الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات
(لباب الخيار في سيرة المختار)
ألف الشيخ مصطفى الغلاييني البيروتي مختصرًا في السيرة النبوية سماه بهذا
الاسم، وطبعه طبعًا جميلاً على ورق حسن، ضبط فيه بالشكل ما رآه مما يشتبه
فيه غير العالم، فكانت صفحاته 82 صفحة، وهو أسهل المختصرات، وأقربها إلى
إفادة التلاميذ المبتدئين والعوام.
ذكر في أول هذا المختصر أن الإسلام قام، أو نشر بالدعوة لا بالسيف، وقسم
حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة أدوار: ما قبل البعثة، وما بعدها إلى
الهجرة، وما بعد الهجرة، وذكر المسائل والغزوات دون السرايا، ونبَّه على
مواضع العبرة في كثير من المواضع، وختم المختصر بأحاديث من الحكم وجوامع
الكلم بلغت 221 حديثًا، رتبها على حروف المعجم. وثمن النسخة من هذه السيرة
قرشان صحيحان ما عدا أجرة البريد، وتطلب من مكتبة المنار بمصر.
***
(فلسفة الإسلام ومدنية القرآن)
كتاب جديد يؤلفه أحمد أفندي بدوي النقاش أحد ضباط الجيش المصري في
سكة الحديد السودان. وقد طبع الجزء الأول منه في مطبعة الآداب والمؤيد.
وقد يتعجب القارئ من نسبة كتاب في الفلسفة إلى ضابط مصري، لا سيما إذا
كان عالمًا بحال التعليم في المدرسة الحربية المصرية، وأنه تعليم صناعي ليس فيه
شيء يرقي الفكر، حتى إن دراسة التاريخ، قد ألغيت من هذه المدرسة منذ سنتين،
ولا ترى جريدة من الجرائد المبالغة في انتقاد نظارة المعارف، تنتقد ذلك على
نظارة الحربية.
نعم يتعجب القارئ من تأليف ضابط مصري كتابًا في فلسفة الدين، ولا يذهب
بتعجبه إلا تذكر تفاوت استعداد البشر، فإن في الضباط المصريين أفرادًا من
المغرمين بقراءة كتب العلم والدين والتاريخ والمجلات الدينية والعلمية.
ومؤلف هذا الكتاب من المستعدين للفلسفة، ويا ليت تربيته لم تصرفه عما خلق
مستعدًّا له إلى غيره.
قرأنا مسائل من الكتاب، فرأيناها نتائج فكر دقيق، جاءت من كل فج سحيق،
بعضها جلي وبعضها خفي، لم تقو العبارة بيانه.
ومن مباحث الكتاب؛ طبيعة الفكر الإنساني، والإرادة والعقل، وحرية
الإنسان واستقلاله بوجود الله، والفلسفة الإلهية، وإيصال القرآن إلى السعادة وغير
ذلك.
***
(الدليل - في موارد أعالي النيل)
كتاب جديد كبير الحجم والفائدة صنفه بالإنكليزية السر وليم جارستن مستشار
نظارة الأشغال العمومية بمصر، ونقله إلى العربية إبراهيم منصور بك رئيس
الترجمة في هذه النظارة، وطبع بمطبعة المعارف طبعًا في منتهى الحسن، وهو
يشتمل - كما كتب في طرته - (على مطالب التعديل والإصلاح. ويليه نبذة لجناب
المستر ديبوي مفتش عموم ري السودان، شرح فيها خبر رحلته إلى بحيرة نسانا
وأنهار السودان الشرقي. وفي درج الكتاب رسوم جمة، وله ملحقات) .
نقول: أما الكتاب فهو قسمان وخاتمة، وفي القسم الأول منها 12 فصلاً في
الكلام على بحيرة فكتوريا وبحيرة ألبرت أدور وبحيرة ألبرت وهي ينابيع النيل
وأصوله، وعلى نيل فيكتوريا والنيل الأعلى المعروف ببحر الجبل، وعلى البحرين
الأبيض والأزرق وهما فرعا النيل العظيمين وغير ذلك.
والقسم الثاني في (تصرفات الأنهار وممكنات المشاريع) وفيه فصلان.
وأما الملحقات ففيها فوائد كثيرة في مشروعات، ومباحث مهمة، كتعلية حبس
أسوان، ومشروعي وادي الريان وفرع رشيد. وأما الرسوم فيه فهي 46 رسمًا،
وهناك رسوم أخرى كثيرة منها الملون، كخرائط الجغرافية، ومنها غير الملون
وهي في غاية الإتقان.
ومن خدمة اللغة في هذا الكتاب أن مترجمه بالعربية، قد فسر في هوامشه
الألفاظ التي احتاج إلى استعمالها فعني بالبحث عنها ووضعها في مواضعها ولم تكن
مستعملة عند كتاب العصر، كالمساك بوزن سحاب، وهو مكان من النهر تتراصف
إليه حطامة الأغصان، ورفاض الحطب والعشب وغيرها فتحبس ماءه وتعوق
سيره، ويعرف بالسد. وكالمفجرة بوزن المتربة قال: وهي أرض تطمئن وتنفجر
فيها أودية، وبالتخصيص فجوة ما بين جبلين، وهي الفجة والوادي والغور. وهو
يفسر أيضًا كل ما يرد في الكتاب من الاصلاحات والدخيل.
وأسلوب الترجمة عربي فصيح، قلما تجد لأحد من كتاب هذا العصر
ومترجميه مثله، وإن لم يخل من بعض ما ينتقد على نابغيهم، وهاك هذا النموذج
منه في الكلام على بحيرة ألبرت:
(أما بحيرة ألبرت فالحادثات فيها على خلاف ما تقدم. ولكن لا مرد لوقوعها
وفعلها أكيد. ذلك أن منالج جبل رونزوري والفواعل الجوية فيه، تؤدي إلى تحات
جوانبه على الدوام وتفتتها، وكل ما ينساب منها من الرفاض [1] تجترفه السيول إلى
أخاديد [2] ومضايق ذاهبة به إلى نهر سملنكي، وهو يرمي بها إلى بحيرة ألبرت،
ومعها مقادير من الطين التي تجتلبها مياهه من أنحائه العليا.
هذا وانحدار النهر عند الطرف الجنوبي لبحيرة ألبرت يقل، فتخف بذلك
جريته، فتصبح مياهه - وليس لها قوة دافعة - تستاق تلك المواد، فتستقر جميعًا في
بطاح البلاد المجاورة. وعليه فقد كونت رواسب الأجراف [3] في الأطراف الجنوبية
من بحيرة ألبرت سهلاً بسيطًا من الأرض يتداخل شيئًا فشيئًا بمياه هذه البحيرة، فيرفع
منسوب قاعها، ولا تزال هذه الرواسب تعمل هذا العمل على التوالي. ومثل ذلك
يعمله بحر فيكتوريا في الطرف الشمالي للبحيرة، فهو يلقي بإبليزه وأجرافه في
البحيرة فتضيق.
فنشكر لواضع الكتاب خدمته لهذه البلاد، ولمترجمه خدمته لها وللغتها، بما لم
يخدمها أهلها.
***
(هذا يلاشي تلك)
لفيلسوف شعراء فرنسا أو شاعر فلاسفتها فيكتور هيجو أو هوجو، (أو الاسم
بالغين أو الكاف بدل الجيم، على ما نرى عليه المعربين والمترجمين من الخلاف)
مقال عنوانه: (هذا يلاشي تلك) ، وصف فيه مباني الأقدمين وفخامتها كالأهرام
وقصر الكرنك وعمود السواري والبادثيون والبالثيون ذهب خياله في فلسفة
اجتماعية دقيقة، فجعل ذلك رمزًا للسلطة الروحية والسياسة التي استعبد البشر بها
الكهنة، والملوك وبين أن اختراع المطبعة الذي سهل نشر العلم بين جميع الناس
يلاشي تلك السلطة ويذهب العلم بالكنيسة. وانتقد على ذلك بعض الكتاب وحاول بيان
أن المطبعة لم تعدم الكنيسة، بل خدمتها ورد عليه المترجم ثانية، نشر ذلك في جريدة
البصير، ثم طبع على حدته.
***
(مطمع الفصحاء)
كتاب ألفه الشيخ علي فؤاد المنوفي في شيء سماه الإنشاء وجعله عشرة أقسام:
في رسائل الود والشوق، والعتاب والاعتذار، والقطيعة والاستعطاف، والرجاء
والشكر، والتعازي والتهاني. وأودعه أربع مقامات، وجعل له شرحًا أكبر منه،
وإن شئت فقل: إنه صنف كتابًا آخر، جعله هامشًا له وسماه شرحًا، وإن كان أكثر
ما فيه ليس بشرح، ولا مناسبة بينه وبين المشروح في معنى الأصل. مثال ذلك
شرحه للبيت الآتي:
إني لأبصر من أفعالها عجبًا ... الوصل يغضبها والصد يرضيها
فإنه لا يبين المراد من البيت في شرحه، وإنما يتكلم عن أقسام الفعل في
الصرف، فيذكر المجردة والمزيدة، والملحقة والسالمة، والمضاعفة والمهموزة
وغير ذلك.
كذلك شرحه للبيت الآخر:
أكتم الوجد والآلام تظهره ... هيهات هيهات ذو طب يداويها
فإنه لا يذكر في شرحه إلا نحو صفحتين في أسماء الأفعال، كأنه يشرح كتابًا
في النحو والصرف.
قال المؤلف في فاتحة كتابه: (وكل ما فيه من المنشآت ابتكاري، كما أن
بعض ما به من الأبيات اختياري) .
يعرف المرء باختيار وجمع ... ودليلي على الأديب اختياره
ونقول: إنه ليس فيه شيء من الابتكار، وهاك هذا النموذج مما فيه من
المنظوم والمنثور، وهو ما قاله في أول قسم الاستعطاف بعد أبيات لغيره.
(مهما في التجني علي أفرطت، وأذقتني بصدك الهوان، فروحي لمودتك
أوهبت، يا إنسان كل إنسان) .
لله أشكو غرامي ... وما أعاني وألقى
قطعت حبل ودادي ... ولم أخن لك حقا
وبي تبدلت غيري ... فالله خير وأبقى
لكن.. عهدي بجميل خصالك، وقوفي على سبب هجرانك.
لئن كان بالسلوان عني عواذلي ... لكم حدثوا والله قد كذبوا بما
عن الحب والعهد القديم وودكم ... وحق الهوى ما ضل صاحبكم وما
لمهجتي الشجو أورثت، ولعيني السهد وهبت، وإلى الأرق بعثت، وللبي قد
روعت.
فزاد اشتياقي وقل اصطباري ... ولم أستطع في هواك الهجوع
فؤادي أسرت قيادي ملكت ... أما آن عفوك عن صادق
سميع مطيع مشوق ولوع
حذار العذول كتمت وجدي ... يا خير مأمول عدمت رشدي
فمن علي يرد الجواب ... وحقك إني به لقنوع
دامت لك علياك، ولا أعدمني الله محياك والسلام) اهـ.
ولا يحسبن القارئ: أننا تعمدنا نشر أدنى ما في الكتاب بعد البحث عنه، بل
هذا من أحسنه، فإن أساء بنا الظن، أوردنا له أبياتًا كتب بها إلى صديق آخر،
وهي:
أيا من فاق أهل العصر طرًّا ... بما أبداه من شرف الطباع
أسأت إليك فاستوحشت مني ... وأبدلت التواصل بانقطاع
فصرت أقارع الأهوال ضنكًا ... وأنتف شعر رأسي من مجاعي
وأصرخ في (الشوارع والحواري) ... بأصوات كأصوات الضباع
وأزري دمع عيني فوق خدي ... ومن أسفي أعض على صباعي
ولما أن رأت عيناي موتي ... وأن الروح مني في النزاع
أتيت إليك معترفًا بذنبي ... ورجلي فوق كتفي بانخضاع
أؤمل فيك أنك تعف عني ... لأنك بحر جود ذو اتساع
فألقني بفضلك ثدي عفو ... لأشفي القلب منه بالرضاع
هكذا جاءت هذه الأبيات في الكتاب، فلا تظن أن مطبعتنا حرَّفت فيها أو
صحفت.
ههنا يقول القارئ: ما بال المنار أطال فى الكلام على هذا الكتاب، وخالف
عادته في مثله، وأنا أقول له: إن السبب في ذلك التعريف بمكانة كتاب كتب
مصنفه في أوله؛ أنه ورد إليه 26 تقريظًا له من أكابر العلماء وأفاضل الشعراء،
وذكر منها تقريظًا للشيخ سليم البشري الذي هو شيخ المالكية اليوم، وكان شيخ
الأزهر بالأمس يشهد فيه للكتاب بأنه مفيد ونافع.
وتقريظًا للشيخ محمد بخيت الحنفي المشهور، يقول فيه: (وبعد، فقد اطلعت
على كتاب مطمح الفصحاء، بل مرتع البلغاء، فوجدت من بحور الأدب درر
منظومة في سلوك الذهب، تزري بقلائد العقيان في نحور الحسان، كيف لا، وقد
حوى من النثر أغلاه، ومن الشعر أعلاه، فجزا (كذا) الله مؤلفه أحسن الجزاء،
وأكثر من أمثاله النبلاء، وجمل به وجه هذا الزمن، ونفع بمؤلفه الأمة والوطن
آمين) .
وقد كان حظه من كبر الجرائد كحظه من أكابر العلماء، فإن جريدة المؤيد
قرظته تقريظًا؛ جعلته في منتهى البلاغة.. أَفَيُلامُ المنار بعد هذا كله؛ أن أطال القول فيه.
***
(نخب من مبتكرات مكسيم غوركي)
مكسيم غوركي من كتاب الأمة الروسية، قد اشتهر بما كتب من المقالات
والرسائل في الإصلاح السياسي والاجتماعي، وله أسلوب رشيق، وكثيرًا ما يبرز
المعاني في قوالب الوقائع. وقد اختار سليم أفندي قبعين. وهو من أدباء السوريين
العارفين باللغة الروسية؛ أربع مقالات لهذا الكاتب وترجمها بالعربية وطبعها،
فبلغت صفحاتها ثمانين صفحة ونيفًا. عنوان المقالة الأولى: (الملك الرافع اللواء)
وعنوان الثانية: (أحد ملوك الجمهورية) ، وعنوان الثالثة: (فرنسا الجميلة) ،
وعنوان الرابعة: (اليهود) وثمن هذه النخب 3 قروش صحيحة.
***
(غرائب الأسرار - جاسوس الألزاس)
غرائب الأسرار: قصة مؤلفة من أجزاء، ترجم الجزء الأول منها؛ واسمه
(جاسوس الألزاس) حسن أفندي موسى (ضابط بالاستيداع) . فأما وقائع الجزء
فهي تكاد تكون في غرابتها من الخوارق أو الشعوذة، وفيها من الرموز والأسرار ما
يشوق النفس إلى الجزء الثاني؛ لنقف على حل تلك الرموز، وكشف هاتيك
الأسرار.
وأما الترجمة فهي أقرب إلى العامية منها إلى العربية الصحيحة. وصفحات
الجزء الذي طبع 112، وثمنه خمسة قروش.
***
(الفضيلة والرذيلة)
قصة أدبية غرامية، من تأليف جورج أونيه أحد كتاب الفرنسيس، وترجمها
بالعربية محمد أفندي كرد علي منشئ مجلة المقتبس، وأحد محرري المؤيد.
وموضوعها علم الأدب (الكتابة والشعر) ، والأدباء في فرنسا، فهي مساجلات
ومنافسات بين نفر من الأدباء والأدبيات، وقلما تجد شيئًا من ذلك في الكتب
المترجمة بالعربية، فالقصة تفيدك ما لا تكاد تعرفه من كتاب آخر في أخلاق الأدباء
وعاداتهم، ومكانة الأدب عندهم، وتأثيره فيهم. وقد طبعت القصة بمطبعة الشعب،
وتطلب من مكتبتها، وثمنها 15 قرشًا.
***
(المجرم البريء)
قصة فرنسية الأصل، ترجمها محمد أفندي كرد علي؛ لمجلة مسامرات
الشعب. وطبعت في أربعة أجزاء من أجزائها، وهي على كونها قصة غرامية،
تشرح للقارئ مسألة شرعية قانونية من أهم المسائل؛ وهي الاعتماد على القرائن
القوية في إثبات الجنايات والحكم بمقتضاها، والخلاف في ذلك معروف، فمن لا
يبيح الحكم بالقرائن، يقول: إنها قد تكون قطعية في الظاهر، وهي لا حقيقة لها
في الواقع، وهذه القصة تؤيد هذا القول، فهي تمثل لك في أولها رجلاً عدا على
آخر في بيته فقتله، وأخذ ما أخذ من ماله، وكان المال قراطيس لا معدنًا، وقد رآه
من داره وهو متلبس بقتل جاره كل من؛ زوجه وبنته وخادمتهما، وكان ذلك ليلاً.
والأنوار في بيت القتيل متألقة، ولما عاد إلى داره، وكان قد تأخر خلافًا لعادته،
عاد شعثًا مضطربًا، ولم يستطع النوم سبيلاً، ولما اتُّهم كان مما ظهر في التحقيق
أن الأوراق المالية التي فقدت من القتيل وجدت في صندوقه، وهو لم ينكر ذلك.
والحق أنه لم يكن هو القاتل، وأن هذه القرائن والدلائل وغيرها مما لم نشر إليه كلها
شبهات، تشرح القصة حقيقتها بعد شرحها بالإسهاب.
***
(محمد علي)
قصة تاريخية غرامية في محمد علي باشا، من أول نشأته إلى أن استقر له
أمر الحكم في مصر، ألِّفت بالألمانية، وترجمت بالإنكليزية، ثم ترجمها عن
الإنكليزية بالعربية نسيب أفندي المشعلاني بطلب إدارة الهلال، وعلى نفقتها طبعت
ومن مكتبتها تطلب. وقد سلك مؤلف القصة في بيان نشأة محمد علي مسلكًا فلسفيًّا
بيَّن فيه أنه قد أُوْتي منذ صغره الاستعداد الفطري للرياسة وجاءت الحوادث مربية
لهذا الاستعداد، حتى بلغ منتهاه. والقصة في جملتها مفرغة في قالب مقبول،
ونسقها معقول غالبًا، يقل فيها الغلو المنتقد؛ كَزَعْم الانتقال من قرب دمنهور إلى
قرب الأهرام في صحراء الجيزة في ليلة، أو بعض ليلة.
***
(الجامعة الإسلامية وأوربا)
رسالة لرفيق بك العظم المشهور بمباحثه التاريخية والاجتماعية، سننشر
بعض فصولها في الجزء الآتي من المنار. إن شاء الله تعالى.
***
(الأمين والمأمون)
هي الحلقة الحادية عشرة من سلسلة القصص الغرامية التاريخية، التي يؤلفها
جرجي أفندي زيدان وينشرها في الهلال (وتشتمل على ما قام بين الأمين والمأمون
من الخلاف بعد وفاة والدهما الرشيد، وقيام الفرس لنصرة المأمون، حتى فتحوا
بغداد، وقتلوا الأمين، وأعادوا الخلافة إلى ابن أختهم (المأمون) ، ويتخلل ذلك
وصف دخائل السياسة بين العرب والفرس، وما يقتضي المقام ذكره من الآداب
الاجتماعية والعادات والأخلاق) .
ومما يشرحه فيها؛ أن الفرس كانوا معتصمين بالعصبية الجنسية، متعمدين
إزالة الملك من العرب وجعله فيهم، وإقامة خليفة من العلويين، يكون آلة دينية في
أيديهم، وأنَّ الكثيرين منهم كانوا يظهرون الإسلام ويخفون المجوسية؛ ليتمكنوا من
مخادعة المسلمين عربهم وفرسهم. فذكرنا هذا بالعصبية الجنسية التي محاها الإسلام
وأماتها، فأحياها بعض المنافقين، فكان من شرها ما كان ويريد إحياءها فى هذا
العصر بمصر باسم الوطنية بعض المفتونين بالشهرة، فنسأل الله أن يقي الإسلام
والمسلمين شرها؛ لأن التفريق في هذا العصر ينتهي بهلاك جميع المسلمين، لا
بتغلب جنس منهم على جنس آخر، كما كان من قبل.
***
(رحلة ابن جبير البلنسي الأندلسي)
نشرنا في هذا الجزء أثارة تاريخية من هذه الرحلة وسننقل غيرها، وهي
رحلة جليلة ذات فوائد جمة، طبعها ثانية العالم المستشرق كوريج في هذا العام طبعًا
متقنًا على ورق جيد، وناهيك بإتقان الإفرنج وعنايتهم بالضبط، وما يضعونه
للكتب من فهارس الأعلام والمواضع التي تسهِّل المراجعة والاستفادة. وأهدى إلينا
نسخة منها مجلدة تجليدًا حسنًا، فنشكر له نشره آثار سلفنا، وخدمته هو وأمثاله
للغتنا.
***
(الصراط)
مجلة جديدة تطبع في الإسكندرية، وقد كتب عليها: (مجلة أخلاقية أدبية
علمية تاريخية، تصدر في الشهر مرتين بمعرفة جمعية محامد الأخلاق
بالإسكندرية قيمة الاشتراك سنويًّا عشرة قروش صاغ، ولتلامذة المدارس خمسة
قروش) وهي قيمة قليلة، وإن كانت صفحات الجزء من المجلد لا تزيد
على عشرين صفحة فنتمنى أن يكون هذا الصراط موصلاً إلى الفوائد النافعة.
__________
(1) رفاض الشيء: (كغراب قشارته وما تحطم منه فتفرق) .
(2) جمع أخدود؛ وهو الحفرة المستطيلة في الأرض.
(3) أجراف: جمع جرف (بالضم) وجرف (بضمتين) ؛ وهي ما تجرفته السيول وأكلته من الأرض (المعرب) .(10/545)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(المسألة المراكشية وحرب الدار البيضاء)
كتبنا في السنة الأولى للمنار نصيحة فيه لسلطان مراكش؛ أنذرناه فيها بأن
طوفان أوربا لابد أن يفيض على بلاده، فيغمرها إن لم يبادر هو إلى إصلاح شأنها
بما تقتضيه حال العصر من التربية والتعليم، لا سيما تعليم الفنون العسكرية والمالية.
ثم كنا نعيد النصائح والنذر مرة بعد أخرى، وآخر عهدنا بها ما كتبناه في أيام
انعقاد مؤتمر الجزيرة من العام الماضي {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ
يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101) بالأسباب والمسببات وسنن الله تعالى في الأمم، وإنما
يعتمدون في دفع الضر، وحفظ المصالح على الخوارق، وكرامات الأولياء مع
ما درجوا عليه من التقاليد والعادات، لا يقبلون وراء ذلك إصلاحًا، ولا يبتغون
بدونه فلاحًا، وقد سبق لنا بيان التجائهم إلى قبر مولاي إدريس، وجؤار أهل العلم
الديني عنده بكلمة يا لطيف؛ ليدفعوا بذلك ما طلبته فرنسا من السلطان يومئذ
فليرجع إلى ذلك في المجلد الثامن من أراد.
مرت الأيام والسنون، وأهل هذه البلاد {يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْن} (التوبة: 126) أو مرات {ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ} (التوبة: 126) من تفريطهم
وغرورهم {ولا هم يذكرون} (التوبة: 126) ، ما حل بأمثالهم من الأمم
والشعوب الجاهلية بحال هذا العصر ورقي أممه، وما يجب من إعداد القوة
لمدافعتها إذا عدت بحسب الاستطاعة، وعلى قدر ما هي عليه من الاستعداد،
وكل ذلك مما يرشد إليه الإسلام، ويفرضه بنص القرآن.
ولكن أين أولئك الجاهلون من الإسلام والقرآن، وهم يعتقدون أن قراءة تفسيره
تميت السلطان، وحياته عندهم أولى من إحياء القرآن، ثم ماذا تفيدهم قراءته إذا
كانوا يعتقدون أن الاهتداء به من الاجتهاد الممنوع بحكم شيوخ التقليد الجامدين، وأنَّ
الدِّين لا يؤخذ إلا من كتب الفقهاء الميتين، كما يفهمها أصحاب الجاه من الشيوخ
الحاضرين، وهم يرون أن العلوم والفنون والصنائع التي تصنع آلات القوة، كالبنادق
(ويسمونها المكاحل) والمدافع والبوارج الحربية كلها محرمة، لا يجوز للمسلمين
الاشتغال بها، كما يرى ويعتقد ذلك أشباههم من أصحاب العمائم في أكثر بلاد
المسلمين، وبذلك أضاعوا الدنيا والدين وكانوا سبب هلاك المسلمين.
مرت الأيام والسنون، فدخلت (مسألة مراكش) ؛ أي: مسألة محاولة أوربا
استعمارها والاستيلاء عليها في طور جديد، فقد اعتدى بعض المغاربة على العُمَلة
الأوربيين في مرفأ الدار البيضاء، وهي من حواضر مملكة مراكش، ففتح بذلك
لفرنسا باب استعمال القوة في هذا الثغر، فدخلت منه، وذلك ما كانت تبغي.
أصبحت فرنسا مع قبائل المغرب في حرب تعددت وقائعها، فالقبائل تهاجم
الدار البيضاء، فتلاقيها العساكر الفرنسية بمدافعها، ومن ورائها البوارج تساعدها
بمدفعها، فتمزق شمل القبائل، وتنسفهم في الهواء نسفًا. ولكن الفرنسيين قد دهشوا
من شجاعة المغاربة واستبسالهم، فسلطوا عليهم عسكرهم من مسلمي الجزائر؛
لعلمهم بأنه لا يفل الحديد إلا الحديد، وقد ترك المغاربة الهجوم إلى حيث تنالهم مدافع
البحر.
مهما عظمت شجاعة المغاربة، فإنها - والجهل قائدها - لا تكفي لحفظ
استقلال البلاد، ولا تدفع عنها ما تريد فرنسا منها، فإن الجهل لا يغلب العلم،
والاختلال لا يعلو النظام، فإذا كان أهل المغرب الأقصى أسودًا، فإن العقلاء من
البشر قد عهد منهم التصرف في الأسود وحبسها في بلاد ما هي مواطنها، وما
عهد أن تعيش فيها وجعلها مع ذلك في مواضع النزهة، يأنس برؤيتها حتى
النساء والولدان.
نعم، ينتظر أن تتعب فرنسا في تذليلهم، كما تعبت في الجزائر، ولكن العاقبة
للمتقين كما قال الله تعالى، والتقوى تفسر في كل مقام بحسبه، فهي تفسر في باب
الحرب والصدام باتقاء أسباب الانكسار والخذلان، ولا شك أن فرنسا هي المتقية ما
يجب اتقاؤه في هذا المقام، بالتدبير التام، وإعداد ما تستطيع من قوة، كما أمر الله
تعالى.
ومن التدبير الذي يتخذه العقلاء ولا يدري به الجهلاء - وهو من قبيل السيل
يضرب جلمودًا بجلمود - إيقاع الشقاق بين الزعماء في المغرب. وما وقف ذلك عند
حد الخارجين على السلطان والمحاربين له، بل قامت طائفة عظيمة من الأمة فبايعت
بالملك مولاي حفيظًا (أو عبد الحفيظ) أخا السلطان عبد العزيز بفتوى من العلماء،
فصار في البلاد سلطانان سيحارب كل منهما الآخر، فيكفون فرنسا شر قوة البلاد.
يظن كثير من الناس أن السلطان عبد العزيز سيلجأ إلى فرنسا؛ لتحفظ له
سلطانه، وتكفيه شر أخيه، كما لجأ توفيق باشا إلى إنكلترا في إبان الثورة العرابية،
وبذلك تحتل فرنسا بلاد مراكش احتلالاً رسميًّا يسمى موقتًا، وتعمل عملها فيها باسم
السلطان، كما تحكم تونس باسم الباي، وهذه هي الطريقة التي استقر عليها رأي
ساسة أوربا في استعمار بلاد المسلمين؛ لأن حكمهم باسم أمرائهم وملوكهم أقرب إلى
السلام، وأبعد عن النزاع والخصام.
إنه ليحزننا؛ أن نرى مملكة إسلامية في الشقاء الذي أحاط بمملكة مراكش،
ولا يسرنا أن تبقى على ما هي عليه، أو على ما كانت عليه، إذا كان ما انتابها
الآن مبدأ للانتقال من حال إلى حال.
وإنه ليحزننا؛ أن يكون انتقالها بقوة الأجانب، لا بتدبير رجالها وحكمتهم.
ولكننا لا نرى منفذًا لخيط من خيوط أشعة الرجاء في أولئك الرجال الجهلاء، فيا
طالما نصحنا لهم، وأنذرناهم البطشة الكبرى {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} (القمر: 36) ،
بل كان مثلنا ومثل سائر الناصحين معهم {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً
وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171) .
إن أهل العقل والعلم من طلاب الإصلاح للمسلمين، تتمنى قلوبهم لو يدوم
لسلطنة مراكش استقلالها، ويتحول طوفان أوربا عنها، حتى يكون إصلاح حالها
من نفسها ولو بعد حين. ولكن عقولهم تحكم بأن هذا شيء لا مطمع فيه، وتدرك أن
من العدالة العامة في الأكوان، ومن سنن المبدع في اجتماع الإنسان أن يقذف بالحق
على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. (راجع سورة الأنبياء من 18: 21) وأن
الأرض يرثها عباد الله الصالحون؛ أي: لعمارتها. (راجع آية 105 من السورة
المذكورة) ولا شك أن العلم بالنظام، وبطرق العمران، وتأمين السكان من الحق،
وهو مما يقوم به الأوربيون، وأن ما عليه المغاربة من ضد ذلك هو من الباطل،
وأن الأوربيين يعدون بالنسبة إلى المغاربة من الصالحين لاستعمار الأرض الذي
امتَنَّ الله علينا به، كما قال - تعالى - {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61) ، فكان الكتاب العزيز مؤيدًا لحكم العقل في وجوب زوال استقلال
المغاربة، وكل دولة لا تحسن الاستعمار ولا تقيم النظام، إلا أن تتوب وتقيم
الميزان بعد الاستعداد له بما تقتضيه حال الزمان. ولا يظهر صدق الآية الكريمة في
إرث الأرض إلا بهذا التفسير، ولنا فيه سلف صالح فهو منقول لا مخترع.
إن حُكم الفرقان والقرآن بأن دول العلم والنظام والاستعمار هي التي تسود على
دول الجهل والخلل والإفساد في الأرض، هو الذي يخفف من ألم حسرة العقلاء على
زوال استقلال دول المسلمين، ولا أقول: دول الإسلام، فإن من يقضي القرآن
بزوال دولته لا تكون دولته إسلامية. ولكن قد تكون مسلمية، وبهذا نبرئ الإسلام
بحق من مناقضة أصول العمران العلمي، ونجعل ذلك على أعناق المسلمين.
* * *
(غرور متعلمي اللغات الأوربية)
إن أصحاب العقول الصغيرة من متعلمي اللغات الأوربية، يتخيلون أن كل من
تلقف لغة منها، صار من العلماء الأعلام والحكماء المرشدين للأنام. ولكن هؤلاء
المتعلمين يعدون بالألوف، ولا نكاد نجد واحدًا منهم في الألف يفيد أمته بكتاب
يفضل به غير العارفين بهذه اللغات، وإننا نرى أكثر ما يكتب كاتبوهم في الجرائد
أو غيرها، في منتهى السخف وضعف الفكر؛ والسبب في هذا أن اللغة الأوربية
وسيلة للعلم، وليست هي عين العلم، ولا عين العقل الذي لا علم بدونه ولا فهم.
إذا وجد في متعلمي هذه اللغات أفراد كفتحي باشا زغلول وقاسم بك أمين لهم
آثار في الترجمة والتصنيف؛ تدل على أنهم استفادوا من اللغة الأوربية علمًا
وبصيرة، فإنه يوجد فيهم ألوف ما يستفيدوا إلا الغرور والتبجح والدعوى، ومنهم
من أضاع ثروته الموروثة، وأهان نفسه وذوي قرابته بسوء سيرته، وما كانت
اللغة الأجنبية التي يعرفها إلا عونًا له على إضاعة ماله وشرفه، ثم هو يفاخر باللغة
وعلومها، ويحتقر علوم العربية من دينية وغيرها، ويحط من قدر أهلها.
للأستاذ الإمام آثار جليلة كتبها قبل أن يتعلم اللغة الفرنسية كمقالات
الوقائع المصرية ومقالات العروة الوثقى، وقد كان ما يكتبه بعد تعلم هذه اللغة
أدل على كثرة الاطلاع والسعة في العلم، ولكن هل يوجد في هؤلاء الألوف من
المتعلمين من يستطيع أن يكتب مثل تلك المقالات التي كان العالم يهتز لها حتى
أن إنكلترا ذات الحرية الواسعة منعت العروة الوثقى من مصر والهند. ولا
غرو فإن العقول التي وسعت دائرة العلوم باللغات الأوربية حتى صارت هذه اللغات
تتعلم لأجل ذلك يوجد مثلها في الأمة العربية وفي غيرها من الأمم. وقد كان
السيد الكواكبي غير عارف باللغات الأوربية ولكن ما كتبه في الاستبداد لا يوجد في
فلاسفة أوربا كثيرون يكتبون أحسن منه أو مثله بل الذين يعرفون لغات أوربا
وليس لهم من علومها سهم يعتد به.
وما لي لا أضرب لهؤلاء المغرورين الأمثال إلا بمن ماتوا، فهذا رفيق بك
العظم فليأتونا بكثير من مثله من متعلمي اللغات الأوربية، وهذا صاحب جريدة
المؤيد، لا يختلف عاقلان في تفضيل ما يكتبه وهو لا يعرف لغة أجنبية، على ما
يكتب صاحب جريدة اللواء العارف باللغة الفرنسية.
فليخفض المغرورون برطانة اللغة الأجنبية من غرورهم، فإن الناس تتفاضل
بالعقول لا باللغات، فذو العقل الكبير قد يقتبس العلم من الوجود، كما اقتبسه جميع
الفلاسفة، وإن للعاقل الشرقي من موارد العلم الغربي كتبًا كثيرة ومجالات مترجمة،
يستفيد منها ما لا يستطيع صاحب العقل الصغير أن يستفيده من ينابيعها وأصولها.
نعم. إن صاحب العقل الكبير إذا اطلع على تلك الأصول يكون أوسع علمًا منه
قبل الاطلاع عليها، وإن الأمم الشرقية لا تستغني عن طائفة من الأذكياء يَنْفرون؛
لاقتباس تلك العلوم من لغاتها ونقلها إلى قومهم، كما أنها لا تستغني عن طائفة يحيون
لغتها وعلومها الدينية والأدبية والتاريخية، ولا يجوز تفضيل أفراد إحدى الطائفتين
على الأخرى؛ لأن كلاًّ منهما يخدم الأمة بما لابد لها منه، فإن جاز التفاضل، كان
تفضيل من يشتغل لإحياء الأمة بمقوماتها الأصلية من اللغة والدين والعلوم، على من
يجلب لها علومًا من غيرها أظهر؛ لأن فقد العلوم الأجنبية عنها نقص، وفقد مقوماتها
الذاتية موت وفناء.
فهل بقي بعد هذا البيان من عذر لبعض الأغرار المفتونين بما لقفوا من العلم
الناقص بلغة أجنبية، في تنقيص العلماء بدينهم ولغتهم وتاريخهم، إذا كانوا لا
يرطنون معهم بتلك اللغة.
على أن وراء العلم الذي تعد اللغات وسائل له أمرًا آخر؛ هو مناط الإفادة
بالعلم لمن يحصله، وهو مكارم الأخلاق؛ كالصدق والإخلاص والاستقلال والعزيمة
والشجاعة والعفة، وغير ذلك من الفضائل، فإذا أغضينا عن الذين يتعلمون بعض
لغات العلم، ولا يستفيدون من العلم نفسه إلا حثالة من قشوره، ونظرنا في حال
الذين يقال: إنهم أوتوا نصيبًا من العلوم، نجد الكثيرين منهم قد شغلتهم شهواتهم
وأهواؤهم، عن بث ما استفادوا في قومهم، وعن الاستزادة منه، وعن العمل به
على الوجه النافع. فالعلم لأمثال هؤلاء كالسيف في يد المجنون يخشى ضره، ولا
يرجى نفعه للأمة.
***
(حياة المعارف في مصر)
دخلت المعارف بمصر في حياة جديدة على عهد سعد باشا زغلول، فأسس
مدرسة القضاء الشرعي التي وضع مشروعها الأستاذ الإمام، وستفتح أبوابها
للطالبين الذين نجحوا في الامتحان في الشهر الآتي، وهذه أعظم خدمة للإسلام في
هذا العصر، وأعاد التعليم المجاني وجعل من المزايا لمن يتعلمون فن التعليم ما
يرغبهم فيه؛ ككونهم يتعلمون مجانًا، ويتغدون في المدرسة، ومنهم من يأخذ مرتبًا
شهريًّا؛ وهم أصحاب القسم الثاني من تلاميذ مدرسة المعلمين الخديوية، وأرسل
البعوث إلى أوربا؛ لتلقي العلوم العالية في إنكلترا، وبثها في البلاد بعد عودتهم
فائزين- إن شاء الله تعالى - وهذه البعوث أكثرها من الذكور وبعضها من الإناث،
وقد انتقد إرسال بعض البنات إلى أوربا من اتخذوا تقبيح أعمال الحكومة؛ دلائل
على حبهم للوطن وأهله؛ لعلمهم أن السواد الأعظم لا يزال من الجهلة الذين يعدون
تعليم البنات من المنكرات، فهم يحتجون على قبح إرسال البنات إلى أوربا؛ بكونه
مخالفًا لرأي الأمة، ولو أن الحكومة اتبعت رأي الأمة من عهد محمد علي إلى اليوم
لما تعلم أحد من أبنائها ولا بناتها كلمة في غير تلك الكتاتيب القديمة والأزهر.
إن جميع عقلاء الأمة العارفين بما ينفعها ويضرها متفقون على أن تعليم البنات
ركن من أركان الحياة، أو شرط لحصولها أو كمالها. نعم إنهم يختلفون في قدر ما
ينبغي أن تتعلمه البنات، ورأي كثير من المعتدلين أن التعليم الابتدائي كاف لهن،
وأنه لا حاجة أو لا ضرورة إلى تعليمهن لغة أجنبية.
ولكن هذا الرأي خاص بالتعليم العام، وهو لا يعارض وجوب تمييز من تتعلم؛
لتكون معلمة في المدارس على سائر المتعلمات، فإن من لا يتجاوز علمها ما يلقى في
المدارس الابتدائية، لا تصلح أن تكون معلمة فيها. ثم إننا مادمنا عالة على الإفرنج
في علومنا ومدنيتنا، وما دام أمر حكومتنا ومنها إدارة معارفنا في أيديهم أو تحت
إشرافهم، فلابد لنا من معلمين ومعلمات من أهل العلم الأوربي الذين يتلقونه من
معدنه عن أهله بلغته، حتى لا تقوم علينا حجة القوم بأنه ليس فينا أكفاء يتولون
التعليم لا سيما تعليم البنات. فإرسال بعض البنات اللواتي يرغبن هن وأولياؤهن بأن
يكن معلمات في المدارس إلى أوربا؛ لتلقي العلوم فيها هو الوسيلة إلى إغناء نظارة
المعارف عن المعلمات الأوربيات لا وسيلة سواها، وينبغي أن يخترن من البيوت
التي حسنت تربيتها بالدين والأدب.
على أن الأمة إذا صارت فيها الحياة المعنوية سريانًا تامًّا، فإنه لابد أن يوجد
فيها من البنات، من ينهض بهن استعدادهن إلى تلقي العلوم العالية، وليس من
اعتدال المعتدلين أن يُمنع هؤلاء من ذلك، بعد العلم بصدق الرغبة وقوة الاستعداد،
فقد كان في الأمة الإسلامية أيام حياتها الأولى كثيرات من المشتغلات بالعلوم الكمالية
التي هي من فروض الكفايات، التي لا يقوم بها إلا بعض الرجال، حتى رواية
الحديث بالأسانيد والتصدي للتحديث.
***
(خطبة الشيخ محمد شاكر وتنديده بلورد كرومر)
أرسل إلينا الشيخ محمد شاكر شيخ علماء الإسكندرية خطبته؛ التي قرأها في
مجمع الاحتفال بتوزيع المكافآت على نجباء الطلبة، فإذا هو قد اقتبس في فاتحتها
معنى بعض آيات الجهاد، وإذلال الله الجبابرة للمجاهدين، وإيراثهم أرضهم
وديارهم، حتى كأنها خطبة قائد جيش، فتح أو يحاول فتح الممالك، وقد بيَّنا
رأينا في الخطبة من خمس جهات - كونها من عالم رسمي، وكونها من رجل يعد
من بطانة الأمير والمقربين منه، وكون التنديد بكلام لورد كرومر تأخر عن وقت
الحاجة، وكونه جاء بعد تصريح اللورد بأنه لم يرد فيما كتبه عن مبادئ الجامعة
الإسلامية الدين الإسلامي نفسه، فهذه أربع، والخامسة قيمة كلام الخطبة في نفسه
وهل يصلح دفعًا للشبهات التي تضمنها كلام اللورد على الفقه الإسلامي كما قال،
أو على الإسلام كما يريد الشيخ شاكر وأمثاله؟ ولكن هذا الجزء لم يتسع لما كتبناه،
فأشرنا إليه بهذه الكلمات.
__________(10/554)
شعبان - 1325هـ
أكتوبر - 1907م(10/)
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
__________
السنوسية والجامعة الإسلامية [*]
عبد الحميد الزهراوي
حقائق نافع بيانها
لعله ظهر للقارئ من المقالة التي ترجمتها الجريدة من قلم ضابط إنكليزي له
اطلاع على أحوال إفريقيا الإسلامية أن الأوربيين غير غافلين عن سير المسلمين في
سائر شؤونهم وجميع أقاليمهم، وتراهم يُظهرون من الاهتمام ببعض الذين لهم زعامة
دينية، وبكل ما هو مظنة القوة والاجتماع، ما يبيِّن للسامع أن رابطة صغيرة بين
جماعة قليلة من المسلمين، تُرى في نظر الأوربيين غولاً يخشى اغتياله ويجب أن
يحال بينه وبين النمو؛ لئلا يكون شره مستطيرًا.
والأمثلة على ذلك كثيرة، نكتفي منها الآن بما يقوله هذا الكاتب الإنكليزي
الذي ترجمته (الجريدة) قال:
(وقلَّ أن ترى في أوربا من يعلم شيئًا كثيرًا عن هذا المذهب، حتى لو سمع
معظم الأوربيين كلمة (سنوسية) لما فهموا شيئًا، مع أنها لفظة لها في آذان فاهميها
وقع شديد ومعنى مُرٌّ مَضّ، وما يُعلم عن هذا المذهب وإن قل، ينبئ بانتشار نفوذه
وقوته، وأنه على مضادته لأوربا، لا يبعد أن يكون السبب في أخطار وأهوال،
ربما أفضت إلى كسح العنصر الأبيض من أفريقية، كما تنبأ بذلك الدكتور كارل
بيتر وهو حجة) .
إن هذا الكاتب قد عظَّم من هول زعامة السنوسي تعظيمًا، جعله يستدبر
الصواب استدبارًا، ونراه قد عزا لهذه الطائفة كل حركات عروق المسلمين في
قلوبهم وأحشائهم، ولا يستطيع الواقف على حقيقة الحال إلا أن يغيب في العجب؛
إذ يراه يقول: إن مصر من جملة البلاد التي يسري فيها نفوذ السنوسي، وأنها
تحركت بأصابع من هذا النفوذ، فيا للعجب! متى تحركت مصر؟ وكيف تحركت؟
وما هي حركتها؟ وأين هو سلك الاتصال بين حركتها والكهربائية السونسية؟
ولكن ليست مصر وحدها في الانجذاب إلى هذه الكهربائية على رأي الكاتب
بل كل حركات قلوب المسلمين عمومًا وإفريقية المسلمة خصوصًا، فهو يقول:
(ولا ينكر أحد ما يشمل الأقطار الأفريقية المسلمة وغيرها من السخط العام
الآن، وإليك شاهدًا على ذلك حرب الصومال، والحركة المصرية، وثورة زولو،
والقلاقل التي في مستعمرة ألمانيا الجنوبية الغربية، وحوادث شتى بالشاطئ الغربي.
خطوب صغيرة لكنها تنذر بالخطب الأكبر، والداهية الدهياء. ثم أضف إلى ذلك
مسألة المغرب الأقصى ومصاعب فرنسا في شمال أفريقيا، والحركة الأثيوبية
الزنجية في الجنوب) .
ويقول في مكان آخر: (ويظهر أن الاضطراب الذي جرى بمصر حديثًا؛
كان سببه دعاة الطريقة السنوسية هناك، وإن كان السنوسيون لم يريدوا ذاك الهياج
ولم يستحثوه لمجيئه قبل أوانه، ولذلك لم ينهضوا بتغذية الفتنة التي أنتجوها) .
ويقول في الختام: (وخلاصة القول أن السخط بين أهالي أفريقية عام طام،
فشرارة واحدة تضرم النيران من أقصى أفريقية إلى أقصاها، وفى زعمي أن
السنوسيه هي مصدرة الشررة التي لابد أن تصيب لغم السخط المستقر في صدور
الأهالي) .
إن أمثال هذه الكتابة تدعونا إلى أن نتفكر ونستقصي بالبحث عن تفاسيرها.
ولا يظهر لنا من خلال المذاهب المتعددة في تفسير هذا الاهتمام الذي يظهره هؤلاء
الكتاب إلا أن القوم مضطرون لهذا السهر والتجسس على شؤون البلاد التي ملكوها،
والتي يطمعون أن يملكوها، فهم قد عرفوا أن القوه بالتضام والاتفاق، ويريدون أن
يقطعوا من البلاد التي يطمعون بها كل أرومة للتضام، ويحرصون على أن يجتثوا
كل سنخ للقوة، وقد زعموا أن الطريقة التي عليها السنوسية هي أرومة عظيمة
لتجمع المسلمين الناقمين على أوروبا، وأن هذه الجماعة التي حوله سيكونون يومًا
جيشًا جرارًا كالجراد، يلقف في طريقه كل نابتة من الأوربيين.
إما أن تكون هذه المزاعم مصطنعة؛ لتعظم الحكومات الأوربية في أعين
شعوبها هول (الخطر الإسلامي) كي تكون تلك الشعوب راضية عن كل فتك بهذه
الشعوب؛ ليقطعوا دابر كل تحاب بينهم وتعارف وتعاطف، حتى يكونوا أفذاذًا
مقطعي الأطراف مشرفين على الانقراض من غير رثاة. وإما أن تكون قائمة في
أذهانهم خطأ أو إسرافًا في سوء الظن، أو تكبر في مخيلاتهم من مظاهر التآخي
الديني. وخليق بنا على كلا الوجهين؛ أن لا نمر بهذه المسألة متجاهلين هذه
المزاعم التي عليها يبنون صرحًا من سياسة الإسراف بسوء الظن. والكلام في روح
هذه المسئلة؛ وهي الرابطة الدينية والجامعة الإسلامية، تدور حوله أغلاط كثيرة
تقع من باحثينا وباحثيهم؛ والأغلاط منشأ سوء التفاهم ومنشأ التنافر الذي ما برحنا
نراه يمتد في عهد كنَّا نظنه يتقلص فيه. فلذا رجحنا اليوم أن نخوض غمار هذا
البحث غير رامين إلا إلى تجلية الحقائق التي نعلمها. وكلامنا إن لم ينفع في دوائر
السياسة، ينفع في دوائر العلم التي يطوف حولها الشرقي والغربي متصافحين.
ونرجو أن يأتي يوم تعلو فيه الحقيقة في هذه المسئلة على المزاعم؛ مصطنعة
كانت أم خطأ.
***
(1)
اللغط في الجامعة الإسلامية
مركز الدائرة في هذه المسئلة هي الجامعة الإسلامية، وقد شغف كثيرون من
الباحثين منا ومن الأوربيين ببلوغ الحقيقة في هذه النقطة، فَأَبَت على أكثرهم
واستعصمت بحجُب من التشابه، فعمي السبيل على الطالبين، وانقسموا فرقًا،
وسلكوا مذاهب؛ أعقلهم الذين اعترفوا بأنهم لم يروا وجه الحقيقة، ومنهم من
وصف الذي شبه له زاعمًا أنها هي الحقيقة. والذين اشتهوا الوصف والبيان، ولم
يطيقوا أن يظهروا العجز من بعد البحث والنظر، قد اختلفت أقوالهم: فمنهم من
يثبت وجود هذه الجامعة، ومنهم من ينفيه. والمثبتون منهم من يتشاءم به، ومنهم
من يتيمن، ومنهم من لا يبني عليه أملاً، ومنهم من لا يوجس منه وجلاً.
لكن يظهر من الفصول والمقالات الكثيرة التي قرأناها لكتاب الأوربيين أن في
أوربا كلمة واحدة عامة بوجود هذه الجامعة، وأن فيها خطرًا على المستعمرات
الأوربية، أو قد تكون عائقًا عظيمًا يومًا ما عن بلوغ أوربا أمانيها من ابتلاع كل بلاد
المسلمين ابتلاعًا تامًّا. ويؤذن هذا بأن من يقول غير هذه الكلمة منهم هو من
الشاذين.
والكُتَّاب المسلمون يميل أكثرهم إلى تصديق هذا الحدس الأوربي، وتتغنى
أقلامهم بأن المسلمين كثيرون، وكلهم في الدين إخوان، وأن مستقبلهم حسن بواسطة
كثرتهم وجامعتهم الدينية، وعلى شيء من هذا بنى السيد توفيق البكري كتابه
(مستقبل الإسلام) .
والغريب في الأمر أن أكثر الباحثين في (الجامعة الإسلامية) يبتون فيها
الأحكام من غير أن يقولوا لنا: ما حقيقتها وما تاريخها، أذلك لشدة وضوحها أم
لأنها ليس لها صورة حقيقية واحدة، فهي تصور كما يقوم ظلها في خيال الكاتبين.
(2)
حقيقتها
ما الجامعة الإسلامية إلا اتفاق في كلمة واحدة؛ وهى أن القرآن كتاب الله،
جاء به محمد رسول الله. ولكن المطلع على تاريخ المتفقين هذا الاتفاق، يعلم أنه لم
يدفع عنهم الاختلاف الذي لا اتفاق معه بعد، فمنذ اختلف المسلمون ثلمت جامعتهم،
ولم يتفقوا اتفاقًا سياسيًّا بعد عهد عمر ولا اتفاقا دينيًّا بعد عهد علي، فما هي جامعة
قوم مختلفين منذ ثلاثة عشر قرنًا؟ اختلافًا سياسيًّا واختلافًا دينيًّا، يقتل بعضهم
بعضًا، ويستعين بعضهم علي بعض بأهل الملل المخالفة من الأساس. ما هي
جامعة قوم لم يخل يوم من أيامهم من قتال فئة منهم فئة أخرى، منذ مقتل خليفتهم
الثاني إلى يومنا هذا؟ ما هي جامعة قوم يُسرُّ ملوكهم المختلفون بذهاب ممالك ملوك
آخرين منهم؟ ما هي جامعة قوم حدثنا التاريخ من حديثهم أن أجنبيًّا شرقيًّا
(هولاكو) اكتسح بلادهم وهم في عزهم، فلم تتضام أيديهم علي مقاتلته، وكانت لا
تزال قويه على قتال بعضها بعضًا. وحدثنا التاريخ من حديثهم أن أجنبيًّا غربيًّا
(الصليبيين) هاجم بلادهم، فلم يجتمعوا كلهم على طرده، حتى حركت الهمة طائفة
منهم قويت وحدها على صده.
الجامعة التي يلغطون بها هذه هي (صوره مكبرة في خيال الأوربيين
منتزعة من دعوى المسلمين الإخاء الديني. وصورة محبوبة في خيال المسلمين
منتزعة من مس الحاجة إلى مثلها على رأيهم) ثم قد أصبح لهاتين الصورتين ظل
في الوجود قام عليه الحساب الحاضر. فالأوربي يقول يجب محو هذا الظل لئلا
يصير شبحا حقيقيًّا هائلاً ويذهبون في محوه مذاهب كما يبين في كتاباتهم المتنوعة
المختلفة. والمسلم يقول يجب جعل هذا الظل شبحًا حقيقيًّا يكون بهيبته حاميًا حقوقنا
أجمعين ولهذا عظم تشبث المسلمين هذه السنين بمسألة هذه الجامعة الإسلامية للدلالة
على التضام والترابط ولكن لا يصنع هذا شيئا ما دام الاختلاف الديني والسياسي
قاضيين أن يدوم تقتيل المسلمين بعضهم بعضا ويقعد بعضهم عن نصرة الآخر. ولو
تدبر الأوربي والمسلم لالتفلتا إلى أمر نافع غير هذا لأن الظل لا يصير شبحًا. لو
تدبر الأوربي لعرف أن الجامعة الإسلامية قد يخلقها الإسراف في إبادة مُلك المسلمين
ولعرف المسلم أن هذه الجامعة لا تنفع حتى يقوم العلم الصحيح عندهم مقام التقاليد
وتكون الجامعة يومئذ جامعة قومية.
(3)
السخط العام من الأوربيين
لو تدبر الأوربيون لعلموا أن السخط العام الحقيقي الذي يرونه ويسمعون به
ليس ناشئًا من الجامعة الإسلامية، بل هو ناشئ من سوء الإدارة، وهو يجر إلى هياج
الشعوب نفسها باسم الخلاص من الظلم، لا باسم الدين، ويشهد التاريخ أن شعوبًا
كثيرة هاجت على حكوماتها نفسها باسم الخلاص من الظلم، لا باسم الدين، فإذا لم
ينتظر الأوربيون من المسلمين الذين تحت حكمهم هياجًا إلا باسم الدين، فإنهم سوف
يتعبون من سوء نتائج هذا الخطأ على تمادي الأيام.
(4)
خطر الجامعة الإسلامية
وعندي أنه إن صح أمر الجامعة الإسلامية، لا ينتظر منها الشر الذي ينذر به
كتاب الأوربيين إلا أن يكون الشر عندهم هو صد المطامع وإيقافها عند حد. ولماذا
لا ينتظرون إلا الشر من قوم كان لهم دول عظيمة، فلم يسيئوا إلى بني آدم، كما
ينتظرون منهم الآن.
(5)
السنوسية
أما السنوسية فطائفة في الصحراء بين طرابلس ومصر، ملتفون حول شيخ
طريقة، في الأرض كثير من أمثالها وأمثاله. واضع هذه الطريقة هو السيد أحمد
ابن إدريس وهو رجل من صوفية المغرب وعلمائه، رحل إلى اليمن وتوفي فيها،
وهو شيخ الأستاذ المرغني المشهور، وشيخ الشيخ إبراهيم الرشيدي، وشيخ العلامة
السيد السنوسي (محمد علي) المولود عام 1204 في مستغانم، وقد طلب العلم في
فاس، ثم رحل إلى مكة فلقي أحمد بن إدريس، فأخذ عنه التصوف وخلفه في
الطريقة، وأحب أن يؤسس له مركزًا في الحجاز، فلم يساعد على ذلك فغادر
الزاوية التي بناها في جبل أبي قبيس عند مكة، ورحل إلى طرابلس الغرب سنة
1255هـ، ونزل في الجبل الأخضر وبني هناك عدة زوايا، ثم رجع إلى الحجاز
سنة 1263 هـ، فأقام بمكة سبع سنين يقرأ الحديث فنما ذكره، وزار مصر عائدًا
من الحجاز فأجَلَّه عباس باشا الخديوي آنذاك، وهرع الناس لزيارته. ولما كثر
مريدوه في صحراء ليبيا، أراد أن يعتزل البلاد التي فيها الأمر والنهي لحكومات
معروفة، فأرشده مريدوه إلى جغبوب لعزلتها ووجود الماء هناك، فبني زواية عام
1273هـ وأقام فيها بين عربان البادية إلى أن توفى عام 1276هـ، فخلفه ابنه
السيد محمد المهدي السنوسي، وقام مقامه بنشر الطريقة، وازداد عدد المريدين على
هذا، ودخل في مريديه ملك واداي، فلذلك أصبح مقامه في تلك الجهات كمقام
الملوك؛ لأن مريديه يجبون له عن طيب نفس المفروض عليهم من زكوات أموالهم
وهو يصرفها على اللاجئين على تلك الزوايا من الضعفاء والمرابطين وأبناء
السبيل.
وكل من عرف السنوسية حق المعرفة يمتدحهم على قيامهم في كبد هذه
الصحراء بما ينفع بني آدم: من المؤاخاة، وتقليل الشرور بين القبائل، وإيواء ابن
السبيل، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال. فلماذا لا يترقب كتاب الأوربيين من
هؤلاء إلا كل شر، وهم قوم قد بعدوا جهد استطاعتهم عن هذه السياسات المبنية
على ما لا حد له من الطمع. ولا ذنب لهم إلا شبه قوة على الدفاع.
هذه حقيقة السنوسية، لا ما زعمه الكاتب من أنها جمعية سياسية في لباس
ديني تتربص بالأوربيين يومًا عبوسًا قمطريرًا، يكون شره من سيوفهم وبنادقهم
مستطيرًا.
هذا ولقد حاول جلالة السلطان استدعاء السنوسي إلى الآستانة؛ بإيعاز من
سياسة أوربية، فلم تنجح هذه الدعوة، ولن تكون نتيجة البعثة التي بعثت لهذه
المهمة إلا تبادل التحيات والهدايا. فالسنوسية في معزل عن هذه الأمور، ولا نظن
بالسيد السنوسي شيخ هذه الطائفة اليوم؛ أنه يبغي من وراء هذه العزلة الدخول
بنفوس خلق الله إلى المذابح البشرية. وأبعد شيء عن الصواب زعم الكاتب وأمثاله
أن الفروض الدينية هي التي تحمل على إبادة غير المسلم، وهذا منتهى الجهل
بالتاريخ. وقانا الله سوء نتائج الجهالات.
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحميد الزهراوي
__________
(*) نشرت (الجريدة) : ترجمة مقالة لضابط إنكليزي، تكلم في السنوسية والجامعة الإسلامية كلامًا خياليًّا، فعقب عليه السيد عبد الحميد الزهروي المحرر بالجريدة بهذه المقالة.(10/583)
الكاتب: رفيق بك العظم
__________
الجامعة الإسلامية
كتب رفيق بك العظم الشهير بمباحثه التاريخية والاجتاعية رسالة في الجامعة
الإسلامية، أشرنا إليها في الجزء الماضي، ووفاء بالوعد نقتبس منها ما يأتي:
هل صحيح ما تقوله أوربا عن الجامعة الإسلامية؟
علمت أيها القارئ من هذا التمهيد أن الاجتماع يستدعي بطبيعته وجود الروابط
القومية والوطنية ... إلخ، وأن الغرض من هذه الروابط حفظ التوازن بين قوى
المجتمعات الإنسانية الميالة إلى المغالبة بحكم الأنانية والطمع، وأن أقل هذه
الروابط تأثيرًا في المجتمعات رابطة الدين، وأن المسلمين لم تجمعهم هذه الجامعة
يومًا، حتى ولا على التعاون على دفع الكوارث الكبرى التي حلت ببلاد الإسلام من
هجمات أهل الصليب والتتار، ولو اجتمع المسلمون أمام أمثال هذه الجوامع الكبرى
سواء في ذلك الوقت أو الآن أو كل زمان؛ لأتوا عملاً تستدعيه طبيعة الوجود لا
سبة فيه، ولا موآخذة عليه، إلا إذا محيت من صفحات الوجود قوانين الروابط
الاجتماعية بحكم الأخوة الإنسانية، والمساواة العامة بين أفراد البشر وأقوامهم، ولا
يكون هذا إلا إذا استبدل البشر بخلق آخرين من جنس الملائكة المطهرين.
إذا تقرر هذا؛ فاعلم أن دعوى القائلين بخطر الجامعة الإسلامية المتوقع بمعناه
الذي يريده أولئك القائلون مدفوعة من وجوه:
الوجه الأول: إن الجوامع الجنسية غالبة عند الأمم؛ وأخصها الأمة الإسلامية
لهذا نرى المسلمين قد مزقهم الأوربيون، وتشاطر ملكهم الدول المسيحية دون أن
يمد بعضهم يد المعونة إلى بعض باسم الدين والجامعة الإسلامية؛ لغلبة العصبية
الدينية ولتخاذلهم المعروف؛ المتأتي عن تحاسد أمرائهم الذين أعماهم الجهل وحب
الذات والأنانية الباطلة، حتى عن الاعتصام بالجوامع السياسية التي تقضي بها
أحيانًا المصالح المتحدة بين دول الأرض.
الوجه الثاني: إن المسلمين ولو اجتمعوا باسم الدين لمناهضة دول أوربا، فلا
يكون اجتماعهم خطرًا على المدنية كما يذهب إليه سياسيو الغرب، بل يكون وفاء
بحق القومية ورجوعًا إلى الاعتصام بالرابطة العامة التي يمكنها أن تقابل رابطة
الدول المسيحية الغربية التي اجتاحت أغلب ممالك الإسلام، وكانت خطرًا كبيرًا على
حياة المسلمين السياسة. وقد أبنَّا فيما سبق أن قوانين الاجتماع الطبيعية تقضي على
الشعوب بالذود عن مجتمعها، والذب عن استقلاله، ما لم يصبح البشر كله في حقوق
الإنسانية والتمتع بثمرات الحياة سواء.
الوجه الثالث: إن القول بالجامعة الإسلامية واتحاد الإسلام، وغير ذلك من
الألفاظ الوضعية التي أراد واضعوها إيغار صدور الأمم على المسلمين، إنما هي
من موضوعات السياسيين في هذا العصر، لم ترد في تاريخ الإسلام، وليس لها في
الدول الإسلامية شأن غير سياسي أصلاً؛ وهو شأن الدول القائمة والأمم الفاتحة في
كل عصر، وعلى تقدير أن هناك ما يدعو إلى الظن باتحاد المسلمين في هذا العصر
فمنشأُوه اتحاد أوربا على اكتساح ممالك الإسلام واستعباد المسلمين. فليسموا اتحاد
المسلمين بإزاء اتحادهم الاتحاد الديني، أو الجامعة الإسلامية، أو الشرق والغرب،
أو ما شاءوا من الأسماء. أفليس معنى ذلك كله أن المسلمين يريدون الاعتصام
بجامعة كبرى، تقابل اجتماع الدول المسيحية على اهتضام حقوق
الأمم الإسلامية؟
من العجيب أن الدول الأوربية التي تسوغ لنفسها الحق بالاستيلاء على الممالك
الشرقية والقضاء على حياة المسلمين السياسية، لا تسوغ للمسلمين الحرص على
هذه الحياة، بأن يحموا بقوة الاجتماع والتآلف ذمارهم، ويصونوا من عبث العابثين
استقلالهم، وأن ينادي ساستهم أن في وجود الجامعة الإسلامية خطرًا على أوربا.
وبعبارة أوضح على سياسة دولها الموجهة إلى تدويخ الممالك الأسيوية والأفريقية،
ولا يجوز أن يقول المسلمون: إن في وجود الجامعة المسيحية الأوربية خطرًا على
الممالك الإسلامية، مع تحقق الخطر من قبل هذه، وانتفائه من قبل تلك.
إن ساسة الغرب يوهمون العالم أن الجامعة الإسلامية خطر على المدنية؛
لاصطباغها بصبغة دينية، مع أنها خير على المدنية، وأرجى لنفع الإنسانية، لو قام
بها المسلمون. وإليك البيان.
الإسلام والجامعة الإسلامية
من المعلوم بالضرورة أن معنى الدعوة إلى الدين هو ربط أفراد كثيرين وأقوام
عددين بعقيدة واحدة، فالأمة التي تدين بدين واحد مسوقة بضرورة المشاركة في
الاعتقاد إلى المشاركة في العواطف، وهذا هو الارتباط الديني، الذي قلنا: إنه كباقي
الروابط طبيعي بين البشر مادام لهم دين أو أديان، والإسلام من هذه الوجهة كباقي
الأديان إلا أنه يمتاز بأمرين جديرين بالنظر والاعتبار: وهما تنويهه بشأن الارتباط
الأخوي بين المسلمين ارتباطاً خاصًّا، ثم الارتباط الإنساني بين الناس كافة ارتباطًا
عامًّا. ومما جاء في الأمر الأول قوله تعالى في القرآن الكريم: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ، وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) ، وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا
عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) ، وفي الحديث النبوي (المسلمون تتكافأ
دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم) وفي الحديث أيضًا
(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) ، ولذا كانت رابطة التعاون والإخاء
عقيدة من عقائد المسلمين وإن تناسوها، ولم يعملوا بها إلا قليلاً.
ومما جاء في الأمر الثاني في الرابطة الإنسانية، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13) ، وفي الحديث: (لا فضل لعربي على
عجمي، ولا لأبيض على أسود، إلا بالتقوى) [1] .
وأنت ترى من هذا أن الإسلام له رابطتان: رابطة العواطف التي يشترك بها
كل أرباب دين، ورابطة التعاون والإخاء التي يدعو إليها بالفعل، إلا أنه بيَّن معنى
هذا التعاون في أنه على الخير دون الشر، وعلى البر بالناس دون العدوان عليهم لكي
يكون ارتباطهم بجامع الإخاء الديني، واجتماعهم عليه غير مقصود به العدوان،
بل المحاسنة والإحسان، وصريح قوله بالاجتماع وعدم التفرق محمول على ما
تستدعيه حالة الاجتماع من لزوم حفظ البيضة، وكف الأيدي العادية عن المجتمع،
وهذا ضروري للمجتمعات كما أشرنا إليه في التمهيد.
ثم لكي لا تكون جامعة الدين سببًا للعدوان مع الآخرين، بل وسيلة إلى التدرج
في مدارج الإنسانية في أعم مظاهرها؛ وهي المساواة العامة بين أفراد البشر
وأقوامهم فيما تقتضيه حقوق الإنسان على الإنسان من الكرامة وحسن الجوار،
وتبادل المنافع والأعمال التي جعلت الإنسان مدنيًّا بالطبع؛ أي محتاجًا إلى التعاون،
مفتقراً بعضه إلى بعض، قال الله - تعالى- إرشادًا للمؤمنين إلى ذلك {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى} (الحجرات: 13) الآية.
هذه هي الوحدة الدينية التي يدعو إليها الإسلام. أفلا يرى المنصفون من كل
قبيل أن الجامعة الإسلامية التي يوهم ساسة الغرب العالم المسيحي بخطرها على
المدنية إذا اصطبغت بصبغة الدين هي خير للمدنية من أن لا تصبغ بهذه الصبغة [2]
وأن فوضى العقول عند الطوائف الإسلامية تأتي بما هو شر على المدنية مع
تنكر نفوس المسلمين لهذا العهد؛ لما تأتي به دول أوربا لمضادتهم ومضادة دولهم
من أساليب المكر والخديعة؛ توصلاً لامتهان حقوقهم، وسلب استقلالهم، ووطء
بساط ملكهم حيثما كان.
اللهم، إن المسلمين ما قذف بهم في لج الحيرة، ووقف بهم عن السير مع
الأمم الراقية في سبيل المدنية الصحيحة، وكشف ما بينهم وبين الأمم المتمدنة،
فرموهم بكل نقيصة ونالوهم بكل سوء - إلا انفصامُ عروة وحدتهم الدينية،
والخروج عن قانونها الجامع الذي يرمي إلى غرض الاجتماع الصحيح والمدنية
الفاضلة، ويريد الشعوب على توحيد الكلمة؛ لضرورة القيام على شؤون الحياة
المدنية. وإنما يتحقق معنى الحياة في قوم أعزوا جانبهم، وذادوا عن حوضهم،
وكانوا يدًا على من ناوأهم، وأقسطوا في المعاملة إلى من عداهم، وهذا ما يريده
الإسلام.
من الظلم أن يمثل ساسة الغرب الجامعة الإسلامية بصبغتها الدينية في صورة
ينكرها الإسلام، ويأباها العدل، ولا تنطبق على نص من نصوص الدين كما
رأيت. وحسبك من الدين والتاريخ دليلاً على أن الإسلام لا يحض أهله على
الجامعة إلا ليكونوا يدًا على من ناوأهم، وأن يقسطوا إلى من سواهم وإن افترق عنهم
في الدين، ما لم يبادئهم بالعدوان ويرد بهم السوء - أن بعض القرشيين من
المشركين كانوا يزورون بعض المهاجرين من ذوي قرابتهم في المدينة، فلا يقبلون
عليهم، ولا يحسنون إليهم؛ لما عُرِفت به قريش من الشدة على المسلمين،
والإصرار على الشرك، فنزلت في تنبيههم إلى أن الدين لا يمنع من الإحسان إلى
غير أهله، ماداموا غير مناوئين للمسلمين هذه الآية {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) .
وهذا التسامح الذي عرف به الإسلام، ونبه عليه القرآن هو الذي سد كل منفذ
من منافذ الأغراض السياسية التي تفسد نظام الاجتماع، وتفرق وحدة الإنسانية
وتلقي العداوة والبغضاء بين بني الإنسان، فلم يستطع زعماء السياسية في الدول
الإسلامية جمع الشعوب العائشة في البسيط الإسلامي على كلمة الإسلام بقوة الإكراه
ولم يسعهم أن يعاملوا مخالفيهم في الدين بضروب من العنت، تلجئهم ولو إلى
الهجرة والجلاء من بلاد بسط عليها الإسلام جناح سلطانه، وآخر من نعهد أنه حاول
ذلك من ملوك المسلمين السلطان سليمان العثماني، فإنه لما رأى شغب المسيحيين
في ولاياته الأوربية، وتوالي خروجهم عن الطاعة، وعلم أن بقاءهم على النصرانية
خطر على تلك الولايات، استفتى علماء عصره في إكراههم على الإسلام فأبوا أن
يفتوه بذلك، وكان ما توقعه ذلك السلطان من الخطر على تلك البلاد فضلاً عما لاقته
الدولة العثمانية من النصب والتعب في سياسة أهلها، ولم تزل تلاقيه فيما بقي منها
في حوزتها إلى الآن.
إن السياسيين وأهل الأنانية المتوحشة في أوربا الذين يرجفون بخطر الجامعة
الإسلامية، لا يرون أن من الخطر على المدنية والعبث بنظام الألفة الإنسانية،
والوحدة البشرية، اضطهاد المسلمين الذين تحت كنفهم وإرهاقهم بضروب من
الإذلال والإعنات؛ قصد القضاء عليهم واستئصال شأفتهم باسم السياسة، ويرون أن
من الخطر على المدنية وجود جامعة إسلامية، تعامل باسم الدين مخالفيهم في
السياسة والدين معاملة الأكفاء في الإنسانية والعشراء في الوطنية كما سبق بيانه،
أفليس في هذا ما يدعو إلى الحكم على رجوع الإنسانية القهقري، وتقدم المدنية إلى
الوراء.
حقًّا إن هذه (السياسة) المطلقة من قيود الإنسانية والوجدان، ومن قيود
الحق والعدل، تشبه في تشكيلها حكايات الغيلان الواردة في أساطير الأولين وتماثيل
إله الشر عند اليونانيين. فالسياسيون إذا ساقوا الشعوب إلى الدمار، وقتلوهم
بالسيف والنار، قالوا: إنها السياسة. وإذا وطئوا بأقدامهم الحقوق، وامتهنوا
الشرائع، اتهموا السياسة. وإذا أخطأوا خطأ يجلب على بلادهم الدمار وعلى دولتهم
العار، تدرعوا بالسياسة. وبالجملة حيثما سنحت لهم سانحة شر قدموا أمامهم
السياسة. فالسياسة عندهم (كالجسم المرن) قابلة للتشكل بأشكال الأهواء التي
تنبعث في نفوسهم، وتدعوهم إليها أطماعهم. ولهذا لما استباحوا لجامعتهم
الأوربية المسيحية السياسية اضطهاد الجامعة الإسلامية في ملكها ودينها
وأهلها، ورأوا أن يأتوا لهذا العهد على البقية الباقية، أخذوا يصيحون بخطر
الجامعة الإسلامية؛ تمهيدًا لمقاصدهم السيئة، وتكفيرًا عن إجرامهم إلى
المسلمين أمام العقلاء وأنصار العدل والفضيلة من أهل البلاد الأوربية،
ولسوف يعلمون أنهم مخطئون اهـ.
(المنار)
ويلي هذا فصل في الرسالة عنوانه (أوربا والجامعة الإسلامية) فيه كثير من
الحقائق التاريخية والعبر.
__________
(1) أين هذا مما يعتقده الأوربي من أنه أفضل البشر وأسماهم.
(2) إن حزب الإصلاح الإسلامي الداعي إلى إصلاح الدين؛ هو الذي يريد مثل هذه الوحدة ويدعو إليها؛ لما فيها من التقارب بين الشعوب.(10/589)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حجة الإسلام
أبو حامد الغزالي
(2)
رأيه في التعلم والتعليم
بيَّنا كيف تعلم أبو حامد الغزالي حتى صار حجة الإسلام وإمام العلماء الأعلام
وهو أنه اجتنب التقليد، وجرى على طريق الاستقلال، وكيف ربى نفسه
بالرياضة والعمل، حتى صار شيخ العارفين وصفوة الصديقين، ونقفي على ذلك
ببيان رأيه في التعلم والتعليم والعلوم، وتربية النفس، والكمال البشري في الدنيا،
باستخلاص ذلك من كتبه، وتقديمه زبدة نقية لطالب الكمال في العلم والمعرفة
والعمل والمجاهدة وما يتبع ذلك، حتى كأن المُطَّلع عليه أدرك حجة الإسلام في
نهايته، وأخذ عنه صفوة حكمته، وما كان ليتيسر لنا هذا لولا أن سبق لنا مطالعة
هذه الكتب من قبل؛ بقصد الاهتداء بها وأخذ الحقائق منها، وقد كنا ذكرنا في المنار
أن كتابه إحياء علوم الدين كان أستاذنا الأول، وأننا وفقنا لمطالعته قبل الشروع في
طلب العلوم الآلية والشرعية، وبإرشاده كان لهذا العاجز طريقة خاصة
في الطلب مقرونة بالنية الصالحة، كان من أثرها ما عبر عنه شيخنا الشيخ حسين
الجسر بقوله في ملأ من الناس بدار علي أفندي السمين بطرابلس الشام: إن فلانًا
ساوى في سنة واحدة من سبق لهم الاشتغال على سبع سنين من أذكياء الطلاب،
والفضل في هذا بعد عناية الله وهدايته لأبي حامد الغزالي، جزاه الله عنا خير
الجزاء. وإنما صرحت بهذا؛ ليعلم من يقرأ ترجمة حجة الإسلام في المنار، أنني
أجري فيها على بينة وخبرة متمكنة، لا كمن يريد أن يكتب عن عالم أو حكيم،
فينظر عند الكتابة إلى بعض ما قيل فيه، وبعض ما يؤثرعنه، فيختطف من ههنا
عبارة ومن هناك أثارة، ويجعل ذلك ترجمة. ولترغيب طلاب العلوم لا سيما
الأزهريين منهم في التأمل والتبصر فيما نكتب عن هذا الإمام، وتحري الاستفادة
منه، ولعل ذلك يكون مشوقًا لهم إلى مطالعة الإحياء وغيره من كتبه.
رأي الغزالي فيما يطلب من المتعلم
نلخص ما يأتي من كتاب العلم من الإحياء مقرونًا بالعبرة، فقد جاء في الباب
الخامس منه في آداب المتعلم والمعلم ما يأتي: أما المتعلم فآدابه ووظائفه [1] كثيرة
ولكن ينظم تفاريعها عشر جمل.
وظائف طالب العلم وآدابه:
(الوظيفة الأولى) تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق، ومذموم
الأوصاف؛ إذ العلم عبادة القلب، وصلاة السر، وقربة الباطن إلى الله تعالى،
وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة إلا بتطهير الظاهر عن
الأحداث والأخباث. فكذلك لا تصح عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم إلا بعد
طهارته عن خبائث الأخلاق، وأنجاس الأوصاف.
أقول: ثم أطال في هذا، وقد اشترطه مثله صاحب الذريعة إلى مكارم
الشريعة لطالب علم الحقائق، فقال: (حق المترشح لتعلم الحقائق أن يراعي ثلاثة
أمور: الأول - أن يطهر نفسه من رديء الأخلاق تطهير الأرض للبذر من
خبائث النبات، وقد تقدم أن الطاهر لا يسكن إلا بيتًا طاهرًا، وأن الملائكة لا تدخل
بيتًا فيه كلب) وقد شرح الغزالي هنا حديث عدم دخول الملائكة بيتًا فيه كلب (وهو
في الصحيحين) بطريق الإشارة والاعتبار، فقال:
(واعلم أن القلب المشحون بالغضب، والشَّرَه إلى الدنيا والتكلب عليها،
والحرص على التمزيق لأعراض الناس - كلب في المعني، وقلب في الصورة،
فنور البصيرة يلاحظ المعاني لا الصور، والصور في هذا العالم غالبة على
المعاني باطنة فيها، وفي الآخرة تتبع الصور المعاني وتغلب المعاني؛ فلذلك يحشر
كل شخص على صورته المعنوية) ، ثم قال:
(فإن قلت كم من طالب رديء الأخلاق حصل العلوم، فهيهات ما أبعده عن
العلم الحقيقي النافع في الآخرة الجالب للسعادة، فإن من أوائل ذلك العلم أن يُظهر له
أن المعاصي سموم قاتلة مهلكة، وهل رأيت من يتناول سمًّا مع علمه بكونه سمًّا
قاتلاً؟ إنما الذي تسمعه من المترسمين حديث يلقونه بألسنتهم مرة، ويرددونه بقلوبهم
أخرى، وليس ذلك من العلم في شيء. قال ابن مسعود رضي الله عنه: ليس العلم
بكثرة الرواية، إنما العلم نور يقذف في القلب. وقال بعضهم: إنما العلم
الخشية لقوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) وكأنه أشار
إلى أخص ثمرات العلم. ولذلك قال بعض المحققين معنى قولهم: تعلمنا العلم
لغير الله فَأَبَى العلم أن يكون إلا لله، إن العلم أبى وامتنع علينا، فلم تنكشف لنا
حقيقته، وإنما حصل لنا حديثه وألفاظه.
(فإن قلت: إني أرى جماعة من العلماء الفقهاء المحققين برزوا في الفروع
والأصول، وعدوا من جملة الفحول، وأخلاقهم ذميمة لم يتطهروا منها، فيقال: إذا
عرفت مراتب العلوم، وعرفت علم الآخرة، استبان لك أن ما اشتغلوا به قليل الغناء
من حيث كونه علمًا، وإنما غناؤه من حيث كونه عملاً لله - تعالى -، إذا قصد به
التقرب إلى الله - تعالى -، وقد سبقت إلى هذا إشارة، وسيأتي فيه مزيد بيان
وإيضاح إن شاء الله - تعالى -) .
أقول: المراد بهذه الوظيفة ما نعبر عنه بالتربية النفسية، فمن رأيه أنها مقدمة
على التعليم، وأن من يعلم من لم تتهذب أخلاقه كان كمن يقلد الدر أعناق الخنازير،
ويعطي السلاح للمجانين، وذلك أن المتعلم الفاسد الأخلاق يستعين بعلمه على
الشرور والإفساد في الأرض، كما هو مشاهد. ومن رأي كثير من العقلاء أن علة
سوء حال أهل الأزهر: هي كون أكثرهم ممن لم يتحلوا بتربية ولا تأديب؛ لكونهم
من بيوت لا تعرف للتربية معنى، ولا للتهذيب سبيلاً، ولا للعلم قيمة. وإنما يقذف
أهلها بأولادهم في الأزهر؛ لأجل الخلاص من خدمة العسكرية أو لأجل الجراية،
وأرقاهم من يقصد أن يكون بعد التعليم قاضيًا أو مفتيًا، ولا شيء من ذلك يعد من
طلب العلم لوجه الله، إذا لم يقصد بالعلم الديني وجه الله بإحياء هدي كتابه، وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لإصلاح حال عباده في نفوسهم وأحوالهم الاجتماعية،
فأي غناء فيه، وكيف يرجى الخير من صاحبه؟
بل لا يشك عاقل في كون طلب العلوم الدنيوية، لا يكون مرقيًا لنفس صاحبه
وحاملاً له على خدمة أمته بالإخلاص النافع، إلا إذا صاحبته تربية النفس،
وتهذيب الأخلاق، وحسن النية. فمن كان فاسد الأخلاق اتخذ العلم وسيلة لحظوظ
الدنيا وشهواتها، لا يبالي في سبيلها بأمة ولا ملة. ففساد الأخلاق هو السبب في قلة
النابغين في علوم الدنيا والدين، وقلة العاملين المخلصين ممن يعدون نابغين. ولو
كانت نفوس أكثر المتعلمين منا أو الكثير منهم عالية، وأخلاقهم كاملة، لسهل عليهم
النهوض بهذه الأمة إلى أوج العزة في زمن قصير. ولكن بلاءنا بفقد التربية
أضعاف بلائنا بنقص التعليم. وإذ قد قرأت بعض كلمات حجة الإسلام في علماء
الدين في عصره المنير، فماذا تقول فيهم في عصرنا هذا؟ ثم قال:
(الوظيفة الثانية) : أن يقلل (وفي نسخة يفرغ) علائقه من الاشتغال
بالدنيا ويبعد عن الأهل والوطن، فإن العلائق شاغلة وصارفة {مَا جَعَلَ اللَّهُ
لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِه} (الأحزاب: 4) ومهما توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق، ولذلك قيل: العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فإذا
أعطيته كلك فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر. (يريد على شك) والفكرة
المتوزعة على أمور متفرقة كجدول تفرق ماؤه، فنشفت الأرض بعضه واختطف
الهواء بعضه، فلا يبقي منه ما يجتمع ويبلغ المزارع) .
أقول: إنه جعل الرحلة ومفارقة الوطن والأهل وتقليل العلائق والشواغل
وظيفة واحدة؛ لأن الغرض منهما فراغ الفكر وصفاء الذهن، فكأنه هو الوظيفة
المقصودة، وقد عقد ابن خلدون في مقدمته فصلاً للرحلة في طلب العلم، وكونها
مزيد كمال في التعليم، ومازال الناس في هذا في الشرق والغرب، حتى أن أهل
المملكة الواحدة من ممالك أوربا لا يكتفون بالرحلة من بلد من بلادهم إلى آخر لجودة
التعليم في مدارسه واتساع دائرة العلوم فيها، بل يرحل منهم كثيرون إلى
مدارس مملكة أخرى؛ كرحلة أهل فرنسا وإنكلترا إلى سويسرا وألمانيا. ثم
قال:
(الوظيفة الثالثة) : أن لا يتكبر على العلم، ولا يتأمر على المعلم، بل
يلقي إليه زمام أمره بالكلية في كل تفصيل، ويذعن لنصيحته إذعان المريض
الجاهل للطبيب المشفق الحاذق. وينبغي أن يتواضع لعلمه، ويطلب الثواب
والشرف لخدمته. فلا ينبغي لطالب العلم أن يتكبر على المعلم، ومن تكبره على
المعلم أن يستنكف عن الاستفادة إلا من المرموقين المشهورين، وهو عين الحماقة.
ومهما أشار عليه المعلم بطريق في التعلم، فليقلده وليدع رأيه، فإن خطأ مرشده أنفع
له من صوابه في نفسه؛ إذ التجربة تطلع على دقائق يستغرب سماعها، مع أنه
يعظم نفعها. وبالجملة كل متعلم استبقى لنفسه رأيًا واختيارًا دون اختيار المعلم،
فاحكم عليه بالإخفاق والخسران.
أقول: ذكر في هذه الوظيفة كثيرًا من الآداب. قد يتوقف في تقليد المعلم منها
ويظن أن هذا مخالف لما ذكرناه عنه من سلوك طريق الاستقلال في العلم، وإنما
يظن هذا من يغفل عن الفرق بين العلم نفسه وبين طريق التعليم، فتَحَكُّم الطلاب في
طريقة الأستاذ في التعليم خرق وفساد لا يجوز بحال، ولو جاز هذا لكان مؤديًا إلى
المحال، عندما يقترح كل طالب طريقة غير التي اقترحها الآخر، وأنى يكون
للتلميذ في طرائق التعليم، مما لا يعرف الصواب فيها إلا بعض العلماء المجربين،
وإنما بيَّنت هذا على ظهوره؛ ليعتبر به طلاب العلم في الأزهر، فإن كثيرًا منهم
يعدون عقبة في طريق إصلاح التعليم؛ بما جروا عليه من العادات في المطالعة
والفهم بطريق التفكيك، وتتبع المفردات، والإعراض عن الأساليب، والتزام
الشروح والحواشي والتقارير. وقد كلمت غير واحد من المدرسين في تحسين
طريقة التعليم بالجري على الأساليب الحديثة، فاعتذروا بأن المجاورين يتركون
دروسهم إذا هم تركوا المألوف فيها، وإنما يأتي هذا الإفساد من المجاورين الذين
ألفوا طريقة الأزهر العتيقة بطول الجري عليها، إذ المبتدئ لا رأي له، وكان
منتظرًا من هؤلاء إذا حكموا في ذلك أن يكونوا وسيلة للإصلاح، لا للبقاء على
الخطأ القديم. نعم، إن فيهم من يطلب الإصلاح فلا يجده، وهم الأذكياء من تلاميذ
الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى، وقد وجدوه الآن بمدرسة القضاء الشرعي، وسيظهر
أثر ذكائهم واستقلالهم بعد زمن قصير. إن شاء الله تعالى.
على أن التقليد في العلم نفسه ضروري للمبتدئ، حتى يصير أهلاً للنظر
والاستدلال، فعند ذلك يسلك طريق الاستقلال، ثم قال:
(الوظيفة الرابعة) أن يحترز الخائض في العلم في مبدأ الأمر عن الإصغاء
إلى اختلاف الناس، سواء كان ما خاض فيه من علوم الدنيا أو من علوم الآخرة،
فإن ذلك يدهش عقله، ويحير ذهنه، ويفتر رأيه، ويؤيسه من الإدراك والاطلاع،
بل ينبغي أن يتقن أولاً الطريقة الحميدة المرضية عند أستاذه، ثم بعد ذلك يصغي
إلى المذاهب والشبه، وإن لم يكن أستاذه مستقلاًّ باختيار رأي واحد، وإنما عادته نقل
المذاهب وما قيل فيها فليحذر منه؛ فإن إضلاله أكثر من إرشاده فلا يصلح الأعمى
لقود العميان وإرشادهم. ومن هذا حاله، فهو يعد في عمى الحيرة وتيه
الجهل.
(ومنع المبتدي عن الشبه، يضاهي منع الحديث العهد بالإسلام من مخالطة
الكفار. وندب القوي إلى النظر في الاختلافات، يضاهي حث القوي على مخالطة
الكفار. ولهذا يمنع الجبان عن التهجم على صف الكفار، ويندب الشجاع له. ومن
الغفلة عن هذه الدقيقة ظن بعض الضعفاء أن الاقتداء بالأقوياء فيما ينقل عنهم من
المساهلات جائزة، ولم يدر أن وظائف الأقوياء تخالف وظائف الضعفاء) ... إلخ.
أقول: وقد جرى هو على ذلك، فإنه أتقن في الفقه مذهب الشافعي، وفي
الكلام مذهب الأشعري، ثم يظهر في سائر المذاهب والآراء على طريق الاستقلال
ومن لم يتقن في أول أمره شيئًا، فقلما يستفيد بعد ذلك من الخلاف إلا حيرة
واضطرابًا وما حذر عنه من الأخذ عن الذين ينقلون المذاهب والأقوال،
ويعجزون عن تأييد شيء منها، هو من أنفع ما يساق إلى مجاوري الأزهر الذي
يكثر فيه أمثال هؤلاء المعلمين الذين لا يكادون يجزمون في مسألة خلافية بشيء،
واشتهر بعض كبرائهم بذلك، حتى صار بعض المجاورين يظن أن سرد الأقوال
والآراء في المسألة هو الكمال في العلم، وما هو إلا منتهى الجهل الذي يذهب
بالاستعداد للعلم، حتى إن من طال عهده به لا يمكن أن يكون عالمًا، وحسبك بحجة
الإسلام مختبرًا وناصحًا. ثم قال:
(الوظيفة الخامسة) : أن لا يدع طالب العلم فنًّا من العلوم المحمودة ولا
نوعًا من أنواعه، إلا وينظر فيه نظرًا يطلع به على مقصده وغايته، ثم إن ساعده
العمر طلب التبحر فيه، وإلا اشتغل بالأهم منه واستوفاه، وتطرف من البقية
(أي أخذ منها الطرف والنوادر) فإن العلوم متعاونة وبعضها مرتبط ببعض،
ويستفيد منه في الحال الانفكاك عن عداوة ذلك العلم بسبب جهله، فإن الناس
أعداء ما جهلوا، قال تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ َ} (الأحقاف: 11) وقال الشاعر:
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرًّا به الماء الزلالا
فالعلوم على درجاتها: إما سالكة بالعبد إلى الله تعالى، أو معينة على السلوك
نوعًا من الإعانة، ولها منازل مرتبة في القرب والبعد من المقصود. والقوَّام بها
حفظة كحفاظ الرباطات والثغور، ولكل واحد رتبة، وله بحسب درجته أجر في
الآخرة، إذا قصد به وجه الله تعالى) اهـ كلامه.
أقول: وهذا الكلام الأخير مبني على ما قرره في هذا الكتاب؛ من كون
جميع العلوم النافعة في الدين أو الدنيا مفروضة دينًا، حتى فنون الصناعات التي
عليها مدار المعيشة، فإنها من فروض الكفايات كفنون اللغة وكصلاة الجنازة، ومتى
صلحت نية القائم بها وأحسن عمله بالصدق وعدم الغش، كان بتعلمه هذه الفنون
وبعمله فيها عابدًا لله تعالى، مستحقًّا للثواب في الآخرة.
وأما ما قرره من طلب الاطلاع على جميع العلوم والفنون المتداولة في العصر
فهو ما جرى عليه في تربيته لنفسه، وعليه علماء فن التعليم من أهل هذا العصر
وهو حجة على كثير من شيوخ الدين عندنا، فإنهم لجهلهم بأنفع علوم العصر
الكونية والعقلية يعادونها، وينفِّرون طلاب العلوم الدينية منها، فيجنون بذلك على
دين أمتهم ودنياها، ويبعدون الناس عن الدين بزعمهم أن هذه العلوم تنافي الدين، كما
قاله الإمام الغزالي في أمثالهم من أهل عصره. وسيأتي نقله عنه في فصل الكلام
عن رأيه في العلوم. ثم قال:
(الوظيفة السادسة) : أن لا يخوض في فن من فنون العلوم دفعة، بل
يراعي الترتيب ويبتدئ بالأهم، فإن العمر إذا كان لا يتسع لجميع العلوم غالبًا،
فالحزم أن يأخذ من كل شيء أحسنه، ويكتفي منه بشمة، ويصرف جمام قوته في
الميسور من علمه إلى استكمال العلم الذي هو أشرف العلوم؛ وهو علم الآخرة) .
أقول: إن هذا مسلَّم في جملته عند علماء فن التربية والتعليم من أهل هذا
العصر، وهو مرتبط بما تقدم في الوظيفة الخامسة، وقد صار الكثيرون من أهل
الغرب الذين اتسعت عندهم دائرة العلوم وكثرت فروعها، يصرفون جمام قوتهم إلى
إتقان فرع من فروع العلم الواحد؛ كطب العيون أو طب الآذان أو طب الأمراض
العصبية من علم الطب مثلاً، وذلك بعد تناول طرف من كل علم وفن كما تقدم.
وأما كون علم الآخرة هو أشرف العلوم، فسيأتي بيان المراد منه، وقد ذكر فيه هنا ما لم نر من الصواب ذكره، ثم قال:
(الوظيفة السابعة) : أن لا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله فإن
العلوم مرتبة ترتيبًا ضروريًّا، وبعضها طريق إلى بعض، والموفق من راعى ذلك
الترتيب والتدريج. قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} (البقرة:
121) أي لا يجاوزون فنًّا حتى يُحْكِموه علمًا وعملاً. وليكن قصده في كل علم
يتحراه الترقي إلى ما فوقه، فينبغي أن لا يحكم على علم بالفساد لوقوع الخلف بين
أصحابه فيه، ولا بخطأ واحد أو آحاد فيه، ولا بمخالفتهم موجب عملهم بالعلم. فترى
جماعة تركوا النظر في العقليات والفقهيات؛ متعللين فيها بأنها لو كان لها أصل
لأدركه أربابها، وقد مضى كشف هذه الشبهة في معيار العلم. وترى طائفة يعتقدون
بطلان الطب لخطأ شاهدوه من طبيب. وطائفة اعتقدوا صحة النجوم لصواب اتفق
لواحد. وطائفة اعتقدوا بطلانه لخطأ اتفق لآخر. والكل خطأ بل ينبغي أن يعرف
الشيء في نفسه، فما كل علم يستقل بالإحاطة به كل شخص، ولذلك قال علي رضي
الله عنه: (لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله) .
أقول: إن هذه الوظيفة توجد في أكثر النسخ، وسقطت من النسخة التي شرح
عليها الزبيدي، فالوظائف فيها تسع. وقد ذكر فيها أمرين: أحدهما ترتيب العلوم
وهو مما لا مجال للخلاف فيه، لاسيما في العلوم المتحدة في النوع كالرياضيات،
فإن من لا يتقن الحساب لا يفهم الهندسة لتوقفها عليه، والهيئة الفلكية متوقفة عليهما
جميعًا. ولأهل هذا العصر في ترتيب العلوم بالمدارس النظامية إتقان أي إتقان.
والأمر الثاني الحكم على العلوم بالوقوف عليها ومعرفة موضوعها وغايتها
وأهم مسائلها، لا باعتبارات خارجة تؤخذ من حال أهلها، كما ينفر بعض شيوخنا
عن علوم العصر؛ بشبهة قلة التمسك بالدين من أكثر متعلميها، وما يدريهم أن ذلك
جاء من سوء التربية، لا من طبيعة العلوم، والحكم على الشيء فرع عن تصوره
كما يقولون بم قال:
(الوظيفة الثامنة) : أن يعرف السبب الذي به يدرك أشرف العلوم، وأن
ذلك يراد به شيئان: أحدهما شرف الثمرة، والثاني وثاقة الدليل وقوته وذلك كعلم
الدين وعلم الطب. فإن ثمرة أحدهما الحياة الأبدية، وثمرة الآخر الحياة الفانية،
فيكون علم الدين أشرف. ومثل علم الحساب وعلم النجوم، فإن علم الحساب أشرف
لوثاقة أدلته وقوتها، وإن نسب الحساب إلى الطب، كان الطب أشرف باعتبار
ثمرته، والحساب أشرف باعتبار أدلته، وملاحظة الثمرة أولى، ولذلك كان الطب
أشرف وإن كان أكثره بالتخمين. وبهذا تبين أن أشرف العلوم العلم بالله عز وجل
وملائكته وكتبه ورسله، والعلم بالطريق الموصل إلى هذه العلوم، فإياك أن ترغب إلا
فيه، وأن تحرص إلا عليه) .
أقول: يعني بالطريق الموصل طريق الصوفية، الذي وصل هو منه بعد أن
انقطعت به الطرق الأخرى من الكلام والفلسفة ومذهب الباطنية. وهكذا شأن الدعاة
يتطرقون إلى مقصدهم من كل ناحية انتحوها، ومن الناس من يقول: إن أبا حامد
يجذب الناس إلى الآخرة، حتى يوشك أن تكون قراءة الإحياء وما شاكله من كتبه
من أسباب تعطيل مصالح قارئيه، وإضاعة دنياهم، وهجر سائر العلوم والفنون،
وليس كذلك كما ترى في الوظيفة الآتية، وإنما هو دعوة إلى الكمال. وسنبين
تحقيق ذلك بعد، ثم قال:
(الوظيفة التاسعة) : أن يكون قصد المتعلم في الحال تحلية باطنه،
وتجميله بالفضيلة، وفي المآل القرب من الله سبحانه، والترقي إلى جوار الملأ
الأعلى من الملائكة والمقربين، ولا يقصد به الرياسة والمال والجاه، ومماراة
السفهاء ومباهاة الأقران. وإذا كان هذا مقصده طلب - لا محالة - الأقرب إلى مقصده
وهو علم الآخرة، ومع هذا فلا ينبغي له أن ينظر بعين الحقارة إلى سائر العلوم؛
أعني علم الفتاوى (يعني به ما يسمى الفقه) وعلم النحو واللغة المتعلقين بالكتاب
والسنة، وغير ذلك مما أوردناه في المقدمات والمتممات من ضروب العلوم التي هي
فرض كفاية (كفنون الصناعات كلها) ولا تفهمن من غلونا في الثناء على علم
الآخرة، تهجين هذه العلوم، فالمتكفلون بالعلم كالمتكفلين بالثغور والمرابطين بها
والغزاة المجاهدين في سبيل الله: منهم المقاتل، ومنهم الردء، ومنهم الذي يسقيهم
الماء، ومنهم الذي يحفظ دوابهم ويتعهدها، ولا ينفك أحد منهم عن أجر إذا كان
قصده إعلاء كلمة الله تعالى دون حيازة الغنائم، فكذلك العلماء. قال تعالى: {يَرْفَعِ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَات} (المجادلة: 11) ، وقال تعالى:
{هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ} (آل عمران: 163) والفضيلة نسبية (أي بينهم)
واستحقارنا للصيارفة عند قياسهم بالملوك، لا يدل على حقارتهم إذا قيسوا بالكناسين
فلا تظن أن ما نزل عن الرتبة القصوى ساقط القدر، بل الرتبة العليا للأنبياء، ثم
الأولياء، ثم العلماء الراسخين في العلم، ثم الصالحين على تفاوت درجاتهم.
وبالجملة {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) ومن قصد الله بالعلم - أي علم - كان نفعه ورفعه لا محالة.
أقول: يعني رحمه الله تعالى، أنه ينبغي لطالب الكمال أن يطلب بالعلم الذي
يتوجه لتحصيله وجه الله تعالى؛ أي الوجه الذي يرضيه، وهو الذي فيه إقامة سننه
في النظام العام، ومنفعة الأنام، وذلك مدعاة لإتقان الأعمال، وحسن النية فيها،
وانتفاء الغش بها. وهل ثَمَّ من طريق للكمال الإنساني أقرب من هذا؟ ألسنا نشاهد
فشوّ الغش والطمع والاحتيال والقسوة، وأشباه هذه الرذائل في أهل العلوم والفنون
والصنائع الذين لا يعرفون الله، ولا يبتغون وجهه؟ ثم قال:
(الوظيفة العاشرة) : أن يعلم نسبة العلوم إلى المقصد، كما يؤثر الرفيع
القريب على البعيد، والمهم على غيره؛ ومعنى المهم ما يهمك، ولا يهمك إلا شأنك
في الدنيا والآخرة، وإذا لم يمكنك الجمع بين ملاذ الدنيا ونعيم الآخرة، كما نطق به
القرآن، وشهد له من نور البصائر ما يجري له من مجرى العيان، فالأهم ما يبقى
أبد الآباد، وعند ذلك تصير الدنيا منزلاً، والبدن مركبًا، والأعمال سعيًا إلى
المقصد ولا مقصد إلا لقاء الله تعالى، ففيه النعيم كله، وإن كان لا يعرف قدره في
هذا العالم إلا الأقلون) ... إلخ. ما أطال به في هذه المسألة.
أقول: إذا أخذنا قول أبي حامد الغزالي هنا على ظاهره، نحكم بأنه غلط في
قوله إن القرآن نطق بأنه لا يمكن الجمع بين ملاذ الدنيا ونعيم الآخرة. فإننا نسمع
منادي القرآن يتلو علينا في سورة الأعراف، وهي من السور المكية التي بيَّن فيها
أصول الدين وكلياته {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ
قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 32) من آثر الحياة الدنيا على الآخرة، وكان لا يعمل إلا
للذاتها وشهواتها، يفوته حظه من الآخرة كله أو بعضه، وذلك أن حظ الإنسان في
الآخرة يكون على حسب ارتقاء نفسه في الحق والخير والإخلاص، وغير ذلك من
ثمرات الإيمان. وإيثار الشهوات يضعف هذه الأشياء، حتى يذهب بها من النفس
فتبقى حيوانية شيطانية. ومن الآيات المثبتة لهذا التفصيل قوله: {فَمِنَ النَّاسِ مَن
يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ
سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: 200-202) وقوله: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الحَيَاةَ
الدُّنْيَا} (النازعات: 37-38) ... إلخ الآيات.
وإننا نجد في كلام أبي حامد ما يوافق هذا التفصيل في مواضع من الإحياء؛
ككتاب ذم الدنيا، وكتاب ذم المال والجاه، وغيرها من كتب الإحياء، ولذلك يمكن
حمل كلامه هنا على أن المراد بكل من ملاذ الدنيا ونعيم الآخرة مرتبة الكمال فيهما
فإن من كان همه استكمل اللذات البدنية، لا يمكنه أن يستعد لتحصيل كمال
نعيم الآخرة المعبر عنه بلقاء الله تعالى والفوز برضوانه الأكبر، بل ربما تعذر
عليه الاستعداد لما دون ذلك، كما يفهم من التفصيل المذكور آنفًا.
ثم بين أبو حامد بعد وظائف المتعلم، وظائف المعلم المرشد، ويعني بالمرشد:
المربي للنفس، المهذب للأخلاق، فقال:
بيان وظائف المعلم المرشد
(اعلم أن للإنسان في علمه أربعة أحوال؛ كحاله في اقتناء الأموال: إذ
لصاحب المال حال استفادة فيكون مكتسبًا، وحال ادخار لما اكتسبه فيكون به غنيًّا
عن السؤال، وحال إنفاق على نفسه فيكون منتفعًا، وحال بذل لغيره فيكون به سخيًّا
متفضلاً، وهو أشرف أحواله. فكذلك العلم يقتنى كالمال فله حال طلب واكتساب،
وحال تحصيل يغني عن السؤال، وحال استبصار وهو التفكر في المحصل والتمتع
به، وحال تبصير وهو أشرف الأحوال. فمن عَلِم وعَمِل وعَلَّم، فهو الذي يدعي
عظيمًا في ملكوت السموات، فإنه كالشمس تضيء لغيرها وهي مضيئة في نفسها،
وكالمسك الذي يطيب غيره وهو طيب. والذي يعلم ولا يعمل به كالدفتر الذي يفيد
غيره وهو خال عن العلم، وكالمَسَن الذي يشحذ غيره ولا يقطع، والإبرة التي
تكسو غيرها وهي عارية، وذبالة المصباح (فتيلة) تضيء لغيرها وهي تحترق،
كما قيل:
ما هي إلا ذبالة وقدت ... تضيء للناس وهي تحترق
ومهما اشتغل بالتعليم، فقد تقلد أمرًا عظيمًا وخطرًا جسيمًا، فليحفظ آدابه
ووظائفه:
(الوظيفة الأولى) : الشفقة على المتعلمين، وأن يجريهم مجرى بنيه. قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا لكم مثل الوالد بولده) [2] بأن يقصد
إنقاذهم من نار الآخرة، وهو أهم من إنقاذ الوالدين ولدهما من نار الدنيا، ولذلك
صار حق المعلم أعظم من حق الوالدين، فإن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة
الفانية، والمعلم سبب الحياة الباقية، ولولا المعلم لانساق ما حصل من جهة الأب
إلى الهلاك الدائم، وإنما المعلم هو المفيد للحياة الأخروية الدائمة؛ أعني معلم علوم
الآخرة، أو علوم الدنيا على قصد الآخرة، لا على قصد الدنيا فهو هلاك وإهلاك.
نعوذ بالله منه.
وكما أن حق أبناء الرجل الواحد أن يتحابوا ويتعاونوا على المقاصد كلها،
فكذلك حق تلاميذ الرجل الواحد التحاب والتواد ولا يكون إلا كذلك، إذا كان
مقصدهم الآخرة، ولا يكون إلا التحاسد والتباغض إن كان مقصدهم الدنيا.. إلخ
أقول: غرض أبي حامد رحمه الله تعالى أن أول شيء يطلب من المعلم
المربي، هو أن يكون تلاميذه كأولاده في تربيتهم بالشفقة والرحمة، دون الغلظة
والقسوة، ومن لوازم الرحمة والشفقة حفظ كرامة الناشئ، وتربية ملكة العزة
والشرف في نفسه، ومن لوازم القسوة إهانته وتحقيره. ولا شيء يفسد الأخلاق
كالقسوة في التربية، وامتهان المُرَبَّى واحتقاره بالقول أو المعاملة. ولا أعون على
التربية مع الرحمة والتكريم من السير فيها على هدي الدين من قصد الآخرة،
والتحذير من الغرور بمفاسد الدنيا وحظوظها الحقيرة، وقد جرى أهل المدارس
الدنيوية في هذا العصر على طريقة الرحمة والتكريم في التربية. ولكنهم أهملوا أمر
الدين، فكان أكثر المتخرجين في مدارسهم لا همَّ لهم من حياتهم إلا التمتع
بالشهوات وطلب المال من غير مبالاة بحرام ولا حلال. ثم قال:
(الوظيفة الثانية) : أن يقتدي بصاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه،
فلا يطلب على إفادة العلم أجرًا، ولا يقصد به جزاء ولا شكرًا، بل يعلِّم لوجه الله
تعالى وطلبًا للتقرب إليه، ولا يرى لنفسه منة عليهم، وإن كانت المنة لازمة عليهم،
بل يرى الفضل لهم؛ إذ هذبوا قلوبهم لأن تتقرب إلى الله تعالى بزراعة العلوم
فيها كالذي يعيرك الأرض لتزرع لنفسك فيها زراعة، فمنفعتك بها تزيد على منفعة
صاحب الأرض، فكيف تقلده منة؟ وثوابك في التعليم أكثر من ثواب المتعلم عند الله
تعالى، ولولا المتعلم ما نلت هذا الثواب، فلا تطلب الأجر إلا من الله تعالى، كما قال
عز وجل: {وَيَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} (هود: 29) .
فإن المال وما في الدنيا خادم للبدن، والبدن مركب النفس ومطيتها، والمخدوم هو
العلم؛ إذ به شرف النفس، فمن طلب العلم بالمال كان كمن مسح أسفل نعله بوجهه
لينظفه، فجعل المخدوم خادمًا والخادم مخدومًا، وذلك هو الانتكاس على أم الرأس،
ومثله هو الذي يقوم في العرض الأكبر مع المجرمين ناكسي رؤوسهم عند ربهم،
وعلى الجملة فالفضل والمنة للعلم.
(فانظر كيف انتهى أمر الدين إلى قوم يزعمون أن مقصودهم التقرب إلى الله
تعالى، بما هو فيه من علم الفقه والكلام والتدريس فيهما وفي غيرهما، فإنهم يبذلون
المال والجاه، ويتحملون أصناف الذل في خدمة السلاطين لاستطلاق الجرايات، ولو
تركوا ذلك لتركوا، ولم يختلف إليهم) .
(ثم يتوقع المعلم من المتعلم أن يقوم له في كل نائبة، وينصر وليه ويعادي
عدوه، وينتهض حمارًا له في حاجاته مسخرًا بين يديه في أوطاره، فإن قصر في حقه
ثار عليه، وصار من أعدى أعدائه. فأخسس بعالم يرضى لنفسه بهذه المنزلة، ثم
يفرح بها، ثم لا يستحي من أن يقول: غرضي من التدريس نشر العلم تقربًا إلى الله
تعالى، ونصرة لدينه. فانظر إلى الأمارات حتى ترى ضروب الاغترارات) .
أقول: أما أخذ الأجرة على التعليم ففيه بحث، وإن كنا لا نخالف أبا حامد في
كون ما ذكره هو الكمال اللائق بعلماء الدين، لاسيما إذا كانوا في سعة من العيش.
ولكن التعليم قد صار صناعة، لا يتقنها إلا من انقطع لها عن الأعمال والمكاسب،
فمن كانت هذه حاله، لا يمنع إخلاصه في التعليم وابتغاء وجه الله به قبول الأجرة
عليه، لا سيما إذا كانت الأجرة من المصالح العامة؛ كالأوقاف وخزائن الحكومات،
وإدارات المدارس التي تنشئها الجمعيات أو الأفراد.
وأما ما قاله في العلماء الذين جعلوا الدين أحبولة لصيد المال والجاه والتقرب من
الأمراء والحكام فهو الحق الأبلج. وكذلك كلامه فيمن يحاولون استخدام تلاميذهم
وتسخيرهم في منافعهم والانتصار لهم، وإذا كان هذا شأن الكثير من الفقهاء
والمتكلمين في عصره، فماذا كان يقول لو رأى علماء الدين في عصرنا هذا؟
فليعتبر المعتبرون. ثم قال:
(الوظيفة الثالثة) : أن لا يدع من نصح المتعلم شيئًا؛ وذلك بأن يمنعه من
التصدي لرتبة قبل استحقاقها، والتشاغل بعلم خفي قبل الفراغ من الجلي. ثم ينبهه
على أن الغرض بطلب العلوم القرب من الله، دون الرياسة والمباهاة والمنافسة،
ويقدم تقبيح ذلك في نفسه بأقصى ما يمكن، فليس ما يصلحه العالم الفاجر بأكثر مما
يفسده. فإن علم من باطنه أنه لا يطلب العلم إلا للدنيا نظر إلى العلم الذي يطلبه،
فإن كان هو علم الخلاف في الفقه والجدل في الكلام، والفتاوى في الخصومات
والأحكام فيمنعه من ذلك، فإن هذه العلوم ليست من علوم الآخرة، ولا من العلوم
التي قيل فيها: تعلمنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله. وإنما ذلك على
التفسير وعلم الحديث وما كان الأولون يشتغلون به من علم الآخرة ومعرفة أخلاق
النفس وكيفية تهذيبها، فإذا تعلمه الطالب وقصده الدنيا فلا بأس أن يتركه، فإنه يتشمر
له طمعا في الوعظ والاستتباع. ولكن قد يتنبه في أثناء الأمر أو آخره إذ فيه العلوم
المخوفة من الله تعالى، المحقرة للدنيا المعظمة للآخرة، وذلك يوشك أن يؤدي إلى
الصواب في الآخرة، حتى يتعظ بما يعظ به غيره، ويجري حب القبول والجاه
مجرى الحب الذي يُنْثَر حوالى الفخ؛ ليقتنص به الطير، وقد فعل الله ذلك بعباده؛ إذ
جعل الشهوة ليصل الخلق بها إلى بقاء النسل. وخلق أيضًا حب الجاه ليكون سببًا
لإحياء العلوم، وهذا متوقع في هذه العلوم.
(فأما الخلافيات المحضة ومجادلات الكلام ومعرفة التفاريع الغريبة (أي في
الفقه) فلا يزيد التفرغ لها مع الإعراض عن غيرها إلا قسوة في القلب، وغفلة عن
الله تعالى، وتماديًا في الضلال، وطلبًا للجاه، إلا من تداركه الله تعالى برحمته
أو مزج به غيره من العلوم الدينية ولا برهان على هذا كالتجربة والمشاهدة،
فانظر يا أخي واعتبر واستبصر؛ لتشاهد تحقق ذلك في العباد والبلاد والله
المستعان) .
أقول: هذا ما يقوله حجة الإسلام في الفقهاء والمتكلمين أيام كانوا أئمة
في هذه العلوم، بهم ارتقت واتسعت دوائرها، وكانت محتاجا إليها لوجود الفلاسفة
والمبتدعة الذين يرد عليهم المتكلمون؛ ولكون جميع الأحكام في بلاد المسلمين
كانت جارية على أحكام الفقه، وهو مع ذلك يعد علومهم دنيوية، ويقول:
إنه علم بالتجربة، كما علم بالبرهان أنها لا تزيد القلب إلا قسوة وحبًّا في الدنيا،
وإعراضًا عن الله تعالى. فماذا نقول في المنقطعين لهذه العلوم اليوم، وهم مقلدون
لأولئك الذين كانوا في عصره، ولمن دونهم ممن بعدهم، والحاجة إلى علومهم الآن
ليست كالحاجة إليها في عصره، فإن معظم فقههم لا يحكم به أحد من حكام المسلمين
اليوم، ومعظم علم الكلام الذي يزاولونه لا حاجة إليه؛ لأنه عبارة عن رد على
الفلسفة اليونانية التي نسخت بالفلسفة العصرية، وعلى المعتزلة الذين انقرضوا.
مع هذا نرى شيوخ العصر في الأزهر وأمثاله من المدارس الإسلامية في
سائر البلاد، يتبجحون بأنهم رجال الدين المحافظون عليه، وهم لا يلتفتون إلى
علومه الحقيقية التي تهذب النفوس، وتصلح القلوب، وتربي الأرواح من التفسير
والحديث والأخلاق، وسنن الله في الأنفس والآفاق، وحكمه في المخلوقات كما
أوضحه حجة الإسلام في الإحياء. وقد تعب الأستاذ الإمام محمد عبده - رحمه الله
تعالى - واجتهد وقاسى البلاء؛ ليجعل علم الأخلاق، وتاريخ نشأة الإسلام،
والتفسير الحقيقي مما يدرس في الأزهر، فلم يصادف من القوم إلا إعراضًا. فأما
تفسير كتاب الله على أنه هدى ورحمة وموعظة وعبرة، فقد أحياه بنفسه، ولذلك
مات بموته. وأما الأخلاق وآداب الدين وتاريخ الإسلام، فقد تقرر بسعيه تدريسها
رسميًّا. ولكنها لا تدرس ولا يحفل بها أحد، ومع ذلك كله كانوا يحاربونه بزعم أنه
شغلهم عن علوم الدين، ويرددون بألسنتهم وأقلام الجرائد المنتصرة لهم كلمة (الأزهر
مدرسة دينية محضة) ، فليعرضوا هذا القول على ما قرره حجة الإسلام في الإحياء
في هذا الموضع وغيره، ولينظروا بعد ذلك مكانه من الصدق. ألا إن الأزهر وأمثاله
مدارس دنيوية محضة بحسب ما قرره أبو حامد، ولا نعرف أحدًا من العلماء نازعه
فيما قرره، ويشهد لذلك أننا لا نرى المتخرجين فيها يحفلون بأمر الدين وإرشاد
المسلمين. أين المتصدون لتهذيب النفوس وتربية الأرواح؟ أين حماة العقائد من
شبهات العلوم العصرية، وأهل الغيرة على دين النابتة الحديثة؟ أين أنصار السنة
الخاذلون للبدعة؟ أين الدعاة إلى الدين بحسب ما يليق بحال المعاصرين؟ مهما رفعت
صوتك بالنداء لا تسمع منهم مجيبًا. ثم قال أبو حامد:
(الوظيفة الرابعة) : وهي من دقائق صناعة التعليم، أن يُزْجَر المتعلم
عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا
بطريق التوبيخ. فإن التصريح يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم
بالخلاف، ويهيج الحرص على الإصرار؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم وهو مرشد كل
معلم: (لو منع الناس عن فت البعر لفتوه، وقالوا ما نهينا عنه إلا وفيه شيء) [3] .
وينبهك على هذا قصة آدم وحواء عليهما السلام وما نهيا عنه، فما ذكرت القصة
لتكون سمرًا، بل لنتنبه بها على سبيل العبرة. ولأن التعريض أيضًا يميل النفوس
الفاضلة والأذهان الذاكية إلى استنباط معانيه، فيفيد فرح التفطن لمعناه رغبة في
العلم به؛ ليعلم أن ذلك مما لا يغيب عن فطنته.
أقول: رحم الله أبا حامد، ما كان أحرصه على تكريم الطلاب، وتنشئتهم
على العزة والشرف، فهو يدخل على هذا المعنى من كل باب، ويتوسل إليه بأنواع
الأسباب، فأين من هذا ما يجري عليه شيوخ مشهورون من الغلظة والسباب ونبذ
تلاميذهم بأقبح الألقاب، حتى صار الذين يتعلمون في المدارس الدنيوية، يظنون أن
النزاهة والتكريم للطلاب مما وضعه الإفرنج من الآداب، وهكذا جرَّدنا أنفسنا من
آداب ديننا، حتى صارت تعزى إلى غيرنا، ثم قال:
(الوظيفة الخامسة) : أن المتكفل ببعض العلوم ينبغي أن لا يقبِّح في نفس
المتعلم العلوم التي وراءه؛ كمعلم اللغة: إذ عادته تقبيح علم الفقه. ومعلم الفقه
عادته تقبيح علم الحديث والتفسير. وأن ذلك نقل محض وسماع، وهو شأن العجائز
ولا نظر للعقل فيه، ومعلم الكلام ينفر عن الفقه، ويقول: ذلك فروع وهو كلام
في حيض النسوان، فأين ذلك من الكلام في صفة الرحمن. فهذه أخلاق مذمومة
للمتعلمين ينبغي أن تجتنب، بل المتكفل بعلم واحد ينبغي أن يوسِّع على المتعلم
طريق التعلم فى غيره، وإن كان متكفلاً بعلوم ينبغي أن يراعي التدريج في ترقية
المتعلم من رتبة إلى رتبة.
أقول: إن السبب في مدح كل متكفل بفن أو علم له، وذم غيره أو تقليل شأنه
هو ما يسمونه حب الذات، فهو لا يريد بذلك إلا مدح نفسه وتفضيلها على أقرانه
ومعاصريه، فهو قد يذم العلم الآخر، وإن كان عارفًا بفائدته، فكيف إذا كان جاهلاً
به. ثم قال:
(الوظيفة السادسة) : أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه، فلا يلقي إليه ما لا
يبلغه عقله، فينفره أو يخبط عليه عقله اقتضاء في ذلك بسيد البشر صلى الله عليه
وسلم، حيث قال: (نحن معاشر الأنبياء، أُمِرنا أن ننزل الناس منازلهم، ونكلمهم
على قدر عقولهم) [4] . فليبث إليه الحقيقة إذا علم أنه يستقل بفهمها. قال صلى الله
عليه وسلم: (ما أحد يحدث قومًا بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة على بعضهم) [5]
وقال علي رضي الله عنه، وأشار الى صدره: إن ههنا لعلومًا جمة، لو وجدت لها
حملة وصدق رضي الله عنه (وفي نسخة الشارح: عليه السلام) في قوله:
فقلوب الأبرار قبور الأسرار.
فلا ينبغي أن يفشي العالم كل ما يعلم إلى كل أحد، هذا إذا كان يفهمه المتعلم
ولم يكن أهلاً للانتفاع به، فكيف فيما لا يفهمه. وقال عيسى عليه السلام: (لا
تعلقوا الجواهر في أعناق الخنازير) فإن الحكمة خير من الجوهر، ومن كرهها فهو
شر من الخنازير، ولذلك قيل: كلْ لكل عبد بمعيار عقله. وزن له بميزان فهمه
حتى تسلم منه وينتفع بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار. وسئل بعض العلماء عن
شيء فلم يجب، فقال السائل: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(من كتم علمًا نافعًا جاء يوم القيامة ملجمًا بلجام من النار؟) [6] فقال: اترك اللجام
واذهب، فإن جاء من يفقه وكتمته فليلجمني، فقد قال الله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ
أَمْوَالَكُم} (النساء: 5) تنبيهًا على أن حفظ العلم ممن يفسده ويضره أولى،
وليس الظلم في إعطاء غير المستحق بأقل من الظلم في منع المستحق) اهـ.
أقول: جعل بعض أهل النظر هذه المسألة - إظهار الحقيقة لكل أحد في كل
وقت- محل بحث، وللبحث فيها من الجهة النظرية مجال. ولكن من بلا الناس
وعرف شؤونهم، يحكم في هذه القضية بالسلب حكمًا لا تردد فيه، ولقد كان الأنبياء
المؤيدون بعناية الله وآيه، يظهرون حقائق الدين بالتدريج، ويستعملون الكلام
المجمل والكنايات والتجاوزات، والمتشابهات التي يأخذ منها كل ذي عقل وفهم على
مقدار عقله وعلمه. نعم، لا يجوز لأحد أن يقول قولاً يخالف الحقيقة ليقبله الناس،
فإن فاعل ذلك من الكاذبين الغاشين، لا من الحكماء الناصحين، وإذا كان هذا ينافي
الصدق والحكمة، فهو أشد منافاة للنبوة، ومن ثم تعلم أن ما يقوله بعض الباطنية،
حتى في زماننا هذا من أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قالوا أشياء تخالف الحقيقة
مراعاة لأفهام الناس واستعدادهم، هو من الباطل الذي لا يدنو الصواب منه، بل هو
دليل على أن هؤلاء الباطنية يستحلون الكذب والغش والخداع فلا ثقة بأقوالهم ولا
بعقائدهم؛ أعني أنه لا يوثق بأنهم يعتقدون ما يقولونه ويَدْعُون إليه، بل هم طلاب
رياسة من طريق الانتحال في الدين، وتشكيله بشكل وَثَنِي، كما يعلم من تاريخهم
منذ وجدوا، إلى أن ظهروا باسم البابية والبهائية في هذا الزمن.
ولهذا الذي قرره أبو حامد في هذه الوظيفة، جعل كتابه هذا مرتبًا على ما
يشبه ترتيب الفقه، الذي كانت الرغبات كلها أو جلها متوجهة إليه في ذلك العصر؛
استدراجًا للقلوب إليه في ذلك العصر؛ وحذرًا أن تنفر منه كما صرح بذلك في
فاتحته، ولأجله جعل أحكام الفقه فيه على مذهب الشافعي إلا قليلاً، على أن رأيه
في الإصلاح قائم على قاعدة إبطال التقليد. كما سيأتي عنه، فكأنه أراد أن يجعل
الإحياء مقدمة لما قرره في كتبه التي ألفها بعد ذلك: كالقسطاس المستقيم، والمنقذ
من الضلال، والمضنون به على غير أهله. ثم قال:
(الوظيفة السابعة) : إن المتعلم القاصر ينبغي أن يلقى إليه الجلي اللائق به
ولا يذكر له أن وراء هذا تدقيقًا وهو يدخره عنه، فإن ذلك يفتر رغبته في الجلي
ويشوش عليه قلبه، ويوهم إليه البخل به عنه؛ إذ يظن كل أحد أنه أهل لكل علم
دقيق. فما من أحد الا وهو راض عن الله سبحانه في كمال عقله، وأشدهم حماقة
وأضعفهم عقلاً هو أفرحهم بكمال عقله.
وبهذا يعلم أن من تقيد من العوام بقيد الشرع، ورسخ في نفسه العقائد المأثورة
عن السلف، من غير تشبيه ومن غير تأويل، وحسن مع ذلك سيرته، ولم يحتمل
عقله أكثر من ذلك، فلا ينبغي أن يشوش عليه اعتقاده، بل ينبغي أن يُخَلَّى وحرفته
فإنه لو ذكر له تأويلات الظاهر انحل عنه قيد العوام، ولم يتيسر قيده بقيد
الخواص، فيرتفع عنه السد الذي بينه وبين المعاصي، وينقلب شيطانًا مريدًا يهلك
نفسه وغيره. بل لا ينبغي أن يخاض مع العوام في حقائق العلوم الدقيقة، بل
يقتصر معهم على تعليم العبادات، وتعليم الأمانة في الصناعات التي هم بصددها،
ويملأ قلوبهم من الرغبة والرهبة في الجنة والنار، كما نطق به القرآن، ولا يحرك
عليهم شبهة؛ فإنه ربما تعلقت الشبهة بقلبه ويعسر عليه حلها فيشقى ويهلك.
وبالجملة لا يفتح على العوام باب البحث، فإنه يعطل عليهم صناعتهم التي بها قوام
الخلق، ودوام عيش الخواص.
أقول: أرشد في هذه الوظيفة إلى نوع من أنواع التدريج في تعليم طلاب
العلوم، وإلى طريق تعليم العامة، ومن هذا يتبين لك أن ما يلح بالدعوة إليه من
الإعراض عن الدنيا، والرغبة في معرفة الله تعالى والعلوم التي تقرب إليه، إنما
هو موجه إلى الخواص أصحاب الاستعداد للكمال. كما أشرنا إلى ذلك وسنزيده بيانًا.
ثم قال:
(الوظيفة الثامنة) : أن يكون المعلم عاملاً بعلمه، فلا يُكذِّب قوله فعله؛ لأن
العلم يدرك بالبصائر، والعمل يدرك بالأبصار، وأرباب الأبصار أكثر، فإذا خالف
العلم العمل منع الرشد، وكل من تناول شيئا وقال للناس: لا تتناولوه فإنه سم مهلك.
سخر الناس به واتهموه، وزاد حرصهم على ما نهوا عنه، فيقولون: لولا أنه أطيب
الأشياء وألذها، لما كان يستأثر به. ومثل المعلم المرشد من المسترشدين مثل النقش
من الطين، والظل من العود. فكيف ينتقش الطين بما لا نقش فيه، ومتى استوى
الظل والعود أعوج، ولذلك قيل في المعنى:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم.
وقال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} (البقرة: 44) .
ولذلك كان وزر العالم في معاصيه أكثر؛ إذ يزل بزلته عالم كثير ويقتدون به
(ومن سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها) [7] ، ولذلك قال علي
رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك وجاهل متنسك، فالجاهل يغر
الناس بتنسكه، والعالم يغرهم بتهتكه. والله أعلم اهـ.
أقول: يجب أن يكون المعلم مربيًا وقوام التربية بالقدرة، فإذا كان المعلم لعلوم
الدنيا أو الدين سيئ الأخلاق فاسد الآداب، فإنه يُفسِد نفوس تلاميذه بالفعل، وما
يقوله لهم من النصائح يكون عندهم من الأقوال التي يقصد بها الغش والرياء،
فالجهل بها خير لهم من معرفتها.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هي جمع وظيفة وهو استعمال مولد، وأصل الوظيفة من الشيء ما يقَّدر له في كل يوم من رزق أو طعام أو شراب أو علف للدواب، ذكره في لسان العرب، وقال: وظفه توظيفًا ألزمها إياه (أي الوظيفة) وقد وظفت له توظيفًا: على الصبي كل يوم حفظ آيات من كتاب الله عز وجل اهـ، فإطلاق أهل العصر الوظيفة على أعمال الحكومة له وجه وجيه.
(2) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة، وليس فيه كلمة (للولد) ، ولفظ أبي داود (إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم) إلخ، وفي سنده من تكلم فيه.
(3) قال العراقي في الحديث: لم أجده إلا من حديث الحسن مرسلاً، وهو ضعيف، رواه ابن شاهين، قال شارح الإحياء وجدت بخط الداودي ما نصه، ولفظ ابن شاهين (ولو منع الناس فت الشوك، لقالوا فيه الند) وفي معناه حديث آخر.
(4) هذان حديثان أوردهما في سياق واحد، أما الأول فذكر في الجامع الصغير وفي كنوز الحقائق من حديث عائشة بلفظ (أنزلوا الناس منازلهم) ، معزوًّا في الأول إلى مسلم وأبي داود، وفي الثاني إلى مسلم فقط، وعزوه إلى مسلم سهو من السيوطي والمناوي، فإن مسلمًا لم يخرجه في صحيحه، وإنما ذكره في مقدمته بغير إسناد وغير جزم؛ إذ قال (ويذكر عن عائشة) وأما أبو داود فقد أخرجه في الأدب من سننه، ورواه كثيرون، فمنهم من تكلم في سنده؛ كقول أبي داود إن ميمون بن شبيب لم يدرك عائشة، ومنهم من صححه كالحاكم وابن خزيمة، وقال السخاوي حديث حسن ورواه بعضهم عنها بلفظ (أمرنا رسول صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم) وورد بألفاظ أخرى، وأما الثاني: فقد روي في الجزء الثاني من حديث ابن الشخير عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ (أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلم الناس على قدر عقولهم) كذا قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء والحافظ السخاوي في كتابه الجواهر والدرر، وفي معناه حديث (حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله) رواه الديلمي في مسند الفردوس عن علي مرفوعًا، وهو في البخاري موقوف، ووضع السيوطي في الجامع الصغير بجانبه علامة الحسن.
(5) ذكر المصنف هذا الحديث في باب قبل هذا الباب بلفظ (ما حدث أحدكم قومًا بحديث لا يفهمونه إلا كان فتنة عليهم) ونقل شارح الكتاب عن الحافظ العراقي أنه قال: أخرجه العقيلي في الضعفاء، وابن السني وابو نعيم في رياضة المتعلمين من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف ولمسلم في مقدمة صحيحه موقوفًا على ابن مسعود نحوه اهـ قال الشارح: ولفظ حديث ابن عباس: (ما أنت محدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان على بعضهم فتنة) .
(6) قال الحافظ العراقي: أخرجه ابن ماجه من حديث أبي سعيد، ولفظه عند السيوطي في الجامع الكبير (من كتم علمًا مما ينفع الله به الناس في أمور الدين، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار) اهـ أقول وفي الجامع الصغير من حديث ابن مسعود عند ابن عدي: (من كتم علمًا عن أهله، ألجم يوم القيامة لجامًا من نار) وهو ضعيف.
(7) العبارة مقتبسة من حديث رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.(10/595)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أثارة من التاريخ
قطعة من مكتوب شهاب الدين بن مري تلميذ ابن تيمية يعزي إخوانه تلاميذ
شيخ الإسلام عنه، ويحثهم على جمع مصنفاته.
أيها الإخوان:
لا تنسوا تقريرات شيخنا الحاذق الناقد الصادق - قدس الله روحه - لمعاني قوله
تبارك وتعالى في بيان الحِكَم الأربع التي أودعها الله سبحانه في ضمن انكسار
عسكر الرسول في يوم أحد، وهي قوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ
الصَّابِرِينَ} (آل عمران: 141-142) ، فلا تهملوا أمر الفكرة الصالحة في هذه
المعاني الشريفة وغيرها، ولا تجزعوا لما حصل فإن الله حي لا يموت، وهو
المتكفل سبحانه بنصر الدين وأهله، والمختبر لعباده فيما يبتليهم به، والخبير
بجملة مصالحهم والرؤوف بهم، والهادي لمن يشاء إلى صراط مستقيم، ولا يهلك
على الله إلا هالك، والسعيد من قام بما عليه إلى وفاته، ومن أراد عظيم الأجر
التام ونصيحة الأنام ونشر علم هذا الإمام الذي اختطفه من بيننا محتوم الحمام،
ويُخْشَى دُرُوسُ كثير من علومه المتفرقة الفائقة مع تكرر مرور الليالي والأيام
- فالطريق في حقه هو الاجتهاد العظيم على كتابة مؤلفاته الصغار والكبار، على
جليتها من غير تصرف فيها ولا اختصار، ولو وجد كثيرًا من التكرار، ومقابلتها،
وتكثير النسخ بها وإشاعتها، وجمع النظائر والأشباه في مكان واحد، واغتنام حياة
من بقي من أكابر الإخوان، فكأننا جميعًا بكمال الفوت وقد حان، ويكفينا ما عندنا
على ما فرطنا من عظيم الأسف، فلوجه الله معشر الإخوان لا تعاملوا الوقت
الحاضر بما عاملتم به الوقت الذي قد سلف، فإن حياته (رحمه الله ورضي عنه)
كانت مأمولة لاستدراك الفارطات الفائتات، وتكميل الغايات والنهايات، فاغتنموا
تحصيل كل مهمة في وقتها بلا كسل ولا ملل، ولا تشاغل ولا بخل؛ لأن هذا المهم
الكبير أحق شيء يبذل في تحصيله المال الكثير، وقد علمتم مضرة التعليل
والتسويف، وذلك من أكبر القواطع عن مصالح الدنيا والآخرة، فاحتفظوا بالشيخ
أبي عبد الله [1] أيده الله، وبما عنده من الذخائر والنفائس، وأقيموه لهذا المهم
الجليل، بأكثر ما تقدرون عليه ولو تألمتم أحيانا من مطالبته؛ لأنه قد بقي في فنه
فريدًا، ولا يقوم مقامه غيره من سائر الجماعة على الإطلاق. وكل أحوال الوجود
لابد فيها من العوارض والإنكار، فاحتسبوا مساعدته عند الله -تعالى - وأنهضوا
بمجموع كلفته، فإن الشدائد تزول والخيرات تغتنم، فاكتبوا ما عنده وليكتب ما
عندكم، وأنا أستودع الله دينه وما عنده، وأوصيه بالصبر أيضًا، وبمعاملة الله
سبحانه فيما هو فيه وإن قصَّر الإخوان في حقه، وليطلب نصيبه من الله تعالى متكلاً
عليه في رزقه المضمون، ومجملاً في الطلب؛ لأن ما قسم لابد أن يكون، وإنما
أحث هممكم الصالحة عليه تحصيل كراريس الرد على عقائد الفلاسفة؛ لأنه
ليس في الوجود لهذا المؤلف نسخة كاملة غير النسخة التي بخطي، وكانت في
الخرستان الشمالي من مدرسة شيخنا، وأخبرني الشيخ شرف الدين - رحمه الله
تعالى - أنه أودع المجموع في مكان حريز، ولقد شح علي بإنفاذ هذه الكراريس
وقت الذهاب من الشام، ولا قوة إلا بالله، والكراس الرابع منها أخذه أبو عبد الله من
يدي وهو عنده، ونسخة الأصل التي بخط الشيخ هي في القطع في الكبير، وكانت
هناك أيضًا، وقد بقي من آخر نسختي أقل من ورقة فأوصلوا ذلك إلى أبي عبد الله؛
ليكمل النسخة إلى عند قوله (فهذا باب وذاك باب والله أعلم بالصواب) وللطولسي
نسخة بخط كيس وكملوها؛ لأنه مؤلف لا نظير له ولا يكسر الفلاسفة مثله، ومن الله
نسأل المعونة على جمع شمل هذه المصالح الجليلة بعد شتاتها، ونعوذ به من
عوارض القواطع وآفاتها؛ لأن الفوت صعب وغائلة التفريط ردية، وانتهاز الفرص
من أهم الأمور وأجمعها لمصالح الدنيا والآخرة، وما يعقلها إلا العالمون، وسيندم
المفرطون في استدراك بقايا هذه الأمور الكاملة والمقصرون، كما ندم المتخيلون
بطول حياة الشيخ والمفترون، وهذه الأمور التي قد أشرت إليها في هذه الأوراق
الخفيفة هي أعلى أبواب النصيحة وأتمها فيما أعلم؛ لأن الذاهب مضى والوقت سيف
منتضى، وكل من ذهب بعده من أكابر الإخوان ما عنه عوض. والدهر في إدبار،
والشرور في زيادة، وإذا جمعت هذه المؤلفات العزيزة الكثيرة، ونقل من المسودات
ما لم ينقل، وقبل رأي أبي عبد الله في ذلك كله؛ لأنه على بصيرة من أمره، وهو
أخبر الجماعة بمظان المصالح المفردة التي قد انقطعت مادتها، وقوبل كل ما يكتب مع
أصلح الجماعة أوعلى نسخة الأصل، وروجع شيخنا الحافظ جمال الدين الذي هو بقية
الخير؛ لثقته وخبرته وشفقته وتحرقه على ظهور هذه المواد الصالحة في الوجود؛
ولسعة علمه وإحاطته بكثير من مقاصد شيخنا المؤلف، وروجع الشيخان العالمان
الفاضلان المحققان (القاضي شرف الدين وشمس الدين بن أبي بكر) فإنهما أحذق
الجماعة على الإطلاق في المناهج العقلية وغيرها، وأذكرهم للمباحث الأصولية
فيما يشتبه من المقاصد؛ خوفًا من التصحيف وتغيير بعض المعاني، وروجع
غيرهم من أكابر الجماعة أيضًا - كان في ذلك خير كثير، واستدراك كبير إن شاء الله
تعالى.
(والشيخ أبو عبد الله) سلَّمه الله، هو بلا تردد واسطة نظام هذا الأمر
العظيم، فساعدوه وأزيلوا ضرورته، واجمعوا همته، واغتنموا بقية حياته،
واقبلوا نصيحتي فيما أتحققه من هذا كله كما كنت أتحقق. إن اغتنام أوقات الشيخ
وجمعها على التآليف والإتقان والمقابلة خير من صرفها في مجرد المفاكهة
اللذيذة والمنادمة، والنفوس فرطت كثيرًا في ذلك الحال، والله المسؤول بأن يكفيها
مضرة كمال الفوت الذي لا عوض عنه بحال، إنه رؤوف رحيم جواد كريم، فإن
يسر الله تعالى وأعان على هذه الأمور العظيمة، صارت إن شاء الله تعالى مؤلفات
شيخنا ذخيرة صالحة للإسلام وأهله، وخزانة عظيمة لمن يؤلف منها وينقل
وينصر الطريقة السلفية على قواعدها، ويستخرج ويختصر إلى آخر الدهر إن شاء
الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا،
يستعملهم فيه بطاعة الله) ، وقال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا
يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة) والله سبحانه وتعالى يقول في
كتابه: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 8) ، وكما انتفع الشيخ بكلام الأئمة قبله،
فكذلك ينتفع بكلامه من بعده إن شاء الله تعالى، فاتبعوا أمر الله، واقصدوا رضا الله
بجمع كل ما تقدرون عليه من أنواع المؤلفات الكبار، وأشتات المسائل الصغار،
ومعها نسخ الفتاوى المتفرقة، وسائر كلامه الذي قد ملئ - ولله الحمد - من الفوائد
والفرائد والشوارد، فأيقظوا الهمم، وابذلوا الأموال الكثيرة في تحصيل هذا المطلب
العظيم الذي لا نصير له، فهذا هو الذي يلزمنا من حيث الأسباب. والتمام على رب
الأرباب ومسبب الأسباب وفاتح الأبواب الذي يقيم دينه وينصر كتابه وسنة نبيه على
الدوام، ويثبت من يؤهله لذلك من أنواع الخاص والعام، وكلٌّ مجزي في القيامة
بعمله {وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) .
وقد علم أن الإمام أحمد بن حنبل كان ينهي في حال حياته عن كتابة كلامه؛
ليجمع القلوب على المادة الأصلية العظمى، ولما توفي استدرك أصحابه ذلك الأمر
الكبير فنقلوا علمه، وبينوا مقاصده، وشهروا فوائده، فانتصرت طريقته، واقتفيت
آثاره لأجل ذلك، والوجود هو على هذه الصفة قديمًا وحديثًا، فلا تيأسوا من قبول
القلوب القريبة والبعيدة لكلام شيخنا، فإنه - ولله الحمد - مقبول طوعًا أو كرهًا،
وأين غايات قبول القلوب السليمة لكلماته، وتتبع الهمم النافذة لمباحثه وترجيحاته؟
ووالله - إن شاء الله - ليقيمن الله سبحانه لنصر هذا الكلام ونشره وتدوينه وتفهمه
واستخراج مقاصده، واستحسان عجائبه وغرائبه رجالا هم إلى الآن في أصلاب
آبائهم. وهذه هي سنة الله الجارية في عباده وبلاده، والذي وقع من هذه الأمور في
الكون لا يحصي عدده غير الله تعالى، ومن المعلوم أن البخاري مع جلالة قدره
أُخرِج طريدًا ثم مات بعد ذلك غريبًا، وعوضه الله سبحانه عن ذلك بما لا خطر في
باله، ولا مر في خياله من عكوف الهمم على كتابه، وشدة احتفالها به، وترجيحها
له على جميع كتب السنن؛ وذلك لكمال صحته وعظمة قدره، وحسن ترتيبه
وجمعه، وجميل نية مؤلفه، وغير ذلك من الأسباب. ونحن نرجو أن يكون
لمؤلفات شيخنا أبي العباس من هذه الوراثة الصالحة نصيب كثير- إن شاء الله
تعالى - لأنه كان بنى جملة أمور على الكتاب والسنة ونصوص أئمة سلف الأمة،
وكان يقصد تحرير الصحة بكل جهده، ويدفع الباطل بكل ما يقدر عليه، لا يهاب
مخافة أحد من الناس في نصر هذه الطريقة، وتبيين هذه الحقيقة، وقد علم أن
لكتبه من الخصوصية والنفع والصحة والبسط والتحقيق والإتقان والكمال وتسهيل
العبارات وجمع أشتات المتفرقات والنطق في مضايق الأبواب بحقائق فصل الخطاب
ما ليس لأكثر المصنفين في أبواب مسائل أصول الدين وغيرها من مسائل المحققين؛
لأنه كان يجعل النقل الصحيح أصله وعمدته في جميع ما يبني عليه، ثم يعتضد
بالعقليات الصريحة التي توافق ذلك وبغيرها، ويجتهد إلى دفع كل ما يعارض ذلك من
شبه المعقولات، ويلتزم حل كل شبهة كلامية وفلسفية كما تقدمت الإشارة إلى ذلك،
ويلتزم أيضًا الجمع بين صحيح المنقول وصريح المعقول، ويجزم بأن فرض دليلين
قطعيين متعارضين من المحال، إن كانا عقليين أو عقليًّا ونقليًّا، قال: لأن الدليل
هو الذي يجب ثبوت مدلوله. فإما أن لا يكونا قطعيين. وإما أن لا يكون مدلولاهما
متناقضين، وعلى هذا المقصد الجليل بنى كلامه المتين، وتقاسيمه العجيبة في أول
قاعدته الكبيرة الباهرة التي ألفها فى دفع تعارض العقل والنقل، فكانت مقاصده
وتحقيقاته في هذا الباب العظيم عجبًا من عجائب الوجود، وكان يقول: لا يتصور
أن يتعارض حديثان صحيحان قط؛ إلا أن يكون الثاني ناسخًا للأول. قال: والإمام
أحمد بن حنبل كان في زمنه يصرح به ويلتزم تحقيقه، وأنا في زمني ألتزم حكم هذه
القاعدة أيضًا، والنهوض بالجواب عن كل ما يعارضها، وكان رحمه الله ورضي
عنه يذب عن الشريعة، ويحمي حوزة الدين بكل ما يقدر عليه، وكان كما علم من
حاله لا يخاف في هذا الباب لومة لائم، ولا ينثني عما يتحقق عنده، ولم يزل على
ذلك إلى أن قضى نحبه ولقي ربه فقدس الله روحه، ونور ضريحه، ونصر مقاصده،
وأيَّد قواعده. والله سبحانه يعلم حسن قصده وصحة علومه ورجحان دليله، وهو
ناصر الحق وأهله ولو بعد حين.
وجميع ما وقع من هذه الأمور فيه من الدلالة - إن شاء الله -على شمول أمره
وظهور كلمة هذه العلوم الباهرة أكثر مما فيه من الدلالة على خلاف ذلك (ولا
قوة إلا بالله) غير أن الأشياء المقدورة تفتقر إلى أسبابها المعلومة، ولهذا كان
الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في العريش يوم بدر، يجتهد على الاستغاثة بالله
التي كانت أكبر أسباب النصرة في ذلك اليوم، بعد أن عرفه الله تعالى قبل ذلك
جلية مصارع القوم، ولما التزمه أبو بكر من ورائه قائلاً له: يا رسول الله، أهكذا
مناشدتك ربك؟ فإنه واف لك بما وعدك. لم يترك استغاثته بربه لعلمه أن الأمور
المقدورة لا بد أن تقع بأسبابها اللازمة لها المعروفة بها، ومصداق ذلك ما أنزله
سبحانه في تقرير هذا الأمر وتحقيق هذه القاعدة، وهو قوله تعالى: {إذْ
تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ
إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 9 -10) لأنه سبحانه بين حكم الأسباب المتقدمة والمتأخرة، ورد الأمر
إلى حقائق التوحيد بقوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (الأنفال: 10) ، وهذا
هو نهاية مطالب هذا الباب، واتباع هذه الأحكام الثابتة على هذه الصفة المؤيدة، هو
بلا شك أعلى مراتب العبودية، وأنفعها وأرفعها في حق مجموع البرية فأكثروا من
استعمال هذا الأمر الجليل. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الحمد لله وحده، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وسلام على جميع
الصالحين.
__________
(1) يعني ابن القيم أجل تلاميذ شيخ الإسلام اهـ.(10/616)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نموذج من إنجيل برنابا
(2)
الفصل السبعون [أ1]
(1) انصرف يسوع من أورشليم بعد الفصح، ودخل حدود قيصرية
فيلبس [1] .
(2) فسأل تلاميذه بعد أن أنذره الملاك جبريل بالشغب الذي نجم بين
العامة، قائلاً: (ماذا يقول الناس عني؟) .
(3) أجابوا: (يقول البعض: إنك إيليا، وآخرون إرميا، وآخرون
أحد الأنبياء) .
(4) أجاب يسوع: (وما قولكم أنتم في؟) .
(5) أجاب بطرس: (إنك المسيح ابن الله) .
(6) فغضب حينئذ يسوع، وانتهره بغضب، قائلاً: (اذهب وانصرف
عني [2] لأنك أنت الشيطان، وتحاول أن تسيء إلي) .
(7) ثم هدد الأحد عشر قائلاً: (ويل لكم إذا صدقتم هذا؛ لأني ظفرت
بلعنة كبيرة من الله على كل من يصدق هذا) .
(8) وأراد أن يطرد بطرس.
(9) فتضرع حينئذ الأحد عشر إلى يسوع لأجله، فلم يطرده.
(10) ولكنه انتهره أيضًا قائلاً: (حذار أن تقول مثل هذا الكلام مرة أخرى؛
لأن الله يلعنك) .
(11) فبكى بطرس وقال: (يا سيد، تكلمت بغباوة فاضرع إلى الله أن
يغفر لي) .
(12) ثم قال يسوع: (إذا كان إلهنا لم يرد أن يظهر نفسه لموسى
عبده، ولا لإيليا الذي أحبه كثيرًا، ولا لنبي ما، أتظنون أن الله يظهر نفسه
لهذا الجيل الفاقد الإيمان؟
(13) بل، ألا تعلمون أن الله قد خلق بكلمة [أ2] واحدة كل شيء من العدم،
وأن منشأ البشر جميعهم من كتلة طين؟ .
(14) فكيف إذًا يكون الله شبيهًا بالإنسان؟
(15) ويل للذين يدعون الشيطان يخدعهم) .
(16) ولما قال يسوع هذا ضرع إلى الله لأجل بطرس، والأحد عشر
وبطرس يبكون ويقولون: (ليكن كذلك، أيها الرب المبارك إلهنا [ب1] ) .
(17) وانصرف يسوع بعد هذا، وذهب إلى الجليل إخمادًا لهذا الرأي الباطل
الذي ابتدأ أن يعلق بالعامة في شأنه.
***
الفصل الحادي والسبعون [ت1]
(1) ولما بلغ يسوع بلاده [3] ذاع في جهة الجليل كلها أن يسوع النبي قد
جاء إلى الناصرة [3أ] .
(2) فتفقدوا عندئذ المرضى بجد، وأحضروهم إليه متوسلين إليه أن
يلمسهم بيديه [3ب] .
(3) وكان الجمع غفيرًا جدًّا حتى أن غنيًّا مصابًا بالشلل لما لم يمكن
إدخاله في الباب، حُمِل إلى سطح البيت الذي كان فيه يسوع، وأمر القوم برفع
السقف ودلي على ملاء أمام يسوع.
(4) فتردد يسوع دقيقة ثم قال: (لا تخف أيها الأخ؛ لأن خطاياك قد غفرت
لك) .
(5) فاستاء كل أحد لسماع هذا وقالوا: (من هذا الذي يغفر الخطايا) .
(6) فقال حينئذ يسوع: (لعمر الله، إني لست بقادر على غفران الخطايا
ولا أحد آخر. ولكن الله وحده يغفر [أ3] .
(7) ولكن كخادم لله، أقدر أن أتوسل إليه لأجل خطايا الآخرين.
(8) لهذا توسلت إليه لأجل هذا المريض، وإني موقن بأن الله قد استجاب
دعائي.
(9) ولكي تعلموا الحق، أقول لهذا الإنسان: (باسم إله [ب2] آبائنا إبراهيم
وأبنائه قم مُعافى) .
(10) ولما قال يسوع هذا قام المريض معافى، ومجَّد الله.
(11) حينئذ توسل العامة إلى يسوع ليتوسل إلى الله لأجل المرضى الذين
كانوا خارجًا.
(12) فخرج حينئذ يسوع إليهم ثم رفع يديه، وقال:
(13) (يا أيها الرب إله الجنود، الإله الحي، الإله الحقيقي، الإلة القدوس
الذي لا يموت [ت2] ألا فارحمهم.
(14) فأجاب كل أحد (آمين) .
(15) وبعد أن قيل هذا وضع يسوع يديه على المرضى، فنالوا جميعهم
صحتهم.
(16) فحينئذ مجدوا الله قائلين: (لقد افتقدنا الله بنبيه، فإن الله أرسل لنا
نبيًّا عظيمًا) .
***
الفصل الثاني والسبعون [أ4]
(1) وفي الليل تكلم يسوع سرًّا مع تلاميذه قائلاً:
(2) الحق أقول لكم، إن الشيطان يريد أن يغربلكم كالحنطة [4] .
(3) ولكني توسلت إلى الله لأجلكم، فلا يهلك منكم إلا الذي يلقي الحبائل لي.
(4) وهو إنما قال هذا عن يهوذا؛ لأن الملاك جبريل قال له كيف كانت ليهوذا
يد مع الكهنة، وأخبرهم بكل ما تكلم به يسوع.
(5) فاقترب الذي يكتب هذا إلى يسوع بدموع قائلاً: (يا معلم قل لي، من
هو الذي يسلمك؟) .
(6) فأجاب يسوع، قائلاً: (يا برنابا، ليست هذه الساعة هي التي تعرفه فيها. ولكن يعلن الشرير نفسه قريبًا؛ لأني سأنصرف عن العالم) .
(7) فبكى حينئذ الرسل قائلين: (يا معلم، لماذا تتركنا؟ لأن الأحرى بنا أن
نموت من أن تتركنا) .
(8) أجاب يسوع: (لا تضطرب قلوبكم ولا تخافوا) [5] .
(9) لأني لست أنا الذي خلقكم، بل الله الذي خلقكم يحميكم [ب3] .
(10) أما من خصوصي؛ فإني قد أتيت لأهيئ الطريق لرسول الله [ت3] الذي
سيأتي بخلاص للعالم.
(11) ولكن احذروا أن تُغشوا؛ لأنه سيأتي أنبياء كذبة [6] كثيرون، يأخذون
كلامي وينجسون إنجيلي.
(12) حينئذ قال اندراوس: (يا معلم اذكر لنا علامة لنعرفه) .
(13) أجاب يسوع: (إنه لا يأتي في زمنكم، بل يأتي بعدكم بعدة سنين،
حينما يبطل، ولا يكاد يوجد ثلاثون مؤمنًا.
(14) في ذلك الوقت يرحم الله العالم فيرسل [أ5] رسوله الذي تستقر على
رأسه غمامة بيضاء، يعرفه أحد مختاري الله وهو سيظهره للعالم.
(15) وسيأتي بقوة عظيمة على الفجار، ويبيد عبادة الأصنام من العالم. ...
(16) وإني أسر بذلك؛ لأنه بواسطته سيعلن ويمجد الله، ويظهر صدقي.
(17) وسينتقم من الذين سيقولون أني أكبر من إنسان.
(18) الحق أقول لكم: إن القمر سيعطيه رقادًا في صباه، ومتى كبر هو
أخذه [7] بكفيه.
(19) فليحذر العالم أن ينبذه لأنه سيفتك بعبدة الأصنام.
(20) فإن موسى عبد الله [ب4] قتل أكثر من ذلك كثيرًا، ولم يبق يوشع
على المدن التي أحرقوها، وقتلوا الأطفال.
(21) لأن القرحة المزمنة يستعمل لها الكي.
(22) وسيجيء بحقٍّ أجلى من سائر الأنبياء، وسيوبخ من لا يحسن
السلوك في العالم.
(23) وستحيي طربًا أبراج مدينة آبائنا بعضها بعضًا.
(24) فمتى شوهد سقوط عبادة الأصنام إلى الأرض، واعترف بأني بشر
كسائر البشر، فالحق أقول لكم: إن نبي الله [ب] حينئذ يأتي.
(المنار)
وفي موضع آخر من هذا الإنجيل، بيان سبب تسمية سيدنا عيسى إلهًا وابن الله
وهو أن الرومانيين الذين كانوا يحكمون اليهود يومئذ، رأوا آياته عليه السلام في
إبراء البرص وغيرهم من المرضى، فقالوا: هذا إله إسرائيل قد افتقد شعبه،
كعادتهم في إطلاق اسم الإله على كثير من المخلوقات ... إلخ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(أ1) سورة اللعنة على النصار.
(1) قابل هذا بما في مت 16: 13 -20.
(2) مت 16-23.
(أ2) خلق الله كل شيء في كلام واحد بلا شيء منه.
(ب1) يا الله سلطان.
(ت1) سورة اليغفر.
(3) مر 2: 1-12.
(3أ) قال عيسى أقسنت (أقسمت) بالله الحي أنا لا أقدر أن أغفر ذنبا من ذنوب، لا يغفر الذنوب إلا الله منه.
(ب2) بإذن الله.
(ت2) سلطان الله حي حق ولي وباق.
(أ4) سورة العلامة رسول الله.
(ب3) الله خالق وحافظ.
(ت3) رسول الله.
(4) لو 22: 31.
(5) يو 14: 27.
(6) مت 24: 11.
(أ5) الله مرسل.
(ب4) رسول الله.
(7) الآية المبهمة في القرآن سورة 54.(10/621)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
حكم من قال: أنا في جاه النبي، وحديث (توسلوا بجاهي)
(س 48) من أحمد أفندي البدوي في (القناطر الخيرية) .
ملخص السؤال: إن بعض المجاورين في الأزهر عندهم اتخذ دكانًا كبيرًا لبيع
الحلاوة، وقد وقف خطيبًا على جمهور من الأفاضل وقال لهم: من قال أنا في
جاه النبي فقد كفر. فقال له السائل: قال عليه الصلاة والسلام (توسلوا بجاهي فإن
جاهي عظيم) ، فأجابه بأن هذا حديث مكذوب، هات لي حديثًا من الكتب الستة أو
آية من القرآن. ويطلب بلسان أهل البلد بيان الحق في ذلك.
(ج) إن الرجل قد أخطأ في كلمة وأصاب في كلمة: أخطأ في تكفير من قال
أنا في جاه النبي صلي الله عليه وسلم، وأصاب في قوله: إن عبارة (توسلوا بجاهي)
إلخ ليست حديثًا مرويًّا عنه صلى الله عليه وسلم، بل هي من الموضوعات كما
سبق لنا القول في المنار غير مرة.
أما الكفر بمعني الارتداد عن الإسلام فهو إنما يكون بإنكار شيء مما جاء به
صلى الله عليه وسلم، عُلِمَ من الدين بالضرورة إجماعًا كالقرآن كله أو بعضه،
وككون الصلوات المفروضة خمسًا. ولعل الرجل ما قال بالتكفير إلا وهو يظن أن
من قال تلك الكلمة فهو يعني بها أن النبي صلي الله عليه وسلم ينفع أو يضر من
دون الله. وهي ليست نصًّا في ذلك، وإذا كان من لوازمها القريبة أو البعيدة، فلازم
المذهب ليس بمذهب لا سيما في باب الردة وإنني أرى الناس يستعملون هذه الكلمة
(أنا في جاه النبي) لإنشاء استعظام الأمر أو استفظاعه. يقول قائل: فلان شرير
يخشى ضره أنا في جاه النبي. ويريد الآخر أن يبالغ في تصديقه فيقولها أيضًا، ولا
يكاد قائلها يقصد الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم لينقذه من شر الرجل. هذا وإن
الكلمة لم يرد بها كتاب ولا سنة ولا أثر عن الصحابة أو الأئمة، فتركها أسلم من
استعمالها وإن لم تكن كفرًا. فلا يليق أن يجعل اسم النبي (صلى الله عليه وسلم)
عنوانًا على الاستفظاع، كما هو المستعمل، وإن قصد قائلها أنه ينجو من الشر
والعذاب ويصيب الخير والثواب بجعل نفسه في جاه النبي صلي الله عليه وسلم قولاً
- فقصده هذا مخالف لهدي النبي وما جاء به من أن النجاة في الآخرة إنما تكون
بالإيمان والعمل الصالح. وأن أمر الدنيا مبني على الأسباب وسنن الله التي لا تتغير،
والتي بمراعاتها انتصر المؤمنون معه صلى الله عليه وسلم يوم بدر وهم فئة قليلة،
وولوا الأدبار يوم حنين وهم كثيرون، وانكسروا كذلك يوم أُحُد.
***
صخرة بيت المقدس
(س 49) من محمد أفندي عبد الكريم بمدرسة الناصرية بمصر.
ما قولكم في الصخرة المقدسة الموجودة ببيت المقدس ببلاد الشام، وفي أي
زمن قُدِّست؟ ومن أطلق عليها اسم التقديس؟ وهل هي حقيقة متصلة بالجبل،
ومعلقة بين السماء والأرض؟ وما هي الحقيقة فيها؟ لازلتم كهفًا للواردين،
وملجأ للقاصدين، ودمتم.
(ج) لم يرد في كتاب الله ولا في أحاديث رسوله وصف الصخرة بالمقدسة
وإنما وصفت تلك البلاد كلها بالأرض المقدسة؛ لظهور الأنبياء والمرسلين فيها،
وبإرشادهم تتقدس نفوس الناس من الشرك والرذائل. وكانت الصخرة ومازالت قبلة
اليهود، فهي معظمة ومعدودة من الآثار الشريفة؛ لأنها من آثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وليست متصلة بالجبل ولا واقفة في الجو، وإنما هي سقف لمغارة صناعية وقد سبق لنا وصفها، فراجع ص 266 من المجلد السادس.
***
مشكلتان في القضاء الإسلامي
(أحدهما واردة على حكم القاضي باجتهاده، والثانية على تعدد المذاهب)
وجه إلينا السؤالين الآتيين بعض كبار علماء القوانين والفقه في ملأ من
الفضلاء سامرين عنده، ورغب إلينا أن نجيب عنهما في المنار، وقال: إنه سأل
بهما بعض الفقهاء المشهورين، فلم يحسنوا جوابًا، وقد أجبنا هناك جوابًا مجملاً
نفصله هنا.
(السؤال الأول)
(س 50) قرر الفقهاء أن يكون القاضي مجتهدًا، ومعناه أنه يحكم بما أداه
إليه اجتهاده، ويلزم من هذا أن يكون المتحاكمون جاهلين بالأحكام التي يحكم لهم أو
عليهم بها، وفي ذلك ما فيه، وهو مما يعد على الفقه الإسلامي.
(ج) إن الدين الإسلامي لم يأت بقوانين وأحكام مفصلة لجميع ما تحتاج إليه
الأمة في معاملاتها الدنيوية، وإنما جاء ببعض القواعد العامة والأحكام التي احتيج
إليها في عصر التنزيل، وفوض القرآن الأمر فيما يحتاج إليه من أمور الدنيا:
السياسية والقضائية والإدارية، إلى أهل الرأي والمعرفة بالمصالح من الأمة بقوله:
{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) فهذا ما جاء به الإسلام، وهو
هداية تامة كاملة لا تعمل بها أمة إلا وتكون مستقلة في أمورها مرتقية في سياستها
وأحكامها، يسير بها أهل الرأي والمعرفة في كل زمان ومكان بحسب المصلحة التي
يقتضيها الزمان والمكان، ومن ذلك أن يضعوا القوانين وينشروها في الأمة، ويلزموا
القضاة والحكام باتباعها والحكم بها، ولكن المسلمين لم يهتدوا بذلك على وجه الكمال.
أما أهل الصدر الأول؛ فقد قاموا بما تقتضيه حال الزمان والمكان بقدر
الإمكان، لاسيما على عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقد كان ما هو
معروف عندهم أتم المعرفة من أحكام القرآن، وأقضية الرسول وسنته في تحري
العدل والمساواة - وافيًا بمعظم حاجاتهم القليلة بمقتضى السذاجة الفطرية، وشظف
العيش والتمسك بالدين، ومن لوازمه قلة الاعتداء والاحتيال، فكان يكتفى في
القاضي أن يكون عالمًا بما ذكر، صاحب بصيرة فيه، وعدالة في نفسه، بحيث إذا
عرض له قضية لم يرد فيها كتاب ولم تمض بها سنة - ولعل ذلك قليل - أن يعمل
رأيه تطبيقها على العدل، ويقيسها بما يشبهها مما ورد. ولم يكن الناس في ذلك
العهد يشعرون بأنهم في حاجة إلي معرفة ما عساه يعرض من أحكام القضايا غير
المنصوصة ليدون وينشر، بل لم يكن ذلك متيسرًا لغلبة الأمية على المسلمين
ولتفويضهم أمر الذين يدخلون في ذمتهم إلى حكم أنفسهم بأنفسهم. ونتيجة ذلك أنهم لم
يكونوا محتاجين إلى وضع القوانين ونشرها، ولذلك صرفوا همتهم إلى الدعوة إلى
الإسلام، وما يتبع ذلك من الفتوحات.
ومما يدل على أن ما كانوا عليه كان كافيًا في إقامة العدل وراحة الناس
وأمانهم، بحيث لا يشعرون بحاجة إلى معرفة ما كانوا يحكمون به - ما رواه ابن سعد
في الطبقات وابن راهويه عن عطاء قال: كان عمر يأمر عماله أن يوافوه بالموسم،
فإذا اجتمعوا قال - أي على مسمع الملإ من أهل الموسم الواردين من الجهات -: (يا
أيها الناس، إني لم أبعث عمالي عليكم؛ ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم ولا من
أعراضكم إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك
فليقم) فما قام أحد إلا رجل قام فقال: يا أمير المؤمنين، إن عاملك فلان ضربني مائة
سوط. قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه.
فقام عمرو بن العاص فقال: يا أميرالمؤمنين، إنك إن فعلت هذا يكثر عليك،
وتكون سنة يأخذ بها من بعدك. قال عمر: أنا لا أقيد وقد رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقيد من نفسه؟ [1] قال عمرو: فدعنا لنرضيه. قال: دونكم فارضوه.
فافتدى منها بمئتي دينار، عن كل سوط بدينارين. اهـ والشاهد في عدم
قيام أحد من أهل الموسم يشكو العمال غير هذا الرجل، وقد كتبنا في المجلدين
الرابع والخامس من المنار مقالات أو نُبذًا في القضاء في الإسلام، ومما كتبناه
في أول النبذة الرابعة ما نصه (ص 166 م 5) .
(أركان القضاء وأصول الحكم في الإسلام أربعة: الكتاب العزيز والسنة،
والاجتهاد في الرأي والمشاورة في الأمر. وإنها لأركان عظيمة، وأصول قويمة،
والأساس الذي بنيت عليه هذه الأركان: (درء المفاسد وجلب المصالح والمنافع)
ولهذا كان الاجتهاد شرطًا في القاضي؛ لوجوب تطبيق الأحكام على المنفعة في كل
زمان ومكان بحسبه. وأقول الآن: فقد كان قضاة المسلمين ممن يسمون بلسان
الأوربيين الآن بقضاة العدل والإنصاف. ثم أوردنا الأحاديث وآثار الصحابة الدالة
على تلك الأركان، ومما أوردناه في سنتهم في الاستشارة وعدم الاستبداد فيما لا نص
فيه ما جاء في (ص 127 م 5) .
(روى الدارمي والبيهقي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد
عليه خصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به بينهم، وإن لم
يجد في كتاب الله نظر هل كانت من النبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة، فإن علمها
قضى بها، فإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين فقال:أتاني كذا وكذا، فنظرت
في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أجد في ذلك شيئًا،
فهل تعلمون أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قضى في ذلك بقضاء؟ فربما قام
الرهط، فقالوا: نعم، قضى فيه بكذا وكذا، فيأخذ بقضاء رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) ويقول عند ذلك: (الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا) وإن
أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم (أي الذين هم أولو الأمر في الآية)
فاسثشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به. وإن عمر بن الخطاب كان يفعل
ذلك، وكان يرجع إلى أقضية أبي بكر ... إلخ. أقول: فأنت ترى أن ما جروا
عليه في الصدر الأول كان منتهى الكمال الممكن في عصرهم الكافل
لحاجتهم.
ولكن حدثت للمسلمين بعد ذلك حاجات أخرى: فقد فتحوا المدائن والأمصار،
ودخل الناس في دينهم أفواجًا من جميع الأمم والملل، فكثرت حاجات العمران،
وحدثت للناس أقضية كثيرة لم يكن لها نظير في الصدر الأول، كما قال عمر بن
عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بحسب ما أحدثوا. ثم إن هؤلاء الناس لم يكونوا من فهم الدين والاهتداء به كما كان أهل العصر الأول، ومن ثم احتيج إلى وضع
قوانين عامة يعرفها الناس ويتقاضون بها، وكان يجب بمقتضى هداية القرآن أن
يجتمع لذلك أولو الأمر، وهم المعبر عنهم في الأثر المذكور آنفًا برؤوس المسلمين
وعلمائهم، فيضعوه، وتجري الأحكام عليه، ما لم يروا تحويره وتنقيحه. ولكنهم
تركوا ذلك للأفراد يكتبون متفرقين ما يظهر لهم أن الأمة محتاجة إليه فكثرت المذاهب
والآراء، وكان ينصب القاضي من هؤلاء الأفراد المنصرفين إلى وضع الأحكام
برأيهم واجتهادهم، حتى إذا ما ضعف العلم بفشو تقليد أفراد من المصنفين في
الأحكام، صار الحكام المستبدون يولون القضاء أفرادًا من متعلمي مذاهبهم، فكان ذلك
نقصًا في القضاء عند المسلمين؛ سببه عدم الاهتداء بما سبق تقريره من أصول
الدين، مع ما طرأ عليهم من الأمراض الاجتماعية والفتن السياسية، فتبعة
التقصيرعلى المسلمين، لا شيء منه يلصق بهداية الإسلام.
فوض القرآن لجماعة أولي الأمر أن يستنبطوا للأمة ما تحتاج إليه بالشورى فلم
يفعلوا، ونهاهم عن تقليد الأفراد فقلدوهم، ونهاهم في آيات كثيرة عن التفرق
والخلاف فتفرقوا واختلفوا، ولو وضع لهم أولو الأمر قانونًا مدونًا لا خلاف فيه،
بحيث يعرف الحاكم والمحكومون ما به يكون الحكم، لكانوا مهتدين بهدي الإسلام،
ولم يمنع ذلك من أن يكون القاضي مجتهدًا، كما كان في عهد السلف مع التزام أحكام
الكتاب والسنة، فإن ما يضعه أولو الأمر لمصلحة الدنيا واجب الاتباع بنص
القرآن، كما يجب اتباع الله ورسوله. وحينئذ يكون جل اجتهاد القاضي في تطبيق
أحكام الكتاب والسنة وقانون أولي الأمر على القضايا، وأقله فيما عساه يعرض من
القضايا التي أغفلها القانون ولا نص فيها، ويشترط في ذلك أن يقرن اجتهاده باجتهاد
غيره. كما يحصل نظير ذلك في محاكم الاستئناف على الطريقة الأوربية.
(السؤال الثاني)
(س 51) إن ما جرى عليه المسلمون من حكم القاضي بأحد المذاهب التي
قلدها الجمهور (وهو مذهب الحاكم العام في كل مملكة غالبًا أو دائما) يستلزم إذا
استبدل قاض تابع لمذهب بقاض تابع لآخر، أن يحكم القاضي الجديد بمذهبه بين
المتعاقدين مع مراعاة مذهب من قبله، وقد تكون الشروط الأولى التي التزموها
ورضوا بها لموافقتها المصلحة، باطلة عند القاضي الأخير، فتفسد المصلحة على أحد
المتعاقدين أو كليهما. ومما يدخل في هذا الباب انتقال المتعاقدين أو الشريكين من بلد
إلى آخر يخالف مذهبه مذهب الأول. ومثل هذا مما صرحت القوانين الأوربية
بحكمه.
(ج) هذا مما يرد على المسلمين وفقههم، ولا يرد على أصول الإسلام نفسه.
وهي التي نلتزم في المنار بيان موافقتها لمصلحة الناس في كل زمان
ومكان، إذا أقيمت على وجهها دون هذا الفقه. وبيان ذلك يعلم مما تقدم في المسألة
السابقة من أن القرآن وَكَّلَ ذلك إلى أولي الأمر يستنبطونه بالمشاورة بينهم، لا
يلتزمون في ذلك إلا الأصول المنصوصة المجمع عليها من إقامة ميزان العدل،
ودرء المفاسد وحفظ المصالح، وهذا لا يمكن مع التقليد الذي هو التزام الأمة مذهب
أحد أفراد العلماء السابقين، ولذلك ننحي دائمًا على التقليد، ونقول: إنه والإسلام
ضدان. والحكم بما يضعه أولو الأمر على ما ذكر ليس تقليدًا، بل هو عين الاجتهاد
ولا يرد عليه ما يضعه جماعة منهم في مملكة، ويراعيه الناس في عقودهم
ومعاملتهم، ثم ينتقل بعضهم إلى مملكة أخرى وضع أولو الأمر فيها قوانين أخرى
على فرض أن الإسلام يجيز وجود مملكتين مختلفتين في الأحكام، ولا ما يقع إذا
مات واضعو قانون وخلفهم آخرون رأوا تغيير بعض أحكامه، فإن مثل هذا واقع الآن
في الأمم المرتقية في علم الحقوق، فإن الأمم يخالف بعضها بعضًا، وكل أمة
تنسخ وتبدل بعض أحكام قوانينها آنًا بعد آن، ويراعون في ذلك مصلحة من تعاملوا
من قبل هذا النسخ والتبديل. وأي مانع يمنع المسلمين من ذلك غير هذا التقليد الذي
خالفوا به القرآن والسنة وأقوال جميع الأئمة.
وجملة القول: إن كل بلايا المسلمين في علم الحقوق عندهم منبعها التقليد.
وهي كثيرة جدًّا، ولو اتبعوا هدي الكتاب والسنة لا نكشف عنهم كل غمة، فقد
وسع الله عليهم. ولكنهم ضيقوا على أنفسهم، ولا يمكن إخراجهم من هذه الهوَّة، أو
إنقاذهم من هذا المضيق، إلا بنزع أغلال التقليد من أعناقهم وكسر قيوده التي في
أرجلهم. وحينئذ يتسنى لهم في أي مملكة لهم فيها حكم أن يؤلفوا لجنة من أهل
العلم والرأي والمكانة في الأمة، تضع لهم القوانين والأحكام التي تدرأ هذه المفاسد
الكثيرة، وتسهل لهم سبل المصالح التي تقتضيها طبيعة زمانهم ومكانهم؛ عملاً
بهدي القرآن الحكيم. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
***
حديث: إن للإسلام صوى ومنارًا
في طرة المنار
(س52) من م. ح. ن. بالحجاز.
المرجو من حضرة الأستاذ الحكيم العالم الرباني سيدي السيد محمد رشيد رضا
أفندي: أن يفيدني عن هذا الحديث (إن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق) في
أي كتاب من الكتب الحديثية المعتبرة هو؟ وفي أي باب هو؟ فصحيح هو أو
ضعيف، ويشرح لي معناه. لا زال في مقام كريم على رغم أنف كل حاسد لئيم ,
أمين.
وقد رأيت في (الرحمة المهداة لمن يريد الزيادة على حديث المشكاة) لنجل
المرحوم السيد صديق حسن خان ملك بهوبال في باب السلام، حديثًا يخالف ما هو
على طرة المنار الأغر (إن للإسلام صوى بينا كمنار الطريق) وهو طويل، ما أعلم
هل الذي على طرة المنار له زيادة، أم هو كما هو على طرة المنار. أرجو
الإفادة عنه سيدي.
(ج) ترون الحديث في الجامع الصغير باللفظ الذي ترونه في المنار، معزو
إلى الحاكم عن أبي هريرة وبجانبه علامة الصحة، وترون بعده حديثًا آخر (إن
للإسلام صوى وعلامات كمنار الطريق، ورأسه وجماعه شهادة أن لا إله إلا الله،
وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وتمامه الوضوء) وهو معزو
إلى الطبراني عن أبي الدرداء وبجانبه علامة الضعف. أما معناه: فالصُّوة بضم
الصاد المهملة، كالكوة: حجر يكون علامة في الطريق، يهتدي به المارة.
والجمع: صوى؛ ككوى، وهو جمع قياسي كغرفة وغرف. قال في لسان العرب:
وفي حديث أبي هريرة (إن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق) . قال أبو عمرو:
الصوى أعلام من حجارة منصوبة في الفيافي والمفازة المجهولة، يهتدي بها المارة.
وقال الأصمعي: الصوى: ما غلظ من الأرض وارتفع، ولم يبلغ أن يكون جبلاً.
قال أبو عبيد: وقول أبي عمرو أعجب إلي، وهو أشبه بمعنى الحديث. اهـ، وقال
في مادة (نور) : والمنار والمنارة موضع النور. ثم قال أيضًا: والمنار العلم
يوضع بين الشيئين من الحدود، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم (لعن الله من
غَيَّر منار الأرض) أي أعلامها، والمنار علم الطريق، وفي التهذيب: المنار: العلم
والحد بين الأرضين. والمنار: جمع منارة؛ وهي العلامة تجعل بين الحدين.
ومنار الحرم أعلامه التي ضربها إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام
على أقطار الحرم ونواحيه، وبها تعرف حدود الحرم، إلى أن قال: وفي الحديث
عن أبي هريرة رضي الله عنه (إن للإسلام صوى ومنارًا) أي علامات وشرائع
يعرف بها اهـ.
ومنه يعلم أن تسمية ما يبنى في المواني ويوضع فيه النور لتهتدي به السفن
ليلاً بالمنار، له وجهان: أحدهما أنه موضع للنور. وثانيهما: أنه علم يهتدى به.
ولكن الناس يسمونه الفنار وهو لفظ أعجمي، لا يبعد أن يكون محرفًا عن المنار.
ويصح أن تسمى الأعلام الحديدية التي توضع في السكك الحديدية؛ لهداية الوابورات
بالمنار أيضًا.
هذا، وإننا قد اقتبسنا اسم المنار من الحديث الشريف تفاؤلاً بأن يكون مبينًا
لصوى الإسلام، وناصبًا لأعلامه، وموضعًا لنور الحقيقة التي نحتاج إليها في
حياتنا الملية والاجتماعية. والله الموفق والمعين.
***
الرخصة لأصحاب الأشغال الشاقة بفطر رمضان والفدية
(س53) من أمين محمد أفندي الشباسي بمصلحة السكة الحديدية بأتبرا
(السودان) .
فضيلة الأستاذ المرشد:
بعد تقديم واجب الاحترام، أرجوكم الجواب على السؤال الآتي: وهو أننا
عمال في مصلحة السكة الحديد السودانية، نشتغل بإجهاد النفس في ورش جدرانها
وأسقفها من حديد، ولا يخفى على فضيلتكم أن موقع السودان وشدة الحرارة
وتأثيرها على تلك الورش شديد جدًّا، كما لا يخفى على فضيلتكم ما لمفعول الأعمال
البدنية من تنشيط الهضم وسرعته، فهل يرخص الشرع الشريف للمسلم الذي تحيطه
مثل هذه الظروف بإفطار شهر رمضان أم لا؟ وإذا رخص الشرع الشريف، فما
الذي يجب على المفطر أداؤه جزاء على هذه الرخصة؟ أفيدونا على صفحات
مناركم الأغر، ولفضيلتكم الثواب.
(ج) جاء هذا السؤال قبل طبع الملزمة الأخيرة من هذا الجزء، فبادرنا إلى
الإجابة عنه من غير مراعاة ترتيب الأسئلة، فنقول: يباح لأصحاب الأعمال الشاقة
التي عليها مدار معيشتهم - إذا كانوا يتحملون مشقة شديدة بالصيام - أن يفطروا
ويطعموا عن كل يوم يفطرونه مسكينًا؛ لأن الحرج مرفوع من الدين بنص القرآن.
وقد ذكر ذلك الفقهاء، كما في شرح المنهاج للرملي (ص339 ج2) ، وبه فسر
الأستاذ الإمام قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين} (البقرة:
184) (راجع 651 م7) ، وأقل ما يطعمه المسكين مد من الطعام، وقدر
بملء كفي الرجل المعتدل من القمح. وإذا غداه أو عشاه معه أو أعطاه ما يكفي
لذلك من الطعام الذي يأكله هو كفى.
__________
(1) القود: القصاص وأقاد من نفسه مكَّنه من القصاص، وأقاد القاتل بالقتيل قتله به.(10/626)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المطبوعات الجديدة
(كتاب غريب القرآن للسجستاني)
كتب علماء الإسلام في غريب القرآن كتبًا كثيرة؛ منها المطول والمختصر،
ومنها المنثور والمنظوم. ومنها مختصر للشيخ أبي محمد بن عزيز السجستاني سماه
نزهة القلوب، وهو مرتب على حروف المعجم ترتيبًا خاصًّا. وقد طبعه في هذه
السنة محمد أفندي الخانجي وشركاؤه طبعًا جميلاً، ضبطت فيه كلمات القرآن في
الأكثر. فجاء كتابًا لطيفًا بشكل صغير يوضع في الجيب، وهو مفيد يفسر الكلمات
غالبًا بالمعنى المراد، وتارة يذكر أصل الاشتقاق.
***
(غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب)
كتاب للشيخ محمد السفاريني الحنبلي المتوفى سنة 1188 شرح منظومة الشيخ
أبي عبد الله محمد بن عبد القوي المرداوي الحنبلي المتوفى بالشام 699، أحد
شيوخ تقي الدين ابن تيمية في العربية. وهذا الشرح يدخل في مجلدين، فيهما من
الأخبار والآثار والفوائد والشوارد ما لا يوجد إلا في الأسفار الكثيرة، فقد كان
السفاريني واسع الاطلاع، حسن الاختيار في الغالب. وقد طبع كتابه هذا الشيخ
عبد الفتاح الحجاوي النابلسي بإذن أحفاد المؤلف. وثمن النسخة منه عشرون قرشًا.
وأجرة البريد في القطر المصري أربعة قروش. وهو يطلب من مكتبة المنار
وغيرها من المكاتب المشهورة.
***
(كتاب الأمالي لأبي عليِّ القالي)
سبق لنا قول في هذا الكتاب النفيس، وهو جزآن يتلوهما جزء لطيف سماه
ذيل الأمالي، وجزء آخر ألطف منه سماه النوادر، وقد تم طبع الجميع في مطبعة
بولاق الأميرية، على نفقة الشيخ إسماعيل بن يوسف صالح بن دياب التونسي
المقيم بمصر.
قلنا في الجزء الأخير من السنة الماضية: إن هذا الكتاب من أفضل كتب
الأدب، وقد عده ابن خلدون أحد أركانها الأربعة التي تعد سائر الكتب فروعًا منها.
والثلاثة الأخرى: أدب الكاتب لابن قتيبة، والكامل للمبرد، والبيان والتبيين
للجاحظ. ففي الكتاب من مختار المنظوم والمنثور للعرب، والمخضرمين وكبار
المولدين. ومن مباحث اللغة والأدب؛ ما هو خير عون على طبع ملكة البلاغة
في نفس من يزاول قراءته. وأما طبعه، فنعيد القول بأنه لم يطبع بمصر فيما نعلم
كتاب بعد المخصص مثله؛ في الضبط والإتقان، مع جودة الورق.
فعسى أن يقبل عليه عشاق الأدب، ولابد أن تبتاع نظارة المعارف طائفة من
نسخه.
***
(سفينة النجاة)
كتاب في النحو، وضعه للتعليم في مدارس (الفرير) أحد أساتذتها (الأخ
بلاج) وهو مؤلف من أربعة أجزاء لطيفة، الأول والثاني: ذكرت فيه المسائل
بأسلوب السؤال والجواب، وضبطت بالشكل التام دون التمرينات الملحقة بها،
وهما لتعليم المبتدئين في السنة الأولى والثانية، ومسائلها تليق بهم. ووضع للثالث
والرابع شروح في هوامشهما، وقد أهدانا المؤلف نسخة من طبعة الكتاب
الرابعة، فإذا هي بمكانة من الجودة والضبط والإتقان. فمتى نجد في الأزهر مثل
هذه الكتب؛ لتسهيل التعليم التي سبق علماءنا إليها الأجانبُ. ولولا أن نظارة
المعارف سبقت إلى مثل هذه الكتب وأن هذا المؤلف أخذ عنها وحذا حذوها،
لساغ لنا أن نقول: إن الأجانب خير منا في خدمة لغتنا.
***
(سفينة البلغاء)
وأهدانا هذا المؤلف أيضًا نسخة من رسالة في علوم البلاغة الثلاثة، سماها
سفينة البلغاء. وهي نحو ستين صفحة فنشكر له هذا وذاك.
***
(التقدم)
جريدة سياسية يومية أنشأها في تونس البشير الفورتي، وبَيَّنَ أن من مقاصدها
الدعوة إلى الاعتصام بالدين والدفاع عنه، وخدمة الجامعة الإسلامية في بذل
النصائح لأهل الوطن في جميع الشؤون، والاعتدال في تنبيه الحكومة إلى ما يجب.
فنحث القراء والكتُّاب على تعضيدها بالإقبال عليها، وإسعادها على هذه الخدمة
الجليلة.
__________(10/635)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(سياسة إيطاليا بمطامعها في بلاد المسلمين)
دولة إيطاليا تحاول مجاراة الدول الاستعمارية، ولكنها تجهل الاستعمار فتسلك
إليه غير طرقه، وتأتيه من غير أبوابه. ومن المعروف المشهور أن لها طمعًا
قديمًا في ولاية طرابلس الغرب العثمانية، وقد علمنا في هذه السنة أن أطماعها قد
تعلقت بولاية اليمن، وأنها منذ زمن غير قريب تدس الدسائس إلى إمام الزيدية فيها
لتقوي عزيمته على محاربة الدولة العلية، وتتوهم أنها تدخل اليمن في ظلمات هذه
الفتنة، فلا يفطن لها أحد. وإن طمعها في اليمن لأدل على جهلها بطرق الاستعمار
من طمعها في طرابلس الغرب، لا لأن عرب اليمن أشجع وأمرن على الحرب من
عرب طرابلس، ولا لأن الزعيم الديني الذي في اليمن سياسي حربي بالفعل،
والزعيم الديني (وهو السنوسي) الذي في صحاري طرابلس ليس كذلك - بل
لأن اليمن والحجاز صنوان، فالدولة التي يستقر سلطانها وقوتها في اليمن تكون
خطرا متصلاً بالحجاز، فأول من يتألب عليها إذا كانت غير مسلمة عرب الجزيرة،
ويجب على جميع المسلمين في جميع أقطار الأرض أن يكونوا عونًا لهم بكل ما
يستطيعون؛ فكأن دولة إيطاليا بطمعها في اليمن تهدد المسلمين بهدم الكعبة،
والقضاء على الإسلام في حرم الله تعالى وحرم رسوله (صلى الله عليه وسلم) .
ومع هذا ترى لبعض خدم هذه الدولة وسائل سياسية تضحك الثكلى؛ يراد
فيها غش المسلمين وإقناعهم بأن إيطاليا محبة للإسلام والمسلمين: منها تلك الهدية
التي أرسلتها إلى السنوسي، وما أمكن أن ترسل إليه إلا باسم رجل مسلم من
مستخدميها، ثم كتب إليه بعد ذلك بأن ملك إيطاليا دفع ثمنها لحبه الشديد في
الإسلام نفسه وفي المسلمين عامة، والسنوسي خاصة! ! ومنها ما ذكرناه في
بعض أجزاء منار هذه السنة من استخدام الشيخ عبد الرحمن عليش في بناء مسجد
وإيقافه ليُصَلَّى فيه على روح (أمبرتو الأول) ملك إيطاليا السابق؛ ليشيعوا
ذلك بين جهلة مسلمي طرابلس واليمن والصوال، والشيخ عليش يصفه بالإيمان
ليوهم الناس أنه كان مسلما! !
ومنها إنشاء مجلة بمصر نصفها عربي ونصفها طلياني، كتب عليها (عربية
تليانية إسلامية) ويدير أعمالها وسياستها رجل طلياني، ويكتب فيها من الخبط
والخلط في الدين والتصوف ما يبكي المسلم الصادق، ويضحك المارق والمنافق.
وأما الحب الذي يضعه مدير سياسة هذا الفخ حوله؛ ليجذب به إليه من يراه من
أغرار المسلمين الذين يشبهون الطير في غرارتها، فهو مدح الإسلام ودعوى إقناع
الأوربيين بفضله، وأي فضيحة على المسلمين أشنع من ثقتهم بأن بعض الأجانب
الذين يخدمون دولة طامعة في بلادهم، هو الذي يبين لأوربا وللمسلمين جميعًا حقيقة
الإسلام وفضله، وهو لا يعرف أحكامه ولا يستخدم إلا الجاهلين بها؟ ولماذا لم
يجعل هذه الخدمة للإسلام بلغات الدول التي يقول: إنها أعدي أعدائه كإنكلترا
وفرنسا، دون لغة أهله العربية ولغة محبيه - بزعمه - الإيطاليون؟
وقد وقع لبعض جرائد المسلمين تقريظ لهذه الصحيفة الخادعة، ولعله كان قبل
التأمل فيها والتفطن لما في أحشائها ومطاويها، فعسى أن لا تعود هي ولا غيرها
إلى ذلك.
***
(حزب الأمة)
انعقدت الجمعية العمومية لشركة (الجريدة) المصرية في 13 شعبان،
فخطب فيهم حسن باشا عبد الرازق (لاعتذار رئيس الجمعية محمود باشا
سليمان عن الحضور بسبب صحي) خطبة سياسية اجتماعية، جمعت بين الحكمة
والبلاغة، قد سمى فيها الجماعة المؤسسة للجريدة بحزب الأمة، وبين مقاصده في
ست جمل كلية، فوافق من حضر على ما قال بإجماع عقب مناقشة. وقد تلقى
العقلاء ظهور هذا الحزب بالقبول، وما زال الناس يدخلون فيه فرادى وثبات.
وفقه الله للخير وأيده بالثبات.
***
(رزء عظيم بعظيم من زعماء المسلمين)
روت الأهرام عن بعض الجرائد الإنكليزية أن الممالك الهندية قد أصيبت
بوفاة النواب محسن الملك الناظم الاعزازي لمدرسة العلوم الكلية في عليكره.
فوجلت منا القلوب لهذا النبأ العظيم والرزء الأليم الذي أصاب المسلمين
عامة في ذلك العقل الحكيم، والقلب الرحيم، والعلم الواسع، والتدبير النافع،
والقلم الكاتب، والرأي الصائب، وأصاب صاحب هذه المجلة بصديق صادق،
ومحب مخلص. وإنني أكتب هذه الكلمات لأحشرها في المجلة، وقد تمت
موادها بعد حذف شيء مما جمع منها، وإن لنا لعودة إلى الكلام عن هذا الرجل
العظيم.
وعسى أن يمن علينا الدكتور ضياء الدين أحمد بترجمة حافلة، له رحمه الله.
***
(الرد على فريد أفندي وجدي)
قد علم قراء المنار أننا ما تصدينا للرد على ما يكتبه محمد فريد أفندي وجدي
إلا لأنه يتكلم في أصول الدين وفروعه بغير علم (إلا ما يقتبسه من المجلات
والجرائد، وبعض الكتب العربية والفرنسية التي ينظر فيها عند الحاجة) وإنه لما
رأى ذلك فزع إلى جريدة اللواء، فأوسعنا فيها سبًّا وشتمًا وتهديدًا ووعيدًا، ومزج
ذلك بشيء من المغالطة، جعلها كالرد لما انتقدنا به كلامه في فلسفة التشريع.
ولكنه رأى أننا رددنا هذه المغالطة ردًّا محكمًا لا يقبل المراء، وأننا لم نبال
بتهديده ووعيده بأنه سيتتبع سقطات المنار، حتى لا يدعنا نرفع رأسًا! بل أظهرنا
له السرور بتصديه لنقد المنار (إن كان يقدر على ذلك) لأن النقد علينا ضالتنا
التي ننشدها دائمًا، فهددنا وتوعدنا في مجلته بأنه قد كتب إلى كثير من علماء
الدين يطلب منهم الرد علينا، وأنه سيطبع ما يرد عليه من ذلك متى كثر في
كتاب ويوزعه، كأنه موقن بأن سيجيبونه إلى ما طلب!! وجعل ذلك خاتمة لمقالة
في السب والشتم والدعوى والتبجح، استغرقت أربع ورقات؛ سماها الدرس الأول،
وقال: (وإني لن أزال ألقي عليه من هذه الدروس ما دام لم يعرف قدره، حتى
يفيق من هواه، ويفيء إلى أمر الله) !! ، ويعني بأمر الله - فيما يظهر - ترك
نصيحته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وإنما أمر الله بالتناصح والتواصي
بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا بترك ذلك. وما رأيت أحدًا من
العقلاء اطلع على كلامه هذا، أو على مقالاته في اللواء، إلا وقال: إنه أهان بها
نفسه إهانة لا يستطيع أن يبلغها منه الأعداء، وإنها أشد عليه من نقد المنار لكلامه
وكأن بعض محبيه بيَّن له ذلك، ونصح له بأنه إذا لم يستطع مقابلة المنار إلا بمثل
هذه الدروس التي هي تبجح وإطراء لنفسه وإزراء بمناظره، فالسكوت أجدر به
وأحفظ لكرامته ولعله يسكت المنار عنه، فكتب إلينا ما يأتي:
مصر في 18 - 9
سنة 1907
إلى حضر الشيخ رشيد:
أرجوكم أن لا ترسلوا إليَّ المنار؛ مادمتم تسبوننا فيه، فقد عزمت أن لا أرد
عليكم، ولا يتم عزمي هذا إلا إذا ابتعدت عن كل ما يثير نفسي! ولو كنت أعلم
أن فيما تقولون ظلاًّ من الحق والصدق، لقرأته صاغرًا. ولكنكم اتخذتم اليوم خطة
أنتم أعلم بمصير السالكين فيها. وقد تكلفت كتابة هذا الخطاب إليكم إبقاء على
مجلتكم من الرد بالبوستة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فريد وجدي
فلينظر أهل الفهم والعقل إلى هذا الكلام، وليعجبوا من قوله - وكله مواضع
عجب - (ولو كنت أعلم أن فيما تقولونه) ... إلخ، فهل يستطيع أحد من خلق لله،
أن يحكم على قول يقال في المستقبل، بأنه ليس فيه ظل من الحق والصدق، إلا
إذا كان موقنًا بأنه يعلم الغيب، وأنه معصوم في كل ما يقول ويكتب؟
لقد كان مما قلته: إن موضوع علم الحديث: كل ما يتعلق بالنبي صلى الله
عليه وسلم من الأقوال والأفعال والصفات ... إلخ، وأنه مخطئ في جعله موضوعه
الأقوال فقط. ومنه تخطئته في قوله: إنه لم يصح عند البخاري إلا كذا حديثًا، إذ
نقلت عن البخاري نفسه أنه صح عنده أكثر من ذلك. فإذا كان أعلم بما صح عند
البخاري من البخاري والحفاظ الذين نقلوا عنه؛ لأنه يعلم الغيب مثلاً، فهل يأتي
ذلك في الحكاية عن الاصطلاحات؛ كموضوع علم الحديث الذي قال فيه عن
المحدثين ما هم مجمعون على خلافه؟ نعم، كان مما قلت: إنه غير صادق في قوله:
إن مشيخة الأزهر قررت كتابه (كنز العلوم واللغة) في الأزهر وملحقاته،
وإنما اشترت مكتبة الأزهر بعض النسخ منه. ثم تبيَّن لي أن أمين المكتبة الأزهرية
لم يشتر هو باستحسانه ولا بأمر شيخ الجامع شيئًا من الكتاب، وأن ما وجد في
المكتبة وظننت أنا أنها ابتاعته منه، فهو مما أرسله إليها ديوان الأوقاف، فإن
بعض أصحاب فريد أفندي سعى له في الديوان، فاشترى الديوان بعض النسخ
وأرسلها إلى مكتبة الأزهر وله العادة في ذلك. ووالله، إنه لم يظهر لي أن شيئًا مما
كتبته مخالف للحق ولو بوجه ما، إلا ذلك الظن بأن مكتبة الأزهر ابتاعت بعض
نسخ ذلك الكتاب ولكن ظهور الحق في ذلك أشد على فريد أفندي وجدي من
خفائه.
__________(10/637)
رمضان - 1325هـ
نوفمبر - 1907م(10/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نموذج من إنجيل برنابا
(3)
الفصل الرابع والتسعون [أ1]
(1) ولما قال يسوع هذا عاد فقال: (إني أشهد أمام السماء وأُشْهِد كل
ساكن على الأرض، أني بريء من كل ما قال الناس عني؛ من أني أعظم من بشر.
(2) لأني بشر مولود من امرأة، وعرضة لحكم الله [ب1] ، أعيش كسائر
البشر عرضة للشقاء العام.
(3) لعمر الله [ت1] الذي تقف نفسي بحضرته، إنك أيها الكاهن لقد أخطأت
خطيئة عظيمة بالقول الذي قلته.
(4) ليطف [ث1] الله بهذه المدينة المقدسة حتى لا تحل بها نقمة عظيمة لهذه
الخطيئة) .
(5) قال حينئذ الكاهن: (ليغفر لنا الله [ج1] . أما أنت فصل لأجلنا) .
(6) ثم قال الوالي وهيرودس: (يا سيد، إنه لمن المحال أن يفعل بشر ما
أنت تفعله؛ فلذلك لا نفقه ما تقول) .
(7) أجاب يسوع: إن ما تقوله لصدق، إن الله يفعل صلاحًا بالإنسان،
كما أن الشيطان يفعل شرًّا.
(8) لأن الإنسان بمثابة حانوت من يدخله برضاه يشتغل ويبيع فيه.
(9) ولكن قل لي أيها الوالي وأنت أيها الملك، أنتما تقولان هذا لأنكما
أجنبيان عن شريعتنا؛ لأنكما لو قرأتما العهد وميثاق إلهنا [1] ، لرأيتما أن موسى
حول بعصاه البحر دمًا، والغبار براغيث، والندى زوبعة، والنور ظلامًا.
(10) أرسل الضفادع والجرذان على مصر فغطت الأرض، وقتل الأبكار، وشق البحر وأغرق فيه فرعون.
(11) ولم أفعل شيئًا من هذه.
(12) وكل يعترف بأن موسى إنما هو الآن رجل ميت.
(13) أوقف [2] يوشع الشمس وشق الأردن وهما مما لم أفعله حتى الآن.
(14) وكل يعترف بأن يوشع إنما هو الآن رجل ميت.
(15) وأنزل إيليا النار من السماء [3] عيانًا، وأنزل المطر [4] ، وهما مما لم
أفعله.
(16) وكل يعترف بأن إيليا إنما هو بشر.
(17) كثيرون آخرون من الأنبياء والأطهار وأخلاء الله فعلوا بقوة الله
أشياء لا تبلغ كنهها عقول الذين لا يعرفون إلهنا [أ2] القدير الرحيم المبارك إلى
الأبد) .
***
الفصل الخامس والتسعون [ب2]
(1) وعليه فإن الوالي والكاهن والملك، توسلوا إلى يسوع أن يرتقي مكانًا
مرتفعًا ويكلم الشعب تسكينًا لهم.
(2) حينئذ ارتقى يسوع أحد الحجارة الاثنى عشر، التي أمر يوشع الاثني
عشر سبطًا؛ أن يأخذوها من وسط الأردن عندما عبر إسرائيل من هناك، دون أن
تبتل أحذيتهم [5] .
