الكاتب: مجلة المقتبس
__________
تعليم اللغات
نكتفي في هذا الباب من هذا الجزء باقتباس المقالة الآتية من مجلة (المقتبس)
تنويهًا بحسن اختيارها للمفيد وإيذانًا بما للغربيين من الرقي في فن التعليم، قالت:
إن تعليم اللغات على الطريقة التي جرى عليها الغربيون واقتبسها المشارقة قد
تكون نظرية أكثر مما هي عملية فيطول أمرها ويصعب تناولها. ولطالما رأينا مَنْ
يترجم أشعار شكسبير الإنكليزي أو بوالو الإفرنسي، وإذا رمته الأقدار في شوارع
لندن أو باريز لا يطاوعه لسانه أن يلفظ كلمات يهتدي به لوجه طريقه. ذلك؛ لأن
الطريقة في تعلمه تلك اللغة الأجنبية هي عين الطريقة التي يستخدمها الأوربيون في
تعليم الصم البكم، بل عين النهج الذي ينهجه المغاربة في تعليم إحدى اللغات الميتة
من لاتينية ويونانية أو إحدى اللغات الحية من إنكليزية وفرنسية وإيطالية وغيرها.
إذ يكون تدريس النحو والصرف والترجمة من الكتب هو العُدة في إتقان
اللغات ويسهل على المعلم أن يدرس تلميذه على هذا النحو وربما أخذ في تعليمه لغة
وهو لا يحسن أن يؤلف بين جملتين صحيحتين في تلك اللغة التي عهد إليه تدريسها
ولم يجوِّد التلفظ بها فكان شغله الشاغل تعليم تلامذته أصول التصريف والإعراب
والترجمة على حين قد ثبت أن الدارس قد يستظهر قواعد لغة وقوانينها ولا يبرع في
اللغة نفسها. وأسقم المذاهب في تعلم لغة أن يتكلم المرء بلغته في خلال تعلمه لغة
غيرها.
من أجل هذا قضت الحال أن تكون دراسة قواعد الإعراب والتصريف بعد
معرفة اللغة معرفة عملية لا نظرية ولا تفيد الترجمة والنقل إلا إذا توفرت للطالب
بادئ بدء معرفة الأساليب في اللغة الغريبة. فعلى من رام أن يتكلم لغة ويكتب فيها
أن يفكر في تلك اللغة ويكون شعوره شعور أهلها فيها لا أن يصيغ تراجم وينقل جملاً.
فتستدعي الأفكار والانفعالات للحال ما يحتاج إليه الطالب من الألفاظ التي يعبر بها
عنها فتصير اللغة التي يتعلمها لغة ثانية له ولا تكون الترجمة من لغته أو إليها إذا
دعت الحال حرفًا يحرف بل على طريقة تنقل بها الصورة إلى التعبير عنها. وقلما
يسمع المتعلم في معظم المدارس اليوم صدى اللغة التي يتعلمها ويقتضي له أن يُربي
عليها أذنه وذاكرته ما أمكن. وما أشبه المُدرس وهو يشرح للدارس دروسه بلغته
الأصلية إلا بأمًّ تود أن تعلم طفلها وهو ألكن تمتام قواعد الفعل الماضي وتصريف
الأفعال الشاذة بدلاً من أن تعنى بتعليمه أن يحسن تلفظ الكلمات الأولى التي يحاول
لفظها.
وما فتئ تعلم اللغات يختلف باختلاف الاجتهاد في كل قوم ومعظمه دائر في
الغرب منذ ثلاثين سنة على طريقتين وهما: إما أن يقيم المتعلم زمنًا في بلد اللغة التي
يريد تعلمها، أو أن يكون أهل الطفل في سعة من العيش فيتخذون له مؤدبًا أو مؤدبة
يعلمه اللغة بالعمل بين ظهراني أهله وأسرته. وقد ابتدع الأستاذ برليتز الأميركاني
طريقة سهلة لتعليم اللغات جرى عليها بعضهم في أميركا وأوربا، فأسفرت عن نجاح
أكيد. وطريقته عبارة عن نظر عقلي وعلم عملي وبلفظ آخر: نظرٌ في المحسوسات
لا المجردات؛ إذ اللغة عبارة عن أصوات محكية لا عن إشارات مكتوبة. والتعليم
سماعي أولاً ثم نظري. ولا يعمد في طريقته إلى الترجمة ولا إلى النقل ولا يستخدم
فيها الطالب معجمًا ولا يستصحب كتاب قواعد بل يتعلم الإنسان القوانين بعد إكمال
المعرفة العملية على نحو ما يتعلم الطفل لغة أبيه وأمه. وليس في تعلم القواعد نفع
حقيقي إلا متى عرف المرء اللغة، فالقواعد تشرح اللغة شرحًا علميًّا فتبحث عن علل
يتأتى الاستغناء عنها بادئ بدء، وقلما تنفع في تلقين اللغة شأن مصور لا يحتاج إلى
إتقان العلوم الطبيعية والكيماوية ليصنع صورًا شمسية بديعة.
ما اللغة في الحقيقة إلا صورة محكية من الحياة فاقتضى في تعلمها أن يسير
الإنسان من نفس الحياة لا أن يعمد إلى أشكال من التعبير لا تحس ولا تتحرك وقلما
تتلاءم الألفاظ وصور الأفكار بين لغة وأخرى كل التلاؤم فالبداءة بالترجمة الحرفية
من لغة إلى لغة يراد تعلمها إضاعة للوقت وإتعاب للذهن على غير طائل. ومن
العسر المتعذر أن يرسم المرء صورتين رسمًا خفيفًا على حين لا يضع إحداهما على
الأخرى وكذلك الحال في اللغات، فقد امتنع أن يحكم وضع لغتين بعضهما على بعض.
واللغة بموجب هذه الأصول الجديدة عبارة عن محادثة دائمة باللغة الغريبة فكل
ما يقع نظر التلميذ عليه مباشرة يكون له منه مادة درس وموضوع تعلم، وذلك
بتربية الأذن والحواس الصوتية. فيُلَقِّن الأستاذ تلميذه حُسْن اللفظ وسرعة التركيب،
فيُدَرِّس الأفعال الأولى بالأعمال والحركات يقوم ويذهب إلى اللوح الأسود
فيكتب ويفتح الباب ويرفع الكتاب ويضعه ثم تعرض على سمعه مشاهد الحياة
اليومية فيسهل عليه تأليف جمل صغيرة يتزايد كل يوم عددها بسرعة. فيكون
للتلميذ بهذه الطريقة في تأليف الجملة ما يلزمه من أوليات القواعد والروابط. والأمم
بأسرها تتعلم لغاتها بالعمل أولاً ثم بالنظر، فيتعلم المُتعلم ما تمس حاجته إليه إلى أن
يكتب بدون غلط ويتعلم التلميذ أولاً معاني الكلمات الغريبة ثم يُلَقن التمرينات العديدة
بعد معرفة اللغة معرفة فطرية فمعرفة عقلية، ومن اللازم اللازب الاعتياد على
الصور قبل القواعد، ثم يبدأ المعلم بالسؤال فيجيبه المتعلم ولا يزالان ينتقلان من
البسيط إلى المركب ومن شرح المفردات إلى تفسير العبارات ويكون كل ذلك باللغة
التي يراد إتقانها.
وللّفظ في هذه الطريقة المقام الأعلى. ولم يكن يُعْنى بتقويمه من قبل،
والأساتذة الذين يحسنون التلفظ بلغة ما هم ممن تعلموها على الأسلوب الطبيعي في
طفوليتهم أو أتقنوها بمقامهم في البلاد التي تتكلم فيها تلك اللغة، وجودة التلفظ هو
روح اللغة على التحقيق، ولا تعد العبارة شيئًا مهما بلغت من الضبط متى قبح اللفظ
وتجلت اللهجة الأعجمية فيه عيانًا، ومن الهجنة أن التلفظ لا يكاد يصلح إذا فسد
لأول أمره، وصعب على الإنسان ما لم يعوده.
فالطريقة المشار إليها مغايرة لطريقة الترجمة المألوفة في الأغلب إذ كل معرفة
يرشد إليها المتعلم على هذه الصورة لا تحسب ناقصة الجهاز مشوشة الأسلوب،
وقلما تجد الألفاظ في لغة ما يقابلها في لغة ثانية، ولكل لغة اصطلاحاتها الخاصة بها
ليس للترجمة مهما أتقنت أن تنقلها على أصلها إذ التصورات التي تمثلها لغة لا
تتحد مع تصورات تمثلها ألفاظ لغة أخرى اتحادًا ذاتيًّا معنى ومبنى. كتب أحد
الغرباء إلى فنيلون العالم الفرنسوي المشهور (أن لي منك يا مولاي أمعاء والد)
يريد أن يقول (قلب والد) وقال ألفونس الثاني عشر ملك أسبانيا وقد جاء قصره في
يوم احتفال: (أتود أن تتعب معي نحو النافذة) يعني بذلك أن تقترب نحو النافذة.
ولو تعلم ذاك الكاتب وهذا الملك أن يتكلما الفرنسية على طريقة الأستاذ برليتز
إذًا لنجيا من هذا الغلط الشائن وكان شأنهما في سهولة التعبير وجودة التصوير شأن
أولئك التجار والسوقة ممن ينزلون بلادًا لا يحسنون لغتها فما هو إلا قليل حتى
يمرنوا على تكلمها زمنًا فيحسنونها ولا إحسان من تعلموها على دكات المدارس وهم
يقلبون المعاجم ويتأبطون كتب نحوها وصرفها وبيانها ناقلين ناسخين مستظهرين
ناسين. وطريقة برليتز هذه أن يستعمل أولاً اللغة المُتعلمة، خاصة وأن يتابع التصور
في اللغة الغريبة مباشرة بدون وساطة اللغة الأصلية وأن تعلم أسماء الأعيان بقوة
الحس وتعلم أسماء المعاني بتتابع التصور ويدرس النحو بالأمثلة والشواهد.
هذا مذهب الأستاذ برليتز في إتقان ملكة اللغات وقد انتقل من نيويورك إلى
باريز عام 1889م فأسست في هذه العاصمة أول مدرسة على تلك الطريقة وانتقل
هذا المذهب في تلك السنة إلى إنكلترا وألمانيا فأسست في كل من لندن وبرلين
مدارس لهذا الغرض. وما برحت مدارسها تتكاثر في الأصقاع الأوربية حتى كانت
في بدء هذه السنة 242 مدرسة في أوربا وحدها وكلها أسفرت عن ارتقاء واقتصاد
في الوقت والمال، وطريقة القائمين بهذا الأمر أن يكون لكل تلميذ أستاذه الخاص به
فيأخذ هذا يعلم تلميذه ما يقع نظره عليه في قاعة الدرس من منضدة وكرسي وكتاب
وباب ونافذة يلفظها بلغتها ولا يزال يكررها المتعلم حتى يتقن اللفظ؛ فإذا نفدت
المسميات لدى الأستاذ في الغرفة يعمد إلى صور سهلة واضحة رسمت على صفحات
مجموعة رسوم فما هو إلا أن يتعلم التلميذ أسماء الأشياء الواقعة تحت حسه مع
الألوان التي يمتاز بها كل منها، ثم ينتقل إلى صفات الحجم وأفعال الحركات
والأعداد. فإذا أنجز درس الأشياء يشرع المعلم في اختيار جمل يكون التلميذ قد
عرف أكثر مفرداتها، فلا يمضي ثلاثون درسًا إلا وقد عرف التلميذ الأفعال
الشائعة في الاستعمال والمفردات التي تدخل غالبًا في الأحاديث العامة ويتمكن في
ستين درسًا من بيان فكره أصح بيان في كل ما له علاقة بمجرى الحياة
الاجتماعية العادي. ويحسن في اختيار المعلمين أن يكونوا ممن لا يعلمون لغة
المتعلم.
ومما يُضْحِك ما وقع لولد أحد كبار المنشئين الفرنسويين وكان يدرس الألمانية
على طريقة برليتز قيل إنه لما بلغ به المعلم إلى تمييز الفعل المتعدي من اللازم لم
يفهم التلميذ المراد من المتعدي واللازم، وأخذ معلمه يشرحهما له بالإشارة تارة
والتشبيه طورًا فلم يفلح وكان تلميذه معه كأعجم طمطم لا يَفْهَم ولا يُفَهّم. وأبى
الأستاذ على تلميذه أن يفسر له شيئًا بلغته مع إلحاحه عليه في ذلك وراح الطفل
إلى دار أبيه وقد بلغ منه الغيظ وأنشأ يقلب كتاب نحوه يفتش عن الإشكال فاهتدى
بنفسه إلى حله وشكا أمره إلى والده، فقال له: أي بني لقد أحسن الأستاذ أن أبى
عليك شرح ما يريد تعليمك بلغتك ولو قاله لك لغرب عن ذهنك وأصبح لديك بعد
زمن نسيًا منسيًّا. أما الآن فإني على ثقة من أنك لا تنسى التفرقة بين الفعل اللازم
والمتعدي ولو بعد مئة سنة.
قال الكاتب الذي عربنا عنه هذا المبحث: وقد كاد أرباب الأفكار والحصافة
يجمعون على أن اللغات الحية لا تعلم كاللغات الميتة، بل إنه لا بد في الأولى من
المران على التكلم بها من أول وهلة، وأنه ما من لغة مهما تراءى من صعوبتها على
المتعلمين بادئ بدء سواء كانت اللغة الروسية أو الهندية أو العربية أو الصينية إلا
ويتيسر إتقانها على طريقة برليتز في مدة تختلف باختلاف ذكاء المتعلم وصعوبة
اللغة والله أعلم.
__________(8/874)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسلمو الصين والإسلام في اليابان
في الصين عشرات من الملايين المسلمين هم أكثر أهل تلك المملكة الكبرى
مالاً وأعز نفرًا، هم أكثر مالاً؛ لأنهم أبرع في التجارة، وأكثر اشتغالاً بالصرف
والدين بالربا الفاحش ويستحلون الربا على تشددهم بما يعرفون من دينهم لأن كتب
الفقه الحنفي (كتب مذهبهم) تبيحه في دار الحرب. وهم أعز نفرًا لشجاعتهم
وإتقانهم للفنون العسكرية، فهم أقوى جيش الدولة وأمنع حماة الأمة، وقد أنشأوا
يهاجرون إلى اليابان بأموالهم وسلعهم لأجل الصرف والدين والتجارة بعد ما كانوا
محجمين عنها لأنهم علموا أن اليابان تغيرت حالها بعد الحرب فصارت تحترم
الغرباء وكانت تحتقرهم. وإننا نتوقع أن يستفيد المسلمون من معاشرة اليابانيين،
الميل إلى الأعمال الاجتماعية والعلوم العصرية فإننا نعرف عنهم أنهم لا يتعلمون إلا
قدر الحاجة من القراءة والكتابة والأحكام الفقهية ثم ينصرفون إلى الأعمال المالية إن
لم يدخلوا في أعمال الدولة العسكرية والإدارية.
ومن الغريب أن تظهر الدعوة إلى الإسلام في اليابان من بعض مسلمي الصين
دون مسلمي الهند أو الآستانة أو مصر. ولو كان مسلمو الصين على علم واسع
بالإسلام لكانوا أحق بهذه الدعوة لأنهم أول من يستفيد منها، وفائدة اليابان من الاتحاد
معهم أعظم فإنها بهم تستعمر مملكة ابن السماء (الصين) كلها وناهيك بمملكة تضم
بين جوانحها أكثر من ربع البشر وما أرى أن مسلمي الصين يلاحظون هذه الفائدة إذ
بلغني أنهم لا يحفلون بالسياسة بل لا يفكرون فيها وما أظن أن دعوة الشيخ حسان
لهم إلى الإسلام إلا بباعث ديني وذلك - إن صح - خير من أن يكون بباعث
سياسي فإن من يدعو إلى الدين لأجل السياسة لا يكون جديرًا بالنجاح كمن يخلص
في دعوته لله رب العالمين.
المعروف عن الأمة اليابانية أن العلم قد هدى فضلاءها وزعماءها إلى بطلان
الوثنية التي درجوا عليها وأنهم يطلبون باستعدادهم الجديد دينًا معقولاً يتفق مع
المدنية والعلم والعمران فهم يطلبون الإسلام ولا يجدون من يمثله لهم ونخشى أن
يعجز الشيخ حسان الصيني عن إقناعهم فيظنون أن مبلغ علمه بالإسلام هو الإسلام
فينصرفوا إلى غيره. فهل نجد في مسلمي هذه الديار رجلين أو ثلاثة قد استعدوا
للدعوة إلى الإسلام بفهم الكتاب والسنة وحكم التشريع ومواضع الشبهات على الدين
ومسالك كشفها والقدرة على تمثيل الإسلام جامعًا بين مصالح الدنيا والآخرة موافقًا
لحال الناس في عصر العلم والحضارة والصناعة عصر الكهرباء والبخار، يتركون
وطنهم المحبوب ويسافرون إلى اليابان لمساعدة أخيهم الشيح حسان الصيني على
الدعوة؟ وهل نجد في أغنيائنا من يتبرع بشيء من فضل ماله لمساعدة هؤلاء الدعاة
إن وجدوا أو لأجل إيجاد دعاة للإسلام يعلمون تعليمًا خاصًّا يساعدهم على ذلك؟
يوجد في المسلمين من يثق بدينه ولا يرتاب فيه أكثر ما يوجد في اليهود
والنصارى، ولكن الشاك في دينه من اليهود والنصارى يبذل في نشره ونصره ما لا
يبذل المسلم الموقن؛ لأن المسلمين قد ضعفت فيهم الحياة الاجتماعية، وغلبت عليهم
الأثرة بعد ذلك الإيثار الذي مدح الله سلفهم عليه بقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ
كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} (الحشر: 9) وإننا لا نطمع بأن نرى من مساعدة جميع
أغنيائنا على نشر دعوة الإسلام مثل ما تبذله جمعية غسالات ليون للمبشرين
بالنصرانية وهي جمعية ألفتها غسالة في تلك البلدة الفرنسية من بنات حرفتها ورأس
مالها الآن يبلغ ألوف الألوف.
نعم، إن كثرة تعرض دعاة النصرانية في مصر للطعن في الإسلام قد وجه
قلوب كثير من أهل الغيرة إلى مسألة الدعوة فهم قد نفعوا المسلمين ولم يضروهم
وإن لم تفهم هذا جرائدنا التي طفقت تدعو الحكومة إلى منعهم من الدعوة ونشر
الكتب، ولو كانت هذه الجرائد تحسن الإسلام لردت عليهم بما يدفع الشبه ويقوي
استعداد المسلمين لمثل عملهم، وأَنَّى لها بذلك؟ وإنَّا لنرجو من المسلمين نهضة
جديدة لدعوة دينهم الحق بالاستعداد والإمداد، والله الهادي إلى سبيل الرشاد.
__________(8/879)
غرة ذو الحجة - 1323هـ
26 يناير - 1906م(8/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ملخص سيرة الأستاذ الإمام
(5)
تابع لما في الجزء الرابع عشر
مذهبه وطريقته في الإصلاح
كان تغمده الله برحمته قد شرع في كتابة تاريخ لنفسه كتب في فاتحته مذهبه
في الإصلاح مجملاً وشرع بعدها في الفصل الأول وهو في أهله الذين نبت فيهم
وتربى التربية الأولى معهم ولم يتمه (وقد جعلنا جميع ما كتبه من ذلك في الجزء
الأول من تاريخه الذي يطبع الآن) فكلمته في تلك الفاتحة هي خير ما نورده في
بيان مذهبه بالإجمال.
قال بعد البدء بالبسملة والحمدلة والصلاة والتسليم على خاتم المرسلين: (وبعد
فما أنا ممن تكتب سيرته، ولا ممن تترك للأجيال طريقته، فإني لم آتِ لأمتي
عملاً يذكر، ولم يكن لي فيها إلى اليوم أثر يؤثر، حتى أكون لأحد منها قدوة، أو
يكون لأحد في أسوة، وهذا الذي أجد من استصغار أمري وخفاء أثري [*] ،
وظهورعجزي عن بلوغ ما يرمي إليه فكري ويطمح إليه نظري، كان يمنعني من
أن أكتب شيئًا يتعلق بحياتي، تعرض فيه بداياتي وشيء من أعمالي بعدها وصفاتي،
حتى أكون به باقيًا عند من يطالعه بعد مماتي، وكنت أقول: وقت أصرفه في
حكمة أستفيدها، خير من زمن أنفقه في قصة أستعيدها، وما الذي عساه يبقى مني،
وأنا في قومي لم أترك ما يؤثر عني) .
ذكر بعد هذا أن بعض معارفه من الغربيين وغيرهم طالبوه بأن يكتب تاريخًا لنفسه وألحوا في ذلك، ثم قال:
لما تكرر الطلب في هذه الصور المختلفة رأيت أن الإضراب عن الإجابة
إغراق في الخمول، وتقصير في احترام رأي لم يشُبه رياء، ولم يحمل عليه إلا قوة
الظن بالفائدة في المطلوب ثم نظرت في نفسي وما كانت بدايتي، وما نزعت إليه
أثناء الطريق في سيري، وما انتهيت إليه فيما تأخر من أيام عمري، وقست جميع
ذلك إلى ما عليه الناس حولي، فوجدت اختلافًا قد يسهو عنه الغافل، ولكن ربما
ينتفع بملاحظته العاقل.
وجدت أنني نشأت كما نشأ كل واحد من الجمهور الأعظم من الطبقة الوسطى
من سكان مصر ودخلت فيما فيه يدخلون، ثم لم ألبث بعد قطعة من الزمن أن سئمت
الاستمرار على ما يألفون، واندفعت إلى طلب شيء مما لا يعرفون فعثرت على ما
لم يكونوا يعثرون عليه، وناديت بأحسن ما وجدت ودعوت إليه، وارتفع صوتي
بالدعوة إلى أمرين عظيمين (الأول) تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على
طريقه سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها
الأولى، واعتباره من موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه،
وتقلل من خلطه وخبطه، لتتم حكمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني، وأنه على
هذا الوجه يعد صديقًا للعلم، باعثًا على البحث في أسرار الكون، داعيًا إلى احترام
الحقائق الثابتة، مطالبًا بالتعويل عليها في آداب النفس وإصلاح العمل، وكل هذا
أعده أمرًا واحدًا. وقد خالفت في الدعوة إليه رأى الفئتين العظيمتين اللتين يتركب
منهما جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر
ومن هو في ناحيتهم.
أما الأمر الثاني فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء كان في
المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها أو فيما تنشره الجرائد على
الكافة منشأ أو مترجمًا من لغات أخرى أو في المراسلات بين الناس. وكانت
أساليب الكتابة في مصر تنحصر في نوعين كلاهما يمجه الذوق وتنكره لغة
العرب ... إلخ.
ثم قال: (وهناك أمر آخر كنت من دعاته والناس جميعًا في عمى عنه وبعد
عن تعقله ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية وما أصابهم
الوهن والضعف والذل إلا بخلوِّ مجتمعهم منه، وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من
حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة. نعم كنت فيمن
دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها وهي هذه الأمة التي لم يخطر لها
هذا الخاطر على بال من مدة تزيد على عشرين قرنًا. دعونا إلى الاعتقاد بأن الحاكم
وإن وجبت طاعته هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم، وأنه لا يرده
عن خطأه ولا يوقف طغيان شهوته إلا نصح الأمة له بالقول وبالفعل.
جهرنا بهذا القول والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد
الظالم من حديد، والناس كلهم عبيد له أي عبيد.
نعم إنني في كل ذلك لم أكن الإمام المتبع، ولا الرئيس المطاع، غير أني
كنت روح الدعوة، وهي لا تزال بي في كثير مما ذكرت قائمة ولا أبرح أدعو إلى
عقيدتي في الدين، وأطالب بإتمام الإصلاح في اللغة وقد قارب، أما أمر الحكومة
والمحكوم فتركته للقدر يقدره، وليد الله بعد ذلك تدبره، لأنني قد عرفت أنه ثمرة
تجنيها الأمم من غراس تغرسه وتقوم على تنميته السنين الطوال، فهذا الغراس هو
الذي ينبغي أن يُعنى به الآن، والله المستعان اهـ المراد، وذكر بعده إصابته
ونجاحه في بعض الأمور وإخفاقه في بعضها.
عُلم من عبارته أن الإصلاح الذي دعا إليه ديني وأدبي وسياسي، وأنه ترك
الأخير بعد طول الاختيار ويؤيد ذلك ما يُؤثر عنه من القول في ذم السياسة كقوله:
(ما دخلت السياسة في عمل إلا أفسدته) وقوله في مقالات الإسلام والنصرانية:
(فإن شئت أن تقول إن السياسة تضطهد الفكر أو الدين أو العلم فإنا معك من
الشاهدين. أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل
حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل
أرض تذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يُجن أو يعقل في
السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس) .
ترك السياسة التي هي مقاومة الاستبداد والحكم المطلق ومحاولة تغيير
شكل حكومة بقوة رعية. وأما السعي في إصلاح حكومة بلاده بإقناع حُكَّامها وأُولي
الأمر فيها بما فيه خيرها ومصلحتها وإرشاد رجال الشورى من الأمة إلى طرق
السداد في قوانين الحكومة ومسالك الإقناع لما يظهر بالمشاورة أنه الصواب فهو لم
يتركه، بل كان يصرف فيه أكثر أيام حياته، وهو ليس من السياسة التي حكم
بإفسادها للأعمال، وإبطالها للأماني والآمال.
ترك السياسة خيرها وشرها، ولكنها - قاتلها الله - لم تتركه من ضرها، فقد
كان يناجي ربه على فراش الموت برمل الإسكندرية والسياسة تنقب في سواحل
بيروت باحثة عنه معتقدة بما أوحى إليها شياطين الجواسيس أنه جاء بيروت متنكرًا
ليزيل سلطة ابن عثمان ويديل منها سلطة جديدة لأحد أبناء عليّ، وتعدت بشرها
إلى بعض من قيل لها أنهم من محبيه في تلك البلاد فاتهمتهم بالجرائم بل وبالجنايات
السياسية وعاقبت بعضهم ولا تزال تعاقب بعضًا وكان أشدهم عقوبة أقواهم براءة،
وإن أقواهم تهمة لأظهر براءة من الإمام نفسه إذا اتهم بأنه متنكر في بيروت أيام
كان يُعَالج الموت في رمل الإسكندرية، أفلا يكون رضي الله عنه جديرًا بالاستعاذة من
شيطان السياسة الذي هو شر من شيطان الوسوسة وأشد ضررًا؟ بلى، ولولا
معارضة السياسة لعمل الرجل للإسلام في هذه البلاد ما يتمناه الإسلام في جميع
البلاد، على أن السياسة ما قويت عليه نفسه بل كان الله ناصره لنصرة دينه فكلما
كادت له تلك الماكرة كيدًا رد الله كيدها في نحرها فتنثني وقد زادت شهرة الرجل بما
كانت تحاول من إخفاء ذكره، وعرف الناس بعض ما كانوا يجهلون من فضله، فما
أضرته ولكنها أضرت الأمة بتأخير الإصلاح ولا أقول بمنعه؛ فإن البذور التي
ألقاها قد نبتت فكانت زرعًا أخرج شطأه ولا يلبث أن يستوي على سوقه ويجود
بثمره فيغيظ المفسدين في الأرض، ويطلق ألسنة التاريخ بلعن محاولة قلعه إلى يوم
العرض.
هذا ما يتسع له المنار من ذكر مذهبه في الإصلاح مجملاً وموعدنا بالتفصيل
التاريخ الذي نشتغل بطبعه الآن.
***
(آماله وأمانيه)
كان أمله في الإصلاح محصورًا في الأزهر فكان عازمًا على توسيع دائرة
العلوم والعرفان فيه وعلى إيجاد طوائف من الأخصائيين الذين يتقنون علمًا واحدًا
يكونون فيه مرجعًا. وكان يودّ أن يبدأ بإيجاد طائفة للقضاء الشرعي وطائفة تستعد
للدعوة إلى الإسلام، وأخرى للخطابة ووعظ العوام، وأهل الأزهر لا يزالون
بمعزل عن العالم فهم لا يشعرون بشيء مما وراء جدران الأزهر ويا ليتهم كانوا يعرفون حقيقة جميع ما يرون في ذلك المحيط، فالاستعداد فيهم لقبول
الإصلاح ضعيف ولمقاومته قوي إلا أن يكون من جانب السلطة لذلك لجأ الرجل
إلى الأمير وطلب إسعاده على إصلاح الأزهر وكان نجاح الإصلاح بقدر ذلك
الإسعاد.
***
(مدرسة كلية)
ولما ضعف أمله في الأزهر منذ ثلاث سنين فكر في إنشاء مدرسة كلية في
القاهرة تغني عنه في تخريج رجال يخدمون الملة والأمة، فاستمال أحمد باشا
المنشاوي ونفخ فيه من روحه حتى عزم الرجل على تأسيس المدرسة بماله وإيقاف
أرض واسعة عليها تكفي لنفقاتها ولكن المنية اخترمته عند الشروع في الاستعداد
بإرشاد الأستاذ الإمام. وقد قضت الحوادث بعد موت المنشاوي أن يستقيل من
مجلس إدارة الأزهر ويتركه إلى أن يفعل الزمان فيه فعله، ويعده لما خبئ في الغيب
له، وعند ذلك قويت العزيمة على إنشاء المدرسة الكلية، وبعد التروي وطول التشاور
مع أهل الغيرة والإخلاص وضع المشروع للاشتغال بإنشاء الكلية في هذا الشتاء كما
قلنا في جزء سابق وأن ما خسرنا بموت هذا الرجل العامل لم يدع في نفوسنا مكانًا
للحسرة على الحرمان من هذا العمل.
***
(جريدة يومية)
وكان في عزمه السعي في إنشاء شركة تنشئ جريدة يومية في القاهرة تختار
لها طائفة من الكتاب الأخصائيين ينفرد بعضهم في بيان ما عليه المصريون في
المدن والقرى والمزارع من العادات والتقاليد والاعتقادات، وبعضهم في المسائل
الاقتصادية والزراعية، وبعضهم في الموضوعات العلمية والأدبية. ويوضع لهم
قانون لا يتعدونه، من أحكامه الاقتصار في المسائل السياسية والأخبار الصادقة على
ما فيه العبرة والفائدة لأهل البلاد، وعدم المدح والذم الشعري، وقبول الانتقاد على
ما ينشر فيها من كل كاتب أديب، ومنها أن يرجع في بيان جميع المصالح ذات
البال إلى ما يقرره مجلس إدارة الجريدة بالمشاورة فلا يكون ما ينشر فيها عبارة عن
رأى رجل واحد ومثالاً يتذبذب مع ميله وهواه، ومنها أن لا تكون الجريدة خصمًا
لجريدة أخرى. كنت ممن يلح عليه بهذا السعي منذ سنتين، واخترت لهذا العمل من
الكتاب المجيدين المعتدلين مَنْ رَضِي بهم وكاشفنا كثيرين من الكبراء والفضلاء في
ذلك واخترنا منهم أعضاء لمجلس الإدارة ووضعت تقديرًا تمهيديًّا لإنشاء المطبعة
ونفقات العمل. ولو بقي الإمام حيًّا لرجونا أن يبرز هذا العمل في هذا الشتاء وإن
خسارتنا بفقده لأعظم من كل خسارة.
***
(السياحة في الشرق)
كان من نيته الحسنة - أحسن الله مثوبته - أن يسيح في بلاد الهند وبلاد
الفرس وبلاد روسيا الإسلامية ليختبر حال المسلمين بالفعل في الشرق كما اختبرها
في الغرب والوسط فيعرف ما يصلح لجميع شعوب المسلمين من التربية والعمل وما
يصلح الآن لبعض دون بعض ولا حاجة إلى شرح ما وراء هذا الاختبار لو كان.
***
(تفسير القرآن وتاريخ الإسلام)
كان صاحب هذه المجلة قد اقترح على الأستاذ الإمام أن يكتب تفسيرًا للقرآن
في رمضان سنة 1315هـ، أي قبل الشروع في إنشاء المنار وذلك بعد أن
اقترحت عليه قراءة دروس في التفسير تردد فيه، ثم لم يفعل إلا بعد سنتين وشهور.
زرته في يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من الشهر فقرأ لي عبارة من كتاب فرنسي
يطعن في الإسلام وطفق يرد عليها واحتاج في الرد إلى الكلام في تفسير {رَبِّ
العَالَمِينَ} (الفاتحة: 2) فتمنيت حينئذ لو كان للقرآن تفسير على نحو ما كان
يفسر، فاقترحت ذلك عليه، وإنني أذكر هنا شيئًا مما كتبته يومئذ في مذكرتي عن
ذلك الاقتراح وهو:
قلت: لو كنت كتبت تفسيرًا على هذا النحو تقتصر فيه على حاجة العصر
وتترك كل ما هو موجود في كتب التفسير وتبين ما أهملوه ... فأجاب: إن الكتب لا
تفيد القلوب العُمي، فإن دكان السيد عمر الخشاب مملوءة بالكتب من جميع الفنون
وهي لا تعلم شيئًا منها ... لا تفيد الكتب إلا إذا صادفت قلوبًا عالمة بوجه الحاجة
إليها تسعى في نشرها. إذا وصل كتاب إلى أيدي هؤلاء العلماء وفيه غير ما
يعلمون لا يعقلون المراد منه؛ وإذا عقلوا شيئًا منه يردونه ولا يقبلونه وإذا قبلوه
صرفوه إلى ما يوافق علمهم ومشربهم كما جروا عليه في نصوص الكتاب والسنة
التي نريد بيان معناها الصحيح وما تفيده. إن الكلام المسموع يؤثر في النفس أكثر
مما يؤثر الكلام المقروء؛ لأن نظر المتكلم وحركاته وإشارته ولهجته في الكلام كل
ذلك يساعد على فهم مراده من كلامه ويمكن للسامع أن يسأله عما يخفى عليه منه
فإذا كان مكتوبًا فمن يسأل؟ إن السامع يفهم من كلام المتكلم80 في المائة والقارئ
لكلامه يفهم 20 في المائة على ما أراد الكاتب. مع هذا كنت أقرأ التفسير وكان
يحضره بعض طلبة الأزهر وبعض طلبة المدارس الأميرية وكنت أذكر كثيرًا من
الفوائد التي تحتاج إليها حالة العصر فما اهتم لها أحد فيما أعلم، وكان من حقها أن
تكتب، وما علمت أحدًا كتب منها شيئًا خلا تلميذين قبطيين من مدرسة الحقوق وكانا
يراجعاني في بعض ما يكتبان. وأما المسلمون فلا.
قرأت تفسير سورة العصر في ستة أو سبعة أيام وكان كل درس لا يقل عن
ساعتين أو ساعة ونصف بينت فيها وجه كون نوع الإنسان في خسر إلا من استثنى
الله تعالى، وما المراد بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، إلى غير ذلك مما لو جُمِعَ
لكان رسالة حسنة في تفسير السورة، وما علمت أحدًا كتب منه شيئًا إلا أن
يكون عبد العزيز (المتبادر أنه يريد عبد العزيز أفندي محمد القاضي في المحاكم
الأهلية لهذا العهد وكان يومئذ تلميذًا في مدرسة الحقوق) .
قلت له: إنه يوجد كثير من المنتبهين لحال العصر والإسلام في البلاد
المتفرقة وكثير منهم إنما نبهتهم (العروة الوثقى) فأجاب بجواب طويل حاصله أن
حال المخاطب تؤثر في نفسه وأنه يعسر أو يتعذر عليه إلقاء الحكمة إلى كل أحد.
قلت: إن الزمان لا يخلو ممن يقدر كلام الإصلاح قدره وإن كانوا قليلين فالكتابة
تكون بمثابة مرشد لهم في سيرهم، وأن الكلام الحق وإن قل الآخذ به، والعارف
بشأنه لكنه بحسب ناموس الانتخاب الطبيعي لا بد أن يحفظ وينمو بمصادفة المباءة
المناسبة له كما حفظت له العروة الوثقى، فإن أوراقها الأصلية الضعيفة قد بليت ولكن
ما فيها من المقالات البديعة المثال والفوائد العظيمة حفظت في الطروس والنفوس،
ثم أطلنا القول في العروة الوثقى.
نقلت بعض ما كتبت يومئذ بنصه لما فيه من بيان رأيه رحمه الله وتأثره
باستعداد المسلمين في ذلك الوقت. وكنت أذكر له وجوب الكتابة في التفسير كلما
سنحت لي الفرصة، وكان خلاصة رأيه أنه ينبغي أن يكتب تفسير لبعض القرآن لا
لجميعه بأن تفسر الآيات التي قصر المفسرون في بيان حكمها وأسرارها لا سيما ما
يتعلق منها بروح الدين من الهداية والتهذيب وأمور الأمم الاجتماعية.
ثم شرع في قراءة التفسير بالأزهر وكان ذلك في غرة المحرم سنة 1317هـ
وقبل شروعه كتبت مقالة في المؤيد عنوانها (القرآن) بينت فيها وجه حاجة
المسلمين إلى فهمه والاهتداء به، وأن كتب التفسير غير كافية لذلك وأن الأستاذ
سيقرأ التفسير على ذلك الوجه؛ فانتشر الخبر وعلم الناس فأقبلوا على تلك الدروس
إقبالاً لم يعهد له نظير من المسلمين في هذا العصر تبين به أن الاستعداد للإصلاح
ينمو وكان ذلك الدرس أعظم ما خدم به الأزهر والإسلام كما كانت قراءته لأسرار
البلاغة ودلائل الإعجاز أنفع ما خدم به اللغة العربية هناك.
عين مفتيًا للديار المصرية في الشهر الذي شرع فيه بقراءة التفسير فظننت كما
ظن هو أن هذا المنصب ليس فيه عمل يستغرق الوقت، وطمعت في وجدانه فرصة
يكتب فيها تفسيرًا على طريقته في الدرس، فلما رأيت الأعمال قد كثرت وفتح لها
من منصب الإفتاء أبواب جديدة شرعت في كتابة التفسير على تلك الطريقة كما
اقترح عليّ بعض أهل العلم والفضل. وكنت في البداية لا أكاد أزيد على خلاصة ما
يقرره في الدرس إلا قليلاً؛ إذ لم يكن في نيتي تجريد ما يكتب منه في المنار وجعله
كتابًا مستقلاًّ. ثم رأيت من الواجب بسط القول وطبع التفسير على حدته عند سنوح
الفرصة ففعلت بإجازته - رحمه الله تعالى - واستحسانه. فكان المختصر نصف
الجزء الأول من سورة البقرة عرضته عليه بعد ذلك فقرأه وزاد فيه ما رأى حاجة
إلى زيادته ومنه إيضاح الكلام في الملائكة وأجاز باقي ما كتبناه كما هو فكأنه هو
الذي كتبه.
رأى - رحمه الله تعالى - أن هذا التفسير الذي ننشره على طريقته التي
تلقيناها عنه ونودعه اختياره وفهمه للآي وفقهه في القرآن هو الضالة المنشودة،
وأنه لا حاجة معه إلى أن يكتب هو بيده تفسيرًا، ولكنه كان عازمًا على تأليف كتاب
يكون مقدمة لهذا التفسير يبين فيها حاجة البشر إلى ما في القرآن من الإصلاح
العظيم، والهدي القويم، على طريقة رسمها، وأعد لها عدتها، وإنني لأرجو من
عناية الله وفضله أن يوفقني لوضعها على الوجه الذي فصله لي تفصيلاً، وأن يحقق
أمله في هذا العاجز باقتداره على إتمام التفسير؛ فإنه قد صرح بهذا الأمل وبآمال
أخرى من جنسه {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) .
ذلك أمله في التفسير ومقدمته، وأما تاريخ الإسلام فقد كان عزم على تأليف
كتاب فيه بعد أن أتم تدريس كتاب (دلائل الإعجاز) وكان قد كثرت الاقتراحات
عليه في اختيار ما يقرأ بعده في وقته، ومنها اقتراح السيد علي الببلاوي شيخ الأزهر
لذلك العهد - رحمه الله تعالى - أن يقرأ تاريخ الإسلام إذ لا يقدر على ذلك غيره،
ورأيته نور الله مضجعه يعتذر بأنه لا يوجد عند المسلمين تاريخ ديني فيدرس،
فعززت رأي شيخ الأزهر رجاء أن يكتب هو ما يقرأ فما كان إلا أن شرح الله
صدره وعزم على أن يكتب فنطبع ما يكتب كراسًا بعد آخر وهو يدرسه في الأزهر
التدريس يتبع الطبع والطبع يتبع التأليف. ولكن حال دون ذلك ما كان من الأحداث
في مقاومة الإصلاح التي انتهت باستقالته من إدارة الأزهر في إثر استقالة شيخ
الأزهر وحرم الإسلام بتلك الفتن (أو الشغب) كما قيل من هذه الخدمة الكبرى التي
يعز علينا أن نجد عنها عوضًا، ولكن ما خسرناه بوفاة الرجل أعظم، والأمر لله العلي
الكبير، تلك أقرب آمال الرجل في خدمة دينه وأمته، وأما آمال الأمة فيه فقد
كانت عظيمة تتناول المصالح العامة والخاصة فكم من غيور على ملته وبلاده كان
في نفسه أن يقوم بأعمال نافعة بإرشاد من فقدنا وإسعاده، وكم من متعلم ذكي كان
يود أن يضع كتبًا نافعة بهديه وإمداده، وكم من عامل كان يرجو الرقي في عمله
بجاهه وشفاعته، وكم من عائل كان ينتظر الاستغناء بكرمه ومساعدته، وقد ماتت
بموته أكثر هاتيك الآمال، وانقطع الرجاء من أكثر تلك الأعمال.
وقد أشار إلى تلك الآمال في أبيات قالها قبل موته إذ كان أشيع خبر موته قبل
الوفاة بأيام فبلغه ذلك فجالت نفسه في آماله وأمانيه للأمة وآمال الناس فيه فجاش في
نفسه الشعر فأنشد:
ولست أبالي أن يقال محمد ... أبل أم اكتظت عليه المآتم [1]
ولكنه دين أردت إصلاحه ... أحاذر أن تقضي عليه العمائم [2]
وللناس آمال يرجون نيلها ... إذ مت ماتت واضمحلت عزائم
فيا رب إن قدرت رُجعى قريبة ... إلى عالم الأرواح وانفض خاتم [3]
فبارك على الإسلام وارزقه مرشدًا ... رشيدًا يضيء النهج والليل قاتم
يماثلني نطقًا وعلمًا وحكمة ... ويشبه مني السيف والسيف صارم
قال هذه الأبيات مرة واحدة في حال مؤثرة من غير روية ولا تفكر وكتبها عنه
أخوه حمودة بك ومصطفى بك الباجوري ولم أكن حاضرًا فلما جئت قال لي: قد
جاش في نفسي الشعر في غيبتك كأنني لا أقول الشعر إلا في الحبس أو المرض،
يشير إلى تلك القصيدة التي نظمها في السجن أيام الحوادث العرابية، وأنشدني
الأبيات فكتبتها على هذا الوجه، وقد وصلت إلى الجرائد فنشرتها وذكرت البيت
الثاني هكذا:
ولكن دينًا قد أردت صلاحه ... أحاذر أن تقضي عليه العمائم
ثم قال: إنه خطرت له أبيات أخرى بعد ذلك وأنشدنيها فكتبتها ورأيته قد ترك فيها ألف التأسيس كأنه نسيه أو أذهله عنه المرض، وهذه الأبيات في وصف المرشد
الذي طلبه في دعائه ذكر منها بيت واحد في بعض الجرائد الأسبوعية محرفًا
فأذكره صحيحًا وهو:
ويخرج وحي الله للناس عاريًا ... عن الرأي والتأويل يهدي ويلهم
هذا مجمل ما يتسع له المنار من سيرة هذا الإمام الجليل وأخلاقه ومآثره. وأما خَلْقَهُ: فقد كان رَبْعَة بادنًا متماسكًا قوي العضل، أسمر اللون، برَّاق العينيين
جهوري الصوت، مهيب الطلعة، عظيم الهامة. قال مختار باشا الغازي: (لو
وزن دماغ هذا الرجل لرجح بكل مخ عرف من عظماء الرجال فيما أظن، وإني
لآسف على عدم وزنه إذ لو تحقق ظني لكان من الفخر العظيم لنا أن كان أكبر دماغ
عرف في البشر منا) وقد كان في شبابه من أفراد الناس في قوة العضل حتى إنه
دفع حصانًا جامحًا فأرجعه إلى الوراء حتى وقع على عقبه. ولكنه كان مع ذلك كثير
الأسقام، ومبدأ ذلك تسمم صديدي أصابه فغاب عن الوجود أكثر من شهر لا يحس
ولا يعي، بل كان جسمه يتصبب عرقًا، وبعد أن شُفي منه كان يعاوده في كل سنة
كما كان يعاود النبي - صلى الله عليه وسلم - سم أكلة خيبر كل عام، واعترته
أمراض أضعفت من قوته ولم تضعف من همته وعزمه وحزمه حتى لقي ربه،
تغمده الله برحمته ورضوانه. وأسكنه فسيح جناته. ونفعنا والمسلمين بل وسائر
العالمين بسيرته وعلمه آمين.
__________
(*) اختفى بعد الثورة العرابية وجعلت الحكومة لمن يدلها عليه عشرة آلاف جنيه، وإنما ذلك عبد الله أفندي نديم الذي حكم بإعدامه هذا والثورة العرابية أشهر حوادث مصر والأستاذ الإمام من أشهر رجال العصر.
(1) أبلّ المريض شفي من مرضه واكتظت المآتم امتلأت وازدحمت بالناس والمآتم ثم جمع مأتم وهو مجتمع الناس في الحزن، وهو في أصل اللغة عام في الحزن والفرح، ثم غلب على جماعته في المصائب ثم نسيت هذه الغلبة.
(2) قضاء العمائم على الدين قد يكون بعداوتهم للعلوم والفنون التي هي قوام الدول والأمم باسم الدين فيكون المشتغلون بها بعداء عن الدين معتقدين أنه آفة العمران وأصحاب العمائم عاجزين عن الجمع لهم بين مصالح الدنيا والدين حتى يترك بالمرة إلا من أفراد لا تقوم له بهم قائمة.
(3) انفضاض الخاتم عبارة عن مفارقة الروح للبدن وهي من إشارات الصوفية.(8/881)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة أجوبة الأسئلة الدمياطية
(4 و 5) (حضور مريم وسارة وآسية مولده صلى الله عليه وسلم)
(ج45) أورد في المواهب الأثر الذي فيه بيان أن أولئك النسوة الطوال
اللواتي جئن آمنة عند ولادتها هن آسيا امرأة فرعون ومريم بنت عمران وبعض
الحور العين وقال: (وهو مما تُكُلِّم فيه) أي طعنوا في سنده، وكم من حديث ضعيف
يورده صاحب (المواهب) ولا ينبه إلى طعن المحدثين فيه فلولا أن هذه الرواية
من أوهى الروايات لما قال أنهم تكلموا فيها، وحسبك أن السيوطي لم يذكرها في
الخصائص ولا أبو نعيم في الدلائل، فلا حاجة إلى ذكر سند من رواها وتفصيل
القول في جرح رجاله.
(ج 46) وأما ما قاله ذلك الرجل في اختلاف العلماء في أمر آسية فهو من
الخرافات التي لا قيمة لها عند أهل النقل، وهي مما ينبذه العقل، نعم ذكر في
بعض كتب التفسير التي نعني بنقل القصص أن الله تعالى رفع امرأة فرعون إلى
الجنة وعزوا هذا القول إلى الحسن البصري، وهو كما قال الألوسي لا يصح بل هو
كذب من القصاصين علي الحسن.
***
(6- ولادة الأنبياء)
(ج 47) ما ذكره في ولادة الأنبياء جهل قبيح لا شبهة عليه من كتاب ولا
سنة، ولا قول صحابي، ولا تابعي، ولا فقيه مجتهد، ولا عالم، ولا محدث، ولا
مؤرخ يعتد به. وقد روى المحدثون كل ما قيل في ولادة النبي - صلى الله عليه
وآله وسلم - من صحيح وضعيف، ومنكر وموضوع، ولم تخطر هذه الفرية على
بال أحد منهم، فهي خرافة من مفتريات الجاهلين الذين يتوهمون أن الأنبياء
منزهون عن الأمور البشرية، وأن الولادة كما يولد الناس نقيصة لا تليق بهم. وليت
شعري كيف تكون الولادة المعتادة نقيصة لمن أودع في هذا الرحم نطفة ثم كان علقة
ثم كان مضغة ثم نما في بطن أمه بدم الحيض؟ أم يقول هؤلاء الجاهلون: إنهم لم
يحمل بهم كما حمل بغيرهم فلم يكونوا من نطف آبائهم ولا من بيوض ودماء أمهاتهم؟
إن كانوا يقولون: إن هذه السُّنة الإلهية في الحمل والولادة نقيصة فقد أنكروا ما
ذكر الله من خلق الإنسان في أحسن تقويم. ولم يحسن في نظرهم قوله تعالى بعد
ذكر أطوار الحمل {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} (المؤمنون: 14) ومن
العجائب أن يمكَّن ذلك الجاهل من الكلام على الناس في المسجد فيكفِّر المسلمين
سلفهم وخلفهم؛ إذ لم تخطر هذه الخرافة على بال أحد منهم ويجعل الإسلام والإيمان
من خصائص من افترى هذه الخرافة ومن صدق بها من الجاهلين.
***
(6 - حياة الأنبياء في قبورهم)
(ج 47) لهذه المسألة أصل في الروايات المنقولة ولكن ما أورده لا يصح
منه شيء لا سيما الخبر الأول، وأنا أذكر هنا أشهر ما ورد في هذا الباب من الأحاديث:
(الحديث الأول) عن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - (ومن أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه
النفخة وفيه الصعقة فأكثروا عليّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليّ، قالوا:
يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت - يعني بليت - قال: إن الله
عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) رواه أحمد في مسنده والبيهقي
في شعب الإيمان وحياة الأنبياء، وغيرهما من كتبه وأبو داود والنسائي
والطبراني في معجمه وابن حبان وابن خزيمة والحاكم في صحاحهم، فصححه
بعضهم وتبعهم النووي في الأذكار وحسنه آخرون منهم المنذري. لكن قال الحافظ
السخاوي بعد ما أورد تصحيحهم وتحسينهم (قلت: ولهذا الحديث علة خفية وهي أن
حسين الجعفي راويه أخطأ في اسم جد شيخه عبد الرحمن بن بديد حيث سماه جابرًا
وإنما هو تميم كما جزم به أبو حاتم وغيره وعلى هذا فابن تميم منكر الحديث
ولهذا قال أبو حاتم إن الحديث منكر. وقال ابن العربي إنه لم يثبت: لكن رد هذه
العلة الدارقطني وقال إن سماع حسين من ابن جابر ثابت وإلى هذا جنح الخطيب والعلم عند الله تعالى. ثم نبه على أن ابن ماجه سمى الصحابي في كتاب الصلاة من سننه شداد بن أوس وذلك وَهْم نَبَّه عليه المزيّ وغيره، ووقع عنده في الجنائز
على الصواب) .
(الحديث الثاني) عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(أكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة، وإن أحدًا لن
يصلي عليّ إلا عرضت عليّ صلاته حين يفرغ منها، قلت: وبعد الموت؟ قال: وبعد الموت، إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء فنبي الله حي يرزق)
رواه ابن ماجه لكن بسند منقطع. والطبراني في الكبير بلفظ قريب من لفظ ابن ماجه
وليس فيه (ونبي الله حي يرزق) وكذلك النميري بلفظ آخر. قال الحافظ
العراقي: إن إسناده لا يصح.
(الحديث الثالث) عن أنس - رضي الله عنه - رفعه (الأنبياء أحياء في
قبورهم يصلون) أخرجه البيهقي في حياة الأنبياء من طريق يحيى بن أبي بكر عن
المستلم بن سعيد عن الحجاج بن الأسود وهو ابن أبي زياد البصري عن ثابت
البناني عنه، ومن طريق الحسن بن قتيبة عن المستلم. وأخرجه أبو يعلى والبزار
من الوجه الأول والبزار وابن عدي من الثاني والحسن ضعيف. قال السخاوي:
وأخرجه البيهقي أيضًا من رواية محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ثابت بلفظ
آخر قال: (إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة ولكنهم يصلون بين
يدي الله حتى يُنفخ في الصور) قال: ومحمد سيئ الحفظ. اهـ. أقول: حديث
أنس هذا رواه ابن حبان، وقال: باطل، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات وقواه
في اللآلئ بشواهده.
وهذه الأحاديث الثلاثة هي عمدة القائلين بحياة الأجساد ولم يصرح بها الثالث.
وهناك روايات أخرى في أن الصلاة والسلام عليه يبلغها ملك أو ترد روحه فيعرض
عليها ذلك ونذكر أشهرها.
(الحديث الرابع) عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - (إن لله ملكًا أعطاه الله أسماع الخلائق فهو قائم على قبري
إذا مت فليس أحد يصلي عليّ صلاة إلا قال: يا محمد صلى عليك فلان ابن فلان)
الحديث رواه أبو الشيخ ابن حبان وأبو القاسم في الترغيب والحارث في مسنده وابن
أبي عاصم والطبراني في الكبير والبزار في مسنده وغيرهم وفي سند الجميع
نعيم بن ضمضم وفيه خلاف عن عمران. قال المنذري: لا يعرف، قال
السخاوي: بل هو معروف لَيَّنَه البخاري (أي قال: في حديثه لين أي ضعف ما)
وقال: لا يتابع عليه وذكره ابن حبان في ثقات التابعين وقال صاحب الميزان
أيضًا: لا يعرف. هذا كلامهم في عمران وحسبك قول البخاري بلينه وعدم متابعته
وأما نعيم بن ضمضم فقد قال الذهبي في الميزان: ضعفه بعضهم وقال الحافظ ابن
حجر: إنه لا يعرف لأحد فيه قول غير قول الذهبي هذا.
(الحديث الخامس) عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشرًا بها ملك موكل
حتى يلقيها) رواه الطبراني في الكبير من رواية مكحول عنه وقد قيل: إنه لم
يسمع منه، وروى له عن مكحول عن موسى بن عمير، وهو الجعدي الضرير،
كذبه أبو حاتم.
(الحديث السادس) عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: من صلى عليّ
صلاة جاءني بها ملك فأقول: أبلغه عني عشرًا وقل له: لو كانت من هذه العشر
واحدة لدخلت معي الجنة كالسبابة والوسطى وحلت لك شفاعتي ثم يصعد الملك ينتهي
إلى الرب إلخ. ولا حاجة إلى ذكره كله وهو مكذوب أخرجه أبو موسى المديني قال
السخاوي: وهو موضوع بلا ريب. ومثله حديث معاذ الذي فيه: (ووكل بقبري ملكًا
يقال له منطروس رأسه تحت العرش) قال السخاوي: أخرجه ابن بشكوال
وهو غريب منكر بل لوائح الوضع لائحة عليه. وإنما ذكرت أمثال هذا الحديث
لئلا يغتر بها من يراها في الكتب التي لا يعرف مؤلفوها الحديث.
(الحديث السابع) عن ابن مسعود رضي الله عنه رفعه (إن لله ملائكة
سياحين يبلغونني عن أمتي السلام) رواه أحمد والنسائي والدارمي وأبو نعيم
والبيهقي والخلعي وابن حبان وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولعل هذا أقوى ما في
الباب وإن كان الحاكم يتساهل في التصحيح حتى إنه صحح بعض الأحاديث المنكرة
والموضوعة استدركها على الصحيحين. وقد حسنه غيره وعضدوه بما له من كثرة
الشواهد.
(الحديث الثامن) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا
تجعلوا بيوتكم قبورًا ولا تجعلوا قبري عيدًا وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما
كنتم) أخرجه أحمد وأبو داود وصححه النووي وهو معضد وليس صحيحًا في نفسه
ولكن له شواهد مراسيل من وجوه مختلفة. وفي الجملة إن ما ورد في إبلاغ الملائكة
إياه عليه الصلاة والسلام هو أقوى ما في الباب، وأما ما ورد في رد روحه وسماعها
فهاك أقوى ما ورد فيه.
(الحديث التاسع) عن أبي هريرة (رضى الله عنه) عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله تعالى إليّ روحي
حتى أرد عليه السلام) رواه أحمد وأبو داود والطبراني والبيهقي وحسنه وصححه
النووي في الأذكار، بل قال الحافظ ابن حجر: رواته ثقات واستدرك عليه تلميذه
الحافظ السخاوي قال: لكن قد انفرد به يزيد بن عبد الله بن قسيط برواية له عن
أبي هريرة وهو يمنع الجزم بصحته؛ لأن فيه مقالاً وتوقف فيه مالك فقال في
حديث خارج الموطأ: ليس بذاك وذكر التقي ابن تيمية ما معناه أن رواية أبي داود
فيها يزيد بن عبد الله، وكأنه لم يدرك أبا هريرة وهو ضعيف وفي سماعه منه نظر.
انتهى على أن طريق الطبراني وغيره سالمة من ذلك لكن فيها من لم يعرف. اهـ
ما كتبه السخاوي.
وقال ابن القيم: إن هذا الحديث هو الذي اعتمد عليه أحمد وأبو داود وغيرهما
من الأئمة في مسألة الزيارة وهو أجود ما استدل به في هذا الباب ومع هذا فإنه لا
يسلم من مقال في إسناده ونزاع في دلالته.
أما المقال في إسناده فمن جهة تفرد أبي صخر به عن ابن قسيط عن أبي
هريرة ولم يتابع ابن قسيط في روايته عن أبي هريرة أحد ولا يتابع أبا صخر أحد
في روايته عن ابن قسيط. وأبو صخر هو حميد بن زياد وهو ابن أبي المحارق
المدني الخراط صاحب العباء سكن مصر، ويقال حميد بن صخر، وبعد أن ذكر
الاشتباه في كون هذا الاسم لاثنين وحقق أنه واحد، ذكر أن يحيى بن معين
وإسحاق بن منصور ضعفاه وذكر عن أحمد روايتين: إحداهما أنه قال: ليس به
بأس، والثانية قال: إنه ضعيف. ثم أطال في ذكر الخلاف في عدالته وحقق أن ما
تفرد به لا يستشهد به ولا يصح. ثم ذكر الخلاف في عدالة ابن قسيط شيخ أبي
صخر، ومنه قول مالك فيه: ليس هناك عندنا - أي لا يعتد بروايته - على أنه روى
عنه وقول ابن أبي حاتم: ليس بقوي. وقول ابن حبان: إنه رديء الحفظ. فإن
قيل: روى له الشيخان قلنا: نعم، لكن من غير حديث أبي هريرة فروايته
عن أبي هريرة هي محل النزاع.
(الحديث العاشر) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (من صلى عليّ عند قبري سمعته ومن صلى عليّ بعيدًا
علمته) أخرجه أبو الشيخ في الثواب له من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي
صالح عنه ومن طريقه الديلمي كذا قال السخاوي. قال: وقال ابن القيم: إنه غريب.
وذكر عن شيخه أن سنده جيد. ثم ذكر اللفظ الآخر للحديث وهو (من صلى عليّ
عند قبري سمعته ومن صلى عليّ نائيًا وَكَّلَ الله به ملكًا يبلغني) إلخ. وقال:
أخرجه العشاري وفي سنده محمد بن موسى وهو الكديمي متروك الحديث وهو عند
ابن أبي شيبة والتيمي في ترغيبه والبيهقي في حياة الأنبياء باختصار: من صلى
عليّ عند قبري سمعته ومن صلى عليّ نائيًا أُبلغته، ثم قال: وأورده ابن الجوزي من
طريق الخطيب. واتهم به محمد بن مروان السدي ونقل عن العقيلي أنه قال: لا أَصْلَ
لهذا الحديث من حديث الأعمش وليس بمحفوظ. اهـ.
أقول: هذا ما قاله السخاوي، وقال ابن القيم: إن هذا الحديث لا يعرف إلا
من حديث محمد بن مروان السدي الصغير عن الأعمش كما ظنه البيهقي، وما ظنه
في هذا هو متفق عليه عند أهل المعرفة وهو عندهم موضوع على الأعمش. ثم
ذكر أقوال المحدثين في جرحه. وذكره الشوكاني في الموضوعات وقال في إسناده
كذاب.
أقول: هذه الأحاديث أشهر وأقوى ما روي في هذا الباب وقد رأيت ما لأئمة
الحديث فيها من الكلام والطعن في رجالها ومن عرف أسانيد أمثال هذه الأخبار
وتاريخ رجالها تجلى له فضل البخاري ومسلم واحتياطهما في صحيحيهما. وهي في
مجموعها تدل على أن الأنبياء أحياء في البرزخ ولكن هذه الحياة غيبية لا نعرف
حقيقتها، وليست هي كالحياة كما حققه ابن القيم في كتاب الروح وغيره من
المحققين. وإذا لم تنهض هذه الأحاديث حجة على ما يجب الإيمان به من عالم
الغيب فعندنا البرهان القطعي، وهو كتاب الله تعالى الناطق بحياة الشهداء عند ربهم
والأنبياء أفضل منهم وأجدر بهذه الحياة، وبما هو أعلى منها، ولكن الواجب علينا
أن نفوض العلم بكيفية ذلك إلى الله تعالى ولا نقيسه على أمر الدنيا كما فعل بعضهم
إذ قالوا: إن الأنبياء يأكلون في قبورهم ويشربون وينكحون، وكل هذا من الجراءة
على عالم الغيب والقول فيه بالرأي.
والمتبادر من قوله تعالى: {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ} (آل عمران: 169) أن هذه
العندية أعلى من الثواء في القبور، وقد ورد فيها أحاديث بأن أرواحهم تسرح في الجنة أو تكون معلقة بالعرش ولا محل لإيرادها هنا، وإنما نقول: إن الواجب علينا
هو أن نعتقد أن الموت ليس عدمًا محضًا وأن في البرزخ حياة قبل حياة الآخرة،
وكلاهما من عالم الغيب الذي نفوضه إلى الله تعالى. وقد ورد في حديث ابن عباس
مرفوعًا أن الرجل إذا سلم على ميت يعرفه رد الله عليه روحه حتى يرد عليه
السلام، وقد صححه ابن عبد البر. أفنقول: إن حياة كل ميت ورد روحه إليه إذا
صح هو كحياة الأنبياء والشهداء؟ كلا، إنها حياة غيبية لا ينكرها إلا منكر البعث
والآخرة ولا يقول فيها بالرأي والقياس إلا المتجرئ على الكذب المستهزئ بالدين،
والله وليّ المتقين.
وأما ما ذكره ذلك الجاهل من أثر علي وفاطمة عليهما السلام فهو من اختلاق
غوغاء العامة. وأما حكاية الرفاعي فقد ذكرها شارح القاموس لعلي بن أبي شباك
الرفاعي لا للشيخ أحمد الرفاعي، وهي من الحكايات المملوءة بها كتب القصص لا
تدخل في باب الاحتجاج الشرعي وسيجيء ذكرها وذكر أمثالها في مبحث الخوارق
والكرامات الذي كان آخر عهدنا ببيان أنواعه ووجوه تأويلها المجلد السادس، وسنعود
إليها إن شاء الله تعالى.
***
(استدراك)
بعد كتابة ما تقدم وطبع بعضه راجعت اسم عبد الرحمن بن ميسرة راوي
الحديث الأول وحجاج بن الأسود راوي الحديث الثالث في الميزان للحافظ الذهبي
فإذا به يقول: عبد الرحمن بن ميسرة عن أبيه ضعيف قاله يحيى، وقد وهَّاه ابن
حبان (أي قال: إنه واهٍ أي شديد الضعف) ووهم حيث يقول عبد الرحمن بن
بديل بن ورقاء وقواه غيرهما.
وقال: حجاج بن الأسود عن ثابت نكرة ما روى عنه فيما أعلم سوى مسلم بن
سعيد، فأتى بخبر منكر عنه عن أنس في أن الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون.
رواه البيهقي.
***
(8- عدد الأنبياء)
(ج49) وردت أحاديث في عدد الأنبياء لا يصح منها شيء منها حديث أبي
ذر عند الحاكم والبيهقي أنهم 124 ألفًا وأن المرسلين 313 ومنها حديث أبي الدرداء
يخالفه في عدد المرسلين ففيه أنهم 315 وهو عند أحمد والطبراني وابن حبان
والحاكم والبيهقي في الأسماء، ومنها حديث أنس عند الحاكم وابن سعد أنهم ثمانية
آلاف نصفهم من بني إسرائيل ومنها حديث جابر عند ابن سعد وأبي سعيد عند
الحاكم (إني خاتم ألف نبي أو أكثر) . وروي عن كعب أنهم ألف ألف وأربع مائة
ألف وأربعة وعشرون ألفًا (أي نحو مليون ونصف) والذي عليه المحققون وذكروه
في كتب العقائد أنه يجب الإيمان بأن لله تعالى أنبياء كثيرين هو يعلم عددهم وأن
منهم من ذكره تعالى في كتابه العزيز فنؤمن بهم تفصيلاً، ومنهم من لم يذكرهم كما
قال: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْك} (غافر: 78)
وقالوا: إن من عَدَّ فأخطأ فلا يخلو من أن يكون زاد في الأنبياء من ليس منهم أو
نقص منهم من هو منهم من غير خبر عن المعصوم متواتر بل ولا صحيح. وأما ما
قاله ذلك الرجل في شعر لحية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فهو من
سوء الأدب.
هكذا عم الجهل فصار الناس يكذبون على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه
وسلم ويروج كذبهم في العامة لا سيما إذا كان في سياق تعظيم الأنبياء، وما بالنا لا
نعظم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ببيان ما آتاهم الله تعالى من الفضائل ولا تتخذهم
قدوة ونمتثل قول الله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90) وقوله: {لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} (الأحزاب: 21)
إن هذا يشق على المفتونين بالدنيا ولكن الكذب يسهل عليهم، ويجذب قلوب جهلة
العامة إليهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________(8/902)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قصة المولد لدبيع
(س. 5) من أحد أهالي (جوهر) في جنوب ميلاي.
أنكر أحد طلبة العلم وهو رجل غريب قراءة قصة المولد النبوية للدبيعي ولعله
غير المحدث بدعوى أن فيها كذبًا وخرافات، والقصة المذكورة مما يداوم على قراءتها
للعوام عدد وافر من الذين تعتقد فيهم الولاية يقولون للعوام: إن روحانية المصطفى
صلى الله عليه وسلم تحضره من أوله إلى آخره وتحضر في غيره عند القيام فقط
فترى هِجِّيرَى أهل هذه البلاد قصة المولد المذكورة، فهي قد مرت على سمع الجم
الغفير من العلماء ولم ينكرها غير الرجل المذكور، فهل هو مصيب أم لا؟ أفيدوا
والله يبقيكم للأمة.
(ج) الصواب ما قال ذلك الطالب الغريب، ولعله من الغرباء الذين ذكروا في
حديث مسلم (بدأ الدين غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء) وقد قرأت
طائفة من هذه القصة فإذا بصاحبها يقول في فاتحتها: فسبحانه تعالى من ملك أوجد
نور نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من نوره قبل أن يخلق آدم من الطين اللازب،
وعرض فخره على الأشياء، وقال: هذا سيد الأنبياء وأجل الأصفياء، وأكرم
الحبائب، قيل: هو آدم، قال: آدم أنيله به أعلى المراتب، ثم ذكر إبراهيم وموسى
وعيسى بمثل هذه الأسجاع الركيكة، فهذا كذب صريح على الله تعالى لم يروه
المحدثون. ثم رأيته يذكر (في ص6 و7) حديثين أحدهما عن ابن عباس رفعه أن
قريشًا كانت نورًا بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بألفي عام يسبح الله ذلك النور
وتسبح الملائكة بتسبيحه إلخ. وهذا كذب ظاهر أيضًا وقريش كانت قبل الإسلام
مشركة وعند ظهور الإسلام كان منها أشد الناس كفرًا وإيذاء للنبي صلى الله عليه
وسلم وصدًّا عن سبيل الله، فما معنى ذلك الأصل النوارني الذي يناقضه هذا الفرع
الظلماني. والثاني أثر عن كعب الأحبار لا يصح وقد سماه مؤلف القصة حديثًا
لجهله.
أما قول قراء هذه القصة من المحتالين على الرزق بدعوى الولاية أن روحانية
المصطفى تحضر مجالسهم التي يكذبون فيها عليه فمثله كثير من أولئك الدجالين ولا
علاج لهذا الجهل إلا كثرة العلماء بالسنة والدعاة إليها بين المسلمين وذلك بساط قد
طُوي وإن كثيرًا من المسلمين ليعادوننا ولا ذنب لنا عندهم إلا الانتصار للسنة السنية
والدعوة إلى الله ورسوله بالحق لا بالأهواء.
وأما قولكم: ولعله غير المحدث فلا حاجة إليه لأن هذه القصة منسوبة إلى
رجل مجهول يسمى دبيعًا بدال مهملة فموحدة فمثناة تحتية فعين مهملة ولا يوجد
محدث بهذا الاسم، ولعلكم ظننتم أنهم يعنون به عبد الرحمن بن علي بن محمد بن
عمر بن عليّ الملقب (أي عليّ هذا) بديبع كحيدر بتقديم المثناة التحتية على
الموحدة ولو كان هو لصرحوا بنسبته إليه.
__________(8/910)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فائدة عظيمة
في بحث العمل بالحديث الضعيف
إذا رأى من لم يشتغل بعلوم الحديث ما ذكرناه في تخريج الأحاديث التي
ذكرناها في هذا الجزء وما قبله ونحوها يظهر له فضل المحدثين بعض الظهور
ويعلم منه غير المسلم أنه لم تعن أمة بضبط دينها كما عنيت الأمة الإسلامية. هذا
وإن ما ذكرناه لم نقصد به الاستقصاء ولم نراجع فيه جميع الكتب التي هجرت هذه
الأحاديث؛ إذ لا توجد كلها عندنا ولم نر حاجة إلى البحث عنها مع حصول المقصود
فيما ذكرناه.
هذا وإن كثيرًا من المحدثين قد تساهلوا في تخريج الأحاديث التي وردت في
الفضائل والترغيب والترهيب لاعتقادهم جواز العمل بالضعيف منها ما لم يكن شديد
الضعف، قال النووي: بل قال بعضهم: يستحب العمل به لأنه من الاحتياط وجعلوا
المناقب من هذا القبيل.
قال السخاوي: وقد سمعت شيخنا (يعني الحافظ ابن حجر) يقول وكتبه لي
بخطه: إن شرائط العمل بالضعيف ثلاثة: (الأول) متفق عليه أن يكون الضعف
غير شديد فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه.
(الثاني) أن يكون مندرجًا تحت أصل عام، فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلاً. (الثالث) أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته لئلا ينسب إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ما لم يقله. (قال) والأخير عن ابن عبد السلام وعن صاحبه
ابن دقيق العيد والأول نقل العلائي الاتفاق عليه. ونقل عن الإمام أحمد أنه يعمل
بالضعيف إذا لم يوجد غيره ولم يكن ما يعارضه. ونقل ابن منده عن أبي داود أن
الإمام أحمد يخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره وأنه عنده أقوى
من رأي الرجال.
فالمذاهب في الحديث الضعيف ثلاثة، ما نقل عن أحمد بشرطه المذكور آنفًا
ومذهب الجمهور الذين يشترطون فيه الشروط الثلاثة المتقدمة. والثالث: أنه لا يجوز
العمل به مطلقًا وهو ما صرح به أبو بكر ابن العربي المالكي.
قالوا: وأما الموضوع فلا يجوز العمل به مطلقًا ولا روايته إلا مع بيان وضعه
واستدلوا على ذلك بحديث سمرة رضي الله عنه عند مسلم في الصحيح (من حدث
عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين) ويروى (يرى) بضم الياء أي يظن
وفي (الكاذبين) روايتان: التثنية والجمع. وأنت ترى أن بعض الأحاديث التي لا
تصل إلى درجة الوضع في اصطلاحهم قد يظن الظان أنها كذب بل قد يعتقد ذلك
بقرائن قوية ككون أسلوب الحديث وعبارته كعبارات المولدين، وكون معناه مخالفًا
لما هو ثابت في الكتاب أو السنة الصحيحة أو نظام الخليقة المعبر عنه بسنن الله
تعالى أو لغير ذلك من الأسباب. ومن فهم القرآن المجيد وعرف السنة الصحيحة لا
يطمئن قلبه لشيء من تلك الروايات الغريبة في المناقب وإن وجد لها متابعات من
الضعاف.
وهاهنا مزلة قدم زل فيها كثيرون فصححوا أو حسنوا أحاديث من المناكير
والضعاف الشديدة الضعف بحجة أن لها شواهد من جنسها وما كل شاهد يصلح مقويًا
وإن فاقد الشيء لا يعطيه.
ثم إن باب المناقب الذي ألحقوه بفضائل الأعمال في جواز رواية الحديث
الضعيف فيه قد يدخل فيه الإخبار عن عالم الغيب وهو من العقائد التي يطلب فيها
اليقين فيروون فيه حديثًا منكرًا أو ضعيفًا واهيًا ويسكتون عليه لأنه من باب المناقب
فيشيع ويشتهر فيتخذ عقيدة تحكم العامة بكفر منكره وهو أقرب من مثبته إلى حقيقة
الإيمان، وقد يكون هذا النوع من الروايات شبهة على الدين وسببًا في الطعن فيه أو
صادًّا لكثير من الناس عن قبوله. إنك إذا أردت أن تدعو أهل أوربا أو اليابان إلى
الإسلام وتشترط عليهم التصديق بأن أجساد الأنبياء لا تبلى، وأنهم لم يولدوا كما يولد
البشر ونحو ذلك فإن مثل هذا الشرط كاف لرفضهم الدعوة، وقد علمت أنه لم يرد في
هذا حديث صحيح فضلاً عن متواتر فضلاً عن آية قرآنية، وهو مخالف لسنة الله في
الخلق الثابتة بالمشاهدة وبقوله تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ
تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) فإذا اطمأن قلبك لحديث ضعيف أو حسن في مثل ذلك
وصدقت به أيها المسلم فلا ينبغي لك أن تجعله عقيدة دينية وتجعل عدم النص من
الصحابة وأئمة السلف على نفيه إجماعًا؛ إذ يجوز أن يكون لم يخطر لهم على بال.
واعلم أنه ليس من تعظيم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تنزيههم عن الصفات
البشرية فإن هذه نزعة كفر سبق إليها المشركون الذين احتجوا عليهم بمثل ما أخبر
الله عنهم بقوله: {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا
تَشْرَبُونَ} (المؤمنون: 33) وقوله عنهم: {مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي
فِي الأَسْوَاقِ} (الفرقان: 7) وقوله عن فرعون وقومه: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ} (المؤمنون: 47) وقد ثبت في العقائد أن الأنبياء تجوز عليهم جميع الأعراض
البشرية التي لا تنافي تبليغ رسالة ربهم، والقرآن ناطق بذلك وهو الحق الذي
{لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) .
__________(8/911)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إزالة وهم
يرى كثير من أهل العلم والمعرفة أن من الصواب إقرار العوام على ما يعتقدون
من الخرافات والأوهام في الدين وكتمان ما قاله الأئمة من حفاظ الحديث من بيان
ضعف بعض الروايات في ذلك أو وضعه. ورأيت منهم من يحتج على ذلك بأن لا
حجة للعوام تثبِّت دينهم إلا هذه الخرافات؛ فإذا بطل اعتقادهم بها مرقوا من الدين.
وهي حجة داحضة، فكتمان العلم من الكبائر والباطل لا يؤيد الحق وإقرار الخرافات
ينفر العقلاء والمتعلمين من الدين، والعوام تبع لهم ولو بعد حين.
