم والأرمن سبيل لطلب تعليم لغتهم في مدارس
الدولة، ولا يكون لتعليمهم لها في مدارسهم خاصة تأثير في إضعاف الوحدة؛ ولأنها
لغة حضارة سابقة وعلوم وفنون؛ ولأنها اللغة المشتركة بين جميع المسلمين ولأنه
يمكن أن توسع دائرة نفوذ الدولة بنشرها في الممالك الشرقية التي يكثر فيها
المسلمون: (الصين وجاوه والهند) من غير نفقة توازي عشر معشار ما تنفقه
الأمم الغربية لنشر لغاتها، وتوسيع دائرة نفوذها وتجارتها في الشرق؛ ولأن الدولة
تأمن بذلك من قيام دولة عربية تدعي الخلافة وتنازعها النفوذ في العالم الإسلامي
بنفسها وبمساعدة بعض دول أوربا؛ ولأن في ذلك تحقيقًا لمقصد من مقاصد الإسلام
العالية وهو محو العصبيات الجنسية وتوسيع دائرة الأخوة الإنسانية.
هذه المرجحات لا تعزب عن علم أذكياء المفكرين من الترك، ولو كان أمر
الأقوام والشعوب مما يُتّبع فيه البرهان إذا ظهر لكان حل هذه المسألة من أهون
الأمور. ولكن الأقوام والجماعات تتبع الشعور والوجدان دون العقل والبرهان بل
يقول الفيلسوف الاجتماعي جوستاف لبون: إنها لا تعقل ولا تطيق سماع الدليل،
فلا مطمع إذًا في رضاء الشعب التركي بجعل العربية لغة العلم في الدولة كلها مهما
كان في ذلك من الفوائد وأمن الغوائل؛ لا سيما في هذا العصر الذي اشتدت فيه
العصبيات الجنسية في أوربا من عهد نابليون إلى اليوم، وسرت عدواها إلى البلاد
المجاورة لها.
إذا كنا لا نجد سبيلاً إلى توحيد اللغة؛ لاجتناء فوائده فكيف السبيل إلى اتقاء
غوائل التنازع بين اللغتين السائدتين، وما يتبعه من تحريك عصبية الجنسين الذي
هو أشد الأخطار على الدولة في العهد الذي يجب الإنفاق فيه على تعزيزها
وإعلاء شأنها، والتأليف بين أجناسها وعناصرها جهد المستطاع.
يقول أكثر الباحثين المستقلين من الأجانب والعثمانيين: إن لحل هذا المشكل
طريقًا معبَّدًا ومثالاً متبعًا لا يحتاج معه إلى النظر والاستدلال؛ وهو ما عليه
سلطنة النمسا، فينبغي أن يكون العرب والترك في الدولة العثمانية كشعبي النمسا
والمجر، وأن يكون سائر العناصر العثمانية كسائر العناصر في تلك الإمبراطورية.
أراني بهذا قد وصلت إلى بحث لم أكن أرمي إليه، وطرقت بابًا لا غرض لي
الآن بالدخول فيه؛ باب البحث في المسألة التي يعّبرون عنها بالمركزية
واللامركزية التي هي موضوع الخلاف بين الحزبين السياسيين الطبيعيين فينا وهما:
حزب الاتحاديين وحزب الأحرار، فلندع تنازعهما للزمان يبرم فيه حكمه، ولنعد
إلى موضوع اللغتين فنختم الكلام فيه برأيين؛ أحدهما: ما نراه يرضي المفكرين
ودعاة العلم والسياسة من العرب، والآخر: لأحد المفكرين والخبراء من الترك ولا
ندري أيرضيهم أم لا.
(الرأي الأول) هو أن يكون تعليم كل من الشعبين في المدارس الابتدائية
الرسمية بلغته، وأن يكون تعلم اللغتين إلزاميًا في جميع مدارس الحكومة الثانوية
والعالية، وأن يكون تعليم العلوم في بلاد العرب بالعربية، وفي بلاد الترك بالتركية،
وأن تكون جميع معاملات الحكومة كل ولاية من ولايتهما بلغتها، ويكون في
الولايات العربية قلم ترجمة؛ لأجل مخاطبة العاصمة وتلقي الخطابات منها بالتركية،
وأما سائر الأجناس فيعلمون العلوم بالتركية؛ لأن أكثرهم يعرفها إلا من كان منهم
في الولايات العربية، فإنه يكون تابعًا لأهل ولايته، فإن لم يتيسر تنفيذ هذا الرأي
في مدة هذا الدور الأول لمجلس الأمة، فالرجاء فيما بعده قوي إذا كان الترك كما
نظن يحبون الوفاق. وقد بينا من قبل حاجة الترك إلى تعلم العربية في الجزء
الثاني (راجع ص 111 م 12) .
(الرأي الثاني) وهو لعبيد الله أفندي مبعوث أزمير أودعه في مقالات له في
التعليم نشرها في جريدة (تصوير أفكار) ، وترجمته بعض صحف بيروت ومصر،
وهذه خلاصته ننقلها عن جريدة الاتحاد العثماني البيروتية قال: أرى خير حل
لمشكلة لغة العلم هو أن يتخذ الأتراك التركية لسانًا علميًا لهم، وأن تؤسس بحماية
الحكومة وتحت مراقبتها مراكز علمية عربية في قواعد الأقطار العربية مثل:
دمشق وأم القرى ودار السلام تسعى في إنهاض علوم الحضارة العربية التي أخذت
تنحط وتضمحل منذ انقرضت السلطنة العربية.
وبذلك تنتشر العلوم والفنون بين الأتراك بلسانهم، وتحفظ الحضارة العربية
وترقى بلسانها الخاص من جهة وبما ينقل منها إلى التركية من جهة أخرى، وينجو
الأتراك من الجهل بالدين، وينهضون من هُوّة التعصب الأعمى التي لا يزالون
ساقطين فيها إلى اليوم، وإن الحكومة لتقدّر الخلافة حينئذ حق قدرها، وتقوم بأعباء
واجباتها، ولو أن الدولة أدركت هذا الحل من قبل وعملت به لكثر سواد الترك
الذين يعرفون العربية، والعرب الذين يتكلمون بالتركية، ولَتحول لسان جميع
العناصر العثمانية: كالروم والأرنؤوط والأرمن وغيرهم بقوة العلم منذ ثلاثة قرون
أو أربعة إلى لسان الترك؛ لسان المعارف والحضارة [3] .
اضطرني إلى استطراد هذه المسألة مع أنها خارجة عن مبحث المدارس ما
أراه من لزوم تنبيه الأذهان إلى أن من الممكن بل من الواجب اتخاذ التدابير التي
سردْتُها، وإني لست أرى واسطة أحسن من هذه تقطع ألسنة الذين أصبح دينهم في
هذه الأيام الضرب على نغمات الخلافة.
وإن منع دخول المؤيد وغيره من الأوراق المضرة إلى الولايات العربية لا
فائدة له؛ بل ربما زاد انتباه الناس إلى مطالعته.
ليس نشر العلم في الولايات العربية باللغة التركية من الممكن كما أنه ليس
بالمعقول؛ بل العربية فقط تمكن إشاعة العلم ثمّة، وإنّ من الواجب حماية اللغة التي
تريد تعميم العلم بها بين أمة (العرب) ، وحماية الأفاضل أيضًا من أهلها. وإن
إصلاح مدارس القسطنطينية لا يعد حماية للغة العربية؛ لأن إصلاح هذه وتعليم العلم
بها من أقرب طريق، لا يكون إلا بتأسيس مدارس علمية في القطر العراقي
والقطر السوري والقطر الحجازي، وإنشاء مجامع علمية عربية هنالك أعضاؤها
من العرب وموظفون بصورة رسمية.
ومتى تم ذلك نبغ بتلك الأقطار في القريب العاجل، فحول العلم وأرهاط
الفضل وزحف إليهم أصحاب المزايا في الشرق والغرب وفي مصر والسودان، فلا
يمضي الزمن اليسير حتى تنتقل العلوم الحديثة إلى اللغة العربية بكل فروعها،
وسوف تندم الخلافة العثمانية إذا لم تكن هي المتوسطة لهذا النقل والقائدة لهذه
الحركة.
وفضلاً عن ذلك، فإن دولة كالخلافة الإسلامية وسلطنة كالسلطنة العثمانية
تحكم بلاد العرب الذين لا نزال نستنير بأنوار علمهم وفضلهم، لا يمكنها الاكتفاء
بالقسطنطينية وحدها مركزًا علميًا لهذا الملك الطويل العريض، فإن مكة عاصمة
المسلمين أجمعين، وبغداد دار الخلفاء ومنشأ العلوم الإسلامية، ودمشق عاصمة
الخلافة الأموية وأكبر مدن السوريين الذين نهضوا بمعارف مصر ومطبوعاتها
وصحافتها في هذا العصر الأخير، هذه المدن الثلاث يجب أن تكون مراكز عالية
مهمة في هذه السلطنة، وعندئذ يخلف الأئمة البصريين والكوفيين القدماء ببضع
سنين أئمة وأساتذة عراقيون وسوريون وحجازيون، يجعلون دولتنا مدنية نصيرة
للعلم واللغات حتى إذا ما امتد لسان إلى الخلافة يسلقها العلم. اهـ بعبارة الاتحاد.
(المنار)
كنا نتمنى لو اطلعنا على رأيه في المدارس عامة، وإننا نقتبس بعد هذا مقالة
تاريخية في الموضوع من مجلة المقتبس الشهيرة فيها رأي ثالث في المسألة، وهذا
نصها:
العربية والتركية
أصيبت الأمة بعد سقوط دولة بني العباس بفتور غريب في العلم والآراء؛ لِما
عاينته من أهاويل الحروب والفتن، ولَمَّا قامت الدولة العثمانية فجمعت تحت لوائها
الأقطار المختلفة نظرت إلى الأقطار العربية من الوجهة السياسية ولم تُعن بها
ولا بغيرها من الوجهة العلمية الاجتماعية شأنها في عامة أدوارها وأقطارها، ولم
يشذ عن ذلك إلا مصر، فكانت أشبه بمملكة مستقلة حتى بعد استيلاء العثمانيين
عليها، وبعيد أن قامت الدولة تؤسس لها مدارس في العاصمة والولايات؛ لتعلم
العلوم الحديثة، وتستبدل النور بالظلمة والعلم بالجهل، قام محمد علي والي مصر
فنزع القطر المصري من المماليك في الظاهر ومن الدولة في الباطن، وأنشأ فيه
مدارس عربية، وتوفر بدلالة جماعة من مستشرقي الفرنسيس النبهاء على ترجمة
الكتب العلمية من اللغات الأوربية، فانتعشت اللغة العربية في مصر فقط، وظلت
كهف العرب، عنها يأخذون علومهم وموطن الطباعة والكتب والصحف، وبأنوارها
يستضيئون؛ وذلك لغناها العظيم وتاريخها المجيد القديم.
بقي الأمل في نهوض العربية محصورًا في مصر؛ لأن الشام والعراق
والجزيرة والحجاز واليمن ونجد وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش أمست
في فتور، وقد أنشئت في تونس وسورية بعض المدارس والمطابع تدرس بالعربية
وتطبع اللازم من الكتب العربية. لكنها لم يمض على تأسيسها بضع سنين حتى
أطفأت شعلتها؛ بما أصاب سورية من بلاء المراقبة وما أصاب تونس من الاحتلال
الفرنسوي والمراقبة واحتلال الغريب مما يقتل روح العلم وينزع حياة النهضة
القومية، وقد أوشكت مصر أن تصاب بضعف لغتها لما احتلها الإنكليز، لولا أن
قامت الأمة وطلبت جعل العربية لغة المدارس الابتدائية والثانوية، فلم تر الحكومة
بدًا من إجابة طلبها.
أما هذه الديار فكان أول ما انصرفت إليه الوجوه [4] بعد إعادة القانون
الأساسي العثماني مسائل التعليم، فالتركية لسان الدولة الرسمي تريد أن تعلمه
جميع العناصر العثمانية؛ ليجيء منهم في المستقبل مزيج واحد وتقوى وحدتهم
السياسية، وقد نشرت نظارة المعارف برنامجها، ولم نشهد فيه ذكرًا للعربية في
المدارس الابتدائية والثانوية والعالية، بل قالت: إن تعليم العلوم بالتركية للذكور
والإناث وللصغار والكبار وللعرب والترك والروم والأرمن والبلغار والأرناؤد،
حتى إن المبادئ البسيطة سمحت بتعليمها من العربية تدرس في كتب ألفها أتراك
باللغة التركية، فأدرك بعض الباحثين في أحوال البلاد والعناصر أن غرض
الحكومة من هذه الخطة (تتريك) العرب وغيرهم، وهو عمل إذا كان نافعًا من
حيث السياسة فلا نفع فيه من حيث الاجتماع والعلم خصوصًا بعد أن رأينا أصغر
الشعوب الأوربية تحافظ على لغتها الأصلية محافظتها على أعراضها وأموالها
وأرواحها.
لا بد للحكومة أن تجعل التعليم إجباريًّا في المملكة، فإذا جعلته باللغة التركية
ولم تراع حالة كل قطر ولغة أهله تسوء العاقبة، ولا تأتي الشجرة التي تريد غرسها
الآن بثمرة جَنِية، بل يكون شأن البلاد العقم في العلم والفكر، ومن لم يتعلم العلوم
بلغته هيهات أن يأتي منه عضو يفيد أمته وبلاده، وإذا فعلت الدولة ذلك الآن فتكون
في عهدها الدستوري أظلم منها في عهدها الاستبدادي، وتكون حكومة مصر أرفق
بأهل مصر من حكومتنا بنا؛ لأنها منا، فينتظر عن يدها الكثير، وتلك ليست منهم
وكل شيء تأتي به يعد كبيرًا.
وبَعْدُ؛ فإنْ كانت الحكومة العثمانية لم تنشط للغة العربية في الماضي مع أنها
لغة الدين والآداب والحضارة، فهي لم تضع العقاب في سبيلها مباشرة. ولكن
الغلطة الفظيعة التي ارتكبتها ولا يغفرها لها التاريخ هو أن القائمين بأعبائها منذ
البَدء جعلوا اللغة التركية لغة الدولة الرسمية خلافًا لما جرت عليه دول الإسلام
السالفة: كدولة المصامدة البربر في الغرب الأقصى والأدنى، ودولة الجراكسة في
مصر والشام، ودولة آل أيوب سلجوق التركية في العراق والجزيرة، ودولة بني
بويه الفارسية، ودولة آل أيوب الكردية في مصر والشام والحجاز واليمن وغيرها
من الدول التي طرحت لغاتها وعمدت إلى اتخاذ اللغة العربية لغة الحكومة والدولة،
فكان الجراكسة والبربر والفرس والأكراد والأتراك يتخلون عن لغاتهم
مختارين، ولا يستعملون في الرسميات غير العربية لغة البيان والعلوم. أما الترك
فجروا على غير سنة الدول السالفة، فلم يروا من المصلحة تعلم لغة عامة المسلمين
في مشارق الأرض ومغربها، واكتفوا بلغة ملفقة بدوية ما برحوا يتوفرون منذ
قرون على إصلاحها، وهيهات أن تكون كما يحبون.
ولما جاء السلطان سليم فاتح مصر والشام، وكان على شيء من المعرفة
يحسن العربية كما يحسن الفارسية والتركية، أحب أن يتلافى الغلط الذي سارت
عليه دولته، وأن يجعل اللغة العربية لغتها الرسمية أسوة بالدول الإسلامية البائدة،
فقام عليه بعض ضعاف العقول من أهل دولته، وأرادوه على العدول عن رأيه مخافة
أن تندثر لغتهم، بل تخلصًا من أن يتعلموا لغة غيرها، فكان عملهم هذا من جملة
السدود التي حالت دون آل عثمان وبسط أيديهم على الممالك الإسلامية المجاورة لهم
واللغة العربية أعظم رابطة بين المسلمين.
ولقد كانت الدولة ولا تزال تُعلَّم في مدارسها الرسمية العربية كما تعلم الفارسية؛
وذلك لأن التركية مزيج من هاتين اللغتين، وبدون معرفة قليل من اللغتين، لا
يتأتى لتركي أن يكتب كتابة صحيحة في لغته، فكان شأنها من بعض الوجوه شأن
المدارس في أوربا، لا تزال إلى اليوم تعلم اللاتينية واليونانية؛ لأنهما أصل لغات
أوربا، وإن كانتا بادتا أو كادتا، ولكن مدارس أوربا أخرجت كتابًا بهذين اللغتين،
ولم نعهد من مدارس الحكومة العثمانية كاتبًا بالعربية أو الفارسية، هذا والتركية
ليست لغة دين، ولا لغة علم، ولا لغة حضارة قديمة، ولا مدنية معروفة
كالعربية التي شهد أهل الأرض بأمجاد أهلها وحضاراتهم. ومن الغريب أنه لم ينبغ
في الدولة العثمانية كاتب عربي من أصل تركي على حين نبغ وينبغ من الفرس
والأكراد وغيرهم أناس يؤلفون بالعربية، فتحسبهم عربًا خلصًا، وإنك لتقرأ
العجمة في كلام ابن كمال باشا وكاتب جلبي وطاشكو بريلي، وغيرهم من الأتراك
الذين عانوا القلم العربي وعدوا في المصنفين ما لا تقرأه في كلام الراغب الأصفهاني
وأبي بكر الخوارزمي وحجة الإسلام الغزالي، بل إن هؤلاء على منشأهم الفارسي
كانوا أئمة الإنشاء العربي.
إذا تعلم أبناؤنا اليوم على الطريقة التركية، لا يلبثون أن يجيئوا أتراكًا،
ويتقنون التركية كأرقى أبنائها، وبذلك لا يخدمون أبناء لغتهم أدنى خدمة، وقد
رأينا معظم الذين تعلموا من أبناء سورية والعراق في المدارس الرسمية، لا
يحسنون التكلم بالعربية العامية فضلاً عن أن يكتبوا سطرين صحيحين بلغتهم، بل
ربما رأيتهم يمزجون المصطلحات التركية وبعض الألفاظ التركية بينا هم يكلمونك
بالعربية، فكان شأنهم في هذا شأن أكثر التوانسة والجزائريين من سكان المدن،
يتكلمون بعربية تكاد تكون أقرب إلى الإفرنجية؛ لما خالطها من الألفاظ الفرنسية
والأسبانية والطليانية.
وقد رأى العقلاء أن أحسن حل لمسألة اللغة العربية في المدارس الرسمية
وأسلمه عاقبة على أجيال الدولة المختلفة هو أن يجعل تدريس العلوم المادية كلها
باللغة العربية: كالطبيعيات والرياضيات والفلك والكيمياء والطب، وأن تجعل
العلوم السياسية كلها باللغة التركية: كالجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والحقوق
والاجتماع، وبذلك لا يقع حيف على العرب وهم نصف الدولة أو يزيدون، ولغتهم
أفضل لغات سائر العناصر العثمانية، والمستقبل كفيل بحل هذه المعضلة العلمية.
__________
(1) نستعمل لفظ الجنس والأجناس هنا بمعناه اللغوي والعرفي لا المنطقي، فالمنطقي يسمى جنس الترك أو الروم مثلاً صنفًا من نوع الإنسان الذي هو من جنس الحيوان، على أن الأجناس مراتب عند المناطقة منها: العالي والمتوسط والسافل، فتدخل فيها الأنواع والأصناف.
(2) سنبين هذا المعنى في مقدمة التفسير إن شاء الله.
(3) إن لسان الترك لم يكن لسان علوم وحضارة، وإنما كان يمكن تنفيذ ذلك وقتئذ بالعربية، كما حاول السلطان سليم.
(4) المنار: لعله سقط من هنا كلمة (فيها) .(12/501)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقرير [1]
عن امتحان مدرسة المعلمين الناصرية
في العام الدراسي 1908 الداخل في سنة 1909
صاحب السعادة سعد زغلول باشا ناظر المعارف العمومية حضرتاري.
قبل كل شيء أقدم إلى سعادتكم أكمل الشكر والامتنان على أن جعلتموني
موضع الثقة، فاخترتموني لرئاسة امتحان هذه المدرسة التي هي في نظري من
أهم المدارس وأفيدها لهذا القطر، ولهذا قد دققت البحث واختبرت كل شيء في
الامتحان بنفسي، وإني عارض ما علمته بالتفصيل.
(أ) رأيت أن وقت الامتحان الذي حدد لهذه المدرسة غير ملائم لحالتها؛
لأنه قد زاحمه قبله امتحان الشهادة الثانوية، وشاركه في زمنه امتحان مدرسة
الحقوق الخديوية، ونشأ عن ذلك تعطيل في العمل؛ لأن من انتقتهم النظارة
للامتحان فيها كان أكثرهم مشتغلاً بامتحان الشهادة وتلاوة أوراقه، واضطررنا
لتأجيل الامتحان في التربية العملية عن وقته المعين في الجدول، وهو أول مايو
سنة 1909 إلى ما بعد 16 منه، وأجهد الممتحنون أنفسهم في أول النهار وبعد
الظهر، حتى أتموا عملهم بمشقة عظيمة في أوقات هذا الحر الشديد.
فلهذا ولقلة العمال الذين يوثق بعملهم، أرى أن يجعل موعد امتحان هذه
المدرسة في الأعوام المقبلة من أول مايو كما وقع ذلك في بعض السنين.
(ب) لاحظت أن كون الامتحان بنمر سرية، قد أوجب زيادة العمل على
العمال، واستدعى إيجاد عمال في حين الاحتياج إلى عملهم في موضع آخر؛
لتزاحم الامتحانات في وقت واحد، ولو كانت الفائدة من جعله سريًّا توازي هذه
الأتعاب وتلك المضايقة في إيجاد العمال لهان الخطب. ولكني وزنت النفع والضر
في ذلك فوجدت الثاني أكثر بكثير، وغاية ما يقال في النفع: إن كون الامتحان
بالنمر السرية يجعل النظارة في اطمئنان من عدم وجود الغرض فيه؛ إذ يقرأ
الممتحن ورقة لا يعرف كاتبها، فيقدر لها درجتها بالضبط، وهذا النفع وإن كان
يكون حقيقيًّا في بعض الأوقات ليس بمطرد؛ لأنه ليس كل ممتحن يعمل فيه
الغرض، وفضلاً عن ذلك فقد يوجد شيء من التساهل مع الامتحان بالنمر السرية
يقوم مقام الغرض أو يفوقه؛ لأن الممتحن كلما قرأ ورقة ووجدها غير صالحة،
سأل عن النمرة التي يمكن أن يمر بها الطالب، ولا يكون ساقطًا فيعطيها للورقة
وهو جازم بأنه لا يستحقها؛ لأجل أن ينجو الطالب من السقوط، وذلك استعمالاً
للشفقة، وإذا أسأنا الظن قلنا: إن الممتحن تحت نظره أشخاص، يجب أن يمروا،
فيخاف أن يكون صاحب الورقة الساقطة منهم، فيمر الكل حتى يمر صاحبه بسلام
وهذا أكبر في الضرر من استعمال الغرض لشخص مخصوص بالرجاء المعتاد في
هذه البلاد، وبين أوراق الامتحان في كل علم أوراق منحطة جدًّا، وضع لها
الممتحنون الدرجات التي تقتضي مرور كاتبها فقط: كنمرة (عشرين) فيما نمرته
الحقيقة (40) ، و (25) فيما نمرته (50) ، و (15) فيما نمرته (30) ،
وهكذا ولسعادتكم أن تأخذوا نموذجًا من تلك الأوراق المكتوبة عليها مثل هذه النمر،
فتجدوها على ما وصفناه، وأيضًا فإن الامتحان بالنمر السرية في هذه المدرسة؛
وهي من المدارس المخصوصة العالية تفرقة بينها وبين أختها مدرسة الحقوق
الخديوية، ولا فرق بينهما في الواقع، ونفس الأمر فلم يكون الامتحان في الحقوق
جهريًّا وفي المعلمين سريًّا، على أننا لم نسمع بأن طالبًا في الحقوق مع الامتحان
الجهري نجح للغرض، ولا بأن طالبًا تأخر بقصد الإضرار به.
ولهذا فإني أرى أن يكون الامتحان في هذه المدرسة أيضًا جهريًّا، فيقل التعب
وتزول تلك الأضرار ويسهل وجود العمال، ويعرفون أنهم موضع الثقة فيعملون
على ما يزيدها، وأنهم ليسوا موضعًا للريبة، فيعتادوا النزاهة والتخلي عن
الغموض، وهذا من حسن التربية وإعلاء النفوس بمكان عظيم.
(ج) لاحظت أثناء تأدية الامتحان الشفهي في علوم: النحو والصرف
والطبيعيات وتقويم البلدان ما لا يكاد يصدق، وذلك أن الشخص الواحد يكون
شخصين متبايني الصفات والإدراك في وقتين مختلفين أمام ممتحنين في علمين،
وهذا وإن كان وجد في قليل من الأشخاص. ولكنه مما يستدعي النظر والالتفات
والبحث عن الأسباب، رأيت بنفسي أحد الطلبة يؤدي الامتحان الشفهي أمام الشيخ
حمزة فتح الله؛ فإذا سأله عن تطبيق قاعدة، أو إعراب جملة، أو تعيين محل اسم
من الإعراب، أو عن أصل الكلمة وما صارت إليه بعد القلب أو الإبدال، بحث
عن الجواب في جوانب السماوات وشاسع الآفاق، فإذا نبه إلى أن الجواب قريب
منه اعتراه ذهول، حتى صار لا يدرك البديهي من القول، ورأيته بعينه وهو أمام
علي بك بهجت يؤدي الامتحان في تقويم البلدان، فوجدته رجلاً ثابت الجنان منطلق
اللسان يعبر عما يريد بقوة، ولا يعتريه انزعاج. رأيت هذا في أكثر من واحد ومن
اثنين، وإني أحقق بعد أن أطلت الأخذ والرد والبحث؛ أن هذا الداء كان متأصلاً
في بعض أولئك الأشخاص من أصل التعليم؛ لأن قاعدته في الأزهر كثرة
الاحتمالات في العبارة الواحدة، واستعمال المعلم للتشكيك والإكثار من الاعتراضات
اللفظية، وقد تعودوا أن لا يعرضوا فكرهم على أحد سواهم، فإذا سئل هذا المتعلم
على هذه الطريقة حار في أمره , فلا يدري أي الاحتمالات يذكر، وأيها يكون
موافقًا لذوق السائل فيترك كما قدمناه. وأما العلوم الأخرى: فإنها خلو من هذه العلة
الثقيلة؛ علة الاحتمالات والتشكيك، فإذا سئل فيها قال ما يعلمه منها جازمًا بما
يقول والجزم في العلم هو قاعدة كل خير، وهو الأساس المتين في نجاح التعليم.
ولا يقال: إن هذا الفرق بين هذا الطالب وهو أمام الشيخ حمزة وبينه وهو
أمام بهجت بك جاء من عوارض أخرى مثل: وجود من يهابه زائدًا على من
يمتحنه، فإنني كنت موجودًا مع هذا الطالب أمام الاثنين، وإذا قيل: إن الفرق جاء
من كيفية توجيه الأسئلة، فإنني كنت أبسط السؤال له وهو عند الشيخ حمزة بطريقة
هي غاية في السهولة والوضوح، وقد لاحظ حضرة الشيخ حمزة فتح الله هذا
المعنى من بعض الطلبة، فأشار إليه في تقريره المقدم إليّ منه حيث قال: (ولذلك
لا أجد بدًّا من سرد نموذج مما طغى به من كثير منهم بنانه وبيانه، ويراعه
ولسانه، مما لا تعقل نسبته لأمثالهم إلا لفرط ذهول استحكم. فأما في الشفوي فكما
سمعتم من البعض حتى عذرتموه بحصر الهيبة في معترك الامتحان؛ ولذا أقتصر
على ما خطه بنانهم في الأوراق التي صححتها) .
ظهر مما تقدم أن العيب في هذا الموضوع إنما هو في كيفية التعليم وفي
بعض الكتب، لا في شخص المتعلم، والنظارة مسؤولة عن إصلاح هذا العيب.
والطريقة التي أراها نافعة في هذا الباب هي انتقاء الطلاب حين الدخول انتقاء
كاملاً في: نباهتهم ومعلوماتهم وسيرتهم، وليس من الضروري أن نتوسع في العدد
فبدلاً عن أن نأخذ ستين منهم أربعون ناقصون، نأخذ عشرين كاملين إذا تخرجوا
تخرجوا رجالاً ذوي قدرة على العمل، وقدوة للمتعلمين في كمال الأخلاق. أما إذا
تخرج من الستين خمسون وكان منهم ثلاثون ناقصين، فقد أدخلنا في عداد المعلمين
أشخاصًا غير صالحين، وكانت النتيجة مساواة الصالح بالطالح، والخلط بين
الضار والنافع، وعندي أن يقال: إننا لا نخرج كل سنة إلا عشرين كاملين خير
من أن يقال: إننا نخرج كل سنة طائفة كبيرة لا يمكنها في مجموعها القيام بوظيفتها
حق القيام، على أنه قد مضى وقت الاحتياج إلى الإكثار من المعلمين بقطع النظر
عن الكامل والناقص، وجاء الوقت الذي يجب فيه التقليل من المعلمين حتى
نصادف الخيرين منهم.
ويمكن أن تجمع النظارة لجنة؛ لتقرر مقدار الحاجة إلى المعلمين في كل سنة
وتقرر بناء على ذلك انتقاء الطلبة وشروط الدخول، وأرى أن يكون في أول ما
تنظر إليه اللجنة؛ أن الطالب لا يكون قد أمضى زمنًا طويلاً في الأزهر بين تلك
الاحتمالات والشكوك [2] ، ولا بُدَّ حينئذ أي: إذا تقررت هذه القاعدة أن تطيل
النظارة زمن وجودهم في المدرسة، حتى يتغير وضعهم بالمرة، ويسبكوا سبكًا
جديدًا، فيكون المتخرج منهم مفكرًا مستنتجًا، تَرَبَّتْ فيه ملكةُ القيام بالنفس، فيمكنه
العمل بما تعلم، وأن يفيد المتعلمين، ويبثَّ فيهم روحَ العلم الحقيقي وروح التربية
الحقة، فإن الذي ينقص المعلمين اليوم هو التفكر والاستنتاج، فإذا أخذنا الطلبة من
الآن فصاعدًا ممن لم يمضوا مدة طويلة في الأزهر، وعوضنا عليهم تلك المدة في
المدرسة، وصلنا إلى نتيجة حسنة قطعًا، وتخرج من هذه المدرسة العدد المجيد
لعمله وإن كان قليلاً، فهو خير من عدد كبير جله ممن لا يجيد العمل ولا يحسن
التعليم.
على ذكر هذا الذي تقدم أقول: إنني امتحنت طلاب السنة الرابعة من مدرسة
الحقوق كما امتحنت مدرسة المعلمين، فإذا مدرسة الحقوق في موضوعها متقدمة
وفي طلابها جرأة على القول أمام أي ممتحن، وبالطبع لم تكن لهم هذه الجرأة إلا
من أصل التعليم، فلو أصلح التعليم في مدرسة المعلمين لوجد من خرجيها من يفوق
متخرجي الحقوق؛ لأن في مدرسة المعلمين تتوفر العلوم العربية والمنطقية، وكلها
مما يوجب القوة في الحجة، والطلاقة في اللسان، والتوسع في البيان.
(د) لاحظت أن بعض العلوم كآداب اللغة والتاريخ تتفق فيها كتابات الطلبة
عند الامتحان اتفاقًا يكاد يكون تامًا من كثير من الوجوه، فعلمت من ذلك أنهم لا
يعتمدون على قوة الكتابة والإنشاء، ولو كانوا كذلك لاختلفت العبارات، فإن
المنشئ يمكنه أن يعبر عما علم في موضوع واحد بعبارات مختلفة الأسلوب، وإن
كانت متفقة الموضوع، وهذا العيب يكاد يكون عامًّا في المدارس التي امتحنتها،
وإن اختلفت التلامذة في ذلك بعض الاختلاف، ولاحظت أيضًا في أمر التطبيق ما
يصح أن ألفت النظارة إليه، ويقول حضرات الممتحنين كلهم في الاعتذار عن
بعض النقص الذي يوجد فيه. إن علته إنما هي تضييق الزمن، وهذه تقاريرهم
مجمعة على كثرة العلوم وقلة الزمان، وبعضها يشير إلى قلة الزمن المحدد للعلم
بالنظر لموضوعه وفائدته كعلوم العربية وعلوم الشريعة التي هي المقصود الأصلي
من تأسيس هذه المدرسة، وكأنهم يرمون إلى النظر في أمر البروجرام ولزوم تعديله
على مقتضى وضع المدرسة وما يناسبها من العلوم.
إني بما قدمته في فقرة (ج) من الكلام في أمر الانتقاء للدخول وشروطه،
والأخذ ممن قلَّ زمنهم في الأزهر وتعويضهم زمنًا في المدرسة أستغني عن
الذهاب مع حضرات الأساتذة الممتحنين إلى النظر في أمر البروجرام، فإنه بعد أن
يتقرر الأمر على ما تقدم، يستغنى موقتًا عن التعديل فيه، ومع ذلك فلو رأت
النظارة أن تنيط اللجنة التي تؤلف للغرض المتقدم بالنظر أيضًا في تحديد العلوم
على الوجه المناسب لموضوع المدرسة، ومدة الدراسة، وعدد الدروس في كل علم
وما يبقى من العلوم وما يحذف، لكان ذلك خيرًا ومفيدًا للعلم والتعليم.
يدخل في باب التطبيق وجودته صناعة الإنشاء، وحيث إني كنت ممتحنًا فيه
هذا العام أيضًا، فإني أقدم هذه الملاحظة بمثابة تقرير مني على إفراده في امتحان
الإنشاء.
رأيت السنة كلها وعدد طلابها (56) نفسًا، لم يجز ولا واحدًا منهم الدرجة
العليا، ولم ينل القريب منها إلا عدد قليل. أما الباقون فمنهم كثير أخذ نصف
الدرجات المقررة، وهذا فيه ما فيه على ما قلناه، ومنهم من زاد عليه زيادات
تتردد بين (26) و (39) . وقد قال لي الشيخ أحمد السكندري مدرس هذا الفن
(وهو الذي كان يقرأ لي ما كتبوه) : إن هذه الفرقة كلها كانت عندي في طول السنة
متوسطة لا عالية، وقوله هذا هو قول العارف الممارس، ولا يؤخذ عليه أنه هو
المدرس لهذا الفن، ربما قاله حتى لا يلحقه نقصهم؛ لأن الرجل معروف بالعمل
وبالصدق في الأقوال، وإني موافق على قوله هذا. وأقرر أن هذه السنة في
الإنشاء أقل من سابقاتها، ولا يمكنني أن أنسب ضعفهم إلى صعوبة موضوع
الإنشاء، فإنني سألتهم سؤالاً يكون كل منهم معه حرًّا في اختيار الموضوع الذي
يجيد الكتابة فيه، وكان عندهم من الوقت ساعتان. ومضمون السؤال أن كل طالب
يختار فضيلة من الفضائل ويحث على العمل بها قومًا مخصوصين، فكان مقتضى
هذه الحرية أن تجيء كتابة كل منهم في غاية الإجادة، ولا يكون هذا إلا
إذا كانوا يحسنون صناعة الإنشاء.
(هـ) يستخلص مما تقدم أن هذه المدرسة يجب أن يكون لها مقام
مخصوص بين المدارس العالية؛ لأن الغرض منها كما هو ظاهر من نص المادة
الأولى من قانونها هو؛ تخرج معلمين مصريين للغة العربية، وكل ما يدرس بها
في المدارس التابعة لنظارة المعارف العمومية، وهذا الغرض هو أعظم غرض
تتوجه إليه فكرة من يريد إصلاح التعليم، ولا فائدة أكبر من إيجاد هؤلاء المعلمين
إيجادًا حقيقيًا، وهو لا يكون إلا بإصلاح النظام الذي يتخرج بمقتضاه أولئك
المعلمون، فإننا في غاية الاحتياج إلى كونهم من النوابغ لا أن يكونوا كثيرين،
فيجب انتقاء الطلاب وانتقاء الأساتذة لهم وإيجاد المناسبة بين علومها وزمانها،
وهذه المدرسة لا تقل في الأهمية عن أختها شقيقتها مدرسة القضاء الشرعي،
وزمان الدراسة في هذه الأخيرة هو تسع سنوات، فليس من ضرر أن تجعل مدة
الدراسة في مدرسة المعلمين ست سنوات، وبهذا ننصف إحدى الشقيقتين نوعًا، إن
لم نتمكن من إنصافها بالتمام.
(و) هذه الملاحظات لا تنافي أننا نذكر لهذه المدرسة حسناتها السابقة من
يوم نشأتها إلى الآن، وأنها أفادت البلاد والتعليم واللغة العربية بما لا يُحصى من
الفوائد، فإنني شغوف بتقدم هذه المدرسة أكثر مما هي عليه وحصولها على درجة
تجعلها في أعين القائمين بأمر التعليم في المقام الأول من الاعتبار، ولا تمنعنا هذه
الملاحظات أيضًا من أن نذكر المدرسة في هذه السنة بالنتيجة الحسنة التي حصلت
عليها في هذا الامتحان الأخير وهي؛ أنه لم يسقط من السنة الرابعة سوى تسعة من
(56) ، فيكون النجاح باعتبار (84) في المائة تقريبًا، وإن سبب سقوطهم كان
علم الرياضة فقط في سبعة منهم، وعلم الرياضة مع نقص في بعض متوسطات
المجموعات في الاثنين، وإن الساقطين في السنة الثالثة خمسة فقط، والساقطين في
السنة الثانية ستة فقط، ولم يسقط في السنة الأولى ولا واحد، ولم يسقط في
التحضيرية سوى واحد، وقد ذكر حضرات الممتحنين في تقاريرهم شهادات طبية.
وذكروا معاذير فيما وجدوا من بعض التقصير، فنسبوا ما يوجد منه لضيق
الزمن في الغالب، وللامتحان في شيء قد تركوه زمنًا طويلاً. وهذه ملخصات
تقارير حضراتهم أذكرها بغاية الإيجاز مع إلفات النظر إلى ما جاء في كل منها
من التفصيل، ولي أمل شديد في أن سعادة ناظر المعارف الذي عود المصلحة
العمومية عنايته بها، يعير هذه الملاحظات جانبًا من التفاته، فتتجه المدرسة إلى
الكمال الأكمل المطلوب لها مني ومن أمثالي - وفقه الله لخير البلاد والعباد.
***
وهذه هي نموذجات التقارير
(تقرير حضرة الأستاذ الشيخ حمزة فتح الله ممتحن النحو والصرف في
السنة الرابعة تحريريًّا وشفهيًا، وتحريريًّا في علم المعاني وفي جميع علوم البلاغة
للثانية، والعروض والقافية للسنتين الثالثة والأولى) قال: (إنهم أحسنوا فيما عدا
النحو والصرف كل الإحسان، ولا أنقم منهم إلا وضع الهمزات على ألفات الوصل
وقال: إنهم أجادوا في استحضار القواعد وجمع شتيتها والتعبير عنها بعبارات سلسة
والتمثيل بدون تقيد بما في الكتب واستحضار الشواهد، ثم سرد نموذجًا من هفواتهم
في علم النحو والصرف ورسم الحروف، واستنتج أن حالة الجميع حسنة، وقال:
إنه يعوزهم في علمي النحو والصرف زيادة العناية بالتمرين العملي، وأثنى عليهم
جميعًا فيما يتعلق بعلوم البلاغة والعروض.
(تقرير حضرة الشيخ النواميسي ممتحن السنة الرابعة في المنطق والسنة
الثالثة في الفقه والأصول) قال: النتيجة في هذا العام حسنة، وإن كان يوجد
تقصير من بعضهم في الإجابة خصوصًا في علم الأصول؛ فربما كان ذلك ناشئًا من
كثرة المواد التي تظهر أنها عبء، إلى آخر ما قاله ولفت النظر إليه.
(تقرير ذهني باشا ممتحن الرياضة والهيئة مع جناب المستر تويدي) قال:
امتحنت التلامذة في مسائل موافقة للبروجرام، وبيَّن الناجحين في كل واحد من
الحساب والجبر والهندسة على حدته والناجحين في الكل على العموم، ومدح الطلبة
على سلوكهم في الامتحان، والنتيجة هي ما قلنا سابقًا من أن الساقطين في الرياضة
تسعة.
(تقرير حضرة الشيخ الطوخي في التوحيد والتفسير والحديث) قال:
أتجاسر على الاستلفات إلى كثرة المقررات في العلوم بجداول التدريس، وصعوبة
بعض الكتب المقررة لتدريس بعض علوم المجموعة الشرعية، وعدم كفاية الزمن
المحدود لتدريسها. ويظهر من بين السطور في تقريره أن الطلبة كانوا يعجزون
عن النجاح لولا مجهوداتهم، فأوجه نظر سعادتهم إلى ما يريده الشيخ الطوخي.
(تقارير التربية العلمية والعملية) تشير إلى أن الحال محتاج إلى تحسين،
وطلب الشيخ شريف زيادة علم النفس في المدرسة، حتى يكمل نظام التربية العملي،
وأنا لا أوفقه عليه؛ لاعتبارات كثيرة أهمها قلة عدد الراسخين في هذا العلم الذين
يُنتفع منهم فيه.
(تقرير علي بك بهجت في التاريخ والجغرافيا) مدح التلامذة في أنهم
أقلعوا عن عادة الكتابة من المحفوظات، ومدحهم على ما حصَّلوه، ومدح أساتذتهم
على ما علَّموه، أشار إلى أن زميله يريد إلفات نظر المدرس للجغرافيا إلى العناية
بالرسم.
(تقرير جعفر بك في الخط) قال: إن الطلبة ينقصهم كثرة التمرين خارجًا
عن النموذجات التي تمرنوا فيها.
(تقرير ممتحن العلوم الطبيعية) قال: إن إجابات الطلبة كانت جيدة في
العلوم الطبيعية وأحسن منها في الكيمياء، فإنهم لم يعرفوا ما هي الكهربائية
الديناميكية، واقترح تنقيح البرنامج الحالي وجَعْله أرقى مما هو عليه الآن.
(تقرير ممتحن فن الرسم) قال: إن (12 ونصف) تحصلوا على (70)
في المائة من الدرجة النهائية، وقال: إن عدد الفرقة كان كثيرًا بالنسبة لموضوع
الرسم على تختة التباشير، وطلب تخصيص ساعتين في الأسبوع للرسم؛ لأن
زمنه الحالي قليل.
(تقرير معلم الجمباز) قال: إن النتيجة مرضية، وأثنى على نشاط الطلبة
وعَمَلِهم بما يُلْقى عليهم من التعاليم.
__________
(1) ننشر هذا التقرير لما فيه من الفوائد الدقيقة المتعلقة بفن التعليم وحاله فى مدرسة من أرقى المدارس المصرية وأهمها عندنا بيان سوء أثر تعليم الأزهر في نفوس طلابه؛ من حيث إدراك المسائل ومن حيث بيانها، وهو ما شرحه صاحب التقرير الشيخ عبد الكريم سلمان الشهير، العضو في المحكمة الشرعية العليا، في مسألة (ج) فعسى أن يكون فيه عبرةً لمديري نظام الأزهر، كما نحب له ونرضى.
(2) المنار: لما عرَّفت الشيخ عبد العزيز جاويش للأستاذ الإمام سألني عن درجة تحصيله في أوربا ودار العلوم قلت: إني لم أقف على ذلك لقرب العهد بحضوره من أوروبا، ولم أعاشره قبلها كثيرًا، فقال: سله عن مدة إقامته في الأزهر، فإن كان أقام زمنًا طويلاً فيه، فما أرى أنه حصَّل شيئًا تُرجى فائدته؛ لأن طول الإقامة في الأزهر تضعف الاستعداد للعلم، حتى قد تذهب به، وإن كانت إقامته فيه قصيرة فهو عندي محل رجاء.(12/512)
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
__________
رد الشبهات على النسخ
وكون السنة من الدين
لليافعي
(6)
بقية بحث أحاديث الآحاد وكونها من أصول الدين
قال في الأحاديث ما خلاصته: إنه لا يبعد أن يكون بعضها موضوعًا، وإن
ما غلب على الظن أن يكون له أصل صحيح، كان شريعة خاصة بأحوال خاصة
وظروف مخصوصة في مبدأ الإسلام ... إلى قوله: وما جاء في القرآن هو الشرع
العام لكل زمان ومكان؛ ولذلك لم يأت أمثال هذه المسائل الخاصة فيه، ثم قال:
ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن تدوينها؛ كي لا تكون
خالدة بينهم كالقرآن الشريف ... إلى قوله: لم يحسن المسلمون الجمع بين هذه
الأحاديث وبين نصوص الكتاب العزيز.
وأقول: إن ما كان موضوعًا، فقد بينه النقاد بُدور العلم ونجوم الهدى
- رحمهم الله - ومن سلك الطرق المؤدية عرفه، والصحيح قد بينوه على اختلاف
مراتبه وهو كثير، وشريعة الله ودينه هو ما في الكتاب والسنة والنبوية، والعجب أن
الدكتور الفاضل قد ذكر في رسالته هذه أن في الكتاب كثيرًا من الأحكام الخاصة
ثم هو ينكرها هاهنا، ونحن نعلم أن فيه: المخصوص والمقيد، والمجمل والمبين.
والأحاديث وإن كان قد يوجد فيها بعض ذلك إلا أن ما فيها من ذلك هو أقل مما في
القرآن، ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن تدوينها قد قدمنا الكلام عليه، والمسلمون
قد أحسنوا التوفيق بين الأحاديث وآيات الكتاب، وما اعترض به حضرته قد عرفت
الجواب عنه.
أما قوله: وإني لأعجب من أهل الحديث، وقوله: فكأنه يجب على كل مسلم
بمجرد ما يسمع أقوالاً منسوبة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يفني حياته
في معرفة أحوال رجالها، والوقوف على أمورهم ... إلى قوله: فأي حرج في
الدين أكبر من هذا، وخصوصًا كلما طال العهد إلى آخره.
وأقول: الأمر أيسر وأسهل مما ظن الفاضل، فالمتأهل للنظر قد سهل الله له
الأمر بما قد صنفه العلماء من الأصول وما جمعوه من الصحاح التي قد هذبت،
ونقيت، وقربت، واختصرت، على أن الجد والاجتهاد في تحصيلها هو من أفضل
الطاعات وأولى ما أنفقت له نفائس الأوقات: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} (النحل: 96) فسد الزمان، وتركت الأديان، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا
بالله، فلتكن منكم أمة يدعون إلى الخير. أما العوام فلا حرج عليهم ولا تضييق،
وقد قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) أي:
اسألوهم عن دين الله لا عن آرائهم المخالفة له، فمن أجاب بغير ما شرعه الله أو
بما يخالف ما شرعه فليس هو من أهل الذكر الذين أحال الله عباده إلى سؤالهم، بل
هو من أهل الرأي المذموم، ولا ندري ما مراد الفاضل بهذا والله المستعان.
قال حضرة الفاضل - حفظه الله - في الكلمة السابعة من رسالته: السنة في
اللغة وفي اصطلاح السلف هي الخطة والطريقة المتبعة، إلى أن قال: وهناك فرق
عظيم بين لفظ السنة ولفظ الأحاديث، ويجب على كل باحث أن يدرس هذا الفرق
جيدًا، حتى لا يقع في الخلط والخبط، وقال: أما تسمية الأحاديث مطلقًا بالسنة
فهي من اصطلاح المتأخرين، إلى أن قال: والسنة لا تكون إلا عملية.
وأقول: إن الله قد أمر باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن
الاتباع يدل على امتثال أمره فيما قال صلى الله عليه وسلم، ونحن لا ننكر أن
الاتباع لغة يكون في الفعل أكثر منه القول. أما كون ذلك هو العرف الشرعي فلا
نسلمه، وإذا كانت السنة هي الخلطة والطريقة كما قال حضرته فلا شك أن الخطة
يكون أصلها القول، والطريق والطريقة والسبيل معناها واحد، وقد قال تعالى:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108)
والدعاء قول وقد سماه سبيلاً، والفاروق الخليفة الثاني - رضي الله عنه - قال:
أصبح أهل الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها، وتفلتت منهم أن
يردوها فاستبقوا الرأي، وفي رواية واستحوا حين يسألون أن يقولوا لا نعلم
فعارضوا برأيهم فإياكم وإياهم، وفي رواية أخرى إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم
أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا. قلت:
وهذه الآثار سواء كانت موقوفة حقيقة، أو قد سمعها من رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فإنه - رضي الله عنه - قد سمى الأحاديث سننا، وبذلك يظهر أن تسمية
الأحاديث سننًا ليس هو اصطلاح متأخر، وقد روي وصح عن غيره نحو ذلك،
وهو كثير، على أنَّا نقول أيضًا: إن الله كما أمر باتباعه في سننه صلى الله عليه
وسلم، كذلك قد أمر ورغب وأكد بطاعته، والطاعة إنما تكون في أمره القولي
حقيقة، وقد ذكرنا ذلك وما يقاربه ويضارعه بما لا مزيد عليه في رسالتنا السابقة.
قال: ولو كانت واجبة الاتباع لعلمها الناس جميعًا في عصره - صلى الله عليه
وسلم - وجروا عليها في أعمالهم، وقال: وهذا أدل دليل على أنها لم تكن دينًا عامًّا
لجميع البشر إلى آخره، وأقول: لا يلزم ذلك لأن جميعهم لم يعلموا القرآن أيضًا،
ولم يجروا في فهمه على طريقة واحدة في كل مسألة مسألة وواقعة واقعة، وهذا
الخليفة عمر - رضي الله عنه - من كبارهم، قد خفي عليه أمر الصداق وهو موجود
في القرآن، فلما قرأت عليه المرأة قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا
مِنْهُ شَيْئاً} (النساء: 20) قال: (رجل أخطأ وامرأة أصابت) فاشتراط استوائهم
في العلم والعمل، واتفاقهم على جميع الأحكام شرط لغو لم يقل به أحد من المسلمين
كلهم، ولم يكن لحضرة الدكتور- حفظه الله - فيه سلف، لا في العمل، ولا العلم
بالقرآن، ولا في السنة وإذا كان الأمر في القرآن كما عرفت، وقد امتاز بأنه
كلام الرب بلفظه، وهم مأمورون بتبليغ لفظه للإعجاز ومتعبدون بتلاوته في الصلاة
ونحوها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأه عليهم في الصلوات الجهرية
ونحوها وهم كذلك، كل ذلك وهم لم يتفقوا على جميع أحكامه، ولا على العمل
بجميعها كما عرفت، فكيف يصح أن يشترط ذلك في الحديث، وهو إنما هو في
المرتبة الثانية؟ أفليس من الجائز أن يقول - صلى الله عليه وسلم - قولاً
ويُحدّث بحديث أو يحكم بحكم فلا يسمعه ولا يحضره إلا بعضهم، فيخفى على
الآخرين؟ على أن بعض الأحاديث قد عمل بها واتفق عليها أهل الحل والعقد منهم
- رضي الله عنهم -، وقد حدثت أمور وقائع فرجعوا فيها إلى العمل بالحديث، وإذا
صح عندهم الحديث فلم يكونوا يتأخرون عن العمل به، وأيضًا أقول بلا مجازفة:
قَلَّ أن يوجد حديث يصلح للاحتجاج به إلا وقد عمل به منهم عدد، ومن لم يعمل
به فنحن نعلم ونقطع بأنه لم يبلغه، أو لم يصح عنده، وذلك بديهي مدة عملهم
فلا إيراد ولا شبهة، فيتأمل فيما قدمناه من الحجج والله أعلم.
فالأحاديث الصحيحة قد جرى عليها العمل بلا انقطاع إلى يومنا هذا. أما
الخلاف في الدلالات والترجيح وتقديم بعض الأدلة على بعض في موارد الخلاف
والتعارض فهو واقع في القرآن والحديث، يعرف ذلك من اختبره، وعليه فلا
يصلح ذلك دليلاً على أن الشرع موقت بزمان دون زمان، وحال دون حال.
ونحن قد قلنا في رسالتنا السابقة: إن جميع الأحاديث المتفق على صحتها أو
التي صححها أو احتج بها أهل الكتب المشهورة، قد تلقتها الأمة بالقبول فلا نعيد
الكلام خوف الإطالة.
قال الفاضل - حفظه الله - في الكلمة الثامنة من رسالته:
(1) قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - ما معناه: إن الأحاديث الواردة
في تفسير عبارات القرآن الشريف لا أصل لها، وأقول: أولاً: إن الدكتور الفاضل
إذا أخذ هذه المقالة عن الإمام أحمد - رحمه الله -، وضم إليها أن جميع السنن لا
تقبل ولا يجب العمل بها، فماذا يبقى بين أيدي المسلمين من بيان الدين ومجملات
القرآن، وعليه فلا يبقى إلا العمل بالرأي، وقد عرفت ما فيه: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ
أَدْنَى بَالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة: 61) قلت: والذين عرفوا الإمام أحمد وأقواله،
إنما حملوا قوله على أنه لم يصح عنده في ذلك شيء مرفوع؛ لأن عامة ما يروى
إنما هي المراسيل، وقد قال غيره من الأئمة: إن حكم أكثر الموقوفات في ذلك
الرفع، وعدم علمه لا ينفي أن يكون هناك شيء كثير مرفوع لم يبلغه، على أنه قد
نقل عنه في الإتقان؛ أنه قال أي الإمام أحمد: بمصر صحيفة في التفسير رواها
علي بن أبى طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدًا ما كان كثيرًا.
وما قاله الإمام أحمد - رحمه الله - لا يفيد الدكتور الفاضل شيئًا، وفرق بين ما
ذهب إليه الدكتور وما يدل عليه قول الإمام أحمد رحمه الله آمين، ولو أردنا أن
نورد عن الإمام ما قال في وجوب اتباع الأحاديث لاستدعى ذلك مجلدًا كبيرًا،
وكذلك الإمام الشافعي - رحمه الله -، كلاهما على نقيض مذهب الفاضل الدكتور،
وقول الإمام الشافعي - رحمه الله - في النسخ إنما هو من نوع الكلام، فيما إذا
تعارضت الأدلة ?
أما ما نقل عن أهل الظاهر فليس كما قال، ولم نَرَ من نَقَلَ عنهم عدم وجوب
العمل بها، كيف ومذهبهم إنما اشتهر بالعمل بالقرآن والحديث فقط؛ ولذا يقال لهم
أهل الظاهر، إنما ينقل عن بعضهم أنه منع تخصص الكتاب بالكتاب وهو مبني
على اصطلاح متأخر اعتمدوه، والحق خلافه. نعم؛ نقل عن إمامهم داود - رحمه
الله - أن المتواتر من السنة يعارض الكتاب، ولا يخصص أحدهما الآخر؛ أي:
فهو يتوقف حتى يعلم التاريخ، وحينئذ يكون ذلك عنده من مسائل النسخ لا
التخصيص. وأما آحاد السنة الصحاح فلا نعرف لهم خلافًا منقولاً نقلاً موثقًا أنهم
منعوا تخصيصها للقرآن. وبذلك تعرف أن قولهم إنما هو مخالف ومناقض لمذهب
الأخ الفاضل الدكتور- حفظه الله.
قال: قال جمهور الأصوليين: إنها ظنية، وأقول: قد قدمنا الكلام على ذلك
وأن الحق غير ذلك، على أنهم مجمعون على وجوب اتباعها.
قال: وقال جمهور المسلمين: إنه لا يجوز الأخذ بها في العقائد. وأقول:
كونهم الجمهور غير مسلم. بل الجمهور من عهد رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - إلى يومنا هذا على خلاف ذلك، على أنه لا يجب أن نعتمد ونتدين بأقوال
الرجال، إلا إذا وافقت الصواب من السنة والكتاب.
قال: قال كثير من الأئمة كالقاضي عياض: إنه لا يجب الأخذ بها في المسائل
الدنيوية المحضة، وأقول: قد سبقهم إلى ذلك سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم
- فيما صح عنه. لكنه لا يدل ما زعمه حضرة الفاضل ولا يؤيد مذهبه.
قال: وقال جميع المحدثين: إن الموضوع منها كثير، وتمييزه عسير جدًّا،
وفي بعض الأحوال مستحيل. قلت: أمّا أنَّ أحدًا منهم قال: إن تمييزه مستحيل
فغير مُسلَّم. وأما الكثير فلا بأس وهم قد ميزوا ذلك وظهر أمر الله.
وأما ما نقل عن الإمام أبي حنيفة فإن صح ذلك كان بحسب اطلاعه، لا إنه في
نفس الأمر كذلك، وإمام الأحناف - رحمه الله - قد استفاض عنه وجوب تقديم
الحديث الضعيف على الرأي، فهو وأتباعه الصادقون على نقيض ما يذهب إليه
الفاضل الدكتور.
وما نقل عن الإمام مالك - رحمه الله - فليس مما نحن بصدده، وإنما هو من
باب ترجيح أحد الدليلين إذا تعارضا، وهو لا يدل على ما ذهب الفاضل الدكتور
حتى ولا من باب الإشارة، ومذهب الإمام مالك - رحمه الله - معروف في إيجاب
العمل بالأحاديث الصحاح.
قال: أجمع المسلمون على عدم تكفير من أنكر أي حديث منها. قلت: إن
من أنكر ذلك؛ لأنه لم يصح لديه فالأمر كذلك، ونحن نقول بذلك. وأمَّا مَنْ رَدَّ ما
عَرَفَ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله بلا مسوغ، فهو كافر برسالة محمد
صلى الله عليه وسلم.
وقوله: إن تناقضها كثير إلى آخره، جوابه: إن ذلك إنما هو في نظر بعض
الناس ودعوى الكثرة، والاستحالة في التوفيق غير مسلم، وقوله: قام الدليل الحسي
إلى آخره، جوابه أننا لا نسلم ذلك. وقوله: لم يجمعها الصحابة ... إلخ، قدمنا
الكلام عليه.
قال: لم يبلغوها إلى الأمم بالتواتر، أقول ذلك غير لازم وهو لا يضرنا،
والشيء لا يكون متواترًا إلا إذا تواتر بل قصد وتواطى، وإنما يكون متواترًا
بالاتفاق (كذا) .
قال: إنهم نهوا عن كتابتها وأحرقوا ما كتبوه منها، وأقول: قدمنا الكلام على
الكتابة. وأما الإحراق فهو لم يكن لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى
المدعي البيان بما يعين ويدل على مراده.
قال: قد نهى بعضهم عن التحديث وكرهه، أقول: إن صح ذلك فإنما هو
عن بعضهم؛ وسببه كما قال خوف الغلط على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فيقع المكثر في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن من يقال إنه
كره ذلك عمر - رضي الله عنه -، فقد روي عنه الجم الغفير أحاديث كثيرة، وقد
قدمنا بعض قوله في الأحاديث، وإن غيره فعليه بيانه على أن كراهة الإكثار من
التحديث لون وما ذهب إليه الدكتور الفاضل لون آخر، فلا حجة له في ذلك، فتأمل.
قال: كان أفاضلهم أقل الناس حديثًا ... إلخ، وأقول ذلك غير مسلم على أن
التحديث القليل الذي يسلمه هو حجة عليه ينقض مذهبه، ونحن نقول: إن عدم
الإكثار له أسباب كثيرة ليس هذا موضع بسطها.
قال: من كان من الصحابة - رضي الله عنهم - كثير الحديث ملوه وزجروه
كما فعل عمر - رضي الله عنه - بأبي هريرة - رضي الله عنه -، وأقول أبو
هريرة من الثفات ومن الصحابة الكرام، وكلام عمر له أسباب غير ما يريده
الدكتور الفاضل، وقد عرفت بعض كلام عمر (رضي الله عنه) وهو من أكثر
الصحابة أمرًا باتباع الحديث والسنة، وقد حدث عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم بأحاديث كثيرة.
قال: إن أئمة المسلمين لم يتفقوا على الصحيح منها. قلت: بل قل: اتفقوا
على كثير من ذلك، وهذا إن صح أن يقال فإنما كان قبل أن تدون، أما بعد أن
صنفت ودونت، فقد اتفق الحفاظ والأئمة المتأخرون على قبول تصحيح ما وُسِمَ
بالصحة في الكتب المشهورة، وما بقي فيه بعض اختلاف فهو طفيف يمكن
المنصف تمييزه.
قال: لم يعتن المسلمون بحفظها كما حفظوا القرآن. أقول: لا يلزم ذلك ولا
يضرنا، ونحن لم نقل: إنه يلزم لها في الحفظ اللفظي ما يلزم ويجب للقرآن، على
أنه قد اعتنى بحفظها كثير من الأئمة والقادة وأهل القرائح الوقادة الذائدون عن الدين،
كما أخبر بهم سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. فجزاهم الله عن هذه الأمة خير
الجزاء، ورحمهم الله ورضي عنهم وأرضاهم آمين، وصلى الله وسلم على رسوله
الأمين إلى يوم الدين.
هذا جواب ما كتبه الدكتور الفاضل بغاية الاختصار، وأنا أرجو حضرة شيخ
الإسلام أن يطبع ذلك في المنار الأغر ولو دفعات متفرقة، فإنه قد رغب فيه كثير من
قراء المنار ومن ينظره بعين الاعتبار، وألتمس من حضرته أن يصلح ما فيه من
الخطأ والزلل؛ لأني كتبته بعجلة بعد أن كنت أردت الإعراض عن الجواب. ولكن
إرضاء لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم للإخوان الكرام الذين رغبوا في ذلك.
كتبت ذلك ارتجالاً وألتمس من حضرة شيخ الإسلام أن يذكر ملخص رأيه، وكذلك
ألتمس من علماء الإسلام حفظهم الله وأيد بهم الدين أن يتكلموا ولو بالتصويب
والتخطئة، فإن الزمان -كما ترون- أهله أول ما يبادرون إلى حب الخلاف ولو
لأضعف الشبهات. فنسأل الله العافية في الدين والدنيا والآخرة، وآخر دعوانا أن
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله وآله إلى يوم الدين.
... ... ... ... ... ... قال ذلك بفمه وكتبه بقلمه
... ... ... ... ... الحقير: صالح بن علي بن ناصر اليافعي
(المنار)
إننا نشكر لصديقنا الأستاذ اليافعي غَيْرَتَهُ على السنة السنية وعنايته بالدفاع
عنها في هذا الزمن، الذي عاد الإسلام فيه غريبًا كما بدأ، ونسأل الله تعالى أن
يجعلنا وإياه من الغرباء الذين يظهرون السنن، كما ورد في بعض روايات الحديث
ثم نشكر له حسن ظنه بنا؛ ومنه أمره إيانا بإصلاح ما عساه يوجد في كلامه من
خطأ وزلل، وإطراؤه إيانا بالألقاب والنعوت التي لا نستحقها.
أما رأينا في المسائل التي جرت المناظرة فيها بينه وبين صديقنا الدكتور
محمد توفيق أفندي صدقي؛ فلا نرى أن نبحث في جزئياتها بالتفصيل؛ لما في ذلك
من التطويل الذي يمله القراء، ويعسر على أكثرهم ضبطه وربطه بأصله، ومن
كان مستقل الفهم غير مقلد في العلم قلما يوافق رأيه رأي واحد من المختلفين أو
المتناظرين في مثل هذه المسائل، بل يرى أن كل واحد أخطأ في بعض
المسائل وأصاب في بعضها، وهذا هو رأينا في جزئيات كلام صديقَيْنا المتناظرَيْن ,
وأما المسائل الثلاث الكلية التي هي أقطاب هذه المناظرة وهي: مسألة النسخ،
ومسألة العمل بالأحاديث، وإفادة أخبار الآحاد العلم أو الظن، فسنقول فيها قولاً
مختصرًا مفيدًا إن شاء الله تعالى، ونرجو أن يكون ذلك في الجزء السابع.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(12/521)
الكاتب: أحمد بدوي النقاش
__________
إيضاح وانتقاد
جاءتْنا هذه الرسالة من صاحب الإمضاء فننشرها ونجيب عنها وهي:
العلاَّمة المفضال السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر:
(1- تحيةً وسلامًا) وبعد فيظهر أن المنار في جوابه على سؤالي الانتقادي
المُدْرَجِ في صحيفة (189 ج3م 12) لم يتمكن من معرفة قصدي من الانتقاد أو
السؤال، وأنا بغاية الإيجاز أعيد عليه تفصيل مقصدي وما أنتقده عليه.
لا يخفى أن كل إنسان يهمه مستقبله، وإن شئت قل تهمه الآخرة أكثر من
الدنيا، ولا يمكننا أن نجد واحدًا مهما كان دينه يقول: إنه يريد لنفسه الشقاء، إذا
فهمنا هذا، فالأستاذ يعلم أن جمهور المسلمين ومنهم المرحوم ابن تيمية الذي تنطبق
آراؤكم على آرائه، يقولون: إن الله تعالى قبل أن يوجد الخلق، قد قسَّمهم قسمين:
فريق للجنة وفريق للسعير، وإن شئت قل فريق للهناء وفريق للشقاء.. أما هذه
العلة المدهشة في مثل هذا التعميم فهي غير معلومة للمنار أو لابن تيمية الذي يقول:
وأصل ضلال الخلق من كل فرقة ... هو الخوض في فعل الإله بعلة
نترك ذلك، ونؤمن معكم بهذا التقسيم الذي عمل قبل وجود الخلق مُؤَقَّتًا
(وإن كنا نعتقد بفساده) ونتأمل لِما (?) يَتْبَعُ ذلك من النتائج في الحياة الحاضرة
والعمل الإنساني.. هل الأسباب الدنيوية الموصلة إلى النتائج الأخروية تعتبر علة
لهذه النتائج؟ أم النتائج الأخروية المقررة نفسها علة للأسباب الدنيوية؟ .. . أقصد
إذا كان رجل كُتِبَتْ له السعادة في الآخرة عند الخالق.. هل يوفقه الله تعالى لأسباب
السعادة في هذه الحياة حتى يُنيله في الآخرة، ما قد تخصص إليه (?) من قبل
ليكون كما هو (?) سعيدًا؟ .. أما جواب ابن تيمية وإن شئت قل جوابكم أيضًا؛
إن العلة في أن يتوفق (?) لأسباب السعادة هو كونه مكتوبًا سعيدًا من قبل أي: إن
النتيجة كانت علة للسبب وليس العكس كما يقول ابن تيمية:
فمَن كان مِن أهل السعادة أثرت ... أوامره فيه بتيسير صنعة
ومَن كان مِن أهل السعادة لم ينل ... بأمر ولا نهي بتقدير شقوة
ومختصر المعنى أن المكتوب سعيدًا عند الله قبل أن يخلق يتأثر بطبيعته
بأوامر الله فيتبعها؛ ليكون كما لابد أن يكون، والمكتوب من قبل للشقاء (?) لا
تفيده المواعظ ولا الأوامر ولا النواهي، بل يسير بطبيعته إلى حيث يتوصل إلى
قسمته القديمة أيضًا. إذا علم المنار كل ما تقدم ووافق عليه، فأنا من جهة أخرى
أقول له: لا يهمني الآن فرقة القدرية ولا فرقة الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان
كالريشة في الهباء، كما أني لا أنكر أن القرآن الحكيم أمر بالعمل والنظر في
الأسباب ونظام الكون ... إلخ.
وكل الكلام الحلو الجميل الذي ذكره المنار في تفسير معنى القدر، وما ذكره
في (8- حكم الإسلام في عمل الإنسان) مسلَّم به، بل القرآن ما هو أكثر وأحكم
وأمتن.
(2- العقيدة) العقيدة من حيث هي: إما تكون فاسدة فتضر، وإما أن تكون
صحيحة فتنفع، والقرآن الحكيم أول الكتب السماوية الذي طلب تحكيم العقل في كل
عقيدة وفند كثيرًا من المعتقدات الفاسدة. فكيف وإني أعتقد جازمًا أن تقسيم الخلق
على الشكل السالف من أول العقائد الفاسدة، بل المضرة المهلكة أيضًا. ولا يخافن
المنار من ادعائي هذا بلا برهان، فإني أجيبه عند السؤال بشرط أن لا أتعدى
القرآن والعقل، فلنترك ذلك أيضًا مؤقتا.
(3- اعتقاد المسلم في دينه) ماذا يعتقد المسلم في دينه؛ من حيث كونه
مسلمًا آمن بالله وحده وباليوم الآخر؟ لا شك أنه أفضل الأديان، بل أيّد القرآن أنَّ
مَن لم يكن في بواطنه (?) مخلصًا وخارجًا عن مبادئ الإسلام كانت له النار حتمًا
كالآية: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) فضِفْ اعتقاد المسلم هذا؛ بأن له الجنة وحده وأن غيره له
النار للأسباب المتقدمة إلى الاعتقاد السالف؛ بأن الله تعالى قسم الناس قسمين: قسم
للجنة وقسم للنار بلا علة تجد منها (?) إن المسلم هو الوحيد الذي كتب الله له
الجنة من الأزل وغيره له النار من الأزل. وإن المسلم موفَّق من الله بأعماله إلى
السنن التي تؤول به إلى الجنة وغيره إلى السنن التي تؤدي إلى ضدها أو إلى
الشقاء.
(4-الكلام بحسب الواقع) إن بكلامي هذا للمنار أتكلم بالأغلبية العظمى (؟ ؟)
الظاهرة عند المسلمين وما عليه إجماع حال الأمة الباطني الحقيقي. فإن
المتنورين النوادر الذين يمكنهم أن يُحَوِّلُوا المعاني بسحر بيانهم وقوة عارضتهم
لتحليل (؟) أي فرض عسر حله؛ مثل صاحب المنار هم قليلون، وقد تواجد (؟)
مثل الشيخ محمد عبده (رحمه الله) وصاحب المنار مثل الغزالي وابن خلدون، ممن
ملؤوا الدنيا بفصاحتهم وقوة بيانهم ما لا يُطلب بعده المزيد. ولكن كل ذلك ما
كان يفيد تقريبًا، ولا قدم شيئًا للأمة محسوسًا ولا وضع الأمة في صفها الحقيقي كما
طلب الغزالي ويطلب صاحب المنار، ولم تزل ساقطة كما كانت تقريبا (؟) لو أردنا
أن نعمل بينها وبين غيرها نسبة؛ وغرضي أن تتوصلوا لتأصل هذا الداء الذي هو
أصل البلاء، حتى يكون إصلاحكم المنشود للأمة فعَّال مؤثر؟ لا يزول، وليس كمَن
يكتب على الماء، لماذا؟ لأنه إذا كانت الغاية النهائية التي يطلبها الإنسان والتي
هي نهاية آماله ثابتة، لا تتغير ولا تتبدل. فالواسطة إن حسنت أو ساءت لا تهم
كثيرًا، ما دامت الغاية الأبدية المُعَوَّلُ عليها مقررة ومعلومة.
(5- مثال عن حال تقسيم الناس في اعتقاد أغلب المسلمين) اسمع مني
تكرمًا يا صاحب المنار مثلا: رجلان وقفا أمام إدارة المنار أحدهما يسمى مسلمًا
والثاني غير مسلم، والأول أعلن؟ من إدارة المنار أنها ستحمله إلى حديقة الأزبكية
ليتمتع بما فيها من الجنات والمسرات، والثاني أعلنته أنه سيكون خارجها محرومًا
من كل شيء. ولكن أخبرتهما معًا في آن واحد أن الطريق ما بين إدارة المنار
والحديقة مملوء بأنواع المسرات، وهو لهما معًا، فمَن سار بقدميه وتأمل بعقله
ولسنن الكون والنظاميات الإلهية إلى ما في الطريق (؟) تمتع وتنعم أيُّ تَنَعُّمٍ،
ومن وقف منتظرًا مركبة المنار فليس له شيء مما في الطريق مطلقًا، ولا يجد في
المركبة غير الحرمان.. غير أنه على كل حال سيصل إلى مركزه المعين. الأول
سيكون داخل الحديقة والثاني خارجها، بلا سبب وبلا جواب، إن سأل.
أفتكر أن المنار عَرِفَ مقصدي من هذا المثال؛ فداخل الحديقة التي عُدَّتْ (؟)
للمسلم هي الجنة، وخارجها لغير المسلم هي النار. والطريق الموصل
إلى الطرفين مشترك بين الاثنين ولهما معًا؛ هي الحياة الدنيا الموجود فيها المسلم،
وبها معترك الحياة بين الجميع.
(6- المسلمون في تمدنهم وانحطاطهم) سار بعض الأمم الإسلامية في
الطريق على السنن الطبيعية من غير أن ينتظروا مركبة الآخرة؛ ليحملوا عليها إلى
مقرهم، فتحصلوا على كل شيء في الطريق، ونالوا كل شيء بكدهم وعملهم كما كان
الأمر في صدر الإسلام، فتقدمت الأمم الإسلامية وسادت في الأرض، فكانت
سعيدة وسيدة في الدنيا غير سعادتها المضمونة لها في الآخرة حسب اعتقادها، ثم جاء
قوم مسلمون آخرون منهم وقالوا: ما لنا وَلِكَدِّ الحياة، بل ما لنا ولهذا المتاع الفاني،
فلنتزهد ونتقشف في الحياة، ولا نبحث على أكثر من قوت يومنا، فإن يقين
الإيمان بالآخرة ودوام التعبد كاف؛ لسعادة الروح بحسن المآل (ولا شك أن العقل
الذي يجعل أساس السعادة بالعقيدة من السهل عليه تجويز هذا الوهم) ولقد تتابع
التقاعد وعدم الاهتمام للحياة بين الأمم الإسلامية، حتى لو سألت بعض المتفقهين
الذين تغلب أفكارهم بين أكثر الناس عن أفكار مثل صاحب المنار النيرة، عن سبب
تقدم الأمم الغير إسلامية الحالي والماضي. أجابوك: هؤلاء لهم الدنيا ولَهْوُهَا
وزينتها، والعبرة بالأواخر والحياة الأبدية، ولقالوا لك في آن واحد: إذا كانت
توجد آيات قرآنية تدل على لزوم الأخذ بالأسباب، والتأمل للنتائج الطبيعية
العالمية والسنن الإلهية، فإن كثيرًا من الآيات ما يدل على التقشف وترك الدنيا، وإن
كان صاحب المنار له في ذلك تأويلاً لا يهمهم سماعه؛ لوجود عقيدة
التقسيم المذكورة أو ما يسمونه (بالقسمة) .
ومن جهة أخرى إذا تأملنا لعلل تأخر المسلمين الدنيوي وانحطاطهم، نجد أن
الأسباب التي ارتكنوا عليها في طبيعتها فاسدة؛ ولذا كان الانحطاط ملازمًا لها.
ولكن العقل المُؤَسَّسَ على العقيدة والمؤيد حتمًا لضرورة (وجود الأسباب الدنيوية
للعلة الأخروية) يحتم بوقوع تلك الأسباب قبل وجودها؛ لوجوب نتائجها ولزوم
وقوعها أيضًا.. فكان كلامي (في صحيفة 191 ج 3 م 12) عن العقل المُؤَسَّسِ
على العقيدة ما يأتي: (وما دامت الأسباب التي هي حجة للنتائج (؟) مقدرة
حتمية فالنتائج (أي الدنيوية خلاف الأخروية أيضًا) بالطبع تابعة لهذا الإلزام (؟)
وعليه فالتقاضي والحساب في الآخرة؛ ليس إلا لتتميم رواية كلامية.. وإذا كان
هذا مبدأ المنار، فلا يلومن الأمم الإسلامية الماضية، وما كانت فيه من الاضمحلال،
ولا داعي لاستخراج (؟) نتائج فلسفية أو عمرانية للزوم الأخذ بأسباب الترقي
والهرب من القديم، ولا عيب على حكومات الاستبداد.. ولا مانع من البقاء في
الجهل إلخ إذ إن الداعين للزوم تغيير المناهج؛ لتتغير معها النتائج ليسوا إلا
معترفين بلزوم التسلط، وتحوير القدر الإلهي القابض على الأسباب (حسب وهمهم)
بيد من حديد (وهناك إذا اعترفوا بذلك، كانت العقيدة في التقسيم المذكور فاسدة
ولا أصل لها) ويكون الحكم العقلي على كل ما يحدث جائزًا فقط، بحيث يمكن
وقوع غيره بأسباب أخرى، ولا يكون حتمًا مع الأسباب المذكورة التي وقع بها.
(7-انتقاد المنار لكلامي) لمَّا أراد المنار أن ينتقد بعض كلامي المُدْرَج في
السؤال، وجدت أنه لم يُصِبِ الغَرَضَ الذي أرمي إليه، من حيث كون القرآن أو
العقل والعلم يُجَوِّزُ إمكان عدم وقوع حادث وقع فعلاً أم لا.. أما أنا فقلت بالجواز
وأقول به أيضًا.
أما المنار فأجاب عن وقوع الفعل من حيث كونه وقع فعلاً فقط ولم يَزِد، فترى
في أول صحيفة (192 ج 3 م 12) (أما قولكم في مسألة إصابة ولي عهد
ألمانيا بذلك المرض: لم تكن محتمة له من الأزل ... ) إلخ قول ظاهر البطلان؛ لأن
قضية مرضه جهتها الإطلاق لوقوعها بالفعل، والإمكان لا يناقض الإطلاق،
وبعبارة عامية: إنه كان لابد من مرضه بدليل وقوعه؛ وليكن ذلك لجهله بأسباب
المرض ... هذا ما قاله المنار، والحقيقة إني لم أقصد المسألة بذاتها من حيث
كونها مطلقةً ووقعت فعلاً، بل من حيث حكم العقل والقرآن والسنن الطبيعية في كل
ما يحدث، وذلك مثلما يقال: فلان سرق قرطًا من الذهب، وجازته الحكومة
لجنايته.... هل كان يمكنه أن لا يسرق قبل أن تقع منه السرقة فعلاً. أما جوابي
وجواب العلم والقرآن، فنعم.. كان يمكنه أن لا يسرق، وكان في الإمكان
تبعًا لذلك عدم مجازاته.
أما جواب المنار السالف في مسألة ولي العهد أشبه بقوله.. نعم ما دامت وقعت
السرقة فهو لا بد أن يسرق، ولا بد أن يقع الجزاء، وهذا لا يعد جوابًا عن المقصود
مع أن ما جاوب به المنار لم ننكره، بل أيدناه في نفس السؤال؛ لأنه مفهوم وبديهي
لا يحتاج لأن يقول عنه المنار.. ظاهر البطلان. إذ قلنا كما قال المنار في
(صحيفة 190 سطر 19) . ولكن مسألة إصابة ولي العهد بالمرض تخصصت له
من الله تعالى؛ بسبب جهله لتلك الأسباب ليس إلا، وهي نفس الجملة التي قالها
المنار وهي: إنه كان لا بد من مرضه؛ بدليل وقوعه، وليكن ذلك لجهله
بأسباب المرض. وعليه كان انتقاد المنار لغوًا، وكان جوابه فقط دالاًّ على لزوم
التمسك بالعقدة بالقسمة؟ وتخلصا مما عداها.
(8- سبب التمهيد للإصلاح الإسلامي) يا صاحب المنار، إن كنت تريد
إصلاحًا، فلا يجب أن يكون تقليديًّا؛ فإن تغلب الفكر الحالي في لزوم الأخذ
بالأسباب والعمل بمقتضى السنن الطبيعية، وانطباق ذلك بحسب اجتهادكم على
القرآن لم يكثر ولم ينتشر؛ إلا بسبب قبوله عند بعض المسلمين مما رأوه ورأيتموه
من تقدم الأمم الغربية التي اتبعت هذه السنن، وصارت أحوالها أشرف وأحسن
بالإجمال من حال المسلمين اليوم، وإن الأخيرين (؟) من زمن بعيد آخذون في
التدلي، حتى صاروا الآن وراء جميع الأمم تقريبًا. وإن المجهودات الكبيرة التي
يؤديها أمثالكم كالشعرة البيضاء في الجسم الأسود بالنسبة لتعداد الأمة الإسلامية في
العالم (وحاشا أن يكون ذلك داعيًا لتثبيط همتكم، فإن الحق لابد أن يسود مع طول
الزمن) وإن تلك المجهودات تصير كالهباء. مع تأصل عقيدة التقسيم، وإن الفضل
الذي يرجع إليه تيقظ المسلمين الحالي؛ راجع إلى الضغط الذي يلاقونه من غيرهم؛
لسيادتهم عليهم اسمًا أو فعلاً لا إلى الإصلاح الديني من حيث هو؛ فإنه لا يعتبر
أصلاً، بل يساعد على انتشاره لغرض الخلاص من سوء الحال لوقوف العقيدة أمام
العقول بالمرصاد (؟) .
(9- الفرق بين المسلم وغيره) إذا كنتم تقولون: إن علماء اللاهوت بحثوا
كثيرًا في هذا الموضوع، وإنهم كالمسلمين للآن في بحر عميق، وإن ذلك من
توابع البحث في العلم والإرادة، وإن الغربيين المسيحيين والمسلمين مشتركين (؟)
في هذا الاعتقاد. قلت لكم: إن الغربيين لم يتقدموا إلا من بعد أن فكوا من
أعناقهم، وداسوا بأرجلهم على كل عقيدة تقيد عقولهم ونظامهم الفطري الطبيعي.
فهم لذلك من حيث عقيدة التقسيم السالفة التي يتبعها المسلمون بوجودها (؟)
بالفرض بينهم فهي (؟) ليست أصلاً لأعمالهم وأبحاثهم، ولا هي مرجعًا (؟)
لمركز الاعتقاد في سعادتهم وشقائهم في الدنيا والآخرة، كما هو ظاهر في جمهورهم
بخلاف المسلمين، فإنها إن كانت دافعة لتقدمهم سنة واحدة فإنها أخرتهم وتؤخرهم
سنين، لماذا؟ لأن المسلمين جعلوا الاعتقاد بالقسمة أصلاً لتقدمهم وتأخرهم، وهم
هم أنفسهم لا ينكرون وجود السنن الإلهية التي يجب السير عليها، والتي لم يجعل
الله تعالى نظام العالم بغيرها. ولكنها فرعًا ثانويًا (؟) ممن تركه كما حصل منهم
من مئات من السنين إلى الآن وهم معذورون؛ لتسلطها على قلوبهم وكان صوت
المصلحين بينهم كالنافخ (؟) في الرماد.