(3) وقال بصوت عال: (ليصعد كاهننا إلى محل مرتفع حيث يتمكن من
تحقيق كلامي)
(4) فصعد من ثم الكاهن إلى هناك.
(5) فقال له يسوع بوضوح يتمكن كل واحد من سماعه (قد كتب في عهد
الله الحي [ت2] [6] وميثاقه أن ليس لإلهنا بداية [ث2] ولا يكون له نهاية [ج2] ) .
(6) أجاب الكاهن: (لقد كتب هكذا هناك) .
(7) فقال يسوع: (إنه كتب هناك أن إلهنا [ح2] قد برأ كل شي بكلمته [خ2] [7]
فقط) .
(8) فأجاب الكاهن: (إنه لكذلك) .
(9) فقال يسوع: (إنه مكتوب هناك أن الله لا يُرى [أ3] وأنه محجوب [ب3]
عن عقل الإنسان؛ لأنه غير متجسد [ت3] وغير مركب، وغير متغير [ث3] ) .
(10) فقال الكاهن: (إنه لكذلك حقًّا) .
(11) فقال يسوع: (إنه مكتوب هناك، كيف أن سماء السموات لا تسعه [8]
لأن إلهنا غير محدود [ج3] .
(12) فقال الكاهن: (هكذا قال سليمان النبي يا يسوع) .
(13) قال يسوع: (إنه مكتوب هناك أن ليس لله حاجة؛ لأنه لا يأكل،
ولا ينام، ولا يعتريه نقص [ح3] ) .
(14) قال الكاهن: (إنه لكذلك) .
(15) قال يسوع: (إنه مكتوب هناك أن إلهنا في كل مكان وأن لا إله
سواه [خ] الذي يضرب ويشفي، ويفعل كل ما يريد [9] ) .
(16) قال الكاهن: (هكذا كتب) .
(17) حينئذ رفع يسوع يديه وقال: (أيها الرب إلهنا [د3] هذا هو إيماني
الذي آتي به إلى دينونتك، شاهدًا على كل من يؤمن بخلاف ذلك) .
(18) ثم التفت إلى الشعب وقال: (توبوا؛ لأنكم تعرفون خطيئتكم من
كل ما قال الكاهن، إنه مكتوب في سفر موسى عهد الله إلى الأبد.
(19) فإني بشر منظور، وكتلة من طين تمشي على الأرض، وفانٍ كسائر
البشر.
(20) وإنه كان لي بداية وسيكون لي نهاية، وإني لا أقدر أن أبتدع خلق
ذبابة) .
(21) حينئذ رفع الشعب أصواتهم باكين وقالوا: (لقد أخطأنا إليك أيها
الرب إلهنا [أ4] فارحمنا [ب4] ) .
(22) تضرع كل منهم إلى يسوع ليصلي لأجل أمن المدينة المقدسة؛
لكيلا يدفعها الله في غضبه؛ لتدوسها الأمم [ت4] .
(23) فرفع يسوع يديه وصلى لأجل المدينة المقدسة ولأجل شعب الله
وكل يصرخ: (ليكن كذلك آمين) .
***
الفصل السادس والتسعون [ث4]
(1) ولما انتهت الصلاة قال الكاهن بصوت عال: (قف يا يسوع لأنه
يجب علينا أن نعرف تسكينًا لأمتنا) .
(2) أجاب يسوع: (أنا يسوع ابن مريم [ج4] من نسل داود، بشر مائت
ويخاف الله، وأطلب أن لا يعطى الإكرام والمجد إلا لله) .
(3) أجاب الكاهن: (إنه مكتوب في كتاب موسى أن إلهنا سيرسل لنا
مسيَّا [ح4] الذي سيأتي ليخبرنا بما يريد الله، وسيأتي للعالم برحمة الله.
(4) لذلك أرجوك أن تقول لنا الحق: هل أنت مسيَّا [خ4] الله الذي
ننتظره؟) .
(5) أجاب يسوع: (حقًّا، إن الله وعد هكذا. ولكني لست هو؛ لأنه خلق
قبلي، وسيأتي بعدي [10] .
(6) أجاب الكاهن: (إننا نعتقد من كلامك وآياتك على كل حال أنك نبي،
وقدوس الله.
(7) لذلك أرجوك باسم اليهودية كلها وإسرائيل أن تفيدنا حبًّا في الله، بأيَّة
كيفية سيأتي مسيَّا) .
(8) أجاب يسوع: (لعمر الله [أ5] الذي تقف بحضرته نفسي، أني لست
مسيَّا الذي تنتظره كل قبائل الأرض، كما وعد الله أبانا إبراهيم [11] قائلاً: بنسلك
أبارك كل قبائل الأرض.
(9) ولكن عندما يأخذني الله من العالم، سيثير الشيطان مرة أخرى هذه الفتنة
الملعونة، بأن يحمل عادم التقوى على الاعتقاد بأني الله، وابن الله.
(10) فيتنجس بسبب هذا كلامي وتعليمي، حتى لا يكاد يبقى ثلاثون
مؤمنًا.
(11) حينئذ يرحم الله العالم، ويرسل رسوله الذي خلق كل الأشياء لأجله.
(12) الذي سيأتي من الجنوب بقوة [ب5] وسيبيد الأصنام وعبدة الأصنام.
(13) وسينتزع من الشيطان سلطته على البشر.
(14) وسيأتي برحمة الله لخلاص الذين يؤمنون به.
(15) وسيكون من يؤمن بكلامه مباركًا) .
***
الفصل السابع والتسعون [ت5]
(1) (ومع أني لست مستحقًّا أن أحل سير حذائه [12] قد نلت نعمة
ورحمة من الله لأراه) .
(2) فأجاب حينئذ الكاهن مع الوالي والملك قائلين: لا تزعج نفسك يا يسوع
قدوس الله؛ لأن هذه الفتنة لا تحدث في زماننا مرة أخرى.
(3) لأننا سنكتب إلى مجلس الشيوخ الروماني المقدس بإصدار أمر ملكي
أن لا أحد يدعوك فيما بعد: الله أو ابن الله) .
(4) فقال حينئذ يسوع [أ6] : (إن كلامكم لا يعزيني؛ لأنه يأتي ظلام حيث
ترجون النور.
(5) ولكن تعزيتي هي في مجيء الرسول الذي سيبيد كل رأي كاذب فيَّ
وسيمتد دينه ويعم العالم بأسره؛ لأنه هكذا وعد الله أبانا إبراهيم.
(6) وإن ما يعزيني هو أن لانهاية لدينه [ب6] لأن الله سيحفظه [ت6]
صحيحًا) .
(7) أجاب الكاهن: (أيأتي رسل آخرون بعد مجيء رسول الله [ث6] ؟) .
(8) فأجاب يسوع: (لا يأتي بعده أنبياء صادقون مرسلون من الله.
(9) ولكن يأتي عدد غفير من الأنبياء الكذبة، وهو ما يحزنني.
(10) لأن الشيطان سيثيرهم بحكم الله [ج6] العادل، فيتسترون بدعوى
إنجيلي) .
(11) أجاب هيرودس: (كيف أن مجيء هؤلاء الكافرين يكون بحكم الله
العادل؟) .
(12) أجاب يسوع: (من العدل أن من لا يؤمن بالحق لخلاصه يؤمن
بالكذب للعنته (13) لذلك أقول لكم [ح6] : إن العالم كان يمتهن الأنبياء
الصادقين دائمًا وأحب الكاذبين، كما يشاهد في أيام ميشع وأرميا [13] لأن الشبيه
يحب شبيهه [خ6] ) .
(13) فقال حينئذ الكاهن: (ماذا يسمى مسيّا؟ وما هي العلامة التي
تعلن مجيئه [أ7] ؟) .
(14) أجاب يسوع: (إن اسم مسيَّا [ب7] عجيب؛ لأن الله نفسه سماه لما
خلق نفسه، ووضعها في بهاء سماوي (15) قال الله: (اصبر يا محمد [ت7] لأني
لأجلك [ث7] أريد أن أخلق [ج7] الجنة والعالم، وجمًّا غفيرًا من الخلائق التي أهبها لك،
حتى إن من يباركك يكون مباركًا، ومن يلعنك يكون ملعونًا.
(16) ومتى أرسلتك [ح7] إلى العالم أجعلك رسولي للخلاص، وتكون
كلمتك صادقة، حتى إن السماء والأرض تهنان. ولكن إيمانك لا يهن أبدًا.
(17) إن اسمه المبارك محمد) .
(18) حينئذ رفع الجمهور أصواتهم قائلين: (يا اللهم، أرسل [خ7] لنا
رسولك [د7] يا محمد [ذ7] تعال سريعًا لخلاص العالم!) .
***
الفصل الثامن والتسعون [ر7]
(1) ولما قال هذا انصرف الجمهور مع الكاهن، والوالي مع هيرودس،
وهم يتحاجون في يسوع وتعليمه.
(2) لذلك رغب الكاهن إلى الوالي أن يكتب بالأمر كله إلى رومية إلى
مجلس الشيوخ، ففعل الوالي كذلك.
(3) لذلك تحنن مجلس الشيوخ على إسرائيل، وأصدر أمرًا أنه
ينهى ويتوعد بالموت كل أحد يدعو يسوع الناصري نبي اليهود - إلهًا أو ابن الله.
(4) فعلق هذا الأمر في الهيكل منقوشًا على النحاس ... إلخ.
__________
(أ1) سورة المؤمنين.
(ب1) الله حكيم.
(ت1) الله حي.
(ث1) استغفر الله.
(ج1) بلاء على فرعون وغرق ذكر منه.
(1) خر7.
(2) بش 10: 12 -14.
(أ2) الله قدير على كل شيء والرحمن.
(ب2) سورة لا إله إلا الله.
(ت2) الله حي.
(ث2) الله قديم.
(ج2) الله باق.
(ح2) الله خلق.
(خ2) خلق: الله كل شيء في كلام واحد منه.
(3) 1 مل 18: 38 و 39.
(4) امل 18: 41.
(5) يش 4: 8.
(6) مز 90: 2.
(7) مز 33: 6.
(أ3) الله لا تدركه الأبصار.
(ب3) الله خفي.
(ت3) لا بدن له.
(ث3) لا يخلف الله منه.
(ج3) الله عظيم.
(ح3) الله غني.
(خ3) قال عسى لا غير إله إلا إله أنا منه.
(د3) الله سلطان.
(8) امل 8: 27.
(9) تث 32: 39.
(أ4) الله سلطان.
(ب4) أستغفر الله.
(ت4) الله قهار.
(ث4) سورة المبشر.
(ج4) قال عيسى أنا عيسى بن مريم.
(ح4) الله مرسل روسل (رسول) .
(خ4) رسول.
(10) يو: 1: 15.
(أ5) بالله حي.
(ب5) في لسان لاتن لود إبليس.
(ت5) سورة محمد رسول الله.
(11) تك 22: 18.
(12) مر 1: 7.
(أ6) قال عيسى صفائنا جئة رسول الله؛ لأنه إذ جاء في الدنيا، يرفع اعتقاد السوء من أهل الدنيا لنا، ودينه يضبط جمع للدنيا لدينا منه.
(ب6) دين رسول الله أبدي؛ لأنه تعالى يحفظ دينه منه.
(ت6) الله حافيظ.
(ث6) رسول الله خاتم الأنبياء.
(ج6) حكم الله عادل.
(ح6) وإلى بني آدم.
(خ6) الجنس مع الجنس منه.
(13) ؟ أر 26: 18.
(أ7) جات طائفة من اليهود عيسى، يسألون عن اسم النبي الذي يبعث في آخر الزمان فقال عيسى: إن الله تعالى خلق النبي في آخر الزمان، ووضعه في قنديل من نور وسماه محمدًا. قال يا محمد اصبر لأجلك خلقًا كثيرًا وهبت لك كله، فمن رضي منك فأنا راض منه، ويبغضك فأنا بريء منه، فإذا أرسلت يفوق كلامك على كل الكلام، وشريعتك باق إلى أبد الآبدين.
(ب7) رسول.
(ت7) محمد.
(ث7) الله محب ووهاب.
(ج7) الله خالق.
(ح7) الله مرسل.
(خ7) الله مرسل.
(د7) رسول الله.
(ذ7) يا محمد.
(ر7) سورة طاعم (طعام) .(10/651)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطبة إسماعيل بك غصبر نسكي
تلاها باللغة التركية في فندق الكونتننتال بالقاهرة على نحو ثلاث مائة
رجل من جميع الطبقات المتعلمة (ماعدا الأمراء) وقرأ ترجمتها بالعربية الشيخ
عبد الوهاب النجار:
شيء من أحوال المسلمين في البلاد الروسية
نشأت لمسلمي روسيا في الأزمان السالفة دولتان كبيرتان: إحداهما دولة
(ألتون أوردو) وكانت عاصمتها مدينة (سراي) قرب بحر قزوين، والأخرى
الدولة التيمورية. ولما سقطت هاتان الدولتان الكبيرتان، وقامت على أنقاضهما
خانات (إمارات) صغيرة متعددة وهي: إمارة سيبيريا، وإمارة قزان، وإمارة
إستراخان وإمارة قريم وإمارات القافقاس، نشأت في آسيا الوسطى إمارات بخارى
وخيوا وخوقند وعدة جمهوريات صغيرة - إذا صح هذا التعبير - في تخوم الدولة
الإيرانية الشمالية.
ثم دار الزمان دورته، وحمَّ لإمارتي بخارى وخيوا أن تصيرا داخل حدود
الممالك الروسية، وتدخلا تحت حمايتها. وأما بقية الإمارات فقد استولت عليها
الروس استيلاءً كاملاً، وصارت الآن ولايات روسية صرفة.
أول الإمارات سقوطًا هي إمارة قزان وسيبيريا. وأما الجمهوريات التركمانية فلم تخضعها الروس إلا في العهد الأخير.
نزل معظم مسلمي روسيا في آسيا وفي القافقاس، وقسم عظيم منهم يقطنون
الولايات الداخلية والشرقية من أوربا الروسية، وقليل في شبه جزيرة قريم وعدد
المسلمين الساكنين في القافقاس الشرقية وداغستان، وفي تركستان تسعون
في المائة بالنسبة لغيرهم من الشعوب هناك. وأما في سيبيريا فهم الأقلون.
الساكنون منهم في الولايات الشرقية من أوربا الروسية يختلطون بالروس وسائر
الأجناس. وهم الأكثرون في ولاية أوفا، إذ هم هناك سبعون في المائة بالنسبة
لغيرهم.
وأما عدد مجموعهم فهو يناهز - بحسب إحصاء سنة 1897 - سبعة عشر
مليون نسمة. وإذا ضممنا إليها أهل بخارى وخيوا جاوز عددهم 20 مليونًا.
ولا ينبغي أن يفوتنا العشرة الملايين من الترك الساكنين في تركستان الصينية
(كشغر) الذين تجمعهم ومسلمي روسيا أواصر اللغة والآداب، وبذلك تألف هناك
(مجتمع جنسي) مؤلف من ثلاثين مليون نسمة.
تسعة وعشرون مليونا من هؤلاء سنيون ومليون واحد شيعيون. وأما من
حيث الجنسية واللغة؛ فكلهم ترك سوى ثمانمائة ألف من قبائل الشراكسة القاطنين
في جبال القافقاس، ولهم مع ذلك إلمام بالغة التركية.
يشتغل مسلمو روسيا بالزراعة وتربية المواشي، وبالتجارة بحسب ما تسمح
لهم مواطنهم. وكانت لهم في سالف الأيام صناعات تذكر. ولكنها أخذت تسقط
رويدًا رويدًا من مكانتها الأولى بمزاحمة مصنوعات المعامل الأوروبية الحديثة،
كما هي الحال في الأقطار الإسلامية قاطبة. والقريميون منهم معروفون بتعهد
البساتين، وإنماء الفواكه المختلفة الطيبة.
والقوقاسيون أو القافقاسيون يشتغلون في الغالب بتربية دود القز، وصنع
البسط والطنافس الجيدة. وقد انتشرت بينهم في العهد الأخير زراعة القطن انتشارًا
عظيمًا.
وأما التركستانيون فيقومون على تربية دود القز، وإنماء الفواكه وزارعة
القطن.
والجهات الشمالية من آسيا الوسطى عبارة عن القفار والأراضي القاحلة،
ويندر فيها الماء العذب السائغ، وتتقلب في أرجائها قبائل رحالة بمواشيها وأنعامها.
في ولايات أوربا الروسية والقوقاس أربع مشيخات إسلامية. ثلاث منها
للسنيين وواحدة للشيعة. ولدى كل مشيخة مفتٍ (أو شيخ إسلام) وثلاثة قضاة أو
أعضاء، وتنظر هذه المشيخات في الأمور الدينية البحتة: كالنكاح والطلاق،
والمواريث والنسب، وتقسيم التركات. وتوزع السجلات على أئمة المساجد كي
يثبتوا فيها المواليد والوفيات، وعدد الطلاق والنكاح، وما إليها مما يقع في أحيائهم
وتقسم التركات الإسلامية في روسيا على وفق الشريعة الإسلامية وكذلك الوصايا
الإسلامية، لا يمسها القانون الروسي بسوء.
في كل قرية إسلامية - في أوربا الروسية وفى القريم - مسجد وكُتَّاب. وأما
القرى الكبرى ففيها عدة مساجد وعدة كتاتيب.
وفي أوربا الروسية والقوقاس سبعة آلاف مسجد وثمانية آلاف كُتَّاب، وما
ينيف على مائة مدرسة دينية، وأكثر مسلمي روسيا عناية بأمور التعليم
والمدارس، المسلمون الساكنون في الولايات الداخلية الروسية.
وعدد المتعلمات من البنات في الكتاتيب يساوي ثلث المتعلمين من الذكور.
ومما يحسن ذكره هنا أن جماعة من الفتيات المسلمات يتعلمن في مدارس البنات
التجهيزية الرسمية. وكذلك تتعلم اليوم في القسم الطبي من جامعة بطرسبورغ أربع
عشرة فتاة مسلمة. وقد كانت أكملت دروس الطب فيها فتاتان مسلمتان، وهما
تمارسان اليوم صناعة الطب. وكان دخول السيدة (رضية) إحدى تينك الطبيبتين
في الجامعة بسعي المرحوم شاكر باشا السفير السابق للدولة العثمانية في بطرسبورغ.
وليس لدي الآن تفصيل بشأن الكتاتيب والمدارس الإسلامية في آسيا الروسية.
ولكني أعلم أن المدارس الدينية كثيرة، ملأى بطلاب العلوم في مدينة بخارى
وخوقند وسمرقند وغيرها من حواضر البلاد التركستانية.
وإني لا أتمالك أن أذكر هنا بكل أسف أن تلك المدارس، لا تبرح تسود فيها
الفوضى والخلل في طرق التعليم. ومن أجل ذلك لا تأتي بفوائد يقتضيها هذا الزمان
ونطاق برجراماتها أضيق من أفكار الأساتذة القائمين فيها بالتعليم والتدريس،
وليست بيننا إلى الآن مدارس للمعلمين والمعلمات. ولكن فكرة إنشاء المدارس من
هذا القبيل قد حدثت في العهد الأخير.
انتشرت بين مسلمي الروس فكرة الارتقاء والتمدن منذ رُبْع قرن انتشارًا يذكر
ومن ثمرات هذه الفكرة أنهم جعلوا في العهد الأخير، يصلحون كتاتيبهم ومدارسهم
وينشرون المؤلفات المفيدة في العلوم العصرية والأدبيات التركية، وطفقوا ينشئون
المعاهد العامية على الطراز الحديث، ويرسلون التلاميذ إلى المدارس الروسية
والأوروبية، وإلى الآستانة ومصر؛ لتلقي العلوم الحديثة العصرية والعلوم
العربية والدينية. ويناهز عدد الكتب المنتشرة بين مسلمي روسيا في العلوم
العصرية والأدبية نحو خمس مائة كتاب.
وعدد المطابع الإسلامية الموجودة في روسيا كما يأتي:
ثلاث في بطرسبورغ، وثلاث في قزان، واثنتان في تفليس، وثنتان في باكو
وواحدة في باغجة سراي وفي قزان ثلاث مطابع روسية ذات حروف عربية،
فيكون المجموع ثلاث عشرة مطبعة. وأما الصحف المنتشرة الإسلامية في البلاد
الروسية فهي: صحيفتان في بطرسبورغ، وأربع في قزان، وثلاث في أورنبورغ
وثلاث في باكو، وواحدة في طاشقند قاعدة تركستان اليوم، وواحدة في تفليس،
وواحدة في باغجه سراي، واحدة من هذه الصحف تصدر باللغة العربية والبقية
بالتركية. وإحدى الصحف التركية تكتب بلهجة تقرب من لهجة الترك العثمانيين،
والبقية تكتب الآن بلغات تركية مختلفة باختلاف الأقاليم. والرجاء أن تتحد لغات
هذه الصحف أو تتقارب كل التقارب في مستقبل قريب أو بعيد. وهذا الاتحاد
اللغوي غاية ما يرمي إليه المصلحون والمنورون منا. وثلاث صحف من تلك
الصحف علمية أدبية والبقية سياسية أيضًا. وأما من جهة الخطة فثلاث عشرة
صحيفة منها وطنية معتدلة، وثنتان ترميان إلي غاية (اشتراكية ديمقراطية) .
وفي روسيا اثنتا عشرة جمعية خيرية إسلامية، غرضها إسعاف المعوزين،
والأخذ بأيدي البائسين والمساكين، ولها قوانين مصدق عليها من الحكومة.
ويتجاوز عدد الكتاتيب التي أصلح أمرها ألف كتاب، تعلم فيها القراءة التركية
والكتابة، والقرآن والعقائد الدينية، ومبادئ الحساب والجغرافية والتاريخ الإسلامي
وشيء من علم حفظ الصحة.
وأما المدارس الدينية فقد أصلحت منها مدرسة في قزان، وأخرى في
أورنبورغ، وثالثة في أوفا. وفي تلك المدارس تدرس اليوم العلوم الرياضية
والطبيعية، وتقويم البلدان والتاريخ. دع عنك العلوم العربية والدينية بأنواعها.
ولقد نشأ لمسلمي روسيا أفراد جادوا بأموالهم وأنفس أملاكهم؛ في سبيل
ترقية المعارف وإعلاء قدر الأمة والملة. وأخص بالذكر من بينهم المرحوم الحاج
نعمة الله قراميشف السيبيري الذي بذل أموالاً طائلة في سبيل إنشاء مائة كتاب
ومائة مسجد، وأنفق مبلغًا عظيمًا لتأسيس مكتبة عامة، أودعها أنفس الكتب
وأندر الآثار أكرم الله مثواه وأحله مقامًا كريمًا.
وأنفق التاجر القزاني المرحوم أحمد الحسيني في إنشاء معاهد العلم وترقية
المعارف ثلاثمائة ألف روبل. وأنشأ شقيقه عبد الغني الحسيني مائتي كُتَّاب على
نسق حديث، وقد نشر بهمته الشمَّاء فكرة إصلاح الكتاتيب، وكذلك الأصول الحديثة
المعروفة بالأصول الصوتية التدريجية إلى تخوم الصين؛ وذلك بإنشاء الكتاتيب في
تلك الديار النائية، كما أنشأها في الولايات الروسية المتوسطة، جزاهم الله عنا
وعن العلم والفقراء جزاء حسنا.
وممن تقضي علينا الإنسانية أن نذكر اسمه مقرونًا بالإجلال والاحترام الحاج
زين العابدين تاغييف الباكوي؛ لأن خدمة هذا المثري الكريم في سبيل نشر العلم
وإسعاد الفقراء، أكثر وأجزل.
أنشأ هذا الرجل في داغستان مائة مسجد ومائة كتاب. وأنشأ في ضواحي
مدنية باكو حقلاً أنموذجيًّا. وأنشأ للدفاع عن الحقوق الوطنية جرائد متعددة باللغة
الروسية والتركية.
وبذل ملايين من الروبلات لتعليم أناس كثيرين في الجامعات الروسية
والأوروبية. وما معظم الأطباء والمحامين والمهندسين المسلمين الذين نفتخر بهم،
إلا من آثار همة هذا الرجل الكريم. ولم ينس هذا الرجل العظيم المسلمات أيضًا،
فقد أنشأ في مدينة باكو مدرسة شامخة للبنات، أنفق على بنائها فقط عشرين ألف
جنيه. ووقف عليها وقفًا يأتي بإيراد قدره ثلاثون ألف جنيه سنويًّا، ولا يبعد أن
تصبح هذه المدرسة ذات يوم (المدرسة الجامعة) للإناث.
ولم يجتزئ هذا الرجل بمساعدة من في روسيا فقط، بل مد يد المعونة إلى
إيران أيضًا. وقد طبعت هناك كتب جمة على نفقة هذا الرجل الكريم. ويقدر ما
ساعد به المنكوبين والبائسين في البلاد الفارسية بمليون روبل وزيادة.
أيها السادة: شاركوني في الدعاء لهذا الرجل الناصح للإنسانية، والخادم
للفضيلة. أطال الله بقاءه وحفظه من كوارث الزمان.
وأما الأغنياء الذين أنشأوا كتابًا أو كتابين، ومدرسة أو مدرستين فهم كثيرون
جدًّا، يتعذر عليَّ الآن إحصاؤهم، وما الخطوة التي خطوناها إلى الأمام في ميدان
التقدم، إلا بفضل هذه الكتاتيب والمدارس التي أسست، ووصلت بهمة أمثال من
ذكرنا أسماءهم من أولي الهمم العالية، إلى ما وصلت.
وها قد آن لنا أن نوجه وجه الكلام إلى الأمور التجارية والاقتصادية.
إن لدى المسلمين الساكنين في آسيا الوسطى وأوروبا الروسية قوة تذكر في
هذا الشأن. ولكنه لابد من إعدادها وتنميتها بنشر العلوم والمعارف بينهم؛ لأن
الأقوام الذين يتفق للمسلمين أن يباروهم في ساحة الأعمال التجارية، أشداء أقوياء
فيما يمارسون. فلمسلمي روسيا - عدا من يسكنون منهم الولايات الداخلية - من
الأراضي ما يكفيهم للاستغلال. وقد تولدت بينهم فكرة الحرص عليها، وعدم تمكين
الآخرين منها، تولدًا يبشر بحسن المغبة إن شاء الله. وأهل تركستان بارعون جدًّا في
أمور الفلاحة والزراعة. لا يقدر على نزع الأرض الغالة من أيديهم - من الوجهة
الاقتصادية - لا الروس، ولا مهاجرو الألمان.
وهم يكدحون في أمر الزراعة كدحًا، لا يعرفون فيه الملل والسآمة. فهم
يشبهون المصريين من هذه الوجهة كل الشبه. ولكن أراضيهم الغالة أكثر وأفسح من
أراضي القطر المصري. ونصف القطن الذي تحتاج إليها معامل المنسوجات
الروسية يرد من الخارج. وأما النصف الآخر فهو ثمرة كدح أهل تركستان وحدهم
فزراع القطن في تركستان يجلبون من روسيا الأوروبية إلى بلادهم مبالغ طائلة.
وأما المسلمون القاطنون في مدينة قزان وما يتاخمها من البلدان، فلهم كثير من
معامل الصابون والجلد. ومن معامل الجوخ ما فيه ثلاثة آلاف عامل. ومن جملتها
معامل (آقجورين) المثري المسلم الشهير. وتبيع هذه المعامل سنويًّا إلى الجيش
الروسي من الجوخ، ما يناهز مليون متر، وللمثري الشهير الحاج زين العابدين
تاغييف الذي تقدم ذكره معمل للمنسوجات القطنية فيه أربعة آلاف عامل. وأكثرهم
من المسلمين. وكذلك المهندسون وزعماء العمال فيها. وأما مديرها فكان من قبل
إنكليزيا، ولم تبق اليوم حاجة إلى الإنكليزي؛ إذ صاحبها يديرها بنفسه. وهناك
بيوت تجارية إسلامية كبيرة تشتغل باستخراج النفط والبترول، يبلغ ما يتعامل به
أحدهم عشرة ملايين روبل.
وأكثر السفن التي تسير في بحر قزوين ملك للمسلمين.
والفواكه الطيبة التي تتفكه بها روسيا كافة، تؤتي أكلها في بساتين المسلمين
في القريم. لا يظن ظان أن ذلك ارتقاء عظيم وتقدم عميم لأن كل ما ذكرناه عن
مسلمي روسيا هو شيء طفيف تافه جدًّا بالنسبة إلى الأمم الراقية الحية، التي تخطو
في مهيع التقدم والارتقاء بخطا العفاريت، وتهتدي إلى أسباب النجاح والفلاح اهتداء
الخريت، وتمضى في سبيل الخير والصلاح مضاء الاصليت.
ولكنه لا ينبغي لنا أن نيأس ونتقاعد عن النظر فيما يرقى شؤوننا ويصلح حالنا
إذ كل من سار على الدرب وصل.
ولا شك أن مسلمي روسيا يستفيدون ويفيدون من الانقلاب الذي حدث في
روسيا، ومن دستورها الذي هو ثمرة ذلك الانقلاب استفادة كبيرة. وقد تنبهت أفكار
الأمة في السنين الثلاث الأخيرة تنبهًا عظيمًا، واتسع نطاق الآمال اتساعًا جسيمًا،
حقًا إن انقلاب روسيا أثر تأثيرًا يذكر في مسلمي روسيا، وأتاهم بفوائد جمة.
ولست الآن بمكتف بتعداد تلك الفوائد جملة، بل أحب أن أذكر هنا أهمها وأعودها
عليهم برادة.
أيها السادة: إن مسلمي روسيا أنشأوا لأنفسهم حزبًا سياسيًّا دستوريًّا ديمقراطيًّا
باسم (اتفاق مسلمي روسيا) فاجتمع مندوبو المسلمين في الولايات المختلفة في
أغسطس سنة 1905 في مدينة (نيجني نوفغورد) غير أن الوالي لم يسمح بعقد
الاجتماع رسميًّا. ولم يكن الوقت ليتسع لتحصيل الإذن من العاصمة. فعقد
المندوبون اجتماعهم على ظهر باخرة استأجروها للتنزه عليها في نهر (فولجا) .
فقررت الآراء في ذلك الاجتماع إنشاء (حزب اتفاق المسلمين) وإنشاء فروع
له في الولايات للذب عن حقوق المسلمين السياسية والاقتصادية والأدبية.
وقد أنشئت لهذا الحزب الذي يتقوى يومًا فيومًا، فروع في بعض الولايات
بالفعل، ورفعت قوانينها إلى الحكومة لتصادق عليها. وكذلك عقد المسلمون سنة
1906 اجتماعًا غير رسمي في بطرسبورغ، وآخر رسميًّا في نجني نوفغورد
وبلغ عدد الحاضرين في الاجتماع الثالث سبع مائة رجل، وامتدت مدة المفاوضة
والمناقشة خمسة أيام.
وبفضل هذه الاجتماعات انتشرت الأفكار السياسية بين المسلمين انتشارًا
زائدًا، فتسنى لهم أن ينتخبوا منهم أربعة وعشرين نائبًا للدوما الأولى، و 36 نائبًا
للدوما الثانية، ولا يسعنا هنا إلا الاعتراف بأن هذا النجاح الباهر في الانتخاب في
تينك المرتين لم يحصل بهمتنا فقط، بل كان فيه للقوانين العادلة ومعاملة أحرار
الروس لنا معاملة شريفة، تأثير كبير لا ينكر.
نعم، إن أحزاب التقهقر من الروس ينظرون إلى (اتفاق المسلمين) نظر
المغتاظ المستشيط. ولكنه غير خارج عن دائرة القانون حتى تكرهه الحكومة،
وليس حزبًا يسعى لإيقاع التفرقة بين الرعايا الروسيين، حتى ينفر منه الأحرار من
الروس. ومما يحسن ذكره هنا؛ أن المسلمين يعيشون مع الروس على غاية من
الوفاق والوئام. وأمة الروس كثيرة الجنوح إلى الائتلاف والسلام. وهم لا ينظرون
إلى المسلمين نظر الممتهن المزدري، بل يعاملونهم معاملة القرين لقرينة، وأبواب
الجمعيات العلمية والأدبية والأندية والمدارس كلها مفتحة في وجوه المسلمين، إذا هم
رغبوا في اللحاق بأهلها.
نعم قد حدث في الأيام الغابرة بتأثير الكنيسة وجماعة المبشرين بعض الحوادث
المؤلمة. ولكنها قد زالت أسبابها بعد أن أعلنت الحرية كل الزوال،
ونؤمل أن تتحسن أحوالنا في المستقبل أكثر مما تحسنت. رأينا كثيرين ممن أكرهوا
زمن الاستبداد على التنصر، قد عادوا إلى الإسلام، وكذلك انتحل الإسلام أناس من
الروس الأصليين رجالاً ونساء. والفضل في ذلك كله للحرية التي ترقى بها الأمم،
وتكمل الإنسانية.
مسألة التعليم العام
إذا أرادت معظم أمم الأرض أن تدخل في دور التمدن والرقي، يكفيها النظر
في مستقبلها فقط. وعلى العكس من ذلك الأمة الإسلامية، فإنها مطالبة بأن تمد
بنظرها إلى الماضي أيضًا، فليس في الأمم الأخرى في غابر أزمانها ما يستدعي
الالتفات نحوه.
أما الأمة الإسلامية فإن أعوامها السالفة كلها عبر وحسنات ورقي ونجاح.
ولما كانت الأمة الإسلامية الحاضرة تمتاز على غيرها في هذا المبدأ، فلا بأس من
أن تعيد نظرة إلى الوراء، خصوصًا في مسألة التعليم وإنشاء المدارس.
إن مصر هذه التي تعد منبعًا للمعارف ومهدًا للمدنية، وإن كانت في سالف
أيامها - أي منذ 40 قرنًا - اشتهرت بارتقائها في العلوم، إلا أن هذه النعمة ما نفعت إذ ذاك غير كونها آلة لتوسيع نفوذ طائفة الكهنة، وواسطة لتقوية أهوائهم.
ثم انتقلت القراءة والكتابة إلى ديار اليونان، فظهرت فيها عدة مجامع
علمية كمدارس سقراط وأفلاطون وأرسطاطليس، إلا أن هذه المجامع لم تكن على شكل مدارسنا اليوم، بل كانت أشبه بمجالس المذاكرة خاصة، يختلف إليها المولعون
بالبحث والمناظرة، وأعني بذلك أنها لم تكن عامة للتدريس، يهرع إليها كل طالب.
انتقلت المدنية اليونانية بعد ذلك إلى الرومانيين، ثم ظهرت النصرانية بظهور
الدولة القسطنطينية، فتقدمت معها قوانين إدارة الملك وعلم الحقوق تقدمًا عظيما،
ولم تنتبه فيهم أيضًا فكرة تعميم التعليم، فبقيت هذه المسألة غامضة غريبة عن
الأفكار، إلى أن قيض الله تعالى للعالم الإنساني الأمة الإسلامية التي اهتدت إلى هذه
الفكرة لأول وهلة، فأخذت مسألة التعليم العام - بسبب عنايتها - حظها من التوسع
والانتشار.
ومنشأ ذلك الإسلام نفسه لأنه كما أتى بالتوحيد، أتى بما يدعو إلى وجوب
تعليم العالم. فلقد كان من مقتضى ذلك أن المسلمين بنوا عند كل معبد تقام فيه
الشعائر الإسلامية كُتَّابًا، أو مدرسة للتعليم العام مجانًا. فأصبح التعليم العام المجاني
من جملة الخيرات التي أنتجتها المدنية الإسلامية في العالم الإنساني. ثم لم تلبث
هذه النعمة العظمى في أيدي المسلمين زمنًا طويلاً حتى انتقلت منهم إلى الأمم
الغربية، وهناك نالت ما نالته من الحفاوة والإجلال، فتقدمت تقدمًا باهرًا،
وانتشرت انتشارًا عظيمًا.
فوا أسفاه على هذه الخسارة التي لحقت بنا، ووا أسفاه على ذلك الإهمال الذي
أفضى بنا إلى ضياع هذه النعمة من أيدينا بعد أن ورثناها عن آبائنا. لقد قصرنا
في حفظها تقصيرًا لا مزيد عليه.
فالمعارف التي تركها لنا الأسلاف بقيت طفلة في مهدها، ولم نعمل على
إنمائها، بل المدارس والمعاهد العلمية التي هي تذكار المتقدمين لِمَا لم نسع في
ترقيتها، فبدل أن نعمرها ونرفع أعلام مجدها السابق، سعينا في تخريبها أو
هدمها.
إن تلك المعاهد العلمية التي نشأ منها أمثال: ابن سينا والفارابي وابن رشد
والغزالي ومحيي الدين ابن العربي، أصبحت منذ عدة قرون دورًا للعجزة والضعفاء
ومسكنًا للمعطلين.
ولم يكن السبب في حالتنا هذه إلا التكاسل والإهمال الذي أسبل ستار الغفلة
علينا، وحال دون تنبهنا إلى حالة الأمم الأخرى.
أما الآن فقد أقبل - ولله الحمد والثناء - على الأمة الإسلامية دور التيقظ،
فأخذت الرغبة في التعليم تتولد في كل جهة من الممالك الإسلامية، فأصبحنا نسمع
صدى بعض الأفراد والحكومات للتفكير في شؤون التعليم والمدارس. ولكن ذلك من
سوء الحظ لم يبلغ الخطة المطلوبة، نحن معشر المسلمين منذ ثمانية قرون قد تركنا
لأوربا غنائم مثيرة وخزائن من المعارف، ولم نطالبهم أثناء هذه المدة بردها
إلينا. ولكن قد حان الآن وقت الإعادة، فعلينا أن نستردها منهم استردادًا يحمل ما
توفر لديهم حتى الآن من إنمائها. ولا يقال هنا: إن الشرق غريم للغرب؛ إذ لا
يقصد منه إلا الذهب الذي لا يساوي شيئًا إذا قيس بالعلوم والمعارف التي هي
حقوق الشرق على الغرب، فغرامة الغرب لنا هي أعظم بكثير من غرامتنا له،
فعلى الدائن أن يطالب المدين.
وليست هذه الكلمات من بنات أفكاري الخاصة، كلا، بل يقولها (فولب)
المتفنن الألماني و (داربر) العالم الأمريكي، وما سأعرضه أيضًا مما يثبته تاريخ
التعليم.
لا ينكر اليوم أحد من العقلاء المستنيرين ضرورة التعليم العام للنوع البشري
وخصوصًا للأمة الإسلامية؛ فإن ديننا القويم يقضي علينا بتصديق هذا الأمر
وقبوله وإبرامه، ووضعه موضع الإجراء. وفي نظري أن هذا الأمر ليس من قبيل
المسائل حتى يتناقش فيه، بل هو أمر ديني قطعي، فما علينا إلا أن نتناقش في
كيفية إجرائه وإيجاد الطريق القويمة الموصلة إلى هذا المقصد لتعجيله فقط.
ولقد أثبتت تجارب أعظم الأمم المتمدنة في هذا العصر أنه لا يمكن تعميم
التعليم ونشره؛ إلا بوجود كتاب واحد لكل ستين أسرة من الأمة.
وأما طريقة إجراء العمل فتكون بحسب الميزان الآتي:
لو فرضت مملكة من الممالك يسكنها نحو عشرة ملايين نسمة، فمقدار ما
يلزمها من الكتاتيب هكذا: يتعين أن نقسم هذه العشرة الملايين على خمسة (أنفار)
ثم نقسم الحاصل وهو مليونان على ستين، فيبلغ عدد الكتاتيب على هذا الحساب
نحو ثلاثة وثلاثين ألفا، وهذا هو المقدار المعين الكافي لعشرة ملايين نفس.
فلو بلغت مصاريف كل كُتَّاب مع نفقات الأدوات ومرتبات المعلمين نحو 40
جنيها، يكون المجموع 1.330.000 جنيه. فإذا أضفنا إليه مبلغ 200.000
جنيه، وهو ما يلزم للإنفاق على إدارة تلك الكتاتيب وغيرها من مدارس المعلمين،
نحتاج في إيجاد التعليم العام الابتدائي إلى ميزانية قدرها 1.500.000 جنيه.
وهذا لا شك مبلغ جسيم، إلا أنه لا ينبغي أن يروعنا بجسامته؛ لأن الفائدة
التي نستفيدها من هذا المشروع مادية كانت أو معنوية أعظم وأرقى بكثير من ذلك
المبلغ. فما نسبة مبلغ 1.500.000 جنيه لعشرة ملايين نسمة إلا نسبة جزئية
جدًّا، تقضي بدفع 15 قرشًا على كل نفر في السنة، و75 قرشًا عن كل أسرة.
وربما يقال هنا: إن طائفة العمال لا يستطيعون دفع ذلك. فنقول: كلا؛
لأننا لو فرضنا أن عاملاً يشتغل في السنة 300 يوم، فيكون حاصل قسمة 75 قرشًا
عليها مليمين ونصفا فقط، وهو ما يطالب باقتصاده من مكسبه اليومي الذي لو بلغ
خمسة قروش مثلاً لا يكلفه إخراج ذلك منه إلا أن يتنازل عن فنجان من القهوة
يتناوله يوميًّا، وعن سيجارتين على الأكثر.
فبقي علينا أن نبحث في النفقة اللازمة لبنائها، فإذا فرضنا أن كل كتاب على
حدته هو 150 جنيهًا، تبلغ نفقات 33 ألف كتاب 5 ملايين من الجنيهات. وحينئذ
نقع في مشكلة عظمى أيضًا وهي خلو اليد من النقود. فما الحيلة؟ الجواب سهل
وهو أن الأمة مادامت حية فالنقود توجد ألبتة، أو لابد من وجودها.
النقود التي وجدت عند تأسيس الأهرام الجسيمة، لم لا توجد لبناء مدارس؟
وإذا كان يجوز للأمم الحية اقتراض المال لإنشاء السكك الحديدية والبرازخ
والترع، فلماذا لا يجوز اقتراضها لإنشاء المدارس؟
هذا وهناك طريقة أخرى لسهولة إجراء هذا المشروع؛ وهي تجزئة مدة
الاكتتاب إلى عشر سنين؛ لأنه من البديهي أن مثل هذه المشروعات المهمة لاتتم
دفعة واحدة، كما أنها لاتتم إلا باكتساب ثقة الأمة ورغبتها في المشروع.
الحاجة إلى مؤتمر إسلامي عام
نرى المسلمين اليوم تنبهوا بعض التنبه في الأقطار الإسلامية كافة. وهب
فضلاؤهم لإنشاء الصحف والجرائد التي لها أثر عظيم في تنبيه الأفكار والإرشاد
إلى الخير والصلاح، ونسمع أن مسلمي بعض البلاد ينشئون جمعيات خيرية
وعلمية. هذه علائم خير تقر بها عين كل ناصح للإنسانية. ولكن لا يجوز لنا ألبتة
أن نجتزئ بهذه العلائم الحسنة، ثم نخلد إلى أرض الدعة والكسل. فالمستقبل
الحسن لمن يدأب ويعمل. لا جرم أن المرء يرى إذا أجال طرفه في الأقطار
الإسلامية، من مدينة قزان الشمالية إلى مصر الجنوبية، ومن مراكش المغربية إلى
جاوا المشرقية - علائم الانحطاط أكثر من علائم الارتقاء.
فقد عادت معظم المدارس مثابة للعاجزين والبطالين. ودثرت الصناعات
الوطنية أو أشرفت على الدثور. أصبح حظنا قليلاً من تجارة العالم، ويدنا ضئيلة
في الصرف والشؤون المالية، ونصيبنا عدمًا في التجارة البحرية. وليس لهذه الأمة
التي ينيف عددها على ثلاث مئة مليون شركة مؤلفة من ثلاثين سفينة، كما أنها لا
تملك مصرفًا رأس ماله خمسة ملايين جنيه مثلاً.
ليس في أيدينا ما نعيش به غير الأراضي الخصبة التي ورثناها عن آبائنا.
تأتي لنا هذه الأراضي بالقمح والفلفل والبن، والقطن والقز والفواكه وغيرها.
ولكننا نجهل أساليب بيع هذه الغلات بيعًا رابحًا. ويذهب جزء عظيم من ربح تلك
الحاصلات من أيدينا إلى أيدي التجار الأجانب، وجزء عظيم إلى شركات تسيير
السفن الأجنبية.
ولا تكاد تجد تاجرًا مسلمًا في جميع البلدان الأميركية والأوروبية إلا في النادر
وإذا رأيت هناك تاجرًا شرقيًّا فهو إما أرمني أو بوذي هندي أوصيني. إذا صرفنا
النظر عن التجارة الخارجية، فما بالنا لا نعمل في بلادنا أيضًا. هانحن أولاء
نرى معظم التجارات المهمة في البلاد العثمانية والإيرانية ومصر والمغرب
الأقصى والهند بأيدي النزلاء، الذين يتقاطرون إلى البلاد الإسلامية من أقطار العالم المختلفة.
نحن لا نفتأ نقول: أمطرت السماء فشربنا، وأنبتت الأرض فأكلنا، ولكن
ينبغي لنا أن نعرف أننا إذا عشنا على العمل بهذه القضية في الأيام الغابرة، يستحيل
أن نبقى بها فيما نستقبله من الأيام.
إذا فقدت أمة من الأمم استقلالها ووقعت تحت حكم الأجنبي، فإنها تخسر
خسرانًا مبينًا. بيد أن هذا الخسران لا يقام له وزن - في مذهبي - في جانب
الخسارة التي تخسرها الأمة التي تقاعدت وتواكلت ثم سقطت من مكانتها في ميدان
العمل والاقتصاد.
وما هو السبب في هذه الحالة الأليمة التي وقعت فيها الأمة الإسلامية؟ ليس
لنا أن نقول: إن السبب هو الجهل، ثم نسكت. إذ يرد عليه سؤال آخر وهو: وما
هو سبب الجهل؟
إذا أغضي عن ترقي الأمم الإفرنجية، ألا يجب على كل مسلم ناصح لأمته أن
يسأل: كيف ارتقى الأرمن والروم والكرج والبلغار واليهود والهندوس؛ الذين كانوا
قبل اليوم بنصف قرن يعيشون بيننا، ويشاركوننا في معظم عاداتنا وآدابنا، ونحن
بقينا وراءهم ننظر إليهم بعين الإعجاب؟
حالتنا أيها السادة مما يرثي له. ولكن لا يجوز لنا ألبتة أن نكتمها؛ لأن ذلك
الكتمان هو عين الخطأ، بل هو جناية عظيمة على نفوسنا.
بل يحق لنا أن نجاهر بها في كل ناد ونسعى لتشخيص الداء، حتى نصف له
الدواء، هل من الرأي أن يكتم الإنسان مرضه إذا لم يكن عدو نفسه، وليست مغبة
من يكتم مرضه إلا الهلاك.
إذا كنتم تنتظرون الجواب عن الأسئلة السابقة من الخطيب؛ فهو يبادر إلى
القول بأنه أعجز من أن يجيب على أمثال هذه الأسئلة العظيمة؛ لأنه يبحث عن
الجواب ولا يجده.
أيها السادة: إن استعداد الأمة العربية للمدنية قد ثبت عندنا بتاريخها المتلألئ
اللامع.
ويرشدنا إلى استعداد الأمة التركية للمدنية ما تركه لنا علماؤهم من المؤلفات
النافعة. وأطلال مرصد سمرقند تشهد بشغف هذه الأمة بالعلم والعرفان، ثم ألا
نرى الفنلنديين والمجر يبارون الأقوام المتمدنة ويجارونهم في كل شؤونهم. ونحن
نعرف أن هاتين الأمتين والترك يتفرعون من أصل واحد [1] .
القصد أيها السادة من سرد جميع هذه الأدلة التاريخية، إثبات أنه ليس سبب
انحطاط العرب والترك اليوم هو نقص في فطرتهم، وضعف في استعدادهم. وأما
الدين الإسلامي الذي ندين به فهو دين يخاطب العقل ويحث على العمل الدءوب،
وينوط نجاح الإنسان بعمله. ولكن سيرتنا تخالف هذه الأصول الكريمة الدينية
مخالفة ظاهرة. وما السبب في هذه المخالفة أيضًا؟
إني أرى أيها السادة أن الجواب على تلك الأسئلة المهمة، وكشف النقاب
عن أسباب انحطاط الأمة الإسلامية، لا يتيسرا كاملاً لفرد أو فردين، بل لا مندوحة
للبحث في ذلك عن عقد مؤتمر إسلامي عام يجتمع فيه علماؤنا وفضلاؤنا، ثم
يتفاوضون في الشؤون الإسلامية.
لا يفهمن أحد أني أرمي باقتراح عقد مؤتمر على هذه الصورة إلى غاية
(بانسلاميزم) أي الجامعة الإسلامية التي يتشاءم منها الأوربيون. وإنما غرضي
الوحيد من عقد هذا المؤتمر هو البحث عن أسباب انحطاط الأمة الإسلامية،
وفتح أبواب النجاح في الأمور الاقتصادية والاجتماعية، واختيار السبل القويمة التي
تصل بنا إلى أخذ نصيبنا من المدنية الغربية الحاضرة.
ولا ننكر أنه كان لاكتشاف أميركا ورقي الصناعات والميكانيكات في
الغرب، تأثير يذكر في افتقار الشعوب الإسلامية وفقدان وجوه الكسب. بيد أن
العامل القوي في انحطاطنا - على ما أظن - هو الجمود على بعض العادات والقواعد
الواهية، والأوهام والخرافات التي ورثناها عن آبائنا، أو تسربت إلينا من الأمم
الأخرى بحكم الزمان. ومن أجل ذلك أبدي وأعيد أن حاجتنا شديدة إلى المؤتمر العام لكشف الحجب عن الحقائق.
فاسمحوا لي أيها السادة - والأمر على ما ذكر - أن أقترح عليكم عقد مؤتمر
إسلامي عام، لا يتطرف قط إلى البحث في الأمور السياسية، وتكون باب
داره مفتوحة لكل أحد ممن يحبون استماع المذاكرات، وتُنْشر خلاصات
المناقشات في الصحف المنتشرة، وأرى أن يعقد المؤتمر في عيد الفطر من السنة
القادمة أو بعده.
ويحسن أن ينعقد هذا المؤتمر في الآستانة العلية، أو في مصر المركز الثاني. ولا
أري سببًا يحملنا على عقد هذا المؤتمر الذي يتفاوض فيه بالمسائل المدنية [2]
والعلمية في جنيف مثلاً.
أيها السادة: إذا وافقتموني على هذا الاقتراح، فلابد من التمهيد لهذا الأمر
الخطير منذ الآن. فيتحتم علينا من اليوم تأليف لجنة من العلماء والمتنورين تشتغل
بهذا التمهيد، مثلاً: تخبر هذه اللجنة الحكومة المحلية بجلية الأمر، وتضع للمؤتمر
برنامجًا إجماليًّا، وتُعيِّن زمن انعقاد زمن المؤتمر، وتتولى مراسلة من يرجعون
إليها من سائر الأقطار.
ولا ريب أن هذه اللجنة تفتقر إلى قدر من النقود ولكنى لا أظن مطلقًا أن
المانع يكون من الوجهة المالية.
ومن منَّا يمتنع أيها السادة أن يتفضل على هذه اللجنة بما في استطاعته من
المال؟ هل يجيب المسلمون داعي هذا المؤتمر؟ هذا سؤال أنا أجيب عن جزء منه
قائلاً: إني على ثقة من أن خمسة عشر أو عشرين مندوبًا من روسيا، ومن إيران
يجيبون الطلب.
أيها السادة: هذا ما أردت عرضه على حضراتكم في هذا الاجتماع. وقد
استوقفتكم زمنًا طويلاً. فأسألكم أن تصفحوا عن هذا العاجز صفحًا جميلاً اهـ.
__________
(*) راجع باب الأخبار.
(1) قال الخطيب: إنه سقط من الخطبة ذكر الفرس والهنود، وأهل الأفغان وجاوه والمغرب، والمراد أن فطرتهم قابلة للعلم والمدنية، كالعرب والترك وسائر الأجناس.
(2) لعل الأصل المراد (الدينية) فهي التي لا يليق تخصيص مثل جنيف إليها بعقد مؤتمرها.(10/658)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بحث في المؤتمر الإسلامي لتعارف المسلمين
والبحث عن أسباب ضعفهم
وطريق علاجه وتاريخ الدعوة إليه
أول صوت سمعناه في هذا العصر يدعو المسلمين إلى التعارف والاتحاد
والتعاون في الرأي، والسعي على تدارك ما حل بالمسلمين من الرزايا الاجتماعية
التي هبطت بهم من ذلك الأوج الذي كانوا فيه إلى الحضيض الذي صاروا إليه
حتى سبقهم أهل الملل من الكتابيين والوثنيين في المدنية - هو صوت الحكيمين
الغيورين المجاهدين في سبيل الله، الجهاد الذي لا يفضله جهاد في هذا العصر:
السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده. رحمهما الله تعالى وجزاهما عن نفسهما،
وعن الأمة والملة خير الجزاء.
للسيد جمال الدين مقالات كثيرة في تنبيه المسلمين من رقدتهم، وإعلامهم
بأسباب تمزيق قوتهم، ودعوتهم إلى الوحدة، ودلالتهم على وسائل القوة، وله من
الدروس والخطب والمحاورات في ذلك ما هو مشهور بين العارفين، وإن لم يقيد
بالتدوين، ولما اجتمع الشيخان في باريس وأصدرا جريدة (العروة الوثقى) كان قطب
سياستهما دعوة علماء المسلمين وعقلائهم إلى النظر في أحوال المسلمين العامة
وإرشادهم إلى ما ينهض بهم إلى مجاراة الأمم العزيزة وكان من رأيهما أن يشتغل
بذلك أهل كل قطر في قطرهم بالتعاون بينهم، وأن يكون لهم مجتمع عام في الحجاز
يأتمر فيه من يحضر الموسم من أعضاء جمعية العروة الوثقي فيما بينهم، وما كانا
يكتفيان في هذا الإرشاد بما ينشر في جريدة العروة الوثقى، بل كانا يكاتبان من
يرونه أهلاً لذلك في أقطار المسلمين. وفي الجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام
نموذج من كتبه لبعض أولئك الأعضاء (راجع ص 488 - 512) .
وقد جاء في فاتحة العدد الأول من جريدة العروة الوثقي بعد ذكر تنبه عقلاء
المسلمين، وسعيهم في معالجة عللهم ما نصه:
(وبما أن مكة المكرمة مبعث الدين ومناط اليقين، وفيها موسم الحجيج
العام في كل عام، يجتمع إليه الشرقي والغربي، ويتآخى في مواقفها الطاهرة الجليل
والحقير والغني والفقير، كانت أفضل مدينة تتوارد إليها أفكارهم ثم تنبثُّ إلى سائر
الجهات. والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل) .
وجاء في خاتمة مقالة نشرت في العدد الخامس عنوانها {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) إرشاد إلى كيفية الوحدة في الإصلاح
الديني، ومنه (ويجعلون لهم مراكز في أقطار مختلفة، يرجعون إليها في شؤون
وحدتهم، ويأخذون بأيدي العامة إلى حيث يرشدهم التنزيل وصحيح الأثر،
ويجمعون أطراف الوشائج إلى معقد واحد، يكون مركزه الأقطار المقدسة، وأشرفها
معهد بيت الله الحرام، حتى يتمكنوا بذلك من شد أزر الدين وحفظه من قوارع
العدوان) ... إلخ (فراجعه في ص 254 من الجزء الثاني تاريخ الأستاذ الإمام) .
وجاء في آخر مقالة منها نشرت في العدد العاشر، عنوانها حديث (المؤمن
للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) ما يأتي (كما في ص 29 من الجزء الثاني من
تاريخ الأستاذ الإمام) .
(وأرى أن العلماء العاملين، لو وجهوا فكرتهم لإيصال أصوات بعض
المسلمين إلي بعض، لأمكنهم أن يجمعوا بين أهوائهم في أقرب وقت، وليس بعسير
عليهم ذلك بعد ما اختص الله من بقاع الأرض بيته الحرام بالاحترام، وفرض على
كل مسلم أن يحجه ما استطاع، وفي تلك البقعة يحشر الله من جميع أجيال
المسلمين وعشائرهم وأجناسهم) ... إلخ.
هذه إشارة مما كتبه الأستاذ الإمام، باتفاق الرأي بينه وبين حكيم الإسلام، منذ
ربع قرن. فإن العدد الأول من العروة الوثقي قد صدر في 5 جمادى الأولى سنة
1301.
***
ثم إننا لما أنشأنا المنار في أو أخر سنة 1315، كتبنا في العدد الثلاثين
والأربعين من السنة الأولى مقالاً في (الإصلاح الديني) اقترحنا فيه على مقام
الخلافة تأليف جمعية إسلامية في مكة المكرمة، يكون لها شُعَب في كل قطر
إسلامي، وفصلنا ما يجب أن تقوم به هذه الجمعية من الإصلاح في العقائد والتعاليم
الأدبية والأحكام القضائية والمدنية، واللغة، ومن تلافي البدع والتعاليم الفاسدة [*] .
وإنما جعلنا هذا الإصلاح مقترحًا على سلطان آل عثمان لبيان أنه واجب عليه؛
لأنه هو القادر على تنفيذ ذلك، ويمنع من يتصدى له هناك من دونه.
ثم إن السيد عبد الرحمن الكواكبي (رحمه الله تعالى) قدم إلى مصر في سنة
1318، ونشر فيها كتاب (سجل جمعية أم القرى) الذي صور فيه انعقاد تلك
الجمعية المقترحة خفية بدون علم الحكومة العثمانية وأمير مكة المكرمة (الشريف)
وإن ذلك كان في موسم سنة 1316.
كل ذلك كان الإصلاح الديني فيه ممزوجًا بالإصلاح السياسي على النهج الذي
جرى عليه المسلمون من اشتمال الدين على كل شيء. وكذلك كانت فكرة المقترح
الأول السيد جمال الدين رحمه الله تعالى.
ثم إن الأستاذ الإمام وجه ذهنه بعد مفارقة السيد جمال الدين في أوربا،
وعودته هو إلى سوريا ثم إلى مصر، يحاول الوصول إلى إصلاح حال المسلمين
بإقناع الحكومة بسلوك الطريقة المثلى لتربية المسلمين وتعليمهم، فكتب ثلاث
لوائح [1] : أحداهما لإصلاح المملكة العثمانية عامة، وقدمها إلى شيخ الإسلام في
الآستانة سنة 1304 ليقدمها إلى السلطان. والثانية - لإصلاح سوريا وقدمها إلى
واليها بعد إرسال الأولى إلى الآستانة. والثالثة - لإصلاح التربية الدينية والتعليم
في مصر، ولم تعمل الحكومة العثمانية ولا المصرية بما اقترحه عليهما، ولو عملت
إحداهما به لعملت ما يعجز عن كل مثله جمعية ومؤتمر لإصلاح الدين.
ثم رأينا الأستاذ الإمام في السنين الأخيرة من عمره، قد استقر رأيه على
اليأس من حكام المسلمين، وحصر الرجاء في عقلاء أهل العلم والفضل يدعون إلى
الإصلاح حيث يجدون حرية مع تجنب السياسة ظاهرًا وباطنًا، ومسالمة أهل
السلطة سرًّا وجهرًا، والرضا منهم بعدم معارضة الإصلاح في العقائد والأخلاق
والآداب وروابط الاجتماع الأهلية والقومية. فإن عارضوا فالرأي أن يبذل الجهد في
إقناعهم، وكان يرى أن هذا متيسر للمصلحين العقلاء مع حكام المسلمين
الأوربيين، إذا ظهر لهؤلاء أن الأمر لا سياسية فيه. ومن الأمثال المأثورة عنه (ما
دخلت السياسة في عمل إلا وأفسدته) وإننا نرى عقلاء المسلمين يكادون يجمعون
على هذا الرأي.
جاء مصر في هذه الأيام (إسماعيل بك غصبرنسكي) صاحب جريدة
(ترجمان) التركية التي تصدر في (بغجه سراي) من بلاد القريم التابعة
لروسيا، وتلا على جمهور عظيم من سكان مصر الخطبة التي نشرنا ترجمتها قبل
هذه المقالة، واقترح في آخرها تأليف مؤتمر إسلامي ينعقد في مصر؛ للبحث عن
الأسباب التي كان بها المسلمون متأخرون عن غيرهم من الأمم، واشترط أن لا
تطرق مباحثه باب السياسة بل تحصر في الأسباب الاجتماعية والاقتصادية. وما
هى هذه الأسباب الاجتماعية والاقتصادية؟
نحن نقول: إن المسلمين كغيرهم من البشر، مستعدون لكل ارتقاء وحضارة
وإن المانع لهم من ذلك أمران: استبداد السياسية، والجمود على التقاليد الدينية التي
قيدتهم في كل شيء، حتى في تصرفهم في بيوتهم وأموالهم. وأضرب لهم مثلاً
علماء الأزهر الذين يستنكرون أشد الاستنكار لبس الأحذية السوداء المعروفة هنا
بالجزم (جمع جزمة) وقضاة الشرع الذين يأبون أن يكون في المحكمة الشرعية
أجراس كهربائية لطلب الكتاب والمحضرين والخدم؛ لأن هذا وذاك مما لايليق بأهل
الدين؛ أو لأنه لا يخلو من كراهة شرعية. فهذا المثل الصغير ينبئ عن أمر كبير
وإن هزئ به الجهلاء، أو اشتغل به عن الموضوع أهل الأهواء، فهو كمثل البعوضة والذباب في القرآن.
فالمسلمون لا يقدرون على مجاراة أمة مطلقة من القيود التي تقيد الفكر أن
يأخذ مداه في كل علم ورأي، وتقيد الإرادة أن تنفذ كل عمل يظهر للمفكرين أنه نافع
وهم مقيدون فكرًا وإرادة؛ إما بالتقاليد الدينية، وإما بالسياسية الاستبدادية. فعمل
المؤتمر محصور بالطبع في فك القيود التي تقيد المسلمين، حتى يكونوا أحرارًا
مستقلين، فإذا حظر أهله على أنفسهم البحث فيما هو سياسي منها، بقي لهم ما هو
ديني فقط، ومنه ما يتعلق بحكامهم ومنه ما لا يتعلق بهم.
مثال ذلك الشركات المالية التي هي أعظم أركان الثروة في هذا العصر، ولا
أذكر فيها مسألة فرضية، بل مسألة واقعة هي في تاريخ مصر الحديث أصل
الانقلاب السياسي والعمراني، ولا أفتات على المسلمين فيما أقوله فيها افتياتا، أو
أستنبط خلافهم فيها استنباطًا، وإنما أروي فيها رواية تنبئ عما عليه المسلمون
من القيود التي تمنعهم من مجاراة غيرهم في تحصيل الثروة التي هي أساس
العمران.
زرت وزير مصر الأكبر رياض باشا، فألفيت في حضرته جماعة من أكابر
المسلمين؛ منهم العالم الأزهري، والمهندس، والمؤرخ، والطبيب، ومن كان
ناظرًا لبعض المدارس العليا، وكل واحد منهم يعد من أكبر رجال طبقته وأعلمهم،
وهم يتذاكرون في مسألة شركة ترعة السويس، وأن شراء أسهمها غير جائز شرعًا
لأن عملها غير مشروع. وكان أشدهم عارضة في ذلك العلامة الأزهري (طبعًا)
ولا أحب أن أذكر شيئًا من أدلتهم، المبني بعضها على أن الماء لا يملك وأن أوراق
السهام لا قيمة لها في نفسها ... إلخ، وما عجبت لقول أحد كعجبي من
موافقة واحد منهم لهم في ذلك، أعهد منه الميل إلى كسر مقاطر التقليد، ورأيته في
هذه السنة يسعى في تأسيس بنك أهلي، وهو أشد من أعرف اهتمامًا بمشروع
المؤتمر الإسلامي. وقد جهرت هنالك باستغراب جعل هذه المسألة موضعًا للبحث
وجزمت بجواز عمل الشركة وشراء سهامها، مصرحًا بأن أوراق السهام ليست
هي التي تقابل الثمن، وإنما هي مثل أوراق الصكوك والحجج التي تكتب لمن
يشتري عقارًا أو يقرض آخر مالاً. جهرت بهذا ولكنني لم أسمع من أحد كلمة
موافقة. ولكنني أظن أنه أعجب بعض الحاضرين، ورأيت الوزير هش له.
فإذا كان أرقى مسلمي مصر الذين يعدون الآن في مقدمة شعوب المسلمين علمًا
وقربًا من المدنية، يتباحثون حتى اليوم في أعلى محافلهم الاجتماعية في شركة
ترعة السويس، ويقولون بعدم جواز شراء سهامها، وهي هي السهام التي براها
وراشها أميرهم إسماعيل، وأعطاها لأوربا، فحاربتهم بها واحتلت بلادهم،
وملكت عليهم أمرها، فهل يلام مسلمو مراكش إذا قال عالمهم الكتاني: إن شر عمل
عمله محمد علي باشا هو بناء القناطر الخيرية، وكان ينبغي أن ينفق المال الذي
أضاعه في بنائها على بناء المساجد؟ ؟ كلا، إن علل المسلمين واحدة، ولو كان
محمد علي مقيدًا بالتقاليد الدينية، لما أنشأ القناطر الخيرية.
إن شركة ترعة السويس وأمثالها من أمور العمران التي لم تكن معروفة في
عصر التنزيل، فيرد فيها كتاب أو تمضي بها سنة. ولكن الفقهاء المستقدمين، قد
وضعوا أحكامًا للشركات وغيرها من المعاملات المتعارف عليها في عصرهم، فجمد
المستأخرون عليها؛ إذ عدوها دينًا يجب اتباعه في كل زمان ومكان، فهل يسهل
على المسلمين الذين يريدون مجاراة الأوربيين في الكسب، أن يدرسوا قبل كل
عمل هذه الكتب الفقهية الضيقة الواسعة، ويتقيدوا بها ثم يجروا وراء المطلقين من
القيود، فيلحقوا بهم ويطمعوا في مسابقتهم؟ لا يسهل الجواب عن هذا على فقيه
يعرف الأحكام المدونة في هذه الكتب، ولا يعرف حال العصر في الأعمال المالية
والاجتماعية، ولا على رجل مالي أو متمدن كما يقال لم يقرأ كتب الفقه، وإنما
يسهل على من عرف الأمرين أن يجيب عنه بحق. ولكن جوابه لا يكون إلا سلبًا.
أعرف بمصر كثيرًا من المسلمين المتمدنين، يرون أنه لا علاج لتأخر
المسلمين عامة إلا نشر العلوم العصرية، ومحاولة تعميمها بقدر الطاقة، وترك
الدين وشأنه، بحيث لا يتعلم ولا يدافع عنه، ولا يعترض عليه، حتى يحكم العلم
والزمان فيه حكمهما. ومن هؤلاء من هو مسلم جنسية فقط، يرى أن الدين عقبة
يزيلها العلم. ومنهم من يؤمن بالله ورسوله وكتابه، ويرى أن الدين قد اصطبغ بغير
الصبغة التي أنزلها الله - تعالى - وأن العلم العصري ينزعه من سلطان
المحافظين على الصيغة الحادثة ويساعد على إعادته إلى أصله، فإذا قام مصلح
ديني يمكنه أن يهدي المتعلمين للعلوم العصرية إلى حقيقية الإسلام، ولا يمكنه أن
يهدي غيرهم من علماء الصبغة الحديثة للدين والمقلدين لهم وهم جماهير العوام، إلا
أن يتعلموا على الطريقة الحديثة.
ونحن نقول: إنه يمكن الجمع ابتداء بين حقيقة الإسلام وصبغته الإلهية،
وبين جميع العلوم والفنون والأعمال التي عليها مدار المدنية العصرية، وإن إصلاح
المسلمين بغير هذه الطريقة متعذر. ونحن مستعدون بعون الله - تعالى- وتوفيقه
لمناظرة كل من يخالفنا في هذا الرأي.
وجملة القول: إن المسلمين لا يجارون غيرهم من الأمم في ميدان المدنية
والعمران إلا إذا أُطلقوا من القيود السياسية والدينية التي قيدت استعدادهم الفطري.
وليس في نصوص كتاب الله المنزل، ولا في سنة رسوله المتبعة القطعية، شيء من
هذه القيود الدينية، بل فيهما الإطلاق المكمل للفطرة. وإنما القيود قسمان: بدع
محدثة، وتقاليد مستنبطة من أقوال البشر وقواعدهم، تعرف بالأحكام الاجتهادية.
فإذا حظر المؤتمر على نفسه البحث في القيود السياسية، انحصر عمله في
القيود الدينية؛ أي: التقاليد والبدع التي فشت في المسلمين باسم الدين، إلا أن يكون
غرض أهله الرقي الدنيوي بدون دين.
وإذا انحصر عمله في حل القيود الدينية دون السياسية؛ خشية أن تقاوم
المسلمين حكومات أوربا المستعمرة لبلادهم، فيجب أن لا يدخل في أعضائه أحد
من المشتغلين بالسياسة لتأييد ملك أو أمير؛ لأن ذلك يجعل المؤتمر في موضع
الريبة والظنة عند تلك الحكومات؛ ولذلك صرح الشيخ على يوسف صاحب جريدة
المؤيد على مسمع من نحو خمسين رجلاً ممن دُعوا للبحث في المؤتمر بأن من
مصلحة المشروع أن يخرج هو وحافظ أفندي عوض أحد صاحبي جريدة المنبر،
ونفر آخرون من لجنة المؤتمر، فلا يكونوا من الأعضاء العاملين فيه.
ثم إنه ينبغي أن تكون القاعدة الأساسية الأولى للإصلاح الديني في المؤتمر
هي المحافظة على المُجمع عليه من المسلمين، لا سيما ما كان منه معلومًا من الدين
بالضرورة، وذلك هو القرآن وما استفيد منه بالنص القطعي، وبعض السنن المتبعة
ونعني بالسنة معناها اللغوي الذي كان يفهمه الصحابة، ومنه ما هو فرض أو
واجب؛ ككون الصلوات المفروضة خمسًا، ركعات كل صلاة منها كذا، يقرأ فيها
كذا، ويركع في كل ركعة مرة، ويسجد مرتين. ومنها ما هو مندوب في اصطلاح
الفقهاء كما هو معروف.
ذلك أن المؤتمر عام لجميع المسلمين، وفيهم السني السلفي وغير السلفي،
والشيعي والإباضي، ومن السنية الحنفي والمالكي ... إلخ، ومن الشيعة الجعفري
والزيدي، فالذي يجمع بين هؤلاء ويوحد كلمتهم؛ هو كتاب الله والسنن العملية
المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتلقي عن آله وأصحابه - رضي الله
عنهم -، وبذلك يكون المؤتمر غير مقيد بالتقاليد الاجتهادية التي تثير النزاع،
وتفرق الكلمة، فلا يمنع أعضاءه مانع من الاعتصام بحبل الله، ودعوة سائر
المسلمين إلى الاعتصام به. (راجع التفسير من هذا الجزء وما قبله) .
ثم يعرض ما يقرره من الإصلاح الاجتماعي الموافق للإجماع على شعوب
المسلمين، مبينًا لهم أن من عمل به لم يكن عمله منافيًا لأصل الإسلام الذي لا خلاف
فيه، فمن اكتفى بذلك وعمل به فبها ونعمت، ومن حاول تطبيقه على
المسائل الاجتهادية في مذهبه وتقيد بها فهو وشأنه.
بهذه الطريقة يفيد المؤتمر المسلمين أكبر فائدة دينية، بما يعلمهم من الأصول
المتفق عليها بين المسلمين، التي بها يكون المسلم مسلمًا أخًا في الدين لثلاث مائة
مليون يوافقونه في اعتقاده، وأكثر المسلمين يجهل ذلك بالتفصيل، ولا يكون جانيًا
على مذهب أحد، ولا حائلاً بينه وبين عالم يتقلد رأيه. ولكنه يعلمه إذا كان متبعًا
لمذهب، أن ما ينفرد به في مذهبه لا ينافي أخوة الإسلام بينه وبين من لا يتبع
مذهبه.
لن يتيسر هذا المسلك لأعضاء المؤتمرإلا إذا كان فيهم العلماء بالكتاب والسنة،
وتاريخ الإسلام، والعلماء بشؤون العصر وما تقتضيه المدنية من العلوم والفنون
والأعمال، بحيث يكون عند علماء الدين من علوم الدنيا، وعند علماء الدنيا من
العلم بالدين ما يمكِّن الفريقين من الاتفاق على الجمع بين الدنيا والدين، كما
تقتضيه مزية الإسلام الذي هو الدين الموافق لمصلحة البشر في كل زمان ومكان.
يقول بعض الباحثين في مسألة المؤتمر: إنه يجب أن يكون في أعضائه
بعض الشيوخ من علماء الرسوم المقلدين للمذاهب الأربعة؛ ليثق بما يقرره عوام
المسلمين. ويرد عليهم آخرون قائلين: إن الإصلاح لا يأتي من العوام، وإنما يأتي
من خواص العقلاء، وإن هؤلاء المقلدين إذا وجدوا في المؤتمر محافظين على
تقاليدهم فهم الذين يحولون دون الاستفادة منه، ومن يهتم بمداراة العوام لا يأتي منه
إصلاح؛ إذ يكون العوام حينئذ أئمة له في الحقيقة، وإن كان يتوهم أنه سيؤمهم
بالحيلة. فالمصلح الحقيقي هو الذي لا يخاف في بيان الحق لومة لائم ولا نفور
عامي ولا مقاومة خاصي، بل يقرر الحق ويدعو أمثاله من العارفين إلى مؤازرته
وموالاته، والحق يعلو ولا يعلى. وإنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه.
لذلك قال عاقل من العظماء: إنني لا أفهم معنى (مؤتمر إسلامي) يتصدى
للقيام به مَنْ لم يبحث في عمره يومًا واحدًا عن الإصلاح الديني، ولا عن أسباب ما
ألم بالمسلمين. وإنما يكون إنشاء المؤتمر معقولاً، إذا تصدى للدعوة إليه من جعلوا
جُلَّ همهم البحث عن أحوال المسلمين في ماضيهم وحاضرهم، وأسباب ما عرض
لهم في دينهم مما ليس منه؛ كفلان وفلان فهم الذين يجب أن يختاروا من يرونه أهلاً
لأمثال هذه المباحث.
ويقول بعض أهل البحث والرأي: إن الشعوب لما تستعد لمثل هذا المؤتمر،
فهو غير ممكن الآن من حيث طبيعة الاجتماع، وإن كان ممكنًا في نظر العقل،
يعني أن الإصلاح المطلوب يرجع إلى مسائل يَقِل العارفون بها في بعض الأقطار،
ويعز اجتماعهم، واجتماع غيرهم لا يفيد المطلوب. وإذا اتفق أن اجتمعوا،
فلا بد أن يمتزجوا بغيرهم ممن لا يوافقهم على رأيهم، فإذا كان لديهم من الشجاعة
ما يحملهم على الجهر بالحق الذي يعلمونه غير مبالين بطعن الطاعنين،
فلا يرجى أن يتقرر ما يرتؤونه، وربما تقرر رفضه وإعلان مخالفته
للدين، فيكون ذلك مبعدًا للإصلاح وعقبة في طريقه يقيمها المؤتمر،
فينعكس الأمر ويتبدل الوضع، ويكون المؤتمر ضارًّا لا نافعًا.
ويقول آخرون: إن أقل فائدة يجنيها المسلمون من المؤتمر وراء تعارف أهل
الفضل والرأي منهم، هو أن ما يتفقون عليه يكون جديرًا بالقبول، ولا يمكن أن
يتفقوا كلهم أو أكثرهم على شيء ضار، فإذا لم يهتدوا إلى كل المطلوب من
الإصلاح، فلابد أن يهتدوا إلى بعضه، وما يفوتهم منه في الاجتماع الأول يرجى
أن يهتدوا إليه في الاجتماعات التي تليه، وأمور الإصلاح لا تكون إلا بالتدريج.
ولكن هذا يتوقف على أن يقوم بالأمر أهله.
ومن الناس من يرى أن اجتماع المؤتمر يتوقف على إذن الحكومة ومساعدتها
ولذلك اقترح داعيته إسماعيل بك فيما اقترح استئذانها، وما ضمنه من إجابة طائفة
من الروسيين والإيرانيين يبين ذلك، والحكومة المصرية لا تأذن بهذا المؤتمر ولا
تساعد القائمين به، لا سيما إذا كان فيهم من يشتغل بالسياسة ومن يتهم بالغرض؛
لأنه ممن لم يعرف عنه قط البحث في أمور الدين وطرق إصلاح المسلمين؛
كبعض المعزولين والمتقاعدين (المحالين على المعاش) . وإذا لم تأذن به الحكومة
إذنًا رسميًّا، فإن سائر الحكومات لا تأذن لمن يدعون إليه بالسفر لحضروه، وأهل
الرأي والفضل لا يسافرون لمثل هذا الأمر بدون إذن حكوماتهم؛ لئلا يكونوا عندها في
موضع التهمة.
ويقول آخرون: إن هذا مؤتمر حر لا يتوقف على إذن الحكومة ولا على
مساعدتها، وإنما إذنها ومساعدتها مزيد كمال فيه. أما إذا أرادت منعه فلا شك في
قدرتها على ذلك. ولكنه مما لا يظن فيها، اللهم إلا إذا حصل في الاجتماع شغب أو
فتن، مما تمنع مثله كل حكومة، مهما كانت عريقة في الحرية.
أما سلطان المسلمين الأعظم، فلم أر أحدًا من أهل الرأي يشك في استيائه من
هذا المؤتمر وحرصه على منعه إذا أمكن. وقد جاء من أخبار الآستانة في بعض
الجرائد ما يؤيد هذه الآراء، وأن السلطان سيكتب إلى الأمير والمعتمد الخاص
(مختار باشا الغازي) بتلافي ذلك. وأنه أمر بمنع الحجاج بالتعريج على مصر.
يزعم بعض الناس أن الأمير كوتب في ذلك بالفعل. وكراهة السلطان للمؤتمر - مما
يجعله عند كثير من المسلمين مكروهًا - يخشى ضره ولا يرجى نفعه، ويحول دون
نشر الجرائد العثمانية شيئًا من أخباره قبل انعقاده، بل ما يقرره إن هو انعقد. فلا
معنى لجعله تحت حمايته.
هذا أهم ما خطر لنا بيانه الآن من فكرة الدعوة إلى مؤتمر إسلامي وتاريخها،
وما يجب أن يكون أساسًا للمؤتمر المقترح الآن والآراء التي تستحق الاعتبار فيه.
__________
(*) قد سرق المرحوم إبراهيم بك نجيب من هذا المقال وغيره من فصول المنار ما شاء، وأودعه مقالاته التي كان ينشرها في جريدة اللواء تحت عنون (حماة الإسلام) .
(1) راجع فصل اللوائح في الجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام (ص 38) .(10/673)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
النسخ في الشرائع الإلهية
للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي
الطبيب في مستشفيات سجن طره
النسخ هو إبطال حكم لبدل أو لغير بدل. وهو واقع في جميع الشرائع الإلهية
والوضعية، خلافًا لمن أنكر ذلك من الجهلاء. أما الشرائع الوضعية فوقوعه فيها
مشاهد معروف. وأما الإلهية فشواهد وقوعه فيها عديدة، أغنتنا عن إيرادها مؤلفات
كثيرة بين الأمة الإسلامية أشهرها (إظهار الحق) لمؤلفه العلامة المحقق رحمة الله
الهندي. فقد أتى فيه بما يفحم كل مكابر، ويخرس كل عنيد.
يقع النسخ على ضربين:
(1) نسخ بعض شريعة رسول سابق بشريعة آخر لاحق.
(2) ونسخ حكم في شريعة بحكم آخر فيها.
والسبب في وقوعه اختلاف حال المكلفين باختلاف الزمان والمكان. فما
يلائم البشر في زمن طفوليتهم، قد لا يلائمهم في زمن كهولتهم وشيخوختهم. كما
أن ما يوافق الإنسان في صحته قد لا يوافقه في زمن مرضه، لذلك اقتضت
حكمة الشارع العليم أن ينسخ من شرائعه ما أصبح غير مناسب. قال الله تعالى:
{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاب} (الرعد: 38) {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 39) .
فالنسخ عندنا لا يقع إلا في الأحكام (الأوامر والنواهي) ولا يقع في
القصص أو في القضايا العقلية؛ إذ لا معنى لوقوعه في ذلك، كما أنه لا معنى
لوقوعه في الألفاظ. فلسنا ممن يسلم القول بنسخ لفظ بلفظ كما يتوهمون. أو بنسخ
لفظ وإبقاء حكمه كما يزعمون، إذا لو سلم ذلك لكان دليلاً على جهل الشارع أو
خطأه أو عبثه. فسبحان ربك واسع العلم والحكمة عما يصفون.
قدمنا ذلك لنعلم أن النسخ لمقتضٍ أو لحكمة لا عيب فيه عند العقل، وهو
واقع بالفعل، فإنكاره جهل أو مكابرة للمحسوس.
كما وقع النسخ في الشرائع السابقة، كذلك وقع في الشريعة الإسلامية؛
لمقتضيات الأحوال في الأمة العربية زمن التشريع. فكان للشريعة إذ ذاك صورتان:
(1) صورة تمهيدية وقتية.
(2) وصورة ثابتة باقية.
فالصورة الأولى هي التي صارت منسوخة لا يعمل بها. والصورة الثانية هي
التي لم تنسخ، وطولب الناس أجمعون بالعمل بها. أما الصورة الأولى فنجد لها
أمثلة عديدة في الأحاديث النبوية. وأما الصورة الثانية فأمثلتها كثيرة في الكتاب
(القرآن الشريف) .
وإذا فتشنا الأحاديث المنسوخة وجدنا بعضًا منها نسخ بأحاديث مثلها،
والبعض الآخر نسخ بالقرآن. وإذا فتشنا القرآن لا نجد فيه ما نسخ بقرآن مثله
ولا ما نسخ بحديث، كما بينا ذلك في مقالة لنا نشرت سابقًا في المنار (في الجزء
الثاني من المجلد التاسع صحيفة 110) . فالقرآن لا يجوز أن ينسخ بالسنة ولو
كانت متواترة، وبه قال الإمام الشافعي- رضي الله عنه - وليس فيه منسوخ مطلقًا
كما قال بعض أئمة المفسرين كأبي مسلم الأصفهاني. وكما دل على ذلك الاستقراء
والدليل.
الكلام في الناسخ والمنسوخ في الشريعة الإسلامية، نشأ بين المسلمين منذ
نشوءها؛ إذ لا يمكن الاستغناء عن البحث فيه بعد معرفة وقوعه فيها. فكان إذا
سمع أحد الصحابة حكمًا وعلم ما يخالفه، بحث في أيهما نسخ الآخر حتى يتضح له ما
يجب العمل به. فلا غرابة إذا سمعنا فيما روي عنهم أن فلانًا منهم قال: إن هذا الحكم
منسوخ بذاك.
وقد نعثر في الروايات على قول من يقول بخلاف قوله، وقد لا نعثر. ولكن
جميع هذه الروايات لا يمكن القطع بصحتها، وخصوصًا ما كان واردًا في تفسير
القرآن الشريف؛ لكثرة المكذوب منها، حتى قال أحد الأئمة وهو الإمام أحمد:
(ثلاثة لا أصل لها التفسير والملاحم والمغازي) ولا يخفى على أحد قدر الإمام أحمد
في علم الحديث. ولذلك لا يمكننا معرفة رأي الصحابة في موضوع النسخ في القرآن
على سبيل اليقين. وغاية ما يظهر لنا من الآثار المختلفة على علاتها أن بعضهم يقول
بجواز وقوع النسخ فيه؛ كعمر وابن عباس. والبعض الآخر كأُبي بن كعب ينكر
ذلك (أو على الأقل ينكر جواز نسخ أي عبارة من عبارات القرآن الشريف، إن سلم
نسخ حكمها) راجع ما قلناه في المقالة السابقة. على أن رأي أي واحد منهم لا يجوز
الأخذ به بدون دليل.
والذي نراه نحن: أن العقل لا يستقبح وقوع النسخ في القرآن الشريف، إذا
كان القرآن يبين لنا نصًّا جميع ما نسخ، وجميع ما لم ينسخ. أو أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم يبين ذلك بيانًا يُنْقَل متواترًا، ويتفق عليه عملاً بين المسلمين.
وإذ لم يكن هذا ولا ذاك، فالقائل بالنسخ يعرض الدين لطعن الطاعنين واستهزاء
الهازئين وعبث اللاعبين الذين جعلوا القرآن عضين، فيعملون ببعضه ويتركون
بعضه الآخر؛ اتباعًا لأوهامهم وأهوائهم، فما جزاء من يفعل ذلك منهم إلا خزى في
الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب، وما الله بغافل عما يعملون.
ومن العجيب دعواهم النسخ في الآيات مع عجزهم عن بيان الحكمة في نسخها،
وليس عندهم من دليل عليه عقلي أو نقلي. والله تعالى يقول في شأن القرآن
{لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} (الكهف: 27) فلا يجوز أن يبدله
الله بعد وعده بعدم تبديله؛ إذ النكرة (أي لفظ مبدل) في سياق النفي تعم.
يقول المحققون منهم: (إن النسخ خلاف الأصل، ومتى أمكن التفسير بدونه
وجب المصير إلى ذلك التفسير) وأي آية في القرآن لا يمكن تفسيرها بدون هذه
الدعوى الباطلة؟ فهذا إقرار عظيم بأن القرآن لا نسخ فيه، حيث إنه يمكن تفسير
جميعه بلا حاجة إلى ما يزعمون. وكيف ينسخ وهو لا يجوز التبديل فيه؟
وإذا كان القرآن (1) لم ينص على الآيات المنسوخة. (2) ولم يرد عن
رسول الله نص قاطع بذلك. (3) وما روي عن أصحابه مختلف وغير يقيني.
(4) ولم يتفق المسلمون على الآيات المنسوخة، بل ولا على القول بالنسخ.
(5) وإذا كان لا حاجة إليه في التفسير. (6) ولا حكمة تظهر فيه.
إذا كان كل ذلك، فبأي شيء يتمسكون؟
أما قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) ، وقوله:
{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} (النحل: 101) فقد فسرناهما في المقالة السابقة بما
يشفي العلة، ويروي الغلة. ونزيد الآن على التفسير أن الآية الثانية هي من سورة
النحل. وقد نزلت هذه السورة قبل إيجاب القتال على المؤمنين؛ أي في مكة أو في
أوائل مدة المدينة [1] كما تدل على ذلك الروايات الكثيرة، وكذلك قوله تعالى فيها:
{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ
أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل:41-
42) ، وقوله في آخرها: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ
لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي
ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} (النحل: 126-127) ، وإذا كان نزولها في مكة فالمراد
بالهجرة في الآية السابقة هجرة الحبشة. وعلى كل حال إذا كان نزولها في مكة أو
في أول مدة المدينة؛ فأي حكم من أحكام الشريعة الإسلامية كان نزل في تلك المدة
ثم نسخ، حتى يرد فيها قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (النحل: 101) الظاهر أن القول بأنه مفتر إنما صدر من أهل
الكتاب الموجودين بالمدينة، أو القليل منهم الموجود بمكة حينما سمعوا أن
محمدًا صلى الله عليه وسلم، يحل ما حرمته الشريعة الموسوية من المطعومات.
كما في سورة الأنعام المكية، التي ورد فيها قوله تعالى {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ
إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} (الأنعام: 145) إلى قوله:
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ
مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
* فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ} (الأنعام: 146-147) . وقد أشار تعالى في سورة النحل إلى هذه الآيات بقوله:
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} (النحل: 118) بعد الآية
التي نحن بصدد الكلام عليها بقليل، وقد كذبوه كما أخبر، فما ذكرناه هنا وهناك
يدل على أن تفسير الآية هكذا: وإذا أتينا بحكم في الشريعة الإسلامية بدل حكم في
الشرائع السابقة ووضعناه مكانه قالوا: إنما أنت كذاب تختلق الأحكام وتنسبها إلى
الله ... إلى آخر الآيات.
أما تفسيرهم لهذه الآية وآية (ما ننسخ) فهو يخالف السياق في كل منهما،
وينافي قوله تعالى {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِِ} (الكهف:
27) الآية.
والخلاصة: أن القرآن لا نسخ فيه مطلقًا. أما السنة القولية (الأحاديث)
فبعضها نسخ بالقرآن، وبعضها الآخر نسخ بالأحاديث الأخرى. وعندنا أنه لم يبق
منها شيء يجب العمل به غير موجود في القرآن؛ لأنها لم تكن إلا شريعة وقتية
تمهيدية لشريعة القرآن الثابتة الباقية، ولذلك كانت قولية نهيت الصحابة عن كتابتها
ولم يعاملها النبي عليه السلام ولا أصحابه بالعناية التي عومل بها القرآن؛ لتزول
من بين المسلمين وتندثر [2] فلا يعملون بها. كما بينا ذلك في مقالات لنا سبقت في
المنار. وإن أنكر علينا منكر ونسبنا للمروق، قلنا له:
(1) إذا كان نسخ القرآن بالسنة غير جائز، كما هو مذهب الشافعي.
(2) وإذا كان تخصيص عموم القرآن بها لا يجوز، كما هو مذهب داود
وأهل الظاهر والخوارج.
(3) وإذا كان العمل بالظن مذمومًا في القرآن الشريف. وكل ما ورد
فيها من الأحكام ظني بإجماع علماء الحديث؛ لأنها أخبار آحاد. إذا كان كل
ذلك مُسَلَّمًا به بين المسلمين بعضهم أو جميعهم، فأيّ شيء خالفتُ فيه الإجماع
أو ابتدعته، حتى أرمى بالمروق؟
أنا لا أنكر ما للأحاديث من الفوائد العلمية أو التاريخية أو اللغوية أو الأدبية،
ولكن كل ذلك لا يوجب العمل بها على المسلمين، ولا يلحقها بالقرآن الشريف.
الدين الذي يكفر منكره شيئان: القرآن وما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛
لأن إنكار المتواتر مكابرة وجحود، فلا يجب التعويل إلا عليهما، ولا الرجوع إلا
إليهما.
{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} (النساء: 59) والرد
إلى الله يكون بالرجوع إلى كتابه، وإلى الرسول بالرجوع إليه في حياته، وإلى ما
أيقنا أنه منه بعد وفاته. ولم يقل القرآن إلى من ظننتموه الرسول أو ما حسبتموه صدر
منه، فلا يمكن الإيقان إلا بالمتواتر أو الدليل العقلي.
لم يتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله إلا القليل الذي لا شيء فيه
من أحكام الدين؛ لأن الله أراد أن تكون سنن الأقوال شريعة زائلة. أما سنن
الأعمال المتواترة فقد أراد الله أن تبقى بين المسلمين؛ لإيضاح الكتاب ولتصوير ما
أراده بالفعل ككيفية الصلاة والحج؛ لأن الإيضاح بالعمل أبلغ من كل قول. ولذلك
أجمل القرآن الكلام في هاتين المسألتين؛ اكتفاء بعمل النبي صلى الله عليه وسلم لهما
بين جماهير الناس الذين يؤمَن تواطؤهم على الكذب. وهما مما يحسن
إتيانه في الجماعة. بل لا يصح إتيان أحدهما (أي الحج) إلا فيها. فلا خوف
عليهما من الضياع أو النسيان. ولا يجوز أن يتفق المسلمون على تحريفهما عن
وضعهما، فقد بلغنا - ولله الحمد - من التواتر ما يمنع كل ذلك.
الحق أقول: لا يمكن للمسلمين أن يرتقوا ما داموا جامدين على الأحاديث،
(وقد انقضى زمنها) كلفين بالروايات، وهي ممتلئة بالأكاذيب والأوهام والخرافات.
وهي أعظم سبب ضلال كل أمة في عملها واعتقادها.
ألا فلنحارب الترهات، ولنقض على الضلالات، ولنمت على ديننا: كتاب
الله وما بين منه بالسنة العملية المتواترة، فلا نحيا إلا بهما في الدنيا والآخرة.
(تذييل)
ذكرنا في الصفحة 913 من المجلد التاسع من المنار ملخص معاملة النبي صلى
الله عليه وسلم وأصحابه للأحاديث. ونذكر الآن ملخص آراء أئمة المسلمين
فيها؛ ليعلم القارئون أننا لم نفتجر شيئا في الدين، فنقول:
إن الأحاديث التي رويت متواترة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، وهي
مع ذلك لا دخل لها في أحكام الشريعة الإسلامية؛ كحديث (أنزل القرآن على سبعة
أحرف) ، وحديث (اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم فمن كذب علي متعمدًا فليبتوأ
مقعده من النار) وسائر الأحاديث الأخرى رويت آحادًا. وبعضها عندهم منسوخ وأما
التي لم يقولوا بنسخها، فهاك آراءهم فيها:
(1) رفض أبو حنيفة مع قربه من زمن الرسول (ولد سنة 80 وتوفي
سنة 150) جميع الأحاديث لعدم صحتها عنده إلا بضعة عشر حديثًا
(راجع كتاب روح الإسلام) وعول هو وأتباعه في مذهبهم على الكتاب والقياس
فقدموهما على الحديث.
(2) قدم مالك - رضي الله عنه - عمل أهل المدينة على الحديث، والسنة
عند السلف هي الطريقة المتبعة عملاً لا الأحاديث.
(3) أنكر الشافعي جواز نسخ القرآن بالأحاديث ولو كانت متواترة.
(4) أنكر الإمام أحمد صحة الأحاديث التي رويت في تفسير القرآن
الحكيم.
(5) قالت الظاهرية: إنه لا يجوز تخصيص عموم القرآن بها، وإن
العمل بها غير واجب مطلقًا، بل هو مذموم ظنية، والعمل بالظن مذموم في
القرآن الشريف.
(6) رأي المحققين من علماء المسلمين أنه لا يجوز الأخذ بها في العقائد.
فهذه هي آراؤهم فيها كما في كتب الأصول. فأي شيء ابتدعته أو افتجرته أو
خالفت فيه الإجماع، إذا كان ما ذكرت هو حكمها عن أئمة المسلمين. فليتروَّ
المنصفون وليتدبر العاقلون {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات:55) .
(المنار)
إن لنا قولاً في هذه المسائل ننشره في جزء آخر، ونقبل من العلماء
الباحثين كل ما يرد إلينا في ذلك، لا يشترط فيه إلا التزام ما يليق بالعلماء من الأدب
والنزاهة، وبناء المناظرة على احترام اعتقاد المناظر.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الظاهر أنها نزلت قبل السنة الثانية من الهجرة؛ أي قبل إتيان النبي بأحكام الشريعة.
(2) حاشية للكاتب - لا يرد على ذلك وجود الأحاديث الكثيرة بينهم؛ لأنها كلها تقريبا مشكوك فيها.(10/683)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطبة إسماعيل بك عاصم المحامي
التي ألقاها في الحفلة [*] التي أعدها في داره لعلماء الكتاب أصحاب المجلات
المصرية ومحرريها؛ احتفالاً بإتمام مجلة المنار للسنة العاشرة من عمرها (مساء
12 شوال سنة 1325 28 نوفمبر سنة 1907) .
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد حمد الله، والصلاة والسلام على من اجتباه، فإن براعة استهلالي هي
تقديم الشكر والثناء لحضراتكم على إجابة دعوتي، وتشريف هذا الاحتفال الأدبي
بإكمال مجلة المنار الزهراء لصديقنا السيد محمد رشيد رضا السنة العاشرة من
عمرها.
ولعل هذه أول مرة قام فيها إنسان عربي مصري بمثل هذه الحفلة، ودعا إليها
أعاظم أصحاب المجلات، وأفاضل محرريها؛ سرورًا وابتهاجًا بمجلة علمية أتمت
العقد الأول من عقود الأعداد، وأرجو أن يكون هذا الاجتماع فاتحة لأمثاله في
المستقبل.
إني يا حضرات الأفاضل، عرفت مجلة المنار في السنة الثانية من نشأتها؛
إذ نبهني إليها صديقي المرحوم (نقولا بك توما) الأصولي الشهير، وكان في
يده نسخة منها، قال لي: إنها أحسن مجلة دينية وأفصح صحيفة عربية أدبية،
فأنعمت النظر فيها فألفيتها جديرة بالمطالعة والادخار، وحينئذ تاقت نفسي لمعرفة
محررها، وقابلته فوجدت منه إنسانًا فاضلاً أديبًا، وكاتبًا عالمًا أريبًا، كما تشاهدون
وتشهدون. فعاشرته ثمانية أعوام وهو يزداد كمالاً في محاسن أخلاقه، وتزداد
مجلته جمالاً بالمباحث الأخلاقية العالية والأفكار الصحيحة البعيدة عن التقليد
الأعمى، وبالمقالات الحكمية العمرانية، من الوجهتين الدينية والمدنية، فازداد
حبي له كما ازداد إعجابي بثباته بالرغم من مقاومة الذين لا يفقهون ما يقول أو
يفقهون قوله , ولكنهم يثيرهم عليه الجهل الذي قد يثور بأهله البسطاء على
المصلحين الأذكياء، فازدادت مجلته انتشارًا، ولاقت عند أهل الحجا اعتبارًا، حتى
غبطه عليها محبوه، وإنما يعرف الفضل ذووه.
ومن المقرر أيها السادة، أن الصحف هنا قسمان: أحدهما سياسي ويغلب عليه
اسم الجرائد، وهي تبحث في الغالب عن الحكومة، وعلاقتها بالأمة والدول،
وعن الأمة وعلاقتها بالحكومة، وعن حقوق كل منهما التي لها أو عليها للأخرى،
وتراقب ما يتجدد من التقنين والتشريع، وتنبه إلى العدالة والاعتدال، والانتصار
للمظلوم، والأخذ بيد صاحب الحق المهضوم، ونحو ذلك. فهي نعم المرشد الأمين
إذا أخلصت في النصح والإرشاد، ولم تسلك سبل التحيز والهوى والعناد.
والقسم الثاني: علمي أدبي؛ ويغلب عليه اسم المجلات. وهي تبحث عن
تقويم الأخلاق وتهذيب النفوس، وتثقيف الطباع وتصحيح الأفكار، وإحياء اللغة التي
بها حياة الأمة، وإنماء الصنائع، والتنبيه إلى المخترعات المفيدة، وبث روح العلوم
النافعة الجديدة، إلى غير ذلك مما يرقي العرفان، ويزداد به العمران.
وهذه ربما كانت أنفع للأمم، وخصوصًا للحديثة العهد منها بالمدنية؛ لأنها
مهما تضاربت أفكارها وتسابقت أقلامها، فهي إنما تكون للبحث في مسائل علمية
اجتماعية، أو أمور صناعية عمرانية، فلا يحدث عن احتكاك بعضها بالبعض غير
أشعة تستضيء بنورها العقول.
ولهذا وجب على أرباب المجلات أن يتتبعوا الرذيلة فيطمسوا رسومها،
ويتعاونوا على قلع جذورها من النفوس الضالة بما أوتوا من الهداية والحكمة،
والموعظة الحسنة وقوة البرهان {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) ، وأن يتبعوا الفضيلة من طريق الشرائع السماوية
والنواميس الاجتماعية ويثبتوها في النفوس، حتى تنطبع في مرآة أخلاق الأمة
وشعورها.
والناس تسعد بالأخلاق ما صلحت ... فإن هم فسدت أخلاقهم فسدوا
فإذا أنتم قمتم بهذه الواجبات، وأديتم المطلوب من مجلاتكم حق الأداء،
فاستنارت بها عقول الأمة وارتقت أفكارها وعظمت نفوسها، فعرفت قيمة الاجتماع
وقوة التعاون، فأوجدت المدارس والمستشفيات والمصارف والكليات والجامعات
العالية بقدر الحاجة إليها، ثم ذاقت لذة القيام بنفسها، وأنفت إجابة كل داع يضلها
عن السبيل السوي - هنالك يتيسر لها إيجاد المجالس النيابية، واللجان
التشريعية التي تطلبها الجرائد السياسية، ويتمناها كل محب لنفسه ووطنه.
لا يخفى على حضراتكم أن من الأدلة على حياة الأمة وارتقائها أن تعرف قيمة
رجالها العاملين لنفعها حق قدرهم، وتشجعهم على أعمالهم حسًّا ومعنى،
فيذوقوا من حلاوة الاحترام والإكرام ما يقوي منهم الآمال بالإصلاح العام، فيزدادوا
نشاطًا وتفننًا في عملهم، ويقتدي بهم غيرهم، فيزداد ارتقاء الأمة بقدر زيادة
النابغين فيها.
لهذا رأيت من الواجب عليَّ لصديقي (المرشد الرشيد) أن أحتفل بإكمال مجلته
(المنار) للسنة العاشرة من ظهورها في هذا اليوم المبارك 22 شوال سنة
1325، فقد كان في مثله ظهور أول عدد منها سنة 1315. ويحسن بي أن
أعرض على نظركم هذه النسخة من العدد الأول المذكور، وأقتطف منه زهرات
متفرقة، يتأرج نادينا بعرفها.
قال في المقدمة الافتتاحية: أيها الشرقي المستغرق في منامه، قد تجاوزت حد
الراحة فتنبه من سباتك وانظر إلى هذا العالم الجديد، فقد بدلت الأرض غير
الأرض، واستولى أخوك الغربي المستيقظ على قوى الطبيعة، فقرن بين الماء
والنار وأولدهما البخار، واستخدم الكهرباء والنور، واخترق الجبال، واختبر
أعماق البحار، وعرف مسائلة الهواء، وجمع بين أقطار الأرض، بل عرج للقبة
الفلكية فعرف الكواكب ومادتها، إلى أن قال: وإن هذا العصر عصر العلم والعمل
فلا تضيع أوقاتك بالتخيل والتفكر والأماني والتشهي. {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} (فصلت: 46) .
ثم قال: إن من وظيفة هذه المجلة الحث على تربية البنات والبنين،
وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، وشرح الدخائل التي مازجت عقائد الأمة
وشبهت الحق بالباطل، حتى صار إنكار الأسباب إيمانًا، وترك الأعمال المفيدة
توكلاً، ومعرفة الحقائق كفرًا، والتسليم بالخرافات صلاحًا، واختبال العقل ولاية،
والخنوع والذل تواضعًا، والتقليد الأعمى علمًا وإيقانًا.
ومن غرضها رد الشبهات الواردة عن الشريعة الإسلامية، ودحض مزاعم من
زعم أنها حجاب بين العاملين بها وبين المدنية، وإقناع أرباب النِّحل المتباينة بأن الله
- تعالى - شرع الدين للتحاب والتواد والبر والإحسان، وإن المعارضة
والمناصبة تفضي إلى خراب الأوطان، وتقضي على هدي الأديان.
فهذا ما أردت أن أجتنيه لكم من أزهار هذه المقدمة.
ومن أبدع ما رأيته؛ أن سعادة العالم الفاضل أحمد فتحي باشا زغلول استشهد
في مقدمة ترجمته لكتاب (الإسلام) المطبوع في سنة 1315 في الصفحة
السابعة بشذرات من فاتحة أول عدد من المنار، فهي حينئذ قد شبت في مهدها،
وحازت الثقة عند أكابر الأمة منذ نشأتها.
فهذا ما دعاني أيها الأخلاء لاتخاذ هذه المناسبة اللطيفة والمصادفة الجميلة،
وسيلة حسنة للتشرف بدعوة حضراتكم لنجتمع على مائدة السمر الأدبي فوق أرائك
المحبة والصفاء، فيهنئ بعضنا البعض على هذا الاجتماع الأخوي المفيد، ونهنئ
كلنا هذا الأخ العزيز المحتفل به على توفيقه لهذه الخدمات التي نوهنا عنها، ونسأل
الله أن يمنحه الصحة ويزيد في عمره وعمر مجلته؛ ليزداد به النفع العام. وهذا
جهد ما يستطيع مثلي عمله والسلام.
لا خيل عندي أهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
ثم إني أشكر حضراتكم بلسان الأمة المصرية على جزيل فوائد مجلاتكم
الزاهرة، فإنها طالما نشرت من أريج دوحها ما تعطرت بها النفوس، وأتمنى أن
يتكرر مثل هذا الاجتماع ولو مرة في كل شهر؛ لتبادل الآراء في ما يكون به زيادة
ترقية الأفكار.
وفي الختام أبتهل إلى الله أن يؤيد مولانا الخليفة والسلطان الأعظم بروح من
عنده، وأن يوفق خديوينا المعظم ورجال حكومته وعقلاء الأمة لما فيه نقع العباد
وخير البلاد، آمين.
__________
(*) راجع خبر الحفلة في باب الأخبار والآراء.(10/689)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حجة الإسلام
أبو حامد الغزالي
(3)
رأيه في العلوم الدنيوية
قال في بيان العلم الذي هو فرض كفاية من الباب الثاني من كتاب إحياء العلوم
الذي بين فيه العلوم المحمودة والمذمومة.
(اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر العلوم. والعلوم بالإضافة إلى
الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية، وأعني بالشرعية ما
اسْتُفِيدَ من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب،
ولا التجربة مثل الطب، ولا السماع مثل اللغة.
فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود، وإلى ما هو مذموم،
وإلى ما هو مباح. فالمحمود ما ترتبط به مصالح الدنيا كالطب والحساب، وذلك
ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس فريضة.
أما فرض الكفاية فهو ما لا يستغنى عنه في قوام الدنيا كالطب؛ إذ هو
ضروري في حاجة بقاء الأبدان. وكالحساب فإنه ضروري في المعاملات، وقسمة
الوصايا والمواريث وغيرها. وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج
أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين. فلا يُتعجب من
قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات، فإن أصول الصناعات أيضًا من
فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة، فإنه لو خلا
البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك [1] ، فإن الذي
أنزل الداء أنزل الدواء [2] وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه، فلا يجوز
التعرض للهلاك بإهماله.
وأما ما يُعَدّ فضيلة لا فريضة؛ فالتعمق في دقائق الحساب وحقائق الطب
وغير ذلك مما يستغنى عنه. ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه.
وأما المذموم منه؛ فعلم السحر والطلمسات، وعلم الشعوذة والتلبيسات.
وأما المباح منه؛ فالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها، وتواريخ الأخبار وما
يجري مجراه) اهـ.
أقول: لا يظهر وجه ما قاله في الأشعار التواريخ، إلا فيمن يقرأهما لمحض
التسلي والتفكه. فأما قراءة الأشعار لأجل معرفة اللغة - مفرداتها وأساليبها -
واكتساب ملكة البلاغة وتمييز الصحيح والفصيح من غيره، فهو على قاعدته من
فروض الكفاية، بل ربما يستنبط من كلام له في كتاب (إلجام العوام من علم الكلام)
أن معرفة اللغة العربية فرض عين على كل مسلم، بحيث يفهم الكلام البليغ ويميز
بين الحقيقة والمجاز والكناية، فإنه قال هنالك:
إن ما ورد في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته وأفعاله لا يجوز أن يؤخذ
بالترجمة؛ فإن غير العربية لا تؤدي ما يؤديه القول الوارد فيها على وجهه في
كل صفة من تلك الصفات، وضرب لذلك الأمثال.
وأما تواريخ الأخبار - ولعله يعني بهما ما يقابل تواريخ المحدثين - فقد كانت
في زمنه قليلة الفائدة، وهي في هذا العصر مادة السياسة التي قال بأنها فريضة،
وينبوع العلوم الاجتماعية التي تشرح لنا سنن الله- تعالى - في الأمم، وهو يعد
العلم بسنن الله - تعالى- في خلقه كالعلم بصفات الله وكماله أعلى العلوم الدينية،
كما سيأتي عنه. فلو كان في هذا العصر لقال في الشعر والتاريخ قولاً مفصلاً على
نحو ما قلنا.
رأيه في علوم الفلسفة
ثم تكلم عن العلوم الشرعية، وأورد على نفسه هذا السؤال (فإن قلت فلم لم
تورد في أقسام العلوم الكلام والفلسفة، وتبين أنهما مذمومان أو محمودان) وأجاب
عن علم الكلام بما سنذكره في الكلام عن العلوم الدينية وإن كان لا يعده منها، وعن
الفلسفة بما يأتي:
وأما الفلسفة فليست علمًا برأسها، بل هي أربعة أجزاء:
(أحدها) الهندسة والحساب وهما مباحان كما سبق، ولا يُمْنَع عنهما إلا من
يخاف عليه أن يتجاوزهما إلى علوم مذمومة، فإن أكثر الممارسين لهما قد خرجوا
منهما إلى البدع، فيُصان الضعيف عنه لا لعينه، كما يصان الصبي عن شاطئ النهر
خيفة عليه من الوقوع في النهر، وكما يصان الحديث العهد بالإسلام عن مخالطة
الكفار خوفًا عليه، مع أن القوي لا يندب إلى مخالطتهم.
(والثاني) المنطق وهو بحث عن وجه الدليل وشروطه، وهما داخلان في
علم الكلام.
(والثالث) الإلهيات وهو بحث عن ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته، وهو
داخل في الكلام أيضًا، والفلاسفة لم ينفردوا فيها بنمط آخر من العلم، بل انفردوا
بمذاهب بعضها كفر وبدعة، وكما أن الاعتزال ليس علمًا برأسه، بل أصحابه طائفة
من المتكلمين وأهل البحث والنظر، انفردوا بمذاهب باطلة فكذلك الفلاسفة.
(والرابع) الطبيعيات وبعضها مخالف للشرع والدين الحق، فهو جهل وليس
بعلم حتى يورد في أقسام العلوم، وبعضها بحث عن صفات الأجسام
وخواصها وكيفية استحالتها وتغيرها، وهو شبيه بنظر الأطباء، إلا أن الطبيب ينظر
في بدن الإنسان على الخصوص من حيث يمرض ويصح. وهم ينظرون في جميع
الأجسام من حيث تتغير وتتحرك. ولكن للطب فضل عليه وهو أنه محتاج إليه. أما
علومهم في الطبيعيات فلا حاجة إليها) اهـ.
وقد أوسع المجال لذلك في كتابه (المنقذ من الضلال) ، فقال:
فصل
في أقسام علومهم
اعلم أن علومهم بالنسبة إلى الغرض الذي نطلبه ستة أقسام: رياضية
ومنطقية وطبيعية وإلهية وسياسية وخلقية. أما الرياضية فتتعلق بعلم الحساب
والهندسة وعلم هيئة العالم، وليس يتعلق شيء منها بالأمور الدينية نفيًا وإثباتًا،
بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتها بعد فهمها ومعرفتها، وقد تولدت منها
آفتان:
(الأولى) من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها، فيحسُن
بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة، ويحسب أن جميع علومهم في الوضوح ووثاقة
البرهان كهذا العلم، ثم يكون قد سمع من كفرهم وتعطيلهم وتهاونهم بالشرع ما
تناولته الألسن، فيكفر بالتقليد المحض ويقول: لو كان الدين حقًّا لما اختفى على
هؤلاء مع تدقيقهم في هذا العلم، فإذا عرف بالتسامع كفرهم وجحدهم، يستدل على
أن الحق هو الجحد والإنكار للدين، وكم رأيت ممن ضل عن الحق بهذا القدر ولا
مستند له سواه، وإذا قيل له: الحاذق في صناعة واحدة ليس يلزم أن يكون حاذقًا في
كل صناعة. فلا يلزم أن يكون الحاذق في الفقه والكلام حاذقًا في الطب، ولا أن
يكون الجاهل بالعقليات جاهلاً بالنحو، بل لكل صناعة أهل بلغوا فيها البراعة
والسبق، وإن كان الحمق والجهل قد يلزمهم في غيرها، فكلام الأوائل في
الرياضيات برهاني وفي الإلهيات تخميني، لا يعرف ذلك إلا من جربه وخاض فيه.
فهذا إذا قرر على هذا اتخذ (كذا) بالتقليد، لم يقع منه موقع القبول، بل تحمله
غلبة الهوى وشهوة البطالة وحب التكايس، على أن يصر على تحسين الظن بهم في
العلوم كلها، فهذه آفة عظيمة لأجلها يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم،
فإنها وإن لم تتعلق بأمر الدين لكن لما كانت من مبادئ علومهم يسري إليه شرههم
وشؤمهم، فقلَّ من يخوض فيه إلا وينخلع من الدين وينحل عن رأسه لجام التقوى.
(الآفة الثانية) نشأت من صديق للإسلام جاهل ظن أن الدين ينبغي أن
يُنصر بإنكار كل علم منسوب إليهم، فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها حتى أنكر
قولهم في الكسوف والخسوف وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع، فلما قرع ذلك
سمْعَ من عرف ذلك بالبرهان القاطع لم يشُك في برهانه، لكن اعتقد أن الإسلام مبني
على الجهل وإنكار البرهان القاطع، فيزداد للفلسفة حبًّا وللإسلام بغضًا، ولقد عظم
على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع
تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية. وقوله
عليه السلام: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا
لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله تعالى وإلى الصلاة) ليس في هذا ما
يوجب إنكار علم الحساب المعرف بمسير الشمس والقمر واجتماعهما أو مقابلتهما
على وجه مخصوص وأما قوله (لكن الله إذا تجلى لشيء خضع له) فليس توجد
هذه الزيادة في الصحاح أصلا. فهذا حكمة الرياضيات وآفتها.
(وأما المنطقيات) فلا يتعلق شيء منها بالدين نفيًا وإثباتًا، بل هو النظر في
طرق الأدلة والمقاييس وشروط ومقدمات البرهان وكيفية تركيبها وشروط الحد
الصحيح وكيفية ترتيبها، وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد، وإما تصديق
وسبيل معرفته البرهان. وليس في هذا ما ينبغي أن ينكر بل هو من جنس ما ذكره
المتكلمون وأهل النظر في الأدلة، وإنما يفارقونهم بالعبارات والاصطلاحات وبزيادة
الاستقصاء في التعريفات والتشبيهات ومثل كلامهم في قولهم: إذا ثبت أن كل (1)
(ب) لزم أن بعض (ب) (1) أي إذا ثبت أن كل إنسان حيوان لزم أن بعض
الحيوان إنسان ويعبرون عن هذا بأن الموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية، وأي تعلق
لها بمهمات الدين يجحد وينكر؟ فإذا أنكر لم يحصل من إنكاره عند أهل المنطق إلا
سوء الاعتقاد في عقل المنكر بل في دينه الذي يزعم أنه موقوف على مثل هذا
الإنكار، نعم لهم نوع من الظلم في هذا العلم وهو أنهم يجمعون للبرهان شروطًا يعلم
أنها تورث اليقين لا محالة، لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء
بتلك الشروط، بل تساهلوا غاية التساهل.
وربما ينظر في المنطق أيضا من يستحسنه ويراه واضحا فيظن أن ما ينقل
عنهم من الكفريات مؤيدة بمثل تلك البراهين فاستعجل بالكفر قبل الانتهاء إلى العلوم
الإلهية فهذه الآفة أيضا متطرقة إليه.
(وأما علم الطبيعيات) فهو بحث عن أجسام العالم: السموات وكواكبها وما
تحتها من الأجسام المفردة كالماء والهواء والتراب والنار، ومن الأجسام المركب
كالحيوان والنبات والمعادن وعن أسباب تغيرها واستحالتها وأمزاجها. وذلك يضاهي
بحث الطبيب عن جسم الإنسان وأعضائه الرئيسة والخادمة وأسباب استحالة مزاجه،
وكما ليس من شرط الدين إنكار ذلك العلم إلا في مسائل معينة ذكرناها في كتاب
(تهافت الفلاسفة) وماعداها مما يجب المخالفة فيها فعند التأمل يتبين أنها مندرجة
تحتها وأصل جملتها أن يعلم أن الطبيعة مسخرة لله تعالى لا تعمل بنفسها، بل هي
مستعملة من جهة فاطرها، والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات بأمره لا فعل
لشيء منها بذاته عن ذاته.
(وأما الإلهيات) ففيها أكثر أغاليطهم. فما قدروا على الوفاء بالبراهين على ما
شرطوا في المنطق، ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيه. ولقد قرب أرسطاطاليس مذهبه
فيها من مذاهب الإسلاميين على ما نقله الفارابي وابن سينا ولكن مجموع ما غلطوا
فيه يرجع إلى عشرين أصلا يجب تكفيرهم في ثلاثة منها وتبديعهم في سبعة عشر،
ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين صنفنا كتاب التهافت. أما المسائل الثلاث
فقد خالفوا فيها كافة المسلمين، وذلك في قولهم أن الأجساد لا تحشر وإنما المثاب
والمعاقب هي الأرواح المجردة والعقوبات روحانية لا جسمانية، ولقد صدقوا في
إثبات الروحانية فإنها كائنة أيضًا ولكن كذبوا فيها إنكار الجسمانية وكفروا بالشريعة
فيما نطقوا به. ومن ذلك قولهم أن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات، فهو أيضًا
كفر صريح بل الحق أنه (لا يعزب عن علمه مثقال ذرة فى السماوات ولا فى
الأرض) .
ومن ذلك قولهم بقدم العالم وأزليته، فلم يذهب أحد من المسلمين إلى شيء من
هذه المسائل.
وأما وراء ذلك من نفيهم الصفات وقولهم أنه عليم بالذات لا بعلم زائد على
الذات، وما يجري مجراه فمذهبهم فيها قريب من مذهب المعتزلة ولا يجب تكفير
المعتزلة بمثل ذلك، وقد ذكرنا في كتاب (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) ما
يتبين فيه فساد رأي من يتسارع إلى التكفير في كل ما يخالف مذهبه.
(وأما السياسيات) فمجموع كلامهم فيها يرجع إلى الحكم والمصلحة المتعلقة
بالأمور الدنيوية السلطانية، وإنما أخذوها من كتب الله المنزلة على الأنبياء ومن الحكم
المأثورة عن سلف الأولياء.
(وأما الخلقية) فجميع كلامهم فيها يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها
وذكر أجناسها وأنواعها وكيفية معالجتها ومجاهدتها، وإنما أخذوها من كلام الصوفية
وهم المتأملون المثابرون على ذكر الله تعالى وعلى مخالفة الهوى، وسلوك الطريق
إلى الله تعالى بالإعراض عن ملاذ الدنيا، وقد انكشف لهم في مجاهداتهم من أخلاق
النفس وعيوبها وآفات أعمالها ما صرحوا بها فأخذها الفلاسفة ومزجوها بكلامهم
توسلا بالتجمل بها إلى ترويج باطلهم. ولقد كان في عصرهم - بل في كل عصر -
جماعة من المتألهين لا يخلي الله العالم عنهم، فإنهم أوتاد الأرض ببركتهم تنزل
الرحمة إلى أهل الأرض) اهـ المراد منه.
***
أقول: هذا آخر ما استقر عليه رأي الإمام أبي حامد في هذه العلوم لأن هذا
الكتاب من آخر ما كتب. ومنه يعلم أنه لا ينكر من علومهم شيئًا يُعد مخالفًا للدين إلا
مسائل معدودة من الفلسفة الإلهية، وإنا نزيد المسألة بيانًا بإيراد ما كتبه قبل ذلك في
مقدمة كتابه (تهافت الفلاسفة) قال:
(أما بعد فإني رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء
بمزيد الفطنة والذكاء، قد رفضوا طوائف الإسلام والعبادات واستحقروا شعائر الدين
ووظائف الصلوات والتوقي عن المحظورات، واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده
ولم يقفوا عند توقيفاته وقيوده، بل خلعوا بالكلية ربقة الدين، يفنون من الظنون
يتبعون فيها رهطًا يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا وهم بالآخرة هم كافرون،
ولا مستند لكفرهم غير سماع الغي كتقليد النصارى واليهود؛ إذ جرى على غير دين
الإسلام نشؤهم وولادهم، وعليه درج آباؤهم وأجدادهم، ولا عن بحث نظري
صادر عن التعثر بأذيال الشبه الصارفة عن صوب الصواب، والانخداع
بالخيالات المزخرفة كلامع السراب، كما اتفق لطوائف من النظار في البحث عن
العقائد والآراء من أهل البدع الأهواء، وإنما مصدر كفرهم سماعهم أسامي هائلة
كسقراط وأبقراط وأفلاطون وأرسطاطليس وأمثالهم، وإطناب طوائف متبعيهم
وضُلاَّلهم، في وصف عقولهم وحسن أصولهم، ودقة علومهم الهندسية والمنطقية
والطبيعية والإلهية، واستبدادهم بفرط الذكاء والفطنة، واستخراج تلك الأمور
الخفية، وحكايتهم عنهم أنهم مع رزانة عقولهم وغزارة فضلهم، منكرون للشرائع
والنحل، وجاحدون لتفاصيل الأديان والملل، ويعتقدون أنها نواميس مؤلفة وحيل
مزخرفة، فلما قرع ذلك سمعهم ووافق ما حكي لهم من عقائدهم طبعهم، تجملوا
باعتقاد الكفر تحيزًا إلى غمار الفضلاء بزعمهم، وانخراطًا في سلكهم، وترفعًا عن
مساعدة الجماهير والدهماء، واستنكافًا من القناعة بأديان الآباء، ظنًّا بأن إظهار
التكايس في النزوع عن تقليد الحق بالشروع في تقليد الباطل جمال، وغفلة منهم عن
أن الانتقال إلى تقليد عن تقليد خرق وخبال، فأية رتبة في عالم الله أخس من رتبة من
يتجمل بترك الحق المعتقد تقليدًا، بالتسارع إلى قبول الباطل دون أن يقبله خبرًا
وتحقيقًا، والبله من العوام بمعزل عن فضيحة هذه المهواة، فليس في سجيتهم حب
التكايس بالتشبه بذوي الضلالات، والبلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء
والعمى أقرب إلى السلامة من بصيرة حولاء.
فلما رأيت هذا العرق من الحماقة نابضًا على هؤلاء الأغبياء، ابتدأت بتحرير
هذا الكتاب ردًّا على الفلاسفة القدماء، مبينًا تهافت عقيدتهم، وتناقض كلمتهم فيما
يتعلق بالإلهيات، وكاشفًا عن غوائل مذهبهم وعوراته التي هي على التحقيق
مضاحك العقلاء، وعبرة عند الأذكياء، أعني ما اختصوا به عن الجماهير والدهماء
من فنون العقائد والآراء، هذا مع حكاية مذهبهم على وجهه ليتبين لهؤلاء الملحدة
تقليدا اتفاق كل مرموق من الأوائل والأواخر على الإيمان بالله واليوم الآخر، وأن
الاختلافات راجعة إلى تفاصيل خارجة عن هذين القطبين اللذين لأجلهما بعث
الأنبياء المؤيدون بالمعجزات، وأنه لم يذهب إلى إنكارهما إلا شرذمة يسيرة من
ذوي العقول المنكوسة، والآراء المعكوسة، الذين لا يؤبه لهم ولا يعبأ بهم فيما بين
النظار، ولا يعدون إلا في زمرة الشياطين الأشرار وغمار الأغبياء والأغمار ليكف
عن غلوائه، من يظن أن التجمل بالكفر تقليدًا يدل على حسن آرائه، أو يشعر
بفطنته وذكائه، إذ يتحقق أن هؤلاء الذين تشبه بهم من زعماء الفلاسفة وروسائهم
براء عما قذفوا من جحد الشرائع، وأنهم مؤمنون بالله ومصدقون لرسله، ولكنهم
اختبطوا في تفاصيل بعد هذه الأصول، قد زلوا فيها فضلوا وأضلوا عن سواء
السبيل، ونحن نكشف عن فنون ما انخدعوا به من التخاييل والأباطيل، ونبين أن
ذلك تهويل ما وراءه تحصيل، والله تعالى ولي التوفيق لإظهار ما قصدناه من
التحقيق.
ولنصدر الآن الكتاب بمقدمات تعرب عن مساق الكلام في الكتاب:
مقدمة
ليعلم أن الخوض في حكاية اختلاف الفلاسفة تطويل، فإن حبلهم طويل
ونزاعهم كثير وآرائهم منتشرة وطرقهم متباعدة متدابرة، فلنقتصر على إظهار
التناقض في رأي مقدمهم الذي هو الفيلسوف المطلق والمعلم الأول، فإنه رتب
علومهم وهذبها بزعمهم، وحذف الحشو من آرائهم وانتقى ما هو الأقرب إلى
أصول أهوائهم، وهوأرسطاطاليس. وقد رد على كل من قبله حتى على أستاذه
الملقب عندهم بأفلاطون الإلهي ثم اعتذر عن مخالفته أستاذه بأن قال: أفلاطون
صديق والحق صديق ولكن الحق أصدق منه وإنما نقلنا هذه الحكاية عنهم ليعلم
أنه لا ثبت ولا إيقان لمذهبهم عندهم، وأنهم يحكمون بظن وتخمين من
غير تحقيق ويقين ويستدرجون به ضعفاء العقول. ولو كانت علومهم
الإلهية متقنة البراهين نقية عن التخمين كعلومهم الحسابية والمنطقية، لما
اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية. ثم المترجمون لكلام أرسطاطاليس لم
ينفك كلامهم عن تحريف وتبديل محوج إلى تفسير وتأويل، حتى أثار ذلك أيضا
نزاعا بينهم. وأقومهم بالنقل والتحقيق من المتفلسفة الإسلامية الفارابي أبو نصر
وابن سينا، فلنقتصر على إبطال ما اختاراه ورأياه الصحيح من مذاهب رؤسائهم
في الضلال، فإن ما هجراه واستنكفا من المتابعة فيه لا يتمارى في اختلاله، ولا
يفتقر إلى نظر طويل في إبطاله، فليعلم أنا مقتصرون على رد مذاهبهم بحسب
نقل هذين الرجلين كيلا ينتشر الكلام بحسب انتشار المذاهب.
مقدمة ثانية
ليعلم أن الخلاف بينهم وبين غيرهم من الفرق على ثلاثة أقسام:
(قسم) يرجع النزاع فيه إلى لفظ مجرد كتسميتهم صانع العالم - تعالى عن
قولهم - جواهر مع تفسير الجوهر بأنه الموجود لا في موضوع، أي القائم بنفسه
الذي لا يحتاج إلى مقوم يقوم ذاته، ولم يريدوا بالجوهر المتحيز على ما أراده
خصومهم ولسنا نخوض في إبطال هذا لأن معنى القائم بالنفس إذن صار متفقا عليه.
رجع الكلام في التبعير باسم الجوهر عن هذا المعنى إلى البحث عن اللغة، وأكثرهم
لا يسمونه جوهر وإن سوغت اللغة إطلاقه. رجع جواز إطلاقه في الشرع إلى
المباحث الفقهية، فإن تحريم إطلاق الأسامي وإباحتها يؤخذ مما يدل عليه ظواهر
الشرع. ولعلك تقول: هذا إنما ذكره المتكلمون في الصفات ولم يورده الفقهاء في
فن الفقه. فلا ينبغي أن يلتبس عليك حقائق الأمور بالعادات والمراسم، فقد عرفت أنه
بحث عن جواز التلفظ بلفظ صدق معناه على المسمى به، فهو كالبحث عن جواز
فعل من الأفعال.
(القسم الثاني) ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلا من أصول الدين وليس من
ضرورة تصديق الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم منازعتهم فيه، كقولهم أن كسوف
القمر عبارة عن انمحاء ضوء القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس من حيث أنه
يقتبس نوره من الشمس، والأرض كرة والسماء محيط بها من الجوانب فإذا وقع القمر
في ظل الأرض انقطع عنه نور الشمس. وكقولهم: إن كسوف الشمس معناه وقوف
جرم القمر بين الناظر وبين الشمس، وذلك عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة
واحدة. وهذا الفن أيضا لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض. ومن ظن
أن المناظرة في إبطال هذا من الدين فقد جنى على الدين وضعف أمره، فإن هذه
الأمور تقوم عليها براهين هندسية وحسابية لا تبقى معها ريبة، فمن يطلع عليها أو
يتحقق أدلتها حتى يخبر بسببها عن وقت الكسوفين وقدرهما ومدة بقائهما إلى
الانجلاء - إذا قيل له أن هذا على خلاف الشرع لم يسترب فيه وإنما يستريب في
الشرع. وضرر الشرع ممن ينصره لا بطريقه أكثر من ضرره ممن يطعن فيه
بطريقه، وهو كما قيل: عدو عاقل خير من صديق جاهل.
(فإن قيل) فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الشمس والقمر
آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر
الله تعالى والصلاة) فكيف يلائم هذا ما قالوه؟ (قلنا) وليس في هذا ما يناقض ما
قالوه إذ ليس فيه إلا نفي وقوع الكسوف لموت أحد أو لحياته والأمر بالصلاة عنده
والشرع الذي يأمر بالصلاة عند الزوال والغروب والطلوع من أين يبعد منه أن يأمر
عند الكسوف بها استحبابا؟
(فإن قيل) فقد روي أنه قال في آخر الحديث (ولكن الله إذا تجلى لشيء
خضع له) فيدل على أن الكسوف خضوع بسبب التجلي.
(قلنا) هذه الزيادة لم يصح نقلها فيجب تكذيب ناقلها، وإنما المروي ما ذكرناه.
كيف ولو كان صحيحا لكان تأويله أهون من مكابرة أمور قطعية، فكم من ظواهر
أولت بالأدلة القطعية التي لا تنتهي في الوضوح إلى هذا الحد وأعظم ما يقدح به
الملحد أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا وأمثاله على خلاف الشرع، فيسهل عليه
طريق إبطال الشرع إن كان شرطه أمثال ذلك، وهذا لأن البحث في العالم عن كونه
حادثًا أو قديمًا ثم إذا ثبت حدوثه فسواء كان كرة أو بسيطًا أو مثمنًا أو مسدسًا وسواء
كانت السموات وما تحتها ثلاثة عشر طبقة كما قالوه أو أقل وأكثر - فنسبة النظر فيه
إلى البحث الإلهي كنسبة النظر إلى طبقات البصل وعددها وعدد حب الرمان،
فالمقصود كونها من فعل الله فقط كيفما كانت.
(القسم الثالث) ما يتعلق النزاع فيه بأصل من أصول الدين كالقول في
حدوث العالم وصفات الصانع وبيان حشر الأجساد والأبدان، وقد أنكروا جميع ذلك.
فهذا الفن ونظائره هو الذي ينبغي أن يظهر فساد مذهبهم فيه دون ما عداه.
(مقدمة ثالثة) ليعلم أن المقصود تنبيه من حسن اعتقاده في الفلاسفة فظن أن
مسالكهم نقية عن التناقض ببيان وجوه تهافتهم، فلذلك أنا لا أدخل في الاعتراض
عليهم إلا دخول مطالب منكر لا دخول مدع مثبت فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعًا به
بإلزامات مختلفة فألزمهم تارة مذهب المعتزلة، وأخرى مذهب الكرامية، وطورًا
مذهب الواقفية، ولا أنتهض ذابًّا عن مذهب مخصوص بل أجمل جميع الفرق إلبًا
واحدًا عليهم فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفصيل وهؤلاء يتعرضون لأصول
الدين فلنتظاهر عليهم فعند الشدائد تذهب الأحقاد.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كان هذا المثال مطابقًا للحكم في زمنه، وكان الأطباء لا يعرفون علاجًا لتبيغ الدم في بعض الأحوال إلا الحجامة أو الفصد وكان يتولى ذلك الحجامون.
(2) هذا المعنى رواه البخاري مرفوعا بلفظ (ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء) ورواه غيره ولفظ ابن ماجه (إلا أنزل له الدواء) ، وعند مسلم (فإن أصبت دواء الداء برئ بإذن الله) .(10/694)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المؤتمر الإسلامي
نشرنا في هذا الجزء خطبة إسماعيل بك غصبرنسكي صاحب جريدة
(ترجمان) التي اقترح فيها على مسلمي مصر الدعوة إلى مؤتمر إسلامي.
جاء الرجل مصر لهذا الغرض فبدأ بزيارة أصحاب الجرائد اليومية وكاشف
المسلمين منهم بما جاء لأجله فوعده صاحب جريدة (المؤيد) منهم بالمساعدة ودعوا
الناس إلى سماع خطبته التي أعدها لذلك. وقد طبع أوراقًا للدعوة ووزعها على نحو
600 ممن اختار من الوجهاء والفضلاء، وكان موعدهم ليلة السبت لخمس بقين من
رمضان فأجاب كثيرون وحضر كثيرون لم يُدعوا فازدحموا على باب فندق
الكونتننتال وتعذر تقديم المدعوين على غيرهم فكان السابق هو المقدم كأن كل واحد
منهم كان يرى أن الداعي والمدعوين وغيرهم من المسلمين سواء في حضور هذا
الاجتماع الذي يبحث فيه عن أحوال المسلمين كافة.
كان عدد المجتمعين زهاء ثلاث مائة رجل فقرئت عليهم الخطبة التركية ثم
ترجمتها العربية، وبعد ذلك قام صاحب (المؤيد) فذكر بعد تمهيد وجيز - في
كون فكرة المؤتمر ناضجة قد استعدت لها النفوس - أسماء طائفة من شيوخ الأزهر
ووجهاء العاصمة قال: إنهم أذنوا له بأن يذكر عنهم أنهم أجابوا الدعوة وهم
الأستاذة المشهورون الشيخ سليم البشري والشيخ توفيق البكري والشيخ محمد شاكر
والشيخ محمد بخيت والشيخ محمد حسنين العدوي والشيح حسين والي، والباشوات
حسين واصف وإسماعيل أباظة والدكتور حسن رفقي وعلي شعراوي والدكتور
علوي وموسى غالب، والبكوات أحمد تيمور وعبد العزيز فهمي المحامي ورفيق
العظم وطلعت حرب وحقي العظم وإبراهيم الهلباوي المحامي وأحمد زكي ويوسف
صديق وعمر لطفي المحامي ومحمد فريد وعلي بهجت وإسماعيل رأفت وحسن
بكري المقاول ومحمد أحمد الشريف ثم ذكر من الصحافيين نفسه وحافظ أفندي
عوض، وقد علمنا أنه كان كلم أكثر الشيوخ والباشوات من هؤلاء قبل ليلة الاحتفال
ودعاهم إلى ذلك دعوة خاصة فرضوا وأذنوا له بذكر أسمائهم وقد انتقد بعض الناس
هذا وقالوا: إنه عبارة عن إجابة الدعوة قبل سماعها وظنوا أنه لا يخلو من تواطؤ
خاص.
ثم أشيع في البلد أن وراء الستار إرادة تدير أمر المؤتمر وتصرف كبراء
المشتغلين به في عملهم، ورأيت غير واحد ممن ذكرنا أسماءهم آنفًا يظن هذا في
بعضهم واقترح بعض الوجهاء على صاحب (المؤيد) أن يدعو كثيرا من الفضلاء
إلى حضور أول اجتماع يعقده للبحث في المؤتمر، فدعا بعض من سمي له وأفرادًا
من غيرهم إلى الاجتماع في دار الشيخ البكري في الساعة التاسعة من ليلة 9 شوال
فأجاب الدعوة زهاء خمسين رجلاً.
اجتمعوا في ردهة الدار وكان صاحب (المؤيد) قد دعا من حضر ممن
ذكر أسماءهم من قبل وسماهم (اللجنة التحضيرية) إلى مخدع بجانب الردهة
يأتمرون ويختصمون في اقتراح عرضه عليهم وهو أن يخرج من اللجنة أناس منهم
بعد اختيار من يرضاه ويرضونه ليكون مكانهم فلم يتفقوا على ذلك إذ رأى بعضهم
أنه لا حق لهم أن يستبدوا بالعمل هم ومن يختارونه.
ولما طال الانتظار وملَّ الحضار ظهر الغضب على بعض الحاضرين، وقال
بصوت جهوري: ما معنى لأن ندعى إلى مشروع عام ويتركنا الداعي ويخلو بنفر من
دوننا في مخدع يأتمرون بينهم سرًّا؟ ما هذا إلا إهانة وعمل غير معقول، فرأى من
القوم ارتياحًا لقوله وموافقة له عليه، وصاروا يتناجون بينهم: إن البكري وصاحب
المؤيد قد استبدا بالمشروع لأمر ما ويريدان أن يختارا للمؤتمر من يرضيان ليتم ذلك
الأمر.
وكان ذلك الغاضب قد مر على النفر المؤتمرين في مخدعهم وأعاد عليهم ما قال
آنفًا فخرجوا وقام فيهم صاحب المؤيد فقال: إنه قد شاع بين الناس أن إرادة
خاصة تدبر أمر مشروع المؤتمر وهذا غير صحيح وإنما خلونا لنتذاكر فيما نعرضه
عليكم وهو أننا رأينا من مصلحة المشروع أن أخرج أنا وحافظ أفندي عوض منه
وحسن باشا رفقي وإسماعيل باشا أباظة وفلان وفلان فالمرجو منكم أن تنتخبوا بدلهم
من الحاضرين لإتمام اللجنة التحضيرية للمؤتمر أو ما هذه خلاصته، فبرأ نفسه
بخروجه مما ظن فيه الظانون.
فقام كاتب هذه السطور وقال: إن بقية من سميتموهم اللجنة التحضيرية لم
ينتخبوا فالعدل أن ينتخب جميع الأعضاء ابتداءً، فحاول صاحب المؤيد والسيد
البكري أن يثبتا عدم الحاجة إلى جعل أحد ممن ذكرت أسماؤهم ليلة الاحتفال
بالخطبة موضعًا للانتخاب؛ لأنهم ذكروا أمام مقترح المؤتمر وجمهور من حضر
خطبته ولم يعارض في أحد منهم أحد، والسيد البكري سمى ذلك انتخابًا، وقال
صاحب المؤيد وإننا نعرض أسماءهم الآن على الحاضرين ونأخذ رأيهم فيهم. فقال
كاتب هذه السطور: إنه ما كان لأحد أن يطعن في كفاءة أحد في وجهه ولا على مسمع
الملأ ولذلك اتفقت الأمم كلها جعل الانتخاب في مثل هذا الأمر سريًّا فنحن
نجل ونحترم كل واحد من أولئك المذكورين ولكننا ربما نرى أناسًا آخرين أولى بهذا
العمل من بعضهم، فكل واحد ينتخب سرًّا من يعتقد كفاءته لهذا الأمر مع حفظ كرامة
الآخرين. وأما من ذكر صاحب المؤيد أسماءهم ليلة الاحتفال وسكوت السامعين
فلا يسمى انتخابا؛ إذ لم يخطر في بال أحد من السامعين أن تلك الأسماء ذكرت لأخذ
رأيه فيها ولا أن له الحق في جرح أحد ممن ذكر.
ثم اقترح بعض الحاضرين أن يكون البحث قبل كل شيء إمكان المؤتمر
وعدمه، وإذا ظهر أنه ممكن فهل الأولى أن يكون عامًّا أو خاصًّا بمصر، وطال
الجدال في ذلك واقترح بعضهم بيان موضوع المؤتمر أولاً، فكان السيد البكري أحسن
من أجاب؛ إذ قال ما مثاله موضحًا أن السيد جمال الدين قال: إنه لا فرق بين المسلمين
وبين سائر الشعوب إلا في الدين ولا يمكن أن يكون دين الإسلام في حقيقته هو
السبب في تأخرهم؛ لأنه هو الذي كان السبب أولاً، في جمع كلمة العرب ونقلهم من
الجهل والأمية إلى العلم، ومن البداوة إلى المدنية، ومن الفقر والضعف إلى الغنى
والسيادة فالشيء الواحد لا يكون سببًا للشيء ولضده معًا فلابد أن يكون فهم الدين قد
تغير ودخل فيه ما ليس منه فكان أثره في الآخرين ضد أثره في الأولين، ولا يصلح
حال المسلمين إلا بالرجوع إلى حقيقة الدين (قال) هذا ما سمعناه من السيد جمال
الدين وهذا ما سمعناه من الشيخ محمد عبده وعليه جميع العارفين من الكتاب
والباحثين ومنه يعرف موضوع المؤتمر. وعند هذا قال بعض الحاضرين لبعض
ومنهم أحمد بك زكي الأمين الثاني لأسرار مجلس النظار أن هذا عمل قامت به مجلة
المنار. وقام الشيخ إسماعيل خليل فقال قولاً جاء فيه إشارة إلى ما صرح به غيره
من جواب هذا القول وهو أن ما يكتب في المنار وكذا في بعض الجرائد أحيانًا من
البحث في أسباب ضعف المسلمين وطرق علاجه يكون محلاًّ لانتقاد بعض الناس،
فإذا كان مثل ذلك معزوا إلى طائفة كبيرة من علماء المسلمين وفضلائهم وأهل الرأي
فيهم - يرجى أن يكون مقبولاً نافعًا، وقد أشرنا إلى ذلك في مقالتنا عن المؤتمر في
هذا الجزء.
وبعد كثرة الجدال انفض القوم ولم يتفقوا على شيء، فعزم من حضر ممن
سماهم صاحب المؤيد اللجنة التحضيرية على أن يسموا أنفسهم اللجنة التأسيسية أو
لجنة التأسيس للمؤتمر وأن يضموا إليهم من يختارونه للعمل معهم.
ثم إنهم بعد ذلك اجتمعوا واختاروا الشيخ سليمًا البشريّ رئيسًا للمؤتمر وعمر
بك لطفي المحامي كاتبًا للسر وناطوا تحديد موضوع المؤتمر ونظامه بلجنة مؤلفة
من الشيخ توفيق البكري وصاحب المؤيد وإبراهيم بك الهلباوي وحسن باشا رفقي
ورفيق بك العظم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(10/705)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رزيئة مصر بحسن باشا عاصم
رزئت مصر في ثالث شوال برجل الجد والعمل والثبات والاستقامة والعدل
والنظام، خادم الأمة المخلص نابغة النوابغ نادرة العصر يتيمة العصاميين العصماء
حسن باشا عاصم رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأحسن عزاءنا وعزاء البلاد عنه.
وإننا نكتب في شأنه كلمات لا نقصد بها مجرد الرثاء والتأبين، ولا محض
الترجمة والتأريخ، بل العبرة والموعظة للأمة، عسى أن يكون فيها لأهل الاستعداد
حسن الأسوة.
ومن هو حسن باشا عاصم الذي يحليه المنار بهذه الألقاب والنعوت مخالفًا
عادته في ذكر الناس بأسمائهم؟ من هو حسن باشا عاصم الذي يؤبنه المنار وقد
مات من الأمراء والباشوات وكذا العلماء ولم يذكر خبر موتهم ولا عزى البلاد
عنهم؟
كان حسن عاصم رجلا من الرجال الذي تنهض بأمثالهم الأمم إذا كثروا فيها
ولو كثر أمثاله لأذعنت إنكلترا بأن المصريين قادرون على أن يحكموا أنفسهم كأرقى
أمة أوروبية فقد كان إذًا روحا من أرواح الحياة القومية، وركنا من أركان النهضة
المدنية، وإن كان عمله مما كانت تجهله العامة، وقلما تهتف به ألسنة الخاصة.
كان ربما يزور هذه البلاد السائح المؤرخ فيقرأ جرائدها، ويغشى أنديتها
ومعاهدها، ويتحدث مع الخواص والعوام، والمحكومين والحكام، فيسمع ويقرأ
أخبار الأحزاب ومؤسسيها، والتحزب لها أو عليها، والمحاورات في التفاضل بين
أفراد يقال: إنهم هم الذين ينهضون بالبلاد، ولا يسمع لحسن باشا عاصم في هذه
المواضع ذكرا، ولا يقرأ عنه في هذه الصحف خبرا، فكيف كان لحياة البلاد روحًا
مدبرًا، ولنهضتها ركنا مشيّدًا، والأمة في مجموعها غافلة عنه جاهلة عمله،
ويتنازع زعامة النهضة فيها زيد وعمرو، وخالد وبكر؟
الجواب عن هذا أن الرجل كان فعالا ولم يكن قوالاً، وأمتنا في مثل هذا
الطور تشغلها الأقوال، وتغرها الدعاوى العراض الطوال، ورب قؤول كبير
الدعوى قدير على التغرير، لو كثر أمثاله في الأمة ما زادوها إلا رهقًا، ولكن ما
كان يعرف حسن باشا عاصم أحد - وكل أهل الفضل في البلاد يعرفونه - إلا ويجزم
بأنه لو كان فينا عشرون رجلا مثله في صفاته وأعماله لنهضوا بنا نهضة لا تخطر
في بال الذين يقولون ما لا يفعلون، ولكانوا حجة لنا على الأجانب لا يكابر أحد في
دحضها. ولكن يوجد في البلاد مئات أو ألوف يستطيعون أن يقولوا بألسنتهم
وأقلامهم ما يشتهر بمثله المرء بين العامة قضت عليهم حال المعيشة بأن يكون
كسبهم الذي هو قوام معيشتهم بأعمال أخرى.
صفات حسن باشا عاصم
(استقلال الفكر) من الصفات التي تحلى بها هذا الرجل استقلال الفكر
والرأي، فقد كان لا يقلد أحدًا في رأيه وإنما ينظر في الأمر ويطيل فيه الفكر والتدبر
حتى يظهر له الصواب. وإننا نرى أكثر الرجال قد درجوا على التقليد والتسليم حتى
كأنهم لم يخرجوا من الطفولية، وهم لا يشعرون بذلك لأنهم يظنون أنهم مستقلون فيما
قبلوه بادي الرأي ولا محل هنا لكشف التلبيس في ذلك.
(استقلال الإرادة) كان رحمه الله تعالى مستقل الإرادة قوي العزيمة، أعني
أنه كان يعمل دائما ما يعتقد أنه الصواب والخير والموافق للمصلحة في الواقع ونفس
الأمر بحسب اعتقاده، وإن كان مما يخشى أن يعود عليه بالضرر. وهذا الخلق فينا
أضعف من سابقه. ولو كان عندنا كثير من الحكام والعاملين الذين يعملون بما يعتقدون
أنه الخير والمصلحة للبلاد لكنا من أرقى الشعوب، فإن فينا عددًا كثيرًا من العارفين
بما يجب ولكنهم ضعفاء العزائم فلا يعملون بما يعلمون.
(الثبات والاستقامة) كان رحمه الله تعالى كالجبل الراسخ في ثباته على
رأيه وعلمه واستقامته في سيرته، وبهذا كان نافعا في استقلاله وقوة إرادته. فإن
العزيمة تكون في الخير والشر وفي المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، وتكون
للرجل الثابت وللرجل القلّب؛ فإن الإمعة الذي ليس له رأي مستقر قد يكون ضعيفًا
في العمل بالرأي قبل أن يتحول عنه وقد يكون قويا. وكان رحمه الله لا يشكو من
شيء شكواه من التقلب والتحول في الناس، فقد اقترحت عليه غير مرة مشروعات
نافعة للأمة مما يكون بالاجتماع والتعاون وكان يجيبني في كل مرة: إنك حسن الظن
في الأمة أكثر مما يجب لأنك لما تختبرها. وقال لي مرة أو غير مرة ما معناه: إننا
إذا دعونا إلى هذا العمل نجد المجيبين إليه كثيرين في أول الأمر ثم يتسللون لواذًا
حتى لا يبقى منهم من يمكن أن يستمر به العمل.
(الصبر والاحتمال) كان على نحافة بدنه آية في الصبر على العمل واحتمال
المشقة، لا يمل ولا يسأم. ولولا الصبر والاحتمال ما كان ثبات ولا استقامة. كان
في كل عمل دخل فيه يعمل ما لا يعمله عدة رجال حتى كان يمل ويتململ كل من
يشتغل معه - لا سيما إذا كان هو رئيسه - ولكنه لا يستطيع أن يشكو من كثرة
العمل مع من يراه يعمل أضعاف عمله، وقد كان يشتغل أخيرًا في أربع إدارات
كبيرة في كل يوم فيعجب كل عمالها من صبره وجلده، وهي إدارة القصر العالي
وإدارة تركة الأمير محمد إبراهيم وإدارة الجمعية الخيرية ومدارسها وإدارة الشركة
الإنكليزية المصرية، هذا وهو غير مهمل لإدارة منزله بل مقيم لها على أكمل
نظام.
(النظام والإتقان) كان عاشقًا للنظام كَلِفًا بإتقان كل أمر يشتغل به، فكان كل
عمله مرتبا منظما متقنا حتى قال فيه سعد باشا زغلول: إنه خلق منظما بالطبع. ومن
يخطر بباله أن صاحب تلك الأعمال الكثيرة كان يشغل ساعات من ليله ونهاره
ويشغل معه فيها بعض أصحابه في البحث عن صحة كلمة أو عبارة فيما يطبعه
لمدارس الجمعية الخيرية أو لشركة إحياء العلوم العربية؟ خطر له أن يطبع أجزاء
القرآن الكريم لأجل التعليم في مدارس الجمعية بحسب قواعد الرسم لا برسم
المصحف المتبع عن الصحابة عليهم الرضوان، فبدأ أولا بالبحث عن جواز ذلك
واستفتى فيه الأستاذ الإمام فأفتى ووجد نصا عن الإمام مالك بجوازه في مصاحف
التعليم، ثم كان يستنسخ الأجزاء ويبحث بنفسه مع أهل العلم في الكلم الذي يشتبه
رسمه بكلمة (الضحى) تكتب ألفها بصورة الياء أم ملساء؟ والكلمات التي في آخرها
ياء تحذف في قراءة حفص لأجل الوقف. فكنا نسهر معه الليالي ذوات العدد نتباحث
في هذه الكلمات. ثم ناط ضبط ذلك كله وتصحيح الأصل بالشيخ حسين والي مؤلف
كتاب الإملاء ليطبقه على قواعد الرسم بعد مراجعة كتب القراءات لكي لا يخرج
الرسم عن أداء المتواتر منها ثم إنه كان يراجع بنفسه كل ما يصححه الشيخ حسين.
وقد عزم منذ أكثر من سنتين على طبع كتاب (العمدة في الأدب) لابن رشيق
بنفقة جمعية إحياء العلوم العربية، فلما أرسلت إليه المطبعة الأميرية نموذج الملزمة
الأولى بعد تصحيح مصححيها لها ومراجعتها مقابلة على النسخ - قرأها فتوقف في
فهم بعض عباراتها والأحاديث وأبيات من الشعر فيها فراجع كاتب هذه السطور في
ذلك في مكتب المنار. وغير مرة كنا نراجع فيه الأحاديث في كتبها والأشعار في
مظانها من كتب الأدب واشترى هو ديوان حسان بن ثابت (رضي الله عنه) لأن
فيها شيئًا من شعره وراجع أيضًا غير واحد من أصحابه أهل العلم والأدب.
وبعد هذا كله لم يأذن بالطبع لأنه بقي في الملزمة عبارة غامضة يرجح أنها
محرفة! وطفق يسأل ويبحث عن نسخة أخرى من العمدة ليجلبها أو يستنسخها من
القطر الذي يعلم أنها فيه. وأبى عليه خلق الإتقان وأمانة العلم أن يطبعها وهو يعتقد
أن فيها تحريفًا فتبارك من أنعم عليه بهذه الأخلاق، ويا ليت الذين يتَّجرون بطبع
الكتب الدينية والعلمية وغيرها يعنون بعض هذه العناية بالضبط والإتقان.
(الجد والرصانة) كنا نرى كثيرا من الناس ينتقدون منه رصانته وجده في
كل وقت وحال، وتجنبه الهزل والدعابة وتحاميه المزاح والمفاكهة في الحديث إلا
قليلا وهذا هو الواجب على من يريد أن يخدم شعبا يعتقد أنه يكثر فيه الطيش والخفة
ويغلب على أكثر أفراده الهزل واللهو واللعب في زمن يزاحمه فيه أهل الجد والعمل
من الشعوب الأخرى على بلاده وينازعونه جميع مقومات حياته، فلولا هذان الخلقان
لما قدر على كل ما عمل. ولكننا لا ننكر مع هذا أن استغراق جميع الأوقات في
الجد والتزام الرصانة في جميع الأحوال من المبالغة المنتقدة في الفضيلة ولكن لا
يُقبل انتقادها إلا ممن يصرف أكثر أوقاته في الجد ويفرغ أقلها للأهل والصحب
يفاكههم ويمازحهم وينبسط إليهم في الحديث، وقد كان النبي صلى الله عليه
وسلم يمزح ولا يقول إلا حقا.
(الاقتصاد والوفاء) اشتهر فقيدنا المبكي بأعين الفضلاء بالمبالغة في
الاقتصاد حتى كان بعض الناس يظن فيه البخل والتقتير وهو لم يكن بخيلاً ولا مقترًا
في النفقة؛ بل كان في الإنفاق على ما أمر الله تعالى في قوله: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن
سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (الطلاق: 7) كان يكتب لبيته
ميزانية السنة قبل دخولها، فيجعل الخرج غير مستغرق للدخل كله ويحصي كل أنواع
النفقات ويضيف إليها مبلغًا احتياطيًّا ثم يؤدي كل شيء في وقته، فكان يدفع اشتراكات
الصحف العربية والإفرنجية في أواخر شهر ديسمبر من كل سنة واشتراك الجمعية
الخيرية في غرة المحرم، فيأخذ أول وصل من وصولات التحصيل وأجور الخدم في
أول يوم من كل شهر وثمن كل شيء يشتريه في وقته. ولولا هذا الاقتصاد لما قدر
على الوفاء الكامل في المعاملة بأداء كل حق قي وقته ولا على الاستغناء عن
الاقتراض والاستدانة بالربا.
نعم، إن اقتصاده المبني على قواعد العلم الحديث والتزامه النظام فيه ومن كل
عمل كان يستلزم مخالفة أهل البلاد في بعض الأمور مخالفة يستنكرونها
فيسمونها بغير اسمها. فمن ذلك أنه كان إذا دعا إلى طعامه نفرًا من أصحابه وزاره
عند وقت الطعام أو قبيله صاحب آخر فإنه لا يدعوه معهم، بل كان بعض أصدقائه
ربما يتعمد أن يقول: بلغني أن فلانا وفلانا سيأكلان العشاء عندك وأحب أن أكون
معهم ليجيبه بحريته المعهودة: إنه ليس لك كرسي على المائدة في هذه الليلة.
وذلك أنه رحمه الله تعالى كان يهيئ الطعام على قدر حاجة الآكلين المعلومين بلا
تقتير ولا تبذير. وكيف يوصف بالتقتير من كان خدمه يأكلون من جميع ما يأكل
منه أهل البيت وضيوفهم من الألوان والحلوى حتى الفاكهة في الشتاء.
وبلغ من اقتصاده في مال الجمعية الخيرية أنه كان لا يرمي ورقة مكتوبة من
الأوراق التي لم تبق من حاجة إليها إلا بعد أن يقص منها ما عدا المكتوب إن كان
ينتفع به بإمكان كتابة شيء عليه. ووقع لي معه دقيقة من هذه الدقائق أذكرها مثالا،
وهي أنني جئت مرة قصر عابدين أبغي لقاء الأمير، وكان هو رئيس التشريفات
فأرسلت إليه بطاقة الزيارة للاستئذان، ولما هممت بالخروج من حجرته قال لي: خذ
هذه البطاقة - وكانت لا تزال في يده - فإنها أدت وظيفتها الآن ويمكن أن تؤديها
مرة أخرى. فقلت له: ذكرتني هذه الدقة في الاقتصاد كلمة للإمام الغزالي وهي أن
الميزان الذي لا يرجح بالحبة لا يرجح بالقنطار لأن القنطار مؤلف من الحب، فإذا
ألقي في الميزان حبة بعد حبة لم يكن الرجحان إلا بحبة، فأعجبه هذا القول وكان
يتمثل به.
ومن الناس من يهزأ بهذه الدقائق ويعدّها من الصغائر التي لا تنبغي لأهل
النفوس العالية. وهذا خطأ وجهل يزينه لصاحبه الإسراف والخرق واعتياد الخلل
والحرمان من النظام فإن الكاتب (الخطاط) الذي لا يعنى بكل حرف من الكلمة لا
يكون مجموع خطه كامل الحسن، والبناء الذي لا يعنى بضبط كل حجر ينحته لا
يكون بناؤه رصينا محكما، والمصور الذي لا يدقق في إحكام تصوير كل عضو لا
تأتي صوره مطابقة لما صوره، وهكذا يضيع المال الكثير في غير فائدة بسبب من
يفرط حفظ القليل بوضعه في غير موضعه.
إن كثيرًا من المسرفين الذين يسميهم الحمقى أسخياء وأجوادا يمطلون أصحاب
الحقوق ويلوونهم وهم واجدون ما يفون به، ولا يكادون يبذلون شيئا في سبيل الله.
وإذا خرج منهم الحق لا يخرج إلا نكدا ولكنهم يراؤون الناس بإضاعة المال في أمور
لا يحمد فاعلها عند العقلاء ولا يؤجر عند الله. ومنهم الذين يضيعون ما ورثوا من
الثروة الواسعة أو غير الواسعة فيقعون في الذل الموجع والفقر المدقع، وما
أكثرهم في هذه البلاد ولكن أكثر الناس لا يعتبرون.
قال الفقهاء يكره في الوضوء أن يغسل المتوضئ العضو أكثر من ثلاث مرات
لأن ذلك من الإسراف ولو كان يتوضأ من البحر، إلا أن يكون له حاجة أخرى في
الزيادة كالتبرد، ولكن لا ينوي بها العبادة. وقالوا: إن حكم الشرع في ذلك هو أن
تتعلم الأمة الاقتصاد في الأمور كلها فلا تفرط في شيء وتضيعه في غير منفعة وإن
لم يكن في إضاعته ضرر.
أي ضرر يتصور أن يصيب الأمة لو جرى جميع أفرادها على طريق حسن
باشا عاصم في الاقتصاد. لا يضيعون شيئا بوضعه في غير موضعه ولا يؤخرون
حقًّا عن مستحقة ويجتهدون في السبق إلى مساعدة الجمعيات الخيرية؟ أما والله إن
أمة يكثر فيها أهل هذا الخلق لجديرة بأن تكون أسعد الأمم.
(للترجمة بقية)
(يصدر هذا الجزء من المنار في سلخ رمضان)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(10/709)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال بالعقد الأول من عمر المنار
أنشئ المنار في سنة 1315 وصدر العدد الأول منه في مساء اليوم الثاني
والعشرين من شهر شوال من تلك السنة، ثم زحزحنا أول سنته إلى غرة ذي القعدة
ثم إلى أول المحرم فصارت السنة الهجرية هي سنة المنار الحسابية منذ سنته الخامسة
أي سنة 1320.
وفي أوائل هذه السنة - وهي العاشرة - خطر لإسماعيل بك عاصم
الخطيب والمحامي الشهير أن يقيم في داره احتفالا ينوه فيه ببلوغ المنار هذه السن من
عمره، ولكن عرض له سفر قضى بإرجاء ذلك، وعاد إلى مصر قبيل شهر رمضان
وذاكرني في ذلك فأخبرته بتاريخ إنشاء المنار فسر بذلك وعزم على أن يجعل الدعوة
إلى الاحتفال في مثل اليوم الذي صدر فيه أول عدد منه وهو 22 شوال، فوزع
رقاع الدعوة على أصحاب المجلات الشهيرة في مصر ومحرريها ليجتمعوا مساء
ذلك اليوم في داره بالعباسية ويكون الاحتفال في ليلة 23 وهي أول ليلة ظهر في مثلها
المنار.
وكذلك كان للمنار في مصر محبون كثيرون من علية القوم، ومنهم من يقدر
على ما لا يقدر عليه إسماعيل بك عاصم من خدمة الإصلاح بالتنويه به والعون على
زيادة انتشاره، ولكن إسماعيل بك عاصم ابتكر هذا النوع من الإصلاح لا بسانحة
عرضت أو فكرة سنحت كما ظن بعض من لا يعرف كنه الرجل، بل أرشدته إلى
ذلك فطرته وهدته إليه ملكة راسخة فيه هي حب الاجتماعات العلمية والأدبية
ونشر الآراء والحكم النافعة. فكم سبق له من تأليف الجمعيات ومن مساعدة
المؤلفين لها بالمال والقال على قدر الحال كما أخبرني الثقة وشاهدت في
جمعية مكارم الأخلاق. ويدخل في هذا الباب مساعدته لفن التشخيص أو التمثيل
بتأليف القصص وإيداعها ما يراه مناسبا لأهل البلاد من انتقاد العادات الضارة
والترغيب في الآداب النافعة وبالعون على تمثيلها بالمال، فقد سمعت الشيخ
سلامة مدير دار التمثيل العربي وأشهر الممثلين يقول: إنه كان يؤلف الرواية
ويعطي (الجوق) ستين جنيهًا إعانة له على تمثيلها بمصر. على أن غيره لا يبيع
القصة بأقل من هذا الثمن.
ذكرت هذا قبل الكلام عن كيفية الاحتفال لبيان بعض مزايا المحتفِل لمن لا
يعرفها من قراء المنار في الشرق والغرب وفي مصر أيضًا؛ فإنني سمعت كثيرين
يقولون بلهجة الإعجاب والتعجب: كيف خطرت لفلان هذه الفكرة؟! يظنون أنها
سانحة عرضت، لم تأت عن ملكة رسخت.
إسماعيل بك عاصم يطالع المنار بدقة متتبعًا سير الإصلاح فيه، وكثيرًا ما
يذاكرني في مسائل منه يعجب بها فضل إعجاب، ومسائل ينتقدها أو يري فيها
غموضًا أو إيهامًا. فعلمه بخدمة المنار علم تفصيلي وله عنده منزلة خاصة عبر
عنها بهذا الاحتفال الذي يحب أن يجعله سُنَّة دائمة، فجزاه الله عن عمله وعن نيته
خير الجزاء.
أجاب الدعوة إلى الاحتفال عشرون مدعوًّا تجمعهم رابطة العلم والأدب
اجتماعًا لا يفرقه الاختلافات في الجنس فإن منهم العربي (وهم الأكثر بالطبع)
والفارسي كالدكتور محمد مهدي خان صاحب مجلة (حكمت) والتركي كالدكتور
جودت بك صاحب مجلة (اجتهاد) ولا الاختلاف في الوطن فإن منهم المصري
والسوري وغير ذلك ولا الاختلاف في الدين فإن منهم المسلم والنصراني القبطي
وغير القبطي واليهودي وهو فرج أفندي مراد المحامي محرر مجلة التهذيب الدينية
الأدبية لطائفة القرابين.
تم اجتماع القوم بعد العشاء الآخرة في الساعة السابعة مساء، وكانوا قد أقبلوا
فرادى ومثنى وثبات. وطفقوا يتسامرون بألطف الكلام والبشر يتدفق من وجوههم
سرورا بهذا الاحتفال الذي ألف بين الآلاف والأشكال، وصاحب الدعوة كان يقابل
كل واحد بالحفاوة والبشر حتى كأن سروره به يرجح بسرور مجموعهم. وفي أثناء
الساعة الثامنة دُعوا إلى حجرة المائدة فانتظموا حولها كعقد اللؤلؤ المنظوم، أو
كمنطقة مؤلفة من النجوم، ولا بدع فهم نجوم الهداية إلى الآداب والعلوم، وقد
أعجبوا بذوق صاحب الدعوة ورب الدار، فيما على المائدة من تنسيق الرياحين
والأزهار، واختيار أنواع الفاكهة والثمار، مع حسن نظام الدار، وما يزينها من
تألق الأنوار، فإنه جلب إليها صنوف الفاكهة السورية كالعنب الزيني والزعرور
اللبناني وغير ذلك، علما منه بأن المحتفل لأجله ونحو نصف المدعوين وهم سوريون
يحنون بذلك إلى ما ألفوا في سن الصبا، وأن سائر المدعوين يسرون منه بجدة
الطريف، وما زال الإنسان يحن إلى غير المبذول المعروف.
مكثوا نحو ساعة ونصف يمزجون أطايب الطعام بأطايب الكلام، ويجمعون
بين أحاسن الفاكهة وأحاسن المفاكهة، ثم طافت القناني على الأكواب تترعها بالماء الغازي (الغزوزة) الممزوج بأحلى الشراب، فأكلوا هنيئا مريئا، وشربوا
حلالا طيبا، وبعد الطعام قام صاحب الدعوة خطيبًا مُرحبا بالقوم ترحيبا، فألقى
الخطبة التي نشرناها في هذا الجزء من المنار، وزاد عليها نحوها من عقائل
الكلام ورقائق الأشعار.
وههنا أقول: إن إسماعيل بك عاصم قد اعتاد ارتجال الخطب ولم يتعود
تأليفها وحفظها ثم تلاوتها - كما يفعل كثير ممن يدعون الخطابة - فضلا عن
كتابتها وتلاوتها في الورق. ولكنه في هذه المرة خالف عادته وكتب الخطبة التي
نشرناها وطبعها ليوزعها على من يحضر الاحتفال ولكنه غلب عليه ما تعود
فألقاها بالمعنى غالبا وزاد فيها ما فتح عليه ارتجالا، وكان مما زاده الثناء على
هذا العاجز بأكثر مما في الخطبة فأخجلني ذلك جدًّا.
قمت بعد إتمامه ما جاد به لأشكر له ولإخواني الحاضرين فضلهم وأقول شيئًا
يناسب المقام فأوحى إليّ سلطان الخجل الذي كان يحكم فى وجداني حكمًّا استبداديًا لا
طاقة لي بدفعه أن كل ما يمكن أن أقوله من الشكر أو الكلام في الإصلاح والعلم فهو
يتضمن الثناء على نفسي. وارتج علي - أو كاد - حتى لم أجد من القول إلا الاعتذار
عن الشكر بالعجز عنه إذ لم أوت جراءة الخطيب وطلاقته، وعن الكلام في
المسائل العلمية والأدبية بأنني أفتح عيني فلا أرى أمامي إلا العالم النحرير، أو
الكاتب البارع في التحرير، أو الفيلسوف المدقق، أو المؤرخ المحقق، فماذا
عساني أفيد هؤلاء الفحول، وهم أعلم مني بكل ما يمكن أن أقول؟ قلت: ولو
أنهم في مجتمع عظيم من سائر طبقات الناس لكان يتيسر لي أن أصرف بصري
عنهم، وأخاطب بما يفتح على غيرهم. فقبلوا بكرمهم العذر وأعجبهم الاعتراف
بالعجز، ولكنهم لتواضعهم عدوه من التواضع.
ثم قام يعقوب أفندي صروف الدكتور في العلم والفلسفة ومحرر مجلة المقتطف
المفيدة فألقى خطابا مفيدا افتتحه بقوله: إنه عند ما قدم السيد رشيد رضا إلى هذه
الديار كتب إلى بعض أهل العلم (وذكر اسمه) كتابًا يقول فيه أنه قد ظعن إلى
مصر عالم واسع الاطلاع قادر على البيان والإفصاح عن علمه، حر لا يخاف في
إبداء ما يعتقد شيئا. فلما اطلعت على العدد الأول والثاني من المنار جزمت برأي
قلته وكتبته بعد ذلك غير مرة وهو أن إخواننا المسلمين سينظرون في المستقبل إلى
صاحب المنار وكذا إلى المرحوم المفتي (يعني الأستاذ الإمام) كنظر النصارى في
أوروبا إلى لوثير وكلفن.
ذلك أيها السادة؛ لأن الدين له أعظم تأثير في الأحوال الاجتماعية، فما من
مدنية قامت في العالم إلا وكان أساسها الدين. إننا لا نبحث في أصول الأديان لأننا
كلنا نعتقد أنها من الله فهي فوق البحث ولكن فهم الناس للدين هو الذي يصدهم عن
المدنية أو يسوقهم إليها، فقد كان أهل أوربا يفهمون الدين المسيحي فهمًا حال بينهم
وبين العلم والمدنية عدة قرون. وبعد أن قام فيهم لوثير وأنصاره بالإصلاح الديني
تغير فهم الناس للدين تغيرًا كان مبدأً لمدنيتهم الحاضرة. وقد كان العرب من قبل
يفهمون الإسلام فهمًا دفعهم إلى المدنية والعلوم، ثم انقلبت الحال وصار المسلمون
محتاجين إلى إصلاح يجمع بين الدين والمدنية. إن فلانا هو الذي أخذ على نفسه
القيام بهذا الإصلاح في مجلته (المنار) التي اجتمعنا للاحتفال بها في هذه الليلة إجابة
لدعوة صديقنا الخطيب الفاضل والمحامي الشهير إسماعيل بك عاصم. إن صاحب
المنار يقاوم البدع والخرافات ويشرح الدين شرحا يسهل سبيل المدنية ويهدم العقبات
التي تعترض سالكيها ويبين كيفية سلوكها، فهو يهدم ويبني في وقت واحد.
ثم ذكر أن هذا العمل يسر المسيحيين وغيرهم من سكان الشرق ويعدونه خدمة
عامة لا خاصة بالمسلمين لأنهم يعلمون أن الشرق الأدنى لا يرتقي إلا إذا ارتقى
المسلمون؛ إذ هم العنصر الأكبر فيه. وأثنى على هذا العاجز المحتفل لأجله وأشار
إلى ما لقيه من المصاعب وصبره عليها، وعلى إسماعيل بك عاصم بما يليق بغيرته
على العلم وحبه له وإكرامه لآله.
هذه فحوى ما فاه به الدكتور الحكيم مُلخصًا، وقد كان موضع الإعجاب
والاستحسان كما يليق بما فيه من الإبداع والإحسان، نطق بذلك كل لسان بعد ما
نطقت بالتصفيق اليدان.
ثم قام سيد أفندي محمد صاحب المجلة المدرسية (وناظر المدرسة التحضيرية
الكبرى) وارتجل خطبة ضافية الذيول متدفقة السيول، مدح فيها العلم وأهله وحمد
فيها المحتفِل وأطرى المحتفَل لأجله، ومما قاله أنه عرف صاحب المنار
أول مقدمه لهذه الديار، وعلم أنه سينشئ صحيفة إصلاحية فيها، لذلك كان من
المواظبين على قراءة المنار والاستفادة منه منذ ظهر إلى الآن. وأنه لم يكن قبل
المنار يسمع صوتا ولا يرى كتابة تنشر في مقاومة البدع والخرافات. ثم ذكر ما لقي
المنار من المقاومة والمعاداة وصبر صاحبه على ذلك حتى تم نوره وعم ظهوره
وانتشر تعليمه وانتفع الناس به. وصرح بأن المقاومين له من العلماء وغيرهم قد
انتفعوا هم أنفسهم به وصاروا يفكرون في حالهم ومآلهم وما ينبغي أن يكونوا عليه
في هذا العصر، وقد بالغ في إطراء هذا العاجز وتحليته بالألقاب التي لا يستحقها إذ
لم يكن يشير إليه إلا بكلمة (أستاذنا) وما يصله بها من النعوت العالية فجزاه الله
عن حسن ظنه بأخيه خيرًا. وقد أثنى على المحتفل الكريم في فاتحة القول وختامه
بل في كثير من أجزائه وأقسامه، وصفق له السامعون مرارا.
ثم قام توفيق أفندي عزوز صاحب مجلة (المفتاح) خطيبًا وهو من كتاب
وخطباء القبط، أصهار الرسول صلى الله عليه وسلم، فذكر أن مجلته قريبة من مجلة
المنار في السن فهي في السنة التاسعة من عمرها، وأفاض في تفضيل المجلات
على الجرائد وأثنى على المحتفل وهنأ المحتفل لأجله.
وكان حسن بك حمادة صاحب مجلة (الأحكام الشرعية) قد أعد شيئا وكتبه
ليجعله أصلا لخطبة يلقيها فضاق الوقت بإطالة الخطيبين الآخرين فمنعه كغيره عن
الخطابة فأعطاني ما كان كتبه وهو بنصه:
(لو مضت سنة الأدب بأن لا يهنأ الشخص بسار، إلا بعبارة تحيط بوصفه
مسبوكة في قالب من البلاغة مساو لبلاغته، لوجب على حضرة الأخ الفاضل السيد
محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر أن يقوم بتهنئة نفسه ويؤدي هذا الفرض عن
هذا العاجز، ولكن الله سبحانه وتعالى يقبل شكر عباده على قصورهم عن أداء
واجبه، وصاحب المنار خير من تخلق بخلق مولاه فأطلب إليه أن يتقبل تهنئة هذا
الضعيف له على ثبات إرادته ومغالبته لما اعترضه من الصعاب في سبيل عمله
الجليل الذي يؤديه للعالم الإسلامي بل العالم الإنساني.
إذا قضى واجب الوطنية والتابعية علينا مرة بمشاطرة صاحب المنار الأغر
السرور بهذا العيد الأدبي، فإن واجب الدين الذي وقف صاحب المنار نفسه لخدمته،
وصرف مواهبه في الذب عن حوضه، يوجب علينا ذلك مرات كثيرة، وقد ضمنا
من ورائها أدب أقمناه مقام الوالد.
وإني أحس كما يحس كل صادق في خدمة العلم الصحيح ساع في خير
الإنسانية، وبعبارة أجلى كما يحس كل شخص ضمته حاشيتا هذا المحفل الزاهر بأن
نجاح صاحب المنار الأغر، وقطعه لهذا العقد من السنوات خطوة واسعة في ارتقاء
الآداب ودرة ثمينة في تاج المجلات التي تصدر في هذا القطر المبارك، بل فخر
لحياة المجلات التي تصدر في الشرق أجمع.
وإني عن مجلة الأحكام الشرعية أحيي مجلة المنار الإسلامي بدخولها في العقد
الثاني من حياتها المباركة وأسأل الله لصاحبها الفاضل النجاح والتوفيق فيما قصد.
هذا وليس بعجيب أن يقوم حضرة الأصولي المفضال إسماعيل عاصم بك
الخطيب الشهير بمظاهر هذا العيد، فطالما خدم العلم والأدب وكانت له اليد
الطولى على الجمعيات الأدبية في مواطن كثيرة، وله منا جميعًا أجمل الشكر ومن الله
تعالى جزيل الأجر والسلام) اهـ.
وقدم إلينا التلميذ النجيب محمود أفندي رمزي التاريخ الآتي فنشرناه شكرًا له
وتنشيطا
... مؤسس عيد المنار على المـ ... ـعارف والسنن الطاهرة
دعوت الجهابذة العالمين ... وأهل المعارف في القاهرة
ومن كل شهم إذا ما تحد ... ث ينطق بالدرر الساحرة
ليحيا المنار ورب المنار ... وعاصم والسادة الحاضرة
بعيد المنار فأرخ إلا ... بيمن لقد بلغ العاشرة
... ... ... ... ... ـ ... ــ ــ ــ ـــ
... ... ... ... ... 32 102 134 1032 607
وانصرف القوم منتصف الليل حامدين رب الدار، مهنئين داعين بإطالة عمر
المنار وصاحبه.
__________(10/715)
شوال - 1325هـ
ديسمبر - 1907م(10/)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
الماديون والإلهيون [1]
فلسفة صحيحة
] وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [[*]
محمد توفيق أفندي صدقي
(تمهيد - غرور الماديين بمعلوماتهم - الجوهر الفرد - المكان - الزمان -
قوى المادة - ما هو البرهان الصحيح؟ - المعجزات - الفلتات الطبيعية - مذهب
داروين - القضاء والقدر - أبسط الأحياء - الفعل المنعكس في السلسلة الحيوانية -
عمل المخ هو فعل منعكس متضاعف - الإنسان مضطر في صورة مختار -
اختلاف أحوال المادة - الظلم - تبرئة الخالق منه.
الإنسان مفتون بنفسه مغرور بعقله، لا يعرف من الأمور إلا ظاهرها فيظن
أنه أدرك بواطنها، فيتيه إعجابًا وينأى بجانبه تمردًا واستكبارًا.
عرف الماديون شيئًا من أسرار الوجود فوجدوا لذة وراحة عقلية ما كانوا
يشعرون بها من قبل، وتوهموا أنهم فهموا هذا الكون وسبروا غوره وأمكنهم التعليل
عن منشأِه وأصله بدون الاحتياج إلى شيء ليسلبهم تلك اللذة الفكرية التي حصلوا
عليها.
قام الدين يناديهم بالإذعان لعلة العلل ومسبب الأسباب، ووصفه لهم بما لم
يمكنهم إدراكه ولا يقدرون على تصوره، فكبر عليهم ما دعاهم إليه. وعز عليهم
ترك ما هم فيه، فأعرضوا عن الدين وأظهروا العداء له، وقالوا: ما لنا ولهذا
الهذيان ونحن (وللطبيعة الحمد) قد وصلنا إلى درجة من العقل لا تتفق مع هذا
البهتان الكبير.
شرب بعض المقلدين لهم من حياض أفكارهم فثملوا بها، وفاتهم أن الدين
الصحيح يذهب بمتبعيه إلى بساتين الحرية والراحة العقلية التي يمرح فيها المؤمن
ويعلو على دوح التصورات الفكرية حتى يبلغ الملكوت الأعلى ويصل إلى معرفة
واجب الوجود، فينزل إلى المادة وقد عرف علتها الحقيقية التي لا يعروها الوهم،
ولا يدنوا منها الخطأ أو الشك.
إن كان الماديون ينكرون وجود الله لأنهم لا يمكنهم أن يدركوا كنهه تعالى
فأي شيء أدركوا؟ هل أدركوا المادة؟ أم هل أدركوا قوامها؟
أسمع صوتا من بعيد أظنه من بعض الغافلين يقول: نعم قد أدركوا كل شيء
أما قرأت علومهم؟ أما سمعت بمكتشفاتهم؟ فأي شيء لم يدركوا؟
ادن مني يا هذا ولا تعجل علي فإني آتيك بالخبر اليقين. ومخبرك بحقيقة
علمهم، ففكر معي تفكيرًا وتروَّ في الأمر طويلاً.
خذ قطعة من أبسط الأشياء كالحجر مثلاً واسحقها، ثم خذ بين أصبعيك منها
أصغر ذرة تقدر عليها، ثم سر في تقسيمها إلى أصغر منها بالعقل. فهل تقف عند
حد أو لا تقف؟ إن قلت أنك لا تقف قلت: إذًا هذه الذرة مركبة من ذرات [2] لا عدد
لها وليس لها حصر. فكيف ذلك وهي محصورة بين أصبعيك تقلبها كيف شئت؟ فهل
يكون غير المتناهي متناهي وغير المحصور محصورًا؟ أي تناقض أصرح من هذا؟
وإن قلت أنك تقف عند حد سألتك: هل الذرة التي تقف عندها لها امتداد أم ليس لها
امتداد؟ فإن كان لها امتداد فلم لم تتصور تقسيمها ولم تقف عندها؟ وإن لم يكن لها
امتداد (وهو الصحيح) فهل يمكنك أن تدركها بعقلك أو تتصورها في فكرك؟ كلا،
إذًا أنت لا تدرك شيئًا من مادة هذا الوجود الواقع تحت حسك، فكيف بواجب الوجود
(الله تعالى) ولمَ تنكر وجوده، وقد قامت عليه الدلائل القاطعة كالتي بيناها في
بعض مقالاتنا السابقة في المنار؟
تفكر ثانيًا في تلك الذرات التي لا امتداد لها، فهل يمكنك أن تتصور كيفية
اجتماع بعض أجزائها ببعض حتى تتركب منها الأجسام الشاغلة للفراغ؟ إذا وضع
ثلاث منها بعضًا بجانب بعض، فهل تثبت للوسطى منها جانبين أم لا؟ فإن
أثبت ذلك لها كان ذلك نقضًا لقولك الأول أنها لا امتداد لها وأمكنك قسمتها. وإن لم
تثبت لها الجوانب، فهل تتصور كيفية وجودها واتصال بعضها ببعض؟ كلا إنه لا
يمكنك ولا يمكنني ذلك؛ إذًا لا يمكننا أن نتصور حقيقة الأجسام ولا الفراغ ولا
المكان؛ لأن ما يقال في الأجسام يقال مثله في المكان، وما قيل في الذرات التي لا
تنقسم (وهي الجواهر الفردة عند الفلاسفة والمتكلمين) يقال في النقط الهندسية
عند الرياضيين.
ثم تفكر ثالثًا في وجود هذه الذرات منذ الأزل على اعتقادك؛ مع قولك
بحركاتها التي ليس لها أول، وخذ حركة منها لنتكلم عليها. أليس قبل هذه الحركة
حركات لا عدد لها لأنها أزلية كما تقول؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف أمكن
انقضاؤها جميعًا، وكيف جاز أن تأتي تلك الذرة بحركات لا عدد لها قبل كل حركة؟
أليس ذلك قولاً بأن ما لا يعد أمكن عده؟ وما لا يمكن الإتيان عليه قد أمكن الإتيان
به؟ أول ليس هذا تناقضًا بينًا؟
ومثل الحركات الأزلية لحظات الزمان، فإنه يستحيل وجودها منذ الأزل،
فهل يمكنك بعد ذلك أن تقول بأنك تفهم الأزل أو تفهم الزمان؟ إلى هنا قد تبين بأجلى
برهان أن الماديّ لا يفهم كنه المادة ولا مكانها ولا زمانها.
إنه كلما خرج من تناقض سقط في آخر. فهل يفهم شيئًا من خواص المادة
وقواها؟ إن للمادة قوى كثيرة عرفنا بعضها كالكهربائية والمغناطيسية
والجاذبية العامة بين الأرض والأجسام التي عليها وبين الأجرام الكونية بعضها مع
بعض، أليست كل هذه ألفاظًا لا نعرف لها معنى حقيقيًّا؟ وما مثلنا في ذلك
إلا كمثل الذي (فسر الماء بعد الجهد بالماء) .
خذ مثلاً قوة الجاذبية التي بين الشمس وأحد السيارات كالأرض أو كزحل،
فما هو هذا الشيء الذي به الجذب؟ هل هو مادة أو غير مادة؟ فإن كان مادة فكيف
يحصل به الجذب وإن كان غير مادة فهل يمكننا تصوره؟ وكيف يحصل الجذب بين
الحديد والمغناطيس؟ وما الجواب الشافي عن مثل هذه الأسئلة؟
فإذا كان الماديون لا يفهمون المادة ولا زمانها ولا مكانها ولا قواها؛ فأي شيء
يفهمون أو يدركون؟ إنهم لا يعلمون إلا ظاهرًا من الحياة الدنيا، وهم عن الحقائق
غافلون.
وإذا لم يكن عدم إدراك الشيء عقبة في سبيل التسليم بوجوده، فلماذا ينكرون
وجود الله تعالى؟ وأي فرق بين المادي والإلهي في الحرية العقلية؟ الإلهي يعتقد
بوجود أشياء لا يدرك عقله كنهها؛ لأنه قام عنده عليها الدليل. وكذلك المادي يعتقد
ولا يمكنه أن يدرك كنه ما يعتقد، فهل يكون أحدهما أكثر تمتعًا بالحرية العقلية من
الآخر؟ كلا، فبماذا يفتخرون؟
إن عدم إدراك الشيء ليس دليلاً صحيحًا في نظر العقل على عدم وجوده،
وإلا لأمكننا أن نقول: إننا لا ندرك شيئًا من كنه هذا العالم المحسوس، فهو غير
موجود. وحينئذ نقع في السفسطة. ومن بلغت به درجة المكابرة إلى هذا الحد،
فلا يصح خطابه ولا التكلم معه لأنه ليس بعاقل.
البرهان الصحيح على وجود الشيء أو عدمه (إن لم يكن محسوسًا) هو ما بني
بناء منطقيًّا صحيحًا، تنتهي مقدماته إلى البديهيات العقلية. وأشهر هذه
البديهيات وأكثرها ورودًا في الدلائل: أن الضدين لا يجتمعان وقد يرتفعان،
والنقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، مثال الضدين: البياض والسواد، ومثال
النقيضين: البياض وعدمه، أو النفي والإثبات في كل شيء. فكل ما أدى القول به
إلى ما يخالف البديهيات كان باطلاً واستحال وجوده، وكل ما لم يؤد إلى ذلك كان
جائزًا وأمكن وجوده، وإن لم يكن للعقل إدراك كنهه ومعرفة كيفية وجوده، ويجب
الإيمان به إن قام عليه الدليل وإلا بقي في حيز الإمكان.
هذه المسألة هي أصل الأصول ومرجع البشر قاطبة في جميع علومهم
الصحيحة، ومن لم يفهمها ولم يمكنه أن يميز بين ما يصادم البداهة وبين ما لا يمكن
إدراك كنهه؛ فهو غير أهل لأن يتلقى شيئًا من العلوم العقلية. ولا يمكنه أن يعرف
الحق من الباطل ولا أن يفرق بين الخطأ والصواب.
وإذا كان عدم أدرك كنه الشيء ليس موجبًا لإنكاره كما قررنا، فمن باب أولى
تكون مخالفة الشيء لما اعتدناه لا تقتضي عدم تصديقه. فمن أنكر خوارق العادات
(المعجزات) التي يدعيها أهل الملل لأنبيائهم، وجزم بعدم إمكان وقوعها لذلك السبب
(أي غرابتها واستبعادها) فهو نحيف العقل جاهل؛ إذ ليس كل غريب
مستحيلاً وإلا لما أمكن للبشر إنطاق الجماد (كما في الفونوغراف) ونقل الكلام إلى
مسافات بعيدة كما في (التليفون) والسير بسرعة عجيبة كما في الآلات البخارية
والكهربائية إلى غير ذلك من الاختراعات الغريبة التي ما كان يحلم بها الأولون،
ولو أُخبروا بها لكذبها أكثرهم كما يكذب المعجزات بعض أهل هذا الجيل الحاضر
الذين فتنوا بمعلوماتهم التي هي بالنسبة لما خفي عنهم ليست إلا جهالات مركبة.
ولو عمل الإنسان بهذا المبدأ السخيف، وهو الجزم باستحالة الشيء لعدم
اعتياده له، لما تقدم خطوة إلى الأمام في سبيل الاختراع والاكتشاف. أما إذا
كان إنكار المعجزات مبنيًّا على ادعائهم استحالة خرق نواميس الطبيعة، فهي
دعوى لا يمكن إثباتها، ويوجد في عالم الحيوان والنبات من الشواذ ما يكذبها،
ولا يمكن تعليلها ولا تبين سبب مخالفتها للمعهود، كما في الأجنة التي تولد مختلطة
بعضها ببعض أو ناقصة أو زائدة عضوًا أو جزءا منه. فلمَ لم تجر هذه الأشياء
على ما اعتدناه؟ على أننا لا نعرف جميع نواميس الكون حتى نجزم بأن كل ما
خالف ما علمناه منها يكون خارقًا لها، فلم لا تكون تلك المعجزات تابعة لناموس
لا نعلمه إلى الآن؟ ومتى علمناه أمكننا تفسيرها تفسيرًا علميًّا صحيحًا.
ألم تر إلى العلماء قبل أن جاء داروين بنظرياته في ارتقاء الأنواع بعضها عن
بعض، كيف كانوا لا يفهمون معنى للأعضاء الأثرية، ولا يدركون سببًا لظهور
بعض الأشياء في أجنة الحيوانات ثم انمحائها قبل أن تقوم بأية وظيفة أو تؤدي أي
عمل؛ كالأسنان التي تظهر في طور التكوين في الفك الأعلى لأجنة الحيتان
والحيوانات المجترة ولا عمل لها إذ ذاك، ثم تزول ولا يبقى لها أثر، حتى ظن
بعض الناس أن ظهورها هذا عبث، ولو لم تشاهد بالحس لأنكر المكابرون وجودها.
فليتأدب الإنسان وليعلم أنه لم يؤت من العلم إلا قليلاً، ولا يغترن بما علم من
ظواهر الأمور.
الإنسان طائش، إذا جهل حكمة شيء أسرع بتكذيبه وإنكاره. ولكن ذلك لا
يغنيه من الحق فتيلاً. جهل حكمة الخالق لهذا الوجود وكنهه فتسرع في إنكار
وجوده، فهل أراحه ذلك مما أحاط به من المعضلات التي يناجيه بها عقله ويطالبه
بحلها؟ أنت مسكين أيها الإنسان وبعقلك حيران.
نظر المادي نطرة سطحية في الكون، ودعاه للإيمان باليوم الآخر وبقضاء الله
وقدره، فقال: لو آمنت بذلك لآمنت بظلم مبين، فأنا أنكره كله لأستريح من هذا
العذاب الأليم، والتجأ إلى جحر التكذيب فلحقه فيه ما فر منه، ولكي تفهم ذلك يجب
أن تصغى لما سأتلو عليك:
إن أبسط الأحياء في هذا العالم ما كان ذا خلية واحدة كالحيوان المسمى
(أميبا) هذا الحيوان هو قطعة صغيرة من مادة حية تسمى البروتوبلاسم [3] ولها من
خواص الحياة ما هو معلوم للفسيولوجيين، فإذا نبهت بأي منبه تحركت.
إذا ارتقينا إلى ما فوق هذا الحيوان في الرتبة، وجدنا هذه الخاصية - وهي
إجابة التنبيه بالتحرك - أخذت في التضاعف في الحيوانات المركبة، وامتاز بعض
أجزائها (وهي أيضًا عبارة عن خليات بروتوبلاسمية) بالقيام بها دون سواها. فبعد
أن كانت الأميبا هي التي تقابل بنفسها التنبيه فتتحرك بجملتها، صار في الحيوانات
الراقية بعض الأجزاء مختصًّا بمقابلة التنبيه، فتجيب عنه أجزاء أخرى بالحركة.
أما الأجزاء الأولى فهي الأعصاب الحساسة التي تحمل التنبيه إلى المراكز العصبية
كالتي في النخاع الشوكي، فيرتد فيها إلى أعصاب أخرى تسمى الأعصاب المحركة
حتى يصل إلى العضلات فيؤثر فيها تأثيرًا مخصوصًا يظهر لنا بانقباضها. وهذا
هو ما يسمى بالفعل المنعكس (ومن أراد زيادة التفصيل فعليه بكتب الفسيولوجيا)
وهو يشاهد في جميع الحيوانات حتى في الإنسان نفسه، ولو أعقنا العلاقة بين
المخ وبين النخاع، حتى لا يبقى لإرادة الإنسان سلطان عليه لتم هذا الفعل أيضًا
رغم أنفه كما يشاهد في حالات البارابليجيا أي الشلل النصفي، وكذا في إصابات
النخاع العارضة إذا كانت فوق المراكز التي تقوم بالفعل المنعكس.
أما ما يصل إلى المخ من التنبيهات بواسطة الحواس فليس من الضروري أن
يجيب عنها في الحال كما هو شأن النخاع وشأن الحيوانات الأولية. ولكنها تحدث
فيه آثارًا مخصوصةً عليها مدار ما يأتيه الإنسان من أقوال وأفعال.
قال العلماء الفسيولوجيون والبسيكلوجيون: إن أعمال الإنسان هي أفعال
منعكسة مركبة متضاعفة. والفرق بين ما يأتيه باختياره وبين ما يحصل بدون
اختياره كالأفعال المنعكسة للنخاع - إنما هو في مدة حصول كل منهما. كما صرح
بذلك العلامة (أغسطس د. وللر) الفسيولوجي الشهير، فالفعل القهري ينعكس
بسرعة وما نسميه اختياريا ينعكس ببطء وكلاهما في الحقيقة فعلان منعكسان , ولا
يصدر عن الإنسان إلا ما كان نتيجة ما وصل إلى مخه مما أحاط به من الظروف
والأحوال وما لحقه بسبب الوراثة الطبيعية عن الآباء والأجداد.
فالإنسان في الحقيقة مضطر في صورة مختار كما وصفه بذلك عندنا علماء
الكلام كالإمام فخر الدين الرازي، فهو ليس إلا آلة لانعكاس ما حوله ولا يصدر منه
شيء ابتدائي مطلقًا؛ إذ جميع أعماله إنما هي نتيجة تربيته ومعلوماته وما ورثه وما
أحاط به من ظروف وأحوال وغيرها؛ أي هي نتيجة مزاجه والوسط الذي نشأ فيه
وإلا فكيف نفسر ميل هذا للشر وميل ذاك للخير إذا كان كل شيء فيهما متساويًا؟
على أن القول بتساوي البشر في الطباع والأخلاق والظروف مما يكذبه الحس
والعيان. ولو كان صحيحًا ما وجد بهم اختلاف ما في الميل، ولو وجد الاختلاف
لجاز حصول المعلول بدون علة أو الترجيح بدون مرجح وهو محال.
هذا هو تقرير العلم والعقل لهذه المشكلة. فإذا كان البشر لم يخلقوا متساوين
وليسوا في الظروف متفقين (ولا دخل لهم في ذلك) وجميع أفعالهم ليست إلا
نتيجة تركيبهم. والمؤثرات المحيطة بهم، إذا كان الأمر كذلك. فهل يقال: إن لهم
إرادة حقيقية متصرفة في شيء؟
الحق أقول: إن اختيارهم ليس إلا أمرًا ظاهريًّا. وإذا كان كذلك فلماذا نعاقبهم
على ما يرتكبون في هذه الدنيا، وهم لا شك إليه مسوقون وعليه مدفوعون؟
الجواب سهل، وهو أن العقاب من العوامل المؤثرة في النفس، فتنزعج له
وترتدع بسببه، وكذلك يؤثر في نفوس غيرهم ممن رأوه أو سمعوا به، فتقل الشرور
في هذا العالم: {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة: 179) ولكن
هل يسوغ لنا هذا ظلمهم بالعقاب مع علمنا بأنهم مكرهون؟ إن كان هذا غير
مسوغ، فنحن إذًا جميعًا ظالمون!
وهناك مسألة أخرى أيها المادي. وهي لماذا كان بعض المادة جمادًا لا يشعر
وبعضها الآخر نباتًا أو حيوانًا يحس ويتألم ويتلذذ؟ ولم كان الناس مختلفين ما بين
غني وفقير، وصحيح ومريض، ومتنعم ومعذب، وفرح وحزين، إلى غير ذلك
من التباين والاختلاف بين أجزاء المادة؟ أليس هذا ظلمًا في رأيك؟ فإن كان ظلمًا
فالكون كله ظلم في ظلم، ونحن ظالمون مظلومون، ولا يخلصك من ذلك إنكارك
لوجود الخالق أو إقرارك به، فأنت أنكرت ما أنكرت فرارًا من القول بالظلم
فوقعت فيه.
قد يقول: إنني بإنكاري الخالق تكون تبعة هذا الظلم ليست واقعة عندي إلا
على الوجود. ولكنها عندكم واقعة على إلهكم. ونقول: إن الظلم أمر اعتباري،
فما تسميه أنت ظلمًا يراه الآخر عدلاً؛ ولذلك اختلف الناس في ذبح الحيوان أو
أكله مثلاً، فبعضهم يستقبح ذلك وبعضهم لا يرى فيه عيبًا، فما عرفت به الظلم
يخالفك فيه غيرك، ويقول: إن الظلم هو التصرف فيما ليس بحق المتصرف ,
والعدل هو تصرف المالك في ملكه بما يرى. فإذا ملكت بعضًا من الأنعام فذبحت
بعضها وأطلقت بعضها الآخر فلست بظالم، وإذا خول القانون للقاضي
الحكم في مسألة بإحدى عقوبتين، فاختار ما شاء منهما فليس بظالم. وإن لم تسلم
هذا التعريف أو ما يقاربه وأصررت على القول بالظلم، فنحن لا نرى فرقًا حقيقيًّا
بين قولك: إن تبعة هذا الظلم عندك على الوجود؛ أي ليست على أحد بعينه وبين
زعمك أن تبعته عندنا على الله؛ لأن الله تعالى فعل ما فعل حسب ما قضت به
إرادته الأزلية، ولم يكن في الإمكان غير ما كان؛ لأن الإرادة في جانب الله معناها
تخصيص بعض الممكنات الأخرى وهو ما يسمى بالترجيح.
