جمادى الأولى - 1326هـ
يونيه - 1908م(11/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المسلمون والقبط
سبق لنا قول في هاتين الطائفتين بمصر بينا فيه أن المسلمين من حيث هم
أفراد أرقى من القبط في كل علم , وأن القبط من حيث الاجتماع والتعاضد الملي
أرقى من المسلمين , فلهم مجلس ملي وجمعيات وجرائد دينية تبحث دائمًا في
مصالحهم العامة من حيث هم قبط، وهم يتعاونون ويتحدون في المصالح. وهذا ما
حمدتهم وأحمدهم عليه , وأتمنى لو يوفق المسلمون لمثله , وإن كنت أعلم أنه لو
أنشأ المسلمون جمعية للرابطة الإسلامية كجمعية الرابطة المسيحية لَمَا وجدوا في
القبط مثل أحمد بك زكي يقوم فيها خطيبًا , ويجعل عنان خطابته (مصريون قبل
كل شيء) بل يخشى أن يقوموا كما تقوم أوروبا , ويقول الجميع: إن المسلمين في
مصر يُحيون التعصب الإسلامي والجامعة الإسلامية , ويدعون إلى ارتباط بعضهم
ببعض لمقاومة النصارى في مصر , بل في جميع الأرض.
لم تكد تقر شقشقة أحمد زكي بك من دعوة المسلمين في جمعية الرابطة
المسيحية إلى توثيق عقد الأخوة بينهم وبين القبط , ويقنعهم بالأدلة الدينية والتاريخية
أن الإسلام في هديه وسيرة سلفه يوجب عليهم المودةَ للقبط - حتى قام بعض الكتاب
من القبط يكتبون في بعض الجرائد القبطية وغيرها أن حقوقهم مهضومةٌ بين
المسلمين , وأنهم يطلبون المساواةَ بتعيين المديرين ومأموري المراكز منهم ,
فوافقتهم جرائد المسلمين الكبرى في مطالبهم , فلم يقنعهم ذلك , بل تَمَادَوْا في الكتابة
حتى جعلوا أنفسَهم أصحابَ البلاد , وجعلوا المسلمين من قبيل المحتلين بغير حقٍّ ,
وأغلظوا القولَ للواء والحزب الوطني , فكتب الشيخ عبد العزيز شاويش رئيس
تحرير جريدة اللواء قولاً ثقيلاً في الرد على بعض كتابهم سخر فيه منهم , وهزى
بهم، وافتخر عليهم , فكان ذلك جل ما يبغون من حركتهم الجديدة. [1]
قامت قيامتهم ولم يكتفوا بما يكيلون كل يوم للشيخ عبد العزيز من الصيعان
الكثيرة في مقابلة صاعه , بل أنشأوا يكتبون في جرائدهم: إن المسلمين يريدون
بتعصبهم الديني استئصال القبط وجميع النصارى من مصر , وإنه يجب عليهم أن
يوفدوا الوفود إلى أوربا للاستغاثة بدولها وأممها المسيحية قبل أن يبيدهم المسلمون
المتعصبون , أو يضطروهم إلى الجلاء عن بلادهم , والهجرة إلى بلاد أخرى
يأمنون فيها على أنفسهم من المسلمين , ثم هم يطلبون أيضًا معاقبة الشيخ عبد
العزيز شاويش الذي أهانوه أضعافَ ما أهانهم , وأن يرد عليه ويتبرأ منه كُبَرَاء
المسلمين، ويعقدون الأندية والسّمار للبحث في هذه النازلة , ويكتتبون بالأموال لها.
من علم أن القبط في القطر نحو نصف مليون في نحو أَحَدَ عَشَرَ مليونًا مِن
المسلمين - وأنّ العمال والمستخدمين منهم في الحكومة أكثر من المسلمين - وأنّ
المسلمين قاموا منذ سنين يدعون إلى الرابطة الوطنية , فكان لهذه الدعوة من التأثير
في نفوس القارئين والسامعين، والأساتذة والمتعلمين أن صار يفضل كثير منهم
القبطي على المسلم الشامي والحجازي ... ، بل سمعت غير واحد من المعلمين
والمتعلمين يقول: لا فَرْقَ عندي بين أن يكون أمير البلاد مسلمًا أو قبطيًّا - وأن
المسلمين جعلوا أحزابهم وأنديتهم شُرعًا بينهم وبين القبط - وأن القبط يتعصب
بعضهم لبعض في كل مصلحة وكل عمل حتى في القضاء - وأن المسلمين على
شدتهم في انتقاد حكامهم قَلَّمَا ينتقدون القبط؛ فهم ينتقدون وزير المعارف المسلم على
إحسانه في عمله بحُجّة أنه لم يكن فيه مرغمًا للإنكليز ولا معاندًا لهم , أو أنه يجب
عليه أن يعمل أكثر مما عمل , ولا ينتقدون وزير الخارجية القبطي الذي هو ألصق
بالمحتلين وبالاتفاق معه سلخ لورد كرومر السودان من ملك الدولة العَلِيّة وملكه
للإنكليز , وكان رئيس محكمة دنشواي التي ظلت الجرائد الإسلامية تعير وتسب
العضو المسلم فيها , ولم تذكر رئيسها بسوء - من علم هذا وأمثاله يتعجب أشد
التعجب لهذه الثورة المعنوية التي أثارتها القبط في الوقت الذي يبالغ فيه المسلمون
في موادتهم وتوثيق عُرَى الإخاء بينهم وبينهم. حقًّا , إن في الأمْر مثارًا للعَجَب،
قَلَّمَا رَأَيْنَا من بحث في حقيقة السبب.
يقول بعض الناس تبعًا لبعض الجرائد: إن قطبي الرَّحَى لهذه الحركة أُخْنُوخ
أفندي فانوس رئيس جمعية الرابطة المسيحية، ومجمع الإصلاح القبطي،
وصاحب جريدة مصر اللذان يسعى كل منهما لجعل ولده مديرًا , فهما اللذان أَيْقَظَا
هذه الفتنةَ لحظ شخصي , فكانت فتنة جنسية أو طائفية باتباع الجمهور لهما.
ومن رأيي أنهما بريئان من هذه التهمة , ولو كان ذلك هفوة لهما لَمَا خفي على
جمهور طائفتهما الحازمة اليقظة، بل يغلب على ظنّي أن هذه الطائفة تجل عن أن
تتوسل إلى تقرير جعل المديرين منها بهذه الوسيلة؛ لأن ربح مدير لا يوازي خسارة
مودة المسلمين لهم، ودعوتهم إلى مساواتهم ومؤاخاتهم - هذه الخسارة التي
تعرضوا لها الآن بمنتهى ما عندهم من الجرأة والإقدام.
والراجح عندي أن القوم شعروا بالتغير الجديد في السياسة , وعلم بعض
كبرائهم بالنبأ الذي نشرناه في الجزء الماضي قبل أن نعلم به - وهو عزم الإنكليز
على السماح لأمير البلاد بإنشاء مجلس نيابي - ومن البديهي أن جمهور القبط لا
يرغبون في أن يكون في مصر مجلس نيابي , ولا أن يقلل المحتلون من سيطرتهم
على البلاد. فلما علموا بذلك رَأَوْا أنه لا سبيلَ إلى تحويل الإنكليز عن هذه السياسة
الجديدة إلا بإقناع أُمّتهم بانفجار بركان تعصب المسلمين على القبط، وسائر
المسيحيين؛ ليقولوا: إن هؤلاء إذا جُعِلَ لهم رأي نافذ في سلطة بلادهم
يهضمون وهم الاكثرون حقوق الأقلين. وإنني لمعظم لقدرهم بهذا الظن ,
ومعتقد فيهم الحزم والتكاتف , وإن ترجح عندي أنهم ربما أخطئوا في اجتهادهم،
وجاء الأمر على خلاف مرادهم، وحينئذ يكون شرّ هذه الحركة أكثر من خيرها،
وإثمها أكبر من نفعها.
سمعنا غير واحد من أهل الفهم والرأي يقولون: إن تعصب القبط بعضهم
لبعض , وتعاونهم على مصالحهم المِلِّيَّةِ يُعَدُّ مِن الأمور الطبيعية في الاجتماع , فإن
الفئة القليلة إذا لم تعتصم بعروة التعصب فإنها تذوب وتفنى في الأُمّة الكبيرة التي
تعيش معها، فالقبط معذورون في سيرتهم التي هم عليها؛ لأنها طبيعية لا بُدَّ منها.
ونقول: نعم , إن ذلك طبيعيّ وبديهيّ , ولكن ما كان كذلك يجب الاعتراف به،
ويستنكر جحوده فما بالك بادعاء ضده. ثم إنه ليس من الطبيعي البديهي أن تكون
الفئة القليلة في الأمة الكبيرة مهاجمة في جهادها الاجتماعي , فتطلب ما تبغي
بالطريقة التي جرت عليها القبط في هذه الأيام إلا إذا كان لها حدث جديد، أو أوت
إلى ركن شديد.
يعبرون عن أنفسهم في مقام مطالبة المسلمين بما يطلبون بالأمة القبطية ,
وُيدلون بأنهم أصحاب البلاد؛ لأنهم سلالة فرعون ذي الأوتاد، ويجهرون بأن
المسلم فيها أجنبي محتلّ، وأتاويّ معتدٍ، وينكرون على المسلمين أن يكون لهم فيها
حق مِنْ حيثُ هم مسلمون فاتحون، ولا ينكرون على أنفسهم أن يَدّعوا الحقوق فيها
من حيث هم قبط مسيحيون، وهم في الحقيقة رعايا ذِمِّيُّونَ، فما هو الحدث الجديد
الذي أنطقهم بهذا اللسان؟ وما هو الركن الشديد الذي يأوون إليه الآن؟
لا يظهر لنا حدث غير ما بيناه من تغير السياسة الإنكليزية في البلاد ,
وعزمها على السماح للأمير بتأليف مجلس نيابي فيها يشترك معه فيما يسمونه
مسئولية إدارتها. ولا نعرف لهم ركنًا فيما صمدوا إليه إلا رغبة السياسة الأوربية
عامة والإنكليزية خاصة في نبز نهضة المسلمين بالتعصب الديني - فهذا ما رأوه من
موقع الضعف في المسلمين والقوة لهم؛ لهذا جعلوا قول الشيخ عبد العزيز شاويش
- وهو على رأيهم دخيل في مسلمي مِصْرَ - برهانًا على أن في مصر تعصبًا
إسلاميًّا , لا يلبث أن ينفجر بركانُه , فيدفن القبط وسائر النصارى معهم تحت
مقذوفاته النارية.
وقد طلبوا من الحزب الوطني أن يتبرأ من هذا القول , ففعل , ومن العجب
أنهم لم يرضوا، ويقال: إنه قد تجددتْ لهم صلةٌ وديةٌ برئيس أساقفة الكنيسة
الإنكليزية، وإنه رغب إليهم في الرجوع إليه، والتعويل في رغائبهم عليه.
ولكن فاتهم على حذقهم أن السياسة (لا سِيَّمَا الإنكليزية منها) إذا قررت أمرًا
أنفذته لا محالة لا يصدها عنه مراعاة فئة صغيرة ولا كبيرة، ولا مسألة اختراعية
كمسألة التعصب الإسلامي، أو حقيقية كإزالة السلطة الشخصية وحماية الحرية
القومية، فنبشرهم بأن السياسة الجديدة التي بينها المنار في الجزء الماضي واقعة ما
لها من دافع. وأمر مجلس النواب في هذه البلاد صار موكولاً إلى إرادة أميرها
باختيار المحتلين ورضاهم أو كاد.
فإنْ نجحت الحركة القبطية فقصارى نجاحها أن تكون سببًا في تأخيره عامًا أو
أكثر وما ذلك بالربح الكثير في جنب ما يخسرون من مودة المسلمين بما اشتملت عليه
مقالاتهم من التّهكم بمجد الإسلام الأول , والشماتة بزواله كالتعبير عنه (بالعظمة
البالية) ورمي المسلمين السابقين بظلمهم وظلم غيرهم، واللاحقين بالتعصب
عليهم وعلى أهل دينهم، وبمطالبة جميع كُبَراء المسلمين وكتابهم بأن يعتذروا لهم
عن مقال الشيخ عبد العزيز , وإنْ كانوا هم البادئين بالعدوان , وقد أصروا
عليه بجعل ذنب الشيخ عبد العزيز ذنبًا لجمهور المسلمين، وبالسعي في جمع
كلمة نصارى السوريين والروم والأرمن إليهم؛ لمقاومة المسلمين كما روي لنا،
ويؤيده ما يكتبون في الجرائد، وبترجمة الأقوال السيئة التي يكتبونها، ويكتبها
الآخرون باللغات الأوربية، لإيهام أوربا أن في البلاد تعصبًا ربما يفضي إلى ثورة
دينية.
أول خسارة خسروها بهذه المغاضبة هي اعتقاد المسلمين أن دعوة الوطنية
التي قاموا بها في هذه السنين قد كانت خسارًا عليهم، وربحًا للقبط وحدهم. فإن دعاة
هذه الوطنية من المسلمين كانوا يبغون بها أن يتحدوا بالقبط , ويتعاونوا معهم على
مقاومة السلطة الأجنبية؛ ولذلك رضوا بأن يساووهم ويؤاخوهم مع العلم بأن
الحكومة في صفتها الرسمية إسلامية تابعة لخليفة المسلمين باتفاق الدول، بل غضوا
النظر في الغالب عن رجحانهم عليهم لهذا الغرض. فتبين لهم أن القبط لا يرضون
بهذا الاتحاد من كل وجه , بل يستفيدون منه ويحولون دون استفادة المسلمين شيئًا
منهم، حتى نفي التعصب عنهم، ثم يبنون أعمالهم كلها على أنهم أُمّة ممتازة لا
عضو في جسم الأمة المصرية أو الشعب المصري - وأنهم لا يرضون بمقاومة
الأجنبي ولا يودون استقلال البلاد دونه - وأنهم إذا وجدوا فرصة لمواثبة المسلمين
واثبوهم من أضعف جانب فيهم , كنبزهم بلقب التعصب ومعاداة النصارى في هذه
الأيام. فإذا كانت نتيجة دعوة المسلمين إلى الوطنية المصرية بلسان جرائدهم
وخطبائهم وأحزابهم وعد القبطي أخًا له، والمسلم غير المصري (دخيلاً) فيهم، أن
تقوم عليهم جرائد القبط وجمعياتها الدينية، وأنديتها القومية، ترميهم بالغلو في
التعصب والتواطؤ على إبادة النصارى , فأي فائدة لهم في هذه الوطنية؟ بل أي
غائلة شر عليهم منها؟ .
أقول: إن في هذا خسارًا للقبط؛ لأنه ربما يغري المسلمين بمناظرتهم ,
والتشبه بهم في جمعياتهم الدينية , وترجيحهم لأبناء مِلَّتِهِمْ في جميع الأعمال
والمصالح. وإذا دبّ في المسلمين الشعور بوجوب ترجيح المسلم على القبطي كما
تفعل القبط فإن ذلك يثمر حرمان ألوف من القبط من موارد الرزق السائغة في دوائر
المسلمين الخاصة، بل ربما يعوزهم معه - إذا تمادى وعظم - القيام باستغلال أرضهم
كما يستغلونها الآن بمساعدة المسلمين. دَعْ عَنْكَ مصالح الحكومة التي أكثر عمالها
من القبط , ولولا تساهل المسلمين، وعدم عنايتهم بالمسابقة والمناظرة , لَكَان الأمر
على غير ما هو عليه الآن.
وناهيك بالخسارة المعنوية التي هي عند أهل الآداب العالية شرّ من خسارة
المال , وهي ما يخشى أن يكون من التقاطع والتدابر بين العُشَرَاء والخُلَطَاء
والجِيرَان والأصدقاء.
فالرأي عندي للقبط أن لا يغتروا بترجيع بعض الجرائد الإفرنجية لأصواتهم
في الشكوى من المسلمين , والقول بتعصبهم ولا من سرور بعض الإنكليز به - إنْ
كان ما قِيلَ من ذلك حقًّا - فإنهم مهما أصابوا من تعضيد في مشاقة المسلمين فهو لا
يكون خلفًا صالحًا لمودّتهم فيما أرى. فأنصح لهم أن يتوبوا مما فعلوا , ويعتذروا
عنه، ويعودوا إلى سابق شأنهم , أو إلى خير منه إِنِ اسْتَطَاعوا، والمسلمون تغلب
عليهم سلامةُ القلب فلا يلبثون أن يغفروا لهم، وينسوا ما كان منهم، ففي حديث
أبي هريرة عند أبي داود والترمذي: (المؤمن غِرٌّ كَرِيمٌ) أي: ليس بِذِي نكر ولا
مكر ولا خداع. ولولا أنني أحب الوفاق لَمَا نصحت لهم بهذا , فإنني أعلمُ أنّ هذه
المشاقة لا تَزِيد المسلمين إلا قوةً في رابطتهم الإسلامية التي أدعو إليها، وحفظًا
لحقوقهم التي أَغَار عليها، ولكنني أفضل أن يكونَ تنبيههم لذلك بغير هذا،
أحب أن يعتصموا بحبل الله جميعًا، ولا يتفرقوا , وأن يكونوا مع ذلك على وفاق
ووئام مع من يعيش معهم.
وأنصح للمسلمين أن لا يكتبوا شيئًا في الرَّدِّ على القبط - ولو لم يكتبوا في
الماضي ما كتبوا لَكَان خيرًا لهم وأحسن إطفاءً لِتِلْكَ الفتنة وخذلانًا لموقظيها - ولكن
لا بأْسَ ببيان عدد الموظفين منهم في كل مديرية , وذكر الوقائع في تعصب بعضهم
لبعض، وتعاونهم المِلِّيّ المَحْض مِن باب بيان الحقيقة والاعتبار بها بشرط أن
يتحرى الصحيح، ولا تمزج الرواية بشيء من التأنيب والتجريح فضلاً عن
الهجر والتقبيح.
ومما يحسن البحث فيه أيضًا بيان أن القبط لا يمتازون بحق رسمي على
غيرهم من النصارى المتجنسين بالجنسية المصرية من السوريين والأرمن والروم ,
ومن اليهود أيضًا، وإنما ميزهم المسلمون في مقالاتهم وخطبهم التي يجعلون فيها
المصريين عنصرين فقط , ويعدون القبط إخوانهم دون غيرهم من الذين جعلوا
مصر وطنًا لهم , ويعدهم القانون المصري مصريين؛ لولادتهم بمصر، أو لإقامتهم
فيها 15 سنةً أو أكثر، فالنسب القديم ليس شرطًا للوطنية ولا للجنسية عند أحد من
الأمم ولا في شيء من قوانينها. فإذا كان من الحق مطالبة القبطي بأن يكون مديرًا
كان من الحق أن يكون السوري الذي تجنس بالجنسية المصرية مديرًا ووزيرًا،
فالحق أنه لا فرق بين ابن أخنوخ أفندي فانوس، وابن يعقوب أفندي صروف،
فالوطنية الحقيقية هي المساواة بين جميع العناصر التي تقيم في البلاد وتحكم
بقوانينها. إلا أن يكون للطائفة الحاكمة بعض المزايا في القوانين العامة وطبيعة
الحكومة.
فمما يبحث فيه هنا طبيعة الحكومة المصرية ودينها الرسمي , فإذا كانت لا
تزال حكومة إسلامية خلافًا لما يقول بعض القبط علم أن طلب هذه الطائفة مساواة
المسلمين في كل شيء في غير محله. وإذا كانت قد خرجت عن كونها إسلامية
وعن كون أميرها وكيلاً لخليفة المسلمين فيجب البحث في تعيينه للقضاة الشرعيين،
ولإدارته لأوقاف المسلمين، ولتعيينه للخطباء وأئمة المساجد ونحو ذلك من
المسائل الشرعية , هل هي مع ذلك حقوق شرعية له أم هو لا يملكها الآن إلا
بالتغلب والقوة المستمدة من القبط وغيرهم دون ولاية الشرع؛ لأن البلاد خرجت
عن كونها دار إسلام؟ ؟ يهم المسلمين جدًّا أن يعرفوا ذلك؛ لأنه يترتب عليه أحكام
شرعية كثيرة منها ما هو ديني محض , وما هو مدني شرعي.
تسمي القبط ما تطلبه الآن مساواة بالمسلمين وهو مساواة من وجه , وامتياز
عليهم من وجه آخر. فإذا كانت حكومة مصر غير إسلامية , وكان المسلمون فيها لا
يمتازون بشيء قط فلماذا تكون أمورهم المِلِّيَّة الخاصّة كالمحاكم الشرعية ,
والأوقاف والمدارس الدينية تحت سلطة الحكومة المشتركة , وتكون أمور القبط
المِلِّيَّة وأوقافها في أيديها؟ أليس يكون هذا من امتياز القبط على المسلمين؟
يغلب على ظني أن زعماء الحركة القبطية إذا فكروا في الأمر من جميع
وجوهه فإنهم يفضلون السكون والسكوت على التمادي في هذا العدو والصياح إلا
أن يكون الركن الشديد الذي يأوون إليه قد ضمن لهم أن يكونوا هم الرابحين
بمشاقتهم للمسلمين , وإثارتهم لسخطهم، وتعرضهم لمقاومتهم.
لولا أنني أظن صدق الخبر الذي أوردته في الجزء الذي قبل هذا عن السياسة
الإنكليزية الجديدة بمصر لَغَلب على ظني أن الركن الذي تأوي إليه القبط في هجتهم
هذه هي السر ألدن غورست نفسه والوزارة الإنكليزية من ورائه , أما وأنا مصدق
لذلك الخبر فلا يبعد عندي أن يكون ركنهم بعض المحافظين من الإنكليز ورئيس
أساقفة كنيستهم (كنتربري) , وإلا كانت القبط طائفةً حمقاء , وما عهدتها إلا طائفة
كياسة وروية، وحزم وتدبر، وستزيل لنا الأيام بين الحقائق والأوهام.
فإذا فازت القبط في سعيها فامتنع الإنكليز عن السماح للأمير بإنشاء المجلس
النيابي , وتقرر بالفعل أنه لا فرْقَ بينهم وبين المسلمين في الحكومة - وما ذلك
بمحال - فإنني أشهد للقبط بأنها أرقى طوائف الشرق الأدنى في السياسة والاجتماع ,
وجميع مقومات الحياة المِلِّيَّة لا أقرن بها تركيًّا ولا عربيًّا سوريًّا , ولا غير سوري
ولا أرمنيًّا بل ولا يهوديًّا. ويتبع هذه الشهادة أنها تكون أحقّ في الواقع ونفس الأمر
بالحكم في البلاد، وتُعذر في التشوّف إلى الاستقلال، وتكون مصيبة في تسمية
نفسها (أمة) ، وحقيقة بأن تكون في المستقبل ذات دولة، ويقال: إنها تطمع في
ذلك , فإن صحّ ما قيل كان برهانًا على عُلُوّ همّتها، وثقتها بنفسها في وحدتها.
وخلاصة القول أن طائفة القبط قامت تطلب مطالبَ لنفسها مِن حيثُ هي أمة
ومن حيث هي صاحبة الحق في حكم البلاد , وظهر أنها فيه متكافلة متضامنة
متحدة , فناقشها أفراد من المسلمين بصفتهم الشخصية لا باسم حزب من الأحزاب ,
ولا جمعية من الجمعيات , ووافقها بعض آخر كما وافقتها الأحزاب , وهي مع ذلك
تنسب مناقشة الفرد إلى الحزب أو إلى الأمة.
وقد استعمل بعض الكاتبين من الفريقين الهُجر والسباب، والتنابز بالألقاب،
فكانوا فيه سواءً، إلا ما هو من صناعة البلغاء، ولكن القبط تطلب أن يعتذر لها
الجميع عن الأفراد، وهي لا تعتذر للجميع عما تقول بلسان الجميع، فإذا قلنا: إن
الفريقين قد تعادلا في الإهانة فتساقطا، فليس لأحد حق في ذلك على آخر
بقي معنا أنه ليس في البلاد وطنية حقيقية، وأنه لا يزال يغلب على الفريقين نزعة
الرابطة الدينية (وإن تنصل من ذلك كل منهما) وأن هذه الحركة أضعفت ما قام
بعض الأحزاب والأفراد من الدعوة إلى المساواة والاتحاد، وأن القبط أعرق في
النزعة المِلِّيَّة، وأبعد عن حقيقة الوطنية؛ إذ من مقتضى الوطنية أن لا يطلبوا
لأنفسهم شيئًا مِن حيثُ هم قبط, وأن لا يسموا أنفسهم أُمّة، وأن لا يتعصبَ بعضُهم
لبعض في المصالح والأعمال، كما يعرف كل أحد منهم الآن، وأن يرضوا بما
تختاره الحكومة من التدريج في نقل البلاد من حال إلى حال، أو يكتفوا ببث
رغائبهم إلى وزيرهم الناصح لهم، الغَيُور عليهم، المتفاني في ترقيتهم، وهو لا يدع
فرصة يتمكن فيها من إعطائهم حقًّا جديدًا إلا وينتهزها انتهازًا، ويجعلها سيفًا في يده
لا عكّازًا.
وإذا كان الأمر كذلك في الوطنية، وفي هذه الحركة القبطية، فما هو تأثيره
في رَغِيبة المسلمين , وهي المجلس النيابي، وفي رغيبة القبط , وهي نيل ما بقي من
أعمال الحكومة بين الوزارة والقضاء، كالمديرية ومأمورية المركز؟ .
أمّا الأول , فمِن الجَلِيّ الواضح أن ضعف الوطنية لا يقتضي أن تبقى
حكومة البلاد استبدادية؛ لأن حكومة الشورى أبعد من الحكومة الشخصية المطلقة
عن الظلم غالبًا؛ ولذلك فرح مسلمو روسيا بإنشاء مجلس النواب (الدوما) في
حكومتهم على قِلّتهم في جانب الروس المشهورين بالتعصب. على أنه إذا فرض أن
الحكومة الشخصية المطلقة خير للقبط من جهة التمتع بالوظائف فإن ذلك الحظّ
الذي يصيب أفرادًا مِن فِئَةٍ قليلة في الأمة الكبيرة لا يصلح مرجحًا لعدم ترقية
حكومتها؛ لأن ذلك ترجيح للأفراد القلائل على الجمهور الكبير، فهو من قبيل
ترجيح المصلحة الخاصة على المصلحة العامة.
وأما الثاني , فإذا فرضنا أن حكومة مصر خرجت عن كونها إسلاميةً , والبلاد
عن كونها دارَ إسلامٍ فمن السياسة والحكمة في الإدارة أن لا يكونَ القبطي الآن
مديرًا في مديرية فيها مِئات الألوف من المسلمين , وليس فيها إلا آحاد الألوف أو
الْمِئِين من القبط , وأن ينتظر في ذلك تكوُّن الوطنية الحقيقية التي تمتزج فيها
جميع العناصر المصرية، فلا ينزع أحد منها إلى الامتياز بجنسه ونسبه، ولا بدينه
ومذهبه، فإن استعجلنا فجعلنا القبط مديرين لأمور المسلمين، والحال على ما نعلم
منهما أو ما يدعي كل منهما - فإننا نكون قد أثرنا العدوان، وأرَّثنا الأضغان،
ووضعنا في طريق الوطنية سدًّا لا يدك ولا يظْهَر، وعقبة لا تزول ولا تقتحم، أو
قدمنا النتيجة على المقدمات، وطلبنا الثمرةَ قبل خروج الشجرة.
فالمعقول إذًا أن تكون حركة القبط الجديدة مبعدةً لهم عن مطلبهم الظاهر،
ولكن ربما لا تكون مبعدةً عن غرضهم الباطن، والله أعلمُ بالسرائر، وإنما نحن
نحكم بالظواهر، وهذا ما رآه الكاتب فيه من الصواب، فإنْ تبيَّنَ له أنه مُخطئ فيه
بادَرَ إلى المَتَاب، واسْتَغْفَرَ ربَّه , وخَرَّ راكعًا وأَنَابَ.
__________
(1) مما كتبوه من التحرش باللواء والحزب الوطني قبل مقالة الشيخ عبد العزيز التي جعلوها تُكَأَتَهم في إثبات ذلك الخطر المزعوم من تعصب المسلمين على النصارى ما جاء في العدد 3698 من جريدة مصر الصادر في 9 يونيو الماضي , وهذا نصه:
اللواء والأقباط
(إننا بالنيابة عن جميع الأقباط في كافة أنحاء القطر نقابل ما جاء بصحيفة اللواء أمس من الوقاحة والسفاهة بالازدراء والاحتقار؛ فإنه إذا بلغ المرْء مبلغ اللواء من قلة الأدب والحياء نحو شعور أمة برمتها لم يجد من الناس من يصغى إلى قوله، أو يلتفت إلى وقاحته , بل ينبذ نبذ النواة , ويترك ينبح نبح الكلاب , وليس من يسمع له قولاً) ، ثم استشهدت جريدة مصر على أن القبط كلهم على هذا الرأي بالتلغرافات الكثيرة لما تكتبه وعبرت عنه بقولها: (في خدمة الوطنية والحق اللذين خلق (أي: اللواء) لهما عدوًّا ليخزى هو وأتباعه (أي: الحزب الوطني وسائر محبي اللواء) إذا كان من القوم المدركين) ولم يكن اللواء كتب شيئًا بلسان الحزب الوطني ولا بلسانه.(11/338)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بحث (ما ومن) وتفسير سورة الكافرون 106
(س5) من محمد حسيب أفندي عامر وكيل تلغراف (بلبيس - شرقية) .
حضرة العلامة المفضال صاحب المنار
بعد السلام والتحية؛ نرجوكم إيضاحَ معنى لفظة (ما) , وما تشير إليه في
قوله عز وجل: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الكافرون:
2-3) , فإني إنْ أعطيتها حكم غير العاقل كقاعدتها النَّحْوِيّة استحال ذلك على
المولى سبحانه وتعالى، وإن أعطيتها حكم العاقل فالأصنام وما كانوا يعبدون ليست
بذي عقل، أفيدوني مأجورين والسلام.
(ج) قالوا: إنّ لفظ (ما) هنا أُرِيد به الصفة، أي: (المعبود) وإذا أريد
بها الصفة تطلق على العاقل وغيره. وجوَّزَ بعضُهم أن يكونَ إطلاقُها على الله عز
وجل بعد إطلاقها على الأصنام من قبيل المشاكلة؛ لأجل التناسق في التعبير.
ولعل السائلَ يعلمُ أنه نقل عن سيبويه وغيره أن كون (ما) لما لا يعقل أغلبي
لا مطرد , والشواهد عليه من التنزيل وكلام العرب معروفة، قال الزمخشري في
الكشاف: و (ما) عام في كل شيء , فإذا علم فرق بما ومن وكفاك قول العلماء:
(من لما يعقل) اهـ أي: فأَطْلَقُوا (ما) على العاقل في نفس القاعدة التي ذكروا فيها
أنّ (مَن) خاصّة بالعاقل.
وفي حاشية الأمير على المغني بعد ذكر عبارة الكشاف: قال التفتازاني: أي يصحّ
إطلاقُ ما على ذي العقل وغيره عند الإبهام؛ لاستفهام أو غيره , فإذا علم أن الشيء
من ذوي العلم والعقل فرق بمن وما , فتختص (من) بالعاقل , و (ما) بغيره. وبهذا
الاعتبار يقال: إن (ما) لغير العقلاء. واستدل على إطلاق (ما) على ذوي العقول
بإطباق أهل العربية على قولهم: (مَن لِمَا يَعقل) مِن غير تجوّز في ذلك حتّى لو قِيل: (لمن يعقل) . كان لغوًا بمنزلة أن يقال: الذي عقل عاقل. فإن قِيل: كان الواجب هنا أن يفرق بما ومن؛ لأن ما يعقل معلوم أنه من ذوي العلم. قلنا: نعم , لكن بعد اعتبار الصلة , أعني (يعقل) . وأما الموصول نفسه فيجب أن يعتبر مبهمًا مرادًا به شيء ما ليصح في موقع التفسير بالنسبة إلى من لا يعلم مدلول
(من) وليقع وصفه بـ (يعقل) مفيدًا غير لغو.
ومحصله أنك إنْ لاحظْتَ العاقل مِن حيثُ إنه عاقل استعملت فيه: (من)
وإن لاحظته مِن حيثُ إنه شيءٌ ما استعملت فيه (ما) كما تقول: ما الإنسان؟ .
اهـ وأنت تعلم أن (ما) في السورة ليست لبيان أن مدلولها عاقل أو عالم , بل لبيان
أنه شيء معبود , فاستعمل فيه اللفظ العام الذي تفسره الصلة.
هذا , وإنني رأيتُ بعض الناس لا يفهمون معنى السورة , وقد سألني غير
واحد بالمشافهة عن معنى ما فيها من صورة التكرار , فأحببت أن أورد هنا ما كتبه
الأستاذ الإمام في تفسيرها تتمة للفائدة , وهو:
الكافر هو المعاند الجاحد الذي إذا رأى ضياء الحق أغمض عينيه، وإذا سمع
الحرف من كلمته سَدَّ أذنيه، ذلك الذي لا يبحث في دليل بعد عرضه عليه، ولا
يذعن للحجة إذا اخترقت فؤاده، بل يدفع جميعَ ذلك حُبًّا فيما وجد نفسَه فيه مع
الكثير ممن حوله، واستند في التمسك به إلى تقليد من سلفه، فهذا الصِّنْف هو الذي
قال الله فيه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ
فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ} (الأنفال: 22-23) .
بعض هذا الصنف بل الغالب من أفراده يقول للداعي إلى الحق أو يحدث نفسه
ليلهيها عن فهمه: إلامَ يدعونا؟ أإلى الله , فَنَحْن نعتقد به؟ أإلى توحيده فنحن نوحده؟
وغاية ما في الأمر نتخذ شُفَعَاءَ إليه، نسأله بحقهم عنده أو بمكانتهم لديه، أإلى
عبادته فنحن نركع ونسجد له؟ وغاية ما عندنا زيادة على ذلك أننا نعظم أولياءَه ,
وأهل الشفاعة عنده، ونتوسل إليهم ليتوسلوا إليه.
هذه وساوسهم , وهذه أَمَانِيُّهُمْ فأراد الله سبحانه أن يقطع العلاقة بينهم وبين ما
عليه الداعي إلى الحق صلى الله عليه وسلم بأصرح ما يمكن أن يصرّح به , فقال له:
{قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (الكافرون: 1-2) أي: إنّ الإله الذي
تزعمون أنكم تعبدونه ليس هو الذي أعبده؛ لأنكم إنما تعبدون ذلك الذي يتخذ
الشفعاء أو الولد أو الذي يظهر في شخص أو يتجلى في صورة معينة أو نحو ذلك مما
تزعمون , وإنما أعبد إلهًا منزهًا عن جميع ما تصفون به إلهكم {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا
أَعْبُدُ} (الكافرون: 3) أي: إنكم لستم بعابدين إلهي الذي أدعو إليه كما تزعمون،
فإنكم زعمتم أن الذي تعبدونه يتقرب إليه بتعظيم الوسائط لديه، فتوسلتم بها إليه،
وتعتقدون أنه يقبل توسطها عنده، فهذا الذي تعبدونه ليس الذي أعبد فلهذا لا
تعبدون ما أعبد , بل تعصونه وتخالفون أمره، ثم لما كانوا يظنون أن عبادتهم التي
يؤدونها أمام شفعائهم، أو في المعابد التي أقاموها لهم وبأسمائهم، أو يؤدونها لله في
المعابد الخاصة به أو في خلواتهم، وهم على اعتقادهم بالشفعاء - عبادة لله خالصة،
وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفضلهم في شيء نفى أن تكون عبادته
مماثلةً لعبادتهم , وأن تكون عبادتهم مماثلةً لعبادته , فقال: {وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} (الكافرون: 4) فـ (ما) هذه مصدرية وليست بالموصولة , مثل التي تقدمت
أي: ولا أنا بعابد عبادتكم {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الكافرون: 5) أي: ولا
أنتم عابدون عبادتي.
فمفاد الجملتين الأوليين الاختلاف التام في المعبود , ومفاد الجملتين الأخريين تمام الاختلاف في العبادة , فلا معبودنا واحد ولا عبادتنا واحدة، لأن معبودي ذلك الإله الواحد المنزّه عن النّدّ والشفيع، المتعالي عن الظهور في شخص معين، أو المحاباة لشعب أو واحد بعينه، الباسط فضله لكل من أخلص له، الآخذ قهره
بناصية كل من نابذ المبلغين الصادقين عنه، والذي تعبدونه على خلاف ذلك.
وعبادتي مخلَصة لله وحدَه، وعبادتكم مشوبة بالشرك مصحوبة بالغفلة عن الله
تعالى , فلا تُسمى على الحقيقة عبادة فأين هي من عبادتي {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) دينكم مختص بكم لا يتعداكم إليَّ , فلا تظنوا أني عليه أو على شيء
منه {وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) [*] أي: ديني هو دين خاصّ بي، وهو
الذي أدعو إليه، ولا مشاركة بينه وبين ما أنتم عليه، ولا يخفى أن هذا المعنى الذي
بيناه هو ما يهدي إليه أسلوب السورة الشريفة خصوصًا هذه الآية الأخيرة {لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) , فإنها صريحة في أن المراد: نفي الخلط المزعوم.
وما دلت عليه السورة هو ما دلت عليه آية {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ
مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) أي: لا علاقة بينك وبينهم لا في المعبود ولا في
العبادة. وأما ما قيل من غير ذلك فإن صحّ شيء مما وردَ فيه , فاحمله على معناه
مستقلاًّ عن معنى السورة , ولا تَغْتَرَ بكل ما يُقال , فأفضل ما تفهم هو أقرب ما
يفهم والله أعلم. اهـ
__________
(*) لفظ (دين) مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة لأجل الوقف.(11/348)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
النقوط
(س6) ومنه:
حضرة العلامة المفضال صاحب المنار الغراء.
بعد السلام والتحية - أرشدونا أرشدكم الله: (هل ما يسمى (النقوط)
المتعارف والمستعمل بين أفراد الأمة المصرية في الأفراح وما شابهها، سواء كان
ذلك بالنقدية أو ما يقوم مقامها - محلل أم محرم وما الدليل؟ أفيدونا مأجورين)
(ج) كل ما يبذل من المال بالرضا والاختيار تبرعًا فلا حَرَجَ على باذله , ولا
على المبذول له إلا أن يقصد به الإعانة على عمل محرم كالفسق والفساد في الأرض،
والنقوط لا يقصد به شيء من المحرمات فيما نعلم , وإنما هو إكرام من قبيل الهدية
والأصل في جميع التصرفات المالية الإباحة , فالقول بها لا يحتاج إلى الدليل , وإنما
يستدل على المحرم؛ لأن التحريم خلاف الأصل.
__________(11/351)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حديث من زار قبر والديه يوم الجمعة
(س7) من الشيخ أحمد شرف الدين بالأزهر:
حضرة الأستاذ السيد رشيد رضا المحترم.
سلامٌ على حضرتكم ورحمة الله. أما بعد.
فقد جمعني وجماعة من أكابر علماء الأزهر الشريف مجلس، فسمعت منهم
حديثًا لم أسمَعْهُ مِن قَبْلُ , وحيثُ لم أَرَ عليه بلاغة سيد العرب والعجم صلى الله
عليه وسلم ولحضرتكم سَعَة اطلاع على السّنّة الصحيحة أردْتُ عرْضَه على مسامع
سيادتكم حتى إذا كان صحيحًا أيَّدْتُمُوه ونشرتم ذلك بمناركم المضيء , وإن كان
ضعيفًا أو غير حديث أَوْضَحْتُمْ سَبِيلَه ولكم الفضل , والحديث هو: قال صلى الله
عليه وسلم: (مَنْ زَارَ قَبْرَ وَالِدَيْهِ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَكَأَنَّمَا حَجَّ، ومَنْ زَارَ أَحَدَهُمَا فَقَدْ أَتَى
بِعُمْرَة) وإذا صَحَّ هذا فلا لَوْمَ إذًا على مزاحمة النساء للرجال في زيارة القبور؛
لأن كلاًّ يريد أن يحج.
(ج) الحديث ظاهِرُ الوَضْعِ , ولم أَرَ مَن خَرَّجَهُ بِهَذَا اللفظِ , وقد عَلِمْت أنّ
مِن علامات الحديث الموضوع بناء الثواب الكبير على العمل القليل. وقال في
الفوائد المجموعة: حديث (مَن زار قبْر والديه أو أحدهما يومَ الجمعة غُفِرَ له)
في إسنادِهِ وَضَّاعٌ , وله شاهِدٌ في إسنادِه ضَعْفٌ. ورُوِيَ: (مَن زار قبر أبيه أو أُمّه
أو عَمّته أو خالته أو أحَد أقاربه كُتِبَ له حجّة مبرورة) ولا أَصْلَ له. اهـ
ولعله يَعْنِي بحديث الشاهد: (مَن زار قبر والديه أو أحدهما في كل يوم
جمعة غُفِرَ له وكُتِبَ بَرًّا) لِمَا فيه من الزيارة. عزاه في الجامع الصغير إلى الحكيم
الترمذي , عن أبي هريرة وَعلَّمَ عليه بالضعف , وفي إسناده محمد بن النعمان
مجهول , وشيخه يحيى بن العلاء الرازي البجلي متروك , بل قال الإمام أحمد: إنه
كان يَضَعُ الحديثَ؛ فهو موضوعٌ لا ضعيفٌ، ولا شَكَّ عندي في أنّ كل ما رُوِيَ
في هذا المعنى موضوع , اختلقه المختلقون بعد اعتياد الناس زيارةَ قبور الأقربين
في أيام الجُمَعِ , ولم يكن ذلك من سُنّة النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه
في شيء.
__________(11/351)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
زيارة الحرم النبوي
واستئذان ملك الموت على النبي
صلى الله عليه وسلم
(س8 و9) من محمد أفندي حلمي الكاتب الأول لمركز المسلمية (السودان)
حضرة سيدي الحسيب النسيب الفاضل الأفخم العلامة الكامل السيد محمد رشيد
رضا حفظه الله. عليكم منا السلام والرحمة والبركة والإكرام وبعدُ.
فأرجو من فضلكم وكرم أخلاقكم المشهورة الإجابة على السؤالين الآتيين،
وأرجو إن كان سبق لسيادتكم التكلُّم عنهما في مجلدات غابرة أن تجيبوني عليهما ,
وأكون ممنونًا جِدًّا لو تفضلتم وتكرمتم بدرجهما في أول عدد؛ لأهمية لزومهما عند
الجمهور خصوصًا في هذه الأصقاع , ولا خلاف بأن فضيلتكم أصبحتم مشهورين
بالعلم والفضل في جو علوم العربية , بل صرتم لنا من أركان الإسلام , والله على
ما أقول وكيل وهو حسبي ونعم الوكيل.
س (1) هل زيارة الحَرَم المدني سُنّة؟ وهل كل أحد مُكَلّف بزيارته بعد
الحَرَم المَكي؟
س (2) هل ملك الموت قد استأذن سيدنا محمدًا في قبض روحه الشريفة؟
وكيف كان ذلك؟ وهل صحّ أنه لم يسبق له أن استأذن على أحد قبله كما يزعمون
أو يذيعون؟
هذه هي أسئلتي يا سيدي , وقد أقنعت المجادلين لي في السؤال الأول نقلاً عن
إغاثة اللهفان للإمام الحجة ابن القيم فلم يقنعوا، وأما السؤال الثاني , فلم أتكلم عنه
بشيء لعدم معرفتي حقيقتَهُ , ولم أعثر في الكتاب المذكور على شيء بخصوصه ,
وجميع المجادلين لي أَبَوْا أنْ يقتنعوا حتى ينظروا جوابَكم بالمنار؛ لاعتقادهم فيه
وهم من الأهالي والمستخدمين. ومن المستخدمين مشتركون في مجلتكم الزاهرة
ولكن كَلّفوني أن أكتب أنا، وعلى أي حال فإننا ممنونون , وتَجِدُنا منتظرين بفارغ
الصبر أفندم.
زيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم
أما الجواب عن الأول , فهو أن زيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم
مندوبٌ إليه لا مفروضٌ على المسلمين كالحج كما يتوهم العوامُّ. وحَسْبُك في
الترغيب فيه قولُه صلى الله عليه وسلم: (صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ
صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) رواه أحمد والبخاري ومسلم , وغيرهم من
حديث أبي هريرة. وأحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عمر وغيره،
وقوله: (لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ , وَمَسْجِدِي هَذَا ,
وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبي
هريرة وأبي سعيد الخدري. ورواه غيرهم عنهما وعن غيرهما.
استئذان ملك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم
وأما الجواب عن الثاني , فهو أنّ الحديث في ذلك لا يَصِحُّ، ولا عبرة بسكوت
بعض أهل السِّيَرِ عليه , ولا بذكره في بعض الخُطَب التي قَلَّمَا تحرى أصحابها
الصحاح من السنن والآثار , بل أولع أكثرهم بالواهيات والموضوعات.
روى حديث استئذان مَلَك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم , وتخييره
بقبض رُوحِه الشريفة الطبراني في المعجم الكبير عن جابر وابن عباس في حديث
طويل قال المحدثون: إنه مُنْكَرٌ , في إسناده عبد المنعم بن إدريس اليماني القصاص
عن أبيه , عن وَهْب بن مُنَبِّهٍ. قال الإمام أحمد: كان يكذب على وهب بن منبه.
وأبوه إدريس متروك أيضًا , قاله الدارقطني. ورواه أيضًا من حديث الحسين بن
علي، وهو مُنْكَر أيضًا في سنده عبد الله بن ميمون القداح. قال البخاري: ذَاهِب
الحديث. وقال أبو حاتم: متروك.
__________(11/352)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الرد على كتاب لورد كرومر
(3)
صاحب الحق لا يسكت عنه وإن طال عليه الأمد، وإننا سننشر في المنار
بعض ما نكتبه في دفع هجمات اللورد فيما كتبه عن الإسلام ونودع جميع ما نكتبه
في مصنف خاص ونعتمد في أقواله على ترجمة المؤيد (مع تنقيح ما في العبارة)
فنبدأ بعبارته، ثم نقسم القول، ونرد على كل قسم منه بالتفصيل.
القسم الثاني
(كلامه في الإسلام والمسلمين)
قال اللورد في سياق الكلام في المقابلة بين الإنكليزي والمصري ما ترجمته:
قلت فيما تقدم: إن التقاليد الدينية هي من جملة الموانع الكائنة بين الإنكليزي
والمصري، فإن الإنكليزي على كونه أحد أفراد العائلة الأوربية من جهة التمدّن
العمومي. يحاول أكثر من كل أوربي آخر أن يصل إلى أسمى درجات الرقي من
التمدن المسيحي , أي: إنه يحاول أن يدخل نظام آداب مسيحي صريح (في المعاملة)
ويجعله قاعدة للعلاقات بين الرجل والآخر. يحمله على ذلك تلك المبادئ القديمة
التي جاءته من أسلافه، والدم البيوريتاني الذي لا يزال يجري في عروقه.
ومن الجهة الأخرى نرى المصري متمسكًا كثيرًا بدين الإسلام , وهو التوحيد
الشريف الذي ينوب فيه الإيمان إلى درجة قصوى عن الوطنية في البلدان الشرقية،
وهو وسيلة للاتحاد العام بين جميع المسلمين من دلهي إلى فارس , ومن الآستانة
إلى زنجبار؛ إذ يتحولون للصلاة نحو منبع دينهم وهو قبلتهم.
فما هي القواعد الأساسية لهذا الدين الذي أثر تأثيرًا عظيمًا في الجنس البشري؟
إنها مبينة في القرآن الشريف , وقد شرحها العلماء من جميع الأمم بلغات كثيرة ,
ولكن عظمتها الأصلية وسهولتها لم يبينا بأكثر بلاغة مما بينها به أتباع النبي الأولين
الذين انطرحوا عند قدمي ملك الحبشة المسيحي يطلبون حمايته له من اعتداء
عرب قريش؛ إذ قالوا: أيها الملك , كنا قومًا أهلَ جاهلية , نعبد الأصنام , ونأكل
الميتة , ونأتي الفواحش , ونقطع الأرحام , ونسيء الجوار , ويأكل القويُّ منا
الضعيفَ , فكنا على ذلك حتى بعث الله لنا رسولاً كما بعث الرسل إلى مَن قَبْلَنا ,
وذلك الرسول منا نعرف نسبَه , وصِدْقَه , وأمانته , وعفافه , فدعانا إلى الله تعالى
لِنعبدَه ونوحدَه ونخلعَ (أي: نترك) ما كان يعبدُ آباؤنا مِن دونِه مِن الأحجار
والأوثان , وأمرنا أن نعبدَ اللهَ وحدَه، أمَرَنَا بالصلاة والزكاة والصيام، وأمرنا بصدق
الحديث , وأداء الأمانة , وصلة الأرحام , وحسن الجوار , والكَفّ عن المحارم
والدماء , ونهانا عن الفواحش , وقول الزور , وأكل مال اليتيم , وقَذْف المحصنة،
فصدَّقْناه , وآمنا به , واتبعناه على ما جاء به.
هذه هي قواعد الدين الإسلامي، إن العمل بهذه القواعد قد أفاد مِئات الملايين
من الذين اعتنقوا الإسلام - وخصوصًا الفقراء بينهم - عزاء روحيًّا فضلاً عن النعم
المادية من خيرات هذا العالم وأمل الخلود في العالم الآتي، ولا ريْبَ أن الهيئة
الاجتماعية الأصلية تستفيد كثيرًا من اعتناق الدين الإسلامي، وقد قال السير جون
سيلي عما عرفه بقوله: (قوة الدين التي تنشئ الممالك) ما يأتي:
(أينما وجدت قبيلة بربرية قد رفعت نفسها يومًا ما حتى ارتقت عن حالها
الهمجية , ونالت بعض التقدم تجد أنها فعلت ذلك عادة بواسطة اعتناقها الدين
الإسلامي) . اهـ
ولسوء الحظ نرى أن المصلح العربي العظيم الذي قام في القرن السابع (يريد
به محمدًا صلى الله عليه وسلم) قد اضطرته دواعي مركزه يومئذ إلى القيام بأكثر
من تأسيس دين، إنه حاول أن يوجد نظامًا اجتماعيًّا، فكانت النتائج لهذا النظام هي
التي وصفها المستر ستانلي لاين بول - وهو الرجل الذي راقب مراقبةً دقيقةً ما في
الإسلام من وجوه القوة والضعف - إذ قال: (إن الإسلام عظيم من حيث كونه دينًا،
وقد علم الناس أن يعبدوا إلهًا واحدًا عبادة طاهرة، وقد كانوا مِن قبلُ يعبدون آلهةً
كثيرةً عبادةً غيرَ طاهرة، ولكن الإسلام أخفق إخفاقًا كاملاً بصفته نظامًا اجتماعيًّا) .
قال لورد كرومر: إنّ الأسباب التي أوجبتْ فشلَ الإسلام من حيثُ هو نظامٌ
اجتماعي متعددة.
(أولها) وأعظمها مكانةً أن الإسلام يجعل المرأةَ في مركز منحطّ جِدًّا.
(ثانيها) أن الإسلام بمراعاته التقاليد المحيطة بالقرآن أكثر من القرآن نفسه
جمع بين الدين والشرع، فجعلهما جزءًا واحدًا غيرَ قابِل للتفريق أو التغيير , فنتج
عن ذلك أن تلاشى من النظام الاجتماعي ما فيه من المرونة. فإن المصري حتّى
الآن إذا لجأ إلى الشرع في أمور الوصاية فإن قضيته يحكم بها بمقتضى المبادئ
الضيقة , التي وضعت لما يوافق أحوال الهيئة الاجتماعية الأولى في شبه جزيرة
العرب في القرن السابع.
ومنذ سنوات قليلة أي: سنة 1890 أوضح مُفتي الديار المصرية الأكبر كيف
تعاقب عصابات اللصوص التي يثبت ارتكابها لجريمة الاعتداء بالسلاح ليلاً على
إحدى القرى , فقال: إنه يمكن أن يعاقب المجرم على سِتّة وُجُوهٍ مختلفة: فإما أن
تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى , ثم يقطع رأسه , أو يشوه جسمه كما تقدم , ثم
يصلب بعد ذلك , أو أن يقطع رأسه فقط , أو أن يصلب فقط , أو أن يقطع رأسه
أولاً ثم يصلب بَعْدئذ. وأفاض المفتي في تقريره عن كيفية صَلْب المجرم , وهو أن
يربط الرجل إلى صليب في شكل معين , ثم يوخز بِحَرْبَة في الجانب الأيسر ,
وتبقى الحَرْبَة وهي تحز في محل الجرح إلى أن يموت.
ثم إن بعض المسلمين قد عمدوا بنية حسنة إلى تشويه الشرع المقدس؛ إذ
أقلقوا خواطرهم في اختراع وسائل يريدون فيها أن يبينوا أن مبادئ القرن السابع
الشرعية , ونظامه الاجتماعي يمكن تطبيقها على مجرّبات القرن العشرين المدنية ,
ولكن العادة المبنية على القانون الديني مؤيدة بالمغالاة في إكرام الشارع الأصلي قد
قيدت جميع المتعلقين بالإسلام بقيد من حديد لا سبيلَ إلى النجاة منه. ولقد قيل:
(إن الإنسان عاش في القرون الوسطى ملفوفًا بِقَلَنْسُوَةِ الكاهن) فالمسلم الصحيح في
الأيام الحاضرة ملتف بالشرع أكثر من الْتِفَاف الناس بِالقَلَنْسُوَةِ في القرون الوسطى.
(ثالثها) أن الإسلام لا يشجّع على الرِّقِّ , ولكنه يتساهل في الاسترقاق، فقد
قال السيد (أمير علي) : (إن محمدًا وجد تلك العادة سارية بين الوثنيين من العرب ,
فخفض من هذا الشر) ولكنه عجز عن إلغائِهِ تمامًا , أما أتباعه فقد تناسَوْا عدم
تشجيعه , وأجمعوا على إباحة الرق , وجعله عنوانًا لسلوكهم.
ويليق بنا أن نقول في هذا المقام: إن من الأمور التي تُوجب الخجل على
المسيحي أنه لم يَكْتَفِ قَبْل الآن بأن يستعبد العبيد بَلِ ارتكب أقبح من ذلك ,
فكان يتخطفهم، على أن الديانة المسيحية لم توافق مطلقًا على الرق.
وقد اشتهر أخيرًا أن الإسلام دين خالٍ من التسامح , وهي شهرة صحيحة من
بعض الوُجُوه , ولكن لا بُدَّ من تحديد وإيضاح لهذه التُّهْمَة العامّة. نعم , إن أتباع
النبي شهروا الحرب على الذين اعتبروهم مِن الكافرين , وقد علمهم دينهم أنه يجوز
استرقاق غير المؤمن مَتَى أخذوه أسيرًا في الحرب , وزِدْ على ذلك أنّ الخصام
الطائفي كان كثيرًا , فقام السُّنِّيُّونَ في وَجْه الشيعيين , واضطهد السنيون الوهابيين
بدون شفقة - على أن الخروج عن الإسلام يعاقب عليه بالموت , وقد كان هذا
العقاب ينفذ فعلاً منذ سنوات غير كثيرة. ونَرَى مِن الجِهَة الأُخْرى أن تواريخ
الإسلام لم يشوهها شيء من مثل تاريخ ديوان التفتيش , وزِدْ على ذلك أيضًا أن
المسلم إذا لم تؤثر في نفسه طوارئ خاصة مثيرة لعواطفه فهو لا يتأخر عن أن
يعامل اليهودي والمسيحي بتساهل يَشُوبُهُ شيء من الاحتقار. ففي قُرَى الصعيد لبث
الهلال والصليب والجامع والكنيسة جَنْبًا إلى جَنْب سنوات كثيرة.
ومع ذلك نرى الإسلامَ يميل إلى بَثّ رُوح عدم التساهل , وإنماء الحقد
والاحتقار لا للمشركين فقط , بل يشرك معهم جميع المؤمنين الذين لا يقولون: إن
محمدًا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أخذ يصنف الإسلام؛ فقال: إن المسلم منذ قرونٍ كثيرة ما برح يؤمر أن
ينتقم لنفسه مِن أعدائه , وأن يضرب من يضربه عينًا بعين , وسِنًّا بِسِنّ , وعليه
تجد أن الإسلام يختلف عن النصرانية في أنه يغرس في العقول أن الانتقام والكره
يجب أن يكونا أساسًا للعلاقات بين الرجل والآخر بدلاً من المحبة والإحسان.
ثم إن الإسلام يحدث بغضًا خاصًّا للذين لا يقبلون الدين الإسلامي. يقول
القرآن: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ
فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ
وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} (محمد
: 4) {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} (محمد
: 12) .
وقد علق اللورد على الآيات في ذيل الصحيفة قوله: ومن الجهة الأخرى تجد
في سورة البقرة قوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) , فالأقوال
المتناقضة الكثيرة وغير المتلائمة الموجودة في القرآن لا يمكن التوفيق بينها , ولعلّ
السببَ في ذلك هو أن تعاليم محمد كانت مبنيةً في الأكثر على الحوادث الجارية ,
وعلى أحوال شخصية في حياته.
نعم , إن محمدًا إنما أشار في طعنه على الكافرين بوجه خاصٍّ إلى الوثنيين
الذين أقاموا في زمنه في شبه جزيرة العرب , ولكن الذين فسروا القرآن بعد ذلك
جعلوا تلك المطاعن موجهة إلى المسيحيين واليهود , وهذا الذي يفهمه الآن جمٌّ غَفِير
من المسلمين. أليست كلمة الغازي - وهي أسمى لقب يطمع بإحرازه أي ضابط في
جيش السلطان - معناها: مَن يحارب في سبيل الإسلام , والبطل الشجاع الذي يذبح
كافراً؟ ألا نجد أن كل عالم ألقى الخُطْبَة في الجامع يستنزل غضب الله على رءوس
غير المؤمنين بصراحة واضحة في كل زمان , وبصراحة تزداد كثيرًا عند وجود
ظروف تضرم شعلة التعصب؟ ألا يجب أن تعتبر كل بلاد غير إسلامية (دار
حرب) ؟ فَمَتَى علمنا أن مثل هذه المبادئ ما برحت تغرس في أذهان المسلمين كل
القرون الماضية لا نجد باعثًا على الدهشة من نمو رُوح عدم التساهل فيهم.
ثم قال بعد الامتنان على المصريين بإعطاء الإنكليزي لهم ما لا طيانهم وترقيته
لعقولهم وآدابهم:
ومع ذلك فإن المسلم المصري - مع أنه يكره الباشا التركيَّ , ويخافه إلى حد
أنه يدرك الفوائد التي أجزلها له الإنكليزي ويعترف بسموّ مداركه وكفاءته - فهو
على كل ذلك لا يقدر أن ينسى أن الإنكليزي يلبس على رأسه برنيطة وهو يلبس
طربوشًا أو عمامة. ومع أنه يقبل المنافع بمزيد الارتياح , فهو يذكر دائمًا أن اليد
التي منحتها ليست يد مسلم , وهذا الأمْر يؤثر في نفسه أكثر من كون الإنكليزي
أجنبيًّا عنه. مهما بذل الإنكليزي مِن وسائط التودد والعقل فهو عاجز عن هدم هذا
الحاجز الحصين - وهنا نقل اللورد قول المستر بانري: الإسلام هو كل شيء
للفلاح , وهو يعتبر غير المؤمنين فئة قليلة حقيرة، ولا يمنعه عن الفتك بهم وإعلان
ميزة الإسلام إلا حقيقة مكدرة له هي أنه ليس في الإمكان الفتك بهم الآن.
وليس هذا وحده الحائل بين الفريقين، فانظر إلى البدع الرئيسية , وحوادث
العبادة الإلهية المقارنة للإسلام وما يعارضها في النصرانية. وابحث في النتائج التي
تلي تحقير المرأة، وقابل بين الشرقي الأسمر والغربي الأبيض في القُوَى العقلية
والأدبية والعادات والفنون , وعلم البِنَاء واللغة , والملبس والأذواق، تجد أن الفرق
بين الفريقين أبعد مما بين الخافقين. حتى إنك لَتَجِد في أقلّ الأمور شأنًا في أعمال
الحياة باعثًا غير محسوس , ولا يعرف سببه من شأنه أن يدفع الشرقي إلى جهة
مشاقته للغربي مع اتفاق أحوال الفريقين. فالمسيحي يتعلق بأهداب أمل أن يلقى في
السماء أولئك الذين رافقهم في الأرض , وهذا الأمل من جمل مظاهر دينه وأكثرها
عزاءً له , وأما اعتقاد المسلم بالخلود فيختلف اختلافًا تامًّا عن اعتقاد المسيحي؛ لأن
الحُوريات اللواتي يرجو المسلم نيلهن في الجنة لم يسبق لهن وجود في هذا العالم.
والمسيحي يصلي طالبًا الحصول على بعض أمور، أو أن يتمكن من إتمام أغراض
معينة , وأما المسلم فهو على العموم يلفظ صلاة مرتبة معينة , ويندر أن يطلب في
صلواته طلبًا معينًا.
المسيحي يصلي صلاته اليومية في الخَفَاء , وأما المسلم فإنه يصلي جهارًا بين
الناس , وليس لديه شيء من الخَجَل الكاذب دون اعترافه جهارًا أنه معتمد على الله
في جميع أعماله وأموره. قال المطْرَان ستانلي بعد أن دَرَسَ الأديان الشرقية: إن
الله موجود عند المسلمين وُجُودًا يندر مثله عندنا في وسط العجلة الغربية وما يَشُوبُها
من الارتباك.
ومتى صام المسيحي فهو يعمل باعتدال نهارًا وينام ليلاً , وأما المسلم فهو في
صيامه ينقطع عن الأكل والشرب والتدخين , ولكنه إذا جاء الليل تمتع بكل ذلك
بدون ضابط.
ثم إن الديانة المسيحية تنشط الفنون وتستفيد منها , وأما الديانة الإسلامية فإنها
تكسر الصور والتماثيل , وهي تحرم الصور وصناعة النقش والنحت إذا كانت تمثل
شخصًا حيًّا , وأما الموسيقى فلا يُسْمَعُ لها صوتٌ في جامع.
قد يكون المسيحي نظيفًا بعض الأحيان اعتقادًا منه أن النظافة نافعة لصحته
وراحته , وعنده أن النظافة تلي التقوى , ولكنه لا يوجد جامعة بين الأمرين , وأما
المسلم فهو نظيف على شكل معين؛ لأن دينه يأمره بذلك.
ثم انظر الآن إلى صفات الفريقين العقلية والأدبية تجد الفَرْق بينهما ظاهرًا.
ثم بَيَّنَ فروقًا أخرى بين المصري والأوربي , والغربي والشرقي تحتمل
المناقشة , ولكنه لم يستنبطها من الدين فنتركها له إلا قوله في إنصاف الإسلام:
وعلى ذكر الشرقي وصفاته ورِقَّة قلبه أقول: إن ما يزعج السائح في مصر
من معاملة الحيوانات بقساوة لا يزيد على ما يرونه في جنوبي أوربا، ولعلها كما قال
(لاين) في سنة 1835: ليست غرسًا منتظم النمو , ولكنها ناشئة عن معاشرة
الطبقات السافلة من الأوربيين , فإن الدين الإسلامي يوصي بالحيوان خيرًا؛ فقد قال
بوسرت سميت: لا يوجد دين اهتم بحياة الحيوان أعظم من اهتمام الدين الإسلامي
به؛ فقد وَرَدَ في القرآن: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ
أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (الأنعام: 38) .
وكما أنصف في هذه جار وظلم في أخرى بعدها لكن عن سوء فهم لا سوء قصد
فقد ذكر قدرة الأوربي على التنظيم وإخضاع الحوادث ومناقشة الرؤساء , ثم قال:
فقابل هذه المزايا بما في الشرق من الضعف في التنظيم واعتقاده بالقضاء والقدر
الذي يجعله قابلاً لما لا بُدَّ منه، وكذلك خضوعه لكل سلطة تتولى أموره.
ثم استشهد على ذلك بمثل حادثة (مفتحجي) سكة الحديد التي ذكرناها في أول
القسم الأول من الرّدّ عليه. وذكر أيضًا أنه سأل شيخ الأزهر: هل يُعلمون الطلبة
فيه أن الشمس تدور حول الأرض , أم العكس؟ فأجاب بأنه لا يدري. قال اللورد:
وقد منعه أدبه الطبيعي عن التصريح لي برأيه في الكافرين كيلر وكوبرنكوس
وتعاليمهما , إلخ.
(للكلام بقية)
__________(11/354)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
القرآن والعلم
(3)
تفسير من اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب
في رد الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز [1]
(المسألة الثامنة)
(موت سليمان)
قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ
تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ
المُهِينِ} (سبأ: 14) اعلم أنه كثيرًا ما يحدث أن الإنسان إذا لَحِقَه الموت فجأة
عقب انفعال عصبيّ ومجهود جسمانيّ يحصل له تيبس في الحال في جميع أجزاء
جسمه بحيث يحفظ بعد وفاته هيئته وشكل جسمه قبل الممات، ويبقى على هذه
الحالة من بضع ساعات إلى يومين فأكثر، وخصوصًا إذا كان الجو باردًا , وتسمى
هذه الحالة في كتب الطب باللغة الإنكليزية Spasm Cadaveric أي:
تيبس الموت.
ولذا يشاهد في بعض الحروب أن بعض العساكر يموت ويبقى واقفًا مستندًا
على بندقيته كأنه حي إلى أن يبتدأ التعفن في الجثة , فتزول يبوستها وتسقط.
فالظاهر أن سليمان عليه السلام كان واقفًا بعد مجهود جسماني عقلي مستندًا
على عصاه {مِنسَأَتَهُ} (سبأ: 14) ففاجأه الموت، فحصل له ما يحصل لغيره ,
وبقي قائمًا كأنه لم يَمُتْ فشاهدت الجن أنه لا يبدي حراكًا، ولا يظهر عليه أنه يتنفس
لعدم تحرك صدره؛ فداخلهم شك في حالته , وربما اجتمع على وجهه الذباب فلم
يطرده عنه , فازداد شكهم , ثم دخلت فأرة (وهي من دواب الأرض) وأخذت
تلعب حوله , وأخيرًا بدأَتْ تقرض عصاه والجنُّ إلى ذلك ينظرون فيتعجبون ,
ولكنهم خافوا أن يتركوا أعمالهم المكلفين بها , أو أن يظهروا شكهم في حياته، ولبثوا
على هذه الحالة مترددين بِضْعَ ساعات أو يومًا أو يومين.
فلما حركت الفأرة العصا التي أخذت تقرضها عن موضعها قليلاً اخْتَلّ
التوازن فسقط على الأرض وَبِذَا أَيْقَنَتِ الجِنُّ أنه كان ميتًا , وأن اشتباههم كان في
محله. ولو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا لحظةً بعد وفاته قائمين بأشغالهم الشاقة ,
ولعرفوا الوفاة حين حدوثها بلا تردد. ولفظ (لبث) يستعمل في الزمن القليل والكثير
كقوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ
عَامٍ} (البقرة: 259) .
فهذا هو التفسير الصحيح لهذه الآية الذي ينطبق على العلم، ولا يوجد في تاريخ
سليمان ما ينافيه.
* * *
(المسألة التاسعة)
(الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (ص:
34-35) معنى هذه الآية: أن سليمان لَمّا وَرِثَ أباه داود في مُلْكِهِ سأَلَ اللهَ أنْ يرزقَه
وَلَدًا لِيَرِثَهُ مِن بَعْدِ مَوْتِهِ , ولِيَبْقَى المُلْكُ في نَسْلِه , فاختبره الله تعالى , ولم يجب
دعاءَه في أول الأمر إلا بإعطائه ولدًا ناقص الخلقة (كأن يكون لا رأسَ له ولا مخَّ ,
أو نحو ذلك مما يحصل أحيانًا لبعض المولودين) ولما كان هذا المولود أقرب إلى
الميت منه إلى الحي المدرك سمّاه الله جسدًا كأنه لا رُوحَ له , فلمّا وجد سليمان أن
مَن رزقه الله ليخلفه في كرسيه عَدَمُهُ خَيْرٌ مِن وُجُودِهِ ضَجِرَ، وتألَّمَ، ولَمْ يَشْكُرِ اللهَ
على كل حال , ولكنه لم يلبث إلا قليلاً ورجع إلى الله يستغفره على ما فرط منه ,
ويرجوه العفوَ عن عدم رضائه بِما قضاه تعالى , وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي
مُلْكاً لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} (ص: 35) أي حيثُ إنك لم تَرْزُقْنِي بِمَن يَرِثُني
في هذا المُلْك فوسعه علي، وزدني سلطانًا , ومتعني بما لا يصل إليه أحد من الملوك
بعدي حتى تعوضني بذلك ما حرمتني من النَّسْل الصالح , فاستجاب الله دعاءَه ,
وسَخَّرَ له الريحَ , وسَلَّطَه على الجن والإنس والطير , وبعد ذلك رَزَقَه الله تعالى أيضًا
بمن يرثه (وهو ابنه رحبعام) ولكنه كان ضعيف العقل سَيِّئ التدبير , رديء
السياسة حتى خرجت عليه عَشَرَةٌ من أسباط بني إسرائيل، ووقع الانقسام بينهم
في عهده.
فمما تقدم تعلم أن قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ} (ص: 34)
معناه ذاك المولود الناقص , وهو أول مَن رُزِقَه , وقال: ألقيناه على كرسيه؛ لأنه
بمنزلة ولي عهده كما يقولون الآن , وتقول العرب: (أُلْقِيَ الليلةَ على كرسي
الفرس مولودٌ) مثلاً إذا رزق كسرى بالولد الذي يرثه في ملكه، ويجلس على كرسيه
من بعده.
وهذا التفسير هو الذي كان يفهمه العرب من هذه الآية؛ ولذلك ورد في بعض
الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها ما يقرب منه , ولولا حَشْوُ مفسرينا
الإسرائيلياتِ في تفسير الكتاب العزيز ما فَهِمَ أحدٌ منها خلافه؛ فاحذر مما قالوه , ولا
تَعْبَأْ به، فإنه مَثَارٌ لشبهات كثيرة.
* * *
(المسألة العاشرة)
(اللؤلؤ والمَرْجَان)
قال الله تعالى: {مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن: 19-22) , فقال كثير
من الناس: إن اللؤلؤ والمَرْجَان يخرجان من البحر المالح, ولا يوجد منهما شيء في
البحر الحلو.
واعلم أن اللؤلؤ يخرج من كثير من الأنهار , ويوجد في بلاد أوستراليا أنهار
مشهورة باستخراج الصدف واللؤلؤ منها؛ وهاك أسماء بعضها:
نهر هنتر Hunter , وكلارنس Clarence , وكوك Cook's , وكليد
Clyde , وغيرها، وهي موجود في ولاية ويلز الجنوبية الجديدة
Wales South New من أوستراليا.
* * *
(المسألة الحادية عشر)
(السماء في القرآن)
السماء: من سَمَا، أي: ارتفع , فالسماء في اللغة كل مرتفع فسقف البيت سماء
والسحاب سماء , والكواكب سماوات والفراغ اللانهائي الذي فوق رءوسنا هو
سماء أيضًا , وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الشريف بعِدَّةِ مَعَانٍ تُعْرَف من السياق ,
وتفسر في كل مقام بحسبه , وإن اشتركت كلها في معنى الارتفاع والسمو. وكذلك
يوجد في اللغة العربية ألفاظ كثيرة تُستعمل في مَعَانٍ مختلفةٍ لا يعينها إلى السياق.
مثلاً (لفظ) نَجْم يُسْتعمل في الكوكب , وفي النبات، فمثال الأول: {وَالنَّجْمِ إِذَا
هَوَى} (النجم: 1) ومثال الثاني: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن: 6)
والمقام هو الذي عين كلا من المعنيين , ويسمى هذا النوع من الألفاظ بالمشترك.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن لفظ السماء إذا ورد في القرآن يجب أن يعرف معناه
من المقام , ويجب أن لا يحمل في جميع المقامات على معنى واحد مثلاً في قوله
تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} (الرعد: 17) معناه: السحاب؛ ولذلك قال في
آية أخرى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الوَدْقَ} (النور: 43) (أي: المطر) {يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (النور: 43) الآية ,
وفي قوله: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} (الحج: 15) يعني: سقف البيت , وفي
قوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ} (الرحمن: 7) معناه: الكواكب. والألف
واللام هنا للجنس , وكذلك في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ
بَنَيْنَاهَا} (ق: 6) أي: جعلنا أجزاءَ كل منها متماسكة , ثم هي في مجموعها
متجاذبة بعضها إلى بعض كالبُنْيَان يشُد بعضه بعضًا {وَزَيَّنَّاهَا} (ق: 6) بأن
جعلنا أشكالها جميلة مستديرة , وأن بعضها مع بعض لها منظر بهيج , ثم أضأناها
بالأنوار الذاتية أو المنعكسة عليها من غيرها {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) أي:
شقوق , فلا ترى كوكبًا منها به كسور أو منشقة أجزاؤه أو متفرقة , فهو كتأكيدٍ لِقَوْلِه:
{بَنَيْنَاهَا} (ق: 6) وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} (الملك: 5) السماء الدنيا معناها الجو , أو الفراغ
المحيط بنا القريب منا , وهو المزين بالكواكب , وأما ما وراءه من الفراغ اللانهائي ,
فليس به زينة ولا شيء , وجعلناها رجومًا للشياطين بانقضاض الشهب منها لإهلاكهم
كما في قوله: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} (الصافات: 10)
وهذه المسألة لا يوجد في العلم الطبيعي الآن ما يصدقها , ولا ما ينفيها , وغاية
الأمر أنها غير معروفة له , فنحن نصدقها لإتيان النبي الصادق بها , وقد ثبتت
نبوته عندنا بالبراهين القاطعة كما أوضحناه في مقالات الدين في نظر العقل
الصحيح.
وقوله: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً} (الملك: 3) المراد به: الأجرام
السبعة العلوية المشهورة التي كانت تعرفها العرب، وتراها بأعينها وهي القمر
وعُطَارد والزهرة والشمس والمِرِّيخ والمُشْتَرِي وزُحَل.
وإنما خصّ هذه السبعة بالذكر؛ لأنها أكبر ما تعرفه العرب وأكبر ما
تشاهده , وإلا فالأجرام السماوية العظيمة أكثر من سبعة.
وليس في القرآن الشريف ما يدل على الحصر. على أن بعض علماء اللغة
قالوا: إن العرب إذا أرادت المبالغة في العدد تأتي بلفظ سبعة , وما ركب منها
كالسبعين والسبعمائة , واستشهدوا على ذلك بنحو قوله تعالى في وصف جهنم:
{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} (الحجر: 44) فإن المقام مقام
تهويل لا يناسبه إلا ذكر العدد الكبير. وإن لم يكن لِجَهَنَّمَ سوى هذه الأبواب السبعة
اقتضى المقام عدم ذكر العدد هنا بالمَرّة؛ لقلته، فلو لم يكن لفظ السبعة يستعمل عندهم
في مطلق الكثرة لَمَا ذكره هنا؛ ولذلك قال أئمة المفسرين في مثل هذه المواضع:
إن العدد لا مفهومَ له , ومثل ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ
أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (لقمان: 27) .
قد يقول قائل ما بالك تَذْكُرُ هنا في تفسير السماوات السبع القمر والشمس مع
أن القمر تابع للأرض , والشمس هي مركز العالم والسيارات تدور حولها , ومنها
أرضنا هذه. ونقول: إن هذه المسائل الفلكية لم يتعرض لها القرآن هنا في مثل هذه
الآية , وغاية ما ذكره أن الله خلق سبع سموات طِبَاقًا , وقلنا: إن الأجرام التي
خلقها الله هي عالية بالنسبة لنا؛ فهي سموات وهي سبع طباق , بعضها فوق
بعض بالنسبة لنا أيضًا , فلا دَخْلَ لِذلك في كون بعضها تابع لغيره [1] فإن هذه
المسائل لا علاقة لها بتفسير الآية كما لا يخفى على ذِي عقل.
ويستعمل لفظ السماء في اللغات الإفرنجية أيضًا في عِدَّة معانٍ مختلفة , ففي
الإنكليزية لفظ Heaven قد يُرَادُ به السحاب أو الجوّ أو الذات العليّة أو الجنة أو
غير ذلك , والمقام هو الذي يعين هذه المعاني المختلفة كما هو المعهود في اللغة
العربية.
* * *
(المسألة الثانية عشرة)
(الأرض والجبال)
قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ
الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} (الطلاق: 12) , وقال: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} (النحل: 15) , وقال: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} (النبأ: 7) .
لم يذكر في القرآن أن الأرض سبع إلا في الآية المذكورة هنا , ولم يذكر فيه
مطلقًا لفظ الأرض بالجمع ولا في الآية السابقة بخلاف السماء فإنها ذكرت بالجمع
في أكثر المواضع , فالظاهر أن الأرض شيء واحد ولكنها ذات طبقات سبع؛ فلذا
قال هنا: {وَمِنَ الأَرْضِ} (الطلاق: 12) (بالإفراد) {مِثْلَهُنَّ} (الطلاق:
12) أي: في العدد , وهي كونها سبعًا , وفي كونها طباقًا , ويجوز أن تكون طبقاتها
أكثرَ من سبع , وإنما خَصّ هذه بالذكر لِكَوْنِهَا الطبقات الأصلية أو الأساسية , فإن
الآية لا تدل على الحصر , فلا مانِعَ مِن أن يكونَ بعض هذه الطبقات الأصلية مركبًا
من طبقات أخرى , وقد يكون لفظ (سبع) لا مفهوم له , ومستعمل هنا للدلالة على
الكثرة فقط , كما بيناه سابقًا في مسألة السموات.
وقوله: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} (لقمان: 10) . تميد
مِن مَادَتِ السفينةُ؛ أي: مَالَتْ واضطربت , فمعنى الآية: أن الله أثقل الأرض
بالجبال لِمَنْعِهَا مِن الميدان والتزلزل الدائم , وذلك أن الجبال بوجودها في بعض
الجهات جعلت ثقل الأرض في جميع الجهات متساويًا بالنسبة إلى المركز , فإذا
دارت الأرض حول مركزها لا يحصل أدنى اضطراب فيها , ولو كان بعض جهاتها
أخف من البعض الآخر لشعرنا بالاهتزاز يوميًّا من حركة الأرض حول محورها.
وأيضًا فإن الجبال بثقلها العظيم على الأرض , وبما امتد من قواعدها
من الشعب الصخرية كونت طبقة حجرية عظيمة تقي ما بين الجبال من الوديان من
انفجار باطن الأرض الملتهب , ونسف قشرتها أو زلزالها الدائم , ولا يخفى أن
أغلب الأراضي المسكونة إنما هي في الحقيقة وديان بين جبال. فلولا الجبال
لتوالت الزلازل، ولما هدأ للبشر جميعًا بَالٌ، ولما كان حدوث الزلازل نادرًا كما هو
الآن، وحاصلاً لبعض البشر دون بعض.
وقوله: {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} (النبأ: 7) هو كقوله بعده: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ
لِبَاساً} (النبأ: 10) أي: كاللباس في الستر. فالمعنى: أن الجبال كالأوتاد
المغروسة في الأرض , وإذا لاحظنا أن الأرض تجذبها من جميع نقطها إلى مركزها
كما تشد الأوتاد بالحبال المربوطة بها أدركنا ما بينهما من الشبه العظيم , وفهمنا
نكتة هذا التشبيه. وكما شبه الله تعالى الجبال هنا بالأوتاد كذلك شبه الأهرام المصرية
بها في قوله: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ} (الفجر: 10) .
* * *
(المسألة الثالثة عشرة)
(تفسير آيات عدم صلب المسيح)
قال الله تعالى] وَقَوْلِهِمْ [أي: اليهود {إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ} (النساء: 157) قالوا ذلك تهكمًا , والمسيح معناه عندهم الملك؛ لأنهم كانوا يمسحون ملوكهم بالزيت عند توليتهم , وسمي عيسى مسيحًا؛ لأنه كملك رُوحَانِيّ استولى على قلوب الناس ونفوسهم , وخلصهم من عاداتهم الرديئة , ومن أسر التقاليد والأوهام والعقائد السخيفة ورقى نفوسهم , وأصلح أمورهم، فهو كالملوك العظام الذين كانوا يأتون اليهود , فيخلصونهم من الأسر والبلايا , ويرقون شئونهم ككورش ملك فارس الذي تقدم ذكره وكانوا يسمونه هو وغيره من الملوك النافعين لهم بالمسيح , وكانوا يتوهمون أن
المسيح سيأتي , ويرد لهم ما فقدوه من المجد والسلطان (عيسى) تعريب لفظ يشوع
ومعناه المُخَلِّص، وهو علم مشهور عند اليهود , وسمي به كثيرون قبل المسيح بينهم كيشوع خليفة موسى عليهما السلام ,وكانوا يتفاءلون بهذا الاسم ويرجون أن يكون لهم بشرى خير لخلاصهم مما كانوا فيه من الرزايا والمصائب.
{ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157) أي: اشتبه عليهم الأمر فأخذوا واحدًا يشبهه ظانين أنه هو المسيح , وصلبوه وقتلوه.
واعلم أن وجود أشخاص متشابهين في الخلقة أمر مشاهد معروف , وقد يكون
الشبه تامًّا بحيث يخدع به أهله وذووه فما بالك إذا كان القابضون على المسيح
ما كانوا يعرفونه , ولا الذين حاكموه , ولا الذين حضروا تنفيذ الحكم , فقد فرّ
تلاميذُه من حوله وهربوا , وكل ذلك صريح في نصوص العهد الجديد.
ويوجد في كتب الطب الشرعي حوادثُ كثيرةٌ في باب تحقيق الشخصيات دالّة
على أنه كثيرًا ما يحدث للناس الخطأ في معرفة بعض الأشخاص , ويشتبهون عليهم
بغيرهم وقد ذكر (جاي) و (قرير) مؤلِّفَا (كتاب أصول الطب الشرعي) في
اللغة الإنكليزية حادثة استحضر فيها 150 شاهدًا لمعرفة شخص يدعى (مارتين
جير) فجزم أربعون منهم بأنه هو هو , وقال خمسون: إنه غيره , والباقون ترددوا
جدًّا , ولم يمكنهم أن يبدوا رأيًا , ثم اتضح من التحقيق أن هذا الشخص كان غيرَ
مارتين جير , وانخدع به هؤلاء الشهود المثبتون , وعاش مع زوجة مارتين محاطًا
بأقاربه وأصحابه ومعارفه لمدة ثلاث سنوات , وكلهم مصدقون أنه مارتين , ولما
حكمت المحكمة عليه لظهور كذبه بالدلائل القاطعة استأنف الحكم في محكمة أخرى ,
فأحضر ثلاثون شاهدًا آخرون , فأقسم عَشَرَةٌ منهم بأنه هو مارتين , وقال سبعة:
إنه غيره, وتردد الباقون، وقد حدثت هذه الحادثة سنة 1539 في فرنسا، وأمثالها
كثير.
وقد بلغ شبه بعض الأشخاص لغيرهم أن وجد فيهم بعض ما يوجد في غيرهم
ممن شابههم من الكسور أو الجروح أو آثارها، وغير ذلك حتى تعسر تمييز بعضهم
عن بعض , ولذلك جدّ الأطباء في وضع مميزات لأشخاص البشر المختلفين.
فإذا كان الأمر كذلك فهل في حادثة المسيح أدنى غرابة؟
ثم قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ
اتِّبَاعَ الظَّنِّ} (النساء: 157) كما في الحادثة التي سبقت , ولذلك اختلفت طوائف
النصارى قديمًا وحديثًا في هذه المسألة , واختلف فيها ما وجد عندهم من الكتب كما
بيناه في موضع آخر. ولو كانت حادثة الصَّلْب يقينيةً لَمَا وقعَ فيها ما وقع من
الاختلاف بينهم.
{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (النساء: 157-158) أي: إنه لم
يقتل , ولكن توفّاه الله، ورفع روحه إليه , وأسكنها عنده في جنان النعيم , كما قال
في آية أخرى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (آل عمران:
55) , وكقوله تعالى حكايةً لقول المسيح عن نفسه في الآخرة: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي
كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (المائدة: 117) فالرفع هنا رُوحاني معنوي , وكذلك
وَرَدَ الرفع في القرآن في مواضع كثيرة في الأمور المعنوية. قال تعالى: {وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة: 253) , وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ
إِلَى الأَرْضِ} (الأعراف: 176) , فمعنى الآية: أنهم لم يقتلوه , ولكن الله هو
الذي قبضه إليه بدون أن تصل إليه أيدي الأعداء بالسوء , ورفع روحه إلى جنته ,
وأسكنه بجواره , وذلك كله على حد قوله في مواضعَ أخرى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران: 169) أي:
تتمتع أرواحهم في الجنة. وقوله: {إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ
عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر: 54-55) , فكل هذه العبارات: كـ (عند الله) ,
و (رفعه الله إليه) , ونحوها مستعملة في معانيها المجازية لا الحقيقية.
فالظاهر أن المسيح عليه السلام ذهب إلى جهة من الجهات , أو جبل من
الجبال فتوفاه الله هناك , ولما ذهبوا ليقبضوا عليه وجدوا شخصًا يشبهه فاغتروا به
فأخذوه، وقتلوه، وصلبوه.
ولعلّ هذا الشخص هو يهوذا الإسخريوطي , وكان يقصد خيانة المسيح ,
وأن يقبض عليه , ويسلمه، فوقع فيما كان يدبره لسيده , فاشتبهوا فيه، وأخذوه
أخذًا وَبِيلاً , وأما المسيح فكان قد توفّاه الله , وأنجاه من مثل هذا العذاب.
وذهاب بعض الأنبياء إلى بعض الجبال ووفاتهم بها أمر معهود , كما وقع
لموسى عليه السلام (راجع سفر التثنية 34: 1 - 6) .
ثم قال الله تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} (النساء: 159) أي: إن كل شخص من أهل الكتاب لا بُدَّ عند
وفاته أن تتضح له الحقيقة , فيؤمن بالمسيح كما جاء به القرآن , وليس معناه أنهم
يؤمنون به عند نزوله يوم القيامة كما هي عقيدة النصارى؛ فإن الآية صريحة في
أن كل شخص منهم سيؤمن به , وأما عند نزوله فلا يؤمن به إلا الذين يحضرونه،
وهو خلاف نص الآية.
واعلم أن المسلم لا يجب عليه الإيمان بأنه سيجيء يوم القيامة , والظاهر أن
هذه عقيدة سَرَتْ من النصارى إلى المسلمين. ولم يأت بها القرآن. والأحاديث لا
يؤخذ بها في العقائد إلا إذا تواترت، وليس في هذه المسألة حديث متواتر.
وأما قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} (الزخرف: 61) ,
فمعناه أنه لدليل على قدرة الله على البعث , فإن الذي خلقه بلا أب , والذي أحيا
الموتى على يديه قادر على إحياء الموتى يوم القيامة , وهذه الآية كقوله:
{وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 91) .
ولقائل أن يقول: إذا كان المسيح مات وتفرق تلاميذه من حوله بسبب أعمال
اليهود , وكانوا قليلي العدد؛ فما معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ
نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى
عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (الصف: 14) , ونقول: أما في عصر المسيح عليه
السلام فقد كانوا مؤيدين بقوة اليقين والإيمان ظاهرين على أعدائهم بالحُجّة والبُرْهان,
وبما يظهره الله تعالى على يده من المعجزات والآيات البينات , وأما بعد وفاته فقد
سلّط الله الرومانيين على اليهود , فشتتوهم في أقطار العالم , وخربوا مسجدهم
المقدس , ولم يصب المسيحيين في أثناء ذلك أدنى أذى، ثم صاروا ينتشرون في
الأرض ويزداد عددهم شيئًا فشيئًا حتى دخل قسطنطين في المسيحية , وصارت
ديانتهم هي الديانة الرسمية للدولة الرومانية، وبذلك تمّ لهم الظهور على أعدائهم
اليهود , ولا يزالون كذلك إلى الآن كما قال تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ
فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ} (آل عمران: 55) , وإنما عبر تعالى بالفاء
في قوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (الصف: 14)
مع أن ظهورهم الماضي لم يظهر إلا بعد مُضِيّ سنين طويلة؛ لأن سنيننا هنا هي
عند الله كلحظات {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: 47)
{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} (المعارج: 6-7) وغلوّ المسيحيين في
بعض معتقداتهم , وتأليههم لنبيهم لا ينافي أنهم مؤمنون به؛ فلذا وصفهم الله
تعالى بالإيمان في هذه الآية كما وصفهم به في آيات أخرى كقوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} (الحديد:
28) الآية. فلا منافاة بين الغلوّ في العقيدة وبين أصل الإيمان.
(للمسائل بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي.
(2) حاشية - من تذكر أن لكثير من السيارات توابع كالقمر بالنسبة للأرض، وهذه التوابع أو الأقمار تضيئها , فهم معنى قوله تعالى: [وَجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً] (نوح: 16) , فإن الألف واللام هنا تصحّ أن تكونَ للجنس لا للعهد , والمعنى: أن الله جعل الأقمارَ أنوارًا تضيء بها السموات.(11/361)
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
__________
السنن والأحاديث النبوية
بحث العمل بالحديث وبحث التواتر
يقول حضرة الدكتور: أنا لا أنكر ما للأحاديث من الفوائد , ثم قال: ولكن ذلك
لا يوجب العمل بها على المسلمين، ولا يلحقها بالقرآن الشريف.
الدين الذي يكفر منكره شيئان: القرآن وما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ونقول إن الله - جل شأنه - أرسل رسلاً أوجب على عباده تصديقهم واتباعهم
في كل ما أرسلوا به , وليس من شرط الرسول أن يأتي بكتاب من عند الله.
وبعبارة أخرى: لم يقُلْ أحد من العقلاء بعد ثبوت رسالته: إنه يجب على الله أن
ينزل عليه كتابًا يقرأه، أو كلامًا يتلوه بلفظه - بل عرفوا الرسول بأنه بشر أوحي
إليه بشرع , وأمر بتبليغه سواء كان التبليغ والبيان بالقول أم بالفعل , على أن القول
مقدم على الفعل ومعرفة الشرع بالقول أكثر منه بالفعل , والله - جل شأنه - لم
يخصص طريقًا ولا طرقًا معينة لحملة الشرائع في تبليغها إلى مَن نأى وبعد
مكانًا أو زمانًا , ولم يذكر في موضع ما من أي كتاب من كتبه أن من رد ما بلغه من
الدين بغير تواتر معذور , ولم يقل ذلك أحد من رسله , أو ممن يعول عليه من
أتباعهم , بل لم يشترط ذلك أحد من البشر في شئون دنياهم الاجتماعية.
وإنما مدار ذلك - والله أعلم - هو حصول التصديق بالنسبة إلى خصوص من
بلغه خبر , ولم يقصر في البحث عن صِحّته وصدقه , فحين تصديقه لا يجوز له
ردّه , وهذا هو الذي دلّ الشرع والعقلُ عليه , وعليه اتفق أهل المِلَلِ قاطبةً , وهذا
مما نجل حضرة الدكتور عن مخالفته.
بعث الله رسله مبشرين ومنذرين لِئَلاّ يكون للناس عليه حُجّة , وهو لا يأمر
بالمحال ولا يكلف نفسًا إلا وسعها , فلو أوْجَبَ على الأمم تبليغ كل مسألة مِن شرعه
بالتواتر , وعلى المبلغين ردّ غير التواتر لَكان ذلك تكليف ما لا يطاق مستلزمًا
لِملاشاة الأديان، ومعطلاً لسائر المواصلات ومعاملات بني الإنسان، والله منزّهٌ عن
إرادة ذلك فَبَطَلَ اشتراط التواتر لنقل مسائل الدين.
دلّ القرآن على أن من جاءته الحُجّة عن الله بتوسط رسله وردها جحدًا أو مكابرة
أو بما شاء كل ذلك وداناه - فقد كفر بالله وبرسله واستحق العقاب وشديد العذاب.
ومن بلغته الحُجّة عن رسول من رسله حين وجوب طاعته في خصوص تلك
المسألة من طريق لا يردها في جميع شئونه , ولا ينكر صحتها بعد البحث والتنقيب
ثم ردّ ما جاء عن الرسول بتلك الطريق تشهيًا فلا شكَّ أنه معانِدٌ ومكابِرٌ ومنابذ
لطاعة ذلك الرسول , وسواء كانت هذه الطريق متواترة أو آحادية.
فقول حضرة الدكتور: ولكن ذلك لا يوجب العمل بها على المسلمين - يعني
الأحاديثَ الصحاح الآحادي ولو كانت مشهورة ومستفيضةً. ثم قوله: (الدين الذي
يكفر منكره شيئان: القرآن وما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم) يدلُّ بَلْ هو
ظاهِرٌ في أنّ مَن أنكَرَ واجبًا من الشرع فهو كافر؛ ولذلك احتاط في أنه لا يكون
الشيء واجبًا إلا إذا نقل بالتواتر.
والحق أن التواتر ليس شرطًا في وجوب الخبر كما أن من أنكر ما دل عليه
التواتر قد لا يكفر في بعض الصور , بل قد لا يكفر من أنكر بعض الواجبات عند
غيره , كما قد عرفت أن الحصر الذي ذكره غير مسلم , وذلك لأن الشيء قد يكون
متواترًا عند شخص دون شخص , وقد يختلف معنى التواتر وشرائطه عند أُنَاس
دون أُناس , بل التواتر عند بعض الناس لا يفيد العلم وعند بعضهم في بعض
صوره , وعلى قول الجمهور يمكن أن يوجد تواترٌ في أمْر ما , ويعسر على بعض
الناس معرفته , وتحقق وقوعه في ذلك الأمر بل يمكن أن يوافيه حمامه، قبل أن
يبلغ من ذلك مرامه، والحق أن من أنكر ما عرف وُجُوبه من دِين الإسلام , وصار
ذلك معلومًا له ولو بخبر الآحاد كفر , وكذلك مَن أنكر ما هو معلومٌ من الدِّين
بالضرورة , ولم يكن قريب عهد الإسلام أو نشأ بعيدًا عن العلماء كفر , وإن لم يكن
منقولاً بالتواتر المعروف عند التواترية.
نحن لا ننكر أن بعض أنواع التواتر يفيد العلمَ , ولكن ننكر انحصار العلم
الخبري فيه , أو فيما باشرَ الشخص سماعه كما أنَّا لا نسلم أنّ ما هو متواترٌ عند
أناس يلزم أن يسلم تواتره الآخرون.
إن من رمى التقليد جانبًا وتبرّأ من التعصب المشوم , وجعل الحق مطلبه ,
والإنصاف رائدَه , ونظر في أقوال العقلاء من هذا النوع البشري نَظَرَ الناقد البصير
علم علمًا لا يعتريه شكٌّ أنّ كل ما وجد عندهم من الحقّ فهو مطابقٌ أو مأخوذٌ مِمّا
جاء به المعصومون عليهم الصلاة والسلام عن الخلاق فاطر الأنام، وحيث كان
غرضنا في هذا المقام تحقيق الخبر المسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , وما
يجب قبوله، وما لا يجب نقول.
* * *
العلم والطرق المؤدية إليه
الناس تكلموا على العلم وعلى الطرق المؤديّة إليه، فمنهم من شدد وضيّق ,
فلم يجعل إلى العلم سبيلاً غير ما أدركه بأحد حواسه , وهذا مع كونه إهمالاً لأفضل
ما امتاز به الإنسان في أعلى مدارج إنسانيته هو تعطيلٌ لجميع الارتفاقات , والتعاون
على تحصيل أنواع العلوم المختلفة المواضيع؛ إذ من المحال أن يقوم الفرد بتحصيل
جميع العلوم التي قد حققها وعرفها جميع البشر - فهؤلاء المضيقون غاية معتقدهم
تعرية الإنسان عن أكثر العلوم، والقضاء عليه بالوقوف دون مصاف كثير من الحيوان
والبهائم لما عرف من أن إحساس بعضها أقوى من إحساس الإنسان. ومِن نتائج
مذهبهم المشئوم ضياع وانحلال عُرَى التضامن الاجتماعي , وارتفاع الوثوق
مِن بينِ أفراد الناس في أشد ضروراتهم - ولذلك ترى هؤلاء المضيّقِينَ من أكثر
الناس تناقضًا في علومهم وأقوالهم وأفعالهم؛ لأنه مِن المستحيل عليهم التزام مذهبهم
الفاسد , ومن تتبع علومهم وأقوالهم وأفعالهم في جميع شئونهم وَجَدَهم على جانب
بعيد , وفي غاية المناقضة لما أصلوه مما ذكرناه عنهم.
ومن الناس من وسع بعض التوسعة لكنه أنكر حصول العلم من طريق الوحي ,
وهؤلاء هم الزنادقة المنكرون لوجود واجب الوجود أو المنكرون للنبوات،
وهؤلاء يئول إنكارهم إلى تنقيصه تعالى شأنه المؤدي إلى نفيه المؤدي إلى المحال
في الضروريات، والقدح في المشاهدات , وكون الشيء فاعلاً لنفسه أو مفعولاً
لغير فاعل.
ومن الناس من طلب الحق , وتبين له فساد قول هؤلاء وهؤلاء , واجتهد في
طلب الصواب، فسلم بأكثر الطرق المؤدية إلى العلوم لكنه أهمل بعضها لاشتراطه لها
شروطًا يعسر أو يتعذر وجودها , وهذه عدوى سرت إليه من مخالطة من تقدم
ذكرهم من الملحدين السابق ذكرهم.
فمن اشترط في وُجوب قَبُول الوحي - أي الشرع - أو اعتبار الأخبار مطلقًا:
المشافهة والسماع , أو بلوغه بالإجماع عملاً , أو التواتر - فقد نصب في طريقه
العقبات، وأقام دونه سدّ المحالات، وشرع في الدين ما لم يأذن به الله، ونحن نسأل
حضرةَ الدكتور: هل تشترط ذلك في جميع العلوم التي يشتغل بها الناس، وفي جميع ما يتعلق بشئونهم الاجتماعية أم لا تشترط ذلك إلا بخصوص بلاغ الأحكام والمسائل الدينية؟ أنا لا أظُنّ أنه يلتزم ذلك في الأوّل , ولئن التزمه فالواقع
والمشاهدة تردّه , وهي أعدل حكم بلْ يلزمه من التناقض ما لزم المضيّقِين السابق
ذكرهم.
إذا بَطَلَ في الأول اشتراط ذلك ففي الأديان كذلك لما قدمنا من تلازم القدر
بالشرع فلا فرْقَ يُعْتَدّ به.
وعليه فالذي دلت عليه الكتب والشرائع السماوية، وهو ما عليه عامّة البشر
{فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: 30) هو أن من ثبت لديه
بخصوصه صِحّة خَبَر وصدقه وجبَ عليه قَبُوله , وهو في حقّهِ علم حين تصديقه [1]
اللَّهُمَّ إِلاّ أنْ يكونَ الخبر ينتج ضررًا على أحد , والمخبر معلوم فسقه؛ فيجب التبين
والتروي حتى يظهر وينكشف حال ذلك الخبر , وكذلك مَن بلغَه الخبر عمن لا يعلم
حاله - والأمر ما ذكرناه - وجب عليه التنقيب , فإن صحّ لديه ذلك الخبر من
الطُّرُق الذي يصحح بها مثله وجب عليه قبوله , كما أنه يقبله في بقية شئونه الدنيوية,
ولا يجوز له اتباع هواه والتشهي والترجيح بلا مرجح.
لم يوجب الله علينا - مَعْشَرَ المسلمِينَ - التقيدَ بما أسس بعض الناس؛ بل
نهانا عن التقليد واتباع الآباء , وأوجب علينا النظرَ، فما وافقَ دينَنا الذي هو الدين
المستحيل مخالفته للعقل الصحيح قبلناه , وليس من العدل أن نترك ما لدينا مِن الحق
ونقتصر على ما لَدَى المُخالِفِين، وإنْ دلّ عليه ديننا، أمّا ما خالفَ ديننا فلا شكَّ أنه
مخالف للعدل والعقل.
وليس في الدين ولا في القرآن ولا في الحديث الصحيح ما يناقض ما دلّ العقل
الصحيح عليه [2] ، ومن زعم ذلك فعليه البيان , نَعَم في الدين أشياء لم تستعد بعض
العقول لإدراكها , وسببه ما قدمناه من تضييق بعض الناس , وسَدّ أكثر أبواب
الطرق المؤدية إلى العلم , فإذا كمل لبعض الناس استعداده العقلي , وصار إنسانًا
بالمعنى الذي خُلِقَ لأجله فلا شكَّ أنه يدرك معلومات لا يكمل العقل إلا بإدراكها ,
فعلى مَن لم يَأْتِ هذه البيوت من أبوابها أن يسألَ أهلَ العلم.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا ما قررناه في الرّدّ على الدكتور صدقي (ص926 م9) , وقد ذاكرناه منذ أيام في ذلك , فرأيناه مالَ إلى تَرْك اشتراط التواتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل الآحاد دُعَاةً وعُمَّالاً فيقبلُ الناسُ منهم.
(2) المنار: صرح بهذا شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم , وتصديا لبيانه بما كتبه الثاني في أعلام الموقعين من التفصيل البديع.(11/371)
الكاتب: بدائع نكار ميرزا
__________
شكر المنار على تأبين ذكاء الملك
رسالةٌ جاءَتْنا من العالم الأديب بدائع نكار ميرزا فضل الله البيهقي مدرس
العلوم الأدبية في مدرسة طهران السياسية. ورغب إلينا ميرزا محمد علي خان نجل
صديقنا (رحمه الله) ذكاء الملك أن ننشرها في المنار , فنشرناها شاكرين للأديبين
فضلهما , وهي:
هو
جدير أن يؤذن في المنار ... معارف عنونت في المنار [1]
وكنا في محاق الجهل دهرًا ... بغرته سلخنا من سرار
سأجعل شكر منشئها دثاري ... وأجعل مدحه أبدًا شعاري
وما أنا في رفع خبري إلى حضرة مولاي - أدام الله بقاءه ابتداءً، ونصب وجوه
أملي لشمول عواطفه رجاءً - قبل التعرف إليه ببعض المعارف، والتقرب إليه
بطرائف اللطائف، إلا كطالب الإيناس قبل الإبساس، والماتح بلا أسباب وأمراس،
ولكني أجلّ سيدي من أن يحتاج العبد إلى تقربه بالوسائل، ويمت إليه بذرائع القبائل،
لأن داعي فضله على المنار جهارًا يدعونا إلى نار قِراه ليلاً ونهارًا، فلا أُلاَمُ
على ذلك الإقدام إنْ لَبَّيْت دعوته، وصليت قبلته، وأتيت ناره، ويممت داره،
قيل بممبج مأواه ونائله ... في الشرق يسأل عمن نيله سيلا
على أني من آل داود، ومن عاملي الشكر معدود، وكيف لا أشكر من مولاي
نِعَمَه التي أَحْيَتِ القلوبَ، وأماتت العيوب، وحسّن منا الأخلاق، وعلّق علينا
الأعلاق، فجزاه الله عن المسلمين خيرَ الجزاء، ورداه عنهم برد الثناء.
* ولو سكتوا أثنت عليه الحقائب * ...
قد وقفت على خاتمة الجزء الثانيَ عَشَرَ مِن المنار في مدرسة السياسة من
طهران، بعدما وقفت على فاتحة المجلّة في خُرَاسان.
تنورتها من أرض طوس وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي
وقفت على تأبين الفقيد الفريد ذكاء الملك - أطاب الله ثراه - فأخذني مِن
الأسف ما جرّ بي إلى التَّلَفِ.
فقدنا ذكاء الملك لا بل سماءه ... وما حال ملك زال عنه ذكاؤه
فقدناه لو أن يفتدي لفديته ... ولكن قضاء الله حتم مضاؤه
مضى رحمه الله وأصمى على قلوبنا سهام الهموم، وأحمى على أكبادنا مكاوي
الغموم، فلولا خلفاه الصالحان، وفرعاه الباسقان، وثمراه اليانعان، وقمراه الطالعان،
لَمَا صبرنا على هذه الرّزِيّة، بل هلكنا من سطوات تلك البليّة، ولكن بحمد الله
ومَنِّهِ.
وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا الملك مغبون ولا الموت غابن
فها أنا مع عُقْدَة لساني، وعُجْمَة بَيَانِي، وضِيق بَاعي، وقِلّة مَتَاعِي،
ونُقْصان بِضَاعتي، وكَلاَلَة يَرَاعَتِي، أشكر مِن مَوْلاي - أدامَ اللهُ بقاه - تأبينه
على فقيدنا ذكاء الملك طاب ثراه، وأسأل الله أن يديم ظلال عواطف مولاي على
رءوس أهل الأدب، ويقيمه على تثقيف الأَوَد من العَجَم والعَرَب، وأن يجعلَ كِتابي
هذا عنده مقبولاً، لا مردود عليَّ مبذولاً، وأنهي إلى تلك الحضرة العالية من أديبنا
ذكاء الملك بن الذكاء أزكى وأوفى الثناء، أختتم كتابي معتذرًا بذلك الخطاب.
لا تنكرن وإن اهتديت نحوك من ... علومك الغر وآدابك التقا
فقبّم الباغ قد يهدي لمالكه ... برسم خدمته من باغه التحفا
العبد فضل الله بن داود البيهقي المدعو ببدائع نكار
للسُّدَّةِ السَّنِيَّة العَلِيّة والعتبة البهية الرضوية على راقدها آلاف الثناء والتحية.
__________
(1) لعل الأصل، معارف عنونت باسم المنار، أو عنونت في ذا المنار، فسقط لفظ (ذا) سهوًا.(11/375)
الكاتب: أحمد ترجمان
__________
البرهان الصريح
في بشائر النبي والمسيح عليهما السلام
بمنِّهِ تعالى سننشر كتابًا فيه بشائر النبي والمسيح عليهما السلام , منها للنبي
عليه السلام وأُمّته من نبوة أشعيا ص 40 عدد 3 , وص 4 عدد 2 و25 , وص 43
عدد 16 , ونبوة دانيال ص 2 و7 و9 الوارد فيها ختام النبوة والحساب من حرب
أدريانوس ملك الرومان لليهود سنة 132 , وانتهاء المُدّة سنة 622 , وهي سنة
الهجرة والإذن بالفتح والجهاد.
ونبيّن فيه صحة الترجمة في مواضع منها في التكوين بشأن سيدنا إسماعيل
ص 16 عدد 12 (إنسانًا وحشيًّا) . قال العالم الإسرائيلي: الترجمة إنسان
بري (يسكن البرية) يده في الكل , ويد الكل فيه , ولفظه العبراني: بيري آدام؛
أي: آدم بري , ويده في الكل المراد به: سيدنا محمد عليه السلام؛ لأنه من
إسماعيل.
وفي مزمور 80 عدد 17 وابن آدم الذي اخترته أي: نبينا ابن إسماعيل عليهما السلام؛ لأنه سُمِّيَ إسماعيل آدم، وفي التكوين من قول الرّبِّ للخليل (ص 21 عدد 13 وابن الجارية أيضًا اجعله أُمَّة لأنه نَسْلك) والأصل العبراني أن نسلك هو
ولفظه (كي زرعخاهو) أي إنه هو زَرْعُك.
وفي المسيح عليه السلام (وخلق الرب له من غير أب) من نبوة أرميا:
(ص 31 عدد 22 خلق الربّ شيئًا حديثًا في الأرض أنثى تحيط برجل)
وفي الشروح أن هذا في المسيح وتأييد نبوة أرميا هذه في القرآن الشريف من سورة آل عمران وفي نبوة أشعيا ص 49 المختصة بالمسيح يحكى بالوحي ما يكون للمسيح , وفيها أن له مجيئين , والأصل العبراني لها عدد 5، قال: الرب جابلي من البطن عبدًا له لإرجاع يعقوب , فيضم إليه إسرائيل. ولم ترجع بني إسرائيل كما في عدد 4 أمّا أنا فقلت عبثًا ولمجيئه الثاني عدد 6 قال: سهل أن
تكون لي عبدًا لتقيم أسباط يعقوب , ورد محصوري إسرائيل , وأجعلك نورًا لأمم
لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض.
ثم أكد ذلك في عدد 8-13 وفي عدد 6 (وأجعلك) قالوا بدلها فقد جعلتك. وما
ذكر في أعمال الرسل ص 13 عدد 47 خلاف الأصل العبراني أيضًا؛ لأن رسالته
كانت لبني إسرائيل ونبوة ميخا ص 5 عدد 3 و4 تؤيد أن له مجيئين كنبوة أشعيا هذه
ص 49 , وتؤيدها أيضًا نبوة أشعيا ص 11 التي هي لمجيئه الثاني؛ لأن فيها
يرفع راية الأمم، ويجمع بني إسرائيل من أربعة أطراف الأرض , وهذا معنى ما ورد
في نبوة أشعيا ص 49 عدد 6 لِتكونَ خلاصي إلى أقصى الأرض؛ أي: خلاص
بني إسرائيل , كما في ص 12 من نبوة أشعيا أيضًا المتممة لِص 11 , وهذا في
آخر الأيام كما في نبوة هوشع ص 3 عدد 5 ونبوة أشعيا ص 49 تؤيد مجيء
المسيح مجيئه الأول قبل انتهاء تسلط اليهود على الشعب في أرض فلسطين كما في
عدد 7 والرب يحميه منهم كما في عدد 3 (في كنانته أخفاني) وعدد 8 (وحفظتك)
وقد قلعت اليهود من أرض فلسطين سنة 132 , ثم لَمّا دخلَ الإسلام صاروا في
حماه.
ومنها في نبوة أشعيا ص 53 عدد 8 (أنه ضرب من أجْل ذنب شعبي)
والأصل (ضربة لهم) ولفظ لهم بالعبراني (لاموا) لأن الكلام في الشعب الذين
أخذوا لِبَابِلَ وحضروا منها , والنبي أرميا بين كثيرًا منه في مراثيه , وفي عدد 10
(فسر) والأصل فأراد , وفي عدد 10 أيضًا (أن جعل نفسه ذبيحة إثم يرى نسلاً)
ولم يكن في الأصل العبراني لفظ ذبيحة والكلام في الشعب؛ لأنه ذكر يرى نسلاً ,
وفي مزمور 22 عدد 16 ثقبوا يديَّ , والأصل (كأسد يديَّ) مع أنهم اعترفوا في
كتبهم باعتماد الأصل العبراني، والمسيح أيد نبوات الأنبياء كما في إنجيل مَتَّى ص 5
عدد 17 ولم يؤيد التواريخ.
ونبين في الكتاب بعض الآثار المصرية والآشورية التي تؤيد التواريخَ
الإسلامية الصحيحةَ , ونذكر نبْذَةً في فضائل الإسلام، ونطلب منه تعالى العَوْن
في البدء والختام.
(تنبيه)
في نبوة أشعيا ص 41 عدد 25 (أنهضته من الشمال) , وقبل وضع الحركات
التي وضعت بعد قرون كان ينطق بها (أنهضته من مخبأه) وهو الغار، وعلى وضع
الحركة قام نبينا - عليه السلام - من الشمال , وهي المدينة شمال مكة، ودخل مكة شرقًا , والكلام في مساكن قيدار كما يأتي , وفي ص 42 عدد 11 ذكر مساكن قيدار وفي عدد 13 (خروج الرب كرجل حروب) إشارة للجهاد وقيدار بن إسماعيل كما في التكوين ص 25 عدد 13.
(يا أخت هارون) ورد أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم حديث
صحيح , وفي نبوة حزقيال ص 37 عدد 24 سمي المسيح داود , ونبوة زكريا
ص 12 و13 تمت في يهوذا المكابي وأخيه يوناثان.
وموجود بلد اسمها سامره (شمرون بالعبراني) قبل دخول بني إسرائيل
الأرض كما في سفر يشوع 12: 20، وفي آثار توتمس الثالث وجود يهود بِفِلَسْطِين
قبل دخول بني إسرائيل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد ترجمان
_______________________(11/377)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نادي دار العلوم
لا يجهل أحد من المتعلمين في مصر أن أهل نادي دار العلوم هُمْ عماد النهضة
العلمية العربية في هذا العصر، وسيكونون بعد اجتماع شملهم بهذا النادي أنفع للبلاد،
وأقدر على القيام بأعباء التعليم والإرشاد.
فتحوا باب البحث في التعريب والترجمة فأفادوا ما أفادوا. ثم فتحوا باب
البحث في مسألة الرِّبَا عندما اشتدت العسرة المالية , وزعم كثير من الناس أن
المسلمين لا يمكن أن يحفظوا ثروتهم، ويجاروا غيرهم في الارتقاء إلا إذا تعاملوا
بالربا، وأنشأوا المصارف (البنوك) المالية. وأن الدين إذا كان يمنعهم من كل ما
يعرف عندهم بالربا فهو لا يوافق مصالحهم الاقتصادية والسياسية في هذا العصر.
خطب غير واحد من أعضاء النادي ومِن غيرهم في الربا , فكانت خطبهم
ينابيعَ للفوائد النقلية والاجتماعية والاقتصادية. وقد سلك كل واحد منهم مسلكًَا أَنَارَ
فيه المسألةَ مِن بعض جهاتها كما فعلوا في مسألة التعريب والترجمة , ولم يتصد
منهم أحد للكلام فيها من جميع الوُجُوه إلا الرئيس في خطبة الختام. وقد ألقى
صاحب هذه المجلة (المنار) كلمات وجيزة في ذلك أدمجناها في التفسير من هذا
الجزء ولم يكن بحث كل خطيب في الموضوع من بعض الوجوه عجزًا عن سائرها
وإنما كان ذلك هو المجلي للمسألة، والمقرب للصواب من الأفهام.
ثم بحثوا في مسألة الزواج , والعادات في الْخِطْبَة , والاحتفال في العرس
فأجادوا، وأفادوا.
__________(11/379)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
القبور المشرفة والتماثيل للموتى
اقتراح بناء مدفن لعظماء الرجال بمصر
نشر في (الجريدة) اقتراح بناء مدفن لعظماء الرجال بمصر تنقل إليه عظام
من مات منهم , ويدفن فيه من سيموت مِن بَعْدُ.
نشر هذا الاقتراح بتوقيع (باحثة البادية) وما هو إلا خيال باحث في
الحاضرة أو تمني مُتَفَرْنِج في العاصمة قَدِ استعجلَ جِدًّا بِهَدْمِ تقاليد قومه الدينية ,
ونقلهم من مبادي التقاليد الأوربية إلى غاياتها.
لا أُنْكِر أنّ بعض العلل التي بني عليها الاقتراح له وجه نظري معروف لمثله
وضعت الأمم الوثنية من قبل التماثيل والنُّصُب، وبنت القبور، وشرفتها، وعظمت
هذه الآثار الماثلة حتى عبدتها، ولكن كان إثْمُها أكبرَ من نَفْعِها، وشرُّها أكثرَ من
خيرها؛ ولذلك هدمها الإسلام، وحرم نَصْب التماثيل , وتشييد القبور، وتشريفها كما في حديث عَلِيّ - كَرَّمَ اللهُ وجهَه - في صحيح مسلم وغيره: (لا تَدَعْ تِمْثَالاً إِلاّ
طَمَسْتَهُ , وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاّ سَوَّيْتَهُ) .
رُبَّمَا قالت باحثة البادية أو باحث الحاضرة: إن الإسلام ما فَعَلَ ذلك إلا
ليطمسَ رسومَ الوثنية حتى لا تنازعَ التوحيدَ في سلطانه على النفوس , وهذه العلة
مأمونة في هذا العصر (عصر المدنية والنور وعصر المادية والعلوم) وإذا انتفت
العلة انتفى المعلول.
لقد قال مثل هذا القول أحدُ طلاب علم الحقوق من أولاد علماء الدِّين , ونشره
في المؤيد ردًّا على مَن أنكر نصب تمثال لمصطفى باشا كامل، وسكت له الجمهور
على ذلك , ولكنهم لم يكونوا بسكوتهم مذعنين.
ما أسهل تفنيد هذه الشبهة على الاعتراف بِصِحّة ما قِيلَ مِن سبب تحريم
الإسلام للتماثيل والنصب والقبور المُشْرِفَة! ! ولا أكتفي بأن أقول: إن هذه شعائر
وثنية منع الإسلام صورتها؛ لأنها تذكر بمعناها ولو بعد حين، ويخشى أن تعيد روح
الوثنية إلى نفوس المستعدين، فلا نعيد هذه الصورة , وإن أمنت العلة الآن، سدًّا
لِلذَّرِيعَةِ ولو في مستقبل الزمان، بل أقول أيضًا: إنّ العلة غير مأمونة في هذه الأيام،
لا سِيَّمَا عند جماهير العوامِّ، فلو نصبت التماثيل وبنيت الهياكل الخاصّة لبعض
القبور، فإنها لا تلبث أن تصبغ بالصِّبْغَة الدينية بمصر , ويتبرك بها أو يعبدها
الجمهور، وأستدل على ذلك بأقوال دُعَاتِهَا وأفعالهم.
جاء في مقال (باحثة البادية) ما نَصُّهُ:
والعامّة من أهل مصر بل بعض الخاصّة لهم وَلَعٌ فائِق بزيارة الأضرحة ,
واعتقاد راسخ بنفع أصحابها؛ حتى إنك لو دفنت حِمارًا وبنيتَ له ضريحًا وقُبّةً
لَزَارَهُ عددٌ من الناس يتبَرّكون به وهم يعلمون أنه حِمَارٌ، فإذا كان الأمْر كذلك في
الحِمار؛ فكيف به في الرجال , وكيف به في عظمائهم؟ اهـ
ونحن نقول مع الباحثة: إن عظماء الرجال يكونون أجدرَ بهذا التعظيم
والتبرُّك , وهذا ما يحرمه الإسلام ويعده معارضًا للتوحيد.
ذكرت باحثة البادية من الرجال الذين تقترح نقل عظامهم للمدفن الجديد محمد
عبده , ومصطفى كامل , وقاسم أمين , فنقول: كيف نأمن أن تُعَظَّمَ أَضْرحتهم
تعظيمًا دينيًّا بعد أن يُتخذ لها مكانٌ خاصٌّ يُقْصَدُ بالزيارة , والأول منهم إمام من أئمة
الدين , وداعٍ مِن دُعَاة القرآن , ومُحَامٍ عنه وعن السُّنَّة، وأقوى خاذل في عصره
للبدعة؟
كيف نأمن ذلك والثاني منهم على كونه ليس مِن رجال الدين في العلم ولا في
الإرشاد، وليس له مقالة تؤثر في الكتاب ولا في السنة، ولا في الدفاع عن أصول
الإسلام وعقائده - قد نحله أشياعه جميع الألفاظ التي يعظمون بها أئمة
الدين وأولياءه , كقولهم: فقيد الإسلام، رضي الله عنه، قَدَّس الله سِرَّه، قدس الله
رُوحَه. بل قرن بعضهم ذكره بذكر الأنبياء , وكاد بعضهم يفضله عليهم. وذكر
أخوه الصغير في مناجاة ناجاه بها أن رُوحَه مُشْرِفَة على العَرْش يَعْنِي أنها فَوْقَ
عرش الرحمن! ! وذكر أخوه الكبير من أنباء ولادته نحو ما رُوِيَ في ولادة النبي
صلى الله عليه وسلم مِن أنه وُلد طاهرًا مختونًا، وجعله بعضهم ثاني النبي (صلى
الله عليه وسلم) في عظمته , وكلامه كالإنجيل والقرآن. وقال فيه شوقي شاعر
الأمير:
لو كان للذكر الحكيم بقية ... لم تأت بعد رثيت في القرآنِ
هذا وهو يعلم أن القرآن الكريم لم ينزل منه شيء في رثاء الأنبياء والصِّدِّيقِينَ،
بل كل ما قال في شأن موت من أنزل عليه وهو خاتم النبيين {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم
مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (الزمر: 30-31) أي: إنك
يا محمدُ تموت وهؤلاء المشركون الذين قالوا: {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ} (الطور: 30) يموتون أيضًا، وتختصمون جميعًا عند الله تعالى. وقال: {وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: 144) ؟ الآية، وقد نزلت عندما فتن بعض المسلمين، فانهزموا في
وقعة أُحُد إذ صاح صائِح: (قُتِلَ محمدٌ) .
أفرأيت من يغلو فيه الناس ذلك الغلوّ الذي أشرنا إلى قليل مما قرأناه فيه ,
ونحن لم نقرأ إلا أقلّ ما كتب - وسكتنا عما سمعنا من بعض غلاة المارقين , وما
رُوِيَ لنا عن بعضهم مِن مِثْلِ قولهم: إنه كان أفضل من الأنبياء , وإنه نفعنا أكثر
مما نفعنا الإسلام! - أيستغرب أن يعظم تمثاله وقبره تعظيمًا دينيًّا؟
فيا أيها المتفرنجون أربعوا على ظلعكم , وخففوا السير , واتَّئِدُوا بهذه الأُمّة
المسكينة؛ فإن مصابها عظيم , والخطر الذي يحيط بها أعظم فلا تستعجلوا بهدم ما
بقي لها من العقائد والآداب والأحكام الدينية , وأنتم لم تبنوا لها دينًا ولا شريعة
أخرى أحسن مما جاء به الإسلام، ولا تستطيعون أن تحفظوا بقية الممالك التي
فتحها لكم الإسلام، إذا فرضنا أن ما ترمون إليه بالتماثيل ونقل عظام الموتى إلى
أضرحة عظيمة يزيد في تعظيم أصحابها والتبرك بهم والاقتداء بسيرتهم هو مما يفيد
في ترقيتها، وفرضنا أنه لا يقوي نزعة الوثنية فيها؛ فدعوه الآن لمجرد نصوص
أئمة المذاهب التي تنتمي إليها الأمة في تحريم نبش الموتى , وتحريم نصب التماثيل
مطلقًا , وخذوا بالأمة إلى أسباب العزة والقوة التي لا خلاف فيها شرعًا ولا عقلاً،
وهي كثيرة لا يكاد يدعو إليها داعِ، وقَلَّمَا يجمع لها مال أو يؤلف لها اجتماع.
أليست المدارس العلمية والدينية، والكتب التاريخية والفنية، والجمعيات
الخيرية والدينية والأدبية هي أنفع من القبور والتماثيل الوثنية؟ فلماذا لا تبذلون
لها المال، وتدعون إلى تعميمها في البلاد؟ أليست مدرسة مصطفى كامل أفضل ما
يعزى إليه من الأعمال؟ فلماذا لا تبذلون لترقيتها ما جمعتم للتمثال، أليست آثار
الأستاذ الإمام في إصلاح حال المسلمين والإسلام هي أفضل ما يحيا به ذكره،
ويرغب في التأسي به، فلماذا لا تبذلون المال لنشرها وتعميم النفع بها؟ .
__________(11/380)
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
__________
خديجة أم المؤمنين
(4)
الفصل السابع [*]
(جمال خديجة والجمال عند قومها)
الجمال محبوب لذاته عند الطبع، ومحبوب لفائدته عند العقل، ومع كثرة ما
ألفت العيون رؤيته، والآذان سماع أحاديثه لا تزال أسراره موضوع التفكر، ولا
تزال دقائق تأثيراته محل الإعجاب، كيف لا , وهو السر الأعظم في جذب الإنسان
إلى مقاماته العلى من الإبداع، والسبب الأكبر في إبعاد ما بينه وبين الحيوان في
مراقي الوجدان والإدراك، فشرفه مجمع عليه عند بني آدم بغير خلاف بينهم، وأيما
قوم حرموه فقد باءوا بحرمان عظيم؛ ولذلك لم نجد بُدًّا مِن ذِكْر هذه المزية
الأخرى لقوم (خديجة) فإنها مَزِيَّة جديرة بالذكر لا سِيَّمَا بعد أن اشتهر عند مَن لم
يعرف هؤلاء القوم أنهم كانوا لا حَظَّ لهم من الجمال، ولا ذوق لهم في الحُسْن، ولا
نصيب من توجه النفس إلى الأحسن.
كَبُرَتْ سُبَّةً أنْ يكونَ قومُ (خديجة) على ما يظن هؤلاء الذين لا يتآلف في
ذهنهم أن يكون القوم سكان إقليم حار , وَذَوِي شَظَفٍ مِنَ العَيْشِ , ثم يكونوا مع ذلك
ذوي خِلْقَة جميلة وصورة بديعة.
وكَبُرَ مِنّا تقصيرًا أنْ لا نُبَيِّنَ في هذا الباب ما هو من جملة مناقب هذه السيدة
وقومها , فإن استغرب قوم لم يعيروا أسرار الخليقة نظرة تخصيصنا فصلاً لهذا
الموضوع، فإنهم سيرونه فيما بعد مكينًا في موضعه على أنه سيجد فيه المتفكرون
صاحبهم الأنيس، ويجد هو فيهم أهله الكرام.
إن العرب قد تناسبت أجزاؤهم، وتناسقت أوضاعهم، واعتدلت أشكالهم:
بياضهم جميل، ليس فيه بَهَق بعض الأجيال، وأُدْمَتهم لطيفة ليس فيها حُلْكَة بعض
الأقوام، ولَعَلّ مَن فازت من حسانهم بحظ عظيم من الجمال تقل نظائرها في حسان
الآخرين، وتكون آية المنتهى في جمال العالمين.
والمشهور أن الجمال يختلف في أذواق الناس، ولكل جيل قياس في الحُسْن لا
يأتي عليه قياس جِيل آخر , ولكن مَن أَمْعَنَ بما يتناقله الكل من صفات الحسن يجد
ثَمَّةَ جهة جامعة ومقياسًا واحدًا تتفق معه المقاييس كلها , وذلك أن الحُسْن الذي لا
خلافَ فيه ليس هو بلون الأديم وإنما هو باعتدال القامة، واستواء الهامة، وتناسب
أجزاء الوجه ومقاطعه، وحلاوة المبسم، وملاحة العينين، ولطف الحاجبين، ورقة
الشفتين، ولعل هذه المذكورات تكثر في العرب حتى ندر أن نجد غير موصوف أو
موصوفة بالحسن من مشهوريهم ومشهوراتهم.
وإذا أُضِيفَ إلى ما ذكرناه بياض الأديم وتشربه بحمرة أو صفرة كان ذلك
فضلاً في الجمال قد يبلغ به منتهى الكمال، ولم يكن هذا اللون قليلاً في العرب
عامّة وقوم خديجة خاصّة.
والعرب لم يكثروا في كلامهم مِن شيء بمقدار ما أكثروا مِن وصف الجمال ,
وقد رأيناهم يستحسنون هذين اللونين كثيرًا: البياض المُشَرب بِحُمْرَة أو البياض
الضارب إلى صفرة. قال ذُو الرُّمّة أحد شعرائهم:
بيضاء صفراء قد تنازعها ... لونان من فضة ومن ذهب
وهذا اللون هو لون اللؤلؤ، وقد جاء في القرآن المجيد تشبيه حسان الجنة
باللؤلؤ المكنون , ولا يختلف أحد إلى عهدنا هذا في أن هذا اللون هو الذي تكون
صاحبته أقرب إلى الكمال في الجمال , إذا أخذت بحظّ مِن تناسب بقية الأوضاع ,
فإنه عندما ينطبع فيه الاحمرار لسبب من الأسباب تكون حمرته ألطفَ من الحمرة
الملازمة لبعض البِيض , وعن مثل هذا عَبَّرَ عَدِيّ بن زيد أحد شعراء العرب بقوله:
حمرة خلط صفرة في بياض ... مثلما حاك حائك ديباجا
ولكثرة البياض اللطيف في العرب شبّهوه بالصبح , واشتقوا من الصبح لونًا,
فقالوا للأبيض صبيح، واشتقوا من الزهر لونًا , فقالوا للأبيض المشرب بحمرة
أزهر. وتشبيههم بورد الخدود دليل على كثرة هذا اللون؛ فإن هذه الحمرة لا تنطبع
إلا على أديم أبيضَ , ورأيناهم يشبّهون الأعناقَ كثيرًا بأباريق الفِضّة , كما قالت
قريبة بنت حرب أخت أبي سفيان في أعمامها وأخوالها.
وليس بعجيب بعد أن كان الجمال الرائع من جملة خصائص العرب أنْ نجدهم
مغرمي القلوب بمجالي تجلياته، منصرفي الوُجوه إلى مشارق أنواره، ثم لا بدع
بعد ذلك إذا وجدنا حبّ الجمال قد لطف أذواقهم، وعوّدَهم على الاستحسان، ونقلهم
من حال إلى حال، إلى أن تَهَيّأوا لِقَبُول الدعوة التي رَقَتْ بِهم مِن هذا الجمال إلى
أعلى، ومِن هذا الغرام إلى ما هو أولى، نقلتهم إلى تصور الجمال الإلهي مصدر
كل جمال، وَرَقَتْ بِهم إلى عِشْقِ الكمال المعنوي الذي هو فوق كل كمال، فلم
يصعب على أولئك الذين شغفهم الجمالُ المحسوس، أن يفهموا الجمال المعقول،
وأن يزدادوا نصيبًا منه مع نصيبهم من ذاك , ولم يعز عليهم أن ينتقلوا إلى العالم
الجديد الذي دعوا إليه؛ لأنه تَبَدَّى لهم أجمل مما كانوا عليه.
ونحن إذْ نَرَى للعرب الحظّ الأوفر من الشغف بالحسن والاستحسان يزيد
قدرهم في اعتقادنا , ونرى مِن غير تردّد أنهم كانوا لذلك العهد مِن أرقى الأجيال
الراقية على بعدهم عن الزخرف، وعدم تعلقهم بكل أسباب الحضارة، ولعلنا إذا
بحثنا عن المؤثر الأعظم في وفرة جمال هذا الجيل نجد ذلك لأنهم خصوا بأخذ
المعتدل من المعاش، والتنقل في المعتدل من الأقاليم، وحبب إليهم المعتدل من
المهن والأعمال، وأضافوا إلى ذلك أنهم لا يتزوجون من غير رؤية غالبًا ,
وللانتخاب دخل كبير في تحسين الجنس، وتجويد النسل.
وإن بدا لأحدهم أن يتزوج بمن سمع بجمالها سماعًا تجده لا يقصر في البحث
والتدقيق بواسطة من يثق بحسن ذوقهن، وجودة إمعانهن، والحكاية الآتية تدلُّنا على
مقدار حرصهم على اختيار الجميل , وعلى مبلغ هذا الشعب من الجمال:
أَرَادَ مَلِكٌ مِن مُلُوكِهِمْ (هو عَمْرُو بْنُ حُجْرٍ مَلِكُ كِنْدَةَ جَدُّ امْرِئِ الْقَيْسِ) أنْ
يَتَزَوَّجَ ابْنَةَ عَوْفِ بْنِ مُحَلِّمٍ (الَّذِي يُقالُ فِيهِ لاَ حرَّ بِوَادِي عَوْفٍ لإِفْرَاطِ عِزِّهِ)
وَكَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ فَوَجَّهَ إِلَيْهَا امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا عِصَامُ لِتَنْظُرَ إِلَيْهَا، وَتَمْتَحِنَ مَا بَلَغَهُ
عَنْهَا، فَلَمَّا رَجَعَتْ قَالَ لَهَا الْمَلِكُ: مَا وَرَاءَكِ يَا عِصَامُ؟
قَالَتْ: رَأَيْتُ جَبْهَةً كَالْمِرْآةِ الصَّقِيلَةِ يُزَيِّنُهَا شَعْرٌ حَالِكٌ، إِنْ أَرْسَلَتْهُ خِلْتَهُ
السَّلاَسِلَ، وَإِنْ مَشَّطَتْهُ خِلْتَهُ عَنَاقِيدَ كَرْمٍ جَلاَّهُ الْوَابِلُ، وَمَعَ ذَلِكَ حَاجِبَانِ كَأَنَّهُمَا خُطَّا
بِقَلَمٍ، أَوْ سُوِّدَا بِحُمَمٍ، قَدْ تَقَوَّسَا عَلَى مِثْلِ عَيْنِ الْعَبْهَرَةِ، الَّتِي لَمْ يُزْعِجْهَا قَانِصٌ ,
وَلَمْ يَذْعَرْهَا قَسْوَرَةٌ، بَيْنَهُمَا أَنْفٌ كَحَدِّ السَّيْفِ الْمَصْقُولِ، لَمْ يَخْنَسْ بِهِ قِصَرٌ وَلَمْ
يَمْضِ بِهِ طُولٌ، حُفَّتْ بِهِ وَجْنَتَانِ كَالأُرْجُوَانِ، فِي بَيَاضٍ مَحْضٍ كَالْجُمَّانِ، شُقَّ فِيهِ
فَمٌ كَالْخَاتَمِ، لَذِيذُ الْمُبْتَسَمِ، فِيهِ ثَنَايَا غُرَرٍ، ذَوَاتُ أشُرٍ، يتقلب فيه لسان ذو
فصاحة وبيان، يزين به عقل وافر، وجواب حاضر، يلتقي بينهما شفتان حمراوان
كالورد، يحلبان ريقًا كالشهد، تحت ذاك عنق كإبريق الفضة، ركب في صدرها
تمثال دمية، يتصل به عضدان ممتلئان لحمًا، مكتنزان شحمًا، وذراعان ليس فيهما
عظم يمس، ولا عرق يجس، ركبت فيهما كفان رقيق قصبهما، تعقد إن شئت
منهما الأنامل، نتأ في ذلك الصدر ثديان كالرمانتين يخرقان عليها ثيابَها. إلى أن
قالت حين انتهت إلى وصف ساقيها: وشيتا بشعر أسود، كأنه حلق الزمرد، يحمل
ذلك قدمان كحذو اللسان، فتبارك الله! مع صغرهما كيف يطيقان حمل ما
فوقهما؟ .
ووصفهم الحسن والجمال في الشعر مشهور، كقول بعضهم من قصيدة:
ويزين فوديها إذا حسرت ... صافي الغدائر فاحم جعد
فالوجه مثل الصبح مبيض ... والفرع مثل الليل مسود
وجبينها صلت وحاجبها ... شخت المخط أزج ممتد
وكأنها وسنى إذا نظرت ... أو مدنف لما يفق بعد
فهذا مثال من أمثلة الجمال العربي الذي كان لرهط خديجة حظ منه كبير , ولم
يكن حظها هي منه قليلاً.
* * *
الفصل الثامن
(ثراؤها والثراء عند قومها)
وكان للسيدة (خديجة) مع ما آتاها الله من الجمال وفضائل النفس حظّ مِن
الثراء أيضًا , وثراؤها في حياة أبيها , وكانت تاجرة , ولَعَلَّ أباها نحلها رأس المال
بَادِئَ بَدْءٍ.
لم يكن اشتغال سيدتنا هذه بالتجارة شيئًا يعجب منه في قومها؛ فإنهم كادوا
يكونون كلهم تجارًا، تقضي بذلك طبيعة مقامهم في ذلك البلد، وشريعة تربيتهم على
طلاب المجد واتساع السئود، ومنافسة الأقرب والأبعد، ولولا شغفهم بهذا لَمَا سمعنا
بصدى همتهم في التجارة مِن بين إخوانهم الآخرين، ولولاه لاستطابوا مِن العيش ما
استطابه ذلك الأعرابي الذي سُئِلَ عن طعامهم في البادية , فقال لسائله: بَخ بَخ!
عيشُنا عيش تعلل جاذبه [1] ، وطعامنا أطيب طعام , وأهنؤه وأمرؤه، القَتّ [2]
والهَبِيد [3] والصليب [4] والعِلْهِز [5] والذآنين [6] والعراجين [7] والضباب [8]
واليرابيع [9] والقنافذ [10] وربما أكلنا والله القِدّ [11] واشتوينا الجِلْد، فما نعلم أحدًا
أخصب منا عيشًا، ولا أرخى بالاً، ولا أعمر حالاً، أَوَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ شاعر وكان
والله بصيرًا برقيق العيش ولذيذه:
إذا ما أصبنا كل يوم مذيقة [12] ... وخمس تميرات صغار كوانز
فنحن ملوك الناس خصبًا ونعمة ... ونحن أسود الناس عند الهزاهز
وكم متمنٍّ عيشنا لا يناله ... ولو ناله أضحى به حقًّا فائزًا
فالحمد لله على ما بسط من حسن الدَّعَة، ورزق من السَّعَة، وإياه نسأَلُ تَمَامَ
النِّعْمَةِ.
هذا ما استطابه الأعرابي، وَحَمِدَ الله عليه هذا الحَمْدَ. وما الأعراب إلا بشر قد
يستطيب غيرهم من البشر ما يستطيبون إذا خلصوا إلى مثل معيشتهم , ومارسوها
لكن من الناس مَن لا يطلبون في الحقيقة ما يقيم مادة البدن فقط كما تطلبه سائر
الحيوانات , بل يتسابقون إلى ما به الغبطة من المقتنيات والذخائر، ويتبارون في ما
به التمايز من المستحسنات والبدائع، وبمثل هؤلاء يزيد الله الإنسان بسطة من
المعارف، وقوة في المدارك.
وقريش كما عَرَفَ القارئ كانوا ممن أعدهم الله لعمل عظيم في الأرض ولا
يتمّ ذلك بحَسَب سنته سبحانه ما لم يكن في سابق تربيتهم وطرق حياتهم ما يلائم
الطريق الذي سيستأنفونه، وما أمامهم إلا المغامرة في السيادة على شعوب العالم بقدر
ما يستطيعون , فلم يكن لائقًا بمن هم عَتِيدُونَ لِمِثْلِ ذلك أن يقيموا في بلدهم ولا
يعرفوا العالم، ولا تميل نفوسهم إلى خيرات السماء والأرض الفائضة في مُلْك الله
الواسع، بل اللائق بهؤلاء أن يكون كل واحد منهم أنطق حاله بقول ذاك الشاعر من
أبناء ملوك العرب (امرئ القيس) :
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني -ولم أطلب- قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وحقًّا كانت حال القرشيين ناطقة بمثل هذا الكلام، وكل منهم له في المجد
أَرَبٌ، فلا بدع إذا انصرفت أنفسهم إلى تحصيل المال فإنه أعظم أدوات هذا
المطلوب , وقد نجح فيه منهم كثيرون، ونفعوا بالغنى قومهم عند الشدائد منهم عبد الله
بن جدعان الشهير بِجَفْنَتِهِ التي كان يقدمها للفقراء والمساكين من زوّار مكة وأهلها ,
وقد أمدّ قومه بالسلاح في حرب حاربوها، وسلح مائة كميّ من غير قومه ممن حارب
معهم , وفي هذه الحرب قتل أحد إخوة السيدة (خديجة) العوام أبو الزبير [13] ,
ومنهم أمية بن خلف بن وهب وابنه صفوان الذي أثر عن النبي (صلى الله عليه
وسلم) أنه قال فيه: (إن صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية وقنطر أبوه) أي: بلغ
ماله القناطير [14] , وكثيرون غير هؤلاء.
فيالله , ما أشبه قريشًا الضاربين في أغوار رمال العرب وأنجادها؛ لنقل
المتاع من هذه البرية وإليها على مراكبهم سفن البر، بالفينيقيين الضاربين في أكباد
تلك المياه وأطرافها؛ لنقل البضائع من هذا الثغر إلى ذاك على مراكبهم قلائص
البحر، فلئن كان لأبناء تلك السواحل رحلتا شتاء وصيف بين زئير الأمواج،
ومعاركة الأمواه، فلأبناء هذه البراري أيضًا رحلتا شتاء وصيف بين عواء السباع،
ومعالجة الرمال.
لَعَمْر الحق , قد أدرك القوم أن الخير كل الخير لأنفسهم ولجيرانهم إنما هو في
أن يخفوا للتجارة؛ لأنها في الأمم أقوى الأسباب المقربة من البدائع، المبعدة عن
الحياة الوحشية، فقاموا بهذا المرغوب غير كسالى، فكان لذلك ربحهم عظيمًا من
المال، ومن ملكة الاختلاط بالأقوام في ذلك العصر السحيق والمكان البعيد.
وكان بلدهم على هذا البعد عن العمران المتصل وسطًا صالحًا للتجارة في تلك
البرية بواسطة الحج , الذي كانت تحجه العرب إلى البيت المعظم الذي فيها
وجدير ببلدة يحج إليها العرب ذلك الحج أن تكون للأمن دارًا، وإنما تبسق شجرة
التجارة في رياض الأمن.
وكانوا يقيمون من حولها أسواقًا موقتة في العام قبيل أيام الحج , ويفدون إليها
ليبيعوا ويشروا. أشهرها سوق عكاظ كانت تقوم في أول يوم من ذي القعدة
(وعكاظ) بين مكة والطائف , ومن أسواقهم هذه (ذو المجاز) وهو عند عرفات،
و (مَجَنَّة) وهي موضع بأسفل مكة، و (بدر) وهي بين مكة والمدينة.
ولقد كان لسوق عكاظ من خطير الشان أن النعمان بن المنذر مَلِك الحِيرة
على اتصاله ببلاد الحضارة , وبعده عن مكة كان يبعث كُلَّ عام إلى سوق عكاظ
جِمَالاً محمّلة بَزًّا وطيوبًا لتباع في هذه السوق ويشرى له بثمنها من أدم الطائف [15] ما
يحتاج إليه , ولم يكن يرسلها في هذا الطريق البعيد التي تمر فيه على قبائل شتى
حتى يجيرها له شريف من شرفاء العرب.
وهذا يدلنا على أن تلك البلاد لم تكن تأتي بالحاصلات من غيرها فقط بواسطة
التجارة، بل كانت تخرج إلى غيرها حاصلاتها أيضًا , ومع أن الشام مشهورة
بأعنابها وفواكهها، كان تُجّار مكة يأخذون إليها من زبيب الطائف، ذلك الزبيب
الذي أدهش حسنه وكثرته سليمان بن عبد الملك لَمّا رأى بيادره؛ فقال: لله دَرّ قيس
في أي عش أودع فراخه. يريد بقيس: ثقيفًا , فكذلك كان اسمه وحسبك أن النعمان
بن المنذر كان يرسل يأخذ من أدمها.
فتجار مكة لم يكونوا يذهبون فارغي الأحمال إلى الشام وإلى غيرها أحيانًا،
بل كانوا يذهبون ببضاعة حجازية مما تخرج تلك الأرض من نبات ومعدن ,
ويرجعون ببضاعة شامية أو غيرها مما تخرج الأرض وتصنع الأيدي. وآخرون
مقيمون غير ظاعنين ليقيموا السوق الدائمة في تلك البلدة (أم القرى) .
ولا يستريح القارئ حتى يعلم ماذا كانت تخرج تلك الديار إلى غيرها من
الأشياء، فإنه كلما تصورها غير زراعية وغير صناعية يضيق ذهنه عن معرفة ما
يصلح أن يخرج منها، وله العذر في ذلك، أمّا نحن فنذهب حيرته ببيان وجيز لا
يسعنا أكثر منه لئلا ينقطع الحديث , فنقول: إن تلك البلاد في نفسها رأس مال
طبيعي كسائر البلاد. ذلك بما تشتمل عليه من معادن ونباتات برية يصلح بعضها
للصبغ , وبعضها للدبغ , وبعضها للطب , وبعضها للطيوب , وبعضها للتنظيف،
فإذا أضفت إلى ذلك ما كانوا يجففونه من ألبان الحيوانات , وما يستخرجونه منها من
الزبد , ومن أصوافها وأوبارها وجلودها، وما كانوا يجففون من التمر والزبيب ,
وغيرهما تجد بضاعة غير يسيرة يحمل مثلها إلى أطراف بلاد الشام مما هو إلى
الحجاز أقرب؛ بل ربما راجَ بعضُه في العواصم.
نحن اليوم لا نتصور مجتمعًا حضريًّا إلا بأن يكون فيه أمير مسيطر وجند له
حافظون، وزراع وصناع وتجار للمعاش ضامنون، وقد رأى القارئ أن مجتمع
(خديجة) قام بغير مسيطر وجند له , فعسى أن لا يقيس على استغنائه عن سيطرة
الأمير استغناءه عن الزراعة والصناعة والتجارة كلاّ، فإن هذه الثلاث لا قوام لقوم
بدونها.
ونحن إذا ذكرنا ما كان من النصيب لقوم (خديجة) منها لا نقصد به عدّ
مفاخر لهم إلا من جهة أنهم تغلبوا بمداركهم وهممهم على كل ما كان يحول بينهم
وبين المغامرة في إدراك شَأْوِ الأمم، والابتعاد عن البداوة مِن بعد أن أوشك جوار
البادية أن يجذبهم إليها كما جذب إخوانهم الآخرين.
فهم تحضروا في ذلك البلد بين أهل البادية، وفي منقطع عن العامرة، وأعطوا
الحضارة حقَّها على صعوبة الوفاء لها بهذا الحق، وتراهم مع هذا لم يخالفوا سنن
العرب فيما يأنفون منه , ويترفعون عنه , فأقاموا ما احتاجوا إليه من الصناعة في
بلدهم , ولكن على أيدي عبيدهم؛ لأن العرب كانت تأنف من بعض الصناعة ,
وكذلك أقاموا ما احتاجوا إليه من الزراعة على أيدي عبيدهم، ولم تكن الزراعة
كثيرة في بلدهم , ولكن لم يكن خاليًا منها أَلْبَتَّةَ، فهناك أودية يجود فيها الزرع
والغراس , وتجري فيها العيون. وما الطائف عنهم ببعيد، وهو أبو الزراعة.
أما التجارة فلم تكن العرب تأنف منها؛ فلذلك باشرها القوم بأنفسهم، كما باشر
بعضهم بعض الصناعات التي ما كانوا يأنفون منها، فمنهم مَن كان يبيع اللباس،
ومنهم من كان يبيع الأدهان، ومنهم من يبيع اللحم، ومنهم من يبيع الأداة والماعون
والسلاح، ومنهم من يبيع الرقيق خاصَّةً.
وبالجملة كان فيهم باعة لكل الأشياء التي تدور عليها حاجة الإنسان المتحضر
مِن صنوف الأكسية المعتادة، وضروب الأطعمة والأشربة المعهودة، وصنوف
الماعون والأداة اللازمة، والعقاقير المعروفة، والحيوانات المتداولة، والأسلحة
الشائعة، ولم تكن سوقهم تلك خالية من السماسرة ويقال: إن عمر بن الخطاب الخليفة
الثاني الشهير كان بَزّازًا. ويُقال: إنه كان سمسارًا كما أن أبا بكر الخليفة الأول كان
بزّازًا (رضي الله عنهما) .
ومهما كان ذاك المجتمع أقلَّ تشبُّثًا بالزخرف , وأبعد عن التسابق إلى المتاع
الزائد عن الحاجة نرى أن حاجاته التي تحتاج إلى عمل التجار لم تكن قليلة , ونرى
أنها وحدها كافية لأن يكسب بعضهم بواسطتها كثيرًا من المال، فالتجارة ولا شكَّ
هي السبب الأول في ثراء قريش وكثرة المثرين منهم؛ لأننا لم نعهد لهم إلى ذلك
العهد وجهًا من وجوه المرابح، ونماء المال أعظم منها.
وأصناف الأموال التي كان الثراء بها عندهم هي الذهب والفضة، والإبل،
والرقيق، والأراضي للزرع والغراس، والأراضي للمعدن.
أما الذهب والفضة فهما الواسطة العظمى في تبادل العروض والأعيان , ومن
مطالعة أخبار القوم يظهر أنه كان لديهم منهما شيء كثير.
من شواهد ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن صفوان بن أمية
قنطر في الجاهلية , وقنطر أبوه) ومن شواهد ذلك أنه بعد أن ظهر الإسلام،
وانقسموا قسمين: أحدهما مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في دار هجرته
(المدينة) والآخر عدو له في وطنه مكة , أدّت تصاريف العداوة إلى اشتعال حرب
بين الفريقين في المحل المسمى ببدر بين مكة والمدينة؛ فكان الظفر لأصحاب النبي
- صلى الله عليه وسلم - ووقع في أيديهم من عشيرتهم سبعون أسيرًا افتدوا أنفسهم ,
ووزنوا في فدية الواحد أربعة آلاف درهم
فتكون الجملة نحو مائتين وثمانين ألف درهم؛ أي: نحو عشرين قنطارًا مصريًّا
من الفضة , ولم يحدث في ذلك البلد الصغير أقل ضيق من هذا المقدار الذي
وزن أهل كل أسير منه ما عليه. وما هو بالمقدار الكبير , ولكنه يدل بالجملة على
وفرة هذه الدراهم، وتيسرها عند القوم.
ومنها ما ورد من أنهم أنفقوا على حرب النبي في أُحُد ربح العير التي جاء بها
أبو سفيان من الشام، وقدره خمسون ألف دينار.
وكانت النقود التي يتداولونها من ضرب الروم غالبًا، وبعضها كسروي ,
ولكن لم يكونوا يتداولونها إلا بالوزن , ولعل ذلك لعدم إتقان ضربها على وتيرة
واحدة , وقد ظلت النقود الأجنبية إلى أيام عبد الملك بن مروان، فهو الذي أحدث
النقود المكتوب عليها بالعربية.
وأما الإبل فهي أوفر أصناف أموالهم، والإبل مال كثير البركة لصاحبه،
فالقليل منها فيه الغنى والغناء، والنعمة والهناء، من درِّهَا الغذاء، ومن أوبارها
الكساء، ومن جلودها الماعون والحذاء، ومن بعرها الوقود للطبخ وكشف الظلماء،
وظهورها مراكب للظعن والحمل والنجاء [16] ، وبطونها أعظم بها واسطة للنماء،
فبعيشك أيها المطالع في أي صِنف من أصناف الأموال الحضرية يجد أحدنا مثل هذه
البركة، التي لا تحتاج إلى شيء عظيم من الحركة؟
وأما الرقيق فقد كان في ذلك العهد يعد مالاً في جميع جهات الأرض، وكان
هؤلاء القوم من أغنى الناس في الرقيق، وإذا صرفنا النظر عن استجهان هذه العادة
نرى أن لا شيء أنفع من عمل الآلة المتحركة بنفسها، النامية بطبيعتها، المدركة
بخلقتها.
وأما الأراضي للزرع والغرس فكان فيهم أفراد يملكون منها كثيرًا , ومن
متمولي قريش من كان يملك أراضٍ في الطائف كعتبة وشيبة ابني ربيعة (من فخذ
بني عبد شمس) وغيرهما.
وكان نظر القوم إلى الزرع والضرع أعظم من نظرهم إلى الذهب والفضة،
فقد سئل بعضهم عن الذهب والفضة , فقال: حجران يصطكان إن أقبلت عليهما
نقدا، وإن تركتهما لم يزيدا، إن أفضل المال بُرَّةٌ سمراءُ في تربة غَبْرَاءَ، أو
عين خرارة، في أرض خوارة. أشار بهذه الكلمات القليلة إلى أن الموجب لنماء
الثروة هو العمل في استخراج الخيرات الطبيعية من الأرض التي هي أول رأس
مال، أما الذهب والفضة المتداولان فواسطة لوزن حركات دولاب الأعمال فقط.
وهذا هو الأُسُّ الصحيح في عِلْم ثروة الأمم.
وأما أراضي المعدن فالظاهر أن بعضها كان مشاعًا , وبعضها كان مملوكًا،
أمّا كونُ بعضها مشاعًا فنأخذه من عادة العرب في جاهليتهم مِن أنهم لم يكونوا
خاضعين لمثل سنن البلاد التي فيها ملوك.
والمعادن إنما يجعل لها حمًى وحرمًا الملوك الذين يعدونها من جملة الأموال
العمومية التي هي حقّ للخزانة العمومية خزانة المملكة.
وأما كون بعضها كان مملوكًا فنستفيده مما قرأناه عن ملك بعضهم لبعضها
كالحجاج بن علاط السلمي [17] الذي كان يملك معادن بني سليم. وكأنهم لشيوع مُلْكِ
بعض الناس بعض المعادن كان من الناس من يطلب من النبي بعد الفتوح أن
يقطعه شيئًا منها، فقد طلب بلال بن الحارث أن يقطعه معادن القَبَلِيّة (منسوبة إلى
قَبَل بفتحتين) وهي ناحية من ساحل البحر , بينها وبين المدينة خمسة أيام ,
فأقطعه إياها، وأقطعه جبل قدس [18] للزرع.
هذه هي أصناف الأموال التي كان بها ثراء هؤلاء القوم يضاف إليها العروض
والأمتعة التي كانت تتداول في التجارة , وإلى مثلها يئول اليوم كل ثراء فاز ملك
الأرض والمعادن لا يزال أيضًا ينبوعًا ثرورًا للثروة، واستخدام الفعلة بأجر بَخْسٍ
نوع من الاستعباد والاسترقاق، أعني أن فائدته المادية كفائدته، والنقود لا تزال
كثرتها وقلتها أيضًا معيارًا عظيمًا لثروة الأمم، وعلى مقدار ما تقدم كله يكون محور
التداول للعروض والأمتعة والأثاث والرياش.
وقد كان مَن لا يستطيع أن يباشر التجارة بنفسه أو السفر من أجلها يعطي مِن
ماله إلى آخر على أن يتجر به ويكون الربح بينهما أو يعطيه بالربا، وكان معهودًا
فيهم، أو يستأجر آخر ليقوم له بتجارته والأمانة هي الغالبة، فلم يكن بأس على
المال بتسليمه إلى مَن يتجر به بالمؤاجرة أو المضاربة؛ فلذلك لم تصعب التجارة
على السيدة خديجة التي كان لها ما لنساء قومها من الاستقلال في أموالهن، ولم يكن
لأبيها ولا إخوتها سلطان في ذلك المال الذي كانت تبعث به إلى التجارة مع ذوي
الأمانة ذاهبًا وآيبًا.
وفي إيثار هذه السيدة إرسال أموالها في التجارة على الإتجار بالنقود في مكة
كما يفعل المرابون دلالة على بعد نظرها، وعلو همتها، وعظيم عطفها وحنانها
على وطنها، فإن الأوطان تسمو بإقدام أرباب أموالها على نشر اسمها في العالم
بالبيع والشراء، وإظهار صنوف الثراء، ولا يكون لها مثل ذلك بشيوع المتاجرة
بالنقود.
* * *
الفصل التاسع
(زواجها قبل النبي صلى الله عليه وسلم)
تزوجت خديجة قبل النبي (صلى الله عليه وسلم) مَرَّتَيْنِ: تزوجت أبا هالة
النَّبَّاش بن زُرَارة، وتزوجت عتيق بن عابد المخزومي. وكان الزواج المرضي في
الجاهلية كالزواج في الإسلام؛ أي: إن الرجل يخطب إلى الرجل بنته أو مَن له عليها
ولاية , ويقدم صداقها فيزوجه. وأما ما يذكر من أنواع أنكحة الجاهلية الأخرى فهو
من باب السفاح، لا من باب الزواج المرضي، ولم يكن السفاح والمخادنة من فعل
الشرائف والكرائم، وإنما يفعل أغلب ذلك الإماء والحقائر.
وولدت هذه السيدة ولدًا من أبي هالة، وسمته (هِنْدًا) على عادة العرب إذ كانوا
يضعون للذكور أحيانًا أسماء الإناث , فهند هذا هو ربيب النبي - صلى الله عليه
وسلم - أخو فاطمة لأمها عليهما السلام، وقد عاش، وأدرك الإسلام، وأسلم.
روى عنه ابن أخته الحسن بن علي حديث وصف النبي - صلى الله عليه
وسلم - المشهور في الشمائل , وكان هند وصافًا وحديثه هذا أبلغ ما وصف به النبي
صلى الله عليه وسلم , وقد قتل هند مع علي يومَ الجَمَل.
سيعجب القارئ من زيادة تعريفنا لابنها هذا , ونحن لا نكتمه السبب، وذلك
أننا نحب أن لا ندع شيئًا مما يتعلق بسيرة هذه السيدة مغفلاً ومهملاً ولا سِيَّمَا بعد إذ
رأينا أكثر الذين كتبوا في سيرتها لم يتعرضوا لذكر وَلَدِها هذا، فكاد يضيع ويخفى
إلا على المنقبين في بطون الأسفار الواسعة , وعذرهم في ذلك أنهم إنما يتعرضون
لسيرة هذه الفاضلة على الغالب منذ تشرفها بزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) .
وإن لنا - والحق يقال - حقًّا على هؤلاء الناس الذين يريدون أن يعرفونا
بشخص ممن مضى , فيمسكون أنفسنا بالشيء من أخباره , ثم يقطعونه ويجذبونها
إلى شيء آخر.
على أنني لا أنكر أنه إذا سطعت الشمس لا يبقى لبصيص السراج مكان. فمن
ذا الذي يعلم أن هذه السيدة اتصلت بشمس الهدى (محمد) صلى الله عليه وسلم ,
وولدت منه (فاطمة) الزهراء أم الحسنين ثم يرجع باحثًا عن ابنها ذاك من زوجها
الأول أبي هالة.
لعمرك إذا وصلت بسيرتها إلى هذا المقام تضاءل أمام نظرك كل ما تسمع
عن أيامها الماضية , واستشرفت نفسك إلى الاطلاع على هذا الشأن الجديد الذي
سيكون لهذه السيدة مع هذا الزوج الكريم الذي رنّ الكون كله باسمه الشريف.
فمِن هنا بدء الحياة العليا لهذه السيدة، ومِن هنا بدء خلود اسمها في لوح
الوجود، وبدء إشراق مواهبها في سماء السعود، أمامها الآن الشمس بلا حاجز،
فليستمد جوهرها القابل، وليفض نورًا وسناءً، وليتبارك كمالاً وبهاءً.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) من سيرة السيدة خديجة.
(1) تعلل: من العلل، وهو الشرب بعد الشرب.
(2) القت: الفصفصة، وهي الرطبة من علف الدواب.
(3) الهبيد: الحنظل يكسر , ويستخرج حبه، وينقع لتذهب مرارته، ويتخذ منه طبيخ يؤكل عند الضرورة.
(4) الصليب: الودك، يستخرجونه من العظام بعد أخذ اللحم منها.
(5) العلهز: قراد كبير، ونبات ينبت في بلاد بني سليم , وطعام يتخذ في المجاعة من الوبر والدم.
(6) الذآنين: جمع ذؤنون، نبت طويل ضعيف له رأس مدور.
(7) العراجين: جمع عرجون، العود من النخال.
(8) (9) (10) الضباب واليرابيع والقنافذ: حيوانات معروفة.
(11) القد: جلد السَّخْلَة.
(12) المذيقة: تصغير مذقة، وهي شربة من اللبن الممزوج بماء كثير.
(13) تحاربت في هذه الحرب قريش وهوازن، وكان عمر النبي (صلى الله عليه وسلم) فيها أربعةَ عَشَرَ عامًا , وحضرها مع أعمامه يهيئ لهم النبل، وعبد الله بن جدعان سري شهير ومثر كبير وهو من فخذ بني جمح.
(14) أمية من فخذ بني جمح أيضًا، وقد قتل في وقعة بدْر، وكان مع أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - أما ابنه صفوانُ فأسلم بعد فتح مكة , وكان من المؤلّفة قلوبهم.
(15) الأدم بضمتين وبفتحتين: الجلود المدبوغة، والواحد أديم.
(16) النجاء: الهرب.
(17) الحجاج بن علاط ليس بقرشي بل هو من بني سليم، ولكنه كان متزوجًا من قريش من بني عبد الدار رهط (خديجة) , وكانت أمواله تستثمر في مكة، وكان مكثرًا من المال أسلم يومَ فتح خيبر , ثم جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) , فقال له: إن لي ذهبًا عند امرأتي (في مكة) , وإن تعلم هي وأهلها بإسلامي فلا مال لي، فائذن لي لأسرع السير وأخبر أخبارًا إذا قدمت أدرأ بها عن مالي ونفسي، فأذن له النبي (صلى الله عليه وسلم) وقدم مكة وأخذ أمواله بحيلة.
(18) جبل قدس معروف في جوار المدينة.(11/383)
جمادى الآخر - 1326هـ
يوليو - 1908م(11/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عيد الأمة العثمانية بنعمة الدستور والحرية
الجمعة 25 جمادى الآخرة - 11 تموز (24 يوليو)
في هذا اليوم السعيد استعاد العثمانيون قانونهم الأساسي , ومجلس الأمة الذي
يكفله، استعادوهما بسعي الأحرار، وتعزيز الجيش الجرار، فهو عيد الأمة
العثمانية على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها.
في هذا اليوم استنشق العثمانيون نسيم الحياة السياسية والاجتماعية، وذاقوا
حلاوة طعم الحرية، فكان مثلهم كالمصاب بداء عُضَال عادت عليه صِحّته على حين
فجأة؛ فكان قدر الحياة عنده عظيمًا.
في هذا اليوم شعر العثمانيون كلهم بأنهم أحرار في بلادهم، يتمتعون بما
وهبهم الله من القوى العقلية والمشاعر والأعضاء، ويستعملون استعدادهم الفطري
فيما خلق له من العلم والعمل، لا يستبد في عملهم مستبد جائر، ولا يستعبدهم حاكم
قاهر، فكان رجاؤهم في الارتقاء كبيرًا.
في هذا اليوم أمن العثمانيون على حياتهم وشرفهم وأموالهم؛ مِن حَرْث ونَسْل
وتجارة وصناعة، فتوجهت نفوسُهم إلى الكسب الذي يرفه معيشتهم، وبه تنمو
ثروتهم وتنتظم مالية دولتهم.
في هذا اليوم أحسَّ العثمانيون بأنهم أُمّة لهم حقوق على دولتهم، ومصالح يقوم
عليها بناء وحدتهم، وعليهم فروض وواجبات يؤدونها لحكومتهم، ولهم قانون
يساوي بينهم في معاملاتهم، وأن لهم بذلك كله جنسية جامعة لهم على اختلاف
أنسابهم ولغاتهم، وتباين مذاهبهم ودياناتهم.
في هذا اليوم وجد العثمانيون عاطفة الإخاء والوداد، وجاذبة الولاء والاتحاد،
فصافح المسلم النصراني، وصالح الكردي الأرمني، وعانق التركي العربيَّ، بل
امتزجت العناصر كلها في بوتقة القانون الأساسي، فكانت كسبيكة واحدة مِن الذهب
لا زَغَل فيها ولا صدأ عليها.
في هذا اليوم استراح العثمانيون من ثقل وطأة الجواسيس، وأمنوا شرور
عمال السعاية والتلبيس، وعلموا أنه لا يُخْشَى عليهم إلا من سوء أعمالهم، ولا
يُظلمون إلا من قِبَل أنفسهم.
في هذا اليوم نفض العثمانيون غبار الذل عن رءوسهم، وأَلْقَوْا أوزار المسكنة
عن كواهلهم، وطردوا غول الفقر الذي نزل في ربوعهم، وهزموا جند اليأس الذي
حل بين ضلوعهم، وهبت عليهم نفحات الرجاء ببقاء شوكة دولتهم نافذةً قويةً،
وارتقاء بلادهم في معارج العلم والمدنية.
في هذا اليوم أنشأ العثمانيون المشتتون في أطراف البلاد، والهائمون من
الخوف والاضطهاد في كل وادٍ، يحنون إلى بلادهم التي هي خير بقاع الأرض
تربةً وأطيبها هواءً، وأعذبها ماءً، ويشتاقون إلى أهلها الذين هم أطيب الناس
عنصرًا، وأكرمهم جوهرًا، وأشدهم مودّةً وعطفًا، وأسخاهم نفسًا وكفًّا، وسيعودون
إليها زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانًا، رِجَالاً أو ركبانًا، وكانوا قد زهدوا فيها كارهين، وهجروا
أهلها مُكْرَهِين.
في هذا اليوم تستعد السجون المظلمة، والصحاري المقفرة، والجزائر
المنفردة، لردّ ما أودع فيها من الأحرار الأخيار، الذين حاربوا الظلم، وواثبوا
الاستبداد، ونشدوا القانون والحرية، ودعوا إلى العدل والمدنية، فمزقت الحكومة
الشخصية المطلقة شملهم ونكلت بهم تنكيلاً.
في هذا اليوم يخفق قلب المملكة العثمانية شوقًا إلى لقاء أبنائها الأحرار
الأبرار , الذين طوّحت بهم السياسة فأبعدتهم عن أُمّتهم، في أشد أوقاتها حاجةً إلى
خدمتهم، وترجو أن يشتد بعودتهم إليها أزرها، ويستقيم أمرها، حتى تفاخر
أعظم البلاد مدنية وعمرانًا.
في هذا اليوم تبتسم ثغور البلاد العثمانية , ويتهلل وجْهُ بُرُدها بلقاء كتب العلم
النافعة، وصحف الأفكار المنيرة، والأخبار الصحيحة، التي كان الاستبداد قد قضى
عليها بأن تستقبلها عابسةً باسِرَةً، ثم تجعلها وقودًا للنار، وبئس القرار.
في هذا اليوم أنشأت أفكار العثمانيين تجول في ميادين الأعمال الأدبية،
والمصالح السياسية والمالية، والآمال ملء قلوبهم، والرجاء ينير السبل أمامهم.
في هذا اليوم تنحل عُقُل الأقلام، فتجري على صفحات المهارق، وتنجلي
سحب العقول والأفهام، فتشرق شموسها على عالم الحقائق، وينكسر قفص الفكر
والخيال، فتغرّد طيورهما في فضاء الرقائق، فيتبارى العقلاء المستقلون، والكُتاب
المنشئون، والشعراء المبدعون، وكُلٌُّ في فلك الحرية يسبحون.
في هذا اليوم تَقَرُّ في البلاد العثمانية عَيْنُ الإسلام، بما يسرُّ به جميع أهل
الأديان، من الحرية التي تظهر فيها الحُجّة وتدحض الشبهة، ويتميز بها صاحب
السُّنَّة مِن صاحب البدعة، ويكون الدين كله لله، لا للسلطة ولا للجاه، فبالحرية
تنكشف الحقائق، ويُزَيَّلُ بين الصادق والمنافق، ويقذف بالحق على الباطل , فإذا
هو زاهق.
الفضل في هذه المزايا الكثيرة التي نلناها في هذا اليوم لجمعياتنا السياسية
العاملة، ولضباطنا ذوي النباهة والغيرة والحمية والبسالة، الذين اتحدوا مع إخوانهم
السياسيين، وأنذروا الاستبداد بالوثبان عليه، والقضاء على سلطته بقوة السلاح،
إذا لم تَنَلِ الأُمَّة مطلبها مع حفظ الأرواح.
فالواجب على هذه الجمعيات المدبرة، والقوة المنفذة، أن تكفل الدستور الذي
نالته الأمة، حتى تأمنَ عليه من دسائس أعوان الاستبداد، الذين قاموا بتنظيم
حكومة الجواسيس أعظم قيام، وأول عمل يجب عليها هو السعي لإبعاد أعوان
الاستبداد عن دار السلطنة - لا عن دار السلطان فقط - ومحاكمة مَن يمكنُ أن يسترد
منهم العدل، ما وهبهم الجور والظلم، وتشكيل وزارة حُرّة تقوم بأعباء السلطنة،
وتنتقي الولاة والمتصرفين والقضاة ورؤساء العدلية من أخيار الأحرار، الذين يرجى
أن تصلح بهم الإدارة ويستقيم القضاء، ويحفظ الأمن ويستقر العدل، لتندفع الأُمّة
إلى الأعمال النافعة في ظلّ الحرية الظليل. ثم العناية بأمر انتخاب نواب الأُمّة
بانتداب عقلاء الأحرار في كل ولاية إلى تنبيه أهلها لخيار رجالهم المعروفين
بالاستقامة والاستقلال والحرية.
إذا نحن كفينا شر المستبدين الأولين، ونلنا وزارة من الأحرار المستقلين،
فالواجب علينا أن نقف عند هذا الحدّ من المطالب في العاصمة، وتعود السيوف إلى
أغمادها، وتنصرف الضباط إلى سابق شأنها، مع إحكام الروابط الخفيّة، بينها
وبين الجمعيات السياسية، ويتوجه الأحرار إلى إصلاح حال المملكة، بجميع
الوسائل الممكنة.
والحَذَرَ الحَذَرَ؛ من عواقب نشوة الظفر، الحَذَرَ الحَذَرَ مِن إهانة شخص
السلطان، والتسلق إلى عرشه بالبغي والعدوان، فمادام السلطان مستويًا على عرشه
فهو رئيس الأمة ومرجع سلطتها، ومنفذ قوانينها وشريعتها، والوزارة هي الواسطة
بينها وبينه، فاعتداء المرءوس على الرئيس بإدلال القوة، دون القانون والشريعة،
مجلبة للفوضى ومدعاة للخلل، ويخشى في مثل الحال التي نحن فيها أن يفضي إلى
الخطر.
أي الأمرين خير؟ أأن يعتقد السلطان أن ما صار إليه، خير مما كان عليه،
أم العكس؟ أأن يرى أن أولئك الذين كانوا يدلونه بغرور، ويمدونه في تلك
الوساوس والأمور، قد أخلصوا النصح له، وحفظوا شخصه وسلطته، أم أن يراهم
قد خدعوه وغشّوه، واستغلوا ما رأوه من الضعف البشري فيه، فبغَّضوا إليه أُمّته
الكريمة، وزينوا له محاربة حريتها بما أوتيه من الذكاء والعزيمة، وحببوا إليه
التجسس والاستبداد، وقبحوا في نظره الهدى والرشاد؟
إذا كان من المعقول أن السلطان يحب السلطة المطلقة ويؤثرها، فليس من
المعقول أن يريد السلطان بالدولة أو الأمة السوء ويكره لها الخير، وكل ما جرى
من السوء في تلك السنين النحسات فإن أسبابه وعلله ترجع إلى أمْر واحد وهو
خوف السلطان على نفسه وعلى منصبه مِن أحرار أُمّته، وتبع ذلك اعتقاده أن
أولئك الأشرار الذين اصطفاهم هم حماته والمخلصون له - وهم غير مخلصين إلا
لبطونهم ملأها الله نارًا - فإذا رأى اليوم نجباء الأحرار محيطين به من كل جانب،
وقابضين على زمام السلطة والقوة، ولم يَرَ منهم إلا الأدب والكمال، والعمل
بالإخلاص، ألا يقول في نفسه: إذا كانت هذه سيرة هؤلاء معي بعد أن نكلت بهم
تنكيلاً، ومزقتهم في الأرض كل مُمَزق، فليْتَ شِعْرِي كيف كانوا يكونون معي لو
سرت معهم من أول الأمر على الدستور؟ وكيف كان تقدم المملكة الآن؟
إن الحكومة الجديدة لا تستغني عن تجارب هذا السلطان، وعن ذكائه الذي
تضرب به الأمثال، وعن براعته في حل المشاكل السياسية، لا سِيَّمَا في السياسة
الخارجية، وليس بينها وبين الاستفادة منه، إلا أن يأمن هو لها وتخلص هي له.
إن أفضل ما نفاخر به الآن هو أننا نلنا الدستور من غير إراقة للدماء، ولا
إيقاع البلاد في فوضى الثورة، ولا غير ذلك مما يذمّ ويكره، فيجب أن نحافظ على
هذه الفضيلة، وأن لا يرتكب في طلب الفرع، ما عصمنا الله منه في طلب الأصل،
فعسى أن يكون تاريخنا في هذا الطور من الحياة أنظف من تواريخ جيراننا فيه.
إذا نحن اقتحمنا عقبة هذا الانقلاب بهدوء وسكينة , فإن رجاءنا في اقتحام ما
وراءها من العقبات يكون أقوى، وأملنا في مجلس الأًمّة يكون أعظم.
نَعَم , إن أمامنا عقبات كثيرة منها ما يتوقع من مقاومة بعض الحكام الظالمين
للحرية الجميلة التي يرقص لها طلاب الدستور طربًا، ويهيمون بها شغفًا، ومنها ما
هو أقرب إلى الوقوع كالنزاع بين الأحرار المستقلين، وبين المتعصبين والمقلدين،
ومنها مسألة تكوّن الجنسية العثمانية، وما يقف في طريقها من جنسيات الشعوب
التي يتألف منها جسم الدولة العَلِيّة، فمن المُطالَبُ بالنظر في ذلك؟
وإن أمامنا من مشكلات المسائل الأدبية ما يلي المسائل السياسية في استرعاء
همتنا، واستدعاء عنايتنا، فإن الحرية التي فاجأت بلادنا، ستعبث بأخلاقنا وآدابنا،
وتحدث شيئًا من التفرّق بين جمعياتنا وأفرادنا، فمن يجني وَرْد الحرية لا بُدَّ له من
توطين النفس لوخز شوكها، ومن يشتار عسلها، لا مندوحة له عن التعرض لإبر
نحلها، فمن المطالب بتلافي ذلك ليعظم النفع ويقل الضرر؟
هذا , ولا تنس المسائل الاقتصادية فإن الحرية ما حلت في بلاد كبلادنا خصبة
التربة جيدة الإنبات، غنية بالمعادن والغابات، قابلة لرواج التجارة وللصناعات،
إلا وتدفقت عليها أموال أوربا لأجل استثمارها فيها، وهناك من أبواب الرجاء للبلاد
والخوف عليها ما لا يفطن له الآن في الأمة إلا أفراد من الناس، فمن المطالب
بتنبيه الأمة إلى طرق الثروة الطبيعية مع حفظ رقبة بلادها، والحذر من قضاء
الديون الأجنبية عليها؟
أليس المطالبون بكل ما سألنا عنه هم أهل العلم والرأي من الأحرار الذين
يعرفون كيف يسعد البشر بالحرية , ويتمتعون بثمارها، ويستضيئون بأنوارها مع
الأمن من نارها؟ أليس هم المَرْجوُّون لتوحيد الجنسية، وحفظ الآداب القومية،
والمقومات المِلِّيِّة، وتأليف الشركات الأهلية، وإنشاء الجرائد الوطنية، للسير
بالأمة إلى ما فيه خيرها بالعلم والعمل؟
بلى , إنهم لَهُمِ المطالبون بكل شيء، فلا ينبغي أن تشغلهم المسائل السياسية
عن كل شيء.
يتساءل بعض الناس بينهم: هل الدستور العثماني في هذه الكرة مكفول
مضمون؟ هل السلطان مقتنع بأن تنفيذه خير من تعطيله؟ هل طالب أولئك
الضباط به لمحض المصلحة العامة، أم لَهُمْ أغراض شخصية يسعون إليها،
فتبرد نيران حميتهم إذا هم نالوها، ألا يخشى أن يتفرق شملهم بعد أن يسكن
الاضطراب، ثم يحال بينهم وبين إمكان التألب مرّة أخرى، فتأمن السلطة العليا من
المعارضة بالقوة إذا هي ألغت الدستور مرة أخرى؟
نسمع هذا الكلام وأمثاله من بعض العثمانيين الناطقين بالعربية , بل نسمع مِن
بعضهم ما هو أدلّ على سوء الظن باستعدادنا الحاضر ومستقبلنا الآتي: نسمع منهم
أن السلطان يقدر متى شاء أن يلغي الدستور كما ألغاه أول مرة، ويمنع الحرية وإن
كان لم يمنحها الآن مريدًا مختارًا راضيًا، ولكننا لا نسمع مثل هذه الأقوال مِن
الناطقين بالتركية , وإن لم يكونوا تُرْكًا. ذلك بأن هؤلاء أعلم بحال مجموع الأمة
والدولة , وبما وصلت إليه مِن الاستعداد الذي هو في الترك أقوى منه في سائر
الشعوب العثمانية.
يظن بعض أهل الدّثّ والرّجْم أن جمعيات الأحرار العثمانية قد عَنَّ لَها في هذه
الأيام أن تستخدم استياءَ بعض الضباط المتبرّمِين مِن سوء حالهم، وارتقاء مَنْ
دونهم عليهم، ففعلت فنجحت، فما عند الضباط من نزعة الحرية والدستور عَرَض
ربما يزول، لست أيها الظّانّ بالضباط ظن السوء بالغَيْدَار (الذي يظن السوء
فيصيب) فاعلم أن ضباطنا من أركان جمعياتنا السّرّيّة منذ وجدت والسلطان يعلم
هذا عَيْنَ اليَقِين , ولهذا كان منهم الجَمّ الغفير من المنفيين والمسجونين واللاجئين إلى
بلاد الحرية (أوربا ومصر) وما كان السلطان كارهًا لمحاربة اليونان ومجتهدًا في
منعها إلا خوفًا من عاقبة اجتماع كثير من الضباط في كتائبهم وتوابيرهم المستعدّة
للحرب على مقربة مِن الآستانة.
أبشروا أيها المتطيرون، فإن الأمر على غير ما تظنون، إن الأمة مستعدة لما
نالت , وإنْ كان الاستعداد في الأناضول أضعف مِن الاستعداد في الرومللي، وفي
الولايات العربية، دون الولايات التركية، والسبب في هذا ظاهر جَلِيّ.
الفرق بين الماضي والحاضر كالفرق بين الليل والنهار، أو الظلمة والنور،
أو الظل والحَرُور، أو الحق والباطل، أو العلم والجهل، أو القوة والضعف.
أرأيت مُسْلِمِي الأناضول الذين هم أشد من فلاحي روسيا تقديسًا للسلطة
والسلطان، الذين حدثني عنهم محمود باشا داماد - رحمه الله - أنهم يعتقدون أن
خلق السلطان مخالف لخلق سائر البشر: لحيته خضراء , ووجهه يتدفق بالنور. إن
هؤلاء الأغرار السُّذَّج قد استعدوا للثورة , وقد ظهرت في بعض بلادهم بوادرها
فكانت حكومة الجواسيس الساقطة تحشد في بعض بلادهم الجند والناس يظنون أنها
تحشده استعدادًا لمحاربة الروسية، ولولا الاعتماد على الضباط لأشعل الأحرار نار
الثورة الأهلية في الأمة، فكان عملهم عمل اليأس يرجى خيره، ولا يؤمن شره،
فللضباط الشكر والثناء الحسن، بما كفوها عاقبة تلك الفتن.
الحق أقول: إنه لا يخشى علينا من سلب الحرية، وإنما يخشى علينا من سوء
استعمال الحرية، ومن الجهل بطرق المحافظة على الحرية، يخشى أن تدفع الحمية
بعض الأحرار الظافرين، إلى مثل أعمال المستبدين، وأن تهبط العبودية الموروثة
بكثير من الجاهلين إلى أن يكونوا عونًا على أنفسهم للحُكّام الظالمين، يخشى أن
تكون الحرية متاعًا للسفهاء، يتسلقون بها مراتب العقلاء الفضلاء، إذا جرؤ أولئك
وجَبُن هؤلاء، كما جرى في بعض الأنحاء، يخشى علينا مما سبقت إليه الإشارة
من المشاكل السياسية والاجتماعية، والفوضى العلمية الأدبية، والغوائل
الاقتصادية، وإنما الاعتماد في مقاومة كل ما يخشى، ونيل كل ما يرجى،
على توفيق الله لأهل الروية والاعتدال، الذين يقومون بنشر العلوم وجلائل
الأعمال، كثر الله فينا من أمثالهم، ونفع الأمة بعلومهم وأعمالهم.
__________(11/417)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
القانون الأساسي والخط السلطاني به
ننشر هنا أهم موادّ هذا القانون في حقوق العثمانيين ليتدبرها القراء منهم
فيعرفوا قيمتهم، وأنهم ليسوا عبيدًا لحكامهم. ثم ترجمة الخط السلطاني في الحاجة
إلى هذا القانون.
المادة 9 - إن جميع العثمانيين متمتعون بحريتهم الشخصية بشرط أنْ لا
يعتديَ أحدٌ على حقوق غيره.
10 - إن الحرية الشخصية مصونة من جميع أنواع التعدي، ولا يجوز
مجازاة أحد بأي وسيلة كانت إلا بالأسباب والأوجه التي يعينها القانون.
11 - إن دين الدولة العثمانية هو الإسلام ومع مراعاة هذا الأساس وعدم
الإخلال براحة الخلق والآداب العمومية تجري جميع الأديان المعروفة في الممالك
العثمانية بحرية تحت حماية الدولة مع بقاء الامتيازات المعطاة للجماعات المختلفة
كما كانت عليه.
12 - إن المطبوعات هي حرة في ضمن دائرة القانون.
14 - يسوغ لكل فرد من أفراد التبعة العثمانية أو الجملة منهم الشكوى إلى
جهة الاختصاص من مخالفة القوانين والنظامات أو من أفعال المأمورين.
17 - إن العثمانيين جميعهم متساوون أمام القانون، كما أنهم متساوون كذلك
في حقوق وظائف المملكة ما عدا الأحوال الدينية والمذهبية.
21 - كل أحد أمين على ماله وملكه الذي تحت تصرفه , ولا يؤخذ من أحد
ملكه ما لم يثبت لزومه للنفع العام وحينئذ يدفع ثمنه الحقيقي سلفًا وفقًا للقانون.
23 - لا يسوغ إجبار أحد على الحضور إلى محكمة غير المحكمة المنسوب
هو إليها قانونيًّا وفقًا لقانون أصول المحاكمة الذي تقرر وضعه.
24 - المصادرة والتسخير والجريمة من الأمور الممنوعة، وإنما يستثنى من
ذلك التكاليف والأحوال التي تعين في أوقات الحرب بحسب الأحوال.
25 - لا يجوز أن يؤخذ من أحد بارة واحدة باسم ويركو ورسوم أو بصفة
أخرى ما لم يكن ذلك موافقًا للقانون.
26 - إن التعذيب وكل أنواع الأذى ممنوع منعًا باتًّا كليًّا.
* * *
ترجمة الخط الشريف السلطاني
بالقانون الأساسي
وهو خطاب السلطان لمدحت باشا الصدر الأعظم باعتماد القانون وأمره
بتنفيذه.
وزيري سمير المعالي مدحت باشا:
إن التدنيات العارضة منذ أزمان على قوة دولتنا العَلِيّة قد نشأت من الانحراف
عن الطريق المستقيم في إدارة الأمور الداخلية أكثر مما نشأت من الغوائل الخارجية,
ومن ميل الأسباب الكافلة أمنية التبعة من حكومتهم المتبوعة إلى الانحطاط؛ فلذا
كان والدي الماجد المرحوم عبد المجيد خان أعلن مقدمة للإصلاحات خط التنظيمات
الذي منح به جميع الرعية الأمن على نفوسهم وأموالهم وأعراضهم وناموسهم موافقة
لأحكام الشرع الشريف المقدسة , وما عشناه إلى الآن في ضمن دائرة الأمن , وما
وفقنا به اليوم إلى وضع وإعلان هذا القانون الأساسي الذي هو ثمرة الآراء والأفكار
المتداولة بالحرية المستندة على تلك الأمنية إنما هو من جملة آثار تلك التنظيمات
الخيرية فلذلك أردد خاصّة في هذا اليوم المسعود اسم المرحوم المشار إليه وموفقيته
وأصفه بعنوان محيي الدولة , ولا ريبَ بأنه لو كان الأوان الذي تأسست فيه
التنظيمات المذكورة موافقة لاستعداد زماننا هذا وإلجاءاته لَكَان المرحومُ المشار إليه
وضع يومئذ أحكام هذا القانون الأساسي الذي نشرناه الآن وأنفذه , ولكن جناب الحق
علق حصول هذه النتيجة المسعودة الكافلة بالتمام سعادة حال مِلَّتنا وأرجأها إلى عهد
سلطنتنا فنقدم بِنَاءً على هذه الدلالة لجناب الرب الكريم الحمد والشكر العظيم.
على أن التغييرات التي وقعت بالطبع في أحوال داخلية دولتنا العَلِيّة
والتوسيعات التي حصلت في مناسباتها الخارجية أوصلت عدم كفاءة شكل إدارة
الحكومة لدرجة البداهة , وَلَمّا كان أقصى مقاصدنا الخيرية إزالة الأسباب المانعة
للآن من الاستفادة الواجبة من الثروة الطبيعية لمملكتنا وأمتنا , ومن قابليتهما
الفطرية وتقدم صنوف الرعية في طرق الترقّي بالتعاون والاتحاد اقتضى لأجل
الوصول إلى هذا المقصد أن يوضع للحكومة أساس مأمون منتظم , وهذا أيضًا
يتوقف على تأمين هذه الفوائد وتقريرها , بمعنى أن قوة الحكومة تحافظ على
حقوقها المقبولة والمشروعة , وعلى منع الحركات غير المشروعة، أعني بها
منْع ومحو ضروب الخطآت , وسوء التصرف المتولدة من الحكم الاستبدادي الفردي
أو حكم الأفراد القلائل ليستفيد جميع الأقوام المركبة هيئتنا منهم نعمة الحرية
والعدالة والمساواة بلا استثناءٍ ذلك الحق والمنفعة الحريّان بالهيئة الاجتماعية المدنية.
ولما كان ربط القوانين والمصالح القائمة بقاعدتي الشورى والحكومة المقيدة
المشروعتين , والثابت خيرهما مما تحتاج إليه هذه الأصول أوعزنا في خطنا الذي
أذعنا به جلوسنا إلى وُجوب تأليف مجلس عمومي، وحيثُ إن القانون الأساسي
الذي وجب تنظيمه في هذا المطلب قد وضع بالمذاكرة في الجمعية المخصوصة التي
تعينت مُرَكَّبَةً مِن متحيزي الوزارة وصدور العلماء , ومن سائر رجال وعمال دولتنا
العلية , وجرى عليه التصديق في مجلس وكلائنا بعد إمعان نظر التدقيق , وكانت
المواد المندرجة فيه إنما هي متعلقة بحقوق الخلافة الإسلامية الكبرى , والسلطنة
العثمانية العظمى , وحرية العثمانيين ومساواتهم , وصلاحية الوكلاء والمأمورين
ومسئوليتهم , وبما للمجلس العمومي من حق الوقوف وباستقلال المحاكم الكامل ,
وبصحة ميزانية المالية , وبالمحافظة على مركز الحقوق في إدارة الولايات واتباع
أصول المأذونية , وكان جميع ما ذكر مطابقًا لأحكام الشرع الشريف ولاحتياجِ
الملك والملة , وقابليتهما في يومنا هذا , وكانت أخص آمالنا في مطلب سعادة العامة
وترقياتها مُساعِدةً لهذا الفكر الخيري وموافقة له - فاستنادًا على عون الله ومدد
روحانية رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبلنا هذا القانون الأساسي وأرسلنا به
لطرفكم بعد أن صادقنا عليه فبادروا لإعلانه في جميع أنحاء الممالك العثمانية
وأطرافها؛ ليكون دستورًا للعمل إلى ما شاء الله وباشروا بإجراء أحكامه منذ اليوم
متخذين أسرع التدابير لتنظيم ما تقرر فيه وتسطر من النظامات والقوانين كما هو
مطلوبنا القطعي , ونسأل جناب الحقّ المتعالي أن يجعل مساعي المجتهدين في
سعادة حال ملكنا ومِلَّتِنا مظهرًا للتوفيق في كل الأعمال.اهـ في 7 ذي الحجة
سنة 1293.
__________(11/424)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقدمتنا لكتاب التربية الاستقلالية
أو أميل القرن التاسع عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) .
فله الحمد والشكر والثناء الحسن، وعلى نبيه ورسوله الصلاة والسلام،
والرحمة والبركات لمن تزكوا بالتربية العالية، وتعلموا الكتاب والحكمة السامية،
فكان لكل منهم نصيبه من السعادة في نفسه، والسيادة في أبناء جنسه، ومنهم مَن
أعدته هذه التزكية للسعادة الآجلة، كما أعطته السيادة العاجلة {كُلاً نُّمِدُّ هَؤُلاءِ
وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ
عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} (الإسراء: 20-21) .
فبالتربية والتعليم سعادة الدنيا، وبهما سعادة الحياة الأخرى والأمور بمقاصدها.
للإنسان استعداد لا يعرف له حد ولا نهاية، ولا تظهر ثمرات استعداده إلا
بالتعاون، ولا يكون التعاون إلا بالعيشة الاجتماعية، وشئون الاجتماع لا ترتقي إلا
بالنظام، وإنما يقوم النظام بالحكام، والحكام عرضة للبغي والأثرة , لا يصدهم
عنهما إلا سيطرة الأمم عليهم، والأمة لا تصلح للسيطرة على حكامها إلا إذا كان
أفرادها أحرارًا في أنفسهم، مستقلين في أفكارهم وإرادتهم، فالحرية والاستقلال،
هما القدمان اللذان يسير بهما الإنسان إلى منازل الكمال.
لا يصل الإنسان إلى الكمال في شيء من مقاصد الحياة إلا بالسير التدريجي
على سنن الفطرة، والسير بطيء وسريع، فمنه الهدَجان والدليف، والدألان
والوجيف [1] ؛ بل منه القهقرى، والرجوع إلى الوراء، فإذا هو أرشد إلى الغاية في
البداية، وأمدّ بما يوافق الفطرة من ضروب الهداية، يكون أبعد عن التخبط في
سيره، والضلال في طريقه، وأقرب وصولاً إلى المقاصد، بالسفر القاصد.
ولكن مضت سنة الأولين بما أبانَ لنا أن الإنسان لا يرتقي في المقاصد
الاجتماعية إلا بتوزيع الأعمال، ونوط كل عمل بطائفة من الناس، يصرفون همتهم
إليه، ويعولون في معايشهم عليه، ومن هذه الأعمال حفظ الأمن وحماية النظام،
ومنها الإرشاد والتعليم، والتربية والتأديب - وأن الصنفين القائمين بهذين العملين -
ولهما القيامة على سائر الأصناف - قد يسيئون التصرف، ويتبعون الهوى،
فيعبثون بالحرية والاستقلال، فيحولون دون ما توجه إليه الناس مِن الكمال - وأن
الأول منهم (وهو صِنْف الحُكّام) كثيرًا ما يُمْعِنُ في الاستبداد، ويغلو في الاستعباد،
حتى يفسد على الناس ما ارتقى به الاجتماع قبله، ويخرب ما أقامه من معالم
العمران من سلفه، وقد يستعين بصنف المعلمين والمربين، على إفساد النفوس
والأفكار من الناشئين، بتنشئتهم على الخنوع للمستبدين، وتقليد الميتين، فيرجع
قومه القهْقَرَى، ويسيرون في اجتماعهم إلى الوراء، حتى تكون البداوة خيرًا من
مدنيتهم، لأنها على إقفارها من نتائج العقول في الفنون والصناعات، تكون عامرة
باستقلال الفكر والإرادة وحرية التصرف، وما يتبع ذلك من عزة النفس والتحلي
بكثير من الفضائل التي هي من طبيعة الفطرة ولوازم تلك المعيشة.
فالكمال الاجتماعي الذي يُطْلَب بالمدنية عرضة لنقائص يجلبها للبشر استبداد
الوازع من الأمراء والسلاطين، وفساد القوّام على التربية والتعليم، وسوء اختيار
الأفراد الذين يعيشون في كنف السلطة والحكم، وينامون على مهاد الراحة والترف،
فتفسد فطرتهم، وتهي عزيمتهم، ويرضون أن يكونوا عالةً على غيرهم، وعبيدًا
للقوّام عليهم، بما فقدوا من الحرية والاستقلال، بل يقول الحكيم ابن خلدون: إن
التأديب والتعليم الصناعي يذهب بالبأس وعزة النفس لأن الوازع فيهما أجنبي، وأما
الأدب الشرعي , فليس كذلك لأن الوازع فيه نفسي، وهو موافق لقول علماء العصر:
إن كمال الإنسان في أن يكون حرًّا مستقلاًّ تصدر أعماله بإرادته واختياره عن
اعتقاده ووجدانه، ولا يحكم عليه إلا الشرع والقانون الذي رضيه لنفسه، وكان له
رأي في اختيار القائمين بتنفيذه.
هذا المقصد العالي لا يُنال في الحضارة إلا بتربية وتعليم تتبع فيهما سنة
الفطرة وتُتَّقَى فيهما أهواء الوازعين الذين يرون من مصلحتهم أن يصبغوا نفوس
النابتة بصِبْغة خَاصَّة يستديمون بها السيادة عليهم، وقَوْدهم كالأنعام إلى ما يريدون
منهم.
أسرف الوازعون من رؤساء الدِّين والدنيا في الجور على الخاضعين لهم في
أوربا زمنًا طويلاً حتى لم يعد للطاقة البشرية قِبَلٌ باحتمال جورهم، فأحدث ذلك
الضغط انفجارًا عظيمًا اهتزت له الأرض، وزلزل ذلك القهر والجبروت، بل زال
واندك بهمة دعاة الحرية والاستقلال، ولكن حدث عنه بمقتضى السنة الإلهية التي
يعبر عنها (برد الفعل) إسراف في مقاومة تَيْنك السلطتين الجائرتين - سلطة
الحكومة وسلطة الكنيسة - فحدثت المذاهب المادية والاشتراكية المتطرفة والفوضوية
وكانت فرنسا أشد الشعوب والأجيال غلوًّا في ذلك وإنكلترا أشدها اعتدالاً فيه لما
جرت عليه من المحافظة على التقاليد القديمة، والتثبت في النزوع إلى الآراء
والأعمال الجديدة.
انبثت آراء الغالين في مقاومة السلطة والدين في كتب التربية والتعليم التي
ألفها كبار الحكماء والكتاب من الأوربيين لا سِيَّمَا الفرنسيين منهم حتى صار حقها
مَشُوبًا بباطلها، ونفعها معارضًا بإثمها، وكان من أشهر كتب التربية (كتاب أميل
القرن الثامن عشر) للحكيم الفرنسي الشهير (جان جاك روسو) , ثم ارتقت
المعارف، وزخرت بحار العلم، فصار الآخرون، يستدركون على ما مضى عليه
الأولون، كما فعل (ألفونس أسكيروس) في كتابه الذي سماه (أميل القرن التاسعَ
عَشَرَ) إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه فنّ التربية في ذلك القرن وما بعده. وهو
الكتاب الذي نشرنا ترجمته في بضعة مجلدات من المنار، في كل مجلد منها رسائل
معدودة، نشرت في أجزاء متصلة أو متفرقة، وقد جمعنا شمل هاتيك الرسائل
والشذرات كلها اليوم لننشرها في هذا السّفْر على قراء العربية عَامَّة، وأرباب
البيوت منهم خَاصَّة، لما في قراءتها متصلة من تمام الفائدة بما يكون القارئ أوعى
للمسائل وأضبط، وأرغب في تتبعها وأنشط.