ولولا إقرار العلماء للخرافات لما ظن أكثر العقلاء أنها منه فصاروا يمرقون منه
فبيان الحق ينفع العوام والخواص ويحفظ الدين، وكتمانه يضيعه {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ
وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
__________(8/913)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بقية الكلام على
تقرير مشيخة العلماء في الإسكندرية
(المراقبة العامة على الطلاب)
ذكر في هذا الفصل أنه عهد إلى تسعة نفر من العلماء في مراقبة الطلاب في
مسجد أبي العباس المرسي يتناوبونها فيفصلون في المنازعة أو الإساءة العادية التي
يكفي التأديب عليها والزجر والنصيحة والموعظة الحسنة ويرفعون الأمر فيما
يستحق فاعله العقوبة إلى المشيخة ويأمرون بالصلاة مع الجماعة، ويكونون مرجعًا
للطلاب في تصحيح المتون التي يحفظونها وحل المشكلات التي تعرض لهم. وقد
كان من عقوبة بعض فاسدي الأخلاق من الطلاب طردهم من معاهد العلم، وعهد
إلى فريق من العلماء في زيارة الطلاب في مساكنهم يراقبون شؤونهم في معيشتهم
ويسألون الجيران عن أحوالهم، ووعد بأن سيُعنى بهذه المراقبة في القابل بأكثر مما
عني بها في هذا العام. وهذا مما يمتاز به التعليم في الإسكندرية على التعليم في
الأزهر، فنثني على الشيخ محمد شاكر الثناء الحسن، ونرجو له زيادة التوفيق.
***
(الامتحان ونتائجه)
ذكر في هذا الفصل أن مشيخة الإسكندرية رأت أن تمتحن جميع طلاب العلم
الخاضعين لنظامها في كل عام. وأن تستعين في عملها هذا ببعض المتخرجين في
مدرسة دار العلوم. وكذلك فعلت وتم الامتحان قولاً وكتابة فكان أن تقدم للامتحان
من طلاب السنة الأولى 303 من مجموعهم وهو 312 نجح منهم 191 نقلوا إلى
دروس السنة الثانية. وتقدم من طلاب الثانية 50 من 54، فنجح 48 نقلوا إلى
دروس الثالثة. وتقدم من الثالثة 38 من 42 نجح منهم 35 وتقدم من طلاب
الرابعة 21 من 24 نجح منهم 18 قال:
(وقد ألحقنا بناجحي هذه السنة من نجح من طلاب السنة الخامسة ورغب في
الاستمرار على طلب العلم الشريف والانقطاع له، وهم ثمانية أشخاص مختلفو
المذاهب لا يمكن أن تنشئ المشيخة لأجلهم سنة مخصوصة) .
ثم قال: كان الامتحان الشفهي وسطًا في الشدة واللين والتحريري غاية في
النظام والترتيب، وهذه أول مرة يجلس فيها طلاب العلوم الدينية مجلس الامتحان
المهيب أمام الأساتذة بين يدي المحبرة والقرطاس يستعملون قواهم العقلية للإجابة
عما سئلوا عنه، ولكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه عن النظر إلى ما يفعله غيره.
اهـ وهو من دواعي السرور والثناء على مشيخة الإسكندرية.
***
(مكافأة الناجحين)
ذكر في هذا الفصل أن الأمير وضع مائة جنيه مصري (تحت تصرف
المشيخة من مخصصاتها في الميزانية لمكافأة جميع الناجحين في هذا الامتحان)
وهذه الجنيهات من مال الأوقاف. ثم ذكر أن الذين استحقوا الجائزة 300 طالب
ونقول: إن الناس هنا لم ينسوا أنه قد كان قد خصص للمكافأة في الأزهر 400
جنيه من مال الأوقاف، فما زال الشيوخ الجامدون يتوسلون إلى الأمير حتى ألغاها،
وهذا ما تفضل به مشيخة الإسكندرية مشيخة الأزهر.
***
النظام الدراسي
ذكر في أول هذا الفصل أن نظام التدريس في هذه السنة (التي وضع التقرير
لها) كان تجربة واختبارًا وأن المهم الآن هو النظام للسنين المقبلة. ثم وضع لكل
سنة جدولاً ذكر فيه الكتب التي تقرأ فيها وأوقاتها. والبحث في ذلك وفي الكتب التي
اختارها يطول. ومن قرأ كلامه فيها علم أنه في حيرة من فقد الكتب التي تصلح
لتعليم المبتدئين، وله العذر في ذلك فإن الكتب الأزهرية لا يوجد فيها ما يصلح
للمبتدئ والاستغناء عنها بمثل كتب نظارة المعارف في الفنون العربية وبعض
المصنفات الجديدة في غيرها كسر لقيود التقليد، وهو مما يتعذر أو يتعسر لا سيما
على المبتدئ في العمل، ولكن الإصلاح يتوقف على تدريس بعض الكتب الجديدة
كما توقف الامتحان والنظام على مساعدة بعض من عرف الطرق الحديثة
في التعليم.
إذا كان ثمَّ ما يمنع من تدريس كتب المعارف في النحو والصرف والبلاغة، فما
أظن أن شيئًا يمنع من تدريس كتاب (نور اليقين في سيرة سيد المرسلين) الذي
ألفه الشيخ محمد الخضري الأزهري الداري؛ إذ لا يوجد في الأيدي مختصر للسيرة
النبوية يصلح للتدريس سواه، وله كتاب آخر في تاريخ الخلفاء الراشدين لم أره وأظن
أنه يصلح للتدريس أيضًا. فهذا جواب ما طلبه في الكلام على دروس السنة الأولى
من الإرشاد إلى مختصر وجيز في السيرة النبوية وتاريخ الراشدين. وإذا أراد
التوسع في تاريخ الإسلام في غير هذه السنة فلا أراه يستغني عن كتاب أشهر
مشاهير الإسلام.
ثم إن الاكتفاء بمختصر البخاري يقرأ في عدة سنين تقصير في الحديث، فهذا
المختصر يقرأ في سنة واحدة، ثم لا بد من قراءة غيره ومن العناية بعلم المصطلح
ونقد الرجال. ونكتفي بالتنبيه إلى هذين الأمرين في هذا المقام، ونحن نعلم عذر
المشيخة في كل تقصير، ونسأل الله تعالى أن يسهل لها كل عسير.
وفي التقرير فصول أخرى في المدرسين وفي المساجد المعدة للتدريس فيها
وفي مساكن طلاب العلم، وفي كل فصل منها دلائل واضحة على همة شيخ العلماء
وعنايته بإتقان عمله.
***
(عبارة التقرير)
نكتفي بما تقدم من القول الوجيز في موضوع التقرير، ونختم التقريظ والانتقاد
ببعض الشواهد على ما لاح لنا من التساهل في عبارته؛ لأن في تساهل العلماء
بإيراد المفردات والأساليب العامية ووضع الكلم في غير مواضعه جناية على اللغة؛
لأن الناس يقلدونهم فيما يكتبون. وإنني أورد هنا ما يقبل التأويل بتكلف، وما لا
يقبله ولو مع التعسف. وأرى أن صاحب التقرير لو شاء أن ينقحه حتى يسلم من
الخطأ إلا ما لا يسلم منه المولدون لفعل، وعسى أن يفعل في تقرير آخر وهو أهل
لذلك.
(1) قال في الصفحة الثانية: ولا شية في الخطأ إذا صحبه حسن النية،
والشية: هي اللون في الشيء يخالف لونه الأصلي، ومنه قوله تعالى في وصف
البقرة {لاَّ شِيَةَ فِيهَا} (البقرة: 71) أي لا لون آخر في جلدها. وقد استعمل
الشية هنا بمعنى العار والعيب، بدليل قوله بعد ذلك: بل العيب كل العيب أن يخطئ
المرء ثم يصر على خطأه وقد نبه إلى موضعه من عمله عنادًا واستكبارًا.
(2) وقال فيها: وترغيبًا في تربية الشبيبة المصرية.. إلخ. الشبيبة
مصدر وقد جعلها هنا وفي مواضع أخرى جمع شاب. وقد سرى إليه هذا من
الجرائد.
(3) قال (في ص 3) : وبالتالي تكون كل الوظائف الدينية: كذا ولفظ
التالي لا معنى له هنا والمقام مقام الإضراب.
(4) وجمع النظام في أول الصفحة الرابعة بالنظامات، وكرر هذا الجمع في
مواضع أخرى، وهو جمع مؤنث للمصدر غير صحيح إذا أريد به النوع.
(5، 6) وقال فيها: وأيدينا مبسوطة بالدعاء لسموه على هذه النعم المتتابعة
التي أحسن بها على الأمة الإسلامية: علل الدعاء بعلى وعدى به الإحسان، وهو
غير معروف، وهذه الصفحة لا تزيد على أربعة أسطر.
(7) قال في (ص5) أقبل الطلاب إقبالاً كليًّا: وهذا الوصف من استعمال
الدواوين والجرائد ولا يظهر له وجه عربي وجيه.
(8) وقال فيها: ولكن هذا الظن لم يثبت زمنًا طويلاً حتى تبدد: يريد لم
يلبث أن زال، ولا تفيد هذا المعنى كلمة تبدد؛ إذ معناها تفرق فكان بددًا أي حصصًا
وقالوا: تبدد الحلي على صدر الجارية أي أخذه كله.
(9) وقال فيها: أسلفنا إن عدد الطلاب ... إلخ. أي بينا ذلك فيما سلف
ومضى ولم ترد في اللغة بهذا المعنى. وقد يقال إنه: كقوله تعالى: {بِمَا أَسْلَفْتُمْ
فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ} (الحاقة: 24) والصواب أن الأسلاف في الآية، وإن فسروه بما
قدمتم من الأعمال الصالحة هو بمعنى السلم ودين السلف، فقد سمى الله
تعالى الإنفاق في سبيله (قرضًا حسنًا) في عدة آيات وسماه عند ما ذكر الجزاء
عليه إسلافًا، وهذا هو معنى تفسيرهم له بتقديم الأعمال، أي جعلها قدامهم وأمامهم
ولا يسمى الكلام الماضي إسلافًا، ولا كل شيء فعل في الماضي إسلافًا. هذا ما أجزم
به، فمن لم يقبله فأنا أترك له هذا الانتقاد جدلاً إلا أن يأتي بشاهد عربي، فإنني
أتبعه فيه اتباعًا.
(10) وقال فيها: ومن مطالعة الجدول المرفق بهذا يتضح كذا. أقول: إن
لفظ المرفق بكذا يستعمل في عرف الدواوين بمعنى المرسل مع الشيء، يقولون:
ورقة الحساب مرفقة بورقة الخطاب (مثلاً) وهذا خطأ، فإن أرفق في اللغة لم يرد
بهذا المعنى، ولكنه ورد بمعنى رفق به ونفعه. على أن استعمال التقرير ليس
بمعنى ما تقدم بيانه من استعمال الدواوين، وإنما يعني بقوله (الجدول المرفق بهذا)
الجدول المسطور في هذا الفصل من التقرير كما قال بعد ذلك (جداول الإحصاء
المرفقة بهذا الفصل) وما كان أغناه عن لفظ المرفق. ولعله يجعل بعد لهذه الجداول
عددًا يشير إليه بالأرقام أو بأسماء العدد فيقول: ويعلم من الجدول الأول كذا ومن
الجدول الثاني كذا.
(11) وقال فيها: ولكنه على العموم يبشر بكذا. وكتاب الجرائد تستعمل
هذه العبارة بمعنى قولهم (في الجملة) والعموم مصدر عمَّ ومعناه الشمول ويستعمل
في اصطلاح الأصوليين بمعنى استغراق اللفظ لأفراد غير محصورين وعند أهل
المنطق بنحو هذا ويقابل بالخصوص ولا محل لشرح ذلك هنا وعبارة التقرير ليست
من هذا في شيء.
(12) قال (في ص6) وقد يستلفت أنظار الباحث ... إلخ. وصيغة
الاستلفات لم ترد في اللغة، وقد سبق لنا ولكثير من الكتاب المدققين استعمالها تبعًا
للجرائد، وكان أول من نبهنا إليها المرحوم الشيخ محمد محمود الشنقيطي، فذكرنا
ذلك في المنار يومئذ. وقد ورد لفته وألفته.
(13) واستعمل فيها وفي غيرها لفظ (الأحناف) جمعًا لحنفي وهو غير
صحيح.
(14، 15) وقال فيها: وقد يلاحظ المطلع على إحصائية العام المقبل، يعني
بالإحصائية الجدول الذي أحصى فيه عدد التلاميذ، ولا يظهر لي وجه وجيه لتسميته
إحصائية. ولاحظ لا يتعدى بعلى، وهو يكثر من قول لاحظ عليه فهو خطأ. والعرب
تستعمل لفظ (عام قابل) للعام الذي بعد عام المتكلم، وورد في الحديث فلا أدري لماذا
يستبدل به صاحب التقرير لفظ المقبل، ولم أعده عليه؟ ومعنى أقبل في اللغة جاء
من قبل، أي من جهة الأمام فلفظ مقبل ليس نصًّا في العام الذي بعد عامك كلفظ
(قابل) وليس في الصفحة السابعة واللتين بعدها إلا الجداول.
(16) كتب فوق الجدول الذي في (ص 9) ما نصه: (إحصائية طلاب
العلم الشريف بثغر الإسكندرية والجهات التابعين لها) فوصف الجهات بوصف
المذكر العاقل، ولعل هذا سبق قلم أو تحريف من المطبعة.
(17) وفي هذا الجدول كلمة (أصوان) والصواب أسوان بالسين المهملة
ولكن هذا من الخطأ الرسمي الذي عليه الحكومة، وبلغنا أن نظارة المعارف
صححته لها.
(18) وفي (ص10) وصف النتائج بالحقة وهي تأنيث للحق وهو لا
يؤنث وقد أكثرت الجرائد استعمال الحقة، فترى فيها الوطنية الحقة، الشريعة الحقة،
الديانة الحقة، وهو خطأ.
(19) وقال فيها استعملوها بإفراط: يعني الطريقة والطريقة لا تستعمل
استعمالا وكان يحسن أن يقول أفرطوا فيها.
(20) وقال فيها: تكليف الطلاب بحفظ ... إلخ. ولم يرد كلف متعديًا
بالباء، بل ورد كلفه الأمر، ولكن الفقهاء قد عدوا كلف بالباء فلِمُزاول كلامهم العذر
بتعديته بها، ولا نكاد نسلم منه على علمنا به.
(21) وقال فيها: (حتى يبلغوا الحد الذي يقتدرون فيه على الاشتغال بإقامة
الأدلة والبراهين على الذين كانوا يعلمون) وحسب القارئ لهذه الجملة قراءتها فلا
حاجة إلى بيان ضعفها.
عبارة هذا التقرير الذي يبلغ زهاء 90 صفحة وهذه الأغلاط مستخرجة من
أربع صفحات منه قد عدت عشرًا؛ لأن منها الأولى وليس فيها إلا عنوان التقرير
والثانية نصف صفحة. والرابعة أربعة أسطر، والسابعة والثامنة والتاسعة ليس فيها
غير الجداول. وفي هذه الصفحات غير ما ذكرنا ولكنه يحتمل التأويل فتركناه.
هذا وإننا نعتقد أن الشيخ شاكرًا هو من أكتب العلماء، ونكتفي بهذا النموذج من
انتقاد الرسميين، ولكنه يكثر قراءة الجرائد فأثرت في نفسه أساليب أكثرها حظوة
عنده، وهو لكثرة شغله لم يدقق في تحرير عبارة تقريره فجاءت كعبارة بعض
الجرائد، وإننا لم نقدم على انتقاد التقرير إلا لعلمنا بسعة صدره وعرفانه لقيمة
الانتقاد، وقد أشار إلى ذلك في المقدمة، فله الشكر على هذا الإرشاد وعلى خدمته
للعلم والتعليم {وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) .
__________(8/914)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أبونا آدم ومذهب دارون
من باب الانتقاد على المنار
كتب إلينا بعض القراء وكلمنا بعضهم في إنكار ما كتبه الدكتور محمد توفيق
أفندي صدقي في مقالات (الدين في نظر العقل) عن خلق آدم ومذهب دارون.
وأنكر بعضهم سكوتنا له على ما كتب فنجيبهم:
(أولاً) بأنه ليس من شأن أصحاب الصحف أن يقرنوا رأيهم بكل ما
ينشرونه لغيرهم، و (ثانيًا) إن الكاتب قد ذكر ما ذكره في المسألة على تقدير
ثبوت مذهب دارون ثبوتًا قطعيًّا، وهو غير ثابت عنده الآن؛ فهو يقول: إن مذهب
دارون في المسألة ظني لا يقيني، وهو إن ثبت بالبرهان اليقيني فإنه لا ينقض
القرآن، بل يمكن أن يؤخذ من القرآن ما يوافقه.
واعلم أن ما ورد في القرآن من خلق آدم من تراب ومن طين قد ورد نظيره
في خلق الناس كلهم، قال تعالى في سورة الأنعام: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِين} (الأنعام: 2) وقال في سورة الصافات: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا
خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} (الصافات: 11) فهل هذه الآيات نصوص قاطعة على
أن المخاطبين بها خلقوا من الطين مباشرة؟ وإذا جاز تأويلها جاز تأويل ما ورد في
آدم وذلك بمثل قوله تعالى في سورة المؤمنين {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن
طِينٍ} (المؤمنون: 12) ومعلوم أن مادة النسل من الطعام وأصله مواد الأرض
النباتية. وما ورد في خلق الناس من نفس واحدة ليس نصًّا قطعيًّا في أن المراد
بالناس جميع البشر؛ إذ لو كان ذلك نصًّا لما قالوا في تفسير قوله تعالى في سورة
الأعراف: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189) وهو أن الخطاب لقريش والمراد بالنفس الواحدة أبوهم قصيّ،
وذلك أن الله تعالى أخبر عن هذه النفس الواحدة وعن زوجها أنهما جعلا له شركاء،
وآدم لم يكن مشركًا. وقد سبق لنا بيان آخر لمعنى الآية، والمراد هنا أن اختلاف
المفسرين في معنى الآية دليل على أنها ليست نصًّا قطعيًّا في أن النفس الواحدة آدم.
وليت شعري ماذا يضر المسلمين بيان المخرج من اعتراض الكفار على القرآن،
فمن لم يعجبه هذا الجواب فليأت بأحسن منه وليعتقد غير هذا وذاك، فإنما غرضنا
بيان أن كلام الله تعالى حق لا سبيل إلى نقضه بحال.
__________(8/920)
16 ذو الحجة - 1323هـ
10 فبراير - 1906م(8/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اشتراط
الولي في النكاح
قد تكرر القول منا بأننا ننشر في المنار كل ما ينتقده أهل العلم علينا ونبدي
رأينا فيه ونترك الترجيح للقراء، والحق أبلج لا يخفى على ذي البصيرة.
وإننا نحب أن ننشر ذلك في آخر جزء من السنة؛ إلا أن يكون الانتقاد يتعلق
بشبهة على الاعتقاد أو نحو ذلك مما يضر تأخير نشره. وقد ورد علينا في ذي
الحجة من السنة الماضية انتقاد من أحد فقهاء الحنفية في الهند على ما كتبناه في
مسألة اشتراط الولي في النكاح، وكان الجزء الرابع والعشرين قد كتبت أصوله
فأخرت الانتقاد ونسيته زمنًا، ولما راجعت الآن ما لدي مما انتقد به عَلَيّ رأيته مع
آخر فجعلته في أول الباب فأنا أنشره ثم أجيب عنه بما يتسع له الباب. قال
المعترض بعد البسملة والحمد والاستعانة ما نصه:
(أما بعد فما أغرب المنار ما أتى به في مجلته (كذا) (الجزء الثاني عشر
من المجلد السابع) بأن الولي لا بد منه للنساء (كذا) في عقد النكاح سواء كن
بالغات أم لا، وإنه لا يجوز نكاح المرأة بغير الولي، وزعم أن قول الإمام أبي حنيفة
رحمه الله بعدم اشترط الولي في نكاح المرأة المكلفة مخالف للكتاب والسنة وقول
الصحابة، واستدل على دعواه بحجج ليست بنص على ما ادعى، واستدلالات غير
مثبته لما نطق وقضى، فأردنا في هذه المقالة كشف الستر عن وجه هذه المسألة
ورفع الحجاب عن ساحة تلك القضية، فأقول وبالله التوفيق: إن قول الإمام في هذا
الباب هو الموافق للكتاب المبين وسنة رسول رب العالمين وآثار الصحابة والتابعين.
أما كتاب الله تعالى فقد قال جل وعلا: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى
تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} (البقرة: 230) فإنه سبحانه نسب النكاح إلى النساء وإن كان
لا يجوز بدون الرجال ما نسبه إليهن (كذا) بل إلى الأولياء. وأما قوله تعالى:
{وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} (النور: 32) فهو وإن كان فيه خطاب مع الرجال الذين
يتولون العقد لكن لا يفهم منه اشتراط الولي، وأنه لا بد منه كذلك قوله تعالى: {وَإِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم
بِالْمَعُروفِ} (البقرة: 232) لا يفهم منه أيضًا اشتراط الولي، بل ليس فيه ذكر
الولي حتى يستدل به على الاشتراط أو عدمه، فإن الخطاب في (لا تعضلوهن)
للأزواج لا للأولياء كما فهمه (صاحب المنار) كيف؟ وينتشر منه الكلام ويتفكك
به النظام فإن الخطاب في إذا طلقتم مع الأزواج قطعًا، وإذا كان الخطاب في {فَلاَ
تَعْضُلُوهُن} (البقرة: 232) مع الأولياء لا مع الأزواج ينتشر الكلام ويتعذر فهم
المرام وكلام الله تعالى عما يصفون كما حققه الرازي في تفسيره حيث قال اختلف
المفسرون في أن قوله فلا تعضلوهن خطاب لمن؟ فقال الأكثرون أنه خطاب
للأولياء وقال بعضهم أنه خطاب للأزواج وهذا هو المختار الذي يدل عليه أن قوله
تعالى {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ} (البقرة: 232) جملة
واحدة واحد مركبة من شرط وجزاء، فالشرط قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ} (البقرة: 232) والجزاء قوله: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} (البقرة: 232) ولا
شك أن الشرط وهو قوله: (إذا طلقتم النساء) خطاب مع الأزواج فوجب أن
يكون الجزاء وهو قوله فلا تعضلوهن خطابًا معهم أيضًا؛ إذ لو لم يكن كذلك لصار
تقدير الآية إذا طلقتم النساء أيها الأزواج فلا تعضلوهن أيها الأولياء وحينئذ لا يكون
بين الشرط والجزاء مناسبة أصلاً وذلك توجب تفكك نظم الكلام وتنزيه كلام الله
عن مثله واجب.
وأما حديث معقل بن يسار قال: كانت لي أخت فأتاني ابن عم فأنكحتها إياه
فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت العدة فهويها وهويته
ثم خطبها مع الخطاب، فقلت له: يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت
تخطبها، والله لا ترجع إليك أبدًا وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع
إليه فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله هذه الآية، قال ففيّ نزلت
فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه.
فهو أيضًا لا يدل على أن الخطاب مع الأولياء، أما تعلم ما تقرر في الأصول
من أن العبرة بعموم المعنى لا لخصوص المورد، فهذه الآية وإن كانت مورده (كذا)
الخاص الأزواج، ولكن لما كانت العبرة لعموم الفحوى دخل فيه عضل معقل بن
يسار الذي هو ولي هذه المرأة، ففهم أن الآية فيَّ نزلت (كذا) .
أما قول القائل: (ولو كان لها أن تزوج نفسها لفعلت مع ما ذكر من رغبتها)
فمدفوغ إذ يجوز أن تكون امتناعها (كذا) عن التزوج بعدم تمكنها مخالفة أخيها
(كذا) الذي حلف بأن لا يزوجها به مع رغبتها إليه (كذا) لأن الغالب في النساء أن
يكن تحت تدبير الأولياء وآرائهم ولا يقدرن على المخالفة في باب النكاح، وإن كان
الإذن الشرعي لهن في ذلك (كذا) كما حققه الرازي في تفسيره حيث قال: لم لا
يجوز أن يكون المراد بقوله: (فلا تعضلوهن) أن يخليها ورأيها في ذلك،
وذلك؛ لأن الغالب في النساء الأيامى أن يتركن إلى رأي الأولياء في باب
النكاح. وإن كان الاستئذان الشرعي لهن وإن يكن تحت تدبيرهم ورأيهم وحينئذ
يكونون متمكنين من منعهن كتمكنهم من تزويجهن؛ فيكون النهي محمولاً على هذا
الوجه وهو منقول عن ابن عباس في تفسير الآية.
وكذلك قوله {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً
فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاح} (البقرة: 237)
الآية لا يفيد لدعواكم (كذا) سلمنا أن المراد بالذي بيده عقدة النكاح هو الولي لكن
يحمل على الصغيرة كما أن (أن يعفون) على الكبيرة (كذا) غاية ما في الباب أنه
يلزم منه أن نكاح الصغيرة لا ينعقد بدون الولي، وأنه لابد منه، وهذا عين ما ذهبنا
إليه.
وأما سنة رسول الله فمنها ما رواه الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي قال:
(جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله جئت أهب
لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فَصَعَّد النظر فيها وصوبه،
ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها
شيئًا جلست؛ فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة
فزوجنيها، فقال: وهل عندك من شيء؟ قال: لا والله يا رسول الله، فقال:
اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا؟ فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئًا،
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انظر ولو خاتمًا من حديد؛ فذهب ثم
رجع فقال: والله يا رسول الله ولا خاتمًا من حديد ولكن هذا إزاري، فقال سهل: ما
له رداء فلها نصفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تصنع بإزارك؟ إن
لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء فجلس الرجل حتى إذا
طال مجلسه قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليًا فأمر به فدُعِي فلما جاء
قال: ماذا معك من القرآن؟ قال معي سورة كذا وسورة كذا، عددها فقال: تقرأهن
عن ظهر قلبك؟ قال: نعم قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) فقد أنكحها
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير إذن وليها ومع عدم التفتيش والتنقيح بحال
وليها (كذا) ودعوى الخصوصية لا تسمع بغير دليل (رواية الأكثرين زوجتكها
بدل ملكتكها) .
ومنها ما رواه الطحاوي في معاني الآثار عن أم سلمة قالت: دخل عليّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي سلمة فخطبني إلى نفسي، فقلت: يا رسول
الله: إنه ليس أحد من أوليائي شاهدًا. فقال: إنه ليس منهم شاهد ولا غائب يكره
ذلك. قالت: قم يا عمر فزوج النبي صلى الله عليه وسلم فتزوج. ومنها ما رواه
سعيد بن منصور في سننه، حدثنا أبو الأحوص عن عبد العزيز بن ربيع عن أبي
سلمة: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبي أنكحني
رجلاً وأنا كارهة. فقال لأبيها: لا نكاح لك، اذهبي فانكحي من شئت. فهذه
الأحاديث كما ترى دالة على عدم اشتراط الولي وأن النساء البالغات لهن أن
يباشرن العقد بنفسهن من غير احتياج إلى الرجال.
وأما ما رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم: لا تنكح الأيم حتى
تستأمر ولا البكر حتى تستأذن، فلا يفهم منه أن حق التزوج (كذا) للرجال دون
النساء كيف ومفاد الحديث أن نكاح الأيم وكذا البكر لا تنعقدان (كذا) بدون
إجازتهما صريحًا أو كناية، وأما أن حقيقة مباشرة العقد للرجال والنساء فهو بمعزل
عن هذا كيف لا، وقد روى هذا الحديث ابن عباس بلفظ الثيب أحق بنفسها من وليها
والبكر تستأذن في نفسها وأذنها صماتها والتأويل بأن المراد أن لا يزوجها إلا بأمر
صريح تحريف باطل لا يقبله العقل السليم والفهم المستقيم.
وأما حديث أبي موسى لا نكاح إلا بولي فقد أعله ابن حبان بالإرسال كما
ذكره الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام وتصحيح الحاكم كتحسين الترمذي لا يعتدان
بشيء (كذا) وكذلك حديث أيما امرأة أنكحت بدون إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها
باطل فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا
فالسلطان ولي من لا ولي له. أيضًا ضعيف فإن الزهري الراوي أنكر منه (كذا)
وقال: أخشى أن يكون سليمان وهم كما نقله الحافظ ابن حجر في الدراية على أن
عائشة التي روت هذا الحديث زوجت حفصة بنت أخيها عبد الرحمن وهو غائب
بالشام كما أخرجه مالك في الموطأ، فنسبة النسيان إلى الزهري كما فعله صاحب
المنار كما ترى.
والحاصل أن حديث (لا نكاح إلا بولي) وإن كان ينجبر ضعفه بكثرة
الطرق لكن لا يساوي درجة الكتاب والصحاح من الأحاديث التي ذكرت فضلاً عن أن
يكون فاضلاً فافهم وأنصف. وكذلك حديث أبي هريرة: لا تزوج المرأة المرأة ولا
تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها. رفعه غير محفوظ كيف
وأكثر أصحاب هشام بن حسان أحد رواة هذا الحديث كنضر بن شميل وسفيان بن
عيينة وغيرهما يرويانه موقوفًا وكذا الإمام الأوزاعي الذي هو المتابع للهشام (كذا)
أيضًا يرويه موقوفًا قال الشوكاني في نيل الأوطار: الصحيح وقفه على أبي
هريرة.
وقد نقل في عدم (كذا) اشتراط الولي في النكاح عن عثمان وعلي وغيرهما
من الصحابة وموسى بن عبد الله والزهري والشعبي وغيرهم من التابعين كما نقله
ابن أبي شيبة في مصنفه فتبين بهذا بطلان قول الحافظ ابن المنذر: إنه لا يعرف عن
أحد من الصحابة خلاف ذلك. فتنور بهذا جله أن كتاب الله وسنة رسول الله وأقوال
الصاحبة والتابعين كلها تدل على أن نكاح المرأة الحرة البالغة العاقلة نفسها (كذا)
بغير ولي جائز.
هذا حكم الله في دينه وحكمته ظاهرة، فإن النكاح تصرف في خالص حقها وهي
من أهله لكونها عاقلة بالغة، ولهذا جاز لها التصرف في الأموال واختيار الأزواج فلا
معنى لاشتراط الولي لصحته، غاية ما في الباب أن يكون للولي اعتراض إذا
قصرت في أمر بأن تزوجت بغير كفء أو بأقل من مهر المثل، والله أعلم وعلمه أتم.
... ... ... ... ... ... ... ... (عبد الرؤوف البهاري)
هذا ما كتبه بحروفه المعترض، لم نصحح منه إلا عبارة الرازي وبعض أغلاط
الإملاء وهي قليلة وأشرنا إلى بعض ما في عبارته من الغلط والضعف بكلمة (كذا)
وقد أرسل إلينا مقالته بعض قراء المنار الأخيار، وكتب إلينا في آخرها ما يأتي:
حضرة الفاضل العلامة والماجد الفهامة أدام الله مجدكم:
السلام عليكم ورحمة الله وبعد: فإن مقالتكم في المنار في اشتراط الولي في
النكاح لما نظر بعض أحبتي إليها، وأمعن فيها كتب لي بما يتضمنه هذا الكتاب
فأحببنا إرسالها إلى جنابكم رجاء إشاعتها في مجلتكم. وإن شئتم أجبتم عما فيه ولكن
الفضل ولا زلتم بخير.
... ... ... ... ... ... ... ... السيد رحمة الله مهتمم ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... مدرسة جامع العلوم مظفر ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... بور - الهند
جواب المنار
نشهد الله تعالى أنه لو ظهر لنا أن ما قاله هذا المعترض حق لاعترفنا به، وهل
يمنع المشتغل بالعلم من رؤية الحق حقًّا والاعتراف به إلا التعصب لمذهب معين
يحاول أن يثبت له الحق في جميع مسائل الخلاف وينفيه عن مخالفيه وما نحن
بالمتعصبين، إن نقول إلا كما قال إمام دار الهجرة (كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد
عليه إلا صاحب هذا القبر) يعني قبر النبي صلى الله عليه وسلم: وإذا كان جماهير
علماء الأمة قد أثبتوا في الأصول أن الحق واحد في كل مسألة، وأنه لا عصمة في
بيان أحكام الشريعة إلا للأنبياء، فليس يعقل أن يكون واحد من الأئمة قد أصاب في
كل ما خالف به غيره وأخطأ سائرهم فيه بل يصيب هذا تارة وذاك تارة أخرى،
والمتأخر أقرب إلى الصواب غالبًا؛ لأنه يطلع على ما قاله المتقدم ويزيد عليه. وقد
قال الإمام الشافعي للإمام محمد صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله تعالى أجمعين:
ناشدتك الله أصاحبنا (يعني الإمام مالكًا) أعلم بكتاب الله أم صاحبكم (يعني أبا
حنيفة) فقال: اللهم صاحبكم وسأله مثل هذا في السنة فاعترف بأن مالكًا أعلم بها
فقال له الشافعي: فعلام تقيس أنت وصاحبكم. اهـ بالمعنى.
ونحن نعلم أن الشافعي قد أخذ الحديث عن مالك وحفظ الموطأ وزاد عليه في
الرواية وكان عربيًّا يحتج بعربيته، ومع ذلك قال: طلبت لغة العرب عشرين سنة.
ثم إن الإمام أحمد أخذ عن الشافعي، وزاد عليه في الرواية وكان عربيًّا فصيحًا فالذي
يغلب على الظن ويوافق سنة التدريج التي كان بها خاتم النبيين أفضلهم أن أقرب
المذاهب إلى الصواب في المسائل الخلافية أحمد فالشافعي فمالك فأبوحنيفة
رضوان الله عليهم أجمعين. ليس هذا بقادح في فضل المتقدم بالسبق إذ يوجد في
الفاضل ما لا يوجد في الأفضل كما مثلنا بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلا يجب أن
يكون المتأخر هو المصيب دائمًا، وإن تساوى مع سابقه في درجة الاجتهاد وزاد في
الاطلاع لما يعرض للمرء أحيانًا من الذهول والنسيان وكلال الذهن وغير ذلك من
العوارض، ولذلك وجب عرض مسائل الخلاف على الكتاب والسُّنة كما قال تعالى:
{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) والرد إلى الله تعالى هو الرد إلى كتابه
والرد إلى الرسول بعد وفاته هو الرد إلى سنته لا خلاف في ذلك. والواجب أن يرد
ما يتنازع فيه إليهما على أنهما الأصل الذي يحمل عليه غيره لا لأجل تطبيقهما على
قول معين ولو بالتكلف وجعلهما فرعين، فإن هذا هو التفسير بالرأي الذي قاله فيه
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس مرفوعًا؛ إذ تمهد هذا فإليك البحث
فيما كتبه المعترض في تطبيق الآيات والأحاديث على مذهبه على ضعفه في اللغة
العربية كما علمت من عبارته:
(1) استدل بقوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً
غَيْرَهُ} (البقرة: 230) على أن المرأة تتولى العقد بنفسها دون وليها؛ لأنه
أسند النكاح إليها. ونسي أو تناسى أن النكاح هنا لا يصح أن يفسر بالعقد؛ إذ لو فسر
به لكانت الآية دليلاً على أن المطلقة ثلاثًا إذا عقد عليها رجل آخر وطلقها ولم
يدخل بها فإنها تحل لزوجها الأول، وهذا مخالف لمذهب إمامه الذي يريد الانتصار له
ولمذاهب الأئمة الثلاثة وغيرهم من السلف والخلف، فهو تفسير مردود لا يقول به
أحد من المسلمين وقد بينا معنى الآية في موضعها من التفسير فراجعها في الجزء
الثالث (ص 481) من هذا المجلد.
(2) زعم أن قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} (النور: 32) الآية يفهم
منه اشتراط الولي. ونقول: يفهم منه أن الرجال مخاطبون من الله تعالى بتزويج النساء ولم يخاطب سبحانه النساء بتزويج أنفسهن، فكيف تزعم أن القرآن يدل
على أنه شرع للمرأة أن تزوج نفسها؟ وقد علم من السنة التي جرى عليها السلف
والخلف من الأمة أن الرجال المخاطبين بتزويج النساء هم الأقربون المعبر عنهم
بالأولياء لا الأجانب.
(3) وزعم أيضًا أن قوله تعالى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنّ} (البقرة: 232) لا يفهم منه اشتراط الولي لأنه لم يذكر الولي، ولأن النظام يتفكك
بهذا التفسير وإنه لزعم غريب اعتاد مثله أهل الجدل. كأن هذا القائل ومن نقل عنه
أعلم بمدلول الكلام ونظامه من الصحابي الذي قال: إن الآية نزلت فيه إذ عضل؛
أخته فلم يرض أن يعيدها إلى زوجها الذي طلقها حتى نزلت الآية فيه
فزوجها منه، وأعلم بهذا المدلول من الأئمة الثلاثة وسائر علماء السلف والخلف
الذين أخذوا بحديث البخاري في سبب نزولها. فراجع تفسيرها في (ص 527)
وما بعدها من هذا المجلد. وما نقله من اختيار الرازي مردود لمخالفته الحديث
الصحيح، وقول الجمهور باعترافه على أن الرازي أجاب عنه وأشار إلى ترجيح
مذهب إمامه الشافعي.
(4) زعم أن حديث معقل بن يسار لا يدل على أن الخطاب في النهي عن
العضل للأولياء لما تقرر في الأصول من أن العبرة بعموم الفحوى. ونقول: إن
المراد بعموم الفحوى أن ما ورد بسب خاص لا يقصر على سببه بل يؤخذ بعموم
اللفظ، فكل رجل منهي عن عضل موليته كمعقل بن يسار. وجعل الخطاب في هذا
النهي للأزواج المطلقين لا وجه له في العربية لأن المعنى عليه: لا تعضلوا أيها
الأزواج مطلقاتكم أن ينكحن أزواجهن، وما أزواجهن إلا مطلقوهن ولا معنى
لعضلهن عن أنفسهم. وما قاله من زعم أن النهي للأزواج من أن المراد بأزواجهم
من يصيرون أزواجهم على سبيل المجاز المرسل تنافيه الإضافة إليهن على ما حققه
الإمام عبد القاهر الجرجاني في مثله. وإذا لم تكن الآية مع الحديث نصًّا في أن
الرجال هم الذي يزوّجون ويمنعون، فليكن ظاهرًا في ذلك وأين النص أو الظاهر أو
الإشارة من الكتاب على مذهب المعترض من أن المرأة تزوج نفسها؟
(5) ما دفع به قولنا: (لو كان لها أن تزوج نفسها لفعلت) ... إلخ، مدفوع
من نفسه وقوله عن الرازي: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ} (البقرة: 232) أن يخليها ورأيها؟ لا يصح سندًا؛ لأن الحديث ناطق بأنه كفر
عن يمينه واستحضر زوجها وعقد لها عليها ولو كان المراد ما ذكره لسكت عن
المعارضة أو لأذن لها أن تعقد عليه. ولو كان هو وغيره من الأولياء منعوا النساء
مما هو حق لهن لما أقرهم الشرع على ذلك بل لأمرهم بتركهن يزوجن أنفسهن أمرًا
صريحًا.
(6) سلم أن الذي بيده عقده النكاح في قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَعْفُون} (البقرة: 237) ... إلخ هو الولي ولكنه خصه بوليّ الصغيرة. على أن الخلاف فيه
أقوى من الخلاف في المنهجيين عن العضل. وهو على قول من ذهب إلى أنه الولي
حجة من الحجج على ما ذهبنا إليه من أن الرجل هو الذي يزوج المرأة وأن الشريعة
لم تسمح لها بأن تزوج نفسها، وعلى القول الآخر لا يدل على ما ذهب إليه الحنفية
من أن أمرها بيدها إذا كانت راشدة - فهذا مجموع ما ذكره من آيات القرآن دليلاً
على مذهبه، وقد رأيت أنه لا حجة له في شيء منه بل هو حجة عليه.
(7) حديث سهل بن سعد حجة على مذهب المعترض في جعل الصداق
منفعه، فإنه صريح في جعل تعليم ما معه من القرآن صداقًا، وهو لا يجيزه في عدم
استقلال المرأة بتزويج نفسها ورجوعها إلى ولاية الإمام إذا لم يكن لها ولي، كما
قال بعض العلماء في تلك المرأة: فإنه لم يكن يعرف لها ولي من المؤمنين، على
أن النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الولاية العليا على جميع من آمن به لقوله
تعالى في سورة الأحزاب: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُوا
الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض} (الأحزاب: 6) فولاية الأقربين بعضهم على بعض
هي دون ولايته عليه الصلاة والسلام، ومن فروع هذه الولاية ما نزل فيه قوله تعالى
في هذه السورة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ
لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36) وقد نزلت في إباء زينب وأخيها الذي هو
وليها تزويجها بزيد، فتزويج النبي عليه الصلاة والسلام تلك المرأة المجهولة لذلك
الرجل لا حجة فيه على أنه يجوز للمرأة التي لها ولي أن تزوج نفسها أو توكل من
تشاء من الرجال في تزويجها كما هو مذهب المعترض الذي يزعم أن حديث سهل
حجة له؛ إذ لا يقاس أحد به صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الحافظ السيوطي هذا الحديث في باب اختصاصه صلى الله عليه
وسلم بأنه يزوج من شاء من النساء بمن شاء من الرجال. واستدل على هذه الولاية
الخاصة له صلى الله عليه وسلم بالآية التي ذكرناها آنفًا، وقلنا: إنها نزلت في زيد
وزينب وبحديث أبي هريرة عند البخاري وغيره (ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في
الدنيا والآخرة) وذكر في الباب ما أخرجه ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي
(أن عبد الله ذا البجادين خطب امرأة فلم تتزوجه فسألها أبو بكر وعمر فأبت فبلغ
ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عبد الله ألم يبلغني أنك تذكر فلانة. . قال:
بلى، قال: فإني قد زوجتكها فأدخلت عليه) وهذا الحديث معضد بالآية وبما ورد
في الصحيح. فلينظر المنصف إلى تحريف هؤلاء المتعصبين يتركون العمل
بالحديث فيما هو صريح فيه ويحتجون به على مخالفهم فيما لا يدل عليه، وهكذا
شأن من يجعل مذهبه أصلاً والكتاب والسنة فرعين يحملان عليه ولو بالتأويل أو
يتركان.
(8) حديث أم سلمة فيه حجة على مذهب المعترض، فإن قولها: (ليس أحد
من أوليائي شاهدًا) دليل على أنه كان من المعروف في الإسلام أن المرأة لا يزوجها
إلا بعض أوليائها، وليس فيه أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أبطل هذه
السنة حتى يكون حجة على جماهير الأمة القائلين بأن الولي هو الذي يتولى التزويج،
بل فيه أن عمر ولدها هو الذي زوجها وهو وليها إن صح الاحتجاج بالحديث.
وقد استدل الطحاوي (مُحَدِّث الحنفيَّة) رحمه الله تعالى بهذا الحديث على أن
المرأة لا تتولى بنفسها عقد النكاح وإن كانت ثيبًا، بل توليه الرجال خلافًا لما زعم
المعترض.
هذا وقد أَعَلَّ المحدثون حديث أم سلمة هذا بأن عمر ابنها كان صغير السن
يومئذ فإنه ولد في الحبشة في السنة الثانية من الهجرة وتزوج صلى الله عليه وسلم
بأمه في السنة الرابعة، وبأنه عليه الصلاة والسلام لا يفتقر في نكاحه إلى وليّ.
(9) حديث أبي سلمة عند سعيد بن منصور غير معروف وسنن سعيد غير
متلقاة بالرواية ونسخها مفقودة، فما عساه يوجد منها لا يحتج به بمقتضى القاعدة التي
قررها ابن الصلاح في تلقي الكتب والاحتجاج بها، وأبو الأحوص شيخ سعيد هو
سلام بن سليم، وقد روى عن عبد العزيز بن رفيع بالفاء (لا بالباء الموحدة كما
ضبطه المعترض) وقد ذكر في تهذيب الكمال جميع مَنْ رَوَى عنهم عبد العزيز،
ولم يذكر فيهم أبا سلمة. وهذه كنية غير واحد من الصحابة والتابعين. ثم إن ما
ينفرد به سعيد في سننه يجب أن يكون محل النظر، فقد ذكر صاحب التهذيب وتبعه
الذهبي في الميزان عن يعقوب بن سفيان أن سعيدًا كان إذا رأى في كتابه خطأ لا
يرجع عنه.
والذي روي في هذا المعنى واحتج به الحنفية حديث ابن عباس عند أحمد وأبي
داود وابن ماجه والدارقطني أن جارية بكرًا أتت النبي صلى الله عليه وسلم
فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه الدارقطني عن عكرمة مرسلاً وذكر أنه أصح. والحنفية يحتجون بالمرسل ,
وقد حققنا من قبل أن ليس للولي أن يجبر موليته على النكاح، والحديث مرسله
وموصوله لا يدل على أكثر من ذلك فلا شبهة فيه على القول باستقلال المرأة
بتزويج نفسها. فمن قال من الأئمة بنفي الإجبار مصيب، فالحق أنه هو الذي يزوج
برضاها وإذنها. ومن قال: إن لها أن تستقل بتزويج نفسها فلا دليل له من كتاب ولا
سنة بل الكتاب والسنة حجتان عليه.
(10) زعم أن حديث أبي هريرة عند الجماعة: (لا تنكح الأيم حتى
تستأمر) ... إلخ لا يفهم منه أن حق التزوج (يريد التزويج) للرجال. ولو
قال: لا يدل على اشتراطه لكان له وجه أما نفيه الفهم فلا وجه له؛ لأن الكلام
مبني على أن سنة الإسلام جارية بتزويج الرجال للنساء، فالشارع ينهاهم أن
يفعلوا هذا وهو حق لهم أقرهم عليه بشرطه إلا بعد أمر من الثيب واستئذان البكر. فهو إذًا لم يدل على إنشاء مشروعية كون الولي هو الذي يزوج فهو يدل حتمًا على أن
ذلك كان مشروعًا وعليه العمل. ولا تنافي ذلك الرواية الثانية عن ابن عباس فإن
كونها أحق بنفسها يقتضي أن يكون للولي حق ولها حق هو آكد، وهو يتفق
مع وجوب استئمارها.
والحكمة في هذا التعبير أن الثيب كثيرًا ما كانت تخطب إلى نفسها، وأما البكر
فلم تجر العادة بخطبتها إلى نفسها، وأما البكر فلم تجر العادة بخطبتها إلى نفسها بل
إلى أوليائها، والثيب لا تستحي أن تصرح برضاها بمن خطبها، والبكر تستحي،
وغرض الشارع أن يبين للأولياء ما ينبغي لهم مراعاته في تزويج مولياتهم؛ فحرم
عليهم الإكراه والإجبار وأمرهم أن يستأذنوا البكر فيمن يرضونه لها من الخاطبين
وأن يكتفوا منها بالسكوت الذي يشعر بالرضى ولا يكلفوها الإذن الصريح وأن
يتركوا الثيب وشأنها في الاختيار إذا خطبت إلى نفسها وإليهم، فلا يزوجوها بمن
يخطبها إليهم إلا بأمر صريح منها؛ لأنها لا تستحي من التصريح بمن ترضى
وتختار. هذا هو مفهوم مجموع الروايات ولو فهم الصحابة منه أن الثيب تعقد على
نفسها لفعل ذلك كثيرات منهن، ولكن لم يرد ذلك من أحد في رواية سالمة من العلل،
وفي مختصر مشكل الآثار أن الذي للمرأة قبل الحق في عقد نكاحها أن تأذن فيه
لوليها وتولية ذلك، فيكون العقد منه عليها عقدًا منها على نفسها؛ لأن عقود الوكلاء
في هذا مضافة إلى آمريهم وبهذا الجمع بين الروايات نقول.
(11) اقتضب المعترض الكلام في إعلال حديث (لا نكاح إلا بولي) مع
علمه بما ورد في تصحيحه قال في نيل الأوطار بعد أن أورد حديثي أبي موسى
وعائشة في المنتقى معزوين إلى الإمام أحمد وأصحاب السنن ما عدا النسائي ما نصه:
(حديث أبي موسى أخرجه أيضًا ابن حبان والحاكم وصححاه وذكر له الحاكم طرقًا،
وقال: وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وأم
سلمة وزينب بنت جحش، ثم سرد تمام ثلاثين صحابيًّا. وقد جمع طرقه الدمياطي
من المتأخرين. وقد اختلف في وصله وإرساله فرواه شعبة والثوري عن أبي
إسحاق مرسلا ورواه إسرائيل عنه فأسنده. وأبو إسحاق مشهور بالتدليس. وأسند
الحاكم من طريق علي بن المديني ومن طريق البخاري والذهلي وغيرهم أنهم
صححوا حديث إسرائيل وحديث عائشة أخرجه أيضًا أبو عوانة وابن حبان والحاكم
وحسنه الترمذي، وقد أعلّ بالإرسال وتكلم فيه بعضهم من جهة أن ابن جريج قال:
ثم لقيت الزهري فسألته عنه فأنكره. وقد عد أبو القاسم بن منده عدة من رواه عن
ابن جريج فبلغوا عشرين رجلاً وذكر أن معمرًا وعبيد الله بن زحر تابعا ابن جريج
على روايته إياه عن سليمان بن موسى وأن قرة وموسى بن عقبة ومحمد بن
إسحاق وأيوب بن موسى وهشام بن سعد وجماعة تابعوا سليمان بن موسى عن
الزهري قال: ورواه أبو مالك الجنبي ونوح بن دراج ومندل وجعفر بن برقان
وجماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. وقد أعلّ ابن حبان وابن عدي وابن
عبد البر والحاكم وغيره الحكاية عن ابن جريج بإنكار الزهري. وعلى تقدير
الصحة لا يلزم من نسيان الزهري له أن يكون سليمان بن موسى وهم فيه) اهـ
كلام نيل الأوطار، ومنه تعلم أن ما ذكره المعترض من إعلال الحديثين لا يشفي
العلة ولا يبرد الغلة وأن الحجة بهما قائمة.
(12) وأما قوله: إن عائشة راوية الحديث زوجت حفصة بنت أخيها ... إلخ
أي فهو ضعيف بعمل الراوي بخلاف روايته على طريقة الحنفية؛ فجوابه من
وجهين: أحدهما أننا لا نسلم أن عمل الراوي بخلاف روايته يبطل العمل بها؛ لأن
الرواية حجة بشرطها، وعمل الراوي ليس بحجة؛ لأنه غير معصوم لا سيما إذا كان
عمله مخالفًا لما ورد عن الشارع المعصوم. وثانيهما: أن فقهاء مذهب المعترض
أوردوا أثر عائشة في كتبهم، وذكروا ما قيل في معناه من أنها أذنت في التزويج،
ومهدت أسبابه فلما لم يبق إلا العقد أشارت إلى من يلي أمرها عند غيبة أبيها أن
يعقد، يدل على ذلك ما رُوي عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: كانت عائشة
رضي الله عنها تخطب إليها المرأة من أهلها فتشهد فإذا بقيت عقدة النكاح قالت لبعض
أهلها: زوج فإن المرأة لا تلي عقد النكاح. أسنده البيهقي عنه.
(13) ثم إن المعترض جاء بعد إيراد ما تقدم بحاصل مردود وهو أن حديث
(لا نكاح إلا بولي) وإن كان ينجبر ضعفه بكثرة الطرق لا يساوي درجة الكتاب
والصحاح التي ذكرت. وقد علمت مما تقدم أن الحديث صحيح بل يكاد بكثرة طرقه
والعمل به يكون متواترًا، وأن الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة ما ذكره
المعترض منها وما لم يذكره مؤيدة له لا معارضة.
(14) ومن غريب أمر المعترض في تحريفه أنه قال بعد هذا أن حديث أبي
هريرة (لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها)
غير محفوظ مرفوعًا وينقل تصحيح وقفه عن نيل الأوطار وهذه عبارة نيل الأوطار
فيه: وحديث أبي هريرة أخرجه أيضًا البيهقي قال ابن كثير: الصحيح وقفه على
أبي هريرة وقال الحافظ: رجاله ثقات. وفي لفظ للدارقطني: كنا نقول: التي تزوج
نفسها هي الزانية. قال الحافظ: فتبين أن هذه الزيادة من قول أبي هريرة، وكذلك
رواها البيهقي موقوفة في طريق ورواها مرفوعة في أخرى (فعلم من هذا أن
الجملة الأخيرة من الحديث رويت مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقوفة
على أبي هريرة) . وعبارة أبي هريرة كنا نقول: إن الزانية هي التي تزوج نفسها
صريحة في أن هذا القول كان فاشيًا في الصحابة ومثله لا يفشو بمجرد الرأي فله
حكم المرفوع ولو لم يرفع فكيف وقد رفع كما علمت.
(15) قال: إن عدم اشتراط الولي في النكاح منقول عن عثمان وعلي
وغيرهما من الصحابة، وموسى بن عبد الله والزهري والشعبي وغيرهم من
التابعين ... إلخ، ونقول: إن هذا نقل لم يثبت، ولذلك قال الحافظ ابن المنذر: إنه
لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، أي خلاف اشتراط الولي.
وقد روى الدارقطني عن الشعبي قال: ما كان أحد من أصحاب النبي صلى
الله عليه أشد في النكاح بغير ولي من علي كان يضرب فيه. فظهر بهذا كله بطلان
قول المعترض (فتنوّر بهذا جله أن كتاب الله) ... إلخ، بل كتاب الله تعالى وسنة
رسوله وأقوال الصحابة والتابعين وعملهم في جملته، على أن المرأة لا تزوج نفسها
بل يزوجها من حضر من أوليائها الأقرب فالأقرب برضاها. فإن لم يوجد لها ولي
رجع أمرها إلى إمام المسلمين ذي الولاية العامة فهو يزوجها، ولهذا خالف أبا
حنيفة فيما انفرد به صاحبه (محمد) بل صاحباه، وقالا بوجوب الولي. ذكر
الطحاوي في شرح معاني الآثار قول الإمام أبي حنيفة أن للمرأة الحق في تزويج
نفسها بدون ولي قياسًا على تصرفها في مالها، وأنه ليس للولي أن يعترض إلا إذا
تزوجت بغير كفؤ أو بدون مهر المثل قال: وقد كان أبو يوسف يقول: (إن بضع
المرأة إليها وإنه ليس للولي أن يعترض عليها في نقصان ما تزوجت عليه عن مهر
مثلها) ثم رجع إلى قول محمد أنه لا نكاح إلا بولي. اهـ
فإذا كان صاحبا أبي حنيفة (رحمهم الله تعالى) قد خالفاه في هذه المسألة بعد
ما علما بما ورد فيها عن الشارع وأصحابه مما لا محل له معه لقياس البضع على
المال، فما بال هذا المقلد المعترض جاء في آخر الزمان يحرف الكلم عن مواضعه
ليصحح قول أبي حنيفة؟ على أن في المذهب الحنفي مسائل لا تحصى قد رجح
الشيوخ فيها قول صاحبيه على قوله.
وأما ما ذكره في حكمة مذهبه، فهو وجه القياس الذي بطل بالنص والحكمة
البينة لما ثبت بالنصوص هي ما بيناه في المنار (ص 461) من المجلد السابع
ونقول في خاتمة البحث:
إن من يريد الاهتداء بالكتاب والسنة يجب عليه عند النظر فيهما أن ينبذ هواه
وتعصبه ويقصد أن يجعلهما الأصل الأصيل الذي يعمل به وينبذ كل ما خالفه لا أن
ينظر فيهما التماسًا لتأييد قول رجل معين كلامه هو أصل الدين عنده، فإن وافقته
النصوص الإلهية قبلها، وإلا حرفها وصرفها عن وجهها، على أن المتعصب لرأي
ما يعميه تعصبه عن رؤية الحق والمقلد قد قطع على نفسه طريق النظر في الدليل،
{وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
__________(8/931)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
طعام أهل الكتاب ومجاملتهم
كتب إلينا بعض القراء الفضلاء من مسلمي (بوسنه) ما يأتي:
إلى حضرة العالم الكامل الأفخم!
أيها النحرير الشهم الفاضل.
ما مرادكم بالعبارة الآتية في الجزء السابع من المجلد الثامن من المنار الغراء
في صحيفة 255، ألا وهي: (وأراد تعالى أن نجاملهم ولا نعاملهم معاملة المشركين
استثنى طعامهم فأباحه لنا بلا شرط ولا قيد) .
وهذا لا يصح نظرًا إلى الظاهر لأنه لا بد أن يكون مقيدًا بأمور ولا أقل من
التقييد بالوجوه التي تبيح أكل مال الغير لنا.
وقد وقعت بعد العبارة السابقة في السطر الخامس في تلك الصحيفة أيضًا هذه
العبارة: (ولأجل كون حل طعام أهل الكتاب ورد مورد الاستثناء من المحرمات
المذكورة بالتفصيل في سورة المائدة) فإن الظاهر من تينك العبارتين أن النص الوارد
في تحليل طعام أهل الكتاب مطلق لا يتقيد بقيد ما أصلاً، وأنه مستثنى من جميع
المحرمات الواردة في آية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ} (المائدة: 3) إلى آخره،
فيلزم من هذا أن يكون طعام أهل الكتاب حلالاً لنا ولو كان مطبوخًا من الميتة أو
لحم الخنزير أو الدم المسفوح أو الخمر أو غير ذلك.
وأما تعليلكم بالمجاملة فلا نسلم أنَّّا محرضون عليها من الشارع إلا إذا كانت في
حدود الشرع. والقول الواقع في الآية بمقابلة هذا يدل صريحًا على أن المراد بحل
طعامهم المجاملة معهم في المعاشرة كالإجابة إلى دعوتهم ودعوتنا إياهم إلى موائدنا
وكالمساهلة في البيع والشراء معهم، وإلا فلا معنى لحل طعامنا بالنسبة إليهم؛ لأن
الحلّين عائد لنا.
وأول الآية وآخرها ينفي صراحة الحل المطلق ويدل على الحِلّ المقيد
بالحدود الشرعية، فينتج من هذا أن مجاملتنا إياهم، وإن وسعت في الشريعة بالنسبة
للوثنيين لكنها أيضًا محدودة بالأحكام الشرعية. وإلا فالمجاملة الكلية لا تقع إلا
باتباعهم في الجميع {وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم} (البقرة: 120) ولسنا مأمورين بل نحن منهيون عن تجاور حدود الله في مجاملة أخ
ديني ولو كان أشرف من في الأرض فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ألتمس من فضلكم التفصيل الشافي على هذه الاستفسارات لتزيلوا تحيري في
هذا الشأن، ولكم من الله الأجر الجزيل ومني المنة العظيمة، وإن لم يمكن لجنابكم
تعريف المراد بالكتابة القصيرة فأرجو من مروءتكم أن تكرموني بإرسال الأجزاء
الباحثة في هذه المسئلة. وإن كان عليكم بأس بفصل بعض الأجزاء من المجلد
الواحد فأرسلوا المجلد المطلوب بتمامه وأنا أرسل لكم على الفور قيمته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. ق. م
***
(المنار)
المراد بطعام أهل الكتاب الذي أحله الله لنا هو ما كان حلالاً في دينهم والميتة
والدم ولحم الخنزير من المحرمات في التوراة، ولم ينسخ المسيح تحريمها وإنما أكله
النصارى بقول بولس: الذي يدخل الفم لا ينجس الفم وإنما ينجسه ما يخرج منه وهذا
مبالغة منه في ذم الكلام القبيح. ونحن لا نقول بأن الخنزير يدخل في عموم طعامهم
فإذا خالفوا دينهم وأكلوه فأكلهم إياه لا يبيحه لنا. ولا ينافي هذا قولنا أن الله تعالى
أباح لنا طعامهم بلا شرط ولا قيد لأن هذا بيان للآية ولا شرط فيها ولا قيد. وقد
صرح بعض علماء السلف من الصحابة وغيرهم أن المراد بطعام أهل الكتاب في
الآية ذبائحهم؛ لأنها مظنة التحريم وغيرها حل بمقتضى الأصل في الأشياء وهو
الإباحة إلا ما حرم بالنص علينا وعليهم، وهو الميتة المحرمة لعارض ولحم
الخنزير المحرم لذاته. وهذا لا ينافي الإطلاق في العبارة ولا في بيانها كما قلنا؛ إذ
لم يعهد في أساليب لغة من اللغات عند بيان مسألة علمية أو حكم شرعي أن يذكر
معها أو معه جميع ما تقرر في بيان مسألة أو حكم آخر يمكن أن يكون له علاقة
بالمبين بتقييد أو تخصيص. مثال ذلك إذا قلنا: إن العسل نافع، فإن هذا الإطلاق
صحيح ولا حاجة لتقييده بقولنا: بشرط أن لا يكون آكله أو شاربه محرورًا وأن لا
يسرف في الإكثار منه. وإذا قلنا: إن الشرب في آنية الزجاج، فلا حاجة في صحة
القول إلى تقييده بقولنا: إذا كان الإناء طاهرًا وغير مغصوب: إذا تدبرتم
هذا علمتم أنه إذا قال قائل: تستحب مجاملة أهل الكتاب أو برهم: فلا يجب عليه
أن يقيد ذلك بقوله: بشرط أن لا يشاركهم في عبادتهم وتقاليدهم الدينية ولا يرتكب
معهم محرمًا كشرب الخمر، فإن هذا لا يدخل في إطلاق القول فيحتاج إلى إخراجه
بالقيود، ولا أقول: إنه يدخل فيها وتعتبر في إخراجه القرائن المعلومة بالضرورة كما
يتوهم الضعيف في اللغة.
هذا وإننا قد فصلنا القول في مسألة الذبائح وطعام أهل الكتاب في المجلد
السادس وإننا نرسله إليكم فطالعوه، وإن لاحت لكم شبهة فاكتبوا إلينا بها.
__________(8/945)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة خلق أبينا آدم
أجبنا في الجزء الماضي عما انتقد به على رأي الدكتور محمد أفندي صدقي في
مسألة خلق آدم ومذهب دارون التي جاءت في مقالات (الدين في نظر العقل الصحيح)
ثم راجعنا ما كتب إلينا في ذلك، فإذا بالشيخ قاسم محمد أبي غدير يذكر آية من الكتاب
لم نذكرها في جوابنا وهي قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن
تُرَابٍ} (آل عمران: 59) الآية وهي أقرب إلى تأويله من غيرها؛ لأنها تشبه
خلق عيسى بخلق آدم، وعيسى لم يخلق من التراب مباشرة.
والضمير في قوله: خلقه يحتمل عوده إليه. ثم سأل عن الأحاديث التي تفيد
خلق آدم من التراب مباشرة، والجواب أن تلك الأحاديث رواية آحاد لا تفيد اليقين،
فإن فرضنا أنه ثبت ما يناقض شيئًا منها؛ فإننا لا نعده ناقضًا للدين، ولا تنس أننا
نؤمن بأن آدم خلق من التراب كما ورد بلا تأويل، وإنما التأويل لإلزام المعترض
على الدين.
__________(8/947)
الكاتب: محمد الخضري
__________
انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسير
ابن جرير الطبري
(تابع ص 30 من الجزء الأول)
(110) متبذّلاً تبدو محاسنه ... يضع الهِناءَ مواضع النقب
ورد في الرابع ص 151 وهو لدريد بن الصمة وكتب هكذا:
متبذلاً تبدو محاسنه ... يضع الهنا مواضع النقب
(111) أذاع به الناس حتى كأنه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب
في الخامس ص 106 وكتب الشطر الثاني هكذا (يعلنا 7 نار أوقدت بثقوب) .
(112) قريب قراه ما ينال عدوه ... له نبطًا عند الهوان قطوب
في الخامس ص 117 وكتب الشطر الثاني هكذا:
... ... ... ... (له نبط أبى الهوان قطوب) .
(113) وكنت لزاز خصمك لم أعرّد ... وقد سلكوك في أمر عصيب
ورد في الثاني عشر ص47 وفي الرابع عشر ص7 وكتب في كليهما بدل أعرد
أعود بواو وبدل أمر يوم. وورد في الثامن عشر ص12 وكتب صحيحًا إلا في
استبدال يوم بأمر.
(114) تريك سنة وجه غير مقرفة ... ملساء ليس بها خال ولا ندب
في الثالث عشر ص 116 وقد كتب بدل خال حال بحاء مهملة وصوابه بخاء
معجمة.
(115) وقفت على ربع لمية ناقتي ... فما زلت أبكي نحوه وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... تكلمني أحجاره وملاعبه
في الرابع عشر ص 14 وكتب الشطر الأول من البيت الثاني هكذا:
وأسقيته حتى كاد مما أتيته
(116)
صداع وتوصيم العظام وفترة وغم مع الإشراق في الجوف لاتب
في الثالث والعشرين ص 25 وكتب الشطر الثاني هكذا:
وعي مع الأشواق في الجوف لاتب
وقبل البيت:
... فإن يك هذا من نبيذ شربته ... فإني من شرب النبيذ لتائب
(117) قوم إذا عقدوا عقدًا لجارهم ... شدو العِنَاج وشدوا فوقه الكَرَبا
في السادس ص 28 وكتب بدل العناج القناح والعناج للدلاء ما تعنج به من
حبل يجعل تحتها مشدودًا إلى العراقي يكون عونًا للوذم والكرب حبل يشد على
العراقي ثم يثنى ثم يثلث.
(118) لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب
في الثامن ص 92 وكتب بدل بهز: بهن وبدل فيه فيها.
(119) أمرتك الخيرة فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب
في التاسع ص 48 وكتب بدل نشب نسب بسين مهملة وصوابه بمعجمة
(120) ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... كاليوم طالي أنيق جرب
في السادس والعشرين ص 113 وكتب هكذا:
ما إن رأيت ولا سمعت به ... كاليوم طال أنيق حرب
(121) وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب
في السابع والعشرين ص 8 وكتب الشطر الأول هكذا:
وفي كل يوم قد حبطت بنعمة
(122) كانوا كسالئة حمقاء إذ حقنت ... سلاءها في أديم غير مربوب
في الأول ص 47 وكتب بدل كسالئة: كسائلة، وبدل مربوب: مزبوب مع أن
فيها الشاهد.
(123) فلست لإنسي ولكن لملأك ... تنزل من جو السماء يصوب
في موضعين في الأول ص 113 وكتب هكذا:
فلست بإنسي ولكن ملائكًا ... تنزل من جو السماء بصوب
وفي الأول ص 152 وكتب الشطر الأول هكذا:
فلست بجني ولكن ملأكا
وكتب في الثاني تحدر بدل تنزل ولعله رواية.
(124) حتى إذا سلكوهم في قتائدة ... شلاًّ كما تطرد الجمالة الشردا
في أربعة مواضع:
(1) في الأول ص 150 وكتب فيه فيافدة بدل قتائدة، ويطرد بدل
تطرد.
(2) في الرابع عشر ص 7 وكتب هكذا.
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا ... كما تطرد الجمالة الشردا
(3) في الثامن عشر ص 21 وكتب هكذا:
حتى إذا أسلكوه في قنابذة ... سلا كما تطرد الحمالة الشردا
(4) في الرابع والعشرين ص22 وكتب كالثالث إلا أنه بدل أسلكوهم
سلكوهم.
(125) أسود شرى لاقت أسود خفية ... تساقوا على حرد دماء الأساود
في التاسع والعشرين ص 18 وكتب كرى بدل شرى. وفساقوا بدل ساقوا. وبدل
خفية حنية.
(126)
لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغَّص الموت ذا الغنى والفقيرا
في الرابع عشر ص27 وكتب هكذا:
لا أرى الموت إن الموت شيء ... يعض الموت الغني والفقيرا
(127) كأن عذيرهم بجُنوب سِلّى ... نعام قاق في بلد قفار
في الرابع ص56 وكتب الشطر الأول هكذا:
كأن غديرهم بجنوب سلى
والعذير بالعين المهملة والذال المعجمة الصوت وهو يصف قومًا منهزمين
(128)
وشر المنايا ميت وسط أهله ... كذلك الفتى قد أسلم الحي حاضره
في الأول ص 107 وكتب الشطر الثاني هكذا:
كهلك القناة استسلم الحي حاضره
(129)
سألتاني الطلاق أن رأتاني ... قل مالي قد جئتماني بنكر
وَيْ كأن من يكن له نشب يُحبب ... ومن يفتقر يعش عيش مر
في العشرين ص 71 وفيه رأياني بدل رأتاني وكتب في الثاني يحب بدل يُحْبب
وكلها في الشطر الأول والصواب ما كتبنا.
(130) قد شربَتْ الأدُهَيْدِ هينا ... قُلَيِّصات وأبيكرينا
ورد في الثلاثين ص56 وكتب هكذا:
... قد رويت الألدهيد ... هينًا فليصاب وأبكرينا
الدَّهداه ماشية الإبل صغره وجمعه جمع سلامة وقليصات جمع سلامة لمصغر
قلوص وأبيكرينا صغر أبكرا جمع بكر ثم جمعه جمع سلامة.
(131) لعمر أبيها لا تقول ظعينتي ... إلا فرّ عني مالك بن أبي كعب
ورد في الصفحة 66 من الجزء السابع عشر وكتب هكذا:
لعمر أبيها لا تقول ظعينتي ... إلا ترعني مالك بن أبي كعب
(132) ألا لحا الله بني السعلات ... عمرو بن يربوع شرار النات
ليسوا أعِفَّاءَ ولا أكيات
هكذا أنشدها صاحب اللسان في مادة (ن وت) وقال: إنه يريد الناس وأكياس
وورد هذا الرجز في الجزء الثامن ص 146 هكذا:
ألا لحا الله بني السعلاب
عمرو بن يربوع لئام الباب
ليسوا بأعقاب ولا أكثاب
(133) ... ... وصاليات للصِّلى صُليّ
ورد في الرابع ص 170 وكتب بدل وصاليات والصاليات وهو غلط كما كتب
الصلا بالألف للصلى والبيت من أرجوزة عجاجية ويريد بالصاليات: الأثافيّ
وبالصلى الوقود.
(134) ... ... ... يحوذها وهو لها حوذي
من الأرجوزة السابقة وورد في الخامس ص 197 وكتب هكذا:
يحوذهن وله حوذي
ثم ذكر الطبري أن فيه رواية أخرى وقد كتبت بالشكل السابق تمامًا من غير فرق.
(135) وحاصن من حاصنات ملس ... من الأذى ومن قراف الوقس
ورد في الخامس ص5 وكتب فيه بدل مُلس ملمس وبدل قراف فراق وهما من
أرجوزة للعجاج يمدح الوليد بن عبد الملك والقراف: المداناة والوقس: الجرب.
(136) أخاف زيادًا أن يكون عطاؤه ... أداهم سودًا أومحد درجة سمرا
في الرابع ص 83 وكتب بدل أداهم دراهم وهو غلط، والأداهم: القيود.
(137) الله يعلم أنا في تلفتنا ... يوم الفراق إلى أحبابنا صور
في الثالث ص 33 وقد كتب بدل تلفتنا تلقينا وهو تحريف يخل بقوام البيت
وبدل أحبابنا جيراننا، ولعلها رواية وما ذكرناه رواية اللسان في مادة صور.
(138)
صرت نظرة لو صادفت جَوزَ دارع غدا والعواصي من دم الجوف تَنعر
في الثالث ص 34 وكتب بدل جوز جون وبدل الجوف الجون وكلاهما تحريف.
(139)
ولم يستريثوك حتى رميت من ... فوق الرجال خصالاً عُشارًا
في الرابع ص 147 وكتب بدل ولم يستريثوك فلم يسترثبوك: وهو تحريف.
(140) فما ألوم البيض إلا تسخرا ... لما رأين الشَّمَط القَفَندرا
في الأول ص 16 وكتب بدل رأين رأينا وهو تحريف ولحن.
(141) ألكني إليها عمرك الله يا فتى ... بآية ما جاءت إلينا تهاديا
ورد في موضعين:
الأول: في الأول ص 35 وكتب بدل الكنى اتكنى.
الثاني: في الأول ص 152 وكتب صحيحًا.
(142) يا ابن أمي ولو شهدتك إذ تد ... عو تميمًا وأنت غير مجاب
في التاسع ص43 وكتب بدل تدعو تميمًا تدعوهما وهو تحريف يخل بالوزن
والمعنى.
(143) أنت المصفى المهذب المحض في ... النسبة أن نصَّ قومك النسب
ورد في الأول ص 364 من أبيات الكميت الأسدي وقد كتب هكذا:
المصطفى المحض المهذب في ... النسبة أن نص قومك النسب
والشطر الأول مختل وصحته ما ذكرنا.
(144) قالت قتيلة ما له ... قد جللت شيبًا شواته
في التاسع والعشرين ص 42 وكتب هكذا:
قالت نبيثه ما له قد ... حالت شيبًا شواته
(145) إني ومن أين آبك الطرب ... من حيث لا صبوة ولا ريب
في الثاني ص 224 وكتب بدل آبك يأتيك والبيت مطلع كلمة الكميت التي منها
البيت المذكور في الشاهد 3
(146) ترى أرماحهم متقلديها ... إذا صدئ الحديد على الكماة
ورد في موضعين الأول في الأول ص 58 وكتب بدل أرماحهم أرياقهم
والثاني في التاسع عشر ص 35 وكتب بدل الكماة الكتاب وبدل صدئ صدأ
(147) إذا القُنبُضات السود طوفن بالضحى رقدن عليهن الحجال المسجف
ورد في التاسع عشر ص 35 وكتب بدل القنبضات القسمات وبدل رقدن وفدن
وأعقب بعدد 7، والقُنبُضة: المرأة الدميمة أو القصيرة. والبيت للفرزدق من كلمته
التي أولها:
عزفت بأعشاش وما كدت تعزف ... وأنكرت من حدراء ما كنت تعرف
ويصف ببيت الشاهد وما قبله وما يليه نساءه المترفات اللاتي يتغزل بهن.
(148) يقذفن كل معجل نشاج ... لم يكن جلدًا في دم أمشاج
في التاسع والعشرين ص 109 وكتب هكذا:
يطرحن كل معجل نشاج ... لم يك خلدًا في دم أمشاج
والبيت من أرجوزة لرؤبة ويصف النوق أنهن أجهدن حتى قذفن بما في
بطونهن والمعجل الذي لم تكمل مدة حمله والنشاج: الذي ينشج، والنشيج: الشهيق.
(149) كأن بقايا الأثر فوق متونه ... مدب الدبى فوق النقا وهو سارح
ورد في موضعين: الأول في الرابع عشر ص 51 وكتب هكذا:
كأن بقايا الأتن فوق متونه ... مدب الذي فوق النقا وهو سارح
والثاني في التاسع والعشرين ص98 وكتب صحيحًا، إلا أنه وضع البنا موضع النقاء وكتب الدبى بالألف.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد الخضري
(لها بقية)
__________(8/948)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(تاريخ القرآن والمصاحف)
عني المسلمون بالقرآن المجيد عناية لم تعن بمثله أمة بكتابها فحفظوه في
الصدور والسطور في زمن تنزيله إلى هذا اليوم وألفوا الكتب الكثيرة في ضبط كتابته
وتلاوته، فبينوا بالرسم مهمله ومعجمه وغفله ومنقوطه وكيفية الأداء والتجويد
والوقف والابتداء وعدد الآيات والكلمات والحروف، كما بينوا المعنى والإعراب
ونكت البلاغة وطرق الاستنباط. ولما كان المصحف المعظم قد وصل إلى
المتأخرين في أحسن خط وأجمل شكل، حتى بيّن فيه مواضع الوقف المطلق والجائز
والصالح والممتنع اكتفوا بذلك عن الرواية والمدارسة في رسم الحروف وتاريخ
المصاحف ولم يعنوا في ألفاظه إلا بتجويدها علمًا وعملاً في الأكثر؛ فأتقنوا مخارج
الحروف وصفاتها من: الإظهار، والإخفاء، والجهر، والهمس، والقلقلة والمد،
والقصر، وغير ذلك. ثم قضت حاجة هذه الأيام بمراجعة ما كتب في تاريخ
المصاحف فانتدب صاحبنا موسى أفندي جار الله روستو فدوني الروسي إلى تأليف
كتاب في تاريخ المصاحف يصدره أجزاء صغيرة كلما أتم جزءًا طبع ونشر. وقد
طبع الجزء الأول في بطرسبرج في أوائل ربيع الأول من هذه السنة، وأرسل إلينا
نسخة منه وطلب منا انتقادها، واتفق أن رأى النسخة في يدنا الأستاذ الإمام - رحمه
الله تعالى - قبل أن نقرأها فأحب أن يطلع عليها فأخذها، وكان المرض قد أشتد عليه
وشغلنا بمرضه ثم بموته عن البحث عنها في أوراقه وكتبه، ثم أرسل إلينا نسخة
أخرى سنقرظها في جزء آخر إن شاء الله تعالى.