وهذا الترجيح حاصل منذ الأزل أي لا أول لوجوده، فلا يمكن أن يوجد
غيره أما دعوى أنه أزلي وأنه كان يمكن وقوع غيره كما يدعيه بعضهم، فهي مصادمة للبداهة العقلية. وإن قيل: إن الإرادة صالحة لترجيح هذا على ذاك،
ولكن لم يقع الترجيح بالفعل إلا في غير الأزل أو كما يعبر المتكلمون في مثل
ذلك أن لها تعلقين: تعلقًا صلوحيًّا قديمًا وتعلقا تنجيزيًّا حادثًا [4] إن قيل ذلك، قلنا:
إن اختيار هذه الشيء دون ذلك مع أنهما بالنسبة له تعالى سواء من كل وجه،
هو عين الترجيح بلا مرجح. ولا يصح أن يقال: إن صفة الإرادة هي
المرجحة؛ لأن نسبتها أيضًا لأحدهما كنسبتها إلى الآخر تمامًا. ولو اختلفت النسبة
لكان الترجيح أزليًّا وإلا لتخلف المعلول عن علته وهو محال. وإن كان المرجح شيئًا
غير الإرادة فإما أن يكون قديمًا أو حادثًا، فإن كان قديمًا لا يمكن تخلف المعلول
عن علته كما قلنا، وإن كان حادثًا يحتاج هو لمرجح يرجح وجوده على عدمه،
وذلك يؤدي إلى القول بالتسلسل وهو باطل. وإن لم يكن هذا ولا ذاك بأن كان
المرجح يوجد في المستقبل (وهو غير معقول) فلم كان الترجيح لأجله حادثًا ولم
يكن أزليًّا؟ فلا مفر إذًا من القول بأن تعلق الإرادة التنجيزي هو قديم، أما
التعبير عن الإرادة بالمضارع بدل الماضي، فنحو قوله تعالى: {ذُو العَرْشِ
المَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (البروج: 15-16) ، فله شواهد كثيرة في اللغة وفي القرآن الشريف كقوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} (الحجرات: 7) بدل أطاعكم. ويراد به إفادة استمرار الفعل، فمعنى الإرادة:
القضاء الأزلي الذي أوضحنا، وقد قضى تعالى بما قضى، ولا يزال قاضيًا به ,
وجميع ما ورد في حقه تعالى من أمثال ما يستعمل في حق البشر: كالرحمة
والغضب والكره ونحوها، له معان في جانبه غير معناه في جانبنا. فنفسر هذه
الألفاظ في كل مقام بما يناسبه وبما يليق بالله تعالى وصفاته، مثلاً إذا قيل:
(الله رؤوف بعباده) فمعناه أنه تعالى هو المنعم عليهم بكل خير أو نحو ذلك؛
لأنه جل شأنه منزه عن الانفعالات والاضطرابات العصبية والجولات الفكرية.
فليست رأفته أو غضبه كرأفتنا أو غضبنا، تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا،
وليست أفعاله مسبوقة بتفكر أو تردد أو ما شابه ذلك من صفات المحدثين.
والخلاصة: أن ترجيح بعض الممكنات على بعض حاصل منذ الأزل،
فما كان يمكن أن يحصل غيره إذ لم يسبق بعدم ولم يكن لوجوده أول. فإن سلم
أن فيما حصل ظلم، فلا تبعة فيه على أحد؛ لأنه تعالى هكذا موجود من القدم،
ولابد من إنفاذ ما كان بلا تردد. ومن تفكر فهم، ومن تعمق عرف، ولا أزيد عن
ذلك فسر القضاء أوشك أن يتضح. بل هو للعارفين قد اتضح، إذًا فما يجده
المادي من الحرية في جحوده يجده المؤمن في إيمانه، ولكن المؤمن يفوقه في كونه
عرف علة الوجود وما اقتضته، فخلص من التناقض الذي وقع فيه المادي بسبب
زعمه قدم الجواهر الفردة على ما بيَّنا هنا في صدر هذه المقالة وفي مقالتنا
الأخرى في الإلهيات التي سبق نشرها في المنار.
فهذا هو ما أردت بيانه: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ
لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: 9) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور
محمد توفيق صدقي طبيب
... ... ... ... ... ... ... ... بسجن طره
(المنار)
ما كتبه الدكتور في الإرادة والاختيار غير محرر، وقد أطال في ذلك
المتكلمون، وأوردوا فيه ما قيل من أن تعلق الإرادة الإلهية بفعل الشيء
يقتضي وجوبه واستحالة مقابله وبذلك ينتفي الاختيار، وأجابوا عنه بأن الإرادة لا
تتعلق إلا بفعل الممكن لذاته، وما كان ممكنًا لذاته إذا صار واجبًا بتعلق الإرادة به،
كان وجوبه عين الاختيار؛ إذ لا معنى لاختيار الباري تعالى إلا كون ما يصدر
بقدرته من الأفعال له؛ إنما يصدر بتخصيص إرادته لذلك الفعل على ما يقابله من
الممكنات، فالاختيار عند المحققين لازم للإرادة لزومًا عقليًّا، وبعضهم يجعلهما
بمعنى واحد، وغاية ما فرق به المدققون بينهما هو أن المختار ينظر إلى الشيء
وإلى مقابله، ويرجح أحد المتقابلين أو المتقابلات على غيره، والمريد ينظر إلى
الشيء الذي يريده فيحرك القدرة إلى فعله، يعني أن كلا من الإرادة والاختيار يفيد
التخصيص والترجيح. ولكن الفاعل للشيء يسمى مريدًا له باعتبار القصد المجرد،
ويسمى مختارًا باعتبار ملاحظة شيء آخر غير ما قصد إلى فعله، كان يمكن أن
يكون بدلاً منه لولا الترجيح والتخصيص.
وأظهر من هذا أن يقال: الاختيار عبارة عن كونه تعالى غير مكره ولا
مجبور على ما أراد وما يريد؛ لأنه ليس فوقه سلطان بشيء ما، فتكون إرادته
تابعة لإرادته، فإرادته مستقلة بالتخصيص بحسب علمه. أما نحن البشر فإننا قد
نعلم أن المصلحة في فعل كذا وأن مقابله مفسدة، ونحب أن نفعل ما هو المصلحة،
ولكننا قد نخصص ونرجح المفسدة بإكراه من هو أقوى منا سلطانًا، فلا تكون
إرادتنا مستقلة بالتخصيص، ولا نحن مختارين في العمل، وقوله: إن فهم
الإرادة والاختيار بهذا المعنى يستلزم الترجيح بلا مرجح - مصادرة، فإن الإرادة إذا
لم تكن هي المرجحة لزم في الوجود الترجيح بلا مرجح، لا إذا كانت هي المرجحة
يلزم ذلك كما يقول.
نعم، إن ما يتخصص بالإرادة يكون على حسب الداعي وهو العلم، والعلم
ليس ملزمًا بالفعل (ونريد به ما يعم الكف والترك) لأنه عبارة عن انكشاف
المعلوم، فتوجه نفس الفاعل إلى فعل بعض المعلومات دون بعض معنى آخر
يسمى إرادة ومشيئة، ومن أثبت الإرادة المستقلة يكون مثبتًا للاختيار. وإرادة العالم
الفعل تكون عند الفعل حتمًا، وقد تكون قبله بمعنى أن نفسه تكون متوجهة إلى فعل
كذا في زمن كذا من المستقبل؛ ولذلك قالوا: إن للإرادة تعلقًا قديمًا أزليًّا وتعلقًا
حادثًا، وما ذكره الدكتور صدقي في الهامش من كون الإرادة ليس لها إلا تعلق قديم
غير صحيح؛ لأنه يلزم منه أن يكون تعالى غير مريد للشيء عند إيجاده بالفعل
وهو بديهي البطلان؛ على أنه هو قد صرح باستمرار الإرادة الإزلية، والمراد منه
ومن التعلق الحادث واحد.
لكن ما يتبادر إلى الفهم من مجموع كلامه في هذا المقام مخالف لما هو مقرر
في العقائد، ومن يتأمل فيه يتنسم منه أنه بما قرره من أزلية الإرادة وعدم إمكان
شيء غير ما قضت به في الأزل، حاول أن ينفي ما يعبر عنه القدرية بقولهم:
الأمر أنف (بضم الهمزة والنون) أي أن الله لم يقدر الأمور ولم يعلمها أزلاً،
وإنما يأتنفها علمًا حال وقوعها. والقائلون بهذا هم غلاة القدرية المتقدمون، ويقرب
من عقيدتهم ما يفهمه كثير من العوام من معنى الاختيار؛ قياسًا على اختيارهم
الذي يكون بعد تردد وبعد مخالفة لقصد سابق.
ومن مقاصد القدرية في مذهبهم نفي الظلم عن الباري عز وجل، وهو ما
قصده الدكتور صدقي بنقيض مذهبهم، ولكنه على موافقته لأهل السنة في الإرادة
الأزلية من جهة قد خالفهم من جهة أخرى، فجعل الإرادة منافيه للاختيار. وعلى
موافقته لهم في نفي الاعتراض على الباري بالظلم خالفهم في طريق الاستدلال،
فوقع في شر مما هرب منه؛ إذ جاء بما يوهم جواز وقوع الظلم الحقيقي مع
الاعتذار عنه بكون علته أزلية، وكل ذلك عدم تحرير العبارة فيما أظن.
وجملة القول: إن جميع الممكنات التي نعرفها وفي حكمها مثلها مما لم نعرفه
من الموجودات، صادرة عن الوجود الواجب الأزلي، أو قل: عن واجب الوجود
القديم، ولما كانت مشتملة على النظام والأحكام، دلت على أن الواجب الذي
صدرت عنه قد أوجدها بعلم كامل وإرادة مستقلة، وأنه مختار في ذلك لا مجبور
ولا مكره. ولما كانت إرادته للأشياء عن علم محيط، وجب أن تكون أفعاله كلها
موافقة للحكمة البالغة والنظام التام والعدل العام، فلا يقع منه الظلم؛ لا لأن ما
نفهمه من معنى الظلم إن وقع منه تعالى لم يكن ظلمًا كما يقول الأشاعرة فإن هذا
غير صحيح كما بيناه في التفسير من هذا الجزء، ولا لأنه أزلي وإرادته أزلية كما
قال الدكتور صدقي؛ فإنه تعالى متصف بالكمال في الأزل وفيما لا يزال، والظلم
ينافي الكمال، وهذا الذي قررناه هو ما كان عليه السلف الصالح في مسألة
استحالة الظلم عليه تعالى. وما يظنه الجاهلون بالله وبسننه ظلمًا لمخالفته
لأهوائهم، يسهل على العارفين بالله أن يبينوا لهم أنه ليس بظلم.
وأما ما قاله في مسألة كون الإنسان مجبورًا غير مختار في أفعاله، فله فيها
وجه فلسفي يقول به بعض فلاسفة الإفرنج الآن، وسبقهم إليه بعض أئمة المتكلمين
والحكماء من المسلمين، وللغزالي فيه أقوال من قبيل أقوال فلاسفة الإفرنج من
أوضحها وأبلغها ما كتبه في كتاب التوحيد والتوكل من الإحياء. وقد اشتبه على
أكثر علمائنا الفصل بين هذا النوع من الجبر وبين الجبر الذي يعترض به على
أصل التكليف، والفرق مثل الصبح ظاهر، فمدار التكليف على ما يعلمه الإنسان
من نفسه علمًا ضروريًّا؛ من أنه متمكن من فعل هذه التكاليف وتركها، وهذا
التمكن يسمى اختيارًا، ويسميه الأشاعرة كسبًا، ولا ينفيه كون الإنسان لا يعمل
عملا ًإلا بعد العلم بأن فعله خير له من تركه، وكون هذا العلم منه الضروري وغير
الضروري، وإن ما كان منه غير ضروري في مبدأه، يصير ضروريًّا بعد الجزم
به كما هو ظاهر، أو كون هذا العمل فعلاً منعكسًا بسرعة أو ببطء. وربما عدنا إلى
الإسهاب في ذلك يومًا.
هذا هو اعتقاد أهل الحق في هذه المسألة وما قبلها، وأظن أن الدكتور
محمد توفيق أفندي صدقي لا يخالفه وإن أوهمت عبارته الخلاف لعدم وضوحها.
__________
(1) للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي الطبيب بسجن طره.
(2) هذا بقطع النظر عن نظريات علم الكيمياء واصطلاحاته فإنها لا تناقض هذه المسألة.
(3) هي كلمة يونانية ومعناها المكون الأول لأنها عنصر الحياة ومنها ركب كل حي.
(4) المسلمون يقولون: إن كليهما قديم كما بين برهان ذلك في المتن.
(*) (يونس: 19) .(10/721)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التدوين في الإسلام
سادتي الكرام:
حقًّا إني حري بالفخر، حقيق بتقديم واجب الشكر على أن تنازلتم بقبولي
هذه المرة خطيبًا في ناديكم الجامع لنوابغ الأمة ونخبة أهل الفضل والعلم منها،
وإني أعترف بأن موقفي بينكم موقف صعب لا يجرؤ على الوقوف فيه ضعيف مثلي
ليس في مرتبتكم السامية في العلم والاطلاع، فألتمس منكم لهذا السبب المعذرة إذا
تلعثم لساني واضطرب جناني، والكريم يعذر على كل حال.
ولقد اخترت موضوعًا لبحثي هذه المرة، أظنه لا يخلو من فائدة تاريخية مع
ما أعتقد في نفسي من العجز عن إعطاء مثل هذا الموضوع أو البحث حقه من
البيان والتدقيق. لكن قاعدة (ما لا يدرك كله لا يترك كله) ربما سمحت لي بعرض
معلوماتي في هذا الشأن على مسامع سادتي الحاضرين، مهما كانت قيمتها هينة في
نظركم ونظر التاريخ.
الموضوع هو التدوين في الإسلام أو مبدأ الكتابة، وتقييد العلم في الصحف
عند المسلمين.
إن الذي دعاني إلى اختيار هذا البحث على بعده عن أذهان كثير منا لهذا العهد
هو تصدي بعض الباحثين لتطريق الوهن والتجريح إلى العلوم التي وصلت إلينا
من أسلافنا في الصدر الأول: كالحديث وآداب اللغة العربية والتاريخ.
فقد زعموا أن المسلمين لم يدونوا هذه العلوم إلا في القرنين الثاني والثالث،
وأن الأخبار التي تتلقى بالرواية مدة قرنين ثم تكتب بعد ذلك الأمد الطويل، قلما
يوثق بسلامتها من التحريف والتبديل، وذلك قياس لأخبار العرب على غيرها من
أخبار الأمم الأخرى التي لم تكتب صحيحة في حينها، وإنما كتبت بعد مرور زمن
طويل أو قصير عليها مشوهة بآفة التبديل والتحريف، فسقط اعتبارها على ظنهم
في التاريخ، وهذا الزعم بالنسبة إلينا مردود من وجهين:
(الوجه الأول) ما عرف عن العرب من إتقان الحفظ والرواية، وكونهم
مطبوعين على ذلك.
(الوجه الثاني) ثبوت التدوين وكتابة الأخبار في الإسلام من أوائل القرن
الأول؛ أي من عهد صاحب الرسالة وأبي بكر الصديق، وثبوت عناية العرب
المسلمين بالكتب أو العلوم المدونة منذ ذلك القرن.
أما الوجه الأول: فبيانه أن قوى الإنسان ومشاعره خاضعة كلها لحكم
الفطرة؛ إذ المشاهد أن الإنسان إذا فقد أداة من قواه العاقلة أو مشاعره قويت فيه
أداة أخرى. فضعيف الذاكرة يكون قوي التفكر بحكم الحاجة إلى استحضار صور
المعلومات التي تغيب عن حفظه.. وفاقد البصر يكون قوي السمع والحفظ كذلك.
والعرب لما كانوا أمة أمية قليلي العناية بالكتابة التي هي أداة من أدوات
الحضارة، استعاضوا عنها لاستيفاء أخبارهم وتداولها بقوة الحفظ، فمرنوا على هذه
القوة حتى صارت لكثير منهم ملكة لا يحتاج صاحبها إلى تكلف عناء في حفظ ما
يرد على سمعه من الأخبار والأشعار، فقامت عندهم مقام الكتابة وقيد الأخبار
بالصحف؛ لذلك كانت أخبار العرب وأشعارهم التي وصلت إلينا إلى هذا اليوم،
إنما اتصلت بالمسلمين بالرواية؛ ثم قيدها هؤلاء بالكتب في العصر الأول وما بعده.
وكلكم تعلمون أيها السادة مبلغ قوة الحفظ عند العرب؛ بما تقرأونه من أخبار
حماد الراوية الذي كان ينشد عدة قصائد على قافية واحدة لعدة شعراء، وكذا تقرؤون
أخبار غيره التي من هذا القبيل، وقد كان عبد الله بن عباس يحفظ القصيدة الطويلة
بسماعها مرة واحدة، وها أنا ذا أورد لكم خبرًا من أخباره في الحفظ يستدعي
إعجابكم بذلك الرجل الجليل الذي كان يستوعب ذهنه من شرائع الإسلام وأخبار
العرب وغيرهم ما لا تستوعبه مكتبة من المكتبات الضخام.
روى هذا الخبر صاحب الأغاني بسنده، قال: بينما ابن عباس في المسجد
الحرام وعنده نافع بن الأزرق وناس من الخوارج يسألونه؛ إذ أقبل عمر بن أبي
ربيعة في ثوبين مصبوغين موردين أو ممصرين حتى دخل وجلس، فاستنشده ابن
عباس قصيدة:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائح فمهجر
حتى أتى على آخرها. فأقبل عليه نافع بن الأزرق، فقال: الله يا ابن عباس
إنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقصى البلاد؛ نسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل
ويأتيك مترف من مترفي قريش فينشدك:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت ... فيخزى وإما بالعشي فيخسر
فقال له ابن عباس: ما هكذا قال، وإنما قال:
رأت رجلاً إما الشمس عارضت ... فيضحي وإما بالعشي فيخصر
فقال: ما أراك إلا قد كنت قد حفظت البيت. قال: أجل، وإن شئت أنشدك
القصيدة كلها. قال: فإني أشاء، فأنشده القصيدة حتى أتى على آخرها.
فانظروا إلى هذا الذكاء العظيم الذي اختص به أولئك القوم، حتى لقد بلغ من
ثقتهم بقوة الحفظ والرواية أن كانوا لا يثقون بخبر مكتوب إلا إذا كان معززًا
بالسند والرواية، ولما أخذ العلماء بتدوين الأخبار النبوية وأخبار الصحابة ثم تاريخ
الخلفاء، دونوا هذه الأخبار مدعومة بالرواية، ولم يكتفوا بقيدها في الصحف مجردة
عن الأسانيد؛ خوف دخول التحريف عليها واطمئنانًا للرواية المعروفة السند
المستوفية لشروط الصحة على الترتيب المعروف عند المحدثين إلى الآن.
وفي اعتقادي أن الذي ذهب بالباحثين إلى الظن بعدم تدوين الأخبار إلا بعد
القرن الثاني هو تقيد المؤلفين في ذلك العصر بنقل الأخبار بالرواية، مع فقد ما دوِّن
قبل ذلك لفقده لحسن التنسيق والجمع وشروط الصحة عند المؤلفين لا سيما من
جهة الترتيب والتخصيص الذي يروق أهل العصر الثاني، ويناسب حالة الرقي في
الحضارة كما سنتكلم عليه بعد.
هذا بيان الوجه الأول. وأما الوجه الثاني وهو ثبوت التدوين وكتابة الأخبار
في الإسلام في أوائل القرن الأول، فالأدلة عليه كثيرة وتشتتها في ثنايا الكتب
وتفاريق السطور لا يمنعنا أن نجتزئ منها بالقليل المقنع الذي وسعنا جمعه.
ولأقدم بين يدي ذلك مقدمة قصيرة فأقول:
إذا قيل: إن العرب أمة أمية، فليس هذا القول على إطلاقه بل ربما أطلق هذا
الوصف على عرب البادية إطلاقًا أعم من إطلاقه على غيرهم من سكان المدن
وأرباب الدول البائدة؛ كسكان اليمن ومدن نجد والحجاز والعراق والجزيرة
وأطراف الشام الذين عرفت لهم دول ذات حضارة ومجد كالتبابعة في اليمن،
والمناذرة في العراق، والحوارث في أطراف الشام الذين منهم ملوك تدْمُر في شرقي
سوريا الذين تنسب إليهم الزباء (زنوبيا) وزوجها أذينة (أوذينوس) ومنهم ملوك
غسان في جنوب سوريا وتاريخهم مشهور معروف.
فهؤلاء الشعوب لا يجوز أن يطلق عليهم وصف الأمية بالنسبة لحالة كل
عصر كانوا فيه، وإنما غموض تاريخهم وطموس آثارهم أضاف تاريخهم إلى
التاريخ القديم، فكان مجهول الحقيقة إلا قليلاً مما وقف عليه الباحثون من الآثار
الكتابية للحميريين في اليمن، والكتابات النبطية في شمال الحجاز، وسيكشف
دأبهم على البحث وتتبع الآثار أكثر من ذلك.
وحسبكم شاهدًا على أن الأمية لا يجوز إطلاقها على كل العرب ما كان
موجودًا من كتب أهل الحيرة إلى أوائل القرن الثالث الهجري؛ بدليل ما قاله هشام
ابن محمد بن السائب الكلبي في كتاب الأنساب، وهو أني كنت أستخرج أخبار
العرب وأنسابهم وأنساب آل نصر بن ربيعة، ومبالغ أعمار من ولي منه لآل كسرى
وتاريخ نسبهم من كتبهم بالحيرة.
أما عرب الحجاز، فالمعروف عن الكتابة عند سكان المدن منهم قبيل البعثة
أنها كانت موجودة ولو مع الندرة، يدلك عليه كتابة المعلقات السبع التي كانت على
الكعبة، والصحيفة التي تعاقدت فيها قريش على رد الحقوق وإنصاف المظلوم
وعلقوها على الكعبة، والمعروف أنهم كانوا يكتبون العربية تارة بالخط النبطي
وتارة بالخط الحيري الذي عرف بعد ذلك بالكوفي وتارة بالخط العبري، وممن
عرف منهم بكتابة هذا الخط ورقة بن نوفل ابن عم خديجة زوج النبي صلى الله عليه
وسلم.
ولما جاء الإسلام كان النبي عليه السلام يحض على تعلم الكتابة وتعلم اللغات
الأخرى، فشاعت الكتابة بين الصحابة وأبناء الصحابة، وبها ضبط الوحي وحفظ
القرآن، فكانت كلما نزلت آية كتبها الكاتبون في الحال، ومن هؤلاء الكتاب عثمان
ابن عفان وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاوية بن أبي
سفيان وخالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد والعلاء الحضرمي وحنظلة بن
الربيع وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وعبد الله بن الأرقم الزهري، وهؤلاء
كتاب الوحي والرسائل، كتبوا للنبي عليه السلام، وأما من عداهم من كتاب
الصحابة فكثيرون منهم: عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل
وغيرهم. ومن أبناء الصحابة عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص
(وهو صحابي) وعبد الله بن الحارث بن هشام وغيرهم.
إذا علمتم مما تقدم أن الكتابة كانت شائعة على عهد النبي عليه السلام بين
المهاجرين والأنصار، وأن أول ما كتب بها هو القرآن الكريم، وكانوا يكتبونه على
الرقاع والأضلاع وسعف النخل والحجارة الرقاق البيض، ثم جمعه أبو بكر رضي
الله عنه ودونه في الصحف على ما هو معروف مشهور.
أما الحديث وفيه تاريخ الصدر الأول، وهو الذي عليه مدار بحثنا الآن، فإنه
كان يكتب كذلك على عهد النبي عليه السلام على نحو ما كانوا يكتبون عليه القرآن
وقد رخص لهم النبي بكتابته كما أمرهم بكتابة العلم مطلقًا.
فقد أخرج ابن عبد البر في جامع بيان العلم بسنده عن أنس بن مالك قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم (قيدوا العلم بالكتاب) وروى بسنده عن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله، أكتب كل ما أسمع منك؟ قال:
نعم قلت: في الرضا والغضب؟ قال نعم، فإني لا أقول في ذلك كله إلا حقًّا.
وروى بسنده عن أبي هريرة قال: لما فتحت مكة، قام رسول الله صلى الله
عليه وسلم فخطب فقام رجل من اليمن يقال له: أبو شاة، فقال: يار سول الله اكتبوا
لي. فقال رسول الله: (اكتبوا لأبي شاة) يعني الخطبة وروى ابن عبد البر أن
رسول الله كتب كتاب الصدقات والديات والفرائض والسنن لعمرو بن حزم وغيره،
وأخرج عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول: لم يكن أحد من أصحاب محمد
أكثر مني حديثًا إلا عبد الله بن عمرو بن العاص؛ فإنه كتب ولم أكتب. وروي عن
عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله أريد حفظه،
فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله يتكلم في الرضا
والغضب؟ فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله فأومأ بأصبعه إلى فيه،
وقال: (اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق) .
وأخرج الذهبي في تذكرة الحفاظ أن أبا بكر كتب أكثر من أربعمائة حديث،
وفي تنوير الحوالك على موطأ مالك وغيره من كتب الحديث: أن عمر حاول مرارًا
أن يكتب السنن ثم عدل؛ خوفًا من انكباب الناس على كتب السنن مع وجود كتاب
الله.
وأخرج ابن عبد البر عن سعيد بن جبير أنه كان يكون مع ابن عباس، فيسمع
منه الحديث فيكتبه في واسطة الرحل، فإذا نزل نسخه، وأخرج عن معنٍ قال:
أخرج إليَّ عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود كتابًا وحلف أنه بخط أبيه بيده.
هذه الأخبار الصحيحة وما ماثلها تدلنا على أن الحديث كتب إن لم يكن كله
فجُلُّه على عهد الرسول وأصحابه الكرام، والحديث يشتمل أكثر تاريخ الخلفاء كما
تعلمون، وكتب فن النحو الذي أملاه علي بن أبي طالب على أبي الأسود الدؤلي.
وكتب عبد الله بن عمرو بن العاص كتابًا في الأحداث وكتابًا فيما قضى به رسول
الله صلى الله عليه وسلم، سمعهما منه شفي بن مانع الأصبحي. فقد نقل المقريزي
من رواية أبي سعيد بن يونس صاحب تاريخ مصر عن حياة بن شريح قال: دخلت
على الحسين بن شفي بن مانع وهو يقول: فعل الله بفلان. فقلت: ما له؟ فقال:
عمد إلى كتابين، كان شفي (يعني أباه) سمعهما من عبد الله بن عمرو بن العاص
ثم ذكر الكتابين، قال: فأخذهما فرمى بهما بين الخولة والرباب مركبين كبيرين من
سفن الجسر مما يلي الفسطاط.
وأما في عصر التابعين وتابعيهم، فقد كانت العناية بكتابة الأخبار أكثر،
وأقبل الناس على اقتناء الكتب وجمع المكتبات، ومن ذلك ما رواه ابن عبد البر عن
هشام بن عروة عن أبيه أنه احترقت كتبه يوم الحرَّة، وكان يقول: وددت لو أن
عندي كتبي بأهلي ومالي، وكانت وقعة الحرة في سنة ثلاث وستين في خلافة يزيد
ابن معاوية. وكان ابن شهاب الزهري من علماء المائة الأولى، ومولده في سنة
إحدى وخمسين ووفاته بعد المائة؛ إذا جلس في بيته وضع الكتب حوله فشغلته عن
كل شيء كما ذكر ذلك ابن خلكان والزهري. هذا هو الذي كتب السُنَّة في دفاتر أو
كتب وزعت على الأمصار بأمر عمر بن عبد العزيز.
ولم يأت القرن الثاني من الهجرة حتى كثرت الكتب في فنون شتى خصوصًا
فنون العربية والأدب، فكان منها مكتبات لبعض الأفراد ما أظنها توجد عند أحد منا
الآن، فقد ذكر ابن خلكان وغيره في ترجمة أبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة
المولود بين سنة خمس وستين وسبعين للهجرة، والمتوفى في منتصف القرن الثاني
أنه كان أعلم الناس بالقرآن والأدب والعربية والشعر، وكانت كتبه التي كتبت عن
العرب الفصحاء قد ملأت بيتًا له إلى قريب من السقف، ثم إنه تنسك فأخرجها
كلها، فلما رجع إلى علمه لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه.
هؤلاء الأشخاص أيها السادة هم الذين ظفرت بأسمائهم وكانوا ممن اقتنوا
الكتب من منتصف القرن الأول إلى منتصف القرن الثاني، فما بالكم بما لم أظفر بهم
وبمن لم يأت ذكرهم في التاريخ؟ لا جرم أنهم كثيرون جدًّا وربما لم يخل منهم
مصر من الأمصار الإسلامية في ذلك العصر.
ما هي هذه الكتب وما هي كتب عروة التي احترقت سنة ثلاث وستين؟ أليست
في علوم شتى من العلوم التي دونها العرب واشتغلوا بها؟ وهل احترقت كتب عروة
في اليوم الذي دونت فيه؟ كلا بل كتبت هي وغيرها من الكتب في غضون القرن
الأول أو على مدى هذا القرن. فإذا كان ذلك كذلك فهل يبقى مجال للريب في أن
العرب دونوا علومهم في الصحف من ابتداء القرن الأول؟ وهل يستراب في صحة
هذه العلوم مع ما ثبت معنا من أنها كتبت مدعومة بالرواية لتكون أبعد من سهو الكاتبين وتحريف الناسخين.
لا جرم أن القوم الذين يوجد فيهم من ينصرف عن الملك إلى علوم الطب
والكيمياء التي ندر من (كان) يشتغل بها من الأمم الراقية في ذلك العصر ويؤلف
في هذين العلمين حريون بتدوين أخبارهم والعناية بآدابهم. فقد ذكر المؤرخون في
ترجمة خالد بن يزيد بن معاوية المتوفى في سنة خمس وثمانين للهجرة أنه كان من
أعلم قريش بفنون العلم وله كلام في صنعة الكيمياء والطب، وكان بصيرا بهذين
العلمين متقنًا لهما وله مسائل دالة على معرفته وبراعته، وأخذ الصنعة عن رجل من
الرهبان يقال له مريانس وله فيها ثلاث رسائل تضمنت إحداهن ما جرى له مع
مريانس المذكور وصورة تعلمه منه والرموز التي أشار إليها وله فيها أشعار كثيرة
مطولات ومقاطيع دالة على حسن تصرفه وسعة علمه، وكانوا يعيبونه على اشتغاله
بهذه العلوم وتركه حبل الملك والخلافة على الغارب حتى تمكن من سلبه منهم بنو
مروان.
ومن المؤلفين في ذلك العصر - أي العصر الأول - غير خالد بن يزيد، زيادة
ابن سمية الذي ألحقه معاوية في أولاد أبي سفيان فجعل الناس يطعنون عليه فألف
كتابًا في علم الأنساب في مثالب العرب وطعن فيه في أنسابهم، فكفوا عنه كما ذكر
ذلك ابن النديم.
ومنهم زائدة بن قدامة الثقفي أبو الصلت الكوفي قال ابن النديم: مات سنة إحدى
وستين أو ستين وله من الكتب كتاب السنن وكتاب القراءات، وكتاب الزهد وكتاب
المناقب. ومنهم عبيد بن شرية الجرهمي وكان في زمن معاوية وأدرك النبي ووفد
على معاوية من اليمن فسأله عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وغير ذلك
من المسائل فأجابه عما سأل، وله من الكتب كتاب (الأمثال) وكتاب (الملوك) أخبار الماضين.
ومنهم سليم بن قيس الهلالي أحد أصحاب علي بن أبي طالب، وله كتاب في
الحديث ويوجد هذا الكتاب إلى الآن في مكتبة السيد ناصر حسين الموسوي إمام
الشيعة في مدينة لكناؤ في الهند، كما ذكر ذلك صاحب مجلة البيان الهندية في العدد
السادس من سنته الرابعة وذكر غير ذلك عدة كتب لأصحاب علي موجودة عند
الشيعة الإمامية يضيق المقام عن ذكرها.
وأظن أن في هذا كله بيانًا كافيًا يقنع الذاهبين إلى أن المسلمين لم يدونوا
الحديث والعلوم إلا في القرن الثاني للهجرة أو بعده وأن رواية الأخبار والآثار التي
التزمها المسلمون في كتبهم المكتوبة بعد القرن الثاني إنما كانت شرطًا في صحة
الأخبار التي نقلوها عمن كتب قبلهم ولوثوقهم برواية الرواة الكثيرين أكثر من
وثوقهم بخبر الكاتب الواحد.
إذ الخبر الذي يكتب في صحيفة ثم يترك لأيدي النساخ والمحرفين والدساسين
ليس في الصحة بمنزلة الخبر الذي يكتب ثم يتناقله الرواة قراءة ورواية، بحيث يأخذه الواحد عن الآخر كما كتب بحرفه أو معناه إلى ما شاء الله.
وأظنكم أيها السادة تسلمون معي أن هذه الطريقة في النقل لا تعد ثلمة في
تاريخ الإسلام يتطرق منها إليه الوهن والتجريح، بل تعد تحقيقًا للأخبار بالغًا حد
الأمانة والتمحيص لم تسبق إليه أمة من الأمم غير المسلمين.
بقي هنا اعتراض ربما يرد على ما تقدم من الكلام وهو قولهم: أين هي تلك
الكتب التي دونت في القرن الأول إلى منتصف القرن الثاني، مع أنه لم يصل إلينا
منها إلا ما ذكرت من الكتب الموجودة عند الإمامية وهي في الحديث وفيما روي عن
عليّ من بعض الخطب والأخبار، وأن أقدم ما وصل إلينا في التاريخ كتاب فتوح
الشام لأبي إسماعيل الأزدي البصري من علماء النصف الثاني من القرن الثاني
للهجرة؟ وأين هي كتب الزهري التي جمع فيها الحديث ووزعها عمر بن عبد
العزيز على الأمصار؟
فالجواب على هذا سهل وهو: إن المسلمين كانوا يتلقون كتب الأخبار قراءة
ورواية كما تقدم بيانه فلما استبحر العمران وترقت وسائل الحضارة واقتضى أن
يترقى فن التأليف تنسيقًا وترتيبًا وكتبت في ذلك الكتب الجامعة لأصول كل فن أو
فروعه أدمجت تلك الروايات أو الصحف المشتملة على مسائل متفرقة في تلك الكتب
الجامعة مع محافظة المؤلفين على أسانيدها، وفاء بحق الأمانة وتصحيحًا للأخبار،
كما ترون ذلك في كل كتب الفنون التي اشتغل بها العرب، ودونت بعد القرن الثاني
مدعومة بالرواية على طريقتهم السابقة البيان كالتاريخ والحديث وآداب
اللغة العربية ولما انتفت الحاجة إلى تلك الكتب القديمة قضت على أعيانها سنة بقاء
الأنسب بالدثور بضرورة الحال، وأما ما كتب فيها فهو هو بعينه ما كتب في الكتب
الجامعة بعد ذلك العصر فإذا دثرت تلك الصحف التي خطتها أنامل العرب في
العصر الأول فإن ما كان فيها لم يزل باقيًا يشهد بصحة تاريخ الإسلام. والسلام
اهـ.
(المنار)
نشرنا هذه الخطبة النفيسة بنصها لفائدتها وإجابة لاقتراح من اقترح علينا
نشرها مع كتابة شيء في الموضوع استداركًا أو انتقادًا، وقد اقترح علينا من قبل غير
واحد بأن نكتب شيئًا في مسألة كتابة الحديث منهم الدكتور صدقي ومنهم الشيخ
صالح اليافعي في حيدر أباد، فإنه أرسل إلينا رسالة مطولة في الرد على ما كتبه
الدكتور صدقي في السنة الماضية بعنوان (الإسلام هو القرآن وحده) ولكن
سقط منها ورقات طلبناها منه فأجابنا بأنه لا يوجد عنده أصل لما فقد واقترح علينا
أن نكتب في الموضوع.
أما الانتقاد على خطبة رفيق بك فلا أرى فيها شيئًا يهم انتقاده إلا قوله بصحة
الأخبار التي نقلها في تدوين الصحابة للحديث، وستعلم ما فيه. وأما الاستدراك فبابه
واسع حتى يمكن وضع مؤلف خاص في هذا الموضوع من فصوله كون تعلم
الكتابة لإخراج العرب من حجر الأمية الغالبة عليهم إلى بحبوحة العلم من مقاصد
الإسلام وبعثه النبي عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن
قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) الآية، فالكتاب مصدر كتب (كالكتابة) ولكنه
في الصدر الأول أكثر مصادر (كتب) استعمالاً كما ترى في المأثور، وهذا التفسير
هو المختار جرينا عليه وبينا ترجيحه في التفسير عن الأستاذ الإمام. ويدخل في ذلك
ما ورد في تعليم الكتابة في الأخبار النبوية وآثار الصحابة وذلك كثير.
ومن فصوله مسألة كون أهل البدو أحسن حفظًا من أهل الحضر لاسيما العرب
منهم وقد انتقد اليونانيون وأنكروا تعلم الكتابة لأول عهدها بحجة أن الناس يتكلون
على ما يكتب فيضعف حفظهم وذاكرتهم، ومنها بحث الاحتجاج بالكتب وشروط
الوثوق بها عند المحدثين، ولابن الصلاح فى ذلك كلام حسن.
وقد كتب السيد عبد الحميد أفندي الزهري مقالة موضوعها الكتابة والتدوين
والحفظ عند العرب نشرها في الجريدة (عدد 125 الصادر في 24 جمادى 25) بَيَّن
فيها أن من يختبر عرب البادية اليوم وما لهم من قوة الحفظ وكثرة المحفوظ
لقصائدهم ووقائعهم وخطبهم وأنسابهم لا يعجب مما نقل في حفظ سلفهم. وذكر من
كتابتهم في الجاهلية المعلقات وقصص أبطال الفرس كرستم، واستشهد على كتابتهم
المعاهدات والمحالفات بقول الحارث بن حلزة اليشكري في معلقته:
واذكروا حلف ذي المجاز ... وما قدم فيه العهود والكفلاء
حذر الجور أو تعدي وهل ... ينقض ما في المهارق الأهواء
فالمهارق جمع مهرق: وهي الصحائف، وقيل المهرق ثوب حرير أبيض
يسقى الصمغ ويصقل ثم يكتب فيه. وذكر أيضا منها قول هشام بن الكلبي: كنت
أستخرج أخبار العرب وأنسابهم وأنساب آل نصر بن ربيعة، ومبالغ أعمار من ولي
منهم لآل كسرى وتاريخ نسبهم من كتبهم بالحيرة.
وذكر من شواهد تدوينهم بعد الإسلام مسألة أمر عمر بن عبد العزيز بكتابة
السنن نقلاً عن ابن عبد البر، وما جاء في (أعلام الموقعين) عن سفيان ابن
عيينة عن إدريس بن إدريس قال: أتيت سعيد بن أبي بردة فسألته عن رسل عمر بن
الخطاب التي كان يكتب بها إلي أبي موسى الأشعري وكان أبو موسى قد أوصى إلى
ابن أبي بردة فأخرج إليه كتبًا منها قال: كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري (أما بعد
فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة) ... إلخ.
أقول: لعل أول من كتب الحديث وغيره من التابعين في القرن الأول،
وجعل ما كتبه مصنفًا مجموعًا خالد بن معدان الحمصي روي عنه أنه لقي 70 صحابيًّا
قال في تذكرة الحفاظ: وقال بحير: ما رأيت أحدا ألزم للعلم منه وكان علمه في
مصحف له أزرار وعرى، المراد بالمصحف الصحف المكتوبة المجموعة ولا
يوجد في العربية لفظ كهذا يدل على هذا المعنى بالنص، فإن لفظ (الكتاب)
المستعمل للدلالة على الصحف المجموعة في نحو جلد يطلق على الورقة أو
الصحيفة الواحدة ولذلك اتفقوا على تسمية القرآن المكتوب عند جمعه بالمصحف،
وكان قبل ذلك يسمي كتابًا ولا يسمى مصحفًا، فخالد بن معدان جمع علمه في
مصنف واحد جعل له وقاية لها أزرار وعرى تمسكها لئلا يقع شيء من تلك الصحف
وكان ذلك في القرن الأول طبعًا؛ فإنه مات سنة ثلاث ومائة أو أربع ومائة.
ولكن المشهور أن أول من كتب الحديث مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن
شهاب الزهري القرشي، ولعل ذلك سبب أخذ أمراء بني أمية عنه.
قال أبو الزناد: كنا نطوف مع الزهري على العلماء ومعه الألواح والصحف
يكتب كل ما سمع، يعني من الحديث وغيره. فقد روى أبو صالح عن الليث قال: ما
رأيت عالمًا قط أجمع من الزهري يحدث في الترغيب فنقول: لا يحسن إلا هذا وإن
حدث عن العرب والأنساب، قلت: لا يحسن إلا هذا، وإن حَدَّث عن القرآن
والسنة فكذلك. وقال عبد الرزاق: سمعت معمرًا يقول كنا نرى أنَّا قد أكثرنا عن
الزهري حتى قتل الوليد بن يزيد؛ فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزائنه
من علم الزهري. اهـ من تذكرة الحفاظ.
وجاء في ترجمته فيها أن هشام بن عبد الملك سأل الزهري أن يملي على
بعض ولده شيئًا فأملى عليه أربعمائة حديث، ثم لقي هشامًا بعد شهرًا أو نحوه فقال
الزهري: إن ذلك الكتاب ضاع فدعا بكتاب فأملاها عليه ثم قابل بالكتاب الأول فما
غادر حرفًا واحدًا.
(قال) ومن حفظ الزهري أنه حفظ القرآن في ثمانين ليلة.
وفي هذا دليل على أن كتابة الحديث كانت شائعة في عصره، أي أواخر القرن
الأول وأوائل الثاني، فقد ولد الزهري سنة خمسين للهجرة وتوفي سنة أربع وعشرين
ومائة، ولا تنس ما كتبناه آنفا عن خالد بن معدان.
وقال الحافظ في ترجمة عمرو بن دينار: إنه كان يُحدِّث على المعنى ويقول: لا
أتحرج على مَنْ يكتب عني. وهو قد ولد ست وأربعين.
ومن أراد تتبع تراجمهم في كتب المحدثين يجد من هذه المسائل شيئًا كثيرًا وما
رأينا أحدًا وفَّى البحث في تدوين الصحابة والتابعين للحديث حقه، مثل الحافظ أبي
عمر يوسف بن عبد البر، وإننا ننقل ما كتبه في ذلك برمته ثم نستدرك عليه ما رواه
غيره أو شايعه على ما رواه ثم نُبَيِّن رأينا فيه.
قال في جامع بيان العلم (نقلا عن مختصره) .
باب ذكر كراهية كتاب العلم
وتخليده في الصحف
عن أبي سعيد الخدري [1] رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن فمن كتب عني شيئًا سوى القرآن فليمحه)
ودخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث، وأمر إنسانًا أن يكتبه فقال له
زيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن لا نكتب شيئًا من حديثه، فمحاه.
وعن عبد الله بن يسار قال: سمعت عليًّا يخطب يقول: أعزم على كل من عنده
كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حين تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب
ربهم. وعن أبي نضرة [2] قال: قلت لأبي سعيد الخدري: ألا نكتب ما نسمع
منك؟ قال: تريدون أن تجعلوها مصاحف! إن نبيكم صلى الله عليه وسلم كان
يحدثنا فنحفظ فاحفظوا كما كنا نحفظ. وعن ابن وهب قال: سمعت مالكًا يحدث أن
عمر بن الخطاب [3] أراد أن يكتب هذه الأحاديث أو كتبها ثم قال: لا كتاب مع
كتاب الله. قال مالك لم يكن مع ابن شهاب كتاب إلا كتاب فيه نسب قومه. قال:
ولم يكن القوم يكتبون؛ إنما كانوا يحفظون فمن كتب منهم الشيء فإنما كان يكتبه
ليحفظه؛ فإذا حفظه محاه. وعن عروة أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن
فاستفتى أصحاب رسول الله في ذلك فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله
فيها شهرًا ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له. فقال: إنني كنت أريد أن أكتب السنن
وأنني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإنني والله لا
أشوب (وفي نسخة لا أنسي) كتاب الله بشيء أبدًا. وعن ابن عباس أنه قال: إنَّا لا
نكتب العلم ولا نكتبه، وعن الشعبي [4] أن مروان دعا زيد بن ثابت وقومًا يكتبون
وهو لا يدري فأعلموه، فقال: أتدرون لعل كل شيء حدثكم به ليس كما حدثكم. وعن
ابن سيرين [5] قال: إنما ضلت بنو إسرائيل بكتب ورثوها عن آبائهم.
وعن الأسود بن هلال [6] قال: (أتى عبد الله بن مسعود بصحيفة فيها حديث
فدعا بماء فمحاها ثم غسلها ثم أمر بها فأحرقت، ثم قال: أذكر الله رجلاً يعلمها عند
أحد إلا أعلمني به، والله لو أعلم أنها بدير هند لبلغتها؛ بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم
حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) . وعن الضحاك قال:
(يأتي على الناس زمان يكثر فيه الأحاديث حتى يبقى المصحف بغباره لا ينظر فيه) .
وعن ابن عباس أنه كان ينهى عن كتابة العلم، وقال: إنما ضل من قبلكم بالكتب،
وعن أيوب قال: سمعت سعيد بن جبير [7] قال: (كنا نختلف في أشياء فنكتبها في
كتاب ثم أتيت بها ابن عمر أسأله عنها خفيًّا فلو علم بها لكانت الفيصل بيني وبينه،
وعن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: أصبت أنا وعلقمة صحيفة فانطلق
معي إلى ابن مسعود فيها وقد زالت الشمس أو كادت تزول، فجلسنا بالباب ثم قال
للجارية: انظري مَنْ بالباب، فقالت: علقمة والأسود، فقال: ائذني لهما؛ فدخلنا
فقال: كأنكما قد أطلتما الجلوس، قلنا: أجل، قال: فما منعكما أن تستأذنا، قالا:
خشينا أن تكون نائمًا، قال: ما أحب أن تظناني هذا إن هذه ساعة كنا نقيسها
بصلاة الليل، فقلنا هذه صحيفة فيها حديث حسن، قال: هاتها يا جارية هاتي
الطست، واسكبي فيه ماء؛ فجعل يمحوها بيده ويقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ
الْقَصَصِ} (يوسف: 3) قلنا: انظر فيها فإن فيها حديثًا عجيبًا. فجعل يمحوها
ويقول: إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره، قال أبو عبيد (
أحد رواة هذه القصة) يرى أن هذه الصحيفة أخذت من أهل الكتاب، فلذا كره عبد
الله رحمه الله النظر فيها.
وقال مسروق لعلقمة: اكتب لي النظائر، قال: أما علمت أن الكتاب يكره،
قال: بلى، أريد أن أحفظها ثم أحرقها. وعن القاسم أنه كان لا يكتب الحديث. وعن
ابن شبرمة [8] قال: سمعت الشعبي يقول: ما كتبت سوادًا في بياض قط ولا استعدت
حديثًا من إنسان مرتين. وعن إسحاق بن إسماعيل الطالقاني [9] قال: قلت لجرير-
يعني ابن عبد الحميد - أكان منصور - يعني ابن المعتمر - يكره كتاب الحديث،
قال: نعم منصور ومنيرة والأعمش كانوا يكرهون كتاب الحديث، وعن الوليد
بن مسلم قال: سمعت الأوزاعي يقول: كان هذا العلم شيئًا شريفًا؛ إذ كان من أفواه
الرجال يتلاقونه ويتذاكرونه فلما صار في الكتب ذهب نوره، وصار إلى غير أهله
وعن الفضيل بن عمرو [10] قال: قلت لإبراهيم: إني آتيك وقد جمعت المسائل؛
فإذا رأيتك كأنما تختلس مني، وأنت تكره الكتاب، قال: لا عليك فإنه قلما طلب
إنسان علمًا إلا آتاه الله منه ما يكفيه، وقلما كتب رجل كتابًا إلا إتكل عليه.
قال أبو عمر: من كره كتاب العلم إنما كرهه لوجهين: أحدهما: أن لا يتخذ
مع القرآن كتاب يضاهي به، ولئلا يتكل الكاتب على ما يكتب فلا يحفظ فيقل
الحفظ. كما قال الخليل [11] :
ليس بعلم ما حوى القمطر ... ما العلم إلا ما حواه الصدر
وأنشدني بعض شيوخي لمحمد بن بشير بإسناد لا أحفظه:
أما لو أعي كل ما أسمع ... وأحفظ من ذاك ما أجمع
ولم أستفد غير ما قد جمعت ... لقيل هو العالم المقنع
ولكن نفسي إلى كل فن ... من العلم تسمعه تنزع
فلا أنا أحفظ ما قد جمعت ... ولا أنا من جمعه أشبع
ومن يك في علمه هكذا ... يكن دهره القهقرى يرجع
إذا لم تكن حافظًا واعيًا ... فجمعك للكتب لا ينفع
أأحضر بالجهل في مجلسي ... وعلمي في الكتب مستودع
وقال أبو العتاهية [12] :
من مُنِع الحفظ وعى ... من ضيع العلم وهِم
وقال أعرابي: حرف في تامورك خير من عشر في كتبك. وقال أبو عمر:
التامور: علقة القلب.
وسمع يونس بن حبيب رجلاً ينشد:
استودع العلم قرطاسًا فضيعه ... وبئس مستودع العلم القراطيس
فقال يونس: قاتله الله ما أشد صيانته للعلم وصيانته للحفظ، إن عملك من
روحك، وإن مالك من بدنك، فصن علمك صيانتك روحك، وصن مالك صيانتك
بدنك.
قال أبو عمر: من ذكرنا قوله في هذا الباب فإنما ذهب في ذلك مذهب العرب
لأنهم كانوا مطبوعين على الحفظ مخصوصين بذلك. والذين كرهوا الكتاب كابن
عباس والشعبي وابن شهاب والنخعي وقتادة ومن ذهب مذهبهم وجبل جبلتهم
كانوا قد طبعوا على الحفظ فكان أحدهم يجتزي بالسمعة، ألا ترى ما جاء عن ابن
شهاب أنه كان يقول: (إني لأمر بالبقيع فأسد آذاني مخافة أن يدخل فيها شيء من
الخنا، فوالله ما دخل أذني شيء قط فنسيته) وجاء عن الشعبي نحوه وهؤلاء
كلهم عرب وقال صلى الله عليه وسلم: (نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) ،
وهذا مشهور أن العرب قد خُصَّتْ بالحفظ، كان بعضهم يحفظ أشعار بعض في
سمعة واحدة، وقد جاء عن ابن عباس أنه حفظ قصيدة عمر بن أبي ربيعة (أمن
آل نعم أنت غاد فمبكر) في سمعة واحدة فيما ذكروا، وليس أحد اليوم على هذا
ولولا الكتاب لضاع كثير من العلم، وقد أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في
كتاب العلم ورخص فيه جماعة من العلماء وحمدوا ذلك، ونحن ذاكروه بعد هذا
بعون الله إن شاء الله. وقد دخل على إبراهيم النخعي [13] شيء في حفظه لتركه
الكتاب، وعن منصور قال: كان إبراهيم يحذف الحديث فقلت له: إن سالم بن الجعد
يتم الحديث، قال إن سالمًا كتب، وأنا لم أكتب (قال أبو عمر) فهذا النخعي مع
كراهته لكتاب الحديث قد أقر بفضل الكتاب.
باب الرخصة
في كتاب العلم
عن أبي هريرة قال: (لما فتحت مكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم
فذكر الخطبة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فقام رجل من اليمن يقال
له: أبو شاه، فقال: يا رسول الله اكتبوا لي. فقال رسول الله صلى عليه وسلم:
(اكتبوا لأبي شاه) يعني: الخطبة.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله أكتب كل ما
أسمع منك قال: (نعم) . قلت: في الرضا والغضب قال: (نعم فإني لا أقول في
ذلك كله إلا حقًا) ، وعن همام بن منبه [14] أنه سمع أبا هريرة يقول: (لم يكن أحد
من أصحاب محمد أكثر حديثًا مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كتب ولم
أكتب) .
وعن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الرضا والغضب فأمسكت عن الكتاب
فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومى بإصبعه إلى فِيهِ وقال:
(اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق) .
وعن مطرف بن طريف [15] قال: سمعت الشعبي يقول أخبرني أبو جحيفة
قال: قلت لعلي بن أبي طالب: هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء
سوى القرآن؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يُعطى الله عبدًا فهمًا في
كتابه، وما في هذه الصحيفة قلت وما في الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير
وأن لا يقتل مسلم بكافر. وقد روي عن علي رضي الله عنه في هذه الصحيفة
وجهان: أحدهما تحريم المدينة، ولعن من انتسب إلى غير مواليه في حديث فيه
طول وفيه (المسلمون تنكافأ دماؤهم) الحديث رواه عن علي يزيد التميمي
وحلاس.
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقات والديات والفرائض
والسنن لعمرو بن حزم وغيره وعن أبي جعفر بن علي قال: وجد في قائم سيف
رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيفة مكتوب فيها: (ملعون من أضل أعمى عن
سبيل، ملعون من سرق تخوم الأرض، ملعون من تولى غير مواليه، أو قال
ملعون من جحد نعمة من أنعم عليه) .
وعن عبد الله بن عمرو قال: ما يرغبني في الحياة إلا خصلتان: الصادقة
والوهط [16] فأما الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما
الوهط فأرض تصدق بها عمرو بن العاص كان يقوم عليها. وعن أنس بن مالك قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قيدوا العلم بالكتاب) وعن عبد الملك بن سفيان
عن عمه أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: (قيدوا العلم بالكتاب) وعن معن قال:
أخرج إليّ عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود كتابًا وحلف لي أنه خط
أبيه بيده، وعن أبي كبران قال سمعت الضحاك يقول: إذا سمعت شيئًا فاكتبه ولو في
حائط. وعن سعيد بن جبير أنه كان يكون مع ابن عباس فيسمع منه الحديث
فيكتبه في واسطة الرحل فإذا نزل نسخه. وعن أبي قلابة قال: الكتاب أحب إلينا من
النسيان، وعن أبي المليج قال: يعيبون علينا الكتاب وقد قال الله تعالى {قَالَ عِلْمُهَا
عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} (طه: 52) .
وعن عطاء عن عبد الله بن عمرو قلت يا رسول الله أقيد العلم قال (قيد العلم)
قال عطاء: قلت وما تقييد العلم؟ قال الكتاب. وعن عبد العزيز بن محمد
الداوردي [17] قال أول من دون العلم وكتبه ابن شهاب. وعن عبد الرحمن بن أبي
الزناد عن أبيه قال كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع
فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس. وعن سوارة بن حيان قال: سمعت
معاوية بن قرة يقول: من لم يكتب العلم فلا تعدوه عالمًا. وعن محمد بن علي
قال: سمعت خالد بن خداش البغدادي [18] قال: ودعت مالك بن أنس، فقلت: يا أبا
عبد الله أوصني، قال: عليك بتقوى الله في السر والعلانية، والنصح لكل مسلم،
وكتابة العلم من عند أهله. وعن الحسن: أنه كان لا يرى بكتاب العلم بأسًا وقد
كان أملى التفسير فكتب.
وعن الأعمش قال: قال الحسن: إن لنا كتبا نتعاهدها. وقال الخليل بن
أحمد: اجعل ما تكتب بيت مال وما في صدرك للنفقة. وعن هشام بن عروة عن
أبيه أنه احترقت كتبه يوم الحرة [19] وكان يقول وددت لو أن عندي كتبي بأهلي
ومالي. وعن سليمان بن موسى قال: يجلس إلى العالم ثلاثة رجل يأخذ كل ما
سمع، فذلك حاطب ليل، ورجل لا يكتب [20] ويسمع فذلك يقال له جليس العالم،
ورجل ينتقي وهو خيرهم وهذا هو العالم. وعن إسحاق بن منصور قال: قلت
لأحمد بن حنبل من كره كتابة العلم؟ قال كرهه قوم ورخص فيه آخرون، قلت له:
لو لم يكتب العلم لذهب، قال: نعم لولا كتابة العلم أي شيء كنا.
قال إسحاق: وسألت إسحاق بن راهويه فقال كما قال أحمد سواء. وعن حاتم
الفاخر وكان ثقة قال: سمعت سفيان الثوري يقول: (إني أحب أن أكتب الحديث
على ثلاثة أوجه: حديث رجل أكتبه أريد أن أتخذه دينًا، وحديث رجل أكتبه فأوقفه
لا أطرحه ولا أدين به، وحديث رجل ضعيف أحب أن أعرفه ولا أعبأ به) . وقال
الأوزاعي: (تعلم ما لا يؤخذ به كما تتعلم ما يؤخذ به) . وعن سعد بن إبراهيم قال:
أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل
أرض له عليها سلطان دفترا. وعن أبي زرعة قال: سمعت أحمد بن حنبل ويحيى
ابن معين يقولان: كل من لا يكتب العلم لا يؤمن عليه الغلط. وعن الزهري
قال: (كنا نكره كتاب العلم حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء، فرأينا أن لا نمنعه
أحدًا من المسلمين) ، وذكر المبرد قال: قال الخليل بن أحمد: (ما سمعت شيئًا إلا
كتبته ولا كتبته إلا حفظته ولا حفظته إلا نفعني) اهـ كلام ابن عبد البر.
استدراك على ابن عبد البر
في الإذن بكتابة العلم والمنع منها
ومن خرج أحاديثه
روى ابن النجار في تاريخه من حديث حذيفة (اكتبوا العلم قبل ذهاب العلماء
وإنما ذهاب العلم بموت العلماء) والحديث لا يصح وهو عام في كل علم.
روى الديلمي من حديث علي (اكتبوا هذا العلم فإنكم تنتفعون به إما في دنياكم
وإما في آخرتكم وإن العلم لا يضع صاحبه) وفي سنده محمد بن علي بن الأشعث
كذبوه، فالحديث موضوع.
وروى الحاكم وأبو نعيم وابن عساكر من حديث علي (إذا كتبتم الحديث
عني فاكتبوه بإسناده فإن يك حقًّا كنتم شركاء في الأجر، وإن يك باطلاً كان وزره
عليه) وهو ينادي على نفسه بالوضع، وإن واضعه جاهل بالعربية الصحيحة بل
الفصيحة؛ فإن الإسناد من اصطلاح المحدثين والكتابة عنه صلى الله عليه وسلم
تنافي الإسناد.
وروي ابن عساكر في تاريخه من حديث أبي بكر (من كتب عني علمًا أو
حديثًا لم يزل يكتب له الأجر ما بقي ذلك العلم أو الحديث) وهو ضعيف وفيه عطف
الحديث على العلم وذلك يقتضي المغايرة بينهما، ولو بالعموم والخصوص.
وروى الحكيم الترمذي والطبراني وسمويه والخطيب في تقييد العلم عن
رافع بن خديج قال: قلت: يا رسول الله إنَّا نسمع منك أشياء فنكتبها قال (اكتبوا
ولا حرج) وهو حديث ضعيف كما علم من إيراد السيوطي له في الجامع الكبير.
وروى الحكيم الترمذي وسمويه من حديث أنس (قيدوا العلم بالكتاب) وهو
ضعيف أيضًا. أما سنده عند ابن عبد البر ففيه عبد الحميد بن سليمان عن عبد الله
ابن المثنى، وقد أورده الذهبي في الميزان. وقال: عبد الحميد وأخوه فليح ضعيفان.
وذكر قبل ذلك تضعيف غير واحد لعبد الحميد. والحديث مروي عن عبد الله بن
عمرو كما تقدم عن ابن عبد البر.
ومن الآثار ما رواه ابن عساكر عن الحسن بن جابر قال: سألت أبا أمامة عن
كتاب العلم فلم ير به بأسا. وهو عام في كل علم، وسنده ضعيف. وروى الحاكم
والدارمي عن عمر أنه قال (قيدوا العلم بالكتاب) وهو عام، وأما رأيه في الحديث
خاصة أو السنن وهي أهم من الأحاديث فقد تقدم فيما رواه عنه ابن عبد البر أنه ما
كان يرى ذلك. وروى عنه ابن سعد مثل هذا أيضًا.
ومن الاستدراك عليه في النهي عن كتابة الحديث خاصة ما جاء في كنز
العمال نقلا عن الجامع الكبير للسيوطي وهو:
(قال الحافظ عماد الدين بن كثير في مسند الصديق قال الحاكم أبو عبد الله
النيسابوري: حدثنا بكر بن محمد الصيرفي بمرو حدثنا موسى بن حماد حدثنا
الفضل بن غسان حدثنا علي بن صالح حدثنا موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن
عن إبراهيم بن عمرو بن عبيد الله التيمي حدثنا القاسم بن محمد قال: قالت عائشة
جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت خمسمائة حديث فبات
ليلة يتقلب كثيرًا، قالت: فغمني، فقلت تتقلب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلما أصبح
قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها فدعا بنار فأحرقها وقال: (خشيت
أن أموت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن حدثني
فأكون قد تقلدت ذلك) . وقد رواه القاضي أبو أمية الأحوص بن المفضل بن غسان
الغلابي عن أبيه عن علي بن صالح عن أبي موسى بن عبد الله بن الحسن بن علي
ابن أبي طالب وعن إبراهيم بن عمر بن عبد الله التيمي حدثني القاسم بن محمد أو
ابنه عبد الرحمن بن القاسم - شك موسى فيهما - قال: قالت عائشة فذكره وزاد
بعد قوله فأكون قد تقلدت ذلك: (ويكون قد بقي حديث لم أجده فيقال لو كان قاله
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي على أبي بكر إني حدثتكم الحديث ولا
أدري لعلي لم أسمعه حرفًا حرفًا) قال ابن كثير: هذا غريب من هذا الوجه جدًّا
وعلي بن صالح لا يعرف، والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر
من هذا المقدار بألوف ولعله إنما اتفق له جمع تلك فقط ثم رأى ما رأى لما ذكر.
قال السيوطي: (قلت ولعله جمع ما فاته سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم
وحدثه به عنه بعض الصحابة كحديث الجدة ونحوه، والظاهر أن ذلك لا يزيد على
هذا المقدار لأنه كان أحفظ الصحابة وعنده من الأحاديث ما لم يكن عند أحد منهم
كحديث (ما دفن نبي إلا حيث يقبض) ثم خشي أن يكون الذي حدثه وهم فِكْره
تقلده ذلك وذلك صريح في كلامه.
التعادل والترجيح بين
روايات المنع وروايات الرخصة
الأحاديث في باب الرخصة بكتابة الحديث أو العلم مروية عن نفر من
الصحابة:
(1) حديث أبي هريرة (اكتبوا لأبي شاة) وهو في الصحيحين وموضوعه
خاص، وروى عنه البخاري قوله: إن عبد الله بن عمرو كان يكتب وأنه هو لم
يكن يكتب.
وله حديث عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لرجل سيئ
الحفظ بأن يستعين بيمينه.
(2) حديث أنس (قيدوا العلم بالكتاب) تقدم أنه ضعيف.
(3) حديث أبي بكر (من كتب عني علمًا أو حديثًا) تقدم أنه ضعيف
أيضًا.
(4) حديث رافع بن خديج (اكتبوا ولا حرج) تقدم أنه ضعيف أيضًا.
(5) حديث حذيفة (اكتبوا العلم قبل ذهاب العلماء) ضعيف أيضًا كما
تقدم بل يشم منه رائحة الوضع.
(6) حديث علي في الصحيفة وهو صحيح رواه أحمد والبخاري والثلاثة
وموضوعه خاص ومنسوب إلى الوحي وحديثه (إذا كتبتم عني الحديث) إلخ
تقدم ما فيه وكذلك حديثه (اكتبوا هذا العلم) .. إلخ
(7) كتاب الصدقات والديات والفرائض لعمرو بن حزم، رواه أبو داود
والنسائي وابن حبان والدارمي وموضوعه خاص. وإنما كتب له ذلك ليحكم به
إذ ولي عمل نجران.
(8) حديث عبد الله بن عمرو هو أكثر ما ورد في الباب وقد جاء
بألفاظ مختلفة من طريقين فيما أعلم الآن عند أحمد وأبي داود والحاكم؛
فالطريق الأول عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أي عبد الله بن عمرو
ابن العاص فهو جده. وهذا الطريق فيه مقال مشهور للمحدثين لم يمنع بعض
المتأخرين من الاحتجاج به وهو تساهل منهم. وأما المتقدمون فقد قال في
الميزان: قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: أهل الحديث إذا شاءوا
احتجوا بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وإذا شاءوا تركوه. يعني لترددهم
في شأنه، وقال عبد الملك الميموني سمعت أحمد بن حنبل يقول: (عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده له أشياء مناكير، وإنما نكتب حديثه لنعتبر به فأما أن
يكون حجة فلا) ، وقال أبو عبيد الآجري قيل لأبي داود: عن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده حجة؟ قال: لا، ولا نصف حجة. وقال ابن أبي شيبة:
سألت ابن المديني عن عمرو بن شعيب فقال: ما روى عنه أيوب وابن جريج
فذلك كله صحيح، وما روى عمرو عن أبيه عن جده فإنما هو كتاب وجده فهو
ضعيف. فهذا قد ضعفه لأنه اعتمد على ما رآه مكتوبًا وهو لم يروه رواية.
والطريق الثاني عن عبد الله بن المؤمل عن ابن جريج عن عطاء عنه بلفظ
(قيدوا العلم) وعبد الله بن المؤمل قال أحمد: أحاديثه مناكير وقال النسائي
والدارقطني ضعيف. ولا حاجة إلى مراجعة طريق ابن عساكر فقد جزم السيوطي
بضعفها، أما ما رواه عنه ابن عبد البر من قوله (ما يرغبني في الحياة إلا خصلتان)
إلخ ففي سنده ليث عن مجاهد. وليث هذا هو ابن أبي سليم ضعفه يحيى والنسائي
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبي قال: ما رأيت يحيى بن سعيد أسوأ
رأيًا في أحد منه في ليث ومحمد بن إسحاق، وهمام، لا يستطيع أحد أن يراجعه
فيهم. ذكره في الميزان وذكروا أنه اختلط في آخر عمره.
وأما ما ورد في المنع فأقواه حديث أبي سعيد الخدري المتقدم عن كتاب العلم
لابن عبد البر (لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن فمن كتب عني غير القرآن فليمحه)
وهو في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد، وهو أصح ما ورد في باب النهي عن
كتابة الحديث والسُّنة. ولا يعارضه حديث (اكتبوا لأبي شاة) وما في معناه من
الأمر على تقدير صحته. ولا يقوم حجة على من يقول: إن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن كتابة حديثه لأنه لا يريد أن يكون دينًا عامًّا دائمًا كالقرآن.
ولذلك وجوه:
أحدها: أن ما أمر بكتابته لأبي شاة - وهو خطبته ثاني يوم فتح مكة يحتمل
أن يكون خاصًّا.
ثانيها: أنه كان مما قال فيه (فليبلغ الشاهد الغائب) كخطبته يوم حجة
الوداع. فلما طلب أبو شاة أن يكتب له ما قاله فهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه
لا يتيسر له هذا التبليغ إلا إذا كتبه، ولعله كان سيئ الحفظ فأمر أن يكتب له كما
طلب.
ثالثها: أن حديث النهي عن الكتابة مقيد بإبقاء المكتوب وفيه الرخصة
الصريحة لمن يكتب مؤفتًا أن يمحوه، ويؤيد هذا المعنى ما رواه ابن عبد البر عن
زيد بن ثابت، وابن مسعود، وعلي، في محو المكتوب وما رواه من قول مالك:
(فمن كتب منهم الشيء فإنما كان يكتبه ليحفظه فإذا حفظه محاه) .
وهذا الوجه يصلح جوابًا عن حديث الإذن لعبد الله بن عمرو بالكتابة ويؤيده
قول عبد الله: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
(أريد حفظه) فصرح بأنه كان يكتب ليحفظ. وقد علمت ما قال أئمة الحديث في
رواية حفيده عن النسخة المكتوبة. ويصلح أيضًا جوابًا عن صحيفة علي وكتاب
عمرو بن حزم.
ولو فرضنا أن بين أحاديث النهي عن الكتابة والإذن بها تعارضًا يصح أن
يكون أحدهما ناسخًا للآخر لكان لنا أن نستدل على كون المنهي هو المتأخر بأمرين
أحدهما: استدلال من روي عنهم عن الصحابة الامتناع عن الكتابة ومنعها بالنهي
عنها وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وثانيهما عدم تدوين الصحابة
الحديث ونشره ولو دونوا ونشروا لتواتر ما دونوه.
فعزيمة عليّ على من عنده كتاب أن يمحوه - وقول أبي سعيد الخدري
(تريدون أن تجعلوها مصاحف) وقول عمر بن الخطاب عند الفكر في كتابة
الأحاديث أو بعد الكتابة (لا كتاب مع كتاب الله) في الرواية الأولى - وقوله في
الرواية الثانية بعد الاستشارة في كتابها (والله إني لا أشوب كتاب الله بشيء أبدًا)
وقول ابن عباس (كنا نكتب العلم ولا نُكتبه) أي لا نأذن لأحد أن يكتبه عنا -
ونهيه في الرواية الأخرى عن الكتابة وقوله الذي تقدم في ذلك - ومحو زيد بن
ثابت للصحيفة ثم إحراقها وتذكيره بالله من يعلم أن يوجد صحيفة أخرى في موضع
آخر - ولو بعيد - أن يخبره بها ليسعى إليها ويحرقها. وقوله الذي تقدم في ذلك -
وقول سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه لو كان يعلم بأنه يكتب عنه لكان ذلك فاصلاً
بينهما - ومحو عبد الله بن مسعود للصحيفة التي جاء بها عبد الرحمن بن الأسود
وعلقمة، وقوله عند ذلك (إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها
بغيره) كل هذا الذي أورده ابن عبد البر وأمثاله مما رواه غيره كإحراق أبي بكر
لما كتبه وعدم وصول شيء من صحف الصحابة إلى التابعين وكون التابعين لم
يدونوا الحديث لنشره إلا بأمر الأمراء يؤيد ما ورد من أنهم كانوا يكتبون الشيء
لأجل حفظه ثم يمحونه.
وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث، بل
في رغبتهم عنه، بل في نهيهم عنه قوي عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا
الأحاديث دينًا عامًّا دائمًا كالقرآن. ولو كانوا فهموا عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه يريد ذلك لكتبوا ولأمروا بالكتابة، ولجمع الراشدون ما كتب وضبطوا ما وثقوا
به وأرسلوه إلى عمالهم ليبلغوه ويعملوا به، ولم يكتفوا بالقرآن والسنة المتبعة
المعروفة للجمهور بجريان العمل بها، وبهذا يسقط قول من قال: إن الصحابة كانوا
يكتفون في نشر الحديث بالرواية.
وإذا أضفت إلى ذلك كله حكم عمر بن الخطاب على أعين الصحابة بما
يخالف بعض تلك الأحاديث، ثم ما جرى عليه علماء الأمصار في القرن الأول
والثاني من اكتفاء الواحد منهم، كأبي حنيفة بما بلغه ووثق به من الحديث وإن
قل، وعدم تعنيه في جمع غيره إليه ليفهم دينه ويبين أحكامه قوي عندك
ذلك الترجيح.
بل تجد الفقهاء بعد اتفاقهم على جعل الأحاديث أصلاً من أصول الأحكام
الشرعية، وبعد تدوين الحفاظ لها في الدواوين وبيان ما يحتج به وما لا يحتج به لم
يجتمعوا على تحرير الصحيح والاتفاق على العمل به. فهذه كتب الفقه في المذاهب
المتبعة لا سيما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية فيها مئات من المسائل المخالفة
للأحاديث المتفق على صحتها، ولا يعد أحد منها مخالفًا لأصول الدين.
وقد أورد ابن القيم في (أعلام الموقعين) شواهد كثيرة جدًّا من رد
الفقهاء للأحاديث الصحيحة عملاً بالقياس أو لغير ذلك، ومن أغربها أخذهم ببعض
الحديث الواحد دون باقيه. وقد أورد لهذا أكثر من ستين شاهدًا (فلتراجع في
ج14 و15 و 16 من مجلد المنار السادس) ، وسنورد في الجزء الآتي شيئًا مما
ورد في نهي الصحابة عن الرواية وفي عملهم بالحديث كيف كان، فقد أطلنا
الآن.
__________
(1) هو سعيد بن مالك الصحابي الجليل ولأبيه صحبة وروى الكثير، مات بالمدينة سنة 65 وقيل 74 هـ من التقريب.
(2) هو المنذر بن مالك بن قطعة العبدي العوفي، مات سنة 108 هـ. من التقريب.
(3) أمير المؤمنين والخليفة الثاني ملأ طباق الأرض بسيرته وعدله رضي الله عنه، استشهد سنة 23 من الهجرة اهـ من التقريب مع زيادة.
(4) هو أبو عمر عامر بن شراحيل الشعبي كوفي تابعي جليل القدر وافر العلم روي أن ابن عمر مرّ به يومًا وهو يحدث بالمغازي، فقال: شهدت القوم وإنه لأعلم بها مني، وقال الزهري: العلماء أربعة: ابن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام، ويقال إنه أدرك خمسمائة صحابي ومات سنة (104) فجأة. من ابن خلكان.
(5) هو أبو بكر محمد بن سيرين البصري أحد فقهاء البصرة تابعي جليل مات سنة (110هـ) بالبصرة. من ابن خلكان.
(6) المحاربي الكوفي مخضرم ثقة جليل مات سنة (84) اهـ من التقريب.
(7) الأسدي بالولاء أحد أعلام التابعين أخذ العلم عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر، قتل بين يدي الحجاج سنة 95 للهجرة بواسط. من ابن خلكان.
(8) هو عبد الله بن شبرمة بن الطفيل بن حسان الضبي الكوفي القاضي ثقة فقيه مات سنة 144. اهـ من التقريب.
(9) نزيل بغداد يعرف باليتيم ثقة تُكُلم في سماعه من جرير وجده مات سنة 32 اهـ. من التقريب.
(10) الفقيمي أبو النضر الكوفي ثقة مات سنة عشر ومائة اهـ من التقريب.
(11) ابن أحمد الأزدي اليحمدي كان إمامًا في النحو وهو الذي استنبط علم العروض، قال حمزة الأصبهاني في حقه في كتابه الذي سماه (التنبيه على حدوث التصحيف) وبعد فإن دولة الإسلام لم تخرج أبدع للعلوم التي لم يكن لها عند علماء العرب أصول من الخليل. مات سنة 170 وقيل 175 اهـ من ابن خلكان.
(12) هو أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم العنزي بالولاء الشاعر المشهور المتوفى ببغداد سنة 211هـ وله ديوان جمعه ابن عبد البر صاحب أصل هذا المختصر. اهـ من ابن خلكان (كذا في هامش الكتاب) .
(13) أحد الأئمة المشهورين تابعي جليل ونسبته إلى النخع قبيلة من مذحج باليمن.اهـ من تاريخ ابن خلكان.
(14) ابن كامل الصنعاني أخو وهب ثقة مات سنة 133 اهـ تقريب.
(15) ثقة فاضل مات سنة 141 وقيل بعدها. تقريب التهذيب لابن حجر.
(16) الوهط: المكان المطمئن من الأرض وقيل موضع وقيل قرية بالطائف. لسان العرب.
(17) صدوق كان يحدث من كتب غيره مات سنة 186 هـ. تقريب.
(18) أبو الهيثم المهلبي مولاهم البصري صدوق يخطئ مات سنة 224هـ. تقريب.
(19) الحرّة موضع بظاهر المدينة به كانت واقعة الحرّة أيام يزيد. اهـ قاموس.
(20) المنار: كذا في الأصل والظاهر أن (لا) زائدة ليكون من الشواهد على الكتابة وحاطب ليل مثل يضرب لمن لا يميز فيما يسمعه أو يأخذه بين غث وسمين ونافع وضار كمن يحتطب ليلا فيأخذ الأفعى والحجر فيما يجمعه يظنهما حطبا، والذي ينتقي هو الذي يمحص ما يسمع فيميز بين الصدق والكذب والمعقول وغير المعقول.(10/743)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إصلاح الأزهر
يرى أصحاب العقول الكبيرة من مصالح الأمم ما لا يراه غيرهم من العقلاء إلا
بعد زمن طويل من دعوتهم إليه، فقد رأى الأستاذ الإمام في أواخر مدة طلبه للعلم
من حاجة الأزهر إلى الإصلاح ما لم يكن يراه غيره من قومه، وكان يدعو إلى ذلك
في كل وقت بما تقتضيه حاله، حتى كان في أول ولاية العباس ما كان من سعيه
لديه في الإصلاح المعروف وكان من قواعد الإصلاح المتبعة عند الأستاذ الإمام؛ أن
يكون إصلاح الأزهر بشيوخه وأن لا يكون للحكومة سلطان عليه في ذلك، حتى
قال لي غير مرة: إنني ما دمت في الأزهر لا أدع سبيلاً لتداخل الحكومة فيه.
وكان للأمير رأي في الأزهر، ذكره في خطابه الذي ألقاه على العلماء يوم
خلع على الشيخ عبد الرحمن الشربيني خلعة مشيخة الجامع، وهو أن يبقى على
حاله وأن لا يكون للحكومة شأن فيه إلا حفظ النظام، وتستعيض عن تربيته
وتعليمه لقضاة الشرع بإنشاء مدرسة خاصة يتخرجون فيها.
وبعد أن أنشئت مدرسة القضاء الشرعي على أحسن وضع ممكن بدا للأمير
في إصلاح الأزهر، فأمر بتأليف لجنة رئيسها ناظر الحقانية ومن أعضائها مدير
الأوقاف ورئيس الديوان الخديوي؛ للنظر في طرق الإصلاح ووضع تقرير فيه.
وقد بلغنا أن هذه اللجنة تستمد من تقرير ملخص من تقريرين للأستاذ الإمام
رحمه الله تعالى، قدم أحدهما إلى المعية، وموضوعه إصلاح التعليم في الأزهر،
والآخر إلى ديوان الأوقاف وموضوعه زيادة المرتبات الشهرية للعلماء على طريقة
تساعد الإصلاح.
وقد شاع أن أساس الإصلاح الجديد هو أن يكون للأزهر مجلس أعلى فوق
مجلس إدارته من أعضائه رئيس الديوان الخديوي ومدير الأوقاف، وعضو من
أعضاء مجلس شورى القوانين، وعضوان من المشتغلين بالتعليم بالمعارف. وباقي
أعضائه شيخ الأزهر وهو الرئيس والمفتي وأحد أعضاء مجلس إدارته وأحد
مشايخ الأروقة فيه، وهذان يختارهما الأمير. ومن الإصلاح الجديد أن يكون لشيخ
الأزهر وكيل من حقوقه أن يقوم مقام شيخ الأزهر عند غيبته في كل شيء، وقد
اضطرب شيوخ الأزهر لهذا النبأ، وطفقوا يكتبون عرائض الشكوى، وربما استقال
شيخ الجامع.
__________(10/769)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأحزاب في مصر
كان يطرق مسامعنا في المجالس، وتبصر أعيننا في الجرائد كلمة (الحزب
الوطني) ولا نجد لها مدلولاً، وما زالت الجرائد الإنكليزية تقول: إن في مصر
حزبًا وطنيًّا سياسيًّا، حتى صار فيها عدة أحزاب، وربما أخذت هذه الجرائد ذلك
من الحركة الوطنية التي قامت في وجه الاحتلال في أوائل ولاية أمير البلاد لهذا
العهد؛ إذ كان متحمس بتلك الحركة يمدح بالوطنية، والمنكر لشيء منها أو
المتقاعس عن مشاركة ذويها يزن بالميل إلى الاحتلال، ثم صار يوصف أهلها
بالحزب الوطني. ويظن بعض المفكرين أن للإنكليز غرضًا في وجود الأحزاب
بمصر لا سيما النوع الذي يعرف عندهم بالمتطرف، فكانت كتابة جرائدهم إغراء
بذلك ودعًّا إليه.
ومن الناس من يقول: إن تسمية أولئك الذين قاموا في وجه الاحتلال حزبًا
خطأ عرفي أو لغوي؛ إذ يفهم منه أن في البلاد حزبًا آخر أو أحزابًا آخرى يناظر
ويعارض بعضها بعضًا، ولم يكن في البلاد شيء من ذلك وإنما كان السواد الأعظم
مغبوطًا بما ظهر به أولئك الذين يكتبون في مقاومة المحتلين، ويستميلون فرنسا
لمساعدتها عليهم، وما كان يوجد لهم معارض، وكان يوجد أفراد يعتقدون أن ما
قاموا به عقيم أو ضار لما أفادهم النظر في العواقب، ولكن هؤلاء الأفراد لم يكونوا
يعارضون ولا يقاومون، وغاية ما كان يظهر من الواحد منهم أن يكاشف صديقه من
الآخرين برأيه، والصواب أن مثل أولئك يصح أن يطلق عليهم لفظ (حزب) لغة،
فإن الحزب كما في المعاجم جماعة الناس والصنف والطائفة منهم، وقال الراغب:
الحزب: جماعة فيها غلظ. وفي لسان العرب (وحزب الرجل: أصحابه وجنده الذين
على رأيه) ثم قال: (وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب وإن لم يلق
بعضهم بعضًا) .
فأنت ترى أن لتسمية أولئك القوم حزبًا وجهًا في اللغة وجيها، ولكن للأحزاب
في أوروبا معنى أخص؛ وهو عبارة عن ارتباط المتشاكلين في القلوب أي الشعور
بالحاجة إلى مصلحة عامة وفي الأعمال لهذه المصلحة بقانون معروف، ولم يوجد
مثل هذا في مصر إلا في هذا العام، فقد تشكل فيه حزب الأمة والحزب الحر
وحزب الإصلاح الدستوري والحزب الوطني، وسمعنا أيضًا نغمة حزب آخر سمي
الحزب الجمهوري؛ ولذلك سمي هذا العام بعام الأحزاب، وقال الشيخ عبد المحسن
في قصيدة يذكر فيها مرضه وشيئًا من العبرة بحال الزمان وأهله:
وطوارق الأسقام ما برحت ... تنتاب كالأحزاب في مصر
أما موضوع هذه الأحزاب فهو - بحسب ما صرح به زعماؤها - واحد،
المقصد منه خدمة البلاد بالوسائل الممكنة، حتى قيل إن الخلاف بينهم في الألفاظ
والأشخاص فقط. والصواب أن لكل حزب منها قطبًا يدور عليه: وهو مؤسس
الحزب ورئيسه الموثوق به عند المؤسسين المتعارفين المستعذبين لمشرب الحزب
إلا حزب الأمة، فإن رئيسه هو ليس المؤسس له الذي تدور عليه سياسته، وإنما
هو منتخب انتخابًا حقيقيًّا لرياسة شركة الجريدة قبل أن يسمى جمهور المؤسسين
أنفسهم حزبًا سياسيًّا. ولهذا يطمع سائر الأحزاب في سقوط هذا الحزب؛ لأن
الشرق لم يتعود الأعمال المشتركة، وإنما قوام أموره بالأفراد؛ ولأن أفراده ليسوا
متفقين على مقاصده ولا متعاضدين فيه، بل منهم من يتربص به الدوائر ويساعد
غيره عليه؛ ولأنه ليس له سلطة يأوي إليها ويعتمد على مساعدتها وإمدادها،
والسلطة في هذه البلاد سلطتان: سلطة الأمير الرسمية في الأحكام الحقيقية في نفوس
الجمهور ميلاً، وسلطة الاحتلال الحقيقية في الأحكام والأعمال. وهذا الحزب يريد أن
يكون وسطًا بين هاتين السلطتين باسم الأمة، فلا هو مع الإنكليز كما أشيع ولا مع
الأمير فيما يحب الأمير ويرى في السياسة، وإن كان مخلصًا كغيره للخديوية نفسها.
هذا هو مبدأ العاملين فيه الآن، فهو لا سند له إلا من ذاته، فإذا نجح كما نحب فذلك
من دلائل ارتقاء الأمة في الأمور الاجتماعية، وإذا هو سقط فسقوطه برهان على
أن الأمة لم تعدُ طور الطفولية في حياتها الاجتماعية.
والحزب الحر مؤسسه محمد وحيد بك وهو رئيسه الداعي إليه والمدافع عنه
بمساعدة صديقه محمد نشأت بك الذي كان من حاشية الأمير (معيته) وهو كاتب مجيد
بالفرنسية، وليس لهذا الحزب جريدة خاصة كغيره وإنما يكتب عنه محمد بك
في المقطم ومحمد نشأت بك في بعض الجرائد الفرنسية كالبروغريه، ولم يدخل فيه
أحد من أكابر البلاد، وأفراده أقل من أفراد سائر الأحزاب، وهو يمتاز بكثرة الحث
على مسالمة المحتلين والثناء على ما يستحسن من أعمالهم في البلاد، فهجيراه هذه
الكلمة (سلامة المصريين في مسالمة المحتلين) فهو لا يخالف غيره من الأحزاب إلا
في هذا، وهو خلاف قولي؛ إذ لا يقول حزب من الأحزاب بوجوب مقاومة المحتلين
ومعاداتهم بالعمل، وإنما قصاراهم أن يبالغوا في انتقاد ما يرونه منتقدًا من أعمالهم،
ويكبروه ويسكتوا عن الثناء على ما يرونه حسنًا نافعًا أو يصغروه. فذاك يمدح ولا
يذم ولا ينتقد، وهم يذمون وينتقدون، وقلما يمدحون ولا خلاف في سائر المطالب
الأساسية.
وأما حزب الإصلاح الدستوري فمؤسسه الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد
وهو رئيسه، وقد اختار له من الأعضاء من يجمعهم الرأي وترشدهم الرؤية،
ويثبتهم الركن الركين الذي يأوون إليه، فقانونه أوضح قوانين الأحزاب، ورجاله
أدهى رجالهم، والشيخ علي نفسه أبعد المشتغلين بالسياسة المصرية غورًا وأشدهم
حزمًا وأحذقهم في الدخول في الأمر والخروج منه. الفرق الحقيقي بين هذا الحزب
وغيره من الأحزاب التي تشاركه في الخدمة العامة للأمة أنه مؤيد لسياسة الأمير،
لا يتحول عنها في حال من الأحوال، يتهم إذا اتهمت، وينجد إذا أنجدت، ويوالي
من والت، ويعادي من عادت، فهو حزب طبيعي متين والرجاء في ثباته وبقائه
أقوى من الرجاء في سائر الأحزاب بحسب ما عليه مصر من الحالة الاجتماعية
والسياسية الآن، ولا دليل على تغيرها في زمن قريب.
وما صرح به هذا الحزب في قانونه من كون طلب المجلس النيابي أصلاً من
أصوله، لا ينافي تأييده لسياسة الأمير صاحب الحكم الشخصي، فإن طلب المجلس
النيابي مرضي للأمير أيده الله بتوفيقه، كما علم من حديثه المشهور مع مكاتب
جريدة (الطان) الفرنسية، بل لا يبعد أن يكون هو أول من فكر بوجوب طلب الأمة
له كما يقول بعض العقلاء.
وأما الحزب الوطني فمؤسسه الآن مصطفى كامل باشا صاحب جريدة اللواء،
وهو رئيسه، وهو جزء من الحزب الوطني الذي كان موجودًا بالقوة أو بالفعل من
قبل على ما بيناه في صدر هذا المقال، والقسم الآخر من ذلك الحزب هو حزب
الإصلاح الدستوري. والفرق بين هذين الحزبين على ما أرى وهو رأي يوافقني عليه
كثير من العقلاء هو أن حزب الإصلاح الدستوري يجمعه الرأي وبه يعمل،
والحزب الوطني يجمعه الإحساس والشعور وبه يعمل، وإن شخص صاحب جريدة
المؤيد ليس ركنًا من أركان الحزب الأول وإن كان قطبه وأقدر العاملين فيه ولكن
شخص صاحب جريدة اللواء ركن من أركان الحزب الآخر مقصود بالذات منه،
ولذلك اتفقوا على أن يكون رئيس الحزب ما دام حيًّا بلا شرط ولا قيد. ويظهر لنا
أن المعجبين بالحزب الوطني أكثر عددًا من المعجبين بغيره من الأحزاب؛ لأن منهم
فيما يقال أكثر تلاميذ المدارس والخائضين في السياسة من العامة وذلك معقول؛ لأن
هؤلاء الذين يتبعون داعي الشعور ويخضعون لسلطان الوجدان ويحبون الغلو أكثر
ممن عداهم. وقد سلكت جريدة اللواء طريقة تحريك الوجدان وتهييج الشعور
الوطني بعناية عظيمة تناسب الاستعداد الغالب على الشعب. ويظن أن غرض
صاحبها من ذلك ومن نشر الدعوة إلى حزبه في الأرياف؛ هو أن يستميل رأي
السواد الأعظم إلى نفسه، حتى يكون زعيمًا حقيقيًّا إذا دعا إلى شيء تؤيده الأمة
بالمال والحال ... وادعاؤه هذه الزعامة من قبل دليل على استعداده لها، فإننا قد
تعودنا أن نرى كل رأي للواء معزوًّا إلى الأمة برمتها، حتى مثل العفو أو عدم
مقاصة ذلك المجرم القاتل في السودان. وقد أمدته في استعداده هذا الجرائد
الإنكليزية في أثناء حادثة العقبة؛ إذ كانت تصفه بالزعيم المهيج وغرضها من ذلك
معلوم فيالله من دهاء الإنكليز.
هذا، وإن في كل حزب من الأحزاب من الرجال المحبين للبلاد والمخلصين
في خدمتها بحسب اعتقادهم من يعتمد عليهم في القيام بشؤونها، وقد جهل بعض
الحقيقة من قال: إن كل حزب قد أنشئ لتأييد جريدة، ومدير تلك الجريدة هو منشئه
ومسخره لجريدته، ومن أنه لا فرق بين هذه الأحزاب في المقصد.
ونرجو أن يكون إنشاء الأحزاب في مصر آية من آيات الأخذ بالارتقاء
الاجتماعي، وأن يكون تعددها سببًا لطول حياتها؛ لما تقتضيه المباراة والمزاحمة
من تمسك كل حزب بما قام به، ونسأله تعالى أن يوفق الجميع لما فيه الخير
والمصلحة للبلاد.
__________(10/770)
الكاتب: محمد الأصرم
__________
أوربا والإسلام
ومقابلة بين الإسلام والمسيحية في المدنية لوزير فرنسي
كتب السيد محمد الأصرم من فضلاء التونسيين والموسيو دوديانوس المراقب
المدني الفرنسي في بلده سوسه من أعمال تونس بالاشتراك تقارير في الأحوال
التونسية، وقدم هذا التقرير إلى مؤتمر الاستعمار الذي اجتمع في مرسيليا سنة
1906 الموسيو ميلي الذي كان في منصب الوزير المقيم لفرنسا بتونس، وجعل له
مقدمة بقلمه تلاها في المؤتمر. وقد ترجمها في هذه الأيام بعض التونسيين،
ونشرها في جريدة الزهرة، فرأينا أن ننشر الترجمة في المنار بعد تصحيحٍ ما
لعباراتها وهي:
هذا التقرير على صغر حجمه يبين مسألة من أكبر المسائل الحالية وهي العلاقة
بين أوروبا والإسلام.
كانت هيئة الاجتماع المسيحية في خلال القرن السابع للمسيح على حالة
محزنة، تتنازعها من جهة غاية التوحش ومن أخرى ما أصاب الفكر من التعمق
والتدقيق في مفاهيم الألفاظ، وعلى هيئات سياسية دخلت في سن الهرم، وسفاسف
دينية حلت محل اتساع أنظار القرون الأولى. فالسلطة كانت تميل أحيانًا إلى البطش
وطورًا إلى مقتضيات الضعف، لكنها في كلتا الحالتين كانت مقلقة للعباد، فرومية
كانت في جدال مستمر مع الآستانة (يعني بابا روسيه وبطرك الآستانة) ولم
يتمحض منصب البابا لسلطته، ويتخلص من الروابط الملوكية والتغالي في اعتقاد
القديسين (المرابطين) إلا وقد سقط في مهواة الوثنية، وتركت الواجبات العسكرية
واستبدل المأجورون بالعسكر النظامي، واضمحلت العائلة بالتجافي عن القيام
بالواجب، ولم تكن هناك حرية في الاعتقاد بل لم يكن رواج إلا لسخط القسوس
واضطهادهم لمن ينبس بينت شفة لا تلائم أغراضهم. وبالجملة فالحالة كانت في تلك
العصور محفوفة بجميع موجبات التأخر والانحطاط، فظهر الإسلام والحالة هذه
ونجح في تقدمه العجيب بسبب ما أحدثت السلطة اليونانية في النفوس من
السآمة والمقت.
جاء الإسلام مخالفًا لكثير من الأديان التي ضاعت حقيقتها في غمرات الأوهام،
فإن هذا الدين تنزه عما لا يعقل من الخوارق، وقام على الحجج البينات التي لم تزل
إلى الآن موجودة، غير أنهم في الغالب يحيدون به عن مقاصده؛ لأنهم يريدون
اختلاق الخوارق له مع أنها لم تكن، ويتضح كل الاتضاح إن سلمنا أن الإسلام جاء
مقاومًا للمسيحية حسبما كان يفهمها اليونانيون أنه - أي الإسلام - جامع بين السلطتين
الدينية والسياسية؛ كما أن ملوك بيزانس أي ملوك اليونان كانوا يدّعونهما.
وهو - أي الإسلام - قليل الغربة في أصوله؛ لأنه لم يكن المقصود منه في
ذلك الوقت تجديد اعتقاد الناس، بل تغيير انقيادهم الظاهري، فلما أثقلت كاهل
المسيحية اليونانية فلسفة القوم المنكرة، جاء الإسلام بنسخ التثليث وإزالة أدران
الفلسفة الإسكندرية؛ ولما بعدت حقيقة المسيح الكنيسية شيئًا فشيئًا عن البشرية،
وفشا اعتقاد تعظيم القديسين، حتى انحدر بالناس إلى عبادة بعض الأشياء من
الكائنات، جاء الإسلام بإرجاع المسيح - على تكريمه إياه - إلى نسبته البشرية
وبإنكار القديسين، ولما أضعفت أديار الرهبنات الدولة والعسكرية جاء الإسلام
بإبطالها، ولما كانت الغاية المسيحية إضعاف العائلات بإيثار العزبة على التزوج،
جاء الإسلام بكراهة تعمد قطع النسل وبالحث على التناسل بإباحة تعدد الزوجات،
ولما كانت الهيئة المدنية المسيحية منقسمة إلى مراتب وراثية متشعبة، وكانت الرتبة
الأولى فيها للقسيسين، جاء الإسلام بإبطال سلطة القسيسين وإزالة حق
الوراثة في المراتب والاستعاضة عنها بالاستحقاق الذاتي (لا فضل لعربي على
عجي إنما الفضل بالعلم والتقوى) كما أنه أزال الواسطة بين الخالق والمخلوق وبين
الرئيس والمرؤوس، ولما كان الملوك هم المحافظين على أصول الدين، واستحوذوا
بذلك على التصرف بالعقائد والمعتقدين من رعاياهم - جاء الإسلام بالتسامح والحرية
في الدين على شرط قبول الداخلين تحت سيطرته من غير المسلمين بأداء
الجزية، وهو أداء خفيف جدًّا. ولما كانت الصدقة الإنجيلية قد ضغطت تقريبًا تحت
استئثار أصحاب الرتبة المفضلة من الهيئة، جاء الإسلام بالحث على المعادلة
والتعاضد إلى حد لا نهاية بعده. وبالجملة إن الديانة المسيحية لم يكن تأسيسها إلا على
الخوارق، فالإسلام قد عدل عنها تقريبًا، وجعل نبيه بشرًا كسائر البشر. هكذا كانت
طباع الإسلام الأولى وإن اعترى فروعه تغيير بسبب ما اعترى المسلمين من
الأوهام، فأصوله لم تزل ثابتة إلى الآن.
وقد تجلى الإسلام ميسرًا ومستكملاً للإنسانية ومنزها عن الغموض ببساطة
الوحدانية المعقولة، وبذلك تباعد عن قضايا المعارضة بأنواعها، ولم يصد نموه ستة
قرون مضت في المجادلات الدينية، وأربعة مثلها مضت على الإدارة الرومانية [1]
ولم يكف ذلك حصنا للمسيحية بل حصل هذا الدين الجديد على كنز ثمين بسرعة
عجيبة [2] وهو رغم ما سطرته كتبنا متسمر الدوام , وإذا تمحض للترفع بتنزهه عما
ذكر من الأدران، أمكنه تقديم متبعيه على متبعي المسيحية نحو ثلاثة أو أربعة
قرون، فإن معالم بغداد وقرطبة العلمية كانت منابع للأنوار الساطعة عندما كانت
معالمنا المسيحية منحنية على الجهل المطبق، فكل العلوم وكل الصنائع وكل الفنون
كانت تأتي من الشرق، وجمهوريات البحر المتوسط كانت تكتسب بسطتها من
علائقها مع مخالفيها في الدين.
وإن زهرة هذا التمدن النفيسة المحفوظة في أوانيها الجميلة الأنيقة كقصر
إشبيلية وحمراء غرناطة لم تزل تُخجل أشراف المسيحيين حتى اضمحلال العربية
بحيث أن مدة الإسلام المثمرة دامت نحو ثمانية قرون نهايتها سقوط غرناطة،
وكانت بعد ذلك فتوحات العثمانيين الذين تراهم على عدم التفاتهم لانفتاح الزهرة
الفكرية، قد أثبتوا للإسلام مدة قرنين أو ثلاثة عظمة سياسية وعسكرية.
وعليه فإن الديانة الإسلامية حافظت مدة ألف سنة على قوة انتشارها ونظامها
ولذا يصح أن نقول بحسب المدة على الأقل: إن وظيفتها تعادل وظيفتي اليونان
والرومان معًا.
هذا وبعد وقوف الشجرة الإسلامية عن النمو والإثمار، لم تزل عروقها آخذة
في الامتداد الخفي، وتنشق أرضها عن أخلاف غليظة في أماكن السودانيين، كما
إن أخلافها في آسيا تحمل مع الراحلة مادة التلقيح الهندي والماليزي والصيني [3] .
فهاته الحقائق هي التي ينبغي استحضارها في الذهن عند إرادة التكلم عن
الإسلام باستخفاف! !
فإن قيل: كيف طرأ السكون على أهل عقيدة شريفة معقولة مثل عقيدة الإسلام؟
ولماذا وقفت في أفريقيا وآسيا الصغرى عن الإثمار الآن بعدما أثمرت سابقًا في
الفرس وأسبانيا، ثم لأي سبب كان هذا التقدم الأوروبي الحالي المترقي عما سواه؟
الجواب: إن مسألة مثل هذه لا يمكن تفصيلها في هاته الأوراق. لكن لنا أن
نقتصر على مجرد نتيجة فلسفية، وهي أن نقول: إن مدنيتنا المسيحية الأصل، قد
فتحت مجالاً متسعًا للنمو المادي، وإن نهضتنا في القرن السادس عشر قد منحتنا
جسارة في الفكر واختبارًا في الفحص العلمي ربما لم يعرفها المسلمون، وإن الذي
يهم في هذا المقام على كل حال هو اعتبار الحيثيات عند إرادة الحكم في هذا
الموضوع؛ لأن تقهقر المسلمين المشاهد: إما أن ينسب إلى نفس الأصول الدينية،
فيكون الإسلام محكومًا عليه بالاقتصار على الحياة المادية، وإما أن ينسب إلى
أسباب خارجية عارضة، فيكون قابلاً للنهضة والرجوع إلى ما كان عليه. لكن
هناك من السذج والأغرار من يقضي عليه قضاء مطلقًا بدون مراعاة الحيثيات
المشار إليها، ولعمري إنه يصعب عليهم بيان كيف أمكن لهذا الدين القاصر على
زعمهم إنتاج ثمار عجيبة في الزمن الماضي، وهم أناس لا يحسنون معرفة التاريخ
ويقتصرون في حكمهم على ما تشاهده أبصارهم.
قد انتشر هذا الفكر بفرنسا مدة المسألة الجزائرية من حيث علاقتنا مع الإسلام
ويوجد إلى الآن هناك كثير من الفرنسيين بقوا عليه. لكن وجدنا بمصر ثم بتونس
مسلمين من نوع آخر، ولذا لم يكن من الممكن ولا المقنع الاقتصار على حكم
استبدادي بسيط، ووجب الرجوع إلى الشواهد التاريخية، وقد يجب الاعتراف
حينئذ بأن طباع المسلمين عامة اعتراها تغيير من القرن الثالث عشر إلى القرن
الخامس عشر، وذلك تحت سلطة الأتراك بالمشرق وسلطة البرابرة بالمغرب، ففي
أسبانيا انقطعت العلائق بين المسلمين والمسيحيين بعد سقوط غرناطة دفعة واحدة،
والتعصب من الجهتين هو الذي حملهم على ذلك. وأما من جهة الآستانة فالعلائق
السياسية قد استمرت، ولكن العلمية سقطت في العدم، فالبرابرة بالمغرب والأتراك
بالمشرق سارا كأنهما جرمان ثخينان بطرفي السلك منعا سيلان الكهرباء فيه.
والحقيقة أنه من تاريخ عدم التفاهم بين المسلمين والمسيحيين، قد اختارت كل
فرقة من أساليب دينها ما يلائم إحساسها، فعقيدة القضاء والقدر ليست هي أساس
الأعمال في الإسلام؛ بدليل أن القرآن لا يرى مانعًا من تقدم الأمم بتعاطي أسباب
التقدم. لكن عقيدة القدر تسري بالعرض والتبعية إلى فكر المسلم الساذج؛ بمعنى أن
تصرف الخالق في المخلوق يكون مباشرة (أي بلا سعي ولا سبب) ولذا ترى
المرابطين علماء اللاهوت من البرابرة يبالغون منذ ظهروا في التمسك ببعض
النصوص الدينية مع خلوها عن الفائدة، ويخطبون في الناس كبعض أهل المذاهب
المسيحية؛ مقاومين لكل تمدن، وأعانهم على ذلك عربان الخيام بأفريقية، وتمموا
هذا المشروع المنتج للصلابة واليبس، مع كونه انتزع من الدين لينه ومساعدته
على اكتساب التمدن وقصره على حركات بدنية، لكن الفرق المستنيرة التي يحاكي
ليان أفكارها ليان البحر المتوسط، انسحبت مع أمواجه وتجمعت ببلدان السواحل؛
لتقتحم تعب المدافعة ومصادمة البربرية. ففي الجزائر سابقًا، وفي مراكش الآن
عروش الخيام يعني الذين ولد فيهم الجهل شدة التعصب الديني هم الذين وجدناهم
عرضة لنا. ويجب أن نتفاهم في معنى التعصب هنا، وهو أن هاته العروش إنما
يتعصبون للاستقلال والهمجية، فالدين عندهم هو الراية التي يتخذونها وسيلة لتغطية
بغضهم للأجنبي، فالرحالون لم يكن أوائلهم مسلمين، مع أنهم كانوا يبدون مثل هذه
الإحساسات بعينها نحو الفاتح الروماني، وكان الأمر يشتبه علينا في الزمن السابق،
فيظهر لنا أن الأخذ بثأرنا من هذه العروش أمر طبيعيي، وأن ذلك يكون باغتصاب
أملاك المساجد والجوامع مطلقًا، حتى أرشدتنا التجربة فيما بعد إلى حقائق الأمور،
فعاملنا التونسيين بمزيد الاعتبار، فاحترمنا دولتهم وعوائدهم وشرائعهم وعدليتهم
وجوامعهم وأملاكهم. وفي الحقيقة، إن ما وجدناه بتونس لم نجده بالجزائر: وجدنا
بتونس نخبة من الأعيان الأهليين ومجتمعًا لمزاولة العلوم وهو جامع الزيتونة، فإنه
وإن انحطت شهرته عما كان عليه في القديم، لم تزل به مادة الحياة قوية تؤذن
بقرب عود اخضراره، وهاته الحالة المساعدة أمكننا معها أن نخطو خطوة زائدة
سنة 1898 وهي تأسيس جمعية من شبان التونسيين المتعلمين تحت عنوان
الخلدونية؛ تذكارًا للمؤرخ العربي ابن خلدون، وتكفلت هاته الجمعية بإدخال الفنون
الأوروبية بين طلبة الجامع الأعظم، وافتتحت دروسها بمسامرة نظامية، وقام أحد
مدرسي الجامع الأعظم ببيان أن لا نفرة بين الإسلام والعلوم العصرية.
وأخيرًا وقع اقتداء بالجزائر (كذا) قبول بعض أفراد من الأهلين بمجلس
الشورى المعمرين، ولم يبق في الإمكان أن نرجع فيما منحناه للأهالي من حق التكلم
والمناضلة، ولا أن نسد أفواههم، وقد بادروا لاستعمال هاته الوسيلة بالانتقاد على
عدم الاهتمام بشؤونهم وهضم جانبهم المتجدد في كل حين الذي يحملنا على ارتكابه
العجب الأوروبي، فمع كوننا نحترم عوائدهم سياسة، فإننا لا يهمنا أن ندوس
حقوقهم بما لنا من عدم الاكتراث الذي طالما اتصف به الغالب المعتقد أفضليته
المطلقة على المغلوب.
فهذه التقارير التي ستقرأ عليكم، يتكون منها كراسة المطالب الإسلامية
التونسية، وأهم غرابتها كونها تؤذن بالمشاركة والتعاون بين العنصر الأوروبي
والعنصر الأهلي، وفيما أظن أن هاته أول مرة أبيح فيها لمسلم انتقاد آراء غيره
زيادة على إبداء رأيه في تقرير رسمي، على أن استعمال السيد محمد الأصرم لهاته
الحرية، هو في نفسه أقوى برهان لتأييد رغائب بني جنسه ودينه، ومن المستحيل
أن يأتي هذا الكاتب بأكثر مما أتى به من التلطف في التعبير مع صحة المعنى
واستقامة الدليل في عرضه التشكيات المقبولة. كأن حجابًا يتمزق ليرينا من ورائه
باطن هيئة لا ترى منها إلا ظاهرها. أما قيمة النتائج التي يعرضها علينا، فإنها
دون ما فاجأنا به من بيان مقاصد الديانة الإسلامية الحقيقية. وبهاته المناسبة نبادر
لزيادة الحث على قراءة الفصل 19 والفصل 20 المتضمنين لما عليه الإسلام الآن،
بالايالة التونسية وما تأتيه الطرق الدينية فيها.
ولا يخفى أن الكاتب من المسلمين، وهو الذي أفادنا أن عربان العروش هم
من أردأِ المسلمين من حيث العقائد، بخلاف سكان المدن فإنهم متخلقون بأخلاق
المسالمة، وإن الوسيلة الوحيدة للتغلب على هذا التعصب الأعمى هو الحث على
قراءة القرآن التي تركت الآن تقريبًا، وعلى نشر المعارف والرجوع إلى أخلاق
الإسلام التي منها فعل الخير والتعاضد والتسامح، وهو الذي يؤكد لنا إقبال المسلمين
المستنيرين على العلوم الأوروبية، وهو الذي يرينا ما في الطرق الدينية والإفراط
في الميل إلى الدراويش من الأسباب المغايرة لوجهة الإسلام. وترى مما ذكره لنا
من قواعد بعض الطرق أن هناك شيئًا يشبه قواعد الجزويت (عصبة دينية ديدنها
التحيل والاستئثار) وهو الانقياد الأعمى المعبر عنه باللاتينية عندهم (كن كجثة) .
فهذه الملاحظات حرية بالاعتبار في أسباب التقهقر العارضة للإسلام الذي جاء
معارضًا للخوارق المسيحية، فأسقطوه في ما جاء معارضًا له بإحداث ما يصفونه
بالتصوف الذي تولدت منه أنواع من الخوارق، ربما كانت أكثر خطرًا من أمثالها
في المسيحية. فالإسلام أمر بالمساواة والتوجه للعمل، وعدل التمتع بنعيم الدنيا،
فطرأ على هذه الأوامر ما اختلقته الطرق الدينية من التوكل الأعمى الباعث على
عدم التبصر في العواقب ومن الفقر (الزهد) والطاعة العمياء والجمود، وهي كلها
مهيئة لمناهج كل استبداد. وتنزه الإسلام عن الموان (فرقة من الرهبان) فجاءت
الأوهام البربرية وأحيته في الدراويش، ونعني بالموان هنا التوارث الذي يتعاطى
شيئًا من أنواع السحر، والمرفوع عنه التكليف (كذا) وعليه إن كان المسلمون في
تقهقر؛ فلأن الإسلام انحرف عن أصوله ووجه لغير مرامه. لكن الجراثيم اللازمة
لنهضته لم تزل كامنة فيه، ولذلك يلزم الرجوع إلى القرآن بعد تفسيره واستخراج
ثماره بطرق العلوم العصرية، فأول أمة أوروبية تتجرد عن أوهامها القديمة وتفهم
هذه الخطة العالية، يمكنها بذلك أن تتقدم على غيرها تقدمًا عجيبًا، فإن تعاطيها لما
ذكر يكون له أحسن صدى في قلوب مائتي مليون من المسلمين.
فاليوم الذي تشمر فيه فرنسا عن ساعد الجد، وتسعى في تعليم وتربية الأهالي
ولا نقصد بذلك أن تلزمهم بنظاماتنا بل أن تسير بهم في مناهج التقدم الملائمة
لطباعهم هو اليوم الجميل حسب قول (مسيو جونار) الذي تحصل فيه على أكثر من
فتح الممالك؛ إذ به تتحقق لها السلطة على الأرواح اهـ.
(المنار)
سنبين في الجزء الآتي رأينا في هذه المقالة أو المقدمة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كذا في الأصل ولعله يشير إلى الحروب الصليبية.
(2) لعله يعنى (بالكنز) الفتوحات.
(3) الأخلاف جمع خلفة بالكسر، وهي معروفة. يريد أن الإسلام لا يزال بعد ذلك النمو يمتد في أفريقيا وآسيا، فيتلقح بالإيمان به الهنود والماليزيون والصينيون ولكن عبارته مجازات واستعارات وترجمتها ضعيفة.(10/774)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أعمال حسن باشا عاصم
كتبنا في الجزء الماضي شيئًا عن أخلاق حسن باشا عاصم، ونكتب في هذا
الجزء شيئًا عن أعماله، وعمدتنا في هذا وذاك الاختبار، وغرضنا منه بيان طريق
التأسي والاعتبار، وإنما قدمنا الكلام في الأخلاق لأنها هي مصادر الأعمال، فهي
الأصل الأصيل في تفاضل الرجال، ولم نسلك فيما كتبنا ولا فيما نكتبه الآن مسلك
الاستقصاء بل نكتفي بما قل ودل.
تمهيد في تربيته وتعليمه
بالتربية والتعليم يتفاضل المتساوون والمتقاربون في الاستعداد، وقد اتفق
لحسن عاصم منهما ما أظهر استعداده العظيم. كان والده من حاشية محمد باشا
عاصم أحد كبار المديرين في هذا القطر ولم يكن لهذا نسل. وولد حسن في حجره
فسُر به وتولى تربيته، بل تبناه وأضاف اسمه إلى اسمه، فعلمه التعليم الابتدائي
والوسطي والعالي، فانتقل من المدارس الابتدائية إلى مدرسة الإدارة (الحقوق)
فكان في طليعة النابغين ثم أرسل مع بعض النابغين إلى فرنسا على نفقة الحكومة؛
للترقي في علوم الحقوق والسياسة، فتلقاهما بجده واجتهاده حتى كان من خير
النابغين وحملة الشهادات العالية فيهما. وكيف لا وهو لم يكن يعرف اللهو والبطالة،
ولا ممن يحفل باللذات والشهوات البدنية، وتلك هي قواطع طريق العلم على طلابه لا
سيما في أوروبا ولا سيما في فرنسا. وما أظن إلا أن بيت محمد باشا عاصم كان نقيًّا
من اللوث الذي تلطخ به كثير من البيوتات كالسكر وما يتصل به عادة، وكأني بذلك
الرجل وأنا لم أعرفه ولم أعرف عنه شيئًا كان بصيرًا بالمفاسد التي تدب إلى الناشئين
في السعة، فحال بين ربيبه وبينها، فلم تتدنس نفسه برذائل المترفين ولا بدناءة
المعوزين، فهذه التربية النقية هي التي ساعدته على كمال تحصيل العلوم، حتى كان
وهو ابن الخادم مشرفًا للمخدوم بنسبته إليه ومحييًا لذكره، ولولاه لما عرفه مثلي ولا
دوّن اسمه في هذه المجلة الإصلاحية. وكم أفسدت باريس من أولاد الأمراء والوجهاء
الذين هم أرفع من محمد عاصم باشا ذكرًا في قومهم.
عمله في القضاء والنيابة:
لما عاد من أوروبا جعلته الحكومة مساعدًا للنيابة فوكيلاً فرئيسًا في الإسكندرية
ثم في طنطا، وكان قد مات محمد عاصم باشا فكان خير خليفة له في أهله، حتى
إنه كان ينفق معظم مرتبه الشهري على قلته في المرتبات التي كان يقوم بها مربيه
الذي مات ولا مال له. بل لم يتعجل في العودة من أوربا إلى مصر إلا لأجل هذا،
فقد كان يبغي الاستزادة من العلم إلى أن يصير دكتورًا في العلوم التي كان يشتغل
بها بعد أن نال شهادتها العالية المعبر عنها عندهم بالليسانس، ففاجأة نعي مربيه
فاكتفى بما حصل، ورجع عما كان أمّل، وقد كان في النيابة العالم المصلح للنظام
ولحال الاجتماع، إذ كان يتعقب الأشقياء المفسدين وسلبة الأمن المعتدين، حتى طهر
منهم المديريات التي عظم بلاؤها بهم وكان يزجي كل من تحت رياسته في الجد
والاجتهاد، فلا يكادون يجدون ساعة بطالة.
ولما جعل السير سكوت مستشارًا قضائيًّا لمصر، وجه همته إلى إصلاح
المحاكم الأهلية، وكانت مختلة معتلة، فكان يطوف على رجال القضاء والنيابة
يسألهم عن رأيهم في الإصلاح وعما يشكون منه، فما كان يسمع من الأكثرين إلا
عبارات الثناء والإقرار بالرضا عن الحال الحاضرة. حتى ظفر بحسن عاصم
فأخبره هذا بجميع العلل وبطرق علاجها، فجاء به وبصديقه علي بك فخري الذي
رأى فيه مثل نباهته واستعداده، وجعلهما مفتشين للقضاء ثم عضوين للجنة المراقبة
التي أنشئت في نظارة الحقانية، فكانا هما الواضعين لنظام المحاكم الحاضر وطريقة
المراقبة القضائية المتبعة، بل كان حسن عاصم هو الذي اقترح بموافقة رفيقه
اختيار القضاة من أهل الكفاءة بالاستقامة والنباهة واختبار البلاد، كالمتخرجين من
دار العلوم وغيرهم ممن عرف بالعلم والفضل وإن لم يكن متخرجًا في مدرسة
الحقوق، وبذلك تيسر للحكومة إصلاح المحاكم بقدر الإمكان.
ومن خدمة حسن عام للقضاء وضع مشروع المحاكم الجزئية، ثم السعي مع
صديقه على فخري في إنفاذه عند سنوح الفرصة لهما بثقة السير سكوت المستشار
المحب للإصلاح بهما. وله في ذلك أعمال أخرى ليس من غرضنا تقصيها. وكان
للسير سكوت من الإعجاب بعلمه واستقامته وقدرته على العمل ما أحله عنده في
أعلى منازل الثقة والكرامة. وأراد ترقيته فلم ترض الوكالة البريطانية بذلك، بل
حاولت أن تدليه لاتهامها إياه بمناصبتها، فعرقلت عليه السياسة الاستمرار في عمله
النافع في المحاكم، وذلك شأنها ما دخلت في عمل إلا وأفسدته، كما كان يقول
الأستاذ الإمام. وما كانت تهمة حسن عاصم بالسياسة محض اختلاق، ولكن ربما
كان يبالغ فيما ينقل للوكالة عنه أو كانت الوكالة تنظر إلى الأمور بعين الاحتياط،
فتراها أكبر مما كانت عليه.
وكانت في البلد حركة وطنية قبلتها بل روحها الأمير الجديد (عباس حلمي
باشا) تبعثها الآمال وتحدو بها الأقوال، حتى تزجيها إلى بعض الأعمال التي كان
يظن أنها وسائل لإزالة الاحتلال والتمتع بكمال الاستقلال، وكان أكثر أهل الفهم
والرأي من رجال الحكومة وغيرهم مغرورين بتلك الحركة، ولم يسلم من شيء من
ذلك حسن عاصم على أناته وبصيرته، وكان صديقه ورفيقه في العمل علي فخري
بك أشد منه إعجابًا بل تحمسًا بها، بل أقول: إنه لم يسلم من الغرور بتلك الحركة
أحد من أهل الرأي والظهور في البلد إلا ما دون عدد أنامل اليد الواحدة.
قد يظن بعض الشبان اليوم أن في البلاد حركة وطنية قوية لم تكن من قبل،
وما ذلك إلا لأنهم لا يعرفون شيئًا عن الحركة التي كانت من نحو خمس عشرة سنة
إذ كان الرجال يجرون عربة الأمير بأيديهم، وإذ كان الأمير يعود من سياحته
الصيفية فتكتظ الإسكندرية بمئات الألوف للقائه، حتى قيل: إنه دخل في
الإسكندرية في يوم واحد ثمانون ألفًا من أهل الأرياف. وما ذلك إلا لأن السلطة
الأجنبية ثقيلة على النفوس البشرية تنفر منها بالطبع، فإذا آنست بصيصًا من الأمل
بالتملص منها على يد من تثق بهم من أبناء جنسها السياسي أو الديني، فإنها لا تعتم
أن تعشو إليه وتعول عليه، وقد كان الشعب يرى من الأمير الجديد منذ تولى ذلك
البصيص، بل كانت ترى من حاله وتسمع مما ينثر من درر أقواله، ما يجعل ذلك
البصيص نورًا ساطعًا يملأ الجوانح أملاً، وينفر بالنفوس إلى الجهاد الوطني خفافًا
وثقالاً، فلا عجب إذا كان مثل حسن عاصم وهو في شبابه ممن كان يظن أن في
تلك الحركة بركة، لا سيما وهو مطلع على ما كانت تدبره فرنسا، وما تعد به
مصر وتمنيها.
غرضنا من هذا البيان ومن سائر ما نكتبه عن الرجل أن تكون العبرة بسيرة
رجل نابغ منا مبنية على أصل ثابت، ورواية صحيحة في زمن لا يكتب فيه عن
رجال العصر إلا أصحاب الصحف السياسية في الغالب، وهم لا يبينون من الحقائق
إلا ما تسمح لهم به السياسة على الوجه الذي تحبه وترضاه.
فليعلم الشبان المتحمسون في الوطنية الذين تهيجهم نغمات المتغنين بأشعارها،
والضاربين على أوتارها، أن هذا النابغة الذي يفتخر الوطن به قد تحمس في شبابه
بالسياسة أيامًا كانت دواعي التحمس فيها أوفر، والآمال بالنجاح أقوى، ثم
استقر رأيه بعد الاختبار على أن العاملين للوطن والمخلصين في خدمة الأمة، يجب
عليهم أن يتنزهوا عن الشوائب والتحمسات السياسية والتهيجات الطبيعية، وأن
يلتزموا السكينة والروية، ويجعلوا عمدتهم إتقان الأعمال دون الغرور بزخرف
الأقوال والانخداع بالدعاوي العراض الطوال؛ لذلك كان يعمل ليله ونهاره من غير
لغط ولا دعوى، ولا تذمر ولا شكوى، بل كان ذلك دأبه منذ كان.
كان السير سكوت المستشار المصلح المخلص على ما هو مشهور بين جميع
العارفين، قد وعده بأن يجعله نائبًا عموميًّا بعد أن جعله الأفوكاتو العمومي، ولكن
الورد كرومر أمره بعزله كما يقال، فحار في أمره وبعد العناء والجهاد قدر على أن
يستبدل العزل وجعله قاضيًا في محكمة الاستئناف الأهلية بمرتب أنقص من
مرتبه قبله، فلم يزده ذلك إلا جدًّا في العمل ومضاء في الإصلاح. ومما يؤثر عنه
أنه كان يسمع خبر عزله، فلا يحدث عنده فتورًا ولا مللاً ولا يثنيه عن الابتداء
بعمل جديد أو وضع مشروع لعمل مستقبل، وإن كان يتوقف تنفيذ هذا وإتمام ذاك
على بقائه في عمله. وقد كان مما اقترحه في أثناء التحدث بعزله نقل طائفة من
الكتاب باليومية في محكمة الاستئناف لعدم الحاجة إليهم إلى المحاكم الابتدائية التي
هي في أشد الحاجة إليهم، فأخبره رئيس الكتاب بأن أمر عزله قد تقرر بل كتب،
ولم يبق دون تنفيذه إلا ختمه، فقال رحمه الله ما معناه: إن هذه فرصة تحرم
إضاعتها، وإنني أعمل الواجب ما دمت متمكنًا منه، وإن هذا التمكن يستمر إلى أن
أبلغ الأمر بالعزل رسميًّا.
عمله في المعية
عز على أصدقاء هذا العامل المصلح أن يكون ظنينًا على عمله عند القوة
الفعالة في البلاد، وأن لا يوضع في الوضع الذي يستحقه من ناصية القضاء، ولما
خلا منصب رياسة التشريفات عند الأمير بنقل عباني باشا منه إلى نظارة الحربية،
بادر الأستاذ الإمام فرغب إلى الأمير أن يجعل الفقيد رئيسًا للتشريفات، فذكر له
الأمير رجلاً آخر من المرشحين عنده لهذا المنصب، فقال الأستاذ الإمام رحمه الله
وكان الأمير أطال الله عمره يقدر رأيه حق قدره: كلا الرجلين كفء ويمتاز عاصم
بمعارفه القضائية، وأفندينا تعرض عليه القوانين واللوائح فيحسن أن يكون في
معيته من يدرسها ويبدي رأيه فيها. ذكر لي ذلك الأستاذ في سياق عناية الأمير به،
وكونه هو الذي اقترح جعله مستشارًا في الاستئناف، ثم جعله مفتيًا، وما كان فضل
عاصم ليخفى على الأمير، لذلك فضله على غيره وولاه هذا المنصب.
إننا نرى من المتعلمين من يختار أو يختار أولياؤه له علم الحقوق ليكون قاضيًا
أو محاميًا، أو علم الهندسة ليكون مهندسًا، أو علم الطب ليكون طبيبًا مثلاً. ولكننا
نرى النابغين فيما يوجهون جل عنايتهم إليه قليلين، وأقل من هذا القليل من
يبرع في العمل كما نبغ في العلم، وأقل من هؤلاء من يعهد إليه عمل غير ما استعد
له واشتغل فيه، فيتقنه بعد إتقان غيره والبراعة فيه. أولئك الذين أعطوا من
المواهب العقلية ما أعدهم لإتقان كل عمل يشتغلون به، وقد كان حسن عاصم من
هذا الفريق النادر، فإنه كان في أخلاقه وجل معارفه وسابق عمله أبعد الناس عن
خدمة الأمراء، ولكنه على هذا عمل في خدمة الأمير ما عجز عن مثله كل من كان
في خدمته وخدمة أسلافه، كما عجز عن الزيادة عليه من جاء بعده.
كان رجال التشريفات من قبل رياسته لا عمل لهم في غالب أوقاتهم، فخلق
لهم من الأعمال ما استغرق عامة أوقاتهم في القصر، حتى إنه استخرج دفاتر
التشريفات القديمة من عهد محمد علي، وعرف ماضي ذلك وحاضره، ثم وضع
للتشريفات نظامًا ثابتًا حدد فيه أوقات المقابلات الرسمية وغير الرسمية، وكذلك
الدعوات وحفلة المرقص الخديوي، فقد كان كل ذلك محفوفًا بالفوضى والخلل.
ومن ذلك أنه اشترط فيمن يقابل الأمير شروطًا في الزي للموظفين وغير
الموظفين، قد تختلف باختلاف المقابلات واختلاف زي الأمير العسكري والملكي
فيها، ونفذ ذلك كله على الوطنيين والأجانب على سواء. وما كان يسهل عليه أن
يشذ عن نظامه ذاك أحد.
وأذكر من تنفيذه النظام على الأجانب من كبار المحتلين وغيرهم أن بعض
كبار الموظفين منهم جاء عابدين بلباس غير ما يجب في تلك المقابلة فنبهه إلى ذلك
فعاد إلى بيته وغير زيه.
وأعظم من ذلك أن مرقص الخديوي كان يحضره من أوشاب الإفرنج من
يعرف ومن لا يعرف. وسبب ذلك أن ديوان التشريفات كان يرسل إلى كل وكالة
سياسية للدول عدة أوراق، ليس عليها أسماء ليدعي بها وجهاء الأجانب، فكان
يأخذها من هم أهل ومن ليسوا بأهل لحضور مجالس الأمراء والملوك، فكان من
النظام الذي وضعه له حسن عاصم أنه لا يحضر المرقص أحد إلا من دعاه ديوان
التشريفات دعوة خاصة باسمه، وأنه لا يدعو من الأجانب إلا من كان معروفًا عند
الأمير، ولو بتقديمه إليه قبل المرقص بزمن قريب، كما أنه لا يدعو من الوطنيين
إلا من كانت صفته كيت وكيت ككونه من أصحاب الرتبة الثانية فما فوقها أو ما
يقابل ذلك. فساء هذا النظام وكلاء الدول وقناصلها فعهدوا إلى لورد كرومر وهو
أقدمهم أن يعترض على ذلك ويتلافاه، فكلم حسن باشا فيه فاحتج عليه هذا بتفضيل
النظام على الفوضى، وأطلعه على إعلان من شركة كوك التي تتولى نقل السياح
في مصر من مكان إلى آخر، وفيها أن سياحها يشاهدون كذا وكذا من الآثار
القديمة، ويحضرون المرقص (الباللو) الخديوي! فقال له اللورد: إنني أجل النظام
ولا يليق بي ولا بدولتي أن نعترض عليه، ونحن دعاته ولكنني أعلم أن السراي لا
يلتزم فيها نظام بل المستثنى فيها من القاعدة أكثر من المستثنى منه، فنحن لا
نرضى أن يكون النظام ساريًا علينا وهو غير مطرد. فقال له الفقيد: إنني أضمن
لجنابكم بأنني أنفذ هذا النظام ما دمت هنا بلا شذوذ قط، وعليّ تبعة ذلك إلا أن يأمر
رب المكان بشيء، فلا يمكن لخادمه أن يعارضه فيه. إذ يحتمل أن يقدم له شخص
في غير السراي فيدعوه هو مثلاً، فهل يمكن أن يسئل عن ذلك؟ فاقتنع اللورد بذلك
ولم يسعه إلا الرضا. سمعت هذا من الفقيد نفسه.
وقد مكث في منصب رئيس التشريفات بضع سنين، ثم رقاه الأمير فجعله
رئيس الديوان الخديوي، فكانت خدمته أجل وأوسع؛ إذ تعدت خدمة الأمير الخاصة
إلى خدمة الأوقاف العمومية. ولكن قلب الأمير تغير عليه ففصله بعد ثلاث سنين
من منصبه بالإحالة على المعاش. فكبر ذلك على الناس، وكثر حديثهم فيه وظهر
أثر ذلك في الجرائد، فكانت متفقة على الثناء على الفقيد، فرأينا أن نجعل ذلك
وسيلة للموعظة وسوق العبرة إلى المستعدين للاقتداء بعظماء الرجال وطلاب
الفضيلة والاستقلال، فكتبنا يومئذ في المنار نبذة في ذلك (راجع ص758م7) .
وقد أشار المؤيد إلى نحو ما نقلناه يومئذ عن اللواء مع زيادة؛ إذ قال عند بيان
سبب عزل الفقيد من رياسة الديوان الخديوي في ترجمته له ما نصه:
(وقد أمضى الفقيد نحو سبع سنوات رئيسًا للتشريفات الخديوية وثلاثًا رئيسًا
للديوان الخديوي مثالاً لأشرف موظف نزيه، يخلص العمل والخدمة لمولاه، ويؤدي
الوظيفة المنوطة به أشرف أداء. ثم فصل بعد ذلك لأمر حسب نفسه فيه مؤديًا
واجبًا كما ينبغي عليه، وحسبه الجناب الخديوي متعنتًا فيه. وزادت الريبة منه كلمة
قالها اللورد كرومر لأحد رؤساء الدواوين الخديوية ليبلغها للجناب العالي، إذ قال
اللورد: (إنني أهنئ الجانب الخديوي بوجود رجل مستقل قوي الإرادة نزيه مثل
حسن عاصم باشا في معيته) فخالج الجناب العالي ذلك الفكر الذي طاف قبلاً على
خاطر اللورد كرومر؛ لأن هذا اللورد كان قد اعتقد أن لشدة مراس الرجل في
وظائفه القضائية أثر ظاهر من آثار الانحياز إلى جانب المعية السنية، وهي التهمة
التي كانت تلقى على كرام الوطنيين للتنكيل بهم. ولذلك كان يحسب الفقيد من أشد
أعداء الوكالة البريطانية. فلما جاء الوقت الذي تجلت فيه صفات الفقيد كما هي شهد
تلك الشهادة العالية، فأولت التأويل الطبيعي الذي كان نتيجته شدة التنافر بين قصر
الدبارة وعابدين. ولذلك قال كثيرون من الناس: إن اللورد أراد بحسن عاصم باشا
سوءًا إذ شهد له هذه الشهادة، وهو يعلم ماذا يكون وقعها في نفس مولاه في تلك
الظروف) .اهـ ثم قال المؤيد: إنه لم يطل الأمر بعد ذلك حتى رضي عنه
الأمير.
ونحن نعلم أن اللورد قال كلمته في الفقيد عن إعجاب بمزاياه لا سيما بعد ما
تبين له أن الحق عنده يعلو على كل شيء، فلا يتحيز لغيره ولا يراعي فيه مولاه
الأمير فضلاً عمن دونه. وإن الذين قالوا: إنه أراد به سوءًا. يسيئون الظن بالأمير
إذ يعتقدون أن اللورد يقدر بكلمة واحدة أن يغيره على ما يشاء، وإن ثبتت استقامته
وكفاءته بحيث صار أشهر بهما من علم في رأسه نار، وأظهر من الشمس في رابعة
النهار، والأمير أذكى ذهنًا وأوسع فهمًا مما يعتقدون.
عمله في الجمعية الخيرية الإسلامية:
كان سبب تأسيس هذه الجمعية أن مشعوذًا ممثلاً أجنبيًّا، جاء مصر من نحو
ست عشرة سنة، فربح منها مالاً كثيرًا، فأراد أن يجعل ليلة من لياليه لفقراء
المسلمين، وبلغ محافظ العاصمة إبراهيم باشا رشدي ذلك فاجتمع بعض أهل الغيرة
والفضل وائتمروا بينهم في ذلك، فاتفقوا على أن يزينوا حديقة الأزبكية في تلك
الليلة، ويضيفوا إلى ألعاب المشعوذ فيها ضروبًا أخرى من اللهو المباح، ويحفظوا
المال ليجمعوا إليه غيره بالتبرع وغيره، ويجعلوا ذلك أصلاً لجمعية خيرية إسلامية،
وكاشفوا المحافظ بذلك فوافقهم عليه (وقيل إن زينة الحديقة كانت بعد) أولئك هم
الأخلاء الصادقون في خلة بعضهم لبعض وفي حب ملتهم وأمتهم، منهم فقيدنا اليوم
الذي نعتبر بسيرته، وفقيدنا بالأمس الأستاذ الإمام رحمهما الله، ومنهم سعد باشا
زغلول وحشمت باشا ودرويش بك السيد أحمد وإخوانهم من الأحياء أطال الله
أعمارهم، وقد وضع هو قانون هذه الجمعية بمشاركتهم على أساس من الحكمة متين
وكان أحكم أصوله وجوب إضافة نصف الدخل (الإيراد) السنوي إلى رأس المال؛
لأجل الاستغلال والنصف الآخر يكون للتعليم وإعانة الفقراء. والسبب في هذا
ضعف ثقتهم بأهل البلاد في كل ما يقوم بالتعاون والاجتماع لاسيما إذا كان لمحض
الخير، وكان حسن عاصم أضعفهم ثقة حتى إنه لم يكن يطلب من أحد معاونة ولا
تبرعًا إلا نادرًا، وكان جل خدمته للجمعية في الإدارة الداخلية لماليتها ومدارسها،
فكان ينظر بنفسه في الأمور الكلية والجزئية حتى ما كان من شأن الكتبة. قال لي
درويش بك أمين سر الجمعية: إنه ما كان يكلفني إلا ضبط الحسابات ثم هو يقوم
بسائر أعمالي. وأما الأستاذ الإمام فكان لا ينظر في الأمور الداخلية إلا إلى الكليات
ونحو امتحان من يرشحون للتعليم في المدارس من الجزئيات، وكذا أمور التنفيذ إذ
كان رئيسًا ولكنه كان يسعى في الخارج لتكثير مال الجمعية، ويدعو الأمراء
والوجهاء حتى كبراء الأجانب إلى التبرع لها أو الاشتراك فيها، وهو الذي دفع
الوشايات عنها ولولاه لما بقيت، فكانا رحمهما الله تعالى يكمل أحدهما ما يقصر فيه
الآخر.
وههنا نبين الحقيقة في مسألة ألمّ بها المؤيد، فلم يحسن التعبير ولا وافق
الصواب، وكانت عبارته وهو يقصد بها مدح عاصم باشا ذمًّا له بالاستبداد والشذوذ
عن الآداب، وهضمًا لحق رئيسه في الجمعية (الأستاذ الإمام) وكذا لسائر أعضاء
مجلس الإدارة؛ إذ جعل وجودهم في المجلس كعدمهم من حيث إنهم لم يكن لهم رأي
ينفذ إذا خالف رأي عاصم باشا. بل أقول: إن هذه العبارة تفيد سلب أقوى
مزايا عاصم باشا عنه وهي مزية التزام النظام واتباع القانون كأنه أمر إلهي. ولا
شك أن صاحب المؤيد لا يقصد هذا، ولكنها زلة قلم ولا عصمة إلا لكتاب الله تعالى.
أما عبارة المؤيد فهي:
(ولم يكن يسمح لأحد أن يتعدى على النظام الذي عمله لها، حتى استبد بجميع
شؤونها، وله في كل سنة وقفة أمام مجلس إدارة الجمعية الخيرية الإسلامية في
شيء ينتهي الأمر فيها إلى العمل برأيه، ومع ما كان من صداقته للمرحوم الشيخ
محمد عبده وخصوصًا حيث كان رئيسًا للجمعية الخيرية الإسلامية، قد أراد هذا أن
يتداخل سنة 1904 في أمر مدرسة المحلة الكبرى، فرأى الفقيد أن تداخله هذا قد
يشوش عليه عمله، ويجعل لأساتذة مدارس الجمعية وأهالي تلامذتها مندوحة إلى
مخاطبة غيره في أمرها فكتب إليه تلغرافًا وهو في المنصورة يقول له: (لا تضع
قدمك في المحلة الكبرى قبل أن تقابلني ولا أسمح لك بالتداخل في شئون مدرستها)
أو ما هو بمعناه - فجاء الأستاذ المرحوم إلى القاهرة وجرى بينهما كلام أدى إلى
اختلافهما في الرأي اختلافًا شديدًا، فأبى الفقيد إلا أن ينفذ رأيه أو يعتزل عمله كله
في الجمعية، وتم له ما أراد ولم يكن قصده إلا أن يستقيم أمر المدارس على ما
اعتقده أفيد لإدارتها) اهـ.
أما حقيقة المسألة التي أشار إليها المؤيد، فهي أن بعض المؤسسين لمدرسة
المحلة بما تبرعوا به من المال لهم أولاد تجاوزوا السن التي يشترطها قانون مدارس
الجمعية الخيرية في التلاميذ الذين يدخلونها. وهم ما بذلوا المال إلا رغبة في تعليم
أولادهم في بلدهم أولا وبالذات ثم المساعدة على تعليم الفقراء ثانيا وبالعرض فلما
عهدوا بإدارة المدرسة إلى الجمعية كما هو القصد الأول من تأسيسها أراد حسن باشا
أن لا يقبل أولئك الأولاد في المدرسة التي أسسها آباؤهم لأن اتباع النظام والتزام
القوانين عنده من الأمور الوجدانية التي لا يناقش فيها، كما عُلم ذلك مما كتبناه في
أخلاقه رحمه الله. وكان من رأي الأستاذ الإمام رضي الله عنه أن يقبل أولئك
الأولاد لأن رأيه في القوانين أنها وسائل لدفع المضار وحفظ المصالح وإقامة العدل
فمتى عرض من الحوادث ما يكون التزام القانون فيه مخلاًّ بالمصلحة أو منافيًا للعدل
وجب أن يعمل في الحادثة التي هذا شأنها بما يقوم به العدل وتتحقق به المصلحة
وهذا ما عناه حسن باشا عاصم نفسه بقوله في تأبينه أنه كان في القضاء ما يعبر عنه
الإفرنج (بقاضي العدل والإنصاف) وأقول والشيء بالشيء يذكر أنه كان قد وشي
به إذ كان قاضيًا للمستشار القضائي بأنه يخالف القانون عمدًا في بعض أحكامه، فسأله
المستشار عما قيل فأجابه: هل القانون وضع لأجل العدل أم العدل وضع لأجل
القانون؟ فقال: بل القانون وضع لأجل العدل. فبين له حينئذ القضايا التي لم يلتزم
فيها نص القانون وأنه لو التزمه لخرج عن العدل وترتب على ذلك من المفاسد كيت
وكيت. فشكر له المستشار ذلك.
وكان على هذا الاختلاف بين الصديقين في هذا الأصل أو المبدأ كما يقال قد
حدث أن الأستاذ أمر بشيء مخالف للقانون على سبيل الاستثناء لأجل المصلحة
العارضة فأنفذه حسن باشا ممتعضًا ثم قابل الأستاذ وقال له: إنني أنفذت أمرك الذي
كتبت إلي به لأن أمر الرئيس متى صدر بالفعل وجب تنفيذه كيفما كان وإلا فلا معنى
للنظام ولا للرئاسة، ولكنني أرجوك أن ترجي ما تراه من مثل هذا إلى أن نجتمع
ونتذاكر فيه. فلما عرضت مسألة مدرسة المحلة خاف حسن باشا أن يعد رئيس
الجمعية آباء أولئك الأولاد أو يكتب إليه أمرًا بقبولهم بطريق الاستثناء، وذلك صعب
عليه جدا ولا بد من تنفيذه متى أمضاه الرئيس. فكتب إليه يرجوه أن لا يبت شيئًا في
المسألة لا بالأمر ولا بالوعد بل يرجئ ذلك إلى الاجتماع. وكان الأمر كذلك فاجتمع
مجلس الإدارة وتناقشوا فيها وكان من رأي بعضهم تغيير ما فرضه قانون المدارس في
السن فعلم حسن باشا بذلك، فتشدد رحمه الله تعالى في المحافظة على القانون وعدم
قبولهم وكتب إلى الأستاذ الإمام كتابًا يستقيل به من إدارة المدارس إن تغيرت مادة
تحديد السن في القانون. وبعد طول المناقشة تقرر بأغلب الآراء تنفيذ رأي الرئيس
وهو الأستاذ الإمام بقبول أولئك الأولاد بطريق الاستثناء وإرضاء الوكيل ومدير
المدارس بوعد المجلس له بأن يكون هذا الاستثناء قاصرًا على هؤلاء الأولاد لا
يتعداهم إلى غيرهم ولا يطلب إدخال غيرهم باستثناء آخر.
في ذلك اليوم الذي قرر فيه مجلس إدارة الجمعية ما ذكر ذهبت إلى مكتب
الجمعية لمقابلة الأستاذ الإمام عند خروجه فرأيته خارجا مع بعض أعضاء المجلس
وعلمت ما تقرر. ولما كتب المؤيد في ترجمة حسن باشا ما كتب كدت أشك فيما
أعلم فراجعت درويش بك سيد أحمد أمين الجمعية (سكرتيرها) منذ وُجدتْ فقلت له:
هل رأيت ما كتب المؤيد في ترجمة المرحوم حسن باشا؟ قال: نعم. قلت له: إن
الذي علمته أنا يومئذ مخالف لما في المؤيد - وذكرته له - فأينا الغالط؟ فقال: إن
الغلط هو ما جاء في المؤيد وما تذكره أنت هو الذي وقع.
وعجبت مما قال المؤيد أن حسن باشا كتب إلى المرحوم الشيخ (لا تضع
رجلك في المحلة) إلخ وحسن باشا أعلى أدبا من أن يكتب ذلك لمن دون الشيخ في
مكانته الذاتية وفي صداقته له، فلا أدري من أين جاء المؤيد هذا.
وجملة القول: إن حسن باشا رحمه الله تعالى كان شديدا في المحافظة على
النظام والقوانين كما كتبنا من قبل، ولكن لم يكن مستبدا في الجمعية الخيرية ولا في
غيرها وكيف يكون متبع النظام مستبدا؟ وإن أعضاء مجلس إدارة الجمعية كلهم من
أهل الاستقلال فما كانوا يتبعون له رأيا، وإنما يقول كل واحد ما يظهر له أنه
الصواب وكان كل شئ يختلفون فيه يقرر بأكثر الآراء إن لم يتفقوا، كما هو نص
القانون.
أقول: سمعت حسن باشا رحمه الله تعالى يقول بعد ما بلغه أمر الأمير بعزله:
الحمد لله أنني الآن صرت قادرا على أن أعطي الجمعية الخيرية حقها من الخدمة
فإن السراي كانت آخذة معظم وقتي.
وقد عين بعد ذلك وكيلا لدائرة القصر العالي وكانت مختلة معتلة مسلوبة منهوبة
فأدارها بدقة ونظام يعجز عنهما سواه ممن قضوا أعمارهم في إدارة الأعمال
الزراعية والإدارية والمالية. وعين مع ذلك مأمورا لتركة الأمير محمد إبراهيم وهي
تضاهي دائرة القصر العالي ثروة وأعمالا ومشاكل فضبطها أحسن ضبط. ولما
تأسست الشركة الإنكليزية المصرية للاتجار بالأراضي الزراعية كان - وهو من
مؤسسيها - وكيل أعمالها وأدهش الإفرنج بأعماله فيها على كثرة أعماله في القصر
العالي وفي تركة لأمير محمد إبراهيم وفي الجمعية الخيرية ومدارسها. ثم عين مع
ذلك عضوا في اللجنة الإدارية لمدرسة القضاء الشرعي، فكان لها من خدمته العظيمة
الحظ العظيم. وقد أشرنا في الكلام عن إخلائه إلي بعض عمله في جمعية إحياء
العلوم العربية التي كان وكيل رئيسها، بل لم يكن لها بعد الأستاذ الإمام رئيس سواه.
كان يعمل هذه الأعمال كلها مع منتهى الدقة والإتقان، فيالله ولهمم الرجال.
وههنا أقول أني كنت أنتقد عليه كثرة العمل وأخاف أن ينهكه فيقتله، وأنى
لجسمه النحيف أن يحتمله، وقد كان ما خفت أن يكون، فإنا لله وإنا أليه راجعون،
أصابه منذ أشهر ضعف في المعدة ترك لأجله أكل اللحوم كلها حاشا السمك وقد كان
صام رمضان الماضي كله على الوجبة إذ لم يكن يتسحر، فكلمته في ذلك غير مرة
فقال لي: إنني جربت مرة فأكلت في السحور شيئًا من الكنافة والفاكهة فثقل علي
وأصابني منه غثيان في النهار. وكنت أراه أحيانا بعد العصر من رمضان وقد
ضعفت قوته وخفت صوته، حتى لو استفتاني في الفطر لأ فتيته، ولكن الله تعالى
أحب أن يكون ذلك خاتمة عمله. فرحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأحسن عزاءنا
عنه، ونفعنا بسيرته الحميدة بمنه وكرمه.
__________(10/781)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رزيئة مصر بحسن باشا عبد الرازق
حق لمصر اليوم أن تتمثل بقول الشاعر:
رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام ... تكسرت النصال على النصال
يحق لمصر ذلك وقد رزئت بفقد الرجل العظيم حسن باشا عبد الرازق، ولم
يمض على فقدها لصديقه الكريم حسن باشا عاصم إلا شهر ونصف، وعلى فقدها
لصديقهما الأستاذ الإمام إلا سنتان وأشهر.
أولئك هم الرجال العاقلون العالمون العاملون المخلصون في مصالح ومواطن
لا خلف لهم فيها تتعزى البلاد بأداء ما كانوا يؤدون كما كانوا يؤدون. ولا نكفر
نعمة الله على البلاد بمن بقي من أصدقائهم العاملين الصادقين الذي نجيل أبصارنا
فلا نرى للواحد منهم كفؤًا ولا ندًّا يضارعه في عمله أو يفي غناءه فيه، بل يجب أن
نشكر له تعالى هذه النعمة، مع الصبر على ما أصابنا من المصيبة، عسى أن
يبارك لنا في أعمارهم، وينفعنا بأعمالهم، فإن الصبر مجلبة الرحمة، والشكر
مدعاة المزيد، ولكن (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) كما ورد في الحديث
الشريف.
ليس المنار شاعرًا يرثي ولا خطيبًا يؤبن، ولا مؤرخًا يدون، وإنما هو واعظ
ومذكر، يستخرج العبر من حيث يجدها ويسوقها إلى من غفل عنها أو جهلها، ولا
عبرة أنفع بعد هداية الله من التذكير بفضل العاملين الغابرين، على الوجه الذي يزيد
الناس معرفة بفضل العاملين الحاضرين، وينهض بهمم المستعدين للتأسي بأولئك
ونصر هؤلاء.
إنما كان حسن باشا عبد الرازق رجلاً - والرجال قليل - باستعداده الفطري
ونشأته الدينية. فأما الاستعداد فهو الأصل في نبوغ كل رجل في الشرق حتى اليوم
إلا ما عساه يكون في اليابان من حسن التعليم والتربية النظامية التي تنهض
بضعيف الاستعداد حتى يبذ من هو أعلى منه استعدادا إذا لم يصادف هذا من يربيه كتربيته.
نشأ من فقدنا اليوم نشأة دينية حتى أن الحكام المستبدين عجزوا عن حمله على
السكر ونحوه وهو في ريعان شبابه وغضاضة إهابة، وقد كان مرة مع إسماعيل باشا
المفتش وأعوانه فأرادوه على الشرب معهم فتمنع، فألحوا فاستعصم، فأعطوه كأسا
من الجعة (البيرة) باسم (أفندينا إسماعيل باشا) وحلفوا عليه به ليشربن، فأصر
على التمنع فاستكبروا ذلك منه وطفقوا يرجعون إليه القول ويسر إليه بعضهم ما يراه
وراء هذا التمنع من عاقبة إهانة الاسم الكريم (اسم الخديوي) فسنحت له حيلة
للتخلص، فأخذ الكأس فأدناها من شفتيه فألقاها متقززا مكفهرا وهو يتفل ويقول:
قطعت البيرة وشاربوها! ! كيف تشربون هذا الشيء المر البشع الطعم وكيف
تطيقونه؟ فقابلوا ذلك بالضحك والسرور، ولم يعودوا إلى عرضه عليه.
مثل هذه الواقعة يعدها بعض النابتة المتفرنجة خشونة وحشية (وقلة ذوق
أيضا) ولكن من أوتي نصيبا من الحكمة يعدها آية النبوغ الكبرى، لا لأن شرب
كأس الجعة يهدم الدين فحفظ الرجل دينه بالامتناع عنه، بل بدلالتها على قوة الإرادة
وعدم المبالاة بلوم اللائمين في العمل بما يعتقد وإن كانوا كبارا. فهذه هي دعامة
الفضائل وأصل الكمالات التي يكون بها الرجال رجالا. ولولا هذه المزية لما كان
حسن باشا عبد الرازق ذلك الرجل الذي أحسن القول فيه أصحاب الجرائد التي
تناهض حزبه السياسي الوطني وعدوه من أفراد الأمة العاملين الذي يقل نظيرهم،
وما يقولونه هم وغيرهم من العارفين بأقدار الرجال بألسنتهم أبلغ مما كتب وأكبر.
بموت هذا الرجل تكررت العبر التي ترشد الأمة والنابتة الجديدة منها خاصة
إلى أن الشرف الحقيقي والمجد الصحيح لا يكونان للإنسان إلا بأخلاقه وصفاته
النفسية، لا بماله ونَشَبه، ولا بعشيرته ونسبه، ولا بأوسمته ورتبه، فقد مات في هذه
السنين الثلاث الأخيرة غير واحد من أكابر الأمراء والعلماء والأغنياء، ولم تكتب
الجرائد في أحد منهم ولا قال الناس فيهم مثل ما كتب وقيل في تأبين الأستاذ الإمام ثم
صديقه حسن باشا عاصم ثم صديقهما حسن باشا عبد الرازق. على أنه كان لكل واحد
من هؤلاء حالة سياسية تقضي باحتراس بعض الجرائد وعدم إرخائها العنان للقلم في
تأبينهم مرضاة أو مراعاة لمن هم في جانب عنهم. فوصف كل واحد منهم بما وصفته
تلك الجرائد به لا يمكن أن يعد من قبيل المبالغة، بل كلنا نعلم أن ما علم من فضلهم
أكثر مما قيل ومما كتب.
خدم حسن باشا عبد الرازق أمته في حسن سيرته في قومه وفي مجلس الشورى
وفي تربية أولاده النجباء. وسنبين ذلك في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(10/793)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أقوال الجرائد اليومية في الاحتفال بالمنار
علمنا أن بعض قراء المجلة في غير هذا القطر يحبون أن ننشر في المنار
أقوال الجرائد المصرية في الاحتفال بالمنار، فرأينا أن نوافي المحب ولو ببعض ما
يحب. وقد كتبت الجرائد الشهيرة شيئًا في ذلك قبل الاحتفال وبعده ولكننا لم نحفظه
بل لم نطلع على كل ما كتب.
فمما كتب قبل الاحتفال ما جاء في العدد 221 من (الجريدة) الصادر في 21
شوال:
عيد المنار
تهنئ (الجريدة) هذه المجلة العلمية التي كم لها من موقف مشهور في الدفاع
عن الحقائق العلمية والمذاهب المتينة في أبواب الشرع الشريف. وكم لها من
التنبيه الرشيد على وجوب التمسك بالآداب العالية ونبذ التقاليد التي ما أنزل الله
بها من سلطان.
نهنئ العلم وفن الكتابة في شخص مجلة المنار التي فتح الله عليها بالثبات
النادر لأمثالها في الشرق فإنها ستتم بعد الغد السنة العاشرة من عمرها. وندعوا لها
بطول البقاء قائمة على خدمتها الإرشادية حاملة على الدخائل التي ظن القوم أنها من
الدين وليست منه في شئ. ولا شك في أن من يقف مثل هذا الموقف غير المألوف
عند العوام كما وقف السيد محمد رشيد رضا نفسه على خدمة الحق من غير مبالاة
يصادف مصاعب - لولا الثبات - تذهب بعزيمة القائم بها. فمن يعلم مقدار هذه
الصعوبات كما نعلم لا يتردد في أن يزف التهنئة للمنار بمناسبة هذا العيد.
ولقد كان زميلنا الأستاذ إسماعيل بك عاصم أول الشاعرين بهذا الواجب فإنه قد
نوى الاحتفال بهذا العيد، إذ دعا إلى منزله أصحاب المجلات العلمية وكتابها في مساء
الخميس 22 شوال سنة 1325 الموافق 28 نوفمبر عام1907 فنسأل للمنار أن
يحييه الله أعواما كثيرة ونشكر ثبات منشئه على الحق وفضل المحتفل على حسن
اعتداده بإقامة منارات العلم والعرفان.
ثم كتب في (الجريدة) بعد الاحتفال ما يأتي (نقلا عن العدد الصادر في 26
شوال) :
الاحتفال بمجلة المنار
للعقلاء كلمة واحدة على أن الديانات مُصلحة للنفوس وناحية بها مناحي الخير،
وكذلك اتفقوا على أن الديانات الثلاث المعروفات في ديارنا هذه لا تضاد بينها في
الحقيقة ونفس الأمر، وإنما يوجد في كل متأخرة منها عن أختها بعض زيادات
اقتضاها تدرج الإنسان أو بعض تفاسير لما غمض من نصوص ما قبلها.
لا خلاف في هذا بين أولي الألباب من أصحاب هذه الديانات على تخالف
رسومها الظاهرة وتقاليدها في تلقين العقائد التسليمية، كما لا خلاف بينهم في أن
التقاليد التي هي في كل دين بعيدة عن أصله وغريبة عن طبعه هي مضرة بأهله
وأن مقاومتها وإزهاق روحها يُعد إصلاحا كبيرا في الأمم يستحق القائمون به أعظم
شكر وأجزل مكافأة أدبية.
ولدينا الآن مثال جديد على ما قدمنا، فإن حضرة الأصولي الفاضل إسماعيل بك
عاصم خطر في باله خاطر شريف وهو أن يقوم بخدمة جليلة للإصلاح بتكريم أهله
ووجد من المناسب لهذا أن يقيم احتفالاً لمجلة المنار الإصلاحية بإتمامها عقدًا من
العمر (عشر سنين) فدعا لمنزله حضرات أصحاب المجلات العلمية ومحرريها
مساء يوم الخميس فلبوا دعوته وانتظم في منزله عقدهم، فيهم المسلمون والمسيحيون
والموسويون. وقدم لهم مائدة فاخرة، وبعد الطعام قام فألقى خطبة بليغة حتى إذا أتمها
قام حضرة العالم الفاضل منشئ المنار فأجابه بكلمات في منتهى البلاغة فزاد رفعته
في أعين الحاضرين ذلك التواضع الذي اشتملت عليه هذه الكلمات. وتلاه حضرة
الدكتور يعقوب أفندي صروف منشئ المقتطف فذكر في خطبته مثل ما قدمناه من
فوائد الديانات إذا أُحسن تفسيرها والقيام بها حق القيام، ونوّه كثيرا بفضل منشئ
المنار وحسن خدمته الإنسانية بخدمته الدينية.
ثم خطب الأديب توفيق أفندي عزوز صاحب المفتاح فأجاد ثم الأديب سيد
أفندي محمد صاحب المجلة المدرسية وذكر في خطبته ما لاقاه السيد رشيد من
الصعوبات في نصرة الحق وقال: إن مخالفي المنار قد انتفعوا به. وانتهت هذه
الحفلة بإجماع الحاضرين وهم نحو عشرين فاضلا على أن ما قام به حضرة
إسماعيل بك من تكريم العلم على هذه الصورة يستحق أعظم شكران، فخرجوا وهم
بلسان واحد يلهجون بالثناء ويتحدثون باهتمامه بالعلم والعلماء.
ونحن نشارك بشكر حضرة الفاضل إسماعيل بك ونتمنى أن تسري وتعم هذه
الروح الشريفة، روح تكريم العلم بتكريم رجاله، ونرجو أن يكون عمل حضرته
فاتحة جميلة لأمثاله.
جاء في عدد الأهرام الذي صدر في غد يوم الاحتفال ما نصه:
حفلة أدبية
أقام أمس في داره العامرة حضرة الكاتب الفاضل والمحامي المشهور إسماعيل
بك عاصم مأدبة شائقة؛ إكرامًا لحضرة العالم العامل السيد رشيد رضا واحتفالاً بمرور
عشر سنوات كاملة على مجلته المشهورة (المنار) وقد دعا إلى الحفلة أصحاب
المجلات المصرية ومحرريها، وألقى عليهم خطبة نفيسة ذكر فيها مآثر السيد رشيد
في مباحث مجلته الزهراء التي هي أكبر أمثلة الاجتهاد المنافي للتقليد الجامد في
الدينيات والدنيويات، وتطرق من ذلك إلى ذكر خصال المومى إليها لكريمة من فضل
وفضيلة وآداب وبُعد نظر وإلى معاشرته إياه مدة ثماني سنوات متوالية. وبيَّن
ضرورة احتفاء الأمة بأصحاب المجلات الراقية بها ووجوب تنشيطها لهم وما
يطالبون به ويرجون له إزاء ذلك من كشف الحقائق وتأييدها الإصلاح الوطني
والاجتماعي وجاء في أواخر الخطبة قوله:
(ومن أبدع ما رأيناه أن سعادة العالم الفاضل أحمد فتحي باشا زغلول استشهد
في مقدمة ترجمته لكتاب (الإسلام) المطبوع في سنة 1315 في الصحيفة
السابعة بشذرات من فاتحة أول عدد من المنار فهي حينئذ قد شبت في مهدها وحازت
الثقة عند أكابر الأمة منذ نشأتها.
ونحن نثني على حضرة الداعي والمدعو ونسأل الله أن يكثر من هذه الأريحية
في صدور وجهائنا وفضلائنا.
وجاء في جريدة الظاهر ما نصه:
أرسل إلينا حضرة عزتلو الأصولي البارع إسماعيل بك عاصم المحامي
الشهير خطبته التي ألقاها في الحفلة التي أعدها أخيرا في داره للعلماء والكتاب
أصحاب المجلات المصرية ومحرريها بإتمام مجلة المنار للسنة العاشرة من عمرها.
وقد افتتحها حضرته بمقدمة أمل فيها أن تكون الحفلة فاتحة لأمثالها في المستقبل، ثم
استطرد منها إلى ذكر مجلة المنار وخدمتها العلمية والدينية وأخلاق صاحبها وعلمه
وأدبه مبينا أن تقدير العاملين تنفع الأمة - وخدمتها وتشجعهم على أعمالهم حسًّا ومعنًى
مما يزيد في رقي البلاد وتقدمها. وختمها بالشكر على الذين أجابوا الدعوة وحضروا
الحفلة، فنشكره أجل شكر على حسن صنيعه هذا ونرجو أن يقتدي به أدباء الأمة
وأفاضلها لتكون الفائدة أعم والنفع أتم.
وجاء في المؤيد الذي صدر في 25 شوال ما يأتي:
احتفل حضرة القانوني الفاضل عزتلو إسماعيل بك عاصم المحامي ليلة الجمعة
في داره بالعباسية بدخول مجلة المنار في سنتها العاشرة احتفالا شائقا دعا إليه أرباب
المجلات المصرية. وبعد الطعام خطبهم حضرة المحتفل في فضل المجلات،
واستطرد إلى ذكر المجلة المحتفل بها وعدَّد فضل صاحبها. فأجابه حضرة
صاحب المنار بعبارات الشكر وأثنى على رصفائه الحاضرين أطيب الثناء، ثم قام
بعض أرباب المجلات وخطبوا أيضا بما يناسب. وقبيل منتصف الليل انصرف
المدعوون داعين لصاحب المنار ومجلته ومثنين على مروءة صاحب الدعوة ووفائه
ومتواعدين أن يجتمعوا في خلال هذا الشتاء اجتماعات أخرى للبحث فيما ينفع البلاد
ويرقي شأن العلم فيها.
وجاء في جريدة مصر في غد يوم الاحتفال ما نصه:
الاحتفال الأدبي الكبير
دعا حضرة الأصولي الفاضل عزتلو إسماعيل بك عاصم المحامي الشهير
مساء أمس إلى حفلة أدبية أقامها في منزله بالعباسية لحضرات أصحاب المجلات
العلمية الأدبية لمناسبة دخول مجلة المنار في سنتها العاشرة وتمهيدًا لموالاة هذه
الاجتماعات الأدبية لتكون واسطة في زيادة التآلف والتعارف بين جماعة المشتغلين
بالصحافة. فلبي دعوته جميع أصحاب هذه المجلات إلا واحدًا أو اثنين اعتذرا عن
عدم الحضور لأسباب قسرية، فكان عدد الحاضرين منهم لا يقل عن العشرين وكلهم
من كبار رجال الصحافة المشهورين، وهم أصحاب المقتطف والهلال والمفتاح
والمنار والمقتبس ومجلة سركيس والهدى وحكمت ومرآة العلوم ومجلة الاجتهاد
التركية.
ولما انتظم عقد اجتماعهم أخذوا يتبادلون عبارات التحية والمودة ويتباحثون في
ما يرقي شأن مهنتهم ويعلي مكانتها، ثم دعاهم حضرة المحتفل الفاضل إلى قاعة
الطعام التي كانت في أبهى زخرفها وزينتها، حيث اجتمعوا حول مائدة فاخرة على
الطراز الأوربي، فتناولوا ما لذ وطاب. ثم انبرى الخطباء منهم وهم
حضرات إسماعيل بك عاصم والدكتور يعقوب صروف وفارس نمر صاحبا المقتطف
وتوفيق أفندي عزوز صاحب مجلة المفتاح والسيد أفندي محمد صاحب مجلة الهدى
والمجلة المدرسية فتكلموا بما يناسب المقام، فهنأوا المحتفل به على تقدم مجلته
وارتقائها وأثنوا على حضرة إسماعيل بك عاصم الذي كان واسطة عقد هذا الاجتماع
وتمنوا جميعا أن تكثر بينهم مثل هذه الاجتماعات الأدبية المفيدة. ثم نهض حضرة
الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة المنار فأثنى على المحتفلين به جميعا وأظهر لهم
خجله من احتفائهم به وإكرامهم له عن غير جدارة واستحقاق بعبارات كلها في منتهى
البلاغة وحسن التعبير. ومن ثم انصرف الجميع وكلهم ألسنة تلهج بالشكر والثناء
على صاحب هذه الحفلة بعد أن قرروا إعادة مثل هذا الاحتفال الصحافي مرة في كل
شهر لما ينجم عن ذلك من الفائدة والنفع.
وجاء في المقطم الذي صدر في غد يوم الاحتفال ما نصه:
أولَمَ حضرة الخطيب الشهير والأصولي الفاضل إسماعيل بك عاصم مساء
أمس وليمة فاخرة في منزله بالعباسية لحضرات أصحاب المجلات العلمية والأدبية في
هذه العاصمة - احتفالاً بدخول مجلة المنار الغراء في سنتها العاشرة ومد لهم مائدة
مزدانة بالأثمار من دمشق الشام وحلب وبيروت ولبنان وأدار الندل - هو
بضمتين خادم الدعوة - عليها ما لذ وطاب من الطعام المتعدد الألوان , ولما انتهى
المدعوون من العشاء وقف سعادة الفاضل صاحب الدعوة وسط جمع كله من رجال
العلم وأرباب القلم، وخطب عليهم خطبةً غراء رنانةً نشرناها برمتها في هذا العدد
ليطلع القراء الكرام عليها , ثم وقف حضرة العالم الفاضل السيد رشيد رضا
المحتفل به ورد على تلك الخطبة ردا كله اتضاع واحتشام بكلام قل ودل ووقع في
النفس وقعا حسنا، وتلاه آخرون من المدعوين فخطبوا في مدح المحتفل والمحتفل به
وأظهروا فوائد مجلة المنار وشهدوا بالفضل لصاحبها المفضال.
ثم اتفق المدعوون على أن يجتمعوا للأنس والسمر وتوثيق عرى المودة
والصداقة مرارا في هذا الشتاء ويبحثوا في غضون ذلك عن أحسن الطرق التي
تتجه مساعيهم فيها لخير الجمهور ونفع أهل القطر.
وجاء في جريدة المنبر الصادرة في 27 شوال ما نصه:
فاتنا أن نشير إلى الاجتماع الأدبي الذي عقده في منزله مساء الخميس الماضي
حضرة صاحب العزة إسماعيل بك عاصم المحامي الشهير، احتفالا بإتمام مجلة المنار
الغراء للسنة العاشرة من سني حياتها. لقد كان جامعا لنخبة أهل الفضل من أصحاب
المجلات المصرية ومحرريها، حافلا بالشائق والمعجب من الآراء والأفكار وقد
استهل الاحتفال حضرة صاحب الدعوة بخطبة في إطراء حضرة المحتفل وفي شؤون
أخر،ثم خطب على إثره بعض المدعوين في تكريم حضرة الأستاذ النافع صاحب
المنار وتأثير المجلات العلمية في ترقية الأفكار والآراء. فنحن نثني على حضرة
المحتفل ونتمنى للمنار ولسائر المجلات النافعة الحياة والثبات.
__________(10/795)
ذو القعدة - 1325هـ
يناير - 1908م(10/)
الكاتب: جمال الدين الأفغاني
__________
كتابان سياسيان لحكيم الإسلام
السيد جمال الدين الأفغاني [*]
الأول أرسله من البصرة إلى رئيس المجتهدين في السامرة (سر من رأى)
وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
حقًّا أقول: إن هذا الكتاب خطاب إلى روح الشريعة المحمدية أينما وجدت،
وحيثما حلت، وضراعة تعرضها الأمة على نفوس زاكية تحققت
بها، وقامت بواجب شؤونها كيفما نشأت، وفي أي قطر نبغت، ألا وهم العلماء
فأحببت عرضه على الكل وإن كان عنوانه خاصًّا.
حبر الأمة، وبارقة أنوار الأئمة، دعامة عرش الدين، واللسان الناطق عن
الشرع المبين، جناب الحاج الميرزا محمد حسن الشيرازي صان الله به حوزة
الإسلام ورد كيد الزنادقة اللئام.
لقد خصك الله بالنيابة العظمى عن الحجة الكبرى واختارك من العصابة الحقة
وجعل بيدك أزمة سياسة الأمة بالشريعة الغراء وحراسة حقوقها بها وصيانة قلوبها
عن الزيع والارتياب فيها، وأحال إليك من بين الأنام (وأنت وارث الأنبياء) مهام
أمور تسعد بها الملة في دارها الدنيا وتحظى بالعقبى، ووضع لك أريكة الرئاسة
العامة على الأفئدة والنُّهى إقامة لدعامة العدل وإثارة لمحجة الهدى، وكتب عليك بما
أولاك من السيادة على خلقه حفظ الحوزة والذود عنها والشهادة دونها على سنن من
مضى.
وإن الأمة قاصيها ودانيها وحضرها وباديها ووضيعها وعاليها قد أذعنت لك
بهذه الرئاسة السامية الربانية جاثية على الركب خارة على الأذقان، تطمح نفوسها
إليك في كل حادثة تعروها، تطل بصائرها عليك في كل مصيبة تمسها، وهي
ترى أن خيرها وسعدها منك وأن فوزها ونجاتها بك وأن أمنها وأمانيها فيك.
فإذا لمح منك غض طرف، أو نيت [1] بجانبك لحظة، وأمهلتها وشأنها لمحة
ارتجفت أفئدتها، واختلت مشاعرها، وانتكثت عقائدها، وانهدمت دعائم إيمانها،
نعم لا برهان للعامة فيما دانوا إلا استقامة الخاصة فيما أمروا، فإن وهن هؤلاء في
فريضة، أو قعد بهم الضعف عن إماطة منكر لاعتور أولئك الظنون والأوهام،
ونكص كل على عقبية مارقًا من الدين القويم، حائدًا عن الصراط المستقيم.
وبعد هذا وذاك وذلك أقول: إن الأمة الإيرانية بما دهمها من عراقيل
الحوادث التي آذنت باستيلاء الضلال على بيت الدين، وتطاول الأجانب على
حقوق المسلمين، ووجوم الحجة الحق (إياك أعني) عن القيام بنصرها وهو
حامل الأمانة، والمسؤول عنها يوم القيامة - قد طارت نفوسها شعاعا وطاشت
عقولها، وتاهت أفكارها ووقفت موقف الحيرة (وهي بين إنكار وإذعان وجحود
وإيقان) لا تهتدي سبيلا. وهامت في بيداء الهواجس في عتمة الوساوس، ضالة
عن رشدها لا تجد إليه دليلا، وأخذ القنوط بمجامع قلوبها، وسد دونها أبواب
رجائها، وكادت أن تختار - إياسا منها - الضلالة على الهدى، وتعرض عن
محجة الحق وتتبع الهوى، وإن آحاد الأمة لا يزالون يتساءلون - شاخصة
أبصارهم - عن أسباب قضت على حجة الإسلام (إياك أعني) بالسبات والسكوت،
وحتم عليه أن يطوي الكشح عن إقامة الدين على أساطينه، واضطره إلى ترك
الشريعة وأهلها، إلى أيدي زنادقة يلعبون بها كيفما يريدون، ويحكمون فيها بما
يشاؤون، حتى إن جماعة من الضعفاء زعموا أن قد كذبوا وظنوا في الحجة ظن
السوء، وحسبوا الأمر أحبولة الحاذق وأسطورة الملق؛ وذلك لأنها ترى (وهو
الواقع) أن لك الكلمة الجامعة، والحجة الساطعة، وأن أمرك في الكل نافذ، وليس
لحكمك في الأمة منابذ، وأنك لو أردت تجمع آحاد الأمة بكلمة منك (وهي كلمة
تنبثق من كيان الحق إلى صدور أهله) فترهب بها عدو الله وعدوهم، وتكف
عنهم شر الزنادقة، وتزيح ما حاق بهم من العنت والشقاء، وتنشلهم من ضنك العيش
إلى ما هو أرغد وأهنى، فيصير الدين بأهله منيعًا حريزًا، والإسلام بحجته رفيع
المقام عزيزًا.
هذا هو الحق، أنك رأس العصابة الحقة [2] ، وأنك الروح الساري في آحاد
الأمة فلا يقوم لهم قائمة إلا بك، ولا تجتمع كلمتهم إلا عليك، لو قمت بالحق
نهضوا جميعًا ولهم الكلمة العليا، ولو قعدت تثبطوا وصارت كلمتهم هي السفلى،
ولربما كان هذا السير بالدوران حينما غض حبر الأمة طرفه عن شؤونهم، وتركهم
هملاً بلا راع، وهمجًا بلا رادع ولا داع يقيم لهم عذرًا فيما ارتابوا. خصوصًا لما
رأوا أن حجة الإسلام قد وَنَي فيما أطبقت الأمة خاصتها وعامتها على وجوبه،
وأجمعت على حظر الاتقاء فيه [3] خشية لغوبه، ألا وهو حفظ حوزة الإسلام الذي
به بعد الصيت وحسن الذكر والشرف الدائم والسعادة التامة. ومن يكون أليق بهذه
وأحرى بها ممن اصطفاه الله في القرن الرابع عشر، وجعله برهانًا لدينه وحجة
على البشر.
أيها الحبر الأعظم، إن الملك قد وهنت مريرته فساءت سيرته، وضعفت
مشاعره فقبحت سريرته، وعجز عن سياسة البلاد، وإدارة مصالح العباد، فجعل
زمام الأمور كليها وجزئيها بيد زنديق أثيم غشوم ثم بعد ذلك زنيم ... يسب الأنبياء
في المحاضر جهرًا ولا يذعن لشريعة الله أمرًا، ولا يرى لرؤساء الدين وقرًا،
يشتم العلماء، ويقذف الأتقياء، ويهين السادة الكرام، ويعامل الوعاظ معاملة اللئام،
وإنه بعد رجوعه من البلاد الإفرنجية قد خلع العذار، وتجاهر بشرب العقار،
وموالاة الكفار، ومعاداة الأبرار. هذه هي أفعاله الخاصة في نفسه، ثم إنه باع
الجزء الأعظم من البلاد الإيرانية ومنافعها لأعداء الدين: المعادن، والسبل
الموصلة إليها، والطرق الجامعة بينها وبين تخوم البلاد، والخانات التي تبنى على
جوانب تلك المسالك الشائعة التي تتشعب إلى جميع أرجاء المملكة وما يحيط بها من
البساتين والحقول. نهر الكارون والفنادق التي تنشأ على ضفتيه إلى المنبع وما
يستتبعها من الجنائن والمروج ... والجادة من الأهواز إلى طهران، وما على
أطرافها من العمارات والفنادق والبساتين والحقول. والتنباك وما يتبعه من المراكز
ومحلات الحرث وبيوت المستحفظين والحاملين والبائعين أنى وجد وحيث نبت،
وحكر العنب للخمور وما تستلزمه من الحوانيت، والمعامل والمصانع في جميع
أقطار البلاد، والصابون والشمع والسكر ولوازمها من المعامل والبنك، وما أدراك
ما البنك؟ هو إعطاء زمام الأهالي كلية بيد عدو الإسلام واسترقاقه لهم واستملاكه
إياهم وتسليمهم له بالرئاسة والسلطان.
ثم إن الخائن البليد أراد أن يرضي العامة بواهي برهانه فحبق قائلاً: إن هذه
معاهدات زمانية، ومقاولات وقتية، لا تطول مدتها أزيد من مائة سنة! ! يا لله من
هذا البرهان الذي سوله خرق الخائنين، وعرض الجزء الباقي على الدولة الروسية
حقًّا لسكوتها (لو سكتت) مرداب رشت وأنهر الطبرستان والجادة من أنزلى إلى
الخراسان وما يتعلق بها من الدور والفنادق والحقول. ولكن الدولة الروسية شمخت
بأنفها وأعرضت عن قبول تلك الهدية، وهي عازمة على استملاك الخراسان
والاستيلاء على الأذربيجان والمازندران إن لم تنحل هذه المعاهدات ولم تنفسخ هذه
المقاولات القاضية على تسليم المملكة تمامًا بيد ذاك العدو الألد، هذه هي النتيجة
الأولى لسياسة هذا الأخرق.
وبالجملة: إن هذا المجرم قد عرض أقطاع البلاد الإيرانية على الدولة ببيع
المزاد، وإنه ببيع ممالك الإسلام ودور محمد وآله عليهم الصلاة والسلام للأجانب،
ولكنه لخسة طبعه ودناءة فطرته لا يبيعها إلا بقيمة زهيدة ودراهم معدودة (نعم
هكذا يكون إذا امتزجت اللئامة والشره بالخيانة والسفه) .
وإنك أيها الحجة إن لم تقم بنصر هذه الأمة ولم تجمع كلمتها ولم تنزعها بقوة
الشرع من يد هذا الأثيم، لأصبحت حوزة الإسلام تحت سلطة الأجانب (يحكمون فيها
بما يشاؤون ويفعلون ما يريدون) وإذا فاتتك هذه الفرصة أيها الحبر ووقع الأمر
وأنت حي لما أبقيت ذكرًا جميلاً بعدك في صحيفة العالم وأوراق التواريخ. وأنت تعلم
أن علماء الإيران كافة والعامة بأجمعهم ينتظرون منك (وقد حرجت صدورهم
وضاقت قلوبهم) كلمة واحدة يرون سعادتهم بها ونجاتهم فيها ... ومن خصه الله بقوة
كهذه كيف يسوغ له أن يفرط فيها ويتركها سدى.
ثم أقول للحجة قول خبير بصير أن الدولة العثمانية تتبجح بنهضتك على هذا
الأمر، وتساعدك عليه لأنها تعلم أن مداخلة الإفرنج في الأقطار الإيرانية
والاستيلاء عليها تجلب الضرر إلى بلادها لا محالة، وأن وزراء الإيران وأمراءها
كلهم يبتهجون بكلمة تنبض بها في هذا الشأن؛ لأنهم بأجمعهم يعانون هذه
المستحدثات طبعًا، ويسخطون من هذه المقاولات جبلة، ويجدون بنهضتك مجالاً
لإبطالها، وفرصة لكف شر الشره الذي رضي بها وقضى عليها.
ثم إن العلماء وإن كان كل صدع بالحق وجبه هذا الأخرق الخائن بسوء
أعماله، ولكن ردعهم للزور، وزجرهم عن الخيانة، ونهرهم المجرمين ما قرت
كسلسلة المعدات قرارًا، ولا جمعتها وحدة المقصد في زمان واحد.
وهؤلاء لتماثلهم في مدارج العلوم وتشاكلهم في الرئاسة وتساويهم في الرتب
غالبًا عند العامة لا ينجذب بعضهم إلى بعض ولا يصير أحد منهم لصقًا للآخر ولا
يقع بينهم تأثير الجذب وتأثر الانجذاب حتى تتحقق هيئة وحدانية وقوة جامعة يمكن
بها دفع الشر وصيانة الحوزة. كل يدور على محوره، وكل يردع الزور وهو في
مركزه، (هذا هو سبب الضعف عن المقاومة وهذا هو سبب قوة المنكر والبغي) .
وأنت وحدك أيها الحجة بما أوتيت من الدرجة السامية والمنزلة الرفيعة علة
فعالة في نفوسهم، وقوة جامعة لقلوبهم، وبك تنضم القوى المتفرقة الشاردة، وتلتئم
القدر المتشتتة الشاذة، وإن كلمة منك تأتي بوحدانية تامة يحق لها أن تدفع الشر
المحدق بالبلاد، وتحفظ حوزة الدين وتصون بيضة الإسلام، فالكل منك وبك
وإليك، وأنت المسؤول عن الكل عند الله وعند الناس.
ثم أقول: إن العلماء والصلحاء في دفاعهم فرادى عن الدين وحوزته قد قاسوا
من ذاك العتل شدائد ما سبق منذ قرون لها مثيل، وتحملوا لصيانة بلاد المسلمين
عن الضياع وحفظ حقوقهم عن التلف كل هوان وكل صغار وكل فضيحة.
ولا شك أن حبر الأمة قد سمع ما فعله أدلاء الكفر وأعوان الشرك بالعالم
الفاضل الصالح الواعظ الحاج الملا فيض الله الدربندي، وستسمع قريبا ما صنعه
الجفاة الطغاة بالعالم المجتهد التقي البار الحاج السيد علي أكبر الشيرازي، وستحيط
علمًا بما فعله بحماة الملة والأمة من قتل وضرب وكي وحبس. ومن جملتهم الشاب
الصالح الميرزا محمد رضا الكرماني الذي قتله ذلك المرتد في الحبس. والفاضل
الكامل البار حاج سياح، والفاضل الأديب الميرزا فروغي، والأريب النجيب
الميرزا محمد علي خان، والفاضل المتفنن اعتماد السلطنة وغيرهم.
وأما قصتي وما فعله ذلك الكنود الظلوم معي، فمما يفتت أكباد أهل الإيمان
ويقطع قلوب ذوي الإيقان، ويقضي بالدهشة على أهل الكفر وعباد الأوثان، إن
ذاك اللئيم أمر بسحبي وأنا متحصن بحضرة عبد العظيم عليه السلام في شدة المرض
على الثلج إلى دار الحكومة بهوان وصغار وفضيحة لا يمكن أن يتصور دونها في
الشناعة (هذا كله بعد النهب والغارة) {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة:
156) .
ثم حملني زبانيته الأوغاد وأنا مريض على برذون مسلسلاً في فصل الشتاء
وتراكم الثلوج والرياح الزمهريرية، وساقتني جحفلة من الفرسان إلى خانقين
وصحبني جمع من الشرط ... ولقد كاتب الوالي من قبل والتمس منه أن يبعدني
إلى البصرة علمًا منه أنه لو تركني ونفسي لأتيتك أيها الحبر وبثثت لك شأنه وشأن
الأمة، وشرحت لك ما حاق ببلاد الإسلام من شر هذا الزنديق، ودعوتك أيها
الحجة على عون الدين، وحملتك على إغاثة المسلمين، وكان على يقين أني لو
اجتمعت بك لا يمكنه أن يبقى على دست وزارته المؤسسة على خراب البلاد
وهلاك العباد، وإعلاء كلمة الكفر.. . ومما زاده لؤمًا على لؤمه ودناءة على دناءته
أنه دفعًا لثورة العامة وتسكينًا لهياج الناس نسب تلك العصابة التي ساقتها غيرة
الدين وحمية الوطن إلى المدافعة عن حوزة الإسلام وحقوق الأهالي (بقدر الطاقة
والإمكان) إلى الطائفة البابية. كما أشاع بين الناس أولاً (قطع الله لسانه) أني
كنت غير مختون (واإسلاماه) ما هذا الضعف؟ ما هذا الوهن؟ كيف أمكن أن
صعلوكًا دنيء النسب، ووغدًا خسيس الحسب، قدر أن يبيع المسلمين وبلادهم بثمن
بخس دراهم معدودة، ويزدري بالعلماء ويهين السلالة المصطفوية، ويبهت السادة
المرتضوية البهتان العظيم. ولا يد قادرة تستأصل هذا الجذر الخبيث شفاء لغيظ
المؤمنين، وانتقامًا لآل سيد المرسلين، عليه وآله الصلاة والسلام.
ثم لما رأيت نفسي بعيدا عن تلك الحضرة العالية أمسكت عن بث الشكوى ...
ولما قدم العالم المجتهد القدوة الحاج السيد علي أكبر إلى البصرة طلب مني أن أكتب
إلى الحبر الأعظم كتابا أبث فيه هذه الغوائل والحوادث والكوارث، فبادرت إليه
امتثالا، وعلمت أن الله تعالى سيحدث بيدك أمرًا، والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... السيد الحسيني
يقول محمد رشيد:
إن هذا الكتاب نفخ روح الحماسة والغيرة في ذلك العالم العظيم صاحب
النفوذ الروحي في الأمة الفارسية، فأفتى بحرمة استعمال التنباك وزراعته وأذاع
العلماء فتواه بسرعة البرق، فخضعت لها أعناق الأمة حتى قيل: إن الشاه طلب في
صبيحة يوم بعد وصول الفتوى إلى طهران النارجيلة (الشيشة) فقيل له: إنه
ليس في القصر تنباك لأننا أتلفناه. فسأل عن السبب مبهوتًا فقيل له: فتوى حجة
الإسلام، فقال: لمَ لم تستأذنوني؟ قيل: إنها مسألة دينية لا حاجة فيها إلى
الاستئذان! ! واضطر بعد ذلك إلى ترضية الشركة الإنكليزية على أن تأخذ نصف
مليون جنيه وتبطل الامتياز. وبهذا أنقذ السيد جمال الدين بلاد إيران من احتلال
الإنكليز لها بإبطال مقدمته، وهو ذلك الامتياز أو الامتيازات التي قرأت شرحها في
كتابه فهكذا تكون الرجال وهكذا تكون العلماء.
هكذا هكذا وإلا فلا لا ... ليس كل الرجال تدعى رجالا
وقد ظهر الآن تأثير نفوذ طائفة العلماء في بلاد فارس أتم الظهور بما كان
من قلب نظام الحكومة وتحويلها عن الاستبداد المطلق إلى الشورى. ولعل تلك الحادثة
هي المنبه الأول للعلماء إلى أن الأمر في أيديهم. فالسيد جمال الدين على هذا هو
العامل الأول في هذا الانقلاب كما أنه سبب الانقلاب الذي حدث في مصر؛ فإن عمل
جمعيته كان أول سعي في مقاومة سلطة إسماعيل باشا وتقويضها، وفي نفخ روح
الإصلاح في توفيق باشا حتى واثق السيد وخاصته بأنه إذا آل الأمر إليه ليؤسسن
مجلس نواب وليعملن وليعملن.
ولكن تداخل الجند في السياسة أفسد العمل بعد ذلك، ولم يكن نجاح العلماء
بسعيه وإرشاده في إبطال تداخل الأجانب في بلاد فارس هو المنبه وحده لكون
سلطة العلماء والأمة فوق سلطة الملوك، بل كان تمام التنبيه قتل الشاه بعد ذلك وما
قيل من أن قاتله من أتباع السيد جمال الدين.
لم يكتف السيد بتحريض كبير المجتهدين وسائر العلماء على الشاه ووزيره
ولا بنجاحه في ندبهم له، بل ذهب من البصرة إلى أوربا وطفق يطعن فيهما بالقول
والكتابة، وقد أسس هناك مجلة شهرية تصدر باللغتين العربية والإنكليزية باسم
(ضياء الخافقين) أو سعى في تأسيسها وكان يكتب في كل عدد منها مقالة في أحوال
فارس بتوقيعه المعروف (السيد) أو (السيد الحسيني) وكان الكلام في مصر من أهم
مباحثها.
وقد فضح في مقالاته عن بلاد فارس حكومتها وشاهها شر فضيحة، حتى
جاءه سفير العجم في لندره يستميله ويسترضيه، ليكف عن الكلام والكتابة في ذلك
وعرض عليه مالاً كثيرًا، فقال له السيد: (لا أرضى إلا أن تزهق روح الشاه
ويبقر بطنه ويوضع في القبر) فكان هذا القول من الشبه على كون القاتل له من
أتباع السيد. وإننا نورد هنا بعض ما كتبه في (ضياء الخافقين) عن بلاد فارس
تخليدًا له في التاريخ.
وهاك ما كتبه في العدد الثاني تحريضًا للعلماء على خلع الشاه والقيام بشؤون
الأمة:
وهذا العدد صدر في أول مارس (آذار) سنة 1892.
***
بلاد فارس
بسم الله الرحمن الرحيم
حملة القرآن، وحفظة الإيمان، ظهراء الدين المتين، ونصراء الشرع المبين
جنود الله الغالبة في العالم، وحججه الدامغة لضلال الأمم، جناب الحاج الميرزا
محمد حسن الشيرازي. وجناب الحاج الميرزا حبيب الله الرشتي، وجناب الحاج
الميرزا أبي القاسم الكربلائي، وجناب الحاج الميرزا جواد الأقا التبريزي، وجناب
الحاج السيد علي أكبر الشيرازي، وجناب الحاج الشيخ هادي النجم آبادي، وجناب
الميرزا حسن الأشتياني. وجناب السيد الطاهر الزكي صدر العلماء، وجناب الحاج
آقا محسن العراقي، وجناب الحاج الشيخ محمد تقي الأصفهاني، وجناب الحاج
الملا محمد تقي البجنوردي. وسائر هداة الأمة. ونواب الأئمة. من الأحبار العظام
والعلماء الكرام، أعز الله بهم الإسلام والمسلمين، وأرغم أنوف الزنادقة
المتجبرين. آمين
طالما تاقت الأمم الإفرنجية إلى الاستيلاء على البلاد الإيرانية حرصًا منها
وشرهًا. ولكم سولت لها أمانيها خدعًا تمكنها من الولوج في أرجائها وتمهد فيها
سلطانها على غرة من أهلها تحاشيًا من المقارعة التي تورث الضغائن فتبعث
النفوس على الثورة كلما سنحت لها الفرص وقضت بها الفترات. ولكنها علمت أن
بلوغ الأرب والعلماء في عز سلطانهم ضرب من المحال؛ لأن القلوب تهوي إليهم
طرًا، والناس جميعا طوع يدهم يأتمرون كيفما أمروا، ويقومون حيثما قاموا، لا
مرد لقضائهم، ولا دافع لحكمهم، وأنهم لا يزالون يدأبون في حفظ حوزة الإسلام لا
تأخذهم فيه غفلة، ولا تعروهم غرة، ولا تميد بهم شهوة، فخنست وهي تتربص
بهم الدوائر، وتترقب الحوادث، أيم الله إنها قد أصابت فيما رأت، لأن العامة لولا
العلماء وعظيم مكانتهم في النفوس لالتجأت بطيب النفس إلى الكفر واستظلت بلوائه
خلاصا من هذه الدول الذليلة الجائرة الخرقى التي قد عدمت القوة وفقدت النصفة،
وأنفت المجاملة فلا حازت منها شرفًا ولا صانت بها لنفسها حقا، ولا انشرح منها
صدرها فرحًا.
ولذا كلما ضعفت قوة العلماء في دولة من الدول الإسلامية وثبتْ عليها طائفة
من الإفرنج ومحت اسمها، وطمست رسمها.
إن سلاطين الهند وأمراء ما وراء النهر جدت في إذلال علماء الدين فعاد
الوبال عليهم سنة الله في خلقه.. وإن الأفغانيين ما صانوا بلادهم عن أطماع
الأجانب وما دفعوا هجمات الإنكليز مرة بعد أخرى إلا بقوة العلماء وقد كانت في
نصابها.
ولما تولى هذا الشاه (الحارية [4] الطاغية) المُلك طفق يستلب حقوق العلماء
تدريجًا ويخفض شأنهم ويقلل نفوذ كلمتهم حبا بالاستبداد بباطل أوامره ونواهيه،
وحرصًا على توسيع دائرة ظلمه وجوره، فطرد جمعًا من البلاد بهوان، ونهنه
فرقه عن إقامة الشرع بصغار، وجلب طائفة من أوطانها إلى دار الجور والخرق
(طهران) وقهرها على الإقامة فيها بذل فخلا له الجو فقهر العباد وأباد البلاد وتقلب
في أطوار الفظائع وتجاهر بأنواع الشنائع وصرف في أهوائه الدنية وملاذه
البهيمية ما مصه من دماء الفقراء والمساكين عصرًا، ونزح من دموع الأرامل
والأيتام قهرًا (يا للإسلام) .
فإذًا اشتد جنونه بجميع فنونه. فاستوزر وغدًا خسيسًا ليس له دين يردعه ولا
عقل يزجره ولا شرف نفس يمنعه. وهذا المارق ما قعد على دسته إلا وقام بإبادة
الدين ومعاداة المسلمين، وساقته دناءة الأرومة ونذالة الجرثومة إلى بيع البلاد
الإسلامية بقيم زهيدة.
فحسبت الإفرنج أن الوقت قد حان لاستملاك الأقطار الإيرانية بلا كفاح ولا
قتال، وزعمت أن العلماء الذين كانوا يذبون عن حوزة الإسلام قد زالت شوكتهم ونفد
نفوذهم، فهرع كلٌّ فاغرًا فاه يبغي أن يسرط قطعة من تلك المملكة. فغار الحق
وغضب على الباطل فدمغه فخاب مسعاه وذل كل جبار عنيد.
أقول الحق إنكم يا أيها القادة قد عظمتم الإسلام بعزيمتكم وأعليتم كلمته وملأتم
القلوب من الرهبة والهيبة. وعلمت الأجانب طرا أن لكم سلطانا لا يقاوم وقوة لا
تدفع وكلمة لا ترد وأنكم سياج البلاد وبيدكم أزمة العباد ولكن قد عظم الخطب الآن
وجلت الرزية لأن الشياطين قد تألبت جبرا للكسر وحرصا على الوصول إلى الغاية
وأزمعت على إغراء ذاك المارق الأثيم على طرد العلماء كافة من البلاد. وأبانت له
أن إنفاذ الأوامر إنما هو بانقياد قوات الجيوش وأن القواد لا يعصون للعلماء أمرًا
ولا يرضون بهم شرًّا. فيجب لاستتباب الحكومة استبدالهم بقواد الإفرنج. وأرت
لذاك البليد الخائن رئاسة الشرطة وقيادة فوج [5] القزاق نموذجا (كنت وأضرابه) .
وأن ذاك الزنديق وزملاءه في الإلحاد يجدُّون الآن في جلب قواد من الأجانب.
والشاه بجنونه المطبق قد استحسن هذا واهتز به طربا.
لعمرالله لقد تحالف الجنون والزندقة وتعاهد العته والشره على محق الدين
واضمحلال الشريعة وتسليم دار الإسلام إلى الأجانب بلا مقارعة ولا مناقرة.
يا هداة الأمة إنكم لو أهملتم هذا الفرعون الذليل ونفسه وأمهلتموه على سرير
جنونه وما أسرعتم بخلعه عن كرسي غيه لقضي الأمر، فعسر العلاج وتعذر التدارك.
أنتم نصراء الله في الأرض، ولقد تمحصت بالشريعة الإلهية نفوسكم عن
أهواء دنية تبعث على الشقاق وتدعو إلى النفاق ويئس الشيطان بقذفات الحق عن
تفريق كلمتكم. فأنتم جميعًا يد واحدة يذود بها الله عن صياصي دينه الحصينة ويذب
بقوتها القاهرة جنود الشرك وأعوان الزندقة. وإن الناس كافة (إلا من قضى الله
عليه بالخيبة والخسران) طوع أمركم. فلو أعلنتم خلع هذا (الحارية) لأطاعكم
الأمير والحقير وأذعن لحكمكم الغني والفقير (ولقد شاهدتم في هذه الأزمان عيانا
فلا أقيم برهانا) خصوصًا وإن الصدور قد حرجت وإن القلوب قد تفطرت من هذه
السلطنة القاسية الحمقى التي ما سدت ثغورا ولا جندت جنودا ولا عمرت بلادا ولا
نشرت علوما ولا أعزت كلمة الإسلام ولا أراحت يوما ما قلوب الأنام، بل دمرت
وأقوت وأفقرت وأذلت ثم بعد ضلت وارتدت، وأنها سحقت عظام المسلمين وعجنتها
بدمائهم فعملت منها لبنات [6] بنت بها قصورًا لشهواتها الدنية. هذه آثارها في هذه
المدة المديدة والسنين العديدة، تعسا لها وتبت يداها.
وإذا وقع الخلع (وتكفيه كلمة واحدة ينبص بها لسان الحق غيرة على دينه)
فلا ريب أن الذي يخلف هذا (الطاغية) لا يمكنه الحيدان عن أوامركم الإلهية ولا
يسعه إلا الخضوع بعتبتكم عتبة الشريعة المحمدية. كيف لا وهو يرى عيانا ما لكم
من القوة الربانية التي تقلبون بها الطغاة عن كرسي غيها. وإن العامة متى سعدت
بالعدل تحت سلطان الشرع ازدادت بكم ولعا وحامت حولكم هياما وصارت جميعا
جندا لله وحزبا لأوليائه العلماء.
ولقد وَهِم من ظَنَّ أن خلع هذا (الحارية) لا يمكن إلا بهجمات العساكر
وطلقات المدافع والقنابل. ليس الأمر كذلك لأن عقيدة إيمانية قد رسخت في العقول
وتمكنت من النفوس، وهي إن الراد على العلماء راد على الله (هذا هو الحق
وعليه المذهب) فإذا أعلنتم (يا حملة القرآن) حكم الله في هذا الغاصب الجائر
وأبنتم أمره تعالى في حرمة إطاعته لانفض الناس من حوله فوقع الخلع بلا
جدال ولا قتال.
ولقد أراكم الله في هذه الأيام إتمامًا لحجته ما أولاكم من القوة التامة، والقدرة
الكاملة، وكان الذين في قلوبهم زيغ في ريب منها من قبل. اجتمعت النفوس بكلمة
منكم على إرغام هذا الفرعون الذليل وهامانه الرذيل (مسألة التنباك) فعجبت الأمم
من قوة هذه الكلمة وسرعة نفوذها وبهت الذي كفر. قوة أنعمها الله عليكم لصيانة
الدين وحفظ حوزة الإسلام. فهل يجوز منكم إهمالها وهل يسوغ التفريط فيها؟
حاشا ثم حاشا.
قد آن الوقت لإحياء مراسم الدين، وإعزاز المسلمين، فاخلعوا هذا (الطاغية)
قبل أن يفتك بكم، ويهتك أعراضكم، ويثلم سياج دينكم. ليس عليكم إلا أن
تعلنوا على رؤوس الأشهاد حرمة إطاعته فإذًا يرى نفسه ذليلا فريدا يفر منه بطانته
وينفر منه حاشيته وينبذه العساكر ويرجمه الأصاغر.
إنكم يا أيها العلماء والذين قاموا معكم لتأييد الدين بعد اليوم في خطر عظيم.
قد كسرتم قرن فرعون بعصا الحق، وجدعتم أنف الحارية بسيف الشرع، فهو
يتربص فرصًا تساعده على الانتقام؛ شفاء لغيظه ومرضاة لطبيعته التي فطرت
علي الحقد واللجاج، فلا تمهلوه أيامًا ولا تمكنوه أن يقبض زمامًا. أعلنوا خلعه قبل
اندمال جرحه.
وحاشاكم أيها الراسخون في العلم أن ترتابوا في خلع رجل سلطانه غصب،
وأفعاله فسق، وأوامره جور، وإنه بعد أن مص دماء المسلمين ونهش عظام
المساكين وترك الناس عراة حفاة لا يملكون شيئًا - حكم عليه جنونه أن يملك الأجانب
بلادًا كانت للإسلام عزًّا، وللدين المتين حرزًا، وساقته سَورة السفه إلى إعلاء كلمة
الكفر والاستظلال بلواء الشرك.