ولكن الغربي بالعكس، صار ينظر بالتجارب العلمية والعقلية وبمقاومته (؟)
أكثر المعتقدات الدينية الباطلة، حتى وصل إلى أن عمله في هذه الحياة هو أصل
سعادته وشقائه هنا وهناك، وكل ماعدا ذلك من المباحث القديمة ثانويًّا (؟) وصار
يقدم نفسه وماله فداء بارتياح؛ لمقاومة كل ما يهدم شيئًا من السنن الإلهية الطبيعية
في العالم؛ الموافِقَةُ للعقل والشعور الإنساني، وكان الأصل الأول الذي اتخذه
لسعادته المحسوسة هو: (الحرية) .
(10 - الخوف من التقليد مع وجود الداء) ما ذكرناه الآن هو الداعي لأن
نقول للمنار في صحيفة (190 ج3 م12) : (إذا كان المنار وابن تيمية
والمسلمون جميعًا) يعتقدون أن العباد مقسومة هذا للشقاء وذاك للسعادة، وإن هذا
الاعتقاد مُسْتَوْلٍ على العقول، فهمة المسلمين التي تتوجه للإصلاح والتقدم الدنيوي
ليست إلا ضربًا من التقليد والتشبه للأمم الحية التي لا تعرف شيئًا من هذه العقيدة
المُقَيَّدَةِ للهمم والعقول) من حيث كونها ليست أصلاً لسعادتهم وشقائهم، لا من حيث
جهلهم لها بالمرة (فتزول منهم) أي هِمَّةُ المسلمين (إذا زالت عنهم الأسباب
الاضطرارية (مثل السيادة) الداعية لهذا التشبه: لأن الدين (عند المسلمين
وخصوصًا الاعتقاد بالتقسيم (راسخ في الأذهان) ، كما هو ظاهر من مبدأ وقتي
أثره تقليدي، اللهم إلا إذا ضرب صفحًا عن هذه العقيدة من الدين، ثم تشبعت
النفوس تدريجيًّا بالمبادئ الطبيعية) والسنن الإلهية المعقولة (التي تسير مع تقدم
الأمم ... إلخ، فهناك يكون الإصلاح من نفسه طبيعيًّا؛ لا تهدده ولا تقاومه عقيدة.
(11- الإصلاح الطبيعي) غرضنا مما تقدم لزوم (؟) إنكار هذا التقسيم
الملازم لهذا الاعتقاد؛ لأن العقل والعلم لا يقبله، ثم ثبوت (؟) أن الذي يسير
على السنن الإلهية؛ فإنه كما يكون بها في الدنيا سعيدًا فهو في الآخرة أيضًا
والعكس (؟) وإن نوم المسلمين مع اعتقادهم ما هو مكتوب لهم بالذات ومخصصًا
(؟) لهم، أصله باطل محض مع تأييد إمكان تنوع الحوادث، وأنها أصلاً (؟)
لما هو مكتوب عند الله عامة على (؟) جميع الناس سواء، وليس ما هو مكتوب
لكل شخص ومخصص له بالذات عند الله أصلاً؛ لما ينتابه من الحوادث المذكورة؛
لأن النتيجة (الذي هو التقسيم المذكور بالعقيدة) إذا كانت لازمة من الأزل، كانت
أصلاً للسبب (؟) والسبب عندها يتحتم ويكون واجبًا وقوعه عقلاً، ويكون مدلوله
في العقل بشكل إجباري (؟) وإن كانت البداهة تؤيد عدمه، أو مهما تنوع فهم
الإجبار المذكور بشيء من دلائل الاختيار وتعريف معناه وصفته (؟) كما عرف
بذلك المنار في آخر صحيفة (199 ج 3 م 12) ، فكل ذلك لا يفيد ولا يؤثر، بل
يكون من قِبَلِ مقاومة القوة بالقوة، فكل منهما يلاشي الآخر وإن كان لكل منهما
تأثيرًا (؟) في نفسه، ويجب أيضًا أن يكون كل حادث ممكنًا فقط قبل وقوعه (؟)
مع ثبوت احتمال وقوع غيره إن وقع، فيتبدل التقسيم المذكور تبعًا لاتباع السنن
المختلفة بالحرية، لا تبعًا لكون التقسيم هو الذي يوجب اتباع إحدى السنن المعينة
التي تلازمه وتلتصق به إلصاقًا، وبذلك تنقلب العقيدة إلى أصلها الحق الطبيعي (؟) .
(12- حل المسألة) إذا كان المنار يتفضل بحل المسألة على الوجه الذي
ذكرنا، أفاد الأمة كثيرًا في أكبر داءاتها (كذا) ، وما كان في نصائحه الفلسفية
العمرانية التي يذكرها تباعًا؛ كمَن يشد الحبل مِن طرف فتشده الأمة بقوة العقيدة
المذكورة من الطرف الآخر، فهو لم يزل واقفًا مع صرف كثير من المجهودات.
بل ربما تدلت الأمة - لا سمح الله بالرغم عنه - إلى الوراء زيادة، وكثير من
المسلمين بل؛ أغلبهم مازال في الطرف المضاد إلى الآن.
أما إذا كان لا بُدَّ للمنار من أن يُصَرِّحَ بلزوم عقيدة التقسيم المذكورة ويوافق
ابن تيمية على مقاله، فإنا نقول له: إن العقيدة المذكورة بمثل هذا التقسيم غير
موجودة في القرآن بالمرة، ولا يؤيدها شيء مطلقًا لا العقل ولا العلم ولا الحقيقة،
بل إنها باطلة. وإذا سمح لي المنار - أنا العاجز - بمحلٍّ على صفحاته الغراء،
فإني أعرض عليه ما يمكنه به حل هذه العقدة وخصوصًا فيما يتعلق بالإرادة
والعلم، وله انتقاده ما شاء، فإذا حصحص الحق طلبنا منه معاونتنا على تأييده
والذود عنه كما هو مبدؤه؛ لأني لا أريد إلا الإصلاح - كالمنار - ما استطعت، وما
توفيقي إلا بالله العزيز الحكيم. ثم لي كلمة انتقاد على بعض ما أورده المنار في جوابه
على سؤالي في صحيفة 189 ج3 م 12 أجلتها لوقت آخر، حتى أرى ما سيكون
عما كتبناه الآن في المنار، والسلام.
... ... ... ... ... ... سواكن في 4 يونية سنة 1909
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... أحمد بدوي النقاش
... ... ... ... ضابط بالجيش المصري بالسكة الحديد السودانية
(جواب المنار)
سبق لنا تقريظ كتاب لِلْمُنْتَقِدِ (أحمد أفندي بدوي) ، أشرنا فيه إلى رأينا في
المؤلف نفسه، وهو أنه مستعد للمباحث الفلسفية الدينية. ولكنه لعدم تمكنه من
درس الدين والتوسع في اللغة العربية التي يتوقف فهمه على إتقانها، يقول فيها ما لا
يكاد يفهم.
وكان لنا أن لا ننشر انتقاده هذا؛ لأنه ليس على شرطنا؛ إذ هو مبني على ما
فهمه من قصيدة لابن تيمية وعلى حكمه بأننا موافقون لابن تيمية فيه أو في كل
شيء، وكأنه أخذ ذلك من ثنائنا عليه. ولكننا نشرناه عناية به وحَفْزًا لهمته إلى
التدقيق في المباحث التي يدفعه إليها استعداده، وقد صححنا بعض أغلاطه اللفظية
البديهية وتركنا الباقي على حاله، إلا أننا وضعنا في جانب بعض الكلمات أو الجمل
علامة (؟) إشارة إلى بعض تلك الأغلاط اللفظية والمعنوية، وقد تكون العلامة
لعدة أغلاط في الجملة كما لا يخفى على العارفين.
إن كان يريد الانتقاد عليّ في شيء رآه خطأ، فكان عليه أن يقول: إن ما
ذكره المنار في صفحة كذا غير صحيح بدليل كذا، والحق في المسألة هو كذا، مع
إقامة الدليل عليه. وإن كان يريد تقرير حقيقة جهلها المسلمون، وأخطأ فيها مثل
ابن تيمية، وعجز عن بيان الصواب فيها مثل الغزالي والشيخ محمد عبده،
واهتدى هو إلى معرفتها وأوتي القدرة على بيانها، فكان الواجب عليه أن يُعَجِّلَ
بهذا البيان؛ حرصًا على هداية هذه الأمة؛ وكراهة لاستمرار ضلالها في أهم
قواعد دينها ومدار سعادتها وشقائها، ثم له بعد ذلك أن يُبَيِّنَ وجوه خطأ أشهر
شيوخ الإسلام فيها؛ إن كان لا يرى أن ظهور الحق كاف لدحض الباطل. هذا هو
المعقول , وأما مسلكه فلم نعقل له وجهًا صحيحًا.
قرأنا مقالة المعسلط ففهمنا بعضه من العبارة وبعضه من القرائن، ومنه جمل
لم نفهمها بالمرة؛ لأن تركيبها غير صحيح. وقد علمنا منه أنه لم يفهم ما كتبناه كله
وأنه يبني الإيرادات والاعتراضات على شيء في مخه، يعزوه تارة إلى الدين
وتارة إلى بعض من كتبوا فيه، حتى إنه ينسب إلى المنار ما يدعو المنار إلى ضده
حتى في الجواب عن اعتراضه الأول على عبارة التفسير، فهذا وما ذكرنا من
ضعفه في اللغة، هما سببان فيما ذكره من عدم فهمنا لغرضه من انتقاده الأول وكذا
الثاني، وهما السببان في عدم فهمه هو لكلامنا السابق كله، ولا ندري ماذا يكون
نصيب كلامنا اللاحق من فهمه , ولولا الضرورة لما صَرَّحْنا بهذا , ولكن أردنا أن
يعرفه ويفكر فيه؛ لما سنذكره في آخر الرد.
قد أحسن الكاتب في تقسيم كلامه إلى مسائل معدودة بالأرقام، كما فعلنا في
جوابه الذي نشرناه في الجزء الثالث، وإننا نُبَيِّنُ ما لا نرى بُدًّا من بيانه في كل
مسألة من كلامه مشيرين إليها بالأرقام، ثم نقول كلمة مجملة في الموضوع.
(1) قال إن جمهور المسلمين ومنهم ابن تيمية الذي تنطبق آراؤنا على
آرائه يقولون: إن الله - تعالى - قد قسم الخلق قبل إيجادهم قسمين: {فَرِيقٌ فِي
الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: 7) وقال: إنه يعتقد فساد هذا التقسيم أي
بطلانه وعدم صحته، ثم إنه يَدَّعِي مع ذلك أنه يستمد علمه من القرآن والعلم
الصحيح! ! ونقول: إن القرآن هو الذي نَصَّ على هذا التقسيم في سورة الشورى،
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ
يَوْمَ الجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (الشورى: 7-8) أما قولهم: إن هذا التقسيم أزلي فمعناه: أنه ثابت في علم الله
الأزلي لا معنى له عندهم غير هذا، فإن كان ينكر التقسيم نفسه فذلك إنكار للقرآن
نفسه لا يصدر من مؤمن به، وإن كان ينكر أزلية علم الله تعالى به وبغيره فحكمه
عند المسلمين معروف أيضًا. وأما قوله: إن صاحب المنار وابن تيمية لا يفهمان
علة هذا التقسيم فلا نجيبه عنه؛ لأننا لا نحب أن نضيع وقتنا ووقت الناس في
الجدل والدفاع الشخصي، فليحكم على فهمنا وفهم ابن تيمية بما يشاء، علم ذلك أم
لم يعلمه.
(2) ليس في هذه المسألة إلا تأكيد ما جاء في الأولى؛ من جزمه بفساد
عقيدة التقسيم وكونها من العقائد الضارة أي: بحسب فهمه لتأثيرها في المسلمين.
(3) اعتقاد المسلم أن دينه أفضل الأديان، وأن له الجنة ولغيره النار..
إلخ فيه تفصيل بيناه في التفسير مرارًا؛ لجهل عامة المغرورين له، وهو أن
الإسلام دين جميع الأنبياء والمرسلين، وأساسه اتباع المرسلين في الإيمان بالله
واليوم الآخر والعمل الصالح. وإن المسلم الموفق مختار في اتباعه لنبيه، والكافر
المخذول مختار في عصيان نبيه، وإن علم الله الأزلي لا ينافي هذا الاختيار؛ لأنه
سبق في علمه أنه يكون كذلك وأنه مختار فيه، كما بيناه في المسألة التاسعة من
الفتوى الثانية عشرة وهى؛ الجواب عن سؤال المنتقد (ص 199 ج3) .
(4) الكلام بحسب الواقع لا يدخل فيه المستقبل، فلا يقول أحد من
المسلمين العارفين بدينهم: إن الغاية النهائية له أو لزيد من الناس هي كذا، وإنها لا
تتغير ولا تتبدل، بل نقول: إن الغاية مجهولة لنا، وإنها تكون على حسب أعمالنا
الاختيارية: (إنْ خيرًا فخير وإنْ شرًّا فشر) , ولكنها معلومة لله - تعالى- فهو
وحده يعلم تلك الغاية علمًا لا تغيير فيه ولا تبديل , وجهل أكثر المسلمين بدينهم ليس
من المشكلات التي لا تُعلم ولا يُعلم علاجها، فعلاج الجهل هو العلم الصحيح ومنه
فهم الدين على وجهه، وهو ما ندعو إليه كما كان يدعو إليه الأستاذ الإمام - رحمه
الله تعالى - وليس كلامنا فيه كالنقش على الماء كما زعم، بل هو كالنقش في الحجر
انتفع به ألوف من الناس، وانبثَّ في المدارس الدينية والرسمية، وسيعم
بالتدريج بحسب سنة الله تعالى في الأمور الاجتماعية.
(5) إن المثال الذي ذكره في هذه المسألة قد فهمناه بالقرينة؛ لضعف
عبارته. وهو غير مطابق لاعتقاد المسلمين، فهو لم يعرف اعتقاد المسلمين حق
المعرفة، ولم يحسن بيان ما عرفه منه، فإن الدين الإسلامي لم يخاطب طائفة من
الناس معينين؛ بأنهم سيكونون في الجنة وطائفة أخرى بأنهم سيكونون في النار،
وإنما ناط دخول الجنة بأمور سمى مجموعها الإسلام، وناط دخول النار بأمور يعبر
عنها غالبًا؛ بالشرك وبالكفر وبالظلم وبالفسق. ولما تفاخر بعض الصحابة مع
بعض أهل الكتاب في ذلك، أنزل الله - تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ
الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً * وَمَن
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ
نَقِيراً} (النساء: 123-124) فناط أمر الغاية النهائية بالعمل لا بالانتساب إلى
دين كذا ونبي كذا، ثم بين أن الإسلام هو روح الدين وصفوته، فقال: {وَمَنْ
أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} (النساء:
125) الآية، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: التقى ناس من
المسلمين واليهود والنصارى، فقال اليهود للمسلمين: نحن خير منكم، ديننا قبل
دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبيُّنا قبل نبيِّكم، ونحن على دين إبراهيم، ولن يدخل
الجنة إلا من كان هودًا. وقال النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون: كتابنا بعد
كتابكم، ونبيُّنا بعد نبيِّكم، وديننا بعد دينكم، وقد أُمِرْتُمْ أن تتبعونا وتتركوا أمركم،
فنحن خير منكم، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحق، ولن يدخل الجنة إلا
من كان على ديننا. فأنزل الله - تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ} (النساء: 123) الآيات.
فالأمر في الإسلام منوط بالعمل مع الإيمان؛ لا بجنسية الإسلام وغير الإسلام
فما بال المنتقد ينتزع المشكلات من جهالات العامة، ويحمل عليها بعض عبارات
العلماء وغير العلماء من غير تمحيص، ويوردها على الدين أو على العلماء
المخطئين أو المصيبين (؟) ألا إن الداء هو: جهل جماهير المسلمين بحقيقة دينهم،
والدواء هو: التعليم الصحيح والتربية الصحيحة، وهو الذي ندعو إليه.
(6) ما ذكره في المسألة السادسة غير جليٍّ ولا مفهوم بالتفصيل من العبارة
المعسلطة. وما تفلسف فيه من الأسباب والنتائج لا يكاد يخطر في بال أحد من
المسلمين؛ إلا أن يكون بعض المولعين بالأبحاث النظرية الفلسفية في هذه المسائل
وقليل ما هم، ولا يُحكم على الملايين بحال أفراد لا يوجد منهم واحد في كل مليون
فهذه المسألة عندي من اللغو.
(7) ما قاله في جواب المنار عن مسألة الحكم على الشيء قبل وقوعه وبعد
وقوعه وحادثة مرض ولي عهد ألمانيا عبارته معسلطة أيضًا، والظاهر منها أنه لم
يفهم ما قلناه فيها. وقد مثَّل لها مثلاً: رجلاً سرق قرطًا وجازته الحكومة، هل كان
يمكنه قبل أن تقع السرقة منه أن لا يسرق أم لا؟ زعم أن مقتضى كلام المنار أنه
لم يكن يمكنه أن لا يسرق، وأن جوابه هو وجواب العلم والقرآن؛ أنه كان يمكنه
أن لا يسرق. والحق في مثل هذه المسألة أننا إذا نظرنا إلى طبيعة الرجل الذي
سرق وطبيعة العمل الذي هو السرقة في المثال، نرى أن العمل في ذاته من
الممكنات، وأن الرجل كان متمكنًا من فعله وتركه، وأن الترك هو الأصل فلا يقال:
إنه لم يكن في إمكانه أن يترك، وإذا نظرنا في ذلك باعتبار أن العمل وقع من
الرجل، علمنا أن وقوع السرقة منه حَتْمٌ لم يكن منه بُدٌّ، لا باعتبار الإمكان الخاص
بطبيعته كما تقدم، بل باعتبار الواقع ونفس الأمر، وكذلك باعتبار علم الله - تعالى -
فإنه متى وقع الشيء علمنا أن علم الله تعالى كان متعلقًا بوقوعه؛ لأن علمه تعالى
يكون دائمًا مطابقًا للواقع وإلا كان جهلاً، وذلك مُحال. فإذا لم يفهم المنتقد ما نفهمه
ويفهمه جميع العقلاء؛ من كون الواقع قد انتهى الحكم فيه وأنه لا يقال فيه نفسه،
كان يمكن أن لا يقع؛ لأن هذا تناقض، وإنما يقال ذلك باعتبار طبيعية الإمكان
وصرف النظر عن كون الأمر قد وقع بالفعل، إذا لم يفهم هذه الدقيقة في الفرق بين
الاعتبارين تنازلنا له عنها، فإنها مسألة عقلية محضة لا يترتب على الخلاف فيها
أمر كبير.
(8) لقد تبسمنا عند قراءة قول المنتقد (يا صاحب المنار، إن كنت تريد
إصلاحًا، فلا يجب أن يكون تقليديًّا) فيالله العجب من شأن الإنسان، أَيُنهى
صاحب المنار عن التقليد بعد أن حاربه وحارب أهله اثنتي عشرة سنة! ! ومَن
الذي نهاه؟ رجل يقرأ المنار! ! أما قوله: إن الأخذ بالأسباب والعمل بمقتضى
السنن الطبيعية، وانطباق ذلك بحسب اجتهادنا على القرآن، لم يكثر ولم ينتشر
عند بعض المسلمين؛ إلا بسبب ما رأوه من تقدم الأمم الغربية باتباع هذه السنن
وسبب ضغط أوروبا على الكثير منهم، فهو صحيح في الجملة، ولا يضرنا أن
تعدِّنا حوادث الزمان للعمل بما يرشدنا إليه القرآن، وأن نفهم منه ما لم نكن نفهمه
نحن ولا آباؤنا الأولون، فإن كلام الله- تعالى - بحر لا تنفد حِكَمُهُ، بل هي تفيض
في كل عصر على المستعدين بما يناسبه {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت: 53) على أننا لا نُسَلِّمُ أن المنتفعين بذلك
والمقتنعين به هم الواقفون على أحوال الغربيين دون غيرهم، فالحق أن الأمر ليس
محصورًا فيهم ولا أنهم مُقَلِّدُونَ فيه؛ بل هم مُسْتَقِلُّونَ، ونوضِّح ذلك في الكلام عن
المسألة التاسعة. وأما قوله: إن (المجهودات) الكثيرة التي يؤديها أمثالنا هي
كالشعرة البيضاء في الجسم الأسود فهو غير صحيح، وليس لمثله أن يحكم في ذلك،
وهو لم يختبر شعوب المسلمين، ولا ساح في بلادهم، وليس له وسائط أخرى
كافية لمعرفة سير الإصلاح فيهم، فالحق أن الإصلاح أوسع انتشارًا مما يظن، فإن
كان لا يزال قليلاً بالنسبة إلى مجموع المسلمين، فنموُّه في كل مكان يُبَشِّرُ بمستقبل
حسن (وصاحب الدار أدرى) فزعمه أن تلك المساعي أو المجهودات تصير
كالهباء مع عقيدة التقسيم زَعْمٌ باطل غير مبني على علم ولا تجربة، بل التجربة قد
أبطلته.
(9) إن ما ذكره مِنْ فَكِّ الغربيين للقيود التي تقيد عقولهم، قد سبقه إليه
المنار، فصرَّح به مرات كثيرة حتى بالتعبير بلفظ كسر القيود، ومِنْ أَصْرَحِهَا ما
كتبناه عن المؤتمر الإسلامي (ص 679م10) ، فلا حاجة بنا لإعادة قراء المنار
دروسه علينا، وما ذكره عَوْدًا على بَدْءٍ من التهويل في مسألة ما سماه عقيدة التقسيم
قد سبق آنِفًا أنه مخطئ فيه؛ لأنه في مخيلته أكبر مما هو في الواقع ونفس الأمر،
فما هذا الإلحاح والتكرار، اللهم صبرًا. نعيد له القول - في مقابلة إعادته- إن ما
تجعله هو الأصل في سعادة الغربيين؛ مِن جَعْلِ العَمَلِ في هذه الحياة هو الموصل
إلى السعادة أو إلى الشقاء في الدنيا والآخرة هو عين ما جاء به الإسلام، والإسلام
أستاذهم الأول فيه، وعقيدة التقسيم التي تَمَثَّلَتْ لك كالغول يغتال المسلمين لا
تعارض هذا، فإن القرآن صرّح بهما جميعًا. ولكن تسرب إلى دهماء المسلمين من
نزعات الجبرية وكسالى المتصوفة ما كان مع الجهل بحقيقة دينهم سببًا من أسباب
كسلهم الذي نشكو منه؛ وشرحناه في المنار مرارًا، والتربية والتعليم الصحيحان
يكفلان إزالة ذلك بالتدريج، ومنه النشر في الصحف الدورية ولن يزول بغير ذلك.
(10) ليس في هذه المسألة إلا إعادة ما كرره غير مرة؛ من استحالة
الجمع بين عقيدة التقسيم وبين العمل بالمبادئ الطبيعية والسنن الإلهية، وزعمه أن
كل ما يعمله المسلمون من الأعمال الاستقلالية بدعوة المصلحين يكون مع هذه
العقيدة تقليدًا للغربيين، وإنما يخرجون به من ربقة التقليد إذا محيت عقيدة التقسيم
من ألواح نفوسهم، مع أن التقليد في هذه الحالة يكون أظهر؛ لأنه محاكاة للمقلد من
كل وجه. ورأيه هذا يشعر بأنه لا يفهم معنى التقليد أو يفهمه فهمًا خاصًّا به غير ما
عليه جميع العلماء، التقليد هو أن تأخذ برأي غيرك وتحاكيه من غير دليل قام
عندك على ما تأخذه عنه أو تحاكيه فيه هو الصواب، فإذا قام الدليل الشرعي
والعقلي والتجريبي عند المسلمين القائلين بعقيدة التقسيم على أن النجاح في الدنيا
والفلاح في الآخرة إنما ينالان بالعمل بمقتضى سنن الله تعالى في خليقته وشريعته
وعملوا بذلك، لا يكونون مقلدين للإفرنج بل مستقلين، وإن كان من جملة دلائلهم
التجريبية أن الإفرنج نجحوا بذلك.
(11) عبارة هذه المسألة أشد عسلطة من سائر المسائل، ليس فيما يفهم
منها شيء جديد إلا تفلسف وتفصيل قصد به إيضاح مراده فزاده خفاء، ولو أننا
حذفنا أمثال هذا لظن القارئون أنه فاتهم شيء كثير.
(12) هي المقصد، وذلك أنه بعد تكرار ما تقدم في المسائل السابقة مرارًا
طالب المنار بأحد أمرين: إما أن يحل المسألة على الوجه الذي ذكره هو، وإما أن
يصرح بموافقة ابن تيمية على اعتقاده في مسألة التقسيم، وحينئذ يقول هو لنا: إن
هذه العقيدة بمثل هذا التقسيم غير موجودة في القرآن بالمرة، ولا يؤيدها العقل ولا
العلم ولا الحقيقة، وهو مستعد لبيان ذلك في المنار إن سمحت له.
وأقول: قد بينت هنا في كلامي على المسألة الأولى أن لهذه العقيدة أصلاً في
القرآن، وذكرت آية سورة الشورى الناطقة بها، وسأذكر آيات أخرى، ولست
قادرًا على تصور فهمه للمسألة، ولا فهم وجه الإشكال الذي كانت به أقتل أدواء
المسلمين عنده، فأحل له ما أحكم من العقد في خياله، كما أنني لست مكلفًا تفصيل
قول ابن تيمية فيها، ولا سبق لي أن ذكرته وأيدته، وإنما ألصقه بي تمهيدًا لما يريد
التفرد به من بيان فساد اعتقادي واعتقاده الذي هو اعتقاد جماهير المسلمين، ولا
أنشر له بعد الآن في المنار شيئًا مثل هذا الكلام الذي نشرته له؛ لأنه كلام معسلط
مضطرب، ربما يحدث للضعفاء اضطرابًا في اعتقادهم وإن لم يفهموه كله وإنما
ننشر في المنار أحد شيئين: إما بيان مسألة مما يحتاج إليه الناس ويستفيدون منه،
بشرط أن تكون عبارتها صحيحة نفهمها ويفهمها مثلنا العارفون بلغتنا العربية
الفصيحة. وإما انتقاد لمسألة معينة أوردناها في المنار بشرط أن تذكر المسألة
وموضعها ووجه الخطأ فيها والدليل عليه بعبارة فصيحة تفهم، وما كتبه أخونا
المنتقد أولاً وثانيًا ليس من هذا ولا ذاك، وإنما نشرناه عناية به وتنشيطًا له،
ولكونه يمكن أن يكون وسيلة لمعرفته قيمة رأيه وبيانه له.
إنه انتقد علينا أولاً في مسألة لم يقرأ كلامنا فيها كله، والغالب أنه لم يفهم كل
ما قرأه منه، ثم أنه جعل الانتقاد موجهًا إلى كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية قرأه في
قصيدة له، يغلب على ظني أنه لم يفهمها، وأنه لم يطلع على تفصيل مذهب شيخ
الإسلام في المسألة، فهو وتلميذه ابن القيم قد أطالا في هذه المسائل، وللثاني منهما
كتاب كبير فيها اسم: (شفاء الغليل في القضاء والقدر والتعليل) ، على أنه لم يبين
ما فهمه من مذهب ابن تيمية، ولا وجه خطأه الذي ادعاه، ولا ما عنده من التحقيق
في المسألة، فهل يرضى أحد من قراء المنار أن ننشر فيه مثل هذا الكلام.
إنني أكتب هذا وأنا متألم؛ لاضطراري إلى مفاجأة رجل محب للعلم والفلسفة
والإصلاح ببيان ما أرى من ضعفه، بعد أن علمت أنه لم يكتف بالإشارة اللطيفة
إلى ذلك من قبل، وما سبب ذلك إلا إعجابه بما عنده؛ فعسى أن يعتني بعد الآن
بإتقان اللغة العربية؛ ليقدر على الفهم والإفهام، فربما كان في فلسفته شيء نافع
تستفيد الأمة من بيانه لها.
***
فصل الخطاب في عقيدة القسمة
(1) صفوة القول في المسألة أن القرآن الحكيم بين أن الناس ينقسمون
في الآخرة إلى قسمين: شقي وسعيد، كما في سورة هود (105: 11) وأنهم فيها
فريقان: {فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: 7) كما في سورة
الشورى (7: 42) ، وأنه بدأهم على هذا ويعيدهم عليه كما قال في سورة
الأعراف: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} (الأعراف: 29-30) فهذه القسمة ثابتة في القرآن خلافًا لما زعمه المنتقد من
براءة القرآن منها وكونها مخالفة له. وكل مَن يؤمن بالآخرة يؤمن بذلك ولا ينافيه
عقل ولا علم بعد إثبات حقية الآخرة، بل هو معقول وأسبابه مشاهدة في الدنيا، بل
نقول: إنه كما قسمهم إلى شقي وسعيد في الدنيا والآخرة، قسم بينهم الرزق والجاه،
فجعل بعضهم فقيرًا وبعضهم غنيًّا وبعضهم رفيعًا وبعضهم وضيعًا، كما قال:
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ
فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} (الزخرف: 32) الآية. ولكن قسمته تعالى لا تنافي ما
وهبه للإنسان من الاختيار والاستقلال، فإن هذا داخل فيها.
(2) ينظر في هذه القسمة من ثلاث جهات: العلم والفعل والحكمة أو العلة
فأما علم الله - تعالى - فهو قديم بِقِدَمِهِ أزلي بأزليَّتِهِ، فالقسمة فيه قديمة أزلية أيضًا
وأما الفعل فلا تتحقق قسمة الجنة والنار بحسبه إلا في الآخرة، فهناك تكون
القسمة فعلية، ومثلها السعادة أو الشقاوة في الدنيا، تتحقق لكل فرد في مدة وجوده
في الدنيا، لا في الأزل.
وأما العلة والحكمة فطريق معرفتهما هي؛ معرفة الشرع ومعرفة طبيعة
الإنسان نفسه في أعماله وصفاته، وقد بينا ذلك مرارًا كثيرة، منها ما كتبناه
بالإيجاز في جواب المنتقد (ص 199 ج3) ونقول الآن كلمة وجيزة أيضًا وهى؛
إن الله خلق الإنسان وأعطاه نوعًا من الاستقلال في أعماله الاختيارية على حسب
علمه ووجدانه، وما تكونه التربية والعادة من الصفات في نفسه، وبذلك يكون
مصدرًا لسعادتها أو لشقائها بعمله، فكل فرد من أفراده يعمل بنوع ما من الاستقلال
والاختيار فيه، ما يجعله في القسمة مع أحد الفريقين، وليس علم الله الأزلي
بالقسمة ملزمًا له بالعمل؛ لأن تعلق العلم تعلق انكشاف لا تعلق فعل وإلزام، على
أنه يتعلق بالشيء وبعلته.
وأما القسمة بالفعل - وهى كون الناس سعداء وأشقياء في الواقع- فبالضرورة
لا تكون ملزمة ولا مجبرة له على العمل الذي يكون به من أحد الفريقين، ولا سالبة
لحريته واستقلاله فيه؛ لأنها أي القسمة بالفعل هي المعلول للعلة التي تتكلم عنها،
وهل يكون الشيء علة لنفسه ومعلول لها؟ هذا دور ظاهر وقد بينا الدلائل النقلية
والعقلية والوجودية على استقلال الإنسان في الفكر والإرادة، وهما مصدر أعماله
التي يكون بها في القيامة من أحد الفريقين - في عشرات أو مئات من المواضع،
وبيَّنها الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد (ص 125 من طبعة المنار) .
(3) إن الألوف الكثيرة من المسلمين لا يفكرون في هذه القسمة، وقد تمر
السنين ولا تخطر في بال الواحد منهم، ومنهم مَن يقرأ أو يسمع ما يخطرها في
باله فتمر فيه مر النسيم، فلا يجيل فيها قداح الفكر. ومنهم عدد قليل يفكر فيها
ويتفلسف بقدر استعدادِهِ. وما زعمه المنتقد من كونها هي علة العلل لكسل المسلمين
وتقصيرهم في أعمال الدنيا عن غيرهم من الأمم فغير صحيح، بل لذلك أسباب
كثيرة كل منها علة مستقلة، منها أمشاج من مسائل القضاء والقدر والجبر والتوكل
والزهد وقسمة الأرزاق، فهموها على غير وجهها، وقد بينا ما فيها من الفساد
والخطأ في التفسير والفتاوى. وغير ذلك من أبواب المنار مرارًا كثيرة؛ منها بحث
التوكل والأسباب في التفسير (ص 801-808م 11) الذي بيَّنا فيه خطأ الغزالي
في التزهيد في الدنيا.
وبيان خطأ المخطئين في فهم مسألة القسمة وحدها لا يكفي في الإصلاح، بل
لا بد من بيان الحق الصريح في تلك الأمشاج كلها. ثم إن هذا البيان ليس هو كل
المطلوب وإنما هو بعضه أو مقدمة له، فإنه بنشره المرة بعد المرة في صحف
المنار المنشرة، يثبت في نفوس الكثيرين ومنهم معلمو المدارس وهؤلاء يدخلونه
في تعاليمهم؛ وإني أعرف أفرادًا من أساتذة المدارس في مصر، كانوا يعتمدون
على المنار في تحضير بعض الدروس الدينية، وكذلك المصنفون وكتَّاب الجرائد
يدخلون ذلك في مكتوباتهم، ولو مع عدم التنبه لمصدرها، وبمثل هذه الوسائل تعم
كما عمت تلك التعاليم الباطلة من قبل.
(4) إن مسألة تعليل أفعال الله - تعالى - نفاها الأشاعرة، وقد أثبتها ابن
تيمية وابن القيم بالدلائل والبينات النقلية والعقلية، وأثبتا أن القضاء والقدر لا
ينافيان اختيار الإنسان واستقلاله الممنوحين له من خالقه، ولا وجوب العمل عليه
لدنياه وآخرته، فتحامل المنتقد على ابن تيمية وحده؛ لأبيات قرأها له مع عدم
اطلاعه على كتبه في العقائد من جملة غرائبه.
ذكر ابن تيمية في غير موضع من كتبه الكثيرة في العقائد وغيرها أن
مذهب سلف الأمة أن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأن له قدرة ومشيئة واختيارًا وأن
قدرته مؤثرة في مقدورها كما تؤثر القوى والطبائع والأسباب، وأن ذلك كله ثابت
شرعًا وعقلاً، وأنكر على جمهور الأشعرية ما يقولونه في الكسب، ونقل موافقة
بعض أئمتهم على ما قال: إنه مذهب السلف، وذكر منهم أبا إسحق الإسفرايني ,
وإمام الحرمين. فليراجع ذلك المنتقد إن شاء في كتبه أو في شرح عقيدة السفاريني.
إن المنتقد كرر الشبهة التي أوردها على الإصلاح وهى عقيدة القسمة، وكرر
زعمه؛ بأن كل سعي فيه يكون باطلاً ما لم نثبت للمسلمين بطلان هذه العقيدة.
ونحن نكرر له الجواب في خاتمة الكلام؛ بأن العقيدة ثابتة لا يمكن إبطالها، وأنه لا
ضرر في اعتقادها، وإنما الضرر في فهمها على غير وجهها كفهم القدر على غير
وجهه، إذ يلزم من هذا الفهم لوازم باطلة، وإننا مازلنا نبين حقيقة هذه المسائل
وبطلان لوازمها، وذلك هو كل المطلوب فيها.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(12/528)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطبة في عيد الدستور
تلاها في الاحتفال العام بطرابلس الشام
الشيخ إسماعيل أفندي الحافظ الشهير
لم يمر على الأمة العثمانية يوم هو أوفر جمالاً، وأكثر إقبالاً، من مثل هذا
اليوم المجيد الذي أشرقت فيه كواكب سعدها، في أفق مجدها، باهرة الأضواء،
ساطعة اللأَلاء.
في مثل هذا اليوم هبت نسمة قدسية، من أفق العناية الإلهية، ترنحت لها
أعطاف أبطال الحرية، من جمعية الاتحاد والترقي الفادية المفدية، فنهضوا
لاسترداد المفقود، وإصلاح الموجود، بقلوب تمثل أقصى مراتب الحمية الملية،
وعزائم تناهض الدهر حزمًا، وتغالب الأيام ثباتًا، فأنقذوا الأمة من براثن الظلم،
ووضعوا عنها أغلال الغلبة والقهر، وأطلقوا العقول من قيودها، ونشروا الأفكار
من لحودها.
في مثل هذا اليوم شعر العثماني أنه عضو عامل في أمة حية، يسعد
بسعادتها ويشقى بشقائها، فهب من سبات غفلته، وشمر يدأب في مصلحة أمته،
فرأى أن لا سبيل إلى سعادته إلا بالاتحاد، وأن لا تحقق للاتحاد إلا بالإخاء
والمساواة، فتآخت ملل الأمة وأديانها، وتساوت شعوبها وعناصرها، وتضامت
أجزاؤها، وتماسكت أعضاؤها، وأقبل المسلم يعانق المسيحي، واليهودي يصافح
الأرمني، والتركي يفدي أخاه العربي بنفسه، والكردي يدافع عن الألباني بمهجته،
والكل موقن أن لا غنى له عن الآخر في حياته الاجتماعية، وسعادته القومية، في
شكل يسحر الألباب بهاؤه، ويأخذ بالقلوب بهجة ورواؤه.
في مثل هذا اليوم؛ تفجرت ينابيع حياة الأمة، فسرت في أجزائها المفرقة،
ودبت في أعضائها الممزقة، فاتحدت أفرادها، وتوحدت أعدادها، وصدرت عنها
أعمالها بإرادتها الكلية، وحركتها الاختيارية، فتوجهت متحدة نحو سعادتها الحقيقية
متملصة من ظلام الباطل إلى نور الحق، ناهضة من حضيض التأخر إلى يفاع
الترقي، معلنة بأطيب ألحان الحرية آيات العدل والإنسانية، تحت لواء الإخاء
والمساواة.
في مثل هذا اليوم أُعْلِنَ القانون الأساسي، فقضى للأمة بنيل حريتها،
ووهبها نعمة الاستقلال، وخوَّل لأفرادها أن يكون لهم رأي مقبول في إدارة شؤون
مجموعها، وهى نعمة تعد أساسًا مكينًا لسعادة مستقبلها، ورقي حقيقي تنهض إليه
فتنال ما قدر لها من الكمال، وما استعدت له بفطرتها من مظاهر الإقبال.
نعمة دلنا الاستقراء وعلمنا التاريخ أن الأمم التي تكون محرومة منها لا
يكون لها اجتماع حقيقي ولا سعادة صحيحة، وإن ظفرت باليسير من ذلك فما هو
إلا صورة خيالية تظهر بمظاهر وهمية؛ لأسباب توجدها المصادفة والاتفاق، ثم لا
تلبث أن تذهب بذهاب أسبابها، شأن الحوادث الناشئة عن أسباب مؤقتة. نعمة
قَيَّضها الله لبعض الأمم، فنالت بها من العز والمنعة والمجد والعظمة ما نشاهد آثاره
ونسمع أخباره، وحرمها بعضها فبقيت راسفة في قيود الجهل تائهة في بيداء الغباوة
لا يرعى لها جانب ولا يحفظ لها حق، فلا غَرْوَ أن تحتفل جميع الأمة العثمانية
بيومها السعيد احتفالاً يتجلى في أبهج مظاهر الزينة، وأهنأ مجالي الفرح، ولا غَرْوَ
أن تشرئب العقول؛ لتعرف معنى هذه النعمة ونسبتها إلى الهيئة الاجتماعية:
اختلف فيها أنظار الباحثين، وتنوعت منازع الناظرين، فذهب بعضهم إلى
أن حرية الأمة أو حكم نفسها بنفسها ليس هو حقًّا طبيعيًّا لها، بل هو حالة اجتماعية
يقتضيها طور من أطوار الأمة، وينبذها طور آخر، وإن الأمم لا تستحقها إلا إذا
بلغت مرتبة مخصوصة من مراتب الاجتماع، وإنها قبل أن تصل في اجتماعها إلى
هذه المرتبة، فلا حق لها بنيل حريتها ولا بالمطالبة بها، كما أنه ليس لحكامها أن
يفوضوا لها شيئًا من شؤون نفسها؛ خشية أن تتصرف تصرفًا يفسد حالها، ويوجب
طرؤ الخلل في إدارتها.
وزعموا أن حالة الأمة إذ ذاك كحالة الصبي قبل بلوغه، فإنه لا يجوز في
نظر العقل السليم أن يطلق له التصرف في شؤون نفسه؛ لئلا يفسد عليه أمره
ويضطرب حاله، وإن ما هو للشيء بطبعه لا يتخلف عن ماهيته، مع أن كثيرًا
من الجمعيات البشرية عاشت أزمانًا متطاولة وهي مملوك عليها أمرها، مستبد
عليها في شئونها، فكيف يكون حكم الأمة نفسها بنفسها حقًّا من حقوقها الطبيعية،
ومميزًا من مميزاتها الفطرية.
وذهب أهل البصيرة منهم إلى أن حكم الأمة نفسها بنفسها حق طبيعي، ثبت
لها يوم صح أن يطلق عليها لفظ أمة، فهو وصف لازم لذاتها غير منفك عن
ماهيتها، وإن من عمد إلى سلبها هذا الحق فردًا كان أو جملة، فهو كمن عمد إلى
سلب إنسان حقه في استنشاق الهواء وتناول الغذاء، أو كمن قيد إنسانًا عن حركته
الطبيعية التي يهم بها بإرادته ويباشرها بقدرته.
واستدلوا على ذلك بأن العقول السليمة متفقة على أن كل فرد من بني الإنسان
هو بحسب فطرته حر مستقل في: حركته وسكونه وإقدامه وإحجامه وأخذه وتركه،
وإن الشرائع السماوية والقوانين الوضعية قد حكمت؛ بأن له حقًا طبيعيًا في أن
يتصرف بشؤون نفسه، كيفما شاءت إرادته ومال إليه اختياره، وإن الباحثين في
تعريف ماهيات الأشياء وتحديد طبائعها قد عرَّفوا الإنسان؛ بأنه الحيوان الناطق
بطبعه المتحرك بإرادته.
وإن الأمة لما كانت عبارة عن جملة أفراد مجتمعة بروابط من المصالح
المشتركة والصفات الشاملة، فقد وجب أن يثبت لمجموعهم من الحق ما ثبت للفرد
الواحد منهم.
إذا كان العدوان على حرية شخص واحد يعد شذوذًا عن قواعد العدل، وفسوقًا
عن أوامر الله، وخروجًا عن حدود الإنسانية، وهو لم يتعد أن أضر فردًا بعينه،
لا تتوقف عليه سعادة ولا يناط به شقاء، فما بال العدوان على حرية أمة كبيرة؛ قد
تكون مؤلفة من ملايين من مثل ذلك الفرد لا يعد شذوذًا عن منهج العدل؟ بل كيف
يعد ذلك من نتائج الصواب، وحكمة أولى الألباب، لعمري ليس هذا المذهب إلا
من وساوس المستبدين الذين لا يروق لهم إلا الأثرة بحقوق الضعفاء، والتلاعب
بعقول الأغبياء، وإن الحكم على أمة مجتمعة بأنها غير جديرة أن تحكم نفسها
بنفسها؛ لأبعد عن الصواب من الحكم على الرجل العاقل أنه غير أهل للتصرف
بشئونه الخصوصية.
هل يبلغ الجهل والقصور بمجموع يستقل أفراده بشؤون أنفسهم أن يعجزوا
جميعًا عن تدبر شؤون مجتمعهم؟
إن حد التمييز والرشد في الأمة هو أن تكون بحيث يتهيأ لها الاجتماع بأبسط
معانيه، فإنها متى بلغت هذه المرتبة، حكم لها بأنها بالغة رشدها قادرة على إدارة
نفسها، وكل جمعية بشرية فهي بالغة هذه المنزلة لا محالة؛ ضرورة أن الإنسان
خلق على أن يعيش مجتمعًا، فهو لا ينفك عن الاجتماع، والأمة المجتمعة لا تنفك
أن تكون مستحقة للاستقلال بطبعها، وإنما تحول دون ذلك أطماع المستبدين أحيانًا
فإذا اتفق لأمة أن صرفت همة المستبدين من رجالها عن العبث باستقلالها، فقد
قضي لها أن تباشر السير إلى كمالها.
لا يشترط في نيل الأمة حريتها واستحقاقها لذلك بطبعها أن تبلغ في اجتماعها
مبلغ الأمم الراقية، كما لا يشترط في بلوغ الرجل رشده أن يكون كأصوب الرجال
رأيًا وأكملهم رشدًا؛ لأن الرقي والرشد يقالان بالتشكيك، فيكونان في بعض
الأشخاص وفي بعض الأمم أرقى منهما في غيرهما، ولا يوجب ذلك نقصًا
بالمقصر عن درجة المتقدم يؤدي إلى حرمانه من حقوقه الطبيعية.
إذا نالت الأمة حقها في حكم نفسها انفسح لأفرادها مسرح الفكر، واتَّسع لهم
مجال العمل، ودَبَّتْ فيهم حياة جديدة شعروا بها أن لإرادتهم وميولهم تأثيرًا في رقي
مجتمعهم، فترفَّعت بذلك نفوسهم عن الدنايا، ونهضت إلى معالي الأمور،
وانصرفت من هنا إلى الشعور بأن الفوز بالمصلحة الخاصة متوقف على تأييد
المصلحة العامة، فاندفعوا بسائق محبة الذات إلى التماس مصلحة أفرادهم في ضمن
مصلحة مجموعهم.
ومن ثَمَّ تخرج العقول من مضايق أشخاصها إلى متسع الأمة، وتنصرف
الأفكار عن البحث في الكليات، فتتمرن على الاستنتاج الصحيح من المقدمات
اليقينية، فتستقيم الأفكار وتصان الأعمال عن الخلل.
ويتبع ذلك صحة في العزائم، ونهوض في الهمم، ومسابقة إلى الأعمال
الشريفة، وتنافس في إصابة المفيد منها للأمة. هكذا يتسنى للأمم أن ترتقي في
مدارج اجتماعها مبتدئة بالفكر الصحيح، ومتنقلة من ذلك إلى الصالح لها الموافق
لمصلحتها، ثم تتدرج من هناك في مراتب الكمال مرتبة بعد مرتبة! ومن أين للأمم
التي ليس لها حظ من الحرية أن تنال هذه المزية؟
إذا تقرر هذا، علم أن نيل هيئة اجتماعية لحريتها يعد مهيأ لرقيها ومقدمة
لتقدمها، أو مرتبة أَوْلى من مراتب كمالها، فإذا توقف نيل حريتها على بلوغها
مرتبة القدرة التامة على إرادة شؤونها، فقد كلفناها أن تأتي النهاية في البداية،
وتصل في مبدأ سيرها إلى الغاية، وهو باطل في نظر العقل، ومحال بحكم الواقع.
(يرد هنا نبوغ الأمة الإسلامية بعد الخلفاء الراشدين إلى زمن المعتصم،
ورقيها وفيها من المستبدين مثل يزيد وعبد الملك والمنصور والرشيد، ونبوغها
أيضًا في دولة بني عثمان من زمن مؤسسها إلى زمن السلطان سليمان القانوني
والجواب عن هذه يستغرق بحثا طويلاً لا يتسع الوقت له الآن، فنرجئه لفرصة
أخرى) .
ومهما يكن الأمر، فلا مراء في أن حرية الأمة هي مبدأ حياتها الاجتماعية،
وأن الناهضين في كل أمة لإيصالها إلى هذا الحق هم صفوة رجالها، والنوادر من
أبطالها، بل هم القبيل الذين رآهم الأقدمون فحسبوا أنهم ممتارون عن البشر،
فأقاموا لهم التماثيل وشيدوا لهم الهياكل، وأفردوهم بالعظمة والكرامة، حتى
وضعوهم بمصاف الألهة، فلا عجب أن تحتفل الأمة العثمانية اليوم بنيل حريتها،
وتترنم بآيات الثناء لأولئك الأبطال العظام من جمعية الاتحاد والترقي، فلتحيا
الجمعية، فليحيا السلطان الدستوري، فليحيا المنقذ الثاني للوطن محمود شوكت باشا،
فليحيا الجيش المظفر.
__________(12/547)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عيد الدستور بمصر
أنشدنا محمد حافظ أفندي إبراهيم لنفسه في ليلة الاحتفال بهذا الموسم في
حديقة الأزبكية بمصر هذه القصيدة:
أجل هذه أعلامه ومواكبه ... هنيئًا لهم فليسحب الذيل ساحبه
هنيئًا لهم فالكون في يوم عيدهم ... مشارقه وضاءةٌ ومغاربه
رعى الله شعبًا جمع العدل شمله ... وتمت على عهد الرشاد رغائبه
تحالف في ظل الهلال إمامه ... وحاخامه بعد الخلاف وراهبه
خذوا بيد الإصلاح والأمر مقبل ... فإني أرى الإصلاح قد طرَّ شاربه
وردوا على الملك الشباب الذي ذوى ... فإني رأيت الملك شابت ذوائبه
فمن يطلب الدستور بالسوء بعد ما ... حمته يد الفاروقي فالله طالبه
إذا شوكت الفاروق قام مناديًا ... إلى الحق لباه نيازي وصاحبه
ثلاثة آساد يجانبها الردى ... وإن هي لاقاها الردى لا تجانبه
يصارعها صرف المنون فتلتقي ... مخالبها فيه وتنبو مخالبه
روت قول بشار فثارت وأقسمت ... وقامت إلى عبد الحميد تحاسبه
(إذا الملك الجبار صعَّر خدّه ... مشينا إليه بالسيوف نعاتبه)
وسار على أعقابها كل سابح ... على متنه برج مشيد يداعبه
يصيح به (لا ريّ) أو نبلغ المنى ... و (لا شبع) أو يرجع الحق غاصبه
هنالك فانهل واتخذ ثم مربطًا ... بيلدز واحمد في الوغى مَن تصاحبه
رجال من الإيمان ملأ نفوسهم ... وجيش من الأتراك ظمأى قواضبه
صوالجه سمر القنا وكراته ... رؤوس الأعادي والحصون ملاعبه
إذا ثار دكت أجبل وتخشعت ... بحار وأمضى الله ما هو كاتبه
وثلت عروش واستقرت ممالك ... ولو أن ذا القرنين فيها يناصبه
فمن لم يشاهد يلدزًا بعد ربها ... وقد زال عنه الملك واندك جانبه
وأسلمه أحبابه لقضاته ... وفر لم يخش المعرة كاتبه
وقلمت الأقدار أظفار بطشه ... ودل على ما تجهل الجن حاجبه
فما شهد الدنيا تزول ولا رأى ... بلاء قضاء الله في مَن يحاربه
أبيح حماها وانطوى مجد ربها ... وقامت على البيت الحميد نوادبه
ولم يغن عن عبد الحميد دهاؤه ... ولا عصت عبد الحميد تجاربه
ولم يحمه حصن ولم ترم دونه ... دنانيره والأمر بالأمر حاز به
ولم يخفه عن أعين الحق مخدع ... ولا نفق في الأرض جم مسار به
أقام عليه مهلكًا عند مهلك ... يمر به روح الصبا فيوائبه
تحاماه حتى الوهم خوف اغتياله ... فلو مسه طيف لدارت لوالبه
وأسرف في حب الحياة فحاطها ... بسور من الأهوال لم ينج راكبه
ففي كل قفل للمنية مكمن ... وفي كل مفتاح قضاء يراقبه
وفي كل ركن صورة لو تكلمت ... لما شك في عبد الحميد مخاطبه
تماثيل إيهام أنيمت وأقعدت ... تراءى بها أعطافه ومناكبه
تمثله في نومه وجلوسه ... وتخدع فيه الموت حين يقاربه
أقام عليه ألف موت محجب ... ليغلب موتًا واحدًا عز غالبه
سلوه أأغنت عنه في يوم خلعه ... عجائبه أو أحرزته غرائبه
وقد نزل المقدار بالأمر صادعا ... وضاقت على شيخ الملوك مذاهبه
وأخرجه من يلدز رب يلدز ... وجرده من سيف عثمان واهبه
وأصبح في منفاه والجيش دونه ... يغالب ذكرى ملكه وتغالبه
يناديه صوت الحق ذق ما أذقتهم ... فكل امرئ رهن بما هو كاسبه
هم منحوك اليوم ما أنت مشتهٍ ... فرد لهم ما أنت بالأمس سالبه
ودع عنك ما أملت إن كنت حازمًا ... فلم يبق للآمال فضل تجاذبه
مضى عهد الاستبداد واندك صرحه ... وولت أفاعيه وماتت عقاربه
لك الله يا تموز إنك بلسم ... لجرحى الأسى والدهر تعدو نوائبه
فكم رعت جبارًا وأرهقت ظالمًا ... وأنصفت مظلومًا توالت مصائبه
فديناك من شهر أغرَّ محجل ... أوائله ميمونة وعواقبه
تقابله الأعياد في الأرض كلما ... تجلى هلال الشهر أو لاح حاجبه
ففي الغرب عيد ينظم الغرب حسنه ... فتهتز من وقع السرور جوانبه
وفي الشرق عيد لم ير الشرق مثله ... تدفق في دار السلاح مواكبه
يطفون بالعرش الكريم وربه ... تطيف بهم آلاؤه ومناقبه
لتهنئ أمير المؤمنين محمدًا ... خلافته فالعرش سعد كواكبه
ستملك أمواج البحار سفينة ... كما ملكت شم الجبال كتائبه
ممالكه محروسة وثغوره ... ركائبه منصورة ومراكبه
وأرسل إلينا إسماعيل بك عاصم المحامي المصري هذه القصيدة من الآستانة:
عيد عز الدستور بالأمن أسفر ... نوره الأنام الله أكبر
آل عثمان هاكم اليوم يوم ... هلل القلب فيه بشرًا وكبر
يوم عيد الحرية التي كم بتـ ... ـنا زمانًا لبعدها نتحسر
كل حرية بغير حماة ... لا يراعى زمامها من تجبر
ولهذا جاء الرشاد ليحميـ ... ـها فكانت لعصره خير مظهر
يا أميرًا للمؤمنين وسلطا ... ن جميع الشعوب لا فرق يذكر
كل هذي الأقوام ترجوك في تعويض ... ما فات أنت بالعدل أقدر
أنت أدرى يا صاحب الملك بالما ... ضي فأدرك بحزمك الملك تشكر
يا رجال الوزارة الصيد هذا الـ ... ـوقت في هوله كيوم المحشر
دققوا في الحساب بالقسط ترتا ... ح البرايا فطالما الظلم كدر
فالمليك المحبوب رأس وأنتم ... منه أعضاؤه به تتأثر
والكرام النواب أوردة الجسـ ... ـم وماء الحياة منها تفجر
آل عثمان إن سلطاننا أعـ ... ـظم ملك بنوره نتبصر
هو حامي الدستور حامي الرعايا ... حافظ العهد للعدالة أظهر
فتفانوا في حبه فهو بالإخـ ... ـلاص منا وبالمحبة أجدر
أيها النائبون عن هذه الأمة ... أنتم لها العماد الأكبر
أنتم عارفو البلاد وحاجا ... ت الأهالي وما به تتعمر
أعين الناس نحوكم ناظرات ... فاظهروا للورى بأشرف منظر
لا نريد استرداد ما راح لكن ... حفظ ما عندنا فلا نتقهقر
ثلث قرن مضى ونحن من الإر ... هاق كانت أعصابنا تتخدر
ثلث قرن ونحن في ظالمات ... بعضها فوق بعضها تتكرر
فجلا تلكم الدياجي نور ... من سنا قادة الجيش مظفر
أنقذونا وكاد الروح تدنو ... للتراقي وصائح الموت زمجر
فسجدنا لربنا وشكرنا ... هؤلاء الأبطال والحر يشكر
يا ليوث الوغى ويا خير من أحـ ... ـيا نفوساً كادت من الظلم تقبر
يا أسود الشرى ويا خير من قوَّ ... م ملكا قد كاد أن يتدمر
قد جلوتم لنا عروسًا تجلت ... تتجلى بدر السماء وأزهر
وهي حرية أضأت ودستو ... ر بحفظ الحقوق في الملك بشر
فعليك السلام يا شوكت ... منا تليه تحية تتعطر
أنت أدركت ذي الخيانة فانقضـ ... ـيت حتى ظفرت والملك عمر
وعلى الفرقدين أزكى سلام ... بطلي تركيا نيازي وأنور
لا تقولوا قد راح مدحت عنا ... كلكم مدحت إذا ما تدبر
فاتركوا ما مضى وجدوا لما يأ ... تي بحزم النهى وعزم الغضنفر
واستعينوا بالحق دومًا ومبعو ... ثانكم فالنجاح في ذاك أكثر
خير ما ينفع الشعوب ثبات ... واتحاد بعزمه تتحرَّر
فهنيأ يا آل عثمان هذا ... يوم عيد للناس عيد مكبر
دام سلطاننا ونوابنا والجيش ... والشعب في الهناء الأوفر
هذه غادة من النيل وافت ... بسناها ودلها تتبختر
غادة زانها حلي المعاني ... ومن اللفظ عقد در وجوهر
أقبلت في بشائر أرختها ... عيد عز الدستور بالأمن أسفر
سنة 1327 ... ... ... ... ... 84 77 701 124 341
* * *
ضاق هذا الجزء عن باب الفتاوى وفيه بيان معنى كون الدستور موافقًا للشرع وغير ذلك من المسائل فأرجأناه إلى الجزء الآتي.
__________(12/551)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(الهرج والقتل في أطنه)
أشرنا في آخر الجزء الثالث إلى هذه الحوادث وكانت في بدايتها، وقلنا: إنه
لا ثقة بأخبار شركة روتر أن الترك هنالك تصدوا لذبح الأرمن عدوانًا، ثم إن
الجرائد في الآستانة وسورية ومصر، جاءت بتفصيل لتلك الحوادث، جاء في
بعضها أن الأرمن كانت هي المضرمة لنار الفتنة وأن مبدأ ذلك تمثيل الأرمن لقصة
سياسية في أدنه، يصفون فيها ظلم الترك لهم، وقيام ملك منهم ينقذهم من ظلمهم
ويقيم لهم دولة جديدة. ثم إنهم لم يكتفوا بهذا، بل طفقوا يستحضرون السلاح الجديد،
فتنكر لهم المسلمون إلى أن انفجر البركان، وفاض الطوفان، واقتتل الفريقان،
وروي أن أول واقعة من وقائع الاعتداء كانت من الأرمن. ومن الناس من لا
يصدق هذه الروايات، بل يرجح أن المسلمين هم المعتدون، ومنهم من يقول
ويكتب غير ما يعتقد، وللهوى سلطان على القلب وعلى القلم واللسان. ومن رأينا
أن يُرجأ الحكم في الأسباب والمبادي إلى أن يتم تحقيق الحكومة في ذلك، وينشر
رسميًّا.
مهما كانت الأسباب والمبادي، وأيًّا ما كان المعتدي والبادي، فلا شك في كون
الفريقين قد عملا ما لا يبيحه الدين الذي ينتسبان إليه، ولا يتفق مع مصلحة الوطن
الذي يقيمان فيه، فقد هدمت الدور، وأحرقت الأسواق، وقتل النساء والأطفال،
وحملت الأمة عبئًا من العار، ولحق الحكومة ما لحقها من الخسار، وتألمت
الإنسانية الفاضلة في جميع الأقطار.
قد أكثر أهل الأهواء وأفرط مقلدة التفرنج من القول بأن سبب ذلك هو
التعصب الديني، ولو كان ما زعموا لما كان الهرج بين الترك والأرمن دون سائر
المسلمين والنصارى، فقد ثبت أن أبناء العرب هناك كانوا يحمون الأرمن
ويواسونهم، وأن الأرمن لم يعتدوا على غير الترك، والترك لم يعتدوا على
غيرهم. فالمسألة إذا أثر من آثار الأحقاد الجنسية، ومن جعل سببها التعصب الديني
فهو - إن لم يكن جاهلاً- متعصب أو منافق يتزلف للمتفرنجين، وإن ادعى أنه
من الأحرار أو المسلمين.
دعا بعض فضلاء العثمانيين الناس إلى الاجتماع في حديقة الأزبكية؛ لسماع
الخطب والقصائد في شكوى الإنسانية؛ من ذبح أبنائها بعضهم لبعض، والحث
على مواساة المنكوبين وإعانة اليتامى والأرامل من الفريقين- المسلمين والأرمن-
فلبى الدعوة جماهير أهل الخير من جميع الطوائف ما عدا الأرمن. وخطب صاحب
هذه المجلة - على أنه كان مريضًا والحر شديدًا- خطبة ارتجالية بناها على بيان
التفاوت العظيم بين الإنسانية الراقية والإنسانية السافلة، التي يكون أصحابها شرًّا
من الوحوش الضارية والحشرات السامة، وكون هذا الاجتماع احتجاجًا من أهل
الأولى على أهل الثانية وإرشادًا وتعليمًا. وبينت فيها مشروعية البر والإحسان في
الإسلام بجميع البشر مؤمنهم وكافرهم، بل بجميع الأحياء (في كل كبد حرى أجر)
ورمى بعض الخطباء إلى كون المسلمين هم المعتدين الباغين باسم الإسلام،
فرددت عليه بلطف وقلت: إن المقام مقام استعطاف لا محاكمة ولا تاريخ، وإن
التحقيق الرسمي سيظهر الحقيقة، إن المسألة جنسية لا دينية.
ذلك ما كتبناه للجزء الماضي من المنار، فلم يتسع له ثم قرأنا في جريدة لسان
الحال البيروتية المؤرخة في 15 الشهر (رجب) ملخص تقرير المجلس العرفي،
فنحن ننشره بنص هذه الجريدة وهو:
(تقرير المجلس العرفي في أطنه)
وضع المجلس العرفي في أطنه تقريرًا مفصلاً بحوادث أطنه. ولكن جرائد
دار السعادة العلية لم تنشر إلا خلاصة منه. وهو يذكر أن الحوادث التي جرت
هناك إنما يصعد تاريخها إلى أيام بحري باشا الوالي الذي كان قبل جواد باشا؛ فإنه
ظلم الناس ظلمًا فاحشًا، وأوقع بهم خسفًا وجورًا، وهم لا يبدون ولا يعيدون، بل
كانوا كالموتى لا يتحركون ولا يشكون، وكان رجال الوالي كثيرين، وهم ينتفعون
من توسيع نطاق تلك الاختلالات، ويتمنون إلى الله أن تدوم؛ لأن أكثر تلك المظالم
التي تشمئز منها النفوس الأبية، كانت واقعة على الأرمن، وكان هؤلاء بها
راضين صابرين، حتى يمن الله بالفرج ولما ثقلت الوطأة وشعروا بشدة الشكيمة،
فضلوا الموت على الحياة. ولكن الذين كانوا يعللون النفوس بأمل الانفصال في
الاستقبال، كانوا يُسَكِّنُونَ رَوْعَهُمْ وَيَحُضُّونَهُمْ على الصبر، وقد أتوا بكثيرين من
هؤلاء المظلومين من أنحاء الولاية وأقاموهم في مركز الولاية، وقالوا: إنَّ هذا
المركز يعتبر ثغرًا بحريًّا، وقد استجلبوا له كثيرًا من الأسلحة لا سيما بعد إعلان
الدستور، فإنها كانت ترد إليهم من بيروت كميات عظيمة بالسفن والبواخر، وكانت
توزع عليهم في أطنه وضواحيها، حتى زادوا طمعًا بالانفصال عن الحكومة.
وبعد إعلان الدستور، كان المسلمون يتقربون من جميع أبناء الطوائف،
ويظهرون لهم المودة والمسالمة. ولكنهم ما كانوا يخفون احتقارهم للجمعيات
الأرمنية الموجودة في البلاد؛ لاعتقادهم بأن أعضاءها يسعون في الانفصال
والاستقلال، وقد زادهم ثقة بذلك؛ كونهم رأوهم يقيمون الشُّعَبَ والفروع لجمعياتهم
في كل الجهات، ولا ننكر أن الحكومة أظهرت ضعفًا شديدًا في كل الأحوال التي
مرت بالبلاد، فإنها لم تسع في قمع الفتن ولا في إخماد المشاغب، حتى إنه بلغ
مسامعها أن الأرمن يسعون سعيًا متواصلاً في الوصول إلى الاستقلال الإداري،
وأن رفاقهم في أوربا يكاتبونهم بذلك. ولكن الحكومة لم تلتفت إلى هذه المسألة،
واعتبرتها كأنها لم تكن.
وقد اتصل بالحكومة أن الجمعيات الأرمنية وزَّعَتْ رسومًا وجرائد وشارات
مخصوصة على الأرمن، وجعلت لكل منهم علامة فارقة يعرف بها، ومع ذلك
فإنها لم تهتم للأمر، ولا سَعَتْ في إيقاف تياره، حتى إن المطران موشاخ الذي
هرب، كانت له يد سوداء في كل هذه الأعمال المغايرة، وما زال الأمر يزداد
استفحالاً، ونطاق الخلاف يزداد اتساعًا بين المسلمين والأرمن، حتى صارت
الحوادث تتوالى من مدة إلى أخرى، وكثيرًا ما كانت تتفاقم وتتجسم حتى امتلأت
القلوب بالضغائن، ووقع ما وقع بين الفريقين من أسباب القتال الذي قضى بذهاب
الأنفس، ووقائع الحرق والنهب وغيرها [1] .
وكانت الحكومة تنظر إلى هذه الأحوال بعين لا يخامرها كلل، وفكر لا
يعتريه وجل ولا حسبان لشيء، وكان الخَطْبُ يتفاقم ويتعاظم بين المسلمين
والأرمن، وفي كل يوم يطلق الرصاص هنا وهناك من الفريقين، والحكومة لا
تكترث له، حتى جنت بذلك جناية لا تغتفر، ولما قبضت على بعض المشاغبين
من الأرمن، توسط البعض في آمرهم فتركتهم وشأنهم. أما المسلمون فأبقتهم في
الحبس فكثرت إذ ذاك الإشاعات، وتراكمت المخاوف والترهات، فراج السلاح
رواجًا عظيمًا، وكان تجاره وباعته ينذرون الفريقين بقرب اشتباك القتال، وإن
الواقعة ستكون عظيمة يتخللها مذابح هائلة، حتى بلغ ما دخل أطنه من الأسلحة
بطريق بيروت وإسكندرونه ومرسين أكثر من 13 ألف بندقية عدا البنادق
والمسدسات وغيرها مما لم يعلم به أحد. واتفق أنْ قَتَلَ رجلٌ من الأرمن مسلمًا،
فتعقبته الحكومة ولكن الأرمن خبأوه وأخفوه عنها، ولما أقروا به قالوا: إنهم لا
يسلمونه ما لم تقتص الحكومة من مسلم ادعوا عليه بكونه كان قتل أرمنيًّا.
وفي 13 نيسان أطلق رجل اسمه محمود طلقًا ناريًّا في محلة من البلدة،
فقبضت عليه الضابطة. ولكن اجتمع أكثر من خمسمائة نفس من المسلمين وأنقذوه
منها؛ بحجة أنها لم تقبض على الأرمن الذين أطلقوا النار، وليس ذلك فقط، بل
إنهم اجتمعوا ثاني يوم مع رفاقهم وحضروا إلى السراي، وبالاتفاق مع مدير
البوليس أطلقوا سراح كل إخوانهم المحابيس، ومنذ ذلك اليوم أخذ المسلمون
يطوفون في المدينة شاكي السلاح، ويبدون مظاهرات تدل على أنهم لا يعبأون
بالحكومة، ولا يأتمرون بأمرها، وفي أثناء ذلك قتل أرمني مسلمًا، فعارضه
المسلمون، فخرج الأرمن عليهم متحمسين شاكي السلاح حتى ملأوا الشوارع
والطرقات، فاستدعت الحكومة رجال الرديف فحضروا وطافوا في الأسواق
بملابسهم المدنية، فكانوا كسائر الأهالي لا فرق بينهم في اللباس، فقام عليهم
الأرمن. ولكنهم أشاعوا فيما بينهم أن الحكومة هدرت لهم دماء الأرمن،
ورخصت لهم بالفتك بهم، وعند ذلك هجموا على المستودعات العسكرية، وأخذوا
الأسلحة وما يلزمهم من الذخيرة، وفعلوا ما فعلوه، مما أوجب على أعضاء ديوان
الحرب أن ينكروه ويذرفوا من أجله الدموع، ولما حمي الوطيس أخذ رجال
الحكومة يفوزون بأنفسهم، فهربوا وتواروا عن العيان، ثم سجن عدد كبير من
الأرمن.
ولما عقد الديوان الحربي حكم على 15 نفسًا من الأرمن والمسلمين بالإعدام،
فأعدموا، ويوجد الآن من 700 إلى 800 نفس كلهم مجرمون مذنبون كالذين شنقوا
وإذا أردنا محاكمة كل الذين دخلوا في هذه الحوادث كان هناك من 10 إلى 15 ألف
نفس، وإذا كان لابد من عقاب كل الذين ارتكبوا المخالفات والجرائم، كان لابد من
عقاب كل سكان الولاية.
وقد طلب في ذلك التقرير العفو عن مرتكبي الجرائم والصفح عما مضى. اهـ
(المنار)
ذكر اللسان بعد هذا أن بطرك الأرمن اعترض على هذا التقرير، وزيف
أكثر كلامه. وقد ذكر مثل هذا في بعض جرائد مصر , وإنا لنعلم أكثر من ذلك؛
نعلم أن الأرمن اجتمعوا في الكنيسة في الآستانة، فحثهم البطرك على الثبات على
طلب الاستقلال، وقرروا هناك وفي كل مكان عدم مشاركة العثمانيين بالاحتفال
بعيد الدستور، ولا تزال جمعية الاستقلال الأرمني العليا في الروسية مجدة في
عملها، وساسة الروس يغرونها، وسيكشف لهم الزمان أن اتحادهم بالعثمانيين خير
لهم وأبقى.
***
(فقيد العلم والصحافة الشيخ حسين الجسر)
نعت إلينا جرائد طرابلس الشام وبيروت عالم الديار السورية، بل أحد أفراد
علماء المسلمين في هذا العصر، أستاذنا الشيخ حسين أفندي الجسر صاحب الرسالة
الحميدة التي طار بها ذكره في الأقطار، واشتهر اشتهار الشمس في رابعة النهار،
ولما كانت مواد هذا الجزء قد تمت، أرجأنا ترجمته إلى الجزء الثامن. سائلين الله
- عز وجل - أن يحسن عزاء أنجاله، وعزاء الوطن عنه، وأن يتغمده برحمته
ورضوانه. آمين.
***
(الدستور في فارس)
ثبت الشعب الفارسي في محاربة الاستبداد، كما ثبت الشاه الجاهل محمد علي
على رفض الدستور، حتى نصر الله الحق على الباطل، فدخل المجاهدون طهران
فاتحين، وخلعوا الشاه، وجعلوا ولده وولي عهده مكانه وهو ابن إحدى عشرة؛
ولذلك جعلوا له نائبًا من كبار رجال الدولة.
__________
(1) : حذفنا من هذا الموضع كلامًا في (إحسان فكري) صاحب جريدة اعتدال، وما كان من ارتكابه ومكايدته للوالي، وما في ذلك من ضعف الحكومة الماضية.(12/556)
شعبان - 1327هـ
سبتمبر - 1909م(12/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البلاغ المبين
الذي بلغ من قبل المشيخة الإسلامية إلى النواب والقضاة والعلماء الراسخين والمشايخ العارفين [1]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه
أجمعين، وبعد:
فلما قضت إرادة الله تعالى في الأزل أن تصلح الأرض للعمران، استخلف
في مهابطها الإنسان القادر على تدبير أموره الشخصية والاجتماعية بعقله الذي وهبه
إياه، كما دل عليه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} (الأنعام:
165) الآية، وجعل ما تحتويه أرضه التي تقله وسماؤه التي تظله خاضعًا لمنافعه،
كما قال جل من قائل: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (الجاثية: 13) الآية، وجعله مكلفًا؛ لأنه ذو عقل وإرادة، هما قوتان فعّالتان يقدر
بهما أن يستعمل القوى الطبيعية؛ لقضاء حاجاته، وتحسين أعماله في حياته الدنيا.
ولكن أعماله مرتبطة بأعمال غيره، لا يستطيع أن يأتي بنظمها، ما لم تتحد
الآمال وتتبادل المنافع، فقد علم الله - تعالى - أن الإنسان ألعوبة لهوى نفسه
الأمارة، لا يتملص من أشراكه التي نصبته له بالسهل، وأن العقل الابتدائي
قاصرعن استنباط الشرائع الكافلة لسعادة البشر، فأرسل بفضله أنبياءه يوضحون
له أحكام المصالح العامة وقواعدها التي يعجز العقل الابتدائي وحده عن استنباطها،
ويعلمونه أن السعادة كل السعادة في الإيمان واتباع طريق العقل، وقد تمت
حجة الله البالغة، وظهرت حكمة التكليف، فالحائدون بعد ذلك عن المنهاج المستقيم
الذي أضاءه لهم الهادي الأمين مطرودون من رحمته، ومبعدون عن دائرة الهدى،
كما وصفهم تعالى بقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171)
الآية، نعم.. قد تمت حجة الله بخلقه العقول فينا وإرساله الأنبياء الهادين إلينا، فإن
ضللنا بعد ذلك كنا من الظالمين، ومن هنا يعلم السر في اتفاق الأئمة على أن
إصلاح العالم ليس بواجب على الله [2] ، وتقريرهم أن نصب الإمام واجب
على الأمة.
ولما كانت المطالب الاجتماعية مما لا يكلفها الواحد المعين، بل الجماعات كما
دلت عليه صدور بعض الآيات القرآنية، كقوله تعالى: (يا أيها الناس) (يا أيها
الذين آمنوا) الآية، فلا تصح الإمامة التي هي من أهمها إلا بالبيعة الشرعية العامة،
وبيعة الناس لرئيس حكومتهم بالطوع والرضا مشروط صحتها بتمسك ذلك
الرئيس بحبل الله المتين، واتباع شرائعه، وقوانين عباده المرعية. مما يدل على
أن كل أحد من المسلمين مكلف بمراقبة ما يأتيه ومسئول عن حكومته، يجب عليه
أن يشرأب إلى استطلاع أعمال رجالها ويراقبهم، حتى إذا رأى معروفًا قد غفلوا
عنه ذكرهم به، أو منكرًا كاستعمال نفوذهم خلاف الشرائع الربانية ومنافع العباد
نهى عنه وِفْقَ وصفه تعالى في قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 110) الآية، وحديث نبيه الكريم
صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) الحديث [3] .
كان الخليفة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام هو الصديق الأكبر بإجماع
الأمة، وبعده باتفاقها على العمل بوصية الصديق هو الفاروق الأعظم، وأحال
الفاروق أمر نصب الخليفة على الشورى، فوقع اختيار أهل الشورى على ذي
النورين عثمان رضي الله عنهم، وبعد شهادته، اتفق جمهور الصحابة في المدينة
على استخلاف عليّ كرم الله وجهه فبايعوه، وقد امتدت الفتوح الإسلامية في زمن
هؤلاء الأربعة الموسومين لطهارة سيرتهم بالخلفاء الراشدين إلى مشارق الأرض
ومغاربها. ولكن الأغراض المتصادمة واختلاط الأقوام العربية بالطوائف الأعجمية
بعدهم بدل الطوع والرضا في أمر البيعة بالكره والجبر، فلم تنتخب رؤساء
الحكومة على النحو الذي أمرت به الشريعة المطهرة إلا الشواذ منهم، حتى ظهرت
سلاطين آل عثمان.
فلما ظهرت شجرة آل عثمان التي يصدق عليها قوله تعالى: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ
وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} (إبراهيم: 24) وجعلت هذه تحمي في وارف ظلها عرش
السلطنة والخلافة، اقتفى سلاطينها في حكومتهم خطوات الخلفاء الراشدين، ومشوا
على آثارهم يهدمون صروح الظلم ويحيون ما انطمس من معالم الدين، وكانوا -
والحق وضَّاح - يستحبون الرضا، فلم يكرهوا الناس على بيعتهم، وقد أرسلوا إلى
البلاد قضاة من العلماء، ففرقوا بين القضاء والتنفيذ، ورعوا معاهد العلم حتى نبغ
فيها عدد كبير من الأعلام، وسعوا بإشاراتهم قضية الفتوى؛ لفصل المصالح حسب
ما تقتضيه الأحوال العصرية، مطبقين بذلك قوى الحكومة الثلاثة على حكمتي
الشرع والعقل؛ ليكون حملة القدرة التشريعية ناسًا من أهل العلم والتقوى المالكين
لمراقبة الحكومة التي هي نتيجة هذا التآلف المشروع الطبيعية، وأحالوا
التنفيذ والإجراء على الوزراء والأمراء، وحل الخصومات وفصلها بالحكم والقضاء
على القضاة والنواب الفضلاء، والمراقبة والإفتاء على المفتين من فطاحل العلماء
المظهرين لقابلية الاستقلال في شعب الاجتهاد، فقويت حكومتهم، واستحكمت
عراها، حتى انقادت لها طوعًا عناصر الأمة العثمانية المختلفة كافة.
هذا ما كانت عليه الحكومة العثمانية في عصورها الغابرة. ولكن الدهر قُلّب،
فإنَّ وَضْعَ دولتنا الجغرافي، وسعة بلادها، وظهور المفسدين من الطوائف
الجلالية وأطماع الدول المجاورة، كلها أسباب ولدت في سني حكومتنا الأخيرة
محاربات دامية، واختلافات داخلية شاع من جرائها الفقر وعم الوهن، فوق ما
أورثت الأمراض الوبائية المتعاقبة من فتور العزم، حتى انطمست معاهد العلم شيئًا
فشيئًا وانطفأ سراجه الوهاج، وشاع مكانه الجهل الأسود، والضلال المبين،
وكادت دولتنا تنقرض المرة بعد الأخرى - لا سمح الله.
تبين مما قدمناه من وجوب نصب الإمام شرعًا على الأمة، وكون الخطاب
الرباني عامًّا لكل الناس، وكون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مكلفًا بهما كل أحد
من المسلمين، إن الأمة هي الحاكمة [4] وإن صنوفها المؤلفة لها متضامنة بالتسلسل،
بحيث يجب على كل صنف منها أن يرقب غيره من الصنوف، وإذا تكاسل صنف
عن أداء وظيفته الخاصة به، قَوَّمَتِ الصنوف الأخر المعوج؛ لأنها هي المكلفة مما
هو نتيجة الارتباط المتسلسل الشرعية، ولذلك قال الشارع: (لا طاعة للمخلوق عند
معصية الخالق) [5] ، وقال: (إنما الطاعة في المعروف) الحديث [6] ، ومما
يؤيد وجوب ذلك التضامن أمره تعالى العام في قوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال: 25) الآية، وعليه فإذا أبدينا أقل غفلة عن
الائتمار بأمره هذا، اختل نظام الإدارة، وانحلت روابطها.
ولا يستنبطن أحد مما أوردناه أن لكل صنف من الناس أن يتداخل في مصالح
الحكومة، فذلك غير صحيح، بل الواجب أن تكون الحكومة الدستورية التي تراقب
أعمالها من قبل جماعة مصطفاة من عموم الأمة مصونة من كل يد تمتد للمداخلة
فيها، إذا أمرت الناس وجب عليهم أن يلبوا فيجيبوها بقولهم: سمعنا وأطعنا.
ولما كانت الدولة العثمانية التي بنت قوانينها على أساس الشرع الرصين،
وركبت قوى حكومتها من سياسة التوفيق بين الحكمة الشرعية والعقلية، لا يتطرق
إلى أصلها الزلزال بسهولة. حافظت حتى في أزمنة الجهل المطبق على شكلها
بفضل رجال من أهل العلم والتقوى، راقبوها ولم يطأطئوا من خشية الله رؤوسهم
لسلطان الجبابرة الظالمين، فهي وإن كانت في كل زمن معرضة للاضمحلال الذي
نبهنا الله تعالى لاجتناب أسبابه، بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) الآية، ستبقى مدى الدهور مضمونة بالاستقامة التي هي
جزء من الضمان الإلهي، حسب قوله تعالى: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ
لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً} (الجن: 16) الآية.