***
(كتاب الخدمة المدرسية في تسهيل قواعد العربية)
كتاب في مبادئ النحو والصرف لجرجس أفندي الخوري المقدسي مدرس
العربية في المدرسة الأمريكية بطرابلس الشام قال في مقدمته أنه أطال الفكر في
كيفية التأليف المفيد للتعليم، وكتب في مذكرته كل ما كان يخطر له في أثناء التدريس
للتلاميذ والتلميذات من الأحداث موافقًا لأذواقهم وجعل ذلك دعامة كتابه هذا ثم قال:
(فجمعت فيه من الصرف والنحو ما يسهل فهمه على التلميذ ويتمكن به من
ضبط ألفاظه وكتابته ونسقته حسب أفكاري تنسيقًا يرتاح إليه المتعلم مفضلاً القليل
المفهوم على الكثير المعقد اتباعًا لرأي فلاسفة هذا العصر بشأن التعليم. وافتتحت
الفصول ببيانات وذيلتها بتمارين موافقة لمقتضى الحال، وأدخلت إلى اللغة نوعًا
جديدًا من الإعراب سميته (الإعراب التصويري) اقتبسه من الإنكليزية) ... إلخ.
ثم طلب من الأساتذة والكتبة انتقاد الكتاب ليعمل بما يرشدونه إليه في الطبعة
الثانية. وقد أخرنا تقريظ الكتاب لعلنا نجد وقتًا لمطالعته وانتقاده فأعوزنا الوقت فلم
نجد بدًّا من ذكره والتنويه بما توخاه مؤلفه فيه توجيهًا للأنظار إليه.
***
(مجلة الشتاء)
مجلة أدبية علمية تاريخية فكاهية شعرية أنشأها في مصر سليم بك العنجوري
الشاعر الدمشقي العصري الشهير، وهي تصدر في فصل الشتاء وتحتجب في
الصيف وقيمة الاشتراك فيها أربعون قرشًا مصريًّا في السنة التي هي الشتاء تدفع
مقدمًا. وقد صدر الجزء الأول منها في شهر يناير والثاني فيما يليه. وإنك لتقرأ بعض ما جاء في الجزء الأول فإذا هو يمزج الفكاهة والدعابة بالجد فتتجلى لك روح
هذا الشيخ الكبير، بخفة الحزوّر الطرير، حتى لا أكاد أفرق بين ما قرأته له
اليوم وما كنت قرأته له وأنا تلميذ مبتدئ كان الأدب قد طبع روح هذا الرجل
بطابع لم تقو عليه السنون ولم تؤثر فيه عواصف السياسة التي تغير الأوضاع، وتبدل
الطباع، وإنني أكتفي الآن بهذا التشويق إلى مجلة الشتاء بالإشارة إلى ما فيها من
حرارة الشباب ولعلي أجد وقتًا آخر أنتقد فيه ما لعلي أجده فيها من برد
الشتاء، ولا أقول برد الشيخوخة لئلا أجمع بين الضدين وإن كان الجمع بينهما من
محسنات البديع عند الشعراء فيشفع لي عند الرصيف القديم الجديد الذي اشتغل
بالصحافة وأنا وليد، على أن السوري لا ينتقد برد الشتاء، فما علي إلا أن
أعهد بذلك إلى أحد المصريين الأدباء.
__________(8/953)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(مسألة تزوج الهندي بالشريفة في سنغافوره)
اختلف علينا القول في هذه المسألة التي استفتينا فيها من قبل. وقد كتب إلينا
السيد حسن بن علوي بن شهاب أحد شرفاء الحضارمة المقيمين في سنغافورة حقيقة
الواقعة فنحن ننشرها هنا (إذ فاتنا نشرها في باب الانتقاد على المنار) لئلا نكون
مصرين على الخطأ بعد ظهور الصواب قال بعد رسوم الخطاب:
تكرر في المنار المنير ذكر مسألة تزوج هندي بشريفة بسنغافوره، ولكن لم تكن
المسألة كما قالوا بل كستها الأغراض أثواب اللبس والتدليس، فأحببت أن أفيدكم
بالواقع وما راء كمن سمع، وإني أعتقد أن المنار طالب للحق ولا تهمه الشخصيات
ولذلك لم أكتب له فيما سبق حرفًا ولسيدي الرأي في نشر ما كتبته وإغفاله.
الهندي رجل نفي من الهند مؤبدًا إلى سنغافوره وليس له نسب يعرف ولكن
يقال: إن أباه معلم صبيان والشهود الذي قيل عنهم: إنهم شهدوا له بالشرف لا صحة
لما قيل في كثرتهم، بل قال اثنان نسمع أنه سيد ولا يعرفون له ثلاثة آباء في
الإسلام هذه هي حال الزوج المشهود له بالشرف. وأما المرأة فبنت لم تتجاوز
خمس عشرة سنة من السادة العلويين الحضارمة المشهور نسبهم المدون في الأسفار
بالتواتر عند أهله وفي آبائها العدد الجم من العلماء والمصنفين وأهل الفضل والزهد
والتقوى لا يمتري في ذلك أحد من الحضارمة.
عجز الهندي عن استمالة الشريفة فقصد رجلاً من بني العطاس جعله العرب
عريفًا لتسجيل العقود في المحكمة الإنكليزية فتوسل به الهندي فتردد إلى أم الشريفة
حتى أقنعها وكان للشريفة أخوان أحدهما غائب، والثاني حاضر إلا أنه جاهل
فراوده العطاس في تزويجها بالهندي فتأبى وامتنع، وقد تم أمر العطاس مع
الأم، فلما لم يجد الأخ بدًّا من تزويجها طلب من العطاس أن يتحقق من العلماء
الموجودين من العرب عن نسب ذلك الرجل فأكد له وأقسم بأنه قد تحقق الأمر ولم
تبق لديه شبهة ولا ريبة فدلاهما بغرور ولقن العطاس أخا المرأة العقد في الساعة
الحادية عشرة ليلاً فعير الجميع أخاها ووبخوه حتى إنه بعد ذلك هرب مما أصابه من
التعيير ثم إن أخا المرأة الغائب شكا من ذلك وتذمر فبما ذكر يتضح فساد النكاح على
مذهب الشافعي كما لا يخفى على من له إلمام بالفقه، والله على ما نقول شهيد
وحسبنا الله، وما شرحته ثبت بالتحقيق الذي أجرته الجمعية العربية وبشهادة الشهود
وإقرار أهل القصة فلا مرية في شيء منه ألبتة.
أما ما قيل من إهانة بعض من حضر العلم الشريف وكتبه فأمر مبالغ فيه
والواقع أن اثنين من طلبة العلم وجها كلامًا قارصًا إلى رجل له شرف وسن وجاه
لدى الجميع أراد المناضلة عن العطاس؛ لأنه بكى إليه واستنصره ولبَّس عليه وكان
ذلك الرجل ساذجًا ويرى ذينك الطالبين مثل أولاده فقصد ردعهما عن تعنيفه لا
استخفافًا بالعلم وأهله. وأما ما جاء في فتيا السيد عمر بن سالم العطاس في بيان
خطأ ابن عمه من أن إسقاط الكفاءة من الشريعة غير ممكن لأن شرفها ذاتي فذلك
مذهب لكثيرين من علماء حضرموت واليمن والحجاز وعدد منهم مجتهدون فلا
غرو إذا خالفوا الشافعي أو هو وبقية الثلاثة، ولا يلزم من المخالفة التحقير أو عدم
الاتباع ويطول الشرح والقصد إيضاح الحق وتحقيقه جعلنا الله وإياكم من الطالبين له
المنقادين آمين.
... ... ... ... ... ... ... ... حسن علوي بن شهاب
(المنار)
قد كتب إلينا غير هذا السيد أيضًا ممن نثق به أن الواقعة كما قال. أما الحق في
الكفاءة بالنسب فهو ما بيناه من قبل من أنها مسألة اجتهادية مدارها على التعيير
فحيث كانت المرأة تعير هي وأولياؤها بالرجل فهو غير كفؤ لها، وما قاله العطاس في
الشرف الذاتي لا يصلح دليلاً شرعيًّا. نعم، إن مخالفته للشافعي أو لغيره لا يعد
تحقيرًا، ومن قال: إن الخلاف يستلزم التحقير فقد زعم أن السلف وغيرهم من الأئمة
والعلماء في كل زمان يحقر بعضهم بعضًا؛ إذ لم يتفق اثنان منهم في كل مسألة والله
أعلم.
***
(السيد علي الببلاوي - وفاته)
السيد علي الببلاوي من شرفاء مصر وكبار علماء المالكية في الأزهر، ولما
جئنا مصر كان نقيب الأشراف وشيخ المسجد الحسيني وكان يلازم هذا المسجد،
وقد عرفناه فيه وكلمناه في إبطال البدع التي يأتيها العوام عند القبر الحسيني وعمود
الرخام الذي أمام مقصورته، وهو كما سبق لنا القول يُتَمَسَّحُ به للتبرك والاستشفاء؛
لأنه يسمى عمود السيد، فقال: إن هذه البدع قد استحكمت في نفوس العامة
وصارت أرسخ العقائد فيها فلا يمكن نزعها إلا بالتدريج البطيء، وإذا فاجأناهم
بقولنا أن هذا ليس من الدين خشينا عليهم أن يشكوا في أصل الدين ويمرقوا منه.
وقد ناقشناه يومئذ في رأيه بل ظننا أنه لا يود إطال شيء من تلك البدع، وإنما قال ما
قال جدلاً، ثم تبين لنا ظننا هذا كان على إطلاقه خطأ، ولم نعرف حقيقة
فضل الرجل بل لم يعرفه جمهور أهالي البلاد إلا بعد أن صار شيخًا للأزهر.
عين شيخًا للأزهر بعد عزل الشيخ سليم البشري في 2 ذي الحجة سنة 1320
وكانت إدارته قد وقفت حركتها فكان خير عون للإصلاح؛ إذ اتفق مع الأستاذ
الإمام في كل رأي ولم يخالفه إلا فيما كان يسميه التدريج في التنفيذ وإن كان بطيئًا،
وكان الأستاذ الإمام يفضل التعجيل بالتنفيذ اغتنامًا للفرصة، وخوفًا أن تفوت قبل
إتمام العمل وكذلك كان. وقد قلنا في كلام عن الأزهر في أجزاء هذه السنة أنه
قد ظهر للحكام وغيرهم من حسن إدارة هذا الرجل فوق ما كانوا يظنون. ومن أراد
أن يعرف ما كان على عهده من حسن الإدارة والنظام فليرجع إلى كتاب (أعمال
مجلس إدارة الأزهر) .
وجملة القول: إن الرجل كان في عقله وفضله وإدارته وأخلاقه وآدابه من
خيرة علماء المسلمين في هذه الديار، بل لا نفضل عليه ممن عرفناهم بعد الأستاذ
الإمام أحدًا منهم. توفاه الله تعالى في مصر وقد ترك من الولد الصالح من يُحْيي
ذكره في العلم ومكارم الأخلاق اللائقة بالشرفاء فنعزي عنه ولديه النحيبين السيد
محمد المدرس في الأزهر وأمين دار الكتب المصرية (الكتبخانة) والسيد محمود
شيخ المسجد الحسيني وسائر الأهل والأقربين والعلماء والشرفاء، ونسأل الله تعالى له
الرحمة والرضوان.
__________(8/955)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة السنة الثامنة
باسم الله وحمده نختتم الجزء الأخير من هذه السنة كما بدأنا أول جزء منها
باسمه وحمده فهو الذي يذكر ويحمد في السراء والضراء، وعلى الزعزع والرخاء،
فإن السراء من نعمه الظاهرة والضراء من نعمه الباطنة، يربي بها عباده فيبتلي ما
في قلوبهم، ويمحص ما في صدورهم، والله عليم بذات الصدور.
منينا في هذه السنة بشيء من المصائب والنوائب نرجو أن نكون وفقنا معه
للصبر، وادخر لنا عند الله فيه الأجر، زيادة عما آتانا به من الثقة بوعده، والتوكل
عليه والرضى بقضائه وقدره، والعبرة بشؤونه في خلقه والاعتماد بعد ذلك كله على
ما وهب من القوى، والتحقق بمقام {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) فله الحمد على ما استأثر به وعلى ما أبقى، ولله الحمد على ما أخذ
وعلى ما أعطى، ولله الشكر والثناء الحسن في الآخرة والأولى.
قلنا في فاتحة السنة الماضية وخاتمتها: إن المنار قد دخل في سن التمييز. نعم
وقد ميزنا في هذه السِّنّ بين كثير المتشابهات كالخِل الصادق، والخِب المماذق،
والمتودد يبتغي العرض والوديد لا لعلة ولا لغرض، والموافق في الاعتقاد والشعور،
والمنافق اللابس ثوب الزور، فنسأل الله كمال الصبر وتمام صفاء السريرة.
أما قراء المنار فهم ينمون بنموّه، يزيدون بزيادة سنيّه ولم ينقص من عددهم
انتقاص أهل الأهواء، ولا خوض أهل الدهان والرياء، ولا نشكو إلا من تقصير
بعضهم في أداء قيمة الاشتراك، ومعظم التقصير في هذا منا فإننا قلما نتقاضى
مشتركًا أو نذكره بكتاب يرسل، أو وكيل يسأل، بل تركناهم إلى أريحيتهم، ووكلنا
بهم غيرتهم ومروءتهم، ومنهم من ينسى فيحتاج إلى التذكير، ومن يكسل عن
إرسال المبلغ في البريد فيغريه التسويف بالتأخير، ومنهم السابقون إلى الأداء،
والمقتصدون في الوفاء، وإنما تنهض الأعمال بأمثال أولئك وهؤلاء، ويندر أن
يكون في قراء المنار من يهضم حقه عمدًا، ويقصد إلى أكل قيمة الاشتراك قصدًا.
نعم، إن أهل مصر قد اعتادوا أن يدفعوا قيمة الاشتراك في الصحف للوكلاء
الذين يتقاضونهم ولعل أهل تونس مثلهم؛ إذ لا يرسل القيمة إلينا بغير طلب أكثر من
عشرهم وجميع المشتركين في الشرق والغرب يرسلون إلينا قيمة الاشتراك من غير
طلب لا يمطل منهم إلا بعض أهل الهند وأفراد من أهل الجزائر وأهل المغرب
الأقصى وقد كنا عهدنا بوكالة المنار في تونس إلى رجل اسمه علي زنين فحصل ما
شاء أن يحصل وأكله مع ثمن كتب كنا أرسلناها إليه. ثم وكلنا رجلاً من الأدباء
فتضاعف المشتركون في القطر التونسي بدعوته ولكنه كان يشكو من صعوبة
التحصيل، وقد كانت وكالته في السنة الخامسة ولم يرسل إلينا بيانًا بأسماء بعض من
دفع القيمة إلى محصله (أحمد أبي خطيوة) إلا في أول هذه السنة، كتب إلينا أسماء
من دفعوا الاشتراك في السنة الخامسة ومن مطلوا، وعشرين مشتركًا دفعوا في
السادسة ووعد بإرسال بيان أسماء بقية المشتركين الذين دفعوا فيها وفيما بعدها
والذين مطلوا وقد انسلخت السنة ولم يرسل إلينا شيئًا.
وقد كتبنا إليه منذ شهر ونصف كتابًا أرسلناه في البريد مضمونًا فلم يحر جوابًا
ولم يرجع إلينا قولاً، ولعل له عذرًا ونحن نلوم، فمثله في أدبه وفضله لا يقصر
في حقوق الأدب عمدًا، وإننا نعتبر وكالته موقوفة حتى يأتينا منه ما نعرف به سبب
ترك المكاتبة والمحاسبة، ونرجو من المشتركين في القطر التونسي أن يرسلوا إلينا
قيمة الاشتراك بعد وصول هذا الجزء إليهم حوالة على البريد في القاهرة وسواء عاد
الوكيل في تونس إلى التحصيل للمنار أو وكلنا غيره لا يجوز لمشترك أن يدفع إلى
أحد قيمة الاشتراك بمقتضى وصل من الوصولات القديمة، فإننا سنطبع وصولات
خاصة بتونس والبلاد التي حكمها كحكمها في الاشتراك يذكر فيها المطلوب بالأرقام
والحروف هكذا:
18 فقط ثمانية عشر فرنكًا لا غير
وتختم بختم إدارة المجلة، وتذيل بتوقيعنا المعروف.
__________(8/958)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شرط الاشتراك في السنة التاسعة
يرسل المنار في القابل إلى من كان يرسل إليهم عملاً بالاستصحاب فكل من
قبل الجزء الأول من السنة التاسعة نعتبره مع علمه بشرطنا مشتركًا إلى آخر السنة
فإن لم يرض فليردّ إلينا الجزء الأول؛ لأن فقد جزء من أجزاء السنة كفقد جميع
أجزائها فهذا عقد بيننا وبين جميع المشتركين آية قبوله منهم ورضاهم به قبول الجزء
الأول من السنة التاسعة فمن قبله وجبت لنا عليه قيمة الاشتراك كاملة وإن ردَّ بقية
الأجزاء فإن لم يرسل القيمة فهو غير موف بما عاقد عليه.
ثم إن إدارة المجلة لا تمسك جزءًا ما عن أحد من المشتركين فمن طلب منها
جزءًا لم يصل إليه بعد موعد صدوره بمدة لا تزيد على شهر يرسل إليه حتمًا وإذا
طلبه بعد شهر من موعد وصوله إليه وجب عليه إرسال ثمنه وهو خمسة قروش
مصرية إذا كان الطالب من القطر المصري، وفرنك و75 سنتيمًا إذا كان الطالب
من قطر آخر وعند ذلك يرسل إليه إن وجد وإلا ردَّ إليه ما أرسله.
وسيصدر المنار في السنة التاسعة في كل شهر عربي مرة عملاً باقتراح كثير
من القراء ولا ينقص من أوراقه شيء فسيكون الجزء 80 صفحة وبذلك يتيسر لنا
أن نكثر في كل جزء من مواده في التفسير والمقالات والفتاوى والمسائل العلمية
والأدبية والأخبار والآراء؛ فهو زيادة إتقان وإكثار في مسائله ومباحثه، وقد رأى
القراء أننا جددنا حروفه. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا في المستقبل لخير ما وفقنا له
في الماضي فهو الموفق والمعين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
__________(8/960)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كلمة مع تحية المنار لقرائه المصطفين الأخيار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هنأكم الله بالعام المودع وجدد عليكم نعمه
في العام القابل. وبعد فإن العارف بهذه الخدمة التي تستغرق أوقات منشئ المجلة
لا سيما في تمحيص الدلائل وتخريج الأحاديث لا ينسى أن أقل ما يجب من مساعدتها
أداء قيمة الاشتراك القليلة في أوقاتها وأكثره الدعوة إلى المنار والسعي في تكثير عدد
قارئيه. فنشكر للأفاضل الذين يدعون إليه والذين سبقوا فدفعوا قيمة الاشتراك عن
السنة التاسعة قبل دخولها وللفضلاء الذين يدفعون ما عليهم في أثناء السنة فلا تختم
وفي ذمتهم شيء، ونذكِّر منهم من أنستهم كثرة أعمالهم إرسال قيمة الاشتراك أن
يتفضلوا بإرسالها على رأس السنة ولهم الشكر والثناء الحسن وقد زادت النفقات
علينا بسعة انتشار المجلة حتى إنها تبلغ في الشهر الواحد بضعة آلاف فإذا كان
الأكثرون لا يدفعون القيمة إلا بعد انتهاء السنة فمن أين نأتي بهذه النفقات لنا وللعمال
طول السنة وليس لنا عمل آخر.
ستزيد النفقات في العام الجديد بزيادة عدد المستخدمين الذي دفعنا إليه شكوى
كثير من المشتركين في هذه السنة من عدم المبادرة إلى إجابة مطالبهم حتى في
إرسال وصولات الاشتراك ولعل هذه الشكوى تزول في العام الجديد إذ جعلنا للإدارة
وكيلاً وللمكتبة وكيلاً.
ونرجو من مشتركي المنار الكرام في القطر التونسي أن يرسلوا لنا قيمة
الاشتراك حوالة على البريد أو أحد التجار في القاهرة ويعرفونا بما دفعوه عن السنين
السابقة للوكيل نؤكد الرجاء بذلك، وأن يصححوا لنا عناوينهم لنطبعها.
سيصدر الجزء الأول من السنة التاسعة (وصفحاته 80) في منتصف شهر
المحرم والثاني في أوائل صفر، وذلك لما علينا من كثرة الأعمال في خاتمة هذه السنة
وبعد هذا يصدر كل جزء في غرة الشهر إن شاء الله تعالى.
__________(8/961)
المجلد رقم (9)(9/)
غرة المحرم - 1324هـ
24 فبراير - 1906م(9/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة السنة التاسعة
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم إنا نحمدك على ما آتيت من المواهب والقوى، وأنزلت من البينات
والهدى، ونصلي على نبيك المصطفى، الذي بعثته لإصلاح جميع الورى
ونستمطر رحمتك ورضوانك على مَن صلح باتباعه واهتدى، ثم أصلح بحاله وقاله
وهدى {رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدا} (الكهف: 10)
ولا تهلكنا بما فعل أهل السرف منا والهوى، واكفنا اللهم شر من ظلم من رؤسائنا
وبغى، وفتنة من ضل من مرشدينا وغوى، وخُسْر من عصى من دهمائنا واعتدى،
واجعل اللهم لنا على نيران هذه الحوادث هُدى، ويسِّرنا بفضلك لليسرى، وانفعنا
بما أنزلت من الذكرى، وآتنا ما وعدتنا في الآخرة والأولى.
هذا ما يفتتح به المنار سنته التاسعة: تذكير ودعاء، يبعثهما أمل ورجاء،
على حين سحلت مرائر الآمال، وخويت من الرجاء قلوب الرجال، وأحاط الخطر
بالمسلمين من كل جانب، وتنازع إرث ما بقي من أرضهم الأجانب، بين سلطان
يحارب العلم وسلطان يحاربه الجهل، وأمير مفتون بالدَّثر، وأمير مغبون بالفقر،
وعالم ينافس بكسوة التشريف، وعالم يحسد على الرغيف، ومرشد يؤيد حكومة
يستغل سلطتها، ومرشد يخادع أمة يستدر غفلتها في بلاد أمات الاستبداد قلوب
كبرائها، وبلاد أفسدت الشهوات أخلاق أغنيائها، دع ذكر البلاد التي نزغ بين
زعمائها شيطان السياسة فأغراهم بالتنازع على الرياسة، والأمة من وراء هؤلاء
الكبراء تذل كل يوم وتخزى، سنة الله في القرون الأولى {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا
قَبْلَهُم مِّنَ القُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} (طه:
128) .
نعم، إن المسلمين أمسوا كالريش في مهب رياح الحوادث، وكالغثاء في
مجرى سيول الكوارث لا رأي لخواصهم فيما يراد منهم، ولا شعور لعوامهم فيما
يراد بهم، وللأجانب يد في تصرف حكامنا في سياستنا ويد في تصريف أموالنا في
مصلحتهم دون مصلحتنا، ويد تطبع الأرواح بأخلاق وعادات تنافي آداب ملتنا،
وتودع في العقول عقائد وأفكارًا تقوَّض بناء وحدتنا، فأي شيء بقي في أيدينا من
شئون أمتنا، اللهم إنه يقل فينا من بقي له أذن تسمع وعين تبصر، وقلب يشعر
وعقل يفكر ويقل في هؤلاء القليلين مَن له إرادة تتوجه إلى عمل للأمة، وثبات فيما
يحاول من كشف الغمة، والرجاء بفضل الله تعالى محصور في هؤلاء الأقلين،
فمن يتصل بحزبهم حينًا بعد حين، والعاقبة للمتقين {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) ، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ
وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه: 132) ،
{وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} (طه:
133) .
بلى قد جاءتنا صحف الأولين، فكانت مثالاًَ لما رأينا في صحف الآخرين،
إنه لم تستيقظ أمة من نومتها، ولم تبعث دولة بعد موتتها، إلا بصيحة نفر من أولي
الألباب، ومثقفي العقول والآداب، الذين يغير الله ما في نفوس أقوامهم بما يلقيه
من الحكمة في ذلاقة ألسنتهم ونفثات أقلامهم، فيستبدلون الاعتصام بالانفصام،
والاتفاق بالشقاق، والوحدة بالفرقة، والمقة والحب، بالبغضاء والمقت، ولذلك
يشعر الأفراد بمعنى الأمة، ويعملون بالتعاون فيكونون أمة، {سُنَّتَ اللَّهِ الََّتِي قَدْ
خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ} (غافر: 85) ، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ
وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم: 31) .
ما المنار إلا صحيفة أو صحف أنشئت لتأييد دعاة العلم للأمة والعمل لها سواء
منهم من دعا إلى الإصلاح قبلها ومن يدعو إليه معها , ولتكثير سواد الدعاة الذين
يتعلمون للأمة، ويعملون للأمة، ويحيون للأمة، ويموتون في سبيل الأمة، بذلك
صرحنا في فاتحة السنة الأولى وبذلك نصرح في كل سنة من السنين، مهتدين
بهدي كتاب الله المبين، وسنة خاتم النبيين والمرسلين، اللذين هما ينبوع الهداية،
واتباعهما ينبوع السعادة، من تمسك بهما نجا، ومن تركهما ضل وغوى، وخزي
في الآخرة والأولى، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا
فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ
الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (طه: 124-127) .
هذه نُذُر الكتاب المبين، لمن ترك الاعتصام بحبله المتين، يجازى بالضيق
والضنك في معيشته الأولى، وبالعذاب في الدار الأخرى، وقد قال تعالى وهو أقوم
قيلاً: {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا} (الإسراء:
72) ؛ فالدنيا مزرعة الآخرة، وسنة الله تعالى فيهما واحدة فإذا سلكنا سبل الظلم
والإفساد، حتى زال عزنا وسلطاننا من البلاد، فلا ينجينا في الآخرة لقب الإسلام،
ولا الانتساب إلى أولئك السلف الكرام، أَمَا سمع المغرور حديث الصحيحين: (يا
فاطمة بنت محمد سَلِيني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا) {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ
بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن
لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفى} (النجم: 36-41) .
القرآن حجة على شعوب المسلمين في هذا العصر، بما أصابهم وأصاب
دولهم من الخُسْر، الذي جنبه الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق
وتواصوا بالصبر، وبأخذ الأمم والدول إياهم أخذًا وبيلاً {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ
عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) .
نعم، إن المؤمن يبتلى ويفتن، ولكنه لا يهن ولا يحزن، بل يصبر حتى
تكون العاقبة للمتقين {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل
عمران: 139) ، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ
بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ} (الحج: 11) فما انتفع المغرورون بهذه الذكرى، ولا اتبعوا هذه الهداية
العليا {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى * أَمْ
لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} (النجم: 23-25) .
نعق به ناعق أئمة الجور، ونصير الاستبداد والظلم أن لا نجاة لكم من
البلاء الذي أصابكم، ولا أمن لكم من الخطر الذي يوشك أن ينزل بكم، إلا بفناء
إرادتكم في إرادة حكامكم، لا بتغيير ما في أنفسكم من أوهام وخرافات، وأخلاق
ذميمة وعادات، ولا بتربية العقل والإرادة على الاستقلال، والتعاون على البر
والتقوى والاشتراك في الأعمال، ولا بجعل الشورى قاعدة الأحكام، وإقامة
الشريعة في الحلال والحرام، ولا التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولا بالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وصاح بهم خطيب فتنة الوطنية أن لا حياة لكم
بالرابطة الملّية، لأنها ممقوتة في نظر أهل المدنية الغربية، الذين سادوا بترك
العصبية الدينية، فعلى أهل كل قطر إسلامي أن يعتزوا بسكان بلادهم الأولين، ولا
يحبوا من هاجر إليهم من المؤمنين، فضلاً عن إيثارهم كما فعل الأنصار مع
المهاجرين، فما اعتز به المسلمون الأولون من آداب القرآن قد نسخته مدنية أوربا
في هذا الزمان، فالوطنيةَ الوطنيةَ , الزموها تكونوا من الفائزين، والدخلاءَ
الدخلاءَ , احذروهم وإن خدموا الأمة والدين، إن يبغون بدعوة الوطنية إلا العصبية
الجاهلية والهوى، وكثرة العرض والغنى، والزلفى عند أهل المراتب العليا،
{فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} (النجم: 29-30) .
اختلفت عليكم الدعوة أيها المسلمون، وكل حزب بما لديهم فرحون {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24) فله
وحده دعوة الحق، وما خالفها فهو باطل أو فسق {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلاَ
تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ} (الشعراء:
150-152) . ها نحن أولاء قد خرجنا عن استقلالنا الاجتماعي زمنًا طويلاً،
أطعنا فيه ساداتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا، وأخذنا الأجانب من ناحية سلطتهم أخذًا
وبيلاً، فما أغنت عنا ذلة العبودية لهم فتيلاً، {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إلى
رَبِّهِ سَبِيلاً} (الإِنسان: 29) ولا سبيل إليه إلا باتباع هدايته، والسير على
سنته في خليقته {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} (الإسراء: 84) ] وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى*
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى*
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [ (الليل:1-10) .
فعليكم أيها المسلمون وقد أعوزت النجاة واختلفت دعوة الدعاة، أن تجيبوا
داعي الله، وتكونوا من حزب من أعطى العفو من ماله لإعلاء كلمة الله ومواساة
عياله، واتقى أسباب الفتن والمحن، والفواحش ما ظهر منها وما بطن، وصدق
بالشريعة الحسنى، والخليقة الفضلى، تصديق إذعان، يتبعه العمل بالجَنان
والأركان، والتعاون على البر والتقوى دون الإثم والعدوان، فإذا فعلتم ذلك يسر الله
لكم خط النجاح لليُسرى، وأقامكم على طريق الفطرة المثلى، وأعزكم في هذه الدنيا،
ولكم في الآخرة الجزاء الأوفى، ولا تكونوا ممن بخل بفضل نعمته، واستغنى
بالتعزز بماله عن الاعتزاز بأمته وملته، وكذب في نفسه بأن الشرعة الحسنى،
والخليقة الفضلى هي طريق السعادة الكبرى، فإن الله تعالى لا ييسر له بمقتضى
سنته إلا عُسرى الخطتين، وسوءَى الطريقتين، فيكون شقيًّا بماله، مضطربًا في
حاله، مبغضًا إلى قومه وآله، لا فرق في هذه السنة بين الشخص والأمة،
والأمر في الشعوب أظهر لمن يرى، فما رزئ شعب بهذه الثلاثة إلا وقع في
مهاوي الردى {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ
وَالأُولَى} (الليل: 11-13) .
هذا ضرب من ضروب هداية القرآن، الذي دعا إلى جميع الأصول التي فيها
سعادة الإنسان فجعل البرهان العقلي أساس العقائد، وأقام بناء الآداب والأحكام على
قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وأرشد إلى ما لشئون البشر الاجتماعية من
السنن الثابتة أو النواميس الطبيعية، وأثبت أن الدين القيم الذي جاء به الإسلام هو
إقامة سنن فطرته التي فطر عليها الأنام، فالإسلام عبارة عن إصلاح العقول
بالعقائد اليقينية، وإصلاح النفوس بالأخلاق المَرضية، وإصلاح شؤون البشر
الاجتماعية، بإقامة العدل والسير على السنن الكونية، فمن أقام هذه الأركان كلها
كان هو المسلم الكامل وإن سمي ملحدًا أو دهريًّا، ومن هدمها كلها كان ملحدًا في
آيات الله وإن سمى نفسه مسلمًا حنيفيًّا، ومن كان أقرب إليها كان حظه من السعادة
بمقدار سهمه منها، ومتى تنازع شعبان أو أمتان، كان الظفر لمن كان أقرب من
هذه الأركان، وهو الأقرب إلى هداية القرآن {وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا
وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} (الكهف: 59) ، {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ
لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (الجن: 16-17) ، {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى:
9-10) ، أما حزب الشيطان، وأنصار الظلم والعدوان، فسيقولون: إن هذه
الدعوة إلى هداية القرآن، هي اجتهاد أُقفل بابه في هذا الزمان، والداعي إليها عدو
مبين لأهل الإيمان، وما علينا إلا تقليد شيوخنا أهل الفقه والعرفان، ومن هؤلاء
من يُلقي تبعة هلاك المسلمين وضياع الإسلام، على عواتق أهل السلطة المتغلبين
على الأحكام، ومنهم من يوجب الخضوع لكل ذي سلطان، وإن نسخ باستبداده
القرآن، وطغى بظلمه في الميزان، ومنهم من يحيل على القضاء والقدر، ومنهم
من يقول: ليس لها إلا المهدي المنتظر، ومن ورائهم قوم آخرون مرقوا من الدين،
أنكروا التقليد ولم يعرفوا الحق اليقين، يقولون: لا رجاء للمسلمين بحياة ملية،
ولا أمل بإقامة حكومة إسلامية، فإذا لم يحيوا حياة وطنية فلا حياة لهم، وإذا لم
يتبعوا خطوات أوربا فلا مدنية لهم، كل هذا وذاك مما ينادي به المسلمون
الجغرافيون أو السياسيون، ولهم شهوات من دون ذلك هم لها عاملون، ولم نَرَ
دعوة من هذه الدعوات أنكرها الرؤساء الرسميون، والأمراء المستبدون، إلا دعوة
هذه الأمة، إلى الاهتداء بالكتاب والسنة، فلقد قاوموا المنار، وآذوا الأهل
والأنصار، ودمروا على الدار، واحتووا الكتب والأسفار، وراقبوا الشيخ في عقر
الدار، حتى اختار الله له دار القرار، وصادرونا في الوقف وتصدَّوا للعقار،
وهنالك العالم الآثم، يمد بغيه الحاكم الظالم.
هذا وقد كان لبلاد الحرية أصبع فيما كان في بلاد العبودية، بعد استفتاء
وائتمار، بشأن الإخراج من الديار، فكان نجاح المئبر، بديلاًَ من خذلان المئمر،
وطعن أشهر جرائد المسلمين اليومية، إيماءً إلى تلك المقاصد الخفية أو الجلية،
وما زادنا ذلك إلا رجاءً بالله، وانتظارًا لروح الله، مع العجز والتقصير، وفقد
العون والنصير، فوعده تعالى هو الحق، وما جاء به رسوله هو الصدق،
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (النجم: 1-2) ، {قُلْ كُلٌّ
مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} (طه:
135) .
... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________(9/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مباحث المنار الدينية ودعوته إلى الانتقاد عليه
إن الغرض من مباحث المنار الدينية هو بيان أن الإسلام هو الحق الهادي إلى
سعادة الدنيا والآخرة , ودفع شُبه أعدائه عنه في عقائده وآدابه وأحكامه والدعوة إلى
الاهتداء به. وإنما تتوجه الشبهات إلى الكتاب والسنة لا إلى أقوال العلماء والفقهاء.
فمن ثم كانت عمدة المدافع عن الإسلام والمحتج على حقيته إنما هي نصوص
الكتاب والسنة. فنرغب إلى من يسألوننا عن حكم الإسلام وأحكامه أن لا يقيدونا
بمذاهبهم , ومن أراد الانتقاد على المنار في أمر ديني فليؤيد انتقاده بالدليل كآية
كريمة أو حديث يحتج به لا بقيل وقال. إلا إذا أخطأنا في نقل عن أئمة العلم الذين
نستضيء بأنوار أفهامهم في الكتاب والسنة أو الفهم أو في الأداء فللمنتقد أن يبين لنا
ذلك. وإننا نعيد القول كما بدأناه أول مرة بأننا ننشر كل ما ينتقده علينا العلماء
والأدباء، وما يشكل على عامة القراء، فإن كان المنتقد مصيبًا اعترفنا وشكرنا،
وإن كان مخطئًا بيَّنا وأعذرنا، ولا عذر لعالم يرى منا الخطأ فيسكت عليه بعد علمه
بهذا وبأن الحق يدفع الباطل وبأن الله أخذ الميثاق على الذين أوتوا الكتاب ليبيننه
للناس ولا يكتمونه، وفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن يذم المنار
بعد هذا أو يقدح في صاحبه ولم يبين له خطأه فهو فاسق مغتاب، كاتم للعلم مذموم
بنص الكتاب.
__________(9/9)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسائل الاختيار والعلة والحكمة والحسن والقبح
نذكر ما أورد السفاريني فى هذه المسائل ليعلم قراء كتب الأشعرية ما في غيرها من الحقائق التي قد تخالفها إلى صواب، وأن الاقتصار على كتب طائفة معينة هو من قيود التقليد. قال في شرح قوله:
وربنا يخلق باختيار ... من غير حاجة ولا اضطرار
لكنه لا يخلق الخلق سدى ... كما أتى في النص فاتبع الهدى
(وربنا) تبارك وتعالى (يخلق) ما شاء أن يخلقه من سائر مخلوقاته
(باختيار) منه، فمذهب سلف الأمة وأئمتها أن الله تعالى لم يزل فاعلاً لما يشاء وأنه
تقوم بذاته الأمور الاختيارية وأنه تعالى لم يزل متصفًا بصفاته الذاتية والفعلية فلم
يحدث له أسماء من أسمائه ولا صفة من صفاته، فيخلق سبحانه المخلوقات
ويحدث الحوادث بعد أن لم تكن سواء كان ذلك على مثال سابق أو لا. والإبداع
إحداث الشيء بعد أن لم يكن على غير مثال سابق (من غير حاجة) منه تعالى
إليه أي يخلق الخلق لا لحاجة إليه ولا (اضطرار) عليه، فالحاجة: المصلحة
والمنفعة , والاضطرار: الإلجاء والإحواج والإلزام والإكراه، فلا حاجة باعثة له
سبحانه على خلقه للخلق، ولا مكره له عليه بل خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات
لمحض المشيئة وصرف الإرادة. وهذا قول جمهور من يثبت القدر وينتسب الى
السنة من أهل الكلام والفقه وغيرهم، وقال به طوائف من الحنبلية والمالكية
والشافعية وغيرهم، وهو قول أبي الحسن الأشعري وأصحابه، وهو قول كثير من
نفاة القياس في الفقه من الظاهرية كابن حزم وأمثاله، وحجة هذا أنه لو خلق الخلق
لعلة لكان ناقصًا بدونها مستكملاً بها؛ فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها
بالنسبة إليه سواء، أو يكون وجودها أولى به؛ فإن كان الأول امتنع أن يفعل
لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى به فيكون مستكملاً بها فيكون قبلها
ناقصًا، وأيضًا فالعلة إن كانت قديمة وجب قدم المعلول؛ لأن العلة الغائية، وإن
كانت متقدمة على المعلول في العلم والقصد فهي متأخرة في الوجود عن المعلول كما
يقال: أول الفكرة آخر العمل. وأول البغية آخر المدرك. ويقال: إن العلة الغائية
بها صار الفاعل فاعلاً فمن فعل فعلاً لمطلوب يطلبه بذلك الفعل كان حصول المطلوب
بعد الفعل فإذا قدر أن ذلك المطلوب الذي هو العلة قديمًا؛ كان الفعل قديمًا بطريق
الأولى، فلو قيل: إنه يفعل لعلة قديمة لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث وهو
خلاف المشاهدة، وإن قيل: إنه فعل لعلة حادثة لزم محذوران:
(أحدهما) أن يكون محلاًّ للحوادث فإن العلة إن كانت منفصلة عنه فإن لم
يعد إليه منها حكم امتنع أن يكون وجودها أولى به من عدمها، وإن قدر أنه عاد إليه
منها حكم كان ذلك حادثًا فتقوم به الحوادث , والمحذور الثاني أن ذلك يستلزم
التسلسل من وجهين:
(أحدهما) أن تلك العلة الحادثة المطلوبة بالفعل هي أيضًا مما يحدثه الله تعالى
بقدرته ومشيئته فإن كانت لغير علة لزم العبث كما تقدم، وإن كان لعلة عاد التقسيم
فيها فإذا كان كل ما يحدثه أحدثه لعلة , والعلة ما أحدثه لزم تسلسل الحوادث.
(الثاني) أن تلك العلة إما أن تكون مرادة لنفسها أو لعلة أخرى فإن كان
الأول امتنع حدوثها لأن ما أراده الله تعالى لذاته وهو قادر عليه لا يؤخر إحداثه وإن
كان الثاني فالقول في ذلك الغير كالقول فيها ويلزم التسلسل، فهذه الحجج من حجج
من ينفي تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه.
(التقدير الثاني) قول من يجعل العلة الغائية قديمة كما يجعل العلة الفاعلية
قديمة كما يقوله الفلاسفة القائلون بقدم العالم وأصل قول هؤلاء أن المبدع للعالم
علة تامة تستلزم معلولها فلا يجوز أن يتأخر عنها معلولها وأعظم حججهم قولهم:
إن جميع الأمور المعتبرة في كونه فاعلاً إن كانت موجودة في الأزل لزم وجود
المفعول في الأزل لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها فإنه لو تأخر لم تكن جميع
شروط الفعل وجدت في الأزل فإنا لا نعني بالعلة التامة إلا ما تستلزم المعلول فإذا
قدر أنه تخلف عنها المعلول لم تكن تامة وإن لم تكن العلة التامة التي هي جميع
الأمور المعتبرة في الفعل وهي المقتضي التام لوجود الفعل وهي جميع شروط الفعل
التي يلزم من وجودها وجود الفعل وإن لم تكن جميعها فى الأزل فلا بد إذا وجد
المفعول بعد ذلك من تجدد سبب حادث وإلا لزم تجريح أحد طرفي الممكن بلا
مرجح وإذا كان هناك سبب حادث فالقول في حدوثه كالقول في الحادث الأول ويلزم
التسلسل، قالوا: فالقول بانتفاء العلة التامة المستلزمة للمفعول يوجب إما التسلسل
وإما الترجيح بلا مرجح. ثم أكثر هؤلاء يثبتون علة غائية للفعل وهي بعينها
الفاعلة لكنهم متناقضون فإنهم يثبتون له العلة الغائية ويثبتون لفعله العلة الغائية
ويقولون مع هذا: ليس له إرادة بل هو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار وقولهم
باطل من وجوه كثيرة مذكورة في محالها منها ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية روّح
الله روحه في كتابه (حسن الإرادة) . هذا القول يستلزم أن لا يحدث شيء وإن كل
ما حدث حدث بغير إحداث محدث ومعلوم أن بطلان هذا بيّن وأطال في رد ذلك ,
ومما ذكر: أن يقال لهم: حدوث حادث بعد حادث بلا نهاية إما أن يكون ممكنًا في
العقل أو ممتنعًا فإن كان ممتنعًا لزم أن الحوادث جميعها لها أول كما يقوله أهل
الحق وبطل قولهم بقدم حركات الأفلاك وإن كان ممكنًا أمكن أن يكون حدوث ما
أحدثه الله تعالى كالسماوات والأرض موقوف على حوادث قبل ذلك كما تقولون أنتم
فيما يحدث في هذا العالم من الحيوان والنبات والمعادن والمطر والسحاب وغير ذلك
فيلزم فساد حجتكم على التقديرين ثم يقال: إما أن تثبتوا لمبدع العالم حكمة وغاية
مطلوبة أو لا، فإن لم تثبتوا بطل قولكم بإثبات العلة الغائية وبطل ما تذكرونه من
حكمة الباري تعالى في خلق الحيوان وغير ذلك من المخلوقات وأيضًا فالوجود
يبطل هذا القول فإن الحكمة الموجودة في الوجود أمر يفوت العد والإحصاء كإحداثه
سبحانه لما يحدثه من نعمته ورحمته وقت حاجة الخلق إليه كإحداث المطر وقت
الشتاء بقدر الحاجة وإحداثه للإنسان الآلات التي يحتاج إليها بقدر حاجته وأمثال
ذلك مما هو كثير جدًا وإن أثبتم له تعالى حكمة مطلوبة وهي باصطلاحكم العلة
الغائية - لزم أن تثبتوا له المشيئة والإرادة بالضرورة فإن القول بأن الفاعل فعل كذا
لحكمة كذا بدون كونه مريدًا لتلك الحكمة المطلوبة جمْع بين النقيضين وهؤلاء
المتفلسفة من أكثر الناس تناقضًا ولهذا يجعلون العلم هو العالم والعلم هو الإرادة
والإرادة هى القدرة وأمثال ذلك.
(التقدير الثالث) وهو أنه سبحانه فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة
محمودة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا قول أكثر الناس من المسلمين وغيرهم
وقول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد رضي الله عنهم وقول
طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والكرَّامية والمرجئة وغيرهم وقول أكثر
أهل الحديث والتصوف وأهل التفسير وأكثر قدماء الفلاسفة وكثير من متأخريهم
كأبي البركات وأمثاله لكن هؤلاء على أقوال، منهم من قال: إن الحكمة المطلوبة
مخلوقة ومنفصلة عنه تعالى وهم المعتزلة والشيعة ومن وافقهم قالوا: الحكمة في
ذلك إحسانه للخلق والحكمة في الأمر تعريض المكلفين للثواب قالوا: فعل الإحسان
إلى الغير حسن محمود في العقل فخلق الخلق لهذه الحكمة من غير أن يعود إليه من
ذلك حكم ولا قام به نعت ولا فعل فقال لهم الناس: أنتم تناقضون في هذا القول لأن
الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه إلى فاعله حكم يحمد لأجله إما لتكميل
نفسه بذلك وإما لقصده الحمد والثواب بذلك وإما لرقة وألم يجده في نفسه يدفع
بالإحسان ذلك الألم وإما لالتذاذه وسروره وفرحه بالإحسان فإن النفس الكريمة تفرح
وتسر وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها فالإحسان إلى الغير محمود لكون
المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور أما إذا قدر أن وجود الإحسان وعدمه بالنسبة
إلى الفاعل سواء لم يعلم أن مثل هذا الفعل يحسن منه بل مثل هذا يعد عبثًا في
عقول العقلاء وكل من فعل فعلاً ليس فيه لنفسه لذة ولا مصلحة ولا منفعة بوجه من
الوجوه لا عاجلة ولا آجلة - كان عبثًا ولم يكن محمودًا على هذا , وأنتم عللتم أفعاله
تعالى فرارًا من العبث فوقعتم فيه , فإن العبث هو الفعل الذي لا مصلحة ولا منفعة
ولا فائدة تعود على الفاعل ولهذا لم يأمر الله تعالى ولا رسوله ولا أحد من العقلاء
أحدًا بالإحسان إلى غيره ونفعه ونحو ذلك إلا لما له في ذلك من المنفعة والمصلحة
فأمر الفاعل بفعل لا يعود عليه منه لذة ولا سرور ولا منفعة ولا فرح بوجه من
الوجوه لا في العاجل ولا في الآجل- لا يستحسن من الآمر ومن ثم قال: (لكنه)
تعالى وتقدس، هذا استدراك من مفهوم قوله: إنه يخلق بالاختيار أي لا بالذات خلافًا
للمعتزلة ومن وافقهم من غير حاجة إليه ولا اضطرار عليه غير أنه جل وعلا: (لا
يخلق الخلق سدى) أي هَملاً بلا أمر ولا نهي ولا حكمة ومعنى السدى المهمل
وإبل سدى إذا كانت ترعى حيث شاءت بلا راعٍ (كما أتى في النص) القرآني
والسنة النبوية والآثار مما هو كثير جدًا أن الله تبارك وتعالى لا يفعل إلا لحكمة
وعلم وهو العليم الحكيم فما خلق شيئًا ولا قضاه ولا شرعه إلا بحكمة بالغة وإن
تقاصرت عنها عقول البشر (فاتبع الهدى) باقتفاء المأثور واتباع السلف الصالح
ولا تجحد حكمته كما لا تجحد قدرته فهو الحكيم القدير، قال شيخ الإسلام ابن تيمية
قدس الله روحه: ونشأ من هذا الاختلاف نزاع بين المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم
في مسألة التحسين والتقبيح العقلي فأثبت ذلك المعتزلة والكرَّامية وغيرهم ومن
وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعى وأحمد وأهل الحديث وغيرهم
رضي الله عنهم وحكوا ذلك عن الإمام أبي حنيفة نفسه رضي الله عنه , ونفى ذلك
الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم واتفق الفريقان
على أن الحسن والقبح إذا فسر بكون الفعل نافعًا للفاعل ملائمًا له وكونه ضارًّا
للفاعل منافرًا له أنه تمكن معرفته بالعقل كما يعرف بالشرع وظن من ظن من
هؤلاء وهؤلاء أن الحسن والقبح المعلوم بالشرع خارج عن هذا وليس كذلك بل
جميع الأفعال التي أوجبها الله تعالى وندب إليها هي نافعة لفاعليها ومصلحة لهم
وجميع الأفعال التي نهى الله عنها هي ضارة لفاعليها ومفسدة في حقهم والحمد
والثواب المترتب على طاعة الشارع نافع للفاعل ومصلحة له والذم والعقاب
المترتب على معصيته ضار للفاعل مفسدة له والمعتزلة أثبتت الحسن فى أفعال الله
تعالى لا بمعنى حكم يعود إليه من أفعاله تعالى قال الشيخ: ومنازعوهم لما اعتقدوا
أن لا حسن ولا قبح في الفعل إلا ما عاد إلى الفاعل منه حكم نفوا ذلك وقالوا:
القبيح في حق الله تعالى هو الممتنع لذاته وكل ما يقدر ممكنًا من الأفعال فهو حسن
إذ لا فرق بالنسبة إليه عندهم بين مفعول ومفعول وأولئك - يعني المعتزلة - أثبتوا
حسنًا وقبحًا لا يعود إلى الفاعل منه حكم يقوم بذاته وعندهم لا يقوم بذاته لا وصف
ولا فعل ولا غير ذلك وإن كانوا قد يتناقضون ثم أخذوا يقيسون على ما يحسن من
العبد ويقبح فجعلوا يوجبون على الله سبحانه من جنس ما يوجبون على العبد
ويحرمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد ويسمون ذلك العدل والحكمة مع
قصور عقلهم عن معرفة حكمته فلا يثبتون له مشيئة عامة ولا قدرة تامة فلا يجعلونه
على كل شيء قدير ولا يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا يقرون بأنه
خالق كل شيء ويثبتون له من الظلم ما نزه نفسه عنه فإنه سبحانه قال: {وَمَن يَعْمَلْ
مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْما وَلاَ هَضْما} (طه: 112) : أي لا يخاف
أن يُظلم فيحمل عليه من سيئات غيره ولا يهضم من حسناته وقال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ
القَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (ق: 29) ، وفي حديث البطاقة عند الترمذي
وغيره: (لا ظلم عليك اليوم) .
والحاصل أن فعل الله - تعالى وتقدس - وأمره لا يكون لعلة في قول مرجوح ,
اختاره كثير من علمائنا وبعض المالكية والشافعية وقاله الظاهرية والأشعرية
والجهمية , والقول الثاني أنهما لعلة وحكمة اختاره الطوفي وهو مختار شيخ الإسلام
ابن تيمية وابن القيم وابن قاضي الجبل وحكاه عن إجماع السلف وهو مذهب
الشيعة والمعتزلة لكن المعتزلة تقول بوجوب الصلاح ولهم فى الأصلح قولان كما
يأتي في النظم , والمخالفون لهم يقولون بالتعليل لا على منهج المعتزلة قال شيخ
الإسلام: لأهل السنة في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه قولان والأكثرون على
التعليل والحكمة وهل هي منفصلة عن الرب لا تقوم به أو قائمة مع ثبوت الحكم
المنفصل؟ لهم فيه أيضًا قولان، وهل يتسلسل الحكم أو لا يتسلسل أو يتسلسل في
المستقبل دون الماضي؟ فيه أقوال قال: احتج المثبتون للحكمة والعلة بقوله تعالى:
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} (المائدة: 32) وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا
القِبْلَةَ الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ} (البقرة: 143) ونظائرها ولأنه تعالى حكيم
شرع الأحكام لحكمة ومصلحة لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) والإجماع واقع على اشتمال الأفعال على الحكم والمصالح جوازًا
عند أهل السنة ووجوبًا عند المعتزلة فيفعل ما يريد بحكمته وتقدم أن النافين للحكمة
والعلة احتجوا مما احتجوا به أنه يلزم من قدم العلة قدم المعلول وهو محال ومن
حدوثها افتقارها إلى علة أخرى وأنه يلزم التسلسل قال الإمام الرازي: وهو مراد
المشايخ بقولهم كل شيء صنعه ولا علة لصنعه وما أجاب به من قال بالحكمة وأنها
قديمة لا يلزمه من قدم العلة قدم معلولها كالإرادة فإنها قديمة ومتعلقها حادث وتقدمت
الإشارة في أول البحث إلى محصل هذا كله والحاصل أن شيخ الإسلام وجمعًا من
تلامذته أثبتوا الحكمة والعلة فى أفعال الباري جل وعلا وأقاموا على ذلك من
البراهين ما لعَلَّّه لا يبقي في مخيلة الفطين السالم من ربقة تقليد الأساطين أدنى
اختلاج وأقل تخمين وأما الإمام المحقق شمس الدين ابن القيم فقد أجلب وأجنب
وأتى بما يقضي منه العجب في كتابه (شرح منازل السائرين) و (مفتاح دار
السعادة) وغيرهما فمما احتج به في مفتاح دار السعادة قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ
وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: 21) فدل على أن هذا حكم بشيء قبيح
يتنزه الله عنه فأنكره من جهة قبحه في نفسه لا من جهة كونه أنه لا يكون، ومن هذا
إنكاره تعالى على من جوّز أن يترك عباده سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا
يعاقبهم وأن هذا الحسبان باطل والله متعالٍ عنه لمنافاته لحكمته فقال تعالى:
{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} (القيامة: 36) ، فأنكر سبحانه على من زعم
أنه يترك سدى إنكار من جعل في العقل استقباح ذلك واستهجانه وأنه لا يليق أن
ينسب ذلك إلى أحكم الحاكمين ومثله قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ
إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ} (المؤمنون: 115-116) فنزَّه نفسه سبحانه وباعدها عن هذا الحسبان وأنه متعالٍ
عنه فلا يليق به لقُبحه ومنافاته الحكمة وهذا يدل على إثبات المعاد بالعقل كما يدل
على إثباته بالسمع ثم إن ابن القيم بسط القول ووسع العبارة في أزيد من عشرة
كراريس ثم قال: الكلام هنا في مقامين أحدهما في التلازم بين الحسن والقبح
العقليين وبين الإيجاب والتحريم شاهدًا وغائبًا والثاني في انتفاء اللازم وثبوته فأما
المقام الأول فلمُثبتي الحسن والقبح فيه طريقان:
أحدهما: ثبوت التلازم والقول باللازم وهذا القول هو المعروف عن المعتزلة
وعليه يناظرون وهو القول الذى نصب خصومهم الخلاف معهم فيه.
والقول الثاني: إثبات الحسن والقبح وأربابه يقولون بإثباته ويصرحون بنفي
الإيجاب قبل الشرع على العبد وبنفي إيجاب على الله شيئًا ألبتة كما صرح به كثير
من الحنفية والحنابلة كأبي الخطاب وغيره والشافعية كسعد بن علي الزنجاني الإمام
المشهور وغيره ولهؤلاء في نفي الإيجاب العقلي في المعرفة بالله وثبوته خلاف.
قال: فالأقوال أربعة لا مزيد عليها:
(أحدها) نفي الحسن والقبح ونفي الإيجاب العقلي في العمليات دون العلميات
كالمعرفة وهذا اختيار أبي الخطاب وغيره فعرف أنه لا تلازم بين الحسن والقبح
وبين الإيجاب والتحريم العقليين فهذا أحد المقامين.
(وأما المقام الثاني) وهو انتفاء اللازم وثبوته فللناس فيه ههنا ثلاث طرق:
أحدهما: التزام ذلك والقول بالوجوب والتحريم العقليين شاهدًا وغائبًا وهذا قول
المعتزلة وهؤلاء يقولون: يترتب الوجوب شاهدًا ويترتب المدح والذم عليه. وأما
الصفات فلهم فيها اختلاف وتفصيل فمن أثبته منهم يقولون: إن العذاب الثابت بعد
الإيجاب الشرعي نوع آخر غير العذاب الثابت على الإيجاب العقلي وبذلك يجيبون
عن النصوص النافية للعذاب قبل البعثة وأما الإيجاب والتحريم العقليان غائبًا فهم
مصرحون بهما ويفسرون ذلك باللزوم الذي أوجبته حكمته وأنه يستحيل عليه خلافه
كما يستحيل عليه الحاجة والنوم والتعب واللغوب فهذا معنى الوجوب والامتناع في
حق الله تعالى عندهم فهو وجوب اقتضته ذاته وحكمته وامتناع مستحيل عليه
الاتصاف به لمنافاته كماله وغناه قالوا: وهذا في الأفعال نظير ما يقول أهل السنة
في الصفات: إنه يجب له كذا ويمتنع عليه كذا فكما أن ذاك وجوب وامتناع ذاتي
يستحيل عليه خلافه فهكذا ما تقتضيه حكمته وتأباه يستحيل عليه الإخلال به وإن
كان مقدورًا له لكنه لا يخل به لكمال حكمته وعلمه وغناه.
(الفرقة الثانية) منعت ذلك جملة وأحالت القول به وجوزت على الرب
تعالى كل شيء ممكن وردت الإحالة والامتناع في أفعاله تعالى إلى غير الممكن من
المُحالات كالجمع بين النقيضين وبابه فقابلوا المعتزلة أشد مقابلة واقتسما طرفي
الإفراط والتفريط ورد هؤلاء الوجوب والتحريم الذي جاءت به النصوص إلى
مجرد صدق الخبر فما أخبر أنه يكون فهو لتصديق خبره وما أخبر أنه لا يكون فهو
ممتنع لتصديق خبره والتحريم عندهم راجع إلى مطابقة العلم لمعلومه والمخبر
لخبره وقد يفسرون التحريم بالامتناع عقلاً كتحريم الظلم على نفسه فإنهم يفسرونه
بالمستحيل لذاته كالجمع بين النقيضين وليس عندهم في المقدور شيء هو ظلم يتنزه
الله عنه مع قدرته عليه وحكمته وعدله فهذا قول الأشعرية ومن وافقهم.
(الفرقة الثالثة) هم الوسط بين هاتين الفرقتين فإن الفرقة الأولى أوجبت
على الله شريعة بعقولها حرمت عليه وأوجبت ما لم يحرمه على نفسه ولم يوجبه
على نفسه والفرقة الثانية جوزت عليه ما يتعالى ويتنزه عنه لمنافاته حكمته وكماله
والفرقة الوسط أثبتت له ما أثبته لنفسه من الإيجاب والتحريم الذى هو مقتضى
أسمائه وصفاته الذي لا يليق نسبته إلى ضده لأنه موجب كماله وحكمته وعدله ولم
تدخله تحت شريعة وضعتها بعقولها كما فعلت الفرقة الأولى ولم تجوز عليه ما نزه
نفسه عنه كما فعلت الفرقة الثانية، قالت الفرقة الوسط: قد أخبر الله تعالى أنه حرم
الظلم على نفسه كما قال على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: (يا عبادي إني
حرمت الظلم على نفسي) وقال: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف: 49) وقال:
{وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) وقال: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (النساء: 77) ، فأخبر بتحريمه على نفسه ونفى عن نفسه فعله وإرادته , وللناس
في تفسير هذا الظلم الذي حرمه على نفسه تعالى وتنزّه عن فعله وإرادته ثلاثة
أقوال بحسب أصولهم وقواعدهم: (أحدها) أنه نظير الظلم من الآدميين بعضهم
لبعض فشبهوه في الأفعال ما يحسن منها وما لا يحسن بعباده فضربوا له من قبل
أنفسهم الأمثال فصاروا بذلك مشبهة ممثلة في الأفعال وامتنعوا من إثبات المثل
الأعلى الذى أثبته لنفسه ثم ضربوا له الأمثال ومثلوه في أفعاله بخلقه كما أن
الجهمية المعطلة امتنعت من إثبات المثل الأعلى الذي أثبته لنفسه ثم ضربوا له
الأمثال ومثلوه في صفاته بالجمادات الناقصة بل بالمعدومات وأهل السنة نزهوه عن
هذا وهذا وأثبتوا ما أثبته لنفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال ونزهوه فيها عن
الشبيه والمثال فأثبتوا له المثل الأعلى ولم يضربوا له الأمثال فكانوا أسعد الناس
بمعرفته وأحقهم بولايته ومحبته وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ثم التزم أصحاب
هذا التفسير عنه من اللوازم الباطلة ما لا قبل لهم به فقالوا: إذا أمر العبد ولم يُعِنْهُ
بجميع مقدوره تعالى من وجوه الإعانة فقد ظلمه والتزموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالاًّ
كما زعموا أنه لا يقدر أن يضل مهتديًّا وقالوا: إنه إذا أمر اثنين بأمر واحد وخص
أحدهما بإعانته على فعل المأمور كان ظالمًا وأنه إذا اشترك اثنان في ذنب يوجب
العقاب فعاقب به أحدهما وعفا عن الآخر كان ظالمًا إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة
التي جعلوا لأجلها ترك تسويته بين عباده في فضله وإحسانه ظلمًا فعارضهم
أصحاب التفسير الثاني وقالوا: الظلم المنزه عنه من الأمور الممتنعة لذاتها فلا
يجوز أن يكون مقدورًا له تعالى ولا أنه تركه بمشيئته واختياره وإنما هو من باب
الجمع بين الضدين وجعل الجسم الواحد في مكانين وقلب القديم محدثًا والمحدث
قديمًا ونحو ذلك وإلا فكل ما يقدره الذهن وكان وجوده ممكنًا والرب قادر عليه فليس
بظلم سواء فعله أو لم يفعله وتلقى هذا القول عنهم طوائف من أهل العلم وفسروا
الحديث به وأسندوا ذلك وقوّوه بآيات وآثار زعموا أنها تدل عليه كقوله تعالى: {إِن
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} (المائدة: 118) : يعني لم تتصرف في غير ملكك بل إنما
عذبت من تملك وعلى هذا فجوزوا تعذيب كل عبد له ولو كان محسنًا ولم يروا ذلك
ظلمًا , وبقوله تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) وبقول
النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم
وهو غير ظالم لهم) وبما رُوي عن إياس بن معاوية قال: (ما ناظرت بعقلي
كله أحدًا إلا القدرية قلت لهم: ما الظلم؟ قالوا: أن تأخذ ما ليس لك وأن تتصرف
فيما ليس لك، قلت: فلله كل شيء) ، والتزم هؤلاء عن هذا القول لوازم باطلة
قولهم: إن الله تعالى يجوز عليه أن يعذب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه وأهل
طاعته ويخلدهم في العذاب الأليم ويكرم أعداءه من الكفار والمشركين
والشياطين ويخصهم بجنته وكرامته وكلاهما عدل وجائز عليه وأنه يعلم أن لا يفعل
ذلك بمجرد خبره فصار ممتنعًا لإخباره أنه لا يفعله لا لمنافاة حكمته ولا فرق بين
الأمرين بالنسبة إليه ولكن أراد هذا وأخبر به وأراد الآخر وأخبر به فوجب هذا
لإرادته وخبره وامتنع ضده لعدم إرادته وإخباره بأنه لا يكون. والتزموا أيضًا أنه
يجوز أن يعذب الأطفال الذين لا ذنب لهم أصلاً ويخلدهم في الجحيم وربما قالوا
بوقوع ذلك.
فأنكر على الطائفتين معًا أصحاب التفسير الثالث وقالوا: الصواب الذي دلت
عليه النصوص أن الظلم الذي حرمه الله على نفسه وتنزه عنه فعلاً وإرادة هو ما
فسر به سلف الأمة وأئمتها أنه لا يحمل عليه سيئات غيره ولا يعذب بما لا تكتسب
يداه ولم يكن سعى فيه ولا ينقص من حسناته فلا يجازى بها أو ببعضها إذا قارنها
أو طرأ عليها ما يقتضي إبطالها أو اقتصاص المظلومين منها وهذا الظلم الذي نفى
الله تعالى خوفه عن العبد بقوله: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ
ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا} (طه: 112) قال السلف والمفسرون: لا يخاف أن يحمل
عليه سيئات غيره ولا ينقص من حسناته، فهذا هو المعقول من الظلم ومن عدم
خوفه وأما الجمع بين النقيضين وقلب القديم محدثًا والمحدث قديمًا فمما يتنزه كلام
آحاد العقلاء عن تسميته ظلمًا وعن نفي خوفه عن العبد فكيف بكلام رب العالمين؟!.
قالوا: وأما استدلالكم بتلك النصوص الدالة على أنه سبحانه إن عذبهم فإنهم عباده
وأنه غير ظالم لهم وأنه لا يسأل عما يفعل وأن قضاءه فيهم عدل وبمناظرة إياس
للقدرية فهذه النصوص وأمثالها كلها حق يجب القول بموجبها ولا تحرف معانيها
والكل من عند الله ولكن أي دليل فيها يدل على أنه يجوز عليه تعالى أن يعذب
أهل طاعته وينعم أهل معصيته ويعذب بغير جرم ويحرم المحسن جزاء عمله ونحو
ذلك بل كلها متفقة متطابقة دالة على كمال القدرة وكمال العدل والحكمة
فالنصوص التي ذكرناها تقتضي كمال عدله وحكمته وغناه ووضعه العقوبة والثواب
مواضعهما وأنه لم يعدل بهما عن مسببهما والنصوص التي ذكرتموها تقتضي كمال
قدرته وانفراده بالربوبية والحكم وأنه ليس فوقه آمر ولا ناهٍ يتعقب أفعاله بسؤال
وأنه لو عذب أهل سمواته وأرضه لكان ذلك تعذيبًا لحقه عليهم وكانوا إذ ذاك
مستحقين للعذاب؛ لأن أعمالهم لا تفي بنجاتهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (لن
ينجي أحدًا منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني
لله برحمة منه وفضل) فرحمته لهم ليس في مقابلة أعمالهم ولا هي ثمنًا لها فإنها
خير منها كما قال في الحديث نفسه: (ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من
أعمالهم) فجمع بين الأمرين في الحديث أنه لو عذبهم لعذبهم باستحقاقهم ولم يكن
ظالمًا لهم وأنه لو رحمهم لكان ذلك مجرد فضله وكرمه لا بأعمالهم إذ رحمته خير
لهم من أعمالهم فطاعات العبد كلها لا تكون في مقابلة نعم الله عليهم ولا مساوية لها
بل ولا للقليل منها فكيف يستحقون بها على الله النجاة وطاعة المطيع لا نسبة لها
إلى نعمة من نعم الله عليه فتبقى سائر النعم تتقاضاه شكرًا والعبد لا يقوم بمقدوره
الذى يجب لله عليه فجميع عباده تحت عفوه ورحمته وفضله فما نجا منهم أحد إلا
بعفوه ومغفرته ولا فاز بالجنة إلا بفضله ورحمته وإذا كانت هذه حال العباد فلو
عذبهم وهو غير ظالم لهم لا من حيث كونه قادرًا عليهم وهم ملك له بل لاستحقاقهم
ولو رحمهم لكان ذلك بفضله لا بأعمالهم ويأتي لهذا مزيد تحرير والله أعلم.
(المنار)
أيها الأشعري إنك ترى في هذه الجملة من النقول عن أئمة الأمة ما ينبئك
بحقيقة معنى العلة والحكمة وأن كُلاًّ من المعتزلة والأشعرية أخطأوا من جهة
وأصابوا من أخرى، وأن مذهب السنة الصحيح وسط بين المذهبين وأن أخذ العلم
من كتب طائفة تؤيد مذهبًا معينًا دون النظر في كتب أهل المذاهب الأخرى لا يفك
الآخذ من ربقة التقليد ولا يهديه إلى طريقة التمحيص والتحديد وأن كتب ابن تيمية
وابن القيم أنفع كتب الكلام وأن هذين الشيخين هما الجديران بلقب شيخ الإسلام فقد
أصاب من لقبهما به من العلماء الأعلام.
وخلاصة القول الحق أن العقل والكتاب يدلان على حكمة الله تعالى وعدله
ورحمته وفضله كما يدلان على قدرته وإرادته واختياره يستحيل عليه أضدادها فكل
أفعاله حكمة ومصلحة للخلق والحكمة أو المصلحة فى الفعل تسمى في اللغة علة
وجاء ذلك في القرآن بحرف التعليل فاجمعْ بين العقل والنقل تهتدِ السبيل ولا تكفِّرْ
أو تضللْ أحدًا من أهل القبلة إذا هو خالف مذهبك بالعلة أو غير العلة.
__________(9/23)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة الجاوية في سماع آلات اللهو
جاءتنا الأسئلة الآتية من جاوه فأرجأنا الجواب عنها حتى نسيناها بسقوط
صحيفتها بين الرسائل المهملة , ثم رأيناها الآن فنذكرها سردًا , ثم نجيب عنها ,
والظاهر أنها عُرضت على غيرنا ولكن لم نسمع لها صدى وهي:
(السؤال الأول)
ما قولكم متع الله بحياتكم وأحيا بكم معالم الدين وشريعة سيد المرسلين في
تصريح الأئمة المشهورين الذين هم من حملة الشريعة المطهرة بتحريم سماع
الأوتار التى هي من آلة الملاهي المحرمة كالعود المعبر عنه بالقنبوس , وتصريحهم
بأنها شعار شربة الخمر وبفسق مستمعها وتأثيمه وبرد شهادته (وذلك) كقول حجة الإسلام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين ما معناه: فحرم ما هو شعار أهل الشرب
وهي الأوتار والمزامير إلى قوله: فيحرم التشبه بهم لأن (مَن تشبه بقوم فهو
منهم) . انتهى (وقوله) فيه أيضًا ومنها - أي المنكرات - سماع الأوتار أو سماع
القينات إلى أن قال: فكل ذلك محظور منكر يجب تغييره , ومن عجز عن تغييره
لزمه الخروج ولم يجز له الجلوس فلا رخصة له في الجلوس في مشاهدة
المنكرات. انتهى (وقوله) : أيضًا يحرم السماع بخمسة عوارض إلى قوله:
والثاني الآلة بأن تكون من شعار الشربة والمخنثين وهى المزامير والأوتار. انتهى.
(وكقول) الشيخ ابن حجر في التحفة ما ملخصه: ويحرم استعمال آلة من شعار
الشربة كطنبور وعود ورباب ومزمار وسائر أنواع الأوتار لأن اللذة الحاصلة منها
تدعو إلى فساد ولأنها شعار الفسقة والتشبه بهم حرام. انتهى (ومثله) في النهاية
للشيخ الرملي. (وقول) الشيخ ابن حجر في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر ما
معناه: من استمع إلى شيء من هذه المحرمات فسق ورُدت شهادته. انتهى.
(وقوله) فيه أيضًا: أما المزامير والأوتار والكوبة فلا يختلف في تحريم استماعها
وكيف لا يحرم وهو شعار أهل الخمور والفسوق ومهيج للشهوات والفساد والمجون ,
وما كان كذلك لم يشك في تحريمه ولا في تفسيق فاعله وتأثيمه. انتهى ملخصًا.
وقد أورد الحبيب عبد الله بن علوي الحداد في كتابه النصائح الدينية عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه: إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، وذكر
من جملتها اتخاذ القَينات والمعازف يعني الملاهي من الأوتار والمزامير (وقول)
الحبيب عبد الله بن حسين في كتابه سلم التوفيق في عد كبائر الذنوب ما لفظه:
واللعب بآلات اللهو المحرمة كالطنبور والرباب والمزمار والأوتار، وكتصريح
هؤلاء الأئمة تصريح غيرهم من حملة الشريعة المحمدية بالتحريم واتفاقهم عليه
حيث اتفقوا على تحريم العود وهو القنبوس وما ذكر معه وعلى تفسيق فاعله
وسماعه وعلى رد شهادتهم (فهل) قول هؤلاء الأئمة وتصريحهم بما ذكر معتمد
في المذهب ومعول عليه يجب العمل بمقتضاه وهو اجتناب هذا المحرم المتفق عليه
وعلى تفسيق فاعله أم لا؟ .
(السؤال الثاني)
وما قولكم متَّّع الله بحياتكم وحفظ بكم الشريعة المطهرة في تصريح هؤلاء
الأئمة وغيرهم من المحققين موافقة للمذاهب الأربعة في الرد الشنيع على من أباح
تلك الآلة المحرمة كتصريح الشيخ ابن حجر في التحفة بقوله: إني رأيت تهافت
كثيرين على كتاب لبعض مَن أدركناهم من صوفية الوقت تبع فيه خراف ابن حزم
وأباطيل ابن طاهر وكذبه الشنيع في تحليل الأوتار وغيرها , ولم ينظر لكونه
مذموم السيرة مردود القول عند الأئمة ووقع بعض ذلك للإدفوي في تأليف له في
السماع ولغيره وكل ذلك يجب الكف عنه واتباع ما عليه أئمة المذاهب الأربعة
وغيرهم. انتهى بالاختصار (ومثله) في النهاية للشيخ الرملي وغيرها
(وكتصريح) الشيخ ابن حجر في الزواجر بقوله: وأما حكاية ابن طاهر عن
صاحب التنبيه أنه كان يبيح سماع العود ويسمعه وأنه مشهور عنه ولم يكن من
علماء عصره من ينكر عليه وإن حله ما أجمع عليه أهل المدينة فقد ردوه على ابن
طاهر لأنه مجازف إباحي كذاب رجس العقيدة نجسها فمن ثم قال الأذرعي عقب
كلامه هذا: وهذه مجازفة , وإنما فعل ذلك بالمدينة أهل المجانة والبطالة ونسبة ذلك
إلى صاحب التنبيه كما رأيته في كتاب له في السماع نسبة باطلة قطعًا وقد صرح
في مهذبه بتحريم العود وهو قضية ما في تنبيهه ومن عرف حاله وشدة ورعه
ومتين تقواه جزم ببعده عنه وطهارة ساحته منه. انتهى. (وكتصريح) الشيخ
الباجوري في حاشيته على ابن قاسم بقوله:
فاجزم على التحريم أي جزم ... والرأي أن لا تتبع ابن حزم
فقد أبيحت عنده الأوتار ... والعود والطنبور والمزمار
(وتصريح) الشيخ ابن حجر أيضًا في الزواجر بقوله: ومن عجيب تساهل
ابن حزم واتِّباعه لهواه أنه بلغ من التعصب الى أن حكم على هذا الحديث وكل ما
ورد في الباب بالوضع وهو كذب صُراح منه فلا يحل لأحد التعويل عليه في شيء
من ذلك. انتهى (وقوله) أيضًا في موضع آخر: فقد حكيت آراء باطلة منها قول
ابن حزم: وقد سمعه - أي العود - ابن عمر وابن جعفر رضي الله عنهما وهو
من جموده على ظاهريته الشنيعة القبيحة وما زعمه من هذين الإمامين ممنوع ولا
يثبت ذلك عنهما وحاشاهما من ذلك لشدة ورعهما وبُعدهما من اللهو. انتهى ملخصًا،
وقول الشيخ الرملي في النهاية: وما حُكي عن ابن عبد السلام وابن دقيق العيد
أنهما كانا يسمعان ذلك - فكذب. انتهى (فهل) تصريح هؤلاء الأئمة الذين هم
حملة الشريعة المطهرة بهذا الرد الشنيع على من أحل الأوتار وبتكذيب نُقُُولهم معتمد
في المذهب ومعول عليه يجب العمل بمقتضاه وهو عدم جواز التعويل ولا الالتفات
إلى من أحل الأوتار وعدم جواز نسبة سماعها إلى العلماء أو الصلحاء أم لا؟
(السؤال الثالث)
وما قولكم متع الله بكم وشيد بكم أركان الدين في شأن سيرة السلف الصالحين
من العلويين وغيرهم رضي الله عنهم ونفعنا بهم في شدة مجاهدتهم واجتهادهم
واستغراق أوقاتهم في تحصيل العلوم بشرائطها وآدابها ثم اجتهادهم في العبادة من
دوام القيام وسرد الصيام بكمال المتابعة وشدة المجاهدة للنفس ومكابدتها والورع
والزهد كما لا يخفى على من اطلع على كتب تراجمهم ومناقبهم رضي الله عنهم
كالمشرع الروي والجوهر الشفاف والبرقة المشيقة وغير ذلك أن كثيرًا منهم من
يصلي الصبح بوضوء العشاء في عدة سنين كثيرة , وختم القرآن بعدد كثير من
زمن يسير وغير ذلك من الأعمال الصالحات مع غاية الزهد والورع وترك ملاذ
الدنيا المباحة فضلاً عن المحرمات وغير ذلك من أوصافهم الحميدة وشدة مجاهدتهم
ما يحير عقل من وقف على سيرتهم ومن مخالفتهم للنفس والهوى ما يقطع يقينًا
على بعد ساحتهم عن الملاهي ونظافة ساحتهم من المناهي (فهل) يسوغ للمؤمن
بالله أن ينسب إلى أحد منهم سماع العود الذى اتفق أئمة الشريعة على تحريمه
وتفسيق فاعله حتى يعتقد الغوغاء بسبب هذه النسبة والافتراء حل سماع العود وأنه
من شعار الصالحين أم لا يسوغ ذلك؟
(السؤال الرابع)
وما قولكم متع الله بكم وصان بكم شريعة سيد المرسلين فيما إذا سمع هذا
القنبوس أناس من المترسمين بالعلم أو من أهل البيت النبوي بحيث يقتدي بهم
الغوغاء , ويحتجون بسماعهم له على جواز سماع القنبوس (فهلا) يعظم وزر
المقتدى بهم ويدخلون في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة سيئة فعليه
وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) أم لا؟
(السؤال الخامس)
وما قولكم متع الله بكم وذب بكم عن شريعة سيد المرسلين من دعاوى الكاذبين
فيما نص به العلامة السيد مصطفى العروسي في كتابه نتائج الأفكار وهو قوله:
(تنبيه) إن قال قائل: نحن لا نسمع بالطبع بل بالحق فنسمع بالله وفي الله لا
بحظوظ البشرية قلنا له: كذبتَ على طبعك وكذبت على الله في تركيبك وما وصفك
من حب الشهوات، وقد قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (مَن فارق إلفه
وادعى العصمة فاجلدوه فإنه مفترٍ كذابٌ) . انتهى وفيما نص به الشيخ البجيرمي
على الإقناع وهو قوله: وما قيل عن بعض الصوفية من جواز استماع الآلات
المطربة لما فيها من النشاط على الذكر وغير ذلك فهو من تهورهم وضلالهم فلا
يعول عليه. انتهى (فهل) هذه النصوص صحيحة يجب العمل بمقتضاها وهو
عدم الاغترار بخرافات الأغيار أم لا؟
أفتونا في هذه الأسئلة فإن البلية الباعثة عليها قد عمت مصيبتها وطارت
شررها لعل الله بنور علمكم يطفيها، لا زلتم ناصرين لشريعة سيد المرسلين
وللمعاونة على البر والتقوى معاونين أحيا الله بكم الإسلام. آمين. اهـ بنصه.