لم أَرَ في المصنفات الحديثة ولا القديمة مصنفًا كهذا الكتاب جمع بين اللذة
والفائدة في أنفع العلوم التي تتفاضل فيها عقول البشر , وهو علم تربية الإنسان
جسمًا وعقلاً ونفسًا؛ ليكون سعيدًا في نفسه، نافعًا لأبناء جنسه، ولهذا رغب في
نشره الأستاذ الإمام - قدّس الله رُوحه في دار السلام - وعهد إلى مريده ذي الفطرة
السليمة، والآداب القويمة: صديقنا عبد العزيز أفندي محمد القاضي بالمحاكم
الأهلية المصرية، بأن يترجمه بالعربية، لينشر في مجلة المنار الإسلامية، وحسبي
من بيان مزية الترجمة عرضها على القراء العارفين بقواعد العربية وأساليبها، فهم
الذين يشهدون لها بأنها في الذُّرْوة العليا بين المصنفات للترجمة في هذا العصر،
فالكتاب بها عون للنابتة على إحكام مَلَكَة الإنشاء والترجمة، كما أنه بمعانيه يطبع
في النفوس ملكات استقلال الفكر والإرادة، وحب الحرية، والرغبة في خدمة الأمة،
وغير ذلك من الفضائل، ويهدي العقول إلى أمثل طرق التربية والتعليم.
ألا إنّ غرض المؤلف من كتابه هذا هو هداية قارئيه إلى الحياة الزوجية
الفضلى، ومحبة الزوجين، ووفائهما في القرب والبعد، والسّرّاء والضّرّاء، ومكان
الأم من قلب الهيئة الاجتماعية، وتربية جسم الطفل على سُنّة الفطرة ليكون بدنه
سليمًا قويًّا، وتربية حواسه وخياله وفكره، ووجداناته وعواطفه، كالرحمة
والإحسان , والعدل والمساواة , والإيثار وغير ذلك من القوى والصفات الرُّوحية
مهتديًا في ذلك كله بالعمل والاحتكاك بالحوادث، وإلى تعليم الناشئ العلوم الكونية
بعرض المعلومات على مشاعره وإرشاده إلى كيفية النظر فيها، والحكم الصحيح
عليها، وإعداده للعلوم النظرية في الدين والفلسفة ليحكم فيها بنفسه، بعد بلوغ رشده،
وغاية ذلك كله أن يخرج المربّي حُرًّا مستقلاًّ خَيِّرًا فاضلاً لا يحكم ولا يقول إلا
عن علم وبصيرة، ولا يعمل إلا ما يرى أن فيه الخير والمنفعة.
ولما كان قوام التربية العملية القدوة والتأسّي اختار المؤلف أن يجعل تربية
(أميل) في بلاد الإنكليز؛ لأنهم أرقى الشعوب أخلاقًا وأعرقهم في الحرية
والاستقلال.
ولما كانت العلوم لا تبلغ كمالها إلا حيث يكثر الأخصائيون جعل المؤلف
التعليم العالي لأميل في مدارس ألمانيا العالية، لأن الألمانيين أرقى شعوب العالم في
تحرير العلوم.
هذا الضرب من التربية والتعليم على سنة الفطرة موافق لهداية القرآن الذي
هو دين الفطرة، وما أنكره المؤلف من تلقين الدين للناشئ كما يلقن الفنون وإلزامه
بالتقليد فيه، ومِنْ حَمْله على الآداب وعمل الخير خوفًا من العذاب في الآخرة وعدم
النجاة فيها له وجه وجيه فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يعلم ولدان أصحابه
ولا كبارهم الدين كما تعلم الفنون، وإنما أدبهم وزكاهم بتلاوة القرآن عليهم،
وبسيرته (سنته) الحميدة فيهم، دعاهم بالدليل وعلمهم بالدليل وأدبهم بالدليل وليس
في الإسلام شيء تقليدي لا يستند إلى دليل.
فلا غرو إذا كنا نسلم للمؤلف ما اختاره من جعل قوام التربية الأدبية الاعتبار
بما في الفضيلة والخير من المنفعة وما في ضدهما من المضرة بالاختبار لا مجرد
القول، فإن ذلك معقول في نفسه وموافق لهداية الإسلام. ونعذره في نهيه عن
دعمها بنصوص الدين لأن ما يعرفه من هداية الأديان ينافي اتباع طريقته فالجمع
بينهما جمع بين الضدين. على أنه على اعتداله لم يسلم من السخط على دين
الكنيسة بمقتضى سنة رد الفعل التي أشرنا إليها من قبل.
ولكن طريقته تنطبق على هداية القرآن؛ لأنها موافقة للفطرة ويَزِيدها الإسلام
قوةً وتمكينًا ببيان أن الآثار الطبيعية للخير في الدنيا وهي منافعه التي يؤتى لأجلها لا
تذكر بالنسبة إلى الآثار الطبيعية التي تكون له (أي الخير) في الحياة الآخرة ,
وهذه قضية بيناها بالدلائل والنصوص في مواضِعَ كثيرة من تفسير القرآن الحكيم
ومن المنار.
فلم يَبْقَ بعد هذا إلا أن أنصح لقراء العربية بأن يجعلوا هذا الكتاب ركنًا
للتربية والتعليم , مع مراعاة المُسْلِم منهم لهداية القرآن التي أجزم بأن المصنف لو
علمها لجعلها ركنًا للتربية فوق هدايات الحواس والعقل والوجدان.
أنصح للمتعلمات من البنات ومن ربات البيوت بأن يقرأنه المرة بعد المرة.
وأنصح للرجال أن يقرءوه لنسائهم ويفسروه لهن تفسيرًا. وأنصح للنابتة الجديدة من
تلاميذ المدارس الدنيوية، وطلاب المدارس الدينية، بأن يقدموا العناية بمطالعته
على جميع ما يطالعون من الكتب للاستعانة على تأديب النفوس وإحكام صناعة
الإنشاء وإتقان أسلوب الترجمة. وإني لعلى علم بأن الإقبال على هذا الكتاب وتوخي
العمل به سيكون مبدأً لعصر جديد يربي في نفوس قراء العربية الحرية الذاتية
والاستقلال الشخصي والنوعي , ومَتَى كثر الأحرار المستقلون في شعب فإنهم
يحيون شعبهم حياة استقلالية يستحيل أن يعبث بها مستبدٌّ، أو يفسدها عليهم مفسد،
ولهذا سميت الكتاب بالتربية الاستقلالية، وجعلت تسمية المؤلف له ثانوية، فالاسم
الأول يدل على موضوعه وغايته، والثاني يشير إلى منهجه وطريقته، وهي تمثيل
فن التربية بالعمل في شخص المربي، وهو المنهج السوي والطريقة المثلى، والله
يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني
... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار
كتبت في غاية جمادى الآخرة سنة 1326
مقدمة مترجم الكتاب بعد البسملة
الحمد لله الذي عَلَّمَ بالقلم، عَلَّمَ الإنسان ما لم يَعْلَمْ، والصلاة والسلام على
ينبوع الحكمة، ونبي الرحمة، الذي أدبه ربُّه فأحسن تأديبه، وأتمَّ له من مكارم
الأخلاق وجلائل الشيم نصيبه، فصارت سيرته المحمودة أكمل مثال للمربين،
وأفضل هدي للمرشدين، وعلى آله وأصحابه الهادين المهتدين.
أَمّا بَعْدُ؛ فقد مضت سُنّة الله سبحانه في الإنسان أن يخلق عاجزًا جاهلاً
محتاجًا إلى الكافل الذي يحوطه برعايته، ويقيمه على الصراط السوي في معيشته،
ثم يتدرج في القدرة والعلم حتى يبلغ ما أعد له من الكمال الحسي والمعنوي بِحَسَبِ
استعدادِه، وعلى مقدار عناية قيمه بتربيته.
من أجل هذا تفاوتت درجات الناس تفاوتًا عظيمًا في القدرة والعجز والعلم
والجهل , وتنوعت آثار هذه الصفات فيهم تنوعًا لا يحده وصف ولا يشمله حصر
وتبع ذلك اختلاف الأمم بالترقي والتدلي والعزة والذلة.
فمن أُمّة عُنِيَتْ بتربية أبنائها وتهذيب أخلاقهم وتثقيف عقولهم وإنشائهم أحرارًا
عشاقًا للعلم , يخدمونها ويخدمونه مختارين كما يخدمون أنفسهم , فأشرقت في
ربوعها شمس العلم وكشفت لها الحجاب عما سخر لها من قوى الكون فاستخدمتها في
حاجاتها وحاجات نظرائها واستعانت بها على تحسين أحوالها وترقية معايشها.
لانَ لها الحديد على صلابته وشدة بأسه فاتخذت منه سجنًا حصينًا لعدوين
متعاندين هما الماء والنار , فكان من كفاحهما فيه أن تصاعدت زفرات الماء وغلت
مراجل غيظه، فالتمس الخلاص فلم يَسَعْهُ إلا أن طار بسجنه، فكان ذلك سببًا
لاستعمال هذه القوة الفائقة في طيِّ المسافات السحيقة، وتقريب الأمم المتنائية،
وكسر نخوة البحار , والتخفيض من غلوائها بامتطاء ظهورها وشقّ أحشائها والأخذ
بشكائمها. نَعَم , وفي تحريك دواليب الصناعات المختلفة تحريكًا خفف من أوصاف
الصناع ومتاعب العمال وغمر أسواق التجارة بضروب المصنوعات البديعة فأصبح
الفقير شريكًا للغني في الاستمتاع بها، بعد أن كان محرومًا منها، واتخذت لها من
الحديد أيضًا قذافات للموت، جلابات للدمار والخراب، لا تردها شجاعة الشجعان،
ولا تغني منها مصاولة الفرسان، فملكتها نواصي الأعزاء، وبسطت لها السلطان
في جميع الأرجاء.
لفتها قصيف الرعد ووميض البرق , وغيرهما من آثار القوى الكونية التي
طالما مَرّ عليها مَن غيروا مِن أجيال البشر وهم عنها معرضون فحدست أن فيها قوة
عظيمة لم تخلق سدى , وأنها لو ملكت تصريف زمامها لاستفادت منها ما استفادته
من البخار فانبرى طلاب الحقائق من أبنائها الذين أثمرت فيهم التربية الصحيحة
للبحث عنها في مكامنها , وما زالوا يصلون الليلَ بالنهار في تتبعها حتى اهتدوا إلى
ينابيعها وجمعوا شتاتها بعد أن كانت شعاعًا هملاً , وحصروها في سبل ضيقة لا قِبَلَ
لَها بتعديها ثم ألقوا مقاليدها إلى الأمة فكان من تصريفها في مرافق الإنسان ومنافعه
ما ترى من الآيات الكبرى على كمال قدرة الخالق وسَعَة إمكان عقل المخلوق:
رعدة تحيل الماء هواءً، وتقلب الليل نهارًا، ونبض أقرب من لمح البصر يصير
تارة مناجاة كتابية بين مطوحين في مطارح الغربة تستنجز بها الأمور وتقضي بها
المآرب، وطورًا تكون مخاطبة شفهية تميز فيها أجراس أصوات المتخاطبين على
ما يكون بينهما من بعد الشّقّة، وكرة تدفع جاريات تطير طيرانًا على سطح الأرض
مقلة ما شاءت أن تقل من الناس والمتاع.
ولو رحت أعدد لك آثار التربية المثلى والعلم النافع في الأمم الراقية لاحتجت
في تفصيل ذلك إلى مجلدات فأجْتَزِئُ عنه بما لمحت إليه تلميحًا.
وأمة أخرى لم تبلغها دعوة العلم ولا رأت آثار التربية في غيرها فلازمت
حالتها الفطرية ومعيشتها الوحشية؛ فكان ذلك مدعاة إلى وقوف نمو العقل في أبنائها
وانمحاء ما فيهم من ضروب الاستعداد وكان مصيرُها خسرانَ وجودها الذاتي
وفناءها في غيرها من الأمم الحية.
وأمة ثالثة خلقت مستعدة للرقي وسارت في سبيله شوطًا بعيدًا بما نشأت عليه
من الحرية وتحققت به من أصول التربية الدينية الصحيحة فنالت في الزمن اليسير
من العزة والمجد وبَسْطة السلطان ما لم يَنَلْهُ غيرها من الأمم في الزمن الطويل.
رَبّاها مُرشِدُها الأكبر بسيرته السنية على حب العدل والإيفاء بالعهود وإنفاق
الأموال في وجوه الخير , والتآخي في نصرة الحق والترفُّع عن سَفْسَاف الأمور ,
وأوجب طلب العلم من المهد إلى اللحد على أفرادها نساءً ورجالاً غير مخصِّصٍ
علمًا بعينه , فنبغ فيها رجال لم تسمح الأيام بنظائرهم ولن تلد الوالدات أمثالهم -
منهم من ساسوا الرعية أفضلَ سياسية لم يعهدها التاريخ في غيرهم من السواس
حرموا أنفسهم فيها من ملاذ العيش , وصبروها على مصلحة الناس , وحاسبوها
على القيام بها أشد محاسبة - ومنهم من قادوا الجيوش وفتحوا البلاد ودوخوا أكبر
دول الأرض لعهدهم مع تمام العدل في معاملة المغلوبين وبذل الأمان للمستأمنين -
ومنهم العلماء والحكماء الذين صدقت عزائمهم في طلب الحقائق فلم يدعوا بابًا من
أبواب العلم إلا دخلوه على ما كانوا يلاقونه في ذلك من صعوبة التحصيل لندرة
الكتب وتباعد معاهد التعليم يشهد لهم بذلك ما خلفوه من آثارهم التي تزدان بها دور
الكتب في معظم البلدان - ومنهم مهرة الصناع الذين أقاموا من معالم الحضارة ما
يحكم لهم بالتبريز على مناسبيهم ويوجب لإخوانهم حق المفاخرة بهم.
وا أسفي على هذه الأمة أسفًا يَبْخَعُ النفسَ أسًى , ويذيب القلبَ حسرةً! ما لبثت
أن بطرت معيشتها وكفرت بأنعم ربها، فوجد عليها الزمان، وانتابتها نوائب
الحدثان، طال عليها أمد هداية الدين، وبعد عنها عهد المرشدين، فقست القلوب
وفسدت الأخلاق، واستحكمت علة الترف من النفوس، فملكها الطمع، وتولاها
الحسد، ومنيت بالحكام المستبدين، والأمراء الغاشمين، فمزقوا وحدتها، وملكوا
عليها أمرها، وصرفوها فيما تهوي أنفسهم، فاستحالت حريتها رقًّا، وانقلب عزها
ذلاًّ، وعدلها ظلمًا وأنسها بالعلم وحشة.
لم يغب سوء حالها عمن يجاورونها من الأمم القوية بل كانوا يراقبونها مراقبة
الصائد الذي يتحين الفرص لصيده وما عتموا أن ناصبوها العداوة وكادوا لها المكايد
فوقع معظم بلادها في قبضتهم وتغلغلوا في أحشائها وأصبحوا لها حكامًا يديرون
شئونها على حسب ما تقتضيه مصالح بلادهم وفتحوا عليها أبوابًا من الترف وفساد
الأخلاق ألهتها عن الشعور بألم العبودية وصرفتها عن النظر في مصالحها القومية.
لم يصبها كل ذلك إلا من عدم محافظتها على حريتها بإغفالها التربية الصحيحة
وهجرها العلم النافع.
وإذا كان هذا شأن التربية في رفع الأمم وخفضها كان حقًّا على العقلاء من كل
أمة أن يعنوا بها ويفكروا في الوصول إليها من أقوم طرقها ويبينوا أصولها ,
ويدونوا فيها الكتب النافعة , ويحثوا قومهم على الأخذ بما فيها. وقد خرج من عهدة
هذا الحق علماء الأمم الحية في أوربا وأمريكا فوضعوا من قواعدها ما ظهرت
آثارها في أقوامهم، وأكسبتهم حسن الذكر في بلادهم، وغفل عن ذلك غيرهم من
خواص الأمم التي تتنازعها الحياة والموت لغلبة القنوط عليهم فلم يوجد لديها من
الكتب الحديثة في موضوع التربية إلا بعض رسائل لا غناء بها فيه.
كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده - طيب الله ثراه - بَرّا بقومه غَيُورًا على
حياتهم , حريصًا على إيقاظهم من سبات الجهل، وإنهاضهم من حضيض الذل،
فكان دائم التصفح لما كتبه الأوربيون والأمريكيون في التربية والحكمة , وكان من
كثرة اهتمامه بالتربية أن ترجم فيها كتابًا مفيدًا للحكيم الإنكليزي هربرت سبنسر غير
أنه لم يتسع وقته لتصحيحه وتهذيب ترجمته ونشره , فبقي كما هو وقد وقع له كتاب
آخر فيها عظيم النفع لمؤلف فرنسي اسمه ألفونس أسكيروس , فأعجب بما فيه من
الأفكار الصحيحة والمعاني الشائقة فعهد إِلَيَّ بترجمته ونشره تدريجًا في مجلة المنار
الجليلة فوفقت للإيفاء بعهده مساعدة له على ما كان بسبيله من خدمة المصلحة العَامَّة
وقيامًا ببعض المفروض عَلَيَّ منها. فالكتاب إذن أثر من آثار سعيه في ترقية بلاده،
ويد من أياديه الكثيرة عند قومه، سيشكرها له منهم الشاكرون، ويغمطها على
ديدنهم فيه الجاحدون، أجزل الله له المثوبة على حسن مقاصده، وغمره برحمته
وإحسانه على مجاهدته في إعلاء شأن أمته.
هذا الكتاب الذي أتقدم بترجمته لقراء العربية يرمي مؤلفه إلى غاية واحدة هي
إنشاء الطفل حرًّا مستقلاًّ تصدر أعماله وآراؤه عن اختيار وعلم لا عن اضطرار
وتقليد، ومن أصوله في التربية أن لا تحشر إليه قواعد العلم حشرًا ويرغم على
حفظها بل يجعل له الدرس من وسائل التسلية بأن يخلى بينه وبين ما حوله من
الأشياء والحوادث ويلفت ذهنه إليها لينتزع منها بنفسه ما تؤديه مراقبتها إليه من
العلوم.
تمكن هذا الأصل من نفس المؤلف تمكنًا حمله على أن يبعد في تأليفه عن
أساليب الكتب التعليمية المعهودة: وضعه على أسلوب يقرب من أسلوب القصص
ليكون أشهى للنفوس، وأنفى للملل عن القلوب، تخيل زوجين سمَّى أحدهما الدكتور
أراسم والثاني هيلانة، مُنِيَا بالفراق، لأول عهدهما بالاقتران، لاتِّهَام الزوج
بجريمة سياسية سجن من أجلها. ولم يلبثا بعد افتراقهما أن أحست الزوجة بالحمل
فجرت بينهما رسائل في مواضيع شتى أدمجت فيها أصول التربية الصحيحة إدماجًا
وسنحت للزوج أثناء سجنه سوانح أفكار ومرت بذهنه شوارد خواطر كان يقيدها في
جريدته اليومية، فاجتمع للمؤلف من الرسائل والصحف والشذرات المقتطفة من
جريدة الزوج هذا السِفْر الذي وسمه (بأميل القرن التاسع عشر) وقسمه أربعة أقسام
سمَّى كلاًّ منها كتابًا أولها في الأُمّ , وثانيها في الطفل , وثالثها في اليافع ورابعها في
الشاب.
فأما كتاب الأُمّ فمسائله هي - ما ينبغي عليها مراعاته في طور الحمل من
العناية بصحتها وتوفير عافيتها وملازمة السكينة والاستقرار والبعد عن كل ما يثير
انفعالاتها وترويح نفسها بالمناظر البديعة والمشاهد الرائعة، وبيان أن التربية الأولى
من شئون الأم خَاصَّة - وما يجب عليها مِن العِلْم بتدبير صِحّة المولود بعد الوضع
وإرضاعه بنفسها وتعويده من نعومة أظفاره على الاستقلال في حركاته وسكناته،
ووصف ما للنساء الإنكليزيات من الفضل على الفرنسيات في ذلك، وانتقاد طريقة
التربية الأولى في فرنسا، وانتقاد أخلاق الإنكليز وخضوعهم لتقاليد أسلافهم.
وأما كتاب الولد فمسائله هي - تعريف التربية , وبيان الصعوبة في تحديد
زمني بدايتها ونهايتها، وبيان عمل الأم في الشهور الأولى من حياة الطفل، وانتقاد
ما يفعله الأمهات بأطفالهن في هذه السن، وبيان أنّ أول علوم الطفل تأتيه مِن طرق
الحواس، وطريقة تربية الحواس، وتأثير التمدن في قوى الحواس وعمل الأم في
تمرينها، ووجوب تعرف طباع الطفل وبيان إهمال المربين لهذا الواجب، وما يلزم
اتباعه في سياسة الطفل، ووجوب لفته إلى المحسوسات وتدريبه على وقاية نفسه
بنفسه، وبيان أخطاء الوالدين في إنشاء أولادهما على مثالهما في الطباع والأذواق
وكون هذا هو السبب في ندرة الرجال المستقلين استقلالاً حقيقيًّا، وبيان ماهية الطبع،
وهل الإرادة خلْقِيّة أو كَسْبِيّة.
وبيان أن ما يبديه الطفل في حال غضبه أو تألُّمه من الأصوات والحركات
لازمة لشفاء ما به , وأن الواجب في حمله على الكف عنها أخذه بالتسلية والتلبية لا
بالتسلط والقهر، ووجوب مقاومة التربية لأهواء الطفل الفاسدة , وذلك بطريقتين،
إحداهما: إلهاؤه عنها , والثانية: جعله بِمَعْزِلٍ عن البواعث المثيرة لها، وضرورة
استعمال السلطة في سياسة الأطفال , ووجوب التعجيل بالكفّ عن استعمالها مَتَى
تَيَسَّرَ ذلك.
وبيان ضرر قهر الطفل على الامتثال ووجوب اجتناب تخويفه بالعقوبات
الإلهية , والخوض معه في المسائل الدينية ووجوب تركها له لينظر فيها متى كبر
بفكر خال من المؤثرات، وبيان عدم الفائدة من أصول علم الأخلاق للأطفال وقلة
جدوى القدوة , ومطالعة قصص الحيوانات لهم وضرورة استقلال طبع الطفل وتعلمه
سير الحيوانات بنفسه.
وبيان الطريق إلى تربية المشاعر الباطنة، وبيان أن في التبكير بإلقاء
النصائح والمواعظ على الأطفال حَطًّا مِن كرامتها، وكيفية تفاهم الأم مع ابنها
بالأصوات، وربما كانت الأصوات أصل اللغات، ووجوب استعداد الأم للتربية
بالتعلم، وتفكر الأطفال، وأصل اللغات وتعليمها لهم وسوء طريقة المربين في ذلك،
وأن التفكر مما يتعلمه الطفل، وخطأ المربين في عنايتهم بالألفاظ دون المعاني،
وتعويد الأطفال النظر والملاحظة ليتمرنوا على التفكر , وبيان أن الأعمال الصبيانية
ليست باطلة برمتها بل منها ما يكون مفيدًا، وأنس الطفل بالحيوانات وأنسها به ,
وتعليل انقطاع تآنس الحيوانات المتوحشة بزوال سذاجة الإنسان الفطرية التي كانت
تدعوها إلى الثقة به، وتأثير الجمال في الأطفال، واحتياجهم إلى كثرة التعلم،
وتعليمهم الصدق والمواساة والرحمة بالحيوان والعدل في المعاملة واحترام الدين
بالعمل والممارسة دون الحفظ والتلقي، ووجوب اعتراف المُرَبِّي للطفل بجهل ما
يجهله وانتقاد المربين في دعواهم العلم بكل شيء أمام الأطفال.
وانتقاد التعليم الديني والسياسي، وإن من شروط التربية أن ينسى المربي ما
تعلمه ليستأنِفَ تعلمه مع الطفل، ووجوب التدرج في تعليم العلوم للأطفال بلفت
أذهانهم إلى ما حولهم وانتقاد الكتب التعليمية، وفوائد التصوير والمعارض في
التربية، والتربية والتعليم بالفانوس السحري والتمثيل والمعارض، وتعليم الأطفال
الضرب في الأرض , ومعرفة جهاتها بالعمل , وتعليمهم الصناعة بما يُشْتَرَى لهم
من اللعب.
وتربية خيال الصغير بالقصص والأساطير، وتعليم القراءة والخط والرسم
والتدرج الفطري في تعليمها، وأن الصحة في تغيير الهواء وتربية الخيال والذاكرة
بِمَحَاسِنِ الغَبْرَاءِ، وتعليم التاريخ الطبيعي بتمثيل الفانوس السحري، وسرعة تفاهم
الأطفال باليسير مِن الكَلِمِ، وتعليم السباحة وتربية العضلات.
وأما كتاب اليافع فمسائله هي: حب الزوجة والولد والوطن، وتعليم
المسمَّيات قبل الأسماء، وتربية الذكور مع الإناث وتعليمهما معًا، والتعليم بضرب
الأمثال، والكلام على الخط الدّيوَانِي، وتمرين المتعلمين على الأعمال المادية الشاقة
وما يجب أن تكون عليه التربية وآثارها إذا كانت كما يجب، وتجلي العلم في
العمل، وانتقاد تعليم الأطفال اليونانية واللاتينية وإقرائهم كتبهما، والكلام عن التقليد
والذاكرة، والمؤلفات المفيدة للناشئين واختيارها، وكون السفر من أركان التربية،
والتربية بركوب البحر، وما يتعلم في السفينة، وشجاعة النساء المحمودة، والتربية
بالمعاينة، وفوائد الشدائد، وكون بذل النفس للمحبوب أول الحب، ووجوب
الموازنة بين القوى والأعمال، والتربية بالتأثيرات الطبيعية.
وأما كتاب الشاب فمسائله هي: انتقاد حال الطلبة في ألمانيا، وبيان حال
العلم فيها، ووجوب نقد الطالب ما يقرؤه من أفكار غيره. ووجوب القصد في
الاشتغال بعلوم المعقولات، وأن نفع الأمة يحصل بالقيام بالواجب على قدر الطاقة،
ووجوب اختيار الطالب للعمل الذي يشتغل به في حياته، وأن لا حرية لأمة يتكالب
شُبَّانُها على تولّي أعمال الحكومة، وأن الرأي العام لا قيمةَ له إلا إذا كانت الحكومة
شورى، ووجوب أن تكون خدمة المرء لأمته لذاتها لا للجزاء، والكلام في الحب
وابتدائه وغرور الشبان بالمعشوقات ووجوب عدم تداخل الوالدين مع أولادهما في
شئون الحب وترك الفصل في تمحيص صحيحه مِن فاسده للتجربة، والكلام على
المدرسة الجامعة في ألمانيا، والاستقلال في العلم، وفلسفة الخلق والتكوين
والاجتماع والمدنية، ووجوب الاعتماد على البراهين العقلية دون الخطابة، وحب
الوطن، ووجوب أن يكون للشاب المتعلم رأي في سياسة بلاده، وأن تربية الرجال
الأحرار يجتث بها جراثيم الشرور المحزنة للأمة.
هذه هي أقسام الكتاب ومقاصده وأمهات مسائله أجملتها للقارئ إجمالاً حتى إذا قرأها
حركه الشوق إلى استشفافها في مواضعها منه فحصل الفائدة المقصودة لمؤلفه
ومترجمه إن شاء الله.
فلم يعن المؤلف بتلقيب مباحث كتابه فاضطررت إلى أن أضع لها ألقابًا
أستنبطها من سياق كل مبحث وشاركني في وضعها الأستاذ الفاضل السيد محمد
رشيد رضا صاحب مجلة المنار الإسلامية عند نشر الكتاب في مجلته، كما أنه
حفظه الله كان يصحح ما كان يعثر عليه من الأغلاط، وأنا شاكر له هذا الصنيع.
حرصت غاية الحرص على عدم التصرف في الترجمة وقوفًا بها عند حد
المعاني التي قصد المؤلف أن يعرضها على قومه , وتحاشيًا مِن أن يتسرب إليها
بالتوسع ما ليس مقصودًا له وهذا هو سبب ما يجده القارئ في بعض المواضع من
عُجْمَة الأسلوب , ولم أشذ عن هذا إلا في تغيير لفظ الطبيعة بلفظ الجلالة أو الفطرة
على حَسَبِ الأحوال مراعاةً لعرف التخاطب بين المتكلمين بالعربية.
للمؤلف رأي في التعليم الديني مبني على أحوال خَاصَّة بالمكان الذي عاش فيه
والقوم الذين نشأ بينهم لا محل لذكرها هنا فلا أعيبه عليه ولا أوافقه فيه , ولا000 ,
ولا سِيَّمَا أن في مطاوي كلامه في هذا الموضوع وفي موضوعات أخرى مغامز
تبين عن سوء عقيدته , وذلك الرأي هو: أن لا يتكلم مع الصبي في شيء من الدين
في صغره وأن يتربص به حتى يكبر ويدرس المذاهب الدينية بنفسه فيعتقد منها ما
يشاء. ويكفيني هنا أن أقول: إن كثيرًا من أبناء مَن يشايعونه في رأيه لا يبلغون
سنّ الشباب حتى تحتوشهم أهواؤهم عن النظر في الدين , وتصرفهم شهواتهم عن
اتباع هدي النبيين فينبذوا الدين وراء ظهورهم , ويفشو فيهم الإلحاد وما ينجم عنه
من الإباحة والفساد , كما هو مشاهد معروف.
وعندي أنه لا شيء أمثل في هذه المسألة من اتباع هدي الدين نفسه ومن
الخطل في الرأي أن يؤخذ فيها بقول غير المتدين.
بدأْتُ في ترجمة الكتاب في اليوم الرابع من جمادى الآخرة سنة 1317هـ ,
الموافق لليوم التاسع من أكتوبر سنة 1899م , وفرغت منها في أول جمادى الثانية
سنة 1324هـ الموافق للثالث والعشرين من يوليه سنة 1906م , ومعذرتي في ذلك
الإبطاء المفرط أني إنما اختلست الساعات التي قضيتها في ترجمته اختلاسًا من
أوقات فراغي من عملي القضائي، وقد كانت هذه الأوقات كثيرة تسع أضعاف هذه
الترجمة لولا أني كنت كثيرَ الضّنِّ بها على صرفها فيما ينفع كغيري من الناس في
مصر.
كنت أحسب أن نشر الكتاب في المنار يكفي في تحقيق الانتفاع به , ولكني
رأيت كثيرًا من الإخوان الذين كانوا يوالون مطالعة ما كان ينشر منه فيها شديدي
الميل إلى رؤيته مطبوعًا على حِدَة , واتفق لي أن زرت صاحب الدولة الوزير
الجليل رياض باشا في شهر رمضان الماضي مع الأستاذ السيد محمد رشيد فألفيته
معجبًا بالترجمة أشدَّ الإعجاب حاثًّا على نشرها مجموعة؛ فكان كل هذا باعثًا لي
على نشره الآن جملةً واحدةً تعميمًا لفائدته وموافاة لرغائب الكثيرين ممن طالعوه
مُنَجّمًا.
وجُلُّ ما أبتغيه ممن أقدمه إليهم من إخواني قراء العربية أن لا يكون حظي
عندهم من عنائي في ترجمته إطراحه وإغفاله بل أرجو منهم أن يأخذوه بقوة ,
ويقبلوا على مطالعته بتأمل لقارنوا بيننا وبين غيرنا في العناية بتربية الناشئين ,
ويعلموا أين نحن مِن قوم هذه أفكارُهُم فيها حتى إذا آلمهم النقص الفاضح , وأخجلهم
التقصير الفاحش هبوا إلى مجاراة غيرهم من الأمم الراقية , وفكروا طويلاً في تربية
أبنائهم وتخيروا عن بصيرة , وعلم لا عن تقليد محض كل الطرق لإنشائهم أحرارًا
جامعين بين مَلَكَات العلم وفضائل الدين , ولن يتم لهم ذلك إلا بالإخلاص والصبر
ودوام الاشتغال، والله المستعان وبه الحول والقوة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... المترجم
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز محمد
تحريرًا في 25 المحرم سنة 1326 - و27 فبراير سنة 1908.
__________
(1) الدرجان: مشية المثقل - والدليف: مشية الشيخ رويدًا ومقاربته الخطو - والدألان: مشية النشيط - والوجيف: السريع.(11/427)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
القرآن والعلم
(4)
تفسير من اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب
في رد الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز
المسألة الرابعةَ عَشْرَةَ
(هامان وزير فرعون)
قال الله تعالى حكاية عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم
مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا} (القصص: 38) ,
وقالوا: إن هامان كان وزيرًا لأحشويروش ملك فارس، وهو متأخر عن فرعون بسنين.
وهذه الشبهة من أضعف الشبهات، فإنه لا يبعد أنْ يكونَ لفرعون وزير يسمى
هامان , ثم سمي بهذا الاسم وزير آخر لملك الفرس , ومن عَرَفَ علاقة المصريين
بالأمم المجاورة لهم وتغلبهم على بلادهم تارة , وخضوعهم لهم تارة أخرى كما كان
يحصل بين ملوكهم وملوك فارس لا يتعجب من دخول بعض أسماء أهل مصر في
لغات الأمم الأخرى , ولا من دخول بعض أسماء من هؤلاء الأمم في لغة مصر
القديمة , على أننا لا نعرف جميع أصول ما ورد في الكتب المقدسة مِن الأسماء ,
ولا ندري جميع مصادرها، فيجوز أنْ يكونَ للفظ هامان أصل في اللغة المصرية
القديمة (الهيروغريفية) لا نعرفه. ولا يخفى أن ردّ الأعلام المنقولة من اللغات
بعضها إلى بعض عسير , وفي بعض الأحيان يكونُ متعذرًا. وخصوصًا مثل هذه
الأسماء القديمة الواردة في كتب الأمم المقدسة. فكم في كتب العهدين مِن أعلام لا
يعرف اشتقاقها إلا رَجْمًا بالغيب! وكم فيها مِن أسماء لأشخاص من أُمّم يسمون عند
أممهم بغيرها ولا يعرف سبب لهذا الاختلاف.
فإذا كان الأمر كذلك فلا معنى لتلك الشبهة. فإن الشبهة لا تدحض حُجّة إلا إذا
بنيت على أساس ثابت مقطوع به. ومادامت الشبهة وَهْمِية أو ظنية , فلا يلتفت
إليها. ولا يعبأ بها في مقابلة الدلائل اليقينية.
* * *
المسألة الخامسة عشرة
(أموال قارون) [1]
قال الله تعالى في قصة قارون: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ
بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي القُوَّةِ} (القصص: 76) فقال قوم: إن ذلك غير معقول؛ لأن
وجود مال بهذه الكثرة غير معروف.
ونقول: أما إنْ كانَ ماله من الذهب والفضة فربما كان قولهم صحيحًا. وأما
إنْ كانَ من غير الذهب والفضة أو كان من جنس العروض لا من جنس النقد كان
ذلك جائزًا. فمن المحتمل أنه كان عنده مخازن عديدة تحتوي على غلال ومأكولات
وملبوسات ومفروشات ومصنوعات , وغيرها مما ادخره لنفسه أو للاتجار به،
وكان لهذه المخازن عدة أبواب ومفاتيح كثيرة تثقل العصبة أولي القوة وخصوصًا إذا
لاحظنا أن مفاتيح الأمم القديمة كانت كبيرة وضخمة. بحيث يصعب على الإنسان
حمل كثير منها.
على أن الأرجح أن لفظ (مفاتح) معناه الخزائن , وقياس واحده مَفْتَح بفتح
الميم. وبذلك قال ابن عباس والحسن.
وقد ورد بهذا المعنى أيضًا في قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ
هُوَ} (الأنعام: 59) أي خزائن الغيب ومكنونات أسراره. خزائن أموال قارون
كانت ثقيلة. وهذا أمر مشاهد مثله الآن ومعروف كما في البلاد الأوربية والأمريكية
من النقود الذهبية وغيرها.
* * *
المسألة السادسةَ عَشْرَةَ
(الوضع اللغوي)
(استعمال لفظ القلب في القرآن)
توضع الألفاظ في اللغات للمعاني والذوات لمناسبات صحيحة أو غير صحيحة ,
ثم يفشو استعمالها بين الناس ويتوسع فيها حتى يجهل كثير من الناس أصول
معانيها , فلا يبالون في استعمالهم لها إنْ كانَ السبب الذي وضعت لأجله هذه الألفاظ
للمعاني المخصوصة صحيحًا أو غير صحيح. مثال ذلك قولهم: (فلان مجنون)
أي غير سليم العقل فلفظ (مجنون) من جُنّ الرجل أي أصابته الجِنّ , ولما كان هذا
الاعتقاد شائعًا بين القدماء فشا بينهم استعمال لفظ مجنون , وما كان من مادته فيمن
اختل عقله وإنْ كانَ هذا الاختلال في الحقيقة ليس ناشئًا عن الجن كما يزعمون ,
ولم تبال الناس بالبحث عن صحة هذا السبب المزعوم الذي لأجله استعمل هذا اللفظ
في هذا المعنى بل صاروا يستعملونه (بقطع النظر عن البحث في حقيقة أصله)
في كل اختلال للعقل حتى كأنه وضع في أول الأمر لهذا المعنى. ومثل ذلك لفظ
(عبقر) وهو اسم لموضع تزعُم العرب أنه مِن أرض الجن , ثم نسبوا إليه كل شيء
تعجبوا من جودة صنعه كما في قوله تعالى: {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} (الرحمن: 76)
مع أن هذا الموضع لا وجود له إلا في مخيلاتهم الواهمة. وكذلك لفظ (القلب) فإنه
في الأصل موضوع لداخل الشيء ولبه , ولذا أطلقوه على الفؤاد ولما كانوا يعتقدون
أن الفؤاد هو مكان التعقل والتفكر صاروا يسمون العقل قلبًا من باب تسمية الشيء
بمحله على سبيل المجاز المرسل , ثم شاع بينهم هذا الاستعمال حتى صارت
الكلمتان (العقل والقلب) عندهم مترادفتين في بعض المواضع وجرى على ذلك
الأولون والآخِرون غير مبالين إنْ كانَ أصل هذا الاستعمال مبنيًّا على فكرة صحيحة
أو غير صحيحة. ومن ذلك أيضًا قولهم: (غربت الشمس، أو طلعت) فإنه تعبير
يُرَاد به احتجاب الشمس عنا أو ظهورها لنا سواء كان ذلك ناشئًا عن حركاتها أو
عن حركة الأرض , فإن أمثال هذه المباحث يجب أنْ تكونَ بعيدةً عن الأوضاع
اللغوية التي عهدتها الناس وعن الاصطلاحات التي جروا عليها في كلامهم
وتعبيراتهم , ولذلك تجد في جميع اللغات ألفاظًا وُضِعَتْ في الأصل لأفكار غير
صحيحة , ثم شاعت بين الناس في معانٍ صحيحةٍ فلم تجد العلماء بُدًّا مِن الجري
عليها في كلامهم واستعمالها في عباراتهم مع علمهم بخطأ الأصل الذي بنيت عليه.
وما سمعنا بأن أحدًا منهم عاب غيره لأجل استعمالها بعد شيوعها بين الناس
ومعرفتهم لها , ولذلك يقولون: (لا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح) .
فنحن لا ننكر أن في القرآن بعض ألفاظ وضعها العرب في معانٍ مخصوصةٍ
لأفكار كانت عندهم وهي غير صحيحة , ثم شاعت بينهم في المعاني حتى نزل
القرآن , فلم يستَغْنِ عن استعمالها فيما استعملت فيه بينهم , وإن كانوا في وضعها
مخطئين , فإن ذلك مما تقتضيه الضرورة لنزوله بتلك اللغة فلا يجوز أن يتحاشى
تعبيراتها المعهودة للعرب وخصوصًا إذا كانت سَلِسَلة التركيب.
وإنما الذي ننكره بما كتبناه سابقًا أمران:
(1) أن يضع القرآن من تلقاء نفسه لفظًا في معنى لفكرة غير صحيحة.
(2) أن ينص على أمر من الأمور بعبارة له صريحة , ويكون هذا الأمر
في الواقع ونفس الأمر غير صحيح. فلا ينافي ذلك ورود لفظ فيه مثل القلب،
وعبقري، ومجنون، بمعنى العقل والشيء الجميل ومختل العقل. وإن كانت العرب
في وضع هذه الألفاظ لهذه المعاني قد راعوا عِلَلاً غير صحيحة. فإن ذلك معهود في
جميع اللغات وفي كلام جميع العلماء مهما أوتوا من العلم والفلسفة؛ إِذْ لا داعي
يدعوك لترك أمثال هذه الألفاظ بعد جريانها على ألسنة الناس في معانٍ صحيحة،
وإن كانت في أصل وضعها خطأً , فإنهم لو تحاشوا لضاقت عليهم اللغات , ولَكانت
تعابيرهم عاجزةً عن تأدية المعنى المراد ركيكةً في نظر جماهير الناس، فمن أمثلة
ذلك في اللغات الأجنبية تسميتهم بعض جزائر أمريكا باسم Indies West أي
جزائر الهند الغربية، والسبب في ذلك أن مكتشف أمريكا (كريستوفر كولومبس)
لما رأى هذه الجزائر ظنّ أنها جزائر الهند , فسماها بذلك وجرى الناس على هذه
التسمية إلى هذا اليوم مع علمهم بأنها خطأ. ومِن ذلك أيضًا تسمية الأطباء لبعض
الديدان الشريطية المعوية باسم Solivm Taenia أي الدودة الشريطية الوحيدة؛
لتوهم الناس في الزمن السابق أنه لا يوجد منها في الأمعاء سوى واحدة , ومع أنهم
الآن قد علموا أنه قد يوجد منها أكثر من واحدة، ترى جميع العلماء يصرون على
هذا الاسم , وإنْ كانَ الوصف فيه خطأً؛ لشيوعه بين الناس. وكذلك تسميتهم بعض
الأمراض العصبية (بالهستيريا) من لفظ Hystera اليوناني، ومعناه (الرحم)
لظن الناس في الزمن الأول أن علَّةَ هذا المرض هي في الرحم , ومع عِلْمِ الأطباء
بخطأ ذلك لا يزالون متمسكين به.
إذا علمتَ ذلك فاسمع الآن معنى القلب في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ
وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) , فمعنى القلوب في أول
الآية، العقول. وإنما لم يقل: (فتكون لهم عقول يعقلون بها) لِرَكَاكَةِ ذلك، ولم
يَقُلْ: (فتكون لهم أمخاخ يعقلون بها) ؛ لعدم معرفة العرب ذلك ولاستنكارهم هذا
التعبير والقرآن لم يَأْتِ لتعليمهم أمثال هذه المسائل الفسيولوجية؛ فلذا لم يهتم بها
ويصح أنْ يكونَ معنى القلوب هنا الأنفس العاقلة المفكرة والأرواح المدركة المدبرة؛
لأن قلب الشيء هو جوهره ولُبّه [2] وخلاصته , ولا جوهر للإنسان سوى روحه
فإنها هي حقيقته وكل ما سواها قشور لها. وأما لفظ القلوب في آخر الآية فمعناه
العضو المعروف في صدر الإنسان , ومعنى الآية أنهم لم يعموا عن المواعظ والعبر؛
لعمى أبصارهم , بل لعمى قلوبهم التي في صدورهم؛ أي لعدم تأثرها وانفعالها
حتى كأنها قلوب أموات، فإن قلوب الأحياء تتأثر بما يحيط بالإنسان من العوامل
فتَزِيد ضرباتها أو تنقص وتقوى , أو تضعف وتنتظم , أو تختل إلى غير ذلك من
التغيرات التي تحصل لحركات القلب , وهي تدل على مبلغ تأثر صاحبه وعلى
درجة الإحساس عنده، فَمَنْ لم يتأثر قلبُه كانت نفسُه جامدةً؛ لأن القلوب هي دلائل
النفوس , ولذلك قيدها الله هنا بقوله: {فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) لمنع التجوز
في معنى القلوب، فكأنه تعالى يقول: إن الذي يدلكم على موت نفوس هؤلاء القوم
وجمود أرواحهم أنكم لو أحسستم بقلوبهم الحقيقية التي في صدورهم لَمَا وجدتموها
تنفعل أو تضطرب لِمَا تضطرب منه قلوب الأحياء المتقين إذا سمعوا ما به يتعظون ,
أو رَأَوْا ما به يعتبرون، فكأنه تعالى جعل آخر هذه الآية كدليل على ما قاله في
أولها مما معناه أن عقولهم أو نفوسهم لا تدرك شيئًا , ولولا القيد المذكور وهو قوله:
{الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) لأَمْكَنَ حَمْل القلوب في آخر الآية على ما
حملت عليه في أولها , وكان المراد منها العقول في الموضعين، وبذلك تخفى الفائدة
من باقي الآية , ولا يكون ما في آخرها كالدليل على ما نسبه إليهم في أولها.
هذا وورود لفظ بمعنيين مختلفين في أول الجملة وفي آخرها كما في هذه الآية
له شواهدُ أُخْرَى كثيرةٌ مِن القرآن وفي كلام العرب؛ كقوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ
يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} (النور: 43) - أي الأعين - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي
الأَبْصَارِ} (النور: 44) أي العقول , وكقول الشاعر:
لم نَلْقَ غيرك إنسانًا يلاذ به ... فلا بَرِحْتَ لعين الدهر إنسانًا
* * *
المسألة السابعة عشرة
(التناقض في عبارات القرآن في السورة الواحدة)
ذكر بعض المتقدمين من أمثلة ذلك التناقض في السورة الواحدة ما جاء في
سورة المزمل من الأمر بالصلاة بالليل في أولها مع ما ينافي ذلك في آخرها , ولما
كنت ممن لا يقول بجواز النسخ في القرآن وجب علي التكلم على هذه الشبهة بما لا
يخل بأصولي الآتية في تفسير القرآن الشريف , وهي:
(1) عدم القول بالنسخ في القرآن.
(2) عدم توقف فهم القرآن على روايات الآحاد.
(3) كون آيات كل سورة يلتئم بعضها مع بعض كأنها نزلت دفعةً واحدةً.
فمع مراعاة هذه الأصول الثلاثة نقول:
إن النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه كانوا في أول الإسلام يصلّون في
الليل إلى ثُلُثِهِ أو نصفه أو ثُلُثَيْهِ، ولعلهم كانوا يفعلون ذلك اتباعًا لأمر مِن الله لهم به
في غير القرآن كما كانوا يصلون إلى بيت المقدس في أول الإسلام مع أن الأمر
بذلك لم يرد في القرآن , وأمثال هذه الأوامر هي مما نسميه الأوامر الوقتية أو
القولية (غير الكتابية أو غير الرسمية) . وكانت هذه الصلاة الليلية من أكبر ما
يقوي الرابطةَ بين جماعة المؤمنين الأولى حينما كانوا قليلي العدد، فقراء، ضعفاء،
فكانت هذه الصلاة أعظم وسيلة لتثبيتهم واتحادهم وتضامنهم , وليزدادوا قوةً في
إيمانهم على قوتهم فيه، فلما جهر بالدعوة إلى الإسلام وبدأ الدين أنْ يكونَ أعمّ مما
كان وأخذ يدخل فيه أصناف مختلفة من الناس منهم ضعفاء الأجسام , ومنهم ذَوُو
الأعمال الدنيوية التجارية وغيرها، ومنهم مَن لم يكن عنده من الإيمان ما يحمله
على سهر الليل كما حمل أولئك المؤمنين الأولين - لما صار الأمر كذلك أنزل الله
سورة المزمل (73) , وفيها يأمر الله نبيه بالاستمرار على قيام الليل ويوجبه عليه
دون غيره من المؤمنين، فناداه بقوله: {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} (المزمل: 1-2) الآيات، والخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم وحده كما يدل
باقي السورة. والمراد بقوله: {قُمِ اللَّيْلَ} (المزمل: 2) الأمر بالدوام
والاستمرار.
والذي يدل على ذلك قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} (المزمل: 20) الآية، فكأنه تعالى يقول: أنا أعلم ما تفعل ومطلع عليه , وإنما
أمري لك به هو لطلب الاستمرار عليه، وكذلك أعلم أنه يقومه {وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ
مَعَكَ} (المزمل: 20) يعملون ما تعمل ولا يعلمون لك أمرًا في ذلك.
ثم قال تعالى: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} (المزمل: 20) أيها المؤمنون
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} (المزمل: 20) بالترخيص لكم في ترك ما أمرتم به. وفي هذه
العبارة الْتِفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب، فإن المخاطبين هنا هم الطائفة الذين سبق
ذكرهم , ونكتة هذا الالتفات البلاغية هي إظهار عنايته بهم ورعايته تعالى لهم ,
وإقباله عليهم إكرامًا لهم على ما قاموا به من التهجد بالليل.
ولما بدأ أنْ يكونَ من المسلمين المرضى والمشتغلون بالتجارة وغيرها خفف
الله عنهم , وبين أن قيام الليل لم يَبْقَ فرضًا عليهم، فلهم فيه الخيار، لأن تكليفهم به
على سبيل الوجوب أصبح شاقًّا عليهم وخصوصًا لأنهم سيضطرون يومًا ما إلى
القتال دفاعًا عن أنفسهم في سبيل الله، فقال تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (المزمل: 20) الآيات.
والخلاصة أن قيام الليل كان فَرَضَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على نفسه
وعلى أتباعه , ولم ينزل قرآن في ذلك , ولعله فعله بالاجتهاد أو بالوحي في غير
القرآن , ثم رفع الله تعالى ذلك عن المؤمنين بسورة المزمل، وألزم به النبي صلى
الله عليه وسلم دون سواه، فالنسخ ليس للقرآن وإنما هو لِمَا كان يفعله المؤمنون
بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذي يدلك على أن قيام الليل صار خاصًّا
برسول الله صلى الله عليه وسلم قوله في موضع آخر: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً
لَّكَ} (الإسراء: 79) أي فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة خاصة
بك دون الأمة.
فمما تقدم تعلم:
(1) أن سورة المزمل لا نسخ فيها للقرآن.
(2) ولا تناقض فيها بين آياتها.
(3) وأن الأمر في أولها هو للدوام والاستمرار، وهو معهود في اللغة ,
كقولك لمن يأكل (كُلْ) . والذي دلنا على ذلك قوله فيها: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} (المزمل: 20) , إلخ.
(4) وأن هذه السورة تفهم بدون احتياج لروايات الآحاد ومن كان خالي
الذهن لا يفهم منها سوى ما قلناه.
(5) وأنه لا حاجةَ للقول بأن جُزْءَها الأول نزل أولاً، وأن جزءها الأخير
نزل بعد مُدَّةٍ. بل على تفسيرنا تكون آياتها ملتئمة مع بعضها كأنها نزلت دفعةً
واحدةً. فكل من يدعي أن في عبارات القرآن تناقضًا فإنما هو جاهل غبي بليد
الذهن.
وكم من عائب قولاً صحيحًا ... وآفته من الفهم السقيم
* * *
المسألة الثامنة عشرة
(البعث الجسماني) [3]
إذا مات الإنسان فدفن تفرقت أجزاء جسمه في الثرى، فإذا زرع الزارعون
في هذه الأرض تغذت الأشجار والنبات منها ومن أجزاء الإنسان التي دفنت فيها
وانحلت. فإذا أكل إنسان آخر من هذه الأشجار والنباتات أو من الحيوانات التي
تأكلها استحالت إلى جسمه ودخل في تركيبه بعض موادّ مما كانت في جسم الإنسان
الأول، ومن ذلك تعلم أن مادة الإنسان تشترك معه ومع غيره فلا يمكن إعادته بها
وإلا لَمَا أمكن إعادة من اشترك معه فيها.
ومِن جهة أخرى قد ثبت أن جسم الإنسان دائمًا في تبدل وتغير، فإذا أعيد
بجميع مادته التي كان بها في الدنيا كان جسمًا عظيمًا كبيرًا جدًّا وهو خلاف المنتظر
والمألوف.
هذان الاعتراضان هما أكبر ما يقال للتشكيك في البعث الجسماني , ونجيب
عنهما بأن المسلم لا يجب أن يعتقد أن جميع ما دخل في جسمه من المواد في الدنيا
لا بُدَّ من إعادتها، ولا أنه لا بُدَّ من إعادته بجسمه الدنيوي لا بغيره، بل الواجب
عليه أن يعتقد بأن البعث رُوحَاني جسماني، وأن جسمه قد يكون فيه شيء من المادة
التي كانت له في الدنيا، وقد لا يكون فيه شيء من ذلك، فإن مادته الدنيوية إذا
دخلت في غيره فأعيد بها فلا يمكن إعادته هو أيضًا بها وهو أمر بديهي لا يحتاج
لِقِيلَ وقَالَ، فإن الإنسان لا يتوقف تحقق وجوده على هذه المادة التي هي لجوهره
وروحه كالثوب للبدن؛ ولذلك ترى أنه في الدنيا يتبدل ويتغير مع أن حقيقته هي
هي، فالمعول على روحه لا على مادته، ولذلك قال الله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ} (النساء: 56) وهو صريح في أن
المعول عليه هو نفوسهم وأرواحهم لا أجسامهم المتبدلة المتغيرة , ولا ينافي ذلك قوله
تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} (القيامة: 3) فإن الألف واللام
في الإنسان هي للجنس، والمعنى: أيظن الإنسانُ أنْ لَنْ يجمعَ اللهُ عظامَ الجنس
البشري يومَ القيامة , ويخلق منها الأشخاص؟ فهو ليس نصًّا في أن كل مادة لأي
فرد إذا كانت مما دخل في غيره , وأُعِيد بها فلا بُدَّ من إعادته هو أيضًا بها، بل إن
الله سيعيد أجسام البشر من المواد التي كانوا بها في الدنيا ولا يمنع ذلك من إضافة
جزء من مادة جديدة عليها، وكذلك لا يستلزم أن كل مادة دخلت في جسم في هذه
الدنيا لا بُدَّ أن ترجع إليه في الآخرة , وإلاَّ لَلَزم أنْ يكونَ للمادة الواحدة عدة محال
تقوم بها , وهو محال وليس في عبارات القرآن ما يؤدي إليه , بل غاية ما يفهم منه
أن الله سيركب أجسام البشر من المواد التي ركبت منها في الدنيا، فإن لم تكف فلا
مانع من إضافة مادة جديدة عليها ثم إنه سيعيد المواد إلى أصحابها الذين كانوا بها في
الدنيا بقدر الإمكان , فإذا كانت مما تداخل في عدة أشخاص اكتفى بإعادتها إلى
شخص واحد منهم. فإن الغرض إعادة الأرواح إلى أي جسم لا إلى جسم معين كما
يدل عليه قوله: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} (النساء: 56) كما تقدم ولا ينافي ذلك
أيضًا قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ
* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (يس: 78-79) , فإننا
لا ننكر أن الله سيُحيي عظام البشر الرميمة , ولا ننكر أنه عالم بجميع أنواع الخلق
وطرقه، وأنه عالم بجميع الأشخاص الذين دخلت في أجسامهم أي مادة معينة، فهو
تعالى سيحيي الميت ويرد كل مادة إلى صاحبها الذي يعلمه. ولا يخرج في ذلك عن
الممكنات , فإنه لا يأتي المستحيلات ولم يقل القرآن: إنه سيأتي شيئًا مستحيلاً.
أمّا شهادةُ أعضاء الإنسان التي كانت له في الدنيا عليه في الآخرة كما جاء به
القرآن الشريف فهي ليست مستحيلةً، فإن مادة هذه الأعضاء التي اقترف بها الآثام
في الدنيا يجوز عقلاً أن تنطق بذلك , وتشهد به عليه سواء كانت معادة في جسمه أو
في جسم غيره. فكأن مادة هذه الأعضاء ستقوم بالشهادة على جميع الأشخاص الذين
اقترفوا بها الآثام في الدنيا، وإن كانت هذه المادة قائمة بشخص واحد منهم يوم
القيامة [4] . ومن لا يضع عقله في دائرة الأمور الضيقة أمكنه التسليم بذلك، فإنه
من المعقول أن تشهد المادة بجميع ما عملته في الأشخاص المختلفة؛ فيعذب الله
نفوسهم على ما عملته , وهي قائمة في أي مادّة كانت.
وهناك طريق آخر في الرَّدِّ على هذه الشبهة. وهذا الطريق هو ما جرى عليه
قدماء علماء الكلام. وتقريره أننا نشاهد أن جسم الإنسان هو دائمًا في تبدّل وتغيّر؛
فتراه أولاً صغيرًا , ثم يكبر شيئًا فشيئًا , وينتقل من سمن إلى نحافة , ومن نحافة
إلى سمن , وفي جميع هذه الأطوار والأحوال ذات الشخص وحقيقته واحدة لا تتبدل
ولا تتغير , فالشخص الصغير هو هو بعينه الكبير، والنحيف هو السمين وبالعكس؛
إِذْ لا بُدَّ أنْ يكونَ في جسم الإنسان شيئان: مادة أصلية؛ ومادة فرعية. فالمادة
الأصلية هي التي تبقى فيه مِن أول نشأته إلى آخر حياته , لا تتبدل ولا تتغير،
وهي التي بها تتحقق شخصيته وفيها تنتقل الأمراض الوراثية والاستعدادات
والأخلاق والصفات من الآباء إلى الأبناء. ولا ينافي ذلك ما ثبت في علم
الفسيولوجيا الآن من التغيرات الكيماوية الحيوية التي تحصل في خلايا الأجسام
الحية , فإننا لا يمكننا أن نثبت باليقين أن جميع الذرات التي تتركب منها الخلايا
الحية تتبدل وتتغير إِذْ يجوز أنْ يكونَ التبدل والتغير حاصلاً لبعض الذّرّات دون
البعض , ولِمَا انْضَمّ إليها من المواد الغذائية أي أن كل خلية فيها جزء ثابت
وجزء متغير. وعليه فالغالب أن بعض مادة الإنسان تكونَ ثابتةً مِن أول حياته
إلى آخرها , ولا يمنع ذلك مِن انضمام أجزاء أخرى إليها تصير ثابتة مثلها , ولها
من الخواص ما لها وهذه الأجزاء تأتي إليها من طريق الغذاء ومجموع هذه المادة
الثابتة هي ما نسميه (المادة الأصلية) , وأما المادة الفرعية فهي التي تتبدل وتتغير
ولا عِبْرَةَ بها في تحقق شخص الإنسان.
فإذا مات شخص وانحل جسمه فتغذت به النباتات فالحيوانات حفظ الإله القدير
العليم المادةَ الأصلية له من أنْ تكونَ مادة أصلية لشخص آخر , وإنْ كانَ يجوز أن
تدخل في جسم الآخر وتصير مادة فرعية له لا يتوقف عليها تحقق شخصه، وأما
المادة الفرعية فقد تصير للثاني مادة أصلية بانضمامها إلى أجزائه الثابتة , واكتسابها
خواص منها إنْ كانَ الشخص في طَوْر النمو. وعليه فالمادة الأصلية لكل شخص
تبقى له وحده إلى يوم القيامة، وإن كانت تدخل في غيره على أنها فرعية له.
وبذلك يكون البعث الجسماني ممكنًا؛ لأن هذا الغرض جائز ولا يوجد في العلم
الطبيعي ولا العقل ما يثبت استحالته.
والفرق بين هذا الطريق والطريق الأول أننا في الأول نسلم تغير وتبدل جميع
مادة الإنسان، وأما في الثاني فنقول: إن التغير والتبدل حاصل لبعض مادة الإنسان
دون البعض. والطريق الأول أقرب إلى ظاهر نواميس الوجود , والثاني أقرب إلى
ظاهر الآيات القرآنية الشريفة. وكِلاَ الطريقين معقول ولا يوجد في العلوم الطبيعية
شيء مقطوع به ينافيهما. ولا في آيات الكتاب ما لا يلتئم معهما والله أعلم.
إلى هنا أمسك بالقلم عن الجولان في ميدان الطُّرُوس، فقد زالت الشبهات،
وتجلت آيات الكتاب بجمالها كالعروس، وحصحص الحق، وظهر الصدق، فقطع
ألسنة الكاذبين، وبهر عقول الناظرين، وإن في هذا الكتاب لآيات للمؤمنين، وإنه
لَتَنْزِيل رَبّ العالمين، وليعلمنّ نبأه بعد حين.
* * *
الخاتمة
(في ذكر آيات علمية من القرآن)
قلنا: إن القرآن الشريف لم يَأْتِ لتعليم الناس شيئًا من العلوم الطبيعية، ولكن
مع ذلك لم تخلُ آياتُه مِن التعبيرات الدقيقة العلمية , ولا مِن الإشارة إلى حقائق
كثيرة من المسائل الطبيعية , مما يدل على أنه تنزيل العليم الحكيم، فإن هذه
المسائل ما كانت معروفة لأحد في زمنه، ولا يمكن لعربي أُمِّيٍّ في ذلك الوقت أن
يقف عليها لولا وَحْيُ الله. ولنذكر هنا شيئًا من هذه الآيات المشتملة على التعبيرات
الدقيقة والمسائل العلمية الطبيعية.
(1) قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى
إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ
كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 57) , وقال أيضًا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ
مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ
سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي
الأَبْصَارِ} (النور: 43-44) وفيه إشارة إلى أن البرق يتولد من السحاب
وقوله: {مِن جِبَالٍ فِيهَا} (النور: 43) هو تشبيه لِقِطَعِ السحاب العظيمة بالجبال
لما بينهما من التشابه في الشكل وعدم الانتظام وعِظَم الحَجْم كما شبه أمواج الماء
بالجبال في قوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} (هود: 42) .
(2) [5] قال تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ
صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (النمل: 88) , وهو صريح
في حركة الأرض. وليس ذلك في شأن القيامة، فإن قوله: {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} (النمل: 88) لا يناسب مقام التهويل والتخويف، وقوله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ
كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة. وقال أيضًا:
{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} (الشمس: 1-4) وهو أيضًا يشير إلى حركة الأرض.
(3) [6] قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا
رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: 30) وهو
صريح في أن الأرض والكواكب كانت شيئًا واحدًا ثم انفصل بعضها عن بعض،
وهو كقول العلماء الطبيعيين إنها كلها أجزاء انفصلت عن الشمس وكانت ملتهبة
فصارت تبرد شيئًا فشيئًا وإلى ذلك يشير القرآن بقوله أيضًا: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11) أي وهي ذات دخان لالتهاب أجزائها ولكون أكثرها في الحالة
الغازيّة.
(4) قال الله تعالى: {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} (الرعد: 3) وهو صريح في أن الثمرات جميعًا فيها الذكر والأنثى، وهو أمر لم
يعرف إلا مِن عهد قريب. والقرآن نفسه هو الذي فسر الزوجين بذلك في آية أخرى
بقوله: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} (النجم: 45) .
(5) قال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر: 22) أي
ملقحات للأشجار.
(6) قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا
آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (الإسراء: 12) وهو يشير إلى أن القمر وهو {آيَةَ النَّهَارِ} (الإسراء: 12)
مظلم لذاته.
(7) قال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ *
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ
كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ
فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 37-40) .
(8) [7] قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ
فِي الأَرْضِ} (الزمر: 21) الآية.
فقل لي بأبيك؛ أيُّ عربيٍّ أُمِّيٍّ يعْرِف هذه المسائل أو تخطر له على بال ,
وخصوصًا في تلك الأزمان التي كان فيها أعلم العلماء في أرقى البلاد يجهل بعض
هذه الحقائق المذكورة في القرآن كدوران الأرض، وكون جميع السيارات منفصلة
عن أصل واحد، وأنها كانت دُخَانًا. وأنّ الثمرات جميعًا فيها الذكر والأنثى، وأن
الرياح هي التي تلقحها إلى غير ذلك من دقائق المسائل العلمية الطبيعية. وكلها
دلائل على أن هذا الكتاب ليس مِن صُنْع البشر بل هو تنزيل مِن الله العليم الحكيم.
... ... ... ... ... ... ... الدكتور محمد توفيق صدقي
__________
(1) المنار: وراجع الكلام عن قارون وهامان في ص 294 من المجلد السادس.
(2) ولذلك سموا العقول أيضًا بالألباب لأنها أهم شيء في الإنسان منه اهـ.
(3) المنار: راجع المسألة في ص 54 و412 من المجلد السابع.
(4) المنار: لا نص في القرآن على أن هذه المواد التي تتركب منها أعضاء الإنسان في الدنيا هي التي تبعث وتشهد عليه , بل أسند الشهادة إلى أعضائه سواء تركبت منها أو من غيرها، فهي أعضاؤه على كل حال، وهل الشهادة قولية أو حالية على حدّ: لي في محبتكم شهود أربع، إلخ البيتين؟ الله أعلم.
(5) راجع ص 260 م 6 وص 104 وما بعدها م 8 وص 920 م 9.
(6) راجع ص 333 م 6 و289 م 7.
(7) راجع ص 290 م 7.(11/441)
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
__________
السنن والأحاديث النبوية
بحث العمل بأحاديث الآحاد والحديث المتواتر
وَلْنَعُدْ , فنقول: التواتر هو وإنْ كانَ من الطرق المفيدة للعلم إذا وجد إلا أنا لا
نحصر إفادة العلم بالأخبار فيه , كما إنا لا نلزم به كل أحد قبل أن يعرف أنه متواتر
إذا لم يقصر في الطلب أو كان معذورًا لبعده عن أهله.
قال حضرة الدكتور: لم يتواتر من أقواله - صلى الله عليه وسلم - إلا القليل
الذي لا شيء فيه من أحكام الدين.
أقول ما ذكره غير مسلَّم , والتواتر هو ما نقله جَمْعٌ عَن جمع , يبعد تواطؤهم
على الكذب، أي عن محسوس، وقد اختلفوا اختلافًا كثيرًا في تعيين هذا الجمع.
وبناءً على تعيين الجمع فيما نظنّ قال بعضهم بندرة وعزة المتواتر في الأحاديث
النبوية. وهذا أولى ما يقال في الاعتذار عن ابن الصلاح في قوله بذلك.
قال السيوطي نقلاً عن شيخ الإسلام: إن قول ابن الصلاح نشأ عن قلة
الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن
يتواطئوا على الكذب أو يجعل منهم اتفاقًا - قال: ومن أحسن ما يقرر به كون
المتواتر موجودًا وجودَ كثرةٍ في الأحاديث أن الكتب المشهورة (أي المتواترة عن
مؤلفيها) بأيدي الناس شرقًا وغربًا المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مؤلفيها إذا
اجتمعت (أي أو اجتمع بعضها كما قال ذلك جمهور أهل الحديث) على حديث ,
وتعددت طرقه تعددًا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، أفاد العلم اليقيني بصحته
إلى قائله. قال: ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير اهـ.
وأقول أيضًا: إن مَن تجرد عن التعصب والتقليد لا تخفى عليه الحقيقة
المنشودة في هذا الباب. وبما قدمناه وما يأتي يظهر للمنصف مكانة الخبر الذي ينقله
آحاد ثقات قد عرفوا بقوة الحفظ والذكاء والعدالة والورع والتقوى , وعرفوا أن
الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس ككذب على أحد، وأن مَن
كذب عليه متعمِّدًا يتبوأ مقعده من النار , اعتقدوا ذلك وهم بالصفات التي عَرفتَ
وتحملوا من الرواية ما اعتقدوا وُجُوب العمل به , ثم وجوب تأديته لغيرهم كالأمانة,
وقد علموا ما في الخيانة من الوعيد والترهيب عن كتم العلم.
فإذا اتصل سند الخبر بمثل من ذكرناه فهو فيما نعتقد مفيد للعلم أي يبعد أن
يمنع العقل عن مثل من نعتناه الكذب عادة , ورب رجل يعدل رجالاً - فإن قيل:
سلمنا أنّ مَن كان مثل هذا يبعد منه الكذب عادة إلا أنه لا يؤمن عليه النسيان , قُلْتُ:
قد علم من عادة المحدثين كتابة ما سمعوه , وعلى الأقل للمراجعة إلى وقت التأدية ,
وهم لا يعتمدون على المكتوبات إلا ما كان موثوقًا به ومحفوظًا بغاية الاحتياط ,
ولا يقبلون المكتوبات التي لا يُدرى حالها وإنْ كانَ كاتبها ثقة - وهذا أكبر دليل على
أن ما عندهم من الأخبار أصح ما وجد من الأخبار في العالم بعد كتاب الله - وإنما
كان تواتر القرآن مقدمًا على كل خبر؛ لأنه نقل بمثل هذه الأسانيد اليقينية متواترة.
على أنا نستبعد عادة أن الراوي الذي ذكرنا صفاته يحدث بما نسيه إذْ لو فعل
ذلك لم يكن بالمرتبة التي ذكرناها لا سِيَّمَا في أحاديث الأحكام والأعمال لشدة حاجته
وحاجة معاصريه إلى العمل بها. على أنه إذا نسي ذلك لا يحدث به , وإن حدث
فإنه يذكر اللفظ بالشك. ويبعد كل البعد أن ينسى نسيانه لذلك وأبعد من ذلك أنْ لا
يوجد هذا الحديث عند غيره.
على أنه لو فرض وقوع ذلك وهو غاية الندور فلا نسلم أن ذلك يضر في
الدين إذْ قد اغتفر ذلك، أي النسيان والخطأ، فيما حاجة الناس إليه أكثر، وفيما
وجب فيه زيادة الاحتياط، وهما فيه أشد ضررًا وفيما هو سبب للضرر بلا واسطة
وذلك في القضاء؛ لأن أحد الخصمين قد يكون أَلْحَنَ بحُجّته من الآخر , فلم يضر
الحاكم أن يحكم بخلاف الواقع في هذه الحالة إذا لم يقصر فلأَنْ يغتفر ذلك في
الرواية أولى لكون الضرر منها إن وجد لا يكون هو السبب المباشر للضرر غالبًا.
فتبين بذلك أن ما عسى أن يطعن به في الرواية التي وصفناها مع كونه لا يضر في
الدين هو بناء شاذ على شاذ على شاذ , كلُّ منها يبعد وقوعه عادة - بل هو أولى
بالوثوق من خبر الجمع الفسقة غير الموثقين الذين يقال في خبرهم يمنع أو يبعد
العقل تواطؤهم على الكذب عادة. فبعد الكذب عمن ذكرناه أكثر من بعده عن جمع
التواتر الذي ذكروه.
وحَيْثُ كان الأصل في جميع العلوم سواء كانت تصورية أو تصديقية هو ما
أدركه الشخص بأحد مشاعره الظاهرة أو الباطنة , أو ما دل العقل عليه أو الوحي
السماوي، وهذا الأخير لا يكون إلا علمًا حقًّا دائمًا، وما تقدمه يتفاوت الناس فيه
تفاوتًا لا يحصره حد , فقد صحّ لدينا عن المتقدمين وشهدنا ورأينا ما لا يحصى في
زماننا أنه قد تصحح الجماعات ما يعدونه علمًا لديهم بتطبيقه على معلومات فرد
واحد، بل قد يتبين فساد معتقدهم في جانب معلومات الفرد الواحد - وذلك دليل
واضح على أن الفرد الواحد الممتاز بالكمال في صفاته وعاداته يعادل بل يرجح
بالأفراد الكثيرين من بني نوعه.
ونحن أيضًا نرى الشخص المنصف قد يتهم نفسه فيما سمعه بأذنه إذا خالفه فيه
من يعتقد أنه أحفظ منه فمثل هذا المنصف إذا اتهم نفسه فيما سمعه بأذن نفسه , وقدم
على ذلك الخبر الممتاز الذي ذكرناه قد يبعد كل البعد أن يقدم على خبر سمعه بنفسه
خبر الكثيرين غير العدول - وهل يمكن أن يقال ما علمه الإنسان وسمعه لا يسمى
علمًا لجواز زواله بالنسيان؟ فتبين بطلان الخبر أو العلم بعد اعتقاد ثبوته هو عندنا
يضارع زوال العلم بالنسيان.
وأيضًا احتمال النسيان في الخبر مع الذهول عنه كما أنه لا يضر الخبر وهو
علم في حقه ما لم يتذكر أنه نسيه، فكذلك لا يضر المُخبَر بالفتح إذا كان المُخبِر
بالكسر بالصفات التي ذكرناها.
إن خبر الآحاد قد اتَّفَقَ على اعتباره جميعُ البشر كما هو مشاهد واعتبرته
الكتب السماوية في شرائعها وأنبياء الله ورسله في التبليغ عنه والله ورسوله أمر
الأمة أن يبلغوا عنهما جمعًا وفُرَادَى، وبعبارة أخرى كل فرد من الأمة مأمور
بالتبليغ , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكليم الله موسى بن عمران عليه
السلام ترك بلدًا من أمره الله بإنذارهم , وخرج من بين أظهرهم إلى مَدْيَن معتمدًا
على خبر الواحد. وأثنى الله على من احتج بخبر الواحد كمؤمن آل فرعون إلى
غير ذلك مما لا يكفي لبسطه المجلدات.
كل ذلك معلوم بالضرورة ولا ينكره إلا مكابر، فكيف يصح قول حضرة
الدكتور: لا يجب العمل بخبر الآحاد مطلقًا , ومِنْ ثَمَّ قال الإمام أحمد رحمه الله:
إن خبر الآحاد الصحيح يفيد العلم، وبه قال داود الظاهري والكرابيسي والمحاسبي ,
وحكي هذا عن مالك بن أنس.
فإن قيل: إن الجمهور قائلون بأن خبر الآحاد يفيد الظنّ. قلنا: أولاً إذا كان
غرض الباحث مقصورًا على طلب الحق , وهو ضالته فلا محل لهذا الاعتراض من
أصله , على أنه يحتمل أنْ يكونَ قولهم (خبر الآحاد يفيد الظنّ) قضية مهملة أي
وهي في قوة الجزئية [1] , وبهذا الاعتبار يكون بعض أخبار الآحاد قد يفيد العلم.
وأيضًا المعروف من مذهب الجمهور أن المشهور والمستفيض لا يجري فيه
الخلاف , وذهبوا أيضًا إلى أن خبر الآحاد يفيد العلم إذا تلقته الأُمّة بالقَبُول بحَيْثُ
يكونون بين عامل به ومتأول له، لأن التأويل فرع القبول وجعلوا من هذا القسم
أحاديثَ الصحيحين - بل أكثر أحاديث ما صنف فيما يحتج به من الكتب التي
صنفتْ في الصحاح والحسان لانجبار الحسان بتعدد الطرق - ولا يهولنك ما قد
تسمع به من التفرقة بين رجال الصحيح ورجال الحسن , فإن شرائطهم في رجال
الحديث الحسن ربما لا يبلغها من وسم بأعلى سمات الفضل والعدالة في زماننا هذا -
يدلك على ذلك ما عرف عنهم من أقوالهم في الجرح حتى إنهم قد يعدون أحاديث
من سمع في بيته الغناء موضوعة - فإن قيل: إن هذا إفراط قد يؤدي إلى ضياع
كثير من السنن. قلنا: لكنه يدل على أن ما في أيديهم مما وسموه بالصحة والحسن
مُنَقّى ومبرّأ من كل احتمال يؤدي إلى عدم قَبُوله - على أنّا لا نسلّم انحصار وجود
ذلك عند من تركوه , بل يجوز وجود ذلك عند غيره مِن الثقات إنْ كانَ هو مِن السُّنَّة
في نفس الأمر , وإنْ كانَ مكذوبًا فلا حاجة لهم ولا لنا به.
إن أحاديث الكتب المشهورة عن مؤلفيها فيما يحتج به من السنن النبوية قد
عرفت الأمة بأسرها صحتها أو حسنها؛ لتعدد الطرُق، وصارت مقبولة عند الكل
وأكثرها قد جمعت ودونت في عهد التابعين أو تابعيهم , أما مجرد الكتابة بلا ترتيب
للعمل أو للحفظ فقد كان في زمن الصحابة - رضي الله عنهم - كما ثبت ذلك من
طرُق عديدة.
وعليه فما قرروا صحته فقد اتفقت الأمة على قبوله إذْ كانوا بين عامل به
ومتأول، وهو يفيد العلم، لأن سكوتهم عن الطعن فيما هو كهذا بل قبولهم له يدل
على معرفة كل واحد من العاملين به أو المتأولين له بصحته، وهم في كل طريق
وطبقة عدد كثير , لا يُجَوِّزُ العقلُ تَوَاطُؤَهُمْ على الكذب عادة.
وأيضًا يدل ذلك على أن هناك طرقًا معضدة كثيرة ألجأتهم إلى عدم الرد،
ولهذا نرى من لم يلتزم ذلك بالعمل عدل إلى التأويل - وإن ما هذه حاله لا يبعد أن
نقول: إنه أَعْلَى من بعض أنواع المتواتر - وما ذكرناه معلوم إن عرف حال
المحدثين واحتياطهم في رواية السنة.
ألا تراهم قد عمدوا حتى إلى جميع ما شاع على ألسنة العوامّ مما نسب إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم صرحوا بتزييف الزائف وما له أصل ردوه إلى
أصله، فما بالك وما رأيك فيهم إذا وجدوا ما لا يصح مكتوبًا في كتب الهداية؟
أَتُرَاهُم يسكتون عليه , وقد عرف من عادتهم أن ما في إسناده ولو مجهول واحد لا
يُحتجُّ به عندهم؟ إن أهل الحديث لا يعتبرون رواية من انحطت درجته عن مرتبة
رجال الحسن لاعتقادهم أن كثرة الكذابين ونحوهم لا يزيدون الخبر إلا وهنًا.
لو كانوا يأخذون برواية كل من روى حتى الكذابين والفسقة والكفار كما هي
عادة التواترية لبلغ رواة كل حديث من أحاديث الأحكام في كل طبقة إلى حدّ الكثرة
التي يعتبرها التواترية - فإنْ كانَ أحدٌ يشكّ في قولنا فليتتبع كتب الصحاح
والحسان , وكتب الأحاديث الضعيفة , وكتب موضوعات الحديث , وغيرها مِن كتب
السير والمغازي والتواريخ المسندة والتفاسير وغيرها - أنا لا أشك أنه يجد أسانيدَ
متعددةً لكل حديث , فإذا لم يتقيد بطريقة أهل الحديث في شرائط الرواية وجرى
على طريقة التواترية فهو يجزم بأن رجال هذه الأسانيد يبعد تواطؤهم على الكذب -
لا سِيَّمَا إذا لاَحَظَ من عمل بكل حديث من العلماء من عهد النبي - صلى الله عليه
وسلم - إلى حين كتابتها في كتب الحديث.
يقول التواترية: إن خبر الآحاد يفيد الظنّ , وقد قدمنا فساده , ويرتبون على
ذلك كبرى قياس من الشكل الأول، وهي فكل ظنّ أو كل عمل بالظنّ فهو مذموم
بنص القرآن، وقد عرفت فساد الصغرى [2] , والحق أن بعض الآحاد يفيد العلم.
وأيضًا نحن لا نسلم الكبرى كلية؛ لأن القرآن إنما ذمّ الخرص وبعض الظنّ
لقوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12) , وأيضًا ما ذكره الله مِن
الظنّ المذموم إنما هو الظنّ في تأسيس الشرائع بلا اعتماد على بينة من الله في ذلك،
ومَن تتبع آياتِ القرآن في ذلك وجده إنما يذم هذا النوع من الظنّ , أو ما هو في
معناه كما قال تعالى قبل ذلك: {إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا} (يونس: 68) ,
وقوله: {مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} (يوسف: 40) , وقد يذمهم الله
بمعارضتهم ما أنزل من الحق بهذا الظنّ الفاسد الذي لا يستند إلى أصل صحيح كما
يرد عليهم تعالى شأنه في قوله: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} (يونس:
36) .
وهذا لا يصدق على الأحاديث الصحاح , ولو كانت آحادًا ولا على من يعمل
بها ولو كان يعتقد أن ذلك من الظنّ؛ إذْ لا يصدق ولا نسلم أنها من الظنّ المذموم إذْ
هؤلاء لم يعارضوا بها المقطوع اليقيني، غاية ما في الباب أن بعض أهل الحديث
أو أكثرهم قد جوزوا نسخ القرآن بأحاديث الآحاد الصحاح، وقد قدمنا أن جمهورهم
يقول: إن بعض الآحاد تفيد العلم، ومن كان هذا قوله فلا إيراد عليه، وأمّا مَن
يقول بأن ذلك يفيد الظنّ , فكذلك لا إيراد عليه لأنه يقول: إن بقاء الحكم ظنيًّا
والحكمِ المتأخرِ عنه في الحديث الصحيح أقوى وأرجح , فهو إنما أجاز نسخ الظنّ
الضعيف بالظنّ القوي.
إن من قال بأن جميع أخبار الآحاد تفيد الظنّ، وإن كل الظنّ مذموم عند الله
وفي كتابه القرآنِ الكريم - لزمه أن القرآن متناقض متخالف , وأنه مِن عِنْدِ غير الله؛
لأن الله أمر وأوجب الحكم بخبر الآحاد وسمّاه عدلاً في قوله: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ
النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) - وكون الشيء هناك مذمومًا , وهنا
عدلاً تناقض وخلف، وهو في القرآن محالٌ , وما أنتج المحال فهو مثله فلزم أن الذم
لا يتناول خبر الآحاد حتى على التسليم بأنه ظنّ , فعلى كل تقدير خبر الآحاد
الصحيح عدلٌ , واجب العمل به على كل من عرف أنه صحيح، والله أعلم.
وأيضًا إطلاق الظنّ مقابلاً للعلم إنما هو اصطلاح حادث مخالف لاصطلاح
القرآن وعادته في محاوراته , لأن الله جل وعلا قد أطلق على العلم اسمَ الظنّ في
مواضعَ كثيرة مِن القرآن , كما قال تعالى حكاية عن الجن: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن
نُّعْجِزَ اللَّهَ} (الجن: 12) , وقوله: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} (الحاقة:
20) {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} (يونس: 22) {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} (يوسف: 110) {فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا} (الكهف: 53) إلى غير ذلك مما أطلق
في لفظ الظنّ، والمراد به العلم، فكذلك حملة القرآن مِن العلماء لا يبعد أن يطلقوا
على العلم لفظ الظنّ كلهم أو بعضهم.
فمن يقول منهم: إن بعض الأحاديث الصحاح تفيد الظنّ يمكن أن يحمل قوله
على ما ذكرنا على أنَّا قد قدمنا أنه لا تصدق على ذلك تلك الآيات الواردة في ذمِّ
بعض الظنّ لعدم العلة الجامعة - وفوق ذلك نقول: إن عملهم بالأحاديث الصحاح
إنما هو من باب الاختبار والعمل بأحسن الأمرين , أو الأمور التي انحصر الحق
فيها وما ذلك إلا لمرجح علموه لا ظنوه كما قال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ
إِلَيْكُم} (الزمر: 55) - {نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} (الأحقاف: 16)
إلى غير ذلك، فإذا تعارضت أدلّة , ولا سبيلَ للخروج عنها كلها لانحصار الحق
فيها - والحالة أن الاتباع فرض لازم , كما قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) , فيجب على العالم أن يجتهد، وإذا
رجح أحدها فهو إنما يرجح بمرجح علمه لا ظنه , فلا يصحُّ أنْ يقال: إن هذا
عمل بالظنّ حتى يقال: إنه مذموم.
ثم نقول للتواترية: إن كل ما ألزمتم به متبعي حديث الآحاد الصحيح هو لازم
لكم في تواتركم بمعناه عندكم , وزيادة على ذلك تلزمكم شناعات وفظائع لا يلتزمها
إلا من نفض يديه من دين الإسلام , بل من سائر الأديان ونحن نبرئ حضرة
الدكتور عن التزام ما يؤدي إلى ذلك لما عرفنا من كتابته السابقة التي أعلن الرجوع
عنها نعتقد أنه إنما يحب الحق وإظهاره وأنه عند تجليه له لا يتوانى عن قَبُوله بغاية
السرور والبشاشة , بل يُظْهِر للملأ رجوعه، وإن ذلك لَمِمّا يَزِيدُهُ عند كل منصف
إجلالاً.
* * *
(بحث التواتر)
ما هو التواتر؟ هو غير معروف عند السلف من المسلمين، وإنما يعبرون
عما كثرت رواته أو ما روته الجموع بالمشهور وهو عندهم كغيره لا بُدَّ من رواية
الثقات له وإلا لم يكن مقبولاً.
أما من عرف عنه التواتر فقد اختلفت عباراتهم في تفسيره أي حدّه , فمنهم من
قال: هو ما نقله جمع يحصل العلم بروايتهم ضرورة - ومنهم من قال خبر جمع
عن محسوس يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة من حَيْثُ كثرتهم - ثم اختلفوا هل
يمكن تعيين جمع يكون أقل نصاب جمع التواتر، فقال بعضهم: أقله أربعة وقيل:
خمسة , وقيل: عشرة , وقيل: اثنا عَشَرَ , وقيل: عشرون , وقيل: أربعون ,
وقيل: سبعون , وقيل: ثلاثمائة وبضعةَ عَشَرَ , وقيل: أربعَ عَشْرَةَ مائة ,
وقيل: جميع الأمة , وقيل: بحَيْثُ لا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد، والمرجح
عند التواتريين عدم تعيين عدد مخصوص، وإنما مداره عندهم على حصول العلم
من حَيْثُ كثرةُ العدد تارةً , ومِن حَيْثُ القرائنُ أخرى.
أقول: مَن أحاط علمًا بما ذكرناه مِن اختلافهم في هذا التواتر , وفي شرائطه
تحقق أن هذا شيء ليس مِن عِنْدِ الله؛ إذْ لا يمكن القطع به , ولا يمكن طرده , ولا
تطبيقه على كل ما في الأعيان من الوقائع طردًا على وتيرة واحدة بحَيْثُ يتفق عليه
كافة الناس , ويكون قاعدةً يصحّ المرجع إليه لفصل النزاع.
يوضح ذلك أنه يمكن على معتمد التواترية وقول جمهورهم أنْ يكونَ خبر أهل
البلدة العظيمة متواترًا كباريس مثلاً , وإذا كان خبر الثلاثة والأربعة أو الخمسة
يصحّ أنْ يكونَ متواترًا , بمعنى أنه يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة , والامتناع هذا
يكون تارةً لمجرد الكثرة , أي بِلا اعتبار قيد من القيود المعتبرة في الرواة عند أهل
الرواية: كالبلوغ , وكمال العقل والإسلام , والعدالة , إلى غير ذلك. وإذا كان
الأمر كذلك فإذا أخبر خمسة من الفَجَرَةِ بِخَبَرٍ مثلاً فنحن نناشدُ اللهَ كل ذي عقل
وبصيرة , هل يحصل له العلم الضروري بخبرهم؟ وهل يمتنع عنده تواطؤهم على
الكذب؛ لكونهم جمعًا حتى لو كانوا كفارًا فَجَرَةً أخبروا مرة دفعة واحدة؟ فإن كابر ,
وقال: نعم، قلنا له: وهل يجب أن يحصل لكل أحد مثل علمك من خبر هؤلاء؟
وهل تعد من خالفك مكابرًا بدلاً عن تكون أنت المكابر؟ نحن نستبعد ادعاء عاقل
مثل هذه الدعاوى الباطلة.
وكذلك نقول: إن كل جمع يفرضه التواتر مفيدًا للعلم من جهة أنه جمع فقط لا
بُدَّ أن يرد عليه إيراد صحيح ينقضه إلا أنه في بعضها أبين وأظهر مِن بعض، ألا
ترى أن أعلى ما مثلوا به لذلك هو قولهم: كأن يخبر أهل باريس بقتل أو موت
كبيرهم مثلاً، قالوا: إن هذا يفيد العلم بسبب كثرتهم. ونحن نقول في الجواب عن
ذلك: هذا مثال واحد , ولا يمكن وجود مثله دائمًا حتى يصحَّ طرده في كل موضع
مما يتنازع الناس فيه. ويُقال فيه أيضًا: يمكن أنْ يكونَ إفادة الخبر العلم في مثل
هذا المثال إنما كان لقرائن ككونهم أي أهل باريس ونحوهم لا فائدة ولا نقصان ولا
مضرة عليهم مِن إظهار مثل هذه الواقعة , فصدقهم هنا إنما هو للقرائن لا الكثرة؛
لأنا نجد الفرق بين مثل هذا المثال وبين خبر أهل باريس أنفسهم فيما إذا كانوا
محصورين بعساكر الإنكليز مثلاً , فأخبروا بقدوم عساكر الروس إلى بلدهم
لإمدادهم، فهل خبرهم والحالة ما ذكرنا يفيد العساكر المحاصرة العلم الضروري
بحَيْثُ لا يتشوقون إلى صحته؟ وهل يمكن كذبهم والحالة هذه أمْ لا؟ نحن لا
نستبعد الكذبَ فضلاً عن عدم إمكانه حينئذ.
فإن قيل: نحن نرى أنفسنا مطمئنةً لا ينازعها شكٌّ في وجود البلدان النائية
التي لم نَرَهَا ولا نرى سببًا لذلك إلا ما تواتر إلينا من الأخبار بوجودها.
قلنا: نعم، والأمر كذلك، لكن لا يستلزم أنْ يكونَ سبب هذا العلم مجرد
الكثرة , وإنْ كانَوا كُفّارًا أو فَسَقَةً فُجّارًا، بل لَعَلّ ذلك من الكثرة مع انضمام
القرائن.
فإن القرائن أنواع وأصناف لا يكاد يحصرها حدٌّ أو عدٌّ، بل القرائنُ قد تقارن
خبر الواحد الكاذب المعروف بكذبه وفسقه , فيفيد خبره العلم إذا قارنته وأيدته،
وهي تختلف باختلاف أماكن المخبرين وزمانهم ككونهم أخبروا دفعةً أو متفرقين ,
وباختلاف حالهم من خوف وأمان , وعسر ويسر , وحب الأوطان والإقدام والفخر
وإرهاب ورجاء , إلى غير ذلك مما يعود على الأفراد بفائدة أو نقص ولو بتوسط
فائدة أو نقص طوائفهم وأممهم وأقوامهم وأوطانهم.
ولِمَا ذكرناه وأضعاف أضعافه مما لم نذكره ولتعسر ذلك لو سلم صحته , ولأن
تكليف العباد به تكليف لما لا يستطاع , بل التزامه وحصر العلم الخبري فيه تعطيل
لأكثر معارف البشر وإلغاء لأكثر أحكام الديانات إنْ لم نقل لكلها وإخراج للناس في
جميع معاملاتهم ومعاشاتهم , وموجب لتقاطعهم فردًا فردًا كالبهائم لم يجعل الله ذلك
أصلاً ولا قاعدة ولا مناطًا لتحقيق شيء من الأمور الدينية ولا الدنيوية ولا نبه عليه
أحد من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ولم نعرفه عن أحد من السلف الصالح لا
الصحابة ولا تابعيهم بإحسان.
فالحق عندنا أن أخبار الجموع لا تفيد العلم إلا إذا أيدتها القرائن أو شاركهم
الثقات - وخبر الثقات المتواتر هو أعلاها كتواتر القرآن الكريم - ثم خبر الآحاد
الأثبات الضابطين بشروطهم يفيد من عرف حالهم أو حال من وثقهم العلم ويجب
على مَن بَلَغَهُ خَبَرٌ عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - أن يبحث عن حاله وحال
رواته، فإذا وجدهم بالشروط المعتبرة فلا يجوز له إهمال ذلك الخبر لأجل كونه لم
يتواتر لما عرفت مما قدمناه كما هو إجماع المسلمين، والله المستعان.
(للرسالة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: أي هي بمعنى بعض خبر الآحاد يفيد الظنّ، وفيه أن المتبادر من الإضافة العموم الذي هو بمعنى الكلية وكلامهم صريح في هذا.
(2) المنار: أي قولهم: إن خبر الآحاد يفيد الظنّ، وهي المقدمة الأولى من مقدمتي القياس أي الدليل.(11/454)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أهم الأخبار والآراء
(إعادة القانون الأساسي ومجلس المبعوثان في الدولة العلية)
في صبيحة يوم الجمعة المبارك 25 جمادى الآخرة صدرت الإرادة السلطانية
بإعادة (مجلس المبعوثان) والأوامر من مقام الصدارة إلى الولايات بالانتخاب.
فشمل الفرح والسرور جميع العثمانيين في دار السلطنة وجميع الولايات , وفي
جميع أقطار الأرض وعدوا هذا اليوم العظيم عيدًا عامًّا للأمة العثمانية على اختلاف
مِلَلِهَا ونِحَلِهَا.
أما سبب نيل هذه الأمنية التي تشوف إليها العثمانيون مِن نَحْوِ ثُلُثِ قَرْنٍ بعد ما
سلبت منهم، فهو التدبير العظيم الذي قامت به جمعيات الأحرار العثمانيين في أوربا
ومصر بعد اتحادها ودخول كبار ضباط الجيش المستنيرين فيها , وربما نُبيّن ذلك
في وقت آخر.
وما كاد نبأ البرق يوافي مصر بهذه البشرى حتى انبثّ فيها بين العثمانيين مِن
الترك والسوريين والأرمن وغيرهم , فأنشأ يُهَنِّئُ بعضُهم بعضًا والبِشْرُ يتدفق مِن
وجوههم. ثم طاف جمهور منهم في الشوارع الكبيرة بالقرب من الأزبكية وهم
يهتفون بالأناشيد العثمانية.
ثم اجتمع مئاتٌ منهم في رحبة قهوة (اسبلنددبار) وطفق يترنّمُ بعضُهم
بالأناشيد والآخرون يصفّقون لهم. وقام غير واحد منهم فخطبوا بالتركية , وقام
صاحب هذه المجلة فخَطَبَ بالعربية خُطْبَة وَجِيزَة صفَّقَ لها الجمهورُ مِن حَمَلَةِ
الطرابيش والبرانيط بهجةً واستحسانًا.
كان موضوع الخطاب أن هذا اليوم عيد لجميع العثمانيين على اختلاف
مذاهبهم وأديانهم وأجناسهم، وأن الفضل في نيلنا الدستور عائد لمساعي أحرارنا
وجمعياتنا السياسية، وضباطنا ذوي البسالة والحَمِيّة، وأنه يجدر بنا مَعْشَرَ
العثمانيين أن نفاخر جميع الأمم بنيل الدستور من غير ثورات داخلية تُرَاقُ فيها دِماءُ
الألوف ويَهْلِكُ فيها الحَرْث والنَّسْل، وأنه ينبغي لنا أن ننسى الماضي , وأن نعمل
للمستقبل فنظهر للأمم كلها أننا أهل لهذا النوع الراقي من الحكومة، فيجب أن يتحد
التركِيّ والعربِيّ والرومِيّ والأرمنِيّ وسائر الأجناس العثمانية , ويقوموا بالأعمال
التي ترفع شأنَ البلاد على قواعد المحبة والمساواة…
ومما قلته أيضًا أننا نشكر للحضرة السلطانية المبادرة إلى إجابة طلب الضباط
الناطقين بلسان أحرار الأمة، فَبَطَلَ التصفيقُ أو قَلَّ عند ذِكْرِ السلطان , وأشار كثير
من الترك والأرمن إشارات الإنكار.
وفي يوم السبت التالي اجتمع في دار رفيق بك العظم جمهورٌ عظيم من
فُضَلاء العثمانيين المختلفين في الجنس المُتَحِدِينَ في العثمانية لأجل المذاكرة في
تنظيم مظاهرة بإعلان السرور , وإرسال برقيات الشكر إلى جمعيات الأحرار في
أوربا وإلى الآستانة، وقد كانت جمعية الشورى العثمانية قررت في يوم الأربعاء
الماضي جمع أكثر هؤلاء الأحرار للمذاكرة في شئون الثورة ومطالبة الصدر الأعظم
سعيد باشا بأن يختم تاريخه بمساعدة الأمة على إعادة الدستور , وجمع (مجلس
المبعوثان) فلما بشرنا البرق في مساء يوم الجمعة بصدور الإرادة السلطانية بذلك
تحول مقصد الاجتماع إلى ما ذكرنا.
اقترح الجمهور أن ترسل تهنئة برقية إلى الأمير صباح الدين داماد (ابن
أخت السلطان) رئيس جمعيات الأحرار بباريس يشكر له فيها سعيه وسعي الأحرار
ويكلفه فيها أن يبلغ نيازي بك رئيس الضباط الذين أظهروا الثورة العسكرية في
مكدونية وإخوانه كنوري بك وأنور بك شكرهم وسرورهم. ورسالة أخرى إلى
الصدر الأعظم.
فاقترح صاحب هذه المجلة إرسال رسالة خاصة إلى السلطان. قلت: إن
ضباطنا وأحرارنا طلبوا والسلطان أعطى فنشكر له أنه قدر الحال حقَّ قدرها وبادرَ
إلى الإجابة ولم يضطر الجند إلى سفك الدماء. فوافقني على هذا الاقتراح مَن حضر
من السوريين أكثرهم بالقول وبعضهم بالسكوت، وعارضني أكثر الترك والأرمن،
وقال واحد من أشهر أحرار الترك: إنه لم يُجِب الطلب فضلاً وإحسانًا , ولكنه أجابه
بعد أن أشرعت في وجهه مئة وخمسون ألف حربة (سنكه) وقال بعض المعتدلين
منهم: لا بأسَ بأن يذكر في تلغراف الصدر الأعظم تبليغ السلطان سرور العثمانيين ,
وبعد طول البحث انتخب الجمهور لجنة منهم لتقرير ما يجب , وجعلوا رئيسها
إسماعيل حقي بك القائمقام العسكريّ (لأن الدستور رجع بقوة الجند) , فقررت أن
تحتفل في أحد دور التمثيل احتفالاً يَخْطُبُ فيه العثمانيّون بالتركيّة والعربيّة
والفرنسيّة والأرمنيّة والروميّة. وأن يعرض على الجمهور المحتفل صورة رسالتين
برقيتين إحداهما للأمير صباح الدين أفندي، والثانية للصدر الأعظم، وترسلان بعد
إقراره عليهما. وقد بذل الحاضرون ما يلزم من النقود لأجل ذلك بغير اكتتاب بل
بمجرد الأريحية.
وفي مساء ذلك اليوم اجتمع جمهور من المصريين في حديقة الأزبكية لإظهار
السرور بنيل العثمانيين للدستور ومجلس النواب (المبعوثان) حضرنا هذا الاجتماع
في أثنائه , واقترح علينا حسين بك تيمور، الذي دعا إلى الاحتفال وبعض
العثمانيين، أن نخطُب بالحاضرين خُطْبَة تُناسب المقام , وكان جُلُّ أقوالهم إطراء
للسلطان بأنه تفضل وتكرم بالدستور أي بغير عِلّة ولا سبب، ولا ثورة ولا طلب،
وأن جيوشه منتشرة من منابع النيل إلى سيلان! ثم رأينا الجرائد كتبت عن هذا
الاحتفال , فوصفته الجريدة والمقطم كما حصل وذكر اللواء عنه نُبْذَة صغيرة
معظمها كذب، وهذا ما جاء في الجريدة.
* * *
(مظاهرة في حديقة الأزبكية)
أعلن حضرة حسين بك تيمور أنه سيخْطُب في حديقة الأزبكية نحو الساعة
السادسة بعد ظهر أمس؛ لإظهار السرور بمنحة الدستور لإخواننا العثمانيين. فبِنَاءً
على هذا الإعلان توافدَ الناسُ مِن خاصَّة وعامَّة إلى حديقة الأزبكية، ولما وافت
الساعة السادسة الْتَفّوا حول كوشك الموسيقى , فافتتح الخطابة حضرة ربيع أفندي
المدرس بالمدرسة التحضيرية , فبسط كلمة عن فوائد الدستور , ثم قال: إننا نؤمل
البلوغ إلى غايتنا من نيل المجلس النيابي، وإن طال علينا الأمد. ثم اختتم خُطْبته
بالدعاء لجلالة السلطان والأمة العثمانية والجناب العالي. وتلاه شاب يدعى الشيخ
حسين الغزي من طلبة العلم في الأزهر الشريف فحذا حذو الخطيب الأول في
الموضوع , ثم تلاه حضرة الشيخ صادق عمران فتلا قصيدة يمدح بها جلالة
السلطان والأمة العثمانية , ثم طلب جماعة من رجال الصحافة والأدب إلى حضرة
الأستاذ العلامة السيد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار، أن يتكلم في الموضوع
كلمات تروي الغليل فأجاب دعوتهم , وارتقى مكان الخطابة , فقال ما خلاصته:
هذا اليوم هو عيد للعثمانيين عامَّةً وعيد للمسلمين خاصَّةً، فإنه عيد بحكومة
الشورى التي يتمتع بخيرها العثمانيون كافَّةً من جميع الملل والأجناس. وحكومة
الشورى التي قررها الإسلام بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى:
38) , وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى
الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) .
مسائل الأمن والخوف من الأمور العامة المتعلقة بسياسة الأمة وإدارتها , ولم
يفوض القرآن الأمر فيه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وَحْدَهُ وهو الإمام
المعصوم وصاحب الشريعة ومبلغها بل جعل الأمر فيها إليه وإلى أُولِي الأمْر مِن
الأُمّة يديرونها بالشورى بينهم.
من هم أولو الأمر؟ زعم بعض المحرّفين أو المخرّفين أن أُولِي الأمر هم
الملوك والسلاطين، وهو زعم ظاهر البطلان، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم
يكن معه حين نزلت الآية ملوك وسلاطين , وإنما كان يستشير أولي الرأي والمكانة
من الأمة، فهم أولو الأمر بغير نزاعٍ.
أفرأيتم هذه الهداية إلى حكومة الشورى وسلطة الأمة. هل يوجد عناية وتأكيد
في شريعة ودين أبلغ منها؟ إذا كان رب العالمين لم يَرْضَ أنْ يكون خاتم رسله
مستقلاًّ بإدارة الأمور العامة دون أهل الرأي من أمته , فكيف يرضى أو يشرع لغيره
ممن هو دونه بذلك؟
مع هذا كله لم تلبث حكومة الإسلام بعد الخلفاء الراشدين أن صارت شخصيةً
استبداديةً , ولا نخوض في الكلام عن الماضي , فإنما غَرَضُنَا الكلامُ عن الحاضر.
تقلبَ الزمان، ودالتِ الدولُ، ودخل العالم الإنساني في طَوْر جديد، فسبق
غير المسلمين إلى حكومة الشورى، وكانت حكومة دولتنا العَلِيَّة، وهي شخصية
على خطر بين الحكومات النيابية الشورية المجاورة لها , ففكر بعض أصحاب
العقول الكبيرة فيها من نحو نصف قرن في جعل الحكم بيد الأمة , وأنفذوا ذلك من
نحو ثلث قرن , فوضعوا القانون الأساسي وأنشأوا (مجلس المبعوثان) الذي
تعبرون عنه بمجلس النواب، ولكن لم تلبث السلطة المطلقة أن استردت هذه المنحة
أو هذا الحق منهم.
لو كانت الأمة العثمانية في ذلك الوقت مستعدةً للدستور استعدادَها اليوم لَمَا
أمكن أخذه منها، ولكنها لم تَنَلْهُ باستعداد الجمهور , بل باستعداد أفراد مِن نابِغِي
وزرائها أصحاب الأدمغة والأفكار البعيدة، والغيرة الشديدة كمدحت باشا وإخوانه.
لم يكن العقلاء في الأمة العثمانية يعدون على الأصابع فيموت الدستور بموتهم،
بل كان في الأمة كثير من أهل التربية العالية والمعارف السامية , ولكنهم لم
يكونوا منبثين في الأُمّة كلها , ولا مشتغلين بإشراب رُوحِها مَعْنَى الحكم الذاتي.
فلما رأوا أنفسهم قد سلبوا ما فيه سعادة الأمة وعزة الدولة، وأنه لا سبيلَ إلى
استرجاعه من الأعلى كما جاء أولاً بتدبير مدحت باشا وحسين عوني باشا وإخوانهما
رَأَوْا أَنْ يطلبوه مِن جانب الأُمّة بتوجيه نفوس المتعلمين إليه؛ فأنشأوا الجمعيات
السِّرِّيَّة التي ظَلَّتْ تَسْعَى وَتَدْأَب وتصارع الصعوبات حتى أتيحَ لها الظَّفَرُ الآن
ونالت ما تتمناه.
ولما بلغ هذا المقام من البيان التاريخي المفيد كبر على أناس لم يفقهوا قوله
فحدث شيء من الشغب وانقطع الخطيب عن الخطابة.ا. هـ كلام الجريدة.
وأَزِيدُ على ما ذَكَرَتْهُ الجريدةُ ما جاء في بعض الصحف , وهو أن بعض
المصريين صاحَ لِيَحْيَا السلطانُ. لِتَسْقُط تركيا الفتاة. أو حزب تركيا الفتاة. فصاح
بصياحه جمهور مِن الحاضرين فاستاء مَن كان هناك مِن فضلاء الترك وغيرهم من
العثمانيين , وقال قائل منهم: يا شيخ رشيد , لا تتكلم على هؤلاء الذين لا يفهمون.
فما زادهم ذلك إلا صياحًا بسقوط تركيا الفتاة أي الأمة العثمانية في حياتها الدستورية
الجديدة! ! ! وظنوا لجهلهم أنّ مِن لوازم حب السلطان أن يعيش على شيخوخته
وضعفه عمرًا طويلاً بغير أُمَّة أو بأُمّة ميتة، وُجُودُهَا كَالْعَدَمِ، فَهَكَذا يكون الاحتفال
بالدستور! !
أما العثمانيون الأخيار , فقد جعلوا موعد احتفالهم مساء يوم الثلاثاء غُرّة
رجب , وأن لا يذكر الخُطَباء فيه اسم السلطان بذمّ ولا مدح , ولا تهنئة ولا شُكْر
عَمَلاً بِرَأْيِ السواد الأعظم , وخلافًا لرأي أكثر السوريين , وهم العدد الأقل في
جمهور المؤتمرين بالاحتفال , وسنذكر شيئًا عن الاحتفال في الجزء الآتي.
أرسل إلينا كثير من المُحِبِّينَ رسائل التهاني بنيل أمتنا للدستور لعلمهم بما
أصابنا مِن الاستبداد، منها ما طار به البرق ومنها ما عدا به البريد، منها ما هو
بعنواننا الخاصِّ، ومنها ما هو بوصف جمعية الشورى العثمانية. فنشكر لجميع
المهنئين عاطفتهم الشريفة , وَنَخُصُّ بالذكر لَجْنَةَ الشورى العثمانية في البرازيل
ورُبَّمَا ننشر شيئًا مما فيه العِبْرَة والفائِدَة مِن تلك الرسائل.
__________(11/464)
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
__________
خديجة أم المؤمنين
(5)
الفصل العاشر [1]
(محمد - عليه الصلاة والسلام - قبل تزوج خديجة)
وإذا العناية صاحَبَتْ مَرْءًا فَلا ... تُكْثِرْ سُؤَالَكَ فِيهِ كَيْفَ ولِمْ وَمَا
ودعِ الترددَ إنْ أتاك حديثُه ... مهما حوى مهما نما مهما سما
لا تسأل كيف أبدع الإنسان من فتق الكواكب من رتق موادها، وقدر مدارات
لحركاتها، ونظامات لتقابلها، وأنشأ منهن المقسمات ليلنا ونهارنا، المدبرات صيفنا
وشتاءنا، الناظمات في أحشائهن شملنا، المادات بنسائمهن نسماتنا، وبأرواحهن
كياننا، ولا تسأل لم خلق لنا الأرض جميعًا نُشَرِّح أحشاءها، ونقطع أوصالها،
ونستخرج أفلاذها، قد حصرناها على عِظمها في يدنا، وحشرنا كل ما فيها في
ذرات صغيرة من دماغنا، إن شئنا نرفع من شأنها بما نركب من أجزائها، فيأتي
منها من البدائع ما يدهش ألبابنا، ويسحر أبصارنا، وإن شئنا لم نعبأ بها،
واستشرقت نفوسنا إلى غيرها، فاطلعنا إلى مصادر الأرواح ومواردها، ومشارق
الأسرار ومغاربها، وارتفعنا إلى ينابيع الأكوان ومظاهرها، وتلمسنا ثمة حياة لا
تحتاج فيها إلى ماء الأرض وهوائها، وترابها ونارها.
ولا تسأل كيف تقاربت صورنا معشر الإنس وتباعدت حقائقنا، ولم طالت
آمالنا وأعمالنا، وقصرت آجالنا وأعمارنا، ولم جشعت نفوسنا بتكثير الصور , ثم
شغفت كل نفس بأنواع منها، وتخالفنا في تمييزها وترجيح بعضها على بعض،
وتدابرنا في مناهج طلابها، وتقاطعنا في سبيل اكتسابها، ولم هذا البون في
أنصبائنا، والفرق في مرامينا، والبعد في مدارجنا، والغبن في معارجنا.
ولماذا منا أناس مع الكواكب مداركهم سابحة في أفلاك الحقائق، وبروج
الرقائق والدقائق، ومع الأنوار سيرهم منتشرة في سابق الدهور ولاحقها، وبادي
الشعوب وحاضرها، وآخرون مع الديدان مشاعرهم دابة بين أوراق الآجام
وأحطابها، أو تحت دخان القفار ونقعها، ومع العصف صورهم منطوية في أحشاء
الأواكل، ومندرجة في الأواخر مع إخوانهم الأوائل.
لا تسأل عن هذا كله إن كانت نفسك قد وقفت عند مطمأنها من معرفة الأول
الآخر، الظاهر الباطن، ذي الحياة الأزلية الساري سرها في الأكوان والوجودات،
البادي خط جلالها وجمالها على لوح الآيات البينات، من الأشكال والتنوعات
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ
لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ
وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم
مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا
وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
* وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ
تَخْرُجُونَ} (الروم: 20-25) .
إذا وقفت نفسك عند هذا المطمان من المعرفة فلعلها تصل بك إلى معرفة أن ذا
الحياة الأزلية ذو حكمة ليس في وسع استعدادنا أن نحيط بأسرارها خبرًا مهما حامت
حولها آمال مداركنا، ومهما طافت في سوح قدسها صوافي سرائرنا، فأخلق بأحدنا
أن يتذكر في هذه المسابح الفكرية عجز أجنحة عقولنا عن أن تصل بنا إلى ما دون
هذا السر الأعظم، ووقوعها بنا في كثير من أشراك الأوهام في الوجودات التي هي
تحت حسوسنا، وفي جوار جسومنا ونفوسنا.
وعسى أن ترقى بك هذه المعرفة إلى الإذعان بأن هذا الحي الأزلي الحكيم ذو
عناية ربانية لا يحاسب على ما يختص بها ممن يشاء فله الأمر كله فيما يبدئ
ويصور، وله الحكمة فيما ينوع ويميز، منه كل شيء وإليه المآب.
وإن كنت في ريب من الحكمة الأزلية، والعناية السرمدية، فدع نفسك واقفة
ما شاءت في عتمة النفي، أو دائرة في سجن الشك، أو طائرة في جوّ الوهم لا
قرار لها. وإنما نحكي هنا للذين هم بربهم يؤمنون.
سبق في العناية الأزلية أن تكون هداية شعوب كثيرة إلى أقوم سبل الحياة على
يد رجل من العرب يرتفع به اسمهم في العالمين , وكان من هذا الشرف الذي اعتده
الله للعرب أعظم نصيب لعبد المطلب الذي أخرج الله إنسان هذه الهداية من أولاده.
كان عبد المطلب [2] من كبار أشراف قريش ورزق عَشَرَة أولادٍ مِن الذكور ,
وكان ابنه عبد الله أحبهم إليه فزوجه شريفة من أشراف قريش مِن بني زهرة تُدْعَى
آمنةَ , فحملت منه , وقبل أن تضع حملها تُوفي , فلمّا وضعت كفل وليدها جده ,
وكان هذا الوليد المبارك (محمدًا) صاحبَ القرآن.
فما أسعدك يا عبد المطلب! أكنتَ تدري وأنت في أبواب أبرهة الحبشي
تَتَطَّلب منه ردّ ذلك القليل من الإبل الذي لك مما استاقه من إبل مكة أن سيولد لك في
هذا العام حفيد تنثني أعناق الملوك في الأجيال المقبلة خاضعة لذكره.
أكنت تفكر إذ قصارى أملك حفظ مقامك بين قومك المنقطعين في تلك البرية
أن اسمك سترن به المحافل في الأمصار النائية والشعوب المختلفة على مدى عصور
كثيرة , كلما ذكر نسب حفيدك العظيم الذي أعتده الله لمنصب يتبعه من أجله العالم
ويبقى ذكره فيهم إلى الأبد.
أخطر على قلبك أن بلدك المقدس الذي لم يكن يحج إليه إلا العرب ستحج إليه
كل شعوب الأرض اتباعًا لما جاءهم به حفيدُك من الهداية.
أجاء في خلدك أن كنتك آمنة الزهرية إنما ولدت من يشرف الله به قومك
ويجمع به كلمتهم ويعلي سلطانهم وينشر لغتهم ويقيم لهم مجدًا مع الدهر مذكورًا،
وفي كتاب العالم مسطورًا.
هل كنت ملهمًا إذ سميته محمدًا؟ وكنت على رجاء كبير بأن يقيم له العالمون
تحميدًا لا ينقطع، وتمجيدًا لا يزول.
أعرفتَ أنك بحفظك هذا اليتيم , وكفالتك إياه , وعنايتك به إنما كنت تحفظ
للعالم كله التحفة التي آتاهم الله من كرمه، والوديعة القدوسية التي اختص الله بيتك
لظهورها، وقومك لانتشار مبدأ نورها.
فأنت بما أوتيت من هذه السعادة الخالدة جدير أيها المخصوص بعناية الحي
الأزلي، فليدم ذكرك جمالاً للمحافل واسمك ساميًا مع اسم حفيدك نبي الشعوب وبركة
العالم.
كانت ولادة محمد في القرن السادس من ميلاد المسيح عليهما الصلاة والسلام،
أي حوالي سنة سبعين وخمسمائة منه , وحوالي السنة الثامنة والأربعين من ملك
كسرى أنوشروان. ولم يكن قومه يعرفون سني الأمم وتواريخها ولا سني أنفسهم،
وإنما كانوا يحفظون الأعمار ويوقتون آجال الأشياء بالوقائع الشهيرة والحوادث
العظيمة كما هو شأن الأميين إلى عهدنا.
وُلِدَ عامَ الفِيل، وهي سنة اشتهرت بهذا الاسم لوقوع حادثة فيها عندهم تدور
صفوة حكايتها على حرن فيل القائد الحبشي وإبائه المسيرَ تلقاء مكة، فلذلك سميت
بهذا الاسم. وحادثة الفيل شديدة الشهرة , ويصح أن نقول: إنها من التاريخ المقدس
عند المسلمين أي إنها ذكرت في القرآن , ولكن على أسلوبه في القصص التي
يذكرها لأجل العبرة فقط لا على أسلوب المؤرخين ونقلة الأخبار.
وقد أعطي لمرضعة على عادة قريش في إعطائهم الأولاد للمراضع من القبائل
النازلة قرب مكة ابتغاء أن تتربى أجسامهم في البادية حيثُ الأرضُ النظيفة قد
كسيت من الأزاهر أبدع النمارق الطبيعية، والنسائم متحملة من ذلك العبير تهديه
إلى النفوس رائحة وغادية.
إذا بزغ رأس النهار أرسل إلى أفئدة أهل النشاط روحًا مبشرًا بطيب عقبى
العمل، وسوء منقلب الكسل، وكأن بينه وبين سكان البراري وساسة الأنعام عهدًا
أنْ لا يقبل بطلعته الباسمة إلا وهم مستقبلوه بالتحيات الطيبات من مباسم هممهم،
وثغور اجتهادهم، ورافعون إليه آيات الشكر على ما له من الأيادي البيضاء في
اخضرار عيشهم، وابيضاض وجوه آمالهم.
بزغ الفجر يومًا على نسمتين في أباطح تهامة قد أسفر عليهما البشر، ونفذت
الغبطة من أعماق جوانحهما إلى أسارير وجهيهما، ولم يكن ذلك الأنس والبشر لما
حولهما من مجالي عرائس الطبيعة؛ لأن السماء كانت شحيحة عليهم تلك السنة فلم
تترع حياضهم، ولا أونقت رياضهم، ولو لم يصن الوادي لهم القليل مما أغيثوا به
مرة لقتلهم الظمأ - ولا لما حولهما من وافر الرزق وسابغ النعم؛ لأنهما لم يكونا
يملكان إلا غنيمات قد جارت عليها السنة، وقتلها الجهد والجدب، ولكن كان ذلك
السرور بنعمة جديدة أصاباها فملأتهما فرحًا، وأشبعتهما ابتهاجًا، ولم يكونا يفتران
عن هذا الحديث الذي كانا يتغذيان به صباح مساء، ويجددان به شكرًا على هذه
النعماء، وهذا ما كانا يتحدثان به:
- حقًا يا حليمة إنك قد جئتنا بتحفة سنية ونسمة مباركة.
- إي والله يا حارث وانظر ما أَجْمَلَه، انظر إلى هذه الأشفار الهدب، انظر
إلى هذه العيون الدعج، انظر إلى هذا الجبين الأزهر، انظر ما أبهى انعكاس هذا
الضياء المقبل من الشرق على مرآة هذا الجبين.
كان هذا الحديث يجري بين امرأة وزوجها من قبيلة بني سعد صبيحة يوم كانا
قبله في مكة وكانت هذه المرأة هي التي جاءت بحفيد عبد المطلب لترضعه، وقد
حدثت هي حديثها كيف جاءت به وكيف رأت من بركته، قالت:
خرجت مع زوجي وابن لي صغير على أتان لي قمراء [3] معنا شارف [4] لنا
والله ما تبض بقطرة وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا مِن بُكائه من الجوع،
ما في ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه، ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج،
فخرجت على أتاني تلك فلقد أذمت [5] بالركب ضعفًا وعجفًا حتى قدمنا مكة نَلْتَمِسُ
الرُّضَعَاءَ، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه
إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول
يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده، فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة قدمت معي
إلا أخذت رضيعًا غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: (والله إني لأكره
أن أرجع مِن بينِ صواحبي ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه)
قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، قالت: فذهبت إليه
فأخذته وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره. قالت: فلما أخذته رجعت به إلى
رَحْلِي , فلما وضعته في حِجْرِي أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى رَوِيَ ,
وشرب معه أخوه حتى روي ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك. وقام زوجي إلى
شارفنا تلك فإذا إنها حافل [6] فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا رِيًّا
وشِبَعًا , فبتنا بخير ليلة، قالت يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة
لقد أخذت نسمة مباركة. قالت: فقلت: والله إني لأرجو ذلك. قالت: ثم خرجنا
وركبت أتاني وحملته عليها معي , فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من
حمرهم حتى إن صواحبي لَيَقُلْنَ لي: يا ابنةَ أبي ذؤيب وَيْحَكِ أَرْبِعِي علينا [7] ،
أليست هذه أتانك التي كنت خرجتِ عليها؟ فأقول لهن: بلى , والله إنها لَهِيَ.
فيقلن: والله , إن لها لَشَأْنًا.
قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد , وما أعلم أرضًا من أرض الله
أَجْدَبَ منها , فكانت غنمي تروح عَلَيَّ حِينَ قدمنا به معنا شباعًا لُبَّنًا , فنحلب
ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من
قومنا يقولون لرعيانهم: وَيْلَكُمْ اسرحوا حيث يسرحُ راعي بنت أبي ذؤيب. فتروح
أغنامهم جياعًا ما تبض بقطرة لبن , وتروح غنمي شباعًا لبنًا , فلم نزل نتعرف من
الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته , وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان.
فيالك من سعيدة يا حليمةُ إذ كتب لك إرضاع اليتيم الذي تربيه العناية الخاصَّة,
ولم يكشف لك من آثارها إلا هذه البركة التي ملأت بيتك وويلكن أيتها المراضع
الغبيات المعرضات عن اليتيم التماسًا للرضعاء الذين لهم آباء. لقد فاتكن الحظ وما
الحظوظ بالاختيار، وعزاء لكم أيها اليتامى، فقد عاش محمد العظيم يتيمًا.
بعد أن ربي (محمد) صلى الله عليه وسلم، في بني سعد عند السيدة
حليمة جيء به إلى أُمِّهِ , فذهبت به وهو ممتلئ قوةً وهو ابن ست سنين إلى المدينة
لِتُزِيرَهُ أخواله مِن بني عدي بن النجار وفي عودتها إلى مكة توفيت في مكان يسمى
الأبواء. وكان عبد المطلب شديدَ العناية بحفيده , ويتوسم فيه علوّ الشأن , فلما بلغ
الثامنة مِن عُمُرِهِ ودَّعه مفارقًا هذه الدار وأودعه لدى الجناب الإلهي الذي من لدنه
واردات البِرّ والبركات إليه، ونوافح الرأفة والحنان عليه.
وقام مقامه ابنه أبو طالب، شقيق عبد الله أبي النبي - صلى الله عليه وسلم -
فأدخله في آل بيته وتعهد تربيته وتثقيفه.
وكان أبو طالب امرءًا نبيهًا شهمًا صادق المروءة، ماضي العزيمة، نصّارًا
للعدل والإنصاف، عرفنا كل ذلك فيه من تكليفه نفسه أقصى ما يمكن أن تكلف
النفس في حماية ابن أخيه لَمَّا قام بالدعوة، ومن مواقفه أمام قريش في نصره والذود
عنه. وقد خلف أبو طالب أباه عبد المطلب في المقام السامي بين قومه، فكان ابن
عبد الله ينتقل في بروج العِزّ والسؤدد والسعادة في آفاق الشرف الهاشمي، وتنطبع
في جوهره الكريم صور البر والعدل والإحسان على مثال الخلال الشريفة التي كان
يتحلى بها ذلك الرجل السامي التربية (أبو طالب) .
نحن قد رأينا من آثار العناية الأزلية بذلك اليتيم العزيز ما يصحّ القول معها:
إنه كان مستغنيًا عن تربية أحد , ولكن لماذا لا نقول: إن إعداد ذلك العمّ الفاضل
لتربيته في الصغر كان من جملة آثار العناية الفائقة به.
أما تربيته إياه التربية الجسدية فقد كانت على غاية ما يتصور علماء الصحة،
ولذلك جاء من آثارها قوة جسدية لهذا المبارك لا نظير لها، وصار على صورة من
الجمال كانت تجعل الذين يرونه يقولون لم نَرَ مثله. ولا يتم الجمال إلا بصحة البدن
وهي إنما تتم بحسن التربية الجسدية.
وأما تربيته إياه التربية العقلية فكانت جديرة أن يسجد أمامها فلاسفة النفس
وأساطين العقل , وهناك مِن آثارها قبل النبوة ما يجعلنا في حِيرة مِن أمر هذه القبيلة
الصغيرة المبتعدة في دارها عن مناشئ الارتقاء العقلي، ومناجم الإشراق الفكري،
لا كتب يدرسونها، ولا قوانين للمعارف يرتبونها، ولا شيء إلا غرائز طَيِّبَة
يتوارثونها، وقواعد عامة يتناقلونها، وحصافة أُوتوها في نقش أصحّ التجارب في
المدارك، والاحتفاظ بأثبت الفوائد في الذواكر.
وكذلك يفعلون في التربية الأخلاقية ينشئون الذّرّيّة على دروس المشاهدة في
مدارج العمل، ودروس القصد والاعتدال في معارج الأمل، فيأتي من تلك السلائل
التي لم تلحقها عدوى الأجيال الفاسدة نوابغ في العقول والأخلاق، أفذاذ في الهمة
والأعمال، بطبع من المربين، ونقش من المثقفين، وذلك كان شأن أبي طالب
ودأبه مع ابن أخيه العزيز، وربيبه النجيب.
نشأ (محمد) - صلوات الله عليه - في أمثل التربية بأنواعها كلها على يد
ذلك الفاضل العظيم , فجاء منه رجل أحسن الناس خَلْقًا وخُلُقًا، أذكاهم عقلاً،
وأذكاهم نفسًا، وأصدقهم لسانًا، أنداهم في العرف يدًا، وأثبتهم في الأزم قلبًا،
أرحمهم للضعيف، وأشجعهم على القوي، أبرّهم للقريب، وأعدلهم للبعيد، أقربهم
إلى المعروف سمعًا، وأبعدهم في الأمور نظرًا، أسدهم رأيًا، وأشدهم إقدامًا،
ألينهم للصاحب جانبًا، وأكرمهم للخير صاحبًا، وحسبك أنه عُرِفَ منذ صباه بالأمين،
وما زال على هذا المنوال حتى أكرمه الله بذلك المنصب العظيم , فزاده جمالاً
وجلالاً وكمالاً، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
نشأه ذلك المربّي على كل ما يزين الرجال من الأعمال، فلما كان ابن اثنتي
عَشْرَةَ سنةً سار به إلى الشام، وكان أبو طالب تاجرًا , فأوقفه في هذا السفر على ما
تكن الأرض وتعلن من طبائع الأقاليم المتغيرة، وأحوال العالم المتحولة، ففي
طريقهم من مكة إلى الشام منازل أُمم كانت فَبَانَتْ. كانوا على وجه الأرض جمالاً
لها , فلما فسقوا عن السنن التي تحيا بها الأمم شالت نعامتهم طرًا، وطارت نعمتهم
جميعًا، وأصبحوا كأن لم يكونوا {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً} (القصص: 58) , وفي رؤية أمثال هذه المنازل الخاوية أو المنتقلة إلى غير أهلها
عِبْرَة عظيمة هي أجل ما في السفر من الفوائد. ولقد كان فيما أوحي إلى هذا المُنْعَم
عليه بعد أن صار نبيًّا قوله سبحانه: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا
عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (الروم: 9) .
وفي طريقهم هذه أوقفه عمه على قرى الشام ودساكرها، ومزارعها ومصانعها
ومتاجرها وحكومتها، وأراه كيف يكدح الناس جميعًا ليأكل نفر منهم خبزه بعرق
جبينه، وليتمتع نفر آخرون بثمرات تلك الأرض الطيبة، ونفائس ما تعمله تلك
الأيدي الثقفة، وكيف يعمل هذا لهذا في الاجتماع ليتمّ قوامه، ويحفظ نظامه.
ومر به على الأديار والصوامع حيث ينقطع نفر آخرون عن المزاحمة في هذا
الحطام الزائل، متوجهة نفوسهم إلى الوطن الذي يليق بالروح الغريبة في هذا
الهيكل الجسماني، غير ممدودة أيديهم إلى شيء من هذه الأرض إلا إلى ما يقي
البدن من جوع وعري , وذلك يتيسر ببعض حبوبها وأعشابها، وبعض أصواف
حيوانها وأوبارها.
في بعض تلك الأديار في (بُصْرَى) وقف به على الراهب (بَحِيرا) وكان
على حظ عظيم من علم الفراسة أو الكهانة، فأنبأه بما سيكون لابن أخيه من الشأن
العظيم , وأوصاه بمزيد العناية به.
وفي هذه السفرة مَرَّنَهُ على أساليب التجارة، وأطلعه على ضروب البضاعة،
وصنوف الأداة والماعون التي يتعاطى التجار تبادلها , وكيف يحمل كل منهم مِن
بلده ما لا يكون في غيره , ثم يحمل إلى بلده ما ليس فيه , وكيف يكون لهؤلاء
الوُسَطَاء في نقل حاج الناس من الفضل العظيم في ترقية البدائع الإنسانية ما ليس
لغيرهم.
فناهيك بما ملأ به أبو طالب ذهنه في هذه السياحة التجارية مِن صنوف
المعارف وأنواع التجارب , وفي درس كهذا من فوائد التربية العملية ما ليس في
ألف درس من التربية الكتابية أو النظرية.
ولما كان ابن أربع عشرة سنة أحضره معه في حرب الفجار، وهي حرب
هاجت بين قريش وبين قيس، فرأى في هذه الواقعة كيف تعبأ الصفوف، وتتقابل
الأبطال، وكيف يصبر الشجعان وإن أَوْدَى بهم الصبر إلى حتفهم، وكيف تكون
نتائجَ الصبر وحسن التدبير في الحروب، وكيف عاقبة الذين تنقطع قلوبهم جبنًا،
وتخور عزائمهم جزعًا.
ولم يباشر في هذه الحرب قتالاً، وإنما كان ينبل على أعمامه، أي يناولهم
النبل أو يرد عنهم النبل. وكان ذلك كافيًا لتمرنه على مواطن النزال، ومواقف
النضال، وليس بِخَافٍ أنّ الأخذ بيد الناشئ إلى معارك أبطال المبايعات، ثم معارك
أبطال المقابلات والمقاتلات، هو أعظم الوسائل التي تجعله أهلاً للمقامات العُلَى بين
الرجال، حتى إذا أتاحه الله للأخذ بقوم إلى سوح العزّ والسؤدد والصلاح والفلاح،
كان نعم الدليل الهادي، ونعم السائق والحادي.
فلما بلغ خمسًا وعشرين سنة عرضت عليه سيدتنا (خديجة) أن يخرج في
تجارة لها إلى الشام , وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره مِن التجار، وأشار عليه
عمُّه بقَبُول ذلك، وطلب له أضعافًا فرضيت، وسار بتجارتها مع الركب إلى الشام
ومعه عبد لخديجة اسمه (ميسرة) ، فلما رجع بالبضائع إليها باعتها فربحت أضعافًا،
وكان هذا بدء تاريخ جديد للسيدة (خديجة) معه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) من سيرة السيدة خديجة.
(2) اسم عبد المطلب شيبة، ولتسميته بعبد المطلب حكاية، وهي أن أباه هاشمًا كان قد تزوج أمه من بني النجار في (يثرب) (المدينة) ، فلمّا ولدته تركه عندها حتى كبر، وكان هاشم تاجرًا، فخرج بتجارة إلى الشام , فمات في (غزة) فذهب أخوه المطلب بن عبد مناف ليأتي بابن أخيه، فأبت والدته أن تعطيه إياه حتى أقنعها بأن إقامته في بلدته وبين قومه وعشيرته خير له، ولما جاء به كان مردفه خلفه على بعير فظنت قريش أنه عبد ابتاعه، فقالوا عبد المطلب، وقال لهم المطلب: وَيْحَكُمْ , إنما هو ابن أخي هاشم , قدمت به من المدينة , ولكن ذاعت كلمة عبد المطلب , فاشتهر بها , وصارت كأنها عَلَم له.
(3) القُمرة: بالضم، لون إلى الخضرة، أو بياض فيه كدرة، حمار أقمر، وأتان قمراء.
(4) الشارف: الناقة المسنة.
(5) أذمت بالركب: أي حبستهم لانقطاع سيرها من عجفها، أي هزالها وضعفها.
(6) حافل: كثيرة اللبن.
(7) أربعي: أي ارفقي واقتصري.(11/469)
رجب - 1326هـ
أغسطس - 1908م(11/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الرابطة عند النقشبندية وطاعة المريد لشيخه
(س10) من ع. س. ط. في سنغافورة.
حضرة العالم الفاضل السيد محمد رشيد رضا، صاحب (المنار) المنير
بمصر.
قد كثرت الضوضاء والأخذ والردّ في هذه الأيام بين مجلة (الإمام) بسنغافورة
ومَن يثق بها، وبين من يسمون أنفسهم أهل الطريقة وأرباب السلوك، وذلك بسبب
السؤال الآتي والجواب عنه والمجادلات فيه، ولأن المنار هنا له اعتبار عند أولي
الأبصار، أحببنا أن يكون الحَكَمَ في هذه القضية لكي تقطع جهيزة صوت كل
خطيب، حيث قد امتلأت الأسماع نقيقًا , وأعمدة الجرائد سوادًا , والقلوب شُبهًا
فنؤمِّل بسط الجواب وبيان الحق بأدلته ودحض الشُّبه الباطلة ولا بُدَّ أن تكونوا قد
كتبتم سابقًا في هذا الصدد؛ فنرجوكم أن لا تُحِيلُونا على ما ليس بأيدينا أثابكم الله.
أما السؤال المثير للجدال فهو: ما قولكم في الرابطة التي يلزم بها مشايخ
الطريقة النقشبندية المريدين، ومعناها أنه لا يصحّ منهم ذكر الله إلا بعد إحضار
صورة الشيخ في قلب المريد , ثم يشرع في الذكر مع حضورها ويتركه إذا غفل
عنها؛ لأنه حينئذ باطل لتمكن الشيطان من المريد لخلوّ قلبه من صورة الشيخ، وأن
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} (آل عمران:
200) دليل لهم وقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ} (المائدة: 35) أمرٌ بها،
أي مع التفسير المذكور إلى نحو ذلك، وجاء في سؤال آخر إلى مجلة الإمام: إن
من حق الشيخ أن يمنع المريد عن إجابة أبيه وأمه المسلمَيْنِ إذا نادياه , ولو كان في
النزع، وكذا منع الزوجة عن زوجها والعكس، وقد وقع ذلك هنا ومات المريض
حزينًا. ويقولون: إن الشيخ يربي التلميذ بذلك.
ومن السؤال أيضًا قولهم: يجب على التلميذ متابعة شيخه بدون سؤال أو تردد
ولا يجوز له أن يعترض على شيخه ولو رآه على فاحشة؛ لأنه كالنبي المرسل
بالنسبة إليه ولا ينكر عليه ولا بقلبه وإن عقوبة الإنكار حينئذ الحرمان، وأوجبوا
على المريد أن يعتقد أنه لا يمكن أن يصل إليه مدد ولا خير من ربه إلا بواسطة
الشيخ؛ لأنه الوسيلة له. وللشيخ محلات للسلوك والتلقين يحشر إليها جملة من
الرجال الشّبّان والنساء الشوابّ يجتمعون بها من غير محرمية، بل جلهم جهال
بالواجبات العينية، وإن الذكر وَحْدَهُ كافٍ للوصول والقرب من الله ولو ترك أكثر
الفروض العينية. وقد أجابتهم مجلة الإمام بالمَنْع في الجميع، وأن تلك المبادئ مما
تبع ضلال الأمة فيها مَنْ قبلهم من الأمم، وإن بعضها فيه ميل إلى جانب الشرك،
وقد نقل الإمام ما قاله المفسرون في الرباط الشرعي والوسيلة الشرعية , وجزم بأن
عبادة الله لا تجوز بغير ما شرعه الله، وأن من زاد فيها كمن نقص منها، مبتدع
مردود عليه قوله، وأن الرابطة بالمعنى المذكور في السؤال لم يُعلّمها النبي أحدًا من
أصحابه , ولا علمها الصحابة أحدًا من التابعين، وأن تطهير القلوب من الصور
والتماثيل ليس بأولى مِن تطهير محلات العبادة منها. وأنه يحرم متابعة الشيخ فيما
نهى الله عنه ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومن شرع للعباد ما لم يأذن به
الله فهو ضالّ مُضِلّ، وأن أعظم مرشد وأعلم طبيب ديني هو نبينا محمد صلى الله
عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وقد أكمل الله به الدين، فلا دواءَ ديني نافع إلا وقد
بيّنَه لنا، ومَن لم تشف أمراض قلبه أدوية القرآن لا شفى الله مرضه، وأن النبي
أرشدنا إلى دواء الوسواس، وهو ذكر الله ليخنس الشيطان، فمن لم يخنس شيطان
وساوسه بذكر الله فهو الكاذب , ومستحيل أن يخنس لحضور صورة شيطان مثله في
قلب موسوس متهوس , وما في السؤال من الآداب هو ضدّ الأدب في الإسلام , ولم
يؤدبنا به النبي , ولم يعمل به الصحابة، فعلى طالب الحقّ أن يلزم هدي محمد
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ويجتنب البِدَع إلى نحو ذلك.
واعترض أهل الطريقة بزعمهم أن الجنيد والجيلاني وأضرابهما أوجدوا
الرابطة بمعناها المشروح أعلاه , وإلزام المريد بما ذكر من الشروط، وأن لا يمنع
المريدُ الشيخَ أي شيء أراده مِن نفسه أو ماله سواء كان ذكرًا أم أنثى، وأن الإمام
وأصحابه خرجوا عن الدين ومَرَقُوا منه بإنكارهم إلى نحو ذلك.
وإنا نسأل مِن المنار المنير إبداءَ ما يراه الصوابَ في هذا الموضوع مع البيان
الشافي، فإنّا إلى ذلك محتاجون، نعدّ الأيام والساعات، والله المسئول أن يديمكم
نفعًا للعباد وشجى في حلوق أهل البدع والإلحاد آمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. س. ط
***
(س11) من س. س. في (كوالا لمغور) في جنوب ميلاي.
سيّدي، تصدر في سنغافورة مجلة عِلْمِيّة مِلِّيَّة بلغة الملايو، اسمها (الإمام)
يكتب فيها بعض رجال الإصلاح , ومحررها رجل وطنِيّ اسمه عباس بن محمد طه،
وهو مِن خِيرة شُبّان هذه البلاد عِلْمًا وعَمَلاً، اشتهر أخيرًا بمحاربة البِدع
والخرافات التي ألصقت بالدين.
وفي المجلة باب للفتوى، وقد سئل منذ أشهر عن الرابطة المعروفة عند أهل
الطريقة النقشبندية، وهي إحضار المريد صورة الشيخ في القلب عند الذكر،
وبربطه من جملة الإرادة التامّة , واستفادة علم الواقعات حتى يفنى تصرفه في
تصرف الشيخ أخذًا من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ
الوَسِيلَةَ} (المائدة: 35) . وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا
وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 200) . وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119) . فأفتى الإمامُ بأنّ الآمرين
بفعل هذه الرابطة والعاملين بها ليس لهم مستند من الكتاب أو السنة. وأن الآيات
التي جعلوها سندًا لهم لا تدلُّ على مرادهم ألبتة. ثم أورد أقوال المفسرين كالخازن
والجلالين في الآيات المذكورة , إلخ ما جاء في الجواب. ثم قال: إذًا فإحضار
المريد صورة الشيخ في قلبه عند الذِّكْر هو إشراك بالله. وهذا ما جاء الإسلام لمحوه،
أو ما معناه. ثم أنحى على أهل الطرق الآن , ونسب كثيرًا منهم للدجل والتضليل،
وأورد لنفي الرابطة آيتين آية: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (النساء:
36) وآية: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة: 5) .ا. هـ
بالمعنى.
فلما نشرت هذه الفتوى وهاته التصريحات التي لم يعهد لأحد مِن قبل هذا
الشاب التصريح بها، قامت قيامة شُيُوخ الطُّرُق في هذه المستعمرة , ونسبوا للإمام
ومحرره تضليل عباد الله الصالحين , وأوهموا العامَّة أن الإمام يسعى في هدم
المعتقدات , وهم إلى الآن يحرضون العامَّة بِهجر الإمام وعدم الاطلاع فيه. أما
الحقير وكثير مِن متخرجي المدارس الأميرية فبقينا متوقفين حتى يأتينا مِنْ عِنْدِ
الأستاذ بيان شافٍ في هذه المسألة التي نعلم ويعلم الكثير أن لكم القدح المعلى في
حلها والله يبقيكم لنا.
(ج) لو قلت: إني من أجدر الناس وأحقهم ببيان الحق في هذه المسألة
لرجوت أن أكون صادقًا، وإذا بينت السبب في ذلك رجوت أن يذعن له كل عاقل
منصف، ذلك بأنني قد سلكت الطريقة النقشبندية، وعرفت الخفي والأخفى من
لطائفها وأسرارها، وخضت بحر التصوف ورأيت ما استقر في باطنه من الدرر،
وما تقذف أمواجه من الجيف، ثم انتهيت في الدين، إلى مذهب السلف الصالحين،
وعلمت أن كل ما خالفه فهو ضلال مبين.
وأمهد للفصل في المسألة تمهيدًا يقرب المراد من طالب الحق، فأقول:
قد عرفنا من طباع البشر وأخلاقهم أن يألفوا ما أخذوه بالرضا والتسليم ويأنسوا
به، فإذا وجدوا لهم مخالفًا فيه تعصبوا له , ووجهوا قواهم إلى استنباط ما يؤيده
ويثبته ويدفع عنه هجمات المخالفين لهم فيه، لا يلتفتون في ذلك إلى تحري الحق
واستبانة الصواب فيما تنازعوا فيه. ولولا فشوّ هذا الخلق في الناس لَمَا بقيت
الأديان والمذاهب والأحزاب والشيع , والحق في كل منها واحد لا تعدد فيه.
ثم إن من أخلاق البشر أيضًا أن لا يجتمعوا على شيء إلا إذا اعتقدوا أنّ فيه
خيرًا لهم، وقد يكون هذا الاعتقاد لبعضهم عن نظر واستدلال أو تجربة واختبار
وللبعض الآخر عن اتباع وتقليد لِمَن اعتقدوا فيهم الفضل والكمال.
على هاتين القاعدتين بني التعصب للمذاهب والطرق في جميع المِلَل، وعليه
يتخرج أخذ كثير من أهل الصلاح والتقوى والعلم والعمل بالرابطة في الطريقة
النقشبنديّة وبغيرها مِن البِدَع التي لم تكن على عهد السلف في غيرها مِن الطرق ,
وبكثير من القواعد والمسائل في مذاهب الفقهاء والمتكلمين الذين جاءوا بما لم يكن
عليه السلف الصالح.
يذهب الرجل المشهور بالصلاح أو العلم إلى شيء يظهر له بِحَسَبِ اجتهادِه أنه
حقّ أو خير فيتبعه آخرون عن استحسان لما استحسنه , ومعرفة بدليله أو عن
محض التقليد، فإذا خالفهم غيرهم فيه عدّوهم منتقصين لهم تعصّبًا لما هم عليه ,
فيقوى الخلاف ولا يزالون مختلفين إلا مَن رَحِمَ ربُّك , وهم الذين يحكمون الدليل
ويتحرون به استبانة الحق، فإذا ظهر لهم ولو على يد الخصم ولسانه أتوا إليه
مذعنين، وقبلوه راضين مطمئنين.
إذا تدبرت هذا فاعلم أن أئمة الصوفية وكبراءهم ما وضعوا هذه القواعد مِن
الرابطة وطاعة الشيخ المسلك طاعةً عمياء مُطْلَقَةً حتى مِن قيود العقل والشرع عند
الغالين وغير ذلك من الأصول والقواعد إلا عن علم وتجربة واختبار وصلوا بها إلى
مرتبة اليقين بأن ذلك مفيد لهم وموصل إلى الغاية التي يقصدونها بطريقتهم. وأعني
بالعلم هنا عِلْم النًَّفْس مِن حيثُ إدراكُها وشعورها ووجدانها وصفاتها وأخلاقها. وقد
كان مثلهم في ذلك كمثل علماء الكلام الذين بحثوا في الموجودات وبنوا علمهم الإلهي
عليها , وكل منهما إذا وجد في علمه ما يخالف ظواهر الشرع لجأ إلى التطبيق
بالتأويل والْتِمَاس ما يؤيِّده مِن القرآن العزيز والحديث الشريف، وقد يتمحل لذلك
ويتكلف إذا اعترض عليه. كذلك فعل المتكلمون الذين زعموا أن الأفلاك التسعة في
الهيئة اليونانية هي: السموات , والكرسي , والعرش , وكذلك فعل بعض أهل
الطريق فيما ذكر في السؤال , وما لم يذكر فيه من تأويل الآيات التي زعموا أنها
تدل على مشروعية ما يسمونه الرابطة والتوجه , ولا دليلَ في شيءٍ منها على ذلك.
لو كان في الشرع دليلٌ على أنّ ذلك مطلوبٌ في الدين لَمَا خفي عن الصحابة
والتابعين، بل لأَمَرَ به النبي صلى الله عليه وسلم , وعَمِلَ به , وتواتر عنه؛ لأنه
مما يتعلق بجوهر الدين، وهو عبادة الله ومعرفته، فلا يقاس على ما يمكن أنْ
يستنبط من القرآن مِن أسرار الكون التي لم تؤثر عن الصدر الأول.
قال السيد الآلوسي النقشبندي في باب الإشارة مِن تفسير سورة الجُمُعَة: وذكر
بعضهم أن قوله تعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ} (الجمعة: 2) بعد قوله سبحانه: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} (الجمعة: 2) إشارة إلى الإفاضة القلبية بعد الإشارة إلى الإفاضة القلبية اللسانية، وقال بحصولها للأولياء المرشدين: فيزكّون مُرِيدهم بإفاضة الأنوار على قلوبهم، حتى تخلص قلوبُهم وتزكو نفوسُهم، وهو سِرُّ ما يقال له التوحيد عند السادة النقشبندية، وقالوا بالرابطة ليتهيّأَ ببركتها القلب لِمَا يفاض عليه، ولا أعلم لثبوت ذلك دليلاً يعوَّل عليه عن الشارع الأعظم، صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه رضي الله عنهم، وكلُّ ما يذكرونه في هذه المسألة ويعدّونه دليلاً لا يخلو مِن قادح، بل أكثر تمسكاتهم فيها تُشبه التمسك بجبال القمر، ولولا خوفُ الإطناب لذكرتها مع ما فيها.
ومع هذا لا أنكر بركة كل من الأمرين - التوجه والرابطة - وقد شاهدت ذلك
من فضل الله عز وجل. وأيضًا لا أدعي الجزم بعدم دليل في نفس الأمر , وفوق
كل ذي علم عليم، ولعلّ أول من أرشد إليهما مِن السادة وجد فيهما ما يعول عليه،
أو يقال يكفي للعمل بمثل ذلك نحو ما تمسك به بعض أجلة متأخريهم، وإن كان
للبحث فيه مجال، ولأرباب القال في أمره مقال. ا. هـ
فأنت ترى هذا العالم الجليل الواسع الاطلاع , الواقف على ما قال أنصار هذه
الطريقة في الاستدلال على الرابطة والتوجه لم يعثر لهما على دليل، ولم يرضه
شيء مما قيل، ولكنه قد راعته مكانة مَن جرى على ذلك مِن الصالحين، وأرضاه
ما وجد لهما من الأثر في قلبه، وكذلك كان هذا العاجز عِدّة سنين، فإنني قد وجدتُ
أثر الرابطة والتوجه في نفسي: رأيت ما لم يَرَهُ معي الناظرون، وسمعت ما لم
يسمعه مثلي المصغون، وشممت ما لم يكن يشمّ الحاضرون، ولا أحب شَرْحَ ذلك
في المنار ولا الخوض في علله وأسبابه، وما ذكرت هذه الإشارة إلا ليعلم السالكون
لهذه الطريقة بالفعل أنني لست منها كما يقال في المثل: (من جهل شيئًا عاداه)
وإنما أتكلم فيها عن عرفان، وأحكم فيها بسلطان.
أقول: إن التوجه والرابطة لَيْسَا مِن الدِّينِ في شيء، ولا يجوز أن يعدّا مِن
العبادة المشروعة في الإسلام، ولكن لا أقول بكفر كل مَن عمل أو يعمل بهما،
وإنما أخشى أن يكونَ بعض المتقلدين لهذه الطريقة تقلدًا من غير عِلْمٍ بالشرع،
وعرفان بحقيقة النفس، أقرب إلى الوثنية منهم إلى التوحيد، فيما يكون بين الشيخ
والمريد، بل أجزم بأن من ذلك ما هو شرك جَلِيّ أو خَفِيّ، وإن كنت لا أجيز رمي
شخص معين به.
يمكن للمريد العارف بعقيدة الإسلام أن يجمع بين التوحيد وبين تخيل شيخه
عند ذكر الله عز وجل , بأن يتخيلَ أنه جالس في حضرته يراقب أدبه وحضور قلبه
في ذكره، كما يذكر الله أو يقرأ القرآن أو العلم بحضرته، وهو يعتقد أنه لا ينفع
ولا يضرّ، ولا يقصد بقبيل العمل، وإنما يصمد في ذلك إلى الله تعالى وَحْدَهُ. فمثل
هذا لا يعد مشركًا لشيخه مع ربه، وهو لا يشغله تخيّله لشيخه عن ذكره، إذ لا
يستصحب الصورة المتخيلة عند تصور معنى كلمة التوحيد، وذلك سهل على مريده
كما يقرأ القرآن أو غيره من كتب الفنون أمامَ شيخِه ولا يشغله وجوده عن فهم ما
يقرأ. ومع هذا لا يجوز له أن يحكم بأن هذا الأمر مطلوب في الشرع، بل يكتفي
بأن ينتفع بما جربه من غير مخالفة لِنَصّ مِن نصوص الشَّرْع.
وأما استمداد الهمَّة من أرواح الشيوخ، فقد ضل فيه كثيرون كضلال الذين
يعتقدون أن لشيوخهم سلطة غيبيّة يتصرفون بها في النفوس والآفاق , وأنهم بذلك
وُسَطَاء بين الله وخلقه، يقرّبونهم إليه زُلْفَى إذا أرادوا، كما كانت تقول الجاهلية في
آلهتها. على أن للمسألة أصلاً يُعَدّ مِن مباحث علم النفس لا من الدين هو منشأ
ضلال المفتونين عن تجربة ووجدان يظن الجاهل منهم أنه من الحقيقة المخالفة
للشريعة، ويعلم العارف المحقق أنه لا خِلاَفَ في الفعل، ولا منشأ للضلال إلا
الجهل.
قد جرب أهل الطريقة أن يتوجهوا بِهمّتهم وإرادتهم إلى بعض شُيُوخهم
الصالحين أو إلى بعض الصحابة أو النبيين قاصدين أن تتصل أرواحهم بأرواحهم
وتستمد منها قوة ما , فيجدوا لذلك في نفوسهم أثرًا حقيقيًّا لا يمكن لأحد أن يكابرهم
فيه كما لا يكابر أحد , ولا يشكك في شعوره بالفرح والسرور أو الغم والحزن. فإذا
قِيلَ لمن جرب ذلك من الجاهلين بالشريعة: إنه مخالف لها، فإنه يشكّ في حقية
الشريعة ولا يشك فيما هو فيه إلا أن يجمع له بينهما. ولمثل ذلك قالوا: إنّ سالِكَ
الطريق عرضة للزيغ والكفر إذا لم يكن له شيخ من العارفين الجامعين بين علم
النفس وعلم الشرع , فيبين له في مثل هذه المسألة أن هذا الأثر الذي يراه في نفسه
من التوجه هو أثر طبيعيٌّ له , ليس من الخوارق , ولا من السلطة الغيبيّة التي لا
تكون إلا لله وَحْدَهُ , وإذا رآه مرتقيًا في سلوكه يبيّن له أن براهمة الهند يعرفون
التوجه والرابطة , ويؤثر عنهم كثير مِن الخوارق الصوريّة والماديّة، التي لا تخرج
عن السنن النفسيّة والخواصّ الروحانيّة، ولكنهم في توجههم ورابطتهم دون السادة
الصوفيّة، لأن الرابطة والتوجّه عندهم من المقاصد التي يقفون عندها، ويرضون
من رياضتهم بثمرتها وأثرها، وَهُمَا عند الصوفية من الوسائل التي يعرفون بها
نفوسهم، ويعرجون منها إلى أن يصلوا إلى معرفة ربهم، فالاشتغال بهما كاشتغال
العالم الطبيعيّ بمعرفة خواصّ الماء والبخار والكهرباء والضوء، فإن كان يقصد
بذلك معرفة هذه الأشياء لذاتها مما ينتفع به في هذه الحياة الماديّة، كان مثله كمثل
البرهمي في التوجه والرابطة، لا يَزِيد عن كونه عالمًا ماديًّا، وإن كان يقصد بها
مع ذلك معرفة الله بمعرفة حكمه وأسراره في خلقه كان مثله كمثل الصوفِيّ في
التوجه والرابطة , وصار عالمًا رَبّانِيًّا، فالأمور بالمقاصد والإرادات، كما بيَّنَّا ذلك
في تفسير ما في صدر هذا الجزء من الآيات.
إذا عَرَفْتَ هذا وهو ما عليه محققو العارفين مِن الصّوفيّة تبيّن لك أن مسألة
التوجه والرابطة من المسائل التي تعدّ من وسائل علم النفس , وليست بِحدّ ذاتها من
الدين، فيستدل عليها بالآيات والأحاديث، وإن علم النفس كعلم الآفاق قد يكون
بالإرادة طريقًا لمعرفة الله تعالى، وبالقصد والنيّة عبادة له كما تكون جميع العلوم
الدنيويّة كذلك. والأصل في ذلك عند الصوفية قوله عز وجل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي
الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
* أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} (فصلت: 53-54) ,
ولما كان محيطًا بكل شيء كانت معرفة غاية كل شيء موصلة إليه إذا قصد بها
ذلك. ولذلك قالوا إن لله طرائقَ، بعد أنفاس الخلائق.
وههنا ثلاث مسائلَ لا بُدَّ من التصريح بها وإيضاحها إيضاحًا لا لَبْسَ فيه.
(إحداها) أن كل علم حقيقي يمكن أن يكون عبادةً محمودةً في الإسلام إذا
حسنت فيه النيّة وأريد به معرفة الله ومعرفة سننه وحكمه في خلقه، وكذلك كل عمل
نافع يُرَاد به دَفْع الأذى عن عِبَاد الله وإيصال الخير إليهم. ولكن العبادة في ذلك
قلبيّة لا صوريّة , فلا يُقَال: إن علم الضوء والكهرباء وعمل الأدوية وصنع الآلات
مما يكون مع حُسْنِ النيّة مِن العبادات المشروعة في ذاتها التي تلتمس لها الدلائل من
الكتاب والسنة. ومثلهما في ذلك التوجه والرابطة في الطريقة.
(المسألة الثانية) أن العبادة المشروعة لذاتها التي يطالب المسلمون بها هي
ما نطق به القرآن الكريم , أو مضت به السنة النبوية وجرى عليه جمهور السلف
وما عدا ذلك فهو بدعة، والبدعة في الدِّين لا تكون إلا ضلالةً كما ورد في الحديث،
وأما البدعةُ التي تعتريها الأحكام. ويُقَال: إنّ منها ما هو حلال وما هو حرام، فهي
البدعة في أمور الدنيا، علومها وأعمالها كما يدلّ عليه حديث مسلم: (مَنْ سَنَّ سُنَّةً
حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا) , إلخ.
(المسألة الثالثة) أن جميع ما يبتدعه الناس مِن وسائل النفع والخير في
العلم والتربية والأعمال يشترط في جوازه أن لا يكونَ مخالفًا لِمَا هو مقطوعٌ به من
أمور الدين. فإذا فرضنا أن التوجه والرابطة ينافيان ما هو مقطوع به في الإسلام،
فإنه لا يحِلّ للمسلم العمل بهما. وقد علمت أنهما يختلفان باختلاف العالم العارف
والجاهل المقلد.
ومن هذه المسألة أَنْتَقِلُ بِكَ إلى القسْمِ الثاني مِن الاستفتاء، وهو ما يفرضون
مِن طاعة المُرِيد لشيخه ولو في المعصية، وعدم إنكاره عليه وإنْ فعل المنكر،
واعتقاد أنه لا يُقْبَلُ له عَمَلٌ ولا يصل إليه خيرٌ إلا بواسطته، ومِثل هذا مما لا
يحتاج فيه إلى سؤال ولا جَوَاب، فإنّ وُجُوبَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
صريح في القرآن والأحاديث , ومضت به السنة فهو معلوم من الدين بالضرورة،
يحكم الفقهاء بردة منكره , ولم يستثن الله ولا رسوله مشايخ الطريق من هذا الحكم،
بل كان الصحابة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور ينكرونها في أعمال
الدين كالسهو في الصلاة , أو أعمال الدنيا، كالحرب وتدبيرها حتى يفسرها لهم ,
ويفرّق بين ما هو عن وحي وما هو عن سهو أو اجتهاد غيره أفضل منه.
والصوفية المحققون لا يشترطون على المريد إلا حسن الظن بشيخه، والأدب
في سؤاله وما عدا ذلك فهو من غلوّ المقلّدِينَ، أو مِن دسائس الشياطين، ولا يقولون:
إن عبادته لا تُقْبَلُ ولا يَصِلُ إليه خيرٌ مِن ربِّهِ إلا بواسطة شيخه، بل يقولون:
إنه لا يصل إلى المقصد من سلوكه إلا بتربية شيخه، وهذا صحيحٌ في الغالب.
وأَمّا ما احتجّوا به على مجلة (الإمام) مِن (أن الجنيد والجيلاني وأضرابهما
أوجبوا الرابطة) فهو بديهي البطلان عند كل أحد يعرف ما هو الإسلام، إذْ مِن
المقرر أنه ليس لأحد أن يوجب على عِبَاد الله أمْرًا دينيًّا إلا رُسُل الله بإذن الله ,
وهذا الغلوّ في إجلال المشهورين هو سبب التقليد منشأ فساد كل دِين.
وإذا كانت المسألة بديهيةً عِنْدَ كل مَن يعْرِف الإسلامَ، فهي من أعظم
المشكلات عند جهلة العوامِّ، لأن الكثيرين منهم لا يعرفون من الإسلام شيئًا له
سلطان على نفوسهم إلا ما يسمعون عن الرجال الصالحين , ولا علاج لهؤلاء إلا
تعليمهم ما هو الإسلام مع الحكمة , التي يجمع فيها بين بيان الحق وبين الأدب عند
ذكر أهل العلم والتقوى، وبيان أنهم غير معصومين من الخطأ، وأن كثيرًا مما ينقل
عنهم لا تصحّ نسبته إليهم، وأن أفضل ما يكرمون به هو عدم الثقة بما ينقل عنهم
إذا كان مخالفًا للشرع، لا مخالفة الشرع إذا ادّعى بعض الناس أنهم خالفوه، فإن
ذلك تقديم لهم على الله ورسوله، ثم تحسين الظّنّ بنيتهم وقصدهم فيما أخطأ
اجتهادهم فيه، وأن المجتهد المخطئ منهم يؤجر على اجتهاده، ولكن لا يتابع عليه.
وإنني أذكر شاهدًا واحدًا من خطأ أئمة الصوفية والعلماء في اجتهادهم المتعلق
بالتصوف وهو خطأ الإمام الغزالي - الذي صرحت غير مرة بأن كتابه الإحياء كان
أستاذي الأول الذي حبب إلي العلم والتصوف - ليقاس عليه خطأ من لا يشق له
غبارًا من الشيوخ الصالحين المشهورين، ومنه يعلم أن كل اجتهاد خالف الكتاب
والسنة فليس من الدين.
كان الغزالي في سياحاته أيام تصوفه يزور المشاهد، وقال: إن قبور الأنبياء
والصالحين تزار للاعتبار بتذكر الموت والآخرة وللتبرك، فزاد على ما ورد في
حديث الإذن بزيارة القبور ما سماه التبرك. ويعني به ما يجده الزائر السالك لطريق
الآخرة عند زيارة المشاهد من الخشوع، والحال التي تزيده رغبةً في الآخرة
وإعراضًا عن الدنيا. واستدل على مشروعية هذا ونحوه مما لم يرد في الشرع
كالرابطة التي نحن بصدد البحث فيها بحديث: (من بورك له في شيء فليلزمه) ،
كأنه يقول: إننا وجدنا لذلك فائدة في نفوسنا زادت في خشوعنا، ووجد أن الدين في
قلوبنا، وذلك هو البركة، لأن معناها الزيادة، وقد أمرنا الشارع بلزوم كل شيء
نرى فيه بركة لنا، فنحن عاملون بأمره في ذلك.
الخطأ في هذا من وجهين (أحدهما) أن الكلية ممنوعة، فإننا لو جعلنا
للأنبياء والصالحين صورًا وتماثيلَ تمثل لناظرها هيآتهم في الخشوع والوقار لَكَان
لها في نفوس الناظرين إليها مِن التأثير ما ليس لرؤية قبورهم المشيدة المشرفة , كما
نرى ذلك عند غيرنا من المِلَل، وهذا التأثير هو السبب في اتخاذ النصارى للصور
والتماثيل في كنائسهم، والغزالي لا يجيز هذا في الإسلام، ومثله بناء المشاهد
للصالحين , وتشريف قبورهم , واتخاذ المساجد عليها نُهِيَ عنه كما نُهِيَ عن الصور
والتماثيل , فثبت أنه لا يجوز لنا أن نُحْدِثَ في الدِّينِ ما ليس منه، وإنْ كان إحداثه
لغرض صحيح وقصد حَسَنٍ، بل نتبع فيه ما جاء به الكتاب والسنة، وجرى عليه
سَلَف الأمة، ونجعل اجتهادنا في اختيار النافع لنا محصورًا فيما فوض إلينا من
الاستقلال بأمور دنيانا.
(والوجه الثاني) أن الحديث الذي أورده يدل على ما ذكرناه من التخصيص
بأمر الدنيا دون ما استدل به عليه من جعله في أمر الدين. إنه أورد الحديث باللفظ
الذي اشتهر به على الألسنة ولم يروه به أحد. وما ذكره السيوطي في الدرر المنتثرة
من عزوه إلى ابن ماجه بعد إيراده بهذا اللفظ غير مراد ظاهره، وإنما مراده أن ابن
ماجه رواه بالمعنى، وقد ذكر نص رواية ابن ماجه في الجامع الصغير , وهو (من
أصاب من شيء فليلزمه) , وقال: إنه رواه عن أنس وعائشة. أقول: وقد
أخرجه ابن ماجه في أبواب التجارة والكسب من حديث أنس بهذا اللفظ الذي ذكره
في الجامع الصغير، ومن حديث عائشة بلفظ آخر وهو (عن نافع قال: كنت أجهز
إلى الشام وإلى مصر فجهزت إلى العراق , فأتيت عائشة أم المؤمنين فقلت لها: يا
أم المؤمنين , كنت أجهز إلى الشام فجهزت إلى العراق، فقالت: لا تفعل ما لك
ولمتجرك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سبب الله
لأحدكم رزقًا من وجه فلا يدعه حتى يتغير له أو يتنكر له) تقول له: ما لك
ولمتجرك القديم الذي تعودت الربح منه حتى تتركه وتقدم على ما تجهله؟ الْزَم ما
رأيت الربح فيه. ومعلوم أن الأوامر والنواهي المتعلقة بأمر الدنيا كهذا الأمر لا يعد
من التكليف الديني الذي يجب امتثاله شرعًا، وإنما يسميه علماء الأصول أمر إرشاد
يعتبر به ويعرض على المصلحة.
ولا يقال: إن حديث أنس عامّ؛ لأن عمومه في بابه على أنه روي بلفظ (مَن
أصاب مالاً مِن شيء) كما هو ظاهر حاشية ابن ماجه، ولأن هناك دليلاً يمنع
جريانه في أمر الدين , وهو ما ذكرناه في الوجه الأول. على أن في سنده فروة أبا
يونس عن هلال. قال الذهبي في الميزان: مُخْتَلَفٌ فيه , ليس بِقَوي , وقد ضعفه
الأزدي. ولم يكن الغزالي في أيام تصوفه , وزمن تأليفه الإحياء يبحث عن علل
الحديث، وإنما كان يستدل ويستنبط ما يتعلق بالفضائل من كل ما يراه في الكتب
حتى كتب الصوفية، ولذلك وقع في الإحياء كثير مِن الأحاديث المنكرة والضعيفة
والموضوعة. وقد عكف على الحديث , واعتصم بمذهب السلف في آخر عمره،
وإن اهتدى إلى حقية مذهب السلف قبل الانقطاع إلى الحديث.
وإذا كنا معشر المسلمين نعتقد أن الأولياء والصوفية غير معصومين مِن
الخطأ، وكنا نشاهد الخطأ الصريح في كتبهم ونراهم يخالف بعضهم بعضًا، ويرد
بعضهم على بعض، فهل يصح أن نجعل أقوالهم وأعمالهم أصلاً من أصول
الدين.
وخلاصة القول أن التوجه والرابطة ليسا من عبادات الإسلام ولا دليل فيه
على كونهما مشروعين، ومن جعلهما عبادة مشروعة في ذاتها فقد دخل في عداد
الذين قال الله فيهم: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) , وقوله في بيان أصول المحرمات: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ
مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) وإن أئمة الصوفية
المحققين لا يجعلونهما من الدين، وإنما يجعلهما بعضهم من وسائل معرفة النفس،
فهما عندهم من قبيل الوسائل التي تتخذ الآن لما يسمونه استحضار الأرواح، وفي
كل منهما لا بُدَّ من الواسطة، وإن المقلدين في الطريقة النقشبندية وغيرها عرضة
للضلال والشرك الجليّ أو الخفيّ إذا تمسكوا بهذه الظواهر التي لا يعرفون مراد
العارفين بها؛ فيجب عليهم اتقاء ذلك , وإحكام عقيدة التوحيد التي منها أن الشيوخ
والأولياء بل والأنبياء لا يملكون لأنفسهم ولا للناس ضرًّا ولا نفعًا ولا هداية ولا
غيرها، كما صرح به الكتاب العزيز في آيات كثيرة، وأن يحسنوا الظن بمن قال
بالرابطة من الصالحين، وقد بينا مرادهم عن علم وعرفان، وهو سر من أسرار
التصوف أفشيناه للضرورة والإرشاد، وأن يعتقد مع تحسين الظن بهم أنهم ليسوا
حجة في الدين، وأنهم لا يطاعون في معصية الله. ومن أراد أن يزداد نورًا في هذه
المباحث فلينتظر جزء الترجمة من تاريخ الأستاذ الإمام، فإن فيه بيانًا لا يجده في
كتاب.
__________(11/504)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وجه المرأة الحرة
(س12) مِن محمد رحيم أفندي الشفي في (زويله باشي) بسمبر
(روسيا) .
الفاضل الجليل والعالم النبيل السيد محمد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار
الأغر، دمت بالعز والكرامة. أمّا بعد فقد كثرت المباحثة والمناظرة في حق وجه
الحرة في طرفنا، فبعض العلماء قالوا: ليس بفرض ستر وجه الحرة، لحديث
عائشة رضي الله عنها أخرجه أبو داود وابن مردويه والبيهقي أن أسماء بنت أبي
بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق , فأعرض عنها ,
وقال: (يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا
وهذا) وأشار إلى وجهه وكفه، وبعضهم قالوا: إن سَتْرَ وجه الحرة فَرْض،
وإن لم تستره تكون آثمةً عند الله، لِقَوْلِ عائشة رضي الله عنها إحدى عينيها
فحسبت لاندفاع الضرورة (كذا) أخذه القهستاني والزاهدي , فالمأمول من سيادتكم
أن يبين الحق من الأقوال لرفع النزاع من بين الناس.
(ج) حديث عائشة لا تنهض به الحُجّة، فإنه مُرْسَل , وفي إسناده مَن تُكُلِّمَ
فيه، والأصل في المسألة قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) فقد روي عن ابن عباس أنه قال: الظاهر منها الكحل والخدان،
وفي رواية عنه: الزينة الظاهرة: الوجه وكحل العين وخضاب الكف والخاتم.
وعن سعيد بن جبير والضحاك: الوجه والكف. وعن عَطَاء: الكفان والوجه.
وسئل الأوزاعي عن قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) فقال:
الكفين والوجه، ذكر ذلك كله ابن جرير في تفسيره , وذكر أقوالَ مَن قالوا: إنها
الثياب والحلي , أو الوجه والثياب، ثم قال: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول
مَن قال عُنِيَ بذلك الوجه والكفان يدخل في ذلك إذا كان كذلك الكحل والخاتم والسِّوَار
والخضاب. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل؛ لإجماع الجميع على أن
على كل مصلّ أن يستر عورته في صلاته وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في
صلاتها، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها، إلا ما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه أباح لها أن تبديه مِن ذراعها إلى قدر النصف. فإذا كان ذلك من
جميعهم إجماعًا كان معلومًا بذلك أن لها أن تبدي مِن بدنها ما لم يكن عورةً كما ذلك
للرجال؛ لأن ما لم يكن عورةً فغير حرام إظهاره، وإذا كان لها إظهار ذلك كان
معلومًا أنه مما استثناه الله تعالى ذكره بقوله: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) ؛
لأن كل ذلك ظاهر منها. وقوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (النور:
31) يقول تعالى ذكره: وَلْيُلْقِينَ خُمُرَهُن وهو جَمْع خِمَار على جيوبهن؛ لِيَسْتُرْنَ
بذلك شعورَهن وأعناقَهن وقرطهن اهـ كلام ابن جرير.
والجيوب جمع جيب، وهو فتحة القميص على الصدر، وكانت المرأة تضع
الخمار على رأسها وتسدله إلى الوراء؛ فيظهر عنقها وصدرها، فأُمِرْنَ بِأَنْ يَجْعَلْنَ
طرفه على الجيب لِيَسْتر العنق والصدر. ولم يؤمرن بوضعه على الوجه، فلو لم
يقل إلا ما ظهر منها لَكَان يصحّ أنْ يقال: إن كشف الوجه باقٍ على أصل الإباحة،
فكيف وقد أمر بستر الجيب , ولم يأمر بستر الوجه! وناهيك بحكاية ابن جرير:
الإجماع على ذلك , وهو ما كان عليه النساءُ في عهد السَّلَف، فقد كن يأتين المساجد ,
ويغشين الأسواق , ويسعفن الجرحى في مواقع القتال , ويخطبن على الرجال ,
ويناقشن الأمراء والحُكّام. تفعلن ذلك وأمثاله مكشوفات الوجوه.
ومن جال في أرض المسلمين في الأقطار المختلفة يرى أن أكثرهن يخرجن
مكشوفات الوجوه , ولا يستره منهن إلا بعض نساء المدن، وهي عادة حكمت بها
غيرة الرجال عندما دخل المسلمون في الحضارة , وانغمسوا في الترف الذي يستلزم
الفسق والفجور، ولذلك ترى أكثر الفقهاء عللوا وجوب ستر المرأة وجهها عن
الرجال بخوف الفتنة، وابتدأ هذا البحث والخلاف في القرن الثاني.
هل يمكن لمكابر أن يقول: إن النساء كن يصلين مكشوفات الوجوه في مسجد
الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته ولا يراهن أحد؟ إذا كابر أحد نفسَه ,
وقال: يحتمل أن الرجال لم يكونوا يرون النساء في المسجد؛ لأنهن يصلين وراءهم ,
ولم يخشَ أن يقال له: إنهم كانوا يرونهن قبل الصلاة، إذ كن ينتظرن الجماعة
معهم وبعدها عند الانصراف كما هو مأثور مشهور - فهل يسفه نفسه , ويقول: إن
الرجال لم يكونوا يرون وُجُوهَ النساء وأيديهن في أثناء أعمال الحجّ مِن طواف ,
وسَعْي ووقوف بعرفة وجولان في أرض الحرم , ومعلوم لكل مَن يعرف أحكام
الحج في الإسلام أن كشف المرأة وجْهَها في الإحرام واجب , ومن النساء من تحرم
بالحج من أول أشهره , فتكون أكثر من شهرين محرمة مكشوفة الوجه واليدين أينما
كانت , وحيثما حَلَّتْ , وهي مع الرجال في جميع الأعمال.
ومن نظر إلى كلام فقهاء القرون الوسطى الذين رجّحوا تحريمَ النظر إلى
الوجه والكفين يجد أنهم لم يأتوا عليه بدليل من الكتاب ولا من السنة ولا من عمل
أهل الصدر الأول، وإنما عللوه بخوف الفتنة وسدّ الذريعة، وقد قالوا بحرمة النظر
إلى وجه الأمرد , وعللوه بتلك العلة، ومِن العَجَب أن إمام الحرمين من الشافعية
اغترّ بمنع الحكام النساء من الخروج في زمنه , وظنّ أنّ عليه جميع المسلمين.
قال الرملي في شرح المنهاج عند تصحيح المتن لحرمة النظر إلى وجه المرأة
وكفيها حتى عند الأمن من الفتنة: (والثاني لا يحرم , ونسبه الإمام للجمهور
والشيخان للأكثرين، وقال في المهمات: إنه الصواب. وقال البلقيني: الترجيح
بقوة المدرك والفتوى على ما في المنهاج , وما نقله الإمام من الاتفاق على منع
النساء , أي منع الولاة لهن , معارض لِمَا حكاه القاضي عياض عن العلماء: إنه لا
يجب على المرأة ستر وجهها في طريقها، وإنما ذلك سنة , وعلى الرجال غضّ
البصر عنهن للآية، وحكاه المصنف عنه في شرح مسلم , وأقره عليه) , إلخ ما
ذكره، ومنه أنه يحرم النظر إلى المرأة المتنقبة التي لا يرى منها غير عينيها
ومحاجرها , وإلى العجوز والمشوهة.
وفي حاشية المقنع من كتب الحنابلة: (لا يجوز له النظر إلى الأجنبية قصدًا
وهو المذهب. وقال القاضي: يحرم النظر إلى ما عدا الوجه والكفين؛ لأنه عورة ,
ويباح له النظر إليهما مع الكراهة إذا أمن الفتنة , ونظر بغير شهوة وهذا مذهب
الشافعي. قال في الإنصاف: وهذا الذي لا يسع الناس غيره خصوصًا للجيران
والأقارب غير المحارم الذين نشأ بينهم) , ثم نظر في هذا بأن فيه تجريئًا للفساق ,
وهو مخالف لمقاصد الشرع في إصلاح أمر الدنيا والآخرة. وبمثل هذا صرح
الحنفية مع أن الجميع يَرْوُونَ عن أئمتهم أن الوجه والكفين غير عورة، وعن ابن
عباس تفسير الآية بذلك.
أقول مسألة الخوف من الفتنة العارضة أو سدّ ذريعتها لا يصحّ أن تجعل دليلاً
لتغيير حكم من أحكام الدين التي كان عليها السلف بحظر أو إباحة تغييرًا مطلقًا كأن
يقال مثلاً: إن صلاة النساء مع الرجال في المساجد حرام في الإسلام، بناءً على ما
يقولون به من فساد الزمان، ومثله كشف المرأة وجهها. وإنما يصرح بأن حكم
الإسلام هو الذي كان عليه السلف اتباعًا للكتاب والسنة، ولكن إذا عرض ما يمنع
من العمل به بِنَاءً على قاعدة دَرْءِ المفاسد، فإننا نمتنع عنه مادامت المفسدة متوقعة.
فحاصل الجواب أن كشف المرأة لوجهها هو الأصل الذي كان عليه الناس ,
وأقرّه الإسلام , بل أوجبه في الإحرام , وادِّعَاء حُرْمَته في أصل الدين جناية على
الدين، وتحكم فيه بالرأي أو الهوى , وإثبات للحرج والعسر فيه، وقد نفاهما الله
عنه؛ لأن أكثر المسلمات يشق عليهن ذلك مع الحاجة إلى العمل والسفر , وإنْ
تَحمَّله من نساء الأمصار من تَعوَّدْنَه أو من كفتهن الثروةُ مزاولةَ الأعمال. ودعوى
خوف الفتنة من كشفهن لوجوههن لا تُسلّم على إطلاقها، فإننا نعرف من نساء
الفلاحين والبدو السافرات من نقطع بأنهن أبعد عن الريبة من نساء المدن المتنقبات،
ولكن المرأة التي تعلم أن في كشف وجهها مفسدة يحرم عليها كشفه بلا شك.
__________(11/516)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
احترام المسلم لشعائر غَيْرِه الوطنية والدينية
(س13 و14) من ج. ا. بمصر.
جناب الأستاذ العالم الشيخ رشيد رضا المحترم.
حَبَّذَا لو تكرّمتم بإبداء معلوماتكم السديدة , وآرائكم المفيدة عن السؤالين الآتيين،
وما ذلك إلا حبًّا في الإفادة والاستفادة.
1- هل يجوز لأحد المسلمين أن يراعي شعائر الدولة التابع لها أم لا؟
مثلاً إذا فرض وجود بعض المسلمين التابعين لدولة مسيحية كروسيا وغيرها،
هل يتحتم على الرعايا المسلمين في مثل هذه الأحوال أن يُجَارُوا الشعب في
شعائرهم مع وجود المغايرة في الاحتفالات الدينية، بمعنى هل يليق بهم أن يقوموا
بالاحترام اللازم للقيصر أو للحاكم إذا مرّ في الشوارع , أو قابلوه في محله كما تفعل
الرعية التي على دين ملكها أو حاكمها. وهل يتشارك المسلمون في إقامة الاحتفالات
التي تقوم بها الدولة التابعون لها كاحتفالها بعيد ملكها أو بعيد وطني , أو يجب تجنب
مثل هذا الاحترام وهذه الاحتفالات بغير الملوك المسلمين.
2- هل يجوز للمسلم احترام شعائر غيره الدينية أم لا؟
مثلاً إذا أراد أحد المسلمين دخول كنيسة مسيحية أو ما شاكلها , وطلب منه
رفع عمامة أو مجاراة الشعب في عوائده الدينية، هل له أن يفعل هذا أم يمتنع.
هذا ما أردنا الاستفهام عنه من عالم خبير مثلكم، فنرجو الإجابة، إما عموميًّا
في مجلتكم الزاهرة، أو خصوصيًّا باسمي، والسلام.
(ج) أما الاحتفالات والشعائر الوطنية , فيباح للمسلم أن يشترك فيها مع
أهل وطنه ما لم تشتمل على محرم في الإسلام , كشرب الخمر على اسم الملك الذي
يسمونه النخب.
وأما الشعائر الدينية فلا يجوز للمسلم أن يشارك غير المسلمين فيها كأن يصلي
معهم كصلاتهم الخاصة بهم , كالتي تكون منهم في الكنيسة وهم مكشوفو الرؤوس
متوجهون إلى قبلتهم، وإن لم يقل قولاً يحظره الإسلام. فالمحظور في هذا المقام
يرجع إلى أمرين:
أحدهما: الإتيان بما هو ممنوع في الإسلام , كتعظيم صور الأنبياء
والصالحين , أو طلب الخير أو دفع الشر منهم.
وثانيهما: العمل الديني الخاص بغير المسلمين , بحيث لو عمله المسلم لعده
رائيه منهم، هذا ما اتفق عليه الفقهاء فيما نعلم , ولعلنا نفصل القول في ذلك بعد.
__________(11/519)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حديث علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل
(س15) من أحمد أفندي محمد عطيوة بالقناطر الخيرية.
المرجو من حضرة الأستاذ الحكيم السيد رشيد رضا، إفادتي عن هذا الحديث:
(علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) في أي كتاب من الكتب الحديثة المعتبرة هو،
وفي أي باب هو، صحيح هو أم ضعيف؟ ولكم من الله الأجر، ومني عاطر الثناء
والشكر.
(ج) هو حديث موضوع , تجدونه في كتب الموضوعات، وذكره الحافظ
السيوطي في الدرر المنتثرة، وقال: لا أصل له، والشيخ عبد الرحمن الدبيع في
تمييز الطيب من الخبيث، وقال: (قال الدميري والزركشي وابن حَجَر: إنه لا
أصل له) .
__________(11/520)
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
__________
السنن والأحاديث النبوية
(5)
بحث العمل بالأحاديث القولية والأحاديث الفعلية
يقول حضرة الدكتور: أمّا السُّنّة القولية (الأحاديث) فبعضها نسخ بالقرآن،
وبعضها الآخر نُسِخَ بالأحاديث الأخرى. ونحن نقول: ما الدليل الذي قام لدى
حضرة الدكتور في التفرقة بين السنة القولية والسنة الفعلية؟ ولِمَ لا يكون النسخ في
الفعلية؟ وما الدليل على ذلك؟ أليس من المُقَرّر والمسلم أن أصل كل تشريع إنما
هو القول؟ وهل يعرف الواجب والحرام , والسنة والمكروه إلى غير ذلك إلا بالقول؟
ألم يكن من المعلوم أن الأفعال تتطرقها احتمالات كثيرة إذا لم يقارنها البيان بالقول،
وقد تبقى مجملة لا يتعين المراد منها إلا به؟
يقول حضرة الدكتور: (فبعضها نسخ بالقرآن) ويقال عليه: إن نسخ السنة
بالقرآن؛ قد قال الإمام الشافعي: إنه لا يكون، حتى حَكَى بعض الشافعية عنه أنه
قال حيث وقع نسخ السنة بالقرآن فمعه سنة عاضدة له.
حضرة الدكتور لم يذكر ذلك عنه، بل نقل بعض قوله , وترك البعض ودونك
قول الإمام في الرسالة: (لا ينسخ كتاب الله إلا كتابه، ثم قال: وهكذا سنة رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينسخها إلا سنته) فإن جاز الاستدلال بقول الإمام
هناك جاز هنا , وإلا فلا في الموضعين.
وقوله: (وبعضها الآخر نسخ بالأحاديث الأخرى) يقال عليه: فهذه الأخرى
الناسخة هل هي معلومة أم لا، وهل هذه هي المدونة عند أهل الحديث أم هي
أحاديث غيرها؟ وأين هي؟ وَمَنْ أدراك بها , فإنك قد قررْتَ أنك لا تقبل النسخ إلا
أن تجد الله أو رسوله قال هذا ناسخ وهذا منسوخ , وينقل إلينا ذلك بالتواتر؛ فَهَلاَّ
أنصفْتَ مناظريك؟
وقوله: (وعندنا أنه لن يبقَ منها شيء يجب العمل به غير موجود في القرآن)
الجواب عليه هنا أن يقال: إن هذه مجرد دعوى لا يستطيع حضرته أن يقيم البينة
عليها هو ولا غيره , فإن في السنن من الأحكام والآداب أضعاف ما في القرآن ,
وهي بفضل الله تعالى لا تخالف مقاصد القرآن , وهي مطابقة للعقل , ولا يمكن أن
يستغني عنها البشر , ولولا خوف الإطالة لأتينا بجمل منها , وبيّنا ما لها وما عليها ,
ومقدار الحاجة إليها فليتتبع ذلك حضرته.
بل نقول: ولا يبعد أن القرآن محتاج إلي السنة أكثر من احتياج السنة إليه،
يوضحه أن القرآن الكريم ذو أوجه والسنة مبينة للمراد منه تارة وشارحة ومفسرة
أخرى. أو تأتي بأحكام زائدة على ما فيه يشرعها الله على لسان رسوله - صلى الله
عليه وسلم - لشدّة حاجة البشر إليها إظهارًا لكرامة رسوله - صلى الله عليه وسلم -
عليه وليتعودوا طاعته واتباعه كما أَمَر بذلك في كتابه، ولئلا تجرّهم الشبهات إلى
ردّ بيانه للكتاب الكريم. ولبسط ذلك محل آخر.
يقول حضرته: (لأنها لم تكن إلا شريعة وقتية تمهيدية لشريعة القرآن الثابتة
الباقية) وأقول: هذه دعوى وتعليل لما شاء بما شاء , وكل أحد يمكنه أن يدعي،
فأين الدليل؟ أما قوله تعليلاً لذلك: نُهِيَتِ الصحابة عن كتابتها، فيقالُ عليه: إن
مسألة النهي عن الكتابة والترخيص فيها هي مسألة لا تدلّ على نسخ السنن النبوية
بأحد الدلالات مطلقًا، والقارئ يرى أن حضرة الدكتور قد ملأ الكون صياحًا بالإنكار
على العمل بالظّنّ، فما لنا نراه قد انسلّ هنا إلى هَدْم ما كان أسسه، ثم يَعْمِد إلى هدْمِ
القصور اليقينية، فيرد جميع السنن ويلغي طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
التي أمر الله بها في غير موضع من كتابه , والأحاديث المتواترة لفظًا ومعنًى في
وُجُوب اتباعه واتباع سنته. ويرد إجماع الصحابة، بل جميع الأمة، ما له يردّ ذلك
كله بالخرص والتخمين الذي لا يبلغ إلى أضعف مراتب الظن، بل لا يصح أن
يعتبره معتبر، فليعتبر حضرته بمناقضته لنفسه بنفسه.
إن أمر النهي عن الكتابة لم ينقل إلينا متواترًا، بل قد اختلف في رفعه إلى
المعصوم - صلى الله عليه وسلم - وفي نسخه، وقد عارضه ما هو أقوى منه، ولم
ينصَّ فيه على أن المراد منه أن السنن موقت شرعها، أو أنها منسوخة بعد مُدّة كذا
من الزمن , ولا أنه نُهِيَ عنها لأجل أن تندثر السنن بطول الزمن. إن أحد هذه
الأمور التي ذكرناها تمنع الاستدلال على ما قصده حضرة الدكتور، فكيف يصح أن
يكون ما هذا حاله معارضًا لجميع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وإجماع
الصحابة، بل وسائر المسلمين! فطاعة الرسول ووجوب اتباع سننه معلوم
بالضرورة من دين الإسلام - لا سِيَّمَا إذا كان حديث النهي عن الكتابة مُعَلّلاً بعلة
منصوصة عن رواية، وهو خوف الالتباس بالمصحف. وكل من روي عنه من
الصحابة النهي أو الامتناع عن كتابة الحديث فهو دائر على هذه العلة، كما صرحوا
بذلك. ومنهم من خاف أن يقع في الوعيد على الكذابين، ومنهم من نهى عن كتابة
رأيه , فاشتبه ذلك على الناظرين , فظنوا أنه نهي عن كتابة السنة النبوية، وليس
الأمر كذلك - فالقول بأن نهيهم عن كتابة العلم أو الحديث نصّ في النهي عن كتابة
السنن النبوية هو قول بالخرص.
ثم هل يجوز لمن لا يُجَوِّز العملَ بالظن أن يأخذ أقوالهم في أمر قد صرحوا
بسببه أن يتركه ويهمله , ثم يحمل قولهم على غير ما أرادوه، بل على ما نُهُوا عنه،
وهو ترك اتباع السنة واعتقاد وجوب اتباعها. ثم نقول: الحقُّ أن الأمور المعللة
يدور حكمها مع عللها، وحيث زالت العلة زال الحكم، وهو هنا خوف الالتباس
بالمصحف، فقد وقع الإجماع على جواز - بل استحباب - كتابة الحديث، وقال
بعضهم بالوجوب، وهو الحق. هذا كله إذا سلمنا أن حديث النهي مرفوع وأنه غير
منسوخ. ومن اطلع على القاعدة الأصولية من أنه إذا وقع التعارض بين دليلين
أحدهما مانع والآخر مرخص مثلاً , عرف أن الإجماع على كتابة السنن غير
معارض لنص؛ لأنه بعد تساقط الدليلين المتعارضين، أعني حديث النهي عن
الكتابة وأحاديث الأمر والترخيص فيها، تبقى البراءة الأصلية , والإجماع إن لم نقل
هو حجة، فهو مؤيد لها.
ونحن نسأل حضرة الدكتور، هل حكم حديث النهي عامّ وباقٍ أم لا؟ فإنْ قُلت
بالأخير، فقد وافقتنا، وحينئذ لا يصحّ لك الإلزام به. وإن قلت بالأول لزمك أن
تمنع عن كتابة جميع العلوم المستنبطة من القرآن بل أولى من ذلك كله أن تمنع عن
كتابة سائر العلوم.
إن كان الاختلاف في كتابة السنة قادحًا في العمل بها مسوغًا لاقتراح أن علة
ذلك وسببه كونها شريعةً مؤقتةً - فإن الاختلاف قد وقع في جميع القرآن وكتابته،
وأول من خالف في ذلك الخليفة الأول , ثم رجع إلى قول عمر - رضي الله عنه -
قِيل يسوغ أن يقال: إن الصِّدِّيق رضي الله عنه لم يخالف في ذلك إلا لأن شريعة
القرآن مؤقتة؟ لا - لا - في الأمرين، فإن قيل: إن الصِّدِّيق قد وقع الإجماع عليه،
والفاروق لما سأل الصحابة رأيهم في جمع السنن أشاروا عليه بجمعها، ولكنه
خالفهم للسبب الذي ذكرناه، كما صرح بذلك هو؛ إذ لم يحن له الوقت المناسب
الذي يزول فيه خوف الالتباس، ولما كان هو إذ ذاك صاحب الأمر لم يستطع من
أشار عليه منهم أن يفعل غير ما أمضاه الخليفة.
ومن تفكر في أهل زماننا بل منذ أزمان قديمة رأى صحّة هذا التعليل
المنصوص دراية كما هو صحيح رواية , فإنك تجد مصداق ذلك فيما نراه من
انكباب الناس وانهماكهم على كُتُب شحنت بآراء مشايخهم وأسلافهم حتى جعلوها
كالمصاحف، بل قدموها على المصحف وعلى السنة النبوية على صاحبها ألف
صلاة وتحية.
أما قوله: (ولم يعاملها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بالعناية
التي عُومِلَ بها القرآنُ لِتزول مِن بينِ المسلمين وتندثر) فأقول: أي المعاملات يريد
حضرة الدكتور؟ فإنْ كان يريد أن القرآن يمتاز بأنه كلام الله لفظًا ومعنى، وأنه
معجز متحدّى به، وأنه متعبّد بتلاوته، وأنه كلام الخالق غير المخلوق ونحو ذلك ,
فهذا صحيح وسنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن تعامل بهذه
المعاملة كلها، فكما أن الله جلَّ وعلا هو الربّ والإله المعبود ومحمد - صلى الله
عليه وسلم - عبده ورسوله وداعٍ إليه بإذنه , فلا يعامل بما يعامل به الإله مما يخصّ
الألوهية والربوبية , فكذلك كلامه - صلى الله عليه وسلم - لا يعامل بما يعامل به
القرآن من كل الوجوه كما تقدم، وإن أراد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم
يعامل سنته بما يعامل به القرآن مِن حيثية التشريع , كأن يأمر الأمة بما لا يجب
الائْتِمَار به , وينهاهم عمّا لا يجب أن ينتهوا عنه , أو أنه يعتقد ذلك , أو أن
أصحابه يرون عدم وُجُوب اتّباعه في جميع أقواله وأفعاله , وفيما شرع الله مِن الدِّينِ
على لسانه، فإرادة هذا منه - صلى الله عليه وسلم - أو منهم هو أمحل المحال،
وحضرة الدكتور نجله أن يعني ذلك، فمن زعم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم -
أوجب ما ليس بواجب , وحرّم ما ليس بحرام على الأمة، وأنه يعلم ذلك ويعتقده،
أو أن أصحابه يعتقدون ذلك، أو أنهم لم يأتمروا به.. إلخ، فخطؤه فوق كل خطأ،
وافتراؤه فوق كل افتراء، ومع ذلك كله هو غير مستند إلى شيء يصحّ الاعتماد
عليه حتى ولا شبهة.
فقول القائل: إن ما أوجبه أو حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو
مقيّد بوقت حياته - هل يصحّ ويثْبُت بدعوى عدم الكتابة أو دعوى النهي عنها أو
أنها لم تكتب مدونة مرتبة؟ قد قدمنا أن عدم الكتابة مطلقًا لم يرد فيها إلا حديث
واحد قد اخْتُلِفَ في رفْعِه وسبب النهي منصوص كما قدمناه مع معارضته لما هو
أصحّ منه.
فهل يصح أن يكون ذلك الحديث المذكور ناسخًا للآيات الكثيرة القرآنية
المصرحة بوجوب ولزوم طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعه؟ إنّ
طاعة الله لا ينازع أحد في وجوبها في وقته - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته،
وإنها - أي طاعة الله - واجبة علينا كما هي واجبة على أول الأمة.
لكنّا نرى القرآنَ مصرّحًا بأنّ طاعة الله مشروطة بطاعة الرسول - صلى الله
عليه وسلم - وهل طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا الائتمار بأمْرِه
والانتهاء لنهيه، وإلا لم تكن له طاعة , وقد عرفت ثبوتها ودَلَّ القرآنُ عليها نصًّا
كما يأتي، وهي لا تكون إلا في سننه القولية، كما قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ
رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً * مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} (النساء: 79-80) أمّا الاتِّبَاع والتَّأَسِّي, فيكون في الفعلية العمليّة
والقوليّة.
مهما يمكن لأحد أن يعبّر عن وُجُوب اتّباع أحد وطاعته لا يمكنه أن يعبّر عن
ذلك بأكثر وأوضح مما عبّر الله به في وُجُوب اتباع رسوله محمد - صلى الله عليه
وسلم - فإنْ كان ذلك قابلاً للتشكيك لزم أنْ لا يوجد في العالم خير يوثق به وبدلالته.
إن الله جلّ شأنُه لم يأمر بطاعته في القرآن إلا وأمر بطاعة رسوله - صلى
الله عليه وسلم - معه , بل قد يُفْرِدُ الأمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
ويجعلها شرطًا لطاعته ولم يفرد طاعته عن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
ثم هو تارةً يأمر باتباعه , وتارةً يأمر بالتحاكم إليه , ويجعل ذلك من شرائط الإيمان ,
وكذلك تسليم ذلك له , وعدم وجدان الحرج - وتارةً يأمر بالتأسّي به , وتارةً يقول:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) , وتارةً يُعْلِمنا
بأنه المبلّغ عنه المؤتمن , وتارةً ينسب التحليل والتحريم إليه - صلى الله عليه وسلم
- ثم نراه ينبّه في محلّ آخرَ بأنّه لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلاّ وَحْيٌ يُوحَى -
وتارةً يأمره أنْ يحكم , وأن لا يحكم إلا بما أراه الله - وتارةً يقول له: {قُلْ إِن كُنتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) , فجعل اتباع الرسول -
صلى الله عليه وسلم - مقدمًا على طلبتهم محبة الله وبابًا لمحبة الله لهم وهذا لا يمكن
أن يخص بقوم دون قوم وزمان دون زمان - وتارة ينهى عن التقدم بين يديه بقول أو
فعل، وتارة ينهى عن التولي عنه وعن أمره - وتارة ينهى عن مخالفة أمره، وتارة
ينهى عن التسوية بين دعائه ودعاء غيره، وقد قرر أنه الداعي إلى الله حتى إنهم
كانوا يرون إجابته غير مبطلة للصلاة، وتارة وتارة يحذر عن مخالفتهم أمره:
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (النور: 63) الآية - وتارة ينهى أن يجعلوا
لأنفسهم الخيرة من أمرهم مع أمره - وتارةً ينهى عن مشاقّته، وأن من شاقّه فقد
شاقّ الله، وتارةً يجعل من صفات الإيمان بالله المبادرة إلى طاعة الرسول - صلى
الله عليه وسلم - إلى غير ذلك مِن أساليب التعبير والتفنن فيه لإيضاح وُجُوب اتّباع
الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن القرآن ملآن مِن أوله إلى آخره بذلك حتى
القصص , فإنها إنما سِيقَت للاعتبار وليطاع الله ويطاع رسوله - صلى الله عليه
وسلم - ويتبع وليؤمن الناس بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فهل يصحّ أنْ يهدم هذا كله بشبهة حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - على
ما فيه مما قدمناه؟ أم هل يسوغ أن يقال: إن الصحابة - رضي الله عنهم - خالفوا
ذلك كله , وإنهم لم يعتنوا بسنته إذا رأينا أحدهم احتاط في الرواية , أو حكم بخلاف
السنة بعذر أنها لم تبلغه , ولو بلغته لرجع إليها كما قد شوهد عنهم الرجوع إليها في
جميع أحوالهم، وهل يصحّ اعتبار قول مَن خالف ما ذكرناه كائنًا مَن كان ما لم يكن
عن الله أو عن رسوله , وقد عرفت حكمها في ذلك.