كان لَعَمْرُ الحق عهد الاستبداد المنصرمة أيامه السود، قد شوه وجهي الدولة
الأصلي والفرعي مدة ثلث قرن، حتى أفل من كل آفاقها العدل، وانْحَلَّ ما أبرمه
الشرع، واختل النظام، وشاع الظلم والجبر والفوضى، وتَنَفَّرَتْ قلوب الرعايا من
الحكومة، ونجم الشقاق والنفاق بين العناصر المختلفة، واستحالت الأودَّاء الأجانب
أعداء يعملون للإيقاع بها، ويضيقون عليها، يريدون بذلك تمزيقها، وكادت
جامعتنا العثمانية تتهور بسرعة في حفرة اضمحلالها. هنالك هبت من مكامن حفظ
الرحمن فئة هم الفرقة الناجية؛ حزب الله الغالبون، استقتلوا في سبيل الحرية وقوفًا
في وجوه الجبابرة المعاندين يكبرون ويجاهدون وفي أيديهم راية {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ
يَنصُرْكُمْ} (محمد: 7) الآية، فأنقذوا بما أتوه من السعي المحمود ذكره المملكة من
الخطر المحدق الذي كان يهددها، والوطن من الخراب الملم، وفكوا أغلال الحيف من
أيدي [7] الأمة، وكسروا قيود الاستعباد وسلاسلها من أرجلها، وسروا فؤادها ببشارة
قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} (الفتح: 1) الآية، مثبتين بأعمالهم هذه
التي سيحمدها التاريخ، وتغني بنشائدها الأحفاد صدق حديث المخبر الصادق
(لا تجتمع أمتي على الضلالة) [8] شكر الله سعيهم، والحمد لله على دين الإسلام،
ولم يكن عفو الأمة العثمانية المتبعة لحكم قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} (المائدة: 95) وقول نبيه الكريم: (العفو زكوة الظفر) [9] عن طواغي الاستبداد
أولي الصحف السود؛ ليثبطهم في مواقفهم، بل جرأهم على إبداء ما انطووا عليه
من الفطرة السيئة، كلما وجدوا فرصة تساعدهم، حتى تمكنوا بما بثوه من الدسائس
وزينوه من الحيل أن يورطوا المملكة في ورطة؛ هي والعياذ بالله أعظم من كل
الورطات الغابرة، فكانوا مصداقًا لقوله تعالى: {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ
هَادٍ} (الرعد: 33) الآية. ولكن أبطال الحرية أولياء الله المقسمين بكتاب الله
المبين على نصر شريعته، وإحياء سنن سيد رسله، والمحافظة على قوانين عباده،
ثاروا كالأسود من مرابضهم، يستصحبون في زحفهم الشرعي الفيلقين المنصورين
الثاني والثالث، مدججين بسلاح الجهاد ومقدمين أمام صدقهم أمراء الحماسة، يأمون
مقر الخلافة بسرعة محيرة حتى قهروا بسيوف بسالتهم جماعة الفئة الباغية
مقاوميهم، وردوا كيدهم في نحورهم، وحفظوا بيضة الإسلام من أن تعبث بها أيدي
الآثمين، فاستحقوا بذلك أن يسموا بمؤسسي الدولة ثانية، كما استحقت الفئة الباغية
أن تلقى جزاءها، حتى صح فيهم قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} (المائدة: 33) الآية.
وحينئذ اجتمعت أساطين الأمة الذين اصطفتهم عنها نوابًا يترجمون عن آمالها،
وقرت آراؤهم الحرة على أن يطلبوا إلى المشيخة الإسلامية تذكيرهم بما ينطق به
الشرع في مثل هذه الأحوال؛ لقمع الفساد الساري في جسم الدولة، فجمع شيخ
الإسلام السالف علماء العاصمة الأعلام، وأصدر باتفاق أصواتهم فتوى شرعية خلع
بها السلطان السابق، واستخلف مكانه بالبيعة الصحيحة العامة جلالة السلطان
الحاضر محمد خان الخامس - أيده الله تعالى - فكانت البيعة المقبولة الشرعية التي
قضت الأزمان الغابرة أن تكون نسيًا منسيًا، قد أوجدت بذلك مكانها.
{الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (الأعراف:
43) أما سيئات العهد السابق التي يعجز القلم عن إحصائها فهي معلومة لكل أحد،
نستغني عن تفصيلها بحمد الله تعالى على زوالها , وأما عهد الدستور الجديد فهو
عهد المحاسن والارتقاء؛ ذلك لأنه أحيا ركنًا من أركان الشرع المبين، كان
الطاغون المتسيطرون قد هدموه، وهذا حسن ابتداء لنا فيه خير فأل.
ولا يخفى أن حصول الراحة والسعادة في الملك لا يتيسران إلا باتباع الرعايا
للقوانين المرعية هنالك تمامًا، والقوانين المرعية إذا لم توزع الحقوق والوظائف
بين سكنة المملكة على التساوي المطلق لا تضمن الراحة والسعادة المطلوبتين.
ولكن القوانين العدلية والإدارية في دولتنا العثمانية مبنية - والحمد لله - على أساس
الشرع الرصين، فالمساواة المطلوبة بين الرعية مكفولة؛ إذ به لا يعدل عنها
لاختلاف الدين، كيف والأخبار المأثورة تسطع كنور الهدى مصرحة بذلك في كتبنا
الدينية، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) الحديث [10] ،
وكل وظيفة في نظر الشرع مقابل حق، فلا يجوز أن يحمل أحد وظيفة، ويحرم
من حقه؛ لأن ذلك ظلم محض، يجب أن ينزه الله - تعالى- عنه، وهل يتصور
أن ينطق دين الله بحكم فيه أقل حيف؟ ألم تذكر كتب السير أن فخر الرسل -
صلوات الله عليهم - قد استشار كثيرًا ممن لم يكونوا مسلمين، حتى ولا داخلين في
ذمة المسلمين، واستعان بهم في حروبه وغزواته [11] .
وقد نص الله - تعالى - في كتابه المبين بقوله: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 104) الآية
على وجوب مراقبة الحكومة من قبل منتخبي الأمة كما قدمناه. ولما كانت الطوائف
غير المسلمة بعض عناصر الدولة، كان اشتراكهم في هذه المراقبة موافقًا لصالح
المملكة، وعليه فإن مجلس المبعوثين اليوم أصح مثال لمقتضى الشرع،
والمشروطية أوضح تمثال [12] للخلافة الكبرى الإسلامية.
لقد حصحص - لَعَمْرِي - الحق، ووضح الصبح لذي عينين، فما على
الحكومة بعد اليوم إلا أن توزع الحقوق بالمساواة بين الرعايا وتقلد الوظائف كل من
رأت فيه أهلية منهم، ولا على الرعايا إلا أن يحسنوا معاشرة وطنييهم من سائر
الطوائف، ويراعوا حقوقهم من كل وجه كما يأمرهم به الدين، وقد نطق الكتاب بنجاة
الصلحاء من النصارى، وشهد بمودتهم للمسلمين، وهو قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ
أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً} (المائدة: 82) الآية. وصرحت الكتب الفقهية بلزوم صيانة دينهم
وأرواحهم وأموالهم من التعرض. أفبعد هذا يضطهدهم المضطهدون؟ كلا..
فإن ذلك خزيًا في الدنيا، ونكالاً في الآخرة، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) الآية. وقال سيد الرسل المبعوث
لإتمام مكارم الأخلاق: (تخلقوا بأخلاق الله) [13] الحديث , ومن أخلاق الله -
تعالى - العدل والإحسان إلى خلقه كافة بدون استثناء، فلا يجوز بعد ذلك معاملة
المسلمين لوطنيهم من الأمم السائرة بالفظاظة والغلظة؛ لأن في ذلك مخالفة صريحة
لرضى الله وسنة رسوله الكريم، والمخالفون داخلون في زمرة الخاسرين الذين قال الله
تعالى في حقهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (المائدة: 33)
الآية [14] .
فنحن ننبه المسلمين على أن عقاب مثل أولئك المخالفين المعتدين مقرر عند
الحكومة، ونوصي الناس بحسن المعاشرة فيما بينهم واجتناب ما يلقيه إليهم
الأشرار أولو الغايات الفاسدة من دواعي التفرقة والخلاف.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شيخ الإسلام
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه الفقير
... ... ... ... ... ... ... ... سرى زاده محمد صاحب
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عفي عنهما
تنبيه
أثبت توقيع الشيخ في النسخ المطبوعة منقولاً عن خطه بالزنكوغراف.
__________
(1) المنار: نشر هذا البلاغ بالتركية والعربية والفارسية كما بلغنا، ونشرنا هنا نص الترجمة
العربية التي وردت من الآستانة، وزدنا فيها عدد الآيات والسور فيما جاء فيها من الآيات،وخرجنا
الأحاديث في الهامش.
(2) المنار: هذا ما عليه أهل السنة خلافًا للمعتزلة، وعدم وجوب الصلاح عليه تعالى، لا ينافي كون أفعاله وشرعه صلاحًا وخيرًا وحكمة، فالصلاح والإصلاح من لوازم أفعاله وأحكامه، وهي واجبة له لا عليه؛ إذ لا سلطان فوق سلطانه.
(3) رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذى من حديث ابن عمر.
(4) المنار قد بين الأستاذ الإمام هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] (آل عمران: 104) أجلى بيان فراجعه في المنار، وسيأتي في هذا البلاغ التصريح به.
(5) رواه أحمد والحاكم من حديث عمران بلفظ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
(6) رواه الشيخان وأبو داود والنسائي بلفظ (لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف) .
(7) المنار: إنما موضع الأغلال الأعناق، ولعل التحريف من الترجمة أو سبق قلم.
(8) المنار: الحديث متداول بهذا اللفظ ولكن بتنكير لفظ ضلالة، وقد رواه أحمد والطبراني في الكبير بلفظ (سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة ويد الله مع الجماعة) .
(9) لا أعرف هذا الحديث، ولا أذكر أنني رويته، ولا رأيته في كتاب، ومولانا شيخ الإسلام أوسع اطلاعًا وأجود حفظًا.
(10) المنار: قد سئلنا عن هذا، وأجبنا عنه في هذا الجزء، فراجع باب الفتاوى.
(11) يوشك أن يكون الأصل (وأوضح مثال) فحرَّف في الطبع.
(12) في الكلام إجمال، وللمفسرين في الآية قولان: أحدهما أنها فيمن أسلم من نصارى الحبشة وهم ناجون حتمًا، فإن أراد الشيخ هذا القول، كانت فائدته هنا أن حسن معاملة المسلمين لغيرهم من شأنها أن تفضي إلى مثل هذه العاقبة المحمودة والقول الثاني أنها عامة في جميع النصارى، وإن كان سببها خاصًا وقوله تعالى في الآية التي بعدها: [وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ] (المائدة: 83) الآية مستأنف وهو الخاص بنصارى الحبشة، وعلى هذا يكون مراده بنجاتهم هو نجاتهم من السيف والاعتداء والظلم، ويوشك أن تكون عبارته التركية أظهر في مراده.
(13) المنار: قد اشتهر على الألسنة أن هذا حديث، ولم أره في شيء من كتب السنة.
(14) ظاهر هذه العبارة أن كل مسلم يعامل أحدًا من غير المسلمين بالغلظة والفظاظة؛ يكون ممن نزلت فيهم هذه الآية؛ ولذلك أنكر الناس هذه العبارة؛ لأن الآية نزلت فى البغاة الذين يزيلون الأمن بالقتل والنهب وقطع الطريق ولا شك أن شيخ الإسلام أيد الله به الشرع المبين، لا يريد بعبارته أن من يعامل الذمي أو المسلم بالغلظة والفظافة يكون محاربًا لله ورسوله، ومفسدًا في الأرض، ويعاقب بأحد العقوبات المذكورة في الآية الحكيمة وإنما يريد أولئك الذين يقدمون على القتل والنهب وإحراق الدور ومعاهد التجارة والعلم كما وقع في إدانة (أطنه) ، ولعل الخلل جاء من الترجمة بالعربية، والمراد ظاهر تؤيد الحكم الشرعي المراد منه القرائن الحالية، ويشير إليه ما ختم به الكلام من دسائس الأشرار أولى الغايات الفاسدة.(12/595)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اعتبار المصلحين بهذا البلاغ المبين
إن في هذا البلاغ من آيات العلم الصحيح، وهداية الدين القيم، والاعتصام
بالكتاب والسنة دون التقليد الأعمى ما تنشرح له صدور المؤمنين، وتشتد به عزائم
المصلحين؛ لصدوره من أرفع مقام في علماء الإسلام الرسميين.
ما أضاع الإسلام إلا ترك الكتاب العزيز والسنة السنية إلى كتب جماعة من
مقلدة المذاهب المختلفة، تقيد بها علماء الرسوم من القضاة والمفتين وغيرهم من
أعوان الحكام الجاهلين الظالمين، وقيدوا بها الأمة، حتى حل بها ما نعلم، وقد
شرحناه مرارًا، وفصلنا القول فيه تفصيلاً.
لقد بعث الله في القرون الخالية علماء أصفياء يجددون لهذه الأمة أمر دينها،
فكانوا فيها كأنبياء بني إسرائيل منهم مَنِ اهتدى بدعوته النفر والرهط والجماعة،
ومنهم مَنْ حالَ الاضطهادُ وضعفُ الاستعداد دُونَ الاهتداء به، وكانت العامة
المسكينة تغتر بمقاومة علماء الرسوم وسادتهم الحكام لأولئك المصلحين المجددين،
وتتبعهم في تضليلهم؛ لأن الناس على دين ملوكهم، حتى إن صوت شيخ الإسلام
أحمد بن تيمية قد خفت في هذه الأمة المسكينة، وهو أندى أصوات المصلحين،
وكتبه خفيت فيهم عدة قرون وهى أقوى وأظهر حجة من سائر كتب المسلمين.
هذا ما كان من الجهاد بين الحق والقوة، وهكذا كان يعادي الكتاب والسنة كل
من له بالحكام علاقة رسمية، فللعلماء الرسميين نفوذ عظيم إذا أيدوا به الإصلاح
ينتشر بسرعة عظيمة. ولكن الحكام المستبدين لا يمكنونهم من ذلك، فالعالم الرسمي
في الحكومة المستبدة لا يوثق بما يقول ولا بما يكتب إفتاء ولا تصنيفًا، بل إذا اشتد
الاستبداد في بلاد كان للعاقل أن لا يعتد بكلام أحد من علمائها وزعمائها في الأمور
العامة، إلا مَن كان مضطهدًا من حكومتها. نقول هذا بصرف النظر عن تحكيم
الدليل في الكلام لمَن كان من أهله.
طال الزمان على قوة الباطل وضعف الحق؛ لأن أهل الحق منعهم الاستبداد
من إظهار حقهم، وإنما يغلب الحق الباطل إذا وُجِدا معًا بلا معارض، ولهذا غلب
الجمود ودخل جماهير المشتغلين بالعلوم الدينية جحر الضب، وطاب لهم المقام فيه
حتى صاروا ينفرون من فضاء الحنيفية السمحة المضيئة بنور الكتاب والسنة،
فوصلوا إلى ذلك الدرك الأسفل من الضلال الذي عبر عنه بعض شيوخ الأزهر في
ملأ منهم فقال: مَن قال: إنني أعمل بالكتاب والسنة فهو زنديق.
نحمد الله تعالى أنه لم يسلب جميع المشتغلين بعلوم الإسلام نور كتابه وسنة
رسوله، بل صدق رسوله بأنه لا يزال طائفة منهم قائمين على الحق حتى تقوم
الساعة [1] ؛ ولكن حرية الأمم بخروجها من رق الاستبداد هي التي تظهر علم هؤلاء
وهدايتهم. فلما لاح شعاع الحرية في مصر ظهر فيها المصلح العظيم الشيخ محمد
عبده - رحمه الله تعالى - وكان صوته ضعيفًا إلى أن صار له صفة رسمية بتقلده
إفتاء الديار المصرية، فحينئذ علا صوته حتى صار شرق البلاد الإسلامية وغربها
يلهجان بلقبه الذي اشتهر به (الأستاذ الإمام) ، وتعلقت به آمال طلاب الإصلاح
الإسلامي في كل مكان.
ثم أشرقت شمس الحرية في المملكة العثمانية فظهر من أعلى مقام علمي فيها -
وهو مقام مشيخة الإسلام - كلمتان كبيرتان في الإصلاح:
(إحداهما) الفتوى بخلع السلطان عبد الحميد؛ فإنها فتوى بنيت على أساس
من كتاب الله عز وجل لا على شفا جرف مِن آراء زيد أو عمرو، فهي أقوى
وأصح فتوى صدرت في هذا العصر، كما بينا ذلك من قبل، وقد زادنا سرورًا
بها ما جاء في هذا البلاغ من جمع شيخ الإسلام الذي أصدرها للعلماء الأعلام
واستشارتهم في المسألة، وإصداره الفتوى باتفاقهم.
(الكلمة الثانية) هذا البلاغ المبين، المتألق نوره بالاقتباس من القرآن
الحكيم، والاستنباط منه ومن الحديث الشريف، فقد قرت عيوننا بما رأينا فيه من
الفهم الثاقب، وتطبيق الآيات والأحاديث على الوقائع والحوادث، ناهيك باستنباط
وجوب سيطرة الأمة على الحكومة من آية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر الذي أيد به الحكومة الدستورية، وباستنباطه من آيات وأحاديث أخرى
مشروعية الجمع بين الدين والعقل، والانتفاع بما خلق الله في السماوات والأرض،
ووجوب التضامن والتكافل العام في الأمة، وبيان سنة الاجتماع في تغيير أحوال
الأمم، والتصريح بكون الحكام إنما تجب طاعتهم في المعروف لا في المنكر
والمحرم، وغير ذلك من الأحكام والحكم.
إن شيخ الإسلام لم ينقل هذه المعاني من كتب التفسير نقلاً، وإنما فهمها من
كتاب الله تعالى فهمًا، وإن فهمه (حفظه الله) للآيات من قبيل فهم الأستاذ الإمام
(رحمه الله) لها، فهذا الإجمال موافق لما سبق تفصيله في المنار في التفسير
وغير التفسير مرارًا، وهو لم يكن قبل هذا العام ممن يرون المنار، وإنما هو
الاستقلال وعدم التقليد. يتفق أصحابه في كل ما تتوفر الدواعي على العلم به.
فنحمد الله أن وجد فينا مثل هذا الإمام الجليل، وإن كان شيخًا للإسلام في هذا
العصر المنير، ونسأل الله - تعالى - أن ينفعنا وسائر المسلمين بعلمه وهديه،
ويوفق جميع العثمانيين بإرشاده إلى التعاون والاتفاق على ما به عمران البلاد
وتعزيز الدولة آمين.
(فصل - أو- وصل) إننا نذكر في هذا المقام للشيخ سليم البشري شيخ
الأزهر ورئيس لجنة الدعوة إلى المؤتمر الإسلامي: إجازته لقانون المؤتمر الذي
فيه أن المباحث الدينية في المؤتمر تكون اجتهادية؛ تبنى على الكتاب والسنة
والإجماع والقياس لا على نصوص المذاهب , نذكر له هذا ونثني عليه عودًا على
بدء. وننتصر بتقرير هذا وبالبلاغ الذي نشرناه في هذا الجزء؛ وهما من أكبر
شيوخ الإسلام الرسميين في أكبر عواصم المسلمين؛ على الجامدين البلداء الذين
كانوا ينكرون علينا من بضع سنين دعوتنا إلى الاهتداء بالكتاب والسنة وجمع كلمة
المسلمين عليهما , والله خير الناصرين.
__________
(1) إشارة إلى حديث صحيح رواه الحاكم من حديث عمر وابن ماجه من حديث أبي هريرة.(12/603)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدستور والحرية والدين الإسلامي
(س 29 و30) من صاحب الإمضاء في سواكن (السودان) :
حضرة الأستاذ المرشد السيد محمد رشيد رضا دام فضله
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد؛ فقد ألجأني فهمي القاصر وذهني الفاتر لرفع هذه الأسئلة لجنابكم؛
ملتمسًا حلها وشرحها شرحًا وافيًا يفهمه الخاص والعام؛ لأن ظروف الأحوال
تقتضي ذلك بالنسبة لما هو حاصل الآن في دار الخلافة الإسلامية صانها رب البرية
وهى:
الأول: ما هو الدستور وما حقيقته، وهل هو موافق للدين الإسلامي تمام
الموافقة؟ وما الدليل عليه من الكتاب والسنة؟
الثاني: ما هي الحرية - القولية والفعلية - وما حقيقتها؟ وهل هي موافقة
للشريعة الإسلامية؟ وما الدليل عليها شرعًا وعقلاً؟
وهل هي كما علق بأذهان العامة بأنها الفوضوية التامة التي لا رادع لها؛ كأن
تذهب المرأة من بعلها وتفعل ما تشاء؛ وهو لا يقدر على منعها. ويذهب الولد
خارجًا من طاعة الوالد، ولا يقدر على تأديبه ومنعه من ارتكاب المحظور، أم هي
بخلاف ذلك؟
نرجو من حضرة الأستاذ إجابتنا على صفحات المنار الأغر في أول عدد منه
لا زال خضم علمه زاخرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه
... ... ... ... ... ... ... عبد القادر ملا قلندر البخاري
الدستور والدين الإسلامي
(ج) تنقسم الحكومة في عرف أهل العصر إلى قسمين أصليين: حكومة
مطلقة وتسمى شخصية واستبدادية، وحكومة مقيدة أو دستورية ويعبر عنها الترك
والفرس بالمشروطة أي: المشروط فيها العمل بالدستور.
فالحكومة الشخصية المطلقة هي التي يكون فيها حق التشريع والتنفيذ للحاكم
العام والرئيس الأكبر الذي يلقب بالملك أو السلطان أو غير ذلك من الألقاب، فهو
الذي يضع لبلاده من القوانين ما يشاء متى شاء، وينسخ منها ما شاء متى شاء،
غير مقيد برأي أحد ولا مكلفًا أن يستشير أحدًا، وهو الذي ينفذ الأحكام التي يحكم
بها في بلاده بإرادته أي تنفذ باسمه، على أن له أن يوقف تنفيذ ما يشاء منها ويعفو
عمن يشاء، سواء كان الحكم من نوع القانوني الوضعي أو من نوع الديني الشرعي
فهو فوق الشريعة والقانون، لا تجوز محاكمته إذا خالفهما. ومثال هذه الحكومة ما
كنا فيه قبل سنة وشهرين من حكم عبد الحميد، فقد كان بما له من السلطة المطلقة
يمنع من الأحكام الشرعية ما يشاء؛ كمنعه شهادة التواتر والحكم بمقتضاها، والحكم
بالحجر على المجانين، وتنفيذ أحكام الإعدام الشرعية وغير ذلك، كما كان يمنع
من كتب الدين والعلم ما شاء، ويصادر منها ما شاء بمحض الهوى والوسواس.
فهذا النوع من الحكم يُحَرِّمُهُ الدين الإسلامي، بل تحكم الشريعة الإسلامية
بكفر مستحله؛ لأن من استحل الحرام المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة؛
كإبطال الأحكام الشرعية، ومصادرة الناس في أموالهم ودمائهم كان مرتدًّا.
وأما الحكومة الأخرى أي: المقيدة أو المشروطة أو الدستورية فهي التي
يكون فيها الحاكم العام ومَن دونه مِن الحكام والعمال مقيدين كلهم بالدستور،
والدستور عبارة عن شريعة البلاد وقوانينها التي يضعها أهل الرأي الذين تعهد إليهم
الأمة ذلك بالتشاور بينهم؛ ليس للحاكم العام فيها أن يستبد بشيء، بل عليه أن يتقيد
بالشريعة والقانون الذي رضيه وقرره أهل الشورى. فهذه الحكومة موافقة للدين
الإسلامي في أساسها وأصلها؛ هذا لأن أحكام الإسلام قسمان: أحكام دينية جاء بها
الوحي، وأحكام دنيوية جاء ببعضها الوحي؛ إرشادًا وتعليمًا، ووكل سائرها إلى
أهل الشورى من أُولي المكانة والرأي الذين عبر عنهم القرآن العزيز بأولي الأمر،
فهم الذين يضعون برأيهم واجتهادهم ما تحتاج إليه الأمة لإقامة المصالح ودرء
المفاسد التي تختلف باختلاف الزمان والمكان. دليل ذلك قوله تعالى في المؤمنين:
{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) ، وقوله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَهُمْ
أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) وقد بينا معنى هاتين الآيتين أكثر
من مرة، وليراجع السائل تفسير قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) - (ص 726 م11) وعلى هذا جرى النبي صلى الله عليه
وسلم في أمور الدنيا، والخلفاء الراشدون من بعده.
هذا هو معنى موافقة الدستور للشرع الإسلامي في أصله وأساسه بالإجمال ,
وأما التفصيل فهو موكول في دولتنا الآن إلى أولي الأمر الذي انتخبتهم الأمة لوضع
القوانين التي يطلق على مجموعها لفظ (الدستور) ، فإذا كانت مسائل هذه القوانين
مطابقة للنصوص الثابتة وللأصول والقواعد الشرعية المستنبطة منها: كالعدل
ورفع المضار وجلب المنافع وغير ذلك من القواعد والأحكام، كان الدستور موافقًا
للدين الإسلامي في جزئياته التفصيلية، وإن كان بعض تلك المسائل مخالفًا لها،
يكون الدستور مخطئًا فيما خالف فيه كما أخطأ كثير من الفقهاء في بعض الأحكام
في كتبهم وللأمة حينئذ أن تنبه مجلس نوابها على ذلك؛ ليتداركه إذا تبين له.
ويرد هاهنا اعتراضان يتحدث بهما الناس: أحدهما مستمد من التفسير وهو
أن أولي الأمر الذين فوض كتاب الله تعالى إليهم استنباط الأحكام والقوانين يجب أن
يكونوا من المسلمين، ومجلس النواب العثماني الذي يضع القوانين الدستورية
مؤلف من المسلمين وغيرهم , والجواب عن هذا أن استشارة المسلمين لغيرهم
ومشاركتهم في الرأي غير ممنوعة، وقد تكون مطلوبة إذا كان ذلك من مصلحة
الأمة؛ لأن المصلحة هي الأصل في جميع الأحكام الدنيوية، حتى قال بعض
علمائنا: إنها تُقَدَّمُ على النص إذا عارضته كما نقلناه عن الطوخي في المجلد التاسع
(ص 745) على أن المسلمين هم الأكثرون في مجلس الأمة المكون من
المبعوثين والأعيان، وهم العارفون بمصالح الأمة ومنافعها، فلا ينفذ إلا ما قرروه.
والاعتراض الثاني مستمد من أصول الفقه؛ وهو أن الذين يستنبطون
للمسلمين ما يحتاجون إليه من الأحكام غير المنصوصة في الكتاب والسنة؛ يجب
أن يكونوا من أهل الاجتهاد الذين استوفوا شروطه التي ذكرها الأصوليون، وقد
يجيب المشتغلون بالسياسة عن هذا؛ بأن الأحكام الشرعية المحضة لا يتعرض لها
المجلس، بل هي لا تزال تؤخذ من كتب الفقه بالتقليد، وإنما يضع المجلس
القوانين المتعلقة بأمور الدنيا؛ كجباية الأموال وطرق إنفاقها ونظام المحاكم وغيرها
من مصالح الحكومة، وهي لا تحتاج إلى ما ذكروه من الشروط للمجتهد. ولكن هذا
الجواب لا يقنع المتفقهة، فإنهم يقولون: إن جميع الأحكام المالية والسياسية
والحربية والإدارية يجب أن تكون مستمدة من الشرع وموافقة له.
وإنني أجيب بجواب آخر؛ وهو أن ما ذكره الأصوليون من شروط المجتهدين
ليست نصوصًا تَعَبَّدَنَا الله - تعالى - بها فيما أوحاه إلى نبيه، وإنما هي آراء
لأولئك الأصوليين. وقد بينا الحق في ذلك، وما يجب من الإصلاح من الأمور
الدينية والدنيوية بالتفصيل في مقالات محاورات المصلح والمقلد، فليرجع إليها
السائل ومن شاء في المجلد الثالث والرابع من المنار [1] .
ونقول هنا أيضًا: إن الله - تعالى - قد جعل لجماعة أولي الأمر من الأمة؛
أن يستنبطوا برأيهم واجتهادهم من الأحكام ما تمس حاجتها إليه وأطلق ذلك، فإن كان
هنالك أدلة تدل على أنه يشترط فيهم ما قاله علماء أصول الفقه في المجتهدين،
فلتكن تلك الشروط كالشروط التي اشترطوها في الخليفة، وفي القاضي من حيث
إنه يجب تحصيلها، ويقدم من توفرت فيه على غيره، ولكن لا تتعطل الأحكام
بفقدها. فكما أجازوا خلافة الخليفة من غير استيفاء جميع شروطه للضرورة،
وأجازوا أن يكون القاضي غير مجتهد للضرورة، يجب أن يُجيزوا استنباط الأحكام
المالية والسياسية والإدارية والقضائية لمَن لم تتوفر فيهم شروط المجتهد لأجل
الضرورة؛ إذ لا فرق بين هؤلاء المستشارين والمستنبطين وبين الحاكمين
والمنفذين.
لا بد للأمة في كل وقت من الحكام، ولا بد أن يكون هؤلاء الحكام مقيدين
بالشورى، ولا بد أن يكون أهل الشورى من أولي الرأي والمكانة؛ لتثق بهم الأمة،
فعليها في كل زمن أن تختار أمثل أهله للقيام بذلك الركن الشرعي، فإن لم يوجد في
زمن ما من هم متصفون بصفات الكمال التي تدل عليها الدلائل الشرعية، فعلى
الأمة مع اختيار الأمثل للضرورة أن تُعِدَّ أُناسًا منها بالتربية والتعليم للكمال
المطلوب.
يقول حملة الفقه: إننا نستغني بما استنبطه المجتهدون السابقون عن استنباط
أحكام جديدة، فيجب أن نعمل بما دُوِّنَ في كتب الحنفيةِ أو غيرهم من فقهاء
المذاهب الأربعة، ولا نزيد على ذلك شيئًا، ويجيبهم الحكام وغيرهم من العارفين
بحال العصر:
أولاً: إن ما دُوِّنَ ونُقِلَ عن الأئمة الأربعة، لم يكف الأمة في زمن ما؛
ولذلك زاد عليه أتباعهم غير المجتهدين أضعاف أضعافه، حتى صار العمل بكتب
هؤلاء المقلدين، وفقد أكثر كتب الأئمة المجتهدين، وما عساه يوجد منها لا يقرأ ولا
يفتي به ولا يرجع إليه. واتباع المقلد وتقليده باطل بحسب أصولكم، وأعذاركم عن
ذلك غير مسموعة.
ثانيًا: إن الزمان قد تغير وتغير العرف الذي بني عليه كثير من الأحكام،
وحدثت للدولة والأمة مصالح وحاجات كثيرة، لم تكن في زمن الأئمة ولا زمن
مدوني الفقه المنسوب إلى أصولهم ومذاهبهم في الاستنباط، وصارت عرضة
لمضار ومفاسد لم تكن في زمنهم فنعرف من كتبهم طرق درئها. فاضطررنا إلى
أحكام تناسب حال زمننا، وإننا ما صرنا أضعف الأمم بعد أن كنا أقواها؛ إلا بعد
جرينا في درء المفاسد وجلب المصالح في هذه الأزمنة الأخيرة بحسبها.
هذا، وإن أساس هذا الدستور هو أن تنتخب الأمة نوابًا عنها يكونون هم
أصحاب الشأن في الأحكام التي تساس بها، فعليها أن تختار أمثلهم وأعلمهم بالشرع
أحكامه ومقاصده، والرأي الراجح في مجلس الأمة للمسلمين كما قلنا آنفًا، فإذا
قرروا ما يخالف الشرع القطعي ولم تستبدل الأمة بهم من يعود إليه كان الإثم عليها
وعليهم، ولم يكن الدستور مانعًا لها ولهم من إقامة شرعهم. وأما في زمن الحكومة
المطلقة فلم يكن لها أن نقول ولا أن تعمل، وإن ضاع دينها كله وضاعت دنياها
معه.
وجملة القول: إن الأمة يمكنها بهذا الدستور أن تُحيي دينها ودنياها، فإن لم
تفعل كان الإثم عليها. نعم.. إنها لا تستطيع ذلك إلا بالتدريج كما نشأ الإسلام
وترقى بالتدريج. فكان شأنه إلى عهد صلح الحديبية سنة ست غير شأنه بعد فتح مكة
سنة ثمان، فلا ينبغي أن ننسى هذا.
الحرية والدين الإسلامي
الحرية تطلق على عدة معان بحسب العرف والاصطلاح، ولعل ما تسألون
عنه هو ما قرره القانون الأساسي الذي هو أصل الدستور وأساسه في المادتين 9
و10، والمراد منهما أنه ليس للحكومة - ولا لغيرها بالأولى - أن تعتدي على أحد
لقول يقوله أو عمل يعمله، أو تكلفه شيئًا من ذلك إلا ما يعينه القانون؛ لحفظ
الحقوق العامة والخاصة، فمَن كان في بلد حكومته دستورية يكون حرًّا غير مستعبد
لحكومتها ولا لأصحاب النفوذ والجاه فيها، آمنًا على نفسه من الاعتداء؛ ما دام
محافظًا على القانون الذي يحظر عليه الاعتداء في حريته على حرية غيره وحقوقه
فحماية الناس من التعدي عليهم موافق للشريعة الإسلامية كما قال عمر بن الخطاب
رضي الله عنه لعمرو بن العاص لما علم أن ولده ضرب غلامًا قبطيًّا: (منذ كم
تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا) فإذا أدخل معنى في الحرية ترك بعض
الحدود أو التعزيرات المجمع عليها، كانت الحرية حينئذ غير شرعية بجميع جزئيات
معناها، بل بعضها شرعي وبعضها غير شرعي وإن كان سلبيًّا، وليس في القانون
الأساسي تصريح بذلك. ولكن قد يكون هذا النقص مما يقصر فيه مجلس الأمة عند
وضع قانون الجزاء والذنب عليه، وللأمة أن تطالبه به.
أما ما علق بالأذهان من كون الحرية القانونية تبيح نشوز النساء عن رجالهن،
وعقوق الأولاد لوالديهم فغير صحيح.
(سؤال آخر)
ورد علينا استفتاء آخر في المسألة من دمشق الشام، يحيلنا فيه السائل على
مقالة نشرها المقتبس فيها لم نطلع عليها، فإذا كان في جوابنا مقنع له فيها؛ وإلا
فليعد السؤال وليرسل معه المقالة التي سأل عن موضوعها.
__________
(1) جمعت تلك المقالات في كتاب مستقل ثمنه خمسة قروش وأجرة البريد مضمونًا قرش ونصف.(12/606)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استشارة غير المسلمين
والاستعانة بهم في الحرب
س 31 (من صاحب الإمضاء في بيروت
سيدي الأستاذ الشيخ محمد رشيد أفندي رضا الحسيني منشئ مجلة المنار
المحترم.
بعد التحية إليكم؛ إنه قد اطلعت في عدد (263) من جريدة الاتحاد العثماني
الأغر، فرأيت في طليعته منشورًا لشيخ الإسلام، كان من ضمنه هذه الجملة (وقد
استشار نبينا في ظروف عديدة خطيرة أناسًا لم يكونوا يدينون بالإسلام وطلب صلى
الله عليه وسلم في الحروب معاونتهم ومساعدتهم) فأرجو أن تبينوا لنا مَن هم
المشاوَرون؟ وما هي تلك الحوادث التي وقعت فيها الاستشارة، كما أرجو بيان مَن
هم الذين طلب النبي (صلى الله عليه وسلم) معاونتهم ومساعدتهم في الحروب؟
أخذًا للحكمة وبيانًا لمن انتحل لنفسه التعصب الذميم، فتطهر بذلك نفسه، واتباعًا
للحق مولاي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... خادم العلم الشريف
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... راغب قباني
(ج) خرج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى الطائف في أول
الإسلام، وطلب من رؤساء أهلها حمايته من قريش؛ ليبلغ دعوة ربه فردوه. وكان
يخرج في المواسم إلى أسواق العرب يعرض نفسه على القبائل؛ ليحموه حتى يُبَلِّغَ
دعوة ربه، فكان بعضهم يرد ردًّا حسنًا وبعضهم يرد ردًّا سيئًا. ثم إنه بعد أن قوي
الإسلام استعان في الحديبية بعُيينة الخزاعي، فاتخذه عينًا على المشركين وكان
يومئذ مشركًا، ومن المعروف أن قصة الحديبية كانت في ذي القعدة سنة ست من
الهجرة، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين ألف وأربع مائة أو
وخمس مائة، واستعان بصفوان بن أمية يوم حنين , وأخذ في خيبر برأي عزَّال
اليهودي فقطع مشرب القوم؛ ليخرجوا من حصنهم لمناجزته.
وفي مراسيل أبي داود عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان
بناس من اليهود في خيبر فأسهم لهم، وهو ضعيف. وفي حديث ذي مخبر
(رضي الله عنه) عند أحمد وأبى داود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: ستصالحون الروم صلحًا وتغزون أنتم وهم قومًا من ورائكم، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم محالفًا لخزاعة، وكانت قريش محالفة لبكر، فاعتدى بنو بكر
على بني خزاعة وساعدتهم قريش بعد عهد الحديبية، فانتقض عهدهم وحاربهم
النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه لأجل ذلك، حتى فتح مكة عنوة، وخرجت
خزاعة معه على قريش.
لكن ورد في حديث عائشة عند أحمد ومسلم أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - خرج قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كانت تذكر منه جرأة،
ونجدة قال: جئت لأتبعك فأصيب معك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(تؤمن بالله ورسوله؟) قال لا، قال (فارجع فلن أستعين بمشرك) ثم ذكرت أنه
عاد مرتين بعد ذلك، فقال له مثل ما قال في المرة الأولى. وفي حديث خبيب بن عبد
الرحمن عن أبيه عن جده أنه استأذن النبي هو ورجل آخر من قومه في الغزوة
معه، فقال: (أسلمتما) ، قالا، لا.. فقال: (إنا لا نستعين بالمشركين على
المشركين) رواه الشافعي وأحمد والنسائي وغيرهم.
ومن هنا جاء الخلاف بين العلماء في جواز الاستعانة وعدمه، فنقل الجواز
عن الحنفية، وعن الشافعي منع الاستعانة بهم على المسلمين وجواز الاستعانة بهم
على أمثالهم. أما الجمع بين الروايات المختلفة فقد قال الحافظ ابن حجر في
التلخيص: إن أقرب ما قيل فيه أن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها،
قال: وعليه نَصَّ الشافعي، وأنت ترى أن جميع ما نقلناه من روايات
الاستعانة كان بعد غزوة بدر التي قال فيها:
(لن أستعين بمشرك) والعمدة في مثل هذه المسألة اتباع ما فيه المصلحة وهي
تختلف باختلاف الأحوال.
وأما استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لغير المسلمين، فلعل شيخ الإسلام -
نفعنا الله بعلمه - يريد بها ما كان في أول الإسلام من استشارته - صلى الله عليه
وسلم - لعمه أبي طالب، ومن استشارة المنافقين بعد الهجرة؛ كاستشارة عبد الله بن
أُبِيّ في غزوة أحد، ومراجعته لحلفائه من اليهود في بعض المسائل المتعلقة
بالمحالفة؛ إن صح أن يسمي هذا استشارة. أما كونه - صلى الله عليه وسلم - كان
إذا عرض أمر يستشير فيه المشركين أو أهل الكتاب؛ ليستبين بمشاورتهم الرأي
فهو ما لا أعرفه ولا أظن أن شيخ الإسلام يريده. وقد علمت مما تقدم في
الكلام على الدستور أنه لا مانع من المشاورة، وإن مصلحة الأمة هي المحكمة
في مثل هذه المسألة , ولا شك أن مصلحة دولتنا في هذا العصر تقتضي إشراك جميع
شعوبها في المشاورة ووضع جميع القوانين , لا تقوم المصلحة بدون ذلك،
وهذا وحده كاف للجواز شرعًا.
__________(12/612)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أنصار البدع والتقاليد وكتبهم
(س 32) من صاحب الإمضاء في بتاوى (جاوه)
مولاي الأستاذ المصلح فضيلتلو أفندم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت، والمسؤول منكم إيفاء لما التزمتم
به من النصح لله ولكتابه ولرسوله وللمؤمنين؛ أن تفيدونا عن أسئلتنا هذه، فقد
عرفنا منكم الصدق وقوة الحجة وقطع ألسنة أئمة البدعة - أدامكم الله وزادكم
توفيقا -: إنها قد نبغت في هذه السنين رجال يدعون إلى الكتاب والسنة،
ويؤثرون ما كان عليه السلف الصالح على كثير من المنقول عن المتأخرين، وقد
كثر أصحابهم وعلت أصواتهم، ونرى على أقوالهم جلالة الحق ومسحة الصدق.
وقد غاظ أمرهم هذا أُناسًا عاشوا بترويج الرابطة والتوجه. وآخرين جمدوا
على ما قاله بعض مصنفي المتأخرين كابن حجر المكي، فاتخذوهم أربابًا من دون
الله، يحلون ما أحلوا ويحرمون ما حرموا، ويقدمون أقوالهم على قول الله تعالى،
وقول رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأقوال كبار أصحابه، ورجالات التابعين
بإحسان، مع صحة النقل وانتفاء المعارض. وقد زعموا أن الواجب علينا هو
الأخذ بما قاله أولئك المصنفون، وأنه لا تجوز لنا مخالفتهم ولا نسبة السهو والغفلة
إليهم فضلاً عن الغلط، وأن خلاف ما قالوه بدعة وضلالة وفسوق مهما قويت
صحته، وكذا القائلون به من سلف الأمة وخلفها، وأن شيخ الإسلام ابن تيمية كبير
الفسقة، وأن من يسميه شيخ الإسلام فاسق أيضًا، بل حرموا الاستدلال من الكتاب
والسنة مطلقًا، وقالوا: لا يقرأهما أحد إلا بنية التبرك أو نحو الاستسقاء وإلا فهو
ضال مجرم! ! !
وإلى سيدي نبذة طبعها مصنفها حديثًا , عكف عليها عباده وفيها همز ولمز لا
نسأل عنهما، ولكن نرجوكم عدم غض النظر عما فيها من، التغرير، والتضليل،
وإطلاق المقيد، وتعميم الخاص، وإيراد الأحاديث الموضوعة، والتحكم في الدين
والافتراء على الله بالقول؛ هذا حلال وهذا حرام بدون حجة؛ ليكون ما تكتبونه
زاجرًا له ولأمثاله من الجهال المتعصبين، ومنفذًا لمن يقع في حبالتهم من العوام
والسذج من المؤمنين؛ ولتعلموا أن قصده من الكتابة الرد لما جاء في المنار من
نحو الفتيا في الغناء ومن المدح لشيخ الإسلام، ومن الإنحاء على البدع والتقليد، ثم
لغيركم بعد من الرسالة فصولاً أخرى، ولربما سكت عن الجواب لعذره ولا عذر
لجنابكم، ومع تلك الرسالة نموذج من فتاوى ذلك البعض في منع الترجمة للقرآن،
لم يأت على ما قاله فيها ببرهان، فنرجوكم بيان الحق في حكم الترجمة، والتفصيل
بين ما يترجم لبيان معناه للاستدلال به على مَن لا يفهم العربية، وما يترجم ليقرأ
به العاجز عن القراءة بالعربية، وما يترجم ليكون كالتفسير، وما يشترط لذلك،
وأن تشيروا بمَن كتب ترجمة بيان آي القرآن في كتبه بالفارسية وغيرها كالغزالي
والبهوبالي والدهلوي وغيرهم، ولكم منا جزيل الشكر، ومن الله وافر الأجر،
والسلام.
... ... ... ... سائل خائف يحب إظهار الحق ويخشى السجن
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. م
(المنار)
قد أرسل إلينا صاحب هذا السؤال رسالتين مطبوعتين في جاوه؛ مؤلفهما
عثمان بن عبد الله بن عقيل المستشار الديني لحكومة هولندا في جاوه , إحداهما في
النهي عن ترجمة القرآن، والثانية في مسائل المجتهدين والمقلدين والصوفية
والأولياء والصحابة والنصيحة والحب والبغض في الله، والورع وحفظ اللسان.
يكلفنا هذا السائل كما كلفنا غيره أن نقرأ هاتين الرسالتين، ونبين ما فيهما
من الخطأ ومخالفة الشريعة، كما كلفنا غيرهم من قبل مطالعة بعض كتب النبهاني
والرد عليها. وإن الكتب الحديثة وكذا القديمة المحشوة بالأباطيل والقول في دين الله
بغير علم؛ ككتب النبهاني وأمثاله أكثر من أن تحصى، فهل يكلف مثلي أن يقرأها
ويبين ما فيها من الخطأ والباطل؛ مهما كثر ذلك وتكرر؟ إن هذا من تكليف ما لا
يطاق، فحسبنا أن نبين الحق في مسائل الدين، ومنه يعلم أن كل ما خالفه باطل ,
وإن أكثر المسائل التي نسأل عنها من هاتين الرسالتين وكتب النبهاني قد بينا الحق
فيها بالدلائل الواضحة، فهل نكلف أن نعيد كل ما كتبناه، كلما تكرر السؤال عنه؟
على أن الرد على هؤلاء المقلدين المُتَهَوِّكِينَ مُشْكِلٌ؛ لكثرة تناقضهم ولضيعة
البرهان عندهم، كما قال الشاعر:
أقلد وجدي فليبرهن مفندي ... فما أضيع البرهان عند المقلد
فتراهم يحرمون الاهتداء بالكتاب والسنة والاستدلال بهما على المطالب،
ويدَّعون أن الله تعالى ما كلفنا إلا العمل بأقوال بعض الفقهاء المتأخرين؛ كابن حجر
الهيتمي والسبكي في دين عثمان بن عقيل مؤلف هاتين الرسالتين، ثم إنهم يستدلون
بعد ذلك بالكتاب والسنة، ويخالفون إمامهم ومقلدهم فيما اشترطه في نقل الأحاديث بلْه
الاستدلال بها. فقد ذكر ابن حجر في (ص 32) من فتواه الحديثية أنه لا يجوز لغير
المحدث رواية الأحاديث ونقلها بمجرد رؤيتها في الكتب، بل لا بُدَّ من نقلها من
كتب أهل الحديث الذين يميزون بين الصحيح وغيره , وابن عقيل هذا ينقل في
رسالته أحاديث من غير الكتب المعتمدة ولا يعزوها إلى أحد من الحفاظ ولا
إلى كتبهم، وفيها الموضوع والواهي الذي لا يحتج به والمحرف وهو لا يعرف
أصلها. ومن غرائب التهافت أنه عقد في رسالته فصلاً للأحاديث الموضوعة،
وذكر أنها أشد الأشياء خطرًا على الدين.
وممن يعدهم عمدة وحجة في الدين الغزالي، وقد شنع في الإحياء وما بعده
من كتبه على التقليد، والفقهاء الذين أعلى من ابن حجر مرتبة، فهل يأخذ برأيه
في ذلك وهو يحمد اتباع السلف، ويأمر بعد ذلك بالبدع التي تخالف سنتهم، ويعتمد
على أقوال الخلف وأعمالهم التي لم تكن في زمنهم.
كذلك تراه يعظم الصوفية ويأمر باتباعهم، والصوفية كلهم يتبرءون من التقليد
ويقولون: إنهم لا يأخذون دينهم إلا من عين الشريعة وهو كتاب الله وسنة رسوله
محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد نقل في رسالته شيئًا من أقوالهم في ذلك،
ولهم في ذلك ما هو أصرح مما نقله وأوضح. فبماذا نحتج على مثل هذا المؤلف
وهو ليس من أهل الحجة والدليل؛ لأن هؤلاء هم الذين يسميهم هو وأمثاله
المجتهدين، ويقولون: إنهم قد انقرضوا، ولا يأتي الله بمثلهم، يقولون هذا
افتياتًا على الله وعلى الوجود بما لا يعلمون؟ ؟
ومن غريب تناقضهم أنهم على تبرؤهم من الاستدلال الذي هو الاجتهاد،
تراهم يحكمون في المسائل والوقائع حكم المجتهدين بمحض الجهل والهوى،
فيقولون: هذا حلال وهذا حرام، وهذا كفر وهذا إيمان، وهذا العالم على هدى
فيؤخذ بقوله، وهذا على ضلال فيرد قوله، فالأئمة المجتهدون لم يكونوا يجيزون
لأنفسهم أن يقولوا مثل هذا إلا بدليل، فكيف صار هؤلاء المتأخرون الجاهلون فوق
الأئمة؛ يقولون في دين الله تعالى بغير دليل، حتى كأن الله تعالى أَذِنَ لهم أن
يُشَرِّعُوا للناس من الدين ما شاؤوا.
إن مناقشة هؤلاء عبث، والرد عليهم قليل الجدوى في الغالب، ولا يمنع
إضلالهم للعامة التي تثق بهم؛ لموافقتهم لأهوائها في البدع والعادات الحاكمة عليها،
وإنما السبيل إلى ذلك أن يكثر العلماء الراسخون العارفون بدين الله تعالى، ويتولون
أمر التعليم والإرشاد، فمن أراد أن يسعى في إنقاذ المسلمين مما هم فيه من الجهل
والبدع ويردهم إلى أصل دينهم، فليسع في هذا، وهو ما يهتم به بعض أصحاب الغيرة المصلحين اليوم، وسيظهر أثره إن شاء الله تعالى عن قريب.
على أن المؤلفين الذين يفسدون بمصنفاتهم ولا يصلحون قسمان: قسم طبع
الله على قلوبهم، وجمدوا على ما اعتادوه وألفوه باسم الدين، وصار لهم به حظ من
المال والجاه حتى تودع منهم، ووقع اليأس من رجوعهم إلى الحق. وقسم آخر لا
يزال على شيء من نور الفطرة وسلامة القلب، فهؤلاء وإن سدوا على أنفسهم باب
الاستدلال لا يزالون محل رجاء، فهم يعودون إلى الحق إذا ظهر لهم نوره.
فلهؤلاء أقول:
إننا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى عليه وآله وسلم، فإن الله
تعالى لم ينزل عليكم غير هذا القرآن، ولم يرسل إليكم غير هذا الرسول صلى الله
عليه وسلم، وقد قال في كتابه: إنه أكمل لكم دينكم، فكل من زاد في الدين شيئًا
فهو غير مذعن لقوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) ، ولا قول
نبيه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ثعلبة الذي حسنه النووي في الأربعين
وصححه ابن الصلاح (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وَحَدَّ حدودًا فلا
تعدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا
تسألوا عنها) .
ندعوكم إلى معرفة الكتاب والسنة والاهتداء بهما، وأن تستعينوا على فهمها
بما كتبه خدمتهما من أئمة الفقه والحديث والتفسير واللغة، لا نتهاكم عن الاستهداء
والاستعانة بكلام هؤلاء الأئمة بل ندعوكم إليه , ولكن لا تجعلوا كلام هؤلاء العلماء
شرعًا مقصودًا لذاته وتتركوا الأصل الذي كتبوا ما كتبوا لأجل خدمته وبيانه، حتى
يصير نسيًا منسيًا فيصدق عليكم ما نعاه القرآن على من قبلكم؛ بأنهم نبذوا كتاب
الله وراء ظهورهم.
أجمع سلف الأمة ومنهم الأئمة الأربعة على تحريم التقليد، ونصوصهم في
ذلك مشهورة، ذكرنا كثيرًا منها في (محاورات المصلح والمقلد) ، ثم جاء
المصنفون المقلدون فقالوا بوجوب التقليد للعاجز عن الاجتهاد. ولكنهم أجمعوا
على أنه لا يجوز تقليد المقلد، وإنما يجب تقليد الأئمة المجتهدين , ثم جاء
المتأخرون يقولون بوجوب اتباع مثل ابن حجر وغيره من المقلدين، فإذا كان
قول مثل ابن حجر بوجوب التقليد ليس حجة عند أحد، فهل يكون كلام مقلديه مما
يعتد به وهو كلام مقلد المقلد الذي لا يفهم الكتاب والسنة، ولا يعرف كلام مَن يقول
إنهم هم الذين فهموهما وبينوهما وهم الأئمة المجتهدون؟ ؟
يدعي الشيخ عثمان بن عقيل وأمثاله في جاوه وحضرموت أنهم متبعون
للإمام الشافعي رضي الله عنه. ولكن الشافعي نص في كتبه على منع التقليد،
فكيف يكون المقلد متبعًا له! ؟
طبع في هذه الأيام كتاب الأم له مع رسالته في الأصول، وطبع على هامشه
مختصر صاحبه إسماعيل بن يحيى المزني فلينظروا كيف بدأ المزني مختصره
بقوله بعد البسملة: (اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي -
رحمه الله - ومن معنى قوله لأُقَرِّبه على من أراده مع إعلامية نهيه عن تقليده
وتقليد غيره لينظر فيه لدينه، ويحتاط فيه لنفسه وبالله التوفيق) .
فالأئمة رضي الله عنهم ما تصدوا لبيان الكتاب والسنة؛ إلا ليعينوا الناس
على فهمهما، ولم يقصدوا أن يكون كلامهم شرعًا يعمل به ويترك الكتاب والسنة؛
استغناء به عنهما، فهم معلمون للكتاب والسنة لا شارعون، فينبغي أن نستعين
بكلامهم على الفهم ونعمل بما فهمنا.
ذكر الشيخ عثمان في الفصل الثالث أن الأئمة أهل الاجتهاد المطلق مبينون
للكتاب والسنة، والعلماء أهل الاجتهاد في مذاهب الأئمة مبينون لكلام الأئمة
كالغزالي، وأهل الترجيح والفتوى كابن حجر مبينون لكلام أهل الاجتهاد في
المذهب، فهو يعترف بأن أصل الدين وأساسه كتاب الله، وأن السنة مبينة لما أُجمل
فيه، وأن الأئمة مبينون للسنة ... إلخ، ويرى هو وأمثاله أن الواجب على
جميع المسلمين الآن اتباع أصحاب الطبقة الأخيرة من المبينين كابن حجر، فلنا مع
هؤلاء أسئلة:
(1) إن علماء الأصول قالوا: إن الوجوب هو حكم الله المقتضي للفعل
اقتضاء جازمًا، فمن أين أخذتم هذا الحكم الإلهي باتباع طبقة ابن حجر، وهذه
الطبقة لم توجد إلا بعد انقراض الأئمة الذين فهموا الكتاب والسنة والطبقة التي
فهمت كلامهم؟
(2) إن بعض العلماء جعلوا الطبقات ستة، والأخيرة التي يعتمد عليها هي
طبقة الناقلين الذين لا يعتد بفهمهم ولا ببحثهم كما بينه ابن عابدين في رسم المفتي،
فإذا أراد بعض العقلاء المستقلين من الإفرنج أن يدخل في دينكم؛ فكيف تقنعونه
بوجوب اتباع الطبقة الثالثة أو السادسة مع إقراركم بأنها لا تفهم أصل الدين، وإنما
تفهم عبارات طبقة فوقها أو تنقلها، وتلك الطبقة لا تفهم أيضًا بنفسها أصل الدين
... إلخ؟
(3) إذا سلمنا لكم ما تقولون في هذه الدرجات من البيان، وإنكم أهل لأن
توجبوا على الأمة حكمًا شرعيًّا لم يوجبه الله ولا رسوله ولا الصحابة، والأئمة
الذين فهموا كلامهما؛ وهو إيجاب اتباع هذه الطبقة من مقلدي المقلدين فيما سميتموه
بيانًا لبيان بيان بيان أصل الدين، أفلا يجب أن يكون بين هذه الطبقات من البيان
وبين الأصل المبين اتصال؛ يعلم منه أنه بيان له ويزداد الأصل اتضاحًا وجلاء؟
أليس بهذا الاتصال يعقل أن يكون كلامهم بيانًا، ولا يمكن أن يعقل ذلك بدونه؟
(4) هل يعقل أن يحتاج كلام الله الذي سماه بيانًا وتبيانًا، مع زيادة بيان
الرسول صلى الله عليه وسلم له بأفعاله وأقواله إلى كل هذه الطبقات من المبينين؟
ألا ينافي هذا الاحتياج كونه بيانًا وتبيانًا، وكون الدين قد كمل قبل وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
(5) إذا رأينا في كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة الثابتة عندنا حكمًا فهمناه
وعقلناه، ورأينا في كلام مثل ابن حجر ما يخالفه فهل يفرض الله علينا أن نترك
كلامه وسنة رسوله إلى كلام مثل ابن حجر؛ لأنه مُبَيِّنٌ لكلامِ مثل السبكي المُبِّينِ
لكلام مثل الشافعي المُبَيِّنِ للكتاب والسنة؟ فنترك الأصل الصريح الواضح إلى كلام
يخالفه؛ بناء على أنه مبين له في الدرجة الرابعة من البيان؟ ؟ هل يقول عاقل أو
مجنون: إن بيان الشيء يكون بخلافه ونقيضه. لو كان هذا السؤال مبنيًّا على
شيء مفروض لصح أن يكون ناقصًا لقاعدتهم، فكيف وهو مبني على أساس ثابت؛
وهو أن في كلام الفقهاء كثيرًا من المسائل المخالفة لنصوص الدين، لا سيما
الأحاديث الصحيحة، أخذوها من قواعدهم أو من ترجيح حديث ضعيف على
صحيح أو العمل به ابتداء فأخطأوا، وما كانوا معصومين , وقد أورد ابن القيم في
(إعلام الموقعين) أكثر من سبعين شاهدًا على ذلك، فتراجع فيه أو في المجلد
السادس من المنار. ومن هذه المخالفات ما هو للشافعية وهو أقلها - ومنها ما هو
لغيرهم.
وليس هذا بالأمر بالغريب؛ فإن الأئمة أنفسهم كانوا يقولون القول ثم يظهر
لهم خطؤه فيرجعون عنه، كما رجع الشافعي عن مذهبه القديم إلى مذهبه الجديد،
وكما رجع علماء مذهبه إلى بعض المسائل من مذهبه القديم فأفتوا بها ترجيحًا لها
على الجديد؛ لظهور دلائل تؤيدها، وكما رجحوا بعض مسائل مخالفة للمذهب
مطلقًا؛ كقول النووي في شرح صحيح مسلم: إن الراجح من حيث الدليل أن
نجاسة الخنزير كغيرها من النجاسات في الغسل، وكفتوى الغزالي بعدم تنجس الماء
القليل إلا بتغير أحد أوصافه من النجاسة، وكما صرح الإمام مالك عند موته: بأنه
كان يرى الرأي في المسألة ثم يظهر له خطؤه فيه فيرجع عنه، وبكى لأجل ذلك
حين بلغه أن الناس أخذوا بقوله وقلدوه فيه، وكما رجع بعض الصحابة عن خطإهم
وهم أعظم من هؤلاء الأئمة وأعلم؛ كرجوع عمر (رضي الله عنه) في مسألة
المهور إلى قول المرأة التي ردت عليه؛ وهو يخطب في المسجد. فكل أحد من
العلماء عرضة للخطأ فيما يقوله؛ لأنه غير معصوم فيه؛ إما لنسيان الدليل كما نسي
عمر قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} (النساء: 20)
فأراد أن يحدد المهر بمثل مهور بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وإما لعدم علمه به؛
لأنه لم يكن كل صحابي حافظًا لكل القرآن، وأما لعدم فهمه له، كما أخطأ بعض
الصحابة في فهم المراد من الخيط الأبيض والخيط الأسود، وفي فهم كيفية تيمم الجنب، وغيرهم أولى بمثل هذا الخطأ في الفهم.
فإذا كان كل أحد من علماء الأمة عرضةً للخطأ فيما يقوله؛ لما ذكرنا، وما لم
نذكر من الأسباب والشواهد، فلا جرم أن كل من يأخذ بقوله من غير أن يعرف
أصله من الكتاب والسنة هو عرضة لهذا الخطأ، ولهذا قال أبو حنيفة وغيره: لا
يجوز لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين قلناه.
ونتيجة هذا كله أن كلام الأئمة يستعان به على فهم الكتاب والسنة ولا يترك
الكتاب والسنة له، بل يجعل فهمهما هو المقصود بالذات والعمدة في الاهتداء، ولا
تترك الأمة تعلمهما والفقه فيهما قط، ولا تهمل كلام أئمة العلماء والانتفاع بما فتح
الله عليهم من الفهم فيهما، مع البصيرة التي هي شأن المؤمنين.
فنطلب من هؤلاء المعارضين لنا في الدعوة إلى الاهتداء بكتاب الله عز وجل
وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم التي جرى عليها سلف الأمة؛ أن يجيبونا
عن هذه الأسئلة.
أما طعن السيد عثمان بن عقيل في شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن مثل ابن
حجر الهيتمي طعن فيه، فنقول فيه كلمات تكفي لرجوعه عنه وتوبته؛ إن كان قال
ذلك عن سوء فهم لا عن سوء قصد كما نظن فيه؛ ترجيحًا للخير على الشر وهي:
(1) إذا كنتم تقبلون طعن العلماء بعضهم في بعض مطلقًا، وتضللون كل
من طعن فيه، فإنه لا يسلم لكم أحد من أئمتكم؛ لا في الفقه كالشافعي، ولا في
الحديث كالبخاري، ولا في الكلام كالأشعري، ولا في التصوف كالشاذلي، وابن
عربي، ولا من المتفننين كالغزالي، كما هو مبين في كتب التاريخ والتراجم ونقله
معتمدكم الشعراني في أول كتاب اليواقيت والجواهر وغيره من كتبه، وذكر التاج
السبكي طائفة منه في طبقاته، ومنها أنهم طعنوا في والده التقي السبكي الذي هو
عمدتكم في تخطئة ابن تيمية.
(2) إذا كنتم تسلمون معنا؛ بأنه لا يجوز أن يضلل كل من طعنوا فيه،
ولا أن يتبع كل طاعن في طعنه، فإما إن تسكتوا عن الطعن في العلماء ولا
تخوضوا فيه وهو الأسلم لأمثالكم، وإما أن تبحثوا عن سبب الطعن وتُحَكِّمُوا فيه
الدليل، وأنتم لا تدَّعون أهلية الحكم بين مثل ابن تيمية والتقي السبكي.
(3) إذا كنتم ترون أنفسكم أهلاً لهذه المحاكمة، فلا يكون حكمكم عادلاً كما
أمر الله من يحكم بين الناس أن يحكم بالعدل، إلا إذا اطلعتم على ما كتبه ابن
تيمية في المسائل التي أنكرها عليه السبكي وغيره من المعاصرين له (دع ما نسبه
إليه من بعدهم زورًا وبهتانًا) ورأيتم أدلته، ثم اطلعتم على كلام خصمه وأدلته ,
وأما الحكم على شخص بمجرد سماع كلام خصمه فهو ظلم بيَّن كما هو بديهي.
(4) إن ما عزاه ابن حجر الهيتمي إلى ابن تيمية من القول بأن الرب تعالى
محل للحوادث، وأن القرآن محدث، وأن العالم قديم بالنوع، ومن القول بالجسمية
والجهة، وبأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا جاه له؛ كل ذلك مكذوب على ابن
تيمية، وكتبه الكثيرة مصرحة بخلاف ذلك، ولم نر في كتب أحد من علماء الإسلام
مثل ما رأينا في كتبه من الدلائل والبراهين على نفي هذه الأباطيل وتفنيدها فإما أن
يكون ابن حجر قد سمع تلك المطاعن من بعض الكاذبين فصدقها؛ وهو المرجح
عندنا، وإما أن يكون هو الذي افتجر ذلك عليه؛ وهو ما لا نظنه في مثله،
وإما أن يكون ذلك مدسوسًا على ابن حجر، وقد دس المفسدون كثيرًا في الكتب كما
بيَّن ذلك معتمدكم الشعراني. ومهما كان سبب تلك المطاعن فهي لا قيمة لها مع
استفاضة كتب الرجل بخلافها، وقد طبع الكثير منها ولله الحمد؛ ومنه رسالة
التوسل والوسيلة التي نقلنا منها نبذة في تفسير الجزء الماضي فيها؛ إثبات الجاه
للنبي (صلى الله عليه وسلم) ، وننقل في هذا الجزء نموذجًا آخر منها؛ فعليكم أن
تطلعوا على هذه الكتب، إن كنتم للحق تطلبون.
(5) إن كلام مثل ابن حجر في ابن تيمية مُعارَض بكلام مَن هو أعلم منه
بالرجال، وبما قيل فيهم كَسَمِيِّهِ الحافظ ابن حجر العسقلاني وهو شيخ شيوخه
وأعلمهم بالرجال، فانظروا ماذا قال في ابن تيمية في كتابه طبقات الحفاظ وغيره من
كتبه. وبمثل قوله فيه وثنائه عليه واعترافه له بمشيخة الإسلام قال: وأثنى واعترف
أكابر الحفاظ في عصره وبعد عصره وشهدوا له بالاجتهاد المطلق.
(6) إن كتب ابن تيمية أكبر شهادة من كل أولئك العلماء على كون الرجل
وصل إلى رتبة الاجتهاد المطلق، وقصارى ابن حجر أنه في رتبة المرجحين في
فقه الشافعية.
فأين الثريا وأين الثرى ... وأين معاوية من علي
هذا ما ننبه إليه السيد عثمان صاحب رسالة فصل الخطاب التي أرسلت إلينا
حديثًا، ونقول: إننا نحسن الظن فيه؛ وإن جاءنا فيه مطاعن كثيرة من علماء بلاده،
قالوا فيها: إنه عون الظالمين ونصير المستبدين.. وإننا بما يغلب علينا من حسن
الظن فيه؛ نرى إذا تدبر كَلامَنا هذا رضيه وأذعن له إن رآه حقًّا كما نرى ونعتقد،
وإن رأى فيه شيئًا باطلاً بينه لنا بالدليل؛ عملاً بوجوب النصيحة والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر.
والفرق بيننا وبين المنكرين علينا أننا لا نقول شيئًا بغير دليل، وأننا نصرح
على رؤوس الأشهاد بأننا نرجع إلى الحق إذا ظهر لنا دليله. وإنهم يقولون بغير
دليل، وإذا قامت عليهم الحجة أعرضوا وأدبروا، وولوا واستكبروا، إلا من كان
منهم مخلصًا في إنكاره، فإنه يرجع إلى الحق إذا ظهر، وكان الله للأوابين غفورًا.
ثم نقول لصاحب السؤال ولأمثاله الذين يكلفوننا المرة بعد المرة الرد على
الطاعنين في شيخ الإسلام ابن تيمية بالتفصيل: عليكم بالكتاب الجديد الذي
استقصى ذلك وطبع في هذا العام المسمى: (غاية الأماني في الرد على النبهاني) ،
وهو مجلدان كبيران لأحد علماء العراق الأعلام.
هذا - وأما ترجمة القرآن فلنا فيها فتوى طويلة نشرت في المجلد الحادي
عشر، فتراجع فيه (268) ، فإنها تغني عن قراءتنا للرسالة التي كتبها الشيخ
عثمان وبيان خطأها من صوابها.
***
تنبيه للمستفتين
إن من أسباب إغفال بعض الأسئلة أو تأخيرها زمنًا طويلاً لا يجاب عنها،
وضع السائل إياها في ضمن خطاب يتكلم فيه عن أمور أخرى؛ كالاشتراك في
المنار، أو طلب بعض الكتب. فأمثال هذه الخطابات تحفظ في أوراق حسابات
المنار أو حساب المكتبة، ولا نجد في الغالب وقتًا لنسخ السؤال منها , وأما الأسئلة
التي تكتب في ورقة مستقلة فإنها تحفظ في ظرف وحدها، ثم تعطى للمطبعة عند
إرادة الجواب عنها، فلا تكلفنا أن ننسخها. فعلى المستفتين أن يكتبوا أسئلتهم في
ورقة على حدتها إذا أحبوا أن لا تغفل ولا تؤخر كثيرًا.
__________(12/614)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نموذج من كتاب التوسل والوسيلة
لشيخ الإسلام ابن تيمية الذي طبع في هذه الأيام. قال بعد بحث وتحقيق ما
نصه:
إذا عرف هذا، فقد تبين أن لفظ الوسيلة والتوسل فيه إجمال واشتباه، يجب
أن تُعْرَف معانيه، ويعطى كل ذي حق حقه، فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من
ذلك ومعناه، وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك، ويعرف ما أحدثه
المحدثون في هذا اللفظ ومعناه، فإن كثيرًا من اضطراب الناس في هذا الباب هو
بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها، حتى تجد أكثرهم لا
يعرف في هذا الباب فصل الخطاب.
فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ} (المائدة: 35) وفي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ
زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ
كَانَ مَحْذُوراً} (الإسراء: 56-57) فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه، وأخبر
عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه هي ما يتقرب به إليه من الواجبات
والمستحبات، فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب
ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك، سواء كان محرمًا أو
مكروهًا أو مباحًا، فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب
أو استحباب، وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول، فجماع الوسيلة التي أمر الله
الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله
إلا ذلك.
الثاني لفظ الوسيلة في الأحاديث الصحيحة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:
(سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله،
وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم
القيامة) ، وقوله: مَن قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة،
والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته،
إنك لا تخلف الميعاد، حلت له الشفاعة فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم
خاصة، وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة، وأخبر أنها لا تكون إلا لعبد من
عباد الله، وهو يرجو أن يكون ذلك العبد، وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول،
وأخبرنا أن من سأل له الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة؛ لأن الجزاء من
جنس العمل، فلما دعوا للنبي صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هو لهم، فإن
الشفاعة نوع من الدعاء كما قال: إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرًا.
وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة،
فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته. والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين
يراد به الإقسام به والسؤال به، كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن
يعتقدون فيه الصلاح.
وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين، ويراد به
معنى ثالث لم ترد به سنة، فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء فأحدهما
هو أصل الإيمان والإسلام؛ وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته، والثاني دعاؤه
وشفاعته كما تقدم، فهذان جائزان بإجماع المسلمين، ومِن هذا قول عمر بن
الخطاب: اللهم، إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم
نبينا فاسقنا , أي: بدعائه وشفاعته وقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ} (المائدة: 35) أي: القربة إليه بطاعته، وطاعة رسوله طاعته، قال تعالى:
{مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) فهذا التوسل الأول هو أصل
الدين، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين.
وأما التوسل بدعائه وشفاعته كما قال عمر فإنه توسل بدعائه لا بذاته؛ ولهذا
عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس. ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا
أولى من التوسل بالعباس، فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس؛ علم أن
ما يفعل في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له
فإنه مشروع دائمًا.
فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان: أحدها: التوسل بطاعته؛ فهذا فرض لا
يتم الإيمان إلا به. والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته؛ وهذا كان في حياته، ويكون
يوم القيامة يتوسلون بشفاعته. والثالث: التوسل به؛ بمعنى الإقسام على الله بذاته
والسؤال بذاته، فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، لا في
حياته، ولا بعد مماته، لا عند قبره، ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من
الأدعية المشهورة بينهم , وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة
وموقوفة، أو عن من ليس قوله حجة كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى، وهذا هو
الذي قال أبو حنيفة وأصحابه: إنه لا يجوز ونهوا عنه، حيث قالوا: لا يسأل
بمخلوق، ولا يقول أحد أسألك بحق أنبيائك. قال أبو الحسين القدوري في كتابه
الكبير في الفقه المسمى بشرح الكرخي في باب الكراهة: وقد ذكر هذا غير واحد
من أصحاب أبي حنيفة , قال بشر بن الوليد حدثنا أبو يوسف قال: قال أبو حنيفة:
لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك، أو
بحق خلقك , وهو قول أبي يوسف، قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشه هو الله،
فلا أكره هذا، وأكره أن يقول بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت
الحرام والمشعر الحرام. قال القدوري المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق
على الخالق، فلا تجوز وفاقًا , وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه مِن أن الله لا
يسأل بمخلوق له معنيان: أحدهما هو موافق لسائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم
أحد بالمخلوق، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق فلأن يمنع أن يقسم على
الخالق بمخلوق أولى وأحرى. وهذا بخلاف إقسامه سبحانه بمخلوقاته كالليل إذا
يغشى، والنهارإذا تجلى، والشمس وضحاها، والنازعات غرقًا، والصافات صفًّا،
فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن من ذكر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته ما
يحسن معه إقسامه بخلاف المخلوق، فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها، كما في
السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من حلف بغير الله فقد
أشرك) وقد صححه الترمذي وغيره وفي لفظ (فقد كفر) وقد صححه الحاكم، وقد
ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (من كان حالفًا فليحلف بالله) وقال: (لا تحلفوا
بآبائكم؛ فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) وفي الصحيحين عنه أنه قال: (من حلف
باللاتي والعزى فليقل لا إله إلا الله) وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف
بالمخلوقات المحترمة أو بما يعتقد هو حرمته؛ كالعرش والكرسي والكعبة، والمسجد
الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والملائكة
والصالحين والملوك، وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين، وإيمان
السدق، وسراويل الفتوة وغير ذلك، لا ينعقد يمينه، ولا كفارة في الحلف بذلك.
والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين
في مذهب الشافعي وأحمد، وقد حكي إجماع الصحابة على ذلك , وقيل هي مكروهة
كراهية تنزيه، والأول أصح، حتى قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس
وعبد الله بن عمر لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إليَّ أن أحلف بغير الله صادقًا؛ وذلك لأن
الحلف بغير الله شرك والشرك أعظم من الكذب , وإنما نعرف النزاع في الحلف
بالأنبياء، فعن أحمد في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم روايتان: أحدهما لا
ينعقد اليمين به كقول الجمهور: مالك وأبي حنيفة والشافعي، والثانية ينعقد
اليمين به، واختار ذلك طائفة من أصحابه كالقاضي وأتباعه , وابن المنذر وافق
هؤلاء. وقصر أكثر هؤلاء النزاع في ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم
خاصة، وعدّى ابن عقيل هذا الحكم إلى سائر الأنبياء , وإيجاب الكفارة بالحلف
بمخلوق، وإن كان نبيًّا قول ضعيف في الغاية مخالف للأصول والنصوص،
فالإقسام به على الله والسؤال به بمعنى الإقسام هو من هذا الجنس.
(المنار)
ثم حقق المصنف مسألة سؤال الله بما ليس سببًا للإجابة؛ كسؤاله بخلقه،
وسؤاله بما هو سبب شرعي للإجابة؛ كالإيمان والطاعة. وقد أودعنا بعض كلامه
في تفسير الجزء الماضي (السابع) ، ثم قال من فتوى أفتاها بمصر ما نصه:
فأما التوسل بذاته في حضوره أو مغيبه أو بعد موته مثل الإقسام بذاته أو
بغيره من الأنبياء أو السؤال بنفس ذواتهم لا بدعائهم، فليس هذا مشهورًا عند
الصحابة والتابعين؛ بل عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان ومن بحضرتهما
من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان لما أجدبوا
استسقوا وتوسلوا واستشفعوا بمن كان حيًّا؛ كالعباس وكيزيد بن الأسود، ولم
يتوسلوا ولم يستشفعوا ولم يستسقوا في هذه الحال بالنبي صلى الله عليه وسلم، لا
عند قبره، ولا غير قبره بل عدلوا إلى البدل كالعباس وكيزيد، بل كانوا يصلون
عليه في دعائهم، وقد قال: عمر: اللهم، إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنَّا
نتوسل إليك بعمِّ نبينا فَاسْقِنَا , فجعلوا هذا بدلاً عن ذاك؛ لما تعذر أن يتوسلوا به
على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه، وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره
ويتوسلوا هناك، ويقولوا في دعائهم بالجاه ونحو ذلك من الألفاظ التي تتضمن القسم
بمخلوق على الله عز وجل أو السؤال به، فيقولون: نسألك أو نقسم عليك بنبيك أو
بجاه نبيك، ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس.
وروى بعض الجهال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا سألتم
الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم وهذا الحديث كذب ليس في شيء من
كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث
مع أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين، وقد أخبرنا سبحانه عن موسى وعيسى عليهما السلام أنهما وجيهان عند الله فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ
اللَّهِ وَجِيهاً} (الأحزاب: 69) .
وقال تعالى: {إِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ} (آل عمران: 45) فإذا
كان موسى وعيسى وجيهين عند الله عز وجل، فكيف بسيد ولد آدم صاحب المقام
المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب الكوثر والحوض المورود
الذي آنيته عدد نجوم السماء، وماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، ومَن
شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، وهو صاحب الشفاعة يوم القيامة حين يتأخر
عنها آدم وأولو العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم
أجمعين، ويتقدم هو إليها، وهو صاحب اللواء؛ آدم ومن دونه تحت لوائه، وهو
سيد ولد آدم وأكرمهم على ربه عز وجل، وهو إمام الأنبياء إذا اجتمعوا وخطيبهم
إذا وفدوا، ذو الجاه العظيم صلى الله عليه وسلم وعلى آله.
ولكن جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه
لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ
عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَداًّ} (مريم: 93-94) وقال تعالى: {لَن يَسْتَنكِفَ
المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلَّهِ وَلاَ المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ
وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم
مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً} (النساء: 172-173) .
والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه، فهو شريك له في حصول المطلوب
والله تعالى لا شريك له كما قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ
يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم
مِّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: 22-23) .
وقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن اتخاذ
القبور مساجد، ولعن من يفعل ذلك، ونهى عن اتخاذ قبره عيدًا؛ وذلك لأن أول ما
حدث الشرك في بني آدم كان في قوم نوح , قال ابن عباس كان بين آدم ونوح
عشرة قرون كلهم على الإسلام، وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه
وسلم أن نوحًا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، وقد قال تعالى عن قومه أنهم
قالوا: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَداًّ وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً
* وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} (نوح: 23-24) قال غير واحد من السلف: هؤلاء كانوا
قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، فلما طال عليهم الأمد
عبدوهم. وقد ذكر البخاري في صحيحه هذا عن ابن عباس، وذكر أن هذه الآلهة
صارت إلى العرب، وسمى قبائل العرب الذين كانت فيهم هذه الأصنام.
فلما علمت الصحابة رضوان الله عليهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
حسم مادة الشرك بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد - وإن كان المصلي يصلي لله عز
وجل - كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس؛ لئلا يشابه المصلين للشمس، وإن
كان المصلي إنما يصلي لله تعالى. وكان الذي يقصد الدعاء بالميت أو عند قبره
أقرب إلى الشرك من الذي لا يقصد إلا الصلاة لله عز وجل لم يكونوا يفعلون
ذلك، وكذلك علم الصحابة أن التوسل به إنما هو التوسل بالإيمان به وطاعته ومحبته
وموالاته والتوسل بدعائه وشفاعته؛ فلهذا لم يكونوا يتوسلون بذاته مجردة عن
هذا وهذا، فلما لم يفعل الصحابة رضوان الله عليهم شيئًا من ذلك، ولا دعوا بمثل
هذه الأدعية وهم أعلم منا [1] . وأعلم بما يحب الله ورسوله، وأعلم بما أمر الله به
رسوله من الأدعية، وما هو أقرب إلى الإجابة منا، بل توسلوا بالعباس وغيره
ممن ليس مثل النبي صلى الله عليه وسلم؛ دل عدولهم [2] عن التوسل بالأفضل إلى
التوسل بالمفضول؛ أن التوسل المشروع بالأفضل لم يكن ممكنًا ... إلخ.
__________
(1) يحتمل أن يكون ههنا شيء محذوف، وهو ما يأتي نظير له في لاحق الكلام، ويحتمل أن يكون المراد أنهم أوسع علمًا منا على الإطلاق ثم عطف ليقيد على المطلق.
(2) هذا جواب قوله فلما علمت الصحابة إلخ.(12/624)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدكتور شبلي أفندي شميل
اطلعت في مجلة الهلال شهر حزيران سنة 1909 على مقالة للدكتور المومأ
إليه، بحث بها بحثًا فلسفيًّا، يخال للمطالع من أول وهلة أن الدكتور قصد به
محاربة الأديان السماوية على الإطلاق؛ بما توخاه من نفي الخلق وإثبات النشوء،
وقد عجبت بعد إطالته لتأييد هذا المذهب الجديد من قوله: (لا حياء في الدين) ،
وهذا مما يدل أن للدكتور دينًا، فما هو دينه يا ترى؟
سعى إخوان الدكتور المومأ إليه لأخذ توقيع بعض الناس؛ لانتخابه عضوًا في
مجلس الأعيان العثماني بصفة أنه عالم مسيحي، والعالمية والمسيحية صفتان
مرتبطتان بنواميس وقواعد توجب السلامة لكل بني البشر، باعتبار أن للمسلم
أصولاً تقضي بإحقاق الحق، كما أن الدين قانون لمكارم الأخلاق يأمر بالمعروف
وينهى عن المنكر.
وكنت أستغرب عدم تعيين المومأ إليه بعد ذلك الانتخاب. ولعل الذين رفضوا
قبول تعيينه عضوًا في المجلس الآنف الذكر؛ عرفوا أن الدكتور على مذهب دارون،
وأنه ليس بمذهب معقول ولا مشروع ولا له أتباع في البلاد العثمانية؛ ليكون
نائبًا عنهم؛ لأن أصحاب الأديان المعروفة هم المسلمون والنصارى واليهود.
كنت أقف مبهوتًا كلما نظرت إلى مصور الإنسان: (أطلس رسوم هياكله
على اختلاف أشكالها) وما احتوت عليه من تراكيبه الكلية والجزئية الظاهرة
والخفية التي لا تدون ولن تدون؛ لانطواء كل شيء في العالم الكبير العظيم ضمن
هذا الجرم الصغير، وكنت أكرر تمجيد قدرة الخالق سبحانه كلما تأملت في الأوعية
والأوردة والأدوات والمصانع وأسبحه وأقدسه؛ لإعطائه كل شيء خلقه، وهدايته
إلى استعمال وظيفته. وأنشد قول الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر سيدي محيي الدين
ابن العربي - رضي الله عنه - في توجيه الخطاب إلى الإنسان.
وتحسب أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
وأقول في نفسي: إن الأطباء يلزم أن يكونوا أكثر الناس اعتقادًا بتوحيد
الخالق سبحانه؛ لوقوفهم على حقائق ودقائق ولطائف في تركيب الإنسان لا يعرفها
غيرهم، كما أنه لا زلنا نسمع عن أساطين الأطباء أنهم كلما اكتشفوا شيئًا جديدًا
يقولون: إن الطب لم يزل طفلاً {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء:85) .
وبالنظر إلى الدقائق واللطائف والرقائق المنطوية في العالم الإنساني، قال
بعض علماء الصوفية (من عرف نفسه فقد عرف ربه) .
وإذا قلنا - وهو الواقع -: إن الأطباء أكثر الناس علمًا بنظام العالم الإنساني
فهل يسلم العقل أنهم ينسبون إلى الطبيعة الجامدة غير المتصفة بالعلم والقدرة
والإرادة؛ أنها أوجدت هذا الإنسان العاقل بالنشوء {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (النور: 16) .