(جواب المنار)
قد اختلف العلماء في سماع الغناء وآلات اللهو قديمًا وحديثًا، وأكثروا القول
فيه بل كتبوا فيه المصنفات واستقصوا الروايات، ونحن نذكر أقوى ما ورد من
الأحاديث في هذا الباب ثم ملخص اختلاف العلماء وأدلتهم، ثم ما هو الحق الجدير
بالاتباع، ثم نتكلم على أسئلة السائل.
أحاديث الحظر
1- عن عبد الرحمن بن غنم قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري أنه
سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحِر
والحرير والخمر والمعازف) أخرجه البخاري بهذا الشك بصورة التعليق وابن
ماجه من طريق ابن محيريز عن أبي مالك بالجزم ولفظه: (ليشربن ناس من أمتي
الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله
بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير) وأخرجه أبو داود وابن حبان وصححه.
2- عن نافع أن ابن عمر سمع صوت زمارة راعٍ فوضع أصبعيه في أذنيه
وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع أتسمع فأقول: نعم فيمضي حتى
قلت: لا , فرفع يده وعدل راحلته إلى الطريق وقال: رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم سمع زمارة راع فصنع مثل هذا، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، قال
أبو علي اللؤلؤي: سمعت أبا داود يقول: وهو حديث منكر.
3- عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم الخمر
والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام) رواه أحمد وأبو داود، وفي لفظ
لأحمد أنه قال بعد الميسر: (والمزر والكوبة والقنين) وفي إسناد الحديث الوليد
ابن عبدة راويه عن ابن عمر، قال أبو حاتم الرازي: هو مجهول، وقال ابن
يونس في تاريخ المصريين: إنه روى عنه يزيد بن أبي حبيب. وقال المنذري:
إن الحديث معلول ولكنه يشهد له حديث ابن عباس بنحوه وهو (عن ابن عباس أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة وكل
مسكر حرام) .
وقد فسر بعضهم الكوبة بالطبل قال سفيان: عن علي بن بذيمة , وقال ابن
الأعرابى: الكوبة: النرد وقد اختلف في الغبيراء (بالضم) قال الحافظ في
التلخيص: فقيل: الطنبور، وقيل: العود، وقيل: البربط، وقيل: مزر يصنع
من الذرة أو من القمح، وبذلك فسره في النهاية. والمزر بالكسر نبيذ الشعير،
والمعتمد في الغبيراء ما قاله في النهاية من أنها من الأشربة , والقنين قيل لعبة
للروم يقامرون بها، وقيل: الطنبور بالحبشية فظهر بهذا أن الحديثين ليسا في
موضوع المعازف وآلات السماع اتفاقًا.
4- عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (في
هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، فقال رجل من المسلمين: ومتى ذلك يا رسول
الله؟ قال: (إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور) رواه الترمذي وقال:
هذا حديث غريب، أقول: وقد أخرجه من طريق عبّاد بن يعقوب وكان من غلاة
الروافض ورؤوس البدع إلا أنه صادق الحديث، وقد روى له البخاري حديثًا
واحدًا مقرونًا بغيره، وقال ابن عدي: أنكروا عليه أحاديث وهو رواه عن عبد الله
بن عبد القدوس وهو رافضي مثله قال: قال يحيى بن معين: ليس بشيء،
والنسائي: ليس بثقة، وضعَّفه الدارقطني.
5- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اتخذ
الفيء دولاً والأمانة مغنمًا والزكاة مغرمًا، وتُعُلِّمَ لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته
وعق أمه، وأدنى صديقه وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد
القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القيان
والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحًا
حمراء وزلزلة وخسفًا ومسخًا وقذفًا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع بعضه
بعضًا) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب أقول: إن راويه عن أبي هريرة
هو رميح الجذامي قال في الميزان: لا يعرف.
6- عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تبيت طائفة من
أمتي على أكل وشرب ولهو ولعب ثم يصبحون قردة وخنازير وتبعث على أحياء
من أحيائهم ريح فتنسفهم كما نسف من كان قبلكم باستحلالهم الخمر وضربهم
بالدفوف واتخاذهم القينات) رواه أحمد. قال في المنتقى: وفي إسناده فرقد السبخي
قال أحمد: ليس بقوي , وقال ابن معين: هو ثقة وقال الترمذي: تكلم فيه يحيى
بن سعيد وقد روى عنه الناس.
7- عن (أمامة) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله بعثني رحمة
وهدى للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات يعنى البرابط والمعازف
والأوثان التى كانت تعبد في الجاهلية) رواه أحمد عن عبيد الله بن زحر عن علي
بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن. قال البخاري: عبيد الله بن زحر ثقة، وعلي
بن يزيد ضعيف. وقال أبو مسهر في عبيد الله بن زحر: إنه صاحب كل معضلة،
وقال يحيى بن معين: إنه ضعيف وقال مرة: ليس بشيء وقال ابن المديني: منكر
الحديث، وقال ابن حبان: يروي موضوعات عن الأثبات، إذا روى عن علي بن
يزيد أتى بالطامات.
8- وعنه بهذا السند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا القينات
ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام. في مثل هذا
أنزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (لقمان: 6) الآية) رواه الترمذي وأحمد بالمعنى ولم يذكر الآية والحميدي في
مسنده بلفظ: (لا يحل ثمن المغنية ولا بيعها ولا شراؤها ولا الاستماع إليها) وهو
لا يصح كما تقدم.
9- عن ابن مسعود: (الغناء ينبت النفاق في القلب) رواه أبو داود مرفوعًا
والبيهقي مرفوعًا وموقوفًا وفي إسناده شيخ لم يسمَّ وفي بعض طرقه ليث بن أبي
سليم وهو متفق على ضعفه كما قال النووي. وقال الغزالي: رفعه لا يصح ,
ومعناه أن المغني ينافق لينفق. وقد زدنا هذا وما قبله إتمامًا للبحث.
وقد رأيتَ أنه لا يصح من هذه الأحاديث إلا الأول وستعلم مع ذلك ما قيل في
إعلاله وما روي غيرها أوهَى منها إلا أثر عن ابن مسعود في تفسير اللهو فقد
صححه ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي.
(أحاديث الإباحة)
(1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عليَّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم (أيام مِنى) وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث فاضطجع على الفراش
وحوَّل وجهه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ ! فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (دعهما يا
أبا بكر فإنها أيام عيد) وفي رواية: (يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا) ،
فلما غفل غمزتهما فخرجتا، تقول: لما غفل أبو بكر، رواه البخاري في سنة العيد
وفي أبواب متفرقة، ومسلم في العيد، والنسائي في عشرة النساء، وإنما أنكر أبو
بكر لظنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نائمًا لم يسمع.
(2) وعنها أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: (يا عائشة ما كان معكم من لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو) رواه
البخاري. قال الحافظ في الفتح عند شرح قوله: (ما كان معكم لهو) : في رواية
شريك (فقال: فهل بعثتم جارية تضرب بالدف وتغني؟ قلت: تقول ماذا؟ قال:
تقول:
أتيناكم أتيناكم ... فحيانا وحياكم
ولولا الذهب الأحمر ... ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمراء ... ما سمنت عذاريكم
(3) عن خالد بن ذكوان عن الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ قالت: دخل عليَّ النبي
صلى الله عليه وسلم غداة بُني عليَّ، فجلس على فراشي كمجلسك مني،
وجويريات يضربن بالدف يندبن مَن قتل من آبائي يوم بدر حتى قالت إحداهن:
وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولي هكذا وقولي
كما كنتِ تقولين) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن إلا النسائي.
(4) عن محمد بن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح) رواه أحمد والترمذي
والنسائي وابن ماجه والحاكم.
(5) عن عامر بن سعد قال: دخلت على قرظة بن كعب وأبي مسعود
الأنصاري في عُرس وإذا جوارٍ يغنين فقلت: أي صاحِبَيْ رسول الله صلى الله
عليه وسلم أهل بدر يُفعل هذا عندكم؟ ! فقالا: اجلس إن شئت فاستمع معنا وإن
شئت فاذهب فإنه قد رخص لنا اللهو عند العرس، أخرجه النسائي والحاكم
وصححه.
(6) عن بُريدة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض
مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن
َرَدَّكَ الله صالحًا أن أضرب بين يديك الدف وأتغنى، قال لها: إن كنت نذرت
فاضربي وإلا لا، فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل علي وهي
تضرب ثم دخل عثمان وهى تضرب ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها ثم قعدت
عليه! . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان لَيخاف منك يا عمر؛
إني كنت جالسًا وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضرب فلما دخلت أنت يا عمر
ألقت الدف!) رواه أحمد والترمذي وصححه وابن حبان والبيهقي.
خلاف العلماء في مسألة
سماع الغناء والمعازف وأدلتهم
في الباب أحاديث أخرى، وما أوردنا هو أصح ما ورد فيه مما يحتج به،
وأحاديث الحظر التى تقدمت تحظر المعازف وهي آلات اللهو - والدف منها قطعًا
- وغناء القيان وهن الجواري المغنيات، وقد رأيت في أحاديث الإباحة إباحة
العزف بالدف وغناء الجواري وانعقاد نذره، ومما ينبغي الالتفات إليه أن كلام أبي
بكر وكلام عامر بن سعد يدل على أن الناس كانوا يتوقعون حظر السماع واللهو لا
سيما أصوات النساء لولا النص الصريح بالرخصة وتكراره في الأوقات التى جرت
عادة الناس بتحري السرور فيها كالعيد والعرس وقدوم المسافر، فأحاديث الإباحة
مرجحة بصحتها وضعف مقابلها ونكارته , وبكونها على الأصل في الأشياء وهو
الإباحة، وبموافقتها ليُسر الشريعة وسماحها وموافقتها للفطرة، وهذا لا ينافي أن
الانصراف الزائد إلى اللهو والإسراف فيه ليس من شأن أهل المروءة والدين،
ولهذا رأيت كثيرًا من أئمة العلماء الزهاد شدد النكير على أهل اللهو لما كثر
وأسرف الناس فيه عندما عظم عمران الأمة واتسعت مذاهب الحضارة فيها حتى
جاء أهل التقليد من المصنفين فرجحوا أقوال الحظر وزادوا عليها في التشديد حتى
حرم بعضهم سماع الغناء مطلقًا وسماع آلات اللهو جميعها إلا طبل الحرب ودف
العرس، وزعموا أنه دف مخصوص لا يطرب وأنه غير دف أهل الطرب. وهاك
أجمع كلام يحكي خلاف علماء الأمة وأدلتهم في هذه المسألة بالاختصار وهو كلام
الشوكاني في نيل الأوطار قال بعد ما أورد ما تقدم من أحاديث الحظر:
قد اختلف في الغناء مع آلة من آلات الملاهي وبدونها فذهب الجمهور إلى
التحريم مستدلين بما سلف، وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر
وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع، ولو مع العود واليراع، وقد حكى
الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع أن عبد الله بن جعفر كان
لا يرى بالغناء بأسًا ويصوغ الألحان لجواريه ويسمعها منهن على أوتاره وكان ذلك
في زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. وحكى الأستاذ المذكور مثل ذلك أيضًا
عن القاضي شريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والزهري والشعبي.
وقال إمام الحرمين في النهاية وابن أبي الدم: نقل الأثبات من المؤرخين أن
عبد الله بن الزبير كان له جوارٍ عوَّادات وأن ابن عمر دخل عليه وإلى جنبه عود
فقال: ما هذا يا صاحب رسول الله؟ ! ، فناوله إياه فتأمله ابن عمر فقال: هذا
ميزان شامي قال ابن الزبير: يوزن به العقول.
وروى الحافظ أبو محمد بن حزم في رسالته في السماع بسنده إلى ابن سيرين
قال: إن رجلاً قدم المدينة بجوارٍ فنزل على عبد الله بن عمر وفيهن جارية تضرب
فجاء رجل فساومه فلم يهوَ منهن شيئًا قال: انطلقْ إلى رجل هو أمثل لك بيعًا من
هذا، قال: مَن هو، قال: عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه فأمر جارية منهن فقال
لها: خذي العود فأخذته فغنت فبايعه ثم جاء إلى ابن عمر.. إلى آخر القصة.
وروى صاحب العِقد العلامة الأديب أبو عمر الأندلسي أن عبد الله بن عمر دخل
على أبي جعفر فوجد عنده جارية في حجرها عود ثم قال لابن عمر: هل ترى
بذلك بأسًا؟ قال: لا بأس بهذا، وحكى الماوردي عن معاوية وعمرو بن العاص
أنهما سمعا العود عند ابن جعفر. وروى أبو الفرج الأصبهاني أن حسان بن ثابت
سمع من عزة الميلاء الغناء بالمزهر بشعر من شعره. وذكر أبو العباس المبرّد نحو
ذلك (والمزهر عند أهل اللغة: العود) وذكر الإدفوي أن عمر بن عبد العزيز كان
يسمع من جواريه قبل الخلافة، ونقل ابن السمعاني الترخيص عن طاووس ونقله
ابن قتيبة وصاحب الإمتاع عن قاضي المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن
الزهري من التابعين، ونقله أبو يعلى الخليلي في الإرشاد عن عبد العزيز بن سلمة
الماجَشَوْن مفتي المدينة. وحكى الروياني عن القفال أن مذهب مالك بن أنس إباحة
الغناء بالمعازف. وحكى الأستاذ أبو منصور والفوراني عن مالك جواز العود
وذكر أبو طالب المكي في قوت القلوب عن شعبة أنه سمع طنبورًا في بيت المنهال
بن عمرو المحدث المشهور.
وحكى أبو الفضل بن طاهر في مؤلفه في السماع أنه لا خلاف بين أهل
المدينة في إباحة العود قال ابن النحوي في العمدة: قال ابن طاهر: هو إجماع أهل
المدينة، قال ابن طاهر: وإليه ذهبت الظاهرية قاطبة قال الإدفوي: لم يختلف
النقلة في نسبة الضرب إلى إبراهيم بن سعد المتقدم الذكر وهو ممن أخرج له
الجماعة كلهم [1] وحكى الماوردي إباحة العود عن بعض الشافعية، وحكاه أبو
الفضل بن طاهر عن أبي إسحاق الشيرازي وحكاه الإسنوي في المهمات في
الروياني والماوردي، ورواه ابن النحوي عن الأستاذ أبي منصور , وحكاه ابن
الملقن في العمدة عن ابن طاهر، وحكاه الإدفوي عن الشيخ عز الدين بن عبد
السلام , وحكاه صاحب الإمتاع عن أبي بكر بن العربي وجزم بالإباحة الإدفوي،
هؤلاء جميعًا قالوا بتحليل السماع مع آلة من الآلات المعروفة، وأما مجرد الغناء
من غير آلة فقال الإدفوي في الإمتاع: إن الغَزَالي في بعض تآليفه الفقهية نقل
الاتفاق على حله، ونقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين عليه، ونقل التاج
الفزاري وابن قتيبة إجماع أهل المدينة عليه وقال الماوردي: لم يزل أهل الحجاز
يرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيه بالعبادة والذكر.
قال ابن النحوي في العمدة: وقد روي الغناء وسماعه عن جماعة من
الصحابة والتابعين فمن الصحابة عمر كما رواه ابن عبد البر وغيره وعثمان كما
نقله الماوردي وصاحب البيان والرافعي وعبد الرحمن بن عوف كما رواه ابن
أبى شيبة وأبو عبيدة بن الجراح كما أخرجه البيهقي وبلال وعبد الله بن الأرقم
وأسامة بن زيد كما أخرجه البيهقي أيضًا و (حمزة) كما في الصحيح وابن عمر كما
أخرجه ابن طاهر والبراء بن مالك كما أخرجه أبو نعيم وعبد الله بن جعفر كما
رواه ابن عبد البر وعبد الله بن الزبير كما نقله أبو طالب المكي وحسان كما رواه
أبو الفرج الأصبهاني وعبد الله بن عمرو كما رواه الزبير بن بكار وقرظة بن كعب
كما رواه ابن قتيبة و (خوات) بن جبير ورباح المعترف كما أخرجه صاحب
الأغاني والمغيرة بن شعبة كما حكاه أبو طالب المكي وعمرو بن العاص كما حكاه
الماوردي وعائشة والربيع كما في صحيح البخاري وغيره.
وأما التابعون فسعيد بن المسيب وسالم بن عمرو بن حسان وخارجة بن زيد
وشريح القاضي وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد الله بن أبي عتيق وعطاء
ابن أبي رباح ومحمد بن شهاب الزهري وعمر بن عبد العزيز وسعد بن إبراهيم
الزهري. وأما تابعوهم فخلق لا يحصون منهم الأئمة الأربعة وابن عيينة وجمهور
الشافعية. انتهى كلام ابن النحوي.
واختلف هؤلاء المجوزون فمنهم من قال بكراهته , ومنهم من قال باستحبابه
قالوا: لكونه يرق القلب ويهيج الأحزان والشوق إلى الله , قال المجوزون: إنه
ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في معقولهما من القياس والاستدلال ما
يقتضي تحريم مجرد الأصوات الطيبة الموزونة مع آلة من الآلات.
أما المانعون فاستدلوا بأدلة منها حديث أبي مالك أو أبي عامر المذكور في أول
الباب وأجاب المجوزون بأجوبة:
(الأول) ما قاله ابن حزم وقد تقدم جوابه [*] .
(والثاني) أن في إسناده صدقة بن خالد وقد حكى ابن الجنيد عن يحيى بن
معين أنه ليس بشيء، وروى المزي عن أحمد أنه ليس بمستقيم، ويجاب عنه أنه
من رجال الصحيح.
(والثالث) أن الحديث مضطرب سندًا ومتنًا.
أما الإسناد فللتردد من الراوي في اسم الصحابي كما تقدم.
وأما متنًا فلأن في بعض الألفاظ (يستحلون) وفي بعضها بدونه، وعند أحمد
وابن أبى شيبة بلفظ (ليشربن أناس من أمتي الخمر) وفي رواية: الحر بمهملتين
وفي أخرى بمعجمتين كما سلف. ويجاب عن دعوى الاضطراب في السند بأنه قد
رواه أحمد وابن أبى شيبة من حديث أبي مالك بغير شك، ورواه أبو داود من
حديث أبي عامر وأبي مالك وهي رواية ابن (داسة) عن أبي داود، ورواية ابن
حبان أنه سمع أبا عامر وأبا مالك الأشعريين فتبين بذلك أنه من روايتهما جميعًا.
وأما الاضطراب في المتن فيجاب عنه بأن مثل ذلك غير قادح في الاستدلال
لأن الراوي قد يترك بعض ألفاظ الحديث تارة ويذكرها أخرى.
(والرابع) أن لفظة (المعازف) التى هي محل الاستدلال ليست عند أبي
داود ويجاب بأنه قد ذكرها غيره، وثبت في الصحيح والزيادة من العدل مقبولة.
وأجاب المجوزون على الحديث المذكور من حيث دلالته فقالوا: لا نسلم
دلالته على التحريم، وأسندوا هذا المنع بوجوه:
(أحدها) أن لفظة (يستحلون) ليست نصًّا في التحريم فقد ذكر أبو بكر بن
العربي لذلك معنيين: أحدهما أن المعنى يعتقدون أن ذلك حلال، الثاني أن يكون
مجازًا عن الاسترسال في استعمال تلك الأمور , ويجاب بأن الوعيد على الاعتقاد
يشعر بتحريم الملابسة بنحو الخطاب , وأما دعوى التجوز فالأصل الحقيقة ولا
ملجئ إلى الخروج عنها.
(وثانيها) أن المعازف مختلف في مدلولها كما سلف , وإذا كان اللفظ محتملاً
لأن يكون للآلة ولغير الآلة لم ينتهض للاستدلال لأنه إما أن يكون مشتركًا , والراجح
التوقف فيه أو حقيقةً ومجازًا ولا يتعين المعنى الحقيقي , ويجاب بأنه يدل على تحريم
استعمال ما صدق عليه الاسم , والظاهر الحقيقة في الكل من المعاني المنصوص
عليها من أهل اللغة، وليس من قبيل المشترك؛ لأن اللفظ لم يوضع لكل واحد بل
وضع للجميع على أن الراجح جواز استعمال المشترك في جميع معانيه مع عدم
التضاد كما تقرر في الأصول.
(وثالثها) أنه يحتمل أن تكون المعازف المنصوص على تحريمها هي
المقترنة بشرب الخمر كما ثبت في رواية بلفظ: (ليشربن أناس من أمتي الخمر
تروح عليهم القيان وتغدو عليهم المعازف) ويجاب بأن الاقتران لا يدل على أن
المحرم هو الجمع فقط وإلا لزم أن الزنا المصرح به في الحديث لا يحرم إلا عند
شرب الخمر واستعمال المعازف واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله أيضًا يلزم في
مثل قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} (الحاقة: 33-34) أنه لا يحرم عدم الإيمان إلا عند عدم الحض على طعام
المسكين فإن قيل: تحريم مثل هذه الأمور المذكورة في الإلزام قد علم منه دليل آخر
فيجاب بأن تحريم المعازف قد علم من دليل آخر أيضًا كما سلف على أنه لا ملجئ
إلى ذلك حتى يصار إليه.
(ورابعها) أن يكون المراد (يستحلون) مجموع الأمور المذكورة فلا يدل
على تحريم واحد منها على الانفراد وقد تقرر أن النهي عند الأمور المتعددة أو
الوعيد على مجموعها لا يدل على تحريم كل فرد منها ويجاب عنه بما تقدم في الذى
قبله.
واستدلوا ثانيًا بالأحاديث المذكورة في الباب التى أوردها المصنف رحمه الله
تعالى , وأجاب عنها المجوزون بما تقدم من الكلام في أسانيدها ويجاب بأنها
تنتهض بمجموعها ولا سيما وقد حسن بعضها , فأقل أحوالها أن تكون من قسم
الحسن لغيره ولا سيما أحاديث النهي عن بيع القينات والمغنيات فإنها ثابتة من
طرق كثيرة منها ما تقدم ومنها غيره , وقد استوفيت ذلك في رسالة وكذلك حديث (إن
الغناء ينبت النفاق) فإنه ثابت من طرق قد تقدم بعضها , وبعضها لم يذكر، منه
عن ابن عباس عن ابن صصري في أماليه، ومنه عن جابر عند البيهقي ومنه عن
أنس عند الديلمي وفي الباب عن عائشة وأنس عند البزار والمقدسي وابن مردويه
وأبى نعيم والبيهقي بلفظ (صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة مزمار عند نعمة ورنة
عند مصيبة) وأخرج ابن سعد في السنن عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: (إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نغمة لهو ولعب
ومزامير الشيطان وصوت عند مصيبة وخمش وجه وشق جيب ورنة شيطان)
وأخرج الديلمي عن أبي أمامة مرفوعًا: (إن الله يبغض صوت الخلخال كما يبغض
الغناء) والأحاديث في هذا كثيرة قد صنف في جمعها جماعة من العلماء كابن حزم
وابن طاهر وابن أبي الدنيا وابن حمدان الإربلي والذهبي وغيرهم.
وقد أجاب المجوزون عنها بأنه قد ضعفها جماعة من الظاهرية والمالكية
والحنابلة والشافعية , وقد تقدم ما قاله ابن حزم , ووافقه على ذلك أبو بكر بن
العربي في كتابه الأحكام وقال: لم يصح في التحريم شيء، وكذلك قال الغزالي
وابن النحوي في العمدة، وهكذا قال ابن طاهر: إنه لم يصح منها حرف واحد،
والمراد ما هو مرفوع منها وإلا فحديث ابن مسعود - في تفسير قوله تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (لقمان: 6) - قد
تقدم أنه صحيح , وقد ذكر هذا الاستثناء ابن حزم فقال: إنهم لو أسندوا حديثًا واحدًا
فهو إلى غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا حجة في أحد دونه كما روي
عن ابن عباس وابن مسعود في تفسير قوله تعالى:] وَمِنَ النَّاسِ.. [الآية أنهما
فسرا اللهو بالغناء قال: ونص الآية يبطل احتجاجهم لقوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَن
سَبِيلِ اللَّهِ} (الحج: 9) وهذه صفة مَن فعلها كان كافرًا ولو أن شخصًا اشترى
مصحفًا ليضل به عن سبيل الله ويتخذها هزوًا؛ لكان كافرًا فهذا هو الذى ذم الله تعالى
وما ذم من اشترى لهو الحديث ليروّح به نفسه لا ليضل به عن سبيل الله.
انتهى. قال الفاكهاني: إني لم أعلم في كتاب الله ولا في السنة حديثًا صحيحًا صريحًا
في تحريم الملاهي وإنما هى ظواهر وعمومات يُسْتَأْنَسُ بها، لا أدلة قطعية.
واستدل ابن رشد بقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} (القصص:
55) وأي دليل في ذلك على تحريم الملاهي والغناء وللمفسرين فيها أربعة
أقوال:
الأول: أنها نزلت في قوم من اليهود أسلموا فكان اليهود يلقونهم بالسب
والشتم فيعرضون عنهم.
والثاني: أن اليهود أسلموا فكانوا إذا سمعوا ما غيَّره اليهود من التوراة وبدلوا
من نعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصفته أعرضوا عنه وذكروا الحق.
الثالث: أنهم المسلمون إذا سمعوا الباطل لم يلتفتوا إليه.
الرابع: أنهم ناس من أهل الكتاب لم يكونوا هودًا ولا نصارى وكانوا على
دين الله كانوا ينتظرون بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلما سمعوا به بمكة
أتوه فعرض عليهم القرآن فأسلموا، وكان الكفار من قريش يقولون لهم: أف لكم
اتبعتم غلامًا كرهه قومه وهم أعلم به منكم؟ ! وهذا الأخير قاله ابن العربي في
أحكامه. وليت شعري كيف يقوم الدليل من هذه الآية؟ . انتهى.
ويجاب بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واللغو عام وهو في
اللغة: الباطل من الكلام الذي لا فائدة فيه، والآية خارجة مخرج المدح لمن فعل
ذلك، وليس فيها دلالة على الوجوب.
ومن جملة ما استدلوا به حديث: (كل لهو يلهو به المؤمن فهو باطل إلا
ثلاثة: ملاعبة الرجل أهلَه وتأديبه فرسَه ورميه عن قوسه) قال الغزالي: قلنا:
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فهو باطل) لا يدل على التحريم بل يدل على
عدم الفائدة. انتهى , وهو جواب صحيح لأن ما لا فائدة فيه من قسم المباح على أن
التلهي بالنظر إلى الحبشة وهم يرقصون في مسجده صلى الله عليه وسلم وآله وسلم
كما ثبت في الصحيح خارج عن تلك الأمور الثلاثة.
أجاب المجوزون عن حديث ابن عمر المتقدم في زمارة الراعي بما تقدم من
أنه حديث منكر، وأيضًا لو كان سماعه حرامًا لما أباحه صلى الله عليه وآله وسلم
لابن عمر ولا ابن عمر لنافع ولنهى عنه وأمر بكسر الآلة؛ لأن تأخير البيان عن
وقت الحاجة لا يجوز، وأما سده صلى الله عليه وسلم لسمعه فيحتمل أنه تجنبه كما
كان يتجنب كثيرًا من المباحات كما تجنب أن يبيت في بيته درهم أو دينار وأمثال
ذلك. لا يقال: يحتمل أن تركه صلى الله عليه وآله وسلم للإنكار على الراعي إنما
كان لعدم القدرة على التغيير لأنا نقول: ابن عمر إنما صاحَبَ النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وهو بالمدينة بعد ظهور الإسلام وقوته فترك الإنكار فيه دليل على عدم
التحريم.
وقد استدل المجوزون بأدلة منها قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الخَبَائِث} (الأعراف: 157) ووجه التمسك أن الطيبات جمع محلًّى باللام
فيشمل كل طيب , والطيب يطلق بإزاء المستلذ وهو الأكثر المتبادر إلى الفهم عند
التجرد عن القرائن ويطلق بإزاء الطاهر والحلال، وصيغة العموم كلية تتناول كل
فرد من أفراد العام فتدخل أفراد المعاني الثلاثة كلها ولو قصرنا العام على بعض
أفراده لكان قصره على المتبادر هو الظاهر , وقد صرح ابن عبد السلام في دلائل
الأحكام أن المراد في الآية بالطيبات المستلذات. ومما استدل به المجوزون ما
سيأتي في الباب الذى بعد هذا [2] وسيأتي الكلام عليه.
ومن جملة ما قاله المجوزون أن لو حكمنا بتحريم اللهو لكونه لهوًا لكان جميع
ما في الدنيا محرمًا لأنه لهو لقوله تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} (محمد
: 36) ويجاب بأنه لا حكم على جميع ما يصدق عليه مسمى اللهو لكونه لهوًا بل
الحكم بتحريم لهو خاص وهو لهو الحديث المنصوص عليه في القرآن لكنه لما علل
في الآية بعلة الإضلال عن سبيل الله لم ينتهض للاستدلال به على المطلوب.
وإذا تقرر ما حررناه من حجج الفريقين فلا يخفى على الناظر أن محل النزاع
إذا خرج عن دائرة الحرام لم يخرج عن دائرة الاشتباه , والمؤمنون وقَّافون عند
الشبهات كما صرح به الحديث الصحيح: (.. ومن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه
ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه) ولا سيما إذا كان مشتملاً على ذكر القدود
والخدود والجمال والدلال، والهجر والوصال، ومعاقرة العقار، وخلع العذار
والوقار، فإن سامع ما كان كذلك لا يخلو عن بلية وإن كان من التصلب في ذات
الله على حد يقصر عنه الوصف، وكم لهذه الوسيلة الشيطانية من قتيل دمه مطلول
وأسير بهموم غرامه وهيامه مكبول، نسأل الله السداد والثبات.
ومن أراد الاستيفاء للبحث فعليه بالرسالة التى سميتها (إبطال دعوى الإجماع
على تحريم مطلق السماع) اهـ كلام الإمام الشوكاني.
(للكلام بقية)
ومعلوم أن نَذْر الحرام أو المكروه لا ينعقد. وهذا يبطل ما قاله الشوكاني هنا
من أن أدلة المانعين تنهض شبهة وسيأتي التحقيق فيه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يريد بالجماعة أحمد والبخاري ومسلما وأصحاب السنن كلهم فهم ثقة عندهم.
(*) قال المؤلف قبل ما ذكرنا في الكلام على أحاديث الحظر ما نصه:.
(وفي الباب أحاديث كثيرة وقد وضع جماعة من أهل العلم في ذلك مصنفات ولكنه ضعفها جميعًا بعض أهل العلم حتى قال ابن حزم: إنه لا يصح في الباب حديث أبدًا وكل ما فيه فموضوع , وزعم أن حديث أبي عامر أو أبي مالك المذكور في أول الباب منقطع فيما بين البخاري وقد وافقه على تضعيف أحاديث الباب من سيأتي قريبًا قال الحافظ في الفتح: وأخطأ في ذلك - يعنى في دعوى الانقطاع - من وجوه والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح , والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر الحديث في موضوع آخر من كتابه، وأطال الكلام في ذلك بما يكفي اهـ كلام الشوكاني ومنه تعلم أن الحافظ ابن حجر والشوكاني يعترفان بأنه لم يصح من الأحاديث الواردة في حظر آلات اللهو إلا الحديث الأول مما أوردنا ويقولان: لا بأس بانقطاع سنده هنا وقد علمت أنه ليس فيه إلا لفظ (المعازف) وعرفت معناه وأنه يشمل الدف الذى سمعه النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) هو حديث الجارية التى نذرت الضرب بالدف وتقدم في أحاديث الإباحة.(9/35)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحق والباطل والقوة
{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} (سبأ: 49) ، {وَقُلْ جَاءَ
الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81) {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ
عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء:18) .
مضت السنة في المغلوبين على أمرهم، المقهورين في أرضهم أن يعتذروا
عن أنفسهم بدعوى أن القوة هي التي غلبتهم على حقهم، وأنهم غير مذنبين ولا
مقصرين، ولا مسرفين ولا مضيعين، وجرت عادة الغالبين على أمرهم،
والقاهرين في حكمهم أن يحتجوا لأنفسهم بأنهم أصحاب الحق الذى يعلو ولا يُعلى
وأن الحق هو الذى جعل كلمته العليا وكلمة أعدائهم السفلى، وقد يعتور الأمة
الواحدة القوة والضعف والعز والذل فتدعي في طور قوتها وعزها أنها اعتزت
بالحق وغلبت، وفي طور الضعف والذل أنها أُخذت بالقوة فقهرت، وأنها حليفة
الحق في الطورين، لم تتعدَّ حدوده في حال من الحالين، وتلك سنة الله تعالى في
الأفراد أيضًا يدعي الرجل الحق لنفسه ما ظفر، ويعتذر عنها بالقوة إذا هو غلب
وقهر، وهذا الغرور من الإنسان قد أضله عن طريق الحق حتى لا يكاد يفهم معنى
كلمة (الحق) ومدلولها الصحيح. وما نقل إلينا قول عن غالب يتعزز فيه بالقوة
على الحق إلا تلك الكلمة المأثورة عن بِسْمَرْك: (القوة تغلب الحق) وقد أرسلها
مثلاً، وهي لا تصح إلا تأويلاً وجدلاً، ولو غُلب الحق لما كان حقًّا. والحق أن
الحق قد يخفى، وقد يُترك ويُنسى، ولكن ما صارع الباطلَ إلا صرعه، ولا قارعه
إلا وقرعه، (وإنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه) ، والقوة إنما تظفر إذا كانت
شعبة منه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الحق عبارة عن الشيء أو الأمر الثابت المتحقق في الواقع , والباطل هو ما
لا ثبوت أو لا تحقق له في نفسه , وما لا ثبوت له ولا تحقق لا يَمْحَق ما كان ثابتًا
متحققًا كما هو الشأن في الموجود والمعلوم والموهوم، وهذا مما لا مجال فيه
لاختلاف العقلاء. إنْ يختلفون إلا في الحقوق العرفية والوضعية، والدينية
والشرعية، وما تحكم فيه الشرائع من الأمور الاجتماعية، وفي كل ذلك حق
وباطل لا يتنازعان إلا ويكون الحق هو الغالب والباطل هو المغلوب , وإننا نبين
ذلك , ونذكر مواضع غلط الناس فيه ومناشئ شبهاتهم، فنقول: إن الحق والباطل
يتنازعان في خمسة أمور كلية وهي:
(1) الفلسفة والنظريات العقلية.
(2) الوجود والسنن الكونية.
(3) السنن الاجتماعية.
(4) القوانين والمواضعات العرفية.
(5) الدين والشريعة الإلهية.
الفلسفة والنظريات العقلية:
اختلف الناس في الفلسفة والمسائل النظرية في القديم والحديث، ومنهم المحق
والمبطل , فيقول من يظن أن الباطل يغلب الحق: إن كثيرًا من الآراء الباطلة في
ذلك كانت رائجة لا ينازع فيها أحد، وكثير منها كان موضوع النزاع , وكان أكثر
الباحثين فيه على الباطل، ولا يزال يظهر للعلماء في كل زمان وكل جيل خطأ
كثير من السابقين والمعاصرين، فيظهر بذلك أن الباطل كان هو الغالب فإن كنت
تقول: لا عبرة إلا بغلب دائم فإنك لا تقدر أن تثبت الدوام لحق ولا لباطل، فيكفي
في إثبات قوة الباطل وظهوره على الحق أن يظهر عليه زمنًا طويلاً، ودفع هذا
الظن سهل، وإن كنا نعترف بأن الحق والباطل في الآراء النظرية والفلسفية من
أخفى الأمور وأوغلها في الإبهام؛ ذلك أن التنازع بين الحق والباطل لا يتحقق هنا
ما دام كل من المتناظرين في المسألة يجادل بالنظريات ولم ينتهِ بدلائله إلى إحدى
اليقينيات التي لا نزاع فيها. وبيان ذلك أن المسألة ما دامت نظرية من الجانبين
فالتنازع إنما يكون من بين الدليلين لا بين المدلولين، والحق في الدليل هو إفادة
اليقين فما دام نظريًّا فهو غير حق إنما هو موقوف أو باطل يعارض مثله، فإذا انتهى
أحد المتناظرين إلى اليقين البديهي في المسألة فهو صاحب الحق وهو الغالب سواء
أذعن له مناظره أو كابره. وما كان الغَلَب والسلطان لتلك المسائل النظرية الباطلة
في الفلسفة العليا وغير العليا ذلك الزمن الطويل إلا لأن الحق فيها كان خفيًا أو غير
معروف لأهلها. بل نقول: إن في طرق الاستدلال نفسها حقًا وباطلاً فالحق هو ما
وافق شروط القياس المنطقي وأعني بكونه حقًّا أن النفس فطرت على الانتقال من
المقدمات المترتبة على ذلك النحو من الترتيب المعروف في أشكال القياس إلى
المطالب التي هي النتائج فإذا كانت المقدمات مسلّمة فلا مندوحة للنفس عن التسليم
بالنتيجة. وقد يكون صاحب الدعوى الحق غير قادر على نظم الدليل الحق مع كون
الدعوى نفسها غير بديهية فإذا غلب مناظره المبطل في الدعوى حينئذ فلا بد أن
يكون أقرب منه إلى الحق من طريق الاستدلال وأن يكون قد أقنعه ببعض المقدمات
الباطلة وفي هذه الحال يكون مبطلاً ومن ناحية الباطل قد أخذ - وهو ما سلمه من
المقدمات - لا من ناحية الحق وهو أصل الدعوى التي نطق بها على غير بينة
وبغير بينة.
ولو شئت لجئت في هذا الأصل بالأمثلة والشواهد التي تجليه أكمل التجلي
ولكن القصد بهذا المقال إلى غيره مما نرى الناس مصرين على الخطأ فيه وفي
خطأهم الضلال البعيد والخسران العظيم.
الوجود وسنن الكون:
كلُّ وجودٍ حق، والعدم باطل لا حقيقة له، وكل نظام في الطبيعة والخليقة فهو
حق، والخلل فيها باطل لا تحقق له، والخلل الصوري الذى يعبر عنه علماء الكون
بفلتات الطبيعة له سنن خفية أي نواميس لم يطلعوا عليها وهم يتوقعون اكتشافها
ويرجونه {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُت} (الملك: 3) ، {الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (السجدة: 7) ولا تنازع بين الوجود والعدم ولا بين النظام
والخلل، وإنما يقع التنازع بين الناس في فهم ذلك والعلم به، فمن كان أعلم بالوجود
والنظام كان أعلم بالحق وأقرب إلى الحق وكانت له الغلبة بالحق. وهذا ظاهر في
نفسه، وسيادةُ العَالِمِينَ بحقائق الوجود وسنن الله في الكائنات على الجاهلين بها
مشاهَدةٌ لا ينكرها المسودون المغلوبون بجهلهم وباطلهم، وإن كانوا يجهلون أن علم
من سادوهم هو الحق وأنه سبب لسيادتهم، وأنهم هم بجهلهم على باطل وبه كانوا
مغلوبين على أمرهم، ومقهورين في أرضهم وديارهم، وأن منهم المسلمين الذين
يقول كتابهم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (يونس:
5) ويقول: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ
وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (الجاثية: 22) ، وفي معناهما آيات، ولا ترى شعبًا إسلاميًّا
يعتقد بأن سعة العلم بالسموات والأرض من الحق الذي تعتز به الأمم، وإن جهلت
الأمة وهلكت فقد جزيت بما كسبت، وظَلمت نفسها وما ظُلمت.
السنن الاجتماعية:
للكون سنن في تكوّن الأحجار الكريمة وغير الكريمة كالصخور وفي نمو
النبات وحياة الحيوان وفي اجتماع الأجسام وافتراقها وتحللها وتركبها، وهي ما
عنيناه بالأصل الثاني. وللبشر سنن خاصة بهم في حياتهم الاجتماعية عليها يسيرون
وفيها يتقلبون فقوتهم وضعفهم وغناهم وفقرهم وعزهم وذلهم وسيادتهم وعبوديتهم
وحياتهم وموتهم كل ذلك غاية لاتباع سنن الله في السير على أحد الطريقين المشار
إليهما بقوله تعالى في الإنسان: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: 10) فهذه السنن
حق وتجنبها خروج عنه إلى الباطل. وما زال العارفون بسنن الله تعالى في الأمم
هم الآخذين بأطراف السعادة من أمم ينتصرون على الجاهلين بها من المبطلين من
حيث هم مبطلون وهو ما به الاختلاف وإن كان الغالب القاهر مبطلاً في شيء آخر
والمغلوب محق في مخالفته له فيه.
لم يعرف كتاب قبل القرآن نطق بأن للأمم في قوتها وضعفها وحياتها وموتها
سننًا ثابتة لا تتبدل ولا تتحول كقوله في سورة الأنفال: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن
يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} (الأنفال: 38)
أي فإنه يحل بهم ما حل بمن قبلهم ممن عاند الحق وقاومه. وقوله في سياق الكلام
على الأنبياء وأحوال الأمم في سورة الحجر: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} (الحجر
: 13) وقوله في سياق الكلام في بذل المال والحرب {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ
فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137) ،
وفي الآية الثالثة بعدها: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس ... } (آل عمران: 140) الآيات.
فهذه الآيات البينات حق، وما ترشد إليه من سنن الاجتماع حق، فالجهل
بسنن الاجتماع باطل، وترك الاعتبار بها في شؤون الأمم باطل، فهل وُجِدَتْ أمة على سطح هذه الأرض عرفت هذه السنن وسارت عليها ثم قاومتها أمة أخرى تجهلها
أو لا تعتبر ولا تهتدي بما عساها تعرف منها ثم كانت الجاهلة الضالة هى الغالبة
فيقال: إن الباطل قد يغلب الحق؟ كلا، ما كان ذلك ولن يكون ومن العجائب
والعجائب جمة أن يكون المسلمون في هذا العصر أجهل الأمم كلها بسنن الله تعالى في
البشر حتى إن من يدعوهم إلى تعلمها وتعلم مصادرها وهي تواريخ الأمم يعده رجال
الدين منهم جانيًا على الدين صادًّا عنه لا سيما إذا كانت دعوته موجهة إلى
طلاب علوم الدين في مثل مدرسة الأزهر!! ، فأين هذا الدين الذي يعد العرفان
بسنن الاجتماع صدًّا عنه وجناية عليه من القرآن الذي هو أول كتاب أرشد إلى
هذه السنن؟! وإذا غلبت كل أمة مهدية بهذه السنن في كسبها وعملها وسياستها
وحروبها على الأمة الجاهلة بها الضالة عنها وسادت عليها فهل يصح أن يقال:
إن الباطل قد غلب الحق؛ لأن دين المسلمين هو الحق وأديان الغالبين عليهم هي
الباطلة؟ كلا إن كل مغلوب فهو بسبب الباطل قد غُلِبَ، وكل غالب فهو بسنن الحق
قد غلب، أينصرون ويسودون , وهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون ,
وحكامهم يظلمون ولا يعدلون؟! , والله تعالى يقول في بيان سننه الحق: {فَلَوْلاَ
كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ
أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ
لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 116-117) فسروا الظلم ههنا
بالشرك، والمعنى أن الله تعالى لا يهلك الأمم بسبب الشرك إذا كانت مُصلحة في
الأعمال ولكن يهلك المفسدين الذين لا ينهون عن الفساد لا سيما إذا كان منبعه
أمراؤهم وملوكهم، أو المعنى ما كان ليهلكها بظلم منه؛ لأنه منزه عن الظلم وهي لا
تستحق الإهلاك؛ لأنها مُصلحة في العدل والعمران.
القوانين والمواضعات العرفية:
لكل أمة من أمم الحضارة قوانين تسوس بها بلادها، ولكل قبيلة من القبائل
البدوية عُرف ومواضعات ترجع إليها في شؤونها الاجتماعية، وللدول قوانين في
الحقوق العامة والمصالح الخاصة، فهذه القوانين والمواضعات حقوق عرفية فالآخذ
بشيء من هذه الحقوق يكون هو الغالب لتاركها مادامت الأمة والدولة أو الدول التي
جعلت القانون حقًّا في عرفها حاقة له، فإذا رجعت الأمة عن عرفها أو الدولة عن
قانون لها في بلادها أو الدول عن بعض القوانين العامة لم يعد ذلك حقًّا؛ لأن حقيته لم
تكن لذاته وإنما كانت للعرف الذى يكفله أهله الواضعون له وقد زال، مثال ذلك
اعتداء دول أوربا على الممالك المشرقية وافتياتها على حكومات هذه الممالك، تركيا
فما دونها، وقد علم من القوانين العامة أنه ليس لدولة أن تفتات على الأخرى في
إدارتها الداخلية، ولكن أوربا تفتات وتغلب فهنا يظن الجاهل بالفصل بين الحق
والباطل أن الباطل قد غلب الحق بالقوة، ووجه الخطأ في هذا الظن أن هذا الحق
الذى ندعي أن أوربا سلبته من تركيا في مصر أو كريت مثلاً إما أن يكون حقًّا
طبيعيًّا يملك ويحفظ بمقتضى سنن الله في الاجتماع البشري أو حقًّا عرفيًّا يملك
ويحفظ بمقتضى القوانين العامة التي تعترف بها الدول وتكفلها؛ فإن ادعى المدعي
الشق الأول فإننا نمنع دعواه ونقول: إن سنن الاجتماع لا تتبدل ولا تتحول كما
نطق الكتاب العزيز ودلت التجربة والمشاهدة؛ لأن واضعها وحافظها هو العزيز
الحكيم وهي تنيط الغلبة ودوام السيادة بالعدل والعلم بالسنن والإصلاح في الأرض
والمنعة والتقوى والاستعداد للحماية بالقوة وأعظم القوة فيها قوة الأمة المستقلة
العارفة بحقوقها ثم القوة الآلية وذلك غير متحقق في تركيا كأوربا فلا حق طبيعي
هناك.
وأما الحق العرفي فقد قلنا: إنه ليس حقًّا ذاتيًّا وإنما هو حق ما كفله واضعوه
المعترِفون به وقد اتفقت الدول الكافلة للقوانين العامة على أن لا تعامل دول الشرق
بما تتعامل هي به وأن تفتات عليها بحكمة حتى لا يفضي الافتيات إلى الحرب،
التي يخسر فيها الغالب والمغلوب، فتبين بهذا أن الباطل لم يغلب الحق في هذه
المسألة بل الحق هو الغالب كما أخبر الله تعالى، وذلك أن دول أوربا الغالبة عارفة
بسنن الكون وسنن الاجتماع ومهتدية بها وهي الحق وبها الغلب والسلطان، كما
تقدم البيان مؤيدًا بالقرآن، فإن قيل: إن أوربا تظلم في البلاد التى تفتات فيها قلنا:
نعم ولكن ظلمها دون ظلم حكام البلاد المفتات عليهم فباطلها أقل وعدلها أكثر فحقها
أكبر وهكذا غلب الحق الباطل ولكن أكثر الناس لا يعلمون! .
ومن هذا القبيل غلب ألمانيا وانتصارها على فرنسا فإن سببه العلم بسنن
الكون وسنن الاجتماع والعمل به ولذلك قال بسمرك: (غلبنا بالمدرسة) وقوله هذا
حق وأما قوله: (القوة تغلب الحق) فقد لبّس فيه الحق بالباطل فالقوة الباطلة لا
تغلب الحق لكن القوة الطبيعية الاجتماعية تغلب الحق العرفي وحينئذ يكون الحق قد
غلب حقًّا أضعف منه في الظاهر بل هو لم يغلب إلا الباطل.
يقول الظانون في الحق غير الحق: إن القضاة بظلمهم ووكلاء الدعاوي
بِحِيَلِهِمْ وخَتَلِهِمْ كثيرًا ما يؤيدون المبطل في دعواه حتى يكون له الفلج والظفر،
ونقول: إن هذا القول صحيح ولكنه لا يفيد المطلوب فإن تأييد الباطل إذا كان من
الحكام فلا قانون ولا شريعة وإنما هو الهوى والظلم يتحكمان وهما من الباطل الذي
لا يغلبه إلا حق من جنسه وهو السلطة العادلة فإذا تنازعت سلطة عدل مع سلطة
ظلم وغلبت الثانية الأولى تكون المعارضة صحيحة وأما الدعوى فليست من جنس
السلطة فيقال: إنه يجب أن يغلب حق الأولى على باطل الثانية، وإن كان الحاكم
عادلاً والخصم المبطل أو وكيله المحامي عنه ألحن بحجته وأقدر على البيان من
الخصم المحق أو وكيله فالتغالب إذًا بين الحجة والحجة ولم تنس ما قلناه فيها عند
الكلام في الفلسفة والنظريات والعقلية.
إن الإنسان يظلم والظلم من الباطل حتى قيل: إن الظلم طبيعي في البشر
ومنه قولهم: الظلم كمين في النفس، القدرة تظهره والعجز يخفيه، وقال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم
وهذا قول بأن الإنسان جبل على الباطل وهو على ظهور شبهته غير صحيح
وإنما الصحيح هو ما قاله الخالق الحكيم في السورة الخامسة والتسعين، وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم
] وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ
غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [ (التين:1-8) .
أكد لنا القول عز وجل بأنه خلق الإنسان في أحسن تقويم؛ إذ أقسم على ذلك
بما ذكَّرنا بعهد الفطرة ومعاهد ظهور الشريعة ذلك أنه خلقه وجعل له من الحواس ما
يدرك به ما يحتاج إلى إدراكه في حفظ نفسه وتوفير منافعها ودفع المضار عنها
ومن العقل ما يميز به بين المدركات الحسية فيعرف صوابها وخطأها وما يحكم به
على هذه المشاعر المدركة فيوجهها إلى الاشتغال بالأنفع والأصلح فهو مجبول على
أن يختار ما هو أنفع وأصلح، ولكنه لما خلق مدنيًّا مستعدًا للكمال الشخصي
والنوعي بالعمل التدريجي والتعاون. والعمل لا يكون إلا بعلم , والعلم لا يكون إلا
بالكسب؛ كان هذا الإنسان عرضة للجهل بوجوه المصالح والمفاسد والمنافع
والمضار سواء كانت للأفراد وللأمم والشعوب، والجهل من الباطل وبه رد الإنسان
بدخوله في طور الحياة الاجتماعية إلى أسفل سافلين فكان أفراده وجماعاته يجنون
على أنفسهم ويظلمونها من حيث يظنون أنهم ينفعونها ويؤيدون حقوقها ففطرتهم
تطلب الحق الذى فيه المصلحة والمنفعة وعقولهم تخطئ في تحديده فتقع في الباطل
فكانوا محتاجين إلى مساعدة للفطرة وللعقل يحدد لهما الحقوق النافعة ويميزها من
الأباطيل الضارة، وذلك هو الدين الذى نفثه روح الحق في روع كل واحد من أولئك
الشارعين الذين ظهروا في معاهد منبت التين والزيتون وطور سِينِين وفي ذلك البلد
الأمين (مكة المكرمة) وغيرها فصلح بها أمر الناس وساد الحق على الباطل ما
كانوا يهتدون بتلك الشرائع إيمانًا وعملاً صالحًا كما قال عز وجل.
فالباطل ليس من منزع الإنسان بطبعه ولكنه من العوارض اللازمة له من حيث
هو مريد مختار في علمه وعمله كاسب لهما بالتدريج. ولذلك أجمع العلماء في هذا
العصر على سنة من سنن الاجتماع التي جاء بها القرآن في شأن الحق والباطل وهي
ما يعبرون عنه بالانتخاب الطبيعي وقد بيَّنها الله تعالى بقوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة: 251) ، وقوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ ... } (الحج: 40)
... إلخ وقوله: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً
وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ
وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ
اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) وبالآيات التي افتتحنا بها هذا المقال. وبمثل
قوله: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49) وقوله - في السحر الذى هو
باطل لا حقيقة له -: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} (يونس: 81- 82) وقوله بعد إرشاد للأمم منه النهي عن الفساد في الأرض بعد
إصلاحها: {وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف: 86) وقوله بعد
بيان أنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 28) .
فاتفاق الحكماء على مضمون هذه الآيات وأمثالها في هذا العصر هو اعتراف
بأن للحق الغلبة والسلطان على الباطل إذا هما وجدا وتنازعا وعلى أن الإنسان
مفطورعلى تغليب الحق على الباطل لولا ما يعرض له من الخطأ في التمييز بينهما،
وإنما يسود الباطل في غيبة الحق أو غفلته عنه.
ذكرت لصديق لي هذا المبحث قبل أن أتم هذا المقال فأخبرني أنه يحفظ عن
الحكيم السيد جمال الدين الأفغاني تمثيلاً في مصارعة الحق للباطل معناه أن الحق
كان يصرع الباطل ويصفعه، فرأى الباطل أن لا طاقة له به فاستشار أعوانه
فأجمعوا أمرهم وهم يمكرون على أن يكيدوا للحق كيدًا فجاءوه يلقون إليه السَّلَم
ويدعونه إلى مأدبة أعدوها له فلما حضر أجلسوه على بساط جميل تحته حفرة
عميقة فوقع في الحفرة فطفقوا يهيلون عليه التراب حتى دفنوه ثم جلسوا فوق الحفرة
لئلا يخرج منها فيبطش بصديقهم الباطل فكان ينتفض بقوته العظيمة يحاول الخروج
وهم يتحاملون بأثقالهم عليها خوفًا منه والباطل يسرح ويمرح آمنًا من رؤية الحق له؛
لأن أولياءه حالوا بينهما ولكن الحق ما عتّم أن انتفض انتفاضة نسف بها أولئك
المتثاقلين وخرج إلى الباطل فأوقع به ودفنه وأراح الناس من شره.
وحاصل التمثيل أن الباطل إنما يسود ويثبت حيث لا يوجد من يقوم بالحق
ويقاومه به , وأن ذلك لا يدوم. فكل دولة أو حكومة ظالمة تخالف قوانين العدالة
في الأرض وتهضم حقوق الرعية فهي إنما تسود بباطلها ما دامت الرعية دافنة
للحق دائسة له فيكون باطل الحكومة غالبًا لباطل الرعية حتى إذا ما انتشر الظلم
وتفشى وذاق آلامه الجماهير فاستصرخوا الحق واستغاثوا به لبَّاهم مسرعًا وصار
على باطل الحكومة الظالمة (فجندله) وربما (جندلها) معه فإذا استماتت الرعية
وأنِست بالظلم فإن سنة الكون تسلط على الحكومة الظالمة حكومة أجنبية عادلة أو
ظالمة تفتك بها وتقلص ظلها ثم يكون بقاء الحكومة الثانية على سنة الله في الحكومة
الأولى {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ
اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) .
الدين والشريعة الإلهية:
ما قلناه آنفًا يثبت أن الدين في جملته حاجة طبيعية للبشر وإن كانت أحكامه
التفصيلية مما يجري فيه اختيارهم فهم يحكمون فيها عقولهم وأفكارهم ويتبعون فيها
قاعدة الأصلح والأنفع لهم. فالحق والباطل يجريان في الدين من وجهين:
(أحدهما) كون عقائده صحيحة معقولة في نفسها وأحكامه في العبادات
والآداب موافقة للفطرة في تقويم الملكات وتهذيب الأخلاق وتوثيق الروابط وشد
الأواخي بين الناس وأحكامه في القضاء والسياسة والإدارة موافقة لسنن الاجتماع
وقواعد العدل، أو كونها ليست كذلك.
(وثانيهما) كون عقائده راسخة في عقول الأمة مؤثرة في قلوبها، وآدابه
حاكمة في شعورها ووجدانها، وأحكامه محترمة عند أمرائها وجمهورها، أو كونها
ليست كذلك. فالدين سنة من سنن الاجتماع الكبرى وهو حق في الواقع أو باطل
مؤيد بحق إجماعي هو وحدة الأمة في الاعتقاد والعمل ولأهله الغلب والسلطان على
من ينازعهم فيه ويحاول إبطاله أو إرجاعهم عنه من المعطلين؛ لأنه إما أن يجمع
نوعي القوة في سنن الاجتماع وفي القوانين والمواضعات العرفية التي تسنها الأمم
لأنفسها وتعتقد أن فيه خيرها وحفظ حقوقها كما تقدم وإما أن ينفرد بالثانية. وما
اجتمع فيه الحقان يسود على ما اتفق له أحدهما فقط كما ساد الإسلام في أول نشأته
على سائر الأديان لأنه حق من كل وجه والأمة متحدة فيه.
والتاريخ يؤيد ما نطق به الكتاب في ذلك بقوله: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) وقوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) ولكن هذا النصر خاص بالمؤمنين حقيقةً لا ادعاءً أو جنسيةً كما
قال في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
* وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} (محمد: 7-8) وقال عز وجل:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ... } (النور: 55) - إلى قوله: { ... وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ
هُمُ الفَاسِقُون} (النور: 55) وقد فسروا الكفر هنا بكفر النعمة كالظلم والبغي
والإفساد في الأرض.
ونقول: إن عمل الصالحات - الذي قيد الوعد بالنصر - يشتمل مثل قوله تعالى
في وصف المؤمنين من سورة الشورى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ
يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى
الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن
صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (الشورى: 38-43) ، ومثل قوله: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ
وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن
تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 135) وقوله: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة:
8) فهو يأمرهم بالقيام بالقسط دائمًا وهو العدل وبالشهادة لله بلا محاباة قريب ولا
غني ولا رحمة فقير مبطل ويأمرهم أن لا يحملنَّهم شنآن قوم أي عداوتهم على ترك
العدل فيهم بل يحتم عليهم العدل حتى مع الذين يعادونهم.
وقد أخبر تعالى في آيات كثيرة بأنه إنما ينصر رسله وعباده المؤمنين الذين
يصلحون في الأرض ولا يفسدون على الظالمين كقوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ
لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} (إبراهيم: 13-14) والآيات في هذا المعنى وهو نصر المصلحين في الأرض
وإهلاك الظالمين والمفسدين - كثيرة جدًّا.
لا يوجد في مقابل هذه الآيات آية واحدة تدل على أن الله ينصر الذين
ينتسبون إلى الإسلام وإن لم يقوموا بالقسط والإصلاح وينهوا عن الظلم والفساد فهل
يجيز هذا الكتاب الحكيم لمدعي الانتماء إليه بالقول دون العمل إذا رأى استيلاء
الأوربيين على بلاد المسلمين والافتيات على حكامهم في سائر بلادهم التى لم يتم
لهم الاستيلاء عليها - أن يقول: إن هؤلاء الأوربيين منهم الملحد ومنهم من يقول
بالتثليت فكيف سادوا بقوتهم على المسلمين، وأهل التوحيد وهو حق اليقين؟ ، كلا
إنه لا يجيز لهم هذا القول بعد ما بيَّن لهم أنه لا يهلك الأمم بالشرك إذا كانوا
مصلحين في الأرض بالعدل وسائرين على سنن الله في العمران ولكنه يهلك الأمم
الظالمة مهما كان اعتقادها كما علمت من الآيات التى أوردناها آنفًا ومثلها كثير.
وأعظم عبرة للمسلم انكسار الصحابة مع داعي الحق الأعظم صلى الله عليه
وسلم في وقعة أُحُد لما خالفوا سنن الاجتماع في الحرب فخالفوا القائد وتركوا حماية
ظهر الجيش وفيها نزل: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ
هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران: 165) فكل من خالف سنن الله الحق يغلب
على أمره بحق حتى يرجع وما أسرع رجوع المؤمن إلى الحق إذا زلّ عنه.
لهذا أقول: إن الوصول إلى الحق اليقين في التوحيد ينافي الإصرار على
الظلم، والتمادي في الفساد والبغي، كما نطق القرآن وشهد العقل، فلو لم يجعل
الإسلام الأعمال الصالحة بعد ترك المفاسد سياجًا للإيمان وعنوانًا له ودليلاً عليه
وشرطًا لاجتناء ثمراته في الدنيا والآخرة لكان العقل وحده كافيًا في الدلالة على أن
الموقن بعقله المذعن بقلبه لعقيدة التوحيد الخالص لا يؤثر هواه ولا هوى الرؤساء
والحكام على رضوان هذا الإله العظيم الحكيم القوي العزيز وإنما رضوانه بالتماس
فضله من سننه في خلقه، والوقوف عند ما حدده من الشكر والعدل في شرعه، فهو
يمضي في تعرّف السنن والأحكام والعمل بها لا يخاف في ذلك وَثْبَات الظالمين
لقوله عز وجل: {فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175)
وقوله بعد ذكر سنته في الأيام: {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140) ،
{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 139) فهل
تنطبق هذه الآيات على قوم يخافون الظالم أن ينهوه عن ظلمه، ولا يخافون الله
تعالى أن يخرجوا عن حكمه، وقد جعلوا دينه جنسية، لا هداية حقيقية، فهم
يرجون سعادة الدنيا والآخرة بالانتساب إليه، أو بالتوسل والدعاء لأشخاص ماتوا
عليه، وهم مختلفون متفرقون، متنازعون متواكلون، جاهلون متكاسلون، لا
يبذلون ولا يتعاونون، ولا ينظرون ولا يتفكرون، {وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم
مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 105-106) ، {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) .
هؤلاء الصادقون هم الموعودون بنصر الله وتأييده: {وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَه} (الحج: 47) فلو صدق المسلمون اليوم ما عاهدوا الله عليه باتخاذ الإسلام دينًا
من العمل بكتابه والاهتداء بسننه في خلقه لما غلبهم أحد على أمرهم فلقد صدقهم
وعده بصدقهم فيما سلف حتى إذا ما فشلوا وتنازعوا في الأمر وعصوه من بعد ما
أرى سلفهم ما يحبون أخذهم بعدله وسلط عليهم من هم أقرب إلى الأخذ بسننه منهم
كما توعدهم بقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) (راجع بحث الاختلاف
والتنازع في باب التفسير من هذا الجزء) .
طال المقام، والمبحث يطلب زيادة بيان لا يمكن الإتيان عليه إلا في مؤلَّف
خاص به؛ لأن المسألة من أبكار المسائل التى لم يخترعها أحد من الكتاب فيما نعلم
والشبهات فيها كثيرة وإنما اهتدينا فيها بهداية القرآن وآياته.
وخلاصة ما أقول في شأن المسلمين مع غيرهم في هذه الأزمنة أن من
يستخرج من القرآن الآيات الناطقة بسنن الله تعالى في أهل السيادة والعزة من
صفاتهم وأعمالهم، والآيات المبينة لسننه في الأمم المستحقة للإهلاك والإذلال،
ويعرض كل ذلك على الأمم الغالبة السائدة والأمم المغلوبة المقهورة يتجلى له صدق
قوله تعالى في سيادة الحق وغلبته وإزهاقه للباطل في كل أمة. وهذا النوع من
أنواع علوم القرآن ينهض وحده حجة على أن ذلك النبي الأمي الذى بعث في تلك
الجاهلية العمياء كان ينطق بوحي من الله ولم يعلِّمه بشر بل خفيت هذه المعارف
العلية عن أفهام أكثر البشر حتى بعد مجيء القرآن بها وإنما صدقها آنًا بعد آن
برؤية آياته تعالى في الآفاق وفي ترقي البشر في أنفسهم كما قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا
فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ} (فصلت: 53) .
فعلى المسلمين أن يعلموا أنهم أُخذوا بذنوبهم، لا بقوةٍ غلبتهم على حقهم،
{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) وأن معظم هذه
الذنوب على عواتق رؤسائهم وكبرائهم، فلا يعذرون باستبدادهم واستعلائهم، وعلى
العقلاء وأهل البصيرة منهم وهم محل الرجاء في كل أمة استعدت للحياة - أن
يعلموا أن ليس لهم إمام يدعون إليه، ويجمعون الكلمة عليه، إلا هذا القرآن الذى لا
يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه، فعليهم أن يجتمعوا لهذه الدعوة وأن
يتناصروا في سبيلها وأن لا ينتظروا نصر الحق من المبطلين، ولا يتوانوا فيها
خوفًا فإن هذا الأمر إذا خرج من أيديهم يوشك أن لا يعود إليهم.
إن الإسلام لا يُنصر في الدنيا بالأماني والأحلام، ولا ينجي في الآخرة
بالخرافات والأوهام، إن أهل الحق لا يُظلمون، إن الظالمين لا يسودون، {فَإِذَا
جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} (غافر: 78) ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} (الأحقاف: 35) ، {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ
الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام: 47) ، وهذه نُذُره تعالى لقوم لا يعدلون، بل هم
بربهم يعدلون، فبادروا أيها المؤمنون الصادقون {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا
وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} (الأنفال: 21) ، ولا تغتروا بدينكم الذي إليه تنتسبون،
ولكنكم به لا تعملون، فلقد أنزل الذكر على مَن قبلكم فسادوا وهم عاملون، {فَلَمَّا
نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم
بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (الأنعام: 44-45) وقد أنذركم ما حل بهم لعلكم تعتبرون: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً
فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً
آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ * لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إلىَ مَا
أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 10-13) ، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا
كُنَّا ظَالِمِينَ} (الأنبياء: 14) ، {فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً
خَامِدِينَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً
لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ
وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 15-18) .
__________(9/52)
الكاتب: أديب متنكر
__________
إجابة سُؤْل
أو نقد شرح ديوان أبي تَمَّام
لأديب متنكِّر
(تأخرت عدة أشهر)
للنقد على العلم فضل يُذكر، ومِنَّة لا تُنكر، فهو الذي يجلو حقائقه، ويميط
عنه شوائبه، بل هو روحه التي تنميه، وتدني قطوفه من يد مجتنيه، وإذا أبيح
النقد في أمة واستحبه أبناؤها، وعُرضت عليه آثار كُتَّابها، كان ذلك قائدًا لها إلى
بحابح المدنية , وآية على حياة العلم فيها، الحياة الطيبة التي تتبعها حياة الاجتماع
وسائر مقومات الحضارة والعمران. وقد بدأ مؤلفو العربية وكتابها يشعرون بفوائد
النقد وما يعود عليهم من ثمراته الشهية فأخذوا يعرضون آثارهم على النقّاد ويطلبون
منهم تمحيصها وبيان صحيحها من فاسدها.
وبالأمس اطَّلعت على ديوان أبي تمام المطبوع حديثًا في بيروت فوجدت
شارحه الفاضل قد اقترح على المشتغلين باللغة نقد ما علَّقه عليه من تفسير غريبه
وحل رموزه , وأبدى من الرغبة في ذلك بحيث عين جائزة لمن عثر فيه على
عشرة أغلاط فأكثر. فأكبرت صنيعه، واستدللت منه على كِبَرِ نفسه، وعلو همته،
وشدة شغفه بخدمة العلم وتقرير الحقيقة، وها أنذا قد أجبت سُؤْله , ووافيت
رغبته في الإشراف على ذلك الشرح ثم نقد ما تبين لي أنه رمى في تفسيره إلى
غير معناه، وحمله على غير ما أراده قائله منه، قال:
(ص2) :
قد كان خطب عاثر فأقاله ... رأي الخليفة كوكب الخلفاء
(العاثر: الساقط , والإقالة: الأخذ باليد) .
حقيقة العثار أن يعثر الرجل بحجر أو بذيله مثلاً فيسقط , وإذا عثر قيل له:
لعًا لك , أي انتعاشًا ونهوضًا. قال في الأساس: ومن المجاز عثر في كلامه
وعثر الزمان به وجدّ عثور اهـ , وعثار زمان المرء وعثار جدّه: كناية عن
تحول حاله ومفاجأة النوائب له. وحقيقة الإقالة فسخ البيع وإبطاله , قال في
الأساس: ومن المجاز أقلته العثرة صفحت عنه. ومجاز الإقالة يستعمل مع مجاز
العثار. فقول شاعرنا: خطب عاثر فأقاله.. إلخ هو من المجاز في الكلمتين , وكما
يقال: زمان عاثر أي سيء يقال: خطب عاثر أي سيء فظيع منكر. ثم قال: إن
رأي الخليفة أقال ذلك الخطب العاثر أي أبطله وفلّ غربه وأزال ضرره عن الناس ,
فالعاثر في البيت ليس المراد منه حقيقته وهي الساقط كما قال الشارح , وإنما
المراد مجازه , كما أن المراد بالإقالة مجازها وتفسير الشارح لها بالأخذ باليد ليس
من حقيقتها ولا مجازها، على أن ذلك التفسير يأتي على البيت من قواعده لأن
الخطب إذا عثر وأخذ الخليفة بيده فقد أنعشه ونشطه , والشاعر يرمي إلى غير هذا.
وقد فسر الشارح الإقالة أيضًا في الصفحة 19 برفع العاثر من سقوطه وهو غير
وجيه لما سمعت.
(ص32)
فسيحوا بأطراف البلاد وارتعوا ... فنا خالد من غير درب لكم درب
(الفناء: عتبة الدار) الفناء: الفسحة تكون أمام الدار أو حواليها أما العتبة
فهي أسكفة الباب السفلى أو العليا. والوصيد: الفناء والعتبة , فإذا قيل: الفناء
هو الوصيد؛ أريد من الوصيد أحد معنييه وهو فسحة الدار لا المعنى الآخر وهو
عتبة بابها.
(ص 59)
نسائلها أي المواطن حلت ... وأيّ بلاد أوطنتها وأيَّت
(أيَّت: أقامت) أيَّت: تأنيث أي الاستفهامية كأنه يقول: وأية بقعة تبوَّأتها
وتكرارها هنا كتكرارها في قول الشاعر * بأي كتاب أم بأية سنة * وورود تأيَّا
بمعنى توقف وتمكث , لا يجيز لنا استعمال أي بمعنى أقام كما لا يجوز لنا أن نقول:
باء بالمكان بمعنى تبوأه , وإنما رسمت تاء أيت هنا مفتوحة مع أن الأصل كتابتها
مربوطة ابتغاء مشاكلة القوافي في مثل (النجات) في قوله:
(وآله وصحبه الثقات ... السالكين سبل النجات)
(ص61)
وأحيا سبيل العدل بعدد ثوره ... وأنهج سبل الجود حين تعفت
(أنهج: قوَّم) أنهج السبيل: أوضحها وأظهرها بعد عفائها واضمحلالها.
وقوَّمها: عدلها بعد اعوجاجها والتوائها.
(ص 61)
به انكشفت عنا الغيابة وانفرت ... جلابيب جور عمَّنا واضمحلت
(انفرت: انقطعت) الفري: القطع , يقال: فريت الأديم أي قطعته ,
وانفرى الأديم: انشق , وإذا أسند إلى مثل الجلابيب فسر بالانكشاف والانحسار
مثلاً. ومثله تفرَّى الليل عن بياض النهار أي انكشف , ومن هذا القبيل جاب
ومعناه قطع كقوله تعالى: {جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} (الفجر: 9) فإذا قيل:
انجابت الظلمة , أو انجاب الظل فُسّرا بانكشفت وتقلص مثلاً.
(ص 64)
إن الهموم الطارقات موهنًا ... منعت جفونك أن تذوق حثاثا
(موهنًا: ضعيفًا) الوهن له معنيان: (1) الضعف (2) بعد ساعة من
الليل أو نحو نصفه , أما الموهن فمعناه الثاني منهما. فإذا قالوا: الموهن الوهن
عنوا بعد ساعة من الليل أو نحو نصفه لا الضعف. والطارقات الملمات ليلاً ,
فالموهن في البيت بالمعنى الثاني.
(ص 66)
من كل رعبوبة تردَّى ... بثوب فينانها الأثيث
(فينانها: المتفنن في نسجه) يطلق الفينان على الرجل الكثير الشعر ,
ويطلق أيضًا على نفس الشعر الكثير الكثيف تشبيهًا له بأفنان الشجرة إذا التفت
وتكاثفت , فالفينان من الفنن وهو الغصن , والشاعر يقول: إن تلك الرعبوبة لبِست
ثوبًا من شعرها الكثيف.
(ص72)
أشلى الزمان عليها كل حادثة ... وفرقة تظلم الدنيا لنازحها
(أشلى: دعا) أشلى إذا عدي إلى مفعول واحد كان بمعنى دعا , وإذا عُدي
إلى مفعولين ثانيهما بحرف الجر (على) كان بمعنى أغرى , فإذا قلت: أشليت
الناقة والكلب أردت دعوتهما , وإذا قلت: أشليت الكلب على الصيد؛ أردت
أغريته عليه. فأشلى في البيت بمعنى أغرى.