ثم أقول: إن الوزراء والأمراء وعامة الأهالي وكافة العساكر وأبناء هذا
(الطاغية) ينتظرون منكم جميعا (وقد فرغ صبرهم ونفد جَلَدهم) كلمة واحدة
حتى يخلعوا هذا الفرعون الذليل، ويريحوا العباد من ضره، ويصونوا حوزة الدين
من شره قبل أن يحل بهم العار {وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} (ص: 3) والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... السيد الحسيني
يقول محمد رشيد:
إن للعلماء من الاحترام والنفوذ الروحي في بلاد الأعاجم ما ليس لهم في البلاد
العربية وإن احترامهم في بلاد الفرس أشد منه في سائر بلاد العجم، فإن الحكام
ليس لهم عليهم من السلطة هناك مثل ما لغيرهم من حكام المسلمين. وما أزال
الملوك والأمراء احترام العلماء ومحو نفوذهم - حاشا ما كان منه مؤيدًا لهم ومعنويًّا
لاستبداهم - إلا بما اخترعوه لهم من الرتب العلمية وكساوي الشرف الوهمية وبما
جعلوا من موارد أرزاقهم في تصرفهم. فصار رزق العالم وجاهه الدنيوي بيد
الأمير أو السلطان وهما الرسنان اللذان يقودون بهما طالب المال والجاه من العلماء
إلى حيث شاؤوا. فإذا أمكن لطلاب الإصلاح الإسلامي أن يبطلوا هذه الرتب العلمية
وما لها من الشارات ويخرجوا أرزاق علماء الدين من أيدي الحكام - فإنهم يحررون
العلماء من رق يكون مقدمة لإصلاح الأمة كلها.
الإسلام دين اجتماعي جمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وقد عبث الحكام
المستبدون في أهله بانتحال الرياسة فيه، على كونهم قد أبطلوا اشتراط العلم الديني
وغيره في الخليفة - وفي السلطان والوالي بالأولى - ثم جعل بعضهم الأحكام
والأعمال والمناصب قسمين: شرعية خاصة بعلماء الشرع كالقضاء فيما يسمونه
الأمور الشخصية. وغير شرعية وهي سائر الأحكام القضائية والإدارية
والسياسية، ولا يشترطون في عمال هذه الأحكام والأعمال معرفة شيء من أحكام
الشرع، ولا الأخذ بشيء من أمر الدين، كما أنه لا يشترط في الحاكم الأعلى من أمير
أو سلطان أن يكون قد تلقى علم التوحيد والفقه فضلاً عن التفسير والحديث. ومع
هذا كله يجعل هذا الحاكم رئيسًا دينيًّا ويجعل أمر علماء الدين في يده، فهو الذي ينعم
عليهم بالرتب العلمية التي يعد بها بعضهم فوق بعض في الدين وعلومه من غير
مبالاة بالقاعدة المشهورة، التي لا يختلف فيها عاقلان وهي (فاقد الشيء لا يعطيه)
فلهذا صار الدين أمرًا ثانويًّا في أكثر بلاد المسلمين، لا يحترم عند حكامه إلا بقدر
تعلق العامة به على حسب ما عليه العامة كالاحتفال بالمواسم الدينية والمبتدعة.
ينهدم ركن من أركان الإسلام كالزكاة، فلا يبالي به الحُكَّام الذين جعلوا أنفسهم
رؤساء للدين ويسكت معهم العلماء عن ذلك؛ فلا يقومون بفريضة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر؛ وهي سياج الدين لأنهم على قسمين: قسم مرتبط بالسلاطين
والأمراء فهم تابعون لهم، وقسم لا شأن له فهو يستصغر نفسه أن تقوم بالدعوة إلى
إحياء الدين، فإذا عرف لنفسه قيمة وظهر بالدعوة فطفقت العامة تحترمه نفحه الأمراء
بشيء من الدنانير التي قاموا على خزائنها - وهي للأمة لا لهم - وألقوا في عنقه
ورأسه طوقًا من الفضة أو الذهب (علامة الشرف) فكان لهواهم من المنقادين.
فلا صلاح للإسلام إلا باستقلال العلماء وعدم ارتباطهم في التعلم والتعليم
والإرشاد، ولا في الرزق بالأمراء والسلاطين كما تقدم.
__________
(*) منقولان من ترجمته في الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام الذي يطبع الآن.
(1) كذا في الأصل والنيت هو التمايل من ضعف وفعله ككال يكيل.
(2) الحقة: الثابتة القوية والمراد طائفة العلماء لا سيما المجتهدين منهم.
(3) الاتقاء: التقية.
(4) هي الحية كبرت فصغرت حتى بقي رأسها فيه سمها ونَفَسها وهي أخبث الأفاعي.
(5) يطلق الفرس هذا اللفظ العربي على الطائفة من العسكرية التي يطلق عليها الترك لفظ طابور (وصوابه بالعربية تابور) ويطلق عليها في مصر لفظ أورطه وهي أعجمية.
(6) جمع لبنة من اللبن الذي يبني به.(10/820)
الكاتب: محمد عبده
__________
كتابان سياسيان للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده
أو مطالب مصر من إنكلترا
للمستر بلنت الإنكليزي المستشرق الشهير كتاب سماه (التاريخ السري
للاحتلال) جاء في الطبعة الثانية منه ترجمة كتابين أرسلهما إليه صديقه الأستاذ الإمام
جوابًا عن أسئلة سأله عنها، وقد ترجمتهما جريدة اللواء عن الإنكليزية إلى
العربية، ونقلهما عنها المؤيد وهذا نص الجريدتين:
سأل المستر (ولفرد سكاون بلنت) المرحوم المفتي رأيه في الحال السياسية
الجديدة التي نشأت في مصر عن إبرام الاتفاق الودي عقب توقيع فرنسا وإنكلترا
عليه، فأجابه فضيلته على ذلك السؤال في كتاب بعثه له في يوم 6 مايو سنة
1904 هذا نصه:
(إن رأيي في الإدارة المصرية إذا بقيت الخديوية في عائلة محمد علي هو
كما يأتي:
(1) أول وأهم قاعدة أساسية في تلك الإدارة، هو أنه يجب أن لا يكون
للجناب الخديوي أي سلطة تخوله التداخل في أعمال الهيئات التنفيذية للنظارات ولا
إدارة الأوقاف والأزهر ولا المحاكم الشرعية؛ بمعنى أنه لا ينبغي أن يجعل لتداخله
الشخصي أثر ما في الإدارة المصرية مطلقًا.
(2) ويجب أن يشكل مجلس على نسق مجلس الشورى الحالي بوجه
التقريب، ولكن على نظام أقوم وترتيب أمثل منه، وينبغي أن يكون الوزراء
وكبار الموظفين أعضاء فيه. وليس هناك ما يمنع من انتظام بعض كبار الموظفين
من الإنكليز في الحكومة المصرية في سلك أعضائه، ويكون من اختصاص هذا
المجلس سن القوانين الجديدة.
(3) وينبغي أن توضع حدود لتداخل السلطات التنفيذية الذي يدعيه
الموظفون الإنكليز كالمستشارين وغيرهم لأنفسهم، حتى لا يكون الموظفون
المصريون مجرد آلات صماء لا إرادة لهم ولا رأي يبدونه من تلقاء أنفسهم.
(4) وأن يشكل مجلس إدارة في كل نظارة من النظارات: كالحقانية
والداخلية مثلاً، ينتخب أعضاؤه بواسطة المجلس العام المتقدم الذكر، وتكون
وظيفة كل مجلس من هذه المجالس الإدارية البحث في تفصيلات المسائل المهمة
ووضع المشروعات والقوانين والنظامات لكل مصلحة من مصالح الحكومة.
(5) وأن يوضع قانون لنظارة المعارف يكون إجباريًّا بالنسبة للشئون المتعلقة
بالمعارف العمومية والتعليم، وينبغي أن يخصص قسم من الدخل العمومي للقيام
بنفقات التعليم، يكون كافيًا لفتح مدارس للتعليم العام وأخرى للتعليم الفني تكفي لسد
حاجات البلاد.
هذا هو رأيي بوجه عام قد أبديته لكم.
فكتب له المستر (بلنت) بعد ذلك بشهرين، يسأله أن يتوسع في آرائه هذه
ويضع نموذجًا للدستور المروم إدخاله في مصر، فأجابه إلى طلبه بعد طول روية
ومشاورة أصدقائه في ذلك، وأخذ آرائهم في هذا السؤال وسؤال آخر عرضه عليه
المستر بلنت أيضًا؛ يتعلق بما ينبغي أن يتخذ من الاحتياطات ضد ما يتوقع حدوثه
من عدم ثقة الجناب الخديوي بالدستور، كما وقع على عهد المغفور له والده مما
قضى على الآمال الوطنية. واستفسر منه أيضًا عما إذا كان من الممكن أن يقبل
المصريون تعيين أمير أوربي بصفة والٍ تحت سيادة جلالة السلطان؛ إذا صعب
الحصول على أمير من العائلة الخديوية متشبع تشبعًا تامًّا من الأفكار الدستورية.
فأجاب المرحوم المفتي على جميع ذلك بالكتاب الآتي:
صديقي العزيز المحترم:
أهديك عظيم تحيتي وأعتذر لك عن إبطائي في الرد على كتابك المؤرخ في 8
يونية، فإني كنت مشغولاً جدًّا بالامتحان في مدرسة المعلمين والأزهر وغيرهما ولم
أجد وقتًا خاليًا لأجيبكم فيه على كتابكم هذا، لا سيما وأن موضوعه دقيق للغاية
ويعوزه مزيد ترو ودقيق نظر.
وقد فكرت طويلاً، وتذاكرت مع بعض أفاضل المصريين فوجدتهم مجمعين
على أن من أول الضروريات لحسن الإدارة المصرية؛ هو قيام الحكومة الإنكليزية
بضمانة النظام في البلاد وكفالته، ومعنى ذلك أنها تراقب استتبابه والمحافظة على
استمراره وعلى الدستور الذي يمنح لمصر، وأن لا تدع ذلك الدستور عرضة
لتداخل الخديويين.
ومتى تمت هذه الضمانة ومنح الدستور لا تبقى حاجة إلى نزع سلطة الحكم
من عائلة محمد علي ولا إلى تعيين أمير أوروبي، لا سيما وأن تعيين أمير أوروبي
لا يصادف قبولاً من الأهالي ولا يساعدهم على تحسين حالتهم.
أما من جهة الدستور: فينبغي أن يراعي فيه ما سأذكره الآن من المسائل
الآتية بصفة خاصة:
(1) أن تناط جميع شئون الحكومة بسلطة أو أخرى (كذا) من السلطتين
الآتيتين:
أولاً: تناط بسلطة تشريعية تسن القوانين الإدارية والقضائية.
ثانيًا: تناط بسلطة تنفيذية تكلف بتنفيذ تلك القوانين، وأن تحصر السلطة
التشريعية في مجلس نواب أو وكلاء يزيد عدد أعضائه عن أعضاء مجلس الشورى
الحالي، وتكون دائرة اختصاصاته الحالية بحيث تُحترم قراراته، وتكون واجبة
التنفيذ، وأن لا يُسمح للوزراء بعدم احترامها ومراعاتها مهما كانت ظروف الأحوال،
وهذا المجلس هو الذي يسن القوانين كافة، وتنتخب الوزارة من بين أعضائه،
وأن تحصر السلطة التنفيذية في الوزارة التي تخول حق تقديم مشروعات القوانين
بحيث لا تستأثر بسنها وحدها؛ لأن حق سنها هو من اختصاص مجلس النواب.
(2) وأن تناط جميع مسائل الحكومة التي ليس لها ارتباط بسن القوانين
بالوزارة بما في ذلك منح الرتب والنياشين، وأن لا يترك من أشغال الحكومة شيء
مطلقًا للجناب الخديوي، وأن يناط بها أيضًا أمر المصالح المختصة بالتعليم الديني
وغيره والمحاكم الشرعية والأهلية، وتوزيع الرتب والنياشين دون أن يسمح لسموه
بأي تداخل فيها مطلقًا.
(3) وإذا فُرِضَ وكان بعض الوزراء من الإنكليز، وكان لهم مرؤوسون من
المصريين، فإنه ينبغي أن يعطى هؤلاء المرؤوسون المصريون أو الوزراء
الثانويون سلطة تسمح لهم بأن يفصلوا في جميع المسائل المختصة بالدين وما أشبه
ذلك تحت مراقبة الوزراء الأصليين، بحيث لا يكون الموظفون المصريون مجرد
ألعوبة في أيديهم كما هو الحال الآن.
وينبغي أن تلغى وظائف جميع المستشارين؛ اكتفاء بهؤلاء الوزراء، وفي
هذه الحالة تقضي الضرورة بأن يكون رئيس الوزراء مسلمًا، بحيث يكون مركزه
الرسمي محدودًا بوظيفة الرئاسة دون أن يشغل رئاسة نظارة من نظارات الحكومة.
(4) وأن يكون جميع الموظفين الآخرين في الحكومة من المصريين؛
أعني أن المديرين ووكلاء المديريات وقضاة المحاكم الأهلية ابتدائية كانت أو
استئنافية وأعضاء النيابة وغيرهم يكونون مصريين، ويجوز تعيين إنكليز كمفتشين
وتعيينهم أيضًا في بعض وظائف في المصالح الهندسية والمعارف، وفي الوظائف
الصناعية التي يحتاج الأمر فيها إلى معارف خاصة، حين لا يوجد فيه مصري
تتوفر فيه الإحاطة بتلك المعارف الفنية.
على أنه يجب على كل حال أن يحصر عمل أولئك الموظفين الأجانب فيما
هو داخل ضمن دائرة اختصاصاتهم فقط، وأن يكونوا خاضعين لمراقبة الوزراء
بحيث لا يخولون أقل سلطة إدارية أو قضائية؛ تفضي إلى إضعاف نفوذ الموظفين
المصريين.
(5) وأن يخول أعضاء مجلس النواب الحق في أن يسألوا النظار عن تنفيذ
القوانين، وينتقدونهم على ما يفرط منهم من الخطأ أو يقع من الخلل في الأعمال،
ويتحتم على النظار أن يبينوا أسباب ما يقومون به من الأعمال، وإذا وقع خلاف
بين النواب والنظار يوكل أمر حل ذلك الخلاف إلى لجنة تشكل من خمسة أعضاء
من مجلس النواب ينتخبون بالاقتراع السري، وخمسة آخرين من أعضاء محكمة
الاستئناف ينتخبون مثلهم بالاقتراع السري، ورئيس المجلس ورئيس النظار
ورئيس محكمة الاستئناف، ويكون حكم هذه اللجنة بالأغلبية المطلقة.
ويجوز زيادة أعضاء هذه اللجنة بإضافة أعضاء آخرين عليها من مجلس
النواب ومحكمة الاستئناف.
وإني أعتقد أنه إذا وضع نظام دستوري على هذا النمط وضمنته الحكومة
الإنكليزية لقام بحاجة البلاد، ولنالت حكومتها استقلالاً لم تعرف له مثيلاً.
وينبغي أن لا ننسى إعادة تنظيم شؤون المعارف والتعليم، فإن هاتين
المسألتين هما من أمس الأمور التي يبدأ مجلس النواب بمباشرة الاشتغال بها.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبده
وبعد فراغة من هذا الكتاب وضع في ذيله الحاشية الآتية:
قد نسيت أن أتكلم على الحربية، فأقول: إن السردار الإنكليزي وبعض
ضباط الإنكليز يبقون في الجيش المصري، ولكن يجب أن يشغل المصريون ما
بقي من وظائف الجيش، وإذا فرض وقامت بعض صعوبات بشأن ذلك، ورأت
الحكومة الإنكليزية وجوب وجود قواد إنكليز فيه أعني (باشاوات) فلا ضرر في
ذلك.
***
قول المنار في الكتابين:
قد كثر حديث الناس في هذين الكتابين لمَّا نُشرا في جريدة اللواء ثم المؤيد
وغيره، ثم اتسع مجال الآراء فيهما بعد أن استنبط (اللواء) منهما ما
استنبط ولخصمها (المؤيد) بما لخصمها به وزعم أن ما لخصه هو رأي الكاتب،
وناهيك بتقليد الجرائد في دهماء هذه البلاد.
قال المنتقدون: إن الكتابين يدلان على بغض كاتبهما للأسرة الخديوية كافة
وللأمير الحاضر خاصة. وقالوا: إن فيهما تحسينًا للظن بالإنكليز، وقالوا: بل
فيهما مشايعة لهم. وقالوا: هذا رأي الكاتب في الدستور المصري وأطلقوا؛ أي: إنه
لو كان الأمر كله بيده لرضي لبلاده بما كتبه فيهما. وقالوا: إن كاتبهما على غير
بينة بالقوانين الأساسية للأمم. وأغرب ما قالوا وما كتبوا هو ما أنبأ عن استنكارهم
سلب السلطة الشخصية من الخديويين بحصر السلطة في مجلس النواب ومجلس
الوزراء! ! وهم من هم المستنكرون لذلك؟ هم الذين يزعمون أنهم طلاب المجلس
النيابي والحكومة الدستورية لمصر! ! ! يالله العجب.
وقد استحسن كثير من العقلاء المستقلين المطالب التي في الكتابين، واستدلوا
بهما على غيرة كاتبهما على بلاده وأهلها، وسعيه في إصلاح حالها سرًّا وجهرًا من
كل طريق وكل منفذ. وأنكر آخرون صحة نسبة الكتابين إلى الأستاذ الإمام، وقالوا
أنه ليس فيهما شيء من روحه ولا من أسلوبه.
وإننا نبين حقيقة معناهما الذي حرفته الأهواء عن موضعه الذي وضعته فيه
الظروف والأحوال بعد تمهيد نمهده لذلك فنقول:
(1) ليعلم القارئ قبل كل شيء أن ما نشر في الجرائد ليس هو الذي كتبه
الأستاذ الإمام، بل هو ترجمة لأحد محرري جريدة اللواء عن الإنكليزية. وما في
الأصل الإنكليزي مترجم عن العربية. فإذا ظهر الأصل العربي الذي يقول حافظ
أفندي عوض أنه رآه عند مؤلف الكتاب، يكون مراد الكاتب أظهر وأصح، والحكم
عليه أعدل.
(2) إن المراد منهما لا يفهم تمام الفهم إلا بترجمة ما كتبه (المستر بلنت) إلى
الأستاذ الإمام بالحرف؛ لأن الفتوى تكون على حسب السؤال كما هو مشهور
ومعروف.
(3) قد علم مما كتب (اللواء والمؤيد) أن موضوع سؤال مستر (بلنت)
يتعلق (بالحالة السياسية الجديدة التي نشأت في مصر عن إبرام الاتفاق الودي عقب
توقيع فرنسا وإنجلترا عليه) فما رآه كان خاصًّا بتلك الحالة التي أمنت فيها
إنكلترا معارضة أوربا لها في مصر. فإذا تذكرنا أن كل ما فعلناه من مقاومة الاحتلال
أيام كان ضلع أوربا كلها معنا ولا سيما فرنسا لم يزده إلا قوة ورسوخًا - فإننا يمكن أن
نعقل أن تلك المطالب التي طلبها الأستاذ الإمام بعد اتفاق أوربا مع الاحتلال علينا
كانت كبيرة جدًّا، وأن الانتقاد على هذه المطالب ينبغي أن يكون محصورًا في
كثرتها أو عظمتها، حتى جعلت نجاح إنكلترا بوفاق إبريل 1904 نجاحًا لمصر
وحرمانًا لإنكلترا من معظم ما كان لها من النفوذ والسلطة.
(4) ذكر اللواء فالمؤيد من موضوع سؤال بلنت كلمة (الدستور المروم
إدخاله في مصر) فعلم أن هنالك مشروعًا للدستور يعد في إنكلترا، فما هو وما
موضوعه؟ أو ليس هذا نصًّا في الموضوع صريحًا في أن ما كتبه الأستاذ الإمام
في جواب مستر بلنت ليس مشروعًا وضعه لما يحب أن يكون عليه بلاده مطلقًا،
بل هو مطالب وتعديلات لدستور معين يبحث في الإنكليز أنفسهم؟ ونحن إلى الآن
لم نقف على مشروع دستوري لهم إلا مشروع لورد كرومر بإنشاء مجلس تشريعي
لمصر مؤلف من جميع الأجانب. وهل يمكن حينئذ أن يطلب لمصر من إنكلترا
أكثر مما طلب الأستاذ الإمام؟ وقد تقدم أن ما طلبه كثير.
(5) ذكر اللواء فالمؤيد أن مستر بلنت سأل الأستاذ الإمام بالتصريح عما
ينبغي اتخاذه من الاحتياطات؛ لمنع ما يتوقع حدوثه من عدم ثقة الخديوي بالدستور
كما وقع في عهد والده؛ أي بأن يكون الدستور مأمونا عليه من حل الخديوي له بله
تصرفه فيه باستمالة أعضائه إلى ما يريد بالرتب والنياشين أو بغير ذلك. وهذا
السؤال لا يعقل له وجه إلا إذا كان واضعو مشروع ذلك الدستور لا يرضون أن
يكون للخديويين سلطة عليه، بل لا يعقل وجود دستور حقيقي يكون عرضة لعبث
السلطة الشخصية به. وهل يمكن أن يجاب عن هذا إلا بتعهد إنكلترا بحماية
الدستور، والحال أن إنكلترا هي الواهبة له لتأمن بحسن الإدارة المصرية تحت
مراقبتها على طريق الهند، وتنال هي شرف إصلاح مصر وتنظيمها؟
(6) ونقل اللواء فالمؤيد أن مستر بلنت سأل أيضًا هل يقبل المصريون
تعيين والٍ أوربي عليهم تحت سيادة السلطان؟ وهذا السؤال مبني على عدم ثقة أولئك
المشتغلين بمسألة الدستور المصري بحكم الأمراء الشرقيين الذي يعتقدون أنهم
أشربوا في قلوبهم الاستبداد، حتى لا يكاد يوجد فيهم من يميل إلى الحكم الدستوري
ويرغب فيه. فهل تنتقد إجابة الأستاذ الإمام عن هذا السؤال بأنه لا حاجة إلى
حاكم أوربي مع وجود الدستور المضمون ومنع الخديويين من السلطة الشخصية؟
وهل من الإنصاف والحق أن يعد طلبه إبقاء الإمارة في بيت محمد علي دليلاً على
بغضهم؟ ؟ وهل يستنكر عاقل الاحتجاج على من يريدون تولية أمير أوربي علينا
بكوننا لا نقبل ذلك، وكونه هو لا يمكن أن يساعدنا على تحسين حالنا؟ ما أغرب
الرأي الذي يمليه الهوى وتروجه الأغراض الخسيسة.
تلخيص المطالب
التي طلبها الأستاذ الإمام لمصر
من الإنكليز فيما كتب إلى مستر بلنت
(1) أن يكون للمصريين مجلس نيابي تنحصر فيه السلطة التشريعية، أي
وضع القوانين كلها، ويكون له حق سؤال الحكومة عن تنفيذها ومحاسبتها على
خطإها.
(2) أن يكون للمصريين سلطة تنفيذية وهي الوزارة المسئولة وتناط بها
جميع أمور الحكومة، لا يترك منها للخديويين شيء خاص بأشخاصهم كما هو شأن
الحكومة النيابية في أوربا لا سيما إنكلترا.
(3) أن يكون رئيس الوزراء مسلمًا لا كما كان من قبل تارة وتارة.
(4) أن يكون جميع موظفي الحكومة - من المديرين ووكلاء المديريات
والقضاة ورجال النيابة وغيرهم - من المصريين، بحيث لا يبقى من موظفي
الإنكليز إلا بعض المفتشين، ومن لا يوجد مصري يقوم مقامه في عمله.
(5) تنظيم شئون المعارف والتعليم، وجعلها أهم الأمور التي يبدأ مجلس
النواب بها.
(6) قيام المصريين بجميع وظائف الجيش، بحيث لا يبقى فيه من
الإنكليز إلا السردار وبعض الضباط.
(7) إلغاء وظائف المستشارين المسيطرين على الحكومة الآن.
(8) على إنكلترا أن تكفل هذا الدستور وتضمن تنفيذه بأيدي المصريين.
وفسر ذلك بأن تراقب استتبابه والمحافظة عليه مراقبة فقط، حتى لا يبطله
الخديويون.
هذه هي المطالب الإيجابية الأصلية، وأنَّى لمصر بالوصول إليها؟ وإلى الآن
لم تطمع الأحزاب بمثلها، فلم يطلب حزب ولا جريدة شيئًا يتعلق بالعسكرية، ولا
يعقل أحد كيف يكون الاستقلال الحقيقي بدون جند وطني يقوم بشئونه الوطنيون.
وهناك مطلوب مهم مبني على فرض وقوع شيء لا يؤمن وقوعه، ما دام
للإنكليز شأن في سلطة البلاد، بل قد وقع مثله في عهد إسماعيل باشا - وهو جعل
بعض الوزراء من الإنكليز.
طلب الأستاذ على فرض وقوع ذلك أن يكون للمرؤوسين للوزير
الإنكليزي من المصريين سلطة يفصلون بها في المسائل المتعلقة بالدين وما أشبه
ذلك، ولا يكونوا آلة في أيدي رؤسائهم من الإنكليز. وهذا مطلب لسنا بمدركيه
اليوم، فإنه لا يمكن لرئيس ولا مرؤوس في الحقانية أن يجري في المحاكم
الشرعية أمرًا لا يرضاه المستشار القضائي.
وأغرب ما سمعت من بعض الأغرار (البسطاء) أن الكتابين تضمنا طلب
جعل بعض الوزراء من الإنكليز، فلما قيل له: إنه ليس فيهما شيء من ذلك وإنما
فيهما مطلب مهم مبني على فرض وقوع ذلك بالرغم منا، قال: إنه ما كان ينبغي
ذكر هذا الفرض والتقدير؛ لأنه يذكرهم بهذا الأمر! ! فتعجب أيها القارئ من هذه
السذاجة والغرارة والغفلة عن الواقع والاهتمام بالألفاظ دون الحقائق.
ومما تقدم من البيان يعلم القارئ أنه ليس في الكتابين شيء ينتقد. وقد سمعت
أشهر أعضاء الحزب الوطني حماسة وإخلاصًا يقول: إنه ليس فيهما شيء ينتقد
إلا جعل إنكلترا كافلة للدستور؛ لأن هذا بمعنى الحماية، ولكننا لا نشك لأجله
في إخلاص المرحوم الشيخ. فقلت له: كان يصح أن يقال: هذا لو كانت هذه
الكفالة من مواد الدستور، وكان الدستور مصدقًا عليه من الدولة العلية، فيكون
حينئذ حقًّا رسميًّا لها. وليس فيما كتب شيء من ذلك، وإنما الموضوع أن تسمح لنا
إنكلترا بهذا الدستور، وتكتفي هي عن القبض على أزمة السلطة فينا بمراقبة سيرنا
على الدستور والنظام المطلوب، ولا تسمح للخديويين أن يغيروه إذا حاولوا ذلك.
ومعلوم أنها لا تسمح لهم الآن بتغيير ما في التشريع ولا مداخلة ما في التنفيذ مع
قبضها على كل شيء وعدم تحملها لتبعة شيء، فأي الأمرين أفضل؟ ؟
وعلى ذكر رأي عضو الحزب الوطني أن تلك العبارة التي انتقدها من
الكتابين لا تدعو إلى الشك في إخلاص الكاتب - ننبه إلى سيئة فاشية فينا هي من
أقبح السيئات وأشدها ضررًا في الأمة؛ ألا وهي اتهام كل من نراه أخطأ في مسألة
من المسائل العامة بسوء النية وعداوة البلاد وبغض الأمة وحب الإنكليز ومساعدتهم
على ما يقصدون بنا من السوء! ! وتفرع عن هذه السيئة سيئة أكبر منها وهي
اختراع بعض الناس الخطأ أو تكلفهم استنباطه من كلام من يكرهونه؛ لأجل إلصاق
تلك التهمة به.
فشو هذه السيئة مع أختها أعظم أسباب تفرق الأمة وضعفها وانقسامها على
نفسها (كما يقولون) لا سيما بعد توجيه الجرائد هذه التهمة إلى الجماعات
والأحزاب، وليت شعري، أي قيمة لهذه الأمة إذا صح ما ترجف به بعض الجرائد
من اتهام حزب الأمة برمته بعدم الإخلاص للأمة؛ وبمشايعة المحتلين عليها بعد
الإرجاف بأن ذلك النابغة العظيم (الأستاذ الإمام) الذي اعترف بنبوغه الشرق
والغرب، كان غير مخلص للأمة أو لأميرها؟ بل أي تعريض بالأمير أشد من
إثبات أن نابغي المستقلين يقاومونه، وأن جمهورًا كبيرًا من سراة الأمة يؤلف حزبًا
وينشئ جريدة لمقاومة نفوذه؟
قد يقول سائل: إن المنار قد أبرز هذه المطالب بأسلوب يظهر منه ما لم
يظهر من ترجمة الكتابين؛ على كونه لم يأت بشيء جديد، فهلا كتب المرحوم
المفتي كتابيه بهذا الأسلوب الذي يتجلى فيه الإخلاص لمصر والتفاني في خدمتها
دون ذلك الأسلوب الذي يلوح منه إرضاء الإنكليز أو استرضاؤهم، إن لم نقل
محاباتهم؟ وجوابه من وجهين (أحدهما) : إننا لم نطلع على ما كتبه المرحوم بنصه
فنحكم على أسلوبه. (وثانيهما) إنه لم يكتب ليمتن على قومه بحبه لهم ومقاومته
لمحتلي بلادهم، ولا ليظهر للإنكليز أنه مبارز لهم، وإنما كتب لصديق له يسعى
في خير مصر. على أنه لو كتب للحكومة الإنكليزية نفسها لوجب عليه في شرع
البلاغة أن يجعل تلك الكتابة بأسلوب يرجى قبوله، وعدم اتهام صاحبه بالعداء
والمقاومة ولكل مقام مقال.
رأى أحد الملوك في النوم أن أسنانه سقطت، فعبر له الرؤيا معبر بقوله: إن
جميع أهلك وأقاربك يموتون في حال حياتك، فاستاء الملك وعاقبه عقابًا شديدًا. ثم
جيء بمعبر آخر، فقص عليه الرؤيا، فقال له: تأويل هذه الرؤيا أن الملك يكون
أطول أهله عمرًا. فُسر الملك وأجازه إجازة سنية. فالبليغ يخاطب كل مخاطب بما
يرجو أن يبلغ به مراده من نفسه.
فمن أصحاب الجرائد من يطلب من الإنكليز مطالب بصفة الآمر صاحب
السلطان، وما مراده إلا إرضاء من يقرأ هذه المطالب، فيحمد كاتبها ويجله؛ لأنه
استعلى على بريطانيا العظمى، فأنال الأمة من الاستعلاء عليها بالقول ما تلهو به
عن الفخر بالاستعلاء أو المساواة بالفعل. ولكنه لا يخطر في باله الأسلوب الذي
يمكن أن يكون مقنعًا أو مقبولاً عند الإنكليز؛ لأنه لا يريد منهم شيئًا.
لو كان الإخلاص والغيرة على قدر كبر المطالب وإن كانت من المحال،
والتعزز على القوي يتحقق بزخرف وإن كان غرورًا، لأمكن كل كاتب أن يكتب
كل يوم في إثبات إخلاصه وغيرته وتعززه نحو هذه العبارة: إني آمرك أيتها الدولة
الإنكليزية الظالمة المعتدية بأن تردي مصر إلى المصريين وقبرص إلى الدولة
العلية، بل أن تردي الهند إلى النوابين والرجاوات من أهلها، وأن تأرزي إلى
جزائرك كما تأرز الحية إلى جحرها. فإن لم تحفظي شرفك وتمتثلي هذا الأمر؛
فإننا نتفق مع بعض أعضاء برلمانك، فنؤلف منه لجنة تشاغب المجلس أحيانًا في
هذه المطالب فتهزه هزًّا، وتؤزه أزًّا، أو تهز الشعور الوطني في هذه البلاد هزة
تميد لها جزائر بريطانيا ميدانًا، وتزلزل زلزالاً، ربما كان من ورائه البلاء النازل
والخسف العاجل؟ ؟
***
رأي الأستاذ الإمام
في السياسة (أو سياسته)
في مصر أفراد من الكتاب يبغون العلو والرفعة بالغلو في دعوى حب الأمة
والتفاني في خدمتها بمقاومة المحتلين بالكلام، ومن هؤلاء من كبر عليه ما ناله
الأستاذ الإمام من علو المكانة بعلمه وحكمته وخدمته للملة، ومنهم من يثقل عليه أن
يجله بعد وفاته خلق كثير، فهؤلاء يريدون أن يخدشوا ذلك الصيت الحسن والشهرة
الشريفة؛ ليرفعوا أنفسهم ويحطوا من قدر جماعة ذلك الإمام العظيم، ولم يجدوا
بابًا أوسع من السياسة التي يكثر فيها الإيهام وتسهل فيها الدعوى، ويقبل على
مائدتها كل طفيلي يطرد عن مائدة العلم والحكمة. وجد بعض هؤلاء في الكتابين
متسعًا للقيل والقال ومشاغبة حزب الأمة؛ لأن رئيسه وكبار المؤسسين له كانوا من
أصدقاء الأستاذ الإمام، والذين لا يزالون يصرحون بإجلاله وبكونهم أنشأوا الجريدة
عملاً برأيه.
رأى مناهضو هذا الحزب أنه يستفيد مما ذكر مَيل مريدي الأستاذ الإمام،
وهم أرقى الأمة عقلاً وعلمًا وبلاغة، فمنهم العظماء والوجهاء والمدرسون والكتاب
والشعراء، فأرادوا أن يحرجوه ليتبرأ من الانتماء إلى الأستاذ الإمام في سياسته،
فينفر منهم مريدوه. ولكنهم سلكوا مسلك الحمقى فعرضوا بالإمام نفسه فجاء سعيهم
بنقيض ما أرادوا.
وقد كتب بعض الكاتبين يسأل عن حقيقة سياسة الأستاذ الإمام، ويطلب من
مريديه بيانها، وهل هي عين سياسة (الجريدة) وحزب الأمة، وعين ما جاء في
الكتابين اللذين نشرها مستر بلنت أم ما هي؟
ونجيبهم عن ذلك بمثل ما قلناه في المنار غير مرة: من أنه استقر رأيه في
أواخر عمره على الإصلاح الديني والاجتماعي واللغوي فقط، وترك السياسة بتة
وعندنا كتابه في ذلك بخطه لعلنا نطبع صورتها الفوتغرافية في تاريخه عند الكلام
على سياسته، وعندما كان يشتغل بالسياسة كانت قاعدة عمله مقاومة الاستبداد
وجعل سلطة الأمة في أيديها، بحيث لا يبقى لحكامها منفذ للاستبداد فيها.
أما الجريدة فهي تنفيذ لفكرته من حيث هي لجماعة من الأمة لا لفرد منها،
وقد كتبنا في الجزء الثاني من منار هذه السنة (ص160) أنها تنفيذ لرأيه، وزدنا
على ذلك قولنا (وإن لم تكن كما كان يريد من كل وجه) فقد كان يريد أن تكون
الجريدة التي دعا في آخر عمره إلى إنشائها اجتماعية أدبية زراعية أكثر مما هي
سياسية، وأن يكتب فيها كل يوم عن الأخلاق والعادات والتقاليد الفاشية في البلاد
وأن لا يكتب فيها عن سياسة الدول أكثر من عمود أو عمودين في العدد، يلخص
في ذلك الثابت الذي فيه عبرة وفائدة للجمهور. وسنوضح هذا في الكلام عن رأيه
في السياسة والجرائد من جزء الترجمة الذي نؤلفه ونطبعه الآن، فلينتظر محبو
الحقائق. ولا مبالاة بأهل الأهواء. ونختم هذه الكلمات بجملة في سياسته كتبها
حافظ أفندي إبراهيم الأديب الشهير في كتابه الذي سماه سطيح ونشرتها جريدة
السياسة المصورة وهي:
بين سطيح
وأحد تلاميذ الإمام
سطيح: أين أنت من القوم؟
التلميذ: من أولئك الذين نقموا الرضا على العهدين، ولم يحمدوا مغبة الحكمين:
عهد الدولة التركية وعهد الدولة البريطانية. ففي أولهما فاضت المظالم وغاضت
الأموال، وفي ثانيهما أخصبت الأرض وأجدبت الرجال.
سطيح: وهل أنت في خفض من العيش؟
التلميذ: لا أشكو بحمد الله عسرًا، ولا أرجو يسرًا. وإنما أتفيأ ظل هذا البيت
العربي لذلك الشاعر الأبي:
مذبذب الرزق لا فقر ولا جدة ... حظ لعمرك لم يحمق ولم يكس
قال: وأين مكانك من العلم، وأين منك منزلة الحلم؟
قال: حسبي أني من تلاميذ حكيم الإسلام الأستاذ الإمام، طيب الله ثراه، وجعل
النعيم مثواه.
قال: إني لأرى رأيًا حصيفًا، وأسمع قولاً شريفًا، فمن أي تلاميذه تكون وقد
سمعنا أنهم فريقان: فريق قد اختصه بسياسته، وفريق قد اختصه بعلمه، وقد أثنى
عليهما العميد، وتنبأ لهما بالطالع السعيد؟
قال: لا علم لي بما تقول. ولقد كنت ألصق الناس بالإمام، أغشى داره وأرِد
أنهاره وألتقط ثماره فما سمعته يخوض في ذكر السياسة - قبحها الله - ولكن كان يملأ
علينا المجلس سحرًا من آياته، ويتنقل بنا بين مناطق الإفهام، ومنازل الأحلام،
ويسمو بأنفسنا إلى مراتب العارفين بأسرار الخلائق وحكم الخالق، وكان ربما ساق
الحديث إلى ذكر أحوال هذا المجتمع البشري، فأفاض في شؤون الاجتماع وحاج
العمران، ووقف بنا على أسرار الحياة فإن كانوا يسمون تلاميذه أحزابًا، ويقسمون
تعاليمه أبوابًا، فتلاميذه حزب العلم والعرفان، وتعاليمه سياسة التقدم والعمران.
ولكنه كان يحتك بالسياسة ما دعت إلى ذلك الحال فيرصد حركاتها، ويصد
غاراتها، خشية أن تقطع على العلم سبيله، وأن تقف عثرة في طريق الفضيلة،
فلكم تلطف في ابتزاز قواها، وتحامى جهده طريق أذاها، حتى إذا ظفر بطلبته،
وفاز برغبته، واستمد منها ما شاء تحت حماية الإفتاء، عطف على العلم بذلك
الإمداد، ورد عليه ما سلبت يد الاستبداد، ولولا أنه كان يمادهم حبل الوداد،
ويجاذبهم فضل النصح والإرشاد، لأصابه ما أصاب حكيم الأفغان، وقُضي على
أمة النيل بالحرمان.
مات النبي عليه الصلاة والسلام فارتدت طائفة من جفاة العرب، وكادوا يفتنون
الناس لولا حكمة الصديق وعزمة الفاروق، فما غضت الردة من شرف النبوة، ولا
نالت من عصمة الرسالة، ولبث الإسلام إسلامًا. ومات الأستاذ الإمام فصبأ بعض
حزبه كما يدعون، وأستغفر الله لهم مما يقولون، فما غض ذلك من كرامة حكيم
الإسلام، ولا مس من سيرة ذلك الإمام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حافظ إبراهيم
الرجوع إلى المنار
في شأن الكتابين
طلب منا كثيرون بالقول والكتابة أن نبين رأينا في الكتابين، ففعلنا وننشر
الكتاب الآتي إجابة لطلب صاحبه.
سيدي المحترم حضرة اللوذعي الفاضل والأستاذ الكامل السيد محمد رشيد
رضا مدير مجلة المنار الزاهي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... دام محترمًا
سيدي لا يعزب على علميتكم ما أتى على صفحات بعض الجرائد السيارة
بخصوص جواب المسيو (بلنت) ورد أستاذنا المرحوم المصلح العظيم الشيخ
الإمام عليه، ولا يخفى على ذكائكم الفريد ما تقوله ويتقوله حزب الخرافات وأعداء
أنفسهم: من أن الشيخ الإمام كان يبغي نقل الأريكة الخيديوية من آل محمد علي،
وأنه كان يريد أو يفكر في جعل أبناء التاميز مسيطرين على هيئة الحكومة، ولا
تسأل عن أعداء المرحوم بل أعداء الحق الصراح، وما يمليه عليهم جهلهم؛ لأن
الإنسان عدو ما يجهله.
وبعد، فأرجو سيادتكم باسم المرحوم أن تشحذوا قلمكم السيال في سطاعة
الحقيقة؛ لأنكم من أعلم الناس بتاريخ المرحوم حتى يظهر الصبح في حلته
النورانية لذي عينين، وأستعطفكم بالرضا عن تطفلي على مائدة فضلكم؛ لأن
الكل يتغذى من دسامة علمكم المشبع، ثم أرجو من فضيلتكم إثبات سؤالي هذا على
صفحات مجلتكم الفيحاء؛ وليعلم أعداء المرحوم أن في يدنا أقلامًا لنصر الحق لا
تخشى في الحق لومة لائم، وفي الختام اقبلوا أزكى الاحترام، السيد محمد الزيات.
(المنار)
إن للمشاغبين في الكتابين من سوء النية واتباع الهوى ما لا يخفى، وهم لا
بضاعة لهم إلا التغرير في مثال ما ذكرتم. وإلا فهم يعلمون أن الدولة الإنكليزية
مسيطرة على الحكومة المصرية بالواقع ونفس الأمر، وأنه لا معارض لها ولا
منازع في هذه السيطرة، كما يعلمون أنهم كاذبون في تقولهم، وتَقَدَمَ بيان الحقيقة.
ثم إن هؤلاء المخادعين يبيحون لأنفسهم أن يطلبوا من الإنكليز باسم مصر
بعض المطالب، ويُمنون بذلك على الأمة ويفخرون بأنهم فعلوا وفعلوا، ولم يفعلوا
شيئًا، وإنما قالوا كلامًا يستطيع أن يقول مثله الألوف. ثم هم ينكرون على من
يطلب لمصر شيئًا مما يطلبون وإن كان خيرًا مما يطلبون وأقرب إلى القبول وذلك
لأنهم احتكروا الزعامة وخدمة الأمة بالدعوى.
فإذا كانت المطالب التي في الكتابين لا ترضيهم، فلننتظر معهم حتى يمنحوا
مصر بمساعيهم ما هو خير منها، سواء كان ذلك بواسطة اللجنة البرلمانية التي لم
نسمع منها إلا كلمات في الهواء أو بواسطة التبجح والدعوى والاستطالة والتهديد
والوعيد للإنكليز. عند ذلك نقول لهم: إن قولكم كان أنفع وأنتم زعماء السياسة،
وأهل الرياسة، والمستقبل يكشف الحقائق لمن له عين تنظر وعقل يدرك.
على أن جماعة الأستاذ الإمام من أصدقائه ومريديه مجدون في خدمتهم على
طريقته، فمنهم محيي المعارف في الحكومة، ومنهم دعاة الجامعة المصرية،
ومنهم المدرسون على الطريقة الإصلاحية، ومنهم ومنهم ولا تبجح ولا دعوى، ولا
مَنًّا ولا أذى، والعاقبة للمتقين.
__________(10/834)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نهي الصحابة ورغبتهم عن الرواية
روى ابن عساكر عن محمد بن إسحاق قال: أخبرني صالح بن إبراهيم بن
عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال: والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم من الآفاق - عبد الله بن حذيفة
وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر - فقال: ما هذه الأحاديث التي أنشيتم عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآفاق؟ قالوا: (تنهانا؟) (قال: أقيموا
عندي لا والله لا تفارقوني ما عشت , فنحن أعلم، نأخذ منكم ونرد عليكم) فما
فارقوه حتى مات) .
وروي أيضًا عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي
هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنك بأرض
دوس. وقال لكعب (الأحبار) : لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة.
وروي عن أبي أوفى قال: كنا إذا أتينا زيد بن أرقم فنقول: حدثنا عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم. فيقول: كبرنا ونسينا , والحديث عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم شديد.
ورُوي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: بلغني حديث عن عليّ خفت أن
أصاب أن أجده [1] عند غيره، فرحلت حتى قدمت عليه العراق، فسألته عن
الحديث فحدثني وأخذ عليَّ عهدًا أن لا أخبر به أحدًا، ولوددت لو لم يفعل
فأحدثكموه.
ورُوي عن عمرو بن دينار قال: حدثني بعض ولد صهيب أنهم قالوا لأبيهم:
ما لك لا تحدثنا كما يحدث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أما
إني قد سمعت كما سمعوا ولكني يمنعني من الحديث عنه أني سمعته يقول: (من
كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) ولكني سأحدثكم بحديث حفظه قلبي
ووعاه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيّما رجل تزوج امرأة ومن
نيته أن يذهب بصداقها لقي الله فهو زانٍ حتى يموت، وأيما رجل بايع رجلاً
بيعًا ومن نيته أن يذهب بحقه فهو خائن حتى يموت) ورواه غيره والحديثان
المرفوعان فيه مشهوران. وصهيب من السابقين الأولين رضي الله عنه.
وروى أحمد وأبو يعلى (وصحح) عن عثمان قال: ما يمنعني أن أحدث
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون أوعى أصحابه عنه، ولكني أشهد
أني سمعته يقول: (من قال علي ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار) .
وروى ابن سعد وابن عساكر عن محمود بن لبيد، قال: سمعت عثمان بن
عفان على المنبر يقول: لا يحل لأحد يروي حديثًا لم يسمع به في عهد أبي بكر
ولا عهد عمر؛ فإني لم يمنعني أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
لا أكون أوعى أصحابه إلا أني سمعته يقول: (من قال عليَّ ما لم أقل فقد تبوأ
مقعده من النار) .
وروى أحمد والدارمي وابن ماجه وآخرون من حديث أبي قتادة عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا أيها الناس إياكم وكثرة الحديث عني، فمن قال
عني فلا يقولن إلا حقًّا وصدقًا، فمن قال عليَّ ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار)
وقد روي عن بعض الصحابة الاعتذار بهذا الحديث المتواتر عن التحديث أو كثرته.
وقد فتح الحافظ ابن عبد البر بابًا في كتاب (جامع بيان العلم) لبحث ذم
الإكثار من الحديث، وقيده بقوله: دون التفهم له والتفقه فيه، قال - كما في
مختصره:
(عن الشعبي عن قرظة [2] بن كعب قال: خرجنا فشيعنا عمر إلى صرار [3]
ثم دعا بماء فتوضأ، ثم قال لنا: أتدرون لم خرجت معكم؟ قلنا: أردت أن
تشيعنا وتكرمنا. قال: (إن مع ذلك لحاجة خرجت لها، إنكم لتأتون بلدة لأهلها
دويٌّ بالقرآن كدويِّ النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأنا شريككم) قال قرظة: فما حدثت بعده حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم. وعنه أيضًا قال: قال لنا: أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأنا شريككم. وفي رواية عن قرظة أيضًا، قال: خرجنا نريد العراق فمشى
معنا عمر إلى صرار فتوضأ فغسل اثنتين ثم قال: أتدرون لما مشيت معكم؟ قالوا
نعم نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيت معنا (لتكرمنا) فقال:
إنكم تأتون أهل قرية لها دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث لتشغلوهم،
جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، امضوا وأنا
شريككم. فلما قدم قرظة قالوا: حدثنا، قال: نهانا عمر بن الخطاب.
وعن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: ألا يعجبك أبو هريرة جاء فجلس
على جانب حجرتي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسمعني، وكنت
أسبح (تعني أنها تصلي) فقام قبل أن أقضي تسبيحي، ولو أدركته لرددت عليه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم.
(وعن أبي الطفيل قال: سمعت عليًّا على المنبر يقول: أتحبون أن يكذب
الله ورسوله لا تحدثوا الناس إلا بما يعلمون.
وعن أبي هريرة أنه كان يقول: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وعائين: فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا البلعوم (والبلعوم:
الحلقوم) وعنه أنه قال: لقد حثدتكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب
لضربني عمر بالدرة اهـ.
أقول: فلو طال عمْر عمر حتى مات أبو هريرة في عصره لما وصلت إلينا
تلك الأحاديث الكثيرة عنه، ومنها 446 حديثًا في البخاري ما عدا المكرر.
وقد ذكر ابن عبد البر لنهي عمر وهو أمير المؤمنين عن التحديث تأويلات
(منها) أنه (إنما كان لقوم لم يكونوا أحصوا القرآن فخشى عليهم الاشتغال بغيره
عنه إذ هو الأصل لكل علم) وأقول: إن ما رواه في ذلك عن قرظة ينافي ذلك،
فقد نهاهم عن تحديث قوم يحفظون القرآن، يفتأون يتلونه لأصواتهم به دوي كدوي
النحل. ولو أراد نهيًا مقيدًا بهذا القيد لقال: لا تحدثوا إلا من حفظ القرآن. وقد
عزا هذا القول لأبي عبيد قال: (وقال غيره: إنما نهى عمر عن الحديث عما لا يفيد
حكمًا ولا سنة) وهذا أضعف مما قبله وقد عزاه إلى مجهول، وماذا يعني قائله
بالحديث الذي لا يفيد حكما ولا سنة؟ أهي الأحاديث عن شمائله صلى الله عليه
وسلم وأخلاقه؟ كيف وهي أنفع من أحاديث الأحكام الفقهية؟
ثم ذكر أن بعضهم رد حديث قرظة هذا؛ لأن الآثار الثابتة عن عمر خلافه
وذكر من هذه الآثار أمر عمر أن يبلغ عنه أن الرجم مما أنزله الله على نبيه في
الكتاب. أقول: وهذا الأثر لا يصلح دليلاً؛ لأنه إنما نهى عن اشتغال الناس
بالحديث عن الكتاب الذي هو أصل الدين. فإذا ادعي مدع أن عمر ما كان يريد أن
يجعل الحديث أصلاً من أصول الدين، يمكنه أن يقول: إن حكم الرجم في رأيه من
أحكام القرآن لا من أحكام الحديث غايته أن آيته نسخت تلاوتها، فالأمر بتبليغه أمر
بتبليغ حكم قرآني، فلا يعارض النهي عن التحديث.
ثم ذكر وجهًا آخر لرد حديث قرظة، وهو معارضة الكتاب والسنن له كقوله
تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) وقوله:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (الحشر: 7) وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى: 52) قال: ولا سبيل إلى اتباعه والتأسي به إلا بالخبر عنه.
وقد يجاب عن هذا بأن صراطه المستقيم هو القرآن والسياق يعين ذلك، وأن
من يعمل بالقرآن يكون متأسيًا به لحديث عائشة في صحيح مسلم وغيره (كان خلقه
القرآن) وأن سنته التي يجب أن تكون أصل القدوة، هي ما كان عليه هو وخاصة
أصحابه عملاً وسيرة، فلا تتوقف على الأحاديث القولية. وأما الأمر بأخذهم ما
يعطيهم الرسول فهو في قسمة الفيء ونحوه ما في معناه، والحديث الذي نحن
بصدده لا يعارض ذلك.
وذكر من أمثلة معارضته السنن حديث (نضّر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها
ثم أداها إلى من لم يسمعها) بناء على جعلهم الأحاديث القولية من السنن، وهو
اصطلاح للعلماء توسعوا فيه بمعنى السنة، فجعلوها أعم مما كان يريده الصحابة
من هذا اللفظ (السنة) وهي الطريقة المتبعة التي جرى عليها العمل. والحديث
يصلح معارضًا للنهي عن التحديث وبينهما يطلب الترجيح. ويقول ابن عبد البر: إن
عمر كان يريد النهي عن الإكثار لا عن أصل التحديث، وهو كما ترى، وإن الأخذ
بالمرفوع مقدم. أقول: وههنا شيء آخر وهو إقرار الصحابة لعمر على نهيه، وقد
يعارضه أنهم حدثوا فلم ينتهوا، وقد مر بك أن أبا هريرة كان يحدث بعده، فكأن
اجتهادهم اختلف في المسألة.
ومما ذكره ابن عبد البر عن عمر في معارضة حديث النهي قوله: (تعلموا
الفرائض والسنة كما تتعلمون القرآن) فسوّى بينهما، وعن مورق العجلي أنه قال:
كتب عمر: تعلموا السنة والفرائض واللحن كما تتعلمون القرآن، والجواب عن هذا
يعلم مما قبله؛ وهو أن تعلم السنة غير التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم،
فإن السنة سيرته صلى الله عليه وسلم، وتعرف من الصحابة بالعمل وبالأخبار
كنحو (من السنة كذا) كما كانوا يقولون، والتحديث عنه نقل كلامه كما هو
المتبادر، وإن اصطلح المحدثون بعد ذلك على تسمية كل كلام فيه ذكر النبي صلى
الله عليه وسلم حديثًا وسنة. ومنه تسمية ابن عبد البر نفسه لرواية قرظة التي هي
موضوع بحثنا حديثًا، وفسر اللحن في أثر عمر عن مورق فقال: قالوا: اللحن
معرفة وجوه الكلام وتصرفه والحجة به.
ثم قال: وعمر أيضًا هو القائل: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم)
وهو القائل: (سيأتي قوم يجادلونكم بشبه القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب
السنن أعلم بكتاب الله عز وجل) وأقول: إن هديه صلى الله عليه وسلم ليس
موضع اشتباه، وأما سنته فلو أريد بها هنا أقواله لكان فيها من الشبهات ما في
القرآن أو أكثر؛ لأن القرآن أعلى بيانًا وقد نقل بالحرف، والحديث كثيرًا ما نقل
بالمعنى. فالسنة لا يراد بها إلا السيرة والطريقة المتبعة عنه صلى الله عليه وسلم
بالعمل، والعمل لا تعترض فيه الشبهات. فلذلك أمر بالاحتجاج عليهم بالسنن. ومثل
هذا أمر علي لابن عباس لما بعثه للاحتجاج على الخوارج، قال: (لا تخاصمهم
بالقرآن فإن القرآن حمال ذو وجوه تقول ويقولون، ولكن حاجهم بالسنة فإنهم لن
يجدوا عنها محيصًا) . اهـ من نهج البلاغة.
ومن العجائب أن يغبى بعض المحدثين أحيانًا عن الفرق بين السنة والحديث
في عرف الصحابة الموافق لأصل اللغة، فيحملوا السنة على اصطلاحهم الذي
أحدثوه بعد ذلك، وليس لنا أن نلوم بعد هذا ذلك العالم الفرنسي المستشرق الذي قال
لي مرة: إن الصحابة كانوا يقدمون الأحاديث على القرآن وذكر لي قول علي لابن
عباس، فقلت له: إنه لا يعني بالسنة الأحاديث فإنها ذات وجوه تحتمل تأويل
المجادلين كالقرآن، وإنما هي الطريقة المتبعة بالعمل. مثال ذلك احتجاج علي على
معاوية وأصحابه بحديث عمار (تقتله الفئة الباغية) فقد أوله عمرو بن العاص
فقال: إنما قتله من أخرجه. يعني عليًّا؛ ولكن لا سبيل إلى تأويل كيفية الصلاة
وعددها وكيفية الحج لأنها ثابتة بالسنة. ولا يخفى أن السنة بهذا المعنى تشمل ما
هو مفروض وما هو مندوب وما هو مستحب كما مر جوابه.
هذا، وإن المبحث كبير ولا سبيل إلى تحريره واستيفاء فروعه في هذا الجزء،
فنكتفي بما تقدّم في الوفاء بما وعدنا به في الجزء الماضي.
وليعلم القارئ أن هذا البحث الأصولي بمعزل عن مسألة اهتداء المسلم بما
يصح عنده من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، فتلك الأقوال هي ينابيع الحكم
ومصابيح الظلم، وجوامع الكلم، ومفخر للأمة على جميع الأمم، بل إن في
الأحاديث التي لم تصح أسانيدها من البدائع، والحكم الروائع، والكلم الجوامع، ما
تتقاصر عن مثله أعناق العلماء، وتكبو في غاياته فرسان الحكماء، ولا تبلغ بعض
مداه قرائح البلغاء، ولا غَرْوَ فإن من الأحاديث ما صحت متونه ولم تصح أسانيده
كما إن منها ما أشكلت متونه وإن سلم من الطعن رواته، وأنى لغيرنا ببعض ما
عندنا من الأسانيد لأقوال حكمائهم، أو لكتب أنبيائهم، فنحن يسهل علينا من
التمحيص والتحقيق ما لا يسهل على غيرنا، فليتدبر المتدبرون، وليعمل العاملون.
__________
(1) كذا في كنز العمال ولعل الأصل: إن أصيب أن لا أجده إلخ.
(2) قرظة بالتحريك بوزن (خشبة) .
(3) صرار بالكسر موضع قرب المدينة.(10/849)
الكاتب: محمد الخضري
__________
حياة اللغة العربية
وبحث الترجمة والتعريب ونادي دار العلوم
لكل لغة مقومات ومشخصات تمتاز بها على غيرها من اللغات كما تتمايز
أنواع الجنس وأشخاص النوع. وحياة كل لغة تكون بأداء وظيفتها مع حفظ مقوماتها
ومشخصاتها. ووظيفة اللغة محصورة في شيء واحد هو تعبير أهلها بها عما
يعلمون مهما اتسعت دائرة معارفهم وعلومهم. وقد كان للغة العربية حياة أدبية في
عصر الجاهلية ثم ظهر بها الإسلام فجدد لها حياة أخرى أعلى مما كانت فيه؛ إذ
جدد لها دينًا وشرعًا وسياسة ومدنية قامت بعلوم لغوية وعقلية وصناعية، فوسعت
اللغة ذلك كله مع حفظ مقوماتها ومشخصاتها في المفردات والأساليب.
إن ما يتجدد للناس من المعلومات ببحثهم واكتشافهم وبما ينقل إليهم عن
غيرهم، يظهر في لغتهم بضروب من المظاهر: فمنها ارتجال الأسماء، ومنها
الاشتقاق، ومنها الترجمة، ومنها التجوز، ومنها التحويل للدخيل من الأسماء
الأجنبية وإدخاله في لغتهم وجعله منها مع تركه على حاله، أو مع ضرب من
التصرف فيه يكون به مناسبًا وملائمًا لكلماتها في أوزانها ومخارجها، وهو ما
يسمى عندنا بالتعريب. وكل ذلك من مقتضى حياة اللغة، فهو يحصل في اللغة الحية
بلا تكلف، كما يأكل كل من الإنسان الأبيض أو الأسود أو الأصفر الشيء المختص
بأرض الآخر، فيتغذى به بدنه ويبقى هو مع ذلك على لونه ومشخصاته، لا
يعرض له تغيير.
ضعفت حياة اللغة العربية منذ بضعة قرون بعد أن صارت قسمين: عامية
وخاصية، فأما الخاصية: وهي لغة العلم والكتابة فصارت متكلفة، وخرجت عن
كونها ملكة راسخة. وأما العامية وهي لا تكون إلا ملكة حية في الألسنة، فصارت
قاصرة على ما يصل إليه علم الأميين ومن في حكمهم من المتعلمين. وصار
المشتغلون بالعلم والكتابة ضعافًا في ملكتها بقدر مزاولتهم للخاصية التي لم تصر
ملكة لهم. فإذا عرض للعوام شيء جديد من المسميات بادروا إلى تسميته بلا تكلف
كما هو شأن أهل الملكة في كل لغة، فترى المشتغلين منهم بالطباعة (مثلاً)
يسمون كل أداة من أدواتها الأعجمية باسم منه العربي ومنه العجمي ومنه المعرب
(وسنبين ذلك بعد) ولكن الخواص - وأعني بهم المشتغلين بالعلوم العربية - فإنهم
يحارون فيما يعرض لهم من ذلك؛ إذ ليس لهم ملكة العامية كالعوام الآن ولا ملكة
الخاصية التي كانت لناقلي علوم اليونان.
سكت هؤلاء الخواص على هذا النقص زمنًا، وبحث بعضهم فيه أبحاثًا لم
يكن فيها غناء. وقد أنشأ في هذا العام جمهور من المتخرجين في مدرسة دار العلوم
وأكثرهم معلمون للعربية في مدارس الحكومة - ناديًا لهم، رأوا أن يكون من فوائد
اجتماعهم فيه خدمة اللغة العربية بأكثر مما يخدمونها به في المدارس.
وقد رأوا أن يكون أول عمل يقومون به البحث في هذه المسائل، وإننا نورد
لهم خطابين في مسألة أسماء الأجناس الأعجمية التي يراد إدخالها في اللغة العربية
هل تعرب تعريبًا أم تؤخذ بالترجمة والوضع الجديد؟ وقد عرف رأينا في ذلك مما
تقدم، وسنزيده بيانًا بعد إيراد الخطابين.
خطاب الشيخ محمد الخضري المدرس
بمدرسة القضاء الشرعي
أيها السادة:
ينبئنا التاريخ أن اللغة العربية كانت لآخر القرن الثاني عشر قد وصلت إلى
منتهى الضعة، وكادت تصبح أثرًا دارسًا، ولولا رجلان فكرا في إحيائها ووجدا
من خيرة الأعوان من كان شعارهم الإخلاص والجد؛ لكنا اليوم على ما كان عليه
سلفنا في أواخر ذلك العهد.
أما أولهما فمحمد علي باشا مؤسس الأسرة الخديوية زادها الله تشريفًا وتكريمًا
فإنه وجد المرحوم رفاعة باشا وتلاميذه بعد أن زج بهم في مضمار الحياة،
فساروا شوطًا بعيدًا، ووضعوا الحجر الأول في نهضة اللغة، كتبوا وترجموا شيئًا
كثيرًا أبقته لنا الأيام دليلاً على إخلاصهم ثم على مقدرتهم واستعدادهم، لم يتركوا
فنًّا من الفنون التي كنا مستضعفين فيها إلا كتبوا فيه ترجمة أو من عند أنفسهم.
وأما الثاني فهو صاحب الدولة المخلص في خدمة بلاده مصطفى رياض باشا.
وجد الأستاذ المرحوم الشيخ محمد عبده وتلاميذه ورجال العزيمة من نابغي
السوريين فقاموا بالنهضة الثانية. عهد إلى المرحوم إصلاح الوقائع المصرية
والإشراف على ما يكتبه أرباب الدواوين في محاوراتهم، فكان ذلك منبهًا لهم أن
يعتنوا بإصلاح ما يكتبون وتعلم ما يجهلون. ومن أكبر مساعد لتلك النهضة الجرائد
العربية على اختلاف مذاهبها ومشاربها، فهي التي رفعت من قدرها وساعدت على
رقيها بما كان يبذله أصحابها من الهمة في اختيار اللفظ والأسلوب،
سواء في ذلك فاضلهم ومفضولهم.
إذا دبت الحياة في جسم فإنها لا تقف عند غاية، فإن صاحبها دائمًا يرجو الكمال
وهو أبدًا بعيد عن الأنظار، كذلك نحن الآن فإنا في بدء نهضة ثالثة يأخذ بيدها
ويشد أزرها ذو السعادة الوزير المخلص سعد زغلول باشا ناظر المعارف العمومية
في عهد مولانا وسيدنا أمير مصر عباس باشا حلمي الثاني، فهو مؤيد النهضة
الثالثة كما كان جده مؤيد النهضة الأولى.
تلك النهضة أن تكون اللغة العربية لغة تعليم وتعلم وكتابة وتكلم، ينبت فيها
الصغير ولا يخل بوزنها الكبير، والأعوان اليوم أكثر منهم أمس، فإن البذور التي
غرست قد أثمرت في كثير من الأنفس الطيبة، فصارت من أنفسها تطلب الغايات
وترقب الكمال والمعونة من مثل هؤلاء أعظم.
هذا المطلوب أيها السادة عزيز المنال وعر المسلك، فلا بد للوصول إليه من
عزيمة صادقة يقودها العقل الصحيح لتهيئة الطريق، حتى لا تلتوي علينا المقاصد
فنظن أنفسنا سائرين للأمام ونحن للخلف راجعون. ننظر أمامنا فنجد عقبات كثيرة
لابد أن نقدرها قدرها حتى يمكننا تذليلها، عقبات كثيرة لست في معرض إحصائها
الآن؛ لأني أقتصر على عقبة واحدة جعلت مجال البحث بين أيديكم.
بيننا محدثات كثيرة تصل بلادنا على أيدي المخترعين الذين قدروا بجدهم أن
ينتفعوا من كل ما خلقه الله سبحانه للإنسان، ولم يكن آباؤنا قد عرفوها حتى يعدوا
لها العدة من الأسماء المبينة لمسماها، فنقف أمامها مبهوتين لا ندري كيف نعبر
عنها، فإذا كتبنا وقف بنا القلم عندها حائرًا، فمنا من يكتب اللفظ الذي وضعه
المخترع ويحيطه بقوسين علامة على أنه ليس من لغتنا أو بعبارة أوضح علامة
على نقص اللغة ونفورها من كل جديد، ومنا من يحتال لذلك فيؤدي المعنى بكلمة
وضعها العرب بإزاء مسمى آخر، وما يجده الكاتب يجد مثله المتكلم.
لا يتفق الناس على شيء يتبعونه، وهذا نقص عظيم يجب أن نتلافاه وأن
نتفق على ما نستعمله؛ لذلك وضعنا موضع البحث هذا السؤال: ما هي الطريقة
المثلى للدلالة على المحدثات؟ أتعريب ألفاظها التي يضعها لها محدثوها وصقلها
حتى تكون موافقة للهجات العرب؟ أم التوسع في بعض الألفاظ العربية ووضعه
بإزائها.
وقبل الإفصاح برأي في هذه المسألة، أبين لحضراتكم كيف كان العرب
المتقدمون يفعلون إذا عرض عليهم شيء محدث من طريق غيرهم.
ولا أريد أن أتوسع في البحث إلى ما وراء أسماء الأجناس؛ فإن اللغة العربية
عندها من الثروة في الأسماء الدالة على المعاني ما لا تحتاج معه إلى استعارة من
غيرها، أما أسماء الأجناس فإنها بالضرورة تتجدد بحدوث مسمياتها، والعرب كما
تعلمون كانوا فقراء جدًّا من هذه المواد، فإنهم أهل بادية وحاجات المتبدي قليلة؛ إذ
ليس أمامه إلا سماؤه وأرضه وبهمه وسلاحه ووجدانه، فمن المعقول أن يتفنن في
وضع ما يدل على أجزاء ذلك من الأسماء، أما أدوات الحياة مما تخرجه الصنعة
وتبدعه الفكرة فهو منها بعيد، وقلما يتلقى باديهم شيئًا منها عن بلاد أخرى؛ لأنهم
انقطعوا عن الأمم أو كادوا.
فأما الحاضرون منهم، وهم سكان ريف العراق ومشارف الشام واليمن فقد
كان لهم من جوار الفرس والروم ما جعلهم يتلقون كثيرًا من الأداة، فتسوقهم حاجة
التعبير والإبانة عما في النفس على أن يكون لذلك الشيء الذي استعملوه لفظًا يعبر
عنه.
والمعقول في اختيار اللفظ للمعنى ثلاث طرق:
الأول: الوضع الجديد، وهذا لا مجال للكلام فيه؛ لأن الأقدمين ما عولوا
عليه، وليس بيننا من يقول به على ما أظن، وسبب هذا فيما أعلم أن أحرف اللغة
العربية قد شغلتها الأوضاع، فقلما نركب ثلاثة أحرف إلا وجدنا مجموعها قد وضع
واستعمل اللهم إلا حروفًا قلائل، استثقل العرب جمعها في كلمة واحدة ومثل الثلاثة
الأربعة والخمسة.
الثاني: التوسع في الاستعمال وهو المراد بالتجوز: بأن يكون اللفظ قد وضع
بإزاء مسمى، ولمناسبة بين المسمى القديم والجديد يستعمل ذلك اللفظ في المعنى
الجديد ككلمة (تأمور) فإنها في أصل اللغة القلب؛ لأنه وعاء الدم ثم توسعوا فيها
فجعلوها لكل وعاء، فإذا جاءهم أي وعاء على أي شكل استعملوا فيه لفظ (تأمور)
ولا يأخذون عن غيرهم شيئًا، حتى يتركوا كلمة إبريق التي وضعها صناعه لتدل
على شكله الخاص به، ويبحثون في كلماتهم القديمة عن لفظ قديم يدل على ما يشبه
الدينار والدرهم فيستعملونه فيها ولا يأخذونها.
الطريق الثالث: التعريب وهو أنه يأخذ من المخترع للشيء المسمى واسمه؛
بعد أن يصقلوه بألسنتهم حتى يكون خفيفًا عليها مناسبًا للهجتها، وهذا هو الطريق
المعقول الذي اتبعه العرب وكل أمة من أمم العالم.
مضى على الأمة العربية زمن طويل قبل الإسلام، وهي تتناول الألفاظ الدالة
على الأجناس من واضعيها وتلحقها بلغتها من غير أن يقف في طريقها معارض،
أخذوا الدينار والدرهم وألحقوهما بأبنيتهم واشتقوا منهما، فقالوا: فرس مدنر أي
فيه نقط كالدينار، وقالوا: دنر وجهه أي تلألأ، ودينار مدنر أي مضروب، ودنر
فلان كثرت دنانيره، وقالوا: رجل مدرهم كثير الدراهم، ودرهمت الخبازي صار
ورقها كالدراهم، وأخذوا اللجام واشتقوا منه، فقالوا: ألجم وملجم ولجم، وتجوزوا
في استعماله فقالوا: التُّقى ملجم؛ لأنه يقيد اللسان، ويكفه كما يفعل اللجام بالدابة.
أخذوا من الصناعات الإستبرق والسندس والأساور والإبريق والطست
والخوان والطبق والخز والديباج والسندس والهندسة والمهندس. وأخذوا من
النباتات النرجس والبنفسج والنسرين والسوسن والياسمين والجلنار والزنجبيل
والقرفة والفلفل والكراويا والعنبر والكافور والصندل إلى غير ذلك مما أحصاه نقلة
اللغة.
وكانت قاعدتهم في التعريب على جهتين:
(الجهة الأولى) أن يلحقوا الكلمة بأبنيتهم، ومتى صارت الكلمة كذلك
عدت من اللغة، وحكم عليها بما حكم على بقية الكلام فيشتقون منها، وكانوا يبدلون
حرفًا مكان حرف لتقارب مخرجهما، كما فعلوا في لجام وكان أصله (لغام) بالغين،
والجيم والغين متقاربان مع سهولة الجيم، وإذا كان الحرف بين كاف وجيم جعلوها
جيمًا لقربها منها، ولم يكن بد من إبدالها؛ لأن ذلك الحرف ليس من كلامهم،
فقالوا: جربز وآجر وجورب. وربما جعلوها قافًا؛ لأنها قريبة أيضًا فقالوا:
قربز. ويبدلون مكان آخر الحرف الذي لا يثبت في كلامهم الجيم، فقالوا: كوسج
وساذج، وأصل ذلك كوسه وساده كما ننطق به نحن الآن، ويبدلون مكان الحرف
الذي بين الفاء والياء الفاء، فقالوا الفرند والفندق، وربما جعلوها باء، فقالوا برند،
فالبدل مطرد في كل حرف ليس من حروفهم، يبدل منه ما قرب منه من الحروف
الأعجمية.
(والجهة الثانية) أن يبقوا الكلمة على وزنها عند الأمة ذات الشأن في وضعها
كما فعلوا في الأبريسيم والأهليلج، وكما فعلوا في كثير من الأعلام، وقصدهم من
ذلك ألا يبقى هناك كبير فرق في النطق بين اللفظيين الأصل والأعجمي وثنيه
العربي، حتى يكون الفهم والإفهام، اللهم إلا ما دعت إليه ضرورة العربي في
النطق.
جاء القرآن الكريم وهو البالغ من الفصاحة مبلغ الإعجاز، ووصفه الله
سبحانه بأنه لسان عربي مبين، فاستعمل كثيرًا من الألفاظ التي عربتها العرب،
وهذا إقرار من الله سبحانه على طريقة التعريب.
استعمل القسطاس والإستبرق والفردوس والمسك والكافور والزنجبيل
والسندس والإبريق والمشكاة واليم والطور وما شاكلها، وقد ألف فيما عرب
واستعمله القرآن من الألفاظ أستاذنا الحافظ اللغوي الشيخ حمزة فتح الله كتابًا جمع
فيه من ذلك كثيرًا. وقد نقل عن ابن عباس ترجمان القرآن وكثير من التابعين
وأهل العلم والفقهاء أن هذه الألفاظ من لغات العجم سقطت إلى العرب، فأعربتها
بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية. ثم نزل القرآن وقد
اختلطت هذه الكلمات بكلمات العرب، وهذا الذي جعل لبعض أهل العربية أن يقول:
إن القرآن خلو من كلام غير العرب لأن ما رضيته العرب من الكلمات بعد
تعريبه صار عربيًّا مبينًا، وألحق بأحرف اللغة فلا حرج في استعماله بعد.
ومما أزيدكم به بيانًا أيها السادة أن بعض الألفاظ التي عربها العرب موضوعة
لأشياء تشابه ما له اسم عربي، ولكنهم اختاروا الاسم الأعجمي لدلالته على شكل
خاص للمسمى، كما أخذوا كلمة إبريق وعندهم التامور، وأخذوا كلمة البط وعندهم
الأوز للصغار والكبار، وأخذوا الهاون وعندهم المهراس والمنحاز، وأخذوا
الطاجن وعندهم المقلى والميزاب، وعندهم المثعب وهو مسير الماء في الوادي،
والسكرجة، وعندهم الثقوة والمسك، وعندهم المشموم والجاسوس، وعندهم
الناطس، والأترج وعندهم المسك.
وذلك لأسباب قوية منها أن اللفظ الذي عندهم عام واللفظ الجديد خاص،
فتكون دلالة ما عندهم على المسمى ضعيفة.
هذا هديهم قبل الإسلام - أما بعد الإسلام فإن العرب حينما جدوا في العلوم
وأرادوا أن تكون اللغة العربية لغة علم كما هي لغة قوم ولغة دين، ترجموا إليها
كتب العلم التي وصلت إليهم من أمم الروم والفرس، واتبعوا تلك الطريقة نفسها
فكانوا يأخذون الأجناس كما هي، ويستعملونها في كتبهم وينطقون بها كأنها من
لغتهم، ووجد من هذا شيء كثير خصوصًا في الطب والحكمة والهندسة، ولم
يلتفتوا إلى الرأي الذي يقول بالرجوع إلى الوراء واستعمال الألفاظ التي أماتها
الزمن لعدم صلاحيتها للاستعمال أو المستعملة في معان أخرى.
والفقهاء أنفسهم لم يحجموا عن أخذ الألفاظ من غير اللغة العربية وتعريبها.
يلزم من اتباع رأي التجوز مضار أهمها أن اللغة وضعت لتدل على ما في
النفس، حتى يفهم السامع تمام ما تريد، واشتراك الألفاظ في المعاني مما يخل بأصل
المقصود والتجوز لا بد فيه من إقامة القرائن على إرادة ما استعمل اللفظ فيه، وهذا
وذاك كثيرًا ما أوقفنا حيارى في فهم المراد من بعض الألفاظ، فهل نريد بعد ذلك
أن نضيف إلى آلامنا آلامًا.
يقولون: إن الحق في التعريب إنما كان لأمة سلفت وبادت، فلم يبق لها من
أثر وإن ما كان يباح للأعراب في بواديهم على قلة حاجهم لا يباح مثله لنا في
القرون المتأخرة على كثرة الحاج، وهذا كله بنوه على قاعدة لا أساس لها وهي
تشبيه اللغة بالدين في التمام، فكما أن الله سبحانه أتم دينه الذي أنزله على رسوله
صلى الله عليه وسلم فكذلك العرب قد أتمت وضع لغتها، ولم يبق من بعدهم من
يحق له أن يضيف إليها كلمة جديدة كما أنه ليس لمسلم أن يضيف على دينه حكمًا
جديدًا.
لكن الفرق بين الأمرين ظاهر؛ فإن الدين وضع إلهي شرعه من له حق
التشريع والإلزام وهو الله سبحانه، وأتم وضعه على قواعد راسخة وأسس ثابتة،
فلم يبق لأحد مجال أن يزيد على هذه القواعد أو ينقص منها. أما اللغة فالمقصد
منها الإبانة والإفصاح وهي من وضع الأفراد تتجدد بتجدد الحاجات.
وليس من قصدي أن أبحث الآن في أمور اللغات أهي توفيقية أم وضعية،
فإن ذلك مما فرغ منه العلماء وانتهى بهم البحث إلى الرأي الثاني، حتى إن كثيرًا
من أصحاب الرأي الأول قالوا: إن المراد بما وضع أولاً هو الكلمات التي تدل
على مثل السماء والأرض والهواء مما هو موجود منذ وجد الإنسان، أما ادعاء أن
الألفاظ الدالة على المخترعات والمحدثات مما علمه الإنسان الأول آدم صلوات الله
عليه فهو مكابرة للمحسوس.
ومتى ثبت أنها تتجدد بتجدد الحاجة، فالمحتاج من المتمسكين بها متى علم
أصولها ولهجتها له حق التعريب بالضرورة كما كان هذا الحق لسلفه.
ولا أدري ما الفرق بين من علم اللغة تلقينا من أبيه وأمه وبين من علمها من
معلم غيرهما، واعتمدها بعد ذلك في كلامه وكتابته حتى صارت له ملكة يمكنه أن
يقف ساعة، فيخطب بها من غير أن يحيد عن طريقها، ويكتب كتابًا صحيحًا ويقرأ
في ساعات أو أيام.
إن إخواني الذين يخالفونني في الرأي ويقولون بالتوسع في استعمال المفردات
لا ينجون من تغير الأوضاع والدلالات العربية، فهم لا شك يتفقون معي في أن حق
التغيير للحاجة ثابت لنا، ومتى اتفقنا على نيل هذا الحق لم يبق إلا التخير بين
سهل وأسهل ومفيد وتام الإفادة، ولا مراء في أن اللفظ الذي وضعه واضعه للدلالة
على شيء اخترعه أسهل في الدلالة وأتم في الإفادة؛ لأنه وضع بإزائه تمامًا كما
وضع لفظ الإبريق بإزاء تلك الأداة التي نعرفها بخلاف الكلمة التي نتصيدها من
موات اللغة، فإنها إما أن تكون موضوعة لشيء هو أعم فنخصصها، ويلزمنا إيجاد
القرينة للدلالة على ما نريد، فتحتاج إلى لفظ وقرينة. وإما أن تكون مستعملة في
شيء فيه مجرد مشابهة كما بين الاتومبيل والسيارة، فنحتاج لاستعمال لفظ واحد
للدلالة على معنيين أو معان كثيرة، فالسيارة استعملت للدلالة على معنى هو القافلة
أو الركب، فإذا قلت: جاءت سيارة، هل يفهمني المخاطب بمجرد لفظي؟ أظن لا، بل لا بد مع ذلك من كلمة أخرى مبينة للمراد.
لا أدري ما المانع من أن يدخل في اللغة الترام، ويقال أترم ومترم كما قالوا
لجام وألجم وملجم. إن الكلمة التي تريد اصطيادها قد وضعها واضعها بالضرورة؛
لتدل على معنى خاص، فإذا نحن أخذناها واستعملناها في شيء جديد لم نكن قد
جرينا على لغة العرب؛ لأننا خالفنا أوضاعهم ومقاصدهم، فهم وضعوا بشكى
وجمزى مثلاً للناقة السريعة، فإذا جعلنا كلمة منهما بإزاء الترام نكون بلا شك
وضعنا وضعًا جديدًا لم يسبقنا إليه سابق، واجتلاب مثل هذه الألفاظ بالنسبة
لمحفوظ اللغة كوضع ألفاظ جديدة مؤلفة من أحرف اللغة، فسيان في الاعتراض
على رأيهم أن نقول للترام بشكى وأن نقول له ترام؛ لأن كلا استبداد بوضع اسم
لمسمى لم يكن له وجود قبل الآن. إلا أن وجه الضرر في الأول ظاهر كما يتضح
وجه المنفعة في الثاني، فإنا في الأول نجري على خطة لا أساس لها مع وصف
الخروج عن أوضاع المتقدمين. وفي الثاني نجري على خطة اتبعها سلفنا مع
الوضاحة التامة في الاسم والمسمى، ولا أدري بعد ذلك ما الذي يدعونا إلى تعسف
الطرق.
لعلهم يرون في ذلك رأيًا، فيقولون: إنا باتباع الطريق الأول حافظنا على ما
بين دفتي القواميس، فلم نحد عنه قيد شبر ولم نخرج عما نطق به العرب في
بواديهم، وفي ذلك من احترام الآباء وإقناع الناس بغنى اللغة العربية وثروتها حتى
لا يهزأ بنا هازئ فيقول: إن لغة تربو عدة كلماتها على الثمانين ألفا محتاجة إلى ما
يكملها ويسد ثلمة فيها.
أما دعوى أن هذا محافظة على ما هو عندنا فغير صحيحة؛ لأنها إنما
تكون بالمحافظة على الاسم والمسمى الذي وضع اللفظ بإزائه، وإذا لم نفعل ذلك
كنا قد خيلنا على الناس تخيلاً لا قيمة له، وارتكبنا في التغيير من أوضاع القواميس
ما لا يخفى، لأنا إذا كتبنا لفظًا من هذه الألفاظ التي اخترنا التوسع فيها واستعمالها
لشيء جديد، أنذكر في قواميسنا معنييها القديم والحديث، فنكون ابتدعنا وأوقعنا
السامع والمتعلم في حيرة؟ أم نترك ذكر المعنى القديم ونقتصر على الحديث؟
ووصف هذا بالإفساد في لغة المتقدمين واضح لا يحتاج إلى بيان، وخير منه أن
نذكر لفظ ترام مثلاً بعد الاتفاق على لفظها، ونذكر بجانبها معناها وأنها مما عرب
للدلالة عليه، ونبين تاريخ تعريبها فيكون ما وضعه المتقدمون معروفًا وحده، وما
ألحقه باللغة المتأخرون معروفًا وحده، وهذه هي المحافظة الحقيقية على ما ورثناه
من سلفنا.
وأما أن يغتر مغتر بكثرة ألفاظ اللغة حتى لا نحتاج إلى مزيد، ففيه
غلطتان كبريان، فإن الثروة المزعومة لا نقول بها؛ لأنا إن طرحنا منها المترادف
ما وجد معنا بعد ذلك أكثر من الثلث لهذا العدد، فكثيرًا ما تجد المعنى الواحد له
اسمان فأكثر إلى خمسمائة اسم؛ كما قالوا في السيف والخمر والهر والعسل
وما شاكل ذلك، وهذه ليست بثروة.
والثروة التي أسلم بها إنما هي في أسماء المعاني، وليست داخلة في
موضوع بحثنا وأما عدم الحاجة إلى مزيد فهذا لا تدعيه لغة من لغات الأمم الحية؛
لأن الأمم كلما كثرت حاجاتها وتجددت اضطرت إلى المزيد من الألفاظ في اللغة،
وهذا هو سر الحركة الدائمة في لغات الإفرنج، ترون مجامعهم في شغل دائم لا
يأنفون أن يجدوا يومًا ما في لغتهم كلمة زائدة دلت على معنى جديد، وأكثر أحوالهم
الاستعارة من غير لغتهم، وإذا كنا نرى عقولنا قد وقفت عن الاختراع، فإنا نرى
أنفسنا في حاجة إلى استعمال المخترعات والتعبير عنها.
نرى رجال الجرائد وهم الذين يرجع إليهم معظم الأمر في الإحياء والإماتة
للألفاظ، قد عرض عليهم في بعض الأوقات كثير من الألفاظ، فهجروه واستمروا
على استعمال ما وضعه الواضعون في جرائدهم، فلا يزالون يستعملون تلفون مع
إنه قد ترجم لهم بكلمة (مسرة) ولم أرها في جريدة من الجرائد يومًا واحدًا
ويستعملون أتومبيل ولا يستعملون سيارة؛ لئلا يختلط عليهم الأمران السيارات
السماوية والسيارات الأرضية إلى كثير مما يماثل ذلك، وهذا اعتراف منهم أو على
الأقل شعور بأن طريقة الترجمة والتوسع ضررها أكثر من نفعها وأن طريق
التعريب أوضح مسلكًا.
***
النتيجة
بعد أن بيَّنت لحضراتكم ما قام في نفسي على لزوم السير في طريق التعريب
أقدم لحضراتكم مقترحي حتى تتناولوه بالبحث ليتمحص الحق.
(1) تكوين مجمع يعهد إليه التعريب، ينتظم ممن حيت فيه ملكة اللغة
العربية ومهر في معرفة مفرداتها ولهجاتها، وإنما لزم وجود المجمع؛ لأنه لا
ضرر علينا وعلى لغتنا أشد من استبداد الفرد بالوضع أو التعريب؛ إذ هو مدعاة
للاختلاف وهو أضر شيء.
(2) أن يكون اختصاصه محصورًا في دائرة أسماء الأجناس والأعلام،
فإذا جاءه مسمى حديث أو رأى شيئًا حديثًا مما هو موجود بيننا، ولم يسبق أن
وضع له لفظ، ورأى أن في اللغة لفظًا دالاًّ عليه بنفسه أطلقه عليه وإلا عرب
الكلمة الأعجمية وصيرها موافقة لأوزان العرب، سهلة على ألسنتهم، واتفق على
حروفها وشكل كتابتها وأخرجها للناس بواسطة الجرائد التي هي الحاكمة حكم رجال
عكاظ في العصر الأول، وهي الواسطة في التعليم والإظهار، والواسطة الثانية
رجال التعليم الذين إليهم ينظر من عنده أمل في تحسين اللغة وإصلاحها وخصوصًا
معلمي العربية منهم.
(3) أن يكون للمجمع سجل تقيد فيه هذه الكلمات وإزاءها مسمياتها
موضحة تمام التوضيح، وأحسن ذلك ما كان بالرسم وتشكيل المسمى، ويكتب
أمامها التاريخ الذي وضعت فيه، وإذا كتب قاموس من القواميس تكتب هذه الألفاظ
بصفتها ملحقات للكلمات العربية ويكتب معها تاريخ تعريبها؛ لكي يبقى الأصل
محفوظًا على حدة والمعرب وحده على حدة.
هذا ما أمكنني أن أورده لحضراتكم أيها السادة في هذا الأمر العظيم؛ راجيًا أن
تنظروا إليه بعين عنايتكم حتى تخلصونا من شر نحن فيه، وأنا وأنتم محسون به،
ولا تجعلونا في هذا الدور من أدوار الحياة كالغريق يلتمس ما يخلصه ولا يجده. هذا،
وأسأل الله سبحانه أن يؤيد بروح من عنده مولانا أمير البلاد وسيدها الذي هو
عضد كل نهضة نافعة، أبقاه الله وأطال عمره والسلام عليكم ورحمة الله.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد الخضري
... ... ... ... ... ... ... المدرس بمدرسة القضاء الشرعي
(المنار)
نشرنا هذا الخطاب بنصه إلا كلمات قليلة صححناها؛ للجزم بأنها كتبت خطأ
بسهو من الناسخ، ونحن نوافق صاحبه في جواز التعريب ونخالفه في منع ما عداه
وفي جعل عمل المجمع اللغوي محصورًا في تعريب الأعلام وأسماء الأجناس،
فإننا في حاجة عظيمة للبحث في الاصطلاحات العلمية الكثيرة أيضًا، فلابد من
جعل موضوعه أعم مما ذكر كما علم ذلك من مقدمتنا التي قدمناها على الخطاب،
ولا نبحث هنا فيما عدا الموضوع المقصود من الخطاب، ومنها إغفال ذكر توفيق
باشا عند الكلام على النهضة الثانية للغة، فإن حظها منه لم يكن أقل من حظ
النهضة الأولى من محمد علي باشا، والنهضة الثالثة من عباس حلمي باشا. إن
عهد كل أمير من الأمراء الثلاثة استلزم عملاً، فكان العمل بقدر استعداد العاملين،
ولبيان هذا موضع آخر، وقد فصلناه في تاريخ الأستاذ الإمام تفصيلاً.
(ومنها) قوله في كلمات اللغة العربية: إنها تربو على الثمانين ألفا، وقوله
بعد ذلك: إننا إذا طرحنا المترادف ما وجدنا معنا بعد ذلك أكثر من الثلث لهذا العدد
وكأن القول الأول سبق إلى قلمه من قول بعضهم: إن مواد كتاب القاموس ستين
ألف مادة، وإن ابن منظور زاد عليه في لسان العرب عشرين ألف مادة مع السهو
عما في كل مادة من الأسماء الجامدة والمشتقة والأفعال. وقد نقل السيوطي في
المزهر ونقل عنه الزبيدي في مقدمة شرح القاموس أن المستعمل من الكلام نحو
خمسة ملايين ونصف أو يزيد. ولا حاجة هنا للخوض في ذلك، ولا في بحث
المترادف ونسبته إلى سائر الكلام، ولا في غير ذلك مما يتعلق بهذا المقام، وسننقل
في الجزء الآتي خطاب الشيخ أحمد عمر الإسكندري ونأتي بعده بما يعن لنا إن شاء
الله تعالى.
__________(10/855)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أوربا والإسلام
رأي المنار فيما كتبه موسيو ميلي ونشرناه في الجزء الماضي:
كتب ذلك الوزير في الإسلام والمسلمين كتابة خبير بصير، وقد صدق في
قوله: إن جراثيم الحياة كامنة في الإسلام، وإن الرجوع إلى القرآن بعد تفسيره
واستخراج ثماره بطرق العلوم العصرية هو الذي يعيد الحياة إلى المسلمين (وإن
أمة أوربية تتجرد عن أوهامها القديمة وتفهم هذه الخطة العالية يمكنها أن تتقدم على
غيرها تقدمًا عجيبًا) وقد نصح لأمته إذ نبهها إلى ذلك بقوله بعدما تقدم وذلك في
آخر مقاله: (فاليوم الذي تشمر فيه فرنسا عن ساعد الجد وتسعى في تعليم وتربية
الأهالي - ولا نقصد بذلك أن تلزمهم بنظاماتنا بل أن تسير بهم في مناهج التقدم
الملائمة لطباعهم - هو اليوم الجميل حسب قول موسيو جونار الذي تحصل به على
أكثر من فتح الممالك إذ به تتحقق لها السلطة على الأرواح) .
ولكن هل تقبل فرنسا هذه النصيحة وتقدرها قدرها؟
قرأنا لكثير من علماء فرنسا وساستها كلامًا حسنًا في الإسلام وأماني حسنة
في شأن المسلمين، ولكن ما رأينا لذلك تأثيرًا حقيقيًّا، فصار أكثرنا يحمل ذلك الكلام
وأمثاله على الخلابة والتمويه ومخادعات السياسة، ولكن الكلام المعقول في نفسه إذا
سمعه العاقل عن العاقل لا يمكن له أن يسميه تمويهًا وخداعًا، فأنا أعتقد أن جراثيم
الحياة كامنة في الإسلام، وأن رؤساء المسلمين هم المانعون لها من النمو، وأعتقد
أن دولة أوربية تتمكن من إحياء مملكة إسلامية يعرف لها فضلها جميع المسلمين
ويكون لها منهم قوة تجعل لها مكانة عليا في الأرض، حتى في أوربا نفسها، وقد
سبق لي كتابة في ذلك. وأعتقد أن فرنسا من أقدر الدول الكبرى على ذلك
وأحوجهن إليه. فكيف يمكن أن أعتقد مع هذا كله أن قول موسيو ميلي مخادعة أو
خلابة؟ ؟ أنا موقن بصحة كلامه وصدقه، وربما كان اعتقادي هذا أقوى من اعتقاده
هو. ولكنني أشك في فقه أمته حقيقة ما يقول وقدرتها على الانسلال من الوهم القديم
الذي أشار إليه.
يعدون الشعوب الإسلامية من الشعوب الميتة أو الضعيفة، ولكن منهم من
يقول: إن جراثيم الحياة كامنة فيها. ويعدون فرنسا من أعظم الأمم الحية، ولكن
منا ومنهم من يعتقد أن مكروبات الضعف والانحطاط كامنة فيها. فنقول على هذا
وذاك: إن المسلمين محتاجون إلى دولة كفرنسا تساعدهم على الحياة الجديدة في
شمال أفريقية، وإن فرنسا محتاجة إلى حفظ حياتها القديمة وإمدادها بشعوب قابلة
للحياة والقوة كالمسلمين. وإن هذا المطلب ممكن في نفسه ولكن فرنسا غافلة عنه؛
لأن القوي العزيز قلما يفكر في حقيقة حال من يراه دونه، فهذه عقبة دون المطلب
ومن ورائها عقبة أخرى وهي أن الضعيف قلما يؤمن بإخلاص القوى له،
فالمسلمون إلى اليوم لا يظنون أن فرنسا تريد بهم خيرًا وهم معذورون بهذا، وإنني
أصرح به نصحًا لفرنسا ورغبة في حسن التفاهم بيننا وبينها لعل في ذلك فائدة لنا
ولها. فما قلته هو الحقيقة وإن وُجد في المسلمين من أحسن القول في فرنسا كما
وُجد في الفرنسيين من أحسن القول في المسلمين، فتلك الأقوال لم تغير الحقيقة ولا
يغيرها مثلها، وإنما تغيرها الأعمال. والمسلمون الذين تسوسهم فرنسا لا يستطيعون
أن يستميلوها بعمل أكثر مما هم عليه من الطاعة لها ولكنها هي تستطيع أن تستميلهم
وأن تملك قلوبهم وأرواحهم كما هي مالكة لأبدانهم وأوطانهم، فهي التي يجب عليها
الابتداء بالعمل.
ربما يظن بعض المغرورين بقوتهم أن حال الجزائر خفية، لا يعرف حقيقتها
مسلمو مصر والشام والحجاز وسائر المشرق. الحق أقول لهؤلاء: إن تلك الحال
ليست بخفية، فإننا نعرفها ونشعر بشعور أهلها ولكن ما كل ما يعلم يكتب، وإنما
كتبنا الآن هذه الكلمات؛ لما رأينا من بارقة الأمل في حسن التفاهم والسعي إليه
بالعمل.
لا نطلب من فرنسا للمسلمين أكثر مما أشار إليه مسيو ميلي، وهو السعي في
تعليمهم وتربيتهم، بالقيد الذي ذكره والشرط الذي اشترطه، وهو أن يكون القصد
تقدمهم بما يلائم طباعهم لا إلزامهم بنظامات فرنسا وعاداتها، فضلاً عن شرائعها
ودينها، فالمطلوب مساعدتهم على إحياء لغتهم ودينهم، وإنماء ثروتهم مع تعليمهم
العلوم والفنون العصرية بالتدريج الملائم لحالهم.
يسهل هذا على فرنسا إذا قنعت من الاستعمار والامتلاك بما دون تحويل
المسلمين عن لغتهم ودينهم ورقبة بلادهم، ولها بعد ذلك من موارد الثروة ومصادر
القوة ما شاءت مع الرضا والحب.
يعلم كل الملمين بأحوال السياسة من المسلمين أن فرنسا طامعة في الاستيلاء
على المغرب الأقصى وتأليف إمبراطورية أفريقية إسلامية، وأهل الرأي منهم
يعلمون أن شجاعة أهل المغرب واستبسالهم لا يدفعان عنهم ما تريده فرنسا بهم مع
جهلهم وتفرقهم وكون بأسهم بينهم شديدًا. ولكن سياستها إياهم بمثل ما ساست به
الجزائر في الماضي قد يراها المغرورون أمرًا يسيرًا، وهي في الحقيقة من أعسر
الأمور وأشدها تعقيدًا وخطرًا على فرنسا في المستقبل، ويظن المغرورون أن تغيير
السياسة في الجزائر تغييرًا صوريًّا كاف في إرضاء المسلمين في تلك البلاد،
وإقناعهم في سائر البلاد بأن فرنسا تريد ترقيتهم مع المحافظة على دينهم ولغتهم.
والحق أنه لا يفيد في الأمر إلا الإخلاص في العمل وهو لا يخفى على أحد.
أقول هذا لفرنسا وأنا ناصح أمين، وإنما أنصح لها لاعتقادي أن في مصلحتها
هذه خيرًا للمسلمين، بل أعتقد أن فرنسا لو جعلت لأهل الجزائر واليًا منهم لكانت
فائدتها من ذلك أكبر من فائدتهم، فهل تلومني أمة الحرية إذا صرحت لها باعتقادي
هذا، وتعاقبني عليه بمنع هذا الجزء من المنار أن يصل إلى الجزائر؟ كلا بل أظن
أنها تقدر كلامي قدره، فإن لم تقدره اليوم فلابد أن تقدره في يوم آخر.
بل نحن نعلم أن فرنسا ما رضيت أن يكون سلطانها على تونس سلطان حماية
لا سلطان امتلاك رسمي؛ إلا لما استفادته من العبرة بحال الجزائر التي نعرفها نحن
وهي أعرف بها منا. ولكن ما عملته في تونس منتقد من وجوه كثيرة، والمنة بما
فيه من إصلاح أكبر منه. وقد شكرنا لها في هذه الأيام ما كان من التنفيس عن حملة
الأقلام، وإنشاء مجلس الشورى وإن كان دون المرام، فعسى أن يكون هذا بدء
سياسة مثلى يشكرها لها الإسلام.
__________(10/867)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات
(اللباب في أحكام الزينة واللباس والاحتجاب)
سئل الشيخ محمد مصطفى أحد علماء الجزائر عن حكم الزينة واللباس في
الإسلام وعن حكم احتجاب المرأة فأجاب عن ذلك بنحو خمسين ورقة، وطبع ما كتبه
وأهدى إلينا منه نسخة فتصفحنا منها أوراقًا من مواضع مختلفة فلم نجد إلا قولاً
قويمًا واختيارًا في النقل حسنًا. والمؤلف أدام الله النفع به متتبع لحركة العلم واقف
على سير الإصلاح الديني والاجتماعي، وهو ينقل في مقالته هذه وفي غيرها من
تصانيفه عن كتب الأستاذ الإمام وعن المنار نقولا تدل على دقه الاستقصاء وحسن
الاستحضار ومراعاة حال العصر وتطبيق الأحكام على مقتضى الحال، ومن نقوله
واختياره في مسألة الحجاب ما يأتي:
وقال - يعني الآلوسي - في تفسير سورة النور: المشهور من مذهب
أبي حنيفة أن الوجه والكفين والقدمين ليست بعورة مطلقا فلا يحرم النظر إليها.
وقد أخرج أبو داود وابن مردويه والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها أن
أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق؛
فأعرض عنها وقال: (يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها
إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه صلى الله عليه وسلم) ، وأخرج ابن أبي شيبة
وعبد بن حميد عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) رقعة الوجه وباطن الكف، وأخرجا عن ابن عمر أنه قال: الوجه
والكفان. ولعل القدمين عندهما كالكفين إلا أنهما لم يذكراهما اكتفاءً بالعلم بالمقايسة؛
فإن الحرج في سترهما أشد من الحرج في ستر الكفين لا سيما بالنسبة إلى أكثر
نساء العرب الفقيرات اللاتي يمشين لقضاء مصالحهن في الطرقات) اهـ.
وقال المحقق ابن عابدين في رد المختار على الدر المختار ما نصه: (وفي
شرح الكرخي: النظر إلى وجه الأجنبية والحرة ليس بحرام، ولكنه يكره لغير
حاجة) اهـ
ونقل عن السادة الحنابلة أن ستر وجه المرأة ويديها ليس واجبًا. ويروى عن
القاضي عياض الإجماع على أن المرأة لا يلزمها في طريقها ستر وجهها وإنما هو
سنة وعلى الرجال غض البصر عنها لقوله تعالى {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ} (النور: 30) .
وقال في شرح مختصر سيدي خليل عند قوله: (ومع أجنبي غير الوجه
والكفين) ما يأتي: يجوز للأجنبي المسلم أن ينظر إلى وجه المرأة وكفيها من غير
عذر ولو شابَّة، إلا لخوف فتنة أو قصد لذة. وهل يجب عليها حينئذ ستر وجهها
أو لا يجب عليها ذلك؟ خلاف بين ابن مرزوق وعياض، وفصل الشيخ زروق في
شرح (الوغليسية) بين الجميلة فيجب عليها، وغيرها فيستحب اهـ.
وقال المحقق سيدي محمد الخرشي في سراجه على المختصر المذكور ما نصه:
قال مالك (تأكل المرأة مع غير ذي محرم ومع غلامها، وقد تأكل مع زوجها
وغيره ممن يؤاكله) ، (قال) ابن القطان: فيه (أي في قول مالك) إباحة إبداء
المرأة وجهها ويديها للأجنبي؛ إذ لا يتصور الأكل إلا هكذا اهـ.
وقال الفاضل عبد الحميد أفندي الجابري في مبدإه ما نصه: ليس في الأمر
الشرعي أو فيما اعتاده المسلمون ما يمنع النساء عن مخالطة بعض الرجال الأجانب
عنهن بقدر الحاجة لغرض صحيح ومنفعة حقيقية، كالتماس حرفة أو تجارة تلائم
حالهن أو تستدعيها ضرورتهن، أو تعلم علم بدون أن يتبرجن لهم بزينتهن أو يقعدن
معهم مقعد اللهو والطرب ... إلى أن قال: قد تكون المرأة لا معيل لها من الرجال
فنضطر لأن تقوم بأود نفسها ويكون من مقتضيات كسبها مخالطة الرجال أو حضور
بعض مجامعهم، فمن كانت كذلك فهي لا تمنع عن تلك المخالطة ولا تعاب في عادة
المسلمين عليها بقدر الحاجة للاكتساب لا سيما إذا لم تكن شابة حسناء، فإنها يعطى لها
في ذلك تمام الحرية اهـ.
نعم، الخلوة بالأجنبية حرام أو مكروه. قال صاحب الدر المختار: وفي الأشباه
الخلوة بالأجنبية حرام إلا لملازمة مديونة هربت ودخلت خربة أو
كانت عجوزًا شوهاء أو بحائل اهـ.
ونقل محشيه ابن عابدين عن القنية أن الخلوة بالأجنبية مكروهة كراهة
تحريم. وعن أبي يوسف ليست بتحريم ... إلى أن قال: إن الخلوة المحرمة تنتفي
بالحائل وبوجود محرم أو امرأة ثقة قادرة. وهل تنتفي أيضًا بوجود رجل آخر
أجنبي؟ لم أره اهـ. قلت: ذكر بعض المالكية أنها تنتفي بذلك.
ثم قال المؤلف بعد هذه النقول:
وكل من اطلع على الكتب التاريخية يعلم أن التبرقع ليس من مخترعات
الإسلام (يعني أهله) فقد كانت نساء اليونان يستعملن البرقع إذا خرجن من بيوتهن
كما هو الآن عند المسلمات وعند غيرهن من النساء الشرقيات في الشام ومصر.
ولا يخفى أن نساء قبائل البربر وغالب عرب البادية لا يسترن وجوههن عن الأجانب
ومع ذلك فهن لسن بخارجات بهذه العادة عن دائرة الدين الإسلامي.
وقال بعض الحكماء: قد يجر التشديد في الحجاب الزائد على أصل الشرع إلى
فساد صحة المرأة؛ إذ بإلزامها القعود في مسكنها دائما تحرم من منافع الهواء والشمس
وسائر أنواع الرياضة الجسمية والعقلية، ولذلك كان معظم نساء المدن عليلا ضعيفا،
ومتى ولدت إحداهن مرة تضعضعت بنيتها وبدت كأنها عجوز وهي في ريعان
الشباب، ولا يمكن أن تنتج أبناء أقوياء تقوم بتربيتهم كما ينبغي إذا كانت مضطرة
إلى البطالة ممنوعة من جميع الحركات المفيدة في نموها بدنا وحجى، بخلاف نساء
البوادي فإنهن لما كن يتعاطين الأعمال الشاقة من الاحتطاب والسقي وتنقية المزارع
والحصاد وجمع الزيتون وما أشبه ذلك - صرن في الغالب أصح أجساد وأصفى لونًا
من المدنيات.
ولم يشدد في الاحتجاب إلا السادة الشافعية وأفتى غيرهم من المتأخرين
بقولهم، وعللوا ذلك بفساد الزمان. ولذلك قال عدة من متأخري الفقهاء الحنفية: حل
النظر إلى وجه المرأة مقيد بعدم الشهوة وإلا فحرام. وهذا في زمانهم وأما في زماننا
فيمنع النظر إلى وجه الشابة ولو من غير شهوة لا لأنه عورة بل لخوف الفتنة) .
(المنار)
إن جمهور الشافعية القدماء على أن النظر إلى الوجه والكفين غير محرم
لأنه ليس بعورة اتفاقا. قال الرملي في نهايته هذا القول الذي ضعفه النووي ونسبه
الإمام للجمهور، والشيخان للأكثرين وقال في المهمات أنه الصواب.
واستدل لتصحيح النووي التحريم باتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن
سافرات وبمظنة الفتنة. وما ادعوه من الاتفاق غير صحيح وإنما هو من فعل
الأمراء في المدن خاصة، ولا حجة فيه فيبقى مظنة الفتنة وقد أفتى بعض الشافعية
بحرمة النظر إلى وجه الأمرد لهذه العلة، وهو ما صححه النووي في المنهاج وكل
ذلك اجتهاد من المتأخرين، وقد خالف كثير من الفقهاء المتأخرين أقوال من قبلهم بعلة
فساد الزمان، ولعلهم لا يعرفون حقيقة الفرق بين زمانهم وزمان أولئك السابقين. فقد
عهدنا أهل كل زمان يذمون زمانهم. والمؤلف لم يحفل بهذا الاجتهاد فقد قال بعد ما
تقدم:
(والحاصل أنه يحرم على الرجل نظره إلى حرة أجنبية مشتهاة ما عدا الوجه
والكفين) ثم بين وجه هذا الاستثناء تبيينا وقد سلك نحو هذا المسلك في النقل
والاختيار في سائر المسائل التي تقدمت الإشارة إليها فنحمد الله على وجود مثله في
تلك البلاد.
***
(بلوغ الأرب. في مآثر الشيخ الذهب)
كتاب في جزئين للشيخ أحمد جمال الدين التونسي أحد مدرسي الطبقة العليا في
جامع الزيتونة بتونس. والشيخ الذهب شيخه في الطريق. والكتاب محشو
بالخرافات والدجل فيسوءنا ويحزننا والله أن يكون منسوبا إلى أحد مدرسي الطبقة
العليا في تلك المدرسة الدينية التي تلي الأزهر في الشهرة، وأن نرى عليه تقاريظ
اشهر علماء تلك البلاد ومنهم من نُجلّه عن تقرير الخرافات والثناء على كتاب هي
فيه وعلى مؤلفه ويغلب على ظننا أن من علماء الإسلام في تونس من يقرظ الكتاب من
غير أن يطلع عليه اطلاعا يكفي للحكم عليه اكتفاء ببيان مؤلفه لموضوعه وعملاً
بحسن الظن فيه، كما هو شأن أكثرهم في مصر وسوريا كما نعلم بالاختبار. وقد
رأيت تقريظا للشيخ محمد الإنبابي شيخ الأزهر الشهير في زمنه على كتاب لبعض
الرفاعية كله طعن قبيح في الشيخ عبد القادر الجيلي وفي طريقته وأهلها وفيه من
الجهل بالدين والتصوف العجب العجاب، وهذا الكتاب هو الذي حملني على تأليف
كتاب (الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية) وأنا يومئذ في حجر
الاشتغال والتحصيل. فهذا ما نعتذر به عن تقاريظ من نُجلَ من أولئك العلماء.
وليست الخرافات هي كل ما ينقد في هذا الكتاب، بل تجد عبارته عامية
الأسلوب كثيرة اللحن والغلط وفيه من تحريف آي القرآن العزيز عن مواضعها ما لا
يصدر من عالم. وإنني أنقل نموذجًا منه ليعتبر بعبارته ومعانيه وعقل مؤلفه
المعتبرون.
جاء في ص 39 وما بعدها من الجزء الأول ما نصه:
(لطيفة) كان ورد على الحاضرة (أي تونس) عالم جليل بصير يقول:
أن أصله مغربي شريف أثناء مدة الأمير الصادق باي وأنزلوه بعلوة النيفر الكاين،
بدريبة غربال وهو في أبهة وخدمة له برره وهو في فصاحة الكلام وبلاغته آية من
آيات الله يحفظ ألف بيت كل كلماته شوارد اللوغة! متفنن حضرته؟ يتكلم في علم
الكلام والتصوف بكلام عجيب.
ووافق أني كنت عنده يوما فجاء المرحوم الشيخ محمد السنوسي الأديب
فقال له الشيخ أين الوعد فقال له في محلى فقال ما قيدت نفسي بمحلك ثم التفت إلى
الشيخ وقال احكم بيننا فقلت له ما عرفت الموضع فقال قرر له الموضع فقال
الشيخ السنوسي: إني كنت عند السيد فسمع ذكره؟ وطبلا فقال لي هذا سماع بلادكم
قلت هذا سماع البوادي وسماع بلادنا ستسمعه في محلي فقلت للشيخ أورضيتم بأن
أحكم بينكما قال نعم قلت يا شيخ السنوسي؟ يلزمك أن توفي الوعد؟ في محل
السيد لا في محلك فضحك متعجبا من هذه المعاملة المنافية للحكم في ظنه فقلت له يا
هذا إن هؤلاء إذا سمعوا السماع؟ ربما صاحوا وربما مزقوا ثيابهم وربما طاروا في
الهواء ولا يصلح بهم أن يحضروا معهم من لا يكون على حالهم لا سيما النساء
ودارك مملؤة بالأجانب عنهم فضرب السيد الكف على الكف وقال صوفي ورب
الكعبة فقلت له أمين يا رب العالمين؟
ثم حكى لنا أعجوبة في السماع حضرها عند ملك المسلمين في ذلك التاريخ
الكاين؟ في الصين وأصلهم من الأربعة آلاف الذين أرسلهم أبو جعفر المنصور
العباسي بمطلب من سلطان الصين فنصروه على القائمين عليه ثم خيرهم بين الإقامة
على الإكرام التام أو الرجوع؟ فاختاروا الأول قال نزلت عنده ضيفا فاكرم نزلي ثم
جاءني يوما وقال لي يا ابن بنت رسول الله هل لك شيء ترغبه ولم أوفيك به قال
فقلت له لقد نزلت عند ملوك المسلمين والنصارى وما أكرمني أحد مثلك ولكن بقي
عليك شيء واحد وهو السماع فقام على قدميه وقال: الأمان يا رسول الله وغدًا
نستعمله. ثم أرسل لي؟ ولما جئت وجدت مجلسًا محتفلاً بالعلماء والوزراء وهو
بينهم فأجلسني بإزائه وأمامهم نصف دائرة من الكراسي ثم أذن على الجواري فخرجن
من تحت الستور واحدة بيدها عود وبيد الآخرة؟ مزمار وبيد الأخرى طار إلخ وجلسن
على تلك الكراسي قال: ثم التفت إليَّ وقال: أي السماع نقدم: العربي أو الصين؟
فقلت: الأول مراعات للغته عليه السلام فترنمن وتنغمن بألحان؟ تسري مسرى
بنات الحان، وأصوات توقف الطير وتحرك الجان أو ما معناه ولما راق السماع
وسرى في الأرواح سريان الراح أو معناه أنشدت جارية منهن بيتين بديعين؟
وأجادت في إنشادهما قال: فما راعنا وإلا واحد من العلماء صاح وصعق ورمى بنفسه
على الجارية فقبلها وسقط مغشيا عليه فاشتد غضب الملك عليه وأمر بالجواري أن
يدخلن تحت الستور وقال إني أريد أن أقتله قال: فقلت له لا يحل دمه بصغيرة ثم
هو الآن في حال الدهاش ولا اختيار له ثم دخل الملك محلا آخر ولبس لباسًا رسميًّا
وخرج فوقف الوزراء الموقف الرسمي وأعاد الكلام عازما على قتل الرجل وأنا
ألاطفه بعدم الجواز فإذا بالرجل انتبه من الدهشة وقال ما هذه الغوغاء؟ قال له: إني
أريد أن أقتلك لأنك تجاسرت علي في مجلسي وقبلت جاريتي فقال ما فعلت ذلك شهوة
في جاريتك وإنما براعة الكلام ورقة معانيه ذكرتني كمال رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: ثم قال: اللهم اقبض روح بثينة وهي هذه الجارية فسمع البكاء من وراء
الستار وأخبروا أن الجارية قد ماتت فانخذل الملك عند ذلك وتروع ثم قال له ذلك
العالم: أتريد قتلي وأنت لك ما ينيف على كذا وكذا سنة في بركة دعائي وأقسم له أنه
ما بقي يراه وسترى ما يحل بك بعدي ثم فقد العالم من المجلس فسقط في يد الملك
وعلم أنه هلك ومُزِّقَ ملكه قال: فتركته في حالة يرثي لها وغير بعيد حل به ما حل
هكذا سمعت منه وهو حاصل المعنى اهـ.
(المنار)
نقلنا هذه الخرافة بنصها وأشرنا إلى بعض مواضع الانتقاد اللفظي فيها بعلامة
الاستفهام (؟) وكثير من الدجالين ينسبون إلى البلاد المجهولة عند من يحدثونهم كما
فعل ذلك الشيخ المغربي بحكايته للمؤلف ولا يخطر في بال أحد منهما أن حال بلاد
الصين معروفة لغيرهما وليس فيه ملوك مسلمون ولا جوار عربيات، أما المفاسد
والضلالات الدينية في هذه الخرافة فلا حاجة على شرحها، فما زال هؤلاء المضلون
يمثلون أولياء الله للعامة بأنهم يتهجمون على المحرمات ويتصرفون فيمن ينكر عليهم
بالإيذاء! ! فالمؤلف الذي ينشر هذا الدجل والتضليل جدير بأن يطعن في شيخ
الإسلام ابن تيمية وأمثاله من الأئمة حماة الكتاب والسنة.
***
(اليواقيت الثمينة في أعيان مذهب عالم المدينة)
كتاب في تراجم المتأخرين من علماء المالكية للشيخ محمد البشير ظافر
الأزهري صدر الجزء الأول منه مطبوعا على ورق حسن وقد جعله ذيلا لكتاب
(نيل الابتهاج بالذيل على الديباج) للشيخ أحمد بابا التنبكتي نزيل مراكش المتوفى
سنة 1036 المطبوع بفاس.
قال الشيخ محمد البشير أذكر فيه من أغفلهم من أهل القرن التاسع والعاشر
ذاكرا من أتى بعده إلى زمننا هذا. وليته جعله رأسا أو جسدا كاملا ولم يجعله ذيلاً
فإن أهل هذه البلاد قلما يطلعون على كتاب طبع في فاس ومن يطلع عليه لا يقرأه
لأنه يكون غالبا بخط مغربي قبيح لانهم يطبعون في مطابع الجحر، وقد تعب
البشير في جمع تراجم من ذكرهم وراجع في ذلك كثيرًا من الكتب فنحمد له هذه
الهمة ونحث القراء على اقتناء كتابه تنشيطًا له على إكماله وتأليف غيره، وثمن
النسخة منه عشرة قروش وأجرة البريد قرشان وهو يطلب من مكتبة المنار وغيرها
من المكاتب المشهورة.
__________(10/870)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شيء من سيرة حسن باشا عبد الرزاق
(علمه وأدبه)
نبت حسن باشا في بيت كريم وجاور في الأزهر تسع سنين تلقى فيها من
فنون العربية وعلوم الشريعة ما رأى نفسه غير محتاج إلى تلقي غيره فيه.
وهكذا شأن النابغين تكون مدة تعلمهم قصيرة في الغالب وكم من طالب أقام في
الأزهر عشرات السنين ولم يستفد منه ما يطمعه في شهادة العالمية. وكان من
شيوخه الشيخ نصر الهوريني اللغوي الأديب الشهير، ولعله هو الذي رغبه في
الأدبيات فكان يحفظ كثيرا من مختار الشعر ويورد في حديثه الشواهد والأمثال منها
فيضعها في مواضعها، وكان لنا معه محاضرات أدبية يسمعنا فيها أكثر مما يسمع
منا. وقد نظم الشعر كثيرا ولكنه لم يبذله فلم يشتهر به.
أما علمه بأصول الدين وأحكام الحلال والحرام، فقد ظهر أثره في جميع أدوار
حياته فلم تعبث بعقيدته الشبهات على اتصاله بأهلها، ولم تزلزل استقامته معاشرة
المترفين المسرفين مع الحكام مع الشباب والجدة اللذين هما أشد مثارات الافتتان.
وأما علمه بالفقه فقد ظهر أثره في مجلس الشورى إذ هو الذي أعانه على فهم
القوانين ودقة النظر في انتقادها على كونه لم يتلق علم الحقوق بالدراسة.
(مزيته في أمته، بسياسة أسرته)
لهذا الرجل مزية في بلاده لا يفضله فيها أحد قط فيما أعلم، مزية لو تبعه فيها
أصحاب البيوتات لنالت البلاد بهم ما يتمنى لها محبوها من الارتقاء في أقرب وقت،
مزية يمكن شرحها في مصنف خاص ولا يسعنا هنا إلا الاكتفاء بالإشارة إليها بعبارة
وجيزة.
من المتفق عليه بين العقلاء أن لحياة الأمة وارتقائها مبدأ وغاية فالمبدأ هو
التربية الحسنة في البيوت والتعليم النافع للأفراد، وغايتها اتحاد من أوتوا المبدأ على
العمل لرقيها المادي والمعنوي. فنحن نرى العقلاء يشكون من إهمال التربية الحسنة
في البلاد ومن فقد الاتحاد بين المتعلمين حتى كأن المتعلمين في الأزهر أمة
والمتعلمين في دار العلوم أمة والمتعلمين في سائر المدارس أمة - وكل أمة من هذه
الأمم بعيدة عن الأخرى في أخلاقها وأفكارها. ولا أزيد على ذلك هنا. فكيف ربى
هذا الرجل الحكيم أولاده؟
علم أبناءه - حسنا وحسينا ومحمودا - علم الحقوق وجعل الأول محاميا
أهليا ومدرسا بمدرسة البوليس وألزم الثاني بعد أن قبل محاميا في المحاكم المختلطة
بأن يكون عمدة في بلدة (أبو جرج) ولولا حسن التربية الأدبية الدينية لما ترك
الإقامة في العاصمة مع أقرانه في العلم ورضي بأن يكون عمدة جل عمله مع
الفلاحين طاعة لأبية. وجعل محمودًا في الإدارة فكان معاونًا في قسم الأزبكية ثم
ترقى فصار مأمور الضبط في الفيوم وجعل أبنيه مصطفى وعليًّا مجاورين
في الأزهر ولعله لا يوجد فيه من أولاد الباشوات الأغنياء غيرهما لأن كبراءنا
يعدون المجاورة في الأزهر ضعة وضياعًا.
وهما الآن في ذروة المجاورين تحصيلاً، يمتازان بالأدب العالي وحسن
الإنشاء. وللشيخ مصطفى من المنظوم والمنثور ما يجعله في بدايته مزاحمًا
للمجيدين في نهايتهم، وجعل ابنه إبراهيم في مدرسة الزراعة وابنه إسماعيل في
مدرسة الناصرية وهو صغيرهم الذي لا يزال في حجر التعليم الابتدائي، فلا أدري
أين كان يريد أن يوجهه بعد ذلك ولعله كان يرشحه لخدمة المعارف.
وقد علم من هذا أنه كان يريد أن يجعل كل واحد من أولاده السبعة في أفق
من آفاق أعمال البلاد ليكونوا قدوة يقتدى بهم في صدق الخدمة مع المحافظة على
مقومات الأمة الدينية والاجتماعية ودعاة للوحدة وحسن التفاهم بين جميع طبقاتها
المختلفة في التربية والتعليم، فيكونوا بذلك كالكواكب السبعة السيارة كل يدور في
فلكه مع حفظ النسبة بينه وبين غيره بالجاذبية العامة.
أما الجاذبية العامة بين هؤلاء فهي التربية التي كان يمدهم بها كبيرهم الذي
كان منهم بمنزلة الشمس من كواكب السماء بجمعه بين الزي المصري من الجبة
والقباء والعمامة ورتبة الباشوية، وبين إقامة شعائر الإسلام والآراء العصرية،
والمستحسن من مظاهر المدنية، والقيام بالخدمة القانونية والسياسية، فما كان أروع
تلك المائدة التي يستدير معه حولها حملة العمامة والطربوش الذين صار بين أمثالهم
من البعد في مصر ما هو معروف.
بل كان ولا يزال - ولن يزال إن شاء الله - في ذلك البيت اجتماع أروع
وأبدع وهو الاجتماع الأسبوعي في كل ليلة جمعة لإلقاء الخطب الاجتماعية والأدبية
والمذاكرات العلمية والدينية، وهذا الاجتماع عام لكل من يحضره من أسرة
عبد الرزاق. فالمرحوم كان مربيا لإخوته وولدهم أيضًا. فأي تربية ترجو البلاد
أفضل من هذه التربية؟ وما قولكم في أمة تتألف من مثل هذا البيت أو يكثر أمثاله
فيها؟
(خدمته للأمة)
أما خدمة الرجل لأمته في مجلس الشياخات بمديريته (المينا) وفي شورى
القوانين نائبا عنها مدة ثماني عشرة سنة ثم في شركة الجريدة وحزب الأمة فهو
معروف مشهور. فقد كان عضوا عاملا ومثالا صالحا في فهمه ودقته واستقلاله
وحريته، كما كان قدوة في صلاحه واستقامته، تغمده الله بمغفرته ورحمته.
أمين
__________(10/877)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مصائب الأمة الإسلامية بفقد رجالها
(وفاة ذكاء الملك)
ما نفضت الأمة الإسلامية يديها من غبار دفن النواب محسن الملك المصلح
العظيم في الهند ولا رقأت دموعها عليه إلا وفاجأها نعي ذكاء الملك، العالم
الاجتماعي والكاتب البليغ وداعية الإصلاح المؤثر صاحب جريدة (تربيت)
الفارسية التي كانت تصدر في طهران عاصمة الفرس. وافاه الأجل المحتوم في
رمضان، وتأخر نعيه عنَّا وسنترجمه في الجزء الآتي أو ما بعده. وقد علم القراء
أن حسن باشا عاصم توفي على إثره في أول شوال، وتلاه حسن باشا عبد الرزاق،
وكلاهما من رجال الإصلاح وأركان النهضة في مصر.
***
(إبراهيم بك اللقاني)
مازلنا بعد ذلك نتمثل بقول الشاعر: (تكسرت النصال على النصال) أيامًا،
وإذا بالمنية قد أقصدت بسهم آخر نابغة النابغين وأفصح الخطباء وأبلغ المنشئين
العالم القانوني صديقنا إبراهيم بك اللقاني المحامي الشهير وهو أرقى تلاميذ السيد
جمال الدين بعد الأستاذ الإمام، وكان له في تلك النهضة الجمالية المقالات الرائعة،
والخطب النافعة. ولكن الأمراض حالت بين الأمة وبين مساعدته لها بالإصلاح في
هذه السنين حتى وافاه الأجل المحتوم، فكان أكبر عزاء أهل العلم والأدب عنه أنه
كان من تبريح مرض السل به لا راحة له في الحياة، ولا نفع للأمة منه، ولا أنس
للأصدقاء به.
وسنذكر شيئًا من ترجمته في جزء آخر
***
(الشيخ علي حسين)
ثم لم نلبث بعد دفن هذا الصديق الكريم إلا أيامًا حتى بُغتنا بوفاة صديقنا الشيخ
علي حسين أحد مساعدي التفتيش في نظارة المعارف بعد إلمام مرض السل (الذي
اغتال اللقاني قبله) به زمنًا قصيرًا فيما نعلم وهو في شرخ الشباب ومقتبل العمر.
تخرج في مدرسة دار العلوم، واشتغل بالتعليم في المدارس زمنًا ثم بتفتيش
الكتاتيب في الأرياف، ثم في العاصمة. وكان من حزب الإصلاح الديني
الاجتماعي، ثابتًا في رأيه، بصيرًا في أمره، هادئًا ساكنًا في عامة أحواله، كثير
البحث في الأمور العامة، والتتبع للحوادث السياسية، فلو سألته عن حوادث حرب
الدولة العلية واليونان أو حرب روسيا واليابان مثلاً لسردها عليك سردًا منتظمًا،
وذكر لك آراء وميول الجرائد والدول فيها، كأنما يقرأ من تاريخ مدون. وكان
صادق الحديث، صادق الود، دقيق النقد إلا أنه قليل البشاشة، قليل الحركة
والرياضة. وكنت أنتقد منه هذا وأكثر عذله عليه. ولا ريب أنه هو الذي أعده
للمرض الذي اغتاله، وإذا أراد الله أمرًا هيأ أسبابه.
عني أخوه الكبير (لأمه) الشيخ محمد المهدي المدرس بمدرسة القضاء
الشرعي بتمريضه، ولا عناية الوالد الرحيم بالولد البار النجيب، وبذل من وقته
وماله في خدمته ما لم يفده إلا الأجر وحسن الذكر دون ما كان يحرص عليه من
صحته وعافيته؛ فتوفاه الله تعالى في بيته فجهزه الجهاز الشرعي، وبعد تشييعه
ودفنه أوعز إلى بعض الجرائد فنشرت عنه أنه لا يقيم الاحتفال المعتاد المعروف
بالمأتم؛ لأنه ليس من السنة، وإنما هو من العادات التي أوهمت بعض الجرائد
العامة أن القيام بها ثلاث ليال من السنة، فرأى الشيخ المهدي موت أخيه فرصة
يعلم الناس بها قولاً وعملاً أن ذلك ليس من السنة في شيء. والعمل أبلغ من القول
ومنه الكف وترك القادر. وقد توهم بعض الناس بذلك أنه لا يقبل تعزية الناس
ويعدها بدعة وهو توهم باطل، فقد عزيناه في داره، فلا زال مؤيدًا للسنَّة في أقواله
وأفعاله.
__________(10/879)
ذو الحجة - 1325هـ
فبراير - 1908م(10/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطاب الشيخ أحمد الإسكندري في اللغة العربية
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها السادة الأفاضل:
إني لأحسبني سعيدًا موفقًا أن أقف الليلة معبرًا بلسان جمهور عظيم من أبناء
اللغة العربية وحراسها وكفاة حاجها، وحماة ذمارها من حاضري مجلسنا هذا وغير
حاضريه، ومن كل من يصلي إلى القبلة أو ينطق الضاد.
أولئك الذين سأرى منهم من يشد أزري ويقيم عذري؛ إذا تنكبت عن
محجتهم، أو فَتَر همي دون استيعاب آرائهم، واشتفاف ما في مزادتهم، فإن لكل فكر
غاية، ولكل رأي شرعة، ورحم الله من استدرك فائتًا فنبه إليه، وأبصر ضائعًا
فدل عليه، ولا تزال الجماعة من الناس بخير ما بقيت فيهم نَصَفَة لأنفسهم، وارتياح
للحق أَنَّى جاءهم، فإن هم استمرؤوا المراء والعنت وخاطروا بمروآتهم في مصارعة
الحق غضبًا للنفس وتعصبًا للهوى، فلا والله إن أفلحوا في أمر، أو أبلوا في عدو.
هذا الذي أعرفه فيكم من النصفة في الحكم، والمظاهرة للحق، والحفاظ على
سلامة اللغة، والنعرة في تشريف الجنس - هو الذي أطمعني في حسن الظن بأن
مقالي هذا سيستجيش عزائمكم، ويستثير هممكم، ويستنصر حفائظكم؛ لمناهضة
العجمة التي كادت تجهز على لغتكم، وتنازعكم وجودكم، وتنسخ من الدنيا جنسكم
وملتكم، وهو الذي هون عليّ أن أبدأ بالتكلم في ذلك فأقول:
حالة اللغة في
زمنيها الماضي والحال
شهد العدو قبل الصديق بأن لغة العرب أفسح اللغات مجالاً لقائل، وأخفها
جرسًا على سامع، وأنها أجلى اللغات بيانًا وأعذبها منطقًا وأغناها لفظًا وأوفرها
أسلوبًا، وأخصرها عبارة، وأوضحها تمييزًا وإعرابًا. ولو حاولت الاستشهاد على
ذلك بأقوال علماء اللغات من شرقيين وغربيين لصرفت وجه القول عن موضوع
الليلة، ولما وسعتني ليلة أو ليال ولو وقع ذلك مني في كتاب حافل، ولكني أترك
الحكم بصحته لعزيز علمكم وجميل إنصافكم.
هذه اللغة التي خدرها أهلها عن التبذل لسواها، وصان حُرَّ وجهها أولياؤها
عن مسألتها غيرها منذ أزمان سحيقة، وعصور متوغلة في القدم يتضاءل أمامها
التاريخ، ويتصاغر دونها عدد المئات والألوف، وقد تناوبها ما يتناوب كل طويل
العمر من سعادة وشقاء وشدة ورخاء، فلشد ما تنكر لها الدهر فصابرته، وصارمها
الصديق فحاسنته، كما طالما أشرقت لها أسارير الزمان، وأطلق لها في كل شيء
الرسن والعنان، فمرت بها عصور سعد كانت فيها لغة العلم والحكمة، لغة الخطابة
والمحاضرة، لغة الجدل والمناظرة، لغة الشعر والأدب، لغة الشريعة والدين، لغة
القضاء والأحكام، لغة القرآن الكريم. وهي بعد لم تفقد من هذه الخصائص والمزايا
إلا قليلاً، وما كانت سعادتها وشقاؤها إلا بإقبال أبنائها وإدبارهم، فإن هم كانت لهم
دولة في الملك والعلم ضمت اللغة إلى حضنيها جميع العلوم والفنون، وبسطت
جناحيها على سائر المعاني والأغراض، ولم تقف عند حد كفايتها لحاجات أبنائها، بل
تعدتهم إلى من دان لهم ودخل في عهدهم، وإن دالت دولتهم وأسلم اللغة أهلها
للغريب؛ تقلص ظلها وتقبضت أطرافها، وفترت عن مدافعة ذوي الطول والغلب.
تعتبر ذلك بما دخل العربية من الألفاظ والمبالغات وأساليب التعظيم والتفخيم
من الفارسية والتركية أيام غلبة الديلم والترك والفرس على دولة بني العباس،
واشتقاقهم منها ممالك وإمارات عديدة.
وهي اليوم تغالب عصرًا من عصور بؤسها وشقائها هو أشد العصور بأسًا
وأصعبها مراسًا؛ ليس عصر غلبة أمة على أمة، بل عصر غلبة الغرب على
الشرق، عصر إجلاب الغرب على الشرق بخيله ورجله، وعدده وأساطيله ولغاته
المختلفة وعلومه وفنونه وصنائعه وكتبه وجرائده. دهم الغرب الشرق منذ أكثر من
قرن بهذه القوة التي لا قبل له بها فوقفت العربية أمام هذا القاهر المستأثر بكل خير
ومنفعة وقفة عاجز بائس، وقفة ظمآن على ينبوع عذب لا سبيل له إلى ورده.
لم يكن هذا الوهن والانكشاف عن خور فطري في العربية أو جبن متأصل
فيها، ولكن هذا شأن جميع اللغات أمام كل انقلاب جديد وحادث عظيم.
وقد جرت سنة الوجود على أن مصير اللغات أمام الانقلابات العظيمة
والحوادث الجِسام إلى أحد حالين: إما أن تتسامح في قبول كل ما يطرأ عليها من
لغة غيرها لا سيما الألفاظ ذات المعاني التي لم تعهدها من قبل، فتندمج إحداهما في
الأخرى على طول الزمن، كما اندمجت لغة بقايا عرب الأندلس في اللغة
الأسبانيولية، وعرب جاوه في لغة الملايو، واللغة القبطية ورومية سورية في
العربية. أو يتخلف عنهما خليط ليس من اللغتين، كما فعلنا نحن في لغة المحادثة
فنشأت العامية المختلفة اللهجات المتشعبة المناحي وتبعها اختلاف الأجناس من
مصري وشامي وعراقي ومغربي وسوداني وحجازي ويماني. وكما فعلت أمم أوربا
أمام لغات المغيرين والفاتحين فنتجت لغات فرعية وأمم مختلفة الأجناس.
وإما أن تتحرز عنها وتتصرف في استعمال ألفاظها لضم هذه المعاني الغريبة
إليها بطرق التجوز والاشتقاق واستعمال الغريب والعتيق منها فيما له أدنى ملابسة به؛
فتحفظ بذلك كيانها وتبقي شكلها، بيد أنها تعظم وتفره وتزداد نشاطًا ورشاقة.
وبعد، فإن هي آنست من أهلها روحًا قويًّا ونحيزة سليمة استطالت على
اللغة الأجنبية وصادرتها على أعز عزيز عليها من علومها وفنونها.
ففي أي طريق من هاتين نسير في تشجيع العربية؟ على اقتحام العقاب وتذليل
الصعاب التي تحول دون ورودها نهر العلوم والمعارف الذي تحول مجراه إلى جهة
الغرب؟
يقول قوم بسلوك الطريق الأولى، ومنهم حضرة خطيبنا الأول، وقد سمعتم
أقواله، ويقول قوم بسلوك الطريق الثانية وأتشرف أن أكون أنا منهم.
وها أنا الساعة آتي على الشبه والأعذار التي ينتحلها الفريق الأول ويتوهمون
أنها تدفع عنهم تهمة الاستسلام والخنوع للغة الأجنبي سواء تعرض لها زميلي
السابق أو لم يتعرض لها فأقول:
(الشبهة الأولى) يقولون: إن لغة أي أمة ما هي إلا أصوات مختلفة تدل
على المعاني التي تقوم بنفس كل فرد منها وتقع تحت إدراكه، وإن هذه المعاني
والمدركات لا تخرج عن دائرة احتياجاته ومرافقه ومشاهداته بحسب طبيعة المقر
الذي نبت فيه، والبيئة التي استوطنها، فليس يطلب إلا ما يعرفه ولا يصف إلا ما
يشاهده من الأناسي وأنواع الحيوان والنبات والجماد، فإن هو انتقل من وطنه إلى
وطن آخر يباينه طبيعة وسكانًا اختلفت احتياجاته ومشاهداته ومعانيه التي كانت
تقوم بنفسه، واختلفت معارفه وأغراضه بقدر مخالفة الوطن الجديد للقديم - فهو
لا يستعجم أمام هذه المناظر الجديدة ولا يخرس دون التعبير عن أغراضه الحديثة بعلة
أنه لم يعهدها في وطنه ولم يوضع لها اللفظ في لغته، بل يجاري طبيعة وطنه
الجديد، ويساجل الجيل الذي يعاشره، فيقتبس من لغته كما اقتبس من معانيه،
ويتزود من ألفاظه كما تزود من المعلومات الحديثة التي أضافها إلى علمه.
ومثل الأمة في ذلك مثل الفرد وذلك طبيعي في البشر. فإن العرب الذين نحن
الآن بصدد البحث في لغتهم لم يشذوا عن هذا الناموس الطبيعي، بل نقلوا إلى
لغتهم كثيرًا من الألفاظ الفارسية والرومية والحبشية والهيروغليفية والسنسكريتية
إلخ، سواء كان ذلك في عصر جاهليتهم وبداوتهم، أو في عصر إسلامهم
وحضارتهم. فقد كان شعراؤهم وتجارهم يدخلون العراق والشام والحبشة ويأتون
بألفاظ أممها في شعرهم وحديثهم، فلا تلبث أن تنشب بلغتهم وتلوكها ألسنتهم
وتمتزج بأرقى طبقات الفصيح من كلامهم. وكفى لذلك دليلاً أن القرآن الكريم
جاء بهذه الألفاظ في تضاعيف آياته وعباراته البليغة مثل السندس والإستبرق
والقسطاس، ولم تتجاف عنها الأحاديث الشريفة وعبارات البلغاء وسمر الخلفاء.
بل تعدت تلك الألفاظ إلى أطعمتهم وملابسهم وآنيتهم، كالسكباج والطيلسان
والسكرجة، على أنهم لم تقصر همتهم على نقل الأسماء فحسب، بل تصرفوا فيها
واشتقوا منها أفعالاً وجمعوها جموعًا مختلفة فقالوا: ألجم الفرس إذا ألبسه اللجام
وبهرج عمله إذا أبطله وجعله كالدرهم المبهرج، وجمعوا أستاذًا على أستاذين
ونموذجًا على نماذج ونموذجات، مما عده أئمة اللغة أصلاً من أصول اللغة،
وسموه بالتعريب، وأفردوه بالمؤلفات الممتعة.
فبعد هذا كله لو أدخلنا في اللغة العربية أسماء الآلات الحديثة والجواهر
المستكشفة والاصطلاحات العلمية، كما وضعها أربابها أو بنوع من التحريف لم
نُحدِث حدثًا في اللغة، ولم نجن فيه بفعل منكر، وإنما نفعل ما فعله العرب أنفسهم
ونكون بذلك قد خرجنا من الضيق الذي نحن فيه وانتجعنا باللغة منتجعًا تستمرئ
به، ويزيد في فراهتها، وما برحت اللغات يأخذ بعضها عن بعض، فالإنجليزية
مثلاً تنقل عن الفرنسية ما لم يكن فيها من أسماء المعاني والذوات ولا سيما أسماء
الأدوات واصطلاحات العلوم، وكذلك الإنجليزية عن هذه وعن غيرها.
ونقول في إزالة هذه الشبهة: لا نمنع أن اللغة يأخذ بعضها عن بعض وأن
العرب أخذت من لغات غيرها، وأن في القرآن والحديث ألفاظًا أعجمية الأصل،
وأن جميع هذا يسمى تعريبًا، وهو أصل من أصول اللغة، ولكن من هم الذين
يأخذون ويضعون ويعربون ويتصرفون في اللغة العربية؟ لا شك أنهم أهل ذلك
اللسان وهم العرب أنفسهم. فلا حق لغيرهم في التصرف والتعريب والاشتقاق من
ألفاظ غيرهم، ولم يقل أحد من أئمة اللغة ونقلتها الثقاة بجواز إدخال الأعاجم
والمولدين شيئًا من لغتهم في العربية الفصحى وعده منها، بل مقتوا ذلك وحاربوه
ونبهوا الناس إليه في معاجمهم، فقالوا: إنه أعجمي عربه العرب أو عربه المُولدون.
وربما أفردوا لذلك كتابًا ككتاب (المعرب) للجواليقي و (الشفاء) للشهاب
الخفاجي وغيرهما. كما قاموا بجمع كثير من الألفاظ التي تقابل ما شاع على ألسنة
أهل زمانهم من المولد والمستعجم، وسموه الفصيح كفصيح ثعلب وغيره.
ننقل هنا رأي الأئمة فيمن له حق التعريب:
قال الشهاب الخفاجي نقلاً عن الجواليقي: اعلم أن العرب تكلمت بشيء من
الأعجمي، والصحيح منه (أي: مما صار معربًا) ما وقع في القرآن والحديث أو
الشعر القديم أو كلام من يوثق بعربيته. فترون من ذلك أن التعريب حق للعرب
وحدهم. وأمَّا ما عربه غيرهم من المولدين فلم يعدوه من قسم المعرب الذي يصلح
استعماله في الفصيح، ولذلك قال الشهاب الخفاجي في آخر مقدمته في الشفاء: وقد
أترك بعض ما عربوه لعدم وروده عمن يعتد به نحو (بشخانة) للكلمة التي يقولون لها
ناموسية، قال: (وهو مولد) .
بشخانة قد طرزت ... قالت بلفظ موجز
على الحريريّ سما ... قدري والمطرزي
وقال السيوطي نقلاً عن ابن دريد في الجمهرة: باب ما تكلمت به العرب من
كلام العجم حتى صار كاللغة: فمما أخذوه من الفارسية البستان والبهرجان إلخ..،
وقال نقلاً عن ابن الأنباري شارح المقامات: كثيرًا ما تغير العرب الأسماء
الأعجمية إذا استعملتها كقول الأعشى: (وكسرى شهنشاه الذي سار ملكه) الأصل:
شاهان شاه، فترون أنه لم يستشهد إلا بكلام عربي وهو الأعشى.
فالتعريب إذن هو كما قال الجوهري في الصحاح: تعريب الاسم الأعجمي
هو أن تتفوه به (العرب) على منهاجها.
ونبحث الآن عمن هم العرب الذين يعتد بعربيتهم في استعمال الألفاظ التي
هي من موضوع علم متن اللغة. قال البغدادي في كتابه (خزانة الأدب) نقلاً عن ابن
جابر: (علوم الأدب ستة: اللغة والصرف والنحو والمعاني والبيان والبديع،
والثلاثة الأول لا يستشهد عليها إلا بكلام العرب) ولا ريب في أن مبحث الألفاظ
العربية هو من مباحث علم اللغة. وقال: الكلام الذي يُستشهد به نوعان (شعر
وغيره) فقائل الأول قد قسمه العلماء على طبقات أربع: الطبقة الأولى الشعراء
الجاهليون إلخ، ثم استرسل في عد هذه الطبقات حتى أوصلها إلى طبقة المولدين
الفصحاء، فقال: إن سيبويه استشهد بشعر بشار بن برد، ولم يقف بعضهم عند هذا
فاستشهد بشعر مسلم بن الوليد والحسن بن هاني. ورأى بعض أئمة النحو الاستشهاد
بشعر أبي تمام والبحتري والمتنبي ومنهم ابن جني والزمخشري والرضي. ثم
ذكر البغدادي من النثر المستشهد به القرآن الكريم، ونقل اختلافات كثيرة في
الحديث أصحها الاستشهاد بما كان رواته من أهل الصدر الأول قبل تدوين الحديث
في آخر عصر بني أمية إلخ.
وأقول: إن العرب الذين يعتد بعربيتهم، وينقل عنهم قولهم وكتابتهم بقوا إلى
أواسط القرن الثالث من الهجرة، فالشافعي وأمثاله من فقهاء العرب وأئمة اللغة
وعلية الكُتَّاب والوزراء يُعتبرون في كتابة رسائلهم ومؤلفاتهم عربًا فصحاء، وقال
الإمام أحمد بن حنبل: كلام الشافعي حجة في اللغة. وسأل غلام ثعلب عن حروف
أخذت عن الشافعي مثل (مالح) فقال: كلام الشافعي صحيح. وقد صنف
الأزهري وهو إمام اللغة في عصره كتابًا في إيضاح ما أشكل من مختصر المزني
وقال في ديباجته: (ألفاظ الإمام الشافعي عربية محضة ومن عجمة المولدين
مصونة) والجهة التي اعتبرنا بها كلام الشافعي عربيًّا محضًا هي التي نعتبر بها
كلام الأصمعي ومعاصريه كأبي عبيدة وأبي محمد اليزيدي والكسائي وقطرب
وغيرهم. وكان الشنقيطي رحمة الله عليه يثق بفصاحة المأمون الخليفة العباسي
ويحتج في العربية بما صح عنه. ولا يبعد عن هؤلاء كثيرًا فحول الكُتَّاب من أهل
زمانهم كالحسن بن سهل وسهل بن هارون والجاحظ فهؤلاء وأمثالهم عرانين
الفصاحة، ولهاميم العربية، وزعماء العلم والكتابة والتصنيف. إليهم يرجع كل ما
وصل إلى الناس من علم وأدب وفقه وكلام، ولعل من الهين بعد هذا أن نقول: إنه
بانقضاء عصر هؤلاء الأعلام انقضى عصر العربية الفطرية، وفشت العجمة في
جميع الأمصار، واستحالت اللغة إلى صناعة من الصناعات، يتلاقى فيها العربي
والديلمي والرومي والبربري، فلا يصح لمن خلف من هؤلاء أن يضعوا في اللغة
شيئًا جديدًا، أو يجعلوه لفظًا عجميًّا معربًا؛ إذ ليسوا من أهل هذا اللسان، وإنما هم
حكاة له، ونقلة لأصوله.
ومن نظر في كتب المعرب والدخيل وجد أن كل ما اعتبر فيها معربًا فهو إما
وارد في كلام العرب القديم، أو كلام الله الكريم، أو الأحاديث النبوية أو شعر أهل
العصر الذي وصفنا، أو رسائلهم ومصنفاتهم. يعرف ذلك كل من نظر في كتاب
سيبويه، وكتب الجاحظ، وكتاب الخراج لأبي يوسف ومدونة مالك وكتاب الأغاني.
وما يقع في كلام أهل الصناعة بعد هذه العصور البائدة من مثل: (الوجاق،
ولاردي، والسواري، والطبنجة، والصنجة، والسلاملك، والترابيزة،
والصالون) فليس من المعرب في شيء وما هو إلا أعجمي محض، لا يصح استعماله في كلام العرب، وإذن فلا يصح لنا أن ندخل كلامًا أعجميًّا في اللغة
العربية ونزعم تعريبه؛ إذ لسنا أعرابًا بالفطرة حتى نملك حق التعريب. وكما لا يجوز للفرنسي أو الطلياني أو الإنجليزي أن يزيد شيئًا جديدًا في اللغة اللاتينية
أو اليونانية. أو للهندي الحالي أن يحدث حدثًا في السنسكريتية والفهلوية - لا يجوز
لنا بعد انقراض الأعراب بأحد عشر قرنًا أن ندخل في لسانهم ما ليس منه. ولو جاز لنا ذلك في الألفاظ وهي أصل اللغة لجاز لنا بالأَوْلَى في التركيب
والأساليب لأنها هيئات للألفاظ وأحوال لها، وهي من اللفظ منزلة العرض من
الجوهر أو الفرع من الأصل، وكنا استرحنا من الإعراب الذي أضجر كثيرًا من
متفرنجي زماننا، وجعلهم يتسخطون العربية ويتنقصون فضلها. وهو رأي لا
يعرج على مثله ولا يقول به إلا أهل الجسارة وممن لا يتصونون عن الشنعة ولا
يكترثون بسوء القالة.
وبعد، فما ورد من المعرب في القرآن الكريم وكلام العرب الجاهليين
والإسلاميين ليس إلا شيئا يسيرًا من الكلام لا يحرج اللغة ولا يتهضمها، وما هو
بالإضافة إلى جميعها إلا كقطرة في بحر، أو حصاة في فلاة؛ إذ كل ما صح أنه
معرب في القرآن الكريم لا يزيد عن ستين لفظًا غير الأعلام. وقد أحصيت جميع
ما ورد من المعرب في الكتب التي بأيدينا (كشفاء الغليل) و (المزهر) و (فقه
اللغة) و (الإتقان) و (لف القماط) ورسالة ابن كمال باشا، بعد حذف المولد
والأعلام فلم يزد على ستمائة كلمة، وهبْ أنها وصلت إلى ألف أو ألف وخمسمائة
أفلم يكن اقتصار العرب على هذا القدر الضئيل مع ما كانوا عليه من التبدد
والتبعثر بين جميع أمم الأرض - برهانًا ساطعًا على شدة احتفاظهم بلغتهم وحياطتهم
لها على ما منيت به من البلايا والمحن ورزئت من الهزاهز والفتن، مما لو تقحمت
فيه لغة أخرى لغارت في غيرها وأمست من العاديات والبوائد؟
فلو جرينا على شبهة القائلين باستعمال الألفاظ الأعجمية التي أحدثتها المدنية
الأوربية من أسماء المصالح والإدارات والشركات والآلات واصطلاحات العلوم
لطرقنا في العربية لأكثر من عشرين ألف كلمة، فإن ما نحتاج إلى ترجمته من
العلوم والفنون والصنائع لا يقل عن أربعين، ولا أقل من أن يكون لكل منها
خمسمائة اصطلاح، وذلك خطب هائل يأتي بنيان اللغة من قواعده وتستأسر له تلك
الفلول التي بقيت في رءوسنا منها، وما ظنك ببقاء ستة آلاف لفظ تستعمل الآن في
الجرائد والمؤلفات والرسائل أمام هذا السيل الجارف، ويزيد الأمر ضغثًا على أبالة
من يرى من أهل هذه الشبهات اشتقاق أفعال ومصادر من الألفاظ الأعجمية مثل ما
فعلته العرب في (لجام ونبهرج وبريد) ؛ فقالت: ألجم الفرس، وبهرج الدرهم،
وأبرد السفير. فيقول هو: (أترمت إلى أوتيل مينا هاوس حيث رأينا تيلونوتوجراف
يلفجرون متش الجمال ثم رجعت متنبلا إلى الكازينو لمشاهدة السينما توجراف
فألوجت ولم أفت) . وهي درجة لا تصل إليها الأمة إلا بخذلان من الله تعالى.
ولئن تم ذلك - لا قدر الله - لتكونن اللغة المالطية أقرب إلى العربية من لغتنا.
ولقد ذكرني ذلك ما أخبرني به بعض ثقات الأفاضل ممن حضر مؤتمر
الجزائر منذ عامين أنه سمع بعض متفرنجة الجزائر يقول: (ركبت أنا
والمدموازيل أنتاعي في الشماندفير وصلنا عنابة الساعة الثامنة سوار) وسأل
أحدهم في باريس أين تصلي الصلوات؟ فقال: (أصلي في الشانبر سيدي ما في
موسكي) .
وأما ما يقال من أن أمم أوربا لا تأنف أن تدخل في لغتها لغة غيرها فإن ذلك
لا يوطننا على تقليدها، فإن لغة القراءة والكتابة عندها هي لغة العامة وهي تتبدل
كل يوم. على أنهم يأنفون ذلك بعض الأنفة، ولهذا نقل العلماء والمخترعون
الأسماء الحديثة من اللاتيني أو اليوناني القديم من حيث بادت أممهما وفنيت
عصبتهما.
وما لنا نتبع غيرنا إذا أخطأ وأصبنا نحن؟ ما بقي عندنا من ممثلات جنسنا
إلا هذه الميزة وهي حفظ اللغة والقرآن الكريم. فليتق الله هؤلاء النفر في جنسهم
ولغتهم وقرآنهم، ولا ينسوا أن لغتهم لغة دين وأن في تسليمها تسليمًا للذات وإبادة
لعلوم القرآن الكريم والسنة، وتشبها بالغراب النحس الذي أراد أن يقلد الحجلة فلم
تتهيأ له مشيتها ونسي مشيته.
(الشبهة الثانية) يقولون لو نقلنا أسماء الآلات والاصطلاحات العلمية كما هي
إلى اللغة العربية كُنَّا جرينا على أهم قاعدة ذَلَّل بها المتمدنون شموس الأمور،
وحسموا بها كثير من الخلاف والنزاع، وهي توحيد لسان العلم في جميع اللغات
وفي ذلك من تقارب الأمم ما لا يخفى. ونقول في إزالة هذه الشبهة: إنما فعلت أمم
أوربا ذلك لتقارب أصول لغاتها في الأساليب والبيان، ولاشتراكهم في الكتابة
بالحروف اللاتينية، ولعدم تحفظهم بلغة دين أو جنس؛ فالكلمة يكتبها الفرنسي
بهجائها الخاص كما يكتبها الإنجليزي، وكثيرًا ما تكون مخارج حروفها عندهما
سواء. فما الفائدة لنا في مشاركتهم في لسان العلم مع أن كتابتنا غير كتابتهم،
وحروفنا غير حروفهم ولا مندوحة لنا عن أن تختزل الكلمات الأعجمية التي تزيد
عن سبعة أحرف ونرجعها إلى سبعة أو ما دونها عملاً بقاعدة التعريب، كما أننا
نغير مخارج حروفها بحيث لا يمكننا استعمال الكلمة على منهاج لغتنا إلا بعد أن
تمسخ وتشوه وتعود كلمة أخرى لو قرعت أذن واضعها لما عرفها ولأغرب في
الضحك من عملنا، ونكون قد باعدنا لغة العلم بأكثر مما نريد به التقرب منها. وإذا
أردنا أن نعرف بالضبط ما يقابلون به هذه الكلمات منا فلننظر إلى ما فعلوه هم
أنفسهم عندما أرادوا أن ينقلوا من لغتنا إلى لغتهم فقالوا (انسين) في ابن سينا
و (صلدين) في صلاح الدين و (ليزولاما) في العلماء. وأظن أن عربيًّا يسمع
هذه ولا ينكرها أيَّما إنكار أبعد من الوجود من عنقاء مغرب.
(الشبهة الثالثة) يقولون: إننا بنقلنا الألفاظ الأعجمية كما وضعها أربابها
نكون قد احترمنا أعمال غيرنا، وحفظنا لهم حقهم فيما سموه. فكما لا يحق لنا أن
ننسب اختراع ما اخترعوه إلى أنفسنا لا يحق لنا أن نغير أسماءه.
ونقول في دفع هذه الشبهة: نحن نوافقكم على هذا الأصل فيما كان منها عَلَمًا،
ومن تكلف تغيير أعلام البلدان والأناس فقد ارتكب شططًا، أما وهي أسماء أجناس
فلا معنى لاستعمالها في العربية على أصلها إلا التشهير بلغتنا ورميها بالقصور عن
أن تسع هذه الكلمات بطريقة من طرق وضعها، كالتعبير بالمرادف والتجوز
والاشتقاق، وكلها طرق قياسية في اللغة استعملتها العرب في وضع مصطلحات
علومهم وعلوم غيرهم مما ترجموه من اليونانية وغيرها، كما سنفصل ذلك بعد.
وأظن أننا لو سألنا مخترعًا من القوم: أتحب أن يكون للنوع الذي اخترعته اسم واحد
أو أن يكون له أسماء وألقاب في لغات متعددة وتلهج به أمم مختلفة؛ لاختار
الثاني لأن فيه تخليدًا لاسم مخترعه، فلا يَبِيد في لغة من اللغات المتغيرة حتى يحيا
في أخرى، ولأن في كثرة الأسماء زيادة عناية بالمسمى.
(الشبهة الرابعة) يقولون: إن هذه الاصطلاحات في العلوم أصبحت تعد
بالألوف في ألسنة العلم والصناعة والتجارة، فكم من الزمن يكفي لوضع أسماء
عربية لها من جديد مع إننا محتاجون من الآن إلى النقل والترجمة؟
ونقول في درء هذه الشبهة: إن هذه العلوم لا يمكننا نقلها إلى لساننا في سنة
أو سنتين أو ثلاث، بل لو أردنا إعادة طبع كتبها بلسانها وحرفها لما وسعنا هذا
الزمن، ولنسلم جدلاً بأنه يمكننا طبعها في أقل منه باللغة العربية مع نقل أسماء
الأجناس كما هي، فكم زمنًا يضيع في استظهار هذه الألوف المؤلفة من الكلمات
المستنكرة الغربية وتألفها على السمع والذوق وكم وكم إلخ. لابد من قضاء زمن
طويل، وبذل جهد عظيم، وتذليل صعوبات ومشتقات هائلة على كلتا الحالتين؛
ولأن يكون هذا العناء في سبيل تنمية العربية وجعلها لغة علم وصناعة وتجارة
بالطرق المشروعة؛ خير لنا من أن نهجرها ونعقها، ونقضي عليها بالفناء قضاء
لا نقض فيه ولا إبرام، ونكون بهذا العقوق قد انسلخنا منها، ويتلو ذلك انسلاخنا
من الجنسية العربية لا قدر الله.
(الشبهة الخامسة) يقولون: إن من الصعب جدًّا ترجمة المصطلحات
وأسماء الآلات الجديدة بألفاظ عربية إذ يلزم على ذلك ترجمة اللفظ الواحد بعدة ألفاظ
وفي ذلك من التعسف والثقل على السمع ما لا يخفى، ونورد هنا تفصيل هذه
الشبهة من كلام حضرة الكاتب الأديب جرجي أفندي زيدان المشهور بالبحث في
مثل هذه المسائل. قال حضرته في صفحة (134) من العدد الرابع من السنة
السادسة عشر في التفاضل بين الترجمة والتعريب:
(فأول ما يتبادر إلى أذهاننا من الحكم في تفاضل الترجمة والتعريب أن
الترجمة أفضلهما صيانة للغة من مفاسد العجمة فنقول (بريد) بدل (بوسطة)
(نظارة) بدل (تلسكوب) (سيارة) بدل (أوتوموبيل) و (التصوير الشمسي)
بدل (فوتوغراف) ولكن ذلك لا يتيسر الإجماع على اختيار ألفاظه إلا بِمَجْمَع
علمي لغوي فيه الكفاءة وحسن الاختيار، وأن يكون له صفة رسمية تسهل اعتماد
الكتاب على ما يضعه أو يختاره من الألفاظ. على أن هذا المجمع إذا تألف
وعرضت عليه الألفاظ المطلوب ترجمتها نظنه يحكم بتعريب قسم كبير منها، أي
ببقائه على لفظه الإفرنجي بصيغة عربية؛ إذ يرى بعض المصطلحات الجديدة
تسهل ترجمتها بما يسهل لفظه وحفظه والبعض الآخر لا يترجم إلا ببضعة ألفاظ
يثقل استعمالها مع كونها بالأصل الإفرنجي واحدة. فإذا ترجمنا فوتوغراف بقولنا:
(تصوير الشمس) أو (التصوير الشمسي) فبماذا نترجم (تليفوتوغراف)
ومعناها (التصوير الشمسي عن بعد) وإذا أردنا تصريفها في الاستعمال قلنا:
(آلة التصوير الشمسي عن بعد) ولا يخفى ما في ذلك من الثقل على اللسان والفهم.
والتعريب يكفينا مؤنة هذه الأثقال، فلو أبقينا اللفظة كما هي لقلنا: جاء
التليفوتوغرافي وفن التليفوتوغراف إلخ ... ومن فروع التصوير الشمسي أيضا
(الفوتوليتوغراف) ويراد به التصوير بالشمس على مطبعة الحجر ومثلها
(تليبانتوغراف) وهي آلة كهربائية لنقل الصور عن بعد بأسلاك كهربائية. فكيف
نترجم هذه المصطلحات وأمثالها؟ وقس عليه الفوتوتيب أي الطبع بالشمس
والفيسيوتيب الطبع بلا حبر.
وإذا ترجمنا (المكانيك) بالحيل الروحانية أو علم الآلات فبماذا نترجم
(تليميكانيك) ويراد بها عندهم نقل القوة الميكانيكية من مكان إلى آخر؛ وإذا ترجمنا
(الفونوغراف) بالحاكي أو الناطق فبماذا نترجم (التليغرافون) وهو آلة مركبة
من التلغراف والتليفون وتعمل عملهما معا. وإذا ترجمنا (تلسكوب) بالنظارة
المقربة؛ فكيف نترجم (هيدروسكوب) وهي التلسكوب الذي يكشف به عما في
أعماق البحار وإذا ترجمنا (سينما توغراف) بالصور المتحركة فكيف نترجم
(سينما فون) وهو الآلة التي تريك الصور المتحركة وتسمعك أصواتها. وقس عليها
أمثلة لا تحصى. لا نقول أنها لا تترجم ولكننا نرى ترجمتها شاقة لا تخلو من التعقيد
فضلا عن مخالفتها ناموس الاقتصاد العام. لأن المعنى الذي يؤدى بكلمة لا يجوز
تأديته بكلمتين أو أكثر.
ونقول في إزالة هذه الشبهة:
ليهون جناب الفاضل عليه الأمر فإن الترجمة الحرفية ليست هي الطريقة
الوحيدة لنقل اللفظ الأعجمي إلى العربية، فإن وراءها طريقة التسمية من جديد،
وهذه إما أن يلاحظ فيها كل المعنى الأصلي أو بعضه، أولا يلاحظ شيء منه. ألا
يرى أن العرب عندما أرادوا أن يسموا علم (القسموغرافيا) باسم عربي سموه
(الهيئة) مع أنهم لو أرادوا ترجمته لقالوا رسم السماء؟ وأن علماء الطبقات الأرضية
سموا نوعًا من الصخور لم يهتدوا إلى معرفة عناصره باسم (الخجل) إذ لا
مناسبة بين هذا الاسم وبين المعنى الطبيعي.
وما المانع من تسمية (السينما فون) بالطيف أو (الطيف الناطق) مثلاً،
ولا يطالبني الآن جنابه بتسمية جميع ما ذكره، فإن ذلك يحتاج إلى بحث وروية،
ونحن الآن نبحث عن تقرير أصل نتبعه؛ فإذا تروضي عليه كان له ما يحب.
(الشبهة السادسة) يقولون: إننا بقبولنا طريقة التعريب نكون قد وافقنا
جميع الأمم المشتغلة بالعلم في جميع بقاع الأرض، وبنبذنا إياها نكون قد خالفناهم،
والفرد إذا خرج عن الجماعة اعتبر عمله شذوذًا وانقطاعًا عن العالم.
ونقول في إزالة هذه الشبهة:
ليس كل خلاف يعد شذوذًا أو يلحق بصاحبه ضررًا، على أن لنا في ذلك
أسوة بأمة ألمانيا العظيمة، فإنها خالفت هذا المبدأ ولم تستعمل مصطلحات اللغات
الأخرى في لغتها وهي صاحبة المقام الأول في قارة أوربا علمًا وصناعة وسياسة.
وبعد فماذا نستفيد من هذا الوفاق مادمنا نكتب بغير الحروف اللاتينية وننطق
الحروف بمخارج تباين مخارجها في اللغات الأوربية؟
(الشبهة السابعة) يقولون: إن لغتنا جامدة وكل معنى من معانيها لا يقوم إلا
بمفرد خاص، فأما اللغات الأجنبية ففيها كثير من الزوائد والانتهاءات الصغيرة تؤدي
عمل الألفاظ الكبيرة خصوصًا في النفي والإثبات والإفراد والجمع. يُعرف
ذلك بالاطلاع على مصطلحات الكيمياء، وكيف فرقوا بين كلوريك وكلورات
وكلورور. وأن لها لاتينيا ويونانيا قديمين يؤخذ منهما أسماء المصطلحات الجديدة
بحيث لا يحصل أدنى اشتراك في اللفظ؟
ونقول في إزالة هذه الشبهة:
إن عددًا لا يمكن حصره من ألفاظ اللغة العربية كل منها له معنى لو أريد
التعبير عنه بالتفصيل لما كفت الجمل بله الألفاظ. وإن النطق بعلامات التثنية والجمع
في اللغة العربية له أعظم أثر في التمييز، وأن زوائد جواهر الكيمياء يمكن أن
يستبدل بها في العربية كلمات قليلة الحروف أو حروفًا مثل (ذي- أو ذات- أو ياء
النسب - أو النسب بالصيغة والاشتقاق) وغير ذلك مما لا يتعذر على جماعة تعنى
به، وإن لنا أيضا لاتينيا قديمًا لا يحصل به الاشتراك هو الغريب القليل الاستعمال
متى كان قليل الحروف وخفيفها على السمع.
(الشبهة الثامنة) يقولون: إن هذه الأشياء الجديدة قد شاعت وذاعت بين
العامة وهم السواد الأعظم، وكثير من الخاصة. ويشبه المستحيل إرجاعهم عنها إلى
الألفاظ عربية فصحى.
ونقول في دفع هذه الشبهة:
أما العامة فلهم لغة خاصة بهم، ونحن نتكلم في لغة الكتابة والقراءة؛ فإذا ما تعلم
العامة القراءة والكتابة تعلموا الألفاظ الفصيحة.
وبعد فقد كان ينبغي على هذا المبدأ أن نجاريهم في جميع الألفاظ العامية أو
بالأولى نجعل لغة القراءة والكتابة هي العامية ونريح أنفسنا من عناء تعلم الفصيح.
والصدور تضيق بالرد على أمثال هؤلاء ممن لا يحفلون بسوء الحال عند العقلاء،
ولا يبالون بتبعة القول، وأما الخاصة: فلا أسهل من الأخذ بهم في طريق الفصيح
وإنَّا لنرى الكاتب في عصرنا يأنف من كتابة (بسكليت) ويكتب بدلها
دراجة.
(الشبهة التاسعة) يقولون: إن اللغة كائن حي وهي في ارتقاء مستمر
وتجدد ودثور، وإن ناموس الارتقاء يستدعي بالطبع بقاء المناسب، وكل ما حدث
في اللغة من الدخيل والمولد وما سيحدث فهو ضروري بطبيعة الحال، وعبثًا يحاول
الإنسان مقاومة الطبيعة، ألا ترى أن العرب كانت لها أسماء لمسميات تعرفها، فلما
أمعنت في الامتزاج بالفرس أخذت أسماء هذه المسميات عنهم وهجرت أسماءها
الأصلية؟ نظير ذلك الباذنجان وهو بلغتهم (الأنب) والرصاص (الصرفان)
والهاون (المنخاز) .
ونقول في دفع هذه الشبهة:
إن هذا الأصل الدرويني يتفيهق به كثير من متفلسفة زماننا، ويدخلونه في
كل شيء وما مُنِي الناس بشر أشد من اختلافهم في فهم هذا الأصل، ولئن صح
على زعمهم أن اللغة كائن حي كبقية الأحياء؛ فمما لا شك فيه أن حياتها بحياة
أهلها، ونحن نحب أن تكون لغتنا حية. إذن فحياتها وموتها وعزها وذلها بأيدينا،
فلو شئنا أن نتدرج في ناموس الارتقاء ونتبع طريقة التجدد والدثور فلنحي كثيرًا
من ألفاظها الجميلة التي باتت في بطون المعاجم تشتكي العطلة وسوء الحال وكساد
السوق، ولنُمتْ كثيرًا من الألفاظ الدخيلة والمولدة التي صارت في وجهها كبثور
الجدري الأسود فشوهت محاسنها، وأوهنت قواها.
***
إذا نفينا جميع هذه الشبه وجب علينا أن نشرح طريقتنا في ترجمة
الاصطلاحات والآلات الجديدة فنقول:
(إن هذه الكلمات لا تخلو أن تكون أعلامًا وأسماء أجناس، فأما الأعلام فلا
مانع من نقلها أعجمية بعد صقلها بالنطق العربي، وأما أسماء الأجناس فإما أن
تكون معروفة قديمًا عند العرب، ولها في لغتهم أسماء تطلق عليها أو على
ما يشبهها، وهذه يبحث عنها في اللغة ويعاد استعمالها في معانيها ككلمة قنال
(الخليج أو قناة) وكلمة قمبانية (شركة) وإما أن تكون مجهولة لهم وهذه لنا في
نقلها ثلاث طرق:
(1) طريقة ترجمة اللفظ بمرادفه كترجمة (سينما توجراف)
بالصور المتحركة وترجمة كرافات (برباط الرقبة) .
(2) وطريقة الاشتقاق من الفعل الذي يعبر به عن عمل الكلمة أو
صفتها إن كانت من ذوات العمل والصفة. وهذه تسمية جديدة لا ترجمة مثل تسمية
(البسكليت) بالدراجة و (الأتوموبيل) بالسيارة ونحوهما من مثل: الدراعة
والبارجة والباخرة والنسافة والقطارإلخ، فإن هذه الألفاظ قد وضعت لمسميات
إفرنجية ولا يوجد من الفريق المخالف لنا من ينكر سهولتها وشهرتها وسبقها غيرها
في حلبة الكتابة.
(3) طريقة التجوز وهي طريقة واسعة النواحي كثيرة الفجوج وعليها
اعتماد الأوروبيين في نقلهم المصطلحات الحديثة من اللاتينية. وما أغزر علاقات
المجاز في لغتنا! فعلاقة المشابهة في حال من الأحوال تكفينا مؤنة التكلف والتعسف
في انتقاء الألفاظ، هذا إلى بقية علاقات المجاز المرسل: كالسببية، والمسببة،
والحالية، والمحلية اللازمية، والملزومية، واعتبار ما كان، وما يؤول، وغيرها
مما يكفي فيه أن يكون بين العربي والأعجمي أدنى ملابسة، ومتى شاع اللفظ الجديد
واشتهر فلا يوجد من يبحث عن أصل مأخذه كالدراعة والبارجة والقطار.
والمفتخر والمجاز إذا اشتهر صار حقيقة عرفية.
وهذه الطرق الثلاثة كلها قياسية في الاستعمال لا ينكرها أرباب العربية.
وكتبهم في البيان والأصول وعلم الوضع حافلة بشرح حقائقها وتفصيل مباحثها، ولا
يتحكك بذلك إلا مكابر. وعلى هذه الطرق جرت العرب عند وضعها اصطلاحات
العلوم الشرعية والأدبية والعلمية، وكلنا يعرف معنى الفاعل والمفعول والخبر
والحال والتمييز والظرف والاستثناء والعدل عند النحويين، ونعرف أصل معانيها
اللغوية، ونرى العرب عندما ترجموا المنطق والحساب والهندسة والفلك لم يستعملوا
في اصطلاحات هذه العلوم إلا الألفاظ العربية وربما تطرف بعضهم فأتى ببعض ألفاظ
على أصلها مثل الفلسفة والسفسطة، ولكن ذلك لم يمنعه من استعمال مرادف لها عربي
مثل الحكمة والمغالطة.
هذا وإن ما سقناه من أدلة الرد على الفريق الأول يكفي في إثبات فضل
طريقتنا في الترجمة ولا يحتاج في نشرها والعمل بها إلا تأليف مجمع علمي يتولى
أمر البحث والوضع وهو ما نرجوه في هذا النادي؛ إذا لقى من حضرات الأفاضل
أرباب الصحف والمؤلفين والكتاب والشعراء ما ننتظره منهم من المؤازرة في
البحث والوضع والتنويه بنتائج عمله وإذاعته للجمهور ليروا رأيهم فيه وليتزودوا
منه) اهـ.
(المنار)
هذا خطاب الشيخ أحمد الإسكندراني الذي أعده للاجتماع الأول من اجتماعات
نادي دار العلوم ولكنه لم يتمكن من إتمامه فيه. وقد رأى من المنكرين عليه منع
التعريب ما حمله على كتابة خطاب آخر يرد فيه عليهم وعلى خطاب الشيخ محمد
الخضري الذي نشرناه في الجزء الماضي، وقد ألقى هذا الخطاب الثاني في الاجتماع
الثاني وهذا نصه:
الخطاب الثاني
للشيخ أحمد الإسكندري
(في نادي دار العلوم)
أيها السادة الأفاضل:
إني أقف الآن موقفي منذ أربع عشرة ليلة في سبيل أداء واجب من أقدس
الواجبات عليّ وهو الذود عن حياض العربية وكلاءتها من تسرب العجمة إليها.
وكان بودي أن أناجز مناظري الفاضل في الموطن الأول، ولكن حال دون ذلك ضيق
الوقت وفيما حضر استدراك لما فات.
أيها السادة: كنت عنيت في الاجتماع الماضي أن أدحض أولاً شبه الفريق
المخالف لي في الرأي ثم أشرح بعد ذلك طريقتي في ترجمة الاصطلاحات العلمية
وأسماء المخترعات الجديدة، ولكن الوقت ضاق عن تمام إدحاض الشبه وبيان
الطريقة فلم آت إلا على شبهة واحدة منها. واكتفاء بما أوضحته في رسالتي التي
طبعت ووزعت على حضراتكم وعلى كثير من أهل الذكر، ولبثت الجرائد توالي
نشرها عدة أيام - لا أريد الليلة معاودة البحث في هذه الشبه إذ لا تخلو إعادة القول
فيها من تكرار، وأجعل كلامي الليلة قاصرًا على شرح طريقتي، وعلى المناقشة مع
مناظري الفاضل في خطبته التي أوضح فيها طريقته ورد بها على مخالفيه فأقول:
(بلغني أن نفرًا ممن يأخذون بالظَّن ويثقون بوجدانهم لم يتريثوا في الحكم
على طريقتنا، فأرجفوا بأنها تقول ببقاء القديم على قدمه وأنها تحارب كل جديد وأنها
تمنع الاجتهاد في اللغة كما منع من قبل الاجتهاد في الدين، وأنها تفرق بين اللغة
وبين العلم والصناعة، وأنها تقاوم الرقي الطبيعي للغات وغير ذلك مما لم يكن له
موضع إلا أخيلتهم فقط.
يا حضرات الأفاضل إني لم آت لحفظ لغتنا بأمر غريب، وما جئت شيئًا نُكْرا.
فإني لم أسلك إلا الطريقة التي سلكها أسلافنا عندما أرادوا أن يدونوا علومهم ويترجموا
كتب غيرهم من الأمم. كانوا - رحم الله أيامهم- يضعون لاصطلاحات علومهم
أسماء منقولة من العربية المحضة بنوع من التساهل والتجوز في المعنيين القديم
والجديد، ولم ينكر أحد عليهم ذلك حتى أهل زماننا، فوضعوا مصطلحات النحو
والصرف والمعاني والبيان والبديع والعروض والقافية ومصطلح الحديث والتفسير
وأصول الفقه وفروعه والتوحيد، كما وضعوا مصطلحات العلوم التي ترجموها
مثل المنطق والحكمة الإلهية والطبيعية والحساب والهندسة والفلك. وغير ذلك العلوم
التي لو أردت إحصاء مصطلحاتها لعددت عشرات الألوف من الكلمات كلها عربية
لها معان اصطلاحية ومعان لغوية، ومثل ذلك آلات الصناعة والعلوم. و (كتاب
المخصص) و (فقه اللغة) و (كتاب العين) للخليل وجمهرة ابن دريد ونوادر ابن
الأعرابي ومفردات ابن البيطار والمادة الطبية للرشيدي وقاموس نجاري بيك، كلها
بحور زاخرة بأسماء النبات والحيوان والآلات.
ولم يكن العرب يبتدعون ذلك من عند أنفسهم بل إنهم اهتدوا فيه بهدي القرآن
الكريم فأكثر ألفاظ القرآن الدينية لم تكن العرب تعرفها قبل الإسلام بهذه المعاني، فقد
جاء الإسلام وما تعرف العرب من معنى الصلاة إلا الدعاء ومن معنى التيمم إلا
القصد، ومن معنى الزكاة إلا الطهارة، ومن الفسق إلا قولهم فسقت الرطبة، ومثل
ذلك كثير في القرآن؛ فاستعملها في هذه المعاني الجديدة الدينية، ولم تنكر العرب هذا
الاستعمال. ولئن جاز أن ندخل مثل مباحثنا من الدين في باب الحظر والإباحة
لجاز لنا أن نقول: إن هذا إقرار من الله تعالى على صحة التوسع في استعمال
الألفاظ؛ اذ لو أثبتنا هذه الطريقة في تسمية الآلات والاصطلاحات الجديدة لم نكن
تابعين إلا للسنة التي سنها الله تعالى في تسمية كل جديد، ولسنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وسنة الأئمة وواضعي العلوم ومترجميها من سلف الامة؛ وإذا فصلنا
هذه الطريقة أمكننا أن نقررها فيما يأتي:
(1) لا يجوز النقل من غير لغة العرب إلا الأعلام.
(2) لا نأخذ الكلمة للشيء الجديد إلا من غريب اللغة أو القليل الاستعمال
مما هو عندنا بمنزلة اللاتيني عندهم لتقليل الاشتراك بقدر الإمكان.
(3) إن كيفية الترجمة لا تخرج عن الطريقة الآتية:
ثم قال بعد ان لخص طريقته التي ذكرها في الخطاب الأول:
وقد يعترض بعض المتحذلقين بقوله: لا غنى لنا عن أن نترجم بعض الآلات
بكلمتين فأكثر مع أنها كلمة واحدة في الإفرنجية.
فنقول في الرد عليه: أما الكلمتان فلا بأس باستعمالهما إذا كانتا لصفة
وموصوف ومضاف ومضاف إليه، لأنهما كالشيء الواحد مثل (القباب الطيارة)
و (المحراث البخاري) و (سكة الحديد) ومع هذا فإن اللغة الإفرنجية نفسها لم تسلم
من ذلك كثيرًا. أما ما زاد على ثلاث فإننا لا نلتجئ إليه بل نسمي الكلمة التي لا
تترجم تسمية جديدة كما نسمي (السينمافون) ومعناها الصور المتحركة الناطقة
بالخيال الناطق.
واذا قيل: إن ذلك يستدعي عملاً كثيرًا وأزمانًا طويلة، ومن هم الذين
يعملون معك لتحقيق هذه الأمنية. أقول: إني لا أريد أن أنقض هيكلاً وأبنيه في
ثلاثة أيام، وكل عمل عظيم يستلزم صعوبة، وبيننا الآن كثير من رجال العلم لا
يعوزهم إلا مساعدات من رجال الصحف وسراة الأمة.
إذا قيل: إننا نخشى أن لا نجد في اللغة أسماء موافقة لبعض المسميات
الإفرنجية أقول: هذا مستحيل مع ما قدمنا من الطرق الثلاث، وإذا علمنا أن أبا
الأسود سمى علم النحو نحوًا لأن عليًّا - رضي الله عنه- لقنه بعض قواعده، وقال
له: (انح هذا النحو) وأن علماء طبقات الأرض من الإفرنج سموا أحد الصخور
باسم (الخجل) لأنهم لم يعرفوا له تركيبا، تحققنا من أننا نجد حتمًا كل اسم
والاصطلاح وحده وضع آخر.
وإذ سمعتم يا حضرات الأفاضل طريقتي وجب عليّ أن أشرح لكم الأدلة
والبراهين التي قامت عندي على صحتها.
الدليل الأول: إن التعريب ليس من حقوقنا لأننا لم نر أحدًا من أئمة اللغة
أنكر أن التعريب حق للعرب وحدهم، وأن زمنه ينتهي على أوسط تقدير إلى أوائل
القرن الثالث، وفي هذا المقام ندفع شبهة قد وهم فيها بعضهم عند تكلمي في هذا
المقام في الاجتماع الماضي؛ وهي قوله: تقول: إننا لسنا عربًا في مقام ثم ترجع
وتقول في مقام آخر: إننا نحافظ بمنعنا دخول الكلمات الأعجمية في لغتنا على سلامة
جنسيتنا العربية. فنقول له: إننا نعني بالعرب العرب الذين يعتد بعربيتهم في اللسان
لا في النسب والجنس فمثل عنترة وبلال مؤذن رسول الله صلى الله علية وسلم
وصهيب صاحبه والحسن البصري وابن سيرين وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وسعيد
بن جبير ونصيب وعبد بني الحسحاس وابن المقفع - كلهم عرب في ألسنتهم لا في
جنسهم وأنسابهم، فمنهم الهجين، والزنجي، والحبشي، والفارسي والرومي. ومثل
عرب جاوه ومالطه وعرب أسبانيا وعرب المغرب والشام ومصر ليسوا عربًا في
ألسنتهم وإن كانوا عربًا في أنسابهم. وكلنا لا ينكر أن فينا الهاشمي الذي لا يحسن
قراءة الفاتحة، ومثله كثير في بلاد الترك وفارس والهند والصين وإذا سمَّانا التاريخ
وعلم تقويم البلدان عربًا، فإنما يعني علماؤهما العربية الجنسية وإذا قالوا عند ذكر
بلادنا: إن لغتها العربية، فإنما يعنون أن لغة الكتابة والقراءة والعلم والتعليم هي
العربية، أو أنهم يتساهلون في إطلاق العربية على العامية لأن أكثر ألفاظها محرفة
عن العربية وأن أساليبها لم تزل بعد عليها مسحة الأساليب العربية، ولذلك لم يحرمنا
أئمة اللغة حق الارتفاق بهذه الصلة اللسانية فسمونا مولدين، أي أننا نصف أعراب في
اللسان إن لم نكن نصف أعراب في الجنس، إذن فمعنى العرب في كلامنا ما يقابل
المولدين لا ما يقابل الرومي والصقلي.
الدليل الثاني: المحافظة على سلامة اللغة من فشو الدخيل فيها مع التوسع في
استعمال ألفاظها، فإننا وجدنا العرب عند وضعهم للعلوم وترجمتهم لكتب غيرهم،
واقتباسهم صنائعهم؛ لم يرجعوا في تسمية المصطلحات وأسماء الآلات إلا إلى
التوسع في استعمال ألفاظ اللغة اقتداء بالقرآن في تسمية شعائر الدين بأسماء
استعملت قبل القرآن فيما يشبهها كما بينا ذلك آنفا.
الدليل الثالث: المحافظة على صحة فهم القرآن لأننا إذا أبحنا لنا وأولادنا
وأحفادنا إدخال الألوف المؤلفة من الكلمات الأعجمية، وأبحنا لهم كما يرى مناظري
الفاضل اشتقاق جميع المشتقات منها - كنا قد صبغنا اللغة بصبغة إفرنجية لا يتميز
معها العربي من الدخيل، ولاختلط الأمر وأثر الفساد في حالة مدارسة القرآن
وكتب السنة.
الدليل الرابع: المحافظة على البقية الباقية عندنا من الجنسية العربية، فإن هذه
الجنسية المميزة لنا عن سوانا والتي تصلنا بأعظم أمة فاتحة ذات دين وشريعة
ومدنية عظيمة لم تدم لنا إلا بنسبة محافظتنا على القليل من اللسان العربي، فإن
نحن حرسنا بهذا القليل ما نجتلبه من الأجنبي الذي سيستمر آخذًا في الزيادة وذلك في
النقصان نسخ الجديد القديم، ويتلو ذلك نسخ جنسنا، وكفى بذلك ذلاًّ وفناء.
الدليل الخامس: توسيع نطاق اللغة العربية وجعلها لغة علم وصناعة؛ إذ
بنقلنا أسماء عربية قديمة لمعان اصطلاحية نكون قد زدنا في مدلولات اللغة وألفاظها
شيئًا كثيرًا من غير أن نحقنها بهذا المصل الغريب المجهول التأثير الذي إن لم
يعجل منيتها فلا أقل من أن يخلف ندوبًا في جسمها مع إمكان مداواتها بغيره.
الدليل السادس: عدم الاستفادة من التعريب لأننا على فرض تسليمنا جواز
التعريب، فما الفائدة لنا ولأمم أوربا فيه؟ إن قلنا: توحيد لسان العلم وتقربنا من أمم
أوربا كما فعلوا هم، يمنعنا منه عدة أمور:
(1) إن حروف كتابتنا عربية، وحروف ممالك أوربا لاتينية، وهم
يكتبون حروفهم من الشمال إلى اليمين، ونحن نكتب حروفنا من اليمين إلى الشمال.
(2) إن مخارج حروفهم غير مخارج حروفنا.
(3) إن قاعدة التعريب تقتضي أن تكسر الكلمة وتهشمها حتى تصير إلى
صورة عربية، فإن كانت من الكلمات التي تزيد حروفها عن سبع وجب أن نصغرها
حتى تصل إلى سبع ونغير بعض حروفها بأخرى، ونضع في آخرها جيمًا اذا كان
آخرها لا يستقيم كما قالوا في (تازا) طازج ثم نجمعها جموعًا ليس في آخرها
(g) ولا (x) أعني أننا نصهرها في بودقة ونضربها بسَكة أخرى، فبعد أن
تكون (شلنا) تصير قطعة بخمسة لا يُتعامل بها في أوربا، ولئن كان حب التقرب من أوربا يضطرنا إلى استعمال كلماتهم في لغتنا لقد حق علينا أن نستعمل
كلمات من هم أحق منهم بالقربى وهم العامة في مصر والشام والمغرب والعراق مع
اتفاقنا جميعًا على نبذها وتعيير من يدرجها في كتابته، مع إن فيها من
الألفاظ الدقيقة المعنى ما ليس له نظير في الفصيح مثل كلمة (يادوب) فما لنا نكون
حربًا على أممنا وسلمًا لغيرنا.
هذه هي طريقتنا وتللك أدلتنا، وقد أزلت في مقامي هذا وفي الاجتماع
الماضي جميع الشبه التي يمكن أن تخطر على قلب من يرى غير رأينا.
وأما خطبة حضرة مناظري فإنها من حسن الحظ لم تكلفنا كبير مؤنة في الرد
عليه فإني بعد أن سمعتها من حضرته وقرأتها مرارًا ومخضتها مخضًا لم تَجُد علي
بأكثر من ثلاثة احتجاجات:
(الاحتجاج الأول) قال: إن حجتنا في منعنا التعريب هو تشبيهنا اللغة
بالدين، وهو احتجاج تخيله من نفسه ما قلته أنا وما قاله أحد ممن يرى رأيي،
وعلى هذا الخيال أخذ يفرق بين الدين واللغة وأن هذا وضع الله وهذه من وضع
الأفراد إلخ.
(الاحتجاج الثاني) قال: إن طريقة التوسع في الاستعمال بالتجوز
تجر إلى تغير في وضع الكلمة الأصلي وهذا التغير وضع من جديد. وأنكر ذلك
إنكارًا شديدًا فقال: إننا اذا أخذنا الكلمة واستعملناها في شيء جديد (مع قرينة) لم
نكن قد جرينا على لغة العرب لأننا خالفنا أوضاعهم ومقاصدهم. إلى أن قال في
طريقتنا أننا نجري على خطة لا أساس لها مع وصف الخروج عن أوضاع المتقدمين.
ونقول: إننا لا نتكلف الرد على هذا الاحتجاج بأنفسنا، بل نكل ذلك لحضرته،
وكل من قرأ كلام العرب ويعرف ما هي أوضاع المتقدمين. فالعرب أنفسهم استعملوا
طريق التوسع في الوضع والمجاز، وكلكم يعرف أن المتقدمين وضعوا لهذه المسألة
وحدها علمين، علم الوضع، وعلم البيان، وما ذاك إلا أنها أصل من أصول اللغة
وكل الاصطلاحات الدينية والعلمية والصناعية وأسماء الآلات من هذا القبيل، وهو
يدَرس كل يوم (معنى الكلمة لغة واصطلاحًا) وهذه الطريقة التي ينكرها ويقول أنها
لا أساس لها وأنها تخالف أوضاع العرب إلخ، قد نقض رأيه فيها في موضع آخر من
الخطبة، فإنه قسم طرق الوضع إلى ثلاث، فقال: والمعقول في اختيار اللفظ للمعنى
ثلاث طرق:
(1) الوضع من جديد.
(2) التوسع في الاستعمال، وهو المراد بالتجوز بأن يكون اللفظ قد وضع
بإزاء مسمى، ولمناسبة بين المسمى القديم والجديد يستعمل ذلك اللفظ في المعنى
الجديد.
فترون أنه لم يكتف بأن جعل طريقتنا معقولة حتى جعلها إحدى الطرق الثلاث
التي هي طريقة الوضع من جديد وهذه منعها بتة ونحن نمنعها معه.
والثالثة طريقة التعريب، وهو يجيزها، وأنا أمنعها ففيها خلاف؛ فما بقيت إلا
طريقتي وهي بإقراره معقولة أساسية.
(الاحتجاج الثالث) وقد كرره في عدة مواضع أن طريقتنا في التجوز تجر
إلى الاشتراك، واشتراك الألفاظ في المعاني مما يخل بأصل المقصود منها والتجوز
لابد فيه من إقامة القرائن على إرادة ما استعمل اللفظ فيه.
وقال عن نفسه وعمن يرى رأيه: (وهذا وذاك كثيرا ما وقفنا حيارى في فهم
المراد من بعض الألفاظ، فهل نريد بعد ذلك أن نضيف إلى آلامنا آلاما) ، فنقول:
جنبنا الله الحيرة وباعدنا من هذه الآلام. فيم الحيرة وفيم التألم؟ لا توجد لغة في
الأرض إلا والمشترك فيها قسم مهم من أقساط اللفظ.
وبعد فأي لفظ بل جملة من الكلام تفهم بغير قرينة؟ والقرائن في الحقيقة لا
تتناهى، ولئن كان المشترك يحول دون فهم المعنى أو يوقع القارئ في الآلام، لقد
ضل واضعو العلوم ضلالاً مبينًا وجنوا على الناس جناية لا تغتفر بإيقاعهم في
الآلام والحيرة، ولكننا والحمد لله لم نر مهندسًا اشتبهت عليه زاوية المثلث بزاوية
الكلشني ومنشور الأجسام بمنشور النظارة، كما لم نر طبيبًا اشتبه عليه مرض
الاستسقاء بصلاة الاستسقاء.
هذه هي كل ما في خطبة مناظري الفاضل في احتجاجه على طريقتنا، وباقي
ما فيها مقدمة ليست من موضوع البحث وحكاية الطريقة التي كانت العرب تتبعها
في مثل الباء والفاء الفارسيتين، وهي ليست من موضوع الخلاف. ثم نتيجة قرر
فيها أنه لا يسمح بوضع اسم عربي لمسمى حديث إلا إذا دل عليه بنفسه (يعني لا
بقرينة) وبذلك قد حرم طريقة التجوز بتاتًا.
هذا ما رأيته في شرح طريقتي ورد الشبه التي ترد عليها، والله أسأل أن
يعصمنا من الزلل ويجنبنا الخطأ ويمدنا بروح منه، والسلام عليكم ورحمة الله.
أحمد الإسكندري
***
رأي المنار في
الخطبتين والتعريب
إن ما ذهب إليه صاحب هذا الخطاب في مسألة التعريب من كونه خاصًّا بمن
يحتج بعربيتهم هو المقرر عند علماء هذا الشأن، وقد توسع هو في الذين يعتد
بعربيتهم. ولكن ماقرروه في ذلك لم يمنع العلماء والأدباء من اقتباس الكلم الكثير
من الأعاجم عند ما ساقتهم الحاجة إلى ذلك. نعم إن علماء اللغة سموا ما استعمله من
لا يعتد بعربيتهم لضعف الملكة فيهم مولدًا لا معربا كما سموهم المولدين، فإذا كان
الشيخ أحمد الإسكندري يبيح لأهل هذا العصر ذلك ويمنع تسمية ما يستعملونه من
كلام الأعاجم بالمعرب، ويخصه بلفظ المولد فالخلاف يكون لفظيًّا لأن غرض من
يقول بالتعريب هو إباحة إدخال الألفاظ الأعجمية في العربية عند الحاجة مع
التصرف بها، كما تصرف الأولون ولا يبالون أسميت معربة أم سميت باسم آخر.
وقد علمت أنه يمنع هذا الاستعمال مطلقًا وهو المنع الذي لا سلف له فيه. أما القول
باجتناب الإكثار منها والوقوف فيها عند حد الضرورة فلا أرى أن أحدًا غيره يخالف
فيه.
ولكم هممت بأن أنظر فيما جمعوه من الكلم المعرب والمولد وأرجعه إلى
قواعد عامة إذا أمكن ولم أجد سعة في وقتي لذلك. ولعلنا لو اطلعنا على كتاب أبي
منصور الجواليقي لوجدنا فيه غناء يكفينا في هذا المطلب كل عناء.
إنه لا خلاف بيننا وبين الإسكندري إلا في التعريب، فنحن نجيزه عند الحاجة
إليه، وهو يمنعه مطلقًا ويدعي أنه يجري في ذلك على سنن سلفنا في ترجمة علوم
اليونان، ولا نسلم له ذلك فإنهم قد عربوا كثيرا من الكلم. ومن قال إن المعرب
خاص بما نطقت به العرب في جاهليتها ومن يعتد بعربيتهم في الإسلام - فذاك
اصطلاح من هم على تسميته لا حكم يمنعه وإلا فقد قال الخفاجي في مقدمته لشفاء
الغليل (فما عربه المتأخرون يعد مولدًا، وكثيرًا ما وقع مثله في كتب الحكمة
والطب وصاحب القاموس يتبعهم من غير تنبيه) فعلم من هذا أن التعريب واقع
من المتقدمين والمتأخرين، ولكن علماء اللغة سموا ما سمع من العرب قبل التباس
العجمة بألسنتها معربًا، وسموا ما سمع ممن بعدهم مولدًا، وقد أحسنوا بذلك كل
الإحسان؛ إذ هو من مباحث تاريخ اللغة الذي يدل على معرفة تاريخ أهلها. وما
اقترحه الخضري من تميز ما نعربه في هذا العصر من غيره يجري على هذه
الطريقة وأزيد عليه استحسان إطلاق اسم خاص عليه (المتحدَث) .
وجملة القول: إن كلا من الخضري والإسكندري قد أحسن فيما كتب وأصاب
على مانرى فيما أثبت، وأخطأ فيما نفى ولا ننسى فضل ما أطال به الثاني فأفاد.
والذي نراه هو أن يكون للمَجْمَع اللغوي الذي يراد تأليفه الحرية التامة في اتباع
سلفنا في بداوتهم وحضارتهم والزيادة عليهم إذا أمكن؛ فإنه قد يحتاج في نقل
الاصطلاحات العلمية إلى مجاراة الأوربيين في جعل أسماء الآلات الكثيرة التي من
نوع واحد بحيث يعرف من كل منها نوعها الكلي الذي تندرج تحته، ويرى أن ذلك
لا يتم إلا بالتعريب أو الارتجال أو النحت أو غير ذلك.
وقد كبر على الإسكندري الخوف على اللغة من كثرة الاصطلاحات المعربة
حتى جعله مفزعًا جدًّا، والأمر أهون فيه مما تصوره، فصوره في خطابة على
أن الاصطلاحات المترجمة لو كثرت في الإنشاء والخطابة لأفسدت أسلوب اللغة.
وهذا ابن خلدون قد بَيَّن أن مزاولي الفقه وفنون العربية لا تستحكم فيهم ملكة البيان
ولا يكون منهم البلغاء، فللفنون أسلوب أو أساليب خاصة بها لا تجني على
الأسلوب الفصيح، إذا هو أخذ على وجهه في اكتساب الملكة.
للكلام ضروب كثيرة منفصل بعضها عن بعض لا حاجة إلى إدخال
اصطلاحات كل واحد منها في غيره. لكل فن من الفنون العربية والشرعية والعقلية
والرياضية والطبيعية والصناعية والمالية والعسكرية ألفاظ خاصة بها لا يدخل
بعضها في بعض إلا قليلا. وأقل من ذلك ما يحتاج إليه في الكتابة الأدبية والخطابة
والشعر وهي ما به يكون التفاضل في البلاغة وسحر البيان. فإذا كان أساس العربية
في هذا النوع من الكلام هو القرآن الحكيم والأحاديث الشريفة وآثار الصحابة
والتابعين، وهى أساس الدين المتين ثم أشعار الجاهلية وصدر الإسلام - فماذا يضر
اللغة بعد ذلك إذا كثرت اصطلاحات الفنون المعربة أو قلّت؟ وإذا نحن قصرنا في
حفظ هذا الأساس المتين فماذا يفيدنا جعل مصطلحات الفنون من المواد العربية،
ونحن نستعملها في غير ما استعملتها به العرب؟
إننا بهذه الكلمات نقضنا أدلة منع التعريب، وهدمنا هيكلها المسدس، فأما
الدليل الاول: وهو اتفاق أئمة اللغة على أن التعريب ليس من حقوقنا فقد بَيَّنا أنه
اتفاق على التسمية، فلنسم ما نعربه الآن مولدًا كما سموا ما عربه من قبلنا من
العلماء المولدين أو محدثا كما أختار.
وأما الثاني: وهو المحافظة على سلامة اللغة والاقتداء بالعرب في وضع
العلوم وترجمتها فقد بيّنا أن التعريب لا يعرض سلامتها للخطر وإننا لا نخرج به
عن اتباع سلفنا الذين ترجموا علوم اليونان. وإنما يرد علينا هذا إذا التزمنا طريقة
الخضري وهي الاكتفاء بالتعريب عن الترجمة والوضع الجديد، وما نحن بملتزميها
فإننا لم نقبل من طريقته إلا جواز التعريب، وقيدناه بقيد الحاجة إليه.