فكيف يصح قول الدكتور إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم
يعاملوا السنن النبوية بغير ما عاملوا به القرآن إلا لتندثر وتزول من بين المسلمين
مع ما عرفت مما قدمناه عن القرآن. وَلِمَ لَمْ يصرح الله ولا رسوله - صلى الله
عليه وسلم - ولا أصحابه - رضي الله عنه - بما صرح به حضرة الدكتور؟
إنّ مَن تتبع أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصاياه ومواعظه وخطبه
يجدها موافقة لِمَا دلّ القرآن عليه، ومناقضة لما زعمَه حضرة الدكتور: (إنِّي
تَارِكٌ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي) , والأحاديث متواترة في أمْرِه
- صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ عنه، وفي وجوب اتباع سننه أيضًا تواترًا معنويًا،
أما أقوال الصحابة - رضي الله عنهم - في اتباع الكتاب والسنة، فأكثر من أن
تستقصى، بل ذلك إجماع عنهم وعن سائر المسلمين، وكل ما خالف الكتاب والسنة ,
فإنما هو عند الصحابة - رضي الله عنهم - من الرأي المذموم، وهو الظن
المشئوم الذي حذر الله عنه في كتابه , فحمله حضرة الدكتور على الرواية والمروي
بلا بيّنة، بل بناءً على اصطلاح المصطلحين. على أن كل مَن سِوَى الرسول
- صلى الله عليه وسلم - غير معصوم من الخطأ والسهو.
هذا ولا يحيط بسنته - صلى الله عليه وسلم - إلا مجموع الأمة , وما عند
الأمة من ذلك قد دوّن وها هو بين أيدينا , فهلمّوا بنا إلى اقتفائه واتباعه - صلى الله
عليه وسلم - الذي لا حياة ولا نجاة لنا إلا به {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (النور: 63) الآية
{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} (النور: 52)
نسأل الله لنا ولأخينا الدكتور الهداية والتوفيق لصراط الذين أُنعم عليهم من النبيين
والصِّدِّيقِينَ والصالحين، وأن يوفق من أراد له الهداية، إنه سميع مجيب , وآخر
دعوانا أَنِ الحمد لله ربّ العالمين , وصلى الله وسلم على رسوله الأمين وآله
وأصحابه الطيبين ومتبعيهم بإحسان إلى يوم الدين آمين.
... ... ... ... ... ... كتبه بيده وقاله بفمه
... ... ... ... ... الحقير صالح بن علي اليافعي عفا الله عنه
(المنار)
إذا أراد الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي أن يرد على هذه الرسالة، فالمرجو
منه أن يبين ما يراه منتقدًا منها بالاختصار , ولا يطيل في أصل الموضوع، وأن
يُسلِّم بغير المنتقد عنده تسليمًا صريحًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(11/521)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(إرشاد الأريب، إلى معرفة الأديب)
المعروف بمعجم الأدباء، أو: طبقات الأدباء:
مؤلف هذا الكتاب هو أبو عبد الله ياقوت: الحموي المولد، البغدادي الدار ,
الروميّ الجنس , صاحِبُ كتاب معجم البلدان المشهور. كان غلامًا لتاجر حموي
علمه ليكون عونًا له في تجارته , ثم أعتقه وتركه مدّة , ثم استعمله في تجارة سفره
بها , فلما عادَ كان مولاه قد تُوُفِّيَ , فأعطى أولاده وزوجته شيئًا مما كان بيده
فأرضاهم واتّجر بالباقي , وجعل بعض تجارته كتبًا , فكانت عونًا له على ما تَصْبُو
إليه نفسُه مِن العلم لا سِيَّمَا التاريخ والأدب. فألف مؤلفات كثيرة في ذلك أشهرها
معجم البلدان , ومعجم الأدباء الذي ذكر ابن خِلِّكان أن اسمه (إرشاد الألباء إلى
معرفة الأدباء) ولكننا أهدينا منذ أشهر المجلد الأول منه مطبوعًا طبعًا متقنًا على
ورق جيد , وإذا باسمه الذي كتب عليه (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) وكان
بعض النسخ كتب عليها هذا الاسم , وبعضها كتب عليها ذاك.
موضوع هذا المعجم تراجم مَن كانوا يعرفون بالأدباء في تلك العصور،
قال المؤلف في فاتحته (ص 5) : (وجمعْتُ في هذا الكتاب ما وَقَعَ إليّ مِن
أخبار النَّحْوِيِّين واللغويين والنّسّابِين والقُرّاء المشهورين والإخباريّين والمؤَرّخِين
والورّاقِين المعروفين، والكُتّاب المشهورين، وأصحاب الرسائل المدوّنة، وأرباب
الخطوط المنسوبة والمعينة، وكل مَن صَنَّفَ في الأدب تصنيفًا، أو جمع في فنّه
تأليفًا، مع إيثار الاختصار والإعجاز، في نهاية الإيجاز، ولم آلُ جهدًا في إثبات
الوفيات، وتبين المواليد والأوقات، وذكر تصانيفهم ومستحسن أخبارهم، والإخبار
بأنسابهم وشيء من أشعارهم إلخ) فالكتاب من أحسن دواوين التاريخ والأدب ,
وقد كان كنزًّا مخفيًّا فأظهرته همة أوربية. ذلك أن رجلاً من الناشئين في البلاد
الإنكليزية اسمه إلياس جب كان مغرمًا بدرس العلوم والتواريخ العربية والتركية
والفارسية , ثم مات في الخامسة والأربعين مِن سِنِّهِ , فوقّفَتْ أُمّه مالاً عظيمًا على
إحياء الكتب الشرقية التي كان مشتغلاً بها يصرف ريعه في ذلك , وعهدت بالعمل
إلى لجنة من الرجال القادرين عليه , وقد شرعت اللجنة بطبع هذا الكتاب بعدما
عُنِيَ الدكتور مرجليوث العالم المستشرق الشهير بتصحيحه , وقد أهدتنا الجزء الأول
منه , فإذا فيه بعد الفاتحة فصلان في علم الأدب وعلم الأخبار , يتلوهما باب
الهمزة , وهو يبتدئ باسم آدم بن أحمد الهرمي وينتهي باسم أحمد بن علي بن المعمر
وصفحاته تزيد على أربع مائة , منها ترجمة أبي العلاء المعري في 43 صفحة ,
فنشكر لجميع العاملين في إحياء هذا الكتاب وأمثاله فضلهم , ونخص بالذِّكْرِ
المُصَحِّح , ونرجو أن يُعْنَى طابعو الكتب في مصر ولو بعض هذه العناية في
التصحيح والإتقان.
***
(الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض)
بنيت قواعد الإسلام وأقيمت أركانه على أساس العلم حتى كان من المجمع
عليه عند علمائه أن جهل المكلف بما يجب عليه من أصوله وفروعه ليس بعذر في
الدنيا ولا في الآخرة , فالقاضي الشرعي لا يترك عقوبته إذا ارتكب موجبها جاهلاً
كما أن الله تعالى لا يَعْذِرُهُ في الآخرة إذا اقترف الفواحش والمنكرات جاهلاً
بتحريمها. قالوا: إلا إذا نشأ في شاهق جبل , أو كان قريب عهد بالإسلام. والعلم
ما كان بالدليل، فالعالم لا يكون إلا مجتهدًا , ولذلك أجمعوا على أن المقلد لا يسمى
عالمًا كما صرح به ابن القيم في أعلام الموقعين , وقد بقي الفقهاء إلى القرون
الوسطى يطلقون لفظ العالم ويريدون به المجتهد , كما ترى في كلامهم عن القاضي
والمفتي , ولكن وجد في هذه القرون من المؤلفين الجاهلين من ادَّعَى أن الاجتهاد
طوي زمنه وأن العلم بالإسلام أي بالكتاب والسنة صار متعذرًا , وأن الواجب على
جميع المسلمين هو الأخذ بما كتب في المصنفات الفقهية التي ألفها المنتسبون إلى
أحد المذاهب المشهورة فقام المدافعون عن العلم يردون هذه الدعوى ويبينون وجوه
بطلانها حتى أفردوا ذلك بالتأليف.
من هؤلاء الحافظ الشهير جلال الدين عبد الرحمن السيوطي فقد وضع فيها
كتابًا سمّاه (الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر
فرض) , وقد أورد فيه النقول الكثيرة عن أكابر علماء المذاهب الأربعة لأن كلامهم
يقنع المقلدين المنكرين ما لا يقنعهم الدليل المؤيد بنصوص الكتاب العزيز وما جرت
به السنة السَّنِيّة. وقد طبع هذا الكتاب طبعًا حسنًا في المطبعة الثعالبية بالجزائر ,
وهو يطلب من صاحبها أحمد أفندي بن مراد التركي وأخيه فنشكر لهما إحياء هذا
الكتاب النافع ونحثّ القراء على الإقبال عليه.
***
(ليالي سطيح)
طبع الجزء الأول من هذا الكتاب الذي شرع في تأليفه حافظ أفندي إبراهيم
وجعله في انتقاد الأخلاق والعادات، ووصف حال الاجتماع في مصر، وجعله
حوارًا مع سطيح الكاهن الجاهلي، ذلك الكتاب الصغير الكبير، الذي تبارى في
تقريظه عالم الكتابة والتحرير، فسالت أنهار الجرائد بمدد آياته، وجرت أقلام
الكتاب في فلك حسناته، ولهجت ألسنة الفصحاء بوصف ما في مبانيه من المتانة
والإحكام، وما أودعه أسلوبه من الرّقّة والانسجام، وتغلغلت أفكار الحكماء في
التأمّل بما انطوى عليه من الحِكَم والعِظات، وما بينه من الأمثال والمثلات،
وتلطف الناقدون في الإيماء إلى ما فيه مما لم يَخْلُ من مثله كلام الناس، كالتفاوت
بين بعض الجمل أو عصيان قوانين القياس، فلو جمع ما كتب في تقريظ كتاب
ليالي سطيح، من الثناء والمديح لَكَان معه كليالي هجر الملال، مع ليالي الوصال،
على أن ليالي التقريض هي من ليالي الوصال البيض، جمع فيها الأدب بين
جمهور من الأدباء المنشئين، وبين محبوبهم حافظ أفندي إبراهيم.
أخذ أولئك الكاتبون مسالك القول على من يحاول بعدهم وصف الكتاب أو نقده,
فما على المنار إلا أن يجعل الوفاء بذمة حافظ عَرْض شيء من حِكَم كتابه على
قارئيه، لعلهم يهتدون إلى فضله بكواكب لياليه، فمن ذلك قول سطيح في الحث
على العناية باللغة العربية ونصر دولتها وذِكر إمامي المصلحين: حكيم الإسلام،
والأستاذ الإمام (ص 62) :
فما ضركم لو تساندتم جميعًا وأنتم تتجازون زمن القمر عدًّا، فرفعتم من شأن
هذه الدولة، وحركتم من الخامدين، وهززتم من الجامدين، فإني أراكم بين متفصح
على أخيه، ومتنبل على قرينه، وليس هذا صنع من يريد ما تريدون، تحاولون ردّ
هذه الدولة إلى شبابها، بعد أن خلا من سنها، ولو لم يتداركها الله بذلك الأفغاني
لقضت نحبها ولقيت ربها، قبل أن يمتعها بكم ويمتعكم بها، أدركها الأفغاني ولم يبق
فيها إلا الذماء، فنفخ فيها نفخة حركت من نفسها، وشدت من عزمها، أدركها وهي
شمطاء قد نهض منها بياض المشيب في سواد الشباب، فشاب قرناها قبل أن تشيب
ناصية القرن الخامس، فسودت يده البيضاء ما بيضت من شعرها سود الليالي،
وتعهدتها همته بصنوف العلاج حتى استقامت قناتها، وبدا صلاحها، وقد كان الناس
في ذلك العهد يدينون باللفظ ويكفرون بالمعنى، فمازال بهم حتى أبصروا نور الهدى،
وخرجوا بفضله من ظلمات القرون الوسطى، وقام بعده نفر ممن تأدبوا عنه ,
فكانوا كالسيوف فرجت للرماح ضيق المسالك , فانفسح للمتأدبين المجال وجَالَ كُلٌّ
جَوْلَتَهُ، وتنبه الوجدان وتيقظ الشعور وتحرك الفكر حتى أفضى إلى حركة النفس،
وظهر أثر جمال الدين في النفوس العالية، وأصبحت تبتدر كلامه الأسماع الواعية،
فكان من ذلك أن انطوى أَجَلُ التقليد، وأن بعث الله على يديه ميت اللغة وأحيا
رُفَات الإنشاء، وغادر رحمة الله عليه مصر ولم يضع لنا كتابًا نأخذ عنه، أو مؤلفًا
نغترف منه، ولكنه ترك لنا رءوسًا تؤلف، وأفكارًا تصنف، وكأنه أحس بذلك حين
أحسّ بالموت , فكان يقول وهو يجود بنفسه: خرجنا منها ولم ندع لنا أثرًا ظاهرًا
بين السطور، ولكننا لم نغادرها حتى نقشنا ذلك الأثر على صفحات الصدور، فإن
لم ترثوا عنا في بطون الكتب فقد ورثتم عنا في صدور الرجال، فإذا حثوتم التراب
على رجل الأفغان فعليكم برجل مصر.
خرج من الدنيا كما خرج سقراط لم يغادر كلاهما مؤلفًا، ولم يدع مصنفًا،
فلولا محمد عبده ما عُرِفَ رجلُ الأفغانِ، ولولا أفلاطون ما ذكر رأس فلاسفة
اليونان.
ولما سكنت أنفاس الأفغاني بعد أن تجددت بذكره الأنفاس، خلفه حكيم الشرق
في دولته، ووطّن نفسه على المضي في طريقته، فأسمع الناس في الحق وأسمعوه،
وأخافوه في ذات الإله وخافوه، ولم يزل بهم حتى غلب حقّه على باطلهم ثم مضى
لسبيله رحمه الله.
فتفتقت الأذهان، وتطلعت العقول إلى البحث، وبرزت اللغة من خبائها،
تجر مطارف آدابها، وأطل علم الأدب Literature من مناره مشرقًا على النفوس
فأرسل نورَه إلى الضمائر، ونفذت أشعته إلى السرائر، فنمى تحت نظره الشعور
كما ينمو النبات جادته الشمس بالنظر، أو كسته أشعة القمر، فلطف من كثافة
النفوس، وهذب من مرارة الأرواح، حتى شفت الأولى وعذبت الثانية وبدأ دور
هذه الحياة الجديدة بفضل الأدب وعلمه. ا. هـ المراد منه هنا.
ثم ذكر سطيح ومحاوره الأستاذ الإمام وتلاميذه في مقام ما يرجى من الإصلاح
فقال (ص 144) .
قال (أي سطيح) وأين مكانك من العلم، وأين منك منزلة الحِلم؟ قال حسبي
أني من تلاميذ حكيم الإسلام، الأستاذ الإمام، طيّب الله ثراه، وجعل النعيم مثواه،
قال: إني لأرى رأيًا حصيفًا، وأسمع قولاً شريفًا، فمن أي تلاميذه تكون؟ فقد
سمعنا أنهم فريقان , فريق قد اختصه بسياسته، وفريق قد اختصه بعلمه، وقد أثنى
عليهما العميد، وتنبأ لهما بالطالع السعيد، قال: لا عِلْمَ لي بما تقول. ولقد كنت
ألصق الناس بالإمام أغشى داره، وأرد أنهاره، وألتقط ثماره، فما سمعته يخوض
في ذكر السياسة قبّحها الله، ولكنه كان يملأ علينا المجلس سحرًا من آياته وينتقل بنا
بين مناطق الأفهام، ومنازل الأحلام، ويسمو بأنفسنا إلى مراتب العارفين بأسرار
الخلائق، وحكمة الخالق، وكان ربما ساقه الحديث إلى ذكر أحوال هذا المجتمع
البشري , فأفاض في شئون الاجتماع وحاج العمران، ووقف بنا على أسرار الحياة
ولم يزل ذاك همه رحمه الله يلقي في الأزهر دروس التفسير , وفي داره دروس
الحِكمة حتى مضى لسبيله، فإن كانوا يسمون تلاميذه أحزابًا، ويقسمون تعاليمه
أبوابًا، فتلاميذه حزب العلم والعرفان، وتعاليمه سياسة التقدم والعمران، على أنه
كان من أشد الناس تبرُّمًا بالسياسة وأهلها، حتى أعلن براءته من الالتصاق بها،
فقال عنها في كتاب الإسلام والنصرانية ما قال.
لكنه كان يحتكّ بها ما دعت إلى ذلك الحاجة ويرصد حركاتها رصدًا، ويصد
غاراتها صدًّا خشيةَ أن تقطع على العلم سبيله، أو أن تقف عثرة في طريق الفضيلة،
ولولا ذلك لقطعت عليه سلك أمانيه، وحالت بينه وبين ما كان يبتغيه، فكم تلطف
في ابتزاز قواها، وتحامى جهده طريق أذاها، حتى إذا ظفر بطلبته، وفاز برغبته،
واستمد منها ما شاء، تحت حماية الإفتاء، عطف على العلم بذلك الإمداد، ورد
عليه ما سلبت يد الاستبداد، ولعله أوهم العميد، بيقظة حزب جديد، ليرد عاديته،
ويفسد عليه سياسته، في مصادرة العلم، ومصارعة الحلم، أما ترى بربك أثر ذلك
في المدارس، وما عبثت به يد ذلك السائس، ولولا أن الإمام مادَّهم حبل الوداد،
وجاذبهم فضل النصح والإرشاد، لأصابه ما أصاب حكيم الأفغان، وقضي على هذه
الأمة بالحرمان، فلقد كان يغدو على الوكالة ويروح عنها ليدفع عنا شِرَّة القوم،
ويصلح ما يفسده أهل الدسائس، فكم زحزح عنا حادثا، ودفع كارثًا، ولو كان حيًّا
يوم دار الفلك لنا بالنحوس في دنشواي، لَرأيت غير الذي رأيت من ذلك القصاص،
ولما ارتفع صوت العميد، بذلك التهديد والوعيد، ولما نزع إلى كتابة ذلك التقرير،
الذي جاء أبلغ ما تملي الضغينة على الموتور، فكان فيه كثير جموح اليراع،
ضعيف ضعيف جانب الإقناع، كأنه يكتب مقالة خيالية، إلى مجلة سياسية، وقف
فيها وقفة المدافع عن نفسه.
لحق النبي عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى فارتدّتْ طائفة من جفاة
العرب، وكادوا يفتنون الناس، لولا حكمةُ الصِّدِّيقِ وعزمة الفاروق، فما غضت
الردة من شرف النبوة، ولا نالت من عصمة الرسالة، ولبث الإسلام إسلامًا - ومات
الأستاذ الإمام فَصَبَأَ بعض حزبه كما يدعون، وأستغفر الله لهم مما يقولون، فما
غضّ ذلك من كرامة حكيم الإسلام، ولا مسَّ مِن سيرة ذلك الإمام.
أراد بعض مريديه أن يغني غناءه وأن يفعل شرواه في التوفيق بين صوالح
القوم وصوالحنا، فرمى بنفسه في أحضانهم، وليست له مكانة الإمام من نفوسهم،
ولا منزلته في قلوبهم، فقصر ولا بدع، وأخفق ولا عجب، فإن الفراغ الذي تركه
الإمام لا يشغله الألوف من أولئك الذين يرفعون العقيرة بالصياح، وينعون عليه
مذهبه في الإصلاح، ولمّا ظهر ذلك المريد بمظهر الاتصال بالقوم أنكر الناس منه
ذلك فطارت حوله الشبهات، وانبسطت فيه الألسن وأخذته سهام الأقلام، على أنه
وإن أخطأه التوفيق في عمله فما أخطأه حسن القصد ولا جازته سلامة الطوية، فوجد
بعض المرائين السبيل إلى تشويه سمعة الإمام بعد موته، وبالغوا في ذم حزبه،
وزادهم ضغنًا أن قرءُوا في تقرير العميد ما قرءُوا وظنوا أن هناك حزبًا يعمل، ولو
أراد الله خيرًا لهذه الأمة لسخر لها من تلاميذ الإمام من يقوم بالدعوة إلى الْتِئَام ذلك
الحزب الذي أودع فيه الإمام مِن أسرار حكمته ما كشف لهم عن حقيقة المصير الذي
أصبحنا نساق إليه سوقًا أعجلنا عن النظر في أمورنا فأمسينا أتباعًا لكل ناعق.
قال صاحبي وقد هاله ما سمعه أكان يكون بين ظهرانيكم أمثال أولئك الأمناء
على تعاليم ذلك الحكيم ولا تتعلقون بأذيالهم، على أني لا أرى فيكم إلا ناعيًا عليهم
مشهرًا بهم، فإن كنت لم تكذبني القول، فتلاميذ الإمام حقيقون باللّوْم؛ لأنهم يعلمون
الحق ولا يَدْعُون إليه. علموا أن لا حياة لهذه الأمة بغير الجامعة فما لهم لا
يواصلون قرع أنوف الأغنياء بالمواعظ , ويوالون الصياح بطلب تأسيسها فتلتقي
أصواتهم بالنداء في أنحاء القُطْر؟ ولكنهم سكتوا , اللهم إلا شاعرًا منهم قد قرض
قصيدة , وقاضيًا قد حبر مقالة في سبيل الجامعة , درج كلاهما في أثناء النسيان ,
فجمد الأغنياء عن البذل؛ لجمود أولئك الوعّاظ عن الكلام وتدفقوا في إنشاء الكتاتيب
حين ساقتهم الحكومة إلى ذلك ولو علموا أن انتشار التعليم الناقص شر على الناس
من بقاء الجهل لَمَا بذلوا في سبيله ما بذلوا فكان مثلهم في ذلك كمن يحاول النجاة من
أنياب النمر ليقع تحت براثن الليث؛ لأنهم إنما يستبدلون بانتشار الكتاتيب داء
الجهل ولكن بداء الغرور فسبيل الإصلاح أن تنشأ الكُتّاب وتُبنى الجامعة في وقت ما
حتى إذا أخرج الأولُ نصفَ إنسان أطلعت الثانية إنسانًا كاملاً فتكفل هذا الكامل
بصلاح ذلك الناقص فتتماسك الأمة ويكثر فيها الدعاة إلى الخير فليس بينها وبين
الحياة إلا أن يُخرج لها العلم الصحيح رجالاً يقودون الأفكار ويسلكون بها سبيل
الرّقي، ومن رأى أن هذه الأمة لا تنهض إلا بتعليم مجموعها وتهذيب أفرادها فقد
أخطأ مواقع الرأي فكم نهضت أُمّة بفرد , وأسست دعائم دولة على عزائم آحاد وفوا
قسطهم من العلم الصحيح وأخذوا نصيبهم من الإقدام.
وقد انصرف الناس إلى الصياح بطلب انتشار العلم ونسوا أن ذلك لا يغني
عنهم شيئًا إذا أعوزتهم تربية القادة وعزهم بناء الزعماء؛ فاعلم أن بناءة الرجال لا
تكون إلا في بناء الجامعة.
قال الأديب: وهل يكفي العلم وَحْدَهُ لصلاحنا ونحن على ما ترى من الخلق
والدين: فسوق عن أمر الكتاب، وطاعة للهوى، فلا وازع من الدين، ولا زاجر
من الخلق، فإذا تزعزعت العقيدة ولم يطمئن الطبع قلّ أن ينجع في الناس علاج
العلماء، أو تأخذهم صيحة الخطباء.
قال صاحبي: صدقت ولكن ما تراه أنت خطبًا كبيرًا، لم يكن في نظر الحكمة
إلا أمرًا يسيرًا، وإني أذكر لك دواء هذا الداء , وهو أيسر مما في نفسك، فلا تنزل
أمري معك على المزاح، ولا يصغرن في عينيك مأتي ما ألقي عليك، فرب مؤرَّب
من العقد ضلت حلّه الحكماءُ , واهتدت إليه خطرة من الفكر يرمي بها أحد العامّة،
وتغفل عنها عقول الحامة، ولعلك إذا سمعت أن الدواء الناجع، والعلاج النافع، لا
يحتاج إلى مقدمات طويلة، أو فلسفة جليلة، أصغرت ما كنت تكبر، واستنزرت ما
كنت تستغزر، فاعلم أنه إذا أقفلت أبواب المنتديات، وأطفئت أنوار الحانات، قبل
مَنْصَف من الليل، انحرف عنكم جارف هذا السيل.
هذه لندرة لا تكاد ترى في حوانيتها ساهرًا، ولا تجد في طرقاتها عابرًا، إذا
انقضى الثُّلُث الأول من دولة الظلام، وتلك (فينا) يجمع فيها الليل بين الجفون
والكرى، ويحول الظلام بين الأرجل والسرى، فإذا شب الليل أو كاد، سكنت
حركة العباد، فما لكم لا تأخذون نفسكم بتقليد تلك الخلائق، وقد ائتمروا بأوامر
الخالق، وما لكم لا ترجعون إلى الفطرة البشرية، أو تخضعون لنواميس السُّنَّة
الكونيّة، فتجمعوا في ذلك بين الدنيا والدين، ولا تعقوا أوامر الكتاب المُبِين، يا
وَيْلَكم أحييتم ليالي العُمُر بالآثام، وأَمَتُّمْ أيامه بالمنام، فعكستم الفطرة , ولا بدع إذا
عكست آمالكم، وخابت أعمالكم، خذوا مضاجعكم إذا طر شارب الظلام، واهجروها
إذا تنفس الصباح، ففي ذلك صحة لأبدانكم، وسلامة لأديانكم.
إذا شئت أن تعرف ما وراء ذلك من المنافع فإني أعد لك منها ولا أعددها منها
الرجوع إلى المعيشة المنزلية التي انحلت بزوالها روابط الأهل والأقارب، ويبس ما
بين البُيُوتَات، فتناكر الإخوان، وتدابر الجاران، وأقفرت المنازل من أنس السمر
وألف الناس الجلوس في المنتديات حتى إنهم ليوحشون في ديارهم، لقلّة زوّارهم،
وأصبح المرء في داره حاضرًا كالغائب، مقيمًا كالنازح، يعلم من حال البعيد عنه،
ما لا يعلم مِن حال القريب منه.
ومنها اجتياز العقبات، التي أقامتها المنتديات والحانات، في سبيل
الاجتماعات - كان المصريون في العهد القديم الذي نسميه اليوم عهد الظلام يجتمعون
في الدُّور والقصور , وكانت سراتهم وذَوُوا اليسار منهم يجلسون في بيوتهم للسمر ,
فيغشاها العالم ويؤمها الكاتب ويقصدها التاجر وينتجعها الأديب , فتجري بينهم
الأحاديث وتقوم سُوق المناقشات - يحدث الحادث فيخوضون في ذكره، وتنزل
النازلة فيجمعهم الألم على العمل على إزالتها، وتطل رءوس المشروعات فلا
يفتئون يتبينون معارفها، حتى يقتلوا شئونها بحثًا، ويقفوا على وقائعها جدالاً،
وينزل بأحدهم المكروه فلا يزالون يتلطفون بالسعي له حتى يأخذوا بيده، وينهضوا
به من عثرته - عقدت بينهم الزيارات، عُرَى المودّات، فتراهم وهم كأنهم أهل
بيت واحد: يألم الجار للجار، ويأخذ الناهض بيد ذي العثار، بربك هل نهضت أُمّة
بغير إدمان المجتمعات، وهل أخصبت مودة إذا هي لم يتعهدها أهلها بالزيارات،
لقد جار في حكمه من قضى على المصريين باستحالة الاتفاق، وجعل تلك الكلمة
التي رمى بها حكيم الأفغان أساسًا لحكمه، فصرفه التقليد عن النظر إليها بعين عقله،
فمن أين للمصريين أن يتفقوا إذا هم لم يجتمعوا.
ومنها اقتصاد المال وأنت ترى أن هذه الستة الأفدنة (أي بقعة الأزبكية) تكاد
تبلع ما تخرجه أرض وادي النيل من الخيرات , ولا يغرنّك ما ترى في عاصمة
الفرنسيس , فإن أهلها من الأكياس الذين يَصِلُون سهر الليل بالنهار لاصطياد الذهب ,
ولكن من جيب الغريب , ونحن إنما نفعل ذلك ليذهب الغريب بأموالنا ويسخر من
جهالنا. اهـ
وهو خاتمة الجزء الأول من الكتاب.
***
(رسائل البلغاء)
من مزايا مجلة المقتبس، التي يطابق بها اسمها مسماها، نشر رسائل بلغاء
الكتاب المتقدمين، وقد استحسن صاحبها أن يجمع أحاسن هذه الرسائل من مجلته
ويطبعها مجموعة على حدتها، ليسهل تناولها على غير قراء المجلة، ففعل وقد
أحسن فيما فعل.
صدرت المجموعة الأولى من هذه الرسائل في مائة صفحة، كلها من كلام
عبد الله بن المقفع وعبد الحميد بن يحيى، وهما ممن تُضْرَب ببلاغتهما الأمثال ,
وتشدّ إلى كلامهما الرِّحَال، ومن أطرف هذه الرسائل رسالة ابن المقفع في سياسة
الدولة وصحابة السلطان ورجاله، ورسالة عبد الحميد في نصيحة ولِيّ العهد وتعبئة
الجيش، وقد عُنِيَ الناشر بتصحيح هذه الرسائل معارضةً على أصلِها , ولم يتبع
سُنَّة أكثر طابعي الكتب بمصر من إهمال التصحيح، فما يوجد فيها من الغلط،
فالذنب فيه ذنب النُّسّاخ المحرّفين، مع فقر بلادنا من النسخ التي يُعَارَض عليها
الأصل، وثمن هذه المجموعة أربعة قروش، وأُجْرَة البريد قرش واحد، فنحثّ
مُحِبّي الآداب والحكم وطلاب الإنشاء العربي البليغ على قراءتها.
***
(سر تقدم الإنكليز السكسونيين)
قد أصبح هذا الكتاب أشهر من نار على عَلَم، وترجم بأشهر لغات الأمم، ولا
غَرْوَ، فإن تقدم الإنكليز السكسونيين وسبقهم لغيرهم من الأمم العزيزة التي تساويهم
أو تفوقهم في العلم والمدنية مما لا يُمَاري فيه أحد إلا من يجهل أن الشمس لا تغيب
عن سلطتهم، وأن مئات من الملايين خاضعة لسيادتهم، فمن جهل هذا التقدم لأميته،
أو تجاهله لغروره وغباوته، فإن الأمم الحية التي تسابق الإنكليز في ميدان
الاستعمار، وتجاريها في تلك الجواري المنشآت في البحار، هي الجديرة بأن تعرف
سر تقدمهم، وسبب فوزهم وسبقهم، فإنه لا يعرف قيمة الشيء من كان بعيدًا عنه،
كما يعرفه من هو على مقربة منه، لذلك كان علماء فرنسا أسبق الناس إلى معرفة
قيمة ما امتاز به الإنكليز على غيرهم مِن الأمم في تربيتهم وتعليمهم، وأخلاقهم
وآدابهم، وقد ألفوا في ذلك الأسفار الكثيرة التي يعد كتاب سرّ تقدم الإنكليز من
أشهرها، وكان من حسنات أحمد فتحي باشا زغلول في قومه وخدمته للغة أمته أن
ترجم هذا الكتاب بالعربية. ويسرنا أن طبعته الأولى قد نفدت، وأن خليل بك
صادق، صاحب مطبعة الشعب عُنِيَ بإعادة طبعه بإذن المترجم، ويَزِيدنا سرورًا أن
طبعته هذه أبهج من الأولى وأشد إتقانًا. وقد أبقى ثمنه كما كان وهو عشرون قرشًا،
بل هو يهديه إلى الذين يؤدون قيمة الاشتراك في مجلته (مسامرات الشعب) ،
ولا ينسين القارئ في هذا المقام رفيق هذا الكتاب في غايته ومقصده وأعني به كتاب
(التربية الاستقلالية - أو - أميل القرن التاسعَ عَشَرَ) , فإن مؤلفه العالم الفرنسي قد
اختار فيه أن تكون تربية الأخلاق واستقلال النفس تربية إنكليزية، وتعليم العلوم
العالية على الطريقة الألمانية، وإنني أرى أن المصريين وجميع العثمانيين أحوج
الناس الآن إلى مثل هذين الكتابين، لأنهم في طور انتقال من حال اجتماعية إلى
حال، وهو طور محفوف بالأخطار، التي يُستعان على تلافيها بالتأسي والاعتبار،
ولا ينفعنا التأسي بأمة كما ينفعنا التأسي بالأمة الإنكليزية، التي هي أَقْوَمُ أمم المدنية
أخلاقًا وأشدها محافظةً على ما كان عليه سلفها من الخير والدين وتثبتًا في التشبث
بالجديد.
***
(مجلة مسامرات الشعب)
قد أتقنت هذه المجلة , وصارت أحسن اختيارًا للقصص مما كانت عليه مِن
قبلُ، ومِن آخر ما نشرته قصة لصوص باريس، وهي قصة تفيد المتفرنجين من
أهل هذه البلاد، إن اعتبروا بها ما لا تفيدهم كتب الأخلاق والوعظ بما تمثل لهم من
حيل الأوربيين المقامرين على سلب أموال الأغنياء الأغبياء، لا سِيَّمَا الغرباء،
وفيها حرب عوان بين الفضيلة والرذيلة ينتهي بانتصار الفضيلة. ومثلها في هذا
قصة سلطان الغرام، وهي آخر قصة نشرت في هذه المجلة.
***
(مجلات جديدة)
مجلة التذكرة يصدرها بمصر السيد أحمد خليل، في كل أسبوعين مَرّة،
وهي مجلة دينية اجتماعية، ونزعتها صوفية اجتهادية ممزوجة بشيء من
الاصطلاحات العلمية عند الحاجة، وسننقل منها نموذجًا للقراء في جزء آخر؛
ليكون خير معرف لها. وقيمة الاشتراك فيها أربعون قرشًا في السنة لأهل مصر،
ونصف ليرة إنكليزية لغيرهم، فنتمنى لها التوفيق والنجاح.
(شورا) مجلة علمية إصلاحية، تصدر في أورنبورغ من بلاد روسيا،
محررها صديقنا في الغيب الشيخ رضا الدين أفندي بن فخر الدين، وهو من علماء
الإسلام المصلحين. وقد عرف قُرّاء المنار شيئًا من أفكاره العالية، وفقهه في
الإصلاح مما نشرناه من ترجمة رسالة له في مطالب مسلمي روسيا من حكومتهم،
ولنا الرجاء في أن تكون هذه المجلة هُدًى ونورًا للمسلمين في تلك البلاد.
(النصيحة) مجلة علمية أدبية تصويرية، تصدر بتونس في نصف كل شهر
عربيّ مرة، لمنشئها (الصادق بن إبراهيم) ، صاحب جريدة النصيحة. وقيمة
الاشتراك فيها لأهل القطر التونسي خمسة فرنكات، ولغيرهم ستة فرنكات، فنتمنى
لها التوفيق والثبات.
__________(11/528)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأمة العثمانية والدستور
إذا كان المنار لا يسع عشر معشار ما نعلم من أسباب هذا الانقلاب الذي حدث
في بلادنا ومقدماته ونتائجه وما نراه في أمر استفادة الشعوب العثمانية من الحرية
والدستور - فذلك لا يصدف بنا عن نشر بعض الآراء والأخبار التي تُذكِّر الكاتبين
في الصحف اليومية والأسبوعية ببعض ما ربما يذهلون عنه، وتُنَبّه القارئين إلى ما
ينفع التنبه له، وإنني أشير الآن إلى ثلاث مسائلَ هي أركان العبرة في هذا الباب:
(1) أول شيء يجب على المنار التنبيه إليه والتنويه به هو ما يؤيد خطته
في إقناع المسلمين بوجوب حسن المعاملة بينهم وبين من يعيش معهم من غير أهل
دينهم , وتعاون الجميع على ما يرقي البلاد ويرفع شأن الدولة، وفي رد طعن
الطاعنين في الإسلام بأنه دين تعصب وعدوان، وفي المسلمين بأنهم لا يلتئمون
مع أحد ممن لا يدين بدينهم، لا سِيَّمَا الذين يزعمون أن العلماء المُعُمَّمِين، هم الذين
يبثون الشقاق بين العالمين.
أؤيد هذه الخطة من الجهة الإيجابية والجهة السلبية بما ظهر للعالم أجمع من
أن عقلاء المسلمين هم الذين قاموا بهذا العمل الجليل للاتحاد والمساواة بينهم وبين
غيرهم، وأن شيخ الإسلام قد كان ومازال ركنهم الذين يلجأون إليه، وقطبهم الذي
يدورون حواليه.
إن أحرار المسلمين هم الذين بدءوا بدعوة الأحرار العثمانيين من النصارى
واليهود في مصر وأوربا وفي الولايات العثمانية إلى مشاركتهم في جهادهم، وهم
الذين أعلنوا هذا الجهاد ووطّنوا أنفسهم على قتال إخوانهم من الجند , إذا هم حاولوا
تأييد السلطة المستبدة، ثم إنهم بعد الظفر بالدستور قد كانوا هم السابقين إلى
مصافحة الأرمن والروم وغيرهم من الشعوب الموافقين لهم في العثمانية المخالفين
في الاعتقاد، وهم الذين رفعوا أصواتهم في كل مكان بأننا لا نجعل الدين مفرقًا بيننا
وبين إخواننا العثمانيين، بل نكون معهم كما أمرنا الإسلام بالقول المشهور فيه:
(لهم ما لنا وعليهم ما علينا) ؛ بل منهم مَن بالغ في قوله وغلا في رأيه , فاستحسنوا
التنازل عن بعض حقوقنا إرضاءً لعاطفة بعض شعوبنا، كالذين يرون أن يجعل
جامع أيا صوفيا مجلسًا للمبعوثين، ويخرج عن كونه مسجدًا للمسلمين، وهم من
الترك الذين يذكرهم هذا الجامع بذلك الفتح المبين.
هذا ما فعله مسلمو العثمانيين مِن البدء في الدعوة إلى الاتفاق والعمل بها في
كثير من البلاد، وهذا ما ينبغي أن يفعله الباقون، فإن المسلمين هم العنصر الأكبر
والأقوى، فإذا هو علم أن الخير في الوفاق وعمل بذلك تبعه غيره بالضرورة , ولو
قام أحد الشعوب القليلة الضعيفة يدعو الشعب الكثير القوي إلى المساواة وهو غير
مقتنع بها لما كانت دعوته مجابة ولا مقبولة.
فأدعو المسلمين في جميع البلاد العثمانية إلى أن يكونوا هم البادئين بِبِرّ غيرهم
والاتفاق معهم واشتراك الجميع في الأعمال التي توثق الرابطة العثمانية وتعمر بها
البلاد التي يمتع بعمرانها الجميع، بهذا تتكون الأمة العثمانية، وتعتز الدولة العَلِيّة،
وبهذا يقطع المسلمون ألسنة القادحين فيهم من الأوربيين، ويكونون مهتدين في ذلك
بهدي الدين المبين.
أدعو إلى هذا مذكرًا بالاعتدال فيه، لئلا يفضي الغلو فيه إلى ضد ما يراد به،
بأن يعتقد الجمهور أن كرتهم بالدستور خاسرة، أو أنهم يعمرون الدنيا بخراب
الآخرة، فيحملهم ذلك على الشنآن، أو يدفعهم إلى العدوان، فعلى المرشد أن يكون
حكيمًا في نصحه، مراعيًا لاستعداد الأكثرين في هديه.
وأُذكّر الجميع بأن الطفرة مُحَالٌ، وأن ما يحصل بالتدريج يكون أولى بالبقاء
والثبات، فإذا ترك أحد الفريقين للآخر ما كان يراه حقًّا له، فلا يستعجل عليه
بطلب سائر ما يراه مِن الحقوق لنفسه، حتى التقاليد القديمة، والعادات الراسخة،
فإن المصلح في القوم لَيَدْعُو أبناءَ جِنْسِهِ ودِينِه ووطنه إلى ترْكِ بِدْعة مِن البدع أو
ضلالة من الضلالات، ويقيم على دعوته الحجج القيمة والآيات البيّنات، ثم لا
يستجيب له قومه إلا بالتدريج، وأرى أن من الحكمة في تلافي الشذوذ والتقصير،
أن يبادر العقلاء والصحافيون من كل أهل دين إلى انتقاد أهل دينهم ولو بالعنف،
والسكوت عن غيرهم أو الاعتذار عنهم ولو بالتأويل , هذا إذا كان الشذوذ صريحًا
في مناوأة أحد الفريقين الآخر، وإلا اتفق الجميع على انتقاد المسيء مِن حيثُ إنه
مسيءٌ، مِن غير ذِكْر لِدِينِهِ ومذهبه، ولا اتهام قومه بمشايعتهم له.
(2) أنتقل بالقارئ من المسألة الدينية، إلى المسألة الجنسية، فقد كان
التعصب للجنس أشد خطرًا على الدولة من التعصب للدين، فإن الشقاق الديني إذا
كان يقدّ جِسم الأمة فيجعله نصفين، فإن الشقاق الجنسي يمزقه فيجعله أجزاءً كثيرة
ويصيب شره الجميع، فالمسلم التّركِيّ، يعادي المسلم العربِيّ، والنصرانيّ اليونانِيّ
يعادي النصرانيَّ البلغاريَّ، وعلى ذلك فَقِسْ.
لو بدأ بالدعوة إلى ترك العصبية الجنسية العربي أو الكردي أو الألباني أو
الأرمني أو الرومي أو البلغاري لَمَا سمعت للبادئ من هؤلاء دعوة , ولَمَا كان لها من
الوقع والتأثير عشر معشار ما كان لمجاهرة التركي بها؛ لأن الترك هم أصحاب
السلطة في الدولة فهم من هذه الجهة كالمسلمين من سائر الملل , فلما قال أحرارهم
هلُمّوا أيها العثمانيون نترك التعصب للجنس ونشترك بلقب واحد لا يقصد به امتياز
جنس على آخر لباهم الجميع حامدين شاكرين. فوجب أن نخصّ الجنس التركي
بالثناء الحسن قبل أن نتناسى أو ننسى أننا أجناس مختلفة. ولا بدع في جهر الترك
بذلك فإنهم كما صرحنا منذ بضع سنين أرقى العثمانيين تربيةً وتعليمًا، وأعلاهم أدبًا
وتهذيبًا.
(3) بعد ذكر مسألتي الدين والجنس أذكر شيئًا من عمل الجمعية التي تلافت
ضررهما , وسعت مع غيرها لخير العثمانيين كافّةً. ينضم العثمانيون الأحرار إلى
هذه الجمعية - جمعية الاتحاد والترقي - ويعمل الجميع لحفظ الدستور الذي نالوه بعد
السعي الحثيث إليه حتى اندمجت الجمعيات فيها أو كادت، وتدامجت معها كما
أرادت، وإن هؤلاء الأحرار المتحدين في هذه الجمعية هم الذين يديرون نظام
المملكة الآن، وقد ظهر من كفاءتهم واعتدالهم ما جعلهم موضِعَ إعجاب الأمم والدول
الأوربية كما تنطق جرائدها بلغاتها المختلفة. وقد مرّ على إعلان الدستور شهر أو
أكثر ولم يبلغنا أن أحدًا انتقد على الجمعية عملاً من الأعمال أو أدبًا من الآداب على
أن أوربا تراقبها مراقبةَ الناقد البصير الذي لا يحابي ولا يداهن حتى قلنا: إن
(مجلس المبعوثين) لا يرجى أن يكون خيرًا منها في الإدارة والإصلاح، ولا أقرب
إلى العدل والإنصاف.
ينحصر عمل الجمعية الآن في ثلاثة مقاصد:
(1) تطهير الدولة ملكيتها وعسكريتها من المفسدين الذين ناط بهم الاستبداد
السابق أمورها.
(2) تقوية استعداد الأمة للحكم الدستوري.
(3) تحسين الصلات بين الدولة العَلِيّة، وبين جميع الدول الأوربية، لا
سِيَّمَا ذوات السبق إلى الحرية كإنكلترا وفرنسا.
أما تطهير الحكومة من رجس أعمال الاستبداد السابق، فالمبادرة إليه من أهم
الضروريات قبل أن يجتمع مجلس المبعوثين وتلقي إليه الجمعية مقاليد السيطرة
والمراقبة، فإنه ليعجز أن يعمل في عِدّة سنين ما تعمله هي في هذه الأشهر التي
تتقدم اجتماعه كما يظهر لنا من الطريق السويّ الذي سارَتْ عليه في ذلك. فقد بدأت
بتطهير المابين والباب العالي ونظارة الحربية وأكثر الولايات في وقت واحد؛
فأخرجت من المابين رؤساءَ الفتنة والفساد , وعزلت السر عسكر رضا باشا وناظر
الداخلية ممدوح باشا , وسجنتهما مع تحسين باشا رئيس كتاب السلطان والشيخ أبي
الهدى أحد مستشاريه , وفَرَّ مِن رؤساء المابين عزّت باشا ونجيب باشا ملحمه
وسليم باشا ملحمه إلى أوربا. وأخرجت من المابين أكثر الحجاب والكتاب والخَدَم
وممثلي الروايات وأجواق المويسيقات من النساء , وحددت نفقات السلطان وراتبه
الشهري , ونفقات قصره وجعلت جميع بطانته من الأحرار أعضاء جمعية الاتحاد
والترقي , فآل الأمر إلى أن وضع هو على صدره شارة الجمعية , وقال: إنه
رئيسها.
وكثر العزل والنقل في المعسكرات , وهذا ضروري جدًّا؛ لتكون الجمعية
واثقةً من القوة التي هي سياج الدستور وعماد الأمن. وكذا في الدوائر الملكية. ولَمّا
رأى كثير من الخائنين أن إخوانهم في الفساد والتخريب يُعْزَلُونَ بادروا إلى الاستقالة
فكثرت بذلك الأعمال التي ليس لها الآن عمال، واختيار الأبدال عسر جدًّا مع
تحرّي الأَكْفَاء أصحاب النزاهة، فلذلك ترى أنه يجب على الجمعية أن تقبل من
عمال الاستبداد مَن لم يُعْرَفْ بالتجسس ولا بالرِّشْوَة، وإن كان ممن جروا على
مصانعة القوة، وأن تجري في ذلك على سنة التدريج فإن في العجلة مفاسدَ كثيرة.
وأما تقوية استعداد الأمة للحكم الدستوريّ , ومقت الاستبداد فقد سارت الجمعية
فيها على الطريقة المثلى بتأسيس شُعَب لها في كل مدينة , يرتبطون باللجان العليا
في الآستانة وسلانيك وأوربا، وبحمل الشعب على المظاهرات وتجريئه على
الخُطَب الحماسية في تقبيح الحكومة السابقة حتى أفرط بعض الناس في ذلك إفراطًا
لا تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ.
ثم إننا نرى بعين البصيرة ونسمع من أخبار البلاد أن كثيرًا من المنافقين
أعوان الاستبداد السابق ومُحِبّيه يتهافتون على الدخول في شعب الجمعية تعززًا
بالقوة واكتسابًا من السلطة، لا حُبًّا في الدستور وحِرْصًا على الحرية، ولكن قَلَّمَا
يرتقي هؤلاء بأنفسهم إلى أن يكونوا أعضاءً عاملين في الجمعية، كما صار يدعي
كل مَن كان يطعن في الدولة أنه مِن الأحرار طلاب الدستور. ونرجو أن يوفق
الأعضاء الصادقون إلى تمحيص شوائب هؤلاء الأوشاب , أو إلى محقهم وتزكية
الجمعية مِن نفاقهم.
هذا , وإن في البلاد نوعًا مِن جراثيم الفساد لم يبلغنا أن الجمعية قررت إزالته
على شدّة خطره على الحرية. ألا وهو عصابات الفساد من أشقياء الأهالي الذين
يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق , ويأوون إلى بعض الوجهاء
فينقذونهم من الحكام بالرشوة حتى بلغ من استهانتهم بالحكومة في بعض البلاد أن
زالت هيبتها من قلوبهم , وصاروا يأتون المنكرات على مَرْأًى مِن شرطتها وهم
آمنون مطمئنون، فيجب على الجمعية أن ترشد الحكام الأحرار الذين تقيمهم الآن
إلى تعقب هؤلاء الأشقياء وتربيتهم بالشدة التي لا يطمعون معها في عودتهم إلى مثل
ما كانوا عليه في أيام الحكومة السابقة , وإلاّ كانت فائدة الحرية للأشرار وغائلتها
على الأبرار.
وأما المقصد الثالث من مقاصد الجمعية , وهو موادة الدول الأوربية، فقد
كانت فيه أحزم وأحكم منها في سائر أعمالها الحسنة، ولا نرى فيه شائبة نذكر بها
إلا الاحتراس من جفوة ألمانيا والنمسا، والله الموفق؛ فنسأله حسن الختام.
__________(11/539)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المجلس النيابي لمصر
ذكرنا في الجزء الرابع من منار هذه السنة أن إنكلترا عازمة على إنشاء
مجلس نيابي في مصر وقد تلقى جمهور المصريين هذا الخبر بالدهشة والاستغراب ,
وعدّوه مناقضًا لما يستنتج من سيرة المحتلين في مصر وتصريحات لورد كرومر
في تقاريره وناظر خارجيتهم في مجلس النواب بلندره. وكنا نظنّ أنّ حركة القبط
التي شرحناها في الجزء الخامس مما يحتمل أن يحمل الإنكليز على إرجاء السماح
بإنشاء هذا المجلس إلى أجل حتى جاءنا نبأ جديد من أنباء أوربا السّرّيّة العالية بأن
القوم لا يزالون على عزمهم وأن مجلس النواب المصرِيّ يوشك أن ينعقد في السنة
القابلة.
لا أقول: إن كتابات القبط التي تتابعت على لندره لم يكن لها أثر فيها , وإنما
أقول: إنه قد عارضها إعلان الدستور في الدولة العَلِيَّة , واضطرار حكومة بريطانيا
لإظهار الرضا والابتهاج به , وما اضطرها إلى ذلك إلا أخلاق شعبها وتقاليدها
القديمة الراسخة في حبّ الحرية , ونصر الأحرار أينما كانوا وحيثما وجدوا، فرأت
وزارة الأحرار الإنكليزية أنه لا يليق بها أن تظهر الميل إلى الدستور في مكان ,
والميل عنه في مكان آخر على أن الإنكليز قوم يجارون الطبيعة ولا يقاومونها ,
ويعملون في كل حال ما يرونه يليق بها.
ويوشك أن يكون للوفد المصري الذي سافر إلى لندرة بزعامة إسماعيل باشا
أباظة تأثير حسن في المسألة، فإن إنكلترا يصعب عليها أن تؤدي هذه الخدمة لمصر
بطريقة يسهل فيها غمط حقها , وإنكار فضلها , وإسناد عملها إلى غيرها مع أنه لا
يمكن أن يتم في مصر أمر عظيم بدون رضاها مادامت جيوشها محتلة فيها.
__________(11/544)
الكاتب: حسين وصفي رضا
__________
كيف نستعمل الحرية [*]
أيها السادة الأحرار:
وقفت غير مرة مثل هذا الموقف بعد إعلان الحرية، وكنت في مواقفي الأُوَل
أرسل القول إرسالاً؛ لأن المواضيع متوفرة، والشعور بالحال أطلق اللسان من
عقاله، وفكّ الأفكار من أصفادها، بعد أن لبثت مُدّة ترسف فيها، حتى كدنا نيأس
من انتهائها، مع علمنا بأن لكل بداية نهاية.
ولكنني الآن أتلو عليكم خطبتي تلاوةً، لأنني سئلت أن أتكلم في موضوع لا
أتعداه، ومرتجل الكلام لا يستطيع حصره في موضوع واحد، لأن الخطب
الارتجالية حُرّة مثلكم أيها السادة فهي تَأْبَى التقييد، وقد جعلت موضوع خطابي هذا
(كيف نستعمل الحرية) لأننا أحوج إلى هذا الموضوع الآن من سائر المواضيع.
خاض الخطباء في تعريف الحرية وحدودها، حتى كادوا يضعون لها قيودًا،
ويخرجونها عمّا وجدت له، ولو كانت ذات شعور لعجبت كيف يحاول تقييدها
طلقاؤها! .
وكاد قوم بهذه النواحي يشوهون وجهها الجميل، ويشوشون مفهومها المستبين،
فظنوا أن الحرية تبيح للناس امتهان حكامهم، والنعي على صالحهم وطالحهم.
سادتي: إن من يدفع عن مركزه بقوة، إنما يرجع إليه مثل القوة التي دفع بها،
فإذا كانت المظالم زحزحتنا بقوتها الوحشية عن مكاننا، فنحن لا نرتكز في نقطة
إلا إذا دفعنا تلك المظالم في صدرها، وأنحينا باللائمة على القائمين بها.
الشعب الذي يغلو الحكام في ظلمه، يجب أن يتطرف في الحرية متى نالها.
الحاكم المسترسل بالظلم، الملوث بالرشوة، لا يفيقه من سكرة الاستبداد إلا
التقريع الفظيع، والتنديد الشديد، فهو كالعضو المخدر، لا يحس إلا بالوخز المؤلم
وربما لا يحس به.
كل هذا أيها الإخوان لازم بل واجب، ولكن لا يسوغ أن نجعله دينًا لنا حتى
كأنه هو المقصود بكلمة الحرية، إذًا نكون صرفنا الحرية عن معناها، ولم نعرف
كيف نستعملها، وحاشا ثم حاشا، وكلاّ ثم كلاّ.
أيها الشعب السوري العظيم، يا سلالةَ الفينيقيين الذين أدهشوا العالم، الذين لم
تَهَبْ سفنهم هجمات أمواج المحيط الأعظم، الذين ملأ ذكرهم بطون التواريخ، إنني
أحييك وأهش لك، أُحيّيك باسم الحريّة، وأناديك بملء ماضغيّ: أنت أسمى من أن
تضع الحرية في غير موضعها، وأنت أحق بها وأهلها، بل إنما وجدت لتكون لك
قبل كل البشر.
الحرية هي تمتع الشخص بما لا يضير به سواه، وصيانة الأفراد من عبث
الحاكمين، وسهولة سلوك السبل التي من شأنها إعلاء شأن الأمة، وتبسط أبنائها في
الحضارة والعمران، وعدم استكانتهم للظلم والهوان.
أبيح لنا القول أيها الإخوان، فاسترسلنا في القول، والقول مقدمة للعمل فيجب
أن نعمل أيضًا.
وضح لنا نهج المعين الذي ارتوى منه الإفرنج قبلنا، فلا يحسن بنا أن
نرتشف منه ارتشافًا، بل يجب أن نبتلعه ابتلاعًا إذا قدرنا.
أتيح لنا أن نعمل ما نشاء، فلا يليق بنا أن نعمل ما من شأنه إضعاف قُوَانا
وإنهاك جسومنا، بل يجب أن نعمل على ما يرفع شأننا، ويجعلنا في مَصَافّ الأمم
الحيّة الراقية، وبذلك نحسن استعمال الحرية.
الجمعيات هي أساس النجاح، ودعائم الرّقيّ، فيجب أن نؤسس جمعيات، لا
يسوغ أن تكون جمعياتنا لطائفة من الناس، لا يجوز أن تكون إسلامية أو مسيحية
أو يهودية مهما كانت وجهتها، وأنّى كان قصدها، بل يجب أن تكون عثمانية بحتة،
أنتم عثمانيون أيها الإخوان، فيجب أن تكون جمعياتكم عثمانية، الجامعة التي
تنضمّون تحت لوائها هي العثمانية، فاجعلوها جمعياتكم كذلك تحسنوا استعمال
الحرية.
عاشرت اثنين أيها الناس منذ بضع سنين اسمهما مشترك بين المسلمين
والنصارى، وأنا للآن لا أعرف إنْ كانا مسلمَيْنِ أو نَصْرَانِيَّيْنِ، ويجب أن
تكونوا أنتم كذلك أيضًا، يجب أن تتعارفوا بعثمانيّتكم لا بمذهبكم ونحلتكم، أليس
كذلك؟ بَلَى , بَلَى.
المدارس الوطنية هي كل ما نحتاجه الآن؛ لننهض من كبوتنا، ونُقَال من
عثرتنا، وليس عندنا الآن مدارس وطنيّة بالمعنى الذي أريده، أريد بالوطنيّة التي
تضمّ الفِرَق والنِّحَل، وتنشئ طلاّبَها تنشئة واحدة، غايتها إعلاء شأن الوطن،
ووقاية الحرية بالمهج والأرواح، والمدارس هي نبت الجمعيات وبنتها , فمتى
أنشئت الجمعيات فقد أسست المدارس، فأنشئوا الجمعيات أنشئوا الجمعيات تحسنوا
استعمال الحرية.
الجرائد هي القوة الكبرى والمدرسة التهذيبية، وهي ميزان أعمال الأمة،
وعنوان حالها، وهي المسيطر الرقيب على الحكومة , بل إن رقابتها تتناول كل
شيء، وهي قائد الأمة إلى مواطن السعادة والهناء، والصادقة بها عن معاطن البوار
والشقاء، فيجب أن تكثر الجرائد بيننا ويعمّ انتشارها وبذلك نحسن استعمال الحرية.
الخطابة هي مدرسة الشعوب الثانية بعد الجرائد، ولها من العوامل في التأثير
الكبير، ومن البواعث على العمل المفيد، ما يرفع ويعلي، وينتاش الأمم من
الحضيض الأسفل، وينيف بها على يفاع المجد والسؤدد، وإذا كانت الجرائد للقراء
فقط فإن الخطب يتناولها سمع القارئ والأمي، ويستفيد منها العامل والجاهل،
والنشيط والخامل، والصانع، والزارع، بل هي لكل أحد، والخطابة الحرة كانت
ولا تزال من الدعائم التي يشاد عليها بناء التمدن الباهر، ويرتفع بها صرح المجد
الحقيقي، فالمنابر المنابر! ! ! لا تهملوا شأنها، ارفعوا أعوادها، ليرنّ صوت
خطبائها، ليهتفوا فلتدم الحرية، فبذلك نحسن استعمال الحرية.
التآلف بين الفِرَق والنِّحَل هو الضامن الوحيد لبقاء وَحْدَتنا، واجتماع قوانا،
والمحافظة على حريتنا، وبه نرد عادية المظالم، وندفع غائلة الظالم، وهو الذي
يجعل مجموع أفراد الأمة كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر
الجسد بالسهر والحمى، أو كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، كما ورد في
الحديث الشريف، فيجب أن نتآلف، يجب أن نتآلف، يجب أن نتآلف، لنحسن
استعمال الحرية، فليدم التآلف.
إن استعمال الحرية يكون بالسير على النهج الذي أشرعته لكم أيها السادة،
وثَمَّة شئون أخرى، يضيق مثل هذا الموقف عن استيعابها، ولنا من حزم رجالنا
خير كفيل للسير على النهج السوي، والطريق المعبّد، والأمل معقود على أن
يبينوها بالعمل لا بالقول.
بقيت لي كلمة أُرَانِي مُلْجَأً إلى الجهر بها، قبل نزولي عن هذا المنبر، تلك
الكلمة هي إعلان استيائي واستياء العقلاء، ممن يذهبون إلى أن الحريّة منحة أو
هبة من شخص معلوم، إن هذا القول لا يليق صدوره من الأحرار، إنه كذب
وخيانة ونفاق، وليست هذه الخصال من الحرية في شيء، إن الحرية هي حق
للشعب يسلبه منه بعض الظالمين سلبًا، فنيل الشعب له إنما هو استرداد لحقه
المغتصَب منه، وليس من الهبات والمنح، الحرية ليست ملكًا للحاكم ولا للسلطان
فكيف يهب الإنسان ما ليس بملك له.
هذا , وإنني أشكر لجيشنا الباسل سعيه الكبير، وعمله العظيم، الذي خالف به
كل جيوش العالم، منذ وجد الجيش وأسست الجندية، فإن الجيوش في كل الأدوار
والأجيال، كانت يد الظالم القوية، يستعين بها على قتل روح الحرية، ولا أذهب
بالاستشهاد بكم بعيدًا أيها السادة، بل أُلْفِتُ أنظارَكم إلى فظائع جيش العجم،
ومنكرات جيش روسيا، وكيف يمثلون بطلاب الحرية أقبح تمثيل عملاً بإرادة
المستبدّين، وتنفيذًا لمقاصد الظالمين، فليمت المستبدّون، وليسحق الظالمون.
وأشكر أيضًا لرجال جمعية الاتحاد والترقي العثماني، ولكل رجال الإصلاح
الذين وقفوا حياتهم، وخاطروا بأرواحهم، في سبيل استرجاع الحرية، وأصرح بأن
جمعيتهم قامت بما لم تقم به جمعية في العالم منذ أسست الجمعيات، فإنها كانت سببًا
في إحياء شعب بأسره، لأن الشعب المستعبَد هو والميت شرع، هذا مع اعترافي
بما للجمعيات من الأثر المحمود في خدمة النوع الإنساني.
وأسأل الله أن يوفقنا للسير على ما يُعْلِي شأنَ أُمَّتِنا، ويرفع مقام دولتنا،
ويحفظ علينا نعمة الحرية مادامت السموات والأرض. اهـ.
(المنار)
جاءنا من بيروت أن الجمع المحتفل قد صفق للخطيب تصفيقا شديدًا،
وهتف بالدعاء له وللمنار هتافًا كثيرًا.
__________
(*) خطبة من الخطب التي ألقاها في إحدى احتفالات الحرية ببيروت السيد حسين وصفي رضا، شقيق صاحب هذه المجلة (المنار) .(11/545)
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
__________
خديجة أم المؤمنين
(6)
الفصل الحادي عشر [*]
(الحب الشريف)
إن أشرف السِّيَر سِيَر أهل الفضيلة، وما الفضيلة إلا من خصائص النفوس،
فمن كان من عشّاق الفضائل حسن به أن لا تفتر نظرات بصيرته إلى النفس، فهي
مستقرّ الخوارق، ومستودع العجائب.
النفس مَجْلَى الآيات الكُبَر، ومهبط الفيوضات العُلَى، والمرآة العظمى التي
ينكشف بها الأزل والأبد، والمطبعة العظمى التي ترتسم بها الأشياء وتتكثر الصور.
هي السلك الممدود بين مبدع الطبائع، ومقيم الشرائع، وبين الجواهر المتألفة
الصامتة، والظواهر المسخرة المطيعة، فهي خليفة عليها، واقفة على خطواتها،
مشرفة على حركاتها، وهي مجذوبة من طرف إليها بجاذبية الأنس والعادة،
ومجذوبة من طرف آخر إلى مصدر بوارقها بجاذبية الحبّ والشوق، فبانجذاب
النفس إلى الظواهر تأخذ الظواهر حظّها من الانكشاف، وبانجذاب النفس إلى مانح
الظهور تأخذ النفس حظّها من الشهود والإشراف، فيحق لها في الحالتين أن تتمجد
بما ميّزها به فاطِرُها تَباركَتْ عظمتُه، وتعالى شأنه.
أعظم خصائص النفس الحب والبغض، بل إن هاتين الطبيعتين المتضادّتين
أعظم نواميس الأكوان والموجودات كلها، لكن اختلفت المحبات، وتباينت الأشواق،
وأُوتِيَتِ النفس الإنسانية أعظم نصيب من هاتين الطبيعتين لاتساع المحيط الذي
تدور فيه، ولاتصالها بعالم الحسّ وعالم الغيب، وترددها بالانجذاب بينهما فهي إن
وقفت يومًا مع الظواهر أنست بها , فعشقتها لما رشّ عليها مبدعها من الحسن الذي
هو وصفه، وإن ارتفعت إلى المبدع دهشت فتولهت لما هنالك من المجالي الأزلِيّة
التي تطير السرائر شوقًا إلى التمتع بها.
الفضائل والرذائل، الخيرات والشرور، الحزن والسرور، الرغبة والرهبة،
الإقدام والإحجام، الكسل والنشاط، الارتفاع والهبوط، كل ذلك من مبتدعات الحب
والبغض وآثارهما، وكل درجة من هذه الأشياء فإنما هي على مقاييسهما، هما
بالاختصار رُكْنَا السعادةِ والشقاء، فمن هُدِيَ إلى تصريفهما والجري بهما على سُنَّة
مُثْلَى فقد أهديت إليه السعادة , وأُوتِيَ بالحب الشريف والبغض الشريف حظًّا مِن
الخير عظيمًا.
كانت السيدة (خديجة) ذاتَ قلب طاهر، والقلب الطاهر مركز الحب
الشريف، فماذا أحبّت سيدتنا هذه؟ كان قلبها تواقًا إلى معالي الأمور، عظيم الشنف
بمحاسن الأخلاق، وقد أمدّ الله فطرتها إمدادًا عظيمًا فقويت معرفتها بالمكارم،
وعظم علمها بأن الفضائل هي التي تليق بالإنسان، سواءٌ وقفت نفسه مع هذه
المحسوسات , أم أرادت أن تندرج في زُمْرَة عُشّاق المجالي الأزليّة.
عرفت هذه السيدة صلة النفس الإنسانية بمن منه انشقت أسرارها، وانفتقت
أنوارها، فكان لها تشوف إلى جود عظيم يفيض عليها من العناية الربّانِيّة، كما هو
شأن ذوي السرائر الصافية، وحصل لها من هذه الحالة الطيبة قوة فراسة،
والفراسة نور، فكانت تهتدي بها فيما هي حائمة الروح عليه من الفضائل، ومن
أحب شيئًا أحبّ أهله من أجله، فلما عرفت ابن عبد الله ووجدت فيه ما يعشق من
المزايا العَلِيّة، انتثرت حَبَّةٌ من تلك المحبة الشريفة التي كانت بها تنشد المكارم ,
فوقعت في محلّ مِن قلبها لتنبت شوقًا إلى هذا الرجل الصالح الذي ألفت المكارم كلها
لديه، وأيقنت أن معرفتها هذا السعيد بمزاياه العظيمة هو أعظم الآثار التي كانت
تتشوف إليها من لَدُن العناية المرجوة.
الآن وجدَتْ مُحِبَّةُ الفضائلِ والمحامد أعظم مَن تتجلى الفضائلُ والمحامِدُ فيه،
فكيف ينفر منه قلبها؟ بل كيف لا يميل إليه فؤادها؟ فالأمانة هو ذلك الشهير فيها
وقد سبرته في متجرها فربحت بواسطته أضعافًا، والشجاعة هو المنشأ فيها على يد
عظيم الهمة أبي طالب، والنباهة هو الذي تسطع في محيَّاه طوالعها، والحكمة هو
الذي تقرأ في سيماه آياتها، والعفة هو ربها، والمروءة هو مجمع شواردها،
ومحاسن الخلقة هو النسخة الصحيحة منها، فأي الفضل تنشد بعد هذا مُحِبَّةُ الفضل،
وأي المحامد تريد بعد هذه مريدةُ المحامد؟ كمال خَلْق وكمال خُلُقٍ، جمال شخص
وجمال نفس، حنكة لم يظفر بمثلها أقرانه مِن الشُّبَّان، ووقار لم يحظ بأقلّه الكبار،
وهمّة لا تقف أمامها الصعاب، وعزيمة لا تني أمام الثقال، قوي شديد، حليم رشيد،
كما يقول فيه عمه أبو طالب وهو به جدير:
فمن مثله في الناس أي مؤمّل ... إذا قاسه الحكام عند التفاضل؟
حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي إلهًا عنه ليس بغافل
لقد علموا أن ابننا لا مكذَّبٌ ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد في أرومة ... تقصر عنه سَوْرَة المتطاول
فما أكثر غبطة السيدة (خديجة) إذ عرفت هذا السيد الجليل، وما كان
أجدرها بأن يتعلق قلبُها الطاهر به، وما أقوى نور فراستها إذ علمت أنه لا نظير له،
وأن سعادتها لا تتمّ إلا به، وما أحقها أن تغتنم الفرصة وتسبق إلى تزوّج هذا
الشريف الذي جمع إلى شرف النسب شرف الخلال.
* * *
الفصل الثاني عَشَرَ
(تفاؤلٌ هذا وقتُه)
كانت الكهانة شائعة في ذلك الزمان كما هو شأنها في كل الأزمنة إلى زماننا
هذا، وكان علماء التوراة ينبئون دائمًا بظهور نبيّ مُنْتَظَر، وبعضهم كان يقول:
إنه سيظهر مِن العرب، والراهب بَحِيرَا تفرّس بابن أخي أبي طالب إذ كان معه
صغيرًا , وقال له: سيكون لابن أخيك هذا شأن! ولم يكن بعيدًا عن المألوف أن
يخبر بعض الناس بالمغيبات , ولكن لم يكونوا يصدقون كل شيء من هذا القبيل ولا
يكذبون كل شيء كما هو الشأن في أهل زماننا أيضًا.
وقد كثر التكهّن قبيل ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن أكثر الناس
لم يكونوا يبالون بتلك الأخبار؛ لأنهم تَعَوّدوا أن يروا شيئًا من كذب الكهانة مع
مصادفة صدقها أحيانًا، فلم تكن الثقة بها في الحقيقة تامّة، ولا سِيَّمَا في الأمور
العظيمة.
وبينما نساء من قريش مجتمعات في عِيدٍ لهُنّ في الجاهلية، إذ تمثل لهن رجلٌ،
فلما قرب نادى بأعلى صوته: يا نساءَ مَكَّة، سيكون في بلدكن نبيٌّ يُقال له أحمد،
فمن استطاع منكن أن تكون زوجًا له فلتفعل. فَكَذَبْنَهُ وَرَمَيْنَهُ بالحصى، وكانت
فيهن (خديجة) فلم تَرْمِه كما رَمَيْنَه.
لم يكن هذا المنبئ كاهنًا معروفًا، فلذلك احتقره النساء؛ لأنهن لا يعبأن في
الغالب إلا بأهل الشهرة. ولكن كان قومهن يعتقدون بالهاتف، وهو على اعتقادهم
روح ينطق بالشيء مِن حيثُ لا يُرى، أو يتمثل بصورة بشرية فيقول قولاً من هذا
القبيل ثم يغيب، فكأن السيدة (خديجة) اعتقدت أن هذا المنادي هاتف، فلم ترمه
كما رماه ترائِبُها، ولعلّها صدقت إذ ذاك وتفاءلت خيرًا، ورجت أن تكون صاحبة
هذا الحظ.
وإن صحّ ظننا هذا بالسيدة كان لنا دليل جديد على عظيم تطلعها إلى بركات
الجناب القُدُسِيّ، فإنّ الرغبة في تزوج المنعم عليهم بالنبوة لا تعظم إلا من العارفة
بذلك الجناب الأَعْلَى الذي يتفضل بخلعة النبوة على مَن يشاء.
كانت النبوة معروفة عند قومها بما سمعوه من أخبار أنبياء جيرانهم بني
إسرائيل، ومعروف أن النبي رجل كالرجال , ولكن يصطفيه الله ويرفع درجة نفسه
على درجات سائر نفوس البشر، حتى يطلعه على ما لم يطلع عليه أحدًا من أسرار
عالم الغيب، وليست النبوة ملكًا أو حظوظًا زائدة مِن نعيم الدنيا، بل جلّ الأنبياء
الذين سلفوا كانوا مقلين , ولم يكن حظهم إلا مقاومة الناس إياهم وتعذيبهم،، والنساء
إنما يرغبن بالنعيم والرفاهية ورغد العيش وكثرة الحلل والحلي، وكل هذا لا يرجى
لدى الأنبياء الذين تنصرف أنظارهم عن متاع الغرور، ويلتفتون إلى ما فيه غِبْطَة
الرُّوح، فلا تَتَصوّر السعادةَ من النساء عند الأنبياء إلا اللاتي أنعم الله عليهن بسلامة
الفطرة وقوة الاستعداد كالسيدة (خديجة) .
ولما رجع عبدها (ميسرة) من الشام في تلك السفرة التي ذهب بها مع
الهاشمي (محمد) أخبرها بأحوال غريبة رآها منه لا يكون أمثالها إلا لمن سمعت
أخبارهم من الصالحين المباركين، فما لبث أن رنّ في قلبها صدى ذلك الصوت
الذي سمعته بأذنها، صوت ذلك المنادي في النساء المجتمعات اللاتي كانت معهن في
العيد، وكان هذا الصدى الذي رنّ في قلبها تتألف منه هذه الكلمات:
(تفاؤل هذا وقته) .
* * *
الفصل الثالث عشر
(الخواطر في قلب خديجة)
كانت (خديجة) تعرف أن ليست النبوة بالكسب والاجتهاد، وإنما هي محض
عطاء واختصاص من الحيّ الأزلي الدائم، ولكن كانت تعيد على خواطرها ما حكاه
لها عبدها (ميسرة) ويرنّ على أثره ذلك الصدى في قلبها فتقول في نفسها: أيّ
مانع يمنع رجائي بفضل الله بأن أكون صاحبةَ الحظِّ مِن الرجل المبارك الذي أنبأ به
الهاتف؟ أيّ مانع يمنع فضل الله عن قومي إذا أراد أن يخرج منهم ذلك الإنسان
الذي يقول عنه علماء التوراة، وكان لها ابن عم من جملة علماء هذا الكتاب.
ثم إذا مر بقلبها خاطر آخر يقطع عليها هذه الآمال وينهاها عن هذه الأحلام -
التي كانت تراها في اليقظة - ترجع إلى الشيء المحقق الذي لا ينازع فيه خاطر ولا
يماري فيه حِجًى وهو ما تحلّى به ابن عبد الله من صفات الكمال، فتتمثل في فكرها
تلك الطلعة السّنِيّة , ويلمع أمامها برق من تلك العينين الدعجاوين، وتنسى الشمس
وسائر الدراري حين تذكر دائرة ذلك الوجه المتألق، ويَقْوَى إيمانها بالملائكة إذ ترى
في هذا الشخص البشريّ آياتِ القُدُس والطهارة، فتقول في نفسها: أفليس حسبي أن
أكون ربة النصيب من فتى قريش الوحيد الذي كَمَّلَه الله، إن لم أكن صاحبة الحظ
من الصالح الذي أنبأ به الهاتف.
ثم تتراجع إليها الخواطر ويقلبها ذلك الحب الشريف الذي نَمَتْ حَبّته في قلبها
على ضروب من الحيرة , فتقول في نفسها مرَّةً أخرى: مَن لي بهذا المكمل الذي
مَالَ إليه قلبي، وحامت حوله خواطري، وعكفت في دائرة محاسنه نفسي، أليست
تمنع العادات بأن أكون أنا الخاطبة؟ أفّ للعادات ما أثقلَ أحكامَها! وما أظلمَ
قضاءَها! وما أشدَّ عتمةَ مسالكها! وما أسوأ عواقبَ الجمود عليها! وما أبخس
صفقة الذين لا يتزحزحون عنها!
نعم، نعم، أُفٍّ للعادات، فكم أوقفت بعض الأجيال في سجون ضيقة مظلمة
من التقليد الضارّ , وحجبت عنهم أنوار التبصير والتدبّر والتفكّر , فانطمست عليهم
سُبُل الارتقاء في معارج الاستحسان والتحسين , وغمت عليهم مطالع السعادة
الحقيقية للنفوس.
أُفٍّ ثم أُفٍّ للعادات؛ فهي قاطعة الطريق على نتائج العقول , تزجّ بها في مهاوي
العدم، أو تذرها في سجن أقفر ممنوعًا عنها كل ما يربها، ويا عجبًا لبني آدم الذين
يضعون العادة في هذا المكان من الحكم على نفوسهم والقضاء على عقولهم وقلوبهم،
أليس لهم ما يذكرهم بأن العادة من صنعة أيديهم وتصوير أحلامهم، أليس لهم ما
يبصرهم بأن العادة يجب أن تكون تابعة لا متبوعة، ومنقادة لا قائدة، حتى إذا
فتحت أمام بصائرهم أبواب أُخَر لما هو خير وَدَّعُوا عادتهم تلك محمودة على قدر ما
نفعت، ومذمومة على مبلغ ما أضرت، واستقبلوا أخرى مصاحبيها على مقدار ما
يدوم من أسبابها، وينفع من أبوابها.
تبرمت (خديجة) بالعادة كثيرًا، وتأففت من تقلبها طويلاً، وسردت كل
سيئات الجمود عليها في نفسها التي هي أعلى من نفوس الغافلين عن المقدمات
والنتائج، لما خصها الله من سلامة الفطرة، وفضل الفطنة، وقوة آلة المعرفة،
ومزيد حرارة الهمة.
ثم عادت تعذر الضعفاء الذين لا يستطيعون التغلب على الثابت الراسخ وهم
الأكثرون، وتذكرت أسباب رسوخ بعض العادات، ومنها وفرة فوائدها في أوقات
سلفت، وأحوال مضت، ورأت أن الناس يرثون من السالفين كل شيء ولا يميلون
إلى التغيير حتى يميل بهم الدهر ميلة شديدة على يد عاصف من الحوادث، أو هبة
شديدة من إرادة بعض الأشخاص، وكم دكت الإرادات القوية أطودًا من العادات،
ربما كانت هذه السيدة تستطيع التغلب على العادة فلا تجد بأسًا بأن تخطبه
بنفسها، لأنها كانت قوية الإرادة، ولكن من لها بأنه لا يرد خطبتها وهي أرملة في
الأربعين من العمر، وهو في الخامسة والعشرين , يَشِفّ مُحيَّاه عن ماء الفتوة،
وينشر شذى الشباب، والمرأة مهما قويت إرادتها تتذكر الخيبة فيغلب إحجامها
إقدامها، وهذا بعض أسباب العادة في أن تكون هي المخطوبة.
ما أصعب الخواطر على المرأة التي تجد ضالتها من السعادة ولا تستطيع
الإقدام على تحصيلها! هي صعبة على الرجل أيضًا، ولكنها على المرأة أصعب،
لأنها أضعف على كل حال. بَيْدَ أن ضعفها الذي زينها الله به في عين الرجل به
تمت نعمتها وعلت كرامتها لديه. فقوة الخفر والحياء من ضعفها، وذلك أعظم حلية
طبيعية تزدان بها، ومن عطل من هذه الحلية منهن رغب عنها الكرام من الرجال،
وشدة الرحمة من ضعفها وما أعلى وأجمل وأزين هذا الضعف الذي بدونه تمقت
المرأة. والجبن من ضعفها ولولاه لما حصل الاعتدال في اقتسام الأعمال بينها وبين
الرجل.
فماذا تصنع قوة إرادة السيدة (خديجة) أمام شدة خفرها وحيائها، وماذا تنفع
شجاعتها أمام خشيتها من الخيبة، وماذا تجدي قوة عزيمتها وصبرها عند المزعجات
من خواطر الحب الشريف الذي ملأ قلبها الطاهر بعد أن كان حبة صغيرة ألقيت فيه.
اللهم رحماك , فليست القلوب من حديد، ولم تقدّ من صخر، إن نسيم
الخواطر فيها يصدع إن جاءها برائحة اليأس، ويرأب إن أتاها برائحة الرجاء،
وكذلك كانت خواطر السيدة (خديجة) صادعةً ورائبة، بَيْد أن رجاءها كان أغلب،
ولو كشف لها الغطاء عمّا يحف بها من السعادة المغيبة عنها إذ ذاك لانقلب رجاؤها
يقينًا؛ ولكن لتستكمل الغرائز حظها من النفوس كُتِبَ على الإنسان أن يُغيَّب عنه
آتيه من السعادة والشقاء فترى منحوسًا يضحك ويلعب والشقاء يساوره عما قريب
يأخذه بياتًا أو يصبحه وعاء صباحًا. وترى مسعودًا يتململ ويمسي ويصبح على
مضاجع الحيرة والأرق واجمًا سادمًا والسعادة من حوله مرفرفة بأجنحتها ستقف عما
قريب على رأسه وتشمله ويتبارك بها بيته.
فما أشد حاجة هذه السيدة السعيدة في مواقف حيرتها تلك إلى هاتف يبشرها
بقرب اتصال السعادة التامّة بها. ما أشد حاجتها إلى من ينبئها بأنها هي الجوهرة
النفيسة التي أعدت لذلك الذي ميزته العناية الأزلية أكمل تمييز. ولكن ليظهر مزيد
فضلها في الميل إلى رب الفضائل والمكارم التي لا تُبارَى حُجِبَ عنها كل هاتف
وحُبِسَتْ عنها البشرى حتى أخذت الخواطر حظها من قلبها الكريم وتمكن منه كل
التمكن ذلك الحب الشريف لذاك الذي أجمعت فيما بعد قلوب الملايين التي لا تحصى
على حبه.
* * *
الفصل الرابع عشر
(الزواج)
لا بدع إذا قلب الشوق نفوس المحبين في يد الخواطر، كالكرة بيد اللاعب،
فإن قوام الكائنات بشوق ذراتها بعضها إلى بعض، وكان جديرًا أن يتجلى هذا
المعنى بزيادة في غريزة خليفة الله في الأرض، نعني الإنسان. كيلا يكون بنو آدم
وحواء أنقص من الجمادات حظًّا في هذا الناموس الكبير الفائدة.
فبعد أن تمكن من (خديجة) الشوق الشريف هذا التمكن أصبحت جديرة أن
تتناول هدية سعادتها، وتنكشف لها الحجب عن الرحمة التي ترعاها، فهبط على
قلبها خاطر جديد كان به الوصول إلى النعمة الجديدة.
خطر لها أن تبعث إلى الذي سكنت مكارمُه ومعاليه فؤادها رسولاً تسبر به
رغبته وتستنبئ به سعدها مما ينزل على قلبه من الإلهام بهذا الشأن وساقها إلى هذا
الخاطر قوةُ رجائها بالله سبحانه وحسن ظنها بأن هذا المكمل لا يرد رغبة مثلها ,
وهي الجامعة لصنوف من المعالي يقل اجتماعها في سواها.
كانت لها صديقة اسمها (نفيسة) (وهي أخت يعلى بن أمية) فقصت عليها
حديثها وائتمنتها على هذه الرسالة، ولم يكن بالصعب أن تؤدي الصديقة هذه الأمانة؛
لأنها ستتكلم كأنها صاحبة رأي تشير به حتى إذا وجدت مجالاً كانت وكيلة بإبداء
القبول.
لم تكن النسوة إذ ذاك محتجبات ولم يَكُنَّ ممنوعات من مكالمة الرجال، فلم
تكن رسول (خديجة) محتاجة إلا لشيء من قوة الجنان أمام ذلك المهيب العظيم،
وقد أمدت من سعد مرسلتها بحظ منه.
ومن يكن راعيه السعد فقل ... ما شئت في تيسير ما يرجوه
جاءت (نفيسة) هذه ابن عبد الله، وفي القبيلة الواحدة يعرف الناس بعضهم
بعضًا، فقالت له: ما يمنعك أن تتزوج، فاعتذر لها بقلة المال اللازم للقيام بشئون
العائلة، قالت له: فإن كفيت ودعيت إلى المال والجمال والكفاءة، قال لها:
(ومن؟) قالت له: (خديجة) .
قالت هذه الكلمة وصمتت تنتظر ما سيبدو منه، وأحدث هذا الكلام حركة في
فؤاده، وبأي شيء يتحدث هذا الفؤاد الطاهر حينئذ إلا بقوله: خديجة الشريفة
المعروفة بالطاهرة؟ هي المناسبة، هي الموافقة، هي الصالحة، اذهبي يا نفيسة
فإني سأخطبها.
فرجعت تحمل هذه البشرى، وكانت ميمونة النقيبة في هذه الرسالة، فالله يعلم
كيف أجزلت السيدة خديجة كرامتها ولم تنتظر كثيرًا حتى أتى خاطبًا ومعه عمه
حمزة، فقال عمها عمرو بن أسد بن عبد العُزّى: (هو الفحل لا يقدع أنفه) وهو
مَثَل عربي، يقال للكفؤ الذي لا يُرَدّ إن خطب.
ما كان هذا الخاطب الكفؤ غنيًّا إذ ذاك، ولكنه لم يكن أيضًا معدمًا فهو من آل
عبد المطلب العامرة بيوتهم بقرى الضيفان وإغاثة اللهفان، ففي هذا السبيل تذهب
أموالهم , ثم يخلف الله عليهم من وجوه المكاسب وأبواب المرابح بما أوتوا من الهمم
والشمم، ولم يكن اعتذاره ذلك اعتذار المعدمين، وإنما هو اعتذار المتربص أن
يتوفر له مقدار أكبر. فمع قلة ماله في ذلك الحين أصدقها عشرين بَكْرة؛ لأن
إعطاء الرجل للمرأة صداقًا سُنّة عربية، لم يكن ليحسن تركها.
والزواج العربي ليس محتاجًا إلى رؤساء ديانات، ولا تلاوة الرؤساء صلوات،
بل هو عقد كسائر العقود المدنية يتوثق برضا المرأة وأوليائها ورضا الرجل،
فبخطبة من الرجل وتقديمه الصداق وإجابة من المرأة وأوليائها تصبح المرأةُ زوجةً
شرعيةً للخاطب. وهكذا أصبحت (خديجة) الطاهرة زوجة (محمد) الأمين بكلمة
أعلنها عمها عمرو بن أسد، فما أعظمها مِن كلمة جمعت بين القمرين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) من سيرة السيدة خديجة.(11/549)
شعبان - 1326هـ
سبتمبر - 1908م(11/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من روسيا
(س 12 - 16) من الشيخ محمد نجيب التونتاري المدرس.
سيدي الفاضل أعرض على حضرتكم ما يأتي بيانه لمحض الاستفسار
والاستنباء، وإن كان في صورة الانتقاد وهو: أني قرأت في الجزء الثالث من
المجلد العاشر من مجلة المنار الغراء في قسم التفسير عند قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ
الطَّعَامَ} (الإِنسان: 8) الآية حديثًا طويلاً مرويًّا عن ابن عباس رضي الله عنهما،
وقد رأيت في (نوادر الأصول في معرفة أخبار الرسول) للحكيم أبي عبد الله
محمد بن علي الترمذي رحمه الله أنه عدّ هذا الحديث من المنكرات حيث قال في الأصل الرابع والأربعين فيما يعدونه صدق الحديث بعد ما ساق الحديث إلى آخره:
هذا حديث مزوق قد تطرف فيه صاحبه حتى يشبَّه على المستمعين، والجاهل
يعض على شفتيه تلهفًا ألا يكون بهذه الصفة، ولا يدري أن صاحب هذا الفعل
مذموم، قال الله عز وجل في تنزيله الكريم: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ} (البقرة: 219) وهو الذي يفضل عن نفسك وعيالك، قال صلى الله عليه وسلم:
(خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول) وافترض الله على الأزواج
النفقة لأهاليهم وأولادهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثمًا
أن يضيع بما يقوت) أفيحسب عاقل أن عليًّا رضي الله عنه جهل هذا الأمر حتى
أجهد صبيانًا صغارًا من أبناء خمس أو ستّ على جوع ثلاثة أيام ولياليها حتى
تضوروا من الجوع , وغارت العيون بِخلاء أجوافهم حتى أبكى رسولَ الله صلى الله
عليه وسلم ما به من الجهد؟ هب أنه أثر في نفسه هذا السائل، فهل كان يجوز له
أن يحمل على أطفاله جوع ثلاثة أيام بلياليهن؟ هذا ما ذكره الحكيم الترمذي في وجه
التنكير، إلا أن المتدبر لو تدبر في أحوال هؤلاء الكرام لا يستبعد وقوع هذا الحال
منهم؛ ولذا لم يتبين لي وجهه والمأمول من الأستاذ إيضاح ذلك حتى ترتفع الشبهة.
(الفونغراف) وقد رأيت أيضًا في هذا الجزء في قسم الفتاوى سؤالاً
يتعلق بالفونوغراف، فخطرت لي عند ذلك مسائل أخرى تتعلق به، وهي هل يجب
السجدة على من سمع آية السجدة منه؟ وإن شخصًا لو شهد بواسطة الفونغراف أو
أودع الوصية فيه , هل تقبل شهادته وتنفذ وصيته أم لا؟ وإني أظن أن السجدة
تجب على السامع إذ هو كالاستماع عن إنسان، وإنما الفونغراف آلة للاستماع فقط،
وكذا الشهادة والوصية ينبغي أن تكون صحيحة نافذة مهما ميز صوتها، فإن
الأصوات متمايزة في التليفون والفونغراف حتى إننا لو سمعنا صوتًا معروفًا لنا مِن
قبلُ، نقول: إنه صوت فلان ولا نشتبه فيه فيكون ذلك في حكم الاستماع عن نفس
القائل، والله أعلم.
(التجارة بالجلود) إن إخواننا المسلمين في سبريا الروسية غالبهم
يتجرون بالجلود، وفيها جلود ميتة غير مدبوغة، وجلود غير مذكاة، وإنهم يسألون
عنها ويستفتون ما حكمها الشرعي؟ وربما تكون المعاملة بين المسلمين بالطائفة
القرغزية، فما حكم ذلك شرعًا؟ هل تكون فيها توسعة إن قلنا: إن دارنا دار حرب ,
ومذهبنا يوسع فيها في عدة مسائل كمسألة الربا مثلاً؟ هذه المعاملة مما تعم به
البلوى في تلك الأقطار، والمرجو من الأستاذ حلّ هذه المسألة، بحيث يخرجها عن
الشبهة ولا يوقع حرجًا إن شاء الله تعالى.
(الإمامة) إن رجلاً قطعت إحدى رجليه من فوق الكعب، وله قدم
صناعية، وكان إمامًا في بلدة منذ سنين، والآن وقع خلاف بين علمائنا في صحة
إمامته، فمن قائل: إنها لا تجوز، والأكثر على الجواز، ونحن لم نر في الكتب
التي بأيدينا أن صحة القدم من شرط الإمامة، ولذا لا أرى بأسًا في إمامته متى وجد
سائر الشروط المهمة، وأرجو من الأستاذ بيان ذلك أيضًا حتى يندفع الاختلاف بيننا.
(النسخ) هل هو من أصول الدين، بحيث لا يجوز الخلاف فيه أم هو
مسألة خلافية بين المسلمين، كما ذكره الفاضل محمد توفيق في مقالة الناسخ
والمنسوخ، وهو يقول: إن أُبَيَّ بن كعب رضي الله عنه قال بعدمه، أي بعدم نسخ
القرآن بالقرآن، واستشهدوا عليه بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما معزوًّا
إلى البخاري إلا أننا لم نَرَ نقلاً آخر سوى ما ذكره عن أُبَيّ ما يؤيد هذا القول ,
وليس في هذا القول أيضًا تصريح بعدم النسخ، وإنما يحتمله كما يحتمل غيره , ولا
يقطع بالاحتمال مراد القائل , ولم يُذْكَر خلافٌ بين الصحابة رضي الله عنهم في هذه
المسألة، ثم إن أبا مسلم رحمه الله الذي نسب صاحب المقالة هذا القول إليه هل
يعتبر قوله بحيث نعُدّه خلافًا في المذهب، فبعضنا يقول: إن النسخ لا خِلافَ فيه
بين أهل السنة، وإنما هو خلاف نشأ مِن الاعتزال، ولكن لم يظهر لي وجه هذا
القول أيضًا، فإن النسخ ليس من موادّ الخلاف بين السُّنِّيِّ والمعتزلِيّ فيما أعلم،
والله أعلم. وذكر ابن أمير الحاج في شرح التحرير خلافًا في نسبة هذا القول إلى
أبي مسلم حيثُ قال: حكى الرازي والآمدي وابن الحاجب إنكاره وقوع النسخ
مطلقًا , وقيل: لم ينكر وقوعه، وإنما سمّاه تخصيصًا فعلى هذا يصير النزاع لفظيًّا،
والله أعلم. والمأمول من الأستاذ تفصيل هذه المسألة وتحقيقها كما وعد في ذيل
تلك المقالة، وكما تفضل بالأجوبة الشافية في المسائل السابقة.
... ... ... ... ... ... ... العبد المستفيد من علمكم الوافي
... ... ... ... ... ... ... محمد نجيب
... ... ... ابن الأستاذ شمس الدين محمد الحاج المرصع التونتاري
الجواب عن أثر علي وآله عليهم السلام:
إننا قد ذكرنا ذلك الأثر في الإيثار لأجل العِبْرَة به، وقد أشرنا إلى ضعف
الرواية بقولنا (ويروى) ولم نثبته في تفسير الآية , بل وعدنا بذكره في تفسير
سورة الإنسان إن أنسأ الله لنا في العمر، وعند ذلك نذكر مكان الرواية والمسألة،
وما قاله الحكيم الترمذي بعضه وجيه مقبول، وبعضه منتقد مردود، والإيثار مرتبة
وراء مرتبة تقديم الإنسان نفسه على من تجب نفقتهم عليه من أهل وولد، وتقديم
هؤلاء على غيرهم، وقد ورد في الصحاح أن كبار الصحابة آثروا على أنفسهم
وأولادهم مع الفقر وشدة الحاجة، فكان ذلك سبب ثناء الله عليهم بقوله: {وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) وقد حررنا هذا المبحث في
المجلد الثاني من المنار (راجع ص 11 و17 منه) , ولا يبعد أن يقصد علي
وفاطمة تربية ولدهما على الإيثار إنْ صحّ الأثر من طريق الرواية بنصها أو مبالغة
فيها ولا حاجةَ إلى التطويل في ذلك فالخطب فيه سهل.
الجواب عن مسائل الفونغراف:
إنما شرع السجود عند تلاوة أو سماع الآيات المخصوصة الآمرة بالسجود , أو
المرغبة فيه لإظهار الخضوع والامتثال، ومن سَمِع القرآن من الفونغراف صدق
عليه أنه سَمِع القرآن، فالظاهر أنه يشرع له السجود عند سماع آية السجدة منه،
وإنما عبرنا بـ (يشرع) دون (يجب) لأننا نرى أن السجود مُسْتَحَبٌّ لا واجب
كما تدلّ على ذلك الأحاديث الصحيحة، وعليه الشافعية.
وأما الشهادة والإقرار والوصية وسائر المعاملات الدنيوية، فالعِبْرَة في ثبوتها
أن تكون بحيث يوثَق بصدورها ممن صدرت عنه، ويؤمن من التزوير فيها؛ لأنها
ليست من المسائل التعبديّة التي يوقف فيها عند نصّ الكتاب , وما مضت به السنة
بلا زيادة ولا نقصان، فإذا وثق القاضي بشهادة الفونغراف مثلاً كانت بينة شرعية
صحيحة؛ لأن البينة كل ما تبين به الحق كما حققه ابن القيم وذكرناه في المنار مِن
قبلُ.
الجواب عن مسألة جلود الميتة:
روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن الثلاثة من حديث ابن عباس أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال في الشاة الميتة: (هلا انتفعتم بجلدها) , وهذا اللفظ
للبخاري، وفي رواية أخرى له (هلاّ استمتعتم بإهابها) والإهاب (ككتاب) الجلد ,
أو ما لم يُدْبَغْ منه كما في القاموس. ولفظ أحمد ومسلم وغيرهما: (هلاّ أخذتم
إهابها فدبغتموه فانتفعتم به) , فقالوا: إنها ميتة، فقال: (إنما حرم أكلها) , وذكر
الدباغ بيان لطريق الانتفاع وليس فيه حصر، وفي لفظ لأحمد: إن داجنا لميمونة
ماتت , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا انتفعتم بإهابها، ألا
دبغتموه، فإنه ذكاته) أي: إن الدباغ مطهر كالذكاة. ولا ينافي هذا جواز الانتفاع
بالإهاب غير المدبوغ كما تدل عليه الرواية المطلقة. وروى مالك وأبو داود
والنسائي وابن حبان من حديث ميمونة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ
به رجال يجزون شاة لهم مثل الحمار، فقال: (لو أخذتم إهابها) فقالوا: إنها ميتة ,
فقال (يطهرها الماء والقرظ) ، صحَّحَه ابن السكن والحافظ. ولعَلّ هؤلاء لو
اكتفوا بأمره إياهم بأخذ إهاب الميتة والانتفاع به لَكَفَاهم , ولم يذكر لهم غيره وحَسْبُك
بعبارة الحصر في قوله: (إنما حرم أكلها) أي: لا الانتفاع بها، وحديث: (لا
تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) ؛ قد أعلّ بالاضطراب والإرسال؛ فلا
يعارض هذه الأحاديث الصحيحة , ولا ينسخها. ولا يعارضها ما ورد في النهي عن
شحوم الميتة، فإنها مما يؤكل فسُدَّتْ الذريعة إليه. وأمثل ما قيل في النهي عن
استعمال جلود السباع أنها مدعاة القسوة والكبر.
هذا وإن المراد بالتنزّه عن النجاسة هو أن يكون المؤمن طاهرًا نظيفًا بعيدًا
عن الأقذار , وما فيها من المهانة والمضارّ، ولذلك كان الدباغ مطهرًا؛ لأنه يزيل
العفونة والرطوبة التي ينتن بها الجلد، فكل ما يزيل ذلك فهو دباغ مطهر، والذين
يشترون جلود الميتة لا يتركونها بغير دباغ ولا معالجة حتى تفسد عليهم بل
يعالجونها حتى ينتفعوا بها، فالذي أراه وأعتقده أن التجارة بهذه الجلود جائزٌ شرعًا,
لا إثْمَ فيه ولا حرج. وإذا باعها المسلم من غير المسلمين كان لجواز البيع وجه آخر
عند الذين يقولون: إن المخالفين لا يكلفون العمل بفروع الشريعة، وعليه الحنفية،
ووراء هذا كله ما أشار إليه السائل مِن أن التزام العقود الصحيحة في المعاملات إنما
يجب في دار الإسلام إلا أن يقال: إن في النهي عن بيع النجس معنى غير كونه
عقدًا فاسدًا، والعُمْدَة في المسألة ما ذكرناه أولاً، والله أعلم بالصواب.
الجواب عن مسألة الإمامة
الظاهر من السؤال أن الإمام المسئول عن إمامته يأتي بأعمال الصلاة كلها
تامّة , وحينئذ يكون موضعُ الوقفة في صِحّة إمامته كونَ إحدى رجليه من الخشب،
وهذا لا يصلح مانعًا من صحة الإمامة، وقد ثبت في صحاح الأخبار والآثار اقتداء
الناس بالإمام يصلي جالسًا للمرض، واختلف العلماء فيمن يقتدون به، فقال
بعضهم يصلّون قاعدين مثله، وادّعى ابن حزم إجماع الصحابة والتابعين على هذا،
وقال بعضهم يصلون قائمين وفصّل بعضهم في ذلك.
والأصل أن كل من صحّت صلاته صحّتْ إمامته. ومن استثنى من هذه
القاعدة بعض من تصح صلاته للضرورة ولا تصح إمامته، كالذي لا يحسن الفاتحة
لم يَسْتَثْنِ مَنْ ذهب أحد أعضائه فاتخذ له بدلاً من معدن أو خشب؛ لهذا لا أرى
وجهًا للخلاف في صحة إمامة الإمام المسئول عنه.
الجواب عن مسألة النسخ بالإجمال:
لا أتذكر أنني رأيت في الحديث ذكر النسخ، والأصل عندهم في هذه المسألة
قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة:
106) , والآية في اللغة: العلامة والعبرة. وقالوا: قد سميت الطائفة المخصوصة
من القرآن آية؛ لأنها علامة يفضي منها إلى غيرها: أو لأنها علامة دالّة على
الحق، والنسخ في أصل اللغة: نقل كتاب عن كتاب , وجعل الزمخشري في
الأساس قولهم: نسخت الشمس الظل، من المجاز، والمعنى في كل منهما التحويل
إلا أن الأول تحويل لمثل الشيء، والثاني تحويل لعينه. وورد اللفظ بمعنى الإزالة
والتغيير كقولهم نسخ الشيب الشباب، ونسخت الريح آثار الديار.
وقد ورد ذكر النسخ في كلام السَّلَف وأئمة الفقه , واصطلح علماء الأصول
على تعريفه المشهور , وهذا في كلام السلف أعمّ من ذلك، فالنسخ في الجملة متفق
عليه، ولكن وقع الخلاف في تفسيره وفي جزئياته، والآية ليست نصًّا في قول أحد
من المختلفين ولا حديث يحتج به في تفسيرها ولا في نسخ شيء من القرآن، وإنما
مدار البحث والاجتهاد فيها على تعارض النصوص , والمروي من الآثار وفيه
جرت المناظرة بين الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي والشيخ صالح اليافعي،
فعندما تنتهي المناظرة يكون لنا كلمة أخيرة في المسألة، وقد كنا بدأنا بكتابة مفصلة ,
ثم جاءنا الرد الآتي من الدكتور صدقي , فأمسكنا عن إتمام ما شرعنا فيه.
__________(11/579)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التعبير عن الملائكة والجن بالقوى
ومعرفة حقيقتهم
(س 17) ورد هذا السؤال على الأستاذ الإمام من صاحب الإمضاء في 6
يونيه سنة 1905 , فبعث به الأستاذ إلى صاحب هذه المجلة ليجيب عنه في المنار
كما كان يفعل أحيانًا في أمثال هذه المسائل، وقد كان ضاع بين الأوراق , ثم عثرت
عليه في هذه الأيام وهذا نصه:
فضيلتلو سيدي الأستاذ الحكيم:
بكل أدب واحترام لاَئِقَيْنِ لهذا المقام أتقدّم لأبلغكم أوفر التحيّات وأزكى
السلامات والشكر على خِدْمَاتِكم الدينيّة، وقيامكم بتأدية الحقوق العلمية وتقوية
السلطة الدينية الإسلامية , أدامكم الله ركنًا منيعًا للوراثة المحمدية. وبعدُ؛
فيا حضرةَ الأستاذ , لما بيني وبينكم من المودة الإيمانية أحب مطالعة أقوالكم
لأستعين بها على نزع ما اعتراني من البدع والخرافات الباطلة، ولله الحمد، فقد
رأيت الفائدة فلله الشكر ولكم، والله أسأل أن يطيل حياتكم ويكثر من أمثالكم.
أستاذي بينما كنت أنظر في نفيس تفسيركم لسورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (الناس: 1) إذ وجدت ما يأتي.
حضرتكم قلتم: قد وصف الله الوسواس الخناس بقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي
صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (الناس: 5-6) , وقلتم: {مِنَ الجِنَّةِ
وَالنَّاسِ} (الناس: 6) بيان للذي يوسوس أو بيان للوسواس الخناس،
فالمُوَسْوِسُون قسمان:
قسم الجِنّة: وهم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم , ولكن نجد في أنفسنا أثرًا
ينسب إليهم , ولكل واحد من الناس شيطان , وهي قوة نازعة إلى الشر , إلخ.
فبينتم حضرتكم بأن الجن خلق مستترون لا نعرفهم , فهل المراد لا نعرف
كيف أحوالهم من ابتداء نشأتهم , مع كون القرآن مصرحًا بأنهم خلقوا من مارج من
نار في آيات كثيرة , والحديث مصرحًا بأن الشيطان يسري في جسم الإنسان مسرى
الدم كما كان يسري في الآلهة لمعبوديهم , ونعرف أيضًا أن النبي بعث لهم وكلفهم
بالرسالة , فمنهم مَن آمنَ ومنهم من كفر، فهذا كله يثبت لنا أن الجن موجودون
بحقائق غير حقائقنا , وأنهم يقدرون على التشكل بشكل ما. ثم حضرتكم قلتم:
(وإنما نجد في أنفسنا أثرًا ينسب إليهم) , فهل ينسب إليهم حقيقةً أو مجازًا مع كونكم
جعلتم هذا الأثر للشيطان الذي قلتم عنه بأنه (قوة من جملة القوى الإنسانية) ,
فكأنه لا شيطانَ ولا إبليسَ , وكأن هذه القوة هي التي أمرها الله بالسجود فتكبرت
فلعنها الله , وقالت: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (ص: 79)
{لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص: 82) وكأنها هي التي قال لها الله: {وَأَجْلِبْ
عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ
غُرُوراً} (الإسراء: 64) وكأنها هي التي بعث لها المصطفى يبلغها الرسالة،
وكأنها هي المذكورة في قوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ} (الأحقاف: 29) إلخ، {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ} (الجن: 1)
أي القوى، وكأنها كانت تتلقى السمع لتبلغه لرئيسها، فلما بعث النبي أرادت أن
تتلقى السمع، فأصيبت بشهاب قبس. وبكل احترام لمقامكم وعدم الاعتراض
لأقوالكم أطلب الإيضاح عن ذلك؛ لأن فكرتي متشتتة الآن مع بيان كيف حقيقة
الجانّ، وكيف كان خطاب المصطفى لهم لتأدية الرسالة , وبيان ما ثبت عن النبي
صلى الله عليه وسلم من أنه أشفى المصروع , وأخرج من جسده الجانّ مع أن الحكماء تنكر ذلك، والظاهر للعقل، هذا مع بيان التوسّل بالنبي والصالحين في الدعاء، ولكم الشكر.
... ... ... ... ... ... كاتبه ولدكم
... ... ... ... ... ... ... محمود فهمي
... ... ... ... ... ... ... باشمهندس ري مديرية الدقهلية
(ج) قول الأستاذ الإمام رحمه الله في الجنّ: (هم الخلق المستترون الذين
لا نعرفهم) هو الأصل عند المسلمين , وكذا أهل الكتاب في هذا الباب. والمراد لا
نعرف حقيقتهم؛ لأنهم من الخلق المغيَّب عنا. وما جاء في القرآن مِن خبر خلقهم,
وغير ذلك لا ينافي كوننا لا نعرف حقيقتهم , وكذلك إخباره عن جميع عالم الغيب لا
يقتضي أننا نعرِف حقيقة ذلك العالم. والعلم بأن الجانّ خلق من مارج لا يفيدنا
معرفة حقيقته , بل ولا ظواهر صفاته ومميزاته كما أن خلق الإنسان من طين لا
يبين حقيقته ولا مميزاته. ومثل ذلك يقال في تكليفهم. وظاهر قوله تعالى في سورة
الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ} (الجن: 1) إلخ، أن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يَرَهُمْ حين سمعوا منه القرآن , فآمن بعضهم وكفر بعض،
وقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس التصريح بذلك؛ قال في تفسير الآية:
(ما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجنّ ولا رآهم) إلخ، ولكن رُوِيَ
عن ابن مسعود أنه رآهم وقرأ عليهم , وقال ابن تيمية: إن ابن عباس علم ما دلّ
عليه القرآن , ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة من إتيان الجِنّ له إلخ،
فَحَسْبُكَ مِن أمْرِ تكليفهم أن حبر الأمة ابن عباس كان يعتقد بِحَسَبِ فهمه للقرآن أن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يَرَ الجِنّ إنما أوحى الله إليه أنهم سمعوا منه القرآن ,
ونزل عليه فيهم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ} (الأحقاف:
29) وإذا صحّ حديث ابن مسعود وأبي هريرة في رؤيته إيّاهم ومكالمتهم , فذلك
لا يدُلُّ على أنهم صاروا مِن عَالَمِ الشهادة , وأننا صِرْنَا نَعْرِف حقيقتهم، فإن الله قد
يطلع رسله على بعض غيبه، وذلك خصوصيّة لهم كما قال في سورة الجِنّ:
{عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن:
26-27) إلخ.
وكذلك حديث صفية عند الشيخين وغيرهما: (إن الشيطان يجري من ابن آدم
مجرى الدم) لا يدلّ على حقيقة الشيطان ولا يجعلها معروفة لنا , والحديث تمثيل لا
حقيقة كقول الشاعر:
* جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي *
وليس فيه (كما كان يسري في أعضاء الآلهة) كما قال السائل. وقد قال تعالى في
الشيطان: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) . وقوله:
إنه صح أن النبي شفى المصروع , وأخرج من جسده الجانّ لا أدري من أين
جاء به السائل على أنه لا يدُلّ على أنّنا نعرف حقيقة الجانّ.
وأما تعبيره عنهم بالقوى فقد كنا نقلناه عن الأستاذ الإمام في تفسير سورة البقرة ,
فأنكره بعض الناس وإن وَرَدَ موردَ التأويل لمُحاجَّة المنكرين لعالم الغيب , فطلبنا
منه أن يوضحه فأوضحه بكتابة بليغة زادها على تفسير آيات خلق آدم الذي نشرناه
في المنار , وإننا نورد هنا ما كنا كتبناه هناك , وما زاده عليه رحمه الله وأحسن
مثواه، ونميز ما كتبه بوضعه بين أقواس هكذا [] وهاك ما هنالك.
تقدم أن الملائكة خلق غيبي لا نعرف حقيقته , وإنما نؤمن به بإخبار الله تعالى
الذي نقف عنده , ولا نَزِيد عليه وتقدم أن القرآن ناطق بأن الملائكة أصناف لكل
صِنْف وظيفة وعمل , ونقول الآن: إن إلهام الخبر والوسوسة بالبشر مما جاء في
لسان صاحب الوحي - صلى الله عليه وسلم - وقد أسندا إلي هذه العوالم الغيبية
وخواطر الخير التي تُسَمّى إلهامًا، وخواطر الشّرّ التي تسمى وسوسة كل منهما
محله الرُّوح، فالملائكة والشياطِينُ إذن أرواح تتصل بأرواح الناس، فلا يصحّ أن
نمثل الملائكة بالتماثيل الجثمانية المعروفة لنا [لأن هذه لو اتصلت بأرواحنا فإنما
تتصل بها من طرق أجسامنا، ونحن لا نحس بشيء يتصل بأبداننا لا عند الوسوسة ,
ولا عند الشعور بداعي الخير من النفس، فإذن هي من عالم غير عالم الأبدان
قطعًا] والواجب على المسلم في مثل الآية الإيمان بمضمونها مع التفويض , أو
الحمل على أنها حكاية تمثيل , ثم الاعتبار بها بالنظر في الحكم التي سيقت لها
القصة.
وأقول: إسناد الوسوسة إلى الشياطينِ معروف في الكتاب والسنة، وأما إسناد
إلهام الحق والخير إلى الملائكة , فيؤخذ من خطاب الملائكة لمريم عليها السلام ,
ومن حديث الشيخين في المحدثين وكون عمر منهم. والمحدثون الملهمون وحديث
الترمذي والنسائي وابن حبان وهو: (للشيطان لَمّة بابن آدم وللمَلَك لمة، فأما لمّة
الشياطين فإيعاذ بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمّة الملك فإيعاذ بالخير وتصديق بالحق،
فمَن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى فليتعوذ
بالله من الشيطان , ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ} (البقرة:
268) قال الترمذي: حسن غريب , لا نعلمه مرفوعًا إلا من حديث أبي الأحوص،
والرواية إيعاد في الموضعين كما أن الآية من الثلاثي في الموضعين، فما قالوه
في التفرقة بين الوعد والإيعاد أغلبي فيما يظهر وإلا فهو غير صحيح، واللمة بالفتح
الإلمام والإصابة.
(قال الأستاذ) : وذهب بعض المفسرين مذهبًا آخر في فهم معنى الملائكة،
وهو أن مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات ,
وخلقة حيوان , وحفظ إنسان , وغير ذلك فيه إيماء إلى الخاصّة بما هو أدقّ مِن
ظاهر العبارة , وهو أن هذا النموّ في النبات لم يكن إلا بِرُوح خاصّ نفحه الله في
البذرة , فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة، وكذلك يقال في الحيوان
والإنسان، فكل أمر كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده،
فإنما قوامه بروح إلهي سمي في لسان الشرع ملكًا، ومن لم يبال في التسمية
بالتوقيف يسمي هذه المعاني القوى الطبيعية (إذا كان لا يعرف من عالم الإمكان إلا
ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة) والأمر الثابت الذي لا نزاع فيه هو
أن في باطن الخلقة أمرًا هو مناطها , وبه قوامها ونظامها , لا يمكن لعاقل أن ينكره،
وإن أنكر غير المؤمن بالوحي تسميته ملكًا , وزعم أنه لا دليلَ على وجود
الملائكة , أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي تسميته قوة طبيعية أو ناموسًا طبيعيًّا،
لأن هذه الأسماء لم ترد في الشرع، فالحقيقة واحدة والعاقل من لا تحجبه الأسماء
عن المسميات (وإن كان المؤمن بالغيب يرى للأرواح وجودًا لا يدرك
كُنْهه، والذي لا يؤمن بالغيب يقول لا أعرف الروح , ولكن أعرف قوة لا أفهم
حقيقتها، ولا يعلم إلا الله عَلامَا يختلف الناس، وكل يقر بوجود شيء غير ما يرى
ويحس ويعترف بأنه لا يفهمه حقَّ الفهم , ولا يصل بعقله إلى إدراك كنهه , وماذا على
هذا الذي يزعم أنه لا يؤمن بالغيب وقد اعترف بما غيب عنه لو قال أصدق بغيب
أعرف أثره، وإن كنت لا أقدره قدره، فيتفق مع المؤمنين بالغيب ويفهم بذلك ما
يرد على لسان صاحب الوحي ويحظى بما يحظى به المؤمنون) .
يشعر كل من فكر في نفسه، ووازن بين خواطره عندما يهم بأمر فيه وجه
للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر، بأن في نفسه تنازعًا، كأن الأمر قد
عرض فيها على مجلس شورى، فهذا يورد وذاك يدفع، وواحد يقول: افعل ,
وآخر يقول: لا تفعل حتى ينتصر أحد الطرفين، ويترجح أحد الخاطرين، فهذا
الشيء الذي أودع في أنفسنا , ونسميه قوة وفكرًا وهو في الحقيقة معنى لا يدرك
كنهه , وروح لا تكتنه حقيقتها - لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملكًا , ويسمي أسبابه
ملائكة أو ما شاء من الأسماء، فإن التسمية لا حَجْرَ فيها على الناس , فكيف يحجر
فيها على صاحب الإرادة المطلقة والسلطان النافذ والعلم الواسع؟ .
وأقول: إن الإمام الغزالي سبق إلى بيان هذا المعنى وعبر عنه بالسبب ,
وقال: إنه سمي ملكًا، فإنه بعد ما قسم الخواطر إلى محمود ومذموم قال: (ثم إنك
تعلم أن هذه الخواطر حادثة , ثم إن كل حادث فلا بُدَّ له من محدث , ومهما اختلفت
الحوادث دلّ ذلك على اختلاف الأسباب. هذا ما عرف من سنة الله تعالى في
ترتيب المسببات على الأسباب، فمهما استنارت حيطان البيت بنور النار , وأظلم
سقفه بالدخان علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة. وكذلك لأنوار القلب
وظلمته سببان مختلفان، فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكًا، وسبب
الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانًا، واللطف الذي يتهيأ به القلب لقَبُول إلهام
الخير يسمى توفيقًا، والذي يتهيأ به لقبول الشر يسمى إغواء وخذلانًا، فإن المعاني
المختلفة تحتاج إلى أسامي مختلفة) . اهـ المراد منه فليراجع في كتاب شرح
عجائب القلب من الإحياء.
ثم قال الأستاذ الإمام ما معناه: فإذا صحّ الجري على هذا التفسير فلا يستبعد
أن تكون الإشارة في الآية إلى أن الله تعالى لما خلق الأرض دبرها بما شاء من
القوى الرُّوحَانية التي بها قوامها ونظامها , وجعل كل صِنْف من القوى مخصوصًا
بنوع من أنواع المخلوقات لا يتعداه (ولا يتعدّى ما حُدِّد له من الأثر الذي خص به)
خلق بعد ذلك الإنسان , وأعطاه قوة يكون بها مستعدًّا للتصرف بجميع هذه القوى ,
وتسخيرها في عمارة الأرض , وعبر عن تسخير هذه القوى له بالسجود الذي يفيد
معنى الخضوع والتسخير , وجعله بهذا الاستعداد الذي لا حدَّ له والتصرف الذي لم
يعط لغيره خليفة الله في أرضه؛ لأنه أكمل الموجودات في هذه الأرض , واستثنى
من هذه القوى قوةً واحدةً عبّرَ عنها بإبليس وهي القوة التي [لزَّها الله بهذا العالم لزًّا،
وهي التي تميل بالمستعد للكمال أو الكامل إلى النقص وتعارض مدّ الوجود لتردّه
إلى العدم أو تقطع سبيل البقاء، وتعود بالموجود إلى الفناء، أو التي] تعارض في
اتباع الحق , وتصدّ عن عمل الخير , وتنازع الإنسان في صرف قواه إلى المنافع
والمصالح التي تتمّ بها خلافته , فيصل إلى مراتب الكمال الوجودي التي خلق
مستعدًّا للوصول إليها (تلك القوة التي ضللت آثارها قومًا , فزعموا أن في العالم
إلهًا يُسَمَّى إِلَهَ الشَّرِّ , وما هي بإله ولكنها محنة إله لا يعلم أسرار حكمته إلا هو) .
(قال الأستاذ الإمام) : ولو أن نفسًا مالت إلى قَبُول هذا التأويل لم تجد في
الدين ما يمنعها من ذلك , والعُمْدَة على اطمئنان القلب , وركون النفس إلى ما
أبصرت من الحق (ولست أحيط علمًا بما فعلت العادة والتقاليد في أنفس بعض من
يظنون أنهم من المتشدّدين في الدين , إذ ينفرون من هذه المعاني كما ينفر المرضى
أو المخدجون من جيد الأطعمة التي لا تضرهم، وقد يتوقف عليها قوام بنيتهم
ويتشبثون بأوهام مألوفة لهم تشبث أولئك المرضى أو المخدجون بأضر طعام يفسد
الأجسام ويَزِيد السقام، لا أعْرِف ما الذي فهموه من لفظ رُوح أو مَلَك , وما الذي
يتخيلونه من مفهوم لفظ قوة! أليس الروح في الآدمي مثلاً هو الذي تظهر آثاره في
أفراد هذا النوع بالعقل والحس والوجدان والإرادة والعمل , وإذا سلبوه سلبوا ما
يسمى بالحياة؟ أو ليست القوة هي ما تصدر عنه الآثار فيمن وهبت لهم فإذا سمي
الروح لظهور أثره قوة أو سميت القوة لخفاء حقيقتها روحًا فهل يضرّ ذلك الدين، أو
ينقص معتقده شيئًا من اليقين؟) .
ألا لا يسمى الإيمان إيمانًا، حتى يكون إذعانًا، ولا يكون كذلك حتى يستسلم
الوجدان، وتخشع الأركان، لذلك السلطان الذي تعلق به الإيمان، ولا يكون كذلك
حتى يلقي الوهم سلاحه، ويبلغ العقل فلاحه، وهل يستكمل ذلك لمن لا يفهم ما يمكن
فهمه، ولا يعلم ما تيسر علمه؟ كلا , إنما يعرف الحق أهله، ولا يضل سبله، ولا
يعرف أهل الغفلة. لو أن مسكينًا من عبدة الألفاظ من أشدهم ذكاءً وأذربهم لسانًا
أخذ بما قِيلَ له: إن الملائكة أجسام نورانيّة قابلة للتشكل. ثم تطلع عقله إلى أن يفهم
معنى نورانية الأجسام , وهل النور وَحْدَهُ له قوام يكون به شخصًا ممتازًا بدون
أن يقوم بجرم آخر كثيف , ثم ينعكس عنه كذبالة المصباح , أو سلك كهرباء ,
ومعنى قابلية التشكل , وهل يمكن للشيء الواحد أن يتقلب في أشكال وصور مختلفة
حسبما يريد , وكيف يكون ذلك ألا يقع في حيرة؟ ولو سئل عما يعتقده من ذلك ألا
يحدث في لسانه من العقد ما لا يستطيع حلّه؟ أليس مثل هذه الحيرة يعد شكًّا؟ نعم ,
ليست هذه الحيرة حيرة مَن وقف دون أبواب الغيب يطرف لما يستطيع النظر إليه ,
لكنها حيرة مَن أخذ بقول لا يفهمه، ولو كلف نفسه علم ما لا يعلمه، فلا يعد مثله مما
آمن بالملائكة إيمانًا صحيحًا , واطمأنت بإيمانه نفسه، وأذعن له قلبه، ولم يبقَ
لوهمه سلاح ينازع به عقله كما هو شأن صاحب الإيمان الصحيح. فليرجع هؤلاء
إلى أنفسهم ليعلموا أن الذي وقر فيها تقاليد حفت بالمخاوف، لا علوم حفت بالسكينة
والطمأنينة. هؤلاء لم يشرق في نفوسهم ذلك السرّ الذي يعبر عنه بالنور
الإلهي , والضياء الملكوتي , واللألاء القدسي , أو ما يماثل ذلك من العبارات. لم
يسبق لنفوسهم عهد لملاحظة جانب الحق، ولم تكتحل أعين بصائرهم بنظرة إلى
مطلع الوجود على الخلق، ولو علموا أن العالم بأسره فَانٍ في نفسه، وأن ليس
في الكون باق كان أو يكون إلا وجهه الكريم، وإن ما كثف من الكون وما لطف، وما
ظهر منه وما بطن، إنما هو فيض من وجوده، ونسبة إلى وجوده، وليس الشريف
منه إلا ما أعلى بذكره منزلته، ولا الخسيس إلا ما بين لنا بالنظر إلى الأول
نسبته، فإن كل مظهر من مظاهر الوجود في نفسه واقع موقعه، ليس شيء أعلى ولا
أحق منه، فإن كان كذلك ولا بُدَّ أن يكون كما قدره، ولو عرفوا ذلك كله لأطلقوا
لأنفسهم أن تجول في تلك الشئون حتى تصل إلى مستقرّ الطمأنينة حيث لا ينازع
العقل شيء من وساوس الوهم، ولا تجد طائفًا من الخوف، ثم لا يتحرجون من
إطلاق لفظ مكان لفظ.
هذه القوى التي نرى آثارها في كل شيء يقع تحت حواسنا، وقد خفيت
حقائقها عنا، ولم يصل أدق الباحثين في بحثه عنها إلا إلى آثار تجل إذا كشفت،
وتقل بل تضمحلّ إذا حجبت، وهي التي يدور عليها كمال الوجود، بها ينشأ
الناشئ، وبها ينتهي إلى غايته الكامل، كما لا يخفى على نبيه ولا خامل، أليست
أشعة من ضياء الحق؟ أليست أجل مظهر من مظاهر سلطانه؟ ألا تعد بنفسها من
عالم الغيب، وإن كانت آثارها من عالم الشهادة؟ ألا يجوز أن يشعر الشاعر منها
بضرب من الحياة والاختيار خاصّ بها، لا يدرك كُنْهه لاحتجابه بما نتصوره
من حياتنا واختيارنا! ألا ترى ما توافي بأسرارها، من ينظر في آثارها، ويوافيها
حق النظر في نظامها، ليستكثر من الخير بما يقف عليه من شئونها، ومعرفة
الطريق إلى استدرار منافعها، أليس الوجود الإلهي الأعلى من عالم الغيب وآثاره
في خلقه من عالم الشهادة؟ أليس هو الذي وهب تلك القوى خواصها، وقدر لها
آثارها؟ لِمَ لا تقول أيها الغافلُ: إنه بذلك وهبها حياتها الخاصّة بها؟ ولم قصرت
معنى الحياة على ما تراه فيك وفي حيوان مثلك؟ مع أنك لو سئلت عن هذا الذي
تزعم أنك فهمته وسَمَّيته حياة لم تستطع له تعريفًا، ولا لفعله تصريفًا؟ ألا تقول كما
قال الله وبه نقول: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الإسراء: 44) .
أفلا تزعم أن لله ملائكةً في الأرض وملائكة في السماء! هل عرفت أين
تسكن ملائكة الأرض؟ وهل حددت أمكنتها ورسمت مساكنها؟ وهل عرفت أين
يجلس من يكون منهم عن يمينك ومن يكون عن يسارك؟ هل ترى أجسامهم
النورانية تضيء لك في الظلام؟ أو تؤنسك إذا هجمت عليك الأوهام؟ فلو ركنت
إلى أنها قوى أو أرواح منبثة فيما حولك وما بين يديك وما خلفك وأن الله ذكرها لك
بما كان يعرفها سلفك؟ وبالعبارة التي تلقفتها عنهم كَيْلاَ يوحشك بما يدهشك، وترك
لك النظر فيما تطمئن إليه نفسك من وجوه تعرفها، أفلا يكون ذلك أروح لنفسك،
وأدعى إلى طمأنينة عقلك؟ أفلا تكون قد أبصرت شيئًا من وراء حجاب، ووقفت
على سرّ من أسرار الكتاب، فإن لم تجد في نفسك استعدادًا لقبول أشعة هذه الحقائق,
وكنت ممن يؤمن بالغيب ويفوض في إدراك الحقيقة , ويقول: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ
عِندِ رَبِّنَا} (آل عمران: 7) فلِمَ تَرْمِي طلاب العرفان بالريب ما داموا يصدقون
بالكتاب الذي آمنت به، ويؤمنون بالرسول الذي صدقت برسالته، وهم في إيمانهم
أعلى منك كعبًا، وأرضى منك بربهم نفسًا!
ألا إن مؤمنًا لو مالت نفسه إلى فهم ما أنزل إليه من ربه على النحو الذي
يطمئن إليه قلبه كما قلنا كان من دينه في ثقة، ومن فضل ربه في سَعَةٍ.
ثم نقول في الآية: إن ترتيب النظم يلتئم مع هذا التأويل الذي أورده الأستاذ
الإمام , فإن هذه المعاني التي وردت بصيغة الحكاية , وبرزت في صورة التمثيل
جاءت عَقِيب قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} (البقرة:
29) وبقي شيء واحد لم يصرح به فيما مضى , ولكنه يفهم منه , وهو أن كل قوة
مِن قوى هذه الأرض , وكل ناموس من نواميس الطبيعة فيها خلق خاضعًا للإنسان ,
وخلق الإنسان مستعدًّا لتسخيره لمنفعته إلا قوّة الإغراء بالشّرّ , وناموس الوسوسة
بالإغواء الذي يجذب الإنسان دائمًا إلى شر طباع الحيوان , ويعوقه عن بلوغ كماله
الإنساني، فالظاهر من الآيات أن الإنسان لا يغلب هذه القوة ويخضعها مهما ارتقى
وكمل، وقصارى ما يصل إليه الكاملون هو الحذر من دسائس الوسوسة , والسلامة
من سوء عاقبتها بأن لا يكون لها سلطان على نفس الكامل تجعله مسخّرًا لها
وتستعمله بالشرور كما قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (الحجر:
42) , وقال عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا
هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف: 201) أما سلطان تلك القوة في الغناء , وقطع
حركة الوجود إلى الصعود , فلا يستطيع إخضاعه لقدرته من البشر كامل، ولا
يقاوم نفوذه عامل، وإنما ذلك لله وحده. وهذا حكمها في الكائنات، إلى أن تبدل
الأرض غير الأرض والسموات , فنسأل الله أن يجعلنا من أهل التقوى والبصيرة ,
وأن يعيذنا من الشيطان الرجيم. اهـ ما كتبناه في تفسير سورة البقرة مع ما زاده عليه الأستاذ الإمام بعد ذلك.
__________(11/585)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
السنن والأحاديث النبوية
كلمات في النسخ والتواتر وأخبار الآحاد والسنة
رد على الأستاذ الفاضل الشيخ صالح اليافعي [*]
أنا لا أريد أن أناقش أخانا الفاضل العالم العامل الأستاذ الشيخ صالحًا اليافعي
في جميع ما كتبه ردًّا عَلَيَّ , فإن ذلك يؤدي إلى التطويل والتشويش وملل القارئين
وسآمتهم وضياع أوقاتهم وربما خرجنا بالتطويل عن الغرض، وتركنا الجوهر
وأكثرنا الكلام في العرض، فلذا آثرت أن أذكره بكلمات قليلة في الموضوع هي
تبصرة للمفكرين. وعبرة للناقدين {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات:
55) , وقبل البدء في هذه الكلمات أقدم له جزيل الشكر على غيرته على دينه ,
وعلى ما أبداه من الأدب العالي في جميع ما خطَّه قلمُه , وأسأل الله تعالى أن يكثر
بين المسلمين من أمثاله. وهذه هي الكلمات:
(الكلمة الأولى) - في تقرير بعض شبهات غير المسلمين على مسألة النسخ
في القرآن - قالوا: إن محمدًا قد بلغ من الدهاء مبلغًا بحيثُ صار يلعب بعقول
أصحابه , ويجعلهم يقبلون منه ما لا يُقْبَل من غيره , فكان يأتيهم بالآية من قرآنه ,
فإذا اتَّضَحَ له فيها عيب , أو سمع عليها انتقادًا في مغزاها , أو معناها أمر أصحابه
بإسقاطها من القرآن بدعوى أنها نسخت. وبلغ به الأمر أنه إذا كان ما في الآية من
الأحكام متفقًا مع هوى الأُمّة أو مصلحتها , ولكن كان في إنشائها شيء لم يرق له
بعد إذاعتها أسرع بنسخ لفظها دون معناها خوفًا من أن يوجد في العرب من يمكنه
أن يعارضها في بلاغتها. وإذا أتاهم بحكم واتضح له بعد تجربته أنه لم يَرْضِ
الناس أو أنه لا ينفعهم , أو قد يضر بمصلحتهم الْتَجَأَ إلى حيلته المشهورة، وهي
دعوى النسخ في الأحكام، وبذلك كثرت بين المسلمين الآيات المنسوخة لفظًا وحكمًا ,
أو لفظًا فقط , أو حُكْمًا فقط.
(قالوا) : ولا يدري أحد ما الحكمة في كل هذا التقلب والتلون سوى
التخلص مما كان يقع فيه من الورطات والغلطات، ولولا ذلك لما أمكنه التخلص
منها، وقد ضاع بسبب ذلك مما أتى به من القرآن آيات كثيرة جاء ذكرها في
أحاديث المسلمين، وهي وإنْ كان أكثرها مما فقد بسبب إهماله في المحافظة على
قرآنه إلا أن المسلمين اعتذروا عن ذلك بدعوى النسخ , وقالوا تحكّمًا: إنها جميعًا
مما نسخ لفظه، وإن كان لا يمكنهم التعليل عن ذلك بعِلّة معقولة، ولا يمكنهم الإتيان
بحكمة لذلك مقبولة، على أن أكثر الروايات التي ذكرت فيها هذه الآيات صريحة
في أنها ضاعت من القرآن , ولم يَرِدْ فيها ذِكْرٌ للنسخ لا تصريحًا ولا تلميحًا، وما
بقي من القرآن الآن بعد كل هذا التصحيح والتنقيح تجد شططًا في كثير من أحكامه
فضلاً عما في عباراته من المتناقضات والاختلافات والمسائل الخاصّة بمحمد وأهل
بيته، ولا فائدة منها لأحد سواه، كالآيات الكثيرة من سورة الأحزاب والتحريم
وكبعض آيات سورة الحجرات والمجادلة، فإذا صح عند المسلمين نسخ ألفاظ الآيات
التي أدت وظيفتها وانقضى زمنها، فلماذا لم تنسخ ألفاظ أمثال هذه الآيات الواردة
في حالات خَاصَّة وفي وقائع خَاصَّة، وقد أدت وظيفتها وانقضى زمنها؟ وما حكمة
نسخ ألفاظ آية الرَّجْم مثلاً مع بقاء حكمها في شريعة المسلمين؟
هذا شيء من شبهات القوم على مسألة النسخ في القرآن، وقد قررناه هنا كما
يقررونه في كتبهم الطاعنة في الإسلام، ومنه ترى أن اعتمادهم فيها إنما هو على
روايات الآحاد التي يتمسك بها المسلمون , وعلى ما اتفق عليه جمهورهم من تسليم
مسألة النسخ والقول بها، وكان الأولى بعلمائهم الذين يقولون بالنسخ أن ينظروا في
أمثال هذه الشبهات نظرة تحقيق وتدقيق، ويردوها بالبرهان إن كانوا قادرين، بدل
أن يقوموا في وجهنا ويردّوا مذهبنا في هذه المسائل بما هو في الحقيقة طعن في
أصول الدين، وبمثابة تسليم سكاكين للخصم ليقطع بها منهم الوتين، فَحَسْبُنَا الله
ونعم الوكيل.
أنا لا أقول ذلك ليأخذ المسلمون برأيي بلا برهان، بل قد قدمت من البراهين
ما يقنع المنصفين، ويهدي المستهدين، وسأزيد الأمر قوة في الكلمات الآتية بما
سيكون إن شاء الله نافعًا للمؤمنين، هادمًا لجميع شبهات أعدائهم المخالفين.
(الكلمة الثانية) - في بيان أسباب نشوء مذهب النسخ بين جمهور المسلمين
وتواتره في جميع الأزمنة - اعلم أن من أسباب ذكره في عصر الصحابة أمورًا منها:
(1) كلامهم في نسخ الأحاديث والسنة، فقد كانت الأحاديث والسنن تنسخ
بأحاديث وسنن مثلها وتنسخ أيضًا بالقرآن الشريف، فالكلام في النسخ قديم بين
المسلمين، ونشأ منذ نشوء الشريعة الإسلامية.
(2) ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يستعملون لفظ النسخ في
القرآن بمعنى أوسع مما جرى عليه المتأخرون، فكانوا يريدون به تخصيص العامّ ,
وتقييد المطلق وتبيين المجمل؛ لأن من معاني النسخ الرفع، وفي كل ما تقدم رفع
لدلالة العام والمطلق والمجمل، فلذا تواتر بين المسلمين الكلام في نسخ القرآن كما
تواتر بينهم الكلام في نسخ السنة والأحاديث. أما رفع حكم الآية مطلقًا فقد دلّ
الاستقراء على عدم وجود شيء منه في القرآن كما بيناه في المقالات السابقة , ولم
يرد نصّ قاطع عن الرسول بشيء من ذلك , ولم يصرح به الكتاب العزيز , وإن
سلم أن بعض الصحابة قال به في بعض الآيات فهو مذهب له في فهمها , ولسنا
ملزمين بتقليد أي صحابي فيما فهم، ولذلك خالف جميع المفسرين ابن عباس وهو
أعلم الصحابة بالتفسير في كثير مما ذهب إليه فيه على أن أكثر الروايات المأثورة
عن الصحابة في التفسير موضوعة كما قال الإمام أحمد بن حنبل ونقله عنه
السيوطي في الإتقان، فلا يمكننا أن نعلم باليقين رأي الصحابة في أكثر الآيات التي
يحصل فيها هذا الخلاف.
على أنه قد نقل فيما صح عندهم من الروايات أن بعض الصحابة كان ينكر
النسخ في الآيات، بمعنى أن يبطل حكمها مطلقًا , أو أن تلغى فلا تتلى ولا يعمل بها،
كأبي بن كعب فإنه رضي الله عنه كان يقول: (إني لا أدع شيئًا سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم) . يريد بذلك أنه لا يترك آيةً ما بدعوى أنها
منسوخة كما رواه البخاري في صحيحه، فالنسخ وإن أنكرناه بمعناه عند الخلف ,
فنحن لا ننكره ببعض معانيه كما عند السلف , ولا نرى عيبًا في تسميتهم
التخصيص والتقييد والتبيين نسخًا. فإن كان هناك اختلاف ما بين مثل أبي مسلم
الأصفهاني أحد منكري النسخ وبين الصحابة , فهو خلاف لفظي لا حقيقي كما لا
يخفى.
فمسألة النسخ هذه اختلف فيها المسلمون من عدة وجوه:
(1) في معانيها.
(2) في الآيات المنسوخة، وقد أنكر الإمام الشوكاني وغيره النسخ إلا في
بضع آيات , وأنكره غيره في جميعها بمعناه عند المتأخرين كما هو مذهبنا.
(3) في جواز نسخ القرآن بالسنة، وأنكره الإمام الشافعي رضي الله عنه،
فأنا بما قلته في هذه المسألة لم أكن بدعًا من المسلمين في شيء، فإن المسألة فيها
خلاف من عدة وجوه من العصر الأول إلى اليوم , وأكثر ما فيها من الخلاف هو في
الحقيقة لفظي , وإن كان لتقريرها على الوجه الذي ذهبنا إليه فيما كتبناه سابقًا تَندكّ
دعائم شبهات المخالفين لنا في الدين وتسقط حجتهم.
أما الروايات التي تفيد نسخ لفظ القرآن أو ضياع شيء منه فقد أنكرها كثير
من محققي أئمة المسلمين سلفًا وخلفًا , وأظهر بعضهم أن أكثرها من وضع الملاحدة
لتشكيك المؤمنين. وهي تنافي النصوص المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم الصادق الأمين: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) -
{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (الكهف: 27) , وهي لا تتفق مع ما علم بالتواتر من عناية المسلمين بكتابهم حفظًا
وكتابةً مِن عهد الرسول إلى اليوم، فهي إن لم تكن موضوعة من أعداء الإسلام
المنافقين لغش المسلمين وتشكيكهم في دينهم, فلا يبعد أن يكون الواضع لها من
بعض الفرق الإسلامية لتأييد مذهب لهم في مسألة ما , أو إثبات دعوى باطلة لا
يجدون لها سندًا من الكتاب المتواتر , فيختلقون الروايات , ويدّعون أنها كانت قرآنًا
ونسخ، وقد انطلت حيلتهم هذه على بسطاء المحدثين، كما انطلت عليهم في مسائِلَ
أخرى كثيرةٍ , يقف عليها من مَارَسَ علم الحديث؛ فاخترعوا من الأحاديث ما يؤيد
مذاهبهم ومزاعمهم. وقد يكون منشأ بعضها خطأ الراوي وعدم فهمه حقيقة بعض
المسائل , فيظن أن كل ما أوحي إلى النبي ولا يجده الآن في القرآن كان قرآنًا ونسخ
كحديث: (بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه) , فوقع بسبب
ذلك في الغلط رواية ودرايةً، ولو علم أن من الوحي ما ليس بقرآن مطلقًا لما سمّاه
قرآنًا.
وإني لأَعْجَب من قبول بعض المسلمين ذلك منهم واستشهادهم على نسخ اللفظ
بآية: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأعلى: 6-7) مع أن مثل هذا
الاستثناء قد ورد - كما قرره الأستاذ الإمام - في القرآن لتأييد النفي، ولبيان أن لا
شيء في هذا الوجود يستعصي على مشيئة الله، فكأنه يقول: إنك لا تنسى أبدًا إلا
إن قضى الله بذلك، فلا رادّ لقضائه، ولكنه تعالى لا يقضي به كما وعد بذلك في
مثل الآيتين السابقتين. وقد ورد مثل هذا المعنى في آيات كثيرة في القرآن الشريف
كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} (هود:
107) مع قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (النساء: 57) {وَمَا هُم مِّنْهَا
بِمُخْرَجِينَ} (الحجر: 48) وغيره كثير.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي.(11/594)
الكاتب: محمد هاشم بن طاهر
__________
كلمات للمنار
جاءتنا هذه الرسالة من صاحب التوقيع، وهو أحد الأشراف المخلصين
في جاوى، وقد سألنا نشرها، فأجبنا سؤله مع الشكر له لأنها بمثابة ردّ على
الصادفين عن الحق بلا برهان ولا دليل، بل بمحض التمحل والتأويل، قال:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
أيها المنار حيّاك الله وبيّاك، لقد أوضحت السبيل، وبينت الدليل، وشفيت
الغليل، ونحن إليك بالأشواق، السلام عليك ورحمة الله وبركاته، من قوم نظروا
إليك بعين الإنصاف، فشاهدوا بها ما حُزت من محامد الأوصاف، فأبصارهم إلى
طلعتك مشتاقة، وبصائرهم لما عودتها من لذائذ الحكمة مفتاقه (كذا) ثبت
الله دعائمك أيها المنهج القويم، والقِسْطَاس المستقيم، لقد كشفت قناع الحقائق،
وبينت تباين الطرائق، وشددت أزر الحق، وشيدت مباني السنة، وخربت مصانع
البدع، وجددت لهذه الأمة دينها، ودعوتها لتدرك يقينها، فمنها من اتبعك،
ومنها من ضَلَّلَكَ وبدَّعَك، هكذا سنة الله في المصلحين، ولن تجد لسنة الله
تبديلاً.
أيها المنار أنت والله الحق الثابت في الكتاب وروده، والواضحة في سني
السنة حدوده، والمرفوعة عليها قواعده، والموطّدة على طوديهما شواهده، فلا
يحزنك (وحاشاك) ما هذى به بعض حاسديك، وما فاه به الأغبياء من راديك، فقد
وردت إلينا ردودهم التي هي أوهن من بيت العنكبوت، واطلع عليها المستبصرون
عندنا من طلاب الحق فأنشدوا بلسان واحد.
إن العرانين تلقاها محسدة ... ولا ترى للئام الناس حسادا
وانقلبوا يتضاحكون من تلك الردود التي هي ليست بشيء ولا بعض شيء، فلا
تهدم حقًّا، ولا تبني باطلاً، فما عليك ولا على الحق بأسٌ من تلك الكلمات
المزورة، وهاتيك السطور المصورة، فهي غاية ما قصر رأيهم عليه، ومنتهى ما
بلغوا من العلم إليه، وإننا لا نكره اطلاع الناس عليها إذ ليست هي بمعقول ولا
منقول، والحمد لله الذي لم يجعل بيان الحق بزخارف اللسان، ولكن بالدليل
والبرهان، والأخذ بما في القرآن، وأحاديث سيد ولد عدنان.
أيها المنار لا تروعنك (وحاشاك) ثراثر الجهلة والحسدة، ولا تهمنك وأنت
الليث هماهم السفلة والقردة، فتالله ما أوضح منار الحق لرائديه، وما أرفع أعلامه
لوارديه، وما أحلى الرجوع إليه لدى طالبيه، وما أدحضه لحُجة محاربيه، هو الحق
والله أجل من أن تخفض أعلامه، أو تخفى أحكامه، أو تحلو لك أيامه، ما فتئت والله
مناهجه مسلوكة، وما انفكت نواقضه متروكة، لدى حماة ذمار الشريعة، وحراس
حصونها المنيعة، معاذ الله أن يستر شمس الحق ضباب الهذيان، أو يخفي سنا مناره
عنا حجاب البهتان، بنفسي أفديك أيها المنار من أن يدنس طاهر ساحتك المدنسون،
أو يدلس في واضح أحكامك المدلسون.
أيها المنار لك أسوة بالأنبياء والمرسلين، وفي جميع المصلحين، فَادْأَبْ
فَلِلْحَقِّ طُلاّب، ولا تعبأْ بفرقتين إحداهما عمشت بصائرها عن رؤية الحق، مذ
عميت عليها أنباء العلم، فصارت إذا حدثتها بما صحّ سندُهُ عن النبي صلى الله
عليه وسلم شاغبت، وإذا حدثتك هي بما لا سَنَدَ له عن بعض من تعظمهم
طلبَتْ منك الإيمان بالمحالات، فهذه جاهلة ملبس عليها، ثبت التقليد في قلبها.
والثانية ثقلت عليها وطأة الحق إذ جاءها، وطفقت تضلل من رام إهداءها،
وتذمرت من ورود حق المقال، خوفًا من انثلام اعتقاد أولئك الأنذال، وهذه غير
ملومة؛ لأنك جذذت عليها أصول الكُدْيَة، وسددت دونها سبل الفرية، وكسدت
بضاعتها الرائجة التي طالما استنزفت بها الأموال، وأضلت بها عقول الجهال،
وأنت بالرغم منها حولت الهزل جدًّا، ومددت لها من الضيم بظهور الحق مدًّا.
أيها المنار إنني أعتقد كما يعتقد كل منصف، وأدين الله تعالى بأنك أنت الحق
الصراح الذي لا يتردد فيه عاقل، ولا يرده إلا متهور جاهل، أو أحمق متجاهل،
فويلك آمِنْ أيها الحائد عن السنن القويم، والناظر إلى المنار بعين السخط الذميم،
ولا تُبارِ قومًا لا يشق لهم في المعارف غبار، ولا يدرك لعباب علومهم قرار،
طالما أزاحوا دَيَاجِيرَ الجهل بشموس المعارف، وأزالوا بقواطع الأدلة هام المجادل
المجازف، فارجع البصر، وأنعم النظر في أجزاء المنار الماضية والقادمة، تدرك
هناك وصفك ووصفهم، وجراءتك وخوفهم، وأنا أبتهل إلى الله أن يميتني على ما
ضمه وشمله منار الحق , ويبعثني عليه إنه بالإجابة جدير , والسلام.
... ... ... ... ... ... ... السيد محمد هاشم بن طاهر
... ... ... ... ... ... ... بجاوا - المالاغ
__________(11/598)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أبو حامد الغزالي [*]
(5)
رأيه في حكمة التكليف ورد شبهات الباطنية عليه [1]
جواب المسائل الأربع التي سألها الباطنية بهمدان
من الشيخ الأجلِّ أبي حامد محمد بن محمد الغزالي رضي الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , وصلوات الله على سيدِنا محمدٍ , وعلى آله وصحبه
أجمعين.
سئل: ما قول سيدنا الشيخ الإمام الأجل، حجة الإسلام، شرف الشريعة،
مقتدى الفرق، إمام الأئمة، في هذه المسائل الأربع التي لبس (بها) هؤلاء القوم
الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، وموهوا بها استجلابًا لقلوب الخلق،
وهي هذه.
(المسألة الأولى) أليس أهل الإسلام متفقين على أن الباري جل ذكره غَنِيّ
عن كل شيء غير محتاج إلى شيء ما؟ ثم مع ذلك كلهم معترفون بأنه كلف العباد
العبادة وأقر بها , فكيف تراك نسيت بحجة العقل أن غَنِيًّا عن كل شيء يكلف من لا
يحتاج إليه أن يعمل عملاً هو غني عنه؟ بَيِّنْ لي كيف ذلك لَعَلِّي أن أكون من
العالمين.
(المسألة الثانية) إن الله تعالى كلف العباد الطاعة , ونهاهم عن المعصية
ليثيبَ مَن أطاع ويعاقبَ من عصى، وهذا مستحيل جدًّا في العقول، فأي حاجة به
إلى معاقبة خلقه حتى يدعوه ذلك إلى أن يكلفهم أمرًا إذا لم يأتوه عاقبهم عليه , وإن
كان لا حاجةَ به إلى ذلك، فالقول مستحيل جِدًّا ولا توجبه حكمة، وإن كان تعالى به
إلى ذلك حاجة فما يصنع بالتكليف وهو قادر على أن يثيب من يريد , ويعاقب من
يريد؟ فالتكاليف أيضًا حشو لا توجبه حكمة والحاجة نقص، وإنه سبحانه وتعالى لا
ينسب إلى نقص وهو غني غير محتاج.
(المسألة الثالثة) إن الله تعالى كلَّفَ العبادَ الطاعة لِينفعَهم بها، أتراه جل
ذكره عجز عن أن ينفعهم بغير التكليف حتى يحتاج أن يكلفهم ثم ينفعهم؟ إن كان
غرضه نفعهم فالتكليف ساقط وهو حشو , وإن كان يعجز عن ذلك إلا بالتكليف
فالقدرة ساقطة والعجز ثابت وهو محال.
(المسألة الرابعة) إن الله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهذا باب
تحير فيه العقول، هل يجوز أن يَأْمُر حكيم بِأَمْرٍ يخرج عن الحكمة، وينبو عنه
العقل , ثم يحظر على العاقل البحث عنه؟ أليس ذلك ضربًا من الجور والظلم؛
لأنه جعل الحُجّة على هذا الخلق العقل وأمر أهله ونهاهم وخصّ غيرهم من البهائم
على ما خلقوا عليه بالآلات التي خلقت لها , وألهم العقل استعمالها بمثل اللجام الذي
تروض الدّابّة به وغير ذلك من حبالات الصيد والحيل المعروفة التي يطول شرحها؟
وإذا كانت حجة العقل على المكلفين والمأمورين والمنهيين بأمره , ثم يكلفون أمرًا
ويمنعون من الفحص عنه والتماس سبب يتصور به ما يكلفونه عندهم ويصح في
معقولهم ومعلومهم الذي هو حجة عليهم، أليس يكون ذلك ظلمًا صريحًا؟ ووجدنا
المتحلِّين بالعلم من جميع الأصناف يقولون: إن الله جلّ جلاله لا يقبل عملاً إلا على
بصيرة , فإذا منع العاقل من البحث والنظر أين يكون بصيرًا، وهل يرجى أن
يوحى إليه؟ هذا مُنْكر من القول لا يعقل، وما لا يعقل فليس بشيء. ووجدنا هذا
الكتاب الناطق بين الخلق من الحق يخبر في موضع بآية: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) ويخبر في موضع آخر بأنه يُسْأَلُ , ويقتضي الجواب
في قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ
بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى} (طه: 124-126) ,
فأي سؤال أتمّ من هذا السؤال الذي اقتضى هذا الجواب، وفي القول مثل هذا كثير،
والتناقض في مثل هذه الآيات ظاهر موجود إذا لم يعبر عنه ببيان يقبله العقل،
فهذه أعزك الله المسائل الأربع قد شرحت لك بعضها فلا بُدَّ من قول خامس تصح به
التكليفات، لأن سقوطها أيضًا لا يصح. أَبِنْ لي ذلك فإني أراك من المحسنين، إلى
هنا كلامهم فإن رأى سيدنا أن يجيب عن هذا ويوضح هذه الإشكالات ويكشف عن
هذه التلبيسات حاز به الأجر الجزيل والثواب الكثير إن شاء الله تعالى.
أجاب , وقال: أما السؤال الأول وهو استبعاد التكليف مع الاستغناء , وتوهم
التناقض بينهما , فمصدره الجهل بحقيقة التكليف، فكأن السائل لم يسمع قوله تعالى
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} (فصلت: 46) وقوله: {فَلأَنفُسِهِمْ
يَمْهَدُونَ} (الروم: 44) وقوله: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (الإسراء: 7) كأنه ظن أن تكليف الله تعالى عباده يضاهي تكليف الإنسان عبده،
فإن السيد يكلف عبده الأعمال التي يرتبط بها غرضه , وما لا حظ له فيه ولا يحتاج
إليه فلا يكلفه به، فكأن هذا السائل ثبت في وهمه قياس فاسد، وهو تشبيه تكليف
الله تعالى بتكليف عباده، فجعل نفسه مثالاً لله، تعالى الله وتقدس عن خياله ومثاله،
والكشف عن حقيقة التكليف مما يطول، ومن اقتبس حقائق العلوم عن رأيه السخيف،
وعقله الضعيف، وقياسه الفاسد، كثر تعثره بالضلالات، بل ينبغي أن يطلب
حقائق العلوم من أهله وهم العلماء الأقوياء القائمون بحقيقة المعقولات، المطلعون
على أسرار الشرع، العارفون بشروط الأدلة والبراهين، المستبصرون بمداخل
الغرور والتلبيس فيها. وإذا كان شرح ذلك مما لا يسمح به عداوة؟ على مثل هذه
الأسئلة الضعيفة الصادرة عن ضعف البصيرة، فلا علاج للأفهام الضعيفة أنفع من
ضرب الأمثلة؛ فلنقتصر على ضرب مثلين.
(المثال الأول) تكليف الله عباده يجري مجرى (معالجة) الطبيب للمريض،
فإنه إذا غلبت عليه الحرارة مرة يشرب المبردات، والطبيب غني عن شربه لا
يستضر بمخالفته ولا ينتفع بموافقته، ولكن الضرر والنفع يرجع إلى المريض،
وإنما الطبيب هادٍ ومرشد فقط، فإن وفق المريض حتى وافق الطبيب شفي وتخلص،
وإن لم يوفق تمادى به المرض وهلك، وبقاؤه وهلاكه عند الطبيب سِيّان، فإنه
مستغنٍ عن بقائه، فكذلك خلق للعبادة الأخروية أسبابًا تفضي إليها إفضاء الدواء إلى
الشفاء، وهي الطاعات ونهي النفس عن الهوى بالمجاهدة المزكية لها عن رذائل
الأخلاق مشقيات في الآخرة ومهلكات، كما أن رذائل الأخلاط ممرضات في الدنيا
ومهلكات، والمعاصي بالإضافة إلى حياة الآخرة كالسموم بالإضافة إلى حياة الدنيا،
وللنفوس طبّ كما أن للأجساد طبًّا، فالأنبياء أطباء النفوس يرشدون الخلق إلى
طريق الفلاح لتمهيد طرق التزكية للقلوب، كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا *
وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 9-10) , ثم كما يقال: إن الطبيب أمر
المريض بكذا ونهاه عن كذا، وإنه زاد مرضه لأنه خالف الطبيب، وإنه صح لأنه
راعى قانون الطبيب , ولم يقصر في الاحتماء، وبالحقيقة لم يتماد مرض المريض
بمخالفة الطبيب لعين المخالفة , بل لأنه سلك غير طريق الصحة التي أمره الطبيب
بها , فكذلك (مداواة) النفوس هي الاحتماء الذي ينفي عن القلوب أمراضها،
وأمراض القلوب تفوِّت حياة الآخرة، كما تفوت أمراض الأجساد حياة الدنيا.
(المثال الثاني) إن الملك من الآدميين قد يخصّ بعض خدمه وعبيده الغائب
عن مجلسه بمال ومركوب ليتوجه إلى مجلسه تارةً لحظ الملك في استخدامه
والاستعانة على نظام مملكته ومصالحها به، وهذا القسم ونظيره في حق الله تعالى
محال، وتارةً ليتوجه العبد إلى مجلسه وينال رتبة القرب منه ويسعد بسببه مع
استغناء الملك عن الاستعانة به , وتصميمه العزم على أن لا يستخدمه أصلاً، ولكن
ليقربه من نفسه، لمجرد حظ العبد، والزيادة في قربه. ثم العبد إن ضيع المركوب،
وأنفق المال، لا في الطريق إلى السيد، عدّ كافرًا للنعمة، وإن ركب المركوب
وأنفق المال في الطريق متزوّدًا به عدّ شاكرًا للنعمة، لا بمعنى أنه نال الملك حظًّا
لنفسه، ولكن أراد سعادة العبد، فإذا وافق مراد السيد فيه، كان شاكرًا، وإن خالف
عدت مخالفته كفرانًا، والله يستوي عند كفر العباد وإيمانهم، بالإضافة إلى جلاله
واستغنائه، ولكن لا يرضى لعباده الكفر، فإنه لا يصح لعباده، فإنه يشقيهم، كما لا
يرضى الملك المستغني لعبده الغائب الشقاوة بالذل والفقر، ويريد له السعادة بالقرب
منه، وهو غني عنه، قرب منه أو بعد. فهكذا ينبغي أن يفهم أمر التكليف، فإن
الطاعات أدوية، والمعاصي سموم، وتأثيرها في القلوب، ولا ينجو إلا من أتى الله
بقلب سليم، كما لا يسعد بالصحة إلا من أتى بمزاج معتدل، وكما يصح قول
الطبيب للمريض قد عَرَّفتك ما يضرك وما ينفعك، فإن وافقتني فلنفسك، وإن
خالفت فعليها، فكذلك قول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} (فصلت: 46) .
(وأما السؤال الثاني) فهو فرع من هذا السؤال، فإن قوله: إن الله مستغنٍ
في إثابة عبده عن الطاعة، وهو لم يتضرر بها، يضاهي قول القائل: إن الله
مستغنٍ في إنشاء الإنسان عن الأمر بالوقاع، وفي إنماء الطفل عن الرضاع، وفي
إشباعه عن الطعام، وفي إروائه عن الشراب، وفي تصحيحه عن الأدوية، فما باله
عاقب بعقوبة الجوع من ترك الأكل، وعاقب بالمرض من ترك الأدوية، وعاقب
بموت الطفل من ترك رضاع ولده، وهذا خيال من يظن أن الله تعالى يفعل ذلك
غضبًا وانتقامًا، وليس يدري أن لفظ الغضب والانتقام مستعار ومأوّل، وإنما
غضب الله عبارة عن إرادته الإيلام، فكما أن الأسباب والمسببات يتأدى بعضها إلى
بعض في الدنيا بترتيب مسبب الأسباب، فبعضها يفضي إلى الإيلام، وبعضها إلى
اللذات، ولا يعرف عواقبها إلا الأطباء، فكذلك نسبة الطاعات والمعاصي إلى آلام
الآخرة ولذاتها من غير فرق.
وكذلك (السؤال الثالث) ينحل به، فإن الله تعالى لا يوصف بالعجز عن
الإشباع من غير أكل، والإرواء من غير شرب، والإنشاء من غير وقاع، والإنماء
من غير رضاع، ولكنه قد رتب الأسباب والمسببات كذلك، لسر وحكمة لا يعلمها
إلا الله عز وجل، والراسخون في العلم، وليس ذلك بعجب، إنما العجب في
التعجب من هذا التدبير المحكم والنظام المتقن، وَلَعَمْرِي مَن لا يهتدي إلى سر
الحكمة فيه يتعجب منه لقصور هدايته، ومثاله في التعجب مثال الأعمى الذي دخل
دارًا فتعثر بالأواني الموضوعة في صحن الدار، فقال لأهل الدار ما أَرَكَّ عقولَكم،
لماذا لا تردون هذه الأواني إلى مواضعها، ولِمَ تركتموها على الطريق؟ فقيل: إنها
موضوعة في مواضعها، وإنما الخلل في فقد البصيرة [2] ، والجملة فمن لم يدرك
الفرق بين التعجب وبين البرهان كثر خبطه وضلاله، وليس في هذا إلا تعجب
محض، وأن الله تعالى لِمَ رتب الأسباب؟ ولو رتبها على وجه آخر لتصور أن
يتعجب منه جاهل ويقول لم لم يفعل ضده، وهذه التعجبات منبعها أوهام العوامّ، ولا
يلتفت المحصل إليها، بل إلى مقتضى البراهين.
(وأما السؤال الرابع) ففي إيراده خبط، وكأن السائل لم يقدر على أن
يفصح عما في ضميره، والذي يتحصل منه تعجبات أربع:
(التعجب الأول) قوله: كيف أمر بالشيء ومنع عن البحث عنه والبصيرة لا
تحصل إلا بالبحث؟ وهذا تعجب فاسد، فإن العمل يستدعي اعتقادًا جازمًا أو معرفة
حقيقية، والاعتقاد الجازم يحصل بالتقليد المجرد عن سبيل التصديق والإيمان،
والمعرفة تحصل بالبرهان، والوصول إليها بالبحث، ولم يُمْنَع عن البحث كل
الخلق، بل الضعفاء القاصرون عن الاطلاع على عويصات البراهين ومعاصات
البحث، وإنما مثال ذلك أمر الطبيب المريض (بالدواء) وامتناعه عن ذكر العلة
في كون الدواء نافعًا، ومنعه المريض عن الاشتغال بالبحث عنه، لعلمه بأنه يقصر
عنه فهمه، ولو اشتغل بالبحث عن علل الطب لشق عليه، وعجز عنه، وزاد
المرض، واستضر به، فإن وجد على الندرة مريضًا ذكيًّا آنسًا بمنهاج الطب, وعلل
الأمراض لم يمنعه من البحث، ولم يمتنع عن ذكر المناسبة بين الدواء وبين علته،
بل إذا علم أنه ليس يكتفي بمجرد قوله وليس يصدق بمحض التقليد وتفرس فيه من
الذكاء ما يفهم به العلة، وعلم أنه إذا فهم العلة والمناسبة اشتغل بالعلاج، وإن لم
يفهم أعرض عن التقليد، وجب عليه ذكر المناسبة والعلة، إن كان يريد صلاحه،
ولم يمنعه عن البحث، إذا علم اشتغاله له، إلا أن ذلك نادر في المرضى جدًّا،
والأكثرون يضعفون عن ذلك، وكذلك معرفة العلل والأسرار والبحث عنها في
الشرعيات من هذا القبيل.
(التعجب الثاني) وهو تسخير البهائم للإنسان يضاهي تعجب الإنسان ممن
يمشي خطوات لينظر إلى منتزهات ووجوه حسان، فيقال كيف أتعب رجله وسخرها
لأجل عينه، والعين آلته كما أن الرجل آلته، فما بال إحداهما جعلها خادمة وأتعبها،
وجعل الأخرى مخدومة وطلب راحتها، وهذا جهل الأقدار والمراتب، بل البصير
يعلم أن الكامل يفدى بالناقص، وأن الناقص يتسخر لأجل الكامل، وهو عين الحكمة،
وأما قوله إن ذلك ظلم، فهو جهل بحد الظلم، فإن الظلم هو التصرف في ملك
الغير، والله تعالى لا يصادف لغيره ملكًا، حتى يكون تصرفه فيه ظلمًا، فلا
يتصور منه الظلم، بل له أن يفعل ما يشاء في ملكه، ويكون عادلاً. [3]
(التعجب الثالث) أن الشرع كيف يرد بما ينبو عنه العقل؟ وهو فاسد لأن
قوله: (ينبو عنه العقل) لفظ مشترك، فإن أراد به أن برهان العقل يدل على
استحالته، كخلق الله مثل نفسه والجمع بين المتضادين، فهذا مما لا يرد به الشرع،
ولم يرد، وإن أراد به ما يقصر العقل عن دركه ولا يستقل بالإحاطة بِكُنْهه، فهذا
ليس بمحال، بل مقصود بعثة الأنبياء إرشاد الخلق إلى ما تقصر عقولهم عنه،
فليس بمحال أن يكون في علم الأطباء مثلاً جذب المغناطيس للحديد، والمرأة الحامل
لو مشت فوق حبة مخصوصة ألقت الجنين، وغير ذلك من الخواص، وهذا مما
ينبو عنه العقل، بمعنى أنه لا يقف على حقيقته، ولا يستقل بالاطلاع عليه، ولا
ينبو عنه، بمعنى الحكم باستحالته، وليس كل ما لا يدركه العقل محالاً في نفسه،
بل لو لم نشاهد النار قط وإحراقها، فأخبرنا مخبر , وقال: إني أحك حبة بحبة ,
وأستخرج من بينهما سنًا أحمر بمقدار عدسة تأكل هذه البلد وغيرها حتى لا يبقى
فيها شيء من غير أن ينتقل ذلك إلى جوفها، ومن غير أن يزيد في حجمها، بل
تأكل البلد ثم تأكل نفسها، فلا تبقى، لا هي ولا البلد، لكنا نقول: هذا شيء ينبو
عنه العقل، ولا يقبله، وهذه صورة النار، والحس قد صدق ذلك، فكذلك يستعمل
الشرع على مثل هذه العجائب التي ليست مستحيلةً، وإنما هي مستبعدة , وفرق بين
البعيد والمحال، فإن البعيد هو الذي ليس بمألوف، والمحال ما لا يتصور كونه.
وأما (التعجب الرابع) وهو أنه لا يسأل عما يفعل وهم يُسْأَلون , ثم سئل ,
وقيل: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا
فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى} (طه: 125-126) فمصدر هذا السؤال الجهل
بكون (لفظ) السؤال مشتركًا، فإن السؤال قد يطلق ويراد به الإلزام، كما يقال
ناظر فلان فلانًا، فتوجه عليه سؤاله [4] وقد يطلق ويراد به الاستخبار، كما يقال
سئل التلميذ، والله تعالى لا يتوجه عليه السؤال، بمعنى الإلزام، وهو المعني بقوله
(لا يسأل عما يفعل) إذ لا يقال له: لم؟ قول إلزام، فأما أنه لا يستخبر، ولا
يستفهم، فليس كذلك، وهو المراد بقوله: {لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} (طه: 125)
وهذا القدر كافٍ في جواب هذه الأسئلة. ا. هـ. والذي أوصي به هذا السائل أن
ينظر لنفسه ودينه ويتقي ربه , ويطلب عالمًا مَليًّا بعلم العقل والشرع ليهديه إلى
الطريق، فإن مَن ترقى عن مجرد التقليد بأدنى كياسة , ولم ينتهِ إلى رتبة الاستعلاء
كان من الهالكين، فنعوذ بالله من فطانة نزالة، وكياسة ضعيفة، فإن البلاء منه
أولى إلى النجاة منها، آمين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما في الجزء 12 م 10.
(1) عَثَرَ على هذه الرسالة في بعض المجموعات القديمة ببغداد، عالم العراق السيد محمود شكري أفندي الآلوسي، فأرسلها إلينا لننشرها في المنار فحمدنا سعيه، وشكرنا فضله، ونشرناها بنصها، إلا كلمات قليلة علمنا باليقين أنها محرفة فرددناها إلى أصلها، وبقيت فيها وقفات تركناها على حالها.
(2) كذا في الأصل، ويظهر أن ههنا سقطًا، وتصحيحه بحسب المعنى أن يقال: وإنما الخلل في فقد البصر، وكذلك الخلل فيما ضرب له المثل في فقد البصيرة، والمثل مذكور في الإحياء، ولا أجد سعة في الوقت لمراجعته.
(3) المنار: فسر الظلم هنا بما جرى عليه الأشعرية، وفيه نظر ظاهر، وقد بينا حقيقة الظلم، وكونه محالاً على الله تعالى في مواضع من التفسير والمنار.
(4) هذا ما يعبر عنه الآن بالمسئولية، وهي بمعنى التبعة والمؤاخذة، فمعنى كونه تعالى لا يسئل عما يفعل أنه ليس لأحد سلطة فوق سلطته فيسأله عن فعله سؤال من يلقي عليه التبعة ويؤاخذه على ما عمل.(11/601)
الكاتب: خليل سعادة
__________
استحالة المادة
للدكتور خليل سعادة
(1)
كتبها عند إذاعة خبر هذا الاكتشاف
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
أومض من كعبة العلم نبأ خطير، دوت له أرجاء العالم المتمدّن أي دوي،
وعندي أنه أعظم اكتشافات البشر، وأسمى ما بلغت إليه مداركهم، فلا يحسب
بجانبه كشف العالَم الجديد شيئًا مذكورًا، وما بلوغ القطب الشمالي إليه سوى ألعوبة
من ألاعيب الصبيان، كيف لا وهو الأمنية الكبرى التي طمحت إليها أبصار فلاسفة
العصور، والغاية القصوى التي اشرأبت إليها أعناق الحكماء في جميع الدهور،
حلم رآه أسلافنا في ليل مُدْلَهِمّ بظلمات الأوهام، فتجلى لنا نورًا باهرًا يبدد دياجي
الجهل، وينير بصائر الأفهام، بل قل هو الحق أنزل على عيون مبصرة، وآذان
مصغية، وقلوب واعية، فزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا.
نريد بهذه التوطئة الاكتشاف الحديث الخطير، وهو استحالة المادة الواحدة
البسيطة من عضو إلى آخر، كما تبين الآن في استحالة بخار الراديوم إلى عنصر
الهليوم. أجل أماطت الطبيعة أخيرًا نقاب الخفاء عن وجهها الوضاح، ورفعت
الحجاب بعد دلال ونفار، طال أجله ألوفًا من السنين، غادة وضاءة لا كالغادات
تعشقها العالم، فهام لأجلها في البيد والقفار، وجرى وراءها إلى قنن الجبال ولجج
الأبحار، تقفى أثرها في الرمضاء اللاذعة تحرقه أشعة شمسها، وفي الثلوج
المتراكمة يلذعه قارس بردها، سهدته قرونًا طوالاً وهو يرقبها طول ليله في
السيارات والدراري وليل العاشقين طويل، وتطلبها في قطرات الماء ورشاشه يحدق
فيها بمجهره، وهي غزال نفور كالزئبق الفرار، إذا دنت نأت، وإن قربت بعدت،
هي أشبه بِرَهْرَهَات الآل وسراب الظمآن، لم تكشف القناع عن ثغرها البسام لحظة
من الزمن، تطلبها في الحرارة والنور، وامتطى في أثرها الكهربائية والبخار،
وكالمها بين الزهور والرياحين، وشرح لها وجده بين الرياض والبساتين، فكانت
إذا أدنته منها ابتسامة، أوقفته عن الدنوّ منها مهابة، جمال تكلل بالجلال، وأنفة إلا
أنها دلال، منها نحل العاشق سقمًا، وضاق ذرعًا، فلما أيقنت منه التفاني في سبيل
غرامها، والاستقتال في هيامها، أماطت الآن اللثام، بعد آلاف سنين في التحجب
والدلال، والتلاعب والمطال.
طمحت أبحاث أسلافنا منذ الأعصر المترامية في القدم إلى اكتشاف أمرين
خطيرين، أولهما أكسير الحياة الذي يتذرع به المرء إلى دَرْء كأس الحمام , ونيل
الخلود على وجه البسيطة، وثانيهما حجر الفلاسفة الذي يباح له به تحويل المعادن
إلى ذهب، فيصبح المرء بهذين الاكتشافين خالدًا مثريًا، ولبث القدماء يخطون في
دياجير الأوهام، ويتلمسون الحقيقة في ظلمات بعضها فوق بعض، حتى نبغ نحو
أواخر القرن الثامن رجل هو لغز من ألغاز التاريخ، غريب الأطوار، كثير
المطامح، بعيد المرامي، يسمى جابرًا، تفرغ إلى البحث في المعادن، وانقطع إلى
إجراء الامتحانات المتعددة بشأنها تذرعًا لتحويلها ذهبًا، وكان مذهبه أن المعادن
خليط من عناصر متعددة يمكن ترقية الدنيا منها إلى الأشكال العليا، ومافتئ يكثر من
التجارب، ويعيد في الامتحانات، وهو في كل ذلك يتراوح بين الحقيقة والضلال،
حتى أصبح له في عصره شأن خطير، ومنزلة راقية في عيون أهله، وهو أحق
رجل بأن يسمى شيخ الكيماويين، ولكنه منطق الحقيقة بالجهالة، واكتنف الحقّ
بالباطل، ولم يدر خطورة قوله، ولم يحلم حينئذ أن سيقوم في فجر القرن العشرين
رجل من أشهر الكيماويين ويكتشف أعظم اكتشاف قدر للمرء حتى الآن، ويجيء به
مصداقًا لأقواله.
بيد أن العلوم الراقية لبثت قرونًا طوالاً خليط فن واحد، فكان الباحث متكهنًا
في الطب، وعالمًا في التنجيم وطوالع السعد، وصهارًا للمعادن، وطال أمره دهورًا
يتلمس الحق على غير صراط الهدى، حتى بزغت عليه أشعة العرفان فانبثق الطب
من الكهانة والفلك من التنجيم وكيمياء الحق من كيمياء الباطل.
ولما انتظمت الكيمياء فنًّا قائمًا بنفسه نبذ طلابها آراء الأقدمين نبذ النواة فتبين
لهم أن العناصر الأربعة التي قال بها السلف، وهي النار والهواء والماء والتراب،
ليست بعناصر، بل هي مواد مركبة تنحل إلى مواد أخرى بسيطة، أطلقوا عليها
لفظ العناصر الصحيحة، وكان من أوائل اكتشافاتهم بهذا الصدد الأكسوجين. ولما
تم لهم هذا الفتح المبين، نشطت الهمم من عقالها، واستولى على المنقطعين إلى هذه
الأبحاث هوس شديد. نضرب لك مثلاً واحدًا لتفقه إلى أي حد بلغ بهم ذلك الهوس،
وهو الكيماوي الطائر الصيت (لافوازيه) ، فإنه كان في صدر جلة الكيماويين
الذين تحروا البحث والامتحان بشأن الأكسوجين، فبعث إلى الأكاديمي في أواخر
القرن الثامن عشر رسالة ضافية الذيول بخصوص تأكسد المعادن، [1] وكانت له
أثرًا خالدًا، ومازال يوالي التجارب حتى انفجر بركان الثورة الفرنساوية، واندلع
لهيبها في باريس وسائر أرجاء فرنسا، وكان (لافوازيه) ، لنكد الطالع رجلاً عريقًا
في نسبه، كبيرًا في حسبه، وافرًا في ثروته، فأصبح هدفًا للثائرين، وغرضًا
لسهام الحاسدين، فصوب أعداؤه نحوه شكايات باطلة أصابت منه مقتلاً، فحكم عليه
بالإعدام، وكان إذ ذاك منهمكًا في تجارب كيماوية خطيرة، فطلب من لجنة الثورة
أن تمهله بضعة أيام ريثما يتمّ أبحاثه واكتشافاته، فعاملته بغلظة يندى منها جبين
التمدن، وأجابته بفظاظة يحمر لها وجه الحرية، قائلة أنْ لا حاجةَ بالجمهورية
للعلماء! فقيد من كعبة العلم إلى باحة (الغليوتين) [2] وهو الذي قال بشأنه ساعتئذ
(لاغرانج) أحد مشاهير مواطنيه: بعد دقيقة يسقط رأسٌ تَمرُّ بكم أجيال وقرون
قبل الحصول على مثله.
فانقشعت إذا ذاك غياهب الجهل عن بصائر أولي النهي، ففقهوا أن جل المواد
المعروفة إنما هو مركبات وخليط مواد بسيطة متعددة، فحسروا عن ساعد الجد
وقذفوا بالأوهام القديمة من حالق، وتواردت عندئذ اكتشافات العناصر تَتْرَى على
نوادي العلم ومجامع العرفان، فبنيت صروح المعارف على أطلال الخرافات،
ووطد بنيان الكيمياء على عمد راسخة الأركان، واكتشف الباحثون في العناصر
نواميس كيماوية عجيبة لم تكن لتخطر في بال أسلافنا ولا في الأحلام.
العروة الوثقى التي وقفت عندها الألباب حيرى، هي الذريرات الأصلية لهذه
العناصر، فقالوا: إنها جواهر مادّيّة تتألف من جواهر فردة إذا تجزأت بَطَلَ
العنصر أن يكون عنصرًا بالخصائص والمقومات التي يتميز بها عن سواه، غير
أنه لما كان الجوهر الفرد لا يقبل التجزؤ فعلاً إذ لم يكشف البشر ذريعة أو وسيلة
تؤدّي إلى ذلك، لبث العنصر ثابتًا على ممر الأدهار.
بَيْدَ أن القول بوجود هذه العناصر المتعددة الأشكال، المتباينة الخواص ثابتة
على هذا المنوال منذ الأزل، مناف لمطمح الفلسفة السامية القائلة بوحدة المادة ,
وخصوصًا إذا اعتبرت أرضنا نفسها ذريرة من مجاميع ونظامات هذا الكون العجيب
الذي يملأ القلب مهابة ورهبًا متى تجلى لك خلال أستار الدجى كواكب ودراري
سابحة أو معلقة في فضاء يتطاول الطرف إلى الإحاطة بعظمته وفقه رموز أسراره،
فيرتدّ عنه وهو كليل.
ذلك ما حدا جلة المتضلعين من العلوم الطبيعية إلى القول بأن سائر العناصر
المعروفة مشتقة من عنصر واحد، متناه في بساطة التركيب، ولطافة القوام، وخفة
المادة، غازي الشكل، ولما لم يكن معروفًا عندهم حينئذ من العناصر التي يمكن
الحصول عليها، ما يصح أن يكون أصلاً لجميع المواد سوى الهدروجين، حسبوه
ذلك الأصل حتى أنبأ بعضهم من هذه الاستدلالات بوجود عناصر أخرى كانت لم
تزل مجهولة، لكي تملأ فراغًا في حلقات العناصر المعروفة، فجاءت الاكتشافات
التالية مصداقًا لنبوتهم.
ثم إنه تبين من الأبحاث الحديثة أن الجوهر الفرد للهدروجين على ما فيه من
التناهي في الصغر، هو كبير جدًّا في حجمه بالنسبة إلى ما كشف مؤخرًا من
الذريرات الكهربائية، التي أطلقوا عليها اسم الإلكترون، بحيث إن جرم الجوهر
الفرد الواحد من الهدروجين يوازي ألف جرم من الإلكترون، وثبت لهم أن هذه
الذريرات الكهربائية تستقل عن الجواهر الفردة، وتقوم بنفسها، ويكون لها جميع
الخواص المقومة للجوهر الفرد، حتى تَرجَّحَ عند كبار الطبيعيين الآن أن الجواهر
الفردة لجميع العناصر تتألف من هذه الذريرات الكهربائية فقط، التي بعضها إيجابي،
وبعضها سلبي، بمقادير متساوية، وأن اختلاف العناصر متوقف على اختلاف
مقادير هذه الذريرات في تأليف جواهرها الفردة، فما العناصر إذًا سوى مجاميع هذه
الذريرات التي يثبت قوامها بقوتي الجذب والدفع.
فمتى فقهت ذلك علمت كيف تتأتى استحالة المادة من عنصر إلى عنصر
على ما صدرنا به هذه المقالة، بَيْد أنه لم تتح لبشر مشاهدة هذه الاستحالة عيانًا،
إلا منذ نحو أسبوعين من الزمن، وتفصيل ذلك أنه قدم إلى مدينة باريس، منذ
بضع سنوات، في أواخر القرن المنصرم، فتاة بولونية المحتد في غضاضة الشباب
وريعان الصبا، لمتابعة بعض دروس فلسفية، ولو علم أهل تلك المدينة ما سيكون
لهذه الفتاة في العالم من خطورة الشأن والصيت الذائع لاحتفوا بها احتفاءهم
بالأميرات والملكات من زوّارهم، فينقضي ذكر الملوك والملكات الذين زاروا
باريس، أما اسم مدام كُري، فيبقى خالدًا، وهي الفتاة التي نعنيها، فإنها ما لبثت
حينًا من الدهر حتى تزوجت الأستاذ كُري، فأقاما في بيت بعيد عن ضوضاء
المدينة وجلبة القوم، يواليان الامتحانات الكيماوية، حتى ظفرا أخيرًا بأمنية ما
وراءها أمنية، ألا وهي اكتشاف الراديوم.
أما وجه أهمية هذا الاكتشاف، فهو أن العلماء وجدوا أن معدن الراديوم يختلف
عن جميع المواد والعناصر المعروفة على وجه البسيطة في أمر هو إشعاع الحرارة
والنور على الدوام، دون أن يخسر شيئًا منهما، فسواء وضعته في الماء والثلج، أو
الهواء، بقيت حرارته مرتفعة عما يحيط به، وهو أمر لو سمعه العلماء في حلم لما
صدقوه، ولما وجد الباحثون عنصرًا يختلف في خصائصه عن سائر العناصر
ذعروا منه، بيد أنهم توسموا به أخيرًا خيرًا، إذ علموا أنه سيلقي بين أيديهم مقاليد
الكون، وينشر أمام أبصارهم رموز الطبيعة وأسرارها، فتهافتوا عليه تهافت
العطاش على الماء، حتى بلغت أثمانه في الأشهر الأخيرة مبلغًا فاحشًا، لم يسمع
بمثله من قبل، فإن المقدار الذي لا يتعدى جزءًا من خمسة عشر جزءًا من القمحة
منه، يساوي خمسين ألف جنيه.
وكان في عداد الذين اشتغلوا بالبحث في الراديوم وأسراره الكيماويّ الشهير
السير وليم رمزي، فوجد نظير غيره من المشتغلين به أن في جملة ما ينبعث من
هذا المعدن مادة غازية كثيفة بقيت لديهم حينًا من الدهر لغزًا من الألغاز، لأنها
كانت تلبث ردحًا من الزمان , ثم تخفى دون أن يتمكن أحد من الوصول إلى كنهها،
فوضع السير رمزي أخيرًا هذا الغاز في زجاجة دقيقة جدًّا سدها سدًّا محكمًا،
ومافتئ يراقبها حتى تبدت له معجزة من المعجزات، وهو أن تبدى من هذا الغاز
بعد يومين من الزمن بواسطة السبكترسكوب خط ضارب إلى الاصفرار، وهو
الخط الذي يشير إلى وجود عنصر الهليوم، وهو مادة توجد في الشمس، ولم يعثر
عليها في أرضنا إلا حديثًا، ثم بعد نحو أسبوع من الزمن، زاد الخط إشراقًا دلالةً
على أن مادّة الراديوم الغازية استحالت إلى عنصر الهليوم، ولم يبق لها من أثر.
وهذا الاكتشاف الذي نحن بصدده هو باكورة الاكتشافات العظيمة في فجر
القرن العشرين، وسيكون له من الخطورة ما هو أهل له، وسَيُقَيَّضُ لنا على يده
كشف كثير مما غمض على أفهامنا من أسرار الطبيعة، وغرائب الكون، فإن
الباحثين جارون إلى هذه الغاية سباقًا، يبذلون النفس والنفيس، ويجودون بالمال
والأرواح، لغرض ترقية شأن العقل البشري والنهوض به من حضيض الجهل إلى
فتن العلم، ولعله لا تغيب شمس هذا القرن حتى تبزغ شموس من سماء الحقيقة
والعرفان تتجلى نورًا باهرًا على الأفهام، وتميط الطبيعة عن محياها الصبوح
حجاب الإبهام , ومن يعش يره.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور سعادة ...
__________
(1) المنار: التأكسد عندهم عبارة عن اتحاد المعدن بالأكسجين، بحيث يتولد عنهما جسم ثالث غيرهما كالصدأ في الحديد، وهو أكسيد الحديد.
(2) المنار: هي الآلة التي اخترعوها لقطع الرقاب بسرعة.(11/608)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رسالة التوحيد
(مقدمة الطبعة الثانية)
بسم الله الرحمن الرحيم
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ
ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ
تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ} (الروم: 30-32) .
إن الله جلَّتْ قدرتُه، وبلغت حكمته، قد برأ هذا الإنسان، بفطرة أعلى من
فطرة سائر أنواع الحيوان، أودع فيه شعورًا بلذات وآلام غير جسدية، فكان له
بذلك حياة غير الحياة الحيوانية، أنشأه مستعدًّا لإدراك معلومات غير محصورة، إذ
خلقه ليحيا حياة غير محدودة، جعل مدار حياته على التعاون والاجتماع، ليستعين
بذلك على استجلاء ما في الكون من النظام والإبداع، أنشأ أفراده متفاوتين في
الاستعداد للعلوم والأعمال، ليتيسر لمجموع النوع القيام بجميع العلوم والأعمال،
فأدناهم الخدم والبناءون والزارعون، وأعلاهم الساسة والحكماء، فالأنبياء
والمرسلون، فهؤلاء كالعقول والقلوب والأرواح، وأولئك كالأرجل والأيدي والمَعِد
والأمعاء، فمنهم من يقوم للنوع بأدنى ما يحتاج إليه، ومنهم من يهديه إلى أعلى ما
يتشوف استعداده إليه، مع إحسانه التصرف فيما هو قائم عليه، وهذه الهداية هي
هداية الدين الذي هو قوام الفطرة للإنسان، الناهض بها إلى طلب الكمال في العلوم
والأعمال.
سار الدين بتكميل الفطرة البشرية على منهاج التدريج في الارتقاء، كما هي
السنة العامة في جميع شئون الأحياء، حتى جاء خاتم النبيين والمرسلين بالإسلام،
الذي بلغ بالإنسان مرتبة الاستقلال التام، وبين كتابه أنه دين الفطرة للناس، من
جميع الشعوب والأجناس، الموافق لهم في كل مكان، المنطبق على مصالحهم في
كل زمان، فهو للقبائل الساذجة كالمربي الرحيم، وللشعوب الراقية كالإمام الحكيم،
كلما ساروا في العلوم والمدنية شوطًا رأوه المجلي في ميدان السبق {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا
فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت: 53) .
لكن المسلمين قد خذلوا هذا الدين، وصاروا حجة عليه عند أكثر العالمين؛ إذ
زينت لهم التقاليد والعادات، أن يجعلوه حجابًا دون العلوم والفنون والصناعات،
وأن يتفرقوا فيه مذاهبَ وشيعًا، وينقصوا منه سننًا، ويزيدوا عليه بدعًا، وأن
يجعلوا كتب العقائد ملأى بالجدل والمراء، بين أهل المذاهب من الأموات والأحياء،
وقد مرت القرون وليس عندنا مصنف يصلح للدعوة إلى الإسلام، على الوجه
الذي اشترطه علماء الكلام، وهو أن يكون على وجه يحرك إلى النظر، ويدعو إلى
البحث والتفكر، حتى قام الأستاذ الإمام، الذي كان في هذا العصر حجة الإسلام،
الشيخ محمد عبده قدس الله روحه في دار السلام، فكتب (رسالة التوحيد) في بيان
حقيقة هذا الدين، فجاء مع التزام الشرط بما لم يأت بمثله أحد من أئمة المسلمين.
لا أذكر في بيان فضل هذه الرسالة، أن مجلس إدارة الأزهر قرر تدريسها في
الجامع الأزهر رسميًّا، ولا أن علماء الهند ترجموها بلغة الأوردو ليدرسوها في
مدرسة عليكره الكلية وغيرها، ولا أن علماء الأقطار الذين اطلعوا عليها، قد كتبوا
لمؤلفها من منثور الثناء ومنظومه ما يزيد على حجمها أضعافًا مضاعفة، ولا أن
بعض علماء النصارى قالوا عندما قرءوها: لو كان ما في هذه الرسالة هو الإسلام،
لكنَّا أول من يدخل فيه، ولكنها حكمة الشيخ محمد عبده، الذي نؤمن بفضله، وعلو
كعبه، لا أشرح هنا شيئًا من مثل هذا، وإنما أقول: إنه لا يقدر هذه الرسالة حق
قدرها إلا من كان عالمًا بمنتهى ما وصل إليه علم الكلام من الارتقاء في الإسلام،
وواقفًا على ما كتبه فلاسفة أوربا في الانتقاد على الأديان، مع ما كتبوه في بيان
مزاياها، وفي علم النفس وعلم الأخلاق وعلم الاجتماع البشري.
لم تدع الرسالة شبهة على الدين إلا وكشفتها، ولا عقدةً من عقد المشكلات إلا
وحلَّتها، ولكن الشُّبه تذكر فيها غالبًا بطريق الإيماء والتلويح، دون الإبانة
والتصريح، وذلك أدنى أن لا يشك الضعيف، ولا يشتغل القوي عن المقصد
الشريف، وقد أشار إلى ذلك المصنف في قوله: (راميًا إلى الخلاف من مكان بعيد،
حتى ربما لا يدركه إلا الرجل الرشيد) .
كتب الأستاذ الإمام هذه الرسالة في مُدّة قليلة، وبادر إلى طبعها، فلما قرأها
في الجامع الأزهر على الألوف من العلماء، ونجباء الطلاب، ظهر له فيها أغلاط
لُغوية، ومسائل تحتاج إلى إيضاح، وكُلِمٌ جدير بالحذف، فكان يكتب ما يراه من
التنقيح في النسخة التي يقرأ بها الدرس، ويَزِيد ما يزيد في هامشها، وقد انتقد عليه
الشيخ محمد محمود الشنقيطي (رحمهما الله) ذكره لمسألة خلق القرآن؛ لأنها
مخالفة لشرطه في التزام مذهب السلف، فأمر بحذف ذلك منها (راجع ص 37
منها) ، وانتقد عليه حروفًا أخرى، فأقنعه في بعضها، واقتنع منه في بعض،
وقد جمع جميع ما صححه في جدول، فكان ذلك في سبعين موضعًا أو أكثر،
وبقي فيها كلمات نادرة قد سها المؤلف عنها مع تصحيحه لمثلها، فأبقيتها على
أصلها، [1] (إلا كلمة واحدة في ص 131) ولم أزد فيها من عندي إلا الرقم الدالّ
على عدد السور والآيات عند ذكرها.
ولما كتب إلي صديقي حمودة بك عبده، يأذن لي بإعادة طبع الرسالة،
أعطاني الجدول فصححت هذه الطبعة معارضة عليه، وعلى نسخة المؤلف،
وعلقت عليها هوامش قليلة سمعت بعضها منه في الدرس، ولولا أنه نهى عن
شرحها، ووَضْع الحواشي لها لَجَاز لي أن أكثر من هذه الهوامش، ولكن ما رآه
رحمه الله هو الصواب، وما جاء به هو الحكمة وفصل الخطاب، فهذه الطبعة هي
المعتمدة، وعليها المعول، ولا يستغني عنها مَن طالع الطبعة الأولى، فرحم الله
الأستاذ الإمام، ونفع برسالته الأنام، آمين.
... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني
... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار
__________
(1) مثل تعدية التكليف بالباء واتباعها للأصوليين وغيرهم، ومثل لفظ الصدفة.(11/614)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(مبادئ الاقتصاد السياسي)
قد اشتهر بيننا أن الغنى والفقر إنما يكونان بالحظوظ والأقدار، لا مدخل فيهما
لعلم المرء وعقله، ولا لذكائه وسعيه، بل اشتهر بين الأدباء أن العلم والحِجَى،
ضدان للثروة والغنى، وقد نظم أدباؤنا في القديم والحديث كثيرًا من الشعر في هذا
المعنى، تداوله الناس وحفظوه فصارت به المسألة عندهم من القضايا المسلمات،
التي يتوهمون أنها من البديهيات، وكيف لا تكون كذلك عند الجمهور، وهي مدعمة
بظواهر ما جاء في الدين من إسناد كل شيء إلى مشيئة الله عز وجل، وللعلماء
والصوفية فيها من الكلام ما هو أشد تأثيرًا في النفوس من كلام الشعراء والأدباء.
ومما يُؤْثَر فيها عن الإمام الشافعي رضي الله عنه من أبيات.
لكن من رزق الحجى حرم الغِنَى ... ضدان مفترقان أي تفرق
ثم إنهم يرون ظواهر الحوادث الجزئية تؤيد هذا الرأي وتثبته، إذ يرون مثل
فلان باشا، وفلان بك، يعبثون بالألوف من الدنانير، وهم على ما يعرفون منهم من
الجهل والغباوة.
فإذا قِيلَ لمن يعتقدون هذا الاعتقاد: إن لتدبير الثروة علمًا يبحث فيه عن
ينابيعها ومواردها ومصادرها، فيعلم الواقف عليه طرق تحصيل الثروة وحفظها
وتوزيعها، ولماذا كانت تلك الأمة غنية، وهذه الأمة فقيرة، ولماذا يتزاحم في البلد
الواحد شعبان أو شعوب متعددة، فيسبق قوم ويتخلف آخرون - إذا قيل لهم هذا قالوا:
إن العلم لا شأن له في هذا، وإنما هي الحظوظ والأقدار، ويسردون ما يحفظون
من الآثار والأشعار.
الأقدار هي المقادير والموازين التي أقام الباري بها نظام الكون، فهي تقتضي
الأسباب لا تنافيها، وإن اشتهر استعمالها بيننا فيما جهل سببه غالبًا، والحظ في
الأصل هو النصيب الذي تناله من الشيء بسعي أو بغير سعي، وإن غلب استعماله
فيما يناله المرء بغير سعي منه إليه، ولا ننكر أن بعض الأفراد ينالون الغنى
والثروة بأسباب لا يعرفونها، ولا يسعون إليها سعيها، ولا ننازع في تسمية ذلك
حظًّا جاد به القدر، على ما بيننا وبين أولئك الناس من الخلاف في فهم معنى القدر،
وإنما نقول في إقناع المنكرين لفائدة علم تدبير الثروة الذي وضع له اسم
(الاقتصاد السياسي) : إن الواضعين لهذا العلم والمصنفين فيه والدارسين له
والعاملين به يعرفون من أحوال أهل الحظوظ ما تعرفون، ومنهم من يؤمن بالقدر
كما تؤمنون، ولكنهم مع ذلك يعلمون من أحوال العالم ما لا تعلمون، فضموا علمهم
إلى علمكم، ثم لكم بعد ذلك حكمكم.
إذا كنتم تعذرون فيما تحكمون به على ثروة الأفراد في كل أمة، فلا عذر لكم
إذا قستم عليها ثروة الشعوب والأمم، فسيروا في الأرض فانظروا كيف صارت
الأمم التي عنيت بهذا العلم أغنى الأمم وأعزها، وكيف يدخل أفراد منها في بلاد أمة
أخرى، فلا يلبثون أن يكونوا هم المستقر والمستودع لثروتها، بل القابضين على
روح الحياة المالية والاجتماعية فيها.
ألا إن أمتنا أحوج إلى هذا العلم منها إلى جميع العلوم الدنيوية، لأنه روح
جميع العلوم والأعمال، ولكننا لا نزال مقصرين فيه بقدر حاجتنا إليه، حتى إنني لم
أرَ في لغتنا غير كتابين وجيزين فيه طال العهد على وضعهما، وارتقى العلم بعدهما،
فصرنا محتاجين إلى خير منهما، وقد أحس بهذه الحاجة محمد فهمي أفندي حسين
المحامي (المتخرج من عهد قريب في مدرسة الحقوق الخديوية) فحملته الغيرة على
أمته وبلاده على وضع كتاب جديد في هذا العلم يستمد مسائله من الكتب الإفرنجية
الحديثة، وقد فعل وسماه (مبادئ علم الاقتصاد السياسي) ، وقد طبع الجزء الأول
من عهد قريب فبلغت صفحاته 184 صفحة، وجعل ثمنه عشرة قروش صحيحة،
فعسى أن يرى من الإقبال عليه ما ينهض بهمته إلى إتمام الكتاب تأليفًا وطبعًا. وهو
يطلب من مؤلفه، ومن المكاتب المشهورة. وسننقل شيئًا منه تنويهًا به، وإفادة
لقراء المنار.