(ص100)
في كل يوم فتوح منك واردة ... تكاد تفهمها من حسنها البرد
(البرد: المتبادر أنه جمع بريد وهو ما بين المنزلين) قال في شفاء الغليل
نقلاً عن الفائق: البريد في الأصل البغل , وهي كلمة فارسية وأصلها (بريده دم)
أي محذوف الذنب؛ لأنه يقال: إن دابة البريد كانت كذلك اهـ فعرّبوا (بريده دم)
وخففوها إلى بريد فالبريد كلمة معربة معناها في الأصل: البغل الذي يحمل
الرسائل بين البلاد , وكانوا يقطعون ذنبه ليكون ذلك كالعلامة له , ثم سمي الرسول
الذي يركب البريد بريدًا , ومنه قول بعض العرب: الحُمى بريد الموت والحديث:
(إذا أبردتم إليَّ بريدًا فاجعلوه حسن الوجه حسن الاسم) وسميت أيضًا المسافة التي
يقطعها البريد بالبريد ومنه قولهم * إن البريد من الفراسخ أربع *.. الأبيات , وقد
أراد الشاعر أن الدواب التي تحمل أخبار انتصار الممدوح في غزواته تكاد تفهم ما
حملته وتشعر بحسن وقْعه في النفوس.
(ص101)
حلفت برب البيض تدمى متونها ... ورب القنا المنآد والمتقصّد
(المنآد: المتحرك) أَوِد العود: اعوجَّ , وآوَّده وأوده: حناه وعطفه فتأود ,
وانآد: انحنى وانعطف , والمنآد المنحني والمعوج , فالشاعر يحلف بالرماح
التي بوشر الطعن بها فمنها ما تكسر ومنها ما اعوج وانحنى من شدة الطعن.
(ص101)
إذا ما دعوناه بأجلح أيمن ... دعاه ولم يظلم بأجلح أنكد
(أجلح: شديد مقدام) يقولون: يوم أجلح وأصلع أي شديد , وقالوا: جلّح
على الشيء من باب فرّح أي أقدم عليه إقدامًا شديدًا , وهو ليس بالثلاثي فلا يأتي
منه التفضيل على أفعل. وعليه فأجلح في البيت وصف من الجلح وهو انحسار
الشعر عن مقدم الرأس كالصلع أو أخف منه , يريد الشاعر أن الممدوح الذي فتك
ببابك إن كانت جلحته مباركة علينا ودعوناه لأجل ذلك بأجلح أيمن؛ فهي مشئومة
على بابك , وهو جدير أن يدعوه بأجلح أنكد. ونسبة اليمن والنكد إلى الصلعة
معهود كنسبتهما إلى الوجه والطلعة.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(9/66)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(الحصون الحميدية لمحافظة العقائد الإسلامية)
طبع في هذه السنة كتاب مسمى بهذا الاسم من تأليف الشيخ حسين الجسر
الشهير صاحب الرسالة الحميدية. وطريقة المؤلف في باب الإلهيات هي طريقة
السنوسي التي جرى عليها المتأخرون الذين كتبوا على عقيدة السنوسي الصغرى
وعلى الجوهرة وآخرهم الباجوري فهو يذكر من صفات الله تعالى ما هو سلبي
كالقِدَم والبقاء ومخالفة الحوادث , وما هو وجودي , وما هو في عرفهم واسطة بين
الموجود والمعدوم وهو الوجود. ويعرف الصفات بما عرفوها به , ويذكر لصفات
المعاني من التعلق ما ذكروا حتى قولهم: إن السمع والبصر يتعلقان بجميع
الموجودات.
ولكنه أطال في باب النبوات أكثر مما أطالوا , فذكر أشهر معجزات الأنبياء
واستدل على كل واحدة منها بالدليل المعروف , وهو أنها جائزة عقلاً إذ لا يترتب
على فرض وجودها محال , وكل جائز في العقل فقدرة الله صالحة للتعلق بإيجاده ,
وقد أخبر الصادق أن ذلك وقع فوجب التصديق به , وزاد عليه إيضاحًا وردًا لشُبه
أهل العصر.
ثم إنه يذكر من هذه المعجزات ما جاء به القرآن , وما روي في أحاديث
الآحاد حتى ما لا يرتقي منها إلى درجة الصحة كحديث حبس الشمس أو ردّها
بدعوة نبينا صلى الله عليه وسلم وبدعوة يوشع بن نون عليه السلام. قال: إن
الإيمان بذلك هو الموافق لشأن المسلمين والأسلم لهم في دينهم فنحن نؤمن به
ونصدق.
أقول: إن مسألة رد الشمس له صلى الله عليه وسلم قد ورد في رواية ضعيفة
من أحاديث المعراج , وورد في رواية أقوى منها في مناقب علي كرم الله وجهه ,
وهذه الرواية وثقها الطحاوي في مشكل الآثار , وتبعه القاضي عِيَاض في الشفاء ,
وقد تكلم فيها بعض الحفاظ بل أوردها ابن الجوزي في الموضوعات , وتعقبه في
اللآلئ , وهذا نص الرواية من حديث أسماء بنت عميس: كان رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم يوحى إليه , ورأسه في حجر علي فلم يصلِّ علي العصر حتى
غربت الشمس , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: صليت؟ قال: لا،قال:
(اللهم إن كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس) قالت أسماء:
فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت، رواه الجوزقاني عنها وقال: إنه
حديث مضطرب منكر , وقال ابن الجوزي: موضوع وفضيل بن مرزوق
المذكور في إسناده قال ابن حبان: يروي الموضوعات , ورواه ابن شاهين من غير
طريقه , وفى إسناده أحمد بن محمد بن عقدة رافضي رمي بالكذب، ورواه ابن
مردويه عن أبي هريرة مرفوعًا وفي إسناده داود بن فراهيج مختلف فيه وقد وثقه
قوم.
أقول: وما ورد في حبس الشمس ليوشع ضعيف أيضًا , وهو معارض لهذا ,
فإنه ورد بصيغة الحصر , ولعل غرض شيخنا صاحب الحصون الحميدية من
اختيار التسليم بكل ما ورد من الخوارق للأنبياء وغيرهم وإن لم يتواتر بل وإن لم
يصح سنده في الآحاد عدم فتح باب إنكار الجزئيات لئلا يفضي بقوم إلى إنكار أصل
الخوارق من المعجزات والكرامات. فهو يقول: ما دمنا نؤمن بقدرة الله تعالى على
كل شيء فلا ينبغي لنا أن ننكر شيئًا يُؤْثر عن أصفياء الله تعالى , وإن كان مخالفًا
لسننه فهو واضعها وهو الذي يغيرها إن شاء الله متى شاء على يد من شاء. هذا
رأيه , وإننا نورد عبارته في بيان دفع ما يرد على هذه الخارقة بعد التصريح
بإمكانها قال (ص97) :
(وإن قيل: على فرض تسليم القول بالهيئة الجديدة , وأن الأرض هي التي
تدور؛ لو وقفت الأرض عن حركتها أو انعكست حركتها يلزم أن يبقى ماء البحر
آخذًا بحركة الاستمرار فكان يفيض على اليابسة ويغرق أهلها - قلنا: إن القادر
على إيقاف الأرض أو عكس حركتها هو قادر على سلب حركة الاستمرار من ماء
البحر وجعله تابعًا للأرض في وقوفها وعكس حركتها فلا يفيض حينئذ على اليابسة ,
ولا يلتفت إلى قول بعض الملحدين: إنه ليس من حكمة الخالق تعالى أن يوقف
ذلك الجسم الكبير المبني حركته على ناموس عظيم في الكون وهو ناموس الجاذبية
كما يقول أهل الهيئة الجديدة لأجل غرض واحد من البشر (وهو محمد أو يوشع)
عليهما السلام؛ لأنا نقول: لم يكن ذلك الصنع منه تعالى لأجل مجرد غرض واحد
من البشر، وإنما هو لحكمة بالغة وهي إظهار المعجزة الخارقة للعادة التي ينشأ
عنها اهتداء ألوف من الخلق , ويرجعون بذلك من الكفر الذي يهلك نفوسهم إلى
الإيمان الذي يحييها الحياة الأبدية , وينشأ عنها تثبيت ألوف وتمكينهم بالإيمان ممن
آمنوا قبل ذلك , ويبقى ذكرها ونقلها بين الخلق يتحدث بها الجيل بعد الجيل ,
وينتفع بنقلها من أراد الله تعالى هداه ويتصور بها عظمة قدرته تعالى وعجيب
أعماله. فهذه الحكمة العظيمة توازي في العظمة حصول تلك الخارقة وتفوقها ,
ويليق بها أن تحصل تلك الخارقة لأجلها. على أن ذلك الملحد نظر إلى مجرد
عظمة تلك الخارقة , ولو قابلها بعظمة قدرة الله تعالى لما وجدها شيئًا يُذكر , وهذه
الخارقة وغرض واحد من البشر عند الباري تعالى على حد سواء في أن كلاً منهما
تحت تصرفه ومشيئته , ولا يعظم شيء منهما لدى عظمته , وإن كان في نظرنا
القاصر أننا نجد الفرق بينهما عظيمًا وهما عند الله سيان في الجواز والإمكان.
ثم إنه في بعض الروايات التي نقلت تلك المعجزة ما يفيد أن الرسول طلب
وقوف الشمس أو إعادتها فلا يقال: على فرض تسليم رأي الهيئة الجديدة بدوران
الأرض أنه كان الصواب في حق ذلك الرسول أن يطلب وقوف الأرض أو عكس
حركتها عوضًا عن طلب ذلك في الشمس؛ لأنا نقول على فرض تسليم ذلك فلا
مانع من أن يكون الرسول يعلم حقيقة الأمر , ولكنه طلب ذلك في الشمس بناءً على
الظاهر والجاري في رأي الشعب والمألوف بينهم في الاستعمال والله سبحانه يعلم
المقصود من طلبه , ولا يكون ذلك غلطًا من الرسول , وهكذا نرى أهل الهيئة
الجديدة يجرون في كلامهم على ظاهر ما يبدو لأهل لغتهم ويجري في استعمالهم
فيقولون: طلعت الشمس وغربت وهم يعتقدون وقوفها وحركة الأرض , ولم
نسمعهم يقولون: طلعت الأرض أو وصلت الأرض لمقابلة نور الشمس أو فارقته ,
وكل ذلك منهم على حسب الشائع في الاستعمال , وظاهر ما تعطيه المشاهدة إذا
علمت ما قررناه , واندفعت عنك تلك الشبه بما حررناه , فاعلم أننا معشر المسلمين
آمنا بهذه المعجزة إذ لا مانع يمنع من وقوعها والله قادر على إيجادها معجزة مؤيدة
لرسله الكرام يهدي ويثبت بها الألوف من الأنام) اهـ بحروفه.
ولا يحسبن القارئ أن الأستاذ المؤلف يحكم بأن من أنكر هذه المعجزة كأولئك
الحفاظ الأعلام يعد ملحدًا لتعبيره عن المعترض بلفظ الملحد , فإنه لم يقل أحد من
المسلمين بكفر من ينكر أي حديث من أحاديث الآحاد وإن صح سنده , فكيف
يكفرون من ينكر حديثًا ضعيفًا أو منكرًا باعتراف حفاظ الحديث أنفسهم. وإنما
يكون المنكر ملحدًا إذا كان ينكر قدرة الله تعالى على فعل تلك الخارقة أو أي ممكن
من الممكنات. والمؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعتقد بشيء ثبت
عنه عنده ثم ينكره لعظمته , وإنما أنكر الأئمة كثيرًا من الأحاديث لعلة في رواتها
أو روايتها أو متنها ككونه لا يتفق مع الثابت القطعي فمن أنكر حبس الشمس أو
رجوعها لعلة من ذلك لا يعد ملحدًا ولا مبتدعًا ولا عاصيًا ولا منحرفًا عن سبيل
المسلمين لا سيما إذا لاحظ مع ضعف الرواية أن مثلها مما يشتهر وتتوفر الدواعي
على نقله , فلما لم يروها أهل النقد من المحدثين كالشيخين وأصحاب السنن ومثل
مالك وأحمد ترجح عنده أن من جرح رواتها ولم يقبلها من المحدثين هو المصيب
دون من قبِلها.
ثم إن ما ذكره الأستاذ مؤلف الحصون الحميدية من الحكمة في وقوع هذه
الخارقة لم تؤيده رواية الحديث فيها إذ لم يرد أن كافرًا آمن لأجلها أو ضعيف إيمان
ثبت برؤيتها. ولا شك أن هذه الخارقة هي أعظم الخوارق الكونية التي نُقلت لأنها
إبطال لسنة الله في نظام العالم العلوي والسفلي فهي أعظم من إحياء الميت ومن
انقلاب العصا حية ونحو ذلك، فلو تحدى بها لرجي أن يظهر ما قاله من الحكمة
ولكن لم ينقل راوتها أنه وقع بها التحدي، نعم إن واضع السنن لنظام الكون
باختياره قادر على تبديلها أو تحويلها أو إزالتها إذا وافق ذلك حكمته، ولكن النظام
الثابت بالمشاهدة اليقينية وبالنقل اليقيني الناطق بأن سنن الله لا تتبدل ولا تتحول
وأن الشمس والقمر بحسبان، وأن لا تفاوت في خلق الرحمن، لا يصدق في دعوى
تغييره وتبديله قول فلان عن فلان، في رواية مطعون فيها من المحدثين، فهي لا
تفيد الظن فضلاً عن اليقين.
وإننا نعيد القول بأن مؤلف الحصون الحميدية لم يقصد بفتح باب التوجيه لكل
ما ورد من الخوارق ومن أمور الغيب التي ذكرها في باب السمعيات - وإن لم
يرتقِ الوارد فيها إلى درجة الصحة بل وإن كان قولاً مشهورًا لبعض العلماء لم يرد
فيه شيء عن المعصوم - إلا لأجل حماية القطعي الثابت من آيات الله ومن خبر
الوحي الثابت عن عالم الغيب؛ لئلا ينتقل العاصي ومن أمثاله ممن لا علم لهم
بحقائق الدين من إنكار ما لم يثبت باليقين إلى إنكار ما ثبت به وصار معلومًا من
الدين بالضرورة فيكفر؛ إذ الذي قطع به علماء العقائد أن المؤمن لا يحكم بكفره إلا
إذا جحد شيئًا مجمعًا عليه معلومًا من الدين بالضرورة. والدليل على هذا الجحد إما
القول وإما الفعل الذي ينافيه كالسجود للصنم اختيارًا.
والكتاب يُطلب من المكتبة الأزهرية وثمن النسخة منه أربعة قروش صحيحة.
* * *
(البائنة أو بحث في الدوطة)
الدوطة كلمة إفرنجية مشهورة معروفة المعنى وهي ما يأخذه الرجل من المرأة
التي يتزوجها كما هي عادة الإفرنج ومقلديهم! وقد وضع سليم أفندي عواد رسالة
في هذه المسألة بيَّن فيها أن لفظ (البائنة) العربي يؤدي معنى الكلمة عند الإفرنج،
ثم عرف الدوطة وبين سببها وذكر تاريخها عند اليونان والروم وأحكامها في
قوانين الإفرنج وكيف تملك وتورث، والرسالة تطلب من المؤلف في الإسكندرية.
* * *
(الروايات الشهرية)
هذا اسم لقصص يصدرها يعقوب أفندي الجمال كالمجلات الشهرية، وقيمة
الاشتراك السنوى فيها 50 قرشًا في القطر المصري و20 فرنكًا في غيره. والقصة
تناهز مائة صفحة من الشكل الثالث ونعني بالشكل الثالث ما كان دون المنار وهو
الشكل الثاني. وثمن النسخة الواحدة منها ستة غروش. وهي تطلب من صاحبها
في عزبة الزيتون بضواحي مصر.
* * *
(رواية الملك كورش الفارسي)
قصة أدبية غرامية تاريخية للكاتبة العربية المشهورة (زينب فواز) طبعت
على نفقة أمين أفندي هندية وتطلب منه.
* * *
(الطبيب المصري)
قصة أدبية أخلاقية تاريخية ألفها محمد أفندي الهراوي من عمال نظارة
المعارف، ولم نتمكن من قراءتها ولا قراءة سابقتيها لنبدي فيها رأيًا فاكتفينا
بالتعريف بفضل الكاتبين والمؤلفين والناشرين. وثمن النسخة من هذه القصة ثلاثة
قروش.
* * *
(مجلة المجلات)
عادت مجلة المجلات الشهيرة إلى السفور بعد احتجاب طويل شق على
عاشقي فوائدها، وقد صدر العدد الأول من سنتها الحاضرة (وهي السادسة) في
أول يناير من هذا العام الميلادي مفتتحة برسم الأستاذ الإمام وبترجمة له بعد خطبة
السنة، وفيه كثير من الفوائد العلمية والأدبية والصور فنرجو لها العمر الطويل،
ونثني على صاحبها (محمود بك حسيب) الثناء الجميل والمجلة شهرية يتألف
العدد منها من 64 صفحة وقيمة الاشتراك فيها 80 قرشًا في مصر و25 فرنكًا في
غيرها.
* * *
(الإخاء)
مجلة عمومية أدبية لصاحبها محمود أفندي الكاشف وكانت من قبل جريدة،
وهي مؤلفة من 16 صفحة، وقيمة الاشتراك فيها 50 قرشًا في مصر، و25 فرنكًا
في خارجها فنتمنى لها الثبات ودوام الانتشار والارتقاء.
* * *
(الصالح)
جريدة أسبوعية يصدرها في القاهرة محمد علي بك نصوحي الصيدلي وهي
معتدلة كصاحبها فنتمنى لها الرواج ونرجو لها الثبات.
* * *
(الإرشاد)
جريدة أسبوعية يصدرها في القاهرة الشيخ علي الجرجاوي وقد اشتهرت
بالمدافعة عن الأوقاف فنتمنى لها العمر الطويل والخدمة النافعة.
__________(9/69)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(دعوة الإسلام في اليابان)
كان لما كتبناه في مسألة دعوة اليابان إلى الإسلام تأثير في جميع الأقطار
الإسلامية فقد نقلت ما كتبناه الجرائد الهندية وأضافت إليه ما أضافت.
وكتب إلينا بعض أهل الغيرة من مسلمي الآفاق بالاستحسان والاستعداد لإسعاد
الدعوة إن وجدت، ومن ذلك ما كتب إلينا بعض الفضلاء من سنغافورة وهو:
(قد أسرني ما رأيت بالمنار من ذكر الدعوة إلى الله بالجابان وباطلاعنا على
ما ذكرتم كتبنا لأحد المسلمين في شنغاي (بالصين) ليفيدنا عن الشيخ حسان ,
وأحببنا أن نكاتبه ونمن بما نقدر عليه، فوصلنا منه ما ترونه ضمن هذا بعد
الاطلاع عليه أرجعوه إلينا إن شئتم، وقد أجبناه عسى أن يؤلف لجنة لجمع إعانة
لهذه الغاية فعسى ولعل. ويقال: إن أهل الهند جهزوا عالمًا بخمسة آلاف روبية
ليذهب إلى جابان للدعوة. وقد أطربنا ما ذكرتم في المنار بالعدد الأخير (يعني ج
22) من دعوتكم العلماء للذهاب والأغنياء للمعاونة بالمال، وقبلنا تلك السطور
نيابة عن أنامل سطرتها ولكنا لا نوافقكم في أن (سروات) مصر لا يكتتبون
بالمبالغ الكبيرة، ودليلنا أن القوم يكتتبون سنويًّا لعيد الجلوس ونحوه من الأعياد
الفارغة بمبالغ غير حقيرة مع أن الأمير لا يقرأ تلك القوائم ولو قرأها لم تعلق بذهنه
فضلاً عن أن يثيب على ذلك فمن لا يبخل بالترهات كيف لا يبذل المال في نصرة
الدين، وإقراض أحكم الحاكمين؟ ! فلا نزيدكم توصية بالتكرار. وهنا قد أحب
بعض قراء المنار المشاركة وسيقدمون ما يجتمع وهو وإن كان زهيدًا فأول الغيث
قطر) اهـ. بنصه.
وهذا ما كتب إليه من شنغاي بعبارته، قال الكاتب بعد رسوم الخطاب:
(إحاطة علمكم ما هو محرر بمجلة المنار الإسلامي عن أن رجلاً من الصين
اسمه حسان قد قام بكتابة بعض عبارات في مجلة شوكيما الجبانية يدعو القوم إلى
الديانة الإسلامية (وتطلبوا) الإفادة عن (أدريسه) فلآخر شرحكم فهمناه كما
اطلعنا عليه بالمجلة المذكورة ونشكر غيرتكم الحمية عليه. غير أنه قد تعجبنا من
ذلك لعلمنا بعدم وجود (هكذا) شخص بالصين أهلاً لذلك، ونأسف كما يأسف كل
مسلم غيور بأن تكون أهالي الصين المسلمين محرومين من هكذا رجل وهو أحوج
الناس إليه، ولدى الاستعلام عن الشخص المذكور فهمنا بأنه قد حضر من بضعة
أشهر من بلدة (دلهي) بالهند رجل عالم اسمه بالإنكليزي (سفراي حسين) ولعله
هذا الشخص الذي يعني عنه المنار (حسان) من طرف جمعية إسلامية بالهند لهذه
الغاية إلى الجبان من بعد أن أقام كام يوم هنا طرف أحد الإخوان. وقد فهمنا أنه
توجه إلى الجبان إلى أوزاكا ومنها إلى ناكازاكي حيث أقام بتحرير جملة مقالات في
بعض جرائد الجبان وإلقاء بعض خطب بهذا المعنى، والآن نجهل محل إقامته كما
نجهل (أدريسه) إلا أنه يمكن يحرر له بالاسم المشروح أعلاه بالإنكليزي إلى
يوكاهاما أم ناكازاكي، وغدًا إن شاء الله سنحرر إلى أحد الأصحاب بتلك الأطراف
للاستعلام عن ذلك وإليكم الحقيقة بعد هذا.
أما حالة الجبان الدينية فهي كما كتب محرر المجلة المذكورة ولم يزالوا تائهين
حائرين على دين يعتقدوه (وإن يكن منهم صار الحظ الأوفر مسيحية) ونعرف
منهم اثنين قد اعتنقوا الدين الإسلامي ولا قدروا يفهموا منه إلا أسماءهم حيث قد
صاروا بأسماء جديدة أحدهم إبراهيم والثاني إسماعيل. ونعهد أن منهم جملة قد
صاروا يهودًا. والحقيقة الآن فرصة ثمينة جدًّا وثواب عظيم. ولكن يحتاج هذا
لرجل عظيم فيلسوف غيور مستعد ليس بعلم الفقه فقط.. على مذهب الشافعي..
وحضرتكم أعلم.
أما حالة الصين فلا ننكر وجود جملة إسلام يعد بالملايين ومنهم العلماء
الأعلام، ويوجد عندهم المدارس العالية الداخلية حيث يوجد بهم ألوف من طلبة
العلم أخصه في البلاد الداخلية حيث أعلم الإسلام بهم نظير كيانسو شانسي.
وهونان ولكن من الصعب وجود شخص بالاستعداد الكافي والغيرة لما ذكر.
ربنا اهدنا ووفق وألِّف بين قلوبنا إنك سميع مجيب.. اهـ. بحروفه ونقطه
إلا اسم العالم الهندي فقد رسمناه بحروف عربية وظاهر أنه يريد بالجبان اليابان
وبالأدريس (العنوان) .
وكنا قبل هذا قرأنا في جريدة (وكيل) الهندية الغراء ما ترجمته:
(حضر من أعيان الهند وعلمائها الأعلام (سرفواز حسين) إلى مدينة نجاساكي
اليابانية في 11 ديسمبر 1905 وفي 18 منه دخل إلى أحد معابدها المسمى
(جوسوجي) وألقى خطبة شائقة باللغة الإنكليزية موضوعها (التوحيد الإسلامي
ونبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم) ، وكان عدد الحاضرين يبلغ زهاء أربع
مائة من يابانيين وأوربيين، ودام في خطبته ساعتين، وكان من الحاضرين اللادي
مس ريندلف كود الأمريكانية، وكانوا يسمعون بكل انتباه وإصغاء. وفي اليوم
التالي ليوم إلقاء الخطبة كتبت عنها الجرائد الإنكليزية واليابانية مقرظة إياها أحسن
تقريظ وقد جاء كثيرون ليسألوا العالم الهندي بارتياح ومسرة عن التوحيد والنبوة
وبعد عشرة أيام برحها إلى مدينة كوبي ومنها إلى طوكيو) اهـ.
(المنار)
نقول: إن مصدر خبر الشيخ حسان الصيني هو الجرائد العثمانية ولا ندري
من أين أخذته. ولا فرق عندنا بين أن يكون الداعي للإسلام هنالك صينيًّا أو هنديًّا
لأن الملة واحدة، ولكن نرجو أن يكون هنديًّا لأن أهل الهند أعلم بها من أهل
الصين ومَن لنا بمَن يترجم لنا خطبة أخينا سرفواز حسين لعلنا نجد فيها ما يطمئن
له القلب من ناحية هذا الداعي الأول للإسلام في تلك البلاد. ولا يشك عاقل في أن
هذا العمل الجليل لا يكفي للقيام به عالم واحد مهما اتسعت دائرة علمه، ونفذت
أشعة عقله وفهمه، فلا بد للمسلمين من جمعية للدعاة يكون لها مدرسة لتربيتهم
وتعليمهم وصندوق غني للنفقة عليهم. ولكن هل بلغ استعداد المسلمين الديني
والاجتماعي في جميع الممالك إلى أن ينهضوا بجمعية واحدة كأصغر جمعية من
جمعيات المبشرين عند النصارى؟ ! .
يظن صاحبنا الذي كتب إلينا من سنغافورة أن المصريين وحدهم يضطلعون
بهذا العمل وهو قليل على كرمهم، ولكنه أيد ظنه بقياس الجد على الهزل ولا أزيد
على هذا شيئًا في الكلام على قياسه وأقول له: إن لي في المصريين لأملاً ما،
ولكني أعتقد أن هذا العمل لا يتم إلا إذا تضافر المسلمون في كل الأقطار عليه.
ويرجى بعد أن تبدو ثمراته بسعي أصحاب الهمم العالية والغيرة الصادقة أن تصير
الثقة به عامة وأن توقف عليه الأوقاف العظيمة فإن حب الخير وبذل المال في
سبيل الله لم يُمْحَ من نفوس المسلمين، ولكن الأغنياء منهم صاروا طبقات فمنهم مَن
عبد المال من دون الله لا يسمح بقليل منه ولا كثير وهؤلاء قد فسدت فطرتهم فلا
رجاء فيهم! ، ومنهم من لا هَم له إلا الإسراف والتبذير في سبل الشهوات واللذات
والفخفخة والزهو والخيلاء وأكثر هؤلاء من عبيد الشهوات الذين لم يبقَ للدين
بصيص من النور في قلوبهم. وقد يوجد فيهم من تُرجى أوبته، وتحسن خاتمته،
ومنهم من يحب عمل الخير ولكن يضعه في غير موضعه لجهله بما يُرضي الله
وينفع الناس فيبني مسجدًا حيث تكثر المساجد فيزيد المسلمين تفريقًا أو يوقف وقفًا
على ضريح بعض المشهورين بالصلاح، ومنهم من يميز بين الضار والنافع ولكنه
ضعيف لا يقدر على العمل بنفسه ولا يثق بالعاملين وإن كانوا قادرين، وإنما
الرجاء بمثل هذا بعد ظهور ثمرة العمل. وأما الغني السخي العاقل الشجاع الذي
يرجى للشروع في الأعمال العظيمة فقليل، وهو المرجو لهذا المشروع الجليل.
* * *
(منار السنة التاسعة - تنبيهات)
(1) إننا سنزيد مادة التفسير في الأجزاء الآتية , ويرى القراء أننا نراعي
في كتابة الآيات الكريمة المشكولة رسم المصحف العثماني اتباعًا لسلفنا وحفظًا لما
كانوا عليه في صدر الإسلام. ولكننا عندما نذكر هذه الآيات في أثناء التفسير نوافق
جميع كتب التفسير المطبوعة في جعْلها على قواعد الرسم المتبعة لأنها تكتب غير
مشكولة فيخشى أن يحرف قراءتها غير الماهر في التلاوة , وقد نبهنا في هامش
الصفحة الأولى من التفسير على اكتفائنا بعدّ المصحف المطبوع في الأستانة للآيات
الكريمة. وقد تحرينا في هذه السنة الإشارة إلى السور وعدد الآيات في جميع ما
يذكر في المنار من القرآن المجيد , ونفصل بين عدد السور وعدد الآية بنقطتين
هكذا (9: 25) والمراد بهذا المثال السورة التاسعة والآية الخامسة والعشرون منها
ومن كان عنده المصحف الذي طبعه فلوجل الألماني وراجع عدد الآية فرأى غيرها
فلينظر قبلها أو بعدها بآيات قليلة يجدها لأن الفرق في مواضع الاختلاف قليل.
(2) قد جعلنا باب المقالات في هذا الجزء بعد باب الفتاوى , ولكننا
سنجعله في الأجزاء الآتية بعده.
(3) لا يقبل الاشتراك في المنار إلا من أول السنة الهجرية أو من أول
رجب منها , ومَن قبِل الجزء الأول عُد مشتركًا إلى آخر السنة ولزمه أداء قيمتها
كاملة. وهذا الشرط يلتزمه من يفي بالعقود والشروط التي رضي بها وإن كان لا
يبالي بها من لا قيمة لنفسه عنده , وحسبنا أننا نعامل أهل الفضل والشرف ومن شذ
فأخلف ظننا فحسبه أن يكون حسن الظن فيه كاذبًا.
(4) نرجو من أهل الوفاء والفضل الذين لم يوفوا إلى الآن أن يرسلوا إلينا
القيمة المتأخرة عندهم حوالة على مكتب البريد في مصر القاهرة أو على بعض
التجار أو المصارف (البنوك) ونُعلم مشتركي سنغافوره وجاوه والهند أن قيمة
الروبية الورق (بنك نوط) في مصر ستة قروش مصرية , فالعشر الروبيات
تنقص عن قيمة الاشتراك زيادة عن فرنكين , فلعلهم يكفون عن إرسال هذه الأوراق.
(5) إننا نريد أن نطبع عنوانات المشتركين في القطر التونسي وسائر
الأقطار , فمن كان في عنوانه غلط فليصححه لنا لنطبعه على الصواب , ونرجو
المبادرة إلى ذلك. وقد حظرنا على التونسيين في الجزء الماضي أن يدفعوا شيئًا
من قيمة الاشتراك بعد وصوله إليهم إلى المحصِّل الذي أقامه وكيل المنار في تونس
واسم هذا المحصل (أحمد أبو خطيوه) فقد كتبنا إليه نسأله عن التحصيل وعن
الوكيل الفاضل النبيل فلم يحر جوابًا ولعل له عذراً يظهر عن قريب. فنرجو من
فضلهم إرسال القيمة حوالة على البريد بمصر.
(6) عزمنا على أن ننشر في الأجزاء الآتية نبذًا من المباحث الأدبية
منظومها ومنثورها , ونذكر في الجزء الآتي كلامًا في المغرب الأقصى ومسألة
العقبة وما شاع من سلطان الجن والشياطين على بعض علماء الأزهر وغير ذلك
من العبر.
(7) كنا نرسل المنار إلى كل طالب ونحسن الظن فيه فخاب ظننا بكثير
حتى من أصحاب الألقاب الضخمة , وقد بدا لنا في ذلك فلا نرسل المنار في هذا
العام إلا لمن يرسل قيمة الاشتراك مع الطلب إلا أن يكون الطالب لنفسه أو لغيره
من أصدقائنا الموثوق بهم.
* * *
(عمال المطابع وأخلاق العامة)
أفادنا علم الأخلاق أن العمدة في ردع الناس عن الشر وتوجيههم إلى الخير
هو الوازع النفسي , ويقول فلاسفة هذا العلم: إن هذا الوازع يتمكن في النفس
بالاعتقاد الديني وبتربية وجدان الشرف في النفس في أمة تعرف الشرف الحقيقي
وتحتقر من يتلوث بالخسة والدناءة. وأما عقوبة الأحكام فقد وضعت لأهل الشذوذ
لا لتربية العامة. فمن عرف هذا وعرف حال التربية في مثل هذه البلاد لم يتعجب
من تألم الناس هنا من الصناع والخدم وتجاوبهم بالشكوى منهم فإنهم محرومون من
آداب الدين ومن شعور الشرف إلا من شذ , وإن أكبر خدمة تقوم بها الجمعية
الخيرية الإسلامية لهذه البلاد هي تربية أولاد الفقراء تربية دينية يرجى بها أن
يكونوا صناعًا وأجراء صالحين يوثق بهم ويؤمَنون على الأموال والأعمال.
كنا ظننا أن اللين والوفاء للصناع يقربهم من حسن الخدمة والاستقامة فإذا
بالقوم لا يفرقون بين الإحسان والإساءة , وكم من عامل ترك العمل لأن رجلاً قال
له في الطريق: اترك هذه المطبعة واذهب معي إلى مطبعة كذا فذهب وليس له
عندنا قرش واحد , على أن أكثر أصحاب المطابع يمسكون من أجور العمال شيئًا
بمثابة الرهن فمن ترك العمل ضاع عليه وكان عوضًا لصاحب المطبعة عما يخسره
بإهمال العمل إلى أن يجد عاملاً بديلاً منه. وقد تبلغ البلادة والحماقة ببعضهم أن
يترك العمل عدة أيام ليغيظ صاحب المطبعة وهو أحوج إلى أجر هذه الأيام من
صاحب المطبعة إلى عمله بل إلى المطبعة نفسها. ويعسر على أذكى الأذكياء
وأفصح البلغاء أن يقنع الكثيرين منهم بأن هذا العمل ضار به وهذا نافع له كأن
أقحافهم المحيطة بأدمغتهم أفلاك هيئة اليونان لا تقبل الخرق والالتئام. فتبًّا
للمتفرنجين المجاهرين بالفسق , ولأهل الخرافات الذين أزالوا حرمة سلطان الدين
من نفوس هؤلاء العوام. حتى لم يبق لهم زمام ولا لجام، فاستحل أكثرهم الحرام،
وخزيت بهم الأنام، هذا وإن تأخير هذا الجزء عن موعده كان لامتناع بعض العمال
عن العمل أيامًا وسيتأخر الثاني ولا تأخير بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
__________(9/75)
غرة صفر - 1324هـ
26 مارس - 1906م(9/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة القدر وفعل العبد بقدرته
جاء في شرح عقيدة السفاريني بعد إبطال مذهب القدرية والجبرية وهم
الضالون في الإفراط والتفريط ما نصه:
وأما المتوسطون فهم أهل السنة والجماعة فلم يفرطوا تفريط القدرية النفاة،
ولم يفرطوا إفراط الجبرية المحتجين بالقدر على معاصي الله، وهؤلاء على مذهبين:
مذهب الأشعري ومن وافقه من الخلف، ومذهب سلف الأمة وأئمة السنة فمذهب
أهل السنة كافة أن جميع أنواع الطاعات والمعاصي , والكفر والفساد واقعة بقضاء
الله وقدره لا خالق سواه فأفعال العباد مخلوقة لله تعالى خيرها وشرها وحسنها
وقبيحها والعبد غير مجبور على أفعاله بل هو قادر عليها , هذا القدر باتفاق أهل
السنة , ثم إن الأشعري ومن وافقه منهم أثبت للعبد كسبًا ومعناه أنه قادر على فعله ,
وإن كانت قدرته لا تأثير لها في ذلك كما مر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس
الله روحه -: هذا قول الأشعري ومن وافقه من المثبتة للقدر من الفقهاء وطوائف
من أهل السنة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد حيث لا يثبتون في المخلوقات
قوى ولا طبائع , ويقولون: إن الله تعالى فعل عندها لا بها , ويقولون: إن قدرة
العبد لا تأثير لها في الفعل , ويقول الأشعري: إن الله فاعل فعل العبد , وإن عمل
العبد ليس فعلاً للعبد بل كسبًا له؛ قال شيخ الإسلام: وهذا قول من ينكر الأسباب
والقوى التي في الأجسام وينكر تأثير القدرة التي للعبد التي يكون بها الفعل ويقول:
إنه لا أثر لقدرة العبد أصلاً في فعله , لكن الأشعري يثبت للعبد قدرة محدثة
واختيارًا , ويقول: إن الفعل كسب للعبد , لكنه يقول: لا تأثير لقدرة العبد في
إيجاد المقدور , وهو مقام دقيق حتى قال بعضهم: إن هذا الكسب الذي أثبته
الأشعري غير معقول - قال -: حتى قال جمهور العقلاء: ثلاثة أشياء لا حقيقة
لها: طفرة النَّظَّام وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري وذلك أنه يلزم أن لا يكون
فرق بين القادر والعاجز؛ إذ مجرد الاقتران لا اختصاص له بالقدرة , فإن فعل
العبد يقارن حياته وعلمه وإرادته وغير ذلك من صفاته فإذا لم يكن للقدرة تأثير إلا
مجرد الاقتران فلا فرق بين القدرة وغيرها , ومن هذه الطائفة من يقول: إن قدرة
العبد مؤثرة في صفة الفعل لا في أصله كما يقوله القاضي أبو بكر الباقلاني من أئمة
متكلمة الأشعرية ومن وافقه فإنه أثبت تأثيرًا بدون خلق الرب أن يكون بعض
الحوادث لم يخلقه الله , وإن جعل ذلك معلقًا بخلق الرب فلا فرق بين الأصل
والصفة , قيل: ومذهب الأشعري يقرب في هذه المسألة من مذهب الجبرية
الجهمية فإنه يُحكى عن الجهم بن صفوان وغلاة أتباعه أنهم سلبوا العبد قدرته
واختياره حتى قال بعضهم: إن حركته كحركة الأشجار بالرياح كما تقدم. قال شيخ
الإسلام ابن تيمية: إن الجَهْم كان يقول: لا أثر لحركة العبد أصلاً في فعله، وكان
يثبت مشيئة الله تعالى وينكر أن يكون له حكمة ورحمة، وينكر أن يكون للعبد فعل
أو قدرة مؤثرة! ! ! قال: وقد حكي عنه أنه كان يخرج إلى الجذمى ويقول:
أرحم الراحمين يفعل هذا؟ ! إنكارًا لأن يكون له تعالى رحمة يتصف بها سبحانه
زعمًا منه أنه ليس إلا مشيئة محضة لا اختصاص لها بحكمة بل يرجح أحد
المتماثلين بلا مرجح.
ومذهب سلف الأمة وأئمتها وجمهور أهل السنة المثبتة للقدر من جميع
الطوائف يقولون: إن العبد فاعل لفعله حقيقة، وإن له قدرة حقيقة واستطاعة حقيقة
ولا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل من أن
الله تعالى يخلق السحاب بالرياح، وينزل الماء بالسحاب، وينبت النبات بالماء،
ولا يقولون: القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها بل يقرون بأن لها
أثرًا لفظًا ومعنًى لكن يقولون: هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبباتها، والله
تعالى خالق السبب والمسبب، ومع أنه خالق السبب فلا بد للسبب من سبب آخر
يشاركه، ولا بد له من معارض يمانعه فلا يتم أثره إلا مع خلق الله له بأن يخلق الله
السبب الآخر ويزيل الموانع، وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: الأعمال
والأقوال والطاعات والمعاصي هي من العبد بمعنى أنها قائمة به وحاصلة بمشيئته
وقدرته، وهو المتصف بها والمتحرك بها الذي يعود حكمها عليه وهي من الله
بمعنى أنه خلقها قائمة بالعبد وجعلها عملاً له وكسبًا كما يخلق المسببات بأسبابها،
فهي من الله مخلوقه له ومن العبد صفة قائمة به واقعة بقدرته وكسبه كما إذا قلنا:
هذه الثمرة من الشجرة وهذا الزرع من الأرض بمعنى أنه حدث منها ومن الله
بمعنى أنه خلقه منها لم يكن بينهما تناقض قال: فالحوادث تضاف إلى خالقها
باعتبار وإلى أسبابها باعتبار كما قال تعالى: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَان} (القصص: 15) وقال: {وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ} (الكهف: 63) مع قوله:
{كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78) وأخبر أن العباد يفعلون ويصنعون ويعملون
ويؤمنون ويكفرون ويفسقون ويتقون ويصدقون ويكذبون، وقال في موضع آخر: إن
أئمة أهل السنة يقولون: إن الله خالق أفعال العباد كما أن الله خالق كل شيء، وأنه
تعالى خالق الأشياء بالأسباب، وأنه تعالى خلق للعبد قدرة بها يكون فعله، وأن
العبد فاعل لفعله حقيقة فقولهم في خلق العبد بإرداته وقدرته كقولهم في خلق سائر
الحوادث بأسبابها، وقد دلت الدلائل اليقينية على أن كل حادث فالله خالقه، وفعل
العبد من جملة الحوادث وكل ممكن يقبل الوجود والعدم فإن شاء الله كان وإن لم يشأ
لم يكن، وفعل العبد من جملة الممكنات قال: وجمهور المسلمين وجمهور طوائفهم
على هذا القول الوسط الذي ليس هو قول المعتزلة ولا قول جهم بن صفوان وأتباعه
الجبرية، فمن قال: إن شيئًا من الحوادث أفعال الملائكة والجن والإنس لم يخلقها
الله تعالى فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع السلف والأدلة العقلية، ولهذا قال بعض
السلف: من قال: إن كلام الآدميين وأفعال العباد غير مخلوقة فهو بمنزلة من يقول:
إن سماء الله وأرضه غير مخلوقة، والحاصل أن مذهب السلف ومحققي أهل
السنة أن الله تعالى خلق قدرة العبد وإرادته وفعله، وأن العبد فاعل لفعله حقيقة
ومحدث لفعله والله سبحانه جعله فاعلاً له محدثًا له قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ
أَن يَشَاءَ اللَّهُ} (الإِنسان: 30) فأثبت مشيئة العبد وأخبر أنها لا تكون إلا بمشيئة
الله تعالى، وهذا صريح قول أهل السنة في إثبات مشيئة العبد وأنها لا تكون إلا
بمشيئة الرب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية روح الله روحه: وهذا قول جمهور أهل
السنة من جميع الطوائف وهو قول كثير من أصحاب الأشعري كأبي إسحاق
الإسفرايني وإمام الحرمين وغيرهما فيقولون: العبد فاعل لفعله حقيقة وله قدرة
واختيار وقدرته مؤثرة في مقدورها كما تؤثر القوى والطبائع والأسباب كما دل على
ذلك الشرع والعقل قال تعالى: {فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (الأعراف: 57) وقال: {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (البقرة: 164) وقال:
{وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} (البقرة: 26) وهذا كثير في الكتاب والسنة، يخبر تعالى
أنه يحدث الحوادث بالأسباب، وكذلك دل الكتاب والسنة على إثبات القوى والطبائع
للحيوان وغيره كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16) وقال:
{هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (فصلت: 15) وقال في الجمادات: {وَأَخْرَجَتِ
الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} (الزلزلة: 2) وقال: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ} (الحج: 5) وقال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (الأحقاف: 25)
وقال: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِح} (الحجر: 22) ، {وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ
مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (البقرة: 74) ، {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ
وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيّ} (هود: 44) وقال تعالى: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ
شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِه} (الفتح: 29) وهذا في القرآن كثير
جدًا.
وقال السعد التفتازاني في شرح المقاصد بعد ما نقل الخلاف ملخصًا ما نصه:
ثم المشهور فيما بين القوم المذكور في كتبهم أن مذهب إمام الحرمين أن فعل العبد
واقع بقدرته وإرادته إيجابًا كما هو رأي الحكماء مع قول الإمام في الإرشاد: اتفق
أئمة السلف قبل ظهور البدع والأهواء على أن الخالق هو الله ولا خالق سواه، وأن
الحوادث كلها حدثت بقدرة الله من غير فرق بين ما يتعلق قدرة العبد به وبين ما لا
يتعلق، قال العلامة إبراهيم الكوراني في شرح منظومة شيخه الشيخ محمد المقدسي
القشاشي ما نصه: مذهب الشيخ إمام الحرمين الذي تفرد به فيما قيل عن الأصحاب
يعني الأشعرية من أن أصل فعل العبد واقع منه بتأثير قدرته بإذن الله قال: وهو
مذكور في غير الإرشاد وهو آخر قوليه كما نقله عنه البقي فلا يقدح مخالفته ما في
الإرشاد وبقية كتبه التي وصلت إلى التفتازاني وغيره لما هو المنقول عنه في غير
الإرشاد وبقية كتبه في هذا الفن المرجوع عنها في هذه المسألة. قال الكوراني:
وهذا الكتاب الذي ذكر فيه آخر قوليه هو كتابه المترجم بالنظامية فيما وقفت على
كلامه منقولاً عنه بلفظه في كتاب (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة
والتعليل) للعلامة شمس الدين ابن القيم في الباب السابع عشر منه ولفظه:
اضطربت آراء أتباع الأشعري في الكسب اضطرابًا عظيمًا، واختلفت عباراتهم فيه
اختلافًا كثيرًا، وقد ذكر ذلك كله أبو القاسم سلمان بن ناصر الأنصاري في شرح
الإرشاد، ثم ساق عن تلميذ إمام الحرمين شارح الإرشاد هذا الأنصاري كلامًا فيه
أن إمام الحرمين ذكر لنفسه مذهبًا ذكره في الكتاب المترجم بالنظامية وانفرد به عن
الأصحاب، ثم قال صاحب كتاب شفاء العليل في آخر كلام شارح كتاب الإرشاد
المذكور.
قلت: الذي قاله الإمام في النظامية أقرب إلى الحق مما قاله الأشعري وابن
الباقلاني ومن تابعهما ونحن نذكر كلامه بلفظه قال - يعني إمام الحرمين -: قد
تقرر عند كل حاظ بعقله مترقّ عن مراتب التقليد في قواعد التوحيد أن الرب
سبحانه وتعالى مطالِب عبادَه بأعمالهم وداعيهم إليها ومثيبهم ومعاقبهم عليها، وتبين
بالنصوص التي لا تتعرض بالتأويلات أنه أقدرهم على الوفاء بما طالبهم، ومكنهم
من التوصل إلى امتثال الأمر والانكفاف عن مواقع الزجر، ولو ذهبت أتلو الآي
المتضمنة لهذه المعاني لطال المرام ولا حاجة إلى ذلك مع قطع اللبيب المنصف به،
ومن نظر في كليات الشرائع وما فيها من الاستحثاث والزواجر عن المعاصي
الموبقات، وما نِيط ببعضها من الحدود والعقوبات، ثم تلفت على الوعد والوعيد
وما يجب عقده من تصديق المرسلين في الأنباء وقول الله لهم: لِمَ تعديتم وعصيتم
وأبيتم وقد أرخيت لكم الطول وفسحت لكم المهل وأرسلت الرسل وأوضحت المحجة
لئلا يكون للناس على الله حجة، وأحاط بذلك كله ثم استراب في أن أفعال العباد
واقعة على حسب إيثارهم واختيارهم واقتدارهم فهو مصاب في عقله أو مستقر على
تقليده مصمم على جهله ففي المصير إلى أنه لا أثر لقدرة العبد في فعله؛ قطع
طلبات الشرائع والتكذيب بما جاء به المرسلون، فإن زعم من لم يوفق لمنهج
الرشاد أنه لا أثر لقدرة العبد في مقدوره أصلاً، وإذا طُولب بمتعلق طلب الله بفعل
العبد تحريمًا وفرضًا ذهب في الجواب طولاً وعرضًا وقال: لله أن يفعل ما يشاء
ولا يتعرض للاعتراض عليه المتعرضون {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) قيل له: ليس لما جئت به حاصل، كلمة حق أريد بها باطل، نعم
يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ولكن يتقدس عن الخلف ونقيض الصدق، وقد
فهمنا بضرورات المعقول من الشرع المنقول أنه - عزت قدرته - طالبَ عبادَه بما
أخبر أنهم ممكنون من الوفاء به فلم يكلفهم إلا مبلغ الطاقة والوسع في موارد الشرع،
ومن زعم أنه لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها كما لا أثر للعلم في معلومه فوجه
مطالبة العبد بأفعاله عنده كوجه مطالبته بأن يثبت في نفسه ألوانًا وإدراكات، وهذا
خروج عن حد الاعتدال إلى التزام الباطل والمحال، وفيه إبطال الشرائع ورد ما
جاء به النبيون عليهم الصلاة والسلام، فإذا لزم المصير إلى القول بأن العبد خالق
أعماله فإنه فيه الخروج عما درج عليه السلف الأئمة واقتحام ورطات الضلال ولا
سبيل إلى المصير إلى الوقوع في أن العبد بقدرته الحادثة والقدرة القديمة فإن الفعل
الواحد يستحيل حدوثه بقادرين؛ إذ الواحد لا ينقسم فإن وقع بقدرة الله استقل بها
ويسقط أثر القدرة الحادثة، ويستحيل أن يقع بعضه بقدرة الله فإن الفعل الواحد لا
بعض له وهذه مهواة لا يسلم من غوائلها إلا مرشد موفق إذ المرء بين أن يدعي
الاستبداد وبين أن يخرج نفسه عن كونه مطالَبًا بالشرائع وفيه إبطال دعوة المرسلين،
وبين أن يثبت نفسه شريكًا لله في إيجاد الفعل الواحد، وهذه الأقسام بجملتها باطلة
ولا ينجي من هذا الملتطم ذكر اسم محض ولقب مجرد من غير تحصيل معنى وذلك
أن قائلاً لو قال: إن العبد يكتسب وأثر قدرته الاكتساب، والرب تعالى مخترع
خالق لما العبد مكتسب له؛ قيل له: فما الكسب وما معناه؟ وأديرت الأقسام
المذكورة على هذا القائل فلا يجد عنه مهربًا، ثم قال - يعني إمام الحرمين -:
فنقول: قدرة العبد مخلوقة لله تعالى باتفاق القائلين بالصانع، والفعل المقدور بالقدرة
الحادثة واقع بها قطعًا لكنه يضاف إلى الله سبحانه تقديرًا وخلقًا فإنه وقع بفعل الله
وهو القدرة، وليست القدرة فعلاً للعبد وإنما هي صفة له وهي ملك له تعالى وخلق
له، فإذا كان موقع الفعل خلقًا لله فالواقع به مضاف خلقًا إلى الله تعالى وتقديرًا وقد
ملّك الله العبد اختيارًا يصرف به القدرة فإذا أوقع بالقدرة شيئًا آل الواقع إلى حكم الله
من حيث إنه وقع بفعل الله، ولو اهتدت إلى هذا الفرقة الضالة لم يكن بيننا وبينهم
خلاف، ولكنهم ادعوا استبدادًا بالاختراع وانفرادًا بالخلق والابتداع فضلوا وأضلوا
(قال) : ونبين تميُّزنا عنهم بتفريع المذهبين؛ فإنا لما أضفنا فعل العبد إلى تقدير
الإله قلنا: أحدث الله القدرة في العبد على أقدار أحاط بها علمه، وهيأ أسباب الفعل
وسلب العبد العلم بالتفاصيل، وأراد من العبد أن يفعل فأحدث فيه دواعي مستحثة
وخيرة وإرادة، وعلم أن الأفعال ستقع على قدر معلوم فوقعت بالقدرة التي اخترعها
للعبد على ما علم وأراد فاختيارهم واتصافهم بالأقدار والقدرة خلق الله ابتداءً
ومقدورها مضاف إليه مشيئةً وعلمًا وقضاءً وخلقًا وفعلاً من حيث إنه نتيجة ما
انفرد بخلقه وهو القدرة , ولو لم يرد وقوع مقدورها لما أقدره عليه , ولما هيأ
أسباب وقوعه , ومن هُدي لهذا استمر له الحق المبين فالعبد فاعل مختار مطالَب
مأمور منهي , وفِعله تقدير لله مراد له خلق مقضي (قال) : ونحن نضرب في ذلك
مثلاً شرعيًّا يستروح إليه الناظر في ذلك فنقول: العبد لا يملك أن يتصرف في مال
سيده , ولو استبد بالتصرف فيه لم ينفذ تصرفه , فإن أذنه في بيع ماله فباعه نفذ ,
والبيع في التحقيق معزوّ إلى السيد من حيث إن سببه إذنه , ولولا إذنه لم ينفذ
التصرف , ولكن العبد يؤمر بالتصرف وينهى ويوبخ على المخالفة ويعاقب , فهذا
والله الحق الذي لا غطاء دونه ولا مراء فيه لمن وعاه وعيه.
(وأما الفرقة الضالة) فإنهم اعتقدوا انفراد العبد بالخلق ثم صاروا إذا إنه
عصى فقد انفرد بخلق فعله والرب كاره أفكان العبد على هذا الرأي الفاسد مزاحمًا
لربه في التدبير مُوقِعًا ما أراد إيقاعه شاء الرب أو كره؟ ! .
إلى هنا كلام إمام الحرمين في النظامية بلفظه فيما نقله عنه كذلك الإمام
المحقق ابن القيم في شفاء العليل ونقله العلامة إبراهيم الكوراني الأشعري في شرح
منظومة شيخه القشاشي , ولا يخفى على من نظر في كلامه تصريحه في غير
موضع بأن العبد له تأثير في فعله بالاختيار , ومراده أن العبد ليس مستقلاًّ في إيقاع
أفعاله بمجرد مشيئته وإن لم توافق مشيئة الحق بل إنما تؤثر قدرته إذا شاء الله ذلك
ومكنه منه , وهو المعبر عنه بالإذن , قال الكوراني: اختار هذا شيخنا وألف فيه
سابقًا رسالة سماها (الانتصار لإمام الحرمين فيما شنع فيه عليه بعض النظار) ثم
اختصرها وزاد فيها نقولاً وقف عليها فيما بعد وسماه (اختصار الانتصار) ثم وقفنا
على كتاب شفاء العليل لابن القيم المنقول فيه كلام إمام الحرمين في النظامية
فأعجبه ذلك وأمر بإلحاقه بآخر اختصار الانتصار ليعلم الواقف عليه أن النقل عنه
بالتأثير بالإذن صحيح خلافًا لمن أنكر ثبوته عنه من المتأخرين قال الكوراني:
وقال شيخنا في شرح المواهب اللدنية على قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) من غزوة بدر , واعتقاد جماعة أن المراد بالآية
سلب فعل النبي صلى الله عليه وسلم عنه وإضافته إلى الله، وجعلهم ذلك أصلاً في
الجبر وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد فبسط الكلام في إثبات الكسب على طريقة
إمام الحرمين وتأييده بدلائل الكتاب والسنة إلى أن نقل عنه كلامه المذكور في
النظامية، ثم قال: وفي شفاء العليل قال الأشعري رحمه الله وابن الباقلاني:
الواقع بالقدرة الحادثة هو كون الفعل كسبًا دون كونه موجودًا أو محدثًا، فكونه كسبًا
وصف للوجود بمثابة كونه معلومًا.. انتهى. وفهموا من ذلك أن لا تأثير لقدرة
العبد يعني عند الأشعري في مقدوره كما لا تأثير للعلم في معلومه فقالوا في قدرة
العبد: إنها مصاحبة غير مؤثرة قصدًا إلى التوسط قال: وتفسير كلام الأشعري
بهذا ميل عن التوسط الذي هو الحق , وإنما التوسط المحصل للكسب النافي لطرفي
الإفراط والتفريط من الاستقلال، والجبر هو القول بأن لقدرة العبد تأثيرًا ولكن بإذن
الله لا على الاستقلال , فاللائق أن يفسر كلام الأشعري بما يتنزل على هذا التوسط
وكلامه قابل للتأويل لأنه ليس نصًا في عدم التأثير فإن أوله يدل على أن الكسب
واقع بالقدرة الحادثة والوقوع فرع التأثير، نعم آخر كلامه يعطي أن لا تأثير لها
حيث شبهه بتعلق العلم بالمعلوم على أن الأشعري نص في عامة كتبه على ما يدل
على التأثير على ما نقله عنه صاحب شفاء العليل ثم حط القشاشي كلامه على أن
الكسب عند الأشعري تحصيل العبد بقدرته المؤثرة بإذن الله ما تعلقت به مشيئته
الموافقة لمشيئة الله , وتقرير كلامه على هذا الوجه موافق لما قال إمام الحرمين من
التوسط الذي يتحصل به مؤدى الأمر والنهي من المكلف بلا تكلف قال الكوراني:
ثم رأيت من نصوص الشيخ الأشعري رحمه الله في كتابه (الإبانة) الذي هو آخر
تصانيفه - كما ذكره الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أي كتاب (الإبانة) المعول
عليه في المعتقد من بين كتبه كما دل عليه كلام الحافظ ابن عساكر - ما يدل على
أنه أي الأشعري إنما نفى الاستقلال لا أصل التأثير بإذن الله وتمكينه وحينئذ يكون
إمام الحرمين موافقًا للأشعري في التحقيق المعتمد عنده في (الإبانة) ثم قال
الكوراني: وهذا قول أبي إسحق الإسفرايني قال: وهو الموافق لظاهر الكتاب
والسنة قال: وقول أبي إسحق الإسفرايني وإمام الحرمين هو الذي اختاره حجة
الإسلام الغزالي فإنه قال في كتاب الشكر من الإحياء: لا قادر إلا الملك الجبار، وقال
في جواهر القرآن في باب المحبة: لا قدس ولا قدرة ولا علم إلا للواحد الحق وإنما
لغيره القدرة التي أعطاه.. إلخ وقال في الإحياء: وما هو قادر عليه يعني الإنسان
من نفسه أو غيره فليست قدرته من نفسه وبنفسه بل الله خالقه وخالق قدرته وأسبابه
والممكن له من ذلك ولو سلط بعوضة على أعظم ملك وأقوى شخص من الحيوانات
لأهلكه؛ فليس للعبد قدرة إلا بتمكين مولاه قال الكوارني: فهو قائل: إن للعبد قدرة
مؤثرة بتمكين الله لا مستقلاً وهذا التمكين هو المعبر عنه بالإذن في قوله تعالى:
{وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: 102) . انتهى ملخصًا.
وإنما ذكرت لك أقاويل هؤلاء مع أن عمدة المعتقد عندنا الغير المنتقد في
عقدنا مذهب السلف المقرر على الوجه المرضي المحرر لتعلم أن محققي الأشاعرة
لهم موافقة على حقيقة مذهب السلف والإغضاء عما ينمّقه الخلف وبالله التوفيق.
اهـ.
(المنار)
أوردنا هذا الكلام هنا للذين لا يعرفون من كتب العقائد إلا كتب متأخري
الأشعرية القائلة بأن لا تأثير للأسباب في مسبباتها، ولا قدرة لإنسان في عمله وأن
الله يخلق المسبب عند السبب لا به وأن العبد كاسب لعمله في الظاهر مجبور عليه
في الحقيقة وتعزو هذا إلى الأشعري وكبار أنصاره ليعلموا أن كلام الأشعري ليس
نصًّا في ذلك وأن أكبر أنصار مذهبه - وهم إمام الحرمين والإسفرايني والغزالي -
قالوا بخلاف ذلك فلم يبقَ إلا الباقلاني عليه فهل نحصر السنة فيه دون السلف
وسائر أئمة الأشعرية؟ ! .
__________(9/81)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
الناسخ والمنسوخ
للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي الطبيب بسجن طره
أجملت الكلام في هذا الموضوع حينما كتبت مقالات (الدين في نظر العقل
الصحيح) لضيق الوقت وكثرة الأشغال، وقد رأيت الآن أن أعود إليه بإيضاح
يزيل ما هذر به السفهاء من الناس الطاعنين في الإسلام. الذين يعدون النسخ في
القرآن دليلاً على كونه من عند غير الله وكونه لم يحفظ كاملاً كما نعتقد، وليعلم
هؤلاء المساكين أن ما يقذفونه به ليس إلا حصى لا تزحزح طودًا من مكانه. ولولا
غفلة المنتمين إلى هذا الدين لما وجد القوم حصاة واحدة يرمونه بها ظنًّا منهم أنها
تؤلمه.
القول بالنسخ في القرآن ليس من عقائد الإسلام ألبتة، وإنما هو مذهب في
التفسير نشأ غالبًا في العصر الأول إن صحت الروايات الآحادية الواردة في هذا
الباب. والذين قالوا به منهم إنما أخذوه من ظاهر قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) الآية، فكان إذا عرض لواحد منهم اشتباه في فهم
بعض آيات القرآن التى بينها شبه خلاف تمسك بهذا القول لرفْع ما عرض له.
وليس فهم بعض الصحابة حجة في التفسير، وإلا لما خالف جمهور المفسرين ابن
عباس - وهو أعلمهم بالتفسير - في كثير من المسائل ولما خالف بعضهم بعضًا في
نفس هذه المسألة حتى كان بعضهم كأُبَيّ مثلاً يقول: إنى لا أدَع شيئًا سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد بذلك أنه لا يترك حكمًا ما بدعوى أنه
منسوخ، وكان عمر ينكر عليه ذلك كما ورد في صحيح البخاري عن ابن عباس أن
عمر قال: أقرؤنا أُبي , وأقضانا علي وإنَّا لندع من قول أبي وذاك أن أبيًا يقول:
لا أدع شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقد قال الله تعالى: {مَا
نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) .
ولو كانت هذه المسألة من العقائد الإسلامية الواجبة لما أنكرها بعض أئمة
المسلمين المتقدمين والمتأخرين كأبي مسلم الأصفهاني وغيره. على أن المتمسكين
بها ليس عندهم دليل يعتد به على صحة مذهبهم , وسنفسر إن شاء الله الآيات التي
توهموا أنها تفيدهم في تأييد رأيهم , وحسبنا أن القرآن لم يقل في موضع ما إن هذه
الآية ناسخة أو منسوخة بأخرى. ولا يحل لنا أن نترك العمل بشيء من كتاب الله
تعالى لفهم فاهم أو لوهم واهم , وأيضًا فليس عندهم دليل قطعي على تقدم المنسوخ
وتأخر الناسخ في كثير من المواضع , بل إن بعض الآيات التى ادعوا أنها منسوخة
تجدها في القرآن متأخرة عن الناسخة كآية العدة في سورة البقرة مثلاً , ولما وجدوا
ذلك زعموا ولا دليل لهم أن الآية المشار إليها نزلت أولاً ولم يبالوا بأن ذلك ينافي
حسن ترتيب الآيات في سورها وإن كان هذا الترتيب توقيفيًا بالإجماع. إننا لا
ندري لِمَ كانت بعض الآيات منسوخة عندهم ولم تكن ناسخة أي كيف يمكنهم تمييز
ما يجب العمل به وما يجب تركه مع أنه لم يرد في الكتاب ما يرشدهم إلى ذلك.
وهل يعقل أن الله يترك عباده يتخبطون في أمور دينهم مع أنه يقول في شأن القرآن:
{جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (الشورى: 52) فإذا كان مذهب
النسخ صحيحًا أفليس من الإبهام وعدم البيان أن يكون القرآن خاليًا من التنبيه على
ما نُسخ وعلى ما لم يُنسخ؟ أو ليس من أعجب العجب أن لا يوجد عند القائلين به
حديث واحد متفق عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتبر نصًّا صريحًا
على أن الآية أو الآيات الفلانية نُسخت بالآيات الفلانية؟ ! وما بالهم لم يتفقوا على
عدد مخصوص من الآيات؟ ولِمَ يتركون دعواهم النسخ في آية إذا تحققوا أن لا
تعارض بينها وبين غيرها؟ ! .
غلا الناس في هذه المسألة غُلُوًّا حتى إنهم أرادوا أن يجعلوها فنًّا من الفنون
التى تؤلف فيها الكتب , ولأجل أن يجعلوا أبواب هذا الفن كاملة زعموا أن النسخ
على ثلاثة أضرب:
(1) ما نُسخ لفظه وحكمه معًا.
(2) ما نسخ لفظه فقط.
(3) ما نسخ حكمه فقط.
ثم التمسوا لكل ضرب شواهد ولو بالتمحُّل البعيد والخروج عن أساليب
البلاغة بل اللغة حتى لَيخيَّل للناظر إليها أن القرآن ضاع منه شيء ففتح باب واسع
لكل شيطان يريد أن يؤيد دعوى باطلة له لا يوافقه عليها القرآن فيختلق ما شاء أن
يختلق ويزعم أنه كان قرآنًا ونسخ , ثم يلبَس لباس الصالحين والرواة الثقاة ليقبل
المحدثون روايته. وقد اعترف بعض من تاب بذلك ولولا اعترافه ما عرف.
فما يدرينا أن بعض الملحدين أو بعض الفرق الغلاة ظهر بالمظهر الذي غر
الناس حتى صدقوه في دعاويه. فهل بعد ذلك نثق بأي رواية لم تتواتر في مثل هذه
المسائل حتى يجرنا ذلك إلى الطعن في المتواتر نفسه. فالخطة المثلى في تحقيق
الحق وإزهاق الباطل عند العقلاء أن لا يعتمدوا إلا على ما تواتر , ويرفضوا كل ما
خالفه , وإلا لفقدوا التمييز , ولما أمكنهم التصديق بشيء ما إلا إذا أدركوه بحواسهم
مع أننا مضطرون للتصديق بأشياء كثيرة لم نحسها.
اضطرب مبدأ القائلين بالنسخ كثيرًا. فبعد أن قالوا: لا نسخ إلا في الأمر
والنهي تجدهم يسلمون بالروايات الدالة على نسخ اللفظ مع أن جُلها ليس إلا أخبارًا
كما في رواية: (لو كان لابن آدم واديًا لأحَبّ أن يكون له الثاني) .. إلى آخره.
ولو عقل هؤلاء القوم لوجدوا أن لا مناسبة بين أسلوبها وأسلوب القرآن مطلقًا بحيث
لو عرضت والقرآن على ذي ذوق وهو أجنبي عن المسلمين - لَحَكَمَ أن قائلهما لا
يمكن أن يكون واحدًا بدون تردد اللهم إلا فيما كان مسروقًا منه كرواية (إن الذين
آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون)
على أنها لا تخلو من تكلف وتنافر بين الجملتين يدل على أن التأليف مصنوع.
لهذا كله ذهب جميع المحققين من أئمة المسلمين إلى أن أمثال هذه الروايات
الآحادية لا يثبت بها قرآن ولا ينفى بها , ولذلك لا يعتد أحد بالروايات الدالة على
أن الفاتحة والمعوذتين ليست من كتاب الله , ولو سلمنا جدلاً أن أحد الصحابة
أنكرها فلا يعتد بشذوذه ومخالفته جميع من عداه منهم.
نزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فبلغه للناس وحفظوه عنه , وأمر
بكتابته دون سواه فكتبه له كتبة الوحي , وكتبه غيرهم لأنفسهم على ما تيسر لهم في
ذلك الوقت من جلد أو ورق أو عظم أو جريد أو خشب إلى غير ذلك مما أمكنهم
الحصول عليه. ولم يمُت عليه السلام إلا بعد أن كانت جميع السور مرتبة الآيات
محفوظة في صدور الجماهير مكتوبة في السطور وبعد أن سمعوها منه مرات عديدة
في الصلوات والخطب وغيرها وسمعها هو أيضًا منهم , وارتقت الأحوال بعد وفاته
وتيسر لهم كتابة جميعه على الورق ففعلوا ذلك ونسخوا منه مصاحف بلهجات
العرب المختلفة. ولما ولي عثمان الخلافة أمر بالاقتصار على لغة قريش خوفًا من
وقوع الاختلاف في القرآن فكتبت المصاحف بهذه اللغة الواحدة بعد التحري والتدقيق
فيما كتب قبل ذلك وبعد السماع من الحفاظ , وكان ذلك بعد وفاة النبي بسنين
قليلة , ثم أرسلت المصاحف إلى الآفاق التي استعمرتها الصحابة رضوان الله عليهم
وفيهم الحافظون للقرآن في صدورهم وفي صحفهم فوافقوا جميعًا على استعمال
هذه المصاحف.
هذا، ومَن عرف طباع العرب وشدتها تحقق أنه لو وجد في مصاحف عثمان
عيب لرفضوها ولأُثِيرَتْ حروب وأُهرقت دماء ولقُتل عثمان لهذا السبب ,
ولوجدت مصاحف مختلفة بين المسلمين اليوم ولكن لم يحصل شيء من ذلك مطلقًا.
فدل ذلك على أن هذه المصاحف هي عين ما تلقَّوْهُ عن النبي صلى الله عليه وسلم
ثم أخذت طرق كتابتها تتحسن شيئًا فشيئًا حتى وصلت إلى الحالة الحاضرة من
النقط والشكل , ولا يوجد بينهما اختلاف مطلقًا قديمها وحديثها، شرقيها وغربيها إلا
ما كان خطأً مطبعيًا أو سهو ناسخ. ويهيمن على هذه المصاحف آلاف الألوف من
الحفظة في جميع الأقطار وفي جميع الأزمنة.
هذا هو تاريخ القرآن كما تواترت به الأخبار , وما خالف ذلك من الأخبار
الآحادية يجب رفضه ولا يُعبأ به. وهذا هو الكتاب الذي نؤمن به ونعتقد أنه لا
ناسخ فيه ولا منسوخ بل جميع آياته محكمة يجب العمل بها جميعًا، ومن شاء أن
يعارض في ذلك فعليه بالدليل. فليس هو ككتب الأديان الأخرى حرمت قراءتها
على العامة ولم يحفظها الخاصة في صدورهم فلعبت بها الأهواء، وتعددت في
شأنها الآراء.
لو كان الاسلام دين عجائب وغرائب كغيره مما بني على حكايات رويت
بالروايات اللسانية ولم تكتب إلا بعد زمن وقوعها بمدة تكفي لضياعها أو الخلط فيها
أو إدخال الدخلاء فيها ما ليس منها , ولما كتبت لم يكن عند أهلها فن تحقيق
الأسانيد وتحريها الذى لم يعرف إلا عند المسلمين - لو كان الإسلام كهذه
الأديان لحقَّ لأهله الخوف من الطعن في أمثال هذه الروايات. ولكن الإسلام - ولله
الحمد - دين عقل وعلم أُسس على كتاب كتب في عهد نبيه وحفظ في الصدور.
فما بال أهله قلدوا غيرهم وخافوا من رفض أمثال هذه الأحاديث الآحادية مع أنه لو
رُفضت جميعها بما فيها الأحاديث الدالة على صحة الإسلام كأحاديث المعجزات
الكثيرة وغيرها لا الموجبة للطعن فيه فقط لما ضرنا ذلك شيئًا؟ ! . فما بالنا اليوم
أخذنا نسبّ كل مَن فتح هذا الباب ونكفره مع أنه لم ينكر أصلاً من أصول الدين! .
فليتق الله عقلاء المسلمين.
كم من دخيل دخل في رواة أحاديث جميع الأديان والملل؟ كم من حق ضاع بين
باطل؟ كم من موضوعات رفضها المحققون؟ ألم يخرج البخاري رضي
الله عنه أحاديثه وهي أربعة آلاف من ستمائة ألف حديث؟ وهو شخص واحد يجوز
عليه الخطأ لأنه ليس معصومًا. فما هذا الجمود يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم
ودينكم أرقى من ذلك؟ ! . ولولا أنتم لما وَجد سفيه قشًّا يضربنا به.
فلنرجع إلى تتميم موضوعنا فنقول: أما ما تمسك به هؤلاء الجامدون من
القرآن الشريف على صحة مذهبهم فهو لا يفيدهم شيئًا , ولذلك أذكر هنا أشهر
الآيات التى تمسكوا بها وأتكلم عنها واحدة فواحدة بما يشفي العليل ويروي الغليل:
(الآية الأولى) آية السيف: وهى في سورة التوبة: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ
الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (التوبة: 5) الآية، فقالوا: إنها
نسخت جميع الآيات الآمرة بالعفو والصبر والصفح , ولو تأملوا قليلاً لوجدوا أن
أكثر هذه الآيات مشعرًا بالتوقيت والغاية إلى أجل كقوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (البقرة: 109) . {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} (الصافات:
174) . {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} (يونس: 109) . {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ
سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (الزخرف: 89) ... إلى غير ذلك من الآيات التى تشعر
بأن ترك المدافعة والمقاتلة كان مؤقتًا. ومن القواعد الأصولية المعروفة أنه إذا ورد
حكم مطلق وآخر مقيد في موضوع واحد حُمل المطلق على المقيد.
وعليه فالآيات المطلقة الواردة في هذا الموضوع يجب أن تقيد بالتوقيت مثلاً قوله
تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (الحجر: 85) . وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر: 94) كل منهما مؤقت أي أن الأمر بالصفح
والإعراض لا إلى غير أجل ولم يكن دائمًا , فلما تحقق المسلمون بعد طول الاختبار
أن الصفح والإحسان لا يجدي مع العدو نفعًا ولا يزيده إلا طغيانًا واسترسالاً في
الأذى إلى درجة أن يسفك دماءهم ويغتصب أموالهم وأعراضهم ولا يخرجهم من
ديارهم ولا يراعي لهم عهدًا , ولا يرقب فيهم إِلاًّ ولا ذمة؛ لما تحققوا ذلك وقووا
أُمروا أن يردوه عن غيه ويكسروا شوكته وينتقموا منه مع مراعاة العدل في كل ذلك.
والخلاصة أن الصبر على الأذى والإحسان إلى المسيء مأمور بهما في
القرآن كثيرًا ولكن لا في كل وقت ولا إلى غير حد , ويفضَّلان على الأخذ بالمِثْل
إلا إذا جرَّا إلى الوبال وسوء الحال. ومن فهم ذلك علم أن لا تعارض بين آيات
القرآن في هذا الشأن فإن لكل مقام مقالاً. وعليه فلا معنى للقول بالناسخ والمنسوخ
هنا لاختلاف الحالين , وقد أدرك ذلك كثير من علماء المسلمين كالسيوطي وغيره.
هذا، ولما كان الواجب علينا اقتفاء أثر النبي في كل شيء؛ وجب علينا أن تكون
خطته خطتنا فنجرب أولاً اللين فإن لم ينجع فالشدة إلا إذا خفنا أن يضيع اللين
مركزنا ويمكِّن العدو منا. فقد وصانا الله تعالى بالخوف من العدو كثيرًا فقال: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (النساء: 71) وقال: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ
وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَيْلَةً
وَاحِدَةً} (النساء: 102) ؛ ولذلك لم يهمل النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه
الراشدون أحدًا ممن ناصبهم العداوة وتربص بهم الفرص حتى يسلبهم ماحصلوا
عليه من القوة ويتمكن من الفتك بهم.
(الثانية) مسألة القبلة: لا يخفى على ناظر في الكتاب العزيز أن هذه
المسألة ليس فيها نسخ للقرآن , وإنما هي نسخ لحكم لا ندري هل فعله النبي عليه
السلام باجتهاده أم بأمر من الله تعالى غير القرآن فإن الوحي غير محصور في
القرآن؛ فقد قال الله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (النجم: 10) : أي
في ليلة المعراج ولا ندري جميع ما أوحاه الله إليه في تلك الليلة سوى ما بلغنا إياه
من أمر فرض الصلوات الخمس , وأيضًا فقد يوحى إليه بشيء في منامه كرؤياه
دخول المسجد الحرام المذكورة في قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا
بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (الفتح: 27) الآية، فقد كانت هذه الرؤيا وحيًا
إليه قبل أن ينزل فيها القرآن وهى تشبه رؤيا إبراهيم أن يذبح ابنه فقد كانت وحيًا
له أيضًا في منامه؛ إذ ليس كل وحي قرآنًا، وإنما القرآن ما يمكن تشبيهه بما
يسمى عندنا الآن بالأوامر الرسمية التحريرية وغيره بالشفهية غير الرسمية، وبناءً
على ذلك لم يحصل في القرآن نسخ في هذه المسألة مطلقًا.
(الثالثة) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن
مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ
صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 65-66) .
قال أهل النسخ: إن الآية الثانية ناسخة للأولى , وفاتهم أن ذلك يوجب القول
بأن الحكمين الواردين في سياق واحد متناقضان ولا مخلص لهما من ذلك بدعوى
أنهما نزلا في وقتين مختلفين؛ لأن القرآن لم يقل ذلك ولم يفصل بينهما وأيضًا يلزم
على قولهم أن المسلمين في أول أمرهم كانوا أقوياء جدًّا حتى إن الواحد منهم يغلب
عشرة , ولما كثروا وانتصروا مرات عديدة ضعفوا وصار الواحد منهم باثنين فقط
فواعجبًا ما هذا القلب؟ . ويلزم أيضًا أن الله على قولهم لم يكن يعلم أن الواحد منهم
لا يمكنه أن يغلب العشرة إلا بعد أن جرب ذلك , ولما تحقق أبطل هذا الحكم وأبدله
بالآخر! ، وجوابهم عن هذه المسألة ركيك.