وأما الثالث: وهو المحافظة على فهم القرآن وكتب السنة فقد علم مما قدمناه
أنه مهما اتسعت دائرة الفنون عندنا، وكنا نقيم القرآن والحديث ونجعلهما أساس
بلاغتنا وينبوع هدايتنا - فإن ضعف أسلوب تلك الفنون لا يصدنا عن اكتساب ملكة
البلاغة، ولا فهم القرآن وكتب السنة والاهتداء بها. وأزيد على ذلك فأقول: إن
العناية بالقرآن وكتب السنة إنما تقوى في المسلمين بقوة الدين وتضعف بضعه، فما
دُمنا مسلمين نتعبد بالقرآن، ونهتدي به وبكتب السنة فإننا لا نزداد بزيادة معارفنا
إلا قوة في ديننا، وإنما يخشى أن يصدنا عن القرآن والسنة بقاؤنا على التقليد
الأعمى مع مهاجمة المدنية الغربية لنا بإباحة المحظورات، وتقطيع الروابط المليِّة
بشبهة الجنسية والوطنية، وتلون السياسة، لا بأسماء المخترعات وتجدد
الاصطلاحات العلمية التي يمكن لنا استعمالها مع المحافظة على كل ما عندنا وإن
عربنا بعض ألفاظها فإن التعريب لا يضعف اللغة وإنما يمدها ويغذيها.
وأما الرابع: وهو المحافظة على الجنسية العربية فقد علم من كلامنا أن
التعريب وهو جعل بعض الكلم العجمي عربيًّا لا يضعف الجنسية، بل يقويها.
ويوضحه ما ذكرناه آنفًا في الكلام على الدليل الثالث. ونزيد عليه بأنه يجب علينا
أن نجهد في تعميم التعليم بالعربية بقدر الاستطاعة، وأن يكون حظنا من اللغات
الإفرنجية نقل العلوم ونشرها بألسنتنا، وذلك لا يتم لنا إلا بتسهيل طرق النقل ومنه
التعريب. فإباحته تأتى بنقيض ما يخافه الإسكندري بالشرط الذي اشترطناه؛ وهو أن
يكون بقدر الحاجة حتى لا يعسر على نقلة العلوم نقلها، فنضطر إلى تعلمها بلغات
واضعيها.
وأما الخامس: وهو توسيع نطاق اللغة، فأمره أظهر، فالتوسعة إنما تكون في
تسهيل نقل العلوم لا في ضده.
وأما السادس: وهو عدم الاستفادة من التعريب فهو ممنوع، على أننا نفوض
الأمر فيه الى المَجْمَع اللغوي مع جعله مباحًا.
***
ترجمة الصناع وغيرهم من العامة:
هذا وإننا نرى العامة تسرع إلى وضع أسماء جديدة لكل ما يصل إليها من
أجناس المخترعات. وقد وقفت على أكثر أسماء أدوات آلات الطباعة وما يتعلق
بها فرأيتها عربية قد تجوز بها الصناع بالتشبيه بأعضاء الإنسان وغيرها ومنها
الأسماء الآتية: (الذراع، والفخذ، والأصابع، والأسنان، ويشتقون من الأسنان
فيقولون مُسَنن. وفي آلة الخياطة هنة صغيرة يسمونها السنة ويعنون بها السن
الصغيرة. ومنها ما يسمونه بالوجه، وهو مايقابل وجه العامل الذي يقف أمامها.
ومن التشبيه بغير أعضاء الإنسان الترس والطنبور والسكينة والدائرة واللقمة
والحوض (لموضع الحبر من آلة الطبع) وتراهم قد عربوا بعض الأسماء تعريبًا
إذا لم يهتدوا بسليقتهم إلى اسم مجازي لها وهو أقلها ومنه الشلندر والياي والصامولة.
ولو عرضت هذه الأدوات والهنات على الخاصة منا لحاروا في تسميتها
وكانت عندهم موضع الخلاف والنزاع والقيل والقال، واتسع فيها مجال المناظرات.
وما سبب ذلك إلا أن هؤلاء الخواص قد ضعفت فيهم ملكة اللغة العامية بما زاولوه
من فنون الإعراب والبيان، ولم يصلوا إلى إحكام ملكة اللغة الفصحى فملكتهم
مذبذبة بين صنعة الفنون وملكة العامية.
فعامة أهل البلاد التي تسمى عربية كالعراق وسوريا ومصر والمغرب يجوز
أن يسموا الآن عربًا بالجنس واللغة؛ إذ ليس لهم لغة إلا العربية. ولا يمنع ذلك
ضعف اللغة في ألسنتهم بما فتكت بها العجمة؛ فإن ضعف الشيء لا يخرجه عن
ماهيته فالإنسان الضعيف إنسان، والدولة الضعيفة دولة. كذلك اللغة الضعيفة لغة.
ومداواة الضعف مما يدخل في مقدور الناس إذا كان كنه المرض معروفًا ودواؤه
معروفًا.
وإني أرى أن جميع المفردات التي يتألف منها كلام أهل سوريا ومصر عربية
الأصل إلا ما يعرف له أصل أعجمي من التركية، أو الفارسية أو اللغات الإفرنجية
- وهو الأقل - وكذلك أساليب الكلام عندهم لا تزال كأساليب العرب في الغالب.
ولعل ألسنة أهل العراق والحجاز أقوم من ألسنة أهل مصر والشام، كما أن
ألسنة أهل هذين القطرين أقرب إلى العربية الفصحى من ألسنة أهل المغرب
الأدنى والاقصى.
إني أعرف من نفسي الضعف في اللغة العامية حتى إن الكلمات التي يَشْكُل
عليَّ فهمها من كلام العوام تكاد تكون أكثر من الكلمات التي يَشْكُل عليّ فهمها في
كتب الأدب والتاريخ. ولكنني قلما أشكلت عليّ كلمة عامية فراجعت لها معاجم اللغة
إلا وجدت فيها أصلها. ومن الكلم الصحيح ما يشكل عليك معناه بعد المراجعة في
المعاجم وهو لا إشكال فيه عند العامة. أذكر أني راجعت مرة جميع ما عندي من
المعاجم لأفهم معنى البنيقة في قول مجنون ليلى:
يضم إليّ الليل أبناء حبها ... كما ضم أزرار القميص البنائق
فما زادني ذلك إلا حيرة، ولم أفهم مسمى البنيقة فهمًا واضحًا يمكنني تعيينه
بالإشارة إليه ولكنني عرفت ذلك بعد من والدتي.
ألا ليت بعض أهل الغيرة يجمع لنا الكلم المحرف على ألسنة العامة ويرجعه
إلى أصله الفصيح لعله يسهل علينا بعد ذلك أن نضبط طرق التحريف فنستفيد من
هؤلاء العوام ما يعز علينا أن نستفيده من معاجم اللغة التي تفسر اللفظ في الغالب
تفسيرًا لا يحدد المعنى. وعند ذلك نعلم أن عندهم من اللغة ما لا يمكن الاستغناء عنه
بالكتب التي نعتمد عليها في حفظها.
من المشهور عندنا أنهم يبدلون القاف همزة، فإذا سمعناهم يقولون (بنيئة
الأميص) نعلم أن أصل العبارة بنيقة القميص، ولكن لهم ضروبًا أخرى من التحريف
تخفى على غير المدقق، فمن ذلك أنني كنت أسمع الفلاحين في بلدنا يقولون:
(فلان يحرط بسنانو) إذا سحق بعض أنيابه على بعض من الغيظ حتى سمع لها
صريف. وقد وقفت بعد هذا على قول العرب (حرق عليك الأرّم ويحرق عليك
الأرم) كقول الشاعر:
نبئت أحماء سليمي إنما ... باتوا غضابًا يحرقون الأرما
فلم يغنني ما أحفظ من استعمال العامة (حرط الأسنان) عن مراجعة حرق
الأرم وهو هو لأني لم أكن أعلم أنهم يبدلون القاف طاء في بعض الأحيان.
وجملة القول: إن لغة عامتنا عربية فيها تحريف لا يخرجها عن كونها هي
اللغة العربية، ولا يخرجهم عن عداد أهل اللغة. ويغلب على ظني أن العرب
الخُلَّص لم تكن تسلم من التفاوت في حديثها بحيث تلتزم الإعراب وإظهار الحركات
في الشعر والخطابة والمماتنة والوصف دون الكلام العادي وحسبنا هذا الإلمام الآن.
وإذا كانت لغة عامة أهل الأمصار التي استعربت بعد عجمة تعد عربية
مريضة فلغة أهل جزيرة العرب عامة، وقبائل الأعراب منهم خاصة عربية
أقرب إلى الصحة، وإننا في حاجة الآن إلى فهم معاجمنا من الفريقين لنتمكن بعد
ذلك من وضع معجم أو معاجم أخرى تحدد المعاني تحديدًا موضحًا بالصور والرسوم
على الطريقة التي تليق بمعارف هذا العصر، وقد سبقنا إليها الغربيون الذين صرنا
محتاجين للسير على طرقهم في جميع ما يصل إليه كسب البشر وجدهم.
__________(10/887)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رأي كبار ساسة الغرب في الحركة المدنية الجديدة
في الشرق
قول كرومر في مصر والشرق:
خطب لورد كرومر في مجلس الأعيان بلندره خطبة في موضوع اتفاق إنكلترا
وروسيا الأخير فيها كثير من العبر لنا إن كنا نعتبر. فأحببت أن أنبه إلى ذلك
بنقل جمل من ترجمة الخطبة، ثم الإشارة إلى مواضع العبرة فيها:
قال: (إن الحال التي طرأت على الشرق منذ أعوام طوال وهي حال
الانتقال من طور إلى طور قد اشتدت وتعاظمت في هذه الأيام. فإننا نرى الغرب
يسعى إلى إدخال آرائه وأفكاره على الشرق في كل مكان، أو الشرق يسعى من تلقاء
نفسه لأن يقتبس من الغرب نظامًا للأحكام لم يألفه ولم يكن يعرفه. فأفضى ذلك إلى
إلقاء العناصر المتناقضة المتضادة كلها في بوتقة سياسيّة اجتماعية إدارية واحدة؛
لتذوب وتصهر فيها، ولا يعلم إلا الله ما تكون نتيجة صهرها وامتزاجها معًا.
أما العناصر المتضادة المشار إليها فأذكرها الآن بالإيجاز آملاً أيها السادة أن
أقنعكم بأن لكلامي عنها دخلاً حقيقيًّا في مسألة الاتفاق الإنكليزي الروسي:
فأولاً: إننا نرى العواطف الدينية المتأصلة في النفوس تصارع اللاأدرية أو
ما يقرب من اللاأدرية في كل مكان، ولا ريب أن اتصال الغرب بالشرق يُأول إلى
زعزعة الأركان الأدبية التي يقوم عليها بناء الهيئة الاجتماعية الشرقية كلها.
وثانيًا: إننا نرى في كل مكان تقريبًا أقوامًا ذوي عادات قديمة وآراء وأفكار
شائعة وميل شديد إلى بقاء القديم على قدمه يتكلفون اليوم الجري في الأحكام على
طرق غريبة عن الشرقيين ولا سابق علم لهم بها.
وثالثًا: إن بين الخاصة المتعلمين والعامة الأميين في كل مكان من الشرق
وخصوصًا في الهند ومصر - بونًا بعيدًا وهوة عظيمة. أما العامة فلم يحصلوا في هذه
الأيام إلا على قليل من المعارف التي تزحزح حجب الجهل عن بصائرهم، وأما
الخاصة المتهذبون فعلى جانب عظيم من المعرفة ولكنها غير مختمرة بخمير
الاختبار والعمل. وهم يحاولون أن يحلوا بهذه المعرفة بعضا من أعوص المسائل
وأعسر القضايا التي يشغل حلها عقول الفحول من أهل السياسة والإدارة.
ولا ننس بعد ما ذكر أننا نلاقي في بلادنا هذه صعوبات كثيرة. فإن نمو
الديمقراطية وانتشارها في بلادنا زاد صعوبات القضية التي وصفها المستر بريط
منذ أعوام بقوله: (إنها قضية حكم شعب على شعب) يعني تدبير الشعب
الإنكليزي لأمور الشعب الهندي. فليت الذين يشتغلون منا بالسياسة في هذه البلاد
وهم لا يسئلون عما يفعلون، فيجزمون في الأمورويبتون، ويقولون ما يشاءون عن
هذه المسألة الشرقية ولا يحتاطون، ولا يقدرون عواقب ما يقولون - ليت هؤلاء
يتذكرون أحيانًا تحذير الدوق ولنجتون حيث قال مخاطبًا القوم: (إن كنتم تضيعون
الهند يومًا فكونوا على يقين أن البرلمان هو الذي يضيعها لكم) (استحسان) والذي
أتذكره أن دوق ولنجتون إنما قصد مجلسًا واحدًا من مجلسي البرلمان وهو غير
مجلس الأعيان. (ضحك واستحسان)
ولا يغيب عن الأذهان أيضًا أن الحروب اليابانية الأخيرة أثرت في عقول
الشرقيين تأثيرًا عظيمًا وخصوصًا عقول أهل الشرق الأقصى، ولا عجب في ذلك
كله فإنما هو نتيجة اختلاط الشرق بالغرب، وانتشار التمدن وتقدم المعارف والتعليم
واتباع سياسة العقل والكمال التي لا تبقي الشعوب المحكومة غائصة في ظلمات
الجهل حتى يسهل حكمها على الشعوب المتوسطة عليها. ولكن ذلك مما يوجب
التفكير والتدبير أيضًا. لا أقول إنه يوجب الهم والقلق وإنما أقول إنه يوجب على
الأمم التي لها أملاك في الشرق أن تزيد عناية وسهرًا ويقظة وحذرًا عما كانت عليه
في كل ما غبر من تاريخها؛ إذ ليس يعلم أحد ما ستكون نتائج الاختمار الذي تطرق
إلى أفكار أهالي الشرق الأقصى بعد ما أضحى مبدأ الجنسية يتأصل في الشرق
ويحل محل الروابط الأخرى التي كانت تربط الناس هناك معا.
على أني أستنتج منذ الآن نتيجة يؤمن الخطأ فيها، وهي أن المنافسات
والمناظرات التي بين الأمم الغربية المخالطة للأمم الشرقية قد زادت الصعوبة جدًّا
في حل المسائل الشرقية.
وهنا ذكر مسألة المغرب الأقصى ومكدونية ثم قال:
وتأملوا مصر أيضًا فإني منذ نحو سنتين أرسلت رسالة إلى نظارة الخارجية
البريطانية شرحت فيها أخطار حركة الجامعة الإسلامية على مصر، فتوهم قوم أني
بالغت في أمر تلك الأخطار. ولتدارك تلك الحركة في الحال وتسكينها بوجه
السرعة ظنوا أن توهمهم لم يخل من الصحة. على أنني لم أبالغ في ما قلت، بل
إني أشبه ما يسمونه بحادثة سينا اليوم بصورة جلية واضحة ألقيت من فانوس
سحري على حجاب سياسي فجلت الحقيقة لبصائر المتأملين، وأبانت أن الضغائن
القومية يمكن أن تهيج وتتعاظم بسرعة عظيمة، وأظهرت الصعوبات الحقيقية
المستبطنة كل القضايا المتعلقة بالأحكام الشرقية. فالنتيجة التي أستنتجها هي وجوب
الترحيب بكل ما من شأنه تخفيف الخطر الذي ينجم عن تنافس الدول الأوربية
وتناظرها في المسائل الشرقية. ولذلك أرحب بهذا الاتفاق بين إنكلترا وروسيا لأنه
يؤدي إلى توطيد أركان السلام في البلدان التي له علاقة بها، ويسهل علينا حل
القضايا الأوربية الأخرى التي يكون لهذه البلدان شأن عظيم فيها (استحسان) اهـ
المراد من الخطبة.
وجوه العبرة في كلام اللورد:
العبرة في كلام اللورد من وجوه:
(أحدها) قوله: إن الغرب يسعى إلى إدخال آرائه وأفكاره على الشرق.
فيجب على المشتغلين بالمباحث الاجتماعية منا أن يفهقوا غرض الغرب من ذلك
ليعرفوا هل هو خير لهم أم شر أم هو بين ذلك.
(ثانيها) تمثيله لحالنا في ذلك الانتقال بإلقاء العناصر المتناقضة كلها في
بوتقة سياسية اجتماعية إدارية لتذوب وتصهر فيها. فيجب علينا أن نفقه معنى هذا
التمثيل. ما هي هذه العناصر؟ من هم الملقون لها في هذه البوتقة لتذوب فيها؟ ما
هو غرضهم من إذابة عناصرنا وما هو حظنا منه؟ هل نحن على بينة من هذا
العمل، وهل لنا اختيار فيه من حيث هو عمل اجتماعي كبير تنتقل به الأمة من
طور تعرفه إلى طور تتخيله فتحسب أنها تعرفه وهي لا تعرفه؟
(ثالثها) تبرؤه من العلم بنتيجة ذلك العمل الذي أبرزه في قالب التمثيل
وتفويضه إلى الله وحده. فإذا كان مثله في علمه وعمله، وحنكته واختباره، وكونه
من أشهر صاغة البوتقة التي هي آلة صوغ الأمم والشعوب لا يدري نتيجة عمله
وعمل أمثاله، فهل يسهل على العناصر التي في البوتقة أن تكون أعلم بهذه النتيجة؟
يجب التأمل الطويل وعدم الاغترار بالأَحْدَاث المعجبين بما أخذوا عن الإفرنج من
الأفكار والعادات التي هي علل الانقلاب.
(رابعها) قوله: إن العواطف الدينية الراسخة في نفوس أهل الشرق أمست
تصارع الإلحاد والتعطيل، وجزمه بأن اتصال الغرب بالشرق يُأول إلى زعزعة
الأركان الأدبية التي يقوم عليها بناء الهيئة الاجتماعية الشرقية كلها. ويمكن جعل
هذين القولين مقدمتين لقياس منطقي ينتج نتيجة مزعجة جدًّا. فإذا كان الأَحْدَاث
الذين يتبعون كل ناعق بالوطنية والجنسية يحسبون أن هدم أركاننا القديمة أمر نافع
لسهولة إحداث بناء آخر من الجنسية الوطنية، فإن أصحاب العقل والرَّوِيَّة يرون
أن البناء أعسر من الهدم، وأننا نستقبل أخطارًا كبيرة في التحول والانقلاب أراها
أشد هولاً مما تشير إليه هاتان المقدمتان من كلام اللورد اللتان أشار إلى نتيجتهما
بعد بقوله: (إن مبدأ الجنسية يتأصل في الشرق ويحل محل الروابط الأخرى) .
(خامسها) قوله في خواص المتهذبين والعارفين من أن معرفتهم غير
مختمرة بخميرة الاختبار.
(سادسها) بيان التفاوت بين عامة الشعب وخاصته. وهذا التفاوت يكون
دائمًا مثار التخالف، والأمة لا تقوى وتعتز إلا إذا تكونت من أفراد متقاربين في
الأفكار والأخلاق والعادات. إلا أن هذا التفاوت بين أفرادنا وبيوتنا لمثار خطر
عظيم.
(سابعها) وهو بالنسبة إلى المصريين أهمها قوله: (إن الضغائن القومية
يمكن أن تهيج وتتعاظم بسرعة عظيمة) فهذا أقوى ما يهيج أهل أوربا على أهل
الشرق! !
(ثامنها) كلامه في الاختمار الذي تطرق إلى أهل الشرق الأقصى وهو
الذي حكم بحرمان أهل المعرفة والتهذيب في الشرق الأدنى منه. وقد يوضح هذا
النوع من العبرة ما كتبه مكاتب (التيمس) في بكين عاصمة الصين إليها في
ذلك. وهاك موضع العبرة منه نقلا عن المقطم بتصرف لفظي يسير وعنوان
جديد وهو:
نهضة الصين
وسبب ارتقاء اليابان
قالت التيمس: (يؤخذ من رسالة مكاتبنا أن مملكة الصين الضخمة دفنت في
هذه الأيام أفكارًا قديمة مضى على رسوخها في أذهان أبنائها قرون عديدة، واندفعت
بعزم شديد لا يرد ولا يقاوم إلى اقتباس التعلم الغربي، والاهتداء بمعالمه إلى مناهج
التقدم والارتقاء. ولا شك أن هذا النهوض بعد ذلك السبات يعد دليلاً على الشعور
الحي في نفوس الصينيين، ولاسيما الطبقات المتوسطة منهم؛ فقد طلبوا من
الحكومة بصوت واحد أن تتحدى اليابان في اقتباس التعليم الغربي. ولما رأت
الحكومة هذه النهضة العامة لم يسعها إلا أن تجاريهم وتجيبهم إلى مطالبهم لأن
الزمان الذي كانت تلك الطبقات تحترم فيه التقاليد القديمة وتنقاد إلى الحكومة وذوي
الشأن قد مضى وفات منذ انتصرت اليابان على روسيا، بل منذ اشتبكت الحرب
بين الصين واليابان فإن هذه الحرب كانت عبرة وعظة للصينيين إذ دلتهم على أن
قاعدتهم في التعليم عقيمة لا تأتيهم بثمرة، ولا تنشئ منهم رجالاً يديرون دفة
السياسة، ويتفننون في نظام الجندية. أما الحرب الثانية بين روسيا واليابان: فقد
علمتهم أن التعليم الغربي يضمن لأمة شرقية فوزًا مبينًا على أعظم دولة غربية
ولكنهم أخطأوا في نظرهم لأنهم نسبوا نجاح اليابان وفوزها إلى ما اقتبسته من علوم
الغربيين وفنونهم، والحال أن العلوم والفنون لم تفدهم بقدر ما أفادتهم كفاءتهم
وصفاتهم الشخصية. والتمدن الأوربي إنما يعد حلقة وصلها اليابانيون بما أوتوه من
شدة الذكاء والاستعداد الشخصي، فتم لهم ما أرادوا وعدت دولتهم في مصاف الدول
العظمى. ولو وقف الأمر عند حد التمدن الذي اقتبسوه لما نجحوا ولا بلغوا هذه
الدرجة. فالمصلحون الصينيون يحسبون تقدم اليابان نتيجة التمدن الغربي فقط
وبعبارة أجلى: إنهم يريدون الاستمساك بأحد العاملين اللذين ارتقى بهما اليابانيون
والإضراب عن العامل الآخر وهو أهم من الأول وأدعى إلى العناية والاستمساك؛
فإذا اهتموا به وعالجوا أدواءهم الشخصية وقوموا المعوج من عاداتهم وتقاليدهم
وكان لهم ذكاء اليابانيين وكفاءتهم فإنهم يدركون ما أدركه إخوانهم، وإلا فإن التمدن
الأوربي والتعليم الغربي لا يفيدهم شيئًا ولا ينقعان لهم غلة.
وهب أن هذه الحركة الجديدة تعود بالنفع على الصينيين لكن التعليم الغربي
عزيز المنال على الشعب الشرقي إلا إذا كان أفراده يستأصلون من نفوسهم ذلك
الشعور الراسخ ويراعون مقتضى التعليم الغربي من كل وجه. فإنه يغير العادات
والأخلاق والعقليات والأدبيات ويقضي على التقاليد والخرافات قضاء مبرمًا.
فإذا كان في وسع الصينيين أن يفعلوا ذلك كله فالنجاح منهم على طرف التمام
وإلا فإن انقسمت كلمتهم وانتصر قوم للحديث وآخرون للقديم أدى أمرهم إلى فوضى
عظيمة تحصدهم حصدا، فيكون التعليم الغربي قد أفضى إلى الهيجان والاضطراب
بدلا من أن يكون وسيلة إلى التقدم والارتقاء. وهذا شأن كل أمة شرقية تتلقى التعليم
الغربي قبل الاستعداد له والوثوق بكفاءتها للجري على مقتضاه.
أما اليابانيون فلم ينجوا من هذه الفوضى إلا في الزمن الأخير من تشبههم
بالأوربيين فقد كان بين المصلحين منهم جماعة من أعضاء الأسرة المالكة تلقوا
التعليم الأوربي وتشربوا مبادئه من غير أن يشعروا بما يؤثر في عاداتهم وأخلاقهم
لأنهم كانوا مستعدين له بالفطرة وليس للتقاليد سلطة على أفكارهم فنجحوا ونفخوا
روح التعليم الغربي في نفوس مواطنيهم ثم سرت هذه الروح تدريجًا من طبقة إلى
أخرى حتى كان من أمر اليابان ما نراه الآن. ولولا كفاءتهم وصفاتهم الأدبية
وميلهم الغريزي إلى الأصول الأوربية لعاد مسعاهم في تحصيل التعليم الغربي وبالا
عليهم اهـ.
(المنار)
العبرة في هذا الكلام كله ظاهرة لمن له عين تبصر، وأذن تسمع، وعقل
يفكر، وقلب يشعر، فقد سبق قومنا اليابانيين في هذه البلاد وفي الآستانة إلى
اقتباس التعليم الغربي والمدنية الأوربية بنحو نصف قرن، وهذه حالنا في الانقسام
والتفرق؛ ففي مثل هذه المباحث فلتبحث الجرائد بأقلام كتابها وأقلام سائر الكاتبين
المتبصرين.
__________(10/916)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حجة الإسلام
أبو حامد الغزالي
(4)
تتمة الكلام في رأيه في العلوم الدنيوية
(تابع لما في الجزء التاسع)
(مقدمة رابعة) [1] من عظائم حيل هؤلاء في الاستدراج إذا ورد عليهم
إشكال في معرض الحجاج قولهم: إن هذه العلوم الإلهية غامضة خفية وهي
أعصى العلوم على الأفهام الذكية؛ ولا يتوصل إلى معرفة الجواب عن هذه
الإشكاليات إلا بتقديم الرياضيات والمنطقيات. فمن يقلدهم في كفرهم إن خطر له
إشكالٌ على مذهبهم يحسن الظن بهم ويقول: لا شك أن علومهم مشتملة على
حله؛ وإنما يعسر عليَّ دركُه لأني لم أحكم المنطقيات ولم أحصل الرياضيات.
(فنقول) أما الرياضيات التي هي نظر في الكم المنفصل وهو الحساب
فلا تعلق لها بالإلهيات، وقول القائل إن الإلهيات تحتاج إليها خرق كقول القائل:
إن الطب والنحو واللغة يحتاج إليها الحساب أو الحساب يحتاج إلى الطب. وأما
الهندسيات التي هي نظر في الكم المتصل يرجع حاصله إلى بيان أن السموات
وما تحتها إلى المركز كروي الشكل وبيان عدد طبقاتها أو بيان عدد الأكر
المتحرّكة في الأفلاك، وبيان مقدار حركاتها، فلنسلم لهم جميع ذلك جدلاً أو
اعتقادًا فلا يحتاجون إلى إقامة البراهين عليه ولا يقدح ذلك في شيء من النظر
الإلهي؛ وهو كقول القائل: (العلم بأن هذا البيت حصل بصنع صانع بناء عالم
مريد قادر حي يفتقر إلى أن يعرف أن البيت مسدس أو مثمن وأن يعرف عدد
جذوعه وعدد لبناته) وهو هَذَيَانٌ لا يخفى فساده وكقول القائل: (لا يعرف
كون هذه البصلة حادثة ما لم يعرف عدد طبقاتها ولا يعرف كون هذه الرمانة
حادثة ما لم يعرف عدد حباتها) وهو هجر من الكلام مستعبث عند كل عاقل.
نعم قولهم: إن المنطقيات لا بد من أحكامها، هو صحيح. ولكن المنطق
ليس مخصوصًا بهم؛ وإنما هو الأصل الذي نسميه في فن الكلام: (كتاب
النظر) فغيروا عبارته إلى المنطق تهويلاً، وقد نسميه كتاب الجدل وقد نسميه
مدارك العقول، فإذا سمع المتكايس والمستضعف اسم المنطق ظنَّ أنه فن
غريب لا يعرفه المتكلمون ولا يطلع عليه إلا الفلاسفة، ونحن لدفع هذا الخيال
واستئصال هذه الحيلة في الإضلال نرى أن نفرد القول في مدارك العقول في
غير هذا الكتاب ونهجر فيه ألفاظ المتكلمين والأصوليين؛ بل نوردها بعبارات
المنطقيين ونَصُبُّهَا في قوالبهم ونقتفي آثارهم لفظًا لفظًا ونناظرهم في هذا
الكتاب بلغتهم - أعني بعباراتهم في المنطق - ونوضح أن ما شرطوه في
صورته في كتاب القياس وما وضعوه من الأوضاع فى إيساغوجي
وقاطيغورياس [2] التي هي من أجزاء المنطق ومقدماته لم يتمكنوا من الوفاء
بشيء منه في علومهم الإلهية؛ ولكنَّا نرى أن نفرد مدارك العقول في غير هذا
الكتاب فإنه كالآلة لدرك مقصود هذا الكتاب ونفرد له كتابًا مفردًا، يرجع إليه
ولكن رُبَّ ناظرٍ يستغني عنه في الفَهْمِ فيُؤَخِرَهُ حتى يعرض عنه من لا يحتاج إليه
ومَنْ لا يفهم ألفاظنا في آحاد المسائل في الرَّدِ عليهم. فينبغي أن يبتدئ أولاً بحفظ
الكتاب الذي سميناه معيار العلم الذي هو الملقب بالمنطق عندهم. اهـ كلام أبي حامد
الغزالي في فاتحة كتابه (تهافت الفلاسفة) وذكر بعد ذلك فهرس المسائل التي
أظهر تناقض مذهب الفلاسفة فيها وهي عشرون مسألة ثم قال ما نصه:
(فهذا ما أردنا أن نذكر تناقضهم فيه من جملة علومهم الإلهية، وأما
الرياضيات فلا معنى لإِنْكَارِهَا ولا للمخالفة فيها، فإنها ترجع إلى الحساب
والهندسة، وأما المنطقيات فهي نظر في آلة الفكر في المعقولات، ولا يتفق فيه
خلاف به مبالاة) وقد علم مما نقلناه عن كتابه (المنقذ من الضلال) أن المسائل
العشرين من الفلسفة الإلهية التي بَيَّنَ في هذا الكتاب تناقضهم فيها ليست إلا
أغلاطًا وابتداعات إلا ثلاث مسائل عدها من الكفر وهي:
(1) إنكارهم البعث الجسماني زاعمين أن الثواب والعقاب في
الآخرة يكونان على الأرواح المجردة.
(2) زعمهم أن العالم قديم أزلي.
(3) زعمهم أن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات (راجع ص
699) وأما الرياضيات والمنطقيات فليس فيها شيء يسمى بدعة ولا كفرًا؛
بل هي علوم حقيقة نافعة، وكذلك الطبيعيات وإن كثرت فيها إلى عهده النظريات.
ولعمري إنه لولا تساهله وتسامحه لاستخرج أكثر من هذا من أغلاطهم
المبنية على نظرياتهم الفاسدة، وما حمله على تلك الحملة عليهم إلا ما رآه من
كسر كثير من المغرورين بعلومهم لقيود التقوى وتبجحهم بضروب الفخر
وزخرف الدعوى حتى كادت تعم بفتنتهم البلوى، ولم يكن لها في عصره فائدة
دنيوية تذكر.
وقد كان - رحمه الله - فليسوفًا علميًّا لا نظريًّا فقط، ألم تر كيف جعل
المسائل الطبيعية من لباب الدين بما نفخ فيها من روحه في كتاب التفكر من
الإحياء؛ إذ يبحث فيه عن أعضاء الإنسان ووظائفها وحكمها، ومما تتألف منه
على طريقة الأطباء حتى إنه يذكر عدد عظام العضو. كذلك يبحث في الأرض
والهواء والبحار والحيوان والنبات بحثًا يدل على أنه كان واقفًا على علوم
التاريخ الطبيعي، كما انتهى إليه علم الفلاسفة في عصره إلى ما له هو من الرأي
المبتكر فيه، ومنه أن الماء ليس عنصرًا بسيطًا كما كانوا يقولون؛ بل هو مركب،
وقد حقق رأيَّه المتأخرون.
ومما بينه من طبائع الحيوان قوله في الكلام على أصناف الحيوانات من
كتاب التفكر (لو أردنا أن نذكر عجائب البقة أو النملة أو النحلة أو العنكبوت
وهي من صغار الحيوانات في بنائها بيتها وفي جمعها غذاءها وفي إلفها
لزوجها، وفي ادخارها لقوتها وفي حذقها في هندسة بيتها وفي هدايتها إلى
حاجتها - لم نقدر على ذلك، فترى العنكبوت يبني بيته على طرف نهر فيطلب
أولاً موضعين متقاربين بينهما فرجة بمقدار ذراع فما دونه حتى يمكنه أن
يصل بالخيط بين طرفيه ثم يلقي اللعاب الذي هو خيطه على جانب ليلصق به
ثم يغدو إلى الجانب الآخر فيحكم الطرف الآخر من الخيط ثم كذلك يتردد ثانيًا
وثالثًا، ويجعل بُعْدَ ما بينهما متناسبًا تناسبًا هندسيًّا حتى إذا أحكم معاقد القمط
ورتب الخيوط كالسَّدَى اشتعل باللُّحْمَةِ فيضع اللحمة على السَّدَى ويراعي في
جميع ذلك تناسب الهندسة ويجعل ذلك شبكة يقع فيها البق والذباب، ويقعد في
زاوية مترصدًا لوقوع الصيد في الشبكة، فإذا وقع الصيد بادر إلى أخذه وأكله.
فإن عجز عن الصيد كذلك طلب لنفسه زاوية من حائط ووصل بين طرفي
الزاوية بخيط ثم علق نفسه فيها بخيط آخر وبقي منكسًا في الهواء ينتظر ذبابة
تطير فإذا طارت رمى بنفسه إليه [3] فأخذه ولفَّ خَيْطَه على رجليه وأحكمه ثم
أكله.
وما من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يُحْصَى. أفترى
أنه تَعَلَّمَ هذه الصنعة من نفسه أو كوّنه آدمي أو علمه؟ أو لا هادي له ولا
معلم؟ أفيشك ذو بصيرة في أنه مسكين ضعيف عاجز؟ بل الفيل - العظيم
شخصه الظاهرة قوتُه - عاجز عن أمر نفسه فكيف هذا الحيوان الضعيف؟ أفلا
يشهد هو بشكله وصورته وحركته وهدايته وعجائب صنعته لفاطره الحكيم
وخالقه القادر العليم؟ فالبصير يرى في هذا الحيوان الصغير من عظمة
الخالق المدبر وجلاله وكمالِ قدرتِه وحكمته ما تَتَحَيَّرَ فيه الألبابُ والعقولُ
فضلاً عن سائر الحيوانات. وهذا الباب أيضًا لا حَصْرَ له فإن الحيوانات
وأشكالها وأخلاقها وطباعها غير محصورة، وإنَّما سقط تعجب القلوب منه
لأنسها بكثرة المشاهدة. نعم إذا رأى (الإنسان) حيوانًا غريبًا ولو دودًا تجدد
عجبه وقال: سبحان الله ما أعجبه! والإنسان أعجب الحيوانات وليس يتعجب
من نفسه) . اهـ
فعلم من كلِّ ما تقدم أن رَأْيَ الغزالي في العلوم الدنيوية بطريق التفصيل
هو أن كل علم يحتاج إليه الناس في معايشهم ومصالحهم فهو من فروض
الكفاية، وما زاد عن الحاجة من مباحثه الكمالية يُعَدُّ فضيلةً لا فريضة كما
صرَّح به في الكلام على علم الحساب من الإحياء وما لا يحتاج إليه منها إلا
لنحو تسلية فهو مباح ما لم يكن فيه ضَرَرٌ أو مفسدةٌ دينية أو دنيوية. وأنَّ ما كان
ضارًّا منها فهو محرم كالسحر والتلبيس والدجل. وأن العلوم الرياضية لا ضررَ
في شيءٍ منها، وأن العلوم الطبيعية إذا قُرِنَتْ بالعبرة وتنبيه الذهن إلى ما فيها
من الحِكَمِ الدالة على علم الخالق وحكمته ورحمته، تكون من علومِ الدين التي
حثَّ عليها القرآن، وإذا اتُّبعتْ فيها الطريقة النظرية اليونانية تكون قليلة الجدوى
كثيرة الأغلاط؛ ولكن الغلط فيها لا يصادم عقيدة الإسلام، ولا يقتضي خروج
صاحبه من الدين. وإن في الفلسفة الإلهية ثلاث مسائلَ تُعَدُّ من الكفر الصريح.
وقد ذكرناها آنِفًا. وإن عِلْمَ المَنْطِقِ من مقدمات علم الكلام، وأما علم الكلام فهو
ضار بالعوام، ويجب أن لا يوجه إلا لمن عرضت لهم الشبه في عقائدهم أو
لمجادلة من يوجهون الشبه إلي المسلمين لتشكيكهم في دينهم كما سيأتي. وهو
عنده، وعند علماء الصوفية العارفين غير علم التوحيد، ولذلك جعل للتوحيد
والتوكل كتابًا في الإحياء غير كتاب قواعد العقائد. على أن ما كتبه في قواعد
العقائد ليس فيه من جدل المتكلمين إلا قليل بقدر الضرورة، وقد علمت أن
المتكلمين مزجوا بين جميع العلوم الطبيعية والفلسفة اليونانية وبين العقائد
الإسلامية وسموا ذلك كلَّه علمَ الكلام، ولذلك قيل إن موضوع علم الكلام هو
الوجود، والغزالي لا يعده من علوم الدين.
بل من رأيه أن علم الأحكام الذي يسمونه الفقه من علوم الدنيا لا من علوم الدين
وأن طلاب الآخرة يكتفون من هذا العلم بقدر ما يحتاج إليه في القضاء والإفتاء،
ولا يشتغلون باستنباط ما لا تدعو الحاجة إليه؛ بل يصرفون سائر الوقت
في علم الدين والعمل الذي يقرب العبد من ربه عز وجل كما نُفَصِّلُ ذلك في الفصل
الآتي.
* * *
رأيه في العلوم الشرعية
قسم العلوم في الباب الثاني من كتاب العلم من الإحياء إلى محمودة ومذمومة.
والمحمودة إلى شرعية وغير شرعية. وقد تقدم بيان رأيه في العلوم غير الشرعية
وأن منها ما هو فريضة وما هو فضيلة وما هو مباح. وقال: (وأما المذموم منه
فعلم السحر والطلسمات وعلم الشعوذة والتلبيسات) ثم تكلم بعد ذلك في العلوم
الشرعية، وقبل أن نذكر تفصيل رأيه فيها نذكر رأيه في العلم الذي هو فرض
عين.
العلم الذي هو فرض عين:
وذكر في أول الباب الثاني اختلاف العلماء في العلم الذي هو فرض عين على
كل مكلف، وزعْم كل من غلب عليه علم من التفسير والحديث والكلام والفقه
والتصوف أن علمه هو فرض العين. وجزم هو بأن فرض العين هو العلم
بمعنى كلمتي الشهادة وما يتبعه من العقائد السمعية من غير شك ولا اضطراب،
والعلم بالطهارة وأحكام الصلاة عند دخول وقتها، وبأحكام الزكاة عند وجوبها
على المكلَّف، وكذلك الحج، وبأحكام الصوم عند مجيء رمضان، وكذلك
حكم كل ما يكون بصدد العمل به، فإذا تصدى للتجارة وجب عليه معرفة ما
يحترس به من الوقوع في الحرام بقدر الحاجة، حتى إنه قيَّد وجوب تعلم الحذر
من الربا بشيوعه في البلد. وكذلك تحريم أكل الخنزير ونحوه، وهو يقول في
مواضع من كتبه: إن المكلَّف إذا مات قبل أن يعلم شيئًا مما يذكره المتكلمون في
صفات الله تعالى كعلمه وكلامه هل هي عين الذات أو غير الذات وهل هي قديمة أو
حادثة بأن لم يفكر في ذلك أصلاً وقبل أن يعلم بتحريم كثير من المحرمات التي لم
يكن عرضة للوقوع فيها - فلا يكون ناقصًا في دينه ولا مسؤولاً يوم القيامة عمَّا
جهله من ذلك ونحوه.
وبعد تفصيل في ذلك قال: (وهذا هو الحق في العلم الذي هو فرض عين
ومعناه العلم بكيفية العمل الواجب، فمن عَلِمَ الواجب وقت وجوبه فقد علم العلم الذي
هو فرض عين) .
وما ذكره الصوفية من فهم خواطر العدو (الشيطان) ولمة الملك حق أيضًا،
ولكن في حق من يتصدى له. فإذا كان الغالب أن الإنسان لا ينفك عن دواعي الشر
والرياء والحسد فيلزمه أن يتعلم من ربع المهلكات [4] ما يرى نفسه محتاجا إليه.
وكيف لا يجب وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثَلاَثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌ
مُطَاعٌ وَهَوَىً مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ) [5] ولا ينفك عنها بشر. وبقية ما سنذكره
من مذمومات أحوال القلب كالكبر والعجب [6] وأخواتها تتبع هذه الثلاث المهلكات،
وإزالتها فرض عين، ولا يمكن إزالتها إلا بمعرفة حدودها ومعرفة أسبابها
ومعرفة علامتها ومعرفة علاجها؛ فإن من لا يعرف الشر يقع فيه، والعلاج هو
مقابلة السبب بضده وكيف يمكن دون معرفة السبب والمسبب؟ فأكثر ما ذكرناه في
ربع المهلكات من فروض الأعيان وقد تركها الناس كافة اشتغالاً بما لا يُغني.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) من مقدمات كتابه (تهافت الفلاسفة) .
(2) لم يكد يشتهر من الكلم اليوناني في المنطق العربي غير هاتين الكلمتين فالأولى (إيساغوجي) وهي علم على الكليات الخمس، والثانية (قاطيغورياس) وهي عبارة عن المقولات العشر.
(3) هكذا ذكر الضمير مذكرًا في هذه الكلمة وما بعدها، ولعله قد سقط قبلها كلام فيه ذكر الصيد مثل
(جعلها (أي الذبابة) صيدا رمى بنفسه) إليه إلخ.
(4) المهلكات هو الربع الثالث من كتاب الإحياء الذي يذكر فيه الأخلاق المذمومة وكيفية معالجتها بعد التلبس بها والاحتراس عنها قبله.
(5) وفي نسخة الشارح زيادة لفظ (الحديث) وهي إشارة إلى أن له تتمة، وهو بطوله كما رواه البزَّار في مسنده وأبو نعيم في الحلية من حديث أنس (ثلاث كفارات وثلاث درجات وثلاث منجيات وثلاث مهلكات أما الكفارات فانتظار الصلاة بعد الصلاة وإسباغ الوضوء في البردات ونقل الأقدام إلى الجماعات، وأما الدرجات فإطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام، وأما المنجيات فالعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية، وأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه) ورواه بسياق المصنف غير واحد، وله أسانيد كلها ضعيفة.
(6) العجب هو الإعجاب ولعله أراد الحسد أو نحوه فسبق قلمه إن لم يكن الغلط من الناسخين.(10/922)
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
__________
تعريف وكلام عام في العربية والاستعراب
والتعريب والإعراب [*]
لا الأخذ بالتعريب يضرها ولا الإعراب ينفعها وإنما نفعها وضررها على
حسب همم رجالها.
كلام يجر إلى كلام وحديث يسوق إلى حديث، والشيء بالشيء يذكر والند مع
الند يقرر.
إن مبحث التعريب الذي خطب فيه الفضلاء هذه الأيام قد تدرج ببعضهم إلى
ذكر العرب والاستعراب، ثم جال بفكري إلى غير ما ذكروه من الأبواب فأحببت أن
أعرب الآن عن بعض ماجال بفكري مما يحوم حول هذا المبحث وهي موضوعات
متعددة أحببتُ أن أوحد الكلام فيها وآتي به مستمسكًا بعضه ببعض فلعلك تعرف
الكتاب من عنوانه، وعساك تقف على ما يعجبك في شيء من بيانه.
***
قال بعض الظرفاء: إذا كان وطن العرب شبه جزيرتهم فرأس مالهم لايزال كما
هو والربح من بعده كثير.
ونحن نأخذ هذا الكلام على وجهه من الجد صارفين النظر عن وجهه من
الظرف ونقول: نعم إننا نجد في عرب اليوم عرب أمس وزيادة.
نجد هذا في اللغة والأخلاق والعادة والحالة الاجتماعية والسياسية والجغرافية.
ولعل القارئ إذا جلى أمام نظره ما يشهد لهذا يظن نفسه في رواية تمثيلية، بيد أنها
طبيعية لا صناعية، وحقيقية لا خيالية. ميادينها الفيافي والفدافد الواسعة لا
دائرة صغيرة ضيقة، وأبطالها الملايين الكثيرة لا نفر من الناس.
ولو نشر اليوم أحد الجدود الأقدمين في أوربا مثلاً لأنكر فيها كل شيء، ولكنْ
لو نشر أحد الجدود الأوربيين في شبه جزيرة العرب لما أنكر فيها شيئًا، فإن كل ما
ترك من مأوى ومركب وسلاح وماعون وكساء وغذاء وقبائل وملاحم ومغازي
ومفاوز وفدافد يجد خلفاءه لم يحدثوا فيه حدثًا ولم يعمدوا فيه إلى تغيير. يجد الخيام
من الأوبار والجلود، ويجد السيوف والرماح والمجان والدروع، ويجد الصافنات
والعاديات والقلائص والروامل والرواحل والعشار اليعملات، ويجد الصاع
والقصاع والبرم والقدور والقداح، ويجد القمصان والعمائم والبرود والخفاف، ويجد
العصائد والخزائر والهرائس والبر والشعير والتمر والزبد والألبان، ويجد بني
صخر وبني حرب وبني عامر وبني وائل وبني بكر وبني طيء وبني فلان وفلان،
ويجد حروبًا بين هذه القبائل قائمة ونيرانًا مستعرة يتواعدون الأيام لمنازلاتهم
ويتربصون الفرص لمغازيهم، ويجد يد الطبيعية لم تزل موضوعة على حالها في
تلك الطلول والديار وهاتيك المنازل والمناهل لم تدن منها يدُ الصناعة في شيء من
الأشياء.
كانت جزيرة العرب أقسامًا وهي اليوم كما كانت: تُهامة والحجاز واليمن
وحضرموت وظفار والبحرين ونجد وبوادي الشام والعراق. كانت هذه البلاد
تختلف وهي الآن كذلك؛ فتهامة والحجاز لم يكن فيها حرث وزرع إلا قليلاً، وكان
أهلها أولي شظف في العيش غالبًا، ولا يزال القوم على هذه الحال. وأهل اليمن مع
محافظتهم على جميع عادات العرب كان لهم حرث وزرع وهم اليوم هكذا. وأهل
حضرموت وظفار والبحرين كان لهم حظ بالتجارة والاتصال بالهند مع المحافظة
على سنن العرب، ولا يزالون اليوم على هذا المنوال، وكانت نجد كالحجاز إلا في
زيادة المزارع وهي الآن كذلك، وكانت بوادي الشام والعراق ما بين قريب إلى
المعمور وبعيد عنه وشأنهم مع أصحاب الممالك على حسب القرب والبعد وهي
اليوم هكذا.
وبالجملة كان أهل هذه الجزيرة روَّادَ معايش وطلاب أداة وماعون، ويتصل
من أجل ذلك كل قسم منهم بالبلاد القريبة منهم ويقتبسون منهم شيئًا من العادات
والاعتقادات ويكون لهم معهم شأن من الشؤون في الروابط السياسية والاجتماعية
وهذا الحال عينه مشاهد اليوم فيهم بالتمام، وزد عليه أنهم كانوا في أنفسهم شعبًا
واحدًا في لغة واحدة وبيئة واحدة وعادات واصطلاحات تكاد تكون واحدة. فالبيئة لم
تتغير ولم يتطرق إليها انقسام جديد غير ما ذكر، والعادات والاصطلاحات لم تتغير
ولم يطرأ إليها من الروابط إلا ما كان يطرأ مثلها من قبل، وكذلكم اللغة لم تتغير
وكل من زعم تغيرها كان زعمه مبنيًّا على الظن والتخمين وضعف علم بالماضي
والحاضر.
فمخارج الحروف في لغة هؤلاء لا تزال كما وصفها لنا الناقلون كسيبويه
وغيره، والمصادر التي نجدها منقولة عن العرب هي موجودة اليوم في لغة هؤلاء
العرب إلا ما أوجده بعض مدوني العلوم أخذًا من اللغة نفسها وجريًا على سننها.
والاشتقاق من المصادر كله على حاله، وجميع المشتقات تدور في لغة عرب
اليوم على الوجه الصحيح، وإذا كنا نحن نتعلم بعض المشتقات تعلمًا ويتكلف
المتعلمون منَّا تصحيحها تكلفًا، فإنها موجودة لديهم بالفطرة يتلقونها وهم أطفال
وتصير المعرفة غريزية. قد سمعنا ذلك من صغارهم مثل كبارهم على حدٍ سواء
ولا يحتاج المخالف إلا تجربة بسيطة.
والألفاظ التي تدل على الأمور المحسوسة موجود مِنْهَا في لغتهم كل ما هو
في المعاجم إلا ما حدث في عهد حضارتهم واتساع دولتهم، وهذا المستثنى ليس دليلاً
على تغيُّرِهَا؛ بل هو دليل على عدم تغيرها؛ لأن بعض ما حدث في الحضارة لم
يحدث لديهم، فهم من هذه الجهة قد بقي لديهم رأس المال لم يتغير وما حدث في
الحضارة هو زائد.
وقواعد التركيب وقوانين الترتيب من التقديم والتأخير والوصل والفصل
والحصر والإظهار والإضمار والإفراد والجمع والأدوات ومواقعها وتأثيرها - باقية
أيضًا كما هي.
فإذا كانت المخارج محفوظة، والمصادر ظلت على حالها، والاشتقاق لم
تفسد طرائقه، وأسماء الأشياء لم تتغير، وقواعد التركيب وقوانين الترتيب،
وصيغ الإفراد والتثنية والجموع والضمائر كما هي؛ فأي تغير طرأ على لغة
القوم؟ !
تجد الحضري في مصر والشام مثلا يقول النساء (راحوا) وهو خطأ؛ لأن
الواو ضمير الذكور. وأما البدوي أو ابن جزيرة العرب فإنه يقول النساء رحن
وهو الصواب كما نقل عن الأولين.
وتجد الحضري في مصر يقول: (فلان يضرب) بفتح الراء وفي الشام
يقولون (يضرب) بضم الراء، وكلاهما خطأ. وأما البدوي أو ابن جزيرة العرب
فإنه يقول: (يضرب) بكسر الراء وهو الصواب كما نقل عن الأولين.
ولو أردنا أن نورد الشواهد لهذا لاحتجنا إلى مجلدات، فنحن نستغني عن هذا
بأن نحيل من لم يثق بقولنا على التجربة ومخالطة هؤلاء العرب ولو قليلاً.
وإنما يصح أن نعدّ من التغير تركهم حركات أواخر الكلم؛ هذا إذا صح أن
الأولين كانوا ينطقون بها دائمًا، وأما إذا صح ما يذهب إليه بعضهم من أن
الحركات لم يكن الأولون يستعملونها إلا في لغة الشعر وحالات مخصوصة فلا
يكون هؤلاء مبتدعين بتركهم سنة من سنن الأولين، ويصح أن نعد من التغير
إهمالهم ضمير المثنى وإهمالهم بعض الأدوات التي يقوم مقامها غيرها أو يمكن
الاستغناء عنها. فمما تركه أكثر القبائل من الأدوات (هل) استغناء عنها بهمزة
الاستفهام أو بقرينة الاستفهام، ومما تركوه (قد) التي للتحقيق والتي للتقليل
استغناءً عنها بالقرائن، وممَّا تركه أكثرهم (لم) التي تدخل على المضارع فتحيل
معنى الفعل المنفي للماضي تركوها استغناءً عنها بـ (ما) التي تدخل على
الماضي مباشرة فإن (ما ضرب) مثل (لم يضرب) بالتمام، ومما تركوه (لمّا)
التي تفيد استمرار النفي في الماضي إلى الوقت الحاضر.
هذا كل ما عرفته مما تركوه بعد إمعاني زمنًا طويلاً في مخاطباتهم وسماع
شعرهم، ورأيتهم أيضًا لا يستعملون التنوين إلا للتنكير ولا يحذفون النون لناصب أو
جازم.
وبَدِيِهِيٌّ أن هذا التغير ليس من التغير المفسد، ثم إنه لقلته غير جدير أن
يعد، فأما إهمال الحركات فهو جَائِزٌ عند أهل الإعراب في حالة الوقف. وماذا على
القوم إذا أجروا الكلمات كلها مجرى الكلمات الموقف عليها، وإذا ضممت إلى هذا
المنزع ما تعرفه من اختلاف لغات الأولين في حالة الإعراب كما نقله إلينا الناقلون لم
يصعب عليك أن تعد إهمال الحركات لغة من اللغات هي خير من بعض تلك اللغات
التي تفسد كل ما نقلوه من قواعد الإعراب؛ فقد نقلوا لنا أن بعض العرب كانوا
يرفعون المفعول وينصبون الفاعل، وليس شيء فوق هذا مما يمحق كل ما يرجونه
من فوائد الإعراب. ومن أحاط علمًا بكل ما نقل في هذا الباب أو أكثره لا يجد
قاعدة مما بنوه إلا وهي منقوضة بشيء آخر قد سمَّوه من شواذ اللغات. فأيُّ ضرر
يحدث من هذه اللغة التي تهمل فيها الحركات ويسد فيها باب الإعراب؟ ألم تروا أن
هؤلاء القوم يتفاهمون والحالة هذه تمام التفاهم؟
ولقد تقصيتُ كثيرًا من الدواوين المنسوبة إلى شعراء الجاهلية والمخضرمين
فألفيت فيها كثيرًا مما قد خالفوا فيه قواعد الإعراب مخالفةً ظاهرةً واضحةً لا تحتمل
التأويل، وإنما قلت: إنها ظاهرة؛ لأنها واقعة في القوافي، وسأفرد لهذا الموضوع
مبحثًا مستقلاًّ بَيْدَ أنني آتي هنا بأمثلة تؤيد ما قلته. قال جرير:
حملت أمرًا عظيمًا فاصطبرت له ... وقمت فيه بأمر الله يا عمرا
والقاعدة تقضي أن يقول (يا عمر) بضم الراء. وقال:
فالشمس كاسفة ليست بطالعة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
ولا وجه لنصب القمر، وما تكلفوه من التأويل في الإعراب غير مَرضيّ لدى
الأذواق التي سلمت من التمحل. وقال من قصيدة قافيتها نون مكسورة من بحر
الوافر:
عرفنا جعفرًا وبني عبيد ... وأنكرنا زعانف آخرين
بكسر النون، والقاعدة تقتضي فتحها وليس كسرها لغة لقومه فيما روي.
وبعد هذا البيت:
أتوعدني وراء بني رياح ... كذبت لتقعدن يداك دوني
وقال من قصيدة قافيتها باء مفتوحة من بحر الوافر:
ألم تران زيد مناة القوم ... قراسية تذل به الصعابا
والقاعدة تقتضي رفع الصعاب بعد قوله: (تذلّ) بالتاء، وإذا خالفنا الموجود
في النسخ المطبوعة والخطية وقرأناها (تذل) بنون المتلكمين قد يستقيم المعنى ولا
يتأذى الإعراب، فعسى أن تكون صحة الرواية على هذا الوجه. وقال من قصيدة
قافيتها راء مكسورة من الوافر:
لقد نادى أميرك بابتكار ... ولم يلووا عليك ولم تزار
والقاعدة تقضي بأن تكون الكلمة التي بعد (لم) الثانية (تزر) لا (تزار) .
وأنا لا أقصد بهذا إحداث مذهب جديد - هو إهمال الإعراب - بل أقصد تأييد
أن اللغة العربية التي كانت قبل ثلاثة عشر قرنًا أو أربعة عشر قرنًا أو أكثر هي
باقية اليوم في وطنها كما هي لم يطرأ عليها تغير ولاسيَّما عند أهل الخيام العريقين
بها، وأقصد أيضًا أن أذكر الناس بأن إهمال الإعراب لا يضر هذه اللغة كما لم
يضر كل اللغات الخالية منه.
وأما إهمال ضمير المثنى فلا أدري له سببًا بَيْدَ أنني لا أراه كبيرًا من الأمر؛
بل هو يخفف الكلفة فيما لا حاجة إليه. أقول لا حاجة إليه لأن الضمير لا يذكر إلا
بعد معرفة الاسم الظاهر؛ إما بذكر لفظه أو بسبق وجوده في ذهن المخاطب. فمتى
كان الظاهر معروفًا أنه مُثنى لم يبق لأجل الإفادة حاجة إلى تثنية الضمير، ولم يكن
من بأسٍ أن يدخلَ في حكم ضمير الجمع؛ لأن الجمع يصدق على ما فوق الواحد؛
فمتى قلت (الرجلان) لم يضرك من حيث المعنى أن تقول جاءوا، كما تقول ذلك
في الرجال، ومثل هذا إذا قلت (الفارس والراجل تقابلوا) بدل (تقابلا) أو إذا قلت (الفارسان غلبوا) بدل (غلبا) . ولهذا شواهد وأمثلة من اللغة الفصيحة نفسها،
وكذلك لا أقصد بهذا إحداث مذهب جديد في العربية، ولكنني أقصد بيان أن هذا ليس
من التغيير المفسد؛ بل هو استغناء عمَّا لا حاجة إليه.
ومثل هذا يقال في إهمالهم بعض الأدوات تخففًا منها أو استغناءً بغيرها
عنها، ولا يعزب عن الذي تَتَبَّعَ النقول أن كثيرًا من القبائل عندها ما ليس عند
غيرها، ولا يعد ترك الآخرين لمثلها تغييرًا للغة.
أَثْبَتْنَا بما قَدَّمْنَا أن رأس المال باقٍ على حاله، والآن نُذَكِّرُ القارئ بتلك
الحركة العربية التي ازدان التاريخ بأخبارِ هِمَمِ رجالِها. فقد نقلت هذه الحركة رأس
المال إلى ديار كثيرة واسعة فَرَبَا فيها وزادت الديار العربية والمتكلمون باللغة
العربية، وصارت هذه اللغة لغة علمٍ ودين وسياسة، فدونت بها الدواوين التي لا
تحصى في كل فنٍ من فنون المعارف.
وأمامنا الآن من هذا الربح حواضر عظيمة في آسيا وإفريقيا؛ ففي آسيا ديار
العراق استعربت بعد أن كانت فارسية، وحواضر الشام استعربت بعد أن كانت
سريانية وعبرانية ورومية، وفي إفريقيا مصر استعربت بعد أن كانت قبطية،
وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش استعربت بعد أن كانت بربرية، ونُسَمِّي
مجموعَ هؤلاءِ مستعربي الأقطارِ.
صارت هذه البلاد التي عددنا عربية؛ ولكن ليست عربيتها كتلك العربية
الأولى؛ بَيْدَ أن هذا النقص لا يضيرها ولا يخرج بها عن كونها عربية، ولا يعدم
أهلها سهولة إصلاحها ما دام لهم مرجع من الكتب المنقولة التي تصف العربية
الصحيحة أو من العرب الأحياء الذين هم وارثو تلك العربية.
أقول: إن هؤلاء العرب الأحياء مرجع للمستعربين إذا شاءوا إصلاح لغتهم؛
لأن حكمهم على ما أوضحنا كحكم آبائهم الأولين، ولن يمكنك أن تحيطَ خُبرًا
بمخارج الحروف مما يصفه لك كتاب سيبويه مثلاً كما تحيط بها خبرًا إذا سمعتها
من عربي من هؤلاء العرب الذين وصفناهم لك، ولن تستطيع أن تأخذ من الكتب
اللهجة العربية التي عليها المعول، فإنك تجد اليوم للطرابلسي لهجةً وللتونسي لهجةً
وللعراقي والشامي والمصري، ولا تجدُ واحدةً منه صحيحةً حتى إذا سمعت لهجة
البدوي أو الحجازي مثلاً رأيت جمالاً في اللهجة تعرفه الأذن ولا يستطيع أن يصفه
لك أحد، فإذا سمعت من هذا وذاك من أهل الحواضر ثم سمعت من ذلك العربي
ميزت وحكمت بالفرق وآمنت أن وجود العرب في وطنهم أمان من ضياع
العربية.
وأحب هنا أن أنبِّه عليّ أمرٍ ربما استدركه علي بعض المطالعين؛ وهو أن
للعرب الفاتحين بقايا ذراري في الحواضر، وأنه ينبغي أن لا يسلب هؤلاء صفة
العربية ما داموا حافظين سلسة أنسابهم؛ فجوابي لمن يقول هذا القول: إننا الآن في
صدد اللسان واللغة لا في صدد علم النسب، ولا يخفى على اللبيب أن البلاد
التي استعربت لم يكن كل أهلها من سلالة أولئك العرب؛ بل هم خليط أكثرهم من
أهل تلك البلاد الأقدمين قد غلبت العربية على لغتهم فاستعربوا من غير أن يتقنوا
النطق بالعربية كالعرب، وضاع ابن العربي في هذا المجموع من جهة اللسان إذا كان
لم يضع نسبه. ثم حفظ العلماء للكل مخارج العرب وصورة أدائهم الكلمات وأساليب
البيان.
والخلاصة أن عربية المستعربين طرأ عليها فساد؛ ولكن لها حوافظ وأن ذلك
شأنها قبل اثْنَيْ عَشَرَ قَرْنًا، وهذا شأنهم اليوم وقد كان حفظتها ينشطون حينًا وينون
حينًا.
ولعل المطالع يحب أن يعرف كيف نشاط المستعربين اليوم المنتشرين في
إفريقيا الشمالية ثم سواحل البحر الأحمر وما وراءه شمالاً إلى شواطئ الفرات
وغربًا إلى شواطئ البحر المتوسط فنقول له إن أبرَّ الديار اليوم باللغة العربية هي
مصر صانها الله وبارك عليها وعلى أهلها، وقبل أن نوضح له برها باللغة العربية
نَمُرُّ بِهِ مَرَّةً على جميع مساكن هذه اللغة حتى يكون له نصيب من كل ما يحوم حوم
مادة (ع رب) كما سبقت الإشارة إليه في صدر هذا الكلام.
من انحدر من جزيرة العرب إلى نجد ومنها إلى العراق يجد ثلاث حواضر
تتبعها بلاد كثيرة: البصرة وبغداد والموصل. فأهل ولاية البصرة كلهم يتكلمون
بالعربية، وأهل ولاية بغداد أكثرهم يتكلمون بها، وأهل ولاية الموصل أكثرهم
أكراد بَيْدَ أن حاضرة هذه الولاية عربية، وفي عربية العراق في الجملة كثيرٌ من
الدخيلِ ولاسيَّما في ولاية الموصل، والعربية في العراق واقفة على ما تركها أهل
القرون الماضية من العامية لحرمانهم من الصحافة العربية، ولولا العلماء
والمتعلمون لأضرَّ بها هذا الوقوف. ومن سار من ولاية الموصل إلى الغرب يلقى
في طريقه من الديار العربية ولاية حلب؛ وحلب محسوبة من الشام ولكن ولاية
حلب شأنها في هذا الباب عجب؛ فإن فيها كثيرًا من القرى التركية إلى جانب
القرى العربية وكل من أهل هذه وتلك محافظون على لسانهم وملمٌ أكثرُهم بلسانِ
جيرانهم، فأما أهل حلب نفسها فعربيتهم كعربية البلاد الشامية، ومن أعمال هذه
الولاية بلدة تحيط بها التركية والكردية من كل جانب، وأهلها لا يتكلمون إلا
العربية، وهي بلدة (ماردين) التي كان فيها الملوك بنو أرتق، وأغرب من هذه
بلدة أخرى في ولاية بتليس اسمها (سعرد) فإن أهل ماردين قريبون من الديار
الحلبية التي تغلب فيها العربية وأما (سعرد) فهي منقطعة عن الديار العربية أيما
انقطاع ومتوغلة ضمن الديار الكردية والأرمنية أيما توغل، وهي مع هذا محافظة
على اللغة العربية، ولعل كثيرًا من عوامها لا يعرفون سواها؛ ولكن عربية
(سعرد) هذه نمط مستقل؛ فإنهم نسوا بعض المخارج كما نسوا قليلاً من مفردات
الأسماء واستبدلوا بها من لغات جيرانهم، ومع ذلك فيها كل مميزات اللغة من
الاشتقاق وأساليب التركيب، وبالجملة هي عربية من كل وجه إلا أنها رديئة كلغات
البرابرة المستعربين في المغرب.
ومن سار من ولاية حلب إلى الجنوب يلفي ديارًا معمورة عربية محضة
تتجزأ إلى أربع ولايات: ولاية سورية (دمشق) ومتصرفية لبنان وولاية بيروت
ومتصرفية القدس، ولا أعرف بلادًا تختلف لهجةَ أَهْلِيهَا بمقدارِ ما تختلف لهجة
أهل هذه البلاد؛ ولكن الدخيل في لغتهم قليل كما هو الشأن في مصر، ولم يبق في
الشام ممن يتكلمون بلغة قديمة إلا قرية أو قريتين يتكلمون بالسريانية فيما بينهم على
ما بلغنا، ومثل هذه المحافظة على لغة ما أكثر من ألف عام في محيط كله أجنبي
عن هذه اللغة من غريب الأمور.
والعربية في الديار الشامية أمثل منها في العراق كله؛ لأنها غير واقفة هنا
على عاميتها الأولى كما هو الأمر هناك؛ بل هي سائرة مع الارتقاء الذي أحدثته
الصحافة في اللغة في مصر وسورية، ومن عرف العامية في البلاد الشامية قبل
ثلاثين سنة وعرفها اليوم يشعر بالفرق العظيم الذي أشرنا إليه.
فإذا جاوزنا البر الأسيوي إلى العدوة الإفريقية، وهبطنا فيها مصر نجد أمامنا
العربية كما تركناها خلفنا، فإذا سِرْنَا من مصر إلى الجنوب، وَجَدْنَاهَا في السودان
المصري، وإذا سِرْنَا منها إلى الغرب ألفيناها في طرابلس فتونس فالجزائر
فالمغرب الأقصى.
ومن غرائب المصادفات أننا كما نجد مصر واقعة في ملتقى جغرافي بين
عرب المشرق وعرب المغرب نجد عربيتها أيضًا في ملتقى حيوي بين العربية
المشرقية والمغربية؛ فعربية مصر أقرب إلى العربية الصحيحة من سائر عربيات
الأقطار المستعربة، وما قرب منها أو بعد من المشرق أو المغرب كان قربه إلى
الصحة على نسبة قربه من هذا الملتقى؛ فلغة الشام - وإن خالفت لغة مصر - هي
مثلها أو قريب منها في القرب من اللغة الصحيحة، ولغة العراق ليست كذلك، ولغة
طرابلس وتونس قريبة من لغة مصر، وليست كذلك لغة الجزائر والمغرب
الأقصى.
وتمتاز مصر على سائر الديار العربية بأمور أجلها كثرة العدد، فليس هناك
قطر عربي يقارب عدد أهل هذا القطر، فالديار الشامية - وهي جارة هذه الديار -
لا يتجاوز أهلها أربعة ملايين نسمة مع أنها تمتد من حدود شبه جزيرة سيناء إلى
جزيرة ابن عمر جنوبًا وشمالاً، ومن البحر المتوسط إلى صحراء العرب على هذا
الامتداد شرقًا وغربًا، وهي مسافة ليست بقليلة؛ ولكن هناك أسبابًا كثيرًا جعلت
سكانها قليلين، ومثل ذلك العراق باتساع المسافة، ولا يبلغ أهله أربعة ملايين،
وجزيرة العرب على اتساعها أكثرها فدافد، وليس لأهلها من إحصاء رسمي؛ لأن
البداوة هي الغالبة على أكثر بقاعها؛ لكن المشهور أن أهلها كلهم الحجازيين
واليمنيين والنجديين لا يتجاوز ثمانية ملايين، وفي إفريقيا أقاليم عربية لا يبلغ إقليم
منها في العدد مبلغ مصر؛ فالمغرب الأقصى أكبرها لا يحزرونه إلا في ثمانية
ملايين، فأين هذا من اثنيْ عشر مليونًا في مصر.
ومما تمتاز به مصر حرية الطباعة والتأليف ونشر الأفكار وسهولة الاجتماع
وتيسر التعاون، فإذا ضممت إلى هذه المزايا فوز لغتها بالدنو من العربية الصحيحة
أكثر من سائر لغات الأقطار المستعربة تبيَّن لك أن مصر جديرةٌ أن تكونَ اليومَ
عاصمةَ اللغة العربية، وأنها أجدر البلاد بأن تكون محط هذه الرحال، ومناط
هؤلاء الرجال، فأزهرها المعمور يعلِّم لنا الألوف من الشبان قواعد اللغة وحوافظها
من الضياع. ومطابعها الوافرة تُهْدِي إلينا أَنْفَسَ ذخائر الأولين وأعلام النقلة والحفظة
من الكرام الكاتبين. وعلماؤها الأفاضل لا يضنون بأوقاتهم الثمينة؛ بل يبذلونها في
العناية من كل وجه يقتضي العناية.
ولقد تعهَّد رجال من أفاضل دار العلوم أن يَخُصُّوا اللغةَ العربيةَ بعنايةٍ زائدة،
وأهدونا باكورة مباحثهم وهو مبحث التعريب (جوازه اليوم أو عدمه) فألفينا
ثمراتٍ شهية من نتاج هاتيك الأفكار الرائقة الراقية.
وعندي أن جواز التعريب اليوم وغدًا كجوازه لسلفنا أمس بديهي، بَيْدَ أن الذين
لم يروه بديهيًّا إذ مالوا إلى عدم تجويزه هم فضلاء كملة كبار العقول غزيرو المادة،
فلذلك أوجبت على نفسي أن أبحث عن سر خوفهم على اللغة الذي دعاهم للحذر
والتحذير من التعريب، وبعد الإمعان الطويل وجدت سر ذلك: هو شدة الحب للغة.
قلت: شدة الحب ولم أقل: الحب؛ لأن الحب موجود عند جمهور أبناء اللغة
وأما شدة الحب فلا توجد إلا عند بعض الأفراد من أبنائها، وشدة الحب تورث سوء
الظن والقلق أحيانًا مما لا يوجب مثله القلق، ومن أقرب الأمثلة التي شاهدتها في هذا
الباب أنني رأيت على شاطئ النيل رجلاً وزوجتَه ومعهما أولاد، ورأيت الأب نزل
بأحد الأولاد على حافة الماء ليسقيه من غير أن تراه الأم، ولم يكن من خطر قط في
المحل الذي نزل منه، فلمَّا صعد به حدثها بنزولهما فرأيتُها قد اصفر وجهها كأنها
تتوقع نزول مكروه ثم لامته لومًا شديدًا. هذا وهي ترى أنهما قد خرجا سالمين،
وتعلم أن الأب ليس أقل منها حذرًا من سوءٍ يصيب الولد؛ ولكن شدة الحب قرين
معها سوء الظن بالعواقب وإن كانت سليمة.
على هذا المثل نفهم سر حذر أولئك الأفاضل من التعريب؛ أي إدخال كلمات
في اللغة ليست منها، فإنهم على معرفتهم بأن مثل ذلك وقع في هذه اللغة نفسها فلم
يضرها يحذرون أن يضرها إذا وقع بعد الآن.
إني لا أحب أن أفيضَ في هذا المبحث على طريقة الجدل والمناظرة؛ فإن
مجيز التعريب في غنى عنه، ومانعه قد ذكرنا عذرَه في خوفه منه، وسواء أرغبنا
عن التعريب أم رغبنا فيه ما عنه في الحقيقة من محيص. ولكنني قد بينت على
غير طريقة الجدل والمناظرة لمانع التعريب أنه لا خوف من دخول كلمات أجنبية
هي قليلة مهما كثرت على لغة حية يتكلم بها نحو خمسين مليونًا متجاورين في
المساكن لا يفصل بينهم من الماء إلا تُرْعَةُ السويس. ومنهم نحو ثمانية ملايين هم
أهلها العريقون القائمون في وطنهم الأصلي. وهي لغة علوم وتاريخ ودين، وقد كتب
فيها من الصحف الملايين.
لا خوف على لغةٍ خضعَ أهلُها لحكم الديلم والترك قرونًا متطاولة من بعد ما
خضعوا لحكم أهلها مثل ذلك فلم يدخل فيها من لغاتهم إلا نزر لا يعد، قد ضاع وفني
وهضم في أحشائِها.
إنما يخاف على اللغة إذا خَلَتْ من مزاياها المعنوية، إذا خوت من العلم، إذا
خلت من الأهل، إذا فقدت كل كتبها، إذا حرمت في المجتمعات كلها كل حظ من
حظوظ اللغات الأخرى.
لو خيف على لغة من دخول الغريب فيها لكانت تركية الدولة العثمانية أحق
اللغات أن يخاف عليها؛ لأن نصف كلمها دخيل من العربي، وربعها دخيل من
الفارسي، والربع الرابع تركي وأكثره أدوات ومشتقات؛ ولكن لا خوف على لغة
ما من مثل هذا إذا سلمت أساليب التركيب وضاع أصل الدخيل فيها عند الكاتبين
والمتكلمين حتَّى صار كأنه من أصل اللغة. وإذا لم يَخْشَ على لغةٍ هذا مقدارُ
الدخيل فيها بالنسبة للأصيل؛ بل لا يكاد يوجد إلا إذا ترجمت إليها علوم أولئك
القوم أصحاب اللغات الأخرى. وأي ضَيْر على مَن يريد تعلم علم إذا سمع فيه
كلماتٍ غريبة لم يألفها اليوم وسيألفها غدًا، أليست اصطلاحات علم النحو والصرف
غريبة عند من لم يعرفها مع أنها عربية؟
قد قلت: إنني لا أحب أن أفيض في هذا المبحث. لهذا اكتفيت بما قدمت،
والخلاصة أنه لا يضر العربيةَ التعريبُ ولا ينفعها الإعراب؛ وإنما نفعها وضررها
على حسب همم رجالها، فنرجو أن يوقظ الزمانُ هممَهم من سُبَاتِها.
__________
(*) جائتنا هذه المقالة من السيد عبد الحميد الزهراوي بعد طبع مقالة الإسكندري وتعليقنا عليها.(10/929)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رأي الشيخ أحمد المنوفي في الإصلاح ورجاله
كتب إلينا في 11 ذي الحجة ما يأتي من الشيخ أحمد موسى المنوفي إمام
المسجد الكبير في كلكته الذي كان طعن فينا برسالة نشرت في جريدة اللواء، ثم
كتب إلينا ذلك الانتقاد والتعريض الذي نشرناه في الجزء الثالث (ص236) على
ما فيه من دلائل سوء الظن بنا. وبعد أن قرأ كثير من أجزاء المنار وكتاب
محاورات المصلح والمقلد، وكتاب شبهات النصارى وحجج الإسلام رجع عمَّا كان
يظن؛ فدل ذلك على إخلاصه وحسن نيته في ذمنا من قبل ومدحنا من بعد، غفر اللهُ
له وأحسن مثوبتَه قال:
أقدم لسيادتكم تحية طيبة مباركة وأرجوكم نشر ما يأتي ولكم الفضل.
بما أن الإنسان بطبيعته مجبول على حبِّ وطنه وإن بعدت الديار وشط المزار،
ولا يخفى أن ما ينشأ عن تلك المحبة الطبيعية من السعي وراء مصلحة الوطن
يكون بحسب المحبة قوة وضعفًا، ولقد مكثت محبتي للوطن زمنًا طويلاً كامنة في
الفؤاد لا يظهر علي أدنى أثر من آثارها، وبعبارة أوضح ضعيفة جدًّا؛ وإذا بحثنا
عن سبب ضعفها لم نجد شيئًا سوى اليأس من المصلحة والإصلاح مع الغفلة عن
النهضة الإسلامية، والحركة الوطنية التي قام بها أخيرًا الإمامان الحكيمان الأستاذ
السيد جمال الدين الأفغاني والأستاذ المفتي الشيخ محمد عبده قدَّس الله أرواحهما
وحشرنا في زمرتهما وجزاهما عن الإسلام والمسلمين خيرًا، فلقد بثَّا في الأمة روحَ
الحياة والشعور والغيرة، وأيقظاها من الغفلة. فهما أساس النهضة، وكل من جاء
بعدهما لا يخرج عن كونه مُتَمِّمًا لعملهما مهما بلغت درجته في الإصلاح والأخذ بيد
الناهضين، وزِدْ على هذا وذاك أني أبعد الناس عن مطالعة الجرائد وأشدهم كراهية
لمن يطالعها لزعمي أنها خالية عن النفع أو تشتمل على بعض منافع لا تقابل ما فيها
من الضر، وقد علمتم عوائد الأزهر بين الذين مَكَثْتُ بَيْنَ ظهرانيهم بضع سنين في
الأيام التي كانوا لا يسمعون فيها باسم الإصلاح، فهذا كله كان سببًا في اقتصاري
على محبة الوطن الطبيعية فقط، وعدم إبداء شيء مما يلزمها؛ ولكن مع هذا
الجمود كنت أميل بطبيعتي أيضًا إلى كل من أسمع عنه بأنه مُجِد في خدمة الوطن
إلى أن سمعت أخيرًا في العام الذي تُوفِيَ فيه إمامُ النهضة المصرية - بل الإسلامية -
الأستاذ الحكيم المفتي بأن رجلاً من الصُحَافيين وقف نفسه وماله على السعي
وراء مصلحة الوطن والعمل على استقلاله وتخلصه من رق العبودية، فنما ميلي
نحو ذلك الواقف إلى أن صار محبة، والمحبة حملتني على الإقبال على مطالعة
الجرائد والاشتراك في جملة منها، فعلمت أني كنت في ضلال مبين لما في
الصحف الحرة الخالية عن الأغراض الذاتية من الفوائد التي أقلها الوقوف على
أحوال الهيئة الاجتماعية ومعرفة آراء الرجال وغير ذلك، ولكن للأسف وجدت
سعادة الواقف المفضال يعتقد في نفسه - والعياذ بالله - الكمال المطلق، يريد أن
يسبح الخلق بحمده ويخضع الوجود لعظمته، وأن لا يُسْأل عمَّا يفعل، وقد علمنا أن
المتصف بذلك الكمال المطلق فعبدناه وخضعنا لأوامره ما استطعنا ... إلخ
واأسفاه، كنا نظن أن حضرة الأستاذ المخلص في عمله المهتم بصالح أمته
السيد محمد رشيد رضا على عكس ما كنا نعتقد في بطل وطنيتنا دولة الواقف،
ولكن لمَّا بلونا الرجل وجدنا المسألة معكوسة على خط مستقيم وجدناه حكيمًا يضع
الأشياء في مواضعها لا تأخذه في نصرة الحق لومة لائم مع الروية والتعقل؛
وجدناه ماهرًا بتشخيص الداء ووصف الدواء، وجدناه حليمًا ذا أناة، لا يعجل
بالعقوبة على من ظلمه؛ بل يعالج الظالم المعتدي معالجة خبير بكل ما لديه من
الوسائل حتى يرجعه عن ظلمه واعتدائه، وحينئذٍ يرشده إلى ما في صلاحه في
الدنيا والأخرى، وجدناه فيلسوفًا في معرفة طرق الإصلاح وما يصلح للوقت وأهله،
وبالجملة لو لم يكن له إلا كتابا (شبهات النصارى وحجج الإسلام) و (محاورات
المصلح والمقلد) لكفاه شرفًا وفضلاً فهو - والحق يقال - الذي يصح إطلاق
الحكيم عليه الآن، ولقد أصبح فضيلته بعد اطلاعي على كتابيه المذكورين أحب
الناس إليّ، ولقد أعجب بهما كذلك حضرة السري الوجيه العلامة المؤرخ
الأديب محمد بيك العمري صاحب معمل السكاير المشهور بعاصمة الهند كلكتة، وقال
لي مرارًا (إني لولا عدم سبق معرفتي بيني وبين الأستاذ لم يسعني إلا إرسال
تشكراتي للأستاذ مما نافح به عن الدين وردَّ كَيْدَ أعدائه في نحورهم) هذا وأقسم
عليكم بشرف الحق وفضيلة العلم وعز الصدق إلا ما نشرتم هذا تحت مسئوليتنا؛ والله
الموفق. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد موسى
***
(المنار)
قد نشرنا رسالته وبَرَرْنَا قسمَه إلا أننا حذفنا منها تلك السطور التي يبين فيها
اعتقاده الأخير في ذلك الصحافي، فعسى أن يعذرنا في ذلك. ونسأل الله الذي لم
يحقق سوء ظنه فينا من قبل أن يجعلنا أهلاً لحسن ظنه من بعد من غير غرور ولا
فتنة.
وكتب إلينا كتابًا آخر في 18 ذي الحجة قال فيه:
حضرة الأستاذ المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته على الدوام، وبعد فإني لا أستطيع أن أعبر
عمَّا حصل من السرور بوصول كتب (الإسلام والنصرانية) و (شبهات النصارى
وحجج الإسلام) و (تاريخ الأستاذ الإمام المفتي عليه رضوان الله) ولَعَمْرُ الحق لقد
صغر في عيني ما لدي من الكتب القديمة التي لا يخفى على فضيلتكم ما فيها من
الحجب المانعة من العلم النافع، فواأسفاه قد ضاع العمر سُدَىً، غير أني أحمد الله
الذي مَنَّ عليَّ بإرشاد حكيم الإسلام وأكبر خلفائه، تالله إنك سيدي معذور فيما تبديه من
الآراء المفيدة المناقضة لما عليه الناس من الجمود، والنفس الخبيثة تكره من يحاول
ردَّها عن ما اعتادت عليه، ولو كانت عادتها عبادة الأوثان، نعوذ بالله من الخذلان
والتمادي في الغي.
أقول قولي هذا وما أبرئ نفسي؛ فإني والحق يقال كنت كثيرًا ما أتهمكم
بسوء القصد، أما الآن فأنا لله الحمد أول موافق على ترك التقليد والجمود على
الخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والفضل في ذلك لسيادتكم ومطالعة كلام
الإمام الحكيم بإمعان وإنصاف، وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.
__________(10/941)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات
(قاموس الأمكنة والبقاع)
كتاب (فتوح البلدان) للبلاذري من أجلِّ مختصرات التاريخ القديم لأمتنا،
وقد طبعته شركة طبع الكتب العربية منذ سنين وبعد طبعه عهدت إلى علي بهجت
بك وكيل دار الآثار العربية بأن يضع معجمًا لما ورد فيه من أسماء الأمكنة والبقاع؛
لسعة علمه بالتاريخ القديم والحديث؛ فقام بذلك، وطبعت الشركة ما كتبه؛ فكانت
صفحاته أكثر من مئتي صفحة وليست فائدة هذا الكتاب خاصة بمن يقتني كتاب
(فتوح البلدان) ولا هو مما يستغني عنه بالمطولات التي استمدت منه (كمعجم
ياقوت) فإن فيه فائدة لأهل هذا العصرلا تؤخذ من غيره، وهي بيان حال تلك
البلاد والبقاع الآن بحسب ما وصل إليه اجتهاد المؤلف؛ فمنها ما خرب وعفا،
ومنها ما بقي وزاد عمرانه أو نقص، فنشكر للمؤلف وللشركة هذا العمل النافع.
***
(رسالة الغفران)
للفيلسوف العربي الشهير أبي العلاء المعري رسالة كتبها إلى الشيخ علي بن
منصور الحلبي المعروف بابن القارح؛ جوابًا عن رسالة بعث بها إليه، والرسالة
تروي للقارئ قصة خيالية طاف راويها في العالم الآخر، ودخل الجنة ورأى ما فيها
من النعيم فوصفه أحسن وصف، وثافن فيها الشعراء والأدباء وشرح ما دار بينهم
من المحاورات والمماتنات. وأسلوب الرسالة هو أسلوب الأمالي الأدبية التي كان
علماء الفنون العربية يملونها على الطلاب في القرون الأولى، وفيها من فرائد اللغة
وغرائب الشجون ما طار بشهرتها في عالم الأدب؛ فكانت طلبة الأدباء ورغيبة
البلغاء، وقد طبعها أمين أفندي هندية طبعًا متقنًا مضبوطًا بالشكل بعد أن صحح
أصلها معارضة على نسخة صحيحة، ووقف على طبع أكثر من نصفها الشيخ
إبراهيم اليازجي وخلفه بعد وفاته في تصحيح باقيها أحد علماء الأزهر، فنحثُّ
الأدباء على مطالعتها وهي تطلب من مكتبة هندية وثمنها عشرة قروش.
***
(كتاب الأضداد في اللغة)
لما عني الأولون بنقل اللغة العربية وضبطها ووضع الفنون لها أكثروا من
التصانيف في فروع كثيرة من فروعها؛ كالمترادف والمشترك والأضداد وغير ذلك،
ومن الكتب النافعة في الأضداد كتاب محمد بن القاسم بن بشار الأنباري النحوي،
ومن مزاياه أنه تتبع قطرب فيما ذكره من الأضداد وبَيَّن غلطه في بعضها وقد أجاب
في أوله من عاب التضاد في اللغة فقال:
هذا كتاب ذكر الحروف التي توقِعها العرب على المعاني المتضادة فيكون
الحرف منها مؤديًا عن معنيين مختلفين، ويظن أهل البدع والزيغ والإزراء بالعرب
أن ذلك كان منهم لنقصان حكمتهم وقلة بلاغتهم وكثرة الالتباس في محاوراتهم عند
اتصال مخاطباتهم، فيُسألون عن ذلك ويحتجون بأن الاسم منبئ عن المعنى الذي
تحته، ودال عليه وموضع تأويله. فإذا اعتور اللفظة الواحدة معنيان مختلفان لم
يعرف المخاطب أيهما أراد المخاطب وبطل بذلك تعليق الاسم على المسمى.
فأجابوا عن هذا الذي ظنوه وسألوا عنه بضروب من الأجوبة أحدها: أن كلام
العرب يصحح بعضه بعضًا، ويرتبط أوله بآخره ولا يعرف معنى الخطاب منه إلا
باستيفائه واستكمال جميع حروفه. فجاز وقوع اللفظة على أحد المعنيين دون الآخر
وألا يراد بها في حال التكلم والإخبار إلا معنى واحد فمن ذلك قول الشاعر:
كل شيء ما خلا الموت جلل ... والفتى يسعى ويلهيه الأمل
فدل ما تقدم قبل (جلل) وتأخر بعده على أن معناه (كل شيء ما خلا الموت
يسير) ولا يتوهم ذو عقل وتمييز أن الجلل هنا معناه (عظيم) وقال الآخر:
يا خول يا خول لا يطمح بك الأمل ... فقد يكذب ظن الأمل الأجل
يا خول كيف يذوق الخفض معترف ... بالموت والموت فيما بعده جلل.
فدل ما مضى من كلام على أن (جلل) معناه: يسير، وقال آخر:
فلئن عفوت لأعفون جللاً ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي
قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي.
فدل الكلام على أنه أراد: فلئن عفوت عفوًا عظيمًا؛ لأن الإنسان لا يفخر
بصفحه عن ذنب حقير يسير.
فلما كان اللبس في هذين زائلاً عن جميع السامعين لم ينكر وقوع الكلمة على
معنيين مختلفين في كلامين مختلفي اللفظين، وقال الله عز وجل وهو أصدق قيلاً:
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ} (البقرة: 249) أراد الذين يتيقنون ذلك فلم يذهب
وهم عاقل إلى أن الله عز وجل يمدح قومًا بالشك في لقائه، وقال في موضع آخر:
{وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} (الإسراء: 102) وقال تعالى حاكيًا عن يونس:
{وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} (الأنبياء: 87) أراد رجا
ذلك وطمع فيه، ولا يقول مسلم: إن يونس يتيقن أن الله لا يقدر عليه اهـ.
(المنار)
يحكم قارئ هذه العبارة أن الكتاب مفيد بأسلوبه البليغ كما أنه مفيد بمباحثه،
وأكبر فائدته عندي أنه بجمعه لهده الحروف - أي الكلمات - التي قيل: إنها
متضادة المعاني قد سهل للمدقق سبيل الحكم في هذا النوع من اللغة بغير ما حكم به
جمهور من سبقه؛ فإن استعمال الكلمة في معنيين متضادين خلاف المعقول، ويلوح
لي أن أكثر ما عدوه من الأضداد يمكن تفسيره بما لا تضاد فيه. وإن القليل الذي
يتعذر أو يتعسر فهمه من غير تضاد في معانيه لابد أن يكون مما استعملته قبيلة في
معنى وقبيلة أخرى في ضد ذلك المعنى، أو مما وقع فيه الخطأ في الاستعمال من
العرب أنفسها فإن خطأها في المعاني مما لا ينكر.
وإذا كان العربي القح يخطئ في المعاني فالمولد أجدر بذلك، ومن خطأ نقلة
اللغة والمفسرين ما قاله بعضهم في تفسير الظن في الآيات التي تلوت فيما نقلناه
عن هذا الكتاب فقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّه} (البقرة:
249) ليس مسوقًُا لمدحهم على ظنهم حتى يقال: إنه يمتنع مدحهم بالظن. وما حكاه
عن ظن فرعون لا يظهر فيه إرادة اليقين، وقوله عز وجل في يونس: {فَظَنَّ أَن
لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْه} (الأنبياء: 87) يظهر فيه معنى الظن جليًّا و (نقدر) هنا بمعنى
(نضيق) على حد {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} (الرعد: 26) فما المانع من
أن يظن يونس أن الله تعالى لا يضيق عليه؟
والكتاب يطلب من المكتبة الأزهرية للشيخ محمد سعيد الرافعي وثمنه 7
قروش.
***
(إنجيل برنابا)
قد تم طبع الإنجيل في مطبعة المنار، وقد نقلنا منه نموذجات للقراء من قبل،
ونذكر هنا منه بعض ما ذكره في مسألة محاولة اليهود قتل سيدنا عيسى وإنجاء الله
إياه، وإلقاء شبهه على يهوذا الإسخريوطي وذلك موافق لما يعتقده المسلمون في
الجملة قال:
(الفصل الخامس عشر بعد المئتين)
1- لما دنت الجنود مع يهوذا من المحل الذي كان فيه يسوع سمع يسوع دنو
جم غفير 2- فلذلك انسحب إلى البيت خائفا 3- وكان الأحد عشر نيامًا 4- فلما رأى
الله الخطر على عبده أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأوريل سفراءه أن يأخذوا يسوع
من العالم.
5- فجاء الملائكة الأطهار وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب
6- فحملوه ووضعوه في السماء الثالثة في صحبة الملائكة التي تسبح الله إلى الأبد.
(الفصل السادس عشر بعد المئتين)
1- ودخل يهوذا بعنف إلى الغرفة التي أصعد منها يسوع 2- وكان التلاميذ كلهم
نيامًا 3- فأتى الله العجيب بأمر عجيب 4- فتغير يهوذا في النطق وفي الوجه فصار
شبيهًا بيسوع حتى إننا اعتقدنا أنه يسوع 5- أما هو فبعد أن أيقظنا أخذ يفتش لينظر
أين كان المعلم 6- لذلك تعجبنا وأجبنا: (أنت يا سيد هو معلمنا) 7- أنسيتنا الآن؟
8- أما هو فقال مبتسمًا: هل أنتم أغبياء حتى لا تعرفوا يهوذا الإسخريوطي؟
9- وبينما كان يقول هذا دخلت الجنود وألقوا أيديهم على يهوذا؛ لأنه كان شبيهًا
بيسوع من كل وجه.
10- أما نحن فلما سمعنا قول يهوذا ورأينا جمهور الجنود هربنا كالمجانين
11- ويوحنا الذي كان ملتفًّا بملحفة من الكتان استيقظ وهرب 12-ولما أمسكه
جندي بملحفة الكتان ترك ملحفة الكتان وهرب عريانًا [1] 13- لأن الله سمع دعاء
يسوع وخلص الأحد عشر من الشر [2] .
(الفصل السابع عشر بعد المئتين)
1-فأخذ الجنود يهوذا وأوثقوه [3] ساخرين منه 2- لأنه أنكر وهو صادق أنه
هو يسوع 3- فقال الجنود مستهزئين به: يا سيدي لا تخف؛ لأننا قد أتينا لنجعلك
ملكًا على إسرائيل 4- وإنما أوثقناك؛ لأننا نعلم أنك ترفض المملكة 5- أجاب يهوذا:
لعلكم جننتم 6-إنكم أتيتم بسلاح ومصابيح لتأخذوا يسوع الناصري كأنه
لص أفتوثقونني أنا الذي أرشدتكم لتجعلوني ملكًا.
(ثم قال في أواخر الفصل)
77- وحكموا بالصلب على لصين معه 78- فقادوه إلى جبل الجمجمة حيث
اعتادوا شنق المجرمين وهناك صلبوه عريانًا مبالغةً في تحقيره.
79- ولم يفعل يهوذا شيئا سوى الصراخ: يا الله لماذا تركتني [4] فإن المجرم
قد نجا أما أنا فأموت ظلمًا.
80- الحق أقول: إن صوت يهوذا ووجهه وشخصه بلغت من الشبه بيسوع
أن اعتقد تلاميذه والمؤمنون به كافةً أنه هو يسوع 81- لذلك خرج بعضهم من تعليم
يسوع معتقدين أن يسوع كان نبيًّا كاذبًا، وأنه إنما فعل الآيات التي فعلها بصناعة
السحر 82- لأن يسوع قال: إنه لا يموت إلى وشك انقضاء العالم 83-لأنه سيؤخذ
في ذلك الوقت من العالم اهـ المراد منه.
وثمن النسخة ذات الورق المتوسط من هذا الإنجيل 15 قرشًا، وذات الورق
الجيد 20 قرشًا، وأجرة البريد قرشان وله مقدمة ثمنها عشرة قروش.
***
(المصحف الشريف)
قد اشتهرت طبعة مطبعة ترجمان للمصحف الشريف وكثر الإقبال عليها
لجمال حروفها وصحتها، وقد أرسلنا منه نسخًا إلى بعض الأقطار من القطع الوسط
والقطع الصغيرة فمن أحب أن نرسل إليه شيئًا منها فليرسل لكل نسخة من القطع
الوسط فرنكين ومن القطع الصغيرة فرنكًا ونصفًا.
***
(جامع الثناء على الله)
جمع الشيخ يوسف النبهاني كثيرًا من الأدعية والأذكار المأثورة عن النبي
صلى الله عليه وسلم، وعن شيوخ الصوفية وسماها (جامع الثناء على الله) وما
زال الذكر والدعاء غذاء الإيمان، ومن رأينا أنه ينبغي للمؤمن أن يهتم قبل كل شيء
بأداء الفرائض والحقوق التي عليه لله ولنفسه وأهله وذي القربى، فإذا وجد
وقتًا لنوافل العبادة فليبدأ بتلاوة القرآن مع التدبر سواء كان ذلك في الصلاة أو خارج
الصلاة، فإن خاف على نفسه الملل انتقل إلى الأذكار المأثورة عن الشارع، فإن
وجد من الوقت ما يسع المزيد عليها فليقرأ بعض ما كتبه رجال الصوفية،
وأما الذين يتركون الفرائض ويصرون على المآثم ويحصرون تعبدهم بقراءة
أوراد الطريق فإن التصوف بل التدين بريء من أهوائهم.
وإنني كنت في أول النشأة أقرأ بعض أوراد الصوفية ومنها ورد السحر
للبكري وكان يكون لذلك تأثير عظيم في نفسي، ثم وجدتني بذلك هاضمًا لحق
القرآن علي، ومشتغلاً عنه بكلام لا يخلو عندي من اللغو الذي نهت الآيات عنه،
وناهيك بما في القصيدتين الجيمية والميمية من ذلك، ولما صرت أفهم مراد
الصوفية بمثل قوله (ومل نحو الخمار أبي السرج * واشرب واطرب) إلخ لم
أزدد إلا بعدًا عن عبادة الله في السحر بهذا الشعر الركيك. على أن هذا الكتاب
أمثل من أكثر كتب النبهاني، وثمنه أربعة قروش ويطلب من أكثر المكاتب
المصرية.
***
(الراوي)
مجلة روائية أدبية تاريخية أسبوعية يصدرها في الإسكندرية طانيوس أفندي
عبده الكاتب المعروف في عالم الصحافة والأدب. فهو لما أوتيه من حسن الذوق في
اختيار القصص الإفرنجية وحسن الترجمة جدير بالنجاح في عمله هذا، غني عن
تقريظه. وقيمة الاشتراك في مجلة الراوي مائة قرش في السنة لأهل مصر
والسودان وثلاثون فرنكًا لغيرهم، وثمن العدد الواحد ثلاثة قروش.
***
(السياسة المصورة)
جريدة أسبوعية سياسية مصورة بالألوان يصدرها في القاهرة عبد الحميد
أفندي زكي وصور هذه الجريدة كلها في السياسة المصرية وهي مطبوعة طبعًا متقنًا
في أوربا ويكتب فصولها الافتتاحية حافظ أفندي إبراهيم غالبًا، وقيمة الاشتراك
السنوي فيها 50 قرشًا في مصر و 15 فرنكًا في سائر البلاد.
__________
(1) ص 14: 51.
(2) يو 18: 9.
(3) يو 8: 12، و 19: 41.
(4) مت 27: 47، ومر 15: 34.(10/944)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نادي دار العلوم الخديوية
اتخذ المتخرجون في مدرسة دار العلوم المعروفة الآن (بمدرسة المعلمين
الناصرية) ناديا علميًّا أدبيًّا يتعارفون فيه ويتعاونون على ترقية شئونهم الاجتماعية،
ويبحثون عن أقوم الطرق وأقربها لتعليم العربية وفنونها وتدريس آدابها وإحياء
العلوم بها على النحو الآتي كما في المادة الثانية من قانون النادي:
(1) التنقيب عن الكتب النافعة والسعي في نشرها.
(2) تنقيح وتصحيح ما تدعو إليه الحاجة من الكتب المفيدة.
(3) تأليف كتب سهلة فيما لم يدون فيه مؤلفات قريبة التناول.
(4) وضع أسماء عربية للمسميات الحديثة التي ليس لها أسماء عربية
معروفة.
(5) البحث في ألفاظ العامة ورد ما له أصل عربي منه إلى أصله،
والتنبيه على الدخيل فيها.
(6) الاصطلاح على طريقة لكتابة الألفاظ الأعجمية بحروف عربية.
(7) تسهيل فن رسم الحروف.
(8) تأليف رسائل في الآداب والأخلاق.
(9) محاضرات علمية وأدبية.
وقد عرف القراء من الجزء الماضي ومن هذا الجزء أن النادي بدأ عمله
بالبحث في مسألة أسماء الأجناس ومصطلحات العلوم الأعجمية، وإنا لنرجو من
رجال هذا النادي العاملين ما لا نرجو من غيرهم؛ فإنهم أمة وسط في الشعب
المصري الذي جمد بعض المتعلمين فيه على التقاليد العتيقة حتى في كيفية التعليم
وأولع بعضهم بالتقاليد الحديثة حتى ما كان منها مقطعًا لروابط الأمة الاجتماعية،
ولست أعني بهذا تفضيل كل واحد منهم على كل واحد من غيرهم؛ وإنما أعني
أنهم بتربيتهم وتعليمهم وسطٌ بين طرفين يوجد في كل منهما أفراد أقرب إلى
الاعتدال، وأبعد عن الجمود والتفرنج من كثير ممن هم في الوسط، ولكن طالب
الإصلاح والترقي يعد في مجموع الأزهريين غريبًا، كما أن من ينكر شرب الخمر
وترك الصلاة من المتعلمين في سائر المدارس يعد في مجموعهم غريبًا، وإن كان
الكثيرون منهم يصلون ولا يسكرون.
__________(10/951)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ترجمة فقيد الإصلاح ذكاء الملك
كل ما كنا نعرفه عن ذكاء الملك صاحب جريدة (تربيت) هو أنه كاتب
إصلاحي بليغ غير موثق الفكر بالتقاليد، وأنه قد جمع إلى استقلال الفكر
استقلال الإرادة وقوة العزيمة؛ فقد كان يكتب ما يعتقد وإن خالف أهواء
الشعب. وما الكتاب الذين جمعوا هذه الصفات بكثيرين فينا فنقول: مات ذكاء
الملك فخلفه فلان وفلان. كلا بل نتمثل بقول الشريف فيمن هو في عصره
دون ذكاء الملك في عصره.
ويقول من لم يدر كنهك إنهم ... فقدوا به عددًا من الأعداد
هيهات أدرج بين برديك الردى ... رجل الرجال وواحد الآحاد
كان ذكاء الملك لعنايته بالإصلاح يتتبع أخباره في جميع بلاد الإسلام،
ويتعرف رجاله في جميع الأقطار، فعرف السيد جمال الدين الأفغاني وكان صديقًا له
وعشقه المنار بالأستاذ الإمام فكان بينهما موادة ومكاتبة وأَبَّنَهُ أحسنَ تَأبين في
جريدته، وقد ترجمنا تأبينه ونشرناه في تاريخ الأستاذ الإمام، وكان ينقل عن
المنار كثيرًا، وآخر ما عرفناه من ذلك نقله لما كتبناه في حكومة الشورى في
بلاد فارس وقوله: إن قول صاحب المنار أعظم تأثيرًا في العالم الإسلامي من قول
مائة مجتهد من علماء الشيعة. أو ما هذا معناه.
راعنا مصاب الشعب الفارسي بل الأمة الإسلامية بوفاته وتمنينا لو وقفنا
على ترجمة حياته بالتفصيل، ومازلنا واقفين في موقف التمني حتى منَّ علينا
ميرزا محمد القزويني العضو بدار الترجمة الهمايونية في طهران بنسخة من
جريدة (الصور) الفارسية مع كتاب عربي منه أرسله إلينا من باريس يرغب
إلينا فيه بما نحن أشد فيه رغبة وهو ترجمة الفقيد؛ لأنه من الحقوق التي
تطالبنا بها ذمة طلب الإصلاح وتقريب طوائف المسلمين بعضهم من بعض.
وكان ذكاء الملك طَيَّبَ اللهُ ثراه وجزاه أفضل الجزاء من خير الأعوان على
هذا الإصلاح، وإننا ننشر كتاب هذا الفاضل الغيور والصديق الوفي للفقيد مع
الشكر له، ثم ننشر بعده ترجمة ما كتب في جريدة الصور. وهذا نص الكتاب
الذي أرسله إلينا من باريس:
غرة زانويه (يناير) سنة 1908 و22 ذي القعدة سنة 1325.
حضرة السيد المفضال العلامة منشئ جريدة المنار الأغر أدام الله ظلكم
العالي: بعد إهداء كمال السلام وأسنى التحيات أظنكم تعرفون الكاتب الشاعر
الشهير ذكاء المُلْك صاحب جريدة (تربيت) الفارسية المنطبعة بطهران
ومنشئها منذ إحدى عشرة سنة، فقد كان بينه وبين الأستاذ الإمام المرحوم
الشيخ محمد عبده علائق ودية ومكاتبات متواصلة، وكان الأستاذ الإمام يقرأ
جريدة (تربيت) ويقدرها أعظم الجرائد الفارسية نفوذًا في الدوائر العالية،
وأشدها تأثيرًا في قلوب المسلمين الذين يتكلمون بالفارسية، ورأيت أنا بنفسي
تآليف الأستاذ الإمام التي كان أرسلها جميعها هدية إلى ذكاء الملك بطهران مع
كتاب ودّي بخط يده يظهر فيه غاية الإعجاب ويتشكر فيه ذكاء الملك عما كتبه
في جريدته (تربيت) من خدمات الأستاذ الإمام للعالم الإسلامي أجمع ومن
جملة عبارته:
الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده هو العالم الحقيقي الوحيد في كافة
الأنحاء الإسلامية من مراكش إلى الصين ومن تركستان إلى اليمن والسودان
الذي يعلم الغرض الأصلي من الإسلام، ويعرف تطبيق قواعده على مقتضيات
العصر، ولأجل تربية أمثال هذا الرجل بعث نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن
نبغ بين علماء الإسلام كثيرون أمثاله فإن الإسلام يبقى ثابت الأركان
والمسلمين يرتقون إلى أعلى مدارج المدنية والسعادة، وإلا فلو استمر علماء
الإسلام بالجمود على ظواهر الأحاديث ونصوص فتاوى المتقدمين كما هم عليه الآن
فعلى الإسلام السلام 000 إلخ.
وبعد وفاة الأستاذ الإمام كتب ذكاء الملك ترجمة حياته في جريدة
(تربيت) بعناية التفضل والإشباع ونهاية التوقير والتمجيد، ثم بعد ذلك كتب
ترجمة حاله ثانيًا مترجمة عن المنار الأغر أطول وأبسط من الأولى وكان
غالبًا يترجم مقالات المنار الأغر في جريدته.
والغرض من هذا الإطناب تذكار حضرتكم إن كنتم تعرفون ذكاء الملك
وتعريفكم إياه إن لم تكونوا تعرفون، وهاهو ذكاء الملك توفي أيضًا في شهر
رمضان الماضي ومضى إلى جانب أستاذيه السيد جمال الدين الأفغاني
والأستاذ الإمام محمد عبده أفاض الله عليهم جميعًا شآبيب الغفران، وبما أني
كنت من تلامذة الفقيد ومن خواص أصدقائه كتب إلي من طهران نجله جناب
ميرزا محمد علي خان الملقب بلقب أبيه ذكاء الملك، وطلب مني أن أكتب إلى
حضرتكم وأستدعي منكم أن تكتبوا - إن استصوبتم ذلك - بضع أسطر في
المنار الأغر في الإعلام بوفاة رجل مسلم من أعظم كتاب اللغة الفارسية
وشعرائها في هذا القرن الأخير ونبذ يسير في ترجمة حاله. والأمر إليكم
فانظروا ماذا تأمرون. وكان المأسوف عليه من أخص أصدقاء المرحوم السيد
جمال الدين الأفغاني ومن أعظم رجال الإصلاح ومن أكبر أركان النهضة
السياسية الأخيرة في بلاد إيران؛ فقد كان قلمه يخلب الألباب ويسحر العقول
بما آتاه الله من النفوذ والتأثير. وأصابته صدمات شديدة من أول شبيبته إلى آخر
وفاته بسبب شدة حرصه على الإصلاح وكتابته المقالات الغرَّاء في حثِّ
الحكومة على إدخال النظامات العصرية في إدارات الدولة وتحريض العلماء على
نفض الأيدي من التقاليد الجامدة والتعاليم القديمة والمباحث اللفظية الضئيلة والتأسي
بأمثال السيد جمال الدين الأفغاني، والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وحضرة
العلامة السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار الأغر وأمثالهم، وأرسلت طيَّه جريدة
من جرائد طهران الإسلامية تتضمن ترجمة حياة الفقيد، وفي الخِتَامِ اقبلوا
يا حضرة العلامة فائق احترامي وخالص سلامي.
... ... ... ... ... ... ... ميرزا محمد قزويني ... ... ...
... ... ... ... ... العضو بدار الترجمة الهمايوني بطهران
__________(10/952)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاجعة أدبية
قد توفي إلى رحمة ربه فيلسوف إيران وأديبها الشهير ذكاء المُلْك طاب
ثراه عصر يوم السبت 11 رمضان، فكان موته ثلمة في بناء العلم والأدب وهيهات
أن يفخر الإيرانيون في وقت قريب بمثله.
اشتغل المرحوم سبعين سنة بخدمة الوطن خدمة خالصة وإحياء موات أدبيات
اللغة الفارسية بحرارة الشبيبة وتجارب الشيخوخة، وإذا كان الإيرانيون بجهل
جاهليهم وعدم مساعدة حكومتهم المستبدة لم يعرفوا قيمته، ولم يوفوه حقَّه من
الإجلال كما كان حظ أمثاله من العظماء، فإنهم قد أبقوا ذلك تراثًا لخلفهم الذين يرجى
أن يقدروا أمثاله قدرهم. ولكن الإفرنج قد قدروه قدره في حياته بالتنويه بفضله
والتعريف به لقومهم حتى إن الفرنسيين لقبوا هذا الرجل بفيكتور هوغو الشرق.
ونحن في هذا العدد نذكر خلاصة من ترجمة هذا الفيلسوف المعظم، وإن أمهل
الزمان نقوم بما يجب علينا لهذا الرجل الكامل المحترم.
مختصر ترجمة المرحوم طاب ثراه
هو المرحوم ميرزا محمد حسين خان المخلص بفروغي [1] الملقب بذكاء
الملك ولد في منتصف ربيع الثاني سنة 1255 بمدينة أصفهان وتوفي يوم السبت
11 رمضان سنة 1325 بطهران فيكون عَمَّرَ سبعين سنة و5 أشهر ووالده هو
المرحوم الآقا محمد مهدي المعروف بأرباب من مشاهير أصفهان، وكان على
اشتغاله بالتجارة على حظٍ عظيم من العلم والفضل لاسيَّما علوم التاريخ والجغرافية
والهيئة؛ فإن له فيها تصانيف عديدة وقد سافر إلى الهند وأقام فيها طويلاً وعاشر
فضلاء الإنكليز وأخذ حظًّا عظيمًا من العلوم الحديثة والسياسة، ولمَّا رجع إلى
أصفهان قبل خمسين سنة أراد أن يظهر معارفه؛ ولكن الأذهان في ذلك الزمن لم
تكن مستعدة لقبول هذه النفائس الثمينة، فَأَكَبَّ على تحسين حال الزراعة والتجارة
في أصفهان، وكان يمكنه أن يفيد بلاده بأكثر مما أفادها؛ ولكن عموم الجهل يومئذٍ
حال دون ذلك.
أما فقيدنا ذكاء الملك فإنه بعد أن حَصَّلَ علوم العربية وأدبياتها ومبادي سائر
العلوم سافر من أصفهان إلى العراق العربي لأجل تكميل تلك المبادي فمكث هناك
طائفة من الزمان ثم عاد إلى أصفهان، وكان والده قد عاد من الهند فكانت نتيجة
تآلف الأب والابن بما كان أتقنه كل منهما ظهور نهضة جديدة في العلم والسياسة؛
فكان ما تولد في دماغه يومئذٍ من قوة النهضة العلمية هو ما نراه الآن في أدمغة
شباننا، فأخذ يتتبع بشغف عظيم دواوين الشعراء وكتبهم الأدبية ليشحذ بها غِرَار
استعداده الفطري للشعر حتى كان شعره في الخامسة والعشرين مساويًا لشعر أساتذة
هذا الفن.
وسافر للمرة الأولى إلى شيراز وطن الشيخ السعدي فنشبت عامئذٍ حرب
أمريكا الشهيرة، وقل ورود القطن إلى معامل أوربا، فانتهز الفقيد هذه الفرصة
فاشترى بجميع ما يملكه قطنًا وسافر به إلى الهند؛ ولكن ساورته الأنواء الشديدة في
البحر فاضطر إلى إلقاء بضاعته كلها في البحر كغيره وعاد إلى شيزار بِخُفَّيْ حُنَيْن.
ثم سافر سائحًا إلى كرمان ويزد والعراق العجمي وركمان شاه وهمدان
والعراق العربي وغيرها من الأقطار، فلبث في سياحته هذه أربع عشرة سنة وكان
في كل مكان موضع الحفاوة والإكرام من العظماء والأمراء مثل محمد حسين خان
وكيل الملك وإمام قلى ميرزا عماد الدولة وأولاده وسائر أهل الكمال والذوق.
ثم ملّ السياحة واتخذ طهران مقامًا له فصحبه المرحوم محمد حسين خان اعتماد
السلطنة [2] وجعله مساعدًا له في الترجمة وتحرير الجريدة الرسمية، ولما
كانت الجريدة الرسمية قليلة الفائدة حثَّه صاحب الترجمة على إنشاء جريدة (اطلاع)
الباقية إلى الآن [3] وكان يساعده في تحرير النشرات والرسائل والكتب العلمية.
ونعني أن اعتماد السلطنة كان يهيئ مواد التأليف من الكتب وغيرها وصاحب
الترجمة هو الذي يكتبها بقلمه. وكنت تراه دائمًا متململاً متألمًا لبلاء أبناء وطنه
بالمستبدين، وكان يفكر دائمًا في الإصلاح لا يبرح ذلك من مخيلته قط.
ومن الشواهد على ذلك أنه من نحو عشرين سنة كانت دبت عقارب السعاية
فيه إلى الشاه ناصر الدين بسبب ظهور بوادر هذه الأفكار الإصلاحية فأتعبوه طائفة
من الزمن؛ أي حبسوه مدة مديدة إلى أن تولى المرحوم الشاه مظفر الدين فأفرج
عنه، ولما استنشق نسيم الحرية أنشأ جريدة (تربيت) وهي كما لا يخفى أول
جريدة حرة أسست في عاصمة إيران.
ومن خدمة هذه الجريدة أنها ولَّدت في نفوس الإيرانين الرغبة في قراءة
الجرائد وكانوا إلى ذلك العهد ينفرون منها لركاكة عبارتها. وذلك بما جذبهم به من
انسجام عبارته وبلاغة أسلوبه. ومنها أنه كان في زمن الاستبداد ينشر فيها جميع
الأفكار الحرة بأسلوب لا يؤاخذه عليه القانون. وفي الجملة أنه قضى عشر سنين في
نشر جريدته كان فيها عرضة لإيذاء الأعداء والمحبين.
وفي العام الماضي أصابه مرض شديد فحلّ قواه، وقد شفي منه إلا أن
صحته لم تعد كما كانت قبله، ولما كان هو الذي يتولى تحرير الجريدة وإنشاءها
اضطر في آخر السنة إلى إبطالها.
ومن خدمته أيضًا اشتغاله بالتدريس والتعليم في مدرسة العلوم السياسية سبع
سنين وثلاث سنين أخرى في إدارتها، ولو جمعت دروسه في تلك المدرسة من
المسائل الأدبية والمعاني والبيان والبديع ومختارات الشعر وغير ذلك لكان مؤلفًا
كبيرًا.
وكان للفقيد مؤلفات كثيرة طبع منها:
(1) تاريخ ساسانيان.
(2) ترجمة كتاب السياحة حول الأرض في ثمانين يومًا.
(3) كلية هندي.
(4) عشق وعفت.
(5) ريحانة الأفكار.
(6) قصة جورج الإنجليز.
وله كتب أخرى مترجمة من اللغات الأجنبية، وله شعر كثير ولكن أكثره
مفقود والباقي منه يدخل في ديوان كامل.
__________
(1) فروغي: معناه الضوء وهذا هو لقبه الأدبي الشعري الذي اختاره لنفسه، ويعرف عندهم بالمخلص بوزن جعفر ويشتقون منه كما رأيت.
(2) هو وزير المطبوعات ورئيس دار الترجمة الخاصة الهمايونية يومئذٍ، وكان من العلماء العصريين، وله تصانيف شهيرة منها (مرآة البلدان) عدة مجلدات.
(3) جريدة شبه رسمية تصدر بنفقة الحكومة.(10/955)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة المجلد العاشر
قد تمَّ المجلد العاشر بحمد الله وحسن توفيقه وبه قَطَعَ المنار مرحلة الأعداد
المفردة، وأشرف على مرتبة الأعداد المركبة، فازداد منشئه بصيرة فيما يدعو إليه،
ودرجة استعداد المسلمين له، وانْقَشَعَ من أمامه كثير من السحب، وهتكت من
دونه كثائف من الحجب التي كانت تلبس عليه القياس، فيما يحكم به على الناس،
فرأى من أحوال البشر، ما يعد من آيات العبر، وبهذا الاعتبار صدق على المنار
ما قلناه فيه منذ ثلاث سنين: إنه قد دخل في سن التمييز.
التقصير في إدارة المنار
وقد عجزنا في هذه السنة عن إصدار المنار في أوقاته وإقامة النظام في إدارته
لأسباب طبيعية لا مندوحة عنها وأهمها اتساع دائرة العمل وتشعبه مع قصر الساعد
وعدم المساعد، فمنشئ المنار هو الذي يحرره وهو الذي يصحح نموذجات الطبع
وهو الذي يكاتب المشتركين وينظر في محاسبتهم وهو الذي ينظر في إدارة المطبعة
وهو الذي يتولى تصريف مطبوعاتها وينظر في تصحيح سائر ما يطبع فيها، ثم
إنه يقرأ لبعض الطلاب درسًا في التفسير ودرسًا في الحديث ويشتغل أحيانًا بشيء
من التأليف مع قيامه بمعظم خدمة نفسه؛ لأنه يعيش عيشة الوحدة.
ومن فروع هذه الشواغل أنه أصدر في هذا العام جزئين من تاريخ الأستاذ
الإمام وأتم طبع جزئين من التفسير لم ينشرهما إلى الآن؛ لأنه تمكن من استخراج
فهرس لأحدهما، ولم يتمكن من استخراج فهرس الآخر. وأتم طبع إنجيل برنابا
ولو لم يعمل في هذه الكتب كلها إلا تصحيح كل كراسة منها مرتين أو ثلاثة لما كان
الوقت الذي اغتالته قليلاً.
ولولا أنى في خجلٍ من الأصدقاء والمحبين لي في الغيب بما قصرت في
مكاتبتهم لما أشرت إلى هذا العذر. وأكبر خجلي ممن لهم معنا معاملة مالية كطلاب
الكتب؛ فقد كان في المكتبة مدير يتولى محاسبتهم وقد تركها من أوائل السنة، ولم
نوفق إلى من يقوم مقامَه، ولا إلى وكيل لإدارة المجلة والمطبعة يكفينا أمر هذه
الجزئيات، بهذا نعتذر أيضًا عن تأخر إتمام تأليف وطبع جزء الترجمة من تاريخ
الأستاذ الإمام.
فتاوى المنار
ومما قصرنا به أيضًا في هذا العام الإجابة عن الأسئلة، ومن أسباب ذلك أن
أكثر الأسئلة التي وردت علينا في هذا العام كانت في مسائل دنيوية مما يفصل فيه
القضاة ويفتي به المفتون الرسميون وأمثالهم من علماء أحكام المعاملات، ومنها ما
كان مرسله يطلب الجواب عنه من نصوص مذهب معين، والمنار لم يفتح باب
الفتوى لأمثال هذه المسائل؛ بل لبيان حكم الدين وأسراره واتفاق عقائده مع العقل
وأحكامه مع مصالح البشر ومنافعهم ولرد الشبه الفلسفية والمدنية عنه وما يشكل من
الآيات والأحاديث على القارئ.
فهذا ما نلتزم الجواب عنه من المسائل الدينية - وإن أبطأنا وأرجأنا ولنا
الخيار في غيره - ومن سأل سؤالاً من هذا القبيل وطال الزمن على الجواب عنه
فليعلم أنه ضاع قبل وصوله إلينا أو بعده فليعده إلينا ثانية.
ومن أسباب إرجاء المجاوبة على بعض الأسئلة إيرادها من خلال كلام آخر
فنحتاج إلى نسخ السؤال فنرجئه إلى وقت الفراغ وقلما نظفر به.
مكاتبات المنار
وههنا ننبه إلى سبب من أسباب تأخير كل ما يطلب من المنار وهو خلط
المطالب، فعسى أن يكتب السائل سؤاله أو أسئلته في ورقة لا يكتب فيها شيئًا آخر؛
ليسهل علينا إلقاؤها إلى المطبعة عاجلاً، ولا نضيع شيئًا من الوقت في استنساخها.
كذلك ينبغي لطالب الكتب أن يكتب ما يطلبه في ورقة مستقلة لا يذكر فيها شيئًا من
الأسئلة وما يتعلق بشؤون المنار. فإن كان هنالك حساب مشترك بيَّن ما يطلب للمنار
ولثمن الكتب وإن استثقل الكاتب كتابة ورقتين فلا بأس بأن يفصل بين الحسابين في
الورقة الواحدة.
حال المشتركين
أما حال المشتركين في هذا العام فقد كان كالأعوام الماضية إلا أن أهل القاهرة
كانوا أحسن أداءً على ما عليه البلاد من العسرة المالية؛ ولكن سائر أهل القطر
كانوا أقل وفاءً منهم في السنين الماضية. والاعتذار بالعسرة كان في هذا العام تكأة
أهل المطل في أكثر المعاملات كما علمنا ممن هم أوسع اختبارًا منا، وكذلك أهل
تونس كانوا أشد تقصيرًا في هذا العام على أنهم لم يقعوا في عسرة كعسرة أهل
مصر، على أن مصر في عسرتها أغنى وأقنى وأيسر من تونس وغيرها من بلاد
المسلمين زادها الله يسرًا ووفقها للشكر عليه باستعماله فيما يزيدها علمًا وارتقاءً.
وقد كان تجدد المشتركين كثيرًا أيضًا ولكننا لم نجب إلا من أرسلوا القيمة
سلفًا إلا أفرادًا أتوا إلينا بضمان بعض أصدقائنا على ما اشترطنا.
دعوة المنار
والانتقاد عليه
أما دعوة المنار فلم تلق في هذا العام مقاومة شديدة؛ ولكن بعض الجرائد
حملت علينا حملةً مُنْكَرَةً في أول العام لأننا كتبنا بعض مقالات في الجريدة التي
أنشأها بعض السروات. وكان الغرض من الحملة تنفيرنا من مساعدة الجريدة التي
يقاومون سياستها، ولم يتعرض الكاتبون إلى الانتقاد على المنار أو الرد على
مسائله؛ وإنما كان جلها نبزًا بالألقاب كلقب (الخليفة الكاذب) يعنون خليفة الأستاذ
الإمام. وكتب فريد أفندي وجدي أربع مقالات في جريدة اللواء يحرك فيها الأضغان
الجنسية الوطنية على صاحب المنار لأنه غير مصري المولد، وقد عرف القراء
سبب ذلك ولم نر له إلا التأثير الحسن في قراء المنار على ما لنزغات الجنسية من
سوء التأثير وحل الرابطة الإسلامية، وهذه النزغة هي العقبة الكؤود في طريق
الدين بمصر؛ وقانا الله شرها وكفى البلاد أمرها. وكتب الشيخ أحمد المنوفي من
الهند انتقادًا على المنار وصاحبه، ثم رجع عن رأيه ذلك كما رأيت في هذا الجزء
وسنشير في فاتحة الجزء الآتي إلى موقف الإصلاح في مصر الآن.
هذا وإننا نختم صفحات الجزء بمثل ما دعونا إليه في فاتحته من وجوب نقد
ما يراه أهل العلم خطأ في المنار، والدعوة إلى ما يرونه من الصواب فيه والتعاون
على هذه الخدمة، والله الموفق وله الحمد على كل حال.
__________(10/958)
المجلد رقم (11)(11/)
المحرم - 1326هـ
مارس - 1908م(11/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة السنة الحادية عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل الكتاب تبصرة وذكرى لأولي الألباب، والصلاة والسلام
على نبي الرحمة، الذي بعث في الأميين ليعلمهم الكتاب والحكمة، محمد النبي،
العربي الحجازي، وعلى آله وأصحابه خير الآل والأصحاب، ومن تبعهم واهتدى
بهديهم إلى يوم المآب {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ
مَئَابٍ} (الرعد: 29) .
أما بعد فإن المنار بحمد الله وعنايته، وتوفيقه وهدايته قد أتم عشر سنين
كاملة، وتجاوز الأعداد المفردة إلى الأعداد المركبة، وهو في نمو طبيعي، وارتقاء
تدريجي، لم تطفر به مساعدة الكبراء، كما طفرت بكثير من العاملين، ولم تظفر
به مكايدة الرؤساء، كما ظفرت ببعض المصلحين، بل سار لطيته على استقلاله
في جميع أعوامه وأحواله، سلاحه تحرِّي الحق، وعدَّته التزام الصدق، وجُنته
الإخلاص لله، وحصنه تقوى الله باتباع سنن الله {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ
مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ} (ص: 49-50) .
جاهد في سبيل الإصلاح بقدر الإمكان، وما تقتضيه حال الزمان والمكان،
فهاجمته السياسة بدسائسها، فنالت من قريبه وصديقه، ولكنها لم تزحزحه عن
طريقه، وواثبته الخرافات بوساوسها، فحالت دون سرعة انتشاره، ولكنها لم تقو
على صد تياره، وصادمته التقاليد بهواجسها، فصدت الكثيرين من متقلديها عنه،
ولكنها لم تنل منه، بل عزَّ هؤلاء وأولئك في الخطاب {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ
الأَحْزَابِ} (ص: 11) .
نعم، قد انهزم من أمامه الدجالون فلا يجدون قوة ولا حولاً، وانهزم كذلك
المقلدون فلا يرجعون إليه قولاً، وأنى للمتوكئ على عكاز القال والقيل أن ينافح
منتضي سيف الدليل تحت لواء السنة والتنزيل؟ ألا إنهم لا يصدونه بل يصدون
عنه، ولا يقولون له ولكن يقولون فيه، وكذلك كان يقول المقلدون إذ دعوا إلى
غير ما كانوا يعتقدون {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5) {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} (ص: 8) .
الحق أبلج، لا يخيل سبيله، ولا تخفى على الناظر البصير غرته وحجوله،
فلا يضره ضعف الداعي وغربته إذا قويت عارضته وعرفت حقيقته، والباطل
لجلج، وإن كثر قبيله، ودعمت فروعه وأصوله، فلا تنفعه قوة الداعي وعصبته
إذا ضعفت مريرتة ودحضت حجته، وإنما يثبت المقلدون حيث لا يوجد المستدلون،
ويسود المتواكلون ما سكت عن معارضتهم المستقلون {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 9) .
لا خوف على الحق إلا من الاستبداد بمنع حرية العلم والإرشاد، فالحق لا
يوجد إلا حيث توجد الحرية والاستقلال، وتظهر آثار مواهب الناس في الأقوال
والأعمال؛ لهذا لا نخاف على دعوة الإصلاح في هذه البلاد، أو تعود إليها سلطة
الاستبداد، نعم إن سيره قد يسرع وقد يبطئ، وإن الداعي إليه يصيب في رميه
ويخطئ، ولكنه يستفيد من الخطأ كما يستفيد من الإصابة، وقد يزداد مضاء في
الرفض والإجابة، حتى يعمل الاستعداد لإصلاح عمله، ويبلغ الكتاب أجله {لِكُلِّ
أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: 38) ، {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 39) ، {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ
وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} (الرعد: 40) .
إن للإسلام ثلاث مظاهر أو مراتب: التقليد وعليه أكثر المسلمين المعتقدين،
والبصيرة وعليها نفر من العلماء المحققين، والجنسية وهي تشمل حتى المارقين
من المتفرنجين، وقد هوجم أولاً في تقاليده لتحويل العامة عنه، وهوجم في كتابه
وسنته لزلزال الخاصة فيه، وهوجم في جنسيته لحل رابطة المعتصمين به، على
أنه لا يخشى عليه من مهاجمة الأجانب عنه، وإنما يخشى عليه من مهاجمة الذين
يعدون منه، فالمتفرنجون منهم يفتنون العامة عن تقاليدهم باسم المدنية، وشُبَه العلوم
والفنون العصرية، ويحلون جنسيتهم الإسلامية بدعوتهم إلى الجنسية الوطنية،
وهم لا يتهمون في ذلك بالإيقاع بالدين؛ لأنهم يأتون العامة عن اليمين، ويدعون
إلى ما يدعون معتقدين أنهم مصلحون، فتعيَّن على أهل البصيرة والعرفان أن
يناقحوا عن هذا الدين بالبرهان واقفين عند حدود السنة والقرآن، فإن كلا من
مسلمي التقليد والجنسية يعترفون بأن مرتبة البصيرة هي المرتبة العلية {أَفَمَن
يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الرعد: 19) .
ألا وإن من المحال حفظ تقاليد المقلدين من غارة إخوانهم المتفرنجين، فإنها
من قبيل العادات التي يعروها (كما نشاهد) المحو والإثبات، ألا وإن مصارعة
الجنسية الوطنية للجنسية الإسلامية، مجهولة العواقب، إلا حيث يساعدها الحكام
مع الأجانب، فهنالك يرجح أن تكون آية الوطنية هي المرفوعة، والراية الإسلامية
هي الموضوعة، ويتبع ذلك سرعة تسلل العوام من هذه التقاليد المعزوة إلى
الإسلام في مثل هذه البلاد غريبًا كما بدأ؛ لأن أهل البصيرة هم الأقلون عددًا،
والأضعفون ساعدًا وعضدًا، إذا غَلبوا بالبرهان يُغلبون بالسلطان، فهم إما
مضطهدون جهرًا، وإما مهددون سرًّا على أنهم لا يقنطون من رحمة الله، ولا
ييأسون من روح الله {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10)
ها أنا ذا أقول على رءوس الأشهاد: إن طالب الإصلاح الديني مهدد حتى في
هذه البلاد، ورب مقاومة خفية شر من صدمة علنية، ورب اصطدام أحدث ظهورًا
خير من إهمال أوجب فتورًا {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن
تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} (البقرة: 216) فما ظهر حق إلا بعد اضطهاد، ولا
خذل باطل إلا بعد عناد، فلا يغررك تقلب الظالمين في البلاد، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراًّ ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (الزمر:21) .
فيا أيها الكائدون الظالمون، إنما كيدكم على ملتكم إن كنتم تعقلون، ويا أيها
المقلدون الجامدون، إن تقاليدكم تتحول عنكم تحول الظل وأنتم لا تشعرون،
ويا أيها العابثون بالجنسية إنكم لبنائكم تهدمون، وتبنون لغيركم من حيث لا تعلمون،
ويا أيها المصلحون المستبصرون اصبروا وصابروا واتقوا الله لعلكم تفلحون،
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران:
102) ، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم
مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران:
103-104) لا تفرقنكم عوامل المدنية فإن دينكم عون لكم عليها إن كنتم تفقهون،
ولا يفتننكم سلطة الأمم الأوربية فتقلدوها فيما لا تعلمون، فإن روح المدنية والسلطة
هو الدين والآداب، وقد أنعم الله عليكم من ذلك بأكمل مما أنعم به على أهل الكتاب
{فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} (البقرة:
200) ، {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ} (البقرة: 201) {أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: 202) .
إن الفساد قد طرأ على جسم هذه الأمة من زمن بعيد، فهو يحتاج إلى تكوين
جديد، ومن المبشرات أن نرى المسلمين قد تنبهوا إلى الحاجة إلى هذا التكوين،
ولكن اختلفت فيه الآراء، وعبثت به الأهواء، ولا زعيم يرجع إليه، ولا إمام
يقتدى به، وما على طلاب الإصلاح الآن إلا إقامة الحجة والبرهان، وتربية
استعداد الأمة إلى أن ينهض زعيم من الأئمة، ولا بد من مسالمة الفرق والأحزاب،
وإحاطة استقلال الرأي بسياج الآداب {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-
18) . ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني
__________(11/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدعوة إلى انتقاد المنار
إننا نكرر الدعوة إلى انتقاد المنار في كل عام ونعد بنشر ما ينتقد به على ما
ننشر من المسائل الدينية والعلمية لعدة أمور:
(1) أننا نتحرى في كل ما نكتب الحق والإرشاد إلى الخير، ونعتقد أننا
عرضة للخطأ مهما بذلنا من الجهد في تحري الإصابة، فغرضنا الأول من دعوة
العلماء إلى انتقاد ما نكتبه هو تكميل نفسنا ومساعدتنا على ما نتوخاه من
الإرشاد.
(2) حرصنا على تكميل غيرنا من قراء المنار بما نحب أن نكمل به نفسنا
من معرفة الحق والخير والمصلحة، وكراهة أن يعلق ما عسى أن نقع فيه من الخطأ
بنفس بعض القراء فلا يجدوا عنه مصرفًا.
(3) إقامة فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كثيرًا من أهل
العلم يعتذرون عن تركهم لذلك بأن الناس لا يقبلون أمرًا ولا نهيًا، بل يعادون من
ينصح لهم ويرشدهم إلى الحق وربما آذوه بالقول أو الفعل فها نحن أولاء نؤمّنهم من
العداء والإيذاء، ونعدهم بقبول النصح والإرشاد.
(4) فتح باب المناظرة التي تعلم كل واحد من المتناظرين ما لم يكن يعلم
وتدفعه إلى بذل الجهد والعناية في استكناه الحقائق، والإحاطة بأطراف المسائل،
وترك الحكم للقراء.
(5) قطع ألسنة أهل الدعوى، والمتبعين للهوى، الذين يقولون: هذا حق
وهذا باطل، وهذا حلال وهذا حرام، وفلان مخطئ أو ضال، أو نافع أو ضار،
وهم على غير بينة فيما يقولون، أو على غير إخلاص فيما به يحكمون، فالمنار
يقول لمن يخوض فيه منهم: إن كنتم تقولون الحق فأبرزوه للقارئين، وهاتوا برهانكم
إن كنتم صادقين، وإلا فأنتم بأكل لحم أخيكم بالغيبة، وبحسدكم الذي زين لكم هذه
الوقعة تقولون ما لا تعملون، أو تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم
تعلمون.
هذا، وإننا نشترط على المنتقد الذي نعد بنشر انتقاده أن يوجه انتقاده إلى
ما كتبنا من المسائل العلمية دينية أو غير دينية مبينًا موضع المسألة من المنار بأن
يقول: ذكرتم في صفحة كذا من مجلد كذا ما هو كيت وكيت وهو خطأ، ويبين ذلك
بالدليل.
ولا نعد بنشر الانتقاد المبهم (نحو: أنتم تقولون كذا) مما لعلنا لم نقله ولم
يخطر ببالنا، وإنما جاءه من وقيعة بعض الكاذبين أو من سوء الفهم - ولا الانتقاد
الغفل من الدليل - ولا ما كان موجهًا إلى الأعمال الإدارية أو الشخصية أو اختيار
المباحث والمسائل أو أسلوب الكتابة، فكل هذا مما نترك لنفسنا الخيار فيه، مع
الشكر عليه؛ لأن فائدته في الغالب خاصة بنا وعدم العلم بها لا يضر القراء شيئًا.
__________(11/6)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شرط الاشتراك
(1) كل من قبل الجزء الأول من مشتركي المنار السابقين يعد مشتركًا إلى
آخر السنة , ويجب عليه دفع ستين قرشًا إن كان من مصر أو السودان , وثمانية عشر
فرنكًا إن كان من سائر الأقطار، وإن ردّ المجلة في أثناء السنة لأن ضياع بعض
أجزاء السنة علينا كضياع جميعها.
(2) يجب على من يطلب الاشتراك أن يرسل القيمة سلفًا , وأن يكون
اشتراكه من أول السنة (المحرم) أو منتصفها (رجب) .
(3) إذا لم يصل إلى المشترك أحد الأجزاء فإن الإدارة ترسله إليه بغير ثمن
إذا هو طلبه في مدة لا تتجاوز شهرًا واحدًا من موعد وصوله إليه في بلده، وإذا طلبه
بعد ذلك كان عليه أن يرسل ثمنه كمن فقد الجزء وطلب بدله , وثمن الجزء الواحد
ستة قروش مصرية.
تنبيه
لم ننشر في هذا الجزء شيئًا من التفسير لسبب عارض.
__________(11/8)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
القرآن ونجاح دعوة النبي عليه الصلاة والسلام
آراء علماء أوربا في ذلك
ألّف القسيسون وأعوانهم من المتعصبين للنصرانية كتبًا في القرون المتوسطة
يمثلون بها الإسلام في أقبح صورة ينتزعها خيال الكاتب منهم على حسب تمكنه في
الكذب والبهتان، ولما ارتقت العلوم والفنون في أوربا وضعف التعصب الأعمى على
المخالف بقدر ذلك كثر الباحثون من علماء الإفرنج في شئون الشرق بالإنصاف ,
فتغير لذلك اعتقادهم في الإسلام والمسلمين، وألفوا في بيان مزايا هذا الدين التي كانت
مجهولة , وفضائل أهله التي كانت مهضومة كتبًا كثيرة. ومن هؤلاء المؤلفين:
البرنس كايتاني الإيطالي فإنه ألف كتابًا في تاريخ الإسلام يقال إنه كتبه بحرية
وإنصاف بحسب ما وصل إليه علمه.
وقد زار مصر في هذا الشتاء فاحتفى به نادي المدارس العليا , وأكرم مثواه ,
وأثنت عليه جرائد المسلمين ثناءً حسنًا. وقد ترجم المؤيد في أوائل هذا الشهر تقريظ
جريدة التيمس لتاريخ البرنس كايتاني ومنه هذه العبارة:
(ومن رأي المؤلف على إعجابه الفائق بصاحب الشريعة الإسلامية أن مزية
النبي هي كفاءته العجيبة كسياسي محنك أكثر منه كنبي موحى إليه. ويؤيد قوله
بدليل سبق إهماله حتى الآن , وهو أن حنكته وحسن سياسته أفادا في تأييد سلطته
أكثر من إفادة القرآن أو أي حمية دينية) اهـ نص ترجمة المؤيد لعبارة التيمس.
وهذا الذي قاله هو اعتقاد الإفرنج العارفين بنشأة الإسلام، وسيرة النبي عليه
الصلاة والسلام؛ أي إنهم يعتقدون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام بما قام به
بحنكته وسياسته، لا بتأييد الله تعالى له بوحيه وعنايته، ولولا هذا لما كان لهم
مندوحة عن الدخول في الإسلام، ومثل الإفرنج في هذا الرأي كل من لا يدين
بالإسلام من علماء المشرق. فدعوى أن نجاح النبي صلى الله عليه وسلم كان
بسياسته وحنكته - أي تجاربه - هي أكبر شبههم على الإسلام.
ومن الشواهد على ذلك من كلام علماء بلادنا غير المسلمين الأسطر والأبيات
الآتية التي كتبها إليّ الدكتور شبلي شميل الفيلسوف المشهور بعدم التدين. حمله
عليها قراءة المنار , وهي:
إلى غزاليّ عصره السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار:
أنت تنظر إلى محمد كنبي وتجعله عظيمًا , وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله
أعظم، ونحن وإن كنا في الاعتقاد (الدين أو المبدأ الديني) على طرفي نقيض ,
فالجامع بيننا: العقل الواسع , والإخلاص في القول , وذلك أوثق بيننا لعرى المودة.
... ... ... ... ... ... ... من صديقك الدكتور شميل
الحق أولى أن يقال
دع من محمد في سدى قرآنه ... ما قد نحاه للحمة الغايات [1]
إني وإن أك قد كفرت بدينه ... هل أكفرنَّ بمحكم الآيات
أو ما حوت في ناصع الألفاظ من ... حكم روادع للهوى وعظات
وشرائع لو أنهم عقلوا بها ... ما قيدوا العمران بالعادات
نعم المدبر والحكيم وإنه ... رب الفصاحة مصطفى الكلمات
رجل الحجا رجل السياسة والدَّها ... بطل حليف النصر في الغارات
ببلاغة القرآن قد خلب النهى ... وبسيفه أنحى على الهامات
من دونه الأبطال في كل الورى ... من سابق أو لاحق أو آت
(المنار)
كتب الدكتور إليَّ بهذا لا لينشر بل ليقرأ على أنه خواطر جاشت في صدره، ثم
بعد أن نشر المؤيد ما نشره عن التيمس , ورددت عليه في الجريدة استأذنت الدكتور
بنشر ما كتبه فأذن , وهو كما يرى القارئ أكثر من البرنس كايتاني تعظيمًا للنبي
صلى الله عليه وسلم , وكذا للقرآن الحكيم الذي لم يدرك البرنس كايتاني تأثيره؛ لأنه
لا يفهمه كالدكتور شميل.
ونحن-على كوننا نشكر لشميل ما اعترف به من مزايا نبينا وكتابنا، ونسأل الله
أن يهديه للباقي منها وهو المهم الأعظم - لا نقول: إنه اعترف بنبوته ولا بحقية
كون كتابه إلهيًّا. وننكر عليه أشد الإنكار قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم من
حيث كونه رجلاً أعظم منه من حيث كونه نبيًّا على أنهم لا يعنون بمثل هذا التعبير
الذي قاله شميل وكايتاني أنه نبي وسياسي وأن نبوته أقوى من سياسته. بل يعنون أنه
نجح بسياسته لا بنبوته التي ادعاها , ولكن المؤيد غفل عن هذا وادعى أن ما قاله
كايتاني حق، ولو كان حقًّا لكان هو وجميع علماء أوروبا وعلماء أهل الكتاب
والوثنيين العارفين بتاريخ الإسلام كلهم على الحق , واستلزم ذلك كون المسلمين
على غير الحق فيما يتعلق بأصل دينهم؛ لأنهم يقولون بخلاف هذا القول! !
نبهت (الجريدة) المؤيد إلى هذه الهفوة , وقالت: إن ما ترجمه عن التيمس
من قول كايتاني كفر ما كان لصاحب جريدة تفتخر بأنها إسلامية أن ينقله ويقره.
فرد عليها صاحب المؤيد بقوله الآتي نقلاً عن عدده الذي صدر في 3 المحرم ,
والعنوان منا فقط:
رأي المؤيد في القرآن
أمّا نحن , فنقول للجريدة: إننا نقلنا عبارة البرنس كايتاني عن التيمس ,
ونحن نعتقد أنها ليست كفرًا فلا نلام إذا لم نرد عليها , وأمّا الجريدة فقد نقلتها وهي
تعتقدها كفرًا , ولم ترد عليها فهي المقصرة والملومة.
إن غرض البرنس كايتاني من عبارته ظاهر , وهو الإعجاب بأخلاق النبي
صلى الله عليه وسلم , واعتبارها فوق كل قوة دينية أخرى كانت له.
والله تعالى يقول في كتابه الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) ,
فلم يُرد البرنس كايتاني بقوله هذا حطًّا من شرف الدين الإسلامي ولا تحقيرًا
للقرآن الكريم , وماذا يفعل القرآن وحده إذا كان الداعي به على أخلاق غير الأخلاق
العالية التي اشتهرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل القرآن نفسه يقول: {وَلَوْ
كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) فجعل مناط قوة
ارتباط المؤمنين به والتفافهم حوله وانتصارهم له وفدائهم إياه بالنفس والمال سلامة
أخلاقه من العيوب المنفرة.
فلو كان فظًّا غليظ القلب ما نفعه قرآن , ولا حمية دينية. وهذا كلام يقوله كل
مسلم يعقل، ويعرف ما هو الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم
وروحه الأخلاق الشريفة التي أعجب بها البرنس كايتاني.
(وليس المقام مقام مقارنة بين القرآن والنبي صلى الله عليه , وأيهما أفضل؛
لأن هذا لا يؤخذ من عبارة البرنس كايتاني ولا هو غرض مؤرخ كبير كهذا , بل
هذه المباحث العقيمة الآن تليق بجريدة مثل (الجريدة) لا يذوق محررها طعمًا لكلام
مؤلف , ولا يعرف وزنًا لقيمة رأي مؤرخ) .
أليس القرآن بيننا الآن كما هو بين المسلمين منذ وفاة النبي صلى الله عليه
وسلم حتى الآن؟ فهل يستطيع مسلم أن يقول: إن قوة الإسلام الحقيقية كانت في
عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهل لذلك سبب سوى الأخلاق العالية التي وهبها
الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم , وهل أخلاقه الفائقة إلا موهوبة من عند
الله , وهي معجزة من معجزاته؟ فهل يكون كافرًا بالله من قال: إن قوة هذه
المعجزة بخصوصها كان لها دخل في فتوحات الإسلام على عهد النبي صلى الله
عليه وسلم أكثر من كل معجزة دينية أخرى.
إن للقرآن الكريم وظيفة أخرى لا يشاركه فيها مشارك وهي كونه شريعة
إلهية , جمعت بين مصالح الدين والدنيا , ففاق بهذه المزية كل الكتب الإلهية
الأخرى كما فاقها في الأسلوب والبيان , فهل ينقص من فضل القرآن ومزيته أن
يقال: إن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم كانت فوقًا تأثيرًا في فتوحاته وبسطة
سلطانه.
هذا ما أردنا بيانه , ونترك للجريدة المشاغَبة واللغط والوثوب من خطأ إلى
غلط) . اهـ كلام المؤيد.
(المنار)
إن المؤيد جرى في الرد على الجريدة في هذه المسألة على طريقة المراء
المعتاد في المناقشات السياسية , فحرف كلام كايتاني عن موضعه , وجعله من باب
الإعجاب بالأخلاق التي أكرم الله بها نبيه وتفضيل تأثيرها على القرآن , وإنما كلام
كايتاني في غير ذلك إذ زعم أن جُلَّ نجاح النبي صلى الله عليه وسلم أَوْ كله بسياسته
وحنكته - أي تجاربه - لا أخلاقه الموهوبة من الله، كما قال فيه الدكتور شميل:
إِنه رب السياسة والدهاء.
وكان للمؤيد مندوحة عن تأييد شبهة كايتاني وتقويتها، بأن يقول للجريدة: إنه
سكت عليها؛ لأنه لا يطالب غير المسلم بأن يقول في الإسلام أكثر من ذلك , مع العلم
بأن المسلمين لا يأخذون عقيدتهم عن مؤرخ نصراني. ولكنه لم يوفق لذلك؛
فاضطررنا إلى كشف الشبهة بالمقالة الآتية في الجريدة:
رد شبهة المؤيد على القرآن [2]
يقول المنكرون لنبوة نبينا محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - سواء كانوا
من الأوربيين أو غيرهم: إن ما تم على يديه من جمع كلمة العرب وكذا وكذا مما
ثابت في التاريخ إنما كان بالدهاء والسياسة وسمو الأفكار وعلو الأخلاق الذي يكون
عادة لكثير من الرجال كالبرنس بسمارك ونابليون الأول. وإن ما ادعاه من النبوة ,
وما جاء به من القرآن لا تأثير لهما في نفسهما , وإنما التأثير له هو بنفسه وبهما؛
لأنه استخدمها في تنفيذ سياسته {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} (الكهف: 5) .
ويعتقد المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر لا يمتاز
على غيره إلا بالنبوة وما تستلزمه كما هو نص قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ
يُوحَى إِلَيَّ} (الكهف: 110) الآية. وقوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ
رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم} (يوسف: 109) .
ويعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى سن الشباب وبلغ الأربعين ولم
يعمل عملاً اجتماعيًّا ولا سياسيًّا , وأن ما تم على يديه بعد ذلك إنما كان بالنبوة التي
اختصه الله بها وبالقرآن الذي أوحاه إليه , فكان روحًا أحياه به حياة جديدة، وأحيا به
من اتبعه فكان اهتداء الجميع بالقرآن لا بتأثير صفات النبي الشخصية كما قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن
جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (الشورى: 52) , فالله تعالى هو الذي
هدى المؤمنين بكتابه , ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي هداهم بصفاته
البشرية وكفاءته الشخصية؛ ولذلك أنزل الله عليه قوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: 56) , وقوله: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي
الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (الأنفال: 63) .
بل يعتقد المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتقي في أفكاره
وأخلاقه بالقرآن نفسه فكلما أنزل الله عليه شيئًا منه ازداد كمالاً به؛ ولذلك قالت
عائشة رضي الله عنها لِمَنْ سألها عن أخلاقه: (كان خلق رسول الله صلى الله عليه
وسلم القرآن) رواه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده وغيرهما.
ومما هَدَاه الله تعالى إليه بكتابه مشاورة أصحابه في الأمر , فكان يستشيرهم ,
ويعمل برأي الجمهور وإن خالف رأيه كما فعل في غزوة أحد , وكانوا يسألونه إذا
أشار بأمر: هل هو وحي فيُطاع بلا بحث ولا تردد أم هو الرأي؛ ليذكروا ما
عندهم , فإذا قال: هو الرأي. ذكروا ما عندهم كما كان يوم بدر. وقد ترك صلى
الله عليه وسلم رأيه إلى رأيهم.
فمن هذه العجالة يعلم أن القرآن هو الأصل في هداية الرسول صلى الله عليه
وسلم وهداية أصحابه عليهم الرضوان إلى ما تم على يديه وأيديهم معه وبعده مما
أدهش التاريخ إذ لم يجد له نظيرًا، ولو شئنا لأتينا بأكثر مما أتينا به من الشواهد
على ذلك من الآيات والأحاديث، ووقائع السيرة النبوية، وتاريخ الراشدين , ولكن ما
جئنا به كافٍ في التذكير بما يؤمن به كل مسلم.
هذا هو اعتقادنا نحن السلمين , وذلك الذي ذكرنا في أول المقال هو اعتقاد من
ينكر صحة ديننا ونبوة نبينا صلى الله عليه وسلم , ويزعمون أن الإسلام وما فيه من
المزايا، وما تم له من النجاح كان منشؤه سياسة النبي صلى الله عليه وسلم وحنكته
كما يعهد من الرجال العظام عادة.
وقد نقل المؤيد في يوم الأحد الماضي عن جريدة التيمس عبارة للبرنس
كايتاني الإيطالي مؤلف تاريخ الإسلام في ذلك الاعتقاد الذي يراد به هدم الإسلام ,
وهي: (ومن رأي المؤلف على إعجابه الفائق بصاحب الشريعة الإسلامية أن مزية
النبي هي كفاءته العجيبة كسياسي محنك أكثر منه كنبي موحى إليه. ويؤيد قوله
بدليل سبق إهماله حتى الآن وهو أن حنكته وحسن سياسته أفادا في تأييد سلطته أكثر
من إفادة القرآن وأي حمية دينية) .
نقل المؤيد هذه العبارة وأقرها فأنكرت عليه الجريدة أن ينقل الكفر ويقره على
فخره بكون جريدته إسلامية وكونه من أبناء الأزهر. فبماذا أجاب المؤيد على هذا
الإنكار؟
أجاب بأنه يعتقد أن تلك العبارة (التي تنيط نجاح عمل النبي صلى الله عليه
وسلم بالحنكة والسياسة لا بالنبوة) ليست كفرًا وبين ذلك بما هو العجب العجاب. قال
في العدد الذي صدر أمس (يوم الأربعاء ثالث المحرم) ما نصه:
(إن غرض البرنس كايتاني من عبارته ظاهر , وهو الإعجاب بأخلاق النبي
صلى الله عليه وسلم , واعتبارها فوق كل قوة دينية أخرى كانت له والله تعالى يقول
في كتابه الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) فلم يرد البرنس
كايتاني بقوله هذا حطًّا من شرف الدين الإسلامي ولا تحقيرًا للقرآن الكريم، وماذا
يفعل القرآن وحده إذا كان الداعي به على أخلاق غير الأخلاق العالية التي اشتهرت
عن النبي صلى الله عليه وسلم , بل القرآن نفسه يقول: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ
القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) , فجعل مناط قوة ارتباط
المؤمنين به والتفافهم حوله وانتصارهم له وفدائهم إياه بالنفس والمال سلامة أخلاقه
من العيوب المنفرة , فلو كان فظًا غليظ القلب ما نفعه قرآن ولا حمية دينية , وهذا
كلام يقوله كل مسلم يعقل ويعرف ما هو الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه
وسلم وروحه الأخلاق الشريفة التي أعجب بها البرنس كايتاني) .
ونحن نقول له: إنه لا يوجد مسلم يعقل ويعرف ما هو الإسلام يقول ما يزعم
صاحب المؤيد أن كل مسلم يقوله. وإنما يقول كل مسلم: إن روح الإسلام هو
القرآن الذي به بلغت أخلاق من أنزل عليه تلك الدرجة العالية - كما قالت عائشة -
وهذه هي العقيدة التي صرح بها القرآن في الآية التي أوردناها آنفًا وهي: {وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} (الشورى: 52) , ولولا القرآن لَمَا اجتمع حوله
صلى الله عليه وسلم أحد , وَلَمَا فعل شيئًا , ولَمَا فداه المؤمنون بالنفس والمال , فقد
صرح الله تعالى بأن كل عمل له كان بالقرآن , فهل نتبعه أم نتبع كايتاني وأضرابه
الذين يقولون: إن كل ذلك كان بمزاياه الشخصية البشرية؟
كاد يقع بين الأوس والخزرج العدوان وتصلى نار الحرب لِمناظرة وقعت؛
فنزل قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران:
103) الآيات , فرجعوا وتابوا وأنابوا، وحبل الله هو القرآن , ولم يقل: إن
سياسة النبي وحنكته وأخلاقه هي التي ألفت بين قلوبهم. على أن أخلاقه هي القرآن
فهو أصل كل شيء.
قال صاحب المؤيد بعد ذلك في الاستدلال على عدم كون القرآن هو منبع قوة
المسلمين: (أليس القرآن بيننا الآن كما هو بين المسلمين منذ وفاة النبي صلى الله
عليه وسلم حتى الآن؟ فهل يستطيع مسلم أن يقول: إن قوة الإسلام كانت في عهد
النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل لذلك سبب سوى الأخلاق العالية التي وهبها الله
عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم؟) .
ونقول في دفع هذه الشبهة: إن المسلمين كانوا في قوة وعزة ما كانوا
عاملين بالقرآن , ففي عهده صلى الله عليه وسلم كانوا أشد استمساكًا بحبله المتين
وعُرْوَته الوُثْقَى لا لصفات النبي الشخصية البشرية، بل لنبوته وما لها من المزايا ,
وللقدوة به قي تَمَسُّكهِ بالقرآن التي عاتبه الله تعالى على مبالغته فيها بمثل قوله:
{طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى} (طه: 1-2) , ثم كانوا في زمن أبي بكر
وعمر مقربة من ذلك , ثم صاروا يتدلون بترك القرآن. ويعتقد كل مسلم عاقل
عارف بحقيقة الإسلام أنهم إذا عادوا إلى الاعتصام به تعود إليهم قوتهم وعزتهم
فهم ليسوا حجة على الإسلام (يا صاحب السعادة) بل القرآن حجة عليك وعليهم.
فأدعوك إلى التوبة والرجوع عمّا كتبت في تأييد أقوى الشبهات على الإسلام
والقرآن والنبوة , وأن تعلن توبتك في جريدتك , وتصرح بأنك تؤمن بأن القرآن هو
روح الإسلام وبوحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم واهتدائه به عمل بعناية الله ما
عمل، وبرد قول كايتاني إن حنكته وسياسته أكثر فائدة من القرآن ومن كل حمية
دينية. حباه الله هو ومن اتبعه إياها فإن ذلك كفر وهدم للإسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... صاحب المنار
وقد أجاب المؤيد عن هذه المقال بما يأتي بنصه نقلاً عن عدد المؤيد الذي
صدر في سادس المحرم وهو:
ماعدا مما بدا
قال اللورد كرومر أمس: (إن الجامعة الإسلامية تستلزم السعي في القرن
العشرين في إعادة مبادئ وضعت منذ ألف سنة هدى لهيئة اجتماعية في حالة الفطرة
والسذاجة , وهذه المبادئ منها ما يجيز الرق , ومنها ما يتضمن سُنَنًا وشرائِعَ عن
علاقات الرجال والنساء مناقضة لآداب أهل هذا العصر , ومنها ما يتضمن أمرًا أهم
من ذلك كله وهو إفراغ القوانين المدنية والجنائية والملية في قالب واحد لا يقبل
تغييرًا ولا تحويرًا وهذا ما وَقَّفَ تَقَدُّمَ البلدان التي دان أهلها بدين الإسلام) .
وقال البرنس كايتاني اليوم: (إن مزية النبي هي في كفاءته العجيبة كسياسي
محنك أكثر منه كنبي موحى إليه! إن حنكته وحسن سياسته أفادا في تأييد سلطته
أكثر من إفادة القرآن أو أية حمية دينية) .
فلماذا اتسع صدرنا لعبارة اللورد , ورأينا من اللياقة وحسن الأدب تأويلها -
مع أنها كادت تكون صريحة في أن الدين الإسلامي دين وضعي - ولم يتسع صدرنا
لما قاله البرنس، مع أن عبارته تُشْعِر بأنه معترِف للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه
نبي موحى إليه وأن قرآنه مفيد؟
إذا كان هناك بواعثُ حملت الشيخ رشيد على التفرقة بين الاثنين , وتشنيع
إحدى العبارتين , فإن الحق الذي لا تتلاعب به البواعث يشهد بأن عبارة البرنس لا
توجب اللوم ولا التعيير بله التضليل والتكفير! !
بل الإنصاف يتقاضانا الثناء على جناب البرنس والإعجاب بحرية ضميره؛
لاعترافه بصدق النبوة كما أشرنا إليه آنفًا.
أمَّا كون البرنس جعل التأثير في تأييد سلطة النبي صلى الله عليه وسلم للمزايا
التي انطوت عليها نفسه الشريفة أولاً، ثم القرآن ثانيًا كما هو نص عبارته , فهذا لا
يقدح في قوله ولا يجعله من باب الكفر. نعم إذا كان للبرنس رأي خاص في النبي
صلى الله عليه وسلم كآراء بعض رجال أوربا فيه على ما أشار إليه الشيخ رشيد
في مقدمة كلامه فهذا لا يلزمنا مناقشته فيه ما دام أنه مستور في نفسه , بل نراه قد
صرح بِضِدِّهِ في عبارته حيث قال: إنه (نبي موحى إليه) فهل لا تكون تلك
العبارة قرينة على أن البرنس ليس على رأي أولئك المُنْكِرينَ لنبوته صلى الله عليه
وسلم؟ .
وإذا راجعنا ما قاله المفسرون في تفسير آية {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ
لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) رأيناهم يفسرونها بكلام يأتلف مع ما
قاله البرنس كايتاني. فلم تكن عبارة البرنس إذًا كُفْرًا بل هي الحقيقة الدينية التي
علم بها القرآن الكريم.
(قال الطبري في تفسير هذه الآية: احتملت يا محمد أذى من نالَكَ منهم أذاه ,
وعفوت عن ذي الجُرْم منهم جرمه , وأغضيتَ عن كثير ممن لو جفوته وأغلظت
عليه لتركك فيفارقك ولم يتبعك. ولا (أي ولم يتبع) ما بعثت به من الرحمة)
فقوله الأخير نص في أن مزايا النبي الذاتية كانت السبب في أن يتبعه العرب
ويصدقوا بالقرآن الذي أتى به. وقال الألوسي: (لانفضوا مِن حولك) أي:
لتفرقوا عنك , ونفروا منك , ولم يسكنوا إليك , وتردوا في مهاوي الرَّدَى , ولم
ينتظم أمر ما بعث به من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط) فعدم فظاظته وغلظته
اللتين لو كانتا فيه لَذَهَبَتَا بكفاءته وحنكته وسياسته هو السبب الأول في انتظام أمر
بعثته.
وقال بعض المفسرين ما هو أصرح من كل ذلك كله قال: (وكل واحد من
الأمرين (أي: الفظاظة والغلظة) لا يليق بمنصب النبوة؛ لأن المقصود من البعثة
أن يبلغ الرسول تكاليف الله إلى الخلق، وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه , وسكون
نفوسهم لديه , وهذا لا يتم إلا إذا كان رحيمًا بهم كريمًا يتجاوز عن ذنوبهم ويعاملهم
بالبر والشفقة) , فلولا كفاءته الذاتية التي هي عبارة عن مجموع مواهبه ومزاياه
وَخِصاله الكريمة لَمَا تَمَّ أمْر البعثة , فلم يلتفوا حَوَالَيْهِ صلى الله عليه وسلم , ولم
يَعُوا القرآن الكريم الذي أنزل عليه؛ فالكفاءة إذن هي العامل الأول في تأييده أو
تأييد سلطته الذي أراده البرنس.
فهل تكون بعد هذا كله عبارة البرنس كفرًا وطعنًا في الدين إلى حد لا تَسعه
صدورنا كما وسعت كلام اللورد , ويكون المصريون مخطئين في إقامة الاحتفال له
وإعلان الثناء عليه , أم لا يكون شيء من ذلك وإنما للشيخ رشيد حكمة من وراء
صنيعه هذا يعلمها هو والواقفون على أطواره وخفي أسراره. اهـ كلام المؤيد.
وقد رددنا هذا التمويه والمغالطة بمقالة أخرى نشرناها في عدد الجريدة الذي
صدر في اليوم السابع من المحرم وهي:
جواب المؤيد عن شبهته
(على القرآن)
لا يترك المؤيد شنشنته في الجدال , فهو يشاغب ويكابر في أصول الدين
وعقائده كما يفعل في المناقشات السياسية والشخصية , فقد أنكرنا عليه ما كتبه في
قيام الإسلام وثبات سلطته، وعزوه إياه إلى المسلمين , وقوله: إنه اعتقادهم. وهو
أن السبب الأول والعُمْدة فيه هو - كما يقول البرنس كايتاني - سياسة النبي صلى الله
عليه وسلم وحنكته، أي ما أفادته إياه التجارب. أنكرنا عليه هذه الدعوى , وَبَيَّنَا له
بالآيات البَيِّنات أن ذلك كان بما آتاه الله من النبوة , وأنزل عليه من القرآن.
فرد علينا أمس بأننا أَوَّلْنَا طعْن لورد كرومر في الإسلام , فلماذا ننكر على
البرنس كايتاني , ونشنع عليه ونُخَطِّئ المصريين الذين قاموا له بالاحتفال , فحاصل
جواب الشيخ علي يوسف عما أنكرناه عليه هو أننا فعلنا فيما مضى فعلاً كان يجب
علينا أن نعيده الآن , وأننا شنعنا على البرنس كايتاني وذلك يتضمن تخطئة
المصريين الذين احتفلوا به.
ولقد رأى القراء أنه ليس في عبارتنا تشنيع على كايتاني , وأكثر ما يفهم من
ردنا على صاحب المؤيد أن ما قرره عن البرنس كايتاني مخالف لعقيدة المسلمين في
القرآن والنبي عليه الصلاة والسلام , وليس هذا بتشنيع عليه؛ لأنه ليس بمسلم ,
فيطالب بأن يكون كلامه مُطابقًا لعقيدة المسلمين.
وأمَّا احتفال المصريين به فلم يَأْتِ له ذكر في كلامنا لا تصريحًا ولا تلويحًا ,
وهم لم يحتفلوا به لأنه مسلم؛ بل لأنه كتب تاريخًا صرح فيه باعتقاده من غير
تحامل ولا تعصب. وقد صرح لورد كرومر بانتقاده , فرأيت كما رأى المؤيد أن
كلامه كاد يكون طعنًا في أصل الإسلام فكتبت إليه كتابة كان أثرها أنه كتب يبرئ
القرآن والسنة من الطعن. وقد صرح صاحب المؤيد يومئذ بأن ما كتبه لي اللورد هو
رجوع عما كتب في تقريره. فأنا الآن أطلب من صاحب المؤيد كما طلبت من
اللورد تبرِئة القرآنَ مما كتبه؛ فعسى أن لا يكون لورد كرومر خيرًا منه في الرجوع
إلى الحق بعدما تبين له.
وغرض صاحب المؤيد مما كتبه ظاهر وسببه بين وهو أنه عجز عن رد
الحجج التي دمغنا به دعواه في القرآن وصعب عليه الاعتراف بالحق الذي طالبناه
به , فانتقم منا بتحريض من احتفلوا بالبرنس علينا , وهم أعلى فَهْمًا وآدابًا من أن
ينخدعوا بمثل ما كتب. ولم يذكر إنكارنا عليه حتى لا يدري به من يقرأ المؤيد ولم
يكن اطلع على الجريدة يوم الخميس الماضي.
تلك شنشنته , وذلك مبلغه من العلم ولولا أنه عاد إلى تأييد قوله الأول بأن
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فوق كل قوة دينيه كانت له؛ أي: فوق اصطفاء الله
له بالنبوة وتأييده بالقرآن , وأن العُمْدة في نفوذه هي السياسة والحنكة، واحتج بقوله
تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159)
لَمَا كتبنا اليوم شيئًا في إعادة دعوته إلى التوبة مما كتب والرجوع عنه كتابة في
المؤيد.
أقمنا الدليل في المقالة الأولى على ما قلنا: إنه اعتقاد المسلمين. وأيدناه
بالآيات والأحاديث , ومنه أن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم العليا وسياسته
المثلى مستمدة من القرآن , فصرف الشيخ علي نظره عن ذلك، وعاد ينقل لنا ما قاله
بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) , ولم يذكر الآية بتمامها؛ لأنها حجة عليه فكان مَثَلُهُ كَمَثَلِ
مَنِ استدل على تحريم الصلاة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا
الصَّلاَةَ} (النساء: 43) وسكت عن قوله: {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (النساء:
43) إلخ. هذا نص الآية: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ
القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159) , فهل تدل هذه
الآية على أن تلك الأخلاق العالية والمعاملة الحسنة كانت بتأييد الله إياه وتأديبه له
بالقرآن كما نعتقد نحن المسلمين أم كانت بسياسته وحنكته؛ أي: تجاربه صلى الله
عليه وسلم كما يقول الشيخ علي يوسف تأييدًا لكلام البرنس كايتاني؟ .
ألم يصرح جهابذة المفسرين بأن قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ} (آل عمران:
159) يفيد أن هذا كان برحمة الله وتوفيقه إياه , وأن تأكيد السببية هنا بلفظ (ما)
يدل على الحصر كما في الكشاف , ومعنى هذا أنه لم يكن ذلك بكسبه واجتهاده ولا
سياسته وتجاربه وإنما هو بتأييد الله وتوفيقه. وذلك من آثار النبوة التي هي غير
مكتسبة بالتجارب والسياسة؟ ويؤيد ذلك بقية الآية وبامتثالها بمعونة تلك الرحمة كان
رءوفًا رحيمًا لا فظًّا ولا غليظًا. ويدعم ذلك قوله في آخرها: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ} (آل عمران: 159) ولم يقل: توكل على سياستك وتجاربك.
ومن أمثلة هذا في القرآن قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى} (عبس: 1-2) الآيات وسببها معروف ملخصه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يدعو عظماء قريش إلى الإسلام في أول الإسلام فجاءه عبد الله بن أم مكتوم الأعمى
- وهو من السابقين الأولين - يسأله أن يعلمه، فعبس صلى الله عليه وسلم،
وأعرض عنه؛ لئلا ينفر من إقباله عليه أولئك الكبراء , وكان من اجتهاده صلى الله
عليه وسلم يومئذ أن الكبراء إذ دخلوا في الإسلام أولاً لا يلبث أن يتبعهم الناس , فعاتبه
الله على ذلك عتابًا شديدًا , ونهاه عن مثل ما فعل فقال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ
الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى
* فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلاَّ} (عبس: 1-11) فعمل صلى الله عليه وسلم بهذا التأديب
والتعليم الإلهي من أول الإسلام , فكان ذلك عونًا على استمرار دعوته التي كان
روحها والمؤثر الأكبر فيها هو القرآن لا السياسة والحنكة كما يَدِّعِي الشيخ علي
يوسف.
أما الدلائل النقلية على تأثير القرآن في جذب العرب إلى الإسلام فهي كثيرة ,
وأذكر لسعادة صاحب المؤيد منها إسلام عمر رضي الله عنه , وهو الذي أعز الله به
الإسلام كما ورد. كان عمر في الجاهلية فظًّا غليظًا , ولمَّا سمع بإسلام أخته وختنه
(زوجها) عظم عليه الأمر , فجاءها وضربها حتى أَدْمَاهَا , وكانت تقرأ هي
وزوجها صُحفًا من القرآن الكريم , فأخفتها عنه فما زال حتى أخذها وقرأها فجذبته
إلى الإسلام جذبًا , وكان بعد ذلك من رحمته أنْ كان يطوف بالليل يتفقد المحتاجين؛
وقصته في حمل الدقيق ليلاً إلى موضع تلك المرأة البائسة وطبخه مشهورة.
وحَسْبُك من تأثير القرآن أن كان الغالون في العناد والجحود من كفار قريش
يهربون من سماعه لئلا يجذبهم إلى الإسلام بقوة تأثيره {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ
تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) .
فأدعو سعادة الشيخ علي يوسف بعد هذا البيان إلى الرجوع عما كتبه مِن قَبْلُ
والتصريح بأن قوة النبي الدينية كانت فوق كل قوة له بشرية، وكل سياسة
وحنكة عادية، وأن القرآن الحكيم هو منشأ آدابه وأخلاقه وسياسته عليه الصلاة
والسلام , وأن سيادته ونجاحه كانا بذلك قبل كل شيء وفوق كل شيء والسلام على
من اتبع الهدى.
... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار
وبعد أن نشرنا في الجريدة ما تقدم رأينا كثيرًا من أهل العلم والغيرة مرتاحين
مسرورين مما كتبناه , وقالوا: إن هذا الرد من فروض الكفاية قمت به فسقط الحرج
عن كل عالم قادر عليه. وكتب إلينا عبد الله أفندي الأنصاري مدرس العلوم العربية
في المدرسة التوفيقية ما يأتي:
حضرة العلامة المفضال صديقنا الصادق في الله تعالى السيد محمد رشيد
رضا:
السلام عليكم ورحمة الله. أما بعد , فلقد اطلعت في صحيفة المؤيد على ما
نشرته من رأي البرنس كايتاني في محمد صلى الله عليه وسلم , ومجادلتها عنه ,
وعلى ما جاء في الجريدة عن ذلك , وردكم هو الحق الصراح، والنور الوضاح،
والبيان الفضاح لدسائس الملحدين لنور رب العالمين، فجزاكم الله خيرًا عن الإسلام
وأهليه، والشرع وحامليه، ولما رأيت مجادلة صاحب المؤيد عن ذلك الرأي،
وإصراره على عدم رَتْقِ هذا الفَتْقِ، والانصياع إلى سلطان الحق محاباة في الرد،
ومداراة للقصد اختلست ساعة من أوقاتي المملوءة بالأشغال المدرسية - كما لا
يخفى - لتحرير هذه المقالة تأييدًا لِرأيكم الأصيل، وتسديدًا لقولكم النبيل، فأرجو
نشرها إن استحسنتم في مناركم الرفيع , والسلام عليكم أولاً وآخرًا وباطنًا وظاهرًا.
من أخيكم عبد الله الأنصاري.
وهذه هي مقالة الأنصاري المفيدة بنصها:
لا هَوَادَةَ في الدِّين
لقد جاء انتقاد الجريدة وردودها على ما نشرته صحيفة المؤيد من رأي البرنس
كايتاني في مبلغ الرسالة الإسلامية , وإعجابها به مطفئًا لِمَا اتَّقَدَ في صدور ذوي
الغيرة على الدين بنفثات الذين يريدون المحاباة في الإسلام، والتساهل الذي قد اتخذه
كثير من دعاة المدنية العصرية من المسلمين وسيلة إلى إحداث شأن جديد في الدين
عِندَ مَنْ أكبرتهم نفوسهم ممن لا تروج لديهم بضائع أهل الملل والأديان، ولا يروق
في نظرهم أن ينسبوا ما جاء في الشرائع الإلهية، وعلم من آداب الأديان السماوية،
إلا إلى مجرد فطنة ودهاء , واضعها بصفة كونهم ساسة عقلاء لا رُسلاً وأنبياء.
ذلك ما يقرع الأسماع كثيرًا من بعض المخالفين في كنه العقيدة الإسلامية , وما
القصد من ذلك إلا أن يغيض اعتقاد المسلمين في قرآنهم القائم بين أيديهم إلى الآن ,
وتنفصم عراه من قلوبهم فلا يتمسكون به حتى يضعوا أيديهم في يد أهل المدنية
الغربية، ولو آلَ الأمْرُ إلى المجازاة في مثل ذلك الرأي ونبذ عقيدة أن الدين وضع
إلهي وأن الكتاب وحي سماوي لم يكن للرسل فيه ولا للالتفاف الناس حولهم إلا
التبليغ والتبيين {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ
يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} (طه: 113) هوَّن ذلك التساهل على سعادة صاحب المؤيد أن
ينشر على ملأ المسلمين ذلك الرأي بصورة رائقة ويجادل عنه وكله كما لا يخفى
على بصير مغامز مخالفة لصريح القرآن، هادمة لمبنى الإيمان، إذ يجعل نجاح
الدعوة المحمدية بما كان له صلى الله عليه وسلم من كمال الأخلاق البشرية
والحنكة - التي ربما يقولون بَعْدُ: (إنها كما تكون له تكون لغيره من البشر قبله
وبعده من العقلاء المجربين، والساسة المحنكين) أكثر من كونه نبيًّا مرسلاً،
وصاحب كتاب منزل.
هكذا قال أُبَاةُ الحق من العرب ومكابروهم فيه , وقد خصهم الله وألزمهم
الحجة , وانتهى الأمر باعتراف المؤمن وغير المؤمن بسمو مكانة القرآن الكريم عند
من يدرك معناه ويتصور مبناه من حين نزوله إلى اليوم. أمّا الآن وقد مضى على
التنزيل أكثر من ثلاثة عشر قرنا فقد أصبحنا نُرَوِّج هذه الدعوى ونرضاها على
لسان المسيو كايتاني؛ لِيُقالَ إنَّا متساهلون متسامحون، أو متنورون متمدنون.
لست أقصد رمي سعادة صاحب المؤيد بما رمته به الجريدة من المروق لنشر
هذا المعتقد وترويجه بين المسلمين , وإنما أقول أولاً: لا نصدق أن سعادته لا يصل
ذهنه إلى أعماق هذا الرأي وما وراءه، ولا نُسِيءُ الظن فيه بكونه يرضاه عقيدةً له؛
فلم يكن هناك إلا ذلك التساهل الذي ما ساق كثيرًا من الناس إليه الآن إلا إعظام كل
ما جاء على ألسنة متنقصينا من موافق ومخالف، والزهد فيما لدينا من تالد وطارف،
وإلا فليس ما رضيه الشيخ اليوم عن كايتاني بأهون مسًّا ولا أخف وخزًا في
أحشاء الإسلام من ذلك الرأي الغابر الذي أرهف له قلمه وجرده يقطر غيرة وحمية،
أم هي الأهواء تقبح وتحسن ما تشاء.
ما أخسرنا وأضيعنا في كل حال لو بذلنا في أغراضنا ومقاصدنا الدنيوية
إسلامنا وطوحنا بقرآننا في مهاوي التساهل الماحي , والتسامح الماحق لدرك كلمة
تقال فينا , أو جذب عاطفة تشهد لنا بأننا ترقينا وأدركنا من شأو المتقدمين ما تشرئب
إليه الأعناق , وما نحن ببالغي ذلك منهم ولو صرنا لعبادتهم خاضعين.
نشأ محمد صلى الله عليه وسلم أُميًّا بين أميين ليسوا أهل ملك وسياسة حتى
بلغ الأربعين ولم يكن له من شئون دنياه في أكثر حالاته إلا الاشتغال بعبادة ربه،
والانقطاع عما فيه الناس حينئذ , فهو إلى ذلك الحين أبعد عن مجاري السياسة،
وموالج حيل الرئاسة حتى صدع بالدعوة بلا هوادة فيها , وسار بها من أول أمرها
وفي جميع أطوارها برعاية ربه وعناية مُرْسِلِهِ سيرًا حثيثًا كان له فيه الغلب من
أوله إلى آخره بين جدال وجلاد، وبلاء واجتهاد، والقرآن لا غير مصدره ومورده،
ومرشده ومعتمده في كل شيء.
ولقد كان يُرْجِئ الأمر حتى يتلقى فيه قرآنًا ونحن نخاطب بذلك من يتصورون
أطوار الرسالة المحمدية , ويتخيلون حالة الأمة العربية حينئذ , ويمضون في فهم
كتاب الله ويقدرونه قدره , وما كان عليه العرب من النزول على حكم البيان الذي
بلغ في القرآن مبلغ الإعجاز , فكان عليه وحده في الهداية ونجاح الدعوة المعول أكثر
من كونه صلى الله عليه وسلم على خُلُق عظيم أو ذا سياسة وحنكة.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ
وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} (الشورى: 52-53) .
لم يَذُقْ أحد من نبغاء المسلمين اليوم ولا قبل اليوم بقرون - فضلاً عن المسيو
كايتاني حتى سعادة الشيخ علي يوسف - ما ذاق أصحاب النبي في عهده من القرآن.
وهم في حجور الوثنية، وأحضان الهمجية، فانتشلهم، وطَهَّرَهم، فكان موقع القرآن
منهم موقع الزُّلال من ذِي الغُلَّةِ، والدواء من ذي العِلَّةِ، وإلا فما كان يفعل محمد
صلى الله عليه وسلم بدون تأييد الوحي المنزل الذي هو حجته الكبرى , وآيته
العظمى القائمة عند مَنْ له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فلا يقال حينئذ: وإلا
فالقرآن بين أيدينا ولم يعمل عمله فينا {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى
عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51) .
لم يرتض أصحاب رسول الله ما قاله أبو سفيان , وقد أقبلت جموع الفتح قبيلةً
قبيلةً وهو قائم بين جمع من الصحابة وفيهم العباس أحد أعمام النبي صلى الله عليه
وسلم حتى أقبل مع أبي بكر وعمر في كتيبته الخصراء يقولون: الحمد لله وحده
صدق وعده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. فقال أبو سفيان لعثمان: صار
لابن أخيك مُلْكٌ عظيم. فقال: مَهْ يا أبا سفيان , إنما ذلك الوحي والرسالة. فكيف
نرضى أو نقبل أن يكون ما وصل إليه نبينا مِنَ الظَّفَرِ والغَلَبِ في أمْر دعوته إلى
الله بسياسته وحنكته أكثر من نبوته ورسالته؟ اللهم إنا نبرأ إليك من هذا براءة
الحق من الباطل. فليصن سعادة صاحب المؤيد غيرته على الإسلام من أن يغمض
طَرْفه على أَذًى فيه فَرُبَّ تلميح أنكأ من تصريح، ومدح آلم من تجريح، وليحفظ
مكانته في قلوب أهل مِلَّته مِن أنْ يُحَابِيَ في دينهم على مرأى ومسمع منهم، فإنه
لا هوادة في الدين.
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله الأنصاري
(المنار)
هذا وإن الموضوع يتسع لإطالة القول وإيراد الشواهد الكثيرة من الآيات
الكريمة والسيرة النبوية، وإنما اكتفينا بما كتبناه على عَجَلٍ في إدارة الجريدة؛ لأننا
نقصد به تذكير المسلمين، لا إقامة الحجة على المخالفين، وقد سَكَتَ صاحب المؤيد
بعد نشرنا المقالة الثانية , ويغلب على ظننا أنه ندم على ما فرط منه , ولكن كان
يجب عليه أن ينشر حقيقة العقيدة الإسلامية في ذلك بالمؤيد لِيَطَّلِعَ عليها من قرءوا
كتابته الأولى إِذْمَا كُلُّ مَن يقرأ المؤيد يقرأ الجريدة (وبالعكس) ولو فعل لَمَا
نشرنا شيئًا من هذا البحث في المنار.
__________
(1) يريد بالغايات معناها اللغوي , وهي المقاصد , يَعْنِي الدينية , ويعني بالأمر بتركها تركه البحث فيها؛ أي: إنه يبحث في القرآن من حيث هو كتاب اجتماعي لا من حيث هو كتاب ديني كما قال لنا مشافهة.
(2) كتبنا هذه المقالة في إدارة الجريدة على عَجَلٍ , ولم يكن في يدنا مصحف نراجع فيه عدد السور والآيات للشواهد التي أوردناها فيها فوضعنا الأعداد الآن , ولم نَزِدْ في المقالة شيئًا سِوَاهَا، بل نقلت عن الجريدة بحروفها.(11/9)
الكاتب: أحمد فتحي باشا زغلول
__________
ما هي اللغة
خطبة أحمد فتحي باشا زغلول وكيل نظارة الحقانية في نادي دار العلوم.
الفكر: حركة نفسية يحتاج في ظهوره إلى معونة الجهاز المخصوص الذي
يكون به الكلام. وعليه، فالكلام هو حركة ذلك الجهاز المنبعثة عن مجرد الطبع، أو
المدفوعة بالإرادة للتعبير عن حركة من حركات النفس.
ينتج من هذا أن الكلام يتنوع باختلاف الشارات التي تدل على الأفكار , وأن
تلك الشارات تنقسم إلى قسمين: طبيعية , وصناعية.
فالأولى هي التي تصدر عن الذات من حيث هي؛ أي: بمقتضى وجودها
المادي، وكل شارات هذا القسم عَرَضِيَّة , مثل شارات اليد , والرأس , والعين ,
وبقية الأعضاء , ومثل الأصوات التي ليست ألفاظًا , والكلام؛ أي: النطق.
والثانية خارجة عن الذات , وهي تحدث من تأثير الإنسان في المباديات
الخارجة عنه , وكل شارات هذا القسم جوهرية , بمعنى أن لها دوامًا طويلاً كان أو
قصيرًا , كالأعلام والنقش , أو الرسم والحفر والكتابة.
ومما تقدّم يتبين أن الكلام الطبيعي عامٌّ لِكونه مفهومًا بذاته مع جميع الناس
ومن الحيوان أحيانًا , كما هو الحال بالنظر لشارات الأعضاء وأصوات الغضب ,
أو الاستحسان من غير أن يكون هناك اتفاق سابق على مفهوم تلك الشارات.
وعلى خلاف ذلك الكلام الصناعي أو الاتفاقي؛ لأنه عبارة عن مجموع الألفاظ
المخصوصة الموضوعة للمعاني المخصوصة , وعن التراكيب أو الصيغ الناتجة من
تأليف هذه الألفاظ لتوصل إلى الذهن بواسطة الأذن أو العين معاني مخصوصة متفق
عليها.
وقد يتأتى أن يكون الكلام الصناعي عامًّا؛ أي: إن كل الناس يدركون المراد
منه كالرسم مثلاً , وعلى هذا يتضح خطأ تعريفهم اللغة بأنها أصوات يُعَبِّر بها كل
قوم عن أغراضهم.
والصحيح أن اللغة: هي مجموعة من العادات المخصوصة التي تجري عليها
كل أمة في التعبير عن أغراضها بواسطة الكلام أو الكتابة , وتقدم بيان معنى الكلام.
ولا يصح إطلاق اسم اللغة على ذلك المجموع إلا إذا كانت النسبة تامة بين
اللفظ ومدلوله؛ لأن قوة اللغة متوقفة على شِدة المطابقة بحيث إن الأذن أو العين
ترسم في ذهن السامع أو القارئ صورة المدلول كما هي، ولا يتم ذلك إلا باجتماع
شروط ثلاثة:
الشرط الأول: أن يكون لكل مدلول علامة خاصة به تدل عليه دائمًا , ولا
تدل على غيره أبدًا.
الشرط الثاني: أن تكون هذه العلامة قابلة للتعبير بتغير المدلول وتبعًا له.
الشرط الثالث: أن تكون قابلة للاشتقاق لمدلولها , فإذا اشتق منه مدلول اشتق
منها علامة دالة عليه بالشروط عينها.
وبناءً على ما تقدم تكون شروط اللغة الحقيقية بهذا الاسم ثلاثة أيضًا:
الأول: أن يكون تعبيرها محكمًا , وذلك عبارة عن تمام المطابقة بين الدال
والمدلول , ولا سبيل إلى هذا إلا إذا سهل استعمال اللفظ قَدْر المعنى، ولم يزد المعنى
عن اللفظ المستعمل لأجله , وهذا الشرط صعب التوفر؛ فما وُفِّقت لغة حتى الآن
لِنَيْل هذه المزية , اللهم إلا لغة علماء الرياضة , بل إن اللغات الأخرى لن تنالها أبدًا.
الثاني: الملابسة , وهي الخاصة الموجودة في الألفاظ والتراكيب، أي
الصيغ، تلك الخاصة التي يدرك بها الفاهم نظائر المدلول ونقائضه , والملابسة
تقتضي تحليل الفكر الإنساني، وذلك غير ميسور عادة في اللغات الأصلية إلا
نادرًا.
الثالث: الوضوح التام , وهو يرجع للشرطين السابقين , ولصناعة ترتيب
الألفاظ , وتركيب الجمل ترتيبًا وتركيبًا ينتفي معها الإبهام، ويرتفع الشك والالتباس,
ومن اللغات ما تميل بأهلها إلى الإغراب في التعبير , وهذا هو السبب في ظلمتها
وتعسر فهمها وكلما كان القول طبيعيًّا؛ أي: بسيطًا ازداد وضوحًا , فالبساطة هي
أمثل طرق الكلام على أنها طريقة العلم والواقع وهي التي يسهل بها التعبير عن
الأفكار وحركات النفس كما ينبغي.
وكأني بحضراتكم وقد استنتجتم مما ذكرته إلى الآن خطر مذهب التجوز أو
الاشتراك في اللغة وذكرتم أنه يذهب بجمالها، ويخفي من وضوح دلالتها ويجعلها
ثقيلة على أهلها بعيدة المنال على طُلاّبها من الأمم الأخرى.
سمعت في الاجتماعين الماضيين كلامًا كثيرًا في اللغات الأجنبية , وأن لها
أصلاً أو أصولاً ترجع إليها، وتستمد روح التجدد منها , فأهلها في حِلّ مما يفعلون ,
وأما نحن فلا أَصْلَ للغتنا، ويبنون على هذه المقدمة نتيجة هي أنه يجب علينا أن
نعرف كلمة أعجمية لنضيفها إلى لغتنا العربية.
الحق أني ما فهمت النسبة بين تلك المقدمة وهذه النتيجة؛ فإني أنظر إلى تلك
اللغة اللاتينية التي هي أصل لغات أمم أوروبا المعروفة بهذا الاسم من فرنساوية
وتليانية وأندلسية وغيرها , فأجدها لغات ممتازة تمامًا عن ذلك الأصل، بل أجد
الفرنساوي من حيث هو لا يعرف كلمة واحدة من أصل لغته , وكذلك بقية من ذكرنا
وأرى أن كل لغة حية هي لغة مستقلة قائمة بنفسها لها قواعد خاصة بها , وتراكيب
وصيغ تميزها عن أصلها تمامًا , فإذا استعاروا لِمُحْدَثٍ جديد اسمًا من ذلك الأصل
فإنما هم يستعيرونه من لغة أعجمية بالنظر إلى لغتهم.
ألا ترون أنهم لا يقصرون الاستعارة على اللغة اللاتينية، ويتعدونها إلى
اليونانية القديمة , وأحيانًا يستعيرون كلمتين، من كل لغة كلمة، وينحتونها ويدمجون
هذا المزيج في لغتهم فيصير جزءًا منها , ويفسحون له في كتب اللغة محلاًّ بين
كلمتين أصليتين بحسب ترتيب حروفه الأبجدية.
إنهم يعملون أكثر من هذا: إن لكل بلد عادات في أكلها وسكناها ولباسها
وأطوارها , ويتبع ذلك وجود أسماء عند قوم لمسميات لا يعرفها قوم آخرون إلا أن
التجارة وطرق المواصلات تنقل هذه المسميات، أو تجعلها تشاهد في أماكنها من
النازحين إليها؛ فيرى أهل البلد ما يروق لهم من بعض تلك الخصوصيات لأهل
البلد الآخر , ولا يجدون من لغتهم نصيرًا على التعبير عنه تمامًا , لكنهم لا يختارون
ولا يقصدون الاجتماع تلو الاجتماع، ولا يفترقون شيعًا وأحزابًا , بل يقدمون على
تناول المسمى واسمه ويدرجون عليه من ساعتهم فيمتزج بلغتهم، ويعرفه الكل،
ويتحرون في حديثهم أن يلفظوه كأنهم في نطقهم به من أهله، والأمثلة على ذلك لا
تُحْصَى يعرفها كل من تعلم لغة واحدة أجنبية.
هم يعملون ذلك حتى في العلوم فترى الحكيم الفرنساوي وهو يقرر مذهبه عندما يأتي على ما يخالفه من مذاهب الألمان إذا وصل إلى معنى خاص بأحدهم لم يفكر أن يعبر عنه بغير لفظه الألماني وهكذا , ثم يذكر بهامش كتابه معناه.
ما كان هذا لِيُفْسِدَ لغة من تلك اللغات , ولا يثير عاطفة الحنان والإشفاق عليها ,
بل ما ازدادت لغاتهم بهذا إلا طلاوة ويُسرًا , بل تكاد هذه الطريقة تجري عند الأمم
الغربية عامَّة لتكون الألفاظ الغريبة عن لغتهم برهانًا عن سَعَة مداركهم , ورحب
صدورهم لكل نافع وكل مفيد , ولتكون دليلاً على مصدر المسمى ومذكرة بجزء من
ترجمته.
قالوا: إن ذلك جائز عندهم لتماثل أحرف هجائهم واتحاد صدورها وأشكالها ,
وأما نحن فلا قبل لنا على عمل ما يعملون لاختلاف أحرف هجائنا، وصورها
وأشكالها، ولست أرى في هذا الاعتراض إلا أنه دليل أحد أمرين , فإما شعور
يعجزنا عن المجاراة لفتور في همتنا أو قصور في معارفنا , وإما أن أحرف هجائنا
وأشكالها وصورها محتاجة هي أيضًا إلى الإصلاح؛ لنتمكن من تناول
كلمات الغير بأشكال وصور تجعلنا ننطق كلماتهم كما ينطقون، وننقل عنهم كما هم
عن بعضهم ينقلون.
نحن إما عرب أو مستعربون , وإما أجانب عن لغة العرب أو مولدون , فإن
كنا الأولين فلنا حقنا في التصرف بلغتنا كما تقتضيه مصلحتنا , وإن كنا مستعربين
فبحكم قيامنا مقام أصحاب هذه اللغة وبكوننا ورثناها عنهم بعد أن بادوا ليس لأحد أن
ينازعنا في استعمال ما كان مباحًا لآبائنا من قبلنا , وإن كنا أجانب أو مولدين فمن له
يسيطر علينا، ويحرمنا ثمرة الكدّ في حفظ هذه اللغة وتفضيلها على غيرها من سائر
اللغات , فيلزمنا بالبقاء على القديم ويحكم علينا بالجمود واعتقال اللسان.
أَخَذَ العرب العلوم عن أهلها , ونقلوها إلى لغتهم , فلما وجدوا منها استعصاء
في بعض المواضع ذللوها وأخضعوا الغريب عنها لأحكامها فأيسرت ودرجت بعد
الجمود , فكانت لهم نعم النصير على إدراك ما طلبوا من نور وعرفان.
نسينا نحن أن زماننا غير زمانهم فكانوا أصحاب حَوْل وطَوْل , وذوي مجد
وسلطان , ونحن على ما نعلم من الضعف والانزواء على أنهم في عِزِّهِم وبعد
فِخَارِهِم وتمكنهم من أنفسهم لم يعتزوا بلغتهم فينفروا من العُجْمَةِ؛ لأنها عُجْمَة بل
استخدموها حيث وجب الأخذ بها تمكينًا للغتهم وحذرًا من أن يصيبها الوَهْن إذا قعدوا
بها عن مجاراة تيار التقدم، وهم أَُولُو الرأي فيه , وخوفًا من أن يعيقهم الجمود فيها
عن حفظ مركزهم العظيم بين الأمم التي كانت تعاصرهم.
أيجوز لنا أن نتخلف عن السير في طريقهم، والاسترشاد بهديهم، والعمل
بطريقتهم بحجة أنهم انقرضوا وبادوا , فلا حق لنا في متابعة الرقي , ولا يجوز أن
نخطوا بعدهم خطوة إلى الأمام؟ لكن من الذي استأجرنا حراسًا من الخرس على هذه
الوديعة؟ وبأي قوة أخضعنا على الوقوف هذا الموقف؟ موقف الاستكانة، وقطع
الرجاء، وفقدان الهمة، وانحلال العزائم؟ أنقص في الأفهام، أم قصر في الأجسام،
أم جهل بأنا من البشر لنا كل حقوق الإنسان؟
ليس لنا أن نتمسك بالقديم لقدمه وإن أصبح عديم الجدوى، وإلا فأولى بنا أن
نكف عن الدرس والمطالعة , وأن نكتفي من كل شيء بما ورثنا عن الآباء لنعيش كما
عاش الأوَّلُون.
غير أني أرجوكم أن تتعلموا الصبر فلا تجزعوا إذا أصابتكم مصائب التقدم
فتركتم آخر القوم، ولا تحزنوا إذا هَصَرَتْكُمْ عوامل الرُّقِيّ , فَمُنِيتُمْ بِمَن يقف
متفرجًا عليكم وأنتم كالصور المتحركة الناطقة , لكنها تتحرك بحركة هي عبارة عن
اهتزاز الشيء مكانه , وتنطق بلغة دائرة قد خَلَتْ من العلم الذي أصبح دارجًا على
ألسنة المتفرجين.
جزع خصوم مذهبنا على اللغة العربية، وحسبوها طعامًا سهل التناول والهضم
في مَعِدِ اللغات الأعجمية , فاستجاروا من التعريب , وصاحوا: إننا لا نطيق اسمًا
عجميًّا يدخل عليها.
أليست هي تلك اللغة الحافلة بالألفاظ والتراكيب العالية والقول الفصيح ,
المصونة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , وهي لن تتأثر ببعض
كلمات تدخل عليها في كل عام , بل إن هذا العمل مما يؤيدها , ويشد أزرها, ويرفع
مقامها بين اللغات فلا يطمع الأعاجم في اعتبارها من اللغات الميتة.
قالوا: ذلك يفسد علينا لغة القرآن , وما أشد ما أجاب به عن هذا الاعتراض
حضرة الفاضل السيد رشيد أفندي فلا خوف على القرآن ما دام في الوجود مسلم.
ألا ترون أن القرآن محفوظ مصون عند من لم يعرف العربية من المسلمين، إليكم
الترك والهند والصين والقوقاز والروسيا تلك أُمَم تعد خلقًا كثيرًا من المسلمين ,
لا يعرف الواحد منهم غير لغة أمته وهو مع ذلك يحرص على القرآن أشد من
حرص الجبان على دمه.
أيعجزكم أن تحافظوا على القرآن بيمينكم , وتفسحوا المجال في لغتكم للتقدم
باليسار؛ لتنالوا السعادتين , وتكونوا من الناجحين في الدارين؟
قالوا: العلم النافع. قالوا: كثير منه مخالف للدين. قالوا: الحضارة تهددنا
فلنتقها بها. قالوا: هي تخالف الدين. قالوا: حدثت مستحدثات , فسموها. قالوا:
حرام عليكم إن كنتم فاعلين. من جَرَّاء هذا قال الفرنج عنا أنا قوم جامدون , وما
جمودنا إلا من الدين , فصِحنا مع هذا , وقلنا لهم: بل أنتم قوم ظالمون.
ما لنا وللدين نَجُرُّهُ في كل أمر ونقيمهُ حاجزًا في وجه كل باحث حتى في
الأمور التي يأمر هو بتناولها. يأمرنا الدين بتعلم ما خلق الله , وأن نسير على سنة
التقدم التي سَنَّها للبشر ونحن كل يوم في إحجام بدعوى يعلم الله مقدار بُعْدِهَا عن
الحق والصواب.
عليكم بالتقدم فادخلوا أبوابه المفتحة أمامكم , ولا تتأخروا؛ فلستم وحدكم في
الوجود , ولا نقدم لكم إلا بلغتكم، فاعتنوا بها، وأصلحوها، وَهَيِّئُوها؛ لتكون آلة
صالحة فيما تبتغون , لكن لا تكثروا من الاشتقاق الخارج عن حد القياس المعقول ,
ولا تشوهوا صورتها الجميلة بتعدد الاشتراك أو التجوز , ثم لا تقفوا بها موقف الجمود
والعُجْمَة تهددها على ألسنة العامَّة، وهي لا تلبث أن تدخل على لغة الخاصَّة.