الكون موجب للحيرة أو هو بعجائبه محل الحيرة؛ ولذلك قال بعض شيوخ
علماء التصوف: (العجز عن درك الإدراك إدراك) .
وإذا كانت علوم مدنية أوربا لبواعث نقف تأدبًا عن إيرادها، قد احتوت على
الإلحاد، فقد احتوت أيضًا على علوم ذات فوائد عظيمة: اجتماعية وأخلاقية
واقتصادية وسياسية إلى غير ذلك، والشرق بحاجة إليها وخصوصًا بدورنا
الدستوري؛ ذلك الدور السعيد الذي يقضي بتوحيد مشارب عناصر الوطن وتماسكهم
لكي يسعدوا بالوطن ويسعد بهم، وذلك يستلزم أن ينقل إلى الوطن من علوم مدنية
أوربا ما يعود عليه وعلى أبنائه بالخير وأسمى المطالب، وخصوصًا لجهة البحث
عن أحوال بلاد النمسا والمجر المشابهة من حيث تعدد العناصر للبلاد العثمانية ,
وبيان البواعث التي قضت بوحدة تلك العناصر واتفاقها وقيامها شعبًا واحدًا يؤيد
مصلحة الوطن ويعزز قوته.
ألم يكن البحث بمثل ذلك خيرًا وأعم نفعًا من تأييد مذهب دارون، ذلك
المذهب الذي قضاياه تخيلات افتراضية صورها الوهم وقربها الاعتقاد بها، وهي لا
يمكن أن تحل في محل دين من الأديان مطلقًا. نعم.. إن من يميل إليها يكون حجر
عثرة في سبيل العفاف والإنسانية والعدالة، تأخذ بيد من مال معها إلى الأهواء،
وتجسره على فك ارتباطه من قيود الدين الأدبية فتسوء عاقبته، ويتحمل صاحب
هذه البدعة مثل وزر ذلك المسكين الذي مرق من الدين بالإغواء وزخرف القول
المموه.
ومن المؤكد أن الاعتقادات الفاسدة التي تناقض الدين؛ فضلاً عن أنها تبعد
الإنسان عن خالقه، فهي توجب شرورًا تؤخر الوطن بأدبياته ومادياته، فنرجو من
أفاضل الشرقيين الذين وهبوا العلم أو تحصلوا عليه بجدهم أن يتحفوا الشرق بغرر
فوائد أوربا وحسناتها، ويدعونا من إلحاد الملحدين؛ لأن الحسن في نفسه حسن
ويوجب حسن الأحدوثة، والسيء في نفسه سيء ويوجب سوء العاقبة، أجارنا الله
من ذلك، وأن يهبنا الصدق في القول والإخلاص في العمل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر قباني
(المنار)
صاحب هذه الرسالة يعرفه كثير من قراء المنار، ومنهم من لا يعرفه. هو
شيخ رجال الصحافة وكبيرهم عبد القادر أفندي القباني صاحب جريدة ثمرات الفنون
التي عاشت أكثر من ثلث قرن وأوقفت في العام الماضي، وكان مديرًا للمعارف
ببيروت إلى ذلك العام. وقد جرى في دفاعه عن الدين في رسالته هذه على ما تعوَّد،
فجزاه الله عن نفسه ودينه خيرًا.
ولكنه جاء بشيء من المبالغة في الكلام عن مذهب دارون ومخالفته للدين
وإفضائه إلى الشرور، حتى جوَّز أن يكون هو الذي منع جعل الدكتور شميل
عضوًا في مجلس الأعيان كما طلب الكثيرون من السوريين! وعجيب مِن مثل
القباني أن يخطر هذا في باله! وهل يظن أنه لا يوجد في رجال المجلس العمومي
من المبعوثين والأعيان مَن يقول بصحة رأي دارون في تباين الأنواع؟ وهل كان
الكاتب نفسه يمنع كتب دارون وكتب مَن على رأيه مِن المدارس وغير المدارس؛
لو بقي مديرًا للمعارف بعد الدستور أو صار ناظرًا للمعارف العمومية؟
أؤكد لصديقي الكاتب أن مذهب دارون لا ينقض - إن صح وصار يقينًا -
قاعدة من قواعد الإسلام، ولا يناقض آية من آيات القرآن، وأعرف من الأطباء
وغيرهم مَن يقولون بمثل قول دارون؛ وهم مؤمنون إيمانًا صحيحًا ومسلمون
إسلامًا صادقًا، يحافظون على صلواتهم وسائر فرائضهم، ويتركون الفواحش
والإثم والبغي التي حرم الله تعالى عملاً بدينهم. على أن هذا المذهب علمي ليس
من موضوع الدين في شيء.
ثم إنني أعلم أن الدكتور شميلاً لم يكتب ما كتب ردًّا على صاحب مجلة الهلال؛
إلا إنكارًا لبعض ما قاله في الاستدلال على صحة الدين من طريق العلم، ولم
يقصد بذلك التعرض لإبطال الدين نفسه، أعني أن بحثه كان في الدليل لا في
المدلول , وهو وإن كان غير متدين لا يستجيز الكتابة في إبطال الدين والتنفير عنه
بل أنكر قولاً وكتابة على جماعة من إيطاليا أنشأوا مدرسة في الإسكندرية ظهروا
فيها بمقاومة الدين , ولو كانت كتابته للهلال في الاعتراض على الدين لكنا ممن
عني بالرد عليه.
لا فرق بين الدكتور شميل وبين الكثير من أهل بلادنا الذين يرون رأيه في
الدين وأكثرهم من النصارى المتعلمين (أي من النصارى جنسيةً لا اعتقادًا) إلا أنه
هو يصرح برأيه؛ لأن ظاهره وباطنه سواء لا نفاق عنده ولا جبن ولا مصانعة
والذين يجلون علمه واختباره لم يسعوا إلى جعله عضوًا في مجلس الأعيان للمدافعة
عن مذهب دارون، فإنهم يعلمون أن مجلس الأعيان لا يعرض عليه هذا المذهب
ليبدي رأيه فيه، وإنما أحبوا أن يكون في ذلك المجلس عضو عربي سوري هو من
أوسع العثمانيين علمًا واختبارًا، وأشدهم حرية واستقلالاً، وحرصًا على عمران
البلاد، وارتقاء أهلها في العلوم والآداب.
أما قول الكاتب الغيور: إن الأطباء يلزم أن يكونوا أكثر الناس اعتقادًا بتوحيد
الخالق، فهو صحيح، وهو يعني أنهم جديرون بأن يكونوا أشد اعتقادًا وأقوى
توحيدًا، وما أرى إلا أن المؤمنين منهم بالله تعالى موحدون، لا شرك في إيمانهم
ولا وثنية كما في إيمان أكثر الناس {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) وليس للكاتب أن يعجب من حرمان بعضهم من الإيمان، وهو قد
صرح بأن الكون موجب للحيرة أو هو بعجائبه محل الحيرة. والكلمة التي عزاها
في هذا المقام لبعض شيوخ الصوفية يعزونها إلى الصديق الأكبر، وهل يظن أن
أحدًا من علماء الكون- الطب وغيره - الكافرين موقن في كفره؟ كلا.. إن هم إلا
حائرون. ولكن الحائرين فريقان: فريق نشأ على دين وتربى عليه فظل لابسًا له،
وفريق نشأ وتربى في مهد الحرية والاستقلال كالإفرنج ومن تلا تلوهم، فهم في
حيرتهم هذه لا يلبسون لباس الدين.
أما سبب فشو الكفر في هؤلاء الناس؛ فهو أنهم يتعلمون العلوم الكونية بأحسن
الأساليب وأقرب الطرق إلى الأذهان، ولا يتعلمون معها دينًا يتفق معها، ويرون
فيما عليه أهل الأديان كلها أباطيل ينقضها العلم نقضًا ويهدمها هدمًا , ولا يوجد الآن
في الأرض دين يتفق مع العلم إلا دين الإسلام الذي هو دين القرآن، لا دين
جماهير المسلمين الذين يلتمسون الخيرات والحسنات، ويدفعون الشرور والسيئات
بالاستغاثة بالألوف من الأموات، والطواف بقبورهم والتمسح بما ينسب إليهم من
قبر حجري أو خشبي، وقفص من نحاس أو حديد، وباب من الخشب، وعمود من
الرخام، وشجرة من الأشجار، وحجر من الأحجار، وبئر من الآبار، وجلد من
النعال، وخرقة من القماش؛ الذين يضيق دينهم عن قلنسوة أو كمة تلبس للوقاية
من الشمس، فما بالك بما لا يحصى من مكتشفات العلم ونتائج العقل.
فهلمَّ أيها الكاتب الغيور، نتعاون على جهاد البدع والخرافات والتقاليد
والعادات التي ألصقت بهذا الدين فجعلته كغيره أو أشوه من غيره في نظر
العالمين، ونجاهد أنصار هذه الضلالات من أرباب العمائم، الذين هم أضر على
الدين من مذهب دارون، لعله يتيسر لنا إنقاذ الإسلام من هؤلاء الجاهلين وإخراجه
من جحر الضب الذي وضعوه فيه، ونبين لأهل العلوم والعرفان أنه بريء من
هؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، واتخذوه هزوًا ولعبًا، وأنه هو الحنيفية
السمحة وهم الماثلون المضيقون، وأنه فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهم عن
الفطرة ناكبون، وأنه موافق لمصالح البشر في كل زمان ومكان وهم لا يوافقون،
فإذا نجحنا في هذا، فأنا الضامن لك على الأطباء والكيماويين، والطبيعيين
والفلكيين، والاجتماعيين والاشتراكيين، والقانونيين والسياسيين، أن يفضلوه على
جميع الأديان، ويرجحوا جعله دين المدنية في هذا الزمان.
أرأيتك هذا الدكتور شميل الذي ترد عليه، إنه يقول في كل ناد وسامر،
وعلى مسمع من المؤمن والكافر: إنه لا يوجد دين اجتماعي إلا دين القرآن، فهو
بهذا القول يدعو إلى نصف الإسلام وهو النصف الدنيوي منه. ولكن يوجد فينا
كثير من أصحاب العمائم ينفر عنه بقسميه الدنيوي والأخروي! !
وأما ما أشار إليه الكاتب الغيور من حث أمثال الدكتور شميل على وضع
المؤلفات في الفنون والعلوم العصرية النافعة للأمة في هذا العصر، فهو أفضل ما
ينبغي الحض عليه والترغيب فيه؛ لتكون لغة البلاد غنية بعلمائها، وسيكون هذا
على قدر عناية الأمة والحكومة بالعلم، والله الموفق وبه المستعان.
__________(12/632)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المدرسة الكلية
الأمريكانية في بيروت
(مقدمة رسالة) قد كان من سيئات الحكومة الاستبدادية لا سيما الحميدية
منها؛ أن يذل المسلمون لكل خسف ينالهم حتى العبث بدينهم؛ لأن السلطان عبد
الحميد كان قد منع المسلمين من جميع أنواع الاجتماع، ومن الحديث والكتابة فيما
يتعلق بالأمور العامة، ومن تقديم الشكاوى للحكومة في المظالم العمومية: دينية
كانت أو دنيوية، فلم يكن للأمة أن تقدم محضرًا، وإنما كانت الشكوى خاصة
بالأفراد! ولما سقطت سلطته- لا سقى الله عهدها- كان مما شكا منه التلاميذ
المسلمون في المدرسة الكلية الأمريكانية ببيروت وشايعهم عليه الرأي العام؛ إلزام
المدرسة إياهم بتعلم الديانة النصرانية، وحضور عبادتها في الكنيسة، كما علم مما
نشرناه في العام الماضي. وقد انتهى الأمر الآن بما يعلم، ويعلم مقدار السخط منه
من الكتاب الآتي:
سيدي رجل الإسلام والمسلمين السيد رشيد أفندي رضا -حفظه الله:
عرفتم بالتفصيل ما صار إليه أمر الاعتصاب الإسلامي في الكلية، وكيف أن
العمدة تلافت الخطر المحدق بها؛ بإعفائها التلامذة من حضور الكنيسة مؤقتًا،
والآن وقد أوشكت السنة المدرسية أن تنتهي لم نشعر إلا والرئيس يستقدم التلامذة
من مسلمين ويهود لغرفته؛ طالبًا منهم التوقيع على صك، تعهدًا منهم بالقيام
بالواجبات الدينية في السنة المقبلة؛ من دخول كنيسة، ودرس توراة وإنجيل حسب
الشروح والتعاليق البروتستانتية التي ينفر منها المسلم، ويشك في صحتها كل من
له مسكة من العقل، وإذا آنس من أحدهم رفضًا أو ترددًا ينبئه بعدم قبوله في السنة
الثانية، حتى ولو لم يبق له إلا سنة أو سنتان لنيل الشهادة، وقد وقع هذا فعلاً مع
أحد العثمانيين الإسرائيليين.
فيا ركن الإسلام المتين، أطلب منك أن تحمل بقلمك وعملك وفتاويك الحملة
الشعواء على خطة الكلية، وتظهر للملأ سوء نيتها، وتعدد لهم الأضرار الناتجة
عن تساهل المسلمين في أمور دينهم، حتى لا يبقى عذر للآباء ولا حجة للأبناء،
وإن الكلية لفي خوف من المسلمين، ولا سيما إذا وجد من يحركهم تحريكًا لا تعمله
القوة الكهربائية؛ ليفسد ما بنوه من الأوهام منذ اثنتين وأربعين سنة.
عرفتك فيما مضى تحض المسلمين على إيجاد مدرسة للاستعاضة عن الكلية،
قبل مناقشتها الحساب أو قبل الرغبة إليها بإصلاح نظاماتها، فنعم الرأي رأيك،
والنصيحة نصيحتك، وقد عرف كل مسلم ما لك من القدم الراسخة وبعد النظر في
الأمور العقلية والنقلية. ولكن يا سيدي ما عسانا نفعل، وقد دفع المسلمون إلى
الاعتصاب بتأثير من القوى الطبيعية وقوانينها التي سنها الله، وأهم تلك القواعد
هي أن كثرة الضغط تستوجب الانفجار.
فيا مَنِ اتَّخَذَكَ الكبيرُ أخًا والصغير أبًا، مُدَّ يَدَ المساعدةِ إلى مسلمي الكلية،
وحَرِّضِ المصريين بجرائدهم اليومية ومجلاتهم للاعتراض على الكلية، فلقد عرفنا
أن ليس للمدرسة من حجة تستند عليها، ولقد أقر كاتب العمدة أمامي بأن المدرسة
عثمانية تتبع كل أمر مصدره الآستانة، وذكرهم أن ما علينا إلا أن نصب الشكوى
من جميع الجهات، واعلم أن كل ما تفعله الكلية لتأييد مركزها هو من باب السياسة
وليس له ظل من الحقيقة، واعلم أن ليس كل كلام يصدر عن كاتب له تأثير
ككلامك.
فكأني بالأسد الآن، وقد ثار من مَرْبَضِهِ مدافعًا عن الأشبال؛ خيفة أن يصيبهم
أذى من الأغرار، ليظهر أن للإسلام صوى (ومنارًا) يستضاء بنوره، إذا اشتد
حالك الظلام، فلا زلت للإسلام عضدًا وللمسلمين مرشدًا، مقر بفضلك.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر الغندور
(المنار)
هذا الذي عملته المدرسة الآن هو الذي كنا نحسبه، فإن هؤلاء الإفرنج أشد
خلق الله تعصبًا للدين، وهم الذين نفخوا روح التعصب الذميم في الشرق كما بينا
ذلك مرارًا. ولكنهم هم ومن ربوه على تعصبهم يشيعون في بلادنا أن الشرق هو
مهد التعصب؛ (رمتني بدائها وانْسَلَّتْ) حتى راج تزيفهم هذا على الجمهور زمنًا
ولا يبعد أن يعدوا كراهتنا لإكراههم إيانا على دينهم تعصبًا منا وتساهلاً منهم! ! ! !
إنهم علموا أن الحكومة العثمانية الآن تمنعهم من إكراه غير النصارى على
التعاليم والأعمال النصرانية، ولا يمكنهم أن يعبثوا بها كما كانوا يعبثون في زمن
عبد الحميد، فلجأوا إلى هذه الحيلة التي ليس أمامهم سواها، ولا يرجعون عنها
بحملة الجرائد عليهم؛ لأن بث دينهم هو الغرض الأول لهم من مدارسهم، لا سيما
في الشرق، فلا يثنيهم عنه شيء إلا أن يكون قوة الحكومة، والحكومة لا تمنع إلا
الإكراه.
فالرأي إما ترك التلاميذ المسلمين لهذه المدرسة إن كانوا يستغنون عنها بغيرها
وإما البقاء فيها مع تلافي ضرر التعاليم المخالفة لدينهم، وجعل ذلك ذريعة إلى
منافع أخرى دينية ودنيوية.
أما الاستغناء عن المدرسة بمثلها أو خير منها فلا سبيل إليه؛ إذ لا يوجد في
بلادنا مثلها في تعليمها وتربيتها. وأما الثاني فهو ميسور والذي ننبه إليه منه أمور:
(1) مطالعة الكتب الإسلامية التي تبين حقيقة الإسلام؛ ككتب الأستاذ
الإمام وأقواله في التوحيد والتفسير والنسبة بين الإسلام والنصرانية، وكتاب روح
الإسلام للقاضي أمير عليَّ.
(2) مطالعة الكتب التي تعارض كتبهم التعليمية الدينية؛ ككتاب أضرار
تعليم التوراة والإنجيل لأحد علماء الإنكليز، وهو يوجد بالعربية والإنكليزية وغيره
من الكتب الإنكليزية التي يمكن أن يرشدهم إليها سليم أفندي التنير.
(3) المواظبة على الصلوات الخمس لا سيما مع الجماعة إذا أمكن، وغير
ذلك من الأعمال الإسلامية؛ كالصيام في هذه الأيام.
(4) ما أمر الله به من التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ومنه التواصي
بإعداد النفوس لمسابقة القوم إلى مثل عملهم في الجمع بين العلم والدين، وإنشاء
مثل هذه المدرسة في بيروت وغيرها من البلاد، فإن عملهم هذا مما يحمد.
قد بيَّنا فيما كتبناه عن مسألة هذه المدرسة في العام الماضي؛ أن المسلم لا
يكون نصرانيًّا كما قال السيد جمال الدين وغيره من العارفين، وقلنا هناك أيضًا:
إن هذا التعصب من هؤلاء الإفرنج لاسيما القائمين بأمر هذه المدرسة، هو الذي
يحيي الشعور الديني في نفوس غير النصارى من التلاميذ في هذه المدرسة، فعمل
رجال المدرسة يأتي بنقيض ما يريدون منه، ويصدق فيه على المسلمين قوله تعالى:
{وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة: 216) .
إن المسلم البصير بدينه لا يمنع من النظر في كتب أي دين من الأديان، ولا
من سماعها. ولكن علماء الإسلام متفقون على أنه لا يجوز للمسلم أن يتلبس بعبادة
أهل دين آخر، ويعدون تلبسه بها الذي يكون به كأهلها لا يميزه الرائي عنهم من
الردة، فإذا ثبت عند القاضي ذلك في دعوى إرث مثلاً، فإنه يحكم بأن مَنْ هذا
شأنُهُ لا يَرِثُ مِنْ أبيه المسلم. وما أظن أن تعصب عمدة المدرسة يصل إلى هذا
الحد، فإن هم وصلوا إليه رفع الأمر إلى الحكومة، فإنها تمنعهم منه بلا شك سواء
تعهد التلميذ به أم لا، نعم.. ما كل ما يحكم به في الظاهر يوافق الباطن، وما كل ما
يسميه النصارى صلاة دعاء ممنوع عندنا. ولكن التشبه بهم فيما هو خاص بهم
من أمر الدين ممنوع قطعًا.
***
غلط فاحش يجب إصلاحه بالقلم
في السطر 23 من صفحة 578، وفي السطرين 3 و4 من صفحة 579 من
مجلد المنار الحادي عشر: {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ} (آل عمران:
152) أي فضل خاص لا يشاركهم فيه غيرهم، وهو عناية بهم وتوفيقهم.
وصوابه هكذا: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (آل عمران: 155) لا يعجل بتحتيم
العقاب، ومن آياته مغفرته لهم وحلمه بهم توفيقهم.
وفي السطر الأول من صفحة 528 من الجزء الماضي: كلمة (السابع)
وصوابها التاسع.
__________(12/637)
رمضان - 1327هـ
أكتوبر - 1909م(12/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أبو حامد الغزالي [1]
(6)
رأيه في إثبات مذهب أهل الحق من المسلمين وفي مذهب الباطنية أهل التعليم
وفيه رأيه في آيات النبوة وفي خروج المسلمين من الخلاف
تمهيد
كان الإسلام في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الخلفاء الراشدين
دينًا واحدًا، والمسلمون أمة واحدة، لا فِرَق فيهم ولا مذاهب، ثم حدثت المذاهب في
الأصول والفروع، ووقع المسلمون فيما نهاهم الله تعالى عنه من الاختلاف والتفرق
إلى شيع متعددة، كل شيعة منها تنتحل مذهبًا، ولم يضر المسلمين في دينهم ودنياهم
شيء كهذا التفرق؛ ولذلك لم يشدد القرآن في النهي عن شيء كما شدد في النهي عن
الخلاف والتفرق، كما بينا ذلك في تفسير القرآن الحكيم، وفي مواضيع كثيرة من
المنار.
وكان شر المذاهب وأشأمها في هذه الأمة مذهب الباطنية الذين ذهبوا إلى أن
للدين ظاهرًا وباطنًا، وأن الباطن منه هو الحق المراد لله تعالى وأنه لا يمكن أن
يعرف من النظر في الكتاب والسنة بطرق النظر المعروفة في الأصول وقوانين
اللغة التي للألفاظ والمعاني، بل لا بد في كل عصر من إمام معصوم يؤخذ عنه
الدين بالتسليم الأعمى، حتى إذا قال: إن الشمس والقمر في القرآن لا يراد بهما
هذان الكوكبان المعروفان وإنما يراد بهما فلان وفلان - وجب تصديقه، فلا يعارض
شيء من تعليمه بمخالفة اللغة ولا العقل ولا النص! ! !
وإن لهذا المذهب - بل الدين - الذي ظهر بمظهر المذهب درجات في
الاعتقاد، ودرجات في الدعوة، ليس هذا المكان بمحل لبيانها. والدرجة الأخيرة
منها هي اعتقاد أن إمامهم هو الله الذي خلق الخلق وأرسل الرسل وأنزل الكتب
(تعالى الله عما يقولون) . وقد ظهروا في أطوار وتسموا بأسماء أشهرها في زمن
الغزالي الإسماعيلية، وكان رئيسهم يومئذ حسن بن الصباح الشهير. وآخر فرقهم
المشهورة في زمننا هذا فرقة البابية، أو البهائية من البابية.
ما ظهرت بدعة ولا ضلالة قام بها أهل مذهب إلا ووصل إلى غيرها من
المذاهب شرها، وسرى إلى أهلها ضرها، وكان أقرب الفرق إلى الباطنية فرقة
الشيعة؛ لقولهم بعصمة الأئمة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم الرضوان
والسلام) بل كانت الباطنية في الزمن الماضي والحاضر من الشيعة كالعبيدين
بمصر، والبابية في فارس، وهم ليسوا في الحقيقة من الشيعة ولا من المسلمين،
والشيعة تقول بكفرهم كغيرها.
كذلك يشتبه مذهبهم بمذهب الصوفية الذين يقولون: إن للقرآن ظاهرًا وباطنًا
وإن للدين أسرارًا لا يفهمها إلا الخواص. ولكن فَرْقًا عظيمًا بين الصوفية والباطنية
فالغزالي الذي كان أشد العلماء على الباطنية حتى إنه صنف الكتب في الرد عليهم
كان صوفيًّا، يقول: إن للدين أسرارًا، كما سيأتي عنه في هذه الترجمة مع بيان
الفصل فيه بين الصوفية والباطنية.
بل إن مقلدة المذاهب الأربعة في الفقه، والمذهبين الأشعري والماتريدي في
الكلام، وهم مِن أتباع أئمة أهل السنة، قد سرت إليهم دعوة الباطنية الأولى،
فعملوا بها في الغالب، فجعلوا أئمتهم معصومين وإن لم يسموهم معصومين، فمبدأ
التقليد عند أكثرهم أن الواجب اتباع ما ثبت في المذهب من غير بحث ولا دليل،
وأنه لا يجوز رد شيء من المذهب لما يظهر أنه مخالف له من آية قرآنية وسنة
نبوية، بناء على أن إمام المذهب وعلماءه أعلم بالكتاب والسنة، فالقول ما يقولونه
وهو الدين الواجب اتباعه على كُلِّ أحدٍ! .
والفرق بينهم وبين الباطنية أن الباطنية تقول بإمام واحد يُتَّبع في كل شيء من
الأصول والفروع، وهم يقولون بإمامين في العقائد هما الأشعري والماتريدي وأربعة
في فروع الأعمال، كل مَن خالفهم يكون ضالاًّ خارجًا عن هداية الإسلام، إما إلى
الكفر أو البدعة، وإما إلى الفسق؛ بل أوجبوا اتباع مَن لا يحصى عددهم من علماء
هذه المذاهب، وإن لم يسموهم كلهم أئمة فهؤلاء مقلدة سنغافورة وجاوه يقدسون
أحمد بن حجر الهيتمي ويوجبون اتباعه دينًا في كل ما دوَّنه في كتبه، وإن خالف
نص الشافعي الذي هو إمامه (ولكل قوم ابن حجر) .
إذا تمهد هذا، فاعلم أن أبا حامد الغزالي قد أبطل في رده على الباطنية
مذهبهم والنزعات التي سرت منه إلى غيرهم من أهل المذاهب الإسلامية، أو ما
وافقه منها وإن لم يكن بالسريان، وأبطل التقليد مطلقًا كما أبطله كتاب الله وسلف
الأمة، حتى أئمة الفقه الأربعة ومن أخذ عنهم، وأثبت أنه ليس في البشر إمام
معصوم يجب اتباعه غير محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني منذ بعثته
إلى آخر الزمان.
أحسن ما وصل إلينا من كتب أبي حامد في إبطال مذهب الباطنية، ويسمى
مذهب التعليم كتاب: (القسطاط المستقيم) ، وهو يشرح فيه مناظرة دارت بينه
وبين أحد دعاة الباطنية، وسماه بهذا الاسم؛ لأن الباطني لما سأله بماذا يزن معرفته
أبالرأى والقياس الذي جرى عليه المسلمون في الاستنباط من النصوص وهو مثار
الخلاف بين الناس؛ لما فيه من التعارض والالتباس. أم بميزان التعليم باتباع
الإمام المعصوم؟ أجابه أبو حامد بأنه يزنها بالقسطاس المستقيم كما أمر الله في
كتابه. ثم استنبط له من القرآن خمسة موازين يعرف بها الحق من الباطل في كل
علم. ثم بين له أن الشيطان له موازين تضل الناس، وهى طرق الوساوس
والأوهام ومسارب خطأ الناس في الفهم والعلم، ثم شرح له المقصد الذي أشرنا إليه
فقال:
(القول في الاستغناء بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبعلماء أمته عن
إمام معصوم آخر) .
(وبيان معرفة صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - بطريق أوضح من
النظر في المعجزات) .
(وأوثق منه وهو طريق العارفين) .
فقال (أي الباطني) : لقد أكملت الشفاء، وكشفت الغطاء، وأتيت باليد
البيضاء. لكن بنيت قصرًا وهدمت مصرًا، فإني إلى الآن كنت أتوقع أن أتعلم منك
الوزن بالميزان، وأستغني بك وبالقرآن عن الإمام المعصوم، فالآن إذ ذكرت هذه
الدقائق في مداخل الغلط، فقد أيست من الاستقلال به، فإني لا آمن أن أغلط لو
اشتغلت بالوزن، وقد عرفت الآن لِمَ اخْتَلَفَ النّاسُ في هذه المذاهب؛ وذلك لأنهم لم
يتفطنوا لهذه الدقائق كما فطنت، فغلط بعضهم وأصاب بعضهم، فإذا أقرب الطرق
لي أَنْ أُعَوِّلَ على الإمام المعصوم حتى أتخلص من هذه الدقائق.
فقلت: يا مسكين معرفتك بالإمام الصادق ليست ضرورية، فهي إما أن تكون
تقليدًا للوالدين أو موزونة بشيء من هذه الموازين، فإن كل علم ليس أوليًّا
فبالضرورة يكون حاصلاً عند صاحبه بقيام هذه الموزاين في نفسه، وإن كان هو لا
يشعر به، فإنك عرفت صحة ميزان التقدير بانتظام الأصلين في ذهنك: التجريبي
والحسي، وكذلك سائر الناس وهم لا يشعرون به. ومَن يعرف مثلاً أن هذا
الحيوان غير حامل لأنه بغل، عرفه بانتظام الأصلين الذين ذكرناهما في صدر
الكتاب، وإن كان لا يشعر بمصدر علمه، وكذلك كل علم في العالم يحصل للإنسان
فيكون كذلك، فأنت إن أخذت اعتقاد العصمة في الإمام الصادق بل في محمد صلى
الله عليه وسلم تقليدًا للوالدين والرفقاء، لم تتميز عن اليهود والنصارى والمجوس،
فإنهم كذلك فعلوا، وإن أخذته من الوزن بشيء من هذه الموازين، فلعلك غلطت في
دقيقة من دقائقه، فينبغي على زعمك أن لا تثق به.
فقال: صدقت، فأين الطريق، فلقد سددت عليّ طريق التعليم والوزن جميعًا
قلت: هيهات راجع القرآن، فلقد علمك الطريق؛ إذ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا
إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف: 201) ،
ولم يقل سافروا إلى الإمام المعصوم فإذا هم مبصرون، فأنت تعلم أن المعارف
كثيرة، فلو ابتدأت في كل مشكلة سفرًا إلى الإمام المعصوم بزعمك، طال عناؤك
وقل علمك. لكن طريقك أن تتعلم مني كيفية الوزن وتستوفي شروطه، فإن أشكل
عليك شيء عرضته على الميزان، وتفكرت في شروطه بفكر صاف وجد واف،
فإذا أنت مبصر. وهذا كما لو حسبت ما للبقال عليك أو لك عليه، أو قسمت في
مسألة من مسائل الفرائض وشككت في الإصابة والخطأ، فيطول عليك أن تسافر
إلى الإمام المعصوم. ولكن تُحَكِّم علم الحساب وتتذكره ولا تزال تعاوده مرة بعد
أخرى حتى تستيقن قطعًا أنك ما غلطت في دقيقة من دقائقها، وهذا يعرفه من
يعرف علم الحساب وكذلك مَن يعرف الوزن به كما أعرفه، فينتهي به التذكر
والتفكر والمعاودة مرة بعد أخرى إلى اليقين الضروري بأنه ما غلط، فإن لم تسلك
هذه الطريق لم تفلح قط، وصرت تشكك بلعل وعسى، ولعلك قد غلطت في تقليدك
لإمامك بل للنبي الذي آمنت به، فإن معرفة صدق النبي صلى الله عليه وسلم ليست
ضرورية (أي ليست بديهية معلومة بالضرورة) .
فقال: لقد ساعدتني على أن التعليم حق، وأن الإمام هو النبي صلى الله عليه
وسلم. واعترفت بأن كل واحد لا يمكنه أن يأخذ العلم من النبي صلى الله عليه
وسلم دون معرفة الميزان، وأنه لا يمكنه معرفة تمام الميزان إلا منك، فكأنك
ادعيت الإمامة لنفسك خاصة، فما برهانك ومعجزتك؟ فإن إمامي إما أن يقيم
معجزة، وإما أن يحتج بالنص المتعاقب من آبائه إليه، فأين نصك وأين معجزتك؟
فقلت: أما قولك إنك تدعي الإمامة لنفسك خاصة، فليس كذلك، فإني أرجو
أن يشاركني غيري في هذه المعرفة، فيمكن أن يُتعلم منه كما يُتعلم مني، فلا أجعل
التعليم وقفًا على نفسي. وأما قولك تدعي الإمامة لنفسك، فاعلم أن الإمام قد نعني
به الذي يتعلم من الله بواسطة جبريل وهذا لا أدعيه لنفسي، وقد نعني به الذي يتعلم
من الله بغير جبريل ومن جبريل بواسطة الرسول، ولهذا سُمِّيَ علي رضي الله عنه
إمامًا، فإنه تعلم من الرسول لا من جبريل، وأنا بهذا المعنى أَدَّعِي الإمامة لنفسي.
أما برهاني عليه فأوضح من النص ومما تعتقده معجزة، فإن ثلاثة أنفس لو
ادعوا عندك أنهم يحفظون القرآن، فقلت: ما برهانكم؟ فقال أحدهم: برهاني أنه
نصَّ عليَّ الكسائي أستاذ المقرئين إذ نصَّ على أستاذي، وأستاذي نص عليّ، فكأن
الكسائي نصَّ عليّ، وقال الثاني: إني أَقْلِبُ العصا حية فَقَلَبَ العصا حيَّةً، وقال
الثالث: برهاني أني أقرأ جميع القرآن بين يديك من غير مصحف. فليت شعري
أي هذه البراهين أوضح عنك، وقلبك بأيها أشد تصديقًا؟ فقال بالذي قرأ القرآن
فهو غاية البراهين؛ إذ لا يخالجني فيه ريب. أما نَصُّ أستاذِهِ عليه ونَصُّ الكسائيِّ
على أستاذه، فيتصور أن تقع فيه أغاليط لا سيما عند طول الأسفار. وأما قلب
العصا حية فلعله فعل ذلك بحيلة وتلبيس، وإن لم يكن تلبيسًا فغايته أنه فعل عجيب،
ومن أين يلزم أن من قدر على فعل عجيب ينبغي أن يكون حافظًا للقرآن.
قلت: فبرهاني إذًا أيضًا أني كما عرفت هذه الموازين، فقد عرفت وأفهمت
وأزلت الشك عن قلبك في صحته، فيلزمك الإيمان بإمامتي، كما أنك إذا تعلمت
الحساب وعُلمته من أستاذ، فإنه إذا علمك الحساب حصل لك علم بالحساب وعلم
آخر ضروري بأن أستاذك حاسب وعالم بالحساب، كذلك فقد علمت من تعليمه
علمه وصحة دعواه أيضًا في أنه حاسب، وكذلك آمنت أنا بصدق محمد صلى الله
عليه وسلم وصدق موسى عليه السلام، لا بشق القمر ولا بقلب العصا حية
بمجردهما، فإن ذلك يتطرق إليه حينئذ التباس كثير فلا يوثق به، بل من يؤمن
بقلب العصا حية يكفر بخوار العجل، فإن التعارض في عالم الحس والشهادة كثير
جدًّا. لكني تعلمت الموازين من القرآن ثم وزنت بها جميع المعارف الإلهية، بل
أحوال المعاد وعذاب القبر وعذاب أهل الفجور وثواب أهل الطاعة، كما ذكرته في
كتاب جواهر القرآن، فوجدت جميعها موافقة لما في القرآن ولما في الأخبار،
فتيقنت أن محمدًا صلى الله عليه وسلم صادق وأن القرآن حق، وفعلت كما قال
علي رضي الله عنه، إذ قال: (لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله)
فكانت معرفتي بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ضرورية، كمعرفتك إذا رأيت
رجلاً عربيًّا يناظر في مسألة من مسائل الفقه ويحسن فيها، ويأتى بالفقه الصحيح
الصريح، فإنك لا تتمارى في أنه فقيه، ويقينك الحاصل به أوضح من اليقين
الحاصل بفقه لو قلب ألف عصا ثعبانًا؛ لأن ذلك يتطرق إليه احتمال السحر
والتلبيس والطلسم وغيرها، ولا يحصل العلم بالقرآن بينها وبين هذه الأشياء
وكونها معجزة إلا بعد بحث طويل ونظر دقيق، ويحصل به إيمان ضعيف هو
إيمان العوام والمتكلمين. فأما إيمان أرباب المشاهدة الناظرين من مشكاة الربوبية
فلا يكون كذلك.
فقال: فأنا أيضًا أشتهي أن أعرف النبي صلى الله عليه وسلم كما عرفته،
وقد ذكرت أن ذلك لا يعرف إلا بأن توزن جميع المعارف الإلهية بهذا الميزان،
وما اتضح عندي أن جميع المعارف الدينية يمكن وزنها بهذه الموازين فبم أعلم ذلك؟
قلت: هيهات، لا أدعي أني أزن بها المعارف الدينية فقط، بل أزن بها
العلوم الحسابية والهندسية والطبيعية والفقهية والكلامية وكل علم حقيقي غير وضعي
فإني أميز حقه عن باطلة بهذه الموازين، وكيف لا وهو القسطاس المستقيم
والميزان الذي هو رفيق الكتاب والقرآن في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25)
وأما معرفتك بقدرتي على هذا، فلا تحصل لا بنص ولا بقلب العصا ثعبانًا. ولكن
تحصل بأن تستكشف ذلك تجربة وامتحانًا، فمدعي الفروسية لا ينكشف صدقه حتى
يركب فرسًا ويركض ميدانًا، فسلني عما شئت من العلوم الدينية؛ لأكشف لك
الغطاء عن الحق فيه واحدًا واحدًا، وأزنه بهذا الميزان وزنًا يحصل لك علم
ضروري بأن الوزن صحيح، وإن العلم المستفاد منه مستيقن، ومن لم يجرب لم
يعرف.
فقال: وهل يمكنك أن تعرف جميع الحقائق والمعارف الإلهية جميع الخلق،
فترفع الاختلافات الواقعة بينهم؟ قلت: هيهات لا أقدر عليه، وكان إمامك
المعصوم إلى الآن قد رفع الاختلافات بين الخلائق، وأزال الإشكالات عن القلوب
بل الأنبياء، متى رفعوا الاختلاف؟ ومتى قدروا عليه؟ بل اختلاف الخلق حكم
ضروري أزلي {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ} (هود: 118-119) أفأدعي أن أَرُدَّ قضاء الله الذي قضى به في الأزل؟
أَوَيقدر إمامك أنْ يدعيَ ذلك؟ فإن كان يدعيه فلم ادخره إلى الآن والدنيا طافحة
بالاختلافات، وليت شعري أرئيس الأمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان
سبب رفع الاختلافات بين الخلق، أو سبب تأسيس اختلافات لا تنقطع أبد الدهر؟ !
القول في طريق نجاة الخلق من ظلمات الاختلافات
فقال: كيف نجاة الخلق من هذه الاختلافات؟ قلت: إن أصْغَوا إليّ
رفعت الاختلافات بينهم بكتاب الله تعالى. ولكن لا حيلة في إصغائهم فإنهم لم
يصغوا بأجمعهم إلى الأنبياء ولا إلى إمامك، فكيف يصغون إليّ؟ وكيف يجتمعون
على الإصغاء؟ وقد حكم عليهم في الأزل بأنهم لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك
ولذلك خَلَقَهم. وكون الخلاف بينهم ضروريًّا تعرفه من كتاب: (جواب مفصل
الخلاف) وهو الفصول الاثنا عشر.
فقال: فلو أصغوا كيف كنت تفعل؟ قلت: كنت أعاملهم بآية واحدة من كتاب
الله تعالى، إذ قال: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا
الحَدِيدَ} (الحديد: 25) الآية، وإنما أنزل هذه الثلاث؛ لأن الناس ثلاثة أصناف،
وكل واحد من الكتاب والحديد والميزان علاج قوم.
فقال: فمن هم وكيف علاجهم؟ قلت الناس ثلاثة أصناف: عوام وهم أهل
السلامة، البُلْهُ وهم أهل الجنة، وخواص وهم أهل الذكاء والبصيرة، ويتولد بينهم
طائفة هم أهل الجدل والشغب، فيتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة: أما
الخواص فإني أعالجهم بأن أعلمهم الموازين القسط وكيفية الوزن بها، فيرتفع
الخلاف بينهم على قرب، وهؤلاء قوم اجتمع فيهم ثلاث خصال: إحداها: القريحة
النافذة، والفطنة القوية، وهذه عطية فطرية وغريزة جبلية لا يمكن كسبها.
والثانية: خلو باطنهم من تقليد وتعصب لمذهب موروث ومسموع؛ فإن المقلد لا
يصغي، والبليد وإن أصغى فلا يفهم. الثالثة: أن يعتقد فيَّ أَنِّي من أهل البصيرة
بالميزان ومَن لم يؤمن بأنك تعرف الحساب لا يمكنه أن يتعلمه منك.
والصنف الثاني البلْه وهم جميع العوام، وهؤلاء هم الذين ليس لهم فطنة لفهم
الحقائق، وإن كانت لهم فطنة فطرية فليس لهم داعية الطلب، بل شغلتهم
الصناعات والحرف، وليس فيهم أيضًا داعية الجدل بخلاف المتكايسين في العلم مع
قصور الفهم عنه، فهؤلاء لا يختلفون. ولكن يتخيرون بين الأئمة المختلفين،
فأدعو هؤلاء إلى الله بالموعظة كما أدعو أهل البصيرة بالحكمة، وأدعو أهل
الشغب بالمجادلة، وقد جمع الله سبحانه وتعالى هذه الثلاثة في آية واحدة كما تلوته
عليك، أولاً - فأقول لهم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعرابي جاءه فقال:
علمني من غرائب العلم، فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس أهلاً لذلك،
فقال: (وماذا عملت في رأس العلم) أي: الإيمان والتقوى والاستعداد للآخرة
(اذهب فأحكم رأس العلم ثم ارجع لأعلمك من غرائبه) فأقول للعامي: ليس الخوض
في الاختلافات من عشك فادرج، فإياك أن تخوض فيه أو تصغي إليه فتهلك، فإنك
إذا صرفت عمرك في صناعة الصياغة لم تكن من أهل الحياكة، وقد صرفت
عمرك في غير العلم، فكيف تكون من أهل العلم [2] ومن أهل الخوض فيه؟ !
فإياك ثم إياك أن تهلك نفسك، فكل كبيرة تجري على العامي أهون من أن يخوض
في العلم فيكفر من حيث لا يدري.
فإن قال: لابد من دين أعتقده وأعمل به؛ لأصل به إلى المغفرة والناس
مختلفون في الأديان، فبأي دين تأمرني أن آخذ أو أعول عليه؟ فأقول له: للدين
أصول وفروع، والاختلاف إنما يقع فيهما: أما الأصول فليس عليك أن لا تعتقد
فيها إلا ما في القرآن، فإن الله تعالى لم يستر عن عباده صفاته وأسماءه، فعليك أن
تعتقد: أن لا إله إلا الله، وأن الله حي عالم قادر سميع بصير جبار متكبر قدوس
ليس كمثله شيء إلى جميع ما ورد في القرآن واتفق عليه الأئمة، فذلك كاف في
صحة الدين، وإن تشابه عليك شيء، فقل: آمنا به كل من عند ربنا، واعتقد كل
ما ورد في إثبات الصفات ونفيها على غاية التعظيم والتقديس مع نفي المماثلة
واعتقاد أنه ليس كمثله شيء، وبعد هذا لا تلتفت إلى القيل والقال، فإنك غير
مأمور به ولا هو على حد طاقتك. فإن أخذ يتحذلق ويقول: قد علمت أنه عالم من
القرآن. ولكني لا أعلم أنه عالم بالذات أو بعلم زائد عليه، وقد اختلف فيه الأشعرية
والمعتزلة، فقد خرج بهذا عن حد العوام؛ إذ العامي لا يلتفت قلبه إلى مثل هذا ما
لم يحركه شيطان الجدل، فإن الله لا يهلك قومًا إلا يؤتيهم الجدل، كذلك
ورد الخبر، وإذا التحق بأهل الجدل فسأذكر علاجهم.
هذا ما أعظ به في الأصول وهو الحوالة على كتاب الله، فإن الله أنزل
الكتاب والميزان والحديد، وهؤلاء أهل الحوالة على الكتاب.
وأما الفروع فأقول: لا تشغل قلبك بمواقع الخلاف ما لم تفرغ عن جميع
المتفق عليه، فقد اتفقت الأمة على أن زاد الآخرة هو التقوى والورع، وأن الكسب
الحرام والمال الحرام والغيبة والنميمة والزنا والسرقة والخيانة وغير ذلك من
المحظورات حرام، والفرائض كلها واجبة. فإن فرغت من جميعها علمتك طريق
الخلاص من الخلاف. فإن هو طالبني بها قبل الفراغ من هذا كله فهو جدلي وليس
بعامي، ومتى تفرغ العامي من هذا إلى مواضع الخلاف؟ أفرأيت رفقاءك قد
فرغوا من جميع هذا، ثم أخذ إشكال الخلاف بمخنقهم؟ هيهات ما أِشبه ضعف
عقولهم في خلافهم إلا بعقل مريض به مرض أشرف على الموت وله علاج متفق
عليه بين الأطباء؛ وهو يقول: قد اختلفت الأطباء في بعض الأدوية أنها حارة أو
باردة، وربما افتقرت إليه يومًا فأنا لا أعالج نفسي حتى أجد من يعلمني رفع
الخلاف فيه.
نعم لو رأيتم صالحًا قد فرغ من حدود التقوى كلها. وقال: ها أنا ذا تُشْكِل
عليّ مسائل، فإني لا أدرى أتوضأ من اللمس والقيء والرعاف وأنوي الصوم
بالليل في رمضان أو بالنهار إلى غير ذلك. فأقول له: إن كنت تطلب الأمان في
طريق الآخرة فاسلك سبيل الاحتياط، وخذ بما يتفق عليه الجميع، فتوضأ من كل
ما فيه خلاف، فإن كل من لا يوجبه يستحبه، وانو الصوم بالليل في رمضان، فإن
من لا يوجبه يستحبه. فإن قال: هو ذا يثقل عليّ الاحتياط، ويعرض لي مسائل
تدور بين النفي والإثبات، وقال: لا أدرى أأقنت في الصبح أم لا، وأجهر
بالتسمية أم لا. فأقول: الآن اجتهد مع نفسك، وانظر إلى الأئمة أيهم أفضل عندك
وصوابه أغلب على قلبك، كما لو كنت مريضًا وفي البلد أطباء فإنك تختار بعض
الأطباء باجتهادك لا بهواك وطبعك، فيكيفك مثل ذلك الاجتهاد في أمر دينك، فمن
غلب على ظنك أنه الأفضل فاتبعه [3] ، فمن أصاب فيما قال عند الله فله في ذلك
أجران، وإن أخطأ فله عند الله في ذلك أجر واحد. وكذلك قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذ قال: من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد
ورد الله تعالى الأمر إلى أهل الاجتهاد وقال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) وارتضى الاجتهاد لأهله؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لمعاذ (بِمَ تَحْكُمُ؟) قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد، قال: بسنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد، قال: أجتهد رأيي. قال ذلك قبل أن
أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن له فيه، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله ففهم من ذلك أنه
مرضي به من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وغيره كما قال الأعرابي: إنى
هلكت وأهلكت؛ واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال: أعتق رقبة ففهم أن التركي
أو الهندي لو جامع أيضًا لزمه الإعتاق؛ وهذا لأن الخلق ما كلفوا الصواب عند الله،
فإن ذلك غير مقدور عليه، ولا تكليف بما لا يطاق، بل كلفوا ما يظنونه صوابًا
كما لم يكلفوا الصلاة بثوب طاهر، بل بثوب يظنون أنه طاهر، فلو تذكروا نجاسته
لم يلزمهم القضاء؛ إذ نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم نعله في أثناء الصلاة؛
لما أنبأه جبريل أن عليه قذرًا ولم يعد الصلاة ولم يستأنف، وكذلك لم يكلف أن
يصلي إلى القبلة، بل إلى جهة يظن أنها القبلة؛ بالاستدلال بالجبال والكواكب
والشمس، فإن أصاب فله أجران وإلا فله أجر واحد، ولم يكلفوا أداء الزكاة إلى
الفقير بل إلى من ظنوا فقره؛ لأن ذلك لا يعرف باطنه، ولم يكلف القضاة في سفك
الدماء وإباحة الفروج طلب شهود يعلمون صدقهم، بل من يظنون صدقهم، وإذا
جاز سفك دم بظن يحتمل الخطأ؛ وهو ظن صدق الشهود فلم لا تجوز الصلاة بظن
شهادة الأدلة عند الاجتهاد.
وليت شعري، ماذا يقول رفقاؤك في هذا؟ أيقولون إذا اشتبهت عليه القبلة
يؤخر الصلاة حتى يسافر إلى الإمام ويسأله، أو يكلفه الإصابة التي لا يطيقها، أو
يقول: اجتهد لمن لا يمكنه الاجتهاد؛ إذ لا يعرف أدلة القبلة وكيفه الاستدلال
بالكواكب والجبال والرياح. قال: لا شك في أنه يأذن له في الاجتهاد، ثم لا يؤثمه
إذا بذل كنه مجهوده، وإن أخطأ أو صلى إلى غير القبلة.
قلت فإذا كان مَنْ جعل القبلة خلفه معذورًا مأجورًا، فلا يبعد أن يكون من أخطأ
في سائر الاجتهادات معذورًا؛ فالمجتهدون ومقلدوهم كلهم معذورون، بعضهم
مصيبون ما عند الله وبعضهم يشاركون المصيبين في أحد الأجرين، فمناصبهم
متقاربة، وليس لهم أن يتعاندوا وأن يتعصب بعضهم مع بعض، لا سيما والمصيب لا
يتعين وكل واحد منهم يظن أنه مصيب؛ كما لو اجتهد مسافران في القبلة فاختلفا في
الاجتهاد، فحقهما أن يصلي كل واحد إلى الجهة التي غلبت على ظنه وأن
يكف إنكاره وإعراضه واعتراضه على صاحبه؛ لأنه لم يكلف إلا
استعمال موجب ظنه. أما استقبال عين القبلة عند الله فلا يقدر عليه، وكذلك كان معاذ
في اليمن يجتهد لا على اعتقاد أنه لا يتصور منه الخطأ، لكن على أنه إن أخطأ كان
معذورًا , وهذا لأن الأمور الوضعية الشرعية التي يتصور أن تختلف بها الشرائع
يقرب فيها الشيء من نقيضه بعد كونه مظنونًا في سر الاستبصار. وأما ما لا تتغير
فيه الشرائع فليس فيه اختلاف، وحقيقة هذا الفصل تعرفه من أسرار اتباع السنة،
وقد ذكرته في الأصل العاشر من الأعمال الظاهرة من كتاب جواهر القرآن.
وأما الصنف الثالث: وهم أهل الجدل؛ فإني أدعوهم بالتلطف إلى الحق،
وأعني بالتلطف أن لا أتعصب عليهم ولا أعنفهم، لكن أرفق وأجادلهم بالتي هي
أحسن، وكذلك أمر الله تعالى رسوله، ومعنى المجادلة بالأحسن أن آخذ الأصول
التي يسلمها الجدلي، واستنتج منها الحق بالميزان المحقق على الوجه الذي أوردته
في كتاب الاقتصاد وإلى ذلك الحد، فإن لم يقنعه ذلك لتشوفه بفطنته إلى مزيد كشف
رقبته إلى تعليم الموازين، فإن لم يقنعه لبلادته وإصراره على تعصبه ولجاجه
وعناده عالجته بالحديد، فإن الله سبحانه جعل الحديد والميزان قريني الكتاب؛ ليفهم
منه أن جميع الخلائق لا يقومون بالقسط إلا بهذه الثلاث: فالكتاب للعوام، والميزان
للخواص، والحديد الذي فيه بأس شديد للذين يتبعون ما تشابه من الكتاب؛ ابتغاء
الفتنة وابتغاء تأويله، ولا يعلمون أن ذلك ليس من شأنهم، وأنه لا يعلم تأويله إلا
الله، والراسخون في العلم دون أهل الجدل.
وأعني بأهل الجدل طائفة فيهم كياسة ترقوا بها عن العوام. ولكن كياستهم
ناقصة؛ إذ كانت الفطرة كاملة. ولكن في باطنهم خبث وعناد وتعصب وتقليد،
فذلك يمنعهم عن إدراك الحق، وتكون هذه الصفات أكنة على قلوبهم أن يفقهوه،
وفي آذانهم وقر. لكن لم تهلكهم إلا كياستهم الناقصة، فإن الفطنة البتراء والكياسة
الناقصة شر من البلاهة بكثير، وفي الخبر (إن أكثر أهل الجنة البله، وإن عليين
لذوي الألباب) [4] ويخرج من جملة الفريقين الذين يجادلون في آيات الله وأولئك
أصحاب النار، ويزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وهؤلاء ينبغي أن يمنعوا
من الجدال بالسيف والسنان كما فعل عمر رضي الله عنه برجل؛ إذ سأله عن آيتين
متشابهتين في كتاب الله تعالى فَعَلاه بالدِّرَّة، وكما قال مالك رضي الله عنه لما سئل
عن الاستواء على العرش، فقال: الاستواء حق، والإيمان به واجب، والكيفية
مجهولة، والسؤال عنه بدعة. وحسم بذلك باب الجدال، وكذلك فعل السلف كلهم.
وفي فتح باب الجدال ضرر عظيم على عباد الله تعالى.
فهذا مذهبي في دعوة الناس إلى الحق، وإخراجهم من ظلمات الضلال إلى
نور الحق، وذلك بأن دعوة الخواص إلى الحكمة بتعليم الميزان، حتى إذا تعلم
الميزان القسط لم يقدر به على علم واحد بل على علوم كثيرة، فإن من معه ميزان
فإنه يعرف به مقادير أعيان لا نهاية لها، كذلك من معه القسطاس المستقيم فمعه
الحكمة التي مَن أوتيها فقد أوتي خيرًا كثيرًا لا نهاية له، ولولا اشتمال القرآن على
الموازين لما صح تسمية القرآن نورًا؛ لأن النور ما يبصر بنفسه ويبصر به غيره،
وهو نعت الميزان، ولما صدق قوله: {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام: 59) فإن جميع العلوم غير موجودة في القرآن بالتصريح. ولكن
موجودة فيه بالقوة؛ لما فيه من الموازين القسط التي بها تفتح أبواب الحكمة التي لا
نهاية لها، فبهذا أدعو الخواص. ودعوت العوام بالموعظة الحسنة بالإحالة على
الكتاب والاقتصار على ما فيه من الصفات الثابتة لله تعالى. ودعوت أهل الجدال
بالمجادلة التي هي أحسن، فمَن أَبَى أعرضت عن مخاطبته، وكففت شره ببأس
السلطان والحديد المُنَزَّل مع الميزان.
فليت شعري، الآن يا رفيقي بم يعالج إمامك هؤلاء الأصناف الثلاثة؟ أيعلم
العوام فيكلفهم ما لا يفهمون ويخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يخرج
الجدال من أدمغة المجادلين بالمحاجة، ولم يقدر على ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم مع كثرة مُحاجّة الله تعالى في القرآن مع الكفار؟ فما أعظم قدرة إمامك؛ إذ
صار أقدر من الله تعالى ومن رسوله! ! أو يدعو أهل البصيرة إلى تقليده وهم لا
يقبلون قول الرسول صلى الله عليه وسلم بالتقليد، ولا يقنعون بقلب العصا ثعبانًا،
بل يقولون هو فعل غريب. ولكن من أين يلزم منه صدق فاعله، وفي العالم من
غرائب السحر والطلسمات ما تتحير فيه العقول، ولا يقوى على تمييز المعجزة عن
السحر والطلسم إلا مَن عرف جميعها وجملة أنواعها؛ ليعلم أن المعجز خارج عنها،
كما عرف سحرة فرعون معجزة موسى عليه السلام، إذ كانوا من أئمة السحرة،
ومن الذي يقوى على ذلك؟ بل أهل البصيرة يريدون مع المعجزة أن يعلموا صدقه
من قوله، كما يعلم متعلم الحساب من نفس الحساب صدق أستاذه في قوله: إني
حاسب، فهذه هي المعرفة اليقينية التي بها يقنع أولو الألباب وأهل البصائر، ولا
يقنعون بغيرها ألبتة، وهم إذا عرفوا بمثل هذا المنهاج صدق الرسول صلى الله عليه
وسلم وصدق القرآن، وفهموا موازين القرآن كما ذكرت لك وأخذوا منه مفاتيح
العلوم كلها مع الموازين كما ذكرته في كتاب جواهر القرآن، فمن أين يحتاجون
إلى إمامك المعصوم؟ وما الذي حلَّ من إشكالات الدين؟ وماذا كشف عن غوامضه؟
قال الله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} (لقمان: 11)
وقد سمعت الآن منهاجي في موازين العلوم، فأرني ماذا اقتبسته من غوامض
العلوم من إمامك إلى الآن، وماذا الذي يتعلمون منه؟ وليت شعري، ما الذي
تعلمت من أمامك المعصوم؟ أرني ما رأيتها:
ما يسدي بي رتسدي أوف ... خر ابن وقلب يارفوت
فليس الغرض من الدعوة إلى المائدة مجرد الدعوة دون الأكل والتناول منها،
وإني أراكم تدعون الناس إلى الإمام، ثم أرى المستجيب لإمامك بعد الاستجابة على
جهله الذي كان قبله، لم يحل له الإمام عقدًا بل ربما عقد له حلاًّ، ولم تفده استجابته
بل ربما زاد به طغيانًا وجهلاً.
قال: قد طالت صحبتي مع رفقائي. ولكن ما تعلمت منهم شيئًا إلا أنهم
يقولون عليك بمذهب التعليم، وإياك والرأي والقياس فإنه متعارض مختلف. قلت:
فمن الغرائب أن يدعوا إلى التعليم ثم لا يشتغلوا بالتعليم. فقل لهم: قد دعوتموني
إلى التعليم فأستجيب فعلموني ما عندكم، فقال: ما أراهم يزيدونني على هذا شيئًا،
قلت: فإني قائل أيضًا بالتعليم وبالإمام وببطلان الرأي والقياس، وأنا أزيدك على
هذا؛ لو أطقت ترك التقليد تعليم غرائب العلوم وأسرار القرآن، فأستخرج لك منه
مفاتيح العلوم كلها؛ كما استخرجت منه موازين العلوم كلها، على ما أشرت إلى
كيفية انشعاب العلوم كلها منه في كتاب جواهر القرآن. لكني لست أدعو إلى إمام
سوى محمد صلى الله عليه وسلم، ولا إلى كتاب سوى القرآن، فمنه أستخرج
جميع أسرار العلوم، وبرهاني على ذلك لساني وبياني، وعليك إن شككت تجريبي
وامتحاني، أفتراني أَوْلى بأن يتعلم مني من رفقائك أم لا؟ اهـ المراد منه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تابع ما نشر في (ص 601) من المجلد الحادي عشر.
(2) يريد العلم بأصول العقائد والأحكام ومذاهب الخلاف فيها.
(3) ليس هذا أمرًا بالتقليد الذي أبطله سابقًا ولاحقًا، وإنما هو أمر بنوع من الاجتهاد لشخص لا يكاد يوجد على فرض وجوده، فقد أمره أولاً أن يجتهد في نفسه ثم في الأئمة الذين أشتبه في أي أقوالهم في تلك المسائل أرجح، وأن يأخذ بقول من رأى قوله أصوب، ولا يكون ذلك إلا بعد النظر في دليله غاية الأمر أن اجتهاده لا يكون مطلقًا بل منتسبًا إلى من رجح دليله.
(4) المنار: رواه البيهقي في الشعب والبزار في مسنده هكذا (أكثر أهل الجنة البله) وهو ضعيف.(12/641)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
النسخ وأخبار الآحاد
وعَدنا في الجزء السابع بأن نبين رأينا في المناظرة التي دارت في المنار بين
الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي والشيخ صالح اليافعي، ورجونا أن يكون ذلك
في الجزء التاسع، (وكتب " السابع " غلطًا وصححناه في الجزء الثامن على أنه
غلط بديهي؛ إذ هو في الجزء السابع) . وقد عرض لنا من كثرة المواد ومن
الشواغل ما حال دون تحقق الرجاء بالتفصيل الذي كنا نريده، فرأينا أن نقول الآن
كلمة مجملة ونرجئ التفصيل المراد إلى جزء آخر، فتكون كلمتنا هذه كحكم
المحكمة بدون ذكر الأسباب التي يسمونها الحيثيات، وكلمتنا الموعود بها كبيان
حيثيات الحكم فنقول:
النسخ
قد سبق لنا القول بأن النسخ المصطلح عليه الذي هو محل النزاع، لم يرد به
نص في القرآن ولا في الحديث المرفوع، يعلم منه أن آية كذا أو حديث كذا قد نسخ
وبطل معناه أو ترك لفظه أو اللفظ والمعنى جميعًا، وما أورده اليافعي في تفسير
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (البقرة: 106) ليس نصًّا ولا ظاهرًا فيها بل الظاهر ما قاله
الأستاذ الإمام وجرى عليه الدكتور صدقي، ولكن الأستاذ كان يرى أن الظاهر في قوله
تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} (النحل: 101) في آيات القرآن خلافًا لما
قاله الدكتور فيها، وهي ليست نصًّا قاطعًا في هذا ولا ذاك، وقد ورد في كلام
الصحابة والتابعين وأئمة الفقه ما يدل على أن للنسخ الاصطلاحي أصلاً , ولكنه كما
قال اليافعي في بعض المواضع: إنه أعم من النسخ الذي عليه الأصوليون.
وإن نسخ حكم في الشريعة بحكم آخر هو كنسخ شريعة بشريعة أخرى معقول
المعنى، موافق لحكمة التشريع في انطباقها على مصالح الناس التي تختلف
باختلاف الزمان والأحوال، لا شبهة فيه على أصل الدين , وإن أكثر ما قاله العلماء
في نسخ أحكام القرآن بديهي البطلان، وما هو محل نظر منها قد جعله السيوطي
عشرين وغيره سبعًا، والصواب أنه لا يوجد في القرآن آيتان لا يتفق معنى
إحداهما مع معنى الأخرى، بحيث يقطع بالتعارض الذي لا يمكن التفصي منه إلا
بحمل إحداهما على النسخ المعروف عند الأصوليين. أما النسخ بالمعنى الذي يعم
التخصيص والتقييد وبيان المجمل فهو واقع في القرآن ونقول به.
وأما نسخ التلاوة فلم تظهر لنا حكمته، ولم يأت اليافعي ولا مَن قبله مِن
العلماء الذين اطلعنا على أقوالهم بحكمة مقنعة لمن كان مستقلاًّ في فهمه غير مقلد
فيه، لا سيما نسخ اللفظ مع بقاء حكمه.
وأما الدليل على وقوع ذلك فهو بعض الروايات عن الصحابة، وهي وإن
صحح مثل البخاري أسانيدها محل إشكال في متنها كأحاديث أخرى في الصحيحين
وغيرها، منها نص علماء هذا الشأن على عدها مشكلات وعدم الاهتداء إلى حل
معقول لها إلا الجزم بغلط الرواة فيها؛ كحديث شريك في المعراج عند البخاري،
وحديث (خلق الله التربة يوم السبت) الذي رفعه مسلم وغيرهما. وسنشير إلى
غير هذين الحديثين مما هو مشكل في الصحيحين قريبًا.
أحاديث الآحاد والدين
إن كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قول أو فعل أو
تقرير، يتعلق بأمر الدين على أنه منه فهو حجة على من ثبت عنده، يجب عليه
الإذعان لما يدل عليه، ولا يقال: إن شيئًا منه خاص بوقت دون وقت، أو قوم
دون قوم، أو شخص دون شخص من المكلفين إلا بدليل يُثْبِت ذلك. فإن عارض
هذا الحديث بعد ثبوته آية من القرآن أو حديث آخر أو دليل حسي أو عقلي، كان
الحكم في ذلك لما تقتضيه قواعد التعادل والترجيح والجمع والتأويل، وهي معروفة
في مواضعها. وقد قال المحدثون: إن من علامة كون الحديث موضوعًا؛ مخالفته
لنص القرآن، والمسائل القطعية في الدين، واليقينيات الحسية والعقلية. هذا إذا
كان الجمع بينه وبين القطعي أو التأويل متعذرًا.
ولم يقل أحد من سلف الأمة وأئمة الفقه: إن معرفة الدين تتوقف على
الإحاطة بجميع ما رواه المحدثون من الأحاديث ولا بأكثرها، ولم يكن الأئمة
الأربعة الذين يتبعهم أكثر المسلمين في الأحكام العملية مطَّلعين على ذلك كله، لا
سيما الإمام أبو حنيفة الذي لم يرحل في طلب الحديث للقاء الرواة المنتشرين في
بلاد الإسلام، ولم يكن الحديث مدونًا في الأسفار فيأخذه منها، وهو مع ذلك معترف
بإمامته واجتهاده عند أتباعه وغيرهم من أهل السنة. فما جرى عليه سلف الأمة
وخلَفها هو أن من بلغه حديث وثبت عنده، وجب عليه العمل به، ومن خالف
بعض الأحاديث لعدم ثبوتها عنده أو لعدم العلم بها فهو معذور، فالعمدة في الدين
كتاب الله تعالى في المرتبة الأولى والسنن العملية المتفق عليها في المرتبة الثانية،
وما ثبت من السنن وأحاديث الآحاد المختلف فيها رواية أو دلالة في الدرجة الثالثة،
ومن عمل بالمتفق عليه كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مقربًا عند الله تعالى، كما نرى
بيان ذلك في ترجمة الإمام الغزالي من هذا الجزء.
أحاديث الآحاد تفيد اليقين أم الظن
ذكرت هذه المسألة أكثر من مرة في المنار، وقد حققنا في تفسير قوله تعالى:
{فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} (آل عمران: 173) أن للظن إطلاقين: أحدهما اعتقاد أن هذا
الشيء ثابت، وأنه يحتمل احتمالاً ضعيفًا أن لا يكون ثابتًا , وهذا هو الظن الذي جاء
في القرآن أنه {لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: 36) . ثانيهما اعتقاد أن هذا
الشيء ثابت مع عدم ملاحظة الطرف المخالف. ولكن من غير برهان على منع
الطرف المخالف، وهذا قد يسمى في اللغة والشرع يقينًا وعلمًا. ولكنه لا يسمى
يقينًا عند علماء المنطق والكلام والفلسفة لأنهم يطلقون اليقين على مرتبة أعلى من
هذه المرتبة في العلم؛ وهي ثبوت الشيء بالبرهان، وثبوت امتناع مقابله. وراجع
التفصيل في التفسير (1 ص 898 م 11) .
فيُعلم مما حققناه أن بعض أخبار الآحاد يفيد العلم واليقين لغة وشرعًا وعادة،
وبعضها لا يفيد ذلك. ولكن لا يفيد شيء منها العلم البرهاني واليقين المنطقي،
والدكتور توفيق صدقي لا ينكر أن له من الأصحاب من لو أخبره بشيء يصدقه
ويطمئن قلبه لخبره، فلا يشك ولا يتردد فيه، كما أنه يصدق المؤذن في دخول
وقت الصلاة والفطر في هذه الأيام، لا يشك فيه ولا يتريث في العمل به. فهل هو
في هذا عامل بالظن الذي ذمه القرآن؟ لا لا. وقد صرح الأستاذ الإمام في الدرس
بأن الصحابة والتابعين كانوا موقنين بصدق الأحاديث التي عملوا بها عندما
سمعوها ممن رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يعقل أن يحدث مثل
الصديق أحدًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ويتردد السامع في صدقه.
ولا شك في أن كثيرًا من الأحاديث المروية في دواوين المحدثين المشهورة
تفيد هذا النوع من العلم واليقين، ولا يعقل أن يكون كل ما رواه المسلمون عن
النبي صلى الله عليه وسلم غير موثوق به؛ بل لا يعقل أن تكون أكثر روايات
التاريخ التي اتفق عليها المؤرخون كاذبة، فكيف يكون أكثر ما رواه المحدثون
واتفقوا على تصحيحه كاذبًا؛ وهم أشد تحريًا وضبطًا من المؤرخين. واحتمال خطأِ
بعض الرواة العدول ووقوع ذلك من بعضهم لا يمنع الثقة بكل ما يروونه. كما أن
مجرد تعديل المحدثين لهم، لا يقتضي قبول كل ما رووه بغير بحث ولا تمحيص.
فالجامعان الصحيحان البخاري ومسلم هما أصح كتب الحديث متنًا وسندًا؛
لشدة تحري الشيخين فيهما - رضي الله عنهما وجزاهما خيرًا - ومع هذا لم يتلقهما
المحدثون بالقبول تقليدًا لهما وثقة مجردة بهما، بل بحثوا ومحصوا وجرحوا بعض
رواتهما، وبينوا غلط بعض متونهما؛ كتغليط مسلم وغيره لرواية شريك عند
البخاري في حديث المعراج، وتغليطهم لمسلم في حديث خلق الله التربة يوم السبت
(وتقدم ذكرهما) وفي حديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وثلاث سجودات،
وفي حديث طلب أبي سفيان بعد إسلامه أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أُمَّ
حبيبة ويتخذ معاوية كاتبًا.
ومن دقق النظر في تاريخ رجال الصحيحين ورواية الشيخين عن المجروحين
منهم، يرى أكثرها في المتابعات التي يراد بها التقوية دون الأصول التي هي العمدة
في الاحتجاج. ثم إذا دقق النظر فيما أنكروه عليهما مما صححاه من الأحاديث،
يجد أن أقوالهما في لغالب أرجح من أقوال المنازعين لهما لا سيما البخاري، فإنه
أدق المحدثين في التصحيح. ولكنه ليس معصومًا من الغلط والخطأِ في الجرح
والتعديل.
وجملة القول في الصحيحين أن أكثر رواياتهما متفق عليها عند علماء الحديث
لا مجال للنزاع في متونها ولا في أسانيدها، والقليل منها مختلف فيه، وما من إمام
من أئمة الفقه إلا وهو مخالف لكثير منها. فإذا جاز رد الرواية التي صح سندها في
صلاة الكسوف؛ لمخالفتها لما جرى عليه العمل، وجاز ردُّ رواية خلق الله التربة
يوم السبت ... إلخ؛ لمخالفتها للآيات الناطقة بخلق السموات والأرض في ستة أيام
وللروايات الموافقة لذلك، فأَوْلى وأظهر أن يجوز ردُّ الروايات التي تتخذ شبهة
على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع شيء منه (كالروايات في نسخ
التلاوة) ، لا سيما لمن لم يجد لها تخريجًا يدفع الشبهة كالدكتور محمد توفيق صدقي
وأمثاله كثيرون.
ومثلها الرواية في سحر بعض اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم، ردها
الأستاذ الإمام، ولم يعجبه شيء مما قالوه في تأويلها؛ لأن نفس النبي صلى الله
عليه وسلم أعلى وأقوى من أن يكون لمن دونه تأثير فيها؛ ولأنها مؤيِّدة لقول الكفار:
{وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: 8) وهو ما كذبهم
الله فيه بقوله بعده: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الإسراء: 48) .
ومثل هذا وذاك ما خالف الواقع المشاهد؛ كرواية السؤال عن الشمس أين
تذهب بعد الغروب؟ والجواب عنه بأنها تذهب فتسجد تحت العرش وتستأذن الله
تعالى بالطلوع ... إلخ وقد سألنا عنه بعض أهل العلم من تونس ولما نجب عنه؛
لأننا لم نجد جوابًا مقنعًا للمستقل في الفهم. فالشمس طالعة في كل وقت لا تغيب
عن الأرض طرفة عين كما هو معلوم بالمشاهدة علمًا قطعيًّا لا شبهة فيه. فإذا قلنا:
إنها يصدق عليها مع ذلك أنها ساجدة تحت العرش؛ لأنها خاضعة لمشيئة الله تعالى؛
ولأن كل مخلوق هو تحت عرش الرحمن؛ إن لم تكن التحتية فيه حسية؛ لأن
الجهات أمور نسبية لا حقيقية فهي معنوية , إذا قلنا هذا أو إنه تمثيل لخضوعها في
طلوعها وغروبها وهو أقرب، فهل ينطبق على السؤال والجواب انطباقًا ظاهرًا لا
مراء فيه؟ اللهم لا. ولكن هذا النوع من الحديث على ندرته في الصحيح، قد
يخرج بعضه على أنه من باب الرأي في أمور العالم، والأنبياء لا تتوقف صحة
دعوتهم ونبوتهم على العلم بأمور المخلوقات على حقيقتها، ولم يقل أئمة الدين: إنهم
معصومون فيها، كما يدل عليه الحديث الصحيح في تأبير النخل. ولكن يستثنى
الإخبار عن عالم الغيب، فهم معصومون فيه.
أما الأحاديث المخالفة للقرآن في خبره أو معناه أو أي نوع من أنواع المخالفة
الحقيقية، فلا يمكن أن تكون صحيحة في الواقع، وإن وثَّق المحدثون رجالَ
أسانيدِها. ولكن يجب التدقيق في ذلك قبل الحكم به، فما رآه الدكتور محمد توفيق
صدقي من أن تحريم الأكل والشرب في أواني النقدين مخالف لآية إباحة الزينة
والطيبات، هو في غير محله؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم استنبط ذلك من قوله
تعالى في الآية التي قبل آية الزينة: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
المُسْرِفِينَ} (الأعراف: 31) فالأكل والشرب في أواني النقدين إسراف عظيم،
لا سيما بالنسبة إلى المسلمين في ذلك الزمان.
وكذلك تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، أخذه صلى الله عليه وسلم
من تحريم الجمع بين الأختين؛ لأن العلة فيهما واحدة، وكما أن تحريم الخمر التي
كانت في زمن التنزيل، يتضمن تحريم كل مسكر يستحدثه الناس إلى يوم القيامة.
كذلك يتضمن تحريم الجمع بين الأختين تحريم ما في معناه؛ كالجمع بين العمة
وبنت أخيها، فقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء: 24) لا يتناول
الجمع بينهما، على هذا فالحديث ليس مخالفًا له. ولكن الجمهور يعدونه مخصصًّا
للآية، وتخصيص السنة للقرآن جائز وواقع، فإن سماه بعضهم نسخًا فلا نعارضه
في التسمية، ونحن موافقون له في المعنى.
النبي صلى الله عليه وسلم مبين للقرآن بقوله وفعله، ويدخل في البيان
التفصيل والتخصيص والتقييد. ولكن لا يدخل فيه إبطال حكم من أحكامه، أو
نقض خبر من أخباره؛ ولذلك كان التحقيق أن السنة لا تنسخ القرآن. ثم إنه صلى
الله عليه وسلم شارع بإذن الله؛ ولذلك قال عندما سئل عن بعض المسائل: (لو قلت
نعم لوجبت) . ومن ذلك أنه حرم ما بين لابتي المدينة فجعلها كحرم مكة؛ لا يحل
صيدها، ولا يقطع شجرها، ولا يختلى خلاها. والحديث في الصحيحين وغيرهما،
وليس ناقضًا لشيء من القرآن ولا مخالفًا له. ومما يدل على أنه حرَّم المدينة من
قبل نفسه؛ أي: بغير وحي خاص أن العباس قال له: (إلا الإذخر) ، فقال: (إلا
الإذخر) فاستثنى الإذخر من قوله: لا يختلى خلاها. وهو نبات عطر لحاجتهم إلى
قطعه بمجرد طلب العباس. ولكن هذا النوع من التشريع قليل جدًّا وهو مختلف فيه،
وقيل: إن الله أعطاه ذلك. وقيل: لا. وليس هذا القول المجمل مما يتسع لتحقيق
ذلك.
هذا وإنَّ للإسلام أصولاً ومقاصد لا بد لكل مسلم منها؛ كالتوحيد وأركان
الإيمان وهي: الإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر والقدر , وهي
اعتقادات، وأركان الإسلام الخمسة , وهي أعمال بدنية، وأركان الأدب التي تجمعها
كلمة التقوى، واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق،
وكل ذلك مبين في القرآن والسنة العملية. فهذا ما يجب على كل مسلم أن يعلمه
ويعمل به.
وأما الأحاديث التي لم يجر عليها عمل جماعة المسلمين والسواد الأعظم من
أهل الصدر الأول، ولا كتبها الراشدون ولا غيرهم من الصحابة، ولا دعوا إليها
وإنما انفرد بها بعض الذين صرفوا همتهم إلى جمع الروايات، وحفظ الأخبار
والآثار، ففيها تفصيل ملخصه أنه لا يجب على كل مكلف البحث عنها. ولكن في
معرفتها مزيد علم، ومن عرف شيئًا منها وصح عنده متنًا وسندًا بلا معارض أقوى
منه، وجب عليه أن يقبله ويهتدي به.
نكتفي بهذه العجالة الآن، بل هي قد جاءت أطول مما كنا نبغي، ومتى
سنحت الفرصة نعود إلى بعض هذه المسائل بالبيان والتفصيل، وإلى غيرها مما
دار عليه كلام المتناظرين، وما لم يَدُر عليه مما يتعلق بالمقام؛ ككراهية النبي صلى
الله عليه وسلم لكثرة السؤال؛ لئلا تكثر التكاليف، واستلزام ذلك لكراهية أن يعلم
جميع الناس بما يجاب به بعض السائلين، ويكلفوا العمل به كما كلف السائل ذلك
لحاجته إليه أو عدم استلزامه , وما جرى عليه الصحابة في السكوت على ما يعلمون
من ذلك حتى يسألوا عنه، وانفراد الكثيرين منهم بالحديث الواحد، وقلة ما رواه
الجم الغفير. ولا نضرب لذلك موعدًا معينًا؛ لئلا نصد عن الوفاء به والله الموفق.
__________(12/693)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الانقلاب العثماني الميمون
(لاهور في 19 أغسطس 1909)
حضرة العلامة الحكيم السيد محمد رشيد رضا أدام الله فضلكم ونفعنا بعلومكم
آمين.
أما بعد السلام والاحترام، لا أستطيع أن أفي بحق شكركم على ما أبديتم من
اللطف في نشر مقالتي والرد عليها ردًّا مسهبًا، وسأنشر ترجمة ردكم هذا في
جريدتى تمامًا، إن شاء الله تعالى.
ولا أكتب بعد ذلك في هذا الأمر شيئًا بقصد استطلاع الآراء، بل نترك للدهر
يقضي كيف يشاء، فإنه خير قاض، ولكني أرى بنفسي أن الذين هم اليوم أعداء
لعبد الحميد مثل: شوكت باشا والغازي مختار باشا وغيرهم، يحسون عاجلاً
بضرورة رجوعهم إلى عبد الحميد؛ إن لم تأخذهم الحمية حمية الجاهلية، وسلكوا
مسلك الإنصاف والسداد.
وأما أمر التحاشي من نشر ردكم الأول فكنت على الصواب فيه؛ لأنه صدق
ظني حين نشرته جريدة (علي كده أنستي تيوت غازت) فاستاء منه العالم
الإسلامي الهندي أشد الاستياء، حتى اضطر محرر هذه الجريدة لتقديم الاستقالة من
خدمته في أواخر شهر يونيو الخالي؛ وساءت سمعة مجلة المنار أيضًا؛ فرأيت أن
أدافع عن المجلة، ونشرت ردكم في جريدتي مع جوابي الذي أرسلته إليكم بعد
التعريب كما نشرتموه في العدد السادس من مجلة المنار الأغر؛ ولقد أثر ذلك الأمر
تأثيرًا حسنًا في تسكين ثائرة نفوس المسلمين الهنديين، وإطفاء ثائرة غيظهم على
(المنار) .
وليكن في علم حضرتكم أن الجرائد التي وافقت آراءكم من مائة جريدة
إسلامية في الهند لا يربو عددها على اثنتين فقط؛ إحداهما جريدة (علي كده أنستي
تيوت غازت) ، والأخرى جريدة (وكيل) (أمر تسر) فما الذي جرى للأولى؟
هو أن النواب وقارالملك ناظر الكلية الإسلامية في (علي كده) طلب من المحرر
أن يصلح آراءه، ويكتب ردًّا لأقوال مجلة المنار، ولكنه أبى الرد واستقال من
وظيفته؛ ورد أقواله حضرة النواب المشار إليه في الأعداد التالية من الجريدة،
واضطر إلى التسليم بأن عبد الحميد هو (عبد الحميد الأعظم) لا محالة؛ وقد
ندمت جريدة (وكيل) أيضًا من سلوكها ذلك المسلك الصعب المخالف للرأي العام
لمسلمي الهند، واعتذرت عما فرط منها.
وظنكم أن آراء جريدة (وطن) موافقة لقرائها، وهم عدد قليل في الملايين
من مسلمي الهند فليس في محله؛ لأن شيوع هذه الجريدة في الأقطار الهندية
وإشاعتها أكثر بكثير من جميع الجرائد الإسلامية الهندية، فإن جريدة (علي كده)
جميع إشاعتها خمسمائة في الأسبوع، وجريدة (وكيل) إشاعتها ألف وخمسمائة؛
وبقية الجرائد الإسلامية لا تزيد إشاعتها عن الألف ألبتة , ولكن جريدة (وطن)
إشاعتها الآن خمسة آلاف وثلاثمائة في كل أسبوع , ولا ريب في أن قراءه لا
يكونون أقل من خمسين أو ستين ألف رجل من المسلمين، بل ربما يكونون مائة
ألف أو يزيدون، ولا يخفى على حضرتكم أن جريدة (وطن) تجد مشتركين
معاونين لها في كل مكان فيه عدد ولو قليل من المسلمين الذين يعلمون لسان
(الأردو) مثل إفريقيا الجنوبية والمشرقية، وأمريكا الشمالية والجنوبية،
وجزائر غرب الهند، والصين، وإستراليا، وزنجبار، وتونس، وطرابلس
الغرب، ونيجريا، وملايا، وسومترا، وتركستان، وعرب (?) وبغداد
وغيرها من البلاد النائية الأطراف من العالم الإسلامي. فإن جريدة (وطن) لتصل
إلى كل هذه البلاد دائمًا، وإنكم تعلمون أن وظيفة الجريدة ليست هي هداية قرائها
إلى جادة الصواب فقط، بل إنها يجب أن تكون مرآة ترى فيها آراء الأمة والقراء
جميعًا. وتكون مظهرة لميلاتهم (?) وإني أقول بكل الثقة: إن آراء جريدة (وطن)
في هذه المعاملة مطابقة لآراء قرائها وآراء الجمهور من المسلمين ولا عبرة
للشواذ.