واعلم أن المعنى الصحيح هو أن الآية الأولى وعد من الله لهم بنصر الواحد
على العشرة , ولما كان هذا الوعد يتضمن الأمر بالثبات أمام العدو ولو بلغ عدده
عشرة أمثالهم فكأن واحدًا منهم شق عليه ذلك فسأل: هل نمتثل هذا الأمر الآن؟
فأجاب تعالى على سبيل الاستئناف البياني: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} (الأنفال:
66) . أي لم يرد الآن أن يوجب عليكم امتثاله ثم قال: { ... وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} (الأنفال: 66) وهذا كالتعليل لعدم إيجاب الثبات المذكور في الوقت الحاضر
لعلمه أنكم ضعفاء لا تقوون عليه , ثم أمرهم بالثبات أمام مثلَيْهم فقط موقتًا إلى أن
يقووا، فكأنه قال: يعدكم الله بالنصر على عدوكم الآن وإن كان مثلكم مرتين
ويعدكم بالنصر في الاستقبال ولو كان عدده عشرة أمثالكم , وإنما قدم الوعد الأخير
على الأول؛ لأنه أبلغ في الحض على القتال فأتى به بعد قوله: {حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِين} (الأنفال: 65) وقدم لفظ] الآن [للدلالة على القصر فكأنه قال:
(الآن فقط) يتساهل معكم ولا يوجب هذا الأمر الشاق عليكم , ولكنه في المستقبل
يحتم عليكم الاستماتة في القتال.
(الرابعة) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ
أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المجادلة: 12-13) .
والمعنى أن الله ندبهم إلى تقديم الصدقات للفقراء قبل مناجاة الرسول في شأن
من شئونهم والدليل على أن ذلك ندب قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} (المجادلة:
12) وكذا ما سيأتي بعد ثم قال: {فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المجادلة:
12) أي: أن مَن كان هذا شأنهم لا يؤاخذهم على ترك هذا الأمر إذا لم يجدوا ما
يتصدقون به أما من تركه بلا عذر فالله يلومه ويوبخه ثم قال: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} (المجادلة: 13) أي: أَخِفتُم وهو استفهام بمعنى النهي
كقوله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} (التوبة: 13) أي: لا تخافوا الفقر من
تقديم الصدقات فإن الله يخلفها ويجازيكم عليها بالخير في الآخرة: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا
وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (المجادلة: 13) أي: إن تهاونتم ولم تفعلوها ,
والحال أن الله تاب عليكم بأن لم يجعلها أمرًا محتمًا واجبًا يعاقبكم عليه إن تركتموه
- فلا تتهاونوا في الواجبات كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله والرسول فإن
الله لن يسامحكم في ذلك، وأيضًا فإن قيامكم بهذه الواجبات يكفر عنكم تهاونكم في
المندوبات فلا يلومكم الله على تركها على حد قوله في آية أخرى: {إِن تَجْتَنِبُوا
كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (النساء: 31) .
(الخامسة) قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ
كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (البقرة
: 106-108) .
الآية هنا هي ما يؤيد الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم والمعنى:
ما ننسخ من آية نقيمها دليلاً على نبوة نبي من الأنبياء أي نزيلها ونترك تأييد نبي
آخر بها أو ننسها الناس لطول العهد بمن جاء بها فإننا بما لنا من القدرة الكاملة
والتصرف في الملك نأتي بخير منها في قوة الإقناع وإثبات النبوة أو مثلها في ذلك.
ومن كان هذا شأنه في قدرته وسعة ملكه فلا يتقيد بآية مخصوصة يمنحها جميع
أنبيائه وهو رد على من يقترح معجزات مخصوصة. وهذا التفسير هو المناسب
لقوله: {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 106) إلى قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ
أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} (البقرة: 108) .
(الآية السادسة) قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ
لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 101-102) .
والمعنى: إننا إذا بدلنا حكم آية من آيات كتب الله السابقة بحكم آخر والله أعلم
بما يفعل وبما له من الحِكَم العظيمة - قالوا: إنما أنت كذاب لأن الله لا ينسخ
شرائعنا وذلك لجهلهم ما يترتب عليه من المنافع { ... قُلْ نَزَّلَهُ} (النحل:
102) أي القرآن، { ... رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} (النحل: 102) بتبيين حكم ما نسخ من الشرائع السابقة { ... وَهُدًى ... } (النحل: 102) لهم في أعمالهم { ... وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 102) بأنهم
على الحق الثابت وأنهم مقيمون شرائع الله وحملة دينه للخلق جميعًا. وقد سميت
شرائع التوراة في القرآن بالآيات في قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ ... } (المائدة:
44) إلى قوله: {.. وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة: 44) والذى يدلك على صحة تفسيرنا ورود
بعض الأحكام الموسوية وبيان أنها منسوخة بعد الآية التى نحن بصدد تفسيرها
بقليل حيث قال: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ
الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا
قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: 114-
118) إلى أن قال: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (النحل: 124) .
هذا وإذا سلمنا أن المراد بقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ... } (النحل:
101) آيات القرآن نفسه فلِمَ لا يكون المراد: أننا إذا بدلنا آية في موضوع ما بآية
أخرى عند تكرر هذا الموضوع في سور مختلفة كقصص القرآن ومحاجته للعرب
وغيرهم - توهموا أن فيها تناقضًا وتضاربًا , وقالوا: إنما أنت مفتر كذاب وإلا لما
خالفت نفسك في عباراتك مرات عديدة؟ ! وذلك ناشئ عن جهلهم وعدم تدبرهم
في آياته {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقّ} (النحل: 102) فلا تناقض
فيه ولا اختلاف {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ... } (النحل: 102) بما فيه من العبر
والحكم التي إن كررت واختلفت عباراتها فلا اختلاف في معانيها وهذا يشبه قوله
تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (هود: 120) ،
ثم قال: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 102) أي: هدى لهم بإرشاداته
المتضمنة في عباراته المختلفة وبشرى لهم بأن الله سينصرهم على عدوهم كما
نصر أهل الحق من الأمم السابقة. فعلى هذين التفسيرين السابقين لا يبقى لمدعي
النسخ حجة ما في القرآن.
ومن تأمل في هذه الآية وجد أنها لا تنطبق على رأيهم. فما معنى قوله:
{لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 102) فهل في النسخ الذى
يدعونه تثبيت أم زعزعة؟ وفي أي مواضع من القرآن نص على ما نسخ وبيّن
حكمته؟ وما معنى الهداية والبشرى للمسلمين هنا مع أن دعواهم توجب الحيرة
والضلال كما قلنا وليس فيها شيء من البشرى لنا وما مناسبة هذا الكلام هنا؟ ! .
فهذه أعظم حجج القائلين بالنسخ وقد علمت مما كتبناه أنه لم ينهض لهم شيء
منها فبأي شيء بعد ذلك يتمسكون؟ فيا قوم كفاكم كفاكم ما حمّلتم هذا الدين المتين؛
فقد نفرتم الناس منه وصرتم أكبر الصادين عنه. وهداكم الله سواء الصراط.
انتهى.
(المنار)
إن مسألة النسخ مثار لشبهات كثيرة يوردها قسوس النصارى ومجادلوهم على
القرآن , وقد أطال اللغو فيها مؤلف كتاب الهداية طعنًا في الإسلام، والغرض الأول
للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي من هذه المقالة رد هذه الشبهات. على أنه يعتقد
صحة ما ذهب إليه مانعو النسخ في القرآن كأبي مسلم المفسر الشهير. وإن لنا
كلامًا آخر في هذه المسألة سننشره في جزء آخر , وإنه ليسرنا أن نرى من
المتخرجين في المدارس العالية من يبحث في أصول الدين ويُعْنَى بفهم القرآن
والاهتداء به وإن خالف جمهور الفقهاء والأصوليين في المسائل التي لا يعد أحد من
المتخالفين فيها كافرًا ونعتقد اعتقادًا مؤيدًا بالاختبار أن إقناع المتخرجين في تلك
المدارس بالدين لا يكون إلا بهذه الطريقة؛ لذلك نقبل منهم مباحثهم وأسئلتهم مع
الاغتباط والسرور. ولله عاقبة الأمور.
__________(9/110)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تطور الأمم وانتقالها من حال إلى حال
إن للأجسام الحية خلايا تتغذى وتزدوج وتلد وتموت فيخلفها نسلها فيكون بها
الجسم حافظًا لحياته فإذا ضعفت الحياة في الجسم قل توالد الخلايا وكثر فيها
الموت حتى يهلك الجسم فتتصل أجزاؤه بجسم آخر قوي الحياة فتكون غذاءً له كما
ترى في النبات والحيوان.
إن الحياة مصدر النظام فهي بعمل خلايا الجسم الجزئية تكون خلقًا كليًّا منتظمًا،
وإن كان لا شعور لكل خلية في ازدواجها بمثله وإنتاجها بأن عملها ينضم إلى
عمل أمثالها فيكون خلقًا كبيرًا له في الوجود مظهر عظيم وعمل حيوي منتظم.
إن مدار حياة الأحياء الصغرى كالخلايا والكبرى كالشجر والبقر على الخليقة
وما فيها من سنن النظام , وقلما يحتاج شيء منها إلى عناية مدبر مختار من جنسها
إلا الإنسان فإنه في أفراده وجمعياته لا يستغني بالطبيعة عن تعاهد بعض أفراده
لبعض بالعناية والتربية الشخصية والاجتماعية.
إن لهذه الأحياء الصغرى التى تتكون منها العوالم الكبرى أمراضها , ولهذه
العوالم نفسها أمراضًا وإن لكل مرض علاجًا ودواءً , وإن العلاج إذا صح يحول
دون إنهاكه لقوة الحياة أو الذهاب بها ما دام الجسم الحي مستعدًا للحياة أي ما بقي
من عمره الطبيعي بقية.
إن معالجة مرضٍ ما تتوقف على العلم بحال ما عرض له المرض من حيث
هو حي له مزاج يصح باعتداله الفطري ويمرض بأعراض تخرجه عن الاعتدال
والعلم بما سبق عروضه له قبل المرض الأخير الذي يحاول علاجه وبحقيقة هذا
المرض وأسبابه والعلم بالدواء وبالطريقة المثلى في المعالجة.
إن الإنسان أغرب الأحياء على هذه الأرض والعوارض التي تعرض لحياة
أفراده فتمرضهم أو تقتلهم هي أخفى مما يعرض لغيره من الأحياء النباتية
والحيوانية على كثرة بحثه عنها وعنايته بمعالجتها , ولذلك يقل في الناس من يصل
إلى نهاية العمر الطبيعي , ويقل فيهم من يعيش سليمًا من الأمراض والأسقام
كالشجر والحيوان الأعجم.
إن لحياة الإنسان الاجتماعية أمراضًا وإن معالجة الأمراض الاجتماعية أعسر،
والتحقق بشروطها أندر، ففي كل جيل من الأجيال ينبغ في الأمم المشتغلة بالعلوم
والفنون كثير من العلماء الأخصائيين، والصناع الماهرين، وقد تمر قرون وتنطوي
أجيال، تخلق فيها أحوال وتتجدد أحوال، ولا يبعث طبيب اجتماعي في الأمة،
يرفعها من الحضيض إلى القمة.
إن حياة الأمة التي ليس فيها أطباء اجتماعيون، وهداة روحانيون تكون دون
حياة الخلايا في الروح، وحياة النجم والشجر في الروض؛ لأن حياة النبات قلما
يعوزها شيء وراء الطبيعة وسننها في بلوغها غاية ما أعدتها حكمة التكوين له من
النظام والكمال الشخصي والنوعي , وحياة الإنسان لا بد فيها من المربي لتصل إلى
كماليها فإذا فقد المربي؛ كان الناس فوضى لا يصلح لهم شأن ولا يستقيم لهم أمر.
وأفراده حينئذ يشبهون خلايا الأجسام من حيث جهل كل واحد منهم بنسبة حياته إلى
حياة غيره وتأثيرها في الاجتماع وغايتها في الوجود على أن أفراد الإنسان تشعر
بعملها الجزئي , ولكن يقل فيهم من يشعر بتأثير عمله في الأمة فيتحرى فيها
مصلحته ويعرف اندماج مصلحته فيها.
إذا تمهد هذا فاسمع ما ألقيه عليك بشأن الأمة الإسلامية في حياتهم الاجتماعية.
إشارة إلى بدايتها وعبارة عما صارت عليه في هذا العصر يكون مثالاً لانتقال
الأمم من طور إلى طور من غير تصور ولا شعور.
أطوار الأمة الإسلامية:
كانت هذه الأمة في نشأتها الأولى تُنْفذ الرجل من أبناءها إلى المملكة فاتحًا
فيكون خير قائد في إبان الحرب، وخير حاكم في زمان السلم، يقيم العدل، ويعمر
الأرض، ويؤمِّن الرعية، ويستبدل الحرية بالعبودية، فيرى أقل رعيته ولو من
غير أهل دينه وجنسه أنه مساوٍ له في الحقوق والحرية بحيث لو نال منه نيلاً فشكاه
إلى الخليفة الذي أنفذه لأقاده منه كما حاول عمر أن يقيد ذلك الصعلوك من جبلة بن
الأيهم ملك غسان لولا أنه فر هاربًا.
بهذا اتسع ملك الأمة وانبثت حياتها العالية في أمم كثيرة فأحيتها، وجددت
للناس مدنية لم يسبق لهم عهد بمثلها بل لم يكتحل ناظر الزمان بنظيرها حتى هذا
اليوم الذي نرى فيه من آثار العلم والاجتماع ما لم نرَ من قبل فإن إنكلترا وهي
أعدل دول أوربا لا تساوي بين آحاد أبنائها وبين أمراء الهند، فضلاً عن أن تساوي
بين لورداتها وسلائل ملوكها وبين صعاليك مستعمراتها، وإن الخلفاء الراشدين ما
كانوا يجيزون لأبنائهم أن ينفقوا ألوف الألوف من بيت المال في سياحتهم لأجل أن
ينفخوا في الرعية روح عظمتهم ويشعروا سكان مستعمراتهم بمكان بأسهم وقهرهم
كما أجازت بريطانيا العظمى للبرنس أوف ويلس وليّ عهدها في سياحته الأخيرة،
فمثل هذا العمل تقرير لاستعلاء المالكين واستذلال المحكومين، فهو جناية على
البشر الذين لا يصلون إلى الكمال الاجتماعي إلا بكمال المساواة التي لا يفضل فيها
أحد أحدًا إلا بفضائله وأعماله كما قرر الإسلام.
هذا الروح الذي نفخه الإسلام في المعتصمين به حتى كان الرجل الأمي أو
شبه الأمي منهم يعمل في سياسة الممالك ما يعجز عنه الفلاسفة والحكماء قد كان من
شأنه أن يستولي على العالم كله فيصلحه لولا أن الملوك الظالمين وأعوانهم من
الفقهاء الجامدين قد أفسدوا جسم هذه الأمة فلم يعد مستعدًّا لحمل هذا الروح والحياة
به. فإذا كان عمرو بن العاص قد فتح مصر بجيش صغير فأحياها بالعدل وحسن
الإدارة حتى وصل النيل بالبحر الأحمر وآخى بين هذا القطر وبين الحجاز (وهو
ممن لم يدخل المدرسة الحربية ولا مدرسة الحقوق ولا مدرسة المهندسخانه) فقد
صار القطر الإسلامي العظيم يستعبده عدد قليل من الأجانب وصار المسلم المتعلم
الحامل للشهادات العالية التي يظن أنه يفضل بها عظماء سلفه كعمرو وعمر ينفذ
إلى قطر إسلامي كاليمن اليوم وكالسودان بالأمس فيبغي في الأرض، ويجني على
العَرَض والعِرض، فيترك الأرض موظوبة، والأموال مسلوبة، والدماء مسفوكة،
والأعراض مهتوكة، حتى أنّت الأرض من حكم كل مسلم عليها، واستغاثت السماء
من سلطة كل مسلم تحتها، وسمع رب العزة أنين المظلومين وبكاء الباكين،
{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} (إبراهيم: 13) بما جاءهم على لسان
النبيين.
عم الظلم فأفسد الأخلاق وأضعف النفوس وطبع على قلوب الأمة بطابع القهر
والعبودية حتى لا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر، ولا تعاون على بر ولا
تناصر على رفع ضر، فذهبت ريح الدولة وقوة الأمة، واستعد الفريقان بعملهم
لنقمة الله تعالى بدلاً من سابق نعمته، فكان تقلص ظل الحاكمين الظالمين على
رءوس المظلومين الخاضعين بأيدي الأجانب لا بأيدي الأمة وبهذا كان الانتقام عامًّا،
ولو كانت الأمة هي التي هبت لإزالة الظلم بأيديها وأخذ صولجان الحكم بيدها
لكان الانتقام خاصًّا بالظالمين، ولبقي للأمة عزها ومجدها.
دب الفساد الاجتماعي في جسم الأمة فلم تشعر به فتعالجه، فكان أفرادها
بفقدهم الشعور بما يحل بهم وبما يكون من عاقبته في مجموعهم كخلايا الشجرة أو
الثمرة يعرض الفساد بجانب منها ولا تدري حتى تفسد جميعها؛ ذلك أن الظالمين
بدأوا بإزهاق روح التكافل الذي يربط بعض الأفراد ببعض فيكون سببًا لسريان
شعور المجموع بما يطرأ على الأفراد وانفعال المزاج الكلي بذلك، واندفاعه إلى
دفع العرض الطارئ قبل سريانه واستشرائه؛ فإن من طبيعة الجسم الحي أن ينفعل
مزاجه بما يعرض لأي عضو من أعضائه فيوجه قوته لدفع العرض بإعانة ذلك
العضو عليه، ألا ترى أن الدم يكثر وروده على الدماغ عند انهماكه في الفكر وإلى
المعدة عند اشتغالها بالهضم وإلى نحو اليد يصيبها برد أو ضرب. والأمة الحية
كالجسم الحي توجه قوتها إلى إعانة كل فرد من أفرادها يصيبه ضرر أو يرهقه ظلم
حتى تدفعه عنه أو تعجز فتكون من الهالكين كما إذا عجز المزاج الصحيح في جسم
الحيوان عن دفع عوارض الفساد بنفسه أو بمساعدة الطبيب فإن الفساد يغلب حينئذ
على الجسم فيفسده.
كيف أزهق الرؤساء المفسدون روح التكافل في جسم هذه الأمة؟ حولوا
السلطة من الشورى الشرعية إلى الأثرة الاستبدادية، وفرقوا بين المسلمين في
الجنسية، فقالوا: عربي وعجمي، وفارسي وتركي، وفي اللغة، فقالوا: لغة
رسمية ولغة دينية، وفي المذاهب فقالوا: سني وشيعي، وحنفي وشافعي، وفي
الوطن فقالوا: مصري وشامي، ومغربي وحجازي، وإذا كنت تظن أن هذا
الضرب الأخير من التفريق أهون ضروبه شرًّا؛ فأنا أذكر لك كلمتين لرئيس ديني
ورئيس دنيوي تعرف بهما مبلغ تسمم جسم الأمة الإسلامية بسم الوطنية. رأى عالم
من علماء الدرجة الأولى بل شيخ من مشايخ الأزهر السابقين يلقب بشيخ الإسلام
خطيبًا شاميًّا في جامع بمصر فقال: إن هذا الجامع حسن وموقعه عظيم، ولكن من
الأسف حشوه بالشوام! وقال رئيس كبير من رؤساء الدنيا في معهد من معاهد العلم
الديني - وقد رأى فيه حجرات كثيرة للطلاب من قطر غير قطره -: ماذا فعل لنا
هؤلاء.. حتى نعطيهم كل هذه الحجرات وأهل البلد أحق بها منهم؟ ! ، أو ما هذا
معناه على أنه لم يكن هو الذي أعطاهم وإنما تلك أماكن وقفها عليهم أناس آخرون
من غير قوم القائل ومن غير وطنه.
هنالك إفساد آخر هو أشد من كل إفساد وهو الحيلولة بين المسلمين وبين
هداية القرآن الذي جعل أمر المسلمين شورى بينهم لا في أيدي أفراد يستبدون فيهم
وفرض عليهم مقاومة الظلم والإفساد في الأرض بقوة الأمة وغير ذلك مما يحفظ
حياة الأمم بل ينميها حتى تبلغ كمالها ولولا هذا الإفساد لما تم لظالم ولا لمفسد ما
أراد.
سرت كل هذه الأمراض في جسم الأمة الإسلامية من حيث لا يدري الأفراد
ولا يشعرون كما علمت من التمثيل السابق، وكان من عواقبها أن أكثر الممالك
الإسلامية خرجت من أيدي المسلمين وما بقي لهم فهو في طور النزع ولكن هذا
العصر يمتاز على ما قبله بشعور كثير من أفراده بأن الأمة في مرض، ودولها في
حرب، فإذا لم تبادر بالعلاج تم فساد المزاج، وأجهز عليها الظالم، فهلك المحكوم
في أثر الحاكم، بهؤلاء الأفراد على قلتهم وضعفهم أنشأ المسلمون يستعدون لاستعادة
ما فقدوا من مزايا الإنسانية ولكن المسلمين لم يغفلوا عن مراقبتهم، فهم يجتهدون
في إماتة شعورهم بالضغط والاضطهاد تارة وبالرتب والرواتب تارة أخرى، ومن
ثبت على نار الفتنتين اضطر إلى الفرار من ديارهم إلى ديار أخرى يأمن فيها على
نفسه أن تغتال، ويجد فيها لحرية فكره ولو بعض المجال، وإلا نفوه إلى بلد قفر،
أو جزيرة في البحر، حتى لا ينتشر له فكر، ولا يسمع له ذكر.
وجملة القول: إن المسلمين كانوا أحياءً بالإسلام نفسه على بصيرة وبينة،
ولما عرض لهم حلم الفساد اضطرب مزاجهم؛ فتداعوا إلى إزالته فحال دون ذلك
تحول السلطة الإسلامية عن صراطها، ثم ضعف الشعور بفعل هذا الحلم بجسم
الأمة لقوة مزاجها وضعف سائر الأمم دونها ثم خدر المرض أعصابها فكان الحلم
يفعل فعله وهي لا تشعر حتى عم الفساد كل عضو من أعضائها، ونعني بالأعضاء
الشعوب والفرق التي انقسمت إليها وحدة الأمة، فلا يوجد شعب إسلامي حي ولا
حكومة إسلامية إلا وهي تعفو ما بقي من رسوم الإسلام وتجد في إبسال أهله إلا ما
يقال عن حكومة الأفغان من عنايتها بحفظ استقلالها بالقوة العسكرية الحديثة، وهذا
ضروري ولكنه غير كافٍ كما نرى في تركيا، فلا بد من نشر علم الكون في الأمة
وإعدادها للحكومة المقيدة بالشورى وإلا كانت من الهالكين. أما ذلك الشعور الذي
تجدد لأفراد من المسلمين وهو لا عمل له في مملكة من ممالكهم إلا إعدادًا بطيئًا
للانتقال إلى طور آخر مجهول لعامتهم، ومشكوك فيه عند خاصتهم، لا يدرون
أيكون مرضًا مضنيًا، أم موتًا مرديًا، أم يكون حياة سعيدة , وسيادة جديدة، أساسها
العلم والعدل، وغايتها العمران والفضل، فمنهم اليائس يزيد في الإفساد، ومنهم
الراجي يدعو إلى سبيل الرشاد، وهكذا شأن الأمم في طور الانتقال، لا تستقر من
الاضطراب على حال.
من أسباب يأس اليائسين أن المسلمين قد خرجوا بتقسيم رؤسائهم إياهم إلى
شعوب وأجناس ومذاهب عن كونهم أمة واحدة فلا فائدة من كثرتهم ولا رجاء في
وحدتهم، وإنما يجب الحكم عليهم بحسب حكوماتهم سواء كانت منهم أو من غيرهم
فقد أعدهم الظلم والاستبداد لأن يكونوا عبيدًا لمن يحكمهم.
وإذا نظرنا في حال حكوماتهم وجدنا الإسلامية منها أسرع في الإجهاز عليهم
من الأجنبية (ونعني بالإسلامية المنسوبة إلى المسلمين لما كانت على قواعد
الإسلام فإن هذه لا وجود لها في الأرض) فإذا كان من الغرور أن نرجو حياة
الشعب الجاوي تحت سلطة هولندا والمغربي تحت سلطة فرنسا مثلاً فمن الجنون أن
نرجو حياة الشعوب العثمانية المتمزقة تحت سلطة تركيا والشعب الفارسي تحت
سلطة حكامه ومجتهديه؛ ذلك بأن حكومات الأجانب على منعها النور الحقيقي أن
ينفذ إلى عقول المسلمين فيحييهم بحرارته وهدايته لا سلطة لها إلا بقوتها الحسية
على الأجسام، وأما الحكام المسلمون فإن لهم سلطتين - القوة الحسية على الأجسام
والقوة المعنوية في الأرواح - لأن المسلمين توارثوا الاعتقاد بوجوب الخضوع لهم
على أنه من الدين وقلما يوجد فيهم من يعلم أن من أعظم قواعد الدين أنه لا طاعة
لمخلوق في معصية الخالق، ولا حكم إلا لله ومن استحل الحكم بما يخالف القواعد
الشرعية المنصوصة كان مارقًا من الإسلام {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) وهؤلاء العارفون على قلتهم لا يسمح لهم الاستبداد
بنشر علمهم في الأمة لئلا تنبعث لإقامة الشريعة على أساس الشورى فتبطل سلطتهم
الاستبدادية التي تنطوي في باطنها نزعة الألوهية.
ويقول هؤلاء اليائسون أيضًا: إن الأوربيين الذين استولوا على أكثر بلاد
المسلمين يتربصون بباقيها الدوائر وحكامها يمهدون لهم السبل بالظلم والقضاء
بالجهل على العلم وباقتراض الأموال منهم ومنحهم (الامتيازات) في بلادهم وهم
يجتهدون دائمًا في الاتفاق على قسمتها بينهم فلا يمر عقد من السنين إلا ونراهم قد
اكتسبوا حقًا جديدًا فيها أو قلصوا ظل نفوذنا عن ولاية منها ثم هم أقدر البشر على
سياسة الأمم والتصرف في الشعوب فإذا دخلوا ولاية قبض أفراد منهم على قواها
المالية والعسكرية والعلمية والأدبية وذللوا الأمة لسلطانهم فهم يسخروننا لخدمتهم
بقوتنا حتى لا يدَعوا لنا سبيلاً إلى استعمالها في منفعتنا، وأعظم مظهر لسياستهم
العليا فينا أن سلطتهم تكون أقوى وأرسخ وربحهم يكون أكثر وأسهل في البلاد التي
يبقون فيها لنا اسم السلطة ويرضون بمعناها لأنفسهم، فهم يستعبدوننا بواسطة
استعبادهم لحكامنا الذين أنسنا بالعبودية لهم. فأين موضع الرجاء لهذه الشعوب
الجاهلة المتفرقة المستعبدة مع هذه الأمم العالمة المستقلة المتحدة؟ ! .
هذا مجمل احتجاج اليائسين من أهل الشعور بما ينذر المسلمين من الخطر
فرأيهم أن طور الانتقال الذي هم فيه سينتهي بطور دخولهم تحت سلطة الأجانب
وزوال استقلالهم من الوجود زوالاً أبديًا كما زال استقلال بني إسرائيل إلا أن يحدث
في العمران انقلاب كبير لا دليل عليه الآن.
وأما أهل الرجاء - ونحن منهم - فإنهم يعرفون ما يحتج به أهل اليأس ولا
ينكرونه ولهم نظر آخر أبعد، ورأي أسدّ - إن شاء الله - وأرشد، يؤيدونه بآيات
الوحي ويستدلون عليه بطبيعة العمران وشئون الاجتماع، ولا يتسع هذا المقال
لشرح ما يجوز نشره منه، وإننا نوجز القول فيما لا مندوحة عنه.
إن المسلمين - وإن اختلفوا في اللغات والمذاهب والأوطان والحكومات -
يتفقون في أمر واحد تتبعه أمور جوهرية من ناحيتها يدعون إلى ما يحييهم ويجعلهم
أمة عزيزة تشعرها وحدة الاعتقاد بأن لها مصلحة واحدة يجب على شعوبها الاتحاد
والتكافل في سبيلها وإن ظلوا على اختلافهم في تلك الأمور العظيمة حتى إذا ما
انتشرت الدعوة إلى الأمر المتفق عليه (وهو القرآن) استتبعت الوحدة في اللغة
والوحدة في المذهب أو انتفى الافتراق في المذاهب , وصار كل شعب من شعوب
المسلمين قوة للآخر وعونًا له وظهيرًا على بعد الدار وقربها واختلاف الحكومات
والأجناس ولا تسألني عما يكون بعد ذلك وأنت لمَّا تعلم ما يكون قبله.
الدعوة إلى القرآن تستتبع الدعوة به إلى جميع العلوم الكونية من طبيعية
واجتماعية لأجل تكميل النفس بعرفان حكم الله في صنعه وإبداعه , ولأجل تعزيز
دينه بآثار تلك العلوم , وتستتبع طلب المزيد من نعم الله ومساهمة الأغنياء والأقوياء
للفقراء والضعفاء في هذه النعم بأداء الزكاة وغيرها من الصدقات التي تقوم بها
المصالح العامة والخاصة وتستتبع حكم الشورى وإقامة العدل وغير ذلك من أركان
السعادة. فإذا وفق الدعاة لإقناعهم بهذا وحملوهم عليه فقل: قد نفخت فيهم روح
الحياة التي لا موت بعدها. نعم إن هذا الإجمال لا يقنع القارئ بهذه الدعوى , وإن
التفصيل مع بيان الدليل لا محل له هنا على أن شرح ذلك إنما يفيد أهله الذين
استعدوا للقيام به دون من يقرأ لأجل التسلي أو الانتقاد كما هو شأن أكثر الناس.
بينا في مقالة الحياة الملّية من المجلد الثامن شيئًا من حقيقة هذه الحياة التي
هي محل رجائنا , وذكرنا هناك العلوم التي نحتاج إليها وكيفية تمهيد العقبات التي
تعترض في سبيلها , ونحن الآن في حاجة إلى بيان أن المسلمين في طور انتقال
من حال إلى حال وأن هذا الطور شبيه بطور النقه من مرض تخشى عاقبته، ولا
تؤمن نكسته، وأنهم محتاجون فيه إلى الأطباء الروحانيين العالمين بأدواء الاجتماع
وطرق معالجتها وإلا سبقهم الأجانب لتحويل الأمة في هذا الطور إلى حياة مذبذبة
ينقطع كل رجاء للإسلام فيها.
ثبت بالتجربة والاختبار أن المتعلمين للعلوم الكونية هم الذين يسودون أمتهم
كما أن الأمم السابقة في مضمار هذه العلوم تسود المتخلفة فيه فالناس تبع لهؤلاء
المتعلمين صلحوا أم فسدوا , فهم التيار الجديد الذي يحول الأمة من حال إلى حال
وعقول هؤلاء المتعلمين وقلوبهم بين أيدي الأجانب فهم الذين يودعون فيها وينقشون
في ألواحها المستعدة ما يريدون على علم منهم بغايته وأثره. ومما نشاهد من أثره
أن أكثر المتعلمين لا قيمة للدين الذي هو الرابطة العامة للمسلمين - في نفوس
أكثرهم فهم لا يصلون ولا يصومون , ولا يحلون ولا يحرمون وإنما هَمُّ أكثرهم
التمتع باللذات الحسية ولو بذلوا في سبيلها جميع المصالح العامة. ثم هم مع هذا
مغرورون بأنفسهم يحسبون أنهم أرقى من سلفهم الصالح عقولاً وأرجح أحلامًا
وأوسع علومًا وأفضل آدابًا وأقدر على الأعمال الاجتماعية فلا الدين عرفوا ولا حب
الأمة أشربوا , وكيف وهم على جهلهم بشريعتها يجهلون تاريخها الذي لم يتفضل
عليهم ساداتهم الأجانب بشيء حقيقي منه إلا بعض المسائل المنتقدة التي صوروها
بغير صورتها , وألبسوها غير لباسها , واستنبطوا منها ما لا تدل عليه من العيوب
والمساوئ , وغفل متعلمونا الأذكياء عما اعترف به المنصفون من فلاسفة أساتذتهم
المتصرفين في عقولهم وقلوبهم من حيث لا يشعرون من تعظيم شأن مدنية المسلمين
الأولين الذي أقاموا ميزان العدل بعد ميله , وأحيوا موات العلم بعد موته كما غفلوا
عن أنفسهم التي لم يوجد لها في الأرض أثرًا يحمد فلا رفعوا أمة من سقطتها ولا
أحيوا دولة بعد موتتها وما لي لا أذكرهم بتعصب أساتذتهم لدينهم والسعي في نشره
بما يبذلون من الملايين في جمعيات الرهبان والقسيسين.
كلا، إن القصد إلى بيان حال المتعلمين في مثل مصر والآستانة , وأنهم
كالعلامة في جهلهم بعاقبة علمهم وعملهم في الأمة فكل واحد منهم يفكر في خويصة
نفسه , فهو يتعلم لغاية يجعلها نصب عينيه وهي رزق مضمون يتمتع به كما يتمتع
خواص قومه. يعذر التلميذ في هذا ولا يعاب لأنه لا يتوجه إلا حيث يوجهه معلمه
ومربيه فمن لم يكن له أم ولا أب ولا معلم ينفخ فيه روح حب الأمة والملة لا يرجى
أن يهتم بجعل حياته الشخصية ركنًا من أركان حياة أمته الملية لبذل شيء من وقته
وشيء من فضل ماله في خدمتها وإعلاء شأنها.
إذا كان الكمال الشخصي يتوقف على حسن تربية الشخص البدنية والنفسية
فهل يمكن أن يكون الكمال الاجتماعي بالمصادفة والاتفاق أو لترك معظم نشء الأمة
فوضى والقذف بمن يراد تعليمهم من الذكران والإناث إلى الأجانب حتى الجزويت
والفرير ينقشون ألواح نفوسهم بما يشاءون؟
هذه الحال التي نرى عليها أكثر الذين تعلموا العلوم العصرية والتي يظن أن
سيكون عليها أو على ما هو دونها من يتعلمون الآن تصلح أن تكون حججًا لليائسين
من إصلاح حال المسلمين , ولكن أهل الرجاء يرون في أثناء هذه الظلمات المتكاثفة
بصيصًا من النور يوشك أن يتألق فيقشع كل ظلمة ويظهر صراط الحق للسارين.
يرى البصير في مصر والهند نابتة على شيء من استقلال الفكر ويرى في روسيا
نابتة لم يعمل في أرواحها سم الأجانب عمله في غيرها وهي مع ذلك تتطلب العلوم
والتربية لأجل الحياة، ويرى في الآستانة نفسها على شدة الهيمنة فيها على الأفكار
والمراقبة على العلم نابتة تلتهب غيرة وتشعر من معنى الاستقلال بما لا يشعر به
سائر المسلمين , ويرى في إيران هزة جديدة، وحركة يرجى أن تكون مفيدة،
ويرى في تونس حركة أخرى حيوية، تعوزها نفحة من نفحات الحرية، وليس
استقلال الفكر هو كل ما استفادت نابتتنا من الأجانب بل أصابتهم نفحة من نفحات
الحياة الاجتماعية. فهذا الخير يتنازع مع تلك الشرور في هذه النفوس الضعيفة ,
ولا يعوز الأمة الآن إلا الأطباء الروحانيون والزعماء الاجتماعيون الذين يشرفون
على الأودية والترع والسواقي التي تجري فيها سيول الحوادث الجديدة بالأمة
ويقدرون على تحويلها إلى حيث تكون محيية لأرض الأمة. ما رأيت لكاتب في
هذه البلاد كتابة , ولا علمت لعامل عملاً ينبئ بمراقبته للتغيير الاجتماعي الذي ينتقل
بالأمة المصرية من حال إلى حال (وحاشا من فقدنا بالأمس) إلا ما يكتبه اللورد
كرومر في تقاريره السنوية، وما يدبر به أمور الحكومة الكلية، هو الذي ينظر في
عاقبة الأعمال المالية الكبرى ويسيرها كما يرى، وهو الذي قال في المحاكم
الشرعية: إنها ستمد إليها يد لا تعرف للقديم حرمة، وهو الذي توقع من زيادة
الإقبال على تعليم البنات ما توقع , وأشار بالنظر في مغبته، هو الذي فهم ما يرمي
إليه اعتصاب تلاميذ المدارس فاهتم به اهتمامًا لم يفهم سره إلا الأقلون فمن لنا
بمرشدين ينظرون في أمورنا الكلية بتلك العين، ويرجحون سير نابتتنا خير
النجدين؟ .
هذا ما نحن في أشد الحاجة إليه لإصلاح شئوننا في هذا الطور الذي نحن فيه
فالزعماء المصلحون هم الذين يحولون مجاري الحوادث التي تعمل في استعداد
الأمة وتغيرها على ما فيه خيرها وسنفرد لهم مقالاً خاصًّا بهم.
__________(9/120)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من سنغافوره
ورأي عالم في المنار والمسلمين
(س 6-9) من خ. م. س. في سنغافوره
تشرفت بلقاء بعض الفضلاء من علماء المسلمين فانجر بنا الحديث إلى ذكر
الأحوال الحاضرة فيما للإسلام والمسلمين فيه وعليه , فجرى ذكر المنار المنير
فأثنى عليه بما هو أهله ثم شافهني بقوله: تنبه كثير من المسلمين بدعاء المنار إلى
الله تعالى وتمحيصه للحقائق , وإني أرفع إليك هذا لترفعه إلى المنار الأغر لينشره
على صفحاته مؤملاً منه أن يبسط لنا في الجواب على ما سألناه وما ضالتنا
المنشودة إلا الإرشاد إلى الحق (وهذا ما قاله ذلك الحكيم) :
ضرب الجهل أطناب خيامه في بعض البلاد الإسلامية التي كان لسلفها القدح
المعلى في العلوم والمعارف والأعمال حتى صارت الآن خلوًا من كل ما يطلق عليه
اسم (مجد) بل لا يبعد إن قلنا: إن من فيها من الخلف ضد لسلفهم , وقد أهملوا
كل شيء من المجد اتكالاً على مجد من سلف حتى إذا ما عرا حادث اتكلوا في دفعه
على سكان الأضرحة فتراهم يعتقدون في صالحي أمواتهم أنهم مطلعون على أي
حادث عرا وأنهم إن شاءوا دفعه عنهم دفعوه , وإن رأوا في إبقائه صالحًا أبقوه
وتراهم يقدسون تلك البقاع التي لم يرد في الشرع تقديسها , ويرون في مطلق
الإقامة بها شرفًا وفضلاً وإن كان المقيم بها خلوًا عن كل فضل وشرف.
فهل أنزل الله بهذا من سلطان؟ وهل فيما يعتقدونه شيء ورد به الكتاب
والسنة؟ وهل فيما إذا ورد عن سلفهم شيء ولم نجد له دليلاً من الكتاب والسنة
فعلى ماذا يكون حمله؟ وهل يجب على أحد التصديق بالولاية لشخص معين؟
وماذا يكون حكم من رد شيئًا من كلامهم في نحو ما ذكر أعلاه ولم يعترف بولاية
أحد معين؟ وقد جاء من نحو هذا في بعض أعداد المنار السالفة ما جاء , والأمل
في حضرة الأستاذ الرشيد المرشد أن لا يحيلنا على ما سبق ويبسط لنا في جوابه
على ما ذكرناه فضلاً , وليكن في معلومكم سيدي أن هذا الداء قد أزمن في كثير من
بلدان المسلمين فيحتاج إلى معالجته بدواء فيه قوة لاستئصاله - فلعل أن يكون دعاء
المنار إلى الحق بالحق مقبولاً عند أولئك , كما أنه قبل دعاء المنار كثير ممن ضلوا
فأضلوا ثم اهتدوا فهدوا -.
(المنار)
ترجع هذه الأسئلة إلى أربع مسائل:
(1) الدليل على دعاء الموتى أي التماس دفع الشر وجلب الخير منهم.
(2) ما يرد عن العلماء ولا يعلم له دليل.
(3) حكم من رد كلام العلماء الذي لا دليل عليه.
(4) الاعتقاد بولاية شخص معين من الناس أي أن له مكانة عند الله خاصة
به في الدنيا والآخرة.
وإن كثيرًا من قراء المنار قد سئموا كثرة الكلام في مسألة التوسل بالموتى إلى
قضاء الحاجات , ولكن فتنة الناس بها وتجدد قراء كثيرين للمنار في كل عام لم
يطلعوا على ما سبق نشره في ذلك مع حاجتهم إليه يوجب علينا مع تجدد السؤال
عنها أن نبين الحق فيها فنقول:
مسألة دعاء الموتى والتوسل بهم
(ج 6) لو كان الكلام مع أناس من أهل العلم والبصيرة لكان يكفينا في بيان
بدعتهم في ذلك أن نقول: إن ما تأتونه لم يأذن به الله في كتابه ولا على لسان
رسوله , ولم يأتِ بمثله صالح المؤمنين من الصحابة والتابعين وهو أمر ديني
محض لا مجال للرأي فيه فمن يقول به يكون منازعًا لله تعالى في شرع الدين كما
قال تعالى في سورة الشورى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
اللَّهُ} (الشورى: 21) .. الآية. فإن ادعوا أن أحدًا من السلف دعا ميتًا أو طلب
منه حاجة أو صلى عند قبره أو تمسح به أو قصده للدعاء أو قال: إن الدعاء عنده
أرجى للإجابة- طالبناه بالنقل ولن يجده وإنما قصارى احتجاجهم أن بعض مشايخ
التصوف الذين اشتهروا بالصلاح كانوا يتبركون بالقبور. والجواب عنه سهل لمن
يعرف ما هو الإسلام، فإن علماء أصول الدين حصروا الحجج الشرعية في الكتاب
والسنة والإجماع والقياس. ولا ينهض شيء من ذلك هنا، أما الكتاب والسنة
والإجماع فإن طريقها النقل ولم ينقل ذلك أحد؛ وأما القياس فإنه لا يأتي في الأمور
التعبدية ولا فيما يتعلق بشأن عالم الغيب , والمسألة من هذا القبيل لأن المفتونين بها
فريقان: غلاة يزعمون أن الموتى يقضون حاجاتهم بأنفسهم لأن أرواحهم مأذونة
بذلك , وقال بعضهم: بل هي تعود إلى أجسادها التي لا تفنى وتقضي الحاجة كما
كان شأنها في الحياة الدنيا، وأنت ترى أن هذا نبأ عن عالَم الغيب وهو لا يعرف
إلا بالوحي كما قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ
ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26-27) .. الآيات وفيها أن الرسول يطلعه الله
تعالى على ما يريد أن يبلغه عنه من أمر عالم الغيب كالجنة والنار والملائكة والجن.
وأما الآخرون فيقولون: إن الله تعالى يقضي حاجة من يدعوهم كرامة لهم.
وهذا حكم على الله تعالى وهو أعلى أحكام عالم الغيب , ولا قياس فيه فهو يتوقف
على نص من الوحي وإلا كان من القول على الله بدون علم وهو من كبائر الإثم
المقرونة بالكفر وهي أصول المحرمات في كل دين شرعه الله كما بينه تعالى في
قوله في سورة الأعراف: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) .
على أن هذه المسألة - مسألة التماس دفع الضر أو جلب النفع من غير الله
استقلالاً أو بالوساطة والشفاعة - لم تكن لتترك فلا يبين حكمها في القرآن وهي
أصل الوثنية وأساسها في جميع الأمم , ولذلك فتن بها أهل الكتاب فاتخذوا وسطاء
وشفعاء بينهم وبين الله تعالى غير وسطاء أجدادهم أو خلطائهم من الوثنيين فهم لا
يخالفون الوثنيين في أصل هذه العقيدة وحقيقتها، وإنما خالفوهم في مظهرها
وصورتها، إذ اعتقدوا الوساطة والشفاعة مثلهم وجعلوا لهم شفعاء ووسطاء من
أنفسهم غير وسطاء أولئك وشفعائهم. أفرأيت دين التوحيد الخالص يسكت عن هذه
المسألة ويدعها للفقهاء يحكمون فيها بقياسهم وهي تتعلق بأساس الدين وركنه الركين
وهو التوحيد؟ ! .
قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ
شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) أي أنهم باتخاذ الشفعاء يعبدون غير الله
لأن هذا عين العبادة , ولكنهم يقولون: إن هذه شفاعة عنده فهي لا تخل بتعظيمه
بل هي تعظيم لهم كما تعظم الملوك إذ لا يتجرأ الحقير على دعائهم إلا بواسطة
المقربين عنده. وقد نفى سبحانه هذه الشفاعة في آيات كثيرة قال تعالى في سورة
البقرة: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة} (البقرة: 48) ، {وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} (البقرة: 123) ، {وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَة} (البقرة: 254) وقال في سورة المدثر:
{فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (المدثر: 48) وقال في سورة الأنعام: {وَأَنذِرْ بِهِ
الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الأنعام: 51) ، {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ
بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} (الأنعام:
70) .. الآية ومعنى (تبسل) تسلم إلى الهلاك أي أن الذين تدفعهم أعمالهم إلى
الهلاك لا تنجيهم من عاقبتها شفاعة أحد , والآيات في هذا كثيرة وارجع إلى
التفسير من هذا الجزء تجد الكلام في معناها مفصلاً.
وكانوا يطلقون على هؤلاء الشفعاء لقب الأولياء كما تلوت في آيتي الأنعام
آنفًا ومثلهما آية (الم) السجدة: {مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} (السجدة: 4) وقال تعالى في سورة الزمر: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ
لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ} (الزمر: 3-4) فدلت الآية الثانية على أن من
جملة هؤلاء الأولياء المسيح عليه الصلاة والسلام والملائكة أي أن الناس
يتقربون بأشخاصهم وذواتهم إلى الله تعالى زلفى , وهذا باطل إذ لا يتقرب أحد إلى
الله تعالى بأحد إنما يُتقرب إليه تعالى بالعمل الصالح وإخلاص القلب مع الإيمان
الصحيح. وأنت تعلم أن كل ما يعتقده المبتدعون في أصحاب القبور الصالحين هو
من هذا القبيل أي أن التوسل بأشخاصهم يقرب من الله تعالى ويكون وسيلة لقضائه
سبحانه وتعالى حاجة من يدعوهم ويتقرب بهم. ولذلك قال تعالى في سورة الإسراء:
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً *
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ
عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الإسراء: 56-57) أي أن أولئك الأولياء
الذين يدعونهم لكشف الضر عنهم أو تحويله توسلاً بهم كالمسيح - هم أنفسهم
يطلبون الوسيلة إلى الله تعالى بعبادته ويرجون رحمته باتباع سنته والعمل بشريعته
ويخافون عذابه إذا قصروا، حتى إن أقربهم من مرضاته هو أخوفهم منه وأرجاهم
له. ذلك بأن عذاب الله في الدنيا والآخرة مخوف ومحذور في نفسه لأن لله فيه سننًا
لا تتبدل يوشك أن يخالفها المرء من حيث يدري أو من حيث لا يدري وأن القلوب
تتقلب وأنه لا يجب لأحد من خلقه عليه شيء ولذلك قال: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ
شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة:
17) فبمثل هذه الآية يهدينا سبحانه إلى أن ملائكته وأنبياءه وأولياءه ما كانوا
ليرجون رحمته إلا بفضله عليهم إذ جعلهم محلاً لطاعته وإرشاد عباده فلا نغلو في
تعظيمهم حتى ننسى كونهم عبيدًا له إن شاء أن يهلكهم فعل؛ لئلا نطلب منهم نفعًا
أو ضرًا. ومن ثم قرن الله خشيته بالعلم وجعله من أسبابها كما قال: {إِنَّمَا يَخْشَى
اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) وفي حديث الصحيحين عن عائشة قالت:
(صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا فرخص فيه , فتنزه عنه قوم فبلغه ذلك ,
فخطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون من الشيء أصنعه
فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية) .
ثم إن ما يطلب من أصحاب القبور وغيرهم يعبر عنه بالدعاء كما قال في
الآية السابقة: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ..} (الإسراء: 57) .. إلخ , وقد احتج
القرآن على بطلان هذا الدعاء بقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن
قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوَهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ
يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 13-14) ومثلها آيات كثيرة.
وقوله في نهي المؤمنين أن يكونوا مثل هؤلاء الوثنيين في طلب شيء أعوزهم نيله
بسببه من غير الله تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن:
18) .
هذا ولما كان أكثر الوثنيين قد فتنوا برجال من صالحيهم حتى اعتقدوا أنهم
بعد موتهم ينفعون ويضرون وكانت هذه الفتنة قد سرت إلى أهل الكتاب فاتخذوا
أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله , وصاروا يبنون عليهم الكنائس أو ينسبونها
إليهم ويتوسلون بهم إلى الله تعالى , ويعتقدون أن الله يقضي حاجاتهم بجاههم أو أنه
أعطاهم قوة قضائها بأنفسهم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بناء المساجد على
القبور وعن عمارة القبور نفسها وعن وضع السرج عليها , بل ونهى عن زيارتها
في أول الإسلام ولما تمكن التوحيد رخص في زيارتها بقصد الاعتبار بالموت
وتذكر الآخرة ففعل المسلمون في هذه الأزمنة كل ما نهى عنه ولعن فاعله ومن
ذكَّرهم ونهاهم عن هذه البدع أنكروا عليه بأنه هو المبتدع لأنه منكر لزيارة القبور
كأن زيارة القبور تحمي كل تلك البدع التي هي شعار الوثنيين مع أن الصحيح في
الأصول عند الجمهور أن الأمر بالشيء بعد النهي عنه إنما يدل على إباحته لا
وجوبه أو ندبه , وهبْ أن الأمر بالزيارة بعد حظرها للندب أو الاستحباب أليس قد
عللت بعلة تذكر الآخرة فإذا فعلت لعلة أخرى كدعاء الميت وطلب الاستفادة منه أو
به تكون قد خرجت عن دائرة الإذن ودخلت في باب المحظور الذي لم يأذن به الله؟.
ومن عجائب تلاعب الأهواء بالمبتدعين أن كل ما ورد من التشديد في بناء
القبور وتشريفها والبناء عليها ووضع السرج عندها واتخاذها مواسم وأعيادًا لم
يقصد به إلا سد باب الاعتقاد بأن صالحي الموتى ينفعون الأحياء ويضرونهم كما أن
النهي عن التصوير وعن اتخاذ الصور بصفة تشعر بالتعظيم لم يقصد به إلا المنع
من تصوير من يعظمون تعظيمًا دينيًا كما هو شأن الوثنيين ومن تبعهم من أهل
الكتاب. الأمران من باب واحد ولكن علماء المسلمين سكتوا للعوام على ضلالهم في
القبور حتى لا تكاد ترى في مثل هذه البلاد مسجدًا ليس فيه قبر مبني مشرف يقصد
للتوسل به وطلب دفع الضر وجلب الخير منه ولكنهم يشددون في التصوير واتخاذ
الصور وإن لم تكن فيها شائبة الدين ولا الشبهة على الاعتقاد أو التعظيم وإننا نختم
هذا الجواب بشيء مما ورد في القبور.
قال صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر
ما فعلوا) رواه أحمد والبخاري ومسلم من حديث أبي هريرة زاد مسلم:
والنصارى , قالت عائشة: ولولا هذا لأبرز قبره. فالسبب في حجب قبره صلى
الله عليه وسلم عن أعين الناس منعهم من تعظيمه أو التماس المنفعة منه مع أنه هو
الذي خاطبه الله تعالى بقوله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ
وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ
لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) ومثلها آيات. وفي صحيح مسلم أنه قال قبل أن
يموت بخمس: (إن من قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) .
وفي الصحيحين أنه ذكر له كنيسة بأرض الحبشة وذكر من حسنها وتصاوير فيها
فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك
الصور أولئك هم شرار الخلق عند الله يوم القيامة) وفي مسند أحمد وصحيح أبي
حاتم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة
وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد) وفي سنن أبي داود وغيره عنه صلى الله
عليه وسلم أنه قال: (لا تتخذوا قبري عيدًا) وفي موطأ مالك عنه صلى الله عليه
وسلم أنه قال: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا
قبور أنبيائهم مساجد) وما عبادة القبر إلا تعظيمه وطلب الحوائج ممن دفن فيه ,
ومن التعظيم الذي هو عبادة الطواف به كما يطاف بالكعبة والتمسح بها التماسًا
للبركة وللشفاء وتقبيله. فإن من نهى صلى الله عليه وسلم عن مثل فعلهم كانوا
يفعلون ذلك. وفي مسند أحمد وسنن أبي دواد والترمذي والنسائي عن ابن عباس
أنه قال: (لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) وفى إسناده
أبو صالح باذام تكلم فيه ويعضده ما تقدم.
وأما آثار الصحابة في ذلك فكثيرة. ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير
سورة الإخلاص وغيره أنه ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان في
سفر فرأى قومًا ينتابون مكانًا للصلاة فسأل عن ذلك فقالوا: هذا مكان صلى فيه
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا إنهم اتخذوا آثار
أنبيائهم مساجد، من أدركته الصلاة فليصلِّ وإلا فليمضِ، وبلغه أن قومًا يذهبون
إلى الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحتها فأمر بقطعها.
وأرسل إليه أبو موسى يذكر له أنه ظهر بتُسْتَر قبر دانيال وعنده مصحف (أي
كتاب) فيه أخبار ما سيكون وأنهم إذا أجدبوا كشفوا عن القبر فمطروا , فأرسل إليه
عمر يأمره أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرًا يدفنه بالليل في واحد منها لئلا يعرفه
الناس لئلا يُفتنوا به.
(قال شيخ الإسلام) : فاتخاذ القبور مساجد مما حرمه الله ورسوله وإن لم
يبن عليها مسجدًا ولكن بناء المساجد عليها أعظم. وكذلك قال العلماء: يحرم بناء
المساجد على القبور , ويجب هدم كل مسجد بني على قبر , وإن كان الميت قد قبر
في مسجد وقد طال مكثه سُوي القبر حتى لا تظهر صورته فإن الشرك إنما يظهر
إذا ظهرت صورته , واستدل على هذا الأخير بأن المسجد النبوي كان مقبرة فنبشت
وسويت , وما ذكره في هدم المسجد المبني على قبر، نقل نحوه ابن حجر في
الزواجر , وقد نقلنا عبارته في المنار من قبل.
وجملة القول: إن الله تعالى لم يأذن بأن يُدعى غيره لدفع ضر أو جلب نفع
لا على أنه مستقل بذلك ولا على أنه واسطة بينه وبين عباده في الخلق والتقدير ,
وإنما حصر الواسطة بينه وبين عباده بتبليغ دينه وشرعه إليهم على لسان رسوله
وقد حصر خصوصيتهم بهذا التبليغ في آيات كثيرة وبين أنهم لا يمتازون عن سائر
الناس بشيء وراء الوحي وما يستلزمه من الصفات كالصدق والأمانة وأنهم لا
يقدرون على نفع أحد ولا ضره بالفعل حتى بالهداية والرشد , ومن حكمته أن كان
بعض آبائهم وأبنائهم وأقاربهم كفارًا ليعلم الناس أنه لو كان لهم من الأمر شيء
لهدوا جميع أقاربهم وأنقذوهم من عذاب الدنيا والآخرة. أفبعد هذا كله يكون لمدعي
الإسلام وجه ما لدعوى أن الأموات الصالحين يملكون كشف الضر أو تحويله عن
الناس وجلب المنافع لهم وذلك من الوثنية الصريحة {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ *
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ} (النور: 16-18) [1] .
***
أقوال العلماء بغير دليل
(ج 7) لا حجة في قول أحد بالدين دون قول الشارع , ويجب رد كل قول
لم يؤيد بدليل بالحديث المتفق عليه: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)
أي مردود , وبذلك صرح الأئمة المشهورون , قال أبو الليث السمرقندي: حدثنا
إبراهيم بن يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: (لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم
من أين قلنا) وروي عن أصحابه مثل ذلك , وفى رواية: (ما لم يعرف دليلنا)
وممن نقل عنهم ذلك الشعراني وولي الله الدهلوي. وفي روضة العلماء من كتبهم:
(قيل لأبي حنيفة: إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لكتاب
الله. فقيل: إذا كان خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يخالفه؟ قال: اتركوا قولي
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه قال:
اتركوا قولي لقول الصحابة) .
وروى الحافظ ابن عبد البر بسنده إلى معن بن عيسى قال: سمعت مالك بن
أنس يقول: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب
والسنة فخذوه , وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه، ورواه غيره أيضًا. ومن
المشهور عن مالك أنه كان يقول عند التحديث في الحرم النبوي الشريف: كل أحد
يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر، ويشير إلى الروضة الشريفة
وقال الإمام الشافعي في كتابه الأم في أثناء كلام: (وهذا يدل على أنه ليس لأحد
دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا بالاستدلال) وله أقوال في هذا
المعنى كثيرة يكفينا منها هذا النص الصريح فيما نحن فيه , وأتباعه من أكثر الناس
أقوالاً في ذلك , وكذلك الحنابلة ولذلك كثر المجتهدون ممن تفقه في هذين المذهبين؛
أما الإمام أحمد فهو أشد الناس براءة من القول بغير دليل , وقد سأله أبو داود عن
الأوزاعي ومالك أيهما أتبع؟ فقال: (لا تقلد دينك أحدًا من هؤلاء، ما جاء عن
النبي وأصحابه فخذه، وقال: لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الشافعي ولا الأوزاعي
ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا) أي من الدليل. وما قاله هؤلاء الأئمة المهتدون
هو ما أجمع عليه السلف , ولكن الغلو في تعظيم الإنسان لشيوخه وشيوخهم وثقته
بهم من أسباب ترك الدليل إلى أقوالهم بل من أسباب اتباعهم في أقوالهم وأفعالهم ,
وكم من رجل جهول قلده الجاهلون لأنهم اعتقدوا صلاحه فقالوا ما كان لمثله في
تقواه وورعه أن يقول أو يعمل إلا ما يعلم أنه حق، وهذا قول مردود بلا نزاع
فالصالح غير معصوم فقد يخطئ جهلاً وقد يخطئ سهوًا وعمدًا.
***
حكم من رد كلام العلماء الذي لا دليل عليه
(ج 8) حكم من رد كلام العلماء لأنه لا دليل عليه أنه اتبع الحق واهتدى
بالقرآن وسار على طريقة السلف الصالحين والأئمة المرضيين - كما علمت.
***
الاعتقاد بولاية شخص معين
(ج 9) إن ما يعتقده عوام المسلمين في الولاية والأولياء في هذه الأزمنة لم
يكن معروفًا في صدر الإسلام بالمرة , فلم يكن الصحابة يدعون بعض عبادهم
بالأولياء. والولي في اللغة: الناصر والصديق ومتولي الأمر , وجاء في القرآن أن
لله أولياء وللشيطان أولياء , وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض والكفار والمنافقين
بعضهم أولياء بعض. فولي الله من ينصر دينه ويقيم سننه وشريعته وولاية
المؤمنين بعضهم لبعض عبارة عن تناصرهم في إعلاء كلمته وإقامة دينه وشريعته.
والله ولي الذين آمنوا بمعنى أنه هو الذي يتولى أمورهم , وليس لهم من دونه ولي
ولا نصير؛ فمن اتخذ وليًا يعتقد أنه يتولى بعض أموره في غير ما يتعاون به
الناس بعضهم مع بعض فقد اتخذه شريكًا كما علمت من آية الزمر التي مرت في
جواب السؤال السادس ومثلها آيات كثيرة.
ليس لمؤمن أن يعتقد جزمًا أن أحدًا من الناس بعينه قد مات وهو ولي لله
تعالى مرضي عنه له في دار رضوانه ما وعد به أولياءه، لأن ذلك تعدٍّ على علم
الغيب , وقول على الله بغير علم , وقد أجمع العلماء على أن الخاتمة مجهولة وأنه
لا يقطع لأحد بالموت على الإيمان وبكرامة الله له بالجنة إلا بخبر عن الشارع ,
وإنما نحسن الظن بجميع المؤمنين , ومن عرفنا استقامته على الشرع كان ظننا فيه
أحسن ورجاؤنا له بفضل الله أكبر. أخرج البخاري في صحيحه عن أم العلاء -
امرأة من الأنصار - أنهم اقتسموا المهاجرين أول ما قدموا عليهم بالقرعة , قالت:
فطار لنا - أي وقع في سهمنا - عثمان بن مظعون من أفضل المهاجرين وأكابرهم
ومتعبديهم وممن شهد بدرًا فاشتكى فمرضناه حتى إذا توفي وجعلناه في ثيابه دخل
علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي
عليك لقد أكرمك الله تعالى. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك
أن الله أكرمه؟) فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (أما عثمان فقد جاءه اليقين والله إني لأرجو له الخير. ما
أدري وأنا رسول الله ما يُفعل بي) ، قالت: فوالله لا أزكي أحدًا بعده أبدًا. فهذا
الحديث الصحيح يكفي في قطع ألسنة المفتاتين على الله الذين يجزمون بأن فلانًا
وفلانًا ممن يعرف وممن لا يعرف من أولياء الله المكرمين عنده قطعًا، وأن لهم
فوق ذلك السلطان في عالم الغيب وعالم الشهادة , وما أجهلهم بالله وكتابه وبهدي
رسوله وسيرة سلف الأمة الذين نقل عنهم في الخوف وعدم الجزم بأمر الآخرة - ما
فيه عبرة للجاهلين لو كانوا يوعظون به حتى أن المبشرين بالجنة من الصحابة ما
كانوا يأمنون مكر الله وكانوا يقولون: ما يدرينا أن النبي صلى الله عليه وسلم
بشرنا بشرط الاستقامة على ما كنا عليه معه وأننا فُتنّا من حيث لا ندري.
***
خلق آدم وعيسى
لم يكتفِ الشيخ قاسم محمد أبو غدير بما ذكرنا في هذه المسألة التي سأل عنها ,
فكتب إلينا في 14 المحرم يطلب نشر أسئلته التي كان أرسلها إلينا بنصها
والجواب عنها بالتفصيل في أول جزء يصدر بعد كتابته هذه (لأهمية الموضوع) ,
وإننا لا نرى الموضوع بالعين التي رآها به , وإنما يصح أن يعتنى به هذا
الاعتناء إذا ثبت مذهب دارون بطريق القطع الذي لا يحتمل الشك والارتياب فعند
ذلك يجب علينا نحن المسلمين أن نبذل جهدنا في تأويل الآيات الواردة في خلق آدم
بمثل ما تقدم الإشارة إليه أو بغيره فإن لم نقدر انتصر دارون على القرآن ويثبت
بطلانه (حاش لله) أما الآن فإننا نعتقد في المسألة ما يدل عليه ظاهر الآيات من
غير تأويل. وأما ما ذكره الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي من التأويل فهو في
باب دفع الشبهات والرد على المعترضين , ولا يكلف السائل ولا غيره أن يتخذه
عقيدة له.
لهذا نرى أن لا حاجة إلى التطويل الذي يطلبه إذ لا فائدة له , فالمسلم لا
يترك الظاهر ويلجأ إلى التأويل إلا إذا عرضت له الشبهة أو أوردت عليه , وما
كان لنا أن نجتهد في إبطال تأويل يراد به تثبيت عقيدة مشتبهة أو رد شبهة
معترض فليتدبر.
هذا وإن أسئلته قد جعلت في اللقا من الورق بعد ذلك الجواب المجمل , وقد
أردنا مراجعتها عند كتابة هذه الكلمات فلم نظفر بها.
__________
(1) لا نلتزم بيان عدد الآيات التي تذكر بطريق الاقتباس لا لبيان معناها في الأصل ولا للاحتجاج بها كهذه الايات.(9/130)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة أجوبة الأسئلة الجاوية في السماع
(تنبيه) رأى بعض فضلاء المصريين أننا أطلنا في هذه المسألة أكثر مما
تستحق وذلك أنه يندر أن يوجد في مصر من يتحامى السماع ولكن الجمود في كثير
من البلاد على تقليد المعسِّرين لا يلين إلا بأكثر من هذا , والمنار ليس خاصًّا
بالمصريين.
البحث في السماع من جهة القياس الفكري
يرى القارئ المنصف أن ما قاله الشوكاني (ونشرناه في الجزء الماضي هو
صفوة التحقيق إلا أن في إدخاله السماع على الإطلاق باب الشبهات نظرًا؛ فإن ما
ثبت في الصحيح من سماع النبي صلى الله عليه وسلم وأكابر أصحابه يدفعه , فإنهم
أبعد الناس عن الشبهات , وقد سمعوا مع تسميتهم ذلك بمزمار الشيطان وباللهو.
والذي يظهر من أحاديث الإباحة التي تقدمت أن قول من قال باستحباب السماع أو
ندبه ينبغي أن يحمل على ما يكون في الأوقات والحالات التي يستحب فيها تحري
السرور كالعرس والعيد وقدوم الغائب. فإن السماع فيما عدا هذه الأوقات والحالات
مباح لذاته بشرط عدم الإسراف فيه , فإن الإسراف ضار بالأخلاق مسقط للمروءة ,
وهذا هو مراد الإمام الشافعي رضي الله عنه بقوله في الأم: إن الغناء لهو مكروه
يشبه الباطل ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته , وقوله: إن صاحب الجارية
إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته، وقد يقال: إنه يقرب أن يكون ديوثًا
لأنه إذ لم يغَرْ على جاريته أن تطرب الناس بصوتها فربما كان لا يغار عليها مطلقًا.
وقولنا: مباح لذاته، يتفق مع قول الغزالي ومن وافقه بمنع ما كان فيه تشبه
بأهل الفسق في شعارهم الخاص بهم قال في الإحياء: (ولهذه العلة نقول: لو
اجتمع جماعة وزينوا مجلسًا , وأحضروا آلات الشرب وأقداحه وصبوا فيها
السكنجبين , ونصبوا ساقيًا يدور عليهم ويسقيهم فيأخذون من الساقي ويشربون
ويحيي بعضهم بعضًا بكلماتهم المعتادة بينهم؛ حرم ذلك عليهم وإن كان المشروب
مباحًا في نفسه لأن في هذا تشبهًا بأهل الفساد , بل لهذا ينهى عن لبس القباء وعن
ترك الشعر قزعًا على الرأس في بلاد صار القباء فيها من لباس أهل الفساد ولا
ينهى عن ذلك فيما وراء أهل النهر لاعتياد أهل الصلاح ذلك فيهم. فلهذه المعاني
حرم المزمار العراقي والأوتار كلها كالعود والصنج والرباب والبربط وغيرها وما
عدا ذلك فليس في معناها كشاهين الرعاة والحجيج وشاهين الطبالين وكالطبل
والقضيب وكل آلة يستخرج منها صوت مستطاب موزون سوى ما يعتاده أهل
الشرب؛ لأن كل ذلك لا يتعلق بالخمر ولا يذكر بها ولا يشوق إليها ولا يوجب
التشبه بأربابها فلم يكن في معناها فبقي على أصل الإباحة قياسًا على أصوات
الطيور وغيرها. بل أقول: سماع الأوتار ممن يضربها على غير وزن متناسب
مستلذ حرام أيضًا. وبهذا تبين أنه ليست العلة في تحريمها مجرد اللذة الطيبة , بل
القياس تحليل الطيبات كلها إلا ما في تحليله فساد قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) فهذه
الأصوات لا تحرم من حيث هي أصوات موزونة وإنما تحرم بعارض آخر. اهـ
كلام الغزالي وتكلم في مكان آخر عن العوارض.
فهذا القول هو أحسن ما قيل في القياس كما أن القول السابق هو أحسن ما قيل
في السنة وأجمعه. وأنت تعلم أن التشبه بأهل السكر والخلاعة إنما حرم لما فيه من
مهانة المؤمن وضعته , فإذا سمع المؤمن الأوتار في مجلس لا يعد فيه متشبهًا بأهل
السكر والفسق كأن يسمعه في بيته أو بيت آخر بصفة لا تشبه فيها فلا مجال للقول
بالتحريم , فالأمر في الأوتار كالأمر في لبس القباء (هو القفطان في عرف
المصريين والغنباز في عرف الشاميين) فقد حرمه الغزالي في بلاد وأباحه في
أخرى لعلة التشبه وعدمها , وما قاله في إباحة سائر الآلات يدخل فيه آلات
الموسيقى العسكرية وأمثالها فتبين بهذا أنه لا وجه في القياس الصحيح لتحريم سماع
المعازف على الإطلاق كما أنه لا وجه لها في كتاب ولا سنة بل الوجه ما تقدم.
ومن العوارض التي لا بد من التنبيه إليها كون السماع يهيج السامع فيدفعه إلى
المعاصي؛ فمن علم من نفسه ذلك حرم عليه، هذا ما يليق بدين الفطرة الذي جمع
لمتبعيه بين سعادة الدنيا والآخرة والله أعلم وأحكم.
الكلام على عبارات الأسئلة
أما قول السائل في السؤال الأول: إن الغزالي حرم ما هو شعار أهل الشرب
إلخ فيقال فيه: إن ما صرح به الغزالي هو أن الأصل في سماع الغناء
والمعازف الحل كما تقدم , وتحريم سماع الأوتار لعلة التشبه بالفساق يزول بزوال
هذه العلة كما قال في لبس القباء. وما ذكره فيه عن ابن حجر من العلة الأخرى
وهي كون اللذة بالسماع تدعو إلى الفساد فهو محل نظر , إذ السماع - كما قال
بعض العلماء - إنما يحرك الساكن ويستخرج الكامن فمن لم يكن من أهل الفساد لا
يدعوه إلى الفساد , وأشد السماع تأثيرًا في النفس سماع ألحان النساء وقد سمعها
الشارع وكبار أصحابه , وقد أطال الغزالي في بيان اختلاف الحكم باختلاف أحوال
الأشخاص وأن ذلك لا يمنع أن الأصل فيه وفي جميع اللذات الإباحة. والحديث
الذي أورده فيه عن كتاب النصائح وهو (إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل
بها البلاء..) وذكر منها اتخاذ القينات والمعازف وفسرها بالملاهي من الأوتار
والمزامير لم نذكره في أحاديث الحظر لشدة ضعفه ولأجل الكلام عليه هنا. فنقول:
قد رواه الترمذي عن صالح بن عبد الله عن الفرج بن فضالة الشامي عن يحيى بن
سعيد عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب مرفوعًا: (إذا فعلت أمتي خمس
عشرة خصلة حل بها البلاء) قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: (إذا كان المغنم
دولاً , والأمانة مغنمًا , والزكاة مغرمًا , وأطاع الرجل زوجته وعق أمه , وبر
صديقه وجفا أباه , وارتفعت الأصوات في المساجد , وكان زعيم القوم أرذلهم ,
وأُكرِمَ الرجل مخافة شره , وشُربت الخمور , ولُبس الحرير , واتُّخِذَتْ القيان
والمعازف , ولعن آخر هذه الامة أولها؛ فارتقبوا حين ذلك ريحًا حمراء وخسفًا أو
مسخًا) والفرج بن فضالة قد تكلم فيه، سئل الدارقطني عنه فقال: ضعيف فقيل له:
نكتب عنه حديثه عن يحيى بن سعيد (إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة..) ..
إلخ؟ فقال: هذا باطل، فقيل من جهة الفرج قال: نعم. وقال أبو داود: سمعت
أحمد يقول: إذا حدث عن الشاميين فليس به بأس ولكنه عن يحيى بن سعيد عنده
مناكير، وقال أبو حاتم: لا يحل الاحتجاج به , وقال مسلم: إنه منكر الحديث، ثم
إن الحديث لا يدل على تحريم سماع الأوتار؛ لأن الخصال التي ذكرت فيه منها ما
هو فضيلة كبرِّ الصديق ولكن مجموعها سبب للهلاك , وإن لم يصح الحديث لأنها
من السرف في الترف وفساد الأخلاق وإضاعة المصالح العامة والخاصة.
ابن حزم وابن طاهر الحافظان
وأما ما ذكر في السؤال الثاني عن ابن حجر الهيتمي من الطعن في ابن حزم
وفي ابن طاهر فهو مما اعتاد ابن حجر مثله , وهو معدود عليه من غلوه في
التعصب لأقوال علماء مذهبه , وابن حجر ليس من طبقة ابن حزم الحافظ الإمام
المجتهد ولا من طبقة ابن طاهر , وإنما يعرف قدر ابن حزم الحافظ ابن حجر
العسقلاني إمام المحدثين في زمنه وبعد زمنه. وقد ذكر له ترجمة طويلة في طبقات
الحفاظ قال فيها: وكان إليه المنتهى في الذكاء والحفظ وسعة الدائرة في العلوم ,
وكان شافعيًّا ثم انتقل إلى القول بالظاهر , ونفى القول بالقياس وتمسك بالعموم
والبراءة الأصلية , وكان صاحب فنون فيه دين وتورع وتزهد وتحرٍّ للصدق , ثم
قال: وقال صاعد بن أحمد: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام
وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان ووفور حظه من البلاغة والشعر ومعرفته
بالسنن والآثار. أخبرني ولده الفضل أنه اجتمع عنده بخط أبيه أبي محمد من
تواليفه أربع مائة مجلد تحتوي على نحو من ثمانين ألف ورقة. قال الحميدي: كان
أبو محمد حافظًا للحديث وفقهه مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة متقنًا في علوم
جمة عاملاً بعلمه ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ وكرم النفس
والتدين، وكان له في الأدب والشعر نفس واسع وباع طويل ما رأيت من يقول
الشعر على البديهة أسرع منه.. إلخ، ثم نقل الحافظ ابن حجر عن شيخ الإسلام
العز بن عبد السلام إمام الشافعية في عصره أنه قال: ما رأيت في كتب الإسلام في
العلم مثل المُحَلَّى لابن حزم والمُغني للشيخ الموفق، ثم قال الحافظ في أواخر
ترجمته: قلت: ابن حزم رجل من العلماء الكبار فيه أدوات الاجتهاد كاملة.. إلخ.
وأما ابن طاهر فقد ذكره في طبقات الحفاظ أيضًا وبيَّن أصل هذه الكلمة
(إباحي) التي قالها فيه ابن حجر الهيتمي الفقيه مع ألفاظ أخرى تعد من السباب لم
يقل بمثلها أحد. قال الحافظ في ترجمته: وقد ذكره الدقاق في رسالة فحط عليه
وقال: كان صوفيًا ملامتيًا سكن الري ثم همذان , له كتاب صفوة التصوف وله
أدنى معرفة بالحديث، قلت: هو أحفظ منك بكثير يا هذا! . ثم قال: ذكر عنه
الإباحة قلت: بل الرجل مسلم معظم للآثار وإنما كان يرى إباحة السماع لا الإباحة
المطلقة التي هي ضرب من الزندقة. اهـ. فهل يُسَلِّم مسلم بعد قول الحافظ ابن
حجر العسقلاني صاحب القول الفصل والحكم العدل في الرجال ما قاله ابن حجر
الفقيه الهيتمي من أنه مجازف إباحي كذاب رجس العقيدة نجسها؟ اللهم ألهم
هؤلاء الأئمة الذين يسبهم ابن حجر الهيتمي المتعصب لتقليده العفو عنه يوم الدين.