***
(الإسلام روح المدنية. رد على لورد كرومر)
لم يكد ينتشر كتاب لورد كرومر، الذي سماه (مصر الحديثة) ، حتى كان
أول ما ترجمته الجرائد المصرية منه، كلامه في الإسلام والمسلمين. ووعد بعض
الأفراد وبعض الأحزاب بتأليف كتب في الرد عليه، ولكن قد سبق الجميع إلى ذلك
صديقنا الشيخ مصطفى الغلاييني البيروني، فبادر إلى وضع كتاب في ذلك، وطبعه
في بيروت في أيام الاستبداد الشديد، إذ كان يخشى المرء أن يحاسب ويعاقب على
مثل هذا التأليف وعلى طبعه بدون رخصة من نظارة المعارف في الآستانة، ولو
طلبت الرخصة فيه لما أجيب الطالب إلا إلى العقاب، وقد بلغ من شجاعة مؤلف
هذا الكتاب أن ذكر فيه الأستاذ الإمام (رحمه الله تعالى) ، ونقل بعض كلامه وشيئًا
مما يؤثر عنه، ونقل عن المنار أيضًا، وكان يومئ إلى ذلك بقوله: قال السيد في
المجلة، وقد كان ذكر الأستاذ الإمام أو المنار قبل إعلان الدستور في المملكة
العثمانية جريمة من أكبر الجرائم، وخطرًا على من يذكر هذا اللقب (الأستاذ الإمام)
أو اسم صاحبه (الشيخ محمد عبده) أو المنار أو صاحبه، ولو تلويحًا من أشد
الأخطار، فشكرًا للشيخ مصطفى على شجاعته وعمله. هذا ولم تتسن لنا مطالعة
الكتاب، ولكننا نرجو أن يكون خيرًا مما كتب أكثر أصحاب الجرائد في الرد على
لورد كرومر، وناهيك بمن يستمد من كلام الأستاذ الإمام، في الدفاع عن الإسلام،
ومن يصدف عن ذلك ظاهرًا، وإن لم يستغن عن الاقتباس منه باطنًا، وثمن الكتاب
في مصر خمسة قروش صحيحة عَدَا أجرة البريد، ويطلب من مكتبة المنار، فنحث
القراء على مطالعته.
***
(تاريخ العرب قبل الإسلام)
كتاب جديد يؤلفه جرجي أفندي زيدان، المؤرخ العربي الشهير، وقد أنجز
الجزء الأول منه، فإذا هو قد استمد مسائله من الكتب العربية، والكتب الإفرنجية
في اللغات المختلفة. ولبعض الكتب الإفرنجية مزية على العربية في هذا الموضوع
بما اكتشفوه من الآثار القديمة في بلاد العرب. وقد اقتبس المؤلف شيئًا منها لا
يستغني عن الاطلاع عليه قراء العربية، وهو على قلته يصحّ أن يتمثل فيه بقول
الشاعر:
قليل ما أمرت به ولكن ... قليلك لا يقال له قليل
وقد نظرنا في الكتاب نظرة إجمالية، فألفيناه حسن الترتيب جامعًا لكثير من
المباحث النافعة، ولكن لم يتح لنا مطالعته لنحكم فيه على علم بما نرجو أن يكون قد
جاء به من التحقيق فعسى أن ينتدب بعض من قرأه من أهل العلم والرأي إلى
موافاتنا بمقال حافل في تقريظه ونقده، إظهارًا لقيمته، وشكرًا لفضل مؤلفه، أما
ثمن هذا الجزء الذي صدر من الكتاب فعشرون قرشًا مصريًّا، ويطلب من مكتبة
الهلال بالفجالة.
***
(عروس فرغانة)
هي إحدى القصص التي جعلها جرجي أفندي زيدان، منشئ الهلال ملحقة
لسني مجلته (تتضمن وصف الدولة العباسية في عهد المعتصم بالله (سنة 218-
227هـ) ، وقيام الفرس لإرجاع دولتهم بالسيف، ونهوض الروم لاكتساح المملكة
الإسلامية , ويتخلل ذلك وصف آداب الأتراك وعاداتهم في أقصى بلادهم ووصف
سامُرَّا عاصمة المعتصم، وواقعة البذ في حرب بابك، وواقعة عمورية في حرب
الروم، وغير ذلك) وهي تقع في 204 صفحات حسنة الطبع، وإن شهرة هذه
القصص في إيداع الفكاهة القصصية المسلِّيَة شيئًا من الفوائد التاريخية , ورغبة
القراء فيها مما يجعلها غنية عن التقريظ والثناء، وثمن النسخة منها عشرة قروش،
وأجرة البريد قرشان، وتطلب من مكتبة الهلال.
***
(مجلة صراط مستقيم)
صدرت في الآستانة مجلة إسلامية يحررها باللغة التركية طائفة من العلماء،
وقد كتب إلينا مديرها ما يأتي:
إلى إدارة المنار:
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) .
شرعنا في نشر مجلة باسم الصراط المستقيم، والله الموفق.
غرضنا خدمة الدين المبين، ولكن حال بلادنا من حيث الكتب والجرائد حال
محزنة، ولم نكن نرى من قبل الآثار المصرية الثمينة، وهل كانت رؤيتها من
الممكنات؟ والآثار التي كنا نملكها، جعلتها الحكومة السابقة طعامًا لمواقد الحمامات،
وقد دخلنا منذ الآن في حياة جديدة. أما مجلتكم العلية، فهي مشهورة في جميع
الكون، فنرغب أن يكون لإخواننا مساكين الترك نصيب من مائدتكم العلمية، ونحن
مفتقرون في هذا الموضوع لمعاونتكم العلية، فنرجوكم أن ترسلوا لنا مجموعة من
مجلتكم، وأن ترسلوا كل ما يصدر منها بعدُ في وقته. وإن أنبأتمونا عن الآثار
الجديدة المطبوعة بمصر نكن لكم من الشاكرين، واقبلوا فائق احترامنا.
(المنار)
قد سررنا سرورًا عظيمًا بهذه المجلة، ونشكر لمديرها الفاضل حسن ظنه
بنا، وسنبدي رأينا في منهجها ومقالاتها بعد أن يتيسر لنا ترجمة بعض مقالاتها، ثم
نكتب لمديرها إن شاء الله تعالى.
***
(القسطاس المستقيم)
جريدة عربية جديدة أنشئت في دار السلطنة العثمانية (الآستانة) بعد إعلان
الدستور، أنشأها الحاج محيي الدين أفندي كريمة، والحاج حسن أفندي المجدوب،
من خيار أبناء بلدتنا (طرابلس الشام) المقيمين في الآستانة، وقيمة الاشتراك فيها
نصف ليرة عثمانية في بلاد الدولة العَلِيّة، و60 قرشًا في مصر، و15 فرنكًا في
البلاد الأجنبية.
فنتمنى لها من الرواج والانتشار في هذه الديار وغيرها ما يبعث أصحابها إلى
تكبير حجمها وتكثير فوائدها.
__________(11/617)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب أبي معشر
كُتِب إلينا من سنغافورة وجاوه أن هذا الكتاب منتشر في تلك البلاد، يجلبونه
إليها من مصر، وأن بضاعة المنتحلين للتنجيم والعرافة رائجة به، وسألنا الكاتبون
عن رأينا فيه، فأرسلوا إلينا نسخة منه لننظر فيها، إن لم يكن سبق لنا الاطلاع
عليه، فنقول بعد الاطلاع على عدة أبراج منه:
إننا لم نر في لغتنا كتابًا أجمع للمفاسد والمضارّ منه، فهو مفسد للعقل والدين
والآداب، محرض على الفسق والفجور، مقطع للروابط بين الأزواج والأهل
والجيران، وهو على ذلك كله خالٍ من الفائدة واللذة.
أما كونه مفسدًا للعقل، فنعني به أنه يمد الضعيف في غيه، فيزيده فسادًا
بقبوله لما وضع له من بيان ما يعرض للمرء في مستقبل حياته الدنيا.
لو فكر من له مسكة من العقل أقل التفكير في الطريقة التي يبين بها هذا
الكتاب حوادث المستقبل لجميع البشر في 24 فصلاً، منها 12 برجًا للرجال، و12
برجًا للنساء - لرأى أن ذلك باطل بالبداهة، فإن من مقتضى ذلك أن كل من اتفقت
أسماؤهم وأسماء أمهاتهم، وكل من اتفق العدد الحاصل من جمع أسمائهم وأمهاتهم،
بعد طرح عدد الاثنا عشر منها، حتى تبقى اثنا عشر أو أقل يكونون متفقين فيما
يعرض لهم من الأمور والأحوال في أجسامهم من مرض وصحة وحياة وموت،
وفي أزواجهم وأولادهم وكسبهم وغناهم وفقرهم وأخلاقهم وآدابهم ومكانتهم في
الناس، وفي غير ذلك، لا فرق بين أحد منهم إلا من ثلاثة وجوه، فإن لكل
برج عنده ثلاثة وجوه، يعبر عنها بقوله الوجه الأول من نظر إليه كوكب كذا
يكون كيت وكيت.
فللعاقل أن يجمع أسماء كثير من الملوك والأمراء والعلماء والأغنياء والفقراء
والصناع والزراع والعمال والخدام - أسماءهم وأسماء أمهاتهم بحساب الجمل على
طريقة أبي معشر، ويعرضها بعد الإسقاط على أبراجه، وينظر بعد ذلك فيما
يشرحه من شئونهم، فبهذه الطريقة يظهر له بطلان ما في ذلك الكتاب، إن كان
ممن يشتبه في بطلانه. ولا حاجة إلى شرح ذلك وتفصيله، فإنه يكاد يكون من
البديهيات الأولية، وإنما يروج ما فيه على ضعفاء العقول من العوام والنساء، لأنهم
لا ينظرون في طريقته نظرةً عامةً للبحث فيها، هل هي معقولة أم لا؟ وإنما
يفكرون فيما يلقى إليهم من كلامه المجمل العامّ الذي ينطبق على بعض أحوالهم مع
الإيمان والإذعان التقليدي بأن في أمثال هذه الكتب أنباء عن الغيب يتوارثها الخلف
عن السلف، ويسلمون بها تسليمًا.
أمثال هؤلاء الأغرار تسهل مخادعتهم، فلو قرأت لأحدهم البرج الذي يؤخذ
من اسمه واسم أمه بطريقة أبي معشر أو غيره من البروج، لأخذ من كل ما يقرأ له
شيئًا ينطبق على بعض أحواله، ووجد فيه شيئًا لا ينطبق عليها، ولكنه لانتظاره ما
يمكن أن يصدق عليه، يتشبث ويفطن له، ويَغْبَى عن غيره ويظن أنه غير مقصود
به.
وأما إفساده للدين، فهو مشترك بين إفساده للعقل باعتقاد الباطل الذي ورد
النهي عنه في الأحاديث الصحيحة التي تسمِّي تصديق المنجمين والعرافين كفرًا،
وبين إفساد الآداب التي يأمر الشرع بالمحافظة عليها والتحريض على الفسق وتقطيع
الروابط بين الأزواج وغيرهم.
المعروف من أمر النساء أنهن أحرص على البحث عن مستقبل حياتهن من
الدجالين والعرافين والمنجمين، وإنك لتجد في بروجهن من هذه المفسدات أكثر مما
تجده في بروج الرجال.
مثال ذلك أنه يقول للمرأة: إنها تتصل بكثير من الرجال بالحرام، وإنها
تتزوج عدة أزواج، وإنها تكون سعيدة مع الأخير منهم، وإنها تكون شديدة الحظوة
والقبول عند الكتاب أو الحكام ... فقل لي بعيشك، كيف تكون حال المرأة التي
تعتقد صدق هذا الكتاب إذا سمعت من قارئه عليها أمثال هذه الأنباء؟ ألا يكون ذلك
مجرئًا لها على العشق، وعلى بغض زوجها ... ؟
يظهر لي أن واضع هذا الكتاب كان حريصًا على هذه المفاسد متعمدًا لها،
وأنه كان من كتاب الدواوين أو صديقًا لهم، لأنه يرغب النساء فيهن. ومن خبثه
الدال على تعمده أنه يقول عن بعض النساء اللواتي يحرضهن على الفسق: إنهن
يتُبْن بعد ذلك , ويوفقن للحج إلى بيت الله الحرام، فإنه بذلك ينال من إفساد العفيفة
المتدينة ما كان يعز عليه أن يناله لو لم يخبرها بأنها ستوفق بعد ذلك إلى ما يكون
كفارة لذنوبها.
وقس على هذه المفسدة ما يصفه الكتاب من أحوال أعداء المرأة ومن يكيد لها
ويتربص بها الدوائر، فإن ذلك يذهب بخيالها مذاهب في التطبيق على من تعرف
من أهلها وجيرانها، ومتى اعتقد الإنسان أن أحد الناس عدوّ له، فإنه يحمل أكثر ما
يراه منه على ما يقوي اعتقاده فيه، حتى إنه إذا سمعه يثني عليه، اعتقد أنه يتهكّم
أو يعرض بذمّه.
وجملة القول أن هذا الكتاب من أقبح الكتب وأشدها ضررًا، ولا شك في
حرمة طبعه وبيعه، فما قولك بالاكتساب به، ألا يكون من كبائر الإثم والفواحش؟
بلى، وإن من قدر على منع طبع هذا الكتاب أو بيعه أو انتحال التنجيم به ولم يفعل،
فهو آثم، ويغلب على ظني أن أهل سنغافورة وأهل جاوة، لو بينوا لحكومتيهم ما
في هذا الكتاب من الدّجل والإفساد للآداب العامة، ومخالفة الدين، وطلبوا منع
الدجالين من التنجيم به، لأجابتهم الحكومة إلى ذلك.
ولو نبهت الحكومة المصرية مثل هذا التنبيه، لرجي أن تحاكم الذين يطبعون
هذا الكتاب، وتمنعهم من بيعه، فعسى أن ينتدب لذلك بعض أهل الغيرة، وأن
تحمل الجرائد اليومية على المتجرين بهذا الكتاب وأمثاله، وتطالب الحكومة
بمجازاتهم على ما يمنعهم منه القانون المانع لكل ما يخالف الآداب العامة.
__________(11/622)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سَفر صاحب المجلة
سافر صاحب هذه المجلة من القاهرة قاصدًا سوريا لزيارة الأهل والأقربين،
والأصدقاء والمحبين، الذي حال بيننا وبينهم الاستبداد إحدى عشرة سنةً، كان ذكر
اسمه فيها خطرًا عليهم، يهددهم به من يستاء من أحد منهم، قائلاً: إما أن تفعلوا
كذا أو تتركوا كذا , وإما أن أبلغ الحكومة بأنكم تكتبون إلى صاحب المنار , أو
يكتب هو إليكم , أو أنكم على رأيه واعتقاده في حاجة الدولة والأمة إلى الإصلاح،
ونحو ذلك.
سافرنا قبل صدور هذا الجزء، وإننا نكتب هذا في القطار بين القاهرة
وبورسعيد. وسنقيم في تلك الديار إلى ما بعد عيد الفطر، ثم نعود منها، وندخل
مصر إن شاء الله آمنين.
وقد جعلنا أخًا لنا وكيلاً عنا في إدارة المجلة ومطبعتها، وعهدنا إلى إدارة
البريد المصري أن تعده وكيلاً عنا، وتدفع له كل ما يرد باسمنا من الرسائل
والدراهم. فعسى أن تكون غيرة قراء المنار الأخيار على إدارة المجلة في غيبتنا
أعظم مما كانت عليه أيام كنا فيها، وأن يرسلوا إليها ما وجب عليهم من قيمة
الاشتراك، فإن العمل فيها وفي المطبعة لا يزال مستمرًّا، وإنا لَنَعُدُّ مَن يرسل قيمة
الاشتراك إلى المجلة في غيبتنا، من أفضل أهل الذوق والوفاء لنا، بل نعد له ذلك
جميلاً يذكر، وفضلاً يشكر.
__________(11/625)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مكاشفة في أول ولاية السلطان عبد الحميد ومدتها
كان كثير من أهل الآستانة وغيرهم من خواص العثمانيين يتحدثون بأن بعض
المنجمين أو الصالحين بشر السلطان عبد الحميد بأنه يكون ملكًا مدة ثلاث وثلاثين
سنة، وقد حدثني بعض كبار رجال الدولة في سياق الكلام على اعتقاد السلطان
بالمشايخ الذين يدعون الكشف أو الجفر والزايرجة، كأبي الهدى وعنايته بالشيخ
ظافر - حديثًا غريبًا يرويه عن السلطان نفسه، وملخصه أنه كان في المدينة
المنورة رجل يعرف بأمين أفندي الطرابزوني، يشتغل بالجفر، ويخبر بأمور
المستقبل، فأرسل إليه السلطان يتعرف منه هل يكون سلطانًا، فقال: إنه يكون
سلطانًا في سنة 1293، قال هذا للشيخ ظافر، وكان هو الواسطة بينهما، فلما أنبأ
الشيخ ظافر عبد الحميد (أفندي) بذلك كبر عليه أن يصدقه، لأن عمه السلطان عبد
العزيز كان في صحته وعافيته، وكذلك أخوه مراد أفندي، الذي هو ولي العهد،
وكان ذلك في أول تلك السنة، ولكن لم يلبث أن صدق كلامه كما هو معلوم. قال
الراوي هذا معنى ما سمعته بأذني من السلطان عبد الحميد، وسمعت بعض الكبراء
في الآستانة يزيدون في الرواية قائلين: إن أمين أفندي حدد مدة ملكه بثلاث وثلاثين
سنة، فقال يملك أو يحكم 33 سنة.
ومن يتذكر أن السلطان ولي في شعبان سنة 1293، يعلم أن المدة قد تمت
بحسب السنين الهجرية، ويحتمل أن يقال في تأويل الشق الثاني من الخبر: إن
السنة الثالثة والثلاثين قد كانت خاتمة لحكم السلطان بنفسه وقبضه على زمام
السلطة بيده، فإن إعلان الدستور قد حول الحكم إلى الوزارة ومجلس الأمة. ولعل
السلطان نفسه يفكر في هذا التأويل، فينشرح له صدره، إذ كان ممن يصدق أمثال
هؤلاء القائلين، لا سِيَّمَا بعد أن صدق الخبر فيما يتعلق بأول الولاية. وأما من لا
يبالي بهم صدقوا أم كذبوا، فلا يحتاج إلى التأويل. وقد ذكرت هذا الخبر قبل
إعلان الدستور لكثيرين، وبعده لكثيرين، منهم أصحاب المقطم.
__________(11/625)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفالات بالدستور العثماني
احتفل العثمانيون عامة بالدستور في بلادهم، وفي كل بلد يضم طائفة منهم،
في مشارق الأرض ومغاربها، وقد كان السرور بالدستور مدرسة للتربية والتعليم،
تعلم فيها ألوف من العثمانيين الخطابة، وتربوا على الوفاق والمحبة، ولكنها كانت
مدرسة لا كالمدارس: كان تعليمها يشبه الوحي، وتربيتها تشبه الآيات والمعجزات،
فإنها قد علمت الخلق الكثير في يوم واحد، وربت الشعوب المختلفة في الأجناس
واللغات والأديان والمذاهب والتقاليد والعادات في ساعة واحدة.
لو صافح المسلمون النصارى في سلانيك والآستانة ومصر فقط، لكان لقائل
أن يقول: إن ذلك أمر طبيعي، حصل بالسعي في الزمن الطويل، فإن أحرار
العثمانيين الذين على هذا الرأي كثيرون جدًّا في هذه البلاد، وهم يسعون له من قبل،
ولو وافقهم مثل أهل بيروت والشام، لقال ذلك القائل: إن أهل هذين البلدين على
مقربة من أهل هاتيك البلاد، فيما ذكر من وجود الأحرار العقلاء المحبين للإصلاح
فيهم، ومن وقوفهم في أقرب وقت على ما كان من إخوانهم في هاتيك الأمصار التي
سبقتهم عملاً وسعيًا إلى ذلك، فلم يلبثوا أن جاوروهم أو اتبعوهم.
ولكن ماذا يقول ذلك القائل في موافقة عمل أهل جدة (ثغر الحجاز) , وأهل
البرازيل وأهل الأرجنتين لعمل أهل الآستانة وسلانيك ومصر والشام والعراق في
وقت واحد، وهم لا يعلمون من أمرهم في ذلك شيئًا.
كتب إلي وجيه من مسلمي جدة كتابًا يشرح فيه ما كان من أمر أهلها في
الاحتفال بالدستور، على الرغم من والي الحجاز راتب باشا الظالم الملحد في الحرم،
الذي كان يومئذ فيها كاتمًا للدستور، ثم مثبطًا للهمم عن الاحتفال به، بعد أن
أعلنته للناس جمعية الاتحاد والترقي. فقد قال الكاتب: إن المسلمين والنصارى قد
تزاوروا وتعانقوا في ذلك الاحتفال، وطفق كل فريق يهنئ الآخر. وذكر أمورًا
أخرى منها حسن تأثيره في نفوس الأعراب، ومنها بعض مفاسد الوالي واتفاقه مع
الأمير الشريف. وقد أوقَفَنَا على هذا الكتاب بعض محرري الأهرام والمقطم،
فلخصوه في الجريدتين.
وكتب إلينا جورج أفندي حداد، مؤسس شعبة جمعية الشورى العثمانية في
البرازيل، كتابًا في الاحتفال الذي قام به العثمانيون في سان باولو، قال فيه: إن
الأرمن الذين هنا لم يكونوا يكلمون السوريين ولا يعاشرونهم، فلما جاء نبأ الدستور
أقبل بعضهم على بعض متعارفين متوادّين وانتظم موكب الاحتفال من المسلمين
والدروز والنصارى من الأرمن والسوريين وغيرهم. فهل يمكن أن يكون هذا وذاك
بتواطؤ أو تقليد؟ وذكر أنه اجتمع للقيام بالاحتفال نحو ألفي سوري، ومائة أرمني
في أعظم مرسح في سان باولو، وكانت الموسيقى العسكرية تشب من نار حماسهم،
وتضاعف سرورهم وجذلهم، ثم انبرى للخطابة فريق منهم، وخطب هو أيضًا
بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن إخوانه الأحرار، مؤسسي جمعية الشورى العثمانية
في مصر، قال: (ثم سار الموكب، تتقدمه الموسيقى، وهو رافع راية عثمانية
كبيرة جدًّا، صنعت لهذا الاحتفال خاصة، إلى دار القنصلية العثمانية، ومذ
أبصرهم القنصل، رفع الراية العثمانية، وجعل يحييهم بها، وقد صعد أعضاء
لجنة الاحتفال إلى مكان القنصل، وهنأه بعضهم وقدم إليه عريضة طولها 80
سنتمترًا وعرضها 50 فحواها الشكر للسلطان على رضاه بإعادة نشر القانون
الأساسي، ونيل شعبه للحرية، وبينا كان القنصل يخاطب الأعضاء، طلب
الجماهير منه أن يشرف عليهم من إحدى النوافذ، ويظهر أن الرجل من أرباب
الحزب المحافظ، وممن تأصلت في نفوسهم الكبرياء؛ لأنه لم يحفل بالطلب، ولم
يلب النداء، فهاج الناس واضطربوا وصاحوا: إن مولانا السلطان خاطب الشعب
من النافذة مظهرًا الرضا والسرور، فكيف تأبى ذلك، وأنت من صغار مستخدمي
دولتنا العَلِيَّة؟ فاضطر القنصل لمخاطبتهم والاعتذار إليهم، ثم تركوا دار القنصلية,
وطفقوا يطوفون بالشوارع العظيمة، والحاصل أن هذا الموكب المؤلف من هذه
الفرق التي كانت تحتدم في نفوسها نار العداوة والبغضاء وكره الواحدة منهن للأخرى،
كان من أجمل المناظر التي تسر بها النفوس، وتغبط لها القلوب) .
وجاء في جريدة أبي الهول البرازيلية في ختام كلامها عن هذا الاحتفال ما
نصه:
اهتمت الصحافة البرازيلية والطليانية بالمظاهرة وذكرتها بالثناء والتكريم،
وجرائدنا العربية لم يهتم منها بالحفلة إلا الميزان. فالأفكار ذكرتها بأقل مما تذكر
عن حفلة إكليل، وطلبت من الله في الختام أن يجعل الحرية طويلة المكث في ديارنا!
والدستور ثابت القرار في وطننا! وصاحب الأفكار لم يحضر الحفلة، وهكذا
محرر المنارة الذي اهتم بالمظاهرة الخارجية أكثر من المظاهرة الداخلية اعتقادًا منه
أن الأخيرة غير لازمة!
وقد اهتم جناب الأديب إلياس أفندي مسرة بالأمر وطير الخبر تلغرافيًّا إلى
جريدته في باريس، فاستحق الشكر. وتكرم جناب الشيخ سابا الخوري نزيل الريو،
فأفاد اللجنة أن شركة هافاس نقلت الخبر إلى لندن ثم إلى بقية العواصم الكبيرة.
وقد شارك إخواننا الأرمن نزلاء سان باولو بهذا الاحتفال الذي كان فريدًا في
عظمته، ويتيمًا في محاسنه.
وفي الختام نثني بلسان الحرية على اللجنة التي رتبت هذه المظاهرة، ونشكر
الخطباء الذين حركوا في صدور الجمهور الحماس، ونهنئ الشعب السوري في هذا
العيد الكبير، عيد الحرية والمساواة.
ولاتزال جرائد أمريكا الشمالية والجنوبية تأتينا وهي ملأى بذكر الاحتفال
بالدستور في معظم الولايات والأرجاء الأمريكية، واشتراك جميع الطوائف والملل
في ذلك، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه في صدر هذا المقال.
وكتب إلينا من المفازة في بلاد السودان محمد أفندي كمال الدين عدره سرتجار
البندر يقول: إنه طاف بالناس بعد علمه بنبأ الدستور ودعاهم إلى منزله للاحتفال
ببعثة الدستور من قبره، فلبى دعوته خلق كثير من السودانيين، وأشخاص من
السوريين الموظفين في الحكومة، فتلا عليهم خطابًا ألم فيه بماضي الدولة المظلم،
وما يرجى لها من النجاح والفلاح في المستقبل، وشكر لرجال الأحرار الذين كانوا
مبثوثين في البلاد الحرة، ومشتتين في أصقاع المعمور، يسعون فيما اختطوه
لأنفسهم وجعلوه نصب أعينهم حتى رجعوا إلى بلادهم وألوية النصر تخفق فوق
رؤوسهم، وجنود الظفر تحيط بهم.
ثم قام بعده طاهر أفندي الخانجي باشكاتب المركز، وشكر للحاضرين تلبيتهم
الدعوة للاحتفال بالدستور، وطلب من صاحب الدعوة بلسانه ولسان الحاضرين أن
يكتب لرئيس الأحرار، مهنئًا بهذا الفوز العظيم، فأجاب الجمهور بأنه يعرف من
رجال الأحرار صاحب المنار، وأنه سيكتب إليه بما رغبوا، فهتفوا جميعهم للمنار،
وبعد ذلك انفرط عقدهم وهم مسرورون بهذه الحال، شاكرون للداعي إلى الاحتفال.
__________(11/626)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
احتفال الأرمن بذكرى شهداء الحرية العثمانيين
في اليوم الثالث من هذا الشهر احتفلت طائفة الأرمن في كنيستها بالقاهرة
بإحياء ذكرى شهداء الحرية من جميع العثمانيين. فحضر الاحتفال خلق كثير من
العثمانيين المقيمين بمصر، ومن المصريين، حتى اكتظت بهم الكنيسة على سعتها،
وبقي جمهور عظيم في رحبتها. وقد أقيم أمام محراب الكنيسة (المذبح) دكة
كبيرة على جانبيها رايتان سوداوان، بينهما راية بيضاء كتب عليها (إكرام شهداء
الحرية العثمانيين) ، ووضع عليها مقاعد للقسيسين والخطباء، ووقف من دونها
جوقة من بنات المدرسة الأرمنية , كن يلقين بين كل خطبة وأخرى نشيدًا مؤثرًا
وضع لهذا الغرض.
افتتح الحفلة عظيم القوم وأسقفهم، وتلته فتاة أرمنية بخطبة أحسنت إلقاءها،
فحسن وقعها، وخطب بعض فضلاء الأرمن بالأرمنية، وبعضهم بالتركية،
فأحسنوا وأجادوا وصفق لهم القوم تصفيقًا. وخطب الدكتور شرف الدين بك، أحد
مسلمي الترك الأحرار، وهو من أفضل من عرفنا أخلاقًا وآدابًا، فذكر ما كان بين
المسلمين والأرمن من المودة، قبل حوادث الأرمن المشئومة المعروفة، حتى كان
مما قاله، أن المسلم كان يدعى إلى الخدمة العسكرية، فيذهب إليها تاركًا امرأته
وأولاده وأملاكه إلى جاره الأرمني، يتعهدها في غيبته بما يجب، كما كان الأرمني
يفعل مثل ذلك إذا احتاج إلى مغادرة مكانه لأمر ما. ثم ألم بذكر ما جرَّ إليه الاستبداد
من تلك الحوادث المشئومة واستطرد منها إلى ذكر الإصلاح الذي نشده الأحرار
فأصابوه، وقال: إن المسلمين من الترك وسائر العثمانيين ليسوا متعصبين كما
يصورهم بعض الناس، فإن أول حركة أتوا بها بعد أن نالوا الحرية في عاصمتهم،
هي زيارتهم لأضرحة الذين قضوا ضحية للظالمين.
وبعد أن أتم خطابه التفت إلى أسقف الأرمن ومَنْ بجانبه من القسيسين فعانقهم
واحدًا بعد واحد، فصفقت الجماهير لهذا المنظر أضعاف تصفيقهم الكثير للخطيب.
ثم خطب الدكتور برتوكاليس بك الرومي العثماني باللغة الفرنسية، فالدكتور
فارس أفندي نمر بالعربية، فأحسنا وأجادا، وكان كل أولئك الخطباء قد عهد إليهم
بالخطابة، وكتبت أسماؤهم في البرنامج المطبوع في بيان ترتيب الاحتفال.
كادوا يختمون الاحتفال بعد خطاب فارس أفندي نمر، لولا أن اقترح بعض
المصريين الحاضرين على صاحب هذه المجلة الصعود إلى الدكة وإلقاء شيء مما
يفتح عليه به. وقد تمنعت معتذرًا بأن الاحتفالات المنتظمة التي يعين فيها عدد
الخطباء وموعد الإلقاء لا يحسن أن يُتطفل عليها، ففطن لذلك بعض العثمانيين من
الأرمن وغيرهم، فاختطفوني من مجلسي وأصعدوني إلى دكة الخطابة، فتلقاني
الأسقف والقُسوس بالحفاوة، وبعد العناق الْتَفَتُّ إلى الجمهور إجابة لما اقترحه
المقترحون , وقلت والتصفيق والهتاف يكاد يبلغ عنان السماء ما خلاصته:
قد رأيتم أيها السادة أنني اختُطِفْتُ من مكاني إلى هذا الموقف الذي أثر في
وجداني تأثيرًا لم يدع لتصور الكلام وتدبيره مجالاً، فمهما سمعتم مني فأنا معذور
بالتقصير فيه.
قد رأيتم أنني عانقت هؤلاء الأحبار والقِسّيسين، وأنا رجل من رجال الدين
الإسلامي، ولا بدع في ذلك، فإن شيخنا الأكبر شيخ الإسلام قد سبقني إلى ذلك،
فعانق البطرك في دار السلطنة، وإن القانون الأساسي الذي نلنا به هذه المساواة التي
نحتفل بها لم ننله إلا بمساعدة شيخ الإسلام الحال، فقد روي لنا أن السلطان كان
يريد قمع الحركة العسكرية الطالبة للدستور بالقوة، فاستفتى شيخ الإسلام في ذلك،
فلم يفته، بل قال: إن قتالهم غير جائر شرعًا؛ لأنهم يطلبون طلبًا شرعيًّا. وقد
كان أحد مشايخ الإسلام من واضعي هذا القانون مع مدحت باشا وإخوانه، فهذا
القانون قد وضع بفتوى من أحد شيوخ الإسلام، وأعيد الآن بمساعدة شيخ الإسلام،
فهو موافق للإسلام.
لا أقول هذا تقليدًا للشيخين، فإنني أقول ما أقول في الإسلام عن علم وبصيرة،
ويعلم كثير من الأرمن الحاضرين أنني من مؤسسي إحدى جمعيات الأحرار التي
سبقت غيرها إلى التأليف بين جميع العثمانيين بالفعل، قبل أن تفكر في ذلك
جمعياتنا في أوروبا، بل إن هذا الفقير هو رئيس اللجنة المؤسسة لهذه الجمعية التي
من بعض أعضاء إدارتها أحد خطباء الأرمن النجباء في هذا الاحتفال.
وإنما احتججت بشيخ الإسلام السابق، وشيخ الإسلام الحال، تنويهًا بفضلهما،
وإقامة للحجة على من يزعمون أن المسلمين متعصبون أو أن دينهم ينافي الحرية
والمساواة - وعلى بعض الجاهلين من المسلمين الذين يظنون أنهم بالتعصب الذميم
يخدمون الدين، وإنما هم يَجْنُون عليه بذلك.
ثم انتقلت إلى الكلام عن المساواة التي ابتهج بها العثمانيون كافّة، وبينت أنها
مما جاء به الإسلام، ثم قلت:
يقولون: إن فرنسا هي أم الحرية والمساواة. نعم، ولا ينكر فضل فرنسا أحد،
ولكن العثمانيين أجدر من الفرنسيين بالفخر بالمساواة. إن فرنسا أمة واحدة،
جنسها واحد، دينها واحد، مذهبها واحد، لغتها واحدة، تربيتها واحدة، فأي غرابة
في طلب عقلائها وفضلائها المساواة بين أفرادها بعد أن عرفوا ما لهم على حكومتهم
وما عليهم لها، بل ما ينبغي أن تكون عليه، وهم متفقون في هذه الوحدات كلها؟ لا
غرابة ولا عجب.
أما نحن العثمانيين، فإننا قد جمعنا من أشتات الأجناس المتفرقين في كل شيء
ما لم يجتمع في مملكة أخرى. نحن متفرقون في الأجناس والأنساب، متفرقون في
اللغات، متفرقون في الدين، متفرقون في المذاهب، متفرقون في طرق التربية
والتعليم - أو نقول في الجملة: إننا متفرقون في كل شيء يتفرق فيه الناس، فإن
كنا على هذا كله نطلب المساواة ونحتفل بنيلها في المعاهد العامة والمعابد الدينية،
فلا شك أن في هذا مجالاً للفخر وموضعًا للعجب.
وقد يتساءل عن سبب ذلك , ويظن أنه مخالف لقوانين الاجتماع الإنساني،
لا سِيَّمَا بعد أن برَّح الاستبداد بنا تبريحًا زاد في مسافات الخلف بين الطوائف
والملل اتساعًا، وملأ القلوب إحنة وبغضاء.
ولكن المتأمل في ذلك يرى له سببًا طبيعيًا ظاهرًا، وهو ذلك الاستبداد الذي
زاد في التفريق والتمزيق، ذلك الاستبداد نفسه هو الذي مزقنا أولاً , ثم جمعنا ثانيًا.
كيف كان هذا؟ إنما كان بالمساواة في الظلم، وتعميم الاستبداد، فلولا أن
الاستبداد كان عامًّا، واقعًا على جميع العثمانيين بالمساواة في الجملة، لما كان
الاندفاع إلى طلب المساواة بالدستور عامًّا.
كان ظلم الاستبداد واقعًا على رأس المسلم والنصراني وغيرهما، كان عامًّا
شاملاً، للتركي والعربي، والأرمني والكردي، والألباني والرومي، فهذه المساواة
هي التي جمعت كلمة الأحرار العقلاء من جميع هذه الطوائف على تمني المساواة
في العدل الذي قرره الدستور، وهو الذي نهض بهمة العاملين من هؤلاء الأحرار
إلى طلب ذلك بكل وسيلة ممكنة، وهو الذي هز أريحية جميع العثمانيين للاحتفال
بالدستور بعد الظفر به، بسعي جمعياتهم وقوة ضباطهم وجيشهم - فإذا كانت
المساواة في الشر قد أدّت إلى هذا الخير، فما أعظم فائدة المساواة، وما أعَمَّ بركتَها؛
فحيا الله المساواة.
فنحن العثمانيين جديرون بالفخر بالدستور إذ غلبنا الأهواء والموانع الناشئة
من اختلافنا حتى نلناه، جديرون بالاتفاق على الاحتفال به وإقامة الأعياد العامة له،
جديرون بالمحافظة عليه، جديرون بالتنويه بالأحرار الذين نجحوا في نيله،
وبالدعاء والذكر الحسن لمن مات منهم شهيدًا في سبيله.
ثم اعتذرت عن الإطالة بذهاب الوقت المعين، وبما ألم بالحاضرين من الجوع
والسآمة , وقد كان لكلام هذا العاجز من حسن الوقع والتأثير فوق ما يستحقه؛ دل
على ذلك ما ظهر على وجوه الحاضرين، ولما كان من شدة التصفيق وتكرره، ثم
التهاني التي سمعتها في الكنيسة وبعد الخروج منها، في ذلك اليوم وبعده بأيام،
وكان أكثر المهنئين تلطفًا في التهنئة وإطراءً في الثناء، أولئك الخطباء البلغاء الذين
سبقوني بخطبهم المفيدة، كالدكاترة شرف الدين بك، وبرتوكاليس بك، وفارس
أفندي نمر، حتى قال هذا الأخير: إن تأثير هذه الوقفة أعظم من تأثير المنار في
عشر سنين، أي فيما يتعلق بمشرب المنار في التساهل والدعوة إلى الوفاق والوداد
بين المسلمين وغيرهم. وممن كرر لنا التهنئة بذلك الدكتور نجم الدين بك عارف،
من فضلاء الترك المقيمين بمصر، والعارفين بالعربية، وجمهور أحرار الأرمن؛
بل كان ابتهاج هؤلاء عامًّا، فنسأل الله تعالى أن يديم علينا معشر العثمانيين نعمة
الوفاق والتوفيق لحفظ الدستور والاستفادة التامة منه.
__________(11/630)
الكاتب: حسين وصفي رضا
__________
الصحف في البلاد العثمانية
لم تكد الاحتفالات تنتهي في عاصمة السلطنة وسائر بلادها، حتى طفق أهل
العلم والفضل يمدون الجرائد بآرائهم وأفكارهم، وانبرى الأديبات في الآستانة خاصة
للكتابة، بعد أن وقفن ذلك الموقف المشهود في الخطابة، فأكد لنا الخُبر الخَبر،
وهو ما كنا نسمعه عن الارتقاء الأدبي العظيم في الآستانة وغيرها من ولايات الدولة،
ولا مراء في أن هذا الانقلاب الأخير نتيجة ذلك الارتقاء الكبير.
تسابق الناس إلى طلب إنشاء الجرائد والمجلات، ولا سِيَّمَا في الآستانة،
حتى بلغ عدد ما أنشئ فيها وحدها حتى الآن مائتين وعشرين، ما بين جريدة ومجلة،
وقد صدر في بقية البلاد ما يقارب ذلك، ومن ذلك ثماني جرائد هزلية مصورة
رأيناها معتصمة بحبوة النزاهة والأدب، بعيدة عن المجون وسخيف الهزل، ولا
رَيْبَ في أن أعمال المرء هي مرآة لأخلاقه، ينطبع فيها ما يحمد وما يذم، وعسى
أن تكون هذه الجرائد الهزلية في مسلكها الأدبي قدوة لكثير من جرائدنا الكبرى التي
أصبحت مجموعة للشتائم والتفنن في أساليبها، حتى صار كثير من الأدباء يصدفون
عن قراءة الجرائد العربية.
رأيت في جريدة (قلم) إحدى الجرائد التي نوهت بها في صدر هذا المقال
رسمًا أثر فيّ تأثيرَا لم أعرفه منذ وُجدْتُ، أحدث في فؤادي اضطرابًا، وفي جسمي
رعدة عظيمة، وقشعريرة قوية الشكيمة، حتى كدت لا أملك نفسي على دفع البكاء،
ثم تلا ذلك انكماش وسكون، وفتور وذهول.
ذلك الرسم يمثل هيكلاً منتصبًا من العظام، يحكي رسوم علماء التشريح
(Physiologic) التي توضع للدلالة على أعضاء الإنسان، لا لما وضعه
صاحب الجريدة، وهو تلاوة العفو على هذا الهيكل من السلطان! يرى الرائي ذلك
الهيكل والأداهم والقيود مطوقة يديه ورجليه، كأنه من بقايا المغضوب عليهم من
نيرون العاتي الروماني، وأمامه رجل يتلو عليه نبأ العفو عن السياسيين! فكأن
الرسم يقول له: اغرب عني؛ فقد جئت بعد وقتك بزمان طويل، وما أكثر الذين
ذاقوا من وبال حكومة الظلم السابقة ما يجعل هذا الرسم ينطبق عليهم تمام الانطباق.
ورأيت رسمًا آخر يمثل سجينًا أخنت عليه السنون، وأذاقه الظُّلاَّم عذاب
الهون، فتبدلت خلقته، وتغيرت سحنته، وانسدل شعره على كتفيه، وملأت لحيته
صدره، وطالت أظفاره، حتى صدق عليه قول عنترة في الأسد: (له لبد أظفاره لم
تقلم) وما كانت حياة أبي الأحرار مدحت باشا في منفاه (قبر الأحياء) إلا كحياة
هذا السجين.
ظهرت الجرائد في حياتها الجديدة، فرأينا فيها المباحث المستفيضة في
السياسة والعمران والاجتماع، وكلها تدل على اختبار منشئيها، وَسَعَة علم كاتبيها،
وبُعْد غورهم في السياسة، وحسن أسلوبهم في استمالة الدول، ولا سِيَّمَا صديقتَيْ
دولتنا القديمتين، إنكلترا وفرنسا، حتى مالتا إلينا وقرظتا أحرارنا أحسن تقريظ،
وحتى أصبح أحد وزراء فرنسا من قبل يقول في خطبة له: (إن أحرار تركيا
أعظم من رجال الثورة في فرنسا) ، وناهيك صدور هذا القول من فرنسي، دع أنه
من مشهوري رجال السياسة؛ لأن الفرنسي يملأ ماضِغَيْهِ فخرًا برجال الثورة،
ويعترف بأنهم فوق كل البشر، بل أصبح ساسة الإنكليز يكتبون عنا مثل الفقرة
الآتية من مقالة لجريدة الدايلي تلغراف الكبرى: (وأكبر واجب على إنكلترا في
الحال الحاضرة، أن تساعد بكل قواها رجال الإصلاح في السلطنة العثمانية،
وتراقب مراقبة حبية عمل أية دولة تحاول بذر بذور الشقاق في البلقان , أو أي عمل
يراد به مناوأة رجال تركيا الفتاة في شئونهم) ، وإذا لم تجن من صداقتنا لهاتين
الدولتين الكبريين فائدة إلا صدهما لباقي الدول عن عرقلة مساعينا وإيقاف سير
أعمالنا، لكانت خير فائدة.
كانت الجرائد قبل هذا الانقلاب تكتب بغير أقلام أصحابها، وأريد بذلك أنها
كانت تكتب ما يراد منها من إطراء أعمال الحاكمين، وتقديس البغاة الظالمين، لا
ما تريد من المباحث التي تعود بالنفع والخير على البلاد والعباد، على أن كثيرًا من
أصحاب الجرائد كانوا مغبوطين بتلك الحال التي جعلتهم في مصافِّ الأغنياء
والعظماء - عظماءِ ذلك العصر المظلم، الذي كانت العظمة فيه عبارة عن الخيانة
والجاسوسية والوساطة بين الحاكمين والمحكومين لهم، بالرشى وأكل أموال الناس
بالباطل.
ولكن جرائد الآستانة كانت على شدة المراقبة والسيطرة عليها تكتب في شئون
الزراعة والصناعة والأدب، وما في معنى ذلك مما لا علاقة له بالسياسة كل مفيد،
أما جرائد سوريا وباقي الولايات، فكانت دون أخواتها في الآستانة في المباحث،
وأوغل منهن في تقديس السلطة الجائرة، والفئة الباغية الخاسرة، ثم لاتزال بعد
التمتع بالحرية متخلفة عنها بمراحل، فعسى أن تغذّ في سيرها، وتجتهد في إدراك
شأوها، فلا تضع نفسها منها موضع الظالع من الضليع، ورجاؤنا كبير في الذين
عقدوا النية على إنشاء جرائد جديدة في تحقيق الأمل كصديقنا الشيخ أحمد حسن
طبارة، الذي أصدر جريدته (الاتحاد العثماني) , وصديقنا عبد الغني أفندي
العريسي، فإنه عزم هو وحسن أفندي بيهم الشهير على إصدار جريدة يومية
سمياها (المفيد) وأذاع صديقانا جرجي أفندي يني، وأخوه صموئيل أفندي نشرة
ذكرا فيها أنهما سينشآن مجلة علمية أدبية سياسية، دَعَوَاها المباحثَ، فسرنا هذا
النبأ؛ لأن الكاتبين ضليعان بما انتدبا له.
استغرقت المباحث السياسية أقلام الكتاب، حتى يكاد من ينظر في جرائد
الآستانة، في هذه الآونة، لا يرى فيها مقالة أدبية أو بحثًّا اجتماعيًّا أو أخلاقيًّا إلا
فيما ندر، وهم لم يتناولوا المرأة في بحثهم ألبتة، لذلك انبرت عاطفة جلال إحدى
فضليات بنات الآستانة , وكتبت مقالة تستنكر فيها ذلك، وقد بحثت في شأن المرأة
بحثًا مفيدًا، ودعت الكتاب إلى مشاركتها في موضوعها، نشرت المقالة في جريدة
(ثروت فنون) بعنوان (أليس لنا نصيب في الرقي) وترجمتها (الجريدة) بالعربية
وإننا ننقلها عنها بنصها، مع تصحيح قليل، قالت:
(نقرأ الجرائد، فلا نراها تكتب في المرأة إلا شذرات قليلة، وبعض مقالات
يكتبها بعض السيدات، فنستغرب من كتابنا تركهم للمباحث الجليلة في رقي المرأة،
على أنهم يكثرون من كتابة المقالات الضافية الذيول، الكبيرة الحواشي، في
إصلاح الحيوانات الأهلية، ونراهم حلقوا بأقلامهم في جو الصين واليابان، وما
فكروا قط في إصلاح أحوال المرأة، كأن المرأة في نظرهم لا تعد من الإنسان، أو
هي في درجة أقل من درجة الحيوان، أو كأن المرأة لاتزال في اعتبارهم معدودة
من الزينة غير المفيدة، أو من متاع البيت.
ترى حضرة المحرر الشهير، والكاتب البارع، مشناق بك يملأ أعمدة الجرائد
بالكتابة عن شركة البواخر، ولم نره يكتب عن إصلاح المرأة، كأن إصلاح المرأة
في نظره ليس له من الأهمية في الهيئة الاجتماعية ما لشركة السفن.
ينصح لي بعض الأعيان بأن أقرأ ثلاثًا، وأكتب واحدة! حبًا وكرامة، فإني
أقرأ خمسًا، وأكتب واحدة، وإذا أرادوا الزيادة، فلا أكتب شيئًا، وأقرأ عشرًا،
ولكن هل لهم أن يتفضلوا هم ويكتبوا فيغنوني عن الكتابة.
نحن نعد أنفسنا من بني الإنسان، ونطلب أن يكون لنا نصيب في الهيئة
الاجتماعية، ولقد سكت الكتاب العثمانيون عن البحث عن حقوقنا، مع أن الإنسانية
تقضي عليهم أن لا يسكتوا، وأن يطلبوا إصلاحنا قبل أن نطلبه نحن.
نحن نرى مباحث الصحف منحصرة إلى الآن في كيف تكون زينة المرأة،
كأن المرأة إذا ذكرت، لا يتبادر من ذكرها إلا أنها (ألعوبة مزينة) ولا يخطر على
بال الباحث في هاته الصحف أن المرأة كالرجل لها ما له وعليها ما عليه. فيجب أن
لا يقتصر الباحثون على زينة المرأة كلما أرادوا البحث في شأنها، ومن يقتصر
على ذلك يهين المرأة، ويجرح عواطفها. ونحن نريد أن نزين عقولنا قبل أن نزين
أجسادنا، وهذا لا يكون إلا بالتربية والتعليم، وفتح أبواب المدارس في وجوه
الفتيات.
اقترحت حضرة فاطمة هانم أفندي في مقالتها التي نشرتها (ثروت فنون) أن
تؤخذ سراي رضوان باشا، وتجعل مدرسة للبنات، وأما أنا فأرى أن تفتح مدرسة
للبنات حيثما كانت وكيفما وجدت. وقد استحسنت الكاتبة أن يتضمن بروجرام
المدرسة تعليم التطريز والأمور المنزلية، باللغتين التركية والإنكليزية، ورأيي أنه
متى كان التدريس جيّدًا مفيدًا، فليكن بأية لغة كانت. وإذا وفقت فاطمة هانم أفندي
إلى إنشاء هذه المدرسة، فلتعدني خادمة فيها، فإن لم أستطع أن أقوم بوظيفة التعليم
والتدريس، فإنني أكون من جملة المتعلمات، لأن في التعلم والتعليم خدمة للوطن،
وأؤكد أن بيننا من النساء من هي واسعة الاطلاع، عارفة بحاجات الأمة.
المرأة تمثل في الهيئة الاجتماعية نصف أدوار قصة الحياة، فلو عرف الكتاب
الكرام هذه الحقيقة، وأعطوها حقها من البحث، لقاموا بخدمة وطنية عظيمة،
وأظن أنهم إذا فعلوا ذلك بقيت عظمتهم الكتابية في المنزلة التي لا تمس بسوء، فهل
يرضى أولئك الكتاب أن يشتغلوا في كثير مما لا فائدة منه، وأنا وأمثالي من الفتيات
ننادي بإنشاء المدارس، ونحن لانزال في دور التحصيل؟ اهـ
فعسى أن نرى في فتياتنا من ينهجن نهج الكاتبة القويم، ويذهبن مذهبها في
وجوب التربية والتعليم.
وقد ورد في الأنباء الأخيرة أن مشيخة الإسلام أعلنت بأنها ستصدر جريدة
شبيهة بالرسمية، تنشر فيها مزايا الدين الإسلامي، ودحض التأويلات وبيان فسادها،
ورد الشبهات التي يرمى بها، هديًا للناس، ودفعًا للخرافات والأوهام، فسرنا هذا
النبأ كثيرًا الآن، مثل هذه الجريدة ستقطع ألسنة كثير من الحشويين والممخرقين،
وتقضي على التقليد والمقلدين، فتكون عونًا للمنار على تأييد مبادئه التي جاهر بها
منذ سنين.
... ... ... ... ... ... ... ... حسين وصفي رضا
__________(11/634)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البرنامج السياسي لجمعية الاتحاد والترقي
نشرت جرائد الآستانة هذا البرنامج ليكون محورًا تدور عليه سياسة الدولة،
فأحببنا نقله عنها لقراء المنار، وهذه ترجمته بالحرف:
1- جعل الوزارة مسئولة بصورة مطلقة أمام مجلس المبعوثان، وعلى ذلك
تعد الوزارة مستقيلة إذا لم تحُز أكثر الأصوات في المجلس.
2- لا يكون مجلس الأعيان (الشيوخ) مقيدًا بالمادة 62، ولا يزيد عدد
أعضائه عن ثلث أعضاء مجلس المبعوثان، ويعين السلطان ثلث أعضائه،
وتنتخب الأمة ثلثيه لمدة معينة.
3- سيطلب أن يكون لكل من بلغ سن العشرين من الذكور حق الانتخاب
للدرجة الأولى، سواء أكان من أصحاب الأملاك أو لم يكن، بشرط أن يكون من
رعايا الدولة، ماعدا الذين سقطوا من الحقوق المدنية، فليس لهم هذا الحق.
4- سيطلب إضافة مادة صريحة صراحة تامة للقانون الأساسي، تبيح الحرية
في إنشاء جمعيات سياسية، بشرط أن تراعي في ذلك المادة الأولى من القانون
الأساسي.
5- سيطلب وضع قوانين خاصة، لوجوب تنفيذ قانون توسيع السلطة الإدارية
في الولايات الوارد ذكرها في المادة 108 من القانون الأساسي، بشرط أن لا تحل
الرابطة الموجودة الآن في إدارة الولايات.
6- يتوقف تعديل وتبديل التقسيمات الإدارية في الولايات الآن، على رأي
مجلس المبعوثان، وإنما يجب الإسراع في بعض التعديلات من حيث قرب القرى
والنواحي أو بُعْدها باعتبار مواقعها مما يسهل إدارة الأمور.
7- إن لغة الدولة هي التركية، وستكون جميع مخابرات الحكومة بهذه اللغة.
8- أن يكون لمجلس المبعوثان حق وضع القوانين من غير قيد، بشرط أن
يطلب ذلك عشرة من أعضاء المجلس على الأقل.
9- كل شخص له أن يتمتع بالحرية التامة والمساواة مع كل الرعايا بصرف
النظر عن جنسه ومذهبه، وهو مكلف بما يكلف به كل عثماني، بصرف النظر عن
جنسه ومذهبه، وبما أن كل الرعايا العثمانيين متساوون أمام القانون ولهم الحق في
وظائف الحكومة، فكل فرد تتوفر فيه شروط الكفاءة يوظف في الحكومة بحسب
مقدرته وكفاءته، كما أن الرعايا غير المسلمين ينتظمون في سلك الجندية.
10- الأديان حرة، وستبقى الامتيازات الدينية المعطاة للطوائف المختلفة على
ما كانت عليه.
11- سيطلب تنظيم القوى الحربية والبَحْرية حَسَب ما يقتضيه الزمان والمكان
ومركز الدولة السياسي بين الدول، وسيطلب تقليل مدة الخدمة العسكرية، بشرط أن
لا تضر بتمرين الجيش واستكماله لأسباب القوة.
12- إلغاء الفقرة الأخيرة من المادة 113 الواردة في القانون الأساسي المنافية
للحرية الشخصية.
13- اقتراح وضع قوانين تعين حقوق العمال وأصحاب الأعمال المتقابلة.
14- سيطلب التذرع بالوسائل الموصلة إلى توزيع الأراضي على الفلاحين،
بشرط أن لا يخل ذلك بحقوق تصرف ملاك الأراضي المعترف بها قانونًا، وأن
تسهل السبيل لاقتراض الفلاحين النقود بأرباح قليلة.
15- سيطلب قبول أصول (التخميس) في أمور الأعشار بصفة مؤقتة،
بشرط أن تبنى على أساس صحيح وتجرب في الحال، وفي الجهات القابلة لمثل
هذه التجربة، وتطبق فيما بعد أصول (قاداسزو) بالتدريج.
16- التعليم حر ألبتة، فكل عثماني له أن ينشئ المدارس حسب القانون
الخاص بذلك، كما ورد في القانون الأساسي.
17- كل المدارس تكون تحت إشراف الدولة، والأمل صيرورة تربية الرعايا
العثمانيين كلهم على نسق واحد ونظام تام، فتنشأ مدارس مختلطة حرة عمومية تفتح
أبوابها لكل العناصر، ويكون فيها التدريس حرًّا، وتعليم اللغة التركية في القسم
الابتدائي إجباريًّا، والتعليم الابتدائي مجانًا في المدارس الرسمية، وأما التدريس
الثانوي (الإعدادي) والعالي، فإنه سيكون في المدارس العمومية الرسمية المارّ
ذكرها، بشرط أن يكون التعليم باللغة التركية، ويتسرع بالوسائل الجدية لوضع
بروغرامات تتكفل بالمصلحة، وإيجاد معلمات ومعلمين أَكْفَاء، وتنشأ مدارس
للتجارة والصناعة والزراعة، لترقية أحوال الدولة الاقتصادية، أما المدارس المنوط
بها تعليم الدين بصورة خاصة، فإنها مستثناة مما ذكر.
18- توجه العناية إلى ترقية أحوال الأمة والمملكة الزراعية والاقتصادية
والعمرانية، ويتوسل إلى ذلك بالأسباب المؤدية إلى المطلوب.
19- سيقترح تعديل انتخاب المبعوثان، وجعله موافقًا لهذا البرنامج، بحيث
لا يبقى أقل ملاحظة من قِبَل الحكومة تعرقل سير الانتخابات عن السير بكل حرية.
20- سيقترح أن يكون لكل عثماني حائز الأوصاف المطلوبة الحق في ترشيح
نفسه لعضوية مجلس المبعوثان في أي بلد من البلاد العثمانية.
21- يمكن تعديل مواد هذا البرنامج حَسَب ما تقتضيه أحوال الزمان، وبقرار
اجتماع عمومي، ويمكن أيضًا إلغاء بعض المواد أو إضافة مواد أخرى عليه.
__________(11/638)
رمضان - 1326هـ
أكتوبر - 1908م(11/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الخُطبة الأولى
من خطبنا الإسلامية في الديار السورية
ألقيناها على منبر جامع المجيدية في بيروت بعد صلاة العصر وصلاة جنازة
الغائب على المصلحين الكرام: السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده
المصري، وعبد الرحمن أفندي الكواكبي السوري، وذلك في يوم الخميس 28 من
شهر شعبان، وقد لخص هذه الخطبة بعض من حضرها من الأدباء بما يأتي مع
تصحيح وتوضيح:
السلام عليكم ورحمة الله.
الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام
على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن الإسلام دين سهل سائغ موافق للفطرة البشرية، قام به أهله عند ظهوره
خير قيام، وليس لهم كتاب غير القرآن، ولم يكن القرآن في أول الأمر مصحفًا
مجموعًا كما هو الآن، وإنما كتبت آياته على الجلود والعظام وسعف النخل، ثم
جمعت في مصحف واحد بإجماع الصحابة، فالإسلام هو هذا الكتاب الحكيم، وما
بيَّنه من سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) .
إني سائلكم: أهذا هو الإسلام الذي غير وجه الأرض، ونقل البشر من طور
إلى طور؟ نعم، إنه هو، ولو أخذته اليوم طائفة من المسلمين بقوة كما أخذه
الأولون لغيرت وجه البسيطة مرة ثانية، كما غيره سلفها من قبل، ولست أعلم لماذا
رغب المسلمون عن القرآن وذهبوا يؤلفون الكتب الكثيرة في الدين، وقد رأينا أن
الاشتغال بهذه الكتب مع الإعراض عن القرآن ما زاد الإسلام إلا ضعفًا، والمسلمين
إلا خسفًا.
أنزل الله دينه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فعمل به أولئك الأميون من
عرب الجاهلية، وهم على ما تعلمون من التفرق والتعادي والفساد، فعلمهم الإسلام
وهذبهم وأخرجهم من الظلمات إلى النور، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن
قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) .
من المعلوم في طبائع البشر أنه لا يتربى ويتزكى بعد الكبر، إلا أفراد قلائل
من أصحاب الاستعداد العالي، لأن الأخلاق متى رسخت في النفس قلما تتغير،
ولكن أولئك الصحابة الذين غيروا وجه الأرض، قد تربَّوْا بعد الكبر، تلك التربية
التي كانوا بها أئمة، وكانوا هم الوارثين.
نشأوا يعبدون الأصنام، ويئدون البنات، ويستحلون السلب والنهب، إلا أنه
كان فيهم استعداد لهذا الإصلاح الذي ساقه الله إليهم: كان فيهم ذكاءُ عقلٍ واستقلالُ
فكر وقوةُ إرادةٍ، فلما فهموا الإسلام قبلوه وأيدوه ونصروه، وحملوه إلى غيرهم
ونشروه.
إن الإسلام دين عام لجميع البشر، ليس خاصًّا بمن ظهر فيهم أولاً من العرب،
ولكن لماذا ظهر هذا الدين الحكيم في تلك الأمة الجاهلية، ولم يكن بدء ظهوره في
أمة من أمم المدنية كالمصريين والروم، واليونانيين والفرس؟ ! السبب في ذلك
عظيم جِدًّا، يتعلق بالاستعداد، وهو ما كانت عليه العرب من سذاجة الفطرة
واستقلال الفكر والإرادة.
كانت الأديان والحكومات بما طرأ عليها من الفساد قبل الإسلام، قد أضعفت
استعداد تلك الأمم بما طبعتهم على التقليد والخضوع والخنوع لرؤسائهم، والجمود
على تقاليدهم وعاداتهم، فإذا دُعِيَ أحدهم إلى إصلاح جديد قال من فوره: إن هذا
يخالف ما وجدنا عليه آباءنا، فإن لم يمنعه من الاستجابة التقليد لسلفه في الدين،
منعه ما طُبِع عليه من العبودية لحكامه الظالمين، وأما العرب فلم يكن لهم من العلوم
والمعارف الدينية وغير الدينية ما يحقر في أنفسهم ما يلقى إليهم من دين أو علم
جديد، ولم يكن لهم من الحكام المستبدّين من يفسد عليهم بأسهم، ويذهب بعزيمتهم،
بل أعدهم لذلك بطبيعة البدواة وسذاجة الفطرة، فجعلهم من أهل الشجاعة التي هي
مظهر استقلال الإرادة، والحرية التي هي مظهر استقلال الفكر، فكان فيهم كثيرون
إذا دُعُوا إلى الحق والخير فقهوا الدعوة، وإذا اعتقدوا الشيء قاموا ودافعوا عنه
بالقوة، لذلك أنزل الله عليهم كتابه، وبعث فيهم رسوله، فاستجاب له من سمع
ووعى، وقالوا: إنا نمنعك (أي نحميك) مما نمنع منه أنفسنا وأهلنا، وقام الإسلام
بهم خير قيام، حتى كان من أمره وأمرهم ما كان.
هذه مقدمة يمكنني أن أبين بعدها ما هي حقيقة الإسلام، ليعلم غير العالم من
الحاضرين ويتذكر أولو العلم منهم أن المسلمين يسهل عليهم اليوم أن يعرفوا دينهم
ويهتدوا به من غير حاجة إلى مدارس تدرس فيها الكتب الكثيرة.
الإسلام أمر سهل جِدًّا، وهو عبارة عن الرجوع إلى الفطرة البشرية، وما هي
الفطرة البشرية؟ هو ما انطوت عليه نفسك من الإذعان للسلطة الغيبية واختيار ما
تعتقد أنه الخير والمصلحة، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) إلا أن الفطرة يعرض لها الفساد بالجهل وسوء القدوة، فإذا ذكر
صاحبها بآيات الله فاهتدى بها رجعت إلى أصلها {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ} (التين: 4) فحصل مقصد الإسلام، وحينئذ يجد المسلمون سَعَة في الوقت
لتحصيل ما يحتاجون إليه من العلوم والفنون، وما يترتب عليها من الأعمال
والصناعات التي تقوى بها أمتهم وتعتز دولتهم.
قلنا: إن الاهتداء بالإسلام لا يتوقف على درس الكتب الكثيرة، والأعمال
التي تستغرق الأوقات، وذلك أن الإسلام مبني على ثلاث أسس:
(الأول) إصلاح العقل بالعقيدة المطهرة للجنان، المبنية على البرهان.
(الثاني) إصلاح النفس بتزكيتها وتطهيرها من الرذائل، وتحليتها بالفضائل.
(الثالث) إصلاح الأعمال من العبادات والحقوق التي يستقيم بها أمر الأفراد
وترتقي الهيئة الاجتماعية.
الأساس الأول يبنى عليه الإيمان بوجود الله تعالى، ووحدانيته، ومعناها أنه
سبحانه وتعالى هو المتفرد بالسلطة الغيبية العليا، التي تلجأ إليها النفوس عند العجز
عن الأسباب والسنن، فلا ينفع غيره ولا يضر سواه، إلا ما يتعامل به الناس
بالأسباب التي سخرها الله لهم بحكمته، وأَقْدَرَهُمْ عليها بمشيئته، وأنه منزه عما لا
يليق به من صفات الحوادث، وما يلمّ بالبشر وغيرهم من النقص، وأنه هو المتفرد
بشرع الدين والتحليل والتحريم. ويتلو ذلك تصديق الأنبياء فيما جاءوا به من
الوحي، والإيمان بعالم الغيب من الملائكة، والجزاء على الأعمال التي تزكي
النفس فترفعها إلى عِلّيين، أو تدسيها فتلقيها في أسفل سافلين، فهذه العقيدة تصلح
العقل، بإطلاقه من العبودية لبعض البشر أو المظاهر الطبيعية، وهي الوثنية التي
أفسدت عقول الأولين، والخضوع الأعمى للرؤساء المسيطرين، وكل ذلك مبين في
القرآن أكمل تبيين، مؤيد بالدلائل والبراهين.
الأساس الثاني يبنى عليه تزكية النفس من الأخلاق الذميمة، وتحليتها
بالأخلاق الحسنة، وإذا تهذبت أخلاق الناس صلح أمرهم، واستقام نظامهم، وقد
فصل لنا القرآن ما تحتاج إليه من ذلك تفصيلاً.
الأساس الثالث تبنى عليه العبادات والآداب العملية، وقد بين القرآن ذلك
بالإجمال، ووكل بيانه بالتفصيل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) , فكان يعلمه
الناس بالعمل، وعبر عن ذلك بقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، وكذلك كان
الصحابة يُعلِّمون من دخلوا في الإسلام على أيديهم، فلم يقل أحد: إنه كان لهم في
الشام ومصر وفارس كتب يعلمون بها الناس دينهم عندما يدخلون في الإسلام؛
ولكن المسلمين دونوا عبادتهم في الكتب، وأكثروا فيها من الأقسام والفروع
والاصطلاحات، حتى وصلنا إلى أزمنة صارت فيها هذه الكتب صعبة لا يتيسر
للأكثرين درسها وتعلمها، فتركها السواد الأعظم، وصارت دراستها محصورة في
فئة تستفيد منها في دنياها، كمريدي القضاء والفتيا والتدريس. على أنهم على طول
مزاولتها لا يستغنون عن أخذها بالعمل، فقد حدثني أحد كبار العلماء أنه قرأ كتاب
الحج مرارًا كثيرة، ولما أراد أن يحج لم يستغن عن المطوفين الذين يعلمون العوامّ
مناسكهم بالعمل. وتعلم العبادات بالعمل سهل جِدًّا، وما لا بُدّ فيه من القول يمكن أن
يقال في مجلس واحد، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم الأعرابي دينه
في مجلس واحد، فإذا عاهده على العمل به رضي منه وقال: (أفلح الأعرابي إن
صدق) .
التاريخ يخبرنا بأن الإسلام انتشر في مدة قليلة في ممالك كثيرة لسهولته، وأية
سهولة على المرء أسهل عليه من مجاراة فطرته، وتقويم ما يعرض لها من العوج،
فالإسلام يدعوكم إلى ما في فطرتكم من الميل إلى اختيار ما فيه الخير والمصلحة،
ولذلك يرشدنا إلى التذكر في مواطن كثيرة من مواطن هدايته , فيقول: {لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ} (الأنعام: 152) - {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (الأنعام: 126) - {وَمَا
يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13) ، وإنما يتذكر الإنسان ما كان يعلمه ثم نسيه أو
غفل عنه، فكأنه يرشدنا بذلك إلى أن ما يدعونا إليه من الخير هو مما أودع في
فطرتنا , ثم غلفنا عنه بسوء القدوة وفساد التربية - فدين الإسلام أسهل الأديان، لا
حرج فيه ولا مشقة {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: 6) - {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ
العُسْرَ} (البقرة: 185) ، فإذا كان على سهولته ويسره كافلاً لسعادة الدنيا
والآخرة، فأي عذر لنا إذا أهملناه وتركنا هدايته؟ {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ
إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} (البقرة: 130) ، يرضى بأن يكون كالدواب لا يهمها إلا
علفها، أو كالكلاب العاقرة ينهش بعضها بعضًا.
ربما يعترض بعض الناس على ما أقول من أن تلقين الدين لا يشغلنا عن تعلم
العلوم والفنون الدنيوية، التي هي مبادئ الصناعات التي تعتز بها الأمة وتَقْوَى
الدولة، حتى تكون في مصافّ الدول الكبرى، لأنهم يزعمون أن الدين ينهانا عن
ذلك، ولو لم يوجد فينا أمثالُ هؤلاء، لَمَا وصلنا إلى ما نحن عليه الآن من
الضعف والانحطاط في الثروة والقوة.
نحن اليوم في حالة لا تخفى على أمثالكم: صرنا وراء جميع الأمم، والذنب
في ذلك علينا لا على الإسلام. فالإسلام لم يجن علينا، وإنما نحن جنينا عليه وعلى
أنفسنا؛ إذ جعلنا بيننا وبين القرآن حجبًا كثيفة، فأعرضنا عنه وعن العلوم التي
تحفظ بها بيضتنا.
كانت العلوم الرياضية والطبيعية عند ظهور الإسلام مندرسة، ليس لها سوق
نافقة عند أمة من الأمم، فأحياها المسلمون عندما ظهر الإسلام ونفذت شوكته. ومن
العجب أن الجامدين الذين يحرمونها اليوم يعترفون بأن أولئك الأساطين الذين
درسوها من علمائنا هم خيرة علمائنا!
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(11/641)
الكاتب: محمد روحي الخالدي المقدسي
__________
الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة [*]
(1)
(الفرق بين الانقلاب والثورة)
الانقلاب في اصطلاح المؤرخين تغيير مهم في حكومة الدولة، وقلب في
قوانينها، وهو غير الثورة، التي بمعنى العصيان والخروج عن الطاعة، والقيام
على الحكومة المشروعة، والفرق بين الانقلاب والثورة كبير، فإن الثورة كثيرًا ما
تضر بمنافع الأمة ومصالحها، وتصدها عن السير في طريق النجاح، بخلاف
الانقلاب، فإنه مهما آلم الأمة ورضرضها، فهو يخطو بها خطوة في التقدم،
ويصعد بها درجة في سلم النجاح، وأكثر كُتَّاب العربية لا يفرقون بين الكلمتين،
ويطلقون اسم الثورة على الانقلاب، فيقولون الثورة الفرنساوية مثلاً، بدل الانقلاب
الفرنساوي، ولم يلتفتوا إلى ما روي عن لويس السادس عشر، ملك فرنسا، لما
أُخْبِرَ بهدم قلعة الباستيل (Bastille la) وإطلاق المسجونين فيها فقال: إذًا هذه
ثورة (Révolte) فأجابه المخبر: عفوًا يا مولاي، بل هذا انقلاب
(Révolution) .
فمراد ملك فرنسا أن فعل الثائرين غير مشروع، ولا حق لخروجهم عن
الطاعة، وجواب المخبر ينافيه، وبيَّن أن الانقلاب غير الثورة والعصيان، فنحن
اليوم أحوج إلى تعيين معاني الكلمات، وإلى سكب قوالب الألفاظ على قدر المعاني؛
لأن الانقلاب السياسي من شأنه أن يحدث انقلابًا في اللغة والأدب، فضلاً عن
انقلاب الأخلاق والعادات والأفكار، ألا ترى الجرائد العثمانية على اختلاف لغاتها
من تركية وعربية ورومية وأرمنية ويهودية (أسبانية وعبرانية) وبلغارية
وفرنساوية والجرائد الألبانية والكردية على وشك الظهور - كيف بدلت لهجاتها بعد
حدوث الانقلاب، وهجرت تلك الألفاظ الفخمة والتعبيرات السقيمة، التي تغطي
المعاني بستار المهابة حتى تستبهم على القارئ، وتقيد فكره بسلاسل التذليل
والاستعباد.
* * *
(الاستبداد يولد الانقلاب)
فالذي يولد الانقلاب هو الاستبداد، ومقتضاه التغلب والقهر اللذان هما من آثار
الغضب والحيوانية، لا من قواعد الدين الإسلامي، كما يتوهم البعض منا، وأكثر
الأوربيين الذين يصفون الحكومات الإسلامية بكونها ثيوقراطية، أي أنها جامعة بين
الديانة والسياسة، وأحكام المستبد أو المستبدين في الغالب جائرة عن الحق، مجحفة
بمن تحت يدهم من الخلق، لحملهم إياهم على ما ليس في طوقهم من أغراض
المستبد أو المستبدين وشهواتهم، ولذا ورد في الخط الشريف السلطاني الذي منح به
القانون الأساسي (إن قوة الحكومة تحافظ على حقوقها المقبولة والمشروعة، وعلى
منع الحركات غير المشروعة، أعني بها منع ومحو الخطيئات وسوء الاستعمالات
المتولدة من الحكم الاستبدادي الفردي أو الأفراد القلائل، ليستفيد جميع الأقوام
المركبة هيئتنا منهم نعمة الحرية والعدالة والمساواة بلا استثناء وذلك حق ومنفعة
حَرِيَّان بالهيئة الاجتماعية المدنية، إلخ) .
* * *
(الاستبداد والإسلام)
فالاستبداد هو منبع الشرور، وسبب التأخر والانحطاط، وقد ورث ملوك
الإسلام هذا الاستبداد عن أكاسرة الفرس وقياصرة الرومان، عن نماردة بابل
وفراعنة مصر، عن جنكيز خان وتيمور لنك. والإسلام أول شريعة اعترضت
على الاستبداد، وقاومته أشد المقاومة، وساوت بين أفراد الأمة، وحافظت عن
الحقوق والحرية الشخصية، وأمنت الأجانب المعاهدين، فضلاً عن أفراد الأمة -
على أموالهم ودمائهم وأعراضهم، ومهدت السبيل للحكومة الديموقراطية، ووضعت
حق الحاكمية في الأمة، ولم تكتف بإعطائها الحرية في القول والعمل والكتابة
والاجتماع، بل فرضت على كل فرد من أفرادها الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، فجعلت الأمة مسيطرة على الحقوق العامة، ولم تفرق في الحقوق الخاصة
بين المسلمين وخليفتهم، ولا أولي الأمر منهم. ورد في الدرر، وهو من أهم الكتب
الشرعية: (إن الخليفة يقتص منه ويؤخذ بالمال، لأنهما من حقوق العبد،
ويستوفيه ولي الحق، إما بتمكينه أو بالاستعانة بمنعة المسلمين) ، ولذا حكمت
القضاة على أكثر من واحد من الخلفاء وسلاطين الإسلام برد المال وضمانه،
وأنزلتهم عن المنصة، وأقعدتهم مع الخصم في مجلس الحكم.
* * *
(الاستبداد آسيوي لا إسلامي)
كان الحال على ما ذكر مدة الخلفاء الراشدين، ومن اقتفى أثرهم، كعمر بن
عبد العزيز، من بني أمية، ثم تغلب الاستبداد الآسيوي على أحكام الدين الإسلامي،
وانقلبت الخلافة إلى سلطنة، وأصبح خليفة الإسلام (مقدسًا وغير مسئول) ،
كملوك الإفرنج ليومنا هذا، لا يقتص منهم، ولا يؤخذون بالأموال، ولا تستطيع
المحاكم إحضارهم، ولا إصدار الحكم عليهم، ويرثون الملكَ كما يرث أحدنا مال أبيه
فاستبدوا بالأمر استبداد لويس الرابع عشر، الذي كان يقول: (الدولة هي أنا) ,
و (أموال الرعية إنما هي ملك لملكها، فإذا أخذ شيئًا منها، فقد أخذ حقه! !) ،
واستباحوا التصرف في نفوس الرعية وأموالهم وأعراضهم، وفي خزائن الدولة
وبيت المال وأوقاف المساجد والمؤسسات الخيرية. وصار الوزراء والمصاحبون
يقولون: (خسرو بكند شيرينست) , أي: ما أعجب كِسْرَى فهو حسن، فالحسن
هو ما استحسنه السلطان، والقبيح ما استقبحه السلطان، ولا دخل في ذلك للعقل
والذوق، ولا للحكمة والشرع، لأنهم أولوا الشرع على حَسَب غاياتهم وأغراضهم.
فإذا تصفحت تواريخ الأمم الإسلامية في الشرق والغرب، تراها مؤسسة على
هذا الاستبداد الآسيوي، وعلى جانب من الاستعباد الأفريقي، وليس فيها شيء من
الحرية الإسلامية ولا المشورة المأمور بها في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية،
كما قال الله لنبيه: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159) , وقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى:
38) ، وحديث: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وأمثاله كثيرة كحديث حلف الفضول
المشهورة في التواريخ: وذلك أن قبائل من قريش تداعت إلى حلف الفضول الذي
عقدته قديمًا قبائل العرب، واشتهر باسم رؤسائهم الفضيل والمفضل، فاجتمعت
وجوه قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه، فتحالفوا وتعاقدوا أن لا
يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا
على ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وكان ذلك قبل الإسلام، قال النبي صلى الله
عليه وسلم: (لقد شهدت مع عمومتي حلفًا في دار عبد الله بن جدعان، ما أحب أن
لي به حُمْرَ النَّعَم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت) فأي شيء أشبه بهذا الاجتماع
والتعاقد من البرلمان والمبعوثان؟ لا , بل من جمعية الاتحاد والترقي؟ ولقد أحسن
جِدًّا العلامة المقري في جوابه المذكور في نفح الطيب حيث قال:
سألني بعض الفقهاء عن السبب في سوء بخت المسلمين في ملوكهم، إذ لم
يَلِ أمرهم من يسلك بهم الجادَّةَ، ويحملهم على الواضحة، بل من يغتر في مصلحة
دنياه، غافلاً عن عاقبة أخراه، فلا يرقب في مؤمن إلاَّ ولا ذمة، ولا يراعي عهدًا
ولا حرمة!
فأجبته: بأن ذلك لأن الملك ليس في شريعتنا، وذلك أنه كان فيمن قبلنا
شرعًا، قال الله تعالى ممتنًّا على بني إسرائيل: {وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً} (المائدة:
20) ولم يكن ذلك في هذه الأمة، بل جعل لهم خلافة، قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} (النور: 55) الآية،
وقال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} (البقرة:
247) وقال سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا} (ص: 35) , فجعلهم
الله تعالى ملوكًا ولم يجعل في شرعنا إلا الخلفاء، فكان أبو بكر خليفة رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وإن لم يستخلفه نصًّا، لكنْ فَهِمَ الناس ذلك فهمًا، وأجمعوا
على تسميته بذلك، ثم استخلف أبو بكر عمر، فخرج بها على سبيل الملك الذي
يرثه الولد عن الوالد إلى سبيل الخلافة الذي هو النظر والاختيار، ونص في عهده
على ذلك، ثم اتفق أهل الشورى على عثمان. فإخراج عمر لها عن بنيه إلى
الشورى دليل على أنها ليست ملكًا، ثم تعين علي بعد ذلك، إذ لم يبق مثله، فبايعه
مَنْ آثر الحق على الهوى، واصطفى الآخرة على الدنيا، ثم الحسن كذلك، ثم كان
معاوية أول من حوَّل الخلافة ملكًا، والخشونة لينًا، ثم إن ربك من بعدها لغفور
رحيم، فجعلها ميراثًا، فلما خرج بها عن وضعها لم يستقم ملك فيها. ألا ترى أن
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان خليفة لا ملكًا، لأن سليمان رحمه الله رغب
عن بني أبيه إيثارًا لحق المسلمين، ولئلا يتقلدها حيًّا وميتًا، وكان يعلم اجتماع
الناس عليه، فلم يسلك طريق الاستقامة بالناس قط إلا خليفة، وأما الملوك فعلى ما
ذكرت إلا مَنْ قلّ، وغالب أفعاله غير مرضية. اهـ
فيظهر لنا من هذا الكلام الفرق بين الخلافة والملك، والسبب الذي جعل ملوك
الإفرنج مقدسين وغير مسئولين.
* * *
(منبع الاستبداد قصر الملك والخلافة)
ومنبع استبداد الدول الإسلامية في قديم الزمان وحديثه، هو قصر الخلافة،
ودار الملك والإمارة، حيث تكثر دسائس المقربين، ويشتد حرصهم على الجاه
وطمعهم في جمع الأموال وادخارها، وفي إنفاذ الكلمة، ولذا ابتعد عنهم أهل التقوى
والورع في جميع البلدان والأزمان. فالمقرب منهم لا يكاد يتم له الأمر إلا ويظهر له
رقباء يشون به، وينصبون له أشراك المكيدة، ويتهمونه بأنواع التهم، وينسبون
إليه كل خلل في الدولة، حتى يبعدوه عن مركز الدولة، وربما تسببوا في مصادرته
وقتله مع أولاده وعياله، كما جرى للبرامكة مع هارون الرشيد. فتاريخ الدول
والإمارات الإسلامية كلها وقائع برمكية. وقد ينصر الوزير على الخليفة أو الأمير،
ويحجر عليه، ويصير هو المستبد بالأمر، ونتيجة القضيتين واحدة، وهي
الاستبداد، وتغلب القوة على الحق. والأمة في جميع هذه الأحوال شاخصة ببصرها
لا تطلع على خفايا السياسية وتدبير الملك، ولا على دسائس المقربين وحيلهم
لإخفائهم جميع ذلك عنها، واستبدادهم بالأمر عليها. ولقد أجاد لسان الدين بن
الخطيب وزير بني الأحمر في الرسالة التي خاطب بها الوزير ابن مرزوق،
ووصف بها أحوال خدمة الدولة ومصايرهم، وعبر فيها عن ذوق ووجدان، وهي
أبلغ ما حرر في هذا الصدد، وقد ذكرها المقري في الجزء الثالث من نفح الطيب
في غصن الأندلس الرطيب. فالمصلحون لم يتخلصوا من هذه الغوائل ولا وجدوا
وقتًا لإصلاح داخل الممالك وتحكيم سياستها الخارجية، ولذا انصرفت هممهم لجمع
الأموال وادخارها، واغتنام فرصة التقرب ونيل التوجه واكتساب السعادة، لأن
الواحد منهم لا يدري إلى متى يدوم له التوجه والإقبال، فيسارع إلى الاستفادة من
الحال التي أسعده الحظ بنيلها.
* * *
(قصر السلطنة العثمانية وتربية ولي العهد والكامريلا)
كان قصر السلطنة في الممالك العثمانية مرتبًا على الأصول والتقاليد الموروثة
عن المغول، حيث كانت الدولة عبارة عن خيمة كبيرة حكومتها بابها العالي. وأول
وظيفة على هذه الحكومة إنزال الخان المعظم على الرحب والسَّعَة، وإسكان من معه
من الحريم والأسرة والأقارب والحاشية، واستكمال أسباب راحتهم وسعادتهم،
واستحضار النفقات اللازمة لهم ولرؤساء (العرضي) . فالعمود الأوسط القائمة
عليه هذه الخيمة هو (الصدر الأعظم) القائم مقام الخان المعظم، أي السلطان ,
والحامل لختمه الذاتي , والوكيل المطلق عنه في جميع مسائل الدولة الداخلية
والخارجية، وبجانبه (قاضي عسكر) لفصل الدعاوى وتقسيم مواريث الجند ,
والمحافظة على حقوق السلطنة، وشيخ الإسلام إنما هو (قاضي عسكر) وظيفته
أحدث عهدًا. فقضاء العسكر قديم في الدولة ومتقدم فيها على قضاء المدن، مما يدل
على حياتها العسكرية المتنقلة، ثم (الدفتر دار) الذي يقيد الأموال ويحرر الحساب،
وهو اليوم ناظر المالية، ثم (النيشانجي) الذي يكتب الإرادات والفرمانات
وغيرها، فهؤلاء أعمدة ثانوية حوالي العمود الأعظم الذي في وسط الخيمة، وأما
حبال الخيمة فهي الأغوات.
ويقسم الأغوات بحسب خدمتهم، في الداخل أو في الخارج، إلى قسمين:
فالقسم الأول هم خدمة الداخل المسمى (اندرون) من مماليك البيضان وطواشية
السودان المحافظين على الحريم، وكبيرهم آغة دار السعادة، ويسمى أيضًا آغة
البنات (قيزلر آغاسي) ، ثم آغة البستانيين (بستانجي باشي) المكلفين بزرع
البساتين والجنان، وآغة الرسل الموصلين للأخبار، وآغة المحافظين على الأثواب
والألبسة (أثوابجي باشي) و (القهوه جي باشي) و (الإبريقدار) و (السجاده
جي باشي) , إلخ، والقسم الثاني هم خدمة الخارج وأغوات (العرضي) مثل آغة
الإنكشارية (يكيجري آغاسي) وآغة الصباهية (سباهي) وآغة الطوبجية، وهو
(الطوبجي باشي) , إلخ، فهؤلاء الأغوات من خدمة الداخل وخدمة الخارج , كلُّهم
في درجة واحدة بمثابة حبال الخيمة، ولا فرق بينهم في التشريفات الرسمية
والمعاشات والتعيينات، ولا في الاعتبار والمكانة عند الدولة، فالجاهل والعالم،
والعبد المملوك والحر، ووضيع النسب وشريفه، ومجهول الأصل ومعروفه،
والأبتر الخصي وكامل الأعضاء - كلهم متساوون لا تمييز بين (القهوه جي باشي)
الذي لا تحتاج صناعته إلا معرفة طبخ القهوة وتقديمها، وبين (الطوبجي باشي)
المتوقفة صناعته على معرفة الفنون العسكرية والمعارف الكثيرة، وهذا الذي حَمَلَ
الشاعرَ المفلقَ الأميرَ شكيبًا على أن يقول أبياته المشهورة ومنها:
وألفيت فيها أمة عربية ... يرى الترك منهم أمة الزنج أكرما
ولذا امتزجت الحياة البيتية بالحياة الدولية، والمسائل النسائية بالمسائل
السياسية، وأشغال السراي السلطانية بأشغال الباب العالي، وبين السراي والباب
العالي وسط يقال له المابين، لأنه بين (الأندرون) أي الداخل وبين (البيرون)
أي الخارج. ويشتمل المابين على الكتاب والقرناء والمصاحبين , وهم (المابينجية)
ويعدون كلهم من أهل السراي وخدمتها.
فامتلأت السراي السلطانية بالأسرى من السراري الجركسيات والمماليك
والطواشية، مع أن الشرع الإسلامي لا يبيح هذه العادة المستكرهة، قال شارح الدر:
(وفي قطع الذَّكَر من الأصل عمدًا قصاص) ويندر فيهم وفي جميع خدمة الداخل
من يتعلم القراءة، فضلاً عن الكتابة؛ لأن فضيلة الواحد منهم أن يكون على الفطرة
الأصلية، فارغًا من العلوم والمعارف، لئلا يسوّل له الشيطان أمرًا أو دسيسة
سياسية، توجب انقلاب الملك، ولذا اختاروا الخدمة من قرى الأناضول البعيدة،
ومن ذوي السذاجة والغرارة، فإذا ولد لأحد السلاطين العظام مولود، تربى في
حجر والدته الجركسية على دلال السراري والأغوات إلى تمام السنة الثانية عشرة
من عمره، ثم تبدل تلك السراري بالحظايا، فيتخذ منهن حرمًا ينزوي بهن في أحد
القصور، وتبقى الأغوات والمماليك على ما كانت عليه أيام صباه، وربما جاءوه
بحافظ يحفظه القرآن، ومعلم يعلمه مبادئ العلوم، ولكن أكبر معلم للإنسان هو
البيئة التي يكون فيها، وكيف يتعلم المرء بدون أن يخرج من بيته ويحتكّ بالعلماء
ورجال الدولة. فيبقى ولي العهد على هذه الحال ينتظر دوره في الملك، وهو
محبوس في قصره، وعليه العيون والجواسيس لا يمكنون أحدًا من الدنوّ إليه، ولا
المرور بجانب قصره، فضلاً عن محادثته في المسائل العلمية والسياسية.
ومتى جاء دوره وجلس على سرير الملك، سعى طواشية السودان ومماليك
البيضان في وضعه تحت نفوذهم، وحرصوا على أن لا يفلت من أيديهم، وفتشوا
على أضعف نقطة في قلبه وأخلاقه، فلا يمضي عليهم كثير حتى يكتشفوها،
فيستميلون قلبه إليهم من تلك النقطة، ويستفيدون منها لإنفاذ كلمتهم وجر المنافع
إليهم وإلى أصحابهم ومن كان من حزبهم وشيعتهم. فيتألف من خدمة القصر
الملوكي حزب قوي يسمى كامريلا (Camarilla) وهي كلمة أسبانية، معناها
جماعة المنفذين في قصر الملك، فيتداخلون في المسائل، ويعارضون في السياسة
ويستولون على الأمور، وإذا رأوا السلطان مال لصدر أعظم أو وزير انقضوا عليه
وسلقوه بألسنتهم وافتروا عليه بإفكهم، ونسبوه للعجز والتقصير، وسعوا في تنزيل
قدره وترذيله، لأجل وضعه تحت سيطرتهم، ولذا كان في الغالب للقهوة جي باشي
والأثوابجي باشي والإبريقدار والسجادة جي باشي والبستانجي باشي حتى البلطه جي
باشي، وهو الحطاب - نفوذ كلمة ومكانة أكثر من الصدر وبقية الوزراء ورجال
الدولة، ولا سِيَّمَا في المسائل المالية وجر المنافع وتوظيف المنتسبين إليهم، ولم
تزل رتبة آغا دار السعادة معادلة لرتبة الصدر الأعظم والخديوي المعظم، ولهم
بالفرنساوية لقب سون التس (Son Altesse) كأمراء الإفرنج وأبناء ملوكها
العظام، ولم يزل أكثرنا متذكرًا نفوذ بهرام آغا وأمثاله.
* * *
(شروع الدولة العلية بالإصلاح)
لو استمرت أوربا نائمة في ظلام القرون الوسطى لبقيت الدولة العلية سائرة
في هذه الطريق العوجاء سير مملكة الصين، أو سلطنة المغرب الأقصى التي
انحطت إلى درجة البداوة، بعد أن كان لها في العمران قدم راسخة، بسبب مهاجرة
الأندلسيين إليها ومتاجرتهم في إفريقيا الغربية، ولكن أوربا استيقظت من غفلتها في
القرون الجديدة، وأوجدت هذه المدنية العجيبة التي بهرت العالم، وغيرت وجه
الأرض باكتشافاتها واختراعاتها وعلومها وفنونها وآدابها، وتجاوزت دول أوستريا
(النمسا) وروسيا والبندقية إلى ممتلكات الدولة العلية، فأحست بالضعف
والانحطاط والتقهقر، وبدأت في الإصلاحات الجديدة من عهد السلطان مصطفى
خان الثالث، فأحدثت الطوبخانة، وأنشأت معملاً لسكب المدافع، وأقبل السلطان
سليم الثالث بهمة عالية وإقدام على القيام بالإصلاح، ورتب إدارة الطوبجية
والبحرية، وجلب المعلمين والمهندسين من أوربا، وأحدث النظام الجديد، فاغتالته
أيدي المنون بسبب هيجان الإنكشارية الذين فسدت أخلاقهم، وأصبحوا بلاء مبرمًا
على الأمة والدولة، بعد أن كان لهم في الفتوحات العثمانية شأن عظيم، ومفاخر
كثيرة مسطورة في تاريخ أوربا العسكري.
ثم جلس السلطان محمود الثاني وأزال غائلة الإنكشارية، ونظم العساكر
الجديدة، وأجرى من الإصلاحات ما هو مفصل في التاريخ العثماني. وأصاب
الدولة العلية من الحوادث المهمة ما حملها على الاحتكاك بالدول الأوربية، والدخول
في ميدان سياستها، مثل حروبها مع روسيا، واحتلال نابليون بونابرت لمصر
وسوريا، وخروج محمد علي باشا، وتبه دلنلي علي باشا، وحرب المورة،
واستقلال اليونان، وحوادث جبل لبنان. وتداخلت أوربا في شئون الدولة العلية
بداعي المحاماة عن المسيحيين: فروسيا تحامي عن الأمم السلافية وجميع المتدينين
بالمذهب الأرثوذكسي، وفرنسا على الكاثوليك، وإنكلترا عن مبشري البروتستانت،
وجميعهن يحرضن المسيحيين من رعية الدولة على مقاومة الاستبداد، ويطالبن
الباب العالي بإجراء الإصلاحات، ووضع القوانين والنظامات لمنع التعدي على
النصارى، ولمساواتهم في الحقوق مع المسلمين. والباب العالي يجد الاستفادة من
العداوة القديمة التي غرستها الحروب الصليبية بين المسلمين والنصارى أهون عليه
من سوق العساكر وتكبد المصاريف الحربية لتسكين الفتن وإخماد الثورات. وهكذا
جرت المذابح وارتكبت الفظائع التي تقشعر الجلود من سماع وصفها، وعادت على
الوطن بالويل والخراب كمذابح الروم في حرب المورة، ومذابح لبنان في حادثة
الشام، ومذابح البلغار في حرب روسيا الأخيرة، وهي التي قام لها غلادستون وقعد،
وأرغى وأزبد، على منبر الخطابة في مجلس العموم الإنكليزي، وآخرها الفظائع
الأرمنية المعروفة، وهي نقطة سوداء في صحيفة التاريخ.
* * *
(صدارة مصطفى رشيد باشا)
فالحوادث التي جرت قبل معاهدة باريس ساقت بعض رجال الدولة إلى تعلم
اللغات الأوربية ولا سِيَّمَا الفرنساوية للوقوف على سياسة أوربا، ولتنظيم العساكر
البرية والبحرية، وكان لأكثر المتعلمين نسبة وتردد على مصر التي شرعت
بالإصلاحات على عهد محمد علي باشا. ونبغ من رجال الدولة مصطفى رشيد باشا،
السياسي الشهير، ابن مصطفى أفندي متولي وقف السلطان بايزيد، وكان مولده
في الآستانة (1214هـ) ، فقرأ القرآن ومبادئ العلوم الإسلامية , وأجاد الخط ,
وتعلم شيئًا من مبادئ اللغة الفرنساوية، ودخل في مَعِيّة نسيبه الصدر الأسبق
إسبارطه لي علي باشا، وذهب إلى مصر مرارًا وخالط رجالها , وتقلب في مناصب
الدولة العلية، وفي سفارة باريس ولوندره، فأكمل تحصيل اللغة الفرنساوية،
واطلع على دقائق السياسة وخوافيها، وكانت المسألة الشرقية شاغلة وزارات أوربا
بسبب اجتهاد روسيا في جمع كلمة الأمم السلافية وطمعها في الاستيلاء على
القسطنطينية، وروسيا أكبر الدول الأوربية وأكثرها نفوسًا، وأشدها خطرًا على
الموازنة السياسية، فكانت الدول الأوربية، وفي مقدمتهن إنكلترا، التي هي
أحرص الدول على مقاومة السياسة الروسية، تشوق الدولة العلية إلى القيام
بالإصلاحات الجديدة لتستعيد قوتها السابقة، فتحمي نفسها وتكون لبقية الدول سدًّا
منيعًا أمام هجوم روسيا.
فلما جلس السلطان عبد المجيد خان (تموز " يوليو " سنة 1839) كان
مصطفى رشيد باشا سفيرًا في لوندره، فتعين ناظرًا للخارجية، وحضر للآستانة،
وكان له رأي ودخل كبير في التنظيمات، وفي تشرين الثاني (نوفمبر) من السنة
المذكورة قرأ بحضور رجال الدولة وأعيانها والسفراء الأجنبية الخط الشريف
السلطاني المعروف بالتنظيمات، وكانت قراءته في كلخانة (أي دار الورد) ، وهي
من دوائر السراي القديمة (طوب قبو) التي بجانب جامع أيا صوفيا؛ ولذا اشتهر
بخط شريف كلخانة، واشتمل على تأمين الرعية على أرواحهم وأموالهم
وأعراضهم، وعلى قاعدة مطردة في استيفاء الأموال الأميرية، وعلى أخذ
العسكر بالقرعة وتعيين مدة الخدمة، وإلغاء الامتيازات، وطرح التكاليف
بنسبة ما لكل واحد من الثروة، ومساواة الرعية أمام القانون، وإلغاء المصادرة
والانغارية، وهي الإجبار على العمل بلا أجرة، وتعرف بالسخرة، ونحو ذلك
مما هو مدرج في هذا الفرمان المعروف بالتنظيمات جَمْع كلمة تنظيم العربية.
فالدولة العلية إنما أصدرت هذه التنظيمات إرضاءً لأوربا، ولا سِيَّمَا إنكلترا،
والأمة الإسلامية لم تفهم معنى هذه التنظيمات، ولا معنى تأمين الناس على الأرواح
والأموال والأعراض، كأن الشريعة التي كانت دستور العمل تبيح التجاوز والتعدّي
على الأرواح والأموال والأعراض، وحاشاها من ذلك. فالبلاء لم يكن سببه فقدان
القانون والشريعة حتى يزول بإصدار هذه التنظيمات، وإنما سببه الاستبداد المتسلط
على كل قانون وشريعة. فالحرية التي منحتها التنظيمات لم تكن شيئًا مذكورًا
بجانب الحرية التي منحها القرآن لو زال عنه الاستبداد والجهل المسْتَوْلِيَانِ على
المسلمين، فيجتهدون في فهمه وتأويله على مقتضى نواميس المدنية الحاضرة، كما
فعل أحرار العلماء، كالشيخ محمد عبده وغيره.
فشرعت الدولة العلية في إجراء الأحكام المشار إليها في التنظيمات، وسنت
قانونًا لأخذ العساكر، جرى تطبيقه في بعض الأيالات وأحدث في بعضها ثورة
وعصيانًا كعصيان الأرناؤوط (1844) الذي سكَّنه رشيد باشا نفسه. ثم باشرت
في تنظيم المعارف وفتح المكاتب في الآستانة ونظمت محاكم التجارة المختلطة
(1846) كما نظمت بعض دوائر الدولة وأقلامها. فكان مصطفى رشيد باشا الذي
تولى مسند الصدارة العظمى ست مرات، وتُوُفِّيَ سنة 1274هـ - 1858م -
مصدر هذه الإصلاحات، بسبب وقوفه على الأفكار الجديدة ومعرفته اللغة
الفرنساوية والأدبيات العثمانية؛ فسعى في إفراغ الكتابة التركية في قالب سهل
سلس، بعد أن كادت تكون غير مفهومة عند العموم، لكثرة ما فيها من التعقيد
والتشابيه الغامضة، والألفاظ والتراكيب اللغوية من فارسية وعربية. ونشأ في
عهده وتحت ظله الشاعر الشهير إبراهيم شناسي أفندي، موجد الأدب الجديد
العثماني، حصَّل العلوم العربية واللغة الفرنساوية، وذهب لباريس فاطلع فيها
على آداب الطريقة المدرسية، ونسج على منوال راسين ولافونتين، وأدخل في
الأدب التركي التعقل المشروط في الطريقة المدرسية، كما فصلنا ذلك في كتابنا
(تاريخ علم الأدب) .
وكان الأدب التركي كله خيالات ومبالغات أعجمية، قلما يجد الإنسان فيه
حكمة وتعقلاً، وديوان شناسي صغير الحجم، لكنه نموذج للأدب الجديد، وأكثر
قصائده في مدح مصطفى رشيد باشا. وأنشأ شناسي جريدة تركية سماها (تصوير
أفكار) وحرر فيها المقالات السياسية والتاريخية والأدبية بقلم سهل سلس مفهوم،
وطبع ديوانه مع منتخبات (تصوير أفكار) ثانيةً في مطبعة أبي الضيا توفيق بك،
وكانت وفاة شناسي في سنة 1288هـ قبل بلوغه سن الشيخوخة والوظائف العالية.
* * *
(عالي باشا وفؤاد باشا)
ظهرت فئة قليلة من المتعلمين على النسق الجديد واقتفوا أثر مصطفى رشيد
باشا، ونبغ منهم اثنان شهيران خلّد التاريخ ذكرهما وهما، السيد أمين عالي باشا،
وفؤاد باشا، ومولدهما في سنة 1230هـ، الأول ابن مصر جارشيلي علي رضا
أفندي، أي المنسوب لسوق مصر، وهو سوق العطارين. والثاني ابن الشاعر
الشهير كجه جي زاده عزت ملا، الذي نفي للأناضول في زمن السلطان محمود
خان، ومات في منفاه. فتعلم أمين مبادئ العلم، وإجادة الخط، وقرأ الفرنساوية
على معلم مخصوص، ودخل قلم الديوان الهمايوني في الخامسةَ عَشْرَةَ مِن عمره.
ومن عادة رؤساء القلم تسمية كل داخل باسم يتميز به عن سميه، ولم
يصطلحوا كالعرب والإفرنج بتسمية الولد باسم أبيه أو أسرته. وكان أمين قصير
القامة، فسمي (عالي) تسمية بالضد، تفاؤلاً بعلو همته. فذهب إلى أوربا في
كتابة السفارات، وأتقن الفرنساوية، وانتسب لرشيد باشا، وامتاز في فنون السياسة
والمعارف المصرية، وعين عضوًا في (اتجمن دانش) أي مجلس المعارف،
المؤسس على نسق أكادميات أوربا. وكان عالي باشا يحسن الفرنساوية والتركية
كتابة وإنشاءً، وتقلب في وظائف كثيرة مهمة مثل السفارات والوزارات ومسند
الصدارة العظمى. وأما فؤاد، فدخل المكتب الطبي العسكري وخرج جراحًا في
العسكرية، ثم دخل قلم الترجمة في الباب العالي وتقلب في الوظائف السياسية
والخارجية، وترأس مجلس التنظيمات، ومجلس الأحكام العدلية، وحضر إلى
سوريا أيام الحادثة، وكان إذ ذاك ناظرًا للخارجية، ثم ذهب بمعية السلطان عبد
العزيز إلى معرض باريس سنة 1867 ومرض فيها، وتوفي في نيس من فرنسا،
وله من العمر 55 سنة فقط، وكان في اللغة التركية أديبًا شاعرًا، وضع مع جودت
باشا (القواعد العثمانية) التي لم يؤلف للآن أحسن منها، وخلف الفريق كجه جي
زاده عزت فؤاد باشا الكاتب الشهير.
فرشيد باشا وعالي باشا وفؤاد باشا هم نوابغ السياسة العثمانية، وواضِعُو
الإصلاحات الجديدة بدلالة السفراء الأجانب إرضاءً لدول أوربا، ولا سِيَّمَا إنكلترا،
ومماشاة لها لحرصها على تقوية الممالك العثمانية لتتقي بها شر روسيا، فأمر هؤلاء
النوابغ بترجمة القوانين والنظامات والتعليمات والأوامر المدرجة في الدستور ترجمة
حرفية، ولم يجدوا لهم وقتًا لدرس احتياجات البلاد الداخلية والمدنية الإسلامية حق
درسها، ولا لنشر الأفكار الجديدة بين المسلمين المفاخرين بسابق مجدهم ومتانة
شرعهم، ولذا لاموا هؤلاء المصلحين ولم يرضوا عن أعمالهم زاعمين أنها تئول إلى
قلب البلاد، وجعلها إفرنجية محضة. ولذا كانت الأكثرية لحزب تركيا القديمة، ولم
يكن من حزب تركيا الفتاة إلا فئة قليلة، درسوا العلوم الجديدة درسًا سطحيًّا،
وبعضهم زار أوربا مرةً أو مرتين. ومع هذا وفق حزب تركيا الفتاة لاستمالة أوربا
إليه، وأفلح في الحصول على اتفاق إنكلترا وفرنسا وساردينيا، أي إيطاليا،
فحاربن روسيا، وانتصرن عليها في حرب القرم وعقدن معاهدة باريس (30
مارس سنة 1856) واعترفت أوربا بمقتضاها بتمام ملكية الدولة العثمانية
واستقلالها، ومنع أية دولة من المداخلة في أمورها الداخلية، وصدر خط شريف
ثان في ذلك التاريخ أيضًا مؤيد لخط كلخانه، ويشتمل على حرية الأهالي ومساواتهم
في الحقوق والمعاملات. ثم جلس السلطان عبد العزيز خان سنة 1861 وأصدر
فرمان الإصلاحات، ولكن هذه الفرمانات والخطوط الشريفة السلطانية لم تمنع تمامًا
سوء الاستعمال والاستبداد الذي في إدارة الدولة، وبقي الارتكاب والظلم والاستبداد
على ما كان عليه سابقًا، لعدم إصلاحهم السراي السلطانية، كما أصلحوا وجاق
الإنكشارية والصباهية، وقلبوهما إلى النظام الجديد.
* * *
(حزب تركيا الفتاة)
أول مؤسس لحزب تركيا الفتاة هو مصطفى فاضل باشا بن إبراهيم باشا
المصري ثم صهره خليل شريف باشا. ولد مصطفى فاضل في القاهرة سنة 1830م،
وحصل العلوم الجديدة، حتى صار على جانب من العرفان والاضطلاع والوقوف
على دقائق الأمور، فخدم في مصر، وبعد جلوس السلطان عبد العزيز بسنة، تعين
ناظرًا للمعارف في الآستانة، ثم ناظرًا للمالية، وأجرى فيها عدة إصلاحات، وكان
ميكروب الاقتراض قد تفشى في هذه النظارة، وأحدث بلاء القوائم النقدية، حتى
بلغت الديون ما بلغته، فأثقلت كاهل الأمة، وكان الصدر الأعظم إذ ذاك يوسف
كامل باشا، صهر والي مصر محمد علي باشا، ومترجم تليماك للتركية، الترجمة
الأولى العويصة، وكان عالي باشا في نظارة الخارجية، وفؤاد باشا في رياسة
مجلس الأحكام العدلية، ثم في نظارة الحربية، وأدخل فيها حسين عوني باشا العدو
الألد لعمر باشا المجري. وكان فؤاد باشا تعين حكمًا لفصل الخلاف الحادث بين
مصطفى فاضل باشا وإخوته على تقسيم ميراث أبيهم، فحصل بينهما رقابة وعداوة،
فلما تولى فؤاد باشا الصدارة تسبب في عزل مصطفى فاضل من نظارة المالية،
مع ما له من الخدم والإصلاحات المفيدة، فشق ذلك على مصطفى فاضل، وقدم
للسلطان عبد العزيز خان لائحته الشهيرة التي شدد فيها النكير على الاستبداد،
وكشف الغطاء عن عورات الدولة، وبيّن أسباب الضعف والانحطاط وسوء
الاستعمال بحرية لم يعتدها رجال المابين، ولا سمعوا بمثلها قبل ذلك، ثم هاجر إلى
باريس سنة 1865، ولحقت به فئة من الشبان، فأكرم مثواهم، وأنفق على تعليمهم
ونبغ منهم كثيرون في الأدب والكتابة والسياسة. حدثني أحدهم قال: كنا في
باريس في عيشة راضية، لا يهتم الواحد منا بأمر معايشه، فإذا فرغ من الدرس
والتحقيق والمشاهدة، عاد إلى منزله، فوجد ما يحتاج إليه من الطعام والمنام،
بخلاف أحرار هذا الزمان، الذين قاسوا أشد العذاب في أمر معايشهم.
فاشتغلت النابتة الجديدة بفنون الأدب وعلوم التاريخ والسياسة والصناعات
النفيسة، فنظموا الشعر، وألفوا القصص، ونشروا المقالات في الجرائد، ونبغ
منهم نامق كمال بك، شاعر النشأة الجديدة وأديبها، وموجد الأدب الجديد العثماني،
ولد في الآستانة سنة 1250هـ وقرأ في المكاتب وتعلم الفرنساوية، وصارت له
مهارة زائدة في الإنشاء، الذي نشر به مقالاته السياسية في الجرائد بأسلوب
مستحدث طريف، هو من السهل الممتنع، وأشعاره على نسق أشعار فيكتور هوجو
في طلب الحرية وتدبير المملكة وإصلاح شئون الحكومة، وله مؤلفات كثيرة منها
التاريخ العثماني، الذي لم يطبع، وقصة وطن أو سليستره، التي تمثل اليوم في
الآستانة وسلانيك بعد حدوث الانقلاب، وتوفي نامق كمال بك وهو متصرف في
جزيرة ساقز سنة 1305هـ. ومنهم ضيا باشا الأديب الشاعر، وسعد الله باشا
سفير فينا الأسبق، مترجم قصيدة لامارتين التي عنوانها (البحيرة) ، وله أشعار
عصرية رائقة.
ومنهم أبو الضيا توفيق بك، الذي أصلح حروف الطبع وكتب الخط الكوفي،
وطبع الكتب والرسائل والمجموعات بصنعة بديعة عجيبة لم تبلغها إلى الآن مطابع
الشرق ولا مطابع أوربا الشرقية. وعبد الحق حامد بك، سفير بروكسل، وصاحب
قصة طارق بن زياد، وكثير غيرهم من الكتاب والأدباء أنصار حزب تركيا
الفتاة، الذي أسسه مصطفى فاضل باشا، ثم صهره خليل شريف باشا، الذي
جاء من مصر إلى الآستانة، وتوظف في نظارة الخارجية بسبب معرفته الفرنساوية،
وصار سفيرًا لباريس وغيرها وناظرًا للخارجية، وتزوج بأكبر بنات مصطفى
فاضل باشا، وهي الأميرة الشهيرة نازلي خانم، التي اقتفت أثر والدها وزوجها
الأول في تعضيد حزب تركيا الفتاة، وساعدته بالمال والجاه، هي وشقيقها الأمير
محمد علي باشا.
* * *
(لائحة فاضل باشا للسلطان عبد العزيز)
لخص مصطفى فاضل باشا سياسة تركيا الفتاة في اللائحة المذكورة التي قدمها
إلى السلطان عبد العزيز خان، وقال فيها:
(تتصور أوربا أن المسيحيين وحدهم في تركيا خاضعون للمعاملات
الاستبدادية، ولاحتمال أنواع الأذى والتحقير المتولد من الظلم، وليس الأمر كذلك،
فإن المسلمين ربما كان الظلم والعسف أشد وطأة عليهم، وهم أكثر انحناء تحت نير
العبودية من المسيحيين، لأن المسلمين ليس وراءهم دولة أجنبية تتحيز لهم وتحامي
عنهم، فرعايا جلالتكم من جميع المذاهب مقسومون إلى صنفين: الظالمين ظلمًا لا
حد له، والمظلومين بلا شفقة ولا مرحمة، والأولون يجدون في الحكومة المطلقة
غير المقيدة التي تستعملها جلالتكم، والتي اغتصبوها - إغراء وتشويقًا إلى جميع
الرذائل، وأما الآخرون فتفسد أخلاقهم أيضًا بعلاقاتهم الضارة مع سادتهم، وبما أنهم
مجبرون على الخضوع دائمًا للشهوات الرذيلة، ولا يستطيعون إيصال شكاياتهم
الصحيحة إلى أعتاب سدتكم الملوكية؛ لأن ظلاَّمهم يرون هذه الاستغاثة - مع
الاحترام - بحكومة جلالتكم من أكبر المفاسد، فاعتادوا على دناءة الأخلاق التي لا
يمكن تصورها) .
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فهذه الأصول الاستبدادية التي كان أعداء الإصلاح من حزب تركيا القديمة
يريدون المحافظة عليها، ويعدون التمسك بها من الغيرة الدينية والحمية الوطنية،
والإسلام والوطنية بريئان منها للأسباب المشروحة فيما مر. فحزب تركيا الفتاة
يمكننا أن نعتبر وجوده منذ تولي مصطفى فاضل باشا نظارة المعارف (1862م) ،
وهاجر إلى باريس (1865 - 1867م) وأنصار هذا الحزب هم جميع المطلعين
على الكتب الفرنساوية وأدب الطريقة المدرسية، أو على ما ترجم منها بالتركية،
والذي أطلق عليه هذا الاسم هم الفرنساويون الذين قالوا: (جون تركي) كما
يقولون (جون فرانس - جون ألمانيا - جون إيتالي) ، فترجم بتركيا الفتاة وقيل
بالتركية (كنج تركار) ، ولذا قال هانوتو: إن تركيا الفتاة من اللغة الفرنساوية.
وقد جوزي مصطفى فاضل باشا على جرأته بمصادرة أمواله، ثم أعيدت إليه
بوساطة بعض الأجانب، ثم حرم من ميراث الخديوية، هو وحليم باشا بسبب
صدور الفرمان السلطاني بانتقالها إلى أكبر أولاد المالك، وهو إذ ذاك إسماعيل باشا،
وصار مسند الخديوية ينتقل من الوالد إلى ولده، بعد أن كان ينتقل إلى الأكبر
فالأكبر من الأسرة، كما هي القاعدة في جميع الممالك الإسلامية، لما علمت من أن
الإسلام ليس فيه ملك موروث.
وفي سنة 1278هـ و1871م أصيبت المملكة العثمانية بوفاة أشهر قوادها
عمر باشا، وأشهر سواسها الصدر الأعظم عالي باشا، صاحب الأعمال الكثيرة في
تنظيم إدارة الحكومة، ووضع ميزانية للمالية، وتأسيس نظارة الداخلية والأوقاف،
ومجالس الدعاوى والتمييز وتنظيم أصول المحاكمات واستعمال الأصول
الأعشارية، وغير ذلك من الإصلاحات الداخلية والسياسية الخارجية، وترجمت
القوانين والنظامات عن الفرنساوية بلا نظر ولا معرفة بصالح البلاد
واحتياجاتها، فترجموا مثلاً قانون التجارة الفرنساوي القديم، وأبقوا فيه مسائل
النكاح و (الدوتة) واشتراك الزوجين بالأموال وعدمه، كما هو مختص
بالأوربيين ولا وجود له في الشرق، لا عند المسلمين ولا عند المسيحيين. وبعد
وفاة عالي باشا تولى مسند الصدارة محمود نديم باشا، ومال إلى روسيا حتى سمي
(نديموف) ، وبذر أموال الخزينة، وأصبح آلة في يد الجنرال اغناتيف سفير
روسيا في الآستانة.
* * *
(صدارة نديم باشا الأولى)
محمود نديم باشا كان أبوه واليًا، فتربى في داره على الاستبداد والارتكاب،
وتعين واليًا كأبيه ثم ناظرًا للبحرية، وكان شديد التعصب للإدارة القديمة المستبدة،
كثير البغض للإصلاحات الجديدة والحرية. تقرب إلى السلطان عبد العزيز خان
بالتملق، واستولى عليه من أضعف نقطة فيه، وهي العظمة، فدس له بأنه تحت
وصاية فؤاد باشا وعالي باشا، مع أنه خليفة الله في الأرض، والقابض على رقاب
خمسين مليونًا من الرعية، الذين هم عبيد جلالته! وأن بيت المال هو حق من
حقوقه، له أن يتصرف فيه حسبما شاء وأراد! وكانت الميزانية المالية وضعت في
أيام عالي باشا وفؤاد باشا، وحدد فيها مصاريف المابين، فانقلبت أحوال السلطان
عبد العزيز خان في صدارة محمود نديم، واستبد بالأمر، وأبعد عن الوظائف
الملكية والعسكرية الرجال الذين تخيرهم عالي باشا ودربهم وعلمهم حتى كانوا من
خيرة الموظفين، فاستبدل بهم المرتكبون وكثر تحويل الوظائف والعزل والنصب
والترقي في جميع الوظائف الملكية والعسكرية، حتى كان الضابط يرتقي إلى
المراتب العلى في أقرب، ويصبح مشيرًا، بعد أن كان من قبل أَشْهَرٍ ضابطًا
صغيرًا. وزاد الإسراف والتبذير ببناء السرايات التي لا لزوم لها، وإنشاء
الأسطول الذي صار أثرًا بعد عين، كما زاد الانهماك في الملذات والشهوات،
وكانت أوربا وصيارفة الآستانة تقرض الأموال بالربا الفاحش والديون تتراكم على
خزينة الدولة، والمكلفون بها هم فقراء الرعية، من أصحاب الأعشار والأغنام،
يؤدونها من كد اليمين، وعرق الجبين.
ومن الغلطات السياسية في صدارة محمود نديم باشا إصدار الفرمان بفصل
الكنيسة البلغارية عن الكنيسة الرومية، وتعيين إكسارخوس للبلغار مستقل عن
بطريرك الروم في القسطنطينية، وكان ذلك بمساعي الجنرال إغناتيف، حبيب
محمود نديموف باشا، للتوصل إلى إحداث دولة للبلغار، مع أن الباب العالي كان
يعتبر جميع هؤلاء الأمم الصغيرة، كالبلغار والصرب والأفلاخ والبغدان والجبل
الأسود والهرسك روما تابعين لبطريركية القسطنطينية، لاشتراكهم جميعًا في الدين
الأرثوذكسي. ومن الغلطات المالية أيضًا إعطاء المثري النمساوي اليهودي الشهير،
وهو البارون هرش، امتياز سكة حديد الروم أيلي المعروفة بسكك الحديد الشرقية،
وإضرار الخزينة والأمة من وراء ذلك ضررًا كبيرًا، وفي أثناء ذلك ظهر مدحت
باشا في مسند الصدارة.
* * *
(صدارة مدحت باشا الأولى)
ولد مدحت باشا في القسطنطينية سنة 1822م، ووالده حاج علي أفندي،
أصله من روسجق، التي كانت مركز ولاية الطونة (بلغارستان) على ضفة نهر
الطونة (الدانوب) اليُمْنَى، ولما كان من صغار الموظفين لم يستطع تعليم ابنه غير
مبادئ العلوم وحسن الخط المعدود في ذاك الدور من أكبر العلوم وأهمها للدخول في
الوظائف والترقي فيها، وأدخله على حداثة سنه قلم الصدارة، فتخرج في أقلام
الباب العالي، وتعلم بالمشاهدة والتجربة والاختبار، وتعين مأمورًا في الولايات،
ومكث سنتين في دمشق الشام، وترقى إلى أن صار باشكاتب في مجلس (والا) ،
وهو شورى الدولة، وذهب مرّة ثانية إلى دمشق وحلب للتحقيق عن القبر صلي
محمد باشا، وألفت باستعداده واجتهاده نظر رشيد باشا وعالي باشا وفؤاد باشا
ورفعت باشا ناظر الخارجية إليه، فأجلسه معه رفعت باشا ليسمع المحاورة التي
دارت بينه وبين البرنس منجيكوف، مندوب دولة روسيا، وذلك قبل حرب القرم،
فاطلع مدحت باشا حينئذ على السياسة الخارجية، وبعد وفاة رشيد باشا سنة 1858م
تولى الصدارة عالي باشا، فأذن لمدحت بالذهاب إلى أوربا مدة ستة أشهر، فذهب
إلى باريس ولوندره وبروكسل وفينا، وشاهد انتظام الإدارة ومحاسن المدنية
والترقيات العصرية. وما زال يرتقي في الوظائف حتى صار والي ولاية الطونة
(بلغارستان الحالية) ، فأجرى فيها إصلاحات كثيرة، وفتح مجلس الأيالة، وهو
المجلس العمومي، الذي فتحه راشد باشا في سوريا، ثم عين واليًا لولاية بغداد
ومشيرًا لعساكرها، فسكن عصيان نجد، وأهداه السلطان عبد العزيز خان سيفًا
مكافأة له على خدمه، وإذ كان الصدر الأعظم محمود نديم باشا كثير العزل والنصب
والتبديل، نقل مدحت باشا من ولاية بغداد إلى ولاية أدرنه، فمر بكرسي السلطنة
وطلب مقابلة الحضرة السلطانية، وأراها طرق الخلل وسوء الإدارة وعاقبة الأمر،
فعزل محمود نديم من الصدارة وتولاها مدحت باشا، لكنه لم يبق فيها إلا ثلاثة
أشهر، وكان سبب عزله على ما روي أن إحدى سراري القصر بعثت إليه مع
الطواشي طالبة تعيين أحد خدامها قائمقام في أحد الأقضية، فأجابه مدحت:
(سلِّمْ على الخانم , وقل لها: أن تلتمس هي بنفسها من أفندينا ذلك) , واشتد
غضبه من مداخلة السراري وتتابع رجائهم.
* * *
(صدارة نديم باشا الثانية)
كثر تبديل الصدور بعد عزل مدحت، حتى بلغوا نحو العشرة في خلال سنة
أو خمسة عشر شهرًا، ثم عاد إلى الصدارة محمود نديم باشا، وكان العود غير أحمد،
فزاد الارتكاب، وبيعت الرتب والنياشين، كما بيعت الوظائف بالمزاودة، بحيث
أصبح يَحْتَجِنُهَا الذي يزيد في الثمن، واختلت الموازنة المالية، حتى قضت بإعلان
الإفلاس في 5 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1875، وطمع العدو في البلاد،
فأوجب ذلك هيجان تركيا الفتاة وعقلاء الأمة، وكان التجسس غير معروف في ذلك
الوقت، وكان للجرائد حرية في الكتابة والانتقاد، فشرعت جريدة (وقت) التركية
في نشر الحكايات والأساطير عن ملوك الصين، واستنتاج الأمثال والمواعظ من
انقراض ملكهم، والتعريض بذلك لوزارة محمود نديم باشا، وأخذ فريق من الناس
يطوفون على المجالس والدواوين والأندية العامة، ويقصون أنواع المظالم
والارتكاب وسوء الإدارة، فهاجت الأفكار العمومية، ولا سِيَّمَا الصوفتاوات، وهم
طلاب العلوم الدينية، البالغ عددهم في جوامع الآستانة نحو خمسةَ عَشَرَ إلى
عشرين ألف طالب.
* * *
(هياج الصوفتاوات وصدارة رشدي باشا)
اجتمع من هؤلاء الطلاب زهاء خمسة أو ستة آلاف طالب، وهجموا على
الباب العالي في 22 مايس (مايو) سنة 1876، وذهب آلاف منهم إلى سراي
طولمه باغجه، مقر السلطان عبد العزيز، فشكوا إليه طالبين عزل محمود نديم،
وتولية محمد رشدي باشا، فأجيبوا إلى ذلك، وصدرت الإرادة السنية بتشكيل
الوزارة، وتولية محمد رشدي باشا الصدارة، وحسين عوني السر عسكرية،
وقيصر لي أحمد باشا نظارة البحرية، وراشد باشا، الذي كان واليًا على سوريا،
نظارة الخارجية، وخير الله أفندي مشيخة الإسلام.
* * *
(خلع السلطان عبد العزيز)
كان حزب مدحت باشا من الأحرار، مؤلفًا من نامق كمال بك، وضيا بك،
ورؤوف بك، وإسماعيل بك، وهؤلاء لم يرتقوا إلى رتبة الباشاوية، وأما الذين
ارتقوا منهم إلى هذه الرتبة بعد ذلك، فهم حسن فهمي باشا وشاكر باشا وسعد الله
باشا ورائف باشا ورفعت باشا، وكانوا من الوزراء، فلما تولى حزب تركيا الفتاة
زمام الأمر، واستولى على المالية، والقوة البرية والبحرية والشرعية، خلعوا
السلطان عبد العزيز في 17 جمادى الأولى سنة 1293 و30 مايس (مايو) سنة
1876 بفتوى من شيخ الإسلام، واجلسوا ابن أخيه السلطان مراد خان، ففرح به
الناس واستبشروا، وكان السير هنري إليوت، سفير إنكلترا أشد السفراء سرورًا،
والجنرال اغناتيف، سفير روسيا، أكثرهم غمًّا، وهو حبيب محمود نديم باشا،
والمشير عليه بتلك السياسة العوجاء، ونقل السلطان عبد العزيز من سراي طولمه
باغجه إلى سراي طوب قبو المقابلة لها على ساحل البحر. ثم نقل بناء على طلبه
إلى سراي جراغان المجاورة لطولمه باغجه على ساحل المضيق (البوغاز) ، وبعد
خمسة أيام وقع الاغتيال، واختلف فيه، هل كان بطريق الانتحار، أو القتل عمدًا،
فإن الذين كشفوا على الجثة وجدوها في الطبقة السفلى من السراي، على سجادة
بقرب الباب، ففي إنزالها من الطبقة العليا المعدة للسكنى إلى الطبقة السفلى شبهة،
وعلى فرض ثبوت الجناية، فمن عساه يكون المتهم بها! هل حريم السراي
وطواشيتها، الذين تكثر بينهم الدسائس، ويصعب التحقيق؟ أو مدحت باشا وحزبه،
الذين لا مأرب لهم بذلك؟ وقد توصلوا إلى مأربهم بدون إراقة دم، واستحقوا
إجلال العالم لهم من عثمانيين وأوربيين، وهم أعقل وأدهى من أن يلوثوا عملهم
العظيم بدم جناية ودسيسة مثل هذه.
* * *
(حادثة الجركس حسن بك وخلع السلطان مراد)
ثم حدثت مسألة الجركس حسن بك ياور السلطان عبد العزيز، فإنه دخل دار
مدحت باشا والوزراء مجتمعون فيها، وقتل السرعسكر، وراشد باشا ناظر
الخارجية، ووالي سوريا قبلاً، وأحمد آغا الخادم، وجرح ناظر البحرية، وبعض
الياورية الحاضرين، فأثرت هذه الحوادث في السلطان مراد، وأدت إلى اختلال
شعوره، فخلع بعد ثلاثة أشهر وثلاثة أيام من جلوسه.
جلوس السلطان عبد الحميد:
جلس على سرير الملك جلالة مولانا السلطان عبد الحميد خان الثاني بعد أن
اشترط مدحت باشا وحزبه ثلاثة شروط:
(1) إعلان القانون الأساسي.
(2) استشارة الوزراء وجعلهم مسئولين وحدهم في أمور الدولة.
(3) تعيين ضيا بك وكمال بك كاتبين خاصين للمابين، وسعد الله بك
باشكاتب، لأنهم من الأحرار الحريصين على تنفيذ أحكام القانون الأساسي،
والأولون ممن قاموا بتسويده وتنميقه. فلم يعمل بهذه الشروط، وتعين الداماد محمود
جلال الدين باشا، مشيرًا للمابين، وإنكليز سعيد باشا، رئيسًا للياورية، وكجوك
سعيد باشا، الصدر الأسبق في هذه الآونة، وكان سعيد بك باشكاتب للمابين.
* * *
(مؤتمر الآستانة وإعلان القانون الأساسي وصدارة مدحت باشا الثانية)
كانت بلاد البلقان في اختلال وهيجان بسبب قيام الهرسك والصرب والجبل
الأسود والبلغار وتأففهم من الظلم والاستعباد، ومطالبتهم بالاستقلال، وتمسك كل
منهم بقوميته وأدب لغته، بعد أن كان الدين المسيحي الأرثوذكسي يجمعهم تحت
سلطة بطريرك القسطنطينية. وكانت أوربا تطالب الدولة العلية بإجراء الإصلاحات،
والعناية بالمسيحيين التابعين لها ووقايتهم من الظلم والاعتساف، فتقرر عقد مؤتمر
(قونفرانس) في الآستانة العلية لاتخاذ التدابير اللازمة لتسكين البلاد وإصلاحها،
وكان المؤتمر مؤلفًا من أحد عشر مندوبًا، اثنين من إنكلتره، وهما سفيرها السير
هنري إليوت، واللورد سالسبوري، واثنين من فرنسا، واثنين من أوستريا
(النمسا) ، وواحد من روسيا، وهو الجنرال إغناتيف، وواحد من إيطاليا،
وواحد من ألمانيا، واثنين من قبل الدولة العلية، وهما صفوت باشا، وأدهم
باشا، فعقدوا جلستهم الأولى في 23 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1876 في دائرة
الترسانة التي على خليج دار السعادة من جهة غلطه. ولم يكد يتم افتتاح المؤتمر إلا
وقد سمعوا أصوات المدافع، فوقف صفوت باشا قائلاً: أيها السادة , إن أصوات
المدافع التي تسمعونها هي دلالة على إعلان القانون الأساسي من قِبَل جلالة سلطاننا
الأعظم، وهذا القانون متكفل الحقوق والحرية لجميع رعايا المملكة العثمانية بلا
استثناء، وقد حصل بذلك المقصود من عقد المؤتمر، فأصبح انعقاده وعمله من قبيل
العبثيات.
فبُهِتَ القومُ وانفضت الجلسة. وقد أعلن القانون الأساسي حقيقة في ذلك اليوم،
وأطلق لدى إعلانه مائة مدفع ومدفع في جميع المدن والممالك العثمانية ذات
القلاع. وكان مدحت باشا هو روح هذا الانقلاب العظيم، وهو القابض على زمام
الأمر في الحقيقة منذ خلع السلطان عبد العزيز، وإن لم يكن (صدرًا أعظم) وكان
الصدر الأعظم إذ ذاك محمد رشدي باشا، شيخًا مسنًّا منقادًا له ولحزب تركيا الفتاة،
وبعد جلوس السلطان عبد الحميد خان الثاني، استعفى محمد رشدي باشا لشيخوخته،
وتولى الصدارة العظمى مدحت باشا، وهي صدارته الثانية.
لم يرض الجنرال إغناتيف بهذه الإصلاحات، بل أصر على بقاء المؤتمر،
فداوم أعماله، وقدم لائحة إلى الباب العالي في 15 كانون الثاني (يناير) سنة
1877، وطلب الجواب عنها في خلال ثمانية أيام، فكانت من قبيل (الأولتيماتوم)
* * *
(عقد المجلس العالي ورفضه لائحة مؤتمر الآستانة)
عقد الصدر الأعظم مدحت باشا مجلسًا عاليًا مؤلفًا من الوزراء والمشيرين
ورجال الدولة والرؤساء الروحيين وأعيان المسلمين والمسيحيين واليهود، وعرض
عليهم لائحة المؤتمر، وأفهمهم مطالب الدول الأوربية، وأن ردها يؤدي إلى الحرب،
فتشاوروا بكامل الحرية، وأبدى كل منهم رأيه، فقال رءوف بك، ابن رفعت
باشا ناظر الخارجية الأسبق إذ ذاك: الحرب كداء الحمى، يمكن أن ننجو منه،
ولكن لائحة المؤتمر كداء السل الرئوي، عاقبته القبر لا محالة. وقال صاوا باشا،
من خطبة طويلة: إننا نختار الموت على إهانة شرفنا، وألقى وكيل بطريرك
الأرمن الكاثوليك مقالة طويلة في ردّ اقتراحات المؤتمر، فرفض المجلس قَبولها
بالاتفاق، وظهر من هذا الاجتماع ائتلاف المسلمين والمسيحيين واليهود، واتفاقهم
واتحادهم على محبّة الوطن وترقيه، والغيرة على منافعه، وكان الروم والأرمن
الكاثوليك أشدهم حماسة، حتى إن الروم عزموا على تشكيل فرقة متطوعة لمحاربة
الصرب مع العساكر العثمانية، لأن استقلال الأمم البلقانية من الصرب والجبل
الأسود والبلغار مُضِرّ بصالح الروم، لانفصالهم عن الكنيسة الأرثوذكسية، التي هي
تحت رياسة بطريرك الروم القسطنطينية، ورفضهم استعمال اللغة والأدبيات
اليونانية، فَبِنَاءً على جميع ذلك أجاب الباب العالي في 20 كانون الثاني (يناير)
برفض مطالب الدول المذكورة في لائحتهن، فانفض مؤتمر الآستانة، وغادرها
المندوبون والسفراء، دلالةً على قطع العلاقات بين أوربا والباب العالي.
* * *
(تغلب حزب التقهقر وكتاب مدحت للسلطان)
كان الحزب المخالف للقانون الأساسي يسعى في التخلص من هذا القانون،
فبعد تعيين مدحت باشا في الصدارة انعقد مجلس الوكلاء برياسته في دار الداماد
محمود جلال الدين باشا، وتذاكروا في القانون الأساسي، فارتأى أحمد جودت باشا،
ناظر العدلية (الحقانية) تأجيل هذا القانون لعدم الحاجة إليه (؟) بسبب جلوس
السلطان الحالي! وكان أحمد جودت باشا من المنتسبين إلى الداماد محمود جلال
الدين، ومن كبار العلماء والمؤرخين، ولكن ارتشاءه مشهور في الآستانة والولايات،
وإعلان القانون يسد على المرتكبين أمثاله باب الارتكاب، فبإصرار مدحت باشا
وحزبه، مثل ضيا بك وكمال بك وغيرهم من الأحرار الذين مر ذكرهم، وبجريدتي
(وقت) و (استقبال) والمقالات الشائقة المحررة فيهما - صدر الخط الشريف
السلطاني إلى مدحت باشا بإعلان القانون الأساسي، وحمله الباشكاتب سعيد بك إلى
الباب العالي، وتُلِيَ في الميدان الواسع الذي أمام الباب، بحضور جماهير الناس،
وبعد تلاوته، خطب مدحت باشا في الموضوع، وتلا الدعاء فوزي أفندي، مفتي
أورفه وأمن الناس، ومازال مدحت باشا يلحّ في طلب اجتماع المبعوثان، ويجتهد
في تأليفه من الأحرار، والمابين يؤخر ذلك، ويفرق جميع الأحرار، حتى إنه أراد
تعيين ضيا بك، مسود القانون الأساسي، سفيرًا في برلين لئلا ينتخب مبعوثًا عن
أهل الآستانة. فضاق صدر مدحت باشا من التأخير والمحاولة، وكتب إلى الذات
الشاهانية مباشرة: (لم يكن غرضنا من إعلان القانون الأساسي إلا محو الاستبداد،
وتعيين ما لجلالتكم من الحقوق، وما عليها من الواجبات، وتعيين وظائف الوكلاء
ومسئوليتهم، وتأمين جميع الناس على حريتهم، حتى ترتقي البلاد في معارج
الارتقاء - إلى أن قال: وإني لكثير الاحترام لشخص جلالتكم، ولكن الشرع
الشريف يوجب علي أن لا أطيع أموركم (أوامركم) ، إذا لم تكن موافقة لمنافع
الأمة) ، ونحو ذلك مما لم يسمع بمثله إلا من مصطفى فاضل باشا، كما تقدم،
وبالحقيقة إن أحكام الشريعة الإسلامية وفتاوى الفقهاء في هذا الصدد لا تترك أدنى
شك ولا ريب؛ لأن السلطان بحكم الشرع ليس مطلق الحرية، ولا مطلق التصرف
في أموال الناس ومنافعهم، وإنما هو في جميع ذلك مقيد بالأحكام الشرعية، ولا
طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فالحكومة المطلقة التي درجت عليها الدول
والإمارات الإسلامية وتوارثتها من عهد معاوية، لا وجود لها على التحقيق في الدين
الإسلامي.
* * *
(عزل مدحت باشا ونفيه وصدارة أدهم باشا)
فعزل مدحت باشا، ونفي على الباخرة (عز الدين) إلى إيطاليا، ووجهت
الصدارة العظمى إلى أدهم باشا، والد حمود بك وخليل بك مديري دار العاديات
(الموزه خانه) ، وعيّن جودت باشا للداخلية، وأحمد وفيق أفندي لرياسة مجلس
المبعوثان مؤقتًا، لأن انتخاب الرئيس مبين في المادة السابعة والسبعين من القانون
الأساسي.
* * *
(انتخاب أعضاء مجلس المبعوثان)
رأت الدولة العلية إصرار أوربا على إصلاح الروم أيلي، فسارعت إلى
انتخاب المبعوثين، وتطبيق أحكام القانون الأساسي، الذي نالت به الأمة العثمانية
الحرية وحق الحكم، فلم يفقه الناس إذ ذاك معنى هذه الحرية، ولا قَدَرُوها حقَّ
قدرها، فظنوا أن المبعوثين كبقية الموظفين، يشتغلون بمصالح الأمة تحت سيطرة
الوزراء والنظار، ليستفيدوا من الرواتب التي ينقدونها، فلم يهتموا بأمر الانتخاب
كما يجب، حدثني بعض أحرار الآستانة، قال كنا نحرّض الناس على الانتخاب
ونسوقهم إليه سوقًا، وهم يقولون: ألم يكفنا ما لدينا من المجالس والدوائر المشحونة
بالموظفين حتى نزيد عليها مجلسًا جديدًا، ونتكبد القيام برواتب موظفيه؟ فإن لم
يصلح حالنا وتنتظم إدارتنا بجميع ما نراه أمام أعيننا من النظارات والدوائر العظيمة
المشتملة على الألوف من الموظفين، أتراه يصلح بمجلس المبعوثان؟
هذا ما كان يقال في قاعدة السلطنة ومقر الخلافة، فما بالك في مراكز الولايات
والألوية، إذ كان المنتخبون لا يوصون مبعوثيهم إلا بطلب الرتب والأوسمة
والألقاب والمناصب والمخصصات والرواتب لهم ولأقاربهم وذويهم! ! ولمن لاذ بهم
وحام حول حماهم، أو بإعفائهم من التكاليف الأميرية والخدمة العسكرية وتخفيف
الضرائب والمكوس عنهم، ونحو ذلك! مما يعود على الوطن بالخراب لا بالعمران،
كأن خزينة الدولة كنز لا يفنى، تمطر عليه الأموال من رحمة الله بغير عدّ ولا
حساب.
* * *
(افتتاح مجلس المبعوثان وخطاب السلطان)
افتتح المجلس العمومي، المؤلف من الأعيان والمبعوثان في 4 ربيع الأول
سنة 1294 و19 مارت (مارس) سنة 1877 في بهو الاستقبال الكبير في سراي
طولمه باغجه بمحلة بشكطاش، وتُلِيَ النطق السلطاني أمام الحضرة السلطانية،
وهو:
أيها الأعيان والمبعوثان:
إنني أبدي الامتنان بافتتاح المجلس العمومي، الذي اجتمع للمرة الأولى في
دولتنا العلية، وجميعكم تعلمون أن ترقي عظمة واقتدار الدول والملل، إنما هو قائم
بالعدل، حتى إن ما انتشر في العالم من قوة دولتنا العلية وقدرتها في أوائل ظهورها
كان من مراعاة العدل في سير الحكومة، ومراعاة حق ومنفعة كل صنف من
صنوف الرعية، وقد عرف العالم أجمع تلك المساعدات التي قام بها أحد أجدادنا
العظام المرحوم السلطان محمد خان الفاتح في مطلب حرية الدين والمذهب، وجميع
أسلافنا العظام أيضًا، قد سلكوا على هذا الأثر، فلم يقع في هذا المطلب خلل في
وقت من الأوقات، ولا ينكر أن المحافظة على ألسنة صنوف رعيتنا ومليتهم
ومذاهبهم منذ ست مائة عام كانت النتيجة الطبيعية لهذه القضية العادلة. والحاصل
بينما كانت ثروة الدولة والملة (الأمة) وسعادتها صاعدتين في مدارج الترقي في
تلك الأعصار والأزمان بفضل حماية العدالة ووقاية القوانين - أخذنا بالانحطاط
تدريجًا بسبب قلة الانقياد للشرع الشريف، وللقوانين الموضوعة، وتبدلت تلك القوة
بالضعف …) , إلخ.
ثم ذكر إزالة السلطان محمود غائلة الإنكشارية، وسبقه لفتح باب إدخال مدنية
أوربا الحاضرة إلى الممالك العثمانية، واقتفاء السلطان عبد المجيد خان أثره،
وإعلانه أساس التنظيمات الخيرية … , إلخ النطق السلطاني المعروف.
قابل الجميع هذا النطق بالخضوع والركوع (! ! !) وخصص لاجتماع
المبعوثين بهو كبير في سراي العدلية، بالقرب من أيا صوفيا تحت رياسة أحمد
وفيق أفندي، الذي صار بعد ذلك باشا، وعين للرياسة بإدارة سنية لا بالانتخاب!
ولذا كان رقيبًا على مدحت باشا، وقد اتهمه حزب تركيا الفتاة بالاستبداد؛ لأن
رياسة مجلس المبعوثان شبيهة بوظيفة رئيس المويسيقي المركبة من آلات كثيرة
مختلفة، لكل آلة توقيع خاص، فعلى الرئيس أن يلاحظ موازنة الأنغام وائتلاف
بعضها ببعض، لتخرج جميعها بصورة مفيدة مطربة، وليس له أن يأخذ آلة من
الآلات المويسيقية ويضرب عليها ليوازن ما بينها.
* * *
(مذكرات مجلس المبعوثان)
كانت الجلسة الأولى مخصصة للمذاكرة في العريضة التي ينبغي تقديمها من
مجلس المبعوثان، جوابًا عن النطق السلطاني، فحررت مسودة الجواب، وأسقط
الكاتب منه كلمة (ألسنة) في الجواب عن فقرة (المحافظة منذ ست مائة عام على
ألسنة…) المذكورة في النطق السلطاني، فقام أحد مبعوثي الروم من الآستانة ,
وقال ما محصله: (لا يمكننا أن نقبل إسقاط كلمة تدل على أثمن امتياز نِلْناه؛ لأن
لساننا - نحن معشرَ الرومِ - هو ثروتنا، فمن سوء الفهم وقلة الأدب نحو جلالة
سلطاننا الأعظم أن نمحو كلمة أثبتها جلالته بنفسها وكرَّرْت مَنْحَنا ذلك من جديد)
فقال الرئيس: ليس بحثنا في ذلك، لأنا لا نعرف في هذا المجلس لسانًا غير اللسان
العثماني الرسمي. فقال جمهور العثمانيين: (بك أعلى! بك أعلى! !) أي حسن
كثيرًا، حسن كثيرًا، فقام مبعوث أرمني، وأيد كلام المبعوث الرومي، فقال
الرئيس ثانية: ليس بحثنا في ذلك، ومع هذا فإني أسأل أعضاء المجلس عَمّا إذا
كانت آراؤهم موافقة لرأيي؟ فقال جمهور المبعوثين: (أوت أفندم! أوت أفندم!)
أي: نعم , يا سيدي! نعم , يا سيدي!
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) رسالة حفيلة جليلة ألفها صديقنا محمد روحي أفندي الخالدي المقدسي، من أرباب الأقلام المشهورين باستقلال الفكر وأصالة الرأي، وهو مؤلف كتاب (تاريخ علم الأدب عن الإفرنج والعرب) ، وكان وقت كتابتها في (بردو) إحدى المواني الفرنسية، وقد رأينا أن أحسن تقريظ لها، نشرها في المنار؛ لأنها أصدق تاريخ لأعظم انقلاب.(11/646)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العمل [1]
لئن كان للطبيعة حق الأولوية في إحداث الثروة، سواء في أرضها الخصبة،
أو في أحراشها الكثيفة، أو في مناجمها الكثيرة المعادن، أو في مراعيها الغزيرة
الكلأ، أو في أنهارها المتدفقة بالخيرات، فإن المدار في استثمار كل ذلك على
العمل ولو قليلاً، فلا بُدَّ من فلح الأرض وبذر الحبوب قبل أن تجود الطبيعة بنعمائها،
وتبذل الأرض غلتها، ولا بُدَّ من احتفار المناجم قبل استخراج كنوزها، ولا بُدَّ
من جني الثمار قبل التمتع بلذيذ طعمها. فالعمل ضروري للعمران، ولازم لكل
موجود، وهو للموارد الطبيعية التي هي ينابيع الثروة بمثابة الدلو من البئر، إذ
لولاه ما قدر أحد على الاغتراف منها.
وقد وفى الدين العمل قسطه من المدح، حيث حثّ على التمسك به، فقال عز
وجل في سورة مريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي
وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} (مريم: 25-26) وهو أمر به؛ لأنه إذا كان جلّ شأْنُه
يأمر السيدة مريم، وهي في وقت المخاض، بهزّ جذع النخلة قبل أن يتساقط عليها
التمر، مع أنه قادر على أن يكفيها مئونة ذلك التعب، فمن البديهي أنه يأمر كل فرد
من أفراد الهيئة الاجتماعية بالسعي في تحصيل رزقه، ولا سِيَّمَا إذا كان صحيح
الجسم. وقال تعالى في آية أخرى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (النبأ: 10-11) أي وقتًا يلزم فيه السعي لتحصيل العيش وترقب الرزق بالعمل،
وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10) وهو أمر بوجوب جوب البلاد، والضرب في طولها وعرضها
رغبةً في العمل والانتفاع بما خلق جلت عظمته من الخيرات، وقال: {فَابْتَغُوا
عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} (العنكبوت: 17) أي: اعملوا حتى تحصلوا على ما يقوم
بضروراتكم، وقال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك:
15) وقال: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) وكان النبي
صلى الله عليه وسلم جالسًا مع أصحابه ذات يوم فنظروا إلى شابّ ذي جلد وقوة،
وقد بكر يسعى، فقالوا: وَيْحَ هذا! لو كان شبابه وجلده في سبيل الله، فقال النبي:
(لا تقولوا هذا؛ فإنه إن كان يسعى على نفسه لِيكفيَها المسألة ويغنيها عن الناس،
فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذرية ضعاف ليغنيهم
ويكفيهم، فهو في سبيل الله) وقال: (احرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا) وقال:
(لأَنْ يأخذ أحدكم حبله فيحتطب، خير من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله
فيسأله أعطاه أو منعه) وقال: (ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل
يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) رواه البخاري، وهكذا فضل النبي
العمل في أية حرفة على الاستنامة إلى الكسل، وإراقة ماء الوجه في الطلب. وجاء
في الإنجيل ما معناه: (تأكل خبزك بعرق جبينك) , وهو حث على العمل طلبًا
للارتزاق. وروي أن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً فقال ما تصنع؟
قال: أتعبّد، قال ومن يعولك؟ قال أخي، قال: أخوك أعبد منك. وقال عمر بن
الخطاب: (ما مِن موطن يأتيني الموتُ فيه أحب إليّ مِن موطن أتسوق فيه لأهلي
أبيع وأشتري) , وقال: (لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق , ويقول: اللهم ارزقني،
فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة) ، وقيل للإمام أحمد: ما تقول فيمن
جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي؟ فقال أحمد:
(هذا رجل جهل العلم، أما سمِع قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل
رزقي تحت ظل رمحي) . وقوله عليه السلام حين ذكر الطير فقال: (تغدو
خماصًا وتروح بطانًا) ، فذكر أنها تغدو في طلب الرزق.
هكذا يحث الدين على العمل ويرغب فيه مراعاة لتقدم العمران، ومحافظة
على النوع الإنساني من الفَنَاء، ومن ذلك تظهر حطة أولئك الذين يرون التوسل
وسيلة للارتزاق، والتسول حرفةً للعيش، أولئك الذين لم يعرفوا مَزِيّة العمل
وعلاقته بالسعادة، ففضلوا مدّ أيديهم للسؤال على مدها للعمل، واستسهلوا أن يكونوا
كالكلاب تأكل كل ما يلقى إليها، أولئك هم الذين يحل الشقاء بالبلد الذي يحلون فيه،
فهم يستنفدون ثروته، ويستنزفون خيراته، بدون أن يسعوا في إحداثها.
العمل هو أساس الثروة، فكيف ينتظر النجاح بدونه، وهو دعامة كل ما نراه
في العالم مِن التقدم في المدنية. ما رأينا بلدًا تمسك أهله بأهداب العمل إلا وتحولت
فيه الصحاري القفراء إلى حدائقَ غَنّاء، وجادت الأرض بكنوزها، وانْسَابَ الذهب
إلى جيوب أهلها. لولاه لم يَصِرِ الترابُ تِبْرًا، وتتبدل المفاوز بمعاهد للعلوم،
ومعابد للنسك، ومعامل للصناعة. لولاه ما ضحكت الأرض من بكاء السماء، ولا
ابتسمت الأزهار في الأكمام، ولا حملت الأشجار لذيذ الثمار من كل زوجين اثنين؛
إذ إنه لا بُدَّ من غرسها قبل أن تصير دانية ظلالها، مذللة قطوفها، ولا غنى عن
تعهدها قبل أن تترعرع أغصانها، وتصير دوحة تناطح السحاب. لولاه ما استنبط
الإنسان الوسائل التي يسخر بها القوى الطبيعية، ويتغلب على الصعاب، ويقرب
المسافات بالبخار والكهرباء، ويجعل كليهما رهين إشارته. لولاه ما أخذت الأرض
زخرفها، وبلغت من المدنية غايتها، وبدت آثار العمران في أنحائها، وصارت
معمورة، يتزايد سكانها في كل عام، وتتضاعف ثروتها آنًا فآنًا.
من ينكر فضل العمل في إحداث الثروة، فليرجع ببصره الكَرّة إلى (أستراليا)
في الماضي يجدها في آخر درجة من الانحطاط، لخمول سكانها الأصليين،
وكثرة اتِّكَالهم على الموارد الطبيعية، ويشاهدها الآن، وقد نالت من العمران حظًّا
وافرًا، وجرت في المدنية شوطًا بعيدًا. ذلك لأن قومًا عرفوا مَزِيّة العمران
استوطنوها، فنهلوا من تلك الموارد، وعملوا في بَرّها وبَحْرها، واحتفروا المناجم
واستخرجوا كنوزًا دفنتها الأرض في بطنها أجيالاً، وحافظت عليها لمن يُقِّدُر العمل
حقَّ قدره. فطبيعة تلك البلاد لم تتغير، وإنما تغير سكانها. بل ما لنا وللتمثيل
بأستراليا، وأمامنا شبه جزيرة العرب التي كانت محطّ رحال المدنية، ومهبط العلوم
والعرفان، ومصدر العمران، ما لها قد عفت آثار مدنيتها، ودالت دولة ملوكها،
واندرست معالم علومها، واندثرت معارفها، وصار ذلك المجد القديم، والسؤدد
الماضي، أشبه بحلم حالم! ! ؟ أليس السبب هو أن ذلك السلف الصالح خلف مِن
بعدهم خلفٌ أضاعوا الجد الموروث، وأهملوا العمل، وتمسكوا بأذيال الكسل، حتى
صاروا قديمًا في عالم جديد {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} (الكهف: 18) .
كان (كسناي) وأضرابه يعتبرون الأرض الوسيلة الوحيدة لإحداث الثروة،
ويبخسون العمل حقه في الإحداث، وذلك زعم صحيح من جهة أن الأرض ينبوع
المواد التي تقوم بها الصناعة، فلا يقدر الصانع على نسج ثوب بدون قطن،
ويستحيل عليه صناعة آلة حديدية بدون حديد، ولكن (كسناي) بخس العامل حقه،
وأنكر عليه تحويله الحديد من شكله الطبيعي، حيث لا ينتفع به، إلى شكل يصير
بواسطته آلة بخارية يتهافت الناس على ابتياعها. أنكر على العالم الكيماوي تركيبه
لدواء فيه شفاء للناس من مواد طبيعية لا تفيد كثيرًا، وهذا ما لا ترضاه العدالة،
على أنه بعد (كسناي) كما قدمنا أتيح للعمل أن يأخذ (آدم سميث) بناصره،
ويظهر فضله، ويطنب في مدحه، ومن ثم أخذ مقامه في الصعود، ونجمه في
السعود، حتى لقد قال فيه العلامة (جيد) : إنه هو الجدير دون غيره أن يكون
الوسيلة في إحداث الثروة حقيقة؛ إذ الإنسان هو المنتج الحقيقي لها، وما الطبيعة
إلا طوع إرادته، يحركها كيف شاءت تلك الإرادة.
* * *
أ- أدوار العمل
(عصر الصيد)
في ذلك العصر كان الإنسان قليل العمل، كثير الاعتماد على الطبيعة، يعيش
من صيد البر أو البحر، وكان رحالاً كالأنعام السائمة، يسكن البقاع الكثيرة القنص،
كما تأوي هذه إلى المروج الغزيرة الكلأ، ويلقي عصا الترحال إذا قل الصيد، كما
تفعل هي إذا غيض الماء أو جفت المراعي. وقد كان في ذلك الدور مهددًا بخطرين:
الوحوش الكاسرة، والمجاعات المهلكة، لقلة ادخاره، لما يقتات به في إعساره،
فالويل له إذا أصابه مرض أقعده عن الصيد، أو انتابه حر أو برد منعه عن مطاردة
فريسته، والويل له إذا كان ضعيف النكاية أعداءه (كذا في الأصل) الذين يداهمونه
لسلب ما اقتنصه. وكان عدم ادخاره راجعًا إلى أسباب كثيرة، منها عدم احترام
الحقوق، فكان حقه مزعزعًا لا يقدر هو على حمايته، وليس هناك حكومة تدافع
عنه، ومنها عدم وجود مسكن له أو ذرية في أغلب الأحيان، ولذا لم يوجد عنده ما
يدعوه إلى الاحتفاظ بالقوت تحرزًا للمستقبل.
* * *
(عصر الرعاية)
ولما رأى نفسه معرضًا للمجاعات القتالة التي كانت تجتاحه من وقت إلى آخر،
ورأى أنه ملزم بالنفقة على زوجته وأولاده، توجهت همته إلى تدجين الحيوانات
النافرة كالإبل والخيل والغنم وغيرها، مما كان لا ينتفع به كثيرًا. ووجد من أهله
وذويه من يساعده على رعي تلك الإبل والغنم في الوديان والمروج الفسيحة التي
تحيط به، والانتقال بها من مكان إلى آخر. وفي ذلك العصر ازداد عدد الناس عما
كانوا عليه، وتألفت منهم قبائل كثيرة كانت ثروة كل واحدة منهن تقدر بعدد رءوس
الإبل أو الغنم التي تملكها، كما كانت الحال عند العرب والتركمان، وكما هي الآن
عند العرب الرحالة والزط. ويمكننا أن نعزو كثرة عدد الناس إلى سببين:
(الأول) كثرة نتاج الحيوانات التي كانوا يربونها حتى صاروا في سَعَة من
العيش، فكانوا ينتفعون بألبانها وأوبارها ولحومها وجلودها، حتى قلت المجاعات
بينهم.
(الثاني) ازدياد العصبية في كل واحدة من تلك القبائل، مما جعل حق
الملكية مضمونًا نوع ضمان، وحبب إلى كل فرد اقتناء الحيوانات فزادت الثروة
وزاد العدد.
* * *
(عصر الزراعة)
وكانت النتيجة الطبيعية لزيادة عدد السكان هي الازدحام على المراعي
بالحيوانات، مما جعل حشائشها التي غرستها يد الطبيعة غير كافية لسد الحاجة،
فعمد الناس إلى معالجة الزراعة من إثارة الأرض، وبذر الحبوب فيها وتعهدها
بالسقي، حتى نبت ما يكفي لمئونتهم ولأنعامهم. واستخدموا في الزراعة كثيرًا من
تلك الحيوانات، ومن ذلك العصر ظهر العمل بمظهر أجلى، إذ لم يعد الإنسان
مُفوِّضًا كلَّ أموره للطبيعة، يأوي حيث نبتت حشائشها، ويرحل إذا جفت خيراتها،
بل أخذ يُعوِّل على مِعْوَله، فيحول به الأرض المجدبة إلى مزارع كثيرة الخيرات،
وانبنى على رغد عيشه تقدم عظيم في أحواله الأدبية، فنظم معيشته وظهرت
الحكومات لأول مرة بالمعنى الذي نراها به الآن، ولا حاجة بنا إلى القول: إن
معظم الأمم المتمدينة في الزمن الماضي كانت تعالج الزراعة في أول أمرها قبل أن
ترسخ قدمها في المدنية. والسبب في ذلك بساطة الزراعة، وعدم احتياجها إلى كثير
تفكير أو كبير عناء، على أن تلك الأمم نفسها وَجَّهَتْ همتها بعد أن تم لها
الأمر إلى استجادة الصنائع على اختلاف أنواعها.
* * *
(عصر الصناعة)
الصناعة أثر من آثار المدنية، تتوجه الهمم إليها عند بزوغ شمسها، وتستجاد
إذا زخر بحر العمران، والسبب في ذلك راجع إلى أمرين:
(الأول) أن الإنسان لا تتوق نفسه إلى الكماليات، كالصناعات المختلفة،
إلا بعد تحصيل الضروري من مأكل وملبس.
(الثاني) هو أن معظم الصناعات المختلفة تحتاج إلى الممارسة والتعليم،
وهما لا يوجدان في وسط الأمم المتوحشة، ومن الصنائع ما هو مقدم، كصناعة
النجارة والحدادة والبناء والخياطة؛ لأن منفعتها ظاهرة لبناء المسكن وعمل الملبس،
ولذا توجد أحيانًا بحالة ساذجة، ومنها ما لا يوجد في الأمة إلا إذا تفننت وتنوعت
أساليب مدنيتها، كصناعة الرسم وصناعة الطباعة وتجليد الكتب [2] ، وكلما علا
كعب الأمة في العمران ابتدعت الصنائع المختلفة، واستنبطت الاختراعات المفيدة،
وارتقت فيها الأعمال العقلية الضرورية للصنائع، كالتعليم والتأليف.
* * *
(عصر استخدام البخار)
على أنه مهما يكن من تقدم الصناعة عند بعض الأمم في الأحقاب الغابرة،
فإن اختراع البخار في القرن الماضي، جعل صناعة الزمن الحاضر متقنة، وصار
العامل بدل أن يستغرق وقتًا طويلاً في الصناعة، يدير الآلة البخارية فتكفيه مئونة
التعب.
* * *
ب- الأعمال العقلية
ولا مشاحَّة في أن عمل الإنسان في الأدوار التي تقدمت لم يكن يدويًّا محضًا،
بل لا بُدَّ له من أعمال عقلية ولو قليلة، لأنه لا ينتظر أن يصنع الإنسان عدة للصيد
أو آلة لفلح الأرض أو يبذر الحبوب، إلا بعد التفكير الذي هو المميز للإنسان من
الحيوان، ولا يتصور أن يستوعب الصنائع إلا بعد أن يعرف دقائقها من المعلم،
ويتعلم العلوم المرتبطة بها، ثم هو لا يقدر على تعهد الأرض ما لم يوجد هناك حاكم
يمنع عنه تعدي الغير، ومهندس يسهل له الري، ولم ينتفع بالآلات البخارية في
الزراعة والصناعة إلا بعد أن أجهد المخترعون (كجيمس وات) وغيره قرائحهم
حتى وصلوا إلى استخدام البخار، فالأعمال العقلية ضرورية للأعمال اليدوية،
كالزراعة والصناعة، وهي مقدمة عليها حتى في أحقر الصنائع.
* * *
ج- الأعمال المنتجة للثروة
اختلفت الآراء من عصر إلى آخر في تحديد الأعمال البشرية التي تكون
نتيجتها زيادة ثروة الأمم، أما العرب فكانوا يرون - كما يؤخذ من كلام الحريري
وغيره من الحكماء - أن المعاش إمارة وتجارة وفلاحة وصناعة، وقد قال الخليفة
المأمون: (الناس أربعة: ذو سيادة أو صناعة، أو تجارة أو زراعة، فمن لم يكن
منهم كان عيالاً عليهم) , ويفهم من ذلك أن تلك الأعمال الأربعة هي التي كانت
معتبرة مُحْدِثَة للثروة، بمعنى أن عمل الحاكم الذي يقي البلاد شر العدو، ويرد
المظالم، وينظم الري، هو عمل يزيد في الثروة، وكذلك عمل الصانع الذي يوجد
منافع للمواد الأولية، والتاجر الذي يتوسط في جلب تلك المصنوعات وتسليمها
لطالبيها، والزارع الذي يقوم بإثارة الأرض وبذر الحب فيها حتى تنبت ما يسد
الحاجة، وأما أعمال غيرهم فلم تكن محدثة للثروة، وأما الطبيعيون، وهم (كسناي)
ومن كان على مذهبه، فقد تقدم أنهم كانوا يعتبرون أن المحدث للثروة من الأعمال
ما كانت متعلقة بالأرض من إثارتها وحرثها وبذر الحبوب فيها، وبناء على ذلك
قسموا الناس إلى ثلاث طبقات: طبقة ملاك الأراضي، وهم المحدثون للثروة حقيقة؛
وطبقة الفلاحين، وهم الذين يساعدون على هذا الإحداث، وغيرهم من السكان،
كذوي الإمارة وذوي التجارة وذوي الصناعة، وكانوا يرون هؤلاء عيالاً على
الطبقتين الأُولَيَيْنِ. ولكن (آدم سميث) لم يَنْحْ نَحْوَ أولئك الاقتصاديين، فقد اعتبر
الصناعة والتجارة والإمارة من الأعمال المنتجة للثروة، وتبعه من أتى بعده من
الاقتصاديين.
ويمكننا أن نقسم الأعمال (أولاً) إلى ما هي مباشرة لإعداد سلعة من السلع
للقيام بسد حاجة من حاجات الإنسان، وهذه محدثة للثروة بلا خلاف، مثال ذلك
العمل الذي يتكبده كل من حارث الأرض وباذر القمح وحاصده ودارسه وطاحنه
وعاجنه وخابزه، لأن كلاًّ منها موجه إلى إعداد الخبز مباشرة، وإن تنوعت حالات
القمح المراد جعله خبزًا؛ (ثانيًا) إلى غير مباشرة لإعداد الصِّنْف، وهذه إمّا يدوية
أو عقلية، أما الأولى فلا يخلو حالها من أحد أمور خمسة:
(أ) الأعمال التي يتكبدها الناس في استخراج المواد الأولية اللازمة
للصناعة، كاحتفار المناجم وتشذيب الأشجار وغير ذلك، وهذه بالطبع منتجة
مادامت نتيجتها تستخدم في الصناعة.
(ب) الأعمال التي تصرف في إعداد الآلات اللازمة لصناعة الصنف،
مثال ذلك شغل الحداد في تجهيز المحراث أو آلة الغزل.
(ج) الأعمال التي يكون من شأنها بناء المحلات المعدة للصناعة كالمعامل
والأحواض، وهكذا لأنه لولا تلك المحال لما توفر إعداد البضائع القطنية مثلاً أو
المراكب.
(د) ما يوجه من الأعمال إلى الحصول على طعام وكساء ولوازم للصناع
مادامت تلك الحاجات غير خارجة عن حدّ الكفاية، أو للحصول على الفحم اللازم
لتسيير الآلات البخارية في حالة ما إذا كان الصانع لا يشتغل بيده.
(هـ) الأعمال التي بواسطتها يمكن نقل الصنف إلى حيث يطلبه الناس،
ويدخل فيها عمل الحمالين في البر وصناعة المراكب والآلات البخارية , وبناء
الأحواض والأرصفة , وأعمال أمناء النقل والمراكبية , وجميع التجار والمتسببين
والسماسرة , والأعمال التي تحسنت بواسطتها الطرقات وغير ذلك.
أما العقلية فمنها ما هو متعلق بالصناعة أو الزراعة أو التجارة؛ كالاختراع ,
والتأليف , وتعليم الصناعات , والتفنن في ابتداعها وترويجها، ولا شكَّ في أن هذه
منتجة، ولا فرْقَ بين أن تكون هذه موجهة إلى الزراعة أو الصناعة أو التجارة،
ويدخل تحت هذه أعمال الري على اختلاف أنواعها، وجميع ما تعمله الحكومة أو
الأهالي لترقية الصناعة أو التجارة أو الزراعة، ولا جُنَاحَ علينا إذا نحن عَدَدْنَا
ضمن تلك الأعمال، ما يبذله الفلاسفة والحكماء من الأفكار لتعضيد الحالة
الاقتصادية والاجتماعية، وما تبذله الحكومة مِن بثّ العدل في الربوع، والمحافظة
على الأمن، سواء بِسَنِّ القوانين أو الأعمال الحربية بَرِّيَّةً كانت أو بَحْرِيَّةً.
__________
(1) وَعَدْنا قراء المنار في الجزء الماضي، بأن ننقل لهم طائفة من كتاب الاقتصاد السياسي المفيد، وهذا ما اخترنا نشره وفاءً بالوعد، وتحريًا للنفع.
(2) انظر مقدمة ابن خلدون.
(المنار) : إن بعض ما أورده المؤلف من الأحاديث، لا صحة لأصله أو سنده، وإن كان صحيحًا في معناه ووضعه(11/673)
الكاتب: أحمد الإسكندري
__________
إلمامة بكتاب تاريخ العرب قبل الإسلام
لحضرة الفاضل جرجي أفندي زيدان [*]
عرف الناس في مصر من حضرة الفاضل جرجي أفندي زيدان معلمًا فمترجمًا
فصحافيًّا ففيلسوفًا لغويًّا فنسابة فروائيًّا مبتدعًا فمتفرّسًا فمؤرخًا خياليًّا قصاصًا. ثم
هم يستقبلون منه الآن مؤرخًا إسلاميًّا محققًا، ولا ندري ما يعرف منه أهل سورية
قبل هجرته إلى مصر، كل هذه صفات فاضلة ومواهب جليلة قلما يخلص بعضها
لأفذاذ العلماء ونوابغ الرجال. وهي بخلوصها لحضرته أفادت من لا يُحصَى عددهم
من قراء العربية ولا سِيَّمَا المسيحيين منهم وعلماء الشرقيات من الأوربيين وغيرهم
ممن لا يحبون مطالعة الكتب العربية أو لا يستفيدون منها لو لم تشكل بالأشكال التي
رسمها جرجي أفندي زيدان لمؤلفاته العديدة.
كان هذا الفاضل يؤلف الكتب الروائية، ويأتي فيها بالممكن والمستحيل
والمستملح والمستنكر، فكنا لا نتعرض لها بمسخ أو نسخ، لعِلْمِنا أن الذي قاده إلى
هذه المواقف هو استرسال الخيال، وهو قد يفضي بصاحبه في النثر إلى مثل ما
يفضي به في الشعر، فيكون أعذبه أكذبه، ولاعتقادنا أن نفعها أكبر من إثمها، وأن
الكتب العربية الصحيحة لا تزال بعد منتشرة في جميع أرجاء العالم، ناطقة ببيان
الغث من السمين، والصحيح من الباطل، على أنه ما من كتاب وضعه بشر إلا
وكان فيه لهوى النفس والسخائم الدينية والعصبية الجنسية بله الخطأ والغفلة أثر أي
أثر، إلا ما شذ وندر، فلما قرأت تقريظ حضرة الفاضل (المغربي) أحد محرري
المؤيد لكتاب (تاريخ العرب قبل الإسلام) ، وهو آخر ما أُخرج للناس بعدُ مِنْ كُتُب
مؤلفنا المذكور وجدته قد ملأ ما يقرب من صفحة من صفحات المؤيد بعبارات
الإطراء والتهويل والإعجاب والإغراب مما لو قبله القارئ لم يشك أن العرب خلقت
خلقًا جديدًا أو أن تاريخ جاهليتها الأولى المقبور في بطون القدم قد نبشه المؤلف من
ناوُوسه، فرابني قولُه - والمبالغة تريب - ولم أَرَ الأمر يخرج عن إحدى خصال
ثلاث، إما أن يكون قرظه ولم يقرأه كعادة أكثر محرري الصحف لضيق وقتهم؛
وإما أن يكون قرأه وصانع المؤلف لصداقة بينهما - وللصداقة حقوق - وإما أن يكون
المؤلف قد وفق حقيقة للعثور على الضالة المنشودة والحلقة المفقودة من تاريخ
جاهلية العرب، وما ذلك بعزيز على نشاط الرجل واجتهاده.
ولما كنت ممن عُنِيَ بهذا الموضوع عناية شديدة، قرأت الكتاب بإلهاف، أخذ
يتناقص بتناقص أوراق الكتاب، فإذا به - والحق أقول - خير مؤلفات الرجل، ولا
أنكر أنه أفادني بعض فوائد ثمينة، هاجت في نفسي ميلاً إلى نقده ولا يُنْقَد إلا كل
ذي قيمة.
يقع كتاب (تاريخ العرب قبل الإسلام) في 250 صفحة، كتب في 30
صفحةً منها مقدمة طويلة، ليست من موضوع الكتاب في شيء، وإنما ذكر فيها
كعادته في كتبه غموض تاريخ العرب وصعوبة التأليف فيه أو تعذره، إلا على
من كان من أهل الجسارة أو الاطلاع الواسع، والمعرفة بكثير من اللغات الحية
والميتة والبحث والتنقيب في آثار الأمم الخالية، ثم ذكر شبه فهرس مطول، ثم
تمهيدًا في مصادر تاريخ العرب، وهي الكتب العربية وغير العربية من اليونانية
والرومانية والنقوش الأثرية، وقد تحامل على العرب فيها ما شاء أن يتحامل، مما
يظن معه قارئه ابتداء أن أكثر مصادر الكتاب أثرية أو يونانية قديمة أو أوربية
حديثة، لكثرة أسماء الكتب والرحلات التي ذكرها، وهي نحو السبعين كتابًا، غير
الموسوعات والمعاجم الكبرى التاريخية والأثرية وغيرها (كما يقول) فإذا هو قرأ
الكتاب وجد أن نحو أربعة أخماسه عربي المصدر، وأن لا ذكر لهذه الكتب
والمعاجم إلا نزرًا يسيرًا في ذيل الكتاب، يعرف ذلك مَنِ اطّلع على الكتاب بإمعان،
ومن رأيي أن هذه المقدمة تجارية أكثر منها علمية.
* * *
فائدة المؤرخ من الكتاب
إن الذي لا يعرف اللغات الأوربية يستفيد من الكتاب:
أولاً: ما ترجمه المؤلف من آراء بعض قدماء اليونان في الجغرافية العربية
غثّة كانت أو سمينة.
ثانيًا: ما ترجمه من آراء بعض سياح الأوربيين قي شمال جزيرة العرب وجنوبها على قلة في ذلك.
ثالثًا: بعض الصور والرسوم والخطوط والنقود التي نقلها من رحلات هؤلاء
السياح، مثل رسم سد مأرب، وبعض قصور اليمن، وهيكل تدمر وبطرا.
رابعًا: معرفة كيف كان يختلف اللسان النبطي والتدمري عن العربي الفصيح،
وهي فوائد تشكر للمؤلف إذاعتها في كتاب مستقل.
* * *
الأمور التي تؤخذ على المؤلف
الأمر الأول: تردده أو إنكاره بعض الحقائق التاريخية البديهية في موضع،
وتشبثه بتحقيق بعض الظنون والتخرصات في موضع آخر، اعتمادًا على أوهام
وتخيلات قامت بذهنه فقط.
فمثال الأول: أنه عندما أراد التكلم على تقسيم عرب أواسط الجزيرة وشماليها
إلى قحطانيين (يمانيين) وعدنانيين، مال إلى إنكار هذا التقسيم، ورأى رأيًا
عجيبًا لا يخطر على بال مؤرخ ولا قارئ، وهو أن هؤلاء العرب كلهم عدنانيون،
فعنده أن مثل طَيِّئ وكندة ولخم وجذام ومذحج وهمدان ومازن والأوس
والخزرج عدنانيون. ونورد هنا ما قاله في ذلك (صفحة 182 و183) قال:
وكل هذه البطون أو القبائل قد رأيت أنها ترجع بأنسابها إلى كهلان بن سبأ،
أي أنهم قحطانية، ذلك ما أجمع عليه العرب، ولكن لنا رأيًا في هذا الإجماع، لا
يخلو ذكره من فائدة.
قد رأيت في ما ذكرناه عن الفروق بين القحطانية والعدنانية، أن لكل منهما
خصائص في اللغة والاجتماع والعادات والدين وأسماء الأعلام. وإذا تدبرت أحوال
هذه الدول من غسان ولخم وكندة رأيتها تنطبق على العدنانية أكثر مما (كذا) على
القحطانية، مِن حيثُ اللغةُ، فإننا لم نَرَ في كلامهم وأقوالهم ما يدل على أنهم كانوا
يتكلمون لغة حِمْيَر، بل لغة العدنانية أو عرب الشمال في الطور الثاني. وقد يقال:
إنهم اقتبسوا لغة الوسط الذي انتقلوا إليه، ولكنا نستبعد ذلك، لأن الغالب في اقتباس
لغة الآخرين أن يقع من الضعيف نحو القوي - فلو كان أولئك القوم قادمين من بلاد
اليمن لَحافظوا على لسانهم وسائر عاداتهم، لأنهم كانوا يومئذ أرفع منزلة من بدو
الشمال، وكان هؤلاء ينظرون إلى اليمنية نظرهم إلى أهل الدولة ويعدونهم الملوك،
كما ينظر البدوي الأمي إلى المتمدنين أصحاب الصولة والعلم. وزد على ذلك أن
اليمنية كانوا يكتبون بالحرف المسند ولا نرى لهذا الحرف ذكرًا في أخبارهم، ولا
أثرًا في أطلالهم.
وقد علمت أن الكهلانيين أهل حضارة كما رأيت في ما ذكرناه من حديث سيل
العرم، وكيف أن الكهلانيين كانوا أهل حدائق وقصور باعوها وانتقلوا. فلو صح
ذلك لاختاروا الإقامة في بلد آخر من اليمن غير مأرب وما جاورها؛ لأن السيل لم
يخرب إلا جزءًا صغيرًا من اليمن. فلم يكونوا يعدمون مكانًا يقيمون فيه، كما كان
يقيم سواهم من قبائل الحضر، وإخوانهم الحميريون مازالوا أهل دولة وعمران
وظلوا في رغد ورخاء وسَعَة من العيش إلى ظهور الإسلام.
فما كان أغنى الكهلانيين عن الرحلة إلى بادية الشام أو العراق والرجوع إلى
البداوة، وهي شاقة على من تعود الحضارة والرخاء.
واعتبر ذلك في معبوداتهم، فإنها من معبودات عرب الشمال أو العدنانية، ولم
نجد عندهم ما يميزهم عن هؤلاء من هذا القبيل. ولو كانوا من عرب اليمن،
لوجدنا بين معبوداتهم اسم عشتار أو إيل أو نحوها.
وهكذا يقال في أسمائهم وليس فيها رائحة الأعلام السَّبَئِيَّة أو المعينية، بل هي
مثل أسماء سائر عرب الشمال، ولا سِيَّمَا الذين سكنوا مشارف الشام قبلهم كالأنباط
ونحوهم، ومنها الحارث وثعلبة وجبلة والنعمان وغيرها. ولا يعترض بما ذكره
العرب بين أسماء ملوك حمير من أمثال هذه، فإن أكثرها مبدل بأسماء شمالية،
وإنما عمدتنا في ما ذكرناه على الأسماء التي وقفوا عليها في الآثار المنقوشة.
فلا دليل على قحطانية هذه الأمم إلا أقوال النسابين، وهي أضعف من أن
يعول عليها في هذا الشأن، لاحتمال أن تكون تلك الأمم قد انتحلت الانتساب إلى
عرب اليمن التماسًا للفخر بين قوم لا يعرفونهم، ولا سِيَّمَا بعد أن تقربوا من الروم
أو الفرس وصاروا من عمالهم اهـ.
* * *
ونقول في دحض هذه الأقوال:
(1) أما عدم الاختلاف في اللغة، فإن الاختلاف فيها إما أن يكون في
الأصول، وإما في الفروع، أما الأصول فلم يكن بينها خلاف جوهري؛ لأن لغات
العرب كلها من أصل واحد، كما اعترفت به حضرته، وأما الفروع فلم ينكر أحد
سواه وقوع الاختلاف فيها حتى في لغات القبائل التي لم تخرج من اليمن،
فالاختلاف في الإعراب والتصريف والقلب والإعلال والإبدال مملوء به كتب النحو
والصرف والاختلافات في معاني الكلمات المفردة لم تهملها كتب اللغة والأدب،
ولذلك وقائعُ وحكايات جر الخطأ في التفاهم بسببها إلى إزهاق الأرواح، كما في
حكاية قتل مالك بن نويرة وقومه، وكلنا يعرف ما هي العجعجة والشنشنة
والاستنطاء في لغات اليمانية.
ولو كان بعض الاتفاق في اللغات بين القبائل المختلفة يجعلها من أصل واحد،
لقد كان المحتم على حضرة المؤرخ أن تقول: إن قبائل حمير التي لم تخرج من اليمن
عدنانية أيضًا، لاتحادها مع العدنانيين في الأصول واختلافها عنها في بعض الفروع
إبّانَ ظهور الإسلام، وقد حفظ لنا التاريخ الصحيح وكتب السنة الصحيحة كثيرًا من
مقالات وفود الحميريين على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي لا تختلف عن
العدنانية إلا في معاني بعض المفردات. وإنما حدث هذا التقارب في اللهجة واللغة
لتقاربهم في البيئة (الوسط) وللمجامع والأسواق التي كانوا يقيمونها، وأما أن
الضعيف يقتبس لغة القوي، وزعمه أن اليمانيين كانوا هم الأقوياء الغالبين، فذلك
على فرض تسليمه، لا ينهض حجة على إثبات دعواه، لما كانت عليه العرب في
القرون القريبة من ظهور الإسلام من التقارب في جميع الأحوال، حتى قبائل حمير
نفسها بعد غلبة الحبشة والفرس عليها.
(2) وأمّا إنه لم يوجد أثر للحرف المسند من جهات الشمال، فذلك قد كذبه
بنفسه في موضع آخر عند تكلمه على عرب الصفا، حيث أتى بهذا العنوان لأمم
سبئية في الشمال، وذكر تحت هذا العنوان كلامًا كثيرًا عن أن أمم حمير انتقلت
إلى الشمال ووجد لها أنواع من الخط المسند، كالقلم الصفوي والثمودي واللحياني،
وقال: إن الباحثين لا يزالون في أول البحث.
(3) أمّا إنه لا حامل للقحطانيين على الهجرة من بلادهم وجناتهم وقصورهم
إلى الصحاري المجدبة بلا سبب عظيم، وأن سيل العرم لا يكفي لتفرقهم أيادي سبأ،
فإن الأسباب الحقيقية لهذه الهجرة لا تزال مجهولةً، كأسباب هجرة أكثر الأمم
القديمة، وإنما كان من أهمها حادثة سيل العَرِم، مضافة إلى منازعات وحروب
أهلية أو مجاعات أو أن الأرض قد ضاقت عليهم، فالتمسوا غيرها من بلاد الله،
ولم تكن وجهتهم في رحلتهم هذه القفار، بل كانت ريف العراق ومشارف الشام،
ولا تنكر حضرة المؤرخ عظم دولتهم في الحيرة والأنبار وفي سوريا وفلسطين،
فلقد احتلوا في الأولى جميع الأراضي التي بين دجلة والفرات، حتى سميت العراق
العربي، وفي الثانية أكثر بلاد فلسطين وسورية وحلب، ولا شَكّ أن هذه كانت
أخصب من بلادهم، وبقية اليمانيين الذين سكنوا البدو منهم، فإنما تراجعوا إليه بعد
منافسات مع بني عمهم في الشمال مع بُعْد عهدهم باليمن وخصبه، وأما اكتفاء
المؤرخين بذكر حادثة سيل العَرِم، فذلك وَهْم سرى إليهم من تعقيب ذكر قصة السيل
في القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ} (سبأ: 19) , فإن الظاهر من الآية أن التمزيق سببه ظلم أنفسهم،
والظلم يأتي بأسباب كثيرة اعتدائية، لا بسبب خارجي فجائي لا دخل لهم فيه، مثل
انفجار السد.
(4) وأما دعوى اتحادهم في المعبودات، فلا نسلم أنها كلها كانت عدنانية،
بل كانت خليطًا من كل الأديان، فقد عبد كثير من العدنانيين الشمس والقمر
والكواكب، وهي من معبودات أهل الجنوب، كما تهود وتنصر أهل الجنوب،
واليهودية والنصرانية من أديان أهل الشمال.
(5) وأما توافق أسمائهم، فذلك إرث من طبيعة الجوار والبيئة وتمازجهم
في كل شيء، كما يسمي الأقباط الآن أنفسهم بأسماء عربية وتركية بعدما زالت
سيطرة العرب والترك، وكما يسمي الترك أنفسهم بأسماء عربية مع أنهم هم
الغالبون للعرب، وكما يسمي السوريون أنفسهم بأسماء إنجليزية وفرنسية، على أن
هذا المؤرخ الذي أنكر في غير موضع من كتابه وجود أسماء عدنانية بين أسماء
الحميربين نقض كلامه في صفحة (159) حيث نقل عن غلازر الألماني، أحد
الأثرين اللذين وجدهما في أطلال السد، وهذا كتبه أبرهة قبيل ظهور الإسلام، وفيه
يذكر الأقيال الذين قهرهم أو ولاهم عنه، مثل يزيد بن كبش ومرة وثمامة وحنش
ومرثد، وكل هذه أسماء عدنانية، كما أن معد يكرب الزبيدي اسمه حميري،
وهو من القبائل التي ينكر المؤرخ حميريتها.
وأما الأدلة الوجودية على أن القبائل المذكورة قحطانية، فأكثر من أن نأتي بها
جميعها في هذه المقالة، وهي بالغة بصراحتها إلى أفق البديهيات.
فمنها اعتراف جميع هذه القبائل بأنها يمانية، حتى بعد أن ظهرت مضر
عليهم في وقائع عديدة، وبعد أن خضعوا للمضريين بعد الإسلام وتعصب المضرية
واليمانية في الفتن التي وقعت في الصدر الأول غصت به كتب التاريخ والأدب.
ومنها إجماع النسابين والمؤرخين باعتراف حضرته على أن القبائل المذكورة
قحطانية.
ومنها ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مما يشير إلى هذه التفرقة. ولو أردنا
ذكر الشواهد التاريخية من الوقائع والمفاخرات وقصائد الشعر من الحماسة والمدح
والهجاء وجميع الأحاديث النبوية لإثبات أن هذه القبائل قحطانية، لوضعنا في ذلك
كتابًا يزيد عن كتاب جرجي أفندي زيدان أضعافًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) بقلم الشيخ أحمد الإسكندري.(11/681)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
السنن والأحاديث النبوية
(2)
كلمات في النسخ والتواتر وأخبار الآحاد والسنة
رد على الأستاذ الفاضل الشيخ صالح اليافعي [*]
(الكلمة الثالثة) في بيان ما استشكله الأستاذ الشيخ اليافعي في تفسيرنا
للآيات التي يستدلون بها على النسخ في القرآن. إن استدلالهم على النسخ بقوله
تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: 106) قد
فنده الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في تفسيره كما نقلنا ملخصه عنه في مقالة الناسخ
والمنسوخ، وقلنا: إن المراد بالآية هنا هي العلامة والدليل على النبوة كالمعجزة
ونحوها، ومعنى نسخها: ترك العمل بها في التأييد وعدم إظهارها مرة أخرى
لتصديق النبي، وذلك على حد قوله تعالى في آية أخرى في هذا المعنى: {وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ
بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: 38) أي لكل زمن حال مكتوب عليهم ومقدر
لهم لا يناسبهم غيره {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (الرعد: 39) من الآيات السابقة
وغيرها، فلا يعيدها مرة أخرى للأمم اللاحقة، لعدم مناسبتها لحالهم، فهو كقوله
هناك: {مَا نَنْسَخْ} (البقرة: 106) فالمجرد النسخ في الآيتين بمعنى واحد
{وَيُثْبِتُ} (الرعد: 39) ما يشاء مما يرى الحكمة في إبقائه أو إعادته {وَعِندَهُ أُمُّ
الكِتَابِ} (الرعد: 39) أي العلم التامّ بكل حال وما يناسبه: فالسياق في هاتين
الآيتين يدل على ما قلناه فيهما، وهما مُفسِّرتان بعضهما لبعض.
يقول الأستاذ الفاضل: لو كان تفسيرنا لهذه الآية صحيحًا لكان التقدير فيها:
ما ننسخ من مثل آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها. ونقول: نعم , فليكن كذلك
فهو كقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) , فإن تقديره: وما منعنا أن نرسل بالآيات التي تقترحونها إلا أن
كذب بمثلها الأولون، وقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: 106) ,
فإنما المثلية في قوة الحجة والإقناع، لا في كُنْهها وماهيتها، فأي عيب يراه
الأستاذ في هذا المعنى، وكيف يفسر هذه الآيات وآية {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ} (الرعد: 38) إلخ الآية التي سبق ذكرها؟ .
فكل آية من آيات الأنبياء السابقين التي نسيها الناس أو لم يظهرها الله تعالى
مرة ثانية على يد النبي صلى الله عليه وسلم قد أتى بمثلها في الإقناع والهداية أو
بخير منها في ذلك، فأظهر تعالى على يده معجزات كثيرة، وأنزل عليه آيات
الكتاب العزيز، فهو المعجزة العظمى الباقية، وآية الآيات الكبرى الخالدة، التي
رآها الناس في كل زمان ومكان، ويقدرها العقلاء قدرها، فإنها لا تشتبه بسحر ولا
بشعوذة أو غش أو تدليس، فهي خير من جميع المعجزات التي سبقتها، وأعم فائدة
وأتم دليلاً، وأكثر مناسبة لحال البشر، وقد ظهر ذلك الآن أتم الظهور، فنرى
العلماء اليوم في أوربا وكثير من البلاد المتمدنة صاروا ينفرون من ذكر المعجزات
الحسية، ويودون لو أوتي أنبياؤهم معجزات غيرها علمية عقلية أدبية، أي كمعجزة
القرآن الشريف. فلو لم يؤت صلى الله عليه وسلم سواه لكفى، ولذلك قال تعالى:
{أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51) فما بالك وقد أعطي معجزات كثيرات غيره، كما
تواترت به الأخبار.
واعلم أن نظم الآية التي نحن بصدد تفسيرها لا يقبل أي معنى آخر سوى ما
اخترناه فيها، ولذلك ختمت بقوله تعالى: {ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 106) , فلو كان المراد آيات الأحكام، كما يقولون لقال: ألم تعلم أن الله
عليم حكيم، فإنه أتم مناسبة وأشد ملاءمة لما يقولون، ولما قال بعدها: {أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * أَمْ
تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ
ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (البقرة: 107-108) فقد سأل بنو إسرائيل موسى من قبل
مقترحين آيات غير ما أراهم عنادًا وكفرًا {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} (النساء:
153) , فإذا كان تفسيرهم صحيحًا، فما مناسبة هذا الكلام هنا، وما معناه؟ ! وإذا
كان المراد آيات الأحكام لا المعجزات، فهل الله تعالى أتى بدل الآيات المنسوخة
بآيات خير منها؟ إن كان ذلك صحيحًا، فكيف نسخ كثير من أحكام القرآن بالسنة
على قول بعضهم؟ مثلاً قالوا: إن آية {الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (البقرة:
180) قد نسخت بحديث (ألا لا وصية لوارث) فلم لم يأت بدلها في القرآن؟
وأين البدل للآيات التي نسخ لفظها وحكمها معًا؟ كقوله: عشر رضعات معلومات
يحرمن، الذي نسخ على زعمهم بقوله: (خمس رضعات معلومات) , ثم نسخ لفظ
هذا الأخير، ولم يأت بدله، ولا يزال حكمه باقيًا، كما في مذهب الشافعي، وكذلك
لم يأت بدل للفظ: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة، وغير ذلك كثير! !
أما آية مناجاة الرسول التي فسرناها في مقالاتنا السابقة، فنزيد على تفسيرنا
لها أن قوله تعالى فيها: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (المجادلة:
13) إلخ، معناه: إن لم تفعلوا ما ندبتم إليه من تقديم الصدقات قبل مناجاة
الرسول، والحال أن الله قد رجع إليكم بالتخفيف والتسهيل فيما شرعه لكم، فلم
يعاملكم كما كان يعامل الأمم السابقة، ولم يعنتكم بشيء مما أوجبه عليكم، فلذا ندبكم
إلى هذا الأمر، ولم يجعله عليكم فرضًا، كما هي سنته في معاملتكم بالرأفة والرحمة،
فأقيموا الصلاة إلخ، فقوله: {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} (المجادلة: 13) قد ورد هنا
بمعنى الرجوع إلى التخفيف والتسهيل على هذه الأمة والعدول عن معاملتها
كسابقيها، لا بمعنى التجاوز عن السيئات وغفران الذنوب. وقد ورد بذلك المعنى
أيضًا في آية أخرى في سورة المزمل، وهي قوله تعالى: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ
عَلَيْكُمْ} (المزمل: 20) أي: رجع إليكم بالتخفيف , ورفع عنكم ما يشق
عليكم، وليس معناه في هاتين الآيتين العفو عن الذنوب، إذ لا ذنب هنا صدر
منهم.
قال الأستاذ الفاضل الشيخ اليافعي، منتقدًا على تفسيرنا لآية {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً
مَّكَانَ آيَةٍ} (النحل: 101) : إن السياق لا يدل على أن هذا القول صدر عن أهل
الكتاب كما قلنا، فإنه لم يتقدم لهم ذكر في السورة.
ونقول: إن صدور هذا الكلام من أهل الكتاب لا ينافي أن غيرهم من العرب
شاركهم في ترديده والموافقة عليه، عنادًا للنبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبًا له،
فلذلك وردت هذه الآية في سياق الكلام عن مشركي العرب، فإنهم وافقوا أهل
الكتاب منهم في دعاويهم الباطلة وتعاونوا بهم على تكذيب النبي عليه الصلاة والسلام،
ولذلك كانوا يقولون تقليدًا لهم في تكذيب القرآن ? {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ
شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} (الأنبياء: 5) , فإنهم لا يؤمنون برسل
الأولين ولا يعرفونهم ولا يصدقون بآياتهم، ولكنهم يرددون ما يلقيه لهم أهل الكتاب،
وإن خالف معتقداتهم، مادام فيه تكذيب للنبي وإغاظة له، ولذلك ترى في القرآن
آيات كثيرة أمثال هذه التكذيبات اليهودية أو النصرانية واردة في سياق الكلام مع
مشركي العرب، فإنهم جميعًا كانوا متضامنين ومتحدين بعضهم مع بعض على
بغض النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه وعرقلة مساعيه، فهم - وإن اختلفت
أديانهم - أمة واحدة ويد واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن أمثلة هذا
التضامن والاتحاد في التكذيب قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا
أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} (الأنعام: 91) ولما كان اليهود هم المُوعِزين إلى
المشركين بذلك عنادًا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحقدًا عليه ومكابرة له
قال تعالى له: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ
تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} (الأنعام: 91) الآية، وهي واردة في سياق الكلام مع
مشركي العرب للسبب الذي ذكرناه، وهو أنهم أمة واحدة ومتحدون على بغض
الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكذيبه وتلقين بعضهم بعضًا صنوفًا من الشبهات
والتشكيكات غير مبالين بمخالفتها لمعتقداتهم، فلذا صح أن ينسب ما يقوله بعضهم
لهم جميعًا لاتباعهم له وتعويلهم عليه في تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك
في جميع اللغات المعروفة، ينسب عمل بعض أفراد الأمة إلى الأمة جميعها،
خصوصًا إذا رضيت به وأقرته، وإن اختلفوا عقيدة، فما بالك إذا كانوا جميعًا
يأتون الشيء ويعملونه.
ومن أمثلة ذلك أيضًا قول المشركين: {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} (القصص: 48) مع أنهم لا يؤمنون بموسى، ولا بما جاء به، وهو يدل على أنهم
كانوا يقلدون اليهود تقليدًا أعمى، ويطيعونهم في جميع ما يوعزون به إليهم، وإن
نافى معتقداتهم، كما قلنا إرضاءً لهم واستجلابًا لودهم ومعاونتهم لهم على الرسول
صلى الله عليه وسلم. فكثير من مثل هذه الأقوال كان صادرًا عن اليهود , ثم تبعهم
فيه المشركون وصاروا يرددونه عنهم، فلذا اتبعوا اليهود في تكذيبهم النبي صلى
الله عليه وسلم في قوله: إن القرآن نسخ بعض شرائع التوراة، كالسبت وتحريم
بعض اللحوم. ولذلك جاءت آية {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} (النحل: 101) في
سياق الكلام مع المشركين، مع أن القول صدر أولاً من أهل الكتاب، وقلدهم فيه
المشركون تقليدًا أعمى، كما قلدوهم في غيره مما سبق بيانه، وجاءت به الآيات في
سياق الكلام معهم.
هذا وإن الأستاذ الفاضل قد استنكر جَعْل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النحل: 104) وصفًا لليهود، وفاته
أن الله تعالى قد وصفهم بمثله في آيات أخرى كثيرة، كقوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ
وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ} (المائدة: 43) - إلى قوله - {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (المائدة:
43) , وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ
أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة: 5) .
(الكلمة الرابعة) - بيان أسباب أن أحاديث الآحاد لا تفيد اليقين.
أولاً: قد يكون الراوي كذوبًا، لكنه منافق ومتظاهر بالصلاح والتقوى لسبب
ما من الأسباب التي تحمل الناس على الكذب، وهي كثيرة معروفة، فيغتر به
بعض الناس، لعدم معرفتهم عنه شيئًا يجرحه، لشدة احتراسه وتستُّره. وقد يكون
بعض المحدثين مؤمنًا صادقًا مخلصًا صالحًا لكنه ينخدع لظاهر هؤلاء المنافقين،
فيأخذ الحديث عنهم ويصدقهم، وهم كاذبون، إذ كلما اشتد صلاح المرء، وخوفه
من الله، ظن أن أمثاله كثيرون وكثر انخداعه بأعمال المنافقين وظواهرهم، وتجنب
إساءة الظن والتجسس لشدة ورعه وتقواه، أو بساطته وسذاجته في بعض الأحوال.
وكثرة الكذابين وكثرة ما يضعونه من الأحاديث يشوش على الناقدين الباحثين عملهم
ويوقعهم في الارتباك والخطأ كثيرًا، فيقبلون أحيانًا ما ليس صحيحًا ويرفضون ما
هو صحيح، ولا يلزم مِنْ كوْنِ المرءِ غيرَ صالح أو عرف عنه بعض الكذب أن
جميع ما يقوله كذب، وقد يكون منفردًا بحديث، فلا يقبل منه لذلك، مع أنه قد
يكون صادقًا فيه. وقد يكون المرء صالحًا صادقًا، ولكنه يضطر في بعض الأحيان
إلى أن يكذب، ولو واحدة، فلا يسلم ما يؤخذ عنه من أن يكون فيه بعض الكذب أو
المبالغة.
ثانيًا: قد يكون بعض الرواة من الصالحين الصادقين المخلصين، ولكنه
يخطئ المراد ولا يفهم الحقيقة، فَيُحدِّث كما فهم معتقدًا أنه صحيح. والتحديث
بالمعنى كان عندهم جائزًا. وقد ينسى شيئًا مما سمعه ويقع في الغلط، بسبب ذلك
بدون أن يشعر به. ولذلك قال عمران بن حُصَيْن رضي الله عنه: (والله إن كنت
لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومين متتابعين،
ولكن بطأني عن ذلك أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوا
كما سمعت وشهدوا كما شهدت ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن
يشبه لي كما شبه لهم) ؛ كما رواه ابن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث.