أقيموا في وجه هذا السيل الجارف سدًّا من الاشتقاق المعقول والترجمة الصحيحة
والتعريب عند الضرورة لتكونوا من الناجحين. اهـ
(المنار)
ألقى أحمد فتحي باشا هذه الخطبة في الاجتماع الثالث لنادي دار العلوم , وزاد
عليها ما جادت به البديهة ارتجالاً من الفوائد والنصائح. وخطب بعده حفني بك ناصف رئيس النادي خطبة مطولة في اللغة وفنونها. واتفق الجمهور بعد ذلك على
وجوب التماس الألفاظ العربية للمستحدثات بالترجمة والتَّجَوُّز والاشتقاق، ثم يلجأ
إلى التعريب إن لم يتيسر ذلك وقد كتب إلينا النادي صورة هذا الاتفاق بالعبارة الآتية ,
وأرسلها إلى جميع الصحف المشهورة:
قرار نادي دار العلوم
في الترجمة والتعريب
هذه صورة القرار الذي صدر بنادي دار العلوم في الساعة العاشرة من مساء يوم
الخميس 20 فبراير 1908 بعد سماع ما قاله جميع الخطباء في موضوع تسمية
المسميات الحديثة , فقرر أن يكون العمل على النحو الآتي:
يُبْحَثُ في اللغة العربية عن أسماء للمسميات الحديثة بأي طريق من الطرق الجائزة لغة , فإذا لم يتيسر ذلك بعد البحث الشديد يستعار اللفظ الأعجمي بعد صقله ووضعه على مناهج اللغة العربية , ويستعمل في اللغة الفصحى بعد أن يعتمده المجمع اللغوي الذي سيؤلف لهذا الغرض. ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... رئيس النادي
... ... ... ... ... ... ... ... ... حفني ناصف
(المنار)
قد تحامى رئيس النادي في عبارته اللفظ الذي اتفق عليه جمهور من حضروا
الاجتماع الأخير من أعضاء النادي وغيرهم وهو لفظ (التعريب) فقال (يُستعار
اللفظ الأعجمي) وهو يرمي بذلك إلى عدم تسمية ما يؤخذ من الكَلِمِ الأعجمي
مُعَرَّبًا محافظةً على اصطلاح المتقدمين. ولكنه عَبَّر بلفظ اصطلاحي آخر من
الاستعارة , وهو لا يقصد به معنى الاستعارة في فن البيان , وإنما يقصد معناه
اللغوي المرافق للاصطلاح الشرعي , والمتبادر أنه يرمي بذلك إلى أن هذا الأخذ
يجب أن يكون من قبيل العارية التي تستعمل زمنًا، ثم تُرَدُّ , ولكن هذا خلاف ما
وافق عليه الجمهور كما تقدم , ولعله قرار خاص لمجلس إدارة النادي. وعلى هذا
يكون الخلاف في المسألة على حاله.
__________(11/32)
الكاتب: علي سيد يوسف
__________
الدين الإسلامي والمدنية
رسالة لصاحب التوقيع اقتبس بها بعض شهادات علماء الإفرنج للإسلام
والعرب. نشرناها ترغيبًا لمثله في هذا الموضوع وإن سبق لنا نشر هذه الأفكار في
المنار.
(فهرس)
حالة العالم قبل وجود الديانة الإسلامية - حقيقة الديانة الإسلامية - أخلاق
محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته - الدين الإسلامي دين الفطرة - الدين
الإسلامي دين المدنية والترقي - سديو ودروي - إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم
- قول العمرانيين فيه - حكم المؤرخين عليه - الإسلام ليس بدين جديد - الدين
الإسلامي ليس بالدين الضيق - كل رقي في العلوم الطبيعية يدعو إلى التقرب من
الديانة الإسلامية - الدين الإسلامي هو أنشودة الفلاسفة في المستقبل.
إني أكتب ما أكتب عالمًا عِلْمَ اليقين أن الديانة الإسلامية ليست بالشيء
العويص الذي لا يمكن للإنسان استكناه مجاهيله، أو استشفاف مساتيره، بل هي مما
يمكن تحققها بالاختبار والتجربة إذا صعد الإنسان بِمنْطَاد بحثه إلى سماء الحقيقة
غير متعصب لفريق دون آخر؛ فبهذا يطل الإنسان على كبد حقيقتها , ويعرف
كُنْهَهَا من سموّ ترتيبها ومتانة قواعدها وإحكام نظامها , فيحكم بأنها ليست بالديانة
التي أوجدتها قريحة آدمي مهما حاز الصفات والكمالات ولكنها هي هداية إلهية،
يخالف جوهرها جوهر الأفكار البشرية.
ظهر النبي صلى الله عليه وسلم في بلاد العرب وقد كان قومه في هُوَّةِ
الانحطاط بَعيدين عن التمدن والرقي الفكري , يدلُّك على ذلك وَأْدُهُمْ لِبَنَاتِهِمْ وهُنّ
على قيد الحياة , وعبادة الأوثان , وغير ذلك من الأخلاق الذميمة التي تقضي
بمتبعها إلى الخسران والهلاك المبين , وليست بلاد العرب فقط هي التي كانت في
تلك الحالة بل ما جاورها أيضًا من بلاد الرومان في الغرب، وبلاد العجم في الشرق ,
فإن هاتين الدولتين كانتا يتنازعان الحياة , وناهيك بما حصل في شأن ذلك من الفتن
والقلاقل التي لم تدع قلبًا سليمًا في البشرية يتمتع بالراحة إلا وَأَسْقَتْهُ مما هو أمرّ من
الصابِ والعَلْقَم - كل هذه القلاقل المزعجة والكوارث المُدْلَهِمَّة جاء الإسلام ليمحوها
من على ظهر الوجود، وليؤيد السلام العام، والوئام التام، وليكون واسطة بين
التمدن الحديث وبين التمدن القديم , فلم يمض غير قليل بعد وفاته صلى الله عليه وسلم
إلا ورأينا بلاد العرب في وقت واحد ترسل جيشين , أحدهما: لمحاربة
القياصرة , والثاني: لمحاربة الأكاسرة , ففتحوهما وانهالت عليهم خيراتهما وظلوا
ناهجين في التقدم إلى أن بلغوا في ظرف ثمانين سنة ما لم يبلغه الرومان في ظرف
ثمانية قرون , واستخرجوا كنوز اليونان والأعاجم والهنود في العلوم والمعارف ,
وبلغوا الطبقة الثالثة من الرقي في العلوم الطبيعية، وهي طبقة الامتحان والتجربة ,
وإليك شهادة عالم من كبار علماء الطبيعة.
قال: (يجب علينا مَعَاشِرَ الباحثين أن نهتم بالكنوز التي تركها العرب؛ فإن
فيها حقائق وأفكارًا سامية تدعو إلى الاكتشاف والاختراع؛ لأن العرب تقدموا في
العلوم الطبيعية تقدمًا مدهشًا للغاية حتى بلغوا الطبقة الثالثة من الرقي فيها ألا وهي
طبقة الامتحان والتجربة , وناهيك أن نظرية الانحراف في الضوء لم يكن ترقيها إلا
بواسطة ما عثرنا عليه في مؤلفات الخازن) .
وقال العلاّمة سديو في البحث السادس عشر من تاريخه في اشتغال العرب
بالعلوم الرياضية: (لما اشتغل العرب بالفلك التفتوا إلى العلوم الرياضية، فأتوا
بالعجب العجاب في الهندسة والحساب والجبر وعلم الضوء والميكانيكا، وترجموا
من ابتداء خلافة المأمون هندسة أقليدس وتيودوس وأبولونيوس وو …
وشرحوا مؤلفات أرشميدس في الكرة والأُسْطُوَانَة وغيرها , واشتغلوا قرونًا بدقائق
الهندسة , وظهرت حميتهم في المناظرات العلمية خصوصًا في المراسلات
الرياضية، وطبقوا الجبر على الهندسة، وترجموا كتب هيرون الصغير في الآلات
الحربية وقطيزيبوس وهيرون الإسكندري في الآلات المفرغة للهواء والرافعة للمياه ,
وألف حسن بن هيثم في استقامة النظر وانعكاسه في المرايا التي تحدث النار , وألف
الخازن في علم الضوء والنظر كتابًا في انكسار الضوء , وفي المحل الظاهر
للصورة من المرايا المنحنية , ومقدار الأشياء الظاهرة وكبر صورتي الشمس والقمر
إذ رُئِيَا على الأفق عند الشروق أو الغروب) .
وقال أيضًا دروي في تاريخه: بينما أهل أوربا تائهون في دُجَى الجهالة لا
يرون الضوء إلا من سَمِّ الخِيَاط إذ سطع نور قوي من جانب المِلَّة الإسلامية من
علوم أدب وفلسفة وصناعات وأعمال يد وغير ذلك حيث كانت بغداد والبصرة
وسمرقند ودمشق والقيروان ومصر وغرناطة وقرطبة مراكز عظيمة لدائرة
المعارف , ومنها انتشرت في الأمم , واغتنم منها أهل أوروبا في القرون المتوسطة
مكتشفات وصناعات وفنونًا عظيمة.
وهذه هي أقوال الفلاسفة وكبار المؤرخين في الديانة الإسلامية شهادة علنية
على أن الدين الإسلامي دين الترقي والمدنية. هذه هي آثار الدين وآثار أهله الذين
تمسكوا به , وأما حقيقة الدين فهي كما قال مسيو مسمير رئيس الإرسالية المصرية
ردًّا على الفيلسوف أرنست رينان في خطبة له في جمعية العلماء: (نحن مَعَاشِرَ
المحققين من الفلاسفة نقول: إن من تأمل كلام القرآن رأى أن محور الإسلام
الوحدانية وقطبيه المؤاخاة وتحسين شئون العالم بالتدريج بواسطة العِلْم وهذه هي
حقيقة أسباب نصرة الإسلام) .
وقال كاتب آخر من مشاهير كتاب الغرب في مجلة (الكوارترلي رفيو) في
مقالة عنوانها: (الأسباب الحقيقية في ارتفاع وانحطاط الأمم الإسلامية) : لما كان
الدين الإسلامي جامعًا بين الدين والدنيا كان ذلك من أهم أسباب كثرة الواردين إليه ,
فإن الرجل عندما يسلم يصبح أخًا لثلاث مائة مليون من النفوس , له ما لهم وعليه ما
عليهم , وَلَعَمْرِي إن ذلك مما يزيد علائق المَحَبَّة ويربط الهيئة الاجتماعية , ثم
استدل على ذلك بكلام كتبه بوسويرث سميث في كتابه المسمى (محمد والديانة
المحمدية) لا حاجة لنا بسرده في هذا المقام.
يرى القارئ الكريم من خلال هذه السطور التي كتبناها عن الديانة الإسلامية -
مستندين على أقوال الفلاسفة والحكماء وكبار المؤرخين والكتاب - أن الديانة
الإسلامية تزداد كل يوم في الحجج , ويشهد العلماء المحققون بروحانيتها حتى إن
المسيو أرنست رينان - الذي حمل حملته على الديانة الإسلامية والعلوم العربية -
كتب بعد أن زَمْجَرَ وأوعد، وأبرق وأرعد: (إن في دين الإسلام أحكامًا رفيعة
المقام , وما دخلت جامعًا إلا وحصل لي انجذاب لدين الإسلام , وتأسفت على عدم
كوني مسلمًا لولا أن هذا الدين أَخَّرَ العقل البشري، وحجبه عن التأمل في حقائق
الأشياء) ولكن عبارة مسيو رنان الأخيرة ليس لها أدنى نصيب من الصحة , وقد
علم من كلامنا الذي أسلفناه الجواب الشافي من علة المسيو رنان.
وإلى هنا نمسك عِنَان اليَرَاع عن الخوض في هذا الموضوع؛ فإن في ذلك القدر الكفاية لأرباب العقول والهداية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... علي سيد يوسف
(المنار)
إن حَكِيمَي الإسلام السيد جمال الدين والأستاذ الإمام قد رَدّا في أوربا على
رينان، وقطعا ما جاء به من الزور والبهتان بسيف الحجة والبرهان حتى اضطر
إلى الإذعان، فرحمهما الله وحباهما الروح والريحان.
__________(11/41)
الكاتب: عالم غيور
__________
كلمات عن العراق وأهله
لعالم غَيُور على الدولة ومذهب أهل السنة
العراق ولا أَزِيدك به عِلْمًا من أفضل الأقطار تربةً , وطيب هواء , وعذوبة
ماء , وبه أنهار عظيمة كدجلة والفرات ورياله وقارون , تنساب فيه انسياب
الأُفْعُوَان، وتخترق منه كل مكان، غير أن أكثره خراب، ينعق فيه البوم والغراب؛
لعسر المواصلات , وفقد الأمن , وحرمانه من نور المعارف والمدنية. والحكومة
فيه كما هي في غيره: عبارة عن شركة سلب ونهب وفساد تعمل في خراب البلاد
وهلاك العباد، وهم في غمرتهم ساهون، وعن الدسائس الأجنبية عَمُون، حتى
أصبح بر العراق كله متسلحًا بالسلاح المارتين مما ترسل به إنكلترا كل حين
بوسائل متوفرة لديها، ووسائط سهلة عليها.
ومن البلاء العظيم انتشار مذهب الشيعة في العراق كله حتى أصبح ثلاثة
أرباع أهله شيعيين وذلك بفضل جدّ مجتهدي الشيعة وطلبة العلوم منهم، ومؤازرة
الحكومة لهم، بأخذها على يد أهل السنة عن مقاومة سعيهم، وخفض كلمتهم، وفي
النَّجَف مجتمع مجتهدي الشيعة وفيه من طلبة العلوم ستة عشَر ألفًا. ودأبهم أنهم
ينتشرون في البلاد ويجِدُّون في إضلال العباد، ولذلك يحسب عقلاء العراق أن
القطر قد انسلخ من الدولة , ولم يبق لها فيه من الرسم إلا الاسم.
ولقد استحكمت النفرة منها في قلوب الجميع فلا يذكرونها بلسانهم، وقلما
يراجعونها في شئونهم، ولقد استطلعت وأنا أتقلب في البلاد طوايا النفوس من أمير
ومأمور، وعالم وجاهل، فوجدت الكل في ضجر وسخط، وملل وهم من صلاحها
يائسون، وبسوء إدارتها ساخرون، وذوو العقول والفضل منهم في كَمَد، قد أرهق
منهم الجسد، وهم شاعرون بضرورة الإصلاح، وأن لا حياة للإسلام
بدونه ولا نجاح، وقد أعدتهم الحوادث والعِبَر لتحسس هذه الروح , وتلمس المخرج
مما هم فيه، وتراهم مع غلبة اليأس منه لا تزال تتناجى به نفوسهم، وتحنّ إليه
أرواحهم، وتلهج به ألسنتهم، ولكنهم في محيط مظلم وضغط مؤلم، لا يهتدون
الطريق، ولا يجدون الرفيق، ولا يصل إليهم من آثار دعاة الإصلاح إلا النَّزْر
القليل؛ لشدة المراقبة على هذا الأمر الجليل، ولقد تطلبت المنار، فلم أجد له أثرًا في
تلك الديار.
ولقد اجتمعت بكثير من علماء بغداد وعقلائها وأشرافها , ولم أر فيهم أجمع
لفنون الفضل، وصفات الكمال كشكري أفندي الآلوسي وابن عمه الحاج علي أفندي ,
فلقد رأيت من سَعَة اطلاعهما , وقوة دينهما , وسلامة عقيدتهما السلفية , واستنارة
عقولهما , ووقوفهما على حكمة الدين وأسراره، واطلاعهما على أمراض الإسلام
والتهابهما غيرة وحمية على الدين , ومجاهدتهما في سبيله فريقًا من الجامدين من
المقلدة وعباد القبور - ما بهرني وعشقني فيهما.
ولقد أوذوا في هذا السبيل , وامتحنوا فما ضعفوا وما استكانوا ولا يزالان
يصدعان بالحق , ويهتفان بضرورة الإصلاح مع منازعة اليأس لهما. وأعداؤهما
من عبدة القبور والأوهام وأنصار التقليد والخرافات ينبذونهم باسم الوهابية؛
لينفروا منهم، ويحرضوا الحكومة على اضطهادهم غير أن حزبهم من ذوي
العقول النيرة وطلاب الإصلاح أخذ ينمو عدده، ويكثر عضده، وكلهم أَوْجُلُّهم من
الأعيان، وذوي المكانة ورفعة الشأن، ولم أر أحدًا يقدر مؤلفات ابن تيمية وابن
القيم قدرها مثلهما ولهما تعشق غريب فيها، وقد سعيا في طبع الكثير منها، وهمتهما
مصروفة وراء تتبعها والسعي في طبعها لا طمع لهما في ذلك سوى خدمة العلم
والدين , فَلِلَّهِ دَرُّهُمَا وعلى الله أجرهما…
ولشكري أفندي قوة على التأليف عجيبة وقد ألّف في رمضان ردًّا على الشيخ
يوسف النبهاني في سبعين كراسًا بياضًا من دون تسويد , وقد تكفل بطبعه أحد تجار
جده فأرسله إليه , وهو كتاب نفيس يقضي على النبهاني قضاءً لا يسمع له
صوت من بعده؛ والسبب في ذلك أنه ألَّف رسالة في تضليل ابن تيمية وابن القيم ,
وانتقصهما ما شاء , ثم عدّ من مصائب الدين انتداب بعض الزائغين في زعمه لنشر
مؤلفاتهما وتمثيلها للطبع , وندد بالشيخ نعمان أفندي الآلوسي رحمه الله لتأليفه كتاب
(جلاء العينين في محاكمة الأحمدين) وذمه وذم عائلته , وذكر أنهم أصيبوا بالمحن ,
فلم يعتبروا , ولا اتعظوا , ويزعم أنه من مجددي الدين في هذا العصر. وهكذا
بلغ به الغرور إلى هذا المبلغ والجنون فنون. اهـ ما أردنا نشره من هذه الرسالة ,
ويليه كلام حسن في الأستاذ الإمام والمنار وصاحبه يتعلق بالإصلاح أضربنا عن
ذكره مع حمد كاتبه وشكره.
ونقول: قد ذكرتنا هذه الرسالة بما كنا كتبناه في المجلد الثاني من المنار (في
رمضان سنة 1317) من نشر مذهب الشيعة في العراق وهذا نصه:
قرأنا في بعض الجرائد أن الدولة العلية قد عزمت على إرسال بعض العلماء
إلى سَنَاجِق البصرة والمنتفك وكَرْبَلاَ لإرشاد القبائل الرحالة هناك , وقرأنا في بعضها
أنه قد صدرت الإرادة السنية بذلك فعلاً , ونحمَد الله تعالى أن الدولة العلية قد تنبهت
لهذا الأمر قبل أن يخرج من يدها بالمرة , فقد سبقها الشيعة , وبثوا الوعاظ
والمرشدين في هذه القبائل وغيرها من العُرْبَان الضاربين على ضفاف الدجلة
والفرات فأدخلوا معظمهم في مذهب الشيعة.
يذهب المُلا الشيعي إلى القبيلة , فيمتزج بشيخها امتزاج الماء بالراح بما
يسهل عليه من أمر التكاليف الشرعية ويحمله على هواه فيها كإباحة التمتع بالعدد
الكثير من النساء الذي له الشأن الأكبر عند أولئك الشيوخ , وغير ذلك؛ حتى يكون
وليجته وعيبة سره ومستشاره في أمره , فيتمكن المُلاَّ بذلك من بث مذهبه في القبيلة
بأقرب وقت , ويكتفي من السياسة غالبًا بإفهام القوم أن رئيس طائفة الشيعة
المحقة شاه العجم ورئيس الطائفة الأخرى المسماة بالسنية السلطان عبد الحميد ,
ولا شك أن هؤلاء يكونون عونًا لرئيس مذهبهم إذا وقع نزاع (لا قدر الله) بينه
وبين رئيس المذهب الآخر وإن كانوا في بلاد الآخر , ويمكن للدولة العلية أن تتدارك
الأمر بعض التدارك إذا كان الذين تختارهم للإرشاد والتعليم أهل حكمة
وغيرة حقيقية يهمهم الإصلاح والإرشاد , بحيث يقدمونه على منافعهم الشخصية على
أن الذي يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة لا يحرم من أجر الدنيا , بل ربما كان
نجاحه أتم , وقد استغنى جميع دعاة الشيعة في تلك القبائل مع حصولهم على غرضهم
في نشر المذهب. وليبدأ دعاة الدولة العلية بمن على الفرات , فإن فيهم عددًا
كبيرًا لم يزل على مذهب أهل السنة، والله الموفق. اهـ (من ص687م2) .
هذا ما كتبناه من نحو تسع سنين. ونقول الآن: إن أكثر من أجابوا دعوة
علماء الشيعة هناك لم يكونوا على شيء من مذهب أهل السنة , فإذا كان أولئك
الدعاة يبثون فيهم الوعاظ يعلمونهم الفرائض وأحكام الحلال والحرام , فإن ذلك يكون
خيرًا لهم في دينهم من الحالة التي كانوا عليها، فنحن لا نعد الأمر من الجهة الدينية
بلاءً نازلاً كما عدَّه الأستاذ كاتب الرسالة , ولكن الأمر مهم من الجهة السياسية؛ فإن
السياسة هي التي كانت ولا تزال مَثَار الخلاف بين أهل السنة والشيعة , ولولاها لَمَا
كان خلاف وما أضاع الدين والدنيا علينا إلا الخلاف.
وقد كان طلاب الإصلاح بالوحدة الإسلامية مغتبطين بما حصل هذه في السنين
الأخيرة من التآلف والتعارف بين الفريقين , حتى وقع أخيرًا ما وقع من التعدي على
الحدود , فباتوا يخشون أن تهدم السياسة السوءى في سنة واحدة ما بناه دعاة الإصلاح في عشرات من السنين. فنسأل الله أن يقي الإسلام شرها ويكفي المسلمين فتنتها
وضرها.
__________(11/45)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من الحجاز
القُطْب والأبدال والأنجاب والخَضِر وسند أهل الطريق
(س 1 - 7)
بسم الله الرحمن الرحيم , وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
حضرة الأستاذ الحكيم والمصلح العظيم علامة الزمان سيدي العزيز السيد
محمد رشيد رضا منشئ المنار حفظه الرب المنان.
أحييكم تحية تليق بمقامكم الكريم، وأسأل الله تعالى أن يحفظكم بحفظه
السَّرْمَدِيّ , وأن يهدي الله بكم الضالين. وها أنا ذا مقدم لمقامكم الكريم أسئلة ذات
بال نرجوكم الجواب عنها على صفحات مناركم المنير:
ذكر الشيخ يوسف النبهاني في كتابه شواهد الحق (ص101) أحاديث استدل
بها على وجود الأقطاب والأبدال والأنجاب والأوتاد والنقباء , ووجود الخضر عليه
السلام , وهذا لفظها:
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن
لله تعالى في الأرض ثلاثمائة قلبهم على قلب آدم , وله أربعين قلوبهم على قلب
موسى , وله سبعة قلوبهم على قلب إبراهيم , وله خمسة قلوبهم على قلب جِبْرَائِيلَ ,
وله ثلاثة قلوبهم على قلب مِيكائيل , وله واحد قلبه على قلب إسرافيل , فإذا مات
الواحد أبدل الله سبحانه وتعالى مكانه من الثلاثة. إلخ.
عن علي رضي الله عنه أنه قال: البدلاء بالشام , والنجباء بمصر ,
والعصائب بالعراق , والنقباء بخُرَاسان , والأوتاد بسائر الأرض , والخضر عليه
السلام سيد القوم. إلخ
ولم يذكر النبهاني سندًا , ولا من أي كتاب من كُتُب الحديث أخرجها ,
فأرجوكم أن تفيدوني: هل تصح هذه الأحاديث؟ وهل الخضر عليه السلام حي إلى
هذا الزمان؟ وما قولكم فيمن يُكذِّب بوجود الخضر وغيره من الأقطاب؟ نرجوكم
الجواب الكافي الشافي.
وفي كتاب النبهاني شواهد الحق ص132 يقول: إن الشيخ الأمير أجازه
بثبته , وما اشتمل عليه من علوم الشريعة والطريقة , ومن معقول ومنقول وذكر سنده
من الأمير إلى الحسن البصري عن سيدنا علي , عن النبي صلى الله عليه وسلم ,
عن جبريل , عن ميكائيل , عن إسرافيل , عن عزرائيل , عن اللوح , عن القلم ,
عن الرب الجليل جل جلاله , وتقدست صفاته وأسماؤه.
أرجوكم أن تفيدوني عن هذه الإجازة بهذه الصيغة المذكورة , هل هي معتبرة
عند المحدثين ويعمل بها , أم هي ضرب من الخرافات؟ وما على من أنكرها؟
وهل يصح اجتماع الحسن البصري بسيدنا علي أم لا؟ ؛ أفيدوني , ولكم الأجر
سيدي.
في كتاب النبهاني صحيفة 130 قال: ومن كتب الإمام ابن تيمية كتاب العرش ,
قال في كشف الظنون: ذكر فيه أن الله سبحانه وتعالى يجلس على العرش , وقد
أخلى مكانًا يقعد معه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم , كما ذكر ذلك أبو حيان في
النهر في قوله سبحانه وتعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} (البقرة:
255) وقال، يعني أبو حيان: قرأت في كتاب العرش لأحمد بن تيمية ما صورته
بخطه. انتهت عبارة كشف الظنون , ثم نقلها من طريق آخر عن السبكي
وحط على الشيخ ابن تيمية , ونسبه إلى القول بالتجسيم وهو بَرَاء من ذلك.
فلما رأيت هذه العبارة بحثت عن كتاب العرش , ووجدته عند بعض
الأصدقاء , فقرأته مِرَارًا , ونسخته بيدي من النسخة , وما وجدت لهذه العبارة رائحة ,
والنسخة التي قرأتها ونسختها هي بخط يماني بدون نقط الظاهر أنها من عهد قديم ,
وكادت أن تمزق من قِدَمِها ولحقتها الأَرَضَة. فما قولكم في هذه العبارة؟ أيجوز نسبتها
إلى هذا الإمام بعد أن بحثنا عنها , فما وجدناها في كتابه؟ أفيدوني ولكم الأجر
سيدي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محبكم بالحجاز
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م ح ن
(أجوبة المنار)
نقول قبل كل شيء: إن الشيخ يوسف النبهاني لا يوثق بعلمه ولا بنقله، ولا
ينبغي أن تحفلوا بكتبه، وقد سُئِلْنا غير مرة عن بعض الخرافات التي يبثها في كتبه
الملفقة , فلم نجب السائلين بشيء؛ إذ كان يتوقف ذلك على مراجعة الكتب التي يسألون عما ورد فيها , وأي عاقل يسمح بإضاعة وقته في مراجعة تلك الكتب. أما
وقد ذكرتم في هذا الرقيم ما سألتم عنه؛ فإليكم الجواب , والله الهادي إلى الصواب.
أما الجواب عن السؤال الأول , فاعلم أنه قد ورد في الأبدال عدة روايات لا
يصح منها شيء , وإن أشار في كنز العمال إلى تصحيح حديث علي عند أحمد
(الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلاً , كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً
يسقي بهم الغيث , وينتصر بهم على الأعداء , ويصرف عن أهل الشام بهم
العذاب) وفي رواية عنه إنهم ستون. وفي رواية عن عُبَادة عند أحمد , وأخرى
عن أبي هريرة أنهم ثلاثون أخرجها عنه ابن حبّان في تاريخه.
ولم أرَ أحدًا من المحدثين الحفاظ خرج ما ذكره النبهاني عن علي , ولكن ذكره
ابن حجر الهَيْتَمِيّ في الفتاوى الحديثية على أنه من كلام علي كرّم الله وجهه , لا من
روايته المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك حديث ابن مسعود لم أر
من أخرجه عنه باللفظ الذي ذكره. ولكن ابن حجر أورده في فتاواه بعد أثر علي
عازيًا إياه إلى اليافعي (وذكر في نسخة الفتاوى المطبوعة بمصر الرافعي وهو غلط
مطبعي) , ولم يقل عن ابن مسعود , ولا غيره من الصحابة رضي الله عنهم.
وكان ابن حجر نقل عن اليافعي أن الأبدال سبعة على الأصح؛ ولذلك قال
بعد أن أورد حديثه: (والحديث الذي ذكره - إن صح - فيه فوائد خفية , منها
أنه مخالف للعدد السابق قبله , ومنها أنه يقضي أن الملائكة أفضل من الأنبياء، يَعْني
خلافًا لجمهور أهل السنة) . إلى آخر ما قاله على تقدير صحة الحديث , وما
هوبصحيح , فلا حاجة إلى التعب في استنباط الفوائد والمباحث فيه. ثم قال ابن حجر
بعد بحثه فيه: واعلم أن هذا الحديث لم أر من خرجه من حفاظ المحدثين الذين
يُعتمد عليهم , ولكن وردت أحاديث تؤيد كثيرًا مما ورد فيه.
وذكر ما ورد وحاول تقويته بالحديث الصحيح الذي رواه الشيخان وغيرهما من
طرق كثيرة , وهو: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق , لا يضرهم من
خذلهم , ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله , وهم ظاهرون على الناس) ثم نقل
عن الإمام أحمد أن الأبدال هم أهل الحديث , وعبارته: (إن لم يكونوا أهل الحديث ,
فمن هم؟) واعتمد ابن حجر أن الخلاف في العدد من قبيل الاصطلاح.
ثم ذكر واقعة له مع مشايخه في ذلك، نذكرها هنا لِما فيها من الدلالة على
أنهم كانوا يقلدون المتصوفة في هذه المسائل من غير أن يقوم عليها دليل من النقل.
قال:
(ولقد وقع لي في هذا المبحث غريبة مع بعض مشايخي هي أني إنما رُبِّيت
في حجور بعض أهل هذه الطائفة - أعني القوم السالمين من المحذور واللوم - فوقر
عندي كلامهم؛ لأنه صادف قلبًا خاليًا فتمكن. فلما قرأت في العلوم الظاهرة وسني
نحو أربعة عشر سنة (كذا) فقرأت مختصر أبي شجاع على شيخنا أبي عبد الله الإمام
المجمع على بركته وتنسكه وعلمه الشيخ محمد الجويني بالجامع الأزهر بمصر
المحروسة , فلازمته مدة , وكان عنده حدة , فَانْجَرَّ الكلام في مجلسه يومًا إلى ذكر
القطب والنجباء والنقباء والأبدال , وغيرهم ممن مر , فبادر الشيخ إلى إنكار ذلك
بغلظة , وقال: (هذا كله لا حقيقة له , وليس فيه شيء عن النبي صلى الله عليه
وسلم) فقلت له - وكنت أصغر الحاضرين معاذ الله بل هذا صدق وحق لا مرية
فيه؛ لأن أولياء الله أخبروا به , وحاشاهم من الكذب. وممن نقل ذلك الإمام اليافعي ,
وهو رجل جمع بين العلوم الظاهرة والباطنة.
فزاد إنكار الشيخ وإغلاظه علَيّ , فلم يَسَعني إلا السكوت فسكتُّ وأضمرت أنه
لا ينصرني عليه إلا شيخنا شيخ الإسلام والمسلمين وإمام الفقهاء والعارفين أبويحيى
زكريا الأنصاري , وكان من عادتي أني أقود الشيخ محمد الجويني لأنه
كان ضريرًا , وأذهب أنا وهو إلى شيخنا المذكور - أعني شيخ الإسلام زكريا -
يسلم عليه. فذهبت أنا والشيخ محمد الجويني إلى شيخ الإسلام , فلما قربنا من
محله قلت للشيخ الجويني: لا بأس أن أذكر لشيخ الإسلام مسألة القطب ومن دونه
وننظر ما عنده فيها. فلما وصلنا إليه أقبل على الشيخ الجويني , وبالغ في إكرامه ,
وسؤال الدعاء منه , ثم دعا لي بدعوات منها: (اللهم فقهه في الدين) وكان كثيرًا ما
يدعو لي بذلك، فلما تم كلام الشيخ , وأراد الجويني الانصراف قلت لشيخ الإسلام:
يا سيدي القطب والأوتاد والنجباء والأبدال وغيرهم مِمن يذكره الصوفية هل هم
موجودون حقيقةً؟ فقال: نعم , والله يا ولدي، فقلت له: يا سيدي إن الشيخ -
وأشرت إلى الشيخ الجويني - ينكر ذلك ويبالغ في الرد على من ذكره. فقال شيخ
الإسلام: هكذا تفعل يا شيخ محمد؟ وكرر ذلك عليه حتى قال له الشيخ محمد: يا
مولانا شيخ الإسلام آمنت بذلك وصدَّقت به وقد تُبْت. فقال: هذا هوالظن بك يا
شيخ محمد. ثم قمنا , ولم يعاتبني الشيخ الجويني على ما صدر مني. اهـ
فيؤخذ من هذه الواقعة أمور (منها) : أن ابن حجر الهيتمي تربى في حِجر
بعض أهل الطريق , وصار تقليدهم وجدانًا له لا يقبل فيه قول مشايخه , وإن كانوا
عنده من أئمة العلم والعمل والتنسك كالشيخ الجويني , وهذا هوالسبب في إنكاره
الشديد على شيخ الإسلام ابن تيمية , الذي كان لا يقبل في الدين شيئا إلا إذا ثبت في
الكتاب أوالسنة نصًّا أودلالة. ومن اتبع وجدانه وشعوره النفسي في الأمر لا يقبل
فيه دليلاً وقد قال الأستاذ الإمام: (إن غاية التصوف جعل الدين وجدانًا للإنسان
الذي يتربى عليه , لا يقبل فيه مناقشة ولا جدالاً) وهذا حسن إذا لم يدسّ في
الدين ما ليس منه.
(ومنها) بيان أنه كان يوجد في علماء الأزهر الأعلام الصالحين إلى ذلك
العصر من ينكر جَهْرًا على من يقول بوجود القطب والأبدال وأضرابهم.
(ومنها) أن سؤال شيخ الإسلام زكريا عن المسألة كان مبنيًّا على أن ما
يقوله الصوفية في القطب والأبدال صحيح أم لا لا على أن ذلك هل صحّ في
الأحاديث أم لا. وكذلك كان جواب ابن حجر لشيخه الجويني , فقد قال له: إن
الأولياء أخبروا بذلك وحاشاهم من الكذب. ولم يقل: إن ذلك قد صح في الحديث.
وهذا يوافق قوله الذي أشرنا إليه آنفًا في الاختلاف في عدد الأبدال أنه من
الاصطلاحات ولا مشاحة في الاصطلاح.
(ومنها) أن شيخ الإسلام لم يحتج على الشيخ الجويني بحديث في ذلك.
ونحن نقول أيضًا: إن الصوفية اصطلحوا على وضع هذه الأسماء لمسميات ,
اعتبروا فيها صفات خاصة , ولا مشاحة في الاصطلاح , كما قال ابن حجر.
وجملة القول أن حديث ابن مسعود الذي أورده النبهاني لم يروه الحُفّاظ عنه ,
فهو مُخْتَلق عليه , وإن حديث علي لم يَرِد أيضًا باللفظ الذي أورده النبهاني , بل
ورد بألفاظ أخرى أقواها ما أخرجه الإمام أحمد , وقد تقدم. ومن هنا تعلم أن
النبهاني لا علم له بالحديث , وإنما هو حاطب ليلٍ لا يوثق بنقله , كما لا يُوثق برأيه ,
ولا يُعتد باختياره؛ فإنه مقلد للمقلدين الذين يروجون الخرافات وكل ما يحظى
صاحبه عند العامة. فهذا هوالجواب عن السؤال الأول.
وأما الجواب عن الثاني , وهو: هل الخضر في الأحياء إلى اليوم؟
فاعلم أن العلماء قد اختلفوا فيه , فنفاه بعضهم , وأثبته آخرون , ولكن لم يقل
أحد: إنه يجب على الناس الإيمان به. والنفي هوالأصل , وليس عند المثبتين دليل
من كتاب الله , ولا من الأحاديث التي يُحتج بها , ولا من الإجماع الأصولي (كيف
والمسألة خلافية) والقياس لا مدخل له في المسألة , فدعوى وجود الخضر في
الأحياء لا تقوم لها حُجة شرعية , وإنما تبع القائلون بها الصوفية؛ لِثقتهم بهم في
كل شيء , حتى إنهم لا ينكرون عليهم ما يخالف الشرع مخالفة صريحة , بل
يؤولونه إن لم يؤولوا النص الشرعي.
على أن بعض الصوفية يقولون: إن الخضرية مقام أومرتبة لبعض الصالحين يطلق لفظ (الخضر) على كل من يصل إليها. فما ذكر من اجتماع بعض الصوفية
بالخضر يفسر بذلك. ومنهم الشيخ الأكبر صاحب الفتوحات المكية؛ فإنه
يذكر أنه اجتمع بالخضر كثيرًا , ويذهب بعضهم إلى أنَّ مراده بذلك الاجتماع
الروحاني , كما يقول: إنه اجتمع بفلان , وفلان من الأنبياء. وغيرهم ممن علم
موتهم باليقين كالسبتي ابن هارون الرشيد , فإنني قرأت له في الفتوحات أنه رأى
إنسانًا يطوف بالبيت مع الطائفين , فينفذ من بين الرجلين المتلاصقين من غير أن
يفصل بينهما أو يشعرا به فعلم أنه روحاني , فتبعه حتى كلمه وعلم أنه السبتي ابن
هارون الرشيد.
وقد أطال السيد الآلوسي الكلام في المسألة في تفسيره روح المعاني , فكتب فيها
عدة أوراق لعله أودعها كل ما قيل فيها , وخرج منها على أنه لا دليل على وجود
الخضر حيًّا لا من الشرع ولا من العقل.
وأما الجواب عن الثالث , وهو ما حكم من يكذب بوجود الخضر وغيره من
الأقطاب؟ فقد علم مما مر أنه لا يطالب مسلم بأن يؤمن بذلك , ولم يقل أحد من أئمة
الأصول والكلام: إن ذلك من عقائد المسلمين. فلا شيء على من كذب ذلك، وقد
رأيت أن الشيخ الجويني كان ينكر ذلك وهو معدود من أئمة العلماء الصالحين
بالأزهر , ولولا واقعة ابن حجر معه التي استتبعت معاتبة شيخ الأزهر أو شيخ
الإسلام زكريا لبقي على إنكاره ككثير من العلماء.
وأما الجواب عن الرابع , وهو: هل إجازة أهل الطريق التي ذكرها النبهاني
معتبرةً عند المحدثين؟ وعن الخامس وهو هل أخذ الحسن البصري عن علي كرم
الله وجهه؟ فجوابهما: (لا لا) . قال الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث
الموضوعة: حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس الخرقة على الصورة
المتعارفة عند الصوفية باطل لا أصل له. قال ابن حجر: (لم يرد في خبر صحيح
ولا حسن ولا ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس الخرقة على الصورة
المتعارفة بين الصوفية أحدًا من أصحابه، ولا أمر أحدًا من أصحابه بفعل ذلك.
وكل ما يُروى في ذلك صريحًا فهو باطل) , وقال: (من المفترى أن عليًّا ألبس
الخرقة الحسن البصري. فإن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعًا , فضلاً عن أن يلبسه الخرقة) , وقد صرح بمثل ما ذكره ابن حجر جماعة من الحفاظ
كالدمياطي , والذهبي , وابن حبان , والعلائي , والعراقي , وابن ناصر. اهـ
وأما الجواب عن السادس - وهو (ما على من أنكرها) أي إجازة الصوفية
بخرقتهم عن الحسن عن علي - فقد علم جوابه مما قبله , وهو أنه ليس على المنكر
لذلك إلا ما على كل من ينكر الأحاديث الموضوعة المعزوة إلى الرسول صلى الله
عليه وسلم - كذبًا وافتراءً عليه , وهل عليهم إلا الثناء الحسن؟
وأما الجواب عن السابع , وهو: أيجوز نسبة تلك العبارة في التجسيم إلى شيخ
الإسلام ابن تيمية بعدما وجد كتاب العرش التي قيل إنها فيه , فتبين أنها ليست فيه؟
فجوابه أن ذلك لا يجوز , بل كان من الأدب مع هذا الإمام الجليل أن يبرأ من مثل
هذه العبارة وإن وجدت في كتاب معزو إليه، ويحكم بأنها مدسوسة في ذلك الكتاب
عليه، فقد عهد من المضلين أن يدسوا في كتب المشهورين، كما وقع للشعراني في
حياته وأثبت هو وغيره وقوع ذلك لغيره.
كيف لا , وإن بين أيدينا كُتبًا كثيرة في التوحيد من مصنفات ابن تيمية , وكلها
مؤيدة لمذهب أهل السنة الصحيح وسلف الأمة الصالحين لا تعدوه قط.
__________(11/50)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إلى الأحرار في روسيا وفي البلاد العثمانية
وفي سائر البلاد [*]
أيها الإخوان , نخبركم بمزيد الأسف أن الدستور الإيراني الجديد صار على
شفا السقوط بسعي الحكومة المستبدة. نعم إن حكومتنا الإيرانية المستبدة لضعيفة
أمام حزب المجاهدين الإيرانيين. ولكن ما الحيلة والحكومات المستبدة تتعاون وتتحد
على اضطهاد الفقراء، واستئصال المطالبين بالحرية والعدل.
كانت الحكومات المستبدة المجاورة لفرنسا تساعد إمبراطور فرنسا على محاربة
طلاب الحرية , كذلك تساعد الحكومة الروسية والحكومة العثمانية حكومة إيران
المستبدة على إسقاط الدستور الإيراني , وتبديد شمل أحزاب الاشتراكيين
الديموقراطيين في إيران.
أيها الإخوان , إذا كانت الحكومة المستبدة تتعاون على محافظة استبدادها
ومصالحها , فماذا يكون إذا نحن معاشر الأحرار اتحدنا على محاربة الاستبداد
والمستبدين , فنحن معاشرَ حزب الاشتراكيين الديموقراطيين الإيرانيين نرجو من
إخواننا الأحرار في روسيا والبلاد العثمانية , وغيرها من البلاد باسم الإنسانية
والحرية , والنصيحة للنوع البشري أن يساعدونا في هذا السبيل , ويظهروا امتعاضهم
واستياءهم من الحكومتين الروسية والعثمانية اللتين لا تألوان جهدًا في السعي لإسقاط
الدستور الإيراني بالتداخل في أمور إيران الداخلية , نحن معاشر المجاهدين نرفع
أصواتنا على عتبة مجلس الشورى الإيراني قائلين:
ليحيا جميع الأحرار والناصحين لوجه الإنسانية على وجه البسيطة , لتحيا
الجمهورية الديموقراطية , ولتسقط الحكومة المقلقة , وليسقط الأغبياء الظالمون
حزب الديموقراطيين الاشتراكيين الإيراني 28 ذي الحجة سنة 1325.
__________
(*) جاءتنا هذه الرسالة باللغة التترية , فترجمناها ونشرناها.(11/59)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فقيد الصحافة والوطنية
مصطفى باشا كامل
ما لنا لا ننتهي من نعيٍّ إلا إلى نعيٍّ، ولا نفرغ من ترجمة مبكيٍّ إلا ونفجأ
بتأبين مبكيٍّ، وما بال (أم لهيم) تلتهم من المسلمين أشهر الكتاب والسياسيين، فها
هي ذي قد اغتضرت اليوم أندى الصحافيين المصريين صوتًا , وأبعدهم في عالم
السياسة صِيتًا، وأشدهم في دهماء بلده تأثيرًا، وأكثرهم وليًّا ونصيرًا، مصطفى
باشا كامل صاحب جريدة اللواء العربية ومدير جريدتي اللواء الفرنسية والإنكليزية، ورئيس الحزب الوطني الذي تأسس في مرض مماته واختاره رئيسًا له مدة حياته.
قضى رحمه الله تعالى عن أربع وثلاثين ربيعًا قضى نصفها في السياسة،
ونصف هذا النصف في الصحافة باذلاً فيما أخذ فيه جميع أوقاته مفرغًا فيه
منتهى وجدانه وشعوره، وما زال الشعور والوجدان أقوى المؤثرات في الإنسان،
وقد أعجب بخطته في اللواء جمهور القارئين، ثم تحزبت له نابتة كبيرة من
المتعلمين، بل عشقه بعض طلاب الحقوق عشقًا، وملك قلوبهم ملكًا، فظهر أثر
تحزبها في تشييع جنازته بمظهر غريب، ما رؤي مثله من نسيب ولا قريب، حتى
أثرت حالهم في جميع المشيعين، وجذبت قلوب الناظرين، بل استعبرت المقل
الجامدة، وسعرت الأفئدة الخامدة، بل كان لهم بعد ذلك سلطان على أكثر الجرائد
المصرية، حتى المخالفة للفقيد في آرائه السياسية، ومن كان بينه وبين أصحابها
مناصبة شخصية، بل صار لهم ظهور سياسي يرجو الجذع نائله، ويخشى القارح
عقابله، ومشى في جنازته خلق كثير في مشهد لم يعهد له نظير، حمل فيه تلاميذ
المدارس رايات للحداد يعلوها السواد، وقدر عدد من شهد الجنازة بخمسة عشر
ألفًا، ورأى بعضهم أنهم يناهزون ثلاثين ألفًا.
كان رحمه الله تعالى مصداقًا بينًا لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل ميسر لما
خلق له) . فقد كان في سن الدراسة يحدث نفسه بالسياسة، ويمنيها بالرياسة،
فيحدو به ذلك إلى مثافنة الكبراء، ويزجيه إلى مناقشة الرؤساء والوزراء حتى
فتحت له السياسة وهو في مدرسة الحقوق أبوابها، وزينت له بأن يكون طَلابها،
فآثر لحبها التناوة على المذاكرة بجد وعناية، حتى ظهر أثر ذلك في الامتحان،
على ما كان من اللوذعة وجرأة الجنان على أنه نال بعد ذلك شهادة الحقوق في
مدرسة طولوز الفرنسية.
وكان كبير النفس، طموحًا إلى المعالي، جريء الجنان، طلق اللسان، قوي
الشعور والوجدان، متلافًا للمال إذا اقتضت الحال، فهذه هي الصفات الفطرية
التي أهلته لتلك الغاية الكسبية بافتراص الحوادث، ومواتاة الوقائع، ومساعدة
الزمان، واستعداد البيئة والمكان.
أما استعداد البيئة , فمنشؤه أنه كان قد سبق لهذا الشعب حركة حيوية،
ونهضة اجتماعية أدبية تلتها يقظة وطنية أنتجت ثورة شعبية عسكرية، وعقب
ذلك احتلال الإنكليز للبلاد؛ وإيقاف حركة ذلك الاستعداد، فسكتت الألسنة وسكنت
الأقلام، وغلت الأيدي، وقيدت الأقدام، ولكن هذا الوقوف كان في الظاهر، دون ما
تنطوي عليه السرائر من ضغائن مضطربة، وحفائظ مضطرمة، وأوهام مفزغة،
وأحلام مزعجة، مع مجاراة الأمير توفيق للاحتلال، ومواتاته له في كل حال.
فبعد أن قضى الأمير توفيق وولي الأمير عباس دخلت البلاد في عهد جديد
من الحركة الوطنية تجلت فيه كتجليات الحقيقة الكلية، فكان تجليها الأول هو
التجلي العام الذي ظهر في الخواص والعوام، وكان لسانه الناطق جريدتا المؤيد
والأهرام، ثم فتر التجلي في جميع الطبقات، ثم ظهر في طبقة الضباط وقتًا من
الأوقات، ثم فتر طائفة من الزمان، ثم ظهر في مظهره الذي هو عليه الآن بأن
نفخت روحه في الناشئين، ففعلت فعلها في غير أصحاب العمائم من المتعلمين،
لأن هؤلاء لا يعرفون لهم جنسية إلا في الدين، وقد كان مصطفى كامل (رحمه الله)
هو المجلي، في ميدان هذا الطور من أطوار التجلي، ثم صار داعية النابتة إلى هذه
الوطنية وهاديها، أو سائقها وحاديها، وهي هي فوق المدعو والهادي، وأمام
المسوق والحادي.
وقد كنت أُعجبت بما رأيت من تجلي الوطنية أول مقدمي لهذه البلاد , فكتبت
فيها مقالة في المؤيد عنوانها (الحياة الوطنية) أُعجب بها كثيرون حتى استظهرها
بعض أساتذة المدارس الأميرية، ثم رأيت الدعوة موجهة إلى جعل الوطنية جنسية
للمسلمين، فأنكرتها في المنار بالبرهان المبين، وأكثرت من الكتابة فيها حتى في
تفسير القرآن، ولا ينبغي لي الخوض في ذلك الآن.
عرفت مصطفى كامل في السنة الأولى من هجرتي لهذه البلاد , وكنت أَراه
كثيرًا في إدارة المؤيد إذ كنت أطبع المنار في مطبعة الآداب وكان معجبًا بالمنار حتى
كان يهنئني أحيانًا ببعض المقالات , ويقول لي: إنك قادر على خدمة الإسلام أنفع
خدمة وأجلها , ولكن الكتابة لا تكفي وحدها , فاطلب من الشيخ محمد عبده أن
يجعلك خطيبًا في أحد المساجد الكبيرة؛ فإن له نفوذًا يمكنه من ذلك , وهو صاحبك
فيما أرى , ولو كان لي به صحبة لطلبت لك منه ذلك، ومن هذه العبارة يعلم رأيه في
تأثير الخطابة.
ثم أصدر جريدة اللواء - والمنار يومئذ في أصيل سنته الثانية - فنصحت له
في تقريظها بأن يتتبع ما يكتب في الجرائد الأوربية عن الإسلام , ويترجمه
لجريدته ليكون لها امتياز عن غيرها من الجرائد الإسلامية , وأن يترك ما اشترطه
من عدم إرسالها إلا لمن يدفع الاشتراك سلفًا , فساءه ذلك , ولكنه علم بعد التجربة
أنه لباب النصيحة.
وانتقدت عليه الإرجاف بمسألة الخلافة العربية؛ إذ كان كتب أن في مصر من
يسعى لها سعيها , وبينت له وجه الضرر في ذلك الإرجاف، فكبر عليه ذلك , وقطع
المبادلة الصحافية بيننا وبينه , وأنحى علينا بعد ذلك كثيرًا؛ لما كان عليه - عفا
الله عنه - من الشدة على من خالفه , ولو مهضومًا، ونصر من وافقه ظالمًا كان أو
مظلومًا، وكان الأول من أسباب بُطْء انتشار اللواء، على ما كان فيه من مواضع
إعجاب الدهماء، كالمبالغة في ذم المحتلين، وانتقاد الحكومة، ومدح الأمة،
وتحامي الانتقاد عليها، والتنويه بالاستقلال، والتعجيل بطلب محو الاحتلال، ولكن
اللواء صار في هذه المدة الأخيرة من أهم الجرائد المصرية وأكثرها انتشارًا.
فرحم الله مؤسسه , وعفا عنه! ولعلنا نوفق بعدُ إلى كتابة شيء عن العبرة بسيرته في
حياته وموته.
__________(11/60)
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
__________
تاريخ العرب والإسلام
في سلك القصص والروايات
لأسلوب القصص المعروفة بالروايات تشويق للمطالعة لا ينال منه الملل،
وجذب إلى القراءة لا يخشى معه السأم، فإذا هي أودعت من الفوائد النافعة في
التاريخ والآداب والأخلاق والسياسة وشئون الاجتماع ما يتفق مع اللذة كانت من
أقوى ذرائع تهذيب الجمهور , ورفع طبقات العامة إلى مستوى يتصلون به مع
طبقات الخاصة حتى تكون الأمة كسلسلة , إذا تحرك أحد طرفيها انتقلت الحركة
إلى الطرف الآخر.
وإنه ليحزننا أن نرى أكثر القصص أو الروايات كما يقال خالية من هذه الفوائد
مشتملة على كثير من المفاسد، تغري الفتيان والفتيات بالغرام، وتجرئ الحيي على
ارتكاب الحرام، وتعلم الأغرار حيل الشطار.
هذا , وإننا نحن المسلمين قد أصبحنا وأمسينا أجهل الأمم بتاريخنا، وكيفية
تلك النشأة الصالحة لملتنا، وينابيع تلك الآداب التي أخضعت أمم المدنية لشراذم
من الأعراب؛ ذلك بأن تاريخ تلك النشأة لم ينظم في السلك العلمي الحديث، وإنما
بقي روايات متفرقة كروايات الحديث، لم يرزق مِن فلاسفة التاريخ مَن يستنبط
حكمه، كما رزق الحديث مِن الفقهاء مَن استنبط أحكامه.
فنحن الآن في حاجة إلى وضع تاريخ الإسلام في أسلوب علمي؛ لأجل
الخواصّ، وإلى إيداعه في أسلوب قصصي يسهل تناوله حتى على العوامّ، وقد كان
الوضع الأول آخر عمل توجهت إليه همة الأستاذ الإمام، وفي عزمنا أن نخلفه فيه
إن شاء الله وأمهلتنا الأيام، وأما الثاني فقد شرع فيه صديقنا السيد عبد الحميد
الزهراوي العالم الإسلامي والكاتب الاجتماعي، وقد سمى الرواية الأولى (خديجة
أم المؤمنين) وسننشرها في المنار بالتدريج، وهاك مقدمتها في هذا الجزء:
خديجة أم المؤمنين
(1)
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل ثلاثة عشر قرنًا على الحساب القمري حدث في الكون حادث عظيم جدًّا
لم يحدث بعده مثله إلى الآن، وقد كان له دويّ قويّ وأثر كبير في آسيا وأوربا
وأفريقيا، وخلفه انقلاب عظيم في ممالك الأرض، وتغير جسيم في أحوال الأمم
والشعوب. ذلك الحادث هو قيام العرب بعقيدة جديدة وانضمامهم جميعًا إلى كلمة
النبي الذي قام فيهم منهم وهو محمد عليه الصلاة والسلام , وشروعهم جميعًا بالهجوم
على الممالك، وفوزهم بهذا الهجوم، وانتصارهم وغلبتهم على الأمم , وانضمام أمم
كثيرة إلى عقيدتهم وتكوّن ملكهم العظيم من حدود الهند إلى البحر الأطلانتيكي شرقًا
وغربًا , ومن سواحل البحر الأحمر إلى سواحل بحر قزوين شمالاً وجنوبًا في أسرع
ما عرف في التاريخ كله من الفتوحات الكبيرة السريعة.
هذا الحادث العظيم يتلقاه بعض الناس بغير تفكر , كأنه معتاد الحدوث كثيرًا
فلا يبحث هؤلاء عن سر حدوثه , ولا يريدون أن يستفيدوا من التدبر والتفكر بسر
ذلك النجاح العظيم الذي أوتيه أولئك القوم بسرعة جديرة أن نشبهها بلمح البصر.
وبعضهم يتلقاه كما هو , أي: يفهم أنه حادث من أكبر الأحداث التي حدثت في الدنيا ,
ويراه جديرًا بالبحث والتأمل وإمعان النظر , ولدى التأمل نجد هناك جزئين تمَّ
بهما هذا الحادث العظيم؛ الأول: النبي محمد عليه الصلاة والسلام , والثاني:
الذين آمنوا به ونصروه من العرب، وبديهي أن أول مؤمن به هو صاحب الفضل
الأول بعد النبي في إقامة هذا الصرح العظيم.
ومن الأمور التي يحق أن يفخر بها جنس النساء أن هذا الفضل الأول - أي:
السبق بالإيمان به والموافقة له - كان نصيب سيدة من أشراف قومه هي زوجته السيدة
خديجة بنت خويلد من قريش، ولما كانت سيرة هذه السيدة الشريفة المساعدة في وضع
الأحجار الأولى من هذا الحادث العظيم لا تخلو بالبداهة من فوائد جسيمة أزمعت أن
أقدم في هذه الأوراق لمحبي الفوائد الأدبية والاجتماعية والسياسية والتاريخية أعظم
هدية مقتطفًا هذه الثمرات من دوحة حياة هذه السيدة الجليلة , ولكن رأيت من اللازم
جدًّا قبل دخولي بالقارئ على سيرتها أن أمر به مرة على قومها العرب عامة، ثم
قريش خاصة؛ فإن تعرفه بهم يساعده على معرفة هذه السيدة الجليلة.
* * *
العرب
العرب كسائر الأمم: أوائلهم مجهولة، وأحوالهم منذ عرفوا معروفة. نقف
الآن عند هاتين الكلمتين ونلتفت قليلاً إلى مبحث لطيف نختصر فيه الكلام , ثم
نعود إلى سياق حديثنا.
يزعم كثير من الأقوام أنهم يعرفون أصول أمتهم إلى أبي البشر الأول , ومن
الأقوام من يزعمون أنهم يعرفون سلاسل أصول الأمم كلها حتى يصلوا بها إلى
ذلك الأصل الأول.
ومن التزم التحقيق لا يستطيع أن يجزم بشيء مما يذكر عن تلك الأصول
والأوائل، ومن تسامح بتصديق ما يُرْوَى يتشابه عليه الأمْر , فَيَحَارُ في تصديق
المتناقضات، والترجيح بين المختلفات، ومهما جنح الحريص على المعرفة إلى
الاستئناس بما يمكن قَبوله من الحكايات في هذا الباب لا يستغني عن طرح كثير
منها مما تقوم الأدلة على بطلانه.
لماذا حرص كل الشعوب على معرفة أسلافهم إلى أول أصل؟ لا ندري ,
ولكن يلوح لنا أنه لذَّت للأكثرين دعوى هذه المعرفة؛ فابتدع كل قوم أسطورة في
بيان أصلهم , ينقلها الآباء للأبناء , ويسطرونها في كتبهم تسطيرًا.
أما الباحثون عن أنساب الشعوب فلما يئسوا من هذه المعرفة قنعوا بأن
تكون لهم معرفة ما بأصول الشعوب التي وجدوها متقاربة في اللغات وغيرها من
المميزات , وقد آنسوا من كثرة البحث والاستئناس بالمنقول أن البشر المعروفين
اليوم هم من ثلاث سلالات:
(1) السامية و (2) الإريانية و (3) التورانية.
وظاهر من هذا أنهم لما أرادوا وضع أسماء للأصول القليلة التي تفرعت منها
هذه الشعوب المعروفة تساهلوا بقبول بعض ما لفق في حكاية البشر مما قبل التاريخ ,
ولكن هذا لا يروي في الحقيقة غليل المحققين , ولا غليل الخياليين؛ فسيظل
المحققون صابرين على جهل مثل هذا، ويبقى الخياليون مستمسكين بما قد حُكي لهم
من قبلُ , وربما تسلى محب الحقيقة عن احتجابها برؤية تماثيلها , وما تماثيلها إلا
أساطير الأولين.
أما نحن , فنرى أنه لا حاجة للتسلي بتلك الأساطير؛ لأننا إذا اشتهينا المعرفة
فأمامنا - مما قد نستطيع معرفته - ما ننفذ مراحل أعمارنا من غير أن نقطع في
ميدانه شوطًا بعيدًا، وما الوصول إلى غاية في هذا الميدان مما يجوز أن نطمع
فيه.
فإذا أردنا الآن أن نعرف العرب فعلينا قبل كل شيء أن نريح أنفسنا من الطمع
بمعرفة سلسلتهم الآدمية إلى آدم , أو إلى نوح بالتفصيل , كما قطعنا طمعها من
معرفة ذلك في سائر الأمم؛ فلهذا لا حاجة إلى ما يذكره علماء الأنساب من كون هذا
الجيل من الأجيال السامية إذ يقال: أَنَّى لهم العلم بسام أبي الشعوب السامية؟ وكيف
يبني أهل الفن مبادئ على شيء غير معروف بالطرق التي تفيد العلم اليقيني؟ وما
أغنى من يريد أن يعرف جيلاً كالعرب عن الاستعانة بأساطير الأولين.
يقول المؤرخون: إن العرب ثلاثة أقسام: (1) بائدة , و (2) عاربة ,
و (3) مستعربة. أما البائدة: فهم العرب الأُول الذين ذهبت عنا تفاصيل
أخبارهم؛ لتقادم عهدهم وهم: عاد، وثمود، وطسم، وجديس، وجرهم الأولى، وأما العرب العاربة فهم عرب اليمن من ولد قحطان، والعرب المستعربة هم ولد إسماعيل بن إبراهيم.
هذا قولهم , وهو لا يعجبني؛ لأن البائدة ليست موجودة حتى تعدّ , وإن كانوا
يعدونها؛ لأن منها اشتق غيرها فهذه شهادة بأنها لم تَبِدْ. وقد ذكروا في هذا التقسيم
عرب اليمن من ولد قحطان قسمًا مستقلاًّ , ولم يذكروا لنا من هو قحطان هذا.
وذكروا أولاد إسماعيل بن إبراهيم قسمًا مستقلاًّ , ولم يأتوا بدليل قويم على أنه
تفرع من إسماعيل ذرية مستقلة هم العرب المستعربة. وَجُلّ ما ذكروه أن إسماعيل
الذي كان غريبًا في جوار مكة المكرمة تزوج بامرأة عربية من تلك القبائل التي كانت
حولها. فهل انقطع نسل تلك القبائل حتى أصبح لا يذكر إذا ذكر العرب , ثم تبارك
نسل إسماعيل الغريب وحده حتى صار قسمًا مستقلاًّ هو ثالث ثلاثة أو ثاني اثنين إذا
ذكر العرب؟ لسنا ندري ولكننا نعرف أن هذا من جملة الأقوال التي تكتسب بكثرة
الموافقة في مرور القرون صبغة لا تزول , فتغر الأكثرين وهي في الحقيقة لا تصبر
على النقد والحك , فليت أولي الألباب يكثرون من حك هذه المشهورات.
وإنما يعجبني جدًّا في هذا الباب ما روي من أن النبي العربي - عليه السلام -
كان إذا انتسب يقف عند عدنان ولا يتجاوزه؛ ويقول: (كذب النسابون) [1] ,
ويعني بذلك الذين يزعمون معرفة الأنساب إلى آدم أو إلى نوح.
أما الذي لا يغير النقد من سطوع جوهره شيئًا , فهو أن العرب يوم ظهر فيهم
النبي الذي أعلى شأنهم كانوا متفرقين في أقطار جزيرة العرب ومنقسمين قبائل
كل قبيلة تذكر لنفسها نسبًا فيه عند رجل معروف لديها، وتمسك عما وراءه.
والمشهور أنَّ لقبائل الحجاز أصلاً، ولقبائل اليمن أصلاً آخر، وللقبائل بعد ذلك
أصول متفرعة من أحد الأصلين. وعرب العراق والشام ترجع إلى أحد هذين
الأصلين أيضًا، فعدنان هو أبو عرب الحجاز غالبًا، وقحطان هو أبو عرب اليمن
والعراق والشام غالبًا.
وإن قال قائل: كيف عرف هذا عن العرب وهم أهل بادية متشتتون متفرقون،
متقاتلون متذابحون، لا ملك لهم جامع، ولا شرع فيهم وازع، ولا يد لهم في
الأعمال الاجتماعية، ولا نصيب لهم في الشئون السياسية، وليس لهم قبل الإسلام
كتاب معروف تدون فيه أخبارهم، وتذكر فيه مآثرهم وآثارهم، فمن أجل ذلك لا
يجوز الثقة بما ينقل ويحكى عنهم ولسنا نعرفهم إلا بالإسلام، فالإسلام قد جمع
الأوزاع من أهل هذه اللغة الواحدة على كلمة الغزو، وهذا لا يثبت أن العرب كانوا
يعرفون لقبائلهم أصولاً , وأنهم كانوا يتعارفون بأنسابهم؟ ؟
نقول لصاحب هذا القول: إن العرب لم يكونوا مجهولين ولا مجهولة أخبارهم.
فإذا قلنا: إنهم لم يكونوا أهل كتابة وتاريخ , فأشعارهم المحفوظة المنقولة هي
ديوان سيرهم، وإذا لم نثق بنقل أشعارهم استطعنا أن نعرف العرب من تاريخ الأمم
المجاورة لهم. فالفرس قد سبروهم؛ لأن من العرب ملوكًا كانوا لهم خاضعين،
وقوادًا كانوا بأمرهم عاملين. والروم قد خبروهم؛ لأن مملكتهم ملوكًا وقوادًا وولاة
من العرب، والديانة المجوسية تعرفهم؛ لأن منهم من كان على دين ملوك فارس،
والكنائس تعرفت بهم؛ لأن منهم نصارى بل قسيسين ورهبانًا، وبيع اليهود ما
جهلتهم، والفلسفة ما أنكرتهم، والحضارة قد ألمت بمساكنهم (في اليمن والعراق
والشام) ومخالطة الأمم أخذوا بقسط منها وأخذت بقسط منهم، فكيف يكون هذا
الجيل مجهولاً بعد كل هذا؟
إن العرب كانوا معروفين. ومما عرفوا واشتهروا به الحرص على وحدتهم
القومية , فكانوا أمام الغريب أمة واحدة لها وحدة باللغة والنسب واتصال الديار
والعصبية عند التناصر , فإذا رجعوا إلى ما بينهم كانوا قبائل شتى تنتمي كل قبيلة
إلى أب لها , ثم يجمع قبائل كثيرة منهم أب واحد وهكذا.
ولا يستبعد من أمة محتاجة إلى التناصر وليس لها كسائر الأمم كتاب يجمع
أخبارهم وسير أبطالها أن يُعْنَى كثير من أفرادها بحفظ ذلك في أذهانهم , وأية أمة ممن
نرى يتناسى أفرادها سيرة أبطالهم.
وقد كان الرجل من العرب إذا عظم أمره أو كثر ماله انفرد بأهله , وانتمت
إليه الذرية , ووضعوا لأنفسهم نسبة جديدة من غير أن يضيعوا حظهم من
الارتباط بالنسبة الأولى؛ لأن لهم عند التناصر حظًّا منها عظيمًا.
يذكر أحد علماء هذا الشأن أن العرب كانت قبائلهم أرحاء وجماجم ,
فالأرحاء هي القبائل التي أحرزت دورًا ومياهًا لم يكن للعرب مثلها , ولم تبرح من
وطانها , ودارت في دورها كالأرحاء على أقطابها إلا أن ينتجع بعضها في البرحاء
وعام الجدب. والجماجم هي القبائل التي يتفرع من كل واحدة منها قبائل اكتفت
بأسمائها , دون الانتساب إليها , فصارت كأنها جسد قائم , وكل عضو منها مكتف
باسم معروف بموضعه.
وكان علم النسب من جملة علوم العرب قد أثره عنهم أهل الرواية أول كل
شيء. ونقلوا فيه حكايات كثيرة منها ما ذكروه عن يزيد بن شيبان بن علقمة بن
زرارة بن عدس وذلك أنه رأى في مِنى رجلاً على راحلة , ومعه عشرة شباب ,
بأيديهم المحاجن , ينحون الناس عنه , ويوسعون له , فدنا منه , وقال له: ممن
الرجل؟ فقال: (إني رجل من مَهْرَة ممن يسكن الشجر) قال يزيد: فكرهته ,
ووليت عنه. فناداني من ورائي: ما لك؟ قلت: (لست من قومي , ولست تعرفني
ولا أعرفك) . قال: (إن كنت من كرام العرب فسأعرفك) قال يزيد: فكررت
عليه راحلتي. وقلت: (إني من كرام العرب) . قال: (فممن أنت؟) قلت:
(مِن مُضَر) قال: (فمن الفرسان أنت , أم من الأرحاء؟) , فعلمت أنه أراد
بالفرسان قيسًا وبالأرحاء خندفًا. فقلت: (بل من الأرحاء) قال: (أنت امرؤ من
خندف؟) قلت: (نعم) . قال: (من الأرومة أنت , أم من الجماجم؟) , فعلمت
أنه أراد بالأرومة خزيمة وبالجماجم بني أدّ بن طابخة قلت: (بل من الجماجم) .
قال: (فأنت امرؤ من بني أدّ بن طابخة) قلت: (أجل) قال: (فمن الدواني أنت ,
أم من الصميم؟) فعلمت أنه أراد بالدواني الرباب ومُزَيْنة وبالصميم بني تميم. قلت:
(من الصميم) . قال: (فأنت إذًا من بني تميم) . قلت: (أجل) . قال: (فمِن
الأكثرين , أم من الأقلين , أو من إخوانهم الآخرين؟) فعلمت أنه أراد بالأكثرين
ولد زيد , وبالأقلين ولد الحارث , وبإخوانهم الآخرين بني عمر وبني تميم. قلت:
(من الأكثرين) قال: (فأنت إذًا من ولد زيد) . قلت: (أجل) قال: (فمن
البحور أنت , أم الذرا , أم من الثماد؟) فعلمت أنه أراد بالبحور بني سعد ,
وبالذرا بني مالك بن حنظلة، وبالثماد امرأ القيس بن زيد. قلت: (بل من الذرا)
قال: (فأنت رجل من بني مالك بن حنظلة) قلت: (أجل) قال: (فمن السحاب
أنت , أم من الشهاب , أم من اللباب؟) فعلمت أنه أراد بالسحاب: طهية،
وبالشهاب: نهئلاً، وباللباب: بني عبد الله بن دارم. فقلت له: (من اللباب) قال:
(فأنت من بني عبد الله بن دارم) قلت: (أجل) قال: (فمن البيوت أنت , أم من
الدوائر؟) فعلمت أنه أراد بالبيوت: ولد زرارة , وبالدوائر: الأحلاف. قلت (من
البيوت) قال: (فأنت يزيد بن شيبان بن علقمة بن زرارة بن عدس , وقد كان لأبيك
امرأتان فأيهما أمك؟) .
ولقد غلط من ظنوا أن العرب لم يكن لهم من حضارة , ولم يكونوا على شيء
مما عليه الأمم من الروابط؛ كلاّ بل لهم حضارات وملوكهم التبابعة في اليمن معروف
أمرهم عند المشتغلين بالتاريخ. وملوك الحيرة (في العراق) مشهورون , مَن
عرف تاريخ الفرس عرفهم وإن جهل تاريخ العرب أولهم مالك بن فهم بن غنم بن
دوس من سلالة الأزد من ولد كهلان بن سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان , وكان
ملكه في أيام ملوك الطوائف الفارسيين , وملك بعده أخوه عمرو بن فهم، ثم ملك بعد
عمرو ابن أخيه جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم، وجذيمة هذا هو صاحب الحديث
المشهور مع الزباء (زنوبيا) صاحبة تدمر , وخلاصة الحديث فيما يروي مؤرخو
العرب أن جذبمة قتل أباها , فاحتالت عليه الزباء , وأطمعته في نفسها حتى اغتر
وقدم إليها , فقتلته وأخذت بثأر أبيها. وبعد قتله انتقل الملك إلى يد ابن أخته عمرو
اللخمي جد الملوك المناذرة اللخميين.
والملوك الغسانيون في الشام مشهورون أيضًا , لا يجهلهم من عرف تاريخ
الرومان إذا جهل تاريخ العرب. وأصل غسان من اليمن من بني الأزد ابن الغوث
تفرقوا من اليمن بسيل العَرِم، ونزلوا على ماء بالشام يقال له: غسان، فنسبوا إليه
وكان قبلهم بالشام عرب يقال لهم الضجاعمة من سليح، فأخرجتهم غسان من ديارهم ,
وقتلوا ملوكهم وصاروا موضعهم.
وأول من ملك من غسان جفنة بن عمرو بن ثعلبة، وكان ابتداء ملكهم قبل
الإسلام بأربع مائة سنة , وقيل أكثر من ذلك، ولما ملك جفنة وقتل ملوك سليح
دانت له قضاعة ومن بالشام من الروم، وبنى بالشام عدة مصانع , ولما مات ملك
بعده ابنه عمرو بن جفنة، وبنى بالشام عدة ديور منها دير حلي ودير أيوب ودير
هند، ثم ملك بعده ابنه ثعلبة بن عمرو وبنى صرح الغرير في أطراف حوران مما
يلي البلقاء.
ثم ملك الحارث بن ثعلبة، ثم ملك بعده ابنه جبلة بن الحارث وبنى القناطر ,
وأدرح والقسطل، ثم ملك بعده ابنه الحارث بن جبلة , وكان مسكنه بالبلقاء , فبنى بها
الحفير ومصنعه، ثم ملك بعده المنذر الأكبر بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة
بن عمرو بن جفنة الأول، ثم ملك بعده أخوه النعمان بن الحارث وبنى دير ضخم
ودير النبوة، ثم ملك أخوهم عمرو بن الحارث ثم ملك بعده أخوه جبلة بن الحارث ,
ثم ملك بعدهم أخوهم الأيهم بن الحارث , ثم ملك جفنة الأصغر بن المنذر الأكبر،
وهو الذي أحرق الحيرة، وبذلك سموا ولده آل محرق، ثم ملك بعده أخوه النعمان
الأصغر بن المنذر الأكبر، ثم ملك النعمان بن عمرو بن المنذر، وبنى قصر
السويدا , ولم يكن عمرو أبو النعمان المذكور ملكًا , وفي عمرو المذكور يقول
النابغة الذبياني:
عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب
ثم ملك بعد النعمان المذكور ابنه جبلة بن النعمان، وهو الذي قابل المنذر
اللخمي بن ماء السماء، ثم ملك بعده النعمان بن الأيهم بن الحارث بن ثعلبة، ثم
ملك أخوه الحارث بن الأيهم، ثم ملك بعده ابنه النعمان بن الحارث، وهو الذي
أصلح صهاريج الرصافة , وكان قد خربها بعض ملوك الحيرة اللخميين، ثم ملك
بعده المنذر بن النعمان، ثم ملك بعده أخوه عمرو بن النعمان، ثم ملك أخوهما حجر
بن النعمان، ثم ملك ابنه الحارث بن حجر، ثم ملك ابنه جبلة بن الحارث، ثم ملك
ابنه الحارث بن جبلة، ثم ملك ابنه النعمان بن الحارث، ثم ملك بعده الأيهم بن
جبلة بن الحارث وهو صاحب تدمر , وكان عامله يقال له: القين بن خسر. وبنى له
قصرًا بالبرية عظيمًا ومصانع.
ثم ملك بعده أخوه المنذر بن جبلة , ثم ملك بعده أخوهما شراحيل بن جبلة , ثم
ملك أخوهم عمرو بن جبلة، ثم ملك بعده ابن أخيه جبلة بن الحارث بن جبلة ثم ملك
بعدهم جبلة بن الأيهم بن جبلة، وهو آخر ملوك بني غسان، وهو الذي أسلم في
خلافة عمر، ثم عاد إلى الروم.
ومن ملوك العرب ملوك كندة الذين من سلالتهم امرؤ القيس الشاعر المشهور
أولهم حُجْر آكل المرار بن عمرو، وخلف على الملك ابنه عمرو المقصور سُمي
بالمقصور؛ لأنه اقتصر على ملك أبيه , ثم ملك بعده ابنه الحارث بن عمرو ,
وقوي ملك الحارث المذكور؛ لأنه وافق كِسْرى قباذ بن فيروز على الزندقة والدخول
في مذهب مزدك , فطرد قباذ المنذر بن ماء السماء اللخمي عن ملك الحيرة , وملّك
الحارث المذكور موضعه , فعظم شأن الحارث المذكور , فلما ملك أنوشَرْوان أعاد
المنذر وطرد الحارث المذكور , فهرب وتبعته تغلب وعدة قبائل , فظفروا بأمواله
وبأربعين نفسًا من ذوي قرباه , فقتلهم المنذر في ديار بني مرين، وهرب الحارث إلى
ديار كلب، وبقي بها حتى مات. ومن أولاد الحارث هذا حجر أبو امرئ القيس
الشاعر , وكان حجر قد ملكه أبوه على بني أسد بن خزيمة فبقي أمره متماسكًا
فيهم مدة بعد ذلك , ثم تنكروا عليه , فقاتلهم وقهرهم , ودخلوا في طاعته , ثم جموا
عليه بَغْتة , وقتلوه غِيلة , وفي ذلك يقول ابنه امرؤ القيس أبياتًا منها:
بنو أسد قتلوا ربهم ... ألا كل شيء سواه خلل
وطالب امرؤ القيس بهذا الملك بعد أبيه , فاستنجد ببكر وتغلب على بني أسد ,
فأنجدوه , وهربت منهم بنو أسد , وتبعهم فلم يظفر بهم , ثم تخاذلت عنه بكر وتغلب
وتطلبه المنذر بن السماء , فتفرقت جموع امرئ القيس خوفًا من المنذر، وخاف
امرؤ القيس منه أيضًا , فصار يدخل على قبائل العرب، وينتقل من أناس إلى أناس
حتى قصد السموأل بن عاديًا اليهودي , فأكرمه، وأنزله , وأقام عنده , ثم سار إلى
ملك الروم مستنجدًا به , وأودع أدراعه عند السموأل , وكانت مائةً وفي مسيره إلى
ملك الروم قال قصيدةً تُشعر بلسان حاله , ومنها قوله:
تقطع أسباب اللبابة والهوى ... عشية جاوزنا حماة وشيزرا
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحِقَان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكًا أو نموت فتعذرا
وقد مات في هذا السفر بعد عودته من عند قيصر.
فبالله كيف تكون مجهولة الأمة التي فيها الملوك والأقيال، وقد وقفت أمام الأمم
والأجيال، سنين من الدهر، لا يعرف لها حصر. لعمرك إن القول بأن هؤلاء
القوم كانوا مجهولين , وأنهم كانوا متشتتين من غير ملك جامع، ولا شرع وازع
هو قول يرسله صاحبه من غير أن يكلف نفسه بحثًا , وهو لمّا يُحط بذلك خبرًا.
ومتى كان العرب معروفين عند غيرهم كما أوضحنا - ولدينا مزيد - كانوا هم
أحق بمعرفة أنفسهم، وحفظ مفاخرهم وعصبياتهم. وما نقل إلينا عنهم من ذلك ليس
منه شيء فوق العقل , ولا وراء الحس؛ بل القرائن له شاهدة، وأمثاله أمام أعيننا
مشاهدة، وإذا لم تجز الثقة بما ينقل من هذه الأخبار لم يكن غيرها أحق بالثقة لعمر
الحق , فإن تزوير الأساطير لا يستبعد وقوعه في كل أمة من الأمم ذوات الزبر
والأسفار , وليست الكتب أحق بالصدق من القرائن الشاهدة والنظائر الناطقة.
فمن شاء أن لا يثق بمنقول ألبتة لا يضرني ولا يضر التاريخ والمنقول , ولا
يضر العلماء الذين يحترمون التاريخ كثيرًا وإنما يضره وحده. يقلل استفادته من
المنقول، ويكثر وساوسه وغروره، ثم يصل إلى درجة لا يثق معها أحد بمعقوله.
ومن شاء أن يثق بالمنقول عن الأمم دون العرب لا أناقشه؛ لأنه شهد لي على
نفسه شهادة كافية.
ولا أزيده شيئًا على ما أوضحت به أن العرب تجوز الثقة ببعض ما ينقل عنهم ,
كما تجوز الثقة ببعض ما ينقل عن غيرهم.
* * *
من أجل هذا نؤمن بما نقل إلينا من نسب سيدتنا التي نروي هنا سيرتها ,
وهي خديجة القرشية فإن هذا النقل من النقول التي لا تجد النفس حاجة للتردد في
قبولها.
وقد قلنا آنفًا إنَّ لهؤلاء العرب المعروفين أصلين معروفين عندهم , ومجهول ما
وراءهما , وهما: عدنان وقحطان، فأما قحطان فقد أخذت ذُرِّيَّته بحظها من
الملك؛ لأن كل ملوك العرب المشهورين كانوا من ذريته , وأما عدنان فإن حظ
ذريته تأخر قليلاً , ولكنه كان لعظمه متجاوز النسبة؛ أي إنه لا نسبة بين حظ
القحطانيين الذين كان يقوم منهم ملوك، ثم ينطفئ مجدهم وحظ إخوانهم
العدنانيين الذين أشرق منهم نور مبين بهر العالمين أجمعين.
فلذلك نَلُمُّ هنا بذكر الذرية العدنانية دون الذرية القحطانية؛ لأننا نريد أن
يتعرف القارئ بقوم خديجة الخصوصيين. (فعدنان) ولد له (معد) ومعد ولد له
(نزار) وأولاد نزار أربعة: (مضر) وإياد وربيعة وأنمار , وقد فارق إياد
الحجاز , وسار بأهله إلى أطراف العراق.
ومن ذريته كعب بن مامة الإيادي المشهور بالجود , وقُسّ بن ساعدة الأيادي
المشهور بالفصاحة. ومن ذرية ربيعة بن نزار قبائل: عنزة , وبكر , ووائل ,
وتغلب، ومن تغلب كليب ملك بني وائل الذي قتله جساس، فهاجت لقتله الحرب بين
بني وائل وبين بني بكر وبين بني تغلب. ومن بني بكر بن وائل بنو شيبان ومن
مشهوريهم مرة وابنه جساس قاتل كليب وطرفة بن العبد الشاعر , ومن بني بكر
بنو حنيفة، ومن مشهوريهم مسيلمة الكذاب.
وولد لمضر بن نزار (إلياس) وقيس عيلان , وكثرت ذرية قيس هذا , فمن
ذريته قبائل هوازن , ومن هوازن بنو سعد بن بكر الذين منهم مُرضعة النبي صلى الله
عليه وسلم , ومن ذريته بنو كلاب وقبائل عقيل وبنو عامر , وصعصعة , وخفاجة ,
وبنو هلال , وثقيف , وبنو نمير، وباهلة , ومازن , وغطفان , وبنو عبس الذين منهم عنترة المشهور , وقبائل سليم، وبنو ذبيان , وبنو فزارة , وكان بين عبس
وبني ذبيان حرب داحس التي ظلت أربعين عامًا. ومن بني ذبيان النابغة الذبياني
الشاعر المشهور.
وولد لإلياس بن مضر (مدركة) وطابخة , ومن ذرية طابخة بنو تميم
والرباب وبنو ضبة وبنو مزينة.
وولد لمدركة بن إلياس (خزيمة) , وهذيل وإلى هذيل هذا تنتسب جميع قبائل الهذليين , ومنهم: أبو ذؤيب الهذلي الشاعر المشهور.
وولد لخزيمة بن مدركة (كنانة) , وأسد , والهون , وولد لكنانة بن خزيمة
(النضر) , وملكان , وعبد مناة , وعمرو , وعامر , ومالك فمِن ملكان بنو
ملكان , ومن بني عبد مناة بنو غِفار , ومن مشهوريهم أبو ذر، وبنو بكر. ومن
بني بكر هؤلاء الدِّئَل. ومن مشهوريهم: أبو الأسود الدؤلي، وبنو ليث، وبنو مدلج،
وبنو ضمرة.
وولد للنضر بن كنانة (مالك) , ولم يعرف له ولد سواه , وولد لمالك هذا
(فهر) وفهر هذا الذي سمي قريشًا , ولم يولد لمالك غير فهر , وولد لفهر (غالب)
ومحارب , والحارث , فمن محارب بنو محارب ومن الحارث بنو الخلج , ومن
مشهوريهم: أبو عبيدة بن الجراح , وجميع ذراري فهر يقال لهم قرشيون.
وولد لغالب بن فهر (لؤي) , وتيم الأدرم , ومن تيم المذكور بنو الأدرم ,
ومعنى الأدرم: ناقص الذقن.
وولد للؤي بن غالب (كعب) وسعد وخزيمة والحارث وعامر وأسامة. ومن
ذرية عامر بن كعب عمرو بن ودّ فارس العرب الذي قتله علي بن أبي طالب.
وولد لكعب بن لؤي (مُرّة) وهصيص , وعديّ فمن هصيص بنو جُمَح
ومن مشهوريهم: أمية بن خلف , وأخوه أُبَيّ بن خَلَف , وكلاهما كانا عدوين
عظيمين للنبي صلى الله عليه وسلم , ومن هصيص أيضًا بنو سهم , ومن عدي
بنو عدي , ومن مشهوريهم عمر بن الخطاب , وسعيد بن زيد.
وولد لمرة بن كعب (كلاب) وتيم ويقظة , فمن تيم ومن مشهوريهم أبو بكر
الصديق , وطلحة، ومن يقظة بنو مخزوم , ومن مشهوريهم خالد بن الوليد ,
وأبو جهل عمرو بن هشام.
وولد لكلاب بن مرة (قصي) , وزهرة , ومن ذرية زهرة سعد بن أبي
وقاص وآمنة أم النبي صلى الله علية وسلم , وعبد الرحمن بن عوف , وقد كان
قصي هذا عظيمًا في قريش , وهو الذي ارتجع مفاتيح الكعبة من بني خزاعة، وهو
الذي أثل مجدهم.
وولد لقصي بن كلاب (عبد مناف) , وعبد الدار , وعبد العزى , فمن بني
عبد الدار بنو شيبة حجاب الكعبة , ومن مشهوريهم النضر بن الحارث كان من
أشداء أعداء النبي، ومن عبد العزى أيضًا سيدتنا خديجة بنت خويلد التي نروي
سيرتها.
وولد لعبد مناف بن قصي (هاشم) وعبد شمس , والمطلب , ونوفل , فمن
عبد شمس أمية , ومنه بنو أمية , ومنهم: عثمان بن عفان , ومعاوية بن أبي سفيان
مؤسس الملك الأموي. ومن المطلب ابن عبد مناف المطلبيون , ومن ذريتهم الإمام
الشافعي , ومن نوفل النوفليون.
وولد لهاشم (عبد المطلب) , ولم يعلم له ولد سواه. وولد لعبد المطلب (عبد
الله) , وحمزة , والعباس جد الملوك العباسيين.
وولد لعبد الله بن عبد المطلب (محمد) النبي عليه الصلاة والسلام.
((يتبع بمقال تالٍ))
_______________________
(1) رواه ابن سعد وابن عساكر عن ابن عباس وتتمته: قال الله تعالى (وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا)(11/64)
29 صفر - 1326هـ
إبريل - 1908م(11/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب مصر الحديثة للّورد كرومر
(نظرة إجمالية في الكتاب)
أقام لورد كرومر في مصر نحو ربع قرن متصرفًا بنفوذ الحاكم المطلق ,
فعرف من أحوال حكومتها وسيرها الاجتماعي ما يعز على غيره من حكام البلاد أو
نزلائها من الأوربيين أن يعرفوه , ثم أودع زبدة ما عرفه في كتاب يدخل في ثلاثة
مجلدات , طُبع اثنان منها , وأوصى هو بطبع الثالث عقب موته؛ لأنه خاص بحال
مصر في عهد الأمير الحالّ عباس باشا الثاني , والظاهر أنه أشد الأجزاء وطأً
وأثقل قيلاً على مصر والمصريين على أن الجزء الثاني لا تستخف وطأته، بل لا
تطاق كلمته، فهو قد حكم لكل الشعوب التي تتبوأ أرض مصر وعليها , ولكنه حكم
على المصريين لا لهم , ولم يحكم عليهم بالمساواة بل فضل القبط على المسلمين
تفضيلاً من حيث دينهم وما فيه من المرونة التي تساعدهم على مجاراة المدنية ما لا
يساعد الإسلام أهله على زعمه.
ولم يكتف بالحكم في قضايا الشعوب من حيث هو حاكم سياسي اجتماعي , بل
حكم أيضا في قضايا الرجال المشهورين الذين عرفهم من بعض الوجوه , وكان
حكمه عليهم من غير الوجه الذي عرفهم به؛ إذ حكم على مطويات العقائد ,
ومكنونات الضمائر , وخطرات القلوب.
ولم يرضه هذا حتى رفع نفسه إلى مستوى الحكم على الإسلام من حيث هو
دين , ومن حيث هو شريعة ونظام اجتماعي , فحكم من الحيثية الأولى له وعليه ,
ومن الحيثية الثانية عليه لا له , وانتقل من الحكم عليه إلى الحكم على أهله عامة
حتى في مستقبل أمرهم , فكان حكمه هذا صاخّة تصخّ المسامع , وقارعة تصدع
القلوب , بل هو عِبْرة للمعتبرين , وموعظة للمصريين وسائر المسلمين.
رأيت حديث الناس في هذا الكتاب يدور على قطبين:
(أحدهما) : الحكم على شعور الكاتب حينما دوَّن حكمه على المصريين ,
وعلى الإسلام والمسلمين , فما رأيت بينهم خلافًا في كونه كتب بمداد الحقد والحنق ,
وقلم الحفيظة والانتقام من المصريين بما فوقوا إليه من سهامهم، وصوبوا إليه من
أسنة أقلامهم في وقت مفارقته لديارهم، وهو وقت ضاق فيه ذاك الصدر الواسع عن
احتمال الانتقاد، بَلْهَ الشماتة والإزراء على أنه قد ظهر ضيق صدر اللورد قبل
ذلك في تقريره الأخير، ثم في خُطْبته التي خطبها قبيل الرحيل.
هذا , وأما القطب الثاني لحديث الناس في الكتاب فهو غرضه منه , وقد رأيت
أهل الفهم والذكاء يقولون من غير مواطأةٍ ولا تقليدٍ: إن غاية اللورد من هذا الكتاب
هي أن يستل من نفوس أحرار قومه فكرة توقيت الاحتلال، والخروج من مصر في
يوم من الأيام، ويقنعهم ويقنع أوربا معهم بأن لا ضمان لحفظ مصالح الأوربيين في
مصر , بل ولا مصالح المصريين إلا بقاء الإنكليز في مصر؛ لأن المصري شديد
التمسك بدينه الذي لا يتفق مع المدنية فإن هو تركه واتبع هذه المدنية كما يحب
الأوربيون ويبغون كانت مدنيته تقليدية لا حقيقية , وكان بذلك شرًّا من المسلم
المتدين وأشد عداوةً للأوربي وللمسيحي , ولو غير أوربي.
ويرون أن تصريحه بعدم استحسان ضمّ مصر إلى أملاك إنكلترا , وما أظهره
من الميل إلى إعدادهم للاستقلال هو من التمويه , وذرّ الرماد في العيون , وإلهاء
المصريين بالأماني والأحلام , وأصحاب هذا القول غافلون عن طرق الاستعمار
الجديدة , ومنها حكم البلاد باسم أهلها , والرضى بالسلطة الفعلية بديلاً من السلطة
القولية , وقد سبق لنا بيان لهذه الطرق في السَّنَة الأولى من المنار , وفي غيرها
أيضًا.
هذه صفوة الآراء التي دارت بين الناس في شعور مؤلف كتاب مصر الحديثة ,
وفكره المستولي عليه عند الكتابة , وفي غايته منه , وذلك ضرب من ضروب
انتقاد المصنفات مطروق الأبواب معهود عند الكتاب.
ومما ينتقد على هذا الكتاب - وهو من أصول الانتقاد - استنباط القواعد الكلية
من شواذّ الحوادث الجزئية، ولم يسلم اللورد من ذلك , فإنه في المقابلة بين عقل
الغربي والشرقي أورد الأمثلة لعقل الشرقي الضعيف التنظيم والإدراك (لاعتقاده
بالقضاء والقدر , ورضوخه لكل سلطة تتولى أموره) فإنه بعد أن دعم الحكم على
عقل الشرقي بهاتين العِلّتين مثّل للحكم الكلي العامّ بما نصُّ ترجمته:
قال اللورد: (حدث أكثر من مرة أن (المفتحجي) في مصلحة الحديد المصرية
حوَّل الخط والقطار عليه، لم يمر إلا نصفه إلى الخط الآخر؛ فأدى ذلك إلى انقلاب
القطار , وحدث أيضًا أن سائق قطار نَسِيَ أحيانًا أيّ مفتاح يجب أن يُحَرَّك لكي يوقف
القطار , وحدث مرة أن عمال السكة الحديدية قُتِلوا لأنهم ناموا بعد أن وضعوا
رءوسهم على الخط الحديدي , وإنما فعلوا ذلك ليثقوا بأنهم يستيقظون على أصوات
القطار الآتي) .
ونقول: إن أمثال هذه الجزئيات تقع في أوربا وفي جميع البلاد من جميع
الشعوب، وناهيك بالطبقة الدنيا من العمال , فإن ذكي الفطرة عالي النفس لا
يرضى لنفسه بأن يكون من أحقر عمال سكة الحديد، وناهيك بالمبتدئين من أهل
هذه المهنة بها , والغالب أن يكون أصحاب ذلك الشذوذ الذي ذكره منهم. فحال
أمثال هؤلاء لا يصح أن يكون مناط المقابلة بين الشعوب في ارتقاء العقل وملكة
النظام فيه. وإنما ينظر في حالهم من وجهة النشاط في العمل , والصبر عليه ,
ولعله لو قابل بين فَعلة الأوربيين وفَعلة المصريين في هذه المزايا لَمَا قدر أن يبخس
المصريين حقهم، وإن ظن أن القضاء والقدر قد فتك باستعدادهم لكل عمل! !
ونسي أن أكثر المستخدمين في سكة الحديد من القبط الذين هم على شاكلته في عدم
الإيمان بالقضاء والقدر.
وإنني أذكر له شيئًا من بَلادة بعض الأوربيين وغفلتهم وهو أبعد عن العقل
والنظام مما صدر عن صغار فَعلة السكة الحديدية في مصر , ناقلاً إياه عن كتاب
صفوة الاعتبار لصديقه الشيخ محمد بيرم الثقة العدل - رحمه الله تعالى - فإنه كتب
في الفصل الذي عقده لبيان عادات أهل فرنسا وصفاتهم ما نصه:
ومع ذلك - أي انتشار المعارف - فلا يزال في فرنسا خَلْق كثير على
السذاجة والجهل. ودونك حكاية ظريفة تقيس عليها ما يقرب منها:
ففي سنة 1297 هـ 1880م كان أحد أصحاب العمل باليد مشتغلاً جهة باريس
وكان له ابن مشتغل جهة بردو فلم يوفر الابن من كسبه ما يشتري به حذاءً , فأرسل
إلى أبيه يشتكي له القلّ , ويطلب منه شراء حذاءٍ له , فاشتراه له , وحمله في الطريق
وهو مفكر في كيفية إيصاله إليه , فبينما هو ماشٍ إذ مرّ مُحاذيًا للسلك الكهربائي ,
فقال: هذا أيسر طريق! ! إني أحمله الحذاء وهو يوصله لابني. فجاء إلى عود
السلك وعلّق فيه الحذاء وأسرَّ إلى العود بقوله: (أوصِلْ هذا لابني فلان في المكان
الفلاني) وذهب مسرورًا باطلاعه على مسلك سهل بلا مصروف. ثم مرّ من غدٍ
متفقدًا ما فعل السلك بالحذاء , فوجد في ذلك المكان حذاءً عتيقًا أفناه اللُّبْس , ففرح ,
وقال: (إن ابني لَعاقل حيث أرسل لي القديم لأستعين به على ثمن الجديد) فانظر
إلى البلاهة التي لو صدرت من أحد المشرقيّين لشنعوا بجميع الجنس بأنه وحشي بعيد
عن المعارف وتهذيب الأخلاق.
وقد صدق ظنّه صديقه لورد كرومر , فإنه شنع على الشرقيين كافّة بما وقع
من بعض فعلة سكة الحديد بمصر.
ثم قال بيرم: (واعلم أن مثل هذا الرجل كثير سِيَّمَا في القرى الصغيرة
والجبال، بل وفي أهل المدن كثير ممن يعتقد بالخرافات الباطلة , ويعتقد التأثير
لأشجار وجمادات، ويتشاءم بالأوقات، فقد رأيت في كثير من بلدانهم , وبلدان
الطليان , وكذا الإنكليز طاقات في حيطان , فيها منارات توقد ليلاً بالزيت أو بالشمع
العسلي تقربًا إلى بعض أوليائهم أو الجن , معتقدين حلول المتقرب إليه بتلك الطاقة،
ولا ينورونها بغير ما ذكر من الأنواع؛ لأن القسوس يقولون لهم: إن شمع الشحم
أو الغاز من البدع التي لا يتقرب بها.
وكذلك يطلبون البخت وقضاء الحاجات من جمادات أو أماكن اعتقاد حلول
أرواح فيها. وقد ذكر من هذا النوع في (كشف المخبا عن فنون أوربا) ما يتعجب
منه السامع مما ترى الأورباويين، ومن تشكل بشكلهم وتباهى بتقليدهم يحملون عبثه
على البلاد الإسلامية وحدها , ويجعلونها سخرية , وينزهون أوربا عن مثلها مع أنها
حاوية لشبهها ولأشد منها؛ بل ربما أسند ذلك الجاهل أو المتجاهل إلى ديانتنا الشريفة
- وحاشا لله - أن تؤدي أو ترشد لمثل ذلك , بل إنها هي المهذبة , والمنقذة من
غياهب الجهل إلى نور المعارف الحاثة على العلم وفتح البصائر) . ا. هـ بحروفه.
هذا ما قاله عن أهل فرنسا , وهم أسبق الأوربيين إلى العلم والمدنية , وأذكاهم
أذهانًا على أنه قال: إن الإنكليز كذلك. بل قال في كلامه من عادات الإنكليز
وصفاتهم ما نصه:
(وأما أطوار الطبقة السفلى , فهي أشنع مما مر ذكره في همج الفرانسيس
سواء كان من من جهة الاعتقاد أو من جهة السيرة والحركات فيتطيرون من أشياء
كادت أن لا تحصى , وينقادون إلى السَّحَرة والدّجّالين بما يخرج عن حدّ المعقول
وكاد التعلم أن يكون عندهم مجهول الاسم فضلاً عن المسمى سوى ما يرطن لهم
القسيسون في الكنائس) إلخ.
أقول: أما خرافات القبور والأولياء التي قال: إنهم يعيبون الإسلام بمثلها , وهو
منها بريء , فقد أخذها المسلمون عنهم وهم أخذوها عن أجدادهم أو مجاوريهم من
الوثنيين , فالإسلام والنصرانية الحقيقية بريئان منها؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم:
(لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع) ، قالوا: يا رسول الله , اليهود
والنصارى؟ قال: فمن؟ . رواه الشيخان وغيرهما.
وإن تعجب فعجب مقارنته في هذا المقام بين الأوربي مطلقًا والعامي المصري
في الحساب فقد قال بعد ما تقدم ما ترجمته كما في المؤيد:
(وقارن أيضًا بين تقدير الأوربي للحساب وبين المصري العامي الذي يشكل
عليه إشكالاً كاملاً كل أمر يتعلق بالأرقام أو الكمية , فإن عددًا قليلاً من عامة
المصريين يعرفون عمرهم. فإذا سألت المصري عن عمر رجل متقدم في السن يكون
جوابه غالبًا: (إن عمر الرجل مائة سنة) ويقول في نفسه: ماذا يهم التدقيق في هذا
الأمر , أو أي أمر آخر علمي) .
قلت: إن هذا من مواطن العجب؛ لأن المقارنة فيه بين الأوربي المتعلم
والمصري العامي , ولماذا لم يقارن في الحساب والأرقام بين المتعلم من الفريقين؟
لعله لأنه يعلم أن المصريين من أقوى الشعوب استعدادًا للبراعة في الحساب وسائر
العلوم الرياضية , وقد أراد الإنكليز منذ بضع سنين أن يجعلوا ترقية المهندسين منهم
على المهندسين من المصريين مبنيًّا على قاعدة عادلة؛ لظنهم أن الإنكليز أعلم
وأبرع , فامتحنوا الفريقين , فأسفر الامتحان عن فوز المصريين وتخلف الإنكليز
عنهم , وسكت الفريقان على ذلك الامتحان , فلم يُعلموا به الجرائد.
أما الإنكليز فلِمَا هو ظاهر , وأما المصريون فلِخوفهم أن يحنق عليهم
رؤساؤهم , وينتقموا منهم.
ومما تقدم في كتابه تقليده لغير واحد من كتاب الأوربيين في آرائهم في
الإسلام, وكان أجدر من كثير من أولئك الكاتبين بمعرفة حقيقة الإسلام لو أراد أن
يعرفه وينصفه فإنه عاش في مصر عمرًا طويلاً , وعرف أشهر علمائها ن بل أشهر
علماء الإسلام المعروفين في العالم كله الآن , وناهيك بالأستاذ الإمام وطول باعه في
علوم الدين , ورسوخه في فهم القرآن , وهو الذي لم يكن يحتاج في مخاطبته إياه
وفهمه عنه إلى ترجمان كما كان يحتاج في مخاطبة غيره من شيوخ الأزهر. ولكنه
لم يكن يسأله عن أصول الإسلام وحكمه وأحكامه، ولا الأستاذ الإمام كان يبتدئه بشيء
من ذلك , وإنما كان يقصد إليه؛ لأجل الكلام في المسائل المصرية , لا سِيَّمَا
المحاكم الشرعية.
ومما ذكر لي عنه أنه كان يذاكره مرة في إصلاح هذه المحاكم , ومعارضة
قاضي مصر وبعض المشايخ , ومقلديهم في ذلك كما حصل في مجلس شورى
القوانين , وذكر اللورد كثرة شكوى الأهالي من الظلم وضياع الحقوق في هذه
المحاكم , ولَمَّا بيَّنَ الأستاذ الإمام أنه ليس في أصل الشرع شيء ينافي الإصلاح
العدل , قال له اللورد: هل تصدق يا أستاذ أنه يخطر في بالي أن شريعة قامت على
أساسها مدنية عظيمة تكون غير عادلة؟ كلا , إنني أعلم أن كل هذه المفاسد مسائل
(إكليركية) أي: من تقاليد المشايخ التي تشبه تقاليد رجال (الإكليروس) عند
النصارى.
أنقل هذا بالمعنى كما أحفظه عن الأستاذ الإمام , وأستطرد من ذلك إلى انتقاد
ما كتبه اللورد عنه , ثم ألخص كلامه في الإسلام من حيث هو دين , ومن حيث هو
شريعة، وأبين خطأه وخطله فيه , وأنتقل مِنْ ثَمَّ إلى المقصد الأعظم وهو مستقبل
الإسلام والمسلمين , ومراد اللورد وأمثاله من أساطين السياسة وأمانيهم في ذلك ,
وما يجب علينا من العِبرة والعمل في هذا المقام، مع تعدد السُّبُل واشتباه الأعلام.
* * *
قول اللورد في الشيخ محمد عبده
لم يسلك اللورد مسلك أصحاب التراجم من المؤرخين فيذكر ما للرجال الذين
ترجمهم من الصفات والمزايا , وما عليهم من التقصير , وإنما ألمَّ بذكر بعض كبار
الرجال المشهورين إلمامًا , ولم ينظر إلى أحد من المسلمين بعين الرضا كما نظر
إلى الشيخ محمد بيرم التونسي على أنه مدحه بشيء يراه هو مدحًا , ويراه جميع
المسلمين ذمًّا؛ إذ قال فيه: (علمه ذكاؤه الفطري , إن النظامات التي تعلق بها
أسلافه (يعني: الشريعة التي جرى عليها المسلمون السابقون) لا بُدَّ أن تتلاشى إذا
قابلتها المبادئ السامية المرقومة على راية الإنكليزي! رأى كل هذه الأمور بعين
الناقد البصير) وقال بعد ذلك: إن مثله إذا ناقش المسيحي في الأمور العامة يكون
من النتيجة المحزنة أنه: (يكتفي بندب مصير ذلك الدين الذي يحبه , وذلك النظام
المؤذي الذي أوجده دينه) , ثم ذكر أنه لا يوجد عند أمثال بيرم من خيار المسلمين
طريةً قادرةً على إحياء الإسلام الذي هو حالة الموت السياسي والاجتماعي! ! ونحن
نعلم فيما رأينا من مؤلفات الشيخ محمد بيرم وما سمعنا عنه ممن لقيه أنه كان متمسكًا
بهذا الفقه ويراه أحسن نظام , ويعتقد أنه مستمد من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله
عليه وسلم - فإذا كان مع ذلك يفضل عليه المبادئ والقوانين الإنكليزية , أو يرى أنه
نظام مؤذٍ؛ فكيف يكون راسخًا ذلك الرسوخ في الإسلام؟ أرى أنه على إطرائه
لبيرم في الدين قد ذمه من حيث أراد مدحه , ولم يعرف حقيقته الدينية كما هي ولا
يرضى مريدي الشيخ محمد عبده أن يكون مثله مرضيا للورد في ذلك , وإن كانوا
يعلمون أنه لا يعد جميع هذا الفقه , ولا أكثره من الدين. وإننا نذكر الآن رأي
اللورد في الأستاذ الإمام في تقريره لسنة 1905 , ثم نشفعه برأيه في مصر الحديثة،
ونبين سبب الاختلاف بينهما.
* * *
(قوله فيه بتقريرسنة1905)
اختطفت المنية في السنة الماضية رجلاً مشهورًا في الهيئة السياسية
والاجتماعية بمصر , أريد به الشيخ محمد عبده , فأحببت أن أسطر هنا رأيي
الراسخ في ذهني , وهو أن مصر خسرت بموته قبل وقته خسارة عظيمة.
لما أتيت مصر القاهرة سنة 1883 كان الشيخ محمد عبده من المغضوب
عليهم؛ لأنه كان من كبار الزعماء في الحركة العرابية. غير أن المغفور له
الخديوي السابق صفح عنه طبقًا لما اتصف به من الحلم وكرم الخلق , فعين الشيخ
بعد ذلك قاضيًا في المحاكم الأهلية , حيث قام بحق وظيفة القضاء مع الصدق
والاستقامة , وفي سنة 1899 رقي إلى منصب الإفتاء الخطير الشأن , فأصبحت
مشورته ومعاونته في هذا المنصب ذات قيمة عظيمة ثمينة؛ لتضلعه من علوم
الشرع الإسلامي مع ما به من سَعَة العقل , واستنارة الذهن , وأذكر مثالاً على نفع
عمله الفتوى التي أفتاها في ما إذا كان يحل للمسلمين تثمير أموالهم في صناديق
التوفير , فقد وجد لهم بابًا به يحل لهم تثمير أموالهم فيها من غير أن يخالفوا الشرع
الإسلامي في شيء.
أما الفئة التي ينتمي الشيخ محمد عبده إليها من رجال الإصلاح في الإسلام
فمعروفة في الهند أكثر مما هي معروفة في مصر , ومنها قام الشيخ الجليل السيد
أحمد الشهير الذي أنشأ مدرسة كلية في عليكره بالهند منذ ثلاثين عامًا. والغاية
العظمى التي يقصدها رجال هذه الفئة هي إصلاح عادات المسلمين القديمة من غير
أن يزعزعوا أركان الدين الإسلامي , أو يتركوا الشعائر التي لا تخلو من أساس
ديني. فعملهم شاقّ وقضاؤه عسير؛ لأنهم يستهدفون دائمًا لسهام نقد الناقدين ,
وطعن الطاعنين من الذين يخلص بعضهم النية في النقد , ويقصد آخرون قضاء
أغراضهم , وحكّ حزازات في صدورهم , فيتهمونهم بمخالفة الشرع وانتهاك حرمة
الدين.
أما مريدو الشيخ محمد عبده وأتباعه الصادقون فموصوفون بالذكاء والنجابة ,
ولكنهم قليلون , وهم بالنظر إلى النهضة الملية بمنزلة الجيروندست في الثورة
الفرنسوية , فالمسلمون المتنطعون المحافظون على كل أمر قديم يرمونهم بالضلال
والخروج عن الصراط المستقيم , فلا يكاد يؤمل أنهم يستميلون هؤلاء المحافظين
إليهم ويسيرون بهم في سبيلهم.
والمسلمون الذين تفرنجوا ولم يبق فيهم من الإسلام غير الاسم مفصولون عنهم
بهُوَّة عظيمة. فهم وسَط بين طرفين، وغرض انتقاد الفريقين عن الجانبين، كما هي
حال كل حزب سياسي متوسط بين حزبين آخرين، غيرَ أن معارضة المحافظين لهم
أشدّ , وأهم من معارضة المصريين المتفرنجين؛ إذ هؤلاء لا يكاد يُسمع لهم صوت.
ولا يدري إلا الله ما يكون من أمر هذه الفئة التي كان الشيخ محمد عبده شيخها
وكبيرها , فالزمان هو الذي يظهر ما إذا كانت آراؤها تتخلل الهيئة الاجتماعية
المصرية أو لا. وعسى الهيئة الاجتماعية أن تقبل آراءها على توالي الأيام إذ لا
ريب عندي في أن السبيل القويم الذي أرشد إليه المرحوم الشيخ محمد عبده هو
السبيل الذي يؤمل رجال الإصلاح من المسلمين الخير منه لبني ملتهم إذا ساروا فيه،
فأتباع الشيخ حقيقون بكل ميل وعطف وتنشيط من الأوربيين. ولعلهم يجدون
بعض التنشيط من نقلي قولاً لرجل من أهل دينهم وصف فيه المعارضة التي لقيتها
مدرسة عليكره المذكورة آنفًا , والطريقة التي تغلبوا بها على تلك المعارضة , وههنا
ذكر عبارة عن كاتب هندي اسمه السيد محمود تضاهي عبارته في المقدار.
ومما كتب في أواخر الفصل الذي يتكلم فيه عن المحاكم الشرعية ما ترجمته:
(هذا , وإني أوافق السر ملكولم مكلريث على ما قال عن الضربة الثقيلة التي
أصابت الإصلاح من هذا القبيل بموت المرحوم الشيخ محمد عبده , فقد أشرت إلى
خدمات ذلك الرجل الجليل في فصل آخر من هذا التقرير , وأعود فأبسط الرجاء
أيضًا أن الذين كانوا يشاركونه في آرائه لا تخور عزائمهم بفقده , بل يظهرون
احترامهم لذكراه أحسن إظهار بترقية المقاصد التي كان يرمي إليها في حياته) .اهـ
أما ما قاله السر ملكوكم مكلريث , وصرح به اللورد بموافقته عليه فهذا نص
ترجمته:
(قول المستشار القضائي في الشيخ محمد عبده)
ولا يسعني ختم ملاحظاتي على سير المحاكم الشرعية في العام الماضي بغير
أن أتكلم عن وفاة مفتي الديار المصرية الجليل المرحوم الشيخ محمد عبده في شهر
يوليه الفائت , وأن أبدي شديد أسفي على الخسارة العظيمة التي أصابت هذه النظارة
بفقده؛ فقد كان خير مرشد لنا في كل ما يتعلق بالشريعة الإسلامية والمحاكم الشرعية ,
وكنا نرجع إليه كثيرًا للتزود من صائب آرائه , والاستعانة بمساعدته الثمينة ,
وكانت آراؤه على الدوام في المسائل الدينية أو الشبيهة بالدينية سديدة صادرة عن
سعة في الفكر كثيرًا ما كانت خير معوان لهذه النظارة في عملها.
وفوق ذلك فقد قام لنا بخدم جزيلة لا تقدر في مجلس شورى القوانين في معظم
ما أحدثناه أخيرًا من الإصلاحات المتعلقة بالمواد الجنائية , وغيرها من الإصلاحات
القضائية؛ إذ كان يشرح للمجلس آراء النظارة ونياتها ويناضل عنها , ويبحث عن
حلّ يرضي الفريقين كلما اقتضى الحال ذلك.
وإنه ليصعب تعويض ما خسرناه بموته نظرًا لسموّ مداركه وسَعَة اطلاعه ,
وميله لكل ضروب الإصلاح والخبرة الخصوصية التي اكتسبها أثناء توظيفه في
محكمة الاستئناف , وسياحاته إلى مدن أوربا , ومعاهد العلم. وكانت النظارة تريد
أن تكل إليه أمر تنظيم مدرسة القضاة الشرعيين المزمع إنشاؤها ومراقبتها مراقبة
فعلية. أمّا الآن , فإنه يتعذر وجود أحد غيره حائز للصفات اللازمة للقيام بهذه
المهمة ولو بدرجة تقرب من درجته , فلكل هذه الأسباب أخشى أن نظارة الحقانية
ستظل زمنًا طويلاً تشعر بخسارتها بفقده. اهـ كلام المستشار.
* * *
(قول اللورد فيه بكتاب مصر الحديثة)
أما الشيخ محمد عبده , فكان عالمًا من طراز يفضل كثيرًا طراز إخوانه الذين
أشرت إليهم (كالسادات والبكري) وكان أحد زعماء الفتنة العرابية , فلما جئت مصر
سنة 1883 كان مغضوبًا عليه , ولكن الخديوي توفيق عفا عنه بما فطر عليه من
مكارم الأخلاق , وانقيادًا لتشديد الإنكليز عليه في ذلك , وعينه قاضيًا , فأحسن العمل ,
وأدى الأمانة حقّها. وكان متوسعًا في آرائه , وعلى علم ونباهة , فلم ينكر المساوئ
الناشئة في الحكومات الشرقية , وعرف أنه لا بد من الاستعانة بالأوربيين للإصلاح
إلا أنه لم يكن من عداد المصريين المتفرنجين , وكان يقول: إنهم لم يحسنوا تقليد ما
حاولوا تقليده من الأخلاق الأوربية , وكان عدوًا للخديويين والباشاوات؛ وأريد بذلك
أنه لو عثر على باشاوات صالحين لَمَا أعرض عنهم ولا عارضهم , ولكنه لم يوفق إلا
إلى عدد قليل من خيارهم مع اختباره الطويل.
وحقيقة الأمر أن الرجل كان مفطورًا على الخيال , ويرى آراء لا يمكن الجري عليها إلا أنه كان مع ذلك مصريَّا وطنيًّا حقيقيًّا , ومن مصلحة الوطنية المصرية أن يكون أمثاله كثارًا , ولكن إذا نظرنا إلى نسيج محمد عبده والذين يعلمون تعاليمه
من جهة إمكان اتخاذهم ساسة للمستقبل نجد أن هناك بعض أوجه الضعف , وقد قال
المستر ستانلي لاين بول: إن المسلم من الطبقة العليا لا بد أن يكون أحد اثنين:
(إما متعصب أو ملحد في سره) فمثل هذه الحيرة على شكل مختلف قد أوجدت
عقبات في سبيل المسيحيين الذين يؤمنون بحرفية تعاليم المسيح دون معناها أنها عقبات أعظم للمسلم الأصيل الذي يبذل عناية كلية بحرفية تعليم دينه دون معناها , وأخشى أن يكون صديقي محمد عبده في حقيقة أمره (لا أدريا) ولو أنه يستاء من هذه النسبة لو نسبت إليه.
وكان معاشروه ومخالطوه يسلمون بمقدرته ولكنهم كانوا يرمقونه شزرًا
ويقولون: إنه (فيلسوف) وكل من يدرس الفلسفة؛ أي: كل من يدرك
الفرق بين القرن السابع والقرن العشرين هو في أعين المتمسكين بالقديم سائر إلى
الهلاك لا محالة. هذا وإن أهمية محمد عبده السياسية هي في أنه أسس مدرسة
فكرية في مصر على مثال ما أسس في الهند سيد أحمد منشئ كلية عليكرة , وغاية
الذين ينتمون إلى تلك المدرسة هي تزكية طرق الإسلام في عين الإنسان أو بالحري
في عين الرجل المسلم , ولكن شدة اشتباه المسلم المحافظ فيهم , واتهامه إياهم
بالمروق من الدين يمنعانه من المسير معهم طويلاً , ونراهم من الجهة الأخرى
غالبًا غير متفرنجين إلى حد أن يجذبوا إليهم المصري المقلد للطرق الأوربية , فهم
أدنى من المسلم المحافظ في إسلامهم وأدنى من المصري المغالي في تفرنجه؛
ولذلك ترى مهمتهم عسيرة جدًّا , ولكنهم جديرون بكل تشجيع ومساعدة يمكن
إمدادهم بهما؛ لأنهم حلفاء المصلح الأوربي الطبيعيون وسيري كل مصري محبّ
لوطنه أن في تقدم أتباع محمد عبده خير رجاء له في إنقاذ برجرامه ألا وهو
جعل مصر مستقلة استقلالاً ذاتيًّا حقيقيًّا.
وقد علق اللورد في ذيل هذه الصحيفة قوله: إنني قدمت لمحمد عبده كل
تنشيط استطعته مدة سنين كثيرة , ولكنه عمل شاق , ففضلاً عن العداء الشديد الذي
كان يلاقيه من المسلمين المحافظين كان لسوء الحظ على خلاف كبير مع الخديو ,
ولو يتمكن من البقاء في منصب الإفتاء له أن الإنكليز أيدوه بقوة.
وقد أثنيت عليه في تقاريري السنوية ثناءً عظيمًا , وأنا أعظم الناس أسفًا حقيقيًّا
على وفاته على أنني في الوقت نفسه لا أرى بُدًّا من الاعتراف بما عراني من الدهشة
عندما طالعت بعض الأنباء الجديدة في كتاب المستر ولفرد بلنت فيظهر أن المستر
ولفرد بنى آراءه في المسائل المصرية على ما سمعه من محمد عبده؛ فقال عنه في
كتابه التاريخ السري: إنه فيلسوف كبير , ووطني عظيم. وقد قرأت بدهشة وأسف
معًا ما يأتي بلسان محمد عبده:
(عرض علي الشيخ جمال الدين الفتك بإسماعيل يومًا عند مروره بعربته
يوميًّا على كوبري قصر النيل , فاستحسنت رأيه , ووافقته ولكن الأمر اقتصر على
الكلام بيننا , ولم نوفق إلى شخص يتولى تنفيذ هذا العمل) , فكفاني أن أقول بعد
هذا: (إن العالم المتمدن عمومًا ينظر شزرًا إلى الوطنيين , ويحتقر بالأكثر أولئك
الفلاسفة الذين لا يتأخرون عن تعزيز مقاصدهم السياسية بمثل ارتكاب القتل) . اهـ
من ترجمة المؤيد.
* * *
المقابلة بين القولين
من قابل بين ما قاله اللورد في تقريره وما كتبه في كتابه (مصر الحديثة)
يرى فرقًا عظيمًا بين القولين , فإن عبارة التقرير لا ذمَّ فيها، ولا تعريض وعبارة
التاريخ فيها ذم صريح، وتعريض ظاهر بل المدح الذي فيها بمعنى ما في التقرير
ضئيل مبهم يحتمل صرفه إلى الذم في بعض المواضع؛ فإنه لما وصفه بالعلم فضله
على السادات والبكري وهما ليسا من العلماء , ولما ذكر أنه متهم بالفلسفة فسر ذلك
بالتفرقة بين القرن السابع والقرن العشرين. وقد قال المؤيد في هذا التفاوت ما يأتي:
قضى المرحوم الشيخ محمد عبده من عمره بضع عشرة سنة , وهو صديق
مخلص للورد كرومر , وقضى هذا اللورد زمنه الذي صادق فيه هذا الشيخ وهو
يساعده في الوظائف ويدافع عنه فيها. ويقول الآن بصريح العبارة: إنه لولاه ما
بقي في منصب الإفتاء طويلاً.
كان اللورد يطريه مدحًا في حياته كلما ذكر اسمه في مجلسه , وكلما جاءت
مناسبة لذكره في تقاريره , ويخيل لقارئ كتاب مصر الحديثة الآن أن اللورد يحاول أن
يطعن عليه أكثر من كل إنسان في مصر , لولا ما سيق له من المدح فيه. فَلِمَ هذا؟.
* * *
(رأي المؤيد في صداقة اللورد للشيخ)
(إن جواب هذا السؤال موجود بين سطور اللورد كرومر فيما كتب عن هذا
الرجل في كتابه الأخير) .
ثم ذكر المؤيد في بيان ذلك أنه كان من زعماء الثورة العرابية , وأوضح ذلك
وأكده وذكر قول اللورد أن الخديوي السابق عفا عنه بتشديد الإنكليز عليه في ذلك،
وأنه كان على خلاف كبير مع الخديوي , ثم بين صاحب المؤيد رأيه , وأضاف إليه
كلمة طالما حاكت في صدره , ونوّه بها حتى لفظها اليوم , فأراحنا، وأراح الناس؛
قال ما نصه:
من خلال هذا الكلام يظهر الجواب الحقيقي , وهو أن اللورد كرومر لم يكن
صديقًا للمرحوم الشيخ محمد عبده كما كان هذا صديقًا مخلصًا له؛ ولكنه كان متمسكًا
بصداقته الظاهرية؛ لأنه كان يريد أن يضع في يده رجلاً قويّ العارضة , لدود
الخصام , عدوًّا لتوفيق باشا أولاً , ولخلفه ثانيًا , ولإسماعيل باشا قبل ذلك.
ولا مراء في أن المرحوم الشيخ محمد عبده كان يكره طائفة الباشوات كما يقول
عنه اللورد من جهة , وكان وطنيًّا صادقًا من جهة أخرى. فكان اللورد يحبه من الجهة
الأولى , ولا يستطيع أن يخلص له الحبّ من الجهة الثانية؛ لذلك كان يطريه وهو
ينتفع بإطرائه. أمّا الآن وقد مات الشيخ محمد عبده , وفارق اللورد كرومر مصر ,
فلم تكن ثَمَّتْ حاجة لأَنْ يداري اللورد فيه كل المداراة , وإنما لاحظ أن يداري نفسه لما
كتب عنه أولاً فيما كتب عنه ثانيًا, فجاءت كتابته هكذا خليطًا من المدح والقدح ,
وثوب الرياء يشف عما تحته.
* * *
(قول المؤيد في الشيخ نفسه)
وعندنا أن المرحوم الشيخ محمد عبده كان رجلاً عالمًا فاضلاً ذا خلال
محمودة كثيرة من صفات النجدة والوفاء والمروءة , ولا نقول كما قال اللورد عنه:
إنه كان ملحدًا , أو لا أدريا , أو ضعيف الإيمان؛ لأن الإيمان من أعمال القلوب
التي يستأثر الله بعلمها , وأما ظواهره فكانت مجال مقال كثير لأصدقائه من جهة ,
ولأعدائه من جهة أخرى , ولكنه كان على كل حال عالمًا مصلحًا يحاول ما استطاع
إصلاح الفاسد من الشئون التي طرأت على الدين , ويعمل لذلك بغيرة لا تفتر ,
وفي آخر عهده من الدنيا كان يعتقد في نفسه اعتقادًا ملأ جوانحه أنه رسول إصلاح
من عند الله؛ فكان يجاهد في سبيل ذلك جهادًا حقيقيًّا , وإنْ لم ينل حظّ الثقة العامّة
بذلك.
وأضعف الجوانب في أعمال وآراء الشيخ محمد عبده كان الجانب السياسي
منه , فكان فكره السياسي خياليًّا غالبًا كما قال اللورد؛ لأنه كان في كثير من
الظروف يخيل له أن يقبض بكلتا يديه على اللورد كرومر من جهة , وعلى الجناب
الخديوي من جهة , فيفشل في الأمرين معًا حتى يقول الجناب الخديوي من جهته ما
يقول فيه، وحتى يضحك اللورد من هذا الضعف السياسي فيه.
هذه كلمتنا في المرحوم الشيخ محمد عبده , قلناها بحرية تامة في هذه المناسبة؛
لنقول: إن كان اللورد أصاب في بعض ما قاله عن المرحوم الشيخ محمد عبده فقد
أخطأ في حقه مرتين الأولى في حياته؛ لأنه لم يكن يعضده ويساعده إلا لغرض
واحد , وهو أن يكون عدوًّا حقيقيًّا دائمًا للخديو , فكان يدفعه دائمًا إلى الأمام في ذلك،
والثاني أنه تعرض الآن للطعن على عقيدته , والعقيدة مسكنها القلب خصوصًا وأن
الطاعن مسيحي على عالم مسلم فيما هو مسلم به.
(ولكن اللورد أراد من هذا الطعن شيئًا آخر وهو أن المسلم إن صار مصلحًا
يومًا ما لم يستطع أن يكون كذلك إلا وهو مارق من الدين. حتى إنه لما مدح الشيخ
بيرم , وذكر من صفاته أنه كان يطبق أحكام الإسلام على المعلومات العصرية , قال
عنه: إنه كان كمن يحاول أن يربع الدائرة) .
* * *
(قولنا فيما كتب المؤيد)
إذا تنازع الكاتب فكران أو شعوران عند الكتابة في موضوع هو أصل في
أحدهما والآخر فرع له؛ فيوشك أن يذهله الفرع عن أهم أركان الأصل كما وقع
للمؤيد , فوجب أن نبين ما غلط به المؤيد هنا حتى خفي عليه به خطأ اللورد
الحقيقي لنفي الموضوع حقه؛ فنقول.
(1) إن الأساس الذي بنى عليه المؤيد تفرقته بين كلامي اللورد في هذا
المقام غير صحيح , وهو أن اللورد كان يطري الشيخ في حياته؛ إذ كان ينتفع
بإطرائه في دفعه لعداء الخديو، ثم ذمه بعد موته , وخروجه هو من مصر لزوال
الحاجة. فإن هذا الثناء العظيم في تقريره الذي ليس عندنا مدح منه سواه قد كتبه
بعد موته , وإذا كان عند صاحب المؤيد رواية لسانية عن اللورد فهي لا تقوم حُجة
عليه , ولا يصح مقابلتها بما كتبه اليوم إلا أن يكون على سبيل التبع.
(2) إن كون الأستاذ الإمام كان من زعماء الثورة العرابية لا يصلح سببًا ,
ولا جزء سبب لمساعدة اللورد إياه , وإلا لساعد سائر زعمائها.
(3) إن اللورد فسر بغض الشيخ محمد عبده للباشوات بأنه قلما وجد فيهم
صالحًا , وأنه متى وجد الصالح لا يعرض عنه , ولا يعارضه لصدق وطنيته ,
فوافقه صاحب المؤيد على كونه كان يكره الباشوات , وعلى كونه كان صادق
الوطنية. ثم مثَّل بغضه للباشوات بعداوة الخديو الحالّ وأبيه وجدّه , ونحن لا نوافقه
على هذا التمثيل الذي يوهم الحصر. أما كرهه لإسماعيل فهو معقول مهما كانت
سنه , ومعارفه السياسية في ذلك العهد , وسنبين ذلك.
وأما توفيق فقد كان هو وأستاذه جمال الدين من حزبه وشيعته على أبيه , وقد
نقم منه إخراج أستاذه من البلاد , ونفيه هو إلى بلده وكان راضيًا منه أتم الرضى
عندما ساعد الوزارة الرياضية على الإصلاح في البلاد. ولما حدثت مبادئ الثورة
العرابية كان الشيخ مقاومًا للعرابيين , ولما استفحل الأمر كان مرشدًا معتدلاً بِحَسَب
علمه , وقد ظهر له في أثناء ذلك استعانة توفيق باشا بالإنكليز على العرابيين ,
فكرهه في أثناء ذلك كراهة شديدة كما يعلم من مذكراته في شأن تلك الحوادث ,
ومنها أن مذبحة الإسكندرية كانت بإيعاز من الخديو؛ ليثبت لإنكلترا وسائر
الأوربيين عجز عرابي عن حمايتهم , وقد كتب بردولي المحامي عن العرابيين شيئًا
من هذا في كتابه نقلاً عنه.
وأما العباس - أيده الله بتوفيقه وعنايته - فقد كان في أكثر مدة ولايته على مودة مع
المرحوم , وهو الذي اقترح من نفسه جعله مستشارًا في الاستئناف , وهو هو الذي
اختاره بنفسه مفتيًا للديار المصرية , ولم يكن للورد دخل في ترقي الشيخ محمد
عبده في الوظائف إلا عدم المعارضة , والفضل الإيجابي في ذلك للأمير وحده كما
كان يصرح به الشيخ مرارًا.
ولكن حدث في السنين الأخيرة بينهما شيء من سوء التفاهم بسعاية بعض
المفسدين الذين يعرفهم صاحب المؤيد أكثر من غيره إذ كان يقاوم سعايتهم ومفاسدهم
إلى غضب هو أيضًا، وزاد سوء التفاهم تلك المسألة التي أشار إليها المؤيد في ترجمة
حسن باشا عاصم , فقال ما معناه: إنها مسألة كان يرى نفسه فيها قائمًا بواجب تفرضه
عليه الذمة , وكان يراه مولاه فيها متعنتا. وله أن يقول مثل ذلك في صديقه وشريكه
فيها الشيخ محمد عبده.
فمن هذه الخلاصة الوجيزة يعلم أن إظهار اللورد الصداقة للشيخ بضع عشرة
سنه لا يتأتى أن يكون المراد به دفعه في عداوة الخديو كما قال المؤيد، على أنه كان
أثبت من أن يندفع بيد اللورد أو غيره , فقد كان في الذروة العليا من الاستقلال
في فكره وإرادته , وناهيك أيضًا بوطنيته وديانته.
حقًّا أقول: إنني كنت أراه حتي في المدة الأخيرة التي قوي فيها سوء التفاهم
بينه وبين الأمير يتمنى لو يكون الأمير موفقًا مؤيدًا في كل شيء يرفع شأن البلاد،
ويفيدها مصونًا من كل شيء ضار , وإنني سمعته غير مرة يقول: إننا كلنا معلقون
برجليه فإذا أهبطه الإنكليز درجة هبطنا تحته لا معه، وإننا كنا مرة نتحدث في
استرضائه , فأقسم بأنه لو أمره أن يخرج من البلد لامتثل. ولكنه كان ينكر على
المعية أمورًا كثيرة , ويتمنى الوفاق الممكن الذي لا يصحبه ضرر من جهة أخرى
على أن المؤيد استنبط من عبارة اللورد أنه يحاول أن يطعن على الشيخ أكثر من كل
إنسان في مصر لولا ما سبق من المدح فيه , فهل يكفي أن يكون سبب هذا هو
الاستغناء عنه بموته , وخروجه هو من مصر؟ .
(4) توجيه المؤيد قول اللورد في الأستاذ الإمام إنه كان خياليًّا غير وجيه؛
فإنه جعل تأويل ذلك بعد التسليم به أن الأستاذ كان يخيل له أن يقبض بكلتا يديه
على اللورد من جهة وعلى الخديو من جهة , فيفشل في الأمرين. وهذا الاستنباط
من خيال المؤيد ما أظن أنه طاف بخيال اللورد , إذا البعد بين الخيالين شاسع جدًّا.
ولخيال المؤيد وجه ودليل من الخارج , فإن الشيخ رحمه الله كان يتقرب من الأمير
للاستعانة به قبل كل شيء على خدمة دينه في نحو إصلاح الأزهر، ثم إبداء
النصيحة الواجبة إذا عرض موجبها , وكثيرًا ما كان يعرض ذلك؛ وقد سمعت من
فم الأمير في قصره بالقبة أنه يستشير الشيخ , ويعجبه رأيه , ويثق به. وكان
أيضًا يختلف إلى اللورد للاستعانة به على خدمة وطنه , وما كان يطلب منهما شيئًا
لنفسه. ومن مصلحة البلاد أن يكون فيها رجال يثق أمير البلاد وعميد الاحتلال معا
بكفاءتهم وصدقهم , وذلك من الحقيقة لا من الخيال.
(5) ذكر المؤيد في موضع أن اللورد طعن في دين الشيخ محمد عبده ,
وجعله لا أدريا أو ملحدًا حتى إن من قرأ عباراته , ولم يكن عارفًا بكلمة اللورد يظن
أنه جزم بهذا الطعن واللورد لم يجزم بذلك , وإنما قال: (أخشى) كما في ترجمة
المؤيد نفسه، أو (أظن) كما في ترجمة بعض الجرائد , فوجب علينا أن نبين
ذلك.
(6) قال المؤيد: إنه لا يطعن في إيمان الشيخ؛ لأن الإيمان محله القلب ,
وإن ظواهره كانت مجال مقال كثير لأصدقائه ولأعدائه! ! فنقول: إننا نحن نوافق
المؤيد على قوله: إن الإيمان من أعمال القلوب التي يستأثر الله بعلمها , ويؤيد هذا
القول الحديث الصحيح (هل شققت عن قلبه) لمن قال: يا رسول الله , أعط فلانًا؛
فإنه مؤمن. ولكن المؤيد وقع في الحكم على القلب الذي أنكر على اللورد؛ إذ قال:
(قضى المرحوم الشيخ محمد عبده من عمره بضع عشرة سنة , وهو صديق
مخلص للورد كرومر) ؛ فالإخلاص كالإيمان محله القلب , ولا يمكن أن يطلع عليه
إلا الله تعالى , فكيف أجاز المؤيد الحكم على القلب مرة ومنعه أخرى؟
أما الظواهر التي تدل على قوة إيمانه فهي أقوى من الظواهر التي تدل على
إخلاصه في صداقة اللورد مع العلم بأنه كان أبعد الناس عن النفاق والرياء , فإنه
لم يعمل للورد عملاً خاصًّا به أو بدولته , ولكنه وقف حياته على خدمة مصر
والإسلام ابتغاء مرضاة الله. والمؤيد - وإن كان قد أدخل في مسألة الظواهر كلمة
محتملة ككلمة أبي سفيان لهِرَقْل , فقال: إنها كانت مجال مقال كثير - قد قال من
نفسه مقالاً جازمًا هذا نصه:
(ولكنه كان على كل حال عالمًا يحاول ما استطاع إصلاح الفاسد من الشئون
التي طرأت على الدين , ويعمل لذلك بغيرة لا تفتر، وفي آخر عهده من الدنيا كان
يعتقد في نفسه اعتقادًا ملأ جوانحه أنه رسول إصلاح من عند الله , فكان يجاهد في
سبيل الله جهادًا حقيقيًّا , وإن لم ينل حظ الثقة العامة بذلك) فالذي يعتقد هذا
الاعتقاد لا يمكن أن يكون مُلحدًا أو لا أدريًا؛ أي: شاكًّا في وجود الله يقول: لا أدري
أهو موجود أم لا؟
صدق المؤيد وإنْ كان في تعبيره بلفظ (رسول إصلاح) غرابة لما لها من
المعنى الشرعي الذي ليس بمراد هنا. فإن الأستاذ الإمام كان يعتقد أن دين الإسلام
لا بد أن يعود إليه مجده ونوره الذي حال دونه ظلام البِدَع والخرافات والتقاليد
والعادات , وأنه هو عالم بحقيقته وبكيفية تسرب البدع إليه، وقادر على بيان ذلك
وإزالته بالحُجة , وأن هذا العمل فرض محتّم عليه.
وقد غمر هذا الاعتقاد عقله وقلبه , وملك جنانه ووجدانه , فبذلك كان يرى أنه
كان ملهم ومسخر من الله تعالى لهذا العمل ليس في استطاعته أن يتوانى فيه. وقد
ذكر قاسم بك أمين في تأبينه أن بعض أصدقائه كانوا يلومونه على تفريطه في صحته
وتعبه في بعض الأعمال التي قَلَّما تأتي بما يتوخاه من الفائدة فيها , فيعدهم
بالتخفيف , ولكنه يصبح في الغد أشد اهتمامًا وعنايةً مما كان عليه بالأمس. وصدق
المؤيد في قوله: إنه لم ينل حظ الثقة العامة بإصلاحه , إذ لو نال هذا الحظ لَمَا قال
لورد كرومر في الإسلام ما قاله اليوم؛ لأن الإصلاح العملي كان يمنعه من ذلك.
* * *
رأينا في سبب اختلاف قولي اللورد
قال المؤيد: إن الجواب عن التفاوت بين كلامَيِ اللورد مذكور في كتابه , وقد
صدق في هذه , ولكن أخطأ اجتهاده فيما بينه به؛ إذ لا اجتهاد في مورد النص. أما
هذا النص فهو في موضعين , ذكر أحدهما المؤيد فيما ترجمه من كلام اللورد في
الشيخ وأهله في الرد , وأغفل أحدهما في الموضعين. أما الذي ذكره وأهمله فهو
هامش اللورد [1] الذي يذكر فيه دهشته من استمداد مستر بلنت أخبار تاريخه السّرّي
للاحتلال من محمد عبده , وفي هذا الكتاب من التشنيع على اللورد وسياسته ما فيه.
وأما الذي أغفله المؤيد فدونك ترجمته نقلاً عن حاشية ص 524 من المجلد الثاني
في سياق الكلام عن المعارف: لقد دهشت بل اعترتني خيبة أمل عندما قرأت في
كتاب ألفه مسيو جورفيل رسالة للشيخ محمد عبده أعطى فيها ذلك الرجل الشهير
رجاحة اسمه (أو قوة اسمه) لِتُهَمٍ أو تعريضات من هذا النوع , ولا بد أنه كان على
يقين من أنها لا أساس لها. وكنت أرجو منه أفضل من هذا. اهـ علق هذا على
هامش معناه: هل نظر الإنكليز إلى انحطاط المصريين السياسي أو الاجتماعي
نظر المغتبط , فلم يحاولوا ترقيتهم كما يزعم بعض سفلة الناقدين؟
ونحن نقول: إن الرجل لم يعط اسمه لترويج التهم أو التعريضات كما ظن
اللورد , وإنما أراد الموعظة والتنبيه إلى الصواب الذي يعتقده , ولكن صاحب
الكتاب استخدم اسمه لترويج كتابه , وهو ما كان يقول إلا ما يعلم تمام العلم أنه
صحيح كل الصحة. وإذا كان اللورد يرجو منه يوم كتب تلك الرسالة إلى جورفيل
أمرًا أفضل من هذا فهو أيضًا ربما كان يرجو من اللورد قبيل ذلك أمرًا أفضل مما
رأى منه عند الحاجة إلى مساعدته في أهم وأفضل غرض له من حياته. وإننا نورد
الآن ما جاء في رسالة الأستاذ الإمام عن المعارف وهو:
ما كتبه الأستاذ الإمام
لجرفيل عن المعارف
(التعليم العام) لا تنفق الحكومة المصرية على التعليم العام إلا مبلغ مائتي
ألف جنيه مع أن في وسعها إنفاق أكثر منه؛ لأن دخلها قد بلغ في الميزانية اثني
عشر مليونًا من الجنيهات , وهي لا تنفك عن زيادة أجور التعليم التي
تتقاضاها من الناس على تعليم أولادهم من حين إلى حين , وقد بلغت من ذلك إلى
حد أن صارت تربية الأولاد عبأً ثقيلاً حتى على أوساط الناس , وإذا استمر هذا
التزايد أمسى التعليم زخرفًا لا يتسنى التحلي به إلا في بيوت الأغنياء فقط.
ومن المبادئ التي يجري عليها القابضون على أزمة أمورنا أنْ لا حق لأولاد
الفقراء في نوع ما من التعليم , فهم يجاهرون به كل المجاهرة , ويبدو منهم على
الدوام في حديثهم وتقاريرهم وكتبهم.
نعم , إنه من المسلم إلى حد محدود أن الوالد الذي يخصص جزءًا من دخله
لتربية أولاده يهمه أن يحصل من التربية على مقابل هذا الجزء , وأنه يراقب ولده
في التعلم مراقبةً فعليةً ليحمله على الاستفادة من تعليم يكلفه كثيرًا من النفقات , ولكن
الذي لا يسلم به أحد ولا دليل عليه من التجربة هو أن يستنتج من هذا أن كل تعليم
مجاني يكون عقيمًا , فإنه مما تنبغي ملاحظته أن التعليم في المدارس المصرية من
عهد محمد علي باشا إلى سنة 1882 كان مجانيًّا في كل هذه المدة , ولم يمنع هذا أن
تنتج تلك المدارس عددًا من الرجال المتعلمين تعلمًا حقيقيًّا , ومعظمهم من الفقراء،
ولم يضر أوربا أن التعليم مجاني في كثير من البلدان , ولكن أي فائدة لنا من
الاستشهاد بما غبر من الاختبار في مصر , وما حضر من الاعتبار بأوربا ما دام
الذين بيدهم مقاليد حكومتنا مصممين على أن لا يقبلوا إلا ما يهديهم إليه فكرهم.
يشق على الإنسان أن يرى كل سنة مشهد توارد الآباء والأمهات على نظارة
المعارف يقودون صغارهم إليها , سائلين التصدق عليهم بقبولهم مجانًا في مدارسها
معتذرين بفقرهم، ومدلين بما يكون بعض أفراد أهلهم قد أدوه إلى الحكومة من الخدم ,
مؤملين على الدوام أن العناية الإلهية والمرحمة القلبية تلين صلابة ذلك المبدأ ولو
مرة واحدة , ولكنهم يضطرون في آخر الأمر إلى الرجوع إلى بيوتهم أو إلى قراهم
خائبين خائري العزائم غير راضين لا يدرون ماذا يفعلون بهؤلاء الأبناء الأعزاء
الذين تمنوا لهم أماني كثيرة ما حيلتنا؟ يقولون لنا: (إن بين ظهرانيكم من أبناء
وطنكم أغنياء في وسعهم إنشاء مدارس مجانية للفقراء) .
آهٍ واأسفاه! نعم إن أبناء وطننا في وسعهم القيام بهذا العمل وبأحسن منه ,
ولكن مصر لما يوجد فيها محبون للإنسانية , وأخص من بينهم مُحبّي الإنسانية
المستنيرين، قد يوجد أحيانًا بعض منهم يشيدون مساجد لا حاجة إليها لكثرتها عندنا ,
وبعض آخر يقف جزءًا من عقاره على وليّ , ولكن همة الناس وانبعاثها إلى
العمل لم توجه نحو التعليم فأمتنا أقامت زمنًا طويلاً تعتمد على الجماعة في كل شيء،
ومن أجل كل شيء.
أما إذا نحن نظرنا إلى هذا التعليم الذي تقوم به الحكومة المصرية من جهة
قيمته , فإننا نضطر إلى القول بأنه قَلَّما يُكَوّن رجلاً في قدرته أن يمارس حرفة تقوم
بمعيشته , ويستحيل أن ينشئ عالمًا أو كاتبًا أو فيلسوفًا , فكيف بالنوابغ في شيء
من هذا.
وليس للتعليم العالي بمصر سوى مدرسة الحقوق ومدرسة الطب ومدرسة
المهندسخانة. أما جميع العلوم الأخرى التي تتألف منها معارف الإنسان فالمصري
قد يأخذ منها بعض معلومات سطحية في المدارس التجهيزية , ولكن يكاد يكون من
المتعذر عليه أن يدرسها دراسة وافية , بل يقضى عليه غالبًا أن يجهلها - فعلم
الاجتماع بفروعه التاريخية والأخلاقية والاقتصادية , وعلم الفلسفة القديمة والحديثة ,
وعلم آداب اللغة العربية واللغات الأوربية , وكذلك الفنون الجميلة لا تعلم بالكلية في
مدرسة ما من المدارس المصرية.
فكان فينا القضاة والمحامون، والأطباء والمهندسون، ممن تختلف درجاتهم
في العلم , ولكننا لا نجد في طبقة منهم ذلك الباحث , ولا ذلك المفكر , ولا ذلك
الفيلسوف , ولا ذلك العالِم , ولا ذلك الإنسان الذي يمتاز ببُعد الفكر والنظر ,
وبشهامة الفؤاد , وكرم السجايا الذي أوقف حياته كلها على السعي وراء مطلب من
مطالب الكمال.
وصفوة القول أن خطّة الحكومة التي رسمَتْها لنفسها , ويظهر أنها مصممة
على أن لا تحيد عنها تتلخص في أمور ثلاثة:
(أولها) : مساعدة التعليم الابتدائي في المدارس الصغيرة المُسمّاة بالكتاتيب ,
حيث تعلمُ الكتابة والقراءة وقواعد الحساب الأربع.
(ثانيها) : التقليل من نشر التعليم في الأمة ما أمكن.
(ثالثها) : حصر التعليم الثانوي والتعليم العالي في أضيق الدوائر.
المصريون موقنون بأنّ مَنْ بِيَدِهِم مقاليد أمورهم العمومية لا يعملون كل ما في
وسعهم لترقية الناشئين أخلاقًا وعقولاً , وهذا الرأي مما يدعو إلى الأسف والأسى
من جميع الوجوه , فإنه سيحدث في الرأي العامّ تيارًا من الاستياء إن لم يكن عاجلاً
فآجلاً , وليت شعري ماذا يربح الإنكليز من التمادي في ترك هذا الاعتقاد راسخًا في
النفوس؟ وإذا كان ثَمَّة أمْر يصحّ أن يتلاقى فيه الطرفان , ويكون قاعدة للاتحاد ,
فإنما هو التعليم العام إذ لا يمكن أن يوجد تناقض بين مصلحة الإنكليز ومصلحة
المصريين في هذا المقصد.
فمن أراد استدرار ما في مصر من المنافع والخيرات فسبيله في ذلك أن يُعْنَى
بتعهد كل ما فيها من موارد الثروة , وأن يبدأ بالإنسان بكل ما فيه من معاني الإنسان ,
فلا بد من امتزاج العنصرين الأوروبي والوطني , وأخذهما على التكاتف في
السير نحو هذه الغاية يدًا بيد.
وَلَعَمْرِي إن الإنكليز لَيسيئون إلى أنفسهم إذا أوهنوا الأهلين , وأرخصوا من
قيمتهم , وصغروا من شأنهم فإنما مصلحتهم في أن يكون أبناء هذا الوطن أعزاء
أغنياء أحرارًا , فإن موارد الثروة والخير للإنكليز منوطة بما يصيبنا من ثراء
ورخاء.
هذا ما جاء في رسالة الشيخ محمد عبده لجورفيل عن المعارف , ويليه كلام
عن الحقانية ومعاملة الإنكليز للموظفين المصريين ملخصه أنهم يلتمسون ضعيف
الإرادة الذي يخضع لهم في كل شيء , ولا يناقشهم في عمل ما , ويقصون
المستقلين في الفكر والإرادة، وأن كل رئيس منهم يعد نفسه مشرعا , فكلما خطر له
استبدال قانون بقانون وضع قانونًا جديدًا وأنفذه؛ لأن مجلس النظار لا استقلال له
فيناقش أو يعارض، ومجلس شورى القوانين ليس له إلا حق بيان الرأي، والحكومة
غير مكلفة الأخذ بقوله , على أنّ فيه من الضعف ما فيه؛ لأن الأفراد الذين يصلحون
فيه للبحث قليلون.
فأيّ شيء من هذه الرسالة ينكر اللورد لنثبته له؟ أما إنه لا ينكر منها شيئًا ,
ولكنه عز عليه أن يرى في كتاب أوربي كلامًا في عيوب إدارة مصر لرجل
معروف بالصدق , وعلوّ المكانة عند الأوربيين؛ ولذلك قال: إنه أعطى رجاحة
اسمه لجورفيل , إلخ.
إن اللورد نفسه قد اعترف في كتابة بأن المعتدلين الذين سمّاهم حزب أو أتباع
محمد عبده لم يشجعوا كما ينبغي , وقال في تقرير سنة 1905: إن تعيين سعد باشا
زغلول في الوزارة - وهو أشهرهم - إنما هو تجربة. فهل له أن يقول مع ذلك:
إن ما كتبه الشيخ لموسيو جورفيل: لا أساسَ له في اعتقاده؟
لقد كان هو وجميع أهل الرأي في مصر يعتقدون حقية ما كتبه , وهذا
الاعتقاد لا يزول إلا بعمل ينقضه , فإذا كانت الحكومة الاحتلالية مخلصة فيما فعلت
وتفعل لمصر , وكان ما ذكره الشيخ من عيوب إدارتها غير متعمد منها فلتتداركه
بمساعدة المستقلين من المصريين , ولا يعسر عليها الاهتداء إليهم.
أما ما قاله الشيخ في رسالة عن المعارف , فمنه ما هو حكاية عن اعتقاد
المصريين واستيائهم , وهو مؤيد بما تذكره جميع الجرائد آنًا بعد آنٍ , وبما ظهر في
مجلس الشورى والجمعية العمومية , فكيف يقول اللورد: إنه لا أساس له؟ ألم ينبأ
بما جرى في هذا العام - حتى بعد أن قام ناظر المعارف بهذه النهضة الجديدة في
ترقية التعليم من جهات متعددة - من قيام قيامة التلاميذ والجرائد والناس على مستر
دنلوب بما كان قد ازدحم في مراكز الفكر والشعور من سوء حال الماضي. إن لم
يكن قد ظهر به مصداق قول الشيخ: إنه سيحدث في الرأي العام تيار استياء عامّ
من حال التعليم عاجلاً أو آجلاً فإن ما ظهر قريب منه , ولولا هذا الإصلاح الجديد
لظهر أتمّ الظهور.
أما باقي كلام الشيخ فهو حكاية عن سياسة المحتلين في التعليم , وهو مؤيد بما
كتبه اللورد في تقرير تلك السنة؛ فإنه قال (كما في ص 133 وما بعدها من
النسخة العربية لتقريره عن سنة 1905) :
(يراد بهذه السياسة إبطال التعليم المجاني تدريجًا من المدارس الأميرية التي
هي فوق الكتاتيب , وزيادة الأجور فيها) ثم احتجّ على ذلك بكون الغرض منها
تعليم التلاميذ تعليمًا أوربيًّا؛ لكي تعد جمهورًا من الشبّان المصريين لخدمة الحكومة
ولتعاطي بعض الفنون , ثم ذكر أن محمد علي أنشأ هذه المدارس لِفرنجة البلاد ,
وأن عباسًا الأول ألغاها بعد أن خرج منها ما يزيد على الوظائف , وأعادها إسماعيل
لفرنجة البلاد كما كانت , وأنها كانت مجانًا بل كان التلاميذ فيها يأكلون ويأخذون
مرتبات , وأظهر استحسان ذلك من قبلُ , والاستغناء عنه الآن , ثم قال: (ويجب
على الحكومة أن تتوخى جعل أجرة التعليم في كل مدارسها المتفرنجة مقاربة للنفقات
التي تنفقها عليه. والأموال التي تنفقها على هذه المدارس تصير تنفقها على التعليم
الأهلي الألزم لحاجة الأمة) , ويعني بالألزم لحاجات الأمة تعليم الكتاتيب والصنائع
فقط , وهذا ما لا يسلم به مصري قط.
ثم ذكر أن الإنكليز لما احتلوا البلاد وجدوا أن كل ما تنفقه المعارف العمومية
(إنما تنفقه على تعليم أولاد فئة صغيرة , أكثرها من أغنى أغنياء السكان , ولا تعلمهم
إلا تعليمًا أوربيًّا فأخذوا في تغيير تلك الحال , وبذلت الهمة منذ سنة 1884 لأخذ
الأجور من التلامذة , ولإبطال التعليم المجاني تدريجيًّا؛ ولكن بقى النجاح في هذا
السبيل بطيئًا جدًّا إلى عهد قريب) , ثم استدل بذلك على (أن إبطال التعليم المجاني ,
وازدياد أجرة التعليم لَيْسَا من دلائل التأخر , ولا هما مضرّان بمصلحة البلاد
الحقيقية , بل هما بمثابة إبطال امتياز) إلخ.
فكيف يقول اللورد مع هذا: إن الشيخ كتب ما يعلم أنه لا أساس له؟
سبحان الله! كأن الشيخ كان يكتب سنة 1905 لجورفيل في الوقت الذي كان
اللورد يكتب فيه لناظر خارجيتهم ما يؤيد قوله! ألم تر أن الشيخ قد كتب أنهم - يعني
وُلاة الأمور - يقولون لنا: إن فيكم أغنياء يجب أن ينشئوا المدارس المجانية للفقراء.
وأن اللورد كتب في تقريره (ص135 و 136) : (وإذا أريد تمهيد السبل للتلامذة
الذين تبدو عليهم مخايل النجابة الفائقة لكي يدخلوا المدارس العليا ووسائطهم المالية
لا تكفي لذلك وجب أن يقف المحسنون أموالاً لتلك المدارس التي يعلَّم بها من كان
مثل أولئك التلامذة , ووقف هذه الأموال لتعليم التلامذة الفقراء الذين يستحقون
أن يساعدوا أنفع جدًّا من تكثير المدارس الابتدائية المتفرنجة) .
(للمقال بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) راجع الأسطر الأخيرة من ص 95 من المنار.(11/81)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
احتفال السوريين بحافظ أفندي إبراهيم
دعا سليم أفندي سركيس السوريين بمصر وغيرها إلى الاكتتاب للاحتفال
بحافظ أفندي إبراهيم الذي ينوه بفضلهم؛ ليكون هذا الاحتفال توددًا من شعب إلى
شعب هما بمنزلة الشقيقين , فلبى الدعوة كثيرون , وبعد انتهاء مدة الاكتتاب أُقِيمت
الحفلة بفندق شبرد , وحضرها مع جمهور المكتتبين كثيرون من وجهاء وأدباء
المصريين , وأصحاب الجرائد وكان ترتيبها هكذا:
افتتح الاحتفال سليم أفندي سركيس ببيان الغرض منه، خطب سليمان أفندي
البستاني في الشعر والشعراء، أنشد نقولا أفندي رزق الله قصيدة (مصر وسوريا)
خطب سليم بك باخوس في إكرام الرجال للرجال، تليت قصيدة للأمير شكيب
أرسلان، خطب إسماعيل بك عاصم، أنشد أمين أفندي البستاني قصيدة له، خطب
رفيق بك العظم , تليت قصيدة لأسعد أفندي رستم، قُرئ كتاب في تحية الصحافة
للشعراء المرسل من إدارة جريدة (مرآة الغرب) بنيويورك , أنشد الدكتور إبراهيم
أفندي شدودي قصيدة له , وقدم سليم أفندي سركيس لحافظ أفندي هدية رواق المعري
في البرازيل وهي قلم من الذهب بشكل الريشة , ثم الهدية الإكرامية من مجموع
السوريين وهي دواة ومقلمة من الفضة، وختمت الحفلة بقصيدة الشكر من حافظ
وهي:
لمصر أم لربوع الشام تنتسبُ ... هنا العلى وهناك المجد والحسبُ
ركنان للشرق لا زالت ربوعهما ... قلبُ الهلال عليها خافقٌ يجبُ
خدران (للضاد) لم تهتك ستورهما ... ولا تحوَّل عن مغناهما الأدب
أُمُّ اللغات غداة الفخر أمهما ... وإن سألت عن الآباء فالعرب
أيرغبان عن الحسنى وبينهما ... في رائعات المعالي ذلك النسب
ولا يمتَّان بالقربى وبينهما ... تلك القرابة لم يقطع لها سبب
إذا ألمت بوادي النيل نازلةٌ ... باتت له راسيات الشام تضطرب
وإن دعا في ثرى الأهرام ذو ألم ... أجابه في ذرى لبنان منتحب
لو أخلص النيلُ والأردنُّ ودّهما ... تصافحت منهما الأمواه والعُشب
بالواديين تمشى الفخر مشيته ... يحفُّ ناحيتيه الجود والدأب
فسال هذا سخاء دونه ديمٌ ... وسال ذاك مضاءً دونه القضب
نسيمَ لبنان كم جادتك عاطرةٌ ... من الرياض وكم حياكَ منسكب
في الشرق والغرب أنفاس مسعَّرةٌ ... تهفو إليك وأكبادٌ بها لهب
لولا طلاب العلا لم يبتغوا بدلاً ... من طيب رياك لكنَّ العلا تعب
كم غادةٍ بربوع الشام باكيةٍ ... على أليفٍ لها يرمي به الطلب
يمضي ولا حلية إلا عزيمته ... وينثني وحلاه المجد والذهب
يكرُّ صرف الليالي عنه منقلبًا ... وعزمه ليس يدري كيف ينقلب
بأرض (كولمبَ) أبطالٌ غطارفة ... أسدٌ جياعٌ إذا ما ووثبوا وثبوا
لم يحمهم علمٌ فيها ولا عددٌ ... سوى مضاءٍ تحامى ورده النوب
أسطولهم أملٌ في البحر مرتحلٌ ... وجيشهم عملٌ في البرّ مغترب
لهم بكلّ خضم مسربٌ نهجٌ ... وفي ذرى كل طودٍ مسلك عجب
لم تبدُ بارقةٌ في أفق منتجعٍ ... إلا وكان لها بالشام مرتقب
ما عيبهم أنهم في الأرض قد نُثروا ... فالشهب منثورة مذ كانت الشهب
ولم يَضِرْهم سراءٌ في مناكبها ... فكل حيّ له في الكون مضطرب
رادوا المناهل في الدنيا ولو وجدوا ... إلى المجرَّة رَكبًا صاعدًا ركبوا
أو قيل في الشمس للراجين منتجع ... مدُّوا لها سببًا في الجوّ وانتدبوا
سعوا إلى الكسب محمودًا وما فتئت ... أم اللغات بذاك السّعي تكتسبُ
فأين كان الشآميُّون كان لها ... عيشٌ جديد وفضل ليس يحتجب
هَذِي يدي عن بني مصر تصافحكم ... فصافحوا تصافح نفسها العربُ
فما الكنانهُ إلا الشام عاج على ... ربوعها من بنيها سادةٌ حسب
لولا رجال تغالوا في سياستهم ... منا ومنهم لما لمنا ولا عتبوا
أن يكتبوا لي ذنبًا في مودّتهم ... فإنما الفخر في الذنب الذي كتبوا
__________(11/112)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إنجيل برنابا.. مقدمتنا له
قد تمّ طبع إنجيل برنابا كما قلنا في الجزء الثاني عشَر من السنة الماضية ,
وقد كتب له مترجمه الدكتور خليل سعادة مقدمة، ذكر فيها ملخص ما قاله علماء
الإفرنج فيه ورأيه في ذلك فنشرناها وقفينا عليها بمقدمة منا، هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد رسول الله، وعلى عيسى المؤيد بروح
الله، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد , فإننا نرى مؤرخي النصرانية قد أجمعوا على أنه كان في القرون
الأولى للمسيح عليه السلام أناجيلُ كثيرة , وأن رجال الكنيسة قد اختاروا منها أربعة
أناجيل، ورفضوا الباقي. فالمقلدون لهم من أهل مِلّتهم قبلوا اختيارهم بغير بحث ,
وسيكون ذلك شأن أمثالهم إلى ما شاء الله.
وأما من يحب العلم، ويجتنب التقليد من كل أمة فهو يود إذا أراد الوقوف على
أصل هذا الدين وتاريخه لو يطلع على جميع تلك الأناجيل المرفوضة , ويقف على كل
ما يمكن الوقوف عليه من أمرها , ويبني ترجيح بعضها على بعض بعد المقابلة
والتنظير على الدلائل المرجحة التي تظهر له هو وإنْ لم تظهر لرجال الكنيسة.
لو بقيت تلك الأناجيل كلها لكانت أغزر ينابيع التاريخ في بابها ما قبل منها
أصلاً للدين وما لم يقبل , ولرأيت لعلماء هذا العصر من الحكم عليها والاستنباط
منها بطرق العلم الحديثة المصونة بسياج الحرية والاستقلال في الرأي والإرادة ما لا يأتي مثله من رجال الكنيسة الذين اختاروا تلك الأربعة، ورفضوا ما سواها.
إنجيل المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام واحد هو عبارة عن هَدْيهِ وبشارته
بمن يجيء بعده لِيُتمّ دين الله الذي شرعه على لسانه وألسنة الأنبياء من قبله ,
فكان كل منهم يبين للناس منه ما يقتضيه استعدادهم , وإنما كثرت الأناجيل؛ لأن
كل من كتب سيرته عليه السلام سماها إنجيلاً لاشتمالها على ما بشر وهدى به الناس.
من تلك الأناجيل (إنجيل برنابا) وبرنابا حواري من أنصار المسيح الذين
يلقبهم رجال الكنيسة بالرسل. صحبه بولص زمنًا , بل كان (هو الذي عرف
التلاميذ ببولص بعدما اهتدى (بولص) ورجع إلى أورشليم) [1] , فلعل تلاميذ
المسيح ما كانوا ليثقوا بإيمان بولص بعدما كان من شدة عداوته لدينهم لولا برنابا
الذي عرفه أولاً , وعرفهم به بعد أن وثق به.
ومقدمة هذا الإنجيل الذي نقدم ترجمته لقُرّاء العربية اليوم ناطقة بأن بولص
انفرد بتعليم جديد مخالف لِمَا تلقاه الحواريون عن المسيح. ولكن تعاليمه هي التي
غلبت , وانتشرت , واشتهرت , وصارت عماد النصرانية. ويذهب بعض علماء
الإفرنج إلى أن إنجيل مرقس وإنجيل يوحنا من وضعه كما في دائرة المعارف
الفرنسية. فلا غرو إذا عدت الكنيسة إنجيل برنابا إنجيلاً غير قانوني أو غير
صحيح.
لم نقف على ذكر لإنجيل برنابا في أسفار التاريخ أقدم من المنشور الذي
أصدره البابا جلاسيوس الأول في بيان الكتب التي تحرم قراءتها , فقد جاء في
ضمنها إنجيل برنابا. وقد تولى جلاسيوس البابوية في أواخر القرن الخامس للميلاد ,
أي: قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم على أن بعض علماء أوربا يرتابون اليوم
في ذلك المنشور كما ذكر الدكتور سعادة في مقدمته , والمثبت مقدّم على النافي.
مرت القرون وتعاقبت الأجيال ولم يسمع أحد ذكرًا لهذا الإنجيل حتى عثروا
في أوربا على نسخة منه منذ مائتي سنة , فعدوها كنزًا ثمينًا , ولو وجدها أحد في
القرون الوسطى - قرون ظلمات التعصب والجهل - لَمَا ظهرت , وأنى يظهر
الشيء في الظلمة , والنور شرط الظهور؟
ظهرت هذه النسخة في نور الحرية المتألق في تلك البلاد , وكانت موضع
اهتمام العلماء وعنايتهم , وموضوع بحثهم واجتهادهم , وانبرى بعض فضلاء
الإنكليز في العام الماضي لترجمتها بالإنكليزية , وتعمم نشرها وقد أهديت إلينا نسخة
منها عند نشرها , فرأينا أنه يجب أن لا يكون حظ قراء العربية منها أقل من حظ
قراء الإنكليزية , فكاشفنا بذلك صديقنا الدكتور خليل سعادة , فوافقت رغبته رغبتنا ,
وترجم النسخة بالعربية ترجمةً حرفيةً , وباشرنا طبعها بعد معارضتها معه على
الأصل؛ لأجل الدقة في تصحيحها.
بحث علماء أوربا في هذه النسخة , وكتبوا في شأنها فصولاً طويلةً لخصها
الدكتور سعادة في مقدمته , فمن مباحثهم ما هو علمي دقيق ككلامهم في نوع ورقها
وتجليدها ولغتها , ومنها ما هو من قبيل الخَرص والتخمين , كأقوالهم في الكاتب
الأول لها , والزمن الذي كتبت فيه , وتبعهم في مثل هذا البحث أصحاب مجلتي
المقتطف والهلال.
ويجب أن ننبه في هذا المقام على قاعدة من قواعد البحث الفلسفية، وأصل
من أصوله العقلية، وهي قاعدة إطلاق البحث أو بنائه على رأسه ولو مفروضًا.
فإن كثيرًا من الباحثين يبنون أبحاثهم على فرضٍ يتخذونه قاعدةً مسلمةً , وربما كان
فاسدًا فيجيء كل ما بني عليه مثله؛ لأن ما بُنِيَ على الفاسد فاسد حتمًا.
مثال هذا ما امتحن به بعض الفلاسفة تلاميذه , وهو أنه عمد إلى جرة كانت في
الشمس , فقلبها من غير أن يروه , ودعاهم، فقال: إني أرى وجه هذه الجرة المقابل
للشمس باردًا. ثم قلبها ولمس الجانب الآخر معهم , فإذا هو سخن؛ فطالبهم بعلة
ذلك , فطفقوا ينتحلون العلل وهو يردها , ولما سألوه عن رأيه في ذلك قال: إنه يجب
أن يتثبت من صحة الشيء أولاً , ثم يبحث عن علته. وكون الجانب المقابل
للشمس من هذه الجرة باردًا , والجانب المقابل للأرض سخنًا غير صحيح , بل قلبتها
أنا لأختبر فطنتكم.
وكذلك فعل بعض الباحثين في إنجيل برنابا , فرضوا أنه من وضع
بعض المسلمين , ثم حاروا في حزر تعيين واضعه , هل هو غربي أم شرقي ,
عربي أم عجمي , قديم أم حادث. وما قال أحد فيه قولاً إلا وجد من الباحثين من
يفنده حتى رأى الدكتور سعادة بعد الاطلاع على تلك الأقوال أن الأقرب إلى التصور
أن يكون كاتبه يهوديًّا أندلسيًّا من أهل القرون الوسطى تنصر , ثم دخل الإسلام ,
وأتقن اللغة العربية , وعرف القرآن والسنة حق المعرفة بعد الإحاطة بكتب العهد
العتيق والجديد، واستدل على هذا الفرض بعلمه الواسع بأسفار العهد القديم ,
وموافقة التلمود , وإحاطته بالعهد الجديد , وغفل عن عزوه إلى كتب العهدين
ما لا يوجد في نسخها التي عرفت في القرون الوسطى , وهي التي بين أيدينا
الآن؛ كعزو قصة هوشع وحجي إلى كتاب دانيال، وعن مخالفته لها أحيانًا في
مسائل أخرى , ولو كان من أهل القرون الوسطى وما بعدها لَمَا وقع في هذا الغلط
الظاهر مع علمه الواسع.
واستدل أيضًا بموافقة بعض مباحثه للقرآن والأحاديث , وما كل ما وافق شيئًا
في بعض مباحثه يكون مأخوذًا منه وإلا لزم أن تكون التوراة مأخوذة من شريعة
حمورابي لا وحيًا من الله لموسى عليه السلام.
على أن معظم مباحث هذا الإنجيل لم تكن معروفة عند أحد من المسلمين ,
وأسلوبه في التعبير بعيد جدًّا من أساليب المسلمين عامَّةً والعرب منهم خاصَّةً , كما
بين بعض القسيسين في مجلة دينية , وأي مسلم يذكر الله ولا يثني عليه , والأنبياء
ولا يصلي عليهم , ويسمي الملائكة بغير الأسماء الواردة في الكتاب والسنة.
وقد كانت مسألة اليوبيل أقوى الشبهات عندي على كون كاتبه من أهل القرون
المتوسطة , لا من قرن المسيح حتى بين الدكتور سعادة ضعفها بدقة نظره , فلم يبق
للباحثين دليل يعوَّل عليه في هذا المقام , فإن موافقة بعض ما فيه لبعض ما ورد في
شعر دانتي يمكن أن يعلل بأن دانتي اطلع عليه وأخذ منه إن لم يكن ذلك من قبيل
توارد الخواطر.
أما الهوامش العربية التي وجدت على النسخة , فيحتمل أن تكون للراهب
فرمرينو الذي اكتشف هذا الإنجيل في مكتبة البابا بأن يكون دخوله في الإسلام
حمله على تعلم العربية , حتى كان مبلغ علمه فيها أن يترجم بعض الجمل بعبارة
سقيمة تغلب عليها العجمة , وما فيه من العبارات الصحيحة على قلتها لا ينافي ذلك ,
فإن كل من يتعلم لغة أجنبية في سِنّ الكبر تكون كتابته فيها لأول العهد من هذا
القبيل: صواب قليل، وخطأ كثير على أن أكثر العبارات الصحيحة في هذه
الهوامش منقول من القرآن أو بعض الكتب العربية التي يمكن أن يكون قد اطلع
عليها الكاتب.
ويحتمل أن يكون بعض القسوس أو من هم على شاكلتهم قد تعلم العربية؛ ليتبين
هل فيها مصادر لهذا الإنجيل يمكن إرجاعه إليها. ويرجح هذا الاحتمال تسميته
الفصول سورًا تشبيهًا له بالقرآن , أمّا عزو هذه الهوامش إلى مسلم عريق في الإسلام
فخطأ لا يحتمل الصواب؛ إذ لا يوجد مسلم عربي ولا عجمي يطلق لفظ
السور على غير القرآن , أو يقول: (الله سبحان) , كما جاء في مواضع منها هامش
ص 141 و 16؛ لأن كلمة (سبحان الله) مما يحفظه كل مسلم من أذكار دينه، أو
يقول: ميخائيل بدل ميكائيل , ويجهل اسم إسرافيل فيسميه أوريل أو أورفائيل , أو
يقول: إن السموات أكثر من سبع , وإن العدد لا مفهومَ له. كما قال علماء الأصول.
ولذلك أمثلة أخرى أضف إليها عدم اطلاع علماء المسلمين في الأندلس وغيرها على
هذا الإنجيل , كما حققه الدكتور مرجليوث مؤيدًا تحقيقه بخلو كتب المسلمين الذين
ردوا على النصارى من ذكره، وناهيك بابن حزم الأندلسي وابن تيمية المشرقي , فقد
كانا أوسع علماء المسلمين في الغرب والشرق اطلاعًا كما يعلم من كتبهما , ولم
يذكرا في ردهما على النصارى هذا الإنجيل.
بقى أمر يستنكره الباحثون في هذا الإنجيل بحثًا علميًّا لا دينيًّا أشد الاستنكار
وهو تصريحه باسم (النبي محمد) عليه الصلاة والسلام قائلين: لا يعقل أن
يكون ذلك كتب قبل ظهور الإسلام؛ إذ المعهود في البشارات أن تكون بالكنايات
والإشارات , والعريقون في الدين لا يرون مثل ذلك مستنكرًا في خبر الوحي. وقد
نقل الشيخ محمد بيرم عن رحّالة إنكليزي أنه رأى في دار الكتب البابوية في
الفاتيكان نسخة من الإنجيل مكتوبة بالقلم الحِمْيَرِيّ قبل بعثة النبي صلى الله عليه
وسلم , وفيها يقول المسيح: (ومُبَشِّرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) , وذلك
موافق لنص القرآن بالحرف , ولكن لم ينقل عن أحد من المسلمين أنه رأى شيئًا من
هذه الأناجيل التي فيها البشارات الصريحة , فيظهر أن في مكتبة الفاتيكان من بقايا
تلك الأناجيل , والكتب التي كانت ممنوعة في القرون الأولى ما لو ظهر لأزال كل
شبهة عن إنجيل برنابا وغيره.
على أنه لا يبعد أن يكون مترجم برنابا باللغة الإيطالية قد ذكر اسم (محمد)
ترجمة , وأنه في الأصل الذي ترجم هو عنه قد ذكر بلفظ يفيد معناه كلفظ البارقليط
ومثل هذا التساهل معهود عند المسيحيين في الترجمة , كما بيّنه الشيخ (رحمة الله)
للشواهد الكثيرة من كتبهم في الأمر السابع من المسلك السادس من الباب السادس
من كتابه (إظهار الحق) وزاده بعد ذلك بيانًا في البشارة الثامنة عشر.
ولا يحسبن القارئ المسلم أن علماء أوربا وبعض علماء بلادنا كالدكتور
سعادة , وأصحاب المقتطف والهلال يظهرون الريب في هذا الإنجيل الموافق في
أصول تعاليمه للإسلام تعصّبًا للنصرانية؛ فإن الزمن الذي كان التعصب فيه يحمل
العلماء على طمس الحقائق التاريخية وغيرها قد مضى.
وقد بحث علماء أوربا مثل هذه المباحث في الأناجيل الأربعة , فبينوا أنه لا
يُعْرَف مَتَى كُتِبَتْ , ولا بأيّ لغة أُلّفت , وقال بعضهم: إن مؤلفيهاغير معروفين ,
واتهم بعضُهم بولصَ بوَضْع أكثرها , كما ترى في دائرة المعارف الفرنسية وغيرها ,
بل منهم من جعل أصول تعاليمها مأخوذ من الأديان الوثنية.
أكثر العلماء في هذا العصر أحرار مستقلون في مباحثهم إلا من غلب عليه
التقليد الديني أو مصانعة المتدينين؛ ألا ترى أن الدكتور مرجليوث الإنكليزي هو
الذي دحض شبهة من قال: إن لهذا الإنجيل أصلاً عربيًّا , وإنه من وضْع المسلمين،
وإن الدكتور سعادة هو الذي فنّد رأي المستدل على كونه من وضع القرون الوسطى
بما فيه من ذكر كون اليوبيل كل مائة سنة، وإن أصحاب المقتطف يجوزون أن
يكون له أصل ترجمت عنه النسخة الإيطالية , ويحثون على البحث عنها، فأمثال
أولئك العلماء يجب احترام رأيهم , وإن لم يكن دليله واضحًا وتعليله ظاهرًا.
ومن لاحظ أن بعض القسيسين يجعلون العمدة في إثبات الأناجيل الأربعة ما
فيها من التعاليم الأدبية العالية , ثم قرأ تعاليم إنجيل برنابا يظهر له مكانه العالي في
تعاليمه الإلهية والأدبية. فإذا صرفنا النظر عن فائدته التاريخية , وعن حكمه لنا في
المسائل الثلاث الخلافية: التوحيد , وعدم صلب المسيح , ونبوة محمد صلى الله
عليه وسلم - فحَسْبنا باعثًا على طبعه وراء قيمته التاريخية ما فيه من المواعظ
والحكم والآداب وأحاسن التعاليم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
... ... ... ... ... ... ... القاهرة في21صفر سنة1326 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني
... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار
__________
(1) 1ع 9: 27 كما في ص223 من الجزء الأول من قاموس الكتاب المقدس.(11/114)
الكاتب: حفني ناصف
__________
خطبة حفني بك ناصف
رئيس نادي دار العلوم
في مسألة التعريب
أكثر القائلون بتطبيق (سياسة الباب المفتوح) على اللغة العربية من ذكر
جمود أمتنا واشتغالها عن الجواهر بالأعراض , ووقوفها موقف المستضعفين أمام
الأمم الغربية , ونعوا علينا تحرجنا قبول الدخيل في لغتنا، ورمونا (بالرجوع إلى
الوراء , والنفور من كل جديد , والوقوف عند حدّ ما أماته الزمان، ومخالفة سنة
اللغات الحية صاحبة الحركة الدائمة التي قدر أهلها أن ينتفعوا بكل ما خلقه الله) إلى
آخر ما أتوا به من القضايا الخطابية؛ بقصد التأثير في أفكار السامعين حتى تخيلوا
أن الكَلِمَ الأعجمية واجبة الاستعمال في اللغة العربية حرصًا على الزمن أن يضيع
في انتقاء ألفاظ عربية تسد مسدها , وأن قواعد الاقتصاد السياسي تقضي بصرفه في
اختراع آله حربية أو معمل صناعي أو مصرف مالي , ولقد كدت من شدة التأثير
أمسك عن الكلام خِيفَة أن أضيع عليكم ساعة يمكنكم فيها اختراع بندقية جديدة , أو
آلة للطيران , أو علاج للسرطان.
مسكينة الأمة المستضعفة , لا تدري من أين تُؤْتَى , ولا تعرف لِتأخّرها عِلّة ,
فتذهب مع كل ذاهب , وتمشي وراء كل حاطب.
ظننا النيل سبب رخاوتها فعدلنا عنه إلى الآبار فما نشطنا، وخِلْنا الأزياء
الواسعة مانعتنا عن الحركة فاستبدلنا بها أزياءً ضيّقة فما عدونا. وحسبنا اقتعاد
السيارات والدراجات يوصلنا إلى المدنِيَّة فاقتعدنا وما استفدنا، وزعمنا ملاهي
التمثيل أقرب سبيل فأبعدتنا، وعددنا النفازج (الباللو) معارج فما عرجنا، وغيرنا
العمائم بالقلانس , والدور بالقصور , وظهور الصافنات ببطون العربات فما أخرجنا
كل ذلك عما نحن فيه من الاستضعاف ولا سَمَا بِنَا إلى راقي الألمان والإنكليز
واليابان.
إن لارتفاع الأمم وانحطاطها أسبابًا خاضَ فيها الحكماء , وأفاض في بيانها
العلماء وليس المقام الآن مقام ذكرها , وإن المسألة التي نحن بصددها مسألة نقلية
يُرجع فيها إلى كتب اللغة والأدب , وليس لأحدٍ أن يأخذ فيها بالهوى , أو يسترسل
مع الوجدان , أو يقتصر فيها على مجرد الاستقباح والاستحسان , فكما لا يجوز في
التاريخ أن تنكروا غلبة اليابان للروس محتجين بأن الصغير لا يغلب الكبير , لا
يجوز في العربية أن تنصبوا الفاعل , وتقدموا خبر إنّ على اسمها احتجاجًا بأن
المعنى لا يتغير , ولا أن تقولوا: ما الفرق بيننا وبين العرب الأولى حتى جاز لهم
وضع ألفاظ مقتضبة , وتعريب كلمات أعجمية , والشذوذ عن القياس وامتنع علينا ,
أليسوا رجالاً ونحن رجال؟
ليس لأحد أن يقول ذلك إلا خرج من الرِّبْقة , وخلع العذار , ورضي بأن
يكون طليقًا لا يتقيد بشيء. المسألة منصوصة في الأسفار , فمن شاء أن يخرق
الإجماع , ولا يقصر شيئًا على السماع , ويستريح من عناء الدروس فَلْيصنعْ ما شاء
فليس عندنا ما يرغمه على اتباع الجماعة , ولا فائدة في الجدال معه , وإذا شاء أن
يتبع المنصوص فها هو بيانه.
اتفق العلماء على أن اللغة العربية كانت لسان عاد , وثمود , وأميم , وعبيل ,
وطسم , وجديس , وعمليق، وجُرْهم , ووَبار من أولاد إرم بن سام.
وأول تنقيح دخلها بعمل يعرب بن قحطان رأس العرب العاربة , وجرى أولاده
على لغته في أنحاء اليمن كلها , ثم تفرق جماعة منهم في نجد والحجاز وتِهَامة
والشام والحِيَرة.
ولما أصهر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام إلى قبيلة جُرْهم أدخل تنقيحًا
ثانيًا في اللغة , وجرى على أثْرِه القبائل من أولاده كربيعة ومُضَر وكنانة ونزار
وخزاعة وقيس وضبة.
والتنقيح الثالث أدخلته قريش بالتدريج انتخابًا من لغات قبائل العرب التي
كانت تفد عليهم في كل عام , وتمكث بين ظهرانيهم نحو خمسين يومًا , منها ثلاثة
أيام بسوق ذي المجاز , وسبعة بسوق مجنة , وثلاثون بسوق عكاظ، وعشرة في
مناسك الحج.
والتنقيح الرابع هو اختيار علماء المَصْرَيْن البصرة والكوفة (نقلة اللغة في
عصر الأمويين والعباسيين) , فقد قصروا اختيارهم على ست قبائل من صميم
العرب لم تختلط بغيرها , وهم: قيس عيلان , وأسد , وهذيل وبعض تميم ,
وبعض كنانة وبعض طَيِّ , ولم يأخذوا عن لخم , وجذام لمخالطتهم القبط أهل مصر،
ولا عن قضاعة وغسان وإياد لمخالطتهم أهل الشام والروم , وأكثرهم نصارى
يقرءون بالعَبْرانية، ولا عن تغلب؛ لأنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان ,
ولا عن بكر؛ لمجاورتهم النَّبَط والفرس , ولا عن عبد القيس وأَزْد عمان؛ لأنهم
كانوا بالبحرين مخالطين الهنديين والفرس، ولا عن أهل اليمن: (حِمْيَر , وهمدان ,
وخولان والأزد) ؛ لمخالطتهم الحبشة والزنج والهنديين , ولا عن بني حنيفة وسكان
اليمامة وثقيف والطائف؛ لمخالطتهم تُجّار اليمن عندهم , ولا عن حاضرة الحجاز
وقت نقل اللغة لفساد لغتها بالاختلاط.
وعدّوا لغة قريش أفصح اللغات العربية؛ لأنها خالية عن عنعنة تميم , وهي
إبدال الهمزة عَيْنًا نحو: عَنْتَ وعِنّكَ , أي: أنت وإنك، وعن تَلْتَةِ بَهْرَاءَ , وهي
كسر أول المضارع , نحو: تِلْعَب وتِلْهو، وعن كَسْكَسَةِ ربيعة ومضر , وهي:
إلحاق سِين بعد كاف المخاطب: رأيتكَسْ، وعن كَشْكَشَة هوازن , وهي إلحاق شِين
بعد كاف المخاطبة: نحو رأيتكَشْ , وعن فَحْفَحَة هذيل , وهي: قلب الحاء عينًا؛
نحو: عَتَّى , أي: حَتَّى، وعن وكم ربيعة , وهي كسر كاف الخطاب بعد الياء
الساكنة , أو الكسرة , نحو: عَلَيْكِمْ وَبِكِمْ، وعن وهم بني كلب , وهي كسر هاء
الغيبة إذا لم يكن قبلها ياء ساكنة ولا كسرة , نحو: عَنْهِمْ , وبَيْنَهِمْ , وعن جَعْجَعَة
قُضَاعَة , وهي قَلْب الياء الأخيرة جِيمًا؛ نحو: الساعج يدعج , أي: الساعي يدعي ,
وعن وَتْم أهل اليمن , وهو قَلْب السين المتطرفة تاءً؛ نحو: النَّات أي: الناس،
وعن الاستنطاء في لغة سعد والأزد وقيس , وهو قلب العين الساكنة نُونًا قبل الطاء ,
نحو: أَنْطِي أي أعْطِي، وعن شَنْشَنَة اليمن , وهي قلب الكاف شِينًا , نحو:
لَبَّيْشَ اللهم لَبَّيْشَ، وعن لَخْلَخَانِيّة الشَّحْر وعمان وهي حذف الألف في نحو: مَشَاءَ
اللهُ أي ما شاء، وعن طُمْطُمَانِيّة حِمْيَر , وهي جَعْل أل (أم) نحو: طاب
امْهَوا؛ أي: الهواء , وعن غَمْغَمَة قُضَاعة , وهي إخفاء الحروف عند الكلام , فلا
تكاد تظهر.
ولم ينظر نقلة اللغة إلى لغة كل قبيلة على حدتها , بل جمعوا الألفاظ التي
يتكلم بها كل القبائل التي عولوا على الأخذ عنها , وجعلوها لغةً واحدةً مقابل اللغة
الأعجمية , لا يخطئ المتكلم إلا إذا خرج عنها كلها , فلفظ المُدْيَة لغة دَوْس (بطن
من الأزد) , ولفظ السكين لغة قريش , فنقل الأئمة اللفظين , وأباحوا لكل إنسان أن
يتكلم بأيهما شاء , ولو لم يوجد في العرب من تكَلّم بهما معًا , ومن هنا جاء الترادف
في اللغة والاشتراك اللفظي , ولو جمعوا لغة كل حي من العرب على حدتها لَتكرر
العمل وطال الزمن.
ثم نظروا بعد ذلك إلى المفردات , فما كان منها كثير الدوران على ألسنة
العرب عدوه فصيحًا، وما كان قليل الدوران على ألسنتهم عدوه غريبًا ووحشيًّا يعدّ
استعماله مُخِلاًّ بالفصاحة , ولو كان معروفًا عند المخاطبين.
واستخرجوا من استعمالات العرب قواعد تتعلق بأحوال أواخر الكلم وقواعد
تتعلق بباقي أحوالها وسموها علم النحو والصرف , وجعلوا لبعض تلك القواعد قيودًا
واستثناآت حتى يكون الاستعمال الكثير مضبوطًا بقوانين تُحْتَذَى عند القياس ,
وما شذّ عن ذلك عن ذلك جعلوه سماعيًّا يقبل من العربي ولا يقبل من المولد.
وكانوا شديدي الحرص على بيان السماعي والقياسي , فإذا لم يكن اللفظ (مادة
أو هيئة) قد سمع من العرب منعوه بتاتًا , وشنعوا على مستعمله.
ولأجل أن يعرف السامع مقدارَ عنايتهم بالمسموع من العرب , ومقدار الانحطاط
الذي كان يلحق بمن يخطئ منهم أروي لك قصة وفود سيبويه على يحيى بن خالد
البرمكي ببغداد , فقد عقد يحيى مجلسًا جمع فيه بين سيبويه رئيس نحاة
البصرة وبين الكسائي رئيس الكوفة , فقال له الكسائي: تسألني أو أسألك؟ فقال
سيبويه: سَلْ أنتَ. فسأله الكسائي عن قول العرب: (قد كنتُ أظنُّ أن العقربَ أشد
لسعةً من الزُّنْبُور , فإذا هو هي) أيجوز (فإذا هو إياها) ؟ فقال سيبويه: لا
يجوز النصب. فقال الكسائي: العرب ترفع ذلك وتنصبه. فقال يحيى: لقد اختلفتما , وأنتما رئيسا بلديكما , فمن يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي: هذه العرب ببابك قد
سمع منهم أهل البلدين , فيحضرون ويُسألُون. فقال يحيى وجعفر أنصفت. وأمرا
بإحضار أعرابي من أهل البادية وسألوه , فقال: (القول قول الكسائي) فقال
سيبويه ليحيى: (مُرْه أن ينطق بذلك , فإن لسانه لا يطاوعه) فاكتفى المجلس بحكم
الأعرابي , وخجل سيبويه , وسافر بعد ذلك إلى فارس , فأقام بها حتى مات وكانت
هذه المسألة سبب علته , وكانت وفاته في سنة 180 وعمره 32 , وهكذا كانت
عادة علماء البلدين متى اختلفوا في أمر تلمَّسوه عند البدو وتسمَّعوه منهم.
وعرفوا المعرَّب بأنه الاسم الأعجمي الذي فاهت به العرب الموثوق بعربيتهم
فإذا فَاهَ به غير العربي سمي مولدًا , وقد تبعهم في ذلك كل من كتب في اللغة
كأصحاب الصحاح والقاموس والمحكم والعباب , وأجمع العلماء على أن لا يُسْتَشْهَد
في اللغة والصرف والنحو إلا بكلام العرب , ولا يجوز الاستشهاد بكلام المولدين
إلا في علوم البلاغة.
وأجازوا استعمال الكَلِم في غير ما وضعت له متى وُجِدَت مناسبة بين المعنى
الأصلي والمعنى المراد , وقامت قرينة تمنع إرادة المعنى الأصلي , وحصروا تلك
المناسبات بالاستقراء , وسموها علاقات , وهي:
المشابهة - نحو: فاهَ الخطيب بالدرر؛ أي: الكلمات الحِسان.
والسببية - نحو: رعينا الغيث؛ أي: الكلاء.
والمسببية - نحو: أمطرت السماء نباتًا؛ أي: ماء.
والكلية - نحو: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم} (البقرة: 19) .
والجزئية - نحو: بث الأمير العيون؛ أي: الجواسيس.
والحالية - نحو: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (آل عمران: 107)
أي: الجنة.
والمحلية - نحو: سال الوادي , وجرى الميزاب؛ أي: ماؤه.
واللازمية - كإطلاق الحرارة على النار.
والملزومية - نحو: دخلت الشمس من الكوَّة؛ أي: ضوءها.
والإطلاق - نحو: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) أي: لا صلاة
كاملة.
والتقييد كإطلاق المِشْفَر على شفة الإنسان , والمشفر للبعير , كالشفة للإنسان.
والعموم - كإطلاق الأبيض والأسمر على السيف والرمح , والدَّابَّة على ذات
الأربع.
والخصوص - كإطلاق اسم الشخص على القبيلة؛ نحو: تميم , وقريش ,
وربيعة.
والبدلية - نحو: (في ملك فلان ألف دينار) أي: متاع يساوي ألفًا.
والمبدلية - نحو (أكلت دمًا إن لم أرعك بضرة) أي: أكلت دية.
واعتبار ما كان - نحو: {وَآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} (النساء: 2) أي:
الذين كانوا يتامى.
واعتبار ما يكون - نحو: {أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} (يوسف: 36) أي:
عنبًا.
الدالية - نحو: فهمت الكتاب؛ أي: معناه.
والمدلولية - نحو: (قرأت معناه مشفوعًا بتقبيل) أي: قرأت لفظه.
والمجاورة - نحو: شربت من الراوية , أي المَزَادَة المجاورة للجمل , وقد
تكون المجاورة في الذكر فقط , كما في المشاكلة نحو: اطبخوا لي جبة وقميصًا.
والآلية - نحو: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ} (الشعراء: 84) , أي: ذِكْرًا
حسنًا صادقًا.
والتعلق - كإطلاق لفظ المصدر على الفاعل أو المفعول , كشاهد عدل {هَذَا
خَلْقُ اللَّهِ} (لقمان: 11) .
والشرطية - نحو: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (البقرة: 143) , أي:
صلاتكم.
والمصدرية - نحو: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ} (الأنبياء: 64) , أي:
آرائهم.
والمظهرية - نحو: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) , أي: قدرته.
والتضاد - كإطلاق البصير على الأعمى.
ومتى اشْتُهِر اللفظُ في معناه المجازي صار حقيقةً عُرْفِيّةً له حُكْمُ الحقيقة
الوضعية.
وقد صارت اللغة بهذا التنقيح الأخير لغة العرب عامَّةً لا لغة قبيلة بعينها ,
فأي لفظ نطقتَ به فأنتَ مُصِيب , وأيّ استعمال جربت عليه فَلَسْتَ بمخطئ
ما دُمْتَ لم تخرج عن المنقول , وأية علاقة صادفتك من العلاقات السالفة الذِّكْر
تُوصِلك إلى تسمية ما لم تُسَمِّهِ العربُ فلستَ مُقَيَّدًا بلفظ أعجمي , ولا بلهجة حي
معين , وصِرْتَ بذلك بَعِيدًا عن الخطأ , واسع المجال في النثر والنظم والتقلب في
الأساليب الإنشائية , تصول وتجول , وتتهم وتنجد حسبما يسمو إليه استعدادك ,
وتصل إليه درجتك من الاطلاع وتمكنك منه بضاعتك , فلك أن تقول المُدْيَة كما
تقول دَوْس , وأن تقول السكين كما تقول قريش , وأن تنطق كلمة (حيث) بتسع
لغات , ولفظ (يا ربي) بست لغات , وتركيب (بادئ بدء) بثمانيةَ عَشَرَ وجهًا ,
وأن ترفع الخبر وتنصبه في نحو {مَا هَذَا بَشَرًا} (يوسف: 31) , وأن
تطلق الأسد على السبع والشجاع , والعَيْنَ على الباصرة والذهب والجاسوسِ ,
وتُصَرِّح وتُعَمِّي حيث تحتاج لذلك , وتنقل إلى العربية كل ما فهمته من اللغات
الأخرى.
وقد وقع جاسوس عربي في يد العدوّ , فحبسوه وألزموه أن يكتب كتابًا إلى
ملكه يحمله فيه على مداهمتهم , ويوهمه بقلة عددهم وعُددهم غشًّا وتغريرًا , فكتب
إلى الملك كتابًا قال فيه:
(أمّا بَعْدُ , فقد أحطت علمًا بالقوم، وأصبحت مستريحًا من السعي في تعرف
أحوالهم، وإني قد استضعفتهم بالنسبة إليكم , وقد كنت أعهد في أخلاق المَلِك المهلة
بالأمور والنظر في العاقبة , فقد تحققت أنكم الفئة الغالبة بإذن الله، ولقد رأيت من
أحوال القوم ما يطيب به قلب الملك , نصحتُ فدع ريبك , ودع مهلك , والسلامُ) .
وَسُلِّمَ الكتابُ إلى العدو , فأرسلوه إلى الملك بعدما اطلعوا عليه , فتفطن الملك
لِمَا أراد الكاتب , وقال لحاشيته: إن الجاسوس وقع في الأسر , فأصبح مستريحًا
من السعي , وإنه رآهم أضعافًا , وإننا قليل بالنسبه لهم؛ إذ لمح بآية: {كَم مِّن فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ} (البقرة: 249) , ولفتني إلى الأناة إذ جعلها عادة لي , وأراد قَلْبَ حروف
الجملة الأخيرة , فتكون: (كلهم عدوُّ كبير عدٍّ فتحصن) .
على هذا استقرت اللغة العربية , وتَمّ إحكامها , وحُصِرَتْ مُفْرَدَاتُها الأصلية
وقوانينها , وأُبِيحَ استعمال مفرداتها في غير ما وُضِعَتْ له عند الاحتياج بشرط
العلاقة والقرينة , وانتهت أدوار التنقيح فيها , فلم يَبْقَ إلا استظهارها , والعمل بها.
وقد اغتبطت الأمة العربية بذلك وعكفت على العمل بها قرونًا , قضت فيها لُبَانة
للعلم والسياسة , وتفرغت للفتوح والاستعمار , وملأت طِبَاقَ الأرض بالتصانيف في
الشرائع والحكمة , وكل ما كان على وجه الأرض من العلوم , فأنارت الخافقين
ونشرت المدنية في الدنيا. وَلَمّا ضعف أمْرُهم ورثهم الغربيون في حكمتهم , وأخذوا
عنهم , وأضافوا إليها ما تجدد من الصناعات والفنون , ولا يزال الإفرنج يدأبون في
اقتناء الكتب العربية , ويستخرجون منها من الفوائد ما لم يكن في حسباننا , ولكل
مجتهد نصيب.
هذا ما حضرني من النصوص المحتوية عليها كتب العرب المتضافر عليها
من أئمة الأدب، فمن شاء فليؤمن بها ومن شاء فليكفر بها؛ فقد تبين الرُّشْد من
الغَيّ.
ولما قعدت هِمَم الخالفين وانتشر فساد اللغة مادَّةً وقوانينَ رأى فريق من الناس
أن يكفونا مؤنة التحصيل؛ فهبوا إلى فتح ثغور اللغة العربية للدخيل من الألفاظ ,
وطفقوا يحسنون صنيعهم بأقيسة خطابية وجدلية لا تغني من الحق شيئًا.
فقالوا أولاً: إن العرب أخذوا ألفاظًا من الأعاجم في أطوار تنقيح العربية
واستعملها الفصحاء , وورد منها كثير في القرآن والأحاديث فما لنا لا ننشئ مذهبًا
خامسًا في التنقيح , وفاتهم أن ما أخذه العرب قليل جدًّا بالنسبة إلى ما نبذوه ونادر
بالإضافة إلى مادة لغتهم الأصلية؛ والقليل النادر لا يُقَاسُ عليه , فإذا فتحنا اليوم
باب القياس في مادة اللغة نفتحه غدًا بالأولى في هيئتها؛ أي: في الصرف والنحو ,
فنقيس على ما ورد شذوذًا عن العرب؛ إذ ليست المادة بأقل خطورة من الهيئة , ولا
الجوهر بأدنى احترامًا من العَرَض فننصب خبر المبتدأ وخبر إن، ونشتق من
الجوامد كلها، ونميل الألف حيثما وجدت , ونستخرج من كل فعل ثلاثي
مزيدات , ونستعمل الزيادة لكل المعاني , وبالجملة نجعل عالي اللغة العربية سافلها ,
ونحدث فيها الأحداث الهائلة , فَتَتَبَلْبَلُ فيها الألسنة , وتُفْقَد بعد قليل من الزمن مع
أنَّ (أصحاب اللغات الحية) الذين يريدون أن يتشبهوا بهم لم يَرْضَوْا أنْ يتركوا
عاداتهم من الكلام والكتابة , ولو كانت خطأً , فلا يزالون يقولون في75 ستون
وخمسةَ عَشَرَ , وفي98 أربع عشرينات وثمانيةَ عَشَرَ , ولا يزالون يكتبون جملة
حروف في الكلمة لا ينطق بشيء منها , ويفوهون بحروف لا يكتب منها شيء.
وقالوا ثانيًا: إنه يجب أن يكون لكل مدلول دالّ خاصّ به لا يدُلّ على غيره
أبدًا , وتكونَ دلالته بنفسه لا بعلاقة أخرى , وإن تسمية المحدثات بلفظ عربي مهما
كانت علاقته يوقع في الاشتراك ويَزِيدنا آلامًا إلى آلامنا , وغرضهم بذلك منع
الاشتراك اللفظي بالمَرَّة , أو عدم زيادته؛ وفاتهم أن الاشتراك اللفظي واقعٌ لا محالَةَ
في جميع اللغات؛ لأن ألفاظ كل لغة محصورة , والمعاني غير محصورة , فلو
وُزِّعَت الألفاظ على المعاني وجب المصير إلى الاشتراك حَتْمًا , وإنه لا ضَرَرَ من
استِعماله مع القرينة، ففي الهندسة مثلاً تُسْتَعْمَل الزاويةُُ والعمود والسطح والهرم
والكرة والضلع , ولا يخطر في البال شيء من معانيها القديمة، وفي الطبيعة
والكيمياء تُسْتَعْمَل العدسةُ والمِلْح والبلورات , ولا تحسّ بأصل معناها، وفي
القوانين تستعمل وضْع اليد وسَحْب الورقة وحبس العين والقذف والضبط والربط ,
ولا يجيء في الخاطر معناه الأصلي , والذي يسمع جملة: (سيارة الأمير سبقت
القطار) لا يتوهم القافلةَ ولا الجمالَ؛ فأين هي الآلام التي تخشون من زيادتها؟
ومَنْ مِنْكم يمكنه أن يتكلم كلامًا خاليًا من المشترك والمجاز؟ أنا أراهنكم على كتابة
عَشَرَة أسْطُر بأي لغة شئتم في وصف حادثة من الحوادث ذات البال , فمن قدر على
إخلائها من المجاز والمشترك فله مني عَشَرَةُ دنانيرَ وأَمْهَلْتُكُم شهرًا. والحقيقة أن
هذه الآلام آلام وهمية توجد عندما يريد أن يتألم منها.