وأما حكاية الحافظ ابن طاهر عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي إباحته العود
فإذا لم تصح عنه فقد صحت عمن هم أعظم منه. قال الزبيدي في شرح الإحياء
بعد نقل تحريمه عن المذاهب الأربعة: وذهبت طائفة إلى جوازه وحكي سماعه عن
عبد الله بن جعفر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومعاوية بن أبي سفيان
وعمرو بن العاص وحسان بن ثابت رضي الله عنهم وعن عبد الرحمن بن حسان
وخارجة بن زيد ونقله الأستاذ أبو منصور عن الزهري وسعيد بن المسيب وعطاء
بن أبي رباح والشعبي وعبد الله بن أبي عبيد وأكثر فقهاء المدينة. وحكاه الخليلي
عن عبد العزيز بن الماجشون وقدمنا ذلك عن إبراهيم وابنه سعد وحكاه الأستاذ
أبو منصور أيضًا عن مالك وكذلك حكاه الفوراني في كتابه الغمد. وحكى الروياني
عن القفال أنه حُكيَ عن مالك أنه يبيح الغناء على المعازف، وحكاه الماوردي
في الحاوي عن بعض الشافعية ومال إليه الأستاذ أبو منصور. ونقل الحافظ ابن
طاهر عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه كان مذهبه وأنه كان مشهورًا عنه وأنه لم
ينكره عليه أحد من علماء عصره. وابن طاهر عاصر الشيخ واجتمع به وهو ثقه
وحكاه عن أهل المدينة وادعى أنه لا خلاف فيه بينهم وإليه ذهب الظاهرية حكاه
ابن حزم وغيره. قال صاحب الإمتاع: ولم أَرَ من تعرض لكراهة ولا لغيرها إلا ما
أطلقه الشافعي في الأم حيث قال: وأكره اللعب بالنرد للخبر أكثر ما أكره اللعب
بشيء من الملاهي، فإطلاقه يشمل الملاهي كلها ويندرج فيه العود وغيره , وقد
تمسك بهذا النص من أتباعه من جعل النرد مكروهًا غير محرم، وما حكاه المازري
في شرح التلقين عن ابن عبد الحكم أنه قال: إنه مكروه، ونقل عن العز بن عبد
السلام أنه سئل عنه فقال: إنه مباح , وهذا هو الذي يقتضيه سياق المصنف هنا
(يعني الغزالي في الإحياء) اهـ. كلام الزبيدي ومنه ومما سبق عن نيل
الأوطار يعلم أن النقل عن الصحابة والتابعين وغيرهم من العلماء لم ينفرد به ابن
حزم وابن طاهر , ولو انفردا لاحتج بنقلهما الأثبات وهما من الأثبات ما لا يحتج
بنفي ابن حجر الهيتمي وهو ليس من الحفاظ , ولم يطعن في أسانيدهما لينظر في
طعنه. وسقط بهذه النقول ما جاء في الأسئلة من ذكر الاتفاق على تحريم العود
ونحوه وتفسيق من يسمعه.
وأما سؤاله عن جواز نسبة ذلك إلى العلويين الأتقياء؛ فجوابه أن النقل لا
يكون بالرأي فإن نقل ذلك ثقة صدقناه وحملنا سماعهم على اعتقادهم الحل كما نقل
ذلك عمن هم خير منهم وإن كان غير ثقة لم نصدقه.
وأما سؤاله عن بعض علماء الرسوم: هل يقتدى بهم إذا سمعوا العود؟ فنقول:
إنهم لا يقتدى بفعلهم في شيء مطلقًا , وإنما يؤخذ بنقلهم وروايتهم في بيان حكم
الله إن كانوا ثقات صادقين. كذلك يقال في الصوفية الذين ذكرهم في السؤال
الخامس: من عرفت استقامته وتقواه منهم فلا يجوز الطعن في دينه لسماعه العود
من غير أن يتشبه بأهل الفسق فيما هو من شئون فسقهم بحيث يظن أنه منهم فمن
فعل هذا فقد جنى على نفسه وأهانها فلا يلومنَّ من أساء الظن به.
خلاصة القول في السماع
(1) لم يرد نص في الكتاب ولا في السنة في تحريم سماع الغناء أو آلات
اللهو يحتج به.
(2) ورد في الصحيح أن الشارع وكبار أصحابه سمعوا أصوات الجواري
والدفوف بلا نكير.
(3) أن الأصل في الأشياء الإباحة.
(4) ورد نص القرآن بإحلال الطيبات والزينة وتحريم الخبائث.
(5) لم يرد نص عن الأئمة الأربعة في تحريم سماع الآلات.
(6) كل ضار في الدين أو العقل أو النفس أو المال أو العرض فهو من
المحرم ولا محرم غير ضار.
(7) من يعلم أو يظن أن السماع يغريه بمحرم حرم عليه.
(8) أن الله يحب أن تُؤتَى رخَصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
(9) أن تتبع الرخص والإسراف فيها مذموم شرعًا وعقلاً.
(10) إذا وصل الإسراف في اللهو المباح إلى حد التشبه بالفساق كان
مكروهًا أو محرمًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(9/141)
الكاتب: أديب متنكر
__________
نقد شرح ديوان أبي تمام
تابع لما في الجزء الأول
(ص104)
أظن دموعها سنن الفريد ... وهي سلكاه من نحر وجِيد
(سنن الفريد: وجه العقد) يقال: امضِ على سننك أي على وجهك , وتنحَّ
عن سنن الجبل أي وجهه , ولا يقصد الشاعر إلى هذا هنا , وإنما قصد إلى
تشبيه قطرات الدموع بحبات العقد الفريد التي عبر عنها بالسنن وهي جمع سنة
كحبر جمع حبرة. والسنة: الحبة من رأس الثوم وهي بيضاء مدملكة ملساء
فيحسن تشبيه حبات العقد بها وإطلاق اسمها عليها. ولا يضر التشبيه خبث رائحة
السنن لأنه لا يلاحظ فيه جميع عوارض المشبه به , وهذا طلع النخل تشبه به
الثنايا ورائحته رائحته.
(ص104)
رآنا مشعري أرق وحزن ... وبغيته لدى الركب الهجود.
(الهجود: من هجد إذا أناخ) : هجد: نام، والركب الهجود النائم , وهو
ما أراده الشاعر فهو يقول: إن الطيف تحامى زيارته لكونه حليف أرق وحزن
والطيف إنما يأوي إلى الركب النائم. وقد ينيخ الركب ولا ينام.
(ص109)
أخو الحرب العوان اذا أدارت ... رحاها بالجنود على الجنود
(العوان: التي قوتل فيها مرة) صوابه: مرتين أي مرة بعد أخرى , وفسر
الشارح العوان أيضًا في ص143 كما فسرها به هنا.
(ص 105)
بنصر ابن منصور بن بسام انفرى ... لنا شظف الأيام في عيشة رغد
(انفرى: انصلح) انفرى هنا بمعنى انكشف وتقلص واضمحل وزال.
راجع ما قلناه عن هذه الكلمة في قول الشاعر:
به انكشف عنا الغيابة.. إلخ.
(ص138)
فعلوت هامته فطار فراشها ... بشهاب موت في اليدين مجرد
(الفراش: موقع اللسان في قعر الفم) أراد الشارح أن الفِراش مفرد على
وزان كتاب وأن معناه ما ذكره , وليس كذلك فإن شاعرنا أراد بقوله ما يريده أهل
اللغة في قولهم: أطار فَراش رأسه , وفَراش الرأس بفتح الفاء جمع فراشة بفتحها
أيضًا عظام رقيقة تبلغ القحف ويقال لها: فراش الدماغ , والفراش أيضًا كل رقيق
من عظم أو حديد.
(ص 139)
نفسوك فالتمسوا مداك فحاولوا ... جبلاً يزل صفيحه بالمصعد
(بالمصعد: أي وقت الطلوع) لا معنى لكون وجه الجبل وسطحه يزلق
بوقت الطلوع , وإنما المعنى أن من أراد بلوغ المنزلة التي بلغها الممدوح كان كمن
يحاول الرُّقِيّ في جبل يزلق سطحه بالمصعد فيه فهو لا يزال في عناء وخيبة
فالمصعد اسم فاعل من أصعد إذا استقبل أرضًا أرفع من الأخرى , ونظير قول
شاعرنا قول الآخر: (كما زالت الصفواء بالمتنزه) أي كما يزل النازل على
الصخرة الملساء.
(ص145)
حتى التوى من نقع قسطلها على ... حيطان قسطنطينة إعصار
(النقع: رفع الصوت) القسطل ليس له صوت مرتفع , وإنما المراد بالنقع
هنا الغبار وتكون إضافة النقع إلى القسطل الذي معناه الغبار أيضًا من قبيل الإضافة
البيانية.
(ص 148)
وإذا القسي العوج طارت نبلها ... سوم الجراد يشيح حين يطار
(السوم: العلامة) السوم هنا مصدر سامت الطير على الشيء سومًا: حامت ,
وهو مفعول مطلق لطارت من غير لفظه يقول: إذا انتثرت النبال وأشبه انتثارها
حومان رجل الجراد الذي هيج فجد في الطيران. وجواب الشطر البيت بعده. ... (ص 151)
لولا أحاديث أبقتها أوائلنا ... من السدى والندى لم يعرف السمر
(السدى: ندى الليل) كما يطلق كل من السدى والندى على ما يسقط في
الليل يطلق أيضًا على المعروف والجود , ومنه: أسدى إليه أحسن إليه , والمراد
منهما هنا المعنيان الآخران قطعًا ولا يمكن أن يراد بالسدى ندى الليل.
(ص158)
مصفرة محمرة فكأنها ... عصب تيمن في الوغى وتمضر
(العصب: صبغ ينبت في اليمن) العصب: ضرب من برود اليمن ذو
وشي ونقوش , وقد أراد الشاعر أن الربيع أفرغ على الأرض من أزاهيره حللاً
ملونة تحاكي تلك البرود اليمنية المسماة بالعصب لا أنها تحاكي الصبغ نفسه.
(ص 158)
بالثامن المتخلف اتسق الهدى ... حتى تخير رشده المتحير
(اتسق: سار على طريقة نظام عام) اتسق واستوسق الأمر أو الهدى مثلاً
اجتمع وانتظم واستوى , واتساق القمر اكتماله واستواؤه. وقولهم: وسق البعير أي
ساقه لا يقتضي جواز مجيء اتسق بمعنى سار مطاوعًا له.
(ص168)
للمجد مستشرف وللأدب المجفوّ ... ترب وللندى حلس
(الحلس: الكبير من الناس) نعم هو من جملة معانيه لكن أريد به هنا معنى
آخر. أصل الحلس مسح يبسط في البيت وتجلل به الدابة أو يكون تحت رحلها ثم
استعير لمن يلازم الشيء ويعود نفسه عليه وفي الحديث: كن حلس بيتك أي
ملازمًا له وهم من أحلاس خيل أي من أصحابها الآلِفِين لركوبها وفلان ليس من
أحلاسها، فاستعملت استعمال حلف وترب في مثل قولهم زيد حلف فقر وعمرو
ترب أدب , وقرنها بترب يؤيد كون المراد بها ما ذكرناه.
(ص 169)
قالت وعيُّ النساء كالخرس ... وقد يصبن الفصوص في الخلس
(الفصوص: أحداق العيون) نعم، لكن ليس المراد بها هنا هذا المعنى.
أصل الفص حجر الخاتم وتجوزوا فيه فقالوا: أنا آتيك بالأمر من فصه أي أصله
وحقيقته ومخرجه الذي خرج منه , وقالوا أيضًا: فلان حزاز الفصوص إذا كان
مصيبًا في رأيه وجوابه. وهذا المعنى هو الذي قصد إليه الشاعر. يقول: إن
النساء على عيهن قد يقعن على الصواب ويصبن الرأي عرضًا ثم استشهد على
قوله بما قالته المرأة له. فالفصوص في البيت بالنصب مفعول به.
(ص181)
وأقاح منور في بطاح ... هذه في الصباح روض أريض
(البطاح: الصحاري) البطاح جمع بطحاء وهي مسيل واسع فيه دقاق
الحصى كالأبطح والبطحية , والبطاح غير الصحاري فإن الصحراء الأرض
المستوية الواسعة وزاد بعضهم: لا نبات فيها.
(ص183)
لا تكن لي ولن تكون كقوم ... عودهم حين يعجمون رضيض
(يعجمون: يعصرون) العجم أن تعض العود بسنك لتعرف صلابته , ثم
قالوا: عجمت عود فلان أي بلوت أمره وخبرت حاله , وفلان عوده صليب لا
تحيك فيه العواجم أي لا تؤثر فيه الأسنان , وقالوا في ضده: فلان عوده رضيض
فالعجم في البيت متجوز فيه عن الامتحان والاختبار.
(ص214)
يئوب إلى شمائل منه ميث ... قليلات الأماعز والبراق
(الأماعز: الغزلان , والبراق: الحملان من الضأن) فاعل يئوب يرجع
إلى السلام الذي أرسله الشاعر إلى الممدوح يعني أن سلامه يرجع الى شمائل
ممدوحه التي وصفها بقوله: ميث أي لينة , وأصل الميث وصف للأرض يقال:
أرض ميثاء وأراضٍ ميث. ولما وصف الشاعر شمائل ممدوحه بصفة الأرض
الحسنة ناسب أن ينفي عنها صفة الأرض الرديئة فقال: قليلات الأماعز والبراق.
الأول جمع أمعز وهي الأرض الصلبة الكثيرة الحصى , والثاني جمع برقة وهي
الأرض الغليظة ذات الحجارة والطين والرمل ومعنى القلة هنا العدم كما لا يخفى
فهو يقول: إن شمائل الممدوح وطباعه لينة وليست بخشنة ولا جافية.
(ص214)
وتخط بزته فربت خلة ... في درج ثوب اللابس المتنوق
(الخلة: الشق) الخلة هنا الحاجة والفقر والخصاصة أي يتنوق المرء في
لباسه ويبالغ في تزيينها ويكون تحتها حاجة وعدم ولا كذلك الممدوح.
(ص228)
ضنك إذا خرست أبطاله نطقت ... فيه الصوارم والخطية الذبُل
(الذبل: الصلبة) مادة الذبول تفيد معنى الدقة والضمور كقولهم: ذبل
الفرس: ضمر وهزل بل ربما كان من معناها أيضًا اللين والفتور كقولهم: ذبل
النبات ذوى ولان , وتذبل في مشيه تفتر فيه , ثم أجروا المادة على الرماح تجوزًا
فقالوا: قَنًا ذابل: أي دقيق لاصق بالليط , والليط جمع ليطة القشرة التي تكون
على القصب , وربما كان اللين مرادًا أيضًا في ذلك الاستعمال المجازي لأن الرمح
إذا لم يكن لينًا لدنًا تقصف ولم يصلح للطعن فالدقة واللين هما المفهومان من تلك
المادة والمقصودان من ذبول الرماح. وإذا أريد وصف الرماح بالصلابة قيل كما
قال الحماسي:
ولنا قناة من ردينة صدقة ... زوراء حاملها كذلك أزور
فقوله: صدقة أي صلبة مستوية لا خائرة هشة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(9/147)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سماع لبعض كبار التابعين من باب الأدبيات
قال شارح الإحياء عند نقل الغَزالي السماع عن جماعة من الصحابة والتابعين:
وحسبك منهم سعيد بن المسيب وبه يضرب المثل فى الورع وهو أفضل التابعين
بعد أويس وأحد الفقهاء السبعة وقد سمع الغناء واستلذ سماعه! ثم ذكر عن ابن عبد
البر بسنده أن سعيدًا مر ببعض أزقة مكة فسمع الأخضر يغني فى دار العاص بن
وائل وهو يقول:
تضوع مسكًا بطن نعمان إذ مشت ... به زينب فى نسوة خفرات
فضرب سعيد برجله الأرض فقال: هذا والله مما يلذ استماعه ثم قال سعيد:
وليست كأخرى أوسعت جيب درعها ... وأبدت بنان الكف فى الجمرات
وعلت بنان المسك وصفًا مرجلاً ... على مثل بدر لاح فى ظلمات
وفاضت تراءى يوم جمع فأفتنت ... برؤيتها من راح من عرفات
وأثبت الحافظ ابن عبد البر أن هذه الأبيات لسعيد لا للنميرى. أقول:
وقابلْ ما عاب سعيد من توسيع جيوب النساء وإبداء بنانهن بحال نسائنا اليوم، ويوم
جمع: يوم عرفة ثم ذكر شارح الإحياء عن الحافظ ابن طاهر بسنده أن عبد العزيز
بن عبد المطلب قاضي المدينة كان يتغنى بهذه الابيات فى مسجد الأحزاب:
فما روضة بالحزن طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها [1]
بأطيب من أردان عزة موهنا ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها [2]
من الخفرات البيض لم تلقَ شقرة ... بالحسب المكنون صاف نجارها
فإن برزت كانت لعينك قرة ... وإن غبت عنها لم يغمك عارها
فقيل له: أصلحك الله أتغني بهذه الأبيات فى جلالك وشرفك؟ ! أما والله
لأحدثن بها ركبان نجد. قال الراوي: فوالله ما اكترث بي , وعاد يتغنى بهذه الأبيات:
فما ظبية أدماء حفافة الحشا ... تجوب بظلفيها بطون الخمائل [3]
بأحسن منها إذ تقول تدللاً ... وأدمعها تذرين حشوا لمكاحل
تمتع بذا اليوم القصير فإنه ... رهين بأيام الشهور الأطاول
قال: فندمت على قولي له وقلت أصلحك الله أتحدثني في هذا بشيء؟ فقال:
نعم حدثني أبي قال دخلت على سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم
وأشعب يغنيه بهذا الشعر:
مغيرية كالبدر سنة وجهها ... مطهر الأثواب والعرض وافر
لها حسب ذاكٍ وعرض مهذب ... وعن كل مكروه من الأمر زاجر
من الخفرات البيض لم تلقَ ريبة ... ولم يستملها عن تقى الله شاعر
فقال له سالم زدني، فقال:
ألمت بنا والليل داج كأنه ... جناح غراب عنه قد نفض القطرا
فقلت أعطار ثوى فى رحالنا ... وما احتملت ليلى سوى ريحها عطرا
فقلت سالم أما والله لولا أن تداوله الرواة لأجزلت جائزتك فلك من هذا الأمر
مكان. اهـ.
__________
(1) الجثجاث: نبت واللفظ ثقيل والعرار: بهار أصفر قيل هو النرجس البري.
(2) موهنا: وقت وهن الليل وهو حين يدبر أو ما بعد نصفه أو بعد ساعة منه.
(3) حفافة الحشا: لينته، والحفاف: اللحم اللين تحت اللهاة.(9/151)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقاريظ
(رسالتان في قراءة الفونغراف والسكورتاه)
اطلعنا على هاتين الرسالتين اللتين كتبهما وطبعهما في هذه الأيام الشيخ محمد
بخيت الأزهري المشهور بمصر وقال: إنه استنبطهما استنباطًا , وقد رأينا فيهما
الغريب من العلم في الكلام والطبيعة وتقويم البلدان والحديث والفقه. ذكر في الكلام
من أمشاج المسائل ما لا محل لذكره ووصف الفونغراف وصف من لم يره ولم
يعرف شيئًا من علم مخترعيه. وقال في أول الرسالة الثانية ما نصه: (وقد ورد
علينا خطاب من بعض العلماء بالأناضول بالروملي الشرقي بولاية سلانيك يتضمن
السؤال عما يأتي ويطلب الإجابة عنه , فأجبناه لطلبه , وقلت وبالله التوفيق) اهـ.
ويا ليت الأستاذ أطلع أحد أولاده الذين يتعلمون في المدارس على استنباطه قبل
الطبع لعله ينبهه إلى أن استنباط سائل مقيم في الأناضول وهو عدة ولايات في آسيا
- في الروملي الشرقية من ولايات أوربا التي دخلت في إمارة بلغاريا - في ولاية
سلانيك من مقدونيا - استنباط يرده كل من يعلم أن إقامة الرجل في ولايات مختلفة
في قارتين مختلفتين ضرب من المحال , ويتهم الشيخ المستنبط بأنه أراد استنباط
حيلة تدل على أنه مشهور في البلاد بالعلم مقصود بالاستفتاء فلم ينجح لعدم إلمامه
بالجغرافيا التي ما برح يذمها وينفر عنها حتى انتقمت منه لنفسها , وعلمته أن
الاجتهاد لا يتم اليوم بدونها.
ومن غريب العلم بالحديث والفقه في الرسالة الثانية قول المستنبط: إن
الإمامة الكبرى يجوز أن يكون فيها الإمام كافرًا أي يجوز أن يكون خليفة المسلمين
الذى يقلد القضاء ويؤذن بصلاة الجمعة كافرًا , واستدل على ذلك بحديث جابر بن
عبد الله عند ابن ماجه: (ألا لا يؤمنَّ امرأة رجلاً ولا يؤم أعرابي مهاجرًا ولا يؤم
فاجر مؤمنًا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سوطه) تقول الرواية هكذا: (لا
تؤمّنَّ امرأة رجلاً ولا أعرابي مهاجرًا ولا يؤمن فاجر مؤمنًا إلا أن يقهره بسلطان
يخاف سيفه أو سوطه) والحديث منكر أو موضوع فإن في إسناده عبد الله بن محمد
التميمي , قال البخاري: منكر الحديث , وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به ,
وقال وكيع: يضع الحديث , وقد تابعه عبد الملك بن حبيب في الواضحة وهو متهم
بسرقة الحديث وتخليط الأسانيد , وقال الحافظ ابن عبد البر: إنه أفسد إسناد هذا
الحديث. وفيه أيضًا علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.
وكما لا يصح الاحتجاج به والاستنباط منه لفساد سنده لا يصح من جهة معناه؛
فإنه وارد في إمامة الصلاة لا في الإمامة الكبرى وهي الخلافة كما زعم المستنبط
الجديد , فإن المرأة والأعرابي المقيم في البادية وراء أنعامه ليسا مظنة لتقلد الإمامة
الكبرى فينهى عن تقليدهما , والمراد بالفاجر العاصي الفاسق لا الكافر , ولذلك تكلم
السلف في الصلاة وراء الظالمين كالحجاج وغيره ولا محل لبسط ذلك الآن.
وقد سرنا أن الشيخ سمى رأيه استنباطًا , وقال في أول الرسالة الثانية:
(الحمد لله الذي وفق من شاء من عباده لاستنباط الأحكام من صحيح الأدلة، ولم
يخص ذلك بزمان دون زمان بل جعل ذلك دائمًا مستمرًّا باستمرار الأهلة) فقد أثبت
أن الاجتهاد جائز في هذا الزمان خلافًا لما في كتب مذهبه من القول بإقفال بابه،
وانقراض أربابه. وظاهر أنه لا يعني الاجتهاد في المذهب والاستنباط منه , فقد
استنبط هو ما علمت من الحديث ولكنه أخطأ إذ لم يبذل شيئًا من جهده في معرفة
سنده ولا في فهمه , وقد علمت أنه منكر أو موضوع وأنه لا يدل على ما قال ,
فعسى أن يتروى في مثل ذلك عند محاولة استنباط آخر. وربما عدنا إلى انتقاد
الرسالتين.
***
(مجلة جمعية الملاجئ العباسية ومكارم الأخلاق الإسلامية)
كان لمجلة مكارم الأخلاق الإسلامية عند ابتداء ظهورها رواج عظيم وشهرة
أكبر منها حتى كان يطبع منها في السنة الأولى والثانية بضعة آلاف , ثم لم يلبث
الناس أن انفضوا من حولها وأعرضوا عن قراءتها حتى خفت صوتها وكاد يخفى
ذكرها لولا أن بادرت جمعية المكارم في الإسكندرية إلى كفالتها , ولكن عنايتها بها
كانت ضعيفة حتى اتحدت بجمعية الملاجئ العباسية. ففي فاتحة هذا العام صدرت
المجلة بالاسم الذي رأيت في العنوان مطبوعة طبعًا متقنًا على ورق جيد , وقد
تنوعت مباحثها ومسائلها المفيدة بعد أن كان أكثر ما ينشر فيها منقولاً من الكتب
والجرائد , وجعلت هدية للمشتركين في جمعية الملاجئ العباسية , وأما قيمة
الاشتراك السنوي لغيرهم فثلاثون قرشًا في مصر و10 فرنكات في سائر الأقطار.
ويقبل من طلاب العلم نصف القيمة. وكل ما يأتي من ربح المجلة - إن وجد
بأريحية محبي الخير - فهو لمساعدة الأيتام والفقراء والعجزة في تلك الملاجئ ,
فعسى أن تصادف من الإقبال في حياتها الجديدة ما يبشر أعضاء الجمعية الفضلاء
بأن داعية الخير والبر في المسلمين تقوى وتنمو عامًا بعد عام بل يومًا بعد يوم.
ومكتبات المجلة والجمعية تكون مع صاحب السعادة خليل حمدي باشا حمادة رئيس
الجمعية في الإسكندرية.
***
(مجلة الشتاء)
صدر الجزء الرابع من هذه المجلة قبل صدور هذا الجزء من المنار , وبه
تمت سنتها الأولى مؤلفة صفحاتها من 240 صفحة. وفي هذا الجزء من المقالات
والمباحث الأدبية والمقاطيع الشعرية والنكات الفكاهية ما يكون لقراء المجلة في
هجير الصيف الذي تحتجب فيه كبرد الشتاء في مصر بردًا وسلامًا يتنعمون به فلا
ينسون لذته حتى تسفر عليهم حين تحتجب الشمس في أول الشتاء الآتي , أطال الله
خدمة منشئها لفنون الآداب ولقي ما هو أهله من تعضيد أولي الألباب.
***
(لفظ الملاحظة وانتقاد المنار تقرير الشيخ شاكر)
ذكرنا في انتقادنا عبارة تقرير مشيخة الإسكندرية أن لفظ (لاحظ) لا يتعدى
بعلى , وصاحب التقرير يكثر من قول (لاحظ عليه) فهو خطأ، كذا قلنا , ففهم
بعض الأدباء أن انتقادنا هذا خاص بقوله: (وقد يلاحظ المطلع على إحصائية العام
المقبل) لأن هذه العبارة هي التي ذكرت في المنار عند الانتقاد فقال هذا الأديب:
إن (على) في هذه العبارة متعلق بلفظ المطلع وهو صحيح.
وأقول: إن عبارة المنار المشار إليها كانت موجهة بالمناسبة إلى ما قلنا إنه
يكثر في كلامه ولكن سقط من الأصل شيء عند الطبع وأصل العبارة هكذا:
(ولاحظ مفاعلة من لحظ للمشاركة وهو النظر بمؤخر العين. وتستعمل الملاحظة
مجازًا بمعنى المراعاة ولا يظهر هنا المعنى الحقيقي ولا المجازي. ولاحظ لا
يتعدى بعلى ... ) إلخ فسقط ما بين لاحظ الأولى والثانية , ومنه يعلم أن الانتقاد
على تعدية لاحظ بعلى ذكر في السياق , ولم يكن هو المقصود بالذات فينبغي
تصحيح العبارة وموضعها: س 21، ص 918، م9.
__________(9/153)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(مملكة مراكش ومؤتمر الجزيرة)
كتبنا في العدد الخامس عشر من سنة المنار الأولى الذي صدر في 9 صفر
سنة 1316 أي منذ ثمان سنين كاملة إنذارًا لسلطان مراكش بأن طوفان أوربا لا بد
أن يفيض على بلاده فيغمرها إذا هو لم يبادر إلى إصلاح شأنها بالتربية والتعليم
اللذين تقتضيهما حالة العصر لا سيما تعليم الفنون العسكرية والمدنية والاقتصادية ,
ونصحنا له بأن يستعين على ذلك بسلطان الدولة العثمانية. ثم أعدنا النُّذُر والنصائح
ولكن القوم في غمرة ساهون، لا يتوبون ولا هم يذَّكَّرون، وإنما يعتمدون على أهل
القبور في دفع الضر أو تحويله عنهم. كما علمت من التجائهم إلى قبر سيدي
إدريس عندما أرادت فرنسا الافتيات عليهم وجؤارهم عنده بكلمة: (يا لطيف)
مائة ألف مرة! . وقد كان من أسباب استدراجهم في اعتقادهم ما كان من عاهل
الألمان يومئذ وإيعازه إلى السلطان عبد العزيز بطلب عرض إصلاح مراكش على
مؤتمر أوربي فانعقد المؤتمر في الجزيرة من حواضر أسبانيا فاتفق أعضاؤه على
وجوب إنشاء مصرف (بنك) لتلك المملكة وإنشاء شرطة (بوليس) يدير أمرها
ضباط أوربيون. أما المصرف فلابتلاع أموال الحكومة وأما الشرطة فلتأمين تجارة
أوربا التي يبتلعون بها أموال الأهالي ويتمكنون بها من إدارة البلاد ولهم أعمال من
دون ذلك هم لها عاملون.
وقد طال التنازع بين فرنسا وألمانيا في شأن حصص كل دولة في المصرف
وفي كون ضباط الشرطة من الفرنسيس والأسبانيين أم من سائر الدول وفي رئيس
هؤلاء الضباط ونحو ذلك مما لا غرض لنا في بيان جزئياته لأننا لا نكتب لأجل
إحصاء وقائع التاريخ ولا لأجل تفكيه القراء , إن نكتب إلا لأجل بيان طرق العبرة
للمسلمين.
مهما اختلف القوم وتنازعوا فهم أقرب إلى الاتفاق على التوفيق بين مصالحهم
المتعارضة منا على مصالحنا المتحدة. وكل ما يتفقون عليه فهو إضعاف لسلطتنا
بل تقليص لظلها عن بلادنا ولو بالتدريج الذي هو خير لهم إذ لا يحتاجون فيه إلى
بذل دمائهم وأموالهم. ومن غريب جهلنا أن نعد أنفسنا ظافرين كما طلبوا منا تجديد
نفوذ لهم في بلادنا وإزالة نفوذ لنا منها فنالوا بعضه كما جرى لنا في مسألتي كريت
ومكدونية , وكما سيجري في مراكش بعد هذا المؤتمر الذي يجعل لهم حقًا رسميًا
في القبض على إدارة البلاد وأموالها.
إذا أرجعت المسببات إلى أسبابها تبين أن الذي حال بين أهل مراكش وبين
الانتفاع بما ذكرناهم وذكرهم به غيرنا هو الجمود على التقاليد والاتكال على
أصحاب القبور فهاتان العلتان هما المانعتان من فهم الحق ومن كل تغيير يدعى إليه
المقلد للآباء، المفوض أموره إلى من اتخذهم أولياء.
***
(مسألة العقبة)
كان أهل الرأي في الدولة وأصحاب النفوذ في المابين يرون منذ شرع في
سكة الحجاز الحديدية أن من الضروري إحداث ناشط لها ينتهي بفرضة العقبة في
البحر الأحمر وقال بعضهم: إذا عجزنا عن إيصال السكة إلى الحرمين فإن ربحنا
من السكة لا يكون قليلاً إذا استعضنا على ذلك بإيصالها إلى العقبة. وقد اجتهد
الصدر الأعظم ومختار باشا الغازي وعزت باشا العابد وصادق باشا العظم اجتهادًا
عظيمًا في إقناع السلطان بوجوب إنشاء هذا الناشط منذ سنين فكان يأبى ذلك
ويحتج بأن هذا يكون وسيلة لتداخل الإنكليز في بلاد العرب , فلما أعياه أمر ثورة
اليمن اقتنع بأن إخضاع تلك الولاية وتمكين السلطة فيها من بعض فوائد ناشط
العقبة من سكة الحديد فأمر به وأرسلت الجنود العثمانية إلى العقبة لتمهيد العمل.
فلما رأت إنكلترا ذلك خافت من الدولة على مصر أضعاف ما كان يخاف منها
السلطان على بلاد العرب. واعتقدت أنه ما دفع السلطان على هذا العمل إلا ألمانيا
الدائبة في مناهضة إنكلترا وأنه لا يبعد أن يتفق السلطان مع عاهل الألمان على
الزحف على مصر بعد وصول الناشط إلى العقبة فأرادت بناء معاقل عسكرية هناك
باسم مصر فكانت الدولة بالمرصاد , فمنعت الجنود المصرية من البناء بالتهديد ,
فأنشأت إنكلترا تعارض الدولة بأن جنودها احتلت نقطة مما كانت سمحت به لمصر
من أرض سيناء واشتدت في ذلك بلسانها وبلسان الحكومة الخديوية التي تنطق
بوحيها. على أن إنكلترا قد غيرت حدود مصر في شبه جزيرة سيناء في الخرائط
الجغرافية التي جددتها للمدارس المصرية منذ بضع سنين.
__________(9/156)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سلطان الشياطين على عالم أزهري
ومخادعة دجال غوي
نشر في مصر (إعلان) مطبوع عنوانه (أشهر الحوادث وأعظم الرجال..
حادثة في الأزهر) يريد ناشره أن يشهر به نفسه بالولاية والقدرة على إخراج
الشياطين من الأجسام والبيوت , ورأى أن إعلانه لا يُقرأ إلا إذا افتتحه بذكر الأستاذ
الإمام رضي الله عنه ولو بالكذب عليه لعلمه بأن الأمة تقرأ كل ما يكتب عنه , ومن
العجائب أن بعض الجرائد نشرت هذا الإعلان الضار وأقرته.
وإننا ننشره وننكره وهو باختصار:
(لا ريب أن الجامعة المصرية قد حضرت دروس حكيم الشرق وفيلسوف
الإسلام الشيخ محمد عبده إذ كان يتخذ (أدحية) في الأزهر ويقرأ فيها جهارًا
والناس من حوله من ترك وعرب وعجم فضلاً عما يخالط ذلك من دانٍ وشاسع ,
وكان إذ ذاك يصيح بأعلى صوته بأن لا وجود للجن , وكثيرًا ما جاهر بهذا الإنكار
على رءوس الأشهاد والعلماء يحاجونه بالكتب المنزلة فما استطاعوا له ردًّا , وكان
ينسب ذلك إلى الخيال والتصورات والأوهام وضرب لذلك جملة أمثال , ولكن لكلٍّ
شِرْب وله شرب معلوم , وكثير ما كان صاحب المؤيد واللواء والظاهر خاضوا معه
في هذا الموضوع , وأكثر الناس وافقه على هذا الأمر على أنه يوجد أكبر شاهد على
وجود الجن وهو من خيرة العلماء الأفاضل وعضو في إدارة الأزهر ومن رجال
التشريفة وأمين الكتبخانة وهو الشيخ محمد حسنين , وتحرير الخبر أن هذا الشيخ
اشترى من منذ سنتين منزلاً بأم الغلام بجوار سيدنا الحسين فأعجبه , ولكن رأى
فيه في هذه الأيام رجم أحجار فظن أنه من الجيران فصنع صورًا من خشب على
السطوح فزاد الحال وعظم حتى ظهرت الجن في شكل قردة وخنازير وكلاب
وقطط , وصاروا ينقلون الكتب والملابس والفرش والمفاتيح من جيبه ويلقونها في
الشارع. على أن هذا الشيخ ترك أشغاله واشتغل بهذا الحادث حتى كان لا ينام من
الليل دقيقة فشاع الخبر وذاع في مصر وضواحيها , وأرسلت إليه جميع الإخوان
جوابات بفوائد ووصفات، وكثير من أعاظم مصر أرسل عدة رجال مهمين يدعون
المعرفة فاجتهد الشيخ إبراهيم الطوبي الكتبي واستحضر جملة المغاربة والسودانية
فلم تحصل فائدة , وكذلك حضر الشيخ محمد الرفاعي وقرأ وكتب ولكن ما أفادوا كذلك
المغربي الذي في الخرنفش؛ فلم تحصل فائدة حتى يئس حضرة الأستاذ وصمم
على بيع المنزل أو هجره حتى يحكم الله. وأخيرًا حضر بعض الأعيان وأخبر
الأستاذ بأنه يوجد رجل.. ساح في الأرض وفي بلاد الهند والسودان وصاحب
علوم وأسرار بل هو الولي في هذا الزمان , واسم هذا الشخص ... فتقابل معه
الشيخ وقص عليه ما وقع , فتوجه إلى منزل الشيخ , وطلب سجادة وكان موجودًا
وقت ذلك 300 نفر , وفرشها وسط المنزل وطلب طشت نحاس وكتب عليه وقرأ
وقال: احضر يا من هو موكل بالأذى , وبعد ساعة رفعت الناس الطشت فخرج من
تحته طيرة تشبه النسر سوداء وصوتت بصوت رفيع , وتكلم معها وأشار إليها
فطارت , والناس تنظر إليها وكل ذلك العمل كان بعد العصر , ولما جاء الليل أحضر
جماعة من الجن وكل من حضر سمع كلامهم بالحرف الواحد وأخيرًا همَّ … بصرف
الأذى عن المنزل فانصرف , وكانت فقدت أشياء من المنزل ذات قيمة فردتها الجن
كما كانت , وأخيرًا سئل.. عن هذا الأذى فقال معناه أن هذا الأمر يجب عليَّ أن
أضع له سور من حديد على أنه لا يمكنني أن أطلع أحدًا عليه مهما كان ميله إليَّ
وقربه من فؤادي) .
اهـ المراد منه وليس بعدما ذكرنا إلا الغلو في شهرة صاحب الاسم المراد
إشهاره بالكذب لمخادعة النساء والعوام بدعوى أن بيته مكتظ بالأمراء والإفرنج..
قد ادعى هذا الدجال عدة دعاوي باطلة يعلم بها أنه يتعمد الكذب:
(أولاها) أن الأستاذ الإمام اتخذ لنفسه أدحية في الأزهر كان يقرأ فيها
دروسه يعني مكانًا صغيرًا كأفحوص القطاة , والناس يعلمون أنه كان يقرأ في أعظم
رواق في الأزهر.
(ثانيها) أنه أنكر وجود الجن في دروسه جهرًا. وهذا كذب وبهتان بل
اعترف في دروسه وكتبه بوجود الجن كما يعلم من حضر دروسه معنا ومن قرأ
تفسير جزء عم من تأليفه أو تفسير المنار الذي نقتبس فيه دروسه التي كان يلقيها
في الأزهر.
(ثالثها) أن العلماء حاجوه في ذلك.
(رابعها) أن المؤيد واللواء والظاهر خاضت معه في هذا الموضوع وكل
ذلك كذب مبني على كذب.
(خامسها) أن أكثر الناس وافقوه على إنكار الجن وهذا طعن بأكثر المسلمين
وقذف لهم بالكفر والردة.
وقد بلغنا عن الشيخ محمد حسنين أنه يقول: إن للحكاية أصلاً , ولكن ما نشر
في الإعلان كله كذب وبهتان.
صرح الأستاذ الإمام في تفسير سورة الناس بأن الجن خلق خفي , وقد قال الله
تعالى في أبيهم إبليس: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُم} (الأعراف:
27) وما ورد من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للجن كما في حديث ابن مسعود
في استماعهم القرآن قالوا: إنه لا يعارض الآية؛ لأنه من الخوارق وهي تأتي على
خلاف سنة الله تعالى فهي من قبيل ما يسميه الحكام بالاستثناء. وروي عن ابن
عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لم يَرَ الجن عندما استمعوا القرآن
لأنه تعالى يقول له في أول سورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ} (الجن: 1) ، فقد علم ذلك بالوحي لا بالرؤية. ولكن ما اختلف فيه عالمان من
أعلم الصحابة - ابن مسعود وابن عباس - هل كان معجزة للنبي صلى الله عليه
وسلم أم لا، قد صار عند أولياء الشيطان من الأمور المعتادة بزعمهم , فهم يرون
الجن ويتصرفون فيهم كما شاءوا متى شاءوا، وما كانوا إلا خادعين وما كان
الأستاذ الإمام إلا منكرًا دجلهم تأييدًا للقرآن ونصحًا للعوام.
استدل الجاهل ناشر (الإعلان) على وجود الجن بحكاية الشيخ محمد حسنين ,
وما هذه الحكاية إلا كأمثالها من الحكايات التي لا تحصى عند أهل الخرافات
وعبدة الأوهام , فكم من بيت كاد له شياطين الإنس من أهله أو من غير أهله فعبثوا
وعاثوا في حنادس الظلمات أو من وراء الحجب والأستار , فتوهم السخفاء أن
عيثهم من عمل الجن. وبلغوا من الكيد لمن أرادوا ما أرادوا.
وقد اكتشف بعض أصحاب الذكاء والدهاء كثيرًا من هذه الحيل الشيطانية فعلم
أن منها ما كان من الجيران لسبب غرامي أو لسبب مالي وهو الطمع في شراء
البيت رخيصًا إذا خاف الناس من عفاريته , ومنها ما كان من بعض نساء الدار
وخوادمها ابتغاء تركها وسكنى غيرها أو احتيالاً على الرجل الشرود ليأوي إليها.
وقد كان من علماء الأزهر من يُحكى عنهم إخضاع الجن أو جعلهم تلاميذ لهم فهل
صار للعفاريت والشياطين من السلطان على علماء الأزهر أن يسلبوا راحتهم في
بيوتهم في زمن قل فيه ظهور العفاريت لتحوت العوام، إذ قلت الخرافات والأوهام؟
__________(9/158)
غرة ربيع الأول - 1324هـ
25 إبريل - 1906م(9/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العقل والقلب والدين
كانت العرب تطلق لفظ القلب على قوة الشعور ووجدان اللذة والألم وقوة الفكر
والعقل الذي يميز المرء به بين النافع والضار؛ لأن قلب الشيء عندها لبه ومحضه
وخالصه , ومن الأول قوله تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ} (آل عمران:
159) ومن الثاني: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (ق: 37) وقوله:
{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (الحج: 46) وقد جرى عرف بعض الأمم على
إطلاق لفظ القلب على المعنى الأول خاصة , وجعلوا سلطانه على الأمور الأدبية ,
واكتفوا بالتعبير عن الثاني بلفظ العقل وجعلوا سلطانه في الأمور العلمية , وهو
اصطلاح لا تأباه لغتنا التي تجيز تخصيص اللفظ بأحد معانيه وهو ما نجري عليه
في هذه المقالة.
ثم إن أهل هذا الاصطلاح جعلوا الدين من قبيل الأول حتى صاروا يقابلون
العلم بالدين كما يقابلون بين العقل والقلب , وذهب الكثيرون إلى أن هذه المقابلة
مقابلة تضاد فجعلوا العقل خصيمًا للقلب والعلم عدوًّا للدين! ورأى آخرون منهم
أنها مقابلة تباين فجعلوا للقلب حكمه وللعقل حكمه ومنعوا أن يعدو أحدهما طوره
ويحكم غيره.
حجة القائلين بالتضاد أن القلب موضع الشعور الوهمي الذي لا حقيقة له فهو
يخاف مما لا يُخَاف أو لا يخيف , ويرجو ما لا يُرجَى , ويتقحم به الوجدان مواقع
الهلكة فيبذل النفس والنفيس فيما لا فائدة فيه فهو سلطان أخرق جائر لا يدين له إلا
النساء والأطفال ومن ضعف عقله من الرجال، وأعوانه رجال الدين الذين عرفوا
في كل زمان ومكان بإقامة هياكل الوهم، ومعاداة العقل والعلم، وجعل وجدان الدين
آلة القهر في أيدي الرؤساء المستبدين، فإذا كان الشعور بأن في الكون سلطة غيبية
يجب لها الخضوع والعبودية - هو أعلى وجدان للقلب وأنفذه حكمًا على الجوارح،
وإذا كان سائر أنواع شعوره ووجدانه كالخوف والرجاء والبغض والحب والقسوة
والرحمة تخدم هذا الوجدان وتؤيده، وإذا كانت تلك السلطة العليا قد تمثلت للوهم
الإنساني في الجماد وقوى الطبيعة وفي الحيوان فعبدها الإنسان , ثم تمثلت له في
أفراد منه فعبدهم وعدّ نفسه قد ارتقى بذلك ارتقاءً مبينًا، وإذا كان العقل قد كشف
لقوم بطلان الوهم في أكثر تلك المظاهر للسلطة الغيبية ولآخرين بطلانه في جميعها
حتى صار المرتقون من البشر فريقين: فريقًا لا يزال ينقاد لذلك الوجدان ولكنه
ينزهه عن التقيد بأي مظهر من مظاهر الطبيعة ويفند أكثر ما وصفته الأديان به ,
وفريقًا يحكم بأن ذلك الوجدان وهم لا حقيقة له، وإذا كان هؤلاء المرتقون أقرب
الناس من السعادة في معيشتهم ومن النفع للناس وأبعدهم عن الشقاء الذي تثيره
الأوهام التعبدية، وتمده سائر الوجدانات الدينية، وإذا كان الحس الظاهر الذي هو
أقوى من وجدان القلب وفكر العقل يخذل الأول بما ظهر من مخالفة كثير من
النصوص الدينية للأمور المحسوسة وينصر الثاني ويؤيده؛ أفلا يكون القلب والعقل
ضدين في ذاتهما وفي أثرهما في الناس , ويكون من الصواب أن نجعل العقل هو
الحاكم والقلب هو المحكوم وأن نؤدب الوجدان بسوط الفكر والبرهان، وندع لحكم
العقل والحس جميع أحكام الأديان؟
وأما حجة الذاهبين إلى أن لكل من القلب والعقل سلطانًا مستقلاًّ يباين الآخر
ولا يناقضه , وأنه يجب أن لا يعدو واحد منهما طوره ويخرج عن حدوده فهي أنه
لا ينكر عاقل أن الوجدان أمر وجودي ثابت متحقق في نفسه كما أن الفكر أمر
وجودي ثابت متحقق في نفسه وأن لكل واحد منهما أثرًا منه الضار والنافع ,
وأحكامًا منها الخطأ ومنها الصواب وأن الإنسان في حاجة إلى كل واحد منهما فلم
يخلق له أحدهما عبثًا , وأنه لا بد لكل منهما من قانون تعليمي تكون الغاية جعل
أحكامه وآثاره نافعة للإنسان , وأن قانون القلب هو الدين الذي يوجه جميع عوامل
شعوره ووجدانه إلى الخير والفضيلة , ويصرفها عن الشر والرذيلة. وقانون العقل
هو العلم بالأكوان الذي يجلي للإنسان حقائقها ويمكنه من الانتفاع بها فإذا كان خطأ
العقل في بعض المسائل لا يقضي ببطلان الثقة به ولا يقتضي إزالة سلطانه وعدم
الثقة بسائر أحكامه فكذلك نقول في خطأ القلب , وإذا بحثنا في تاريخ الإنسان نرى
أن علماء القلوب الذين جاءوا بقوانين الأديان كانوا أنفع للبشر من علماء الكون
الذين وضعوا قوانين العلوم المادية والنظرية , فلو فرضنا أن الإنسان يستغني
بأحد الفريقين عن الآخر لكان يجب أن يستغني عن الفلاسفة وعلماء المادة دون
النبيين والمرسلين لأنه قد يكتفي في حياته المادية بتجاربه التي يسوقه إليها
الإحساس الفطري عن توسيع دائرة البحث في الجماد والنبات والحيوان وتكثير
الصنائع التي يشقى بها الملايين من الناس ليسعد المئات والألوف بشقائهم , ولكنه
لا يكتفي قط بترك حبل شعوره ووجدانه على غاربه , فإن حكم وجدان اللذة والألم
أقوى على النفس من كل حكم وهو عرضة للبغي والعدوان إذا لم يكن له مؤدب من
جنسه يضع له حدودًا لا يتعداها. وهذا المؤدب هو وجدان الدين.
لا ينكر علينا علماء المادة أنه لا يوجد في الخليقة شيء من العبث وأن كل
شيء خلق كاملاً أو كمل بعمل الطبيعة فيه إلا الإنسان فإنه خلق أشد الكائنات
المعروفة نقصًا وأشدها استعدادًا للكمال , وأن كماله يكون بعلمه وكسبه وأن كل قوة
من قواه الحسية والمعنوية والنفسية والجسدية التي فطر عليها هي آلة من آلات
استعداده للكمال بكسبه التدريجي , فقوة العقل التي أودعت في الإنسان لأجل التمييز
بين المعقولات الصحيحة والباطلة ووجدان الدين العام وهو الشعور بالسلطة الغيبية
الذي أودع في الفطرة لأجل تأديب سائر الوجدانات بما يزعها عن الشر ويصرفها
إلى الخير، كل منهما قد وجد لحكمة ظهر أثرها في ارتقاء البشر بالتدريج كما هي
السنة في جميع قواهم وآثارها. فقول الماديين بالنشوء والارتقاء ظاهر في شئونهم
الدينية والمدنية أو القلبية والعقلية؛ فلماذا نعد خطأ البشر في استعمال الوجدان
الديني في أطوار الانحطاط موجبًا للقول ببطلان هذا الوجدان وضرره , والحكم
بإعفاء أثره , ولا نعد خطأ العقل في تلك الأطوار موجبًا للحكم ببطلان أحكامه
وإزالة سلطانه؟ ! .
تقولون: إن رجال الدين قد عاثوا بسلطتهم الدينية فسادًا في الدين , وخادعوا
الناس بالأوهام حتى استعبدوهم , ونقول: إننا نرى في كل من رجال الدين ورجال
العلم المفسد والمصلح فكم من عالم ببعض خواص الأشياء الطبيعية قد غش الناس
بعلمه , وكم من مدعٍ للعلم بها قد أضرهم بجهله , وهذه العلوم المادية في هذا
العصر الذي هو أرقى عصورها قد اتخذت آلات لإهلاك العباد وتدمير البلاد , وما
السحر الذي تعترفون بأنه من أشد الأمور إفسادًا لعقول البشر وضررًا في مجتمعهم
إلا من خداع العلم فإن كان قد استفاد منه كهنة الوثنية فقد أبطله جميع الأنبياء ,
وكان أقوى الشُّبَه للضعفاء على نبوتهم فهو ضد الدين.
ويقول أهل هذا المذهب لخصمهم من الماديين: إننا نعلم أن أقوى شُبهكم على
الدين أمران:
(أحدهما) ما جاء في كتب الوحي مما قام الدليل الحسي أو العقلي على
خلافه كإثبات التوراة أن الله حكم على الحية بأن تأكل التراب كل أيام حياتها وإثبات
العهد الجديد للتثليث.
(وثانيهما) ما فيه من الأخبار الغيبية التي لا دليل عليها كوجود الملائكة
والشياطين.
والمخرج منهما سهل.
أما الأول فإذا لم تسلموا بتأويل علماء الدين لهذه المشكلات وجزمهم بأن الخطأ
واقع؛ فلنا أن نقول: إن بعض ما في تلك الكتب مدرج من النساخ , وأن ما قاله
الأنبياء في أمور الدنيا لم يقصدوا به بيان حقائق الموجودات , وإنما قصدوا
استخراج العبرة والموعظة وتمثيلها للناس بحسب ما عرفوا من الكون , وإن كانت
معرفتهم ناقصة أو مخالفة للحقيقة , ولو أرادوا أن يبينوا حقائق الأكوان مع إصلاح
النفوس بقضايا الأديان لما تيسر لهم ذلك , ولكان تصديهم له خروجًا عن حدود
وظيفتهم المتعلقة بالقلوب والأرواح وإثارة للشبه والشكوك فيها , فإن المسائل
الحسية والوجودية تعرف بالنظر والتجربة والاختبار لا بالتبليغ عن الخالق. ذلك
أن الإنسان مستعد بفطرته للارتقاء الحسي والعقلي بدون تأييده بالوحي وأما الارتقاء
القلبي أو الوجداني فهو محتاج فيه إلى الوحي لأن منه ما يتعلق بالسلطة العليا
المدبرة لجميع الكائنات وما يتعلق بحياة بعد هذه الحياة , وهذان الشعوران لم يودعا
في نفس الإنسان سدى كما تقدم بل هما المبدأ لغاية كماله الروحاني والوسيلة لتهذيب
جميع أنواع وجدانه وشعوره , وبذلك تحسن أعماله وتصلح أحواله فيكون سعيدًا
بقدر تمسكه به.
وخلاصة هذا الجواب أن وظيفة الوحي إصلاح القلوب والأخلاق فما يذكر فيه
من أمور العالم يراعى فيه معارف المخاطَبين ولا يقصد لذاته فلا يضر الخطأ فيه
عندهم.
وأما الثاني وهو إخبار الوحي بما لا دليل عليه من الحس ولا من العقل
فالمخرج منه أن هذا لا يقال إلا إذا كان علم الأنبياء الخاص بهم مستمدًّا من الحس
والعقل ولكنه وحي من الله , فإذا كان لكم طريق إلى الحكم في كلامهم المتعلق
بالمادة المحسوسة فلا طريق لكم إلى الحكم في كلامهم المتعلق بالإيمان بالله وبعالم
الغيب لأنه ليس من المادة ولا مما يجري على سننها، ولا المتعلق بالعبادة والحث
على الفضائل وبالتنفير عن المعاصي والرذائل لأنه من باب الإنشاء الذي لا يتأتَّى
فيه الصدق والكذب , وإنما يعرف حسن مثله وقبيحه بأثره , وقد ثبت بالتجربة أن
البشر يكونون على خير وصلاح بقدر تمسكهم به وعلى شر وفساد بقدر إعراضهم
عنه. ومما يدل على أنهم يستمدون هذه الأنواع من العرفان من خالق الكون ومدبره
أن علماء الحس والعقل يعجزون على استمداد بعضهم من بعض عن إصلاح نفوس
البشر وصرف شعورهم ووجدانهم إلى الخير من غير استعانة بشيء مما جاء به
الأنبياء الذين لا يمكن إقامة برهان على أنهم استمدوا عرفانهم من الناس. وهب
أنهم استفادوا شيئًا من عرفانهم بالكسب والنظر , فما تقول في تلك الآيات وذلك
السلطان الذي أعطوه على الأرواح؟ يقول كثير من علماء المادة وأدباء الملاحدة:
إننا نقدر على كتابة في الآداب والوعظ لا تعد هذه الأناجيل في جانبها شيئًا مذكورًا
وفاتهم أن في مواعظ الإنجيل من السلطان على الأرواح ما يعجز أكبر الفلاسفة عن
عشر معشار تأثيره في حكمه وفلسفته.
هذا ملخص ما يذهب إليه كثير من علماء الإفرنج وفلاسفتهم في وظائف العقل
والقلب , فهم يوجبون صرف العقل والحواس التي هي آلاته إلى العلوم الكونية
وصرف القلب وشعوره إلى الأمور الدينية , ولا يجيزون لأحدها أن يتحكم في
الآخر. فإذا ظهر لهما أن في العلم والتاريخ ما يخالف بعض مسائل ذكرت في كتب
الدين , أو في الدين مسائل تعارض شيئًا من العلم أو التاريخ فإنهم لا يرون ذلك
مجوزًا لإبطال أحدهما للآخر أو مسوغًا لتركه؛ لأن صلاح البشر متوقف على
صرف كل من العقل والقلب إلى ما هو مستعد له لم يوجد واحد منهما عبثًا ولا
يترك سدى. وبهذا الرأي كان كثير من أساطينهم متدينًا كبسمارك أشهر زعماء
السياسة وعلماء الاجتماع وباستور من كبار علماء المادة والحياة وتولستوي من
عظماء الفلاسفة في العقليات والأدبيات. ويعترف هؤلاء العلماء أن في دينهم كثيرًا
من المسائل التي تخالف العقل والعلم والتاريخ , وأن في كتبها ما هو بشري غير
موحى به من الله , ويقولون: إن هذا نقص في بنية الدين وجسمه لا في جوهره
وروحه , فهو يغفر ويتسامح به لشدة الحاجة إلى روح الدين التي لا غنى للبشر
عنها.
وتجد في هؤلاء العظماء المتحمس في الدين الملتهب غيرة عليه كعظيم
الشعوب الجرمانية (غليوم الثاني) الذي قال: إنه لولا الوحي الديني الروحاني
لقضي على النوع البشري , وقال في المسيح: إنه يملؤنا حماسة وإننا لنشعر بناره
تأجج في أحشائنا , وقال: إن الاعتقاد بأن التوارة ربما كانت مأخوذة من شرائع
حمورابي لا يمنع من الاعتقاد بوحي الله لموسى وظهوره لبني إسرائيل بواسطته
يعني أن استفادة موسى من معارف البشر , ووقوع بعض الخطأ العلمي والتاريخي
في كتابه لا ينافي الإيمان بأنه كان مؤيدًا بروح الله ومظهرًا لعنايته وعظمته , ولا
كون كتابه أعظم صلة بين البشر وبين الله كما نطق به العاهل العظيم في كلمة
أخرى , فهو يكتفي بأن يكون النبي الموحى إليه مؤيدًا من الله بما يتمكن به من
هداية الناس وتوجيههم إلى عبادة الله تعالى , ولا يشترط أن يكون كل ما يقوله
موحًى به من الله وكل ما يفعله مؤيدًا به من الله.
إن أصحاب هذا المذهب على اعتقادهم في الوحي والأنبياء بما لا يرضاه
المسلمون، بل ولا عامة المعتقدين بالنصرانية - هم أسلم فطرة وأهدى قلبًا وأكمل
عقلاً من عبيد المادة وأسرى الحواس الذين زعموا أن الدين من شعور القلب
ووجدانه الوهمي , وأنه يجب على الإنسان أن ينسلخ من كل وجدان، ويعيش حسيًا
كسائر أنواع الحيوان، استحوذ عليهم حب الشهوات الحسية فانصرفوا إليها
وأسرفوا فيها، وما أحبوا الانسلاخ من المزايا الإنسانية والهداية الدينية إلا لأنها
تنعى عليهم إسرافهم فيها، وتطالبهم بما هو أرقى منها، وقد كثر في متفرنجي
المسلمين من يقلدهم فيها. وإن لأولئك المتبوعين من علماء الإفرنج من العذر ما
ليس لهؤلاء الأتباع المقلدين لهم على غير هدى؛ لأن في الدين الذي نشأ بين أهله
أولئك المتبوعون من عداوة العقل والحس وعلومهما ما ليس في دين هؤلاء , ولأن
أولئك قد أوغلوا في العلوم الكونية فشغلتهم عن غيرها كعلوم القلب والروح فلم
يعرفوا حقيقته، على أنهم استعبدوا لأحقر وجدان القلب وهو اللذة الحسية , وهؤلاء
لم يتقنوا علمًا ولم يحسنوا عملاً بل نزلوا على حكم قول الشاعر:
عمي القلوب عموا عن كل فائدة ... لأنهم كفروا بالله تقليدا
هذا وإن للمسلمين في العقل والقلب والدين منزعًا آخر وهاك بيانه: يسعد
الإنسان بعمله ويشقى بعمله ,وعمله تابع لدعوة وجدانه وفكره: يتفقان فيمضي فيه
ويختلفان فيجيب دعوة أقواهما سلطانًا على النفس وتسخيرًا للحس، والوجدان هو
السلطان القاهر والحاكم المطاع , وما الفكر إلا وزير يستشار فيدهن للوجدان تارة ,
وينصح له تارة فأكثر الناس يعملون بدعوة شعورهم ووجدانهم لا يعارضهم في ذلك
فكر ولا رأي لأن أفكارهم مسخرة مستعبدة لشعورهم , ومنهم من يعارض فكره
شعوره في بعض ما يدعو إليه فيطيعه تارة ويعصيه أخرى؛ يطيعه إذا كانت داعية
الوجدان ضعيفة ويعصيه إذا كانت قوية.
إذا كان كل من الوجدان والفكر مدعاة للعمل الذي به يسعد الإنسان ويشقى
وكان قد يقع النزاع بينهما؛ وكان لكل منهما شِرَّة وفترة يطغى في شرته فيسرف،
ويتراخى في فترته فيغفل، فلا جرم أنهما في حاجة إلى مرشد حكيم، ذي سلطان
مكين، مطاع ثم أَمين، يرضيان بحكومته، ويقفان عند نصيحته، مهما ظهرت
لهما آيته، ورفعت فوقهما رايته، وما أراك إلا قد عرفت أن هذا المرشد هو الدين
وأن ظهور آياته للنفس يؤتيها الإذعان، الذي يحيط بالفكر والوجدان، فتخضع له
في عامة شؤونها طوعًا، وتطيعه بالاختيار سرًّا وجهرًا، وإن ارتفاع رايته يمثل
لها القوة والسلطان، مؤدبًا لأهل البغي والعدوان الذين يشذون عن حكم الإذعان،
وبذلك يكون الاعتدال، واستعداد الإنسان للكمال، فالدين هو الأستاذ المؤدب
للوجدان والفكر معًا.
الوجدان حق، وقد يطغى فيعرض له الوهم، والعقل حق وقد يمرض
فيعرض له الجهل، والحواس الظاهرة حق وقد تَعْتَلُّ فتدرك الشيء على غير
حقيقته بل كثيرًا ما تخطئ، وهي صحيحة سليمة. ولا غنى للنفس عن الوجدان
كما لا غنى لها عن العقل والحواس الظاهرة، بل أقول: إنه لا خطأ ولا غلط في
الوجدان الصحيح أو في حكم القلب لذاته، وإنما يعرض له الوهم من الفكر الذي
هو حكم العقل , أو من خطأ الحس الذي هو حكم المشاعر الظاهرة، وكل من العقل
والمشاعر الظاهرة يخطئ فيجني بخطئه على القلب وينحرف بالوجدان عن القصد.
القلب يحب الجمال الحسي والجمال المعنوي وهو الجاه والشرف ويبغض
القبح الحسي والمعنوي - يتلذذ بنيل ما يحب وبرجاء نيله ويتألم بما يكره - يحزن
لوقوعه ويخاف ما يتوقع منه , فإذا رجا ما لا يرجى أو ما لا يخاف أو أحب ما لا
يحب أو يكره ما لا يكره إنما يكون في ذلك تابعًا لحكم غيره؛ إذ ليس من شأنه هو
أن يحكم بأن هذا جميل أو قبيح أو ضار أو نافع، وإنما الحس هو الذي يحكم في
الجمال والقبح الحسيين والعقل هو الذي يحكم في الجمال والقبح المعنويين. ومهما
جزم العقل بأن هذا الشيء يرجى خيره , وذلك الشيء مما يُخشى ضيره , قَبِلَ
القلب حكمه , وسخَّر الجوارح للعمل بنصحه , وقلما يطغى الوجدان في شيء إلا
ويكون الفكر هو المُمِدُّ له في طغيانه , فكلما أوغل العقل في التصوير والتفكير
يوغل القلب في الانفعال والتأثر , فالذنب للعقل والفكر في طغيان وجدان القلب
وتعسفه في مجاهيل الأوهام.
لو فقد الإنسان الوجدان فأمسى لا يحب ولا يكره ولا يخاف ولا يرجو ولا
يرحم ولا يقسو لهلك بترك العمل والسعي في جلب المحبوب ودفع المكروه وإبقاء
الخطر، وانتظار الظفر، ومواساة البائسين، ومؤاخذة المجرمين، ولم تكن
تصورات العقل وأقيسة الفكر لتغني عنه شيئًا. فإذا كان أدرك الوجدان في نفسه
حقًا وكان لا بد منه لبقاء الإنسان وكان العقل مرشدًا يخطئ ويصيب فينصح بعلم
أو يغش بجهل، فهل يصح أن يقال: إنهما ضدان , أو نطلب على حقية الأول
منهما البرهان , كيف وهو أقوى الضروريات , التي هي مقدمات البرهان اليقينيات.
على هذه الطريقة أساء العقل التصرف في وجدان مبدأ الدين في الإنسان فقد
امتاز الإنسان على سائر الحيوان بوجدان كان هو الأصل في ارتقائه التدريجي
وحسب استعداده، وهو الشعور بأن في الوجود سلطة غيبية متصرفة في العالم.
هذا هو مبدأ الدين في البشر، وقد كان العقل في طفوليته يبحث عن علل
الأشياء وأسبابها فكلما عجز عن إدراك شيء منها حكم بأنه هو صاحب تلك السلطة
وتبعه الوجدان في الإذعان له والعبادة، وكان إذا ما ارتقى العقل في شعب من
الشعوب أي استعد أفراد منه للارتقاء عن التعبد للأشياء المحدثة بعث الله تعالى فيهم
من يدعو العقل إلى أعلى مقام في العرفان؛ ليتبعه القلب في العبادة والإذعان يدعوه
إلى التوحيد الذي هو عبارة عن الجزم بأن كل ما يدركه الحس ويتصرف فيه الفكر
فهو من المحدثات إلى تدبرها تلك السلطة الغيبية العليا المطلقة التي لا تتقيد بشيء
ولا تحل فيه ليعلم العقل أن تصديه لعلم حقيقة مصدر تلك السلطة التي يجدها القلب
كما تدرك الحواس المحسوسات ضرب من المحال ولذلك سميت إلهًا؛ لأن العقل
يوله ويتحير في البحث عن حقيقتها , فلسان أولئك الدعاة الكرام عليهم الصلاة
والسلام يقول للعقل الصحيح: إنك تجد في القلب حبًا وكرهًا ورجاءً وخوفًا؛ فلا
تبحث عن حقيقة هذه الوجدانات , ولا تحاول الاستدلال عليها لأنها قطعية في نفسها ,
وإنما وظيفتك إرشاد القلب إلى الإحسان في استخدام الجوارح لها فأولى لك ثم
أولى أن لا تبحث عن حقيقة وجدان الدين وكنهه فضلاً عن مصدره , وإنما عليك
أن تستعين به على تدبير مملكة القلب، على أننا لا نمنعك الاستدلال على مصدر
تلك السلطة الراسخة في الواجدان لحكمة امتاز بها الإنسان، وإنما ندعوك إلى
النظر في وحدة نظام الأكوان، والتأمل فيما أودعته من الحكمة والإتقان، لتوقن
أنها لم تكن كذلك إلا لوحدة مصدرها، وعموم سلطان مدبرها، فتجله عن الظهور
في حجر أو شجر أو حيوان، وعن الحلول في كوكب أو إنسان، وإلى هذا الارتقاء
الديني الإشارة بقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ..} (البقرة: 213) إلخ وبه ارتقى العلم نفسه.
ألم تر أن العلم كان يسير مع الدين، والتهذيب كان محصورًا في الكهنة
والأحبار والقسيسين، نعم إن هؤلاء الزعماء للدين كانوا يقودون الشعوب بوجدانها ,
ويحظرون على عقولها حرية التصرف ولهم العذر في هذه السياسة لو لم يسرفوا
فيها فإنه لم يكن لضبط شئون العامة من سبيل إلا وجدان الدين مع أن فكر الأكثرين
لم يرتقِ إلى الاستعداد للاستقلال التام والاستغناء عن سيطرة الرؤساء , فلما استعد
لذلك آتاه الله الدين الأخير الذي هو منتهى النشوء والارتقاء , وهو الإسلام الذي
وفق بين الحس والوجدان والفكر , وآخى بين العقل والقلب فكان هو الهداية التي تم
بها الاستقلال، واستعد بها البشر لنهاية الكمال.
كان زعماء الدين قد أساءوا التصرف في وجدانات القلب فساموها الإفراط
والتفريط , وشددوا الحجر على العقل فلم يجعلوا له رأيًا في آداب النفس ولا في فهم
العبادة بل ولا في مصالح المعاش ففصلوا بين القلب والعقل , وجعلوا العلم عدوًا
للدين , وأقاموا أنفسهم مسيطرين على كل شيء ومكنهم الدين من ذلك ببنائه على
أساس التقليد. فلما جاء الإسلام كان من أول عمله نسف هذا الأساس وإبطال تلك
الزعامة حتى أنه لم يجعل للنبي نفسه شيئًا منها: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْء} (آل عمران: 128) ، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية
: 21-22) حتى كان يرجع عن رأيه إلى أصحابه , ثم إنه بيَّن العقائد بالبراهين
العقلية، وقرن الآداب والأخلاق بذكر فوائدها الروحية والجسدية، وعلل الأحكام
بالمصالح والمنافع الاجتماعية، وأمر بالعلم الكوني وجعله أقوى دعائم اليقين،
وأرشد إلى سنن الكون والاجتماع وجعلها معراج الرقي في الدنيا والدين، فجعل
الحواس والقلب والعقل شركاء في هدايته وإرشاده لتكون جميع قوى الإنسان متحدة
في إبلاغه غاية كماله، وكان كتابه حجة عقلية على حقيته بما فيه من أرقى العلوم
والعرفان، وأعظم السلطان على العقل والوجدان، مع عصمته من الاختلاف
والتناقض وحفظه من التغيير والضياع، وغير ذلك مما لا محل لشرحه هنا.
أفيليق بمن عرف هذا الدين أن يقول فيه بنقيض ما جاء به اتباعًا لمن فرقوا بين
عقل المرء وقلبه، وبين علمه بالكون وعلمه بنفسه وبربه، أم يليق أن يترك هداية
هذا الدين، ويتبع وسوسة الماديين؟ ! .
كلا، إن من عرف هذا الدين لا يمكن أن يتركه , ولكن الذين ضلوا وأضلوا
عن هَدي القرآن المجيد بما وضعوا في أعناق المسلمين من وهق التقليد قد حجبوهم
عن محاسن هذا الدين، وأبرزوا لهم في مكانها جميع مساوي المتقدمين، فصدق
عليهم حديث الصحيحين: (لتركبنَّ سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى
لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) فهم العلة لكفر من كفر، وفجور من فجر، فعسى
أن يهيئ الله للمسلمين من أهل الإصلاح من يخرجهم من جحر الضب الذي دخلوه،
ويعيد إليهم هدي القرآن الذي تركوه، أو يهدي غيرهم إلى هذه الحقيقة، ويقيمهم
على هذه الطريقة، فيتآخى بهم العلم والدين، ويكونون هم الأئمة الوارثين، وإن
ذلك لواقع ولو بعد حين، والعاقبة للمتقين.
__________(9/186)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإيمان يزيد وينقص
جاء في شرح عقيدة السفاريني أن سلف الأمة على القول بأن الإيمان يزيد
وينقص , ونقل بعض الروايات والآيات في ذلك ثم أورد عن شيخ الإسلام تفصيلاً
لوجوه الزيادة ولأصل الخلاف في المسألة , وإننا نورد من ذلك ماعدا الروايات عن
السلف في المسألة , ثم نبين وجه العبرة في ذلك لطلاب علوم الدين قال - والظاهر
أنه من كلام شيخ الإسلام -:
(والزيادة قد نطق بها القرآن في عدة آيات كقوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: 2) قال شيخ الإسلام: وهذا أمر يجده المؤمن إذا تليت عليه الآيات
ازداد قلبه بفهم القرآن ومعرفة معانيه من علم الإيمان ما لم يكن حتى كأنه لم يسمع
الآية إلا حينئذ , ويحصل في قلبه من الرغبة في الخير والرهبة من الشر ما لم يكن
فيزداد علمه بالله ومحبته لطاعته , وهذا زيادة الإيمان وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ
النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: 173) ، فهذه الزيادة عند تخويفهم بالعدو لم يكن عند آية نزلت
فازدادوا يقينًا وتوكلاً على الله وثباتًا على الجهاد وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ
سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانا} (التوبة: 124) , وهذه الزيادة
ليست مجرد التصديق بأن الله أنزلها بل زادتهم بحسب مقتضاها , فإن كانت أمرًا
بالجهاد أو غيره ازدادوا رغبة فيه , وإن كانت نهيًا عن شيء انتهوا عنه فكرهوه؛
ولهذا قال: { ... وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (التوبة: 124) والاستبشار غير مجرد
التصديق وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ
فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانا} (المدثر:
31) وهذه نزلت لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية وأصحابه فجعل
السكينة موجبة لزيادة الإيمان , والسكينة هي طمأنينة في القلب وقوله تعالى:
{يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن: 11) هداه لقلبه زيادة في إيمانه كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (محمد: 17) , وقال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا
بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (الكهف: 13) .
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: زيادة الإيمان الذي أمر الله به والذي يكون
من عباده المؤمنين من وجوه:
(أحدها) الإجمال والتفصيل فيما أُمروا به فإنه وإن وجب على جميع الخلق
الإيمان بالله ورسوله , ووجب على كل أمة التزام ما يأمر به رسولهم مجملاً؛
فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله , ولا يجب على
كل عبد من الإيمان المفصل بما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه خبره ,
فمن عرف القرآن والسنن ومعانيها لزمه من الإيمان المفصل بذلك ما لم يلزم غيره
ولو آمن الرجل بالله وبالرسول باطنًا وظاهرًا ثم مات قبل أن يعرف شرائع الدين
مات مؤمنًا بما وجب عليه من الإيمان , وليس ما وجب عليه ولا ما وقع منه مثل
إيمان من عرف الشرائع فآمن بها وعمل بها بل إيمان هذا أكمل وجوبًا ووقوعًا ,
فإن ما وجب عليه من الإيمان أكمل وما وقع منه أكمل , وقوله تعالى: {الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... } (المائدة: 3) أي في التشريع بالأمر والنهي؛ لأن كل
واحد من الأمة وجب عليه ما يجب على سائر الأمة , وأنه فعل ذلك بل الناس
متفاضلون في الإيمان أعظم تفاضل! .
(الثاني)
الإجمال والتفصيل في ما وقع منهم فمن طلب علم التفصيل وعمل به فإيمانه
أكمل ممن عرف ما يجب عليه والتزمه وأقر به ولم يعمل بذلك كله , وهذا المقر
المقصر في العمل إن اعترف بذنبه وكان خائفًا من عقوبة ربه على ترك العمل
أكمل إيمانًا ممن لم يطلب معرفة ما أمر به الرسول ولا عمل بذلك ولا هو خائف أن
يعاقب بل هو في غفلة عن تفصيل ما جاء به الرسول مع أنه مقر بنبوته باطنًا
وظاهرًا فكلما عمل القلب بما أخبر به الرسول فصدقه وما أمر به فالتزمه؛ كان
ذلك زيادة في إيمانه على من لم يحصل له ذلك وإن كان معه إقرار عام وإلزام ,
وكذلك من عرف أسماء الله ومعانيها فآمن بها كان إيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك
الأسماء بل آمن بها إيمانًا مجملاً أو عرف بعضها , وكلما ازداد الإنسان معرفة
بأسماء الله تعالى وصفاته وآياته كان إيمانه أكمل.
(الثالث)
أن العلم والتصديق يكون بعضه أقوى من بعض وأثبت وأبعد عن الشك
والريب , وهذا أمر يشهده كل واحد من نفسه كما أن الحس الظاهر بالشيء الواحد
مثل رؤية الناس الهلال وإن اشتركوا فيها فبعضهم تكون رؤيته أتم من بعض ,
وكذلك سماع الصوت وشم الرائحة الواحدة وذوق النوع الواحد من الطعام. فكذلك
معرفة القلب وتصديقه يتفاضل أعظم من ذلك من وجوه متعددة للمعاني التي يؤمن
بها من معاني أسماء الله تعالى وكلامه يتفاضل الناس في معرفتها أعظم من تفاضلهم
في معرفة غيرها.
(الرابع)
أن التصديق المستلزم لعمل القلب أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله
فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به , وإذا كان شخصان
يعلمان أن الله حق والرسول حق والجنة حق والنار حق وهذا علمه أوجب له محبة
الله وخشيته والرغبة في الجنة والهرب من النار والآخر علمه لم يوجب له ذلك؛
فعلم الأول أكمل , فإن قوة المسبب تدل على قوة السبب , وقد نشأت هذه الأمور
عن العلم فالعلم بالمحبوب يستلزم طلبه , والعلم بالمخوف يستلزم الهرب منه , فإذا
لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم , ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(ليس الخبر كالمعاينة) فإن موسى عليه السلام لما أخبره ربه أن قومه عبدوا العجل
لم يلقِ الألواح , فلما رآهم قد عبدوه ألقاها , وليس ذلك لشك موسى في خبر الله
لكن المخبَر وإن جزم بصدق المخبِر فقد لا يتصور المخبَر به في نفسه كما يتصوره
إذا عاينه , بل قد يكون قلبه مشغولاً عن تصور المخبر به وإن كان مصدقًا به ,
ومعلوم أنه عند المعاينة يحصل له من تصور المخبر ما لم يكن عند الخبر فهذا
التصديق أكمل من ذلك التصديق.
(الخامس)
أن أعمال القلوب مثل محبة الله ورسوله وخشية الله تعالى ورجائه ونحو ذلك
هي كلها من الإيمان كما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفاق السلف , وهذه
يتفاضل الناس فيها تفاضلاً ظاهرًا.
(السادس)
الأعمال الظاهرة مع الباطنة هي أيضًا من الإيمان والناس يتفاضلون فيها.
(السابع)
ذكر الإنسان بقلبه ما أُمر به واستحضاره بحيث لا يكون غافلاً عنه أكمل
ممن صدق به وغفل عنه فإن الغفلة تنقصه , وكمال العلم والتصديق والذكر
والاستحضار يكمل العلم واليقين , ولهذا قال عمير بن حبيب رضي الله عنه: (إذا
ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته , وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فتلك نقصانه) .