وأما قولكم بجهل مسلمي الهند بالحقائق في أول الأمر، واقتناع منصفهم بعد
ما ظهر لهم من الحق بواسطة نشر الحقائق في الجرائد التركية والعربية، حتى
تتعجبون من إصراري على ما كنت عليه، فالمطلوب من حضرتكم إمعان النظر
في مكالمة مراسل جريدة (باونير) الإنكليزية (التي تصدر في بلدة إله آباد بالهند)
مع محمود شوكت باشا، وقد أدرجت هذه المقالة بعددها الصادر في 13 أغسطس
سنة 1909، فاعترف شوكت باشا بأنه ليس عنده الرجال الأكفاء ذوو سطوة
واقتدار، حتى يقدر على حفظ السلطنة من التورط في الهلاك والخراب.
وإننا مسلمي الهند مع وقوفنا على كون العهد الحميدي محفوفًا بالأخطار
ومملوءًا من السيئات، لا نلقي تبعة هذه المفاسد على عبد الحميد وحده كما تلقون
حضرتكم، بل ننسبها إلى جهل الملة وخمولها، ونعلم أن عبد الحميد سعى جهد
طاقته في تخفيف ذلك الجهل والخمول (! !)
وإني لا أدعي الأولية في كتابة ذم عبد الحميد وعماله على جميع جرائد العالم
بل قصدي أنه أول من كتب بهذه الصراحة في الجرائد الإسلامية الهندية لا غير
وهذا صحيح لا ريب فيه، وقلتم: إن الاختلاف في مشروع السكة الحجازية لم يكن
من جهة السلطان السابق، فإني لا أسلمه؛ لأن عندي كتبًا خصوصية من أصدقائي
في الآستانة وهم يكتبون أن الجرائد التركية حظرت عليهن الحكومة ذكر مشروع
سكة بغداد والحجاز، وسبب نشر آرائي في جريدة المعلومات العربية؛ هو قلة
انتشارها في المملكة العثمانية، وإن لم أنس فأذكر أن الذين كتبوا منهم صديقكم
وصديقى السيد عبد الحميد الزهراوي أيضًا.
والمؤرخون الذين ينحازون إلى أحد الطرفين، لا يعد قولهم صحيحًا، بل
العبرة بما قاله مؤرخة أولي الدراية في الأزمنة التالية، وكذلك الذين ليس لهم علاقة
بأحد من الفريقين المتخاصمين، وأنا كما تعلمون ليس لي واسطة بعبد الحميد ولا
بتركيا الفتاة، بل كل ما أقصده هو خير الدولة العلية وسلامتها، حفظها الله ووقاها
من جميع الآفات والمهلكات، آمين.
وعجبت من احتجاجكم باعترافي أن الوسائل الأصلية لترقية المملكة العثمانية
لم توجد في عهد عبد الحميد ... إلخ (فأقول لكم بكل أدب: إن فيلسوفًا مثلكم لا
يلزم أن يكون ناسيًا الفرق بين الترقية وبين حفظ مركز السلطنة وسد الخلل،
ومقصودي هو أن عبد الحميد لا يجب أن نأخذه بجريرة أسلافه ونترك ما أصلحه
هو ولا نشكره عليه، فإن العقل لا يسلم لأحد أن لا يكون فيه حسنة غير السيئات؛
ولذلك لا يخلو عبد الحميد أيضًا من حسنات، ويشهد على حسناته ما كتبته جرائد
مصر العربية وجرائد أوروبا في أكثر الأوقات في أعمدتهن من مدائحه وإصلاحات
عصره بالصراحة التامة، والتاريخ يحفظ ذكرها.
وأما مدحت باشا فإنه عزل من منصب الصدارة في سنة 1822 ونفي. ولكن
القوم لم يكترثوا لحالته، وبعد ذلك لما عين واليًا على عدة ولايات؛ فلم يكن سببه
خوف عبد الحميد منه أو من جماعته، بل رأى ذلك السلطان العظيم أن يستفيد من
أهلية الرجل وكفاءته في إصلاح شؤون المملكة، وما كان سبب العزل والنفي
لمدحت باشا؛ إلا قلة مواليه ومشاركيه في حب الدستور (!) .
أنكرتم عليّ قولي: إن حكم النبي صلى الله عليه وسلم والصديق والفاروق
- رضي الله عنهم - وغيرهم من الخلفاء الراشدين كان مطلقًا، وأوجبتم عليّ أن
أستغفر الله من هفوتي هذه، فأعوذ بالله وأستغفره من كل ذنب وأتوب إليه، وبعد
ذلك أسألكم: إن ضمير (هم) في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل
عمران: 159) هل مرجعه جميع أفراد الملة الإسلامية أو بعض سراتها وذوي
الرأي منها؟ إن كان المقصود منه ذوي الرأي من سادات القوم ووجهائهم، فلم
تنسون مجلس شورى الدولة الذي كان موجودًا في عهد عبد الحميد إلى آخر أيامه،
وأعضاؤه من أهل الخبرة والجاه والسياسة وسراة الأمة؟ ؟ وإن كان الضمير راجعًا
إلى كل فرد من أفراد الأمة، فمتى حصلت الاستشارة لجميعهم، وكيف السبيل إلى
حصولها أيضًا؟
هل كان صلح موقع الحديبية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقتال أهل
الردة والممتنعين من أداء الصدقات، وتزحيف جيش أسامة - رضي الله عنه -،
وعدم مؤاخذة خالد بن الوليد - رضي الله عنه -، من أعمال الصديق - رضي الله
عنه - كل هذه الأمور بمشورة القوم وغير مناقض لأراء الجمهور من الصحابة
- رضي الله عنهم - ? ومتى أظهر المسلمون رضاهم من عزل خالد - رضي الله
عنه - حينما عزله الفاروق - رضي الله عنه -؛ لأن الجمهور كانوا يحبونه
ويفضلون أن يكون هو قائدًا عليهم ? وإن كانت هذه الأمور بالاستشارة، فالمرجو
من كرمكم أن أفيدوني بإعلامها، واذكروا لي أسماء الصحابة الذين استشيروا في
تلك الأمور.
وعلمت اطلاع عبد الحميد على النوايا السيئة للغازي مختار باشا إليه من نشر
تقارير الجواسيس في جرائد الآستانة في هذه الأيام. وظهر أنه كان عالمًا بسوء نية
الرجل، وإنعامه عليه وإكرامه كان بسبب لطفه الطبيعي وحسن سياسته في تأليف
قلوب النافرين منه بواسطة المال والإكرام (!) .
إنكم تقولون: إني عاشق لعبد الحميد , ولا أعرف الحقيقة التي عرفتها
الأرض والسماء من أنه كان السفاك المبيح للدماء وقاتل الأبرياء وغيره. فقولكم
هذا لا يعتد به من غير بينة. وإن الجرائد التركية مع كونهن تجاوزن حد الآداب
في ذم عبد الحميد، لم تستطعن أن تثبتن شيئًا حقيقيًّا من التهم الموجهة إليه في أمر
إفساد الدستور وشركته في الحركة الارتجاعية يوم 13 إبريل الماضي؛ غير
الظنون والشكوك، فإن العاقل لا يعبأ بها , ومن الذي لا يعلم أن جرائد أوروبا لم
تكن لتقصر في إذاعة سيئات عبد الحميد ومظالمه لو وجدن إليه سبيلاً. والحمد لله
خابت آمالُهنَّ من هذا القبيل، ولم تستطع جريدة من جرائد أوروبا أن تكتب كلمة
واحدة تدل دلالة صريحة على شركة عبد الحميد في الحادثة الارتجاعية. ولكنكم
تضربون على هذه النغمة عبثًا، وتحاولون إقناعي بمثل هذه الخزعبلات (!) .
ومعصيتي الكبيرة التي جنيتها في زعمكم هي قولي الحق في شأن مولانا
السلطان محمد خان الخامس - أدام الله ملكه وسلطنته - إنه كآلة صماء في يد
جماعة (ودعوتموني إلى التوبة من هذه المعصية. ولكن ما تقولون في إشاعات
جمعية الاتحاد والترقي وأقوال شوكت باشا نفسه؛ بأنه لم يترك حول جلالته أحدًا
من أنصار عهد القديم، لا من رجال المعية، ولا من الخدم والحشم، حتى لم
يتركوا حوله من خُدَّامه القدماء أحدًا , وقد قاله شوكت باشا في مكالمته مع مراسل
جريدة باونير المذكور سابقًا في هذا المكتوب) .
وبالجملة فإني أتعجب من شدتكم في أمر عبد الحميد وسبكم له، مع كونكم من
العلماء الأعلام وحكماء الإسلام. يغفر الله زلتكم هذه ويهديكم سبيل الرشاد؛ لأن
السبَّ والشتم ليس من شيم الكرام , والسلام.
ولا أبغي نشر مكتوبي هذا في المجلة، ولا أكلفكم الرد عليه بغير رضاكم؛
لأني علمت من الردَّين ما قد كفاني , وإني عرضت عليكم بعض ما جال في
خاطري عند قراءة ردكم , وخفت أن لو أكتب في جوابه شيئًا فيطول الكلام؛ لذلك
اكتفيت بعض الأمور التي يجب اطلاع قرائكم عليه، فإن رأيتم من المناسب نشره
نشرتموه وإلا فلا , فأطلب منكم العفو من تكليفكم مرتين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد إنشاء الله
... ... ... ... ... ... ... محرر ومدير جريدة (وطن)
... ... ... ... ... ... ببلدة لاهور (بنجاب - الهند)
(جواب المنار)
إن هذه الرسالة تشعر بإخلاص صديقنا فيما كتبه أولاً وآخرًا في مسألة
الانقلاب في الدولة؛ لنشره بعض ردنا، ووعده بنشر الباقي , وهذا هو ظننا فيه
الذي بيناه في ردنا عليه من قبل؛ خلافًا للجرائد التركية والعربية التي جعلته من
صنف (الارتجاعيين) الذين يتبعون الهوى في نصر عبد الحميد؛ حبًّا في ماله
ورتبه وأوسمته , وقد أوسعته تلك الجرائد ذمًّا وتوبيخًا وتهكمًا، وهي مخطئة في
ذلك كما أنه هو مخطئ في اجتهاده، ولذلك لم ننوه بشيء مما كتبوا، وإن أثنت
علينا الجرائد التركية فيه، وأرسل إلينا بعضه من الآستانة معلمًا عليه بالحبر
الأزرق. ونقول لأولئك الكتاب: إن صاحب جريدة الوطن ربما كان أشد إخلاصًا
للدولة من أكثر الجرائد العثمانية التي تلعن اليوم الاستبداد وسلطانه، وتطري
الدستور وأعوانه، وسيرون إن شاء الله من محمد إنشاء الله خير نصير للدولة
الدستورية، لا سيما بعد الاقتناع القريب بسوء عاقبة السياسة الحميدية، ثم إننا
نجيب مناظرنا عن شبهاته في هذه الرسالة بما يأتى بالاختصار:
(1) إن قراء الجرائد في الهند معذورون في إساءة الظن في المنار؛ لما
كتب ما يخالف آراءهم وأهواءهم وجرائدهم التي استمدوا منها تلك الآراء والأهواء
في السياسة الحميدية. وقد علمت أن أكثر المستائين يظنون أننا كنا نمدح عبد
الحميد وسياسته في عهده، فلما خلع انقلبنا عليه ذامين قادحين، وظنهم هذا من
الإثم والحكم علينا بغير علم؛ ولذلك نظن أن قراء المنار لم يتهمونا بمثل ما اتهمنا
به غيرهم؛ لأنهم يعلمون أننا لم نكن نحسن الظن في السلطان عبد الحميد بعض
الشيء، ونلتمس له بعض العذر إلا في السنة الأولى من سني المنار؛ لأن استبداده
لم يكن قد بلغ غايته؛ ولقرب عهدنا يومئذ ببلادنا المحجوبة عنها الحقائق،
والمملوءة بالنفاق والمدح الكاذب. وقد كان المنار بعد ذلك يتميز غيظًا من سوء تلك
الحال، ويشكو منها بالأساليب المختلفة من الأقوال، ومن أوضحها مقالة (حال
المسلمين في العالمين، ودعوة العلماء إلى نصيحة السلاطين) وما يتبعها من
المقالات التي نشرناها في المجلد التاسع، ودعونا فيها علماء الإسلام في مصر
والهند وتونس إلى مطالبة السلطان عبد الحميد بالعدل والإصلاح، ولولا أننا أنشأنا
جمعية سياسية سرية لمجاهدة استبداد عبد الحميد، وجعلنا لها جريدة خاصة
سميناها باسمها (الشورى العثمانية) ، وكنا نعزز الجريدة بمنشورات سرية يوزعها
عمال مخصوصون في الآستانة والرؤملي والأناطول بنفقة من الجمعية، لما
رضينا بذلك التنديد الإجمالى في المنار، وقد نوهنا بذلك في فاتحة هذه السنة.
ومن كان في شك من مجاهدتنا لعبد الحميد في عهد استبداده بأشد مما كتبناه
في المنار بعد خلعه، وهو نفسه يعلم ذلك ولا يشك فيه؛ فليطلب منا بعض أعداد
جريدة جمعيتنا؛ ليعلم أننا لسنا كأصحاب تلك الجرائد العثمانية التي كانت تسبّح اسم
عبد الحميد بكرة وأصيلاً راضية أو كارهة، ثم صارت تلعنه كذلك , ولو كان
المنار كتلك الجرائد وصاحبه كأصحابها، لما خربت الحكومة بيت أبيه، ونكلت
بأهله ومحبيه، ولولا أنه مخلص في جهاده الاستبداد الحميدي لما احتمل ذلك العذاب،
والبلاء في الأموال والأنفس والأوقاف، ورغب عن العطايا والرتب التي
عرضت عليه؛ ليكون من المادحين لعبد الحميد، وإننا ننشر في هذا الجزء ما
نشرته الحكومة الحميدية في جريدة بيروت الرسمية من اتهامنا واتهام بعض إخوتنا
وأصحابنا بالجناية والأمر بالقبض علينا أحياء أو ميتين. ونرجو من صديقنا أن
يترجمه وينشره مع هذا الرد في جريدته؛ ليقرأه من لا يعرف العربية من إخواننا
مسلمي الهند.
(2) إننا نعجب لظن صديقنا المناظر لنا بعد أن بينا له الحقائق؛ أن مثل
مختار باشا وشوكت باشا سيظهر لهما على عداوتهما لعبد الحميد ضرورة الرجوع
إليه! ! يالله العجب! أيظن صاحبنا أنه أعلم بعبد الحميد منهما وممن على رأيهما
من خيار رجال الدولة، حتى يظهر لهم أنهم هم المخطئون فيكون هو المصيب في
غلوه في إطراء عبد الحميد! ! أيسمح لي صديقى الفاضل أن أسمي هذا الظنَّ
غرورًا مبينًا مع احترامه وحفظ مقامه! هل أعيد له القول البديهي أنهم يعرفون
جميع عُجَره وبُجَره الخفية والجلية، وجميع أعماله السرية والجهرية، وصديقنا لا
يعرف منها إلا بعض الظواهر التي برز أكثرها في غير صورته الحقيقية. وهل
تكون حمية مختار باشا على عبد الحميد حمية جاهلية، وهو أكبر قواد الدولة الذي
بذل دمه مرات كثيرة في سبيلها؟ وتكون حمية صاحب جريدة الوطن هي الحمية
الصادقة التي يثيرها الإنصاف ? أي حظ لمختار باشا من عداوة عبد الحميد؟ إن
مرتبه الآن لا يبلغ عُشْرَ مرتبه من عبد الحميد، وإن ولده كان بمحاباة عبد الحميد
فريقًا من الدرجة الأولى، وقد أنزل بعد الدستور إلى رتبة أميرألاي، ومختار باشا
راضٍ مسرور من خلع عبد الحميد، أليس هذا برهانًا قاطعًا على إخلاصه؟ فائتنا
أيها الصديق ببرهان مثله يثبت أنك أشد إخلاصًا للدولة وأعلم بمصلحتها منه؟ ؟ ما
كان ينبغي لك أن تعيد مثل هذه الأقوال التي لا يكاد يعقل صدورها من عالم مخلص
مثلك، إلا بذلك التأويل الذي حملت عليه كلامك من قبل؛ وهو كون اعتقادك حسن
حال عبد الحميد صار وجدانًا، لا يقبل البحث كدين العجائز، ومنك يرجى السماح
والعفو.
(3) إذا كان قولك ذاك عجبًا، فأعجب منه استدلالك على كونك مصيبًا في
إصرارك على رأيك في عبد الحميد وحكومة الدستور، بقول شوكت باشا إنه ليس
عنده من الرجال الأكفاء من يكفي لحفظ السلطنة! ! إن هذا أكبر حجة لنا عليك،
وأظهر مبطل لقولك إن عبد الحميد كان يسعى جهد طاقته في تخفيف الجهل
والخمول السائدين في السلطنة. لو كان حقًّا ما تقول لكانت مدة سلطنته كافية لتعميم
التربية الملية والتعليم النافع، وتخريج رجال لا عداد لهم يصلحون للنهوض بجميع
أعباء السلطنة. فإن ثلث قرن كاف لتربية ثلاث طبقات أو أجيال من الأمة. ولكن
عبد الحميد كان والله مفسدًا في المملكة، عدوًّا للعلم والتربية، نصيرًا للجهل
والضلالة. وإن من البراهين القاطعة على إفساده وتخريبه للدولة وإتيانه إياها من
قواعدها وأساسها؛ ما قامت به الحكومة الدستورية من تصفية الرتب العسكرية،
فقد تبين به صدق ما كنا نعلمه بالإجمال ونقوله بالاختصار من ترقية عبد الحميد
للضباط والقواد بمحض إرادته محاباة لهم؛ لئلا يسخطوا على هدمه لسائر قواعد
السلطنة. فالعسكرية التي أحدثت الانقلاب وبيدها زمام الأمر هي التي اختارت
إنزال الجم الغفير من قوادها وأمرائها وضباطها عن مراتبهم؛ غيرة على الدولة،
ومنعًا لهذا الخلل الذي يقضي على الدولة إذا هي وقعت في حرب مع دولة قوية
منظمة.
لقد خُلِعَ عبد الحميد والدولة عاجزة عن محاربة البلغار التي هي قطعة منها
ولكن حكومة الدستور أمكنها أن تتلافى الأمر بسرعة، حتى استعدت للطوارئ في
أقل من سنة، وإن كان الإصلاح التام لما أفسده عبد الحميد لا يتم إلا بسنين!
وناهيك بإصلاح الأسطول وتعزيزه، وقد ظهر للوجود بعد خفائه.
يا سبحان الله! البلاد بلادنا والمكاتب والمدارس مدارسنا، ومكاتبنا بنيت
بأموالنا وهي تحت مواقع أبصارنا، والمعلمون فيها والمتعلمون فيها إخوتنا وأولادنا
ونحن الذين نقول: إن عبد الحميد أبطل كثيرًا منها، وجعل بعضها تحت مراقبة
الجواسيس، ومنع منها بإشاراتهم بعض العلوم وبعض الكتب، ثم بعض الآلات
والمواد التي يتمرن فيها التلاميذ على الأعمال في العلوم الطبيعية، كما منع أكثر
الكتب النافعة في الدين والأدب والتاريخ والتربية وغير ذلك، وأحرقت حكومته
ألوفًا كثيرة من هذه الكتب، وحملت الناس بضغطها وظلمها على إحراق أكثر مما
أحرقت هي. وبعد هذا كله يقول صاحب جريدة الوطن إن السلطان عبد الحميد كان
باذلاً جهده في إزالة الجهل وإصلاح حال الأمة بالعلم! . ثم هو يعترف مَعَنا بعد
ذلك بأن الأمة العثمانية ليس فيها - بعد هذا الجهد في تعليمها بزعمه - أناس قادرون
على القيام بأعباء الحكومة! ! كيف يفهم هذا وبم يفسر؟
يعترف صاحب (وطن) بأنه هو وقومه واقفون على ما كان في العهد
الحميدي من السيئات. ولكنهم لا يلقون عليه التبعة وحده مثلنا كما يدعي؛ بل
يقولون: إن سببها جهل الأمة، نعم.. إن جهل الأمة هو الذي مكن مخالبه من
مقاتلها؛ ولذلك كان يكره أن تتعلم، وينكل بكل من ينبه أفكارها وإلا فليدلونا على
ذنب المنار، حتى لقي وأهله ما لقوا منه؟ أما عماله وأعوانه على الإفساد فإنهم
كانوا على شاكلته.
ومن يربط الكلب العقور ببابه ... فكل بلاء الناس من رابط الكلب
ولماذا لا تُحرق الكتب الآن، ولا يحذف بعض المسائل من نسخها الطابعون،
كما حذفوا طائفة من كتاب المواقف الذي طبع في عهده بالآستانة، ومن كتاب شرح
المسايرة في العقائد الذي طبع في مصر، فجعلت بعض نسخه كاملة صحيحة وهي
ما يباع بمصر وسائر بلاد الدنيا ما عدا البلاد العثمانية , وأما بقية النسخ التي ترسل
إلى الآستانة وغيرها من الولايات العثمانية، فقد حذف منها بعض المباحث؛ لئلا
يجعل وقودًا للنار.
(4) تنازل صديقنا من دعوى ترقية عبد الحميد للسلطنة أو اجتهاده في
ترقيتها في بعض كلامه (وإن تناقض مع بعضه الآخر) ، وجعل حسنته العليا
حفظ مركز السلطنة وسد الخلل، ونقول: إن هذه الدعوى ممنوعة أيضًا، فإن سد
الخلل إنما يكون قبل كل شيء بإصلاح المالية، فالدولة التي ليس عندها مال لا
تقدر أن تدفع خطرًا داخليًّا ولا خارجيًّا، وهو قد دمر مالية الدولة تدميرًا كما هو
بديهي لا يقبل المراء. ثم إن الركن الآخر لحفظ المركز هو العسكرية، وقد قلنا
آنفًا: إنه اشتغل في آخر عهده بإفسادها، وإن تصفية الرتب العسكرية أقوى برهان
على ذلك. نعم.. إن كل ما كان يعمله عبد الحميد في المشكلات الخارجية هو
الحيلة والمواربة والتسويف والترضية للدول بعد ذلك، والغرض من هذا كله تأخير
سقوط الدولة إلى ما بعد موته؛ ليبقى طول حياته متمتعًا بنعيمها، وإن كان أكثره
وهميًا مشوبًا بالمنغصات التي لا قبل له بدفعها؛ لأن وسواسه هي مثارها ومعهدها
ولو طال العهد على تلك السياسة الخرقاء التي لم ينل منها بعض ما يريد إلا
باختلاف الدول وتنازعها؛ لخربت المملكة فقد تداخلت أوروبا في ولايات مقدونية،
وكان ذلك مقدمة لسلخها من الدولة، ولولا الدستور الذي أراحنا من سياسته
لذهبت تلك الولايات، وما ثبتت الآستانة بعدها إلا قليلاً. وأما مدح الجرائد له فكان
بعضه بالثمن، وبعضه بسوء الفهم، وبعضه بالإكراه.
(5) قال: إنه لم يثبت أن عبد الحميد هو مدبر الفتنة الأخيرة التي خُلِعَ بها
ومع هذا نَصفه بسفك الدماء، ونقول: إن هذا وصف قديم له معروف عند الإفرنج
الذين يسمونه السلطان الأحمر، وإن الحكومة الدستورية قررت عدم محاكمته؛
ولذلك لم تظهر كل ظهر لها من دسائسه في الفتنة وغيرها.
(6) سمى صديقي ما عبت به عبد الحميد في سياسته وإدارته، وما كتبته
من وجه العبرة بخلعه، سبًّا وشتمًا. وقال: إنه ما كان يليق ذلك بمثلي. وهي
غفلة من الصديق؛ سببها الغلو في حب عبد الحميد، فإن السبَّ عبارة عن ألفاظ
بذيئة توجه إلى شخص لأجل تحقيره وإهانته فقط. وما ذكرناه في عبد الحميد لم
يكن كذلك، وإنما كان بيانًا لحقيقة رجل آذى دولة عظيمة وأمة كبيرة، وتنبيهًا
لوجه العبرة في سقوطه فهو من قبيل ما في الكتاب والسنة من ذم فرعون وملأه
والعبرة بهلاكهم، ومن قبيل جرح المحدثين لرواة الحديث، ومن قبيل ما أذن الله به
من قول السوء لمن ظلم؛ ببيان ظلم ظالمه وسوء عمله. وعبد الحميد لم يكن ظالمًا
لي ولأهلي فقط، بل كان ظالمًا لنا ولجميع الأمة ما عدا أعوانه على الظلم منها.
هذا ما أقوله فيما يتعلق بعبد الحميد، وأثبت له حسنة السكة الحجازية، وحسنة عدم
التعصب لجنسه وكراهته أن يقال: ترك وعرب. وأما المسائل العامة التي أنكرها
علينا صديقنا أو سأل عنها، فهذا جوابها بالإجمال الذي يسعه المقام نذكره تابعًا
بالعدد لما قبله.
(7) من البديهي أن الذين تجب استشارتهم في الأمور العامة هم أهل الرأي
والمكانة في الأمة، والعارفون بمصالحها، والمحترم رأيهم عند جمهورها، المعبر
عنهم في القرآن بأولي الأمر لا جميع أفراد الأمة. ولم يكن مجلس شورى الدولة
مؤديًا في عهد عبد الحميد لوظيفة المشاورة الشرعية، ولا أعضاؤه من أهل المكانة
في الأمة، ولا من المعروفين عندها، وإنما يعرفهم من كان بينه وبينهم صلة جوار
أو نسب أو عمل. ذلك مجلس قديم العهد في الدولة، وقد أفسده عبد الحميد كما أفسد
غيره حتى جعله مستودعًا لمن يسترضيهم ممن يخشى اشتغالهم بالسياسة، وكان
أكثرهم لا عمل لهم، ولم يكونوا مرجعًا له في الأمور العامة ولا مستشارين على أن
يكون رأيهم معمولاً به قطعًا؛ بل كان المجلس ولا يزال ثلاث دوائر إحداها للملكية،
والثانية للتنظيمات، والثالثة للمحاكمات، يحاكم فيها كبار الموظفين، وكانت
الإشارة من أقل رجال المابين أو جواسيسه تكفي لإدانة البريء والحكم عليه بأشد
العقوبة، وعفو السلطان فوق حكم هؤلاء، كما أنه فوق جميع المحاكم الشرعية
والنظامية. أهذه هي الشورى المطلوبة في القرآن التي كان النبي صلى الله عليه
وسلم يعمل برأي رجالها، وإن خالف رأيه كما فعل في غزوة أحد التي أنزل عليه
فيها: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) يا سبحان الله! ألهذا الحد
وصلتم في الانتصار لعبد الحميد؟
(8) ذكر صديقنا عدة شُبه على قولنا: إن حكومة الإسلام حكومة شورى
مقيدة لا استبداد مطلقة، وإن الخلفاء الراشدين لم يكونوا في أحكامهم مستبدين.
ونجيب عنها واحدة بعد أخرى:
(الشبهة الأولى) أن صلح الحديبية لم يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم
برأي الصحابة؛ بل كانوا له كارهين في أول الأمر، وإنما قبلوه تدينًا لا اقتناعًا
بفائدته كما هو معروف في السير، مع أنه وقع بعد غزوة أحد التي أمر فيها
بالاستشارة. والجواب عنه من وجهين:
(الوجه الأول) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعمل بعض الأعمال
بأمر من الله تعالى فلا يستشير فيها أحدًا؛ إذ لا مجال لرأي أحد مع أمر الله تعالى،
ويجب أن يكون صلح الحديبية من هذا القبيل، وإلا لزم مخالفة النبي صلى الله
عليه وسلم لأمر الله تعالى إياه بمشاورتهم، وذلك غير جائز، وقد يدل على ذلك
قوله تعالى في الرد على كراهة الصحابة لذلك الصلح: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن
دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} (الفتح: 27) وتسمية ذلك فتحًا مبينًا في أول السورة أيضًا،
ولم يعاتبه تعالى عليه كما عاتبه على أخذ الفداء من الأسرى ببدر.
(الوجه الثانى) قيل: إن المشاورة لم تكن واجبة على النبي صلى الله عليه
وسلم، وإن أمره الله بها للندب، فهو يفعله إذا لم ير غيره أرجح منه. ولا أراك
تطيب نفسك للقول بأنه صلى الله عليه وسلم مخالف الأمر الإلهي، وإن كان للندب
كما تطيب نفسك للقول بأنه فعله بوحي إلهي، كما تدل عليه سورة الفتح.
(الشبهة الثانية) بعض أعمال الصِّديق كقتاله لأهل الردة ومانعي الزكاة،
وإنفاذه لجيش أسامة، وعدم مؤاخذة خالد بن الوليد على قتل مالك بن نويرة
والتسري بزوجه. وإننا نجيب عنها كلها جوابًا عامًّا , ثم نجيب عن كل منها
بالتفصيل.
أما الأول: فهو أن الحكومة المطلقة هي ما كان الأمر فيها للحاكم العام في
التشريع والتنفيذ، والحكومة المقيدة هي ما كان الحاكم العام فيها مقيدًا بشريعة ليس
هو الواضع لها، إما منزَّلة وإما موضوعة برأي الأمة، وإما بعض أحكامها منزل
وبعضه موكول إلى استنباط أولي الأمر من الأمة يضعونه بالمشاورة بينهم -
كالشريعة الإسلامية - والتنفيذ في هذه الحكومة لا يحتاج فيه إلى الاستشارة، متى
كان الحكم معروفًا عند الحاكم , وكذلك كانت حكومة الراشدين، كانوا إذا وجدوا
الحكم في كتاب الله حكموا به أو في السنة كذلك، فإن لم يجدوا جمعوا أهل الرأي
من الصحابة واستشاروهم كما روينا ذلك بالأسانيد المتصلة، وأوردنا بعض ذلك في
المنار من قبل.
وعلى هذا تجري الحكومات الدستورية الآن في أوروبا وغيرها، يحكم الحاكم
بالقانون فلا يراجع مجلس النواب في كل قضية، وإنما يرجعون إليه في المشكلات
وما كان غير منصوص في القانون , وقد كان الحكم الشرعي في المسائل المذكورة
معروفًا عند أبي بكر، فجاز له أن ينفذها من غير استشارة؛ بل وجب عليه
ذلك في اعتقاده.
وأما التفصيل فقد تأول في قتال مانعي الزكاة حديث: (أمرت أن أقاتل
الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني
دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) فإنه جعل من حقها أن مانعي الزكاة
الهادمين لركن من أركان الإسلام، يقاتلون عليه حتى يذعنوا له. وإن الفقهاء
صرَّحوا بأن الذين يمنعون شيئًا من شعائر الإسلام ولو مسنونًا كالأذان يقاتلون
عليه. فهو قد تصدَّى لقتال مانعي الزكاة عملاً بحكمٍ مقرر عنده بالنص، ولما
راجعه عمر في ذلك وذكر الحديث قال له: ألم يقل: إلا بحقها؟ فالزكاة من حقها ...
إلخ ما قال وهو مشهور، فاقتنع عمر بقوله وهذه المراجعة تدل على أنهم كانوا
يعارضون الإمام إذا تصدى لشيء لم يظهر لهم دليله الشرعي فيه، أو ظهر لهم
مخالفته فيه للنص الشرعي.
والناس يغلطون في هذا المقام، فيخلطون بين محاربة المرتدين وهم بنو
حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة، وبين مانعي الزكاة وهم غيرهم،
فمحاربة بني حنيفة كانت باتفاق الصحابة لم يعرض لأحد فيها إشكال، ومحاربة
مانعي الزكاة عرض فيها الإشكال لعمر فأقنعه أبو بكر.
الحديث الذي دار الكلام عليه بين الشيخين مروي في الصحيحين، وقد
أخرجاه بزيادة هي نص في فهم أبي بكر الذي رجع إليه عمر؛ إذ قال: (فوالله ما
هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق) . وهذه الزيادة
هي {وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} (البينة: 5) فالحاصل أن أبا بكر عمل بما علم
من حديث الرسول في المسألة، وذلك مما لا يحتاج فيه إلى الاستشارة، وقد أقره الصحابة كلهم على ذلك بعد مراجعة عمر واقتناعه.
وأما إنفاذ أبي بكر لجيش أسامة فهو أيضًا تنفيذ لأمر النبي صلى الله عليه
وسلم، وقد أشار عليه بعضُ الصحابة أن يرد الجيش فلم يفعل، وقال: (لا أحل
راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم) . فاحتج بأنه منفذ لأمر الرسول
صلى الله عليه وسلم وكانت المصلحة فيما فعل. ومما يدل على أنه لم يكن يرى
أن له الحق في رد الجيش طلبه من أسامة أن يأذن لعمر في البقاء في المدينة
لينتفع المسلمون برأيه، ولم يمسك عمر عنده بما له من السلطة العامة؛ لأن سلطته
في الأمور المنصوصة لا تعدو تنفيذ النص إلا أن يظهر له في اتباع النص
ما ينافي المصلحة العامة لأمور عرضت تقتضي ذلك، فحينئذ يستشير أولي الأمر في
العمل بما فيه المصلحة كما فعل عمر في الطلاق الثلاث باللفظ الواحد؛ إذ كان على
عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر (رضي الله عنه) يعد طلقة واحدة.
فرأى عمر بعد مضي زمن من خلافته إكثار الناس من هذا الطلاق المخالف للسنة
ومقصد الشريعة فاستشار الصحابة في إنفاذه عليهم عسى أن يتركوه، وأنفذه
برضاهم , والحديث في الصحيح وتقدَّم الكلام عليه في التفسير وغير التفسير.
وأما عدم مؤاخذة أبي بكر لخالد بن الوليد؛ أي: مقاصته على قتل مالك بن
نويرة، فهي لا تدل على أن حكومته كانت مطلقة استبدادية؛ إذ ليس في الشريعة
نص يوجب القصاص في مثل تلك الحادثة وهي القتل بالتأول في الحرب، بل
فيها ما يقتضي عدم القصاص، فإن خالدًا نفسه قتل طائفة من بني جذيمة متأوَّلاً،
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)
كما في الحديث الصحيح , ولكنه لم يقتله، ولم يوجب عليه دية. وكذلك قتل أسامة
رجلاً قال لا إله إلا الله، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه ذلك، وقال: (يا
أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟) قالها ثلاث مرات كما في الصحيحين، ولم
يقتله به ولا أوجب عليه قودًا ولا دية؛ لأنه متأوَّل. وما روي من أن عمر أشار
عليه بقتله غاية ما يفيده، كما قال ابن تيمية أن المسألة اجتهادية اختلف فيها
اجتهاد الشيخين، ولم يأت عمر بدليل يوجب على أبي بكر الرجوع إلى رأيه ,
والظاهر أن عدم الدية والقَوَد خاص بما يكون من مثل هذا في أيام الحرب , وأما
من قتل معصومًا في أيام السلم متأولاً فتأوله قد ينافي التعمد الذي يقتل به , ولكنه لا
يمنع إيجاب الدية ولا التعزير بحبس أو غيره , ولمؤرخي الشيعة وغيرهم أقوال
غير صحيحة في مسألة قتل خالد لمالك؛ ومنها تسرِّيه بزوجه من غير اعتداد ولا
استبراء، وليس لهم في ذلك رواية يحتج بمثلها شرعًا، على أن فقهاء الأمة
مختلفون في اعتداد مثلها، وليس هذا المقام مما يتسع للخوض في ذلك.
(الشبهة الثالثة) عزل الفاروق لخالد من قيادة الجيش في الشام , ونقول:
إن ذلك حقه، وقد بلغه من الأخبار ما أراه أن المصلحة في ذلك. وهذا ما يفعله كل
رئيس للعساكر أو للإدارة في الحكومات الدستورية، ولا يتبعون في اختيار القواد
هوى الجند ورضاه قط؛ بل كثيرًا ما تقضي السياسة بإبعاد القائد عن الجند الذي
يعشقه ويفتتن به؛ لئلا تحدثه نفسه بالخروج به على الحكومة وتأسيس دولة جديدة.
ويروى ما يدل على أن هذا هو السبب في عزل عمر له وهو؛ أنه لما سأله خالد
عن ذلك، قال: خفت أن يعبدك أهل الشام. ألم يكن السبب في سفك نابليون لدماء
الملايين من البشر هو افتنان جنوده به، حتى إنهم عصوا حكومتهم عندما أمرتهم
بمحاربته بعد رجوعه من جزيرة ألبا وكانوا عازمين على ذلك، فلما أقبل عليهم
بوجهه ودعاهم إلى قتله، خروا أمامه خاضعين وله متبعين؟ ؟
(9) ومن المسائل العامة التي غلط فيها صديقنا صاحب (وطن) ما ذكره
في المؤرخين الذين يعتد بأقوالهم والذين لا يعتد بأقوالهم، وتطبيقه ذلك على أقوالنا
وأقواله في الانقلاب العثماني. والصواب أن المؤرخ الصادق العدل يعتد بروايته
عما رآه واختبره بنفسه. وأما ما يرويه عن غيره فالعبرة فيه بصحة السند، ومتى
كان الراوي عدلاً قُبِلَ قوله، ولو فيما يؤيد رأيه ومذهبه، كما قبل المحدثون من
أهل السنة رواية العدول من المعتزلة والخوارج والشيعة. ثم إنه ليس هنا فريقان
مختصمان نتعصب نحن لأحدهما على الآخر، وإنما يظهر التعصب من صديقنا؛
لأنه يفضل الحكومة الحميدية الاستبدادية التي سقطت على الحكومة الدستورية التي
قامت، ويطري عبد الحميد ويذم خلفه وأعوانه، فهذا هو التحيز إلى فئة. وقد
اتهمته (يني غزته) وغيرها من الجرائد التركية؛ بأنه كان يرجو من عبد الحميد
فوق ما ناله من وسام أو نوط وأنه وجد منه كتابه إلى المابين يطلب فيها أن يدعى
إلى احتفال سكة حديد الحجار ويعطى نفقة سفره إلى الحجاز، وهي مطامع في
المال والجاه.
أما نحن فإننا رأينا ظلم عبد الحميد في أنفسنا وبلادنا وأمتنا ودولتنا: رأينا
المالية منهوبة، والأرض موظوبة، والأملاك مغصوبة، والمعارف مغضوبة،
والكتب ممنوعة، والقضاء آلة سياسية، والإدارة مدبرة الاستبداد، والعسكرية قد
سرى إليها الوهن والفساد، والأجانب ينتقصون الأرض من أطرافها، ويسري
نفوذهم فيها، فجاهدنا على قدر عجزنا وضعفنا، وجاهد غيرنا من الأحرار كل
على قدره، حتى إذا أذن الله بسقوط تلك الحكومة الحميدية المفسدة، حمدناه
وأظهرنا سرورنا بنصره، وشكرنا العاملين على الانقلاب مع شكره؛ عملاً بحديث
(لا يشكر الله من لا يشكر الناس) , ولكننا لم نقدس الحكومة الجديدة، ولم
نتعصب لها في عمل من الأعمال، بل نرشدها وننتقدها على خطاها ومنه ما
يرى خبره في هذا الجزء عن فتن الشام، وعلى تقصيرها ومنه أنها لم تعد
إلينا شيئًا من حقوقنا التي سلبها الاستبداد منا. فلا نقول: إننا بلغنا بها أعلى
عليين، وإنما نقول: إنها محل الرجاء، وكنا مما قبلها يائسين. فهل من العدل
أن يقول صديقنا: إن كلامنا لا يعتد به؛ لأننا متحيزون متعصبون، وإن كلامه
هو الذي يعتد به؛ لأنه يشهد لنفسه أنه أوسع علمًا وأشد إخلاصًا؟
قلت من قبل: إنني أحسن الظن فيه. وأقول الآن: إن ظني فيه لم يتغير،
وإن أصر على مدح عبد الحميد بعد البيان، كما يحكم عليه الوجدان، ولا أعد ما
ذكرته الجرائد التركية قادحًا في إخلاصه. ولكن أوقن بأنه لا يعرف من حال
الحكومة الحميدية عشر معشار ما أعرف أنا وأمثالي؛ إذ ليس عنده إلا سمعيات
قليلة، يصدق بعضها ويكذب بعضًا بحسب فكره ووجدانه. وأما معلوماتنا فتدخل
من أبواب اليقينيات الستة وهي كثيرة جدًّا , وإذا كانت الغيرة على الدولة
والإخلاص لها تتعذر الموازنة بينهما في أنفسهما، فدلائلهما فينا أقوى من دلائلهما
عنده؛ لأننا تحملنا الإيذاء والبلاء في أنفسنا وأهلينا وأموالنا، وآثرنا ذلك على
الأموال والرتب والأوسمة. فهل عنده شيء من مثل هذه الدلائل على حب الدولة
والإخلاص لها، وهما مما لا ننكرهما عليه؟
(10) احتج مناظرنا على كلمته الشنيعة في مولانا وخليفتنا السلطان محمد
الخامس - أيده الله بروح منه - بقول جمعية الاتحاد وشوكت باشا أنه لم يترك
حوله أحد من أنصار العهد القديم، لا من رجال المعية ولا من الخدم والحشم! !
إنني على كثرة ما أنكرت على صاحبي من أقواله وآرائه وحججه في
موضوع مناظرتنا، لم أر أغرب من قوله هذا، وما كان يخطر في بالي أن يقوله
مثله؛ وهو من أهل العلم والسياسة. إن مولانا السلطان محمدًا لم تكن له حاشية
عظيمة من أهل السياسة الذين يعتمد عليهم، فيقال: إن إبعاد شوكت باشا أو غيره
إياهم عنه واستبدال غيرهم بهم، جعله غير قادر على التصرف، حتى يصح أن
تقال فيه تلك الكلمة المنكرة، وإنما كان حوله جواسيس لعبد الحميد ليسوا من أهل
السياسة، بل من أهل الفساد والسعاية، ولم يكن يثق بأحد منهم، وهو الآن يرى
جميع الوكلاء وأركان الدولة ومن شاء من غيرهم ويكاشفهم بما يريد، وكذلك كان
جميع السلاطين قبل عبد الحميد لا عمل لهم إلا بواسطة حكومتهم، ولم تكن
حاشيتهم إلا حاشية خدمة. ولكن عبد الحميد أسس حكومة المابين؛ ليحارب بها
الدولة والأمة، وقد فعل وظفر زمنًا ثم كان عاقبة أمره خسرًا.
__________(12/699)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(ذيل للرد يدخل في باب الأخبار والآراء)
فيما نشر في عدد 866 من جريدة بيروت الرسمية التي صدرت في 28
المحرم سنة 1324 بالتركية والعربية في اتهامنا بالجناية، وجلبنا بالقوة أحياء أو
ميتين لمحكمة الجزاء بطرابلس، كما هو معنى (اخذ وكرفت) وهو:
طرابلس شام بدايت محكمه سي جزا
دائره سندن
مصره فرار والمنار هذيا ننامه سنده نشريات خائنانه وملعنتكارانه يه إجتسار
إيتمك ماده سند تطولايى مظنون وفرارده بولنان طرابلس شام سنجاغنه تابع قلمون
قرية سي أهاليسندن وهذياننامة مذكوره صاحب ومحرري محمد رشيد رضا إيله
وهذياننامه مذكوره يه دخالت ونشريات ملعنتكارانه يه اشتراك ايلد كلري إدعا
سيله مظنون ومرقوم رشيدك برادري أولوب موقوف بولنان إبراهيم أدهم وينه
مصره فرار وأرباب فساده التحاق إيدن ديكر برادرلري أحمد حمدي وحسين
وصفي أيله طرابلس شاملي عبد القادر مغربينك حركات خائنانه وملعنتكارانه لرندن
طولابى أصول محاكمات جزائيه نك مواد مخصوصة سي أحكامنه توفيقا طرابلس
شام جنايت محكمه سنده محاكمة لرى أجرا قلنمق اوزره جزا قانوننامة هما يونتك
اللى سكرنجي مادة سي موجبنجه بيروت ولايتي هيئت اتهاميه سنجه جنايتله أنها
مرينة قرار وير لديكندن متهمون مرقومونك هر نره ده كوربلورلر ابنه طوتيلوب
محكمه مذكوره توقيفخانه سنه تسليملري لازم كله جكى بالجمله ضابطه عدليه مأمور
لرينك معلومى أولمق أوزره اشبواخذ وكرفت مذكره سنك خلاصه سي بيروت وسي
غزته سنه درج وإعلان أولنمق أوزره تنظيم أولندي.
من دائرة جزاء محكمة البداية في طرابلس الشام
بما أن محمد رشيد رضا من أهالي قرية القلمون التابعة للواء طرابلس الشام،
الفار إلى مصر، وصاحب ومحرر جريدة المنار الهذيانية، والمظنون عليه
بالتجاسر على نشر مواد الخيانة، والملعنة في الورقة المذكورة، وكلاًّ من أخيه
إبراهيم أدهم الموقوف والمظنون عليه باشتراكه في تلك النشريات اللعينة، وأخويه
أحمد حمدي وحسين وصفي وعبد القادر المغربي من أهالي طرابلس الشام،
الفارين إلى مصر أيضًا، والملتحقين بأرباب الفساد - قد اتهمتهم الهيئة الاتهامية في
ولاية بيروت بالجناية توفيقًا للمادة 58 من قانون الجزاء الهمايوني؛ ليحاكموا في
محكمة الجناية في طرابلس الشام؛ توفيقًا لأحكام المواد المخصوصة من أصول
المحاكمات الجزائية، وذلك بالنظر لحركاتهم الجنائية اللعينة، فعلى جميع مأموري
ضابطة العدلية أن يلقوا القبض عليهم أينما وجدوا، ويسلموهم لمحل توقيف
المحكمة المذكورة، ولأجل أن يكون ذلك معلومًا عند المأمورين المذكورين، جرى
تنظيم هذه المذكرة جرى (أخذ وكرفت) لتنشر خلاصتها في جريدة بيروت
الرسمية.
***
(الطبيب محمد إسماعيل الأجميري الهندي)
زارنا في أوائل هذا الشهر المبارك هذا الطبيب، فعلمنا منه أنه جاء من
القدس الشريف، وأنه جاء في العام الماضي مع أهل الحجاز، فأدوا الفريضة،
وأقاموا في مكة المكرمة ثم في المدينة المنورة عدة أشهر، ثم سافروا إلى القدس
فأقاموا فيها مدة، ثم عادوا منها في أواخر الشهر الماضي محرمين بالعمرة،
وسيعودون بعدها إلى بمبي وهو موطنهم وبلد إقامتهم. وقد كان هذا الطبيب يعالج
جميع المرضى في البلاد المقدسة بغير أجرة؛ ابتغاء مرضاة الله تعالى، وقد كتبوا
له شهادات في الحرمين ختمها الجم الغفير من العلماء والشرفاء وغيرهم، وصدَّقت
عليها الحكومة لا سيما في المدينة المنورة، فنسأل الله تعالى أن يجزيه خير الجزاء،
ويجعله قدوة صالحة للأطباء.
وقد علمنا منه أنه ما جاء القاهرة إلا لأجل زيارتنا، فنشكر له ذلك، وقد
سألناه عن أفكار مسلمي الهند في الانقلاب العثماني، وهل يصح ما قيل: إن أكثرهم
يسيئون الظن بالدولة الآن؛ لحسن ظنهم في السلطان عبد الحميد المخلوع. فقال:
إن في الهند كذا مليونًا من المسلمين، أكثرهم لا يعرف السياسة ولا يهمهم من أمرها
شيء قط. ولكن الذين يقرأون الجرائد وقليل ما هم، يتبعون رأي جرائدهم في
ذلك.
__________(12/716)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب التوسل والوسيلة
طبعنا الآن في هذه الأيام كتابًا خاصًّا في مسألة التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام
وهو الذي نقلنا نموذجًا منه في الجزء الثامن، ونبذة وجيزة منه في تفسير الجزء
السابع، طبعنا أكثره على نفقة السيد محمد حسين نصيف وكيل إمارة مكة في جدة،
وطائفة منه على نفقتنا؛ ليكون سلاحًا في أيدي أنصار السنة، يفرون به ضلالة
أهل البدعة، وإننا ندعو أولياء البدعة المنكرين على شيخ الإسلام (كالشيخ
النبهاني) إلى قراءته والرد عليه إن استطاعوا، وندعو جمهور الأمة الذين
يحبون السنة ولكن يخفيها عن بعضهم الجاهلون، ويكرهون البدعة ولكن
يزينها لأعينهم المبتدعون، أن يقرأوا هذا الكتاب، ويوازنوا بينه وبين ما اطلعوا
عليه من كتب المبتدعين، ثم ليتبعوا ما يرونه موافقًا لكتاب ربهم عز وجل، وسنة
نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرة سلفهم الصالحين، وأئمتهم المجتهدين.
بيَّن شيخ الإسلام في كتابه هذا معنى الوسيلة في القرآن، ومعنى التوسل
في لغة الصحابة وعُرْفِهم، ومعناه في عُرْفِ المتأخرين الذين أدخلوا فيه معنى
البدعة، وما هو مشروع منه وما هو مبتدع، وما هو نافع وما هو ضار. وحقق
مسألة السؤال ومسألة الدعاء، وما يُشرع منهما وما لا يشرع مع الدلائل من الكتاب
والسنة وأقوال السلف، وحكمة التشريع، وبيَّنَ ما يُشرع في زيارة القبور، وما
يمنع، ومسألة الكرامات وشرطها، والخوارق التي ينخدع بها الناس فيعدونها كرامة،
وما هي كرامة. وتكلم عن الأحاديث الواردة في زيارة قبر المصطفى عليه
الصلاة والسلام، وفي النهي عن اتخاذه وثنًا، وعن اتخاذه عيدًا، وعن اتخاذ
المساجد على القبور، وحقق مسألة رواية الحديث الضعيف والعمل به في الفضائل
والمناقب، وتكلم عن الشفاعة والاستشفاع والاستغاثة بغير الله، وبيَّن ما يصح من
ذلك وما لا يصح.
ولما كان حديث الأعمى الذي استشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم، فشفع له
ودعا الله أن يرد عليه بصره فاستجاب دعاءه , هو الحديث الوحيد الذي صح سنده
في هذا الباب تكلم عنه في عدة ورقات، فجمع طرقه وبين جميع رواياته، وما
صح منها وما لم يصح، وحقق أن الصحيح لا يدل إلا على ما هو ثابت مشروع
من التوسل والاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته بطلب الدعاء منه،
وبيَّن في هذا المقام وفي مواضع أخرى أن ما كان يطلب من النبي صلى الله عليه
وسلم في حياته لا يطلب منه بعد موته، وإن كان حيًا عند الله تعالى في عالم الغيب،
كما أنه لا يطلب منه غير ذلك مما كان يطلب منه في حال حياته؛ كالدعاء
والاستسقاء. والعلم واستدل على ذلك بعدم طلب الصحابة ذلك عند قبره أو مع البعد
عنه وبعدولهم عن التوسل به في الاستسقاء إلى التوسل بالعباس وغيره، وذكر
مسألة الاستسقاء في عدة مواضع واجتهاد الصحابة، وما انفرد به بعضهم وخالف
الجمهور، وكونه خطأ لا يؤخذ به.
وتكلم عن مسائل الشياطين وإضلالها للناس، وتمثلها لهم وخدمتها لهم،
واشتباه ذلك بالكرمات. وكذا عن الاستغاثة والتعوذ بهم، والرقية والعزائم بأسمائهم
وعن وسوستهم وإغوائهم وسلطانهم على غير المؤمنين.
وإن القارئ ليجد في هذا الكتاب من دقائق التفسير، ومعاني الأحاديث،
وأسرار التشريع، ما لا يجده في غير كلام المؤلف من العلماء، ويجزم بأن ما انفرد
به من البيان والتحقيق فيها هو الحق.
مثال ذلك كلامه في الدعاء والسؤال والحلف وكيفياتها، والفرق بينها وحكمها
وحكمة ما يجوز منها وما لا يجوز، ومن ذلك معنى كون الدعاء عبادة، فلا يدعى
غير الله، والسؤال بالمخلوق وسؤاله، والسؤال بما هو سبب للإجابة؛ كالرحم
والعمل الذي يقتضي الإجابة، والسؤال بما ليس كذلك كالأمور الأجنبية التى ليست
أسبابًا، وكالذوات والأشخاص التى لا دخل لها في السببية، وسؤال الله بحق بعض
خلقه، وهل لأحد حق عليه أم لا , وبجاه الأنبياء، وهل الجاه الذي منحه الله
لبعضهم يكون سببًا لإجابة غيرهم إذا ذكره أم لا، والفرق بين حلفنا وإقسامنا
بالمخلوقات، وبين إقسامه تعالى بها في القرآن، وذكر أنواع هذه الأقسام وحكمتها
إلخ.
وفي الكتاب تكرار لبعض المسائل، يذكر المسألة ثم يعيدها بالمناسبة،
والمصنف يتعمد لذلك؛ لعلمه أن هذه المسائل التي أخطأ فيها كثير من الناس، حتى
أدى ببعضهم إلى الشرك الأصغر أو الأكبر، لا تنجلي وتستقر في الأذهان إلا بذلك.
صفحات الكتاب مائتان، وثمنه سبعة قروش صحيحة، وأجرة البريد قرش
صحيح.
_______________________(12/718)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتن رمضان في دمشق الشام
يقول أحد الدمشقيين العارفين: إن لأهل دمشق في كل رمضان فتنة يلهون
بها، فإذا أوشك الشهر أن ينقضي بغير فتنة حَاصَ محبو الفتن ثم يسعون في إثارة
فتنة صغيرة أو كبيرة بقدر الإمكان.
ونقول: إن كبرى فتنهم الرمضانية ثلاث متشابهة في ثلاث: في تدبير أكابر
الحشوية المستبدين لها، وفي جعل مبدأها الانتقام من بعض الأحرار طلاب
الإصلاح، وفي كون الغاية منها التنكيل بجماعة معروفة ذنبها عند أولئك الأكابر
أنها تكره الاستبداد وأهله، وتحب الإصلاح وتعمل له.
(الفتنة الأولى) هي التي أثاروها على السيد عبد الحميد أفندى الزهراوي
من بضع سنين؛ لأنه ألف رسالته المشهورة (الفقه والتصوف) وكانوا يريدون
قتله، وقَتْلَ من أشرنا إليهم من محبي الإصلاح. ولكن الحكومة الحميدية سبقت
رعيتها المخلصة إلى الانتقام منه، وأمره مشهور.
(الفتنة الثانية) هي التي أثاروها على كاتب هذه السطور في أواخر
رمضان السنة الماضية وهي مشهورة، وقد ضعفت الحكومة الدستورية عن
مداركتها بما يربي مثيري الفتن؛ ولذلك نشروا بعدها جمعية (ولقان) التى قامت
على الدستور، ولو نجحت تلك الجمعية في الآستانة، لكانت دمشق آستانة ثانية
لها بتدبير أكابر المجرمين في الباطن وأصاغرهم في الظاهر؛ كالشيخ صالح
المغربي والشيخ عبد القادر الخطيب اللذين كانا يقولان: اقتلوا هؤلاء الدستوريين
أو الوهابية فإنهم 50 رجلاً.
(الفتنة الثالثة) ما أثاروه في هذا العام على محمد أفندي كرد علي صاحب
جريدة المقتبس أولاً، ثم على سائر أعدائهم الذين أشرنا إليهم، وقد علمنا أنهم ألفوا
جمعية للانتقام من الأحرار والمصلحين، وأنهم بدأوا بصاحب المقتبس؛ لأنه شدد
النكير في جريدته على أعداء الدستور ومثيري فتنة رمضان الماضي، فاتهموه أولاً
بمشايعة جمعية (ولقان) على الدستور، ففتشت الحكومة مطبعته وإدارته، ولم
يثبت عليه في التحقيق شيء، فعلموا أن هذه التهمة لا تُسمع في مثله، فاتهموه
وسائر الأحرار ومحبي الإصلاح الذين كانوا يضطهدونهم في زمن الاستبداد بالسعي
إلى (الخلافة العربية) وهي الكلمة التي كانوا هم وأضرابهم ينتقمون بها ممن
شاؤوا في العصر الحميدي.
أما كرد علي فَرَجُلٌ كان وما زال يكره الاستبداد، وقد أصابه شره ففر إلى
مصر، وكان فيها بعيدًا عن السياسة وأهلها، وقد دعوناه أكثر من مرة للدخول في
جمعية الشورى العثمانية فأبى، وهو لا يخلو من غرارة وسذاجة، فما هو والله
بأهلٍ للسياسة، ولذلك يسقط من قلمه وينشر لغيره ما يمكن أن يَعُدَّه العدوُّ شبهة على
سوء قصده، وما هو بالسيئ القصد، ومن ذلك أنه كتب عن بلاغ شيخ الإسلام
عبارة فهمها من بعض الناس، تشعر بأن الدولة العثمانية ليست دولة خلافة، فأخطأ
بذلك واعترف بخطأه في اليوم الثاني. ولكن الحكومة بادرت إلى الحكم عليه
بالجناية وبإبطال جريدته ومطبعته، فجرأ ذلك مثيري الفتن في كل زمن على سائر
الأحرار، فوشوا بهم واتهموهم.
المتهمون الآن بالخلافة العربية الوهمية هم أخلص المخلصين للدولة والملة في
الشام، فمنهم أفضل العلماء كالبيطار والقاسمي، وأشهر الأحرار كعبد الرحمن بيك
اليوسف، وكرد علي، ومنهم جمعية النهضة السورية، وهم أحداث لا يعرفون
السياسة. فإذا كانت حكومة الدستور تهين أمثال هؤلاء بإغراء الرجعيين مثيري
الفتن. أفلا تكون الحكومة الحميدية خيرًا منها وأعدل؛ إذ كانت تعلم أنهم أعداؤها،
ولم ينلهم منها إلا المراقبة وتفتيش الكتب، اعقلوا أيها الحكام وتبصروا وأقيموا
الدستور بالقسط وإلا كانت العاقبة خطرًا على الدولة والأمة، وقد قال الرسول:
صلى الله عليه وسلم: (إذا ابتغى الأمير الريبة في الناس أفسدهم) رواه أبو داود.
__________(12/720)
شوال - 1327هـ
نوفمبر - 1909م(12/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الصوفية والفقراء [*]
فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى
مسألة عن الصوفية وأنهم أقسام، والفقراء أقسام، فما صفة كل قسم، وما
يجب عليه ويستحب له أن يسلكه؟
الجواب: الحمد لله. أما لفظ الصوفية فإنه لم يكن مشهورًا في القرون
الثلاثة وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك، وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة
والشيوخ: كالإمام أحمد بن حنبل وأبي سليمان الداراني وغيرهما، وقد روي عن
سفيان الثوري أنه تكلم به، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري، وتنازعوا في
المعنى الذي أضيف إليه الصوفي؛ فإنه من أسماء النسب كالقرشي والمدني وأمثال
ذلك، فقيل: إنه نسبة إلى أهل الصُّفَّة، وهو غلط؛ لأنه لو كان كذلك لقيل: صُفِّي،
وقيل: نسبة إلى الصف المقدم بين يدي الله وهو أيضًا غلط، فإنه لو كان كذلك
لقيل: صَفِّي، وقيل: نسبة إلى الصفوة من خلق الله وهو غلط؛ لأنه لو كان كذلك
لقيل: صفوي، وقيل: نسبة إلى صوفة بن بشر بن أَدّ بن طابخة قبيلة من العرب،
كانوا يجاورون بمكة من الزمن القديم، ينسب إليهم النساك، وهذا وإن كان موافقًا
للنسب من جهة اللفظ فإنه ضعيف أيضًا؛ لأن هؤلاء غير مشهورين ولا معروفين
عند أكثر النُّسّاك؛ ولأنه لو نسب النساك إلى هؤلاء لكان هذا النسب في زمن
الصحابة والتابعين وتابعيهم أولى، ولأن غالب من تكلم باسم الصوفي لا يعرف
هذه القبيلة، ولا يرضى أن يكون مضافًا إلى قبيلة في الجاهلية لا وجود لها في
الإسلام، وقيل - وهو المعروف - إنه نسبة إلى لبس الصوف، فإنه أول ما
ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بين دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد
الواحد بن زيد، وعبد الواحد من أصحاب الحسن.
وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم
يكن في سائر أهل الأمصار؛ ولهذا كان يقال: فقه كوفي وعبادة بصرية.
وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن محمد بن سيرين أنه بلغه أن قومًا
يفضلون لباس الصوف، فقال: إن قومًا يتخيرون الصوف يقولون: إنهم
متشبهون بالمسيح ابن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا، وكان النبي صلى الله عليه
وسلم يلبس القطن وغيره، أو كلامًا نحوًا من هذا؛ ولهذا غالب ما يحكى من
المبالغة في هذا الباب إنما هو من عبادة أهل البصرة، مثل حكاية من مات أو غشي
عليه في سماع القرآن ونحوه، كقصة زرارة بن أد في قاضي البصرة، فإنه قرأ في
صلاة الفجر {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} (المدثر: 8) فَخَرَّ ميتًا؛ وكقصة أبي جهير
الأعمى الذي قرأ عليه صالح المرّي فمات، وكذلك غيره ممن روى أنهم ماتوا
باستماع قراءته، وكان فيهم طوائف يصعقون عند سماع القرآن، ولم يكن في
الصحابة من هذا حاله، فلما ظهر ذلك أنكر ذلك طائفة من الصحابة والتابعين
كأسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين ونحوهم، والمنكرون
لهم مأخذ أن منهم من ظن ذلك تكلفًا وتصنعًا: يذكرعن محمد بن سيرين أنه قال: ما
بيننا وبين هؤلاء الذين يصعقون عند سماع القرآن؛ أن يقرأ على أحدهم وهو على
حائط فإن خر فهو صادق، ومنهم من أنكر ذلك؛ لأنه رآه بدعة مخالفًا لما عرف من
هدي الصحابة كما نقل عن أسماء وابنها عبد الله.
والذي عليه جمهور العلماء أن الواجد من هؤلاء إذا كان مغلوبًا عليه لم ينكر
عليه، وإن كان حال الثابت أكمل منه؛ ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا فقال:
قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه، ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن
نفسه لدفعه يحيى بن سعيد، فما رأيت أعقل منه ونحو هذا، وقد نقل عن الشافعي أنه
أصابه ذلك، وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة، وبالجملة فهذا كثير
ممن لا يستراب في صدقه.
لكن الأحوال التي كانت في الصحابة هي المذكورة في القرآن، وهي وجل
القلوب ودموع العين واقشعرار الجلود، كما قال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا
ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: 2) ، وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: 23) ، وقال تعالى {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياًّ} (مريم: 58) ، وقال:
{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا
مِنَ الحَقِّ} (المائدة: 83) ، وقال: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} (الإسراء: 109) وقد يذم حال هؤلاء من فيه من قسوة القلوب والرّين عليها
والجفاء عن الدين ما هو مذموم، وقد فعلوا. ومنهم من يظن أن حالهم هذا أكمل
الأحوال وأتمها وأعلاها، وكلا طرفي هذه الأمور ذميم.
بل المراتب ثلاث: إحداها: حال الظالم لنفسه الذي هو قاسي القلب لا يلين
للسماع والذكر، وهؤلاء فيهم شبه من اليهود، قال الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم
مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ
مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ} (البقرة: 74) ، وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ
لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ
الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) .
والثانية: حال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه،
فهذا الذي يصعق صعق موت أو صعق غشي؛ فإن ذلك إنما يكون لقوة الوارد
وضعف القلب عن حمله، وقد يوجد مثل هذا فيمن يفرح أو يخاف أو يحزن أو
يحب أمورًا دنيوية، يقتله ذلك أو يمرضه أو يذهب بعقله.
ومن عباد الصور مَنْ أمرضه العشق أو قتله أو جننه وكذلك في غيره. ولا
يكون هذا إلا لمن ورد عليه أمر ضعفت نفسه عن دفعه بمنزلة ما يرد على البدن
من الأسباب التي تمرضه أو تقتله، أو كان أحدهم مغلوبًا على ذلك، فإذا كان لم يصدر منه تفريط ولا عدوان، لم يكن فيه ذنب فيما أصابه، فلا وجه للريبة كما
سمع القرآن السماع الشرعي، ولم يفرط بترك ما يوجب له ذلك، وكذلك ما يرد على
القلوب مما يسمونه السكر والنشا ونحو ذلك من الأمور التي تغيب العقل بغير اختيار صاحبها، فإنه إذا لم يكن السبب محظورًا لم يكن السكران مذمومًا بل معذورًا، فإن
السكران بلا تمييز.
وكذلك قد يحصل ذلك بتناول السكر من الخمر والحشيشة، فإنه يحرم بلا نزاع بين
المسلمين، ومن استحل السكر من هذه الأمور فهو كافر، وقد يحصل بسبب محبة
الصور وعشقها كما قيل:
سكران سكر هوى وسكر مدامة ... ومتى إفاقة من به سكران
وهذا مذموم؛ لأن سببه محظور، وقد يحصل بسبب سماع الأصوات
المطربة التي تورث مثل هذا السكر، وهذا أيضًا مذموم، فإنه ليس
للرجل أن يسمع من الأصوات التي لم يؤمر بسماعها ما يزيل عقله؛ إذ إزالة
العقل محرم، ومتى أفضى إليه سبب غير شرعي كان محرمًا، وما يحصل في
ضمن ذلك من لذة قلبية أو روحية ولو بأمور فيها نوع من الإيمان فهي مغمورة بما
يحصل معها من زوال العقل، ولم يأذن لنا الله أن نمنع قلوبنا ولا أرواحنا من لذات
الإيمان ولا غيرها مما يوجب زوال عقولنا، بخلاف من زال عقله بسبب مشروع
أو بأمر صادفه لا حيلة له في دفعه، وقد يحصل السكر بسبب لا فعل للعبد فيه؛
كسماع لم يقصده، يهيج قاطنه ويحرك ساكنه ونحو ذلك، وهذا لا ملام عليه فيه،
وما صدرعنه في حال زوال عقله فهو فيه معذور؛ لأن القلم مرفوع عن كل من
زال عقله بسبب غير محرم؛ كالمغمي عليه والمجنون ونحوهما.
ومن زال عقله بالخمر فهل هو مكلف حال زوال عقله؟ فيه قولان مشهوران،
وفي طلاق من هذه حالة نزاع مشهور، ومن زال عقله بالبنج يلحق به كما يقوله
من يقوله من أصحاب الشافعى وأحمد، وقيل: يفرق بينه وبين الخمر؛ لأن هذا
يشتهي وهذا لا يشتهي؛ ولهذا أوجب الحد في هذا دون هذا، وهذا هو المنصوص
عن أحمد ومذهب أبي حنيفة.
ومن هؤلاء من يقوى عليه الوارد حتى يصير مجنونًا , إما بسبب خلط يغلب
عليه وإما بغير ذلك , ومن هؤلاء عقلاء المجانين الذين يعدون في النساك، وقد
يسمون المولهين، قال فيهم بعض العلماء: هؤلاء قوم أعطاهم الله عقولاً وأحوالاً،
فسلب عقولهم الهم وأسقط وأبقى أحو ما فرض لما سلب، فهذه الأحوال التي يفترق
بها الغشى أو الموت أو الجنون أو السكر أو الفناء حتى لا يشعر بنفسه ونحو ذلك،
إذا كانت أسبابها مشروعة وصاحبها صادقًا عاجزًا عن دفعها كان محمودًا على ما
فعله من الخير وما ناله من الإيمان، معذورًا فيما عجز عنه وأصابه بغير اختياره،
وهم أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم؛ لنقص إيمانهم وقسوة قلوبهم ونحو ذلك من
الأسباب التي تتضمن ترك ما يحبه الله أو فعل ما يكرهه الله.
ولكن من لم يزل عقله مع أنه قد حصل له من الإيمان ما حصل لهم أو مثله
وأكمل منه فهو أفضل منهم [1] ، وهذه حال الصحابة رضي الله عنهم، وهو حال
نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أسري به إلى السماء، وأراه الله ما أراه، وأصبح
كبائت لم يتغير عليه حاله، فحاله أفضل من حال موسى صلى الله عليه وسلم الذي
خر صعقًا؛ لَمَّا تجلى ربه للجبل، وحال موسى حال جليلة علية فاضلة. لكن حال
محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأعلى وأفضل.
والمقصود أن هذه الأمور التي فيها زيادة في العبادة والأحوال خرجت من
البصرة؛ وذلك لشدة الخوف، فإن الذي يذكرونه من خوف عتبة الغلام وعطاء
السليمي وأمثالهما أمر عظيم، ولا ريب أن حالهم أكمل وأفضل ممن لم يكن عنده
من خشية الله ما قابلهم أو تفضل عليهم، ومن خاف الله خوفًا مقتصدا يدعوه إلى
فعل ما يحبه الله وترك ما يكره الله من غير هذه الزيادة، فحاله أكمل وأفضل من
حال هؤلاء، وهو حال الصحابة رضي الله عنهم، وقد روي أن عطاء السليمي
رضي الله عنه رؤي بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: قال لي: يا عطاء،
أما استحيت مني أن تخافني كل هذا، أما بلغك أني غفور رحيم.
وكذلك ما يذكر عن أمثال هؤلاء من الأحوال من الزهد والورع والعبادة
وأمثال ذلك، قد ينقل فيها من الزيادة على حال الصحابة رضي الله عنهم، وعلى
ما سنه الرسول أمورًا توجب أن يصير الناس طرفين: قوم يذمون هؤلاء
وينتقصونهم وربما أسرفوا في ذلك، وقوم يغلون فيهم ويجعلون هذا الطريق من
أكمل الطرق وأعلاها. والتحقيق أنهم في هذه العبادات والأحوال مجتهدون كما كان
جيرانهم من أهل الكوفة مجتهدين في مسائل القضاء والإمارة ونحو ذلك، وخرج
فيهم الرأي الذي فيه من مخالفة السنة ما أنكره جمهور الناس وخيار الناس؛ من
أهل الفقه والرأي في أولئك الكوفيين على طرفين: قوم يذمونهم ويسرفون في ذمهم،
وقوم يغلون في تعظيمهم ويجعلونهم أعلم بالفقه من غيرهم. وربما فضلوهم على
الصحابة، كما أن الغلاة في أولئك العباد قد يفضلونهم على الصحابة، وهذا باب
يفترق فيه الناس.
والصواب للمسلم أن يعلم أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد
صلى الله عليه وسلم، وخير القرون القرن الذي بعث فيهم، وأن أفضل الطرق
والسبل إلى الله ما كان عليه هو وأصحابه، ويعلم من ذلك أن على المؤمنين أن
يتقوا الله بحسب اجتهادهم ووسعهم، كما قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16) ، وقال صلى الله عليه وسلم: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما
استطعتم، وقال: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) وأن كثيرًا
من المؤمنين المتقين أولياء الله، قد لا يحصل لهم من كمال العلم والإيمان ما حصل
للصحابة، فيتقي الله ما استطاع ويطيعه بحسب اجتهاده، فلابد أن يصدر منه خطأ:
إما في علومه وأقواله وأما في أعماله وأحواله. ويثابون على طاعتهم، ويغفر لهم
خطاياهم، فإن الله تعالى قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ
آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} (البقرة: 285) - إلى قوله - {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا
إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: 286) قال الله تعالى: قد فعلت. فمن جعل طريق
أحد من العلماء والفقهاء أو طريق أحد من العباد والنساك أفضل من طريق الصحابة؛
فهو مخطئ ضال مبتدع، ومن جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور
مذمومًا معيبًا ممقوتًا فهو مخطئ ضال مبتدع.
ثم الناس في الحب والبغض والموالاة والمعاداة هم أيضًا مجتهدون، يصيبون
تارةً ويخطئون تارةً، وكثير من الناس إذا علم من الرجل ما يحبه أحب الرجل
مطلقًا وأعرض عن سيئاته، وإذا علم منه ما يبغضه أبغضه مطلقًا وأعرض عن
حسناته محاط (؟) وحال من يقول بالتحافظ (؟) وهذا من أقوال أهل البدع
والخوارج والمعتزلة والمرجئة، وأهل السنة والجماعة يقولون: ما دل عليه
الكتاب والسنة والإجماع؛ وهو أن المؤمن يستحق بوعد الله وفضله الثواب على
حسناته، ويستحق العقاب على سيئاته، وأنَّ الشخص الواحد يجتمع فيه ما يثاب
عليه وما يعاقب عليه، وما يحمد عليه وما يذم عليه، وما يحب منه وما يبغض منه،
فهذا هذا.
وإذا عرف أن منشأ التصوف كان من البصرة، وأنه كان فيها من يسلك
طريق العبادة والزهد مما له فيه اجتهاد، كما كان في الكوفة من يسلك من طريق
الفقه والعلم ما له فيه اجتهاد، وهؤلاء نسبوا إلى اللبسة الظاهرة؛ وهي لباس
الصوف، فقيل في أحدهم: صوفي، وليس طريقهم مقيدًا بلباس الصوف، ولا هم
أوجبوا ذلك، ولا علقوا الأمر به , لكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال.
ثم التصوف عندهم له حقائق وأحوال معروفة، قد تكلموا في حدوده وسيرته
وأخلاقه؛ كقول بعضهم: الصوفي من صفا من الكدر وامتلأ من الفكر، واستوى
عنده الذهب والحجر، التصوف كتمان المعاني، وترك الدعاوي، وأشباه ذلك ,
وهم يسيرون بالصوفي إلى معنى الصديق وأفضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون،
كما قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقا} (النساء: 69) ولهذا ليس عندهم بعد الأنبياء
أفضل من الصوفي. لكن هو في الحقيقة أنوع من الصديقين؛ فهو الصديق الذي
اختص بالزهد والعبادة على الوجه الذي اجتهدوا فيه فكان الصديق من أهل هذه
الطريق، كما يقال صديقو العلماء وصديقوالأمراء، فهو أخص من الصديق المطلق
ودون الصديق الكامل الصديقية من الصحابة والتابعين وتابعيهم، فإذا قيل عن أولئك
الزهاد والعباد من البصريين: إنهم صديقون فهو كما يقال عن أئمة الفقهاء من أهل
الكوفة: إنهم صديقون أيضًا، كل بحسب الطريق الذي سلكه من طاعة الله ورسوله
بحسب اجتهاده، وقد يكونون من أجل الصديقين بحسب زمانهم، فهم من أكمل
صديقي زمانهم، وإن الصديق في العصر الأول أكمل منهم، والصديقون درجات
وأنواع، ولهذا يوجد لكل منهم صنف من الأحوال والعبادات حققه وأحكمه وغلب
عليه، وإن كان غيره في غير ذلك الصنف أكمل منه وأفضل منه.
ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه، تنازع الناس في
طريقهم، فطائفة ذمت الصوفية والتصوف وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن
السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف، وتبعهم على
ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام.
وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما
اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق السابق المقرب بحسب اجتهاده،
وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين. وفي كل من الصنفين من قد يجتهد
فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أولا يتوب، ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه
عاص لربه، وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة.
ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم كالحلاج مثلاً فإن أكثرمشايخ الطريق أنكروه وأخرجوه عن الطريق مثل الجنيد محمد سيد الطائفة
وغيره، كما ذكر ذلك الشيخ أبوعبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية، وذكره
الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد.
فهذا أصل التصوف، ثم إنه بعد ذلك تشعب وتنوع وصارت الصوفية ثلاثة
أصناف: صوفية الحقائق، وصوفية الأرزاق، وصوفية الرسم. فأما صوفية
الحقائق فهم الذين وصفناهم، وأما صوفية الأرزاق: فهم الذين وقفت عليهم الوقوف
كالخوانك، فلا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من أهل الحقائق، فإن هذا عزيز،
وأكبر أهل الحقائق لا يتصدون بلوازم الخوانك , ولكن يشترط فيهم ثلاثة شروط:
أحدها: العدالة الشرعية بحيث يؤدون الفرائض ويجتنبون المحارم. والثاني: التأدب
بآداب أهل الطريق وهي الآداب الشرعية في غالب الأوقات، وأما الآداب البدعية الوضعية فلا يلتفت إليها. والثالث: أن لا يكون أحدهم متمسكًا بفضول الدنيا، فأما
من كان جماعًا للمال أو كان غير متخلق بالأخلاق المحمودة، ولا يتأدب بالآداب
الشرعية أو كان فاسقًا، فإنه لا يستحق ذلك. وأما صوفية الرسم فهم المقصرون
على النسبة، فهمهم في اللباس والآداب الوضعية ونحو ذلك، فهؤلاء في الصوفية
بمنزلة الذي يقتصر على زي أهل العلم وأهل الجهاد، ونوع ما من أقوالهم وأعمالهم
بحيث يظن الجاهل حقيقة أمره أنه منهم وليس منهم.
وأما اسم الفقير، فإنه موجود في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
لكن المراد به من الكتاب والسنة الفقير المعادل للغني كما قال النبي صلى الله عليه
وسلم (?) والفقراء والفقر أنواع؛ فمنه المسوغ لأخذ الزكاة وضده الغنى المانع
المحرم لأخذ الزكاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحل الصدقة لغني ولا
لقوي مكتسب، والغني الموجب للزكاة غير هذا عند جمهور العلماء؛ كمالك والشافعي
وأحمد وهو ملك النصاب، وعندهم قد يجب على الرجل الزكاة ويباح له أخذ الزكاة
خلافًا لأبي حنيفة، والله سبحانه قد ذكر الفقراء في مواضع.
لكن ذكر الله الفقراء المستحقين للزكاة في آية، والفقراء المستحقين
للفيء في آية، فقال في الأولى: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا
وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة: 271) - إلى قوله - {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ
أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ
مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} (البقرة: 273) وقال في
الثانية: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى} (الحشر: 7) - الآية إلى
قوله - {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً
مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر: 8) .
وهؤلاء الفقراء قد يكون فيهم من هو أفضل من أفضل من كثير من الأغنياء،
وقد يكون من الأغنياء من هو أفضل من كثير منهم، وقد تنازع الناس أيما
أفضل الفقير الصابر أو الغني الشاكر، والصحيح أن أفضلهما أتقاهما، فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة كما قد بيناه في غير هذا الموضع، فإن
الفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنة لا حساب عليهم، ثم الأغنياء يحاسبون، فمن كانت حسناته أرجح من حسنات فقير كانت درجته في الجنة أعلى - وإن تأخر عنه
في الدخول - ومن كانت حسناته دون حسناته كانت درجته دونه , لكن لما كان جنس
الزهد في الفقر أغلب، صار الفقر في اصطلاح كثير من الناس عبارة عن طريق
الزهد، وهو من جنس التصوف، فإذا قيل: هذا فيه فقر أو ما فيه فقر لم يرد به
عدم المال. ولكن يراد به ما يراد باسم الصوفي من المعارف والأحوال والأخلاق
والآداب ونحو ذلك، وعلى هذا الاصطلاح قد تنازعوا أيما أفضل الفقير أو
الصوفي، فذهب طائفة إلى ترجيح الصوفي كأبي جعفر السهروردي ونحوه،
وذهب طائفة إلى ترجيح الفقير كطوائف كثيرين، وربما يختص هؤلاء بالزوايا
وهؤلاء بالخوانك ونحو ذلك، وأكثر الناس قد رجحوا الفقير، والتحقيق أن أفضلهما
أتقاهما فإن كان الصوفي أتقى لله كان أفضل منه، وهو أن يكون أعمل بما يحبه
الله، وأترك لما لا يحبه فهو أفضل من الفقير , وإن كان الفقير أعمل بما يحبه الله
وأترك لما لا يحبه كان أفضل منه، فإن استويا في فعل المحبوب وترك غير
المحبوب استويا في الدرجة، وأولياء الله هم المؤمنون المتقون سواء سمي
أحدهم فقيرًا أو صوفيًّا أو فقيهًا أو عالمًا أو تاجرًا أو جنديًّا أو صانعًا أو أميرًا أو
حاكمًا وغير ذلك.
قال الله تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ
آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس: 62-63) وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: (من عادى لي وليًّا فقد
بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليّ عبدي بمثل ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي
يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي
يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، فبي يسمع، وبي يبصر،
وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن
شيء أنا فاعله كترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته،
ولابد له منه) وهذا الحديث قد بَيَّن فيه أولياء الله المقتصدين؛ أصحاب اليمين
المقربين والسابقين.
فالصنف الأول الذين تقربوا إلى الله بالفرائض، والصنف الثاني
الذين تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض؛ وهم الذين لم يزالوا يتقربون
إليه بالنوافل حتى أحبهم كما قال تعالى، وهذان الصنفان قد ذكرهما الله في غير
موضع من كتابه، كما قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ
لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} (فاطر: 32) وكما قال الله تعالى:
{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وَجُوهِهِمْ نَضْرَةَ
النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ *
وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المُقَرَّبُونَ} (المطففين: 22-28) ، قال ابن
عباس: يشرب بها المقربون صرفًا وتمزج لأصحاب اليمين مزجًا وقال
تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى
سَلْسَبِيلاً} (الإِنسان: 17-18) وقال تعالى: {فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ
المَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ
المُقَرَّبُونَ} (الواقعة: 8-11) وقال تعالى: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ *
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ * فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ
أَصْحَابِ اليَمِينِ} (الواقعة: 88-91) .
وهذا الجواب فيه جمل تحتاج إلى تفصيل طويل، لم يتسع له هذا الموضع.
والله أعلم.
__________
(*) المنار: ننشر هذه الفتوى ليعلم الذين يقلدون ابن حجر وغيره في قولهم أن ابن تيميه كان ينكر
على الصوفية حق هذا القول من باطله ومنها يعلمون أن الرجل يزن كل شيء بميزان الشرع وسيرة
السلف الصالح.