وقالوا ثالثًا: إن دلالة الكَلِم الأعجمية أصرح؛ لأنها تدل على صِنْف
مخصوص , بخلاف الكلم العربية؛ فإنها في الغالب تكون عامةً , وفاتهم أن
الاصطلاح يجعل العام خاصًّا , والمطلق مقيدًا , فالنسافة والبارجة والدارعة
والمُنْطاد لا عموم فيها بعد الاصطلاح عليها وغلبة الاسمية على الوصفية معروفة
في اللغات قديمًا وحديثًا , فيقولون في السيف: أبيض ومرهف وهندي ويماني , وفي
الرمح: أسمر ولَدْن وسَمْهَرِي ورُدَيْنِي , وكلها أوصاف غلبت عليها الاسمية.
وقالوا رابعًا: إن التعريب أسهل من انتقاء اللفظ العربي , واستعمال الأعجمي
أخف على السمع , فإذا قلت للبدال: (أعطني قدحًا من الجِعَة) اشمأز منك ,
وسخر السامعون بخلاف (البيرا) , وفاتهم أن هذه الصعوبة تزول بعد الاهتداء إلى
الكلمة العربية والاصطلاح عليها , والإلحاح في استعمالها لفظًا وكِتَابَةً, على أن هذه
الصعوبة إنما تكون على الأشخاص المكلفين باستخراج الكلم , بخلاف الذين
يتعلمونها جديدًا , فإنهم يجدونها بدون عناء , كالذي يَلْبَسُ الثوب لا يحس بعناء
حائكه وخائطه , وقارئ الصحيفة لا يحس بعناء مُحررها وجامع حروفها وطابعها.
ولا بد من قوم يعانون الأعمال , وآخرون ينتفعون بها ونحن لا نكلف أفراد الأمة
بالاشتغال معنا في انتقاء الألفاظ , بل يكفي أن يتعب منا فريق في هذا الأمر مقابل
تعب الآخرين في أعمال أخرى على قاعدة التبادل المدني , أمّا استهزاء العامّة فلا
يعوقنا عن العمل؛ لأنا لا نعمل لهم بل للخاصة والنشء الجديد الذين يتعلمون في
المدارس، وخالي الذهن يحفظ ما يلقى إليه سواء اللفظ الذي يحفظه عربيًّا أو
أعجميًّا، وإني أذكركم أننا كنا نستعمل كلمة قومسيون وقوميتيه وجرنال وغازيته
وأفوكاتو وكوليرا ووابور وقنصل وجنرال , ولما ابتدأ الصحافيون يغيرونها بلجنة
وصحيفة ومحامٍ ووباء وقطار ومعتمد كنا نتقززها , فلما ألحوا في استعمالها زال
التقزز شيئًا فشيئًا , حتى عفنا الكلمات الأولى فجازاهم الله عن العرب خيرًا.
فلِمَ لا يعمل المحدثون من الصحافيين مثل ما عمل الأقدمون؟ ولماذا لا
يحذو مترجمو اليوم حذو مترجمي أمس؟ ولِمَ لا نساعد هؤلاء وهؤلاء على أداء
ذلك الواجب؟
وقالوا خامسًا: ليس لنا أن نتمسك بالقديم لمجرد قِدَمِهِ. فنقول لهم: وليس لنا
أن ننبذ القديم لمجرد قدمه؛ فما كل قديم ينبذ ولا كل جديد يؤخذ , والواجب على مَن
رأى المصلحة في القديم أن لا يتركَه ما لم تقُم الأدلة على أصلحية الجديد , وقد
جربنا القديم مئات من السنين فقام بالكفاية , ولم نَرَ للآن منفعةً في الألفاظ الجديدة بل
الضرر محقق؛ لأنا لو فتحنا الباب لدخول الجديد لاستعجم على الخالفين فيهم كل
المؤلفات منذ ألف سنة إلى الآن , وانقطع الاتصال بين السابق واللاحق , وضاع
على المتأخرين تراث أسلافهم المتقدمين.
وبعدُ , فإني لم أفهم للآن وجهًا للتشبث بحب الأعجمي , فإما أن نكون مصابين
بمرض الشعوبية , وهو تفضيل العجم على العرب , وإما أن نكون لاستضعافنا
مُقلدين كما قال ابن خلدون، وإما أن يكون في طباعنا إخلاد إلى الراحة والسكون؛
فلا نريد أن نعاني أعمالاً جديدة لم نتعودها فتخدعنا هذه الطباع إلى تحسين ما نحن
عليه , ونقول بالتعريب؛ لأننا يمكننا أن نُعَرِّبَ كل يوم ألف كلمة , ولا نجد في
الشهر عشرين كلمة عربية , فيقرر كل منا أن ما وصل إليه هو منتهى الكمال , وأن
ما يَزِيد عن ذلك يحسب من التقعر والتفيهق , ولا يريد أن يعترف بكمال بعد الحد
الذي وقف عنده , فيسجل على نفسه النقص، إن لم يكن هذا ولا ذاك فما سبب هذا
التشبث يا تُرَى؟
لقد وعيت كل ما سبق من الأدلة فلم أجد فيها برهانًا , فلعل جمود قريحتي
ضرب بيني وبين الحقيقة حجابًا مستورًا.
وقد نشأ من التساهل في حياطة اللسان العربي أن تطرق الفساد إلى مادته
وهيئته , وتولد عنه لسان آخر لا هو بالعربي ولا هو بالأعجمي , وسَمّاه الناس
باللغة العامية أو الدارجة , وهو المُسْتَعمَل لهذا العهد في مصر والشام والعراق
وجزيرة العرب والمغرب والسودان لا يتكلمون بغيره , وإن كانوا لا يزالون يكتبون
بالعربية الفصحى أو ما يقرب منها.
وترى الطفل يتعلم العامية في أقلّ من خمس سنين , ولا يتعلم الفصحى في
أقل من عَشْرٍ , والسبب في ذلك ظاهر وهو أنه في أول أمْرِهِ لا يسمع غير العامية
ولا يتكلم بغيرها , فهو أينما سار وحيثما ذهب مُشْتَغِل بها فترسخ في ذهنه رسوخ
الفرنسية في أذهان أطفال الفرنسيس، والإنكليزية في أذهان أطفال الإنكليز , وليس
الحال كذلك في إبّان تعلّمه لغة الكتابة , ولو فرضنا صبيًّا نشأ في بلد يتكلم أهله
بالعربية الفصحى بالسليقة وبعد سِنّ مخصوص يتعلمون العامية , ويستعملونها في
الكتابة فقط لانعكس معه الحال , وتعلم العامية في أقل من عَشْرٍ، فليس من طبيعة
اللسان العربي الصحيح شيء من الصعوبة وإنما هي طريقة التلقين وبيئة التعليم.
وعلى كل حالٍ فالجمع بين العامية والفصحى يستنفد خمسَ عَشْرَةَ سنةً كان يغني
عنها خمس لو اقتصر المعلم على إحداهما , ويضيع على كل متعلم عشْر سنين من
عمره , فإذا تحققت الآمال , وصار التعليم إجباريًّا؛ فكم تخسر الأمة كل سنة من
أعمار أفرادها؟
فإذا أخذنا المعدل السنوي للمواليد وهو 470000 وطرحنا منه معدل وَفَيَات
الأطفال إلى سِنّ العشرة (ونفرض أنه النصف) 235.000 يكون الباقين
235000 نضربه في عَشَرة أعوام , وهي مقدار ما يخسره كل واحد، فتكون النتيجة
أن الأمة تخسر في كل عام عمل شخص واحد في 2.350.000 سنة , وبعبارة أخرى
يفوتها ربح زراعة 1.275.000 فدان , على فرض أن الفدان يزرعه اثنان , وهي
خسارة لا يحسن السكوت عليها (فيا ضيعة الأعمار تمشي سَبَهْلَلاً) .
وقد استنكر الصبر على هذه الخسارة جماعة من الاقتصاديين؛ فاتفقوا على
وُجوب الاقتصار على تعلم إحدى اللغتين , واختلفوا في تعيينها , فقال فريق منهم:
يقتصر على العامية , ومنهم المهندس الشهير ويلككس، والقاضي الكبير ويلمور.
وقال الفريق الآخر ومنهم العالم الشهير والمُرَبّي الكبير يعقوب أرتين باشا
بالاقتصار على الفصحى.
وأورد على الأول:
(1) أن لكل قطر عامية مخصوصة , بل لكل مديرية لهجة معينة , فإذا
رجحنا لغة أقليم تحكمًا منا نكون قد ألزمنا سكان الأقاليم الأخرى بتعليم لغة ذلك
الإقليم؛ وعناؤهم في ذلك لا ينقص عن عناء تعلم العربية الفصحى , بل الفصحى
أسهل؛ لأن كل شيء فيها قد ضبط ونقح , ووضعت له كتب متعددة.
(2) وأن العامية في البلد الواحد تتبدل بتبدل العصور , فلكل زمان ألفاظ
تدخل مع أصحاب القوة؛ ولذلك نرى في لغة مصر مفردات من الرومية , والكردية
والتركية والشركسية والفرنسية والإنكليزية.
(3) وأن التزام العامية يحدث حجابًا كثيفًا دون الاستنباط من القرآن
والحديث والمأثور من كلام السلف , فتذهب أعمال الأولين هباءً , وتقع الخسارة
على المسلمين وغيرهم ممن يستخرجون كنوز العلوم من بطون الكتب العربية
القديمة , ولولا كتبُ العرب ما أشرق على أوربا ذلك النور الساطع , وبالجملة
تنقطع الصلة بين الأزمنة والأمكنة العربية , ويُحْرَمُ ابْنُ هذا الزمان من ثمار أفكار
السابقين , وقاطنُ هذا المكان من تبادل آراء المعاصرين من أبناء اللغة الواحدة؛ فلا
جرمَ كان من المتعين نبذ الرأي الويلككسي والأخذ بالمذهب الأرتيني.
وخلاصة هذا المذهب أن تترك العامة يتكلمون بما يريدون , وتدرب التلاميذ
في المدارس على التكلم بالفصحى , ويحبب إليهم التحاور بها كلما اجتمع لَفِيفٌ
منهم حتى ترسخ فيهم ملكتها وتملك ألسنتهم دُرْبَتها , ويكون أخذهم بالتمرين تدريجيًّا
يطبقونه على ما عرفوه , ويكملون محاورتهم بالعامية فيما لم يعرفوه , وكلما زادت
درجتهم في التعليم زادت قوتهم في التطبيق إلى أن تهجر العامية، وتحل الفصحى
محلها.
فإذا ضُمّ إلى ذلك مطالعة الصحف والمجلات العربية , وسماع الخطب العلمية
في النوادي العربية , والتردد على معاهد العظات , ومشاهد التمثيلات , ومواقف
المرافعات , وتعليم الفتيات , واحتذاء أساليب المُنْشِئين , وطبع كتب المبرزين فإن
اللغة العامية تنقرض في أقل من عشرين عامًا , وتخلفها اللغة الصحيحة , ويرجع
اللسان العربي إلى عصر مجده وأيام سعده.
ولقد هَمّ ذلك المُرَبّي الكبير منذ عشرين سنة بإلزام تلاميذ المدارس بالتكلم
بالعربية الفصحى ما داموا تحت نظر معلميهم وأخذ يُعد لهذا الأمر عُدَّته وعتاده ,
وسألني رأيي في ذلك وكنت معلمًا في مدرسة الحقوق , فقلت له: إن الأمر ميسور ,
والخطب سهل , فطلب إلىَّ تجربة ذلك قبل أن يصدر الأوامر , فقلت: نعم وكرامة ,
ولم يَمْضِ شهر حتى دعوته لشهود التجربة مع من شاء من المفتشين , فأَسْفرَتِ
التجربة عن نجاح باهر وارتقاء ظاهر , فصمم على إمضاء عزيمته لولا احتجاج
فريق من المعلمين، بل نفر من العاجزين بأن التطبيق متعذر قبل حفظ اللغة
وإتمام القواعد , ولولا التوكّؤُ على هذه المغالطة لَكانت العامية الآن في خبر كَادَ
إن تكن في خبر كَانَ.
والذي يسمع كلام الباحثين الأصليين والمنتصرين لهما يخال أن بين الفريقين
حربًا عوانًا وخلافًا ما بعده اتفاق. ومنشأ هذا الافتراق الذي حمي وَطِيسه، واحتدم
أوراه أن أدلة الفريق الأول تنتج أكثر من المدعى ويجر التسليم بها إلى إذهاب اللغة
العربية , والإتيان بخلق جديد ولولا ذلك لَكان الخلاف نظريًّا لا يترتب عليه أثر ,
ويتضح ذلك إذا حددنا موضعَ النزاع , وحصرناه في الدائرة التي يجب حصره فيها،
وأحسن طريق للتحديد سرْد مواطن الوفاق حتى نتحاماها إذا التقى الجمعان؛
وإليكم البيان:
(1) نقسم أولاً اللغة العربية إلى لغتين: لغة عامية , ولغة فصحى ,
فالعامية لا يمكن أن تكون مَحلّ نزاع؛ لأن الباحثَ الأول يقول بصقل اللفظ
الأعجمي , ووضعه في القوالب العربية , والثاني يقول بعدم الخروج عَمَّا ورد ,
فمحل النزاع إذًا اللغة الفصحى.
(2) ثم نقسم اللغة الفصحى إلى أجزائها: حرف , وفِعْل , واسم؛ فالحرف:
لا يمكن أن يكون محل النزاع؛ لأن ما وجد منه كافٍ وافٍ بحاجة اللغة , فلا
ضرورة لزيادة نحو: (ييس) و (نو) و (آند) لوجود نَعَم ولا , وحرف
العطف , والفعل كذلك غير محتاج للمزيد , فلا باعث لزيادة نحو: (جون)
و (كم) لوجود ما يماثلها في العربية , وقد وقع في كلام الباحث الأول [1] ما يُفهم منه
رغبته في زيادة أفعال تشتق من الأسماء الأعجمية؛ كأترم وتمبل وأمبس , ولعلّ ذلك
فرط منه أثناء احتدام الجدال , وإلا فما وجه تفضيل الأعجمي على العربي؟
ولم يقل أحد بجواز أبغل وأحمر وأفرس؛ والبغل والحمار والفرس أعرق في العربية
من الترام؛ اللهم إلا أن يكون وجه التفضيل شدة السرعة , وعندنا قاعدة مذهبة نبني
عليها , وهي أنه لا يُصَار إلى التعريب إلا إذا ألجأت الحاجة إليه , ولا حاجة
إلى أترم كما لا حاجة إلى أبغل , لإمكان التعبير بركب الترام لو سلمنا بقبول كلمة
ترام فمحل النزاع إذًا الاسم.
(3) ثم نُقسّم الاسم إلى ما ينوب عن الفعل: كَشَتَّانَ ووي وصه , وإلى ما لا
ينوب عن الفعل , والأول كالفعل لا حاجة إلى الزيادة فيه , فمحل النزاع إذًا الثاني.
(4) ثم نُقسّم ما لا ينوب عن الفعل إلى: مشتق وجامد , فالمشتقات في
العربية كافية , وهي أصرح من نظائرها في اللغات الأخرى , فالنزاع في الجامد.
(5) ثم نقسم الجامد إلى اسم معنى , واسم ذات؛ فأسماء المعاني كثيرة جدًّا
في العربية حتى عدها الباحث الأول ثروة واسعة , فالنزاع في اسم الذات.
(6) ثم نقسم اسم الذات إلى: ما وُضِع لمعين بلا واسطة وهو العَلَم , وإلى
ما وضع لمعين بواسطة ملازمة , وهو: الضمير, واسم الإشارة , والاسم
الموصول , وإلى ما وُضِعَ لغير معين , وهو اسم الجنس.
فالعلم يشتمل أسامي الأناسي , والبلاد , والجبال , والأنهار , والبحار , والأمم ,
والأقاليم , وما له شأن خاص من غيرها، والاتفاق على أنها لا تخص لغة معينة إلا
باعتبار معناها الأصلي قبل العلمية , وإنها تبقى على ما وضعه لها واضعها إلا
لضرورة , والضرورة إما أن تكون بوجود حروف أعجمية لا نظيرَ لها في العربية ,
كالحرف الذي بين الباء والفاء، والحرف الذي بين الفاء والواو، والحرف الذي بين
الجيم والقاف , والكاف والغين , وبعبارة أخرى كجيم القاهرة , أو قاف الصعيد
وهي قاف تميم , والحرف الذي بين الجيم العربية والياء، وبعبارة أخرى كجيم
المغاربة , والحرف الألماني الذي بين الخاء والشين فيبدل الحرف الأعجمي
بحرف يقاربه.
وإما أن تكون بوجود حركات أعجمية لا نظير لها في العربية , كالحركة التي
بين الفتحة والضمة كما تقول أهل القاهرة خوخ , والحركة التي بين الضمة والكسرة
عند الفرنسيس , فتبدل بحركة عربية تقاربها , أما الحركة التي بين الفتحة والكسرة
فلها نظير في العربية في لغة نجد وقيس وأسد , كما تسمع من القراء , فتبقى كما
هي أو تبدل بفتحة خالصة , والمَدّ بعدها بألف خالصة.
وإما باشتمال العلم على ما لا تجيزه أصول العربية كالابتداء بساكن ,
وكالانتهاء بواو ساكنة قبلها ضمة , وكالانتهاء بواو أو ياء بعد حرف مدّ فيحرك
الساكن أو يُتَوَصّل إليه بهمزة وصل , ويحرك أحد الساكنين وتقلب الواو الساكنة ياء
والضمة كسرة , أو تحذف وتقلب الواو أو الياء المتطرفة بعد مدة همزة , وهذا
التغيير هو الذي يسمى صقلاً أو وضعًا في القوالب العربية , فالعلم موضع اتفاق بين
الباحثين أيضًا.
والضمائر وأسماء الإشارات والأسماء الموصولة كافية , بل فيها زيادة عن
نظائرها في اللغات الأخرى , فلا حاجة للزيادة فيها , وإنما النزاع في اسم الجنس
كما صرّحَ الباحث الأول مرارًا.
(7) ثم نقسم اسم الجنس إلى: ما استعملت له العرب لفظًا سواء وضعته له
من عندنا أو عربته من لغة غيرها , وإلى ما لم تستعمل له لفظًا. والأول يقبل ولا
ينظر إلى أصل اللفظ قبل التعريب؛ لأن التعريب جعله في حُكْم العربي , فليس
موضع نزاع , والنزاع فيما لم تستعمل له العرب لفظًا.
(8) ثم نقسم ما لم تستعمل له العرب لفظًا إلى ما اصطلح المولدون على
إطلاق لفظ عربي عليه بأي مناسبة كانت كنسافة وغواصة ودارعة وقطار , ولا
خلافَ بين الباحثين في قَبُوله، وإلى ما لم يصطلحوا على إطلاق لفظ عليه للآن ,
ولا خلاف بين الباحثين في قبوله، وإلى ما لم يصطلحوا على إطلاق لفظ عليه
للآن، ولا خلاف بين الباحثين في أنه يجب البحث والتنقيب في كتب اللغة عن لفظ عربي يمكن إطلاقه عليه بأي مناسبة من المناسبات الجائزة في اللغة العربية ,
ويصطلح على دلالته عليه كما اصطلح من قبلنا على لفظ نسافة وغواصة.
ولم يقل أحد منهما بتعطيل حركات الخطابة والكتابة , ودواوين الإنشاء ,
وصحف الأخبار في مدة البحث والتنقيب , بل لا بُدَّ من ملء الفراغ بلفظ أعجمي
واستعماله مُوَقَّتًا للضرورة كما يفعل الطالب الذي ينتقل بالتعليم تدريجًا من لغة العامة
إلى اللغة الفصحى.
فإذا انقضى دور البحث ولم يعثر على كلمة عربية يمكن الاصطلاح عليها وهو ما لا يكون إلا نادرًا تصقل الكلمة وتستعمل , وحينئذ يراها الباحث الأول بالمنظار الذي
يرى به المعربات التي صقلتها العرب , ويقول: قد احتطت وما فرطت؛ فمرحبًا
بالدخيل العتيد، وبُعْدًا للأصيل الشريد، وما لي أشغل آمالي بنشد ضالة إن جاءت
فلا كرامة، وإن ذهبت فلا شيعتها غمامة، ويراها الباحث الثاني بمنظار آخر غير
ما يرى به المعربات فيحسبها كالرقعة في الثوب والحصاة بين الدُّرِّ , ويقول
للضرورة أحكام، وحَبَّذَا لو صحت الأحلام، ووجدت طلبتي في يوم من الأيام.
هذا هو الخلاف الطويل العريض ضيق البحث حلقاته رويدًا حتى تضاءل ,
وانتهى إلى تقدير النظر إلى الكلمة المُجْتَلَبَة واستقبالها إمَّا بالترحيب، وإما بالتقطيب،
وهو خلاف غريب.
... ... ... ... ... ... ... ... حفني ناصف
__________
(1) هو الشيخ محمد الخضري.(11/121)
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
__________
السنن والأحاديث النبوية
جاءتنا هذه الرسالة من الشيخ صالح بن علي اليافعي أحد العلماء الغَيُورين في حيدر آباد الدكن يرد فيها على الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي فيما كتبه في النسخ , وكون الأحاديث ليست من أصول الدِّينِ , ولطولها ننشرها بالتدريج مبتدئين بمقدمتها التمهيدية , وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل محمدًا بالهُدَى ودِين الحق، وجعل له لسان الصدق صلى
الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومتبعيه وأنصاره وأحزابه.
أمَّا بَعْدُ , فإني قد وقفت على رسائل لحضرة العالم الباحث الدكتور محمد
توفيق أفندي صدقي , كان يرمي فيها أولاً إلى أن الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم هو القرآن مجردًا عن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم وتعاليمه
غير معتبر لِمَا زاده الله على ما في القرآن من أحكامه , ولازم قوله بل صراحته دالة
على محو صورة الإسلام الموجود , وجواز تشكيله له شاء بأي صورة شاء وكأنه
استشعر شناعة ذلك , فأعلن رجوعه عن إطلاق القول في ردّ جميع السنن , وخص
منها قبول السنن الفعلية التي نقلتها الأمة بالإجماع أو بالتواتر. وردَّ جميع السنة
القولية زاعمًا أنها آحاد , وما تواتر منها ليس فيه شيء من الأحكام.
وقوله هذا - وإن كان أهونَ من قوله السابق ظاهرًا - مآله وحقيقته بعد
التزامه , ثم تطبيقه على ما في نَفْس الأمر الواقع هو حقيقة قوله الأول مِن رَدِّ أكثر
السنن الفعلية , بل لا يبعد إذا قلنا كلها؛ لأنه ما مِن فِعْل نقل إلينا من تلك إلا وقد
اختلف في هيآته وأحكامه المقومة لحقيقته.
والمسلمون الناقلون لِتِلْكَ الأعمال إنما كان مستند اختلافهم في ذلك , إما السنن
القولية وإما اجتهاد من يتأتى له الاجتهاد منهم , فإذا لم يجب أن تكون سنن الرسول
صلى الله عليه وسلم القولية من الدين فلأن لا تكون مجهودات غيره من الدين أولى
وأحرى.
وإذا كان كل فعل من السنن الفعلية قد اختلفت في صفاته وهيئاته الطوائف
والمذاهب بحيث يكون حقيقة هذا الفِعْل عند هؤلاء غير حقيقته عند أولئك. وإذا كان
المستند السنن القولية أو الاجتهاد وسلمنا أن كلاًّ منهما ليس من الدين - لزم أن لا
يعلم المتعين أخذه وأن لا يجب عمل مخصوص للزوم انتفاء المدلول بانتفاء دليله ,
والمسبب بانتفاء سببه؛ إذ لا دليلَ ولا سبب لوجوب أو حرمة أو نَدْب أو كراهة إلا
السنن القولية المفسرة للقرآن والناصّة على أحكام الأعمال , فإذا انتفت انتفى كل
ذلك , وجاز لِمَن شاء أن يقول: إن الواجب من الأعمال كذا وكذا , وإن معنى
القرآن ومراده ذا أو ذا , كيف شاء فعاد الأمر في جميع أمور الدين إلى الإجمال
والإبهام , ولزم الانسلاخ عن دين الإسلام , وهذا هو ما يتحاشى عنه كل من يؤمن
بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
والحقير قد نبه حضرة الدكتور في رسالة أرسلتها إلى حضرة سيدنا منشئ
المنار الأغر , ولكنه أرسل إليَّ مكتوبًا يذكر فيه أن بعض تلك الرسالة ضاع عنه ,
ويطلب إرسال ذلك إليه ليطبعَ الرسالة , ولكني اعتذرت حيثُ لمْ يبقَ لدي منها شيء؛
لأني أرسلت إلى حضرته المسودة.
ولما كتب حضرة الدكتور رسالته الأخرى التي طبعت في المنار (الجزء
التاسع من المجلد العاشر) بِعُنوان (النسخ في الشرائع الإلهية) رأيته صدر رسالته
بالكلام على حقيقة النسخ , واختار القول بجوازه عقلاً وشرعًا , ووقوعه في الشرائع
الإلهية والقوانين الوضعية البشرية , وهذا شيء لا ننازعه فيه؛ لكنه أنكر
وقوعه في القرآن فعلاً , وخص ذلك بالسنة النبوية , ثم تدرج من مسألة النسخ إلى
تقسيم السنة إلى قسميها: فعلية وقولية , وكل منهما إلى متواتر وآحاد تمهيدًا لِمَا
خلاصته أن القولية لا سِيَّمَا الآحاد منها لا يجب العمل به بعد زمن رسول الله صلى
الله عليه وسلم , وزعم أن السنن القولية مطلقًا إنما هي شريعة وَقْتِيَّة تمهيدية لشريعة
القرآن الثابتة الباقية , وعلل ذلك بالنهي عن كتابتها , وزعم أن النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه لم يعاملوها بالعناية التي عُومِلَ بها القرآن قصدًا منهم؛ لأن
تندثر وتزول من بين المسلمين فلا يعملون بها.
هذه خلاصة قوله لكنه يظهر من تناقض كلامه وجوب العمل , وقَبول ما كان
متواترًا من ذلك لا ما نقل آحادًا سواء كان حسنًا أو صحيحًا أو مشهورًا أو مستفيضًا.
وحيث كان ذلك مخالفًا لدين الإسلام فيما أعتقد , بل الآحاد الصحيح بجميع
أقسامه مستلزم للطعن في القرآن وتكذيبه , ومخالف لجماهير المسلمين , بل
لجميعهم , بل لجميع الأديان والملل وسائر متبعيها , بل مخالف لِمَا عليه مدار
الاجتماع البشري؛ كل ذلك على ما أعتقد ولا أَحْسَبُ أنّ أحدًا ممن عُرِفَ بالعلم
والعقل كحضرة الدكتور يخالفني وينازعني في ذلك بعد التفكر وبشرط
الإنصاف - حيث كان الأمر كذلك فيما أعتقد بعثني حب إظهار الحق والتعاون
على البِرّ والنصيحة إلى مناقشة حضرة الأخ الدكتور فيما كتبه في رسالته , مما رأيته
خلافَ الصواب , لما عرفت من حسن نيته ورجوعه إلى الحق كما هي عادته.
وألتمس من مولانا المرشد وسيدنا العلامة القدوة داعي الأنام لاتباع حقيقة
الإسلام، منشئ المنار مولانا حضرة السيد محمد رشيد رضا وأرجوه أن يدرج هذه
البضاعة المزجاة في مناره، وأن يسقط ما فيها من الغلط بصائب أفكاره، وأن
يشركنا في صالح دعواته، ولنعد لما كنا بصدده من الشروع في المقصود فنقول:
(سيأتي المقصد) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(11/141)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تنبيه للمستفتين
إذا أراد المستفتي أن لا يتأخر نشْر سؤاله والإجابة عنه , فَلْيَكْتُبْهُ على
ورقة مستقلة , ولا يجعله في غمرة كتاب آخر , فيكلفنا استخراجه منه؛ إذ ربما تمرّ
الشهور ولا نجد وقتًا لنسخه. ومن سأل في ورقة واحدة عِدَّة أسئلة فَلْيَفْصِلْ بينها
في الكتابة؛ فيبتدئ كل سؤال بسطر جديد، وَلْيَكُنِ الخط واضحًا، ومن علم أن
في عبارته غلطًا فليأذن لنا بتصحيحها إنْ شاء وإلا نشرناها على علاتها
أو أهملناها.
__________(11/144)
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
__________
خديجة أم المؤمنين
(1)
الفصل الأول [*]
(مكة وحالة قريش الاجتماعية عند البعثة)
نشأت خديجة في بلد شأنه عجيب: قَصِيّ عن العمران، في وادٍ غير ذي
زَرْع، لا تنساب فيه الأمواه، ولا تكتنفه الحدائق، ولا تقوم للصناعات فيه دولة،
ولا يجد مبتغي الزخارف لديه مجالاً، ولكن أبدله الله جمالاً معنويًّا وكساه جلالاً
روحانيًّا، فالأفئدة تهوي إليه، والمطايا تزجى له من كل فجٍّ عميق.
هذه البلدة المقصودة هي (مكة) المكرمة الشهيرة التي لا يجهل اسمها
وشهرتها أحد، هي أم البلاد العربية , واقعة في القطعة المسماة الحجاز من شبه
جزيرة العرب، قائمة بيوتها في سفوح جبال محيطة بها.
لم نقف على مقدار عدد نفوسها في تلك الأيام التي نشأت فيها خديجة , ولكن
عدد مقاتلتها لم يكن يتجاوز الألفين في الغالب فيمكننا أن نحرز أهلها إذ ذاك بنحو
خمسةَ عَشَرَ ألفًا كلهم أولاد أب واحد , قد ورثوا باستعدادهم لا بِنَسَبِهِمْ هذا المقام
الكريم والبلد الشريف ممن كان قبلهم من القبائل. وذلك أن قُصَيّ بن كلاب استطاع
أن يجمع جميع ذراري فهر بن مالك إلى مكة , ويزاحم بهم من كان فيها من القبائل
فلم تلبث أن صارت لهم خاصة.
وفي مكة هذه بيتٌ مُقَدَّس قديم العهد يكاد يكون أول أمره مجهولاً عند
المشتغلين بالتاريخ اسمه بيت الله أو الكعبة. وكان جميع عرب الحجاز يعظمون هذا
البيت أكثر من كل البيوت التي شرّفوها، ويحجون إليه، ويتعارفون ويتعاطفون
لديه.
كانت هذه البلدة المشرفة تضم بين تلك الجبال المهيبة أُمَّة صالحة الاستعداد
للرقي مَتَى أريت طريقه , كما تضم الصدفة جوهرة لا يظهر بهاؤها وَرُوَاؤُهَا حتى
تعالج بعض المعالجة , وتزال عنها تلك القشور , أمَّا من حيثُ الحضارة فلم تكن
كما ينتظر ابن حضارة هذا العصر من البلدان وإنما هي بيوت ساذجة مبنية بالحجارة
واللَّبِن , ومسقوفة بجذوع النخل خالية من الزخرف.
وهذا البلد الأمين باقٍ إلى يومِنا هذا لم يزدد على طول القرون إلا تشريفًا
وتكريمًا , ولم يتغير فيه إلا أشكال الأبنية , وازدياد التجارة , والبيت المشرف لم
يتغير وضعه , ولا وضع الشعائر التي حوله؛ وإنما بُنِيَ هناك زيادات وتحسينات
اقتضتها الدواعي.
ومكة معدودة اليوم من جملة بلاد الدولة العلية العثمانية بيد أنها لم تحرم حتى
الآن من أمير عربي يتصل نسبه بسيدتنا خديجة هذه، ونفوذه فيها وفيما حولها نفوذ
تام يستمده من السلطان العثماني، ومن احترام العرب لهذه السلالة.
ومن الآثار المشهورة الباقية في مكة بئر زمزم , ويقولون: إن قبيلة جُرْهُم
كانت دفنتها، ثم احتفرها عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم , وكان
ذلك من مفاخر عبد المطلب؛ لأنه لم يكن بمكة من ماء إلا في آبار بعيدة عن البيت
المشرف , فلما أخرج عبد المطلب زمزم في جوار البيت انصرف الحاجّ إليها.
وَلِحَفْرِ زمزم حديثٌ طويل؛ خلاصته تدل على شغف عبد المطلب بتسهيل
الماء على الحجاج , فإذا تأملنا في حرص القوم على مِثْل هذه العناية بالغرباء
وأبناء السبيل نعلم شيئًا من روح تربية الهمم , وترقية العواطف في ذلك المجتمع
الذي نشأت فيه (خديجة) .
وكان من جيِّد أمْر أهلها في مجتمعهم ذلك أنهم اقتسموا النظر في الأمور
العمومية فيما بينهم؛ فكأنهم كوَّنوا حكومة جمهورية من غير رئيس عام , وكان أمْرُ
هذه الجمهورية الغريبة الوضع سائرًا على منتهى النظام , ولكن لم يكن هذا النظام
لسرّ في ترتيب هذه الجمهورية؛ فإنها لا يؤمل منها في حَدِّ ذاتها أن تثمر نظامًا بالغًا
منتهى الجودة والقوة , وإنما ذلك أثر من آثار تربيتهم العمومية , فالأخبار كلها دالّة
على أن القوم بالجملة كانوا كأنهم مفطورون على التضامن التّامّ؛ فلذلك كان مِن
مزايا ذلك الاجتماع الذي لا نعهد له نظيرًا أن كلَّ فرد من أفراده تام الحرية لا يشعر
بقهر حاكم , ولا يخشى سطوة جبار , وكل منهم في أمن من فوات الحقوق واعتداء
الحدود؛ الجنايات قليلة، وكرامة الناس محفوظة، والآداب سليمة، والحدود غير
متجاوزة، والحقوق مصونة، وذرائع الفساد مسدودة، وسلامة الفطر غالبة،
والمزايا التي بها كمال الإنسانية راجحة.
فإذا أضفنا إلى كل ذلك احترام الغريب وتوقيره إيّاهم وتوقيه أذاهم , نجد أن
ذلك المجتمع لا يَكادُ يوجد نظيره , ولكن مع كل هذا الجمال والحُسْن والصلاح في
هذا المجتمع كان فيه عيوب , فإذا أُزِيلَت يُصبح أولَ مجتمع راقٍ في الدنيا , وخليقًا
أن يفيض على جيرانه من بركات العقول التي أشربت بديع جماله، واشرأبت إلى
عظيم كماله، ثم تاقت إلى تعريف العالم بما أكنت تلك البقعة التي لم تكن شيئًا
مذكورًا من العقول المنيرة والأرواح العالية.
وقد وقع ذلك فإن الذي منه تنشأ الأسباب , وإليه ترجع الأمور قد أتاح لهذا
البلد الجمهوري من ينظفه من تلك العيوب التي أشرنا إليها , فكان بعد ذلك كما هو
المنتظر منه؛ أي: تم ظهوره , فصار مشرقًا لنور عظيم بلغ مشارق الأرض
ومغاربها , فأخذ كل قوم منه بقدر استعدادهم.
أمّا الجمهورية التي أشرنا إلى أنها كانت في هذا البلد فقد أقاموها على أساس
يأمنون معه من الزلزال؛ وذلك أنهم رَأَوُا الشرف انتهى إلى عَشَرَة رهط من عشَرة
بطون لاشتهارهم بأعمال مجيدة، ثم أجمعوا أمْرَهم على أن يكون النظر في الأمور
العمومية من خصائص هذه البيوت العشرة , وَتَرَاضَوْا على أن يكون لِكُلّ بيت من
هذه العشرة وظيفة يختص بها , تُعَدّ من مفاخره؛ فهم بهذا الصنيع قد أخذوا بشيء
من أصول حكم الأشراف , وبذلك أَعْطَوُا الأعمال التي يمجد بها الفرد أو الأسرة
حقها من التكريم والتشريف ليزداد نشاط أربابها , وحرص غيرهم على التشبه بهم ,
وأخذوا أيضًا بشيء من أصول الحكم النيابي , وهو أعظم الآيات على وجود
التضامن الذي هو أحد الأركان التي تحتفظ بها سعادة الأمم.
أمّا الشورى , فقد وفروا منهم حظها، وعظموا في أنفسهم حقها , وبها كانوا
يشرعون ما يشرعون من الأحكام والحدود، ويفصلون ما يفصلون في بعض القضايا
والحقوق.
وقد أَلْغَوُا الرئاسة العامّة مِن بينهم كأنهم عدُّوها لَغْوًا , إذا صدقوا في تضامنهم
وصلحوا في تشاورهم وإرادتهم الحق وقليلة الجدوى , إذا مرض تضامنهم ووهي
نظامهم. أو أنهم خشوا أن يكون حب الرئاسة إذا وجدت مدعاة لكثرة تنازعهم
وتنافسهم؛ فلا يأمنون بعد ذلك كثرة الفشل , والشقاق , وسقوط الهيبة من نفوس
الغرباء , ووقوع الفتور في نفوس الأقربين. أو أنهم أنفوا أن يُمَلِّكُوا عليهم أحدًا؛
لأنهم كلهم يحملون بين أضالعهم نفوس الملوك , وجمهوريتهم هذه لم يكن لها رئيس
عام , ولكن كانوا يقيمون واحدًا في وظيفة رئيس عام مُوَقَّتًا.
أهل هذا المجتمع اللطيف لم يكونوا أولي شغف بالمحاربات , فعلاقاتهم
الخارجية مع جيرانهم من القبائل وأهل القرى والبلاد كانت حَسَنَةً , ولكن هذا لم
يقعدهم عن أن يكون استعدادهم تامًّا لِمَا ينزل بهِم , فإن نزل بهم ما يطيقونه كشفوا
اللثم عن قوتهم , وَبَرَزُوا من غير تريث , وإن نزل بهم ما لا قِبَلَ لهم به تَرَيَّثُوا
وعمدوا إلى الأَنَاةِ , وَفَتَقُوا من الحيلة أبوابًا يخرجون منها إلى السَّعَة مِن الضيق ,
ومِن فَلّ الجيوش بالحُسام إلى فلِّها بالبيان , وقد أعطوا من هذا حظًّا عظيمًا.
ومِن أشهر حوادثهم الخارجية التي ضاقوا بها زرعًا هجوم القائد الحبشي أبرهة
الذي كان غلب على بعض بلاد اليمن , فقد دهمهم بجيش عظيم لم يروا لأنفسهم طاقة
به , فقابله عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم , وكان يومئذ رئيس قريش ,
فأحسن مقابلته ولطف بعض الشيء من حدته التي كان بها مسوقًا لهدم (بيت الله) على زعمه لأسباب فصلها رواة الأخبار , ثم أصابته داهية سماوية فَقَفَلَ بجيشه ثانيًا عزمه؛ لأنه رأى في أهل هذا البلد ما لم يكن يَخْطُر له في بالٍ.
نعم رأى في مقدمه هذا على هؤلاء القوم عجبًا من الأمر , وذلك أنه لَمّا أتاهم
أرسل إليهم رجلاً حميريًّا كان معه اسمه حناطة , وأوصاه أن يسأل عن سيد أهل
هذا البيت وشريفها , فيبلغه أن الملك لا يريد الحرب وإنما جاء لهدم هذا البيت ,
فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها , فدلوه على عبد المطلب بن
هاشم, فجاءه , وبلَّغَه ما أمره به أبرهة , فكان جواب عبد المطلب: إننا لا نريد
حربه. قال حناطة: إنه أوصاني أن يريد مواجهتك إن لم تريدوا الحرب , فانطلق
عبد المطلب مع حناطة إليه , فلما رآه أبرهة رأى الوسامة والجلال , فأعظمه
وأكرمه , وأخذه إلى جانبه , وقال للتُّرْجمان: سَلْهُ أن يقول ما يبدو له , فلم يكن
من عبد المطلب إلا أنه صرف لسانه عن الخوض في عزم القائد على هدم البيت
وجداله فيه , بل أظهرَ الاقتناع بضرورة المسالمة , وعدم معارضة القائد في أمر
هذا المعبد , وقال له: إذا لم يكن لك غير هذا الأرْبِ فَرُدَّ علينا إبلَنَا. قال أبرهة
للترجمان: قُل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك , ثم قد زهدتُ فيك حين كلمتني؛
أتكلمني في الأموال وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك! فأجابه عبد المطلب: إننا
نحن أرباب المال , وأما البيت فله رب هو سيمنعه. فقال له: إنه ما كان ليمتنعَ
مِنِّي. فأجابه: أنت وذاك. وَرَدَّ أبرهة الإبلَ على عبد المطلب , وبقي مُصِرًّا على
عَزْمِه , ورجع عبد المطلب على قريش , فأمرهم أن يعتصموا بالجبال، ولا يأتوا
أمرًا حتى يروا ماذا يكون , وقد أتى من لدن العناية الغيبية ما لم يكن في
الحساب , فإن أبرهة لما أصبح وتهيَّأَ لدخول مكة برك الفيل الذي كان يركبه
وحرن , وأتوا كل باب من أبواب الحيل ليقوم ويمشي تلقاء مكة , فلم يَقُمْ , ثم
رَأَوْا حِجارة تسقط عليهم من أرجل صِنْف من الطير , فتشاءَمَ أبرهة , وتذكر ما
أنذره به ذلك الرجل الجليل السني الطلعة عبد المطلب من حماية هذا البيت بطريقة
لا يبلغها عقله , فخمدت في صدره جذْوَة الحدّة والتهور , وخذل أمام هؤلاء القوم
الذين حاربوه بالسلم , ورموا عقله بسهم نافذ من بيان عبد المطلب مع رمي الطير
جيشه بحجارة من سجيل.
وهذه أكبر حوادثهم الخارجية وأشهرها. وفي عام هذه الحادثة وُلِدَ النبيُّ صلى
الله عليه وسلم , وقد سَمَّوْهُ عامَ الفيل لِمَا ذكرنا من قصته , ورجال هذه الحملة قد
عُرِفُوا بعدها باسم أصحاب الفيل , وقد أُشِيرَ إلى مُجمل هذه الحادثة في القرآن
المجيد.
***
الفصل الثاني
(بيوتات قريش وخصائصها)
أمَّا بيوت شرفهم العشرة فهي:
هاشم، وأمية، ونَوْفل، وعبد الدار، وأسد، وتيم، ومخزوم، وعدي،
وجُمَح، وسهم.
وأما الأمور التي كان توليها من خصائص هؤلاء فهي: السِّقَاية، والعِمَارة،
والعِقَاب، والرِّفَادَة، والحِجَابَة، والسِّدَانَة، والنَّدْوَة، والمشورة، والأَشْنَاق، والقبة،
والأَعِنَّة، والسِّفَارَة، والأَيْسَار، والأموال المحجرة.
هذه الأسماء أكثرها اصطلاحي يحتاج إلى تفسير يوافق العصر الذي نحن فيه
حتى نفهم شكل ذلك المجتمع الذي سميناه جمهوريًّا على حَسَبِ اصطلاح عصرنا.
فأمَّا السِّقَاية , فقد نفهم من اللفظ نفسه؛ أي: سِقَاية الحُجَّاج الذين كانوا يأتون
(بيت الله) من كل جانب , ولا يخفى على أحد أن العناية بهؤلاء الغرباء , وتوزيع
المياه عليهم من أهم الأمور العمومية في ذلك الظرف , وكان بنو هاشم هم أهل هذه
الوظيفة.
وأمّا العِمَارة , فهي منع من يتكلم في (بيت الله) بكلام سفيه قبيح , أو يرفع
فيه صوته , وكانت هذه الوظيفة أيضًا في بني هاشم الذين منهم العباس صاحبها.
وأما العِقَاب , فهي راية قريش , كان من شأنهم فيها أنهم يحفظونها في بيت
من البيوت العشرة , فإذا وقعت حرب أخرجوها , فإن اتفقوا على أحد منهم أعطوه
راية العقاب , وإن لم يجتمعوا على أحد رأسوا صاحبها فقدموه , وقد كانت
هذه الوظيفة؛ أي: حفظ هذه الراية، من خصائص بني أمية الذين منهم أبو سفيان
صاحبها.
وأما الرِّفَادة , فمعناها: الإسعاف , وكانوا يجمعون من أنفسهم أموالاً لرفد
المنقطعين من الحجاج , وكانت الرفادة في بني نوفل الذين منهم الحارث بن عامر
صاحبها.
وأما السِّدَانة والحِجَابة , فمعناهما: خِدْمَة (بيت الله) وحفظ مفتاحه , والظاهر
من هذه الوظيفة أنها دينية , ولكن متولي هذه الوظيفة الدينية مشترك مع عشيرته
بتدبير الشئون الاجتماعية , وهذا العمل الديني نفسه قد كان عند القوم من أهم
الأمور العمومية في مدنيتهم وجمهوريتهم.
وقد نستطيع أن نشبهها من بعض الوجوه بوظائف كبار رؤساء الدين في الأمم
المتمدنة اليوم؛ ولا يخفى أن وظائفهم من متممات مدنيتهم، ولمن يتولونها شأن
يذكر عندهم. وقد كانت الحِجابة والسِّدَانة في بني عبد الدار الذين منهم عثمان بن
طلحة صاحبها.
وأما النَّدْوة , فمعناها ظاهر من اللفظ نفسه , وكانت دار الندوة في بني عبد
الدار أيضًا.
وأما المشورة , فيريدون بها رئاسة الشورى , وليس ببعيد عن الصواب إذا
شبهناها من بعض الوجوه برئاسة الوزراء أو رئاسة مجلس الأعيان , وكانت هذه
الوظيفة من خصائص بني أسد , وكان يتولاها منهم يزيد بن زمعة بن الأسود ,
وكان من شأنهم في هذه الوظيفة أن رؤساء قريش كانوا لا يجتمعون على أمْر حتى
يعرضوه على صاحب هذه الوظيفة , فإن أعجبه وافقهم عليه , وإلا تخيَّر وكانوا له
أعوانًا.
وأما الأَشْنَاق , فهي الديات والمغارم؛ فقد كانوا يساعدون من يستحق المساعدة
ممن حمل مغرمًا أو دية , وكان النهوض مع صاحب المغرم لجمع المطلوب من
خصائص بني تيم الذين منهم أبو بكر الصديق , فكان أبو بكر إذا نهض مع أحد
صدقه قريش , وأعانوا من نهض معه , وإن نهض غيره خذلوه.
وأما القُبّة فأشبه شيء بنظارة الحربية , ولكن كانوا يعمدون إليها وقت
الحرب فقط , ولعلّ ذلك لِسذاجة الحرب إذ ذاك , أو لاستعدادهم لها كل وقت إذا
تأججت نيرانها , وقد كانوا يضربون قُبَّةً , فيجمعون إليها ما يجهزون به الجيش ,
وكان من خصائص بني مخزوم الذين منهم خالد بن الوليد صاحبها.
وأما الأَعِنَّةُ , فمعناها رِئَاسة الخيالة , وكانت هذه الوظيفة للمخزومي أيضًا
وخالد صاحب هذه الوظيفة هو ذلك الفاتح العظيم القائد العام في الإسلام لجيوش أبي
بكر خليفة النبي عليه الصلاة والسلام , وما أظن تاريخ فن التعبئة اليوم يخلو من
الاستئناس بذكر تلك التدابير المخزومية , التي كان لها شأن عظيم في الإسلام كما
هو شأنها في الجاهلية (أو الجمهورية) .
وأما السِّفَارة , فالمراد بها ظاهر , وقد كانوا يحتاجون إلى السّفارة في
الحروب؛ أي: في أوائلها , أو بعد شبوب نارها وتعاظم أوزارها , ويحتاجون إليها
إذا نافرهم حيّ للمفاخرة. وقد كانت هذه الوظيفة من خصائص بني عدي الذين
منهم عمر بن الخطاب صاحبها , وناهيك بذلك الخليفة الثاني الشهير بكل مَنْقَبَة
صالحة إذا كان سَفِيرَ قوم.
وأما الأَيْسَار فهي الأزلام والقِدَاح , كانوا يضربون بها إذا أرادوا أمْرًا , وكان
هذا من خرافاتهم وعيوبهم , ويحق لنا أن نبالغ في استهجان هذه الخرافة التي كانوا
عليها إلا أن يكون لهم شيء من النظر من وراء الخرافة , كما هو الحال في كثير
من الأمور الباطلة التي تروج في الأمم بسماح من العقلاء , أو بترويج منهم لها ,
وقد كانت هذه الوظيفة لبني جُمَح الذين منهم صفوان بن أمية صاحبها.
وأما الأموال المحجرة , فهي الأموال التي سموها لآلهتهم , ويصح أن تسمى
هذه الأموال أم الأوقاف الخيرية؛ أي: إن بينهما تشابهًا. وقد كانت هذه الوظيفة؛
أي: تولي النظر في الأموال المحجرة من خصائص بني سهم الذين منهم الحارث
ابن قيس صاحبها.
هذا ما كان من حيث ترتيب التضامن واقتسام الأعمال المهمة. وأما الأمور
الجزئية التي كان الأفراد يختلفون فيها فتفصل فيها كبار أسرهم وعشائرهم في
الغالب على طريقة التحكيم , ولم يكن للقوم من شريعة مكتوبة , وإنما كانوا يقضون
في الأمر كما يبدو لهم الصواب فيه , ويقيسون الأمور بأشباهها.
وهنا يخطر في بال القارئ أن يسأل عن الضعيف الذي لا يأوي إلى ركن
شديد من رهطه , كيف كان حاله إذا أهين أو ظلم في ذلك المجتمع الذي لا شريعة
فيه مكتوبة , ولا قوة عمومية من شأنها وخصائصها دفع القوي عن الضعيف. وقد
بحثنا في هذه المسألة المهمة , فوجدنا القوم لم ينسوها ولم يهملوا شأنها؛ وذلك أنهم
قرروا في مؤتمر لهم حماية الضعيف , والذود عنه , وكأن من حديث ذلك المؤتمر
أن قبائلَ من قريش اجتمعت في دار عبد الله بن جدعان الشهير, وتعاهدوا وتعاقدوا
على أن لا يجدوا في مكة مظلومًا من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا
قاموا معه , وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته , فسمت قريش ذلك حلف الفضول , وكانت الأرهاط المتعاقدة بني هاشم وبني المطلب وبني أسد
ابن عبد العزى وبني زهرة بن كلاب وبني تيم بن مرة.
نعم , كان من النقص في نظامهم أن لا تكون حماية الضعيف من خصائص
الجمهور , ولكن يظهر أنهم كانوا يكتفون في الضعيف بأن يجيره واحد من بيوت
العزة والقوة , فإنه يصير مثل مجيره في نظر الجمهور فلا يجسر أحد أن يبغي عليه.
ويمكننا أن نستخلص من كل ما تقدم أن القوم كان لهم شبه قانون أساسي , إلا
أنه غير مكتوب , ولم يكن لهم قوانين مدنية أو جنائية قط. والأمر في الأمور
المدنية سهل في المجتمعات البسيطة الصغيرة , فكل إنسان يستطيع فيها أن يحتفظ
بحقوقه , أو أن يستعين عليها بالتحكيم وما أشبهه.
وأما الحوادث الجنائية فلا يجوز إهمالها وتركها من غير أن يتولى الفصل فيها
أناس مقيدون بقوة تنفيذية مخافة أن تكثر الجنايات؛ ولكن تكافؤ القوى في العشائر
والبطون المتساكنين في بلد واحد قد يكون مانعًا من كثرة الجنايات , وإذا أضيف إلى
ذلك صلاح الأخلاق والتربية العمومية كان هذا نِعْم الظهير على تقليل العدوان ,
وقد كان القوم يتواصون باجتناب الظلم , ولا سِيَّمَا في البلد الأمين , ومن وصاياهم في
ذلك قول إحدى نسائهم توصي ابنًا لها:
أبنيّ لا تظلم بمكـ ... ـة لا الصغير ولا الكبير
واحفظ محارمها بنيَّ ... ولا يغرنك الغرور
أبنيّ من يظلم بمكـ ... ـة يلق أطراف الشرور
أبنيّ يضرب وجهه ... ويلح بخديه السعير
أبنيّ قد جربتها ... فوجدت ظالمها يبور
الله آمنها وما ... بنيت بعرصتها قصور
والله آمن طيرها ... والعصم تأمن في ثبير
وتواصيهم بالنهي عن الظلم يغرينا بتعرف فلسفة القوم التي كانت تحثهم على
مثل هذا.
***
الفصل الثالث
(ديانة أهل مكة عند البعثة)
ويظهر لنا أنهم طرقوا كسائر الأمم باب الضَّالَّة المنشودة , وهي معرفة ما هي
نفوسنا ومن أين مبدأها , وإلى أين منتهاها , وماذا يزكيها , وماذا يدسِّيها.
نعم طرقوا هذا الباب , ولكن يفتح لهم عن الطريق الموصل إلى هذه الحقائق
المكنونة , بل كان نصيبهم كنصيب الأكثرين ظنونًا ورَجْمًا بالغيب.
أدرك القوم أن للعالم خالقًا ومدبّرًا، هو الذي خلق السموات والأرض وما
فيهن، وهو الذي خلق السمع والأبصار والأفئدة، وقالوا كما يقول سواهم: إنه
تستحب الرغبة إليه , والرهبة منه , ولكن في هذا السبيل تاهوا , فتركوا ههنا
العقل والتفكر , وقلدوا الأمم , واتخذوا من الحجارة أوثانًا , وقالوا: إن تعظيم هذه
الأوثان يقرب إلى الله؛ لأن هذه الأوثان تماثيل , أو كتماثيل لأناس صالحين محبوبين
عند الله , فتعظيمهم لي درجة العبادة يقرب إلى الله.
لقد غلطوا في ظنهم أن الله يحب هذه الحجارة. وأخطئوا بزعمهم أن تنزيل
العقول إلى تعظيم هذا الجماد (بهذه الصورة) تعظيمًا قلبيًّا يرضي الله تعالى.
وحادوا عن الحق بتخيلهم أن هؤلاء يشفعون لهم عند الله تعالى.
وقد كان الواجب أن لا يكون في قلوبهم حب وعبودة إلا للحي القيوم , ولم
يكن جائزًا أن يشركوا به الجمادَ.
وكان لهم أغلاط أخرى كثيرة في ذات الله سبحانه وصفاته وأفعاله , فقد زعم
بعضهم أن الملائكة بناته، وزعم بعضهم أن الجن شركاؤه في الملك , وظنوا
جميعهم أن لن يبعث الله بشرًا ليعلمهم ويزكيهم.
غلطوا في كل هذا , وتسفلت فيه عقولهم , ولكن اعتقادهم بأن للعالم صانعًا
مدبرًا عظيمًا هو رب الكل , وأنه يجب أن يتقرب إليه العبيد قد رقق - على ما
فيه من النقص , والبعد عن الطريق القويم - قلوب كثير منهم , وكأنه أعدها لقبول
حق سيظهر نوره فيمحق خطيئاتهم الاعتقادية.
والمشهور أن القوم لم يكونوا يقولون بالمعاد والجزاء الأخروي , ولكن الحقيقة
أنهم كانوا في ريب وشك؛ أي: لم يكونوا جازمين بشيء في هذا الباب , وكان أناس
منهم تذهب بهم عقولهم إلى وجوب المعاد والجزاء الأخروي , ولكن عدم اعتقادهم
بالجزاء الأخروي لم يكن مانعًا من أن تكون قلوبهم منجذبة إلى الأخلاق , والأعمال
الطيبة التي تحثّ على مثلها الديانات من البر , والإحسان , والعدل , والصدق ,
والكرم , وحماية الضعيف , وترك العدوان , والابتعاد عن الخيانة , والبغي , وما
أشبه هذه المناقب، وعقولهم إنما طرأ عليها التسفل إلى تعظيم الجماد؛ لأن الوثنية
هي الغالبة في عصرهم , ولا يبعد عن الصواب من يقول: إن الوثنية هي الغالبة
على طباع البشر كلهم إلا قليلاً.
فإذا صرفنا نظرًا عن تلوث عقولهم بنزغات الوثنية لا نجد من بعدها هذه
العقول مظلمةً , وهي التي أضاءت لهم , فعَرَفوا بها الأخلاقَ الصالحة والفاسدة ,
ولم يكن يعوزهم إلا أن يقوم فيهم مرشد يهديهم لِلَّتِي هي أقوم من طرائق الاعتقاد
بالله , وصفاته , والتقريب إليه بتوجيه الوجه , وإسلام القلب , ولولا أن للقوم
عقولاً صافية لَمَا رجي لمجيء المرشد من فائدة؛ لأنه لا يظهر نور الإرشاد إلا في
اللوح النقي , ولكن الرجاء بالقوم في محله , فإنه لما جاء المرشد لقي أراضي في
منتهى الاستعداد لما أراد أن يلقي البذار , وإلى جانبها أراض أخرى فيها من
أعشاب التمسك بالقديم ما يحتاج إلى زمن في معالجة إزالته , وقليل من الأراضي
كانت سَبْخَة ليس في الإمكان أن ينتج فيها البذار.
لا يهولنك من القوم سُقْم عقولهم فيما كانوا يعتقدون , فإن البشر كلهم - إلا قليلاً
- كانوا - ولا يزالون - يعتقدون أمثال معتقدات القوم؛ فواأسفاه! إن هذا العيب عام
وراسخ في البشر , ومن أصعب الأشياء استئصال جذوره , ولا ندري السر في هذا،
ولكن انظر إلى هذه الجماعة القليلة كيف أقامت لها شأنًا رفيعًا في العرب كلهم؛ إذ
غلبتهم على التوطن في جوار البيت المشرّف , وأحسنت المقام في هذا الجوار
الشريف؛ فقامت بحقوق حجاجه من سِقَايتهم ورِفَادتهم، وقامت بحقوق المستضعفين
فيه من حمايتهم وتأمينهم، وقامت بسنن التضامن والتعاون والتواصي بالعدل
والإحسان حتى رضي العرب بتقديمهم عليهم إذا تقدموا وإياهم لأمر عظيم وشرف
جسيم , على أنهم ليسوا في العرب أكثر عددًا، ولا أقوى ناصرًا.
لا جَرَمَ قد خصهم الله بأفراد كانوا في نقاء القلوب آيةً، وبلغوا في صفاء العقول الغايةَ، والأمم والشعوب تحيى بأفراد وتموت بأفراد.
وإذا سخر الإله سعيدًا ... لأناس فإنهم سعداء
ومما هو جدير بالذكر في هذا الصدد حُرّيّتهم التي كانوا عليها؛ فإنهم لما
خلصوا من تمليك أحد عليهم خلصوا من شرور كثيرة تتبع التمليك , فكانت
معاشراتهم ساذجةً خاليةً من عِبارات المَلَق والخُنُوع , وكانت مكاسبهم لأنفسهم لا
يشاركهم فيها مشارك , ولا يعرفون المغارم المرتبة، والإتَاوات المضروبة.
وهم في أمْن مِن حَيْفِ القُضَاةِ؛ لأنهم يتحاكمون يوم يشاءون إلى مَن يرضونه
من كبرائهم , ولا قانون لهم في المسائل الجزئية ترتعد من أحكامه فرائضهم , وإنما
يخشون بأس بعضهم؛ فيرتدعون عن الشر الذي يثأر له العموم أو يثأر له من
أصابهم خاصة.
وكان جائزًا لأحدهم أن يتدين كما يريد بشرط أن لا يعيب دينهم الذي كانوا
عليه , ولا يدعو إلى إبطاله , وقد كان لبعضهم فلسفة في النشور والجزاء الأخروي
ولبعضهم انصراف عن عبادة الأوثان , ولبعضهم مَيْل إلى تقليد أهل الكتاب , فلم
يكونوا يحاسبون أحدًا على مِثْل هذا.
ولم يكن لديهم نوع من المبايعات حرامًا , بل يبيعون ويشترون كما يشاءون ,
وكلٌّ منهم عارف بمصلحته , ولهم همة في التجارة والرحلة فيها إلى الشام وغيرها
في الصيف والشتاء.
أما أهل الصنعة فيهم , فلم يكن لهم من قيمة , والغالب أن يكون الصناع
غرباء.
ولهم إزاء حسنة الحرية سيئة كبيرة , وهي امتهان الرقيق واحتقاره وتكليفه
الشاق من الأمور , ولم يكن بعضهم يأنف من إكراه إمائه على البِغَاء؛ ليأخذَ ما
يُعْطَيْن في سبيله.
أمّا نساؤهم الحرائر , فلم يكن جائزًا لهن الزِّنا , ولا سِيَّمَا إذا كان لهن بُعُولة ,
بَيْد أنه لم ينقل لنا أنهم رتبوا على الزواني عقابًا , بل كان عقابهن إلى رأي أهليهن
إذا شاءوا.
وكان لنسائهم كثير من الحقوق , ولهن أن يواجهن الرجال ويبرزن أمامهم
حاسرات , ويمكن أن يُقال بالإجمال: إن حرية الرجال والنساء كانت تامة؛ ولذلك
نعجب من قوم هذا شأنهم إذا رأيناهم لم يرثوا لحال الرقيق , ولم يذكروا أنه يستحق
الرحمة؛ لأنه مسلوب أفضل كساء كساهموه ربهم الأعلى الذي خلق فسوَّى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) من رواية خديجة أم المؤمنين.(11/145)
ربيع الأول - 1326هـ
مايو - 1908م(11/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
صِلات المؤمنين بغيرهم في أول الإسلام
مقتبس من الدروس التي كان يلقيها في الأزهر الأستاذ الإمام الشيخ محمد
عبده رضي الله عنه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ
قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ
تَعْقِلُونَ} (آل عمران: 118) {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ
بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا
بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (آل عمران: 119) {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ
تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ
اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: 120) .
قال الأستاذ الإمام: إن الآيات السابقة من أول السورة كانت في الحجاج مع
أهل الكتاب , وكذا مع المشركين بالتبع والمناسبة , وإن هذه الآيات وما بعدها إلى
آخر السورة في بيان أحوال المؤمنين , ومعاملة بعضهم لبعض , وإرشادهم في
أمرهم؛ يعني أن أكثر الآيات السابقة واللاحقة في ذلك.
ثم ذكر لبيان اتصال هذه الآيات بما قبلها ثلاث مقدمات:
(1) أنه كان بين المؤمنين وغيرهم صِلات كانت مدعاة إلى الثقة بهم ,
والإفضاء لهم بالسر , وإطلاعهم على كل أمر , منها المحالفة والعهد , ومنها النسب
والمصاهرة , ومنها الرضاعة.
(2) أن العزة من طباع المؤمن , فإنه يبني أمره على اليُسْر والأمانة
والصدق, ولا يبحث عن العيوب؛ ولذلك يظهر لغيره من العيوب , وإن كان بليدًا ما
لا يظهر له هو وإن كان ذكيًّا.
(3) أن المناصبين للمؤمنين من أهل الكتاب والمشركين كان همهم الأكبر إطفاء نور الدعوة، وإبطال ما جاء به الإسلام، وكان هم المؤمنين الأكبر نَشْرَ
الدعوة، وتأييد الحق. فكان الهَمّان متباينين، والقصدان متناقضين. ثم قال: فإذا
كانت حالة الفريقين على ما ذكر فهي لا شَكَّ مقتضية لأنْ يفضي النسيب من
المؤمنين إلى نسيبه من أهل الكتاب والمشركين , وكذا المحالف منهم لمحالفه من
غيرهم بشيء مما في نفسه , وإن كان من أسرار الملة التي هي موضوع التباين
والخلاف بينهم , وفي ذلك تعريض مصلحة الملة للخبال؛ لذلك جعل الله تعالى
للصِّلاتِ بين المؤمنين وغيرهم حَدًّا لا يتعدونه؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ
وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (آل عمران: 118) إلى آخر الآيات.
(بطانة) الرجل: وليجته وخاصته الذين يستنبطون أمْره , ويتولون سِره.
مأخوذ من بطانة الثوب , وهو الوجه الباطن منه كما يسمى الوجه الظاهر ظهارة.
و (من دونكم) معناه: من غيركم. و (يألونكم) من الإِلْو , وهو: التقصير
والضعف. و (الخبال) في الأصل: الفساد الذي يلحق الحيوان , فيُورِثه
اضطرابًا؛ كالأمراض التي تؤثر في المخ , فيختل إدراك المصاب بها؛ أي: لا
يقصرون ولا ينون في إفساد أمركم. والأصل في استعمال فعل (لا) أن يقال فيه
نحو: (لا آلو في نصحك) , وسمع مثل (لا آلوك نصحًا) على معنى: لا أمنعك
نصحًا وهو ما يسمونه: التضمين. و (عنتم) من العنت , وهو: المشقة الشديدة ,
و (البغضاء) شدة البُغض.
أما سبب النزول؛ فقد أخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس قال: (كان
رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من يهودَ , لما كان بينهم من الجوار والحلف في
الجاهلية؛ فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم هذه الآيةَ)
وأخرج عَبْد بن حُمَيْد أنها نزلت في المنافقين.
وروى ابن جرير القولين عن ابن عباس. وذكر الرازي وجهًا ثالثًا أنها في
الكافرين والمنافقين عامَّةً؛ قال: (وأما ما تمسكوا به من أن ما بعد الآية مختص
بالمنافقين , فهذا لا يمنع عموم أول الآية , فإنه ثبت في أصول الفقه أن أول الآية إذا
كان عامًّا وآخرها إذا كان خاصًّا لم يكن خصوص آخر الآية مانعًا من عموم أولها)
وسيأتي عن ابن جرير ترجيح الأول.
وأما المعنى فهو: نَهْي المؤمنين أن يتخذوا لأنفسهم بطانة من الكافرين
الموصوفين بتلك الأوصاف , على القول بأن قوله: (لا يَأْلُونَكُمْ) (آل عمران:
118) إلخ نعوت للبطانة هي قيود للنهي كذا على القول بأنه كلام مستأنف مسوق
للتعليل فالمراد واحد وهو أن النهي خاص بمن كانوا في عداوة المؤمنين على ما ذكر ,
وهو أنهم لا يألون خبالاً وإفسادًا لأمرهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً , فهذا هو القَيْد
الأول.
والثاني قوله عز وجل:] وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [أي: تمنواعنتكم , أي: وقوعكم في الضرر الشديد والمشقة.
والثالث والرابع قوله:] قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ
أَكْبَرُ [أي: قد ظهرت علامات بغضائهم لكم من كلامهم، فهي لشدتها مما يعوزهم كتمانها , ويعز عليهم إخفاؤها، على أن ما تخفي صدورهم منها أكبر مما يفيض على
ألسنتهم من الدلائل عليها.
وهذا النوع من البغضاء والعداوة مما يلقاه القائمون بكل دعوة جديدة في
الإصلاح ممن يدعونهم إليه , وما كان المسلمون الأولون يعرفون سُنّة البشر في
ذلك إذ لم يكونوا على علم بطبائع الملل , وقوانين الاجتماع وحوادث التاريخ حتى
أَعْلَمَهُم الله بذلك؛ ولذلك قال: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} (آل
عمران: 118) يعني بالآيات هنا: العلامات الفارقة بين من يصح أن يتخذ بطانة ,
ومن لا يصح أن يتخذ لخيانته وسوء عاقبة مباطنته؛ أي: إن كنتم تدركون حقائق
هذه الآيات والفصول الفارقة بين الأعداء والأولياء فاعتبروا بها، ولا تتخذوا أولئك
بطانة.
وأنت تَرَى أنَّ هذه الصفات التي وصف بها من نهى عن اتخاذهم بطانة لو
فرض أن اتصف بها من هو موافق لك في الدين والجنس والنسب لما جاز لك أن
تتخذه بطانةً لك إن كنت تعقل؛ فما أعدلَ هذا القرآنَ الحكيمَ! وما أعلى هديَهُ!
وأسمى إرشادَهُ!
لقد خفي على بعض الناس هذه التعليلات والقيود , فظنوا أن النهي عن
المخالف في الدين مطلقًا , ولو جاء هذا النهي مطلقًا لَمَا كان أمْرًا غريبًا , ونحن
نعلم أن الكافرين كانوا إلبًا على المؤمنين في أول ظهور الإسلام؛ إذ نزلت هذه الآيات
لا سِيَّمَا اليهود الذين نزلتْ فيهم على رأي المحققين.
ولكن الآيات جاءت مقيدة بتلك القيود؛ لأن الله تعالى - وهو منزلها - يعلم ما
يعتري الأمم وأهل الملل من التغير في الموالاة والمعاداة , كما وقع من هؤلاء اليهود ,
فإنهم بعد أن كانوا أشدَّ الناس عداوةً للذين آمنوا في أول ظهور الإسلام قد انقلبوا
فصاروا عونًا للمسلمين في بعض فتوحاتهم (كفتح الأندلس) وكذلك كان القبط
عونًا للمسلمين على الروم في مصر، فكيف يجعل عالم الغيب والشهادة الحكم على
هؤلاء واحدًا في كل زمان ومكان أبد الأبيد؟ ألا إن هذا مما تنبذه الدراية، ولا تروي
غلته الرواية، فإن أرجح التفسير المأثور يؤيد ما قلنا.
قال ابن جرير يردّ على قتادة القائل بأن الآية في المنافقين , ويؤيد رأيه
الموافق لِمَا اخترناه ما نصه: (إن الله - تعالى ذِكْرُهُ - إنما نهى المؤمنين أن
يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغش للإسلام وأهله والبغضاء , إما بأدلة ظاهرة دالة
على أن ذلك من صفتهم، وإما بإظهار الموصوفين بتلك العداوة والشنآن والمناصبة
لهم , فأما من لم يتأسوه معرفة أنه الذي نهاهم الله عز وجل عن مخالته ومباطنته
فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته إلا بعد تعريفهم إياهم , إما بأعيانهم
وأسمائهم , وإما بصفات قد عرفوهم بها) .
وإذا كان ذلك كذلك , وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء
المؤمنين إلى إخوانهم الكفار (أي: كما قال قتادة) غير مدرك به المؤمنون معرفة ما
هم عليه لهم مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم لهم والتودد إليهم , كان بينا أن الذين نهى
الله عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم
على ما وصفهم الله عز وجل به , فعَرَفَهم المؤمنون بالصِّفة التي نعتهم الله بها ,
وأنهم هم الذين وصفهم الله - تعالى ذكره - بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون
ممن كان له ذمة وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب؛
لأنهم لو كانوا المنافقين لَكَان الأمْر منهم على ما بيَّنا , ولو كانوا الكفار ممن
ناصب المسلمين الحرب لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانةً من دون المؤمنين
مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم، ولكنهم الذين كانوا بين أظهر المؤمنين من
أهل الكتاب أيامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان من رسول الله صلى الله
عليه وسلم عهد وعقد من يهود بني إسرائيل. اهـ
فهذا شيخ المفسرين وأشهرهم يجعل هذا النهي فيمن ظهرت عداوتهم للنبي
صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه ممن كان لهم عهد فخانوا فيه كبني النضير الذين
حاولوا قَتْلَ النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء ائتمانه لهم لمكان العهد والمحالفة ,
ويمنع أن يكون مرادًا به جميع الكافرين أو المنافقين.
فهذا حكم من أحكام الإسلام في المخالفين أيام كان جميع الناس حربًا للمسلمين ,
فهل ينكر أحد له مسكة من الإنصاف أنه في هذه القيود التي قيد بها يعد منتهى
التساهل والتسامح مع المخالفين؟ إذ لم يمنع اتخاذ البطانة إلا ممن ظهرت عداوتهم
وبغضاؤهم للمسلمين، فهم لا يقصرون في إفساد أمرهم ويتمنون لهم من الشر فوق
ذلك.
لو كانت هذه القيود للنهي عن استعمال المخالفين في كل شيء , ومشاركتهم في
كل عمل لكان وجه العدل فيها أزهر، وطريق العذر فيها أظهر؛ فكيف وهي
قيود لاتخاذهم بطانة يستودعون الأسرار ويستعان برأيهم وعملهم على شئون الدفاع
عن الملة , وصون حقوقها , ومقاومة أعدائها؟
ما أَشْبَهَ هذا النهي في قيوده بالنهي عن اتخاذ الكفار أنصارًا وأولياءً؛ إذ قيد
بقوله عز وجل: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن
دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) ,
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى
إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: 9) , وقد
شرحنا هذا البحث في تفسير قوله تعالى: {لاَ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن
دُونِ المُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 28) [1] .
هذا التساهل الذي جاء به القرآن هو الذي أرشد عمر بن الخطاب إلى جعل
رجال دواوينه من الروم , وجرى الخليفتان الآخران , وملوك بني أمية مِن بعدِهِ
على ذلك إلى أن نقل الدواوين عبد الملك بن مروان من الرومية إلى العربية. وبهذه
السيرة وذلك الإرشاد عمل العباسيون وغيرهم من ملوك المسلمين في إناطة أعمال
الدولة باليهود والنصارى والصابئين , ومن ذلك جعل الدولة العثمانية أكثر سفرائها
ووكلائها في بلاد الأجانب من النصارى. ومع هذا كله يقول متعصبو أروبا: إن
الإسلام لا تساهل فيه! ! (رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ) ألا إن التساهل قد خرج عند
المسلمين عن حده حتى كتب الأستاذ الإمام في ذلك مقالةً في العروة الوثقى صَدَّرَهَا
بالآية التي نفسرها نوردها هنا برمتها؛ لأنها تدخل في باب تفسير الآية والاعتبار
بها على أكمل وجه، وهذا نصها (نقلاً من الجزء الثاني من تاريخه) :
قالوا: تصان البلاد , ويحرس الملك بالبروج المشيدة , والقلاع المَنِيعة ,
والجيوش العاملة , والأهُب الوافرة , والأسلحة الجيدة. قلنا: نعم , هي أحراز
وآلات لا بُدَّ منها؛ للعمل فيما يقي البلاد , ولكنها لا تعمل بنفسها , ولا تحرس
بذاتها فلا صيانةَ بها، ولا حراسةَ إلا أن يتناول أعمالها رجال ذوو خبرة وأولو رأي
وحكمة يتعهدونها بالإصلاح زمن السلم , ويستعملونها فيما قصدت له زمن الحرب ,
وليس بِكَافٍ حتى يكونَ رجال من ذوي التدبير والحزم , وأصحاب الحذق والدراية
يقومون على سائر شئون المملكة , يوطئون طرق الأمن , ويبسطون بساط الراحة ,
ويرفعون بناء الملك على قواعد العدل , ويوقفون الرعية عند حدود الشريعة , ثم
يراقبون روابط المملكة مع سائر الممالك الأجنبية؛ ليحفظوا لها المنزلة التي تليق بها
بينها بل يحملوها على أجنحة السياسة القويمة إلى أسمى مكانة تمكن لها. ولن
يكونوا أهلاً للقيام على هذه الشئون الرفيعة حتى تكون قلوبهم فائضة بمحبة البلاد ,
طافحة بالمرحمة والشفقة على سُكّانها , وحتى تكون الحمية ضاربة في نفوسهم ,
آخذة بطباعهم , يجدون في أنفسهم مُنَبِّهًا على ما يجب عليهم , وزاجرًا عما لا يليق
بهم , وغضاضة وأَلَمًا مُوجِعًا عندما يمس مصلحة المملكة ضرر , ويوجس عليها
من خطر؛ لِيتيسر لهم بهذا الإحساس , وتلك الصفات أن يؤدوا أعمال وظائفهم كما
ينبغي , ويصونوها من الخلل الذي ربما يفضي قليلُهُ إلى فساد كبير في الملك،
فهؤلاء الرجال بهذه الخلال هم المنعة الواقية , والقوة الغالبة.
يسهل على أي حاكم في أي قبيل أن يكتب الكتائب , ويجمع الجنود , ويوفر
العدد من كل نوع بنقد النقود , وبذل النفقات , ولكن من أين يصيب بطانة من أولئك
الذين أشرنا إليهم: عقلاء , رحماء , أباة , أصفياء تهمهم حاجات الملك كما تهمهم
ضرورات حياتهم.
لا بُدَّ أن يتبع في هذا الأمر الخطير قانون الفطرة , ويراعى ناموس الطبيعة؛
فإن متابعة هذا الناموس تحفظ الفكر من الخطأ , وتكشف له خفيات الدقائق , , وَقَلَّمَا
يخطئ في رأية أو يتأوَّد في عمله مَنْ أَخَذَ به دليلاً , وجعلَ له من هديه مرشدًا , وإذا
نظر العاقل في أنواع الخطأ التي وقعت في العالم الإنساني من كلية وجزئية , وطلب
أسبابها لا يجد لها من علة سوى الميل عن قانون الفطرة والانحراف عن سنة الله في
خلقه.
من أحكام هذا الناموس الثابت أن الشفقة والمرحمة والحمية والنُّعرَة على
الملك والرعية , إنما تكون لمن له في الأمة أصل راسخ ووشيج يشد صلته بها.
هذه فطرة فطر اللهُ الناسَ عليها.
إن الملتحم مع الأمة بعلاقة الجنس والمشرب يراعي نسبته إليها , ونسبتها
إليه , ويراها لا تخرج عن سائر نسبه الخاصة به , فيدافع الضيم عن الداخلين معه
في تلك النسبة دفاعه عن حوزته وحريمه (راجع رأيك فيما تشهده كثيرًا حتى بين
العامة عندما يرمي أحدهم أهل البلد الآخر , أو دينه بسوء على وجه عام؛ كسوري
ينتقد المصريين , أو مصري ينتقد السوريين) هذا إلى ما يعلمه كل واحد من الأمة أن
ما تناله أمة من الفوائد يلحقه حظّ منها , وما يصيبها من الأرزاء يصيبه سهم منه
خصوصًا إن كان بيده هامات أمورها , وفي قبضته زمام التصرف فيها فإن حظه
(حينئذ) من المنفعة أوفر , ومصيبته بالمضرة أعظم , وسهمه من العار الذي يلحق
الأمة أكبر؛ فيكون اهتمامه بشئون الأمة التي هو منها , وحرصه على سلامتها
بمقدار ما يؤمله من المنفعة أو يخشاه من المضرة.
فعلى ولي الأمر في مملكة أن لا يَكِلَ شَيْئًا مِن عملِهِ إلا إلى أحد رجلين إما
رجل يتصل به في جنسية سالمة من الضعف والتمزيق , موقرة في نفوس
المنتظمين فيها , محترمة في قلوبهم , يحملهم توقيرها واحترامها على التغالي في
وقايتها من كل شَيْن يدنو منها , ولم توهن روابطها اختلافات المشارب والأديان.
وإما رجل يجتمع معه في دِين قامت جامعته مقام الجنسية , بل فاقت منزلته من
القلوب منزلتها , كالدين الإسلامي الذي حل عند المسلمين وإن اختلفت شعوبهم مَحَلّ
كل رابطة نسبية , فإن كلاً من الجامعتين (الجنسية على النحو السابق , والدينية)
مبدآن للحمية على الملك , ومنشآن للغيرة عليه.
أما الأجانب الذين لا يتصلون بصاحب الملك في جنس , ولا في دين تقوم
رابطته مقام الجنس , فمثلهم في المملكة كمثل الأجير في بناء بيت لا يهمه إلا استيفاء
أجرته , ثم لا يبالي أَسَلِمَ البيت، أو جرَفَه السيل، أو دكَّته الزلازل. هذا إذا صدقوا
في أعمالهم يؤدون منها بمقدار ما يأخذون من الأجر واقفين فيها عند الرسم الظاهر ,
فإن الواحد منهم لا يشرف بشرف الأمة الذي هو خادم فيها , ولا يمسه شيء مما يمسها
من الضّعَة؛ لأنه منفصل عنها إذا فقد العيش فيها فارقها وارتد إلى منبته الذي ينتسب
إليه , بل هو في حال عمله وخدمته لغير جنسه , لاصق بمنبته في جميع شئونه ما
عدا الأجر الذي يأخذه , وهذا معلوم ببداهة العقل , فلا يجد في طبيعته , ولا في
خواطر قلبه ما يبعثه على الحذر الشديد مما يفسد الملك , أو الحرص الزائد على ما
يعلي شأنه , بل لا يجد باعثًا على الفكر فيما يقوم مصلحته من أي وجه.
هذه حالهم هي لهم بمقتضى الطبيعة لو فرضنا صدقهم وبراءتهم من أغراض
أُخَرَ , فما ظنك بالأجانب لو كانوا نازحين من بلادهم فرارًا من الفقر والفاقة ,
وضربوا في أرض غيرهم طلبًا للعيش من أي طريق , وسواء عليهم في تحصيله
صدقوا أو كذبوا , وسواء وفوا أو قصروا , وسواء راعوا الذمة أو خانوا أو لو كانوا
مع هذا كله يخدمون مقاصد لأممهم يمهدون لها طرق الولاية والسيادة على
الأقطار التي يتولون الوظائف فيها (كما هو حال الأجانب في الممالك الإسلامية؛ لا
يجدون في أنفسهم حاملاً على الصدق والأمانة , ولكن يجدون منها الباعث على
الغش والخيانة) ومن تتبع التواريخ التي تمثل لنا أحوال الأمم الماضية , وتحكي لنا
عن سُنَّة الله في خليقته , وتصريفه لشئون عباده رأى أن الدول في نموها وبسطتها ما
كانت مصونة إلا برجال منها يعرفون لها حقها , كما تعرف لهم حقهم، وما كان شيء
من أعمالها بيد أجنبي عنها , وإن تلك الدول ما انخفض مكانها , ولا سقطت في هُوَّة
الانحطاط إلا عند دخول العنصر الأجنبي فيها، وارتقاء الغرباء إلى الوظائف
السامية في أعمالها، فإن ذلك كان في كل دولة آية الخراب والدمار خصوصًا إذا
كان بين الغرباء وبين الدولة التي يتناولون أعمالها منافسات وأحقاد مزجت بها
دماؤهم , وعجنت بها طينتهم من أزمان طويلة.
نَعَم , كما يحصل الفساد في بعض الأخلاق والسجايا الطبيعية بسبب العوارض
الخارجية , كذلك يحصل الضعف والفتور في حمية أبناء الدين أو الأمة , ويطرأ
النقص على شفقتهم ومرحمتهم؛ فينقص بذلك اهتمام العظماء منهم بمصالح الملك إذا
كان ولي الأمر لا يقدر أعمالهم حقَّ قدرها , وفي هذه الحالة يقدمون منافعهم الخاصة
على فرائضهم العامة , فيقع الخلل في نظام الأمة , ويضرب فيها الفساد , ولكن ما
يكون من ضره أخف وأقرب إلى التلافي من الضرر الذي يكون سببه استلام
الأجانب لهامات الأمور في البلاد؛ لأن صاحب اللُّحْمَة في الأُمّة وإن مرضت
أخلاقُه , واعتلت صفاتُه إلا أن ما أودعته الفطرة وثبت في الجُِبْلَة لا يمكن محوه
بالكلية , فإذا أساء في عمله مَرَّةً أزعجه من نفسه صائح الوشيجة الدينية أو الجنسية ,
فيرجع إلى الإحسان مَرَّةً أخرى , وإن ما شد بالقلب من علائق الدين أو الجنس لا
يزال يجذبه آونةً بعد آونةٍ؛ لمراعاتها والالتفات إليها , ويميله إلى المتصلين معه
بتلك العلائق وإن بعدوا.
لهذا؛ يحق لنا أن نأسف غايةَ الأسف على أُمَراء الشرق , وأخص مِن بينهم
أمْر المسلمين حيث سلموا أمورهم , ووكلوا أعمالهم من كتابة وإدارة وحماية
للأجانب عنهم , بل زادوا في موالاة الغرباء والثقة بهم حتى ولّوهم خدمتهم الخاصة
بهم في بطون بيوتهم , بل كادوا يتنازلون لهم عن ملكتهم في ممالكهم بعدما رَأَوْا
كثرة المطامع فيها لهذا الزمان , وأحسوا بالضغائن والأحقاد الموروثة من أجيال
بعيدة بعدما علمتهم التجارب أنهم إذا ائتمنوا خانوا، وإذا عززوا أهانوا يقابلون
الإحسان بالإساءة، والتوقير بالتحقير، والنعمة بالغفران، ويجازون على اللقمة
باللطمة، والركون إليهم بالجفوة، والصلة بالقطيعة، والثقة فيهم بالخدعة.
(أَمَا آنَ لأمراء الشرق أن يدينوا لأحكام الله التي لا تنقض؟ ألم يأن لهم أن
يرجعوا إلى حسهم ووجدانهم؟ ألم يأْتِ وقْتٌ يعملون فيه بما أرشدتهم الحوادث ,
ودلتهم عليه الرزايا والمصائب؟ ألم يحن لهم أن يكفوا عن تخريب بيوتهم بأيديهم
وأيدي أعدائهم، ألا أيها الأُمَرَاءُ العظامُ , ما لكم وللأجانب عنكم؟ {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ
تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} (آل عمران: 119) قد علمتم شأنهم، ولم تَبْقَ رِيبَة في
أمْرهم، {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} (آل عمران:
120) سارعوا إلى أبناء أوطانكم وإخوان دينكم وملتكم , وأقبلوا عليهم ببعض ما
تقبلون على غيرهم تجدوا فيهم خيرَ عون وأفضلَ نَصِير، اتبعوا سُنَّة الله فيما
ألهمكم وفطركم عليه كما فطر الناس أجمعين، وراعوا حكمته البالغة فيما أَمَرَكم ,
وما نهاكم كَيْلاَ تضلوا ويهوي بكم الخَطَل إلى أسفل سافلين. ألم تروا , ألم تعلموا , ألم
تحسبوا , ألم تجربوا؟ ؟ إلى متى إلى متى , إنا لله وإنا إليه راجعون) . اهـ
هذا بيان يريك بالحجج الاجتماعية الناهضة أن الغريب عن المِلّة لا يُتخذ
بطانة للقائمين بأمْر الملة، والغريب عن الدولة لا يتخذ بطانة لرجال الدولة، وإن لم
يكن هؤلاء الغرباء مُتَّصِفِينَ بما ذكر في الآية من العدوان والبغضاء؛ فكيف إذا
كانوا كذلك.
بَيَّنَتْ لنا الآيةُ التي فَسَّرْناها بعض حال أولئك الذين نُهِيَ المؤمنون عن اتخاذ
البطانة منهم مع المؤمنين , فدونك هذه الآية التي تبين حال المؤمنين معهم: {هَا
أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} (آل عمران: 119) فالقرآن ينطق بأفصح
عبارة وأصرحها , واصفًا المسلمين بهذا الوصف الذي هو من أثر الإسلام , وهو
أنهم يحبون أشد الناس عداوةً لهم , الذين لا يقصرون في إفساد أمْرهم , وتمني
عنتهم على أن بغضاءهم لهم ظاهرة , وما خفي منها أكبر مما ظهر.
أولئك المبغضون هم الذين قال الله فيهم أو في طائفة منهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ} (المائدة: 82) إلخ , يعني: أولئك اليهود
المجاورين لهم في الحجاز. أليس حب المؤمنين لأولئك اليهود الغادرين الكائدين ,
وإقرار القرآن إياهم على ذلك - لأنه من آثار الإسلام في نفوسهم - هو أقوى
الْبَرَاهِينِ على أن هذا الدِّين دين حب ورحمة وتساهل وتسامح , لا يمكن أن يصوب
العقل نظره إلى أعلى منه في ذلك؟ بلى , ولكن وجد في الناس من ينكر عليه
ذلك , ويصفه بضده زورًا وبهتانًا، بل تعصّبًا خرّوا عليه صمًّا وعميانًا.
من هم الذين يرمون الإسلام بأنه دين بغض وعدوان؟ لا أقول إنهم النصارى
الذين كانوا أجدرَ بحبنا وودنا من اليهود لقوله تعالى في تتمة الآية التي استشهدنا بها
آنفًا: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} (المائدة: 82)
بل هم قُسوس أوروبا المتعصبون على الإسلام مِن حيث هو دِين، وساستها
المتعصبون على الإسلام من حيث هو شرع ونظام قامت به دول وممالك.
فأوربا التي تتهم الإسلام - والشرق الأدنى كله لأجل الإسلام - بالتعصب
والبغضاء للمخالف هي التي أبادت من بلادها كل مخالف لدينها إلا الترك , فإنها لم
تقو على إبادتهم حتى الآن , ولولا ما بين دولها من التنازع السياسي لقضت عليهم.
فنصارى الشرق ومسلموه وكذا وثنيوه إنما اغترفوا غرفة من بحر تعصب أوروبا ,
ولكنهم لا قوةَ لهم على الدفاع عن أنفسهم أمامَ أولئك المعتدين.
أما قوله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} (آل عمران: 119) , فمعناه
أنكم تؤمنون بجميع ما أنزل الله من كتاب سواء منه ما أنزل عليكم , وما نزل عليهم ,
فليس في نفوسكم من الكفر ببعض الكتب الإلهية , أو النبيين الذين جاءوا بها ما
يحملكم على بُغض أهل الكتاب , فأنتم تحبونهم بمقتضى إيمانكم هذا. وذكر بعضهم
أن جملة {وَتُؤْمِنُونَ} (آل عمران: 119) حالية من قوله: {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} (آل عمران: 119) والمعنى أنهم لا يحبونكم مع أنكم تؤمنون بكتابهم وكتابكم ,
فكيف لو كنتم لا تؤمنون بكتابهم كما أنهم لا يؤمنون بكتابكم؟ فأنتم أحق ببغضهم ,
أي: ومع ذلك تحبونهم ولا يحبونكم.
قال ابن جرير: في هذه الآية إبانة من الله عز وجل عن حال الفريقين أعني
المؤمنين والكافرين ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب
أولئك، وغلطتهم على أهل الإيمان، كما حدثنا بِشْر قال: حدثنا يزيد قال:
حدثنا سعيد. عن قتادة: قوله: {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ
بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} (آل عمران: 119) , فوالله إن المؤمن ليحب المنافق ويأوي إليه
ويرحمه , ولو أن المنافق يقدر على ما يقدر عليه المنافق منه لأباد خضراءه.
(حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج. عن ابن جرير قال:
(المؤمن خير للمنافق من المنافق؛ يرحمه , ولو يقدر المنافق من المؤمن على مِثْلِ ما
يقدر عليه المؤمن لأباد خضراءه) . ا. هـ
فهؤلاء أئمة التفسير من سلف الأمة يقولون: إن المسلم خير للكافر وللمنافق
منهما له حُبًّا ورحمةً ومعاملةً. وكذلك قالوا في السني مع المبتدع , كما بين ذلك
شيخ الإسلام ابن تيمية؛ قالوا: إن من علامة أهل السنة أن يرحموا المخالف لهم
ولا يقطعوا أُخُوَّتَهُ في الدِّين؛ ولذلك يذكرون في كتب العقائد: (لا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِن
أهل القِبْلَة) بل كان رُوَاة الحديث مِن أئمة أهل السنة كالإمام أحمد والبخاري ومسلم
وأصحاب السنن يروون عن الشيعة والمعتزلة , لا يلتفتون إلى مذهب الراوي ,
بل إلى عدالته في نفسه.
ونتيجة هذا كله أن الإنسان يكون في التساهل والمحبة والرحمة لإخوانه البَشَر
على قدر تمسّكه بالإيمان الصحيح , وقربه من الحق والصواب فيه. وكيف لا
يكون كذلك والله يقول لخيار المؤمنين: {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} (آل عمران: 119) ؛ فبهذا نحتجُّ على من يزعم أن ديننا يغرينا ببعض المخالف
لنا , كما نحتج على بعض الجاهلين منا بدينهم الذين يطعنون ببعض علمائهم
وفضلائهم، لمخالفتهم إياهم في مذاهبهم وآرائهم، أو في ظنونهم وأهوائهم،
والذين سرت إليهم عدوى المتعصبين، فاستحلوا هَضْمَ حقوق المخالفين لهم في
الدِّين.
ثم قال تعالى شَأْنُهُ مُبَيِّنًا لشأن طائفةٍ منهم , أسندها إليهم في الجملة على قاعدة
تكافل الأمة , وكونها كشخص واحد {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ
الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ} (آل عمران: 119) كان بعض اليهود يظهرون الإيمان للنبي
صلى الله عليه وسلم والمؤمنين نفاقًا وخداعًا , ومنهم من كان يظهره، ثم يرجع عنه
ليشكك المسلمين كما تقدم في آية (72) من هذه السورة [2] وإذا خلا بعضهم إلى
بعض أظهروا ما في نفوسهم من الغيظ والحقد الذي لا يستطيعون معه إلى التشفي
سبيلاً. وعَضّ الأنامل كِنايَة عن شدة الغيظ , ويكنى به أيضًا عن الندم {قُلْ مُوتُوا
بِغَيْظِكُمْ} (آل عمران: 119) فإن الإسلام الذي هو سبب غيظكم لا يزداد
باعتصام أهله به إلا عزةً وقوةً وانتشارًا , وقال ابن جرير: (موتوا بغيظكم الذي
على المؤمنين؛ لاجتماع كلمتهم , وائتلاف جماعتهم) , فَلْيَعْتَبِرِ المسلمون اليومَ بهذا
لَعَلَّهم يتذكرون أنه ما حَلَّ بهم ما حَلّ من الأرزاء إلا بزوال هذا الاجتماع
والائتلاف , وبالتفرق بعد الاعتصام {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (آل عمران:
119) , فهو يعلم ما تضم صدوركم من شعور الغيظ والبغضاء , وموجدة الحقد
والحسد، فكيف يخفى عليه ما تقولون في خلواتكم وما يبديه بعضكم لبعض من ذلك،
ويعلم كذلك ما تنطوي عليه صدورنا معشرَ المؤمنين من حب الخير والنصح لكم.
ثم قال مُبَيِّنًا حسدهم وسوء طويتهم {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ
سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} (آل عمران: 120) , المس في الأصل كاللمس , والمراد
بتمسسكم هنا: تصبكم , ولعل اختيار لفظ لمس في جانب الحسنة والإصابة في جانب
السيئة للإشعار بأن أولئك الكافرين يسؤوهم ما يصيب المسلمين من خير , وإن قَلّ
بأن كان لا يزيد على ما يمس باليد , وإنما يفرحون بالسيئة إذا أصابت المسلمين
إصابةً يشق احتمالها.
هذا ما كان يتبادر إلى فهمي , ولكن رأيت صاحب الكشاف يجعلهما هنا بمعنى
واحد , ويستدل باستعمال القرآن لكل منها في موضع الآخر , ويقول: إن المس
مستعار للإصابة. ثم خطر لي أن أراجع تفسير أبي السعود , فإذا هو يقول: (وذكر
المس مع الحسنة والإصابة مع السيئة للإيذان بأن مدار مساءتهم أدنى مراتب إصابة
الحسنة , ومناط فرحهم تمام إصابة السيئة. وإما لأن اليأس مستعار لمعنى الإصابة)
والأول هو الأوجه , وهو من دقائق البلاغة العليا.
والحسنة المنفعة، سواء كانت حسيةً أو معنويةً , وأعظمها انتشار الإسلام ,
ودخول الناس فيه , وانتصار المسلمين على المعتدين عليهم المقاومين لدعوتهم. قال
قتادة في بيان ذلك - كما رواه عنه ابن جرير -: (فإذا رأوا من أهل الإسلام أُلْفَةً
وحمايةً وظهورًا على عدوهم غاظهم ذلك وساءهم , وإذا رأوا من أهل إسلام فُرْقَةً
واختلافًا، وأصيب طرف من أطراف المسلمين سَرَّهم ذلك، وأعجبوا به، وابتهجوا
به؛ فهم كلما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته وأوطأ محلته، وأبطل حجته
وأظهر عورته، فذلك قضاء الله فيمن مضى منهم , وفيمن بقى إلى يوم القيامة) .
ثم أرشد الله المسلمين إلى ما إِنْ تَمَسَّكُوا به سَلِمُوا من كَيْدِهِم الذي يدفعهم إليه
الحسد والبغضاء؛ فقال: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} (آل
عمران: 120) ذهب بعضهم إلى أن المراد: وإنْ تصبروا على عدوانهم وتتقوا
اتخاذهم بطانة، وموالاتهم من دون المؤمنين لا يضركم كَيْدُهُمْ لكم وهم بمعزل عنكم.
وذهب آخرون إلى أنّ المراد: وإنْ تصبروا على مشاق التكاليف , وامتثال الأوامر
عامَّة , وتتقوا ما نُهِيتُم عنه وحظر عليكم - ومنه اتخاذ البطانة منهم - لا يضركم
كيدُهم.
و {يَضُرُّكُمْ} (آل عمران: 120) بتشديد الراء من الضَّرَرِ , وقرأ ابن
كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب] يَضِرْكُمْ [بكسر الضاد وسكون الراء المخففة , مِن ضَارَه يَضِيرُهُ , والضَّيْرُ بمعنى المَضَرَّة.
وقال الأستاذ الإمام: إن الصبر يذكر في القرآن في مقام ما يشق على النفس،
وحبس الإنسان سره عن وديده وعشيره ومعامله وقريبه مما يشق عليه؛ فإن من لذات
النفوس أن تفضي بما في الضمير إلى من تَسْكُن إليه , وتأنس به , فلما نُهُوا عن اتخاذ
بطانة ممن دونهم من خلطائهم وعشائرهم وحلفائهم، وعلل بما علل به من بيان
بغضائهم وكيدهم حسن أن يذكروا بالصبر على التكليف الشاقّ عليهم , وباتقاء ما
يجب اتقاؤه لأجل السلامة من عاقبة كيدهم. ويصح أن يُراد بالتقوى الأخذ
بوصاياه وامتثال أمْره تعالى في البطانة وغيرها.
أقول: ومن الاعتبار في الآية أنه تعالى أَمَرَ المؤمنين بالصبر على عداوة أولئك
المبغضين الكائدين , وباتقاء شرهم , ولم يأمرهم بمقابلة كيدهم وشرهم بمثله ,
وهكذا شأن القرآن لا يأمر إلا بالمحبة والخير والإحسان ودفع السيئة بالحسنة إنْ
أَمْكَنَ كما قال: {وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34) , فإن لم يكن تحويل العدو إلى
محب بدفع سيئاته بما هو أحسن منها , فإنه يجيز دفع السيئة بمثلها من غير بغي ولا
اعتداء , كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة بني النضير الذين نزلت
الآية فيهم أوّلاً بالذات , فإنه حالفهم ووادهم , فنكثوا وخانوا غير مَرَّة؛ أعانوا قريشًا
يومَ بدر , وادعوا أنهم نسوا العهد , ثم أعانوا الأحزاب الذين تحزّبوا لإبادة
المسلمين , ثم حاولوا قتلَ النبي صلى الله عليه وسلم , فتعذرت موادتهم واستمالتهم
بالمحبة وحسن المعاملة , فكان اللجأ إلى قتالهم وإجلائهم ضَرْبةَ لاَزِبٍ.
ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: 120) قال الأستاذ
الإمام ما مثاله: المحيط بالعمل هو الواقف على دقائقه , فهو إذا دلّ على طريق
النجاة لعامل من كيد الكائدين والوسيلة للخلاص من ضررهم قائمًا يدل على الطريق
الموصل للنجاة حتمًا، والوسيلة المؤدية إلى النجاح قطعًا، فالكلام كالتعليل لكون
الاستعانة بالصبر والتمسك بالتقوى شرطين للنجاح.
وهناك وجه آخرُ وهو أن الخطاب بـ (تعلمون) عام للمؤمنين والكافرين
جميعاً - يعني على قراءة الحسن وأبي حاتم (تعملون) بالمثناة الفوقية أو على
الالتفات - ومن كان عالمًا بعمل فريقين متحادين , محيطًا بأسباب ما يصدر عن كل
منهما ومقدماته، ونتائجه وغاياته، فهو الذي يعتمد على إرشاده في معاملة أحدهما
للآخر , ولا يمكن أن يعرف أحدهما من نفسه في حاضرها وآتيها ما يعرفه ذلك
المحيط بعمله وعمل من يناهضه ويناصبه , فهداية الله تعالى للمؤمنين خير ما
يبلغون به المآرب، وينتهون به إلى أحسن العواقب.
وأقول: إن الإحاطة إحاطتان إحاطة علم , وإحاطة قدرة ومنع. وهذا التفسير
مبني على أن الإحاطة هنا إحاطة علم؛ لتعلقها بالعمل , وذلك من المجاز الذي
ورد في التنزيل كقوله تعالى: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (الطلاق: 12) , وقوله:
{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} (يونس: 39) , وأما الإحاطةُ بالشخص أو
بالشيء قدرة , فهي تأتي بمعنى منعه مما يُرَادُ به , وهذا ليس بمراد هنا , وبمعنى
منعه مما يريده , وبمعنى التمكن منه , ومنه الإحاطة بالعدو؛ أي: أخذه من جميع
جوانبه بالفعل , أو التمكن من ذلك؛ ومنه قوله تعالى: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} (البقرة: 81) وقوله: {إنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (هود: 92) وقوله:
{وَظَنُّوُا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} (يونس: 22) كل هذا من بابٍ واحدٍ وإنْ فسر كل قول
بما يليق به. فيصح أن يكون منه ما نحن فيه, والمعنى حينئذ أن الله قد دلكم يا معشرَ
المؤمنين على ما ينجيكم من كيد عدوكم؛ فعليكم بعد الامتثال أن تعلموا أنه
محيط بأعمالهم إحاطةَ قدرة تمنعهم مما يريدون منكم معونة منه لكم كقوله:
{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} (الفتح: 21) فعليكم بعد القيام بما
يجب عليكم أن تثقوا به , وتتوكلوا عليه.
ومن مباحث اللفظ في الآيات قولُهُ: {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ} (آل عمران: 119)
أصله: أنتم هؤلاء؛ فَقُدِّمَتْ أداةُ التنبيهِ التي تَلْحَق اسم الإشارة (أولاء) على
الضمير. ويُقال في المفرد (ها أنا ذَا) وعلى ذلك فَقِسْ. وإعرابه: ها: للتنبيه ,
وأنتم: مبتدأ , وأولاء: خبره , وتحبونهم: في موضع النصب على الحال , أو
خبر بعد خبر. وَجَوَّزَ بَعْضُهم أن تكون أولاء اسمَ موصول , وتحبونهم: صِلَتَهُ.
__________
(1) راجع ص276 وما بعدها من الجزء الثالث من التفسير.
(2) راجع ص333 من الجزء الثالث من التفسير.(11/161)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اليمن
سبب فتنتها وإمام الزيدية فيها
إن العرب في اليمن وحضرموت ونَجْد وسائر جزيرة العرب يحبون الدولة
العثمانية محبةً صادقةً وزادهم حبًّا فيها , وحرصًا على بقائها في هذا الزمن
اعتقادهم أن دول أوربا تتربص بها الدوائر، وتحاول إزالة سلطتها لإزالة سلطة
الإسلام من الوجود وهم على بقاء مميزاتهم الجنسية والوطنية على نحو ما كانوا في
القرون الماضية والأجيال الغابرة - لم يطرأ عليهم من التغير ما طرأ على أهل
الآستانة ومصر والشام والأناطول , وغيرها من الأقطار الإسلامية: لا تزال
الرابطة الدينية عندهم فوقَ رابطة الجنس واللغة والوطن , لم تعلمهم المدنية
الأوربية التعصب للجنس كما علمت الأتراك ولا للبقعة كما علمت المصريين , فهم
يتمنون لو يجدون من الترك حكامًا يقيمون العدل , ويحكمون بالشرع، لا يجدون في
صدورهم حرجًا من ذلك.
ولكن الذي لا يطيقون احتماله ولا يصبرون عليه هو الظلم والجور والخيانة
والغدر؛ لأنهم ورثوا الاستقلال الشخصي والقومي وعزة النفس , وإباء الضيم منذ
آلاف من السنين.
وقد بينت في المنار من قبلُ أنَّ فئةً قليلةً من العمال (الحكام) المسلمين
العدول العارفين بالشرع المهتدين به يكفون الدولة في اليمن أمْر هذه الحروب التي
طالت عليها السنون , فخربت البلاد , وأضاعت على الدولة من الأموال والرجال ما
هي في أشد الحاجة إليه لصيانة استقلالها من عبث أوربا التي تواثبها المرّة بعد
المرّة، وأضرت بها أنواعًا أخرى من المضرات لا حاجة إلى شرحها الآن.
الزيدية: طائفة من عرب اليمن , تدين بوجوب إقامة إمام لها من العترة
النبوية، فهم بذلك أجدر العرب بعدم الخضوع للدولة العثمانية , ولكنهم مع ذلك يتمنون
لو تقيم الدولة في بلادهم العدل , وتحكم بالشرع ويكون لها منهم ما يريدون فما
بالك بغيرهم؟
حاولت الدولة غير مرّة أن تقيم الحُجة الشرعية على هؤلاء بوجوب طاعة
السلطان، وتحريم الخروج والعصيان، فأرسلت من خاطب إمامهم بذلك غير مرة
فكانت حجة الإمام أنهض، وحجة السلطان أدحض؛ لأن الظلم والبغي بغير الحق
حجج عملية، لا تبطلها الحجج القولية، ولا تفيد معها شيئًا.
وقد عثرنا في هذه الأيام على نَصّ ما أجاب به إمام الزيدية عما وجهه إليه
الشيخ محمد الحريري مفتي حَمَاه المندوب الذي أرسله إليه السلطان منذ سنين ومنه
يعلم صحة رأينا في هؤلاء القوم وهذا نصه:
المنصور بالله محمد بن يحيى حميد الدين
عصمتي بالله وما توفيقي إلا بالله
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم أَيِّدْ دِينك القويم بالعلماء العاملين، واكشف ببركتهم جهل الجاهلين،
وارفع بحميد سعيهم غفلة الغافلين، فهم بحور العلم الزاخرة، ونجوم الهدى الزاهرة،
وزينة الدنيا والدين والآخرة وأهل الفضائل المتكاثرة، منهم ذو المجد الشامخ
المنيف، والحسب الباذخ الشربف، والأدب المثمر روضه الوريف، السيد محمد
الحريري الرفاعي الحسني الحموي، ألبسه الله جلباب التقوى، وقاده إلى التمسك
بالحبل الأقوى، وأعاد على محياه السلام الأسنى، والإكرام الأهنى، وصلى الله على
محمد خاتم أنبياه، وعلى آله سفينة النجاة، وتراجمة الكتاب وقرناه، وعلى
صحابته الذين اتبعوه بعد مماته وفي محياه.
أمّا بعدُ؛ فإنا نَحْمَدُ الله الذي لا يرجى ويخشى سواه، ولا نعبد إلا إياه. وإنه
وافانا منك أيها السيد كتاب كريم، ومسطور رائق فخيم، أفاد معرفة بحقوق العترة
النبوية، والسلالة العلوية، بما ورد فيهم من الآيات القرأنية، والأحاديث الصحيحة
المروية , (وإن دواعي المحبة اقتضت المراسلة، وبواعث المودة جذبت إلى
المكاتبة والمواصلة) ، وإن من لوازم المحبة والإيمان بذل النصيحة للإخوان،
لا سِيَّمَا ولاة الأمور، الذين ناط الله بهم صلاح الجمهور، وأفاد - أسعده الله - أنه
مستنكر لِمَا جرى بيننا وبين الولاة المرسلين من حضرة الدولة العثمانية، والسدة
الخاقانية من الحرب والاختلاف، وعدم التوافق والائتلاف، وأنه يرى الخير في
إصلاح ذات البين، ورفع الفتنة التي تؤدي إلى التهلكة والحين، وأنه ورد الحثّ عليه
في السنة والكتاب، وأنه مناط الرضا لرب الأرباب، وأن السلطان الأعظم
ممن أقام الله به الدين، وانتظمت به أحوال المسلمين، وتشرف بخدمة الحرمين
الشريفين، وأقام بجهاد الكفار، ومنابذة الأشرار، وأن رغبته في صلاح الدنيا
والدين، وقمع الفجار المعتدين، وأن القطر اليماني المحروس بالله محلّ الإيمان، كما
ورد عن سيِّد ولد عدنان، وأن سعيه في ذلك نصيحة دينية، ومحبة إيمانية.
فنقول: نَعَم الأمر كما ذكرتم , مما وقع بيننا وبين من تعلق بالسلطة القاهرة
أعز الله بها الإسلام، وقمع بها ذوي الإلحاد الطَّغَام، ولم يكن لنا من الرياسة
الدنيوية طلب، ولا في الراحة البدنية إِرْب، ولا نعول على جمع المال ووفرة
المكسب، ولا مزيد على ما نحن فيه من الحَسَب والنَّسَب، لكنا رأينا المأمورين لم
يؤدوا حقوق الله، ولا رعوا حرمة ما حرمه الله، ولا غضبوا يومًا على معاصي الله،
ولم يعملوا بشيء من كتاب الله ولا سنة رسول الله، ولا شرعوا لهم من الدين
ما لم يأذن به الله، وارتكبوا المعاصي، ورموا إليها الناس بأطراف النواصي،
وجاهروا الله بشرب الخمور، وارتكاب الفجور، وظلموا كل ضعيف، وأهانوا كل
شريف، حتى فسدت الذرية، وارتفعت كلمة اليهودية والنصرانية، وصارت
الأكراد والمجوس تحكم البرية. {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} (التوبة:
10) . ولا تأخذهم في المسلمين رأفةٌ ولا رحمةٌ، وَلَمَّا لم نجد عن أمر الله بُدًّا،
استعنا وتوكلنا عليه , وبذلنا في الجهاد جهدًا، امتثالًا لقول الله عز وجل:
{وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: 193) , وقوله عز
وجل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) , وقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 110) ,
وخوفًا مما خوَّفنا الله به من نحو قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ
عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78-79) , ونحو قوله صلى
الله عليه وسلم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر , أو ليسلطن الله عليكم
شراركم , فيدعو خيارُكم فلا يستجاب لهم) حتى إذا بلغ الكتاب أجله كان هو الله
المنتصر لنفسه.
ولم نزل نتوخى أن السلطة القاهرة - أعز الله بها الإسلام - إذا رُفِعَتْ إليها تلك
القبائح التي لا يختلف في وقوعها اثنان، أن تأخذها حمية الدين والإيمان، على
تلافي ما فرط من الإضاعة، وتستدرك ما فات من حق عترة رسول الله الذين لا
تستحق بدون اتباعهم الشفاعة، فلم يزدادوا مع طول المدة إلا انسلاخًا من الدين،
وتوسعًا من تأمر الفجرة المعتدين.
فإن قلتَ أيها السيد: إن تلك القبائح مباحة في الإسلام، وإن فعلها مستحل من
أتباع شريعة سيد الأنام. فهات الدليل، ولا يقول بذلك إلا ضليل، وإن أنكرت أيها
السيد أن ذرية الرسول، هم الحجة في الفروع والأصول. صاح بك قوله تعالى:
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ
سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} (فاطر: 32) , وقوله تعالى:
{قُلْ لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 23) , ونحو قوله
صلى الله عليه وسلم: (إني تارِكٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدًا:
كتاب الله وعترتي أهل بيتي؛ إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يتفرقا حتى يردا
عَلَيّ الحوض) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن عند كل بدعة تكون من بعدي
وليًّا من ذريتي) وقوله صلى الله عليه وسلم: (أهل بيتي أمان لأهل الأرض)
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أهل بيتي كسفينة نوح) وغير ذلك مما لا يتحمله
المقام , فالظهور أبين للحجة، وأوضح للمحجة، لا ما خوفتنا به من القتل والنَّكال،
فإنّا أهل بيت لا تزعزعنا كواذب الآمال، ولا نعُد بذل نفوسنا في سبيل الله إلا من
أشرف الخصال، ولا نفزع إلى غير ذي الجلال، ولا ندعو سواه في البكور
والآصال.
على أن قومي تحسب الموت مغنمًا ... وإن فرار الزحف عار ومغرم
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الكَافِرُونَ إِلاَّ فِي
غُرُورٍ} (الملك: 20) ، {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا
الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ} (آل عمران: 160) ، {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) ، {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي
الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} (القصص: 5) ، {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ
فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ
عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 41) , فنحن من وعد ربنا على يقين، {وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) , وإنك لا تجد في خطتنا المنصورة إلا قائمًا لعبادة
ربه إذا أسدل الليل جناحه، أو تاليًا كتاب الله وذاكرًا إذا أطلع الفجر صباحه،
ومساجدنا معمورة بالعلم والعمل، وقلوبنا ضالّة عن الجبن والفشل، ولا نفتخر
كغيرنا بآلات الحرب الفاخرة، ولا بالسيوف المتكاثرة، التي تحت أمْرِنا عائرة، بل
نتبرأ من الحول والقوة، ونتمسك بأذيال سيرة الإمامة والنبوة:
مغارس طابت في ربا الفضل فالتقت ... على أنبياء الله والخلفاءِ
إذا حمل الناس اللواء علامة ... كفاهم مثار النقع كل لواءِ
فقد أوضحنا لك أيها السيد طريقتنا، وأبلغنا إليك أفعال أعادينا {فَأَيُّ
الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ
لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 81-82) ولو يعلم السلطان الأعظم حقيقة
الحال، لَسَارع إلى إعانتنا في الحال والمآل، ورفع جميع المأمورين من الخطة
اليمانية، وأمرهم بحرب الفرقة الكفرية، ولمنعهم عن محاربة العترة النبوية، التي
هي بضعة من الذات الشريفة المحمدية، ولأوفى جدنا الأعظم أجر تبليغ الأنباء
المشار إليه بـ {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} (الشورى: 23) الآية، ولتباعد عن
مشابهة من قال فيهم خاتم النبيين: (من قاتلنا آخر الزمان فكأنما قاتل مع الدجال) ,
وعن الدعوة النبوية في قوله لأهل بيته: (أنا حرب لمن حاربتم , سلم لمن سالمتم) ,
وقد أمر الله تعالى بالكون مع الصادقين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119) , وثبتهم بقوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ
هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) . {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ
أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} (يوسف: 108) . {يَا
قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأحقاف: 31) . {وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن
دُونِهِ أَوْلِيَاءُ} (الأحقاف: 32) . {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي
إِلَى النَّارِ} (غافر: 41) , فإذا وجدت أيها السيدُ خلاصًا من أوامر الله أَفِدْنا من
كتاب الله ومن سنة رسول الله , وَدَعْ عنك التخويف بالمخلوقين كما قد قيل:
جاء شقيق عارضًا رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح
وأما اجتماع الكلمة على الحق فمن أين لنا ذلك، وإلا فهو عندنا من أعظم
المسالك، حَقْنًا للدماء، ورفعًا للدهماء، ونسأل الله أن يرفع عن الأمة المحمدية
السوء والمحن، ويجعلها على اتباع الكتاب وقرنائه أهل بيت النبي المؤتمن، وأن
يعيذنا من نزغات الشيطان الرجيم، ومضلات الفتن , وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وكان اللائق بحال أركان السلطان الأعظم أن يجعل القطعة اليمانية من جملة
الممالك التي بأيدي الكفار , وقد أضربوا عنها صفحًا، وطَوَوْا عنها كشحًا، وما
سارعوا لغير مملكة اليمن التي بأيدي أولاد رسول الله يحكمون فيها بما أنزل الله،
ويمنعون محارم الله، فهلا جعلوا آل الرسول كالكفار الذين تركوا لهم ممالكهم؟
اللهم اشهد وكفى بك شهيدا. اهـ
(المنار)
تسمع الدولة هذه الأخبار , وتقرأ مثل هذا الجواب , ثم هي توالي إرسال
الجيوش إلى اليمن , فإذا توالى انكسارهم أرسلت من الرسل السلميين من يقيم الحجة
على إمام الزيدية! ! لم تعتبر بإخفاق محمد الحريري وحسن خالد الصيادي ,
فأرسلت في العام الماضي وفدًا من علماء مكة , فكانت حجتهم كحجة من سبقهم،
ولو سمعت كلامنا نحن الناصحين المخلصين لأرسلت واليًا عادلاً حكيمًا وعمالاً من
أهل الدين والاستقامة , فبذلك لا بسواه تنطفئ نار الفتنة، وتخضع اليمن للدولة،
فإذا أعوز الدولة هذا العلاج، فلتعلم أن جميع بلاد العرب ستتبع اليمن في الخروج
عليها، أو الخروج من سلطتها.
__________(11/176)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المؤتمر الإسلامي
سبق لنا قول في المؤتمر الإسلامي الذي اقترحه إسماعيل بك غصبرنسكي
القريمي , ونقول الآن: إن اللجنة التي تألفت للبحث في ذلك، وسمت نفسها اللجنة
التأسيسية قد وضعت لهذا المؤتمر قانونًا طبعته وأرسلته مع دعوة عَامَّة مطبوعة
بالعربية والتركية والفارسية إلى الجرائد الإسلامية في القطر المصري وغيره من
الأقطار الإسلامية , وإلى من عرفت من أهل الفضل والرأي من المسلمين. وقد
جعلت الباب الثاني من القانون خاصًّا ببيان موضوع المؤتمر، وفيه ثلاث (مواد)
نذكرها بنصها وهي:
(المادةُ الرابعةَ عَشْرَةَ) وظيفة المؤتمر هي البحث في الأسباب التي أوجبت
تأخّر المسلمين من الوجهة الاجتماعية , ومما داخل الدين من البدع والنظر في إزالة
تلك الأسباب , وفيما يؤدي إلى رقيهم.
(المادة الخامسةَ عَشَرَ) لا تُقْبَل الآراء التي تُعْرَض من الوجهة الدينية إلا إذا
كان لها سندٌ من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس.
(المادة السادسةَ عشْرةَ) لا يجوز التعرض في مناقشات المؤتمر وأبحاثه
للمسائل السياسية أيًّا كان نوعها. اهـ
وقد سرنا موافقة الشيخ سليم البشري رئيس اللجنة على المادة الخامسة عشرة
سرورًا عظيمًا , وعددناها من بشائر الإصلاح، وأمارات النجاح، ذلك بأن
الإصلاح الإسلامي مع التزام المذاهب المعروفة والجمود على كتب متبعيها محال ,
ولذلك جرينا في المنار على اتباع الدليل في المسائل الدينية , وترك التقليد , وإقامة
الحجج على المقلدين؛ لأن المنار كالمؤتمر عامّ لجميع المسلمين.
وقد قلنا في مقالة طويلة عنوانها (بحث في المؤتمر الإسلامي) نشرناها في
الجزء التاسع من السنة الماضية ما نصه (ص680م10) :
ثم إنه ينبغي أن تكون القاعدة الأساسية الأولى للإصلاح الديني في المؤتمر
هي المحافظة على المُجْمَع عليه عند المسلمين , لا سِيَّمَا ما كان منه معلومًا من الدين
بالضرورة , وذلك هو القرآن المجيد , وما استفيد منه بالنص القطعي وبعض السنن
المتبعة - ونَعْنِي بالسُّنَّة معناها اللغوي الذي كان يفهمه الصحابة , ومنه ما هو فرض
أو واجب ككون الصلوات المفروضة خمسًا، رَكَعَات كل صلاة منها كذا يقرأ فيها
كذا , ويركع في كل ركعة مرة , ويسجد مرتينِ , ومنها ما هو مندوب في اصطلاح
الفقهاء كما هو معروف.
ذلك أن المؤتمر الإسلامي عامّ لجميع المسلمين , وفيهم السُّنِّيّ السلفي وغير
السلفي , والشيعي , والإباضي. ومِن السُّنِّيَّة الحَنَفِي والمالكي ... إلخ , ومن الشيعة
الجعفري والزيدي، فالذي يجمع بين هؤلاء ويوحد كلمتهم هو كتاب الله والسنن
العملية المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتلقي عن آله وأصحابه رضي
الله عنهم.
وبذلك يكون المؤتمر غير مقيد بالتقاليد الاجتهادية التي تثير النزاع وتفرق
الكلمة فلا يمنع أعضاءه مانع من الاعتصام بحبل الله , ودعوة سائر المسلمين
إلى الاعتصام به.
كتبنا هذا لِتنبيهِ لجنة المؤتمر قبل الابتداء بعملها إلى الأساس الذي لا يفيد
المؤتمر بدونه شيئًا , وكنا نخاف أن يحاول من دخل في اللجنة من علماء الأزهر
تقييد المباحث الدينية في المؤتمر بنصوص كتب المذاهب , وكان أخوف من نخاف
في ذلك رئيس اللجنة الشيخ سليم البشري؛ لأنه كان يبلغنا عنه أنه ممن ينكرون
على المنار الإنحاء على التقليد والاعتماد في مباحثه على الأدلة الشرعية , فلما
رأيناه الآن، وافق على قانون الذي جعل أساس مباحثه الدينية الاجتهاد دون التقليد
حلّ الرجاء محل الخوف , ووجب علينا أن نثني على الأستاذ الكبير الشيخ سليم
البشري أجمل الثناء , فحياه الله تحيةً مباركةً طيبةً.
إنما قصرنا الثناء على الشيخ سليم من دون سائر أعضاء اللجنة الواضعة
لهذا القانون؛ لأن معارضة مثل الشيخ سليم من كبار العلماء أصحاب الشهرة
والصفة الرسمية في مسألة إجازة الاجتهاد ومنع التقليد تعدّ عقبة في سبيل الإصلاح ,
وموافقته عليها تعد تمهيدًا عظيمًا لهذه السبيل التي هي سبيل الله , وعونًا كبيرًا
للسالكين فيها، ولا نبخس أحدًا من أعضاء اللجنة حَقَّهُ، ولا نظلمه شيئًا من فضله،
بل نرجو أن يكثر فينا من أمثالهم الجاهرون بهذه الدعوة , كما كثر المعتقدون لها
وإن لم يصرحوا بها.
إن في علماء الأزهر كثيرين يعتقدون بطلان التقليد , ووجوب اتباع الدليل ,
ولكن يقل فيهم من يجهر بذلك قولاً , ويندر من يتجرأ منهم على كتابة ذلك في
الصحف المنشرة , والدعوة إليه على رءوس الأشهاد؛ ذلك بأن كبراء الشيوخ ذوي
المكانة عند الأمراء والشهرة عند العامة ينكرون ذلك على قائله , ويضطهدونه إن
استطاعوا , ويبالغون في ذلك مبالغةً هي عندي من مثارات العجب. أفلا يحق لنا
إذًا أن نكبر إجازة الشيخ سليم البشري جعل قبول ما يقدم للمؤتمر من الآراء
والمباحث الدينية مشروطا بأن تكون مُؤَيَّدَةً بدليلٍ من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو
القياس , ونحن نعلم أنه من أولئك الشيوخ الكبراء , بل هو في ناصيتهم وذروتهم إذ
هو شيخ المالكية وكبيرهم الآن , وكان بالأمس شيخ الأزهر؟ وقد اشتهر بأنه أعلم
أهل الأزهر الآن بالحديث , ولعلّ الخير جاء من هذه الناحية فأهل الحديث ما زالوا
أبعدَ الناس عن التقليد.
ونعود إلى مباحث المؤتمر , فنقول: إن المباحث الدينية قد اشتُرِط فيها هذا
الشرط الذي سررنا به على إجماله , وأما المباحث الاجتماعية فلم يشترط فيها شيء ,
وإذا يسر الله واجتمع المؤتمر فإننا سنحتاج إلى تحديد ما هو اجتماعي غير ديني؛
وفي ذلك من العُسْر ما فيه لا سِيَّمَا في المسائل العائلية والمالية , بل أقول: إن المسألة
الجنسية لها علاقة عند المسلمين بالدين , وقد كان السيد جمال والشيخ محمد عبده
يقولان: إن المسلمين لا جنسيةَ لهم في غير دينهم , ولكن كثيرًا من الأتراك
والمصريين يقولون اليوم بجنسية النسب , وجنسية الوطن , ولا يعدون هذا مما
يتعلق بالدين , وهذه المسألة من أكبر المسائل التي ننتظر من المؤتمر - إنِ اجْتَمَعَ -
حَلّ عقدتها.
ذكر إسماعيل بك غصبرنسكي في أحد أعداد جريدته (ترجمان أحوال زمان)
أن أحد أذكياء الترك يريد أن يلقي في المؤتمر خطابًا يبيّن فيه أن ارتقاء أمة الترك
يتوقف على انفصالها من العربية لغةً ودينًا وسياسةً! ! ! وربما يسمع المصري
وغير المصري ممن لا يعرفون الغايةَ التي وصلت إليها نابتة الترك من التفرنج هذا
القول , فيرونه عجيبًا غريبًا , ولكن لا يعجب منه مَن يعلم أن كبار الترك قد دارَتْ
بينهم مناقشاتٌ طويلة في هذه المباحث استمرت عِدَّة سنين , وكان فيهم من كتب مثل
هذا الرأي حتى غلا بعضهم , فقال: إنه يجب تطهير التركية مما فيها من مفردات
اللغة العربية.
نحن نَعُدُّ هذا شذوذًا وغلوًّا، ويوافقنا على رأيِنا كثير من فضلاء الترك لا
سِيَّمَا المتدينين منهم. وإذا انعقد المؤتمر فإن جمهور المسلمين من جميع الشعوب
سيسمعون من أخبار أمراض المسلمين الاجتماعية والدينية ما لا يخطر لهم الآن في
بال، ونسأل الله أن يحسن العاقبة والمآل.
__________(11/181)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الرد على اللورد كرومر
(2)
تتمة الكلام في مسألة المعارف
إن اللورد يعلم أنه استعمل المغالطة في هذا الفصل، فعمل محمد علي وعباس
وإسماعيل ليس حجة على ما يجب اتباعه الآن من حَصْر تعليم الحكومة في
فرنجة عدد معين للوظائف. والإنفاق في وقت كانت الحكومة فيه على شفا الإفلاس
لا يجعل مقياسًا لوقت يزيد فيه دخلها على خرجها زيادةً عظيمةً. ولو كان عمل
محمد علي وعباس وإسماعيل مما يصح أن يتبع في هذا العصر لَكَان الواجب على
الناس أن يرجعوا القَهْقَرَى دائمًا , ولما ساغ لإنكلترا أن تدعي أن هذه البلاد محتاجة
إليها في تقدمها وارتقائها , فإنها تقدر بنفسها أن تكون على أحسن من زمن إسماعيل ,
فما بال اللورد يمثل ظلمات الماضي الحالكة شَرَّ تمثيل , ثم هو يجعلها أساسًا يبني
عليه سياسته في التعليم؟ !
اللورد قد ذم المتفرنجين في كتابه ذمًّا بليغًا , وبين أنهم لا قيمةَ لهم في نظر
الشيخ محمد عبده , فكيف لا يعذره إذا طلب لبلاده تعليمًا أنفع من هذا التعليم الذي لا
يقصد منه إلاَّ تكوين المتفرنجين؟ !
ومن المغالطة في تقرير اللورد قولُهُ: إن إبطال التعليم المجَّاني كان إلغاءً
لامتياز جائر؛ لأن الذين كانوا يعلَّمون مجانًا هم في الغالب أولاد الأغنياء، فإن
العدل في إزالة هذا الامتياز بما يوافق المصلحة إنما يكون بتحويل الامتياز عن
الأغنياء وتخصيصه بالفقراء , وما أسهل ذلك على الحكومة لو أراده القابضون على
أزمتها.
لو كانت الطريقة التي أزيل بها امتياز أولاد الأغنياء على أولاد الفقراء في
التعليم المجاني عادلة , لكان من العدل أن يمنع الماء عن الأراضي التي كان
الأغنياء يميزون فيها على الفقراء في الرّيّ حتى لا تزرعَ منها أرض فقير ولا غني ,
فإن العلم حياة النفوس كما أن الماء حياة الأرض.
لم يكن الشيخ محمد عبده راضيًا عن سياسة التعليم بمصر في وقت من
الأوقات. ففي زمن توفيق باشا حمل على نظارة المعارف حملةً قَلَمِيّةً منكرةً في
جريدة الحكومة الرسمية، ومقالاته في ذلك مثبتة في الجزء الثاني من التاريخ الذي
وضعناه له. وقد حمل ذلك الحكومة على الشروع في إصلاح التعليم والتربية ,
ولكن جاءت من الثورة العرابية, فأوقفت كل عمل , وتلاها الاحتلال ونفى الشيخ من
البلاد. وبعد عودته رأى سياسة التعليم غير سديدة؛ فقدم لعميد الدولة المحتلة -
وإياك أعني أيها اللورد - لائحة [1] فيما يجب اتباعه في التربية والتعليم , فوضعت
في زوايا الإهمال.
لعل اللورد لم يَنْسَ أن الشيخ كتب في هذه اللائحة ما نصُّهُ:
(المدارس الأميرية ليس فيها شيء من المعارف الحقيقية ولا التربية الصحيحة) [2] ... ... ...
ثم ذكر غرض محمد علي باشا من إنشائه لها , وما كان حظها من خلفه إلى عهد إسماعيل باشا , ولكن الشيخ ذكر ذلك حُجة على فَقْدِ التربية والمعارف الحقيقية منها , فجاء اللورد يذكره مِن بعدِهِ في تقرير 1905 , ويجعله حُجة على بقاء ما كان على ما كان إلاَّ المجانية , فإنه يرى إبطالها بعد انتظام مالية الحكومة وامتلاء خزائنها! .
مَرَّتِ الأيام على موت هذه اللائحة والشيخ محمد عبده قاضٍ في المحاكم ليس له
طريق رسمي إلى دعوة الحكومة إلى إصلاح التربية والتعليم , وقد جرب طريق
النصيحة , فلم يجده موصلاً إلى المطلوب , فلما صار مُفْتيًا وعضوًا في مجلس
الشورى حاول أن يجعل مجلس الشورى وسيلةً إلى غرضِهِ , وبرأيه طلب بعض
أعضاء الجمعية العمومية سنةَ 1902 أن تعرض قوانين ولوائح التعليم في نظارة
المعارف (بروجراماتها ومنشوراتها) على المجلس , ولم ينس اللورد تلك المناقشة
التي دارت في ذلك بين الشيخ محمد عبده وفخري باشا ناظر المعارف في الجمعية
العمومية (وقد بيَّنَّا ضعفَ أقوال الناظر يومئذٍ في المنار ص110و149م5) .
ثم إن الشيخ محمد عبده اقترح باسم المجلس في سنة 1904 أن يعلم تاريخ
الإسلام باللغة العربية في المدارس التجهيزية. وقد ذكر في آخر تقرير له بشأن
امتحان مدرسة دار المعلمين الناصرية (دار العلوم) ضعف تعليم التوحيد والتفسير
والحديث فيها , فإذا كان تعلم المعلمين للدين ضعيفًا , فكيف يكون تعليم هؤلاء
المعلمين له؟ .
نكتفي بهذه المذكرات في بيان غَلَطِ اللورد في قوله: إن ما كتبه الشيخ محمد
عبده لمسيو جرفيل كان يعلم أنه لا أصلَ له فهي تذكره - إن كان ناسيا - أن لها أصلاً
أصيلاً مؤيدًا بالبرهان والدليل، ومن العجائب أن يكابر اللورد في هذا مع ما يعلمه من
مؤيداته الرسمية وغير الرسمية. فمن ذا كتب ما يعلم لأنه لا أصل له؟
الشيخ أم اللورد؟ اللورد يعرف ذلك إذا لم يكن السَّخَط قد أنساه تلك اللائحة التي قدمت
إليه , وتلك الحجج المدونة في المحاضر والدواوين الرسمية , وكلها ناطقة بأن الشيخ
محمد عبده لم يكن راضيًا من التعليم والتربية في مدارس الحكومة. فهذا
ما نقول في السبب الأول لسخط اللورد على الأستاذ الإمام وتغيير كلامه فيه.
* * *
(إفضاء الأستاذ الإمام لمستر بلنت بعيوب الاحتلال)
أما السبب الثاني لسخط اللورد على الشيخ , وهو ما ظهر له من أنه هو الذي
لقن مستر بلنت جُلَّ ما في كتابه (التاريخ السري للاحتلال) من عيوب إدارة
المحتلين بمصر [3] , فهو مما يعذر فيه فإن هذا مما يغيظ السياسي والحاكم المطلق
حقيقة. وأي شيء يؤلم الإنسان أكثر من بيان عيوبه وإظهار سيئاته؟ ولكن يجب
على المؤرخ أن يعذر حافظي الوقائع التاريخية ورواتها ومدونيها. واللورد في
كتابه (مصر الحديثة) مؤرخ لا حاكم , فكان يجب أن يتذكر ذلك. ثم إذا كان هو في
تدوينه لتاريخ مصر لم يتحام القدح في أمرائها وعلمائها وجميع أهلها بِنَاءً على
أنه مؤرخ يجب عليه إظهار الحقائق - إذا فرضنا أن كل ما كتبه حقائق - فكيف
يسخط على من سلك طريقته، ومن أعانه على ذلك؟ أليس من العدل العام أن يدين
المرء كما يُدان؟
هذا ما يُقال من الجهة العامة. ويقال من الجهة الخاصة: إن مستر بلنت كان
صديقًا للشيخ محمد عبده , وكان كل منهما يثق بأمانة الآخر وإخلاصه؛ فبأي حقٍّ
يحجر اللورد على صديقين متجاورين أن يفضي كل منهما إلى الآخر بما في نفسه من
المسائل العامة أو الخاصة , ويكاشفه بشعوره لا سِيَّمَا إذا كان مؤلمًا له , والشاعر
الحكيم يقول:
ولا بُدَّ من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع
ألا إن منتهى الاستبداد، واحتقار حرية الأفراد أن يؤاخذ الناس بما يتناجون
به في زوايا بيوتهم، وما يسرونه لأصدقائهم ومحبيهم.
ثم إن اللورد يعلم - كما يعلم كل عاقل - أنه لا يخطر في بال الإنسان عندما
يحدث صديقة أن كل ما يقوله سيحفظ ويدَّون وينشر بين الناس؛ ولذلك ينتقد بعض
أهل الرأي على مستر بلنت ذكر مسائل وخواطر حدثه بها الشيخ محمد عبده ,
فنشرها وهي مما لا ينبغي نشره كتمني جمال الدين لو يقتل إسماعيل باشا , واستحسان
محمد عبده لرأيه، على أن هذه المسألة أصغر من القالب الذي وضعها لورد كرومر
فيه كما سَنُبَيِّنُهُ.
بقي علينا , وقد بَيَّنَا اختلاف قولي اللورد في الأستاذ الإمام , وسبب هذا
الاختلاف أن نبين الحق فيما لَمَزَهُ به , فنقول: إنه ينحصر بِحَسَب ما اطلعنا عليه من ترجمة الجرائد في ثلاث مسائلَ:
(الأولى وصفه بأنه خيالي)
قول اللورد في الشيخ: إنه كان مفطورًا على الخيال [4] . لا يتفق مع قوله فيه
من الجهة العملية في الحكومة وغيرها أنه كان مصلحًا - ومن الجهة
السياسية والاجتماعية أنه أنشأ في مصر مدرسةً فكريةً , وأن أتباعه إذا نجحوا
وسوعدوا على ما اختطه لهم من المبادئ المعتدلة فيهم تصل البلاد إلى الاستقلال ,
وأنهم كالجيرونديين في أحزاب الثورة الفرنسية؛ أي: في الاعتدال والعقل , كما
لا يتفق مع قول المستشار القضائي الذي وافقه هو عليه - ومن الجهة العلمية
والشرعية أنه كان متضلعًا من علوم الشرع , مع ما به مِنْ سَعَةِ العقل واستنارة
الذهن.
ما هي الآراء الخيالية التي كان يبديها اللورد , فيتعذر عليها تنفيذها له؛ لأنها
خيالية لا عملية؟ لعله يَعْنِي بها تلك اللائحة [5] التي اقترح بها عليه جعل التربية
الدينية أساس التعليم في المدارس والكتاتيب , وبيَّنَ له فيها أنه لا يصلح حال البلاد
المصرية وتكون بمأمن حتى من التعصب وفتنه إلاَّ بالتربية الدينية الصحيحة؛ لأن
الدين الإسلامي رائد الألفة ورسول المحبة.
إن كان يعني اللورد باتباع الأستاذ الإمام للخيال هذا الرأي الذي أوضحه أتم
الإيضاح في تلك اللائحة , وكان يظهر على لسانه شيء منه في كل فرصة
(كاقتراحه في مجلس شورى القوانين تعليم تاريخ الإسلام في المدارس التجهيزية)
فلماذا يسيء الظن بدينه , وهل تكون هذه الغيرة على الدين لضعاف الإيمان أو
للاأدريين؟
للورد أن يعد طلب التربية الدينية والتعليم الإسلامي أمرًا خياليًّا؛ لأن سياسته
في ذلك مناقضة لاعتقاد الأستاذ الإمام , فإن أحدهما يرى أن الإسلام الحقيقيَّ هو
منتهى الكمال البشري كما عرف ذلك عنه القريب والبعيد , وصرحت به المجلة
الفرنسية [6] ، والآخر يمثل الإسلام بأنه آفة المدنية , ومقيد البشر بالقيود التي لا
يرتقون ما لم يتركوها ويتركوه معها. ويمكن أن يقال: إن تقديمه تلك اللائحة لعميد
إنكلترا وأمله بأن يقنعه بما فيها هو الأمر الخيالي , فإنه قد بالغ في تحسين الظَّنّ
بهذا العميد وبدولته حتى أراد أن يستعين بهم على إصلاح شأن الإسلام، وتخيل أنه
رُبَّما يصل إلى ذلك بالبرهان، على أننا نحن نعرف السبب في محاولته ذلك , وهو
أنه لَمَّا كان منتهى غرضه من حياته الإصلاح الديني بالتربية والتعليم , كان يتوسل
إلى ذلك بكل ما يخطر في البال أنه ممكن قائلاً: (إذا لم ينفع لا يَضُرّ) .
إذا كانت تلك اللائحة هي دليل اللورد على أن الرجل كان خياليًّا , فلا يبعد أن
يكون تقريره في إصلاح المحاكم الشرعية خياليًّا أيضًا في نظر اللورد؛ فإنْ لم يكن
التقرير نفسه خياليًّا فإلحاح كاتبه على اللورد بالسماح بالمال من خزينة الحكومة
لتنفيذه هو الخيالي , فإنه إنما سكت عن هذه المطالبة حين قال له اللورد: (إنني لا
أعطي قرشًا واحدًا للمحاكم الآن) , كما أخبرني بذلك الأستاذ الإمام في وقته , وقال:
إنه هكذا قال: لا أُعْطي , بضمير المتكلم , وهكذا يقول: فليقل لنا اللورد أي شيء
في ذلك التقرير يُعَدُّ من الخياليات , أو من الأماني والأحلام التي هي غير ممكنة في
ذاتها؟ ولكن يمكن لمن أساء الظن باللورد وحكومته أنْ يقول: إنهم لا ينفذون
تقريرًا فيه إصلاحٌ لِمحاكمَ شرعيةٍ وراء إصلاحها إصلاح كبير للبيوت الإسلامية؛
لأن من سياسة إنكلترا موتَ الشرع في مصر وإبطالَ ثقة المسلمين به , حتى إن لورد
كرومر الذي يُعَدّ من خيارهم يرى مطالبته بإصلاح المحاكم الشرعية من الخيالات
والأوهام، أو من الأماني والأحلام، إذا قال من يسيئون الظن باللورد وحكومته مثل
هذا القول؛ أفلا يكون رمي الشيخ محمد عبده بأنه خيالي رميًا للورد وحكومته بما
هو شر من ذلك؟
نَعَمْ , إنه كان للأستاذ الإمام آمال في حسن مستقبل الإسلام قد يعدها حتى
بعض المسلمين من الأماني والأحلام، فإن منها أنه سينتشر في أوربا نفسها في يوم
من الأيام، ولكن هذه الآمال مما لا أظن أن لورد كرومر قد علم بها؛ إذ لو علم بها
ظن أو خشي أن يكون الشيخ (لا أدريًّا) , فإنها آمال مبنية على الإيمان بصدق
وُعُود القرآن أولاً، وعلى فلسفة دقيقة في طبيعة الأديان وطبائع البشر ثانيًا، فهو قد
كان يقول على رءوس الأشهاد في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} (النور: 55) الآية.
إن هذه الآية لم يأت تأويلها بعد، ولا بُدَّ أن يأتيَ ولو بعد حين , وإن كان بعيدًا
فهل تكون هذه الثقة بوعد في القرآن كهذا (قيل: إنه قد حصل) من رجل (لا
أدريّ) ؟
نحن أعرف بالأستاذ الإمام من لورد كرومر فإننا نعرف عنه كل شيء واللورد
لا يعرف عنه إلا أشياء محدودة منها بعض الآراء في مصلحة مصر , وكان صاحب
هذه المجلة من بطانته ومواضع سره , ولا أعرف عنه شيئًا يمكن اللورد أن يستدل
به على كونه كان مفطورًا على الخيال غير ما ذكرت من مطالبة اللورد بالمساعدة
على التربية الإسلامية وإصلاح المحاكم الشرعية إلاَّ أن يكون ذلك توجه همته إلى
إصلاح الأزهر , ولكن كل ما تشبث به من الإصلاح كان عمليًّا وقد نفذ شيء كثير
منه كما هو مدون بالتفصيل في كتاب (أعمال مجلس إدارة الأزهر في عَشْرِ سنين) ,
وما لم يتم منه لم يكن المانع من تمامه كونه خياليًا , وإنما كان له مانع آخر يعرفه
اللورد , وكثير من الناس وليس هذا المقام بمحل لذكره.
نعم , إنه كان للأستاذ الإمام آمال في الأزهر هي أعلى وأسمى مما تشبث به
من مبادئ الإصلاح التدريجيه - آمال لها ارتباط قوي بآماله في الإسلام , وهي
تربية رجال يعرفون حقيقةَ الإسلام ويقدرون على بيانها والدفاع عنها بالكتابة
والخطابة ليكون منهم دعاة يدعون جميع الأمم إليه، وهداة يهدون جميع
طبقات أهله إلى ما جهلوا منه، ولكن العوائق التي اعترضته في طريق الإصلاح
حالت دون الدعوة إلى هذا المقصد أو إلى مقدماته الأولية، وما أظن أن اللورد كان
مطلعًا على هذا وإلا لَمَا خطر في باله أن يكون الرجل (لا أدريًّا) .
أما المسائل المتعلقة بالقضاء أو الإدارة فعهدي أن آراء الأستاذ الإمام فيها
كانت تعجب اللورد سواءٌ عمل بها كعدوله عن إلغاء النيابة العمومية عَمَلاً برأيه , أو
لم يعمل بها كمشروع الجنايات الأخير الذي طالت فيه المناقشة بينهما , ولكن بعد أن
كان اللورد قد أشرب المشروع في قلبه , وإن أكثر النابغين من رجال القضاء كانوا
على رأي الأستاذ الإمام في معارضة المشروع.
وما ذهب إليه المؤيد في تأويل كلمة اللورد من أن الشيخ كان يحاول القبض
على السُّلْطَتَيْنِ , فيجعل الأمير وعميد الاحتلال معًا في يديه , فهذا من آراء صاحب
المؤيد التي لم تخطر للورد على بالٍ فيما يغلب على ظني.
(الثانية ظن اللورد أنه لا أدريٌّ)
نبز اللورد الأستاذ الإمام بلقب (اللاأدري) [7] وهو قد أخذه من ستانلي على
أنه لم يجزم به , فقد ترجم المؤيد عبارته فيه بكلمة (وأخشى) أن يكون كذا ,
وترجمها بعض الجرائد (وأظن) أن يكون كذا. وهذا من الظن الذي قال الله فيه
{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12) , وقد قال بعض العلماء النابغين من
مريدي الأستاذ الإمام: إن اللورد قال هذه الكلمة لينفرنا من طريقة المرحوم الدينية ,
ولكننا لا نترك ما عندنا من اليقين فيه لأجل ظن لورد كرومر.
أما أنا فأقول: إن قاعدة ستانلي التي استنبط منها اللورد كلمتَه هي من
المسلمات عندهم فينا , وهي: (إن المسلم من الطبقة العليا لا بُدَّ أن يكون أحد اثنين:
متعصبًا أو ملحدًا في سِرِّهِ) وعندنا قاعدةٌ مثلها كنتُ أسمعها وأنا تلميذ مبتدئ ,
وهي: (إن النصراني المتعلم ملحد لا دينَ له , فإنْ تعصَّبَ لقومه وأهل دينه فإنما
يتعصب لهم تعصبًا جنسيًّا) ومما كنا نسمعه من آبائنا وبعض مشايخنا: (أن مما
يمتاز به الإسلام على النصرانية المعروفة أن المسلم يزداد قوةً في الإسلام كُلَّمَا ازداد
سَعَةً في العِلْم , وأن النصراني إذا تعلم العلوم مَرَقَ مِن الدِّين؛ ولذلك كانت مدنية
المسلمين وعلومهم في حياةٍ ونموٍّ أيامَ كان الإسلام حَيًّا في نفوسهم في أول نشأتهم ,
ولم يصر للنصارى عِلْم ولا مدنية إلاَّ بعد ضعف الدين وزعزعته عندهم) فالأمم
والمِلَل تتشابه في حُكْم بعضها على بعض.
قد ذكرنا دليل المسلمين على قاعدتهم من الجهة النظرية , ويؤيدونه من الجهة
الحِسّيّة بحال من يعرفون من النصارى المجاهرين بالإلحاد , وكثير ما هم. ولما
كان النصراني يعتقد بطلان الإسلام اعتقادًا تقليديًّا إن كان متدينًا واعتقادًا نظريًّا إنْ
كان مُلْحِدًا - كان للملحد منهم أن يظن بهذا الدليل النظري أن المسلم العاقل المطلع
على العلوم والفلسفة لا بُدَّ أن يكون ملحدًا , ولا يعدمون من المسلمين المتفرنجين من
يجاهرون أمامهم بالكفر , ويسكرون معهم في نهار رمضانَ , فيؤيدون دليلهم بالحس
ولا يعلمون أن هؤلاء الذين يظنون أنهم قد ألحدوا بعد إسلام لم يعرفوا يومًا ما من
الإسلام شيئًا.
قد عرفت رجلاً من فضلاء الإنكليز , ذوي التربية العالية فيهم , وجرى بيني
وبينه مناظرات كثيرة في المسائل الدينية , فكان كلما سمع مني جوابًا عن شبهةٍ مِنَ
الشبه التي يوردها على الدين مطلقًا , أو على الإسلام خاصّة يقول: إن ما تقوله
معقول , ولكنه فلسفة لا دين , وما أظن أن علماء الأزهر يقولون به لو سئلوا هذا
السؤال. وقال لي مَرَّةً: (إنْ كان الإسلام ما تقرره فأنا مسلم) . وقال لي مَرَّةً بعد
كلام قُلْته في الإسلام: (إنني أنا أعتقد هذا , فإما أن أكون مسلمًا , وإما أن تكون
كافرًا) وقال لي مرة: (ما أظن أحدًا يوافقك على هذا الاعتقاد في الدين إلاَّ الشيخ
محمد عبده) ولا يبعد أن يكون ظنه فينا كظن اللورد في الأستاذ الإمام. وقد
ذكرت في المنار سؤاله إيَّايَ في رمضان: هل تصوم؟ وعن جوابي له , وما
ذكرته له من حكمة الصيام وإعجابه به.
وقد دعاني غير واحد من فضلاء النصارى للغداء في رمضان , وعرضوا
عَلَيَّ القهوةَ مِرارًا كثيرة , فكُنتُ أقولُ متعجبًا: أَوَنَسِيتُمْ أَنَّنَا في رمضانَ؟ فيقولون:
أَوَأَنْتَ تَصُومُ أيضًا؟ فأقول: أي شيء يبيح لي الفِطْرَ ولستُ مريضًا , ولا على
سفَرٍ؟
ولكن إذا كان الملحدُ من النصارى هو الذي يظن أن المسلم العاقل لا بُدَّ أن
يكون إسلامُه ظاهريًّا وهو يسرّ الإلحاد في قلبه؛ فهل اللورد ملحد أم هو مقلد لستانلي
في قاعدته من غير دليل ولا فكر؟ وكيف يتفق هذا مع شهادته للشيخ محمد بيرم
بالإيمان والعقل جميعًا؟
قال اللوررد بعدما ذكر أنه يخشى أن يكون الشيخ محمد عبده لا أدريًّا (وإن
كان يستاء من هذه النسبة) فقوله هذا يشعر بأنه ذكر أمامه ما يدل على أنه يظن
فيه هذا الظن تصريحًا أو تلويحًا , فاستاء وامتعض، وتبرأ من ذلك , وأنكره؛ وكيف
لا ينكره على اللورد مستاءً , وقد كان أعز شيء عليه وهو الذي جعله لا يخاف في
الحق لومةَ لائم , وهو الذي جعل السياسة مأيوسًا منها عنده , فكان جُلُّ قَصده من
معرفة رجالها ومداراتهم الاستعانة بهم على خدمة العلم والدِّين من جهة , وخدمة
مصر من جهة أخرى , فكان يتردد على الأمير ليستعين به على إصلاح الأزهر ,
ويختلف إلى اللورد ليستعين به على إصلاح المحاكم والمعارف وغير ذلك من
المصالح التي شهد له اللورد بالوطنية الصادقة لسعيه لديه فيها، كان يستجديها معًا
لمصر وللإسلام , وقد أعطى كل منهما قليلاً وأكدى. فلا عجب إذا جاءت كلمة
اللورد في دين الأستاذ الإمام غَثَّةً باردةً , تتضاءل في طِمْرِ بَالٍ , فإنها عبارة عن
ظَنٍّ لم يستيقنه، في موضوع لم يعرفه.
(الثالثة استحسان قتل إسماعيل باشا)
نقل اللورد عن كتاب التاريخ السري للاحتلال أن السيد جمال الدين كاشف
الشيخ محمد عبده بفكرةٍ خطرت له وهي قتل إسماعيل باشا عند مرروه على
(الكبري) إذ كان يمر كلَّ يوم عليه , وأن الشيخ محمدًا استحسن ذلك , ولكن الأمر
لم يتجاوز الكلام بينهما [8] أي: لم يكاشفا به أحدًا لاعتقادهما أنهما لا يجدان من يتجرأ
على ذلك.
كبر اللورد هذه المسألة وعظمها , ووجه قوة عقله المنطقي الأوربي الإنكليزي
للاستنتاج منها , فكانت نتيجته (أن العالَم المتمدن كله ينظر بعد هذا إلى الوطنيين
شزرًا! ! ويحتقر بالأكثر أولئك الفلاسفة الذين لا يتأخرون عن تعزيز مقاصدهم السياسية بمثل ارتكاب القتل) .
ربما يسهل على أضعف الشرقيين الذين يقول اللورد عنهم: إن عقولهم غير
منطقية. فهي ضعيفة الاستنتاج والاستنباط , بل على أضعف المصريين الذين يعدهم
من أضعف الشرقيين عقولاً واستنتاجًا أن يفنّدوا أمثال هذه النتائج التي استخرجها
ذلك العقل الغربي المنطقي الكبير. فلو سألنا أحد لابسي الجلابيب الزرقاء من
فلاحي مصر والفيلسوف سبنسر والفيلسوف أرسطو: هل تقولون: إن تفكر رجل
غريب كالسيد جمال الدين الأفغاني في قتل أمير ظالم كإسماعيل باشا , واستحسان
تلميذ له كمحمد عبده المصري لفكرته وهو شابّ في سِن الطلب والتحصيل ينتج
وجوب احتقار العالم المتمدن لهما , وللوطنيين المصريين دائمًا؛ لأن تلميذًا منهم
استحسن من زُهَاء ثلاثين سنة قتل أمير خرّب بلاده ومهد للأجانب احتلالها؟ ؟
لو سئل الثلاثة هذا السؤال لأجاب الفلاح المصري وأشهر الفلاسفة المتقدمين
وهو أرسطو مؤسس علم المنطق , وأشهر الفلاسفة المتأخرين وهو سبنسر بجواب
واحد وهو أن الوطنيين لا يلحقها ذنب ولا لوم من تلك الفكرة إن فرضنا أنها فكرة
تنافي المدنية، وأن المنطق يتبرأ ممن يقول بمثل هذه النتيجة.
وفد السيد جمال الدين على مصر في سنة 1286 وكان الشيخ محمد عبده في
سن العشرين (لأنه ولد سنة1266) وكان همه من حياته إيجاد حكومة إسلامية
عزيزة قوية؛ فاستمال الناس إليه بالعلم والفلسفة حتى إذا ما اجتمعوا حوله بثّ فيهم
أفكاره السياسية بطريق تعليم الكتابة والخطابة حتى كون لنفسه حِزْبًا له ارتباط بولي
عهد الخديوية (توفيق باشا) وكان إسماعيل باشا هو العَقَبة الْكَئُود في طريق
الإصلاح المطلوب له , فهل يعدّ من الغريب عند الأمم الممدنة أن يتمنى إزالتها أو
يفكر فيها , فينظر العالم الممدن إلى جميع الوطنيين المصريين الآن النظر الشزر؛
لأن من علمهم السياسة وطلب الإصلاح فكر في ذلك منذ ثلاثين سنةً؟ .
يالله مَن هذا العالم المدني الذي لم يفكر في مثل هذا قط: ما هو وأين هو؟
أليس هو العالم الأوربي الذي قتل من الملوك والرؤساء في بلاده واحدًا وعشرين
ملكًا ورئيسًا في مدة لا تتجاوز قرنًا من الزمان [9] , وَنَعْنِي بالرؤساء رؤساءَ
الجمهوريات الذين تبعتهم أقلّ من تبعة الملوك.
إن خطور الذنب بالبال ومكاشفة بعض البطانة به قد يكون تمنيًا لا يصل إلى
درجة العزم، وقد يعزم الإنسان على الشيء حتى إذا ما هَمَّ بمباشرته راجعَ نفسه
وثنى عزمه , فرجع عنه نادمًا، فَلَيْتَ شِعْرِي ماذا كان يكون حكم لورد كرومر على
جمال الدين ومحمد عبده وجميع الوطنيين المصريين الذين يودون استقلال بلادهم
لو وفق السيد جمال الدين يومئذ إلى تنفيذ ذلك الخاطر؟ ؟
أما كون السيد جمال الدين كان يعمل في مصر عملاً سياسيًّا , فهذا مما لا
يجهله لورد كرومر , ولا أحد من سَاسَةِ إنكلترا وفرنسا الواقفين على أحوال مصر
الأخيرة، وهم يعلمون أنه إذا ترك السعي لقتل إسماعيل باشا فإنه قد سعى لعَزْلِهِ.
قال الأستاذ الإمام في كتاب تاريخ الثورة العرابية الذي عهد إليه بتأليفه الأمير
عباس حلمي الثاني في سياق الكلام على السعي في عزل إسماعيل باشا , وذكر
إرسال فرنسا موسيو تريكو مأمورًا فوق العادة؛ ليتحد مع وكيل إنكلترا بمصر على
ذلك ما نصه:
ولكن كان الناس كافَّةً في شوق إلى رؤيته (أي: إسماعيل) بعيدًا عن كرسي
الخديوية، وطلاب الحرية من الأهالي كانوا يترددون على رئيس الوزارة
المصرية يظهرون له الميل إلى جَناب الخديو السابق توفيق باشا رحمه الله ,
وكانت بينه وبين السيد جمال الدين مكالمات ومخابرات في هذا الأمْر , فسعى هو
والكثير من الأعيان عند شريف باشا حتى يقنع الخديو الأسبق بوجوب التنازل (عن
الخديوية) , وقد فعل , فأشار عليه بأن رفض الطلب لا يفيد , وأن الدولتين لا بُدَّ
أن تنالاَ ما تطلبان عاجلاً أو آجلاً , والفكر في الحرب رأي طائش , فإن الناس
عمومًا في انحراف عنه , فإذا حصل حرب خذله الجيش في أول واقعة , وكانت
عاقبة ذلك أشنعَ، وإن أمسَّ شيء بالصواب أن يحوَّل الأمر على السلطان.
ثم ذهب وفْد من المصريين ومعهم السيد جمال الدين إلى وكيل دولة فرنسا ,
وأبانوا له أن في مصر حزبًا وطنيًّا يطلب الإصلاح , ويسعى إليه , وأن الإصلاح
المطلوب لمصر لا يتمُّ إلاَّ على يد وليّ العهد توفيق باشا , وانتشر ذلك في القاهرة
وغيرها، وتناقلته الجرائد وهي أول مرة عرف فيها اسم (الحزب الوطني الحر)
اهـ المراد منه.
إن لورد كرومر يعلم هذا , ويعلم أن إسماعيل باشا لم يكن أمثلَ من أولئك
الملوك الذين قتلهم العالم المتمدن وآخرهم ملك البرتغال بل ولا من أولئك الذين
ثاروا عليهم وقتلوهم بمحاكمة , أو بغير محاكمة , ومنهم شارل الأول ملك الإنكليز ,
الذي قامت في وجهه الثورة الأهلية المشهورة وانتهت بقتْلِه. وإن اغتيال ملك أو أمير
مخرب للبلاد، ظالم للعباد، مضيع للملك، مهلك للحرث والنسْل أهون في نظر
الفيلسوف من القيام بثورة عليه تسفك فيها دماء الألوف الكثيرة من الشعب، ثم يقتل
الملك بعد ذلك بمحاكمة صورية أو حقيقية إن لم يقتل اغتيالاً.
إن ما شرحه لورد كرومر في تاريخ (مصر الحديثة) من فظائع إسماعيل
باشا كافٍ في بيان كونِهِ أسوأَ حالاً من الملوك الأوربيين الذين ثارت عليهم رعيتهم
بتدبير فلاسفتهم وعقلائهم؛ فأين من إسماعيل باشا لويس السادس عشر وشارل
الأول.
قد مثل الأستاذ الإمام في تاريخ الثورة العرابية حالة مصر التي تركها عليها
إسماعيل باشا تمثيلاً تلطف فيه واستعمل الرأفة التامة في الحكم؛ لأنه كتب ذلك
لحفيده الأمير الحالّ كتابة حاول فيها الإعلام مع توقي الإيلام , فقال:
شئون البلاد المصرية في شهر رجب سنة 1296 هـ
تولى الجناب الخديو السابق توفيق باشا بعد أن تداخل دولتا فرنسا وإنكلترا في
شئون البلاد المالية , وارتبطت الحكومة معها بعقود ووعود عدت قوانين وأصولاً
يجب احترامها.
- وبعد أن كان قد أفضى الأمر إلى تعيين وزيرين , أحدهما إنكليزي للمالية ,
والآخر فرنساوي للأشغال العمومية في أواخر عهد إسماعيل باشا.
- وبعد أن كادت أحكام المحاكم المختلطة تئوي بتنفيذها إلى إشهار إفلاس
الحكومة، وأدت بالفعل إلى انتزاع أملاك كثير من ذوي الثروة من الأهلين.
- وبعد أن كان موظفو الحكومة من أية طبقة كانوا في اضطراب من حالتهم
المعاشية؛ لتعود الحكومة على تأخير دفع المرتبات لأربابها أشهرًا.
- وبعد أن صار رجال الحكومة في درجة من الغفلة عن مصالح البلاد إلى
حدِّ أنهم كانوا لا يفهمون للوظائف مَعْنًى إلاَّ أنها وسيلة لِتحصيل النقود من الأهالي
بأيَّة طريقة , لِيُدَسّ منها شيء في جيوب المباشرين للتحصيل , ويرسل الباقي إلى
خزائن الخديو أو إلى صناديق بعض المحتفين به، والمقربين إليه.
- وبعد أن صارت الجندية في البلاد صورةً لا يعقد بها دفاعٌ ولا حمايةٌ وإنما
يُراد بها الظهور بعظمة الملك , فلم يكن فيها تربية عسكرية ولا تدريب حربي ,
وكثيرًا ما كانت في حفر التُّرَع , وإقامة الجسور للمنافع العامة أو الخاصة , وكان
المرجع في بعض الحروب إلى ضباط من الأجانب كانوا أركان حربها، وعليهم
المعوَّل في أغلب شئونها.
- وبعد أن فتح على الأهالي أنفسهم باب الإسراف والرَّفَهِ في المعيشة تقليدًا
للمقربين من مسند الخديوية ومن يليهم , وذلك قبل أن يعرفوا لنفقاتهم ميزانًا صحيحًا
يعادلون به بين ما بأيديهم من الأموال وما ينفقون في اللذات.
- وبعد أن نشأ عن هذا وعن شَرَهِ الحُكَّامِ في التحصيل وعدم رعايتهم لِمَا عليه
الأهالي مِن غِنًى وفقر , واستعمالهم أشد العقوبات في سلْب ما بأيديهم أن اضطر
الأهالي إلى التداين بالربا الفاحش , حتى كان صاحب الأرض يأخذ مِن المرابي
المائة بمائة في ثلاث أشهر , ولم يكن يرى في ذلك عيبًا , ولا يخشى عاقبةً , فإن
أمامه القدوة العظمى , وهي الحكومة تستلف النقود بمبالغ من الفائدة لا يمكن لِعَقْل
عاقلٍ تصديقها لو نُسِبَت إلى حكومة ما لو لم يَرَهَا بِعَيْنِهِ.
- وبعد أن صار للربويين بذلك سُلْطَةً على الأهلين وطمع في أموالهم،
يفوقان سلطة الحكام وطمعهم.
- وبعد أن تعود كثير من الذين يسمونهم أكابر البلاد وأعيانها، أو ذوات
الحكومة وأمراءها، على أن ينالوا من الحكومة ما يشتهون في الوقت الذي يريدون
متى صادفوا مكانًا مِن رِضَى الخديو , أو بعض المقربين إليه , فكانوا يُسَخّرون
الأهالي في أعمالهم الخاصة , ويتصرفون فيهم كما يتصرف الراعي في ماشيته
بدون أن يراعي أحد منهم في ذلك نظامًا ولا عدلاً , ولا استبقاء منفعة من يوم إلى
آخر , وتعود الأهالي على الشكوى إلى الله وَحْدَهُ مِن ضِيق الحال , وخمود العزائم
وانطفاء مصابيح الرُّشْد في جميع الطبقات.
- وبعد أن صار كل واحد من الناس في خوف دائم , واضطراب لا يهدأ على
نفسه وما بيده، إذا تكلم تَتَعْتَعَ في كلامِه، وإذا قصد أمْرًا خَطَا إليه على هدى
يتلفت وراءَه خوفَ مفاجأته بما يكره.
- وبعد أن كانت الفاقةُ قد شملت جميع الطبقات الدنيا والوُسطى حتى خِيفَ
القحط العامّ لو استمرت الحكومة على سيرها الماضي سنة أخرى من الزمان.
- وبعد أن صارتْ عيون الناس بأسرهم شاخصةً إلى ما عساه ينزل من
السماء لِيَمُدهم بالمعونة على الخروج مما هم فيه.
هذه كانت حالة البلاد عندما تولى المرحوم توفيق باشا مسند الخديوية فيها،
هذه كانت شدائد مهلكة، وظلمات حالكة، يضلّ فيها الرشيد، ويتعثر فيها العزم
الشديد. اهـ المراد مما كتبه هناك.
وقد استطرد منه إلى بيان اعتقاد أهل مصر في حكامهم إلى ذلك العهد , ثم إلى
بيان ما أحدثه السيد جمال الدين من الانقلاب في الأفكار , وقد سبقت الإشارة إليه،
وكان كل ذلك من مبادي الحوادث العرابية ومقدماتها، وإن شئت قلتَ من عللها
وأسبابها، فكل ما كتبه عن سوء حال البلاد في حكم إسماعيل لم يكتب على سبيل
القصد , ولم يرد منه الاستقصاء في بيان الحال، فَضْلاً عن المبالغة في التقبيح
والتنفير، فهل يُلاَمُ من له عقل يفكر، وقلب يشعر، إذا مقت ذلك الأمير، وتمنى
لو يغتاله أحد من أولئك المظلومين المقهورين , أو استحسن تمني من تمنى ذلك؟
* * *
(الشيخ محمد عبده وموقف حزبه بمصر)
وهناك مسألة أخرى عدها بعض الناس قدحًا من اللورد في الشيخ محمد عبده
وحزبه , وهي قوله فيهم: إنهم (أدنى من المسلم المحافظ في إسلامهم , وأدنى من المصري المغالي في تفرنجه) [10] . والحق أن هذه العبارة لا ينتقد منها لفظها , فهي
مدح كتب في حال استياءٍ وامتعاضٍ , فجاء شبيهًا بالذم؛ إذ توهم أنهم دون الفريقين
في علم أو فضل , ومعناها الحقيقي أن هؤلاء القوم وَسَطٌ بين طرفين مذمومين؛
طَرَف المتشددين في المحافظة على الرسوم والتقاليد القديمة باسم الدين , وطرف
المتغالين في تقليد الإفرنج الذين أضاعوا دينهم وثروتهم في ذلك , وقد بالغ اللورد في
ذمهم. ولم يرد اللورد بهذه العبارة إلاَّ ما أوضحه في تقرير سنة 1905 من أن حزب
الشيخ محمد عبده هو الحزب المعتدل في مصر , الذي يناط بنجاحه استقلال
هذه البلاد الاستقلال الحقيقي , فلا فَرْقَ بين عبارته في التقرير وعبارته في التاريخ
في بيان المراد إلاَّ أن إحداهما كتبت في حال رضى , فمثلت المعنى مضيئًا واضحًا ,
والثانية كُتِبَتْ في حال السَّخَطِ , فغشي المعنى غاشية من ظلمة الإيهام.
وقد زلَّ قَلَمُ اللورد بسوء تأثير وجدان السخط زلةً أشنعَ مِن هذه , لعله إذا
ذكرها يعرق من الخجل , وهي أنه ذكر في التقرير أن توفيق باشا صفح عن الشيخ
محمد عبده (طبقًا لما اتصف به من الحلم وكرم الخلق) [11] , وقال في كتاب
مصر الحديثة: إنه عفا عنه (بما فطر من مكارم الأخلاق , وانقيادًا لتشديد الإنكليز
عليه في ذلك) [12] , فزيادة انقياده لتشديد الإنكليز نقضت ما قبلها الموافق لِمَا ذكر
في التقرير , فإن العفو إذا كان عن انقياد لتشديد الإنكليز لا يكون عن حلم وكرم
خلق , وإلا فلا أثرَ لتشديد الإنكليز بل لم يكن هناك حاجةٌ إليه.
فاللورد جدير بأن يخجل من هذه العبارة إذا قابلها بعبارة تقريره في المسألة؛
لأنها جعلت كلامه متناقضًا أو متعارضًا , وأبانت أن يحابي في المدح عند الرضى ,
فإنه جعلَ عَفْوَ توفيق باشا عن الشيخ محمد عبده عند رضاه عنهما معًا كَرَمًا وحلمًا
وكرم خلق , فلما سخط من الثاني جعل ذلك العفو ناشئًا عن تشديد من الإنكليز في
طلبه لا عن مجرد الطلب , فيُقال: إنه طلبٌ وافقَ حلمَ توفيق وكرم خلقه , وإنما
أراد اللورد بذلك أن يظهر فضله عليه؛ ليثبت أنه أساء إلى مَنْ أحسنَ إليه، بما
أظهر عن عيوب سياسة الاحتلال وإدارته لمستر بلنت. والمؤرخ المحابي متهم لا
يوثق بمدحه لمن يرضى عنه، ولا بذمه لمن يسخط عليه، على هذه القاعدة نقول:
إن ثناء اللورد على الشيخ محمد عبده في كتاب مصر الحديثة يعد بما فيه من الشوائب
منتهى الفضل , وشهادة اللورد به شهادة جديرة بالاعتبار والإيثار , وهو يلخص في
هذه الكلمات:
(1) أنه أحسن العمل في القضاء , وأدى الأمانة حقها.
(2) كان واسعَ الرأي.
(3) كان على علم ونباهة.
(4) كان عدوًّا للخديويين والباشوات غير الصالحين.
(5) كان وطنيًّا حقيقيًّا , ومن مصلحة الوطنية المصرية أن يكثر أمثاله.
(6) أنه أسس في مصر مدرسةً فكريةً.
(7) أن له في مصر حزبًا معتدلاً يجمع بين أصول الإسلام والمدنية.
(8) أن أتباعه هم حلفاء المصلح الأوربي الطبيعيون الجديرون بمساعدته.
(9) أن له برجرامًا لجَعْل مصر مستقلةً استقلالاً ذاتيًّا حقيقيًّا.
(10) أن تقدم أتباعه خير رجاء له في تنفيذ برجرامه هذا.
فَحَسْبُنَا من اللورد الشهادةُ بهذه العَشْرِ , ولا يضرنا معها ظنه أنه كان لا أدريًّا،
ولا جزمه بأنه كان خياليًّا، ولا إيهام عبارته أن حزبه الوسط دون كل من الطرفين
الذي هو وسط بينهما.
نعم كان حزب الشيخ محمد عبده معه , ولا يزال من بَعْدِه وسطًا بين
المحافظين الجامدين، والمتفرنجين المقلدين، ومنهم من هو أقرب إلى هؤلاء ومَن
هو أقرب إلى أولئك، أمّا الشيخ نفسه فقد كان من آياته أن أذكياء كل فريق من
المتفرنجين والجامدين يجلّونه مع احتقار كل منهما للآخر. وقد عرَفَ أصحاب
المقطم والمقتطف من كنه هذه المزية ما لم يعرفه اللورد , أو صرحوا بما لم يصرح
هو به؛ إذ قالوا في تأبينه بالمقطم (ع4952) ما نصه [13] :
فأول مزية امتاز بها الفقيد أنه كان في مقدمة كل فريق من الفريقين اللذين
انقسم إليهما المصريون في هذا العصر؛ فقد كان علمًا يهتدي بنور علمه فريق
المحافظين , الذين لا يروقهم غير ما جرى عليه المتقدمون كالعلماء والأئمة وطلبة
العلوم الدينية واللغوية ومن جرى مجراهم. وكان قائدًا للآراء ومدبّرًا للأفكار عند
الفريق الذي جعل شعاره التقدم والارتقاء من أبناء هذا العصر , الذين يرون أن
القديم لا يغني عن الحديث , وأن من لا يتقدم يتأخر , والسكون المطلق محال.
ونقول - ولا نخشى في الحق لومةَ لائم -: إن الفقيد فاق الأقران كلهم في هذه
المزية حتى انفرد فيها أو كاد , إلخ.
وكتبوا في الجزء الثامن من المجلد الثلاثين لمجلة المقتطف ما نصه [14] :
(وكان ذكي الفؤاد بالطبع , قوي الحُجة , حَسَنَ المحاضرة , لا يخاف في
الحق لومةَ لائم , ولا يتهيب الكبراء والعظماء لمجرد ما هم أو ما أدركوه من رفعة
المقام؛ فاستطاع أن يكون عَلَمًا يهتدي بنور علمه المحافظون الذين لا يروقهم إلاَّ ما
جرى عليه المتقدمون كأكثر العلماء وطلبة العلوم الدينية واللغوية ومن جرى
مجراهم؛ لأنه كان على ثقة فيهم - وعضدًا قويًّا لأبناء هذا العصر الذين استناروا
بالعلوم الحديثة والآراء الجديدة، ومرشدًا صادقًا للذين يطلبون الاستنارة بها
والسير في سبيلها) , إلخ.
هذا رأي أصحاب المقطم والمقتطف سقناه إلى اللورد؛ لأن مثبتيه غير
متهمين عند اللورد بقلة المعرفة , ولا بالتشيع للشيخ محمد عبده.
وإذا أراد اللورد أن يعرف مكان الأستاذ الإمام من نفوس أرقى الطائفتين
(المحافظين والمتفرنجين) فَلْيَقْرَأْ ما أَبَّنَهُ به الشيخ أحمد أبو خطوة أرقى الأزهريين
علمًا وفهمًا , وقاسم بك أمين أرقى المتعلمين في أوربا , واللورد يشهد بنبوغه وقد
أثنى عليه في خطبته التي ودّع بها مصر ذلك الوداع المشهور.
قال القاضي الشرعي الشيخ أبو خطوة في ابتداء كلامه: (اجتمعنا اليوم هنا
حوالي هذا القبر المجلل الموقر الذي انتهى إليه أمر الإمام الكبير الأستاذ الشيخ محمد
عبده) إلخ , ثم فصل إصلاحه للأزهر وللمحاكم الشرعية تفصيلاً.
وقال القاضي الأهلي قاسم بك في ابتداء كلامه: (مهما قَلَّبْنَا النظرَ , ودققنا
في البحث والتفتيش فلا نجد في أمتنا من يعوض علينا ما خسرناه بفقد أستاذنا الشيخ
محمد عبده) وقال: إنه (وصل إلى أسمى مقام يمكن أن يناله إنسان في هذه الحياة
...... مقام الإمامة بأوسع معناها تركه الشيخ محمد عبده , ولا يوجد في مصر واحد
يجرأ على أن يدعي فيه استحقاقًا بعده) ثم قال:
(سادتي: إن كل نفس بشرية لها نصيب من الجمال والقبح، والجمال
المطلق لا يوجد في هذا العالَم , ولكن بعض النفوس الممتازة تقرب من الكمال أكثر
من غيرها , فتنمو زهرة الجمال فيها نموًّا عجيبًا , وتتكاثر فروعها، وتمتدّ طولاً
وعرضًا , ولا تترك محلاً لسواها فيضعف ويذبل كل نبات خبيث بجانبها. ومن هذا
القسم الممتاز كانت نفس إمامنا العزيز. نفس خلقت على أحسن شكل زينها
صاحبها بالفضائل حتى صارت مثالاً في الجمال , يجب أن نضعه دائمًا أمامنا لِنعلمَ
منه) كذا وكذا , وذكر بعض مزايا الإمام , ثم قال:
(ونتعلم منها أيضًا مبلغَ ارتقاء الخلق في إنسان أجهد نفسَه ورباها حتى
أرسلها إلى أقصى ما تصل إليه نفس بشرية من الجمال والكمال) .
وبهذا نكتفي في هذه المسألة التي يعرف منها طريق اللورد في الكلام عن
رجالنا , وننتقل منها إلى المقصد الأهم وهو كلامه في الإسلام والمسلمين , فنقول.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) ص364 من الجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام.
(2) ص329 منه.
(3) راجع ص95 من الجزء الماضي.
(4) راجع ص94 من الجزء الماضي.
(5) تقدمت الإشارة إلى هذه اللائحة.
(6) جاء ذلك في بعض أعداد سنة1905 منها - راجع ص228 من مجلد المنار العاشر.
(7) راجع صفحة 94 من الجزء الماضي.
(8) راجع ص96 من الجزء الماضي.
(9) ذكر ذلك في ص355 من جزء المقتطف الرابع الصادر في إبريل الماضي.
(10) راجع ص95 من الجزء الماضي.
(11) راجع ص90 من الجزء الماضي.
(12) ص95.
(13) ص45 من الجزء الثالث من تاريخ الأستاذ الإمام.
(14) ص103 من ج3 من التاريخ المذكور.(11/185)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
القرآن والعلم
(1)
تفسير من اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب
في رد الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز
اشتبه بعض علماء الإفرنج من المستشرقين وغيرهم الباحثين في الإسلام في
آيات كثيرة من القرآن الشريف لم يفهموا معناها الصحيح بسبب ما وجدوه في بعض
كتبنا من التفاسير السخيفة والآراء السقيمة. وقد اتبعهم في ذلك دعاة المسيحيين
متخذين بعضَ آراء هؤلاء المستشرقين ذريعةً للطعن في الكتاب العزيز ناسِبِينَ إليه
الجهلَ والخطأَ؛ لتشكيك عوامّ المسلمين في دينهم القويم.
وقد سبق لي أن تكلمت على كثير من هذه الشبهات في (مقالات الدين في نظر
العقل الصحيح) بما يشفي العِلّة، ويروي الغُلّة، ولكن فاتني أن أستقصيها
جميعًا إذ ذاك؛ فلذا رأيت الآن أن أستدرك ما فاتني خِدمةً للإسلام , وتذكيرًا للعلماء
كي ينظروا في هذا الدين , ويقدروه قدره. فإنه ما نظر فيه عالم محقق من أي وجهة
كانت إلاَّ وجد الحق والصواب عمادًا لجميع مبانيه، والعلم والعقل أساسًا
لكافة عقائده وأوامره ونواهيه، وقد رأيت أن أذكر الآية أولاً، ثم أعلق عليها بما يفتح
الله به عليَّ حتى يتضح الدليل، وتستبين السبيل، فأقول وبالله أستعين:
المسألة الأولى
(الحجر)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ المُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا
عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ} (الحجر: 80-82) .
اعلم أنه يوجد بين العقبة والبحر الميت مدينة شهيرة عند السائحين تدعى
باللغة اليونانية (بترَا) أي: الصخرة , وهي المسماة في العهد القديم بمدينة (سالع)
كما في سفر الملوك الثاني (14: 7) وفي كتاب أشعيا (16: 1) وَكِلاَ
الاسْمَيْنِ: (بترا) و (سالع) بمعنى واحد , لكنهما بلغتين مختلفتين.
يحيط بهذه المدينة جبال وعرة , أعلاها جبل هور المذكور في سفر العدد (33: 38) ولذلك كان اليهود يسمون أهلها الأولين بالهوريين , ومعناه: سكان
الكهوف؛ لأن بيوتهم منحوتة في الصخور , ومنظر هذه المدينة من أعجب
المناظر.
فلما رأى بعض سياح الإفرنج هذه المدينة، وسمع ذكر (الحجر) في القرآن
الشريف ظن أن هذه الكلمة ترجمة لفظ (بترا) اليوناني لتوهمه أنها بفتح الحاء
والجيم (الحَجَر) وبنى على ذلك أن (الحجر) في القرآن هو (سالع) في العهد
القديم.
ولَمَّا كانت مدينة سالع هذه معروف عنها ما ينافي أن أهلها أهلكهم الله
بالصَّيْحَة , وما يدل على أنها كانت عامرةً بالسكان إلى ما بعد الميلاد بقليل أخذوا
يطعنون على القرآن الشريف , وينسبون إليه الخطأَ والجهلَ بالتاريخ , والله يعلم
أنهم لَكَاذِبون؛ إذ لولا تسرعُ هؤلاء الحَمْقَى وجهلهم لعلموا أن الحِجْر بكسر الحاء
وسكون الجيم غير بترا أو سالع , وأن إحداهما تبعد عن الأخرى بُعْدًا عظيمًا , فإن
الحجر قرية صغيرة على خط سكة الحديد الحجازية الآن إلى جنوب دُومَة الجَنْدَل،
وتنزل بها حُجاج الشام، وتسمى بمدينة صالح وهو النبي الذي أرسله الله إلى أهلها
(ثمود) , ولا تزال إلى الآن آثار مساكنهم التي كانوا ينحتونها في جبالها المسماة:
(أثالب) كما قال في دائرة المعارف العربية , ويمكن لكل أحد أن يذهب إليها وإلى
سالع لِيَرَى بِعَيْنَيْ رأسه أنهما مدينتان متباعدتان في موضعين مختلفين , وأن المسافة
بينهما تقارب ما بين الإسكندرية والعقبة , وأن الحِجْر في الجنوب الشرقي لسالع.
ومعنى الحِجْر: المكان الذي حوله حجارة , وهو غير معنى (سالع) أي:
الصخرة. وما يزعمه بعضهم أن جميع ما نراه فيها من البيوت كانت قبورًا لا مساكنَ
لم يَقُمْ دليلٌ على صحته , كذاك لا يبعد أن بعضها كان كذلك , والقرآن لم
يقُلْ إن جميعها كانت مساكِنَ , ولا أن جميع مساكنهم كانت منحوتةً في الجبال. بل
قال: إن بعض المساكن كانت تبنى على الأرض , والبعض الآخر ينحت في الجبال
كما في سورة الأعراف: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ
الجِبَالَ بُيُوتاً} (الأعراف: 74) إلى قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي
دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (الأعراف: 78) فكانت لهم قبورًا بعد إهلاكهم , وإن لم
تكن جميعها كذلك في أول أمْرِهِم. ومن ذلك تعلم خطأَ ما قاله المستشرق الشهير
مرجليوث في كتابه المسمى (محمد) في هذه المسألة.
* * *
المسألة الثانية
(الإسراء وتاريخ بيت المقدس)
قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى
المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الإسراء: 1) .
المسجد الحرام هو: الحَرَم المَكِّيُّ والمسجد الأقصى هو: بيت المقدس. وهذا
البيت كان خَرَّبَهُ تيطس الروماني سَنَةَ سبعينَ للميلاد , وأحرقه بالنار , فلم يكن له
وجود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلاَّ آثارًا وأطلالاً؛ فكيف يقول القرآن
الشريف: إن النبي أسرى به إليه؟
الجواب [1] :
المسجد في اللغة: مكان السجود والعبادة , ولا يُشترط فيه أن يكون محاطًا
بالبناء , ولا أن تكون سُقفه مرفوعةً على أعمدة أو نحو ذلك مما اعتاده الناس الآن ,
وما كانت مساجد العرب في مبدأ الإسلام إلاَّ أمكنةً بسيطةً خاليةً من الأبنية الضخمةِ
والزخرف والزينة , وكل مكان يعبدون الله فيه يسمونه مسجدًا لهم , بل سَمَّى رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم جميعَ الأرض مسجدًا لِصِحَّةِ العبادة في أي جزء منها؛
فقال: (وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورَا) فلا يلزم من قول القرآن: إن النبي
أُسْرِيَ به إلى المسجد الأقصى. أنه كان إذ ذاك مبنيًّا مَشِيدًا , كما كان قَبْلَ تخريب
الرومان له.
ولذلك كان العرب يذهبون إلى أورشليم وغيرها من بلاد الشام , ويعرفون ما
كان عليه المسجد الأقصى من الخراب , ومع ذلك لم يسمع من أحد منهم انتقاد على
عبارة القرآن الشريف هذه , أو تردد في فهمها , أو تكذيب للنبي صلى الله عليه
وسلم فيها؛ وغاية ما سُمِعَ منهم تكذيبه في ذهابه إلى هذا المسجد بهذه السرعة
العجيبة , لا في وجود ما يسمى عندهم بالمسجد الأقصى , وإنْ كان خربًا.
على أن الظاهر أن القرآن الشريف يريد بالمسجد الأقصى بلدَةَ: (أورشليم) ,
وبالمسجد الحرام: (مكة) أي: إنَّ النبي سار ليلاً من مكة إلى أورشليم؛ لأن
المسجد الحرام ما كان بيتًا للنبي صلى الله عليه وسلم ينام فيه , بل كان نائِمًا في
بيت أم هانئ أحد بيوت مكة , كما جاء في الروايات الواردة في هذه المسألة.
فالقرآن أطلق هنا المسجد الحرام على مكة , وأطلق المسجدَ الأقصى على
أورشليم من باب تسمية الكل بالجزء الذي هو أعظم وأشهر شيء فيه.
ومثل هذا الإطلاق شائع في العربية وغيرها , وكثير في القرآن الشريف؛
ولذلك وردَ تسمية الحرم كله بالبيت العتيق كما في قوله تعالى في الذبائح: {لَكُمْ
فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ} (الحج: 33) , مع أن
الذبح لا يعمل في نفس البيت , وإنما يعمل في (مِنى) بالقرب منه.
أمّا ما وردَ في بعض الروايات من أن النبي صلى الله عليه وسلم ربط زمام
البُراق في إحدى حلقات بيت المقدس , فالأقرب عندي أن هذه الروايات وأمثالها هي
مما وضعه الواضعون بعد تعمير بلاد المسلمين لهذا البيت؛ أي: بعد فتح عمر لبلاد
الشام وإقامة مسجد مكان الهيكل (بيت المقدس) وقد غاب عن هؤلاء الواضعين
هذه الحقائق كما هو شأن الكذابين , فلم يعرفوا أن ما يشاهدونه في زمنهم لم يكن في
زمن النبي صلى الله عليه وسلم [2] .
واعلم أن القرآن الشريف قد ذكر تاريخ بيت المقدس , وما لحقه من التخريب؛
فلا يُقال: إننا فيما قلنا ملفقون أو إننا لأجْل دِفاعِنا عن القرآن ننسب إليه ما لم
يعرفْه , ولم يخطر على بال مؤلفه كما يقولون. بل ورد فيه في نفس هذه السورة
(الإسراء) بعد الآية السابقة قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ
لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ
عِبَاداً لَّنَا} (الإسراء: 4-5) هم بُخْتَنَصَّرُ وقومه الكلدانيون , {أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ
فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} (الإسراء: 5) اليهودية؛ أي: جالوا، وترددوا فيها للنهب
والقتل والسلب والسبي والتدمير , {وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} (الإسراء: 5) {ثُمَّ رَدَدْنَا
لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} (الإسراء: 6) بأن أرسلنا عليهم كورش ملك فارس , فدَمَّر
مملكتهم , وفتح بابل , وأنقذ اليهود من أسرهم , وأكرم مثواهم , وأحسن إليهم ,
وردهم إلى بلادهم؛ فصاروا فيها أعزاء , وسادوا على أعدائهم الذين تركهم
الكلدانيون فيها تحت رعايتهم , فعاد إلى اليهود شيء كبير من مجدهم السابق , ثم عَمَّروا بيت المقدس الذي كان خَرَّبَه بختنصر وأحرقه , وصاروا يقيمون شعائر دينهم
فيه كما كانوا يفعلون من قبلُ {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} (الإسراء: 6) فرجعوا من الأسر بأشياء كثيرة من الذهب والفضة، وبأمتعة،
وبهائم، وتحف، وغيرها كما في سفر عزرا (1: 4 -11) {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ
لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} (الإسراء: 7) .
العقوبة الثانية {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا} (الإسراء: 5) {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ
وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ} (الإسراء: 7) أي: بيت المقدس {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا
مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} (الإسراء: 7) فدخله تيطس الروماني بجيشه , ونهبه وأحرقَ
الهيكل ودمَّرَه تدميرًا كما فعل الكلدانيون مِن قبلُ , وتشتت اليهودُ بعد ذلك في العالم
ولم تعد إليهم الدولة إلى الآن.
وإنما قال القرآن: {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (الإسراء: 7) مع أن الداخلين
المدمرين للمسجد في المرة الثانية غيرُ الذين دمروه في المرة الأولى؛ لأن الجامع
بينهم شيء واحد , وهو كونهم جميعًا عبادًا لله , فإنه قال في أول القصة: {بَعَثْنَا
عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا} (الإسراء: 5) بدون ذِكْر جنسهم.
وهذا على حد قولك: (دخل الأوربيون الجامع الأزهر مرة ثم دخلوه مرة
أخرى) مع أن الداخلين في المرة الثانية قد يكونون إنكليزًا وفي الأولى فرنساويين
ولاشتراكهم في الوصف (وهو كونهم أوربيين) كان هذا التعبير صحيحًا , ومِثْل
ذلك قوله تعالى مخاطبًا ليهود العرب: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى
اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (البقرة: 55) مع أن ذلك لم
يحصل لهم , وإنما حصل لبني إسرائيل في زمن موسى ولاشتراك يهود العرب معهم
في الدِّين جاز هذا التعبير , وهو شائع في جميع اللغات.
فمما تقدم تعلم أن القرآن الشريف ذَكَرَ أن المسجد الأقصى خُرِّب مرتيْنِ , وذكر
لليهود عقوبتين، الأولى: ما أوقعه الكلدانيون بهم , والثانية: ما فعله الرومانيون.
أما الواقعة الأولى فقد تَمَّتْ في سنة 587 قبل الميلاد , وبها زال استقلال
اليهود , وصاروا خاضعين للكلدانين , ثم الفرس، ثم اليونان , ثم الرومان.
وأما الثانية؛ فقد تمت في سنة سبعين بعد الميلاد , وبها تَشَتَّت اليهود في
أنحاء العالم , وَقُضِيَ عليهم قضاءً أَبَدِيًّا.
ومِن ذلك تعلم أن هاتين الواقعتين يدور حولهما تاريخ الأمة اليهودية , وعليهما
يُقام هيكله؛ فلولا وَحْي الله لَمَا أمكنَ لذلك العربي الأمّيّ العامّيّ الناشئ بين الوثنيين
أن يستخلصها من تاريخ الأمة اليهودية الطويل العريض , وليس في بلاده كتب
يرجع إليها , بل لا يتيسر له إذا أراد ولم يقم على تربيتة معلم , وليس له مدارس؛
ومع ذلك قد لخص هذا التاريخ الكبير في كلمة صغيرة هي نهاية الإعجاز وعِبْرَة
العِبَر وحِكْمة الحِكَم مع ما فيها من الإشارات الدقيقة إلى الحقائق التاريخية التي
يفهمها الراسخون في العلم.
هذا وقد كان أسْر اليهود إلى بابل من أكبر ما حَلّ بهم من المصائب حتى كانوا
كلَّ يوم ينتظرون الفرج والخلوص العاجل , وقد كان كورش ملك فارس المخلص
الأكبر لهم من ذلك , وكانوا يسمونه مسيح الرب (أشعياء 45: 1) فلذا كثر
الثناء عليه في كتب العهد القديم لإنقاذه إياهم من المحن والبلايا والرزايا التي حَلّتْ
بهم في بابل , التي أطنبت كتبهم في وصفها وتعديدها , وأنذرهم الأنبياء بها قبل
وقوعها , ثم صاروا يبشرونهم بالخلاص منها.
وهذا هو سبب ورود لفظ الخلاص ونحوه كثيرًا في كُتُب العهد القديم ككتاب أشعياء وغيره مما صار النصارى يزعمون أنه رموز إلى المسيح عيسى عليه السلام والحقيقة أنه لا علاقةَ لأكثره به , ولكنهم ولعوا وولع مؤلفو العهد الجديد بذلك من قبل حتى إنهم كانوا ينسبون للمسيح عليه السلام من الحوادث ما ينسبون، ثم يستشهدون عليها بعبارات في العهد القديم كاستشهاد مَتَّى (2: 15) بكلام
هوشع عن خروج بني إسرائيل من مصر (إصحاح11: 1) وزعمه أن ذلك نبوة
عن المسيح عليه السلام وكاستشهاده في الإصحاح 27: 9 بكلام يزعم أن أرميا
النبي قاله مع أنه لا وُجودَ له في كتابه , وإنما يوجد في كتاب زكريا بعض ألفاظ
تشبهه (إصحاح 11: 13) ولا مناسبةَ بينهما وبين ما يقوله مَتَّى في إنجيله؛
وإنما ذكرنا ذلك إبطالاً لِدعاويهم العريضة وردًّا لكيدهم وتحاملهم على القرآن
الشريف مع الجهل والتعصب كما بيناه ونبينه.
وَلَمَّا أُصِيبَ اليهود للمرة الثانية بِما أُصيبوا به من الرمانيين صاروا يترقبون
مجيء مخلِّص لهم ككورش , وهم إلى الآن ينتظرون ذلك! .
هذا شيء من تاريخ اليهود ذكرناه هنا تفصيلاً لِتفسير ما جاء في أول سورة
الإسراء , ومنه تعلم أن القرآن الشريف ذكر تخريب المسجد الأقصى في المرتين ,
فلا يُقال: إنه أخطأ وجهل التاريخ كما يدعي جهلة المسيحيين افتياتًا عليه ورغبة
منهم في تكذيب حادثة الإسراء وهي كما ترى ليس فيها شيء ينافي العلم، أو
يناقض حكم العقل الصحيح. وما نشاهده من حركات الأجرام الكونية , وما اخترعه
البشر من آلات البخار والكهرباء يُقَرِّب إلى العقل تصور تلك الحركة
السريعة التي حصل بها الإسراء , إن كان ذلك جسمانيًّا كما عليه جمهور المسلمين ,
وأما إن كان روحانيًّا أو رؤيا مَنَامِيَّة كما عليه بعضهم فلا شبهة عليه , والله أعلم.
(لها بقية) ...
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: راجع ص 699 وما بعدها من المجلد السادس.
(2) المنار: في ص701م6 توجيه لهذه المسألة مبني على صحة الحديث.(11/208)
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
__________
السنن والأحاديث النبوية
(بحث النسخ)
قال حضرة الدكتور: (النسخ هو إبطالُ حُكْمٍ لبدل أو لغير بدل) .
وأقول: ما ذكره من تعريف النسخ غير كافٍ ولا وافٍ؛ فإنه غير جامعٍ ,
ولا مانعٍ , ولا نطيل بالمناقشة فيما يتعلق بالعبارة؛ إذ مراده بذلك الكلام على النسخ
المعروف عند المسلمين , وهو صريح في اختياره النسخ بمعناه عند المتأخرين - أمّا
هو في عُرْف السَّلَف , فهو زيادة على ما ذكره يعم رفع دِلالة العامّ , والمطلق ,
والظاهر؛ إمّا بتخصيص أو تقييد أو حمل على مقيد وتفسيره وتبيينه.
قال شيخ الإسلام ابن القيم - رحمه الله -: حتى إنهم ليسمون الاستثناء والشرط
والصفة نسخًا؛ لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد؛ فالنسخ عندهم وفي
لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ , بل بأمر خارج عنه , وبذلك تزول إشكالات
أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر - انتهى ملخصًا -
وهل الإنساء والنسخ شيء واحد أم هما شيئان؟
ذهب بعض السلف إلى الأول , والظاهر أنه أَعَمُّ من النسخ , أمّا على قول مَن
قال: إن معناه التأخير والإرجاء. فهو قبل نزوله وأوان ظهوره للتكليف لا يوصف
بنسخ ولا عدمه.
واعلم أيها القارئ أنه يتفرع على النسخ بمعناه عند الخلف خلاف بينهم , هل
يجوز نسخه بالآحاد الصحيحة , أم ببعضها دون البعض؟ أما السلف: فلا نعلم
عنهم خلافًا في جوازه.
قال حضرة الدكتور: فالنسخ عندنا لا يقع إلا في الأحكام (الأوامر والنواهي)
ولا يقع في القصص أو القضايا العقلية؛ إذ لا معنى لوقوعه في ذلك.
وأقول: إذا سلمنا أن معنى النسخ هو ما ذكره المتأخرون حيثُ قالوا في
تعريفه: (هو أن يدل على خلاف حكم شرعي دليل شرعي متراخٍ) فلا شَكَّ أن
المنسوخ لا يجوز أن يكون من الإخبار عن الأمور الماضية أو الواقعة في الحال أو
الاستقبال؛ مما يؤدي نسخه إلى كذب أو جهل - بخلاف الإخبار عن حل الشيء أو
حرمته ونحوها؛ فإنه يجوز النسخ في هذا الأخير , وكذلك القضايا العقلية لا يجوز
النسخ فيها لإفضاء ذلك إلى الجهل , وكذلك إذا قَيَّدَ نصًا بتأييد أو توقيت فلا يجوز
نسخه لاستحالة العبث والجهالة.