ثالثًا: إثبات عدالة رجال الأسانيد كثيرًا ما تكون مبنيةً على شهادة شاهد أو
رواية واحد، فكأنهم يثبتون صحة الروايات بعدالة الرجال، ثم يثبتون عدالة الرجال
بالروايات، ولا يخفى على أحد فساد ذلك، فإن ما يقال في رجال الأسانيد يقال مثله
جرحًا وتعديلاً فيمن يشهد لهم ويوثقهم، وربما أدانا ذلك إلى التسلسل أو الدور في
البرهان.
رابعًا: أكثر الأحاديث والروايات مقتضبة، فلا يعرف المقام الذي قِيلَتْ فيه
ولا مناسباتها، ومن المعلوم أن الأقوال إذا لم تعرف الظروف التي قيلت فيها قد
تخرج عن المراد منها خروجًا كليًّا أو جزئيًّا.
خامسًا: من المشاهد في جميع الأجيال، وفي جميع الأمم أن حفظ الأحاديث
إذا كانت طويلة أو كثيرة بدون تحريف في ألفاظها أو معانيها، ولا تبديل ولا زيادة
ولا نقص، عسير جِدًّا على الناس، إلا من شذّ، وقليل هو، وخصوصًا إذا ألقيت
مرة واحدة. ولذلك جزم بعضهم بأن من ادعى نقل الشيء كما هو بحروفه في مثل
هذه الأحوال فهو مغتر كذاب، فالنقل في أغلب هذه الأحوال هو تقريبي، ولا يخفى
ما ينشأ من مثل هذا النقل من الافتراءات والاختلافات والأكاذيب، فإذا امتاز بعض
الناس بهذه المقدرة فليس جميع الرواة ممن امتازوا بهذه المزية الشاذة.
سادسًا: قبل زمن تدوين الأحاديث، كان جل رواتها إن لم نقل كلهم، لا
يكتبون الحديث ولا يعتمدون فيها إلا على ذاكرتهم، وقد سبق لنا كتابات طويلة في
هذا الموضوع في المنار ومجلة الحياة وجريدة الدستور، وقد أيدنا فيها الأستاذ الكبير
والعلامة المحقق صاحب المنار الأغر. ومن اعتمد على ذاكرته فقط لا نبرئه من
الخطأ والنسيان في جميع الأحوال مهما كان.
هذا شيء مما يقال في روايات الآحاد، فهي عندنا لا تفيد اليقين لطروء مثل
هذه الاحتمالات عليها، وبذلك قال أيضًا الجمهور، وإن أراد أن ينكر ذلك الأستاذ
اليافعي زاعمًا أنها تفيد اليقين.
وإذا كانت هذه الاحتمالات مما يرد على أحاديث المسلمين ورواياتهم، فما يرد
على أحاديث غيرهم أشد وأقوى وأكثر، فإنه لم يعرف عن أي أمة مثل ما عرف
عن الأمة الإسلامية من العناية والتمحيص في الروايات والنقد والبحث في رجال
الحديث، ولم يكن يخطر على بال غيرهم شيء من مثل ذلك.
ولا خوف على الدين الإسلامي المتين من هذه المطاعن التي أوردناها على
روايات الآحاد، فإن حجته ناهضة بالمتواتر فيه، والمجمع عليه فليهدأ المسلمون
بالاً.
(الكلمة الخامسة) : في ذكر شيء مما خالفوا فيه القرآن لأجل الحديث.
قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ
حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ
فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148) في
هذه الآية - وأمثالها في القرآن كثير - يذم الله تعالى اتباع الظن والقول في دين الله
بغير علم، أي بغير ما يفيد اليقين، وهي واردة في سياق الكلام مع من حرموا
أشياء ليس عندهم دليل على أن الله حرمها عليهم، وقال أيضًا قبل ذلك بقليل:
{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ
إِلاَّ يَخْرُصُونَ} (الأنعام: 116) - إلى قوله: {وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم
بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} (الأنعام: 119) , ومنه ترى أن العمل
بالظن في شريعة الله غير جائز، اللهم إلا إذا اضطررنا إليه، كما في بعض الأحكام
القضائية، بِنَاءً على قاعدة: الضروراتُ تبيح المحظورات المؤيدة بالكتاب والسنة،
وإلا فإنه يحرم على الإنسان أن يحل شيئًا أو يحرمه لدليل ظني، فما بالك بمن
يعارض القطعي بالظني؟ لا شك أنه يكون مرتكبًا لإثم كبير. وقد أقر الأستاذ
الفاضل الشيخ اليافعي بأن الظن إنما يذم إذا عارضنا به الأمر القطعي. يقول ذلك
وقد غاب عنه أنه هو ومن على مذهبه كثيرًا ما عارضوا نصوص القرآن الشريف
الصريحة وخالفوها لأجل أحاديث الآحاد، وهي لا شك ظنية، كما عليه الجمهور.
وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
(1) خالفوا قوله تعالى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ} (البقرة: 180) الآيات، لحديث:
(ألا لا وصية لوارث) .
(2) حرموا أكل الحمر الأهلية التي كانت تأكلها العرب كثيرًا، لما رووه
من أن النبي صلى الله عليه وسلم حرمها، مع أن القرآن الشريف يقول: {قُل لاَّ
أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} (الأنعام:
145) الآية. ويقول: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ} (البقرة: 173) الآية،
ونحوها كثير.
(3) قالوا بحرمة استعمال الذهب والفضة والحرير للأحاديث التي روَوْها،
والقرآن يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32)
فهي للمؤمنين يتمتعون بها في الدنيا، وستخلص لهم وحدهم يوم القيامة فيُحلَّون فيها مِن أساورَ مِن ذهب ولؤلؤًا , ولباسهم فيها حرير.
(4) حرموا أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها للحديث، وخالفوا قوله
تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (النساء: 24) بعد أن ذكر سائر المحرمات، وليس من بينهن المرأة على عمتها أو
خالتها.
(5) أوجبوا القتل مطلقًا على من ارتد عن الإسلام للحديث، والقرآن يقول:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) {فَمَن شَاءَ
فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29) .
فهذه بعض أمثلة مما عارضوا فيه القطعي بالظني، وهو مما نكرهه ونذمه،
وقد ذمه الله تعالى في كتابه العزيز، كما أقر به الأستاذ المناظر، وإذا تتبعنا
مذاهبهم وجدنا أمثلة غير ذلك كثيرة، فهل يعقل أن الله يبيح للمسلمين ما كان يذم
لأجله غيرهم في كتابه؟ .
أنا لا أقول: إن جميع هذه الأحاديث يجب أن تكون موضوعة، ولكن لا يبعد
أن بعضها كان كذلك والبعض الآخر يغلب الظن أن له أصلاً صحيحًا، وأنه كان
شريعة خاصة بأحوال خاصة وظروف مخصوصة في مبدأ الإسلام، ولا تخفى
حكمة ذلك على الناقد البصير إذا تأملها. وما جاء به القرآن هو الشرع العام لكل
زمان ومكان، ولذلك لم تأت أمثال هذه المسائل الخاصة فيه , ونهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم المسلمين عن تدوينها كي لا تكونَ خالدةً بينهم كالقرآن الشريف
ولتزول من بينهم بزوال عللها وأسبابها، كما سنبينه إن شاء الله تعالى في رسالة لنا
في هذه المسائل سنطبعها على حِدَة لطولها. فالمسلمون اتبعوا كثيرًا من مثل هذه
الأحاديث مع اعترافهم بأنها ظنية، وخالفوا لأجلها القرآن الشريف مع أن ذلك مذموم
فيه. وقد نسوا علل ما كان صحيحًا منها ولم يراعوا أسبابها ولا الظروف التي قيلت
فيها، مع أن معرفة أسباب الأحاديث النبوية يحتاج إليها أكثر من الاحتياج إلى
معرفة أسباب نزول القرآن الشريف، ولذا لم يحسن المسلمون الجمع بين هذه
الأحاديث وبين نصوص الكتاب العزيز. وهذه الأشياء هي مما ننكره عليهم،
وخصوصًا لأن من الأحاديث التي يسلمونها ما يوجب الطعن في الكتاب المتواتر
نفسه، كما أشرنا إليه في الكلمة الأولى. فلولا تغالبُهم في اعتبار الأحاديث لَمَا وقعوا
في كثير مما وقعوا فيه من الاختلافات والإشكالات والشبهات وغيرها، حتى جعلوا
اليسر عسرًا والسهل لغزًا.
وإني لأعجب من أهل الحديث، هل إذا سمعوا أي قول منسوب إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم يلزمون أنفسهم بالبحث في رجال سنده وتواريخهم أم عليهم
العمل به لمجرد نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بدون بحث ولا تنقيب.
أما الأمر الثاني فهم لا يجوزونه لظهور فساده، وأما الأمر الأول فكأنه يجب
على كل مسلم بمجرد ما سمع أقوالاً منسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يفني حياته في معرفة أحوال رجالها والوقوف على أمورهم، وإذا لاحظنا أن التقليد
في الإسلام منهي عنه وجب على كل فرد أن يبحث في أحوال الرجال وينقدهم
ويمحص كل ما وصله في الأحاديث وما يصله بنفسه، وإلا بقي دينه ناقصًا، فأي
حرج في الدين أكبر من هذا، وخصوصًا كلما طال العهد على رجال الأسانيد وبُعْد
مكانهم وزمانهم عنا. والله يقول: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج:
78) .
((يتبع بمقال تالٍ))
______________________
(*) للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي.(11/688)
الكاتب: عبد القادر المغربي
__________
مناظرة عالمين في مجلس المأمون [*]
إذا أردنا من القرآن كلام الله: كان قديمًا، لأنه يكون إذ ذاك عبارة عن صفة
من صفاته تعالى، وهي قديمة، وإن أريد بالقرآن ماعدا الصفة القديمة من صوت
مسموع أو مصحف مصنوع: كان حادثًا.
هذه المسألة على بساطتها ووضوحها كان لها في تاريخ الإسلام الديني أسوأ
الأثر، وآل الأمر فيها إلى أن يسجن مثل الإمام أحمد بن حنبل، ويقيد ويعذب،
وكان سواد الأمة ومعظم علمائها من الفريق القائل بأن القرآن قديم.
أما الفريق القائل بالحدوث، ويسمّى (المعتزلة) فاتفق له من بعض خلفاء
بني العباس من يأخذ بقوله، ويحمل الناس عليه، ومن ثَمَّة كانت صولته أشد،
وعامل جبروته أنفذ، وكان من هؤلاء الخلفاء الذين أيدوا القول بالحدوث المأمون
بن الرشيد، فكان هذا الخليفة على ما فيه من علم صحيح وعقل رجيح، يشدد على
الناس وينكل بهم إنْ قالوا بما يخالف رأيه، فكان الناس لعهده يستترون في بيوتهم،
وينقطعون عن شهود الجمعة والجماعة، ويتسللون من بلد إلى بلاد خشية الفتنة
والإرهاق، وقد مُنِعَ الفقهاء والمحدثون من القعود للناس في المسجد الجامع الواقع
في الجانب الشرقي من الرصافة، وفي غيره من المواضع، إلا بِشْرًا المِرِّيسِيّ
ومحمد بن الجهم ومن رأى رأيهما من علماء المعتزلة القائلين بحدوث القرآن، وكل
من أظهر مخالفتهم قيد إليهم، وعرض قوله عليهم، فإن أصر قتل سرًّا أو جهرًا ,
أو نفي من الأرض، وكان كثيرون من العلماء يوافقونهم في الظاهر خوفًا على
أنفسهم، وفي الباطن يَبرَأون إلى الله مما أعلنوه.
شاع أمر هذه المحنة في بغداد، وجعل أهل الأمصار الإسلامية يتداولون
خبرها ويتعوذون بالله من شرها: قال عبد العزيز بن يحيى الكناني - الذي نلخص
هذه المقالة من رسالة له ألفها فيما حدث له -: اتصل بي وأنا بمكة ما ابتلي به الناس
في بغداد، وكيف استطال عليهم بِشْر المِرِّيسِيّ ولَبَّسَ على أمير المؤمنين وعامة
أوليائه، فأطال همي هذا الخبر، وأطار نومي، فخرجت من بلدي متوجهًا إلى ربي
وأسأله سلامتي حتى قدمت بغداد، فشاهدت من غلظ الأمر وامتداده أضعاف ما كان
يصل إِلَيَّ.
ثم إن عبد العزيز جعل بعد وصوله إلى بغداد يبتهل إلى الله أن يسدده، ويثبت
عزيمته، ويرشده إلى طريقة يتوصل بها إلى قهر تلك الفئة الجائرة، وكف عاديتها،
فبدا له أن يخفي أمره عن الناس جميعًا خشيةَ أن يقتل قبل أن يسمع كلامه، ثم
ارْتَأَى أخيرًا أن يقف بعد صلاة الجمعة في جامع الرصافة ويرفع صوته بمخالفة
أهل البدعة وتسفيه آرائهم وطلب محاجّتهم، فإن إشهاره نفسه على هذه الصورة
يحول دون اغتياله قبل مناظرته، واستماع قوله، ولم يكد ينتهي الإمام من صلاة
الجمعة في ذلك الجامع حتى سمع الناس من الصف الأول حيال القِبْلَة والمنبر،
صوت رجل مكّيّ الزّيّ واقف على قدميه ينادي بأعلى صوته ابنه الصغير الذي
أقامه قبالته عند الأسطوانة الأخرى:
الأب: ما تقول في القرآن يا بني؟
الابن: كلام الله منزل غير مخلوق يا أبتي.
فارتاع الناس لهذه المحاورة وهربوا على وجوههم خارجين من المسجد،
وأسرعت الشرطة فاحتملوا عبد العزيز وابنه إلى رئيسهم (رئيس البوليس إذ ذاك
عمرو بن مسعدة) وكان جاء لِيُصَلِّيَ الجمعة في جامع الرصافة.
الرئيس: أمجنون أنت؟
عبد العزيز: لا.
الرئيس: موسوس؟
عبد العزيز: لا.
الرئيس: معتوه؟
عبد العزيز: لا , والحمد لله، وإني لَصحيحُ العقلِ , جيّدُ الفهْمِ , ثابتُ المعرفةِ.
الرئيس: فمظلوم أنت؟
عبد العزيز: لا.
الرئيس لأصحابه: مروا بهما سحبًا إلى منزلي.
فاحتملهما الشرطة، وجعلوا يعدون بهما سحبًا شديدًا، وأيديهما في أيديهم يمنة
ويسرة، حتى صاروا بهما إلى منزل الرئيس على هذه الحالة الغليظة، فأُدْخِلا عليه
وهو جالس في صحن داره على كرسي من حديد وشواره عليه [1] .
الرئيس: مِن أين أنت؟
عبد العزيز: من أهل مكة.
الرئيس: ما حملك على ما صنعت بنفسك؟
عبد العزيز: طلبت القربة إلى الله ورجاء الزلفى لديه.
الرئيس: هلاّ فعلْتَ ذلك سِرًّا مِن غير نداءٍ ولا إظهارِ المخالفة لأمير
المؤمنين! ! ولكن أردت الشهرة والرياء والسؤدد لتأخذ أموال الناس.
عبد العزيز: ما أردت إلا الوصول إلى أمير المؤمنين، والمناظرة بين يديه لا
غير ذلك.
الرئيس: أوَتفعلُ ذلك؟
عبد العزيز: نعم، ولذلك قصدت، وبلغت بنفسي ما ترى، وتغريري بنفسي
وسلوكي البراري أنا وولدي رجاءَ تأدية حقِّ الله فيما استودعني من العلم والفهم في
كتابه، وما أخذه عليّ وعلى العلماء من البيان [2] .
الرئيس: إن كنت إنما جعلت هذا سببًا لغيره من المطالب إذا وصلت إلى أمير
المؤمنين فقد حل دمك.
عبد العزيز: إن تكلمت في شيء غير هذا، وجعلت هذا ذريعة إليه، فدمي
حلال.
فوثب الرئيس , وقال لأعوانه أخرجوه بين يدي، فأخرجوني أنا وابني بين
يديه، وهو راكب على فرسه، وجعلوا يعدون بنا على وجوهنا، وأيدينا في أيديهم،
حتى وصلنا إلى دار الخلافة الشرقي من بغداد. فدخل الرئيس على المأمون،
وبقيت أنا وابني في الدهليز واقفين على أرجلنا، فأطال ثم خرج إلى حجرة له وأمر
بي:
الرئيس: أخبرت أمير المؤمنين بخبرك، وما فعلت، وما سألته من الجمع
بينك وبين مخالفيك للمناظرة بين يديه، وقد أمر أطال الله بقاءه وأعلى أمره بإجابتك
إلى ما سألت، وأمر بجمع المناظرين على هذه المقالة إلى مجلسه - أعلاه الله - في
يوم الإثنين الأدنى، ويحضر هو بنفسه معهم ليناظروا بين يديه، ويكون هو الحكم
بينكم.
عبد العزيز: أطال الله بقاء مولانا أمير المؤمنين، وأيد دولته.
الرئيس: أعطنا كفيلاً بنفسك حتى تحضر معهم يوم الإثنين، وليس بنا حاجة
إلى حبسك.
عبد العزيز - أدام الله عزك، أنا رجل غريب، ولست أعرف في هذا البلد
أحدًا، ولا يعرفني من أهلها أحد، فمن أين لي من يكفل بي، خاصّة مع إظهاري
مقالتي، لو كان الخلق يعرفونني حق معرفتي، لتبرأوا مني وهربوا من قربي
وأنكروني.
الرئيس: نوكل بك من يكون معك حتى يحضرك في ذلك اليوم، وتنصرف
فتصلح من شأنك، وتتفكر في أمرك، فلعلك ترجع عن غَيّك، وتتوب من فعلك،
فيصفح أمير المؤمنين عنك.
عبد العزيز: ذلك إليك أعزك الله، فافعل ما رأيت. ولما جاءت غداة يوم
الإثنين، حمل عبد العزيز مكرمًا إلى دار الخلافة، وأدخل إلى حجرة رئيس
الشرطة، فسأله هذا عما إذا كان لم يزل مقيمًا على رأيه، ثم نصحه وحذره وخامة
عاقبة مخالفة أمير المؤمنين فيما إذا ظهر عليه مناظروه، وإنه ليس حينئذ إلا السيف،
وإنه إنْ ندم ورجع عن مقالته سأل أمير المؤمنين الصفح عنه، وضمن له جائزة
وقضاء ما له من حاجة، فأجابه عبد العزيز بأنه ما خرج من بلده إلا رجاء إقامة
الحق.
الرئيس وقد وقف على رجليه: قد حرصت على خلاصك جهدي، وأنت
حريص على سفك دمك جهدك.
عبد العزيز: معونة الله أعظم وألطف من أن ينساني، وعدل أمير المؤمنين
أوسع من أن يضيق عليّ.
وكان قد صدر الأمر إلى بني هاشم أن يركبوا، وإلى القضاة والفقهاء
الموافقين لهم على مذهبهم وسائر المتكلمين والمناظرين أن يحضروا، والقواد
والأولياء [3] ، فركب القوم بالسلاح لإحداث الهيبة في نفس عبد العزيز وسائر الناس
الذين يوشك أن يفسدهم، قال عبد العزيز ثم أذن لي، فلم أزل أنقل من دهليز إلى
دهليز حتى صرت إلى الحاجب صاحب الستر الذي على باب الصحن [4] .
الحاجب: إن كنت تحتاج إلى تجديد الوضوء؟
عبد العزيز: ما لي إلى ذلك حاجة.
الحاجب: اركع ركعتين.
(عبد العزيز ركع أربع ركعات ودعا الله) .
الحاجب: استَخِر الله وقم فادخل.
فأزاح الستر وأخذ الرجال (التشريفاتية) بيدي وعضدي وجعل أقوام أيديهم
في ظهري وعلى رقبتي وطفقوا يعدون بي. ونظرني المأمون وأنا أسمع صوتًا:
(خلوا عنه) , وكثر الضجيج من الحجاب والقواد بمثل ذلك، فخلوا عني، وقد كاد
يتغير عقلي من شدة الجزع، وعظيم ما رأيت في ذلك الصحن من السلاح، وهو
ملء الصحن، وكنت قليل الخبرة بدار أمير المؤمنين، ما رأيتها قبل ذلك ولا
دخلتها.
قال عبد العزيز: فلما أوصلني الحُجّاب إلى باب الديوان، وقفت فسمعت
المأمون يقول: أدخلوه قرّبوه، فلما دخلت من باب الديوان، وقعت عيني عليه،
وقبل ذلك لم أنتبه إليه لما كان على باب الديوان من الحجاب والقواد، فقلت: السلام
عليك , يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله
وبركاته، ثم قال: ادْنُ مِنّي، فدنوت منه، ثم جعل يقول: ادن مني، فدنوت منه،
ثم جعل يقول: ادنُ وأدنو، ويكرر ذلك وأنا أدنو خطوةً خطوةً، حتى صرت إلى
الموضع الذي يجلس فيه المتناظرون ويسمع كلامهم، والحاجب معي يقدمني، فلما
انتهيت إلى الموضع قال لي المأمون: اجلس , فجلست.
وسمعت رجلاً من جلسائه يقول - وقد دخلت الديوان -: يا أمير المؤمنين ,
يكفيك من كلام هذا قُبْح وجهه، فوالله ما رأيت خلقًا لله أقبح وجهًا منه، فسمعت
قوله هذا وفهمته، وما رأيت شخصه، على ما كنت فيه من الجزع والرعدة.
قال عبد العزيز: وتبين لأمير المؤمنين ما أنا فيه من الجزع، وما قد نزل بي
مِن الخوف، فجعل ينظرني وأنا أرتعد خوفًا وأنتفض، وأحَبّ أن يؤنسني، ويسكن
روعتي، فطفق يكثر كلام جلسائه، ويكلم عمرو بن مسعدة (رئيس الشرطة) ,
ويتكلم بأشياء كثيرة مما لا يحتاج إليها، يريد بذلك كله إيناسي، وجعل يطيل النظر
إلى الإيوان ويدير نظره فيه، فوقعت عيناه على موضع من نقش الجص قد انتفخ.
فقال: يا عمرو , ما ترى هذا النقش في الجص قد انتفخ وسيقع، فبادر في قلعه
وعمله. فقال عمرو: قطع الله يد صانعه، فإنه قد استحق العقوبة على عمله هذا.
ثم أقبل المأمون على عبد العزيز يسائله:
المأمون: ما الاسم؟
عبد العزيز: عبد العزيز.
المأمون: ابن مَن؟
عبد العزيز: ابن يحيى بن مسلم.
المأمون: ابْنُ مَن؟ (يسأله عن جَدِّه)
عبد العزيز: ابن ميمون الكنانيّ.
المأمون: أوَأنت من كنانة؟
عبد العزيز: نعم يا أمير المؤمنين.
ثم سكت المأمون هنيهة لا يتكلم.
المأمون: مِن أين الرجل؟
عبد العزيز: مِن الحجاز.
المأمون: ومِن أيّ الحجاز؟
عبد العزيز: مِن مكة.
المأمون: ومَن تعرف مِن أهل مكة؟
عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، قلَّ من بها من أهلها إلا وأنا أعرفه. إلا
رجلاً ضوى (لجأ) إليها أو من جاور بها، فإني لا أعرفه.
المأمون: أتعرف فلانًا وفلانًا (وجعل يعدد جماعة من بني هاشم) .
عبد العزيز: نعم يا أمير المؤمنين أعرفهم.
المأمون: وأولادهم وأنسابهم (وذكر شيئًا من ذلك) .
عبد العزيز: نعم (وأجابه عما سأل) .
قال عبد العزيز: وإنما يريد أمير المؤمنين إيناسي، وبسطي للكلام، وتسكين
روعتي وجزعي، فذهب عني ما كنت فيه، وما لحقني من الجزع، وجاءت المعونة
من الله عز وجل، فقوي بها ظهري واشتدّ قلبي، واجتمع فهمي، ثم أقبل المأمون
عليّ , وقال: يا عبد العزيز , إنه قد اتصل بي ما كان منك، وقيامك في المسجد
الجامع، وقولك: إن القرآن كلام الله إلخ , بحضرة الخلق وعلى رءوس الخلائق،
وما كان من مسألتك بذلك من الجمع بينك وبين مخالفيك على القول لتناظرهم في
مجلسي، والاستماع منك ومنهم، وقد جمعت المخالفين لك لتناظرهم بين يدي،
وأكون أنا الحاكم بينكم، فإن تتبين الحجة لك عليهم والحق معك اتبعناك، وإن تكن
الحجة لهم عليك والحق معهم عاقبناك، وإن استقلت أقلناك.
ثم أقبل على بشر المِرِّيسِيّ , وقال: يا بشر قم إلى عبد العزيز فناظره
وأنصفه، فوثب بشر من موضعه كالأسد يثب إلى الفريسة فرحًا، فانحط علَيّ
فوضع ركبتيه وفخذه الأيسر على فخذي الأيمن فكاد أن يحطمه، وغمز علَيّ بقوته
كلها، فقلت: مهلاً، فإن أمير المؤمنين لم يأمرك بقتلي ولا بظلمي، وإنما أمرك
بمناظرتي وإنصافي، فصاح به المأمون , وقال: تنح عنه، وكرر ذلك عليه حتى
باعده مني.
ثم أقبل علي المأمون وقال: يا عبد العزيز , ناظره على ما تريد، واحتج
عليه، ويحتج عليك، وتسأله ويسألك، وتناصفا في كلامكما، وتحفَّظا ألفاظكما،
فإني مستمع عليكما، فنحفظ ألفاظكما. فقلت: السمع والطاعة لأمير المؤمنين،
ولكن عبد العزيز لم يرد أن يشرع في مناظرة خصمه ما لم ينتقم من ذلك البغيض
الذي عابه لأمير المؤمنين بقبح وجهه، وتشويه خلقه، وملخص ما قال في هذا
الصدد: إن يوسف صلوات الله عليه الذي هو أحسن البشر وجهًا، كان حسنه وبالاً
عليه فظُلِم وسُجِن رجاء تغير حلية وجهه وأن يذهب السجن بحُسْنه ولما وقف الملك
على سَعَة علمه، وحسن عبارته في تعبير الرؤيا، صيره على خزائن الأرض،
واعتزل الأمور وصار كأنه مِن تحتِ يدِه، وليست هذه المنزلة إلا بعلمه وكلامه، لا
بجماله وحسن وجهه، وقال: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، ولم
يقل: إني حسن جميل، فوالله ما أبالي يا أمير المؤمنين لو كان وجهي أقبح مما هو
معي، فقد أعطاني الله، وله الحمد، مِن فهم كتابه، والعلم بتنزيله. فقال المأمون:
وأي شيء أردت بهذا القول؟ وما الذي دعاك إليه؟ فقلت: إني سمعت بعض من
هنا يقول يا أمير المؤمنين: (يكفيك من كلام هذا قبح وجهه) فأي عيب يلحقني
في صنعة ربي عز وجل؟ فتبسم المأمون حتى وضع يده على فيه، فقلت: يا أمير
المؤمنين: قد رأيتك تنظر هذا النقش في الحائط، وتنكر انتفاخ الجص، وسمعت
عمرًا (رئيس الشرطة) يعيب الصانع، ولا يعيب الجص، فقال المأمون: العيب
لا على الشيء المصنوع، إنما العيب على صانعه. فقلت: صدقت يا أمير
المؤمنين , وقلت الحق. فهذا (يعني جليس السوء) يعيب ربي لم خلقني قبيحًا.
فازداد المأمون تبسمًا حتى ظهر ذلك عليه، ثم قال: يا عبد العزيز، ناظر صاحبك
فقد طال المجلس بغير مناظرة. ثم أخذا في المناظرة. ولا يمكن أن نتقصى مسائل
المناظرة أو نلخصها لما أن المقام لا يحتمل ذلك، وإنما نشير إلى بعض ما كان
يجري بين المتناظرين مما فيه دلالة على أخلاق العلماء إذ ذاك، وعلى كرم أخلاق
المأمون. من ذلك أن بشرًا سأل عبد العزيز سؤالاً، وكلفه جوابه، ووافقه المأمون
قائلاً: هذا يلزمك يا عبد العزيز. فعند ذلك جعل ابن الجهم وغيره من شيعة بشر
يضجون ويقولون: ظهر أمر الله وهم كارهون، جاء الحق وزهق الباطل، إن
الباطل كان زهوقًا، وطمعوا في قتل عبد العزيز، وجثا بِشْر على ركبتيه، وجعل
يقول: أقر والله يا أمير المؤمنين بخلق القرآن , وأمسك عبد العزيز فلم يتكلم،
فقال له المأمون: ما لك لا تتكلم يا عبد العزيز؟ فقال: سألني بشر وهو المناظر
لي، فضجيج هؤلاء إيش هو؟ وأنا لم أنقطع، ولم أعجز عن الجواب، ولست أتكلم
ما لم يسكتوا. فصاح المأمون لمحمد بن الجهم وغيره: أمسكوا، فأمسكوا، وأقبل
علي , وقال: تكلّمْ يا عبد العزيز واحتجَّ لنفسك. فتكلم وأخذا في المناظرة.
قال عبد العزيز: وجعل بشر يصيح ويقول: لو تركته يا أمير المؤمنين يتكلم
لجاء بألف شيء، فقلت: يا أمير المؤمنين قد ذهبتَ بالحجج , ورضي بشر
وأصحابه بالضجيج والترويج بالباطل، وقطع المجلس، وطلب الخلاص، ولا
خلاص من الله حتى يظهر دينه ويقع الباطل بالحق فيزهقه، فصاح المأمون ببشر:
أقبل على صاحبك ودع هذا الضجيج، وكان المأمون قد قعد منا مقعد الحاكم من
الخصوم.
قال عبد العزيز: وكثر تبسم المأمون من قولي، حتى غطى بيده على فيه،
وأطرق يكتب في الأرض بيده على السرير.
ومما استدل به بشر على مذهبه قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (الأنعام:
102) ، والقرآن شيء من تلك الأشياء المخلوقة.
فأجاب عبد العزيز بما خلاصته: قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (آل
عمران: 28) , فلله نفس، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ} (آل عمران:
185) , فنقول: يا بشر إن نفس الله داخلة في هذه النفوس؟ فصاح المأمون
بأعلى صوته، وكان جهوري الصوت، معاذ الله معاذ الله.
هذا مثال مما كان يجري بين المتناظرين في حضرة المأمون، ولم يزل عبد
العزيز يدحض حجج خَصْمه ويكسر أقواله بالكتاب والسنة والقياس حتى قال المأمون
له: أحسنت يا عبد العزيز , ثم أمر بعشرة آلاف درهم , فحملت بين يديه وانصرف
من مجلسه على أحسن حال وأجملها.
قال عبد العزيز: فسُرّ المسلمون جميعًا بما وهبه الله لهم من إظهار الحق وقمع
الباطل , وانكشف عن قلوبهم ما كان اكتنفها من الغم والحزن , وجعل الناس يجيئون
إليّ أفواجًا، حتى أغلقت بابي واحتجبت عنهم خوفًا على نفسي وعليهم من مكروه
يلحقنا، فقالوا: لا بُدَّ أنْ تملي علينا ما جرى لنعرفه ونتعلمه، فهبت ذلك وتخوفت
سوء عاقبته، فلما ألحّوا علَيّ، قلت: أنا أذكر لكم بعض ما جرى مما لا يجوز علَيّ
فيه شيء ولا حجر في ذكره، فرضوا، فأمليت عليهم أوراقًا مختصرة لأقطعهم بها
عن نفسي، وعن ملازمة بابي.
__________
(*) لصديقنا عبد القادر أفندي المغربي الطرابلسي نزيل مصر.
(1) الشوار: اللباس والزينة، وكأنه يريد به هنا الملابس ذات الطراز الخاصة برؤساء الشرطة والجند في ذلك العصر.
(2) فليعتبر علماء هذا الزمان.
(3) يريد بهم الموالين للخلافة، لا أهل الباطن، كما هو اصطلاح أهل العصور المتأخرة.
(4) أي صحن دار الخلافة، وهذا الحاجب بمثابة سر تشريفاتي اليوم.(11/697)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سياحة صاحب المجلة
(في سوريا)
(1)
(بيروت)
وافيت بيروت في السادس والعشرين من شهر شعبان، وقد صحا الجمهور من
نشوة الفرح بالدستور، وثابوا إلى التفكر والتأمل بعد تلك الرياضة في روض
الوجدان والشعور، وكان مما يحمد عليه أهل بيروت ويذكرون به أنهم قد انتقلوا من
خمول الاستبداد إلى نشوة السرور بالحرية، ومن هذه النشوة إلى السكون والروية،
ولم يكن منهم غلو مذموم، كما يحصل عادة في مثل هذا الانتقال بمقتضى قاعدة
(رد الفعل) ، وقد اشتهر ما كان من تحول الضغائن والأحقاد بين المسلمين
والنصارى منهم إلى المسالمة والوداد، وكان المسلمون هم البادئين بهذا الخير، كما
كانوا في الغالب يبدءون، وكما يقال بالشر.
وقد رأيت فضلاء المسلمين في هذه الأيام مهتمين بأمرين عظيمين، أحدهما
مشترك بين جميع العثمانيين، وهو ما تفكر فيه جمعية (الجامعة العثمانية) من
إنشاء مدارس لتعليم جميع الطوائف وتربيتهم على الوحدة الوطنية أو نحو ذلك من
الأعمال. ولا بُدَّ أن يكون فضلاء النصارى متفقين معهم على ذلك، وإنما أسندت
الاهتمام به إلى المسلمين عن علم، وجعلت مشاركة النصارى لهم من قبيل
الاستنباط العقلي لأنني لم أجتمع بأحد من علماء هؤلاء وفضلائهم، فأعرف
بالاختبار ما يهتمون به من الأعمال في عصر الدستور، إذ كان أهل العلم والفضل
من المسلمين هم الذين استقبلوني في البحر وأكرموا مثواي في البر. وما كانت
إقامتي بينهم إلا ثلاثة أيام ضاقت عن رد الزيارة لجميع الزائرين منهم، ولو طالت
لتصديت للقاء أهل الرأي من غيرهم.
والأمر الثاني مما يهتم به المسلمون خاص بهم، وهو ما توجهت إليه همة
(الجمعية العلمية) من إحياء المدارس التي أسستها من قبل جمعية المقاصد الخيرية،
وكانت تدير نظامها شعبة المعارف التي قضى عليها الاستبداد، فجعل هذه المدارس
أثرًا بعد عين، ولا أذكر ما سمعته من الآراء في إيجاد المال لهذه المدارس واختيار
كتب التعليم لها بعد النظر فيما بين الأيدي منها، وجَلْب مثله من مصر، وإنما أرجو
أن أكتب بعد قليل من الزمن من أخبار أعمال هذه الجمعية ما يحقق أفضل الآراء
وأنفعها.
رأيت مسلمي بيروت مستعدين لقبول كل إصلاح ديني ومدني، ورأيت فيهم
نفرًا من أهل الغيرة الملية والميل للأعمال التي تنهض بالأمة وترقي شأن البلاد،
وقد أحببت أن يكون لي حظ من معرفتهم وسعي في جمع صفوة أهل الإخلاص منهم
ومكاشفتهم بما أراه من أصول الإصلاح، وقد سرني من حديث من اجتمعت به منهم،
أنني رأيت التفاوت بينهم غير بعيد، والخلاف بين طبقاتهم غير شديد، والتنافس
بين أهل الظهور لم يهبط إلى دركة الحسد، ومقاومة الجامدين للإصلاح لم ترتق
إلى درجة المقاومة.
والسبب في ذلك على ما ظهر لي، أن أذكياء النابتة الذين يحبون الإصلاح لم
يتربوا تربية أوربية تبعدهم من الدين وتشوه مدنية سلفهم في أعينهم، وتحبب إليهم
الانسلاخ من كل قديم، وتزين لهم الافتتان بكل جديد، كما فُتِنَ كثير من المتفرنجين
في الآستانة ومصر وتونس، ولم يتوسعوا في علم الكلام والفقه فيجعلوهما مع فنون
العربية كل المطلوب لارتقاء المسلمين، ولم يحرموا منهما حرمان من يعادي الشيء
لجهله به - وإن المشتغلين بالعلوم الدينية والفنون العربية لا يوجد كثير من المتقنين
لها والبارعين فيها الذين يخشى أن يكونوا زعماء قادرين على تأليف العصبيات
لمقاومة الإصلاح، كما هو شأن رجال الدين الجامدين في كثير من بلاد المسلمين.
ونتيجة هذا أن قلة اشتغال مسلمي بيروت بالكتب الإسلامية المتداولة وعدم
افتتانهم بالتفرنج قد جعل نفوسهم مستعدة للإصلاح الذي لا يرتقي المسلمون بدونه،
وهو الجمع بين هداية الكتاب والسنة وبين العلوم والمعارف العصرية بغير معارضة
قوية.
رأيت من النابتة العصرية من يقول: يجب علينا أن نعمل بمعزل عن الشيوخ
الجامدين، ولا نبالي بهم، رضوا أم سخطوا، ومن يقول: لا بُدَّ من مقاومتهم
والقضاء على نفوذهم، ومن يتوسط فيقول: بوجوب مسالمتهم ومداراتهم والاستعانة
بمن لان جانبه منهم، والمرجع عندي أن العاملين في بيروت لا يجدون مقاومة يعتد
بها، وأحوج ما يحتاجون إليه المال والزعيم الذي تجتمع عليه القلوب، ومتى وجد
أصحاب الهمم من الرجال، سهل عليهم إيجاد المال، والزعيم إنما يشترط لإتقان
العمل وكماله، فلا يتعذر على أهل الغيرة الابتداء بالعمل مع فقده. ومتى تكونت
الأعضاء تكونًا طبيعيًّا ثبت لها رأس طبيعي.
أما حكومة بيروت فهي سائرة في طريق النظام بهمة واليها ناظم باشا،
وحزمه ودرايته، ولكن هذا الوالي لم يأت بعمل ما في ملحقات الولاية، كما يعلم
من الكلام الآتي عن طرابلس، ولولا قرب عهده بالمجيء إلى الولاية، لقلنا: إن
حسن حال الأهالي هو الذي حسن حال الحكومة في مدينة بيروت، فهو لا يدل على
فضله ولا يقوي الرجاء في إصلاح حال الولاية بحسن إدارته، ولكنه لقرب عهده
لمَّا يتمكن من تنظيم إدارة داره فلا مجال للومه.
* * *
(طرابلس الشام)
وافيت هذه البلدة، وقد أهوت شمس يوم الجمعة (وهو التاسع والعشرون من
شعبان) إلى الغروب، والناس يرقبون غروبها ورؤية هلال رمضان بعده، أقبلوا
يستهلون، فبدا الهلال لعين واحد منهم، فحكم القاضي بشهادته، وأصبح الناس من
ليلتهم صائمين.
مكثت في دار صديقي الصديق الشيخ محمد كامل الرافعي أسبوعًا كاملاً أستقبل
وفود الزائرين المهنئين من العلماء وعمال الحكومة والوجهاء ورجال الجمعيات
الثلاث: جمعية الاتحاد والترقي، وجمعية الجامعة العثمانية، والجمعية العلمية.
وقد ظهر لي مما دار بيني وبين صفوة الناس من الطبقات العليا والوسطى، أن
استعداد مسلمي طرابلس للإصلاح الديني والمدني دون استعداد مسلمي بيروت.
ذلك بأن مسلمي طرابلس أكثر من أهل بيروت اشتغالاً بدرس كتب الفنون
العربية والعلوم الإسلامية التي وضعت منذ القرون الوسطى بعد انحطاط مدنية
المسلمين وضعفهم في العلوم، وهي مما يضعف الاستعداد؛ لأنه يشغل الفطرة ولا
يكملها، فيكون عائقًا لها عما سواه، كما أشرنا إليه في الكلام عن استعداد أهل
بيروت، وربما نوضحه في فرصة أخرى، على أن أهل طرابلس قد قل اشتغالهم
في السنين الأخيرة لحكم الاستبداد، التي اضطهِدَ بها العلم وكتبه أشد الاضطهاد.
هذا سبب معنوي من أسباب ضعف استعداد أهل طرابلس، وسيعده أكثرهم
غريبًا أو باطلاً بالبداهة محتجين بأن من كان أوسع علمًا في فن أو علم ما كان أقوى
استعدادًا لغيره، ولا محل هنا لدحض هذه الحجة أو إبطال هذه الشبهة. وثم سبب
آخر، وهو الفراغ والبطالة في طائفة كبيرة منهم وعدم المنافسة والارتقاء في العمل
عند أكثر العاملين.
ومن الأسباب في ذلك قلة احتكاك أهل طرابلس بمن هم أرقى منهم في العلوم
والأعمال من الأجانب والعثمانيين، فإن طرابلس أصبحت كأنها بمعزل عن العالم
المدني، لا يهاجر إليها المرتقون في العلوم، إذ لا مدارس ولا تعليم فيها ولا
المرتقون في الأعمال التجارية أو الصناعية أو الزراعية؛ إذ لا رجاء لأحد في
الكسب منها.
ومنها ما هو أثر طبيعي لما قبله من عدم وجود الجرائد اليومية إليها من
بيروت؛ لأنها غير متصلة بها بسكة حديدية، فالمقيم فيها لا يعرف شيئًا يعتد به من
أحوال العالم.
من أجل هذا وذاك كانت حكومة طرابلس شرًّا من حكومة بيروت في وقت
الاستبداد، ولم تنل نصيبًا من الإصلاح في زمن الدستور، وقد كان فسادها الماضي
وضعفها الحاضر علة لكثرة الأشقياء فيها المستعينين بها على السلب والنهب والنيل
من أعراض الناس ودمائهم، فإن هؤلاء الأشقياء زعماء يشترون ذمة كبراء الحكام
ويشاركونهم بما يتمتعون به من أموال الناس وأعراضهم ويرضخون لأفراد الشرطة
والزبانية بدريهمات يستعبدونهم بها، فإذا رفعت على أحدهم قضية كفاه أمرها رجال
المحاكم، فإذا جاء البلد حاكم جديد، وحاول أن يقرر فيها الأمن ويقيم ميزان العدل
وأنفذ الشرطة إلى بعض هؤلاء الأشقياء المتهمين بالقتل والضرب أو السلب والنهب
عادت إليه الشرطة قائلة إنهم قد فروا هاربين، فلا يعلم مكانهم، وإنما يكونون هم
الذين لقنوها ما تقول.
* * *
(حادثة الاعتداء علي وسببها)
ما كنت لأذكر هذه الحادثة في المنار، لو لم تشتهر في الأقطار، ويظلم بها
أهل طرابلس على الإطلاق، حتى وجب علي أن أبرئ المظلومين، وأبين سبب
تقصير المقصرين.
حقيقة الحادثة أنني دخلت طرابلس باحتفال عظيم لم يسبق له نظير فيها، فقد
استقبلني عند الباخرة في البحر جمهور من أهل العلم والوجاهة، ووفود من
الجمعيات الثلاث: جمعية الاتحاد والترقي؛ والجمعية العلمية؛ وجمعية الجامعة
العثمانية، وكان في الانتظار على رصيف الجمرك في الميناء جماهير من جميع
الطبقات، وجوقة مويسيقية أرسلتها جمعية الاتحاد والترقي، فلما أقبل عليهم
الزورق الذي يحملنا مرفوعًا عليه العلم العثماني - أعزه الله تعالى - صدحت
المويسيقى، وبعد السلام على كثير من المستقبلين ذهبنا إلى موقف الترام الذي بين
الميناء والبلد، فإذا بمركبة كبيرة من مركبات الترام معدة لنا من قبل جمعية الاتحاد،
فتبوأناها مع خواص أعضاء الجمعيات وجوقة المويسيقى في مقدمتها والناس من
حولها يطلقون البارود. فوقفت في نافذة من نوافذ المركبة وشكرت للقوم أريحيتهم
وسارت المركبة حتى إذا ما بلغت الموقف من البلد، استقبلنا فيه جمهور آخر،
وسرنا حتى إذا كنا بالقرب من الدار التي نؤمها في أشهر شوارع البلد وأسواقها،
فاجأنا شقي من أولئك الأشقياء الذين أشرنا إليهم، اسمه كامل المقدم، فقال أين هذا
الذي تسلمون عليه؟ فعرفني بالقرينة، فضربني بعصا في يده، وقعت على جانب
رأسي، ثم رفعها ثانية، وأهوى بها فتلقاها الشيخ محمد كامل الرافعي، وكان عن
يساري في مقدمة الناس. فأخرج الشقي مسدسًا، وأطلق منه رصاصة واحدة،
اعْتَقَدْتُ أنه يريد بها قتلي، واعتقد الجمهور ذلك فيما يظهر، فإنهم أرجعوني
وأحدقوا بي، وأرادوا إدخالي لأحد البيوت المجاورة لذلك المكان. وتقدم إليه أكثر
من واحد منهم، فطردوه ثم استأنفنا السير إلى دار الرافعي، وكانت قريبة منا،
وهنالك أخبرني القوم بالمعتدي، وأنه ابن عبد الرحمن أفندي المقدم، الذي كان
يجلني وأنا طالب علم أشدّ الإجلال، على ما كان رحمه الله من كبرياء، حتى إنه
كان يستقبلني ويشيعني عند الباب.
ذلك أنه كان قد اعتدى على إخوتي من قبل بإيعاز عصبة من تلك العصب
التي أشرنا إليها (والشر داعية الشر) فالظاهر أن تلك العصبة ثقل عليها أن يَعتزَّ
مَن اعتدَتْ عليهم بأخ لهم، لأنها تحب أن يكون شرها دائمًا لا ينقطع. وقد رأيت
جميع الناس من جميع الطبقات يعتقدون ذلك، ولولا هذا الاعتقاد لأظهروا استياءهم،
ولقامت قيامتهم على هذا الشبح البالي من حكومتهم على عدم ثقتهم بها، بل
لاستنهضوا همة حكومة الولاية إلى معاقبة ذلك المعتدي، الذي عدوا جريمته إهانة
لهم كلهم، أي إهانة لأهل البلد، لأنه أساء إلى المئات من فضلائهم بالتعدي على
الضيف الذي يحدقون به تعظيمًا له وتكريمًا، وقد سمعت من الناس وعنهم ما
جزمت به وأيقنت بأن الاستياء العام كان شديدًا، وأن بعض أهل الجرأة جهروا
لزعماء عصبة ذلك الشقي وله بسوء هذا العمل، وبمقت الناس لهم لأجله، وحدثني
بعض الكبراء والمتوسطين أن أولئك الزعماء أقسموا جهد أيمانهم بأن هذا الأمر لم
يكن بإيعاز منهم، وأنهم وبخوا الشقي الفاعل، وكادوا يطلقون عليه الرصاص! !
ولكنهم مع هذا يهددون من دعتهم الحكومة للشهادة ليكتموها أو يحرفوها، ويخفون
الشقي عن عين الحكومة، ويطلبون المصالحة قبل القبض عليه! ! ! .
هذا هو السبب في سكوت جمهور أهل طرابلس وإغضائهم على القذى، ولو
وثقوا بحكومتهم وأمنوا بقوتها شر تلك العصبة، لأظهروا سخطهم لها وللناس قولاً
وكتابةً، فهم معذورون في سكوتهم. على أن فيهم من تحمس ليذهب بوفد إلى
الولاية ليخاطبوا الوالي في الأمر، فلم أرض بذلك، ومن شجعانهم من تمنى لو كان
حاضرًا لينتقم من المعتدي عند الاعتداء.
أقول هذا جوابًا لأولئك الفضلاء: الأخيار الذين كتبوا إلينا من بيروت ولبنان
والشام ومصر يقولون: اترك (فيحاء الأشقياء) تنعي من بَنَى أول حجر فيها
وارحل إلينا، حيث تلقى من الكرامة كيت وكيت، ويقولون: لو كنا معك لعلمنا
أهل طرابلس، كيف يوجد من عارفي قدرك من يفديك بدمه.
وكتب إلي صديقي رفيق بك العظم، ينصح لي بأن أقضي بقية إجازتي في
بيروت ودمشق وحمص وحماة. وقد تحمس أهل النجدة من بيروت وائتمروا
بينهم ليرسلوا وفدًا منهم يحضرني من طرابلس، وعصبة من الشجعان، لينتقموا لي
من المعتدين بالقوة، إذا كانت الحكومة عاجزة عن ذلك، أو متهاونة فيه، وكتب
إلي أكثر من واحد يستشيرني أو يستأمرني بذلك، وقد تطوع نحو خمسين رجلاً من
فدائية بيروت (الأبضايات) بذلك، فكتبت إلى بعضهم، أنه لا حاجة إلى ذلك،
وأنني في طرابلس عزيز كريم.
أراد ذلك الشقي أن يحط من قدري غلوًّا في الانتقام من إخوتي، فكان عدوانه
مزيدًا في كرامتي، وإهانة له ولعصبة الأشرار، في القرى والأمصار والأقطار،
بل إهانة لأهل بلده الأخيار منهم والفجار، فقد طار البرق بالحادثة منذ تلك الليلة إلى
بيروت، ونشر الخبر في جرائدها، فعلم به الناس في سوريا ولبنان ومصر،
فطفقوا يذمون طرابلس وأهلها قولاً وكتابة، وقد نقل ذلك إليها كثير ممن كان من
أهلها في بيروت. وتلك سنة الله: رجل يهين أمة، ورجل يشرف أمة، كما
أطروني برسائل البرق والبريد، وتحدثوا بخدمتي الصغيرة للإسلام وللدولة والملة
فكبروها تكبيرًا، بمثل البرقية التي وردت إلي من شيخين من أشهر أهل العلم
والأدب في مصر، ونصها: (نهنئ العلم والدين بنجاة ركنهما الركين) ، ومثل
البرقية التي وردت من فاضلين من أشهر أهل بيروت علمًا وأدبًا، ونصها (الهناء
لكم ولنا وللمسلمين بسلامتكم التي تهمنا جميعًا) ، وهنالك برقيات كثيرة بهذا المعنى
من بلاد كثيرة، منها برقية بإمضاء بضعة عشر رجلاً، وهم خيرة أهل بيروت،
ولا تسل عن رسائل البريد، وما فيها من الإطراء والتنديد.
وليست الرسائل الواردة بما ذكر كلها من المسلمين، بل منها ما جاء من
فضلاء النصارى، فكانت الحماسة فيها أشد، ولسان الإطراء والقدح أحدّ، كرسالة
صديقنا نقولا أفندي شحاده، من زحله، التي يتمثل فيها بقول السيد المسيح عليه
السلام، الذي معناه أنه لا يهان نبي إلا في قومه وبلده، ورسالة صديقنا رئيف
أفندي شدودي، من جونيه، الذي تمنى فيها كما تمنى كثير من أهل بيروت لو
كان معي وقت الحادثة، فيري أهل طرابلس كيف يفديني بدمه حماه الله، فأشكر
لجميع أولئك المهنئين أريحيتهم وفضلهم، وأكرر لهم الاعتذار عن أهل طرابلس في
المنار، كما اعتذرت عنهم فيما كتبته إلى الكثير من المهنئين، وأصرح لهم بأنهم لم
يقصروا في الحفاوة بي، بل بالغوا وأغرقوا، حتى كنت أخجل مما أسمعه من
شيوخ العلم وكبار الوجهاء، من جمل الثناء والإطراء، مثل: بيضت وجوهنا،
بيض الله وجهك، شرفت بعملك سوريا والعرب، أحييت بخدمتك العلم والدين،
عملت للدولة كيت وكيت. حتى قال لي أحد العلماء: إن هذا المجد الذي نلته لم ينله
أحد من أهل طرابلس فيها. وقال لي أحد أدباء النصارى: إن الناس يستقبلونكم أيها
الأحرار كما يستقبلون الفاتحين، لا كما يستقبلون الأعزاء الغائبين. وإنني أشهد
قراء المنار على نفسي بأنني لا أستحق هذا الثناء والإطراء ولا بعضه، وإنني
ذكرت منه ما ذكرت وأنا في خجل شديد، ولولا قصد تبرئة أهل وطني الذي ربيت
فيه مما جناه عليهم ذلك الشقي المسكين، لما ذكرت ما ذكرت من الإشارة إليه،
وسأذكر في رسالة أخرى ما كان من اهتمام دولة الوالي بالحادثة، وما كان من أثر
ذلك.
ومن آيات رضا أهل طرابلس عن هذا العاجز، دعوة الكثيرين من أهل
الرأي والمكانة منهم إياه لترشيح نفسه لمجلس المبعوثين وتصريحهم في الملأ بأنه
أجدرهم بذلك. ولكنني لم أترك ما عندي من اليقين بعجزي لحسن ظنهم بي،
ولذلك كنت أعتذر لكل داع بما أرى أنه يقبله مني.
* * *
(طلاب العلم الاستقلالي بطرابلس)
وقد سرني في طرابلس سرورًا عظيمًا أن رأيت فيها فئة من طلاب العلوم
الدينية يرغبون عن التقليد ويذمونه، ويميلون إلى الاستقلال في العلم وينتحلونه،
ويعترفون بأن حياة الدين إنما تكون بالرجوع إلى الكتاب العزيز والسنة الصحيحة،
وترك ما عداهما من الآراء الكثيرة، رأيت هؤلاء وذاكَرْتُهُمْ بعد أن كتبت ما تقدم من
المقابلة بين أهل طرابلس وأهل بيروت، ولم أرَ مثلهم من الطلاب في بيروت،
ولكنني أظن أنه يوجد فيهم من هم على هذه الشاكلة، وربما كان عددهم أقل، لأن
الطلاب في طرابلس أكثر.
وقد رغبت من لقيت من هؤلاء الطلاب في العلوم الرياضية والطبيعية
والفلسفة العصرية، فألفيت آذانًا واعية وقلوبًا وأذهانًا مستعدة، ولكن وسائل العلم
غير متيسرة لهم الآن، وربما لا يتيسر السعي لهم إلا بعد حين من الزمن. ولهذا لم
أرجع بعد لقي هؤلاء النجباء عن رأيي في ترجيح استعداد مسلمي بيروت للعمل
على استعداد مسلمي طرابلس، وإن كان في الكلام عن هؤلاء الطلاب نوع من
الاستدراك على ما تقدم.
* * *
(الجمعيات في طرابلس)
ألّف أهل طرابلس ثلاث جمعيات غير فرع جمعية الاتحاد والترقي، كما فعل
أهل بيروت، الأولى جمعية الجامعة العثمانية، ولها ناد يجتمع فيه أعضاؤها، وهم
الآن يفكرون في عمل مالي يكون لهم منه ريع يمكنهم من الخدمة النافعة للبلاد التي
توثق بها عرى الجامعة العثمانية، وما أظن أن ذلك ميسور الآن، ففائدتها محصورة
في اجتماع أعضائها في ناديها، فنقترح عليهم أن يطالعوا فيها الكتب النافعة التي
تغذي العقول وترقي الأفكار والآداب، ككتب التربية والأخلاق والمجلات العلمية،
وأن يتمرنوا فيه على الخطابة في السياسة والآداب وشئون الاجتماع والعمران، وأن
يكون لهم في كل شهر مناظرة في مسألة علمية أو سياسية أو اجتماعية، فبذلك تكون
جمعيتهم نافعة مذ اليوم، فإن تيسر لهم بعد ذلك جلب المال وإنفاقه على عمل من
الأعمال كانوا به أبصر، وعليه أقدر.
والثانية الجمعية العلمية، ورأيت بعض أعضائها يتحدثون بجعل تعليم الفنون
العربية والعلوم الشرعية بطريقة منتظمة في مدرسة كبيرة، يتخرج فيها المستعدون
للتدريس والقضاء الشرعي والمحاماة. ويقول آخرون منهم: إن إنشاء هذه المدرسة
لا يكون إلا بمال كثير، وهو عسير علينا غير يسير، على أنهم لو وجهوا همتهم
إلى جمع المال لتيسر لهم جمع مقدار يكفيهم لاستئجار دار يعلمون فيها، وأكثر
الشيوخ لا يسألون على التعليم أجرًا، والطلاب هم الذين يشترون الكتب لأنفسهم،
وليس من مقاصد الجمعية تعليم العلوم الطبيعية التي يتوقف تعليمها على الآلات
والمعلمين بالأجور، فتحتاج إلى المال الكثير، ولكن أعضاء الجمعية مختلفون في
الأمر، وهو غير عظيم، فبعضهم يشعر بهمة في نفسه تصغر له الكبير، فيرميه
الآخرون بالغرور والتغرير، ولعلهم يشرعون في التعليم بالطرق المستحدثة والكتب
المختارة، ولو في المساجد إلى أن يتيسر لهم ولغيرهم من المسلمين تحويل معظم
الأوقاف الخيرية للتربية والتعليم، وعسى أن لا يكون ذلك بعيدًا.
وأما الجمعية الثالثة، فقد أطلق عليها اسم الجمعية الخيرية، والذي يفهمه
القراء من هذا الاسم أنها جمعية تجمع الأموال لإعانة الفقراء والعجزة، ولكن الذي
وصل إلينا من خبرها أنها شركة مالية أسسها بعض الأغنياء لأجل استغلال أموالهم
بالأعمال الكبيرة التي يرجى ربحها، وسمعت كثيرين من أعضاء الجمعيات الأخرى
يطلقون على مؤسسي هذه الجمعية أو الشركة لفظ (حزب التقهقر) ويقولون: إن
أكثرهم من الذين عزلوا بعد إعلان الدستور لخيانتهم وفسادهم في الحكومة الماضية
أو استقالوا لعلمهم بأنهم لا بُدَّ أن يعزلوا إن لم يبادروا بالاستقالة، ويقولون: إنهم
أعداء الدستور، ويطعنون دائمًا بجمعية الاتحاد والترقي، ويكابرون أنفسهم فيدعون
أنها لم تعمل عملاً، وقد ذكر لي اسم ثلاثة منهم لم أسمع من أحد منهم شيئًا مما
يحكونه عنهم، ولكنني سمعت من شابين من أعضاء هذه الجمعية أو أنصارها،
وربما كانا لسان الجمعية الناطق وقلمها الكاتب.
وفي هذا المقام أشكو مما سمعت في طرابلس من طعن الناس بعضهم ببعض،
حتى في المحافل والأندية العامة، وأرجو أن يفتح الله لهم في أيام الدستور من
الأعمال، ما يشغلهم عما يضر ولا ينفع من الأقوال.
* * *
(العمران في طرابلس)
رأيت داخل طرابلس على ما تركتها عليه منذ إحدى عشرة سنة، كأنه لم
يتبدل ولم يتحول فيها شيء، حتى خيل لي أن ما رأيته في الدكاكين ومخازن التجار
هو الذي تركته فيها بعينه، وقلما رأيت أحدًا ممن أعرفهم انتقل من دكانه سواء كان
مالكًا أم مستأجرًا. وأما ضواحي البلد فقد تجدد فيها دور وقصور كثيرة على عدم
نمو الثروة الطبيعية. فالزراعة لا تزال على حالها وعليها مدار معيشة السواد
الأعظم. والصناعة كذلك على حالها وليس في طرابلس منها ما يعد مصدرًا لارتقاء
ثروتها ولم تتصل بها سكك حديدية ترتقي بها تجارتها، فأكثر الذين أَثْرَوْا فيها هم
من عمال الحكومة أكلة أموال الناس بالباطل.
* * *
(شعائر الدين)
لعل أهل طرابلس أشد أهل سوريا محافظةً على شعائر الدين، من صلاة
وصيام، وأبعدهم عن الجهر بالمعاصي، وحسبك من هذا أن صاحب قهوة أحضر
في هذه الأيام بعض النساء الراقصات ليروج بها قهوته، فقامت قيامة أهل العلم من
المسلمين عليه، وتعصب لهم الجمهور حتى ألزموا الحكومة بمنعه من ذلك.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(11/706)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تسامح الدين الإسلامي
جاء في جريدة اللواء تحت هذا العنوان ما يأتي، مع تصحيح قليل:
(نشرت جريدة (ريج) الروسية أن مخبرها الخصوصي في الآستانة العلية
قابل سماحة شيخ الإسلام، وطرح عليه أربعة أسئلة طالباً الجواب عن كل منها،
وهي:
1- ما رأي شيخ الإسلام في تعليم المرأة المسلمة؟
2- ما رأي شيخ الإسلام فيما نشرته الجرائد التركية من وجوب ترجمة القرآن
الكريم إلى اللغة التركية؟
3- بأي نظر ينظر شيخ الإسلام إلى المدارس الفنية العثمانية؟
4- ماذا يفهم شيخ الإسلام من الأقوال القائلة بالحرية في الدين؟
أجاب سماحته عن السؤال الأول بقوله (إن القرآن الكريم يأمر الرجال
والنساء جميعاً (بالعلم) فيلزم كل فرد من أفرادهما أن يتعلم القراءة والكتابة، ولهذا
السبب نقابل - بانشراح صدر - انتشار التعليم بكل أنواعه بين النساء، زيادة على
تحصيلهن العلوم الابتدائية، لأني أرى من الأوفق والأصوب أن تتولى الطبيبة أمر
معالجة المريضة المسلمة، لذلك يجب أن تؤخذ الفتيات إلى المدارس الطبية، وأما
مسألة قيام النساء بوظيفة المحاماة والقضاء، فأمرها لم يتم بعد في البلاد الأخرى،
ولا أدري بأي نظر ينظر الأهالي هذه المسألة في بلادنا) .
وقال سماحته مجيباً عن السؤال الثاني:
(فهم القرآن واجب على المسلمين مطلقاً، لذلك لا نعارض فكرة ترجمة
القرآن إلى اللغة التركية، بل نَعُدُّ بَذْلَ كل مجهود في إبراز هذه الفكرة الشريفة إلى
حيز الوجود ديناً عظيماً علينا، ولكن حيث إن في القرآن كثيراً من المواضع
يصعب فهمها على العامة، واشترطت لحلها كثرة العلم والتعلم، لذلك نرى من
الواجب أن تعهد وظيفة ترجمة القرآن إلى أفاضل الفلاسفة المسلمين الذين لهم إلمام
تام بلغة القرآن وروح الإسلام وأدبيات العرب حتى لا يخشى من تغيير معانيه
الجليلة) .
وأجاب عن السؤال الثالث بما ترجمته:
إنا معشر رجال الدين وظيفتنا النظر في شؤون المدارس الدينية، وأما الفن،
فأمره ليس بأيدينا، بل هو راجع إلى الحكومة والأهالي، لذلك نحن لا نتداخل في
أمره، وعلى الحكومة أن تنتخب لمدارسها من الفنون ما ينجم عنه رقي الأهالي
وقوة الدولة وحضارة البلاد ولا نطلب من الحكومة تسليمها لنا ولا أن تكون مدارسها
الابتدائية تحت نفوذنا.
ولا يوجد في المدارس الفنية من الدروس الدينية غير حصة واحدة، وأكرر
القول بأن الفن والصناعة ليسا من عمل رجال الدين، بل من عمل الحكومة،
ولكنهما ليسا بمخالفين للدين، ولهذا السبب نسلم أمر هذه المسألة تماماً إلى الحكومة.
وقال مجيباً عن السؤال الرابع:
(نحن على جانب عظيم من الحرية الدينية، ولكن لا نتداخل في أمور ديانة
الأمم وخصائصها ووجدانها في أي حال، وإذا تداخلنا فإنما يكون ذلك باللسان فقط،
ويأمر الدين الحنيف كل مسلم متزوج بزوجة مسيحية أن يرسل زوجته مرتين في
الأسبوع لزيارة أقربائها، ولم يأمر نبينا الكريم الناس بما لا طاقة لهم به، حتى أن
تركيا لم تضغط، ولا في الأزمنة التي كانت لها فيها قوة كبرى، على رعاياها
المسيحيين في أمورهم الدينية، فينبغي أن ينفذ حكم الحرية التامة في أمور الديانات
ليأمن كلٌّ على معتقده وديانته) .
* * *
(شأن المرتدين عن الإسلام)
وهنا قطع المخبر كلام سماحته سائلاً رأيه في المنتقلين من الإسلام إلى
المسيحية، فأجاب قائلاً: افرضوا أن فرقة عسكرية فرت من بين صفوف المقاتلين،
لا شك أنكم تعتبرونها خائنة شر خيانة، وحينئذ تحكمون عليها بأشد العقاب،
ونحن كذلك أمة واحدة، نذوب أسفاً على كل خارج من صفنا ونستاء منه استياء
شديداً وليس أمرنا هذا مخالفاً للحرية الدينية المبنية على أساس أن كل الناس
مختارون في أمر الدين، ولا نطلب بأي حال من الحكومة أن تعاقب الخارجين من
الدين أو نضغط عليهم بالقوانين والتضييق، كما لا نحكم على الخارجين عن الدين
إلا بالحكم المعنوي، ولا يمكن إجبار الناس لقبول الإسلام أو المسيحية، وإذا كان
لشخص اختيار في الارتداد فلا يمنعنا مانع عن إظهار كراهتنا له ونفورنا منه.
(زواج المسلم بالمسيحية [1] )
وسأل المخبر سماحته أيضاً قائلاً: إن الإسلام يصرح لمنتحليه بزواج الفتاة
المسيحية، ولماذا يمنع الفتاة المسلمة من الزواج بالمسيحي! فأجاب بقوله:
(تعرفون أن نفوذ الزوج فوق نفوذ الزوجة في المنزل، وهي تابعة له، ونحن معشر
المسلمين نعد كلاًّ من اليهود والنصارى من أهل الكتاب، ونؤمن بكتبهم ونصدق
برسلهم، ولهذا السبب الصراح نقدر على الإقامة مع اليهودية أو النصرانية بلا أدنى
تعد على عقيدتها، ولا تعرُّضٍ لأمورها الدينية، وأما اليهود والنصارى فليسوا
بمؤمنين بالقرآن ولا بمصدقين بنبينا الكريم، بل يعدونهما كذباً محضاً، لذلك
حرُم على المسلمين أن يضعوا فتياتهم تحت نفوذ قوم هذه حالهم مما يحرمه
ديننا الحنيف) .
(مسلمو روسيا)
ثم عرج سماحته بالكلام نحو مسلمي روسيا، فقال: (إني ما زلت أنصح
لمسلمي روسيا بأن يكونوا مطيعين ومخلصين لوطنهم، بيد أنه يجب عليهم أن
يعضوا بالنواجذ على حقوقهم الدينية وعلاقاتهم الجنسية) .
(العلماء الروحيون والحرية الدينية)
ثم فتح باب الكلام أيضاً بشأن الحرية الدينية، إذ قال: (إني في جانب من
يقول بالحرية التامة نحو الدين، وأعتقد أن جميع العلماء الروحيين إذا اعتقدوا أن
جميع البشر إخوان، وأنهم عبيد مستوون عند الله الواحد القهار، زالت من بينهم
المجادلات الدينية، وطمست آثار المظالم والفتن) .
ثم قال المخبر تعليقاً على ما تقدم (فليفهم القراء علو منزلة رئيس علماء
المسلمين وليحكموا على بقية رؤساء الأديان الأخرى) . اهـ
(المنار)
إن قراء المنار يعرفون رأينا في هذه المواضيع، وربما عدنا إليها في جزء
قادم.
__________
(1) المنار: كتبنا منذ ست سنين تعليقاً على كلام للأستاذ الإمام بشأن زواج المسلم بالمسيحية، في كتاب الإسلام والنصرانية، هذا نصه: (يقول بعض النصارى: إذا كان الإسلام أباح للمسلم أن يتزوج بالكتابية، ليعلم البشر التآلف والتعاطف، مع التباين في العقيدة والتخالف، فلماذا لم يسمح للكتابي أن يتزوج بالمسلمة لهذا الغرض؟ والجواب أن الرجال قوامون على النساء، لأنهم أقوى منهن، فليس من العدل ولا من الرحمة أن يسمح لقوي يفرق دينه بينه وبين زوجته الضعيفة ويأمره ببغضها وببغض أولاده ووالديه إذا خالفوا عقيدته أن يتزوج بامرأة مخالفة، أباح الإسلام ذلك لمن يعمل بما أمر من العدل والرحمة، وهو المسلم) ، فرأي شيخ الإسلام موافق لرأينا في روح المعنى، وإن خالفه في الأسلوب.(11/716)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جريدة النظام
جاءنا من إدارة جريدة النظام ما يأتي:
(يسرني أن أنهي إلى علمكم أنني قد عولت بعون الله وحسن توفيقه على
إصدار جريدة يومية سياسية، اسمها (النظام) بالحجم المعتاد للجرائد الكبرى،
سيكون شعارها الدفاع عن مصالح مصر بالإخلاص والصدق اللذين اعتادهما القراء
منا في الخمسة عشر عامًا التي مضت من خدمتنا الصحافية.
فإذا تفضلتم بالإشارة لذلك في صحيفتكم الغراء بشكل يجذب الأنظار , فإنكم
تعجزونني عن النهوض بواجب الشكر لكم. وإذا أردفتم تلك الإشارة، برجاء ممن
يريدون مراسلة الجريدة أو التوكيل عنها في الجهات أن يخاطبونا منذ الآن في ذلك،
بحيث لا تتعدى طلباتهم منتصف شهر نوفمبر، فإنكم تجعلون الفضل فضلين
والشكر لكم عليه شكرين، والسلام)
... ... ... ... ... ... ... ... محمد مسعود
... ... ... ... ... ... ... ... صاحب جريدة النظام بمصر
و (المنار) يرحب بالنظام، ويرجو له نجاحًا وفلاحًا، وتوفيقًا للسير على
النهج القويم، والصراط المستقيم، وإن في خبر صاحبه لمزاولته الكتابة بضع
عشرة سنة، وتفننه الصحافي، وذوقه الأدبي، ما يرجى معه رواج النظام، ورغبة
محبيه فيه.
(الجزائر) وجاءنا من عمر أفندي راسم الجزائري أنه عزم على إنشاء
مجلة (علمية أدبية تهذيبية) سماها الجزائر، ولقد ضاق هذا الجزء عن التنويه بها
بأكثر من هذا فندعو له بالتوفيق والنجاح.
__________(11/719)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تصحيح وبيان
(تصحيح)
سقط السطر الأخير من (ص 568 ج 8 - 11) وهو: (ثلاثون رجلاً. أي
صدقكم الله وعده ونصركم على قِلّتكم وكثرة المشركين , واستمر هذا) فيكتب بالقلم.
* * *
(بيان)
أصدرنا هذا الجزء من المنار غير مُصدَّر بالتفسير والفتاوى؛ لأن صاحب
المجلة لا يزال في سياحته.
__________(11/720)
شوال - 1326هـ
نوفمبر - 1908م(11/)
الكاتب: محمد المهدي
__________
ترجمة الخنساء [*]
هي السيدة تماضر، الصحابية الشهيرة الجليلة، بنت عمرو بن الحارث بن
الشريد من سراة سُليم، كانت رضي الله عنها من شواعر العرب المشهود لهن
بالتقدم، وإنما لقبت الخنساء تشبيهًا لها بالظبية؛ لأن الخنس من صفات الظباء،
وهو تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع في الأرنبة، ويقال لها خناس على سبيل
التمليح، وقد كانت من أجمل نساء العرب وأفصحهن، نشأت عزيزة حرة، لا
تفتات عشيرتها عليها بأمر.
مر بها دريد بن الصِّمَّة فارس هوازن وسيد بني جُشَم وهي تهنأ بعيرًا لها ,
فانخلع لبّه على كبر سنه وانصرف إلى رحله وهو يقول:
حيوا تُمَاضرَ واربعوا صحبي ... وقفوا فإن وقوفكم حسبي
أخناس قد هام الفؤاد بكم ... وأصابه تبل من الحب
ما إن رأيت ولا سمعت به ... كاليوم طالي أينق جرب
متبذلاً تبدو محاسنه ... يضع الهناء مواضع النقب [1]
متحسرًا نضخ الهناء به ... نضخ العبير بريطة العصب [2]
فسليهم عني خناس إذا ... غض الجميع هناك ما خطبي
ثم غدا إلى أبيها فخطبها إليه، فردته أحسنَ ردٍّ، ثم طلب إلى أخيها معاوية أن
يشفع له عندها، فأبت بعد امتحانه، وقالت: أأترك أولاد عمي كعوالي الرماح
وأتزوج شيخًا من بني جشم هامة [3] اليوم أو الغد!! فألحّ عليها، فقالت القصيدة
التي مطلعها:
أتكرهني هبلت على دريد ... وقد أصفحت سيد آل بدر
معاذ الله يرضعني حبركي ... قصير الشبر من جشم بن بكر [4]
فهجاها دريد , فقيل لها: ألا تجيبينه؟ فقالت: والله , لا أجمع عليه أن أرده
وأهجوه، ومن هنا تعلم مقدار أدبها وحريتها وعزتها عند قومها.
وقد كانت في أوائل أمرها تقول البيتين والثلاثة، فلما قتل شقيقها معاوية يوم
حورة الأول سنة 612 م , وقتل أخوها لأبيها صخر يوم كلاب سنة 615 م في
خبرين طويلين، أكثرت من الشعر وأجادت , وأُنسِيَتْ بهما من كان قبلهما وأكثرت
المراثي، وأجود مراثيها ما خلط فيه مدح بتفجيع، فإنه يكاد يكون الغاية من كلام
المخلوقين، كقولها في معاوية:
سأحمل نفسي على حالة ... فإما عليها وإما لها
تهين النفوس وهَوْن النفو ... س يوم الكريهة أبقى لها
فإن تك مرة أودت به ... فقد كان يكثر تقتالها
فيومًا تراه على هيكل ... أخا الحرب يلبس سربالها
ويومًا تراه على لذة ... وعيش رضي فقد نالها
فخرّ الشوامخ من فقده ... وزلزلت الأرض زلزالها
وكقولها في صخر:
ألا يا صخر إن أبكيت عيني ... فقد أضحكتني زمنًا طويلا
دَفَعْتُ بك الخطوب وأنت حي ... فمن ذا يدفع الخطب الجليلا
إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا
وقولها فيه:
أعينَيَّ جُودَا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر ندى
ألا تبكيان الجريء الجميل ... ألا تبكيان الفتى السيدا
طويل النجاد رفيع العما ... د ساد عشيرته أمردا
إذا القوم مدوا بأيديهم ... إلى المجد مد إليهم يدا
فنال الذي فوق أيديهم ... من المجد ثم مضى مُصْعِدا
يُحَمِّله القومُ ما عالهم ... وإن كان أصغرَهم مولدا
وإن ذكر المجد ألفيته ... تأزر بالمجد ثم ارتدى
وقولها:
يا أم عمرو ألا تبكين معولة ... على أخيك وقد أعلى به الناعي
فابكي ولا تسأمي نوحا [5] مسلبة ... على أخيك رفيع الهم والباع
فقد فجعت بميمون نقيبته ... جم المخارج ضرّار ونفّاع
فمن لنا إن رُزِئْناه وفارقنا ... بسيد من وراء القوم دفاع
قد كان سيدنا الداعي عشيرته ... لا تبعدن فنعم السيد الداعي
وزائيتها المشهورة التي تقول فيها:
كأن لم يكونوا حمى يتقى ... إذ الناس إذ ذاك من عزيزا
هم منعوا جارهم والنسا ... ء يحفز أحشاءها الموت حفزا
ببيض الصفاح وسمر الرماح ... فالبيض ضربًا وبالسمر وخزا
وخيل تكدس بالدارعين ... وتحت العجاجة يجمزن جمزا
جززنا نواصي فرسانها ... وكانوا يظنون أن لن تجزا
فمن ظن ممن يلاقي الحروب ... بأن لن يصاب فقد ظن عجزا
نعف ونعرف حق القرى ... ونتخذ الحمد مجدًا وكنزا
ونلبس في الحرب نسج الحديد ... ونلبس في الأمن خزًّا وقزا
ورائيتها السائرة مسير الأمثال:
أغر أبلج تأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
جلد جميل المحيا كامل ورع ... وللحروب غداة الروع مسعار
حمال ألوية هباط أودية ... شهاد أندية للجيش جرار
لا يمنع القوم إن سألوه خلعته ... ولا يجاوزه بالليل مرار
وقد فاخرتها سلمى الكنانية، وكذلك هند بنت عُتْبَة في عكاظ ففخرتهما في
حديث مشهور.
* * *
رتبة الخنساء بين الشعراء
أجمع علماء الشعر على أنه لم تكن امرأة قط قبل الخنساء ولا بعدها أشعر
منها، ولقد كان النابغة الذبياني تضرب له قبة حمراء، فيجلس لشعراء العرب بعكاظ
على كرسي فينشدونه، فيفضل من يرى تفضيله، فأنشدته الخنساء فأُعْجِبَ بشعرها،
وقال: لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لفضلتك على شعراء الموسم. فاغتاظ حسان
بن ثابت - رضي الله عنه - من تفضيل الأعشى على شعراء الموسم، وقال
للنابغة: أنا أشعر منك ومن أبيك، فقال له النابغة يا ابن أخي، أنت لا تحسن أن
تقول:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
ثم قال للخنساء، أنشديه، فأنشدته، فقال: ما رأيت امرأة أشعر منك، قالت:
ولا فحلاً، فقال حسان: أنا والله أشعر منك ومن أبيك حيث أقول:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وَلَدْنَا بني العنقاء وابني محرق ... فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما
فقالت الخنساء: ضعفت افتخارك وأنزرته في ثمانية مواضع، قال: وكيف؟!
قالت: قلتَ: لنا الجفنات، والجفنات ما دون العشْر، فقللت العدد، ولو قلت:
الجفان، لكان أكثر، وقلت: الغر، والغرة البياض في الجبهة، ولو قلت: البيض
لكان أكثر، وقلت: يلمعن، واللمع شيء يأتي بعد الشيء، ولو قلت: يُشْرِقن لكان
أكثر؛ لأن الإشراق أكثر من اللمعان، وقلت: بالضحى، ولو قلت: بالدُّجَى لكان
أكثر في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا، وقلت: أسيافنا، والأسياف دون
العَشرة، ولو قلت: سيوفنا لكان أكثر، وقلت: يقطرن، فدللت على قلة القتل،
ولو قلت: يَسِلن لكان أكثر؛ لانصباب الدم، وقلت: دمًا، والدماء أكثر من الدم،
وفخرت بمن وَلَدْت ولم تَفْخر بمن وَلَدَكَ!! فسكت حسان ولم يحر جوابًا، وقام
منكسرًا منقطعًا، وقد سئل جرير، من أشعر الناس؟ فقال: أنا لولا الخنساء، قيل
بم فضلتك؟ قال بقولها:
إن الزمان وما يفنى له عجب ... أبقى لنا ذَنبًا واستؤصل الراس
إن الجديدين في طول اختلافهما ... لا يفسدان ولكن يفسد الناس
وكان بشار يقول: لم تقل امرأة شعرًا إلا ظهر الضعف فيه، فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ قال: تلك غلبت الفحول.
***
(الخنساء في صدر الإسلام) ...
اتفقت كلمة الرواة على أن السيدة تماضر الخنساء رضي الله عنها كانت
صحابية، قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وقومها بنو سليم وأسلمت
معهم، بيد أنها لم تدع ما كانت عليه في الجاهلية من تسلبها [6] على أبيها وأخويها،
وقد بلغ مِنْ وُجْدها على صخر أنها عميت من البكاء، فلما كانت خلافة عمر رضي
الله عنه أقبل بها بنو عمها عليه، وقالوا: يا أمير المؤمنين لو نهيتها، فدخل عليها
فوجدها على ما وُصفت من تقريح مآقيها، فقال لها: ما أقرح مآقي عينيك يا خنساء؟
فقالت: بكائي على السادات من مضر، فقال: حتى متى؟ اتق الله إن الذي
تصنعين ليس من صنع الإسلام، وإنه لو خلد أحد لخلد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وإن الذين تبكين هلكوا في الجاهلية، وهم أعضاء اللهب وحشو جهنم،
فقالت: ذلك أطول بعويلي عليهم، ثم استنشدها فأنشدته ارتجالاً:
سقى جدثًا أكناف غمرة [7] دونه ... من الغيث ديمات الربيع ووابله
وكنت أعير الدمع قبلك من بكى ... فأنت على من مات بعدك شاغله
فرقَّ لها عمر وقال: خلوا سبيل عجوزكم فكل امرئ يبكي شجوه.
وقد رآها مرة تطوف بالبيت محلوقة تبكي وتلطم خدها، وقد علقت نعل
صخر في خمارها، فوعظها، وقال: إنه لا يحل لك لطم وجهك، ولا كشف رأسك،
فكفت عن ذلك، وقالت:
هريقي من دموعك واستفيقي ... وصبرًا إن أطقت ولن تطيقي
بعاقبة فإن الصبر خير ... من النعلين والرأس الحليق
ولما لامتها السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وقالت لها: إن الإسلام
قد هدم كل الذي تصنعين أنشأت تقول:
ألا يا صخر لا أنساك حتى ... أفارق مهجتي ويُشَق رَمسي
يذكرني طلوع الشمس صخرًا ... وأذكره بكل مغيب شمس
فلولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أسلي النفس عنه بالتأسي
فقد ودعت يوم فراق صخر ... أبي حسان لَذَّاتي وأُنسي
فقالت عائشة: ما دعاك إلى هذا إلا صنائع منه جميلة، فقالت: نعم، إن
لشعاري سببًا، وذلك أن زوجي كان رجلاً متلافًا للأموال، يقامر بالقداح، فأتلف
فيها ماله حتى بقينا على غير شيء، فأراد أن يسافر، فقلت له: أقم وأنا آتي أخي
صخرًا، فأتيته وشكوت إليه حالنا وقلة ذات اليد بنا، فشاطرني ماله، فانطلق
زوجي فقامر به، فقمر حتى لم يبق لنا شيء، فعدت إليه في العام المقبل أشكو إليه
حالنا، فعاد لي بمثل ذلك فأتلفه زوجي، فلما كان في الثالثة خَلَتْ بصخر امرأتُهُ
فعذلته، ثم قالت: إن زوجها مقامر، وهذا ما لا يقوم له شيء، فإن كان لا بُدَّ من
صلتها فأعطها أخس مالك، فإنما هو متلف، والخيار فيه والشرار سيان، فأنشأ
يقول:
والله لا أمنعها خيارها ... وهي حصان قد كفتني عارها
ولو هلكت قددت خمارها ... واتخذت من شعر صدارها [8]
ثم شطر ماله فأعطاني أفضل شطريه، فلما هلك اتخذت هذا الصدار، والله لا
أخلف ظنه، ولا أكذب قوله ما حييت. وقد مكثت أكثر من أربعين سنة وهي أحزن
نساء العرب على فقيد، غير أن الإسلام اجتث جاهليتها ووجهها إلى رضوان الله
وابتغاء مثوبته، يشهد لذلك ما كان من خطبتها في بنيها الأربعة يوم القادسية سنة
16 هـ، وذلك أنه لما ضرب البعث على المسلمين لفتح فارس، سارت مع بنيها
الأربعة وحضرت الوقعة وأوصت أولادها من أول النهار فقالت: يا بني إنكم أسلمتم
طائعين وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم
بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم ولا غيرت
نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين،
واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} (آل عمران: 200) الآية، فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله
سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا
رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، واضطرمت لظى سياقها، وجللت نارًا على
أرواقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، عند احتدام خميسها، تظفروا بالمغنم
والكرامة، في دار الخلود والمقامة. فقاتلوا حتى قتلوا رضي الله عنهم ورحمهم
أجمعين، فبلغها الخبر، فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن
يجمعني بهم في مستقر رحمته. ولما بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك،
أجرى عليها أرزاق أولادها الأربعة، وكان لكل واحد مائتا درهم، حتى قبض
رضي الله عنه، وكانت وفاة الخنساء زمن معاوية بالبادية سنة 50 هجرية 670
ميلادية.
__________
(*) خلاصة درس ألقاه على طلاب مدرسة القضاء الشرعي، الشيخ محمد المهدي، الأستاذ المشهور المدرس بمدرسة القضاء.
(1) الهناء: القطران، والنقب: القطع المتفرقة من الجرب في جلد البعير.
(2) النضخ - كسفح - الرش، والعبير: أخلاط من الطيب، والريطة: هي الملاءة أو الثوب اللين الرقيق، والعصب: ضرب من البرود.
(3) الهامة: طائر صغير، يألف القبور.
(4) الحبركي: القصير الرجلين، الطويل الظهر، والشبر: الخير والعطاء.
(5) النوح: جمع نائحة، على غير قياس.
(6) تسلبت المرأة: لبست السلاب، وهو الحداد، والتسلب هو الإحداد على الميت.
(7) غمرة: مكان، والأكناف: النواحي.
(8) الصدار: ثوب بلا كمين غير مشقوق، تلبسه نساء العرب في الحزن، ويصح أن يطلق على ما يسميه المصريون الصديري، والشاميون الصدرية.(11/787)
الكاتب: الجاحظ
__________
إعجاز القرآن
قطعة للجاحظ
سلك أئمة البلاغة في الكلام عن إعجاز القرآن الكريم سبلاً عديدة وذهبوا
مذاهب مختلفة في تبيين وجوه الإعجاز وبيان أساليب التحدي، وكان الباقلاني
أكثرهم إيفاءً للكلام في كتابه (إعجاز القرآن) الذي جعله خاصًّا بهذا الموضوع،
بيد أن الجاحظ، وهو إمام الكتاب ورئيس المنشئين، سلك سبيلاً أخرى في كلامه
عن إعجاز القرآن، فإنه لم يتعرض إلى دقائق الفصاحة وفلسفة البلاغة وبيان
مناحي الكلام ومسالك النظم والنثر، بل تكلم عن الإعجاز باعتبار كونه ثابتًا واقعًا،
وإليك كلامه:
بعث الله محمدًا عليه الصلاة والسلام في زمن أكثر ما كانت العرب فيه شاعرًا
وخطيبًا، وأحكم ما كانت لغة، وأشد ما كانت عدة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد
الله وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجة، فلما قطع العذر وأزال الشبهة، وصار الذي
يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة، نصب لهم الحرب ونصبوا
له، وقتل من عليتهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن،
ويدعوهم صباحَ مساءَ إلى معارضته - إن كان كاذبًا - بسورة واحدة أو بآيات
يسيرة، فكلما أراد تحديًا لهم بها وتقريعًا لهم بعجزهم عنها، قالوا له: أنت تعرف
من أخبار الأمم ما لا نعرف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا.
قال: فهاتوا ولو مفتريات، فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر، ولو
طمع فيه لتكلفه ولو تكلفه لظهر ذلك ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه
ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وناقض، فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة
كلامهم وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم، وعارض الشعراء
من أصحابه والخطباء من أمته، لأن سورة واحدة وآية يسيرة كانت أنقض لقوله،
وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس والخروج عن الأوطان
وإنفاق الأموال.
وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في
الرأي والنبل بطبقات، ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر، والخطب الطوال
البليغة والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع واللفظ المنثور، ثم يتحدى به أقصاهم،
بعد أن ظهر به عجز أدناهم، فمحال - أرشدك الله - أن يجتمع هؤلاء كلهم في
الأمر الظاهر، والخطاب المكشوف البين، مع التقريع بالتقصير والتوقيف - على
العجز وهم أشد الخلق أنفة وأكثرهم مفاخرة، والكلام سيد أعمالهم، وقد احتاجوا إليه
والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض، فكيف بالظاهر الجليل المنفعة، كما
أنه محال أن يطيقوه ثلاثًا وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة، فكذلك
محال أن يتركوه وهم يعرفونه، ويجدون السبيل وهم يبذلون أكثر منه.
__________(11/721)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة الخطبة الأولى
من خطبنا الإسلامية في الديار السورية
(2)
تابع لما نشر في (ص 641 ج 9 م 11)
الإسلام هو الذي هدى المسلمين إلى العلم، وكانت عنايتهم بالعلوم تنمو بنمو
سلطانهم وقوة شوكتهم، ثم دالت دولة العلم، ودولة السيادة والحكم، وضَعُفَ الدين
مع ضعف العلوم العقلية، وقام الاستبداد يحارب العلم ويضطهده، فإن الحاكم
المستبد يرى من مصلحته أن تكون الأمة جاهلة ذليلةً، إذ الاستبداد في الأمة العالمة
بحقوقها أمر عسير غير يسير. قال حكيمنا السيد جمال الدين: العاقل لا يظلم ولا
سِيَّمَا إذا كان أمة. فهذا سبب ما كنتم تقاسون من محاربة الحكومة التي سقطت منذ
عهد قريب للعلم، واضطهادها للمتهمين به وهو عندها أشد الجرائم! ! !
أتى على المسلمين حين من الدهر وهم لا يجارون أحدًا من الأمم في العلوم
والفنون، وقد ذاقوا مرارة ذلك ورأوا سوء عاقبته في أنفسهم ودولتهم، فصاروا
يفتنون من كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون، كما قال تعالى في
المنافقين: تنقص بلادهم من أطرافها وتسقط في أيدي الأجانب ولاية بعد ولاية بل
مملكة بعد مملكة وهم لا يهتدون إلى سبب ذلك، ولا إلى طريق تلافيه، بل يعتمدون
ويتكلون على ما لا يتكل عليه من كرامات الأولياء ومدد الأموات! ولم يجعل الله
ذلك سببًا للنصر، بل أمر بإعداد ما يستطاع من القوة، حتى في زمن النبي صلى
الله عليه وسلم المؤيد بالآيات الإلهية.
أذكر لكم من الشواهد على ذلك ما يُؤْثَرُ عن أهل بخارى: فإنهم أُنْذِرُوا هجمة
روسيا عليهم، فلم يعدوا لها ما يستطيعون من قوة، بل هزِئوا بذلك وسخروا،
وقالوا إن بلادنا في حماية شاه نقشبند! (هو الولي الذي تعزى إليه الطريقة
النقشبندية) فلما زحف عليهم جيش الروس، لم يملكوا من نجدة هذا الولي لهم
شيئًا، بل انقلبوا على أعقابهم خاسرين، وخسروا استقلالهم وما كانوا معتبرين.
فيا أيها الناس تأملوا وتدبروا: إذا تركت الأمة أن تعد لأعدائها ما تستطيع من
قوة، كما أمر الله تعالى وكما تقتضي طبيعة الاجتماع، واتكلت في حياتها السياسية
والاجتماعية على الأموات، ألا تكون جديرةً بالموت دون الحياة؟ بلى، وهذه هي
حالنا في هذه القرون الأخيرة، ولكن الله تعالى وعد بأن يظهر هذا الدين، وأن لا
يذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، ولذلك سخر لنا من
المجددين من يعلمنا كيف نحفظ شرف الإسلام، ونكون أعزاءَ بين الأنام.
ظهر بين المسلمين أقوام تعلموا العلوم الأوربية وعرفوا أحوال العالم، فرأوا
أن جميع الأمم تقوى والمسلمين يضعفون، ودول النصرانية والوثنية تترقى وتعز،
ودول الإسلام تتدلى وتذل، وبحثوا في سبب ذلك فرأوا أن المسلمين مؤلفون من كل
جنس، ومتبوئون لكل أرض، فلا يمكن أن يكون سبب ضعفهم في كل قطر عدم
استعداد جنسهم، ولا شيء يرجع إلى طبيعة أرضهم، ولم يروا سببًا مشتركًا بينهم
لا يشاركهم فيه غيرهم، إلا تقاليد دينهم، فقالوا - كما قال بعض أساتذتهم من
الإفرنج -: إن دين المسلمين هو سبب انحطاطهم ولا مطمع لهم في الارتقاء إلا
بتركه والأخذ بما عليه أوربا! ! وعلى هذا الرأي الفاسد كثير من نابتة الترك
والهنود والمصريين والتونسيين.
فهذا صنف واقف على طرف مقابل للطرف الذي عليه السواد الأعظم الذي
يمقت العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية التي عليها مدار العمران، والصنفان
يتجاذبان سائر المسلمين، ذاك يدعوهم إلى دنيا بغير دين، وذاك يمسكهم ليبقوا على
ما هم عليه، وما هم بباقين.
بين هذين قامت طائفة معتدلة وقفت موقف الوسط بين الفريقين، فالتفتت إلى
هؤلاء الذين يريدون أن يبقى المسلمون على ما هم عليه حرصًا على دينهم، وقالت
لهم: إن نيتكم صالحة ولكنكم تنكبتم الطريق لتعليم الدين وحفظه، حتى صار بين
أمتكم وبين هذه الكتب الكلامية والفقهية مراحل كثيرة، فلا هم يطلبونها ولا أنتم
قادرون على حملهم على تعلمها والأخذ بما فيها، فيجب أن تبحثوا معنا عن طريق
آخر لتعليم الدين بسهولة تليق بفطرة الناس في أفرادهم وجمعياتهم، كما أخطأتم في
ظنكم أن العلوم التي تبنى عليها الأعمال تنافي الدين، فنفرتم المسلمين عما به قوام
أمتهم ودولتهم.
والتفتت إلى أولئك الذين يريدون الدنيا بترك الدين، فقالت لهم: إن قصدكم
إلى تقوية الأمة والدولة حسن ولكنكم تبنون من جهة وتهدمون من جهة، فيقلّ نفعكم
فيما تبنون لعدم الثقة بكم، ويعظم ضرركم بما تهدمون من أساس التقوى والفضيلة
مع التقاليد والبدع القبيحة.
هذه الطائفة هي التي تدعو إلى حقيقة الإسلام الذي يجمع لأهله بين مصالح
الدنيا والآخرة ومطالب الروح والجسد. وأول من دعا إلى ذلك في بلادنا العربية،
السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى. طَرَقَ سمْعَ كثير منكم اسمُ هذا الرجل
الذي هز الآفاق هزًّا، ولكن يوجد فيكم من لا يعرف شيئًا من أنبائه الصحيحة،
لكثرة خوض أهل الأهواء فيها، وقد كان مخاطبكم ممن استقرأ أخباره، وتتبع آثاره،
وجمع كثيرًا مما كتبه، وقد علمت من ذلك أنه دعا إلى حقيقة الإسلام وإحياء
القرآن في قلوب الناس، ودعوتهم به إلى ما يحييهم، ويجعلهم أمة عزيزة، ذات
دولة أو دول قوية، ولكنه قد أنفق أكثر أيام عمره في السياسة، لما رأى أن الملوك
يقاومون هذه الدعوة، لأن البلاد التي تحكم بالاستبداد، لا مقام فيها للإصلاح
والاستقلال.
بالله عليكم كيف يرضى الحاكم المستبد بالدعوة إلى هداية القرآن الذي يجعل
أمر المسلمين شورى بينهم، وإنما استبداده عبارة عن جعل أمرهم بيده وحده،
وجعلهم عبيدًا خاضعين له؟ كيف يرضى بأن يكون شأنه في سياستهم كشأن النبي
صلى الله عليه وسلم إذ كان لا يبرم أمرًا من الأمور العامة إلا بعد الشورى، حتى
إنه كان يعمل برأي الجمهور وإن خالف رأيه ورأي بعض كبراء أصحابه، كما فعل
يوم أُحُد؟ ! ! (وذكرنا ملخص الخبر فيها في الخطبة) ألا إن أولئك المستبدين
يحاولون أن تكون رتبتهم فوق رتبة النبي عليه الصلاة والسلام وهم لا يصلحون أن
يكونوا خَدَمَة له، بل يحاولون أن يكونوا آلهة تعبد، يستخفون الأمة ويستعبدونها
بالفعل، وإن وجدوا مجال القول ذا سَعَة صرحوا بما يودعه الاستبداد في نفوسهم،
كما فعل الذي قال: (أنا ربكم الأعلى) .
لذلك أقول لكم عن خبرة وبصيرة: إن الذي دعا السيد جمال الدين إلى
الاشتغال بالسياسة هو اعتقاده أن الدعوة لا تكون إلا حيث تكون الحرية وحكومة
الشورى، ولهذا قام في مصر بتأسيس حزب له نفخ فيه روح حب الحكم الذاتي أو
النيابي، وكان من أعضاء حزبه توفيق باشا ولي العهد للإمارة المصرية يومئذ، وقد
عاهده على أن يجعل لمصر - إذ يصير الأمر إليه - مجلسًا نيابيًّا ويحول الحكومة
بذلك من النوع الاستبدادي المطلق إلى النوع الشوري المقيد، ولكنه لم يكد يستقر
على كرسي الأمر حتى نَفَى السيد جمال الدين من مصر حبًّا في الاستبداد، وتلذذًا
بالاستعباد. ولكن السيد لم يمل ولم ييأس، بل صبر ينتهز الفرص، فجذبته الأيام
إلى بلاد الفرس، فاستأنف فيها العمل لإنشاء حكومة الشورى فنفاه الشاه من البلاد،
ولقي من البلاء في ذلك ما لم يلقه إلا قليل من العباد، ثم قذفت به المقادير إلى
الأستانة، فأحسن السلطان إليه، حتى طمع فيه، ولكنه ما عتم أن يئس منه، حتى
مات هناك غير راض ولا مَرْضِيّ عنه، هكذا قضى حياته في التطويف في البلاد
ولم يتخذ له زوجة ولا جنح إلى شيء من حظوظ الدنيا.
كان للسيد مريدون كثيرون يَرِدُونَ ينبوع معارفه، ولكن لم يصدر أحد منهم
ريان من مشربه، ويثبت على مذهبه، إلا الشيخ محمد عبده، فقد كان هذا الإمام
الجليل تربى تربية دينية صحيحة إلا ما كان من غلوه في العبادة، فقد مكث زمنًا
طويلاً لا يكلم أحدًا، وزمنًا أطول من ذلك الزمن لا ينظر إلا إلى الأرض ولا يهتم
بغير إصلاح نفسه، إلا ما كان من درس يقرؤه لإخوانه المجاورين في الأزهر، ثم
رجع إلى الاعتدال، ولكن لم يفارقه الخشوع ورقة القلب. ولقد دخلت عليه مرة
بيته فرأيته يطالع في السيرة النبوية ودموعه تجري على لحيته، خشوعًا واعتبارًا
بما لقيه - صلى الله عليه وسلم - من الأذى في سبيل ربه، وكان في كل سنة أو
أكثر يعتريه تنبه عصبي من إطالة الفكر في سوء حال المسلمين، حتى همّ في ليلة
من ليالي رمضان أن يطيع هذا الوجدان فينزل إلى جوار الأزبكية حيثُ مجامعُ اللهو
وينادي: أيها المسلمون , ماذا رأيتم في دينكم من العيب حتى تركتموه؟ أخبروني
لعلّي أبين لكم خطأكم. وأرسل إلي مرة يخبرني بأن مرضًا ألم به فمنعه النزول من
عين شمس إلى القاهرة، فجئته فإذا هو في حجرة النوم وإذا بين يديه ثلاثة كتب
مفتوحة ينظر فيها، فقلت له ما هذه الكتب وما هذا المرض؟ فقال هذه كتب من
أصول الفقه أشغل نفسي بمباحثها وعباراتها المعقدة عن القرآن، فقد أطلت الفكر فيه
وفي أحوال المسلمين فحصل لي التنبه العصبي الذي تعرف حتى أثر في ظاهر
جلدي، فإذا أنا وضعت إصبعي على جبهتي أتألم.
اشتغل الأستاذ الإمام بالسياسة زمنًا مع السيد ثم وجد في أواخر عمره حرية في
مصر فترك السياسة واشتغل بالإصلاح الديني والاجتماعي، واشتهر أمره بذلك حتى
عرفه الأقارب والأجانب. أليس من العجب أن يوجد في كُتَّاب فرنسا من يشهد بأن
طريقة الأستاذ الإمام هي الطريقة المثلى لإصلاح حال المسلمين، ويوجد في
المسلمين أنفسهم من يقول بضرر تعاليمه عن جهل وغباوة، أو تقليد للمرجفين عن
بغي وحسد.
نشرت جريدة الأهرام منذ شهرين مقالة مترجمة عن جريدة الطان الفرنسية
الشهيرة جاء فيها: إن المسلمين في تونس ثلاث طبقات (الأولى الجامدة) وهي
التي تحرص على بقاء المسلمين على ما هم عليه، وتنفر من العلوم العصرية
والمدنية الغربية وأهلها هم الأكثرون.
(الثانية المارقة) وهي التي تنكر الدين ولا ترى أن تقف عند حدوده في
شيء، وأهلها هم الأقلون، وهم يخفون مذهبهم هذا لضعفهم، ولا يرجى منهم خير
لأمتهم.
(الثالثة المعتدلة) وهي التي تعمل لترقية المسلمين في العلوم والمدنية مع
المحافظة على دين الإسلام، وهي التي يُرْجَى منها الخير للبلاد التونسية، وأهلها
يتبعون التعاليم التي كان يلقيها في مصر الشيخ محمد عبده، والتي تنشرها بينهم
مجلة المنار. وقد كتب أكثر من واحد من الإفرنج مثل هذا عن مسلمي مصر، وهو
ما كتبه لورد كرومر في تقاريره وتاريخه لمصر.
فهذه طريقتنا أيها الإخوان في الإصلاح. نريد أن نجمع لأمتنا بين مصالح
الدنيا والآخرة، وقد عرف هذا كُتَّاب الإفرنج واعترفوا بفائدته فلا ينبغي للمسلمين
أنفسهم أن يجهلوه!
نحن في حاجة عظيمة إلى العلوم والفنون والصناعات العصرية التي تقوى بها
أمتنا وتعتز بها دولتنا. ولا يكون الخير في ذلك تامًّا إلا إذا أقمنا معه أصول ديننا،
وهي القرآن الحكيم والسنة السنية التي جرى عليها سلفنا الصالح، ولا تنافي بين
الأمرين، فنحن إذا لم نجمع بين مصالح الدنيا وهداية الدين لا تقوم لنا قائمة. فهذه
الطريقة الإصلاحية التي دعانا إليها حكيما الإسلام السيد جمال الدين والشيخ محمد
عبده هي التي يدعو إليها المنار ويناضل عنها، وهو مستعد - بمعونة الله تعالى -
للتوفيق بين العلوم الحقيقية وأصول المدنية الصحيحة، وبين الكتاب والسنة، ومَنْ
اشتبه عليه شيء في ذلك فليكتب إليه به، يفصله له تفصيلاً.
قد انتشرت دعوتنا هذه في جميع الأقطار، حتى أن جماعة من علماء الترك
أنشأوا مجلة إسلامية في الآستانة سمّوها (صراط مستقيم) فكتبوا إلي يطلبون
مجلدات المنار كلها ليستعينوا بها على خدمتهم هذه، فهم على علم بطريقتنا في
الإصلاح على كون المنار كان ممنوعًا عنهم، وقلما يصل إلى الأستانة جزء منه،
فندعو جميع علماء المسلمين هنا وفي كل مكان إلى هذه الطريقة، بل ندعو إليها كل
مسلم {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) ، وينبغي لكل مسلم أن يكون
له حظ من إصلاح حال أمته في دِينها ودُنياها، فمنهم من يدعو ومنهم من يستجيب
للداعي ومنهم من يساعده بحاله، ومنهم من يساعده بماله، والسلام على من اتبع
الهدى، ورجح العقل على الهوى، اهـ ما كتبه ذلك الأديب من الخطبة مع تصحيح
وتوضيح وزيادة فاتته.
(استدراك) بعد النزول عن المنبر تذكرت ما كنت عازمًا عليه من التنويه
بصديقنا عبد الرحمن أفندي الكواكبي، فذكرت فضله بمساعدة الإصلاح الديني
والاجتماعي بكتابه (سجل جمعية أم القرى) والإصلاح السياسي بكتابه (طبائع
الاستبداد) رحمه الله تعالى وأحسن جزاءه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(11/737)
الكاتب: محمد روحي الخالدي المقدسي
__________
الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة [*]
(2)
(بروتوكول لوندره ورفضه)
سمي جمهور المبعوثين بعد ذلك (أوت أفندم) لتصديقهم على كلام الرئيس
بدون مناقشة ولا مباحثة، ولكن كان فيهم - والحق يقال - فئةٌ عارفون بمصالح
الدولة وطرق الإصلاح، جسورون على التكلم والدفاع عن حقوق الأمة والمناضلة
في سبيل منافعها، غير أن الحال كانت ذات خطر شديد؛ لأن العدو كان يتأهب
للحرب على الحدود، فأراد رئيس المجلس تحويل المذاكرات إلى المسائل الخارجية،
لأن مندوبي الدول الست الذين عقدوا مؤتمر الآستانة اجتمعوا في لوندره وليس
للدولة العلية مندوب معهم، ووقعوا بتاريخ 31 مارث (مارس) سنة 1877 على
(بروتوكول) أي مضبطة طلبوا فيها من الباب العالي عقد الصلح مع الجبل الأسود،
والتفرغ له عن نحو عشرين ناحية من أملاك الدولة العلية، لكون لسانهم سلافيًّا
ودينهم مسيحيًّا! ! ! كما طلبوا إجراء الإصلاحات الموعود بها تحت مراقبة الدول
وإشرافها وغير ذلك، وأبلغوا هذه المضبطة إلى الباب العالي في 3 نيسان (أبريل)
سنة 1877.
جاء ناظر الخارجية إلى مجلس المبعوثان وقرأ على أعضائه ترجمة
البروتوكول وشرح لهم أحوال السياسة الخارجية وأفهمهم أن رد البروتوكول تكون
نتيجته إعلان روسيا للحرب علينا، وليس للدولة العلية عضد من بقية الدول كما
كان لها في حرب القرم، ولا نقود في خزينتها. وكرر عليهم ما قاله مدحت باشا في
المجلس العالي لدى مذاكراته في لائحة مؤتمر الأستانة، وكانت أكبر الصعوبات من
العسرة المالية، وشدة الاحتياج إلى التجهيزات العسكرية. فاعترض أكثر المبعوثين
على قبول البروتوكول، وأظهروا من الحماسة والغيرة الوطنية ما لا مزيد عليه،
وكان مبعوثو الأرناءوط المجاورة بلادهم للجبل الأسود أشدهم اعتراضًا، وقام
مبعوث الأكراد , فقال ما ملخصه: تزعمون أن المالية في ضيق شديد، فكيف
يمكننا تصديق ذلك وأنتم في هذه البهرجة والألبسة الغالية والدور المفروشة بأحسن
الأثاث والرياش والعربات والخيل المطهمة؟ تعالوا إلى عندنا في كردستان وانظروا
بؤس العيش ومرارة الحياة التي نحن فيها! ! لما كنت في بلادي لم يكن علي إلا
ألبسة مرقعة بالية كبقية إخواني من أهالي كردستان، ولما رأيتكم ترتدون أحسن
الألبسة وتتألق على صدوركم النياشين المجوهرة خجلت من نفسي فاشتريت الثوب
الذي ترونه علَيّ من سوق الدلالين! ! وأنا مرهق، لا مِن المخازن الكبيرة وأنا
موسر، وإذا كانت سلامة الوطن والمحافظة عليه تقضي علَيّ ببيعه فأنا أبيعه وأنا
مغبوط وأعود إلى ثوبي المرقع.
ثم قال الرئيس في ختام المذاكرة: هل يقبل المجلس ما جاء في البروتوكول
لملاحظات ناظر الخارجية؟ فرفض المجلس قبوله بالأكثرية، وكانت الأقلية ثمانية
عشر صوتًا من الروم المبعوثين عن الروم أيلي ومن الأرمن. فنظم الباب العالي
نشرة مؤرخة في 9 نيسان (أبريل) سنة 1877 احتجّ فيها على بروتوكول لوندره
المنظم بدون اطلاعه وانضمام رأيه، وقال: إن تكليف الباب العالي إجراء الأحكام
على ما يقضي به هذا البروتوكول مخالف لاستقلال المملكة العثمانية الذي أقرته
الدول في معاهدة باريس، فقرئت هذه النشرة على مجلس المبعوثان فاستحسنها
وأقرها وشكر الباب العالي على تنظيمها، فأجاب عنها البرنس غور جاقوف في
بطرسبرج بنشرة رفعها إلى الدول في 19 نيسان (أبريل) مضمونها: أن الباب
العالي رفض إجراء الإصلاح الموعود به فصارت الحرب ضرورية؛ لأن روسيا
مضطرة إلى إيفاء واجباتها نحو الأهالي المسيحيين!
فأجاب الباب العالي بنشرة أخرى للدولة قال فيها: إن تركيا لا ترفض إجراء
الإصلاحات، وإنما ترفض الإشراف والمراقبة على أعمالها؛ لأن في ذلك غمطًا
لحقها وإزراءً بشرفها , وعبثًا باستقلالها الذي أقرت عليه الدول الموقعة على معاهدة
باريس. وصارت النشرات (سير كولير) والمحررات السياسية تتطاير من
عواصم أوربا والإنذارات (ميمو راندوم) والمذاكرات تتساقط على السفراء ونظار
الخارجية، فلم يُجْدِ ذلك نفعًا بل أعلنت الحرب في 24 نيسان (أبريل)
سنة 1877.
* * *
(مناقشات مجلس المبعوثان وانفضاضه)
بحث المجلس بعد ذلك في لائحة نظام الولايات وتشكيل مجالس الإدارة وذكر
في اللائحة أن مجلس إدارة الولاية يتألف من ستة أعضاء ينتخب نصفهم من
المسلمين والنصف الآخر من المسيحيين، فاعترض بعض المبعوثين على هذا
التخصيص الذي هو داعية للتفريق، وقالوا: إن القانون الأساسي أطلق على جميع
الرعية اسم (عثمانيين) بدون تفريق بينهم في الدين والمذاهب، وإن الأكثرية في
مجالس الإدارة تكون من حق المسلمين؛ لأن الموظفين كالوالي والدفتردار (رئيس
المحاسبة) والمكتوبجي ونحوهم أعضاء دائمون في مجلس إدارة الولاية، وطلبوا
إخراج المفتين من بين الأعضاء الدائمين لكونهم بمثابة الرؤساء الروحيين.
فقال الرئيس: ليس للمفتين صفة دينية كصفة الرؤساء الروحيين، ورغم
انتشار هذا الزعم الفاسد، فالمفتي ما هو إلا مأمور القانون، أي المحامي عن
القانون والشريعة، وليس له سيطرة على المسلمين كسيطرة الرئيس الروحي على
أبناء مِلَّته، وإنما هو من علماء الحقوق المعروفين عند الإفرنج باسم
(Jurisconsulte) واعترضوا أيضًا على تسمية (متصرف) , فقالوا: إن هذا
الاسم مشتق من التصرف الدال على الاستبداد والإذلال والاستعباد، فهو لا يوافق
روح الحرية والمساواة. واستعلم بعض المبعوثين عن أحوال معسكر الأناضول
ونقصان التجهيزات العسكرية، وعلى تعيين أحد الخدمة قائمقام، وقد كان
(شوبقجي) أي حامل قصبة التدخين عند بعض الكبراء، إلى غير ذلك.
ثم اشتغل مجلس المبعوثان بتدقيق ميزانية المالية، وطلبت الحكومة خمسة
ملايين ليرة عثمانية للدخول في الحرب فتألف قوميسيون من أحد عشر مبعوثًا
للتذرع بالوسائل المؤدية إلى الحصول على المبلغ المطلوب. فحاولوا اقتراضه من
إنكلترا على أن يكون لها في مقابل ذلك واردات مصر، كما فعلوا قبلاً فرفضت
إقراضهم؛ لأن التأمينات غير كافية، فقرروا عقد قرض داخلي بفائدة عشرة في
المائة من واردات أصحاب الأملاك والتجار، وأخذ راتب شهرين من أصحاب
الرواتب، فصدق مجلس المبعوثان على هذا القرض وعلى كل ما طلبته الحكومة
منه , وختم جلساته في تموز (يوليو) سنة 1877، فقال الرئيس: ارجعوا إلى
ولاياتكم وأعيدوا الانتخابات واجتهدوا بأن ترسلوا إلينا مبعوثين أوفر عقلاً وأكثر
وقوفًا على ما تحتاج إليه البلاد! ! .
فيرى من ذلك أن مجلس المبعوثان - على ضعفه وعجزه وجهل أعضائه في
السياسة والإدارة - لم يكن منه قصور أو تقصير في وظائفه، ولم يحصل فيه
اختلاف شديد بين المسلمين والمسيحيين، وإنما كانوا جميعًا متفقين على مقاومة
الاستبداد ومنع التعدي وتبذير الأموال، وكل منهم عارف بمصالح بلاده الخاصة؛
لأن معرفة ذلك لا تحتاج إلى علم كبير أو رأي ثاقب لبداهتها ووضوحها كالشمس
في رابعة النهار، غير أن الواقفين منهم على مصالح الدولة العامة وسياستها
الخارجية كانوا أقل من القليل، والحكومة أبت أن تعترف لهم بحق، بل نظرت
إليهم نظر الوصي إلى الصبي! ! .
* * *
(الحرب الروسية العثمانية)
استمرت الحرب الروسية العثمانية ثمانية أشهر (نيسان - كانون الأول سنة
1877) ، وأبرزت الجنود العثمانية فيها من الشجاعة والصبر والثبات والقوة ما دل
على حياة الأمة وفتوتها وسلامة جسمها من أعراض الهرم أو المرض الذي يصفها
به العدو، ولكن نقصان التجهيزات العسكرية وسوء الإدارة كانا سببًا في انتصار
الروس في أوربا وآسيا، وتجاوزهم نهر الطونة (الدانوب) وجبال البلقان،
وأخذ القرص، ومحاصرة أرضروم من جهة الأناضول، وفتح بلفنا في الروم إيلي،
ولقد أظهر عثمان باشا وعسكره من الشجاعة والمقاومة ما حير الروس وأوربا كلها
فاعترفوا بفضلهم وقدروهم قدرهم (والفضل ما شهدت به الأعداء) 10 كانون
الأول (ديسمبر) سنة 1877.
* * *
(طلب مدحت باشا وانتخاب المبعوثان ثانية)
استنزفت هذه الحرب ثروة البلاد وأضعفت قوتها وأفرغت صناديق الحكومة
من الأموال، لكثرة الإنفاق وانقطاع الوارد إليها من التكاليف والرسوم، فتقرر إعادة
الْتِئَام مجلس المبعوثان، وطلب مدحت باشا من أوربا، وعقد قرض لوندره، وعقد
الصلح مع روسيا، فجرى انتخاب ثان بأمور (أوامر) مؤقتة لا كما يقضي نظام
انتخاب مجلس المبعوثان.
* * *
(افتتاح مجلس المبعوثان مرة ثانية وخطاب السلطان فيه)
افتتح مجلس المبعوثان مرة ثانية في يوم الخميس الواقع في 7 ذي الحجة سنة
1294 و13 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1877، فذهب الوكلاء الفخام والوزراء
الكرام والعلماء الأعلام وأعضاء مجلس الأعيان والمبعوثان وسفراء الدول الأجنبية
إلى سراي بشكطاش، واصطفوا على الصورة الآتية: فكان عن يمين الحضرة
العلية السلطانية أدهم باشا الصدر الأعظم ووكلاء الباب العالي ثم موظفو المجالس
العالية ثم رؤساء المذاهب المختلفة , ثم أعضاء شورى الدولة ومستشارو النظارات
المختلفة وكثيرون من أعيان رجال العسكرية والملكية بحسب رتبهم ومقاماتهم،
وكان عن شمالها حضرات شيخ الإسلام والشريف عبد المطلب أمير مكة المكرمة
قبلاً , ثم العلماء من رتبة قاضي عسكر الروم إيلي والأناضولي , ثم (الفريقان)
الكرام وفريق من العلماء الأعيان. وكان أعضاء مجلس الأعيان أمام الحضرة العلية
السلطانية من ناحية اليمين على صفين، وأعضاء مجلس المبعوثان أمامها من ناحية
الشمال على تسعة صفوف، وفي الساعة السادسة على الحساب العربي دخل
السلطان الأعظم وسلم الرقيم المشتمل على نطقه لسعيد باشا باشكاتب المابين، فتلاه
على الحاضرين، وهو:
يا أيها الأعيان والمبعوثان:
إنني اكتسبت الممنونية بفتح المجلس العمومي، وبمشاهدة مبعوثي الملة
(الأمة) - ثم ذكر الحرب مع روسيا والمحافظة على الملية أي القومية واللغات وحق
المساواة وإدخال غير المسلمين من الرعية في الجندية والمحافظة على القانون
الأساسي وإصلاح المالية والعدل في جباية الأموال الأميرية وتنظيم القوانين -
وختمه بقوله:
يا أيها المبعوثان:
(إن إبراز الحقائق في المسائل القانونية والسياسية، وضمان منافع البلاد،
يتوقفان على مجاهرة أرباب الشورى بأفكارهم بالحرية التامة، وبما أن القانون
الأساسي يقضي بذلك، فإنني لا أرى احتياجًا إلى أمر أو ترغيب آخر) .
* * *
(مذاكرات مجلس المبعوثان)
ثم انعقد مجلس المبعوثان في الدائرة الخاصة به، تحت رياسة حسن فهمي
أفندي (وهو اليوم باشا من النظار) , وشرع المبعوثون في المذاكرات والمباحث
بقية شهر كانون الأول (ديسمبر) وكانون الثاني (يناير) وأوائل شباط (فبراير)
سنة 1878 , وكثر الجدال بين المبعوثين وبين الحكومة - لا بين الأعضاء
المختلفين بالدين واللسان - وطلب بعضهم التدقيق في حسابات المالية، وحضور
ناظرها لمناقشته الحساب، ومحاكمة المرتكبين، وسؤال المتهمين باختلاس الأموال
الأميرية، وسوء الأعمال المختلفة المتعددة، وقام أحد المبعوثين وقال: إن
الجاندرمة (فرسان الشرطة) في الولاية التي بعثت منها تنهب الأهالي، والمحاكم
ترتشي على إبطال الحق وإحقاق الباطل، والضابطة تعذب المحبوسين بالضرب
وأنواع العذاب. واعترض مبعوث آخر على المذابح التي جرت في بلغارستان،
وطلب التحقيق والبحث عنها. وطلب جماعة من المبعوثين عزل خمسة من الوكلاء:
منهم محمود جلال الدين باشا؛ وسعيد باشا؛ وكجوك سعيد باشا، والتحقيق عن
كثيرين من رجال الدولة وقواد العساكر، ولا سِيَّمَا عن الاختلاس والإسراف في
نظارة البحرية وغير ذلك.
* * *
(إلغاء الصدارة واستبدال مجلس الوكلاء بها)
بعد ذلك تولى الصدارة أحمد حمدي باشا المعروف في ولاية سوريا، وذكر في
فرمان التولية (إن اعتزال أدهم باشا مدة للأعمال، كان مراعاة لصحته، هذا مع
التسليم بنزاهته ودرايته، ونحن راضون عنه من كل الوجوه أتم الرضى) إلخ.
وبقي حمدي في الصدارة بضعة وعشرين يومًا، وفي غرة صفر سنة 1295 و4
شباط (فبراير) سنة 1878 صدر الفرمان القاضي بإلغاء لقب (صدر أعظم)
واستبدال رئيس الوكلاء به، وتوجيه هذه الرياسة إلى أحمد وفيق باشا رئيس مجلس
المبعوثان مع رتبة الوزارة، وتعيين مسئولية (تبعة) الوكلاء؛ أي: النظار كما هي
الحال في وزارات أوربا، فحضر (الباش وكيل) الأفخم إلى مجلس المبعوثان وقال
لهم ما ملخصه:
(إن جلالة السلطان الأعظم تريد في الحقيقة باطنًا وظاهرًا إدارة الملك، كما
تقضي أحكام القانون الأساسي، ولذا استبدلت رياسة الوكلاء بمسند الصدارة،
فالوزارة الجديدة المؤسسة على قاعدة المسئولية لا ترغب إلا في سلامة الدولة
وترقيها، والوكلاء مستعدون للحضور دائمًا إلى المجلس عند الطلب، ولكنهم
يرجونه أن يقبل في بعض الأحيان وكلاء عن أعضائه لكثرة شواغلهم وحرصًا على
أوقاتهم! ! !) .
فقام أحد المبعوثين وقال ما خلاصته:
إن مجلس المبعوثان له الحق وحده، ومن شأنه خاصة إحداث تغيير عظيم
مثل هذا التغيير، تقولون دائمًا: إنكم تريدون المحافظة على القانون الأساسي، إذًا
فاحترموا حريتنا؛ لأننا نحن الذين نمثل القانون الأساسي، ونحافظ على أحكامه،
وأنتم الذين تحاولون نقضه وإبطاله… , فأحيلت المسألة على قوميسيون مخصوص
ليدقق فيها في 5 شباط (فبراير) , وكانت الحرب أوشكت أن تضع أوزارها،
وعساكر روسيا استولت على أدرنه وتجاوزتها، وطلبت أوستريا (النمسا) أن
تجمع في فينا مؤتمرًا من مندوبي الدول الموقعة على معاهدة باريس لتنقيح المعاهدة
الجديدة بين تركيا وروسيا، والتوفيق بين أحكامها وأحكام المعاهدات القديمة،
وبعثت إنكلترا بأسطولها إلى بحر مرمره في 14 شباط (فبراير) سنة 1878.
* * *
(المجلس العالي)
تداخلت دول أوربا في المسألة الشرقية بعد أن تركن روسيا تفعل ما تريد في
الحرب، وعدن إلى المناقشات والمحاورات - على عادتهن - في هذه المسألة،
واعتمد المابين على ما بينهن من الاختلاف واستغنى عن مجلس المبعوثان فألف في
11 شباط (فبراير) سنة 1878 مجلسًا عاليًا من وكلاء الدولة ورجالها وأعيانها
والرؤساء الروحيين، وطلب من مجلس المبعوثان خمسة أشخاص: الرئيس ووكيليه
وأحد مبعوثي الأستانة، وهو الحاج أحمد أفندي كتخدا الاسترجية (الكدش)
ومبعوث آخر يهودي، فقال لهم الحاج أحمد أفندي: إن طلبكم الآن رأينا في غير
محله، فقد كان يجب عليكم أن تسألونا قبل الخراب، فمجلس المبعوثان يتنصل من
كل تبعة تلقى عليه لأمر وقع بغير علمه، ولم يكن برأي من آرائه، وكرر القول
بأن المجلس يرفض كل تبعة في الحال الحاضرة.
* * *
(تعطيل مجلس المبعوثان إلى أجل غير مسمى)
صمم السلطان الأعظم حينئذ على العدول عن سياسة والده الماجد السلطان عبد
المجيد خان في عمل الإصلاح بإطلاق الحرية والعمل بمقتضى أحكام القانون
الأساسي، وجنح لسياسة جده السلطان محمود خان في إعمال القهر والاستبداد،
مفضلاً هذه السياسة، اعتقادًا منه أن الشعوب التي وضعها الله تحت يده لا يمكن
تسييرها إلا بالقوة! ! وكان حضر المندوب الروسي إلى الأستانة فلم يسر بوجود
مجلس المبعوثان لخلو بطرسبرج من مثله، واستبداد القيصر برعيته، ففي 14
شباط (فبراير) سنة 1878 قرأ الرئيس حسن فهمي أفندي على المبعوثين منطوق
الإرادة السنية القاضية بتعطيل مجلسهم إلى أجل غير مسمى! ! !
* * *
(استخذاء المبعوثين والأمة لتعطيل مجلس المبعوثان وأسبابه)
خرج المبعوثون يتعثرون بأذيالهم، وأنذرت الضابطة المتطرفين منهم
والجسورين على التكلم وإيقاظ أفكار الأمة بوجوب المهاجرة من الأستانة! فذهب
بعضه إلى الولايات العثمانية، وبعضهم إلى مصر والبلاد الأجنبية. ولم تقلق الأمة
أو تتأثر من هذا الاحتقار والامتهان، ولا حصل منها هيجان أو اعتراضات! كأنها
جمل المحامل.
يصرفه الصبي بكل وجه ... ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوى ... فلا غِيَر لديه ولا نكير
ولم يبق من المبعوثين مَنْ أصر على مبعوثيته إلى آخر نفس من حياته إلا
أفرادًا قلائلَ، كمبعوث القدس الذي كان - بجراءته - يثبت على بطاقة الزيارة
(كارت فيزيت) أنه مبعوث القدس، ويقدمها إلى وزراء الدولة ورجالها لدى زيارته
لهم في الأستانة، وإلى سفراء الدول الأجنبية وموظفي نظارات الخارجية في أوربا،
ولما اجتمع بصديقه خليل غانم مبعوث بيروت في الاجتماع الثاني للمجلس ومنشئ
المقالات الرنانة في جريدة الديبا وغيرها من جرائد باريس وذلك قبيل وفاتهما -
آخذه لكتابته في بطاقة الزيارة كلمة المبعوث السابق (Député- Ex) فمحا كلمة
(سابق) ، لأن صفة المبعوثية إنما هي بإرادة الأمة وانتخابها، فهي لا تزول عن
صاحبها إلا بانتخاب آخر، ومجلس المبعوثان لم يلغ إلغاءً، وإنما عطل إلى أجل
غير محدود، فكان اجتماعه في كل سنة من قبيل الممكنات الجائزة عقلاً ونظامًا،
ولكن أكثر المبعوثين تناسوا وظيفتهم كأنها وظيفة حقيرة لا يؤبه لها وقد عزلوا منها،
ولم يجسر أحد على ذكرها في ترجمة حاله الرسمية، ولم يذكرهم بها مذكر ولا
وعظهم واعظ! ! ولا حررت في هذا الموضوع جريدة من جرائد المملكة العثمانية.
إن لهذا السكوت والاستخذاء أسبابًا كثيرة. منها أن الحرية أمر تستحوذ عليه
الأمة بالغلبة والاستيلاء، وليست مما ينعم به إنعامًا أو تعطى جزافًا، ولقد كانت
الأمة حينئذ منهوكة القوى مكسورة الجناح بسبب الحرب، لا دار إلا وفيها مأتم،
ولا أسرة إلا وقد أصابتها مصيبة. وزاد البلاء بسبب البحران المالي، ونزول قيمة
المسكوكات (النقود) فكانت الأسرة تبعث خادمها إلى السوق ليشتري القوت
الضروري فيعود إليها خاوي الوفاض لعدم رواج النقود، فتطوي على الجوع
وتتفتت أكباد الوالدين لبكاء أطفالهم. ثم إن الأمة هي عبارة عن أهل العاصمة منبع
الاستبداد وأهالي الولايات والقرى، والعساكر المنظمة، المدربة على الحرب،
المسلحة بالأسلحة الجديدة والمدافع، فأما أهل الأستانة ولا سيما المسلمون، فإنه لا
يتصور قيامهم لطلب الحرية لأن جلهم - إن لم نقل كلهم - موظفون أو عائشون في
ظل الموظفين، والعساكر المسلحون واقفون لهم ولأهل الولايات بالمرصاد،
وقادرون على إخماد نار أية ثورة أو مظاهرة، وأن قيام طائفة مسيحية وحدها لطلب
الحرية مما لا يرضى به المسلمون ولا بقية الطوائف المسيحية واليهودية، كما
شاهدنا ذلك في أرمينيا ومقدونيا التي اشتدت فيها المناقشة بين الروم والبلغار
والصرب والرومان، كما أن العساكر وحزب الأحرار العقلاء لا يرضون به؛ لأن
قيام كل ملة على انفراد يقضي بتقسيم الممالك وتفريقها وضعفها، وإثارة أضغان
العداوة الموروثة من الحروب الصليبية والقرون المتوسطة المظلمة، على أن هذا
القيام كان مصدره الكنائس والأديار بإيعاز الرهبان والقسيسين والمبشرين
والمرسلين، فكان سببًا لإيجاد المذابح والفظائع ومداخلة الأجانب.
أما حزب تركيا الفتاة الذي أسسه مصطفى فاضل باشا وخليل شريف باشا،
فإنه لم يكن في عهد مدحت باشا إلا فئة قليلة من صغار الموظفين وضباط العساكر
والمتعلمين في المدارس الجديدة، والذين درسوا شيئًا من اللسان الفرنساوي أو
الإنكليزي، واشتهروا باسم (إنكلز) لتعلمهم الإنكليزية فقط، مثل: إنكلز سعيد
باشا، إنكلز كريم أفندي، إنكلز علي بك، والد أحمد رضا بك، روح هذا الانقلاب،
أو الذين أصلهم من الأوربيين، فأسلموا ودخلوا في الوظائف، مثل عمر باشا
المجري، ونوري بك بن المركي دوشاتونيف الفرنساوي، وكثير غيرهما، أو
الذين تزوجوا بنسوة أوربيات وربوا أولادهم تربية إفرنجية أو غير ذلك، فكانت
هذه الفئة متحدة بالفكر في إعجابها بالمدنية الأوربية وميلها إليها، ولم تكن لهم
جمعية ولا رابطة غير الرابطة المعنوية الفكرية؛ لأنهم من موظفي الحكومة
والوظائف تضطرهم إلى إخفاء الرأي، وإطاعتهم لآمريهم إطاعة يفرضها العقل
والسياسة، وإلا كانت الأمور فوضى، ولكن الجامدين من المسلمين لم يفرقوا بين
الدين المسيحي والمدنية الأوربية، واعتبروا كل إصلاح صدر من أوربا المسيحية
مخالفًا للدين والآداب الإسلامية، وشتان ما بين المدنية الأوربية والدين المسيحي.
* * *
(سعاوي أفندي وحادثة جراغان)
على أن بعض المتطرفين من حزب تركيا الفتاة ثاروا بزعامة علي سعاوي
أفندي، وكان من طلاب العلم المعروفين بالصوفتاوات، مطلعًا على العلوم العربية
والفنون الرياضية، وواقفًا على الأفكار الجديدة. نفي في أيام السلطان عبد العزيز
وصدارة عالي باشا، وفر إلى باريس ولوندره ونشر ثمة الرسائل والمقالات، وكان
ينفق على نفسه فيهما مما ينفحه به بعض رجال الأستانة، ثم عاد إليها وصار من
حزب مدحت باشا أنصار القانون الأساسي، وعين مديرًا للمكتب السلطاني ثم عزل،
فاتفق مع صالح بك الأرناؤوط، أحد الضباط، وجمعا فئة من المهاجرين فكانوا
زهاء مائة رجل، وهجموا على سراي جراغان لإخراج السلطان مراد منها
ومبايعته، واسترداد الحرية والقانون الأساسي، ففاجأتهم العساكر بالسلاح
فشتت شملهم.
وكانت هذه الحادثة في 13 مايس (مايو) سنة 1887 زمن رياسة صادق
باشا لمجلس الوكلاء.
* * *
(صدارة رشدي وصفوت وخير الدين التونسي)
لبث أحمد وفيق باشا (باش وكيل) لمجلس الوكلاء مدة قليلة، ثم وجهت إلى
صادق باشا، فبقي فيها تسعين يومًا، ثم استبدلت الصدارة (بالباش وكالة) , وعين
فيها رشدي باشا، ودام فيها ثمانية أيام، ثم عين لها صفوت باشا، ناظر الخارجية،
فاكتسب فيها ثقة الحضرة السلطانية، ولم تطل فيها مدته، وعين لها خير الدين باشا،
الجركسي الأصل، والتونسي النشأة، وهو مؤلف التاريخ العربي (أقوم المسالك
في معرفة أحوال الممالك) وله وقوف على العلوم العربية وعلى الفرنساوية،
وتجول في ممالك أوربا، وقد طلب منها في سنة 1294هـ كما طلب السيد جمال
الدين الأفغاني وغيره، وعين رئيسًا لشورى الدولة ثم (صدر أعظم) سنة 1295
وبقي في الصدارة ثمانية أشهر، ثم استقال وبقي جليس بيته إلى أن تُوفي سنة
1307 في الآستانة. فكان في طلبه وتوظيفه شبه ميل إلى سياسة (بانسلاميزم)
ولكن هذه السياسة لها معنيان: المعنى القديم الاستبدادي الذي مشى عليه خلفاء بني
أمية والعباسيين، وهو مخالف لحقيقة الإسلام، ومُنافٍ لروح العصر الجديد
والمدنية الحاضرة - والمعنى الحديث وهو يوافق أصل الإسلام والمدنية، ولكنه
يخالف مسلك المستبدين بالأمر، ويحول بينهم وبين مآربهم، وهو أشد وطأة عليهم
من القانون الأساسي وحزب تركيا الفتاة.
* * *
(صدارة كجوك سعيد باشا وأعماله)
ثم عين لمسند الصدارة سعيد باشا، المشهور بسعيد باشا الصغير (كجوك
سعيد) تمييزًا له عن سَمِيّه ناظر الداخلية الكردي الأصل والمتوفى قبل بضع سنين،
وكان سعيد باشا الصغير محررًا في جريدة (حوادث) ، فاتصل بالداماد محمود
جلال الدين باشا ودخل بوساطته المابين وصار باشكاتب له، وهو المتسبب في إبعاد
مدحت باشا وتعطيل أحكام القانون الأساسي، وإعلان الحرب، وعزل القائد
(السردار) عبد الكريم باشا وإخلائه موقع (بيله) أمام بلفنا، ومداخلة المابين في
إدارة جميع الشئون العسكرية، وإصدار الأمور من السراي السلطانية أثناء الحرب،
وتقسيم المملكة العثمانية في معاهدة سان ستفانو، التي نقحتها معاهدة برلين , إلخ،
فإن الإرادات السنية في جميع ذلك كانت تصدر برأي سعيد بك باشكاتب المابين
وتوقيعه، ولهذا كان مبغوضًا من حزب تركيا الفتاة؛ لأنه كان آلة وعونًا على
الاستبداد، وعلى إدارة المصالح بدون رأي الباب العالي. مع أن باشكاتب المابين
كان لذلك العهد ينتخب من قبل الصدارة العظمى، وكان الصدور لا ينتخبون لهذه
الوظيفة إلا الذي يعتمدون عليه لعرض المضابط والمقررات والإنهاءات واستصدار
الإرادات السنية بها، ولم يكن للباشكتاب نفوذ معارض لنفوذ الباب العالي صاحب
التقاليد والأصول المرعية في إدارة المملكة، ولا سِيَّمَا في أيام رشيد باشا وفؤاد
باشا وعالي باشا، فلما توفي عالي باشا , وتولاها محمود نديم تدنت أهميتها بسبب
نفاقه وتملقه للمابين وتقديمه أموال الخزينة إليه بغير عد ولا حساب. ولما ولي سعيد
باشا الباشكتابة زالت أهمية الصدارة بتة، وانحصرت الأعمال والإدارة في المابين،
وصار للباشكاتب نفوذ يمكنه أن يطلب مدحت باشا الصدر الأعظم إلى المابين ويبلغه
الإرادة القاضية بنفيه على الباخرة عز الدين! !
تولى سعيد باشا الصدارة بعد مدحت، واشتهر بالنزاهة والاستقامة، فلم يسمع
عنه ارتكاب ولا انهماك في جمع الأموال وادخارها، ولهذا كان أقل الصدور ثروة،
وكان شديد السطوة على المرتكبين، كثير البطش بهم والاستبداد فيهم، ولكنه عادل
في أحكامه وعقابه. وفي زمن صدارته وضع نظام المعارف، وأسست المدارس
على النسق الجديد، وصار للمعارف إيراد وافٍ من واردات الحصّة التي أضيفت
إلى الأعشار، ونظمت نظارة العدلية وأصول المالية، وأسست إدارة الديون
العمومية، وبُوشِرَ في مد بعض الخطوط الحديدية وإصلاح الطرق والمعابر، من
دون أن يؤدي إعطاء امتيازاتها إلى ارتكاب فاحش. فكان أصلح الصدور في الدور
الأخير، ولم ينتقد عليه حزب تركيا الفتاة إلا استبداده ومقاومته مشروع مدحت باشا
وتوقيف أحكام القانون الأساسي وجميع ما صنعه وهو رئيس كتاب المابين.
لم يصد سعيد باشا كونه من رجال الكامريلا - لأنه نشأ وتربى في المابين -
أن يحاول الاستقلال في وظيفته وإعلاء شأنها ورفع مكانتها، وتمشية المصالح
بالعدل، على قاعدة مطردة وأصول منظمة، كما كانت عليه في زمن عالي باشا.
فأصبحت بذلك أعمال سعيد باشا موضعًا للريبة، وكثرت الوشايات به، فصار
مبغوضًا منفورًا منه، ووضعت عليه العيون والجواسيس، وصارت أعماله تراقب
مراقبة دقيقة، فأُحْدِثَ قلم للترجمة في المابين وانجمن التفتيش (مجلس التفتيش)
والمعاينة في نظارة المعارف لمراقبة الكتب المطبوعة والتدريس ومصادرة المُضِرّ
منها (!) على زعمهم وبِحَسَب اصطلاحهم، وقلم مراقبة المطبوعات الداخلية
والأجنبية في الباب العالي. هذا ماعدا دوائر وشُعْبَ الخفية (الجواسيس) المتعددة
المحدثة التي مركزها في المابين تحت نظارة السرخفية (رئيس الجواسيس) فهذا
الذي قضى بسقوط سعيد باشا في الحقيقة والواقع، فذهب بإصلاحاته أدراج الرياح،
وإن كان عزله في الظاهر بسبب احتلال البلغار للروم إيلي الشرقية، وإصراره
على إرسال العساكر، كما تصرح بذلك معاهدة برلين.
* * *
(صدارة كامل باشا الصدر الحالي)
تولى الصدارة كامل باشا الصدر الحالي بعد سعيد باشا، ومولده في جزيرة
قبرص ومرباه في مصر، ولهذا نسب إليها، وله معرفة باللغات الأجنبية وبإدارة
الدولة، لأنه تقلب في جميع وظائفها، فمن قائمقام إلى متصرف إلى والٍ إلى ناظر،
ولكنه في نظر تركيا الفتاة كان أقلَّ شهرة من كثيرين من الوزراء والرجال
الموجودين إذ ذاك. واستمرت صدارته ست سنوات، وهو آلة في يد المابين،
مطيع لما يلقى عليه من الأمور، ثم ظهرت شجاعته فعارض وعاند، فأصابه ما
أصاب سلفه سعيد باشا من سوء الظن به، والريبة في أعماله وشئونه مما قضى
بَفَصْله.
* * *
(صدارة جواد باشا وضعف الدولة)
لما ولي الصدارة جواد باشا، قوبل ذلك بالاستغراب العام، ولم يكن يخطر
تعيينه ببال؛ لأنه من أمراء العسكرية، وهو صغير السن، غير متمكن من اختبار
الإدارة الملكية، على أنه كان من النابتة الجديدة، وتخرج في المدارس العسكرية،
وربما كان الغرض من تعيينه هو الإيهام بالعود إلى الإصلاح وإطلاق الحرية،
ولكنه في الحقيقة لم يكن قائمًا بوظيفة الصدارة، بل كان ياورًا للحضرة السلطانية
مكلفًا بتنفيذ الأمور التي تلقى إليه! ! كما كان رئيس الوزارة الألمانية ياورًا للحضرة
الإمبراطورية، ولكنه غير مسئول أمام الريشستاغ! فلم يبق بعد ذلك شأن للصدارة،
واستولى رجال المابين على الشئون كافة، وصار في يدهم العزل والتوظيف
والحل والربط وإعطاء الامتيازات بمد الخطوط الحديدية واستخراج المعادن وسائر
الأمور النافعة، وكانوا يتناولون الرشى من وراء ذلك بصورة فاحشة. واستولوا
على الأوقاف، ووسعوا نطاق الخزينة الخاصة بانتزاع الممتلكات من أيدي أصحابها
بالثمن البخس، وإقامة الموظفين فيها يعارضون بنفوذهم موظفي الحكومة ونفوذها،
حتى أصبح المابين حكومة صغيرة قوية! ! داخل حكومة كبيرة ضعيفة! لأن مركز
الحكومة نقل من الباب العالي إلى سراي يلديز السلطانية! !
* * *
(الجاسوسية في الدولة العلية)
ضعفت إدارة الدولة وجعلت تتدهور بسرعة إلى دَرَكات التأخر والانحطاط،
بعد أن خطت خطوات محمودة في سبيل التقدم أيام صدارة سعيد باشا، وانقطع أمل
الأحرار العثمانيين وخاب رجاؤهم بعد أن كانوا يؤملون تخليص الدولة والمملكة من
المرض الذي مُنِيَتَا به قديمًا. فاضطهد هؤلاء الأحرار وأهينوا وعوملوا أسوأ معاملة،
حتى ذاقوا أشد العذاب الوجداني والأدبي، وصار أرباب الدناءة والفساد يتقربون
إلى المابين بالتملق والوشاية والتجسس على إخوانهم وأعمامهم وآبائهم! ومنهم من
تجسس على أمه وأخيه فنفيا من الأستانة، فكانوا - بمفترياتهم - يصورون الرعية
الصادقة للسلطان الأعظم كالوحوش الضارية، تريد افتراسه ونزع تاجه، ويزينون
في عينيه الاستبداد، ويبعدون عنه الخبيرين بأمور الدولة، العارفين بطرق
الإصلاح، زاعمين أنهم من ذوي الأفكار المتطرفة وحزب تركيا الفتاة، حتى اختلّ
نظام المملكة، وبطلت مراعاة الأحكام القانونية، والسير في إدارة الدولة على
الأصول والتقاليد المعروفة من القديم، وفسد التعليم في المدارس، وانحرفت إدارة
الأمور الداخلية والخارجية عن محورها، ومالت إلى التدلي والانحطاط، رغم
الأبهة الظاهرة، والعظمة الكاذبة، ولا سيما في موكب صلاة الجمعة، إذ تصطف
العساكر في ساحة المسجد الحميدي أمام باب السراي صفوفًا مضاعفة بعضها وراء
بعض رجالاً وفرسانًا، وتتسابق مركبات الكبراء والسفراء الأجانب، ثم تشرق
المركبة السلطانية من مطلع السراي و (المشيرون وكبار رجال المابين حافّون من
حول المركبة، مشاة خشع الأبصار، ترهقهم ذلة من جلال تلك العظمة الإمامية،
وهم في غير هذه الساعة أكاسرة الفرس، وقياصرة الرومان، كبرًا وجبروتًا،
وكلهم في أمواج الملابس الذهبية يسبحون وعلى صدورهم نياشين الجوهر تخطف
الأبصار) . وكان في كل نظارة من نظارات الداخلية والعدلية (الحقانية) والمالية
والمشيخة الإسلامية وغيرها رجال معروفون يبيعون الوظائف والرتب بأسعار
معلومة، ويقتسمونها هم وكبار الموظفين، فمن اشترى وظيفة بمائة ليرة فأكثر،
فإنه يجتهد في استغلاله منها أضعاف ما بذله بإرهاق الأهالي وظلمهم أو اختلاس
الأموال الأميرية أو بكليهما.
* * *
(الميل عن إنكلترا إلى ألمانيا والحوادث الأرمنية)
انحرفت سياسة المابين عن إنكلترا الملحة في طلب القيام بالإصلاحات وتغيير
الإدارة المستبدة الظالمة، واتجهت نحو ألمانيا التي لا ترى بأسًا في إدارة الدولة
بالقسر الاستبدادي، فجنح بعض ساسة الإنكليز للأرمن ومالوا إليهم، وساعدوا
جمعيتهم السرية التي في لوندره، وأشار عليهم بعض رجال السياسة كغلادستون
بالقيام والهيجان، حتى إذا حدثت في البلاد مذابح كمذابح البُلْغار هاجت الأفكار
العمومية في أوربا، وتسنى لحكوماتها المداخلة في طلب الامتيازات لأرمينيا، كما
حدث في البلغار والجبل الأسود والصرب. ويساعد على ذلك نص المادة الحادية
والستين من معاهدة برلين، فقد جاء فيها ما معناه (يتعهد الباب العالي بأنه يسرع
في القيام بالإصلاحات والتحسينات التي تقتضيها حال البلاد الداخلية في الولايات
الآهلة بالأرمن، وبحمايتهم من الجراكسة والأكراد، ويعطي الباب العالي في معظم
الأوقات معلومات عن التدابير المتخذة في هذا السبيل للدول المشرفة على القيام
بالإصلاحات) .
وفي سنة 1890 تشكلت جمعية انقلابية أرمنية [1] لتحرير الأرمن التابعين
للدولة العلية وروسيا والعجم، وكان رأس مالها مائة وثلاثين ألف فرنك، وميزانيتها
اليوم مليون فرنك، منها ثلاثون في المائة للقيام بالحركات الانقلابية والسياسية،
وخمسة وعشرون في المائة لتسليح الأمة، وعشرون في المائة للنشرات والتبشير،
فأحس أحرار العثمانيين بذلك وتأثروا جدًّا، فاجتمعوا سرًّا وتشاوروا، وخابر
بعضهم كبراء الأرمن وعقلاءهم , وقالوا لهم ما حاصله:
لا مَحَلّ لإصلاح ولايات أرمينيا وحدها دون باقي الولايات العثمانية،
فالواجب طلب الإصلاح للمملكة العثمانية كلها. نعم إن الأرمن يتألمون من الإدارة
الحاضرة، ولكن الظلم والاستبداد ليسا موجهين إليهم خاصة، بل هما شاملان
للأرمن والأتراك وعموم المسلمين والمسيحيين، فإنهم جميعهم يَئِنُّونَ تحت أثقال
التكاليف وارتكاب الموظفين ومعاملاتهم القسرية والاستبدادية، ويتحملون أنواع
الظلم والاعتساف وهضم الحقوق. وحظ المسلمين من ذلك أكبر، لقيامهم وحدهم
بأعباء الخدمة العسكرية التي تقعدهم عن زرع الأرض واكتساب الثروة والرفاه
والنمو والازدياد في العدد، وإن اتفاق الأرمن والأتراك على القيام بطلب
الإصلاحات اللازمة وتأسيس حكومة مقيدة حرة يعد من الحمية والغيرة الوطنية،
ولكن قيام الأرمن أو طائفة أخرى على انفراد بمساعدة الأجنبي وترغيبه لا تعده
تركيا الفتاة إلا خيانةً وجنايةً وضررًا بمنافع الوطن المشتركة. على أن الأرمن كانوا
لدى تجنسهم بالجنسية العثمانية لا يزيدون عن بضعةَ عَشَرَ ألفًا، وقد أصبحوا اليوم
يعدون بالملايين، وإن القاطنين منهم في العاصمة والمدن الكبيرة على جانب عظيم
من الغنى والثروة والرفاه، وبيدهم الشئون المالية والوظائف العالية والرتب السامية،
وهم على وفاق وائتلاف تام مع الأتراك، حتى إذا أطلقت كلمة (ملت [2] صادقة)
لا تنصرف إلا إلى الأرمن. فبِنَاءً على هذا الامتزاج التامّ بين الترك والأرمن، وما
فيه من الفوائد والمنافع للفريقين، طلب بعض أحرار الترك من معتبري الأرمن
وعقلائهم إفهام الجمعيات السرية الأرمنية التي في أوربا هذه المقاصد، واستعمال
نفوذهم لتعديل المطالب الأرمنية ونبذ التهور في سياستهم.
وفي سنة 1894 اشتعلت نيران الحادثة الأرمنية، وحصلت مذابح ساسون،
وخربت ثلاثون قرية من قراهم. كل هذا وجواد باشا الصدر الأعظم لاهٍ عَنِ اتخاذ
الوسائل لحسم هذه المسائل، والقيام بالإصلاحات في جميع أرجاء المملكة، ولقد
كانت سياسته محصورة بالتدابير المؤقتة لإيقاف الاعتداء وسلوك سبيل المماطلة
والإرجاء، وأوربا - ولا سيما إنكلترا - واقفة للدولة بالمرصاد، تخلق لها المسائل
والمشاكل واحدة بعد أخرى. فمن الحادثة الأرمنية إلى المشكلة الكريدية إلى المسألة
المقدونية وهلمّ جرّا… ورجال المابين أكثرهم جهلاء أغبياء، لا خبرة لهم بالسياسة،
ولا معرفة لهم بالشئون الحاضرة. وقليل منهم شياطينُ أبالسة لا يدأبون إلا على
جمع الأموال وادخارها، ولو أدى ذلك إلى خراب الوطن وسقوط المملكة، فكانوا
يخوفون السلطان من حزب تركيا الفتاة، ومن القيام بالإصلاحات، ويشيرون باتخاذ
التدابير السيئة حتى حدث ما حدث من المذابح والفظائع التي نسبت إلى الإسلام.
والإسلام يبرأ إلى الله منها:
والدين إنصافك الأقوام كلها ... وأيُّ دِين لآبي الحق إنْ وَجَبَا
والمرء يُعْيِيهِ قَود النفس مصحبة ... للخير وهو يقود العسكر اللجبا
(تأسيس جمعية الاتحاد والترقي)
كان من نتيجة هذا الخلل في الإدارة والاستبداد والعسف بالأمة أن تأسست في
الآستانة جمعية الاتحاد والترقي لإخماد نار الفتن المشتعلة في البلاد، وطلب الحرية
والعدل لجميع العثمانيين، وتأييد روابط الحب والأمان بين الأمة - المؤلفة من السنة
وأديان مختلفة - وبين الدولة. وقد بعثت الجمعية في تلك السنة (1894) فريقًا
من الشبان الأحرار - أكثرهم من طلاب المدرسة الطبية - إلى باريس ليؤسسوا
فرعًا للجمعية فيها ويقوموا بنشر الجرائد والرسائل. وكان في باريس إذ ذاك عدد
ليس بالقليل من الشبان العثمانيين، بعضهم يدرس على نفقة الحكومة العثمانية أو
نفقته الخاصة، وبعضهم يدرس ويشتغل بالمسائل السياسية، وأشهرهم أحمد رضا
بك، صاحب اللائحة المشهورة.
* * *
(أحمد رضا بك ومبادئ جمعية الاتحاد والترقي)
وُلِدَ أحمد رضا بك في الأستانة منذ خمسين سنة تقريبًا، ووالده إنكلز علي بك،
وأمه مجرية، وسمي إنكلز لتعلمه الإنكليزية ووقوفه على المدنية الأوربية، كما
مر بيانه، وإلا فهو من الأتراك المسلمين، وكان من معتبري الموظفين الذين نشئوا
في عهد مصطفى رشيد باشا وعالي باشا. فتخرج أحمد رضا بك في مدارس
الآستانة، وعُيِّنَ مديرًا للمدرسة الإعدادية في مدينة بروسة، فأحس من نفسه بلزوم
السفر إلى أوربا للاطّلاع على علومها ومدنيتها، فذهب إلى باريس سنة 1890
واختلف إلى مدرسة الزراعة، لشدة احتياج المملكة إلى العلوم الزراعية، وتعرف
إلى علي شفقتي بك، الذي كان يصدر جريدة (استقبال) في إيطاليا ثم في فرنسا،
وهو من رجال السلطان مراد. وكان رضا بك كثير التردد على المكتبة الأهلية في
باريس، فاطلع فيها على أهم الكتب والفنون، واشتغل بالمسائل السياسية، وحرر
لائحة مفصلة مشتملة على رسائل في إصلاح الإدارة والمالية والزراعة والتجارة
وغير ذلك، بعد أن درس لائحة مصطفى فاضل باشا، ووصية فؤاد باشا، وما
حرره ملكوم خان وشارل ميزمر وغيرهما من أكابر الرجال المشتغلين بالسياسة
الشرقية والواقفين على أسباب الانحطاط وعلله الفلسفية.
سلك أحمد رضا بك في الفلسفة الحقيقية مسلك أوكوست كونت وخليفته بيير
لافيت، وصار إمامًا في هذه الطريقة المؤسسة على (النظام والترقي) وهذه الكلمة
هي شعارهم، وعليها بناء أعمالهم، ومن مبادئهم التفاني في حب الوطن وخدمة
الجماعة، أي وَقْف حياة الفرد على خدمة المجموع، وهم ينفرون من الانغماس في
الشهوات وتبذير الأغنياء، لأن المبذرين إخوان الشياطين، ويشددون النكير على
الذين يبتزون الأموال الأميرية ويأكلون أموال الناس بالباطل ويعبثون بالحقوق
العمومية، فالمرتكب الملوث بالرشوة يعدونه ساقطًا مهما بلغ علمه وقدره. فأحمد
رضا بك متصف بكل هذه الخلال الجليلة، وقد ضحى نفسه وشبابه في سبيل
المحافظة على مَبْدَئِهِ، ورفض قبول الألوف من الدنانير، وهزئ بالمناصب العالية
التي كانت تعرض عليه، مع شدة حاجته واضطراره، وتحمل الأذى والمكاره،
وجاهد في سبيل استرداد الحرية حق الجهاد قائلاً: لو وضعتم الشمس في يميني
والقمر في شمالي لما تحولت عما قصدت إليه. فكان بالحقيقة من أولي العزم
الصادق، ونشر تعاليمه وأفكاره، وله رسالة مطبوعة بالفرنساوية عنوانها
(التساهل الديني) رد فيها على الذين يتهمون المسلمين بالتعصب، واستدل بكثير من
الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، مما دل على غزارة علمه. وأما اللائحة التي
مر ذكرها، فهي رسالة باللغة التركية مشتملة على تحقيق وعلم وسياسة في إصلاح
إدارة الدولة ولما تنشر، وكانت جريدته (مشورت) تصدر بالتركية والفرنساوية
في كل أسبوع أو أسبوعين مرة، ثم اقتصر على القسم الفرنساوي، وهي صغيرة
الحجم، مضى على إنشائها أربع عشرة سنة، ويتألف منها مجلدان أو أكثر، وربما
كان له غير ذلك من المؤلفات. فإنه كثير الدرس والتحقيق، يقضي الساعات
الطويلة في المكتبة الأهلية، وفي مكتبته الخاصة مؤلفات كثيرة في التاريخ والسياسة
العثمانية والمسألة الشرقية.
ولما وصل وفد جمعية الاتحاد والترقي إلى باريس سنة 1894، كان رضا بك
ساكنًا في شارع مونج في بيت صغير (Appartement) في الطبقة السادسة،
فقصد إليه الوفد وذاكروه في انضمامه إليهم، فتردد في بادئ الأمر، وقال: إذا
عزمت على شيء فإنني لا أرجع عنه مطلقًا. وكان أقدر الموجودين وأعرفهم بطرق
الإصلاح ومواضع الخلل. لأن إصلاح مملكة عظيمة مشتملة على أمم مختلفة في
الجنس والدين واللسان، ووارثة للخلافة الإسلامية والدولة البيزنطية - ليس بالأمر
السهل، ولا يشبه إصلاح مدرسة أو إدارة تلاميذ، وإنما يحتاج إلى علوم ومعارف
شتى، ونظر واختبار ونفاذ بصيرة، وليس ذلك في مقدور من درس سنتين أو أكثر
في مدرسة طبية، لا تدرس فيها العلوم السياسية والحقوقية ولا العلوم الشرقية التي
هي موضوع بحث العلماء المستشرقين. فقبل أحمد رضا بك الانضمام إلى الجمعية،
وصار رئيسًا لفرع باريس، ونشر جريدة (مشورت) بالتركية والفرنساوية ناطقة
بمقاصد الجمعية.
* * *
(معاكسة المابين للأحرار في أوربا)
أَمَّ باريسَ من ذلك الحين كثيرون من شبان العثمانيين وكهولهم، حتى الشيوخ
ذوي العمائم والفِرَاء، ونشروا الجرائد والرسائل والوريقات، وأدبوا مآدب وعقدوا
اجتماعات سياسية. فانصرفت همم رجال المابين والسفارات العثمانية إلى إبطال
هذه النشرات واسترضاء أصحابها بالمال والرتب والنياشين والمناصب، حتى قيل
لبعضهم: (اطلب تعط) كما ينقل عن الخلفاء في حكايات ألف ليلة وليلة. وكان
العطاء حاتميًا بل أكثر، كان سلطانيًّا شاهانيًّا! ! وصار طلاب الوظائف أو
المعزولون يقصدون باريس، فيكون ذلك سببًا لعودتهم إلى وظائفهم. ودخل في
حزب تركيا الفتاة الصبيان الذين لم يبلغوا الخامسة عشرة، والتونسيون حتى الأجانب
من الطليان واليونان، وأصبحت سفارة باريس مرجعًا للجميع، كأنها أعظم دائرة
من دوائر الباب العالي! ! وأقدم الجرائد التي أبطلت جريدة المرصد العربية التي
تعين صاحبها عضوًا في شورى الدولة، فحسده عزت باشا العابد حتى صرف قوة
عقله وذكائه في سبيل الوصول إلى ما وصل إليه. وظهرت عدة جرائد ورسائل
ومحررين بالتركية والعربية والكردية والفرنساوية والألبانية وغيرها، منهم أصحاب
صدق وقناعة، ومنهم ذوو طمع وشعوذة، ورجال الدولة يتقربون باسترضائهم
وإحضارهم كما كانوا في الأزمان الماضية يتقربون بجلب أهل الظنة من الشيوخ
وأصحاب الكرامات، كالمرحومين الشيخ أبي السعود من القدس، الذي استقدموه
للسلطان محمود خان، والشيخ السن من صيدا، والشيخ العمري من طرابلس الشام،
وكذا المشايخ الذين كانوا في المابين وخاتمتهم أستاذنا الشيخ حسين الجسر، مؤلف
الرسالة الحميدية. فلو اطلعت على تراجم هؤلاء الشيوخ ومقدار معارفهم وكيفية
طلبهم والاسترشاد بهم، لعرفت ارتقاء الفكر التدريجي الذي حدث من عهد السلطان
محمود، ولرأيت للانقلاب الحاضر معنى في الرسالة الحميدية التي دلت على كثير
من العلوم الطبيعية والعصرية.
لم يقصد من نشرات تركيا الفتاة في أوربا إلا إيصال الشكاية من سوء الإدارة
إلى مسامع الحضرة السلطانية، وإفهام الدول الأوربية الموقعة على معاهدة برلين،
بأن لحزبهم السياسي كيانًا ووجودًا، وأن غايتهم إعادة القانون الأساسي، فكادت
أوربا تعتد بوجودهم، كما ظهر من انتصار الجرائد الباريسية لصاحب جريدة
(مشورت) يوم محاكمته في باريس والحكم عليه بفرنك واحد مع تطبيق قانون
بيرانجه القاضي بالسماح عنه. وبينا كان المابين يقدم رجلاً ويؤخر أخرى في إجابة
حزب تركيا الفتاة إلى مطالبهم الإصلاحية وإعادة القانون الأساسي، وإذا بالمشكلة
الكريدية ولدت الحرب بين الدولة العلية واليونان (نيسان - مارس 1897) وتم
النصر فيها للعساكر العثمانية، فأخذته العزة ودام على سياسته الاستبدادية وقعدت
همة الأكثرين من حزب تركيا الفتاة فخضعوا لأحكام الاستبداد جبرًا وقهرًا، وإن
كانوا غير راضين عنها، وذاقوا عذابًا شديدًا بسبب غلاء أوربا وكثرة الإنفاق فيها
مع قلة ذات يدهم، وفراغهم من نحو صناعة أو تجارة بأيديهم، كما هي حال
الأرمن والبلغار، إلا ما كان من علمهم باللغة التركية أو العربية ومعاونة الأطباء في
المستشفيات بأجرة قليلة، والسهر في الليل على المرضى. والأغنياء من أهل البلاد
وكبار الموظفين لم يساعدوهم بشيء، إلا بعض الأمراء المصريين الذين نهجوا نهج
مصطفى فاضل باشا، مؤسس حزب تركيا الفتاة، فإنهم أمدوا بعضهم بالأموال
وكانوا عونًا لهم. أما الجمعيات الأرمنية والمقدونية الانقلابية، فإن أصحابهم
وأغنياء أمتهم أعانوهم بالمال وأيدوهم بكل ما في طوقهم، وقد علمت مما تقدم أن
ميزانية الجمعية الأرمنية بلغت مليون فرنك، فأين هذا من جمعية الاتحاد والترقي؟
ألا إن سبب خذلان العثمانيين لجمعياتهم هو موت النُّعْرَةِ الوطنية في نفوسهم، وفَقْد
الحماسة القومية، وكونهم لم يفقهوا معنى الاجتماع والتعاون.
* * *
(غرور المابين واستفحال الاستبداد)
أظهرت الحرب اليونانية العثمانية فتوة الأمة العثمانية وحميتها وسلامتها من
عوارض المرض أو الهرم، كما يصفها أعداؤها، وظهر فيها من شجاعة الضباط
العثمانيين ومعارفهم ومحافظتهم على قواعد النظام الحربي، ومقدرتهم على ضبط
أفراد العساكر، وكفهم عن النهب والعبث بالآداب وغير ذلك من الأعمال الهمجية ما
يخلد لهم هذه المآثر في بطون التواريخ، وأبرز الجيش العثماني من الشجاعة
العظيمة والصبر والقناعة المُعْجِبَ والمُعْجِزَ، وامتاز بالسلامة من الابتلاء
بالمسكرات، كما هي عليه عساكر الروس وغيرهم من عساكر أوربا.
زاد غرور المابين واستبداده بعد خروج الدولة من ميدان الحرب فائزة
منصورة، وانتقل مركز إدارة الحكومة من الباب العالي إلى سراي يلديز، وأصبح
مجلس الوكلاء لا عمل له، والنظار لا وظيفة لهم إلا تنفيذ ما يقرر في السراي.
على أن الالتفات والإقبال والتقريب والنفوذ كان ينتقل من الباشكاتب إلى الكاتب
الثاني إلى كاتب الشفرة [3] إلى (الشيخ) إلى (العابد) إلى (الملاحمة) إلى غني
آغا إلى لطفي آغا إلى فهيم باشا الجبار العاتي - أولئك الذين ألقوا الرعب في قلوب
المسلمين والمسيحيين وغيرهم، مما دل على استبداد منقلب مذبذب حيران، حتى لم
يعد لأحد ثقة بالحكومة، وكاد الانقلاب يحدث في نفس السراي. وأكثر رجال
السراي أميون ويندر في كتاب المابين من يعرف اللغة الفرنساوية بلهَ غيرها من
لغات أوربا، وهم في جهل مطبق بالسياسة. ولذلك كثر الخطأ السياسي وسوء
الإدارة واختلاس الأموال الأميرية وظلم الرعية بما لم يسبق له مثيل.
((يتبع بمقال تالٍ)) ... ... ...
__________
(*) تابع لما نشر في (ص 646 ج 9 م 11) من رسالة محمد روحي أفندي الخالدي، العضو في مجلس المبعوثان عن القدس الشريف.
(1) في سنة 1887 تألفت جمعية هنجاق الأرمنية، ومعنى اسمها الجرس.
(2) المنار: يراد بكلمة (ملت) عند الترك الأمة، والملية هي القومية، فكلُّ ما يرد في هذه الرسالة من هذه الكلمات ينصرف إلى ما ذكر، على أننا وضعنا عند معظم الكلمات التركية التعبير كلمة عربية بين قوسين تفسيرًا لها.
(3) المنار: الشفرة في اللغة التركية، هي المخاطبة بالأرقام بطريقة لا يعرفها إلا المتخاطبان، وهي مأخوذة من كلمة (جفر) العربية.(11/743)
الكاتب: رفيق بك العظم
__________
البلاد العربية والسكة الحجازية [*]
بلاد العرب أو شبه جزيرة العرب مساحتها مليون ومائة ألف ميل مربع،
وعدد سكانها على أقل تقدير سبعة ملايين، وعلى أكثره عشرة ملايين، وهي من
أخصب البلاد أرضًا وأجودها تربة وأعظمها خيرًا، إذا اعتني بها، وتوفرت وسائل
الأمن والراحة والعمران فيها. واليمن أجود بلاد العرب بقاعًا وأكثرها سكانًا
وأعظمها ثروة وخصبًا، ولهذا كانت تسمى قديمًا (العربية السعيدة) إلا أنها محاطة
بصحاري رملية منخفضة شديدة الحر، قليلة المياه، يظن السامع بها أن اليمن كلها
على هذا النمط: صحارٍ ورمال مع أن هذه الصحاري لا تمتد إلى الداخل من
السواحل الشرقية والغربية أكثر من خمسين إلى ستين ميلاً، يجتازها المسافر في
ثلاثة أو أربعة أيام، حيث يرى سلسلة جبال الثراة وبلاد شحر وحضرموت وجبل
صعدة وصنعاء، حيث الوديان الفسيحة المخصبة والسهول المكسوة بالخضرة
والجبال ذات الينابيع الغزيرة والأشجار الباسقة.
وسكان اليمن أهل نشاط وعمل، متوفرون على الزرع والتجارة بقدر ما يتسع
لهم المجال وتساعدهم الحال، ومع هذا فإن بلادهم مفتقرة إلى إصلاح كثير وعناية
من الحكومة كبيرة، لفقد الوسائل الحديثة في تعميم الري واستنبات أنواع الزرع
وفَقْد الراحة والأمن في أيام الحكومة الماضية التي كانت كلها أيام خصام ونزاع بين
الحاكم والمحكوم له كادت تفضي إلى خراب البلاد.
ولو صرفت الحكومة الآن وجهتها إلى إصلاح اليمن مع توفر أسباب العمران
الطبيعية ثمة لكان لها منها مورد رزق عظيم يقدره بعضهم ببضعة عشر مليونًا من
الليرات، وأهم أصول الإصلاح التي يحتاجها رقي البلاد وعمرانها وإثراء الخزينة
والأهلين هي:
(أولاً) إن مياه الأمطار الغزيرة التي تنهمر في اليمن تكون مجاري وسيولاً
لا تصل إلى البحر بل تغور في الرمال، وأكثرها يتجمع في مخازن في باطن
الأرض على عمق أربعة أو ثلاثة أمتار. فإذا تتبعت مظانّ هذه المخازن وحفرت
فيها الآبار , ثم استكثر من عمل الحياض والخزانات الكبيرة في الجبال وسفوحها
جعلت السقيا عامة في أكثر أطراف اليمن، وتحولت تلك الصحاري القاحلة إلى
جنات ناضرة حافلة بالزرع والضرع، ويساعدها على ذلك ما منحتها إياه الطبيعة
من قوة الإنبات والخصب، وهي تصلح لكل أنواع النبات الذي ينبت في البلاد
الحارة، كالبن والقطن والنيلة وأنواع البهارات وغيرها، ويمكن أن تزدرع في
السنة ثلاث مرات ويؤخذ منها ثلاث غلات، والبلاد الجبلية صالحة لاستنبات جميع
أنواع النبات الذي ينبت في البلاد المعتدلة وناهيك بقطر عظيم كاليمن، إذا بلغ نظام
الري والزرع فيه مبلغه في الهند ومصر، فإنه يكون بلا ريب من أغنى البلاد
العثمانية وأوسعها مزدرعًا ومصدرًا لثروة الحكومة والأهلين، إذا أضيف إلى ذلك
بقية الإصلاح المطلوب.
(ثانياً) أنْ تُقَسَّيم ولاية اليمن إلى ثلاث ولايات، إحداها صنعاء , والثانية
عسير , والثالثة تعز، لكي يتسنى بهذا التقسيم إدارة شئون اليمن، إدارة منتظمة
تشرف بها الحكومة على أمور الرعية والبلاد إشرافًا حقيقيًّا، يضم إليه أطراف
البلاد المتنائية، وينشر راية العدل والراحة والأمن على كل البلاد، وهذا العمل
مهما استلزم من النفقات التي ستقوم بها خزانة الدولة، فإنه يعوض على الحكومة
تلك النفقات أضعافًا مضاعفة في بضع سنين. ولقد أجمع على لزوم تقسيم اليمن إلى
أربع أو ثلاث ولايات كل العارفين بأحوال اليمن، والذين اختبروا حالها من إخواننا
الأتراك، فلا مندوحة للحكومة عن هذا التقسيم، إذا عزمت عزمًا أكيدًا على إصلاح
البلاد اليمانية، وهي عازمة على ذلك إن شاء الله.
(ثالثاً) إصلاح مرفأ الحديدة، وجعله مرسى أمينًا للسفن، ومد خط حديدي
من الحديدة إلى صنعاء، ثم تعميم السكة الحديدية في البلاد بالتدريج بقدر ما يمكن
مالية الحكومة، لأن سهولة المواصلات ضروري لبلاد متباعدة الأرجاء يراد
إصلاحها وتكثير موارد الثروة الزراعية والتجارية فيها، ولا سيما وأن بلاد اليمن
فيها كثير من المعادن والكنوز الأرضية التي لا يتيسر استخراجها والعمل فيها إلا
بسهولة المواصلات، ولقد عرفت اليمن قديمًا بغناها بمعدن الذهب، ويظن بعضهم
أن هذا المعدن النفيس فقد منها، مع أنه لم يزل موجودًا بكثرة فيها، ولقد رأيت
بعيني رأسي قطعًا منه ممتزجة أجزاء ذهبها برمل متحجر، كان استحضرها صديق
لي من بعض أطراف اليمن لأجل تحليلها وتقدير النسبة بين الرمل والذهب فيها،
ليسعى بعد ذلك بتأليف شركة لاستخراجه، فعاجلته المنون وأصبح مطويًّا في
التراب.
ومما لا ريب فيه أن السكة الحديدية الحجازية إذا أمكن إيصالها إلى القطر
اليماني، كانت من خير المشروعات النافعة لبلاد العرب عامة وللدولة خاصة، فإنها
متى بلغت مكة ومد منها ناشط إلى جدة سهل مدها إلى الحديدة عن طريق القنفذة أو
طريق آخر أقرب منها، وهناك تتصل بخط الحديدة الذي يتصل بصنعاء، وبذلك
تكون الدولة قد وصلت بين أقصى بلادها في الجنوب وأقصاها في الشمال والغرب
إذ نصل بين خط الآستانة والحجاز بخط برجيك المَنْوِيّ مَدُّه من حلب، وفي هذا
العمل الجليل من الفوائد الاقتصادية والسياسية ما لا ينكر قدره ومنفعته ولا سيما بعد
أن صار البحر الأحمر مزدحمًا لعدة دول أجنبية، وكان من قبل بحيرة عثمانية.
ويجدر بنا أن نطلب من رجال حكومتنا النظر فيما تقدم من الأمور، وفي
إصلاح شئون بلاد العرب والتوفر على عمرانها. وقد يرون أن الدول الأجنبية تبذل
مزيد الجهد في عمران مستعمراتها في إفريقيا على قلة سكانها وقلة الأيدي التي تعمل
فيها وضعف الأمل في أن تكون تلك المستعمرات بكثرة سكانها وعمرانها والانتفاع
من ثمراتها كمستعمراتها في آسيا وأمريكا وجزائر المحيط، فما أحرى الدولة
العثمانية بأن تنافس الدول بقطر عظيم فسيح كثير السكان متوفرة فيه مصادر الثروة
ووسائل العمران إذا أعطي كل العناية والالتفات ونال حظًّا من الإصلاح عظيمًا،
ولا سيما في عصر الحكومة الدستورية التي نرجو أن تكون حكومة خير وسعادة
على المملكة العثمانية جمعاء إن شاء الله.
أما السكة الحديدية الحجازية التي نتمنى أن تكون خير واسطة لعمران شبه
جزيرة العرب في مستقبل الأيام إذا اتصلت باليمن، فقد انتهى منها الآن قسم عظيم
وبلغت المدينة المنورة على ساكنها الصلاة والسلام. وقد افتتح هذا الخط باحتفال
عظيم في شهر أغسطس الماضي، والأدوات التي تلزم لإتمام الخط إلى مكة البالغ
ثمنها نحو ثلاثِ مائةٍ وخمسين ألف ليرة كلها معدَّة على ما نعلم، وطول الخط من
دمشق الشام إلى المدينة ألف كيلو متر وثلاث مائة وكيلو متر، يضاف إليه الخط
من حيفا إلى درعا وطوله مائة وواحد وستون كيلو مترًا، فيكون مجموع ما تم من
الخط إلى الآن ألفَ كيلو متر وأربعَ مائة وثلاثة وستين كيلو مترًا، بلغت نفقاته
نحو ثلاثة ملايين ليرة عثمانية، وكانت نفقة الكيلو متر الواحد ماعدا آلات السكة
نحو ألف ليرة وثلاث مائة ليرة.
وطول الخط من دمشق إلى مكة 1751 كيلو مترًا، وطوله إلى جدة 1830
كيلو مترًا.
والخط يمر من الشام إلى معان في سهول منبسطة وأراضي خصبة مبثوثة فيها
القرى الآهلة بالسكان، إلا أن حوران أكثر سكانًا وعمرانًا من معان، وربما كانت
أراضي معان أخصب من أراضي حوران.
وأحسن البلاد التي يمر فيها الخط وأجودها هواءً وأعلاها عن سطح البحر هي
عمان، فإنها تعلو عن سطح البحر نحو 1074 مترًا، وفيها من الآثار القديمة
والخرائب العظيمة شيء كثير، ومنها الملعب (Amphithéatre) الذي وجدوه
في تلك الخرائب، وخارطة سورية المرسومة على قطعة كبيرة من الحجر (بلاطة)
وهي أعجب وأبدع ما رُئِيَ في أطلال عمان وخرائبها.
وسكان معان وعمان أكثرهم من عرب البادية، ويشتغل قليل منهم بالزراعة،
وفي معان بعض قرى لمهاجري القفقاس. ولو نشط العربان الذين في تلك الديار إلى
الاعتمال في الأرض ونشر الإصلاح جناحه على تلك الديار لكانت من أغنى البلاد
السورية وأكثرها غلة وأجملها بقاعًا. ولقد هم كثير من الناس بابتياع الأراضي التي
على جانبي الخط من الحكومة في معان وعمان لإحياء مواتها واستغلالها، فأبت
عليهم ذلك، لصدور إرادة سلطانية تقضي بالمنع، على أمل أن تضم تلك الأراضي
الفسيحة إلى الجفالك (المزارع) السلطانية أو يستأثر بها أفراد من المقربين، ولم
يكن شيء من ذلك إلى الآن. فنرجو أن توفق الحكومة الحاضرة لإطلاق يد الناس
في استعمار تلك البلاد، بحيث لا تباع أرض إلا على شرط إصلاحها واستثمارها
في بُرْهَة سنتين أو ثلاث سنين، وإذا مضت المدّة ولم تصلح الأرض وتستثمر ساغ
للحكومة استردادها. وفي يقيننا أن كثيرًا من أغنياء البلاد السورية يتقدمون إلى
إصلاح تلك الأراضي وإحيائها متى انتظمت أمور السكة الحديدية وانصرفت همة
الحكومة إلى عمران تلك الجهات ورفع راية الراحة والعدل والأمان على ربوعها.
ومحطة عمان الآن هي من المحطات العظيمة في هذه الطريق، وفيها معمل
(ورشة) لإصلاح القواطر ومخازن للسكة الحديدية، ويليها في العظم محطة تبوك
والأراضي التي بعد عمان ومعان إلى المدينة ليست خصبة، بل هي صحارٍ وقفار
إلا العلا، فإنها قرية عامرة ذات ينابيع وأشجار وحدائق تزرع فيها أنواع البقول
والفاكهة والنخيل، وتجود في أرضها فواكه البلاد الحارة كالنخيل والموز والليمون،
وأهلها بارعون في فن الزراعة؛ لأن أكثرهم يذهبون إلى دمشق ويزاولون فن
الزراعة عملاً في غوطتها، ولا سيما في قرية جوبر المشهور أهلها بالبراعة في فن
الزراعة، ثم يعودون إلى بلدهم لأجل الاعتمال في الأرض. ولقد كان بعد المسافة
بينهم وبين الشام يمنعهم من التوسع في إنشاء الحدائق والإكثار من زرع أنواع
الفواكه والبقول والاتجار بها، وأما الآن فالأمر ليس كذلك، ولو اعتنى أهل هذه
القرية بزرع النخيل والموز واستكثروا من الجيد منهما لانتفعوا بذلك كثيرًا، لأن
دمشق محرومة من هذين الصنفين من الفاكهة، لأن جوها لا يناسبهما في الشتاء
لشدة البرد والصقيع.
هذا ومن الضروري أن يمد ناشط من هذه السكة الحديدية من معان إلى العقبة،
وطول هذا الخط نحو 90 كيلو مترًا، أو من المدور، وهو أقصر مسافة من ذاك،
لأن هذا الفرع يفيد الدولة من الوجهة العسكرية جدًّا، ريثما يصل الخط إلى اليمن.
وكل من رأى خط السكة الحجازية لا يسعه إلا شكر القائمين بالعمل فيه كمسير
باشا ومختار بك وباقي المهندسين والعمال، ولا سيما المشير كاظم باشا رئيس
إنشاء الخط الذي بذل من الهمة في إنجازه والعناية في شأنه ما لا يستكثر على رجل
عظيم مثله، وإنا لنرجو بعد توليه منصب الولاية في الحجاز أن يساعد على إتمام
هذا الخط ووصوله إلى مكة ثم اليمن بما في إمكانه ليكون شكر الأمة له مضاعفًا
جزاه الله وكل العاملين لإنجاز هذا الخط خير الجزاء.
__________
(*) بقلم رفيق بك العظم المؤرخ المشهور.(11/765)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
السنن والأحاديث النبوية
(3)
كلمات في النسخ والتواتر وأخبار الأحاديث والسنة
رد على الأستاذ الفاضل الشيخ صالح اليافعي [1]
(الكلمة السادسة) في التواتر.
أهم ما يطعن به في وجوب التواتر فيما يعمل به في الدين، مسألة إرسال
النبي صلى الله عليه وسلم الآحاد للتعليم وللحكم بين المسلمين وللملوك. فاعلم أن
خبر الواحد - كما قلنا - لا يوجب اليقين، ولا يجب العمل به إلا إذا أيدته قرائن
أخرى قطعية، فهؤلاء الآحاد الذين كان يبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجهات للتعليم ما كان يجب على الناس فيها أن يوقنوا بما يخبرونهم به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يجوز عليهم الخطأ والنسيان، كما أنه يجوز عليهم الكذب أو الارتداد. وإنما هؤلاء الناس الذين كانوا في تلك الجهات تحققوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم هؤلاء الرسل وأوجب عليهم طاعتهم والأخذ عنهم، وقبل أن يحققوا ذلك لا تجب عليهم طاعتهم ولا الأخذ عنهم، فهم في طاعتهم لهم وأخذهم عنهم بعد تيقنهم من أنهم مرسلون إليهم من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم إنما هم مطيعون لله ولرسوله ولأولي الأمر، فإذا قالوا لهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كذا فاعملوا به، وجب عليهم أخذ هذا القول عنهم كما أمرهم الرسول
صلى الله عليه وسلم ووجب عليهم العمل به، لا لأنهم أيقنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة قاله،ولكن لأنهم أمروا بطاعة أولياء أمورهم فلا يجوز مخالفتهم أو رفض كلامهم إلا إذا علموا بكذبهم، وحينئذ يرفعون الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيحكم بعزلهم عن تولي أمورهم وتسقط عنهم طاعتهم فيما يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعليه فهؤلاء القوم ما كانوا عاملين بالظن، وإنما هم مطيعون لأمر يسمعونه من أولياء أمورهم بآذانهم، فيأخذون به ويعملون به كما أمروا، وسواءٌ في ذلك أيقنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله أو لم يقله، فالعهدة فيه على رواته.
فإن قيل: إن لم يكن هؤلاء عاملين بالظن، فالرسول صلى الله عليه وسلم
نفسه عامل بالظن؛ وإلا فكيف يوفق بأن هؤلاء القوم لا يبلغون عنه إلا ما يريدون؟
قلت: إن الرسول صلى الله عليه وسلم إن لم يعلم ذلك بطريق الوحي كما كان
يخبره الوحي بحالات كثيرة مثل هذه عن أصحابه البعيدين عنه كما هو مشهور في
سيرته صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعلم مِن هؤلاء المبعوثين
الصدق والإيمان وقوة العقل والعلم بالدين، وقد اختبرهم بنفسه زمنًا طويلاً حتى علم
أخلاقهم وأميالهم وأحوالهم وسبر غورهم، فهو يكاد يجزم بصدقهم وإخلاصهم كما
يجزم أحدنا - وإن كان نظره أضعف من نظر الرسول صلى الله عليه وسلم -
بصدق صاحبه وإخلاصه بعد معاشرته له زمنًا طويلاً في أحوال مختلفة. وإن بقي
في النفس أدنى شكّ في ذلك أو تجويز للخطأ أو النسيان عليهم، فهؤلاء المبعوثون
ما كانوا يذهبون إلى جهات منقطعة عن المسلمين، بل كان بينهم وبين المسلمين
صلة وثيقة وعلاقة كبيرة، فكان يأتي منهم الكثيرون إلى المسلمين مرات عديدة في
السنة للزيارة والتعارف والحج والتجارة وغير ذلك، ويذهب إليهم المسلمون لمثل
هذه الأغراض، فإذا حاد المبعوثون عن شيء مما تلقوه عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أو أخطئوا فيه وصل ذلك إلى علم رسول الله صلى الله عليه وسلم في
أقرب وقت، فيصحح هذا الخطأ أو يعزلهم أو يعاقبهم. فبالوحي وبثقته الأكيدة بمن
أرسله بعد التحقق منه زمنًا طويلاً، وبإخبار الذاهبين إليهم والآتين مِن عندِهم يكون
الرسول صلى الله عليه وسلم واقفًا على ما يبلغ عنه في تلك الجهات ومهيمنًا عليه،
فإن حصل خطأ أو كذب في شيء منه فالعاملون به مطيعون لأولياء أمورهم وليسوا
عاملين بالظن، ولا يلبث هذا الخطأ أو الكذب إلا قليلاً، فيمنعه رسول الله صلى الله
عليه وسلم في أقرب وقت. وهذه الحالة ضرورية في مبدأ الدعوة حتى يعم الدين
تلك الجهات، ويكون فيها وفي غيرها مشهورًا مستفيضًا متواترًا، فلا يتطرق لشيء
منه بعد ذلك ريب أو شك، وهي تشبه حالة التلاميذ مع معلمي المدارس وتلقيهم
العلم عنهم وعملهم به، فإن الأمة رقيبة عليهم، فإن أخطئوا في شيء أو دسوا عليهم
أمرًا، فسرعان ما يصل إلى علم الأمة وأولياء أمورها، فيتلافونه في أقرب وقت.
أما أحاديث الآحاد عنه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فهي تختلف عن ذلك
اختلافًا كبيرًا؛ لأن رواتها ليسوا أولياء أمر المؤمنين حتى تجب طاعتهم من هذه
الوجهة، ولم يثق بهم الرسول، ولم يعرفهم ولم يُعيّنهم لهذا الأمر ولم يَقُمْ رقيبًا
عليهم، لا بالوحي ولا بأخبار الناس عنهم، فالفرق بين الحالتين عظيم.
أما رسله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، فالغرض من ذلك إلفات نظرهم
إليه وتنبيههم للبحث في دعوته وتشويقهم للنظر في أمره وحالته، وإلا فلا يمكن
الإيمان لأجلها إلا بعد التثبت منها والتحقق من أمر الدعوة والداعي، فهي كالتمهيد
للدعوة الحقيقية، بوصول الدين إليهم متواترًا على أيدي الناس كما حصل بعد وفاته.
والخلاصة أن القرآن الشريف يذم العمل بالظن كثيرًا، فلا يمكن أن الله
سبحانه وتعالى يلزم عباده المؤمنين بالعمل بما لا يوجب عندهم اليقين، وإلا كان
أمرًا لهم بما يذم به غيرهم، ويلومهم على اتباعه.
وحيث إن أحاديث الآحاد مِن حيثُ هي لا تفيد اليقين كما بيناه في الكلمة
الرابعة، فلذا اشترطنا التواتر فيما يجب علينا الأخذ به في الدين، فدليلنا على ذلك
مبنيّ على حكم العقل وما جاء به الكتاب العزيز.
(الكلمة السابعة) معنى السنة، وبيان وُجُوب العمل بها.
السنة في اللغة وفي اصطلاح السلف هي الخطة والطريقة المتبعة، فسنته
صلى الله عليه وسلم هي طريقته التي جرى عليها في أعماله واقتدى به أصحابه فيها،
وهي واجبة الاتباع حتمًا على كل مَن آمَنَ به وصدقه صلى الله عليه وسلم، وهذا
هو المراد بما جاء في الحث على اتباع السنة في أقوال الصحابة والسلف رضوان
الله عليهم جميعًا، كما لا يخفى على متأمل في أقوالهم، ومن ذلك حديث: (عليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) أي عليكم بطريقتي وطريقة خلفائي
الراشدين مِن بعدي، فلا نِزاعَ في أن اتباع طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في
الدين هي واجبة على جميع أتباعه المؤمنين، أما أقواله صلى الله عليه وسلم التي لم تكن طريقة متبعة له ولا لأصحابه، فهي موضوع بحثنا، وهي المقصودة
في مقالاتنا الأخيرة، تلك التي رواها الآحاد وانفردوا بها، ولو كانت واجبة الاتباع
لعلمها الناس جميعًا في عصره عليه السلام وجروا عليها في أعمالهم، وهذا هو أدل دليل على أنها لم تكن دينًا عامًّا لجميع البشر، بل هي خاصّة لمن وجهت
إليهم لأحوال خاصَّة وظروف مخصوصة أو أنها كانت للإرشاد والندب لا
للوجوب، ولذلك لم يكن اتباعها عامًّا بينهم. فهناك فرق عظيم بين لفظ (السنة)
ولفظ (الأحاديث) ويجب على كل باحث في هذا الموضوع أن يدرك هذا الفرق
جيدًا، حتى لا يقع في الخلط والخبط. وقد أدرك الإمام مالك هذا الفرق، فكان
- رضي الله عنه - يقدم عمل أهل المدينة على الأحاديث، ويرد منها ما خالف
سنتهم التي ورثوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو صحت أسانيدها، وقد رد من ذلك مئات كثيرة.
أما تسمية الأحاديث مطلقًا بالسنة، فهي من اصطلاح المتأخرين، ولولا هذا
الاصطلاح لما احتجنا في مقالاتنا إلى تقييد لفظ السنة بقولنا (العمليَّة) فإن السنة
لا تكون إلا عمليَّة، وأما القول الذي يقال ولا يكون مبدأً يجري عليه العمل دائمًا فلا
يسمى سنة عند المتقدمين.
فاتّباع سنة أي شخص، هي الجري على منهجه والتزام طريقته ومبادئه
وأصوله، وليس معنى ذلك أن يتقيد المتبع بكل جزئية من جزئيات كلام المتبوع،
مثلاً قد أكون متبعًا لسنة الأستاذ الإمام رضي الله عنه في تفسير القرآن الحكيم ومع
ذلك أرى في بعض الآيات خلافَ ما يرى، ولا يخرجني ذلك عن كوني متبعًا سنته،
فإن سنته هي في ترك التقليد واستعمال العقل وعدم القول بالنسخ وتحري الحق
والصواب، لا في التزام كل قول من أقواله التزامًا أعمى، فكذلك ترك بعض أقواله
صلى الله عليه وسلم في الأمور الدنيوية المحضة، وما حكم فيه بالرأي والاجتهاد،
وما خالف المصلحة في زمننا لا يُخْرِج المسلمَ عن كونه متبعًا سنته صلى الله عليه
وسلم، فإن سنته هي في اتباع الحق والصواب وتجنب الضار ومراعاة المصالح،
كما دل عليه الكتاب العزيز، وترادفت فيه الأخبار المتعددة المصادر المختلفة المبنى
المتحدة المغزى، وكما جرى عليه عمل كبار المسلمين وعقلائهم في كل زمان
ومكان. فسنته صلى الله عليه وسلم هي في اتباع مبادئه الشريفة والجري على
خطته ومنهجه وإطاعته فيما أوحي به إليه، أو ما وافق الصواب والمصلحة من
آرائه واجتهاداته، وليست سنته في الجمود والتقليد والبعد عن العقل والتفكير، كما
عليه أكثر المسلمين اليوم، ولذلك كان أصحابه يخالفونه في كثير من المسائل في
حياته وكان عليه السلام يرجع عن رأيه لآرائهم، ولذلك أمر بمشاورتهم، وما قال
أحد بأن من خالفه منهم خرج عن سنته، فإن سنته هي الشورى والتفكير ورعاية
مصالح العباد وتحري العدل والإنصاف وعدم الاستبداد بالرأي. وقد خالف أصحابه
رضوان الله عليهم في حياته وبعد مماته بعض أقواله وبعض ما حكم به مراعاة
للمصلحة، ولولا خوفُ الإطالة لذكرت شيئًا من ذلك كثيرًا، وقد وفيت هذا البحث
في رسالة لي طويلة وفقنا الله لطبعها عن قريب.
وسنته صلى الله عليه وسلم في الأمور تعلم من نصوص الكتاب العزيز ومما
تواتر بين المسلمين عنه قولاً وعملاً ومن مجموع ما رُوِي عنه من المصادر المختلفة
في المسائل المتعددة. فسنته معلومة للمسلمين باليقين وواجب اتباعها على جميع
المؤمنين. وهذا هو المراد بما جاء في الكتاب الكريم من الأمر باتباعه والاقتداء به
والجري على منهجه والاهتداء بهديه صلى الله عليه وسلم , وهو أيضًا المراد مما
ورد عن أصحابه وعن سلف المسلمين من القول بوجوب اتباع السنة النبوية.
وأما أخبار الآحاد التي لم يجر عليها العمل بلا انقطاع بين المسلمين فهي
موضوع النزاع في كل عصر وجيل، كما يتضح لك من الكلمة الآتية:
(الكلمة الثامنة) آراء أئمة المسلمين في أخبار الآحاد، وما قالوه فيها، وكيفية معاملة الصحابة لها.
(1) قال الإمام أحمد بن حنبل ما معناه: إن الأحاديث الواردة في تفسير
عبارات القرآن الشريف لا أصل لها. كما نقله عنه الحافظ السيوطي في الإتقان.
(2) وقال الإمام الشافعي: (إن نسخ القرآن بالحديث لا يجوز) .
(3) وقالت الظاهرية: إن تخصيص عموم القرآن بها غير جائز، وإن
العمل بها غير واجب.
(4) وقال جمهور الأصوليين: (إنها ظنية) .
(5) وقال جمهور المسلمين: (إنه لا يجوز الأخذ بها في العقائد) .
(6) وقال كثير من الأئمة، كالقاضي عياض: (إنه لا يجب الأخذ بها في
المسائل الدنيوية المحضة، ولو كانت موثوقًا بها) .
(7) وقال جميع المحدثين: (إن الموضوع منها كثير، وتمييزه عسير،
وفي بعض الأحوال مستحيل) راجع ما ذكرناه في الكلمة الرابعة.
(8) وقال أبو حنيفة وأضرابه من أهل الرأي والقياس: (إن الصحيح منها
قليل جدًّا) حتى إنه لم يأخذ إلا ببضعة عشر حديثًا.
(9) وقال مالك رضي الله عنه: (إن عمل أهل المدينة مقدم عليها) ,
وكذلك أهل الرأي والقياس يقدمون القياس الجلي عليها.
(10) أجمع جمهور المسلمين على عدم تكفير من أنكر أي حديث منها.
(11) إن تناقضها كثير، ومعرفة ناسخها من منسوخها عسير أو مستحيل،
وكذلك أكثر أسباب قولها.
(12) قام الدليل الحسي على أن الله لم يتكفل بحفظها من التحريف والتبديل
والزيادة والنقصان.
(13) لم يجمعها الصحابة، ولم يتفقوا عليها.
(14) لم يبلغوها إلى الأمم بالتواتر، مع علمهم بأن اتباع الظن غير جائز
في الإسلام إلا لضرورة.
(15) إنهم نُهوا عن كتابتها، وأُمروا بإحراق ما كتبوه منها، كما في
الروايات التي صحت عندكم.
(16) قد نهى بعضهم عن التحديث وكرهه، وكذلك علماء التابعين.
(17) كان أفاضلهم أقل الناس حديثًا ويصدفون عنه، ولو كان واجبًا لَمَا
كان هذا حالهم.
(18) من كان من الصحابة كثير الحديث ملوا منه ونهوه وزجروه، كما
فعل عمر بأبي هريرة، وشكوا فيه , وقالوا: إنه يضع الشيء في غير موضعه،
ونسبوه للجنون، كما في كتبكم.
(19) إن أئمة المسلمين لم يتفقوا على الصحيح منها، وما منهم من أحد إلا
خالف في مذهبه كثيرًا منها.
(20) لم يعتن المسلمون بحفظها في صدورهم كما اعتنوا بحفظ القرآن
الشريف.
فإذا كان هذا حال الأحاديث وما قاله المسلمون فيها وما عملوه بها، فأي فائدة
منها ترجون؟ وأي ثقة بها تثقون؟ وأي شيء خالفتُ فيه الإجماع أو ابتدعته حتى
أُرْمَى بالكفر أو المروق؟ مع أن هذه المطاعن وأمثالها كثير لم يخل منها عصر
من عصور المسلمين، ولم تصدر إلا منهم. فيجب علينا أن نقدر أخبار الآحاد
قدرها ولا يعمينا الجهل والتعصب عن حقيقة أمرها.
أما قول حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ اليافعي في الجواب عن بعض هذه
المطاعن إن الصحابة اختلفوا في جمع القرآن وكتابته، فهو لا يرد شبهة ولا
يدحض حجة. فإن القرآن الشريف من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
اليوم قد حفظ حفظًا جيدًا في الصدور، لم يسبق له مثيل ولم يعرف عند أمة أخرى
في كتبها. وكُتِبَ في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبأمر منه عليه السلام
وبإملائه على ما عرفوه إذ ذاك من أنواع القرطاس (كل ما يكتب عليه) ولم يختلف
أحد منهم في وجوب كتابته ولم يمت عليه السلام إلا بعد أن كانت جميع سوره مرتبة
الآيات محفوظة في صدور الجماهير مكتوبة في سطورهم المحفوظة عندهم، وإنما
كان اختلافهم بعد وفاته عليه السلام في كيفية جمعه على طريقة لم يكونوا يعرفونها
من قبل وما كانوا عهدوها، وهي كتابته على صحف من الكاغد (كالورق الآن)
مع ضم هذه الصحف بعضها إلى بعض بالطريقة المعروفة اليوم في عمل الكتب،
فإن الكاغد وعَمَلَ ما نسميه الآن كتابًا، ما كان معروفًا لهم في زمن النبي صلى الله
عليه وسلم، وإنما هو رقي في الصناعة التابع لرقيهم في المدنية بعد وفاته عليه
السلام، ولو كانوا علموه من قبل لعملوا المصاحف في زمنه، ولما اختلف في ذلك
منهم اثنان (راجع مقالة تاريخ المصاحف، المنشورة سابقًا في المنار) . ولما لم
يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعليم الناس شيئًا من الصناعات وغيرها من
أمورهم الدنيوية التي يمكنهم أن يصلوا إليها بعقولهم وتدرجهم في سلم المدنية
واقتباسهم أشياء من الأمم الأخرى الراقية، فلذا لم يوح إليه عليه الصلاة والسلام
بتعليمهم صناعة ما نسميه الآن ورقًا وكتبًا، كما أنه لم يوح إليه بتعليمهم أي صناعة
أخرى، بل تركوا وشأنهم حتى يصلوا إلى ذلك بمرور الزمان.