(1) المنار: هذه المرتبة الثالثة وهي العليا ولم يصرح هنا بالعدد.(12/746)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشيعة والمسلمون
سُئِلْنا عن قولنا في البابية: إنهم ليسوا من الشيعة ولا من المسلمين، ألا
يفيد هذا القول أن الشيعة أيضًا ليسوا بمسلمين؟ فقلنا: لا.. بل هذا من باب المقابلة
بين العام والخاص؛ لما هو معلوم عند قراء المنار وغيرهم من كون الشيعة مسلمين،
والقاعدة أنه إذا قوبل الخاص بالعام يراد بالعام ما وراء الخاص، فإذا قلت: إن
فلانًا ليس بسوري ولا عثماني، كان المراد بلفظ العثماني ما يشمل غير السوريين
من العثمانيين، ولا يدل على أن السوري ليس بعثماني. فلما كانت الشيعة فرقة
من المسلمين، ونفينا أن تكون طائفة البابية منهم، وإن ظهرت فيهم، كان لظان أن
يظن أن البابية ربما خرجت من مذهب الشيعة بمخالفته في المسائل التي كان بها
مذهبًا خاصًّا فقط، وبقوا على أصل عقائد الإسلام التي لا خلاف فيها بين الشيعة
وغيرهم، فبينا أن ذلك أيضًا غير صحيح، وأنهم ليسوا من المسلمين مطلقًا.
__________(12/755)
الكاتب: نقلا عن جريدة المفيد
__________
مكة المكرمة والجرائد العربية [*]
إن لدينا اليوم حكومة مهمة مالكة لجميع حقوقها المدنية، ومركزنا السياسي
وموقعنا الجغرافي لا يضاهيه مركز ولا يضارعه موقع، وفي يدنا نعمة عظيمة
تقدر بنعم الدنيا كلها، وهي نعمة (الخلافة) على الأمم الإسلامية كلها.
نحن أرقى الجميع في العلم والعرفان، فلماذا لا نتأثر من الذل الذي يلحق
إخواننا في بخارى؟ لماذا نظل فاقدي الشعور أمام المصائب التي تنزل
بإخواننا في مراكش؟
ألم يكفنا أننا تسفلنا إلى درجة كدنا نضمحل فيها؛ بالتعلل بلفظ (لا يصير)
و (ما يعنينا) ?
ألم يكف بأننا قد جعلنا تحت الأرض قيد الذل والأسر مئات الملايين من
إخواننا في الدين بسبب عدم التفاهم؟
هل نحن واقفون على الحالة السياسية والضغطية الموجود فيها إخواننا
المسلمون في أوستراليا وفي جاوة ? هل نحن مطلعون على طرز إدارة المسلمين في
الصين وأحوالهم المعاشية؟ لا نذهب بعيدًا، هل نحن على علم تام بمصائب متاخمينا
ومجاورينا الإيرانيين ? أو على إلمام بذل القفقاسيين؟ أو سفالة القريميين؟ أو
سياسة الصربيين؟ أو سائر أحوال غيرهم من المسلمين؟
لنترك هؤلاء أيضًا، هل تذرعنا لإنقاذ جزيرة العرب التي تبلغ ثلاثة أضعاف
بلاد البلغار من الجهل المخيم عليها منذ قرون؟
أليس ذلك عارًا علينا؟ إن إهمالنا لهذه الدرجة مما تحار له عقول ذوي العقول؟
أيها المؤمنون، ما هذه الغفلة؟ أيها المسلمون، ما هذا الإهمال؟ لماذا بقينا
متخاذلين متشتتين؟ لماذا وصلنا إلى هذه الدرجة من الحيرة؟
إن سكوتنا هذا يحمله الجاهلون على المسكنة المتأصلة بفطرتنا والمفسدة
الموجودة في ديننا (حاشا ثم حاشا) .
قد وصلنا إلى درجة من الجهل، أصبحنا بها نسمع ألفاظ العداء من لسان
الأوداء، لا من لسان الأعداء، حتى أصبحنا عرضة لأمثال هذه الأقوال اللئيمة:
(أي شيء رقاه المسلمون ? بل أي شيء أمكن للمسلمين أن يرتقوا به) ؟
هنا يتهافت إخواننا وبنو قومنا بدون أن يعملوا فكرتهم إلى القول
بأن أوربا تحارب الدين، غير عالمين كيف تحارب أوربا الدين، وأي دين
تحارب! فيعلقون بإشراك الشبهات والأضاليل غير متفكرين بمرامي كلامهم، وما
يجره من الرزايا والكوارث، ومتخيلين أن الترقي الحاضر لم ينشأ إلا عن محاربة
الدين!
أليس القول: بأي شيء ارتقى المسلمون؟ يرمي إلى أن الإسلام مانع من
التمدن؟ ؟ تالله، إن البلاهة الموجودة عندنا هي من الغرابة بمكان، إن قائل هذا
القول يعلم يقينًا أن الأندلس وبغداد كانتا منبعًا للتمدن الأوربي الحالي، ومصدرًا
للعلم الحاضر، فهل كان الدين الإسلامي في ذلك الحين غير الدين الإسلامى اليوم؟
فما هذا التناقض!
كيف يمكن أن تكون شريعتنا الإسلامية وهي جامعة لقواعد الارتقاء والتمدن
حاجزًا في طريق الترقي؟
إن نظرة سطحية إلى أحكام الدين الإسلامي، تكفي لأن يتبين منها بأنها أساس
متين للارتقاء ونظام مكين للعلاء.
نعم.. نحن نعترف بأن المسلمين لهذا العهد قد وصلوا إلى درجة من الامتهان
والازدراء، بحيث لو ادعوا - وهم على حالتهم الحاضرة - بأنهم مرتقون لأصبحوا
سخرية. لكن في هذه الحالة لا يجب أن نلقي الذنب عليهم لكونهم مسلمين، بل يجب
أن نلقي الذنب عليهم لكونهم غير مسلمين حقيقة؛ وما ذاك إلا لأنهم لم يعملوا بالأحكام
الإسلامية على وجوهها، بل خالفوا الشرع ونبذوا الأمور الإلهية وراء ظهورهم، وإلا
فإن الاندفاع إلى إنكار سماحة الدين الإسلامي وتساهله مع العلم والارتقاء استنادًا
على جهل بنيه؛ هو أشبه بالاستدلال على حسن رجل أو قبحه من خيوط شعره
الموجودة في اليد.
إن الدين الإسلامي يأمرنا بالاجتماع في محل واحد خمس مرات في النهار،
ولا ريب أن هذا الاجتماع يرمي إلى كثير من المعاني الدقيقة والإشارات الرقيقة،
شأن الأوامر والنواهي الإسلامية كلها.
أيها القوم! يجب علينا أن نجتمع، يجب علينا أن يرى بعضنا بعضًا، يجب
على كل منا أن يبحث عن الآخر، يجب علينا أن نسأل عن المتخلف عن الحضور
يجب أن نعلم ما هي حالته، أو ما الذي دعاه إلى التخلف، فإذا كان ثمة من كرب
أو كارثة، فلنجتهد بإزالة كربه. فإننا بهذا العمل نكون متعاونين على البر، بل
نكون جددنا اتحادنا واتفاقنا في كل وقت، وإلا فلو كانت الغاية من الصلاة جماعة
هي نفس الصلاة، لكانت صلاة الإنسان في أي محل يستسهله ممدوحة ومباحة؛
عملاً بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) .
إن صلاة الجماعة كما تكون وسيلة حسنة لاجتماع أهالي محلة واحدة، وسببًا
لتعارفهم واتفاقهم في كل يوم خمس مرات، تكون لأهل البلدة كلها في جامع واحد
في الاجتماع لصلاة الجمعة؛ ولذلك اختلف في جواز صلاة الجمعة في جامعين في
بلدة واحدة.
واجتماع الناس في صعيد واحد، يتسنى به للخطيب أن يلقي عليهم المواعظ
والنصح، ويطلعهم على الشئون الإسلامية بصورة إجمالية.
ثم إن الدين الإسلامي قد أمر باجتماع آخر أعم وأشمل وأكثر تأثيرًا، وهو
اجتماع أغنياء المسلمين في العالم في صعيد واحد كل سنة.
وعليه فإن أغنياء المسلمين النافذي الكلمة من كل مملكة وكل بلدة، يجتمع
بعضهم ببعض مرة في العمر على الأقل في محل عينه الشارع، وجعل شد الرحال
إليه فرضًا، وهناك يتفاوضون مع سفراء إخوانهم في الدين، ويتعارفون ويتعرفون
شئون إخوانهم النائين، ومن الحكمة في هذا الفرض أنه جعل فرضًا على الآباء
والأبناء على السواء، فإذا حج الوالد فلا يسقط عن الولد.
يجتمع المسلمون في هذا الموقف في الوقت المعين، فيمتزجون ويتباحثون
فيما يعود عليهم بالنفع، ويتفكرون في الوسائل التي تجعلهم جسدًا واحداً، إذا
اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد، بل يجعلهم يقرون على خطة يسيرون
عليها؛ سعيًا وراء كل ما يرمون إليه من الآمال الكبيرة.
الاجتماع في الحج واقتداء مئات الألوف بإمام واحد وقت الصلاة، يصور
للمسلمين الاتحاد مجسمًا.
الاجتماع في الحج يجعل المسلمين مطلعين على شؤون مجموعهم في كل حين.
الاجتماع في الحج يجعل أمل المسلم في طنجة هو نفس أمل المسلم في كشمير،
ويجعل ما يشعر به (أحمد) في القزان يشعر به (محمد) في الترنسفال.
أيها القوم! أليس من الأسف أن تكون أوامر ديننا بهذه الدرجة العالية من
الحكمة؛ ونحن نعد أداء الصلوات الخمس فضلا عن أداء فريضة الجمعة والحج
أشبه بعمل زائد؟ ؟
من منا يهتم بشأن الصلاة ? على أننا وإن صلينا فإنا نعد الذهاب إلى الجامع
عملاً لا لزوم له!
أيها القوم! لنفكر بإنصاف: إذا كنا نحن لا نهتم بأمر الاجتماع الذي
يأمر به الدين، فهل يكون الذنب على الدين أم على أهل الدين؟ ؟ نعم.. إن دور
الاستبداد كان يمنعنا عن التصريح بأمثال هذا الكلام، بل كان يمنعنا عن التفكر به.
أما اليوم فإنه لا يقف بوجهنا حاجز عن التصريح بكل حقيقة، كلنا نتمنى أن نرى
الدولة العثمانية دولة عزيزة الحمى، منيعة الجانب موهوبة الشبا، لكن يا ترى،
لماذا لا تتذرع بالوسائل التي تقوي العنصر الأصلي للإسلام (وهو العنصر العربي)
بل لماذا لا تقوي الإسلام نفسه! ? أول عمل يجب الشروع به في رأي هذا
العاجز؛ هو توثيق روابط الاتحاد وتحكيمها كما نحن مأمورون شرعًا، والاتحاد لا
يؤيد ولا يوثق إلا بإنشاء جرائد عربية خاصة، تنشر وتعمم.
اللسان الفرنسوي يعده الأوروبيون اللسان الرسمي العمومي بينهم، واللسان
العربي يعده المسلمون اللسان الرسمي الديني العمومي بينهم؛ أية بلدة أو مملكة
إسلامية تعد اللسان العربى غريبا؟ أية جمعية إسلامية تعد الكتاب العربي أجنبيًّا؟
وعليه فأي شأن من الشؤون الناقلة تقصر الجرائد العربية عن القيام بأدائه.
إننا وايم الله لنأسف كل الأسف؛ لأننا لم نتذرع حتى الآن بشيء من هذا
القبيل، بل إنى أعد عدم تذرعنا بذلك عارًا، نعم.. يجب علينا لتحويل حركة
الرأي العام إلى هذه الجهة أن نعقد المجتمعات والمؤتمرات. ولكن في أي مكان
نعقدها؟
إنه يوجد لهذه الغاية الشريفة محل مبارك؛ هو أهم من الآستانة ومصر،
ويمكن أن يتخذ مركزًا وهو مكة المكرمة، كرمها الله إلى يوم القيامة.
إذا كان صوت الشريعة الغراء يجمع كل سنة مئات الألوف من الحجاج، وإذا
كان كثير من ذوي الثروة والكلمة النافذة من كل أرجاء الأرض مكلفين أن يعرفوا
هذه الجهة المقدسة، أفلا نستفيد نحن شيئًا؟ إننا مع الأسف لم نعمل شيئًا حتى الآن
لكن مادامت غايتنا الآن العمل على ترقية الأمة الإسلامية، فإن تلك الخطة هي
أحسن وسيلة للوصول إلى ما نرمي إليه.
وا أسفاه! إن حجاجنا الذين يجتمعون في تلك الأرجاء، تراهم بسبب رزية
جهلهم، وسيئة عدم وجود مرشد لهم، يكتفون بمواجهة بعضهم لبعض فقط، فلا
يتطرقون إلى البحث في أحوالنا؛ لا الديني منها ولا الدنيوي.
عقد في الأيام الأخيرة في مدينة (موسكو) مؤتمر مؤلف من جميع أرجاء
بلاد السلاف.
إن تصور هذا المؤتمر وحده كاف لأن يصور لنا مقدار الفوائد العظيمة التي
نالها أصحابه منه، وما نتج لنا من الضرر الذي لحقنا منذ زمن قريب بسببه.
إن هذا المؤتمر لا يمكن أن يجتمع به أكثر من مائة أو مائتي شخص، وإذا
بلغ الغاية فإنه يجمع ألف نفس ليس إلا. ومع ذلك فإنهم قد حلوا بواسطته عدة
مشاكل، ونالوا ما كانوا يطمحون إليه.
أما نحن فما الذي صنعناه؟ نعم.. ما الذي صنعناه نحن؟ إننا إلى الآن لم
نقدر أن نمدن ما حوالي مكة. بل إننا نحن إلى الآن لم نقدر أن نفهمهم بأننا مسلمون
مثلهم.
العربان في تلك الأرجاء لم يزالوا حتى اليوم يعدون قتل المسلم الحاج حلالاً
مباحًا؛ طعمًا بسلب ثلاث أو خمس ليرات منه!
العربان في تلك الأرجاء؛ لم يزالوا حتى اليوم يعدون كل من لا يحسن التكلم
بالعربية من حجاج بيت الله الحرام مشركًا.
نعم.. إن التأسف على الماضي لا يجدي، بيد أن الذي يجدي هو أن نجد
ونجتهد؛ لكى نجعله ماضيًا، وبعبارة أوضح هو أن نجدّ ونجتهد لكي لا نجعل
الآتي كالماضي.
أقول بكل صراحة: إننا إذا أردنا أن ننهض بالأمة الإسلامية، يجب علينا أن
نوجه كل اهتمامًا إلى مكة؛ لأن الوسائل التي تنهض بالدولة العثمانية وتجعلها في
عداد الدول القوية التي تأبى أن تغلب إنما تنالها بتلك الأرجاء.
يجب علينا أن نجعل لتلك الأرجاء أهمية سياسية، كأهمية العاصمة نفسها؛
لأنها منبع علومنا المدنية، ومقر سياستنا الإسلامية.
يجب أن ننشر بتلك الأرجاء جميع الجرائد والكتب التي تطبع باللغات
الإسلامية.
يجب أن تلقى الخطب الاجتماعية بتلك الأرجاء. يجب أن تفتح أهم مكاتبنا
(المدارس) في تلك الأرجاء.
يجب أن توزع من تلك الأرجاء بذور الاتحاد على جميع أنحاء العالم.
يجب أن نجعل تلك الأرجاء بدرجة إذا رأى بها أحد مكة المكرمة، يظن أنه
رأى الممالك الإسلامية، ويعتقد بأنه اطلع على زيادة آمال الأمة.
يجب أن يقتنع المسلم الذي يحب الوقوف على الشئون الإسلامية؛ بأنه إذا
رأى مكة المكرمة أصبح واقفًا على أنموذج أحوال الأمة لدرجة كافية.
يجب علينا أن نجعل هداتنا (أهالي مكة) يتخرجون من كلية علمية منظمة.
يجب أن يدخل أهالي مكتنا المكرمة في دور عمراني مهم , إن هذا المقام
مقدس، وكل يوم نوجه وجوهنا إليه خمس مرات.
إذا كانت الآستانة وجهتنا في المعاملات فمكة وجهتنا في العبادات.
إذا كانت الآستانة مركز خلافتنا فمكة مركز ديانتنا.
إني أعتقد أن المسلمين لا يستفيدون استفادةً حقيقيةً من المدنية الإسلامية
التي هي المدنية الحقيقية إلا باتخاذ مكة المكرمة مركزًا للعلم والحضارة.
ربما يتخيل بعض الناس أن اتخاذ مكة المكرمة مركزًا للعلم والحضارة، يضر
بالآستانة نفسها. لكن أظن أن المدنية الإسلامية والعلوم الحقيقية إذا نشرت في مكة
على وجهها الحقيقي، لا تنتج أقل ضرر، فيجب أن نجعلها مثابة للعمل، ومهبطًا
ومركزًا للتقسيم والتوزيع؛ لأن موقعها أشرف المواقع بلا استثناء، وقد اختارها
رب الأرباب من بين البلدان كافة وجعلها مقر بيته الحرام، وقبلة المسلمين في
جميع أرجاء الأرض.
وعليه فإن مكة أنفع للحكومة العثمانية من كل جهة، بل ومن كل وجهة، وإذا
فكر أولياء الأمور وأولوا الشأن وأرباب الأقلام منا بهذه النقطة الدقيقة، فلا أشك في
أنهم يجزمون بالفوائد الكثيرة التي ننالها.
أليس الواجب أن تشمل تلك الأرجاء السياحات النافعة المفيدة التي يجريها
أمثال إسماعيل غصبر نسكي، وغيره من الغيورين المتفانين بإعلاء كلمة الدولة
والأمة؟ أليس من الواجب أن لا يحرم الحجاج المسلمون من إرشادات هؤلاء
الأفاضل.
أيها القوم! علينا بالعمل. يجب أن يبدأ بالإرشاد من مكة. يجب أن ترسل
أوراق الدعوة إلى أفاضل الأمة، وأنا على يقين بأنه لا تمضي مدة إلا والعالم
الإسلامي قد انتقل من طور إلى طور.
أيها القوم! إن العرب، والمصريين، والمراكشيين، والزيديين،
والإيرانيين والأفغانيين، والهنديين، والصينيين والجاويين، والبخاريين، والأتراك، والأكراد، واللازيين، والألبانيين، والجراكسة - كلهم قد ولوا وجوههم
نحونا، ينتظرون كلمة (الدعوة) لتصدر منهم كلمة (الإجابة) حالاً.
أيها القوم! إن الألمانيين والمجربين والسكسونيين والسلافيين والإغريقيين
كلهم باذلون قصارى جهدهم وراء الاتحاد والاتفاق.
أيها القوم! إن بقاءنا مهملين أمر المحافظة على كياننا وحقوقنا أمام الأمم
أجمع؛ هو من الجرائم الكبيرة التي لا تغتفر بوجه من الوجوه.
أيها القوم! لماذا التقاعس؟ لماذا لا نبحث عن الوسائل التي تمدن المسلمين
كافةً، وتجعلهم متمدنين؟ ألسنا من بني الإنسان؟ !
أيها القوم! يجب أن نزيل الأقذاء المغشية على صماخ آذاننا؛ لعلنا نسمع بها
كيف أن الأمم تجد وتجتهد؛ لتكون في مركز يهدد كيان غيرها.
أيها القوم! إننا نسمع الذين يلقبون بلقب (لورد) أو (موسيو) يأسفون
لوجود قسم من بني الإنسان يسمى المسلمون! فما هذا الذل ? وما هذا العار؟ أفلا
يجب علينا أن نجد ونجتهد؛ لنقدر أن نطبق علينا حقوق الدول.
أيها المسلمون! يجب أن تنتبهوا، فإن القافلة قد شدت الرحال وغذت في
المسير، والسلام على من اتبع الهدى اهـ.
(المنار)
طرقنا باب هذا البحث: بحث جعل مكة مهد الإصلاح الإسلامى في السنة
الأولى من المنار، وفصلنا القول فيما يجب منه تفصيلاً، ووجهنا الخطاب في ذلك
إلى مقام الخلافة في الآستانة، لا لأننا كنا نرجو من ذلك المقام القيام بالإصلاح
المطلوب، فإننا كنا على قلة ما نعلم من سيئات الحكم الحميدي في ذلك العهد، لم
نكن مغترين بذلك السلطان ومن ذوي الرجاء فيه، بل كتبنا ذلك ليفكر فيه المفكرون
فيقوى الاستعداد له. أما وقد صار شكل حكومتنا دستوريًّا فإن لنا رجاء في كل إصلاح , ولكن يعوزنا الرجال المنفذون، يعوزنا الرجال القادرون، يعوزنا الرجال،
الرجال، الرجال، فهل من وسيلة لإيجاد الرجال؟ ؟
__________
(*) مقال لمحمد عالم أفندي من كتاب الترك وعلمائهم، نشر في مجلة (صراط مستقيم) التي
تصدر في الآستانة، وقد نشر مترجمًا في مجلة النبراس ولخصته جريدة المفيد، وعنها أخذنا.(12/756)
الكاتب: أحمد بدوي النقاش
__________
إيضاح وانتقاد
العلامة المفضال السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار المنير.
(13- السلام عليكم ورحمة الله) وبعد: فقد اطلعت على جوابكم بالمنار
(صحيفة 537 ج 7 م12) ، وإني أشكركم على كل حال، وأرجو أن تفسحوا
للضعيف مجالاً في صدر حلمكم؛ فإن الكمال لله وحده وإنَّ خوفي من التطويل مع
رقة جسم المنار هو الذي جعلني أقصر عن زيادة الإيضاح في أول الأمر، بل
كثرة اشتغالي بمصالح الحكومة تجعلني أختلس القليل من وقت راحتي لأكتب ما
أرى، ذمتي تطالبني ببيانه إجمالاً مع اعترافي بالعجز؛ وإن كان فيما أكتب شيئًا
من العسلطة، فما زلت أقول: (رب زدني علمًا) حتى تتمكنوا من فهم قصدي
الحسن، وإني باسم الله الأكبر أبتدئ في بيان المقصود فأقول:
(14- القسمة في الآخرة) ذكرتم في صحيفة 544 ج 7 م 12 أن الناس
ينقسمون في الآخرة إلى قسمين: شقي وسعيد، وأنهم فيها فريقان: {فَرِيقٌ فِي
الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: 7) فهذا لا أخالفكم فيه في شيء.
(15- مساواة الناس في بدء الخلقة) قلتم في صحيفة 544 (وإنه بدأهم
على هذا ويعيدهم عليه) ففهمت من ذلك أن الله تعالى بدأ خلق الناس قسمين: شقيًّا
وسعيدًا، وأنه تعالى أخرجهم في هذه الحياة على هذه القسمة، وأنه سيعيدهم في
الآخرة على نفس هذه القسمة بلا تغيير ولا تبديل، حيث أيدتم ذلك بقولكم: (إنه
كما قسمهم إلى شقي وسعيد في الدنيا والآخرة قسم بينهم) ... إلخ وهذا ما أخالفكم
فيه، ولا أوافقكم عليه من بعض الوجوه؛ للأسباب الآتية:
أولاً - خلق الله الناس في بدء خلقتهم متساويين (?) لغرض واحد، فلا شقيًّا
بينهم ولا سعيدًا، ثم أخرجهم في الحياة الدنيا لعبادته كالآية {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ
وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) فحصر الغرض من الخلقة في العبادة
وحدها يدل على تساوي أصل الناس في بدء النشأة.
ثانيًا - قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (البقرة: 213) وهذا يدل
صريحًا على أن الناس كانوا كواحد في بدء الخلقة، لا تمييز بين إنسان وآخر، ولا
وجود لشقي بينهم ولا لسعيد.
ثالثًا - قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ
عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} (الأعراف: 172) فهذه الآية تدل
على أن ذرية بني آدم بلا استثناء وهم في ظهور آبائهم، كانوا مطبوعين على تأليه
الخالق وتوحيده بلا شرك، فيدخل في ذلك بالطبع ذرية اليهودي والمجوسي،
والبوذي والبرهمي، والمسيحي والمسلم، والمادي والدهري، والكافر والمؤمن،
مما يثبت توحيد الناس ومساواتهم في بدء الخلقة، وقد ولدوا من بطون أمهاتهم
بالبداهة على هذه الطهارة، فكيف تقولون: إنه بدأهم قسمين ويعيدهم عليهما!
رابعًا - قال النبى عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة)
والولادة على الفطرة كما لا يخفى عليكم؛ هي الولادة على الأصل الطاهر الخالي من
نزعات الشرك وخلافه، فلا يوجد إذًا في بدء الخلقة تقسيم.
(16- سير الناس على نظام ذي (?) وجهين) لعلكم تتساءلون بعد ذلك
وتقولون: إذا سلمنا بأن الناس متساوون في بدء الخلقة، لا شقيًا ولا سعيدًا، فكيف
ينقسمون في الآخرة إليهما.. وكيف يتفق علم الله الأزلي الثابت على ذلك في
الحياتين؟
فأقول لكم: إن الله تعالى أخرج الناس إلى الحياة الدنيا على الفطرة طاهرين،
وجعل لهم بإرادته نظامًا يسيرون عليه بعد أن منحهم الاستقلال الذاتي والحرية،
غير أن هذا النظام ذو وجهين متضادين كما قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: 10) أي: الطريقين المتضادين: طريق الخير وطريق الشر في آن واحد،
ولما كانت الطبيعة الإنسانية متركبة بكيفية تلائم الطريقين المذكورين، غير أنها لا
يمكنها أن تسير إلا في طريق واحد فقط منهما ولو بالتناوب مرة هنا ومرة هناك
تبعًا لحرية الإنسان واستقلاله كالآية {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} (الإِنسان: 3) فكان ذلك داعيًا لانقسامهم أنفسهم مع أن الله تعالى لم يقسمهم من
قبل ذلك.. فتجد واحدًا يسير في طريق الخير دفعة واحدة، وآخر في طريق الشر
دفعة واحدة، وثالث (?) ينتقل بين طريق الخير والشر، مع العلم أنهم جميعًا في
إمكانهم أن يسيروا من طريق واحد دون أن يروا الثاني ولا يعلمون به، فتقسيمهم في
الأصل غير موجود بالمرة، ولكن النظام الموضوع أمام حريتهم هو المقسوم فقط،
وفرق بين قسمة النظام وقسمة النفوس التي تسير بحريتها على أي شكل كان، مما
في هذا النظام المعلوم لله من قبل خلق الناس أجمعين.
(17- علم الله الأزلي وسير الناس في الطريق) ربما تقولون مما ذكرته آنفًا:
إنه مادام الناس غير منقسمين من قبل سيرهم في أحد الطريقين. وإنهم يمكنهم جميعًا
أن يسيروا في طريق واحد من غير أن يروا الثاني.
إن علم الله تعالى الأزلي فيما يختص بسيرهم هذا غير ثابت من جهة
الواقع منهم ونفس الأمر، وإنَّه تعالى لا يعلم مَن مِن هؤلاء الناس سيكون في
الطريق الأيمن، أو من منهم سيكون في الطريق الأيسر، وجوابي على ذلك:
أنَّ كل ما يحدث مهما كان من عمل الإنسان الحر، كان معلومًا لله أزلاً قبل وقوعه
فعلاً بصفة عامة، لا تخصيص فيها لزيد من الناس، وأنَّه تعالى خلق الناس؛
ليسيروا في أحد طريقين متضادين أو في كل منهما على التناوب {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن
وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29) مع كونه يراقبهم بنفسه كل المراقبة {أَفَمَنْ
هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (الرعد: 33) فالمراقبة هي أساس العلم
بالتخصيص بأحد الطريقين أو المختار منهما في أي وقت بواسطة أي إنسان بتمام حريته.
ومن هذه المراقبة يعلم الله تعالى في أول وهلة ما خصص كل فرد لنفسه من
أحدهما مع كونهما وكل ما فيهما من أنواع الأعمال المختلفة معلومين لله تعالى
من الأزل كما مر. وكل هذا بالبداهة لا يزيد علم الله تعالى شيئًا ولا ينقصه
ما في شيئا وغاية الأمر أن الله تعالى خلق الناس في الأصل طاهرين وأخرجهم
في هذه الحياة الدنيا لغرض هو: ليعلم منهم من يسير في الطريق الأيمن بحريته
ومن منهم يسير في الطريق الأيسر؛ ولذا كانت المراقبة لازمة كالآية {إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء: 1) ويؤيد ذلك ما يأتي.
أولاً - ما ذكره الله تعالى في الكتاب العزيز من أمر الفتنة أو الامتحان؛
لاختبار كل من يؤمن به تعالى حتى يعلم منه؛ إما الثبات نهائيًا على الإيمان أو
الزعزعة عنه عند الامتحان أو الفتنة المذكورة، كالآية: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا
أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 2-3) فالله تعالى يصرح في القرآن بنفسه بأنه
تعالى لا يعلم الصادق من الكاذب في الإيمان إلا بعد أن يفتنه ويجربه ويمتحنه؛
ليعلم منه قوة الخيار للإيمان والثبات عليه، أو التزعزع عنه بمطلق حريته الممنوحة
له منه. أما قولكم: إن ذلك علم انكشاف، فهو مردود؛ لأنه لا يوجد لله علم
مكشوف؛ لأن المعدوم والموجود في علم الله سواء.
ثانيًا - قال تعالى عن الشيطان: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن
يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (سبأ: 21) أى:
إنَّه تعالى لم يجعل للشيطان على الإنسان سلطة ما؛ ليحور (?) إرادته الحرة
الخصوصية من الإيمان إلى الكفر، بل هي وسوسة ضعيفة {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ
ضَعِيفاً} (النساء: 76) أمرها بسيط، ولا تأثير منها، وممكن لكل إنسان
بحريته أن يتجنبها بما خلق الله تعالى فيه من عقل، وجعل له من إلهام.
والله تعالى لم يمنع الشيطان عن تلك الوسوسة للإنسان؛ إلا ليجعلها في من
الفتنة أو اللازم المقرر في نظام الله؛ ليعلم منها من يؤمن بالآخرة ممن هو
في شك منها. وأَنَّ هذا العلم لا يكون إلا بالمراقبة المذكورة؛ إذ بغير ذلك لا يكون
معنى للمراقبة التي مدلولها التأمل لانتظار وقوع فعل من شخص معلوم في
أحد (?) جهتين متضادتين.
ثالثًا - قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ
الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 143) فهو تعالى
يصرح هنا أنه لا يعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه منهم، قبل الفتنة
بالانقلاب عن القبلة ببيت المقدس إلى الكعبة إلا بعد حصولها.
وهنا لا يتوهم القارئ أن الله تعالى كان يجهل شيئًا أو يعزب شيء عن علمه.
كلا بل هو بكل شيء عليم؛ لأن الله تعالى كان يعلم أن ما خلقهم عليه من
نفس كاملة وعقل، يمكنهم بهما أن يتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بمطلق
حريتهم التي منحها لهم بلا أي مانع، هذا من جهة. ومن جهة أخرى بحسب
الوضع الذي شكل به الخلقة الإنسانية كان يعلم عنهم في آن واحد أنهم يمكنهم
جميعًا أن لا يتبعوه صلى الله عليه وسلم بمطلق حريتهم، وفي الوقت نفسه كان يعلم
بالنتيجة التي سيجازيهم بها وتصيبهم في الحياة الدنيا والآخرة إن لم يتبعوه، ويعلم من
قبل أيضًا بالنتيجة التي سيجازيهم بها في الحياتين؛ إن لم يتبعوه. غير أن هذا العلم
المطلوب ليس انكشاف الفعل الواقع المطابق وحده للعلم السابق دون غيره؛ كما
يقول المنار. كلا.كلا بل هو علم تنقل إرادة كل منهم إلى أي جهة يرغب السير
بحريته في أحد الطريقين المتضادين المعلومين لله من قبل، وهما مفتوحان معًا في
كل وقت أمام كل إنسان، حتى يمده الله بعد ذلك بجزاء ما أراد , وهذا العلم بالطبع
لا يكون إلا بالمراقبة، كالآية {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (الرعد: 33) .
رابعا: أن خلق الله متساويين (؟) في بدء الخلقة وخروجهم إلى الدنيا للتنافس
في عبادة الخالق بحريتهم؛ هو كل الحق الذي كان الغرض منه وجود
العالم، كالآية: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} (ص: 27) ،
وكالآية: {أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ
بِالْحَقِّ} (الروم: 8) .. فهل يعرف المنار ما هو هذا الحق؟ هذا الحق هو منح
المخلوقات ومنها الإنسان (الحرية) الكاملة في عبادة الله؛ وللسير في أحد
الطريقين المتضادين متحملاً نتائج أحدهما أو كل منهما بالتناوب على عاتقه بما
وهبه الله من عقل وشعور وإلهام مع تمام الاستقلال في الإرادة {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ
نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} (الأنعام: 164) .
فإذا كان الناس مقسومين كما قلتم من الأصل وفي الدنيا، وإنَّهم سيعودون
على هذا التقسيم نفسه في الآخرة.. فإن الحياة الدنيا والخلق في الأصل والمبدأ
يصيران بذلك عملاً من الله باطلاً كل البطلان، لا علة ولا حكمة منه أصلاً.. بل
يكون أشبه بتسخير القادر للعاجز، ورحمة أناس وتعذيب آخرين بالاستبداد والقوة
دون غيرهما، مع أن الكل (إنسان) ومن نفس واحدة يشعر الواحد ويحس كما
يشعر الآخر، وهذا لم يعمله ولن يعمله الرحمن الرحيم.
ولا يشير إليه في كتابه الكريم، وإنما يشير إلى أن الكل مكرمون {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا
بَنِي آدَمَ} (الإسراء: 70) ، ومخاطبون بالآية {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) فلا قسمة في أصل الخلقة ولا تقسيم إلا في الآخرة، فإنها ستكون
طبقًا لما اكتسبناه بحريتنا من أحد النجدين المتضادين {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: 10) لا طبقًا للمقسوم المحتوم {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اليَوْمَ إِنَّ اللَّهَ
سَرِيعُ الحِسَابِ} (غافر: 17) .
خامسًا - قال تعالى في بعض الآيات: {وَلَمَّا ِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} (آل عمران: 140) فهذا العلم بالإيمان يدل على وقوعه في المستقبل دون
الماضي. فهو لا يؤيد على الله الجهل، أو أنه علم انكشاف للواقع دون غيره،
كلا بل يدل على تنفيذ ما أراد الخالق أن يكون من نظام وضعه للإنسان بصفته
مخلوقًا سيفعل الخير أو الشر في آن واحد. والمطلوب علمه هو تقييد ما يختاره
الإنسان على نفسه من كل المعلوم لله أزلاً من كلا الطريقين.
فإذا فعل إنسان خيرًا من بدء حياته إلى مماته، ووقع ذلك فعلاً فقد كان هذا
الواقع معلومًا لله أزلاً بصفته معلومًا لا بصفته واقعًا لا محالة. ولكن بجانبه أيضًا
أن الله يعلم للشخص نفسه أن سيفعل الشر على نوع ما من بدء حياته إلى مماته
بصفته معلومًا لا بصفته واقعًا؛ غير أن هذا الإنسان اختار بحريته الأول وترك
بحريته الثاني، فصار هذا الأخير من المعلوم لله غيبًا، لا يظهره للشخص ولا
لأحد في العالم {عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} (الجن: 26) .
وبهذا وبغيره يثبت لكم أن الله تعالى لم يخصص من الأزل أناسًا للإيمان،
معلومين من قبل وجودهم وسينكشفون بالواقع. كلا بل كل موجود في الحياة أمامه
طريقان متضادان تحت حريته، يراقبه الله تعالى حتى يعلم منه في أي جهة عزم
بنفسه الثبات عليها، فكان تعلق العلم الإلهي عن كل إنسان دائمًا هو من جهتين
متضادتين في آن واحد، لا من جهة الواقع وحده كما قلتم، ولما كان الإنسان لا
يمكنه الجمع بينهما في وقت واحد، فعلم الله تعالى المطلوب؛ هو تخصيص أحدهما
للإنسان بإرادته وحريته الذاتية.. إذ أنَّ هذا هو الغرض الوحيد من الخلقة. ... ...
(18- تعلق العلم الإلهي - علم الله بالواقع وبضده في وقت واحد) قلتم في
صحيفة (541 ج 7 م 12) : إنه متى وقع الشيء علمنا أن علم الله تعالى كان
متعلقًا بوقوعه؛ لأن علمه تعالى يكون دائمًا مطابقًا للواقع وإلا كان جهلاً..
وذلك محال) .
أما أنا فأقول لكم: إن علم الله تعالى يتعلق بوقوع الأشياء قبل حصولها في
أحوال مخصوصة يريدها الله تعالى بحق، كالآية: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن
نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (النحل: 40) ومثال ذلك وجود العالم قبل أن يوجد.. ولكن
بالنسبة للنظام الذي خلق الإنسان عليه، وأراد أن يسير بمقتضاه في هذه الحياة
بصفة عامة، فلا تعلق لوقوع الأفعال الإنسانية من قبل وقوعها؛ غير أنها معلومة
بشكلها التي وقعت عليه، إن وقعت مثل ضدها تمامًا بالنسبة لمن وقعت منهم
بالذات، وإن كان الضد الذي لم يقع صار في حيز العدم، ولكنه مازال معلومًا لله
تعالى في الغيب الذي لا ندركه ولا يريد الله أن ندركه؛ لأن هذا التعلق الذي
تقصدونه معناه: تحديد ما وقع فعلاً، مهما كان من أي عمل إنساني أنه كان في
العلم الإلهي واقعًا لا محالة قبل وقوعه دون غيره.. وهذا هو الخطأ المحض، بل
هذا هو الخلاف الذي بيني وبينكم في الغالب، ومنه أيدتم عدم فهمكم لكثير مما
ذكرت آنفًا (وسأشرح فيما بعد أن هذه النقطة نفسها هي التي فرقت الأمة الإسلامية
أحزابًا، وكانت أصلاً لسقوط الأمة الإسلامية في أيامها المتأخرة المظلمة) إذ
الحقيقة هي:
أولاً - أنَّ الواقع كان معلومًا لله تعالى مثل كثير من أنواعه وأضداده؛ بالنسبة
لمن وقع منه الشيء نفسه في وقت واحد، وغاية ما في الأمر أن الواقع تخصص
لفاعل الشيء من ضمن أنواع كثيرة كانت مفتوحة أمام حريته لتنفيذ واحد منها في
وقت واحد، وأنَّ هذا التخصيص هو الذي كان يراقبه الخالق ليعلمه (راجع 17
علم الله الأزلي وسير الناس في الطريقين) ؛ لأنه تعالى أراد أن يكون هكذا النظام
الإنساني في العالم، كما قال تعالى {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} (آل عمران: 140) فإذا كان علم الله تعالى معلقًا من
الأزل بمن يؤمن؛ أنه سيؤمن في وقت كذا قبل وقوعه، ومن يكفر أنه سيكفر في
وقت كذا، فما الداعي لقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} (آل عمران:
140) ؟ وأيضًا - لماذا يتخذ منا شهداء أي شاهدين على من كفر به بحريته
للمحاكمة في الآخرة؟ اللهم إلا لأن الناس كلهم في نظر الله سواء. وأنه تعالى فتح
أمام كل إنسان طريقين متضادين، فلا يعلم الله تعالى أنه آمن إلا في حال إيمانه،
ولا يعلم الله تعالى أنه كفر إلا في حال كفره. وأَنَّ حكم الواقع عند الله في العلم هو
كحكم المعدوم سواء بلا فرق وإن كان ذلك يعجز عنه عقل الإنسان {لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ} (الشورى: 11) .
ثانيًا - عثرت في الكتبخانة الخديوية على رسالة في التوحيد بخط نسخ للإمام
أبي حنيفة رضي الله عنه (مجموعة نمرة 127 ن ع 2372) يقول فيها ما يأتي:
لم يجبر الله تعالى أحدًا على الكفر، ولا على الإيمان، ولا خلقهم مؤمنًا ولا كافرًا،
ولكن خلقهم أشخاصًا، والإيمان والكفر فعل العباد، يعلم الله تعالى من يكفر في حال
كفره كافرًا , فإذا آمن بعد ذلك علمه مؤمنًا في حال إيمانه، وأحبه من غير أن يتغير
علمه وصفته، وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون كسبهم على
الحقيقة اهـ) .
فافتكر أن مدلول ذلك وإن كان مجملاً، ولم أطلع على تفصيل له في كتاب
آخر، فهو يطابق في الغالب لتلك المبادئ التي أذكرها الآن وأؤيدها.
ثالثًا - ما يدلكم على أن علم الله تعالى بالنسبة للعمل الإنسان ? لا يتعلق بالواقع
وحده، بل يعلم به وبضده في آن واحد بلا فرق - مخاطبة الله تعالى للكافرين يوم
القيامة؛ أو ذكر أحوالهم التي سيقولونها بأنفسهم بعد أن يبصروا كل شيء على
حقيقته كالآية: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وَقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ
رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} (الأنعام: 27) فهذا يدلك على أن الحال الذي كانوا
فيه في الدنيا وقد كفروا بالله، كان ممكنًا لهم أن يؤمنوا فيه بدل الكفر بلا أي مانع،
حتى يكون الكفر بعيدًا عنهم في العدم، كما صار الإيمان الذي يتمنوا (?) أن لو
ردوا إلى الحياة لاعتنقوه (?) .
ولا يخفى أن ذكر الله تعالى لمثل هذه الأمثال لم يكن عبثًا، بل لغرض أن نعلم
أن علمه تعالى لم يكن معلقًا بالكفر الذي كفروه فعلاً، ويعذبون لأجله في الآخرة؛
لأن معنى التعليق يدل على إرادته الذاتية في لزوم الكفر منهم، ولو باختيارهم
الذي تفرضونه مع وجود هذا التعلق، مع أن الله تعالى يتبرأ من ذلك {وَلاَ يَرْضَى
لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} (الزمر: 7) وإنما كان يعلم عنهم الإيمان كما يعلم عنهم الكفر
في آن واحد بكيفيتهما المتضادة، ثم استمر الله تعالى في مراقبته لهم، حتى علم
منهم أنهم اختاروا الكفر بحريتهم بدل الإيمان نهائيًا، فجازاهم بالنار حقًا، والرد
إلى الحياة الدنيا من الآخرة مستحيل؛ لأن هذه الحياة الدنيا حق أيضًا، وأَنَّ ما
فعلوه فيها صار حقًّا، حتى طبعوا أنفسهم عليه بحريتهم لا من أصل خلقتهم الأولى،
كما أن النار في الآخرة هي الجزاء الوحيد {وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت:
46) .
رابعًا - ما هو أظهر من الآية السالفة، قوله تعالى: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ
فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} (الأعراف: 53) فإن العمل الذي
عملوه من الكفر والفساد صار واقعًا في الدنيا، حتى عذبهم الله عنه في الآخرة،
وإن هذا الواقع نفسه علموا عنه في الآخرة {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ
اليَوْمَ حَدِيدٌ} (ق: 22) أنهم كانوا قادرين على عمل غيره أو ضده في الوقت الذي
عملوه فيه، حتى كان يمكنهم أن يجعلوا الذي عملوه في العدم والضد مفعولاً. وكل
ذلك يؤخذ منه أن علم الله تعالى لم يكن معلقًا بما فعلوه وحده، بل كان يعلمه تعالى
كما يعلم بضده عنهم في آن واحد، وبمراقبة الله تعالى لهم علم ما اختاروه بتمام
حريتهم من الكفر، فكان لهم الجزاء حقًّا بتعذيبهم في النار {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن
كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: 118) .
ولو أردنا أن نحصر كل الآيات القرآنية التي تدل على ما ذكرناه لأخذنا وقتًا
طويلاً؛ غير أني أذكر من أشهر هذه الآيات قوله تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} (الحجر: 2) ، ومنها: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن
يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ
الصَّالِحِينَ} (المنافقون: 10) ، ومن ذلك أيضًا قوله تعالى:] يَقُولُ يَا لَيْتَنِي
قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [، ومنها قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا
تَرَكْتُ} (المؤمنون: 99-100) ، ومنها أيضًا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ
عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} (الفجر: 24) ، ومن ذلك أيضًا: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ
قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} (إبراهيم: 44) ... إلخ إلخ.
(19 - مثالان عن علم الله الأزلي وعمل الإنسان) أخشى أن تقولوا:
إن ما ذكرته معسلطًا (?) يصعب فهمه، فاحتياطًا لزيادة الإيضاح أذكر
لكم مثالين:
الأول: افرض يا صاحب المنار، أنك أصبحت غنيًّا ومالكًا لمحل (ستين)
الشهير الموجود بالموسكي بمصر، وهذا المحل كان فيه من أنواع البضاعة ما يبلغ
عدده المليون من الأصناف، ثم وضعت هذه البضاعة في دواليب بترتيب منظم،
وكل صنف عليه نمرته مكتوبة. فالبضاعة المكتوب عليها نمر فردية من 1 و3و5
إلخ إلى المليون، مكتوب عليها أيضًا أنها بضاعة جيدة. والمكتوب عليها نمر
زوجية من 42 و64 إلخ بضاعة رديئة.
ثم أحضرت أربعة رجال من رجال إدارة المنار، وقلت لأولهم: إن لك في
هذا المحل عشر نمر من 1 إلى 10، وإلى الثاني من 11 إلى 20، وإلى الثالث
من 21 إلى 30، وإلى الرابع من 31 إلى 40، ثم دخل الأربعة رجال في
المحل متمتعين بحريتهم، وأخذ كل منهم نمره المقررة له منكم من قبل , فهكذا
تقولون أنتم عن علم الله الأزلي بإزاء عمل الإنسان في الدنيا حال وقوعه , فإنكم
قبل أن يأخذ الأول نمره من 1 إلى 10 كنتم تعلمون بذلك، ولما أخذها صار الواقع
منه مطابقًا لما كنتم تعلمون من قبل، وحاشا أن يكون فعل الله مشابها لذلك.
الثاني: قلب هذا المثال بشكل آخر مع ثبوت النمر التي تعلمها من أولها إلى
آخرها، وثبوت الرجال أنفسهم , وافرض أنك أعلنت هؤلاء الأربعة بأن لكل منهم
عشر نمر في كل النمر الموجودة بالمحل، من غير أن تخصص لهم نمرًا محددة
كما فعلت في المثال الأول، بل اشترطت أن لكل منهم أن يقلب في المليون نمرة
الموجودة، ويأخذ عشرًا منها كلها , فهل يمكنك بعد أن أدخلتهم في هذا المحل على
هذا الشرط أن تخبرني إن كنت تعلم ما هي العشر نمر التي سيأخذها الأول، أو
الثاني، أو الثالث، أو الرابع، قبل أن يضع يده بالفعل على واحدة منها. الجواب:
لا تعلم ذلك إلا بعد أن يضع كل منهم يده على كل منها؟ . ولكن هل ذلك
غيَّر شيئًا في النمر المعلومة لك كلها، أو غير الرجال، أو أنقص شيئًا من
معلوماتك بخصوصهما ?
الجواب: كلا , فهكذا أقول عن الخالق سبحانه: إنه أخرجنا في هذه الحياة
على مثل هذا الغرض، وفتح للجميع طريقين متضادين فيهما من أنواع الأفعال ما
يعجز عنه الحصر، والكل يعرفها، ويميزها العقل الإنساني، وكان هذا سر قوله
تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (البقرة: 31) ثم خاطب الجميع بقوله:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) فلا عين شقيًّا ولا قيد
سعيدًا، وهو تعالى لذلك لا يعلم المؤمن إلا في حال إيمانه، ولا الكافر إلا في حال
كفره، والكل أمام ألوهيته في الأصل (إنسان) وهنا لا يقال: إن الله تعالى جهل
شيئًا؛ لأن العلم المطلوب لله هو تخصيص المعلوم أزلاً لمن يختاره؛ عوضًا عن
تعميمه الذي كان عليه قبل هذا الاختيار، وكان ذلك بناء عن إرادة الله الذاتية في
وضع الإنسان على هذا النظام من الأزل، وكل ذلك بالبداهة للمتأمل المدقق لا يزيد
علم الله شيئًا ولم ينقصه، مادام الله تعالى قائمًا بالمراقبة، ولذا كان الله من الأزل
إلى الأبد بكل شيء عليم (?) .
(20 - أدوار الخلقة الإنسانية أمام العلم الإلهي) ينقسم الإنسان إلى ثلاثة
أدوار أمام العلم الإلهي: الدور الأول ويُبْتَدَأ من بدء الكون إلى وقت الولادة. وفيه
جميع الناس سواء، فلا شقي ولا سعيد.
الدور الثانى: الحياة الدنيا وفيها كل إنسان بين السعادة والشقاء، فلا شقي ولا
سعيدًا إلا عند الوفاة.
والدور الثالث: الآخرة وفيها الناس فريقان: فريق في الجنة، وفريق في
السعير) .
فإذا فرضنا أن الآخرة تجسمت أمامنا، ونظرنا بالعين أشخاص كل فريق،
ووجدنا الشخص (ج) من فريق الجنة، والشخص (س) من فريق السعير.
فأقول: إن كلا منهما صار كذلك؛ طبقًا لما سير نفسه فيه بحريته في الحياة الدنيا،
وليس لكونه كان مكتوبًا من الأزل شقيًّا أو سعيدًا، فلا يوجد في علم الله الأزلي أن
(ج) هذا، سيكون بالذات والواقع سعيدًا ليس إلا، ولا أن (س) هذا سيكون
شقيًّا ليس إلا، وأَنَّ العلم الأزلي هو أن كلا من (ج) و (س) شخص طاهر
مكرم، لا شقاء له ولا سعادة إلا بعد أن يولد في الحياة الدنيا، سيسير فيها بحريته
على نظام ذو (?) وجهين متضادين فيهما السعادة والشقاء، يراقبه الله تعالى عند
اختيار واحد منهما، فيعلم له تعالى وقتها من فعل (ج) أنه سيكون في الآخرة
سعيدًا، ومن فعل (س) بحريته أنه سيكون في الآخرة شقيًّا، وأنَّ الطريق الذي
سار فيه (ج) في الدنيا وبه صار سعيدًا في الآخرة، كان مفتوحًا في الوقت نفسه
أمام (س) أيضًا، وأنه كان يمكنه أن يسير مع (ج) فيه جنبًا إلى جنب، وأن
يجتمعا في الآخرة في الجنة.
وبالعكس فإن الطريق الذي سار فيه (س) في الدنيا بحريته وبه صار في
الآخرة في السعير، كان مفتوحًا أيضًا في الوقت نفسه أمام (ج) في الدنيا، وإن
الأخير كان يمكنه السير فيه مثل (س) وأن يكون معه جنبًا إلى جنب حتى يجتمعا
(؟) معًا في السعير، وكل ذلك لا يغير شيئًا من علم الإله الأزلي.
(21 - الله أول ملك دستوري في العالم) . قال تعالى في الكتاب العزيز:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} (الناس: 1-3) فصرح تعالى
في هذه الآية؛ أنه ملك الناس وإلههم. وهنا أسأل صاحب المنار، ما هي نوع
الحكومة التي يحكم الله تعالى بها النوع الإنساني بصفته ملكًا عليهم؛ كما صرح في
هذه الآية الكريمة؟ فإذا كانت نوع الحكومة الإلهية مجهولة لصاحب المنار، فإني
أقول له: إنها هي الحكومة التي تعشقها وتتلهف على وجودها الآن جميع الأمم،
ويسفكون لأجلها دماءهم وأموالهم للحصول عليها ألا وهي: (الحكومة الدستورية)
فإن الله تعالى يحكمنا بالدستور الأزلي لا بغيره، وهو جل شأنه مع مطلق قدرته
وأوسع علمه، لم يشأ أن يحكم الناس إلا حكمًا دستوريًّا عادلاً؛ لنتعلم من ذلك.
ومما هو مسطور في القرآن الحكيم عن هذا الحكم ما نجعله أساسًا في أعمالنا
وأحكامنا الدنيوية حتى يقام العدل، وتحيى الأمم على أساس رصين، وكفى الإنسان
شرفًا أن يكون هو الوحيد خليفة الله في الأرض؛ ليعمل في حكمه كعمل الله،
كالآية: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) .
ولما كان الله تعالى هو الخالق لكل شيء والعالم بكل شيء علمًا تامًّا، كان هو
وحده الذي أسس هذا الدستور دون غيره، وهو الذي يرتاح لعدالته كل مخلوق في
الأرض والسماء ارتياحًا تامًّا؛ لأنه صدر هذا القانون بالرحمة، وفيه {كَتَبَ عَلَى
نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (الأنعام: 12) وكان الأساس الثاني لهذا الدستور؛ هو منح
المخلوقات (الحرية) الكاملة بعد وجودها في الدنيا؛ لتعمل بها كل ما في وسعها
{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) ، وأنه تعالى لا يمس هذه
الحرية في هذه الحياة مهما فعلت تلك المخلوقات من صالح أو إساءة، إلا أن يمدها
بجزاء ما تفعل بالرغم عنها جزاء عادلاً ليس إلا طبقًا لما في القانون المذكور
الموافق لتقلب الطبيعة الإنسانية، {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الصافات: 39) ، وبمقتضاه صار {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} (فصلت: 46) ولهذا تنزه عن الحكم الاستبدادي المجهول نظامه، وتحلى بالكمال
المطلق والعدل والرحمة؛ لأن كل ما يحدث في الأرض والسماء كتب في هذا
القانون {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن
نَبْرَأَهَا} (الحديد: 22) ، (أي: نخلقها) {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحديد:
22) وبه يصيبنا في الحياة الدنيا والآخرة بجزاء الخير أو الشر طبقًا لأعمالنا وما
يناسبها من بنوده العادلة.
فإن فرضنا مثلا أن المادة 35 من قانون ما في حكومة السودان؛ أن من
يسرق كذا بالطريقة كذا فإنه يجازى بكذا وبكذا. فطبعًا هذه المادة تسري على جميع
الناس الذين يشملهم هذا القانون بلا استثناء، وما على الحكومة إلا أن تراعيهم
وتراقبهم، حتى إذا وقع واحد مرتكبًا ذنبًا، تنطبق عليه هاته المادة تجازى (؟)
بما فيها تمامًا , وهكذا نقول عن النظام الذي كتبه الخالق على الناس بصفته ملكًا
دستوريًّا عادلاً عليهم، فقد كتب قانونًا لمجازاتهم بالخير أو الشر في الحياتين تبعًا
لارتكابهم خطأ أو عملهم خيرًا؛ طبقا لبنوده العامة العادلة، ولذا كان رقيبًا على كل
نفس لتنفيذه {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء: 1) .
(22- الفرق بين فهمي وفهم صاحب المنار في القسمة) صاحب المنار يفهم
من المثال الأخير السالف عن المادة 35 من قانون الحكومة أن الشخص (ج) مثلاً
إذا ارتكب جناية السرقة بكيفية تنطبق عليها، قال: إن الحكومة السودانية عندما
سنت قانونها كتبت فيه هذا الشخص، وإنه سيسرق في وقت كذا. وسيجازى بكذا
قبل أن يحصل منه ذلك، وقبل أن يقبض عليه بسنين عديدة: ولما وقعت منه
السرقة، قال: إن ما حصل فعلاً منه، كان مطابقًا لعلم الحكومة؛ لأن الواقع دائمًا
يكون مطابقًا للعلم؛ وبمثل ذلك القسمة وعلم الله. أما أنا فأقول: يا صاحب المنار،
إن علم الحكومة ليس كما تزعم، إن علم الله تعالى وإن كان يحيط بكل شيء،
ولكن ليس كما تتوهم؛ لأن الحقيقة هي غير ذلك؛ لأن الحكومة كتبت في قانونها ما
يناسب أخلاق كل الناس وأعمالها، من غير أن تخصص عملاً فالشخص معلوم.
وإنها لا تعلم أن هذا السارق بالذات سيسرق في هذا اليوم، ولا تعلم أنه سيأخذ هذا
الجزاء؛ لأن ذلك ليس هو القانون المعلوم عند الحكومة، بل قانون الحكومة عام
على الجميع، وإن أخلاق الناس تتقلب بين الخبيث والطيب بحريتها. وإن القانون
مذكور فيه كيفية السرقة وأنواعها التي يمكن أن تحصل منه كما تحصل من خلافه.
وأمام ذلك الجزاء على كل نوع منها، وليس على الحكومة إلا مراقبة الرعية؛
لتنفيذ ما هو معلوم لها من قبل في بنود هذا القانون، فإذا كان الشخص (ج)
ارتكب جناية السرقة، وكانت تنطبق على المادة 35 تجازى (؟) بمنطوقها أيضًا،
وبالعكس إذا عمل عملاً صالحًا ذكرته الحكومة في القانون أيضًا، وكانت له مكافئة
كافأته بها.
وبديهي للمطلع أن الفرق بين القصدين؛ كالفرق بين السماء والأرض، أو
هو كالفرق بين حكومة الدستور وحكومة الاستبداد. ولكن صاحب المنار يقول في
(صحيفة 543) : (لست قادرًا على تصور فهمه للمسألة، ولا فهم وجه الإشكال
التي كانت به أقتل أدواء المسلمين عنده، فأحل له ما أحكم من العقد في خياله) فإذا
كان صاحب المنار للآن لم يفهم وجه الإشكال، فليتصور الآن الفرق بين المقالين
السالفين، وليعلم مما ذكرناه وما سنذكره على هذا الإشكال على وجهه الحق، فإن
الحق والباطل لا يجتمعان {إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81) .
(23- لا قسمة معينة لشخص معين في الأزل) يقول صاحب المنار صحيفة
545: أما علم الله تعالى فهو قديم بقدمه أزلي بأزليته؛ فالقسمة فيه أزلية أيضًا،
وأقول: أما علم الله تعالى بكل ما كان وما سيكون فأمر بديهي مسلم به. ولكن قسمة
الأشخاص من أن هذا الشخص بالذات شقي في العلم الأزلي، وذاك بالذات سعيد
أزلاً، أمر لم يفعله الخالق ويتبرأ منه القرآن.
نعم.. نظام الشقاء الإنساني أو السعادة الإنسانية معلوم لله تعالى أزلاً،
ولكن هذا النظام سينفذ على بني الإنسان الذين أراد لهم الخالق أزلاً أن يكونوا
خلفاءه في الأرض بلا فرق بين إنسان وآخر، فيطبق الله هذا النظام العام على
أعمالهم الحرة المعلومة له من قبل أن يكونوا بصفة عامةً، فبعضهم سيكون بهذا
النظام شقيًّا تبعًا لحريته، والبعض سيكون به سعيدًا بحريته أيضًا؛ طبقًا لبنوده
المكتوبة قبل العالمين {وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) .
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي
قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (الأنفال: 70) فهذه الآية
الكريمة تؤيد أن خير الله تعالى المطلوب إعطاءه لهؤلاء الأسرى متوقف على تغيير
ما في قلوبهم، وأنَّ المعلوم لله تعالى وقت نزول هذه الآية من قلوبهم هو عدم الخير
أو ضعف الإيمان به أو الكفر، فإذا غيروه بحريتهم التي لا يمسها الخالق في هذه
الحياة إلى خير أو إيمان، أصابهم الله تعالى بعد ذلك بخير أحسن مما أخذ منهم وقت
الحرب من مال أو أبناء؛ وأنَّ علم الله تعالى بخير قلوبهم هذا متوقف على إرادتهم
الحرَّة؛ لأنه هكذا أراد الله تعالى أن يكونوا بتمام الاستقلال في إرادتهم؛ ليغيروا ما
في قلوبهم، كالآية {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وهذا دليل كاف على أن الله تعالى ينفذ جزاءه أو قسمته طبقًا
لإرادتنا الحرة في اختيار نوع من الأعمال. وليس طبقًا لكونها هي والأفعال كانت
مقسومة في الأزل بالذات، حتى يكون الواقع مطابقًا للعلم دون غيره - كلا - بل
الواقع وضد الواقع في العلم عند الله سواء، ولذا قال تعالى: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} (الإسراء: 8) فإن قول الله تعالى للكافرين {وَإِنْ عُدتُّمْ} (الإسراء: 8) دليل
على عدم الممانعة لهم من الله في الإعادة لفعل ما كانوا عليه من الفساد والكفر، ثم
قوله تعالى {عُدْنَا} (الإسراء: 8) أي: عدنا بعد ذلك بالانتقام تبعًا لما ستفعلوه
(؟) إن وقع منكم في نظير كفركم كما انتقم بمثل ذلك قبلاً، فإذا كانت لهم قسمة
من الأزل معلومة، ما كان هذا التعميم البين الذي يدل - كما قلنا - على عدم كتابة
شيء مخصوص، أو منح قسمة مخصوصة لأحد من الناس في الأزل، وبمثل ذلك
قوله تعالى: {وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ} (الأنفال: 19) وهذا يشبه بلا تمثيل إلى أن
شخصًا من أفراد الحكومة ارتكب جريمة تتناسب مادة (95) مثلاً من قانون
العقوبات، فكلما يرتكب جناية تناسب هذه المادة عاقبته الحكومة بمضمونها، فإذا
عاد وارتكب نفس الجناية، أعادت معاملته بالمادة نفسها، وهكذا فقول الله تعالى:
{وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ} (الأنفال: 19) أي: إن تعودوا لفعلكم الذي به تجازيتم (؟)
بمقتضى القانون الإلهي؛ نعد لمثل هذا الجزاء عليكم (؟) بالثاني؛ فأنتم
أحرار فيما تفعلون. فبذلك وبغيره قلنا: (إن الله تعالى أول ملك دستوري في
العالم) لشحن القرآن الحكيم من أمثال هذه الآيات الواضحة كالآية: {فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكِتَابِ} (الأعراف: 37) أي: إن كل من يكذب على الله من بني الإنسان يناله الجزاء
المناسب؛ لكذبه مما في الكتاب الذي هو قانون الله العادل، وبالطبع يختلف
الجزاء باختلاف درجة الكذب أو التكذيب، وكل ذلك يدل على عدم قسمة النفوس
في العلم الأزلي، بل النظام هو المقسوم والله بكل شيء عليم.
... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... أحمد بدوي النقاش
... ... ... ... ضابط بالجيش المصري بالسكة الحديد السودانية
(جواب المنار)
الآن قد جاء هذا الكاتب الفلسفي بما لم يَأْتِ به من قبل، ولا يفهم من سؤاله
عن القضاء والقدر، ولا من رسالته في إنكار عقيدة قسمة الخلق إلى سعداء وأشقياء
وهذا الشيء الجديد هو اعتقاده أن الله تعالى لا يعلم ما يكون من أعمال عباده إلا
بعد وقوعها، فلا أدري؛ أكان على هذا الاعتقاد من قبل، وكان هو الذي يريده من
كلامه السابق، فقصرت عبارته عن بيانه، أم حمله الحرص على الإتيان بشيء
جديد في الدين على هذا المركب الصعب. بعد أن سددنا في وجهه باب الاعتراض
على عقيدة القدر وعقيدة القسمة؟
لا أناقشه في كل ما أخطأ به في هذه الرسالة؛ لئلا يتشعب الكلام ويطول،
بل أخص الكلام في مسألة العلم الإلهي، بعد أن أبين له بالإيجاز فقرة لم يفهم
مرادي منها، وبنى على فهمه خلافًا طفق يحتج لرأيه فيه بالآيات وغير الآيات.
تلك الفقرة هي التي تكلم عنها في المسألة 15، وهي قولنا: (وإنه بدأهم على هذا
ويعيدهم عليه) ففهم من هذا أنني أعني بهذا أنه تعالى خلق كل فرد من أفراد البشر
إما شقيًّا غير مستعد في فطرته لعمل الخير الذي يكون به سعيدًا، وإما سعيدًا
مطبوعًا على الخير في أصل فطرته لا يستطيع غيره.
هذا رأي يمكن لمن يقول به أن يستدل عليه بالمشاهدة وببعض النصوص،
كما يمكن لمعارضه أن يستدل. ولكنه لم يكن هو الذي عنيته بتلك الفقرة، بل
عنيت بها حال جميع البشر (لا كل فرد منهم) في الحياة الدنيا من أولها إلى
آخرها وحالهم في الحياة الآخرة، وهما الحالان اللتان يعبر عنهما علماؤنا بالمبدأ
والمعاد. وقد قال تعالى {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ
الضَّلالَةُ} (الأعراف: 29-30) فهذا ما أعنيه، وهو مشاهد في أمر الدنيا،
وأمر الآخرة مرتب على أمر الدنيا، فلا خلاف بيننا في هذا، ولله الحمد.
إن الضابط أحمد أفندي بدوي النقاش يريد أن يثبت أن الإنسان خلق حرًّا
مختار مستقلاً في أعماله تمام الاستقلال، وأنه مالك لأسباب سعادته وشقائه
ملكًا تامًّا، وأنَّ هذه الحرية والاستقلال والملك لا يعارضها شيء من سنن الفطرة،
وليس للخالق فيها فعل، ولا لإرادته عليها سلطان، ولا لعلمه بها تعلق، إلا أن الله
تعالى يعلم ما عمل الإنسان بعد وقوعه. وهذا مذهب لم يقل به فيما نعلم أحد من
البشر المِلْيِّينَ ولا غير المِلْيِّينَ. بل الذي عليه المحققون من فلاسفة هذا العصر
أقرب إلى مذهب الجبرية من المِلْيِّينَ، كما بينا ذلك من قبل.
إن العلم الإلهي يتعلق بالمعلومات تعلق انكشاف، لا تعلق خلق وإيجاد وإلزام
وإجبار، فهو لا يعارض مذهب صاحبنا الجديد أو فلسفته الغريبة، فما الذي
حمله على إنكار علمه تعالى للغيب، وتمحله لإثبات ذلك بالآيات الناطقة بابتلاء الله
الناس، وتعليله ذلك بقوله: (لنعلم) ، وقوله: (ليعلم) [*] وقد فسرنا أمثال هذه
الآيات بما يطابق الدلائل العقلية على إحاطة علم الله تعالى، والآيات الكثيرة الناطقة
بعلمه للغيب، ومنه أعمال البشر قبل وقوعها، والآيات الكثيرة المبينة لبعض تلك
الأعمال قبل وقوعها.
ورد وصفه تعالى بعالم الغيب والشهادة في (الأنعام والتوبة والرعد والمؤمنون
والم السجدة والحشر والتغابن) ووصف بعلم الغيب فقط في سور أخرى، فبأي
سلطان يتحكم أحمد أفندى بدوي في علمه تعالى للغيب، فيستثني منه أفعال الناس
وهو تعالى يقول: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ
بِمَا شَاءَ} (البقرة: 255) أي: يعلم ما يكون أمامهم من مستقبل أمرهم، وما كان
من ماضيهم، فهو محيط بكل شيء من أمرهم، وهم لا يحيطون بشيء من علمه
إلا بما شاء؛ لأنه هو واهب العلم للإنسان، وواهب كل شيء يتمتع به، وقال
أيضًا بعد ذكر خبر القيامة، وهي من علم الغيب: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه: 110) فهل أحاط أحمد بدوي علمًا، فحدد ما يتعلق
به علمه، وما لا يتعلق به؟ ؟
ألم يخبر الله تعالى نبيه ببعض أقوال الناس وأعمالهم قبل وقوعها، كقوله عز
وجل: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ} (البقرة: 142) وقد
صدق الله فقالوا ذلك، وقوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ
آبَاؤُنَا} (الأنعام: 148) الآية، وقد صدق الله فقالوا ذلك، وقوله: {سَيَقُولُ لَكَ
المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ
فِي قُلُوبِهِمْ} (الفتح: 11) وقد صدق الله فقالوا ذلك، وقوله: {سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ
إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن
تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} (الفتح: 15) ، وقد صدق الله عز وجل فقالوا ذلك، وكانوا يريدون به ما أخبر
تعالى أنهم يريدونه.
ومن إخباره جل جلاله بأعمال الناس قبل وقوعها في الدنيا، قوله وسع كل
شيء علمه، بعد الآية الأخيرة التي ذكرناها آنفًا من سورة الفتح: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ
مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} (الفتح:
16) وقد كان ذلك؛ وقوله تعالى مبشرًا في هذه السورة بفتح مكة، وكان النبي
(صلى الله عليه وسلم رأى ذلك في منامه {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ
لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ} (الفتح: 27) الآية، وكان ذلك كما قال عز وجل، وقوله: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ
* فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ
وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ
* وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: 1-6) وقد
صدق خبر الله تعالى ووعده في الموضعين، فغلب الروم في بضع سنين، وفرح المؤمنون يومئذ بنصر الله إياهم على المشركين، كما هو مبين في محله.
ويدخل في هذا الباب ما بشر الله به زكريا بيحيى، وما بشر به مريم وذكره
من وصف ولدها وأعماله قبل ولادته، ومن إخباره تعالى شأنه بأعمال الناس
وأقوالهم في الآخرة، قوله: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الجِنِّ
وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ
أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} (الأعراف: 38) إلى الآية 50 منها،
وليتدبر أحمد أفندي البدوي قوله تعالى بعد ذلك:
{وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} (الأعراف: 52) ومن قبيل آيات
سورة الأعراف في تحاور أهل الجنة وأهل النار وتخاصمهم؛ آيات سورة
الصافات كقوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} (الصافات: 27) ...
إلخ، وهي في تخاصم أهل النار، وقوله في حوار أهل الجنة بينهم ثم اطلاعهم على
أهل النار ومخاطبتهم إياهم {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ
إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ المُصَدِّقِينَ} (الصافات: 50-52) .. إلخ
الآيات، وفي سورة (ص) شيء من تخاصم أهل النار، وفي سورة الحديد نبأ
عما يكون من التحاور في الآخرة بين المنافقين والمؤمنين.
أفنسيت أيها المنكر لعلم الله تعالى بأعمال الناس قبل وقوعها هذه الآيات كلها،
أم تجد لها تفسيرًا برأيك تحرفها به عن مواضعها، كما حرفت غيرها بسوء الفهم لا
بسوء القصد كما هو الظن فيك، ولولاه لما نشرنا رسالتك، ولما طمعنا في
هدايتك، فراجع نفسك، واستغفر ربك، ولا تغتر بعد برأيك، واعلم أن هذه الزلة
التي زللت، لا تتفق مع الإيمان الصحيح الذي يعتد به المسلمون، ومن فضل الله
عليك أن كنت على هذا الشذوذ الفاحش مؤمنًا بالقرآن، متأولاً له، وهذا هو محل
الرجاء فيك، والطمع في رجوعك إلى الحق، إذا كنت غير مغرور بنفسك.
وهناك نوع آخر من إخباره تعالى عن مستقبل بعض الناس، منه الإخبار
بعدم إيمان أناس مخصوصين، كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على إيمانهم
والحجة فيه مزدوجة، فهو حجة على علمه تعالى بغيب الناس، وحجة على أن من
الناس من يختم الله على قلبه، فيفقد الاستعداد للإيمان والحق والخير , ومن ذلك
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ
اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (البقرة: 6-7) إلخ وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً
أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} (الكهف: 57) .
ولو شئنا لانتقلنا من هنا إلى موضوع تكثر فيه الآيات الناقضة لمذهبه في
الاستقلال التام والحرية المطلقة التامة للبشر في أفعالهم؛ كإسناد أعمالهم إليه تعالى
وتقييد مشيئتهم بمشيئته، فمنها: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ
بِغَيْرِ الحَقّ} (الأعراف: 146) ، {وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا
مَعَ القَاعِدِينَ} (التوبة: 46) ، {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} (البقرة:
26) ، {فَلَمْ تَقْتُلُوَهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) ، {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} (الجاثية: 23) ، {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (الأعراف:
182-183) ، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} (الإِنسان: 30) ، {قُلْ كُلٌّ
مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78) ، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} (البقرة: 253)
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (المائدة: 48) ?، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ
عَلَى الهُدَى} (الأنعام: 35) ، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ} (يونس: 99) ، {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: 9) ، {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا
كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (السجدة: 13) ، {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَراًّ وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ
مَا شَاءَ اللَّهُ} (يونس: 49) ، {يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظاًّ فِي الآخِرَةِ} (آل عمران: 176) ، {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} (المائدة: 41) ، {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن
يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاًّ} (الأنعام: 125) ، {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ
فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} (يونس: 107) ، {لَيْسَ
عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (البقرة: 272) ، {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ
الظَّالِمِينَ} (البقرة: 258) ، {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} (المائدة:108) .
وأمثال ذلك كثير، وما كنا نحب أن نشير إليه في موضع لا يتسع لإبطال ما
فهمه الجبرية منه، على أننا قد بينا ذلك في التفسير وفي مواضع أخرى، لا يمكن
لأحمد أفندي بدوي أن يستغني عما ذهبنا إليه في تفسيرها، وهو أن مشيئة الله
تعالى وإرادته جارية على سنن حكيمة هو الذي وضعها لنظام العالم، ومنها أن
للإنسان علمًا بما يفعل، وإرادة ترجح بعض الأعمال الممكنة المستطاعة له على
بعض، واستقلالاً ما في عمله الاختياري أي: الذي يعمله.
وجملة القول أن الفرق بين اعتقادي وهو اعتقاد جميع المسلمين، وبين اعتقاد
أحمد أفندي بدوي؛ أننا نحن نؤمن بأن الله تعالى عالم الغيب والشهادة، يعلم ما
يعمله عباده قبل أن يعملوه وبعد أن يعملوه، لا يتقيد علمه بالزمان، وأنه يعلم ما
سوف يجازي به جميع الناس في الآخرة، كما يعلم جميع ما يصيبهم من البلاء في
الدنيا قبل وقوعه وبعده بلا فرق، وأَنَّ الجزاء على الأعمال إنما يكون بحسب
تأثيرها في الأرواح وتزكيتها للنفوس أو تدسيتها لها، كل ذلك مما يحيط به علمه
وتنفذ فيه مشيئته بحسب علمه، وأَنَّ هذا كله لا ينافي ما منحه الله للناس من اختيار
واستقلال، بل هو مرتب عليه والمنحة وآثارها من فضله بمحض إرادته.
وأما أحمد أفندي بدوي فهو يعتقد أن الإنسان خارج في أفعاله عن محيط علم
الله تعالى ومشيئته، مستقل تمام الاستقلال، ليس لله عليه سلطان في أفعاله،
وأنه سبحانه وتعالى عما وصفه به؛ كحكومة السودان في أمر الجزاء وضع
قوانين، وهو لا يعلم من يعمل بها ومن لا يعمل، ولكنهم بعد أن يعملوا يطلع على
عملهم فيجازيهم عليه! ! ! هذا ما يريد أن يصلح به هذا الجندي دين المسلمين،
هذا هو التحقيق الذي فاق به الأولين والآخرين، وما هو إلا ضلال مبين، فعسى أن
يرجع عنه ولو بعد حين. ...
__________
(*) راجع ص 7 - 10 ج2 من التفسير وص 412 - 414م 11 من المنار.(12/764)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(غاية الأماني، في الرد على النبهاني)
كتاب مؤلف من سفرين كبيرين لأحد علماء العراق الأعلام المكنى بأبي
المعالي الحسيني السلامي الشافعي. رد فيهما ما جاء به النبهاني من الجهالات،
والنقول الكاذبة، والآراء السخيفة، والدلائل المقلوبة في جواز الاستغاثة بغير الله
تعالى، وما تعدى به طوره من سب أئمة العلم وأنصار السنة؛ كشيخ الإسلام ابن
تيمية. بين المؤلف في كتابه هذا الحق في مسألة الاستغاثة وما يتعلق بها، وأطال
فيما لابد من الإطالة فيه من تكذيب ما عزى إلى ابن تيمية كذبًا وبهتانًا من الأقوال
الباطلة، وما عزى إليه مما ظن الناقلون لجهلهم أنه انفرد به، وهو لم ينفرد به،
وما زعموا أنه باطل لعدم الوقوف على دليله، وجاء بالنقول الصحيحة من كتبه
وكتب غيره من العلماء التي تفند أقوال المعترضين الكاذبين والجاهلين تفنيدًا،
وتقذف بالحق على الباطل فيدمغه فيكون زهوقًا.
وفي هذا الكتاب ما لا أحصيه من الفوائد العلمية في: التوحيد والحديث
والتفسير والفقه والتاريخ والآداب والتصوف، وما انفرد به بعض المشاهير فأنكره
العلماء عليه، كالإنكار على الغزالي وابن العربي الخاتمي وغيرهما.
فعلى هذا الكتاب نُحيل الذين يكتبون إلينا من الشرق والغرب، يسألوننا أن
نرد على النبهاني، وكذا من اغتروا بقوله ونقوله، وظنوا أن قولنا في الاعتذار عن
عدم قراءة كتبه والرد عليها (أنه لا يوثق بعلمه ولا بنقله) هو من قبيل السب.
وحاشا لله ما هو إلا ما نعتقده فيه وفي كتبه، بعد النظر في بعضها ورؤية ما فيها
من الأحاديث الموضوعة، والقول المكذوبة، والاستنباطات الباطلة، ممن جعل
نفسه بالاستنباط مجتهدًا، وهو ينكر الاجتهاد، ويعترف بأنه ليس أهلاً له.
وقد قرظ هذا الكتاب طائفة من العلماء تقاريظ حسنة، فكأنهم كلهم ردوا على
النبهاني ما جمعه كحاطب ليل , وقد طبع بحروف واضحة في مصر، ولكن جاء
فيه كثير من غلط الطبع، فجمع في جدول في آخره، فينبغي لمن يقرؤه أن يراجعه،
ويصحح الكتاب عليه قبل القراءة , وهو يطلب من الشيخ أحمد رزق بشارع
الفحامين بمصر، وثمنه خمسة وعشرون قرشًا.
***
(إعلام الموقعين. وحادي الأرواح)
سبق لنا التنويه بكتاب (إعلام الموقعين) والنقل عنه، فأكثر قراء المنار
يعرفون قيمته، يعلمون أنه لم يؤلف مثله أحد من المسلمين في حكمة التشريع،
ومسائل الاجتهاد والتقليد والفتوى، وما يتعلق بذلك؛ كبيان الرأى الصحيح والفاسد
والقياس الصحيح والفاسد، ومسائل الحيل، وغير ذلك من الفوائد التي لا يستغني
عن معرفتها عالم من علماء الإسلام.
وأما (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) فهو كتاب للإمام أبي عبد الله محمد
بن القيم صاحب إعلام الموقعين، جمع فيه ما ورد في الكتاب والسنة وآثار السلف
في الجنة، مع بيان معانيها وما يتعلق بها، بما عهد من قلم المصنف الجوال في
ميدان البيان، بما يعجز عن مثله فرسان هذا الشأن، وقد طبع الكتابان معًا بحرف
جميل في مطبعة النيل بمصر في ثلاثة مجلدات.
***
(الأجوبة المرضية)
(عما أورده كمال الدين بن الهمام على المستدلين بثبوت سنة المغرب القبلية)
كتاب صفحاته 36، وإذا كان يعد صغيرًا في ورقاته فهو كبير في موضوعه
بل يقال بادي الرأي: إنه أكبر من المسألة التي وضع لبيانها؛ وهي سنية ركعتين
قبل فريضة المغرب، وربما يظن الذكي الذي لم يقرأه أنه ككثير من الكتب التي
وضعت لبيان شيء لا يتسع القول فيه، فَأَكْثَر واضعوها من الاستطرادات
والمباحث التي ليست من الموضوع في شيء؛ ليرضي أحدهم هواه، ويظهر فضله
بتأليف كتاب كبير في مسألة صغيرة.
وقد يظن من له حظ من علم الحديث أن هذا الكتاب لا حاجة إلى مثله؛ لأن
سنة المغرب القبلية ثابتة في الصحيحين، فلا ينبغي أن يكتب فيها أكثر من سطرين؛
حرصًا على الوقت أن ينفق إسرافًا فيما لا فائدة فيه. وأما المقلد فلا يبالى أصح
الحديث في المسألة أم لا؛ لأنه يتبع ما وجد عليه آباءه، وإن كانوا لا يعقلون شيئًا
ولا يهتدون.
وهذا الظن أيضًا لا يصح ولا يرتضيه صاحبه لنفسه، إذا هو اطلع على
كتاب الأجوبة المرضية، ولو كان الأمر كما يظن قبل قراءته لما أطلت في تقريظه
وتنبيه الأذهان إليه.
الكتاب صغير في حجمه كبير في معناه وفائدته، فهو كالمعول الصغير يهدم
به البناء الكبير. هو يهدم لك تلك الشبهة الباطلة التي كبرت واتسعت حتى أحاطت
بأذهان أكثر الناس، وهم الذين يقولون: إن علماءنا الذين سبقونا هم الذين أحاطوا
بعلوم ديننا، فيجب أن نأخذه منهم لا من كتبه المقدسة؛ لأننا لا يمكن أن نفهمها كما
فهموها.
هذا ما كان يقوله المقلدون في كل دين، حتى قاله المسلمون الذين امتاز
كتابهم المنزل بإبطال التقليد وذم فاعليه. يقول أتباع كل مذهب منهم: إن فقهاء
مذهبنا هم أعرف الناس بكلام ربنا وسنة نبينا، فإذا قلدناهم كنا متبعين للكتاب
والسنة من غير أن ننظر فيهما، ولا أن نفهم شيئًا منهما، بل يجوز لنا ذلك.
ويقول لهم أهل البصيرة: بل عليكم أن تصيبوا حظًّا من النظر فيهما، وأن يكون
أصل اهتدائكم بهما، وأن يكون كلام العلماء من المفسرين والمحدثين والفقهاء عونًا
لكم على ذلك فلا يسمعون (وما أضيع البرهان عند المقلد) وقد يزيد طالب العلم
منهم جمودًا وتعصبًا؛ ما يراه في بعض كتب مذهبه من الاستدلال والترجيح والرد
على المخالفين الذين لم يطلع على أدلتهم، فيظن أن ذلك هو التحقيق الذي ليس
وراءه غاية، فيتيه بذلك عجبًا، ولو رجع إلى أصول تلك الدلائل وكلام أهل الشأن
فيها لرأى ما لم يكن يرى، وتغير حكمه على كثير منها، وهذا كتاب الأجوبة
المرضية يمثل لقارئية نموذجًا من ذلك.