أما إذا فسر النسخ بمعناه عند السلف فلا مانع من وقوعه في كل ما ذكرناه؛
لأنهم لم يشترطوا في الناسخ منافاة المنسوخ. ودونك ما ذكر الحافظ ابن كثير في
تفسيره عنهم بعد قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: 106) قال ابن أبي طلحة , عن ابن عباس رضي الله عنه {مَا نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ} (البقرة: 106) قال ابن جريج , عن مجاهد: ما نمحو من آية , وقال
ابن أبي نجيح عن مجاهد: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (البقرة: 106) . قال: نثبت
خطها ونؤيد حكمها. حدَّث به عن أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه. وقال ابن
أبي حاتم: وروي عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي نحو ذلك , وقال
الضحاك: ما ننسخ من آية , ما ننسك. وقال عطاء: أما ما ننسخ , فما نترك من
القرآن وقال ابن أبي حاتم: يعني ترك , فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال السُّدِّيّ: ما ننسخ من آية نسخها: قبضها. قال ابن أبي حاتم: يَعْنِي قبضها
رفعها مثل قوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيَا فارجموهما ألبتة) وقوله: (لو كان
لابن آدم واديانِ من ذهب لاَبْتَغَى لهما ثالثًا) وذكر عن ابن جرير ما مؤداه اختيار
مذهب المتأخرين في تفسير معنى النسخ , وأنت ترى بُعْدًا بين ما فهموه وما فهمه
المتأخرون إلا ما نُقل عن أصحاب عبد الله بن مسعود، لكنه محمول على ما هو
معروف عن السلف من أنهم كثيرًا ما يفسرون الشيء ببعض معانيه نظرًا لِحال
السامع تارةً , ولما يقتضيه المقام تارةً , ولظهوره في باقي معانيه الأخرى , ولم
يكونوا ليحدوا الأشياء بالحدود والتعاريف التي اصطلح عليها المتأخرون , فإذا كان
النسخ عندهم مفسرًا بالرفع والقبض الذي هو أعمُّ عند المتأخرين فالله جَلَّ شَأْنُهُ ينزل
على رسوله صلى الله عليه وسلم الأحكام في جميع أنواع الموضوعات والقصص
والأخبار للإذعان والاعتبار , وردًّا على المعاندين الكفار , فإذا قامت الحُجّة ,
وحصل لرسوله صلى الله علية وسلم الفَلْج وعليهم الغَلَبَة , فالعقل لا يوجب إبقاء
الحُجة مسطورةً مكتوبةً , كما أنه لا يجب ولا يلزم حبس وإبقاء الجيش العظيم على
البلد بعد فتحها , وكما أن الأحكام تختلف باختلاف حال المكلفين، كذلك التعاليم
الأخلاقية ونحوها تختلف باختلاف أحوالهم أيضًا - فإذا أنزلَ الله على رسوله صلى
الله عليه وسلم ما شاء من أخبار أو غيرها لمقتض ولمصلحة , ثم رفعها على ما لها
من الإجلال فائزة بالنصر , وقهر الأعداء غير منقوضة بريب أو تكذيب لا سِيَّمَا
إذا أحل وأنزل بدلها ما هو أنسب وخير منها لنا , فيا تُرَى أي جهل وعبث يلزم؟!
فسبحان ربك رب العزَّة عما يصفون.
ثم قال حضرة الدكتور: فلسنا ممن يسلم القول بنسخ لفظ بلفظ كما يتوهمون
أو بنسخ لفظ وإبقاء حكمه كما يزعمون. واستدل على ذلك باستلزامه الجهل أو
العبث.
وأقول: هذا الاستبعاد من حضرة الدكتور منشؤه عدم الإمعان في معاني
القرآن؛ لأن الله جَلَّ شَأْنُهُ وعظم سلطانه ذو الكمال وخالق الكمال النسبي , وكلتا
يديه يمين فهو يعبر لرسوله صلى الله عليه وسلم عن شئونه بما شاء مما هو كافٍ
في إعجاز مخلوقه القاصر والمعاند الكافر , ولا محذور في أن يرفع عبارة (قد
اعتبروا) بمدلولها ثم يكررها ثانيًا لمقتض في قالب عبارة وألفاظ أكمل من الأولى ,
أو أنسب بالحال منها فإنه ما من كمال نراه إلا وعند الله أكمل منه , والكل بالنسبة
إلينا معجز وكمال كما قال تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} (البقرة: 106) .
ومما يوضح ذلك ويقربه ما هو في المُحْكَم بين دَفَّتَيِ المُصْحَفِ مِن ذِكْر القصة
الواحدة في مواضعَ متعددةٍ بألفاظٍ وعبارات متغايرة لفظًا متحدةً مَعْنًى , وقد تراها
بزيادة ونفص , وما ذلك إلا لاختلاف ما يقتضيه الحال لسوقها في الاستشهاد بها
ولاختلاف أحوال المتلقين عن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن منهم من يميل إلى
التطويل وحفظه , ومنهم من يميل إلى الاقتصار على الاختصار إما لعدم الفرص أو
غير ذلك - فإذا حسن ذكر القصة الواحدة بعبارات وألفاظ متغايرة لفظًا مع بقاء الكل
فجوازه كذلك بعد رفع الأول ونسخه أولى وأحرى , وهذا ظاهر لا غُبَارَ عليه -
على أنه قد يُقَال: لم لا تسلم وتحمل ذلك على ما نزل قبل التحدي بالإعجاز؟
وإذا رفع بالنسخ أو الإنساء ما هو كذا فقد قدمنا الحكمة فيه وسببه , وإذا بقي
محفوظًا لأفراد لا يصح أن يثبت بروايتهم آيات قرآنية , فما ذلك إلا ليتحقق صدق
قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) الآية , وليعرف أن
البدل خير من المبدل فيشكروا الله على ما أعطاهم , وانظروا إلى ما روي في
الصحيح: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثًا , ولا يملأ جوف ابن
آدم إلا التراب , ويتوب الله على من تاب) .
فإنه كان قرآنًا يُتْلى؛ أي: ثم رُفِعَ وأُنْسِيَ لفظه , وإنما بقي محفوظًا لدى من لا
يثبت بروايته آيات قرآنية؛ والعلة التي أدركناها في ذلك ما ذكرناه , فإذا تتبعنا
المصحف وجدنا ما هو أولى وأظهر مثل قوله تعالى: {وَتُحِبُّونَ المَالَ حُباًّ جَماًّ} (الفجر: 20) الآية - أما ما يذكر في آية (الشيخ والشيخة) ، إلى آخِرِهِ كما في
الصحيح , وأن ذلك كان قرآنًا يُتْلَى , ثم نُسِخَ لفظه كذا قالوا فلا يبعد أن يُقالَ: إن
هذا مما نُسخ لفظُه وحكمه؛ لأن الرجمَ أولُ ما نزل في أول الإسلام , ثم نسخ
بنزول حَدِّ الزاني , وحينئذ قال صلى الله عليه وسلم - في حديث عُبَادة رضي الله
عنه: (خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: الثيّب بالثيّب جلد مائة والرجم) منسوخ - ثم شرع الرجم مرةً أخرى؛ لأنه رجم ماعزًا والغامدية بعد أن قال ذلك. انظر
ذلك في زاد المعاد لشيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله.
ولنعد إلى ما كُنّا بصدده , فنقول: إذا لم يشترط في النسخ المنافاة والمناقضة
بين الناسخ والمنسوخ , وهو يدل عليه كلام عامة السلف , وهو ظاهر القرآن حيث
جعل متعلق النسخ والإنساء - الآية - ولم يخص بذلك حكمها وإذا جاز الإنساء ,
فالنسخ كذلك قال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأعلى: 6، 7)
فلا عيبَ ولا نَقْصَ في نسخ ما شاء , وسواءٌ في ذلك رفع لفظ بلفظ ورفع لفظ
وإبقاء حكمه؛ لِمَا تقدم ولأنه إذا تفضل بالبدل فهو لا شك يبدله بما هو خير منه؛
لأنه إذا وعد بإعطاء أحد خيرين فكرمه وكرامته لرسوله صلى الله عليه وسلم
تقتضي أن يمتن عليه صلى الله عليه وسلم بأفضلها وأكملها؛ {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى: 5) , أو يُقالُ: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة:
106) أي؛ المنسية , والله أعلم بمراده.
فإن قيل: ما الحكمة في رفْع ألفاظ وإبدالها بألفاظ أو رفع لفظ بعد نزوله؟
قلتُ: قد بيّنا ذلك فيما تقدم , ولكن نحن مهما جهدنا فلا نستطيع أن نعلل بأصح
وأحكم مما أجاب الله به منكري النسخ بقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: 106) أيْ: لَمّا كان المنسوخ قبل نسخه مناسبًا للمصلحة ومطابقًا للحكمة ,
فإذا نسخناه لمقتض فإنما هو لنأتي بخير منه؛ أي: أكثر مناسبةً وأشد مطابقةً
للحكمة.
أما ما استدل به حضرة الدكتور، وعلّل به جواز وقوع النسخ حيث قال:
والسبب في وقوعه اختلاف حال المكلفين باختلاف الزمان والمكان , فما يلائم البشر
في زمن طفوليتهم قد لا يلائمهم في زمن كهولتهم أو شيخوختهم , ومَثّل لذلك
باختلاف حالة الإنسان بالصحة والمرض - فهذا التعليل للنسخ إنما أخذه حضرته
عن المتكلمين الذين ادَّعَوْا لأنفسهم الكمالَ فوقَ كلِّ أحدٍ حتى إنهم قد يدعون لأنفسهم
أنهم يعرفون من الدين ما لم يعرفه السلف , وأنهم قد يصلحون منه ما يزعم بعضهم
أنه ناقصٌ منه , وما درى المساكين أن النقص وصفهم اللازم الذاتي , ولله دَرُّ
الشاعر:
وكم من عائب قولاً صحيحًا ... وآفته من الفهم السقيم
ولو كان لا يكون النسخ في الشرائع إلا إذا صار المنسوخ بمنزلة ما لا يلائم
حالة البشر , بحيث يكون نسبته إليهم كنسبة ما لا يناسب حالة المريض لَكان ذلك
- أي النسخ - لا يكون إلا بعد إحراجهم غايةَ الإحراج , بحيث يكونون قد عانوا ما
قرب أن يكون خرج عن حدّ استطاعتهم , وهذا لا يجوز مِن واسع الرحمةِ , فكيف
يستقيم قول حضرة الدكتور؟
قدمنا ذلك لِنعلمَ أن النسخ لِمقتض أو لحكمة لا عيبَ فيه عند العقل , إلخ؛ لأنه
يفهم منه أن إبقاء التكليف وعدم النسخ والحالة هذه جائز عقلاً وشرعًا , والذي يُقال:
إن تأخير النسخ إلى تلك الحالة ممتنع عقلاً وشرعًا؛ لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) والنسخ شرعًا هو الذي دلّ القرآن دلالة
الكريم عليه , وهو تبديل ذي الخير مما أوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بما
هو أكثر خيرًا منه - وهو من باب التوسيع فيما كثرت فوائده , وعمّت عوائده ,
وفيه تنبيه هذه الأمة لِفتح أبواب المعارف والرقي إلى مدارج الكمال والاستعداد لِكل
ما عسى أن ينجمَ من خير يقدم أو بلاء يهجم.
فما ذكره حضرة الدكتور من الحكمة في النسخ ليس هو حكمته؛ نعم هو يقرب
ويضارع مَا نَصَبَهُ الشارع مسوغًا للترخيص في المحكم؛ لأنه ألزمَ عِباده بامتثال ما
شرَعَه محكمًا بشروط وأسباب ما لم تعارض ذلك موانع ومرخصات , فإذا عرض
مانع أو مرخص فقد رفع عن العِباد الإثم , وجاز لهم فعل أو ترك ما اقتضاه الحال ,
وبذلك قد ينقلب الواجب محرمًا , والمحرم واجبًا أو جائزًا في حقّ مَن قامَ بِه مانع ,
والحكم يختلف باختلاف المكلف , وتارةً يعتبر مع ذلك المكان , وتارةً الزمان , وقد
يختلف الحكم بالنسبة إلى شخص أو أشخاص باختلاف حال ما احْتَفّ به من البشر،
وبحاله من صغر وكبر، وإقامة وسفر، وضعف وقوة، وأمن وخوف، وقد
يختلف بالمواسم تبعًا للضرورات، أو توقعها ولو ظنًّا في بعض الحالات،
وللضرورات أحكام تخصها؛ ولهذا صحّ المثل: (عند الضرورات تباح
المحظورات) قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة:
173) , وأَلْحِقْ بذلك ما صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (رُفِعَ عن أمتي
الخطأُ والنسيانُ , وما استُكْرِهوا عليه) .
فاختلاف الحكم باختلاف حال المكلف أو المكلفين - بحيث لا يبقى ملائمًا
لطبائعهم بأن تكون نسبته إليهم كنسبة ما لا يلائم حالة المريض - لا يصلح أن يكون
علة النسخ وحكمته كما عرفت بل باقٍ ومعتبر للترخيص في الشريعة المحكمة
الثابتة الباقية؛ فكيف يجعل مناطًا وسببًا للنسخ وقت التشريع لا سِيَّمَا , وقد نص
الله في كتابه على سبب النسخِ كما قد قدمنا ذلك.
ومن تأمل وأمعن النظرَ فيما ذكرناه اتَّضَحَ له الحقُّ , وَعرف مَنْشَأَ الغَلط الذي
ارتكبه كثيرٌ من جهابذة النقاد والنظار في استبعاد جواز النسخ والتردد فيه , وعرف
أن منشأه ما أصلوه واصطلحوا عليه مما أوجب لهم الحيرة (وعلى نَفْسِها جَنَتْ
براقشُ) وما ضيقوه مما وسعه الله فعليهم (لا علينا) .
وبما ذكرناه من التيسير والتوسعة في هذا الدِّين تظهرُ بعض حكمة بقاءِ هذا
الدين إلى آخِرِ الأبد , ولزوم أنه دين عامة البشر وأنه وحي يُوحَى، ولا يأتيه الباطلُ
من بين يديه ولا مِن خَلْفِه شرع على لسان من لا ينطق عن الهوى. اللهم أحينا عليه
وبه , وأَمِتْنَا متمسكين به يا أرحمَ الراحمين.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(11/214)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجامعة المصرية
وهبة حسن بك زايد
نام مشروع هذه المدرسة زمنًا طويلاً , وشغل الناس عنها ما أصيبت به البلاد
من العسرة المالية. ثم اختير للجنة التأسيس الأمير أحمد فؤاد باشا رئيسًا عاملاً فجد
واجتهد مع اللجنة، فهبّ المشروع من نومه حتى تقرر أن تفتح أبواب الجامعة في
أواخر هذا العام لتدريس آداب اللغات العربية والإنكليزية والفرنسية , وتاريخ مدنية
الإسلام.
وكان إحياء هذا العمل بأمرين لولاهما ما تيسر الشروع فيه:
(أحدهما) أمر الأمير بأن يخصص للجامعة خمسة آلاف جنيهٍ كلَّ سنةٍ مِن
الأوقاف الخيرية.
(ثانيهما) تبرع حسن بك زايد من أهل الثراء في مديرية المنوفية بوقف
خمسين فدانًا وكسور من أطيانه الجيدة على الجامعة.
وقد احتفل في السادس عَشَرَ من هذا الشهر بتلاوة الوقفية في داره ببلده ,
فأجاب الدعوة إلى هذا الاحتفال كثير من الوجهاء وأصحاب الصحف العربية
والإفرنجية , يتقدمهم الأمير أحمد فؤاد وأعضاء لجنة الجامعة.
وبعد أن افتتحت الحفلة بتلاوة آيات من القرآن الكريم تلا حسين رشدي باشا
مدير الأوقاف خُطْبة للأمير فؤاد باشا رئيس لجنة الجامعة بالنيابة عنه , وهي
تتضمن الثناء على حسن بك زايد , وبيان أن الجامعة صارت قادرة بعد هبته هذه
على الظهور في عالم الوجود.
ثم تلا حفني بك ناصف ناموس لجنة الجامعة (سكرتيرها) الوقفية. وقام من
بعده الدكتور علوي باشا فألقى خطبة في تقدم الأمم بالعلم والحثّ على التبرع للجامعة.
ولا غَرْوَ؛ فقد كان الدكتور ممن اكتتب لها بألف جنيهٍ , فهو ما قال إلا وقد فعل.
ثم قام من بعده قاسم بك أمين نائب رئيس اللجنة العامل , وألقى خطبة نفيسة
أودعها من الفوائد الاجتماعية ما يقتضيه المقام، وما يناسب الحال العامة بمصر في
هذه الأيام، ولعلها آخِر ما دونه بقلمه من المنشآت الجميلة , فقد وافته منيته بعدها
بأيام معدودات، وإننا ننشرها لِمَا فيها من الفائدة وهذا نصها:
أيها السادة , في هذه الأيام [1] التي كثرت فيها الاكتتابات للجمعيات الخيرية
والمكاتب والمستشفيات وغير ذلك , ولا يمد يديه لمساعدتها , وتحمل جزء من
مغارمها إلا عدد قليل من سكان العاصمة , أرى أن عمد البلاد , وأعيان الأقاليم
هؤلاء الذين يصحّ أن أسميهم منكوبي المشروعات الخيرية هم أحسن أبناء وطننا،
ويستحقون ثناء الأُمّة وإعجابها.
وفي الحقيقة أن كل مشروع قام به الأفراد في بلادنا كان الفضل في نجاحه
راجعًا على الأكثر إلى سكان الأرياف؛ فإنهم وُهبوا من الحياء الطبيعي ما يجعلهم
يخجلون من رفض أي مساعدة تُطْلَب منهم , وعندهم من كرم الأخلاق ما يدفعهم إلى
بذل المال حتى إذا لم يكن في حيازتهم لتعضيد الأعمال النافعة.
طبيعة شريفة، وكرم جميل، وسهولة أخلاق محبوبة , ولكن أستسمحكم إذا
قلتُ: إن هذه الصفات كانت تفيد أكثر مما أفادت لو كانت الإدارة التي تديرها أكثر
اعتدالاً في حركتها , وأكثر تمييزًا في تأدية وظيفتها , وإذا أردت التوسع أقول:
إن أهل البِرّ في بلادنا على العموم لا يعرفون كيف يصرفون أموالهم.
أيها السادة. إن عمل الخير حسن على كل حال , ولكن أحسن منه وَضْع
الخير في محله.
لو كان المحسنون يوجهون إرادتهم إلى إحياء أُمّتهم وتعظيم وطنهم أكثر من
اهتمامهم بشراء الزهور , وتشييد القبور وإضاءة الأضرحة - لو كانوا يجودون
للأعمال بنسبة الخير المنتظر منها لكانت الجامعة المصرية اليوم كأمثالها في البلاد
الأخرى , أغنى جمعية في هذا القطر. ولكنها أفقرها جميعًا.
من التبرعات الجسيمة التي تحصل سنويًّا في هذا القطر على شكل هِبَة أو
وَقْف من كل هذا المال الذي يصرف في وجوه قليلة النفع أو غير نافعة - كان
نصيب الجامعة شيئًا قليلاً لا يُذْكر.
ولولا أنَّ عناية الجناب الخديوي أدركتها ومنحتها مرتبًا سنويًّا قدره خمسة آلاف
جنيهٍ لَرَأَيْنَا في هذا العصر - الذي تعده الجرائد والخطباء والشعراء مبدأ النهضة
الوطنية، وتتغنى فيه بمدح الشعور الوطني على نغمة تطرب السامعين وتفتح قلوبهم
وجيوبهم أيضاً - في هذا العصر الذي نريد أن نجعله حدًّا فاصلاً بين ماضينا
ومستقبلنا , ونطلب أن تتحقق فيه أمانينا العزيزة - في هذا العصر لولا أن أدركتها
هذه العناية العظيمة لرأينا شيئًا محزنًا مخجلاً , وهو أن أنفع مشروع ظهر في مصر
وُلِدَ فيها مَيِّتًا.
ولكي يكون الاعتراف بالحق تامًّا لا أستطيع أن أمنع نفسي من التصريح
بشيء يجتهد دائمًا دولة الأمير الذي يرأس هذه الحفلة أن يخفيه لشدة تواضعه , وهو
أنه من اليوم الذي قَبِلَ فيه أن يشرف لجنة إدارة الجامعة برئاسته لها , وصار في
مقدمة العاملين فيها تحققنا أن النجاح صار مضمونًا.
أيها السادة , إن الوطنية الصحيحة لا تتكلم كثيرًا , ولا تعلن عن نفسها.
عاش آباؤنا وعملوا على قدر طاقتهم , وخدموا بلادهم وحاربوا الأمم , وفتحوا
البلاد , ولم نسمع أنهم كانوا يفتخرون بحب وطنهم فيحسن بنا أن نقتدي بهم ,
ونهجرَ القول ونعتمدَ على العمل.
إذا أردنا أن ننفع بلادنا ينبغي علينا قبل كل شيء أن ننظر إلى أنفسنا ,
ونعرف قيمتنا , ونزن قوتنا , وندرس أسباب تأخرنا , ثم نسعى ونعمل لتحسين
حالنا.
يجب علينا أن نفهم أن مسألتنا الاجتماعية ليست شيئًا وُجِد بالصدفة أو يتغير
بمعجزة , بل إنها كسائر القضايا العلمية مسألة تحليل وتركيب , وإن لتكوين ونمو
الجمعيات الإنسانية أسبابًا عديدةً ترتبط بالدين والشرائع والأخلاق والإقليم والجنس
واللغة وطرق التربية؛ فتغيير الحال الاجتماعية إنما يكون بتغيير الأسباب التي
اشتركت في تكوينها.
فكل ما يكتب ويقال في هذا الموضوع هو خير مبارك منتج، وما عداه فهو تعب
ضائع.
أيها السادة: إن من أهم أسباب انحطاط الأمم وارتقائها طرق التعليم والتربية,
وإذا نظرنا إلى ما يجري عندنا وجدنا أن التعليم الموجود الآن لا يصلح إلا لإعداد
موظفين أو أصحاب فنّ , يحترفون به للقيام بحاجات الحياة التي لا يستغنى عنها
كالطب والهندسة والمحاماة , وهذا التعليم يوزع في مدارسنا على الطلبة بمقدار
معلوم , لا يزيد عن الغاية التي وُضِع لأجلها.
تلك هي خطة الحكومة في التعليم وقد حذا حذوها أصحاب المدارس
الخصوصية , والحكومة تعترف بأن هذا القدر من التعليم غيرُ كافٍ , ولكنها
اضطرت إلى عدم التوسع فيه للأسباب التي شرحتها في تقاريرها العديدة , وأهمها
كما تعلمون هي مسألة المال.
وفي الحقيقة , أنه لا توجد حكومة في العالم تستطيع أن تتولى بنفسها أمر
التعليم العام بجميع فروعه ودرجاته , وإذا نظرنا إلى ما يجري في البلاد المتمدنة
نجد أن القسم الأعظم من التعليم في يد جمعيات علمية هي المؤسسة والمديرة لنظامه ,
وأن عمل الحكومة فيها محصور في تعضيدها ومساعدتها على قدر الإمكان.
هذا هو الذي حمل الحكومة المصرية على استنهاض همة الأهالي لنشر التعليم
الابتدائي , وهذا ما دعانا أيضًا إلى أن نطلب من أبناء وطننا أن يفكروا في نشر
التعليم العالي , وأن يبذلوا ما في وسعهم في سبيله ليكمل نظام التعليم في بلادنا ,
ويصبح وافيًا بجميع حاجات الأمة.
أيها السادة , نحن لا يمكننا أن نكتفي الآن بأن يكون طلب العلم في مصر
وسيلة لمزاولة صناعة , أو للالتحاق بوظيفة؛ بل نطمع أن نرى بين أبناء وطننا
طائفةً تطلب العلوم حُبًّا للحقيقة وشوقًا إلى اكتشاف المجهول. فئة يكون مبدؤها
التعلم للتعلم.
نوَدُّ أن نرى من أبناء مصر كما نرى في البلاد الأخرى عالمًا يحيط
بكل العلم الإنساني , واختصاصيًّا أتقن فرعًا مخصوصًا من العلم , ووقف نفسه
على الإلمام بجميع ما يتعلق به , وفليسوفًا اكتسب شهرة عامة وكاتبا ذاع صيته
في العالم، وعالما يرجع إليه في حل المشكلات، ويحتج برأيه. أمثال هؤلاء هم قادة
الرأي العام عند الأمم الأخرى والمرشدون إلى طرق نجاحها والمديرون لِحركة
تقدمها , فإذا عدمتهم أمة حلّ محلهم الناصحون الجاهلون والمرشدون الدّجّالون.
أيها السادة , إذا نظرنا إلى طائفة المتعلمين في مصر , وهم متخرجو المدارس
نجد أنهم يعملون على مبدأ (اكسب كثيرًا واتعب قليلاً) ولا نجد فيهم العالم المحب
لعلمه أو فنه , والعاشق الذي تحتل شهوة العمل في قلبه , وتتمدن فيه وتملؤه برمته ,
ولا تقبل منافسًا أو منازعًا أو شريكًا أو ضيفًا بجانبها. وإنما نجد أفرادًا قليلين جدًّا
يصرفون وقتًا قصيرًا من حين إلى حين لتكميل معارفهم , ولكنهم مجردون عن تلك
الحمية تلك النار التي تشعل القلب والشعور , والتي بدونها لا تبحث النفس عن
تجديد العمل , ولا تطلب الارتقاء إلى المراتب السامية.
ألا يظهر لكم مثلي أن الارتقاء في الإنسان تابع على الخصوص لإحساسه ,
وأن أكثر الناس استعدادًا للكمال هم أصحاب الإحساس الذين تهتز أعصابهم المتوترة
بملامسة الحوادث , وتبلغ منهم الانفعالات النفسية مبلغًا عظيمًا , فيظهر أثرها فيهم
بكثرة وشدة.
أولئك هم السعداء الأشقياء الذين يتمتعون ويتألمون أولئك هم السابقون في
ميدان الحياة , تراهم في الصف الأول مخاطرين بأنفسهم يتنافسون في مصادمة
كل صعوبة. من بينهم تنتخب القدرة الحكيمة خيرهم وتوحي إليه أسرارها , فيصير
شاعرًا بليغًا , أو عالِمًا حكيمًا , أو وليًّا طاهرًا , أو نبيًا كريمًا.
أيها السادة , إن عدم استعداد طلبة العلم لحب العلم لذاته هو عيب عظيم فينا ,
يجب أن نفكر في إزالته , وهو نتيجة من نتائج التربية المنزلية التي غفلت عن
تربية إحساسنا، وأهملت تربية قلوبنا وشعورنا؛ فأصبحنا مادّيين , لا نهتم إلا بالنتائج
في جميع أمورنا حتى في الأشياء التي بطبيعتها يجب أن تكون بعيدة عن الفوائد
كعلاقات الأقارب والأصحاب. وليس من المنتظر أن تتغير أخلاقنا من هذه الجهة
تغييرًا محسوسًا إلا إذا تم إصلاح العائلة المصرية.
هل يجوز أن يؤخذ من اعترافنا هذا أننا نخشى أن الجامعة المصرية إذا فتحت
أبوابها لا تجد طلابًا للعلم؟ سمعت هذا الاعتراض , واعتقادي التام أنه وَهْم باطلٌ.
نحن إذا كنا نأسف لِعدم بلوغ حب التعلم الدرجة التي نتمناها له , فليس معنى ذلك
أنه مفقود في بلادنا.
حبُّ التعلم موجود، ووجد في بلادنا من قديم الزمان , ولا يزول عن أرضنا أبدًا! وتاريخ مصر الحديث يثبت بأقوى البراهين أن حب التعليم كان ولا يزال ينمو في نفوس أُمَّتنا من عهد المرحوم محمد علي باشا إلى الآن.
ولي أمل عظيم أن إنشاء الجامعة المصرية يكون سببًا في ظهور شبيبة هذا
الجيل , وما يليه على أحسن مثال. وما حالة القلق والاضطراب التي نلاحظها فيها
الآن إلا إنذار مطمن , يدلنا على أنها مملوءة بقوة عظيمة تطلب ميدانًا تتصرف فيه ,
لتتمتع بالتوازن الملازم لصحتها.
هذا هو البناء الفخيم الذي نحب أن الأمة المصرية تشيده بيدها ليبقى أثرًا خالدًا
في هذا القطر، وشاهدًا على حسن استعدادها للنمو العقلي والرقي الأدبي , فكل من
وضع حَجَرًا في هذا البناء يخدم أمته أجل خدمة. فشُكرًا للسابقين، وشُكرًا لِلاَّحقين
في هذا العمل الصالح.
وإني أرى في الصف الأول من صفوف المحسنين المتبصرين الذين يعرفون
كيف يصرفون أموالهم في سبيل الخير رجلين قاما بما يجب عليهما , وهما حضرة
أحمد بك الشريف وصاحب هذه الدار الكريمة. اهـ
__________
(1) الظرف متعلق بقوله: (أرى أن عمد البلاد) إلخ , وقوله: (ولا يمد يديه) إلخ , اعتراض , ويوشك أن يكون في الكلام تحريف.(11/220)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مصاب مصر بقاسم بك أمين
يموت كل يوم خلْق كثير , فيخلفهم مثلهم , فتمسي الأمة وتصبح وكأنها لم تفقد
أحدًا. ولكن في الناس أفرادًا امتازوا بالمزايا النادرة في قومهم , فأولئك إذا مات
الواحد منهم يشعر أهل البصيرة من أُمّتهم بأنهم فقدوا من لا يقوم مقامه غيره , ولا
يعمل عمله سواه. ومن هؤلاء الأفراد من فقدته مصر اليوم ألا وهو قاسم بك أمين
القاضي بمحكمة الاستئناف الأهلية , ونائب رئيس إنشاء الجامعة المصرية , ومؤلف
كتابي (تحرير المرأة) و (المرأة الجديدة) اغتالته المنية فجأةً (في 21 من
هذا الشهر) فلم تنذره بمرض ولا سَقَم , بل لم تنذر عقلاء البلاد ليعدوا لهذا
الخطب عُدَّته، ويأخذوا للمصاب أُهْبَته بتوطين النفس على الصبر، وتوجيه قواها
إلى الجَلَد والتجلد.
امتاز قاسم بك أمين بمعظم المزايا التي تعوز المصريين في سبيل الحياة
الاستقلالية التي ولوا وجوههم شطرها.
امتاز باستقلال الفكر , وجودة الرأي , وصفاء الذهن , وَسَعَة الخيال , وقوة
الإرادة , والعدل في الحُكْم , والوفاء في الصداقة , والإخلاص للبلاد , وكان مع هذا
من علماء الحقوق والأخلاق والاجتماع والفلسفة العقلية , وقد وجَّه هِمّته في السنين
الأخيرة إلى فرع من فروع هذه العلوم وهو ترقية البيوت (العائلات) بتعليم النساء
وتهذيبهن , فلم يكتفِ بكتابيه فيه , بل جعله همه الأكبر إلى أن وافته منيته ولسانه
رطب بذكر تهذيب النساء وتمدينهن , وتمني مشاركة الفتيات المصريات للفتيان في
محافل العلم والأدب. قال ذلك في خُطْبَة فرنسية أَلْقاها في نادي المدارس العليا قبل
وَفَاته بساعة أو ساعتين.
كان قاسم بك أمين يعد في استقلاله وفي الحرص على ترقية بلاده من طبقة
يُعَدّ رجالُها على الأنامل , وهم أصدقاء بعضُهم لبعض، مات إمامهم وكبيرهم فَكَرَّ
أكثرهم على أثره. مات الأستاذ الإمام فتلاه صديقه علي بك فخري أحد أركان
النهضة الوطنية العاملين في ترقية القضاء والمحاكم الأهلية , فحسن باشا عاصم
المصلح في القضاء وفي المعية وقطب إدارة الجمعية الخيرية الإسلامية , فحسن
باشا عبد الرازق الذي كان في مجلس الشورى هو الثنيان، بعد البدء الذي هو
الأستاذ الإمام، وهذا قاسم بك أمين خامسهم فلا غَرْوَ إذا تفاقم بالرزيئة به الخطب،
وعظم على البلاد الكرب، فإنه كاد يتحقق به قول الأستاذ الإمام: إن الأمة مصابة
بالعقم وقحط الرجال، فللأمة أن تتمثل اليوم بقول ابن النبيه:
والموت نقاد على كفه ... جواهر يختار منها الجياد
فقد كنا نقول: إن هذا البيت من الشعريات، وصرنا نقول اليوم: إنه من
المشاهدات، ولا ننسى أن مصر فقدت أيضًا في هذه المُدّة القليلة الشيخ أحمد أبا
خطوة نابغة الأزهر، وإبراهيم بك اللقاني الذي كاد يكون في آخِرِ عُمُرِهِ منسيًّا
لحيلولة المرض بينه وبين العمل , وهو في مقدمة كتاب مصر وخطبائها ومن أركان
النهضة الجمالية الأولى فيها , وكان كلا الرجلين من أصدقاء الأستاذ الإمام أيضًا فيا
لَلَّهِ ما كان أشأم فقده على هذه البلاد , فقد ذكرني بما تتابع بعده من خيار الرجال قتل
عمر بن الخطاب إذ فتح على المسلمين باب الفتنة في السلطة , فقتل بعده عثمان
وعلي (رضي الله عنهم أجمعين) .
كمل للأستاذ الإمام قوة الفكر والنظر، مع القدرة والمرانة على القول والعمل،
وكان حسن عاصم أقوى في العمل منه (أي: من نفسه) في القول والنظر، وأما
قاسم أمين فكان نظريًّا، أكثر مما كان عمليًّا، فكان يسبح في بَحْرٍ لُِجِّيٍّ من الفكر،
ويطير في جو واسع من الخيال، فيؤلف بين الحكم العقلية، وبين التخيلات
الشعرية، فلهذا كان لمكتوبة من التأثير وقوة الجاذبية، ما جعله في مقدمة كتاب
العربية، على قِلّة اشتغاله بفنونها، وتحصيله لها، وما ذاك إلا أن كلامه يشبهه في
كون روحه أكبر من جسمه، ومعناه يفيض الجمال على صورته، حتى كاد يكون
فكرًا مجردًا، أو خيالاً متوهمًا.
كان قاسم من الهائمين في رياض الجمال المعنوي , فكان ذلك يرفعه أحيانًا عن
عالم المادّة وما فيه النَّصَب واللُّغُوب والمصائب في المال والوَلَد والصديق , فيهون
عليه ما أصابه من ذلك , ويفيض عليه الجَلَد والصبر، ويخيل لي أن لو طال عُمُرُهُ،
وقلّ عَمَلُه، واستراح بالُه، لانتهى أمْرُه بفلسفة عالية تظهر على لسانه، وتفيض
من قلمه، فتروي أرض مصر بالحكم الجليلة، في غلائل من الشعريات الجميلة،
وناهيك بما في اجتماع الحكمة والشعر، من تربية الشعور والفكر.
على أن ما في هذه الطريقة من الخطأ في الحكم قد يعسر انتزاعه ممن تمكن
فيه , فإن الفكر يتحد فيه مع الوجدان، اتحادًا يقل أن يفيد معه البرهان، لذلك كان
لقاسم آراء في فلسفة الأديان، ومستقبل الإنسان، تعد عند المنطقي من الخيالات،
وهو يراها من الحدسيات أو الوجدانيات.
كان فقيد مصر اليوم من أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية الأولين , ولكن
خدمته لها كانت بالرأي لا بالعمل، أما العمل الذي كان يتوق إليه، ويتمنى لو يتيسر
له، فهو أن يؤسس ولو بماله - إن وجد المال - مدرسة لتربية البنات المصريات
على ما يحب ويرى أنه يرقي هذه البلاد.
كان قاسم كَنْزًا مخفيًّا لا يعرفه إلا أصدقاؤه , وكان أول شيء عُرِفَ به في
عالم الأدب ردُّه على الدُّوق دركور فيما كتبه مِن الانتقاد على البيوت بمصر لا سِيَّمَا
مسألة الحجاب وسوء حال النساء المسلمات. كتب الدُّوق في ذلك كتابًا باللغة
الفرنسية , فردّ عليه قاسم باللغة الفرنسية , وقد ذكر لنا غير واحد أن عبارته في
رده كانت كعبارة كُتّاب فرنسا البلغاء. وكان قلمه في ذلك الرد يتدفق غيرةً وحماسةً ,
وقد بين فيه ما للحجاب من الفائدة , وشنع على ما في أوروبا من التبذل والتهتك
وتجارة الأعراض.
وأخبرني قاسم أنه كان يومَ اطلع على ما كتبه الدُّوق دركور غافلاً عن حال
النساء بمصر , فآلمه ذلك النقد والتشنيع , فاندفع إلى الرد بوجدان الغيرة وبعد أن
شفى غيظَه، وأرضى غيرتَه بذلك عاد إلى نفسه وفكّر في الأمر , فرأى أن كثيرًا
من العيوب التي عاب الدُّوق بها البيوت المصرية صحيح في نفسه , فبعثه ذلك
إلى درس هذه المسألة قائلا في نفسه: إنه لا ينفعنا إذا كان العيب فينا أن نرد على
مَن يعيبنا ونبحث عن عيوب قومه , وإنما يجب علينا أن نبحث عن عيبنا ,
فنعرِفه ونسعى في إزالته.
وطَفِقَ يبحثُ ويسأل ويفكر في حال البيوت بمصر , ويقرأ ما كتب الإفرنج
في شأن النساء , وانتهى به البحث والتنقيب إلى تصنيف (كتاب تحرير المرأة)
الذي هَزّ مصر هزةً شديدةً , وشغل جرائدها في تقريظه ونقده زمنًا طويلاً , وبعث
همة غير واحد من حملة العمائم والطرابيش جميعًا إلى التصنيف في الردّ عليه ,
وبذلك طارَ صيت قاسم بك أمين في الآفاق وعُرِفَ اسمُه في الشرق والغرب , وعُدَّ
من المصلحين الاجتماعيين.
ثم ألف كتابه (المرأة الجديدة) لتعزيز رأيه , وتفنيد آراء خصومه , فكان
دون كتاب تحرير المرأة مادةً وفائدةً وتحريرًا وتأثيرًا على أنه فوقه صراحةً في
المقصد وحريةً في القول المخالف لرأي الجمهور وميله.
وقد تولى في السنتين الأخيرتين من عُمُرِهِ الاشتغال بتأسيس (الجامعة
المصرية) فلم يدخر وسعًا، ولم يأْلُ جهدًا، وكان مَناطَ الأمل في إنجاح هذا
العمل، وأي مصاب ترزأ به البلاد أشد من فقد رجالها عندما يتم استعدادهم، ويكمل
رشادهم، وتعرف الناس قيمتهم، ويشرعون في الأعمال الكبيرة التي يرجى
نهوضهم بها، وينتظر نجاحهم فيها؟ فهذا ما ضاعف الحزن على فقيد مصر اليوم.
حزن العقلاء على قاسم لذاته , وما تحلّتْ به ذاته من المزايا العالية،
وضاعف حزنهم عليه أن كان مصاب البلاد به قريب العهد بمصابها بأصدقائه من
رجال الاستقلال، وما يرقي الأمة من الأعمال، وضاعفه مرةً أخرى أن كان في
الوقت الذي بدأ فيه بعمل عظيم، وأنشأت النابتة تعرف من فضله ما يعرف الكهول
والشيوخ من أهل المعرفة والفضل.
يموت الرجل فيبكيه الأهل ويندبه النساء , ولكن قاسمًا أبكى عظماء الرجال
وأقدرهم على التجلد والاحتمال، وندبه مثل سعد باشا زغلول وفتحي باشا زغلول ,
وإنما أرادا أن يؤبناه , فكان تأبينهما ندبًا وتعدادًا، وبكاء ونشيجًا، أبكى معهما جميع
من بلغ القبر من المشيعين، وذلك ما لم يعهد لسواه من الميتين.
وجملة القول فيه أنه يصدق عليه ما قاله هو في تأبين الأستاذ الإمام من أنه لا
يوجد في الأمة من يملأ الفراغ الذي كان يشغله، فرحمه الله تعالى رحمةً واسعةً ,
وأحسن عزاء أهله وأصدقائه ووطنه فيه.
__________(11/226)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مصافحة السوريين للمصريين
يوجد في مصر الأوربي من إنكليزي وفرنسي , إلخ والأمريكي والهندي
والفارسي والأرمني , والمغربي من تونسي , وجزائري , ومراكشي , والعثماني
من تركي , وكردي , وعربي , ومِن العرب: الحضرمي, واليمني , والحجازي ,
والعراقي , والسوري. ولم نَرَ صنفًا ممن ذكرنا وممن لم نذكر من الأصناف أقرب
إلى المصري من السوري , فهو جار له في بلاده , وموافق له في لغته وأكثر
عاداته مع كونه عثمانيًّا مثله , ولكننا على هذا كله لم نَرَ المصري في مناظرة أو
منافسة مع صِنْف من أصناف البشر الذين تضمهم بلاد مصر إلا مع السوري فما هو
سبب ذلك؟
يرى من دقق النظر أن السبب في هذا هو ذلك القرب نفسه , فإن السوري لما
كان صنوًا للمصري امتزج به امتزاج الماء بالراح , وشاركه في عامة شئونه من
مأكله ومشربه ولهوه وجدِّهِ وهزْلِه , فما من سوري في هذا القطر إلا وله من
الأصدقاء المصريين مثل ما له من السوريين، أو أكثر. ومن طبيعة المنافسة أن
تكون بين الخلطاء ما لا تكون بين البعداء، فالأفراد ينافسون إخوتهم وأقاربهم
وجيرانهم , وأهل البلد ينافسون أقرب البلاد إليهم , وكذلك أهل المديريات فأهل
الأقطار فأهل الممالك.
قد كانت المنافسة الأولى بين المصريين والسوريين في أعمال الحكومة , ثم
ضعفت أو تلاشت , وخلفتها المنافسة في الصحافة أو السياسة. كانت بين المقطم
والمؤيد , ثم بين المقطم واللواء. وحقيقة هذه المنافسة أنها منافسة أفراد لا أصناف؛
إذ رأي المقطم في السياسة ليس هو رأي السوريين , وإنما هو رأي أصحابه وأول
من قارعهم فيه صاحب جريدة الأهرام من السوريين.
ولكن اللواء كان يرد عليهم من حيث إنهم سوريون ودخلاء , فكان ذلك من قبيل
تعليق الحكم بالمشتق وهو كما قال علماء الأصول يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق.
أعني أن رد اللواء على أصحاب المقطم من حيث هم منسوبون إلى سوريا ودخلاء
في مصر يفيد أن علة ما يرميهم به من خيانة مصر هو كونهم سوريين. فلو كان
الأمر كما يدعي - وهو ليس كذلك - لكان كل سوري خائنًا لمصر , أو لَكَان
مجموع السوريين كذلك. وهذا باطل؛ لأنه مبني على أصل باطل , ولكنه
سرى في أوهام كثير من الناس لا سِيَّمَا الأغرار.
وهذا ما عناه حافظ بقوله:
لولا أناس تغالوا في سياستهم ... منا ومنهم لما لمنا ولا عتبوا
ونحمَدُ الله أن كلاًّ من المقطم واللواء اللذين يعنيهما حافظ قد رجع - مع إصراره على أنه كان حسن النية - عن الخطة التي كانت تعد غُلوًّا , وكادت تجعل المنافسة بين جريدتين سببًا للتعادي بين شعبين كل منهما صنو للآخر وشريك له في كل مقومات الحياة حتى أوشك أن يصدق في ذلك ما قيل من أن سوء التفاهم كثيرًا ما يكون أضر من سوء القصد.
لقد حسن في هذه الفرصة ما قام به سليم أفندي سركيس من تأليف جمعية من
خيار السوريين علمًا وأدبًا , وجمع طائفة من النقود منهم ومن غيرهم من السوريين
بالاكتتاب؛ لأجل دعوة جماعة من خيار المصريين علمًا وأدبًا إلى الاحتفال باسم
السوريين لإكرام حافظ أفندي إبراهيم الشاعر المصري الشهير.
ولما كان الغرض من هذه الحفلة موادة السوريين للمصريين كانت الخُطَب
والقصائد التي أشرنا إليها في الجزء الماضي ممثلة لذلك أحسن تمثيل , وقد وقع ذلك
موقعه الذي يستحقه؛ فأثنت الصحافة المصرية كلها كالصحف السورية على سليم
أفندي سركيس , وأيدت الغرض من الاحتفال بالكَلِم الطيب في التأليف بين
العنصرين اللذين هما بمنزلة الأخوين.
__________(11/230)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تصحيح غلط
في السطر 16 من ص 124 (وعن) محله قبل كلمة (غمغمة) بينها وبين
الواو , فتصير (وعن غمغمة) قضاعة (إلخ , وفي السطر الخامس من ص 125
من الجزء الماضي (عدوه غريبًا) , وقد سقط من قبلها هذه الجملة (عدوه فصيحًا ,
وما كان قليل الدوران على ألسنتهم) . وفي هذا الجزء أغلاط مطبعية أخرى مدركة
ككلمة (محمده) في س17 ص93 وصوابه (محمد عبده) , ومنها كلمة (إذا) في
س3 ص101 وصوابها (إذ) .
__________(11/231)
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
__________
خديجة أم المؤمنين
(2)
الفصل الرابع
(مقام النساء في قوم خديجة)
تلك كانت أحوال قوم خديجة في نظام اجتماعهم ذلك , ولم يكن مقام المرأة فيهم
مقامًا مهينًا، بل كان لها لديهم مقام كريم، وجلّ ما عرف عنهم من انحطاط مقام
المرأة أنهم كانوا يكرهون البنات , وأنهم كانوا يَئِدونهن؛ أي: يدفنونهن في التراب
وهنّ على الحياة {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًا وَهُوَ كَظِيمٌ *
يَتَوَارَى مِنَ القَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ
مَا يَحْكُمُونَ} (النحل: 58-59) .
هذا ما عُرِفَ عنهم ومَن أخذ هذا الأمر على ظاهره وإطلاقه يستخف بهؤلاء
القوم؛ لأن انحطاط قيمة المرأة ومقامها عندهم دليلٌ على انحطاطهم , ولكن أخذ
الأمر على ظاهره وإطلاقه ليس من شأن الذين يحبّون معرفة الحقائق.
إن كل بلد فيها الفقراء وذَوُو اليسار، وفيها الحمقى وأُولُو الألباب، وفيها القساة
وأهل المَرْحَمَة. فليس من العقل ولا العدل أن يجعل عمل بعض الحمقى أو القساة
أو الفقراء في بلد مثالاً ومرآةً لأعمال مجموع أهل البلد.
كان في مكة فقراءُ وحَمْقى وقساة كما هو الحال في سائر البلاد , وكان أناس
قليلون من هذه الأصناف يأتون هذا العمل الفظيع؛ نَعْنِي الوأْدَ (دَفْنُ البنات في
الحياة في سِنّ الطفولة) فلا ينبغي أن يُقال بدون تقييد: إن القوم الذين نشأَتْ منهم
سيدتنا هذه كانوا يَئِدون البنات.
إن قومًا نبغَتْ فيهم مثل هذه السيدة لا يُعقل أن يكونوا قَتَلَةَ بناتٍ؛ كَلاَّ إنهم لم
يكونوا يقتلون الأجساد، ولم يكونوا يقتلون منهن العقول والإرادات، وأما الذي
نقل عنهم فهو عَمَل نَفَرٍ يكادون لا يُذكرون من فقرائهم أو حمقاهم أو قساتهم.
ولم يكن الذين يئدون بناتهم يأتون هذا العمل الفظيع تغيظًا من هذه النسمات
البريئة , أو احتقارًا لجنس المرأة كما يلوح لأول وهْلَة , بل كان يسوقهم إلى ذلك
فساد في الخيال وضعف عظيم في الطبيعة. وإن الخيال الفاسد ليزين المنكر حتى
يظنه صاحبه من المعروف؛ كما يشاهد كل واحد منا كثيرًا.
كان منهم فقراء يزين لهم خيالُهم الفاسد أن فتاتهم إذا ظلّتْ في ميدان الحياة
ربما نالها ضيْم من فقرهم , وربما عجزوا عن أن يكرمنهن بنفقة تساويهن بأَتْرَابهن
من ذوي قرباهن أو جوارهن، فيرون مواراتهن في التراب خيرًا لهن من بقائهن
دون الأتراب.
لا نكرانَ للحق أن هذا لَخيالٌ باطل , ولا سِيَّمَا عند المؤمنين , ولكن هذا
الخيال الباطل لم يوحِ إلى صاحبه أن الفتاة شجرة خبيثة يجب اجتثاثها قبل النمو ,
ويستحسن حرمان الوجود من ثمراتها , وإنما زيّن له سوء عمله هذا من طريق
أخرى هي كرامة فتاته.
يتخيل ذلك المسكين أن فتاته إن عاشت تعيش مثله في غصص تذيب الفؤاد ,
ولو قدَّ من الجلمود، وكرب تسود الوجوه البيض , وتبيض الشعور السود، فيزين
له خيالُه أن يحمي كريمته فِلْذَةَ كَبِدِهِ مِن مثل هذه الحياة التي بلاها فقلاها , وأن يتقي
بألم ساعة عند توديعها وتسليمها إلى الأبد آلام سنين يراها فيها كثيرة النصب قليلة
النصيب , كما يتقي أحدهم بألم الكي آلام سقم مزمن.
وكان منهم حمقى توسوس لهم شياطينُ الخواطر بأن الفتاة ربما وقعتْ في يد
من لا يرعى له ولها حُرْمَة. ولو قضي على كل البشر بمثل هذه الوساوس لآذنت
الدنيا بالانقضاء , ولكن الموجد لم يشأ إلا أن تكون الدنيا على هذا النمط من
الاستمرار , فلذلك لم يوجد لهذه الوساوس سلطانًا على قلوب البشر إلا قليلاً ممن
بلغنا شيء عنهم من هذا القبيل.
ساء ما يزين لهؤلاء الفقراء والحمقى الذين كبر نصيبهم من القسوة مع نصيبهم
من الفقر والحمق , فلو علم المعدم أن اليسار ليس محتكرًا في بيوت معينة وأشخاص
مختصة , وإنما يتاح للعاملين المحسنين مع الظروف المناسبة، وأن قيمة كل امرئ
ما يحسنه، وأن ليس عليه إلا أن يعمل بالمعروف عند قومه، ويصبر قليلاً حتى يتاح
له ما يقوم به شأنه، لَمَا سهلَ عليه أن يقصف بيديه غصنًا منه أنبته الله , ولا لذة
أكبر من تربيته وتنميته.
ولو علم الأحمق أن الفرار من توهم العدو نهاية الجبن وغاية الخذلان، ويثمر
أقصى درجات الخسران لَرَأَى أنه جدير بالبكاء على حظه من ضعف النفس.
وهيهاتَ أن يكون قوم (خديجة) على هذا النمط من ضعف النفوس , وهم
المعروفون بالشجاعة والإقدام. وأَيُّ قوم تطيب لهم الحياة إذا كانوا لا يرون سلامة
حرمهم إلا بإفنائها؟ وأَنَّى يجد الشخص الطمأنينة إذا كان دأبه الهرب، من غير ما
طلب؟
أَمّا إنهم كانوا يكرهون البنات إذا بُشِّرَ أحدُهم بها فلا يستطيع أحدٌ إنكارَه؛ لأن
القرآن المجيد هو الذي سجّلَ هذه الحقيقة التاريخية , وقد سرى هذا إلى نفوسهم من
شدة احتياجهم إلى البنين الذين سيكونون المدافعين في ذلك المجتمع القائم بنفسه قيامَ
المجتمعات الكبيرة.
وليس معناه أن البنت تظلّ طول دهرها مكروهةً , أو أن النساء لا قيمةَ
لهن ولا قَدْرَ عند أولئك القوم. ما ذنْب القوم إذا كان نَفَر من فقرائهم وحمقاهم
قد ضعف نفوسهم , فاستسلموا إلى الاستراحة مما يلذ للكرام التعب فيه؟ وما إجرامهم
إلى الإنسانية من بعْدِ أن يقوم أمجادُهم بافتداء كثير من الفتيات اللاتي تصدى
آباؤهن لِوَأْدِهِن من الفقر؟
إن العرب كافّةً وقريشًا خاصّةً كانوا يعزّون المرأة ولا يهينونها , وقد أَعْطَوُا
النساءَ كلَّ ما لهن من الحقوق في نظر العدل , ولم يَنْسَوْا أن المرأة كالرجل هي
إنسان يحمل دماغًا فيه إدراك , وأن لهذا الإنسان المؤنث نفسًا كنفس ذلك الإنسان
المذكر تغضب وترضى وتنعم وتشقى , فأعطَوْا دماغها ونفسها حقيْهِما.
وقد رَوَوْا لنا أن هندًا بنت عتبة وهي من قوم سيدتنا (خديجة) جاءها أبوها
يشاورها في رجلين من قومها رغبَا الزواجَ بِها , فقالت: صِفْهُمَا لي , فقال: (أما
أحدهما ففي ثروة وَسَعَة من العيش , إنْ تابعتيه تابعكِ، وإن ملتِ عنه حطّ إليكِ،
تحكمين عليه في أهله وماله، وأما الآخر فموسع عليه منظور إليه، في الحَسَب
الحسيب، والرأي الأريب، مدره أرومته، وعز عشيرته، شديد الغيرة، لا ينام
على ضَعَة، ولا يرفع عصاه عن أهله) [1] فقالت: يا أبتِ الأول سيِّد مضياع
للحرة , فما عست أن تلين بعد إبائها، وتضيع تحت جَنَاحه إذا تابعها بعلها فأشِرَتْ،
وخافها أهلها فأمنت، فساء عند ذلك حالها، وقبح عند ذلك دلالها، فإن جاءت
بولد أحمقت، وإن أنجبت فعن خطأ ما أنجبت، فاطوِ ذكر هذا عَنّي ولا تسمه عليّ
بعدُ.
وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة، الحرة العفيفة، وإني لأَخْلاقِ مثل هذا
لموافقة؛ فزوجنيه , فزوجها الثاني , وكان هو أبا سفيان بن حرب فولدت منه
معاوية مؤسس دولة بني أمية الشهيرة , وأحد نجباء العرب ودواهيهم.
فهكذا كان مقام المرأة في قوم سيدتنا (خديجة) لا يفتات أهلها عليها في حقها ,
وهكذا كان رأي ذوات الحِجَى والزكانة منهنَّ.
ولقد كان كثير من نساء العرب يشاركن في السياسة والأمور العمومية. وناهيك
أن الحرب التي ظلت مستعرة نحوًا من أربعين سنةً بين بني ذُِبيان وبني عبس لم
يتفكر في إطفاء نارها إلا امرأةٌ , ولم تتمكن من إطفائها إلا بِما لها من المكانة ,
وحسن الرأي , وذلك أن بيهسة بنت أوس بن حارثة بن لام الطائي لما زوجها أبوها
من الحارث بن عوف المرِّيّ، وأراد أن يدخل عليها قالت: أتتفرغ للنساء والعربُ
يقتُل بعضُها بعضًا؟ تَعْنِي بني عبس وبني ذبيان. فقال لها: ماذا تقولين؟ قالت:
(اخرج إلى هؤلاء القوم فأَصْلِحْ بينهم , ثم ارجعْ إليّ) فخرج وعرض الأمر
لخارجه بن سنان , فاستحسنَ ذلك وقاما كلاهما بهذا الأمر , فمشيا بالصلح , ودفعا
الدِّيات من أموالهم , وحَسْبك مَنِ اشتهرْن مِن العربيات في السياسة منهن اللاَّتِي كُن
من شيعة الإمام علي أيام مناصبة معاوية كسودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية،
وبكارة الهلالية، والزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية، وأم سنان بنت جشمة بن
خرشة المذحجية، وعكرمة بنت الأطرش بن رواحة، ودارمية الحجونية، وأم الخير
بنت الحريش بنت سراقة البارقي. وأروى بنت الحارث بن عبد المطلب
الهاشمية.
وفدتْ سودة على معاوية بعد موت علي , فاستأذنتْ عليه , فأذن لها فَلَمّا دخلت
عليه سلمت سودة , فقال لها: كيف أنت يا ابنة الأشتر؟ قالت: بخير يا أمير
المؤمنين. قال لها: أنت القائلة لأخيك:
شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة ... يوم الطعان وملتقى الأقران
وانصر عليًّا والحسين ورهطه ... واقصد لهند وابنها بهوان
إن الإمام أخا النبي محمد [2] ... علم الهدى ومنارة الإيمان
فقُد الجيوش وسِر أمام لوائه ... قدمًا بأبيض صارم وسنان
قالت: (يا أمير المؤمنين , مات الرأس، وبتر الذنب، فدع عنك تذكار ما قد
نسي) فقال: (هيهات , ليس مثل مقام أخيك ينسى) . قالت: صدقْتَ والله يا
أمير المؤمنين , ما كان أخي خفي المقام، ذليل المكان، ولكن كما قالت الخنساء:
وإن صخرًا لتأتمُّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
وبالله أسألك يا أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيته. قال: قد فعلت فقولي
حاجتك. فقالت: يا أمير المؤمنين (إنك للناس سيّد، ولأمورهم مقلد، والله
سائلك عما افترض عليك من حقنا، ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك، ويبسط
بسلطانك، فيحصدنا حصاد السنبل، ويدوسنا دياس البقر، ويسومنا الخسيسة،
ويسألنا الجليلة، هذا ابن أرطاة قدم بلادي، وقتل رجالي، وأخذ مالي، ولولا
الطاعةُ لَكَان فينا عز ومَنْعَة، فإمَّا عزلتَه فشكرناك، وإمّا لا فعرفناك) فقال
معاوية: (إيايَ تهددين بقومك , والله لقد هممتُ أن أردَّكِ إليه على قِتْب أشرس ,
فينفذ حكمه فيك) فسكتَتْ , ثم قالت:
صلى الإله على روح تضمنه ... قبر فأصبح فيه العدل مدفونًا
قد حالف الحق لا يبغي به ثمنًا ... فصار بالحق والإيمان مقرونًا
قال: ومَن ذلك؟ قالت: علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى، قال: ما أرى
عليك منه أثرًا. قالت: بلى , أتيته يومًا في رجل ولاّه صدقاتنا , فكان بيننا وبينه
ما بين الغث والسمين , فوجدته قائمًا , فانفتل من الصلاة , ثم قال برأفةٍ وتعطفٍ:
ألكِ حاجةٌ؟ فأخبرته خبر الرجل , فبكى , ثم رفع يديه إلى السماء , فقال: (اللهم ,
إني لم آمُرْهم بِظُلْم خلقك، ولا ترْكِ حقِّك) ثم أخرج من جيبه قطعةً من جراب ,
فكتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم
{قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} (يونس: 57) {فَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} (الأعراف: 85) {وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (البقرة: 60) {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} (هود:
86) إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك حتى يأتي مَنْ يقبضه منك , والسلامُ) .
قال معاوية: اكتبوا لها بالإنصاف لها والعدل عليها. فقالت: (ألي خاصَّةً أم
لقومي عامّةً؟) فقال: (ما أنت وغيرك) . قالت: (هي والله الفحشاء واللؤم , إن
كان عدلاً شاملاً , وإلاّ يسعني ما يسع قومي) . قال: (اكتبوا لها بحاجتها) .
ووفدت بكارة الهلالية أيضًا على معاوية بعد موت علي , فدخلت عليه , وكان
بحضرته عمرو بن العاص ومروان وسعيد بن العاصي , فجعلوا يذكرونه بأقوالها
التي قالتها في مشايعة علي ومعاداة معاوية , فقالت: (أنا والله قائلة ما قالوا , وما
خفي عنك مني أكثر) فضحك , وقال: ليس يمنعنا ذلك من برك.
وكتب معاوية إلى عامله بالكوفة أن يوفد إليه الزرقاء ابنة عدي بن قيس
الهمدانية مع ثقة من ذوي محارمها وعِدّة من فرسان قومها , وأن يوسع لها في النفقة ,
فلما وفدت على معاوية قال: مرحبًا , قدمت خير مقدم قدمه وافد كيف حالك؟
فقالت: بخير يا أمير المؤمنين. ثم قال لها: ألستِ الراكبة الجمل الأحمر , والواقفة
بين الصفين تحضين على القتال , وتوقدين الحرب , فما حملكِ على ذلك؟ قالت:
يا أمير المؤمنين (مات الرأس وبتر الذَّنَب، ولا يعود ما ذهب، والدهر ذو غِيَر،
ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر) قال لها: أتحفظين كلامك يومئذ؟
قالت: (لا , والله لا أحفظه) قال: لكني أحفظه؛ وَتَلاَ عليها خُطْبة من خطبها
التي هي في منتهى البلاغة , ثم قال لها: والله يا زرقاء لقد شركت عليًّا في كل دم
سفكه. قالت: (أحسن الله شارتك , وأدام سلامتك، فمثلك يبشر بخير , ويسر
جليسه) قال: (أوَيَسرك ذلك؟) قالت: (نعم , والله) فقال: (والله , لوفاؤكم له
بعد موته، أعجب من حبكم له في حياته، اذكري حاجتك) فقالت: يا أمير
المؤمنين , آليتُ على نفسي أن لا أسأل أميرًا أَعَنْتُ عليه أبدًا. ومثلك من
أعطى من غير مسألة وجاد عن غير طلبة. قال: صدقْتِ. وأمَرَ لها وللذين جاءوا
معها بجوائزَ.
ووفدت عليه أيضًا أم سنان بنت جشمة، وعكرشة بنت الأطرش، ولما حجّ
سأل عن دارمية الحجونية , فجيء بها إليه , فقال لها: (بعثتُ إليكِ لأسألك عَلاَمَ
أحببتِ عليًّا وأبغضتني، وواليته وعاديتني؟ فاستعفته فلم يفعل. فقالت له أحببت
عليًّا على عدْلِه في الرعية، وقسمه بالسوية، وأبغضتك على قتال مَن هو
أولى منك بالأمر، وطلبتك ما ليس لك بالحق، وواليت عليًّا على حبه المساكين،
وإعظامه لأهل الدين، وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك
بالهوى) ثم قال لها: يا هذه , هل رأيت عليًّا؟ قالت (أي , والله) قال: فكيف
رأيته؟ قالت: (رأيته والله لم يفتنه المُلك الذي فتنك , ولم تشغله النعمة التي
شغلتك) قال: فهل سمعتِ كلامه؟ قالت: (نَعَم والله، فكان يجلو القلوب من
العمى كما يجلو الزيت صدأ الطست) . قال: صدقْتِ , فهل لك من حاجةٍ؟
(قالت:) نعم , تعطيني مائة ناقة حمراء (قال: ماذا تصنعين بها؟) قالت:
(أغذو بألبانها الصغار، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح
بها بين العشائر) قال: فإنْ أعطيتك ذلك , فهل أحل عندك محل علي بن أبي
طالب؟ قالت (سبحانَ الله , أوْ دونه) فقال: (أما والله , لو كان عليٌّ حيًّا ما
أعطاك منها شيئًا) قالت: لا والله ولا وبرةً واحدةً من مال المسلمين.
وكذلك وفدت عليه أم الخير بنت حريش من الكوفة , ووفدت عليه أروى
بنت الحارث , وجرى لهما معه حديث من مثل ما تقدم.
فهكذا كان مقام المرأة العربية من أخوات سيدتنا القرشية. وهكذا كان حظهن
من الفصاحة والحصافة، ومبلغهن من المشاركة في الأمور العمومية , والأخذ
بالأسباب، والمشايعة لبعض الأحزاب، وما أَتَيْنَا إلا باليسير توطِئَةً لمعرفة مقام
السيدة خديجة في قومها.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كناية عن اليقظة.
(2) أخوة الدين.(11/232)
ربيع الآخر - 1326هـ
مايو - 1908م(11/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ترجمة القرآن
(س) من الشيخ حسن شاه أفندي أحمد (بروسيا) .
حضرة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا.
نرجو أن تعيروا جانب الالتفات لهذه المسألة المُهِمَّة:
ذكر الفاضل أحمد مدحت أفندي من علماء الترك العثمانيين في كتابه (بشائر
صدق نبوت) ما ترجمته:
إن ترجمة القرآن مسألة مهمة عند المسلمين , وجميع المباحثات التي دارت
بشأن ترجمة هذا الكتاب المجيد لم ترس على نتيجة؛ وذلك لوجوهٍ:
(الأول) أنَّ ترجمته بالتمام غير ممكنة؛ لإعجازه من جهة البلاغة.
(والوجه الثاني) أن فيه كثيرًا من الكلمات لا يُوجد لها مقابلٌ في اللغة التي
يترجم إليها , فيضطر المترجم إلى الإتيان بما يدل عليها مع شيء من التغيير ثم إذا
نقلت هذه الترجمة إلى لغة أخرى يحدث فيها شيء من التغيير أيضًا , وَهَلُمَّ جَرّا ,
فيخشى من هذا أن يفتح طريق لتحريف القرآن وتغييره.
(الوجه الثالث) أن كلمات الكتب السماوية يُسْتخرج منها بعض إشارات
وأحكام بطريق الحساب , فإبدالها بالترجمة يسد هذا الطريق. مثال ذلك أن سعدي
جلبي كتب في حاشيته على البيضاوي عند تفسير سورة الفاتحة أنه إذا أخرجت
الحروف المكررة من سورة الفاتحة التي هي أول القرآن , وسورة الناس التي
هي آخر سوره تكون الحروف الباقية ثلاثةً وعشرين.. قال - وفي ذلك إشارة إلى
مُدّة سني النبوة المحمدية -: (فإذا ترجم القرآن لا يبقى في الترجمة مثل هذه
الفوائد التي هي من جملة معجزاته. انتهى) من بشائر صدق نبوت.
أمّا أدباؤنا معشر الترك الروسيين , فإنهم مصرون على ترجمته , ويقولون:
لا معنى للقول بأنه لا تجوز ترجمة القرآن إلا إيجاب بقائه غير مفهوم؛ فلذا يذهبون
إلى وجوب ترجمته , وهو الآن يترجم في مدينة قزان , وتطبع ترجمته تدريجًا ,
وكذلك تشبث بترجمته إلى اللسان التركي زين العابدين حاجي الباكوي أحد فدائية
القفقاز فنرجو من حضرة الأستاذ التدبر في هذه المسألة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... حرره الإمام الحقير
... ... ... ... ... ... ... ... أحسن شاه أحمد
... ... ... ... ... ... ... ... الكاتب الديني السماوي
(ج) إن من تقصير المسلمين في نشر دينهم أن لا يبينوا معاني القرآن لأهل
كل لغة بلغتهم , ولو بترجمة بعضه لهم لأجل دعوة من ليس من أهله إليه , وإرشاد
من يدخل فيه عند الحاجة بقدر الحاجة. وإن من زلزال المسلمين في دينهم أن
يتفرقوا إلى أمم تكون رابطة كل أُمّة منها جنسية نسبية أو لغوية أو قانونية ,
ويهجروا القرآن المنزل من الله تعالى على خاتم رسله , المعجز بأسلوبه وبلاغته
وهدايته , المُتَعَبّد بتلاوته اكتفاءً بأفرادٍ مِن كل جنس يترجمونه لهم بلغتهم بِحَسَب ما
يفهم المترجم.
هذا الزلزال أَثَر من آثار جهاد أوربا السياسي والمدني للمسلمين. زيّن لنا أن
نتفرق وننقسم إلى أجناس ظانًّا كل جنس مِنا أنّ في ذلك حياته , وما ذلك إلا موت
للجميع. ولا نطيل في هذه المسألة هنا , ولكننا نذكر شيئًا مما يخطر في البال مفاسد
هجْر المسلمين للقرآن المنزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 195) استغناءً
عنه بترجمةٍ أعجميةٍ يغنيهم عنها تفسيرُه بلغتهم , مع المحافظة على نصّه المتواتر
المحفوظ من التحريف والتبديل , مع مراعاة الاختصار؛ فنقول:
(1) إن ترجمة القرآن ترجمةً حرفيةً تطابق الأصل مُتعذّرةً , كما يعلم من
المسائل الآتية , والترجمة المعنوية عبارة عن فهم المترجم للقرآن , أو فهم من عساه
يعتمد هو على فهمه من المفسرين , وحينئذ لا تكون هذه الترجمة هي القرآن وإنما
هي فهم رجل للقرآن، يخطئ في فهمه ويصيب، ولا يحصل بذلك المقصود
المراد من الترجمة بالمعنى الذي ننكره.
(2) إن القرآن هو أساس الدين الإسلامي , بل هو الدين كله؛ إذ السنةُ
ليست دينًا إلا من حيثُ إنها مبينة له. فالذين يأخذون بترجمتِه يكون دينهم ما فهمه
مترجم القرآن لهم , لا نفس القرآن المُنزل من الله على رسوله محمد صلى الله عليه
وسلم. والاجتهاد بالقياس إنما هو فرْعٌ عن النص , والترجمةُ ليست نصًّا من
الشارع، والإجماع عند الجمهور لا بُدَّ أن يكون له مستندٌ , والترجمة ليست
مستندًا. فعلى هذا لا يسلم لِمَنْ يجعلون ترجمةَ القرآن قرآنًا شيء من أصول
الإسلام.
(3) إن القرآن مَنَعَ التقليد في الدين , وشنعَ على المقلدين؛ فأخذ الدِّين من
ترجمة القرآن هو تقليد لمترجمه؛ فهو إذًا خروجٌ عن هداية القرآن لا اتباع لها.
(4) ويلزم من حرمان المقتصرين على هذه الترجمة مما وصف الله به
المؤمنين في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) وأمثالها من الآيات التي تجعل من مزايا المسلم استعمالُ عقْلِه ,
وفَهْمِهِ فيما أنزلَ الله.
(5) وكما يلزم حرمانهم من هذه الصفات العالية , يلزم منعُ الاجتهاد
والاستنباط من عبارة المترجم؛ لأن الاجتهاد فيها مما لا يقول به مسلم.
(6) إن من يعرِف لغةَ القرآن , وما يحتاج إليه في فهمه كالسُّنَّة النبوية ,
وتاريخ الجيل الأول الذي ظهر فيه الإسلام يكون مأجورًا بالعمل بما يفهمه من
القرآن , وإن أخطأ في فهمه؛ لأنه بذل جهده في الاهتداء بما أنزله الله هداية له. كما
يعلم ذلك من معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه فيما فهموه من كيفية التيمم إذ
عذر المختلفين في فهمها والعمل بها , ومثله معاملته لهم فيما فهموه من نهيه
عن صلاة العصر إلا في قريظة ولذلك شواهدُ أخرى. ولا إخالُ مسلمًا يجعل
لعبارة مترجم القرآن هذه المزية.
(7) إن القرآن ينبوع للهداية والمعارف الإلهية لا تَخْلُقُ جِدَتُهُ، ولا تفتأ
تتجدد هدايتُه، وتفيض للقارئ على حَسَبِ استعداده حكمته، فربما ظهر للمتأخر من
حكمه وأسراره ما لم يظهر لمن قبله تصديقًا لعموم حديث (فرب مبلَّغ أوعى من
سامع) وترجمته تبطل هذه المَزِيّة؛ إذ تقيد القارئ بالمعنى الذي صوره المترجم
بحسب فهمه. مثال ذلك إن المترجم قد يجعل قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر: 22) من المجاز بالاستعارة؛ أي: إن اتصال الريح بالسحاب ,
وحدوث المطر عَقِب ذلك يشبه تلقيحَ الذكرِ للأنثى وحدوث الولد بعد ذلك , كما فهم
بعض المفسرين. فإذا هو جرى على ذلك بأن فرضنا أنه لا يوجد في اللغة التي
يُتَرْجَمُ بها لفظ يقوم مقام (لواقح) العربي في احتمال حقيقته ومجازه إذا أُطْلِقَ فإنّ
القارئين يتقيدون بهذا الفهم، ويمتنع عليهم أن يفهموا من العبارة ما هي حقيقة فيه وهو
كون الرياح لواقح بالفعل؛ إذ هي تحمل مادة اللقاح من ذكور الشجر إلى إناثه.
فإن لم ينطبق هذا المثال على القاعدة لتيسر ترجمة الآية ترجمةً حرفية , فإن
هناك أمثلةً أخرى , وحَسْبُنَا أن يكون هذا موضحًا. والترجمة تقف بنا عند حدٍّ من
الفهم يعوزنا معه الترقي المطلوب.
(8) ذكر الغزالي في كتاب (إلْجَامُ العَوَامِّ عن عِلْمِ الكلام) أن ترجمة آيات
الصفات الإلهية غيرُ جائزةٍ , واستدل على ذلك بما هو واضح جِدًّا, وقد ذكرنا
عبارته في تفسير {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ
وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آل عمران: 7) , وبَيّنَ أنّ الخطأ في ذلك مدرجة للكفر [1] .
(9) ذكر الغزالي في الاستدلال على ما تقدمَ أن من الألفاظ العربية ما لا
يوجد لها فارسية تطابقها - أي: ومثل الفارسية التركية وغيرها - فما الذي يفعله
المترجم في مثل هذه الألفاظ؟ وهو إن شرحها بحسب فهمه ربما يُوقِع قارئ ترجمته
في اعتقاد ما لم يرده القرآن.
(10) وذكر في ذلك أيضًا أن من الألفاظ العربية ما لها فارسية تطابقها
(لكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني التي جرت عادة العرب
باستعارتها منها) فإذا أَطْلَقَ المترجمُ اللفظَ الفارسي يكون هنا مؤدِّيًا المعنى الحقيقي
للفظ العربي , وربما كان مراد الله هو المعنى المجازي، ومثل الفرس غيرهم من
الأعاجم. وهذا المقام من مزلات الأقدام إذا كان الكلام عن الله عز وجل
وصفاته وأفعاله.
(11) وذكر أيضًا في هذا المقام أن من هذه الألفاظ ما يكون مشتركًا في
العربية , ولا يكون في العجمية كذلك. فقد يختار المترجم غير المراد لله من معنى
المشترك؛ ولا يخفى ما فيه، وقد مرَّ نظيره آنفًا.
(12) مِن المُقَرَّرِ عند العلماء أنه إذا ظهَر دليلٌ قطعيٌّ على امتناع ظاهر
آية من آيات القرآن , فإنه يجب تأويلها حتى تتفقَ مع ذلك الدليل. والفرْقُ بين
تأويل ألفاظ القرآن وتأويل ألفاظ ترجمته لا يخفى على عاقل لا سِيَّمَا في
الآيات المتشابهات والألفاظ المشتركة.
(13) إن لِنَظْمِ القرآن وأسلوبه تأثيرًا خاصًّا في نفس السامع لا يمكن أن
ينقل بالترجمة , وإذا فاتَ يفوتُ بِفَوْتِهِ خيرٌ كثيرٌ , فيا طالما كان جاذبًا إلى الإسلام
حتى قال أحد فلاسفة أوربا (وهو فرنسي نسيت اسمه) : إن محمدًا كان يقرأ القرآن
بحال مؤثرة تجذب السامع إلى الإيمان به , فكان تأثيره أشد من تأثير ما ينقل عن
غيره من الأنبياء من المعجزات.
وحضر الدكتور فارس أفندي نمر مرةً الاحتفال السنوي لمدرسة الجمعية
الخيرية الإسلامية بالقاهرة , فافتتح الاحتفال تلميذ بقراءة آياتٍ من القرآن , فقال لي
الدكتور فارس أفندي: إن لهذه القراءة تأثيرًا عميقًا في النفس , ثم لَمّا كتبَ خبر
الاحتفال في جريدته (المقطم) كتب ذلك. فإذا كان لتلاوة القرآن هذا التأثير حتى
في نفس غير المؤمن به , فكيف نحرم منها المسلمين بترجمة القرآن لهم!
(14) إذا ترجم القرآن التركي والفارسي والهندي والصيني إلخ , فلا بُدَّ أن
يكونَ بيْنَ هذه التراجم مِن الخلاف مثل ما بين تراجم كتب العهد العتيق والعهد
الجديد عند النصارى , وقد رأينا ما استخرجه لهم صاحب إظهار الحق من الخلافات
التي كنا نقرأها، ونحمد الله تعالى أن حفظ كتابنا من مثلها؛ فكيف نختارها بعد ذلك
لأنفسنا!
(15) إن القرآن هو الآية الكبرى على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ,
بل هو الآية الباقية من آيات النبيِّين , وإنما يظهر كَوْنُهُ آيةً باقيةً محفوظةً من
التغيير والتبديل والتحريف والتصحيف بالنص الذي نقلناه عمَّنْ جاء به من عِنْدِ الله
والترجمة ليست كذلك.
هذا ما تراءى لنا من الوُجُوه المانعة من ترجمته للمسلمين , ليكون لهم قرآن
أعجمي بدل القرآن العربي , وإذا كان بعض هذه الوُجُوه مما يمكن إدخاله في
البعض , وإنما ذكر هكذا لزيادة الإيضاح , فإن هناك وُجُوهًا أخرى يمكن استنباطها
لمن تأمل وفكر في وقت صفاء الذهن وصحة البدن , بل منها ما تركناه مع تذكره
كاستعمال المشترك في معنييه , واللفظ في حقيقته ومجازه , كما حققه بعض أهل
الأصول كالشافعية.
أما دعوى القائلين بوجوب ترجمته أنَّ عدم جواز الترجمة يستلزم إيجاب بقائه
غير مفهوم فهي ممنوعة؛ فإننا نقول: إن فهمه سهل , ولكن ليس لأحد أن يجعل
فهمه حُجَّةً على غيرِهِ , فكيف يجعله دِينًا لشعب برمته! وإن لاهتداء المسلم
الأعجمي بالقرآن درجتين - درجة دنيا خاصة بالعَوَامِّ الذين لا يتيسر لهم طلب العلم؛
فيحفظون الفاتحة وبعض السور القصيرة؛ لأجل قراءتها في الصلاة , ويترجم لهم
تفسيرها، وتقرأ أمامهم في مجالس الوعظ بعض الآيات , ويذكر لهم تفسيرها بلغتهم
كما جرى عليه كثير من الأعاجم حتى ببلاد الصين - ودرجة عليا للمشتغلين بالعلم ,
وهؤلاء يجب أن يتقنوا لغته , ويستقلوا بفهمه مستعينين بكلام المفسرين غير
مقلدين لأحد منهم.
إن الأعاجم الذين دخلوا في الإسلام على أيدي الصحابة الكرام قد فهموا أن
للإسلام لغةً خاصةً به لا بُدَّ أن تكون عامةً بين أهله؛ ليفهموا كتابه الذي يدينون به ,
ويهتدون بهديه , ويعبدون الله بتلاوته , ولتتحقق بينهم الوَحْدَة المشار إليها بقوله
فيه {ِإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (الأنبياء: 92) ويكونوا جديرين بأن يعتصموا به ,
وهو حبل الله فلا يتفرقوا , ولتكمل فيهم أُخُوَّة الإسلام التي حَتَّمَهَا عليهم بقوله:
{إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ولذلك انتشرت اللغة العربية في
البلاد التي فتحها الصحابة بسرعة غريبة , مع عدم وجود مدارسَ ولا كتب ولا
أساتذة للتعليم , واستمرت الحال على ذلك في زمن الأُمَوِيِّينَ في الشرق والغرب ,
وفي أول مدة العباسيين حتى صارت العربية لغةَ الملايين من الأوربيين
والبربر والقبط والروم والفرس , وغيرهم في ممالكَ تمتدُّ من القاموس المحيط
الغربي (الأتلانتيك) إلى بلاد الهند , فهل كان هذا إلا خيرًا عظيمًا تآخَتْ فيه
شعوبٌ كثيرةٌ , وتعاونَتْ على مدنيةٍ كانت زينةً للأرض وضياءً ونورًا لأهلها؟
ثم هفا المأمون في الشرق هفوة سياسية حركت العصبية الجنسية في الفرس ,
فأنشئوا يتراجعون إلى لغتهم ويعودون إلى جنسيتهم، وجاء الأتراك ففعلوا بالعصبية
الجنسية ما فعلوا، فسقط مقام الخلافة , وتمزق شمل الإسلام بقوة ملوك الطوائف.
ولكن لم تصل الفتنة بالناس إلى إيجاد قرآن أعجمي للأعاجم وإبقاء القرآن
العربي المنزل خاصًّا بالعرب , بل بقى الدين والعِلْم عربيّين وراءَ إمَامِهِما الذي هو
القرآن.
فالواجب على دعاة الإصلاح في الإسلام الآن أن يجتهدوا في إعادة الوَحْدَة
الإسلامية إلى ما كانت عليه في الصدر الأول خير قرون الإسلام , وأن يستعينوا
على ذلك بالطرق الصناعية في التعليم فيجعلوا تعلّم العربية إجباريًّا في جميع
مدارس المسلمين , ويحيوا العلم بالإسلام بطريقة استقلالية , لا يتقيدون فيها بآراء
المؤلفين في القرون الماضية المخالفة لطبيعة هذا العصر في أحوالها المدنية
والسياسية. ولكننا نرى بعض المفتونين منا بسياسة أوربا يعاونونها على تقطيع بقية
ما ترك الزمان من الروابط الإسلامية بتقوية العصبيات الجنسية , حتى صار بعضهم
يحاول إغناء بعض شعوبهم عن القرآن المنزل!
ألا إنها فتنة في الأرض وفساد كبير؛ وقى الله المسلمين شره. فهذا ما أقوله
الآن في ترجمة القرآن للمسلمين دون تفسيره لهم بلغتهم مع بقائه إمامًا لهم ودون
ترجمته لدعوة غيرهم به إلى الإسلام مع بيان أن المترجم بين المعنى الذي
يفهمه هو.
__________
(1) راجع ص728م9أو214من الجزء الثالث من التفسير.(11/268)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سد يأجوج ومأجوج
(س2) من أمين أفندي الشباسي بهندسة عتبره (السودان) .
فضيلة الأستاذ المرشد صاحب مجلة المنار الغراء:
كنا في منزل يُتلى فيه القرآن الكريم , فلما جاء ذكر ذي القرنين ويأجوج
ومأجوج والسدّ قال أحد إخواني: إن هذه القصة لم يظهر لها أثر تاريخي للآن , مع
أنه صار اكتشاف ما على الأرض من قبل ذلك العهد وبعده. قلتُ له: يا أخي , لَعَلَّ
هذا الأثر التاريخي يظهر فيما بعدُ؛ ليكون معجزةً للقرآن على ممر الأيام , كما
حصل في قصة فرعون؛ فإنه وعد بأن ينجيه ليكون لمن بعده آيةً , وقد تحقق ذلك
في هذه الأيام. فقال: يا أخي , إن كلامك هذا هو جواب عليك؛ إذ إن فرعون
وخلافه آثار صغيرة جدًّا مدفونةٌ تحت الأرض وظهرت، والسدُّ ليس كذلك , وهذا
وجه استغرابي؛ لأن سياق الآية يدلنا على أنه بين جبلين كبيريْنِ , ومن حديد
ونُحَاس , ومن دونه أُمَّة كبيرة لو فُتِحَ لها ذلك السدُّ لدوخت العالم بأسره! فأين هي
تلك الأُمّة وذلك السد، ورسْمُ الكُرَة الأرضيّة أمامَ نظري أُقَلب فيه فلا أجد تلك الأمة
ولا ذلك السد.
قلتُ: يا أخي , إني أظنُّ أن هذه الأمة هي أمة التتار , والسد هو سدّ الصين
المشهور , وقد خرجت واخترقت آسيا والهند ومصر وأوربا وأخذت المُلْك من
المسلمين , وأتذكر أني رأيت حديثًا في بعض الكُتُب لا أعرِف صِحَّتَه جاء فيه ما معناه
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان جالسًا مع أصحابه، ففزع , فلما سألوه
عن السبب قال: وَيْلٌ لأُمَّتِي من السّيل المنهمل , يشير إلى قرب خروج يأجوج
ومأجوج , فلما خرجوا وأخذوا الملك من المسلمين في عهد ملك التتار فسر علماء
ذلك الوقت هذا الحديثَ بذلك. وبعد جدال كبير حصل بيننا وعدته بأن أفيده عن يد
فضيلتكم بالجواب القطعي؛ فرجائي أن تفيدوا الجواب على صفحات المنار الأَغَرّ
حتى يقتنعَ المشاغب , كما هو المشهور من فضيلتكم من إيضاح الحقائق ,
ولفضيلتكم الشكرُ، أفندم.
(ج) سألنا هذا السؤال غيرُ واحد من مصر وروسيا وغيرهما من الأقطار؛
ونقول قبل كل شيء: إن دعوى معرفة جميع بقاع الأرض باطلةٌ؛ فإن بقعة كل
من القُطْبَيْنِ لا سِيَّمَا القطب الجنوبي لا تزال مجهولةً.
وقد استدل بعض العلماء على أن السدّ بني في جهة أحد القطبين بذكر بلوغ ذي
القرنين إلى موضعه بعد بلوغ مغرب الشمس مطلعها , وليس ذلك إلا جهة الشمال , أو
جهة الجنوب. ولا يعترض على هذا القول بصعوبة الوسائل الموصلة إلى أحد
القطبين؛ فإن حالة مدنِيّة ذلك العصر , وحالة الأرض فيها غير معروفة لنا
الآن , فنبني عليها اعتراضًا كهذا؛ فما يدرينا أن الاستطراقَ إلى أحد القطبين أو
كليهما كان في زمن ذي القرنين سهلاً , فكم من أرضٍ يابسةٍ فاضت عليها البحار
فغمرتها بطول الزمان , وكم من أرض انحسر عنها الماء فصارت أرضًا عامرة
متصلةً بغيرها أو منفردةً (جزيرةً) وكم من مدينة طُمِسَتْ حتى لا يُعْلَمَ عنها شيءٌ ,
ومِن المعلوم الآن من شئون المدنيات القديمة بالمشاهدة أو الاستدلال ما يجهل بعض
أسبابه كالأنوار والنقوش والألوان وجر الأثقال عند المصريين القدماء , فالقرآن
يقول في ذي القرنين: {فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ} (الكهف: 85-86) كذا
من مطلع الشمس ومغربها وبين السَّدَّيْنِ، فما هي تلك الأسباب؟ هل هي هوائية
أو كهربائية؟ اللهُ أعلمُ بذلك.
هذا ما يُقال بالإيجاز في رَدّ دعوى معرفة جميع أجزاء الأرض , التي بُنِيَ
عليها الاعتراضُ. ثم إن ما بني على هذه الدعوى باطلٌ , وإنْ فرضنا أنها هي
مسلَّمة , وذلك أنه يوجد في الأرض موضعان معروفان يحتمل أن السدَّ كان فيهما؛
أحدهما: الموضع الذي يُسمّى الآن (دربند) بروسيا , ومعناه: السد , وفيه موضع
يسمى (دمرقبو) أي: باب الحديد , وهو أثر سد قديم بين جَبَلَيْنِ يُقال: إنه من
صنع بعض ملوك الفرس , ويحتمل أن يكون موضع السد.
وقد ذكره ملطبرون في جغرافيته بما يدل على ذلك (راجع ص15و16ج
3) وأخبرني مختار باشا الغازي أنه رأى خريتةً جغرافيةً قديمةً لِتِلْكَ الجهات ,
وفيها رسْم ذلك المكان , وبيان أن وراءه قبيلتين اسم إحداهما: (آقوق) واسم
الثانية: (ماقوق) وتعريب هذين اللفظين بيأجوج ومأجوج ظاهِرٌ جَلِيٌّ.
وأمّا الموضع الثاني , فإننا نترجم ما جاء فيه عن بعض التواريخ الفارسية
على غرابته وهو:
في الشمال الشرقي من مدينة صنعاء التي هي عاصمة اليمن بعشرين
مرحلة (مائة وبضعة فراسخَ) مدينة قديمة تُسَمّى الطُّوَيْلة. وفي شرقي هذه المدينة
وادٍ عميق جدًّا , يحيط به من ثلاث جهات جبال شامخة منتصبة , ليس فيها مسالك
معبَّدة , فالمتوقّل فيها على خطر السقوط والهويّ , وفي الجهة الرابعة منه سهوب
فيحاء , يستطرق منها إلى الوادي ومنه إليها , وفجوة الوادي من هذه الجهة
تبلغ خمسة آلاف ذراع فارسي (الذراع الفارسي متر وأربعة سنتيمات) وفي هذه
الفجوة سدّ صناعي يمتد من أحد صدفي الجبلين إلى الآخر , وهو من زُبر الحديد
المتساوية المقدار , فطول هذا السد خمسة آلاف ذراع , فأما سمكه فخمسة عشَر شِبْرًا
وأما ارتفاعه فيختلف باختلاف انخفاض أساسه وارتفاعه؛ لأن أرضه غير
مستوية.
في القرن العاشر للهجرة لَمّا فتح سنان باشا القائد العثماني اليمن وصل
إلى قلعة تسمى تسام , واقعة بجوار هذا السدّ , فأمر بعدَّ زبر الحديد المبني بها
السد , فقصارى ما تيسر لهم عده منها تسعة آلاف. في طرفي هذا السد قلعتان
عظيمتان , محكمتا البناء , قديمتان، تسمى إحداهما قلعة العرصة والثانية قلعة
الباحثة.اهـ
فهذا الوصف ينطبق على ما جاء في القرآن من وصف السد , وبلاد اليمن هي
فيما يظهر بلاد ذي القرنين؛ لأن هذا اللقب من ألقاب ملوك العرب الحِمْيَرِيّينَ في
حَضْرَمَوْتَ واليمن المعروفين بالأذواء (كذي يزن وذي الكلاع وذي نواس)
ولكن إن صح وجود السد , فأين يأجوج ومأجوج منه , وهم التتر كما ورد في تاريخ
السوريين قبل الإسلام أو السكيثيين الذين وصفهم حزقيال النبي بما ينطبق على
وصفهم في تواريخ اليونان. ويعدهم النصارى رمزًا لأعداء الكنيسة.
ثم إن لم يكن السد المذكور في القرآن هذا ولا ذاك , ولم يكن فيما بقي مجهولاً
من الأرض؛ فَلِمَ لا يجوز أن يكون قد اندكّ , وذهب أثره من الوجود؟ إن قيل يمنع
من ذلك أن اندكاكه , وخروج يأجوج ومأجوج من علامات الساعة أجبنا بجوابين؛
(أحدهما) : أن قرب الساعة يمتد ألوفًا من السنين؛ بدليل أن نبينا نبي الساعة ,
وقرب الساعة نسبي؛ أي: ساعة هو قرب بالنسبة إلى ما مضى من عمر الأرض ,
وما يدرينا أنه ملايين من السنين. (وثانيهما) : أن هناك ساعة عامةً وساعة
خاصةً؛ أي: هلاك أمة معينة كما ورد في شرح بعض الأحاديث الواردة في
الساعة. وربما عدنا إلى التفصيل في هذه المسألة.
__________(11/274)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حكم صور اليد والصور الشمسية
(س3) من الشيخ محمد بسيوني في (سنبس برنيو) .
حضرة علامة الزمان , فريد العصر والأوان سيدي المرشد السيد محمد رشيد
رضا صاحب المنار الغراء , نفعني الله بعلومه آمين.
وبعد تقديم واجبات التحيات والاحترام , فالمرجو من تفضيلات سيدي الجواب عن السؤال الآتي صورته , وهذا هو: ما قولكم - دامَ فضلُكم - في صورة مشتغلة باليد وصورة متخذة بالفوتغراف هل الفرق بينهما متحقق أم لا؟
وما تقولون فيمن قال: إن الصورة التي اتخذت بالفوتغراف ليس فيها فعل
صورة , بل هي حبس صورة كحبس الصورة التي في المرآة؛ فلا يحرم
ولكن يحرم وضع هذه الصورة في البيت لمشابهتها الأصنام , فهل هذا القول
صحيحٌ أم لا؛ أفيدوني سيدي , ولكم من الله جزيل الأجر والثواب.
(ج) صانع الصُّوَر مصوّر , سواءٌ صنعها بيده أو بالآلة الشمسية
(الفوتغرافية) . وصورة الشيء هي صورته سواءٌ صورت باليد أو بالآلة , لا فَرْقَ
بينهما شرعًا ولا عُرْفًا. وأمّا قولُ مَن قال: إنه يحرم وضْع الصور في البيت
لمشابهتها الأصنام , فهو مبنيٌّ على أصْل صحيحٍ , وهو أن سبب النهي عن
التصوير وعن اتخاذ الصور هو منْعُ تلك الشعائر الوثنية؛ أي: تعظيم الصور أو
عباداتها؛ ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة بِهَتْكِ القرام (الستار)
الذي كان مُعَلَّقًا في بيتها لمشابهته الصوَر التي كانت في الكعبة، فلما هتك واتخذت
منه وسادةً كان صلى الله عليه وسلم يستعملها ولا يرى في ذلك بأسًا.
وحديث القرام أخرجه البخاري في صحيحه وغيرُه. وإذا كان القائل
يعترِف بأن عِلّة تحريم التصوير واتخاذ الصور هي ما ذكر , فأي فرق يبقى عنده بين
ما سمّاه فعل الصورة وحبس الصورة؟ القصد من الأمرين واحد , وفي كل
منهما عمل اختياري للمصور , فإذا فرضنا أن قومًا عبدوا شخصًا أو حيوانًا أو
غيره كما عبد بعض البابية الرجل الملقب ببهاء الله , فهل يجوز عند ذلك القائل
للمصور المسلم أن يصور لهم معبودهم بالآلة الشمسية؛ ليعظموها , ويعبدوها بِنَاءً
على أن فِعْلَهُ حبس تلك الصورة لا فعل لها؟ إن هذا قول لا وَجْهَ له فيما نرى ,
واللهُ أعلمُ.
__________(11/277)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوقف على المساجد والمدارس
(س4) مستفيد من سنغافورة:
ما قول المنار المنير في بناء المدارس للتعليم والوقف عليها , وبناء المساجد
للصلاة , ولا يخفى عليكم ما ورد في فضلها, فأي الأمرين من البنائين أفضل أفيدونا؟
(ج) في المسألة تفصيل , فإقامة الجمعة والجماعة في المساجد من شعائر
الإسلام , إذا تركها أهل بلد وَجَبَ إلزامُهم بها. قال الفقهاء: ولو بالقتال. والعلوم
منها ما هو فريضةٌ , ومنها ما هو فضيلةٌ , ولا بُدَّ لأهل كل بلد منها , فإذا وجد في
بلد مسجد لإقامة الشعائر أو أكثر عند الحاجة فَبِناء المدارس والوقف عليها في ذلك
البلد أفضلُ لا محالةَ , بل لا فَضْلَ في بناء مسجد لا حاجة إليه؛ لأن مِن أغراض
الشريعة جعْل المساجد على قدْرِ الحاجة لِمَا في كثرتها من تفرّق المسلمين , وإذا
أمكن اجتماع أهل البلد في مسجدٍ واحدٍ فهو أفضلُ من تفرقهم في مسجدين أو أكثر ,
بل ذهب الإمام الشافعي إلى وُجُوبِ أداءِ الجُمُعَة في مسجدٍ واحدٍ إنْ أمْكَنَ في تفصيل
سبق لنا الكلام فيه في أحد مجلدات المنار. وإذا وجد في بلد مدارس للتعليم , ولم
يوجد فيها مسجد لإقامة الجمعة والجماعة , فلا شَكَّ أن بناء المسجد يكون حينئذٍ
أفضل؛ لتوقف إقامة الشعائر عليه.
وإنما تأتي المفاضلة في بلد لا مسجدَ فيه ولا مدرسةَ , ويحتاج أهلُه إليهما معًا
وحينئذ يظهر أنه يجب الابتداء بالمسجدِ , ويمكن أن يُصلى فيه , ويُعلم ما لا بُدَّ منه
حتى يتيسرَ بِناء مكان للتعليم خاصّ به.
وقد تبين مما تقدم أن بناء المدارس أفضلُ في البلاد التي فيها مساجدُ تُقامُ فيها
الشعائرُ , وأكثر أمصار المسلمين كذلك فبناء المساجد فيها مع عدم الحاجة إليها
مضادٌّ لمقصد الشريعة , وهو لا يكون إلا عن رياء أو جهل.
__________(11/278)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السياسة الإنكليزية الجديدة في مصر
ننشر هذه المقالة بالإمضاء الرمزي لكاتبها لِمَا فيها من البشارة بالمجلس النيابي
كان عميد الدولة الإنكليزية في عهد توفيق باشا يدير الأمر معه وما يتفقان عليه
ينفذ بهدوء وسكون , ولكن توفيق باشا كان لضعف إرادته يواتي العميد فيما يريد ,
قَلََّمَا يُرَاجعه في شيء , فلما ولي العباس رأى منه ذلك العميد ما لم يكن يرى من
والده من المقاومات , فكان ينتهز فرصة كل حركة لتقوية نفوذ دولته في البلاد ,
فأكثر من المستشارين والمفتشين والقضاة وكبار العمال من الإنكليز , وفعل ما فعل.
ثم ظهرت المقاومة في الجرائد وعلى ألسنة الناس حتى صارت تشويشًا
مزعجًا. وقد كان لورد كرومر يتمنى لو يتفق مع الأمير , ولكن كان في طبيعة كل
منهما وطبيعة الوقت ما يحول دون ذلك , حتى إنهما تَكَلَّمَا غيرَ مَرَّةٍ في أَمْرِ
الوفاق , وبعد التواطؤ بزمن قصير أو طويل كان يعود التدابر كما كان أو أشد
حتى قِيلَ: إن اللورد عزم في آخِرِ مُدّتِهِ على إقناع دولته بوُجُوب عَزْل الأمير ,
ولكن جاء هذا الرأي في عهد وزارة الأحرار الحاضرة , وهي وزارة تميلُ إلى
التساهل في المستعمرات , وما في معناها كمصر في عرفهم , فلم يتم للورد ما يريد
بل خرج هو من مصر وبقي أميرها فيها. ومما كان قد عزم عليه الرجوع إلى
كبار الأمة في معرفة مطالبها الحقيقية؛ لإنالتها ما يمكن منها مع الإعراض
عن الأمير.
ولا ننسى ما كان في آخر مدته من حملة الجرائد الإنكليزية على الخديو ,
لا سِيَّمَا بعد أن نشر مكاتب الطان عن الأمير ذلك الحديث الشهير , فعالج الأمير تلك
الحملة عليه بحديث آخَرَ عهد إلى مستر ديسي الإنكليزي بنشره في جريدة الديلي
تلغراف الإنكليزية , أهم ما فيه الإشارة إلى رغبته في الوفاق , فكان ذلك مقدمةً
للسياسة الجديدة التي سنبينها.
وهناك مقدمة ثانية شرع فيها لورد كرومر , وتكفل سر ألدن غورست بالمضي
فيها وهي اختيار الأَكْفَاء من المصريين للوظائف الكبرى وتحميلهم (مسئوليتها) ,
وأول ما بدأ به الأول من ذلك جعل سعد باشا زغلول وزيرًا للمعارف , وأخيه أحمد
فتحي باشا وكيلاً للحقانية، وآخر ما قرره الثاني جعل عبد الخالق ثروت باشا نائبًا
عموميًّا.
وهناك مقدمة ثالثة جربها العميد الجديد , فجاءت كما يراد وهي اعتماد إنكلترا
على الأمير في سياسة البلاد العامة , وعدم الالتفات إلى مطالب الأمة وجرائدها.
فالسياسة الجديدة للإنكليز في هذه البلاد هي أن يلقوا تبعة سياستها وإدارتها
على غاربها , فلا يحملوا منها شيئًا في مصر بل يحملوها الأمير وحكومته ومجلس
نواب الأمة، وما دونه من مجالس المديريات.
ما هو مجلس نواب الأمة؟ هل هو مجلس الشورى أم الجمعية العمومية؟ وما
معنى تحميله تبعة وهو لا يتبع رأيه؟ لا لست أعني بمجلس النواب ما ذكر وإنما
أعني أن الحكومة البريطانية عزمت على أن تمنح مصر ما تطلبه بلسان جرائدها
وأحزابها من الدستور والمجلس النيابي، وأن تجعل الفضل في هذا للأمير , فهو
يُكاشفها بذلك , وهي تظهر له الموافقةَ على رغبته بكيفية مخصوصة. والأمير ينفذ
لها رغائبها بمصر.
إننا نعلم من مصدر رفيع أن الإنكليز عزموا على أن يمنحوا مصر المجلس
النيابي , وأنه ليس للإنكليز مقاصدُ في مصر تُنافي السماح للمصريين بذلك , بل
يفتخر أحرار إنكلترا بذلك لموافقته لسنتهم في تحرير الشعوب , وترقية الحكومات
ويكتفون في الأمن على مصالحهم بمصر باستمرار الاحتلال , والثقة بمودة أمير
البلاد , ولا يبالون بالجرائد والأحزاب , بل يعتقدون أن ستسكن من نفسها , وأن
خير علاج لها إهمالها.
هذا ما أرويه للقراء روايةً لا يشوبها رأي ولا تخرص، فما كان منه عن
شيء مضى فهو مما يعرفه العارفون، وما كان عن شيء يأتي فسيراه الناظرون، وقد
يقال من باب الرأي: إن الإنكليز مخطئون في ظنهم أن الحركة الوطنية ستسكن من
نفسها؛ فإن وراء مجلس النواب الذي سيكون محدود السلطة كلامًا كثيرًا في سلطتِه ,
ووراء ذلك مسألة الاحتلال نفسها.
نعم , إن معظم حماسة الجرائد يمكن أن تتحول إلى نقد الوطنيين الذين يحملون تبعة
الإدارة , وتكون الحُجَّةُ على المحتلين ضعيفةً بل ظهرت بوادرُ هذا في كلام
اللواء في أول مصري عريق حمل تبعة العمل في الحكومة , وهو سعد باشا زغلول ,
فإن اللواء أشد عليه منه على مستشاره مستر دنلوب. فمن مثل هذا قد استنبط
الإنكليز أن السياسة الجديدة التي شرعوا فيها ستعقبهم راحة من ضوضاء مصر ,
وتشغل المصريين بأنفسهم , والله أعلم بما تأتي به حوادث الأيام.
__________(11/279)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
القرآن والعلم
(2)
تفسير من اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب
في ردّ الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز
المسألة الثالثة
(ذو القرنين ومطلع الشمس ومغربها)
قال الله تعالى في قصة ذي القرنين: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا
تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً} (الكهف: 86) إلى قوله: {حَتَّى إِذَا
بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} (الكهف:
90) .
تقول العرب: بلغ فلان مغرب الشمس , أو وصل إلى المشرق إذا سار إلى
أقصى ما عرف لهم من المسكونة في جهتي الشرق والغرب , فكان الكلام على تقدير
مضاف؛ أي: وصل فلان إلى أرض المغرب أو أرض المشرق , ومعنى ذلك أنه
وصل إلى آخر أرض تغيب عنها الشمس , أو إلى أول أرض تشرق عليها بِحَسب
علمهم , وإلى الآن تقول جميع الأمم الراقية: (بلغ فلان الشرق الأقصى) إذا سافر
إلى بلاد اليابان أو إلى بلاد مراكش. ويسمون هذه البلاد: الشرق أو المشرق وبلاد
الغرب أو المغرب , ولا يعنون بذلك سوى أنها أول بلاد من الدنيا القديمة تشرق
عليها الشمس , وآخر بلاد تغرب عنها؛ فمعنى قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ
الشَّمْسِ} (الكهف: 86) أنه وصل إلى آخر أرض معروفة للعرب تغيب عنها
الشمس ويسمونها المغرب.
ومهما كان الإنسان عالمًا فإنه لا يتحاشى أمثال هذه التعابير المعهودة للبشر ,
فكذلك القرآن الشريف فإنه جرى عليها , وكذلك كل كتاب ولو كان في الفلك أو
الجغرافيا الحديثة {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف: 86) أي: خُيّلَ له
أنها تغرب في العين , كما يخيل ذلك لكل من وقف على ساحل البحر وَقْتَ الغروب
فإنه يرى الشمس كأنها تغيب في البحر؛ ولذلك نسب القرآن الأمر إلى وجدان ذي
القرنين؛ فقال: {وَجَدَهَا} (الكهف: 86) ولم يقل مثلاً: (حتى إذا بلغ مغرب
الشمس رآها وهي تغرب في العين) أو نحوه مما يفيد أنها تغرب فيها حقيقة.
والعين: كل ماء جارٍ , كما في قوله تعالى {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ} (الشعراء: 57) أي: أنهار جارية وكقوله في وصف الجنة {فِيهَا عَيْنٌ
جَارِيَةٌ} (الغاشية: 12) وقوله: {حَمِئَةٍ} (الكهف: 86) معناه ذات طين
أسود , وفي قراءة (حامية) أي: ساخنة ولعل سخونة الماء ناشئة عن وجود ينبوع
حارّ خارج من جوف الأرض بجوارها , وإذا كان المراد مياه المحيط فقد تكون
سخونتها ناشئة عن التيارات المائية الآتية من خط الاستواء كما هو معروف
للمطلعين على علم الجغرافية , فإن المحيط الأطلانطيقي ينطبق عليه هذان الوصفان
وهو كونه ذا طين أسود , وكون بعض مياهه ساخنة , فلعل ذا القرنين وصل إليه
بسيره إلى نهاية أفريقية من جهة الغرب. فإن تيار الخليج STREAM GULF
الآتي من ساحل أمريكا عند خط الاستواء ينقسم وهو ذاهب إلى الشمال إلى قسمين:
قسم يصعد إلى أوربا , وقسم ينزل إلى ساحل أفريقيا الغربي ولون مائه أسود , وهو
ساخن (فإن درجة حرارته لا تقل عن 85 بمقياس فرنهيت) .
ثم قال: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن
دُونِهَا سِتْراً} (الكهف: 90) والمعنى أنه سارٍ إلى أرض المشرق حتى وصل
إلى أول أرض تطلع عليها الشمس؛ أي: بِحَسَبِ ما تعرف العرب من المسكونة ,
ولعل ذا القرنين وَصَلَ إلى جبل عالٍ من جبال آسيا ظن أنه نهاية الأرض , أو
وصل إلى ساحل الهند الشرقي فظن أنه نهاية العالم , فلما وصل إلى تلك الجهة التي
تسميها العرب مطلع الشمس أو المشرق وجد الشمس أول ما تطلع تطلع على قومٍ
عُرَاة الأبدانِ , ليس لهم من دون الشمس وقاية , وهذا هو حال الأمم المتوحشة
الساذجة.
واعلم أن أمثال هذه السياحات أو الفتوحات الكبيرة معهودة في تواريخ القدماء
كالإسكندر المقدوني وغيره , وكان يتيسر لهم ذلك لِعِظَمِ قوتهم , وضعف الأمم
المجاورة لهم وبساطتهم , وقِلّة عددهم بالنسبة لهم , فكان يسير الفاتح العظيم منهم
بجيشه الجرار , ولا يجد في كثير من الجهات أدنى مقاومةٍ , أو إذا وجد تكون في
الغالب ضعيفةً.
والغالب أن ذا القرنين هذا المذكور في القرآن هو أحد ملوك اليمن الحميريين ,
فإن العرب لا يعرفون ملوك غيرهم من الأمم , وما كانوا يسألون النبي عليه
السلام عنها , و (ذو) لفظة عربية محضة وردت كثيرًا في ألقاب العرب أهل
اليمن كذي يزن وذي كلاع وذي نُوَاس.
ونقل عن ابن عباس أنه سئل عن ذي القرنين المذكور في القرآن , فقال: هو
من حمير. وقال أحد شعراء الحميريين:
قد كان ذو القرنين قبلي مسلمًا ... ملكًًا علا في الأرض غير مفندِ
بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب ملك من كريم سيدِ
وكل ذلك يؤيد أن العرب ما سألوا النبي إلا عن ذي القرنين هذا المعروف
عندهم , ونظرًا لانْدِرَاسِ التاريخ القديم عمومًا وخصوصًا تاريخ العرب الأقدمين ,
ولعدم الثقة بأكثر ما جاء فيه من القصص , ولعدم اهتمام الأمم المتأخرة بشأن أهل
اليمن لم يشتهر أمْر هذا الفاتح الكبير بين الأمم الأخرى , والمظنون أنه كان على
زمن الخليل إبراهيم عليه السلام.
قيل: إن اسمه الصعب بن الرايش. وقيل: إنه أبو كرب شمس بن عبير بن
أفريقش، وكان ملوك اليمن يَلْبَسُونَ تاجًا له قرنان الغالب أنهم اقتبسوه من ملوك
مصر. وأول من لَبِسَهُ اشْتُهِرَ بينهم بلقب ذي القرنين من أجل ذلك.
وفي التاريخ القديم آثار كثيرة يدل على أن أهل اليمن كانوا قد بلغوا شأوًا
كبيرًا من القوة والعظمة , وأنهم تغلبوا على أقاصي البلاد , وغَزَوْا بابل، وبلغوا
الهند، وفتحوا بلاد الفرس ويسمى غزو العرب لبلاد فارس في أحاديث الفرس
(غزو ذو حاق) , وكان ذلك قبل الميلاد بأكثر من 2000 سنة , وقد أغار أهل
اليمن أيضًا على بلاد المغرب، وفتحوا مصر , واستوطنوها، ويسمون فيها
بالهكسوس.
فلا يبعد أن يكون ذو القرنين المذكور في القرآن هو أكبر ملوكهم الفاتحين ,
وقد بلغ ملكه أو سيره أقصى ما كان معروفًًا إذ ذاك من بلاد المشرق والمغرب , وقد
بنى سدًّا بين جبلين في جهة الشمال لا يعرف الآن موضعه؛ لمنع يأجوج ومأجوج
من التعدي على الأمم المجاورة لهم , وهما قبيلتان شهيرتان من القبائل القديمة
المتوحشة , وقد ورد ذكرهما أيضًا في كُتُب أهل الكتاب (تك10: 2وحز38: 2
و3) .
وإذا علم الإنسان أن أكثر بقاع الأرض لم تطأها أقدام أحد مِن السائحين
الباحثين أو الجغرافيين , وإذا تذكر ما عرض لهذا السد من التغيرات الطارئة عليه
من الصدأ , ومن هبوب الرياح , ونزول الأمطار , ورسوب التراب وغيره عليه بل
ربما تغطى بأشياء كثيرة مما يحملها سيل المياه على الجبال , إذا تذكر كل ذلك أدرك
شيئًًا من أسباب عدم عثور أحد على مثل هذا السد , وربما إذا رآه أحد الآن لا يمكنه
أن يميزه عن سائر الجبل , فقد يكون مغطى بطبقة حَجَرِيَّة مما أذابتها المياه ,
وحملتها إليه، فجفت عليه.
فإذا جاء يومُ القيامة انْدَكَّ هذا السّدّ كما تُدَكّ جميع الجبال كما قال القرآن
الشريف: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقاًّ} (الكهف: 98) .
هذا ومن تذكر إغارة المغول (التتار) وهم نسل يأجوج ومأجوج في القرن
السابع الهجري على بلاد المسلمين والنصارى , وما أَتَوْهُ من الإفساد في الأرض ,
وما أوقعوه بالأمم المختلفة من القتل والسَّبْي والنَّهْب - أمكنه تصور حصول هذا منهم
مرةً أُخرى قبل مجيء الساعة , كما قال القرآن الشريف: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ
وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ
الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} (الأنبياء: 96-97)
ولا مانِعَ من أن يكون ما حصل منهم سابقًًا هو الذي أراده القرآن في هذه الآية
ويكون قوله: {وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ} (الأنبياء: 97) كقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) على أن الانشقاق حصل في عَصْرِ النَّبِيِّ محمدٍ صلى
الله عليه وسلم , وهو تعبير معهود في الكتب المقدسة إذا أنبأت عن الحوادث
المستقبلة.
* * *
المسألة الرابعة
(يحيى بن زكريا)
قال الله تعالى: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ
سَمِيَّا} (مريم: 7) . يقولون: إن يحيى هو يوحنا عند أهل الكتاب , ويوحنا هذا
اسم شهير عند اليهود سُمِّيَ به كثيرون قبْل ابن زكريا؛ فكيف يقول القرآن: {لَمْ
نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيَّا} (مريم: 7) ؟ ؟
ونقول لا نُسَلِّمُ بأنّ لفظ يحيى في القرآن هو تعريب لفظ يوحنا عندهم؛ لأن
يحيى من الحياة , ويكتب في العبرية هكذا () , وينطق: يحييه , وأما (يوحنا) فهو
الصيغة اليونانية للفظ (يوحنان) العبري , ومعناه: (يهوه حنون) أي: الله حنون.
فهو إذًًا من الحنان لا مِن الحياة , وعليه يكون لفظ يحيى غير يوحنا , ووجود
شخص مُسَمًّى باسمين كثير جدًّا , وقد يكون الاسم الثاني لقبًا له , وأمثلة ذلك في
كتب العهدين كثيرة جدًّا؛ منها أن اسم بطرسَ: سمعانُ واسم تداوسَ: لباوسُ ,
وهما من تلاميذ المسيح (راجع مَتَّى 10: 2و3) وكان النبي عليه السلام يغير
كثيرًا من أسماء أصحابه , فيشتهرون بما سَمَّاهم به رسول الله , وعند جميع الأمم
يوجد أشخاص لهم أكثر من اسم.
هذا إذا لم نقل إن تسمية ابن زكريا في العهد الجديد بيوحنا هو من خطأ
مؤلفي الأناجيل باللغة اليونانيه؛ إذ يجوز أنهم لم يحسنوا نقل اسمه الحقيقي
(يحييه) إلى لغتهم.
ويحتمل أن الاسم الذي بشر الله به زكريا هو (يحيى) ولما اشتُهِر عن
يحيى الشفقة والحنان بالناس كما قال القرآن في وصفه: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} (مريم:
13) صاروا يلقبونه بيوحنا حتى شاع بينهم ذلك أكثر من اسمه الأصلي الذي
سمّاه الله به.
وهناك وجه آخر في تفسير عبارة القرآن الشريف. وهو أن زكريا طلب من الله
وارثًًا له من نسله خوفًًا من مواليه , فَبَشَّرَهُ الله بأن سيكونَ له ولد , وسيكون اسمه
يحيى , وقال له: إن هذا الاسم لم يسم به أحد قبله؛ أي: بينهم في أهله
وعشيرته , كما قال إنجيل لُوقَا (1: 61 فقالوا لها - أي: لأمه - ليس أحد في
عشيرتك تسمى بهذا الاسم) فقوله تعالى: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِياًّ} (مريم:
7) أي: في أهل زكريا الذين كان الكلام معه في شأنهم والخطاب له فيمن يرثه منهم
إذا سلم أن لفظ يحيى هو عين يوحنا , وأنه تعريب له.
على أنه قد يكون المراد بالسمي السمي الحقيقي؛ أي: إنه لم يسم أحد قبل
يوحنا بهذا الاسم , وكان مثله في صفاته العالية وأخلاقه الطاهرة , فكل من سمي
قبله به ما كانوا يستحقونه؛ لأنهم لم يصلوا إلى درجته في الشفقة والرحمة والحنان ,
وقد ورد لفظ السمي في القرآن بهذا المعنى أيضًا في سورة مريم التي منها هذه
الآية التي نحن بصدد الكلام عليها , فقال تعالى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (مريم: 65) أي: سميًّا حقيقيًّا ,
وإلا فقد اتخذ آلهة أُخْرَى من دُونِ الله كثيرون.
* * *
المسألة الخامسة
(السَّامِرِيُّ والعِجْل)
قال الله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} (طه: 88) إلى قوله: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ
يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} (طه:
95-96) .
رجحنا في (مقالات الدين في نظر العقل الصحيح) أن لفظ السامري علم
لشخص من بني إسرائيل يسمى بلغتهم شِمري وهو اسم مشهور عند قدمائهم. انظر
مثلاً سفر أخبار الأيام الأولى (4: 37 و11: 45 و26: 10) وَلَمَّا عُرِّبَ هذا
الاسمُ أُبْدِلَتِ الشين المعجمة بالسين المهملة , كما هي العادة في تعريب العبري ,
وأدخلوا عليه (أل) كما أدخلوها على غيره من الأعلام المُعربة كلفظ (الجودي)
وهو اسم جبل , ولفظ (السموأل) وهو علم لأحد نابغي شعراء اليهود من العرب.
وتسمى زيادة (أل) في مثله زيادة لازمة , كما يقول النحاة. وهو مُعَرَّبٌ من
لفظ (شموئيل) والتغيير الذي حدث فيه كالذي حدث في لفظ (شمري) فأُبْدِلَتِ
الشين سينًًا , وزِيدَتْ عليه (أل) مع تغيير طفيف في الكلمة. وهذه التغيرات
شائعةٌ في جميع اللغات في أسماء الأعلام المنقولة إليها , فانظر الفَرْق بين لفظ
بُخْتَنَصَّر وأصله (نبوخذ ناصر) , ولفظ عيسى وأصله يشوع.
وغير ذلك كثير جدًّا , يعرفه المطلعون على بعض اللغات الأجنبية ,
وما فيها التغيير والتحريف في الأعلام.
واعلم أن لفظ السامري الوارد في القرآن كانت تكتبه العرب (السمري) وكذلك كتب في مصاحف عثمان التي أرسلها إلى الآفاق. ولَعَلَّ في ذلك لإشارة إلى أصله العبري الذي ذكرناه هنا , وإنْ كانوا ينطقونه السامري. وليست الياء فيه للنسبة بل هي كالياء في لفظ الجوديّ بالتشديد وأصله جوردي بدون تشديد.
قال تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ} (طه: 88) أي: صنع لهم السامري {عِجْلاً
جَسَدًا} (طه: 88) أي: تِمثال عجل , ولكنه جسد بلا رُوحٍ , فإن لفظ الجسد
يطلق غالبًا على الحي إذا مات أو ما كانت صورته صورة الحي , ولكنه جماد كهذا
العجل الذي صنعه السامري من الحلي وكتماثيل الحيوانات , فإنها كأجسادها بعد
الممات لا حياةَ فيها. {لَّهُ خُوَارٌ} (طه: 88) أي: صوت يشبه صوت العجل ,
ولعله توصل إلى ذلك بالصناعة مع الحيلة كأن يضع فيه ما يشبه المزمار , ويسلط
عليه آلة نافخة لا يشعر بها الناظرون.
وأمثال هذه الحيل كثيرة يفعلها الدّجّالون في كل زمان ومكان.
ثم قال تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} (طه: 95) أي قال له موسى:
ما شأنك؟ وما الذي حملك على ما فعلت؟ {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} (طه: 96) أي: علمت ما لم يعلموا وأدركت ما لم يدركوا {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ
الرَّسُولِ} (طه: 96) أي: أخذت بشيء من تعاليم هارون الذي استخلفته فينا ,
واقتفيت أثره فيها , فلم يرق لي شيء منها. وسمى هارون بالرسول؛ لأنه هو
وموسى كانا يسميان كذلك بين بني إسرائيل , فإن الله قال لهما: {فَقُولا إِنَّا رَسُولا
رَبِّكَ} (طه: 47) , وعدم اعتقاد السامري بصحة هذه الرسالة لا ينافي أن يقول
ذلك من باب التّهَكّم كما كانت قريش يتهكمون على رسول الله , ويقولون له: {مَا
لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} (الفرقان: 7) , ثم قال السامري:
{فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} (طه: 96) أي: فرفضت ما أخذته من تعاليم
هارون بعد تجربتي له , وهذا ما مالت إليه نفسي التي علمت ما لم يعلم غيري.
هذا هو التفسير الصحيح الذي يتبادر من هذه الآيات , ولا يمكن لأي عربي أن يفهم
منها سواه , لولا ما حشاه به أكثر المفسرين من الخرافات , وهو يقارب ما ذهب إليه
محقق المفسرين أبو مسلم الأصفهاني وارتضاه منه فخر الدين الرازي وعززه.
قال له موسى: {فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا
لَّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ} (طه: 97) أي:
لنبردنه. ويؤيده قراءة (لنَحرقنه) بفتح النون وكسر الراء وضمها خفيفة {ثُمَّ
لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْفاً} (طه: 97) .
فإن قال قائل: ما بال القرآن في الكلام على هذا العِجْل يأتي بما يحتمل أنه
كان حيًّا , وإن كان ذلك بعيدًا من عبارته؟
قُلْتُ: جرت عادة القرآن في أمثال هذه المسائل العرضية البسيطة أن يأتي
بالتعبير الذي لا يصادم اعتقاد الجمهور مصادمةً لا تقبل التأويل حتى لا يكون
ذلك صادًّا لهم عن النظر فيه أو شاغلاً لهم عن البحث فيما أتى به من جوهر الدين ,
كما هي طريقة الحكماء.
فالظاهر أن أهل الكتاب من العرب كانوا يعتقدون أن هذا العجل صار حيًّا ,
وربما كان عندهم من رواياتهم وأحاديثهم ما يحملهم على هذا الاعتقاد , فلم يرد القرآن
أن يشتغل معهم بأمثال هذه التفاهات , فأتى لهم بما لو سمعوه لقبلوه , وما لو سمعه
العلماء المحققون لأدركوه , وفهموه؛ ولذلك تراه مثلاً ينص على دوران الأرض
بقوله: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ
كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) في سياق يحتمل أن يكون ذلك مما يحصل يوم القيامة وإن
كان ظاهر الآية يبعد عن الاحتمال الذي لا يزال مقبولاً عند الجهلاء على أن
معنى الآية الصحيح لا يخفى على العلماء. فإن القرآن قد أتى للعامة والخاصة
والمنحطين والمرتقين , فلذا تنوعت أساليبه , وسحر بيانه عقول الجميع , وبذلك لم
يخطئ الغرض، ولم يشتغل عن الجوهر بالعرض.
* * *
المسألة السادسة
(تكون الجنين)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي
قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا
العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ
لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (المؤمنون: 12 - 16) .
اشتملت هذه الآيات على جميع أطوار الإنسان في حياته , وما يمر به من
التغيرات , من أول وجوده إلى يوم بَعْثِه.
(الطور الأول)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ} (المؤمنون: 12) أول الأحياء
في هذا العالم لا شَكَّ في أنه خُلِقَ من مادة الأرض مباشرةً , ثم ارتقت الحال بعد ذلك
فصارت الأحياء تتكاثر بانقسام الخلايا , ثم بالتلقيح الذي يعقبه الانقسام (ومعنى
التلقيح اختلاط عنصر الذكر بعنصر الأنثى) فإن الإنسان في طوره الأول كان
طينًًا , وإذا نظرنا إلى الإنسان من جهة أخرى وجدنا أن الحيوانات المنوية
والبويضات التي يخلق منها الإنسان مخلوقة من الدم , والدم من الغذاء , والغذاء من
الحيوان والنبات , وكلاهما من الأرض؛ أي: الطين.
(الطور الثاني)
{ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} (المؤمنون: 13) النطفة: الإفراز ,
فتطلق على المَنِيِّ , ولا مانِعَ من إطلاقها أيضًا على بويضات المرأة التي يفرزها
المبيضان [1] , ولم يَذْكُرِ القرآنُ بويضاتِ المرأة صريحًا؛ لأن ذلك غير معروف
لجماهير الناس , وهو لم يأْتِ لتعليمهم أمثال هذه الأشياء , وإنما هو يؤيد قضاياه بما
يعرفونه ولا ينكرونه , واكتفاؤه بِذِكْرِ المَنِيّ دون غيره في أكثر المواضع لا يَدُلُّ
على أن الإنسان لا يخلق من شيء آخَرَ معه؛ إذ ليس في عبارته ما يدل على
الحَصْرِ؛ فالطور الثاني طور النطفة وهي من الرجل ما فيه الحيوانات المنوية ,
ومن الأنثى ما فيه البويضات , فإذا حصل التلقيح بدخول رأس الحيوان المنوي في
البويضة استقرت في الرحم.
والمراد بالقرار المكين: أعضاء الأنثى الداخلة (البوقان والرحم) وهي التي يحصل فيها التلقيح ثم التكوين. ولا شك أن حيوان الذكر وبويضة الأنثى يَسبحان قبل التلقيح وبعده في قليل من سائل مخصوص ومجموع ذلك هو النطفة , وهي التي
تستقر في الرحم.
(الطور الثالث)
{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} (المؤمنون: 14) وذلك بانقسام البويضة بعد
التلقيح بالحيوان المنوي إلى أقسام كثيرة , تكوِّن كتلةً صغيرةً تشبه العَلَقَة
وخلاياها كلها متشابهة.
(الطور الرابع)
{فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً} (المؤمنون: 14) , وهي قطعة أكبر من العَلَقَة
قَدْرَ ما يُمْضَغُ في الفم مركبة من عِدَّة خلايا ناشئة من انقسام البويضة الأصلية
بعد تغذيتها في جدر الرحم , وما أحيطت به من سوائل زلالية.
(الطور الخامس)
{فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا} (المؤمنون: 14) أَيْ: حوّلنا بعض خلايا المضغة
التي كانت كلها متشابهة إلى خلايا أخرى تصير بالتدريج بعد هذا التنويع عظامًا.
(الطور السادس)
{فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا} (المؤمنون: 14) أي حوّلنا الجزء الباقي من المضغة
إلى أنسجة رخوة , ذات خلايا مغايرة في شكلها للخلايا الأصلية, وهذه الأنسجة
تكون كاسيةً للخلايا الآخذة في التحول إلى عظام , فبينما تجد بعض الخلايا يتحول
إلى عظام تجد البعض الآخر يتحول إلى لحم وشحم وغيره يكسو هذه العظام.
(الطور السابع)
{ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} (المؤمنون: 14) أي: بعد تمام خلقته وولادته
يصير بالتدريج إنسانًًا عاقلاً مُدْرِكًًا مفكرًا بعد أنْ كان لا يعلم شيئًًا كما قال تعالى:
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ
وَالأَفْئِدَةَ} (النحل: 78) الآية , فالشيء الذي كنت تراه لا يدرك وجود نفسه
يصبح محيطًًا بالكون بعقله ويخترق الحُجُب بفكره {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} (المؤمنون: 14) . وعبر هنا بِثُمَّ؛ لتراخي ذلك عن زمن تمام التكوين.
(الطور الثامن والتاسع)
{ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (المؤمنون: 15-
16) فهذه هي الأطوار الإنسانية التي تُسْتَفَاد من هذه الآيات الشريفة.
ويجب الاعتراف هنا بأن هذه الآيات لم تصف هذه الأطوار بالتفصيل كما
يصفها الفسيولوجيون , وإنما وصفتها بإجمال خالٍ من الوهم والخطأ , داعٍ إلى
التفكر في قدرة الله , والتدبر في أعماله وهو ما يريده القرآن الشريف , ولا يريد
تدريس علم تكوّن الجنين للناس ولا غيره من العلوم الدنيوية , فلذا لا ينتظر من مثل
هذا الكتاب العزيز أن يدخل فيما ليس من غرضه الإطناب فيه؛ لأن الناس يصلون
إليه من غير طريق الوحي.
* * *
المسألة السابعة
(ميراث بني إسرائيل الأرض من بعد فرعون)
قال الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ
وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: 57-59) ومن المعلوم أن بني إسرائيل
مِن بعدِ غرق فرعون وقومه لم يرثوا أرض مصر , بل خرجوا منها فما معنى هذه
الآية إذًًا؟ .
ذهب محققو المؤرخين إلى أن فرعون موسى هو منفتاح بن رمسيس الثاني ,
وقد خضعت بلاد الشام لمصر في عهد رمسيس الثاني , وكان من عادته أن يبقي
فرقة من العساكر المصرية في البلاد التي يفتحها؛ ليستوطنوها , ولينشروا فيها
عاداتهم وأخلاقهم , فكانت بلاد الشام مستعمرةً تابعةً لمصر ومحتلة بجزء من جيشها
وكان المصريون يجنون من خيراتها , ويتمتعون بها , وبعضهم يذهب إليها ليقيم
فيها تحت رعاية دولته كما يفعل الأوربيون الآن في الممالك التي يستعمرونها , ودامَ
الحال كذلك إلى عهد منفتاح بن رمسيس هذا , وفي عهده كان خروج بني إسرائيل
من أرض مصر.
إذا علمت ذلك؛ فاسمع تفسير ما قال الله في القرآن الشريف: {فَأَرْسَلَ
فِرْعَوْنُ فِي المَدَائِنِ} (الشعراء: 53) التابعة له كبلاد مصر والشام {حَاشِرِينَ} (الشعراء: 53) يجمعون إليه جيشه وقومه المستوطن في هذه البلاد , قائلاً لهم:
{إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجِمِيعٌ حَاذِرُونَ} (الشعراء: 54 - 56) , ثم قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُم} (الشعراء: 57) أي:
المصريين {مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} (الشعراء: 57-58) في
مصر والشام {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: 59) أي: أورثناهم ما
كان يتمتع به المصريون من جنات الشام وعيونها وكنوزها ومقامها الكريم , فإن ذلك
قد آل إلى بني إسرائيل؛ ولذلك قال تعالى في آية أخرى في هذا الموضوع:
{وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الأعراف: 137) , والأرض
التي بارك الله فيها هي أرض الشام كما جاء في آيات أخرى كثيرة في القرآن
الشريف كقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:
71) وقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ
الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الإسراء: 1) , فأنت ترى من هذا أن آيات القرآن
في هذا الموضوع يفسر بعضُها بعضًا , وأن المراد من ميراث بني إسرائيل لما
تركه المصريون هو ما كان ببلاد الشام.
(للمسائل بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: النطفة في الأصل: الماء , أو كل سائل فيصح إطلاقه على ماء الرجل الذي فيه الحيوانات المنوية وعلى ماء الأنثى الذي فيه البويضات إذ كل منهما سائل.(11/281)
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
__________
السنن والأحاديث النبوية
(تتمة بحث النسخ)
قال حضرة الدكتور: وإذا فتشنا الأحاديث - إلى أن قال - فالقرآن لا يجوز
أن ينسخ بالسنة ولو كانت متواترة , وبه قال الإمام الشافعي رحمه الله , وليس فيه
منسوخ مطلقًًا كما قال أئمة بعض المفسرين كأبي مسلم الأصفهاني , وكما دل على
ذلك الاستقراء والدليل , وأتى بكلام , ثم قال: والذي نراه نحن أن العقل لا يستقبح
وقوع النسخ في القرآن الشريف إذا كان القرآن يبين لنا نصًّا جميع ما نسخ، وجميع
ما لم ينسخ، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يبين ذلك بيانًا ينقل متواترًا ويتفق
عليه عملاً بين المسلمين , إلخ.
والناظر يرى بادئ بدء بعد المقارنة بين كلام حضرة الدكتور أن قوله (والذي
نراه نحن، إلخ) هو رجوع منه ونسخ لقوله: فالقرآن لا يجوز أن يُنسخ بالسنة
ولو كانت متواترةً؛ لأنه إذا كان النسخ هو كما ذكر إبطال حكم إلى بدل أو لغير
بدل , وجاز أن يقبل قول الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية منسوخة , لا إلى
بدل مثلاً في حق من علم صدور ذلك القول منه صلى الله عليه وسلم , فما ذلك إلا
قول بجواز نسخ القرآن بالسنة , وهو مناقض لقوله: لا يجوز نسخ القرآن بالسنة.
وسيأتي لنا كلام على الأخبار التي يلزم الأخذ بها , ويعلم صدورها عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
أما ما ذكر حضرة الدكتور من اشتراط أحد الأمرين للنسخ , إما تبيين القرآن
لنا نصًّا جميع ما نسخ وجميع ما لم ينسخ , أو تبيين الرسول صلى الله عليه وسلم
كذلك وينقل متواتراَ , إلخ.
فنقول فيه: إن حضرته ذكر أن النسخ لمقتض لا يستقبح عقلاً يَعْنِي أنه جائز
عقلاً , فهل ما اشترطه للنسخ واجب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم
عقلاً , فما هو؟ أم شرعًا، فأين هو؟ وهل يشترط ذلك فيما نسخ لفظه ومعناه لا
إلى بدل؛ لأن تعريف النسخ الذي ذكره أول الرسالة يشمله , وليس هو داخل فيما
أنكر وقوعه من نسخ لفظ بلفظ , أو نسخ لفظ وإبقاء حكمه؟
وما معنى اشتراط التواتر , فإن النسخ إنما كان يقع في زمان الرسول صلى
الله عليه وسلم وَقْتَ نًُزُول الوحي , وذلك مضى وانقضى , والله تعالى ورسوله
صلى الله عليه وسلم لم يلزموا الأُمّة , ولم يوجبوا عليهم أن ينقلوا الدين إلى من
بعدهم بالتواتر , ولم نَرَ ذلك ولا في موضع من كلامهما , ولم يجعلا ذلك شرطًا لا
للتبليغ ولا للقبول , وسيأتي مزيد بيان لذلك.
إن اشتراط حضرته ذلك مع اشتراطه أن يتفق عليه عملاً بين المسلمين مِمّا لا
يجوز عقلاً لامتناع تأخُّر ما يلزم في وجود شيء عن وجوده , كأسبابه وشروط
وجوده والنسخ قد وقع؛ بدليل قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (البقرة: 106)
الآية , والتواتر واتفاق عمل المسلمين إنما هو بعد ذلك، والله تعالى لم ينصب ذلك
شرطاً لِقَبُولِنَا ذلك , أو أن الحال لا ينكشف لنا إلا بأحدهما , فظهر أن ذلك لا يصلح
لأن يكون سببًا للنسخ، ولا لبلوغه إلينا.
أما اشتراط حضرته في رسالتيه لبيان النسخ طريقة معينة مخصوصة , وهي
أن يقول الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم: هذه الآية ناسخة , وهذه
منسوخة , فهو التزام لما لا يلزم , واكتفاء بما لا يكفي , ولا يطرد في جميع المسائل ,
فإن النسخ مشترك لفظًا يصدق على معاني مختلفة وصدقه عليها مختلف فيه , ثم
هو في أفراد كل واحد من مَا صِدْقَاتِه قد يكون عامًّا.
ثم معرفة المراد منه قد يكون مجملاً , فإذا قيل هذه الآية منسوخة أو هذه ناسخة
فقط. ولم يقرن ذلك بما يعين المراد احتمل ذلك نسخ كل هذه الآية أو بعضها أو
زيادة أمر في الناسخ مع بقاء المزيد , أو رفع شرط أو قيد أو زيادتهما إلى غير ذلك
فتبين أن مجرد قوله: هذه الآية ناسخة وهذه منسوخة لا يكفي في بيان المراد
إلا بانضمام ما يبين المراد مع ذلك مما يتبين به مورد النسخ المعين , وإذا كان الله
أجاز النسخ في شرعه بجميع معانيه كما دل عليه كلام السلف , أو بعضها كما هو قول
المتأخرين ففي الموارد المخصوصة؛ أي: ووقت البيان لا يجوز أن يؤتى بما لا
يتبين المراد منه إلا مع مبين - والبيان: إخراج الشيء من حيّز الإشكال إلى
حيز التجلي , فظهر بذلك أن معرفة الناسخ والمنسوخ لا يتوقف على خصوص ما
ذكره حضرة الدكتور بل معرفته في كل محل بما يبين المراد هو الأولى , وإن لم يكن
بلفظ ناسخ أو منسوخ , ومن ذلك ما ذكره العلماء في معرفة الطريق الذي يكون الناسخ
بها ناسخًا والمنسوخ منسوخًا.
وَلَيْتَ شِعْرِي , ألا يكفي في الدلالة على النسخ تأخّر التاريخ مع التعارض
والتناقض بين الحكمين , ككون الشيء في آية حلالاً , وفي آية بعدها متأخرة نزولاً
حرامًا أو العكس؟ وقد ذكر علماء الأصول طرق معرفة النسخ والناسخ والمنسوخ ,
وبينوا ذلك فارجع إلى كتبهم إن شِئْتَ.
ثم لا ندري ما الموجب لطعن الطاعنين، واستهزاء الهازئين بعد ثبوت جواز
النسخ عقلاً وشرعًا ووضعًا , ووقوعه في الشرائع فعلاً كما اعترف بذلك حضرة
الدكتور؛ فليتأمل حضرته في هذا الموضع , وليعلم أنه بادر إلى التهكم والتعريض
بمخالفيه إلى استحقاقهم أشد العذاب قبل أوانه؛ إذ لم يقم حجة على ما قال , ولم
يحط علمًا بما لديهم من الحجج؛ لا سِيَّمَا معاصريه , إذ لا يمكننا إنكار اطلاعه على
ما هو مسطور في زبر الأولين , وإنْ كنا نستبعد إمكانَ اطلاعه على الكل نقول ذلك
قياسًا على أنفسنا , وكما قال ذلك الكبار.
ونقول أيضًا: إذا كان النسخ هو ما ذكرنا سابقًا عن السلف رضي الله عنهم ,
وما ذكره حضرته وأنه يرى أن العقل لا يستقبحه , فلا محل للتشنيع على مَنْ
قال بوقوعه في القرآن , وعليه فالقول بوُقُوع النسخ في القرآن أو عدم وقوعه
منحصر في الدليل النقلي , وفي الاستقراء؛ أي: تتبع آيات القرآن , فحضرة الدكتور
استدل على عدم وقوع النسخ في القرآن بقوله تعالى: {لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام: 115) حيث قال: فلا يجوز أن يبدله الله بعد وعده بعدم تبديله؛ إذ
النكرة (أي لفظ مبدل) في سياق النفي تعم.
وأقول: قد اختلف في أن المتكلم هل يدخل في عموم خطابه أم لا؟ والحق أنه
لا يدخل إلا بقرينة , وليس هنا قرينةٌ تدل على ذاك , بل القرينة تدل على عدم
دخوله.
فالآية المذكورة ليس هي عندنا مما تدل على منع النسخ بمعناه السابق , وإنما
تدل على صيانة القرآن عن انتحال المبطلين وعبث أعداء الدين , وأن الله لا يجعل
لهم عليه سبيلاً , وذلك نظير قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) , وقوله: {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ
حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) , ونقول أيضًا: نفي الشيء فرع عن ثبوته , ولا شَكَّ
هنا أن المراد بنفي المبدل نفي جميع التبديل بجميع معانيه , وأكثر معاني التبديل لا
يجوز أن ينسب إلى الإله؛ وعليه فلا يدخل في عموم المنفي كما خصص عموم
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 20) بما سوى الواجب
لاستحالة تعلق القدرة به - ويقرب من ذلك قوله تعالى: {فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ
أَحَداً} (الجن: 26) فإنه لولا الاستثناءُ لمن ذكره لَوَجَب أن لا يطلع على غيبه أحد
مطلقًا , لكنه لا يجوز بحال أن يقال: إنه تعالى داخل في عموم المنفي.
فتبين بما ذكرناه أن التبديل المنفي في قوله تعالى: {لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام: 115) إنما هو التبديل الذي يكون مِن البشر , كما كان يفعله اليهود
والنصارى في كتابيهم.
أما التبديل بمعنى النسخ بأن يبدل الله آية مكان آية أو ينسخ حكمها هو أو
رسوله لا من تلقاء نفسه , فهذا لا عَيْبَ فيه كما ذكر الدكتور , والرسول صلى
الله عليه وسلم معصوم عن التبديل من تلقاء نفسه , وإذا كان النسخ هو ما ذكرناه عن
السلف , فإنكار وقوعه مكابرة، ومخالفة لما هو ثابت في الواقع كما دل على ذلك
الاستقراء؛ إذ ما من عامٍّ إلا وقد خصّ , وما من مطلق إلا وقد قيد إلا آيات التوحيد،
وما ضاهاها.
وأيضًا قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} (النحل: 101) خاصة في
معنى من معاني التبديل , ومحله المعين والفاعل معلوم , فهي بلا ريبَ نصّ في
جواز النسخ الذي لا عيبَ فيه عقلاً , أمّا قول حضرة الدكتور فما ذكرناه هنا وهناك
يدل على أن تفسير الآية هكذا: وإذا أتينا بحكم في الشريعة الإسلامية بدل حكم في
الشرائع السابقة , ووضعناه مكانَه قالوا: إنما أنت مفتر كذّاب تختلق الأحكام ,
وتنسبها إلى الله إلى آخر الآيات - وزعم أن القول بأنه مفترٍ في قوله تعالى:
{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (النحل: 101)
إنما صدر من أهل الكتاب الموجودين بالمدينة إلخ. وأقول: إن قوله إنما صدر من
أهل الكتاب الموجودين بالمدنية هو اعتراف منه بجواز أن تكون هذه الآية مدنيةً ,
فاحفظه.
ثم إن ما ذكره حضرته، وحمل الآية عليه غير صحيح لِمَا قدمناه؛ ولأن سياق
الآية لا يدل عليه , وإنما يدل على خلافه , فإنه تعالى ذكر المشركين , ثم حكى هذا
القولَ عنهم , ورَدّ عليهم بأن أكثرهم لا يعلمون؛ لأنهم ليس معهم كتاب والمشركون
هم الذين زعموا أن الغلام النصراني يُعَلّم النبي صلى الله عليه وسلم افتراءً وكذبًا
كما كذبهم الله في هذه الآية وغيرها، ويدل على ذلك أيضًا أن الله لما بَرَّأَ رسولَه
صلى الله عليه وسلم من تُهَمهم الكاذبة ذَكَرَ أن سبب تهجمهم وإقدامهم على ما هو
واضح البطلان إنما هو ضلالهم , وعدم إيمانهم بآياته , فإنه تعالى لا يهديهم، وأكد في
الردّ عليهم بأن المفتري في تبديل آيات الله إنما يكون مَنْ لا يؤمن بها , وهذا نص
أيضًا في إرادة المشركين , فظهر أن القائل بأنه مفترٍ إنما هم المشركون , ولأن
الآيات قبلها وبعدها إنما هي في ذكر مساوئ المشركين , وتحذير المؤمنين من
التخلق بأخلاقهم، والاقتداء بعاداتهم , وعن الإصغاء والالتفات إلى شُبُهاتهم عند
نزول ناسخ، أو تبديل آية مكانَ آية؛ لأنهم لا يؤمنون بآيات الله , فلم يهدهم للصواب
في الجدل , فهم يستدلون على كذب الرسول صلى الله عليه وسلم بما يرون في كتابه
من النسخ لاعتقادهم أن ذلك تناقض لعدم علمهم بما في ذلك من الحكم والمصالح.
أما أهل الكتاب (اليهود) , فلم يَأْتِ لهم ذكر حتى يعودَ الضمير إليهم وأيضًا ,
فإن الله تعالى قد عيّن هؤلاء القائلين بأنهم الذين لا يؤمنون بآياته , وهذا لا يصحّ
صدقه على اليهود إذا كان المُراد بالآيات: الأحكام , وبالآية الواحدة الحكم لإيمانهم
بالتوراة , وإن أريد بالآيات الجمل من الكلام المحدود المخصوصة , فإن أطلقت
على عبارات التوراة فكذلك , وإن لم تطلق بَطَلَ حمْل الآية المبدلة على شيء من
عبارات التوراة، فثبت بذلك أن المراد: وإذا بدلنا آية من القرآن مكان آية منه، قال
المشركون: إنما أنت مفتر. وهم لا علم لهم بالتوراة ولا بأحكامها.
ثم نقول: لو كان التبديل؛ أي: النسخ ممنوعًا في القرآن مطلقًا , وأن الله لا
يبدل آية مكان آية لَمَا صَحّ تقييده في جواب الكفار حين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} (يونس: 15) حيث أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ
أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (يونس: 15) , فإنه لا معنى للتقييد حينئذ وبذاك وهذا
تعين عدم دخول المتكلم , وهو الله تعالى في عموم لفظ (مبدل) من قوله: {لاَّ مُبَدِّلَ
لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام: 115) .
إن من تتبع آيات الكتاب وجد فيه ما يلجئه إلى القول بوقوع النسخ فيه فعلاً
كما أخبر الله بوقوعه فيه مستدلاًّ على جواز ذلك , وحسنه بارتباط الشرع بالقدر أي:
تلازمهما - لا ينكر ذلك إلا من كابر وجدانه , وخالف ظاهر القرآن , وخرج به عن
حدود مرامه الذي فهمه رسوله صلى الله عليه وسلم , وبيَّنَه لأصحابه رضي الله
عنهم , الذين شاهدوا التنزيل , وعرفوا التأويلَ والتفسير , والمراد من الخطاب
لمعاينتهم الوقائع والأسباب , فلا يجوز لمن لم يحضر الوقائع، ولم يعرف الأسباب
والموانع ولم يمارس محاورات أهل الشرائع أن يهجم على كلامهم - فضلاً عن كلام
الله - ويؤوّله بأن يحمله على معاني يفترضها , مع ترك ما سيق الكلام فيه وله.
إنما يختار هذه الطريقة المحرفون الخرَّاصون كالقرامطة والملحدين من
المتصوفة، وسائر الطوائف المبتدعة , الذين إذا تكلموا في القرآن يتراءى للناظر في
كلامهم أنهم كأنما يتكلمون في دين جديد نزل عليهم ابتداءً , وكأنه لم يكن
نزل على رسول قد بين حدوده , وأوضح أحكامه , وفسر مرامه , وكأنه لم تتلقه
أمة , ولم تعمل به الطوائف حتى جاء هؤلاء بآرائهم السخيفة , وأقوالهم الساقطة
الضعيفة - كل ذلك لم يقع من هؤلاء إلا بتركهم السنن النبوية , وهجرهم لطريق
السلف وبالأخص آثار الصحابة رضي الله عنهم ولنعد إلى ما كنا بصدده، فنقول:
قد تقدم لنا أن قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} (النحل: 101)
دليل واضح على جواز النسخ في القرآن كما أنه في سائر الأديان , وأنه لا تعارض
بين هذه الآية وقوله تعالى: {لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام: 115) الآية.
ومن الأدلة الناصة على جواز النسخ في القرآن , بل على وقوعه قوله تعالى:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: 106) الآية , وقد
قدمنا كلام السلف في تفسير هذه الآية نقلاً عن تفسير ابن كثير رحمه الله.
ودونك ما ذكر حضرة الدكتور في تفسيرها , فإنه قال في رسالة له سابقة
أدرجت في الجزء الثاني من المجلد التاسع من المنار الأغر بعد أن ذكر قوله تعالى:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) ما نصه: (الآية هنا هي ما يؤيد
الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم , والمعنى: ما ننسخ من آية نقيمها دليلاً
على نبوة نبي من الأنبياء؛ أي: نُزيلها، ونترك تأييد نبي آخر بها , أو ننسها الناس
لطول العهد بمن جاء بها , فإننا بما لنا من القدرة الكاملة، والتصرف في الملك نأتي
بخير منها في قوة الإقناع، وإثبات النبوة , أو مثلها في ذلك) .
ونحن ندعو القراء الكرام إلى المقارنة بين ما نقل عن السلف في تفسير هذه
الآية , وما قاله حضرة الدكتور , فإذا كان لفظ آية يدل بالاشتراك اللفظي على
معان متعددة؛ فهل يجوز لأحد كائنًا مَن كان ترْك المأثور عن العارفين بالمراد،
واختراع معنى آخَرَ مِن عندِ نفسه بعد أكثر من ثَلاَثَ عَشْرَةَ مائة سنة؟ وهل هذا إلا
تفسير بالرأي في مقابلة المأثور , الذي توافرت الأدلّة الشرعية على منعه، والتحذير
منه كما دل العقل على قُبْح تفسير كلام أحد على غير مراده.
ونقول أيضًا: إذا كانت الآية هنا هي (المعجزة) كما يقول حضرة الدكتور ,
فما معنى إزالتها , وترك تأييد نبي آخر بها؟ فإن المعجزات إنما هي أمور خارقة
للعادة يظهرها الله على أيدي أنبيائه لتدل على صدق دعواهم , وقد انقضت
بانقضاء الزمن المشترط لوجودها , وليست هي جاريةً على سنن الكون المعتادة
حتى تبقى ككل باقٍ يرى تابعًا وخاضعًا لأسبابه ونواميس جريه في بقائه وتطوراته ,
وأكثر المعجزات أعراض لا قيامَ لها بنفسها , وإنما هي واقعات تنقلها الأمم
كسائر الأخبار.
إنه لا يمكن تأييد نبي بمعجزة هي نفس معجزة نبي آخر , والممكن إنما هو أن
يؤيد بمثلها؛ لأنها إن كانت معجزة النبي الأول موجودة بين أيدي الناس , فكونها
معجزة للثاني ممتنع ولأفضى ذلك إلى تحصيل الحاصل , وإن كانت قد فقدت
فالأخرى إنما هي مثلها، والنسخ أو الإزالة أو الترك لا يكون إلا لما يجوز أن يظهر ,
أو لما هو موجود، فإذا امتنع عقلاً أن تكون نفس معجزة نبي متقدم هي نفس معجزة
نبي متأخر لم يبقَ في تفسير الآية إلا أن يُقال هكذا: ما ننسخ من آية , أي من مثل
آية أو ننسها نأتِ بخير منها أو مثلها. ومؤداه: ما نترك مثل معجزة إلا نأتِ بمثلها.
أليس هذا تناقضًا يجب أن ينزه القرآن عنه؟ ونقول أيضًا: إنه لو سلم جواز وقوع
النسخ في المعجزات فإنه لا يتصور وقوعه إلا في القرآن حين إمكان النسخ؛ أي:
وقت نزول القرآن، وقبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم , فثبت الاستدلال
بهذه الآية على جواز النسخ، ووقوعه في القرآن حتى على تفسير حضرة الدكتور
للآية بمعنى المعجزة , فإن القرآن من أعظم معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم.
ونقول أيضًا: ما ذكرناه عن السلف هو المتعين , ويلزم الأخذ به؛ لأن هذا
الدين إنما جاءنا بتوسطهم , فلا يجوز لنا أن نخرج عن جميع أقوالهم إلا بِحُجّة
واضحة , ومن المحال أن يوجد لأحد منهم قول موافق لها.
وأيضًا لو كان هذا الكتاب نزل علينا ابتداءً، ولم يبينه مبين لنا لَمَا جاز لنا أن
نستبد بعقولنا في مواطن الاشتباه , وعدم وجود مرجح، ومن هنا قالوا: لا يجوز
تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وفوق ذلك كله أن هذه الآية ذكرت في ذيل خطاب الله لعباده المؤمنين تسكينًا
لهم , ودفعًا للشبه التي يبثها بينهم أهل الكتاب والمشركون من قولهم: إن محمدًا يأمر
بالشيء، ويمنعه غدًا. إلى غير ذلك من تشكيكاتهم الكاذبة , فرد الله عليهم , وأعلم
عباده المؤمنين بالحكمة في ذلك , ونبههم على أن هذا إنما هو حسد من أعدائهم ودونك
الآية وما قبلها يتبين لك أن ما ذكرناه عن السلف هو المطابق لظاهر
سياق الآية بعد ما عرفناك فساد تفسير حضرة الدكتور قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَا يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ * مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ
بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 104-106) ,
فالآية دلت على أن الذين كفروا يكرهون نزول الخير على الرسول صلى الله
عليه وسلم والمؤمنين , ولما كان النسخ إنما هو زيادة خير، وفضل من الله كنسخ
بعض الأحكام الشاقة التي كلف بها بني إسرائيل , وكنسخ ما فيه خير مما نزل على
محمد صلى الله عليه وسلم إلى ما هو أكثر خيرًا منه ذكره تبارك وتعالى كالفرع
من قوله: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (البقرة:
105) , وأتبع الآية بقوله: {ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:
106) استدلالاً لصحة النسخ؛ لأنه إذا كان من المقرر لديك، ومن المسلم لَدَى
أعدائك أن الله تعالى هو خالق الخلق، واستعدادهم المختلف باختلاف الزمان
والمكان , فمن اللازم لذلك إذا وجد المقتضى نسخ بعض الأحكام والتعاليم الأهلية إلى
ما هو أنسب بأحوال المكلفين، وأكثر خيرًا لهم، وهذا ظاهر في تلازم الخلق
والأمر , وقوله تعالى عقب ذلك: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم
مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (البقرة: 107) هو زيادة لإيضاح الحجة
معناه أنه إذا كان هو الخالق للأشياء , فهو يعلم المناسب والأصلح بها , وإذا كان هو
الولي والملك فلا بُدَّ لكل ملك من أحكام، فإذا كان الملك ذا حكمة وعدل مختبرًا أحوال
الرعية فلا يليق بعدله ترك ما فيه زيادة الخير والأنسب بأحوالهم لما هو أحط
منه مع علمه بذلك.
أما قول حضرة الدكتور في رسالته السابقة بعد قوله تعالى: {أوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) : ننسها الناس لطول العهد بها (يعني: المعجزة) إلى آخره -
فيقال عليه: إن الضمير في] نُنْسِهَا [عائد على الآية , وقد قدمنا فساد تفسيرها
بالمعجزة؛ لأنا نقول: إن الله قد وعد في هذه الآية بأنه إذا نسخ آيةً أو أنساها فهو لا
محالةَ يأتي بخير منها أو مثلها وعدًا لازمًا لتلازم الشرط والجزاء - فإذا أبى
الدكتور تفسير الآية إلا بالمعجزة فهل أتى الله بخير من كل معجزة أنسيت أو أتى
بمثل كل معجزة أنسيت كل واحد من أنبيائه؟ وما معنى قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ
تَنْسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ} (الأعلى: 6 - 7) فهل كان يقرئه عدد معجزات
الأنبياء قبله عليه وعليهم الصلاة والسلام.
وأيضًا قد قرأ بعض القراء (ما ننسخ من آية أو ننسأها) بفتح النون وهمزة
بعد السين، ومعناه حينئذ: نؤخرها وحضرة الدكتور ذكر أن معنى ما ننسخ: ما
نترك. وعليه يكون المعنى هكذا: ما ننسخ؛ أي: ما نترك من آية أي: معجزة أو
ننسأها أي: نؤخرها. وهو على ما فيه من الركاكة ومخالفة ما ذكرناه عن
السلف لا يعطي ما أراده.
ذكر حضرة الدكتور في رسالته السابقة بعض الآيات المنسوخة، ورد بزعمه
على من قال بنسخها وحيث إني رأيته إنما مال إلى التأويلات الزائفة، ومع ذلك هي
لا تنتج مراده. فلم أر للتطويل فائدة بالرد عليه؛ لأن ما ذكره بين البطلان بنفسه.
ويكفي في الجواب عليه عن ذلك كله حتى بعد تسليم تأويلاته أن يقال له
بجواب مجمل: إن هذه الآيات التي زعمت أنها ليست بمنسوخة كآية تقديم الصدقة
قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك هل ترى أنها محكمة بمعنى أن
دلالتها حين نزولها وبعد نزول آيات التخفيف بعدها على السواء من كل وجه؟ فإن
قلت: نعم. فعليك البيان بشرط عدم التأويل والخروج عن الظاهر، لأنا نرى
التأويل للمنسوخ على غير ظاهره وإبقاء الناسخ على ظاهره هو القول بالنسخ عندنا لا
فرق إلا في اللفظ والعبارة.
وإن قلت بتغيير الدلالة ولو من بعض الوجوه فقد قلت بالنسخ صراحة، ووافقتنا
وهو غاية ما تتمناه.
لم يقع خلاف بين المسلمين في جواز النسخ ووقوعه من غير فرق بين كونه
في الكتاب أو السنة حتى قيل: إنه مما اتفق عليه أهل الملل - إلا اليهود فقد منعوه
للتوراة، وقالوا: إنه لا يجوز أن يرسل الله رسولاً بنسخ شيء من التوراة. قالوا ذلك
وجوزوا لأحبارهم نسخ ما شاءوا من التوراة - وإلا ما يحكى عن أبي مسلم
الأصفهاني أنه قال: لم يقع شيء من ذلك في القرآن. وهذا مما يعد من أكبر غلطاته
حتى قال الحافظ ابن كثير بعد أن حكى قوله: وقوله هذا ضعيف مردود، ومرذول.
وقال السيد صديق حسن خان ولعله نقلاً عن الإمام الشوكاني: وإذا صح هذا عنه فهو
دليل على أنه جاهل لهذه الشريعة المحمدية جهلاً قطعيًّا وأعجب من جهله بها حكاية
من حكى عنه الخلاف في كتب الشريعة فإنه إنما يعتد بخلاف المجتهدين، لا بخلاف
من بلغ في الجهل إلى الغاية. انتهى.
ولم أر أحدًا حكى قول الأصفهاني إلا وأنحى عنه باللوم. ونحن لا نرى في
الطعن فائدة [1] لأنا نعلم أنه ما من أحد غير أنبياء الله ورسله إلا ويؤخذ من قوله
ويترك، ومن تتبع الغلطات ولو كبار الرجال وجدها في كل شيء من الأشياء، وأمر
من الأمور، ولا يبقى بيديه شيء من الحق، وذلك هو الخسران المبين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: قد أحسن الكاتب في عدم إقراره لصديق حسن خان على طعنه هذا بأبي مسلم، وأين هو من أبي مسلم؟ بل أين منه شيخه الشوكاني في فهم القرآن؟ إننا نجل الشوكاني، ونعرف له فضله في علوم الحديث والآثار والفقه، ولا نظن أنه نبز أبا مسلم بالجهل ونحمد من صديق حسن اهتداءه بكتب الشوكاني، ومحاربته للتقليد وإن كان في عامة أحواله مقلدًا للشوكاني ولكننا لا نرى طعنه هذا في أبي مسلم إلا هفوة من هفوات الغرور نعم إن لأبي مسلم غلطات ولكن أي عالم كتب أو ألف أو أبدى علمًا وفهمًا فسلم من الغلط والخطأ؟ ألم ينكر هو والشوكاني على الأئمة المجتهدين، وعلى من قبلهم من علماء السلف كثيرًا من المسائل حتى بعض فروع مسألة النسخ؟ ألم يحصر الشوكاني المنسوخ في بعض آيات، ويخطئ المتقدمين في سائر ما عدوه منسوخًًا؟ فكيف يعد أبو مسلم من أجهل الناس بالشريعة إن وجد لهذه البضع الآيات معنى ينافي النسخ بالمعنى الخاص الذي ينفيه؟ .(11/292)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات
(كتاب التربية)
أَلَّفَ علماء أوربا كتبًا كثيرة في فن التربية , فلما كتب ذلك الفيلسوف سبنسر
كان ما كتبه ناسخًا لطريقة من قبله , ولكثير مما جاءوا به وقدوة جديدة لمن عاصره ,
ولمن يجيء بعده فهو الذي بنى قوانين التربية على أسس المنفعة , وبين خطأ
الناس في تقديم الزينة على المنفعة كما جرى عليه المتوحشون من أقدم زمن يعرفه
التاريخ. وكتابه في التربية أشهر من أن يذكر فينوه به , وقد ترجمه بالعربية محمد
أفندي السباعي أحد محرري الجريدة , وطبع في مطبعتها طبعًا حسنًا على ورق جيّد
فبلغت صفحاته 143 , وجعل ثمنه عشرون قرشًا، وهو يطلب من إدارة الجريدة.
***
(مجموعة الخطب)
تمنى كثير من أهل العلم والأدب لو تطبع الخُطَب التي تلقى في نادي دار
العلوم، وكاشفوا رئيس النادي (حفني بك ناصف) بأمنيتهم , فوافقت رغبته رغبتهم
وقرر مجلس إدارة النادي طبع الخطب التي يكتبها أصحابها. وقد طبعت المجموعة
الأولى، فأوعت ثماني خطب في موضوع اللغة والتعريب والترجمة , فبلغت زهاء
مائة صفحة , وجعل ثمن النسخة منها قرشان ونصف قرش , وهي تطلب من النادي
بشارع عبد العزيز (نمرة 5) .
***
(بلاغات النساء)
كتاب لطيف من تأليف أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر المحدث المؤرخ
(المتوفى سنة280) أودعه ما رواه عن النساء من خطبهن وطرائف كلامهن , وملح
نوادرهن , وأخبار ذوات الرأي منهن , وأشعارهن في الجاهلية وصدر الإسلام ,
ففيه من الخُطب خطب عائشة أم المؤمنين في فضائل أبيها ورثائه، وخطبتها السياسية
بالبصرة وخطبتها لما بلغها قتل عثمان. وفيه خطبة السيدة فاطمة الزهراء عليها
السلام لما منعها أبو بكر ميراثها, وغير ذلك من خطب وكلام أمهات المؤمنين ونساء
الصحابة رضي الله عنهن وعن أزواجهن , وكلام غيرهن في السياسة والآداب
والمدح والرثاء , ومن أحسنه كلام كثيرات منهن مع معاوية في تخطئته بما كان منه.
وفيه كثير من كلام النساء في الأزواج مدحًا وذمًّا، ووصاياهن لبناتهن , والتعبير
عن سائر أغراضهن نثرًا ونظمًا، وليته خلا من أخبار مواجنهن، وأحاديث رفثهن،
إذًا لكان الكتاب جديرًا بعناية الشبان والشواب؛ لِمَا فيه من روائع الآداب
طبع الكتاب أحمد أفندي الألفي طبعًا حسنًا على ورق جيد , وشرح في هوامشه
ما رآه خفيًّا من مفرداته حتى بعض كلم الرفث والمجون الذي كان أجدر بالخفاء منه
بالظهور، وقد بلغت صفحاته زهاء 200 من قطع المنار , وجعل ثمن النسخة منه
عشرة قروش صحيحة , ويطلب من المكتبات المشهورة.
***
(مطالع البدور في محاسن ربات الخدور)
هو كتاب خاص بوصف محاسن النساء نظمًا ونثرا , جمع فيه واضعه محمد
سليم بك أبو الخير الأنسي ما اختاره ذوقُهُ من كلام المتقدمين , وما جادت به
قريحتُه في ذلك , ومثل هذا الوضع لا يحتاج إلى من ينوه به , ولا يرغب فيه؛ لذاك
كتبنا عنه هذه الكلمات قبل مطالعة شيء منه , وقد جعله جزئين لطيفين , طَبَعَ أحدهما
وشرع في طبع الآخر , وثمنهما عشرة قروش , وثمن الذي طبع وحده خمسة
قروش , ويطلب من المكتبات المشهورة.
***
(تحفة المجالس ونزهة المجالس)
كتاب لطيف في المحاضرات , يُعْزَى إلى جلال الدين السيوطي , جُلُّهُ حكايات
وأخبار في فضل العقل والعلم , وأخبار الأولين من الأنبياء والخلفاء والملوك
والقضاة والمتلصصين والنساء والعشاق. طبعه الحاج محمد أفندي دربال التونسي
التاجر بسوق العطارين بالقاهرة , وقد جعل ثمن النسخة منه خمسة قروش صاغ ,
وهو مما يرجى رواجه؛ لتوفر الرغبة في أمثاله من كتب الفكاهات والمحاضرات
عند جميع طبقات الناس , ولِرخص ثمنه.
***
(الحمَّامات المعدنية)
رسالة موضوعها التداوي بالحمَّامات المعدنية في القطر التونسي , وضعها
الطبيب بيورف بلغة أجنبية , وتلقاه عنه بالعربية الشيخ محمد بن حسين بيرم في
عهد محمد بن حسين باي , ونقلها إلى اللغة العربية , ووضع لها مقدمة من عنده.
وقد طبعها في هذه الأيام طابع كتاب تحفة المجالس , وقد جعل ثمن هذه الرسالة
قرشين ونصف قرش , فنحث القُرَّاء على مطالعتها لِمَا فيها من الفوائد المتعلقة
بالاستحمام بالمياه المعدنية , ونخص بالذكر أهل تونس لما فيها من الكلام عن
حماماتها بالتفصيل.
***
(الإسلام - والرد على لورد كرومر)
كتب أحد فضلاء المصريين مقالات دينية في الرّدّ على لورد كرومر نشرها
في جريدتي المؤيد واللواء بتوقيع (أبقراط) , ثم جمعها وطبعها على حدتها فبلغت
64 صفحةً. منها مقالة في المقابلة بين الإسلام والنصرانية , ومقالة في (المرأة في
الإسلام والنصرانية) , وسائر المقالات في الرِّقِّ وتعدد الزوجات , والطلاق ,
والعبادات , والجنة والنار , والجهاد. ولعلّ هذه المقالات أحسن ما نشر في
الجرائد رَدًّا على كتاب لورد كرومر (مصر الحديثة) , وثمن النسخة منها ثلاثة
قروش.
***
(تقرير السير ألدن غورست)
كان الناس ينتظرون هذا التقرير انتظارَ مَنْ يتوقع شيئًا جديدًا في أمْر عظيم؛
لِمَا شاع وذاع، ونشرته الجرائد في جميع البقاع من أن الإنكليز غيروا سياستهم في
إدارة هذه البلاد منذ استقالة لورد كرومر إرضاءً للمصريين الذين أظهروا السّخط
من الإدارة السابقة. وكان الكثير يظنون - وهم لم يروا من السير ألدن غورست
المعتمد الجديد عملاً جديدًا يخالف طريقة سلفه اللورد - أنهم سيقرءون في تقريره عن
سنة 1907 شيئًا جديدًا , يستنبطون منه كُنْهَ السياسة الجديدة.
وكانوا يظنون أن من فروع التغيير في سياسة الوكالة البريطانية بمصر
حرمان أصحاب المقطم من ترجمة التقرير السنوي بالعربية , وطبعه، وإهدائه إلى
المشتركين في جريدتهم , وبيع طائفة منه فلما جاء الموعد , وظهر تقرير العميد
الجديد بمصر بالإنكليزية والعربية في وقت واحد كالعادة قالوا: (ما أشبه الليلة
بالبارحة) وَرَأَوْا صِدْقَ قول لورد كرومر: (يذهب إنكليزي ويجيء إنكليزي)
فقد نسج غورست على منوال كرومر , ورمي عن قوسه. قالوا: إلا في مسألة
الصلة الشخصية بالأمير , فإن هذا يحاسنه بقدر ما كان ذلك يخاشنه , وصرح
بعض الأحزاب بأن هذه المحاسنة تخشى ولا ترجى , ويقول آخرون غير ذلك ,
وسترينا مصداق أحد القولين حوادث الأيام، لا سِيَّمَا بعد زيارة الأمير لملك الإنكليز
في هذا العام، ومهما قيل في هذا التقرير وما قبله مِنْ حيثُ السياسة فلا خَوْفَ في
أن هذه التقارير تواريخ رسمية، لإدارة البلاد المصرية والسودانية.
***
(كلمات لقاسم بك أمين)
كان قاسم بك أمين الذي نعيناه إلى القراء في منار الشهر الماضي يكتب بعض
ما يسنح له من المعاني التي فيها عظة وحكمة , وما يعن له من الآراء والخواطر ,
أو يراه من غريب المناظر. وقد ألقي إلى إدارة الجريدة ما كتبه من ذلك , فطبعته،
وأطلقت عليه هذا الاسم (كلمات لقاسم بك أمين) ؛ فكان زهاء ستين صفحةً مثل
صفحات كتاب الإسلام والنصرانية , وجعلت ثمنه عشرة قروش صحيحة تعظيمًا
لقيمته المعنوية , وإننا ننقل من فرائد تلك الكلمات أحسن نموذج للقراء وهو:
الحرية الحقيقية تحتمل إبداء كل رأي , ونشر كل مذهب , وترويج كل فكر.
أن الذي يمدحك بما ليس فيك إنما هو مخاطب غيرك.
رُبّ كلمة يتجرعها الحليم مخافة ما هو شر منها.
إذا استشارك عدوّك فأخلص له النصيحة؛ لأنه باستشارتك قد خرج من
عداوتك ودخل في مودتك.
تعصب أهل الدين وغرور أهل العلم هما منشأ الخلاف الظاهر بين الدين
والعلم , وليس بصحيح أن يوجد بينهما خلاف حقيقي لا في الحال ولا في الاستقبال
ما دام موضوع العلم هو معرفة الحقائق المؤسسة على الاستقراء , فمهما كثرت
معارف الإنسان لا تملأ كل فكره - بعد كل اكتشاف يتحققه العلم يبحث عن اكتشاف
آخر , وفي نهاية كل مسألة يحلها تظهر مسألة جديدة تطالبه بحلها.
الآن وغدًا يشتغل عقل الإنسان بالعلم؛ أي: بمعرفة الحوادث الثابتة , ولا يمنعه
ذلك من التفكر في المجهول الذي يحيط بها من كل طرف. هذا المجهول الذي كان
ويكون بعد، الذي لا قرارَ له ولا حدَّ لا في الزمان ولا في المكان هو دائرة اختصاص
الدين.
المقلد في إيمانه مقصر يحمل عقيدته كما تحمل الوردة في عروة الملابس،
والمنكر مجازف جاوز حد العقل والعلم، وأبغض منهما من يخادع بدينه , فيقول:
إنْ كان الله غير موجود ما خسرت أكثر من غيري , وإن كان موجودًا ربحت مع
الرابحين؛ لذلك أؤمن به. هذا هو المحتال الذي لا يصان أحد حتى الإله من نصبه.
أتعس البرية إنسان ضاع إيمانه يدس الموت بسمه في حياته , فيفسد عليها
لذتها , وينغص عليها شهوتها.
وسننشر بعض آرائه في أهل عصره.
***
(شقاء المحبين)
قصة في جزئين من وضع إسكندر دوماس الفرنسي الشهير , وترجمها
بالعربية حنا أفندي العنحوري , الشاب الدمشقي الذي نبغ في آداب هذه اللغة في سِنّ
الصبا نبوغًا قَلَّمَا قاربه في مثله أحد من المشهورين بالترجمة والكتابة في هذا
العصر , ولولا أن فاجأته المَنِيّة في نحو الثامنة والعشرين من سِنّه لَرَأَيْنَا من آثار
قَلَمِهِ ما يعدّ من آيات حياة العربية.
قلما رأيت ترجمة لأحد من الكتاب المعروفين كترجمة هذه القصة تكثر فيها
فرائد اللغة التي هجرها الكُتّاب لِقِلّة اطلاعهم , وتزين بالأمثال والاقتباس والتضمين
وحل المنظوم من كلام الشعراء الأولين المجيدين , وتقلّ فيها الأغلاط الشائعة
الآن.
طبع القصة إبراهيم أفندي فارس صاحب المكتبة الشرقية في جزئين , وأهدى
إلينا نسخةً منها وعهد إلينا أنْ لا نكتب عنها شيئًا إلا بعد قراءتها , فقلنا: لا بُدَّ لهذا
من سبب. فَلَمّا قرأنا صفحات منها علمنا أنه عهد إلينا بذلك؛ لعلمه بأننا نعرف قيمة
هذه الترجمة البليغة، وثمن الجزئين معًا عشرون قرشًا , وهي تطلب من طابعها.
***
(القطر المصري)
مجلة سياسية أسبوعية تؤيد سياسة الحزب الوطني بمصر أنشأها أحمد أفندي
حلمي أشهر محرري جريدة اللواء في عهد مؤسسها، وإذا كان من مروجي جريدة
اللواء بقلمه كما هو معروف , فلا غَرْوَ أن تروج مجلته وهي كبيرة الحجم قليلة الثمن
إذ قيمة الاشتراك فيها 50 قرشًا في السنة.
__________(11/302)
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
__________
خديجة أم المؤمنين
(3)
الفصل الخامس
(مقام خديجة عند قومها)
ما أكرم هذا المقام , وأي بليغ لا تأخذه الهيبة إذا دعي لتصور هذه المنزلة؟
سيدة بطلعتها الفخامة والشرف يتجليان، والجمال والكمال يتآلفان،
ومزايا كالزهر نفحًا وطيبًا ... وكزهر السما بهاءًا ونورًا
من شرف حَسَب، إلى كرم محتد، إلى سؤدد قبيل، إلى عز عشيرة، إلى
جمال ذات، إلى كمال صفات، إلى فضل حجى، إلى طهارة نفس، ذلك ما كان
تتزين به سيدتنا (خديجة) وذلك ما كانت تحل به بين قومها في المكانة العالية
والمقام الكريم.
هذه المزايا ليست بالبدع من الأشياء، ولا نبأها بغريب من الأنباء، بل هي
معهودة في كثير من النسوة، ومع ذلك لم يكن لاسمهنّ نصيب بغير الخمول، قد
طويت أعلامهن، ولم ينشر ذكرهن، ولم يسمُ في أقوامهن مقامهن، فكيف تسامى
اسم (خديجة) وعلت منزلتها؟
إنما كان لخديجة ذلك الشرف بشيء آخر غير مزاياها. ذلك الشيء هو ارتقاء
مدارك قومها , وسلامة أذواقهم , وحسن انتظام مجتمعهم. وليس بكافٍ لتعالي امرئ
أن يكون كاملاً بل لا بُدَّ مع ذلك من إحاطة قومه علمًا بفضائله , ووجود ميل فيهم
للفضائل والكمال , ومن المشهور أن الحجارة الكريمة عند من لا يعرف مزيتها لا
قيمةَ لها , وهي عند عارفيها فوق القيم , فالحق أن ارتفاع من يستحق الرفعة في قوم
ليس دليلاً على فضله وسعادة جده وحده , بل هو دليل أيضًا على فضل أولئك القوم
وسعادة جدهم، فقد ربح قوم كان للأفاضل منزلة كريمة لديهم، وخسر قوم لا يعلو
بينهم إلا من استعان بجيش من الحيل والخداع، وحواشٍ من النقائص المتغلبة على
الطباع.
وإذا كنا معجبين بالسيدة (خديجة) لوفرة مزاياها الشريفة , فنحن بقومها الذين
شرفوا هذه المزايا أشد إعجابًا. وليست (خديجة) وَحْدَها هي التي نالت مقامًا
كريمًا في قريش , بل كثير من فضليات نسائهم نلْنَ المقامَ الكريم فيهم , وكان لكثير
منهن آثارٌ مشكورةٌ في مساعدة الإسلام , الذي نقل العرب وغيرهم إلى أعلى مما
كانوا فيه , ولم يستطعن ذلك بما لهنَّ من القدر الذي يليق بإنسان ذي رأي معدود،
وعقل مذكور، ونفس مشابهة , وَحَسْبُكَ من هذا أن الرجل العظيم عمر بن الخطاب
أبا العدل وأبا الفتوح وأبا السياسة والإدارة لم يكن إسلامُه إلا بمحاورة سيدة من
أولئك السيدات القرشيات , هي أخته فاطمة زوجة ابن عمه سعيد بن زيد بن عمرو
بن نفيل.
نحن نعلم أن أكثر الناس يمرون بالمزية يعهدون أمثالها , فلا يلتفتون إليها ما
لم تكن رائعةً وفوق ما اعتادوا , وهذا عندنا ضارٌّ؛ لأن فيما يعهدونه أيضًا ما
يستحق الالتفات إليه، ويغري بالانتفاع منه إن كان مفيدًا، والتغافل عن الإنسان
المفيد إذا لم يكن فوق العادة يوصل إلى الحرمان أَلْبَتَّةَ من ذلك الرائع المنشود،
والسامي الذي هو فوق المعهود.
ولا يشكنَّ القارئ في أن كثيرًا من الأشياء التي صرفتنا الألفة عن إجلال شأنها
هي في جلالة الشأن عند الإمعان فوق ما نتصور. وفي كثير مما لا نتفكر فيه منها ما
تخر الأفكار صاغرة أمام زاخر فوائده، وباهر أسراره؛ فلذلك أحببنا أن
نمر بقارئنا مرةً في تفصيل جملة تلك المزايا التي شرفها قوم (خديجة) حتى كانت
بها كريمة المقام فيهم؛ لأنه ربما اختلج في صدره التعجب من إكبارنا شأن مزايا
معهودة في كثيرين , وقد يكون قارئنا من حزب الأكثرين الذين لا يبالون
بالمعهودات، ولا يطربون بغير الغرائب.
نعم، نعم نحن لم نطرف بما فوق المعهود، ولم نُهدِ ما وراء المشهود، ولا
عذنا بمبتدعات التصور، ولا لذنا بغرائب الحوادث، وشواذ المصادفة، وخوارق
العادة، ولم نمت إلى أفئدة القراء إلا بمعروف له أمثال، ومألوف لا تضيق بتصديقه
الأفكار، ولكن الأمر في هذه المعهودات على ما قلنا. وإذا ثبنا إليها بنظر الإمعان
غير وسنانة عين بصيرتنا ألفينا فيها عند سأم النفس من لذة الحس، أعظم ما نتوق
إليه من لذة التصور وفائدة الإدراك.
وإذا كانت الحياة واحدة كان جديرًا بنا أن نقف متذكرين هذه الوحدة أبدًا أمام
كثرة اختلاف المظاهر، وشدة احتجاب الأسرار , ولم يكن حسنًا بنا أن ننسى أحاسن
ما تلده لنا هذه الأم من الصور التي لا تُحْصَى.
إننا بتذكرنا مَن سادوا وشادوا، وبتذكرنا من صلحوا وأصلحوا، بتذكرنا من
أوجدوا وابتدعوا - نتذكر تاريخ أمنا الحياة , وترتاح نفوسنا باستجلاء أحسن
صورها، وتتوارد عليها اللذة باشتياقها إلى نصيب من ثروة تلك الأم التي جادت
بمقاديرَ منها عظيمة على إخواننا أصحاب تلك المظاهر، ولابسي تلك الصور، ولم لا
نتوق إلى حديث ذلك التراث وهو يملأ كنوزًا إن عجزت أفكارنا أن تحيط بكُنْهِ
جواهره خبرًا فهي لا تعجز أن تأتينا بلذة من التأمل في بديع كيانها , والأمل ببلوغ ما
تميل إليه النفس منها.
* * *
الفصل السادس
(فضائل خديجة والفضائل عند قومها)
تبارك واهب الحياة، فقد أبدع لنا في (خديجة) المثال الأسنى منها، وأطلع
لنا في شخصها زواهر الإنسانية الفضلى، وبنور هذه الزواهر رأينا مدارك قريش
في الأفق الأعلى، وتربيتهم الأدبية والعقلية في المنزلة العليا.
نحن مَعْشَرَ بني الحياة متفاوتون كثيرًا في قوى النفوس , وأكثرنا في الحقيقة
مغبون الحظ، منقوص النصيب من القوى التي تكون بها الحياة هنيئةً شريفةً مسعدةً
لصاحبها وغيره , وقليل منا من رزقوا فضلاً من هذه القوى النافعة الآتية بالغبطة
والحُبُور.
ولدى التأمل نجد استعداد فطرة الشخص هو الأساس في حسن الحظ من
هذه القوى النافعة , ثم للتربية دخل كبير , فإذا اجتمع في الشخص استعداد حسن
وتربية حسنة كان حظه عظيمًا من فضائل النفس , وقد اجتمعتا في (خديجة)
فرأينا في سيرتها ذلك المثال السني، والكمال السمي.
عرفنا حسن استعدادها؛ لأن التربية وحدَها لا تفعل شيئًا في جوهر النفس إذا
كان غير صالح لفعلها كما لا يصلح الماء لأن تطبع فيه ما تشاء، وعرفنا حسن
تربيتها؛ لأن الاستعداد وحده لا يسير بصاحبه إلى المرغوب في المجتمع.
ومن حسن استعداد هذه السيدة وحسن تربيتها عرفنا شيئًا آخر جديرًا بالتنويه,
وقلما رأينا من نوَّه به أو التفت إليه , فلذلك عنينا به نحن كثيرًا في صدد هذه السيرة
وهو ارتقاء قوم (خديجة) ارتقاءً عظيمًا فإن التربية الشخصية مقتبسة في الغالب
من التربية العمومية. والمجتمع غالبًا أشبه بالمرآة يرينا من الأشياء مقبولاً ومردودًا
ومسكوتًا عنه.
وتشتهر المقبولات حتى يطلق عليها اسم المعروف، والمردودات حتى يطلقَ
عليها اسم المنكر، ويضطر الناس إلى تقرير تربية عمومية هي أن لا يخالف
المعروف، ولا يوافق المنكر، ويبقى للناس سبح في المسكوت عنه من الأشياء حتى
يرى كل منهم رأيه فيها , فهذا يستحسن شيئًا حتى يوجبه على نفسه، وذاك يستقبح
شيئًا حتى يحرمه عليها. وأعقل الناس في هذه الأشياء المسكوت عنها من جعل
المعروف والمنكر معيارًا لها , فكل ما قرب من المعروف كان حسنًا , ويكون وجوبه
على حَسَب درجة قرْبه من المعروف، وكل ما قرب من المنكر كان مسترذلاً، ويكون
حظره على حسب درجة قربه من المنكر، والأصل في المنكر هو الأذى والعدوان ,
وعليه قِيسَ الأصل في المعروف قياس الضد , فالأصل فيه العدل والإحسان.
فعلى هذين الأصلين تقوم دعامة النظريات في التربية، وعليهما تشاد الأعمال
فيها.
وأي باحث لا تأخذه هيبة إذا اطلع على ما كان لقوم (خديجة) من التعمق في
في دقائق هذا الفن من حيث النظر، وعلى بدائع النتائج فيه من حيث العمل، أي
والله إن هؤلاء القوم النازلين في ذلك البلد الصغير البعيد، وإخوانهم الآخرين
الضاربين في تلك الفيافي يدهش المطالع ما يراه لهم من الباع الطويل في فن
التربية على مقتضى مجتمعهم ذاك. فتراهم مثلاً لما كانت السماحة ضرورية ولا
سِيَّمَا لذلك الاجتماع جعلوها في المقام الأول , ولم يأتوا بطبعها في النفوس حتى نبغ
فيهم أجواد بلغوا بهمتهم في الجود الكواكب , وازَّينت الأرض بمناقب هممهم،
وإيثار أخيهم الإنسان على أنفسهم، كما فعل كعب بن مامة الذي آثر رفيقة بمائه ,
ومات هو عطشًا.
ولما كانت الشجاعة ضربة لازب لكل شخص , وكل جماعة في كل زمان
وكل مكان تجدهم جعلوها شعار المحامد وتاج المناقب , وسيروا فيما ضربوه من
الأمثال قولهم: (الشجاع موقى، والجبان ملقى) وكانوا يتمادحون بالموت قتلاً،
ويتهاجمون بالموت على الفراش , ولما بلغ عبد الله بن الزبير - وهو ابن أخي
خديجة - قتل أخيه مصعب، خطب فقال: (إن يُقْتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه.
إننا لا نموت حتفًا ولكن قطعًا بأطراف الرماح وموتًا تحت ظلال السيوف. وإنْ
يقتل المصعب فإن في آل الزبير خلفًا منه) ذلك لأنهم كانوا يكرهون الحياة إذا لم
تشرف , ويرون الحياة الرذيلة معرضة للعدم أكثر من الحياة الشريفة , ولمثل هذا
يقول علي بن أبي طالب: (بقية السيف أنمى عددًا، وأطيب ولدًا) وتقول
الخنساء وهي إحدى الشهيرات في العرب:
نهين النفوس وبذل النفو ... س يوم الكريهة أبقى لها
لا يستنكرن أحد إذا قيل له: إن الشجاعة - وهي السجية التي لا ترقى الأمم
إذا خلت منها - كانت في العرب من الأخلاق الفاشية التي لا يعتدّون بأحد منهم ما لم
تكن فيه , وقد سهل على نفوسهم انطباع هذا الخلق فيها؛ لأن أكثر شيء كانوا
يتناقلونه هو حديث الشجعان، وإقدامهم في الشدائد حتى فضلوا، والجبناء وإحجامهم
فيها حتى رذلوا، وهنالك من الشعر في الشجاعة والشجعان ما يفعل في النفوس فعل
السِّحْر، فيستنزلها من الخوف على الحياة والهرب بها إلى الخوف على الشرف حتى
تهون النفوس في سبيله، كقول عنترة وهو أحد مشهوري شجعانهم:
بكرتْ تُخوفني الحتوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها إن المنية منهل ... لا بُدَّ أن أُسْقَى بكأس المنهل
فاقني حياء لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
وقد يظن ظانّ أن شجاعة العرب وبَأْسهم لم يكن إلا فيما بينهم , ومثل هذا
الظن من قلة الاطلاع عل جملة أخبارهم , فنحن لا نزيد أن نأتي بآية على شجاعتهم
مما فعل هؤلاء القوم بعد إسلامهم , فإن ذلك مشهور ولكن حسبنا أن ندل القارئ على
ما كان من بأس العرب يوم ذي قار إذ أراد كسرى أن يوقع سوءًا ببني بكر بن وائل؛
لسبب لا محلَّ لتفصيله , فجهز عليهم جيشًا كثيفًا؛ لِيهلكهم به , وبلغهم خبرُه؛
فتجهزوا له، وأعانهم قبائل أخرى , فتوافوا بواد اسمه ذو قار وكانت الهزيمة على
جيش كسرى حتى تبعهم العرب إلى داخل البلاد الفارسية , وهي واقعة مشهورة
كثرت فيها الأشعار، وظهر فيها ما للشجاعة من الفضل في كسب الفخار، وحمى
الذِّمَار، واتقاء العار، وفي هذه الواقعة يقول الأعشى أعشى بني بكر:
وجند كسرى غداة الحنو صبحهم ... منا غطاريف ترجو الموت وانصرفوا
لقوا ململمة شهباء يقدمها ... للموت ... لا عاجز منا ولا خرف
فرع نمته فروع غير ناقصة ... موفق حازم في أمره أنف
فيها فوارس محمود لقاؤهم ... مثل الأسنّة لا مِيل ولا كُشفُ
لما رأونا كشفنا عن جماجمنا ... ليعلموا أننا بكر فينصرفوا
قالوا البقية والهنديّ يحصدهم ... ولا بقية إلا السيف فانكشفوا
لو أن كل مَعَدٍّ كان شاركنا ... في يوم ذي قار ما أخطاهم الشرف
لما أمالوا إلى النشاب أيديهم ... ملنا ببيض لمثل الهام تختطف
إذا عطفنا عليهم عطفة صبرت ... حتى تولت وكاد القوم ينتصفوا
بطارق وبني ملك مرازبة ... من الأعاجم في آذانها الشُّنُف
من كل مرجانة في البحر أحرزها ... تيارها ووقاها طينها الصدف
كأنما الآل في حافات جمعهم ... والبيض برق بدا في عارض يكف
ما في الخدود صدود عن سيوفهم ... ولا عن الطعن في اللبات منحرف
وفي هذه الواقعة يقول العديل بن الفرج العجلي:
ما أوقد الناس من نار لمكرمة ... إلا اصطلينا وكنا موقدي النار
وما يعدون من يوم سمعت به ... للناس أفضل من يوم بذي قار
جئنا بأسلابهم والخيل عابسة ... لما استلبنا لكسرى كل أسوار
وفيها يقول شاعر آخر من بني عجل:
إن كنت ساقيةً يومًا ذوي كرم ... فاسقي الفوارس من ذهل بن شيبانا
واسقي فوارس حاموا عن ذمارهم ... واعلي مفارقهم مسكًا وريحانا
وهي واقعة شهيرة ظهرت فيها الشجاعة العربية أكمل مظهر , وكان المنذر
لهم بنية كسرى وعزمه لقيط الأيادي إذ كتب إلى بني شيبان يخبرهم بذلك في شعر
مشهور غاية في البلاغة والتحميس واستثارة العزائم , وفيه يقول:
قوموا جميعًا على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا
وقلدوا أمركم لله درّكمو ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مسترفًا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعا
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون مُتِّبِعًا طورًا ومُتِّبَعًا
حتى استمر على شزر مريرته ... مستحكم الرأي لا فحما ولا ضرعًا [1]
وليس يشغله مال يثمره ... عنكم ولا ولد يبغى له الرفعا
فعلى مثل ما ذكرنا كان نصيب العرب عامَّةً , وقبيلة خديجة خاصَّةً من
الشجاعة التي لا قوام للأمم بدونها , وكانوا لا يعتدون بالجبان، ولا يعدونه شيئًا
مذكورا. وينبئك بذلك قول أحد شعرائهم:
خرجنا نريد مغارًا لنا ... وفينا زياد أبو صعصعة
فستة رهط به خمسة ... وخمسة رهط به أربعة
ثم لم يكن نصيب قوم (خديجة) في فقه النفس والحكمة والمعارف بأقل من
نصيبهم في الشجاعة؛ فقد كانوا يتناقلون المعارف، ويتدارسونها من غير كتب ,
وكان لهم إلمام قليل بحركات الكواكب والأنواء التي تتبعها. وهو يقتضي شيئًا من
معرفة الحساب , وكان لهم معرفة غير قليلة بالطب، وحفظ الصحة سواءٌ كان طبّ
الإنسان أو طبّ الحيوان.
والطِبّ يقتضي أيضًا نصيبًا من علم الخواص , التي أودعها الباري في المعدن
والنبات والحيوان. أما معرفتهم بالأخبار أي: التاريخ فحدث عنها ولا حرج , وكانوا
يعبرون عن هذا العلم بعلم النسب , فإن علم النسب في الحقيقة ليس عبارة عن معرفة
نسب الأشخاص والقبائل؛ فإن هذه معرفة بسيطة لا تستحق أن تُسمّى عِلْمًا , وإنما
كان النسابون يعرفون أخبار أولئك الأشخاص وأخبار تلك القبائل , وهذا هو التاريخ
وربما كان السبب في اشتهار هذه المعرفة باسم علم الأنساب أن عارفي الأخبار كان
إليهم المرجع في معرفة الأنساب التي من أهم فوائدها معرفة تفريع القبائل ,
وإلحاق الفروع بأصولها على شدة البعد بين الأصول وتلك الفروع أحيانًا.
وقد كان منهم اختصاصيون بهذا العلم يلقون منه على من يتحلقون حولهم. قال
رؤبة بن العجاج: قال لي النسابة البكري: (يا رؤبة لَعَلَّكَ من قوم إن سكت عنهم لم
يسألوني , وإن حدثتهم لم يفهموني) يعيب بذلك على الذين لا يرغبون في تلقي
هذا العلم حق الرغبة. قال رؤبة: فقلت له: إني أرجو أن لا أكون كذلك. قال: فما
آفة العلم ونكرته وهجنته؟ قلت: تخبرني. قال: (آفة العلم النسيان، ونكرته
الكذب، وهجنته نشره عند غير أهله) .
وأما الحكمة والآداب والبيان فقد بلغ فيها هذا الشعب العربي من الانصباب
على حفظها ودراسة الكَلِم الجوامع فيها مبلغًا عظيمًا , ويمكنني أن أقول: إنها من
أشهر ما اشتُهِرَ عنهم.
وهل يجد الباحث معنى من المعاني التي يخطر للنفس فيها الاستحسان أو
الاستهجان إلا ويجد لهم الشافي الوافي من البيان في تصويره وإبرازه بأبدع حلة ,
ولا ينبئك ببعض ذلك شيء كالمأثور من كلمهم الجوامع التي سارت مسير الأمثال،
وكانت كالدرر الفرائد بين سائر الأقوال، ولا نستطيع أن نأتي هنا بقليل من ذلك
الكثير لِكَيْلاَ نبعدَ بالقارئ عن سياق السيرة , ولكنا نذكر خبرًا واحدًا يدل على مقدار
عناية العرب بتذاكر الحكم والآداب، وصياغتها بأبدع البيان، ومقدار ما وسعت
منها تلك الأفكار.
ذكروا أن عمْرو بن الظرب العدوانِيّ وحممة بن رافع الدَّوْسِيّ اجتمعا عند ملك من ملوك حِمْيَر، فقال: تساءلا حتى أسمعَ ما تقولان. فقال عمرو لحممة: أين تحب أن تكون أياديك؟ قال: (عند ذي الرتبة العديم، وعند ذي الخلة الكريم، والمعسر العديم والمستضعف الحليم) . قال: من أحق الناس بالمقت؟ قال: (الفقير المختال
والضعيف الصوَّال، والغني القوَّال) . قال: فمن أحق الناس بالمنع؟ قال:
الحريص الكاند والمستميد [2] الحاسد، والمخلف الواجد) قال: مَن أجدر الناس
بالصنيعة؟ قال: مَن إذا أُعْطِيَ شَكر، وإذا مُنِعَ عذر، وإذا مُطِل صبر، وإذا قدم العهد ذكر. قال: مَن أكرم الناس عشرة؟ قال: (مَن إذا قرب منح، وإذا ظلم صفح، وإذا ضويق سمح) . قال: مَن ألأَم الناس؟ قال: (من إذا سأل خضع وإذا سئل منع، وإذا ملك كنع [3] ، ظاهره جشع، وباطنه طَبَع) [4] .
قال: فمَن أجلّ الناس؟ قال: (مَن عفا إذا قدر، وأجمل إذا انتصر، ولم
تطغه عزة الظفر) قال: فمَن أحزم الناس؟ قال: (مَن أخذ رقاب الأسود بيديه،
وجعل العواقب نصب عينيه، ونبذ التهيب دبر أذنيه) قال: فمَن أخرق الناس؟
قال: (مَن ركب الخطار، واعتسف العثار، وأسرع في البدار قبل الاقتدار [5] )
قال: مَن أجود الناس؟ قال: (مَن بذل المجهود، ولم يأسَ على المفقود) قال: فمَن
أبلغ الناس؟ قال: (مَن حلَّى المعنى العزيز باللفظ الوجيز، وطبق المفصل قبل
التحزيز) . قال: من أنعم الناس عيشًا؟ قال (مَن تَحَلَّى بالعفاف، ورضي
بالكفاف، وتجاوز ما يخاف إلى ما لا يخاف) . قال: فَمَن أشقى الناس؟ قال:
(مَن حسد على النعم، وسخط على القسم، واستشعر بالندم على ما انحتم) . قال:
فَمَن أغنى الناس؟ قال: (مَن استشعر اليأس، وأظهر التجمل للناس، واستكثر
قليل النعم، ولم يسخط على القسم) قال: (فمَن أحكم الناس؟) قال: من صمت
فادَّكر, ونظر فاعتبر , ووُعظ فازدجر) قال: (من أجهل الناس؟) قال: (مَن رأى الخرق مغنمًا، والتجاوز مغرمًا) .
وما ذكرناه من جهة معارف القوم الذين نشأت منهم هذه السيدة كافٍ في الدّلالة
على أنه كان من جملة ما يعنون به من التربية تثقيف ناشئتهم , بما عندهم من
المعارف على الطريقة التي ألفوها وتعودوها في التعليم , وهي الطريقة الطبيعية
الساذجة الخالية من الاصطلاحات والتعاريف والتفاصيل التي يحتاج إليها نَفَر
قليلون , ويستغني عليها الآخرون. ولِكل فرع أهله الذين بهم استعداد لالتقاطه
بسهولة , ولا يكلف البليد في شيء أن يكد في تفهمه مدركته، أو ينضي في حفظه
ذاكرته، أو في توسيعه مخيلته.
ثم قد كان مما عُنِيَ به العقلاء من رهط خديجة التربية على العدل , ولقد
أسلفنا شيئًا عن وَلَعِهِمْ بِهِ، وحِرْصِهِمْ على حماية المظلوم، ووقاية المهضوم.
وكذلك ولعوا بامتداح العفاف وتشريف الأعفاء والعفائف، وإجلال الطهارة
وأهلها , وكان من أكرم ألقابهم وأجلها لقب الطاهر والطاهرة , وقد حازت السيدة
(خديجة) هذا اللقب الشريف باستحقاقٍ إذ كان يقال لها: (الطاهرة) .
فإذا عرف المطالع الكريم أن لهؤلاء القوم حظًّا كبيرًا من هذه الأشياء , التي هي
أصول الفضائل نَعْنِي: السماحة والشجاعة والحكمة والآداب والبيان والعدل والتعفف
كان جديرًا به أن لا ينظر إلى صغر شأن ذلك المجتمع إذا قُورِنَ بِبلاد الحضارة , فإن
الفضل الإنساني الممنوح مِن يد الفاطر المبدع لا يتوقف على زخرف البيوت , وكثرة
الدور في البلد الواحد , بل يصل ذلك الفضل بإرسال رَبّانِي مِن يَدِهِ سبحانه إلى
الذرات الصغيرة التي في الأدمغة , ويختص به سبحانه أفرادًا مِمّن عنوا بتوجيه
العقول والقلوب إلى تصفية النفس، وتزكيتها من النقائص، وتحليتها بالفضائل ممن
لم يجعلوا أكبر همّهم تجويد المأكل والملبس والمسكن والفراش. فإذا كثر من هؤلاء
الأفراد في أُمّة ظهرت وإن حلّ الخفاء بهم، واستوفت وإن بخس الوزن لهم، ولم
يكن الأفراد الذين تَلَقَّوْا هدية الفضل الإنساني من الإحسان الربّاني قليلين في قوم
(خديجة) الفاضلة , بل كانت كثرتهم خير مقدمة لخير نتيجة هي ظهور ذلك الرسول
الكريم الذي كان من أكبر مميزات جماعته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ,
أولئك الذين وافاهم الوحي ينعتهم بما هم أهله قائلاً: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المريرة: طاقة الحبل والحبل الشديد القتل والشزر: القتل عن اليسار , والمعنى استحكم أمره وقويت شكيمته، والفحم الرجل الهرم، والضرع: الضعيف.
(2) المستميد: هو المستعطي.
(3) معنى كنع هنا: انكمش.
(4) الطبع بفتحتين: هو الدنس.
(5) يريد بالبدار: معاجلة الخصم.(11/308)