والخلاصة أن القرآن محفوظ في الصدور مكتوب في السطور من عهد
الرسول صلى الله عليه وسلم وبأمره، لم يختلف في ذلك أحد، وإنما الاختلاف كان
في مجاراة الترقي في الصناعة. وقد ترقت صناعة عمل المصاحف شيئًا فشيئًا،
كما ترقّى كل شيء آخر حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في عصرنا الحالي.
وأما كتابة الأحاديث، فقد كتبت فيها مرات، وأفاض القول فيها بعلمه الواسع،
أستاذ المنار، فلا حاجة للتكرار.
(الكلمة التاسعة) أسباب استشهادي بأحاديث الآحاد في مقالاتي.
اعلم بأن من الحجج ما يسمى (بالإقناعي) ، وذلك أن تحتج على الخصم بما
هو مسلم عنده، كأن تحتج على النصراني ببعض ما في الإنجيل الحالي، وإن كنت
غير معتقد له. فأنا أورد الأحاديث غالبًا لا لأثبت معتقدي لنفسي، بل لأقنع من لا
يقنع إلا بها، ولست أعول في براهيني القطعية إلا على ما يفيد اليقين، فما
أذكره من الأحاديث إما لإقناع المسلمين وإلزامهم بها أو التكثير من الأدلة بضم ضعيفها
إلى قويها ليقوى بها مع استعمال مبدأ الاستنتاج والنقد فيها. وقد اتبعت في ذلك
خطة علماء التاريخ العصريين، فإنهم يؤيدون آراءهم في التاريخ القديم ببعض ما
يعثرون عليه من الروايات ولو كانت من الأساطير ويستنبطون منها ما لا يستنبطه
الجهلاء من الحقائق بعد أن يستنيروا في دياجير ظلماتها بمصابيح من نور العقل
والعلم، فإنه جرت عادة الناس بتضمين حكاياتهم شيئًا من حقائق التاريخ فيأتي أهل
النظر والبحث فيعرفونها ويلتقطونها من وسط الخرافات ويتثبتون من صحة ما
التقطوه بالأقيسة المنطقية والقضايا العقلية، فإذا أراد بعضهم أن يعرف مثلاً أصل
الحجر الأسود عندنا، عمد إلى رواياتنا فيه وحكها بمحك النقد والعقل، فإذا سمع
رواية (إن الله استودع الحجر أبا قبيس حين أغرق الله الأرض زمن نوح عليه السلام
وقال له: إذا رأيت خليلي يبني بيتي فأخرجه له، فلما انتهى إبراهيم لمحل الحجر،
نادى أبو قبيس إبراهيم فجاء فحفر عنه فجعله في البيت) استنتج منها بعد أن يزيل
قشورها وأوهامها حقيقة هذا الحجر، وهو أن أصله قطعة أخذها إبراهيم عليه
السلام من أحجار جبل أبي قبيس السوداء القريبة من الكعبة، ووضعها في أحد
أركان الكعبة علامة على الركن الذي يبتدأ منه بالطواف ليعرف الطائف كم
مرة طاف بالبيت، وليبتدئ الناس بالطواف من نقطة واحدة، حفظًا للنظام وتسهيلاً
للطائفين [2] ، وكذلك يأخذ علماء التاريخ كثيرًا من حقائق تاريخ اليونان مثلاً مما
يجدونه عندهم من الأشعار والحكايات القديمة، كإلياذة (هومير) ، فإذا كان
هذا ما يفعله العلماء في الأساطير، فهل يستنكر مني أن أستشهد لقوم بأحاديثهم
الصحيحة المسلمة عندهم وهي التي يعولون عليها في مذاهبهم؟ وماذا يكون قولهم إذا
لم أؤيد مقالتي بشيء من ذلك؟ أما كانوا يقولون: إنها محض رأي له غير مؤيد
بشيء من النقول، ولو كان صحيحًا ما خلت أحاديثنا منه، إنها تكاد لا تغادر
شيئًا (إني والله لفي حيرة من أمرهم! !) على أن كثيرًا مما أذكره في مقالاتي مروي
عن كثير من الصحابة بالأسانيد المسماة عندهم صحيحة، والروايات فيه
مترادفة تكاد توجب اليقين والقول بأنها جميعًا موضوعة لا يكفي عند الباحثين في
نشوء الروايات لإرواء غلتهم وإشباع نَهْمَتهم في العلم، فلا بُدَّ إذًا من البحث
والتنقيب. ولو رفض المسلمون الآن ما ألزمهم به من الأحاديث بعد تدوينهم لها
في كتبهم واعتبارهم لها صحيحة أفما يكونون متعسفين؟ وكيف إذًا يكون
التمييز عندهم بين الصحيح والضعيف والموضوع؟ فاللهم اجعل العقل رائدنا.
وأَنِرْ بصائِرَنا. واجعل كتابك هادينا ومرشدنا. ونبيك إمامنا وقدوتنا ولا تخزنا يوم
يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلى مَن أتى الله بقلب سليم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تابع لما نشر في (ص 688 ج9 م 11) من مقالة الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي.
(2) حاشية للكاتب - تقبيل الحجر الأسود هو كتقبيل آثار رجال التاريخ العظام احترامًا لهم وإجلالاً لشأنهم وحبًّا فيهم، كمن يقبل سيف نابليون أو دواة شكسبير وقلمه إن وجدت، ولكل أمة آثار موروثة عن رجالهم العظام ويقبلونها، وهذا الحجر هو من آثار إبراهيم في بنائه الكعبة، ومحفوظ بالتواتر في الأمة العربية، فلذا قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قبل غيره من أركان الكعبة واتبعه المسلمون في ذلك إلى اليوم، وإن لم يقل أحد منهم بوجوب ذلك، ولم يذكر هذا الحجر في القرآن الشريف، ومن اعتقد أن شيئًا من هذه الآثار يضر أو ينفع فقد خرج عن عقله وكفر بالله ورسله، ومن العجيب أن الإفرنج يسمون تقبيلنا لهذا الحجر عبادة - مع أن التقبيل لا يسميه أحد في الدنيا عبادة - ولا يسمون سجودهم لصورهم وصلبانهم وقديسيهم وقديساتهم والخبز في قربانهم، لا يسمون ذلك عبادة لهذه الأشياء، مع أنه شتان ما بين السجود والتقبيل، فانظر وتعجب! ! .(11/771)
الكاتب: أحمد الإسكندري
__________
إلمامة بكتاب تاريخ العرب قبل الإسلام
لحضرة جرجي أفندي زيدان
(2)
ذكرنا في مقالنا الآنف الأمر الأول من الأمور التي تؤخذ على المؤلف وهو
(تردده أو إنكاره بعض الحقائق التاريخية البديهية في موضع. وتشبثه بتحقيق
بعض الظنون والتخرصات في موضع آخر اعتمادًا على أوهام وتخيلات قامت
بذهنه فقط) ومَثَّلنا للشق الأول من هذا الأمر وأدحضناه بما عرفه القراء. والآن
نمثل للثاني ونأتي على بقية الأمور التي تؤخذ على المؤلف، فنقول:
مثال الثاني - أنه عندما تكلم على دولة النبط في بطرا نقل عن التوراة وعن
كاتر مير الفرنسي وعن كوسين دي برسفال وعن آخرين ما يفيد أن الأنباط ليسوا
عربًا , وأنهم آراميّون أتوا من الشرق فأجلوا الأدوميين عن بطرا واحتلوها , ثم
رفض كل هذه النصوص والآراء وغيرها من النصوص التي لم يذكرها مما جاء في
السفر الأول من أسفار المكابيين وفي تاريخ يوسفيوس من غير أن يذكر برهانًا
واحدًا على نقضها، واستنبط هو بنفسه أنهم عرب، وذكر لذلك دليلَيْنِ:
الأول أن اليونان حيثما ذكروهم سموهم عربًا (ولعله يعني تقسيمهم جزيرة
العرب إلى عرب بترية في الشمال وسعيدة في الجنوب) .
والثاني أن أسماء ملوكهم عربية. وهما دليلان يتضاءلان أمام النصوص
التاريخية، ولا سِيَّمَا إذا كان ثمة ما يجعل هذين الدليلين ينعكسان على غير مراد
المؤلف، فيكونان حُجَّةً عليه لا له. ونحن ننفي أولاً هذين الدليلين ثم نأتي بأدلتنا
الوجودية على آرامية النبط، أما الدليل الأول فإن تسمية اليونان لسكان الشمال
العربي من جزيرة العرب بالعرب البترية هي تسمية جغرافية، كما أننا نسمي ما
وراء أسوان بالسودان، مع أن أكثرهم عرب لا زنوج، وكما نسمي الصحراء
الشرقية من مصر الصحراء العربية مع أن سكانها من البشارية والبجاة، لا يعرفون
العربية. على أن جميع ما عرف من حروب القائد اليوناني أنتيفونوس وابنه
ديمتريوس أنه وجد حولهم قبائل يظاهرونهم ويستجيبون لصراخهم، ويؤيد ذلك ما
نقله حضرة العلامة المفضال جبر ضومط عن يوسفيوس (جزء ثالث. مجلد 33
مقطتف) على أن سِفْر المكابيين من التوراة سماهم نبطًا وجعل العرب أحلافًا لهم
حينما استعان بهم يهوذا المكابي، وهو كان معاصرًا لهم أيضًا.
وأما الدليل الثاني - فإن ما عثر عليه من أسماء الملوك العربية لا يثبت أن
الشعب عربي، فقد ثبت أن النبط في آخر أمرهم خضعوا للعرب وخصوصًا قضاعة،
وأن الملوك الذين عاصروا منهم ملوك اليونان هم عرب حكموا أمة النبط، كما
يستفاد من تاريخ يوسفيوس. وكما أننا لا نسمي الأمم الهندية إنجليزًا؛ لأن
إمبراطور الهند إنجليزي، كذلك لا نسمي النبط عربًا؛ لأن ملوكها في بعض
الأحيان كانوا عربًا، على أن هذه الأسماء لم تكن خاليةً من التحريف والصبغة
الآرامية والعبرية، مع أننا عثرنا على كثير منها مكتوب بالخط النبطي نفسه لا
اليوناني الذي مظنة التحريف، وأما كون لغة الكتابة عند النبط غيرَ لغةِ التخاطب،
فهو مما لم يقم عليه دليل، وما كان أحوج المؤلف إلى ذكره لو وجده.
أما أدلتنا على أن النبط ليسوا عربًا وأنهم خليط من الأدوميين القدماء ومن
الآراميين الذين جاءوا مع بُخْتَنَصَّرَ ومن اليهود ومن العرب، فهي:
(1) ما هو مشاع مستفيض عن العرب قبل الإسلام وبعده أن النبط غير
العرب، وأنهم كانوا يعيرون العربي بأنه نبطي، واعتبر كثير من الفقهاء أن نداء
العربي بِيَا نبطيُّ قَذْف وسبّ، ناهيك بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لا
تكونوا كنبط السواد إذا سئل عن نسبه قال: أنا من بلد كذا.
(2) أن لغتهم لغة خاصة بهم تخالف العربية وتنال حظًّا من الآرامية وحظًّا
من العبرية وحظًّا من العربية. بل فيها كثير من اليونانية.
(3) أن جميع النصوص التاريخية من التوراة في إشارة أرميا وحزقيال
وفي أسفار المكابيين ما يفيد أن النبط غير العرب، وأن الإله انتقم من الأدوميين
وضربهم بغارة بختنصر، فدمر عليهم وأورث الأرض من بعدهم الكلدانيين الذين
جاءوا معه من بابل، وأن النبط كانوا في بعض أدوارهم أحلافًا ليهوذا المكابي،
وأنهم استأجروا جيوشًا من العرب يظاهرونهم، وهذا يدل على أن المستأجر غير
الأجير.
(4) ما جاء في تاريخ يوسفيوس من أن النبط بقوا مستقلين عن العرب إلى
أيام الإسكندر مانيوس بن أرستو بولوس بن يوحنا هركاتوس بن سمعان أخي يوناتان
ويهوذا المكابي اليهودي، فإنه بعد وفاة هذا الملك أخضعهم العرب وقام منهم عليهم
عدة ملوك، كانوا يسمون تارةًَ ملوك النبط وتارة ملوك العرب، وإن كانت الجنسية
متميزة بينهما، وبقوا كذلك إلى أن استولى عليهم الرومان سنة 105 م.
(5) حقق كل من كاتر مير الفرنسي وكوسين دي برسفال وغيرهما من
علماء الآثار أن سكان بطرا بعد الأدوميين هم أمم نازحة من العراق وبابل، ولا
ينطبق ذلك إلا على زمن بختنصر، إذ سكان بطرا قبل بختنصر لم يعرفوا إلا باسم
الأدوميين، وبعده لم يعرفوا إلا باسم النبط، من أنه من الثابت أن بختنصر أباد
الأدوميين تحقيقًا لوعيد حزقيال وأرميا النبيين، مع أن الله ينزل عليهم بلاءه ويجعل
جبال عيصو خرابًا وميراثًا لذئاب البرية، وأنه حارب العرب حتى كاد يفنيهم، فلو
كان النبط عربًا لما استبقاهم فيها، فظهر من ذلك أن الأنباط بقايا القبائل الآرامية
التي أسكنها بختنصر في بطرا ليكونوا حراسًا ونقلة لتجارة بابل؛ لأن فتوحاته كانت
كلها تجارية، ثم امتزجوا بغيرهم من اليهود والعرب، وما يرى في لغاتهم من
الألفاظ العربية لا يربو على ما يوجد في العربية المضرية من الألفاظ العبرية.
على أن المؤلف لما أحس بضعف دليله عن تبريره تلك الحلية التي هاجها في
أكثر من خمس صفحات من كتابه مع تيقنه أن المكتوب من آثارهم ليس عربيًّا،
زعم بلا دليل أن لغة تخاطبهم غير لغة كتابهم، ثم رجع وقال:
(على أننا لا نظن اللغة العربية التي كان يتفاهم بها النبطيون هي نفس اللغة
العربية التي عرفناها في صدر الإسلام، ولا بُدَّ من فرق بينهما اقتضاه ناموس
الارتقاء) .
هذا مع علمنا أن النبط دخلوا في حوزة الرومان في أوائل القرن الثاني بعد
الميلاد، وإننا نروي كثيرًا من شعر العرب وأمثالهم منذ القرن الرابع من الميلاد،
مما يظهر لنا تمام الإظهار أن هذه اللغة العربية الفصيحة بإعرابها واشتقاقها وكثرة
أساليبها التي لا تتناهى قد تكونت بهذه الصورة قبل ذلك بكثير أي وقت ما كان النبط
نبطًا، بل قبل هذا الوقت، ولا سِيَّمَا إذا علمنا أن اللغة العربية هي لغة أهل بادية،
وهم أبعد الناس عن الانقلابات اللغوية، كما يصرح بذلك حضرة المؤلف في أكثر
من موضع من كتابه.
(6) إن النبط الذين كانوا في الشرق في صحراء الكوفة وعلى ضفاف
الفرات وبقوا متميزين عن العرب إلى ما بعد الإسلام بنحو مائة وخمسين سنةً، هم
يشبهون نبط الشام من أكثر الوجوه، بدليل أن ما وجد من آثارهم ومعبوداتهم
وخطوطهم يدل على أنهم من عنصر واحد، وأطلال تدمر والخط التدمري صِنْو
النبطي تشهد بذلك، فإن كان نبط الشام خالطوا قضاعة، فنبط العراق خالطوا لخمًا
وجذامًا وبكرًا وتغلبَ وعبادًا.
ومن أمثلة الشق الثاني، وهو تشبثه بتحقيق بعض الظنون إلخ، أنه عندما
تكلم على دول اليمن ذكر من بينها دولة، زعم أن العرب لم تعرفها، وهي أهل
(معين) ، وقَفَّى على إثر ذلك بأن استظهر أنها أمة قديمة جدًّا تبتدئ أخبارها منذ
أربعين قرنًا قبل الميلاد لعثورهم على أثر قديم من آثار بابل ذكر فيه بالخط
المسماري: (أن زام سين حمل على مغان وقهر ملكها معنيوم) واستنتج أن مغان
هذه هي مغان طور سيناء، وأن الميم في (معنيوم) للتنوين، وبالطبع يعتقد أن
اللفظ حرف واختزل حتى صار (معينًا) ، وكذلك نقل عن سفر الأخبار (أن الله
أعان عزريا على الفلسطينيين وعلى العرب المقيمين بجوار بعل وعلى المعونيين)
أي المجاورين طبعًا للفلسطينيين، وكل هذه الحوادث حدثت في برية الشام والأمة
يمانية.
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني
ولو كان الشبه بين لفظين يكفي أن يبنى عليه تاريخ أُمّتين، لقد حقّ لنا أن نقول على التاريخ العفاء.
ثم اقتضب الكلام ورأى رأيًا أخيرًا، أنهم من جالية الآراميين، أتوا من العراق
في هذه العصور السحيقة واستعمروا اليمن، ثم أشكل عليه الأمر بأن المعينيين لو
كانوا من العراق لكتبوا بالخط المسماري، مع أن آثارهم مكتوبة بالخط المسند المشتق
من الفينيقي، فلم يَرَ حَلاًّ لهذا المشكل سوى ادعائه بأنهم استبدلوا بالخط المسماري
الخط الفينيقي لسهولة هذا الأخير في نظره! ! ! ولكن كل هذه العراقة في القدم لم
تمنعه من وصفهم في موضع آخر أنهم كانوا معاصرين للسَّبَئبِيِّين الذين لم تبتدئ
دولتهم على رأيه إلا في القرن الثامن قبل الميلاد، ونقل عن اليونان في صفحة
(116) أن هذه الأمم وغيرها كانت متعاصرة، وأن عاصمتهم (مأرب) ثم
يتشبث في موضع آخر بأن القحطانيين السبئيين كانوا بعد المعينيين، أو أنهم
ورثتهم أو أنهم حبشان أوانهم عمالقة جاءوا من مصر، هذا إلى اضطرابات
وتناقضات توقع طالب التاريخ في حيرة وارتباك، يهون عليه معهما نبذ كل هذه
التخرصات، والاعتقاد بأن كل هذه الأمم كانت قبائل متجاورة في مخاليف
متقاربة أعظمها مأرب.
الأمر الثاني من الأمور التي تؤخذ على المؤلف - تناقض عبارات كتابه في
عدة مواضع.
منها ادعاؤه أن أسماء ملوك حمير لم يكن بينها أسماء عدنانية، حتى قال في
صفحة (166) لم نجد لذلك أثرًا في الآثار المنقوشة، ثم نقل في صفحة (159)
أثرًا عظيمًا لأبرهة الحبشي، وفيه يسمي ولاته من حمير وأقْيالهم يزيد وكبشة ومرة
وثمامة وحنشًا ومرثدًا كما تقدم.
ومنها تناقضه في أن الجبائيين لم يعرفهم العرب، بل عرفهم اليونان وحدهم ثم
ذكر في صفحة (134) أن الهمداني في كتابه صفة جزيرة العرب، قال: (جبأ
مدينة المفاخر وهي لآل الكرندي من بين ثمامة آل حمير الأصغر) مع أن اليونان
لم يذكروهم بأكثر من أنها قبيلة تجارية.
ومنها تناقضه في استظهار أن السبئيين حبشان، ثم ذكر في صفحة (136)
أن المعينيين القادمين من العراق نقلوا معهم حضارة العراق ونظام حكومته،
وقسموا اليمن إلى محافد وقصور، وطمعوا في جيرانهم وأخضعوهم، وأنشئوا
الدولة المعينية والسبئية والحميرية.
ومنها تناقضه في أن المعينيين لم تعرفهم العرب، مع أنه نقل في صفحة
(111) عن الهمداني في كتاب الإكليل، أن (محافد اليمن براقش ومعين، وهما
بأسفل جوف الرحب مقتبلتان، فمعين بين مدينة نشان وبين درب شراقة) وروي أن
مالك بن حريم الدلاني يقول فيها:
ونحمي الجوف ما دامت معين ... بأسفله مقابلة عرادا
وفيها وفي براقش يقول فروة بن مسيك:
أحل يحابر جدي عطيفًا ... معين الملك من بين البنينا
وملكنا براقش دون أعلى ... وأنعم إخوتي وبني أبينا
ومنها تناقضه في أن العرب لم يعرفوا دولة النبط في الشام، ثم ذكر في
عدة حوادث أنهم عرفوها خصوصًا في صفحة (79) ، حيث نقل عن ابن خلدون
وحمزة الأصفهاني معرفتهما لنبط الشام، وأن بطرا كانت تسمى بعد الإسلام الرقيم،
ولهم فيها شعر، هذا إلى مناقضات كثيرة لا تسع سردها ولا تفصيلها هذه المجلة.
الأمر الثالث من الأمور التي تؤخذ على المؤلف، جسارته على وضع الأسماء
والتقسيمات التاريخية مع ضعف الاستظهار، كتقسيماته أدوار تاريخ العرب،
وكتسميته الأمة التي سماها استرابون اليوناني جرهيين، بالقرييين، نسبة إلى قرية،
وهي اسم اليمامة قديمًا، وهم الذين قال فيهم استرابون: (إنهم أغنى أهل الأرض،
ويكثرون من آنية الذهب والفضة، ويزينون جدران منازلهم بالعاج والذهب والفضة
والأحجار الكريمة) ، فمتى كان أهل اليمامة أغنى أهل الأرض؟ ومتى كان لهم
جدران تزين بالذهب والفضة والأحجار الكريمة؟ ! ! أليس كلام استرابون أشبه
بالخرافات التي تقال عن مدينة شداد بن عاد (إرم ذات العماد) التي يبكت حضرة
جرجي أفندي زيدان جهلة مؤرخينا على ذكرهم لها! ولكنه لا يبكت استرابون،
بل لم يكتف بقوله حتى حرف لفظه (جرها) بلفظ (قرية) وجعل أهلها دولة لم
تعرفها العرب وفتح بابًا لها خاصًّا في كتابه، ورسمها على المصور الجغرافي! !
الأمر الرابع من الأمور التي تؤخذ على المؤلف، ارتياب القارئ في تهجينه
أخبار العرب في حوادث الفخر والغلبة، كفتوحات شمر يرعش وأسعد ذي كرب في
آسيا وأفريقس في أفريقيا وحسان بن تبع. وتصديقه خرافات استرابون
وهيريدوت، مع أنهما لم يدخلا بلاد العرب ولم يرياها. واقرأ ما نقله عن استرابون
في صفحة (138) تتحقق صدق ما نقول، وهذا نصه:
وذكر استرابون ضربًا من الاشتراكية عند أولئك العرب غريبًا في بابه، فبعد
أن أورد اشتراك كل عائلة بالأموال والمتاع بين أفرادها، وأن رئيسها أكبر رجالها
سنًا، قال: والزواج مشترك عندهم، يتزوج الإخوة امرأة واحدة، فمن دخل منهم
إليها أولاً ترك عصاه بالباب، والليل خاصّ بأكبرهم، وهو شيخهم، وقد يأتون
أمهاتهم، ومن تزوج من غير عائلته عوقب بالموت. كان لأحد ملوك العرب
ابنة بارعة في الجمال، لها 15 أخًا، كل واحد منهم يهواها حتى ملتهم، واحتالت
على منعهم بعصا اصطنعتها تشبه عصيّهم، وكان لكل منهم عصا عليها علامته.
فكانت إذا خرج أحدهم من عندها حمل عصاه ومضى، فتضع هي مكانها العصا التي
اصطنعتها على مثالها، فيتوهم سائر الإخوة أنه لا يزال عندها، وقد يجيء أحد
يتفقد الباب، ولما يرى العصا بجانبه يرجع، فتبدل العصا الأولى بعصا مثل
عصاه وهكذا. فاتفق مرة أن الإخوة كانوا جميعًا في ساحة، ورأى أحدهم بباب أخته
عصا، وليس من إخوته أحد غائبًا، فظن فيها السوء فشكاها إلى أبيها، ولما اطلع
على عذرها برأها. هذه حكاية استرابون، ولم نذكرها إلا لغرابتها، ولا نعلم مقدار
ما فيها من الصحة. اهـ
يذكر هذه الحكاية هنا بالتفصيل ويعتذر بهذا العذر، مع أنه عندما يقتضي
المقام شيئًا صحيحًا تاريخيًّا عن العرب يدمجه ويجمل فيه ويحيل القارئ على الكتب
الأخرى! .
الأمر الخامس سوء التعبير من الوجهة الدينية في عبارات الكتاب، كقوله
في صفحة (10) أقدم المصادر العربية المدونة عن تاريخ العرب وأقربها إلى
الصحة القرآن (؟) .
الأمر السادس من الأمور التي تؤخذ على المؤلف أنه أغفل مدة حكم الفرس
على اليمن بعد ذي يزن، فلم يذكر أحدًا من عمالهم مع أن عمال كسرى استمروا
يحكمون اليمن إلى الإسلام، فكان آخرهم باذان، الذي كان على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وأسلم ثم صارت اليمن إلى الإسلام.
الأمر السابع من الأمور التي تؤخذ على المؤلف، كثرة شكه وتردده وتناقضه
في أكثر الحوادث، حتى إنه لا يرى المطلع على كتابه خبرًا مبرهنًا على صحته
بدليل مقنع، ويظهر ذلك ظهورًا بينًا في آرائه الخاصة واجتهاداته التاريخية.
الأمر الثامن من الأمور التي تؤخذ على المؤلف، تخريجه الأعلام تخريجًا
غريبًا، قال: إن اسم امرئ القيس يظنه محرفًا عن مرقس! ! وأن اسم الحارث
ربما كان ترجمة جيورجيوس، واسم صخر، ترجمة بطرس! ! إلخ ما ذكر من
التخريج.
الأمر التاسع اختصاره التاريخ جدًّا، وهو أحد العيوب التي عابها على
مؤرخي العرب، فلم يسلم هو منها، والكمال لله وحده.
__________
(1) تابع لما نشر في ص 681 م 11 من مقالة الشيخ أحمد الإسكندري.(11/780)
الكاتب: حسين وصفي رضا
__________
حادثة صاحب المجلة بطرابلس الشام
(أقوال الصحف فيها)
لم تكن الرسائل البريدية والبرقية التي وردت على منشئ هذه المجلة، وهو
في سياحته، معلنة الأسف العظيم لوقوع حادثة الاعتداء بطرابلس - بأكثر مما ورد
على إدارة المجلة من سائر أنحاء القطر المصري ومن الشرق والغرب وسوريا
أيضًا والآستانة وكلها تبدي الاستياء الشديد والتعريض والتنديد وتهنئ صاحب هذه
المجلة بسلامته مما كِيدَ له، وتعد نجاته عناية من الله بالعلم والإسلام، وإننا كما
بدأنا الشكر للكاتبين الأولين نعيد الثناء عليهم وعلى الآخرين.
وقد تناولت هذا الموضوع جرائد سوريا ومصر الكبرى باهتمام زائد وإلى
القراء ما كتبته بهذا الشأن:
شاع أمس في الثغر أنه بوصول الأستاذ السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار
الأغر إلى طرابلس تصدى له بعضهم وضربه بعصا فجرحه في رأسه ثم ابتدره
بإطلاق الرصاص فأخطأه، فكان لهذا الخبر رنة أسف لدى الجميع، وإنا نبشر الكل
بأن الأستاذ في سلامة وعافية والحمد لله، وهذا نص تلغراف تلقيناه في هذا الصباح
من طرابلس بتفصيل الحادثة:
(وصل الأستاذ الرشيد مساءَ الجُمُعَة، فكان له استقبال حافل وعدد المستقبلين
يربو على الخمسِمِائَةِ شخص، أرسلت شعبة جمعية الاتحاد والترقي العثماني عربة
خصوصية لركوبه والموسيقى الوطنية، فوصل البلدة بكل احتفاء تحفه الأهل
والأحباب إلى أن اقترب الجميع من سوق العطارين، فتصدى كامل المقدم الذي كان
ضرب صالح وأدهم رضا سابقًا، ووقف أمام الأستاذ وابتدره بضربة على رأسه
بعصا، فلم تصبه تمامًا، فأراد أن يضربه ثانية فتلقاها الشيخ محمد الرافعي بيده
وتمسك بالعصا حتى أخذها من كامل، فما كان منه إلا أن أشهر مسدسين، وأخطر
كل من يقترب منه بالموت العاجل، فاقترب منه رجل لم تؤثر به تلك التهديدات،
وأراد ردعه فأطلق عليه عيارًا ناريًّا فلم يصبه وبعد ذلك فَرَّ.
وقد كان الأستاذ أدخل إحدى الدور القريبة، فأخذ بعد ذلك لدار الشيخ محمد
الرافعي، ولم يزل هناك.
لم يهتم كما يجب من بيدهم أمر الضبط، الكدرُ عموميٌّ من جراء ذلك،
الأستاذ لم يبد عليه أثر كدر، بل تحمل ذلك بصبر كما هي عادته. لم يبق أحد من
الوجوه إلا وقد هُرِعَ للسلام عليه. أمور الحكومة ليست هي على ما يرام، وقد
استعفى أكثر أفراد الضبطية، التفصيل بالبوسطة) .
فنهنئ صديقنا الأستاذ بسلامته، ونطلب من الحكومة بكل إلحاح التحري على
المعتدي ومجازاته أشد المجازاة تنكيلاً له وإرهابًا لغيره.
... ... ... ... ... ... ... ... (الاتحاد العثماني)
* * *
كتب إلينا من طرابلس أن حضرة العلامة السيد رشيد أفندي رضا صاحب
مجلة المنار وافى الفيحاء مساء الجمعة الماضي على أنه قبل وصوله إلى الدار
المعدة لنزوله هجم عليه أحد الأهالي وضربه بعصا على رأسه رغمًا عن شدة ازدحام
الناس الملاقين حوله. ثم أطلق عياره الناري في الهواء وأخذ يطوف في الأسواق
كأنه لم يأت شيئًا مذكورًا.
نقول: وهذه الحادثة السيئة غريبة في بابها، ولا نظن الذي أقدم على هذا العمل
الفظيع إلا مغرى مدفوعًا بيد أعلى، فعسى أولياء الأمور أن يبحثوا ليقفوا على
الحقيقة، لكي يقطعوا تلك اليد أو يقيدوها على الأقل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (لسان الحال)
* * *
صرف حضرة العلامة السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الإسلامية 12
سنة في القطر المصري بعيدًا عن أهله ووطنه، وأصاب أهله وذويه ما أصابهم
من اضطهاد المعتدين، كما يذكر أكثر قراء هذه الجريدة التي وقفت وقتئذ في
وجه الظالمين وقفة طويلة. ولما أعلن الدستور، سافر السيد رشيد إلى طرابلس،
فمر ببيروت حيث قوبل مقابلة شائقة جديرة به، وبعد الإقامة في بيروت أيامًا
سافر إلى طرابلس، فوصل مساء الجمعة 29 الماضي. فنزل لمقابلته على
ظهر الباخرة جمهور من مشايخ طرابلس وأعضاء جمعياتها وجمهور من أهالي
القلمون، وكان في انتظاره على الرصيف خلق كثير ومعهم الموسيقى، فاستقبلوه
بكل إجلال وأعدت له في الترام عربة خاصّة ركب معه خواص المحبين، وهكذا
سار موكب المقابلة بين عزف الموسيقى وإطلاق البارود إلى منزل فضيلة
مضيفه الأستاذ الشيخ محمد الرافعي، حيث توافد العلماء والوجهاء للسلام عليه.
وحدث في أثناء الطريق أن شقيًّا من أشقياء طرابلس المشهورين هجم على السيد
رشيد بعصا وضربه بها فأصابت شطر رأسه ولم تؤلمه.
فهجم الجمهور على ذلك الشقي كامل المقدم فأخذ بإطلاق النار على الجمهور وفر
هاربًا، وكان هذا العمل مدعاة للمغامرة بالسيد رشيد، ووردت عليه تلغرافات
التهنئة من وإلى بيروت وجمعية الاتحاد والترقي والوجهاء والأعيان والعلماء،
وزاره القومندان وأعرب عن أسفه، وظهر أن الشقي مدفوع بأيدي أناس من الحساد،
ثم زار القومندان والضباط وأعضاء نادي جمعية الاتحاد والترقي السيد رشيدًا،
وطلبوا منه أن يحضر الاجتماع الذي عقد في النادي، ففعل وألقى خطابًا جميلاً كان
له أحسن وَقْع.
وقد اهتم والي بيروت بالاعتداء على السيد رشيد اهتمامًا عظيمًا، فأرسل
وكيلاً لمتصرفية طرابلس، وأمره بالقبض على الجاني، فنحن إِذَا شكرنا أعيان
طرابلس للحفاوة بعالم منهم هو فخر بلدهم بلا نزاع ولا جدال، فإنا نأسف لوجود
أنذال في تلك المدينة يحرضون السفاحين على ارتكاب مثل هذه الجنايات، وأملنا أن
يعاقب والي بيروت ذلك الشقي والذي أغروه عقابًا صارمًا شديدًا يكون عبرة لسواهم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الأهرام)
* * *
اعتداء ذميم - ورد كتاب من طرابلس ينبئ بأن أحد الأشقياء المدعو كامل
المقدم هجم على حضرة العالم الفاضل السيد رشيد رضا صاحب المنار، بينما كان
جمهور عظيم يحتفل بقدومه، وضربه بعصا على رأسه، ولكن فضيلة الشيخ محمد
كامل الرافعي تلقى العصا قبل أن تصيب السيد رشيدًا بسوء. فكان للحادث وقع
كبير، وازداد على أثره ميل الجمهور إلى السيد رشيد، وكتبت لجنة الاتحاد
والترقي في بيروت إلى لجنة سلانيك تستشيرها في إعلان الأحكام العرفية في
طرابلس بعد حادثة السجن، وهذا الحادث الموجب للأسف. أما الجاني فالهمة
مبذولة للقبض عليه وعلى من يُظْهِر التحقيق اشتراكهم معه، ولقد طلب والي
بيروت قوة عسكرية من دمشق لاستخدامها عند الضرورة في توطيد الأمن.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الجريدة)
* * *
أتانا من غير مكاتبنا في طرابلس الشام أن حضرة العالم الفاضل السيد محمد
رشيد رضا صاحب مجلة المنار وصل إليها يوم الجمعة الماضي، فاستقبله جمهور
كبير من العلماء والأعيان ورجال جمعية الاتحاد والترقي على ظهر الباخرة،
ووقفت الناس على المرفأ لرؤيته وأعدت له الجمعية عربة خصوصية ركب فيها
والموسيقى تصدح أمامه حتى قرب من دار الشيخ محمد كامل الرافعي , ففاجأه هناك
شقي اسمه كامل بن عبد الرحمن المقدم بضربة عصا على رأسه، ولكنها لم تكد
تصيبه حتى تلقاها عنه العلامة الرافعي ونزعها من يد ذلك الشقي. فشهر هذا
مسدسين وجعل يطلقهما على الجماهير التي حاولت صده ثم فر هاربًا، ولم يُصَبْ
أحد بسوء والحمد لله. وظل حضرة الأستاذ مع ذلك ساكنًا رابط الجأش، كما ينتظر
من أمثاله من ذوي النفوس الكبيرة. وقد وردت الرسائل من أنحاء سورية بتهنئته
واستنكار فعلة ذلك الشقي. وقد طير البرق خبر ما جرى إلى دولة والي بيروت
وجمعية الاتحاد والترقي فيها، فأرسل دولة الوالي وكيلاً لمتصرفية طرابلس وطلب
قوة عسكرية من دمشق بعد ما ظهر احتياج طرابلس إلى زيادة عساكرها، وأوصى
دولته بالقبض على الجاني الذي يقال: إنه فعل ما فعل بإغراء واحد من أقاربه.
ولايزال العلماء والوجهاء وكبار رجال الحكومة يؤمون منزل الشيخ الرافعي لتهنئة
ضيفه الكريم بالقدوم والسلامة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (المقطم)
* * *
كان حضرة الفاضل الشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار في مصر،
قد سافر في الأسبوع الفائت إلى بيروت ومنها إلى وطنه طرابلس الشام، بعد أن
حالت الأحوال الماضية دون ذهابه إلى وطنه زمنًا طويلاً. وقرأنا اليوم في جريدتي
الاتحاد العثماني والأحوال ما خلاصته أن حضرة الشيخ رشيد رضا وصل إلى
طرابلس مساء الجمعة في 25 الماضي فاحتفل باستقباله حتى إذا اقترب من سوق
العطارين تصدى له كامل المقدم (وفي رواية الأحوال أنه عبد القادر مؤدن)
وابتدره بضربة على رأسه وضربة ثانية فتلقاها الشيخ محمد الرافعي ونزع العصا
من يده، فما كان من الرجل إلا أن أشهر مسدسين , ثم أطلق عيارًا ناريًّا، فلم
يصب أحدًا، وأركن إلى الفرار، وقد كان الأستاذ أدخل إحدى الدور القريبة، فأخذ
بعد ذلك إلى دار الشيخ محمد الرافعي، ولم يزل هناك، وقد اتفقت الأحوال والاتحاد
العثماني على تواني من بيدهم أمر الضبط في هذه الحادثة.
والمؤيد يأسف لهذا الحادث ويستنكر هذا الاعتداء ويرجو أن يكون ناشئًا عن
تهوس فرد واحد فقط، وأن يتمتع حضرة صاحب المنار بكل هناء وسرور في
زيارته لوطنه.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (المؤيد)
__________(11/794)
الكاتب: حسين وصفي رضا
__________
الدولة العلية وبلغاريا والنمسا
ما أكثر العبر في أعمال البشر، وما أقل المعتبرين! إن الخطيئة التي يأتيها
الفرد في بيئة عسى لا يشعر بها أحد، أو الذنب الذي يصدر من بدوي في العراء لا
يحس به سوى خليطه أو رهطه، قد يصدر من أمة برمتها، وتأتيه حكومة بعد
تقريره في دار ندوتها! ! وإن ما يمر على الذاكرة من أشباه هذا ونظائره كثير جدًّا،
ولكن قل من يتدبر ويعي؛ ذلك أن أعمال الأفراد لا يلاحظها إلا علماء الأخلاق
والاجتماع، وهم أطباء النفوس والأمم، ولكن أعمال شعب بأسره مما لا سبيل إلى
كتمانه وإخفائه، بل هو مما يصل إلى كل حس، ويقع تحت كل نظر.
يقول الفلاسفة الاجتماعيون: إن إقرار مجموع عاقل على خطأ مستحيل،
ولكن هذا القول لا يصح على إطلاقه إلا إذا كان النهب والاختلاس في عرف
الفلاسفة أمرًا حلالاً طيبًا، والحق الذي لا مراء فيه أن الإنسان مهما استكنه أحوال
البشر فإنه لا يحيط علمًا إلا بجزء يسير من كل كبير، وعليه فلا تثريب على من
قال وهو يظن نفسه مصيبًا، بل على من فعل وهو يوقن أنه مخطئ.
أعلنت النمسا في السابع من أكتوبر الماضي أنها ألحقت مقاطعتي بوسنة
وهرسك بمملكتها، وأنهما صارتا بهذا الإلحاق جزءًا منها! ! فقلب هذا الحادث كيان
السياسة الأوربية وحول أنظار الدولة الدستورية الجديدة إلى ما يراد بها، فصرفها
عن القيام بالإصلاح الداخلي، وكانت بلغاريا سبقتها فأعلنت استقلالها قبيل ذلك
بيومين، فكان هذا وما سبقه صادفًا بالدولة العلية عن الاهتمام بما تقتضيه أحوال
البلاد الداخلية بله الخارجية.
توقع الناس من وراء هذا الانقلاب المفاجئ في عالم السياسة حربًا ضروسًا
تشتعل جذوتها في (ترنوفو) ثم تمتد إلى سائر أنحاء شبه جزيرة البلقان، وتنبأ
فريق بأن ذلك قد يحمل بعض دول أوربا الكبرى على خوض غمراتها، فيكنَّ إذ
ذاك من جُنَاتها وكماتها، وفي ذلك من الويلات والمصائب ما فيه. على أن هذا
الفكر والذهاب إليه ليس من باب الحدس والتخمين، ولولا حلم الدولة الدستورية
الجديدة وأناة الإمارة النزقة لَحَمَّ الأمر وجف القلم، ولكنا الآن نكتب بدل هذه الكلمات
أخبار الفلج والخذلان.
عظم على العثمانيين صنع بلغاريا والنمسا واستغرب صدوره آخرون، على
أنه لا محل للغرابة، فإن بلغاريا تتحفز لهذا الأمر منذ أمد بعيد، وإنما دعاها إلى
التسرع ما تتوقعه من سيدتها (الدولة العلية) إذا هي استجمعت قواها ومضى
عليها نصف عقد من الأعوام وهي دستورية حرة، فإنها إذ ذاك تخشى أن تعبث
بحقوقها وتستهين بسيادتها، فأسرعت إلى إعلان استقلالها، وهي تكاد لا تتوقع من
وراء ذلك إلا احتجاجًا يتلوه سكوت ورضى؛ لأنها مستيقنة بأن رجال الدولة العقلاء
لا يرون من الصواب الدخول في حرب أقل ما يخشى فيها من الخسار أن تنقلب
الحال إلى ما كانت عليه - لا قدَّرَ اللهُ - وفي ذلك البلاء الجم والمصاب العمم.
إن استقلال بلغاريا يتألم له العثماني الصادق، ولكنه ليس مما يؤبه له في
الحقيقة، فإن بلغاريا قد استقلت فعلاً في أيام حكومة الجواسيس الخائنين، فليس من
الكياسة أن يجعل استقلالها قولاً من المصائب التي نزلت بالعثمانيين، على أننا ربما
ننال شيئًا من حقوقنا التي اغتصبتها من قبل بسبب هذا الاستقلال.
إلا أن صنع النمسا لَهُوَ شَرّ صنع يقع أو يتصور، وشر منه أقوالها بعد
وقوعه، ومن العجيب أن يكون القول أنكى من العمل!
لم تكد هذه الدولة النهمة تعلن إلحاق هاتين المقاطعتين بمملكتها حتى قام
العثمانيون من سائر النِّحَلِ والمِلَلِ في كل أرض يتبوّءونها يعلنون استياءهم
واستهجانهم عمل النمسا، وعز عليهم أن تؤذيهم بالفعل، وأن يؤذوها هم بالقول،
فصمموا على الإعراض عن مشتري سلعها، وهذه الحرب الاقتصادية - كما
يسمونها - من أجمل ما تحارب به أُمّة عَدُوًّا لها، ولا سِيَّمَا إذا كان هذا العدو
كالنمسا: أمة تجارية بحتة. ومن دلائل الحياة في الأمة العثمانية إجماعها على
ذلك في جميع بلاد الدولة، فقد كانت البواخر النمسية تغادر الآستانة كما تغادر بيروت
ويافا واللاذقية وغيرها من دون أن تأخذ شيئًا أو تعطي شيئًا حتى أضبارات البريد،
وغلا كثيرون في ذلك، فطفقوا يمزقون ما لديهم من الملابس النمسية، على كونها
- حال تمزقها - ملكًا لهم! ! ! وكان لمصر وغيرها من مدن القطر حظّ من هذا
العمل، فكان لمجموع هذا الإعراض أو المقاطعة - كما يقولون - تأثير شديد في
معامل النمسا ومصانعها حدا بالأكثرين من أصحابها إلى مخاطبة حكومتهم ناعين
عليها ذلك الإلحاق، الذي يخشى أن يؤدي إلى إملاق أي إملاق، فما كان من هذه
الحكومة المنصفة (؟) إلا أن أَوْعَزَتْ إلى معتمدها في الأستانة بأن يحتج على
حكومتها! ! ! طالبًا منها حمل رعيتها على نبذ المقاطعة! ! !
هذا هو القول الذي قلنا عنه فيما تقدم إنه أنكى من العمل! أليس من الأعاجيب
أن تقرر النمسا في دار ندوتها إلحاق بوسنة وهرسك بمملكتها نهبًا وسلبًا من الدولة
العلية جهارًا، وتحظر على الأمة العثمانية أن تسير وراءَ ميولها ورغائبها؟ إن من
المتعذر على دولة مستبدة أن تحمل رعيتها على مشتري سلعة دون أخرى قسرًا،
فكيف يكون ذلك ميسورًا لحكومة دستورية؟ ! ! إن في هذا لمواطن للعبر ومواضع
للتذكير، فهل مِن مُعْتَبِر أو مُدَّكر! !
... ... ... ... ... ... ... ... حسين وصفي رضا
__________(11/798)
ذو القعدة - 1326هـ
ديسمبر - 1908م(11/)
الكاتب: موسيو رينيه ميليه
__________
الإسلام والمدنية الحديثة.. هل يتفقان؟ [*]
إني اخترت موضوع البحث في الإسلام لأول مرة في مؤتمر إفريقية الشمالية
لسببين: الأول أن المسألة الإسلامية هي مركز دائرة جميع المسائل في إفريقية
الشمالية؛ وذلك لأن هذه المسألة مهمة في إفريقية أكثر منها في البلاد الإسلامية
الأخرى؛ إذ كان بين الإسلام والنصرانية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط
نضال قديم، ومازال أثره باقيًا في القلوب. والثاني لأننا نحن الفرنسيين نعيش
مع المسلمين في تونس والجزائر ونحن مضطرون إلى الاختلاط بأهلهما لارتباطنا
معهم بمصالح دائمة.
إن الهند الإنكليزية فيها زهاء أربعين مليونًا من المسلمين؛ ولكن الإنجليز لا
يختلطون بهم اختلاطًا دائمًا، وفي مصر، وهي أكثر بلاد الإسلام مدنية، لا يختلط
الإنكليز كذلك بأهلها اختلاطًا يفضي إلى الاستعمار الحقيقي، والأوربيون لا يقطنون
سوى المدن الكبيرة، وليس لهم من العلاقات مع سكان القرى ما للمستعمرين منا مع
العنصر الوطني في مستعمراتنا الإفريقية على أن المسألة الإسلامية يجب أن تتقدم
على غيرها من المسائل الأخرى التي يبحث فيها المؤتمر بقطع النظر عما تقدم.
لا يكون الاستعمار موطد الأركان قائم البنيان إلا إذا أمكننا الوصول إلى طريقة
تجعلنا على صفاء ووداد مع أهل الدين الإسلامي، الذي يربط الأمم المختلفة
الأجناس والمشارب المنتشرة بين المحيط الأطلانطيقي وخليج قابس.
ويجب أن نضيف إلى هذا الاعتبار اعتبارًا آخر أكبر منه شأنًا وأعمَّ فائدةً،
وهو أن ظنون الغربيين بالأمم الأخرى قد بدأت تتغير تمامًا، وأذكر أنني كنت أسمع
وأنا يافع أن الأمم الآسيوية لا تقوم لها قائمة، وأنها ستبقى رازحة تحت أعباء
الانحطاط والجمود، وفي الغالب كانوا يلصقون التهمتين معًا بها على ما فيهما من
التناقض، إذ حينما توجد حركة تأخر لا بُدَّ وأن تتبعها حركة تقدم. وقد كان من
الأمور التي لا نزاع فيها أن الصين أمة جامدة، وأن اليابان أمة ليس لها إلا مدنية
سطحية، وأن الهند لا يمكن أن تصلح شئونها، وكانوا يتهمون الإسلام بهذه التهم
نفسها، وإن الذين هم في سن موافقة يذكرون أن الغربيين كانوا يرددون نظرية
مؤداها أن المسلمين في جمود تام بسبب اعتقادهم في التوكل والقضاء والقَدَر،
ولست في حاجة إلى القول بأن هذه التهم التي كانت تجسمها كبرياء الغربيين قد تبين
فسادها، فإن المدافع التي أطلقت في موكدن دوت في أقاصي آسيا، وأصبحت الأمم
التي كنا حكمنا عليها بالموت والجمود يقظة نامية، سواءٌ كانت في الصين أو الهند
الصينية أو الهند الإنكليزية أو في إيران، التي أخذ أهلها يطلبون دستورًا، وها هي
الآستانة ظهرت فيها حركة أهلية أدهشت العالم بأجمعه، وما كان يخطر ببال طلبة
مدرسة العلوم السياسية أنه سيطرأ تغيير على برنامج دراستهم، وهو الأمر الذي
أصبح لا بُدَّ منه الآن بعد أن تغيرت المسألة الشرقية ودخلت في طور جديد.
وإننا إزاء هذا الانقلاب الذي حصل لا نجد بُدًّا من التساؤل عن الجمود الذي
وصفوا به الإسلام، إذ قد يكون شبيهًا بتهمة الخمول التي ألصقوها باليابان، وما
لبثت أن اضمحلّتْ وظهر بطلانها! !
وإني لا أريد أن أذكر انتشار الإسلام، لأنه هو الدين الوحيد الذي ينتشر
ويزداد أهله بسرعة في آسيا وإفريقية، على حين أن الأديان الأخرى بقيت واقفة
عند حد محدود لا تتجاوزه ألبتة، وقد أصبحت هذه المسألة لا نزاع فيها، ولكن ماذا
تقولون إذا أَثْبَتُّ لكم أن الإسلام شرع يطبق العلوم الحديثة ويستفيد منها؟ ومن ذلك
أنه أنشأ بقوته الذاتية وبالمهندسين المسلمين ذلك الخط الحديدي العظيم الممتد بين
دمشق والمدينة المنورة، الذي يبلغ طوله 1300 كيلو متر! ! وماذا يقول اليوم
فطاحل الفلاسفة الذين قالوا: إن أهل الإسلام مصابون بنوع مخصوص من أنواع
مرض النوم؟ ماذا يقولون الآن إذا علموا أن المسلمين تبرعوا بمقدار ثمانين مليونًا
من الفرنكات مما أنفق عليه؟
وإن لفرنسا فائدة كبرى بالاشتراك في هذا البحث العظيم.
فإذا كانت مدنية الإسلام هي تلك المدنية الجامدة المزعومة، فيجب علينا إذ
ذاك أن نعامل هؤلاء المسلمين الذين نحن مرتبطون بهم بسياسة الضغط والشدة خلافًا
لما جبلنا عليه من انعطافنا لجميع الناس إزاء ما يبدو من حركاتهم أو يظهر فيهم من
روح الحروب الصليبية التي بقيت بكيفية غربية كامنة في صدور المسلمين حتى
البعيدين عن الدين منهم (؟) ومن الأمور المدهشة أن الإنسان قد يلاقي في فرنسا
أناسًا مازالوا محافظين على بقية مِن أوهام الحروب الصليبية ضد المسلمين.
وأما إذا اعتقدنا في الحركات التي تجلت في كل مكان عكس ذلك، فمن
الواجب أن نمد أيدينا بحرية إلى شعوبنا الإسلامية ونَقُودها معنا في طريق المدنية،
وهذه النقطة هي التي أريد أن أبحث فيها اليوم أمامكم.
إن أمامنا طرقًا لحل هذه المسألة الكبرى.
فمنها الطريقة التي يمكنني أن أسميها الطريقة المباشرة، وهي أن نفتح القرآن
وكُتُب السنة، ونستخلص منهما النصوص التي تثبت أن المؤمنين الصادقين في كل
عصر يهشون للعلوم ويقبلون عليها. منذ عهد غير بعيد جاءني كتاب من أحد
المسلمين الجزائريين، وهو السيد عبد السلام بن شعيب، فرأيت فيه بعض تلك
النصوص، مثل: (الحكمة ضالة المؤمن ينشدها أنى وجدها) و (اطلبوا العلم ولو
بالصين) وغير ذلك من الآيات والأحاديث والآثار.
هذه الطريقة تصلح لإقناع قومنا بأن الإسلام يحث على العلم، ولكن هناك
عقبتين تقفان في سبيل نجاحها (الأولى) أنني وزملائي الذين يدافعون عن الإسلام
لسنا بِحُجَّةٍ في تفسير الآيات والأحاديث واستخلاص المبادئ الإسلامية الصحيحة
منها. (والثانية) أن المتدينين لا يتبعون دائمًا ما ترمي إليه نصوص دينهم، بل
كثيرًا ما يحيدون عنها، ويأخذون بأقوال الفقهاء والشراح الذين يذهبون في أقوالهم
كل مذهب، فلا يكفي أن ينص الدين على شرف العلم، ليكون أبناء ذلك الدين
راغبين فيه مقبلين على تحصيله.
وهناك طريقة أخرى، وهي الطريقة التاريخية:
في اعتقادي أن خطأ المشتغلين منا بالإسلام هو درس هذا الدين مستقلاًّ عن
الظروف التي كانت محيطة بظهوره، فلو عرفنا كيف كانت حال العالم حين ظهر،
لوقفنا على أسباب انتشاره المدهش.
إن الذي ساعد الإسلام على الانتشار هو ما قرره الإمبراطور بيزانطين في
القرن الثالث للمسيح، من جعل المسيحية دين الحكومة، وقد جر هذا القرار على
الدولة البيزنطية من المشاكل أعقدها.
ولقد كان الدين الروماني القديم دين حكومة أيضًا، ولكنه كان دينًا يبتلع
الديانات الأخرى، بمعنى أن روما كانت كلما تغلبت على أمة، جعلت آلهتها آلهة
لروما. وبخلاف ذلك كانت الحال في بيزنطية، ومنذ اليوم الذي استخدم فيه
الإمبراطور السيف لنشر الدين انفتح في وجه الدولة البيزنطية باب الآلام والهموم،
ولو أعدتم النظر في تاريخ القرن الرابع والخامس والسادس للمسيح لوجدتم
الإمبراطرة متوفرين على توحيد الدين وموجهين إليه كل قوى الدولة، وفي ذلك
كان تضعضع ملكهم وانقراضه. فكم أهرقت دماء في سبيل كل عقيدة من عقائد
المسيحية، وكم من مقاطعة ضيعها الإمبراطور على إثر كل قرار كان يصدر من
مجمع (نيقة) .
وإن مسألة طبيعة المسيح عليه السلام أو مسألة الأقانيم التي نعتقدها الآن بكل
سكينة واطمئنان قد سالت من أجلها دماء غزيرة، ونشأت من الجدال فيها حروب
هائلة - هذا وإنه قد بلغ من عناية الحكومة بنشر الدين أنها غفلت عن احتياجاتها
الأولية، فاحترمت الصوامع ورفعت عن أهلها الخدمة العسكرية وعافتهم من دفع
الضرائب.
فلم يكد يدخل القرن السادس حتى كانت الدولة في غاية الضعف وملئت
جوانبها بالخلافات الدينية.
إذًا فما هو الإسلام؟ الإسلام دين جاء بخلاف كل ذلك، فقد اعتاض عن تعدد
درجات الإدارة بسلطة واحدة يرجع إليها الحل والعقد في كل الأمور، ولم يقرر شيئًا
من وساطة القسيسين بين الآلهة والشعب، ولم يسن نظام الصوامع، وقضى على
عادة العزوبة التي كانت متبعة مستفيضة بين المسيحيين في ذلك العصر، وقضى
أيضًا على عادة التنسك والخروج من الدنيا، فقرر الاشتغال بالدنيا والآخرة معًا،
وبالجملة فقد أتى الإسلام بنظام مضاد للنظام المسيحي في ذلك العهد، ملائم لحاجات
الناس، وهذا هو سر غلبته على الدين المسيحي.
ثم إن الإسلام أرجع الدين إلى حاله الطبيعية، ولم يَأْتِ بشيء من تلك العقائد
المسيحية الفلسفية، بل قال بكل وضوح: (لا إله إلا الله) ، وبذلك خلا الإسلام من
ذلك الاعتقاد الذي قسم الدول الأوربية، والذي جعل أهل مصر وآسيا الصغرى في
حالة استياء من تسلط الدولة البيزنطية.
وكيف لا تميل هذه الشعوب الساخطة إلى أهل الإسلام وهم يعلنون أنهم أهل
التسامح مع مخالفيهم في الدين، لا يطلبون منهم إلا ضريبة يستعينون بها على
إصلاح شئونهم وشئون الدولة الإسلامية، ولقد بلغ الأمر بأحد الولاة إلى تثبيط
دخول الذِّمِّيِّين في الإسلام بدلاً من أن يرغبهم فيه أو يكرههم عليه؛ لأن إسلامهم
يقلل من دخل بيت المال.
ومن هذا الوصف التاريخي الموجز يمكنكم أن تتصوروا كيف نضبت ينابيع
الحياة في الدولة البيزنطية، وأنتم تعرفون كيف انتشرت عادة التنسك والتقشف مع
أنها لم تقلل من فساد الأخلاق - ويمكنكم أن تدركوا كيف أن التبعة الآسيوية اعتبرت
ظهور الإسلام إيذانًا بنجاتهم وسعادتهم.
وأذكر أني أيام كنت أدرس تاريخ الإسلام كان الأساتذة يقررون سرعة انتشاره
من دون إيقافنا على أسبابه، وغاية ما كانوا يذكرونه هو أن طبيعة العرب طبيعة
حربية، وأن خيولهم جيدة، تكاد تسبق ظلالها! ! مع أن الحقيقة أن الفتوحات
العربية كانت على البغال، إلا أن العرب أتوا بعقيدة سهلة التناول، لا تثقل الجندي
المجاهد، ثم إنهم فوق ذلك أَتَوْا متشبعين برُّوح التسامح، وذلك هو سر الانقلاب
العظيم الذي أعطاهم ملك آسيا وإفريقية ونصف إسبانيا:
وإذا كان ذلك كذلك أدركتم ما تبع هذه النهضة من الأعمال الجليلة.
أتى العرب بعقائد سهلة ملائمة للفطرة وأعطوا الحياة الدنيا قسطها من الاعتبار،
فترقت العلوم والفنون والآداب باجتهادهم الذي عجز عنه المسيحيون الذين
عاصروهم، وإني لَيُخَيَّلُ إِلَيّ أنه كانت على أبصار مَسيحيِّي القرون الوسطى غشاوة
من تنسك منعتهم من إدراك الأشياء على حقائقها.
وقد جاء العرب في الوقت نفسه بمبدأ في البحث جديد، مبدأ يتفرع عن الدين
نفسه، وهو مبدأ التأمل والبحث.
ثم هل تعرفون بأي كتاب من كتب العهد العتيق كان يتعلق المسلمون؟
كان اهتمامهم بكتاب أرسطو أكثر منه بخيالات أفلاطون، نعم كان كل
اهتمامهم بكتاب ذلك الحكيم المدقق، وواضع أساس العلم في الحقيقة، ثم إنهم مالوا
إلى الاشتغال بعلوم الطبيعة وبرعوا فيها، وهم الذين وضعوا أساس علم الكيمياء،
وقد وجد فيهم كبار الأطباء - ولفرط تقديرهم للحياة الدنيا نبغ فيهم الشعراء
المجيدون الذين قالوا شعرًا إذا وصفناه بأنه أرضي؛ فذلك لأنه قريب من العقول،
يغذيها وينعمها، وإنه أفضل من خيالات شعراء القرون الوسطى بألف مرة، فأين
هذه الحياة من تخبط الغرب المسيحي في تماثيله وأوهامه وانزوائه! !
هذا؛ وإني لا أطيل القول في الشيء المشهور من أن الحضارة العربية بلغت
شَأْوًا عظيمًا في بغداد وقرطبة، وإنما يسرني أن أبحث في أسباب هذه المدنية
الراقية وحدودها.
وإليكم أول ما يتبادر إلى ذهن الباحث النزيه، وهو أن الإسلام أعطى أشهى
ثمرة لما سرت إليه روح المدنية القديمة خالصة من الشوائب.
ففي بغداد استفاد الإسلام قوته السياسية من تلك المدنية الفارسية التي قاومت
عوادي الزمان، والتي نشأ فيها من الفلاسفة والعلماء عدد عظيم، وكذلك في إسبانيا،
حصل تمازج بين الروح الإسلامية والروح اللاتينية، وسأبين لكم الآن أن افتراق
هاتين الروحين كان وبالاً عليهما معًا.
كان الباحثون في الإسلام يعتقدون أن الدين نظام كامل لا يتبدل ولا يتغير،
فيكفي أن يدرس مستقلاً عن كل عامل أجنبي عنه للوقوف على قيمته، ولكن الحقيقة
أن كل دين يستمدّ جُلّ قوّته من العوامل الأجنبية التي كان له معها شأن، ومن مقدار
قبول الدين نفسه لتأثير هذه العوامل. وإن لي كلمة على دولة الإسلام في الأندلس
التي فتحها مسلمو إفريقية الشمالية: انظروا إلى قرطبة، تلك المدينة التي سقطت
الآن إلى حضيض الهوان والفقر، وانظروا إليها لما كانت في عهد الدولة العربية،
عامرة آهلة يبلغ عدد سكانها زهاء خمس مائة ألف نسمة، وعدد مساجدها ثلاثة
آلاف، وعدد منازلها مائة وثلاثة عشر ألفًا عدا ثلاث مائة من الحمامات العامة، ثم
إذا أردتم أن تقفوا على أخلاق أمراء المسلمين في تلك الدولة، ودرجة آدابهم ورُقِيِّهم
، فإليكم صورة الوصية التي تركها عبد الرحمن الأول، أحد خلفاء قرطبة لابنه،
وقد اخترتها عفوًا من بين المستندات الكثيرة التي تتعلق بتاريخ الإسلام في إسبانيا:
(اعلم يا بُنَيّ أن المُلْك بِيَدِ الله يؤتيه مَن يشاء، وينزعه مِمَّنْ يشاء، فاحْمَدِ
اللهَ على أن وهبنا مُلْكَ الأندلس، فعليك بتقوى الله وطاعته، واعمل خيرًا مع الناس
كافّة , وخصوصًا أولئك الذين وكل الله شئونهم إليك، وسَاوِ في حُكْمِكَ وقَضَائِكَ بين
الفقراء والأغنياء، ولا تُوَلِّ أًُمُورَ الناس إلاَّ مَن عَرَفْتَ فيهم الحكمةَ والخبرة،
وعامِلْ جُنْدَكَ بِالشّدّة واللِّين معًا، ليكونوا حماة الدولة لا عونًا للظلمة مِن الحكام.
وواجب عليك أن تظل الزراع بحمايتك، وأن تودهم بمعونتك؛ لأنهم مورد حياتنا،
واحرص على محبة الرعية لك وتعلقهم بك) , إلخ.
إني أود أيها السادةُ أنْ أسمع مثل هذه الوصية من رئيس وزارتنا في زمننا هذا،
ولا أفكر في وصف ما كان يجري في بلادنا في القرن العاشر، أي العصر الذي
قال فيه الخليفة عبد الرحمن هذا القول، لأني أخشى أن تتهموني بعمل مقارنة تشوه
سمعة العالم المسيحي، وتظهره بمظهر مخجل.
لبثت هذه المدنية التي أتت بالمدهشات، والتي لا يزال الناس في حيرة من
أمرها زاهية زاهرة ثَمَانِ مِائَة سنةٍ. فتح العرب الأندلس في سنة أو سنتين، ثم لم
تنتزع من أيديهم إلا بعد ثمانية قرون من حكمهم. أليس ذلك مما يدعو إلى العجب،
وإذا أضفنا إلى هذه المدة المائتين أو الثلاث مائة سنة التي اتسعت فيها دولة الأتراك
وبلغت شأوًا بعيدًا من العظمة الحربية، علمنا أن الدول الإسلامية ظلت صاحبة
السيادة على العالم مدة ألف سنة تقريبًا، وهي مدة تناهز عمر الدولتين اليونانية
والرومانية.
ولكن ثَمَّة أمرًا يرتبط بالموضوع الذي نبحث فيه الآن (موضوع التوفيق بين
المسلمين) وهو نتائج ما جرى في القسطنطينية وما جاورها من شواطئ البحر
الأبيض وفي الأندلس من تعارف الإسلام والمسيحية وتآلفهما.
ابتدأ هذا التعارف في الأندلس بعد فترة قصيرة من الفتح الإسلامي، ولا
يفوتنكم أن ما يرويه القصاصون من الجهاد بين النصارى والمسلمين في إسبانيا لا
يطابق الحقيقة في جملته، لأنهم يمثلون (السيد) في قصة ألفها (كورنيل) بطلاً
مقدامًا أعده قومه لمجاهدة الكفار (يريد المسلمين) ، في حين أن الحقيقة هي أن هذا
البطل إنما قدم نفسه لخدمة المسلمين وحارب في صفوفهم، ومات وهو بين
المسلمين يحارب أعداءهم. إن المستقرئ لأطوار العلاقات بين النصارى وأمراء
الإسلام في الأندلس يعلم أن الأمراء المسيحيين كانوا يستشيرون أطباء المسلمين إذا
أصابهم أو أصاب أبناءهم مرض، وكثيرًا ما كانوا يفدون إلى قصور الخلفاء
ويقيمون بها حتى يتمَّ شفاؤهم، فترون أيها السادة أن هذه العادات تناقض بتة ما
يرجف به القصاصون من خرافة الحرب الصليبية الخالدة بين النصارى والمسلمين.
لقد لزم مسلمو الأندلس التسامح مع النصارى ومودّتهم حتى في الدور الذي
اضمحلت فيه دولتهم، وأخذ أمراء المسيحيين ينقصونها من أطرافها، فإذا أتيح
لأحدكم أن يتجول في أنحاء إسبانيا الآن، يمكنه أن يقف على آثار العرب هناك،
وعلى بقايا ما شيدوه في دور اضمحلالهم، ليستخلص من دراسة تلك الآثار أن
الأندلس كانت بلاد غنى ورفاهة، حتى في دور تضعضع سلطان المسلمين،
ويدهش من أنها كانت في ذلك العهد أيضًا بلاد تسامح وتساهل.
في هذا العهد كانت دولة غرناطة زهرة أوربا، وكان كل من يريدون أن
يستنشقوا نسيم الحرية المدنية يذهبون إلى تلك البلاد فارّين من البلاد التي كان
يحكمها الأمراء المسيحيون، وهي مهد القسوة والظلم، هنالك يعاقب الأمراء من
يأسرونهم في ساحة الحرب بإلقائهم إلى كلاب مفترسة تمزق أجسامهم إرْبًا إرْبًا.
لم يكن ذلك مقصورًا على الأندلس، بل كان بين المسلمين والمسيحيين
علاقات متينة محكمة، لبثت من انتهاء الحروب الصليبية إلى فتح القسطنطينية.
فإنكم تعلمون أيها السادة أن عظمة البندقية وجنوه في العصور الوسطى راجعة إلى
تجارتها مع الشرق، وتعلمون ما استفدناه من احتكاكنا بالمسلمين إذ ذاك، فقد كان
لنا كثير من البيوت التجارية في فلسطين وسوريا واليونان، ولا يخفاكم أن من
أسعدهم الحظ من الغربيين بازدياد احتكاكهم بالمسلمين كان يسري إليهم كثير من
عاداتهم وأخلاقهم الشريفة، حتى قلقت الكنيسة الكاثولكية على أبنائها من سريان
روح الإسلام إليهم ونظرت بعين الخوف إلى تنازع المبادئ الإسلامية والمسيحية،
وخصوصًا إلى مبدأ التسامح الذي كان آفتهم وعدوهم اللدود! !
هذا؛ وإن هناك حقيقة يجب أن نبينها، وهو أنه في هذه الفترة التي تعارف
فيها المسلمون والمسيحيون، أي من انتهاء الحرب الصليبية إلى فتح القسطنطينية،
في هذه الفترة التي تعارفت فيها المدنيتان المسيحية والإسلامية - كان الإسلام هو
العنصر المؤثر والعالم الأوربي هو العنصر المتأثر، فكانت أوربا تجلب من
المشرق كل ما كانت تحتاج إليه من المصنوعات والمنسوجات وضروب الرفاهة،
حتى لم يعد في إمكانها أن تدفع ثمن كل ما تشتريه، ومن ذلك تعلمون أن سبب اندفاع
أمراء أوربا في سبيل اقتناء الذهب بأية وسيلة، راجع في الأكثر إلى فقر أوربا
وإعوازها من الحاصلات التي تتبادلها مع تجار المشرق.
هذا من جهة الماديات، وأما من جهة العلوم والآداب، فإن أوربا لبثت ثلاث
مائة سنة تقتبسها من الإسلام، وكانت المدنية الغربية تجني ثمارهما اليانعة.
ولكن حادثين عظيمين أوقفا سير ذلك التيار الكهربائي الذي كان يحيط بالبحر
الأبيض المتوسط وهما: استيلاء الأتراك على القسطنطينية سنة 1453؛ واستيلاء
الإسبانيين على غرناطة سنة 1492.
فمن ذلك اليوم قامت حرب الأحقاد الدينية، حتى إنك ترى آثار التعصب
الإسباني في تاريخ عرب الأندلس كالنقطة السوداء في الصحيفة البيضاء الناصعة،
ولا سيما في ذلك الوقت الذي حالف فيه الأمير يوسف جماعة القسيسين. وفي رأيي
أن تعصب الإسبانيين كان أفظع وأقل عذرًا، لأنه جاء في زمن كانت القوة والعدد
لهم. وأن الاستيلاء على غرناطة، الذي يفتخر به الإسبانيون، والذي يحسبونه
يجمل عصر فرديناند وإيزابلا، لم يكن في الحقيقة إلا عملاً وحشيًّا بربريًّا لم أعهد
في التاريخ أقبح منه، خصوصًا وإن إمارة غرناطة لم تكن لتهدد إسبانيا في شيء
لاستيلائها على ما حواليها من الأراضي والمدن، وإنما كانت غرناطة عروس
إسبانيا وزينتها - ولا بُدَّ أن يكون الأكليروس الإسباني أو الطليطلي رأى أن يمحق
هذا الجمال ويزيل المدنية البديعة خدمة للمسيحية، والمسيحية بريئة منه.
والأدهى من ذلك أن المسيحيين كانوا أعطوا وعودًا قبل الدخول ولكنهم
أخلفوها، وجمعوا الكتب الجليلة وأحرقوها فتلذذوا بمنظرها، وظنوا أنهم بعملهم هذا
قد قضوا على دين المسلمين وآدابهم. ثم إنهم أمروا المسلمين أن يدخلوا في
المسيحية كافة، ولما لم يجابوا إلى طلبهم جمعوهم زمرًا زمرًا وحبسوهم في غرف
واسعة ورشوهم بالماء، إشارةً إلى تعميدهم وتنصيرهم! ثم لما رأوا أن هؤلاء
المسلمين المتنصرين لا يزالون يغتنون طمعوا في أموالهم وصاروا يظلمونهم مِن آنٍ
لآخر. ومن ذلك ما وصل إلينا من أوامر فيليب الثاني التي يحرم عليهم فيها لبس
الثياب العربية واستعمال اللغة العربية، والاستحمام في الحمامات العامة، والسبب
في هذا الأمر الأخير أن الكنيسة الإسبانية كانت ترى الاستحمام جُرْمًا لا يُغْفَرُ! ! !
ولقد زرت غرناطة ورأيت آثار تلك الحمامات المحكمة البناء البديعة النقوش
التي أمر فيليب الثاني بتهديمها حقدًا منه على المسلمين ومطاوعة لاعتقاد الكنيسة
الإسبانية أنها مأوى الشياطين! ! في هذه الحمامات كان العرب يتنظفون وبها
يتطيبون، مع أننا نلاقي مصاعب عظيمة في تعويد بني وطننا على عادة الاستحمام
النافع، وإنكم تعلمون كيف طرد المسلمون المجبرون على التنصر من وطنهم سنة
1610 , ثم كيف خانهم أصحاب السفن فألقوا متاعهم في البحر وأنزلوهم في أرض
لا أنيس بها.
وبذلك انقلب الإسلام المتمدن بربريًّا، نعم لما انفرد الإسلام بنفسه، بينما
كانت أوربا تخطو خطوات واسعة وتَرْقَى درجات عالية، أصبح كشجرات الزيتون
المشوهة التي نراها في جبال تونس، فهي غليظة الجزع ولكنها تثمر ثمارًا غير
جيدة.
هذا؛ ولا تظنوا أن أوربا لم تتأثر من مفارقة المدنية الإسلامية، فإنها بدأت
تشعر اليوم بالنقص - ثم هل نحن في حاجة إلى بيان ما وصلت إليه أوربا من
الرقي، وما انعكس من تقدمها على البلاد الأجنبية؟
إلا أنها في علاقاتها مع الأجانب عنها كانت فظّة غليظة القلب، ويكفي أن
أذكركم بفظائع دخول الإسبانيين أمريكا لتتبينوا بأنفسكم قيمة المسيحي أيام طرد
العرب من إسبانيا، ولقد ضاع رشد الإسباني حتى لم يعد يدرك معنى الحياة فيقود
الأمم الأجنبية.
ولو أنكم تطالعون تاريخ الاستعمار في القرنين الأخيرين لتمثلت لكم روح
الظلم والعدوان، ولرأيتم أن اتساع سلطة أوربا وانتشار نفوذها إنما كان باسترقاق
السود وتعذيبهم، ولرأيتم أن غرضها إنما كان جمع المال، لا تتحرج من إتيان الشر
والاعتساف، كل ذلك جاءها من مغادرة الإسلام لها وافتراقه عنها - ولقد بلغ من
غلوها في الظلم والاعتساف أنها رأت في بعض الأحايين أنه لا يستقيم لها بلد إلا إذا
استأصلت أهله وأهلكتهم، وهكذا فعلت إنكلترا في أمريكا.
نعم إن براعة الأوربيين قد ظهرت في المسائل المادية، فترقت العلوم والفنون
والصناعات بين أيديهم. ثم إنهم تحملوا المشاق وقاموا بالأعمال الجسام، ولكنهم
عجزوا في كل وقت عن أن يفقهوا مدنية أجنبية عن مدنيتهم، وأن يقفوا على كُنْه
عقول ليست من عقول إخوانهم في الجنس، وقد أدركوا اليوم ضلالهم في خطتهم
الأولى وشرعوا يتلمسون خطة جديدة غايتها تقدير نفوس الأهلين الأصليين ومعرفتها
معرفة صادقة.
فهذا التفسير التاريخي كافٍ لإيقافكم على أسباب ارتقاء الإسلام تارة، وأسباب
أفول نجمه تارة.
إني أيها السادة أتبع في بحثي هذا الطريقة التاريخية، فلا أقصره على
الوجهتين الدينية والفلسفية؛ لأننا إذا قصرنا أبحاثنا على ذلك انسدَّ أمامنا مجال
البحث وعجزنا عن الوصول إلى حقائق الأشياء، فجدير بنا إذن أن نتتبع الأدوار
التاريخية التي مر بها الدين لنعرف طبيعته واستعداده للارتقاء.
آن لنا أن نحكم على بعض الأجناس من البشر بأنها تقبل الارتقاء والمدنية،
ولكن إذا رأينا أمة كان لها في خلال العصور مدنية زاهية زاهرة، فمن الظلم أن
نحكم على تلك الأمة بالسقوط الأبدي وباستحالة يقظتها وارتقائها؛ لأن الأمة التي
أمكنها أن تنهض في وقت ما يمكنها أن تعيد عهد نهضتها في المستقبل.
يقولون: إن عقيدة القضاء والقدر هي السبب في استحالة ارتقاء المسلمين،
ويهمني أن أتناول في بحثي هذه المسألة التي طال عليها القدم، والتي قال العلماء
وكتبوا فيها كثيرًا. أليس فيما يقولونه عن هذه العقيدة شيء صحيح؟ وما هو تأثير
تلك العقيدة التي يفهم الناس منها أنها تحمل صاحبها على الاستسلام للحوادث من
غير أن يبدي مقاومة لها؟
إلا أن مبدأ القضاء والقدر لم يختص به الإسلام، بل قررته المسيحية بصفة
أوضح وأجلى، فإذا قلنا: إن سبب انحطاط المسلمين تقرير دينهم لهذا المبدأ، فماذا
نقول عنه في المسيحية؟
إن لكم أن تسألوني لماذا لم يؤثر هذا المبدأ في أبناء المسيحية؟ وإني أبدأ
الجواب بقولي: إن هذا المبدأ مبدأ الاستسلام للحوادث قد كان له أثر فعال في حياة
المسيحيين فترة من الزمن، ولكني أجيب عن هذا السؤال متبعًا الطريقة التاريخية
التي توخيتها في هذا البحث، وهي أن كل دين لا يثمر ولا تبدو نتائجه من نفسه،
بل لا تظهر قيمته إلا بعد أن ينتحله شعب من الشعوب.
فالمسيحية ظهرت في ربوع الشام، تلك البلاد الغنية الجميلة، ولكن انتحلها
أقوام أشداء بعيدون عن طور الحضارة في بلاد ذات هواء قاس، تحدو بأهلها إلى
إجهاد أنفسهم، فلم يأخذوا من المسيحية إلا ما يلائم طبائعهم ويتفق مع أخلاقهم
الشديدة، وكذلك كان الأمر في الإسلام، إذ لم يعرف المسلمون الأولون الاستسلام
للحوادث، بل كانوا لا يتركون من يعتدي عليهم من غير أن يثأروا منه لأنفسهم،
وتلك كانت حالهم في زمن الفتوحات، فلما سرى إليهم الضعف والانحلال أصبحوا
قومًا جبريين، يتركون المصائب تنزل بهم وتعمل فيهم ولا يقدرون على الخلاص
منها، مكتفين بالتسلي، وقولهم: (كل ذلك كان في الكتاب مسطورًا) فالمبادئ
الدينية تفسرها الأمم بحَسَب ما توحيه إليها طبائعها وأخلاقها، فتأخذ أشكالاً متباينة،
ولذلك تكون في عصر ما سببًا في ارتفاع الأمة وفي عصر آخر عاملاً من عوامل
انحطاطها.
أفل نجم المدنية الإسلامية بعدما أثمرت وأينعت فترة طويلة من الزمن، ولكن
هذه المدنية تكفيها نفحةٌ من نسيم الحياة الجديدة لتسترجع جمالها وعظمتها وجدتها.
أيها السادةُ: إذا كان الإسلام قد أخطأ فخطؤه في تلك السذاجة التي اختص بها
من دون الأديان، والتي لم تأت على ما كان يقصد منها. لست أدري إن كان لنا أن
نقول عن تلك الميزة: إنها خطأ، فقد كانت في العصور الوسطى نعمة على
المسلمين، إلا أنها انقلبت ضررًا فيما بعد.
إن الإسلام لم يتوسع في مبادئه وقواعده ولم يحللها تحليلاً يتناول أصول
الأشياء وفروعها، سواء كان ذلك في دائرة الفكر أو في دائرة العمل، انظروا مثلاً
إلى نظام الخلافة في صدر الإسلام: كان الخلفاء يقومون بأعباء الخلافة كلها أو
يسندونها كلها إلى عمالهم في الولايات، فلم يكونوا متبعين قاعدة تقسيم العمل في
إدارة شئون الدولة كما هي الحال في الممالك الحديثة، بل كان الأمير أو القائد البعيد
عن رئيسه ينوب عنه في جميع مظاهر سلطته، وهو نظام كامل في عهد الفتوحات
والحروب، ولكنه مستحيل إذا جاء طور الحضارة وتشعبت الأعمال، فلا يعود في
إمكان فرد واحد أن يمثل السلطة العليا التي أنابته في فروعها كافة.
وإذا أردتم أن تقفوا على أضرار هذا النظام، فانظروا إلى الطريقة المتبعة
الآن في مراكش لجباية الأموال والضرائب، تجدوا أن وظيفة الجباية أشق الوظائف
وأصعبها، فإن قائد الجند هو الموكل بالجباية، ولا يمثل السلطان إلا بقيادته للجيش
؛ ولذلك لا يمكنه أن يجبي الأموال إلا إذا سار بجيشه نحو القبائل، فيصادف كثيرًا
من المشاق والمتاعب في سبيل القيام بوظيفة نقوم بها نحن على أسهل الطرق، لِمَا
لدينا من مصالح منتظمة نقيد فيها الحسابات، فلا يحدث في الجباية ارتباك وتعقيد
ألبتة.
إني أذكر أن سلطان مراكش السابق قضى حياته في الحروب الداخلية،
قضاها على ظهر جواده متنقلاً من قبيلة إلى أخرى، كل ذلك ليصل إلى جباية
الضرائب، في حين أن الذين يقومون بهذه الوظيفة في بلادنا مثلاً هم جباة من آحاد
الناس يؤدونها وهم بمنجاة من التعب والنصب.
فبالطرق النظامية التي نتبعها لا نحتاج في جباية الضرائب إلى إزهاق
الأرواح، بل يكفينا أن نتبع الوسائل النظامية التي تتكفل القوة العامة بحمايتها
وتحقيق غايتها.
هذا هو خطأ الإسلام في دائرة العمل، على أن هذا الخطأ - إن صح أن
نُسَمِّيَهُ كذلك - ليس مما لا يمكن تداركه، فإن تلك الصِّبْغَة العامة اللينة التي اتصفت
بها مبادئ الإسلام هي التي جعلته يقبل ضروب المدنية ولا ينافيها، بل يقابلها
بصدر رحيب؛ ولذلك ترون المسلمين المستنيرين لا ينفرون من النظامات التي
أنبتتها مدنيتنا، بل ترونهم يقبلون عليها ولا يجدون من دينهم حرجًا في اتباعها.
أما في دائرة الفكر فينقص الإسلام أمر واحد لم يحرم منه في عهد عزه، بل
في العصور الأخيرة، وهي طريقة التحليل العلمي، طريقة توزيع العلوم حتى
يسهل على كل فريق أن ينبغ فيما انتدب له، وإنه يحضرني الآن مثال على ذلك:
كنت منذ عهد بعيد مشتغلاً بالبحث عن حال المسلمين الفكرية، وأدى بي
البحث مرة إلى محادثة بعض علماء المسجد الأكبر في تونس. اجتمعت معهم خُفْيَةً؛
لأن المسلمين والفرنسيين كانوا لا ينظرون بعين الارتياح إلى التقرب بين زعماء
كل من المدنيتين، فقلت لأحد أولئك العلماء:
(كيف تفسرون أن كلياتكم كانت زاهية زاهرة في العصور الوسطى، وأنها
أمدت أهل أوربا إذ ذاك بالعلوم والمعارف، ثم أصبحنا الآن أعلى منكم كعبًا في
العلوم كافَّة - حاشا الدين - وسبقناكم في هذا الميدان بمراحل؟
إن السبب الذي أُرَاهُ هو أنكم متبعون الآن نفس الطريقة التي كنا نتبعها في
القرون الوسطى، إنكم لا تتبعون نظام التقسيم في العلوم، وتخصيص كل فريق
بفرع منها، بل يعمل كل منكم معتقدًا أن في إمكانه تحصيل العلوم كلها، أما نحن
فقد وصلنا إلى درجة راقية في العلوم باتباعنا طريقة تحليل العلوم وتوزيعها، وكما
أننا أمكننا أن نخرج من حالنا السابقة، فيمكنكم أنتم أيضًا أن تخرجوا من حالكم
الحاضرة إلى حال أرقى منها باتباعكم هذه الطريقة نفسها) .
لقد شاهدت بنفسي أيها السادة أهل تونس يقبلون على العلوم الحديثة وآنست
فيهم صفات ومواهب ساعدتهم على الارتقاء في هذا المضمار. وكأن محادثتي مع
علماء تونس وترغيبي إياهم في اتباع الطرق الحديثة لتحصيل العلوم، دينية كانت
أو غير دينية، قد أثمرت وأتت بالنتيجة المبتغاة؛ لأنها حركة إصلاحية ابتدأت في
تونس، وسيكون لها مستقبل كبير.
أسست في حاضرة تلك البلاد جمعية بمساعي بعض التونسيين النيرين دعوها
الجمعية الخلدونية، نسبة إلى المؤرخ المغربي الشهير عبد الرحمن بن خلدون، وقد
وجهت اهتمامي إلى تأسيسها، وأخذت أساعدها ورغبت رؤساءها في أن يقصروها
على الأعضاء المسلمين، وكان غرضي من ذلك أن أثبت درجة استعداد الإسلام
لتلقي العلوم الحديثة، وكفاءة المسلمين لتلقين إخوانهم ثمار هذه العلوم.
ولقد سبقني إلى هذا الموضوع الذي أخطب فيه الآن أحد علماء المسجد الأكبر،
وأحد أعضاء هذه الجمعية، فطفق يسرد الأدلة على اتفاق الإسلام مع المدنية
الحديثة، وعلى مقتضى آرائه في هذا الموضوع رسمت الجمعية خطتها ولا تزال
تسير بمقتضاها إلى الآن.
ولا يفوتني أن أذكر لكم الصعوبات التي يلاقيها القائمون بالحركة الإصلاحية
من أنصار القديم، فإنه وإن كان أهل الرأي والبصيرة من المسلمين يرون اتفاق
الإسلام مع فضائل التمدن الغربي سهلاً، فإن هناك فريقًا كبيرًا يطعن على هذه
الحركة ويحاربها. فكر أعضاء هذه الجمعية في تجنب الاندفاع في قلب نظام التعليم
القديم، فلم ينشئوا دار الجمعية في مسجد الزيتونة، بل تركوا المسجد على نظامه،
وأقاموا بجواره هذه الدار. وإنما تركوا المسجد حتى لا يثيروا عليهم سخط الجمهور.
حييت الجمعية وانتشر مبدؤها بالرغم من المعاكسات التي اعترضتها في مبدأ
أمرها؛ لأن كل إصلاح لا بُدَّ وأن يلاقي في طوره الأول معارضة، ولقد كثر
أعضاء هذه الجمعية، وصار طلبة مسجد الزيتونة بعد أن يتلقنوا العلوم فيه على
الطرق التقليدية، يفدون إلى دار هذه الجمعية فيستنيرون بما يُلْقَى فيها من العلوم
الحديثة، وإن هذه الجمعية لا تزال في مهدها، ولكن من المحقق أن سيكون لها في
نهضة الإسلام يَدٌ طُولَى، فيتحقق مبدأ القائلين: إن الإسلام لا ينافي المدنية.
بقيت مسألة جديرة بأن نبحث فيها، وهي ما يتخوفه بعضنا من قرب إحداق
خطر تيقظ المسلمين بنا. وإني معبر لكم عن آرائي في هذه المسألة بالصراحة التي
سمعتموها في جميع النقط التي تناولها بحثي اليوم.
إن هناك أمرًا يجب أن نقف على حقيقته، وهو هل نقدر على إيقاف تيار هذه
النهضة الإسلامية؟ وهل في وسعنا أن نقضي عليها؟
اعلموا أيها السادة أن هذه النهضة إذا قويت وكملت، بعد أن كنا محاربين لها،
فلا بُدَّ أن تنقلب علينا وتتجه ضدنا، وتتم على ما لا نرضاه وما لا يتفق مع
صالحنا ألبتة.
ليست نهضة الإسلام بالأمر الهيّن، وليست الجزائر وتونس هما البلدين اللذين
ينهض فيهما الإسلام، بل هناك مصر التي حدثتكم عنها، والتي خطت خطوة كبرى
في نهضتها، وهناك كثير من البلاد الأخرى التي حيي فيها الإسلام حياة جديدة.
على أن هناك اعتبارًا أشرف من هذا الذي ذكرته لكم يدعونا إلى أن لا ننظر
بعين الكره والسخط إلى يقظة المسلمين، وهو أن هذه الحياة الجديدة التي ابتدأ
يسري روحها في العالم الإسلامي من شأنها أن تقرب بين العالمين المسيحي
والإسلامي، وتوفق بين المدنيتين الغربية والشرقية.
يقول بعضهم: إذا كنا نفرض أن المسلمين يسيرون في طريق المدنية الغربية
سيرًا حثيثًا، فلماذا نعتبر أن ستكون هناك مدنيتان؟ ولماذا لا تفنى المدنية الإسلامية
في جسم المدنية الغربية، مادام المسلمون يأخذون العلوم عنا، ولأن العلوم هي
أساس كل مدنية؟ على أني لا أشارك أصحاب هذا الرأي في رأيهم؛ لأن العلم له
دائرة محدودة لا يتعداها، وما وراء هذه الدائرة توجد أفكار ومعتقدات لها تأثير كبير
في أحوال الشعوب، وهذه المعتقدات هي دائرة الدين.
إن الذين يقفون على الحركة العلمية في بلادنا يعتقدون أن العلم يعترف بوجود
دائرة مجهولة لا تزال بعيدة عن مداركه، فقد ابتدأ الفلاسفة والعلماء يوضحون تلك
الحقيقة الثابتة، وهي أن العلم مهما اتسعت دائرته فلا يزال أمامه عالَم غامض،
ومهما استجلى العلم من حقائق ذلك العالم فستظل دائرة المجهول أوسع بكثير من
دائرة المعلوم.
إنه لا يمكن للعلم أن يمحوَ سلطان الأديان على النفوس مادام عالم ما وراء
المادة مكتنفًا بالمدهشات، وعلى ذلك فلا أرى حدًّا لبقاء الدين الإسلامي، ذلك الدين
الذي أتى بأحسن العقائد وأكثرها ملائمة للفطرة، والذي سعد حظه بأن امتد ظله
على ضفاف البحر الأبيض تحت سماء صافية الأديم لم تتلبد بالغيوم، كما تلبدت
سماء بلادنا في الزمن السالف، فظل نوره متلألئًا في تلك البلاد المتنائية الأطراف
ولم تقدر الحوادث على إطفاء ذلك النور الرباني الساطع.
أيها السادة: إن مبدأ التفريق بين عالم المادة وعالم ما وراء المادة قد تبينه
المسلمون، فجعلهم يقبلون على علومنا ولا يرون فيها ما يناقض دينهم المشهور
بالتسامح، ولا أريد أن أتخذ من التونسيين برهانًا على ذلك، خشيةَ أن يُقال فيهم:
إنهم إنما يتبعون الخطة التي نوحيها إليهم، والتي نقصد منها إفراغهم في قالب
فرنسي يتفق مع أغراضنا الاستعمارية. بل أقول لكم: انظروا إلى الأتراك، وكيف
وفقوا بين الدين وجنسيتهم العثمانية، فأظهروا بذلك أن الحكومة الإسلامية قابلة لمبدأ
الجنسية، وأن مبدأ الدين فيها لا يمنعها من أن تصطحب مبادئ حكوماتنا الحديثة.
إن الحكومات الإسلامية، لِسَعَةِ مَبَادِئِهَا، قابلة للتشكل بأشكال مختلفة، وهذا
التشكل هو الكفيل بارتقائها. أتذكرون أيها السادة ما قاله الأقدمون في المسيحية؟
قالوا: إنها إذا ارتبطت بشكل الحكومة الملكية، ولم تتحول عنه كان في ذلك القضاء
عليها، وكذلك الحال في كل دين من الأديان، فلو أن الإسلام اتخذ شكلاً من أشكال
الحكومات وظل باقيًا عليه لا يعدل فيه ولا يغيره لَمَاتَ مَوْتَةً أبدية وأفضى ذلك إلى
ضرره وضررنا.
واسمحوا لي أيها السادة أن أختم كلامي بتذكيركم بتلك الكلمة التي قالها مسيو
جونار، حاكم الجزائر العام، تلك الكلمة التي أملتها الحكمة والدّرْبَة، وهي: (ليس
المقصود من الفتوحات مجرد الاحتفاظ بالبلاد، بل هناك ما هو أسمى غرضًا من
ذلك، وهو الاحتفاظ بالقلوب والأرواح) .
__________
(*) خطبة لموسيو رينيه ميليه، ألقاها في مؤتمر إفريقية الشمالية، المنعقد في باريس من عهد قريب، ونشرت في المجلة الاستعمارية الفرنسية، وترجمتها بعض الجرائد المصرية بالعربية، فآثرنا تلخيصها لقراء المنار، لِمَا فيها من الحقائق والإنصاف.(11/818)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الخطبة الثانية
من خطبنا في الديار السورية [*]
وهي من الخطب السياسية
أيها الإخوان الكرام:
اقترحتم علي أن أقول شيئًا في الدستور والاجتماع، وماذا عسى أن أقول في
موضوع قد تبارى فيه الخطباء الكثيرون مِن قَبْلُ، فلم يَدَعُوا لمن بعدهم مقالاً، ولم
يغادروا لمن تأخر عنهم متردَّما، فرب فكر فيه أريد أن ألقيه عليكم، فيخطر في
بالي أنه قد ورد على مسامعكم، وجال في مجامعكم، فيقف الفكر، ويتلعثم اللسان،
ولكنني لم أحضر تلك المجامع، ولم أسمع شيئًا من تلك الأقوال، فإذا قلت شيئًا مما
قيل من قَبْلُ، فلي فيه شيء من العذر، ورب مكرر يحلو، ورب إعادة فيها إفادة.
المراد من الدستور أن يكون حكم الأمة لها، تديره بيد من تختار من أفرادها،
لا بيد رئيس يستبد فيه برأيه، ويتصرف فيها بهواه وإرادته، وإن استبداد شخص
واحد بأمة كبيرة لَمِنْ أعجب أمور البشر في طور الجهل والانحطاط.
أتدرون ما هي القاعدة النظرية التي يبني عليها المستبدون هياكل سلطتهم
الجائرة؟ هي أن الأمة كالمجنون أو السفيه أو الولد القاصر الذي لا يحسن التصرف
في ملكه، فلا بُدَّ له من وصي يقوم بمصالحه، وولي يتولى تدبير أموره! ! !
هذه النظرية باطلة من عدة وجوه، ولكنهم يُحِقّونها بالقوة: هل يمكن أن تكون
الأمة كلها جاهلة أو سفيهة كالطفل أو المجنون، فلا يوجد في سوادها الكثيرِ أفرادٌ
يصلحون لتدبير أمرها، وإقامة العدل والنظام فيها بالشورى دون هوى الرئيس،
ويكون ذلك الرئيس الذي يدعي حق الوصاية عليها، والولاية على جميع مصالحها،
هو الحكم العدل، والعاقل الرشيد، يأخذه عن آبائه بحق الإرْث، كما يرث عنهم
الولاية والملك؟
كلاّ، إن ذلك أمر غير معقول، وحكم استبدادي غير مقبول، المشاهدة تنقضه،
والتاريخ يفنده، فقد قرأنا في سير الغابرين، ورأينا في حال الحاضرين، أن أكثر
الملوك والأمراء المستبدين، هم أعرق أفراد أممهم في الجهل، وأَوْغَلهم في أفن
الرأي، وأشدهم فسادًا في الأرض.
أي قاضٍ مِن قُضاة العدل حكم بجنون الأمة أو سفهها، ووجوب نصب فرد
من الأفراد وصيًّا عليها؟ أي شرع يبيح للوصي أن يتصرف في مال السفيه أو
القاصر تصرف المالك في ملكه، ولمن كان في وصايته كثيرون أن يتبع في
معاملتهم هواه، فيمنع بعضهم من حقه، ويعطي الآخر ما لا يستحقه، كما هو شأن
الملوك والأمراء المستبدين! !
ألا إن هؤلاء الأدعياء في وصايتهم، المعتدين في ولايتهم، ليسيئون التصرف
في ملك الأمة وفي سياستها، فهم قد جعلوا أنفسهم أوصياءَ عليها بالقوة القاهرة،
وبالقوة القاهرة يمنعونها من التصرف معهم ومشاركتهم بالرأي، بل يحولون بينها
وبين معرفة ما تملك، وما لها من حق الرأي والتصرف، لتبقى عالةً عليهم،
راضيةً ببقاء الأمر فيهم، ولهذا يمقت المستبدون العلم ويقاومونه أشد المقاومة، وقد
رأيتم ذلك في أنفسكم، فقد كنتم منذ أشهر تحرقون كتب العلم، أو تدفنونها في
حنادس الليل تحت الأرض، خوفًا من زبانية الاستبداد أن تدمر على بيوتكم فتراها،
فتنزل العقاب الشديد بمن اقتناها، على أنهم كانوا يعاونون الذين يهربون السلاح،
ويساعدون الأشقياء على إفساد الأمن وهضم الحقوق، فقد كان كل ذنب مباحًا أو
متساهلاً فيه عند حكومتنا الماضية، إلا ذنب العلم واقتناء الكتب والصحف الحرة،
التي كانوا يعبرون عنها بالأوراق المضرة.
لماذا؟ لأنهم يعلمون أن الأمة إذا عرفت حقوقها، يوشك أن تجتمع فتطلبها من
طريقها، وإذًا يحرمون من التمتع بذلك السلطان المطلق، والتصرف بتلك القناطير
المقنطرة، فقد قال حكيمنا السيد جمال الدين الأفغاني: العاقل لا يُظْلَم، ولا سيما إذا
كان أمة.
ما هو الطريق الذي تسلكه الأمم لاسترجاع حقوقها المغصوبة من الملوك
المستبدين؟ ألا إنه لَهُوَ الاجتماع والتعاون: الاجتماع الذي تسوق إليه المعرفة،
والتعاون الذي يدعو إليه الشعور بالحاجة، ومن هنا ننتقل إلى الكلام على الاجتماع
والجمعيات.
الاجتماع على الحق قوة لا تعلوها قوة، بهذا قد جرت سنة الله في خلقه، وقد
ورد في الحديث الشريف: (يد الله على الجماعة) وهذا أبلغ تمثيل لعظمة هذه
القوة، وأي شيء أعظم قوة ممن كانت كلاءة الله ظلاًّ ممدودًا فوقهم، وسنته في
النجاح صراطًا مستقيمًا أمامهم، ألا ترون أن الحكام المستبدين يطاردون الجمعيات،
ويخافون منها ما لا يخافون من الجيوش المنظمة، والأساطيل المدرعة، لعلمهم أن
الحق لا يغالب إذا وجد نصيرًا. قال الأستاذ الإمام (إنما بقاء الباطل في غفلة الحق
عنه) .
ماذا أقول في بيان قوة الجمعيات؟ هي التي قوضت حصون الظلم، ودمرت
هياكل الاستبداد، وحررت الأمم والشعوب من العبودية، وشيدت فيها صروح العلم
والمدنية، وليس الشاهد والدليل على هذا ببعيد عنكم، وأنتم الآن في نادي شعبة
للجمعية التي أسقطت سلطة الاستبداد في المملكة العثمانية، وأدالت منها سلطة
دستورية شورية.
أرأيتم لو أن أحدًا همس في آذانكم قبل ثلاثة أشهر وأنتم تئنون من ذلك الظلم
الفاحش قائلاً: إن نفرًا من إخوانكم العثمانيين لا يتجاوزون عدد الأنامل، يجتمعون
في حجرة لهم نوافذها مغلقة، وستورها مسبلة، يتخافتون بينهم في تدبير الحيل،
واتخاذ الوسائل، لتقويض هيكل تلك السلطة الاستبدادية، التي أوشكت أن تقضي
على الدولة العلية، وإعادة الدستور العثماني، وإحياء القانون الأساسي، فما هو
رأيكم في هؤلاء المجتمعين، ألا يقول أكثركم: إنهم مجانين (مجانين مجانين) بلى،
ولكن قد علمتم الآن علم اليقين أن هؤلاء النفر هم الذين قوضوا تلك السلطة
الظالمة، وقضوا عليها قبل أن تقضي هي القضاء الأخير على الدولة العلية، فما
الذي أقدر ذلك العدد القليل على إسقاط حكومة مؤيدة بجيش عظيم، ومال كثير،
وألوف كثيرة من الأعوان والأنصار، القابضين على زمام الأحكام، كانت ترتعد من
ظلمهم الفرائص، وتضطرب لتصور استبدادهم القلوب؟ أليس هو الاجتماع
للمطالبة، والتعاون على استبدال العدل بالظلم؟ بلى، ولو كان أولئك الأنصار
الأخيار من اليائسين، كما كان أكثر العثمانيين، لَمَا نالت الأمة العثمانية هذا النصر
المبين، الذي كان موضع إعجاب الناس أجمعين، حتى قال كثير من ساسة أوربا
وكُتّابها: إنه لم يسبق له نظير في تاريخ البشر؛ لأن المعهود في التاريخ أن هذه
الغاية لا تنال إلا بعد ثورات داخلية، وحروب أهلية، بين أنصار الاستبداد والظلم،
وطلاب الدستور والعدل.
الآن قد خطر في بال كثير منكم أننا قد نلنا هذا النصر بسيوف جيوشنا، لا
بتدبير أفراد من جمعياتنا، نعم، إننا لولا جيشُنا الباسل لَمَا عملنا الآن شيئًا، ولكن
لا ننسى أن جيشنا قد كان منذ كان حامي السلطة الاستبدادية ونصيرها، وعونها
على قهر الأمة وظهيرها، فما عدا مما بَدَا؟ أليس قد اتحد بعض ضباطه أهل
العرفان والحمية، بأولئك المجاهدين في سبيل العدل والحرية، فكان العلم والرأي،
هما القائدين للجيش؟ بلى.
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني
نلنا الحرية والدستور، وأصدر قاضي محكمة الاجتماع العليا حكمه ببطلان
تلك الوصاية الاستبدادية، والولاية القهرية، وإثبات رشد الأمة وأهليتها للقيام
بشئونها، والتصرف في ملكها، ولكن هل رشدت الأمة حقيقة، وصارت أهلاً
للتصرف النافع، الذي تحفظ به المصالح؟ إن الحكم الصحيح في شأن الأمة
العثمانية عسير جدًّا. فإنها على اختلاف شعوبها في الأجناس واللغات والأديان
والمذاهب متفاوتة تفاوتًا عظيمًا في التربية والتعليم اللذين يؤهلان الأمم للحرية
والحكم الدستوري، فتكون دستورية بطبيعتها لا مقودة إلى الدستور بالسلاسل.
إن مجموع الترك أرقى في هذه التربية من مجموع العرب، والأرمن أرقى
من الأكراد، والآستانة والولايات الأوربية، أرقى من الولايات الآسيوية،
وولايات سورية وسط بين ولايات أوربا وبين العراق والحجاز واليمن، وإننا
نرى الاستعداد في سورية ضعيفًا، فماذا نقول فيما دونها، فكرنا كثيرًا ونحن في
مصر لنختار من كل مدينة في سورية أفرادًا من الأحرار الشجعان ليؤلفوا لنا شعبًا
لجمعية الشورى العثمانية، فلم نعثر في أكثر المدن على من نثق بقبوله لدعوتنا،
ودخوله في جمعيتنا، ودخل في الجمعية رجلان من أهل بيروت، كل منهما صديق
للآخر، ولم يكاشف أحدهما الآخر بذلك إلا بعد إعلان الدستور، وناهيكم بجرأة أهل
بيروت.
إن العاقل الراشد إذا منع التصرف في ماله بالقوة القاهرة، وطال عليه الزمن
وهو لا يعمل ثم أبيح له العمل وهو غير متمرن عليه يحار في كيفية التصرف، ولا
يسهل عليه أن يجري فيه على طريق السداد. وقد اهتدى إلى هذا المعنى أحد أغنياء
بلادنا العقلاء (المرحوم محمد باشا المحمد) ، فقسم ثروته الواسعة في حال حياته
بينه وبين أولاده؛ ليتمرنوا تحت مراقبته على إدارة تلك المزارع والضياع، لئلا
تفاجئهم الثروة فيعوزهم حسن إدارتها وحفظها، وغفل عن ذلك كثير من الأغنياء،
فلم يأذنوا لأولادهم بالتصرف في إدارة ثروتهم، ولا بالتمتع بما تستشرف له نفوسهم
منها، فلم يلبث أولئك الأولاد بعد موت والديهم إلا قليلاً، حتى أضاعوا جميع ما
تركوه لهم إسرافًا وتبذيرًا، كما رأينا وشاهدنا في مصر كثيرًا، وإذا كانت إدارة
الثروة الشخصية لا تصلح إلا بالعلم والتمرن معًا، فكيف تكون إدارة الممالك
وسياسة الأمم؟
لا يعجلن أحد بالاعتراض على هذا الكلام فيقول: إنه مؤيد للحكومة المطلقة
التي أراحنا الله من شرها، ومعارض للحكومة الدستورية التي امتلأت القلوب رجاءً
في خيرها، معاذَ الله أن أحتج لتلك الحكومة الظالمة بكلمة، وأنا أعلم أنها لو بقيت
سنة أو سنتين ولم ينجح الأحرار بالوسيلة التي أخذوا بها في هذا العام، لوقعت
الأمة والدولة في خطر لا تؤمن عاقبته، وإنما قلت ما قلت آنفًا لأنبه الأفكار إلى
حقيقة حالنا، وما يجب علينا في هذا الطور الجديد.
الأمة العثمانية في مجموعها مستعدة للحكم الدستوري، فإن فيها من الأحرار
المرتقين في المعارف والأخلاق من جميع الشعوب من يرجى أن يقوم بهم هذا الحكم
خير قيام، ويؤمن عليه من عدوان الاستبداد، ولكن ضعف استعداد الأمة في كثير
من البلاد يحملهم مشاقَّ كثيرة في إقامة العدل، وإصلاح حال الملك، ومقاومة كيد
المتقهقرين، أعوان المستبدين الظالمين.
لا تظنوا أن الأحرار الكرام الذين نلنا الدستور بسعيهم، كانوا غافلين عن هذا،
كلاّ إنهم قد أعدوا له عدته، فأخذت جمعية الاتحاد والترقي على نفسها أن تكفل
الدستور الذي كانت قابلة ولادته وأمه ومرضعه إلى أن يبلغ أشده ويستوي، فأنشأت
لها شعبًا ولجانًا في كل مركز من مراكز الولايات والألوية والأقضية في المملكة،
وجعلت لها أندية سياسية اجتماعية، ولها في ذلك مقصدان:
المقصد الأول: مراقبة الحكومة في سيرها لأجل أن تنفذ الشريعة والقوانين
في دائرة الدستور، ويحفظ الأمن ويقام العدل بقدر الاستطاعة والإمكان.
والمقصد الثاني: نفخ روح الحياة الدستورية في الأمة وتحبيب الحرية إليها
بِبَثِّ الآراء والأفكار النافعة فيها بالخطب والمحاورات، وحثها على التربية الملية
والتعليم العصري الذي يجعلها أمة دستورية بالطبع، تأبى الاستبداد وتنفر منه، كما
تنفر من الأسقام والأدواء، فحيا الله جمعية الاتحاد والترقي، وإنه يجب على الأمة
كلها أن تساعدها في سعيها، فإنه لا حياة لنا إلا بالتربية الملية، وتعلم الفنون
العصرية…
__________
(*) بعد وصولنا إلى طرابلس، جاء أمير الألاي عبد الحميد بك، وكيل قومندان موقع طرابلس العسكري، مع وفد من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي، وَدَعْوَنا لزيارة نادي الجمعية، فذهبنا معهم، وهناك اقترحوا أن نلقي عليهم خطابًا في الدستور والاجتماع، فارتجلنا خطابًا، نثبت هنا ما نتذكر من مسائله، ولعله معظم كلياتها، ولا نزيد شيئًا إلا أن يكون في العبارة كزيادة السجع دون جوهر المعنى.(11/836)
الكاتب: محمد روحي الخالدي المقدسي
__________
الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة [*]
(3)
(تفنن المابين في أكل الرشَى ومنح الرتب والأوسمة)
كان لرجال المابين في الارتكاب وسوء الاستعمال ظرف ورقة وتورية بديعة،
فلما أنشئ قضاء (بئر السبع) في تيه بني إسرائيل، وعين له قائمقام في الآستانة،
قال له دولة الناظر حسبما أفاد: (بالطه كيرماش اورمانه كوندر يورم) أي إني
أرسلك إلى غابة لم تدخلها بلطة الحطاب. فذهب وحطب في الناس حتى عزل،
وأخذ تحت المحاكمة، ثم عين في محل آخر. وهذا مثال من ألف بل آلاف أمثلة
للارتكاب الذي أفسد أخلاق الأمة وأخرها عن اللحاق بالأمم المتمدنة، ويروي عنه
الناس نوادر عجيبة وأساطير غريبة تحتاج إلى الجمع في كتاب أو الإفراغ في قالب
قصصي، وبعد أن كان تعيين الموظفين يكون بطلب الباب العالي والنظارات،
صار التعيين وتوجيه الرتب من المابين مباشرة!
تهافت الناس على احتجان الرتب مع لقب بك، الذي لا وجود له في الحقيقة
بين الألقاب الرسمية، كوجود لقب باشا مثلاً، وإنما اشتهر فريق باسم بك، وفريق
باسم أفندي، فكانوا عند توجيه الرتبة ينظرون إذا كان الاسم مقرونًا بلقب بك،
صدرت الإرادة السنية بموجبه ونشرت في التوجيهات الرسمية، فصار بائعو الرتب
يتعمدون وضع لقب في الطلب، لتصدر بموجبه الإرادة السنية وتنشر في القسم
الرسمي من الجرائد، فتتناقلها الجرائد العربية وتقول وجهت الرتبة الفلانية مع لقب
بك، لتوهم القارئ أن لقب بك توجيه جديد، كلقب كونت أو مركيز عند الإفرنج،
وامتلأت دوائر الآستانة بالموظفين، بلا تمييز في جدارتهم واستحقاقهم واضطلاعهم
بالعمل الذي هم فيه، ولم يكن الغرض من التعيين التحري على موظف قادر على
إيفاء الوظيفة حقها من العمل، بل إيجاد وظيفة وعمل للمقربين والملتمس لهم أو
للذين يُخْشَى بأسهم! ! فزاد عدد الأعضاء في شورى الدولة عن المائتين، ونظامهم
أن يكونوا سبعة وثلاثين عضوًا، وكذلك مجلس المعارف ومجلس التفتيش والمعاينة
الضاغط على حرية نشر الكتب وإدخالها، وهو الذي محا من كتب اللغة كلمات
كثيرة مثل: حرية، وطن، اختلال، انقلاب، جمعية، رشاد… كما غيرت أسماء
الموظفين من عبد الحميد وسلطاني ونحو ذلك إلى أسماء أُخَرَ، وبعضها حرفت
وكتبت سلتاني، وامتلأت نظارة المعارف بالموظفين حتى قال ناظرها الأخير لما
عرضوا عليه الميزانية: لولا وجودُ معاشات المعلمين لأمكنني وضع الموازنة! !
فكانت معاشات المعلمين تضايقهم وهم يريدون حصر المعاشات بالموظفين من
الرؤساء والأعضاء والكتاب والمفتشين، وزاد عدد أعضاء الجمعية الرسومية عن
ثمانين عضوًا، وكذلك مجلس المالية والأوقاف والعسكرية والبحرية وغير ذلك من
أنواع المجالس ودوائر الحكومة والمعية الشاهانية، حتى ضاقت المجالس والأقلام
بالموظفين وصار أكثرهم لا يجد له كرسيًّا للجلوس عليه! ! وكانوا يأخذون رواتبهم
وهم نائمون في بيوتهم.
* * *
(اختلال المالية وإرهاق الفلاح)
اختلت الموازنة المالية اختلالاً عظيمًا أدَّى بها إلى حجز نحو نصف رواتب
الموظفين والعساكر ومخصصاتهم في كل سنة، واستفحل الظلم في جباية الأموال
الأميرية وطرح الأعشار وتحصيل رسوم الأغنام، وتسابق الموظفون إلى المزاودة
بأعشار الأقضية والألوية، وعدوا ذلك فضيلة وسببًا مشروعًا للمكافأة والترقي،
والمكلفون من الزراع والفلاحين يئنون تحت أثقال هذه التكاليف والمظالم ولا ناصر
لهم ولا مفكر في شئونهم، وقَلَّمَا كان يمر على القرية شهر من دون أن يأتيها
المعشرون وجباة الأموال الأميرية ونصيب المعارف ومصرف (بنك) الزراعة
وإدارة الرسوم الستة، أي الديون العمومية والإعانات المختلفة، وكان الظلمُ أشدَّ
على المسلمين منه على المسيحيين الذين كانوا يحتمون بأديارهم وبرؤسائهم
الروحيين، ولقد سمعت كثيرًا من الفلاحين أنهم اضطروا إلى بيع أراضيهم وتزويج
بناتهم ليأخذوا صداقهن ويعطوا للجباة ما يطالبونهم به من الأموال الأميرية! !
فصار الفلاح يتجنب زراعة الأرض إلا بقدر حاجته الضرورية. ومن القواعد التي
قررها الفيلسوف الشهير مونتسكيو مؤلف روح القوانين: (إن الأراضي يقل
إيرادها بالنسبة لحرية سكانها لا بالنسبة لخصبها) ، فإذا كان الفلاح حرًّا عمر
الأرض المَوَات وجعلها خصبة بعمله وحراثته، وإذا فقد الحرية أصبحت أرضه
الخصبة مواتًا بسبب الظلم والاستبداد. وعليه فإن ما نشاهده اليوم في أوربا من
العمران إنما هو نتيجة الحرية، فحيثما توجهت فيها لا ترى إلا مروجًا نضرة
وأشجارًا وكرومًا مخضرة وأنهارًا جارية، كأنها بستان عظيم ليس فيه قطعة أرض
خراب.
وصار رجال المابين يحرضون الولاة والمتصرفين على الإسراع بتحصيل
الأموال والبعث بها إلى الآستانة، وكان القائمون بأدائها لا يدرون أين تنفق وكيف
تصرف، لعدم نشر الموازنة المالية (Budget) ، بخلاف إدارة الديون العمومية
التي هي تحت مراقبة الأجانب، فإنها في غاية الانتظام والترقي، تزيد وارداتها في
كل سنة فتدفع رواتب موظفيها ومرتبات الديون بأوقاتها المعينة، وقد حدا ذلك الدولة
إلى العود إلى الثقة المالية بها، وأصبح أصحاب الديون في أوربا آمنين على
أموالهم، ولو حدثت قلاقل في المملكة العثمانية، فإن قيمة أسهم الديون لا تتنزل إلا
قليلاً، وإذا أردت المقايسة بين إدارة الديون العمومية وبين نظارة المالية، فانظر
إلى قرية من قرى الألمان أو اليهود المستعمرين في سوريا وفلسطين، وما فيها من
الانتظام والعمران والترقي، وإلى قرى الأهالي المجاورة لها وما فيها من الفقر
المدقع والخراب - يتضح لك الفرق بين الإدارتين.
* * *
(اختلال الإدارة العسكرية بإدارة الجواسيس لها)
اختلت إدارة العساكر البرية والبحرية، وأصبحت لا تمرن على التعليم الناري
وإصابة الهدف، ولا تساق سوق الجيش خوفًا من الهيجان وحدوث الانقلاب! ! مع
أن دول أوربا ولا سِيَّمَا ألمانيا وروسيا والنمسا وفرنسا تقوم جيوشهن في كل سنة
بمناورات حربية، يحضرها الإمبراطور نفسه مع أولاده وأسرته وجميع ضباط
السفارات الأجنبية، فيستطلعون أحوال الجند ويشوقونهم. وصار الأسطول العثماني
الذي أنفق على شرائه الملايين كالْمُقْعَدِ الذي يَرُومُ النهوضَ ولا يَقْدِرُ عليه لطول
مكثه، فصدأت آلاته بسبب عدم الاستعمال والجري في البحار، واختلست أموال
كثيرة من التجهيزات العسكرية، ولا سِيَّمَا في تجهيز الأسطول وشراء البواخر
والمدرعات، وصار الترقي في المراتب لا يبنى على القدم والاضطلاع والاستحقاق،
بل على الالتماس والانتساب والرشوة، فكان الضابط يرتقي إلى المراتب الكثيرة
في أوجز مدة، وقد يكون لا يعرف للجندية مَعْنًى، حتى ولا احترام من فوقه في
الرتبة، وكان الضباط يبيعون رواتبهم التي تبقى دينًا عند الحكومة للسماسرة بأثمان
بَخْسَة، حتى بِيعَتِ المِائَة قرش بأربعة قروش! وَبِيعَ حُلَّة (بدلة) العسكري التي
تشتريها الدولة بمئات من القروش بعشرين قرشًا.. أي أن المستحق للراتب والحلة
كان يوقع على الورقة المؤذنة بالوصول إليه على القاعدة والأصول، كأنه استلم
الحلة من مخزن الألبسة أو قبض الراتب من صندوق الخزانة! ثم يسلمها للسمسار
فيعطيه هذا في مقابلها ما يتفقان عليه، ثم يتفق السمسار مع المحاسبة جي ومن فوقه
ويربحون الفرق، ويقيدون ذلك في الدفاتر (إيراد ومصرف) ، كأنها جرت على
القاعدة والأصول. وبهذا أصبح الضباط في حالة يرثى لها. وكنت ترى ضباط
البحرية، البالغ عددهم نحو ستة آلاف، في قهوات الآستانة، خلوا من العمل،
يتجولون في شوارعها وحاراتها! !
اشتبهت الإدارة المستبدة في أمراء العسكرية الذين تعلموا في أوربا، وخدموا
الأمة والوطن وصارت لهم ملكة ومعرفة تامة بأحوال الزمان، فأبعدتهم عن الآستانة
وأشغلتهم بالوظائف الثانوية، بداعي ميلهم إلى الأفكار الحرة وإعادة القانون الأساسي
ولقد بلغ عدد الراجعين منهم إلى الآستانة بعد حدوث الانقلاب ستين شخصًا من
الباشوات وأمراء العسكرية، وخمس مائة ضابط، ومنهم رجب باشا وفؤاد باشا
الشهير وناظم باشا وهو صِهْر عالي باشا. وأصبحت قيادة العساكر وإدارة المدارس
العسكرية بأيدي أناس لا كفاءة لهم، وليس لهم عمل إلا التجسس على أصحاب
الأفكار النيرة، وإبعادهم عن مركز الإدارة، وكانوا يعدون ذلك خدمة لمنافع السلطنة
والمحافظة على الخلافة الإسلامية! ! ! فأصبح للتجسس والمراقبة دائرة من أعظم
دوائر الدولة، لها مراكز وشعب كثيرة ومعاشات وافرة غير الإحسانات والإنعامات! !
فكان الجواسيس ينظمون التقارير في كل حادثة ومسألة صغيرة كانت أو كبيرة،
ويختلقون المسائل ويفترونها ويصورونها في قوالب مستحيلة، ينبذها العقل ويأباها
أولو النظر الصحيح والوجدان السليم، وما ذلك إلا لإظهار خدمهم وإثبات تيقظهم
ومغالبتهم لنيل المكافأة، والمابين لا يَكلّ من تحقيق مضمون هذه التقارير، لعله يجد
في مائة كاذبة واحدًا صحيحًا، فإذا قالوا: (فلان له قصد سَيِّئٌ بالخليفة) ، أو:
(له مخابرة مع حزب تركيا الفتاة) ، أو: (عنده أوراق ضارة) كانت كل واحدة من
هذه التهم كافيةً للدمور على منزله وتفتيش أوراقه، وهتك حرمته، ثم نفيه أو حبسه
أو عزله وإبعاده، فكانت شبههم هذه تدور على حدوث المؤامرة ضد الذات الملوكية
والمس بحقوق الخلافة الإسلامية، على أنهم لم يتخذوا في الحقيقة سياسةً إسلاميةً،
وهي المعبر عنها عند الإفرنج بقولهم (بان إسلاميزم Panislamisme) كما
توجد سياسة سلافية (بان سلافيزم Panslavisme) وسياسة جرمانية (بان
جرمانيزم Pangermanisme) ، ولا تجد في دوائر الدولة كلها قلمًا مخصوصًا
للمصالح الإسلامية، كما يوجد في باريس وبرلين وبطرسبرج أقلام ودوائر خاصة
بدرس المسائل الإسلامية درسًا تاريخيًّا علميًّا للوقوف على أفكار المسلمين وهيئتهم
الاجتماعية، وعلى أحوال العالم الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها، ليكون
الوزراء والموظفون على بصيرة ويقين من حقائق هذه المسائل الحيوية الاجتماعية.
فقصدهم من السياسة الإسلامية إنما هو أكل الحيات والتظاهر بالكرامات والتكبر
على الناس والتشبه ببني العباس.
لم تباشر الحكومة أمرًا جديًّا لعمران البلاد، واستخراج ثروتها الطبيعية،
والسير بها في معارج التمدن والرفاه، وتعليم رعاياها أصول الزراعة والتجارة
وعقد الشركات والتعاون على ما فيه نفع البلاد، بل عاكست جميع المشروعات
الوطنية، فكانت لا تمكن من فتح المدارس الخصوصية أو تعليم الأولاد، ولا سِيَّمَا
المسلمين في المدارس والبلاد الأجنبية، وحظرت تأسيس الجمعيات، وأطفأت حمية
أرباب الهمم، تذرعًا بأنها تؤدي إلى الثورة والانقلاب! فكم نظر الولاة
والمتصرفون شزرًا إلى مدرسة وطنية أسسها الفرد، أو إلى مدرسة سلطانية أسستها
الجماعة، أو إلى شركة صناعية أو مالية عقدها الأهالي، وسرعان ما كانت تتعطل
ويمحى أثرها، وكم منعوا الآباء من إرسال أولادهم إلى المدارس الأجنبية، أو إلى
مدارس أوربا، وكم اضطهدوهم من أجل ذلك! !
ليس ما أجرته الحكومة من مد بعض الخطوط الحديدية، وإصلاح المرافئ
التجارية، وتطهير المستنقعات إلا إجابةً لطلب الشركات الأوربية، وتوسط بعض
المتنفذين للاستحصال على امتيازاتها، والاستفادة بما يعود عليهم بسببها من المنافع
الشخصية، فمنح الامتياز كان من قبيل الإنعام والإحسان لا يكاد يتم لصاحبه،
ويأخذ به الفرمان السلطاني حتى يبيعَه لشركة أجنبية، ويربحَ منه الملايين، فيوزع
نصفها على الذين كانوا عونًا له في الحصول على الامتياز، ويُبْقِي النصفَ الآخر
ربحًا صافيًا له في مقابل أتعابه بالذهاب من المابين إلى نظارة النافعة (الأشغال)
والصدارة، وملاحظة الخدم والكتاب والتقرب بهم إلى كبير القلم أو الدائرة، وكل
زيارة تحتاج إلى إكرام و (شوفة خاطر) ! !
روى لي أحدُهم عن بعض النظار أنه أوقف ختم مضبطة امتياز في مد سكة
حديدية كبيرة على أخذ أربعين ألف ليرة عثمانية، وأنه لم يقبل أخذ حوالة على
المصرف (البنك) ، أو قوائم نقدية خوفًا من ظهور الارتكاب، واشترط أن يكون
ذهبًا عينًا! قال الراوي: فجاءوا بالمال، وصفوه على منضدة كبيرة مرخمة عمدًا
عمدًا، وكان عدد كل عمود خمسين ليرة، فكان ذلك ثمان مائة عمود مصفوفة
صفوفًا متوازية ملزوزة، وللأصفر الرنان فوق الرخام منظر عجيب، فلما تم العَدّ
والحساب قال دولة الناظر - وكان مستلقيًا على فراش الموت (تماممي؟) يريد
هل العدد تام، فقيل له: نعم يا سيدي تام، فأخرج الختم من كيسه المعلق في عنقه
وختم المضبطة، ثم تُوُفِّيَ بعد ثلاثة أيام، فكانت آخر ملذاته من نعيم الدنيا! !
ولذلك كان فريق من الكبراء والموظفين يتمتع بالقناطير المقنطرة من الذهب،
ويقبض رواتبه سلفًا، وَوَيْلٌ لعمال الخزانة إن لم يدفعوها - وفريق يتضوّر جوعًا
وهو ينتظر رواتبه المتراكمة دينًا عند الحكومة من سبعة وثمانية أشهر في السنة،
وهي التي يعول عليها في الإنفاق على نفسه وعياله النفقة الضرورية، وكان ضباط
العساكر مظلومين أكثر من سواهم، فكانت رواتبهم وتعييناتهم - على قلتها - لا
تعطى لهم، وليس تحت أيديهم أموال ينهبونها أو رعية يرتشون منها، ولقد كان
ذلك من أعظم أسباب الانقلاب، قال فيكتور هوكو: (إن الجوع يثقب في قلب
الإنسان ثقبًا ويملؤه حقدًا) .
* * *
(سقوط هيبة الحكومة في بلادها وفي الخارج)
إن اختلال الإدارة وتذبذبها لم يُبْقِ للحكومة قاعدة مطردة ولا أصولاً مرعية،
لا في سياستها الداخلية ولا الخارجية، وإنما أصبحت ذات قواعد مختلفة وسياسات
شتّى بعضها يناقض بعضها، فكانت تمحو في الغد ما أثبتته في الأمس، وربما
غيرت سياستها مرتين في اليوم بحَسَب الأشخاص والوقائع، ولهذا سقط اعتبارها
عند الدول الأجنبية، فتجرأن على تهديدها حتى في المسائل الحقيرة، كمسألة توبني
دلوراندو التي أوجبت خروج الأسطول الفرنسي إلى جزيرة مدللي (متللين) ،
فصرخ إذ ذاك مارسل سامبا زعيم الاشتراكيين في مجلس النواب الفرنسي، قائلاً:
ما هذه السياسة الخرقاء؟ إنكم لم تحركوا ساكنًا في المذابح الأرمنية، ولم تتداخلوا
فيما توجب معاهدة برلين المداخلة فيه من طلب الإصلاح وإجراء العدالة الإنسانية،
والآن تتكبدون النفقات بإحراق فحم الأمة، وإرسال الأسطول لحماية نفرين من
المرابين أقرضوا أموالهم، على أن يكون ربحهم عشرين وثلاثين في المائة، حتى
أصبح ما يطلب لهم عين السُّحْت! وسقط اعتبارها أيضًا في نظر رعاياها، وصار
أكثر الموجودين منهم في الديار الأجنبية يأنفون أن يكونوا من رعيتها، فكانوا
يبتعدون بقدر الإمكان عن سفارات الدولة وقنصلياتها، وبعضهم استبدل التابعية
الأجنبية بالتابعية العثمانية.
كان أرباب الحمية والغيرة الوطنية من العثمانيين ينظرون إلى هذه الأحوال
بعيون الأسف والاستياء، ويعتقدون أن مصدرها الوحيد هو الاستبداد، ولا تخلص
منه إلا بتعليم الأمة وتنوير ذهنها، والرجوع في الأحكام إلى الدستور المنسوب
لمدحت باشا، وإن لم يكن كله من بنات أفكاره. فكان الاستبداد ضاغطًا على جميع
أفراد الأمة إذا لم يقتصر بضغطه على ضعفائها وأحرارها وحزب تركيا الفتاة فقط،
بل شمل جميع أفراد خاندان آل عثمان وجميع المقربين من رجال الدولة، الذين
أفنوا أعمارهم في تأييد دور الاستبداد، وجمع الأموال والوزراء والموظفين كافة،
وجميع الأهالي ولا سِيَّمَا في الآستانة، حيث بطلت الأفراح والجمعيات المشروعة
لعقد النكاح أو للختان، وحرم على الناس الاجتماع للسمر والحديث، كل ذلك خوفًا
من الانقلاب، وصار لا يؤذن لأحد بالذهاب إلى أوربا، ولو كان مريضًا، كما أنه
لا يؤذن للضباط بالتوجه إلى الآستانة أو المرور بها، وصار كبار الموظفين لا بُدَّ
لهم من إذن مخصوص وإرادة سنية لحركاتهم الشخصية وأفعالهم البيتية، حتى زواج
بناتهم وأولادهم! ! !
دخلت يومًا على السيد جمال الدين الأفغاني وهو في قصر لطيف على بابه
الخدم، وكانت تأتيه مائدة من (المطبخ العامر) ، فقال: أية فائدة من هذا القصر
والخدم والمائدة وأنا إذا اشتهيت أكلة بفتك (شواء) أو نشر فكر في جريدة، أو
التنزه في ناحية من المدينة لا أستطيع. أيهنأ عيش الإنسان بغير الحرية!
ولهذا فر إلى باريس الداماد محمود جلال الدين باشا وابناه الأمير صباح الدين
بك والأمير لطف الله بك، وفر إلى مصر أحمد جلال الدين باشا رئيس الجواسيس،
وكثيرون غيرهم.
* * *
(اتحاد الأرمن والأتراك في طلب الحرية)
شكلت جمعية الانقلاب الأرمنية بعد مذابح ساسون المتقدم ذكرها فرقة من
الثائرين هجموا على البنك العثماني في الآستانة، وألقوا فيه القنابل سنة 1896؛
ليلفتوا بذلك نظر الحكومة العثمانية والدول الأوربية إلى وجوب القيام بالإصلاحات،
وإعطاء الحرية، وتعميم المساواة بين جميع الأهالي بلا فرق في الدين والجنس، ثم
ألفوا لجانًا (Comités) كثيرة أهمها لجنة سيروب التي قاومت ست سنوات في
جبال ساسون، ثم حولت الجمعية نظرها إلى جهة قافقاسيا (القوقاز) الروسية
بسبب اضطهاد أميرها البرنس غالينزين للأرمن التابعين لروسيا وتسليط التتر
المسلمين عليهم، مما أدى إلى حدوث مذابح باكو وفظائعها وعدة وقائع ومقاتلات،
وتصدي الثوار لقتل الرؤساء والقواد والأمراء والضباط الذين سببوا المذابح، وكان
قتل كل واحد منهم يكلف الجمعية الأموال والنفوس، فقتل بليف مثلاً سبب هلاك
أربعة من أعضاء الجمعية وصرف مائتي ألف فرنك، وكذلك إلقاء القنبلة في موكب
صلاة الجمعة أمام سراي يلديز فإنه كلفهم خسائر جسيمة، فعدلت الجمعية الأرمنية
بعد ذلك عن هذه الحركات، ومالت إلى الاتفاق مع تركيا الفتاة فعقدت مؤتمرًا في
ويانة حضره جماعة من الترك والأرمن والمقدونيين والروم والكرد والعرب واليهود
والأرناءوط، وكان الشارع في عقد هذا المؤتمر معلوميان أفندي الأرمني الشهير،
وقد تم اتفاقهم فيه على المسائل الآتية:
(1) قلب الحكومة الحاضرة، والسعي في تحقيق ذلك بجميع الوسائل.
(2) تأسيس حكومة مقيدة دستورية لجميع رعايا المملكة العثمانية.
(3) استعمال جميع الوسائل الانقلابية لتحقيق هذا المقصد؛ وذلك لأن
الحكومة المستبدة استعملت جميع الوسائل لخراب المملكة، وإطفاء نور العلم
والحرية، فأقفلت المدارس وحبست المعلمين ونفت التلاميذ، وإن الأماكن التي بقي
فيها شيء من المدارس أنقصت التعليم فيها بإيجاد مراقبة لم يسبق لها مثيل.
وصارت الجرائد لا تنشر من الأخبار إلا ما يؤذن لها بنشره بعد التحريف
والتغيير أو الاختراع من جانب المراقب. وصارت التكاليف المستوفاة بلا
عدالة لا تصرف على التعليم أو التبسط في الحضارة والعمران، بل على
الجواسيس والجرائد المؤيدة للظلمة المحبذة لأعمالهم، ولا سِيَّمَا في البلاد الأجنبية،
وذلك لإيهام الناس ومخادعة أوربا عن أحوال الممالك العثمانية. فمَنْع العثمانيين من التجول والسفر، ومنعهم من أخذ تذاكر الجواز (port - Passes) أوجبا تعطيل التجارة، كما أن استيفاء التكاليف الأميرية بطريقة غير عادلة وفقدان الأمن في البلاد، وتراكم المحصولات، وكثرة المراباة، وفقدان وسائل الاختلاط، كل ذلك كان سببًا قويًّا في خراب الزراعة. فأصبحت البلاد التي كانت مزرعة الدنيا في عهد المدنيات السابقة خرابًا، وأراضيها قفرًا بلقعًا، حتى هاجر منها أهلها الذين ولدوا فيها، إلى أمريكا وأوربا ومستعمرات إفريقيا ليفتشوا لهم عن قليل من
الحرية والأمن وأسباب المعيشة، فالمهاجرة والقحط أكملا العمل الذي بدئ بالمذابح وأنتج الخراب للبلاد، وخلوها من السكان. فلجميع ما ذكر من الأسباب أصبح
الانقلاب السياسي ضروريًّا لمنع انقراض المملكة العثمانية ولتوقيف انحطاطها. تلك خلاصة المذاكرات والمناقشات التي جرت في المؤتمر.
* * *
(نهضة جمعية الاتحاد والترقي وانتشارها)
وأما فرع جمعية الاتحاد والترقي العثمانية في أوربا، فإنه حدث الاختلاف فيه
على الرياسة، فانقسم إلى أحزاب وفارقه الكثيرون من أعضائه، ولكن صاحب
جريدة مشورت بقي ثابتًا، يتوفر على إصدار جريدته في أوقاتها وغيرها من
المنشورات، وكان الدكتور نظمي بك السلانيكي الأصل وغيره من ذوي الغيرة
الوطنية من خير الأعوان له، وقبل حدوث الانقلاب بأربع سنين كانت جمعية
الاتحاد والترقي العثمانية ضعيفة عاجزة في حكم العدم، ولذلك لم يعبأ بها أرباب
السياسة، ولم يعتدوا بأن لتركيا الفتاة حزبًا موجودًا، بل كانوا يرون أن هناك بعض
المتشردين ينشرون أوراقًا قليلة الجدوى لتخويف المابين، ونيل الوظائف
والإحسان، وكانوا يعدون أحمد رضا بك معاندًا مُصِرًّا على طلبه لتخليد اسمه
بين الفلاسفة الحقيقيين، مفضلاً ذلك على حطام هذه الدنيا الفانية.
تداخلت الدول الأوربية منذ أربع سنين في المسألة المكدونية، أي في ولايات
سلانيك، وقوصوه، ومناستر، وطلبوا إصلاحها، فزال منها بعض الظلم،
وتحسنت إدارتها؛ تحقيقًا لرغبة أوربا وخوفًا من مداخلتها، وسمحوا لأهالي تلك
الولايات بقليل من الحرية، فنفسوا بها عن صدورهم، ونظروا في شئونهم. وكانت
البلغار والروم تشكل الجمعيات السرية السياسية المعروفة باسم كوميته (Comité)
فسموا الداخل فيها (كوميته جي) بإضافة أداة النسبة التركية إلى كلمة كوميته
الإفرنجية؛ للمحافظة على قوميتهم وحقوقهم وأوضاعهم، وكانوا يبذلون أرواحهم
وأموالهم في سبيلها، ويظهرون من الحماسة والغيرة الوطنية ما لا يقدر ولا يوصف
وكانت الحكومة المحلية تهابهم وتلاطفهم وتستميح رضاهم، فعزَّ ذلك على
المسلمين من الترك والأرناؤوط سكان تلك الولايات، واعتبروا بإخوانهم في الممالك
البلقانية المستقلة استقلالاً كليًّا أو جزئيًّا، كرومانيا والصرب والجبل الأسود
واليونان والبلغار والبوسنة والهرسك، فاستيقظوا من نومهم وأفاقوا من غفلتهم،
وقالوا: إلى متى نبقى في هذا الظلم والاعتساف والجور والاستبداد والذل والتحقير؟
ولا يقيم على ضيم يراد بهِ ... إلا الأذلاَّن عير الحي والوتد
ما لنا لا نفعل كالروم والبلغار والرومان والصرب في محبة الوطن والدفاع
عنه؟ ولما سألوا مشايخهم عن ذلك أجابوهم بأن الإسلام يساعد ويحض على ذلك،
ووجدوا أمامهم تعليمات جمعية الاتحاد والترقي، فدخلوا فيها باختيار وشوق وحمية،
عارفين بما ينتجه فعلهم من الفوائد المادية والمعنوية، فتشكل لهذه الجمعية مركز
في سلانيك، وفروع عديدة في جميع جهات الولايات الثلاث المقدونية، ولقد بلغ
عدد أعضاء الجمعية في سلانيك وحدها سبعة آلاف شخص، والجواسيس غافلون لا
يدرون من أمرهم شيئًا، وكان جمهور الأهالي في الولايات الثلاث المذكورة يعتقدون
بأنه سيصيب بلادهم ما أصاب كريد وولاية الروملي الشرقية والبوسنه والهرسك ...
إلخ، ولذلك كانوا في الباطن يتمنون نجاح الجمعية، وإن لم يقدروا على التظاهر
بذلك.
* * *
(الأمير صباح الدين وسياسته)
أكب الأمير صباح الدين على تحصيل العلم، ولا سِيَّمَا بعد وفاة والده فاستنار
فكره، وجنح للحرية، والأخذ بوسائل المدنية الحديثة، فأسس حزبًا سياسيًّا يعرف
بحزب (المشروطية وعدم المركزية مع التشبث الشخصي) ، ولسان حال الحزب
جريدة (ترقي) التركية، وقد تأسست سنة 1906 ومحررها هو أحمد فضلي بك،
كاتب الجمعية. فعدم المركزية (Décentralisation) يقسم إلى قسمين، عدم
مركزية سياسية، مثل مستعمرة كندا الأمريكية مع إنكلترا. وعدم مركزية إدارية،
وهو عبارة عن توسيع اختصاص الولايات، وتزييد حريتها وانتخاب المجالس
العمومية فيها، كما أشير إليه في المادة (108) من القانون الأساسي، وجرى
تطبيقه قبلاً، فتشكل لولايات الشام مع فلسطين مجلس عمومي اجتمع مرة واحدة في
بيروت، وكان ذلك في أيام ولاية راشد باشا، الذي صار بعد ذلك ناظرًا للخارجية،
وقتل في واقعة جركس حسن بك. فمُرادُ البرنسِ صباح الدين بك بعدم المركزية،
هو عدم المركزية الإدارية، كما صرح به لا عدم المركزية السياسية الذي هو عبارة
عن مختارية الإدارة مثل حكومة كندا.
ومرادهم بالتشبث الشخصي أن لا تكون الأهالي عالة على حكومتهم، بل أن
يسلكوا سبل التجارة والصناعة والزراعة في أمر معايشهم، حتى لا يكونوا منتظرين
سبب الرزق من حكومتهم، والانكباب على طلب الوظائف للتعيش منها؛ لأن السنة
في الحكومات المستبدة أن ينتظر الأولاد دائمًا الإعانة من أسرهم، والأسر من
أرباب مجالسهم، وأرباب المجالس من حكومتهم. ولكن الأمم الأنكلوسكسونية بعكس
ذلك، فإن أولادهم يعتمدون في تحصيل الثروة على أنفسهم، ويختارون الصناعة
اللائقة بهم. فهذه خلاصة أفكار هذا الحزب السياسي.
* * *
(نهاية الفساد والخراب في أحوال الدولة)
زاد البلاء في السنين الأخيرة وتعسر تدوير دولاب الحكومة مع إجهاد
المأمورين أنفسهم في جره، فحدث في الأذهان كدر من الأمس، وخوف من الغد،
واحتراس من كل إنسان، ويأس من كل شيء، ونفرة زائدة وبغض وحقد كامنان
في النفوس، وعلم المقربون أنهم على وشك الانقراض، فضاق عليهم الوقت
ولزمهم الاستعجال، فتهالكوا على ادخار الأموال واقتناء العقار، وأودع الدهاة منهم
ثروتهم في مصارف أوربا وأمريكا، وتطلبوا أعلى الرتب والمناصب، فنالوها
واستفادوا من الحال الحاضرة بقدر ما أمكنهم. ولم يفكر الواحد منهم إلا بنفسه
وأولاده، ثم بالأقرب فالأقرب من أسرته، واستماتوا في سبيل الوصول إلى السعادة
ونفوذ الكلمة بالتقرب، واستحوذوا على مناصب الدولة ورتبها ونياشينها وألقابها،
ووُجِّهَتْ رتبة أمراء العسكرية ورتبة بالا العلمية على المشايخ ذوي التيجان والعمائم،
ومنحوا الراحة من الخدمة العسكرية هم ومن انتسب إليهم من الرفاعية في جميع
المملكة، فأصبحوا لا ينتظمون في سلكها، فكانت هذه المنحة من غريب التناقض،
وكان إذا انصب الإنعام على فرد أو أسرة انهمل كالغيث المتواصل، وانصب كله
في زرع ذاك الفرد أو الأسرة دون أن يفيض منه شيء على المزارع المجاورة،
ولهذا قال أحد الفضلاء:
أمير المؤمنين فدتك نفسي ... ونفس (أبي الضلال) لها فداء
أتحييه وتقتلنا جميعًا ... لعمرك إن ذا لَهُو البلاء
فلا والله ما هذا بعدل ... ولكن أنت تفعل ما تشاء
واحتكروا أوقاف الجوامع ومزارعها؛ بل ضبطوها ضبطًا بلا حكر، وباعوا
امتيازات الأمور النافعة للأجانب، فأضروا الدولة بذلك أضرارًا جمة، وشرهت
نفوسهم للعجب، وتتلَّعَتْ أعناقهم عظمة وكبرياء. وزاد بهم الحرص والطمع حتى
فقدوا جميع المزايا الإنسانية، فصار الواحد منهم كأنه وحش مفترس، ينقلب يوم
سقوطه وإبعاده عن منصب الدولة شيطانًا رجيمًا، كما ظهر من أفعال فهيم باشا،
وهو منفي إلى بروسه، الذي أهلكه الأهالي فيها ضربًا بعد إعلان الحرية.
كنا أشرنا إلى هذه الحالات المنكرة المكدرة، وإلى قرب حدوث الانقلاب في
مقالة عنوانها (حكمة التاريخ) نشرتها جريدة طرابلس الشام في عددها (517)
الصادر في 15 تموز (يوليو) سنة 1903 بعد أن بدل المراقب فيها وحرف كما
أراد، ظنًا منه أنها تخفى، وربما خفيت على فطنته ودقت على فهمه، ولكنها عندما
بلغت الآستانة واطلع عليها الملدوغون صدر الأمر بتعطيل الجريدة، فكاد بركان
الاستياء تنفجر منه فوهات في عدة جهات، لأن بقاء الحال على ما ذكر غير ممكن
في القرن العشرين، خصوصًا وأن البلاد العثمانية متوسطة بين أوربا والشرق
الأوسط والأقصى. ومما زاد اختلاطنا بالعالم المتمدن تحديد السكك الحديدية،
وتوارد بواخر الشركات الأجنبية على ثغورنا، ومشاهدتنا صور السينماتوغراف،
وسماعنا أصوات الفونوغراف، وركوبنا الترام الكهربائي والحوافل والدرجات، كل
ذلك كان من دواعي اختلاط الأمم وامتزاجها، وأصبحت المسافة بين الآستانة
وباريس أقلَّ من ستين ساعة بعد أن كانت تقطع في شهور وأعوام.
نمت النابتة الجديدة من الشبان المتعلمين في مدارس الدولة الملكية والعسكرية،
أو في المدارس الأجنبية التي افتتحها الأوربيون والأمريكيون في الشرق رغم منع
الحكومة المسلمين من دخولها، والتضييق عليهم وعلى أوليائهم في ذلك، أو في
المدارس الخصوصية التي أسستها طوائف الروم والأرمن واليهود والبلغار، فتعلمت
النابتة الجديدة من الشبان والبنات اللغات الأجنبية، وطالعوا الجرائد والكتب،
ووقفوا على مواضع الضعف في الدولة، وأدركوا محل الخلل، وصار يتخرج في
كل سنة في هذه المدارس عدد عظيم متشبعون بفكر الحرية، ومتخلقون بالأخلاق
الأوربية والحماسة الوطنية. فكانوا كلهم موضع شبهة أولئك الجهال المستبدين
بالأمر، فضيقوا عليهم واضطهدوا هؤلاء الشبان اضطهادات كثيرة شتى، كالنفي
والحبس والمراقبة ودمور المنازل وتفتيش الأوراق، فكانوا كلهم عرضة لاستبداد
المستبدين.
فلما حدث الانقلاب في 24 تموز (يوليو) وانفجر في سلانيك، وما جاورها
من الولايات بركان الاستياء، كان هؤلاء الشبان وجميع العثمانيين مساعدين
ومعضدين لحزب تركيا الفتاة وجمعية الاتحاد والترقي، ولذلك لم تحصل معارضة
ولا مقاومة من أحد؛ لأن الجميع مستاءون حتى المستبدين أنفسهم، والمستفيدين من
الحالة الماضية والوزراء الذين أودعوا السجن، واسترد منهم ما اغتصبوه من
الأموال؛ لأن كُلاًّ منهم كان يتطلب أكثر مما ناله، ولو لم يحدث الانقلاب بالصورة
التي ظهر فيها لحدث بصورة أخرى بعد تبدل السلطنة، ولَكانَ إذ ذاك مدهشًا دمويًّا.
* * *
(انفجار بركان الحرية وحدوث الانقلاب في 24 تموز)
تسنى لجمعية الاتحاد والترقي العثمانية في سلانيك إخفاء أمر هامدة، ولكن
رائحتها فاحت بعد ذلك لكثرة الداخلين، وصعوبة الكتم والإخفاء، فأحس بها
جواسيس سلانيك وبعثوا بتقاريرهم إلى المابين، فأرسلت الجواسيس من الآستانة،
فقررت الجمعية إعدام الذين ثبت لديها تجسسهم وخيانتهم للوطن، وعينت فدائيين
من أعضائها بالقرعة أو بالتراضي.
وكان القائمقام ناظم بك قومندان مركز سلانيك يبذل مجهوده في كشف أسرار
الجمعية، فذهب إذ ذاك إلى الآستانة لعرض معلوماته، ورجع منها نائلاً ألفي قرشٍ
ضُمّا على راتبه، فزاد اجتهاده وتحريه، وطلب ثانية إلى الآستانة، وبينما كان
على أُهْبَة السفر إذ فُوجِئ بضربة من أحد الضباط، فذهب إلى الآستانة مجروحًا،
وحضر بعد ذلك إلى سلانيك صادق باشا، وماهر باشا وأمير اللواء يوسف باشا
وبعض الياورية، وعدة من موظفي الملكية، ونظموا دفترًا بأسماء كثيرين من
المتهمين بعضوية الجمعية، وحبسوا ونفوا، وألقوا الرعب في قلوب الناس، حتى
كاد اليأس يستولي عليهم، فقام في مناستر صلاح الدين بك قائمقام أركان حرب،
والبيكباشي نيازي بك الأرناؤوطي بتشكيل فرقة من العساكر الوطنية، وذهبوا
لناحية (رسنه) ، وهي في الغرب الشمالي من مدينة مناستر، على مسافة ثلاثين
كيلو مترًا، ولحق بهما كثيرون من الوطنيين وأنور بك البكباشي، صهر ناظم بك
قومندان سلانيك، وكان طلب إلى الآستانة، ووعد بمكافأة كبيرة، ولكنه اختار نفع
وطنه على منفعته الذاتية.
ثم قتل في سلانيك أحد الجواسيس، فقلقت حكومة الآستانة قلقًا عظيمًا،
وطلبت مفتي الألاي مصطفى أفندي لتستفهم منه عن هذه الأحوال، وضمت إلى
معاشه خمس مائة قرش! ! وبينما كان خارجًا من الفندق للسفر إلى الآستانة جرحه
أحد الضباط بحضور جم غفير، وهرب الجارح من دون أن يعارضه أحد من
الحاضرين، ولا أخبروا عن أشكاله وصفاته، فندبت حكومة الآستانة للسفر إلى
(رسنه) الفريق الأول شمسي باشا قومندان (مترويجه) ، فاختار من يعتمد عليهم
من الضباط وتابورًا من العساكر، وحضر على القطار إلى سلانيك، ومنها إلى
مناستر، وذهب توًّا إلى إدارة التلغراف لمخابرة المابين، فخرج عليه أحد الضباط
وقتله، وامتنع من معه من الضباط والعساكر عن الزحف على (رسنه) ومقاتلة
إخوانهم.
ثم قتل على هذا الوجه كثير من الجواسيس الملكيين والعسكريين؛ فقرر
مجلس الوكلاء إرسال ثلاثين ألفًا من عساكر الأناضول. ولما وصل منهم إلى
سلانيك الثلاثة توابير الأُوَل امتنعوا عن مقاتلة إخوانهم، وانضموا إليهم أيضًا،
فأحس المابين بأن سَوْقَ عسكر الأناضول إلى الروملي إنماءٌ لقوة الجمعية، فأوقف
إرسال بقية عساكر الأناضول إلى سلانيك. ثم اجتمع في (فيرزو بك) عشرون ألفًا
من الأرناؤوط، وذهب سبع مائة من رؤسائهم إلى إسكوب لإعلان القانون الأساسي
والحكومة المقيدة.
وفي يوم الخميس 23 تموز (يوليو) سنة 1908 خرج الناس في سلانيك
صباحًا، ووجدوا إعلانات مختومة بختم الجمعية، أي جمعية الاتحاد والترقي
العثمانية، تدعوهم إلى الاجتماع في يوم الجمعة لإعلان القانون الأساسي والحرية،
فلم يتمهلوا للغد، بل اجتمعوا في ذلك النهار في ميدان أوليمبوس على الطوار
(الرصيف) في مدينة سلانيك، وضج الجمهور قائلاً: إما الحرية، وإما الموت! !
وأول من خطب على طَنَف (بلكون) فندق (أوليمبوس بلاس) غالب أفندي
بالتركية، ثم مانويل قره صو باليهودية (الأسبانية) ثم روصو أفندي بالفرنسية
وسليمان أفندي بالتركية، وفضلي بك نجيب محرر جريدة (عصر) بالتركية،
وفيلوطاش بابا جورج بالرومية والتركية وترجمان المحكمة المخصوصة
(فوق العادة) بالبلغارية، وفي ختامهم عادل بك رئيس البلدية بالتركية، ثم
هتف الجميع (فليحيا الوطن، فلتحيا الجمعية، فليحيا الجيش، الحرية أو الموت) ،
وأعدوا في تلك الليلة مأدبة ضربت فيها الموسيقى العسكرية على الأنغام
المرسيلية:
[1] Allons enfants de la patrie le jour de gloire est arrivé
وكانت ترجمت بالتركية هكذا: (قالقك أي أهل وطن شان كونلري كلدي) .
وفي ليلة الجمعة وردت رسالة برقية إلى حلمي باشا المفتش العام لولايات
مكدونية بصدور الإرادة السنية بإعادة القانون الأساسي، فاجتمع الناس في سراي
الحكومة، وأعلنت الحرية والقانون الأساسي رسميًّا بحضور المفتش العام ومشير
الفيلق الثاني إبراهيم باشا، وموظفي الحكومة والبلدية وأعضاء الجمعية، وابتدأ
موسم الأفراح والسرور.
* * *
(الخلاصة وأسباب الانقلاب بلا سفك دماء)
حدث الانقلاب العثماني بلا سفك دماء، ولا حصول اضطراب، أو قلاقل في
المملكة، كما حصل عند باقي الأمم من الإنكليز والفرنسيين والأمريكان والمجر
والروس وغيرهم؛ وفي ذلك قال بعض رجال السياسة: (لا تنبت الحرية ما لم
تُسْقَ بالدم) ولذلك أسباب كثيرة منها:
(1) أن الحكومة ليست حكومةً مطلقةً، كما يظنها الناس، ويسميها الإفرنج
(Théocratique) ، وإنما هي مقيدة بأحكام الشرع الشريف الذي يأمر بالشورى،
ويحض عليها كما ذكر في صدر هذه الرسالة. فالانقلاب لم يضيّع حقوق السلطنة
والخلافة كما ضيع انقلاب الفرنسيين وغيرهم حقوق ملوكهم المطلقة المقدسة الإلهية
! ! ! حتى انتصر لها فريق من الناس، وقاتلوا في سبيل استرجاعها، ولم يزالوا
يطالبون بها في هذا القرن العشرين، عصر التمدن والعلم والنور.
(2) عدم وجود امتيازات لصنف من أصناف الأمة العثمانية، كما يوجد
عند الفرنسيين للأشراف وللرهبان امتيازات وحقوق مشروعة على الأراضي بحسب
عرفهم وشرعهم القديم، ولذلك قاتلوا عليها لما حدث الانقلاب الفرنسي، وحرمهم
من حقهم المشروع على زعمهم واعتقادهم، أما الانقلاب العثماني فلم يضيّع لأحد
حقًّا، فإن الحقوق التي كانت على الأراضي للدره بكوات (دره بكلر [2] ) المعروفين
عند الإفرنج باسم (Féodalité) وهي في المملكة العثمانية حقوق الزعامة،
ألغيت بعد التنكيل بالإنكشارية في عهد السلطان محمود خان، وأعطي لأصحاب هذه
الحقوق ضمانة ورواتب استوفوها مدة حياتهم، ومنهم من لا يزال في قيد الحياة
ليومنا هذا يستوفي حقه من الخزانة في كل سنة، ووضع أخيرًا قانون الأراضي
الموافق لأحكام الشرع، وهو من أحسن قوانين الدولة وضعًا وترتيبًا، كما هو معلوم
عند طلبة مدارس الحقوق. فالمسلمون لا فرق في الحقوق بين الشريف منهم
والوضيع، وغير المسلمين (لهم ما لنا، وعليهم ما علينا) . أما الامتيازات التي
وهبها السلطان محمد الفاتح للروم، وأقرهم عليها والامتيازات الأجنبية التي أنعم بها
سلاطين آل عثمان على الأجانب تفضلاً منهم وإحسانًا لا بحرب وغلبة، فسيجري
الإنفاق عليها بصورة حِبِيّة يرضى بها الجميع.
(3) إن الأفراد الذين عزلوا من وظائفهم وصُودِرَ ما استحوذوا عليه من
الأموال المنقولة وغير المنقولة؛ بسبب ارتكابهم واستبدادهم يعترفون بأنهم ادَّخَرُوا
هذه الأموال الكثيرة من غير الوجوه المشروعة، بل بأكل أموال الأمة والدولة
بالباطل، كما يعترف الأذكياء منهم بمشروعية هذا الانقلاب ولزومه وفائدته، وقد
صرحوا بذلك وأقروا به، فلا يتصور قيامهم للمطالبة بشيء، أو لإعادة الإدارة
السابقة المستبدة، وليس لهم عصبية تساعدهم على ذلك إن هم أرادوا أو حاولوا.
وإن الأمة بأجمعها عرفت الحق من الباطل، والنافع لها من الضار. نعم، إن
الموظفين الذين خدموا مدة، ثم ألغيت وظائفهم، أو عُزِلُوا منها لهم حق في طلب
راتب التقاعد أو التوظيف في وظائف أخرى؛ إذ لا يليق بشرف الأمة أن تلقي على
قارعة الطريق جمًّا غفيرًا قضوا حياتهم في خدمة الإدارة السابقة ولا معاش لهم
ولعيالهم غير ما كانوا ينقدونه من الرواتب، فإن هذا الانقلاب الذي بدأ بالشفقة على
الأهالي المظلومين من شأنه أن يستعمل الشفقة والحنان أيضًا في حق الظالمين، لتتم
سعادة الأمة ولا يلحق بأحد ضرر ولا خسران.
والحاصل أن الفضل في حدوث الانقلاب العثماني من دون سفك دم، ولا
حصول اضطراب وقلاقل في المملكة إنما هو للشريعة الإسلامية، وما في أحكامها
من العدل والمساواة في الحقوق. ولهذا كان رد الفعل أو الرجعة (Réaction)
في هذا الانقلاب غير محتمل، بل هو مستحيل لعدم وجود أسباب معقولة أو
مشروعة تحفز إليه، بخلاف ما حدث في فرنسا وأمثالها، إذ كان للقائمين برد الفعل
أسباب كثيرة تحملهم على القيام لإعادة الإدارة السابقة. اهـ.
__________
(*) تابع لما نشر في (ص 743 ج 10 م 11) من رسالة محمد روحي بك الخالدي، العضو في مجلس المبعوثان عن القدس الشريف.
(1) المنار: هذا البيت من أبيات لحن الثورة الفرنسية، وترجمته بالعربية ترجمة حرفية نظمًا هكذا:
هلموا يا بني الوطن ... فيوم المجد قد وافى
(2) المنار: يراد بكلمة (دره بكلر) في التركية أصحاب الزعامة والنفوذ الفعلي في المقاطعات، وقد كانت بلاد الدولة معظمها على هذا النمط ولا سِيَّمَا في الأناضول، فإن السلطة والنفوذ كانا في أيدي هذا الصنف من الناس.(11/842)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
افتتاح مجلس المبعوثان
ثلاث خطب ارتجالية في الاحتفال به بطرابلس الشام [*]
(خلاصة الخطبة الأولى في ميدان التل)
أيتها الأمة العثمانية الكريمة:
أهنئك بهذا اليوم السعيد الذي تحتفلين فيه بافتتاح مجلس المبعوثين، وإنني
لأهنئك بأمر عظيم، أهنئك بأنك صرت بهذا اليوم أمة، وما أحلى هذا القول في
فمي، وأحبه إلى قلبي؛ نعم في هذا اليوم صار يصح إطلاق لفظ الأمة عليك،
ولم تكوني من قبله إلا عبارة عن أفراد متفرقين لا يصدق عليهم هذا اللفظ على وجه
الحقيقة.
يطلق لفظ الأمة في عرف علماء الاجتماع والسياسة على الجمع العظيم الذي
يتألف من شعوب متعددة، ويرتبط بعض أفراده ببعض بقوانين ومصالح مشتركة.
فالاجتماع هو الأصل الذي يتحقق به معنى الأمة المؤلفة من جمعيات بعضها
أكبر من بعض، أدناها الأسرة، وهي أول اجتماع بشري وأقدمه، وأعلاها الأمة
التي هي منتهى ما يصل إليه الاجتماع.
هل يسوغ لنا أن ندعي أننا كنا أمة في طور الاستبداد الماضي الذي قضينا
عليه القضاء المبرم في هذا اليوم؟ كيف وقد كنا ممنوعين من كل معنى من معاني
الاجتماع، حتى في الأسرة، فقد صار الأب يهرب من ابنه، والابن ينفر من أبيه،
والأخ يفر من أخيه، خوفًا من تجسس بعضهم على بعض، وحتى صار الاجتماع
في الأعراس والمآتم مخوفًا ومهددًا في دار السلطنة! ! منع الاستبداد الماضي أن
يجتمع الناس للشكوى من الظلم بأنفسهم أو بكتابة (المحاضر) ، وفرض عليهم أن
يشكوا منفردين، وإن كان ما يشكون منه مشتركًا، بل منع شهادة التواتر الشرعية؛
لأنها لا تحصل إلا من جمع كثير. فالأفراد الذين يمنعون من أصغر أنواع الاجتماع
ويهددون بالعقاب عليه كيف يسوغ لهم أن يدّعوا أرقى أنواعه وأعلاها؟
اليوم قد تحقق زوال ذلك الاستبداد المفرق، فاجتمع المبعوثان الذين اختارتهم
الشعوب العثمانية؛ لينوبوا عنها في القيام بمصالحها العامة، كوضع القوانين
والمراقبة على الحكام العاملين، فبهذا الاجتماع تحقق تكوّن الأمة.
فهذا اليوم هو العيد الوطني الأكبر العام لجميع العثمانيين، فإن ما عداه من
الأعياد الدينية وغير الدينية خاصّ ببعض الشعوب والأجناس، أو بعض الأديان
والمذاهب، وفي هذا اليوم يحتفل بهذا العيد المسلم والنصراني واليهودي وغيرهم،
يحتفل به التركي والعربي والألباني والرومي والكردي والأرمني، يحتفل به
العثمانيون في البلاد العثمانية، وحيثما كانوا من البلاد الأجنبية، يحتفلون به
مجتمعين ممتزجًا بعضهم ببعض، لأنه عيد الجميع.
هذا الجمع الذي نحن فيه يمثل لنا احتفالاً من تلك الاحتفالات الكثيرة. أَمَا
ترون فيه الحاكم السياسي والإداري والقاضي الشرعي وأمراء العسكرية وغيرهم من
رجال الحكومة ممتزجين بعلماء الدين الإسلامي وقسوس النصرانية، وسائر أصناف
الأمة من الزراع والصناع والتجار والعمال وتلاميذ المدارس [2] والبشر يتدفق من
وجوه الجميع؛ لأن العيد هو عيد الجميع.
ثم إنني أهنئ الأمة في هذا العيد السعيد بمعنى آخر، وهو أنها قد صارت في
هذا اليوم حاكمةً لنفسها بنفسها، فإن المبعوثين الذين اجتمعوا في هذا الوقت المبارك
في دار السلطنة؛ لينظروا في قوانين البلاد، وكيفية تنفيذها، فيقروا ما يشاءون،
ويغيروا ما يشاءون، لم يكن السلطان هو الذي اختارهم وولاهم هذا العمل، ولا
غيره من رجال الحكومة، وليس له ولا للحكومة أن يختاروا غيرهم عند انتهاء
مدتهم، أو يعيدوا انتخابهم، وإنما كان هذا من الأمة، فهي التي أنابتهم عنها للنظر
في شئونها؛ لأن هذا الحق هو لها دون غيرها، فهي إذن الحاكم الأعلى، وجميع
الحكام من أعلاهم إلى أدناهم مستأجرون لها بما لها؛ لأجل أن يقوموا بما لا بُدَّ لها
منه، ولا غناء عنه من المصالح العمومية، ملتزمين في ذلك شريعتها وقوانينها التي
ارتضتها لنفسها.
في هذا اليوم نالت الأمة هذا الشرف العظيم بالفعل، وكانت من قبل مستعبدة
للحاكم المستبد يتصرف في أموالها وأرواحها وحقوقها كما يشاء، ولا يسمح لها أن
تقول، ولا أن تفعل إلا ما يدل على السمع والطاعة والخضوع للعبودية.
بقي أن تعلموا أيها الإخوان أنَّ حكم الأمة لنفسها محصور فيما ذكرنا من
اختيارها، وانتخابها لمن ترى فيهم الكفاءة والاستعداد لوضع القوانين العادلة لها،
والمراقبة لتنفيذها والنظر في مصالحها العامة، كعلاقة الدولة مع الدول الأجنبية،
وليس منه ما رأيناه من تجمهر بعض الأفراد واجتماعهم في دار الحكومة لإلزام
بعض الحكام بما يرونه ويرغبون فيه، فإن هذا هو عين الفوضى والخلل، لا
تصلح معه حال، ولا يستقر نظام، ونسأل الله أن يتم علينا هذه النعمة، ويوفق
نوابنا إلى ما فيه خير الملة والأمة.
* * *
(خلاصة الخطبة الثانية في نادي الجامعة العثمانية)
أحب أن أقول كلمة وجيزة في معنى الثقة بنجاح مجلس الأمة، ودوام الدستور:
سمعت كثيرًا من الناس يدعون الله تعالى بمثل قولهم: (الله يتمم بالخير) ، فكان
يسرني هذا الدعاء من جهة، ويسوءني من جهة أخرى. يسرني لأنه صادر عن
غيرة وحرص على نعمة الدستور، وخوف على مجلس المبعوثين الذي يكفله أن
يفشل أو يصيبه كيد الكائدين، ويظفر بمراده حزب المستبدين المتقهقرين. ويسوءني
بما يظهر من فحوى القول ولحن الدعاء، من ضعف الثقة وتغليب الخوف على
الرجاء، فإن هذا الخوف يكاد يقرأ على الوجوه، ويسيل من الألسنة متدفقًا عن
القلوب.
إنني أدعو مع الداعين بأنْ يتم الله عملنا بالخير، ويجعل النهاية خيرًا من
البداية، فإننا لا نستغني عن الدعاء، في السراء ولا في الضراء، ولكنني أدعو
وأنا ممتلئ القلب بالأمل والرجاء، ولست أرى للخوف محلاًّ بفضل الله وكرمه،
فإن حالنا اليوم لا تقاس على حالنا من مدة ثلث قرن كامل، أيامَ عقد مجلس الأمة
الأول، ثم حله الاستبداد، فلم يلق في حله مقاومة ولا ملامًا، بل كان بردًا وسلامًا.
الفرق بين مجلسنا اليوم ومجلسنا في ذلك الوقت بعيد جدًّا، إن ذلك المجلس لم
يكن بسعي الأمة ولا برأيها، ولم تكن عالمة به ولا مستعدة له، وإنما هو من صنع
مدحت باشا، أبي الحرية، وبعض إخوانه الوزراء والكبراء، فهم الذين وضعوا
القانون الأساسي، وبسعيهم ألزموا السلطان بقبوله، فأظهر القَبُول وأمرت الوزارة
بانتخاب المبعوثين فانتخبوا واجتمعوا، ولما تفرق شمل هذه الوزارة حل السلطان ما
كان منعقدًا، وفرق ما كان مجتمعًا، فكان إبطال (مجلس المبعوثان) أسهل عليه
من إبطال نابليون لمجلس النواب؛ إذ لم يكن له من الأمة عضد يؤيده، ولا من
الجيش نصير يحفظه ويعضده، أطلقوا على ذلك المجلس لقب (أوت أفندم) [1] ؛
إذ قالوا: إن الأعضاء كانوا يصادقون على كل شيء تلقيه إليهم الحكومة بكلمة
(أوت أفندم) فلما أراد السلطان فض المجلس قال لهم مندوبه: اخرجوا واذهبوا إلى
بلادكم، فوضعوا أيديهم على جباههم (إشارةَ الطاعةِ) قائلين: (أوت أفندم) ،
وولوا منصرفين (فما كان لهم من فئة ينصرونهم وما كانوا منتصرين) .
ماذا كان من أمر القوة العسكرية، كالشرطة وغيرها؟ إنها هددت المبعوثين
ذوي الجرأة، وأنذرتهم البطش بهم إذا لم يسرعوا بالسفر من الآستانة، فذهبوا
مسرعين، ذلك بأن الاستبداد خاف من بقائهم أن يحدثوا هنالك تأليبًا للناس
ويحملوهم على المطالبة ببقاء مجلس الأمة والمحافظة على القانون الأساسي، على
أن الأمة نفسها لم تكن تحفل بذلك ولا تعرف قيمته، ولذلك لم يظهر منها أدنى
اهتمام في مكان ما.
أما الآن فقد تغيرت الحال، واستبدل الله أقوامًا بأقوام، فقد نلنا الدستور،
وأعدنا القانون الأساسي بسعي أحرار الأمة النابغين، ومساعدة الجند وضباطه
المستنيرين، لا بسعي أفراد من الوزراء يمكن أن يصيبهم ما أصاب مدحت باشا
وإخوانه من نفي واغتيال، فيذهب الدستور ومجلس الأمة ويموتان بموتهم. كلا،
إن من ورائهما ذلك الجند الباسل الذي ساعد أحرار الأمة على نيل هذه الرغيبة،
ولولاه لم نصل إلى هذه النعمة، من غير خطر على الدولة والأمة، ومن ورائهما
أحرارنا المنبثون في جميع الولايات العثمانية ينفخون روح الدستور فيها.
تشهد أمم أوربا كلها بأن الجيش العثماني أشجع جيوش العالم وأشدها بأسًا
وثباتًا في ميادين الجلاد، حتى قال الجنرال مولتك، القائد الألماني الشهير، الذي
نكل ذلك التنكيل بالفرنسيس: أعطوني مائة ألف جندي عثماني أفتح بهم أوربا كلها.
ولكنهم كانوا يقولون: إن هذا الجيش الباسل ينقصه الضباط والقواد العارفون
الصادقون. والآن يوجد عندنا عدد عظيم من هؤلاء الضباط الذين تعلموا أحسن
التعليم، وتربوا أعلى التربية، وهم الذين كانت تطاردهم السلطة المستبدة الماضية؛
خوفًا أن يقضوا على استبدادها حتى شَتَّتَتْ شمل الكثير منهم، فكان منهم
المسجونون، ومنهم المنفيون، ومنهم الهاربون، وقد بقي في الجيش العامل منهم
مَنْ قلب تلك السلطة، وأراح الله البلاد العثمانية من شرها، فهل نخاف اليوم على
مجلس الأمة، وقد عاد أولئك الضباط الكثيرون من سجونهم ومنفاهم، وانضموا إلى
إخوانهم العاملين في الجيش، وكل منهم يفدي الدستور ومجلس الأمة بروحه ويبذل
دونهما آخر نقطة من دمه؟
كلا، إن العارف بحال الدولة والجيش، وبما أتته جمعية الاتحاد والترقي من
الاحتياط والتدبير للمحافظة على الدستور وحماية مجلس الأمة، لا يخالج صدره
أدنى خوف على المجلس في هذا اليوم، وإنما كنا نخاف على الدولة في دور
الانقلاب من الخارج، كنا نخاف أن تقوم في وجهنا أوربا، فتفسد علينا عملنا،
وتضطرنا إلى الدخول في حرب لا تؤمن عاقبتها، أما وقد لقينا من الدول الأجنبية
ميلاً وانعطافًا عظيمين إلا ما كان من ضم النمسا ولايتي البوسنه والهرسك إلى
أملاكها، ومن إعلان البلغار الاستقلال، ولم يكن في ذلك خطر على حكومتنا
الجديدة ولله الحمد والمنة، بل رأت النمسا من الحرب الاقتصادية التي ناجزتها بها
الأمة العثمانية ما جعلها تندم على ما فعلت وتود إرضاء الدولة العلية.
أما المَشاغب الداخلية التي يحركها في بعض الولايات أنصار الاستبداد من
حزب التقهقر كالعراق والشام والحجاز، فلا خوف منها ولا خطر، فإذا قام مثل
طالب الرفاعي يثير حزبه من أكلة الأفاعي؛ ليفسدوا في الأرض، ويؤلبوا الأشقياء
في ولاية البصرة على الدولة، فإن قيامه هذا لا تأثير له، ولا يعجز الحكومة الحرة
استئصاله، فإن لديها من الرجال من يأكلون أكلة الأفاعي، فلا يعجزهم التنكيل بهذا
الرفاعي، كما نكلوا قبله بذلك الشقي الكردي، فسيحبط عمل المفسدين، ويستقر
الأمن في جميع الولايات العثمانية عن قريب إن شاء الله تعالى.
ومن الناس من يخاف أن يفشل مجلس الأمة، ويعجز المبعوثون عن القيام بما
نيط بهم وعهد إليهم من مصالح الدولة والأمة، وإنني أصيح بأعلى صوتي، إن هذا
الخوف في غير محله أيضًا. إن المجلس السابق على ما كان عليه من الضعف،
وما قيل من أن جميع أعضائه أرادوا أن يكونوا من حزب الحكومة حتى لقبوا بكلمة
(أوت أفندم) ؛ لخضوعهم لما يُرَادُ منهم - على هذا كله قد ظهر من بعضهم أفكار
وآراء حسنة، واستقلال يرجى خيره لو دام؛ فكيف يكون مجلسنا اليوم وقد ارتقت
الأمة بالنسبة إلى زمن المجلس الأول في الاستعداد والمعارف والأفكار بالرغم من
اضطهاد الحكومة الاستبدادية للعلم والحرية حتى إنها بنبوغ الكثيرين مِن رجالها قد
انتصرت على الاستبداد وهو - كما قال الأستاذ الإمام - في عنفوانه، والظلم قابض
على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس عبيد له أي عبيد.
نعم، إن مجلسنا الذي نحتفل بافتتاحه اليوم مؤلف من طائفة من الأحرار
المتطرفين، وطائفة من المحافظين الجامدين، وفيه عدد غير قليل من المعتدلين،
وكثير من رجال العلم والدين، وإنني أرجو - كما يرجو كثير من محبي الاعتدال -
أن يكون تأليفه من هذه الطبقات المختلفة التي تمثل الأمة كلها أقرب إلى النفع،
وأبعد عن الخطر، فإنني أعرف كثيرًا من أحرارنا المتطرفين يميلون إلى العجلة في
الإصلاح، وقد يكون من المستحيل الزلل، ومن تأنّى نال ما تمنى، والعجلة في
طور الانتقال من حال إلى حال لا تخلو من خطر أو ضرر، فإن خاب الأمل - لا
سمح الله - وضعف المجلس عن الإصلاح المطلوب الآن، فإن جمعية الاتحاد
والترقي المباركة التي أخذت على نفسها كفالة الدستور تسعى عند الانتخاب الثاني،
أو تجتهد في جعل جميع الأعضاء أو أكثرهم من نابغي الأمة، ونحمد الله أن في
أمتنا من النابغين، من يشهد لهم بالفضل والعرفان ساسة الأوربيين، ناهيكم بأولئك
الكرام الذين أحدثوا هذا الانقلاب العظيم الذي أدهش عالم المدنية بما دل عليه من
الحكمة والاعتدال.
من الخطأ العظيم أن نطالب المجلس بأن يصلح حال الدولة، ويرقي الأمة في
زمن قريب، فإن التدريج سُنَّة إِلَهِيَّة في الارتقاء، والطفرة محال لا يطلبها العقلاء،
وإننا واثقون - مع الاتكال على معونة الله وتوفيقه - بأن يكون لمجلسنا من الخدمة
النافعة، ما تقتضيه مصلحة الأمة في حالها الحاضرة، آمين.
* * *
(خلاصة الخطبة الثالثة في نادي جمعية الاتحاد)
إننا منذ أعلن الدستور، في فرح وسرور، إلى أن أتم الله سرورنا في هذا
اليوم السعيد، الذي هو للأمة العثمانية أكبر عيد.
كانت أسباب سرورنا في الأشهر الماضية سلبية، وسبب سرورنا اليوم إيجابي
وجودي، سررنا منذ أعلن الدستور بأننا صرنا آمنين على أنفسنا، أي لا نخاف أن
نؤخذ بتهمة جاسوس ولا وشاية واشٍ، آمنين على بُيُوتِنَا، أي لا تستطيع الحكومة
أن تدمر علينا فيها ليلاً أو نهارًا للبحث عن كتب العلم، وصحف السياسة التي كانت
تسمى في عرفها بالأوراق الضارة أو (المظرة) ، سررنا بأننا صرنا أحرارًا لا
يمنعنا أحد مما نريد من التعليم والتربية ولا من إظهار استعدادنا في أي عمل من
الأعمال، سررنا بأننا صرنا آمنين على أموالنا، لا يستطيع أحد أن يضرب علينا
ضرائب ولا أن يأخذ منا أموالاً لا يفرضها علينا الشرع الذي نعتقده، أو القوانين
التي يضعها لنا نوابنا الذين انتخبناهم للنظر في مصالحنا - كل هذه الفوائد التي
استفدناها من الدستور مُذ أُعْلِنَ إلى اليوم معناها سلبي تفسر بلا لا لا.
في هذا اليوم تبتدئ المنافع الإيجابية؛ فقد اجتمع وكلاء الأمة الذين أنابتهم
عنها للقيام بما يعزز دولتها ويرقي شئونها، وإننا ننتظر من وراء ذلك من الفوائد ما
ينمي ويَزِيد مع الأيام والسنين إلى آخر الدهر، إننا نهنئ أنفسنا بأن الأمة قد صارت
مذ اليوم حاكمة لنفسها وأمرها في يدها، فما الذي يجب عليها لتكون محسنة في هذه
السلطة وقادرة على استدامتها وحفظها؟ يجب أن تُعْنَى بأن تكون أمة دستورية
بالطبع، مستقلةً بالذات، متحلية بالمعارف والأخلاق التي تعتز بها الأمم، بأن
تحاول أن يصير كل فرد من أفرادها أهلاً لأَنْ يختار نواب الأمة عن بصيرة، أو
يختار هو بالاستحقاق.
أول ما يجب علينا أن نفكر فيه ونتوجه إليه هو أن نتولى نحن بأنفسنا إصلاح
أمورنا، ولا نتكل على الحكومة في عمل من الأعمال التي لا يفرضها القانون على
رجال الحكومة. فحسبنا من هؤلاء أن يقوموا بما عهد إليهم بالصدق والاستقامة،
ويجب أن يكون لهم منا عون ومُساعِد على ذلك، وأن نتولى نحن سائر الأمور التي
تحتاج إليها الأمة كتربية الأولاد، وما يتعلق بالثروة والاقتصاد.
قد تعودنا أن ننتظر كل إصلاح من الحكومة؛ ولذلك أصابنا ذلك الفساد الكبير
بفسادها، ولا يزال كثير منا ينتظرون أن تصلح لهم الحكومة ماء البلد، وتمهد لهم
الطرق، وتمد لهم خطوط الحديد، وإن اتكال الأمة على الحكومة في كل الأمور
العامة صار مذ اليوم من التناقض، أو مما يستلزم التناقض؛ فبينا هي تفتخر بأنها
صارت حاكمة لنفسها متولية لأمورها، إذا هي تتبرأ من كل عمل لها وتلزُّه
بالحكومة لزًّا، وتلصقه بها إلصاقًا، وإن لم يكن مما يعمل مثله الحكام. فالحكومة
على المعنى الأول أفراد من الأمة - في الغالب - تستأجرهم بما لها للقيام بأعمال
مخصوصة، لا تستغني الهيئة الاجتماعية عنها، على الوجه الذي تحدده شريعتها
(أي الأمة) ، وقوانينها التي يضعها نوابها الذين اختارتهم لذلك، وهي على المعنى
الثاني عبارة عن رعاة، والأمة رعية لهم، ليس لها من أمرها شيء، فهم
يسوسونها كما يسوس الراعي غنمه، أو سادة يتصرفون في ملكهم وعبيدهم، فما
هذا البَوْن العظيم بين الأمرين! ! !
إنما فشل مجلس المبعوثين السابق؛ لأنه لم يكن من جانب الأمة، ولا كانت
الأمة كافلةً له ولا عارفة قيمته، ولم يكن المرحوم مدحت باشا وإخوانه الذين
وضعوا القانون الأساسي، وأسسوا مجلس المبعوثين يجهلون أن الإصلاح الحقيقي
الذي يثبت ويدوم إنما يكون بتربية الأمة وتعليمها، حتى تصير أمة دستورية بالطبع،
لا تقبل الحكم الشخصي بحال من الأحوال، ولكنهم رأوا هذا الطريق طويلاً
يحتاج إلى عشرات من السنين، ورأوا الأخطار مهطعة إلى الدولة، وأعناق الدول
الطامعة ممتدة إليها، وبراثنها ناشبة بأطراف جسمها، فعزموا على سلوك الطريق
القريب، وهو جعل الإصلاح من جانب الحكومة، فعملوا ما عملوا وألزموا السلطان
بإعلان القانون الأساسي. ولا يشك عاقل في كون الإصلاح إذا جاء من جانب
الحكومة، يكون أسرعَ من مجيئه من جانب الأمة، إذا هو ثبت ودام؛ ولكن ثباته
ودوامه عزيز المنال، بل هو مع جهل الأمة من قبيل المحال.
إن الإصلاح في الأمم لا يأتي إلا بالتدريج، وهو إنما يكون أولاً بنبوغ بعض
الرجال فيها، ثم لا يزال يَزِيد النابغون حتى تكون بهم الأمة من الأمم الحية العزيزة
القوية، فيكون مثلهم فيها كمثل الشجرة المثمرة التي يبدو صلاح ثمراتها طائفة بعد
طائفة، وإن من الشجر ما تكون بواكر ثمره غير جيدة، ويجيء الجيد بعد ذلك،
كشجرة التين، فإن أول ثمرها الذي نسميه (الدافور) لا يجدي ولا يفيد، ولكنه
يكون مبشرًا بما وراءه. ولقد كان شهيد الحرية والدستور مدحت باشا وإخوانه من
قبيل (الدافور) من شجرة التين، مِن حَيْثُ إِنَّهُمْ كانوا مقدمةً لصيرورة الأمة
العثمانية دستورية؛ إذ تحقق ذلك من بعدهم، ولم يتم في عهدهم.
إن أول شيء يجب أن نوجه همتنا وعنايتنا إليه، ونعوّل في حفظ شجرة الأمة
عليه، هو التربية والتعليم، اللذان يُكْثِرَان فينا عدد النابغين، فإن الأحرار الذين
قلبوا لنا الحال، ونلنا بسعيهم هذه النعمة، كلهم من ذوي التربية العالية، الواقفين
على العلوم العصرية التي عليها مدار العمران وارتقاء الممالك. وإن جمعية الاتحاد
والترقي التي نشيد بذكر فضلها، قد تأسست أولاً في المدرسة الطبية العسكرية في
الآستانة، ثم كان لها تأسيس آخر منذ عهد قريب.
أخبرني بعض من تخرج في هذه المدرسة أن الشعور بسوء حال الدولة، وبما
ينذرها من الخطر قد بلغ من نفوس التلاميذ فيها مبلغًا عظيمًا حتى إن الصائح بكلمة
الدعاء للسلطان في الوقت المعتاد صاح مرة (بادشاهم جوقي يشا) ، ففتح التلاميذ
أفواههم، ولكن لم يخرج منها ذلك الصوت المعتاد الذي كان يملأ جَوَّها، وما ذلك
إلا أن العلم بسوء الإدارة، وما كان يجب أن تكون عليه قد حرك في نفوسهم ذلك
الشعور المحزن فعقد ألسنتهم أن تنطق بذلك الدعاء التقليدي المعتاد. فإذا لم نجتهد
في تعميم التعليم الذي يمنح صاحبه هذا الشعور، بحيث ينمي ويكثر فينا أمثال
هؤلاء الرجال، فإننا نخاف أن لا يكون لهم خلف وما الموجودون منهم بخالدين،
فإذا لم ينتحبوا ويجئ بعدهم من هم مثلهم، وخير منهم فلا حياة في الأمة، فإن
النتاج والنماء هما ثمرة الحياة والمقصد منها.
يوجد في أكثر الولايات بل البلاد العثمانية أفراد من الأحرار الذين استنارت
عقولهم بالأفكار العصرية، ومعرفة طرق ترقِّي الأمم والغيرة على المصلحة العامة،
فيجب على الأمة أن تقدرهم قدرهم، وأن تستعين بهم على ما ينبغي لها في هذا
الطور الجديد.
لست أعني باعتماد الأمة على نفسها دون الحكومة في التربية والتعليم أن لا
تبالي بمدارس الحكومة. كلاّ، إن الغرض الأول للحكومات من مدارسها هو تعليم
طائفة من الأمة ما يقدرون به على القيام بأعمالها على وجه السداد، وليس في وسع
الحكومة أن تعلم جميع أفراد الأمة جميعَ ما يحتاجون إليه، وإنما تقوم بذلك الأمة
نفسها.
كيف تقوم الأمة بذلك؟ هل يُعَلِّم كل واحد نفسه؟ هل يقول كل متعلم لمن يراه
غير متعلم هلم أعلمك؟ لا لا، وإنما تقوم بذلك الجمعيات الخيرية، فهذا الزمن زمن
الجمعيات، ولم ترتق أمة بغير الجمعيات، وحسبكم أن بعض الجمعيات عندنا قد
أسقطت الحكومة الاستبدادية، وأدالت منها حكومة دستورية، فأي برهان أقيمه لكم
على قوة الجمعيات أوضح من هذا الذي أنتم فيه ترون أثره بأعينكم، وتلهجون
بذكره بألسنتكم.
لا ينتشر العلم في هذا العصر إلا بالجمعيات، ولا يرتقي نوع من أنواع العلوم
إلا بالجمعيات، ولا يقوم أمر من الأمور العامة إلا بالجمعيات، فعلينا أن نبدأ قبل
كل شيء بتأسيس الجمعيات الخيرية التي تنشئ لنا المدارس والكتاتيب، وأن
نعضدها بأموالنا على قدر استطاعتنا، فبذلك نكون أهلاً لترقية أنفسنا، وترقية
زراعتنا، وترقية تجارتنا وسائر موارد الثروة التي تعتز بها الأمة.
إن في بلادنا خيرات كثيرةً مَنَعَنا من الاستفادة منها: الجهلُ والاستبداد الذي
كان يضطهد العلم ويؤيد الجهل، فبالعلم صارت جزيرة زيلنده أكثر فائدة، وأنمى
زراعة من مصر المشهورة بالخصب والزكاء، وإن في بلادنا ما هو أخصب من
أرض مصر تربةً كأراضي الجزيرة بين النهرين (دجلة والفرات) التي قال
هيرودس أبو التاريخ: إنها كانت تؤتي غلتها من مائة ضعف إلى مائتي ضعف،
أي إن الشنبل (كالإردب) من القمح كان يغل لصاحبه مائتي شنبل.
أيجوز أن تبقى هذه الأرض التي لا نظير لها خرابًا لا ينتفع منها بشيء [3] .
حسبنا من نعمة الدستور أننا صرنا أحرارًا، لا يمنعنا مانع من الاستعداد، ولا
من العمل الذي نستغل به أرضنا، ونستفيد من مواهبها الطبيعية، وقد سمعتم من
بعض الخطباء كلامًا في الحرية، فعَنّ لي في هذا المقام أن أَزِيدَ شيئًا وجيزًا على ما
قالوا، فإن المجال ذو سَعَة.
الحرية تقابل الرق والعبودية، فمعنى كوننا صرنا أحرارًا أننا كنا مِنْ قَبْلُ
مستعبدين للحاكم المستبد، وأننا الآن قد خرجنا من هذا الرق والعبودية، كان الحاكم
قادرًا على أن يمنعنا من التصرف في أنفسنا وأموالنا كما نشاء، فأصبح عاجزًا عن
ذلك. كان يمنعنا بالفعل أن نظهر استعدادنا الفطري للارتقاء في العلوم والأعمال،
فزال هذا المنع، وصار يمكننا أن نخرج من المضيق الحيوي الذي حبسنا فيه،
ليسهل عليه أن يجعلنا رعية، ويكون لنا كالراعي للبهائم، صار يمكننا أن نكون
أناسِيَّ وبشرًا يتمتعون بمزايا البشر.
يقول العارفون بعلم النفس وعلم الاجتماع البشري: إن استعداد الإنسان لا
يُعْرَفُ له حدٌّ يقف عنده، فإذا عاش البشر ملايين من السنين، فإنه يمكن أن يكون
ارتقاؤهم فيها متصلاً ومستمرًّا، ويعرِف هذا مَن قارَنَ وقابَلَ بين أولئك الذين
يعيشون حُفَاةً عراةً في صحاري إفريقية وجبالها، وفي بعض جزائر المحيط، وبين
هؤلاء الذين يخاطب بعضهم بعضًا بالقول والكتابة بواسطة الأسلاك الكهربائية،
وبغير واسطتها مع بُعْدِ المسافات بينهم، ويتمتعون بغير ذلك من ثمرات العلوم
ونتائج المدنية الغربية.
ما وصل أهل المدنية العالية في هذا العصر إلى ما وصلوا إليه من العزة
والكرامة إلا بإطلاق العنان لجياد العقول، في ميادين العلوم والفنون، ومساعدة
الاستعداد البشري على الرقي في معارج الكمال الاجتماعي اللائق به في ظل الحرية
الظليل وحماية الدستور العادل.
ولسنا نحن الشرقيين دون الغربيين استعدادًا للعلوم والأعمال؛ ولكن عبودية
الاستبداد هي التي كانت تطفئ نور فطرتنا، وتحجر على استعدادنا، فلا تسمح لنا
أن نظهر أسرار صنع الله وحكمه في خلقه، ولا أن نتمتع بما سمح لنا الخالق
الرحيم بأن نتمتع به، كما قال في كتابه الحكيم: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ
جَمِيعًا} (البقرة: 29) , وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ جَمِيعًا} (الجاثية: 13) .
كان العالم منا إذا أراد أن يؤلف كتابًا نافعًا، قال له نذير الاستبداد إياك أن
تفعل، فإن مولانا لا يريد ذلك، وإذا حدثت مُحِبَّ الفلسفة نفسُهُ بأن يحل إشكالاً
ناجاه مناجي الاستبداد في سِرِّهِ: إياك أن تفعل؛ فإن مولانا لا يحب ذلك، وإذا
خطر في بال أحد أن يبحث في أسرار الخليقة ليخترع شيئًا ينفع الأمة، أسر له
رسول الاستبداد: إياك أن تفعل، فإن مولانا لا يروق له ذلك، كان لا يتجرأ أحد
على إظهار أثر علمي أو عملي يرقي الأمة في عقولها ونفوسها، في دينها أو دنياها،
إلا وجد الاستبداد له بالمرصاد، وناله منه ما تعلمون من الاضطهاد.
فالحرية! هي تحرير البشر من هذه العبودية، الحرية هي التي يكون بها
البشر بشرًا، لا غنمًا ولا بقرًا، فالانتفاع من الحرية يجب أن يكون بتوجيه
الاستعداد الإنساني إلى العلوم والأعمال التي ترتقي بها الأمة والأخذ بها بلا شرط
ولا قيد، لا باتباع الشهوات، وإتيان الفواحش والمنكرات، ولهذا كان الحكماء
ومحبو الإنسانية يَنْشُدُونَ الحريةَ، ويبذلون في الجهاد في سبيلها أموالهم وأنفسهم،
ولا غروَ، فهم العالمون بالأسرار الإلهية، المودعة في الغرائز البشرية، وبكونها لا
تظهر إلا في دائرة الحرية.
ومن فوائد الدستور المساواة، وقد خاض في بيانها الخطباء فأحب أن أَزِيدَ
عليهم كلِمَةً في إزالة شبهة للناس فيها: يظن بعض الناس أن الدستور جعل الناس
كلهم في مرتبة واحدة من كل وجه. وهذا من المحال الذي لا ينال بالدستور، ولا
بغيره، وإنما جعل الدستور الناس سواءً في الحقوق - كما قال الخطيب السابق -
فالغني والفقير، والصعلوك والأمير، والعالم والجاهل، والنبيه والخامل، كلهم
سواءٌ في الحقوق، ليس لأحد أن يعتديَ على أحد في نفسه، ولا ماله، ولا يجوز
أن يراعي الحاكم أحدًا منهم ويهضم الآخر.
أما المساواة في المواهب والغرائز وآثارها، فليس للدستور فيها شأن، فقد
فضَّلَ الله بعض الناس على بعض في الرزق والعلم والعقل، كما نطق به كتابه،
ودلت عليه سنته في خلقه، وله في ذلك الحكمة البالغة، ولو جعل أفراد البشر سواء
من كل وجه، لَمَا كان الإنسان هو هذا النوع من الخلق الذي يظهر أسرار الطبيعة،
ويتمتع بما فيها من الحكم البديعة، ولما تيسر للبشر أن يوجدوا الخبز الذي يأكلونه
والثياب التي يلبسونها.
إن تفاوت الناس في العقول والأخلاق، هو الذي مكنهم من القيام بما ترون من
الآثار والأعمال، فإن اختراع السفن البرية والبَحْرِيّة واستعمالها مثلاً لا بُدَّ فيه من
العلماء الطبيعيين، الذين اكتشفوا فوائد البخار والكهرباء والمهندسين والميكانيكيين،
كما أنه لا بُدَّ له من الفعلة لاستخراج الفحم من المناجم، ومن الوقادين لوضعه في
النار، وهذان العملان من أشق الأعمال وأصعبها. أفرأيتم من كان مستعدًّا
للاكتشاف والاختراع في العلوم وللسياسة والإمارة هل تتوجه نفسه، وهل يرضى
بأن يستخرج الفحم من مناجمه في الأرض أو بأن يقذفه في النار؟ أو تتوجه نفسه
لنحو ذلك من الأعمال الحقيرة التي لا بُدَّ منها في الاجتماع البشري، كالكناسة وما
في معناها؟ كلاَّ، إن هذا النوع من المساواة ما كان ولن يكون، وإنما يتقارب
الناس، ويتعاطفون بتعميم التربية والتعليم، فنسأل الله أن يهدي الأمة العثمانية في
ذلك إلى الصراط المستقيم.
__________
(*) احتفل بطرابلس كسائر البلاد العثمانية بافتتاح مجلس المبعوثان يوم الخميس 24 ذي القعدة، فخطب صاحب هذه المجلة في الاحتفال العام بميدان التل، أمام هيئتي الحكومة الملكية والعسكرية وجمهور الأهالي، ثم خطب في نادي الجامعة العثمانية أمام الهيئتين، ثم في نادي جمعية الاتحاد والترقي، وهذه خلاصة ما قال.
(1) ذكرت هذه الأصناف مع الإشارة إلى كل صنف من المتصرف، إلخ.
(2) كلمة تركية، معناها: نعم يا سيدي.
(3) ذكرت لهم بعد الخطبة حكاية الملك المستبد الذي سمع صوت بومتين تتجاوبان، فسأل وزيره عن ذلك، وكان الوزير قد ضاق ذرعًا باستبداده، فقال له: إنه ذَكَرٌ يَخْطُبُ أُنْثَى، فَسَأَلَتْهُ أنْ يمهرها بضيعة خربة، فقال لها: إنني أعطيك في عهد هذا الملك مائة ضيعة أو بلدة من الخراب؛ قلت: وهكذا كان الخراب عندنا، بحيث تصير أرض الجزيرة مهرًا للبوم، وجبال مالطة تزرع بالتراب الذي ينقل من الخارج.(11/860)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إصلاح التعليم الديني في الآستانة
هذا ملخص مطالب طلاب دار الفنون في الآستانة من نظارة المعارف، وقد
ذكرت جرائد الآستانة أن طلبهم قد أجيب:
1- تدريس التفسير الشريف بتقرير معاني القرآن الحكيم الظاهرة وأسباب
نزوله، وبيان الناسخ والمنسوخ، وتطبيق ذلك على القوانين الفلسفية.
2- تدريس الحديث الشريف، وأن تكون مدة تدريس البخاري أربع سنين.
3- تدريس أصول الحديث، مع تراجم رواته وطرق أسانيده.
4- تدريس أصول الفقه، وبيان قواعده الكلية، وتقرير تعاليمه وتفرعاته،
وتدريس الفروق في القواعد والأصول بين المذاهب الأربعة.
5- تدريس الفقه مع بيان القواعد الفقهية والفروع، ومأخذ ذلك من الأدلة
الشرعية الأربعة، مع إيضاح الحكمة الشرعية في ذلك وفلسفة الأحكام.
6- تدريس التاريخ الإسلامي.
7- تدريس تواريخ الأديان المشهورة.
8- تدريس السيرة النبوية بالتفصيل.