الكمال بن الهمام أعلم الحنفية في عصره، ولم يجئ بعده مثله، بل يقل
وجود مثله فيمن تقدمه منهم، حتى قيل: إنه وصل إلى رتبة الاجتهاد المطلق،
وكتابه الفتح القدير هو أمثل كتبهم المتداولة وأقواها استدلالاً وبحثًا في الحديث
وتخريجًا له، ولكنه لما كان بحثه واستدلاله لأجل تأييد المذهب، لا لأجل بيان الحق
في نفسه؛ سواء وافق مذهبهم أم وافق غيره من المذاهب كان كثير الغلط والخطأ
في الاستدلال، فإذا فحص العالم المستقل أدلته التي يرجح بها مذهبهم على مذهب
الشافعي وغيره، يرى الكثير منها خلابة وجدلاً، وكتاب الأجوبة المرضية يشرح
لك ذلك في مسألة سنة المغرب القبلية، فإن الكمال - عفا الله عنه - يعارض
الأحاديث المتفق عليها والمروية في أحد الصحيحين وغيرهما من كتب الصحاح
بأثر عند أبي داود، لم يرتق به إلى مرتبة الصحة، فيقول في ترجيحه أقوالاً
ينقضها ما هو مقرر في علوم الحديث والأصول حتى إنك لتعد من خطئه فيه
العشرات.
فكتاب الأجوبة المرضية على صغره، يبين لكل ذي بصيرة أن المسلمين لا
يستغنون بكتب فقهاء المذاهب، مهما جل مؤلفوها عن القرآن والسنة وكتب الحفاظ
في الحديث وعلومه، وأنهم لا يكونون مهتدين بكلام الله تعالى وسنة رسوله صلى
الله عليه وآله وسلم إلا إذا جعلوا العلم بهما مقصودًا لذاته في الاهتداء، لا لتأييد
مذهب على مذهب.
أما مؤلفه فهو الشيخ محمد جمال الدين القاسمي المنقطع في دمشق الشام
للتأليف وتصحيح الكتب المفيدة والتدريس، مع الاستقلال في الفهم والإخلاص في
العمل، والإعراض عن زينة الدنيا؛ وما يرغب فيها علماء السوء من المال والجاه
ومع هذا كله يتهمه الحشوية والمفسدون في الأرض بأنه مشتغل بتأسيس مملكة
عربية، ويغرون به الحكومة الدستورية، كما كانوا يغرون به الحكومة الحميدية فله
أن يقول:
أنا في أمة تداركها الله ... غريب كصالح في ثمود
***
(الحرية في الإسلام)
ألقى الشيخ محمد الخضر أحد علماء تونس المدرسين في جامع الزيتونة
الأعظم منذ ثلاث سنين وشهور مسامرة في نادي قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية
بتونس، موضوعها الحرية والإسلام، شرح فيها معنى الحرية والشورى والمساواة،
وقسم الحرية إلى أقسام: حرية في الأموال، وحرية في الأعراض، وحرية في
الدماء، وحرية في الدين، وحرية في خطاب الأمراء، وختمها بالكلام في آثار
الاستبداد.
طبعت هذه المسامرة في هذا العام، فبلغت صفحاتها 64 صفحة، وتفضل
صاحبها بإهدائنا نسخة منها منذ أشهر، وكتب عليه بخطه، وقد أرجانا تقريظها؛
راجين أن نجد وقتًا نطالعها فيه ولما نجده، فرأينا أن ننوه بها الآن تنويهًا إجماليًّا،
وسننقل في جزء آخر نموذجًا منها.
ومن وجوه العبرة في هذه المسامرة أن علماء تونس الرسميين، يخطبون في
الأندية حتى في المسائل السياسية وحكم الإسلام فيها، وبهذا يفضل علماء جامع
الزيتونة علماء جامع الأزهر؛ ومنها أن الشيخ محمد الخضر كان في الوقت الذي
ألقى فيه مسامرته قاضيًا لمدينة بنزرت، وهذا يدل على أن عمال الحكومة التونسية
يتمتعون بحرية أوسع من حرية عمال الحكومة المصرية الممنوعين من الكتابة
- بله الخطابة - في السياسة ولو من الوجهة الدينية، أو أن فرنسا أوسع صدرًا
من إنكلترا في ذلك.
***
(شرح المعلقات للزوزني)
المعلقات السبع لفحول شعراء العرب في الجاهلية مشهورة، وفائدتها لطلاب
ملكة الشعر وأدب هذا اللسان معروفة، وشرح الزوزني لما هو عمدة المتأدبين في
فهمها، وقد طبع أكثر من مرة، ولعل أحسن طبعاته هي الطبعة الأخيرة بمطبعة
دار الكتب العربية بمصر، فهي تفضل غيرها بمعارضة المعلقات فيها على النسخة
التي اعتمدها الشيخ محمد محمود الشنقيطي إمام اللغة والأدب في هذا العصر
(رحمه الله تعالى) ، وبإثبات الأبيات الزائدة على ما في شرح الزوزني كما وجد في
نسخة الشنقيطى، وبضبط الأبيات بالشكل وبضم معلقتين أخريين إليها إحداهما
للنابغة الذبياني والثانية لأعشى بكر وائل، وقصيدتي النابغة الدالتين الشهيرتين
اللتين يصف في إحداهما المتجردة زوج النعمان بن المنذر، ويعتذر في الأخرى له
عما بلغه من السعاية فيه. ويطلب الكتاب من دار الكتب العربية الكبرى للحاج
مصطفى الحلبي وإخوته بمصر.
***
(الوطن - أو - سلستره)
هي القصة التمثيلية الشهيرة لكاتب الترك وخطيبهم، وأحد زعماء الأحرار
السياسيين فيهم، وإمام النهضة الحديثة في ترقية اللغة العثمانية وتكوينها: نامق
كمال بك (رحمه الله) ، وهو يمثل في هذه القصة حب الوطن يغالب العشق فيغلبه،
ويصور فيها الوجدان والوجد والشعور المتغلغل في أعماق النفس، والهوى
المستتر في زوايا القلب، حتى تكاد تكون هذه المعاني الروحية أشباحًا مرثية،
ولكنه يسرف في ذلك أحيانًا، فلا يراعي فيه ما تعهد مثله الطباع، وتعرف طعمه
الأذواق، فينتبه الذهن إلى كونه خياليًّا لا حقيقيًّا، وقد اشتهرت هذه القصة في
أوروبا، حتى ترجمت باللغات الفرنسية والألمانية والروسية، ولكنها كانت محجورًا
عليها في عهد الحكومة الحميدية، كسائر آثار مؤلفها، وجميع ما ينبه الأذهان من
أمثالها، حتى إذا ما جاء الدستور، فأباح ما حرمه الاستبداد من الآداب والعلوم،
بادر الأحرار العثمانيون إلى تمثيل هذه القصة بالتركية ? ثم مثلت في بيروت بعد
ترجمتها بالعربية، ترجمها بالعربية الشيخ محي الدين الخياط وأجدر بمثله أن
يحسن ترجمة مثلها، ويجعل فرعها وارثًا لمحاسن أصلها، وقد أودعها بعض
الأناشيد والقصائد من نظمه، فزاد ذلك في معناها وحجمها، وطبعها سليم أفندى
هاشم وكمال أفندى بكداش وهي تطلب من المكتبة الأهلية ببيروت، ومكتبتي
هندية والمليجي بمصر.
***
المجلات والجرائد
(النبراس)
مجلة أنشأها في بيروت صديقنا الشيخ مصطفى الغلاييني وهي تبحث في
المسائل الأدبية والسياسية وغير ذلك، ومشربها دستوري إصلاحي ومنشئها من
تلاميذ الأستاذ الإمام، كان على عهده مجاورًا في الأزهر يواظب على دروسه،
وهو ممتلئ غيرة وإخلاصاً، وقد اشتهر اسمه في بيروت في أثناء إعلان الدستور؛
بما كان يلقيه من الخطب في المجامع.
وهو مؤلف كتاب (الإسلام روح المدنية) الذي رد فيه على لورد كرومر،
وقد كان من جرأته في الحق أن طبعه في بيروت قبيل إعلان الدستور، وفيه نقول
من كلام الأستاذ الإمام معزو إليه بعضها بالتصريح. ونقول أخرى عن المنار (كما
أشرنا إلى ذلك في تقريظه) .
ولولا أن جاء الدستور عقب طبعه لما سلم من الخطر والبلاء من
الحكومة الحميدية عدوة العلم والدين. فمجلة النبراس جديرة بتعضيد محبي
الإصلاح ومساعدة النابتة الصالحة التي يرجى بنجاحها نجاح البلاد. وقيمة الاشتراك
فيها 25 قرشًا لأهل القطر المصرى، وثمانية فرنكات لغيره من الأقطار ما
عدا الولايات العثمانية، فالقيمة لأهلها ريال مجيدى وربع.
***
(المفيد)
جريدة يومية سياسية، أنشأها في بيروت صديقنا عبد الغني أفندي العريسي،
وهو من خيرة النابتة الحرة في بيروت مهذب الأخلاق ذكي الفؤاد، شديد الغيرة
على الدولة والملة، قوي الإخلاص لها، وحسبك أنه كان على حداثة سنه من أعضاء
جمعية الشورى العثمانية التي أسسناها في القاهرة؛ لمجاهدة استبداد
الحكومة الحميدية وطلب الدستور، فأنا لا أزكي عليه وعلى صاحب النبراس أحدًا
من نابتة الديار السورية في الحرية والإخلاص للدستور والرغبة في ترقية الأمة
بعد كهولنا المشهورين؛ كالسيد الزهراوي ورفيق بيك العظم.
وقد ظهرت مزايا جريدة المفيد لأهل الفهم في بيروت؛ بصدعها في انتقاد
الوالي قبلاً أدهم بك وغيره من رجال الحكومة، ومقارعتها لأصحاب النزعات
الجنسية من الترك الذين يهضمون حقوق الأمة العربية، وتنبيهها أهالي البلاد
العربية التي أنشئت بلسانهم إلى ما به حياتهم ورفعة شأنهم، من غير تقية ولا
مراعاة ولا مداراة، وهي شديدة الانتقاد، حتى كادت تكون غاية متطرفة فيه
كجريدة المقتبس، وإن الحرية التي لا تزال طفلة في مهد البلاد العثمانية لا تكاد
تستطيع حمل أثقال الغلو في انتقاد الحكام، فننصح لصديقنا ورفيقنا الجديد أن لا
يخرج عن محيط الاعتدال، وأن يوجه سهام نقده دائمًا إلى الأعمال لا إلى العمال.
ثم أذكره بأن يتقي في تنبيه الأمة العربية وإرشادها عصبية الجنس التي ينهى
عنها الإسلام، وتنافي مصلحة الدولة في هذه الأيام، وأن نبث بئرها بعض الأغرار
من الترك والأشرار من سائر الأقوام، بل يجب إحياء اللغة العربية لأنها لغة الدين
الإسلامى الذي لا يفهم حق الفهم إلا بها، واللغة المشتركة بين جميع المسلمين على
اختلاف أجناسهم، لا لغة العنصر العربي وحده. ولتكن دعوتنا إلى إحيائها ونقل
جميع العلوم العصرية إليها؛ كدعوة علماء الإسلام وأنصاره من الترك الذين نرى
من نفثات أقلامهم في جرائدهم ومجلاتهم؛ ما لم نر لجرائدنا ومجلاتنا خيرًا منه في
الحث على إحياء هذه اللغة الشريفة، فارجع إلى مجلة (صراط مستقيم) تجدها في
ذلك على هدى وعلى صراط مستقيم.
ولا أنهى صاحب (المفيد) عن الوقوف بالمرصاد لمن يزل عن هذا الصراط
من الترك وغيرهم فيعزز جنسيته، وهو جاهل بأنه يضر بذلك قومه ودولته، بل
عليه أن يتتبع عوارهم، ويقلم أظفارهم، ويترجم ما يكتبون في ذلك ويحذرهم من
مغبتة، وإغرائه كل عنصر بتعزيز عصبيته.
وقيمة الاشتراك فيها أربعة ريالات في بيروت وليرة عثمانية في
سائر الجهات.
***
(الرقيب)
جريدة تصدر في بغداد مرتين في كل أسبوع وتكتب بالعربية والتركية،
صاحبها ومديرها عبد اللطيف أفندي ثنيان (وكيل مجلة المنار) ويعجبنا منها أن
أكثر ما يكتب فيها هو في انتقاد ما ينتقد على حكومة بغداد وعلى أهلها،
ومطالبة الفريقين بما يجب على كل منهما من الإصلاح.
وفي يدنا الآن العدد 50 منها الذي صدر في 8 رمضان، وهو مفتتح
بترجمة ما كتبه النادي العسكري في بغداد للصدارة ونظارتَي الحربية والداخلية عن
الاختلاف واضمحلال الفيلق السادس وسننشره في باب الأخبار. ويليه نقل ما
روي عن طلعت بك ناظر الداخلية الجديد من اهتمامه بأمر الأمن وراحة الأهالى،
وكتابته إلى الولاة بذلك. والتعقيب على هذا الخبر بعدم ظهور أثر ولا ذكر له في
ولاية بغداد، والعدد كله على هذا المنهاج. قيمة الاشتراك فيها مدة سنة يصدر
فيها مائة عدد 30 قرشاً لأهل بغداد، و35 لسائر الولايات العثمانية، و7 روبيات
لأهل خليج فارس والهند، و11 فرنكًا لسائر الممالك.
__________(12/785)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الديار السورية في عهد الحكومة الدستورية
(بيروت)
جعل ناظم باشا الشهير واليًا على بيروت بعد طلوع فجر الدستور، وكانت
الولاية لا تزال سكرى بخمرة الانقلاب، وأهلها من احتقارالحكومة والافتيات عليها
في هياج واضطراب، فكانت سياسته فيها كسياسته في عهد الاستبداد: سياسة
مداراة للأهالي، حتى كان نفوذ كثير من البحارة والحمالين (الشيالين) في بيروت
أقوى من نفوذه، وجوارهم أعز من جواره، بل ظهر للناس كافة أنه أحوج إلى
حمايتهم منهم إلى حمايته، وقد وافينا بيروت في تلك الأثناء ورأينا منه هذا الضعف،
فتلطفنا في الإشارة إليه بالنصح، مبينين له أن الأهالي مهما ظهر من اعتصابهم
واعتصامهم فيما ليس من شأنهم، لا يقفون في وجه الحكومة إذا أخذت بالحزم،
وعنيت بما هو أول واجب عليها من حفظ الأمن، بل قلنا له: إن الوالي يجب أن
يكون في مثل هذا الطور الذى نحن فيه منفذًا للدستور؛ بضرب من الاستقلال يشبه
الاستبداد، حتى يكون الأهالي معه كمن ورد فيهم أنهم يقادون إلى الجنة بالسلاسل
أي: يلزمون الأعمال التي تقودهم إليها إلزامًا لا محيص عنه. وقد أشرنا إلى هذا
فيما كتبناه عن رحلتنا في مجلد السنة الماضية
ولكن هذا النصح لم يؤثر في نفس الوالي؛ لأنه جرى في المداراة على ما
تعود؛ ولأنه كسائر كبار الحكام قد شعر بثقل مسئولية الدستور، من حيث شعر
أكثر الأهالي بضد ذلك، وظنوا أن الحكومة لم يبق لها عليهم من سيطرة ولا قوة،
فكان حفظ الأمن وإضاعته في بيروت في يد عصائب أولي القوة من عامة الأهالي
الذين يطلق عليهم لفظ (الأبضايات) ، ونحمد الله أن كانت حكومتهم على ما فيها
من الخطر حافظة للأمن العام.
ثم نقل ناظم باشا إلى دمشق الشام بعد إخراج شكري باشا منها؛ وسيجيء
ذكره - وبقي فيها إلى الشهر المنصرم، فأعيد إلى بيروت، وعسى أن تكون حاله
فيها خيرًا من حاله السابقة في بيروت، ومن حاله في الشام، وسنشير إليها.
ثم ولي ولاية بيروت أدهم بك وهو رجل قلم وفكر، لا رجل إدارة وعمل،
بارد المزاج لا يبالي أن يعرف حال البلاد وأهلها، ولا يهمه ما وقع فيها، وإنما
يرى كل الواجب عليه أن ينظر في الأوراق التى تلقى إليه، فيوقع عليها التوقيع
الرسمي الذى كان يتعلمه؛ إذ لم يكن من قبل يعلمه.
قد بينا في المنار من قبل أننا نصحنا له بأن يعيد نفوذ الحكومة إلى نصابه،
ويوقف افتيات عصائب العوام عند حده، ويعني بحفظ الأمن والحرية الشخصية،
وأنه أجابنا بأن هذا لا يمكن ولا يتيسر إلا بعد أن تصلح حكومة الآستانة
نظام الشرطة والشحنة (الضابطة والبوليس) وتنفذه في جميع الولايات،
ولم يكن يعقل معنى قولنا: إن ذلك في استطاعة كل حاكم، وإنه لا يفتقر فيه إلى
إصلاح القوانين ولا تجديد النظام، وإنما يحتاج فيه إلى الحزم ومعرفة حال
الأهالي ونفوذ الحاكم الحازم، وبينا أيضًا أننا نصحنا بمثل ذلك لمتصرف
طرابلس جواد بك، وأنه كان يجيبنا بمثل ما أجابنا أدهم بك الوالي؛ لأن كلا
منهما من أصحاب النظر لا من أصحاب العمل، ولكن المتصرف كان يحيل على
الوالي كما يحيل الوالي على الآستانة.
ظهر بعد ذلك صدق ما قلناه لهما أو لهم، فقد ولي قيادة الشرطة ببيروت أمير
الالاي نجيب بك ففل عصائب المفتاتين، ومنع حمل السلاح، وما كان من إطلاق
الرصاص في الليل والنهار، وقبض على من لم يفر ويغادر البلاد من المحكوم
عليهم، وأرهب جميع الأشقياء، فعرف الأهالي ما لم يكونوا يعرفون من سطوة
الحكومة واحترامها، وكان خير عون له على هذا نافذ بك رئيس الشحنة (مدير
البوليس) .
وولي متصرفة طرابلس الأمير أمين رسلان فعني في أول الأمر بحفظ الأمن،
فتيسر له مع سوء حال الشرطة والشحنة ما كان يراه سلفه متعسرًا، بل مستحيلاً
من منع إطلاق الرصاص، والظهور بحمل السلاح، وإرهاب الأشقياء، والقبض
على كثير من المحكوم عليهم منهم وإلقائهم في السجون، ثم فترت همته في آخر
العهد، وقيل: إنه صار يقبل شفاعة بعض الوجهاء أو المنتسبين إلى بعض
الجمعيات، ولعله لا يدرى أنهم أنصار الأشقياء وأعوان السفهاء وشركاء اللصوص
وسالبي الأمن. وقد انتخب مبعوثًا عن متصرفة اللاذقية وولي مكانه آخر، فهل
يعتبر الولاة والمتصرفون ورؤساء الشرطة والشحنة في سائر البلاد بفعل نجيب
ونافذ وأمين في حفظ الأمن واحترام الحكومة؟
***
(دمشق الشام)
كان والي الشام عند إعلان الدستور شكري باشا، ولعله أضعف ولاة الدولة
عقلاً وفهمًا، وأسوأهم إدارة وأقلهم حزمًا، ناهيك بسوء تصرفه في حادثة آخر
رمضان من العام الماضي، فقد كان فيها آلة في أيدي أعداء الدستور ومثيري الفتنة
ابتغاء قلب الحكومة الدستورية وإعادة العبودية الحميدية، وقد أشرنا إلى ذلك في
سياق رحلتنا السورية في منار العام الماضي فلا نعيده، وقد عزل بتلك الحادثة شر
عزلة.
ثم ولي الشام من بعده ناظم باشا، فلم يأت فيها بإصلاح جديد، بل انتشرت
في دمشق على عهده جمعية (ولقان) الإفسادية؛ التي أطلقوا عليها اسم (الجمعية
المحمدية) تمويها وخداعًا لعوام المسلمين. نشرها مثيرو فتنة آخر رمضان؛
كالشيخ عبد القادر الخطيب والشيخ صالح التونسي وأعوانهما من الوجهاء، ولو لم
يصطلم محمود شوكت باشا بجيش الحرية تلك الفتنة في الآستانة بتلك السرعة التي
أدهشت العالم؛ لظهرت الفتنة في دمشق الشام في أقبح مظاهرها، ولقام عشرات
الألوف الذين دخلوا جمعية الإفساد ينادون بإبطال الدستور وإعادة السلطة الحميدية
باسم الشريعة المحمدية، على حين لم يخذل الإسلام من السلاطين كما خذله
وأضعفه السلطان عبد الحميد، لا سقى الله عهده ولا أرى المسلمين مثله بعده.
***
(حادثة رمضان الماضي في دمشق)
أشرنا في الجزء الماضي إلى هذه الحادثة المشئومة، وقد ظهرت بوادرها في
آخر مدة ناظم باشا، وشاع أن له يدًا فيها، وَأَنَّ ضلعه مع الفاتنين الذين أثاروها،
ولهذه الإشاعة سئل عن ذلك في بيروت فأنكره، وقال: إنه دافع عن كرد عليّ لما
اتهم أولاً بمشايعة جمعية (ولقان) ، وكتب إلى الآستانة؛ إن كان كرد عليّ
ارتجاعيًّا فأنا ارتجاعي، فكيف يتهمه بعد هذه الشهادة بالارتجاع، وشاع أيضًا أن
حسين عوني بك مدير المعارف بالشام، قد مهد لهذه الفتنة في الآستانة تمهيدًا قربها
به من تصور الحكومة، وإن السبب في ذلك حملات المقتبس الشديدة في الانتقاد
عليه وبيان ما في إدارته من الخلل والتقصير.
ويغلب على ظني أنه لو بقي ناظم باشا في الشام لتلافي الفتنة، ولأنقذ من
مخالبها مثل الشيخ عبد الرازق البيطار والشيخ جمال القاسمي وعبد الرحمن بك
اليوسف؛ لأنه يعرف من إخلاص هؤلاء للحكومة الدستورية ما لا يعرفه غيره،
ويعرف ما كان يكيده أكابر المجرمين ودعاة الفتنة من أتباع أبي الهدى وغيره
للشيخين البيطار والقاسمي في عهد الحكومة الحميدية، وأنهم يكيدون لهما الآن بمثل
ذلك، ويريدون أن يجعلوا الحكومة الدستورية كالحميدية؛ آلة لنفوذهم والانتقام ممن
يبغضون من الأخيار والأحرار ومحبي الإصلاح.
ناظم باشا يعرف هذا كله، وكم منع أمثال هذه الفتن والشرور في زمن
الاستبداد، وهو قادر الآن على مساعدة الأبرياء؛ كالشيخين وعبد الرحمن
اليوسف، وإن لم يكن واليًا فقوله مقبول عند الوالي الذي خلفه وفي الآستانة.
أما كرد عليّ فقد أخطأ خطأ لا يبرئه منه أحد، بل رأينا أصدق أصدقائه
يلومه، فالحكومة أجدر بلومه على ما كتب وإن كان بسوء فهم لا بسوء قصد،
ولكن ليس من العدل أن يجعل الرجل جانيًا خارجًا على الدولة، هادمًا للقانون
الأساسي الناطق بأن سلطان العثمانيين هو خليفة المسلمين.
لو كان هذا الأمر مقصودًا لصاحب المقتبس كتبه ليدعو إليه لما أسنده إلى
بلاغ شيخ الإسلام، الذي أرسل ليطلع عليه الخاص والعام، وهو نفسه يتمنى لو
يسبق جميع الجرائد السورية إلى نشره في جريدته، فمن البديهي الذي لا يماري
فيه عاقل منصف أن نشر تلك الفقرة قد كان زلة قلم، لا زلة قدم، وكثيرًا ما تزل
أقلام الكاتبين لكلام الله وكلام رسوله، وآية ذلك أنهم إذا نبهوا أو تنبهوا إلى خطئهم
يبادرون إلى إصلاحه، وكذلك فعل كرد عليّ؛ فأصلح في غده خطأ أمسه، ونحن
قد أصلحنا في الجزء الثامن من هذا المجلد خطأ في آية من كتاب الله وفي تفسيرها
تبعًا لها، وقع في منار العام الماضي، وكتاب الله أعظم من بلاغ شيخ الإسلام،
فهل تعاقبنا حكومة الخلافة على ذلك الخطأ؟ ؟
هل يرضى النبي عليه الصلاة والسلام أن تعاقب حكومة الخلافة النائبة عنه
من يخطئ في خبر معاقبة الجناة في شخصه وعمله، ومورد رزقه، وهو القائل
رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه , رواه الطبراني عن ثوبان
(رضي الله عنه) بسند صحيح.
أي الفريقين يكون طاعنًا في كون الحكومة العثمانية حكومة خلافة؟ أمن يخطئ
في خبر لا يؤاخذه الله ولا رسوله عليه، ولا سيما بعد أن تاب ورجع عنه، أم من
يعاقب من منع الله ورسوله عقابه؟ {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة
: 286) .
لقد قرت في دمشق الشام عيون أعداء الدستور الرجعيين، وما زالت راجفة
فيها قلوب الأحرار المصلحين، فليهنأ الرجعيون في رمضان هذا العام بفتنة صاحب
المقتبس، كما هنئوا في رمضان العام الماضي بالفتنة التى أثاروها على صاحب
المنار، وكما هنئوا في عام سابق بالفتنة التي أوقعوا فيها السيد عبد الحميد
الزهراوي، وليقولوا إن شاؤوا: لكل حر عندنا في رمضان فتنة، وإننا نعد لكل
طالب للإصلاح محنة، وإنا لنحن الظافرون في عهد الدستور وعهد الاستبداد، وإنا
لنحن العابثون بحكومة عبد الحميد وحكومة رشاد، ونحن نقول: إن العاقبة للمتقين،
ولا عدوان إلا على الظالمين، وإن الأعمال بالخواتيم.
وما الهنا منكم بمشف نقبًا ... وطالما أشفى الهناء النقبا
فإذا لم ينصف الوالي الجديد القوم فستنصفهم المحكمة العرفية، وإن لم
تنصفهم المحكمة العرفية فسينصفهم الخليفة محمد رشاد بنفسه، ويكون حزب الحق
هم الغالبين، وحزب الفساد والاستبداد هم الخاسرين.
* * *
(مظالمنا في طرابلس الشام)
نحن أقل الناس تعجبًا مما أصاب كرد علي من الظلم؛ لأننا من أوسعهم علمًا
بحظ بلادنا السورية القليل من الدستور؛ لسوء حال الحكام وجريانهم على ما تعودوا
من الاستبداد، وجهل جمهور الأمة بطرق مراقبتهم ومطالبتهم بالعدل، والتظلم من
كل هيئة حاكمة إلى ما فوقها، على ضعف هذه الهيئات كلها في هذا النوع من
الحكم.
وعلمنا هذا بعضه نظري مبني على قواعد علم الاجتماع والسياسة،
وبعضه اختباري بالاطلاع على أحوال الحكام، وبالدخول في المحاكمات بأنفسنا:
ظلمنا في عهد الاستبداد ظلمًا بينًا لا يجهله أحد من حكام بلادنا ولا من
الأهالي، ظلمنا في أنفسنا، وفي أموالنا، وفي أوقافنا، وسبب هذا الظلم هو
أن أحدنا صاحب مجلة المنار، وقد نشرنا في الجزء الماضي ما كتب في جريدة
بيروت الرسمية من اتهام صاحب المنار هو وإخوته بالجناية؛ ليعرف الأجنبي كما
عرف الوطني سبب ظلمنا والاعتداء على حقوقنا. وقد حال الحول على الدستور،
ولم ترجع الحكومة الدستورية إلينا شيئًا مما سلبته الحكومة الحميدية منا فضلاً عما
سلبه الأشقياء؛ لعلمهم برضاها بظلمنا وعدم الانتصاف لنا ممن يعتدي
علينا.
توفي والدنا وجنود الاستبداد محيطة بداره، فمكنت الحكومة الاستبدادية بعض
المتهجمين على الحقوق؛ مما كان في تصرفه من حصة الأموال الأميرية الموجهة
على أجدادنا من سلاطين آل عثمان الكرام المتسلسلة إليه من ذريتهم بغير توجيه
شرعي ولا نظامي، ومن أوقاف مسجدنا أيضًا.
وكنا كتبنا في المنار أن نائب طرابلس في ذلك العهد وجه ذلك عليه مخالفًا
لقانون نظام التوجيهات المصرح بأن ما كان على الرجل من مثل هذه التولية يوجه
بعد وفاته على أكبر أولاده ثم تبين لنا أنه ليس هنالك توجيه صحيح، وأقمنا
الدعوى في المحكمة الشرعية؛ لأن صاحب هذه المجلة هو أكبر إخوته وأرشدهم،
وقد مرت السنة ونائب طرابلس يماطل في الدعوى ويلوي ولا يفصل فيها على
وضوح الحق وظهوره، ولماذا؟ العلة يعرفها كل أحد!
على أنه قرر في أثناء الدعوى أن الحصة الموجهة من السلاطين على أجدادنا
لم توجه بعد والدي على أحد، وأنه رأى أن يوجهها موقتًا على خصمي مع أخ لي
مناصفة؛ إلى أن تنتهي الدعوى التي لا يريد إنهاءها إلا إذا أنا أرضيته، وما أنا
بالذى يرضيه.
نعم.. قرر هذا النائب عبد المجيد أفندي الجعفري أن الحصة المذكورة
(وتسمى حصة السبعة القراريط أو السبعة السهام) لم توجه بعد والدي على أحد،
وأمامه دعوى فيها أن خصمي محمود حسن اعتدى على هذه الحصة عدة سنين،
وأكلها بغير حق، وهو يعلم أنني صاحب الحق فيها كما هو مقرر في قانون
التوجيهات، فكيف وجهها إلى خصمي المغتصب ولم يوجهها إلي؟
السبب في هذا هو أنه حاكم مستبد في حكومة؛ يرى هو أنها أقرب إلى
الفوضى من الحكومة الاستبدادية الماضية، فإذا كان لا يخاف من الله ولا من
الحكومة العليا أن تسأله عن ظلمه وتعاقبه عليه، فماذا يمنعه من تمكين المختلس
لهذه الحصة زمنًا ثم يوجهها عليه توجيهًا موقتًا بعد ثبوت اختلاسه إياها عدة سنين
قبل هذا التوجيه الموقت مؤبدًا!!!
ماذا يخاف عبد المجيد الجعفري بعد أن ثارت عليه طرابلس بِقَضِّها
وقضيضها، وهجم الألوف من أهلها على المحكمة لإخراجه منها أو الفتك به؛
لسوء سيرته، واشتهاره بهضم الحقوق، وانتهاك حرمة الشرع، وبعد أن أرسلت
العشرات من الشكاوي عليه بالبرق إلى مشيخة الإسلام ونظارة الداخلية وولاية
بيروت، وبعد أن أمر شيخ الإسلام بمحاكمته في ولاية بيروت، فكان من رأي
المجلس الذي عقد لمحاكمته الصلح بينه وبين خصمه بعد أن ظهر وجه إدانته
والحكم عليه!! ولماذا؟ لأنه رجل ذو عيال! .
فهل تكون هذه القاعدة متبعة في حكومتنا ومرضية عند أمتنا، ونكون معها
أمة دستورية وحكومة دستورية؟ ؟ لا لا , وهل يكون من ينجو من كل هذا
في عصر الدستور مباليًا بسلب الحق من صاحبه وإعطائه لغيره؟
هذا الصلح أو الإغضاء عن حاكم يعبث بالبشرية ويضيع الحقوق فتعذره
الحكومة؛ لأنه ذو عيال، مدعاة لإفساد الصالح من الحكام فضلاً عن استمرار
الظالم على ظلمه.
تزوج الجعفري على أم أولاده فتاة في الرابعة عشرة من سنها؛ لمجرد التمتع
وهو في سن الستين، ليس في لحيته شعرة سوداء. ولا يبعد أن يتزوج فتاتين
أخريين ويفتح أربع بيوت على قلة راتبه الشهري، وهل يمنعه قلة الراتب من
ذلك، والحكومة الدستورية تبيح له الاستبداد، وهضم الحقوق، والحكم بالباطل
جهرًا، كما نعلم ذلك علم اليقين في قضيتنا، وكما يلهج به الناس في بلادنا.
أستغفر الله، إن الحكومة الدستورية لا تبيح له ذلك بطبيعتها وشكلها، ولكن
ليس عندنا رجال يقيمون هذه الحكومة على قواعدها، على أن المحاكم الشرعية لم
يكن لها حظ من الدستور، فلا الأحكام فيها تجري بالمشاورة كمحاكم مصر، ولا
المشيخة الإسلامية رئيسة هذه المحاكم توجه إليها مفتشين يعقبون أحكام النواب
(القضاة) ، فيقل عبثهم بالشريعة، ولا هي تضع لهم كتابًا كالمجلة يلزمون الحكم
بمسائلة , فإذا طال العهد على هذه الفوضى في المحاكم الشرعية، سقطت قيمة
الشرع من نفوس العامة وبطلت ثقتها به، فنوجه عناية المشيخة إلى ذلك.
***
(حال الفيلق السادس في بغداد)
جاء في جريدة الرقيب البغدادية ما نصه مع تصحيح قليل:
ذكرت رصيفتنا (بغداد) في عددها 48؛ أن قد اجتمع في النادي العسكري
أمراء وضباط الفيلق اجتماعًا عموميًّا، وتذاكروا في أمر الفيلق السادس وانحطاطه
وتدنيه، وكان من نتيجة مذاكراتهم أن بعثوا بتلغراف إلى الصدارة ونظارة الحربية
والداخلية، وقد وقفت على صورته وأدرجته بنصه بالتركية، فآثرنا درج ترجمته
بالعربية، وهذه هي:
إن فيلقنا باعتبار الأعداد هو الفيلق السادس، وهو الحارس الوحيد لقسم مهم
من أقسام الملك العثماني، ولكنه لما توالى عليه من المصائب والرزايا في السنين
العديدة، نزل إلى دركة من السفالة والضعف؛ ولذلك لم تزل الدواهي تتوالى على
أفراده، حتى لو جمعت لبلغت أعظم مبلغ يمكن تلفه في حرب دموية عظيمة بل
أضعاف ذلك، فهذه المصائب أوقعته في المخاطر، وشوشت نظامه لدرجة فوق
العادة.
فاليوم فضلاً عن وجود الأفراد الاحتياطية، يوجد 21 تابورًا من الرديف
أيضًا تحت السلاح، ومع ذلك فالأمن العام مختل بصورة لا يمكن أن تليق بالشرف
العثماني، ولا تقوم بشأنه وشوكته.
فالعراق اليوم بكل أطرافه بؤرة مصائب. والفيلق بجميع جهاته كل فرقة منه
توجب الأسف الشديد؛ لما هو فيه من الإزراء، وما هو متصور من زيادته شيئًا
فشيئًا، ولا سبب إلا سوء الإدارة، وقد ترك هذا الفيلق الذى لم يزل في كل دقيقة
يخطو خطوة لهاوية الاضمحلال منذ تأسيس الحكم الدستوري، دون سائر الفيالق
بلا قومندان ولا صاحب ولا رئيس أركان حرب!
فالاعتناء به اليوم لا يوازي عشر ما كان عليه عندما افتتح نجد، أو سكن تلك
الغوائل بأجمعها.
فلو وجد قومندان مقتدر فعال (لا كمن لا أثر له سوى كونه عبئا ثقيلاً على
بيت المال) لتمكن من إعادة شرفه وشوكته وسطوته بهذه القوى المتفرقة الضعيفة.
فبناء على ذلك إن كان ثمة للحكومة العثمانية احتياج إلى هذا الفيلق، أو كان
هذا الفيلق معدودًا من فيالق الحكومة الدستورية، فيجب تعيين قومندان فعال مقتدر،
وكذا رئيس أركان حرب، وكذا أمراء يكونون أهلاً لقوماندانية الصنوف بأجمعها،
وإرسالهم بالصورة السريعة، فإن في ذلك صونًا له من الاضمحلال المحقق والتلف
المحيق به.
إنا لنأسف لعدم وجود مقتدر في هذا الفيلق للقيام بالوكالة لحين وصول من
سيعين له، فلا يقتضي العهد في الوكالة إلى أحد من الموجودين قط، وقد حررنا
ذلك خدمة لصالح هذا الفيلق في الحال والاستقبال، وباسم هذه الخدمة طلبنا ذلك) .
***
__________(12/793)
ذو القعدة - 1327هـ
ديسمبر - 1909م(12/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
الصلاة بعد صلاة الجمعة
(س 33) من صاحب التوقيع بالسودان
سيدي الفاضل صاحب المنار الأغر، نفعنا الله به أمين.
السلام عليكم ورحمة الله: أما بعد؛ فلما كانت مجلتكم الغراء هي المجلة
الوحيدة الدينية الإسلامية التي أخذت على عاقتها خدمة الدين والأمة واتباع منهج
الحق، والتي انتشر ذكرها في مشارق الأرض ومغاربها، حتى حازت ثقة الخاص
والعام، حماها الله وحفظكم لخدمة الملة والدين آمين؛ جئنا بالآتي:
نحن يا سيدي في بلدة حديثي العهد بالعمران، يسكنها من المسلمين ما يبلغ
ثلاثة آلاف نفس ما بين سوداني ومصري وجداوي ويماني وبعض من الهنود
والمغاربة، وليس فيها مرشد ديني إلا قاضيها الشرعي السابق الذي أرشدنا للمنار
صاحبه، وعرفنا كيف نقصده عند الشدائد، والذي بسعيه وجده وبما جمعه من
المسلمين أسس زاوية من الخشب؛ كأغلب أبنية البلدة، وهي المسجد الوحيد الذي
تقام فيه الجمعة والجماعة، ومازال - حفظه الله - يجدّ ويجتهد بإلقاء دروس الفقه والتوحيد على العامة، حتى نوَّر الله بصائرهم نوعًا، حتى رزئنا بنقله إلى
محكمة مركز سواكن عقب نقل المديرية منها إلى السودان (بلدتنا) ، وجاء قاضي
محكمة المديرية، فتأملنا خيرًا خصوصًا وأنه أكبر سنًّا ومرتبة من سابقه، ولما
أقبلت أول جمعة بعد وصوله، وحضر المصلون، وأزف وقت الخطبة والصلاة،
وصرنا في انتظار الإمام، ولم يتقدم أحد، دعي فضيلة القاضي للخطابة، فادعى
أنه لم يعل المنابر في عمره، ولم يتعود الخطابة، فخير فيمن يندبه فندب إمام
الأورطة المعسكرة هنا؛ ليخطب ويصلي بالمسلمين بالنيابة عن فضيلته، فأجاب
المذكور وصلى، وإنه وإن كان في لسانه عقدة وفي إلقائه بعض تعقيد؛ غير أنا
حمدنا الله تعالى الذي لم يحرمنا ممن يقوم بالإمامة والخطبة.
صلى الإمام الجمعة وعقبها بأربع ركعات الظهر أو نفل (لا أدري) ، فظن
بعض المالكية أن صلاة الإمام الظهر بعد الجمعة تبطل صلاة المالكية، والمسجد
واحد لا تقام الجمعة في غيره، فسئل الإمام عن ذلك، فما كان جوابه إلا أن انفعل
وحسبل، وكبُر عليه أن يسأله أحد من العوام ويخطئه في صلاته (وما كان إلا
مستفهمًا) وتخلص بقوله: أنا ما باخدشي أجرة، ومذهبي حنفي، وماليش دعوه
بمالك؛ لأني ما حضرتوشي في الأزهر، وإللي يصلي ورايه يصلي وإِللِّي ما
يصليشي عنه ما صلى! ! {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِن كَانَ
عَلَى الهُدَى} (العلق: 9-11) .
لم يكتف حضرة الإمام بما أبداه من الاستياء من سؤال العامي الذي أراد أن
يذكر فتنفعه الذكرى، بل أعاد الكرة في الجمعة التالية، وأظهر عظيم استيائه،
وجعل خطبته طعنًا وذمًّا وشتمًا لمن يتجرأ على العلماء ويسألهم ويخطئهم، حيث
قال بعد الحمدلة والاستغفار والتشهد ما نصه:
(عباد الله: قال الله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ
وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (البقرة: 114) وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} (الأحزاب
: 69) عباد الله: النبي أوذي من قبلي من المنافقين ولي في رسول الله أسوة حسنة!
عباد الله: وسوس شيطان من شياطين الإنس لبعض المصلين وما يعدهم الشيطان
إلا غرورًا أن يخطئني في صلاتي أو أن صلاتي باطلة حيث صليت أربع ركعات
نفلاً، وقالوا إني صليت الظهر، وأقسم بالله العظيم إني ما صليت الظهر ولا
تَنَفَّلْتُ وإنَّ صلاتكم صحيحة وصلاة الذين صلوا الظهر باطلة، ولم أدر كيف يتجرأ
هؤلاء الشياطين على تخطئة علماء الله هم وكلاء الله في أرضه! !
عباد الله: قال الله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا
يَفْتَرُونَ} (الأنعام: 112) ، {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا
ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} (الأحزاب: 60-61) ً عباد الله: إني سأخطب وما
اغتصبت الوظيفة من صاحبها وما خطبت إلا بعد الإذن منه، فاختاروا الخطيب
الذي يعجبكم. هذا وإن لم ينته المنافقون، فسوف يخرجهم الله من هذه البلدة
مدحورين خاسرين الدنيا والآخرة كما أخرج الذين من قبلهم، عباد الله، إن شعبان
قد مضى، هل فيكم من قدم فيه شيئًا ينفعه؟ هل فيكم من عمل صالحًا؟
هذا هو ملخص الخطبة وآياتها وألفاظها؛ والتي لم تخرج عن السب للذي
سأله ومن وافق عليه من (الشياطين) ، وياليته ما سأل.
انتهت الصلاة وقام المصلون وانصرفوا، فمنهم من قال بفساد الخطبة وعدم
جواز الصلاة خلف هذا الإمام، وآخرون قالوا بفساد الخطبة فقط، ولازال الهرج
والمرج بين الناس مع اختلاف جنسيتهم، وفيهم من عاهد نفسه بعدم الصلاة خلف
هذا الإمام.
فأغيثونا وأفيدونا عن الصواب عن كلٍّ وما يتَّبع، وعن صلاح الخطبة
وفسادها، وصلاة الظهر للإمام بعد الجمعة أو التَّنَفُّل، هل يفسدان صلاة المالكية مع
نشر هذا السؤال برمته، حتى لا يقال: تجاوزوا الحق أو كتبوا غير الحقيقة،
والمسلمون يطلبون هذه الخدمة الدينية لله وللنفع العام، ولكم منا الشكر ومن الله
الأجر.
ولما كان خير البر عاجله، فنرجوكم نشره بأول عدد، وأن تفسحوا له
صدركم الرحيب وصدر مجلتكم الغراء، ودمت يا سيدي.
ورحم الله الأستاذ الإمام؛ حيث يقول: إن طول الإقامة في الأزهر تضعف
الاستعداد للعلم، حتى قد تذهب به؛ لأن من فكر حضرة الإمام أن علم الجغرافيا
وما فيه من تغلب الفصول والبروج والعلوم الحديثة الأخرى هو من الكفر الذي جلبه
الشيخ محمد عبده.
... ... ... الفقير
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد ... بهجت
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بالكمارك السودانية
(ج) ليس فيما ذكرتم من الخطبة ما يقتضي عدم صحتها أو عدم صحة
صلاة الجمعة المرتبطة بها، وصلاة الإمام بعد الجمعة أربعًا أو أكثر أو أقل لا
يبطل صلاة الجمعة على نفسه ولا على المصلين من المالكية ولا غيرهم، وما
علمنا أن أحدًا من علماء المسلمين قال: إن عملاً من الأعمال يصدر من رجل
يبطل عبادة غيره أو عبادة نفسه إلا الردة أي: الكفر بعد الإيمان، فإنها تحبط
العمل وتبطل ثوابه.
فيا أيها المسلمون، لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق. بذلك
وصى الله من قبلكم وأعلمكم به لعلكم تتقون. نعم.. إن صلاة الظهر بعد الجمعة
ليست مطلوبة عندكم في مذهب من المذاهب، وإن من لا يقول بسنية صلاة قبل
الجمعة وبعدها كالمالكية، ليس له أن يعترض بمذهبه على مذهب غيره ممن يقول
بذلك، والنظر في التعادل والترجيح بين أدلة المذاهب شيء آخر، لكل أحد من
المشتغلين بالعلم أن يبحث فيه بشرط أن لا يجعل سببًا للتفرق بين المسلمين
باختلاف الاجتهاد الذي لا مندوحة عنه. وعندي أن مذهب المالكية في هذه المسألة
أرجح، ولكنني لا أعترض على غيرهم لمخالفة اجتهادهم لاجتهادهم.
وإذا كان ما ذكرتم عن الخطيب منصوصًا على غره، فإنني أعظه أن لا يعود
إلى مثله، وأذكره بما يجب على الواعظ من الحلم والصبر وعدم الانتصار لنفسه،
ولا سيما بمثل تلك الشدة التي هي من السب والشتم، وفي حديث الصحيحين:
(المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره) وفي حديثهما أيضًا: (المسلم من سلم
المسلمون من شر يده ولسانه) ، وفي رواية لغيرهما: (من سلم الناس) ... إلخ
وليعتبر بعاقبة تلك الحدة، فإنها غيرت قلوب كثير من الناس، وأطلقت ألسنتهم
فيه، ولو عاملهم بالحلم لجمع قلوبهم عليه؛ فأفادهم واستفاد من إقبالهم عليه،
وتعلمهم منه كثرة الأجر وحسن الذكر، كما شأنهم مع القاضي السابق، ولا
شيء يعين على الحلم واللين وحسن السياسة وعدم الدعوى والانتصار للنفس
كالإخلاص، وعسى أن يوجه قاضي المديرية همته إلى إصلاح ذات البين والعناية
بإرشاد أهل هذا البلد، وقراءة درس لهم في الحلال والحرام وآداب الدين؛ وسيرة
النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالحين، والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم.
***
إطلاق لفظ مولانا على الناس
(س 34) من محمد علي أفندي من موظفي كمرك (يافا)
حضرة العالم العلامة السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار الأغر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أعرض أنني قد اطلعت على كتاب يدعى
(صيانة الإنسان عن وساوس ابن دحلان) فرأيته قد فسر كلمة (مولى) بما معناه:
أن كلمة مولى مشتقة من اسم الجلالة، فلا يجوز - والحالة هذه - إطلاقها على
بني الإنسان، كأن يقال مثلاً (مولانا فلان) فكل إنسان قالها لإنسان غيره يشرك
بالله! قرأت هذا وأنا بين الشك واليقين في كلامه؛ لأنني كثيرًا ما أسمع هذه الكلمة
يقولها الناس لأناس غيرهم، فلم أر أحدًا يهديني للصواب سواكم، فأتيت
برسالتي هذه مستفتيًا إياكم عن هذه الكلمة ودرجها مع الجواب بأول عدد يصدر من
مجلتكم الغراء، فلا زلتم الملجأ لحل المشكلات، والوحيد في فك المعضلات آمين.
(ج) لقد غلا صاحب ذلك الكتاب في قوله الذي نقلتموه غلوًّا كبيرًا، وأخطأ
خطأ ظاهرًا؛ فلفظ المولى ليس مشتقًّا من لفظ الجلالة الذي هو من مادة
(وله) ، بل هو مشتق من مادة الولاية أو الولاء، وقد بين الله تعالى في كتابه أن
المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وما كل ما أطلق على الله عز وجل من الأسماء
يحرم إطلاقه على غيره، كما هو معلوم من إطلاق لفظ (رؤف رحيم) على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن، ومن تسمية المسلمين أبناءهم بالحكم والرشيد
وغير ذلك مما جاء في أسماء الله الحسنى.
وقد استعمل المسلمون لفظ (المولى) من عهد النبي صلى الله عليه وآله
وسلم إلى هذا العهد، وهو بمعنى السيد، وشاع عندهم إطلاقه على المعتوق، فكانوا
يقولون: زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونافع مولى ابن عمر
(رضي الله عنه) . ومن استعماله بمعنى السيد قول الخنساء رضي الله عنها في
أخيها صخر.
وإن صخرًا لمولانا وسيدنا ... وإن صخرًا إذا نشتو لنحار
***
السماء والزرقة التي نراها فوقنا
(س 35) من السيد محمد حسين نصيف (بجدة - الحجاز)
حضرة العلامة الفاضل، والسيد الكامل، من طار صيته حتى ملأ الأقطار،
بأعلا المنار، مولانا السيد محمد رشيد رضا، حفظه الله وأدامه.
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرجوكم حل هذه العقدة التي أبرمها
أمامنا أحد طلبة العلم مدعيا أن الزرقة التي نراها فوقنا ليست بالسماء المرادة بقوله
تعالى {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) وإنما تلك الزرقة هي الجو محتجًّا علينا بالحديث (ما بين كل سماء خمس
مائة عام) وأنَّ تلك المسافة لا يدركها البصر عقلاً، فهل السماء التي نراها فوقنا
زرقاء، هي السماء الحقيقية المذكورة بالقرآن والحديث؟ أم الجو كما زعم! أفيدونا
وأرونا من بحر علمكم الزاخر، زادكم الله علمًا وفهمًا والسلام.
(ج) الحديث الذي أشار إليه طالب العلم لا يصح ولا يحتج به؛ ولفظ
السماء قد أطلق في القرآن على عدة معان منها السقف في قوله تعالى من سورة
الحج {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} (الحج: 15) الآية، ومنها السحاب
في عدة آيات، وذلك أن هذا اللفظ من السمو وهو العلو، فكل ما علاك وكان فوقك
جاز لك أن تسميه سماء، هذا هو وضع اللغة التي نزل بها القرآن.
فهذا الشيء الأزرق الذي نراه فوقنا في النهار سماء، ومجموع هذه النجوم
اللامعة التي نراها فوقنا في الليل يسمى سماء، وجهة العلو فوقك تسمى سماء.
وبذلك ورد القرآن , وقد اختلف علماء الهيئة الفلكية في هذا اللون الأزرق الذي في
السماء، وينسب إليه ما يشبهه من ألوان الثياب وغيرها، فيقال: (سماوي) وفي
لون البحر، وليسوا على يقين مما يقولون فيه، وهو على كل حال وكل قول لون
لا يقوم بنفسه، وإنما يقوم بجسم أو جوهر، وما يقوم به اللون يسمى سماء، وإن
كانت الزرقة حادثة من الفصل بين النور والظلمة في هذه الجهة كما قال بعضهم.
والقرآن لم ينزله الله تعالى لشرح مسائل العلوم والفنون الكونية، كالفلك والنبات
والحيوان، وإنما تذكر فيه محاسن المخلوقات وعجائبها للتنبيه على حكمة الله في
إبداعها ونظامها، وعلمه الواسع، وقدرته العظيمة، وإن السماء التي ننظر إليها
في الليل والنهار ذات زينة بديعة، وبناء محكم لا تفاوت في خلقها، ولا فروج ولا
شقوق فيها، وهي من آياته سبحانه وتعالى الدالة على ألوهيته. وما اكتشفه علماء
الفلك من أسرار سننها لا يزيد المؤمن بالقرآن إلا إيمانًا وخشوعًا، وليس فيه
شيء ينقض كلمة منه {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) .
***
دفع الزكاة للجمعيات الخيرية العمومية
(س 36) من صاحب التوقيع في الإسكندرية
حضرة الأستاذ الفاضل والملاذ الكامل، السيد: محمد رشيد رضا نفعنا الله به
آمين.
السلام عليكم ورحمة الله: أما بعد، هل يجوز إعطاء زكاة المال للجمعيات
الخيرية كجمعية رعاية الأطفال، وهي ليست خاصة بفقراء المساكين المسلمين،
بل تقبل كل من يأتيها من فقراء اليهود والنصارى، وهل يجوز نقلها لمكتب الإدارة
إذا كان بعيدًا عن مسافة القصر؛ كالمسافة من الإسكندرية إلى مصر. ونظرًا
لأهمية الجواب، أرجو التكرم به بخطاب خصوصي، وإن لم يمكن فالرأي لكم
ودمتم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... محمود شرف
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بمصلحة عموم الفنارات
(ج) الزكاة المفروضة لها مصارف معينة، وهي تؤخذ من أموال المسلمين
لمصالحهم، فلا يجوز صرف شيء منها لغير المسلمين كما هو مفصل في كتب
الفقه، ومنه يعلم أن دفعها لجمعية رعاية الأطفال، لا يسقط الفريضة عن الدافع،
بل يكون ما يدفع لها من صدقة التطوع، وهي جائزة للمسلم وغير المسلم كما بينا
ذلك في تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} (البقرة: 272) فراجعه في
الجزء الثاني من تفسير القرآن الحكيم.
وإذا علمت أن دفع الزكاة لتلك الجمعية غير جائز، بمعنى أنه يسقط الزكاة
المفروضة، فقد استغنيت عن جواب السؤال الثاني وهو نقلها إلى مكتب الجمعية من
مكان يبعد عنها مسافة القصر أو أكثر، والله أعلم.
***
العلم والاتحاد، أيهما المُقَدَّمُ؟
(س 37) من صاحب التوقيع في سنغافورة
بسم الله الرحمن الرحيم
ما يقول حضرة الإمام السيد: محمد رشيد رضا نفع الله به آمين.
في رجلين قال أحدهما: لا اتحاد بدون علم، وقال الآخر: بل لا علم بدون
اتحاد، فمن يراه حضرة السيد المصيب؟ وليتفضل بالجواب مبسوطًا على صفحات
المنار، لا برحتم نافعين للأمة، كاشفين عنها كل غمة، آمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... السيد
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن الكاف
(ج) مجال الكتابة في العلم والاتحاد وعلاقة كل منهما بالآخر مجال واسع،
يمكن أن يكتب فيه مصنف كبير، ولا يحسن أن يكون ذلك في جواب سؤال مجمل
كهذا السؤال، وبيان ترجيح رأي على آخر وكلاهما غير مبين، فما هو الاتحاد
المنفي جنسه بدون علم؟ وما هو هذا العلم المنكر؟ وما هو ذلك العلم المنفي جنسه
بدون ذلك الاتحاد المنكر؟ هل المراد اتحاد طائفة من أفراد الناس على عمل ما؟ أم
اتحاد طوائف من الناس على تكوين ملك مشترك كالاتحاد الجرماني والأمريكي؟ !
الاتحاد عمل يتعلق بالجماعة أو الجماعات، ولا عمل إلا مع العلم بكيفيته،
والعلم مما يناله الأفراد بدون اتحاد مع غيرهم، فهو المقدم دائمًا، ولكل عمل علم
خاص يكون مقدمة له ومنه الاتحاد، فقول من قدم العلم هو الصواب.
__________(12/810)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العرب والترك [*]
] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا [[1]
(1)
التغاير بين الإخوة الأشقاء، والتنافس بين الجيران والخلطاء، هما من
الأخلاق المعهودة بين الناس في جميع الشعوب والأجناس، وكثيرًا ما يفضي التغاير
إلى التنافر، والتنافس إلى التحاسد، فإذا اقترن ذلك بالتقاطع والتدابر، ولم يفض
كل من المتنافسين بما في نفسه إلى الآخر، اشتعلت بينهما نار العداوة والبغضاء،
وإن كان الخير لكل منهما في الموادة والوفاء، وإن ما يقع من الشقاق بين البشر
بسوء الفهم، أكثر مما يقع بسوء النية والقصد.
تلك قوانين الأخلاق وسنن الاجتماع التي تسير عليها الأفراد والأقوام،
فالعرب والترك هما الصنوان في شجرة الملة الحنيفية، والأخوان الشقيقان في
الجامعة العثمانية، والركنان الركينان لبناء الخلافة الإسلامية، فالرابطة بينهما
جديرة بأن تبقى دائمًا كما وصفها كمال بك نامق زعيم النهضة الأدبية في الترك
بقوله: (إن كان يطمع أحد في حلها فهو الشيطان، وإن كان يقدر عليه أحد فهو
الله) .
هذا ما كان، وهذا ما يجب أن يكون إلى ما شاء الله. ولكن وجد شيطانان لا
شيطان واحد يطمعان في حل الرابطة المتينة بين العنصرين اللذين امتزجا كامتزاج
الأكسجين والإدروجين في تكون الماء، أو الأكسجين والنيتروجين في تكون الهواء
زانك الشيطانان هما شيطان السياسة الأوربية وشيطان الجهل في كثير من أفراد
العنصرين، ولكل واحد من هذين الشيطانين شر من شيطان الجن الذي ذكره كمال
بك رحمه الله، وسأبين ذلك تبيينًا.
إن هذا العاجز كاتب هذا المقال ربما كان من أعلم الناس بقوادم هذه المسألة
وخوافيها وهزلها وجدها؛ لأنني جئت مصر منذ اثنتي عشرة سنة، فكنت أشتغل
فيها بالدعوة إلى الإصلاح الإسلامي جهرًا، من حيث أشتغل بالسياسة العثمانية سرًّا،
وإن مصر في هذا العصر لهي مرآة الشرق والغرب، بما فيها من الحرية المطلقة،
والشعوب المختلفة، والجرائد الحرة، والاجتماعات المباحة، فالمقيم فيها يسهل
عليه أن يعرف من أحوال البلاد العثمانية وسياسة الدول فيها ما لا يعرفه أهل
الآستانة ولا غيرهم من المقيمين في الولايات، حتى في هذا العصر عصر الدستور،
فماذا نقول في عصر الاستبداد القريب: عصر الحجر على المطبوعات والختم
على الأفواه، والمنع من الاجتماع والرعب من ذكر بعض الأسماء والألقاب،
والعقاب الشديد على فلتات اللسان، وزلات الأقلام! ! ؟ ؟
إنني ما تركت مصر وجئت الآستانة في هذا الوقت؛ لأمتع النفس باستنشاق
هوائها وعذوبة مائها ومناظر بوسفورها، وإنما جئت باحثًا ومختبرًا أو ساعيًا في
الإصلاح، فأنا أعرض ما عندي من المعرفة والاختبار والرأي على أولي الأمر
وأهل الحل والعقد، بعضه بالمشافهة والمسارة، وبعضه بالكتابة في الجرائد، فإن
صادف آذانًا واعية، وأعينًا بصيرة متأملة، فذلك ما أرجوه، وإن صدق ما قيل لي
بمصر من أن أولي الأمر، وكذا أصحاب الصحف في الآستانة لا يبالون بقول أحد
ولا برأيه، وما أظن أن الأمر كما قيل، فحسبي أنني أديت الواجب عليّ، وعملت
بالنصيحة الواجبة لأئمة المسلمين وعامتهم كما ثبت في الحديث الشريف الذي رواه
البخاري ومسلم في صحيحيهما.
قضيت أكثر من أسبوع في هذه العاصمة لا أقابل أحدًا من أولي الأمر ولا من
أصحاب الجرائد، وإنما كان همي فيها محصورًا في اكتشاف الآراء، واستخراج
مخبآت النفوس، ومكنونات الصدور، في الأمور العامة، ومسألة سوء التفاهم بين
الترك والعرب خاصة، فرأيتني بعد أن وقفت على كثير من المسائل والآراء، وما
فيها من الأغراض والأهواء، لم أزدد علمًا بأصل المسألة، وإنما أضفت إلى ما
عندي جزئيات جديدة من الحوادث والوقائع تؤيد الأمر الكلي، ولا تنقض منه شيئًا.
فالأمر الذي يجب التصريح به بالإجمال، قبل بيان الأسباب والنتائج
بالتفصيل، والذي يجب أن يعلم وأن يعمل به، هو أنه يوجد شيء من سوء التفاهم
بين العنصرين تخشى عاقبته إن لم يتدارك في الحال، وأَنَّ كبراء الدولة وقادة
الأفكار في العاصمة ليسوا على بينة منه، وأستشهد على ذلك شهيدين قريبين:
أحدهما: فتنة الشام في هذا العام، وثانيهما: ما نشر في جريدة (أقدام) من خبر
اتحاد أمراء جزيرة العرب لأجل تكوين دولة عربية!
أما الأول الذي استدل به على أن حكومة العاصمة ليست على بينة من أحوال
الولايات العربية، فهو أن بعض الوشاة في دمشق الشام، بلغوا هذه الحكومة بتقرير
من تقاريرهم التي اعتادوها في زمن الحكومة الحميدية بأن أفرادًا معينين يكونون
دولة عربية وخلافة جديدة! ! فبادرت الحكومة الدستورية إلى التحقيق واستنطاق
المتهمين بهذه الجناية جهرًا، وكانت الحكومة الحميدية تفعل ذلك في شأنهم وشأن
أمثالهم سرًّا، وهم أفضل علماء الشام وأخلص المخلصين من أحرارها للحكومة
الدستورية.
هم الذين كانوا مضطهدين في الدور الماضي، فلما جاء الدستور ظنوا أن زمن
اضطهادهم قد مضى، وجاء الزمن الذي ينفع فيه الصادقين صدقهم، ويعرف
فيه للمخلصين إخلاصهم، وكانوا هم السابقين إلى مقاومة الرجعيين؛ إما ببذل
نصائحهم وعلومهم كالشيخ عبد الرزاق البيطار، والشيخ جمال الدين القاسمي، وإما
ببذل أموالهم ونفوذهم كعبد الرحمن بك اليوسف. والسبب في وقوع هذا الغلط عدم
الوقوف على حقيقة الأحوال؛ ودليل ذلك أن ناظر الداخلية لم يلبث أن أصدر أمرًا
حين علم بالحقيقة من مدة قريبة؛ بترك التحقيق عن المتهمين بالباطل، وجعل
المسألة كأن لم تكن شيئًا مذكورًا. ولكن تلك الإهانة التي أصابت أولئك المخلصين؛
بسبب ما ذكرنا من عذر الحكومة قد تنسب إلى سوء القصد أو تضعف الثقة
بالحكومة الدستورية - لو لم تتداركها - وسنبحث في طريق معرفة الحكومة والجرائد
في العاصمة لأحوال الولايات في نبذة أخرى من هذا المقال.
وأما الأمر الثاني: وهو ما أستدل به على عدم معرفة الجرائد وقرائها هنا
بأحوال البلاد العربية، فهو تصديق ما نشرته جريدة (إقدام) مترجمًا عن جريدة
(الاتحاد العثماني) : من اتحاد أمراء العرب وشيوخهم في الجزيرة، واهتمام
الناس هنا بذلك، وهذا ما حملني على زيارة هذه الجريدة ومكاشفة مديرها الفاضل
بحقيقة الأمر في ذلك الخبر، والاتفاق معه على كتابة مقال في بيان ما عندي من
الصواب في هذه المسألة، وفي المسألة الكبرى التي تعد هذه فرعًا من فروعها؛
وهي مسألة سوء التفاهم بين العرب والترك، وما يجب من طرق تلافيه بعد معرفة
أسبابه، وقد شكرت للرصيف الكريم قبوله مني ما أكتب وترجمته ونشره في
جريدته.
لمسألة اتفاق أمراء الجزيرة أصل عرفته من أوثق المصادر وأصحها؛ وهو
أن شيخ لحج (ويلقب هناك بسلطان لحج) قد كتب كتابًا إلى بعض أمراء العرب
وشيوخهم، كإمام الزيدية في اليمن، والشريف أمير مكة في الحجاز وغيرهما،
وأرسله مع رسل من قبله يحملون بعض الهدايا، وهي تتضمن الدعوة إلى المذاكرة
في الاتفاق على حفظ جزيرة العرب من العبث باستقلالها ولو من قبل الدولة العلية!
ولكن لم يجبه أحد إلى دعوته، ولا حصل اتفاق بين أولئك الأمراء، ولا اتفاق
على الاتحاد، ولا ذلك من المتيسر، ولا شيخ لحج ممن يسمع له أولئك الأمراء
قولاً، أو يحترمون له رأيًا، أو يعتقدون فيه إخلاصًا، بل هم يسيئون الظن فيه؛
لما بينه وبين إنكلترا من الولاء، وما يأخذ منها من العطاء.
علمت بهذه المسألة من عدة أشهر، ولم أنشرها في (المنار) ولا في غيره
من الصحف؛ لاعتقادي أنها لا ضرر فيها، وإنما الضرر في نشرها وخوض
العامة بذكرها، لما سأبينه بعد. ولكن لما كان علم الدولة بها واجبًا ولا سيما أن
كانت بدسيسة أجنبية، بادرت إلى إخبار بعض من يثق بي من كبراء الدولة بها في
كتاب أرسلته إليه من مصر، على أنه بلغني أن أمير مكة المكرمة أخبر حكومة
العاصمة بها أيضًا.
بعد ذلك سمع بعض التجار في عدن وغيرها بالخبر، ولكن على غير وجهه،
فتناقلوه حتى وصل إلى طرابلس الشام، فتلقفه مكاتب جريدة (المؤيد) المصرية
هناك، وكبره وأضاف إليه ما جرت عادة مكاتبي الجرائد بالتوسع في مثله وأرسله
إلى المؤيد، وبعد أن نشره المؤيد بزمن غير طويل، نشرته جريدة (الاتحاد
العثماني) فوصل إلى الآستانة العلية في هذه الأيام، وكان له من سوء التأثير ما
كان، ونحمد الله.
إن كانت الحكومة هنا أعرف بحقيقة هذا الأمر من الجرائد؛ إذ لولا ذلك
لخشي أن تحشر الزحوف، وتنفق الألوف، وتسير الأسطول، لدرء هذا الخطر
الموهوم، فإن اتفاق أولئك الأمراء، لا يتلافى بمثل ما يتلافى به اتفاق الشيخ عبد
الرزاق البيطار، والشيخ جمال القاسمي، وهما شيخان ضعيفان، يقيمان في مركز
فيلق من فيالق الدولة العلية! !
أكتفي بهذه النبذة اليوم، وسأكشف الغطاء في النبذة الثانية عن أسباب سوء
التفاهم، وأجعل هذا وذاك مقدمة لما أدعو إليه من الوحدة والاتفاق.
***
(2)
قلت: إن العرب والترك يجب أن يكونا متحدين، كالعنصرين المكونين للماء
أو الهواء، بحيث يكون الناظرون إليهما كالناظرين إلى الماء، يرون شيئًا واحدًا لا
شيئيين، والشاعرون بمقاومتهما كالشاعرين بمقاومة الهواء، وهو قوة واحدة لا
قوتان منفصلتان، وقلت: إن شيطاني السياسة الأجنبية والجهالة الداخلية، يطمعان
في حل رابطتهما القوية، وتحليل وحدتهما الدينية الاجتماعية بمحلل العصبية
الجنسية، وإننا نبين ذلك بشيء من التفصيل.
سياسة أوربا في الأجناس
وضعت في أوروبا قاعدة من قواعد السياسة من عهد نابليون وهي: وجوب
استقلال كل جنس بنفسه، فهذه القاعدة يعمل بها رجال السياسة الاستعمارية حيث
توافق مصلحتهم فقط، ويوجد من رجال الاجتماع من يقول بوجوب اطرادها
لمصلحة البشر، وإن كان استقلال بعض الأجناس ينافي مصلحة جنس آخر سائد
عليه أو متعذر به.
لهذه القاعدة فروع كثيرة تتعلق بالدولة العلية لا خير لها في شيء منها؛ لأنها
مؤلفة من أجناس كثيرة، لا قوة للدولة إلا باتحادها كلها أو جلها بالإخلاص، فإن
شذ منها جنس صغير هو فيها كالكربون في الهواء، لم يكن ذلك ضارًّا لها ضررًا
يضعف كيانها، فإن خلو الهواء من الكربون لا يبطل كونه هواء، وإن كان لا يخلو
في الغالب منه.
وإنني لا أبحث هنا في هذه الفروع، وإنما أقول: إنه لا يغبن أحد من الأجناس
العثمانية في سياسة الجنسية كما يغبن الترك العثمانيون؛ لأن من مقتضاها أن
يحصر استقلالهم في بلاد الأناضول التي هم فيها أكثر عددًا، ولا تسمح لهم
أوربا بالاتحاد بأهل تركستان ولا هم يقدرون على ذلك بالقوة، فاتهام بعض
العرب وغيرهم لساسة الترك بأنهم يريدون استخدام قوة الدولة؛ لتمييز جنسهم
على سائر الأجناس العثمانية، هو اتهام لهم بالجهل بمصلحة الدولة وبمنفعة جنسهم،
فوق الجهل بما يحظره عليهم دينهم من عصبية الجنسية.
سياسة أوربا الجنسية في البلاد العربية
قلت: إن القائلين بهذه السياسة في أوربا فريقان: رجال الاستعمار الذين
يستخدمونها لمصلحتهم بقدر مصلحتهم، ورجال الاجتماع الذين يسعون لها سعيها
على الإطلاق؛ عملاً بما يعتقدون من خير البشر.
فالأولون يبثون في البلاد العربية العثمانية فكرة الاستقلال العربي مخادعة
للعرب؛ ليساعدوهم على الانفصال من جسم الدولة العَلِيَّة، وماذا تريد أوربا بعد
ذلك؟ تريد أن تضع هذه البلاد العربية تحت حمايتها أو تضمها إلى مستعمراتها،
وتقطع عليها طريق الاستقلال باسم الاستقلال! ! وإن لأوروبا من الدسائس
والوساوس في إطماع البلاد العربية العثمانية بالاستقلال، ما لا تسمح لنا الحالة
السياسية في الآستانة الآن بشرحه، وإنما أشرنا إليه؛ لنذكر أهل الحل والعقد
ورجال الصحافة في هذه العاصمة بأن سوء الإدارة في عصر الاستبداد، كان
هو المساعد لترويج تلك الدسائس، وإن حسن الإدارة وحده لا يكفي في هذا
العصر لقطع عرق الدسائس وخيبة مساعي أصحابها، بل يجب أن يقترن بالمساواة
وتأييد الوحدة العثمانية بالعمل من الحكومة وبأقوال الجرائد، وفي مقدمتها جرائد
العاصمة، فإن كلمة واحدة من جريدة تركية أو من كاتب تركي تشعر بتفضيل
الترك على غيرهم، تحبط عمل ألف واحد من العرب في الدعوة إلى الاتفاق
والاتحاد.
قد اشتهر أمر المناظرة الطويلة التي دارت بين هذا العاجز، وبين صاحب
جريدة (وطن) التي تصدر في مدينة لاهور بالهند، في الانقلاب العثماني الذي
سميته ميمونًا، وسماه مناظري مشؤومًا. وقد كان مما قاله في رده الأخير: على
أنني لم أعترف لعبد الحميد بحسنه واحدة، وقد كانت جرائد الشرق والغرب طافحة
بتعداد حسناته الكثيرة، فأجبته في ردي الأخير عليه، الذي نشرته في جزء المنار
الذي صدر في آخر رمضان الماضي: إننى أعترف لعبد الحميد بحسنتين: سكة
الحديد الحجازية وعدم التعصب للجنسية إذ لم يكن يقال في زمنه ترك وعرب.
وأزيد الآن على ما قلته هناك: إنه لو كانت تلك الإدارة السوءى مقرونة بالتعصب
الجنسى للترك لانفصلت البلاد العربية من جسم الدولة ألبتة.
هذا: وإن في أوربا من أهل السياسة من يساعد على فصل بلاد العرب من
جسم الدولة العلية؛ لأجل إضعاف الدولة لا لطمع في شيء من تلك البلاد، وإننى
قد دعيت منذ أعوام إلى الدخول في جمعية أو رياسة جمعية بأوربا تدعو إلى
استقلال البلاد العربية، وقيل لي: إن جمعية كذا.. . وجمعية كذا.. من الجمعيات
التي تريد إضعاف الترك في مقدونية وفي الأناضول، وحملهم على تفريق القوة
العسكرية، تساعد هذه الجمعية العربية بالمال الكثير إذا دخل فيها بعض المشهورين
من المسلمين، ولما رفضت هذه الدعوة قيل لي: اسمح لنا بكتابة شيء في ذلك
بقلمك أو اسمح لنا أن نستخدم اسمك، فلم أقبل بل كان ذلك مما قوى عزيمتي على
القيام مع بعض أصدقائي العثمانيين بمصر بجمعية الشورى العثمانية؛ التي ألفناها
من جميع العناصر العثمانية؛ للمطالبة بالدستور والإصلاح.
وأما رجال الاجتماع من الأوربيين الذين يميلون إلى تكوين دولة عربية
فكثيرون، ومنهم المخلصون الذين لا يقصدون مساعدة الطامعين في البلاد العربية،
ولا إضعاف الشعب التركي، وقد يستغرب كثير من القارئين لهذا المقال الجزم
بوجود هذا الصنف من الناس في أوربا، ألا فليعلم المستغربون أننا نقول هذا عن
علم لا عن ظن، وأنَّ الإنسان مازال مصدر الغرائب.
ومما وقفت عليه من ذلك أن بعض هؤلاء المخلصين في حب العرب، قد
عرف الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده رحمه الله) ووثق باقتداره، فرغب إليه
أن يضع له نظامًا لاستقلال جزيرة العرب وتكوين دولة عربية فيها؛ ليسعى في
تنفيذ ذلك. وقال له: إنه يوجد مال كثير يبذل في سبيل المشروع، وإنه هو
ينفق من صندوقه مبلغ كذا من ألوف الجنيهات. فأقنعه الأستاذ الإمام بأن
فصل العرب من الترك، يضيع الفريقين ويضر الإسلام نفسه. فقال له ذلك
الأوربي الفاضل: إذا كان الأمر كذلك، فأنا أعاهدك على ترك السعي له.
إن ما يظهره العلماء المستشرقون من آثار العرب في العلم والمدنية والدين،
وما يطبعونه في كتبهم التي كانت نسجت عليها عناكب النسيان، هو مما يقوي ميل
أولئك الاجتماعيين إلى مساعدة الاستقلال العربي، إذا سعت العرب إليه وطالبت به
فأحب أن يعرف ذلك رجال السياسة والصحافة من الترك، وأن يعلموا علم اليقين
أنه لم يوجد إلى هذا اليوم سعي إلى هذه التفرقة الضارة، ولا ميل من أهل البلاد
العربية، وأنَّ العارفين منهم بهذه المنافذ يسعون في سدها، وأنَّ الذين أظهروا
الدعوة إليها في أوربا، إنما هم أفراد من أصحاب المطامع الذين كانوا يبتغون
المال والمناصب من عبد الحميد، والتهويش على الدستور ورجاله في أول العهد
بإعلانه، وأنَّ عزت العابد لا يقدر الآن على شيء، وأنَّ كل ما يجب الآن
محصور في إزالة سوء التفاهم بين العنصرين، وهو ما سنبينه بعد.
***
(3)
إذا جنحت الترك للاعتصام والامتزاج بالعرب بما سأذكره من الوسائل، فإن
العرب تكون أجنح لذلك؛ لأن الترك هم العنصر الأكبر في الدولة والسياسة،
والقاعدة الطبيعية في الجاذبية أن الأكبر يجذب الأصغر؛ ولأنهم أشد استمساكًا
بالجنسية، فيخشى أن يكونوا هم الذين يكوّنون عصبية العرب الجنسية.
فإن قيل: إن العرب هم أكبر العنصرين؛ بكثرة عددهم، وسعة أرضهم
وموارد ثروتهم، فهم الذين يجب أن يجذبوا الترك إليهم، فالجواب: إن هذا كان
يكون صحيحًا، لو كان التنازع والتجاذب بين عامة العنصرين، ونحمد الله أنه لم
يكن كذلك؛ لأن هذه العصبية إذا سرت في نفوس العامة فتنبهوا لها، وتوجهوا إلى
العمل بموجبها، فإنه يتعسر أو يتعذر نزعها من قلوبهم، واستخراجها من أدمغتهم
وإنما التنازع والتجاذب محصوران في طائفة من المتعلمين؛ وهم رجال المناصب
في الدولة وطلابها، والمشتغلون بالسياسة كأصحاب الجرائد وكتابها، ومجموع
الفريقين في الترك أكثر منهم في العرب، وهو معنى قولنا: إن الترك أكبر
العنصرين في الدولة والسياسة، وإن انحصار التجاذب بين أعقل المتعلمين في
الفريقين، هو الذي يطمع طلاب الوفاق ومحبي الإصلاح في إزالة سوء التفاهم،
الذي يغري كل فريق ببث سموم التفريق في عامة الناطقين بلغته.
وأما كون الترك أشد استمساكًا بعصبية الجنس من العرب، فسببه أن دولتهم
قامت بهذه العصبية لا بالدين الذي يجمع بين الأجناس الكثيرة ويساوي بينهم؛
كدولة العرب أو دولهم. ولا نطيل في بيان هذا؛ لأنه لا يقوي ما نرمي إليه من
التأليف والتوحيد بل ربما يعارضه، وحسبهم أن دولتهم سميت باسم جنسهم (تركيا)
وكان مما زادهم استمساكًا بعصبيتهم الجنسية كثرة الأجناس المزاحمة لهم في
عاصمة الملك، وما يتصل بها من البلاد.
نعم.. إنهم على قيامهم بعصبية الجنس، لم يكرهوا الأجناس التي استولوا
على بلادها على التجنس بجنسيتهم، ولا على الدخول في دينهم.
أما الأول: فلأن دولتهم لم تكن دولة علم وحكمة، وإنما كانت دولة بأس
وقوة. وقد مرت عليها القرون، ولم تجعل للغة التركية نحوًا ولا صرفًا ولا
معاجم، ولا غير ذلك من كتب التعليم.
وأما الثاني: فلأن الإسلام نفسه هو الذي لم يسمح لهم بذلك، وقد أراده
بعض سلاطينهم، واستفتى فيه مفتيه (شيخ الإسلام) فلم يفته، فامتنع لأنه كان
مسلمًا ودولته إسلامية لا شبهة في ذلك.
ما كنت لألم بهذا الاستطراد، لولا ما خشيته من الاعتراض على بعض
المقدمات الذي يترتب عليه عدم التسليم بالنتيجة. وإذا سلمنا أن الاستمساك الجنسية
فيهم أشد، وأنهم أقوى على جذب غيرهم إليهم وأقدر، فلا مندوحة لنا عن التسليم
بأن الخوف من التفرق، والرجاء في الاعتصام، هما منهم وفيهم أشد وأقوى أيضًا.
وإني لأرجح الرجاء على الخوف؛ لحسن ظني بكبراء القوم وزعمائهم الذي
لا ينقضه وقوع بعض الأغلاط منهم، التي تولد منها ما تولد من سوء الفهم، الذي
يسهل تداركه مع حسن القصد، وقد رأيت بوادر الارتياح إلى التدارك من فخامة
الصدر الأعظم، فمن دونه من رجالهم الذين اتفق لي الحديث معهم، بل رأيت
الكثيرين من فضلائهم قد أقبلوا بعد نشر النبذة الأولى من هذا المقال في جريدة
(إقدام) ؛ للسلام عليّ والتعرف بي والشكر لي، والاعتراف بحسن ما دعوت
إليه من وجوب الاتحاد والاعتصام.
وكذلك فعل الكثيرون من وجهاء العرب المقيمين في هذه العاصمة. أفليس
هذا دليلاً على صدق ما جزمنا به من كون المسألة التي نبحث فيها مسألة سوء فهم،
يسهل تداركها قبل اتساع دائرتها؟ بل.. ومتى وضحت الأسباب زال الارتياب.
تاريخ التغاير بين العرب والترك
إن الطبيب لا يحسن معالجة المريض، ويكون جديرًا بالنجاح فيها إلا إذا كان
عارفًا بتاريخه الصحي، وبما طرأ عليه من الأمراض من قبل، بل يجب أن يكون
مع ذلك على علم بالحال الصحية في آبائه وعشيرته؛ ليعرف استعداد مزاجه، وما
عسى أن يكون قد سرى إليه بالوراثة.
وكذلك يجب أن يعرف الطبيب الاجتماعي تاريخ الأمم والشعوب التي
يتصدى لإرشادها، ومعالجة أمراضها الاجتماعية وأخلاقها، وعاداتها الطارئة
والموروثة. وهذا ما يدعونا إلى الإشارة إلى ما لابد من التذكير به من تاريخ
التغاير بين هذين العنصرين اللذين يجب أن يتحدا دائمًا؛ كاتحاد عنصري الهواء
أو الماء.
كان للعرب مدنيات قديمة، قد امتدت من بلادهم إلى بلاد الكلدان والفرس من
جهة الشرق، وإلى مصر من جهة الغرب فتاريخ دولة الرعاة العربية في مصر
معروف، ويقول بعض المؤرخين: إنه كان لهم في تلك البلاد دولة أقدم منها،
وشريعة حمورابي - وهي أقدم الشرائع المعروفة من التاريخ - شريعة
عربية، فحمورابي العربي كان يدعى ملك السلام، كما في العهد العتيق والعهد
الجديد من أسفار أهل الكتاب، وكان معاصرًا لإبراهيم الخليل عليه وعلى آله الصلاة
والسلام، إلا أن تلك المدنيات قد زالت كما زال غيرها من المدنيات القديمة؛
ولم يظهر شيء من آثارها إلا في هذا العصر الذي عنى فيه الأوربيون باستخراج
الآثار القديمة من بطن الأرض، وسيجاريهم العثمانيون في ذلك، وهم أحق بمعرفة
تاريخ البلاد التي ورثوها، ويوجب عليهم الدستور في هذا العصر عمارتها، كما
أوجب الاستبداد على سلفهم إهمالها إن لم نقل تخريبها.
ثم أتى على العرب حين من الدهر، لم يكونوا فيه شيئًا مذكورًا في عالم
المدنية، حتى انبلج فيهم فجر الإسلام بمكة المكرمة، وطلعت شمسه بالمدينة
المنورة، ثم امتد نوره إلى سائر الآفاق، واتسعت فتوحاته في الشرق والغرب،
وأحيا العلوم التي كانت قد ماتت، وجدد المدنية التي كانت قد عفت وطمست،
ولكن كان من تعاليمه محو العصبية الجنسية، ولذلك كانت الدواوين التي دونها
الخليفة الثاني للحكومة في بلاد الشام باللغة الرومية إلى عهد عبد الملك بن مروان ,
وكان وزراء أعظم الخلفاء العباسيين من الفرس، وحاشية آخرين منهم وحرسهم
وجندهم الخاص الممتاز من الترك. ثم حدثت في بلاد الخليفة العباسي سلاطين
الطوائف، فكان منهم الفارسي والتركي والكردي، ولم يخطر في بال العرب أن
هؤلاء غرباء عنهم، وأنه يجب تأليف عصبية عربية لنزع الملك منهم، ذلك بأن
الإسلام نزع عصبية الجنس من قلوبهم بقول الله لهم في سورة الحجرات {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) فعلمهم أن الشعوب التي تختلف باختلاف الجنسية،
والقبائل المتفرقة باختلاف النسب، يجب أَنْ تتعارف فتأتلف، لا أن تتناكر فتختلف،
وبذلك أوصاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع، وصرح بأنه لا
فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى، ولذلك كانت
العرب ولا تزال تفضل مثل ملكشاه السلجوقي وصلاح الدين الأيوبي الكردي
على أكثر ملوك بني أمية؛ ولذا سهل على ملوك آل عثمان الاستيلاء على البلاد
العربية، ولم يخطر على بال الأمة العربية أنه قد استولى عليها قوم ليسوا من
جنسها؛ إذ ليس لها - ومعظمها على الإسلام - جنسية في غير دينها، ألم تر إلى
الشعب المصري العربي كيف يئن من نفوذ الإنكليز وهم ليسوا بمالكين، ويحن إلى
الترك، وإن كانوا إلى آخر عهد عبد الحميد من الظالمين، ومن الأمور التي لا
ينكرها مصري ولا تركي أن الإنكليز قد أصلحوا من بعض الوجوه في مصر وإن
الترك لم يصلحوا فيها شيئًا، ولا تزيد على ذلك؛ لئلا نخرج إلى ما ليس من
غرضنا، أو إلى ما يوشك أن يضعف صوتنا فيه.
يقول بعض المتفرنجين منا: إن عدم تعصب العرب لجنسهم كان ضارًّا بهم؛
لأنه أزال ملكهم، وإن الترك لو عملوا بهذه السياسة الإسلامية، لكان شأنهم في ذلك
كشأنهم. ونقول: إن هذا القول باطل، وليس هذا المقام مما يتسع لبيان بطلانه
بالحجة والبرهان، وإنما الغرض مما تقدم بيان أن العرب لا يكرهون سلطة الترك
تعصبًا لجنسهم، وإنما ينكرون منهم بعض الأخلاق والأعمال، كما ينكر بعض
أفرادهم وبعض جماعاتهم على بعض.
هذا ما عليه مجموع الأمة العربية لا جميع أفرادها، فإنني لا أنكر أنه قد
سرى إلى كثير من المتعلمين الميل إلى التعصب الجنسي والاستقلال العربي،
وهو المقصود من بحثي هذا.
إن الدولة التركية لم يكن لها في عصور قوتها نفوذ ولا سلطة ولا دواوين،
ولا محاكم في داخلية البلاد العربية، ولا مدارس تركية، فهي لم تمتزج بالعرب،
ولم تلتحم معهم بلحمة العدل والعلم واللغة، فيكون الترك والعرب أمة واحدة، ولم
تَسُسْهُم بالقوة والجبروت والظلم العام، فتفسد بأسهم وتجعلهم أمة ذليلة، بل كانت إلى
ما قبل (التنظيمات الخيرية) التي وضعت في عهد السلطان عبد المجيد (رحمه
الله تعالى) تكتفي بإرسال بعض عمالها إلى بعض البلاد الكبيرة؛ لأجل أخذ ما
فرض على كل جهة من المال للدولة، ولكن البلاد المصرية قد ذاقت من الظلم في
عهد المماليك ما صارت تعد به عصر محمد علي باشا وعصر أحفاده عصر نور
وإصلاح، على ما كان فيه من ظلم وجور، ومع هذا كله، لم تتوجه نفوس
المصريين إلى طلب الاستقلال التام عن الترك إلا في عهد الثورة العرابية، ثم لما
كانت عاقبة الثورة هي احتلال الأجانب للقطر المصري، حدث للمصريين من
التعلق بالدولة العلية ما هو معروف، وقد أشرنا إليه آنفًا.
بعد (التنظيمات الخيرية) تغلغل عمال الحكومة من الترك في البلاد العربية
فلم يكن الناس يستنكرون سلطتهم، أو يستثقلون وطأتهم، ولا كانوا يرون أنفسهم
أذلاء لخضوعهم لحاكم أجنبي عنهم، بل كان السواد الأعظم وهم المسلمون يعدون
التركي منهم؛ لأنه مسلم، وهم قلما يفكرون في مسألة الجنسية.
وأما غير المسلمين فلم يكن عندهم فرق بين التركي المسلم والعربي المسلم
فهم كالمسلمين، كانوا لا يفكرون في غير الرابطة الدينية، ثم صار المتعلمون
منهم على الطريقة الأوربية يدعون إلى الرابطة الوطنية، على أن أكثر أهل
بلادنا لا يفهمون من معنى الوطن إلا موضع الإقامة، حتى إن كل بلد عندهم
وطن، وهذا هو المتبادر من المعنى اللغوي، ثم إن النصارى سبقوا في كثير من
البلاد العربية إلى التقرب إلى حكام الترك بتعلم التركية، حتى صار كتاب الدواوين
كلهم أو جلهم منهم في أوائل العهد بالتنظيمات، ثم قل عددهم فيها بعد ذلك.
نعم.. إن جهل أهالي البلاد للغة التركية، وجهل الحكام من الترك للغة
العربية، كانا ولا يزالان من أسباب الجفاء وعدم الأنس، واشتهر الترك على رقة
حاشيتهم وعلو أدبهم بالكبر والغلظة، على أن كثيرًا منهم كان يتكبر؛ لظنه أن
التكبر يكون أدعى إلى المهابة والإجلال، ولكن لم يكن يشعر بهذا إلا بعض أفراد
الأمة وهم رجال الحكومة من أهل البلاد، فلم يكن له تأثير في الأمة يوجب سريان
الكراهة للجنس، وإنما كان يعرف بين الناس وصف الحاكم من حيث هو حاكم،
فيقال: هذا الوالي أو هذا المتصرف عادل؛ لا يأكل (الرشوة) ، وهذا الوالي أو
المتصرف يأكل ويشرب … وكثيرًا ما كان الناس قبل هذه الأيام يمدحون الترك
كلهم؛ لوجود حاكم عادل منهم، وقلما كانوا يذمونهم كلهم لظلم الحاكم منهم، على
أن الظالمين كانوا بطبيعة الاستبداد أكثر من العادلين.
وقد عرف بين الناس في الولايات العربية شيء آخر لابد من ذكره، وإن كان
مرًا؛ لأننا نبحث في هذه المسألة بحث الطبيب الآسي، وفي المثل العربى
(من أكتم داءه قتله) ذلك الشيء هو أن الترك يبغضون العرب. ويتناقل الناس
في كثير من البلاد العربية كلامًا، سمعوه من بعض حكام الترك صريحًا في هذا،
ولا أحب أن أطيل في بيانه، ولولا أنه مشهور لما ذكرته ليعرف إخواننا الترك من
ولاة الأمور وأصحاب الصحف، فيكونوا معنا على بصيرة فيما نطلبه من خير
الأمة بالاعتصام والوحدة.
يمكن أن يقال: إن ما سمع من تصريح بعض الترك ببغض العرب هو من
الجزئيات التي لا تبلغ أن تكون استقراء ناقصًا، فالحكم بها على الجنس كله حكم
باطل ولا سيما إذا عرف لها سبب يوجد في صنف من أفراد الجنس دون غيرهم.
وقد علمت بعد البحث والتحري أن هذا الصنف الذي قد بدت البغضاء للعرب من
أفواه كثير من أفراده هو صنف المتفرنجين والضعفاء في الدين، من الذين يثقل
عليهم مزاحمة العرب لهم في خدمة الحكومة، وفي التوسل إليها بالتعلم في المدارس
الرسمية، فإن بعض المتخرجين في هذه المدارس من أبناء العرب، وبعض
التلاميذ الذين لا يزالون فيها، يذكرون من تعصب بعض المعلمين عليهم ما لا محل
لشرحه هنا. ومن المشهور عن كثير من الترك الصالحين وغير المتزاحمين معهم
على أعمال الحكومة؛ أنهم يحبون العرب حبًّا دينيًّا، حتى إن منهم من يتبرك
بالعربي؛ لأنه عربي، فالحقيقة الممحصة هي أنه ليس بين الجنسين عداوة ولا
بغضاء.
فنقول: إن الاتحاد بينهما متعذر أو متعسر، وإنما هو التغاير والتنافس في
طلب المناصب والوظائف وفي صفوف المدارس قد وصل مع الغلو إلى التحاسد،
كما أشرنا إلى ذلك في فاتحة النبذة الأولى، ومثل هذا التنافس والتحاسد يقع بين
المتزاحمين من أبناء الجنس الواحد، فتلافيه سهل، إن شاء الله.
والخلاصة أن تاريخ العلاقة بين الترك والعرب، لم يكن فيه شيء أكثر مما
ذكرنا، ولم يكن ذلك في الماضي مما يخطر على بال زعماء العرب السعي إلى
انفصالهم من الترك، واستقلالهم بأنفسهم، ولا ذكر هذا على لسان أحد إلا في عهد
ولاية زعيم الحرية والإصلاح (مدحت باشا) على سورية، ففي عهده شاع أن في
البلاد حزبًا كبيرًا مؤلفًا من وجهاء المسلمين والنصارى في بيروت والشام، يسعى
إلى جعل القطر السوري مستقلاًّ كالقطر المصري تحت سيادة الدولة العلية، ويكون
الخديوي له مدحت باشا.
وقيل: إن بعض الماسون كانوا يسعون إلى جعل الأمير عبد القادر الجزائري
هو الخديوي لهذا القطر. وقد سمعت من والدي - رحمه الله تعالى - أن مدحت
باشا - على سعيه في إصلاح الدولة - اعتقد أن إصلاح البلاد السورية وجعلها
خيرًا من البلاد المصرية، لا يتأتى إلا باستقلالها الإداري، فكان يمهد السبيل
لذلك، فشعر بالأمر رستم باشا متصرف لبنان فكاشف به الدولة، فكان ذلك هو
السبب في عزل مدحت من ولاية سورية. ولكن أخبرني بعض العارفين بدخائل
السياسة في ذلك الوقت؛ أن السلطان عبد الحميد هو الذي أوجد تلك الإشاعة
في سورية؛ ليتوسل بها إلى إخراج مدحت من سورية لأجل الانتقام منه.
ويقال أيضًا: إن لبعض الأجانب يدًا في توجه نفوس الناس في سورية إلى
هذه الفكرة. وقد حدثني بعض أصحابي الذين كانوا من عمال الحكومة في عهد
مدحت باشا؛ أنه سأله عما يقال في هذه المسألة، فقال له زعيم الأحرار: إن هذه
دسائس من الأجانب، يريدون بها فصل سورية من الدولة؛ ليستولوا عليها.
مثل هذه الدسيسة، لا يستغرب من سياسة يلدز التي كانت مبنية على المكايدة
والمخادعة وإخفاء الحقائق بألوان التمويه والتلبيس، وهي التي لعبت بالثورة
العرابية ذلك اللعب المشئوم، ومكنت للإنكليز في أرض مصر، ثم أرادت أن
ترضي سائر الدول القوية بتمهيد السبيل؛ لتمكنهم في سائر أرجاء الدولة في مقابلة
مصر، فأعطت الألمانيين سكة حديد بغداد، وقررت إعطاء الروسيين مثلها على
شواطئ البحر الأسود، وقد راجت تلك الدسيسة الحميدية على أهالي سورية، فشاع
بينهم أن مدحت باشا وهو المعروف بحب الإصلاح، ما أراد إنشاء دولة عربية إلا
بعد يأسه من قدرة قومه على: سياسة الملك، وإقامة العدل، وتشييد دعائم المدنية،
بما تقتضيه حال العصر، فكان هذا أول فكر في التنفير من السلطة التركية سرى
في بلاد عربية، وقد نظمت فيه القصائد البليغة المؤثرة؛ كالقصيدة السينية الشهيرة
لليازجي، ولكنه فكر لم يتلقه السواد الأعظم بالتسليم.
ثم سكنت هذه الأفكار بعد إخراج مدحت باشا من سورية عدة سنين، حتى إذا
ما اشتدت المظالم الحميدية في السنين الأخيرة، وقويت فتنة اليمن، وفتنة مكدونية
عاد بعض الناس إلى الحديث فيها بمصر وأوربا، فكان المشتغلون بالسياسة من
أبناء العرب على ثلاثة آراء: بعضهم يرى السعي في أوربا لاستقلال البلاد
العربية؛ كأصحاب جريدة النهضة العربية في باريس، ولم يكن لهم تأثير لعدم
انضمام أحد من المسلمين إليهم، ولاتهامهم بأنهم يريدون الاستفادة من السلطان عبد
الحميد بالإيهام الذي كان يروج في سوق سياسته أو وسواسه.
وبعضهم رأى أنه يجب اتحاد المسلمين مع اليهود والنصارى على العمل،
ووضع له قانونًا جعل فيه من الامتياز لليهود ما كان ضامنا به أن يبذلوا للمشروع
الملايين من أموالهم؛ ليعطى بعضها لعبد الحميد ورجاله ثمنًا للبلاد التي يراد
استقلالها، وكان يعتقد أن إرضاء (يلدز) بالمال متيسر أو مضمون، وقد أطلعني
صاحب هذا المشروع أنا وبعض أصدقائي على قانونه، فلم نوافقه على السعي له
مع علمنا بما لليهود من اليد العاملة في كل انقلاب كبير في التاريخ، ويؤيده ما
حصل أخيرًا من الانقلابات….
والرأي الثالث: هو ما عليه جمهور المشتغلين بالسياسة، وهو أنه يجب
الاتحاد الدائم بين العرب والترك، والمحافظة على كيان الدولة العلية بالسعي في
إصلاحها وجعلها دولة دستورية؛ ولأجله أسسنا جمعية الشورى العثمانية من جميع
العناصر، كما أشرنا إلى ذلك من قبل. فهذا ملخص تاريخ هذه المسألة قبل
الانقلاب الأخير، فماذا جرى بعده؟ ؟
للمقال بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) مقال طويل كتبناه في الآستانة، ونشر نبذًا متفرقة مترجمًا بالتركية في جريدة (إقدام)
الشهيرة، وبالعربية في جريدة (كلمة حق) .
(1) (آل عمران: 103) .(12/818)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أبو حامد الغزالي [*]
(7)
رأيه في التوحيد والتوكل
ويدخل فيه بيان وحدة الوجود والجبر والكسب
بيان حقيقة التوحيد الذي هو أصل التوكل
اعلم أن التوكل من أبواب الإيمان، وجميع أبواب الإيمان لا تنتظم إلا بعلم
وحال وعمل، والتوكل كذلك ينتظم من علم هو الأصل، وعمل هو الثمرة، وحال
هو المراد باسم التوكل، فلنبدأ ببيان العلم الذي هو الأصل، وهو المسمى إيمانًا في
أصل اللسان؛ إذ الإيمان هو التصديق، وكل تصديق بالقلب فهو علم، وإذا قوي
سمي يقينًا، ولكن أبواب اليقين كثيرة، ونحن إنما نحتاج منها إلى ما نبني عليه
التوكل، وهو التوحيد الذي يترجمه قولك: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والإيمان
بالقدرة التي يترجم عنها قولك: له الملك، والإيمان بالجود والحكمة الذي يدل عليه
قولك: وله الحمد. فمن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله
الحمد وهو على كل شيء قدير، تم له الإيمان الذي هو أصل التوكل، أعني أن
يصير معنى هذا القول وصفًا لازمًا لقلبه غالبًا عليه.
فأما التوحيد فهو الأصل، والقول فيه يطول، وهو من علم المكاشفة، ولكن
بعض علوم المكاشفات متعلق بالأعمال بواسطة الأحوال، ولا يتم علم المعاملة إلا
بها، فإذًا لا نتعرض إلا للقدر الذي يتعلق بالمعاملة وإلا فالتوحيد هو البحر الخضم
الذي لا ساحل له، فنقول: للتوحيد أربع مراتب: وهو ينقسم إلى لب وإلى لب
اللب، وإلى قشر وإلى قشر القشر، ولنمثل ذلك تقريبًا إلى الأفهام الضعيفة بالجوز
في قشرته العليا، فإن له قشرتين، وله لب وللب دهن، هو لب اللب.
فالرتبة الأولى من التوحيد: هي أن يقول الإنسان بلسانه: لا إله إلا الله، وقلبه
غافل عنه أو منكر له؛ كتوحيد المنافقين.
والثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه، كما صدق به عموم المسلمين وهو
اعتقاد العوام.
والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف، بواسطة نور الحق، وهو مقام
المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة، ولكن يراها على كثرتها صادرة عن
الواحد القهار.
والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحدًا وهي مشاهدة الصديقين، وتسميه
الصوفية الفناء في التوحيد؛ لأنه من حيث لا يرى إلا واحدًا، فلا يرى نفسه أيضًا،
وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقًا بالتوحيد، كان فانيًا عن نفسه في توحيده، بمعنى
أنه فني عن رؤية نفسه والخلق.
فالأول موحد بمجرد اللسان، ويعصم ذلك صاحبه في الدنيا عن السيف
والسنان، والثاني موحد بمعنى أنه (معتقد بقلبه مفهوم لفظه، وقلبه خال عن
التكذيب، بما انعقد عليه قلبه، وهو عقدة على القلب ليس فيه انشراح وانفساح،
ولكنه يحفظ صاحبه من العذاب في الآخرة؛ إن توفي عليه، ولم تضعف بالمعاصي
عقيدته، ولهذا العقد حيل يقصد بها تضعيفه وتحليله تسمى بدعة، وله حيل يقصد
بها دفع حيلة التحليل والتضعيف، ويقصد بها أيضًا أحكام هذه العقدة وشدها على
القلب وتسمى كلامًا، والعارف بها يسمى متكلمًا، وهو في مقابلة المبتدع، ومقصده
دفع المبتدع عن تحليل هذه العقدة عن قلوب العوام، وقد يخص المتكلم باسم الموحد
من حيث إنه يحمي بكلامه مفهوم لفظ التوحيد على قلوب العوام حتى لا تنحل عقدته،
والثالث موحد بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلاً واحدًا؛ إذ انكشف له الحق كما هي
عليه، ولا يرى فاعلاً بالحقيقة إلا واحدًا، وقد انكشفت له الحقيقة كما هي عليه، إلا أنه كلف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة، فإن تلك رتبة العوام والمتكلمين؛
إذ لم يفارق المتكلم العامي في الاعتقاد، بل في صنعة تلفيق الكلام الذي به يدفع
حيل المبتدع عن تحليل هذه العقدة، والرابع موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده
غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث إنه كثير، بل من حيث إنه واحد، وهذه
هي الغاية القصوى في التوحيد.
فالأول كالقشرة العليا من الجوز، والثاني كالقشرة السفلى، والثالث كاللب،
والرابع كالدهن المستخرج من اللب، وكما أن القشرة العليا من الجوز لا خير
فيها، بل إن أُكِل فهو مر المذاق، وإن نظر إلى باطنه فهو كريه المنظر، وإن اتخذ
حطبًا أطفأ النار وأكثر الدخان، وإن ترك في البيت ضيق المكان، فلا يصلح إلا أن
يترك مدة على الجوز للصون ثم يرمى به عنه، فكذلك التوحيد بمجرد اللسان دون
التصديق بالقلب عديم الجدوى، كثير الضرر، مذموم الظاهر والباطن , لكنه ينفع
مدة في حفظ القشرة السفلى إلى وقت الموت، والقشرة السفلى هي القلب والبدن،
وتوحيد المنافق يصون بدنه عن سيف الغزاة، فإنهم لم يؤمروا بشق القلوب،
والسيف إنما يصيب جسم البدن وهو القشرة، وإنما يتجرد عنه بالموت، فلا يبقى
لتوحيده فائدة بعده، وكما أن القشرة السفلى ظاهرة النفع بالإضافة إلى القشرة
العليا فإنها تصون اللب وتحرسه عن الفساد عن الادخار، وإذا فصلت أمكن أن ينتفع
بها حطبًا لكنها نازلة القدر بالإضافة إلى اللب، وكذلك مجرد الاعتقاد من غير كشف
كثير النفع، بالإضافة إلى مجرد نطق اللسان ناقص القدر، بالإضافة الكشف
والمشاهدة التي تحصل بانشراح الصدر وانفساحه، وإشراق نور الحق فيه، إذ
ذاك الشرح هو المراد بقوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} (الأنعام: 125) , وبقوله عز وجل: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى
نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر: 22) .
وكما أن اللب نفيس في نفسه بالإضافة إلى القشر وأكله المقصود، ولكنه لا
يخلو عن شوب عصارة بالإضافة إلى الدهن المستخرج منه، فكذلك توحيد العقل
مقصد عال للسالكين. لكنه لا يخلو عن شوب ملاحظة الغير والالتفات إلى الكثرة،
بالإضافة إلى من لا يشاهد سوى الواحد الحق، فإن قلت: كيف يتصور أن لا
يشاهد إلا واحدًا وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة
فكيف يكون الكثير واحدًا؟
فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات، وأسرار هذا العلم لا يجوز أن تسطر في
كتاب، فقد قال العارفون: إفشاء سر الربوبيه كفر، ثم هو غير متعلق بعلم
المعاملة، نعم.. ذكر ما يكسر سورة استبعادك ممكن، وهو أن الشيء قد يكون
كثيرًا بنوع مشاهدة واعتبار، ويكون واحدًا بنوع آخر من المشاهدة والاعتبار،
وهذا كما أن الإنسان كثير إن التفت إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه
وأحشائه، وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد؛ إذ نقول: إنه إنسان واحد،
فهو بالإضافة إلى الإنسانية واحد، وكم من شخص يشاهد إنسانًا، ولا يخطر بباله كثرة أمعائه وعروقه وأطرافه، وتفصيل روحه وجسده وأعضائه، والفرق
بينهما أنه في حالة الاستغراق والاستهتار به مستغرق بواحد ليس فيه تفريق،
وكأنه في عين الجمع، والملتفت إلى الكثرة في تفرقة.
فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق اعتبارات ومشاهدات كثيرة
مختلفة، فهو باعتبار واحد من الاعتبارات واحد، وباعتبارات أخر سواه كثير،
وبعضها أشد كثرة من بعض، ومثاله الإنسان وإن كان لا يطابق الغرض، ولكنه
ينبه في الجملة على كيفية مصير الكثرة في حكم المشاهدة واحدا، وتستفيد بهذا
الكلام ترك الإنكار والجحود لمقام لم تبلغه وتؤمن به إيمان تصديق، فيكون لك من
حيث إنك مؤمن بهذا التوحيد نصيب، وإن لم يكن ما آمنت به صفتك، كما أنك إذا
آمنت بالنُّبوة، وإن لم تكن نبيًّا كان لك نصيب منه بقدر قوة إيمانك، وهذه
المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق، تارة تدوم وتارة تطرأ كالبرق
الخاطف هو الأكثر والدوام نادر عزيز، وإلى هذا أشار الحسين بن منصور
الحلاج حيث رأى الخواص يدور في الأسفار، فقال: فيما ذا أنت؟ فقال: أدور
في الأسفارلأصحح حالتي في التوكل، وقد كان من المتوكلين، فقال الحسين: قد
أفنيت عمرك في عمران باطنك، فأين الفناء في التوحيد؟ فكان الخواص كان في
تصحيح المقام الثالث في التوحيد، فطالبه بالمقام الرابع.
فهذه مقامات الموحدين في التوحيد على سبيل الإجمال، فإن قلت: فلابد لهذا
من شرح بمقدار ما يفهم كيفية ابتناء التوكل عليه، فأقول: أما الرابع فلا يجوز
الخوض في بيانه، وليس التوكل أيضًا مبنيًّا عليه، بل يحصل حال التوكل
بالتوحيد الثالث، وأما الأول وهو النفاق فواضح، وأما الثاني وهو الاعتقاد فهو
موجود في عموم المسلمين، وطريق تأكيده بالكلام، ودفع حيل المبتدعة فيه مذكور
في علم الكلام، وقد ذكرنا في كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) القدر المهم منه،
وأما الثالث فهو الذي يبنى عليه التوكل؛ إذ مجرد التوحيد بالاعتقاد لا يورث
حال التوكل، فلنذكر منه القدر الذي يرتبط التوكل به دون تفصيله الذي لا يحتمله
أمثال هذا الكتاب، وحاصله أن ينكشف لك أن لا فاعل إلا الله تعالى، وأن كل
موجود من خلق ورزق، وعطاء ومنع، وحياة وموت، وغنى وفقر إلى غير ذلك؛
مما ينطلق عليه اسم، فالمنفرد بإبداعه واختراعه هو الله عز وجل لا شريك له
فيه، وإذا انكشف لك هذا، لم تنظر إلى غيره، بل كان منه خوفك، وإليه رجاؤك،
وبه ثقتك، وعليه اتكالك، فإنه الفاعل على الانفراد دون غيره، وما سواه
مسخرون، لا استقلال لهم بتحريك ذرة من ملكوت السماوات والأرض.
وإذا انفتحت لك أبواب المكاشفة، اتضح لك هذا اتضاحًا أتم من المشاهدة
بالبصر، وإنما يصدك الشيطان عن هذا التوحيد في مقام يبتغي به أن يطرق إلى
قلبك شائبة الشرك؛ لسببين: أحدهما الالتفات إلى اختيار الحيوانات، والثاني
الالتفات إلى الجمادات , أما الالتفات إلى الجمادات فكاعتمادك على المطر في
خروج الزرع ونباته ونمائه، وعلى الغيم في نزول المطر، وعلى البرد في اجتماع
الغيم، وعلى الريح في استواء السفينة وسيرها، وهذا كله شرك في التوحيد وجهل
بحقائق الأمور؛ ولذلك قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: 65) قيل معناه أنهم
يقولون: لولا استواء الريح لما نجونا، ومن انكشف له أمر العالم كما هو عليه،
علم أن الريح هو الهواء، والهواء لا يتحرك بنفسه ما لم يحركه محرك، وكذلك
محركه، وهكذا إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له، ولا هو
متحرك في نفسه عز وجل، فالتفات العبد في النجاة إلى الريح يضاهي التفات من
أخذ لتحز رقبته فكتب الملك توقيعًا بالعفو عنه وتخليته، فأخذ يشتغل بذكر الحبر
والكاغد والقلم الذي به كتب التوقيع، يقول: أولاً القلم لما تخلصت فيرى نجاته من
القلم لا من محرك القلم، وهو غاية الجهل، ومن علم أن القلم لا حكم له في نفسه،
وإنما هو مسخر في يد الكاتب لم يلتفت إليه، ولم يشكر إلا الكاتب، بل ربما
يدهشه فرح النجاة وشكر الملك والكاتب من أن يخطر بباله القلم والحبر والدواة،
والشمس والقمر والنجوم، والمطر والغيم والأرض، وكل حيوان وجماد مسخرات
في قبضة القدرة؛ كتسخير القلم في يد الكاتب، بل هذا تمثيل في حقك لاعتقادك أن
الملك الموقع هو كاتب التوقيع، والحق أن الله تبارك وتعالى هو الكاتب، لقوله
تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) .
فإذا انكشف لك أن جميع ما في السماوات والأرض مسخرات على هذا
الوجه، انصرف عنك الشيطان خائبًا، وأيس عن مزج توحيدك بهذا الشرك،
فأتاك في المهلكة الثانية، وهي الالتفات إلى اختيار الحيوانات في الأفعال
الاختيارية، ويقول: كيف ترى الكل من الله، وهذا الإنسان يعطيك رزقك
باختياره، فإن شاء أعطاك وإن شاء قطع عنك، وهذا الشخص هو الذي يحز
رقبتك بسيفه، وهو قادر عليك إن شاء حز رقبتك وإن شاء عفا عنك، فكيف لا
تخافه؟ وكيف لا ترجوه، وأمرك بيده، وأنت تشاهد ذلك ولا تشك فيه؟ ويقول له
أيضًا: نعم.. إن كنت لا ترى القلم؛ لأنه مسخر، فكيف لا ترى الكاتب بالقلم وهو
المسخر له؟ وعند هذا زل أقدام الأكثرين إلا عباد الله المخلصين الذين لا سلطان
عليهم للشيطان اللعين، فشاهدوا بنور البصائر كون الكاتب مسخرًا مضطرًّا، كما
شاهد جميع الضعفاء كون القلم مسخرًا، وعرفوا أن غلط الضعفاء في ذلك؛ كغلط
النملة مثلاً لو كانت تدب على الكاغد فترى رأس القلم يسود الكاغد، ولم يمتد
بصرها إلى اليد والأصابع فضلا عن صاحب اليد، فغلطت وظنت أن القلم هو
المسود للبياض، وذلك لقصور بصرها عن مجاوزة رأس القلم، لضيق حدقتها
فكذلك من لم ينشرح بنور الله تعالى صدره للإسلام، قصرت بصيرته عن ملاحظة
جبار السماوات والأرض، ومشاهدة كونه قاهرًا وراء الكل، فوقف في الطريق
على الكاتب وهو جهل محض.
بل أرباب القلوب والمشاهدات، قد أنطق الله في حقهم كل ذرة في السماوات
والأرض بقدرته التي بها نطق كل شيء، حتى سمعوا تقديسها وتسبيحها لله تعالى،
وشهادتها على نفسها بالعجز بلسان ذلق تتكلم بلا حرف ولا صوت لا يسمعه الذين
هم عن السمع معزولون، ولست أعني به السمع الظاهر الذي لا يجاوز الأصوات،
فإن الحمار شريك فيه، ولا قدر لما يشارك فيه البهائم، وإنما أريد به سمعًا يدرك
به كلام ليس بحرف ولا صوت، ولا هو عربي ولا عجمي، فإن قلت: فهذه أعجوبة
لا يقبلها العقل، فَصِفْ لي كيفية نطقها، وإنها كيف نطقت، وبماذا نطقت، وكيف
سبحت وقدست، وكيف شهدت على نفسها بالعجز، فاعلم أن لكل ذرة في السماوات
والأرض مع أرباب القلوب مناجاة في السر، وذلك مما لا ينحصر ولا يتناهي،
فإنها كلمات تستمد من بحر كلام الله تعالى الذي لا نهاية له {قُل لَّوْ كَانَ البَحْرُ مِدَاداً
لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ} (الكهف: 109) الآية، ثم إنها تتناجى بأسرار الملك
والملكوت، وإفشاء السر لؤم، بل صدور الأحرار قبور الأسرار، وهل رأيت قط
أمينًا على أسرار الملك، قد نوجي بخفاياه فنادى بسره على ملأ من الخلق؟ ولو
جاز إفشاء كل سر لنا لما قال النبى صلى الله عليه وسلم: لو علمتم ما أعلم
لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا بل كان يذكر ذلك لهم حتى يبكون ولا يضحكون، ولما
نهى عن إفشاء سر القدر، ولما قال: إذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر
فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا، ولما خص حذيفة رضي الله عنه ببعض
الأسرار.
فإذًا عن حكايات مناجاة ذرات الملك والملكوت لقلوب أرباب المشاهدات
مانعان: أحدهما استحالة إفشاء السر، والثاني خروج كلماتها عن الحصر والنهاية،
ولكنا في المثال الذي كنا فيه وهي حركة القلم، نحكي من مناجاتها قدرًا يسيرًا يفهم
به على الإجمال كيفية ابتناء التوكل عليه، وتردد كلماتها إلى الحروف والأصوات
وإن لم تكن هي حروفًا وأصواتًا، ولكن هذه ضرورة التفهيم، فنقول: قال بعض
الناظرين عن مشكاة نور الله تعالى للكاغد، وقد رآه اسود وجهه بالحبر: ما بال
وجهك كان أبيض مشرقًا، والآن قد ظهر عليه السواد! فلم سودت وجهك، وما
السبب فيه؟ فقال الكاغد: ما أنصفتني في هذه المقالة، فإني ما سودت وجهي بنفسي
ولكن سل الحبر، فإنه كان مجموعًا في المحبرة التي هي مستقره ووطنه، فسافر
عن الوطن، ونزل بساحة وجهي ظلمًا وعدوانًا، فقال: صدقت، فسأل الحبر عن
ذلك، فقال: ما أنصفتني فإنى كنت في المحبرة وادعًا ساكنًا عازمًا على أن لا
أبرح منها، فاعتدى على القلم بطمعه الفاسد، واختطفني من وطني وأجلاني عن
بلادي، وفرق جمعي، وبدد لي كما ترى على ساحة بيضاء، فالسؤال عليه لا
علي، فقال صدقت.
ثم سأل القلم عن السبب في ظلمه وعدوانه وإخراج الحبر من أوطانه، فقال:
سل اليد والأصابع، فإني كنت قصبًا نابتًا على شط الأنهار، متنزهًا بين خضرة
الأشجار، فجاءتني اليد بسكين، فنحت عني قشري، ومزقت عني ثيابي،
واقتلعني من أصلي، وفصلت بين أنابيبي، ثم برتني وشقت رأسي، ثم غمستني
في سواد الحبر ومرارته، وهي تستخدمني وتمشيني على قمة رأسي ولقد نثرت
الملح على جرحي بسؤالك وعتابك، فنح عني، وسل من قهرني، فقال:صدقت. ... ... ... ... ...
ثم سأل اليد عن ظلمها وعدوانها على القلم واستخدامها له، فقالت اليد: ما أنا
إلا لحم وعظم ودم، وهل رأيت لحمًا يظلم أو جسمًا يتحرك بنفسه، وإنما أنا
مركب مسخر ركبني فارس يقال له القدرة والقوة، فهي التي ترددني وتجول بي
في نواحي الأرض، أما ترى المدر والحجر والشجر لا يتعدى شيء منها مكانه، ولا يتحرك بنفسه، إذا لم يركبه مثل هذا الفارس القوي القاهر، أما ترى أيدي الموتى
تساويني في صورة اللحم والعظم والدم ثم لا معاملة بينها وبين القلم، فأنا أيضًا من حيث أنا لا معاملة بيني وبين القلم، فسل القدرة عن شأني، فإني مركب أزعجني من ركبني، فقال: صدقت.
ثم سأل القدرة عن شأنها في استعمالها اليد، وكثرة استخدامها وترديدها،
فقالت: دع عنك لومي ومعاتبتي، فكم من لائم مليم، وكم من ملوم لا ذنب له،
وكيف خفي عليك أمري، وكيف ظننت أني ظلمت اليد لما ركبتها، وقد كنت لها
راكبة قبل التحريك، وما كنت أحركها ولا أسخرها، بل كنت نائمة ساكنة نَوْمًا ظَنَّ
الظانون بي أني ميته أو معدومة؛ لأني ما كنت أتحرك ولا أحرك، حتى جاءني
موكل أزعجني وأرهقني إلى ما تراه مني، فكانت لي قوة على مساعدته، ولم تكن
لي قوة على مخالفته، وهذا الموكل يسمى الإرادة ولا أعرفه إلا باسمه، وهجومه
وصياله إذ أزعجني من غمرة النوم، وأرهقني إلى ما كان لي مندوحة عنه لو خلاني
ورأيي، فقال: صدقت.
ثم سأل الإرادة ما الذي جرأك على هذه القدرة الساكنة المطمئنة، حتى
صرفتها إلى التحريك وأرهقتها إليه إرهاقًا لم تجد عنه مخلصًا ولا مناصًا، فقالت
الإرادة لا تعجل عليّ فلعل لنا عذرًا وأنت تلوم، فإني ما انتهضت بنفسي، ولكني
أُنْهضت وما انبعثت، ولكني بعثت بحكم قاهر وأمر حازم، وقد كنت ساكنة قبل
مجيئه، ولكن ورد علي من حضرة القلب رسول العلم على لسان العقل بالأشخاص
للقدرة، فأشخصتها باضطرار، فإني مسكينة مسخرة تحت قهر العلم والعقل،
ولا أدري بأي جرم وقفت عليه وسخرت له، وألزمت طاعته، لكني أدري أني
في دعة وسكون، ما لم يرد عليّ هذا الوارد القاهر وهذا الحاكم العادل أو الظالم،
وقد وقفت عليه وقفًا، وألزمت طاعته إلزامًا بل لا يبقى له معه مهما جزم حكمه
طاقة على المخالفة، لعمري مادام هو في التردد مع نفسه والتحير في حكمه فأنا
ساكنة , لكن مع استشعار وانتظار لحكمه، فإذا انجزم حكمه أزعجت بطبع، وقهر
تحت طاعته، وأشخصت القدرة لتقوم بموجب حكمه، فسل العلم عن شأني، ودع
عني عتابك، فإني كما قال القائل:
متى ترحلت عن قوم وقد قدروا ... أن لا تفارقهم فالراحلون هم
فقال: صدقت، وأقبل على العلم والعقل والقلب مطالبًا لهم ومعاتبًا إياهم على
استنهاض الإرادة، وتسخيرها لأشخاص القدرة، فقال العقل: أما أنا فسراج ما
اشتعلت بنفسي ولكني أشعلت، وقال القلب: أما أنا فلوح ما انبسطت بنفسي ولكن
بسطت، وقال العلم: أما أنا فنقش نقشت في بياض لوح القلب لما أشرق سراج
العقل، وما انحططت بنفسي، فكم كان هذا اللوح قبل خاليًا عني، فسل القلم عني
لأن الخط لا يكون إلا بالقلم، فعند ذلك تتعتع السائل، ولم يقنعه جواب، وقال: قد
طال تعبي في هذا الطريق، وكثرت منازلي، ولا يزال يحيلني من طمعت به في
معرفة هذا الأمر منه على غيره، ولكني كنت أطيب نفسه بكثرة الترداد؛ لما كنت
أسمع كلامًا مقبولاً في الفؤاد، وعذرًا ظاهرًا في دفع السؤال، فأما قولك: إني خط
ونقش، وإنما خطني قلم فلست أفهمه، فإني لا أعلم قلمًا إلا من القصب، ولا لوحًا
إلا من الحديد أو الخشب، ولا خطًا إلا بالحبر، ولا سراجًا إلا من النار، وإني
لأسمع في هذا المنزل حديث اللوح والسراج والخط والقلم، ولا أشاهد من ذلك
شيئًا، أسمع جعجعة ولا أرى طحنًا!
فقال له العلم: إن صدقت فيما قلت فبضاعتك مزجاة، وزادك قليل، ومركبك
ضعيف. واعلم أن المهالك في الطريق التي توجهت إليها كثيرة، فالصواب لك أنْ
تنصرف، وتدع ما أنت فيه، فما هذا بعشك فادرج عنه، فكل ميسر لما خلق له،
وإنْ كنت راغبًا في استتمام الطريق إلى المقصد، فألق سمعك وأنت شهيد، واعلم
أن العوالم في طريقك هذا ثلاثة:
عالم الملك والشهادة أولها، ولقد كان الكاغد والحبر والقلم واليد من هذا
العالم، وقد جاوزت تلك المنازل على سهولة.
والثاني: عالم الملكوت وهو ورائي، فإذا جاوزتني انتهيت إلى منازله، وفيه
المهامه الفيح، والجبال الشاهقة، والبحار المغرقة، ولا أدري كيف تسلم فيها.
والثالث هو عالم الجبروت، وهو بين عالم الملك وعالم الملكوت، ولقد
قطعت منها ثلاث منازل: في أوائلها منزل القدرة والإرادة والعلم، وهو
واسطة بين عالم الملك والشهادة والملكوت؛ لأن عالم الملك أسهل منه طريقًا،
وعالم الملكوت أوعر منه منهجًا، وإنما عالم الجبروت بين عالم الملك وعالم
الملكوت يشبه السفينة التي هي في الحركة بين الأرض والماء، فلا هي في
حد اضطراب الماء، ولا هي في حد سكون الأرض وثباتها، وكل من يمشي
على الأرض يمشي في عالم الملك والشهادة فإنْ جاوزت قوته إلى أن يقوى على
ركوب السفينة، كان كمن يمشي في عالم الجبروت، فإن انتهى إلى أن يمشي
على الماء من غير سفينة مشى في عالم الملكوت من غير تتعتع، فإن كنت لا
تقدر على المشي على الماء فانصرف، فقد جاوزت الأرض وخلفت السفينة، ولم
يبقَ بين يديك إلا الماء الصافي، وأول عالم الملكوت مشاهدة القلم الذي يكتب به
العلم في لوح القلب وحصول اليقين الذي يمشى به على الماء. أما سمعت قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام: لو ازداد يقينًا لمشى
على الهواء لما قيل له: إنه كان يمشي على الماء.
فقال السالك السائل: قد تحيرت في أمري، واستشعر قلبي خوفًا مما وصفته
من خطر الطريق، ولست أدري أطيق قطع هذه المهام التي وصفتها أم لا، فهل
لذلك من علامة ? قال: نعم.. افتح بصرك، واجمع ضوء عينيك وحدقه نحوي،
فإن ظهر لك القلم الذي به انكتبت في لوح القلب، فيشبه أن تكون أهلاً لهذا الطريق،
فإن كل ما جاوز عالم الجبروت، وقرع بابًا من أبواب الملكوت كوشف بالقلم، أما
ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره كوشف بالقلم؛ إذ أنزل عليه {اقْرَأْ
وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 3-5) ، فقال
السالك: لقد فتحت بصري وحدقته، فوالله ما أرى قصبًا ولا خشبًا، ولا أعلم قلمًا إلا
كذلك، فقال العلم: لقد أبعدت النجعة، أما سمعت أن متاع البيت يشبه رب البيت،
أما علمت أن الله تعالى لا تشبه ذاته سائر الذوات، فكذلك لا تشبه يده الأيدي، ولا
قلمه الأقلام، ولا كلامه سائر الكلام، ولا خطه سائر الخطوط، وهذه أمور إلهية
من عالم الملكوت، فليس الله تعالى في ذاته بجسم، ولا هو في مكان بخلاف غيره،
ولا يده لحم وعظم ودم بخلاف الأيدي، ولا قلمه من قصب، ولا لوحه من خشب،
ولا كلامه بصوت وحرف، ولا خطه رقم ورسم، ولا حبره زاج وعفص، فإن
كنت لا تشاهد هذا هكذا، فما أراك إلا مخنثًا بين فحولة التنزيه وأنوثة التشبيه،
مذبذبًا بين هذا وذا، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فكيف نزهت ذاته وصفاته
تعالى عن الأجسام وصفاتها، ونزهت كلامه عن معاني الحروف والأصوات،
وأخذت تتوقف في يده وقلمه ولوحه وخطه، فإن كنت قد فهمت من قوله صلى
الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته) الصورة الظاهرة المدركة
بالبصر، فكن مشبهًا مطلقا كما يقال: كن يهوديًّا صرفًا وإلا فلا تلعب بالتوراة،
وإن فهمت منه الصورة الباطنة التي تدرك بالبصائر لا بالأبصار، فكن منزهًا
صرفًا ومقدسًا فحلاً، واطوِ الطريق فأنت بالوادي المقدس طوى، واستمع بسر
قلبك لما يوحى، فلعلك تجد على النار هدى، ولعلك من سرادقات العرش تنادى بما
نودي به موسى؛ {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} (طه: 12) فلما سمع السالك من العلم ذلك،
استشعر قصور نفسه، وأنَّه مخنث بين التشبيه والتنزيه، فاشتعل قلبه نارًا من
حدة غضبه على نفسه لما رآها بعين النقص، ولقد كان زيته الذي في مشكاة قلبه
يكاد يضيء، ولو لم تمسسه نار، فلما نفخ فيه العلم بحدته اشتعل زيته، فأصبح
نورًا على نور، فقال له العلم: اغتنم الآن هذه الفرصة، وافتح بصرك؛ لعلك
تجد على النار هدى، ففتح بصره فانكشف له القلم الإلهي، فإذا هو كما وصفه
العلم في التنزيه ما هو من خشب ولا قصب، ولا له رأس ولا ذنب، وهو
يكتب على الدوام في قلوب البشر كلهم أصناف العلوم، وكأن له في كل قلب
رأسًا لا رأس له، فقضى منه العجب، وقال: نعم الرفيق العلم، فجزاه الله تعالى
عني خيرًا؛ إذ الآن ظهر لي صدق أنبائه عن أوصاف القلم، فَإِنِّي أراه قلمًا لا
كالأقلام.
فعند هذا ودع العلم وشكره، وقال: قد طال مقامي عندك، ومرادَّتي لك،
وأنا عازم على أن أسافر إلى حضرة القلم وأساله عن شأنه، فسافر إليه، وقال له:
ما بالك أيها القلم تحط على الدوام في القلوب من العلوم ما تبعث به الإرادات إلى
أشخاص القدر وصرفه إلى المقدورات، فقال: أو قد نسيت ما رأيت في عالم الملك
والشهادة، وسمعت من جواب القلم إذ سألته، فأحالك على اليد، قال: لم أنس ذلك،
قال: فجوابي مثل جوابه، قال: كيف وأنت لا تشبهه، قال القلم: أما سمعت أن
الله تعالى خلق آدم على صورته، قال: نعم.. قال: فسل عن شأني الملقب بيمين
الملك، فإني في قبضته، وهو الذي يرددني وأنا مقهور مسخر، فلا فرق بين القلم
الإلهي والقلم الآدمي في معنى التسخير، وإنما الفرق في ظاهر الصورة، فقال:
فمن يمين الملك؟ فقال القلم: أما سمعت قوله تعالى: {وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67) قال: نعم.. والأقلام أيضًا في قبضة يمينه هو الذي يرددها،
فسافر السالك من عنده إلى الأمين حتى شاهده ورأى من عجائبه ما يزيد على
عجائب القلم، ولا يجوز وصف شيء من ذلك ولا شرحه، بل لا تحوي مجلدات
كثيرة عشر عشير وصفه، الجملة فيه أنه يمين لا كالإيمان، ويد لا كالأيدي،
وأصبع لا كالأصابع، فرأى القلم محركاً في قبضته، فظهر له عذر القلم، فسأل
اليمين عن شأنه وتحريكه للقلم، فقال: جوابي مثل ما سمعته من اليمين التي رأيتها
في عالم الشهادة، وهي الحوالة على القدرة؛ إذ اليد لا حكم لها في نفسها، وإنما
محركها القدرة لا محالة، فسافر السالك إلى عالم القدرة، ورأى فيه من العجائب
ما استحقر عندها ما قبله، وسألها عن تحريك اليمين، فقالت: إنما أنا صفة،
فاسأل القادر؛ إذ العمدة على الموصوفات لا على الصفات، وعند هذا كاد أن
يزيغ، ويطلق بالجراءة لسان السؤال، فثبت بالقول الثابت، ونودي من وراء حجاب سرادقات الحضرة {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23)
فغشيته هيبة الحضرة فخر صعقًا يضطرب في غشيته، فلما أفاق قال: سبحانك
ما أعظم شأنك، تبت إليك وتوكلت عليك وآمنت بأنك الملك الجبار الواحد القهار،
فلا أخاف غيرك، ولا أرجو سواك ولا أعوذ إلا بعفوك من عقابك وبرضاك من
سخطك، ومالي إلا أن أسألك وأتضرع إليك، وأبتهل بين يديك، فأقول: اشرح لي
صدري لأعرفك، واحلل عقدة من لساني لأثني عليك، فنودي من وراء الحجاب؛
إياك أن تطمع في الثناء، وتزيد على سيد الأنبياء، بل ارجع إليه فما آتاك فخذه
وما نهاك عنه فانته عنه، وما قاله فقله، فإنه ما زاد في هذه الحضرة على أن قال:
سبحانك لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك، فقال: إلهي، إن لم يكن للسان
جراءة على الثناء عليك، فهل للقلب مطمع في معرفتك؟ فنودي: إياك أن
تتخطى رقاب الصديقين، فارجع إلى الصديق الأكبر فاقتد به، فإن أصحاب سيد
الأنبياء كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، أما سمعته يقول: العجز عن درك الإدراك
إدراك 0 فيكفيك نصيبًا من حضرتنا أن تعرف أنك محروم عن حضرتنا، عاجز
عن ملاحظة جمالنا وجلالنا 0
فعند هذا رجع السالك واعتذر عن أسئلته ومعاتباته، وقال لليمين والقلم والعلم
والإرادة والقدرة وما بعدها: اقبلوا عذري، فإني كنت غريبًا حديث العهد بالدخول
في هذه البلاد، ولكل داخل دهشة، فما كان إنكاري عليكم إلا عن قصور وجهل،
الآن قد صح عندي عذركم، وانكشف لى أن المنفرد بالملك والملكوت والعزة
والجبروت هو الواحد القهار، فما أنتم إلا مسخرون تحت قهره وقدرته، مرددون
في قبضته وهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، فلما ذكر ذلك في عالم الشهادة
استبعد منه ذلك، وقيل له: كيف يكون هو الأول والآخر وهما وصفان
متناقضان، وكيف يكون هو الظاهر والباطن، فالأول ليس بالآخر والظاهر ليس
بباطن؟ فقال: هو الأول بالإضافة إلى الموجودات؛ إذ صدر منه الكل على
الترتيب واحد بعد واحد، وهو الآخر بالإضافة إلى سير السائرين إليه، فإنهم لا
يزالون مترقين من منزل إلى منزل، إلى أن يقع الانتهاء إلى تلك الحضرة،
فيكون ذلك آخر السفر، فهو آخر في المشاهدة أول في الوجود، وهو باطن
بالإضافة إلى العاكفين في عالم الشهادة الطالبين لإدراكه بالحواس الخمس، ظاهر
بالإضافة إلى مَنْ يطلبه في السراج الذي اشتعل في قلبه بالبصيرة الباطنة النافذة
في عالم الملكوت، فهكذا كان توحيد السالكين لطريق التوحيد في الفعل؛ أعني
من انكشف له أن الفاعل واحد.
فإن قلت: فقد انتهى هذا التوحيد إلى أنه ينبني على الإيمان بعالم الملكوت،
فمن لم يفهم ذلك أو يجحده، فما طريقه ? فأقول: أمَّا الجاحد فلا علاج له إلا أن
يقال له: إنكارك لعالم الملكوت كإنكار السمنية لعالم الجبروت، وهم الذين حصروا
العلوم في الحواس الخمس فأنكروا القدرة والإرادة والعلم؛ لأنها لا تدرك بالحواس
الخمس، فلازموا حضيض عالم الشهادة بالحواس الخمس، فإن قال: وأنا منهم
فإني لا أهتدي إلا إلى عالم الشهادة بالحواس الخمس، ولا أعلم شيئًا سواه، فيقال:
إنكارك لما شاهدناه مما وراء الحواس الخمس كإنكار السوفسطائية للحواس الخمس،
فإنهم قالوا: ما نراه لا نثق به؛ فلعلنا نراه في المنام، فإن قال: وأنا من جملتهم
فإني شاك أيضًا في المحسوسات، فيقال: هذا شخص فسد مزاجه وامتنع علاجه،
فيترك أيامًا قلائل، وما كل مريض يقوى على علاجه الأطباء.
هذا حكم الجاحد وأما الذي لا يجحد، ولكن لا يفهم فطريق السالكين معه أن
ينظروا إلى عينه التي يشاهد بها عالم الملكوت، فإن وجدوها صحيحة في الأصل،
وقد نزل فيها ماء أسود يقبل الإزالة والتنقية، اشتغلوا بتنقية اشتغال الكحال
بالأبصار الظاهرة، فإذا استوى بصره أرشد إلى الطريق ليسلكها، كما فعل ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم بخواص أصحابه، فإن كان غير قابل للعلاج فلم
يمكنه أن يسلك الطريق الذي ذكرناه في التوحيد، ولم يمكنه أن يسمع كلام ذرات
الملك والملكوت بشهادة التوحيد، كلموه بحرف وصوت وردوا ذروة التوحيد إلى
حضيض فهمه، فإن في عالم الشهادة أيضًا توحيدًا؛ إذ يعلم كل أحد أن المنزل يفسد
بصاحبين، والبلد يفسد بأميرين، فيقال له على حد عقله: إله العالم واحد، والمدبر
واحد؛ إذ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) فيكون ذلك على
ذوق ما رآه في عالم الشهادة، فينغرس اعتقاد التوحيد في قلبه بهذا الطريق اللائق
بقدر عقله، وقد كلف الله الأنبياء أن يكلموا الناس على قدر عقولهم، ولذلك نزل
القرآن بلسان العرب على حد عادتهم في المحاورة، فإن قلت: فمثل هذا التوحيد
الاعتقادي هل يصلح أن يكون عماداً للتوكل وأصلاً فيه ? فأقول: نعم.. فإن
الاعتقاد إذا قَوِيَ عَمِلَ عَمَلَ الكَشْفِ في إثارة الأحوال، إلا أنه في الغالب يضعف
ويتسارع إليه الاضطراب والتزلزل غالبًا؛ ولذلك يحتاج صاحبه إلى متكلم يحرسه
بكلامه أو إلى أن يتعلم هو الكلام؛ ليحرس به العقيدة التي تلقنها من أستاذه أو من
أبويه أو من أهل بلده.
وأما الذي شاهد الطريق وسلكه بنفسه فلا يخاف عليه شيء من ذلك، بل لو
كشف الغطاء لما ازداد يقينًا، وإنْ كان يزداد وضوحًا كما أن الذي يرى إنسانًا في
وقت الأسفار لا يزداد يقينًا عند طلوع الشمس بأنه إنسان. ولكن يزداد وضوحًا
في تفصيل خلقته، وما مثال المكاشفين والمعتقدين إلا كسحرة فرعون مع
أصحاب السامري، فإن سحرة فرعون لما كانوا مطلعين على منتهى تأثير
السحرة؛ لطول مشاهدتهم وتجربتهم، رأوا من موسى عليه السلام ما جاوز حدود
السحر وانكشف لهم حقيقة الأمر، فلم يكترثوا بقول فرعون: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ
وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ} (الأعراف: 124) ، بل {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا
مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا} (طه
: 72) فإن البيان والكشف يمنع التغيير، وأما أصحاب السامري لما كان إيمانهم عن
النظر إلى ظاهر الثعبان، فلما نظروا إلى عجل السامري وسمعوا خواره، تغيروا
وسمعوا قوله: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} (طه: 88) ، ونسوا أنه {أَلاَّ يَرْجِعُ
إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَراًّ وَلاَ نَفْعاً} (طه: 89) فكل من آمن بالنظر إلى
ثعبان يكفر لا محالة، إذا نظر إلى عجل؛ لأن كليهما من عالم الشهادة
والاختلاف التضاد في عالم الشهادة كثير، وأما عالم الملكوت فهو من عند الله
تعالى؛ فلذلك لا نجد فيه اختلافًا وتضادًا أصلاً، فإنْ قلت: ما ذكرته من التوحيد
ظاهر مهما ثبت أن الوسائط والأسباب مسخرات، وكل ذلك ظاهر إلا في حركات
الإنسان، فإنه يتحرك إن شاء الله ويسكن إن شاء، فكيف يكون مسخرًا ? فاعلم أنه
لو كان مع هذا يشاء إن أراد أن يشاء، ولا يشاء إن لم يرد أن يشاء، لكان هذا
مذلة القدم وموقع الغلط، ولكن علم أنه يفعل ما يشاء إذا شاء أن يشاء أم لم يشأ،
فليست المشيئة إليه، إذ لو كانت إليه لافتقرت إلى مشيئة أخرى، وتسلسل إلى غير
نهاية، وإذا لم تكن إليه المشيئة، فمهما وجدت المشيئة التي تصرف القدرة إلى
مقدرورها انصرفت القدرة لا محالة، ولم يكن لها سبيل إلى المخالفة.
فالحركة لازمة ضرورة بالقدرة، والقدرة متحركة ضرورة عند انجزام المشيئة
فالمشيئة تحدث ضرورة في القلب، فهذه ضرورات ترتب بعضها على بعض،
وليس للعبد أن يدفع وجود المشيئة ولا انصراف القدرة إلى المقدور بعدها، ولا
وجود الحركة بعد بعث المشيئة للقدرة فهو مضطر في الجميع، فان قلت: فهذا جبر
محض، والجبر يناقض الاختيار، وأنت لا تنكر الاختيار، فكيف يكون مجبورًا
مختارًا ? فأقول: لو انكشف الغطاء لعرفت أنه في عين الاختيار مجبور، فهو إذًا
مجبور على الاختيار، فكيف يفهم هذا من لا يفهم الاختيار ? فلنشرح الاختيار
بلسان المتكلمين شرحًا وجيزًا يليق بما ذكر متطفلاً وتابعًا، فإن هذا الكتاب لم نقصد
به إلا علم المعاملة، ولكني أقول: لفظ الفعل في الإنسان يطلق على ثلاثة أوجه،
إذ يقال الإنسان يكتب بالأصابع ويتنفس وبالرئة والحنجرة، ويخرق الماء إذا وقف
عليه بجسمه، فينسب إليه الخرق في الماء والتنفس والكتابة، وهذه الثلاثة في
حقيقة الاضطرار والجبر واحد، ولكنها تختلف وراء ذلك في أمور، فأعرب لك
عنها بثلاث عبارات: فنسمي خرقه للماء عند وقوعه على وجهه فِعْلاً طبيعيًّا،
ونسمي تنفسه فعلاً إراديًّا، ونسمي كتابته فِعْلاً اختياريًّا، والجبر ظاهر في الفعل
الطبيعى؛ لأنه مهما وقف على وجه الماء أو تخطى من السطح للهواء انْخَرَقَ الهواء
لا محالة، فيكون الخرق بعد التخطي ضروريًّا، والتنفس في معناه، فإن نسبة
حركة الحنجرة إلى إرادة التنفس كنسبة انخراق الماء إلى ثقل البدن، فمهما كان
الثقل موجودًا وجد الانخراق بعده وليس الثقل إليه، وكذلك الإرادة ليست إليه،
ولذلك لو قصد عين الإنسان بإبرة طبق الأجفان اضطرارًا، ولو أراد أن يتركها
مفتوحة لم يقدر مع أن تغميض الأجفان اضطرارًا فعل إرادي.
ولكنه إذا تمثل صورة الإبرة في مشاهدته بالإدراك، حدثت الإرادة
بالتغميض ضرورة وحدثت الحركة بها، ولو أراد أن يترك ذلك لم يقدر عليه مع
أنه فعل بالقدرة والإرادة، فقد التحق هذا بالفعل الطبيعي في كونه ضروريًّا.
وأما الثالث وهو الاختياري فهو مظنة الالتباس كالكتابة والنطق، وهو الذي
يقال فيه: إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، وتارة يشاء وتارة لا يشاء، فيظن
من هذا أن الأمر إليه، وهذا للجهل بمعنى الاختيار، فلنكشف عنه، وبيانه أن
الإرادة تبع للعلم الذي يحكم بأن الشيء موافق لك، والأشياء تنقسم إلى ما تحكم
مشاهدتك الظاهرة أو الباطنة، بأنه يوافقك من غير تحير وتردد وإلى ما قد
يتردد العقل فيه، فالذي تقطع به من غير تردد أن يقصد عينك مثلاً بإبرة أو
بدنك بسيف، فلا يكون في علمك تردد في أن دفع ذلك خير لك وموافق، فلا جرم
تنبعث الإرادة بالعلم والقدرة بالإرادة، وتحصل حركة الأجفان بالدفع وحركة اليد
بدفع السيف، ولكن من غير روية وفكرة، ويكون ذلك بالإرادة، ومن الأشياء ما
يتوقف التميز والعقل فيه، فلا يدري أنه موافق أم لا، فيحتاج إلى روية وفكر،
حتى يتميز أن الخير في الفعل أو الترك، فإذا حصل بالفكر والروية العلم؛ بأن
أحدهما خير التحق ذلك بالذي يقطع به من غير روية وفكر، فانبعثت الإرادة
ههنا كما تنبعث لدفع السيف والسنان، فإذا انبعثت لفعل ما ظهر للعقل أنه خير،
سميت هذه الإرادة اختيارًا مشتقًّا من الخير؛ أي: هو انبعاث إلى ما ظهر للعقل
أنه خير وهو عين تلك الإرادة، ولم ينتظر في انبعاثها إلى ما انتظرت تلك الإرادة،
وهو ظهور خيرية الفعل في حقه، إلا أن الخيرية في دفع السيف ظهرت من غير
روية بل على البديهة، وهذا افتقر إلى الروية.
فالاختيار عبارة عن إرادة خاصة، وهي التي انبعثت بإشارة العقل فيما له
في إدراكه توقف، وعن هذا قيل: إن العقل يحتاج إليه للتميز بين خير الخيرين
وشر الشرين، ولا أتصور أن تنبعث الإرادة إلا بحكم الحس والتخيل أو بحكم
جزم من العقل، ولذلك لو أراد الإنسان أن يحز رقبة نفسه مثلاً، لم يمكنه لا لعدم
القدرة في اليد، ولا لعدم السكين، ولكن لفقد الإرادة الراعية المشخصة للقدرة،
وإنما فقدت الإرادة لأنها تنبعث بحكم العقل أو الحس؛ بكون الفعل موافقًا، وقتله
نفسه ليس موافقًا له، فلا يمكنه مع قوة الأعضاء أن يقتل نفسه إلا إذا كان في
عقوبة مؤلمة لا تطاق، فإن العقل هنا يتوقف في الحكم ويتردد، لأنه تردد
بين شر الشرين، فإنْ ترجح له بعد الروية أن ترك القتل أقل شرًّا لم يمكنه قتل
نفسه، وأن حكم بأن القتل أقل شرًا، وكان حكمه جزمًا لا ميل فيه لا صارف
منه، انبعثت الإرادة والقدرة وأهلك نفسه؛ كالذي يتبع بالسيف للقتل، فإنه يرمي
بنفسه من السطح مثلاً، وإن كان مهلكًا ولا يبالي ولا يمكنه أن لا يرمي نفسه، فإن
كان يتبع بضرب خفيف انتهى إلى طرف السطح، حكم العقل بأن الضرب أهون
من الرمي فوقفت أعضاؤه فلا يمكنه أن يرمي نفسه ولا تنبعث له داعية ألبتة؛
لأن داعية الإرادة مسخرة بحكم العقل والحس، والقدرة مسخرة للداعية،
والحركة مسخرة للقدرة، والكل مقدر بالضرورة فيه من حيث لا يدري، فإنما هو
محل ومجرى لهذه الأمور، فإما أن يكون منه فكلا ولا.
فإذًا معنى كونه مجبورًا أن جميع ذلك حاصل فيه من غيره لا منه، ومعنى
كونه مختارًا أنه محل لإرادة حدثت فيه جبرًا بعد حكم العقل بكون الفعل خيرًا محضًا
موافقًا، وحدث الحكم أيضًا جبرًا، فإذًا هو مجبور على الاختيار، ففعل النار في
الإحراق مثلاً جبر محض، وفعل الله تعالى اختيار محض، وفعل الإنسان على
منزلة بين المنزلتين، فإنه جبر على الاختيار، فطلب أهل الحق لهذا عبارة ثلاثة؛
لأنه لما كان فنًّا ثالثًا وائتموا فيه بكتاب الله تعالى فسموه كسبًا، وليس مناقضًا
للجبر ولا للاختيار، بل هو جامع بينهما عند من فهمه وفعل الله تعالى يسمى
اختيارًا، بشرط أن لا يفهم من الاختيار إرادة بعد تحير وتردد، فإن ذلك في
حقه محال، وجميع الألفاظ المذكورة في اللغات لا يمكن أن تستعمل في حق الله
تعالى إلا على نوع من الاستعارة والتجاوز، وذكر ذلك لا يليق بهذا العلم، ويطول
القول فيه.
فإن قلت: فهل تقول إن العلم ولد الإرادة، والإرداة ولدت القدرة، والقدرة
ولدت الحركة، وإن كل متأخر حدث من المتقدم، فإن قلت ذلك، فقد حكمت
بحدوث شيء لا من قدرة الله تعالى، وإن أبيت ذلك، فما معنى ترتيب البعض من
هذا على البعض ? فاعلم أن القول بأن بعض ذلك حدث عن بعض جهل محض،
سواء عبر عنه بالتوالد أو بغيره، بل حوالة جميع ذلك على المعنى الذي يعبر عنه
بالقدرة الأزلية، وهو الأصل الذي لم يقف كافة الخلق عليه إلا الراسخون في العلم
فإنهم وقفوا على كنه معناه، والكافة وقفوا على مجرد لفظه مع نوع تشبيه بقدرتنا،
وهو بعيد عن الحق، وبيان ذلك يطول، ولكن بعض المقدرات مترتب على
البعض في الحدوث ترتب المشروط على الشرط، فلا تصدر من القدرة الأزلية
إرادة إلا بعد علم، ولا علم إلا بعد حياة، ولا حياة إلا بعد محل الحياة، وكما لا
يجوز أن يقال: الحياة تحصل من الجسم الذي هو من شرط الحياة، فكذلك في
سائر درجات الترتيب، ولكن بعض الشروط ربما ظهرت للعامة، وبعضها لم
يظهر إلا للخواص المكاشفين بنور الحق، وإلا فلا يتقدم متقدم ولا يتأخر متأخر إلا
بالحق واللزوم، وكذلك جميع أفعال الله تعالى، ولولا ذلك لكان التقديم والتأخير
عبثًا يضاهي فعل المجانين - تعالى الله عن قول الجاهلين علوًّا كبيرًا - وإلى هذا
أشار قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) ،
وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ
بِالْحَقِّ} (الدخان: 38-39) .
فكل ما بين السماء والأرض حادث على ترتيب واجب وحق لازم، لا
يتصور أن يكون إلا كما حدث، وعلى هذا الترتيب الذي وجد، فما تأخر متأخر
إلا لانتظار شرطه، والمشروط قبل الشرط محال، والمحال لا يوصف بكونه
مقدورًا، فلا يتأخر العلم عن النطفة إلا لفقد شرط الحياة، ولا تتأخر عنها الإرادة
بعد العلم إلا لفقد شرط العلم، وكل ذلك منهاج الواجب وترتيب الحق، ليس في
شيء من ذلك لعب واتفاق، بل كل ذلك بحكمة وتدبير وتفهم ذلك عسير، ولكنا
نضرب لتوقف المقدور مع موجود القدرة على وجود الشرط مثالاً يقرب مبادي
الحق من الأفهام الضعيفة، وذلك بأن تقدر إنسان محدثًا قد انغمس في الماء إلى
رقبته، فالحدث لا يرتفع عن أعضائه، وإن كان الماء هو الرافع وهو ملاق له،
فقدر القدرة الأزلية حاضرة وملاقية للمقدورات، متعلقة بها ملاقاة الماء للأعضاء،
ولكن لا يحصل بها المقدور كما لا يحصل رفع الحدث بالماء انتظارًا للشرط، وهو
غسل الوجه، فإذا وضع الواقف في الماء وجهه على الماء عمل الماء في سائر
أعضائه وارتفع الجدث، فربما يظن الجاهل أن الحدث ارتفع عن اليدين برفعه عن
الوجه؛ لأنه حدث عقبه، إذ يقول كان الماء ملاقيًا ولم يكن رافعًا، والماء لم يتغير
عما كان، فكيف حصل منه ما لم يحصل من قبل، بل حصل ارتفاع الحدث عن
اليدين عند غسل الوجه.
فإذًا غسل الوجه هو الرافع للحدث عن اليدين، وهو جهل يضاهي ظن من يظن
أن الحركة تحصل بالقدرة، والقدرة بالإرادة، والإرادة بالعلم، وكل ذلك خطأ، بل
عند ارتفاع الحدث عن الوجه ارتفع الحدث عن اليد بالماء الملاقي لها لا بغسل
الوجه، والماء لا يتغير واليد لم تتغير، ولم يحدث فيهما شيء، ولكن حدث وجود
الشرط فظهر أثر العلة، فكهذا ينبغي أن تفهم صدور المقدورات عن القدرة الأزلية،
مع أن القدرة قديمة والمقدورات حادثة، وهذا قرع باب آخر لعالم آخر من عوالم
المكاشفات، فلنترك جميع ذلك، فإن مقصودنا التنبيه على طريق التوحيد في
الفعل، فإن الفاعل بالحقيقة واحد فهو المخوف والمرجو، وعليه التوكل والاعتماد،
ولم نقدر على أن نذكر من بحار التوحيد إلا قطرة من بحر المقام الثالث من مقامات
التوحيد، واستيفاء ذلك في عمر نوح محال؛ كاستيفاء ماء البحر بأخذ القطرات منه،
وكل ذلك ينطوي تحت قول لا إله إلا الله، وما أخف مؤنته على اللسان، وما
أسهل اعتقاد مفهوم لفظه على القلب، وما أعز حقيقته، ولبه عند العلماء الراسخين
في العلم، فكيف عند غيرهم.
فإن قلت: فكيف الجمع بين التوحيد والشرع، ومعنى التوحيد أن لا فاعل إلا
الله تعالى، ومعنى الشرع إثبات الأفعال للعباد، فإن كان العبد فاعلاً، فكيف يكون
الله تعالى فاعلاً، وإن كان الله تعالى فاعلاً، فكيف يكون العبد فاعلاً، ومفعول بين
فاعلين غير مفهوم ? فأقول: نعم ذلك غير مفهوم إذا كان للفاعل معنى واحد،
وإن كان له معنيان، ويكون الاسم مجملاً مرددًا يبنهما لم يتناقض، كما يقال: قتل
الأمير فلانًا، ويقال: قتله الجلاد، ولكن الأمير قاتل والجلاد قاتل بمعنى آخر،
فكذلك العبد فاعل بمعنى، والله عز وجل فاعل بمعنى آخر، فمعنى كون الله تعالى
فاعلاً أنه المخترع الموجد، ومعنى كون العبد فاعلاً أنه المحل الذي خلق فيه القدرة
بعد أن خلق فيه الإرادة، بعد أن خلق فيه العلم، فارتبطت القدرة بالإرادة،
والحركة بالقدرة ارتباط الشرط بالمشروط، وارتبط بقدرة الله ارتباط المعلول بالعلة
وارتباط المخترَع بالمخترِع، وكل ما له ارتباط بقدرة، فإن محل القدرة يسمى فاعلاً
له كيفما كان الارتباط، كما يسمى الجلاد قاتلاً والأمير قاتلاً؛ لأن القتل ارتبط
بقدرتهما، ولكن على وجهين مختلفين، فلذلك سمي فعلاً لهما فكذلك ارتباط
المقدورات بالقدرتين، ولأجل توافق ذلك وتطابقه نسب الله تعالى الأفعال في
القرآن مرة إلى الملائكة، ومرة إلى العباد، ونسبها بعنيها مرة أخرى إلى نفسه،
فقال تعالى في الموت: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ} (السجدة: 11) ، ثم قال عز
وجل: {اللَّهُ يَتَوَفى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (الزمر: 42) وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُم
مَّا تَحْرُثُونَ} (الواقعة: 63) أضاف إلينا، ثم قال تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ
صَباًّ * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقاًّ * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَباًّ * وَعِنَباً} (عبس: 25-28) وقال
عز وجل: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِياًّ} (مريم: 17) ثم قال
تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} (الأنبياء: 91) وكان النافخ جبريل عليه
السلام، وكما قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (القيامة: 18) قيل في
التفسير: معناه إذا قرأه عليك جبريل وقال تعالى: {قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} (التوبة: 14) فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه، والتعذيب هو عين القتل
بل صرح، وقال تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوَهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} (الأنفال: 17) وقال
تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) وهو جمع
بين النفي والإثبات ظاهرًا، ولكن معناه وما رميت بالمعنى الذي يكون الرب به
راميًا، إذ رميت المعنى الذي يكون العبد به راميًا، إذ هما معنيان مختلفان، وقال
الله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 4-5) ، ثم
قال: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ} (الرحمن: 1-2) ، وقال: {عَلَّمَهُ البَيَانَ} (الرحمن: 4) ، وقال: {إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 19) ، وقال: {أَفَرَأَيْتُم
مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ} (الواقعة: 58-59) ، ثم قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف ملك الأرحام: (إنه يدخل الرحم،
فيأخذ النطفة في يده ثم يصورها جسدًا، فيقول: يا رب أذكر أم أنثى، أسوي أم
معوج ? فيقول الله تعالى ما شاء، ويخلق الملك - وفي لفظ آخر - ويصور الملك،
ثم ينفخ فيه الروح بالسعادة أو بالشقاوة) .
وقد قال بعض السلف: إن الملك الذي يقال له الروح، هو الذي يولج الأرواح
في الأجساد، وإنه يتنفس بوصفه، فيكون كل نفس من أنفاسه روحًا يلج في جسم،
ولذلك سمي روحًا، وما ذكره في مثل هذا الملك وصفته، فهو حق شاهده أرباب
القلوب ببصائرهم، فأما كون الروح عبارة عنه فلا يمكن أن يعلم إلا بالنقل والحكم
به دون تخمين مجرد، وكذلك ذكر الله تعالى في القرآن من الأدلة والآيات في
الأرض والسماوات، ثم قال: {أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} (آل عمران: 18) فبين
أنه الدليل على نفسه، وذلك ليس متناقضًا بل طرق الاستدلال مختلفة، فكم من
طالب عرف الله تعالى بالنظر إلى الموجودات، وكم من طالب عرف كل
الموجودات بالله، كما قال بعضهم: عرفت ربي بربي، ولولا ربي لما عرفت ربي،
وهو معنى قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت
: 53) وقد وصف الله تعالى نفسه بأنه المحيي والمميت، ثم فوض الموت والحياة
إلى ملكين، ففي الخبر أن ملكي الموت والحياة تناظرا، فقال ملك الموت: أنا أميت
الإحياء، وقال ملك الحياة: أنا أحيي الموتى، فأوحى الله تعالى إليهما كونا على
عملكما، وما سخرتكما له من الصنع، وأنا المميت والمحيي، لا يميت ولا يحيي
سواي، فإذًا الفعل يستعمل على وجوه مختلفة، فلا تتناقض هذه المعاني إذا فهمت،
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للذي ناوله التمرة: (خذها لو لم تأتها لأتتك)
أضاف الإتيان إليه وإلى التمرة، ومعلوم أن التمرة لا تأتي على الوجه الذي يأتي
الإنسان إليها، وكذلك لما قال التائب أتوب إلى الله تعالى ولا أتوب إلى محمد، فقال
صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله فكل من أضاف الكل إلى الله تعالى فهو
المحقق الذي عرف الحق والحقيقة، ومن أضافه إلى غيره فهو المتجاوز والمستعير
في كلامه وللتجوز وجه، كما أن للحقيقة وجهًا. واسم الفاعل وضعه واضع اللغة
للمخترع، ولكن ظن أن الإنسان مخترع بقدرته فسماه فاعلاً بحركته، وظن أنه
تحقيق، وتوهم أن نسبته إلى الله تعالى على سبيل المجاز؛ مثل نسبة القتل إلى
الأمير، فإنه مجاز بالإضافة إلى نسبته إلى الجلاد، فلما انكشف الحق لأهله عرفوا
أن الأمر بالعكس، وقالوا: إن الفاعل قد وضعته أيها اللغوي للمخترع، فلا فاعل
إلا الله، فالاسم له بالحقيقة ولغيره بالمجاز؛ أي: تجوز به عما وضعه اللغوي له،
لما جرى حقيقة المعنى على لسان بعض الأعراب قصدًا أو اتفاقًا، صدقه رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: أصدق بيت قاله الشاعر قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ...
أي كل ما لا قوام له بنفسه وإنما قوامه بغيره، فهو باعتبار نفسه باطل،
وإنما حقيته وحقيقته بغيره لا بنفسه، فإذًا لا حق بالحقيقة إلا الحي القيوم الذي ليس
كمثله شيء، فإنه قائم بذاته وكل ما سواه قائم بقدرته، فهو الحق وما سواه باطل،
ولذلك قال سهل: يا مسكين، كان ولم تكن، ويكون ولا تكون، فلما كنت اليوم
صرت تقول أنا وأنا، كن الآن كما لم تكن، فإنه اليوم كما كان.
فإن قلت: فقد ظهر الآن أن الكل جبر، فما معنى الثواب والعقاب والغضب
والرضا، وكيف غضبه على فعل نفسه ? فاعلم أن معنى ذلك قد أشرنا إليه في
كتاب الشكر، فلا نطول بإعادته فهذا هو القدر، والذي رأينا الرمز إليه من التوحيد
الذي يورث حال التوكل، ولا يتم هذا إلا بالإيمان بالرحمة والحكمة، فإن التوحيد
يورث النظر إلى مسبب الأسباب، والإيمان بالرحمة وسعتها هو الذي يورث الثقة
بمسبب الأسباب، ولا يتم حال التوكل كما سيأتي إلا بالثقة بالوكيل وطمأنينة القلب
إلى حسن نظر الكفيل، وهذا الإيمان أيضًا باب عظيم من أبواب الإيمان، وحكاية
طريق المكاشفين فيه تطول، فلنذكر حاصله ليعتقده الطالب لمقام التوكل اعتقادًا
قاطعًا لا يستريب فيه، وهو أن يصدق تصديقًا يقينيًّا لا ضعف فيه، ولا ريب أن
الله عز وجل لو خلق الخلق كلهم على عقل أعقلهم وعلم أعلمهم، وخلق لهم من
العلم ما تحتمله نفوسهم، وأفاض عليهم من الحكمة ما لا منتهى لوصفها، ثم زاد مثل
عدد جميعهم علمًا وحكمة وعقلاً، ثم كشف لهم عن عواقب الأمور، وأطلعهم على
أسرار الملكوت، وعرفهم دقائق اللطف وخفايا العقوبات، حتى اطلعوا به على
الخير والشر والنفع والضر، ثم أمرهم أن يدبروا الملك والملكوت بما أعطوا من
العلوم والحكم، لما اقتضى تدبير جميعهم مع التعاون والظهور عليه أن يزاد فيما
دبر الله سبحانه الخلق في الدنيا والآخرة جناح بعوضة، ولا أن ينقص منها جناح
بعوضة، ولا أن يرفع منها ذرة، ولا أن يخفض منها ذرة، ولا أن يدفع مرض أو
عيب أو نقص أو فقر أو ضر عمن بلي به، ولا أن يزال صحة أو كمال أو غنى
أو نفع عمن أنعم به عليه، بل كل ما خلق الله تعالى من السماوات والأرض إنْ
رجعوا فيها البصر وطولوا فيها النظر، ما رأوا فيها من تفاوت ولا فطور.
وكل ما قسم الله تعالى بين عباده من: رزق وأجل، وسرور وحزن، وعجز
وقدرة، وإيمان وكفر، وطاعة ومعصية، فكله عدل محض لا جور فيه، وحق
صرف لا ظلم فيه، بل هو على الترتيب الواجب الحق على ما ينبغي، وكما ينبغي
وبالقدر الذي ينبغي، وليس في الإمكان أصلاً أحسن منه، ولا أتم ولا أكمل ولو
كان وادخره مع القدرة ولم يتفضل بفعله، لكان بخلاً يناقض الجود، وظلمًا يناقض
العدل، ولو لم يكن قادرًا لكان عجزًا يناقص الألوهية، بل كان فقرًا وضرًّا في
الدنيا، فهو نقصان في الدنيا وزيادة في الآخرة، وكل نقص في الآخرة بالإضافة
إلى شخص فهو نعيم بالإضافة إلى غيره؛ إذ لولا الليل لما عرف قدر النهار،
ولولا المرض لما تنعم الأصحاء بالصحة، ولولا النار لما عرف أهل الجنة قدر
النعمة، وكما أن فداء أرواح الإنس بأرواح البهائهم، وتسليطهم على ذبحها ليس
بظلم، بل تقديم الكامل على الناقص عين العدل، فكذلك تفخيم النعم على سكان
الجنان بتعظيم العقوبة على أهل النيران، وفداء أهل الإيمان بأهل الكفران عين
العدل، وما لم يخلق الناقص لم يعرف الكامل، ولولا خلق البهائم لما ظهر
شرف الإنس، فإن الكمال والنقص يظهر بالإضافة، فمقتضى الجود والحكمة
خلق الكامل والناقص جميعًا، وكما أن قطع اليد إذا تأكلت إبقاء على الروح عدل؛
لأنه فداء كامل بناقص، فكذلك الأمر في التفاوت الذي بين الخلق في القسمة في
الدنيا والآخرة، فكل ذلك عدل لا جور فيه، وحق لا لعب فيه، وهذا الآن بحر
آخر عظيم العمق، واسع الأطراف، مضطرب الأمواج، قريب في السعة من
بحر التوحيد، فيه غرق طوائف من القاصرين، ولم يعلموا أن ذلك غامض لا
يعقله إلا العالمون، ووراء هذا البحر سر القدر الذي تحير فيه الأكثرون، ومنع
من إفشاء سره المكاشفون.
والحاصل أن الشر والخير مقضي به، وقد كان ما قضي به واجب الحصول
بعد سبق المشيئة، فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره، بل كل صغير وكبير
مستطر، وحصوله بقدر معلوم منتظر، وما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك
لم يكن ليصيبك، ولنقتصر على هذه المرامز من علوم المكاشفة التي هي أصول
مقام التوكل، ولنرجع إلى علم المعاملة إن شاء الله تعالى، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
(*) نقلاً عن كتاب إحياء علوم الدين، وهو تابع لما في (ص 671) من الجزء التاسع.(12/833)