9- تدريس التوحيد، وذلك بأن تنبذ طرق تدريس التوحيد القديمة، ويُلْقَى علم
التوحيد إلقاء عمليًّا يوافق الزمان والبيئة، ويترك من علم الكلام الألوف من خرافات
الفلسفة القديمة التي امتزجت به.
10- تدريس الدين الإسلامي وبقية الأديان: وذلك بتدريس المقايسات بين
أصول الدين الإسلامي وقواعده وأصول باقي الأديان وقواعدها.
11- تعليم طرق الدفاع عن الدين الإسلامي قولاً وكتابةً وأصول المباحثة فيه.
12- تعليم أصول التدريس والتعليم، وعلم تربية الأطفال بطريقة نظرية
وعملية.
13- تدريس الحكمة والفلسفة على الطريقة الجديدة.
14- تدريس علم الأخلاق نظريًّا وعمليًّا.
15- تدريس علم الروح.
16- تدريس التاريخ العام.
17- تدريس أصول الإنشاء بالتركي والعربي.
18- إيضاح تشبث المسيحيين ولا سِيَّمَا البروتستانت بنشر دينهم وأساليبه.
19- تعليم إلقاء المواعظ والنصائح وأصول الخطابة على الطراز الجديد.
__________(11/873)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رحلة صاحب المنار في سوريا
(2)
(القلمون)
مكثت في طرابلس أسبوعًا، زارني في أثنائه أكثر أهل القلمون وأخذوا
يستعجلونني بالخروج إليها، فلما كان يوم الموعد الذي ضربته لهم انقسم أهلها
شطرين: أحدهما جاء طرابلس لأجل أن يكون معي، وأكثر أفراده من الشبان
والكهول؛ والآخر خرج لاستقبالنا مسافة ربع الطريق وثلثه ونصفه بين القلمون
وطرابلس، وأكثره من الشيوخ والنساء والأطفال، والمسافة كلها ساعة ونصف.
كان عدد كثير من الشبان يحملون السلاح فطفقوا منذ خرجنا من طرابلس
يطلقون بنادقهم ومسدساتهم في الهواء، فرغبت إليهم أن يكفوا عن ذلك فامتثلوا،
حتى إذا ما وصلنا إلى الموضع المعروف بأبي حلقة ألفينا فيه نفرًا من شبان
طرابلس فحيونا بإطلاق البارود والرصاص في الهواء فأجابهم من معنا بمثل تحيتهم،
بل بأحسن منها، فلم أنكر عليهم ذلك لعلمي بأن العرف يقضي بتسجيل العار
عليهم إذا لم يفعلوا. وكذلك فعلوا عندما أشرفوا من رابية (ظهر الرويسات) على
القلمون، لإيذان من بقي فيها بقدومنا، وعندما وصلنا إلى دارنا أيضًا، لأنه من
قبيل سلام المفارقة. وقد ذكرت هذا لأنه من العادات التي لم أكن أعرفها من قبل،
وسيأتي ذكر شيء آخر في معناه.
وكان من حفاوة أهل القلمون بي أن حمل بعض نسائها مجامر العود الهندي
وغيره من البخور أمامي من طرابلس إلى القلمون، وكان فيمن خرج للقاء ممن بقي
فيها من يحمل المجامر أيضًا. وقد راعني وأثر في نفسي رؤية الأولاد الصغار من
بنين وبنات في الخامسة والسادسة فيما فوق يتعسفون الطريق ويتسلقون الروابي بين
الأشواك والحجارة، تبعوا في ذلك آباءهم وأمهاتهم وإخوتهم، وكان النساء يغنين
ويزغردن، ولهن في ذلك أغاني مناسبة للمقام، وهذه العادة قديمة عند نساء البادية
والقرى والبلاد التي لم يتسع نطاق الحضارة فيها. وقد ورد في هذا الباب أن النساء
استقبلن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قدومه إلى المدينة وهن يضربن
بالدفوف وينشدن الأناشيد، ومنها قولهن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع
وكان فيمن خرج للقائنا مسافة نصف ساعة شيوخ وعجائز في عشر التسعين
وعشر المائة من السن، وهم صائمون وصحتهم جيدة، بل مشى إلى طرابلس أكثر
من واحد من هؤلاء المعمرين. وأهل القلمون يعمرون لاعتدالهم في معيشتهم
ورياضتهم الدائمة بالعمل في الأرض مع جودة الهواء والماء، فالخمر لا تدخل
القلمون ولا يشربها أحد من أهلها، والفاحشة غير معروفة فيها ولله الحمد والمنة،
وهاتان الكبيرتان هما أفتك بصحة الناس من كل ما يأتيه الناس.
سألت رجلاً من هؤلاء الشيوخ (هو الحاج علي طوط) عن سنه فقال: أربع
وتسعون سنة. وهو يواظب على صلاة الفجر في المسجد غلسًا وربما يجيئه قبل
طلوع الفجر حتى في أوقات المطر والبرد، كهذه الأيام. ويمشي عدة ساعات في
النهار وهو صائم. وسألت رجلاً آخر (هو السيد عبد القادر علي) عن سنه فقال: لا
أدري ولكنه ذكر لي حكايات منها أنه كان ملاحًا في البحر فجاءه مرة علي طوط
ليعمل معه عمل البحر فلم يقبله لأنه صغير لا يستطيع أن يحرك المجداف. فالظاهر
من هذا أنه يكبره بزهاء خمس عشرة سنة، فهو قد ناهز العشرة الأولى بعد المائة
أو جاوزها ولا يزال يصوم ويعمل في أرضه بالعزق وشيبه غير تام. فليعتبر بهذا
بعض الشبان والكهول المتفرنجين في مصر وغيرها الذين يزين لهم الترف والتهاون
بالدين ترك الصيام محافظة على الصحة! ! ولو عقلوا لعلموا أن البطنة هي التي
تفسد عليهم صحتهم حتى أن أكثرهم ليتناول الأدوية والعقاقير والمياه المعدنية لأجل
إصلاح المعدة والمعَى وتسهيل الهضم وهم في سن الشباب فماذا تراهم يفعلون إن
شاخوا؟ على أنه قلما يشيخ منهم أحد!
ومما يفيد ذكره في هذا الباب: باب الاعتبار بحال الناس في الدين أن أهل
القلمون كانوا بهدي بيتنا أبعد مسلمي بلادنا عن البدع، كما أنهم أبعدهم عن
المعاصي. ولما انتهى دور الإرشاد فيهم إليَّ رأيت عندهم من البدع أنهم يوقدون
السرج والشموع عند قبرين، أحدهما قبر السيد محمد القصيباتي الحسني، المشهور
في المقبرة القديمة، وهو أحد أجدادهم وأجدادنا من جهة الأمهات؛ وثانيهما قبر بني
حديثًا عند عليقة على شاطئ البحر، وكانوا يربطون بهذه العليقة خرقًا صغيرة
يقتطعونها من ثيابهم الخلقة يسمونها آثارًا لأجل شفاء المرضى، وكل من هذا وذاك
معروف في جميع البلاد. فما زلت أنهاهم وأعظهم حتى تركوا البدعتين، نساء
ورجالاً، وصار من يزور القبور منهم يكتفي بالسلام على الموتى والدعاء لهم
والتفكر في الموت والآخرة، كما هو المأثور.
وكان أكثر النساء من غير أسرتنا تاركات للصلاة وجاهلات بأحكامها وأحكام
الطهارة وآداب الزوجية، فجعلت لهن مكانًا أعظهن وأعلمهن به كما أعلم الرجال في
المسجد، فصلحت حالهن في زمن قريب، وكن أسرع امتثالاً من الرجال. وكذلك
كان يوجد رجال يتركون الصلاة ولا يحضرون الدرس في المسجد، فكنت أختلف
إليهم في بيوتهم، وأذكر أنه استعصى واحد من البلداء الخاملين فأمرت الشبان فسحبوه
سحبًا، ولكنه لم يواظب وأعيانا أمره فاكتفيت منه بوعد مكذوب. وكان فيها رجال
يسرقون الثمرات كثيرًا وغيرها من المتاع قليلاً، فندر ذلك ندورًا، كأن لم يكن شيئًا
مذكورًا، وكان عمدتي في وعظهم وتعليمهم كتاب إحياء العلوم وكتاب الزواجر
وشرح المنهاج، فصار فيهم متفقهون في دينهم يستحضرون ما لا يستحضره كثير
من العلماء المدرسين، وكلهم من الفعلة والفلاحين والصيادين.
على هذا تركت القلمون عندما سافرت إلى مصر، ولذلك قال أزهد الزاهدين،
وبقية السلف الصالحين، العالم الأصولي السائح المعتبر الشيخ عبد الباقي الأفغاني،
رحمه الله تعالى: لو بقي رشيد في بلده يعلم الناس ويرشدهم لكان خيرًا له من
الذهاب إلى مصر، حيث لا يستطيع أن ينفع كما ينفع هنا. قال هذا عندما ذكر
سفري له وهو لا يعلم أن قصدي بالسفر التصدي لإرشاد أعظم، وتعليم أعم وأشمل،
ولما عدت إليها في هذه الأيام علمت أنه قد فتن كثير من أهلها فتركوا الصلاة،
واتصل بعضهم بالذين اعتدوا على بيتنا من أشقياء طرابلس فأغراهم هؤلاء بقطع
الأشجار وشهادة الزور وإضاعة الحقوق وكادوا يجذبونهم إلى الخمر والفحشاء
والقيادة، أغروهم بالمال وغروهم بأنهم يحمونهم من الحكومة وإن سلبوا ونهبوا
وضربوا وقتلوا، فسلسوا لهم وساعدوهم على نهب بيتنا، وتقطيع الأشجار من
بعض بساتيننا وكرومنا، ونحمد الله أن كان هؤلاء المغرورون قليلين، وأن كان
أكثر الأهالي لهم ولمضليهم من الكارهين، ونحمده أن جعل الشر أضعف من الخير.
عدت إلى هؤلاء الناس وهم قومي الذين أغار عليهم ما لا أغار على سواهم،
وكنت أظن أن ما لي من مثال الهداية والدين في نفوسهم قد صغر وتضاءل في هذه
الفترة، فإذا هو قد كبر وعظم حتى صار خياليًّا مقرونًا بشيء من الخرافات، فقد
كان الرجال والنساء والأطفال يفدون على دارنا ليلاً ونهارًا ومعهم الضعفاء
والمرضى والمخدجون يلتمسون الشفاء مني باللمس والرقي وكتابة النشرات وما
يعبرون عنه بالحرز والحجاب، على أن في رجالهم من يعرف رأيي في ذلك،
فكنت أتلطف في بيان الحق لهم بقدر ما يسمح به المقام ويليق بحال المخاطب،
وأحثهم على المداراة الصحية والتداوي ومراجعة الأطباء عند الحاجة، وقد سبق
للمنار البحث في هذه المسائل والجمع بين الأحاديث الواردة في الرقي، كحديث
إقرار الذين رقوا الملدوغ بسورة الفاتحة، وحديث وصف الذين يدخلون الجنة بغير
حساب بأنهم لا يسترقون، على أن إقناع النساء بلباب الحق في هذه المسائل عسير،
ولا يتم ولو مع الإرشاد في زمن قصير، ونسأل الله تعالى أن لا يجعلنا فتنة
لأنفسنا، ولا لمن يحسن الظن بنا.
قلت مرة لعبد الرحمن أفندي الكواكبي - رحمه الله - لو تيسر لنا أن نجعل
بعض محبي الإصلاح المعتصمين بالكتاب والسنة شيوخًا للطريق لأمكن لنا بذلك
هداية العامة بسهولة، ولكن هؤلاء المصلحين قليلون ولا يكاد أحد منهم يرضى بأن
يكون شيخًا لطريقة من الطرق. فقال: إننا قد جربنا ما ذكرت فأقنعنا رجلاً من
الصالحين المستنيرين في حلب بأن يكون من شيوخ الطريق فيرجع العامة عن
بدعهم وخرافاتهم ويهديهم إلى طريق الدين السوي، فقبل بعد إباء ونفور، فلما رأى
إقبال العامة عليه واعتقادهم صلاحه وبركته فتن بذلك وجاراهم في اعتقادهم، فكانوا
سببًا لضلاله بدلاً من أن يكون سببًا لهدايتهم، وخسرناه خسارة لا مطمع في رجوعها
راجع تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا} (البقرة:
165) الآيات في الجزء الثاني من تفسير القرآن الحكيم أو في المنار.
عقدت في القلمون عدة مجالس للوعظ والتذكير قلّ مَنْ تخلف عنها من
حاضري القرية، فتاب الناس توبة يغلب على ظني أن أكثرهم صادق فيها، ولا
أخشى من الإصرار على الفساد إلا على نفر قليل من الموالين لبعض الأشقياء
الغرباء الذين أشرت إليهم فيما سبق من القول. وقد ألفت لهم جمعية عنوانها قوله
تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة:
2) وجعلت لها صلة بجمعية التعاون التي سعيت بتأسيسها في طرابلس.
* * *
(دده وسائر الكورة)
بدأت الوفود تفد من الكورة على القلمون للسلام علينا منذ اليوم الثاني من
وصولنا إليها كرئيس دير البلمند ووجهاء البلاد من المسلمين والنصارى، وقد نزل
معظم أهل (دده) - وهي على قمة الجبل بإزاء القلمون على الساحل - بعد العشاء
وهم يطلقون البارود من بنادقهم والرصاص من مسدساتهم ويهزجون بالأغاني فتلقاهم
شبان القلمون في خارجها وأدخلوهم باحتفال يناسب ما هم فيه، وقد قيل لي: إن من
الرسوم المعتادة في ذلك أنه لو لم يخرج شبان القلمون للقائهم لما دخلوها، لأن ذلك
يعد من الإهانة في عرفهم. وعند وصولهم إلى دارنا تحلقوا أمامها وطفقوا يهزجون
ويطلقون العيارات النارية إلى قريب من نصف الليل ثم انصرفوا مشيعين
مشكورين، وكان زعيمهم في هذا الاحتفال الأمير علي عبد الرحمن الأيوبي.
وجميع الأناشيد التي هزجوا بها مناسبة لمقتضى الحال، ولعل أكثرها
ارتجالي، فإنه في الترحيب بالقادم (صاحب هذه المجلة) وفيها إطراء له بالأعمال
السياسية والعلمية، وقد ذكر بعض القوالين المسلمين فيما أنشده عبارة معناها: لولاك
يا فلان لما ارتفع شأن الإسلام، فأجابه رفيق له من النصارى بعبارة معناها أنه
ليس لكم وحدكم وأنه قد طبع لنا الإنجيل، يعني بذلك إنجيل برنابا! ! وقد
أضحكتني هذه العبارة وأضحكت كل من سمع بها من العارفين بإنجيل برنابا،
فحبذا هذه السذاجة مع هذا الاتفاق بين المسلمين والنصارى الذي حمدت عليه أهل
ددَّه حمدًا جميلاً.
(للرحلة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(11/874)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطاب السلطان في افتتاح مجلس المبعوثان
أيها الأعيان والنواب:
بسبب الصعاب التي قامت في وجه إنفاذ الدستور الذي وضعته موضع
الإجراء عند ارتقائي العرش أوقف هذا القانون يومئذ الاضطرار الذي أشار إليه
كبار الحكومة. وأُجِّلَ إنفاذ القانون وأرجئ عقد المجلس إلى وقت يصل فيه الشعب
إلى الدرجة المرومة من التقدم بواسطة نشر التعليم العام، وقفت عنايتي على إيجاد
الرقي في جميع أنحاء بلادي، وبفضل نشر التعليم العام ارتقت درجة إفهام جميع
طبقات شعبنا وبناءً على الرغبة التي أعلنت ولأن هذه الرغبة تضمن في الحاضر
والمستقبل خير بلادنا لم نتردد - رغم الذين كانوا على رأي مخالف - في إعلان
الدستور ثانية، وأمرنا بإجراء انتخابات جديدة. ودعونا مجلس المبعوثان للاجتماع،
وعلى أثر تغيير طريقة الحكم الإداري أسندنا منصب الصدارة العظمى إلى كامل
باشا.
وبينا كان مجلس النظار المؤلف تحت رياسته عاكفًا على تنظيم الحكومة
الدستورية خرج أمير بلغاريا ووالي الرومللي الشرقية عن حدود الأمانة لسلطنتنا
لسبب ما وأعلن استقلال بلغاريا وعلى أثر هذا العمل أخذت النمسا وهنغاريا أيضًا
بضم البوسنة والهرسك اللتين سلم إليها احتلالهما وقتيًّا بمعاهدة برلين. فأبلغت
إقرارها إلى الباب العالي وإلى الدول. فهذان الحادثان العظيمان اللذان يخترقان
حرمة المعاهدات ويمسان الصلات، سَبَّبَا لنا أسفًا عظيمًا.
وعلى أثر اختراق حرمة المعاهدات سلمنا مجلس نظارنا مهمة عمل الواجب
للدفاع عن حقوق حكومتنا. وإنا نود في كل حال معاونة مجلس المبعوثان. وبما أن
صلاتنا مع جميع الدول حسنة ووثيقة. فلنا الأمل أنه مع معاونة الدول صديقاتنا
تحل المسائل السياسية.
وإنا نود من صميم الفؤاد تنظيم المالية، وتسوية موازنة الميزانية، ومواصلة
تحسين حالة سلطنتنا وزيادة عدد المدارس لزيادة نشر التعليم العام، وإبلاغ جيشنا
وبَحْرِّيتنا درجة الكمال. وكذلك تنظيم الدوائر المختلفة التي وضعت مشروعات
قوانين شتّى ستعرض على مجلس المبعوثان ومجلس الأعيان لإقرارها.
وعلى أمل أن مبعوثاننا سيبذلون كل جهدهم في هذه السبيل نعلن اليوم إذًا فتح
مجلس المبعوثان.
ومنتهى متمنانا سعادة الأمة ونجاحها وأقصى رغبتنا وآكدها وعزيمتنا الثابتة
التي لا تتغير أن تكون إدارة البلاد مطابقة للدستور.
نسأل الله أن يحصر مجلس المبعوثان كل قواه في خدمة البلاد وخيرها.
(المنار)
بعد أن تلا رئيس كتاب المابين هذا الخطاب نطق السلطان بهذه الجملة بصوت
خافت (إنني كثير السرور برؤيتكم مجتمعين أمامي هنا، وأسأل الله أن يكلل أعمالنا
بالنجاح والتوفيق) ولقد كان للخطبة وقع سيئ في الآستانة وانتقدتها الصحف ثمة
انتقادًا شديدًا.
__________(11/879)
ذو الحجة - 1326هـ
يناير - 1909م(11/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطب ودروس صاحب المنار في هذه الديار [*]
إن لي في هذه الدنيا وطنين: وطن النشأة والتربية، وهو سورية، فإنني
نشأت في قرية القلمون، المجاورة لطرابلس الشام في ساحل الكورة من لبنان،
وتعلمت في طرابلس. ووطن العمل، وهو مصر، التي أقمت فيها إحدى عشرة
سنة، أدعو إلى الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي، وأقرأ الدروس وأعمل في
بعض الجمعيات.
ولما أقر الله عيوننا معشر العثمانيين بالحكومة الدستورية اشتقت إلى زيارة
وطني الأول، لرؤية الأهل والأصدقاء ولاختبار حال البلاد بعد أن اشتدت عليها
وطأة الاستبداد، ومساعدة محبي الإصلاح والترقي في التنبيه لما يجب أن تتوجه
إليه الهمم.
زرت بيروت وطرابلس والقلمون ثم عدت إلى بيروت ومنها ذهبت إلى دمشق
الشام فبعلبك فحمص فطرابلس. وقد ألقيت في أكثر هذه البلاد خطبًا ودروسًا،
وجرى لي مع أهل الفهم والظهور فيها محاورات كثيرة فوقفت على ما أحببت
الوقوف عليه. أما المقاصد التي كان يدور عليها كلامي فهي محصورة فيما يأتي:
(1) وجوب الجمع بين هداية الدين والعلوم العصرية التي عليها مدار ثروة
الأمة وعزة الدولة، مع بيان عدم التنافي والتعارض بين دين الإسلام وهذه العلوم
من رياضية وطبيعية واقتصادية.
(2) الاعتماد في هداية الدين على اتباع سيرة السلف الصالح من الصحابة
الكرام والتابعين لهم ومن سار على طريقهم، وما طريقهم إلا الاهتداء بالكتاب
العزيز والسنة السَّنِيَّة، وقد فصلت ذلك في الخطب والدروس بمطالبة العلماء بأن
يعلموا الناس دينهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم المؤمنين به، فهديه
أفضل الهدي وطريقه أقصد الطرق. وبينت ذلك في أسس الدين الثلاثة، العقائد
والآداب والأعمال.
(3) أما العقائد فبينت أن الاعتماد على كتب الكلام في تلقينها للعوامّ لا يأتي
بالفائدة المطلوبة، وربما يضرهم ويوقعهم في شكوك وشبهات لا يجدون منها
مخرجًا، ذلك بأنها لم تؤلف إلا لحماية العقيدة من شبهات الفلاسفة والمبتدعة كما
بيَّنه حجة الإسلام الغزالي في كتاب (إِلْجَام العوام عن علم الكلام) وفي غيره من
كتبه، وإنما يجب اتباع طريقة القرآن في تلقين المسلمين عقائدهم بالاستدلال عليها
ببديع صنع الله في خلق السماوات والأرض وما فيها من البحار والأنهار
والجبال والحيوان والنبات.
(4) وأما الآداب والأخلاق فيعتمد في تعليمها على الآيات الكريمة
والأحاديث الشريفة الناهية عن الفواحش والمنكرات، الآمرة بالمعروف والباقيات
الصالحات، المنبهة على ما فيها من فوائد الخير ومنافعه في الدنيا والآخرة،
وغوائل الشر ومضارّه في الدنيا والآخرة - وعلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه ومن اهتدى بهديهم من الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين.
(5) وأما الأعمال، كالوضوء والتيمم والصلاة والحج، فقد بينت أنه ينبغي
أن تعلم بالعمل كما ورد في الأحاديث الصحيحة، ومنها حديث (صلوا كما
رأيتموني أصلي) , وإذا قرأ الإنسان جميع الكتب ولم يتلق الأمور العملية بالقدوة
فإنه لا يحسنها على أن الأقوال لا يستغنَى عنها في كثير من المسائل.
ذكرت في عدة دروس وخطب أن هذه الطريقة هي التي يمكن تعميمها في مدة
قليلة ترجى فائدتها ويظهر أثرها , وأنه من استطاع أن يعلم الناس كلهم أو بعضهم
ما زاد على ذلك من كتب الكلام والفقه وغيرها فليفعل فالطريقة التي تقترحها لا
تكون مانعة له بل تكون مسهلة عليه , ولكني أرى أن من المتعذر تعميم تعليم هذه
الكتب فلنبدأ بالممكن الأسهل طريقًا الذي لا بد منه لكل مسلم.
(6) الحث على تأسيس الجمعيات الخيرية لإنشاء المدارس ونشر التعليم
الذي يتحقق به المقصد الأول من هذه المقاصد , وهو الجمع بين الدين والعلوم
ولإعانة المنكوبين والمعوزين عند الحاجة لتكون طبقات الأمة متعاطفة متراحمة
يحترم فقيرها غنيها ويرحم كبيرها صغيرها.
(7) الحث على شكر نعمة الدستور بمساعدة جمعية الاتحاد والترقي على
إتمام عملها العظيم في داخل البلاد من مراقبة الحكومة لأجل الثقة بالعدل وحسن
الإدارة، ومن بث الآراء والأفكار التي تنفخ روح محبة الدستور والمحافظة عليه في
قلوب طبقات الأمة العثمانية. وقد خطبت وتكلمت في الاستبداد والدستور والمساواة
أكثر من مرة.
(8) تنبيه الأمة إلى ما يجب عليها من محبة الدولة العلية وبذل المستطاع
في تأييدها وتعزيز جانبها. وموالاة الدول التي تواليها ومعاداة الدول التي تعاديها
ومجازاة هذه الدول بالإقبال على بضائعها أو بالإعراض عنها حتى تصير الدول
تخشى عداوتنا وترجو مودّتنا، فإنه لا شيء يهم أوربا من بلادنا مثل رواج تجارتها
فيها. ولما جاءنا نبأ ضم النمسا ولاية البوسنة والهرسك إلى أملاكها وإعلان البلغار
الاستقلال التام دون الدولة العلية , وتحدث الناس باحتمال محاربة الدولة للبلغار
وأظهر كثير من الشبان التطوع في الحرب بينت في خطاب ألقيته في نادي جمعية
الاتحاد والترقي بطرابلس وفي خطبة ألقيتها أمام الثكنة العسكرية في بيروت أن
الدولة إنما تحتاج إلى مساعدة الأمة بالمال دون تطوع الرجال؛ لأن ما عندها من
العسكر كاف لمحاربة أية دولة عظيمة إذا وجد المال الكافي لتجهيزه. ثم رأيت بعد
أسابيع من آخر خطبة ألقيتها في ذلك بعض الجرائد المصرية تقول مثل هذا القول
الواضح لكل عارف بالحقيقة.
(9) بيان التفاوت بين الشعوب والملل في البلاد العثمانية في العلوم
والمعارف والاستعداد للقيام بأعمال الحكومة والكسب والاستطراد من ذلك إلى أن
العرب أشد تقصيرًا في ذلك من الترك والأرمن والأرناؤوط , كما أن المسلمين من
العرب أشد تقصيرًا من النصارى، ولَفتُّ الأذهان إلى مضرّة هذا التفاوت إذا طال
أمره؛ لأن الوحدة العثمانية لا تتحقق إلا باتفاق جميع الشعوب والفِرَق التي تتكون
منها الأمة العثمانية واشتراكها في الأعمال التي تصلح بها الدولة وتعمر بلادها،
وهذا الاتفاق والالتئام من نتائج التقارب في التربية والتعليم، فلا بد من عناية
العرب عامّة والمسلمين منهم خاصّة بالتربية والتعليم؛ بقصد مجاراة غيرهم من
إخوانهم العثمانيين , وتمكين رابطة الاتحاد بهم ومساواتهم في أعمال الحكومة
ومجاراتهم في الأعمال الحرة , وإلا ساءت العاقبة وخيف أن تساعد أوربا في
المستقبل كل جنس على الاستقلال , وتجعل العرب تحت سيطرتها لعدم استعدادهم
لتكوين حكومة مدنية.
(10) تكريم الشعب وتنبيهه إلى أنه أهل لكل مكرمة وكل خير، وإن
العامي إذا اتقى الله فاجتنب الشرور والمعاصي ولزم الطاعة ورغب في الخير والبر
فإنه يكون خيرًا وأفضل من كثير من المتعلمين الذين لا يستعملون علمهم إلا لجر
المنافع إلى أنفسهم ولو بالباطل، وإن الفقير القانع الصالح أفضل من الغني الذي لا
ينفع الأمة بغناه، ولا يقف في الكسب عند حدود الله، وإن كثيرًا من الفقراء يمكنهم
أن يبذلوا شيئًا قليلاً من الصدقة، على قدر حالهم، للجمعيات الخيرية وبذلك يُعدُّون
من خَدَمَة الأمة ونحو ذلك.
هذه هي المقاصد التي كان يدور عليها كلامي وكان يفهمها المتعلم والعامي:
هذا يفهم فهمًا إجماليًّا، وذلك يفهم فهمًا تفصيليًّا، وقد رضيها وأثنى عليها جميع من
لقيت من العلماء والأدباء وظهر لها أثر حسن في الدهماء، لما عليه أهل بلادنا من
الذكاء، وقد سألت أكثر من واحد من أهل العلم الذين سمعوا الخطب والدروس
الدينية التي كنت ألقيها في المساجد: هل انتقدتم عليَّ شيئًا فأتقي العود إلى مثله؟
فيقولون ما يقول أهل الفضل في هذا المقام إذا كان ما سمعوا مستحسنًا عندهم غير
منتقد، ذكرت هذه الكلمة تمهيدًا لما يأتي.
(حادثة الشام)
ذكرت جريدة الاتحاد العثماني خبر تلك الحادثة، ولم تخطئ إلا في قولها:
إنني سافرت من الشام ليلاً، والصواب: أنني صليت الفجر فيها وسافرت في
القطار الذي يخرج منها بعد مطلع الشمس. وقد علم القراء أن ذلك الرجل الذي قطع
علي الدرس قبل إتمامه لم يَدَّعِ في مجلس الدرس أنني قلت شيئًا وأخطأت فيه ,
وإنما تكلم كلامًا مستقلاًّ في مسألتين , لم أتعرض لهما في ذلك الدرس ولا في غيره
من دروسي في بر الشام بإثبات ولا نفي، وهما مسألة تقليد الأئمة الأربعة واعتقاد
فضلهم وهدايتهم، ومسألة زيارة القبور واحترام الصالحين والتوسل بهم. وقد كان
صاحب الفضيلة مفتي الشام حاضرًا ذلك المجلس، فإياه أسأل دون أولئك الألوف
التي كانت حاضرة الدرس: هل سمع مني كلمة مخالفة للشرع؟ إن كان سمع شيئًا
مخالفًا فأُذكِّره بالميثاق الذي أخذه الله على الذين أوتوا الكتاب (ليبيننه للناس ولا
يكتمونه) أن يبين لي ذلك في كتاب خاص يبعث به إليّ، وأنا أنشره في المنار ,
وغيره مع بيان ما عندي فيه، أو في رسالة ينشرها في بعض الصحف ليظهر الحق
لطالبه , ولا يخوض الناس في الباطل بغير علم. وسأكتب إليه كتابًا خاصًّا أسأله
فيه هذا البيان، وهو أعلم بما ورد في الكتاب العزيز والأحاديث الشريفة في وعيد
كاتمي العلم.
(كشف شبهتين أو ثلاث)
إذا كنت لم أتعرض لذكر زيارة القبور والتوسل بالأموات الصالحين في شيء
من كلامي في بلاد الشام، فقد اشتهر عني أنني كتبت كثيرًا في إنكار البدع المتعلقة
بذلك. وإذا لم أكن قد تعرضت هنا لذكر الاجتهاد والتقليد فقد علم الكثيرون أنني
كتبت بذلك كثيرًا. وكنت أعرض كل ما أكتبه ولا أزال أعرضه لنقد العلماء وأنشر
كل ما يرد علي منهم في ذلك، ولا تتسع هذه الجريدة لذكر شيء من ذلك، وإنما
أريد هنا كشف شبهتين خاض فيهما بعض الناس بسوء نية، وبعضهم بإخلاص
وحسن قصد، ولكن مع سوء فهم أو تصديق للكاذبين الذين يشيعون عنا الأباطيل
حتى زعموا أننا ننكر وجود الملائكة وجودًا مستقلاًّ.
الأولى: أشيع عني أنني أطالب كل مسلم بأن يكون مجتهدًا مثل الأئمة
رضوان الله عليهم! وربما تطرف من يستبيح الكذب لإرضاء هواه، فزعم أنني
أطعن في الأئمة المجتهدين! وأقول في الجواب عن هذه الشبهة: إنه لا يطالب الناس
بمثل ما ذكر إلا من كان لا يعقل أن هذا من طلب المحال، لقصور استعداد أكثر
الناس عن ذلك أو عدم تفرغهم له. ومن فهم أنني أعني هذا بالترغيب في الاهتداء
بالكتاب والسنة فهو مخطئ، فإنما أعني به أن وعظ الناس وتذكيرهم بالكتاب والسنة
هو الذي يؤثر في قلوبهم ويبعث روح الدين في نفوسهم، وأطالب المشتغلين بالعلم
أن يعنوا بفهمهما ويذكروا العامة بهما، سواء منهم من تفرغ لدرس كتب المذاهب،
كبعض طلاب العلم ومن لم يتفرغ له كأكثر العامة. ومسألة النهي عن التقليد مسألة
أخرى يراد بها فهم كل قول بدليله لا أن يكون كل مشتغل بالعلم قادرًا على تدوين
مذهب! ! وهذا ما أعنيه بالإصلاح الديني وملخصه أن يُعْنَى المشتغلون بعلم الدين
بفهم الكتاب والسنة بقدر الاستطاعة وفهم كلام الأئمة بدليله، وأن يبذلوا جهدهم
بإرشاد العامة بهما كما تقدم. وهذا هو عين اتباع الأئمة، وقد ورد عنهم نصوص
كثيرة مصرحة به، وهو غير التقليد الذي نهوا عنه.
الثانية: إنني لم أنكر زيارة القبور، وإنما أنكر دائمًا ما يكون عند زيارتها من
البدع التي لم تكن على عهد السلف الصالحين، ولم يقل بمشروعيتها أحد من الأئمة
المجتهدين، وأقول: إن حب الصالحين والأولياء المقربين من الأحياء والميتين إنما
ينفع ويكون وسيلة إلى الله عز وجل إذا أفاد صاحبه التشبه بهم في خشية الله وتقواه
بترك المعاصي والعمل الصالح مع الإيمان الصحيح وإلا كان غرورًا. ومن الغرور
الذي يمنعه الإسلام دعاء أصحاب القبور بما لا يطلب إلا من الله , واعتقاد أنهم
يستجيبون لمن دعاهم! وأن لهم سلطة غيبية وراء الأسباب والسنن الإلهية، ينفعون
بها ويضرون، ويعطون ويمنعون، فهذا الاعتقاد عبادة باطلة، وإن سميت توسلاً،
فإن الأسماء لا تغير الحقائق.
ومما يتعلق بهذه المسألة بحث الكرامات، وأنني لم أنكر جواز الكرامات ولا
وقوعها، ولكن بينت أنها لا تكون مخالفة لسنن الله تعالى في خلقه بتغيير أو تبديل
أو تحويل، لأن الله تعالى أخبر بأن سننه لا تتبدل ولا تتحول. وإنها لا تكون
معتادة كأنها صنعة بيد الولي! بل قال في الفتوحات: إنها لا تتكرر، فإن المكرر
يكون معتادًا لا خارقًا للعادة , وغير ذلك من الأغلاط التي لا دليل عليها في الشرع
ولا العقل. وحذرت عوام الأمة من الدجالين المحتالين الذين يُدْخِلون عليها التلبيس
من هذا الباب. فمن أراد أن يقف على التفصيل في ذلك فليراجع المجلد الثاني
والمجلد السادس من المنار، ففيهما بضع عشرة مقالة مطولة في الكرامات. ومن
يدعي أن شيئًا من كلامنا المجمل هنا والمفصل هناك مخالف للشرع , فعليه أن
يكتب إلينا دعواه مؤيدة بالدليل لننشرها له، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________
(*) نشرت في العدد 53 من جريدة الاتحاد العثماني البيروتية الصادر في 2 ذي القعدة سنة 1326.(11/881)
الكاتب: محمد المكي بن عزوز
__________
من بحث الكرامات
إلى حضرة البارع الغيور أبي عبد الله الشيخ محمد رشيد رضا، صاحب
المنار، أيده الله وسدد مسعاه.
السلام عليكم، وبعد. فقد طالما تشوقنا إلى مناسبة المراسلة وارتباط المواصلة
حتى حان وقتها بمناسبة ما كتبتموه في جريدة الاتحاد العثماني من إجمال رحلتكم إلى
سورية، فنهنئكم بتعاهدكم للوطن الأول واكتسابكم علمًا بأحوال ما كان غائبًا عنكم
واطلعنا على مقاصد دروسكم وخطبكم الدالة على غزارة علم وجودة براعة وحسن
إحساس وشعور من تنبيهكم للتعاون على البر والتقوى والتعاضد ماديًّا وأدبيًّا،
والسعي في عمارة الدارين، وحضكم العلماء والمفيدين أن يكون وعظهم وتعليمهم
مؤسسًا على الكتاب وما صح من السنة فقهًا وعقائد وآدابًا، فلقد وفيتم ما عليكم من
مسئولية قوله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ} (آل
عمران: 104) الآية، وقد أبلغتم تلك النصائح بالحكمة والموعظة الحسنة،
فصنعكم هذا لا ينكره عالم يتحرى السنة والجماعة، ولا يستثقله إلا جاهل أو حاسد،
فنشكركم على تلك الهمة والحزم السديد.
بقي بحث الكرامات، ذكرتم أنكم لم تتعرضوا له في الشام، وقد تعرضتم له
الآن، أما ما أحلتم عليه في مجلدات المنار، فمع الأسف إنني إلى الآن ما رأيت من
المنار عددًا، للسبب الذي كان حائلاً في الأستانة، كما لا يخفى، ولكن النقطة
المقصودة هنا من بحث الكرامات جلية من الإجمال المسطور في الاتحاد العثماني،
وقد أكدتم على أهل العلم أن يكتبوا لكم ما ظهر لهم، فإنكم طوقتم أعناقهم أمانة
شديدة المسئولية، فيكون السكوت منهم وفاقًا في جميع ما هو مسطور هناك،
فاخترت مكاتبتكم بما عنَّ لي، والمأمول من كمالكم الإنصاف والرجوع إلى الحق
الذي يتبين لكم فنقول: قولكم في الكرامة: (إنها لا تكون مخالفة لسنن الله تعالى في
خلقه بتغيير أو تبديل أو تحويل؛ لأن الله تعالى أخبر بأن سننه لا تتبدل ولا تتحول)
هذا لفظكم تعنون قوله تعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62)
{َلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} (الإسراء: 77) تفسير هذه الآية ونحوها بعدم خرق
العادة , وعدم انحراف سبيل الطبيعة في الكون موجب للأسف، وقد سمعت
الاحتجاج بها مرارًا على لسان من يدَّعِي انحصار حوادث الكون في الأسباب
انحصارًا كليًّا، ورأيته في كتب جديدة عربية وتركية، ولا أدري أول من دسَّ هذا
البلاء تحت هذه الآية الكريمة، فهو دفع للمعجزات النبوية بالصدر، لأنها محض
خرق العادة وما هو إلا تبديل وتحويل لما هو معتاد في النظام الكوني، وليس لأحد
أن يفرق بين المعجزة والكرامة في أصل التبديل والتحويل؛ لأنه لا دليل على
تخصيص عدم التبديل والتحويل بزمان دون زمان، فالمراد بسنة الله في الآية
نصره لأنبيائه ومَنْ قفاهم، وخذلانه لأعدائه ومن والاهم، ونحو ذلك من إحقاق
الحق وإبطال الباطل.
قال المحقق، مجدد القرن الثاني عشر، الإمام الشوكاني في تفسير فتح القدير
تحت هذه الآية ما نصه: (فهل ينظرون - أي فهل ينتظرون - إلا سنة الأولين، أي
سنة الله فيهم بأن ينزل بهؤلاء العذاب كما نزل بأولئك، فلن تجد لسنة الله تبديلاً،
أي لا يقدر أحد أن يبدل سنة الله التي سنها بالأمم المكذبة من إنزال عذابه بهم بأن
يضع موضعه غيره بدلاً منه، ولن تجد لسنة الله تحويلاً بأن يحول ما جرت به سنة
الله من العذاب فيدفعه عنهم ويضعه على غيرهم، ونفي وجدان التبديل والتحويل
عبارة عن نفي وجودهما، ثم قال: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. هذه الجملة مسوقة لتقرير معنى ما قبلها وتأكيده) .
ومثل الشوكاني سائر المفسرين من أئمة الدين، ولا يقال هنا العبرة بعموم
اللفظ؛ لأن المعنى الذي زعموا تناول اللفظ إياه مناقض لأكثر آيات القرآن التي
قصت وقائع الأنبياء وغيرها من عجائب قدرة الله، كنار إبراهيم وعصا موسى
وخلق الله عيسى بلا أب وواقعة أصحاب الفيل وغير ذلك، ولنا أن نقول نزوعًا
بالآية اعتبارًا بعموم اللفظ عمومًا لا ينقض آية أخرى: من سنة الله أن يخلق أشياء
بأسباب لحكمة وأشياء بلا أسباب لحكمة , ولن تجد لسنة الله تبديلاً. وأعجبني ما
كتبه صاحب الحمية الإسلامية مفتي الديار المصرية في كتابه المسمى (الإسلام
والنصرانية مع العلم والمدنية) بعد إشارته إلى حديث (لتتبعن سنن من كان قبلكم
شبرًا بشبر وذراعًا بذراع) قال في صحيفة 138: ومن اتبع سنن قوم استحق
الوقوع تحت أحكام سنن الله فيهم، فهل ينتظر المتبعون سننهم السائرون على أثرهم
أن يصنع الله بهم غير الذي صنع بسابقيهم، وقد قضى بأن تلك سنته ولن تجد لسنة
الله تبديلاً. اهـ
فإن كان مرادكم سد الذريعة خوف توسيع الخرق على الراقع من جهة العامة،
فسد الذريعة من أصول الشريعة، لكن مع السلامة من مفسدة أكبر من تلك، وخوفكم
على العامة بهذه المثابة إفراط، فإنه لا تلازُم بين جواز وقوع الكرامة خرقًا للعادة
بإذن الله وجواز ما يعمل من البدع في زيارة الأولياء والغلو في الاعتقاد. وأنتم
تعلمون أن الكرامة ثابتة عند أهل السنة قاطبة حتى الإسفرايني والقشيري المرويّ
عنهما البحث في شأن الكرامة ما أنكراها، وإنما قالا: لا تبلغ مبلغ المعجزة،
وبعضهم شرط أن لا تتوالى وتترادف ترادفًا يجعلها عادةً، وفيه نظر. وكلامنا الآن
في جواز أصل وقوعها إمكانًا وسنة، لا في عوارضها، وإرشاداتكم على طريقة
السلف الصالحين في الاعتقاد، وهل نطق بذلك أحد من أهل القرون الثلاثة؟
فتأملوا المسألة فإن خطرها كبير والمادّيّون والطبيعيون بالمرصاد، فإذا سمعوا علماء
المِلِّة يقولون بعدم خرق العادة فيا بشراهم يبنون على هذا الأساس الموهوم ما شاءوا؛
لأن مذهبهم انعزال الخالق جل جلاله عن التصرف في العالم استغناء بالطبيعة،
أعاذنا الله وإياكم من الضلال، وبالله تعالى التوفيق.
... ... ... ... ... ... ... محمد المكي بن عزوز بالآستانة
(المنار)
إننا لا نقول بأن ما يعبر عنه بخوارق العادات غير جائز ولا غير واقع، بل
نقول الآن كما قلنا من قبل: إنه جائز وواقع , وإن كانت الآيات التي أيد الله بها
الأنبياء ليست محصورةً في الخوارق الكونية، وقد كانت عبارة الكرامات التي
ذكرناها في المقالة التي نشرناها في جريدة الاتحاد العثماني مجملة؛ لأننا كتبناها
بعد كتابة تلك المقالة فأودعناها بين سطورها في المكان اللائق بها ثم جعلناها
ذيلاً لها، فكان إيجازها هو السبب في إجمالها، ولم نَرَ بذلك بأسًا؛ لأننا أحلنا على
ما سبق لنا من التفصيل الذي يبين مرادنا. وفي تلك المقالات التي نشرت في المجلد
الثاني والمجلد السادس بيان مستفيض لكل ما ألَمَّ به صاحب هذه الرسالة، ومنه
البحث في تأييد الدين بالخوارق، وفي عَدّ كثير من علماء الدنيا إياها شبهات على
الدين ومنفرات عنه، فعسى أن يطلع عليها كلها ثم يبين لنا رأيه فيها. وإننا ننقل
الآن له شيئًا منها يتعلق بمرادنا من قولنا إن الكرامات لا تكون مغيرة لسنن الله تعالى.
كتبنا في المقالة الثامنة من مقالات (الكرامات والخوارق) التي نشرناها في
الجزء الأول من المجلد السادس الذي صدر في غرة المحرم سنة 1321 ما نصه
(ص 17) .
أما البحث في آيات الأنبياء , كيف وجدت , وهل كانت كلها بمحض قدرة الله
تعالى التي قامت بها السماوات والأرض أم كانت لها سنن رُوحانية خفية عن
الجمهور خصهم الله تعالى بها كما خصهم بالوحي الذي هو علم خفي عن الجمهور؟
فكل ذلك مما لا يفيد البحث فيه بل ربما كان ضارًّا. ومبلغ العلم فيها أنها كما قال
ابن رشد: قد وجدت ونقلت نقلاً متواترًا اعترف به المؤمنون بهم والكافرون الذين
سموها سحرًا؛ لجهلهم بالتفرقة بينها وبين تلك الشعوذات والحيل الباطلة. وفي
شرح المواقف أن المعجزة كل ما يراد به إثبات النبوة , وإن لم يكن من الخوارق.
(فعلم بهذا أن آيات الأنبياء عليهم السلام مصونة من إنكار المنكرين،
واعتراض الواهمين، وأنها قد انتهت فلا يخشى أن يضر الاعتقاد بها في الزمن
الحاضر وما بعده، كما أنه لم يضر في الماضي وإنما كان نافعًا) . اهـ من
سياق الكلام في مبحث تنفير الخوارق عن الدين.
وذكرنا في المقالة التاسعة التي نشرت في الجزء الثاني من ذلك المجلد (ص
55 م 6) عدة مسائل في الموضوع، الأولى منها في سنن الكون وكونها عامّة في
ارتباط الأسباب والمسببات، والثانية في كون الظن لا يعارض اليقين، والثالثة في
كون روايات الآحاد تفيد الظن، والرابعة في كون العجائب والخوارق قد نقلت عن
جميع الأمم، ووجوب تمحيص النقول وتحريرها، والخامسة في تمحيص المروي
(ليعلم أنه واقع حقيقة ولم يكن تخييلاً للأنظار، أو خداعًا للأبصار أو الأفكار) وهذا
نص السادسة:
قد كشف العلم أسبابًا لأمور كثيرة كانت تُسَمَّى خوارقَ وكراماتٍ، فإذا علم بعد
تمحيص الرواية والمروي أن شيئًا من هذه الغرائب وقع لا محالة , فينبغي الرجوع
لالتماس الأسباب من مظانِّها في العلم الطبيعي وعلم النفس، فإن لم يظهر له سبب
يحمل عليه، ولا وجه يمكن أن يئول إليه، فهو الذي يصح أن يسمى خارقة أو
أعجوبة، والنظر فيه من وجهين: حال من ظهر على يده، وإمكان قياسه على
غيره ثم بَيَّنا ذلك والغرض منه - كما لا يخفى - تنبيه الناس لحيل الدجالين، وجذب
مبغضي الخوارق إلى الدين، ولذلك قلنا في المسألة العاشرة (ص 59 م 6) ما
نصه:
(إذا فرضنا أن العلم أظهر لما يؤثر من المعجزات عللاً روحانية، وأسبابًا
خفية) ؛ أي كما يعتقد منكرو الخوارق الآن، فلا يهمن واهم أن ذلك قدح في النبوة
أو ظهور لبطلانها، كلا إن تحقق (تأمل) فلا يبعد أن يكون تحققه مظهرًا لحقية
النبوة، كأن يتبين أن الأرواح العالية تتصل بالعالم الأعلى وتستمد من عالمه الذي
يسمى الملائكة قوةَ العلم والهداية وقوة الأعمال الغريبة، كإحياء الموتى وقلب العصا
حيةً. فإن لم يتبين به صدقها فلا وجه لظهور عدمه؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام ما كانوا يدعون أن الآيات التي يؤيدهم الله تعالى بها خارجة من سننه
الظاهرة والخفية، وما كانوا يدعون أن لهم سلطانًا في ملك الله تعالى يتصرفون فيه
بمشيئتهم وإرادتهم كما شاءوا وكيفما شاءوا، وإنما كانوا يتبرءون من حولهم وقوتهم
ويسندون ما يؤيدهم الله سبحانه به إليه، ويقولون: إنه واقع بإذنه، وقد كان
اعتمادهم في دعوتهم إلى الله على البرهان، وكانوا لا يُعْطَوْنَ الآيات إلا بعد معاندة
ومجاحدة من قومهم وإلحاح في طلب آية لا يعرف مثلها عن البشر في أفعالهم
السببية، وكان الله تعالى يقيم عليهم الحجة التي يطلبونها , ولم تكن هي العمدة في
إثبات الدعوة إلى الله وبيان وحدانيته وقدرته وعلمه ووحيه {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن
قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم
بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا
تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ
لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن
تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ
مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ
اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (إبراهيم: 9-11) فهذه سنة الله في الأنبياء
والأمم: يدعو النبي قومه إلى الله بالبينة، وهي كل ما يتبين به الحق من برهان
عقلي ودليل إقناعي، فيطلبون منه آيةً كونيةً فيتبرأ من حوله وقوته إلى حول الله
وقوته، فيعطيه آية يخوفهم بها فيخضع المستعد لقبول ذلك، ويعاند الآخرون فتحقّ
عليهم كلمة العذاب، قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} (الإسراء:
59) .
فإذا فرضنا أن العلم أظهر سببًا معقولاً لآيات موسى عليه السلام، فهل ينافي
ذلك أنها كانت تخويفًا لفرعون وقومه وجاذبة لبني إسرائيل إلى طاعة موسى
بالإرهاب اللائق بأمثالهم في بلادتهم وجفوتهم؟
(نعم إن ما يتوقع كشفه بالعلم سيكون القاضي على بقايا دين لا يحتج على
صحته إلا بالعجائب وليس لأصحابه برهان على عقائدهم، ولا سند متواتر على
صحة كتابهم، أولئك الذين ينعقون في كل بلاد إسلامية: إن القرآن لم يُثْبِت لمحمد
- عليه أفضل الصلاة والسلام - العجائب والخوارق فهو ليس بنبي ودعوته ليست
صحيحةً! ! فالعلم الإلهي والشرائع الدينية والمدنية والحربية والسياسية وتكوين
الأمم وتربيتها من رجل أُمِّي تَرَبَّى يتيمًا في جاهلية جهلاء وأمة أمية لا يرونه تأييدًا
إلهيًّا، وبرهانًا على صدقه قطعيًّا، وإنما البرهان عندهم هو تلك الحكايات التي
ينقلونها في عجائب مقدسيهم وينقل الوثنيون عن كهنتهم أعظم منها) اهـ
ومنه يعلم أخونا صاحب الرسالة مرمانا في هذه المباحث، وأنها تأييد دعوة
الأنبياء ومحاجّة منكري آياتهم ومعجزاتهم، فهل يخاف بعد هذا أن يكون كلامنا
حجة لهم؟ ؟ ولا يحسبن أننا نصور شبهًا لم ترد علينا كما فعل كثير من علمائنا
كالرازي وغيره. كلا , إننا نرد على قوم موجودين وشبهات كثر الحديث فيها.
وهاك نص المسألة الثانية عشرة (ص 61 م 6) :
(سبق في المقالات الأولى أن أصحابنا فرقوا بين معجزة النبي وكرامة الولي،
بأن الأولى لا بد أن تكون مقرونة بدعوى النبوة وطلب المعارضة الذي يسمونه
التحدي، والثانية لا تكون كذلك. وبأن الأولى يجب إظهارها لإقامة الحجة،
والثانية يجب إخفاؤها خوف الفتنة، وزاد بعضهم، كالقشيري من أئمة الصوفية
والسبكي في الطبقات الكبرى أن الكرامة لا تبلغ مبلغ المعجزة، كإحياء الموتى،
وإنما تكون فيما دون ذلك كشفاء مريض ومكاشفة خلافًا للقول المشهور: ما جاز أن
يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي. ولقائل أن يقول جمعًا بين القولين:
إذا جاز ذلك في تصور العقل , فإنه ما وقع ولا يقع بالفعل) اهـ
هذا وقد بحثنا في مسألة الخوارق والسنن الإلهية في غير هذه المقالات
كدروس الأمالي الدينية في العقائد، وبينا أن السنن منها ما يتعلق بالعالم المادي،
ومنها ما يتعلق بالعالم الروحاني، وأن من يقول: إن آيات الأنبياء والكرامات لا
تخالف سنن الله تعالى فمراده سننه العامة؛ لأن مخالفتها للسنن المادية قد شوهد في
زمن ظهورها ونطق به الكتاب المعصوم، وهذا الذي أوردناه هنا يكفي لتفصيل ما
رآه أخونا الكريم صاحب الرسالة في مقالتنا التي نشرناها في جريدة الاتحاد العثماني.
وإنا نشكر له فضله وعنايته بما كتبنا ومراجعتنا فيما أنكره منه، فعسى أن
يكون الشكر مَدْعَاة المزيد من مثل هذه المراجعة المفيدة، ومثله أهل لذلك. فحيا الله
العلماء المنصفين، وجعل سيرتهم عبرةً يستفيد منها الناس، التفرقة بين علماء
الآخرة وعلماء السوء، الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فإذا رأوا
عبارة يمكن انتقادها لإجمال فيها وغموض، أو لكونها خطأً لصدورها عن غير
معصوم، أخذوا يشنعون ويغتابون، ولكنهم لا ينبهون صاحبها ولا ينصحون، وإن
لم يجدوا ذلك استنبطوا واخترعوا، وتقوَّلوا وكذبوا.
إن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا ... شرًّا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا
_______________________(11/911)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
صدى حادثة الشام
جاءنا هذا الرقيم من أحد علماء تونس المصلحين، وقد سأَلَنا نشره في المنار
وإننا ننشره إجابة لسؤله مع الشكر له ولأولئك الذين يحسنون بنا الظن، قال:
أيها السيد الكريم:
من ذا الذي يعلم خدمتك للملة، وجهادك في سبيل ترقية الأمة، ثم لا يسجد لله
شكرًا على ما نجاك ممن أراد بك كيدا؟ فهنيئًا للعلم والحكمة، بما أسبغ الله عليهما
من النعمة.
ولقد رأيت المصطفين الأخيار، من نابتة هذه الديار، فرحين بما آتاهم الله من
فضله وأفاض عليهم من طوله؛ إذ حفظ زعيم هذه الأمة، الداعي إلى سبيل ربه
بالموعظة الحسنة والحكمة.
وإني لأَذْكُر بهذه الحادثة ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أُحد من
عمر بن قميئة، وأحب أن يذكر ذلك أسرى الأوهام (حيثما كانوا) ممن يرون هذه
الحادثة أثرًا من آثار تحرج الدين عليك، وانتظاره الفرص للانتقام منك! كلا والله،
إنك لمن أحب الناس إليه، وأكرمهم عليه، ولو تمثّل لهم بشرًا لرأوه يحمد الله حمدًا
كثيرًا، ويشكره بكرة وأصيلا، على أن الحادثة - بفضل الله - لم تزد درجتك إلا
ارتفاعًا، وصيتك إلا اشتهارًا؛ ولكنهم يفهمون الشرف مقلوبًا، والمجد معكوسًا.
فيا لله والدين والإنسانية، وطلاب الإصلاح من نبغاء الجمعية البشرية، من
هؤلاء الذين يَهْرِفون بما لا يعرفون، ويلقبون أنفسهم بالفهماء وهم لا يفهمون،
ويحسبون أنهم على شيء، ألا إنهم هم الكاذبون.
وإنا نشكر للمنار الزاهر فضله في تبديد حزبهم، وتمزيق شملهم، والإِجْهَاز
على مذهبهم حتى أصبحت كلمة الحق هي العليا، وكلمة الباطل هي السفلى، وازداد
إيماننا بما قال الله في كتابه: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ
السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ
يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي
الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) .
والله يحفظك لحماية دينه والدعوة إلى سبيله، والسلام.
__________(11/917)
الكاتب: حسين وصفي رضا
__________
الانقلاب العثماني
طبعت رسالة الانقلاب بمطبعة المنار في كتاب مستقل [1] وهذا نص المقدمة
التي كتبها له شقيقنا السيد حسين وصفي رضا:
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159)
{َأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38)
{وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ} (يس: 2)
كانت الدولة العثمانية منذ أسسها السلطان عثمان، ذلك الرجل المدبر
العصامي، إلى نهاية أيام السلطان عبد المجيد العاقل الأبي، دولة حربية بحتة،
شادت بناءَ عظمتها على أسس الإقدام والشجاعة والغلب، فلم يمض زمن كبير
حتى أصبحت من الدول ذوات البأس اللائي يتقى غضبهن، وتخطب مودتهن،
فأمعنت في الفتوحات، واسترسلت في الغزوات، وقلما كانت ترجع من غزوة
إلا وبنود الفلج تخفق فوق رأسها، ورايات الظفر تتمايل في أيدي رجالها الكماة
صلفًا وفخرًا، فعز مكانها، وتطاول بنيانها، واتسع ملكها، حتى تغلغلت في
أحشاء أوربا، بعد أن استحوذت على آسيا الصغرى وجزء كبير من إفريقيا.
كانت سريعة الخطى في هذه السبيل، فسادت وشادت، وبنت على أطلال
الدولة السلجوقية دولة عظيمة قوية، وما كان العظم في تلك العصور التي يسمونها
العصور المظلمة إلا بقوة المِرَاس، وثبات الجأش، والنشوء بين صليل السيوف،
ومزاحف الصفوف.
أخذ بعضدها فاتح القسطنطينية وكان تقيًّا صالحًا، فأناف بها على اليفاع،
وتوقل بها سَنِيّ المراتب، ناهيك بمالك القسطنطينية إذا كان خَيِّرًا عادلاً، ومازالت
تتدرج في منازل العظمة، ومواطن السؤدد، حتى كانت أيام السلطان سليمان
القانوني، وفيها بلغت آخر مدى ووقفت عند منتهى الغاي، وهو صاحب الفضل في
جعلها حكومة نظامية قانونية، بعد أن كانت تجري على تقاليدَ محفوظةٍ، لا غناء
بها، ولا نظام لها، ومن ذلك الحين دب الضعف في جسمها، وكان إهمال أولي
الأمر وجهلهم وسومهم الرعية سوء العذاب مساعدًا على نماء الضعف، وسريانه في
جسم الدولة، إلى أن تولى السلطان محمود الثاني، ذلك المحب للإصلاح، والدولة
على شفا جُرُف هارٍ ينذرها بالاضمحلال والفناء، ألفاها وقد فقدت تلك القوة التي
كانت تباهي بها، ولم تضرب بسهم في العلم الذي أصبح السلاح القاطع والقوة
الكبرى في ذلك الحين وهذا الحين، فقوم منآدها بما في وسعه، وأصلح فاسدها بما
في طوقه، ومما يذكر له بالثناء عليه تنكيله بالإنكشارية الذين كان زمام الملك في
يدهم لذلك العهد، وكانوا من أشد العوامل في إفساد الدولة وإضعافها.
ثم تولى الملك السلطان عبد المجيد، والدولة في قلاقل داخلية، ومشكلات
خارجية، تضعف الرجاء في إقالتها من عثرتها، وإنهاضها من كبوتها، بله
إرجاعها إلى سابق عزها، وسالف مجدها، فأخذ بضبعها، وحدد للحكومة وظائفها،
وبيَّن للرعية حقوقها، ويكفيه فخرًا أنه هو الواضع لخط (كلخانه) المعروف.
لم يكد عبد المجيد يوارى في رمسه حتى قام السلطان عبد العزيز، وهو الذي
زين له حب الشهوات، وأولع بحب السيطرة، وأشرب قلبه القسوة، ينكث فتل
سلفه، ويصدع رأب سابقه، وكان عونًا له على هذا التخريب وزيره محمود نديم
باشا، حبيب (أغناتيف) السفير الروسي في ذلك العهد، ومنفذ غايه ومقاصده.
ثم جلس على سرير الملك السلطان عبد الحميد الثاني، بعد أن تولى الملك
السلطان مراد مُدَّةً لم تتجاوز ثلاثة وتسعين يومًا، ولم يكد يستقر على السرير حتى
أحاط به جمهور من الأحرار، وزينوا له أن يسير على سنن أوربا، فتكون حكومته
دستورية حرة، وكان مدحت باشا هو الرأس المدبر لهذه الحركة، واليد العاملة فيها،
ولم تكد تقر عيونهم بتحقيق الرغيبة، حتى فوجئوا بالنفي والإبعاد، وإلقائهم في
غيابة السجون، وإغراقهم في لجج البوسفور! ! !
ابتدأت المظالم منذ ذلك الحين تحارب الأمة في جميع مقومات الحياة، والتف
حول السلطان فريق من الجواسيس {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} (النساء: 77) فطفقوا يرضون المخلوق بما يسخط الخالق، وافترعوا ضروبًا من
الظلم، وأفانين من الإرهاق والتضييق، كانوا يصولون بها على الأمة صيال
الوحوش الضارية، والطيور الكاسرة ذوات المخالب، وامتد بهم الإفساد إلى أن
سلطوا بعض رجال الأمة على بعض، ففتوا في عضدها، وأفسدوا أخلاقها، حتى
بات الابن يخشى أن يأتيه الضر من قبل أبيه، والأخ يتوقع أن يحيق به البلاء من
ناحية أخيه، وكان العلم أخوف ما يخافونه، فنكلوا برجاله شر تنكيل، ففر منهم من
أفلت من ظلمهم إلى أوربا وأمريكا ومصر.
كان الأحرار في غضون هذه الملمات والكوارث النازلة بأمتهم قد أجمعوا
أمرهم سرًّا وأنشأوا الجمعيات السياسية في بلاد الحرية التي تبوءوها، ونشروا
الجرائد والكتب والرسائل، وكلها تنديد بالحال الحاضرة، وغلا في ذلك قوم
واستخذى آخرون، حتى قام فريق من الشبان في الآستانة - ومعظمهم من طلاب
المدرسة الطبية والمتخرجين فيها - فأسسوا جمعية الاتحاد والترقي منذ ثماني عشرة
سنة، ثم نمت وعظمت بعد ذلك، وانتظم في سلكها كثيرون من كبار الأحرار
وخيار العقلاء. وقد كان لرجالها تكتم غريب، وتحفظ شديد، وحزم عظيم، كانت
بدايته السلامة من صولة الجواسيس، ونهايته ذلك الفوز الكبير والنصر المبين، إذ
قاموا بقلب أعرق حكومة في الاستبداد إلى حكومة دستورية حرة، من دون أن تُرَاقَ
في سبيل ذلك نقطة دم، مع أن المسطور في التواريخ أن مثل هذا الانقلاب لم تصل
أمة إلى ساحله إلا بعد خوضها في بحر لجي من الدم.
لم تكن دهشة الأمة العثمانية وإعجابها بهذا الانقلاب بأكثر من دهشة سائر
الأمم الأخرى، فقد تجاوزت صيحات (نيازي) و (أنور) بلاد الدولة العلية إلى
مدن أوربا وغيرها، فالتفتت مذعورة حائرة من هذا المصير العجيب الذي ما كان
يخطر لها ببال، ولا يزال الناس فيها وفي غيرها من بلاد الدنيا معجبين بهذا
الانقلاب الذي لم يع التاريخ في صدره له ضريعًا، حائرين في أسبابه ومقدماته،
حتى قام اليوم الكاتب السياسي، والأديب الألمعي، صديقنا محمد روحي بك الخالدي،
عضو القدس الشريف في مجلس النواب العثماني - بتأليف رسالة جليلة في هذا
الموضوع، أماط فيها اللِّثَام عن الأسباب المجهولة، والحقائق المخدرة، وقد بحث
فيها بحثًا فلسفيًّا في أصل الاستبداد ونشوئه، وشكل الحكومة العثمانية في بدء
تأسيسها، وبيان تقاليدها الموروثة ونظاماتها المكتسبة، وشيوع الخلل في إدارة
الدولة واستبداد أولي الأمر فيها، مما أدى بها إلى شر حالة، وكان سببًا في قيام
الأحرار ومطالبتهم بالإصلاح، وأفاض القول في شئون الأحرار وتاريخ ظهورهم،
وبيان الطرق التي سلكوها ليصلوا إلى مقاصدهم، مع تراجم لمشهوريهم.
جال المؤلف في ذلك جولة المؤرخ الواقف على الحقائق، واستنتج من
الحوادث التي سردها أن الانقلاب هو النتيجة التي لا بد منها لتلك المقدمات التي
سبقته، فكان ما كتبه جديرًا بأن يكون رائدًا لمن يأنس في نفسه شغفًا إلى اسْتِكْنَاه
تلك الغوامض التي أدهشت العالم، وقلبت كيان السياسة، وأي قارئ ليس شغوفًا
بذلك؟
نشرت الرسالة في مجلة (المنار) فكانت موضع استحسان العلماء العقلاء،
والكتاب الأَبْيِنَاءِ، وكان بدا لي أن أستأذن مؤلفها في طبعها على حدة لتكون كتابًا
مستقلاًّ تلذ مطالعته، وتسهل مراجعته، فكتبت إليه راغبًا في ذلك، فرجع القول
ملبيًا الطلب، سامحًا بتنقيح ما لا تسلم منه كتابة المتسرع، ولا سيما إذا كان كمؤلفنا
لم يتح له أن يعيد النظر على ما كتب.
وإني أزفها اليوم إلى الناطقين بالضاد مطبوعة طبعًا صحيحًا، رجاء أن
يستفيدوا من تحقيق مؤلفها، ويقفوا على أسباب ذلك الانقلاب العجيب. وخليق بأهل
هذا القطر الذين شغفوا بالدستور، وقد ضلوا طريقه، ولم يهتدوا إلى بابه، أن
يمعنوا في معانيها، ويتبينوا مراميها، عسى أن يتأسوا بأولئك الأحرار، ويكونوا
من خير المحتذين لهم في هذه الديار.
... ... ... ... ... القاهرة في سلخ ذي القعدة سنة 1326
... ... ... ... ... ... ... ... حسين وصفي رضا
__________
(1) بلغت صفحاته 182 بالقطع الصغير وهو يباع بثلاثة قروش صحيحة في مكتبتي المنار بمصر وطرابلس.(11/919)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ والانتقاد
حالت كثرة المواد في أجزاء المجلة الأخيرة دون التنويه بالكتب التي أهديت
إلينا، وذكر المجلات والجرائد التي صدرت في هذه الفترة، ولما كان هذا الجزء
هو آخر أجزاء السنة التي أهديت إلينا فيها تلك المطبوعات، رأينا أن ننوه بها على
سبيل الاختصار، وربما نعود إلى الكلام على ما يستدعي منها الكلام في السنة
الثانية عشرة:
الكتب
(تاريخ مشروع السكة الحجازية)
ألّفه صديقنا الشيخ محمد إنشاء الله، صاحب جريدة (وطن) الهندية الشهيرة في
ثلاث لغات: الأوردية والعربية والإنكليزية، وهو تاريخ مفصل لهذا المشروع
الجليل.
(إتمام الوفاء)
مؤلفه الشيخ محمد الخضري، المدرس في مدرسة القضاء الشرعي، وهو
يحتوي على سيرة الخلفاء الراشدين، وقد جعله مؤلفه قسمين: قسمًا سماه عصر
اتحاد الكلمة، وقد ذكر فيه الفتوحات ونبذة من نظامات الأمة الإسلامية في ذلك
الحين، وقسمًا سماه عصر الفتن، وهو ما كان في أيام الخليفتين عثمان وعلي
(رضي الله عنهما) .
والكتاب يقع في 339 صفحة بالقطع الصغير، ويباع بخمسة قروش في جميع
المكتبات.
(تاريخ إسلاميت)
مؤلفه الدكتور. ر. دوزي الهولاندي، أحد علماء المشرقيات الأعلام، ومن
أعضاء المجامع العلمية في أوربا، وهو كتاب جليل ترجمه باللغة التركية الدكتور
عبد الله بك جودت، منشئ مجلة (اجتهاد) وصفحاته 334.
(المنهج المسلوك)
ألّفه الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله، من علماء القرن السادس للملك الناصر
صلاح الدين يوسف، وقد طبع على نفقة أحمد زكي أفندي أبو شادي ومحمد رشدي
أفندي الخبير بالمحاكم الأهلية، وهو يطلب منهما، وصفحاته 140 بقطع المنار.
(تأويل مختلف الحديث)
هذا الكتاب من نفائس الكتب، وضعه الإمام ابن قتيبة الدينوريّ، من أهل
القرن الثالث (في الرد على أعداء أهل الحديث والجمع بين الأخبار التي ادّعوا
عليها والاختلاف والجواب عما أوردوه من الشبه على بعض الأخبار المتشابهة أو
المشكلة بادي الرأي) ، وقد طبعه الشيخ زكي فرج الله الكردي بعد أن صححه بقلم
الشيخ جمال الدين القاسمي الشهير، وحَسْب الكتاب ثقة أن يكون مصححًا بقلم هذين
العالمين، ويطلب من طابعه بمصر.
(ثمار القلوب)
مؤلفه الإمام أبو منصور الثعالبي، صاحب يتيمة الدهر وفقه اللغة، وهو من
كتب الأدب التي يرغب فيها، ومن ذا الذي لا يرغب في كتب الثعالبي من الأدباء؟
والكتاب يقع في 560 صفحة، مطبوع طبعًا نظيفًا على ورق جيد، ويطلب من
طابعه أحمد زكي أفندي أبو شادي بمصر.
(الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده)
تأليف صديقنا سليمان أفندي البستاني، العضو في مجلس المبعوثان عن ولاية
بيروت، والكتاب يحتوي على فصول كثيرة من آراء المؤلف ومروياته ومرثياته،
وهو مطبوع طبعًا نظيفًا على أجود ورق، وصفحاته 203، وثمنه 12 قرشًا
صاغًا، وهو يباع في جميع المكتبات، ويطلب من أسعد أفندي البستاني بشارع
صندوق الدين بمصر.
(تركيا الجديدة)
مؤلفه جميل أفندي معلوف، من مشهوري كُتَّاب السوريين في أمريكا، وقد
قسمه إلى ستة كتب: (1) أسباب الانحطاط في الشرق. (2) تفرنج الشرقيين.
(3) التعليم. (4) القانون الأساسي. (5) الديانة السياسية. (6) أبقاء أم
فناء، وختمه بفصل في حقوق الإنسان وملاحظات متفرقة.
(عفة الأولاد)
كتاب صغير يحتوي على نصائح وعظات يجدر بالنابتة أن تُعْنَى بتلاوتها
وتدبرها، ترجمه بالعربية سليم أفندي خوري (بقلم سكرتير مالي السودان) وهو
يطلب منه.
(جواهر الحكماء)
هو مجموع رسالتين، إحداهما لابن المقفع؛ والأخرى للحافظ ابن عبد البر
الأندلسي، جمعهما في كتاب واحد عوض أفندي واصف صاحب مجلة المحيط،
ويطلب منه، وثمنه ثمانية قروش.
* * *
الدواوين الشعرية والرسائل والقصص
(ديوان أحمد نسيم)
أحمد أفندي نسيم من شعراء مصر المشهورين، وقد جمع شعره في كتاب بلغت
صفحاته 139، مطبوع طبعًا نظيفًا على ورق صقيل.
(ديوان الحمويات)
نظم هذا الديوان السيد محمد الحسن الحموي، وهو يحتوي على موضوعات
شتَّى وكثير من المقاطيع، وقد طبع بالقطع الصغير، وصفحاته 208، ويطلب من
ناظمه بحلوان.
(رسالة العطور)
ترتيب محمد توفيق أفندي عطار الدمشقي، نزيل الآستانة، وهي رسالة في
علم الفرائض، سهلة العبارة، حسنة الترتيب.
(تاريخ الحرمين وبيت المقدس)
كراسة لأحمد حافظ أفندي هداية، وتطلب منه بطنطا.
(المبادئ النحوية)
رسالة في النحو مختصرة سهلة للشيخ مصطفى بكري الأسيوطي (مدرس
اللغة العربية بالمدارس الحرة) .
(فتح القيوم)
وهي ختمة مقدمة ابن آجروم للسيد محمد بن سودة، من علماء فاس.
(في سبيل الدستور الفارسي)
كراسة تحتوي على خطب وكلمات جمعها حسين أفندي إبراهيم الإيراني،
نزيل مصر.
(يوم الحساب)
هو الجزء الأول من مجلة حدائق الظاهر لصاحبها أحمد زكي أفندي أبو شادي
ومحمود أفندي عباسي، وثمنه 3 قروش.
(ربة الجمال)
قصة ترجمها باللغة العربية إسكندر أفندي خوري، وتباع بستة قروش في
المكتبة الشرقية.
* * *
المجلات والجرائد
(الشرق الأدنى The Near East)
مجلة إنكليزية مصورة تبحث في شئون الشرق الأدنى خاصّة، وتطبع على
أجود ورق، وتنشر صورًا للبلاد الشرقية ورجالها ومجالسها وغير ذلك في غاية
الإتقان، وموضوعها سياسي مالي أدبي، وهي تصدر في لندرة، وثمن الجزء منها
نصف شلن، ولم يكتب عليها اسم صاحبها أو أصحابها.
(الجنس اللطيف)
مجلة (أدبية اجتماعية لصاحبتها ومحررتها ملكة سعد) تصدر في مصر مرة
في الشهر باثنتين وثلاثين صفحة، وطبعها في غاية الجودة، وورقها صقيل
وموضوعها جليل، فخليق بالشبان والشواب التوفر على مطالعتها، وقيمة اشتراكها
أربعون قرشًا صاغًا في السنة.
(بيان الحق)
مجلة تركية تصدر في عاصمة السلطنة العثمانية، وتنشر أفكار الجمعية
العلمية الإسلامية ثمة، وهي دينية علمية سياسية أدبية، تصدر مرة في الأسبوع،
وقيمة اشتراكها في السنة 95 قرشًا صاغًا عثمانيًّا، وثمن النسخة قرش ونصف.
(المباحث)
صدرت هذه المجلة التي أشير إليها في (ص 636 م 11) وهي كما كان
ينتظر من منشِئَيْها صديقَيْنَا جرجي أفندي يني وأخيه صموئيل أفندي، فهي تدل
على علم وبحث واضطلاع، ويقع الجزء منها في 48 صفحة، وقيمة اشتراكها في
طرابلس الشام 15 فرنكًا و17 في الخارج.
(روضة المعارف)
(مجلة علمية أدبية تاريخية فكاهية إخبارية تصدر في كل خمسة عشر يومًا
مرة) في بيروت لمديرها محمد علي بك القباني، ورئيس تحريرها الأستاذ عبد
الرحمن أفندي سلام، من علماء بيروت. جاءنا الجزء الأول منها منذ شهرين،
وهو مُصَدَّر بصورة السلطان!!
وقيمة اشتراكها ريالان في بيروت , و12 فرنكًا في خارجها.
(المنتقد)
(مجلة عمرانية اجتماعية انتقادية فكاهية) تصدر في بيروت مرتين في
الشهر بالقطع الصغير، لمنشئها محمد أفندي باقر، ومديرها كمال أفندي بكداش،
وقيمة اشتراكها 35 قرشًا في بيروت , و10 فرنكات في خارجها.
(الأعمال اليدوية للسيدات)
مجلة ذات رسوم لصاحبتيها فاسيلا وأختها، وقيمة اشتراكها ستون قرشًا صاغًا
في مصر.
(القرطاس)
(مجلة علمية أدبية مدرسية تصويرية) تصدر في آخر كل شهر إفرنكي في
الإسكندرية لمديرها أحمد أفندي فائق، وقيمة اشتراكها 20 قرشًا صاغًا.
(الجامعة المصرية)
مجلة نصف شهرية مصورة تنشر محاضرات أساتذة الجامعة المصرية،
لأصحابها محمود أفندي شاهين ومحمد كامل أفندي فيضي وعبد الله أفندي أمين،
وقيمة اشتراكها مائة قرش في مصر لغير طلبة الجامعة.
(المدرسة)
(مجلة علمية أدبية تاريخية يقوم بتحريرها نخبة من كبار الأدباء والكتاب)
تصدر في الشهر مرة باثنتين وثلاثين صفحة، وقيمة اشتراكها 40 قرشًا في مصر.
(فرعون)
مجلة تبحث في شئون القبط المِلِّيَّة، وتصدر في الشهر مرتين، لمديرها
توفيق أفندي حبيب، واشتراكها 20 قرشًا في مصر.
(صحيفة)
مجلة أوردية تصدر في حيدر أباد الدكن (الهند) لمنشئها مولوي محمد أكبر
علي معتمد مجلس المعارف ثمة.
(أبو قشة)
جريدة إصلاحية أسبوعية تنشر الجد في قالب الهزل، يصدرها في تونس
السيد الهاشمي، أحد الكتاب المشهورين، وقيمة اشتراكها في السنة عشرة فرنكات.
(الحكيم)
جريدة أسبوعية (حرة تبحث في كل شيء) يصدرها في كوردوبا
(الأرجنتين) عزيز أفندي حكيم، ولها عناية خاصة بالأبحاث الفلسفية.
(شمس العدالة)
جريدة أسبوعية (سياسية فنية أدبية) أنشأها فريق من الكتاب باللغة العربية في
الآستانة، وقد سموها في هذه الأيام (شمس الحقائق) وقيمة اشتراكها ليرة
عثمانية في السنة.
(الاتحاد العثماني)
(جريدة يومية سياسية أدبية عمرانية) يصدرها في مدينة بيروت صديقنا
الشيخ أحمد حسن طباره، من مشهوري أرباب صناعة القلم، وهي من مثليات
الجرائد الراقية في سورية، وقيمة اشتراكها أربعة ريالات في بيروت، وليرة
عثمانية في سائر الجهات.
(كلمة الحق)
جريدة عربية تصدر في الآستانة ثلاث مرات في كل أسبوع، أنشأها فريق من
الكتاب وعهدوا في رياسة تحريرها إلى ج. حرفوش، وقيمة اشتراكها 25
فرنكًا في مصر والبلاد الخارجية، وأربعة ريالات في الآستانة.
(أوقيانوس)
جريدة فارسية تصدر في طهران تحت مراقبة ميرزا عبد الرحيم آلهي، وقيمة
اشتراكها 15 فرنكًا.
(الحجاز)
هي جريدة الحكومة الرسمية، تصدر باللغتين التركية والعربية، ولقد سررنا
بإنشائها سرورًا عظيمًا؛ لأنها أول جريدة أنشئت في أم القرى مكة المكرمة، وقيمة
اشتراكها 15 فرنكًا في الخارج.
(الطلبة)
(جريدة عمومية تصدر مرة كل أسبوع) مديرها عبد الحميد أفندي حمدي، وقيمة اشتراكها 50 قرشًا في مصر.
(الرغائب)
(جريدة عثمانية علمية أدبية سياسية تجارية أسبوعية) لمديرها ومحررها
حكمت بك شريف، من مشهوري الكُتَّاب في طرابلس الشام، وقيمة اشتراكها
ريالان في طرابلس , و15 فرنكًا في الخارج.
(المقتبس)
(جريدة يومية سياسية اقتصادية اجتماعية) لمنشئها ومديرها صديقنا محمد
أفندي كرد علي، الكاتب المشهور، والمقتبس من الجرائد الممتازة بتحري الصدق
والتزام النصح، والبعد عن سخيف القول ورذيلة التملق، وهي تصدر في دمشق
الشام، وقيمة اشتراكها أربعة ريالات ثمة , و25 فرنكًا في الخارج.
(المحروسة)
(جريدة يومية سياسية علمية أدبية تجارية) , والمحروسة من الجرائد القديمة
التي أبطلت منذ زمن، فأعاد إصدارها في مصر إلياس أفندي زيادة، وعهد في
رياسة تحريرها إلى الأستاذ إبراهيم أفندي الحوراني، من مشهوري علماء سورية،
وقيمة اشتراكها مائة وخمسون قرشًا صاغًا في السنة.
__________(11/923)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جواب مجلس المبعوثان
عن خطاب السلطان في افتتاح مجلس المبعوثان [*]
يا صاحب الشوكة:
إن أدوار الفتور التي حدثت على إثر أدوار الفتوحات العثمانية وتوالي ظهور
الغوائل الخارجية من جهة وسوء الاستعمالات الداخلية التي هي أشد تأثيرًا في
التخريب من جهة أخرى - كانت نتيجتها استياء جميع العناصر العثمانية، وكان من
ذلك أن والدكم المعظم قد وضع خط (كلخانه الهمايوني) الضامن للحقوق الشخصية،
والقاضي بالمساواة بين جميع العناصر العثمانية المختلفة، وبهذه الوسيلة قد
اكتسبت الدولة العثمانية حياة جديدة ملائمة للحال العصرية.
بَيْد أنه لما كان من اللازم تأمين الحقوق البشرية وضمانتها بصورة راسخة
ثابتة وكان من الضروري - صيانة لهذه الضمانة - تبديل شكل الحكومة القديم
وقبول الأصول الدستورية المستندة على حكم الأمة الأصلي - صدرت في زمن
جلوسكم السعيد إرادتكم السنية بوضع القانون الأساسي ونشره وفتح مجلس النواب
إجابةً لآمال خواص الأمة التي هي خلاصة آمال الأمة كافة.
على أن طريقة الشورى هي أصل في إدارة الحكومات، وأن صور الحكومات
التي تغاير هذا الشكل المشروع ناتجة عن تغلب الباطل على الحق والاستبداد على
العدل بصورة مؤقتة.
ثم إنه مع تصريح جلالتكم في الخط السلطاني بأن استعداد الأمة وأهليتها في
ذلك الحين مسلم بهما ومع اعترافكم بأن القانون الأساسي وضع موافقًا لذلك الاستعداد
قام بعض رجال حكومتكم وأحدثوا مشاكل وهمية متناقضة جعلوا بها مستقبل قوة هذه
الأمة العظيمة عرضةً للخطر , مدعين أنها غير أهل لصورة ولا شكل من الأشكال
التي عينها (القانون الأساسي) وعليه تفرق مجلس الأمة أيدي سبا! ! .
إن أولئك المخادعين الذين خدعوا جلالتكم بالمشكلات الوهمية التي أحدثوها،
لم يكتفوا بالتعدي على أحكام القانون الأساسي، الذي هو مناط سعادة الأمة وحريتها،
بل قد تجرءوا على بهتان آخر وهو زعمهم عدم استعداد أدمغة الأمة لهذا القانون،
فحسنوا لجلالتكم إرجاء تنفيذه مستخفين بقوة إدراك الأمة.
ولكن نشكر الله، فإن الأمة رغمًا عن المساعي التي بذلها من نِيطَ بهم نشر
العلم والمعارف في سبيل تعطيل الأدمغة وتغطية العيون، قد أدركت بحسب
استعدادها الفطري وقابليتها الطبيعية أن هذه الحال ستئول إلى الانقراض، وأنها إن
لم تَنَلْ حقوقها السياسية فلا تستطيع أن تحفظ مركزها في عالم السياسة والمدنية،
وعليه عرضت لجلالتكم الآمال العامة.
ونحمد الله على أن جلالتكم قد أدركت كل الإدراك الخطر المحدق بالدولة الذي
لم يستر إلا عن أبصار الرؤساء ورجال الحكومة، فعرفتم ما ينتج للدولة والمملكة
بسبب اطمئنان الأفكار العامة من السعادة في الحال والاستقبال، فأصدرتم الأمر
السلطاني القاضي بالدعوة إلى افتتاح مجلس الأمة وإعادة الانتخاب، موافقةً لأحكام
القانون الأساسي بالرغم عن آراء المخالفين لفتحه؛ ولذلك فإن الأمة تشكر لجلالتكم
هذا الشعور الذي كان سببًا لإنقاذ الدولة العثمانية من انقراض محقق , وسَوْقها إلى
طريق الترقي والسعادة.
ولو أنكم تغلبتم قبلاً على خداع أرباب الغايات لكانت الأراضي الغامرة
الموجودة في أطراف المملكة قد أصبحت في خلال الثلاثين سنةً الماضية أراضيَ
عامرةً، ولَكُنَّا في ارتقاء وعلاء بدل التدني والانحطاط، ولما كانت الشرذمة القليلة
التي استفادت من الاستبداد فتحت في قلب الأمة جرحًا كاد يصير قرحًا، ولكان
الوطن نال الرفاهة والسعادة من كل الوجوه، ولكانت الدولة العثمانية استقرت في
مركزها السياسي اللائق بها أمام الدول منذ زمن مديد.
إن الأمة العثمانية تشارك جلالتكم في الأسف الذي أظهرتموه بسبب إعلان
إمارة بلغاريا استقلالها، وضم النمسا ولايتي البوسنة والهرسك إلى أملاكها، وهما
الولايتان اللتان كانت تديرهما مؤقتًا بموجب ميثاق دولي؛ لأن الأمة العثمانية كانت
في دور انقلابها السعيد تقطع الطرق السياسية بصورة سلمية، وتربي صميم الآمال
لتكون مظهرًا لمؤازرة الدول المتمدنة وأهلاً لانعطافها في حياتها الدستورية الجديدة.
إن هذه الحوادث السياسية التي هي إرث مشئوم من سيئات الماضي المديد
سيبذل مجلسنا النيابي كل الوسائل التي يحفظ بها شرف حقوق الدولة لحلها، وسيقوم
بجميع المساعدات اللازمة لمجلس الوكلاء المحرز ثقة الأمة والمسئول أمام مجلسها
النيابي.
إن خطة مجلسنا ستكون دائرةً على إدامة حسن العلاقات بين الدولة العثمانية
وجميع الدول، وإن الأمة التي أحدثت في الدولة هذا الانقلاب السلمي الداخلي
ستُرِي العالم أجمع بأن سياستها الخارجية مؤيدة للسلم.
وإن آمالنا معقودة بأن دولتنا سترتقي بفضل خطتها السلمية إلى الدرجة التي
تليق بدولة عظيمة الشأن أمام الهيئة الدولية، وأنها ستكون جديرةً بالاستفادة من
الحقوق الدولية على وجهها، كما أنها ستكون مرعية الجانب أهلاً لمحبة الدول كافة،
وإنا نتوقع أن تنتهي المسائل السياسية الحاضرة على وجه حسن بمؤازرة الدول
المعظمة التي ثبتت لها خطتنا السلمية ونيتنا السليمة.
إن مجلسنا سيبذل الجهد بتنظيم الأمور المالية التي هي من أهم المسائل
الداخلية، وسيكون رقيبًا صادقًا على الواردات، ومسيطرًا غيورًا على الصادرات،
وسيمنع بتةً إعطاء درهم واحد من الخزانة على غير وجهه، كما أنه سيمنع أيضًا
أخذ بارة واحدة من أفراد الأمة بغير وجه مشروع، مقتحمًا في هذه السبيل كل
المصاعب التي سيلاقيها في أمر ضبط الواردات والصادرات، وذلك بسبب النتيجة
الأليمة التي أنتجها الإسراف والتبذير في الماضي بصورة لم يعهد لها نظير في
تاريخ الأمة، حتى يتسنَّى لدولتنا أن تكتسب لقب دولة مقتصدة تدير أمورها على
القواعد المالية، وترفع عنها لقب دولة سفيهة مبذرة! !
وإننا نرى من الأمور الهامة الواجبة بذل الجهد بتوطيد الأمن وتأييد رفاهة
العناصر المختلفة المؤلفة منها دولتنا، وصيانة الحقوق العامّة بإجراء العدالة
مجراها، والمحافظة على جريان القضاء بكل استقلال، وفتح المدارس في جميع
أنحاء المملكة، وإصلاح حال الموجود منها، وتربية أبناء الوطن تربيةً وطنيةً
دستوريةً، وتزييد الوسائل النقلية وفتح الطرق والمعابر لتسهيل نقل
الصادرات والواردات، وترقية حال الصناعة والزراعة وتوسيع نطاق التجارة.
ومن الضروريات تعزيز القوتين البريّة والبَحْرِيّة لِتكونا بدرجة مناسبة لموقعنا
الجغرافي، ولِيتسنّى لنا بهما المحافظة على حقوقنا المشروعة وحكومتنا المقيدة، لا
للتعدي على حقوق الغير.
ولهذه الأمور الحيوية المذكورة سنبذل الجهد بتدقيق التقارير التي قدمت من
الحكومة لمجلسنا، ونضع القوانين الموافقة لبلادنا وأمتنا.
وإنا مع الشكر لجلالتكم على عزمكم القطعيّ الثابت على إدارة المملكة بموجب
أحكام القانون الأساسي، الكافل الحقيقي لسعادة الأمة نؤكد لجلالتكم بأن عزم الأمة
الحقيقي على صيانة القانون الأساسي ثابت راسخ لا تزعزعه أيَّةُ قوةٍ مهما عظمت،
كما أننا نعرض لجلالتكم ما خالج أفئدتنا من الابتهاج والسرور برؤية شخصكم الكريم
ماثلاً أمام نواب الأمة، مما جاء دليلاً على رفع الحواجز والحوائل بينكم وبين الأمة.
إن قلبنا لا يشعر بغير محبة الأمة والوطن، وكل آمالنا الاشتغال لخير الملك
والأمة، ورائدنا في ذلك مصباح المساواة والاتحاد، وغايتنا الحق والعدل، وقد
عاهدنا ثلاثين مليونًا من العالم على المحافظة على حقوقهم ولا نخاف في القيام بعهد
وكالتنا غير توبيخ الوجدان وخوف الرحمن، ومن جعل الحق وجهته فالله يعينه
ويؤيده.
جواب مجلس الأعيان
يا سُلْطَانَنَا:
كانت أعضاء الأعيان كلها آذانًا مصغية , وقلوبًا واعيةً لذلك الخطاب الذي
فُهْتُمْ به يوم افتتاح مجلس الأمة المؤلف من الأعيان والمبعوثين.
انقضى ذلك الزمن الذي أصيبت فيه الحكومة بأدواء الخلل، فزالت بزواله
تلك البرازخ التي كانت حائلةً دون اختلاط السلطان بالشعب، وتوثيق الروابط
بينهما، وكانت تلك الحوائل لأغراض شخصية، فالشعب اليوم يرى نفسه مغبوطًا
برؤية سلطانه وسماع خطابه بواسطة المبعوثين والأعيان، ذلك الخطاب الذي ضمن
فيه الدستور، فلنا الشرف أن نرفع لجلالتكم واجبَ الشكر الصادر عن هذا الأمر
السارّ.
والحكومة الشورية تقوم على هذا الأسّ المتين الكافل لجميع الحقوق وليس
هناك ضامن لتثبيت السلطة العليا وتنزيهها عن التبعة إلا حفظ ذلك الأساس المتين.
لذلك تحقق العزم الوارد في الخطاب، والموجه إلى الشعب والعالم بأسره،
وهو الإشارة إلى حفظ القانون الأساسي بالميثاق البات، وإنا نقابل ذلك بالحمد
والثناء الجميل.
إن ما ورد في الخطاب السلطاني من الأمل في بذل الهمة والمساعي لإنجاح
المداولات بين الدول الموقعة على عهدة برلين بشأن البوسنه والهرسك والبلغار -
ذلك كله - من مهمات السلطة التنفيذية، ولنا الأمل الوطيد بقيام الوزارة خير قيام
بمهماتها، وإنا نضيف إلى ذلك الأمل النظر في مسألة كريد.
نحن في حاجة عظيمة إلى الثقة بنا، ولا يتم لنا ذلك إلا بنجاح حقيقي في
النظام الإداري والعسكري، ويعوزنا بذل المساعي العظيمة لنحفظ مؤازرة
الحكومات، ولتكون لنا مدنيةٌ صحيحةٌ ثابتةٌ.
إن المساواةَ بين الأفراد والعدل بين أفراد الأمة وجماعاتها وتعليم الشعب
وتهذيبه حسب حاجات الزمان على نمط الشعوب المتمدنة والاعتماد المالي الصحيح
وضمانة حال البلاد مِن حيثُ الاقتصادُ وتعزيزُ القوة العسكرية - كل ذلك من الأمور
الضرورية التي لا تقبل التسويف والتأجيل.
وإن ثقتنا كلها موضوعةٌ في مجلس الأمة (المبعوثان) وآمالنا بمساعيهم
الحكيمة محققة، وسنرى منهم مشروعات وقوانين تضمن لنا وتسهل بلوغ الأماني
المشار إليها، وبذلك يكون للأمة والبلاد مستقبل زاهر سليم من كل شائبة.
ومن الضروري ألا تقصر السلطة التشريعية التي هي مؤلفة من الأعيان
والمبعوثين في العناية بالمسائل الحقيقية لوضع قوانينَ تسير البلاد بسببها في سبيل
التقدم والنجاح، ولا ريبَ عندنا بأن مساعي الوزارة التي يناط بها التنفيذ ستنضم
إلى هذه المساعي، وحينئذٍ ننال السعادةَ التامةَ التي نطلبها، وهي ذلك الغرض الذي
يرمي إليه المصلحون من أبناء الوطن.
وإنا نختم عريضتنا هذه بتكرار الشكر لجلالتكم لتعهدكم وعزمكم الأكيد على
حفظ شكل الحكومة الشورية، ونؤكد لجلالتكم أن مجلس الأعيان يبذل جهده في
قيامه بواجب حفظ الدستور الذي يرى حفظه من أقدس الواجبات.
وإنا نعرض لجلالتكم بأن مجلس الأعيان يقوم نحوكم ونحو الأمة بكل ما يجب
عليه من الإخلاص التام.
__________
(*) نشرنا في (ص 879) من الجزء الماضي خطاب السلطان في افتتاح مجلس المبعوثان، وإننا ننشر الآن جواب مجلس المبعوثان، وجواب مجلس الأعيان منه.(11/930)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رحلة صاحب المنار في سوريا
(3)
(دمشق الشام)
عدت في 23 رمضان إلى بيروت، وفاءً بوعدي لأصدقائي وللوالي، فأقمت
فيها أربعة أيام، كنت ألقي في كل يوم منها درسًا دينيًّا بعد العصر في أحد المساجد،
وفي اليوم الأخير استبدلت بالدرس خطبةً سياسيةً في حظيرة الموقع العسكري،
إجابةً لطلب الكثيرين.
وفي صبيحة الخميس 27 منه، ركبت القطار الحديدي إلى دمشق، وهو
قطار رديء، الدرجة الأولى منه دون الدرجة الثانية من القطار الذي بين رياق
وحِمْص، فبلغ بنا محطة دمشق قبيل المغرب، فإذا بانتظارنا صديقنا الكريم عثمان
بك العظم وجمهور ممن نعرف ومن لم نعرف من المحبين العلماء والوجهاء، نخص
منهم بالذكر أعلم علماء الشام الأستاذ الأكبر بركة الوقت بقية السلف الصالح الشيخ
عبد الرزاق البيطار والأستاذ العامل المجد الذي يقتل وقته كله في التدريس
والتصنيف وتصحيح الكتب النافعة الشيخ جمال الدين القاسمي، أدام اللهُ النفعَ
بعلمهما وعملهما.
نزلنا في دار عثمان بك، فأقبل للسلام علينا فيها كثير من الوجهاء، فرأينا من
أدبهم وحسن محاضرتهم ما ينطبق على ما هو مشهور عنهم، وسمعنا منهم مذ الليلة
الأولى أخبارًا سيئة عن جمعية الإخاء العربي، التي أسست في الآستانة، فقال
بعضهم: إنها أسست بإيعاز من السلطان لتكون عضدًا له وعونًا على جمعية الاتحاد
والترقي، وقال آخرون: إنها (ضد الترك) , وقالوا: إن ندره بك المطران جاء
الشام ليدعو إلى هذه الجمعية، وهو يذم الترك ويدعو الناس إلى العصبية الجنسية
العربية , وينفر من جمعية الاتحاد والترقي. وذكروا أن سيرة بعض أعضاء هذه
الجمعية غير محمودة , وأن بعض أفرادها يحتقرون وجهاء البلد، ويفطرون في
رمضان جهرًا، وأن هذا مما يمهد السبيل لندره المطران ويجعل دسائسه مقبولةً عند
كثيرين.
هذا ملخص ما سمعته من أكثر من واحد، وكنت أبيِّنُ لهم ولغيرهم أن تنفير
العرب من الترك مفسدة من أضر المفاسد، وأننا في أشد الحاجة إلى الاتحاد بالترك
والإخلاص لهم؛ لأن مصلحتنا ومصلحتهم في ذلك، على أننا أحوج إليهم منهم إلينا،
فمن يسعى إلى التفرقة بيننا وبينهم فهو عدوٌّ لنا ولهم، فإن كان سعيه لهواه فهو
شر الشياطين، وإن كان سعيه لغيره فهو شر الأُجَرَاء الخائنين، ولا عجب في
صدور ذلك من بني المطران المفسدين.
نعم يجب على العرب أن لا ينسوا في اتحادهم بالترك أنفسهم ويتكلوا على
غيرهم، بل يجب عليهم مباراة إخوانهم في التربية التي تقتضيها حال العصر
وتحصيل العلوم والفنون التي عليها مدار العمران؛ ليكونوا يدًا واحدةً في إحياء
الدولة، وليقدروا على ترقية شأن بلادهم واستخراج خيراتها العظيمة، ثم ليكونوا
أهلاً لإدارتها بأنفسهم إذا غلب في المستقبل حزب صباح الدين أفندي، ابن أخت
السلطان، على غيره من الأحزاب التي ينتظر أن تتكون في الدولة، وهو - أي
رأي صباح الدين - أن تكون كل ولاية من ولايات الدولة مستقلةً في إدارتها الداخلية،
ويعبر عن ذلك بعدم المركزية (Décentralisation) ويرى بعض علماء
السياسة أنه لا بد في المستقبل من استقلال كل جنس بنفسه، ويروي هذا الرأي عن
نابليون، وإذا صح هذا في المستقبل البعيد، وكان الجنس العربي غير أهل للإدارة
التي تقتضيها حال مدنية ذلك العصر الذي سيكون أرقى من عصرنا هذا - وإن
قرب - وغير أهل لمشاركة سائر الأمم في السياسة العامة والحقوق المتبادلة بين
الأجناس على أصول المساواة، فكيف تكون حاله يومئذ؟ ألا تكون (لا قدَّرَ الله)
تحت وصاية غيرنا من الأجناس المرتقية في العلوم والأعمال؟ ومن هو الجنس
الذي يتولى هذه الوصاية؟ وكيف تكون سيرته فيها؟ يجب علينا أن نفكر في حالنا
الحاضرة وفي مستقبلنا القريب ومستقبلنا البعيد، وأن نعلم أن حسن المستقبل متوقف
على ما قبله، والنهاية أثر البداية، ويجب أن يكون الأساس الذي نبني عليه في
حاضرنا ومستقبلنا الإخلاص لدولتنا والاتحاد بالترك وسائر العناصر العثمانية،
مادامت هذه العناصر متحدةً بالدولة مخلصةً لها، وأن نكون الآن من أشد الأعوان
لجمعية الاتحاد والترقي على بث روح الدستور في جميع الطبقات، ورقباء على
الحكومة في سيرها وأعمالها، حتى ترسخَ فيها الديمَقراطيةُ، وتسير بعد اجتماع
المبعوثان على الأصول الدستورية.
هذا ما كنت أبثه من الأفكار في مثل هذا المقام، وأستطرد منه إلى بيان
وُجُوب العناية بتأسيس المدارس لنشر التعليم الأهلي في جميع طبقات الأهالي، وإن
ذلك يتوقف على تأسيس الجمعيات الخيرية في كل لواء من ألوية كل ولاية؛ لأجل
تعليم أولاد الفقراء بغير أجرة، وتعليم أولاد الأغنياء بالأجرة. ثم أُنَوِّه بالتعليم العالي،
والرحلة إلى حيثُ توجد إلى أن يوجد في كل ولاية مدارس عالية يُسْتَغْنَى بها عن
الرحلة. وهذا ما كنت أقوله في كل بلد.
ومما سرني بدمشق وأهلها سرورًا عظيمًا حياة كثير من الصناعات فيها.
وكيف لا ينشرح صدري لذلك وقد رأيت ذلك الجامع الفخم الذي كان هو الأثر
العظيم في هذه العاصمة لأول دولة عربية تأسست فيها، فدمره عصر الظلم
والاستبداد بالنار، فأعاده أهل دمشق إلى ما كان عليه، لا ينقصه إلا ما كان فيه
أولاً من زينة الفسيفساء التي يعجز عنها حتى الإفرنج من أهل هذا العصر، ثم إنني
رأيت معظم أثاث البيوت ورياشها من صنع أهل البلد، حتى في بيوت الكبراء،
كبيت عبد الرحمن باشا اليوسف، أمير الحج، الذي هو أوسع أهل دمشق ثروة،
وأعلاهم جاهًا ومنزلة، فقد تأملت أثاث بعض الحجرات ورياشها في داره، فلم يقع
نظري على شيء فيها من غير صنع الشام، إلا السجاجيد العجمية، حتى إن
القناديل الكهربائية النحاسية التي فيها هي من صنع الشام، فلنا أن نفتخر بصناعات
الشام في النسج والحفر والبناء والتجارة وغير ذلك، وأن نجتهد في توسيع دائرتها
بالطرق الحديثة.
رغب إلي بعض الفضلاء أن أقرأ درسًا في الجامع الأموي، كما فعلت في
بيروت وطرابلس، فأجبتهم إلى ذلك لرميهم فيه عن قوس عقيدتي وموافقتهم لرغبتي،
واستحسنت أن يكون ذلك بعد صلاة الجمعة، فقيل: إن هذا هو الوقت الذي يختم
فيه المدرسون الرسميون دروسهم، فيرونك فيه مزاحمًا لهم فيثقل عليهم، فالأولى
أن يكون درسك بعد العصر، فوافقتهم على ذلك. وقد صلينا الجمعة في الجامع
الأموي، ورجونا أن نسمع فيه خطبة تناسب في حسنها المعنوي ما في ذلك الجامع
من الحسن الحسي، ولكن خاب رجاؤنا، فسمعنا ما مَلَّتْهُ أسماعُنا من عهد الحداثة،
وهو مدح رمضان وتغرير العامة بحديث العتق فيه الذي بيَّنا في المنار من قبل ما
قيل في وضعه. وشهدنا بعد الصلاة دروس المدرسين، فجلسنا زهاء ثلث ساعة في
درس الكزبري الذي حضره الوالي والمشير، حسب العادة المتبعة، وخلق كثير.
ووقفنا هنيهة على درس الشيخ بدر الدين، فإذا هو رجل يسرد الأحاديث الشريفة
بأسانيدها بالضبط الصحيح، ويورد في معناها كل ما قاله بعض العلماء في شرحها
أو جله، وينقل من المسألة إلى ما يناسبها من غير تلعثم ولا مكث.
(درسنا الأول في الأموي)
ثم خرجنا من المسجد وعدنا إليه في وقت العصر، وبعد صلاة الفريضة تلا
بعض القراء آيات من الكتاب العزيز، فجعلتها موضوع الدرس، واستطردت منها
إلى غيرها من الآيات الواردة في صفات المؤمنين، وما وعدهم الله تعالى به في
الدنيا والآخرة مع تنبيه الأذهان إلى عرض أنفسنا في هذا العصر على هذه الآيات
لنعلم هل هي منطبقة علينا أم لا.. . وذكرت ما يطلب من المسلمين في هذا العصر
ليحافظوا على دينهم الذي يرشدهم إلى ما فيه سعادة الدارين، ويعدهم بذلك جزاء
على نصره والقيام بحقوقه، وكون ذلك يتوقف في هذا العصر على العلوم والفنون
التي يرتقي بها الاجتماع البشري وتعتز بها الأمة ويرفع شأن الدولة، ألا وهي
العلوم والفنون الرياضية والطبيعية والاقتصادية. ومما قلته وكررته: إنني أرفع
صوتي قائلاً: إننا لا تقوم لنا قائمة إلا بالأخذ بهذه العلوم والفنون التي يتوقف عليها
امتثال قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) ، فإننا
نستطيع أن ننشئ المدرعات البحرية، ونعمل المدافع والبنادق وقذائف الديناميت؛
لأجل حماية حقيقتنا وتعزيز دولتنا، وأن نعمل السكك الحديدية وغيرها من الأمور
التي ترقي مدنيتنا وتحفظ ثروتنا، وكل ذلك يتوقف على العلوم الرياضية والطبيعية
التي لا حياةَ لأمة في هذا العصر بدونها، إن علماءنا السابقين الذين كانوا يذمّون
العلوم الطبيعية وينهون عنها لم يكونوا يعنون بها إلا تلك النظريات اليونانية التي
تبحث في الإِلَهِيَّات بحثًا يخالف أصول الدين وقواعده، والعلوم الطبيعية في هذا
العصر مباينة لتلك النظريات وناقضة لها، لأن أساسها التجربة والاختبار والعمل،
فمن فروعها علم الكهرباء الذي ترون من آثاره النور الذي يتألق في مسجدكم هذا
ليلاً، والمركبات التي تجري في شوارعكم وأسواقكم، ومنه علم البخار الذي تسير
به قطارات السكة الحجازية من بلدكم إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. فهل
يمكن أن يكون هذا العلم معارضًا للدين؟ كلا، إنه لا يضر الدين وأهله؛ ولكن
يمكن أن يستخدم لحفظ الدين ورفعة شأن أهله، فكل من يصد المسلمين عنه فهو إما
صديق جاهل بحقيقة هذا العلم وفائدته، وإما عدو غاشّ للمسلمين.
ثم بينت لهم أن الإسلام على جمعه بين مصالح الدنيا والآخرة دين يسر لا
عسر، ولا حرج فيه، وإنه يمكن للمسلمين أن يجمعوا بينه وبين جميع العلوم
والفنون العصرية التي نوهت بفائدتها إذا أحسنوا التربية الدينية وأصلحوا طرق
التعليم، وإن ذلك إنما يكون بإنشاء المدارس الأهلية، وهذه المدارس لا يقوم بها
حق القيام إلا الجمعيات، فالذي يجب أن يبدأ به أهل بلادنا في هذا العصر هو
تأسيس الجمعيات التي تنشر التعليم في جميع طبقات الأمة، وذكرت لهم موقع
دمشق ومكانها من جزيرة العرب، وما ينبغي من السعي في جعلها ينبوعًا للمعارف
والمدنية فيها، ثم قلت في آخر الدرس: إنه يمكنني أن أبين لكم في مجلس آخر
كيف يمكن الجمع بين الإسلام تربيةً وتعليمًا، وبين تحصيل العلوم العصرية الكثيرة
التي تقوى بها الأمة وتعتز الدولةُ، إن شئتم، فأظهر الرغبةَ في ذلك الجمهورُ. وقد
حضر الدرس عدد كثير من الناس يبلغ المئات على ما قدره بعض الحاضرين.
ومنهم العلماء الرسميون الذين أقبلوا عَلَيَّ بعد الدرس بالتحية والثناء وإظهار
الإعجاب بالدرس والدعاء بأن ينفع الله بي وبه، والوجهاء كأحمد باشا ومحمد باشا
العظم وعلي باشا الأمير وعبد الرحمن باشا اليوسف وشكروني على ما أبديته،
وألحُّوا عَلَيَّ بأن أعيده في اليوم الثاني.
(درسنا الثاني في الأموي والحادثة المشهورة)
تحدث الناس في الدرس الأول في ليلتهم تلك، وأنه على غير ما يعهدون في
الموضوع، وهو الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، والاستناد إلى آي القرآن -
وفي الأداء، وهو أسلوب الخطابة، فرغب الناس بعضهم بعضًا في حضور الدرس
الثاني، فلم نكد نصلي العصر في اليوم الثاني وننفتل إلا وقد تَحَلَّقَ الناس في مكان
الدرس الأول (تحت القبة) وصار يلزّ ويزحم بعضهم بعضًا، فلما اتسعت مساحة
القاعدين طفق الناس يتحلقون حولهم وقوفًا ثم ازدحموا فصاروا كالقاعدين على غير
نظام حتى صاروا يقدرون بالألوف، فرأى بعض المهتمين بأمر الدرس أنه لا يمكن
إسماعهم إلا بالقعود على شيء مرتفع؛ فأحضروا الكرسي الذي يقرأ عليه خطباء
المسجد قصة المولد ونحوها في المواسم المحدثة في الإسلام، فصعدت إليه وشرعت
في الدرس بعد ذكر الله والثناء عليه والصلاة والسلام على البشير النذير جزاه الله
عنا أفضل ما جازى نبيًّا عن أمته.
كان موضوع الدرس تعريف الدين وكونه هاديًا إلى ما فيه سعادة الدنيا والآخرة
وكون الإسلام عامًّا لجميع البشر موافقًا لمصالحهم في كل زمان ومكان، وبيان
إمكان الجمع بين هدايته وبين جميع العلوم والفنون التي عليها مدار العمران في هذا
العصر إذا صلحت طريقة التربية والتعليم.
قلت: إن القاعدة التي ينبغي لنا أن نبني عليها أساس اهتدائنا بالإسلام هي قول
الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به
أولها) ؛ فيجب علينا أن نرجع إلى سيرة الصدر الأول، فننظر كيف تلقى الصحابة
عليهم الرضوان دينهم عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكيف كانت سيرتهم في
العمل به، وكيف تلقى عنهم التابعون، فنهتدي بهديهم في ذلك.
ثم بينت أن ما جاء به الإسلام ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم العقائد؛ وقسم
الأخلاق والآداب؛ وقسم الأعمال من العبادات والمعاملات، وشرعت في بيان
طريقة التعليم التي ينبغي سلوكها لإحياء الإسلام في زمن قليل لا نحتاج فيه إلى
مدارسة هذه الكتب الكثيرة في الكلام والفقه وغيرها التي لا يتفق تحصيلها في
عشرات من السنين إلا للعدد القليل من المنقطعين لتحصيلها، وهؤلاء المنقطعون
عشر معشار الأمة. فإذا كان الدين لا يؤخذ إلا من هذه الكتب التي اختارها علماؤنا
للتعليم العام في هذه القرون الأخيرة، فكيف السبيل إلى تعليم الدين لجميع المسلمين؟
وههنا قلت: كم عدد مسلمي هذا البلد؟ فقال بعضهم: مائتا ألف أو يزيدون، فقلت
هل يوجد فيهم ألفا عالم فهم كتب الكلام وكتب الفقه المتداولة؟ قيل: ولا ألف.
فقلت: إذا كان هذا مبلغ تعلم الدين في مدينة تعد من أعظم أمصار الإسلام في
الأرض، فكيف يكون حال مسلمي القرى وأهل البوادي ومثل مسلمي الصين؟
ثم شرعت في بيان الطريقة السهلة لتعميم تعليم العقائد، فقلت ما معناه: إن
كتب الكلام المشهورة لم توضع لأجل تلقين المسلمين ما يجب عليهم اعتقاده، وإنما
وضعت لرد شبهات الفلاسفة والمبتدعة عن العقائد الإسلامية والاحتجاج على
حقيتها، وقد انقرض أولئك الفلاسفة والمبتدعة الذين عُنِيَ المتكلمون بإقامة
الحجة عليهم، وظهر بطلان مذاهبهم إلا قليلاً من مسائلها، وحدثت لفلاسفة هذا
العصر ومقلدتهم شبهات جديدة تولدت من الفلسفة الجديدة، يجب أن يُعْنَى متكلمو هذا
العصر بكشفها، ولا ينبغي أن يذكر شيء منها لعامة المسلمين ولا لتلاميذ
المدارس الابتدائية عند تلقينهم الدين، وإنما يخص بذلك طلاب العلوم العالية الذين
يدرسون الفلسفة وعلم الكلام.
المسلم لا يحتاج إلى الاستدلال على وجود الله تعالى بالطريقة الكلامية، وإن
الدلائل التي تبنى على فرض خلاف المطلوب قد يكون إثمها أكبر من نفعها؛ لأنها
تثير الشبهات، وتوقع كثيرًا من السامعين في الشك، وإنما الطريقة المثلى لذلك
طريقة القرآن الحكيم، وهي عرض محاسن الخليقة وأسرارها على العقل وتذكيره
بحكمة مبدعها البالغة وقدرته العظيمة وعلمه الواسع وتفرده بالخلق والتكوين
والرحمة والإحسان (وذكرنا بعض الآيات في ذلك) .
لماذا نقول للمسلم الخالي الذهن من الشبهات والشكوك، لو لم يكن للعالَم إله
للزم الدور أو التسلسل، وكل منهما باطل، فما أدى إليه، وهو عدم وجود الإله
باطل - فثبت نقيضه، وهو أن للعالَم إلهًا - ثم نحاول أن نفهمه معنى الدور
والتسلسل والبرهان على بطلانهما، وما أصعبه مركبًا وأبعده مطلبًا! وقد رأينا
كثيرين من المتصدرين لتدريس علم الكلام يذكرون ما كتب من الاستدلال على
بطلان الدور والتسلسل، وهم لا يفهمون ما يقولون.
إن الإيمان بوجود واجب، جل شأنه، عام في البشر باديهم وحاضرهم، حتى
قال كثير من العلماء: إنه فطري مودع في النفوس بأصل الخلقة، فأكثر علماء
أوربا وفلاسفتها يؤمنون بذلك، وكذا المؤمنون الذين ارتقت وثنيتهم كالبراهمة
والبوذية حتى اليوم ومشركي العرب في زمن البعثة. ومن شذ من البشر فأنكروا
وجود البارئ تعالى لشبهة أثارتها في نفسه تقاليد دينه أو نظريات فكره الضعيفة،
فهو لا يمنع أن يكون لهذا الاعتقاد أصل في الفطرة البشرية، فقد قال الأستاذ الإمام
رحمه الله تعالى: إن الذين ينكرون وجود الله تعالى قليلون في مجموع البشر، فهم
مرضى الأرواح - أو قال العقول - من هذه الجهة، وإن صحت أفكارهم من جهة
أو جهات أخرى، ومرض الروح والعقل عرض يطرأ على بعض الناس كمرض
البدن، فمرض الجسد مهما كثر لا يعد هو الأصل في المزاج، وكذلك مرض العقل
والروح لا يعد في الأصل، وإن كثر المرضى به.
قلنا: إن أكثر البشر يؤمنون بوجود الله تعالى، ونقول: إن الذين يؤمنون بالله
تعالى يؤمنون بعلمه وقدرته وإرادته، ويعظمونه ويقدسونه، وقلما أخطأ الكفار في
غير وحدانية الألوهية والربوبية من مسائل الإلهيات. فأما وحدانية الألوهية، أي
العبادة، فهي عبادة غير الله تعالى بالدعاء ونحوه، وأما وحدانية الربوبية فهي اتخاذ
بعض البشر شارعين، يشرعون للناس من الدين ما لم يأذن به الله. وقد بين الله لنا
ذلك في كتابه الحكيم، فقال في بيان عقائد مشركي العرب {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} (الزخرف: 9) ، وقال لنبيه
صلى الله عليه وسلم: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ
قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ
قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا
اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى
بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (المؤمنون: 84-91) ، فقد أثبت لهم الإيمان
بوجود الله، وأنه هو الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء، وقال فيهم مع ذلك:
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) ؛ فما هو شركهم؟
هو ما بيَّنه في آيات أخرى، كقوله عز وجل: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا
هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 3) ، وقوله
سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا
عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) ، {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ
وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي
الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) ، وقال في أهل الكتاب:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) ، وقد روي في
الصحيح أن عدي بن حاتم أسلم، وكان نصرانيًّا، فلما سمع هذه الآيات قال للنبي
صلى الله عليه وسلم: إنهم لا يعبدونهم، فقال ما معناه: أليس يحلون لهم ويحرمون
عليهم فيتبعونهم؟ قال نعم، قال فذاك. فهذا وما قبله هو الذي فتن به الوثنيون،
والذي طرأ على أهل الكتاب، وقد بينه القرآن الكريم تبيينًا.
قلت كل هذا تمهيدًا لبيان ما يجب اتباعه من تلقين المسلمين عقائد دينهم على
طريقة القرآن المُثْلَى، وأردت أن أشرع في المقصد، فإذا أنا برجل مغربي قد
اخترق جمهور الواقفين حتى انتهى إلى دائرة القاعدين، وصاح: يا إخواننا
المسلمين، اسمعوا لي كلمتين، وشرع في الكلام، فاضطرب الناس وكثر اللغط
وقام كثير من القاعدين، فرغبت إليهم في السكوت والاستماع له. فأما إحدى كلمتيه
، فكانت في مشروعية زيارة القبور والتوسل بالصالحين الميتين، إلى الله تعالى
ليقربوهم إليه! ويقضوا حوائجهم عنده! واعتقاد كرامات الأولياء، والتحذير ممن
ينكرون ذلك ويضلون به الناس كما فعلت الوهابية، ثم ذكر ما هو شائع بين الناس
من فتنة الوهابية ومحاربة السلطان وأمير مصر لهم. وأما الكلمة الثانية ففي وجوب
تقليد الأئمة المجتهدين في الدين والثناء عليهم، وكون العمل بما في كتب الفقه هو
عين العمل بالكتاب والسنة! وكان يقول ما مثاله: يا إخواننا، هل الذي يتوسل إلى
الله تعالى بالأولياء يكون مشركًا بالله؟ هل الذي يحب الصالحين ويعظمهم يكون
مشركًا بالله؟ هل الذي يؤمن بكراماتهم يكون مشركًا بالله؟ هل الذي يعظم الأئمة
ويعمل بمذاهبهم يكون مشركًا بالله؟ ! ! .
فلما أتم كلامه، قلت أيها الإخوان: إن من يسمع كلام هذا الشيخ ممن حضر
في أثناء كلامه يظن أن ما قاله في درسي ليس إلا ردًّا علَيَّ، وإنني كنت أتكلم في
هذه المسائل بخلاف ما قاله، ومن حضر المجلس من أوله يعلم أنني لم أتعرض لهذه
المسائل بنفي ولا بإثبات، وليست هي من موضوع كلامي، فإن الذي قصدت إليه
في هذا الدرس ووعدت به أمس هو بيان طريقة تعميم تعليم الدين لجميع المسلمين
بأسلوب سهل وزمن قليل يبعث فيهم روح الدين، ولا يشغلهم عما هم في أشد
الحاجة إليه من أمر الدنيا، وقد أشرت فيما قلت إلى أن هذه الطريقة هي طريقة
القرآن الكريم وسنة النبي عليه الصلاة والسلام في تلقين الدين، لا طريقة المتكلمين،
وقد سبقني إلى ذلك حجة الإسلام الغزالي فقال بمثل ما قلته في كتابه (إلجام العوام
عن علم الكلام) وغيره، فصرح بأن كتب الكلام وضعت لحماية العقيدة من هجمات
المخالفين، لا لإفادتها وتقريرها لعامة المسلمين، وإن طريقة القرآن هي التي يجب
الاعتماد عليها في التعليم، وكل ما قلته تمهيد لبيان ذلك بعبارة ممحصة قريبة من
الأذهان. وما خطر في بالي أن أحشر في درسي شيئًا من هذه المسائل التي قطع بها
الرجل علَيَّ كلامي قبل أن أصل إلى المقصد منه. وكأني بأناس يقولون الكذب
ويتجرءون علي، ويأخذون من كلامه تهمًا يلصقونها بي، فحَسْبي أن يعلم هذا
الجمهور العظيم الذي سمع كلامي عني ويسمعوا مني بأنني ما أنكرت ولا أنكر
زيارة القبور؛ لأجل الاعتبار وتذكر الآخرة والموت، كما ورد في حديث الإذن بها
بعد النهي عنها، وإنني أزورها بالفعل، وأحب الصالحين ولا أنكر ما لهم من
الكرامة عند الله تعالى، فإن من لا يحب الصالحين يكون أشقى الأشقياء، وأُعَظِّم
الأئمة المجتهدين، وأعتقد أنهم كانوا على هدى وإخلاص في خدمة الدين، وإن من
التوفيق والسعادة اتباعهم في الاهتداء بالكتاب والسنة. ثم صعد الكرسي الشيخ عبد
القادر الخطيب وأراد أن يتكلم فأنزله عثمان بك العظم عن الكرسي، وصدّه عن
التكلم ووقف عليه وقال ما معناه: أيها الإخوان، إنه لا ينبغي للعوام الخوض فيما
يختلف فيه العلماء، فانصرفوا إلى شأنكم، ومن كان من العلماء يريد مناظرة الأستاذ
في هذه المسائل أو غيرها فليتفضل بعد العشاء إلى منزلي. ثم نزل وقال لي:
تفضل، فنزلت ومشينا معًا، فمشى معنا جمهور عظيم من الحاضرين، وسمعت
بعض من بجانبي يقولون ما معناه: لا تخف ولا تحزن، فلا قيمة لهذا الرجل ولا
تأثير لكلامه، وبعضهم يقول: هَلُمَّ وأسرع. وكان اللغط والضوضاء على أشدهما
حتى خرجنا من باب صحن المسجد، وحينئذ رغب إلي الشيخ أديب تقي الدين أن
أدخل داره، وهي بقرب المسجد للاستراحة ورد الزيارة (فقد كان زارني في دار
عثمان بك) فأجبته إلى ذلك، فلما دخلت داره طفق يقبل رأسي، ويثني علي
ويطري درسي، ويهون علَيَّ ما جرى ويحلف الأيمان بأنني ما قلت إلا الحق، وأن
ما عورضت به ليس بشيء. فعجبت من ذلك كله؛ لأنني لم أكن أعد ما جرى في
الجامع من قطع الدرس علَيَّ أمرًا عظيمًا ولا مصابًا يعزَّى عنه. وظننت أن السبب
في كل ما رأيت من لهف الناس وعنايتهم بتسليتي هو عدم تعودهم في تلك المدينة
مثل ما رأوا من ذلك الافْتِيَات. وخطر في بالي أن الباعث لذلك الرجل على ما
فعل هو حب الظهور والشهرة أو سوء الظن والظِّنَّة، فإنه هو الرجل الذي ذكرت
أنني رأيته يقرأ درسًا لا يحضره إلا قليل من الناس، وقد علمت بعد ذلك أن اسمه
الشيخ صالح، وأنه داعية لأبي الهدى الصيادي، أرسله إلى دمشق ليبث دسائسه
فيها.
قبيل المغرب من ذلك اليوم ذهبت مع عثمان بك إلى دار عبد الرحمن باشا
اليوسف؛ لأننا كنا مدعوين للفطر عنده، فلما كنا على المائدة جاء أسعد بك بيكباشي
أركان حرب، وهو وكيل الشرطة في دمشق وأحد أعضاء جمعية الاتحاد والترقي
الذين يشكو منهم أكثر وجهاء دمشق، فجلس معنا وأخبرنا أنه قبض على الشيخ
صالح وأودعَه في السجن. فقال له عثمان بك: أخطأت في هذا العمل، فيجب أن
نذهب بعد الفطور لأجل إخراجه؛ لأن ما حصل يجب أن يقف عند الحد الذي وصل
إليه. وكان الأمر كذلك، فقد ذهب أسعد بك بين المغرب والعشاء لأجل إطلاق
الشيخ صالح على ما فهمنا، وبعد صلاة العشاء في بيت عبد الرحمن باشا خرجت
أنا وعثمان بك، فركب هو مركبته وتبع أسعد بك لينظر ماذا فعل، وركبت أنا
مركبة أخرى إلى دار عثمان بك.
ولما عاد عثمان بك أخبرني بأنهم أخرجوا الشيخ صالحًا من الحبس، وأن فتنة
عظيمة أثيرت في الشام، فحمل ألوف من الناس السلاح واحتشدوا في الأسواق
والشوارع، وذهب جمهور عظيم منهم إلى مجلس البلدية وجمهور إلى دار الحكمة،
قال: وهذا الذي كنت أخشى بادرته في الجامع، فأحببت أن تختم الدرس وتخرج
ولا تطيل في الرد على الشيخ صالح. قلت له: ما هو سبب ذلك، فإن ما حصل
في الجامع لا يصح أن يكون سببًا لحمل السلاح ولا للفتن؛ لأنه لا يزيد على إساءة
رجل بقطعه الدرس علَيَّ، وأنا لا أحب الانتقام، وليس لي عصبة تنتقم لي إن
أحببت، ولا هذا الذنب مما يعاقب عليه بالسلاح، وإن أدري ألذلك الرجل عصبة
قوية عظم عليها أمر حبسه، فأرادت أن تنتصر له؟ وهل يكون الانتصار في الشام
دائمًا مثل هذا؟ أعني إذا حبس رجل له أنصار يطلب أنصاره من الحكومة إطلاقه
بقوة السلاح! ! ! ؟ قال: إنني علمت من حال بعض الحاضرين في الدرس أن
هناك فتنة مدبرة يراد إيقاعها في الجامع بأدنى مناسبة أو بخلق مناسبة ولست أنت
المقصود بها. وإنه ليس للشيخ صالح عصبة ولا محبون، والذين هيجوا الناس
ودفعوهم إلى المطالبة بإطلاقه لهم بذلك أغراض يتوسلون إليها بكل وسيلة تتيسر لهم،
لا يهمهم فيها أن يُعَظَّم من لا يستحق التعظيم، ويُؤْذَى من لا يستحق الإيذاء، ولا
حاجة إلى شرحها، ولكن أقول بالإجمال: إنها تتعلق بانتخاب المبعوثين. ولا أكتم
عنك أنه لا يكاد يوجد أحد في الشام يخرج من بيته بغير سلاح. قلت إذًا ليس في
الشام حرية شخصية تحميها الحكومة، فأنا مسافر في الصباح حتمًا، ولا أقيم في
هذا البلد يومًا، فرضي مني بذلك على كره منه، وحرص على أن أقيم عنده أيامًا
أرى فيها معاهد البلد وأعرف أحواله. فهذا ما دار بيني وبينه في الليل، ثم نمت
طائفة من الليل واستيقظت وقت السحور، ولما طلع النهار سافرت من الشام قاصدًا
رياق.
اجتمعت في قطار سكة الحديد ببعض أدباء دمشق وتجارها، فسمعت منهم
شيئًا كثيرًا من أخبار الفتنة الظاهرة والفتن الباطنة، منهم شابان ذكيان من محبي
الإصلاح والعلوم العصرية، كاشفاني بما في صدورهما وذكرا لي أسماء شبان
آخرين على مشربهما، وقالا: إنهم يكتمون ميلهم ورأيهم، ولا يحبون أن يعرف
شيء عنهم. ثم اجتمعت ببعض باشوات الشام في بعلبك، فحدثني بما يعلم من أمر
الحادثة ومن أحوال الشام، وهو ممن حضر الاجتماع عند الوالي ليلاً. واجتمعت
أيضًا هناك ببعض أعضاء جمعية الاتحاد والترقي، فسمعت منهم أنباء وآراء،
فعلمت من ذلك، ومما سمعته في حمص، وقرأته من المكتوبات التي بعث بها من
الشام إلى حمص وغيرها، جميع ما كان من المكايد والفتن، وهذا مجمل ما وصل
إلي:
(أسباب فتنة دمشق)
الأصل في ذلك كله امتعاض بعض الوجهاء أصحاب النفوذ من أسعد بك
وسليم بك الجزائري، كلاهما قائد ألف (بكباشي) من أركان الحرب، والدكتور
حيدر، وكلهم من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي، وكراهتهم لهذه الجمعية؛ لأنها
جعلت لهؤلاء منزلة ونفوذًا في الشام يعلو نفوذ أولئك الوجهاء الممتعضين الذين
يرون أنهم سادات الشام، وأنه يجب أن يكون النفوذ فيها مقصورًا عليهم ومحصورًا
فيهم وخاصًّا بهم! !
قهرتهم جمعية الاتحاد بظهورها مؤيدة بالقوة العسكرية، ولكنهم لم يتجرءوا
على الوقوف في وجهها ومناجزتها جهرًا، فتربصوا بها الدوائر حتى إذا ما جاء
زمن انتخاب المبعوثين ورأوا من ذكرنا من أعضائها يشتغلون بأمره عيل صبرهم
ولجئوا إلى الكيد، وجرأهم عليه ندره بك المطران، الذي جاء الشام ليرشح نفسه
للانتخاب ويستعين عليه بمن يستميلهم إلى جمعية الإخاء العربي، فإنه كان يهون
على الناس أمر جمعية الاتحاد والترقي، ويكبر في نفوسهم شأن جمعية الافتراق
والتدلي، أي التي تفرق بين الترك والعرب، وتنصر الاستبداد وتخذل الدستور.
فاندفع أولئك الوجهاء إلى الفتنة بقوة وهِمَّة، وبثوا دسائسهم في العامة الذين هم أتباع
كل ناعق، كما قال سيدنا علِيّ كرم الله وجهه، حتى دخلت طائفة منهم الجامع
الأموي مدججة بالسلاح، للتنكيل ببعض المشايخ المدرسين؛ لأنه ختم من بعض
العوام ورقة يطلب فيها ترشيح مبعوث، ولكنه كان يقول لمن يطلب منه الختم: إننا
نطلب بهذه العريضة إبطال رقص النساء في بعض الملاهي! ! ووقعت فتن
ومشاغب أخرى أطلق فيها الرصاص وأصيب بعض الناس، كما قيل لنا، ولا
نحب أن نخوض في ذلك.
ولكن موقظي الفتن ومثيري الشغب لم يكن لهم سبيل للنيل من أعضاء جمعية
الاتحاد والترقي فيما جرى إلا بالكلام، كقولهم: إنهم علة اختلال الأمن وحدوث
الاضطراب في البلد (رمتني بدائها وانسلت) وإنهم يريدون إبطال الدين بتجريئهم
الناس على الفطر في نهار رمضان علنًا، وباحتقارهم لوجهاء البلد وعلمائه! ! !
هذا ما كانت عليه دمشق عند قدومي إليها، كانت تتمخض بالفتن التي يدبر
أمرها رجال لا يزيد عددهم على عدد الذين دبروا أمر الصحيفة من قريش، وكان
أشدهم إفسادًا أحد الباشوات الذي يرى أنه بعظمة بيته يجب أن يكون صاحب الأمر
المطاع في البلد والقول المتبع في حكومتها وأهلها. واستعانوا على كيدهم ببعض
أصحاب العمائم الجاهلين الذين جعل لهم الحكم الاستبدادي رياسة دينية علموا أنها لا
تلبث أن تمحى وتزول في عهد حكومة العدل والشورى.
رآني هؤلاء الكائدون تحت قبة الجامع الأموي أبين للناس أنهم دخلوا في طور
جديد من الحكومة يمكنهم أن يحيوا فيه دينهم علمًا وعملاً وأخلاقًا وآدابًا، وأن يرقوا
فيه دنياهم حتى يكونوا فيه من أوفر الأمم ثروةً وأعلاها جنابًا، ورأوا أن الناس قد
قبلوا هذا الإرشاد ولهجوا بالثناء عليه، فقالوا: إن هذا السيل الآتي يأتي على ما
بنينا من صروح الآمال، ويجرف ما نضع في طريق الدستور وجمعية الاتحاد
والترقي من العقبات، ولكن الشعب يراه عذبًا فُرَاتًا، يطفئ غليلاً ويحيي مواتًا،
فيجب أن نبادر إلى تحويله عن هذه الديار، قبل أن تروى منه القلوب والأفكار،
فأجمعوا أمرهم وهم يمكرون، وعهدوا إلى أفراد من الجمعية العلمية أن يقطعوا علي
الدرس الثاني، فولوا وهم يعتذرون، فقالوا: إن هؤلاء لا يملكون لنا نصرًا ولا
أنفسهم ينصرون، فما لهذا الأمر إلا رجل يشتري ما يراد منه بالمال، وقد مرد على
أمثال هذه الدسائس والأعمال، وما ذاك إلا داعية ابن صياد الدجال، المعروف في
جميع البلاد بأبي الضلال، فذلك المغربي يطيعكم فيما يترفع عنه أهل الشام، إذا
وعدتموه بالتعويض عن مرتبه الذي قطع في هذه الأيام.
فلما لبى الشيخ صالح داعية أبي الهدى دعوتهم، وقبل صلتهم، أوعزوا إلى
بعض أفراد حزبهم بأن يحضروا الدرس مستعدين للكفاح والصيال، إذا جر إلى ذلك
ما ينتظرون من القيل والقال، وقد علم هذا كثير ممن كانوا معنا في مجلس الدرس
من الأهالي الواقفين على حال البلد، وكان هو السبب في رغبة عثمان بك في عدم
إطالة المراجعة والمدافعة، وإن لم يصرح لي به، وفي تحويم الفضلاء علي
وتسليتهم إياي كما تقدم.
لطف الله تعالى، ولم يقع في المسجد ما كانوا يرومون من العدوان، وعلم
أسعد بك - وهو أخبر من هناك بكيدهم - أنهم لا يقفون عند ذلك الحد، وأن الخيبة
في هذه تدفعهم إلى ما هو شر منها، وأن الشيخ صالحًا هو الذي رضي أن يكون
مثيرًا لفتنتهم ورأى أعوانهم قد أدلوا إليه يوسوسون له ويمدونه في الغي ثم لا
يقصرون، فظن أن حبسه يسد باب الفتنة، فحبسه، فطاروا بذلك فرحًا، وفُتِحَ لهم
به باب جديد أقرب إلى مقصدهم، لأنهم يصلون منه إلى الإيقاع بعدوهم أسعد بك
نفسه وجمعيته بلا وسيلة ولا واسطة، فأنفذوا أناسًا إلى المساجد يستغيثون المسلمين
ويستنفرونهم؛ لإعانة الدين وحماية علمائه من ظلم جمعية الاتحاد والترقي والحكومة
الجديدة! فصاح أولئك المنفذون صيحتهم بعد صلاة التراويح، فأقبل الناس
يتساءلون: أي خطب دهى الإسلام، وأي بلاء نزل بالعلماء؟ ويجيبهم خطباء
الفتنة إن فلانًا العالم الفاضل دافع عن الدين فقبض عليه أسعد بك وزجه في السجن،
فإذا لم نبادر إلى إنقاذه بقوة الشعب، فإن هذه الحكومة تقضي على جميع العلماء
وتمحو دين الإسلام من الشام! ! ويقال: إنهم أنفذوا أناسًا آخرين يقولون مثل ذلك
في الأسواق، وأعطوا كل واحد منهم (بشلكا) [1] فاجتمع الناس من كل فج حتى
صاروا يعدون بالألوف وصاروا ينادون: ليسقط أسعد بك، لتسقط جمعية الاتحاد
والترقي. وبلغني أنهم قالوا أيضًا: ليسقط القانون الأساسي وليعش الوالي! (ولكن
الله أسقط الوالي ورفع الجمعية والقانون؛ فكان دعاؤهم في ضلال) ، ولولا أن
توارى أسعد بك لقضوا عليه كما قيل.
وقد ظهر من ضعف الوالي (شكري باشا) وأَفْن رأيه، ما لا ينتظر أكثر منه
من مدمني السكر وأسرى الشهوات مثله، فإنه لما رأى الجموع قد حشرت، وزمرة
الوجهاء قد حضرت، وعظمت عليه الأمر وأرجفت، رجفت في قلبه الراجفة،
وتلتها الرادفة، فخنع لمكرهم، وخضع لأمرهم، وأمر بأن يؤتى بالشيخ صالح،
فجيء به، وطاف بالناس في مركبته (مركبة الوالي) من بعد ما آذنه المشير بأن
لديه من الجند ما يكفي لقمع الفتنة الأهلية، بل لإعلان الأحكام العرفية، ولو أخذ
الوالي يومئذ بالحزم، لاستقرت هيبة الحكومة في النفوس مذ ذلك اليوم، لا أقول
في دمشق وحدها، بل في الولايات السورية كلها.
فعلم من هذا الشرح الذي أخذته من مصادر كثيرة أنني لم أكن مقصودًا بالإيذاء
الذاتي، ولا مؤاخذًا عَلَيَّ قولٌ زل به في الدرس الثاني لساني؛ (لأنني لم أذكر فيه
نعمة الدستور، ولا نوهت بجمعية الاتحاد!) وإنما كثر في القيل والقال، لكثرة من
كان يسأل بماذا دافع فلان عن الدين حتى حبس؟ فكان كل مسئول يجيب بجواب
حتى كان مما سمعته في بعلبك وحمص، أنه قام رجل في الجامع الأموي فأنكر
القرآن، وقال آخرون: إنه سب الأنبياء! ولكن الذي لقنه دعاة الفتنة للأكثرين هو
أنه دعا الناس إلى مذهب الوهابية، وأنكر زيارة القبور والتوسل بها. وهذا هو
الذي كتبوا به إلى جرائد بيروت وطرابلس ومصر والآستانة، وقد علمت أنه كذب
وبهتان.
نال محركو الفتنة من أسعد بك ما أرادوا، وانتهت هذه الحادثة بخروجه من
الشام، وضعف جمعية الاتحاد والترقي وعجزها عما كانت تحاول من أمر الانتخاب،
وذلك جل ما كانوا يبغون في نفس الشام، فكان من المعقول مع هذا أن يسكتوا
عني؛ لأني لم أكن الغرض الذي يرمون سهامهم إليه، وإنما عرضت بينهم وبينه
فرموني؛ لأتنحى، فتصل سهامهم إليه وحده، فما هو السبب يا تُرَى في استمرار
عداوتهم لي ومكاتبة الجرائد بسبي وثلبي؟ يظهر لي أن لذلك أسبابًا: منها أن الشر
داعية الشر، وأن الرجل الخبيث إذا حاول شرًّا، فتم له كما يجب، تضرى نفسه
بالشر، فإذا ظلم إنسانًا بالإهانة والتسخير مثلاً فذل له المظلوم ولم يجد له نصيرًا،
فإنه يستمر على إهانته وتسخيره له استلذاذًا بذلك وتبجحًا، ومنها أنه اغتنم هذه
الفرصة رجل من أدعياء العلم، حاقد عَلَيَّ، فزج نفسه في حمأة هذه الفتنة، وطفق
يكتب ويستكتب غيره مقالات في الطعن عَلَيَّ، ولكن الجرائد ترفعت عن نشر ما
بعثوا به إليها من السخف، فلم تقبله إلا مثل جريدة بيروت، التي هي جريدة
المتقهقرين، أعداء حكومة العدل والدستور، وأعداء الإصلاح. ذلك الرجل الذي
كان استأجر أحد أرباب العمائم، فكتب له رسالة في الرد على المنار في مسألة
طهارة الكحول، زاد هو فيها ما زاد، فرد عليه المنار يومئذ ردًّا صريحًا، صرح
فيه باسمه، ففضح جهله وجهل من كتب له [2] ، ولعل هذا الرجل هو الذي تصدى
للكتابة بيده وماله، وأعانه عليها نفر من أقتاله، ولي ههنا استدراك، وهو أن أكثر
الجرائد التي انتصرت للحق في هذه الحادثة قد أسندت البغي والعدوان فيها إلى أهل
دمشق الشام على الإطلاق، لاستخفاء المعتدين منهم، وذلك تساهل في التعبير،
أدى إلى خلاف ما يريده الكاتبون، فَبُنِىَ عليه حكم فاسد خفي عن الأكثرين فساده
لخفاء المراد من العبارة التي أخذ منها. أعني أنه صار يقال: إن أهل الشام ناصبوا
صاحب المنار العداء وآذوه بالكلام، وإن أهل بيروت انتصروا له، وأهانوا أهل
الشام بما كتب في جرائدهم ودار في محافلهم.. . والصواب أن صاحب المنار لم
يسمع من أحد من أهل الشام كلمةً شاذةً عن النزاهة والأدب، بل سمع من كل من
لقيه منهم أرق الكلام وأعذبه، وألطف عبارات الترحيب والثناء، وإنما تصدى
لقطع درسه، وإيهام العامة أنه أخطأ فيه، رجل غريب عنهم لم يكن محبوبًا عندهم؛
لأنهم يعدونه من جواسيس الشيخ أبي الهدى والدعاة له، وشاب آخر من طلاب
العلم أراد أن يسأل عن شيء سؤال متبرم مستاء، فكفاه ذلك الرجل الغريب ما كان
يريده من ذلك. وأما زعماء الحركة الذين أشرنا إلي كيدهم آنفًا فهم لا يتجاوزون
جمع القلة، على أنني لم أكن غرضهم، وإنما عرضت أمام غرضهم كما تقدم.
على أني لو بقيت في دمشق لتصدوا لإيذائي بتحريض العامة على ذلك، ولكن لا
يؤخذ من هذا أن أهل الشام فعلوا ذلك. وقد زارني في ليلة الحادثة بعض الوجهاء
المحبين للمنار الذين كانوا يقرءونه في زمن الاستبداد، ونصح لي بأن أسافر، ثم
كتب إلي بعد أن عدت إلى طرابلس كتابًا قال فيه: (وإني لمخجول وايم الله من
فضيلتكم ومقابلتي إياكم بدار عثمان بك تلك المقابلة، لكن ربنا عليم بأني لم أحضر
تلك الليلة لمقابلتكم وتكليفكم السفر إلا خوفًا عليكم، وحفظًا لكرامتكم من سفهاء
العمائم المتزيين بِزِيّ العلم، والعلم بعيد عنهم بُعْد السماء عن الأرض، فترى أن
الواحد منهم يظن أنه إذا كبر العمامة وطول الذقن ووسع أكمام الجبة وركب البغلة
وغش البسطاء بهيكله - وإن لم يكن تحت القبة ولا حبة - أنه صار عالمًا) ، ومع
ذلك كله أقول: إنني لست على يقين من طعن رجل معين من أهل الشام في إلا ذلك
الحاقد الذي أشرت إليه آنفًا، فأهل الشام ليسوا خصمًا لي ولا لأهل بيروت، وليس
أهل بيروت خصمًا لهم.
وجملة القول أن الذين ابتغوا الفتنة من أهل الشام نفر لا يخرجون من
مضيق جمع القلة، ومَنْ صدقهم من العامة يندر في الجملة، وإنه لم يتصد أحد من
علمائهم للرد علَيَّ في شيء سمعه مني أو قرأه من كلامي، مظهرًا نفسه، مبينًا
اسمه، وقد حضر كثير منهم درسي، فإن كانوا يعلمون أني أخطأت، فلماذا سكتوا
لي على الخطأ، وقد سألت مفتيهم، وكان من حاضري درسي، أن يكتب إلَيَّ مبينًا
خَطَئِي إن كنت أخطأت. سألته ذلك في مقالة نشرتها في جريدة الاتحاد العثماني،
وأسأله هو وسائر علماء الشام ذلك بلسان المنار، وأنا أنشر لهم ما يكتبون في المنار،
وأذعن له إن كان حقًّا، وأبين ما عندي فيه إن كان خطأً. وهذه هي حجتي عليهم،
فإذا هم سكتوا عن هذا البيان فهم لا يخرجون عن أحد أمرين: إما أنه لم يثبت
عندهم أنني قلت شيئًا مخالفًا للشريعة، وهذا كافٍ لتكذيب أولئك المذاعين الذين
خاضوا في الإثم، وإما أنهم يكتمون الحق وهم يعلمون، ولا يخفى عليهم ما ورد في
القرآن والأحاديث من وعيد الكاتمين.
(تنبيه)
سقط اسم السيد (حسين وصفي رضا) من ذيل مقالة التقاريظ سهوًا؛ إذ إنه
هو الكاتب لها.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) البشلك ضرب من نقود الدولة العثمانية يزيد عن نصف فرنك قليلاً.
(2) راجع مقالات طهارة الأعطار ذات الكحول (ص 821 و 866 م 4) .(11/936)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تصحيح
وقعت أغلاط في الجزأين 11 و12 وهذا بيانها
فتصحح بالقلم
صفحة ... ... سطر ... ... خطأ ... ... صواب
802 19 ... ... لوصفهم ... ... فوصفهم
803 2 ... ... المعتدلين ... ... المعتدين
805 17 ... ... نزرع ... ... تزرع
808 24 ... ... في وعيد ... ... من وعيد
810 7 ... ... له ... ... ... إلى
812 22 ... ... يستوي ... ... تستوي
815 6 ... ... الذين ... ... وهم الذين
836 11 ... ... كأن ... ... ... لها
837 12 ... ... حال ... ... مال
864 16 ... ... دونها ... ... دونهما
864 24 ... ... الحرب ... ... من الحرب
865 ... ... 19 ... ... عدد قليل ... ... عدد غير قليل
867 9 1 ... ... التي يفرضها ... التي لا يفرضها
869 14 ... ... تقدم ... ... تقوم
870 12 ... ... أو أننا ... ... وأننا
870 14 ... ... من ... ... ... في
871 14 ... ... منه ... ... ... مناجي
871 12 ... ... قال ... ... ... قال له
872 6 ... ... ولا يراعي ... ولا يجوز أن يراعي
875 25 ... ... وسبعون ... ... وتسعون
883 5 ... ... هذا المتبادر ... هذا هو المتبادر
883 14 ... ... تتقوى ... ... نتقوى
884 15 ... ... دخلت ... ... خلت
885 20 ... ... وقاتلوا ... ... قاتلوا
886 15 ... ... ظاهر ... ... ظاهراً
886 16 ... ... الواجب ... ... لوجب
887 5 ... ... التنزيه ... ... التنزيل
887 11 ... ... قالوا وفي ... ... قالوا الواو في
888 16 ... ... ويدل على ... ويدل أيضا على
892 22 ... ... البشرى أو ... البشرى
896 15 ... ... فألحق ... ... فالحق
897 ... ... 21يكتب بعد كلمة: ويجمع هذه الفقرة (بينه وبين القول الأول) 913 ... ... 1 ... ... بها فكان ... بها ثم جعلناها ذيلا لها، فكان
915 8 ... ... لحقيقة ... ... لحقِيَّة
915 ... ... 9 ... ... العالية التي تتصل العالية تتصل
__________(11/953)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة السنة الحادية عشرة
بحمد الله وشكره نختم السنة الحادية عشرة من سني المنار، فهي وله الشكر
الأسنى، والثناء الأوفى، خير سنة مرت بنا، نعدها فاتحة حياة جديدة لنا ولأمتنا،
فكأن تلك السنين العشر غير معدودة من العمر، وكأن هذه السنة الأولى من العقد
الثاني للمجلة هي اللؤلؤة الأولى من العقد الأول لها وللملة، كيف لا وهي سنة
حكومة الشورى والدستور، ومحو آية ليل الظلم بآية العدل والنور، فيرى القارئ
هذا المجلد من المنار طافحًا بأخبار الدستور العثماني، ومجلس المبعوثان والقانون
الأساسي، وأسباب ما حدث في الدولة العثمانية من الانقلاب، وما كان من ضروب
الاحتفال، وذكر سياحة صاحب المنار في البلاد السورية، وبعض ما ألقاه فيها من
الدروس والخطب الدينية والسياسية، بعد أن كان ذكر اسم المنار أو صاحب المنار،
يعد من أكبر الأخطار، حتى كان بعض محبيه يشيرون إليه بلفظ النار. وسنلم في
فاتحة السنة القابلة، بتاريخ المنار في تلك السنين الخالية، بما يفسر بعض
الإشارات، التي تقدمت في فواتح بعض السنوات، ونشير فيها إلى مستقبله في
البلاد العثمانية، ولا سيما في الولايات العربية، حيث كان لا يقرؤه إلا بعض
المستعذبين لمشربه، إذ كانت الأخطار تواثب من يطلع عليه أو يتصل بصاحبه،
فصار شرعًا بين المصلحين والجامدين، والمنصفين والحاسدين.
* * *
(ما انتقد على المنار في هذه السنة)
لا أذكر وأنا أكتب هذه الخاتمة في مدينة بيروت - أنه انتقد على المنار شيء
لم ينشر فيه، إلا ما كتبه إليَّ بعض طلاب مدرسة الحقوق الخديوية، ينكر فيه علَيَّ
ما كتبته في الرد على من اقترحت بناء مدفن خاص بعظماء الرجال بمصر، من
إنكار نصب التماثيل للموتى، وما زعمته جريدة طرابلس الشام من أني طعنت في
أهل طرابلس فيما كتبته عن سياحتي.
* * *
(نصب التماثيل للموتى)
احتج علَيَّ طالب الحقوق بما كتبه الأستاذ الإمام، في رحلته إلى صقلية، من
حكمة تحريم التصوير واتخاذ الصور والتماثيل، وأنها قلع جذور الوثنية وسد
الذريعة المفضية إليها. ويرى المنتقد أن هذا هو رأيي في المسألة، وأنني ما
تشددت فيها أخيرًا إلا تثبيطًا للذين دعوا المصريين إلى الاكتتاب لنصب تمثال
لمصطفى كامل، لما كان بيني وبينه من الخلاف السياسي. ويرى هو أن إقامة
تمثال لمصطفى كامل ولغيره مما يبيحه الإسلام، إذ ليس فيه شبهة دينية. هذا
مجمل ما كتبه المنتقد كما أتذكر.
فأما ما ذكر من حكمة تحريم الصور والتماثيل، فقد صرحنا به في المنار قبل
نشر رحلة الأستاذ الإمام (بلرم صقلية) بسنين. ولو تأمل المنتقد ذلك الرد الذي
بنى عليه انتقاده حق التأمل لَمَا كتب إلينا حرفًا مما كتبه، فإن ما ذكر من حكمة
التحريم أو علته لا ينقض شيئًا مما كتبناه، وكذلك ما كتبه الأستاذ الإمام في رحلته،
لا ينقض قولنا، بل يؤيده، فقد صرح بأن المفتي لا يفتي بجواز التصوير ونصب
التماثيل مطلقًا
وههنا نبين للمنتقد وأمثاله مسألةً مهمةً يغفل عنها أكثر الناس، وهي أن ما
كان يقوله الأستاذ الإمام من الآراء الاجتهادية، وما ننشره من ذلك في المنار، إنما
نقصد به بيان حكم الإسلام وموافقته لمصالح الناس، وإفضاءه إلى سعادتهم ما
تمسّكوا به، ودفع الشبهات التي ترد على أحكامه دون جعله مذهبًا يقلدنا الناس فيه،
إلا من ظهر له الدليل على شيء فأخذ به لاعتقاده أنه هو الحق، فأولئك لا يكونون
مقلدين لنا، وإنما يكونون متبعين للدليل الذي قام عندهم، لا يخرجهم عن ذلك كَوْنُنَا
سبقناهم إلى ذلك الدليل وهديناهم إليه. فإذا فرضنا أن ما ذكرناه من حكمة تحريم
التصوير ونصب التماثيل يقتضي إباحة نصب تمثال لمصطفى كامل - وهو لا
يقتضي ذلك - وكان المنتقد معتقدًا ذلك، فهل يقول: إن مسلمي مصر الذين دعوا إلى
هذه البدعة قد اعتقدوا مثله إباحتها شرعًا؟ كلا. إنه ليعلم أنهم يعتقدون حرمة ذلك،
إلا نفرًا ربما كان اعتقادهم كاعتقاده، ومن دونهم آخرون قد مرقوا من الدين كما
يمرق السهم من الرَّمِيَّة، فهم لا يبالون: أكان ما وافق هواهم حلالاً أم حرامًا!
المسلمون قسمان: الأول المقلدون للفقهاء، وهم السواد الأعظم، وفقهاء
المذاهب الأربعة، وهؤلاء يحرمون نصب التماثيل، أفليس من امتهانهم أن يدعوا
دعوة عامة لعمل محرم عندهم؟ والثاني المتبعون للدليل، وإنما يعمل الواحد منهم
بما يقوم عنده من الدليل فيما يتعلق بخاصة نفسه، وليس له أن يفتات على الجمهور
بالعمل، كأن يهدم المساجد التي على القبور لحظرها في الأحاديث الصحيحة، ولا
أن ينصب لهم تماثيل، فإن ما يتعلق بالجمهور من شأن الحكام، ولكن له أن يبين
رأيه بالدليل، وأن يدعو إليه ويناظر المنكر عليه، فإن أقنعت دعوته الجمهور عمل
بها، وإننا نحتج على المنتقد بنفس ما احتج علينا به، وهو حكمة تحريم التصوير
ونحت التماثيل، فنقول:
إن نصب تمثال لمصطفى كامل لا يخلو من المعنى الوثني الذي يعترف المنتقد
بأنه علة حظر نصب التماثيل، فإن أخاه وبعض محرري اللواء غلوا في تعظيمه
بالوطنية كما كان (رحمه الله وعفا عنه) يطري نفسه بذلك، فلما لم يلق غلوهم نقدًا
ولا اعتراضًا جعلوه بعد موته قطبًا من أقطاب الدين، وغلوا في وصف صلاحه
ومزاياه وتبعهم على ذلك بعض الشعراء الذين لا يَزِنُونَ الكلامَ بميزان عقل ولا شرع
اكتفاءً بموازين العروض، وتبع هؤلاء من يتبعهم عادةً، فلم يمضِ على موت
الرجل أيام معدودات إلا وصار له مثال ديني خيالي غريب، وصار بعض المارقين
والجاهلين يقرنونه بالأنبياء أو يفضلونه عليهم، وذكر أخوه في ترجمته أنه ولد على
غير الصفة التي يولد عليها البشر عادةً! وأنه ظهر له في طفولته شيء من خوارق
العادات، كما ذكرنا ذلك في الرد على (باحثة بالبادية) التي اقترحت بناء مدفن
لعظماء الرجال بمصر. أفرأيت من غلا حزبه فيه هذا الغلو، وجعلوه في هذا الأفق
الخيالي من العلو، أيستغرب افتتان العامة بتمثاله في بلاد تلتمس فيها البركات،
ودفع المضارّ وقضاء الحاجات، من نعل الكلشني وباب المتولي وشجرة الحنفي
وعمود الرخام الذي في المسجد الحسيني وغير ذلك من الجمادات، وكذا المائعات
كزيت مسجد نفيسة وبعض الآبار العتيقة! ! ؟
لا أرى وجهًا في ذلك التعليل لنصب تمثال لرجل خلق له أخوه صورة دينية
كصور أصحاب الآيات والخوارق، وأنشأ بعض الشعراء يخلع على هذه الصورة
من حلل الخيالات الوهمية والخرافية ما تجود به أقلامهم، وناهيك بجود الشعراء في
الكلام!
إن كثيرًا من الأصنام التي عبدت كانت تماثيل لأناس عظمهم قومهم تعظيمًا
دنيويًّا، ولما طال عليها العهد عبدت وصار يتوسل بها إلى الله أو تطلب منها
الحاجات، فسد الدين هذا الباب سدًّا محكمًا، فهو لا يأذن لأحد بأن يتخذ صورة ولا
تمثالاً لأجل تعظيم صاحبه. ولا يقاس نصب مثل هذا التمثال على الصور والرسوم
التي يستعان بها على العلوم كالطب والتشريح وعلم وظائف الأعضاء
(Physiologie) أو على اللغة لِيَعْرف الحيوانات التي وُضِعَتْ لها الألفاظ مَنْ
لم يكن رآها، معرفة صحيحة لا شبهة فيها، فإن إحالة الكثير من كتب اللغة العربية
في تفسيرها على المعرفة لا يفيد، فإذا قيل: النسر طائر معروف، والعقاب طائر
معروف، ولم يكونا معروفين عندك، وأن هذا هو النسر وهذا هو العقاب لا يفيدك
قول اللغوي شيئًا، ولا يقاس أيضًا على الصور التي يستعين بها الحكام على حفظ
الأمن وتربية المجرمين. فأمثال هذه الأغراض الصحيحة من التصوير هي التي
كان يقول الأستاذ الإمام: إن الإسلام يجل عن تحريمها، وأذكر أنني ناظرت بعض
علماء طرابلس فيها قبل هجرتي إلى مصر، وذكرت له خمسة مقاصد صحيحة
للتصوير فوافقني على ما ذكرت من كون علة تحريم التصوير دينيةً، وكون هذه
المقاصد صحيحة لا يحرمها الشرع.
* * *
(انتقاد جريدة طرابلس)
قرأ كثير من المنصفين ما كتبناه عن طرابلس، فقالوا: إنه بيان صحيح
لحالها، واعتذار عما رُمِيَ به أهلها من اللوم والذم لذنب أتاه شقي يوجد مثله في كل
بلد. ولكن تلك الكتابة ساءت نفرًا من الطرابلسية، فهموا أنهم هم المقصودون بمن
أثروا من الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، فأرادوا أن ينتقموا من الكاتب بتهييج
أهل طرابلس عليه وإيهامهم أنه أهانهم أجمعين، وبلغني أنهم كانوا يطوفون على
الأدباء ويطلبون منهم أن يكتبوا في الرد على المنار، ووعدت جريدة طرابلس بأن
تنشر ما يَرِد عليها من الرد.
واتفق أن رأيت مدير جريدة طرابلس بالقرب من المحكمة الشرعية، فأخبرني
بما ينكره المنكرون من عبارة المنار عن طرابلس وبأنه رد عليهم واعتذر عن المنار
بقدر استطاعته مع أنه موافق لهم في بعض ما انتقدوه، لعدم اعتياد أهل هذه البلاد
أن يسمعوا في الجرائد نقدًا إلا بقصد الذم والإيقاع. وعلمت منه أن أَنْكَرَ ما نكروه
هو حكاية قول من كتب إلينا (اتْرُكْ فيحاء الأشقياء) إلخ، وقال: ما كان يجوز أن
يكتب مثل هذا، وإن كان حكاية. فقلت: لكننا نقلناه لنرده، ونقولَ: إنه في غير
محله. قال: إنهم يقولون: إنه طعن على كل حال لا يصح أن يذكر. فقلت: وماذا
تقولون في حكاية القرآن الحكيم للطعن فيه وفي النبي صلى الله عليه وسلم بمثل
قوله عز وجل: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان: 5) ، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ} (الفرقان: 4) ؛
إلخ؟ فسكت.
قلت ثم ماذا؟ فذكر ما كتبته عن الجمعية الخيرية العثمانية. قلت: وهذا
حكاية أيضًا لم أقله من عند نفسي، بل لم أكن حين كتبته أعرف من أعضاء هذه
الجمعية غير من أشرت إليهم. وإن ما كتبته عنها هو أقل ما سمعته، وبلغني أن
جمعية الاتحاد والترقي ترى أن هذه الجمعية مقاومة لها وللحكومة الدستورية،
فكتابتي هذه وأنا من أنصار جمعية الاتحاد تصلح أن تكون دفاعًا عن جمعيتكم، أو
تلطيفًا لما يقال عنها عند اللجنة العليا لجمعية الاتحاد والترقي في الآستانة.
قلت ثم ماذا؟ فذكر أن ما كتبناه عن الذين أقاموا المباني الجديدة في جهة التل،
يُشْعِرُ بأنهم ما قدروا على ذلك إلا بما أكلوه من الرشوة. فقلت: إن هذا غير مقصود،
فأنا أعلم أن ثروة أكثر أصحاب هذه المباني قديمة وليست من جهة الحكومة. فإذا
كانت عبارة المنار تدل على أن الذين بنوا القصور في جهة التل هم الذين أثروا من
الرشوة في الحكومة، فأنا أعترف بأنها لم تؤد مرادي، إذ لم أرد ربط مسألة عدم
وجود موارد جديدة للثروة في طرابلس غير الرشوة لبعض رجال الحكومة بمسألة
العمارات في جهة التل والقبة على هذا الوجه، وإنما ذكرت ذلك بالمناسبة وسأراجع
المنار.
ثم ذكر مسألة عدم تقدم طرابلس في العلوم والتجارة، وأنه كتب في المنار
بأسلوب فيه مبالغة وشدة في النقد لم تتعوده سوريا كما تعودته مصر. قلت: إنه نقد
صحيح والغرض منه صحيح، وهو أن يتنبه أهل بلدنا إلى ما يجب عليهم، لتدارك
ما أصابهم في الأيام الماضية. وإن ما كتبته الآن غير كافٍ؛ لأنه إشارة جاءت
بطريق العرض ولا بُدَّ أن نُعوِّد قومنا على الانتقاد الشديد في المصالح العامة، ولا
خير في الجرائد التي لا يكتب فيها إلا المدح والإطراء، لأجل الاستمالة
والاسترضاء، أو الذم والهجاء، لأجل التشفي أو الإيذاء، وإذا كان الناس هنا
يشكون من مقال كتب لأجل الدفاع عنهم، والرد على من أساء الظن فيهم، فماذا
يقولون إذا قرءوا مقالاتٍ طويلةً في الانتقاد عليهم، وبيان تقصيرهم في خدمة أمتهم
وبلادهم؟ وهل تكون الصحف مفيدةً إلا بمثل هذا الانتقاد؟ .
هذا ما أتذكره مما دار بيننا، وقال هو في خاتمة الكلام: ماذا تأمر أن أكتب
في العدد الآتي من طرابلس للتنصل من نشر ما يريد نشره المنتقدون؟ فاتفقنا على
أن يكتب أنني بينت له أن ما كُتب في المنار لم يكن طعنًا في أهل طرابلس، بل
دفاعًا عنهم، خلافًا لما فهم بعض الناس، وإنني سأبين هذا في بعض أجزاء المنار.
وقد كتب هو ذلك، ونحن بيّنّا ههنا المراد كما بيناه له وفاءً بالوعد وجريًا على سنتنا
من نشر ما ينتقد علينا.
* * *
(اختصار جملة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم)
وبلغني أن بعض الناس انتقد في المنار اختصار كلمة (صلى الله عليه وسلم)
بحرف (ص) ، وزعم بعضهم عن غير بصيرة ولا استقراء أن هذا مطرد في
المنار كلما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام، كما يطرد التصريح بكلمة (رضي الله
عنه) كلما ذكر الأستاذ الإمام، والصواب الذي يراه القارئون للمنار، أننا لا نذكر
كلمة (رضي الله عنه) عند ذكر الأستاذ الإمام مطلقًا، وإنما تذكر في عنوان
التفسير، وهو سطر ثابت في المنار لا يتغير، وأما جملة الصلاة فلا تكاد تذكر
مختصرة بحرف (ص) إلا حيث تتكرر، وكثيرًا ما تذكر غير مختصرة.
والاختصار يوفر شيئًا من وقت الكاتب ومن الورق، فيسع من الفوائد أكثر مما
يسعه مع تكرار الجملة بنصها. وهي عادة طال عليها العهد في كتب المسلمين ولا
سيما المطبوعة في الهند والآستانة. وكانوا يختصرون الجملة هكذا (صلعم) ،
فصار بعض الناس ينطق بهذه اللفظة لا بالجملة المختصرة حروفها منها،
فاستحسنت أن أستبدل بها حرف (ص) . ورأيت في كثير من الكتب بدل (صلعم)
حرفي (ع م) بمعنى عليه السلام، كما يختصرون جملة (رحمه الله) بحرفي
(رح) وجملة (رضي الله عنه) بحرفي (رض) ، والمقصود من الكتابة فهم
المراد، فلو أمكن اختصار كل الجمل بحروف يفهم منها المراد لما اختلف العقلاء
في العمل بهذا الاختصار، ولكن هذا لا يتأتى إلا في بعض الجمل التي يكثر
استعمالها. وقد اخترع الناس طريقة لاختزال الخط لأجل نقل الخطب وما يدور
في مجالس الحكم والعلم من الفوائد، وهي خاصة بمن يتصدون لذلك
كمحرري الجرائد.
* * *
(دعوة المنار إلى الانتقاد عليه)
إننا ندعو في هذه الخاتمة إلى مثل ما دعونا إليه في فاتحة هذا المجلد من
الانتقاد على المنار، ولكننا لا نقبل نقدًا مبنيًّا على ما يتقوله بعض الناس على المنار،
ولا نقدًا يخرج فيه المنتقد عن موضوع ما ينتقده من فقره، وإنما يقبل الانتقاد على
فقرة تنقل بنصها من المنار مع بيان صفحة المجلد التي نقلت منها والاستدلال على
خطئها.
* * *
(طلب الاشتراك وقيمته)
لا تزال قيمة الاشتراك على أصلها، فإننا لم نزدها، وإن كانت جميع الأشياء
ازدادت غلاءً في هذا القطر. ولكن أمرًا طالما نبهنا إليه ولا يزال الناس يذهلون
عنه، ذلك أننا صرحنا مرارًا بأن المنار لا يُبْعَث به إلا لمن يبعث بالقيمة سلفًا،
وإننا لا ننقص من قيمة اشتراكه شيئًا لأحد ما، ومع ذلك فإن الناس لا يزالون
يسألوننا ذلك! فنحن نكرر القول هنا كما كررناه مرارًا بأن الإدارة لا تجيب من
يسألها ذلك مطلقًا.
هذا وإننا نختم هذا المجلد بمثل ما افتتحناه به من ذكر الله والثناء عليه عز
وجل، ونسأل الله أن يلهمنا الصواب ويديم علينا نعمة الإخلاص، وسلام على
المرسلين ومن تبعهم بالهداية والإصلاح في الدنيا والدين، والحمد لله رب العالمين.
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني
__________(11/954)
المجلد رقم (12)(12/)
المحرم - 1327هـ
فبراير - 1909م(12/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة السنة الثانية عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجًا، ولا جعل علينا
فيما شرعه لنا من الدين حرجًا، بل جعل مع العسر يسرًا، ومع الشدة فرجًا، ومن
يتق الله بإقامة سنته يجعل له مخرجًا إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرًا.
والصلاة والسلام على من بعث إلى الأبيض والأحمر، وقام بأمر ربه
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر: 94) ، فمكر به قومه؛ ليثبتوه أو يقتلوه أو
يخرجوه، فهاجر من وطنه ووطنهم فتتبعوه وحاربوه، حتى شجوا رأسه، وكسروا
سنه، وعذبوا من اتبعه من ضعفاء المؤمنين، فصبر وصبروا حتى كانت العاقبة
للمتقين، {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الغَالِبِينَ} (الصافات: 116) .
وبعد؛ فإنا نَقُصّ في فاتحة منار هذه السنة وهي الثانية عشرة له، نبأ من
تاريخه الصريح، الذي كنا نشير إليه بالتلويح؛ تذكيرًا وتفصيلاً للقراء السابقين،
وعبرة للقراء اللاحقين، وأخص العثمانيين الذين طالما ارتعدت فرائصهم عند ذكر
المنار، حتى ربما كنى عنه محبوه بلفظ النار.
أنشئ المنار في أواخر شوال سنه 1315، وكان صحيفة ذات ثمانِ صفحات،
وقد بينت في العدد الأول منه الغرض من إنشائه، ومذهبه في الإصلاح الديني
والاجتماعي، وسكتُّ عن بيان مناهجه في الإصلاح السياسي، مع التصريح
بنزعته العثمانية، وخدمته للدولة العلية. وإنما أسكتني عن ذلك الأستاذ الإمام
(الشيخ محمد عبده رحمه الله تعالى) فقد كنت استشرته في إنشائه، وقرأت له تلك
الفاتحة قبل طبعها، وكان فيها أن من مقاصده بيان حقوق الأمة على الإمام،
وحقوق الإمام على الأمة، فاستحسن كل ما أودعته تلك الفاتحة إلا هذه الكلمة،
فاقترح عليَّ أن أحذفها، ولم يراجعني في شيء غيرها، وكان مما قاله في ذلك:
(إن المسلمين ليس لهم إمام في هذا العصر غير القرآن) وإن الخوض في السياسة
العثمانية فتنة يخشى ضررها ولا يرجى نفعها، وإن الناس ها هنا لا يحبون أن
يسمعوا في السلطان والدولة إلا ما يشتهون، ومصر ليس فيها سياسة، والمسلمون
لا ينهضون إلا بالتربية والتعليم، فلا تخلط السياسة بمقاصدك الإصلاحية؛ لئلا
تفسدها عليك، فإنها ما دخلت في عمل إلا وأفسدته. هذا معنى ما قاله، وقد حذفت
تلك الكلمة استجابة له، وليت السياسة تركتني، أو سالمتني كما سالمتها؛ ولكن أَبَى
عليها الخرق والعتوّ، إلا أن تجاهد مني غير عدو، فآذنتني بالحرب وآذتني في
الأهل والصحب، حتى ألجأني اعتداؤها على حقيقتي إلى التقصي في استعراف
ظلمها لأمتي، ثم إلى الدخول في زمر المجاهدين لرؤسائها وأعوانها الظالمين،
{فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} (الذاريات: 45) جئت مصر وأنا
أحسن الظن بالسلطان، دون من يحيط به من الوزراء والقرناء والخصيان، وأسيء
الظن بطلاب الإصلاح من الأحرار، وأعتقد أنهم إنما يطلبون الرتب والأوسمة
والدينار، وقد كنت أصرح بهذا وذاك في السنة الأولى مع المطالبة بالإصلاح،
والشكوى من عاقبة الظلم والإفساد، وما كنت لأقول إلا ما أعتقد، وأبث إلا ما أعلم
وأجد.
منع رشيد بك والي بيروت (أحد أركان الإفساد في حكومة الاستبداد)
توزيع العدد الثاني من السنة الأولى، وأرسل البرقيات إلى جميع أنحاء الولاية
بوجوب جمع ما وزِّع منه وإحراقه، ولم يكن فيه شيء مما كانت تنكره الحكومة في
ذلك الوقت، وإنما فعل ذلك مرضاة للشيخ أبي الهدى أفندي الصيادي الذي كان يعلم
أني من حزب السيد جمال الدين الأفغاني، فهو الذي أوعز إلى الوالي بأن يصادر
المنار، كما أوعز بذلك إلى بدري باشا متصرف طرابلس الشام، فصار كل منهما
يمنع بعض الأعداد التي يؤذن بتوزيعها في الآستانة وغيرها من البلاد، حتى
هبطت الإرادة السنية، وصدرت الأوامر العليا، بمنعه من جميع الولايات العثمانية،
وذلك قبل أن يتم له نصف سنة!
لم يشف هذا غيظ أبي الهدى أفندي، فأوعز إلى بدري باشا وأعوانه بأن
يؤذوا والدي وإخوتي، وينذروا عشيرتي وذوي مودتي، ولما رأى بدري باشا أن
مجلس إدارة اللواء لا يوافقه على ما يقصد من الإيذاء، وأن الإيذاء بغير يد
الحكومة لا يشبع تلك النفس الضارية المنهومة، أبدى هو وشيعته للسيد الوالد
(رحمه الله تعالى) نواجز الشر، ثم أشخصوه إلى مصر؛ ليحملني على مشايعة أبي
الهدى، وعدم المبالاة بمن دونه من الورى. وبعد طول المذاكرة رضي مني بأن
أكتب إليه كتابًا مني أبين له فيه أنه ليس من مقصدي الطعن فيه، وأنني لا أريد إلا
الإصلاح ما استطعت، وكتب هو إليه كتابًا آخر، فما عتم أن جاءنا منه الجواب،
وهذا نص ما كتبه إليَّ بخطه:
الحمد لله وحده.
من الفقير إليه محمد أبو الهدى الصياد الرفاعي عُفِيَ عنه، إلى جناب
الأديب الكاتب الشيخ رشيد رضا أفندي كان الله لنا وله وللمسلمين. وصلني قُبل
كتابكم، وفي هذه المرة أخذت كتابًا من والدكم وكتبت له الجواب في بريد اليوم،
فكن ريض الخاطر طيب البال، نعم إني أرى جريدتكم طافحة بشقاشق المتأفغن
جمال الدين الملفقة، وقد تدرجت به إلى الحسينية التي كان يزعمها زورًا، وقد
ثبت في دوائر الدولة رسميًّا أنه مازندراني من أجلاف الشيعة بعد المخابرة مع سفارة
إيران بدار السعادة والسفارة السنية في إيران، وهو حي وما قدر على الدفاع، وهو
مارق من الدين كما مرق السهم من الرمية، وأراك تملأ جريدتك كل يوم بانتقاد
الصوفية بأبحاث جلها ما هي من طريقهم وكذا أولتها، وفي بعضها أنت محق بلا
شبهة، إلا أنك تعلم أن العلماء الآن ما هم كالشافعي وأبي حنيفة وعظماء السلف
تمسكًا بالشرع، ولا عامة الأمة كالعامة الأول، فلو أنصفت وخدمت دينك بغير هذه
المواضيع، وإذا ألزمك طورك وقلمك بالتطرف، فهنالك تنتقد أعمال الأمم السائرة
من غير الإسلام انتقادًا عقليًّا يستميل لك القلوب ويرضي عنك ربك - لكان أولى،
ولما طاب قلبنا لك نصحناك، والموعد الله في كل غاية، والسلام 19 رجب سنة
1316.
ومن هذا الكتاب يعلم أن ما كان يؤلمه من المنار محصور في أمرين،
أحدهما: التنويه بالسيد جمال الدين الأفغاني وذكره بلقب (السيد) . ولم أكن أمنح
أبا الهدى هذا اللقب؛ لأنني لا أعتقد شرفه.
وثانيهما: انتقاد خرافات أهل الطريق التي جعلها أساس مجده. ولكنه كان
يوهم السلطان أن المنار لم ينشأ إلا لأجل الطعن فيه، كما يعلم مما يأتي. فكتبت
إليه كتابًا بيَّنت فيه أنني لم أكتب ولا أكتب إلا ما أعتقد أنه نافع، وذكرت له رأيي
في السيد جمال الدين الأفغاني، فلم يلبث أن أجابني بهذا الكتاب بخطه:
ولدنا الروحاني الأديب الأريب الفاضل الشيخ محمد رشيد أفندي آل رضا
المحترم:
أدعو لكم ولوالدكم بالخير والعافية ودوام التوفيق، وجدًّا صرت ممنونًا
من تحريراتكم المرسلة، والمأمول من عناية الله وفضله أن يديم لكم التوفيقات فيما
يرضيه، وقد حصل الآن قيد رؤوس أدرنه من مراتب العلمية الشريفة لك، فهي إن
شاء الله أول الفيوضات، ولا يجنحن لبالك أن ذلك لغوائش هذه الدنيا، بل إني
أعجبني قولك واطمأن قلبي لصدقك ولبراءتك، وأرجو الله إصلاح شأنك في الله كما
هو مطوي في كل من له للجناب الرفيع نسبة. وأوصي رفيقك بالثبات والاستقامة
على ما يبيض الوجه حالة القدوم على الله ورسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم [1]
وبحوله تعالى عند مجيئكم إلينا وانفكاكم عن هذه العوارض الحاضرة الزائدة التي لا
تنطبق على مجد النسبة نوعًا ما، وإن كان قصدكم حسنًا، فهنالك تنبلج فيكم أنوار
نسبتكم بالتحقق في الطريق الأقوم وتحت نظر سر الوجود صلى الله عليه وسلم، إذن
خدمتكم للدين وللمسلمين على النهج الشرعي الصحيح الأمين، ومني لكم الدعاء وهو
المطلوب منكم والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... 16 شعبان سنة 1316
... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه محمد أبو الهدى
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عفي عنه
قرأت هذا فبادرت إلى إرسال كتاب إليه جزمت فيه بأنني لا أقبل الرتبة
العلمية التي طلبها لي، وإنني من الذين يرغبون عن الرتب والأوسمة، فيجب
الرجوع عن طلبها، وإنني لا أستبدل بخدمة المنار للملة خدمة أخرى مهما كان
مظهرها وفائدتها، وإنني لا أطلب من الآستانة إلا الإذن بدخول المنار لسوريا
وغيرها من ولايات الدولة. واعدته في هذا الكتاب أو فيما قبله بترك التنويه بالسيد
جمال الدين؛ مادام المنار مأذونًا له بدخول بلاد الدولة، وسكت على ذلك وسكتنا.
وبعد ثلاثة أشهر وأيام من هذه المكاتبة، كتب ناظر خارجية إنكلترا إلى
لورد كرومر عميد دولته في مصر يقول: إن سفيرها في الآستانة كتب إليه يخبره
أن رئيس كتاب السلطان جاءه، وقال له: إن في مصر جريدتين معاديتين لشخص
السلطان، وهما: المنار والقانون الأساسي، وإن الخديوي ومختار باشا الغازي
يساعدانهما، وإن السلطان يرغب إليه بأن يسعى لدى حكومته بإبطال هاتين
الجريدتين، ويتخذ ذلك يدًا يكافئه السلطان عليها! ! فأخبر اللورد الأمير بذلك،
فعجب أشد العجب؛ لأنه لم يكن هو ولا مختار باشا بمساعد للمنار ولا للقانون
الأساسي، بل لم يكن يعرف من مشرب المنار إلا ما أخبره الأستاذ الإمام من أنه
جريدة دينية أدبية.
سألني الأمير عن ذلك سرًّا في يوم عيد الأضحى (سنة 1316) عندما
أردت الخروج مع العلماء من مقابلة التهنئة له بالعيد، وأمرني بأن أذهب إلى مقابلة
أحمد شفيق بك وكان رئيس القلم التركي (وهو اليوم أحمد شفيق باشا رئيس
الديوان الخديوي) ، فذهبت من حضرة الأمير إلى غرفته، وكان يقرأ المنار ويعلم
أنه ليس فيه تحامل على السلطان، بل لا يخلو من مدح له، ورأيته جازمًا بأن أبا
الهدى هو الذي سعى عند السلطان هذه السعاية، وضرب سهامًا فيها إلى عدوين من
أعدائه: الأمير ومختار باشا الغازي. فأخبرته بأن بيني وبين أبي الهدى سلمًا،
وذكرت له هذين الكتابين فطلبهما مني؛ لأجل أن يحتج بهما، فقلت له: إن
المراسلة بالأمانة، وإنني لا أجيز لنفسي أن أظهرهما مادمت أعلم أن إظهارهما
يؤذيه بتغيير السلطان عليه، واستدلاله بهما على خيانته له إذ يجعله ترسًا يدافع به
عن نفسه , وأما اللورد فقد جرى في المسألة على ما تعود من المحافظة على حرية
الصحافة , ولكن بعد البحث ومعرفة الحقيقة.
كرَّ أعوان أبي الهدى على أهلي كرة ثانية، وكانت الدولة دولتهم فضربوا
أحد إخوتي وهو خارج من طرابلس إلى القلمون ليلاً، وسرقوا فرسًا لنا، وحاولوا
أخذ مسجدنا منا، وأغروا جريدة طرابلس الشام بالطعن في المنار، والتمسوا لها
المساعدة من كل من يكتب في طرابلس حتى أصدقائي، فاضطررت إلى كتابة مقال
عنوانه (مؤاخذة العلماء) (39ص و51 م2) أسكتها به عن التمادي في الطعن.
ولكن ألسنتهم لم تسكت عن السب واللعن، إلا بعد أن أديل منهم، وخضدت
شوكتهم وذهبت ريحهم، وخرج بدري باشا من طرابلس مذءومًا مذمومًا، وبدلنا به
عبد الغني باشا العابد وكان لنا وليًّا حميمًا، بل غلب نفوذ عزت باشا العابد على
نفوذ الشيخ أبي الهدى في جميع البلاد السورية، فازداد انتشار المنار فيها وإن لم
يرسل إلا في البرد الأجنبية، وأمن الأهل والقراء على أنفسهم طائفة من الزمان
حتى كان منذ أربع سنين ما كان.
ذلك ما كان في السنة الأولى والثانية من سني المنار. وفي أواخر الثانية
وأول الثالثة صار يتردد علينا بعض جواسيس ممدوح باشا ناظر الداخلية في
الآستانة، ويعرض علينا الرتب والوظائف اللائقة إذا نحن تركنا المنار، وغادرنا
هذه الديار، فلو شئت أن أكون يومئذ قاضيًا أو مفتيًا في الشام أو بيروت، أو آخذ
مرتبًا شهريًّا عظيمًا من الدولة لفعلت، وقد قبل عبد الحليم أفندي حلمي أن يترك
مصر، ويكون معاونًا لناظر النفوس في بيروت بمرتب كمرتب الناظر، فنال ذلك
على أنه لم يكن كاتبًا ولا سياسيًّا ولا ذا شأن في المنار، وقد بلغني وقتئذ أن ذلك
الجاسوس أخذ من ممدوح باشا 800 ليرة عثمانية سماها ثمنًا لمطبعة المنار، ولم
يكن للمنار يومئذ مطبعة تساوي 800 قرش! .
وفي أثناء السنة الرابعة غضب عليَّ أمير هذه البلاد، وآذنني صديقي حسن
باشا عاصم (وكان رحمه الله يومئذ رئيس التشريفات) بأنه لا يرضى أن أقابله بعد
وكان يقول لي قبل ذلك: إن لك أن تجيء إليَّ في قصر عابدين أو قصر القبة
متى شئت. وكان غضب أيضًا على الأستاذ الإمام، وكلما اشتد غضبه على أحدنا
يشتد على الآخر، ولا أحب أن أذكر الآن شيئًا مما سمعته أو علمته من آثار هذا
الغضب إلا ما قيل من عزمه على إخراجي من مصر، فقد قال مصطفى كامل باشا
للأستاذ الإمام مرة: إن أفندينا يريد أن ينفي صاحب المنار من مصر ويطلب منك
أن تسكت على ذلك، ولا تحمل لورد كرومر على المعارضة فيه ... وسمعت مثل هذا
الخبر بعد وفاة الأستاذ الإمام. وقال لي أحد معارفي في 22 من المحرم سنة 1326
إن السر غورست على وفاق مع الخديوي وهو لا يعارضه في الانتقام ممن
يغضب عليه، ولا سيما إذا كان عثمانيًّا، ليس كلورد كرومر في المحافظة على
الحرية الشخصية، وقد علمت أن الخديوي غضبان عليك، فيجب أن تسعى في
استرضائه؛ لئلا ينفيك من هذه الديار، وأنه ربما يفعل ذلك. فقلت له: إنني لا
أكتب في هذه السنين شيئًا عنه، ولا أعلم أن في المنار شيئًا يسوءه، فماذا ينقم مني؟
قال: دوام الثناء على الشيخ محمد عبده. قلت: ليس في المنار ثناء، وإنما هي
أقوال عنه وآراء، ولا يمكن أن تخلو المنار من ذكره، وإن مصر لا مزية لها
عندي إلا لحرية العلم والصحافة والحرية الشخصية، فإذا كان الخديوي ينفي منها
من كره وجوده فيها، فلماذا أحرص أنا على الإقامة بها، أو آسى على البعد عنها؟
إنني إذًا أظعن إلى الهند، وإني لأعلم أنه يكون لي فيها مقام كريم لا أجد مثله في
مصر، هذا وإن مثل هذا الخبر ليس برهانًا يقينيًّا على صحة ما قيل عن الأمير -
برأه الله وحماه مما لا يليق به - وإن كان عند بعض الكبراء ونظار الحكومة نبأ منه.
وفي السنة الخامسة نشرت (سجل جمعية أم القرى) في المنار ومقالات
(الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) فتضاعف قراء المنار في القطر المصري،
واشتدت الحكومة العثمانية في المراقبة عليه والبحث عن قرائه ولا سيما في القطر
السوري.
وفي السنة السادسة شرعت في نشر رسالة في مالية الدولة العثمانية، فرغَّب
إليَّ الأستاذ الإمام أن لا أتمها فوافيت رغبته. ولكني ضقت ذرعًا بسوء حالنا
السياسية، فصرت أكثر في تفسير القرآن الحكيم من السياسة وهو يجيز ذلك؛ لأنه
إنما ينهى عن التصريح بسياسة حكوماتنا وحكامنا؛ لئلا يصدونا عن خدمة الدين
والعلم.
وفي السنة السابعة كثر دبيب عقارب الساعة من جواسيس المابين
بمصر، وتواترت التقارير في الأستاذ الإمام وفي صاحب المنار، وكان الذي
يبلغها السلطان هو عزت باشا العابد الذي كان بينه وبين الأستاذ مودة سابقة منذ كانا
في سورية، ولم يحدث بينهما ما يوجب هذا الانقلاب إلا صنعة عزت
الجديدة في المابين وعلاقته بمصر، وكان حزب الشيطان الذي يدبر هذه السعايات
والمفاسد قد زور رسائل بتوقيع (محمد عبده) ، وأرسلها إلى الحجاز واليمن
وغيرهما من البلاد العربية تشتمل على الدعوة إلى الخلافة العربية، وهو يعلم
أنها تقع في الأيدي التي توصلها إلى المابين، فاشتد خوف السلطان من الشيخ
محمد عبده. والشيخ محمد عبده لا علم له بما يكتب في شأنه، ولا ما يكتب عن
لسانه مما هو مخالف لرأيه واعتقاده، حتى إنه هو الذي أرجع بعض المستشرقين
عن السعي لإنشاء دولة عربية؛ لاعتقاده أن التفريق بين الترك والعرب يضعف
الفريقين، ويسهل على الدول الطامعة محو الدولة الإسلامية من الأرض، وإنني
ما وقفت على أكثر ما أشرت إليه هنا إلا بعد موته.
وما دخلت السنة الثامنة إلا وقد صار النفور والخلاف بين الأمير والأستاذ
على أشدهما، كما أن السعاية السلطانية فيه قد بلغت غايتها، وقد اشتد المرض
على الأستاذ حتى كان يجود بنفسه في الإسكندرية، والحكومة العثمانية تبحث عنه
في سواحل بيروت؛ لأن الجواسيس قد بلغوا المابين أنه سافر إلى بيروت متنكرًا؛
ليؤسس الخلافة العربية في سورية! ! ألا قاتل الله أولئك التحوت الأشرار، ما كان
أشد عبثهم بالسلطان وخيانتهم له وللدولة والأمة. وفي هاتين السنتين كان الاستبداد
قد شد الخناق على محبي العلم، والاضطهاد لمقتني الكتب. ومنيت بيروت بخليل
باشا واليًا، وطرابلس بحسني بك متصرفًا! وكانا من شر أعوان الاستبداد
والمخلصين له فيما يحاول من الظلم والإفساد، فأسرفا في تفتيش البيوت! وأخذ
الكتب والأوراق منها! والمؤاخذة على اقتنائها! حتى صار الناس يحرقون كتبهم
وأوراقهم بالنار! ومنهم من كان يدفنها بل يئدها كما تئد الجاهلية البنات! حتى
أحرق في سنة واحدة عشرات الألوف من المجلدات!
كيف لا وقد كانت الكتب والجرائد تعد من الجرائر، منها الصغائر ومنها
الكبائر، وكان اقتناء المنار أو ما طبع بمطبعة المنار، هو أعظم الذنوب وأثقل
الأوزار، وكان الحكم على مجرمي الكتب بالهوى لا بالشرع ولا القانون، ولا تأخذ
الحاكم فيهم رأفة، ولا تقبل منهم شفاعة ولا عدل ولا هم ينصرون، على أن أولئك
الولاة ومن دونهم من المستبدين، لم يستعملوا بأس الحكومة إلا في منع كتب العلم
واضطهاد المتعلمين، دون سفك الدم وإفساد الأمن، وإهلاك الحرث والنسل، فماذا
كان حظنا من حكمهم؟
دمروا الدار، واجتاحوا الكتب والأسفار، وحبسوا من وجدوا من الإخوة،
وحصروا الوالد المريض مع النساء، ووضعوا على داره الحراس والخفراء، فكان
ذلك الشيخ الجليل، والسيد الشريف يجود بنفسه، وينتظر أمر ربه، وبناته مع
أمهن أمام سريره يطلقن العبرات ويصعدن الزفرات، فقد عز عليهن، وعظم
المصاب في قلوبهن، وإن حيل بينه وبين أولاده الأبرار، في وقت توديعه لهذه
الدار، فمنهم القريب الذي هو في حكم المبعد، والسجين الذي هو في حكم المستعبد
هذا والجنود السلطانية تحيط بهن وتطوف حول منزلهن، شاكية السلاح، مستعدة
للكفاح، تدل ببأسها وشدتها، تمثل قوة (الخلافة الحميدية) وعظمتها؛ ليعرف
الشيخ المحتضر عجزه عن تأسيس خلافة عربية في قرية القلمون، وهكذا قضى
الوالد نحبه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم كان من ظلم الحكومة المستبدة لنا أن ولت على مسجدنا رجلاً آخر بغير
حق، وأطمعته في الاستيلاء على عقاراتنا بدعوى أنها وقف، كما أطمعت غيره
من أشقياء طرابلس فنهبوا ما وجدوا في الدار من الثياب والحلي والماعون وغير
ذلك، وقد أسقط الله حكومة الاستبداد، ولما تكون حكومة الدستور، فحقوقنا لا
تزال مهضومة؛ لفساد الحكام واختلال الأمن العام، فهذا مجمل من خبر ظلم
الحكومة لنا، وهو قليل من كثير ظلمها لغيرنا، ممن أجرموا كإجرامنا، فشكوا من
الظلم والجهل ودعوا إلى العلم والعدل.
كان يصل إلينا قليل من أخبار الاستبداد ووقائع العتو والإفساد، وبعد وفاة
الأستاذ الإمام صرفنا وقت الفراغ والراحة الذي كنا نجالسه فيه إلى مجالسة إخواننا
العثمانيين المقيمين في القاهرة، فازددنا علمًا بسوء الحال، وخطر المآل، فأسسنا
جمعية الشورى العثمانية؛ لأجل جمع كلمة العثمانيين على استبدال حكومة الشورى
بحكومة المستبدين؛ لعلمنا بأن جمعية الاتحاد والترقي خاصة بالمسلمين، وأن
العثمانيين ماداموا متفرقين شيعًا، ومتقطعين مللاً وأممًا فكلمتهم هي السفلى، وكلمة
الاستبداد هي العليا، فتألفت الجمعية من المسلمين عربهم وتركهم وألبانهم وأكرادهم
ومن النصارى عربهم ورومهم وأرمنهم، ودعي إليها بعض اليهود؛ ولكن لم يكن
في مجلس إدارتها أحد منهم، وقد انتخب هذا العاجز (صاحب هذه المجلة) رئيسًا
لمجلس إدارة اللجنة المؤسسة لهذه الجمعية، وكانت ترسل جريدتها ومنشوراتها
السرية إلى الرومللي والأناطول بل والآستانة العلية.
اهتم السلطان بهذه الجمعية، حتى هجر النوم مضجعه ثلاث ليال كما علمنا
من رواية العارفين الثقات، فقد كان - أقر الله بالدستور عينه، ولا سهد في عهد
الحرية جفنه - كثيرًا ما يشارك أحرار أمته في أرقهم، ويساهمهم في قلقهم، وإن
كانا في هذا الأمر، كضيف عمرو وعمرو، وصار للجمعية لسان صدق عند جميع
أحرار العثمانيين، فكانت مبدأ ما كان من وحدتهم بعد حين، وقدم أحمد رضا بك
من باريس إلى مصر، فرغب إلينا أن نضم جمعيتنا إلى جمعية الاتحاد والترقي
فأبى مجلس الإدارة ذلك عليه، وكان مما قلته له إن تعدد الجمعيات مع وحدة الغاية
والمقصد لا يعد تفرقًا ولا يحدث ضعفًا، وإننا نرى أنه لا نجاح للعثمانيين إلا باتفاق
عناصرهم على المطالبة بالدستور، قال: إن قانون جمعيتنا لا يمنع قبول غير
المسلمين فيها، قلت: نعم، وإننا لا نشكو من القانون. ولكن من عدم تنفيذه، فما
قانونكم - وليس في جمعيتكم رومي ولا أرمني ولا سوري نصراني - إلا كقوانين
السلطنة (حبر على ورق) ولو نفذ السلطان قوانين الدولة على علاتها، لما طالبناه
بمجلس (المبعوثان) لإشراك الأمة معه في الأحكام.
هذا ملخص تاريخنا السياسي في السنين الخالية: سالمنا السياسة فساورت
وواثبت، وأسلسنا لها فجمحت وتقحمت، وكنا نهم بها في بعض الأحيان، فيصدف
بنا عنها الأستاذ الإمام، ولم ننل منها ما نهواه، إلا بعد أن اصطفاه الله، وليس
للمنار حظ في السياسة العملية، وإنما همه أن يكون حرًّا فيما فرض عليه من
الخدمة الملية، وإذا كان (كسائر الصحف) قد أمن على حريته واستقلاله من
استبداد الدولة، فقد بقي عليه أن يجاهد مع غيره استبداد الأمة. فإن في الأمة
أعداء للحرية والاستقلال في العلوم والأفكار والأعمال، يحبون أن تكون الصحف
كما يرون لا كما يرى أصحابها، وأن تنشر فيها ما يعتقدون لا ما يعتقد كتابها، وما
كتاب الصحف إلا معلمون ومرشدون، وهل يُعلِّم الأستاذ تلاميذه ما يعلمون،
ويربي المرشد مريديه كما يريدون؟ وقد جرى على هذا كثير من أصحاب
الصحف المصرية وما كانوا مصلحين، ويجري عليه الآن بعض أصحاب الصحف
العثمانية وما هم بمهتدين، وسيبقى المنار على صراطه لا يبالي بالمخالفين.
نعم، إن المنار يستقبل جهادًا جديدًا في البلاد العثمانية، وقد فرغ من مثله
فيما عداها من مصر وسائر البلاد الإسلامية، فأكثر المسلمين العثمانيين لم يألفوا
حرية البحث في السياسة والعلم والدين، ينظر أغلب الباحثين إلى القائلين دون
الأقوال، وينصرون التقليد على الاستقلال. ولكن يوجد في كل بلد أفراد سلمت
فطرتهم، واستنارت بالحق بصيرتهم، يشعرون بشدة الحاجة إلى إصلاح حالنا
الاجتماعية والدينية، ويعلمون أنه يتوقف على استقلال الفكر والحرية، وإن هؤلاء
على قلتهم ليغلبون أولئك على كثرتهم، وسيبرزون لهم بعد استقرار الدستور
مجادلين لا مجالدين {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) فهذه الفئة هي التي يشد المنار أزرها، ويشد بها أزره،
وينصرها في جهادها ويتقاضاها نصره {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ} (الحج: 40) .
سيقول السفهاء من الناس، وأهل الإرجاف والوسواس: إن هذا المنار يدعو
إلى الفوضى في الدين، بترك مذاهب الأئمة المجتهدين، وينصر مذهب الوهابية
على مذهب السنة أي: الحشوية، ويبطل القول بالكرامات، بإنحائه على الدجل
والخرافات، وحجة أنصار المنار على هؤلاء، ومن يقلدهم من الدهماء، الذي
يثبت أنه يتحرى الحق والصواب، ولا يريد إلا الإصلاح ما استطاع، دون
التعصب لمذهب على مذهب هي قبوله انتقاد المنتقدين في مسائل الدنيا والدين، إذا
أيدت الأولى بالعلم والعقل، والثانية بما يصح من النقل، مع التزام النزاهة
والآداب واجتناب الحشو والإطناب، فمن زعم أن في المنار باطلاً فليكتب إليه،
دون أن يعصي الله بغيبته والطعن عليه، وللحق السلطان على الباطل {بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ
جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) .
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني
__________
(1) يريد برفيقي عبد الحليم حلمي أفندى مراد، وكان يؤمئذ مديرًا لأشغال المنار، وكان يسافر إلى الآستانة قبل ذلك، وبلغني أنه اجتمع بأبي الهدى، ولم أدر ماذا كان بينهما، ولم يكن لذلك السفر علاقة بالمنار.(12/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطاب صاحب المنار
على طلاب الكلية الأمريكانية المسلمين في بيروت
أيها الأخوة الكرام:
إنكم أنتم محل رجاء البلاد بتربيتكم وما تتلقون من العلوم العالية؛ لذلك أحب
في هذا الوقت القصير أن أذكركم بما ينبغي لطالب العلم أن يكون عليه؛ ليتحقق
رجاء أمته فيه.
إن العلوم تُطْلَب لغرضين صحيحين: أحدهما تكميل النفس وترقية العقل.
وثانيهما العمل بالعلم، وللعمل به مسلكان: أحدهما جعله حرفة ومُسْتَغَلاًّ للعامل،
والآخر جعله وسيلة لترقية الأمة وإعلاء شأنها، ويمكن الجمع بينهما.
الغرض الأول لا بد منه لكل عاقل، وهو العون الأكبر على الغرض الثاني،
فإن من استنار عقله بالعلوم، وصار صحيح الحكم فيها، تعلو همته، ويكون جديرًا
بالإحسان في العمل والإتقان للصنع، فيجب إذًا أن يكون هو أول شيء تتوجه إليه
همتكم، وتعظم فيه رغبتكم.
يظن بعض ضعفاء العقول وصغار النفوس أن طلب العلم لأجل ترقية شأن
الأمة به، ينافي ما أودع في الغرائز من كون منفعة الإنسان لنفسه هي العلة الغائيَّة
لكل عمل من أعماله، وأن من توجه إلى ذلك وجعله همه من حياته، تفوته
مصالحه ومنافعه التي لا بد له منها.
تلك خديعة الطبع اللئيم، ووسوسة شيطان الخسة والصغار لصغار الهمم،
فقد رأينا بأعيننا وسمعنا وروينا عن التاريخ أن الذين يقفون حياتهم على خدمة أمتهم
لا يعوزهم الطعام واللباس اللائق بهم، بل كانوا يفضلون عيشتهم على كل عيشة
سواها؛ لما لهم من الكرامة ورفعة الذكر، إن لم يكن في بداية أمرهم ففي نهايته.
إن من يسلك في طلب العلوم مسلك الاحتراف، قصده منه أن يجعله دكانًا
يتجر به أو بستانًا يستغله؛ ليعيش منه لا يرتفع به إلى ما هو أعلى من هذا القصد،
فإن قيمته في الوجود لا تعلو قيمة غيره من أصحاب الحرف والصناعات العملية:
كالنجارة والحدادة والزراعة. لا أقول: إن هؤلاء لا قيمة لهم، وكيف أقول ذلك
وأعمالهم لا بد منها للمجتمع الإنساني، وإنما أقول: إن هؤلاء هم أهل الطبقات
الدنيا من الناس الذين لم يرتقوا في أفق الإنسانية. ويسهل على طلاب العلوم
لأجل الكسب والاحتراف أن يكونوا في أفق أعلى من أفقهم بأن يوجهوا أنفسهم إلى
إعلاء شأن الأمة بكسبهم وأعمالهم.
أيها الإخوة: إن استعداد البشر للكمال لا حد له يعرف، ولا طرف له يوقف
عنده، وإن الإنسان قد فطر على طلب الكمال، فلا يصل إلى شيء منه إلا ويطلب
ما فوقه، وإن أفراده يتفاوتون في ذلك تفاوتًا لا نظير له في غيره من المخلوقات،
فمنهم من يكون وجوده بمقدار محيط جسمه، لا يكاد يهمه شيء وراء توفية مطالبه
كبعض الحيوانات الدنيا، ومنهم من يتسع وجوده حتى يملأ بلدًا كبيرًا أو مملكة
عظيمة، وربما تعلو ببعض الناس همتهم إلى جعل وجودهم المعنوي ساريًا في أمم
كثيرة، مالكًا للأرض التي يعيش فيها الإنسان.
ولا نتكلم في هم الإنسان واستشرافه لما هو وراء ذلك من عالم الغيب، إذا كان
فضل الإنسان وسعة وجوده الإنساني على قدر نفعه بعلمه وعمله، فلا شك أن من
تتوجه نفسه إلى نفع جميع البشر، يكون أفضل وأكمل ممن لا يتوجه إلا إلى نفع
أمة واحدة أو شعب واحد. ولكن كيف يتأتى للفرد من الناس أن يخدم أممًا كثيرة؟
الجواب على هذا السؤال يعرف من القاعدة المعقولة التي جاء بها الحديث
النبوي، وجرى عليها الشرع الإسلامي، وهي (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول: الأقرب
فالأقرب) ، وقد قال فقهاؤنا: إن من وجد من القوت زيادة عن كفايته قدمه للأقرب
إليه من ولد وزوج ... إلخ، فإن وجد فضلاً أنفق منه على غير الأقربين من ذوي
الحاجات، حتى قالوا: إنه يجب على المسلم أن ينفق على المضطر من غير
المسلمين، ما لم يكن محاربًا لنا، وإنه يقدم الجار على غيره؛ لقربه! فعلى هذا
يجب علينا أن نبدأ بنشر العلم، والقيام بالأعمال النافعة في أمتنا ومملكتنا، وأن
يقدم أهل كل بلدة خدمة بلدهم الذي يقيمون فيه على غيره من بلادهم ثم نفيض بعد
ذلك من علومنا وأعمالنا النافعة على غيرنا من الأمم على الوجه الذي سبقتنا إليه
الأمم الحية في هذا العصر، وأمامكم العبرة في المدرسة التي تتعلمون فيها.
أليس منشئو هذه المدرسة يقصدون بها جعل العلم الذي ينفع الناس وسيلة
لنشر لغتهم، وبث تعاليم مذهبهم الديني في نفوس من يُعلِّمونهم؟! بلى، وإن في
حالهم هذه لعبرة لنا، يجب علينا أن نعتبر بها، وأن نرفع أنفسنا لتكون أولى بهذه
الثقة منهم.
يجب عليكم أن تتعاونوا وتعتصموا بعروة الاجتماع، وأنكم ربما تلقون كيدًا
وإحراجًا؛ لتشذوا وتتنكبوا جادة الاعتدال في استمساككم بدينكم وحرصكم على
الاجتماع والتعاون، فيجب أن تتسع صدوركم لجميع ما تنكرون من معاملة من معكم،
وأن تقابلوهم بالأدب في القول والفعل؛ لأن الأدب من الفضيلة وهي مطلوبة
لذاتها؛ ولئلا يكون لهم عليكم حجة بعد أن ثبتت لكم الحجة عند دولتكم ودولتهم.
إنكم لم تقصدوا بما كان منكم إلا إرضاء ضمائركم، والمطابقة بين عقائدكم
وأعمالكم، فحسبكم أن يتم لكم ذلك بالهدوء والسكينة والأدب. وإني أُجِلُّكُمْ عن قصد
العناد لرؤسائكم وأساتذتكم أو الجنوح للاستعلاء بالظفر لذاته.
وأوصيكم بالمحافظة على الصلوات الخمس ولو منفردين في حجراتكم،
وبالحرص على صلاة الجماعة كلما تيسر لكم ذلك ولو على أرض حديقة المدرسة،
فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا) .
إنكم قمتم بواجب ديني سلبي وهو الامتناع من دخول الكنيسة؛ لسماع تعاليم
دين غير دينكم، فعليكم بهذا العمل الإيجابي الذي هو عماد الدين، {اسْتَعِينُوا
بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153) .
__________(12/16)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المسلمون في مدارس الجمعيات النصرانية
المدرسة الكلية الأمريكانية
المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت كسائر مدارس الجمعيات النصرانية في
الشرق، غرض مؤسسيها منها جعل العلم وسيلةً إلى الدين، ولبعضها غرض سياسي
أيضًا، فهي طريق من طرق الدعوة إلى مذاهب مؤسسيها في دينهم , ولهم وسائل
أخرى: كالمستشفيات والمكتبات وحجرات القراءة يبثون فيها دعوتهم، وينشرون
بها مذهبهم، إلا أن المدارس الأمريكانية أحسن من غيرها تعليمًا، وأعلى تأديبًا،
وأشد استقلالاً، وأقل تعصبًا على المخالفين في الدين والسياسة؛ إذ ليس لأمريكا
مطمع في هذه البلاد؛ ولكن قد تؤيد هذه المدارس سياسة إنكلترا.
إن عقلاء المسلمين يقدرون غيرة مؤسسي هذه الجمعيات الدينية حق قدرها،
ويعرفون مقدار المستخدمين فيها لنشر دينهم، والتوسل إليه بالوسائل النافعة
للناس في أجسامهم وعقولهم، ويتمنون لو يوجد في أمتهم الإسلامية أسخياء أجواد،
يبذلون المال لنشر الإسلام مع العلم النافع الذي هو أساس بنيانه، والعمل الصالح
(كالمستشفيات) الذي هو أقوى أركانه , وإن عامة المسلمين يشعرون بشدة الحاجة
إلى هذه المدارس التي أسست على دعوة النصرانية؛ لما فيها من العلم، ويعلمون
بما فيها من الضرر لأولادهم في الدين , فالعلم يقتضي الإقبال عليها، والخوف على
عقائد النشء الجديد يمنع من الثقة بها، والجمهور مختلفون في الترجيح بين المانع
والمقتضي.
فمنهم من يرجح المقتضي من غير تفكير في عواقب المانع؛ لأن الشعور
بالحاجة إلى العلم قد استحوذت على فكره، حتى حال بينه وبين سلطان قلبه , ومن
يرجحه لاعتقاده أن المسلم لا يكون نصرانيًّا؛ لأن الدين قد سار على سنة الارتقاء
تبعًا لاستعداد البشر، فكان الإسلام منتهى ارتقائه، وهو الدين المعروف تاريخه،
المتواتر كتابه، المحفوظ سند سنته، ومن وصل إلى الدرجة العليا في شيء لا
يرضى لنفسه أن يهبط إلى ما دونها , ولذلك يبذل دعاة النصرانية الألوف المكررة
من الدنانير في دعوة المسلمين إلى دينهم بالأساليب العجيبة، ويقضون السنين
الكثيرة في البلد من بلادهم، ولا ينجحون باستمالة رجل واحد وإرجاعه عن
الإسلام! وإن كانوا يوهمون جمعياتهم التي تمدهم بالمال، فيكتبون إليها في كل عام
أنه قد تنصر في هذه السنة على أيدينا فلان وفلان، ويذكرون أسماءً سموها
بأقلامهم لم يعرف مسمياتها الزمان , ولكن الإسلام يجذب إلى رحابه الفسيح في كل
سنة ألوفًا من الناس بغير دعوة ولا ترغيب , كترغيب دعاة الإنكليز والأمريكان،
ولا ترهيب كترهيب دعاة الروس في بلادهم! .
نعم ربما يقذف الفقر في كل حقبة من الزمن برجل من المسلمين جنسيةً لا
حقيقةً، فيلقيه في ملجأ من ملاجئهم، أو فناء من أفنيتهم، فيسهل له العوز انتحال
اسم من أسمائهم، أو لقب من ألقابهم، وربما أغراه المال بأن يكون داعيًا من
دعاتهم كما فعل (أرميا الحزين) الذي استجاب لرقيتهم بمصر، ثم فضحهم وهو
يبشر لهم في الجزائر؛ إذ كتب مقالات في المؤيد بيَّن فيها أنهم يدَّعون في كل بلد
إسلامي نجاح دعوتهم في غيره، ويدعون في تقاريرهم التي يرسلونها إلى جمعياتهم
أنهم ناجحون في كل بلد، والغالب فيمن يجنح لهم أن يعود إلى الإسلام ولو بعد
حين.
وقال السيد جمال الدين الأفغاني في بيان سبب إخفاق دعوة المبشرين بين
مسلمي الهند: إن المسلم لا يمكن أن يكون نصرانيًّا؛ لأن الإسلام نصرانية وزيادة،
فإنه يقرر الإيمان بعيسى وبما جاء به من عند الله - تعالى - دون ما زاده الغلو
على ذلك، ويزيد على ذلك الإيمان بمحمد - عليهما الصلاة والسلام - وبما جاء به
مصدقًا لما قبله.
وحدثني شاكر بك الذي كان رئيسًا للجزاء بطرابلس الشام من بضع عشرة
سنة، أنه كان في بلدة ليس فيها مدرسة للبنات إلا جمعية للراهبات، فوضع بنتًا له
فيها فرأتها أمها يومًا ترسم شكل الصليب على وجهها أو صدرها، فوجمت
وامتعضت، وشكت وبكت، وقالت: لا بد من إخراجها من هذه المدرسة , قال:
فهونت عليها الأمر، وكنت أقول لها: جانم إن ابن المسلم لا يكون نصرانيًّا أبدًا،
ولم أقبل توسلها إليَّ بإخراجها، وقد تعلمت حتى أتمت تعليمها عند الراهبات،
وهي الآن تقرأ القرآن الشريف وتصلي وتصوم، ولم يضرها حرص الراهبات
على تنصيرها.
هذا ما يراه بعض الذين يعلمون أبناءهم وبناتهم في هذه المدارس الدينية،
ومنهم من يرجح المانع على المقتضي، كما هو المعتمد في المسألة عند أهل
الأصول، كما أشار إلى ذلك الشاعر بقوله:
قالوا فلان عالم فاضل ... فأكرموه مثلما يرتضي
فقلت لما لم يكن عاملاً ... تعارض المانع والمقتضي
ومبلغ حجة هؤلاء أن مذاهب الفقهاء المتبعة تحظر على المسلم المتمكن في
دينه أن يدخل مع النصارى وغيرهم من المخالفين لنا في أصل الدين معابدهم
بهيئتهم الدينية التي يدخلون فيها، وصرحوا بأنه إذا تشبه بهم في ذلك بحيث يظن
أنه منهم صار مرتدًّا، وإن بقي متميزًا عنهم بحيث لا يشتبه بهم لا يكون مرتدًّا
إلا إذا قال أو فعل أو اعتقد ما يخالف ما هو مجمع عليه معلوم من الدين
بالضرورة , ويقولون: إن من الخطر على دين غير المتمكنين في دينهم: كالأولاد
الذين يوضعون في هذه المدارس، أن يسمح لهم بهذه الأعمال التي يغلب أن تكون
عندنا كفرًا وردةً، وأهونها أن تكون معصيةً، فإذا علق النوع الأول في ذهن التلميذ
منا، ومات قبل أن يصحح اعتقاده بمعاشرة المسلمين العارفين، أو مراجعة العلماء
الراسخين مات مرتدًّا، لا نرثه ولا نعامله معاملة موتانا إذا كنا عالمين بحاله، وإذا
مات أبوه أو أمه أو غيرهما من الأقربين في حياته لا يرث هو منهم شيئًا. ويقولون
أيضًا: إن بعض فقهائنا صرح بأن الرضا بالكفر كفر، فإذا رضينا بشيء من ذلك
نكون نحن مرتدين أيضًا.
وهذا الذي يتخوفونه على دينهم ليس ببعيد عن مدارس الكاثوليك
والأرثوذكس ولا سيما مدارس الجزويت، كما بلغنا من مصادر كثيرة تصل إلى
درجة التواتر المعنوي؛ من أنهم يلزمون أولاد المسلمين بجميع تقاليدهم الدينية
حتى تعظيم الصور، والتماثيل، والاستغاثة بالقديسين، وذلك في حكم الإسلام شرك
نعتقد أنه طرأ على النصرانية بعد المسيح - عليه السلام - وحوارييه عليهم
الرضوان بعدة قرون , وإن كان القرآن لا يدخلهم في لقب المشركين ولا نحن
نخاطبهم به؛ لأنهم يتبرأون منه ويتأذون به، وإيذاؤهم محرم علينا سواء كانوا
ذميين أو معاهدين، وقد بينا ذلك في المنار أكثر من مرة , أما ما ذكرناه في هذا
المقال فبيان لما يعتقده المتساهلون وغير المتساهلين منا، نرجو أن يكون سببًا
لحسن التفاهم بيننا وبين العقلاء المعتدلين منهم: كعمدة المدرسة الكلية
الأمريكانية في بيروت.
قد قلنا في أول المقال: إن مدارس الأمريكان أقل تعصبًا على المخالفين،
وقد جرى بيني وبين أحد أساتذة المدرسة الكلية الأمريكانية ببيروت حديث في
الخلاف الذي جرى بين تلاميذ المسلمين وعمدة المدرسة على دخول الكنيسة؛
لسماع الوعظ الديني. إذ امتنع التلاميذ من الدخول بعدما صارت الحكومة العثمانية
دستوريةً حرةً، وأصرت المدرسة على إلزامهم أحد الأمرين: إما الاستمرار على
دخول الكنيسة كما كان الأمر على عهد الحكومة الاستبدادية، وإما الخروج من
المدرسة وترك التعلم فيها , فاجتمعوا وتقاسموا لنثبتن على رأينا: لا ندخل ولا
نخرج، حتى رفع الأمر إلى الآستانة، وبعد مراجعة حكومتنا هناك لسفير الولايات
المتحدة، تقرر بينهما ما بلغته نظارة الداخلية لوالي بيروت وهو أنه لا يلزم
المسلمين دخولُ الكنيسة، بل يجب أن يبنى لهم مسجد يصلون فيه , وأن السفير
بلغ معتمد (قنصل) حكومته في بيروت ذلك؛ ليبلغه المدرسة الكلية , وقد كان
الحديث بيني وبين ذلك الأستاذ قبل ورود هذا البلاغ من الآستانة، وحضره جماعة
من فضلاء النصارى.
قال الأستاذ ما معناه: إن المدرسة الكلية لا تعلم التلاميذ التقاليد والأعمال
الدينية التي يقررها بعض مذاهب النصرانية، ولا تطعن في أديانهم ولا مذاهبهم
التي تخالف مذاهب مؤسسيها، وإنما تلقي عليهم مواعظ عامة تتفق مع كل دين،
وإن كانت من الكتاب المقدس؛ لأجل أن تغرس في نفوسهم تقوى الله وحب الفضيلة،
وتبعدهم عن الإلحاد والتعطيل، فإن المؤسسين لها من أهل الدين والمحافظة عليه
أهم مقاصدهم , وإن المكان الذي تلقى فيه المواعظ الدينية ليس كنيسة مؤسسة لأجل
العبادة، بل هو مكان تلقى فيه الخطب العلمية والأدبية وغيرها، ويعزف الحسان
فيه بآلات الموسيقى.
(قال) : فهل يحرم الدين الإسلامي على المسلمين دخول هذا المكان،
ويوجب عليهم مخالفة نظام المدرسة؟
قلت: إن المسلمين فريقان: منهم من يأخذ بالدليل، ومنهم من يتبع فقهاء
مذهبه، والمشهور عن فقهاء المذاهب التي عليها هؤلاء التلاميذ أن الدخول إلى
معابد المخالفين لنا في الدين ومشاركتهم فيما هو خاص بهم من أمور الدين فيها وكذا
في خارجها: إما محرم وإما كفر، في تفصيل لهم في ذلك , فلعل تلاميذكم يعتقدون
أن دخول المكان الذي ذكرته من هذا القبيل، وحينئذ يجب احترام اعتقادهم، وإن
كان لا يقوم دليل في الإسلام على تحريم دخول مكان مثل الذي ذكرت، ليس معبدًا
دينيًّا، ولا يلقى فيه شيء مخالف للإسلام.
(ثم قلت) : إن احترام النظام في المدارس والبيوت وكل مكان ركن عظيم
من أركان التربية، ومن لم يتربَّ على احترام النظام والتزامه لا يكون رجلاً عظيمًا
نافعًا لأمته ووطنه , ولكن احترام الاعتقاد والضمير أقدس وأعلى من احترام النظام،
فإن من لا يحترم اعتقاد نفسه يكون منافقًا لا يوثق به في شيء من الأشياء. وإن
إكراه التلميذ في ذلك أشد إفسادًا لأخلاقه من كل ما يخطر في البال أنه يفسد الأخلاق؛
إذ لا يرجى ممن لا يحترم اعتقاده أن يحترم أسرته ولا أمته، فضلاً عن احترامه
لمن لا يتصل به في وشيجة رحم ولا مصلحة وطن.
(قلت) : إنني إذا رأيت إنسانًا يعتقد بأن هذه البلاطة من الرخام (وأشرت
إلى بلاطة في الأرض) تنفع وتضر، ورأيته يعبدها ويحترمها، فإنني لا أجيز
لنفسي أن أكرهه على دوسها والوطء عليها، ولا أن آمره بذلك إلا بعد أن أقنعه
ببطلان اعتقاده فيها , وقد وقع لي واقعة في ذلك: وهي أن رجلاً أخبرني بأن
خصمًا لي في محاكمة شرعية حمله كتابًا إلى آخر، وسألني ماذا يفعل فيه، وأنا
أعلم أنه يطيعني في كل ما آمره به، وأن في الكتاب حجةً لي على خصمي تصلح
فصلاً للنزاع، وتوفر عليَّ وقتًا طويلاً ونفقةً كثيرةً، ولو شئت لأخذت الكتاب فإن
حامله لا يخالف أمري، ومع هذا لم أستحل أن آمره بالخيانة.
ولما حدثت مشكلة القضاء الشرعي بمصر من زهاء عشر سنين، وعزم
الإنكليز على إلزام الخديوي بعزل القاضي المولى من السلطان، وتولية قاضٍ
مصري مكانه كره الخديوي ذلك , ولكنه لم يهتد إلى المخرج منه، فطلب أن يجيء
الأستاذ الإمام من القاهرة إلى الإسكندرية (وكان الخديوي في مصطافه فيها) ،
فجاء - رحمه الله - ليلاً، وقابل الأمير في الصباح، فقال له: إنني طلبتك بلسان
البرق؛ لأستشيرك في مشكلة القاضي، وبعد خروجك من هنا سيدخل لورد كرومر؛
لأجل أن يكلمني في وجوب عزل جمال الدين أفندي، وتولية أحد علماء مصر
منصب قضاء مصر الشرعي , وسيجتمع بعد ذهابه مجلس النظار هنا؛ لتقرير ذلك،
فبماذا أدفع اللورد بحسب رأيك؟ فقال الأستاذ: إن الإنكليز من أشد خلق الله
احترامًا لحرية الضمير والاعتقاد؛ حتى إنهم ربما ذكروا ذلك في قوانينهم، فإنهم
لما وضعوا قانون التلقيح للوقاية من الجدري، كان من مواده أنه يجبر عليه كل أحد
إلا من يقول: إن ضميره لا يجيز له ذلك، فإذا كنتم تعتقدون أن تولية القاضي من
حقوق السلطان وأنه لا يجوز لكم أن تعينوا القاضي من قبلكم، فيكفي في إقناع
اللورد بالرجوع عن طلبه، أن يقول له أفندينا: إن ضميري لا يسمح لي بذلك؛
لأنني أعتقد أن هذا حق السلطان وحده، فمتى سمع هذا الجواب يذعن له، ولا
يمكن لمثل لورد كرومر في تربيته الإنكليزية العالية أن يقول لكم: خالفوا ضميركم ,
وقد كان الأمر كما قال الأستاذ، وبذلك انحلت المشكلة بعد أن كان عزل قاضي
السلطان قد صار في الأمر المقضي الذي لا مراجعة فيه، حتى إن جمال الدين
أفندي باع داره، وتهيأ للسفر من مصر إلى الآستانة.
هذا ما أجبت به أحد أساتذة المدرسة الكلية، وقد استحسنه من سمعه،
واعترفوا بأن من إفساد الأخلاق أن يؤمر الإنسان بفعل ما يعتقد أنه قبيح أو محرم
عليه، ثم جاءني بعض تلاميذ الكلية من المسلمين، وسألوني عن رأيي في مسألتهم
وسألتهم عن سببها وعلتها، فاستفدت من المراجعة ما يأتي:
(1) إن التلاميذ يُلزمون الدخول كل يوم الكنيسة (Chapel) ، والمكث
ربع أو ثلث ساعة؛ لسماع نبذة من العهد الجديد أو العهد العتيق، تختم بالدعاء
الذي يعبرون عنه بالصلاة، وكل يوم أحد ثلاث مرات، يمكثون كل مرة زهاء
ساعة ونصف.
(2) إنه يوجد في المدرسة جمعية أرمنية لتلاميذ الأرمن، وجمعية يونانية
لليونانيين، وجمعية للمصريين من المسلمين والنصارى، وجمعية مسيحية تسمى
جمعية الشبان المسيحيين، وجمعية لليهود.
(3) طلب التلاميذ المسلمون إنشاء جمعية إسلامية؛ تبحث في ترقي
المسلمين مع عدم الخوض في السياسة، فرفض طلبهم.
(4) طلبوا أن يجتمعوا ليلة المولد النبوي؛ للبحث في سبب الاحتفال في
مثل ذلك اليوم وما يحسن فيه، فمنعوا , فهذا هو السبب لتألب المسلمين , وذكر لي
عبارات شاذةً في الطعن في الإسلام تصريحًا أو تلويحًا، سقطت من بعض رجال
المدرسة الأمريكانيين، هاجت النفوس، وأعدتها للحركة التي ظهرت بعد ذلك
عندما جاء وقتها، ولا نذكرها في هذا المقال؛ لأنها ليست من نظام المدرسة ولا
من أعمالها المطردة.
بعد هذا كله نقول: إن مؤسسي المدرسة بأموالهم ومديري شؤونها والمعلمين
فيها كلهم من أهل الفضل والخير، والعلم بطبائع الأمم وأخلاق البشر وأحوال
الاجتماع، فهم يعلمون أن الظلم (ومنه منع المسلمين من الاجتماع كاليهود بَلهَ
النصارى) ينتج في المستقبل ضد ما يراد منه في الحال، وإن الأمم لا ترهق في
زمن الدستور والحرية، بما كانت ترهقه في زمن الاستبداد والعبودية، فكان عليهم
أن يتذكروا هذا فيلينوا ويتسامحوا مع التلاميذ المسلمين عند امتناعهم عن دخول
الكنيسة، ثم يستميلوهم إلى احترام المدرسة بالعدل والمساواة بينهم، وبين غيرهم
من الملل والشعوب في تأليف الجمعيات، بأن يأذنوا لهم بتأليف جمعية إسلامية.
فإن الرئيس الذي لا يعدل لا يطاع بالاحترام، وكيف يطالب بالنظام من يتعصب
ويحابي في النظام، ثم يجعلون تلك المواعظ خاليةً مما يخالف الإسلام ويعارضه،
ويقنعون أولئك التلاميذ بأن حضورها بهذه الصفة لا يحظره الإسلام فيكون نفاقًا
وما أسهل ذلك عليهم إذا جاؤوه من بابه.
إن جميع من في المدرسة الكلية من الرؤساء والمعلمين، يعلمون أن ما يلقى
فيها من المواعظ عادةً لا يَرُدُّ المسلم عن الإسلام إلى النصرانية؛ ولكنه لا يخلو من
نوع من الألفة والمودة وتقريب الطوائف بعضها من بعض، وهذا المقصد العالي
الذي يسعى إليه الحكماء الذين يخدمون الإنسانية خدمةً خالصةً من شوائب السياسة
والهوى , فإذا كان رؤساء المدرسة يرمون إلى هذا الغرض فعليهم أن يتذكروا أن
الرمي إليه عن قوس العزة والإدلال، والإكراه والإذلال، هو الذي يطيش سهمه،
ويفضي إلى ضد ما يراد منه، وأن الحب لا يكون بالغضب، وإنما التحبب داعية
الحب.
بلغني أنهم يقولون: إن المدرسة مسيحية أنشئت بمال المسيحيين؛ لأجل بث
الدين المسيحي، فمن لم يرض بدخول الكنيسة، وتلقي التعليم المسيحي فيها فلا
يدخلن مدرستنا، وهذا القول على مخالفته لفحوى ما سمعته من أحد معلمي المدرسة
يمكن أن يقوله بعض رؤساء المدرسة؛ احتجاجًا وانتصارًا لأنفسهم، وما أظن أن
جميع أولي الشأن في المدرسة؛ يرضون بأن يكون فصل الخطاب في المسألة
حرمان المسلمين من المدرسة، أو إخضاعهم لما سبق بيانه من المعاملة التي تنفر
القلوب، وتورث العداوة والبغضاء، والتعصب الذميم.
وصفوة الكلام في هذا المقام أنه يتعذر على المدرسة الآن إلزام من فيها من
المسلمين ما ذكروا، بعدما اجتمعوا وتقاسموا، واتفقت حكومة الآستانة مع سفارة
الولايات المتحدة على عدم جواز ذلك , وأن أمامها في السنة الآتية أحد أمرين: إما
التساهل والتسامح في قبول التلاميذ المسلمين؛ لتأليف النفوس وجذب القلوب
بعضها لبعض، والاكتفاء من الخدمة الدينية بهذا المقدار، مع ترقية العقول بالعلم،
والنفوس بالتربية الأدبية الاجتماعية , وإما عدم قبول المسلمين في مدرستهم وهم
أحرار مختارون في ذلك.
فإن اختاروا الأمر الأول حمدهم المسلمون وحمدتهم الإنسانية، وكانوا أقرب
إلى مقصد الدين الحقيقي الذي لا خلاف فيه بين المسيحية والإسلامية، وهي خير
البشر وتآلفهم، وإن اختاروا الأمر الثاني فإنهم يعلمون المسلمين درسًا جديدًا،
قد يضرهم ويضر من يعيش معهم من جهة تباعد القلوب، وقوة التعصب الذي
يشكو منه محبو التأليف والتوفيق؛ ولكنه ينفعهم من جهة أخرى بما ينهض من
هممهم، ويرفع من نفوسهم ويدفعها إلى الاعتماد على ذاتها، ومباراتهم في تأليف
الجمعيات الدينية لإنشاء أمثال هذه المدارس لأنفسهم.
سيقولون: إن المسلمين لا يستطيعون الآن إنشاء مدارس: كالمدرسة الكلية،
بل كثيرًا ما قالوا؛ ولكن هذا القول لا حجة له إلا ما يعهده من بخل أغنياء المسلمين
بالمال في سبيل العلم والدين , وهذا عرض لا يدوم، فها نحن أولاء نرى إخواننا
المصريين قد بدؤوا يبذلون الألوف من الدنانير لإنشاء المدارس، وقد سبقهم إلى
ذلك مسلمو الهند ومسلمو روسيا , وقد دبت الحياة في المملكة العثمانية، فيرجى أن
تسبق غيرها في هذا المضمار لمكانتها العالية من سائر بلاد المسلمين.
إن مسلمي العثمانيين لا بد أن ينشطوا في هذا العصر من عقالهم، ويعلموا أن
التعليم الأجنبي المحض مهما عظم نفعه لا يؤمن ضرره، فإنه إن خلا من الطعن
في الإسلام أو تفضيل غيره عليه، فإنه لا يخلو من إضعاف للعاطفة الملية، وحل
للرابطة القومية؛ فإنه يحول مجاري الفكر في العلوم ومهابَّ أهواء النفوس في
الأخلاق والآداب إلى جهة المعلمين والمربين من الأجانب، فيجعل عقول نابتتنا
وقلوبهم ملكًا لهم، أو وقفًا عليهم، أو مجذوبةً إليهم، أو مفضلةً لمقومات أمتهم على
غيرها , وبذلك ينقص من مقومات أمتنا ومن احترامها في نفوس نابتتنا بمقدار ما
يزيد في نفوسها من عظمتهم، فلا نطمع في مجاراتهم ومباراتهم، فضلاً عن
مسابقتهم ومقاومتهم، بل نكون دائماً عيالاً عليهم، ناهيك بما في العلوم من الشبهات
على الدين التي يسهل دفعها عن الإسلام، لو كان المعلمون عارفين بحقيقته،
واردين عين شريعته.
فهذه العلوم التي تؤخذ من هذه المدارس، لا تكون حياةً حقيقيةً لأمتنا إلا بعد
أن يصير زمام التعليم والتربية في أيدينا، فيجب على تلاميذنا في المدرسة الكلية
الأمريكانية في بيروت وعلى أمثالهم في غيرها؛ أن يعدوا أنفسهم ليكونوا عونًا لنا
على ذلك بإتقان أساليب التعليم ونقل العلوم إلى لغتنا، وسيرون من الأمة نهضةً
مباركةً في إمدادهم بالمال، وأن لا يكرهوا ما يرون من هضم حقوقهم، وعدم
مساواتهم برفاقهم من أبناء الملل الأخرى، فإن هذه المعاملة هي التي تحرك غيرتهم
وتجمع كلمتهم، فليتقبلوها بسعة الصدر، وإطالة الفكر، وحسن المعاملة، وكثرة
المجاملة، وطاعة النظام، ولين الكلام، والتواصي بالحق والصبر، حتى تكون
حجتهم هي الناهضة، وعاقبتهم هي الحسنى {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ
فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء: 19) .
__________(12/18)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإصلاح الأهم المقدم في المملكة العثمانية
كثر حديث الناس في الحكومة العثمانية الجديدة، وما يُنتظر منها من
الإصلاح بعد أن قضى أحرار الأمة وجيشها على الحكم الشخصي الاستبدادي،
وأدالوا منه حكم الشورى الدستوري، وكثرت أقوال الجرائد في ذلك، ولكننا نرى
أكثر الحديث في الأمور الكمالية التي لا يكون إصلاحها إلا في السنين الطوال:
كالمالية والمعارف والحربية والبحرية والعدلية (الحقانية) والزراعة، وقلما نرى
أحدًا يذكر أهم المهمات الذي يجب تقديمه على كل شيء بلا استثناء، ألا وهو
تنظيم الشرطة (الضابطة والبوليس) لأجل حفظ الأمن العام، وتنفيذ الشرع
والقوانين بالعدل والمساواة.
أعلن الدستور وأعيد القانون الأساسي، فصاح الصائحون بالناس في كل بلد
أنِ احتفِلوا به، فاحتفَلوا، وقيل لهم: اخطبوا واهتفوا، فخطبوا وهتفوا،وقام الأحرار والمستعدون للحرية في وجوه أعوان الاستبداد والعبودية فأنزلوا أناسًا عن مراتبهم
وعزلوا أفرادًا من مناصبهم وأنذروا آخرين بلاء يحل بهم وبشروا العامة بالخير القريب
والعز العتيد، والنعيم المقيم، فذهبت النفوس في فهم ذلك مذاهب، ووردت منه
مشارب، حتى فسَّره بعضهم بإباحة الحقوق وإلغاء الإتاوات والضرائب، وقد انقسم
الناس في فهم الدستور إلى أقسام ليس من غرضنا بيانها في هذه المقالة، وإنما
نقول: إنه يوجد في البلاد العثمانية كثير من المستخدمين في الحكومة، والذين
عزلوا بعد الدستور أو استقالوا، ومن أصحاب النفوذ والجاه يمقتون الحكومة
الحاضرة، ويحنون إلى الاستبداد السابق؛ لاعتقادهم أنه ينمي مالهم ويوسع دائرة
جاههم؛ لأنهم يتبعون هوى رؤسائه مهما كان فيه من خراب ذمتهم ودينهم،
وخراب بيوت معظم الأمة، والقضاء العاجل على الدولة. فهؤلاء يوسوسون للعامة
ماذا استفدنا من الدستور والحرية؟ كان يستبد بنا في البلد رجل واحد فصار يستبد
بنا جميع الأشقياء. ومثل هذا الكلام يروج عند العامة التي تنتظر الراحة والسعادة
من الحكومة الجديدة، إذا لم تكذبه هذه الحكومة بالعمل في أقرب وقت.
ماذا يجب على الحكومة قبل كل شيء؟ الجواب عن هذا السؤال بديهي، وهو
أن الواجب قبل كل شيء، حفظ الأمن العام والحرية الشخصية، ولا يتم هذا على
وجهه إلا بتنظيم الشرطة (الضابطة) ولذلك نرى الولاة والمتصرفين يتململون
من كثرة الاعتداء بالضرب والقتل، فإذا طولبوا بتربية المجرمين يقولون: إننا
ننتظر التعليمات الجديدة في إصلاح الشرطة من الآستانة في أول السنة المالية
القادمة.
هكذا قالوا لنا عندما تكلمنا معهم، ورأيناهم يعلمون كما نعلم أن من في البلاد
من الشحنة والشرطة، قد أفسد أكثرَهم حكمُ الاستبداد الماضي فصاروا أعوانًا
للأشقياء والمجرمين، وقد اقترحنا عليهم أن يستبدلوا شرطة لواء بشرطة لواء آخر
فاعتذروا عن ذلك بقلة الرواتب، وقالوا: إن من ينقل من بلد إلى بلد يحتاج إلى
نفقات جديدة لا يفي بها راتبه، وستزاد الرواتب في أول العام القابل، فيتيسر نقل
هؤلاء إلى بلاد لا صلة لهم بأشقيائهم، ويكونون تحت مراقبة شديدة.
هذا ما ينتظره والي الشام وجميع ولاة المملكة؛ لأجل حفظ الأمن وحماية
الحرية الشخصية. ويحسبهم الجمهور غير مبالين بما يقع حينًا بعد آخر من
الجنايات والمظاهرات التي تنبئ باحتقار العامة للحكومة.
لولا أن الأجل المضروب للبدء بالإصلاح المطلوب قريب، لخشينا أن
يفضي إهمال الحكومة للعامة إلى الفوضى، وإن كان أكثر أهالي بلادنا لا يزالون
على حظ عظيم من حب السلامة وحسن الأخلاق، على ما أفسد الاستبداد من
أخلاقهم، فقد رأينا مثال ذلك في مصر، فإن الجنايات وإهلاك الحرث والنسل في
القطر المصري أشد وأكثر مما هو في القطر السوري على كون الحكومة المصرية
أرقى من الحكومة العثمانية. والسبب في ذلك ما أعطته الحرية للعامة من احتقار
الحكومة والأمن من سطوتها، إلا أن تثبت تهمة على متهم في المحاكم مع جهل
أكثر الأهالي وإفساد الاستبداد السابق لأخلاقهم، ولا تزال الحكومة المصرية في
حيرة من أمر الأمن العام على كثرة بحثها وبحث أصحاب الجرائد وغيرهم من
الكتاب وأهل الاختبار، في وسائل ذلك منذ سنين.
لو أخذ ولاتنا بالحزم في أوائل العهد بإعلان الدستور، وساعدتهم جمعية
الاتحاد والترقي التي أخذت بيدها صولجان السلطة عدة أشهر لدى حكومة الآستانة
بأمرها، فقبضوا على كل من يرتكب جناية وعجلوا بمجازاته حتى بالقتل، إن قتل
لأراحوا أنفسهم وأراحوا الأمة في الحال مما تشكو منه، والحكومة في المستقبل مما
سوف تشكو منه، إذا كانت تريد أن تبقي على سياسة الرقة واللطف (النزاكة)
التي اتبعتها منذ أعلن الدستور إلى اليوم، وتقيد الحكام بظواهر القوانين.
رأى زعماء سياسة الرقة واللطف أننا قد أخذنا الدستور نظيفًا غير ملوث بالدم
فيجب أن نتقي سفك الدم في دور الانقلاب، ونداري المفسدين والمجرمين إلى أن
يستقر الدستور في نصابه وهو على نظافته؛ ولكن هذا الرأي إنما يصح في بلاد
خشي فيها من الفتن والثورات الداخلية، إذا فوجئ أهلها بما يكرهون كبلاد الحجاز
لا في بر الشام الذي ليس فيه استعداد للثورة، ولا خطر في بال أحد من أشقيائه؛
أنه يمكنه أن يقف في وجه الحكومة بنفسه أو بعصبته، إذا هي حاولت أن تسلط
العدل على الأخذ بناصيته! !
ألا إن أكثر زعماء سياستنا ليجهلون حال الأمة في جميع الولايات، ويولون
عليها من الولاة والمتصرفين من لا وقوف لهم على حقيقة حالها، حتى إنني أحسب
أن ناظم باشا لا يزال غير محيط علمًا بحال ولايتي بيروت وسورية على ذكائه
واختباره لهما في سني الاستبداد وشهور الدستور، فما ظن القارئ بأدهم بك والي
بيروت الجديد الذي كان عائشًا في أوروبا فانتقل منها بعد الدستور إلى الآستانة
فبيروت! ثم بمثل متصرف طرابلس جاويد بك؟ ولقد يعز على هذا المتصرف
وذاك الوالي أن يعرفا حال البلاد وأهلها في زمن قريب لعلتين فيهما: عدم التكلم
بالعربية والعزلة. فإنهما يكادان لا يكلمان أحدًا في غير أمور الحكومة الرسمية
في دار الحكومة، ومن كان هذا شأنه فكيف يقف على حقيقة حال البلاد، ومن لا
يقف على حقيقة حالها، كيف يسوسها على وجه الحكمة والسداد؟ ! .
يظن أمثال هؤلاء أنه لا يطلب من الوالي أو المتصرف الدستوري إلا أن
يكون عفيفًا مستقيمًا مراعيًا في سيرته للقوانين، وفاتهما أن معرفة حال الناس الذين
وضع القانون لأجل إصلاح شأنهم مقدمة على معرفة القانون، والحرص على تنفيذه؛
لأن العدل في التنفيذ لا يكون إلا بتطبيق المواد على الوقائع، وهذا التطبيق
يتوقف على معرفة حال المتلبسين بالوقائع التي تطبق عليها تلك المواد وإن وراء
ذلك من الاجتهاد في حسن الإدارة، ما لا تغني عنه القوانين وإن نفذت بالعدل.
يتوهم بعض الولاة والمتصرفين أن للأشقياء الذين اشتدت جرأتهم في عهد
الدستورعصائب تشد أزرهم، وأن الحكومة لا تقدر على تربيتهم إلا بعد تنظيم
الشرطة، وأنها إذا حاولت الآن أن تقبض على المشهورين منهم، أو تلزم الشرازم
الذين يفتاتون عليها حدهم، وتحفظ هيبتها في نفوسهم - يثورون عليها ويقاومونها
بقوة السلاح! وأن تركهم على ما هم عليه هو الواجب الآن؛ عملاً بقاعدة ارتكاب
أخف الضررين، وهذا وهْم باطل بالنسبة إلى ولايتي بيروت وسورية، فإن هذه
البلاد وإن ساءت حالها وكثر اختلالها في أواخر عهد الاستبداد، فهي لم تصل في
الشر والهمجية إلى هذا الحد الذي قد يتوهمه بعض حكامها.
هذا التوهم هو الذي كف أيدي الحكومة الجديدة عن تربية المجرمين، فامتدت
أيديهم إلى ما لم تكن تمتد إليه في عهد الاستبداد، حتى صار العقلاء يخشون أن
يفضي احتقار الأشقياء للحكومة إلى الفوضى، وهم لا يعذرون الولاة على إهمالهم،
ولا يعرفون سبب هذا الإهمال؛ إذ لو عرفوه لاجتهدوا في إقناعهم بأن البلاد ليس
فيها عصائب ذات قوة ولا جمعيات سرية، وأن الوالي إذا شاء أن يقبض على
مجرم وينفذ القانون على أي معتدٍ، فعل، إلا أن يفر الشقي الذي تأمر الحكومة
بالقبض عليه قبل أن تصل يدها إليه، وأنه لا يوجد في مدن سورية كلها شقي
تحدثه نفسه بأن يعصي على الحكومة جهرًا، أو يغري الأهالي بعصيانها سرًّا،
على أن إفهام هذا لوالي بيروت؛ لأجل حمله على القيام بعمل لحفظ الأمن، قد يعد
من العبث؛ فإنه لا يتوجه إلى عمل ما في ذلك إلا بعد ورود ما ينتظر من تنظيم
الشرطة والشحنة في أول السنة المالية القادمة وما هي ببعيد.
يجب أن يعد الولاة ومن دونهم من رجال الإدارة لهذا الإصلاح عدته، فإنه
هو الإصلاح الذي يتوقف عليه كل إصلاح، يجب أن يستخرجوا من المحاكم أسماء
المحكوم عليهم بالإعدام وما دونه من العقوبات، وينفذوا ذلك كله بمنتهى الجد
والحزم، ثم يمنعوا الافتئات على الحكومة بالمظاهرات التي لا يبيحها القانون أو
يطلب بها، ما لا يبيحه القانون، ومن أصر على غيِّه يؤخذ منة باليمين.
ويجب على الآستانة أن لا تقيد الولاة بقيود كثيرة، وأن لا تجعلهم عيالاً على
نظارة الداخلية في كل شيء، ولا في أكثر الأشياء، بل فيما لا بد منه، ولا غنى
عنه من الأمور الإجمالية , فيجب أن يباح لرؤساء الحكام من الولاة، وغيرهم
الاجتهاد في فهم القوانين، وتنفيذها بالمشاورة، كل فيما يختص به مع تشديد التبعة
(المسئولية) عليهم، وجعلهم تحت مراقبة المجالس العمومية التي يجب توسيع
اختصاصها، وكذا اختصاص مجالس الإدارة. وإذا أعيد التفتيش على الولايات،
يكون للأمة أربعة أنواع من الضمان الذي يحول دون استبداد الولاة ومَن دونهم مِن
رؤساء الإدارة: مجالس الإدارة في كل لواء ومركز وناحية، والمجلس العمومي في
الولاية والتفتيش، وشدة التبعة يضاف إليها من قبل الأمة نفسها انتقاد الجرائد، وما
وراءه من إثارة سخط الرأي العام.
وكذا يقال في المحاكم مع ما يجب من استقلال القضاء، وجعل المحاكم
الشرعية المؤلفة من عدة أعضاء، يحكم فيها بالاتفاق أو أكثر الآراء، وإيجاد
محاكم استئنافية شرعية في كل ولاية.
هذا ما عنَّ لنا أن نكتبه الآن، ويغلب على ظننا أن حكومتنا تحتاج في تنظيم
الشرطة والشحنة إلى الاستعانة بالأجانب، كما تحتاج إلى ذلك في كثير من الأعمال
فإن الرجال القادرين على الإصلاح عندنا قليلون كما سيظهر بالعمل، وندعو الله أن
يوفق مجلس الأمة إلى خير الإصلاح المنتظر.
__________(12/27)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تنبيهُ الجرائد السورية
إلى الاعتبار بتاريخ الجرائد المصرية [*]
إذا كانت تربية الأطفال فنًّا من أدق الفنون، وهو لما يبلغ درجة الكمال على
عناية العلماء والفلاسفة به، فماذا نقول في تربية الأمم؟
يوجد ألوف كثيرة من المربيات والمربين في كل أمة من الأمم المتمدنة.
ولكن الذين يربون الأمم قليلون في كل أمة وكل زمان.
إن للأمم أطوارًا كما أن للأفراد أطوارًا، ولا يحتاج المربي للأفراد في طور
من أطوارهم إلى العلم الواسع، والخبرة الدقيقة، والعناية العظيمة؛ كطور
الانتقال من المراهقة إلى البلوغ، أو من التقليد والإلزام إلى الرشد والاستقلال، وإن
المربي للأمم يكون عند انتقالها من حكم الاستبداد والعبودية إلى حكم الشورى
والحرية؛ أحوج من مربي الأفراد إلى العلم والخبرة والبصيرة والحكمة.
إن خطباء الأمم والقائمين على تربيتها بالإرشاد والتعليم، وانتقاد الحاكمين
والعاملين هم أصحاب الجرائد، وقد كانت الجرائد العثمانية في مأزق لا تستطيع
فيه حِراكًا، فخرجت إلى مجال فسيح وميدان واسع. ولكن الجولان في هذا المجال
أو الجري في هذا الميدان لا ينبغي إلا للفرسان المهرة، فإن الأرض على رحبها
غير ممهدة، والطرق على سعتها غير معبدة، فأمام من يريد الجولان عواثير
يُخشى عليه من التردي فيها، وعقبات يصعب اقتحامها، وأعلام مشتبهة لا يؤمن
الضلال بينها.
فنون الكلام في الجرائد كثيرة، والانتقاد أدقها مسلكًا، وأصعبها مركبًا،
وأشدها على النفوس وقعًا، وأكثرها ضرًّا ونفعًا، فمن وظائف الجرائد: نقد الحكام
والأحكام، ونقد العمال والأعمال، ونقد العلماء، وكتب العلوم، فلا شيء إلا وهو
معرض لنقدهم. فإن أحسن كتابها النقد كانوا خير العون على الإصلاح، وإن أساءوا
كانوا من عوامل الفساد والإفساد، لا سيّما في مثل الطور الذي دخلت فيه الأمم
العثمانية الآن.
لا يعرف أحد كنه تأثير الجرائد في مثل هذا الطور، كما يعرفه أهل البصيرة
الذين خبروا بأنفسهم أمة كان الاستبداد يسومها سوء العذاب، فانتقلت إلى الحرية
فجأة، ووجد فيها جرائد كثيرة مرخية العنان مطلقة من القيود، ورأوا بأعينهم ما
كان لها من التأثير في تلك الأمة. وإن هذا الوصف ليصدق على بعض العثمانيين
الذين أقاموا في القطر المصري زمنًا طويلاً موجهين عنايتهم إلى اكتناه أحواله
الاجتماعية، فإذا اشتغل هؤلاء بالصحافة العثمانية رجونا أن يفيدوا الأمة جميعًا.
لقد نفعت الجرائد في مصر كثيرًا وأضرت كثيرًا، وأذكر على سبيل العبرة
للجرائد السورية مثالاً من نفعها، ومثالاً من ضررها:
إن للجرائد المصرية أحسن الأثر في النهضة العلمية في القطر المصري،
حيث صار الموسرون يتبارون في دفع ألوف من الجنيهات؛ لإنشاء المدارس،
ويقفون عليها وعلى الجمعيات التي تقوم بإدارتها الأراضي الواسعة ذات الريع
العظيم، وقد كان اشتراك الجمعية الخيرية الإسلامية لا يخرج من كيس الغني الكبير
منهم إلا نكدًا بعد مطالبات كثيرة، وما ذلك الاشتراك إلا جنيهان أو أربعة جنيهات
في العام.
ولم يكن الحث على إنشاء المدارس والدعوة إلى التربية والتعليم غرضًا
خاصًّا لجريدة من تلك الجرائد، ومذهبًا ملتزمًا تدعو إليه وتجعله مدارًا لنهضة الأمة
وسعادتها؛ إلا مجلة المنار التي صرّح في فاتحة العدد الأول منها بهذه الكلمة:
(وغرضها الأول الحث على تربية البنات والبنين) ثم كنا نستطرد من كل موضوع
يكتب فيها إلى الحث على التربية والتعليم، ولا أريد بهذا الاستثناء أن أنيط المنار ما
ذكرت من النهضة العلمية، فأدعي أنه هو روحها الذي به حياتها ونماؤها؛ بل لا
أنكر أن الجرائد اليومية أعم تأثيرًا منه في ذلك، ناهيك بنشرها لأسماء المتبرعين
بما قل أو كثر مع الحمد والثناء. ولو أنها جعلت الدعوة إلى ذلك مذهبًا متبعًا
ومشربًا موردًا لكان النفع أعظم. ولكن شغلتها السياسة عن ذلك وهو أنفع لهم في
سياستهم.
فهل للجرائد العثمانية أن تعتبر بهذا، فتجعل الدعوة إلى التربية والتعليم
ديدنها، والحث على التبرع لذلك وتأسيس الجمعيات لأجله، مذهبها الذي توجه إلى
نشره جل عنايتها؟ فإذا كان للجرائد المصرية العذر في جعل جل همها في السياسة،
فإن جرائد سورية لا نصيب لها من هذا العذر؛ لأنه ليس في بلادها سلطتان
متعارضتان: إحداهما أجنبية؛ بيدها الحل والعقد بالفعل، والأخرى رسمية لها
الاسم وما لا يعارض سياسة الأولى من الفعل، على أننا قد نبهنا أصحاب الجرائد
السورية إلى تقصير الجرائد المصرية في الدعوة إلى التربية والتعليم على الوجه
الذي هو أرجى لتكوين الأمة، وجعلها أمة عزيزة مستقلة في نفسها استقلالاً يفضي
إلى استقلالها في أحكامها وسياستها.
هذا: وأما المثال لضرر الجرائد المصرية؛ فهو طريق انتقادها ولا سيّما
للحكومة، فقد سلك أكثرها فيه مسلكًا أسقط هيبة الحكومة من النفوس، بعد ما كان
لها من هياكل العظمة في كل خيال، وشعور الخشية والبأس في كل قلب، فوثبت
الجرائد بالشعب المصري من طرف إلى طرف، من غير أن تمر به على الوسط أو
ما يقرب من الوسط 0
ذلك المسلك هو اتهام الحكومة بمشايعة الإنكليز على ما يريدون من السوء
بالبلاد، فكان أولئك الكتاب ينحون بقدحهم وطعنهم على الوزارة (مجلس النظار)
في الجملة وعلى رئيسها وأفرادها وعلى المديرين وغيرهم من رؤساء الأعمال في
التفصيل، فذلك الانتقاد أو الطعن كان الغرض منه تأييد سياستهم في مقاومة
الاحتلال، والتشفي من الإنكليز وبيان أن الأمر كله في أيديهم وتبعته عليهم، وإن
النظار وسائر الموظفين المصريين آلات صماء تحركها هذه الأيدي كما تشاء؛ ولكن
فيما يضر البلاد ولا ينفعها، وفيما يسلب السلطة الشرعية من أميرها، وهو الذي
يريد لها الخير لولا أنه عاجز عنه. وكان يقوم في وجه هذه الجرائد الكثيرة جريدة
أو جريدتان أو ثلاث تندد بالأمير وبطانته، وتلزم ذلك المقام بما يخفض من قدره
فبذلك كله زالت هيبة الأمير وحكومته الرسمية من النفوس، فتجرأ الأشقياء على
السلب والنهب، وإهلاك الحرث والنسل، وكثرت الجنايات في الأرياف حتى إن
الحكومة لا تزال في حيرة من حفظ الأمن إلى هذا اليوم.
نعم، إنه قد استقر في أذهان جميع المصريين أن الأمر كله للإنكليز، وأنهم
يستطيعون أن يفعلوا ما أرادوا، من حيث لا تستطيع الحكومة المصرية من دونهم
شيئًا. ولكنهم علموا مع هذا أن الإنكليز لا يحفلون بالمسائل الجزئية التي تتعلق
بأفراد الأهالي، وإنما يكلون الأمر فيها إلى الحكومة المصرية، تنظر فيها بحسب
القوانين، فلا يستطيع المأمور، ولا المدير، ولا رئيس النيابة (المدعي العمومي)
ولا القاضي، أن يعاقب جانيًا إلا إذا ثبتت جنايته في المحكمة، وقلما يقدم الجناة
على عملهم إلا هم آمنون من ثبوته عليهم! .
فاختلاف الأمن في القطر المصري نشأ من سقوط هيبة الحكومة من نفوس
العامة، والتطرف في الحرية، والانتقال من حكومة استبدادية عرفية إلى حكومة
قانونية حرفية؛ أي: يجري فيها الحكام على ظواهر ألفاظ القانون من غير تطبيق
على المصلحة العامة التي وضع لأجلها القانون. وما كان لأكثر الجرائد من عمل
في ذلك إلا ما ذكرنا، فما كان من خطأ يقع، كانوا يحملونه على سوء النية من
الحكومة، وما كان من صواب يسكتون عنه ويحملونه على غير محمله، حتى كانوا
ربما يطعنون في أنفع الأعمال: كإنشاء الخزان في أسوان - فلهذا ولغيره من الخطأ
الذي لا يتسع هذا المقال لشرحه، كان الأستاذ الإمام يقول: (جرائدنا إحدى
بلايانا) .
فيجب أن تعتبر الجرائد السورية بخطأ الجرائد المصرية التي سبقتها في
الاستقلال والحرية كما تعتبر بصوابها، فكما يجب عليها أن تتخذ لها مذاهب في
الإصلاح الاجتماعي لا تشغلها عنه السياسة، يجب عليها أن تتخذ لها أسلوبًا حكيمًا
في انتقاد الحكومة، يرجى نفعه ولا يخشى ضرره، ويجمع بين هيبتها في نفوس
العامة من حيث هي أمينة على مصالحها، ومنفذة لشريعتها وقوانينها التي أقرها
نوابها ووكلاؤها، وبين تكريم الأمة وإعلاء شأنها، وغرس مبادئ الحكم الذاتي في
نفوسها.
كيف تُنتقد الحكومة
تُنتقد أعمال الحكومة لغرضين شريفين أحدهما - وهو الأصل - صيانة الحقوق
وحمل الحكام على العدل، وأداء الأمانة بالتزام الشريعة وتطبيق القانون على
المصلحة العامة. وثانيهما: عرضي تمس إليه حاجة الأمة أو ضرورتها في مثل
الطور الذي نحن فيه الآن في بلاد الدولة عامة والقطر المصري خاصة، وهو بث
مبادئ الحكم الذاتي في نفوس الأمة (أي حكم نفسها بنفسها) .
أما الأول: فطريقه أن يبحث الكتاب عن الأعمال والأحكام، ويبينون ما
يجب بيانه في انطباقها على الشرع والقوانين وعدمه من غير بذاءة، ولا استعلاء،
ولا طعن يسقط المهابة، ويذهب باحترام الحكومة من نفوس العامة. وإنما نعني
بالأعمال؛ أعمال الحكومة دون الأعمال الشخصية التي لا دخل لها ولا تأثير في
المصالح العامة.
ومن كان مخلصًا في انتقاده يتحرى الحق فيه، فإذا ظهر له أنه أخطأ فيما
كتبه، رجع عنه رجوعًا صريحًا، وبيَّن سبب خطئِه الأول، ومشرق انبلاج
الصواب له. وبذلك يكون كلامه مؤثرًا في القلوب ذا سلطان على النفوس، فيقدره
قدره الحاكمون، فإذا لم يرجع به المسيء عن غيه، آخذه رؤساؤه على سوء فعله.
ومن آيات الإخلاص: أن يسعى مريد الانتقاد إن تيسر له؛ كأن يراجع
الحاكم فيما يرى أنه يسيء أو يجور فيه، فإن تم له ذلك وإلا لجأ إلى الانتقاد.
وينبغي أن يبدأ بالرمز والتلويح، ثم يترقى في سلالم التصريح، فإذا استقام
الجائر، وعدل الظالم، وجب أن يقف الناقد عند الدرجة التي ارتقى إليها في نقده،
ثم يثني على العمل الذي يستحق الثناء.
ومما يتحتم مراعاته أن تكون الفقرة التي ينتقد بها القضاة ورؤساء الإدارة
بحيث يفهمها الخاصة دون العامة، كأن تورد بضروب من المجاز والاستعارة،
وتستعمل فيها الألفاظ الغريبة؛ لئلا تزول مهابة الحكومة من نفوس العوام، وتقل
ثقتهم بالقضاء، ويعتقدوا أنه لا سبيل إلى قضاء مصالحهم إلا بالرشوة، ويطمع
المبطلون منهم بهضم الحقوق، ويطمع الأشقياء بالتعدي على الضعفاء؛ اعتمادًا
على ضعف الحكام أو ظلمهم.
وإنما تجب مراعاة ما ذكر في انتقاد من يسيء مستخفيًا، وأما من يجهر
بالسوء، ويعرف عنه الظلم، فأولئك هم الذين لا تحفظ لهم حرمة، ولا ترقب فيهم
ذمة، فيجهر الكتاب بانتقاداتهم، ويحرضون الأمة على الشكوى منهم، إذا لم يبادر
رؤساؤهم والمفتشون عليهم إلى النظر في أمرهم، ولتكن الشكوى إلى المجالس
العمومية في الولايات، ثم إلى مجلس المبعوثان في الآستانة بعد مراعاة ما اشترطه
القانون الأساسي في ذلك.
أما الطعن في الحكومة على الإطلاق فضرره عظيم جدًّا في مثل بلادنا، ولا
سيما في أول العهد بالانقلاب كهذا الزمن. مثال ذلك طعن المتقهقرين أو الرجعيين
(على الخلاف بين كتاب العرب وكتاب الترك في لقبهم) في حكومة الشورى
الحاضرة من حيث شكلها، والاستدلال على ذلك بالخلل والفساد الذي أظهرته الحرية
في الأمة والحكومة جميعًا بزعمهم، وما هو إلا من رزايا الحكومة السابقة التي
يتعذر تطهير الأرض من نتنها في بضعة شهور أو بضع سنين.
ومن أمثلته استبطاء كثير من المحبين للحكومة الحاضرة لأعمال مجلس الأمة
وإظهارهم قلة الثقة به، وشكهم في أنفسهم، وتشكيكهم للناس في قدرته على القيام
بما عهد إليه من إصلاح حال الدولة، وترقية شؤون الأمة. وما ذلك إلا لجهلهم
بحاله وبحال الحكومة التي ينظر في أمر إصلاحها.
إن مثل مبعوثينا ونوابنا في مجلسهم: كمثل مهندس كلف وضع رسم أو
رسوم لبناء بلد كمسيني - لا (مسينا) كما تضبطه الجرائد - قد دمرته الزلازل، وأن
يستحضر البنائين لإعادة بنائه على أحسن مما كان عليه، ويراقب عملهم إلى أن
يتم، ثم يكون أمينًا عليه حافظًا له، فأراد أن يشرع في العمل، فوجد معظم أنقاض
البلد مفقودة، قد تلف بعضها، وسرق بعض، ولم يجد من البنائين المهرة والصناع
والنجارين عددًا كافيًا للإسراع في العمارة! ! فهل يلام المهندس ويرمى بالتقصير
وحده، وينسى ذلك الزلزال الذي دمر البلد، وأولئك اللصوص الأدنياء الذين كانوا
ينهبون أنقاضه، وما يهيأ لبنائه! ! ؟
ألا إن عذر مبعوثينا أظهر من عذر ذلك المهندس، فإن زلزال الاستبداد
توالى على المملكة العثمانية من زهاء ثلاثة أجيال، وقد اشتد في عهدنا هذا من أول
هذا القرن الهجري، حتى كاد يجعل المملكة أثرًا بعد عين. وقد كان أكثر رجال
حكومتنا في ذلك الدور؛ كأولئك التحوت الذين افترضوا زلزال (مسيني) ،
فسارعوا إلى نهب كل ما وصلت إليه أيديهم الأثيمة من أموال الهالكين والمشرفين
على الهلاك، فماذا عسى أن يفعل نوابنا في أيام أو شهور؟
قال أمامي بعض هؤلاء المنتقدين الطيبة قلوبهم النائمة عقولهم، أو القليل
اختبارهم: إن بعض المبعوثين يسأل في المجلس أسئلة سخيفة تدل على أن مجلسنا
في سن الطفولية! قلت: هل كان فيها أسخف من سؤال بعض نواب الإنكليز في
مجلسهم الذي هو أعلى وأرقى مجلس نيابي في الأرض عن الكنف (المراحيض)
في القاهرة، وكونها قليلة أو غير موجودة في الأحياء الوطنية!.
ومن أمثلة الانتقاد المطلق في الحكومة الحاضرة ما يلهج به الناس من جميع
الطبقات في جميع البلاد من تقصيرها في حفظ الأمن، وإرسالها حبال الأشقياء على
غواربهم، وهذا الانتقاد واقع ما له من دافع لظهور موجبه لكل أحد، وهو هو علة
الانتقاد الذي ذكر قبله، ولأمرٍ ما كان كلام الجرائد فيه دون كلام الناس في أنديتهم
وسمارهم وبيوتهم، وسائر مجامعهم، وفي الطرق والأسواق!
وإذا طال العهد على هذا الإهمال، فإنني أخشى أن يتفاقم أمره، ويستشري
شره، وقد كلمت فيه والي بيروت قبلاً (والي سورية الآن) ، ووالي بيروت الآن
والمدعي العمومي لولاية بيروت، ومتصرف طرابلس، فرأيتهم ينتظرون أول
السنة المالية التي قربت خطواتها لإصلاح حال الشحنة والشرطة، والدخول على
حفظ الأمن من بابه.
إن عذر الولاة والمتصرفين في التقصير في حفظ الأمن؛ محصور في ظنهم
أنه لا يمكن بطريقة قانونية لا استبداد فيها ولا ظلم، إلا بعد تنظيم الشرطة وإيجاد
قوة عسكرية كافية؛ لتلافي ما ربما يحدث من الثورات الداخلية! وهو عذر مبني
على عدم اختبار حال البلاد في مثل ولاية بيروت، فقاسوها على مثل ولاية
الموصل، وعلى حوران من ولاية سورية، ويعسر علينا إقناعهم بأن هذه البلاد لم
تصل إلى هذه الدرجة من الشر والفساد، وأنه لا يوجد فيها أحد من الأشقياء يفكر
في مقاومة الحكومة قط، وأن أي والٍ أو متصرف أخذ بالحزم يسهل عليه أن يحفظ
الأمن. على أن من يقنع منهم بذلك لا يتجرأ على الإقدام عليه، وتحمل تبعته في
عهد هذه الحكومة، ولا سيّما مع بقاء الآستانة مستأثرة بالسلطة العليا، ومقيدة لسلطة
الولاة بَلْه المتصرفين فمَن دونهم!
إذا طال العهد على الحال التي نحن عليها - وما هو بالذي يطول إن شاء
الله - يتقوض بناء مهابة الحكومة من نفوس العامة فلا يبقى منه شيء وتصير
البلاد فوضى ولولا أن سلامة القلوب ومحاسن الأخلاق لا تزال ذات السلطان
الغالب في بلادنا، لكانت بضعة شهور كافية لانتشار الفوضى، وطمع الأشقياء في
الخروج على الحكومة , ولكن شيئًا من ذلك لم يكن ولن يكون إن شاء الله تعالى.
إن الحكومة قادرة الآن على التنكيل بالأشقياء، فكيف بها بعد التنظيم الذي
أظلنا زمانه، وأدركنا إبانه؟ وإن ما حصل طبيعي في طور الانقلاب، فما هو
بالأمر الغريب الذي يبيح للناس، ولا للجرائد الطعن في الحكومة على الإطلاق.
إذا رأينا بعد استقرار الحكومة الجديدة، وإقامة النظام المنتظر عجزًا عن
حفظ الأمن في ناحية؛ لسوء إدارة مديرها، أو في قضاء لجهل القائمقام، أو في
لواء لضعف المتصرف، أو في ولاية لعلة في الوالي فإننا نسعى لدى مرجع كل
واحد من هؤلاء لاستبداله، إذا أعوزنا إصلاح حاله، ولا نطعن في الحكومة طعنًا
مطلقًا يذهب بثقة العامة بها، ولا نتهمها بالخيانة والفساد، ولا نرميها بالعجز
والضعف، فإن ذلك كله تسوء عاقبته على كونه لا يمكن أن يكون صحيحًا على
إطلاقه.
حسبنا هذه الكلمات في بيان الغرض الأول من غرضي الانتقاد الصحيحين
فإن المخاطب بها هم الكتاب الألباء، واللبيب تكفيه الإشارة.
وأما الغرض الثاني من ذينك الغرضين: وهو تقوية روح الحكم الذاتي في
الأمة، فقد يحتاج إليه في البلاد المصرية أكثر مما يحتاج إليه في البلاد السورية؛
لمكان الظن في استئثار الإنكليز بالسلطة، وجعل المصريين الآن في أيديهم. ومع
ذلك نرى الجرائد المصرية، قد قصرت فيما يجب عليها من الرمي إلى غرض نفوذ
الأمة، فكان معظم نضالها أو جميعه دون نفوذ الأمير نفسه؛ أي: لتقرير الحكومة
الشخصية، والانتقال من استبداد أجنبي محدود إلى استبداد شخصي وطني لا حد له
إلا أنه قد كثر خوض هذه الجرائد في هذه السنين الأخيرة في طلب المجلس
النيابي لمصر، وكون ذلك موافقًا لرغبة الأمير في رأي بعضها. ولكن الصحيفة
المصرية التي اتخذت تقوية سلطة الأمة نفسها مذهبًا لها تراعيه في انتقادها على
الحكومة هي (الجريدة) التي أسسها جماعة من الوجهاء وأهل الرأي تنفيذًا لما كان
دعاهم إليه الأستاذ الإمام في آخر حياته. ويعلم الله أن هذا ما كنت اقترحه عليه من
بضع سنين، حتى إنني كنت قد اخترت له المحررين، ووضعت له الميزانية بعد
المذاكرة الطويلة معه في المذهب السياسي - وهو سلطة الأمة -، وفي المنهاج
الاجتماعي الأدبي وجله في انتقاد الأخلاق والعادات. فهل للجرائد السورية أن تفكر
في هذا وتقدره حق قدره؟
إن الجرائد العثمانية كلها تحتاج إلى انتقاد الحكومة فيما يختص بسلطة الأمة
عند وضع بعض القوانين التي تقوي سيطرة الحاكم، وتضع العثرات في سبيل
الأمة: كقانون المطبوعات، وقانون الجزاء (العقوبات) ، وقانون المعارف
ولوائحها، ونظام مدارسها، بل يجب أن تنتقد مجلس الأمة، إذا لم يجعل تنقيح
القانون الأساسي مقيدًا للحكم الشخصي، مطلقاً لحكم الشورى من تلك القيود
المعروفة، وإذا نازعته الحكومة فيما يقوي به سلطة الأمة، وجب على الجرائد أن
تحمل عليها حملة شعواء، وأن لا ترضي أقلامها بما دون الطعنة النجلاء.
كذلك يجب على الجرائد في كل ولاية أن تنتقد الولاة؛ إذا هم حاولوا
الاستبداد في أمر المجالس العمومية ومجالس الإدارة، أو أظهروا التعصب لجنسهم
كتعصب التركي للترك والعربي للعرب، فإن العصبية الجنسية من الحكام تضعف
الجامعة العثمانية، وتحدث فيها الأحداث والمفاسد.
ولا يجوز بحال من الأحوال أن تتهم الحكومة في جملتها بهضم حقوق الأمة
وكراهية حكمها الذي هو حكم الشورى، وإن كان الكثيرون من الوجهاء والرؤساء
السابقين قد قل انتفاعهم، ونقص مالهم وجاههم في عهد الحكومة الحاضرة، فهم
يحنون إلى الاستبداد ويتمنون الرجوع إليه، حتى صارت جرائد الآستانة تسميهم
الرجعيين، فمن بقي في الحكومة من هؤلاء، ومن يدخل فيها على عهد الدستور
للجهل بحالهم أو للحاجة إليهم على عوجهم، لا يألون جهدًا في الاستبداد إذا وجدوا
منفذًا من المنافذ، وأمنوا المُراقب والمؤاخذ.
فمن أقدس وظائف الجرائد وواجباتها أن تتبع عورهم، وتقلم أظفارهم،
وتكبت أنصارهم، مع مراعاة ما أشرنا إليه من الحكمة والموعظة الحسنة والجدال
بالتي أحسن، كما أرشدنا الذكر الحكيم. وليكن الإخلاص رائدنا، وإيثار المصلحة
العامة غايتنا، فلا شيء أنفع وأرفع من العمل لخير الناس، ولا مرشد إلى ذلك أهدى
من الإخلاص.
__________
(*) نشرناها أولاً في جريدة (أبابيل) البيروتية، ونقلتها عنها جريدة الاتحاد العثماني.(12/32)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شيخ الإسلام ابن تيمية
وما قيل فيه
غزالي عصره السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار المنير بمصر.
سلام الله عليكم ورحمته، ولا زلتم في نعيم مقيم.
سيدي: من العجب أنكم لم تتعرضوا لما قاله ابن حجر الفقيه في فتاويه
الحديثية من الطعن على ابن تيمية بالتفصيل الشافي المعهود من حضرتكم،
ومحاكمة ابن حجر فيما قاله، حتى يتبين الرشد من الغي. وهنا تجد أكثر الجامدين
من أصحاب العمائم يتمكنون بتنفير البسطاء عن مطالعة المنار؛ لكونه ينقل عن
ابن تيمية، وإن المنار يلقبه بشيخ الإسلام ناسيًا ما قاله ابن حجر في فتاويه، حيث
يقول: (عبد خذله الله تعالى وأضله وأعماه وأصمه وأذله) .
وتجد محب المنار الغير المطلع على أقوال ابن تيمية التي أوجبت خذلانه
وانحرافه عن الطريق الجادة يلتجئ إلى السكوت. نعم، ربما أنه سبق لحضرتكم
كلام في بعض أجزاء المنار السابقة بخصوص هذه المسألة (لأن مثل هذا مما لا
يحسن سكوت حضرتكم عنه كل هذه المدة) .
ولكن يتجدد قراء كثيرون في المنار في كل عام، وكثير منهم لم يطلعوا على
ما سبق نشره في ذلك مع حاجتهم للاطلاع، وذلك يلجئكم أن توضحوا المسألة ثانيًا
وقد بلغني أن كثيرًا من العلماء العظماء انتقدوا كلام ابن حجر. فهل لسيدي نقل
بعض أقوالهم؟ ولكم من الله جزيل الفضل، ومنا الشكر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. س
... ... ... ... ... ... ... ... ... (دلي - سمطرا)
(المنار)
لا غرابة ولا عجب في عدم تعرضنا لما ذكرتم قبل أن نُسأل عنه على أننا كنا
عازمين على كتابة ترجمة لابن تيمية بعد إتمام ترجمة الغزالي. ويغلب على ظننا
أن الفقيه ابن حجر الهيتمي - رحمه الله تعالى - لم يطلع على كُتب ابن تيمية،
وإنما رأى ما انتقده عليه بعض معاصريه كالشيخ تقي الدين السبكي وغيره، فأنكر
ذلك عليه، ولا يبعد أن يكون بعض المفسدين قد دس في كلام ابن حجر ذلك
السباب والشتم الذي يجل مثله عن مثله، وذلك مما حدث كثيرًا كما بيَّنه الشعراني
في كتاب اليواقيت والجواهر وغيره، حتى ذكر أن بعض كتبه نسخ في عصره
ودست فيه ضلالات كثيرة، ولم يقتنع العلماء بأن تلك الضلالات من دسائس
المفسدين؛ إلا بعد أن أبرز لهم ما كتبه بخطه. ويظهر أنه لم يطلع أيضًا على ما
قاله حفاظ الحديث والعلماء والمؤرخون في الثناء على ابن تيمية، بما لم يثنوا بمثله
على أحد، حتى شهد له معاصروه ومناظروه بالوصول إلى رتبة الاجتهاد المطلق،
ومن كان كذلك لا بد أن يخالف غيره من المجتهدين في بعض المسائل. ويعز على
الفقهاء المقلدين أن يوجد في عصرهم من يخالف أئمتهم، بل مَن دون أئمتهم ممن
يجلون من الميتين، حتى كأن الموت يجعل العالم معصومًا! . ولذلك ترى أن سبب
قيام الشيخ كمال الدين الزملكاني والشيخ نصر بن المنجى على ابن تيمية؛ هو
إنكاره على الشيخ محيي الدين بن عربي، وسبب قيام أبي حيان عليه هو إنكاره
على سيبويه وتخطئته له , فهؤلاء الثلاثة والشيخ تقي الدين السبكي هم أعظم
العلماء الذين أنكروا عليه في عصره ومن أسباب حنقهم عليه تشدده في الإنكار
عليهم هم فيما انتصروا به لابن عربي وسيبويه , ولكن كل واحد منهم قد أثنى عليه
ثناءً عظيمًا قبل وقوع النفور بينهم، كما سيأتي.
وقد ألَّف بعض العلماء كتبًا خاصة في الثناء على ابن تيمية والانتصار له،
منها (القول الجلي في ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية الحنبلي) للعلامة المحدث
السيد صفي الدين الحنفي البخاري نزيل نابلس. ومنها (جلاء العينين في محاكمة
الأحمدين) أي: أحمد بن تيمية وأحمد بن حجر، وإننا ننقل عن كل منهما طائفة من
النقول عن العلماء في ترجمة ابن تيمية، قال صاحب القول الجلي في أول كتابه ما
نصه:
(ولد - رحمه الله تعالى - في عاشر ربيع الأول سنه إحدى وستين وست
مائة، وقرأ القرآن والفقه وناظر واستدل وهو دون البلوغ، وبرع في التفسير
وأفتى ودرَّس، وله نحو العشرين، وصنف التصانيف، وصار من أكابر العلماء
في حياة شيوخه، وله المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في
هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراسة وأكثر، وفسر كتاب الله - تعالى - مدة سنين.
وكان يتوقد ذكاء، وسمع من الحديث أكثره، وشيوخه أكثر من مئتي شيخ
ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظ الحديث ورجاله وصحته وسقمه فما يلحق
فيه. وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن المذاهب الأربعة فليس
له فيه نظير. وأما معرفته بالمِلَل والنِحَل فلا أعلم له فيها نظيرًا، ويدري جملة
صالحة من اللغة، وعربيته قوية جدًّا، ومعرفته بالتفسير والتاريخ فعجب عجيب.
انتهى ملخصًا من كلام شيخ الإسلام أبي عبد الله الذهبي فيما نقله عنه الحافظ الكبير
ابن ناصر الدين الدمشقي الشافعي.
قال الحافظ الذهبي الدمشقي الذي قال فيه الحافظ ابن حجر: هو من أهل
الاستقراء التام في نقده الرجال، وتبعه على ذلك الحافظ السيوطي فيما نقله الحافظ
ابن ناصر الدين: ابن تيمية أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته، فلو حلفت بين
الركن والمقام، لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله، ولا والله هو ما رأى مثل نفسه
في العلم.
وقال الحافظ شمس الدين السخاوي الشافعي في فتاواه في حديث (كنت نبيًّا
وآدم بين الماء والطين) ، وفي حديث (كنت نبيًّا ولا آدم ولا ماء ولا طين) ،
حيث أجاب باعتماده كلام ابن تيمية في وضع اللفظيين، وناهيك به اطلاعًا وحفظًا،
أقرَّ له بذلك المخالف والموافق، قال: وكيف لا يعتمد كلامه في مثل هذا؟
وقد قال فيه الحافظ الذهبي: ما رأيت أشد حفظًا للمتون وعزوها منه، وكانت
السنة بين عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة.
وقال حافظ الإسلام، الحبر النبيل، أستاذ أئمة الجرح والتعديل، شيخ
المحدثين جمال الدين أبو الحجاج يوسف ابن الركن عبد الرحمن المزي الشافعي
فيما نقله عنه الحافظ ابن ناصر الدين: ما رأيت مثله - يعني ابن تيمية - ولا رأى
هو مثل نفسه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
ولا أتبع لهما منه.ا. هـ.
وقد تقدم عن الحافظ الذهبي نحوه، وناهيك بهذا الكلام من الحافظين العدلين
المستوعبين: أبي الحجاج المزي وأبي عبد الله الذهبي.
وقال الشيخ الإمام بقية المجتهدين تقي الدين بن دقيق العيد الشافعي لما
اجتمع به وسمع كلامه: كنت أظن أن الله تعالى ما بقي يخلق مثلك , وقال أيضًا:
رأيت رجلاً العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد. ذكره الحافظ
المذكور.
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير الشافعي: وبالجملة كان - رحمه الله تعالى-
من كبار العلماء، وممن يخطئ ويصيب. ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة
في بحر لُجِّيٍّ، وخطؤه أيضًا مغفور له لما صح في صحيح البخاري (إذا اجتهد
الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) .
وقال الإمام مالك بن أنس: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا
القبر صلى الله عليه وآله وسلم. وما قاله في غاية الحسن، والحافظ المذكور ثقة
حجة باتفاق، وقد ترجمه الحافظ ابن حجر بترجمة جليلة جدًّا فلا التفات إلى ما نقله
عنه الشيخ تقي الدين الحصني. نعم، كان يقول: يقول الشيخ ابن تيمية في مسألة
الطلاق، فأوذي بسببه ومع أنه خالف الأئمة الأربعة في ذلك، فلم يتفرد به كما هو
مبين في موضعه، وهو وإن كان خطأ فاحشًا فلا يوجب التفسيق فافهم.
(فإن قلت) : ما ذكره الإمام الحافظ ابن كثير مبني على أن الشيخ قد بلغ
رتبة الاجتهاد، وأنى له بهذه المرتبة، وقد انقطع الاجتهاد من زمان طويل! !
(قلت) : وقد نص على أنه بلغ رتبة الاجتهاد جمع من العلماء منهم الإمام أبو عبد
الله الذهبي فيما ذكره ابن ناصر والحافظ ابن حجر، كما سيأتي، والحافظ
السيوطي في طبقات الحفاظ فيما أحفظ، ولم يتفرد بمسألة منكرة قط، وإن كان قد
خالف الأئمة الأربعة في مسائل فقد وافق فيها بعض الصحابة أو التابعين، ومن
أشنع ما وقع له مسألة تحريم السفر إلى زيارة القبور، وقد قال به قبله أبو عبد الله
ابن بطة الحنبلي في الإبانة الصغرى وسنذكره عن قريب، إن شاء الله تعالى.
وقال الحافظ ابن حجر فيما كتبه على الرد الوافر لشيخ الإسلام الحافظ الهمام
ابن ناصر الدين الدمشقي ما نصه: ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة مرارًا؛
بسبب أشياء أنكروها عليه من الأصول والفروع، وعقدت له بسبب ذلك عدة
مجالس بالقاهرة وبدمشق، ولا يحفظ عن أحد منهم أنه أفتى بزندقته، ولا أفتى
بسفك دمه مع شدة المتعصبين عليه - رحمه الله - من أهل الدولة، حتى حبس
بالقاهرة، ثم بالإسكندرية، ومع ذلك فكلهم معترف بسعة علمه وورعه وزهده
ووصفه بالسخاء والشجاعة، وغير ذلك من قيامه في نصر الإسلام والدعاء إلى الله
في السر والعلانية، فكيف لا ينكر على من أطلق عليه أنه كافر، بل من أطلق
على من سماه بشيخ الإسلام الكفر، وليس في تسميته بذلك ما يقتضي ذلك، فإنه
شيخ الإسلام بلا ريب، والمسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي، ولا
يصر على القول بها بعد قيام الدليل عليه عنادًا، وهذه تصانيفه طافحة بالرد على
من يقول بالتجسيم والتبرئ منه، ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب، فالذي أصاب
فيه وهو الأكثر يستفاد منه ويترجم عليه بسببه، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه؛ أي
كمسألة الزيارة والطلاق، بل هو معذور؛ لأن أئمة عصره شهدوا بأن أدوات
الاجتهاد اجتمعت فيه، حتى كان أشد المتعصبين عليه، والقائمين في إيصال الشر
إليه وهو الشيخ كمال الدين الزملكاني يشهد له بذلك، وكذا الشيخ صدر الدين ابن
الوكيل الذي لم يثبت لمناظرته غيره. ومن أعجب العجب أن هذا الرجل كان أعظم
الناس قيامًا على أهل البدع من الروافض والحلولية والاتحادية، وتصانيفه في ذلك
كثيرة شهيرة، وفتاواه فيهم لا تدخل تحت الحصر، فياقرة أعينهم إذا سمعوا تكفيره
وياسرورهم إذا رأوا من يكفر من لا يكفره. فالواجب على من تلبّس بالعلم وكان
له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشتهرة أو من ألسنة من يوثق به من
أهل النقل، فيفرد من ذلك ما ينكر، فيحذر من ذلك على قدر قصد النصح، ويثني
عليه بقضائه فيما أصاب من ذلك كدأب غيره من العلماء، ولو لم يكن للشيخ تقي
الدين من المناقب إلا تلميذه الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية، صاحب التصانيف
النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف - لكان غاية في الدلالة على عظمة
منزلته، فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم والتمييز في المنطوق والمفهوم أئمة
عصره من الشافعية وغيرهم فضلاً عن الحنابلة، فالذي يطلق عليه مع هذه الأشياء
الكفر أو على من سماه شيخ الإسلام، لا يلتفت إليه ولا يعول في هذا المقام عليه،
بل يجب ردعه عن ذلك إلى أن يراجع الحق، ويذعن للصواب، والله يقول الحق
وهو يهدي السبيل، حسبنا الله ونعم الوكيل.
وقال شيخ الإسلام صالح ابن شيخ الإسلام عمر البلقيني - رحمه الله تعالى -
فيما كتبه على الكتاب المذكور: ولقد افتخر قاضي القضاة تاج الدين السبكي في
ثناء الأئمة عليه بأن الحافظ المزي لم يكتب لفظة شيخ الإسلام إلا لأبيه، وللشيخ
تقي الدين بن تيمية، وللشيخ شمس الدين أبى عمر، فلولا أن ابن تيمية في غاية
العلو في العلم والعمل، ما قرن ابن السبكي أباه معه في هذه النقبة التي نقلها، ولو
كان ابن تيمية مبتدعًا أو زنديقًا، ما رضي أن يكون أبوه قرينًا له. نعم، وقد
ينسب الشيخ تقي الدين لأشياء أنكرها عليه معارضوه، وانتصب للرد عليه الشيخ
تقي الدين السبكي في مسألتي الزيارة والطلاق، وأفرد كلا منهما بتصنيف، وليس
في ذلك ما يقتضي كفره ولا زندقته أصلاً (وكل أحد يؤخذ من قوله أو يترك إلا
صاحب هذا القبر) [1] والسعيد من عدت غلطاته، وانحصرت سقطاته، ثم إن
الظن بالشيخ تقي الدين أنه لم يصدر ذلك تهورًا وعدوانًا - حاش لله - بل لعله
لرأي رآه وأقام عليه برهانًا، ولم نقف إلى الآن بعد التروي والفحص على شيء
يقتضي كفره ولا زندقته. وإنما وقفت على ما رده على أهل البدع والأهواء أو غير
ذلك مما يظن به براءة الرجل، وعلى مرتبته في العلم والدين. وتوقير العلماء
والكبار وأهل الفضل متعين، قال الله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ
لاَ يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس
منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا - وفي رواية - حق كبيرنا)
وكيف يجوز أن يقدم على رمي عالم بفسق أو كفر، ولم يكن ذلك فيه. انتهى
قلت: وسنذكر- إن شاء الله تعالى - قريبًا ما يكون صريحًا في تنزيهه عما
نسب إليه من التشبيه والتجسيم.
وقال قاضي القضاة عبد الله التهفتي الحنفي عامله الله بلطفه الخفي، فيما كتبه
على الكتاب المذكور: إن الشيخ تقي الدين كان على ما نقل إلينا من الذين عاشروه
وما اطلعنا عليه من كلام تلميذه ابن قيم الجوزية الذي صارت تصانيفه في الآفاق
عالمًا متعنيًا، مقللاً من الدنيا، معرضًا عنها، متمكنًا من إقامة الأدلة على الخصوم
وحافظًا للسنة، عارفًا بطرقها، عارفًا بالأصلَيْن: أصول الدين وأصول الفقه،
قادرًا على الاستنباط في تخريج المعاني، لا يلومه (لعله لا تأخذه) في الله لومة
لائم، على أهل البدع: المجسمة والحلولية والمعتزلة والروافض وغيرهم. (قال)
فمن كان متصفًا بهذه الأوصاف كيف لا يلقب بشيخ الإسلام، بأي معنًى أريد
منه! ! ؟ (قال) : وإنما قام عليه بعض العلماء في مسألتي الزيارة والطلاق
وقضية من قام عليه شهوده، والمسألتان المذكورتان ليستا من أصول الأديان،
وإنما هما من فروع الشريعة التي أجمع العلماء على أن المخطئ فيها مجتهد يثاب،
لا يكفر ولا يفسق ... إلخ ما قال.
وقال شيخ الإسلام العيني الحنفي فيما كتب على الكتاب المذكور: وما هم أي
المنكرون على ابن تيمية - رحمه الله تعالى - إلا صلقع بلقع سلقع، والمكفر منهم
صلعمة بن قلمعة، وهيان بن بيان، وهيّ بن بيّ، وضل بن ضل، وضلال بن
التلال. ومن الشائع المستفيض أن الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين ابن تيمية
من شمّ عرانين الأفاضل، ومن جمّ براهين الأماثل، (قال) : وهو الذابّ عن
الدين، طعن الزنادقة والملحدين، والناقد للمرويات عن النبي سيد المرسلين،
وللمأثورات عن الصحابة والتابعين، فمن قال: إنه كافر فهو كافر حقيق، ومن
نسبه إلى الزندقة فهو زنديق، وكيف ذلك؟ وقد سارت تصانيفه إلى الآفاق، وليس
فيها شيء مما يدل على الزيغ والشقاق. ولكن بحثه فيما صدر عنه في مسألتي
الزيارة والطلاق، عن اجتهاد سائغ بالاتفاق، والمجتهد في الحالين مأجور ومثاب،
وليس فيه شيء مما يذم أو يعاب. (قال) : ولا ريب أنه كان شيخًا لجماعة من
علماء الإسلام، ولتلامذة من فقهاء الأنام، فإذا كان كذلك، كيف لا يطلق عليه شيخ
الإسلام؛ لأن من كان شيخًا للمسلمين يكون شيخًا للإسلام.
وقال شيخ الإسلام البساطي المالكي: وأما قول من قال إنه - يعني ابن تيمية -
كافر، وإن من قال في حقه إنه شيخ الإسلام كافر - فهذه مقالة تقشعر لسماعها
الجلود، وتذوب لسماعها القلوب، ويضحك إبليس اللعين بها ويشمت، وينشرح
بها أفئدة المخالفين وتسمت، ثم يقال: كيف لو فرضنا أنك اطلعت على ما يقتضي
هذا في حقه، فما مستندك في الكلام الثاني، وكيف تصح لك هذه الكلمة المتناولة
لمن سبقك ولمن هو آت بعدك إلى يوم القيامة؟ وهل يمكنك أن تدعي أن الكل
اطلعوا على ما اطلعت أنت عليه؟ وهل هذا إلا استخفاف بالحكام وعدم مبالاة ببني
الأيام، والواجب أن يطلب هذا القائل، ويقال له: لم قلت؟ وما وجه ذلك؟ فإن
أتى بوجه لا يخرج به شرعًا عن العهدة بأن كان واهيًا، برح به تبريحًا يردع
أمثاله عن الإقدام على أعراض المسلمين.اهـ
(قلت) : فتأمل - رعاك الله - كلام هؤلاء الأعلام في مدح هذا الإمام،
فكيف ينسب إلى بدعة التجسيم، أو يعاب بشيء غير ذلك أو يلام! .
(المنار)
هذا ما أورده الشيخ صفي الدين الحنفي البخاري في ترجمة شيخ
الإسلام ابن تيمية في أول كتابه: (القول الجلي في ترجمة تقي الدين ابن تيمية
الحنبلي) ويليه فصل في عقيدته التي هي عقيدة سلف الأمة: أهل السنة
والجماعة، رضي الله عنهم. وأما السيد نعمان خير الدين الآلوسي فقد جاء في
كتابة: (جلاء العينين في محاكمة الأحمدين) بترجمة أوسع، وأكثر نقلاً عن
كبار العلماء والحفاظ في الثناء عليه، والاعتراف له بمشيخة الإسلام.
قال بعد ترجمة بليغة ملخصة من كلام طائفة من الحفاظ والمؤرخين ما
نصه:
قال الذهبي: وما أبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلد. وترجمه
في معجم شيوخه بترجمة طويلة منها قوله: شيخنا وشيخ الإسلام، وفريد العصر
علمًا ومعرفة وشجاعة وذكاء وتنويرًا إلهيًّا وكرمًا ونصحًا للأمة، وأمرًا
بالمعروف، ونهيًا عن المنكر. سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه وكتابته،
وخرج ونظر في الرجال والطبقات، وحصل ما لم يحصل غيره وبرع في تفسير
القرآن، وغاص في دقائق معانيه بطبع سيال، وخاطر وقاد إلى مواضع الإشكال
ميال، واستنبط منها أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقل من
يحفظ ما يحفظه من الحديث، مع شدة استحضاره له وقت الدليل وفاق الناس في
معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، أتقن العربية أصولاً
وفروعًا. ونظر في العقليات، وعرف أفعال المتكلمين ورد عليهم، ونبه على
خطئهم وحذر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج، وأبهر براهين وأُوذي في ذات
الله من المخالفين، أخيف في نصر السنة المحفوظة حتى أعلى الله تعالى مناره،
وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكبت أعداءه، وهدى به رجالاً
كثيرة من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا،
وعلى طاعته، وأحيا به الشام بل الإسلام، بعد أن كاد ينثلم خصوصًا في كائنة
التتار، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي فلو حلفت بين الركن والمقام؛ أني
ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه لما حنثت اهـ.
وقال الحافظ ابن كثير: وفي رجب سنة سبع مئة وأربع، راح الشيخ تقي
الدين ابن تيمية إلى مسجد التاريخ، وأمر أصحابه وتلامذته بقطع صخرة كانت
هناك بنهر قلوط تزار وينذر لها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها،
فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيمًا، وبهذا وأمثاله أبرزوا له العداوة،
وكذلك بكلامه في ابن عربي وأتباعه. فحُسد وعودي، ومع هذا لا تأخذه في الله
لومة لائم، ولم يبال بمن عاداه، ولم يصلوا إليه بمكروه، وأكثر ما نالوا منه
الحبس، مع أنه لم ينقطع في بحث لا بمصر ولا بالشام، ولم يتوجه لهم عليه ما
يشين، وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه اهـ.
قيل: من جملة أسباب حبسه؛ خوفهم أنه ربما يدعي ويطلب الإمارة، فلقي
عليه أعداؤه طريقًا من ذلك، فحسنوا للأمراء حبسه لسد تلك المسالك. وكتب الشيخ
كمال الدين الزملكاني: كان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا في
مذاهبهم منه أشياء، ولا يعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من
العلوم سواء كان من علم الشرع أو غيره إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط
الاجتهاد على وجهها.
(قلت) : ورأيت في نثر الدر الذائب في الأفراد والغرائب، من كتاب
الأشباه والنظائر النحوية للإمام السيوطي- عليه الرحمة - ما نصه: جواب سؤال
سائل عن (لو) لسيدنا وشيخنا الإمام العالم الأوحد، الحافظ المجتهد، الزاهد العابد
القدوة، إمام الأئمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء
الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، برهان المتكلمين، قامع المبدعين، ذي
العلوم الرفيعة، والفنون البديعة، محي السنة، ومن عظمت به لله علينا المنة،
ودامت به على أعدائه الحجة، واستبانت ببركته وهديه المحجة تقي الدين أبي
العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن
تيمية الحراني أعلى اللهُ تعالى مناره، وشيّد من الدين أركانه:
ماذا يقول الواصفون له ... وصفاته جلت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة ... هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية في الخلق ظاهرة ... أنواره أربت على الفجر
نقلت هذه الترجمة من خط العلامة فريد دهره ووحيد عصره الشيخ: كمال
الدين ابن الزملكاني:
بسم الله الرحمن الرحيم
نقلت من خط الحافظ علم الدين البرازلي قال سيدنا وشيخنا الإمام العالم
العلامة القدوة، الحافظ الزاهد، العابد الورع، إمام الأئمة، خير الأمة، مفتي
الفِرق، علامة الهدى، ترجمان القرآن، حسنة الزمان، عمدة الحفاظ، فارس
المعاني والألفاظ، ركن الشريعة، ذو الفنون البديعة، ناصر السنة قامع البدعة:
تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم
بن محمد ابن تيمية الحراني، أدام الله تعالى بركته، ورفع درجته: الحمد لله
الذي علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا
شريك له، الباهر البرهان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المبعوث إلى الإنس
والجان، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا يرضى به الرحمن، سألت -
وفقك الله تعالى - عن معنى حرف (لو) ، وكيف يتخرج قول عمر رضي الله
عنه: (نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه) على معناها المعروف،
وذكرت أن الناس يضطربون في ذلك، واقتضيت الجواب اقتضاء أوجب أن أكتب
في ذلك ما حضرني الساعة، مع بعد عهدي بما بلغني مما قاله الناس في ذلك،
وأنه لا يحضرني الساعة ما أراجعه في ذلك، فأقول. اهـ بحروفه.
ثم ساق الإمام السيوطي آخر الجواب إلى نهايته، وأقر المترجم على ترجمته،
فإن أردته فارجع إلى الأشباه والنظائر، فإن فيه جلاء الأبصار والبصائر [2] .
وكتب الحافظ ابن سيد الناس: ألفيته ممن أدرك العلوم حظًّا، وكاد
يستوعب السنن والآثار حفظًا، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، وإن أفتى في
الفقه فهو مدرك غايته، أو بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالملل
والنحل لم ير أوسع من نحلته، ولا أرفع من درايته، برز في كل علم على
أبناء جنسه، ولا رأت عيني مثل نفسه.
وقال ابن الوردي في تاريخه، وقد عاصره ورآه: وكانت له خبرة تامة
بالرجال، وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث مع حفظه لمتونه
الذي انفرد به، وهو عجيب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه
المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال: كل
حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث. ولكن الإحاطة لله، تعالى. غير أنه
يغترف فيه من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي. وأما التفسير فسلم
إليه. وكان يكتب في اليوم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين، أو
من الرد على الفلاسفة، نحوًا من أربعة كراريس. وله التآليف العظيمة في كثير
من العلوم، وما يبعد أن تصانيفه تبلغ خمس مائة مجلد. وله الباع الطويل في
معرفة مذاهب الصحابة والتابعين، قل أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب
الأربعة. وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة، وصنف فيها واحتج لها بالكتاب
والسنة. وبقي سنين يفتي بما قام (عليه) الدليل عنده. ولقد نصر السنة المحضة
والطريقة السلفية، وكان دائم الابتهال، كثير الاستعانة، قوي التوكل، ثابت
الجأش، له أوراد وأذكار يديمها، لا يداهن ولا يحابي، محبوبًا عند العلماء
والصلحاء والأمراء والتجار والكبراء , وصار بينه وبين معاصريه واقعات مصرية
وشامية لبعض مسائل أفتى فيها بما قامت عنده الأدلة الشرعية واجتمع بالسلطان
محمود غازان السفاك المغتال، وتكلم معه بكلام خشن، ولم يهبه، وطلب منه
الدعاء فرفع يديه، ودعا دعاء منصف، أكثره عليه، وغازان يؤمن على دعائه
اهـ ملخصًا وأطال في ترجمته.
وقال العلامة الشيخ عماد الدين الواسطي في حقه، بعد ثناء طويل جميل ما
لفظه:
فوالله ثم والله، لم يُر تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية: علمًا
وعملاً وحالاً وخلقًا واتباعًا وكرمًا وحلمًا وقيامًا، في حق الله تعالى عند انتهاك
حرماته. أصدق الناس عقدًا، وأصحهم علمًا وعزمًا، أنفذهم وأعلاهم في انتصار
الحق وقيامه همة، وأسخاهم كفًّا، وأكملهم اتباعًا لنبيه محمد صلى الله تعالى عليه
وسلم، ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلي النبوة المحمدية وسننها من أقواله
وأفعاله إلا هذا الرجل، يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة اهـ.
ونقل في الشذرات عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وقد سئل عن الشيخ
ابن تيمية بعد اجتماعه به، كيف رأيته؟ قال: (رأيت رجلاً سائر العلوم بين
عينيه، يأخذ ما شاء منها، ويترك ما شاء) فقيل له لم تتناظران؟ قال: (لأنه
يحب الكلام وأحب السكوت) .
وقال ابن مفلح في طبقاته: كتب العلامة تقي الدين السبكي إلى الحافظ الذهبي
في أمر الشيخ تقي الدين ابن تيمية ما نصه: فالمملوك يتحقق قدره، وزخارة بحره،
وتوسعته في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وأنه بلغ في ذلك
كل المبلغ الذي يتجاوزه الوصف. والمملوك يقول ذلك دائمًا، وقدره في نفسي أكبر
من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله تعالى له من الزهادة والورع، والديانة
ونصرة الحق، والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف، وأخذه من
ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان بل في أزمان اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمته المطنبة: إن الفتنة لما ثارت
على الشيخ ابن تيمية من جهة بعض كلماته، تعصب له القاضي الحنفي ونصره،
وسكت القاضي الشافعي ولم يكن له ولا عليه. وكان من أعظم القائمين عليه الشيخ
نصر بن المنجي؛ لأنه كان بلغ ابن تيمية أنه يتعصب لابن عربي، فكتب يعاتبه
على ذلك، فما أعجبه؛ لكونه بالغ في الحط على ابن عربي وتكفيره، فصار هو
يحط على ابن تيمية، ويغري (به) بيبرس الجاشنكير، وكان بيبرس يفرط في
محبته ويعظمه. واتفق أن قاضي الحنفية بدمشق وهو شمس الدين بن الحريري
انتصر للشيخ ابن تيمية، وكتب في حقه محضرًا بالثناء عليه بالعلم والفهم، وكتب
به في خطه ثلاثة عشر سطرًا من جملتها (إنه منذ ثلاثمائة ما رأى الناس
مثله) اهـ.
ونقل الإمام العسقلاني أيضًا عن الحافظ الذهبي أنه قال: حضر عند شيخنا
أبو حيان المفسر، فقال: ما رأت عيناي مثل هذا الرجل، ثم مدحه بأبيات ذكر
أنه نظمها بديهة، وأنشده إياها وهي:
لما أتانا تقي الدين لاح لنا ... داعٍ إلى الله فردٌ ما له وزر
على محياه من سيما الأُلى صحبوا ... خير البرية نور دونه القمر
حبر تسربل منه دهره حِبرًا ... بحر تَقاذفُ من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تيمٍ إذ مضت مضر
وأظهر الحق إذ آثاره اندرست ... وأخمد الشر إذ طارت له شرر
يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ ... هذا الإمام الذي قد كان يُنتظر
يشير بهذا إلى أنه المجدد , وقد صرح بذلك أيضًا العماد الواسطي , ثم دار
بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه، فأغلظ الشيخ ابن تيمية القول في سيبويه، فناظره
أبو حيان بسببه، ثم عاد ذامًّا له، وصير ذلك ذنبًا لا يغفر (ويقال) : إن ابن
تيمية قال له: ما كان سيبويه نبي النحو ولا معصومًا، بل أخطأ في الكتاب في
ثمانين موضعًا، ما تفهمها أنت , فكان ذلك سبب مقاطعته إياه، وذكره في تفسيره
البحر بكل سوء، وكذا في مختصره النهر اهـ.
وقد ترجمته علماء المذاهب المعاصرون له وغيرهم بتراجم مفصلة، وأثنوا
علية بالثناء الحسن، وذكروا له كرامات عديدة، ومواظبة على الطاعات والعبادات
وتجنبًا عن البدع، وشدة اتباع للسنن وطريق السلف الصالح، وأنه لم يتزوج حتى
مات، وكان أبيض اللون، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمة
أذنيه، عيناه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري
الصوت. وقد ذكر نبذة من اختباراته العلامة ابن رجب المتوفى سنة سبع مائة
وخمس وتسعين في طبقاته، وفصل أيضًا سيرته وأحواله والثناء عليه.
وقد توفي سنة سبعمائة وثمان وعشرين سَحَر ليلة الاثنين، عاشر ذي القعدة
الحرام في السجن، فأخرج إلى جامع دمشق فصلوا عليه، فكان يومًا مشهودًا لم
يعهد بدمشق مثله، وبكى الناس بكاء شديدًا، وتبركوا بماء غسله، واشتد الزحام
على نعشه، ودفن بمقابر الصوفية بعد أن صلوا عليه مرارًا. وحزر من حضر
جنازته بمئتي ألف، ومن النساء بخمسة عشر ألفًا، وختمت له ختمات كثيرة،
ورثي بقصائد بليغة.
(المنار)
بعد أن أورد المؤلف هنا مرثية الشيخ عمر بن الوردي، إحدى تلك المراثي
التي يشنع فيها على من آذوه وحبسوه، قال:
(قلت) : ومازال الناس ولا سيما الكبراء والعلماء يبتلون في الله- تعالى-
ويصبرون، وقد كانت الأنبياء عليهم السلام يقتلون، وأهل الخير في الأمم السابقة
يقتلون ويحرقون، ويُنْشر أحدهم بالمنشار وهو ثابت على دينه، ولولا كراهة
التطويل لذكرت من ذلك ما يطول، وقد سُمَّ أبو بكر وقتل عمر وعثمان وعلي
وسُمَّ الحسن وقتل الحسين وابن الزبير وصلب خبيب بن عدي. وقتل الحجاج عبد
الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير وغيرهما. وقتل زيد بن علي. وأما من
ضرب من كبار العلماء فكثيرون منهم عبد الرحمن بن أبي ليلى ضربه الحجاج
أربعمائة سوط ثم قتله، وسعيد بن المسيب ضربه عبد الملك بن مروان مائة
سوط، وصب عليه جرة ماء في يوم شات، وألبس جبة صوف، وخبيب بن عبد
الله بن الزبير ضربه عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد مائة سوط؛ وذلك أنه حدث
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً،
اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً) فكان عمر إذا قيل (أبشر) قال:
(كيف بخبيب على الطريق) وأبو عمرو بن العلاء ضربه بنو أمية خمسمائة
سوط، والإمام موسى الكاظم سجنه هارون حتى مات، والإمام أبو حنيفة توفي في
السجن بعد أن ضرب وقيل أوُجِرَ سمًّا، والإمام مالك بن أنس ضربه المنصور
أيضًا سبعين سوطًا في يمين المكره، وكان مالك يقول لا يلزمه اليمين. والإمام
أحمد امتحن وسجن وضرب في أيام بني العباس، وللشيخ ابن تيمية في هؤلاء
الأئمة أسوة. ولو أردنا استقصاء ما ذكره معاصروه من الثناء عليه، وبيان سيرته
ومفصل أحواله لأفضى بنا إلى الطول، والقلم - لا مللت - ملول، ويكفي من القلادة ما
أحاط بالجيد.
(المنار)
وعقد بعد هذا فصلاً في تبرئة الشيخ مما نسب إليه، وثناء المحققين
المتأخرين عليه. فنقل عن صوفي الفقهاء وفقيه الصوفية الشيخ إبراهيم الكوراني
المدني الشافعي وعن علامة العراق الشيخ علي السويدي البغدادي الشافعي، وعن
والده السيد محمد الآلوسي المفتي، وعن عالم بلد الله الحرام المنلا علي الهروي،
وعن أمير العلماء وعالم الأمراء أبي الطيب حسن صديق خان الحسيني البخاري.
ثم عقد فصولاً أخرى ذكر فيها كل ما قاله العلامة ابن حجر الهيتمي، وبيَّن الحق
فيه، فليراجعه من شاء. فمن اشتبه في مسألة معينة من المسائل التي انتقدت على
ابن تيمية، ولم يتمكن من مراجعتها في كتاب جلاء العينين، أو راجعها وبقي في
نفسه شبهة منها، فله أن يسألنا عنها إن أحب. وإننا كنا نعتقد أن ابن تيمية وصل
إلى درجة الاجتهاد المطلق، قبل أن نطلع على قول العلماء في ذلك، بل نعتقد أنه
لا نظير له في علماء الإسلام قط إلا تلميذه ووارث علومه ابن قيم الجوزية،
رحمهما الله تعالى ونفع المسلمين بعلومهما.
__________
(1) حكاية لكلمة الإمام مالك التي كان يقولها في الحرم المدني، ويشير إلى القبر الشريف.
(2) وفي هامش الكتاب عند هذه العلامة ما نصه: وكذا المدقق ابن هشام في شرح الشذور ... نقل عنه بعض الأقوال النحوية معبرًا عنه بالإمام العلامة وكذا غيرهما ممن سلمت له الإمامة.(12/41)
الكاتب: لأحد فضلاء المسلمين في سنغافورة
__________
الحجاز بعد الدستور [*]
بُعِثَ الدستور بعد أن قُبر، بذلك كذَّب الله أعداء الإسلام الزاعمين أن
الشورى غير ملائمة لروح الإسلام، فهل سبق أن رأوا أمة قد أكل عليها الاستبداد
وشرب زمنًا طويلاً، فما هي إلا عشيةً أو ضحاها حتى استحالت الصهباء، فأصبح
أفرادها بحمد الله إخوانًا، لا فضل لأحمرعلى أسود إلا بتقوى الله، قد ألف الله بين
قلوبهم، {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} (لأنفال: 63) .
كذَّب الله بقيام الدستور زَعْمَ أولئك، كما أيد به قول القائلين بسداد نية مولانا
السلطان وفائق حكمته، ووافر عقله، وقوة إدراكه - زاده الله توفيقًا - إذ لم يكن
من أحد من قادة الأمم ما كان منه، فله الشكر والدعاء؛ إذ صان كيان الأمة
ودماءها وأموالها وشرفها، فالمملكة مَدِينة له بما فعل.
وقد شرق الأعداء بما رأوا من اتحاد عناصر المملكة، ولم يرُق في أعينهم
فقاموا بما قاموا به، إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، أبدت ظبابها النافقاء
وما تخفي صدورهم أكبر. قل موتوا بغيظكم.
ولكن قل لي أين هم أصدقاء الإسلام؟ أين ما قاموا به؟ أين مواساتهم في
هذه الأزمة، أين من مد لنا يده في طور انتقالنا المخيف؟ هل تحس منهم من أحد
أو تسمع لهم ركزًا؟
شاهت الوجوه، وقبح اللكع ومن يرجوه. نعم قد سمعنا عن الإنكليز جعجعة
ولم نر طحنًا، فشكرًا لهم على ذلك، إن لم يك استدراجًا ومكرًا.
ولقد كانت نعمة الدستور عامة على كل الممالك العثمانية، وكان حظ الحجاز
منها غير قليل، لو لم يكن غير تطهيره من ذلك الطاغية وأبالسته، فكيف وغير
ذلك كثير؟ ولكن الحجاز لكونه أول ولاية عثمانية، وهو قبلة المسلمين كلهم،
ومحل أحق بلاد الله بالإصلاح والمصلحين، وإصلاحه يفيد الدولة فائدة عظمى،
وهو أوجب عليها من إصلاح غيره بحكم الشرع والعقل. لست أحتاج إلى إقامة
الدليل الشرعي لبداهته. ولكني أشير إلى العقلي السياسي. وذلك أن الحجاز هو
المكان الذي تحشر فيه وفود المسلمين، وجلهم في هذه العصور محكوم بالأجانب،
وقل من يقصد منهم من بلاد المسلمين غير الحجاز، فإذا لقوا فيه أصناف الشقاء
وأنواع التعاسة مع ما يعلمون له من المكانة الدينية والسياسية، وكونه الأنموذج
المعروض لوفود كل الأمم، وكون السلطان - حفظه الله - ينعت كل جمعة على
كل منبر في الدنيا؛ افتخارًا بخادم الحرمين الشريفين وحاميهما، فإذا كانت حاله
كما هي الآن، فكيف يكون الحكم على باقي المملكة وعلى ساستها؟
لو قلت: لا يجد أعداء الدولة معولاً يهدمون به نفوذها في المسلمين، وصابونًا
يغسلون به حبها من قلوب الأمة، وحجة يقيمونها للأمم على أن الترك أعداء
الإنسانية والإسلام والعرب خصوصًا - أكبر وأوضح من الحال التي كان بها
الحجاز، ونرجو أن لا تعود إلى ما يقاربها - لو قلت هذا، لم يفند قولي عاقل عالم
منصف.
إن الإصلاحات التي يجب إجراؤها في الحجاز كثيرة جدًّا، ولندع ما كان
منها فنيًّا أو قانونيًّا لمن هو أقرب عهدًا منا بها، وأوسع اطلاعًا منا. ولكنا نلمح
إلى شيء قليل مما لا يجوز السكوت عنه:
إن الحرم الشريف وهو المسجد الوحيد المشترك بين أكثر من ثلاث مائة
وأربعين مليونًا من البشر، على حال يتأفف منها العقل، وقد أحاطت به بيوت
يسمونها المدارس، يسكنها ألوف من الناس، وكلها فيها كنف (مراحيض) ذات
بلاليع في الأرض تختزن بها الأقذار، فإذا سالت السيول امتلأ الحرم بتلك
النجاسات، وبقي عفنًا عدة أسابيع، وقد تكرر وقوع ذلك. وإذا نزلت الأمطار
تشربتها الأرض فيتصاعد حينئذ منها بخار منتن من كل أرض المسجد، فلا يقدر
أحد أن يضع جبهته للسجود إلا كاتمًا نفسه كأنه واضع أنفه على ثقب كنيف مسدود
ولو كان ثخن سجادته شبرًا! ! هذا أمر عرفته بنفسي، ويعرفه كل من أقام هناك،
مع أن تلك المدارس (البيوت) واجب إزالتها؛ إذ هي قائمة على أرض لا يجوز
تملكها ألبتة. ولكن أقامها الجور، ودعمتها الرشوة!
ثم إن المياه التي تشربها الأرض تنحدر إلى المنخفضات، ولا ريب بأنه
يصيب بئر زمزم حظ من تلك النجاسات السائلة؛ فلذلك صار ماؤها كثير الديدان
والجراثيم الضارة! فإذا كنا لا نقوم بتطهير ما يقارب تلك البئر المقدسة، ولا نبعد
عنها السوائل النجسة القذرة السامة، ولا نعيد الحرم كما كان في العصور
الصالحة كامل النظافة؛ إذ كانت مواضع الأقذار بعيدة عنه، وعلى ظهر الأرض
فأي حجة لنا على الأجانب، إذا حكموا بإراقة ما تزوده الحجاج من ذلك الماء
المبارك كما تراق المستقذرات! ومنعوا إدخاله إلى بلادهم حرصًا على حفظ
الصحة! ! !
إننا لو قمنا بالنظافة المطلوبة التي هي من الإيمان، وطهرنا ما جاور البيت
من الأنجاس والأدران، لكان لنا من ماء زمزم المبارك مورد عظيم، ولوجدنا مئات
الشهادات من نطس الأطباء فيما له من الخواص العجيبة الحسية، فضلاً عن
الخواص المعنوية، وإذ ذاك يمكننا أن نبيع منه في أقطار العالم ملايين من
القوارير.
فمتى نرى تلك الأراضي المغتصبة من المسجد الحرام، ومن حواشي
المسعى قد أعيدت؟ ولو أرادت الحكومة أن تبذل لأصحابها الظالمين بدل تلك
البنايات الغير محترمة، فإنها تجد من كرام المسلمين تلبية تسرها ببذل الأموال؛
حبًّا في تطهير الحرم الطاهر من آثار الاستبداد والجور.
ثم إنه لا بد من إنارة الحرم الشريف بالنور الكهربائي؛ لوفور ضوئه وحسنه
وبهائه، وبذلك يتوافر أكثر من نصف ما يصرف الآن عبثًا للإسراج بتلك القناديل
الوسخة التي لا يتجاوز نورها زجاجها! ويستغنى عن جيوش السرَّاجين. ويمكنهم
استخدام تلك الآلات نهارًا في جلب الماء من زمزم، وإجرائه في مواسير إلى
خارج المسجد، فيسلم من بلل قِرَب السقَّائين المخرقة ونحو ذلك.
ولا غناء عن هدم مقامات الأئمة؛ لأنها مبتدعة، فيكتفى بإمام واحد يرضى
فضله وعلمه ودينه، ولينزه البيت وصحنه من خدمة الأغوات الذين هم تركة
العصور المظلمة الظالمة، وخدمة الجبابرة من الملوك الذين لجهلهم بالدين أحبوا
أن يجعلوا خدمة الكعبة وحجرة النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ما يستخدمون
في بيوتهم! وهيهات هيهات، ويمكن أن يوظف بدلهم نحو ثلث عددهم من الأخيار
الأتقياء الحَسَنِي السيرة، المعروفين لدى العدول، ولا شك بأنه يكفي لمن ذكرنا
قليل مما يذهب ضياعًا مع أولئك الأغوات.
إنني كنت في بعض جهات أوربا، فزعم بعضهم أن الخصاء مما يأمر به
الإسلام، وأنه من الحتم عند المسلمين أن لا يخدم السلطان، ولا يعمل في الكعبة،
ولا يتولى سدانة الحجرة المنيفة إلا الخصيان! وقد أفدت محدثي بتحريم الشريعة
المحمدية للخصاء، وبراءتها من تلك البربرية، فلم يقتنع، ولم تكن له حجة إلا
هذه النقط المحزنة المسيئة سمعة الإسلام، ولعمر الحق إن التغالي في أثمانهم لمما
يغري النخاسين الطماعين، فالواجب حسم الداء من أصله.
وأرى أن يمنع من رمي الحبوب للحمام، حتى تضطر إلى مفارقة الحرم
بحدوده وهناك تقنص، فلقد جلبت كثرتها أذية للمسلمين، وتنجيسًا وتوسيخًا للمسجد
ونشأ عن ذرقها الكثير أمراض ضارة، ولكثرة الحمام يسهل اقتناصه على الهررة
فتأكل بعضه، وتدع البعض يتعفن فتنبعث منه أمراض كثيرة إلى نحو ذلك.
ومن الواجب طرد الكلاب من الحرم كله، ثم تسميمها بعد ذلك، فلقد صح
أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتلها إلا ما استثني، والموجود بمكة جله من
المرضى المجرّحة، فيقع عليها الذباب الكثير، فينقل عنها مواد التلقيح لجملة
أمراض إلى بني الإنسان صغارًا وكبارًا.
ويمكن أن يصرف لطلبة العلم الشريف جميع ما يصرف الآن على الحمام
والكلاب، فإن ذلك خير وأبقى، ونحن نرغب إلى مشايخنا الأجلاء أن لا يجعلونا
مضغة في الأفواه، وهزؤًا لدى العقلاء، وأن لا يلصقوا بديننا النقي ما برأه الله
منه من النقائص والسفاسف، وعلى الله الاعتماد وحده.
هذه أمور نلفت إليها أنظار رجال الدولة، وأعضاء مجلسي الأمة والشورى
ومولانا الشريف الحسين وصاحب الدولة والي الحجاز، كاظم باشا ليعملوا ما يرونه
أقرب للتقوى.
__________
(*) لأحد فضلاء الإسلام في سنغافوره (س0س0ي) .(12/55)
الكاتب: حافظ إبراهيم
__________
العام الهجري الجديد (سنة 1327) [*]
أطلَّ على الأكوان والخلق تنظر ... هلال رآه المسلمون فكبروا
تجلى لهم في صورة زاد حسنها ... على الدهر حسنًا أنها تتكرَّر
فبشَّرَهم من وجهه وجبينه ... وغُرته والناظرَين مبشر
وأذكرهم يومًا أغر محجلاً ... به توّج التاريخ والسعد مسفر
وهاجر فيه خير داعٍ إلى الهدى ... يحُف به من قوة الله عسكر
يماشيه جبريل وتسعى وراءه ... ملائكة ترعى خطاه وتخفر
بيسراه برهان من الله ساطع ... هدى وبيمناه الكتاب المطهر
فكان على أبواب مكة ركبه ... وفي يثرب أنواره تتفجر
مضى العام ميمون الشهور مباركًا ... تعدد آثار له وتسطر
مضى غير مذموم فإن يذكروا له ... هناتٍ فطبع الدهر يصفو ويكدر
وإن قيل أودى بالألوف أجابهم ... مجيب لقد أحيا الملايين فانظروا
إذا قيس إحسان امرئ بإساءة ... فأربى عليها فالإساءة تغفر
ففيه أفاق النائمون وقد أتت ... عليهم كأهل الكهف في النوم أعصر
وفي عالم الإسلام في كل بقعة ... له أثر باق وذكر معطر
سلوا الترك عما أدركوا فيه من منى وما بدلوا في المشرقين وغيروا
وإن لم يقم إلا (نيازي) و (أنور) ... فقد ملأ الدنيا نيازي وأنور
تواصوا بصبر ثم سلوا من الحجى ... سيوفًا وجدُّوا جدَّهم وتدبروا
فسادوا وشادوا للهلال منازلاً ... على هامها سعد الكواكب ينثر
تجلى بها عبد الحميد بوجهه ... على شعبه والشاه خزيان ينظر
سلام على عبد الحميد وجيشه ... وأمته ما قام في الشرق منبر
سلوا الفرس عن ذكرى أياديه عندهم ... فقد كان فيه الفرس عميًا فأبصروا
جلا لهم وجه الحياة فشاقهم ... فباتوا على أبوابها وتجمهروا
ينادون: أن مني علينا بنظرة ... وأحيي قلوبًا أوشكت تنفطر
كلانا مشوق والسبيل ممهد ... إلى الوصل لولا ذلك المتغشمر
أطلّي علينا لا تخافي فإننا ... بسرك أوفى منه حولاً وأقدر
سلام عليكم أمة الفرس إنكم ... خليقون إن تحيوا كرامًا وتفخروا
ولا أقرئ الشاه السلام فإنه ... يريق دماء المصلحين ويهدر
وفيه هوى عبد العزيز وعرشه ... وأخنى عليه الدهر والأمر مدبر
ولا عجب إن ثُل عرش مملك ... قوائمه عود ودف ومزهر! !
فألقى إلى عبد الحفيظ بتاجه ... ومرَّ على درَّاجة يتعثر!
وقام بأمر المسلمين موفق ... على عهده مُرَّاكش تتحضر
وفي دولة الأفغان كانت شهوره ... وأيامه بالسعد واليمن تزهر
أقام بها والعود ريان أخضر ... وفارقها والعود فينان مثمر
وعوَّذها بالله من شر طامع ... إذا ما رمى (إدوارد) أو راش قيصر
وفيه نمت في الهند للعلم نهضة ... أرى تحتها سرًّا خفيًّا سيظهر
فتجري إلى العلياء والمجد شوطها ... ويخصب فيها كل جدب وينضر
وفيه بدت في أفق (جاوة) لمعة ... أضاءت لأهليها السبيل فبكروا
ويا ليته أولى الجزائر منة ... تفك بها تلك القيود وتكسر
وفي تونس الخضراء يا ليته بنى ... له أثرًا في لوحة الدهر يذكر
وفيه سرت في مصر روح جديدة ... مباركة من غيرة تتسعر
خبت زمنا حتى توهمت أنها ... تجافت عن الإبراء لولا كرومر
تصدى فأوراها وهيهات أن يرى ... سبيلاً إلى إخمادها وهي تزفر
مضى زمن التنويم يا نيل وانقضى ... ففي مصر أيقاظ على مصر تسهر
وقد كان (مورفين) الدهاء مخدرًا ... فأصبح في أعصابنا يتخدر
شعرنا بحاجات الحياة فإن ونت ... عزائمنا عن نيلها كيف نعذر
شعرنا وأحسسنا وباتت نفوسنا ... من العيش إلا في ذرى العز تسخر
إذا الله أحيا أمة لن يردها ... إلى الموت قهار ولا متجبر
رجال الغد المأمول إنا بحاجة ... إلى قادة تبني وشعب يعمر
رجال الغد المأمول إنا بحاجة ... إلى مصلح يدعو وداعٍ يذكر
رجال الغد المأمول إنا بحاجة ... إلى حكمة تملي وكف تحرر
رجال الغد المأمول إنا بحاجة ... إلى عالم يدري وعلم يقرر
رجال الغد المأمول إنا بحاجة ... إليكم فسدوا النقص فينا وشمروا
رجال الغد المأمول لا تتركوا غدًا ... يمر مرور الأمس والعيش أغبر
رجال الغد المأمول إن بلادكم ... تناشدكم بالله أن تتذكروا
عليكم حقوق للبلاد أجلها ... تعهد روض العلم فالروض مقفر
قصارى منى أوطانكم أن ترى لكم ... يدًا تبتني مجدًا ورأسًا يفكر
فكونوا رجالاً عاملين أعزة ... وصونوا حمى أوطانكم وتحرروا
ويا طالبي الدستور لا تسكنوا ولا ... تبيتوا على يأس ولا تتضجروا
أعدوا له صدر المكان فإنني ... أراه على أبوابكم يتخطر
ولا تنطقوا إلا صوابًا فإنني ... أخاف عليكم أن يقال تهوروا
فما ضاع حق لم ينم عنه أهله ... وما ناله في العالمين مقصر
لقد ظفر الأتراك عدلاً بسوءلهم ... ونحن علي الآثار لا شك نظفر
هم لهم العام القديم مقدر ... ونحن لنا العام الجديد مقدر
ثقوا بالأمير القائم اليوم إنه ... بكم وبما ترجون أدرى وأخبر
فلا زال محروس الأريكة جالسًا ... على عرش وادي النيل ينهى ويأمر
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد حافظ إبراهيم
__________
(*) احتفل المصريون بدخول العام الهجري الجديد، وقررت الحكومة جعل أول يوم منه عيدًا رسميًّا تقفل فيه دواوينها وتعطل، ولقد نظم الشعراء القصائد في ذلك، فآثرنا أن نثبت منها هذه القصيدة.(12/59)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطبة السلطان في ضيافته للمبعوثين [*]
أيها المبعوثون الأفندية:
إني أصبحت في الحقيقة ممنونًا؛ لتناولي الطعام هذه الليلة مع سائر وكلاء
أمتي العثمانية ورعيتي الشاهانية، فكأنني مع جميع أفراد أمتي العزيزة! ! زاد
حضرة الحق تعالى عددها وسعادة حالها. إن هذه الليلة لمباركة وسعيدة،
وأظن أنها أول ليلة من نوعها في تاريخ دولتنا العلية؛ ولذلك فإني أبارك عليها،
وأسال الله أن يشرفنا جميعًا بدوام وقوع أمثالها.
إن هذا الاجتماع المسعود، هو مبدأ دليل الآثار الفياضة التي منحها القانون
الأساسي لدولتنا وأمتنا ووطننا، والتي سيمنحها في المستقبل إلى ما شاء الله تعالى
فهو إذًا جدير بالتبجيل.
أيها المبعوثون الأفندية:
كونوا على علم بأن الله هو حامي حقوق السلطنة والمملكة والدولة أولاً، ثم
الأمة ومجلس نوابها! لذلك كانت وظيفتكم هامة ومقدسة، غاية مطلوبي أن تجعلوا
سعيكم وغيرتكم وقصدكم ونيتكم بنسبة تلك المكانة وهذه القدسية. وإني أؤكد لكم
بأني نصَّبتُ نفسي بعناية الكريم؛ للمحافظة على أحكام القانون الأساسي الضامن
والكافل لهذه الحقوق المقدسة أؤكد لكم بأنه لكم إذا وجد من يخالفه، فإني خصم
وأول عدو له، أيا كان بصفتي خليفتكم وسلطانكم.
نضرع إلى الله - تعالى - أن يكون معينًا وظهيرًا لنا في سعينا وغيرتنا في
سبيل دولتنا وأمتنا وسلامة وطننا المقدس [1] .
__________
(*) أدب السلطان للمبعوثين مأدبة حضرها معظم المبعوثين، وتخلف فريق منهم عن الحضور،
وكانت أعدت خطبة سلطانية للترحيب بالمبعوثين لإزالة ذلك الأثر السيئ الذي علق بأذهانهم من
خطابه في افتتاح مجلسهم (راجع ص 880 م11) .
(1) بعد أن أتم جواد بك رئيس كتاب المابين هذه الخطبة، التفت السلطان إلى أحمد بك رضا رئيس
المبعوثين قائلاً (إنني لا أذكر دقيقة واحدة من عمري كنت سعيدًا فيها بهذا المقدار!) .(12/63)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جواب رئيس مجلس المبعوثان عن خطبة السلطان
إن التاريخ الذي ينقل الوقائع الماضية للخلف، لم يسجل إلى الآن في حياتنا
السياسة يومًا عظيمًا بهذا المقدار. إن السلطان والأمة اللذين كان يتحسر أحدهما
على رؤية الآخر من زمن طويل، يأكلان اليوم على مائدة واحدة، ويشربان من
إناء واحد! ولم يعرف مثل هذا الائتلاف والاتحاد إلا في عصر السعادة [1] .
مرت ثلاثة عشر قرنًا والشرق محروم من رؤية السلطان مع الأمة وجودًا
واحدًا. إن العرب قد أظهروا للوجود مدينة عظيمة، وكذلك العثمانيون سيكونون
متمدنين قلبًا وقالبًا مع سلطانهم، وبذلك يكونون موفقين لإعلاء شأن الوطن،
والتوفر على حفظه وصيانته، ويكسبون موقعًا ممتازًا في عالم المدينة. ونواب
الأمة يعرضون لذاتكم السلطانية تعظيمهم واحترامهم؛ لقاء ما نالوه في هذه الليلة
من جلالتكم من الإعزاز والالتفات.
__________
(1) يريد بذلك عصر النبوة وزمن الخلفاء الراشدين؛ الذي كان الخليفة فيه لا ميزة له على أحد من أفراد الأمة ذلك العصر الذي كان يجرأ فيه رجل من آحاد اليهود: أن يمد يده إلى النبي صلي الله عليه وسلم ممسكًا بثوبه، مخاطبًا إياه بقوله: (إنكم يا بني عبد المطلب قوم مطل) إنه لعصر جدير بأن يسمى عصر السعادة.(12/64)
الكاتب: حسين وصفي رضا
__________
نهضة الأزهريين
عسير على المفكر أن يحيط علمًا بكل ما يقع تحت نظره، وعزيز عليه أن
يجهل أسباب أمر واقع؛ ولهذا كان الفكر كثير الدأب والتجوال، لا يقر له قرار
حتى يكون له إدراك صحيح لما يرى ويشاهد، وإذ ذاك يرى أنه إذا حكم على شيء
كان ذلك الحكم مدعمًا بالاستقراء، ناتجًا عن مقدمات لا تنتج غيره.
إن فيما يتفق عليه جمهور المفكرين كثيرًا مما يكون موضعًا للشبهة، والأفكار
فيه مسارح ومذاهب؛ لطموس معالمه وخفاء كنهه؛ ولذلك لم يتحقق الإجماع على
ما لا يعد من البديهيات إلا فيما ندر وقل، وإن مما اتفق عليه العلماء استحالة وقوف
عمل ما عند حد محدود، لا يتنزل إلى هبوط، ولا يتوقل إلى صعود.
لا يبعد أن يذهب قصار النظر إلى إمكانية ذلك، وإنني لا أوجه كلامًا إلى
هؤلاء، بل أخاطب به أرباب العقل، أريد بهم أولئك الذين لا يهملون أمر الفكر،
بل يستعملونه فيما خلق له، ولكل وجهة ومنحى.
تأمل في أي عمل من الأعمال تأمُّل نافذ البصر ثاقب البصيرة، ثم ارجع إلى
نفسك، وأنا ضمين بأنك تحكم: إما بترقيه وإما بتدليه، ولا وسط بينهما.
كل هذا مما أثبتته المشاهدات، واستفاضت بتفصيله النظريات، حتى بات من
المقررات التي لا نزاع فيها بين من يعقل ويفكر؛ ولذلك كان في حال الأزهر وبقائه
في نقطة محدودة لا يتجاوزها قيد شبر لمن ينظر إليه بادي الرأي، حيرة للعقول
ومضلة للإفهام! !
أفرغ ذلك العاقل الحكيم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده جهده في سبيل إصلاح
الأزهر، وقضى دائبًا على ذلك سنين لو أمضاها في التأليف والكتابة لملأ الخزائن
حكمة وعرفانًا.
صاح بالأزهريين صيحة صُمَّت منها آذان وفتحت بصائر، فأصاخ قوم لقوله
وثار آخرون ينبزونه باللقب، ويعرقلون مساعيه العظيمة، فريق منهم عانده عن
غي وجهل، وآخرون كانوا يمنون ويوعدون، وكثيرون منهم حملوا على ذلك وهم
كارهون! ! ولكن الإمام كان في أول الأمر مؤيدًا من الأمير، فلم تؤثر في عمله
صيحاتهم، ولم تصدف به سعة سعاياتهم، فأسس للأزهر مجلس إدارة على نمط
ديمقراطي، لا يدع لكبير نفوذًا فيه، ولا لأمير سلطة عليه، ونفخ روح الاستقلال
في رجاله، بما كان يريهم من جلائل أعماله، وجلس من الطلاب مجلس مفيض
الحكمة على العقول، ومربي الأخلاق والنفوس.
ولم تكن العقبات والعواثير الأولى صادة له عما انتدب له وصمم عليه، بل
كان لا يأبه لها - وذلك شأن أرباب النفوس الكبيرة - إلى أن ظهرت له بشكل جديد
يمدها نفوذ قوي، ويؤيدها مقام عَلِيٌّ، فتنكر لها كما تنكرت له، ووثبها حينًا كما
واثبته، حتى كانت تلك الوقفة المشهورة للأمير، وفيها نطق بما كان أكنَّه، وأظهر
ما أخفاه وأجنَّه، قال:
(ولقد كنت أود أن يكون هذا شأن الأزهر والأزهريين دائمًا. ولكن من
الأسف رأيت أنه وجد فيه من يخلطون الشغب بالعلم، ومسائل الشخصيات بالدين،
ويكثرون لذلك من أسباب القلاقل، حتى إنه لما بدا شيء من بعض المغاربة
المجاورين فيه عند إسكانهم في المحال التي خصصت لهم في الأروقة التي عمرت
حديثًا على نفقة ديوان الأوقاف، كان من أهل الأزهر نفسه من يهددهم بالعساكر،
ويتوعدهم بالنفي، ويستفز نفوسهم بمثل ذلك للقيل والقال، والاضطراب والهياج،
إلى أن قال:
وأول شيء أطلبه أنا وحكومتي، أن يكون الهدوء سائدًا في الأزهر الشريف
والشغب بعيدًا عنه، فلا يشتغل علماؤه وطلبته إلا بتلقي العلوم الدينية النافعة البعيدة
عن زيغ العقائد وشغب الأفكار؛ لأنه هو مدرسة دينية قبل كل شيء) .
نطق الأمير بخطبته تلك، ففهم الإمام من بواطنها أكثر مما فهم الناس من
ظواهرها، فاستيقن أن العراقيل التي تقف في سبيله إن لم تقدر على زحزحته عن
مكانه، فإنها كفيلة بتعطيل عمله وإصلاحه، فخرج من حضرة الأمير والأسف
مشتمل على نفسه، ورأى أن الخروج من مكان أراد أن يجعله كعبة للإصلاح،
فحيل بينه وبين ما يريد أصبح واجبًا محتمًا، فاستقال من إدارة الأزهر هو
وصديقه العامل الشيخ عبد الكريم سلمان، ولقد كان لتركهما الأزهر اضطراب
وحزن، شاركت مصر فيه سائر أنحاء العالم الإسلامي؛ لأن الرجاء بالإصلاح
الإسلامي كان معقودًا بهذين الرجلين الزعيمين به ثم مضى الإمام إلى ربه ولسانه
يتلجلج بقوله:
ولكنه دين أردت صلاحه ... أحاذر أن تقضي عليه العمائم
استحوذ اليأس على النفوس من إصلاح الأزهر بعد ذلك، وحكم الناس بأنه
يصير طللاً دارسًا؛ لأن طريقين يسير الناس فيهما في هذه الدنيا: فإما فناء وإما
ارتقاء، ولا ثالث لهما، ولا وسط بينهما، كما مر من قبل، وأجمع الكثيرون على
أن الأزهر سائر في الطريق الأولى، وصادف عن الأخرى، وكان أناس في حيرة
من أمر الأزهر، ظانين أنه واقف ساكن لا يسير إلى تدلٍّ ولا إلى رقيٍّ! ! وهذا هو
المحال بعينه , وقد كان الأستاذ الإمام يقول: يستحيل أن يبقى الأزهر في هذا
العصر على ما هو عليه، فإن لم يعمر ويرتقِ فلا بد أن يخرب ويزول.
رأى الأمير بعد ذلك أن يصرف عنايته في سبيل إصلاح الأزهر، وتغير رأيه
في حظ الحكومة منه، وإدخال العلوم الجديدة عليه، حتى أصبح يراها من الفروض
المحتمة، فألف له مجلسًا عاليًا هو رئيسه في بعض الأحيان، فقرر المجلس وضع
نظام جديد للأزهر، ودأب أعضاؤه يجمعون نظاميات المدارس الأميرية، وما كان
وضعه المرحوم الأستاذ الإمام، ولخصوا من كل ذلك نظامًا جديدًا وضعوه ليسير
عليه الأزهر، فكان من عيوبه الكثيرة أن الأساتذة أنفسهم لا يستطيعون السير عليه،
فقد وضعوا فيه علومًا جديدة أوجبوا على الطلاب ممارستها، وأكثروا فيه من
العلوم والفنون التي يستحيل على طالب لم يتوفر على تحصيلها من قبل أن يلم بها،
وحتموا على من أوشكوا أن ينتهوا من الامتحان تأدية الامتحان فيها، مع علمهم بأن
هذا من الإرهاق الذي لا يستطاع حمله، فإن الطالب الذي بلغ الثلاثين أو ما فوقها،
يعسر عليه أن يرجع إلى مدارسة كتب السنة الأولى وبينه وبين الامتحان سنة أو
سنتان! ! على أنه لا يوجد من الأساتذة من يحسن تدريسها، بل لا يوجد من ألم بها
أو زاولها! .
سألني أستاذ عهد إليه تدريس تاريخ آداب اللغة، ماذا أفضل من التواريخ
لإقرائها؟ ابن خلكان أم ابن الأثير! ! ! وجاءني أستاذ آخر يسألني ما هي
المحاضرات؟ ! وربما كان السائلون لغيري أكثر على أنهم يسألون عن موضوعات
ليست غريبة عنهم، فما بالك بعلوم الطبيعة والرياضة ونحوهما؟
جاء البرنامج الذي وضعوه حاويًا أكثر من عشرين فنًّا، ما بين قديم وجديد،
وأوجبوا على طلاب السنة الثانية عشرة أن يمتحنوا فيها، فكأنهم بهذا فرضوا عليهم
أن يعودوا إلى السنة الأولى! ووزعوا العلوم على من لا يحفظ حتى أسماءها، فمن
ذلك أنهم فرضوا على ضرير أن يقوم بتعليم الإملاء! وأرادوا على تدريس الرياضة
من لا يحسن القواعد الأربع! وهكذا كان توزيع سائر العلوم على المدرسين، فكانوا
كلما توغلوا في تطبيق النظام ازداد التهويش والاضطراب.
رأى الطلاب أنهم مسوقون في طريق غير معبدة ونهج غير سوي، فاستيقنوا
أن النهاية ستكون شرًّا من البداية، وكان كثيرون منهم ممن حضروا دروس الأستاذ
الإمام عرفوا منها أن للإنسان أملاً في هذه الدنيا يسعى إليه، وغاية يقصدها بعلمه
وعمله، ورأوا أنفسهم أنهم ليسوا من ذلك في عير ولا نفير، فاضطربت أفئدتهم
وحزنت نفوسهم.
أطلوا على مستقبل مظلم، مسبوق بالنكد والإرهاق، ورأوا الأهوال تصرفهم
وبؤس العيش يؤذيهم، فهبوا من رقدتهم، واستيقظوا من غفوتهم، ونهضوا نهضة
من نفخت فيه نسمة من الحياة، كانت ساكنة ولا محرك لها، فحركتها حرارة هذا
النظام وبرودة تنفيذه من جهة، فصارت ريحًا عاصفةً.
ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
من ذا الذي كان يظن أن طلاب الأزهر سيخرجون من الأزهر بقضهم
وقضيضهم وهم بضعة آلاف؛ ليعلنوا للملأ أن ما هم فيه لا يرضى به من كان
إنسانًا، وإن ما أوتوا من النظام الجديد إنما هو نتيجة أفكار تستطيع أن تحشر
المؤتلف والمختلف معًا؛ ولكنها لا تحسن النظام، بل لا تعرف طرقه؟
خرج الطلاب من أزهرهم حذر ما أريدوا عليه؛ وابتغاء الوصول إلى خير
منه، فطوفوا في الشوارع، وذهبوا إلى الجزيرة فخطبوا، وكان مظهرهم من أجمل
ما تقع عليه العين، وكان أحسن ما هم فيه نظامهم وأناتهم، فقد كانت صفوفهم
متوازنة، وأبصارهم خاشعة، تأدبًا بأدب الدين، وتخلقًا بأخلاق حملة العلم.
سُرَّ الناس بهذا المظهر الجميل أو المظاهرة كما يقول الكتاب، وارتاحت
نفوسهم إلى الأزهريين، بعد أن حكموا عليهم بالموت الزؤام. ولكن القيمين عليهم
من المدرسين والمفتشين ريعوا وغضبوا، وصوروا الحال للأمير بعكس ما وقع،
فأوهموه أن فريقًا أو أفرادًا حقيرين (وكلمتهم الحقيقية: هلافيت!) ، قاموا
يصخبون ويصيحون، وأن تأديبهم من السهولة بمكان، فلم يحفل الأمير نداءهم، ولم
يستجب لقولهم. ولكن ظهر بعد ذلك غشهم لأنفسهم وللأمير، ورأوا من اتحاد
الأزهريين وصدق عزيمتهم، أكثر مما عندهم من القسوة والصلف، وأن الأمر واقع
ما له من دافع، فلم يزدهم ذلك إلا تشددًا وعنتًا، ظنًّا منهم أن الشدة تفرق جمعهم،
وتحل عرى اتحادهم، فجاؤهم برجال الشرطة وركبانها، فأحاطوا بالأزهر من كل
جهة، وسدوا من دون طلابه كل منفذ، حتى إن فريقًا منهم لم يرض بما دون
التحرش بقاله وأعماله، فأين من هذا تهديد المغاربة الذي عده الأمير بدعًا؟ ولكنهم
ألفوا الطلاب مدرعين بالأناة والصبر، معتصمين بحبوة التوءدة والسكينة، فما
استطاعوا حملهم على ما يكره من مثلهم، ولا إرادتهم على غير ما أرادوا أنفسهم
عليه.
لم تقف الحكومة موقف الحكمة إمام حركة الأزهريين، بل وقفت شاخصة
ببصرها؛ كمن تعرض أمامه أنواع من الصور المتحركة! ولم تحفل بمطالب
الأزهريين الذين أضربوا عن حضور دروسهم؛ رجاء نيلها. على أنه لم يكن من
العسير أجابتهم إلى بعضها، ولو أنهم أجيبوا لرضوا وشكروا، وتنازلوا عن
المطالب الأخرى واعتذروا.
طلبوا المساواة بين المعاهد الدينية في حقوق الطلاب ورواتب المدرسين،
حتى لا يكون راتب المدرس في الأزهر مائة قرش، وراتب ضريعه في الإسكندرية
ثمان مائة قرش، كما هي الحال الآن، مع أن الأزهر رأس المعاهد الدينية. فمن ذا
الذي لا يقول إنهم طلبوا حقًّا، والتمسوا مساواة وعدلاً؟
طلبوا مدرسين من أرباب الكفاءة والاضطلاع، ولا سيما الذين يعهد إليهم
تدريس العلوم الجديدة التي لا يقدر غير الضليع بها على تدريسها، وأن تلقى إليهم
على نحو إلقائها في المدارس النظامية، وأن ينفذ النظام الذي وضع لهم بالتدريج
اتباعًا لسنة الارتقاء الطبيعي، لا أن يدفعوا به في صدورهم مرة واحدة، ويحملوا
على الجري عليه كلمة كلمة، أفليسوا بهذا المطلب محقين، وبه جديرين؟
طلبوا أن يكون لحملة الشهادة الابتدائية والثانوية منهم حظ من الاستخدام في
المحاكم الشرعية والأوقاف، والخطابة والوعظ، وغير ذلك من الوظائف الحقيرة
فهل هم بذلك مخطئون بما طلبوا؟
طلبوا أن لا يحمل الطالب الذي يؤدي الامتحان في هذا العام على تأدية
الامتحان في العلوم الجديدة التي لم يدرسها، ولم يعرف من أمرها شيئًا؛ لأن حمله
على أداء الامتحان فيها من الإرهاق والظلم البين، فهل أساءوا وظلموا؟ !
طلبوا أن يكون لهم احترام أمام ذوي السلطة، وأن يسمح لهم بالسفر بنصف
أجرة في السكك الحديدية ولشيوخهم من دون أجرة؛ مساواة لهم برؤساء الأديان
الأخرى، فهل كانوا بذلك بدعًا، أم أتوا أمرًا إدًّا؟
تلك معظم مطالب الأزهريين فأي منصف، بل أي مجحف، يبيح لنفسه
الادعاء بأنهم ليسوا أحق بها وأهلها! رأوا أنهم هضموا وظلموا، وأعطي إخوانهم
في الإسكندرية فوق ما سألوا، فطلبوا المساواة بهم. ورأوا أن العلوم وزعت على
مدرسين لم يحيطوا بها علمًا، بل لم يعرفوا لها حدًّا ولا رسمًا، وقد مر على القارئ
أن الإملاء عُهِد في تدريسه إلى أعمى، والرياضة إلى من لا يعرف لها مسمى،
فكيف مع هذا لا يكونون محقين في طلب المدرسين الأكفاء والعلماء الفضلاء! .
رأوا أن الحامل منهم للشهادة الابتدائية أسوأ حظًّا من حجاب المحاكم، وغيرهم من
مزاولي ما هو دون مهنتهم. فطلبوا أن يكون لمن يحملها نصيب في بعض
الوظائف الحقيرة! فهل هم بذلك ظالمون؟ رأوا أنهم ممتهنون مزدرون وأن أحدهم
أذل من قيسي بحمص، وأن أندادهم وأقتالهم من أرباب الديانات الأخرى، لهم من
الاحترام عند رجال الحكومة، ومن الميزة في بعض الشئون، ما حملهم على الطلب
بأن يعاملوا مثلهم، فهل يعد هذا من الافتيات!
وهنالك مطالب أخرى ما كان لهم أن يطلبوها، وإن كانت حقًّا وعدلاً، كطلب
تعيين شيخ الجامع الأزهر بالانتخاب وغير ذلك، وربما يكونون طلبوا كل ذلك
ليجابوا إلى بعضه، على أن الحكومة هزأت بهم وسخرت منهم، فكان ذلك داعية
لصدور حكم المجلس العالي للأزهر عليهم، وهذا هو حكمه بعد ذكر الأسباب:
(قرر المجلس ما يأتي: حرمان طلاب العلم بالجامع الأزهر من: المرتبات
والجرايات، والامتيازات الحائزين عليها بحسب تبعيتهم للأزهر، ويمنعون من
دخوله! ! إلخ) .
جوزي الأزهريون بهذا الحكم لطلبهم تلك المطالب، وسيحفظه التاريخ الذي لا
ينسى شيئًا، ويكون لمن بعدنا حكم عليه وأي حكم! !
لم أر فيما رأيت في هذه البلاد أمرًا عنيت به الأمة، واضطربت له عنايتها
واضطرابها بأمر الأزهريين، وليس لهذا من سبب إلا الشعور بأنهم مغموطون
مضطهدون، فكان اندفاع الأمة في الرغبة إلى الحكومة والالتماس من الأمير بمعاملة
الأزهريين بالرفق والحسنى، وإجابتهم إلى ما طلبوه بحق وعدل كان ذلك سببًا
لنهضة النظار ورغبتهم إلى الأمير أن يصفح عما عده ذنبًا للأزهريين، وقد كان
ذلك، وقرر إرجاع الأزهر إلى قانون سنة 1314.
سكنت ثائرة الأزهريين، وارتاحت نفوسهم إلى هذا القرار، وأفرخ روع
الأمة بعد القلق والاضطراب. ولكن قام فريق من أصحاب الجرائد وكتابها الذين
يتكلمون بغير وجدانهم، ويكتبون بمؤثرات كاذبة يخلقونها لأنفسهم، يصيحون
ويصخبون متململين من هذه المغبة، متبرمين من سوء النتيجة، ناعين على جرائد
أخرى كانت تشد أزر الأزهريين؛ لأنها كانت تؤيدهم ذلك التأييد، وذلك ليوهموا
الأمة أن الرجوع إلى ذلك القانون خسران مبين! ! !
لو لم يكن في الرجوع إلى ذلك القانون إلا حصر سلطة الأزهر في مجلس
إدارته، لعد هذا وحده غُنمًا وأي غُنْم، على أن نظام القانون القديم الدراسي، كان
وضعه على نمط يجعل للطلاب حظًّا من العلوم الجديدة، من دون أن يرهقوا أو
يحملوا على ما لا يستطيعون، فقد كان القانون يخول لمن كان في السنة السادسة
الاختيار في الامتحان في العلوم الجديدة، فله أن يمتحن فيها إذا شاء، ويكون إذ ذاك
مقدمًا على غير الممتحن فيها، وذا حظ من الجوائز المالية التي كانت خصصت لمن
يبرز فيها , فأين هذا من القانون الجديد الذي يقضي حتى على من كان في آخر
سني الدراسة أن يمتحن في تلك العلوم كلها؟
ليس من يحملك على ما لا يستطاع حمله بالقسر، كمن يسوقك إلى صنع
المستطاع الهين بما في وسعه من أنواع الترغيب والتحبب، وهذا ما جعل الطلاب
يتلقون القانون القديم بالرغبة والجذل، وحملهم على النفور من الجديد بالكراهية
والسخط، وذلك أمر منتظر والمثل يقول (إن رمت أن تطاع فسل ما يستطاع) .
يقول المتفيهقون اللاغطون: إن نفور الأزهريين من النظام الجديد دليل على
جمودهم، وأنا أقول: إنه دليل على استقلالهم ونهضتهم، وحجة أولئك زعمهم أن
الأزهريين لم يرتضوه لأنفسهم؛ لأنه يحملهم على ممارسة العلوم الجديدة، وهم لا
يشاءون أن يضربوا بسهم فيها! ! وسلطاني أنهم رفضوه؛ لكونه مشوهًا مضطربًا
لا يمكن السير عليه، وقد مر على القارئ الإلماع إلى شيء من مساوئه. أما العلوم
الجديدة فإنهم عرفوها أيام كان كثيرون من واضعي النظام يحاربونها، ويرمون
مزاوليها بالتضليل والتكفير. فالرياضة والهندسة والهيئة والميقات وتقويم البلدان
والتاريخ كان يدرسها الأزهريون. ولكنها كانت تدرس لمن لم يتجاوزوا السنة
الرابعة الدراسية، لا كما قضى النظام الجديد بإرغام جميع الطلاب عليها! .
الغرض الأول من الأزهر تخريج الأخصائيين في علوم الشرع، ومن
الضروري أن يكون العالم الشرعي ذا إلمام بالعلوم الجديدة؛ لأن الجاهل بها في هذا
العصر هو والأعمى شرع. ولكن من الرعونة والبلاهة أن يراد من العالم الشرعي
أن يكون أخصائيًّا في الرياضة والطبيعة والهندسة وغير ذلك.
ألا إن الإصلاح الحقيقي لا يكون بزيادة العلوم ووضع القوانين، وإنما يكون
بالرجال الأكفاء الضليعين الذين يزِنون الأشياء بميزانها، ويضعون كل شيء في
موضعه، إذا كان لديهم المال الذي يقتضيه ذلك الإصلاح. وإن بين ظهرانينا
كثيرين من هؤلاء، وهم متخرجي الأزهر وموظفي الحكومة، فماذا على الحكومة
لو عهدت إلى هؤلاء إصلاح الأزهر - وهم القادرون وحدهم على ذلك - إذا كانت
تريد الإصلاح!
وأحسن ما تختم به هذه المقالة الثناء على الشيخ حسونة النواوي الذي ظهر
في استقلال فكره وكمال رجولته، ما ذكرنا بكلمة الأستاذ الإمام فيه (أنه أفضل من
يليق لمشيخة الأزهر) بل ما حمله على الاستقالة؛ لأنه لم يُجَب إلى مطالب
الأزهريين إذ سألها، فكان ضنينًا بكرامته أن تهان، وبإرادته أن تتلاعب بها
الأهواء، وهذا هو الرجل الفذ، أكثر الله فينا من أمثاله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين وصفي رضا
__________(12/65)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ندوة العلماء الهندية
تأسيسها دارًا للعلوم
إن لندوة العلماء في الهند مساعٍ في خدمة الدين الحنيف، وسعيًا في خير
النوع الإنساني مبرورًا، وقد اتجه عزمها إلى إنشاء مدرسة كبرى للعلوم (جامعة)
دعتها (دار العلوم) ، واحتفلت في أول شهر ذي القعدة الماضي بوضع الحجر
الأول من أساسها، وقد قالت في ذلك مجلة البيان التي تصدر في مدينة
لكنؤ (الهند) :
(عقدت حفلة ندوة العلماء في 28، 29، 30 نوفمبر الفارط في مدينة لكنؤ
فأمها المسلمون من كل الأصقاع من الأمراء والعلماء والوجهاء، وكانت الحفلة بهيجة
لم ير الناس مثلها في حسن انتظامها، وبلاغة ما ألقي فيها من الخطب الداعية إلى
نشر المعارف وإعادة مجد العربية في بلاد الهند، ومحو المراسم والبدع التي تجري
عليها العامة باسم الدين، ورفع الخصام الملي، وإصلاح ذات البين، وتوطيد الإخاء
والوئام بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وآرائهم، وتمت الحفلات، ولم يحدث
فيها ما يريب ذوي الألباب أو يشين الجمعية المعروفة بندوة العلماء.
وقد اجتمع في هذا الاحتفال جمهور كبير من صنوف الناس، فيهم المسلمون
والإفرنج والهنود، وكان بين المسلمين أهل السنة وعلماؤهم، والشيعة ومجتهدوهم
والمقلدون والمستقلون، والصوفية والأحناف والوهابية والمتفرنجة. وهو أول
اجتماع ديني حفل أهل المدن المختلفة، كأنما هو طاقة رياحين مختلفة نفحاتها
وألوانها.
ولما حانت الساعة المعينة أتى الوالي السرجون هويت وقرينته، فاستقبلهما
أعضاء الندوة، وأتوا بهما إلى الدكة المقامة لجلوسهما، فجلسا على كرسيين من
الفضة، وافتتح الاحتفال بعد أن تلا القارئ آيات من القرآن الحكيم، وقدمت إلى
الوالي عريضة الحال، فأجاب بخطبة مسهبة أثنى فيها على الخطة التي سارت
عليها الندوة؛ من رفع الخصام، ونشر المعارف الحديثة ممزوجة بعلوم الدين، وعد
أعضاء الندوة من مخلصي دولته، وقام بعد ذلك مع جماعة من وجهاء المسلمين،
ووضع حجر أساس المدرسة) .
وهذا نص العريضة التي قدمت إلى الوالي، نقلناها عن المجلة الخاصة التي
تصدرها الندوة باسمها:
مولاي الأكرم: نحن أعضاء ندوة العلماء، نرحب بكم من حيث كونكم نائب
الحكومة في هذه الإيالة، ونشكركم على إجابتكم دعوتنا؛ لوضع حجر أساس دار
علوم الندوة، فيشكركم على ذلك كافة المسلمين، فإن الندوة كأنها لسان حال الأمة،
ولا يوجد قدر شبر من الأرض إلا وفيه أنصار الندوة وحماتها، وقد استبان بهذا منا
للدولة من التسامح الديني الذي هو من مزايا الأمة الإنكليزية خاصة، والذي هو
ملاك الحكومة وعمودها، فإن الندوة ليست إلا جمعية دينية.
مولاي الأكرم: نحن نستدعي من حضرتكم أن تسمحوا لنا بإبداء مطالب
الندوة وطوارئها التي من أحد مظاهرها الجلية دار علومنا هذه.
مولاي الأكرم: إن المسلمين منذ وجدوا إلى يومنا هذا، لم تزل فيهم طائفة
تلقب بلقب العلماء، وهم قادة الحزب الإسلامي في أمور الدين وأحكامه، والأمة
كانت تقفو أثرهم، وتتبع هداهم في كل ما يمس بالدين ولو في أمور الدنيا، وكانوا
أنموذجًا لتمدن الإسلام ومكارم أخلاقه. والأمر الذي استوجب وجود هذه الطائفة؛
هو أن ما تتقوم به جنسية المسلمين ليست خصوصية الإقليم، ولا الشعب، ولا
الأسرة، كما هي للأمم الأخرى، بل كل من اعتنق دين الإسلام، يحصل له كل ما
كان للمسلمين قاطبة على اختلاف جنسيته وعشيرته ومبدئه. ولما لم يكن للمسلمين
حزب يختص بدعوة الدين، كانت الأمة تحتاج إلى مثل هذه الطائفة؛ لكي لا يحيدوا
عن قصد المحجة. وهذا الأمر دعا إلى أن نشأت طائفة كبيرة من العلماء لا يقل
عددهم عن أمثالهم في الأمم الأخرى، ومن مزية أمة الإسلام أن العلم كان فيها
يكتسب لأجل العلم فقط، مع صرف النظر عن كل مرمى وغاية - وما في هذه
الأمة من احترام العلم، والخضوع له والتفاني أمر لا تشاركها فيه أمة، حتى إن
الرؤوس المتزينة بالتيجان كانت تخضع لها كرامة. والحق أن تأخر الأمة ما كان
إلا بعد ما فقدت هذه الطائفة مزاياها، فذهب ما كان لها من المكانة عند القوم،
وحينئذ حرمت الأمة من قيادتها وتبدد نظامها، وعند ذلك اشتغلت هذه الطائفة
بمحقرات الأمور، وبلغ الحال إلى أن رفعت الشكاوي إلى المحاكم السلطانية، فقام
حينئذ حزب من العلماء لسد الخلل وإقامة معالم الإصلاح، وكان من أول مظاهره
هذه الجمعية المسماة بالندوة، انعقدت حفلتها الأولى في كانفور سنة 1893م، وفي
سنة 1898م صادقت الحكومة عليها رسميًّا، وبلغت حفلاتها اثنتي عشرة حفلة،
اجتمع فيها العلماء وعامة الناس على اختلاف أهوائهم وأذواقهم - أما مطالب
الندوة فتحصر مهماتها في أربعة أمور:
(1) ترقية المدارس العربية وإصلاحها.
(2) رفع المخاصمات الدينية.
(3) إصلاح أمور المعاشرة والأخلاق.
(4) نشر الإسلام وكل ما يتعلق بالمنافع العمومية.
في بدء الأمر ظهر الترحيب بالندوة من جميع الأمة كافة، فتوسعت حينئذ
مطالبها، وكان من أول مساعيها أنها اجتهدت في رفع الخصام الحادث في أحزاب
الأمة، وإصلاح ذات البين، وفازت في ذلك إلى حد لا يستهان به، وكذلك سعيها
بتخفيض نفقات عوائد الفرح والألم لِمَ يذهب أدراج الرياح، ثم إن الندوة أقامت دار
الإفتاء في لكنوء، ومحلاًّ للأيتام في كانفور. ولكن كان أهم مطالبها أمر التعليم،
بإصلاح ما فسد منه؛ ليكون سببًا لوجود شرذمة تهدي الناس في الأمور الدينية.
ومن البَيِّن أن التعليم الصحيح هو الذي يزيل كل داء اعترى الأمة، وحجزها
عن سبيل رقيها. ونظرًا إلى ذلك أسست الندوة في سنة 1898 م مدرسة سمتها بدار
العلوم، كانت في أول الأمر مدرسة ابتدائية، ثم تحولت إلى كلية في سنة 1901 م
وصارت كأنها أساس لجامعة دينية، ولما كان أمر التربية أعظم خطرًا من التعليم
أسست دار إقامة للطلبة. ولكن كان من شؤم الحظ أن الأمة لم تقدر مسعى الندوة
حق قدره، فالفئة القديمة أساءت الظن أن إدخال الفلسفة الجديدة في نصاب التعليم،
يورث وهنًا في الدين! حتى ألَّفت كتب ورسائل في تكفير حزب الندوة. وفوق ذلك
أن الناشئة الجديدة أيضًا كانت تتقاعد عن الأخذ بناصرنا، فإنها كانت تحسب أن
الندوة تقيد حرية الأفكار، وكانوا عاجزين عن فهم منافع إحياء العلوم العربية أصلاً
ومع أن الندوة كانت هدفًا لسهام كلتا الطائفتين، لم تزلَّ لها قدم، ولزمت محجتها
واختارت لنفسها جادة وسطًا، فرتبت نصابًا جديدًا رجح فيه جانب الأدب والعلوم
الدينية، ومع أن دار العلوم لم يمض عليها ردح من الزمان، أنشأت تلاميذ يقدرون
على ارتجال الخطب من غير روية، وهذا شيء لم يسبق له مثيل! وكان يُعد أمرًا
نادرًا في إبان الحكومة الإسلامية أيضًا، وقد أضفنا إلى نصاب التعليم الفلسفة
الجديدة، وكانت هذه بدعة تعد، وكفرًا في المدارس القديمة، ومما زاد الطين بلة،
أنا أدخلنا في نصابنا تعليم اللسان الإنكليزي لزومًا، فكان من ثمرته حرمان الندوة
من بعض المساعدات المالية، حتى إن بعضًا منهم استرجع أرضًا كان وقفها على
دار العلوم! ولم نأل جهدًا في الاستفادة مما لأهل الغرب من الاكتشافات الجديدة في
العلوم العربية، وخزانتنا تحتوي على أكثر ما كتبه المستشرقون في أمثال هذه
المسائل، وعلى كتب غير هذه تصلح أن تكون زينًا لكل متحف علمي، وتلامذتنا
لهم مزيد شغف في الاستفادة من تلك الخزانة، ويوجد فيهم من يكتب في مجلة الندوة
مقالات علمية يستحق التنويه بها.
والآن أردنا أن ننشئ لجنة، يكون أعضاؤها تلامذة مدرستنا الذين يقفون
حياتهم على الفحص عن المسائل العلمية المهمة. وبناء على ما توارثنا من آبائنا لا
نأخذ للتعليم أجرة، ونريد أن نوسع نطاق التعليم حسبما تعيننا على ذلك المساعدات
المالية.
ومن أهم مزايا مدرستنا أن الذين بقوا على الحيادة عن المدارس الدولية؛
لأجل التعصب الديني؛ أو لأجل عدم الثروة، لا يجنحون إلا إلى مثل التعليم الذي
اختارته الندوة، فإنها جعلت تعليمها تحت سيطرة التعليم الديني.
ونحن نجترئ على أن نعرض على مسامعكم أن دار علومنا مع قلة بضاعتها
وقصر باعها، أربت على أمثالها من كلا النوعين بنوع خاص، فإنهم أبعد ذيلاً عن
التقشف، وبراء من الفخفخة الفاسدة. ومع أن مدرستنا لا تقدرعلى إحداث طائفة
يصلحون للتوظيف في أعمال الدولة. ولكن نحن على ثقة أن مدرستنا تنشئ رجالاً
يقدرون على إطفاء الثورات الحالية التي تريد إمحاء سيطرة الخالق والمخلوق معًا،
رجالاً يكون من شيمتهم الاستكانة للإكبار، والمؤاساة للجار، والتواضع للعامة،
وفوق كل ذلك: الانقياد للحكومة والخضوع.
فمدرستنا تنفخ في طلبتها روح المسامحة الدينية التي فتحت أبوابها لكل حزب
فلم يتعين طلبتنا ولا أساتذتهم بالمشاجرات التي حدثت اليوم بين الفئتين العظيمتين
من المسلمين، وعلماء لجنتنا لا يزالون يدعون الناس إلى الخير والصلاح فنرجوا من
دار علومنا والمدارس التي تتبع سبيلها أنها تخرج طلبة سيسودون الأمة ويملكون
أزِمَّتها مرة أخرى، ويحسمون التشاق، ويشقون عصا النفاق، ويصبحون لتوسعهم
في المعارف الحديثة والقديمة واسطة موصلة بين الفئة الناشئة وحزب التقهقر العتيق
ونحن على يقين من أن المسلمين كما يسلم إذعانهم لحكومتهم يزيدون من هؤلاء
العلماء الناشئين طاعة وانتقادًا للحكومة. والآن نقدم إلى جنابكم أزكى التشكرات
حيث تفضلتم علينا بقطعة من الأرض؛ لترفع عليها قواعد مدرستنا، وبعد ذلك نحن
نشكر الذين بلغنا من مساعدتهم ومساعيهم إلى هذا الحد، ونخص من بينهم أولاً سمو
النظام أمير (حيدر آباد) الذي نستغرف من وجود إمارته من نعومة أظفارنا، وإن
لم نرزق زيارته حتى الآن. وبعد ذلك نؤدي مفترض الولاء إلى سمو الملكة أميرة
بوفال التي تمنحنا وظيفة إعانة سنوية، ونبث أيادي إمارة هماوبالفورالتي رفدت
أميرتها غير ما تسمح به إمارتها سنويًّا بمنحة تساوي خمسين ألف روبية، هيأتنا
لنتشرف بأن تضع سعادتكم حجر أساس كليتنا، ونرى من واجباتنا أن نذكر من غير
هؤلاء الكرماء الذين أخذوا بأيدينا، وساعدونا بما توخينا من الخير كرنل خان بهادر
عبد المجيد خان وزير خارجية إمارة بلياليه ونحن نشكر المستر أي - ال- ساندرس
والمستر اس ايج بطلرسي 0أي0أي0 والمستر ال ام جابلتك الذين نصرونا بتحصيل
القطعة التي أنعمتم بها علينا. وفي الختام نشكر جنابكم من صميم أفئدتنا، حيث
نصرتمونا مما ثنيتم إلينا من أعنة فضلكم، ونعيد مرة أخرى تشكرنا الذي نقدم إلى
جنابكم، حيث قبلتم أن تضعوا بيدكم الكريمة حجر الأساس , والآن نسألكم أن
تأخذوا بهذا العمل الخطير الذي يبقى على كر الدهر.
__________(12/73)
الكاتب: لأحد فضلاء المسلمين من سنغافورة
__________
لقب حاكم المسلمين
لصاحب الإمضاء
رأيت في بعض جرائد الآستانة كلامًا عن الخلافة، واتهام خديوي مصر
بالسعي في التلقب بها، إلى نحو ذلك، ولا أدري أي عقل صبياني يقبل تلك
المفتريات الباردة! إن لقب الخلافة لقب شريف، وله شروط، والخلفاء الحقيقيون
الذين هم خلفاء بدون شك، قد مضوا - رحمهم الله تعالى - كما في الحديث
المشهور (الخلافة بعدي ثلاثون ثم يكون ملكًا عضوضًا) وفي رواية (ملكًا وجبريةً)
انتهى باللفظ أو بالمعنى، فمن كان بعد ذلك من عُلُوج أُمَيَّة، أو فُسَّاق بني العباس،
فليسوا خلفاء بل هم ملوك، ولم يستثن إلا من استقام على الطريقة المُثلى، ولم
تغن عنهم قرشيتهم شيئًا، ولا ديلمتهم.
ثم ماذا جنى المسلمون من لقب الخلافة؟ إنهم لم يجنوا غير الافتراق والقلاقل
ومنذ استشرى سلاطين آل عثمان لهذا اللقب، فتحوا على أنفسهم أبوابًا من التعصب
بدون مقابل، قل لي: أي فائدة حازوها بهذا الاسم الضخم؟ أي مملكة افتتحوها بهذا
اللقب؟ أي حق استحقوا بهذا المنصب؟ إنني لا أعرف شيئًا، وما أراهم استفادوا
غير نفرة مجانين الملوك، وزيادة التفريق الذي أودى بنا. السلطان مفروضة طاعته
في المعروف، حرام الخروج عليه لغير سبب مسوغ. كل هذا معلوم، فماذا يجب
غير هذا له، لو كان خليفة مستكمل الشروط؟! إننا لو أردنا أن نقتصر لأقل ملوك
المسلمين الآن، على ما كان لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ثم شكوا في
استحقاقهم له وأرجعوه، لم يقبل أحد منهم ذلك، مع أن أعلاهم كعبًا لا يقوم
للمسلمين بعشر معاشر ما قاما به. لا أقول: إن ذلك الأوان مساوٍ للوقت الحاضر،
يكفي فيه ما كفى في ذاك، لا بل أقول بعد مراعاة الأزمنة والأحوال.
إذًا يجب النصح والمساعدة لسلطان المسلمين، على كل أحد منهم بما قدر
عليه، سواء سماه أمير المؤمنين أو الخليفة أو السلطان كذا، أو إمبراطورًا أو ملكًا
أو فلان بن فلان بلا فرق. ومن المحسوس أنه ليس للمسلمين سلطان أحق وأولى
بالاعتبار من السلطان عبد الحميد خان - زاده الله توفيقًا - فالنصح له بعد النصح لله
وكتابه واجب، وكذا الدعاء له. لكن لا على نحو ما يفعله الجهلة، وخطباء
المنابر في الدعاء، أو بأن يقدموا أمامه ما يكون سببًا لعدم قبوله من المبالغات
والنعوت الكاذبة، وما يدل على الخيلاء والأبهة والكبرياء، فكل ذلك بدعة، روجها
الوسواس الخناس عليهم، وعمل بها علماء السوء عباد الدرهم والدينار. والتواضع
والخضوع والصدق في الدعاء، والاتباع فيه لما جاء عن سيد المرسلين من أعظم
أسباب قبوله. هذه آرائي أعرضها للتمحيص، وأقترح على خطباء المنابر أن لا
يزيدوا على قولهم عبدك الفقير إليك فلان، وكأني بهم إذا عملوا بإخلاص، وقد رأوا
علامات الإجابة، والله الهادي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سنغافورة
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... س. س. ي
__________(12/77)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التاريخ الهجري الشمسي
عندما شرعت بوضع النظام أو القانون للجمعية الخيرية الإسلامية في طرابلس
الشام، خطر لي أن تكون سنيها هجرية شمسية، وأن يكون أول سنتها شهر مارس
(آزار) كالسنة المالية العثمانية، وذكرت ذلك في القانون، ثم خطر لي أن أذكر
هذا التاريخ في المنار؛ إحياء له مع ذكر السنة القمرية التي عليها المعول في
الأمور الدينية؛ للاستغناء فيها عن الفلكيين والحاسبين. وقد جاء في حسابي أن سنة
1909 الميلادية توافق 1285 هجرية شمسية؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ولد سنة 571 بعد ميلاد المسيح صلى الله عليه وسلم، وبعث على رأس الأربعين،
وأعلن بعثته بعد ثلاث سنين من نزول الوحي عليه أول مرة، وهجر بعد عشر
سنين من إعلان الدعوة فتلك 53 سنة، تجمع إلى سنة الولادة، فتكون معها 624
تطرح من 1909، فيبقى 1285. ولكن رأيت بعد ذلك أن الدولة العلية عزمت
على أن تجعل حسابها المالي على السنة الهجرية الشمسية، وأن سنة 1909 وافقت
على حسابها 1288 هجرية، وكأن الحاسبين الذين قاموا بذلك لم يحسبوا سني الفترة
بين أول الوحي وإعلان الدعوة وهي ثلاث على المشهور، فيجب أن يتقوا مثل غلط
النصارى في تاريخ الميلاد، فقد أخطأوا فيه بعده سنين، ثم لم يمكنهم الرجوع إلى
الصواب؛ بعد أن ملئت الكتب والدفاتر بالخطأ.
***
أهم ما نطلب من مجلس المبعوثان
(1) إصلاح نظارة الأوقاف، وجعل أموال الأوقاف التي تراعى
شروطها والتي جهلت شروطها والتي وقفت على الخير مطلقًا - كلها لإحياء العلم
والدين ونشرهما في جميع البلاد، وسنفصل ذلك في وقته.
(2) إصلاح المحاكم الشرعية، وأهم أركان هذا الإصلاح جعل المحاكم
الشرعية كالنظامية، مؤلفة من رئيس وأعضاء، وتأليف كتاب لها كالمجلد، وجعلها
درجات ابتدائية واستئنافية وتمييزية (محاكم نقض وإبرام) ، وترتيب رواتب شهرية
كافية للقضاة والكتاب، ومنعهم من أخذ الرسوم.
(3) جعل اللغة العربية محتمة في جميع مدارس الحكومة، وإنشاء مدارس
معلمين ومدارس زراعة.
__________(12/79)
الكاتب: جميل العظم
__________
ذيل لكشف الظنون
كنت شرعت منذ ست عشرة سنة بتأليف ذيل لكتاب (كشف الظنون عن
أسامي الكتب والفنون) تصنيف العلامة منلا كاتب جلبي المعروف بحاجي خليفة
المتوفى سنة 1067، جمعت فيه ما فاته ذكره من أسماء الكتب والمصنفات، مع
أسماء المؤلفات التي حدثت بعد عصره في اللغات الثلاث الشرقية إلى يومنا هذا.
رجعت في ذلك إلى كتب التراجم، وفهارس المكاتب العمومية، وبعض
المكاتب الخصوصية، وضممت إلى ذلك الكتب التي وقفت علي أسمائها في أثناء
مطالعتي لكتب شتى مختلفة المواضيع، وأسماء كتب كثيرة دخلت في يدي مع ما
وقفت عليه من أسماء المؤلفات التي أعلنت الجرائد والمجلات طبعها، وقد أحببت
أن أطبع هذا الذيل الحافل أجزاء متتابعة، كل جزء مائة صحيفة بقطع الأصل،
بحيث يصدر في كل شهرين جزء منها , وبما أنني قد ذكرت في كتابي هذا كثيرًا
من مؤلفات المعاصرين، أحببت أن لا تفوتني ذكر كثير منها مما لم أطلع عليه؛
لتعذر الإحاطة، فأرجو من فضلاء العصر وكتابه وأدبائه أن يتحفوني في مدة
شهرين ونصف بأسماء مؤلفاتهم ومؤلفات أسلافهم؛ كآبائهم وأقربائهم مع ذكر شيء
من خطبة الكتاب، ونبذة من ترجمة مؤلفه وتاريخ ولادته، وإن كان متوفى فتاريخ
وفاته، ومحل طبع الكتاب إن كان مطبوعًا وسنة طبعه. وبما أنني رتبت هذا الذيل
على حروف المعجم كالأصل، فإذا أخَّر أحد إرسال أسماء مؤلفاته إلى ما بعد الأجل
المعين، وكان فيها كتاب يدخل في الحرف الذي تم طبعه، فاتني ذكر ذلك الكتاب.
وأرجو أيضًا من أصحاب الجرائد والمجلات: أن يتحفوني بأسماء جرائدهم
ومجلاتهم وتاريخ إنشائها، وبيان وصفها إجماليًّا، حيث أجعل ذكرها والتنويه
بشأنها خاتمة للكتاب، وإنني أسلف كل من تفضل علي بآثاره كل شكر جزيل،
وثناء جميل.
يخابرني من شاء بهذا العنوان: (محاسب المعارف في بيروت جميل
العظم) .
__________(12/80)
صفر - 1327هـ
مارس - 1909م(12/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أوراق اليانصيب وسندات المصارف
(س1) من بورت سودان لصاحب التوقيع
حكيم الإسلام، وفيلسوف الأنام، مربي الأمة ومرشدها، وغرة عصرها
وعالمها، سيدي المرشد السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء، نفعني الله
بعلومه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد جمعني وجماعة من نبغاء
بورت سودان وفضلائها مجلس انعقد بمنزل فضيلة قاضيها الشرعي؛ لسماع
درس التوحيد، وبعده أخذنا نتجاذب أطراف الحديث الذي وصل بنا إلى تحليل أو
تحريم أوراق اليانصيب، وطال الجدال في هذا الموضوع، وانقسمنا إلى قسمين:
قسم منا حرمها من أولها لآخرها، سواء في ذلك سندات سكة حديد
تركيا (الرومللي) والبنك العقاري، جديدها وقديمها.
والقسم الآخر فصَّل في الموضوع حيث حرَّم كل الأوراق ما عدا سندات البنك
العقاري وسكة حديد تركيا، فقال بالحِل فيهما إلا أنه لم يجزم بهذا القول، واشترط
في أوراق البنك العقاري عدم أخذ (الكبون) أي الربح السنوي.
وبالنسبة لكوننا لم نوفق للفصل في هذا الموضوع نهائيًّا، قَرَّ القرار على
الاستعلام من حضرتكم، وأخذ رأيكم في هذا الموضوع؛ للاهتداء بهداكم وكلفوني
أن أسألكم.
لذلك ولعلو مقامكم وكرم أخلاقكم، جئت إليكم بهذا راجيًا إرشادنا في هذا
الموضوع - أرشدكم الله - والفصل فيه ليحق الحق، ويبطل الباطل، إن الباطل
كان زهوقًا.
كما إني أرجوكم إن كان سبق لسيادتكم التكلم عنه في مجلدات غابرة؛ أن
تجيبوني عليه، وأكون ممنونًا لو تفضلتم بالإجابة في أول عدد لأهميته عندنا
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد كريم
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحد قراء المنار
(ج) أفتينا في المنار من قبل (ص47م10) بأن اليانصيب من القمار
المحرم؛ لما فيه من الضرر الظاهر، فإن المقامر يضيع ماله لتوهم الربح، وقد
فصلنا القول في ضرر الميسر في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ} (البقرة: 219) فليراجع في (ص 329 ج2) من التفسير. وأما
مثل سندات البنك العقاري: فهي نفسها ليست من (اليانصيب) وإن كان يعمل لها
(يانصيب) ، بل هي ضرب من ضروب التجارة؛ لأن لها أثمانًا كأثمان سهام
الشركات المالية، تزيد وتنقص، وتشبه من جهة أخرى الدين بربح قليل؛ لأن
صاحب المال يأخذ عليه كل سنة ربحًا (كوبون Coupon) . ولكنها خالية من
ضرر القمار؛ لأنه ليس فيها إضاعة مال محقق لربح متوهم، ومن ضرر الربا،
المعبر عنه بقوله تعالى في خاتمة آيات الربا {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) وهي من ذلك مشكلة، والظاهر من أقوال الفقهاء وقواعدهم أنها
غير جائزة لذاتها , ولكن بعضهم يجيز ذلك في غير دار الإسلام أو مع الحربيين؛ لأن
التزام العقود الإسلامية إنما يجب في البلاد التي يحكم فيها الإسلام، ولهم
في ذلك تفصيلات كثيرة (راجع ص 639 م7 وص 268 و 291و 590م8) .
ثم إن الفقهاء قد جعلوا الشرع العملي قسمين: عبادات ومعاملات،
فالمعاملات ليس فيها أمور تعبدية، بل كلها معقولة المعنى، منطبقة على مصالح
الناس ومنافعهم، ودفع المضار عنهم، فلا يحرم منها إلا ما هو ضار بفاعله أو
بغيره، وما يتراضى به الناس من المعاملات من غير غش، فلا يحرم عليهم إلا أنه
إذا كان من شأنه أن يضر، لا يلزمهم القاضي ما كانوا تراضوا به إذا هم اختلفوا
بعد ذلك، وتحاكموا إليه، ولا يفتيهم المفتي بوجوبه شرعًا، فقد جاء في الآثار
الصحيحة عن البخاري وغيره: أن المقترض إذا أعطى أفضل مما أخذ أي كيفًا أو
كمًّا، فلا بأس بذلك ما لم يشترط ذلك؛ أي يجعل حقًّا شرعيًّا. وهذا في الربا الذي
هو أغلظ المحرمات المتعلقة بالمعاملات المالية، فإذا أعطى صاحب سندات البنك
العقاري مالاً من البنك، قد ربح بالسحب برضى أصحاب البنك، فإنه لا يظهر لي
أن أخذه محرم عليه، ولا سيما إذا كان أصحاب البنك من الأجانب الذين لا يلتزمون
أحكام شريعتنا من أنفسهم، ولا توجد حكومة إسلامية تلزمهم العمل بها، ولا يظهر
لي أن هذا من القمار إلا بالنسبة لمن يشتري أوراق السحب التي تباع في الأسواق؛
لأن هؤلاء يضيعون أموالهم على التوهم، وأما أصحاب السندات فإن أموالهم
محفوظة لهم لا يضيع منها شيء، والله أعلم وأحكم.
__________(12/91)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دين المستقبل
وهل يكفر من له رأي فيه
(س2) من بغداد لصاحب التوقيع الذي عهد إلينا بكتمان اسمه.
حضرة سيدي المحترم محمد رشيد رضا أفندي، أدام الله مجده:
أما بعد فقد جئت طالبًا من فضلكم نشر سؤالي هذا على صفحات (المنار)
الأغر، وسرد جوابه بما يتراءى لكم؛ لأن الأمر أشكل في بغداد، والأقوال
تضاربت، فجئت طالبًا فتواكم ولكم الأجر.
إن أحد الكتاب نشر مقالة في جريدة بغداد في عددها الأول، ونقل فيها: أن
حضرة السيد البكري نقيب أشراف مصر قال: سألت الشيخ جمال الدين الأفغاني
عن دين البشر في المستقبل فأجابني بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ
رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) [1] فقام بعض المدعين
للعلم وقال: إن هذا الناقل الذي نشر المقالة قد كفر، وخرج من دين الإسلام،
وطلب من الحكومة مجازاته، وهو القتل كفرًا لا حدًّا والعياذ بالله، ثم وكل الأمر
إلى أربعة من المدرسين وهذا المكفر معهم خامس، فأما أحدهم فقال: إن الرجل
ناقل وليس عليه شيء، من دون أن يعمق البحث في أصل الموضوع، فرفضوا
قوله، واجتمع الأربعة على أنه يجب تعزير هذا الناقل تعزيرًا شديدًا، وقدموا
قرارهم هذا للعدلية، ولا ندري ما سيكون منه، فنرجوكم تدقيق هذا البحث بأطرافه
بحق قائله وناقله، والحاكمين فيه؛ ليتضح الحال خدمة للوطن والدين والأمة دامت
أفضالكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء
... ... ... ... ... ... ... ... ... غيور اغتار للدين
(ج) لا وجه للقول بكفر هذا الناقل، ولا ذلك القائل، ولا بتعزير من يرى
ذلك الرأي، سواء كان خطأ أم صوابًا، والظاهر أن أولئك العلماء لم يفهموا معنى
سؤال البكري ولا جواب الأفغاني؛ لأنهم لم يفكروا في مثل هذا البحث، ولا في
سببه، لا لبلادة في أذهانهم، ولا لجهلهم باللغة التي عبر بها القائل والناقل. نعم،
إن المشتغلين منا بالفقهيات، الجامدين على التقليد والعادات، كثيرًا ما يتجرأون
على التكفير بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وأظن أن من ذكرتم من علماء
بغداد، لو فهموا معنى السؤال والجواب، لما خطر في بالهم أن يعدوا القول به ذنبًا
فضلا عن أن يعدوه كفرًا.
يقول كثير من علماء الاجتماع: إن البشر في مجموعهم يسيرون إلى الكفر
والإلحاد عامًا بعد عام، وإن هذا السير ينتهي بترك الأمم كلها للتدين بعد قرون
كثيرة أو قليلة، ومن هؤلاء القائلين بهذا الرأي من هو متدين بالإسلام، ومنهم من
هو متدين بغيره، ومنهم من هو ملحد لا يدين بدين.
ويقول آخرون: إن البشر لا يمكن أن يستغنوا عن الدين، ولا عبرة بما نراه
في هذا الوقت من كثرة الكافرين، فلا بد أن يبقى الناس متدينين، وأن يبقوا
مختلفين في الدين، ويذهب آخرون إلى أنه لا بد أن يسود في المستقبل دين يكون
عليه أكثر البشر، وهل يكون ذلك دينًا جديدًا أم أحد الأديان الحاضرة بعد تنقيحه
وتطبيقه على حال الناس في المدنية المستقبلة؟ إنهم مختلفون في هذا، وسمعت
الأستاذ الإمام يقول أكثر من مرة: إنني أعتقد منذ عشرين سنة أن دين المستقبل هو
الإسلام، ولي على ذلك أدلة اجتماعية، وأدلة نقلية: كالوعود الإلهية بإظهاره على
الدين كله، وهو عندي في مرتبة اليقين. ولا يخفى أن أصول الدين الإلهي الحق
التي دعا إليها جميع رسل الله هي: الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح،
والكتاب والسنة تفصيل لهذه الأصول. وعبارة السيد جمال الدين مجملة، فلا يدرى
أرأيه كرأي تلميذه الأستاذ الإمام، ويريد بالأصول المجملة في الآية ما هو مفصل
في غيرها من الآيات، أم يريد أن البشر لا يتفقون على تفصيل الإسلام ولا غيره،
وإنما يستقر رأيهم على تلك الأصول المتفق عليها، ويتركون لكل فرد رأيه واجتهاده
في تفصيلها؟ الله أعلم بتفصيل رأيه. ولكن الذي يجب الجزم به أنه لا يجوز أن
نكفره، ولا أن نفسقه برأيه؛ لأنه لا علاقة بين مثل هذا الرأي، وبين قوة الإيمان
وصحة الإسلام، بل لا يجوز أن نقول بكفر من يرى أن البشر يتركون كل دين،
ولا بتعزيره أو لومه على ذلك. فليتق الله علماؤنا في المسلمين، وليعلموا أن عاقبة
هذا التشديد والجراءة منفرة عن الإسلام، وأنها يوشك أن تفضي إلى ما لا يحبون
لأنفسهم ولا لدينهم.
أما العدلية فلا أدري ما هي علاقتها بآراء الناس وأفكارهم، فإذا كان رجال
العدلية في بغداد كمن ذكرتم من العلماء فهمًا لهذه المسألة، وكان رأيهم في العقوبات
القانونية كرأي أولئك الفقهاء في العقوبات الشرعية، فياحسرة على بغداد، فإنها لا
تزال ترسف في قيود الجهل والاستبداد.
__________
(1) المنار: سمعنا هذه المسألة من البكري، وقال أمامنا: إن السيد قال له انقشوا هذه الآية على هرم الجيزة إلى أن يجيء المستقبل فيفسرها 0 وليراجع في المنار ما قاله الأستاذ الإمام في تفسيره.(12/93)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تعدد صلاة الجماعة في وقت واحد
(س3) من بغداد لصاحب التوقيع.
حضرة السيد الفاضل صاحب مجلة المنار دام فضله:
اتفقت أقوال العلماء على أن لا فرق بين أقوال الأئمة الأربعة المجتهدين -
رضوان الله عليهم - وأنهم تجمعهم السنة والجماعة. ولكن مع الأسف نرى في
أغلب جوامع بغداد تقام للصلاة جماعتان: حنفية وشافعية في آنٍ واحد، وكل
يصلي بصلاته بحيث لا يكاد يميز السامع بين تكبير إمام وآخر، فما القول في
ذلك؟ وأغرب منه أن يقوم مع وجود الإمامين إمام ثالث حنفي ويصلي بالناس مع
أن صف الجماعة المقتدين به متصل كمال الاتصال بصف المصلين خلف الشافعي
بحيث لا يمكن معرفة الحد الفاصل بين الجماعتين قط. وبعد تمام صلاتهما تقام
جماعة حنفية أخرى! فما القول في الإمامين الأولين على أن الشافعي راتب،
والحنفي فضولي، والحنفي الذي يصلي أخيرًا راتب؟ أرجوكم دفع هذا الالتباس
ولكم الأجر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء
... ... ... ... ... ... ... مسلم لا يحب تفرقة الإسلام
(ج) إن تعدد الجماعة في وقت واحد بدعة مذمومة؛ لا سبب لها فيما نعلم
إلا جعلها وسيلة للمرتبات التي يأخذها أئمة المساجد من الأوقاف أجرة على الإمامة،
وفي هذه الأجرة ما فيها. ولا التباس في المسألة فنحتاج إلى إزالته؛ لأن هؤلاء
المفرقين لا يقولون: إن إقامة جماعتين فأكثر في مسجد واحد في وقت واحد
مشروع فنرد عليهم. ولا يرجى أن يترك هؤلاء الأئمة ذلك باختيارهم إلا بأحد
أسباب ثلاثة:
(ا) علم أولئك الأئمة بالسنة والحرص على اتباعها.
(2) رغبة المأمومين عن التعدد، كأن يقيض الله لهم من يعلمهم أن أمتنا
أمة واحدة، وديننا واحد، حرم الله علينا التفرق فيه بمثل قوله: {أَقِيمُوا الدِّينَ
وَلاَ تَتَفَرَّقُوا} (الشورى: 13) ، وإن سلفنا الصالحين ما كانوا يقيمون جماعتين
أو جماعات في وقت واحد مع مخالفة بعضهم لبعض في بعض الفروع الاجتهادية،
كما عليه الشافعية والحنفية وغيرهم، وإن هؤلاء الخلف ما تفرقوا عن الجماعة إلا
لأجل الدنيا. فإذا علم العامة ذلك لا يلبثون أن يصلوا مع الجماعة الأولى في كل
وقت؛ ولكن هذا أبعد مما قبله؛ لأن علماءنا أهملوا تعليم العامة دينهم، وصار
أكثرهم يكتفي من خدمة الدين بتكفير من يخالف رأيه أو هواه من المسلمين، فحسبنا
الله ونعم الوكيل.
(3) أن يصير للمسلمين رياسة دينية محترمة عند الحكومة وعند الناس،
يوكل إليها الفصل في أمثال هذه المسائل، كأن يجعل ذلك من شأن المفتي، فإن
قيل: إن الدين الإسلامي لا رياسة فيه كغيره من الأديان، قلنا: لا نعني أن يكون
له رؤساء يسيطرون على الناس في دينهم، بل رؤساء يحترمون في الأمر
بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك من أمر الدين المتفق عليه.
__________(12/95)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
منع غير المسلمين من سكنى الحجاز
(س4) من الخواجه إلياس لطف الله أبي سليمان بتينوغستا (الأرجنتين) .
حضرة العلامة العامل، والأستاذ الكامل السيد محمد رشيد رضا:
أدامه الله بخضوع واحترام، أقدم كامل الواجبات لشخصكم الشريف وأرجو
من سيادتكم الإفادة، إذا كان منع غير المسلمين من الدخول إلى أرض الحجاز المقدسة
هو أمر ديني مقرر في الكتب الشريفة المنزلة أو في الحديث الشريف أم هذه عادة،
وفي الحالين أرجوكم إذا لم يكن من مانع أن تتكرموا بالإيضاح في أحد أعداد مناركم
المنير، ولكم جزيل الفضل والمعروف 0 قال سعادة الشيخ علي يوسف صاحب
المؤيد الأغر في عدد 5567 ما معناه: إن المهندسين العثمانيين في سكة حديد الحجاز
انفردوا بالعمل كله من العلا إلى المدينة؛ لعدم جواز دخول غير المسلم أرض
الحجاز. أختم بتكرار رجائي، والله يديمكم مرجعًا في جميع الأمور؛ كي تستنير
منكم ومن مناركم العمومُ، سيدي.
(ج) روى أحمد والبخاري ومسلم من حديث ابن عباس قال: اشتد برسول
الله صلى الله عليه وسلم وَجعُه يوم الخميس، وأوصى عند موته بثلاث:
(أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم،
ونسيت الثالثة) . والذي نسي الثالثة هو سليمان الأحول وهي النهي عن اتخاذ قبره
وثنًا أو تجهيز جيش أسامة.
وروى أحمد ومسلم والترمذي وصحيحه عن عمر أنه سمع النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها
إلا مسلمًا) .
وروى أحمد من حديث عائشة قالت: آخر ما عهد به رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن لا يترك بجزيرة العرب دينان. وروى أحمد أيضًا والبيهقي من
حديث أبي عبيدة بن الجراح قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه
وسلم (أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب) .
وذكر الحافظ ابن حجر في كتاب الجهاد من شرحه للبخاري: أن الجمهور
على أن الذي يُمْنَعُ منه المشركون من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة، قال
وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها، لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم
جزيرة العرب لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يُمنعون منها، مع أنها من جملة
جزيرة العرب. أقول: قال في القاموس: جزيرة العرب ما أحاط بها بحر الهند وبحر
الشام، ثم دجلة والفرات، أو ما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولاً، ومن جدة
إلى ريف العراق عرضًا. والذي جرى عليه العمل هو إخراج غير المسلمين من
الحجاز، ففي صحيح البخاري أن عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز
وذكر يهود خيبر فقال: أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء , وجعل بعضهم
حديث أبي عبيده مخصصًا؛ لتصريحه بلفظ (أهل الحجاز) ، وقال بعضهم: إنه لا
يصلح مخصصًا.
وليس من غرضنا هنا تحقيق الخلاف وتحرير الدلالة، وإنما نقول: إن
الحجاز هو الذي نفذ فيه الأمر وجرى عليه العمل، فهو عند المسلمين كالمسجد،
ولا يشاركهم في مساجدهم إلا من دان بدينهم، وشاركهم في عبادتهم , وهذا
التخصيص على كونه دينيًّا يتعلق بسياسة الإسلام، فإنه لما فيه من التساهل مع
المخالفين لا يستغني أهله عن بقعة خاصة بهم، لا يزاحمهم فيها غيرهم، يأرزون
إليها عند إلجاء الحوادث ومطاردة الكوارث. وليس الحجاز مما يصلح لكسب الدنيا
والتمتع بزينتها. فما منع غير المسلمين إلا من مكان لا حظ لغير المسلم فيه، إلا أن
يريد مزاحمته أو الافتيات عليه في خاصة دينه.
وقد تبين المحققون أن حكم الإسلام في مكة أنها وقف للمسلمين عامة. قال
ابن القيم: وأما مكة فإن فيها شيئًا آخر يمنع قسمتها، ولو وجبت قسمة ما عداها
من القرى (أي التي تفتح عُنْوة) وهي أنها لا تملك؛ فإنها دار النسك، ومتعبد الخلق
وحرم الرب تعالى الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد، فهي وقف الله على
العالمين، وهم فيه سواء، ومنى مناخ من سبق قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (الحج: 25) إلى أن قال: فالحرم ومشاعره كالصفا والمروة والمسعى ومنى
وعرفة ومزدلفة، لا يختص بها أحد دون أحد، بل هي مشتركة بين الناس؛
إذ هي محل نسكهم وتعبدهم، فهي مسجد من الله وقفه ووضعه لخلقه ... إلخ.
ثم إن لسائر الحرمين أحكامًا خاصة، فلا يحل صيدها، ولا يختلى خلاها،
فمن هنا يعلم أن منع غير المسلمين من سكنى بلاد الحجاز، ليس هو الحكم الذي
تختص به وحده هذه البلاد. وأما دخولها لغير السكنى ففيه أقوال، أصحها عندي
قول الشافعي أنه لا يُمَكَّن غير المسلم من دخول أرض الحرم إلا بإذن الإمام؛
لمصلحة المسلمين، على أن المشهور في مذهبه أنه يجوز لغير المسلم دخول مساجد
المسلمين بإذن أيّ مسلم، لا يختص بالإمام الأعظم، ولا يقيد بالمصلحة العامة.
وقال بعض العلماء: يجوز دخولها ما عدا المسجد الحرام والحجاز.
__________(12/97)