(الثامن)
قد يكون الإنسان مكذبًا ومنكرًا لأمور لا يعلم أن الرسول أخبر بها ولو علم
ذلك لم يكذب ولم ينكر , بل قلبه جازم بأنه لا يخبر إلا بصدق ولا يأمر إلا بحق ثم
يسمع الآية والحديث أو يتدبر ذلك أو يفسر له معناه أو يظهر له ذلك بوجه من
الوجوه فيصدق بما كان مكذبًا به ويعرف ما كان منكرًا له , وهذا تصديق جديد
وإيمان جديد ازداد به إيمانه ولم يكن قبل ذلك كافرًا بل جاهلاً وهذا وإن أشبه
المجمل والمفصل لكن صاحب المجمل قد يكون قلبه سليمًا عن تكذيب وتصديق
شيء من التفاصيل وعن معرفة وإنكار شيء من ذلك فيأتيه التفصيل بعد الإجمال
على قلب ساذج , وأما كثير من الناس بل من أهل العلم والعبادة فيقوم بقلوبهم من
التفصيل أمور كثيرة تخالف ما جاء به الرسول وهم لا يعرفون أنها تخالف , فإذا
عرفوا رجعوا , وكل من ابتدع في الدين قولاً أخطأ فيه وهو مؤمن بالرسول أو
عمل عملاً أخطأ فيه وهو مؤمن بالرسول أو عرف ما قاله وآمن به لم يعدل عنه
هو من هذا الباب , وكل مبتدع قصده متابعة الرسول فهو من هذا الباب , فمن علم
ما جاء به الرسول وعمل به أكمل ممن أخطأ ذلك , ومن علم الصواب بعد الخطأ
وعمل به فهو أكمل ممن لم يكن كذلك.
إذا علمت هذا فاعلم أن مذهب سلف الأمة وجُل الأئمة أن الإيمان قول وعمل
ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية , قال الإمام ابن عبد البر في التمهيد: أجمع
أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية , قال: والإيمان
عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية والطاعات كلها عندهم إيمان إلا ما ذكر عن
أبي حنيفة وأصحابه فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيمانًا قالوا: إنما الإيمان
التصديق والإقرار , ومنهم من زاد المعرفة وذكروا من احتجوا به إلى أن قال:
وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر منهم
مالك بن أنس والليث بن سعد وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد بن
حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلاَّم وداود بن علي والطبري
ومن سلك سبيلهم قالوا: الإيمان قول وعمل؛ قول باللسان وهو الإقرار , واعتقاد
بالقلب وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة , وقالوا: كل ما يطاع الله به
من فريضة ونافلة فهو من الإيمان , والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي قال:
وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم , وإنما
صاروا ناقصي الإيمان بارتكابهم الكبائر ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا
يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث يريد مستكمل الإيمان , ولم يُرد به نفي
جميع الإيمان عن فاعل ذلك بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق
وشارب الخمر إذا صلوا إلى القبلة , وانتحلوا دعوة المسلمين من قراباتهم المؤمنين
الذين ليسوا بتلك الأحوال، ثم قال: وعلى أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعة
وينقص بالمعصية - جماعة أهل الآثار والفقهاء أهل الفتيا في الأمصار , وهذا
مذهب الجماعة من أهل الحديث والحمد لله.
ثم رد على المرجئة وعلى الخوارج والمعتزلة بالموارثة , وبحديث عبادة بن
الصامت: (من أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة) وقال:
الإيمان مراتب بعضها فوق بعض فليس ناقص الإيمان ككامله قال الله تعالى:
{إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانا
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: 2) إلى قوله: {.. حَقًّا..} (الأنفال: 4)
أي هم المؤمنون حقًّا , ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث:
(أكمل المؤمنين إيمانًا..) , ومعلوم أن هذا لا يكون أكمل حتى يكون غيره أنقص ,
وقوله: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله) وقوله: (لا إيمان لمَن لا أمانة له)
يدل على أن بعض الإيمان أوثق وأكمل من بعض , وكذلك ذكر أبو عمر الطلمنكي
إجماع أهل السنة على أن الإيمان قول وعمل ونية. قال الإمام شيخ الإسلام ابن
تيمية قدس الله روحه: لما صنف الفخر الرازي مناقب الإمام الشافعي رضي الله
عنه ذكر قوله في الإيمان: إنه قول باللسان وعقد بالجَنَان وعمل بالأركان كقول
الصحابة والتابعين , وقد ذكر الإمام الشافعي أنه إجماع من الصحابة والتابعين ومن
لقيه. استشكل الرازي قول الإمام الشافعي جدًا لأنه كان انعقد في نفسه شبهة أهل
البدع في الإيمان من الخوارج والمعتزلة والجهمية والكَرَّامية وسائر المرجئة وهو
أن الشيء المركب إذا زال بعض أجزائه لزم زواله كله , لكن هو لم يذكر إلا ظاهر
شبهتهم , قال شيخ الإسلام: والجواب عما ذكره سهل فإنه يسلم له أن الهيئة
الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت لكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر
الأجزاء يعني كبدن الإنسان إذا ذهب من أصبع أو يد أو رجل ونحوه لم يخرج عن
كونه إنسانًا بالاتفاق , وإنما يقال له: إنسان ناقص , والشافعي مع الصحابة
والتابعين وسائر السلف يقولون: إن الذنب يقدح في كمال الإيمان , ولهذا نفى
الشارع الإيمان عن هؤلاء يعني عن الزاني والسارق وشارب الخمر ونحوهم ,
فذلك المجموع الذي هو الإيمان لم يبق مجموعًا مع الذنوب لكن يقولون: بقي
بعضه إما أصله وإما أكثره وإما غير ذلك فيعود الكلام إلى أنه يذهب بعضه ويبقى
بعضه ولهذا كانت المرجئة تنفر من لفظ النقص أعظم من نفورها من لفظ الزيادة
لأنه إذا نقص لزم ذهابه كله عندهم إن كان متبعضًا متعددًا عند من يقول بذلك وهم
الخوارج والمعتزلة , وأما الجهمية فهو واحد عندهم لا يقبل التعدد فيثبتون واحدًا لا
حقيقة له كما قالوا مثل ذلك في وحدانية الرب عز وجل ووحدانية صفاته عند من
أثبتها منهم.
قال شيخ الإسلام روَّح الله روحه: ومن العجب أن الأصل الذي أوقعهم في
هذا اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر أو ما هو إيمان وما
هو كفر , واعتقدوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين كما ذكر أبو الحسن الأشعري
وغيره , ولأجل اعتقادهم هذا الإجماع وقعوا في ما هو مخالف للإجماع الحقيقي
إجماع السلف الذي ذكره غير واحد من الأئمة , بل وصرح غير واحد بكفر من قال
بقول جهم في الإيمان , ولهذا نظائر متعددة يقول الإنسان قولاً مخالفًا للنص
والإجماع القديم حقيقة , ويكون معتقدًا أنه متمسك بالنص والإجماع , وهذا إذا كان
مبلغ علمه واجتهاده فالله يثيبه على ما أطاع الله فيه من اجتهاده ويغفر له ما عجز
عن معرفته من الصواب الباطن. (قال شيخ الإسلام) : وقد قال لي بعضهم مرة:
الإيمان من حيث هو إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان فقلت له: قولك من حيث هو
كقولك من حيث هو إنسان ومن حيث هو حيوان ومن حيث هو وجود فتثبت لهذه
المسميات وجودًا مطلقًا مجردًا عن جميع القيود والصفات , وهذا لا حقيقة له في
الخارج وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه كما يقدر موجودًا لا قديمًا ولا حادثًا
ولا قائمًا بنفسه ولا بغيره , والماهيات من حيث هي هي شيء يقدر في الأذهان لا
في الأعيان , وهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن بل هو مجرد عن كل قيد بل ما
ثَم إيمان في الخارج إلا مع المؤمنين كما ثَم إنسانية في الخارج إلا ما اتصف بها
الإنسان , فكل إنسان له إنسانية تخصه , وكل مؤمن له إيمان يخصه فإنسانية زيد
تشبه إنسانية عمرو وليست هي هي والاشتراك إنما هو في أمر كلي مطلق يكون
في الذهن ولا وجود له في الخارج إلا في ضمن أفراده , فإذا قيل إيمان زيد مثل
إيمان عمرو فإيمان كل واحد يخصه معين وذلك الإيمان يقبل الزيادة والنقصان ,
ومن نفى التفاضل إنما يتصور في نفسه إيمانًا مطلقًا كما يتصور إنسانًا مطلقًا عن
جميع الصفات المعينة له , ثم يظن أن هذا هو الإيمان الموجود في الناس , وذلك لا
يقبل التفاضل بل لا يقبل في نفسه التعدد إذ هو تصور معين قائم في نفس متصوره ,
ولهذا يظن كثير من هؤلاء أن الأمور المشتركة في شيء واحد هي واحدة في
الشخص والعين حتى انتهى الأمر بطائفة من علمائهم علمًا وعبادةً إلى أن جعلوا
الوجود كذلك فتصوروا أن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود , وتصوروا هذا
في أنفسهم فظنوه في الخارج كما هو في أنفسهم ثم ظنوا أنه الله - تعالى الله عما
يقول الظالمون علوًا كبيرًا - فجعلوا رب العالمين هو هذا الوجود الذي لا يوجد قط
إلا في نفس متصوره لا يكون في الخارج أبدًا , وهكذا كثير من الفلاسفة تصوروا
أندادًا مجردة وحقائق مجردة ويسمونها المثل الأفلاطونية , وزمانًا مجردًا عن
الحركة والمتحرك , وبعدًا مجردًا عن الأجسام وصفاتها ثم ظنوا وجود ذلك في
الخارج , وهؤلاء كلهم اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان وتولد من هذا
بدع ومفاسد كثيرة والله المستعان.
وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: ذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد
وينقص , وأنكر ذلك أكثر المتكلمين. قال الإمام النووي: والأظهر المختار أن
التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة ولهذا كان إيمان الصدّيق أقوى
من إيمان غيره بحيث لا تعتريه الشبهة , وقال: ويزيده أن كل واحد يعلم أن ما في
قلبه يتفاضل حتى أنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينًا وإخلاصًا وتوكلاً منه في
بعضها , وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها , وما نقل
عن السلف يعني أن الإيمان يزيد وينقص صرح به عبد الرزَّاق في مصنفه عن
سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وابن جريج ومعمر وغيرهم وهؤلاء
فقهاء الأمصار في عصرهم , وكذا نقله أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة عن
الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم من الأئمة ,
ويروى بسند صحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء
بالأمصار فما رأيت أحدًا منهم يختلف أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص ,
وأطنب ابن أبي حاتم واللالكائي في نقل ذلك بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة
والتابعين وكل من يدور عليه الإجماع من الأئمة , وحكاه فضيل بن عياض ووكيع
عن أهل السنة , وقال الحاكم في مناقب الإمام الشافعي: ثنا أبو العباس الأصم أن
الربيع قال: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: الإيمان قول وعمل ويزيد
وينقص , وأخرجه أبو نعيم في ترجمة الشافعي من الحلية من وجه آخر عن الربيع
وزاد: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وتلا: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانا} (المدثر: 31) ... الآية) انتهى , وقد روى الإمام أحمد في المسند من حديث معاذ
بن جبل رضي الله عنه مرفوعًا: (الإيمان يزيد وينقص) وأخرجه الديلمي في
مسند الفردوس من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا أيضًا والآثار عن
الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين من أهل السنة والجماعة المعتبرين وأئمة
أهل الحديث وأعلام علماء الصوفية أكثر من أن تُذكر بأن الإيمان قول باللسان
وعقد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة ويضعف بالعصيان , وقد ذكرنا من ذلك
ما لعله يحصل به المقصود، والله ولي الإحسان) .
(المنار)
مَنِ اطلع على مثل هذا البيان في المسألة يعلم أن الحق هو ما كان عليه
السلف , وأن من يتصيد المسائل الدينية من الألفاظ من غير اطلاع على السنة
النبوية التي سار عليها أهل الصدر الأول فهو عرضة للبدع والأهواء , وأن رواج
شبهة المرجئة والجهمية وغيرهم من المبتدعة في هذه المسألة عند بعض أهل السنة
من جهة النظر والفهم قد كان من أسباب هلاك المسلمين بإعراضهم عن هدي الدين.
ذلك أن الاعتقاد بأن الإيمان الذي هو سبب النجاة والسعادة في الآخرة - هو
التصديق القلبي بأن جميع ما جاء به النبي حق دون العمل , وأن المؤمنين فيه
سواء قد جرَّأ الناس على الفسوق والعصيان، ثم حملهم على التحريف المعنوي
للقرآن إذ القرآن يصرح بأن النجاة والسعادة بالإيمان والعمل الصالح معًا كما أن
الهلاك بالكفر والاسترسال في المظالم والمعاصي وآياته في ذلك لا تحصى إلا بجهد
وعناء , وترى أهل هذا المذهب يلتزمون تأويلها حتى صرت ترى الدهماء من
المسلمين يعتقدون بأن العمل ليس له شأن عظيم في النجاة من عذاب الدنيا والآخرة
والتمتع بسعادتهما , وإنما يكفي في ذلك التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه
وسلم ولو إجمالاً , ويحملون أكثر نُذُر القرآن على الكفار ويجعلونها خاصة بهم كأن
سنته تعالى في هذه الأمة مخالفة لسنته في أمم الأنبياء قبلهم , وكأن اليقين والإذعان
يمكن أن يحصل بدون تأثيره الطبيعي في العمل وذلك محال.
وقد نزل بهم من عذاب الله في الدنيا ما حقق نذر كتابه , وصدق وعده فيمن
نقض ميثاقه وهم لا يتوبون ولا يذكرون , وإنما ميثاقه السمع والطاعة بالفعل , وقد
قال فيمن قبلهم: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ... } (المائدة: 13) الآية ,
وفسر ابن عباس اللعن فيها بالجزية أي بفقد الاستقلال , ولا يعتبر أكثر المسلمين
بذلك وقد فقدوا استقلالهم وصارت الأمم تأخذ الجزية منهم , والباقون على استقلال
ما عرضة للخطر. ثم إن كثيرًا من كُتابهم يثرثرون في دائهم ودوائهم ويحاولون أن
يكونوا من أطبائهم، وهم يجهلون الداء والدواء لجهلهم بالقرآن الذي هو الشفاء
والرحمة لمَن اعتصم به، فليعتبر بهذا أهل العلم والبصيرة لعلهم يكونون من
الهادين المهتدين.
__________(9/196)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة
الإنفاق على التعليم الإسلامي من مال الحكومة الروسية
(س 10) من الشيخ أبي علي محمد نجيب بن شمس الدين التونتاري
المدرس بتونتار (روسيا) :
حدثت واقعة بين علمائنا جديرة بالاستفتاء من علمكم وهي أن جمعًا من
العلماء المتبصرين ذوي الحمية الدينية هموا بتأسيس المكاتب الابتدائية في القرى
بمال محفوظ في الخزانة الملكية التي يسمونها بالروسية (زيمسكي صوما) ذلك أنه
يجمع في كل سنة نقود مقدرة من أهل الزراعة من مسلم وغير مسلم , وتوضع في
هذه الخزانة مختلطة إلا أن مقدار ما يجمع من كل جنس معلوم ومضبوط في الدفاتر ,
ويصرف من هذه النقود ما يصرف من وظائف المأمورين الملكيين وسائر مصالح
الأمة الروسية كتأسيس المكاتب والمستشفيات ودور العجزة ونحوها , ويحفظ الباقي
في الخزانة. وقد كان المسلمون محرومين من الانتفاع بهذه النقود - لا لمنع
الحكومة بل لعدم سؤالهم ذلك للأوهام التي يطول شرحها - على اشتراكهم في دفع
ما عليهم منها وشدة حاجتهم إليها , فإن كثيرًا من القرى الإسلامية ليس فيها مكاتب
دينية لفقر الأهالي وفقد التعاون العمومي وعدم كفاية الإعانة الخصوصية للجميع فعم
الجهل بالدين أكثر الطبقة السفلى. فهذه الحالة المؤسفة أزعجت القلوب المملوءة
بالحمية وألجأت إلى التشاور في هذه المصلحة المهمة فتشاوروا وتفكروا في الوسائل
اللازمة لتعميم التعليم الديني بين السواد الأعظم من الأمة , فما وجدوا سبيلاً إلى
هذه السبيل (أي الاستعانة بمالهم في تلك الخزانة) فسعوا فيها وكتبوا عرائض إلى
أولي الأمر يقولون فيها ما محصله: إن من مقتضى العدالة تأسيس المكاتب الملكية
الابتدائية في القرى الإسلامية التي لا توجد فيها مكاتب كما هو الشأن في القرى
الروسية , ويتوقف ذلك على تخصيص مبلغ من حصة المسلمين في النقود الأميرية
يكفي لتأسيسها والنفقة عليها. إذ الغرض من وضع تلك الخزانة هو انتفاع
المشتركين فيها على السواء , وليس من العدالة تخصيص جنس دون جنس
بالانتفاع بها مع المساواة في الدفع.. إلخ , وسمعت أن المحكمة الملكية (زيمسكي
أوبرافا) أجابت على تلك العرائض بالقبول , وعند ذلك قامت الفرقة المتعصبة
تنازع في هذا الخير وتصد عنه صدًّا يشوش أذهان العوام قائلين: إن أخذ تلك
النقود وصرفها في تلك الوجوه غير جائز في الشرع متعللين تارة بأنها مال الفقراء!!
ولا أدري أي فقير يرضى بصرف ماله المتروك في الخزانة في حوائج غير جنسه
ولا يرضى بصرفه في مصالح جنسه ونفسه؟ وتارة بأنها مخلوطة بنقود غير
المسلمين! وظني أنه لا ضرر فيه بعدما كان مقدار كل واحد منهم معلومًا , وما
يؤخذ منها لمصالحنا إنما هو من نقود المسلمين المتعينة نوعيًّا , وبعضهم يتعلل بأن
فيها مال الأيتام , وهم لا ينظرون إلى الشرع هل يرخص بترك هذا المال في
الإدارة الملكية تتصرف فيه كيف تشاء مع عدم التمكن من استرداده أم يسوغ أخذه
وبذله في مصالحنا؟ فإن هذا المال على كل حال لا يرد إلى صاحبه والله أعلم.
هذا ما دار في فكري الفاتر فأرجوكم أيها الأستاذ بيان حكم هذه المسألة شرعًا
في المنار والله لا يضيع أجر المحسنين.
(ج) إن هذه الواقعة هي أظهر مثال لقول أمير المؤمنين علي كرم الله
وجهه: إن المسلمين لَبِسوا الدين كما يُلبَس الفرو مقلوبًا , بل هي أوضح حجة على
أن المسلمين قد جُنوا بدينهم جنونًا مفردًا لم يشاركهم فيه أحد على أنهم قد شاركوا
من قبلهم من جميع فنون جنونهم في الدين , وكأني بكل مسلم غيور قد استعبر
لسماع هذه المسألة وبكى، وبكل عدو للمسلمين قد أغرب لسماعها ضحكًا.
حقيقة المسألة أخذ مال من حاكم غير مسلم برضاه لصرفه في مصلحة
المسلمين فهل يشترط لجواز انتفاع المسلمين به أن يكون ذلك الحاكم قد أخذه من
رعيته المسلمين وغيرهم بوجه شرعي بحيث يحكم الشرع بأنه ليس له مالك غير
هذا الحاكم أو يحكم بأن له صرفه في المصالح العامة؟ لا محل لهذا السؤال ولا لهذا
الاشتراط لأن الحاكم غير المسلم لا يكلف العمل بفروع الشريعة قبل الإسلام , فهذا
المال الذي أخذه من رعيته ماله لأنه صاحب اليد عليه والتصرف فيه بلا منازع
وإرجاعه إلى من أخذه منه متعذر , فإذا أعطانا شيئًا منه لننفقه في مصالحنا جاز لنا
أخذه حتمًا , بل قالوا: إن جميع أموال غير المسلمين في غير دارهم مباحة لهم إذا
أخذوها برضى أصحابها من غير غدر ولا خيانة لا يشترط فيه غير هذا , ولو كان
وجود بعض أموال اليتامى فيه غير متميز مانعًا من الانتفاع به لكان وضع درهم
ليتيم في ألف ألف درهم بغيره مانعًا لهذا من التصرف في ماله كما قال الغزالي في
شبه هذه المسألة وذلك بديهي البطلان. على أنه لا سبيل إلى العلم بأن عين المال
الذي أخذناه من الحاكم لا يخلو مما أخذه من اليتامى إلا إذا كان ما يؤخذ منهم كثيرًا
جدًا بحيث يعلم أو يظن أنه لا تخلو طائفة من ماله من ذلك وليس الأمر كذلك.
وهنالك وجه آخر لجواز الأخذ وهو أن المال الحرام الذي لا يعرف له مالك معين
يجب صرفه في الصدقات أو المصالح والمنافع العامة , ويرجح جانب المصالح في
بلاد ليس لها فيها مصرف غيره كبلادكم. وما عارضتم به شبههم في محله إلا
تعليل عدم الضرر بكون ما يؤخذ من مال المسلمين فإن ما يؤخذ من مالهم برضاهم
جائز أيضًا لا وجه لمنعه , والله أعلم.
***
الوصية النبوية المنامية
(س11) م. ر. بالسويس.
(ج) راجعوا ص 614 من مجلد المنار السابع ترون الكلام على هذه
الوصية التي تنشر في كل بضع سنين مرة عن لسان رجل اسمه الشيخ أحمد خادم
الحجرة النبوية. ومنه تعلمون الحق في ذلك , وتعذروننا إذ لم ننشر نسخة الوصية
التي أرسلتموها مع سؤالكم عنها.
***
اللذات الحسية في الجنة وجنة آدم
(س12) محمد أفندي السيد قاسم في منشاة حلفه (الفيوم) :
تقابلت مع أحد المتخرجين من دار العلوم فذكرت الجنة وما فيها من النعيم
الدائم والتلذذ بالمأكل والمشرب والمنكح , وأن تلك هي التي أُهبط منها آدم وحواء
حين أكلا من الشجرة , فأخبرني أن الجنة ليس فيها أكل ولا شرب ولا نكاح كالدنيا
وإنما تحصل لأهل الجنة لذة الأكل والشرب والجماع عند اشتهاء أنفسهم ذلك بدون
فعل كالنائم يرى أنه أكل كذا فيتلذذ بذلك والحال أنه لم يفعل ذلك حقيقيًّا، فقلت له:
إن في القرآن الحكيم ما يدل على ذلك نحو قوله تعالى: {وَتِلْكَ الجَنَّةُ الَتِي
أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} (الزخرف:
72-73) وقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الطور:
19) وقوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} (الطور: 20) وغير ذلك من
الآيات فقال: إن الله تعالى وعد المؤمنين بالتنعم في الجنة بالأكل والشرب والنكاح
المعلومة لذته لهم تقريبًا لأفهامهم وتشبيهًا إذ لو وصف لهم التنعم بغير ما هو معلوم
لهم لما كان له موقع في أنفسهم ولما فهموا معنى التنعم! . وتلك الجنة ليست هي
التي أهبط منها آدم وحواء، ولقصوري عن إقناعه حررت هذا لسيادتكم راجيًا
الإجابة عن ذلك على صفحات المنار بما يشفي الغليل ملتمسًا الإعادة إذا كان سبق
توضيح ذلك في مجلد مضى من المنار؛ لأن ابتداء اشتراكي في المجلد الثامن , ولا
زلتم في عز وجاه، والسلام عليكم ورحمة الله.
(ج) لا خلاف بين المسلمين في أن الإنسان يبعث في الآخرة كما كان في
الدنيا أي أن حقيقته لا تتبدل فتخرج عن الإنسانية إلى حقيقة أخرى , بيد أنه يكون
في الجنة أرقى مما كان في الدنيا فتكون حياته دائمة سليمة من العلل , ومتى كان
الإنسان إنسانًا فلا وجه لاستنكار أكله وشربه وغشيان أحد زوجيه للآخر حقيقة ,
وقد جاءت الآيات صريحة في ذلك فلا وجه لإخراجها عن ظاهرها وتحريفها عن
معانيها اتباعًا للهوى والرأي. نعم، قد دلت النصوص المأثورة من الآيات والأخبار
والآثار أن جميع ما في الجنة من النعيم هو أرقى مما في الدنيا وأن حقيقته غيبية،
ما رأت مثلها عين ولا سمعت بمثلها أذن ولا خطرت على قلب بشر , ولكن ذلك لا
يمنع أن تكون حقيقة جامعة بين اللذة البدنية واللذة الروحية؛ لأن الإنسان بدن
وروح. وإنني لا أعرف سببًا لسريان شبهة فلاسفة اليونان والنصارى إلى نفوس
بعض المسلمين في هذه المسألة إلا توهمهم أن اللذة الحسية نقص في الخلقة لا يليق
بالعالم الآخر! . ولو عقلوا وحققوا لعلموا أنه ليس في الفطرة نقص , فداعية اللذة
والتمتع بها من كمال الخلقة , ولكن لما كان الإنسان قد يسرف في تمتعه وقد يسوقه
كسبه واختياره إلى الاعتداء على حق غيره ليتمتع به وكان ذلك ضارًا بنفسه وبمن
يعيش معهم؛ كان الإسراف والاعتداء مما نهت عنه الشرائع تأديبًا للإنسان وإيقافًا
لقواه عند حدود الاعتدال حتى لا يبغي بعضها على بعض ولا يبغي بعض أصحابها
على بعض , وعدّ الإسراف والعدوان من النقص لأنه يعوق الإنسان في أفراده
ومجتمعه عن بلوغ الكمال الذي خلق مستعدًا له , وإنما يناله إذا اعتدل في استعمال
جميع قواه مع مراعاة كل فرد لحقوق سواه.
أما قولكم: إن الجنة التي وُعد المتقون في الآخرة هي الجنة التي سكنها آدم
في أول نشأته فلا دليل عليه , والراجح المختار من القولين في ذلك أنها بستان من
بساتين الدنيا إذا لم تكن القصة تمثيلاً لأطوار الإنسان في هذه الحياة. وإذا أردت
مزيد البيان فراجع تفسير الآيات في ذلك ولو في غير المنار.
***
حكم أواني الفضة وزكاتها
(س12و14) علي أفندي مهيب بتفتيش التلغرافات بمصر:
أرجو التفضل ببيان حكم الأواني الفضية في الشرع من حيث استعمالها هل
هو محظور أو مباح؟ وهل تجب الزكاة عنها؟ وما هو نصابها الكامل؟ وما مقدار
الواجب عنه؟ .
(ج) أما الاستعمال فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة النهي عن الأكل
والشرب في آنيتها , فحمل ذلك بعض العلماء على الكراهة وجماهيرهم على
التحريم , وخصه أهل الظاهر بمورد النهي , وقاس عليه غيرهم سائر أنواع
الاستعمال (راجع ص 421 و422، م7) والذي أعتقده الوقوف عند النص.
وأما الزكاة عن آنية الفضة ومثلها الذهب فقد قال بها الجماهير , وإن كانت
الزكاة المعهودة فيما يزكو وينمو بالعمل كالنقدين والأنعام السائمة وغلة الأرض ,
ولعل الأصل في ذلك ما رووه في الحلي وأخذ به الحنفية مطلقًا , وقال الشافعية:
إنما الزكاة فيما حرم استعماله من الحلي وأعل البيهقي ما روي في زكاة الحلي بما
لا محل لذكره ولا لما قيل في الجواب عنه , والمعتمد عندي ما قاله الترمذي من أنه
لم يصح في هذا الباب شيء.
وفي نص القرآن أن الزكاة فيما يكنز من الذهب والفضة , وهو ما يجمع
بعضه فوق بعض , زاد بعضهم: وكان مخزونًا , هذا معناه في اللغة وهو بمعنى
الفاضل عن النفقة , واصطلح أكثر الفقهاء على جعله بمعنى ما وجبت فيه الزكاة فلم
تؤدَّ. والمتبادر أن المراد به النقود المضروبة لأنها هي التي تكنز وتنفق دون الحلي
والأواني. وفي حديث علي مرفوعًا: (قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق
فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهمًا وليس في تسعين ومائه شيء , فإذا بلغت
مائتين ففيها خمسة دراهم) رواه أحمد وأبو داود والترمذي , وذكر الترمذي أنه
روي من طريق عاصم بن ضمرة وطريق الحارث الأعور عنه وقال: سألت محمدًا
- يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: كلاهما عندي صحيح. والرقة: هي
الدراهم المضروبة. وقد أيد القائلون: ليس في الحلي المباح زكاة قولهم بالقياس،
قال في حاشية المقنع: وقد تكلم عن روايتين في المذهب: ووجه الأولى ما روى
جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس في الحلي صدقة) ولأنه مرصد
لاستعمال مباح فلم تجب فيه الزكاة كالعوامل من البقر وثياب القنية , والأحاديث
التي احتجوا بها لا تتناول محل النزاع لأن الرقة هي الدراهم المضروبة اهـ. وما
ذكره من القياس على العوامل من البقر والثياب ظاهر جدًا.
وقد علم السائل أن الذي أعتقده في المسألة أن المحظور من استعمال الذهب
والفضة هو ما جاء به النص , وأن ما تجب فيه الزكاة هو ما ورد به النص , وقال
بعض العلماء: إن الاحتياط أن يزكى الحلي أي والآنية. وهو ما يوجبه الأكثرون.
وعلم أيضًا أن نصاب الفضة مائتا درهم وأن فيه ربع العشر , والله أعلم وأحكم.
***
بيع أنقاض المسجد وتجديد بنائه بثمنها
(س15) أ. ب في بيتنزورغ (جاوه) :
ما قولكم رضي الله عنكم في أنقاض مسجد موقوف خرب وأرادوا بناءه؛ فهل
يجوز بيع تلك الأنقاض التي لا تصلح للبناء وهي من خشب وقراميد , واستعمال
ثمنها في بناء ذلك المسجد أم لا؟ أفتونا مأجورين.
(ج) يستأذن القاضي الشرعي في ذلك وهو يأذن ببيع ما لا يستفاد منه إلا
ببيعه , وإنما يناط مثل هذا بأمر القاضي للمصلحة إذ ليس كل ناظر وقف يقف عند
حدود الشرع , فلو وكل الأمر إلى الناظر لباع بعضهم أوقافًا بدعوى تعذر الانتفاع
بها كذبًا وعدوانًا , ولا حاجة إلى بيان أننا لا نكلف حفظ هذه الأنقاض بغير فائدة
تدينًا وتعبدًا. ومن البديهي أن تجديد بناء المسجد في مكانه الموقوف يتعذر مع
وجود تلك الأنقاض , والأمر دائر بين بيع ما لا ينتفع به في بنائه وبين نقله إلى
مكان آخر يحفظ فيه , وهذا النقل والحفظ إنما يكونان بنفقة كأجرة الناقلين وأجرة
المكان الذي تحفظ فيه فأي كتاب أم أية سنة تعبدتنا بأن ننفق المال سدى لنحفظ ما
لا فائدة فيه للوقف؟ ! .
وإننا نرى الناس في مصر يبيعون أعيان الوقف ليستبدلوا بها أعيانًا أخرى
أكثر ريعًا والقاضي يأذن بذلك.
***
امتياز رجال الجنة على نسائها بالحور العين
(س16) محمد أفندي مهدي سليمان بميت القرشي:
تعلمون أن أهل الجنة يدخلونها بفضل الله ويتقاسمونها بالأعمال , فما بال
الرجل من أهلها يمتاز على المرأة بالحور العين الحسان يتمتع بهن وينعم بقربهن
فهل في ذلك من حكمة؟ .
(ج) الحور العين هم نساء الجنة , وما من امرأة تدخل الجنة إلا ويكون لها
فيها زوج فالتمتع بلذة الزوجية مشترك؛ إذ لا زوجية إلا بين ذكر وأنثى , ولعل
سبب السؤال هو توهم أن وصف الحور العين خاص بنساء يُخلَقن في الجنة وأن
نساء الدنيا لا يكنَّ حورًا عينًا في الجنة ولا دليل على ذلك.
***
أسئلة من سنغافوره
من الشيخ محمد بن عوض بن عبده، قال: إنه عرض ما يأتي من الأسئلة
على كثير من العلماء والفضلاء فأجابوه بأن أرسلها إلى السيد محمد رشيد وهي هذه
نذكرها ببعض تصرف حيث تكون عبارتها سقيمة:
(أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم)
(س17) مَن أفضل هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالنص لا
بالمزايا كالصلاة بالصحابة، وتسلسل الخلافة؟ وقال السائل: إنه يعرف وجه
التفضيل بهذه المزايا منذ كان ابن عشر؟ ! .
(ج) لا يوجد نص قطعي في القرآن أو حديث متواتر يدل على أن فلانًا
أفضل الناس بعد النبيين , وإنما هناك أحاديث آحاد مشتركة , ولا يصح منها شيء
قطعي الدلالة فحديث أبي الدرداء مرفوعًا: (ما طلعت شمس ولا غربت على أحد
بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر) ضعيف أخرجه أبو نعيم في الحلية وفي
فضائل الصحابة وابن النجار وكذا ابن عساكر بالمعنى , وكذلك حديث علي والزبير
عند ابن عساكر: (خير أمتي بعدي أبو بكر وعمر) وحديث جابر عند
الخطيب: (علي خير البشر فمن أبى فقد كفر) قال: إنه حديث منكر , وهناك
أحاديث أخرى صحيحة أو حسنة الأسانيد لكنها ليست نصًا في التفضيل كحديث:
(أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) قاله لعلي في صحيح مسلم
وغيره في الصحيحين بلفظ آخر وهو بمعنى حديث: (أنت أخي في الدنيا والآخرة)
رواه الترمذي والحاكم من حديث عمر. وكحديث: (لو كان بعدي نبي لكان
عمر بن الخطاب) رواه أحمد والترمذي عن عقبة بن عامر وغيرهما. وكل هذا
من المزايا. وخير للمسلمين أن يفوضوا أمر التفضيل إلى الله تعالى ولا يبحثوا فيه.
***
(خروج معاوية على عليّ)
(س18) ومنه: أفدنا عن معاوية بن أبي سفيان هل هو محق فيما ادعى
به على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في طلب الخلافة أو مخطئ أو فاسق
كما قال ابن حجر في الصواعق المحرقة أو عاصٍ؟ ! . نرجو الجواب الشافي ولا
نرضى بقولهم: المجتهد المصيب له أجران والمخطئ له أجر واحد! .
(ج) إن سيرة معاوية تفيد بجملتها وتفصيلها أنه كان طالبًا للملك ومحبًّا
للرياسة , وإني لأعتقد أنه قد وثب على هذا الأمر مفتاتًا وأنه لم يكن له أن يحجم
عن مبايعة علي بعد أن بايعه أولو الأمر أهل الحل والعقد , وإن كان يعتقد أنه قادر
على القيام بأعباء الأمة كما يقولون فما كل معتقد بأهليته لشيء يجوز له أن ينازع
فيه , وقد كان علي يعتقد أنه أحق بالخلافة ولما بايع الناس مَن قبله بايع لئلا يفرق
كلمة المسلمين ويشق عصاهم , ومعاوية لم يراعِ ذلك. وأنه هو الذي أحرج
المسلمين حتى تفرقوا واقتتلوا وبه صارت الخلافة ملكًا عَضوضًا , ثم إنه جعلها
وراثة في قومه الذين حولوا أمر المسلمين عن القرآن بإضعاف الشورى بل بإبطالها
واستبدال الاستبداد بها حتى قال قائلهم على المنبر: (مَن قال لي: اتق الله ضربت
عنقه) ! بعد ما كان أبو بكر يقول على المنبر: (وليت عليكم ولست بخيركم فإذا
استقمت فأعينوني وإذا زغت فقوِّموني) وكان عمر يقول: (مَن رأى منكم فيَّ
اعوجاجًا فليقومه) , وإنني على اعتقادي هذا لا أرى للمسلمين خيرًا في الطعن في
الأشخاص والنبز بالألقاب واللعن والسباب، وإنما عليهم أن يبحثوا عن الحقائق
ليعلموا من أين جاءهم البلاء فيسعوا في تلافيه مع الاتحاد والاعتصام والاقتداء
بالسلف الصالح في حسن الأدب لا سيما مع الصحابة الكرام.
***
(قبر هود عليه السلام)
(س19) أفيدوني عن قبر نبي الله هود، هل هو في حضرموت كما يزعم
بعض الحضارمة أم لا؟ .
(ج) من خصوصيات نبينا عليه الصلاة والسلام أن قبره معروف بطريق
القطع واليقين , ولا يعرف قبر لنبي آخر ولا بالظن الراجح وإنما هي شبهات
وأوهام.
وأما السؤال الرابع فهو عن نبي اسمه (عياد) إلا أن تكون قراءة العبارة قد
تعذرت عليَّ ولا أعرف في الأنبياء مَن اسمه عياد.
__________(9/205)
الكاتب: أبو زبيد الطائي
__________
وصف الأسد
لأبي زبيد الطائي
دخل أبو زبيد الطائي على عثمان بن عفان رضي الله عنه في خلافته فقال له
(أي عثمان) : بلغني أنك تجيد وصف الأسد , فقال له: لقد رأيت منه منظرًا،
وشهدت منه مخبرًا لا يزال ذكره يتجدد على قلبي. قال: هاتِ ما مر على رأسك
منه. قال: خرجت يا أمير المؤمنين في صيَّابة من أفناء قبائل العرب [1] ذوي
شارة حسنة ترتمي بنا المهاري بأكسائها القزوانيات [2] , ومعنا البغال عليها العبيد
يقودون عتاق الخيل نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام , فاخروَّط [3] بنا
المسير في حمارة القيظ [4] حتى إذا عصبت [5] الأفواه، وذبلت الشفاه، وشالت [6]
المياه، وأذكت الجوزاء المعزاء [7] وذاب الصيخد [8] وصرَّ الجِنْدَب [9] وضايقت
العصفور الضب في وجاره [10] قال قائلنا: أيها الركب غوروا بنا في ضوح [11]
هذا الوادي؛ فإذا وادٍ كثير الدغل [12] دائم الغلل [13] شجراؤه مغنة وأطياره مرنة،
فحططنا رحالنا بأصول دوحات كنهبلات [14] فأصبنا من فضلات المزاود [15]
وأتبعناها بالماء البارد، فإنا لنصف حر يومنا ومماطلته ومطاولته إذ صرّ [16]
أقصى الخيل أذنيه، وفحص الأرض بيديه، ثم ما لبث أن جال فحمحم [17] وبال
فهمهم [18] ثم فعل فعله الذي يليه واحد بعد واحد فتضعضعت الخيل، وتكعكعت
[19] الإبل، وتقهقرت البغال. فمِن نافرٍ بشكاله [20] وناهضٍ بعقاله [21] فعلمنا أن
قد أُتينا وأنه السبع لا شك فيه، ففزع كل امرئ منا إلى سيفه واستله من جربانه
[22] ثم وقفنا له زردقًا [23] , فأقبل يتظالع [24] في مشيته كأنه مجنوب أو في هجار
[25] لصدره نحيط [26] ولبلاعيمه [27] غطيط، ولطرفه وميض [28] ولأرساغه
نقيض [29] كأنما يخبط هشيمًا [30] أو يطأ صريمًا [31] وإذا هامة كالمجن، وخدّ
كالمسن، وعينان سجراوان [32] كأنهما سراجان يقدان [33] , وقصرة ربلة [34]
ولهزمة رهلة [35] وكتد مغبط [36] وزور مفرط [37] وساعد مجدول وعضد مفتول
وكف شثنة البراثن [38] إلى مخالب كالمحاجن [39] , ثم ضرب بذنبه فأرهج [40]
وكشر فأفرج عن أنياب كالمعاول [41] ، مصقولة، غير مفلولة، [42] وفم أشدق،
[43] كالغار الأخرق، ثم تمطَّى [44] فأسرع بيديه، وحفز [45] وركيه برجليه، حتى
صار ظله مثليه، ثم أقعى فاقشعرّ [46] ثم مثل فاكفهرّ [47] ثم تجهم فازبأر [48] . فلا
والذي بيته في السماء ما اتقيناه بأول من أخ لنا من بني فزارة، كان ضخم الجزارة
[49] فوهصه [50] ثم أقعصه [51] فقضقض متنه [52] وبقر بطنه، فجعل يالغ [53]
في دمه. فذمرت [54] أصحابى فبعد لأي [55] ما استقدموا , فكر مقشعر الزبرة [56]
كأن به شيهمًا حوليا [57] فاختلج [58] من دوني رجلاً أعجر ذا حوايا [59] فنفضه
نفضة فتزايلت أوصاله [60] وانقطعت أوداجه [61] , ثم نهم [62] فقرقر، ثم زفر
فبربر [63] ثم زأر فجرجر [64] ثم لحظ، فواللهِ لخِلت البرق يتطاير من تحت جفونه،
عن شماله ويمينه، فارتعشت الأيدي واصطكَّت [65] الأرجل وأطَّت [66] الأضلاع،
وارتجت الأسماع، وحمجت [67] العيون وانخزلت المتون [68] ولحقت الظهور
بالبطون ثم ساءت الظنون:
عَبوس شموس مصلخدّ خنابس [69] ... جريء على الأرواح للقرن قاهر
منيع ويحمي كل وادٍ يريده ... شديد أصول الماضغين مكابر
براثنه شثن وعيناه في الدجى ... كجمر الغضا في وجهه الشر ظاهر
يدل بأنياب حداد كأنها ... إذا قلص الأشداق عنها خناجر [70]
فقال عثمان رضي الله عنه: اكفف لا أُمَّ لك؛ فلقد أرعبت قلوب المسلمين
ولقد وصفته حتى كأني أنظر إليه يريد يواثبني! .
__________
(1) الصيابة بالتشديد: من الناس جماعتهم ولبابهم , وأفناء الناس: نُزَّاعهم من هنا وهنا.
(2) المهاري: جمع مهرية الإبل المنسوبة إلى مهرة وهي تسبق الخيل.
(3) اخروط المسير: طال وامتد.
(4) حمَّارة القيظ: شدة الحر.
(5) عصبت الأفواه: جف ريقها.
(6) يريد بشالت: قلت أو نفدت وهو من شالت الناقة: إذا قل لبنها , وأصله شول ذنبها للقاح وهو يكون عند قلة اللبن أو جفافه , وقالوا: شوّلت القربة والمزادة قال في التاج: ولا يقال شالت.
(7) المعزاء: الأرض الحزنة ذات الحجارة الصلبة , والجوزاء: برج تكون الشمس فيه صيفًا يريد أن شمس الجوزاء أشعلت الأرض.
(8) الصيخد: عين الشمس وقوله: ذاب مبالغة بأن الحر قد بلغ نهايته.
(9) صرَّ: صوَّت والجِندب (كدرهم) : صغير الجراد يلازم أشجار الزيتون والكَرْم في حر الصيف وهو لا يصر إلا عند ما يُحْمَى وطيس الحر.
(10) وجار الضب: جُحره وإذا اشتد لجأت العصافير إلى الظل ولو في الأوْجِرَة.
(11) قال في الأساس: أخذ في ضوح الوادي وأضواح الأودية: وهي محانيها ومكاسرها، أي حيث الظل وفي نسخة الأساس المطبوعة ضوج بالجيم وهو موافق لما في القاموس ولكن شارحه استدرك عليه الضوح في باب الحاء ناقلاً عن الأساس.
(12) الدغل: الشجر الكثيف الملتف والنبت الكثير المشتبك.
(13) الغلل: الماء الذي يجري بين الأشجار.
(14) الدوحة: الشجرة العظيمة، جمعه: دوح ودوحات وشجر كَنَهْبَل كسَفَرْجلَ: عظيم فهو وصف مؤكد.
(15) المزاود: أوعية طعام المسافرين.
(16) صر أذنيه: نصبهما للسماع.
(17) حمحم: صهل بقلق.
(18) همهم: ردد صوته من شدة الخوف.
(19) تكعكعت: أحجمت وتأخرت إلى الوراء.
(20) الشكال: حبل تشد به قوائم الدابة وهو خاص بالدواب.
(21) العقال: حبل يعقل به البعير في وسط ذراعه وهو خاص بالأباعر.
(22) جربان السيف: غمده.
(23) زردق كجعفر بزاي فراء، وبراء فزاي: الصف القيام من الناس، قال أبو الطيب - يصف فتك سيوف جيش ممدوحه بعدوهم -: لقد وردوا ورد القَطَا شفراتها / ومروا عليها رزدقًا بعد رزدق.
(24) يتظالع: يتغامز من الظلع وهو عرج قليل , والمجنوب: المصاب بذات الجنب.
(25) الهجار: حبل يشد في رسغ البعير إلى حقوه.
(26) النحيط: الزفير.
(27) البلاعيم: مجاري الطعام في الحلق.
(28) الوميض: لمعان البرق الخفيف.
(29) الرسغ: كقفل وبضمتين: الموضع المستدق بين الحافر وموصل الوظيف من اليد والرجل ومفصل ما بين الساعد والكف، والساق والقدم ومثل ذلك من كل دابة والنقيض: صوت المفاصل ومنها الأرساغ وكذا صوت الأصابع والأضلاع والرحال وما في معناها.
(30) الهشيم: النبات اليابس.
(31) للصريم معانٍ كثيرة أوجهها هنا: الأرض المحصود زرعها فهو يشبه صوت أرساغه بصوت خابط الهشيم وواطئ الصريم , والخبط: الوطء الشديد , والمجن: الترس , والمسن: ما يسن عليه يعني أن وجهه لا لحم عليه.
(32) سجراوان: مشوب بياضهما بحمرة.
(33) القصرة كبقرة: أصل العنق إذا غلظت.
(34) الربلة: الكثيرة اللحم.
(35) اللِّهْزِمة (كعكرمة) بالكسر: عظم ناتئ في اللحي تحت الأذن أو مجتمع اللحم بين الماضغ والأذن، ورهلة: مسترخية.
(36) الكتد: الكاهل أو مجتمع الكتفين ومغبط: محبوك أو مرتفع.
(37) الزور: وسط الصدر، ومفرط: ممتلئ وهو مجاز والأصل فيه أن يستعمل للغدير ونحوه فيقال: غدير مفرط أي ملآن ماءً.
(38) كف شثنة: غليظة، والبراثن جمع برثن كقنفد: هي من السباع كالأصابع من الإنسان.
(39) مخالب الأسد: أظافره، والمحاجن جمع مِحجن كمنبر: وهو العصا المنعطفة الرأس قوله ثم ضرب إلخ عطف على قوله فأقبل يتظالع إلخ.
(40) أرهج: أثار الغبار.
(41) المعاول: الفئوس العظيمة.
(42) مفلولة: مثلمة.
(43) أشدق: عظيم الشدقين.
(44) تمطى: تمدد وتبختر.
(45) حفز وركيه برجليه: دفعهما بهما وهو مُثنى ورك ككتف: هي ما فوق الفخذ.
(46) أقعى: جلس على أليتيه، ونصب فخذيه، واقشعر: ارتعد.
(47) اكفهر: كلح وعبس.
(48) الجهم الوجه: الغليظ السمج وتجهمه: قابله بوجه جهم، وازبأر: تنفش وتهيأ للشر.
(49) الجزارة كنخالة: أطراف الجزور وهي اليدان والرجلان والرأس.
(50) وهصه: رماه وضرب به الأرض.
(51) أقعصه: قتله مكانه وأجهز عليه.
(52) قضقض متنه: كسر ظهره وبقر بطنه: شقَّه.
(53) يالغ: يشرب بطرف لسانه.
(54) ذمره على الشيء: حثَّه عليه لائمًا أو معنِّفًا ليجد فيه.
(55) لأي: بطء.
(56) مقشعر الزبرة: منتصب شعر ما بين الكتفين وهي لبدته.
(57) الشيهم كبيرق: القنفذ العظيم، والحولي: الذي مر عليه الحول.
(58) اختلج: انتزع واجتذب.
(59) الأعجر: الممتلئ جدًا أو عظيم البطن , والحوايا: الأمعاء.
(60) تزايلت: تباينت وانفصلت , وأوصاله جمع وصل كنسر: وهي المفاصل أو مجتمع العظام.
(61) الأوداج: العروق التي تقطع بالذبح.
(62) نهم بمعنى نحم: أي تنحنح , وقرقر: هدر وزأر.
(63) زفر: أخرج صوته يمده بصوت , وبربر: صوت.
(64) زأر: صات من صدره , وجرجر: ردد صوته في حنجرته.
(65) اصطكت: اضطربت.
(66) الأطيط: صوت الرحل الجديد وما يشبهه وصوت الظهر والجوف عند الجوع , وأطَّت الإبل: أنَّت من التعب أو الحنين.
(67) التحميج: هو نظر الفَزِع المذعور والمتحير المبهوت، فالأول يكون بدوران الحدقة , والثاني يكون بإدامة النظر مع فتح العينين، وكلاهما يصح هنا.
(68) انخزلت المتون: أي انكسرت الظهور.
(69) المصلخدّ: المنتصب قائمًا، الشموس: الممتنع لا يمكِّن منه أحدًا، الخنابس: الكريه المنظر والقوي الشديد الثابت، وهو من أسماء الأسد.
(70) يدل بالشيء: يجترئ بسببه، يقال: أدلّ بقوته وسلطانه، وأدلت بحسنها وجمالها،
والأشداق: نواحي الفم، وقلصها: فرجها وزواها بنحو التكشير.(9/214)
الكاتب: أديب متنكر
__________
نقد شرح ديوان أبي تمام
تابع لما في الجزء الثاني
(ص233)
شاكي الجوانح من خلائق ظالم ... شاكي السلاح على المحب الأعزل
(شاكي السلاح: تام السلاح) قولهم: شاكي السلاح إما أن يكون من
الشوكة فيكون أصله شائك ومعناه حديد السلاح ماضيه , وإما أن يكون من الشك
ويكون أصله شاكك ومعناه حامل السلاح. فالتمام ليس من معنى شاكي كما هو
ظاهر.
(ص254)
رأيتك للسفْر المطرَّد غاية ... يؤمونها حتى كأنك منهل
(السفْر: السفَر سكنت الفاء ضرورة والمطرد: الطويل) السفر هنا ليس
أصله مفتوح الفاء فسكنه وإن مصدر، كما يفهم من قول الشارح وإنما هو بسكون
الفاء من الأصل؛ لأنه جمع سافر كصحْب جمع صاحب يقال: نحن قوم سفْر أي
مسافرون، والمطرد اسم مفعول لطرده عن البلد بمعنى أبعد يقال: فلان مشرد مطرد
وهو نعت لسفر باعتبار لفظه كما أن يؤمون عاد إليه باعتبار معناه. والمطرد إنما
يكون بمعنى الطويل إذا أجري على اليوم نعتًا يقال: يوم مطرد أي طويل كامل تام
يقول الشاعر: إن المسافرين الذين شردهم عن أوطانهم البؤس والشقاء يؤمونك كما
يؤم العطاش المناهل.
(ص254)
وإلا تكن تلك الأماني غضة ... ترفّ فحسبي أن تصادف ذبلا
(ذبلاً: يابسة) يقول الشاعر: إذا لم أصادف أماني غضة طرية فإني
راضٍ أن تكون ذابلة لا غضة ولا يابسة , وقد بينا معنى الذبول في الكلام على
بيت صحيفة 228 وتفسير الذبول هنا باليبس فضلاً عن كونه لا يصح لغة لا
ينطبق على قصد الشاعر ولا يلائم غرضه، فإن ما يريد الإنسان ويتطلبه لا يسميه
أمنية ما لم يكن فيها شيء من الفائدة والنفع ولو قليلاً , وتلك القلة كنَّى عنها الشاعر
بالذبول فلو أراد بالذبول اليبس كان كناية عن خيبته وعدم نيله لأمانيه وقوله
(حسبي) ينافي هذا كما لا يخفى.
(ص269)
قُدعتم فمشيتم مشية أممًا ... كذاك يحسن مشي الخيل باللجم
(قدعتم: لجمتم) لعل صوابه: ألجمتم لأنه يقال: ألجمت الفرس لا لجمته.
ثم إن تفسير القدع بالإلجام لا أراه صحيحًا , وإرادة معناه الموضوع له نهاية في
الحسن. القدع: الكف قدعه فانقدع وقدعت الفرس إذا كففته بلجامه لتنهنه من حدة
جريه فالشاعر يقول: ردعتم عن مرامكم وكففتم عن غيكم كما تكف الخيل بلجمها
فتمشي مشيتها المعهودة.
(ص271)
أرض مصرّدة وأخرى تثجم ... تلك التي رزقت وأخرى تحرم
(مصردة: لا شجر بها) الأرض التي لا شجر بها يقال لها: مِصراد
كمفتاح لا مصردة , أما المصردة هنا فمن التصريد ومعناه التقليل , وصرد له
العطاء قلله , وصرد السقي قطعه دون الري وشراب مصرد مقلل.
قال النابغة:
وتسقي إذا ما شئت غير مصرد ... بصهباء في حافاتها المسك كارع
وقرن الإثجام بالتصريد هنا مثل قرن الوابل بالطل في الآية الكريمة.
(ص294)
وبالخدلة الساق المخدّمة الشوى ... قلائص يتبعن العبنَّى المخدّما
(المخدمة: المستديرة التحجيل فوق الأشاعر) ما ذكره لا يصلح هنا لا في
تفسير الكلمة الأولى (المخدمة) ولا في تفسير كلمة القافية (المخدما) لأن ما ذكره
من صفات التحجيل وهو للخيل. وكلمة القافية جارية على العبنى وهو العظيم من
الجِمال كما قال الشارح وهي من الخَدَمَة (محركة) سير غليظ يشد في رسغ البعير ,
أما المخدمة الواقعة في الشطر الأول , وفسرها الشارح بما فسر فهي وصف
للغادة التي وصفها بامتلاء الساق ثم قال: إن شواها أي يديها ورجليها مخدمة أي
مخلخلة؛ لأن الخدمة أيضًا تأتي بمعنى الخلخال كما تأتي بمعنى السير المذكور ,
ومعنى البيت أن المنزل تبدل قطينه فبعد أن كانت تمرح فيه الغواني ذات الخلاخيل
صارت ترتع فيه النياق اللائذة بفحلها المشدود الرسغ بالسير.
(ص303)
قد قلصت شفتاه من حفيظته ... فخيل من شدة التعنيس مبتسما
(قلصت: كمدت) الكمد والكمدة تغير اللون وذهاب صفائه , وليس هذا
المعنى من التقليص في شيء. والتقليص له معان وإذا أسند إلى الشَّفَة فقيل:
تقلصت شفته أو قلصت - كان بمعنى انزوت وتشمرت علوًا , وهذا ما أراده
الشاعر.
(ص323)
ويوم المصدفية حين ساموا ... أنو شروان خطبًا غير هين
(ساموا: أذاقوا) سام فلانًا الأمر كلفه إياه وسامه خسفًا أولاه إياه وأراده
عليه , وهذا المعنى في السوم مجاز كما في الأساس , وأصله أن يحاول صاحب
السلعة بيعها بثمن ويريده مشتريها على أقل منه. فقول شاعرنا هنا من قبيل السوم
المجازي أي أرادوا أنو شروان على التوسط في خطب اعتدوه له , وهو يحاول
التفصي منه لأنهم أذاقوه إياه , وإذا فسرنا الكلمة هنا بالإذاقة نكون حمَّلناها ما لا
طاقة لها به لا حقيقةً ولا مجازًا.
(ص324)
تآمرت نكبات الدهر ترشقني ... بكل صائبة عن قوس غضبان
(تآمرت: اتفقت) تآمروا تشاوروا كأتمروا , وإسناد التآمر إلى النكبات
إسناد مجازي لطيف. وتفسير التآمر بالاتفاق عدول بالكلمة عن معناها المستعملة
فيه واللائق بها هنا. وإذا قيل: إن التشاور على الرشق لا يقتضي الرشق بالفعل
قلنا: والاتفاق عليه لا يقتضيه أيضًا وإنما هو شيء يفهم من المقام.
(ص344)
أميلوا العِيس تنفخ في بُراها ... إلى قمر الندامى والنديّ
(البُرى: التراب) البرى بضم الباء جمع برة وهي حلقة تجعل في أنف
البعير تكون من صفر ونحوه ومنه قول المقصورة (يرعفن بالأمشاج من جذب
البرى) , والعيس إذا أوضعت في السير تجعل تنفخ ونفخها يمر على تلك الحلقات
المعلقة في أنوفها لا التراب الذي على الأرض على أنه لا معنى لإضافة التراب إلى
العيس.
(ص413)
كالليل أو كاللوب أو كالنوب ... منقادة لقادر غربيب
(اللوب: الإبل السود) اللابة: الإبل المجتمعة السود على أنه لا يمكن أن
تراد الإبل السود هنا قط لئلا يكون من قبيل تشبيه الشيء بنفسه؛ لأن الشاعر إنما
يصف الإبل ويظهر من تشبيهه لها بالليل والزنج أنها كانت سوداء فكيف يشبهها
وهي سود بالإبل السود. وإنما اللوب هنا جمع لوبة وهي الحَرة , والحرة بفتح
الفاء أرض ذات حجارة سوداء ومنه قولهم: أسود لوبي نسبة إليها وتسمى الحرة
أيضًا لابة ومنه لابتا المدينة.
هذا ما أردت محادثة الشارح فيه أو مؤاخذته عليه مما سبق من الخاطر الكليل
لأول وهلة , ويخيل لي أنه لو بالغ منتقد في انتقاده لعثر على أكثر مما عددته عليه
وقد أضربت عن كثير مما غلب على ظني تحريفه أو تصحيفه كقول الشاعر
(ص 27) :
فضربت الشتاء في أخدعيه ... ضربة غادرته قودًا ركوبًا
فقال الشارح: (القود: البعير المسن) والصحيح أن القود بالقاف: الخيل، أما
البعير المسن فيقال له: العود بالعين المهملة. وأظهر من ذلك قول الشاعر في
(ص449) :
قضيب من الريحان في غير لونه ... وأم رشا في غير أكراعها الخمش
فقال الشارح: (الخمش: المخدشة) والصواب أن الكلمة في البيت مصحفة
عن الحمش بالحاء المهملة وهي جمع أحمش الدقيق الساقين أي ضئيلهما , وقد
حمشت ساقه وهو حمش الساقين , ومنه قول الحماسي يهجو امرأة:
وساق مخلخلها حمشة ... كساق الجرادة أو أحمش
ومثله ما في (ص35) :
كالأجدل الغطريف لاح لعينه ... خزر وأنت عليه مثل الأجدل
فقال الشارح: (الخزر: الحساء الدسم) مع أن الأجدل - الذي هو الصقر -
لا يأكل الأطعمة الدسمة ولا ينقض عليها وإنما الكلمة خزر كصرد ولامها زاي لا
راء ومعناها ذكر الأرانب , وهو من طعام الأجادل يقول: إن الشاعر على صهوة
فرسه كالصقر يعلو صقرًا رأى أرنبًا فجدَّ في أثره.
ونظيره أيضًا ما في (ص256) :
أبا جعفر إن الجهالة أمها ... ولودٌ وأم العلم جذاء حائل
فقال الشارح: (جذاء: بلا ثدي) فسرها على كونها من الجذ بالذال المعجمة
وهو القطع , وإنما هي جداء بالدال المهملة وهي المرأة الصغيرة الثدي والذاهبة
اللبن لعيب خلقي في ثديها وقوله (حائل) يؤيد هذا المعنى.
على أن الشارح حفظه الله تساهل في تفسير كثير من الكلمات تساهلاً ربما لم
يرضِ نقاد اللغة ولم يستجيزوه من مثله مثل قوله (منى) جمع أمنية، (جيش
أزب) متجمع، (السنان) الرمح، (الأيكة) الشجرة، (أحرج) أجبر،
(الحديث سرار) سر، (الصبر) الدواء المر، (الفرند) السيف، (الصفاة)
الصوانة، (تهفو خلائقه) تضطرب، (يجم) يترك، (الطوَل) الحبل الطويل،
(سيديل) سينتقم، (المعرس) المنزل، (الاصطلاء) الالتهاب، (الوابل)
المطر، (البنان) الأصابع، (لاحب) طريق مُزجاة كاسدة، (النكال) المصيبة،
(الهنات) الأمور، (شكائم) انتصارات، (اقتضى) طلب القرض، (يخترمن)
يخترقن - في نظائر ذلك مما كان من باب التفسير بالأعم أو بالأخص أو باللازم ,
وهو ما يأباه المدققون في اللغة ويرون التسامح فيه غلطًا فاحشًا وجريمة لا تُغتفر.
بقي لي كلمة لا أحب أن أبلغ بالكلام آخره ما لم أحدث بها حضرة الشارح
وهي أني عددت عليه كلمات هي من قبيل المشترك وقد فسرها بمعناها غير المراد
للشاعر كتفسيره للبرى بأحد معنييه وهو التراب مع أن المراد معناه الآخر كما مر
آنفًا , فإن ذهب حضرة الشارح إلى أن تفسيره للمشترك بغير المراد منه غير
موضع للانتقاد لكونه لم يخالف فيه أصل وضع اللغة وأنه في ذلك لم يخرج عن
كونه شارحًا لديوان أبي تمام وعدَّ مؤاخذتي له على تلك الكلمات مؤاخذة في غير
محلها وعلى غير الوجه الذي أعلنه في طلب الانتقاد - إن زعم ذلك كان من يفسر
قوله تعالى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} (الغاشية: 12) بقوله: العين: الباصرة،
والجارية: الفتاة! - يصح أن يسمى مفسرًا للقرآن وشارحًا لكلام الله تعالى،
وكنت إذ ذاك جديرًا بسحب الكلام وطلب العفو والسلام. اهـ.
_______________________(9/218)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(كتاب الجواب الصحيح لمَن بدَّل دين المسيح)
طُبع منذ سنة أو أكثر هذا الكتاب النفيس لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه
الله تعالى وهو أربعة أجزاء , وقد كتبه ردًّا على كتاب أذاعه النصارى في عصره؛
فعلمنا أن القوم هم الذين كانوا يعتدون في الماضي كما يعتدون في هذا العصر وما
كانوا إلا محجوجين في كل زمان.
ذكر المؤلف في مقدمة كتابه أن ذلك الكتاب ورد عليهم من قبرص وأنه مؤلف
من ستة فصول:
(1) في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يُبعث إليهم بل إلى الجاهلية من
العرب.
(2) أنه أثنى في القرآن على دينهم بما أوجب أن يثبُتوا عليه.
(3) أن نبوات الأنبياء المتقدمين تشهد لدينهم الذي هم عليه فوجب ثباتهم
عليه.
(4) أن ما هم عليه من التثليث ثابت بالعقل والنقل.
(5) أنهم موحدون!
(6) أن المسيح جاء بعد موسى بغاية الكمال فلا حاجة بعده إلى شرع.
وقد أورد كلامهم في كل فصل وردّ عليه بالعقل والنقل من كتبهم فدل على أنه
كان مطّلعًا عليها أتم الاطلاع , وأيد بيان الحق في جميع المسائل بآيات الكتاب
العزيز والأحاديث النبوية بما يعهد في كلامه من البسط والإيضاح. وفي هذا
الكتاب من الفوائد النادرة في العلم والتاريخ وإيضاح المشكلات الغامضة في الدين
وغيره ما لا يوجد في كتاب سواه , ومن أعظم مواضع العبر في الكتاب ذلك الفصل
الذي عقده في الجزء الرابع لبيان وجوه العدل ومقصود العبادات وتفضيل هذه في
الأمة على أهل الكتاب بالعلم والعمل.
قال: (فأما العلوم فهم - يعني المسلمين - أحذق في جميع العلوم من جميع
الأمم حتى العلوم التي ليست بنبوية ولا أخروية كعلم الطب مثلاً والحساب ونحو
ذلك (أي من العلوم الكونية، طبيعية ورياضية) هم أحذق فيها من الأمتين
ومصنفاتهم فيها أكمل بل هم أحسن علمًا وبيانًا لها من الأوائل الذين كانت غاية
علمهم. وقد يكون الحاذق فيها مَن هو عند المسلمين منبوذ بنفاق وإلحاد ولا قدر له
عندهم , لكن يحصل له بما يعلمه من المسلمين من العقل والبيان ما أعانه على
الحذق في تلك العلوم فصار حثالة المسلمين أحسن معرفة وبيانًا لهذه العلوم من
المتقدمين) ! .
ثم ذكر براعة المسلمين في العلوم الإلهية والأخلاق والسياسة الملكية والمدنية
وانتقل من هنا إلى بيان المقصود من العبادة عند المتفلسفة وغيرهم، ولا شك أن
المسلمين كانوا إلى عهده أكمل الأمم في علوم الدين والدنيا. فماذا عساه يقول لو
خرج من قبره ورأى حالة المسلمين اليوم في العلم وكيف وصلوا إلى درجة صاروا
يحاربون فيها العلوم باسم الدين وصارت حثالة أهل الكتاب أعلم من أشهر علمائهم
في هذه العلوم التي كانت حثالة المسلمين أعلم بها وأحسن بيانًا من علمائهم؟ ! .
هل انقلبت الحال واستحالت طبيعة الإسلام أم المسلمون اليوم أوسع علمًا
وأشد اعتصامًا بالدين من سلفهم منذ اشتغلوا بعلوم الدين في القرون الأولى إلى زمن
ابن تيمية المتوفى سنة 728 ولذلك ظهر لهم ما لم يظهر لسلفهم من منافاة الاشتغال
بالعلوم الدينية لتحصيل العلوم الكونية؟ ! .
لا يتجرّأ أحد منهم على هذه الدعوى فليعتبر المسلمون بماضيهم وحاضرهم
وبمخالفة خلفهم الطالح لسلفهم الصالح.
هذا وإن الكتاب يباع عند أحد طابعيه الشيخ مصطفى القباني بخان الخليلي
وفي مكتبة المنار , وثمن النسخة منه مجلدة اثنان وعشرون قرشًا صحيحًا.
***
(ضوء الصبح المسفر)
أَحَسِبَ الناس أن المسلمين لم يصنفوا فيما يسمى عند أهل الغرب بعلم أدب
اللغة وتاريخ اللغة؟ ! ولو اطَّلعوا على ما أبقت عليه حوادث الزمان من كتب سلفنا
في دارنا وما جذبته مغناطيسية العلم والعمران منها إلى ديار أوربا؛ لعلموا أن القوم
ما غادروا متردّما فقد أوفوا على الكمال في بعض العلوم والفنون أو قاربوا ,
ووضعوا لبعضها الأسس لنبني أو بنوا لنُتم ونكمل فنقصنا ما كملوا وهدمنا ما بنوا
وعفونا تلك الأسس حتى جهلنا مكانها!
هذا كتاب (صبح الأعشى في كتابة الإنشا) من أنفس الكتب المطولة في
أدب اللغة وتاريخها وضعه الشيخ أحمد بن علي القلقشندي المصري المتوفى سنة 821 , وهو يدخل في سبعة أسفار عظيمة عني ناظر دار الكتب المصرية
(الكتبخانة الخديوية) بطبعها على نفقتها ولكنه لا يطبع منه إلا نسخًا قليلة يريد حفظ
بعضها في دار الكتب وتوزيع باقيها على دور الكتب في أوربا.
وللكتاب مختصر للمؤلف سماه (ضوء الصبح المسفر) أودعه صفوة مسائله
وخلاصة مباحثه فكان سفرين عظيمين نشده محمود أفندي سلامة فوجد جزءًا منه
فطبعه طبعًا حسنًا بحرف مثل حرف المنار على ورق أنظف من ورقه , وقد
ناهزت صفحاته نصف الألف وهو مشتمل على مقدمة وعشرة أبواب وخاتمة. وفي
الأبواب فصول.
أما المقدمة ففي مبادئ يجب تقديمها على الخوض في كتابة الإنشاء. وفيها
خمسة أبواب أربعة منها في التعريف بحقيقة ديوان الإنشاء وأصل وضعه في
الإسلام واستقراره بدار الخلافة وتفرقه بعد ذلك في الممالك وفيه فصلان , والخامس
في قوانين ديوان الإنشاء وترتيب أحواله ورتبة صاحب الديوان وصفاته الواجبة فيه
وآدابه وأرباب وظائفه من الكُتاب وغيرهم في القديم والحديث وفيه أربعة فصول.
وأما المقالة الأولى ففي ما يحتاج إليه الكاتب وتدعو إليه ضروراته وفيها بابان.
وأما الثانية ففي ما يحتاج إليه من معرفة أحوال الأرض وجهاتها ورياحها وفيه ثلاثة
أبواب. ولو أردت أن أسرد للقارئ ملخص فهرس هذا الجزء على هذا النحو لقال:
إنه لم يترك شيئًا يشتاقه طالب الأدب والتاريخ في هذا الموضوع إلا وخاض فيه
لا سيما الأمور الرسمية كالأسماء والكُنَى والألقاب والنعوت ورقاع كاتب السر
وقوائم الوزارة ومربعات الجيش والمناشير والإقطاعات والمستندات والبيعة والعهود
والتقاليد والتعاويض والمراسيم والتواقيع وما يتعلق بالحرب والهدن والصلح والأمان
من الاصطلاحات وغير ذلك من الأمور الرسمية وغير الرسمية كمكاتبات الإخوان
والتهاني والتعازي والبشارات والشفاعات وكالأدوات الفنية ومنها: آلات الدواة
وهي خمس عشرة , ومنها الكلام في الورق وأشكاله. وجملة القول إنه لا يستغني
أديب ولا مؤرخ عن هذا الكتاب.
وهو يطلب من ناشره في مطبعة الواعظ بدرب الجماميز , وثمن النسخة منه
ثلاثون قرشًا صحيحًا وانتقدنا على ناشره أن نشره بغير جدول للفهرس فوعد بجمع
الفهرس وطبعه.
***
(تربية المرأة والحجاب)
قد صادف هذا الكتاب من الرواج ما أنفد نسخ الطبعة الأولى منه فأعاد مؤلفه
(محمد طلعت بك حرب) طبعه على نفقته إجابة لكثرة الطالبين له , وقد افتتح
الطبعة الثانية بمقدمة أودعها ما كتبناه في المنار تفسيرًا لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ
الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 228) مقتبسًا من دروس الأستاذ رحمه الله
تعالى وختمها بعلاوة هي عدة مقالات من مقالاتنا التي نشرناها في المنار تحت
عنوان (الحياة الزوجية) فكانت زيادة هذه الطبعة على الأول بنحو ربع الكتاب
فصارت صفحات الكتاب مائتي صفحة كصفحات المنار ولم يزد مع ذلك في ثمنه
شيئًا , فثمن النسخة من الطبعة الجديدة ستة قروش صحيحة , وأجرة البريد قرش
ونصف ويباع بمكتبة المنار.
هذا وإننا نذكر ما قاله في أول مقدمة هذه الطبعة تعريفًا بالغرض من هذا
الكتاب. قال - بعد البسملة والحمد والتصلية -:
(وبعد: فقد كان من فضل الله علينا وعلى الناس أن وفقنا لجمع هذا
الكتاب، الذي تلقاه بالقبول أولو الألباب لدعوته إلى تربية المرأة على أصول
الديانة الإسلامية، مع مراعاة حال العصر والتوقي من شرور المدنية الغربية، تلك
المدنية التي أصلحت في الأقطار الغربية وأفسدت، ولكنها أفسدت في البلاد الشرقية
وما أصلحت؛ إذ فُتن الناس بشر ما جاءت به، وطفقوا يتركون لأجلها خير ما كانوا
عليه! .. لما رأينا كتابنا هذا (تربية المرأة) قد انتشر في الأمصار، وتنقل
في الأقطار، حتى نفدت نسخ طبعته الأولى، وتوجهت الرغبة إلى طبعه مرة
أخرى، رأيت أن أزيد في فوائده ومسائله، وأضم إليه شيئًا من أحاسن الكلام
وعقائله، وكنت قرأت في مجلة (المنار) الإسلامية مقالات في (الحياة الزوجية) ،
لمنشئها الذي نعترف - مع حضرة قاسم بك أمين - بأن جميع الناس يعرفون مكانه
من العلم والدين فاخترت أن أجعلها خاتمة للكتاب؛ لأنها في الموضوع لب اللباب.
ثم قرأت في باب التفسير من المنار كلامًا عاليًّا، وهديًا سماويًّا ساميًّا، في
تفسير قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ ... } (البقرة: 228) الآية. وهو
مما كان اقتبسه صاحب (المنار) من دروس الأستاذ الإمام، حكيم الشرق وحجة
الإسلام، الشيخ محمد عبده عليه الرحمة والسلام , فاخترت أن أقتبسه في فاتحة
هذه الطبعة , وهاكه نقلاً عن الجزء العاشر من مجلد المنار الثامن (الصادر في 16
جمادى الأولى سنة 1323) . اهـ) وذكره.
فغرض المؤلف أن تُربَّى البنات تربية دينية ويعلمن ما تحتاج إليه البيوت مع
الاحتراس من غوائل المدنية الغربية، ويا نعم الغرض!
***
(بحر الآداب)
هو كتاب في الآداب العربية لأحد جمعية الإخوة (الفرير) المعروف (بالأخ
بلاج) مفتش اللغة العربية في مدارس الجمعية , وقد أهدى إلينا القسم الأول من
الجزء الخامس مطبوعًا فإذا هو مفتتح بتمهيد يليه فصول في طريقة تعليم الإنشاء
وتعلمه وأركانه وآدابه , ويلي ذلك أبواب ومباحث في المادة التي تعين على ذلك
كالكلام في العلم والعقل ومختارات من نثر الأولين وشعرهم في الجاهلية والإسلام ,
وإذا هو مختتم بمباحث في حال اللغة على عهد الدولة الأموية والعباسية. ويدل
الكتاب على أن المؤلف ذو ذوق في حسن الاختيار وحذق في كيفية التأليف فكتابه
هذا نافع لطالبي آداب هذه اللغة إن شاء الله تعالى.
***
(تحرير مصر)
كتاب إنكليزي لا يُعرف مؤلفه , ترجمه بالعربية وطبعه في هذا العام محمد
لطفي أفندي جمعة المحرر بجريدة الظاهر , وهو مؤلَّف من مقدمة يبين المؤلف فيها
حال مصر في القرن التاسع عشر وسياسة فرنسا وإنكلترا فيها , ومن أربعة فصول
اثنان منهما في علاقة الدول بمصر والثالث في سياسة بريطانيا الاستعمارية في
مصر وغيرها والرابع في (المركز الكاذب لبريطانيا العظمى في مصر) وفيه
مبحث استقلال مصر لأنها مملكة حية وبلوغها سن الرشد ومنحها الحرية
والاستقلال. ويليه الخاتمة في بيان أن أنفع حل للمسألة المصرية هو منح مصر
الحرية؛ لأن مستقبل أفريقية متعلق بتحريرها ورأي جريدة الطان في ذلك.
هذا ملخص التعريف بالكتاب , ومنه يعلم أنه لا غنى لقارئ مصري عن
الاطلاع عليه ليعرفوا رأي القوم فيهم , ولعل مؤلف هذا الكتاب هو أحسن
الأوربيين انتصارًا لهم , وقد كتم اسمه لتعرف قيمة كتابه لذاته فكان أقرب إلى
الإخلاص من بعض أحداث المصريين الذين لا يقولون ولا يكتبون كلمة في ذلك إلا
ويقولون ألوفًا من الكلم والافتخار والتبجح بها! .
افتتح المؤلف مقدمة كتابه بقوله: لقد صدق اللورد ملنر في قوله: (إن مصر
بلد التناقض والتخالف , فإنه لا يوجد في العالم بلد فيه ما في مصر من الحقائق
والأفكار المتناقضة المتباينة , وقد يصل هذا التناقض إلى حد مدهش فيصير
مضحكًا!) فيليق إذن بمن يرقب أمور هذه البلاد ويشاهد أحوالها أن يكون متنبهًا
أبدًا متوقّيًا لئلا يلقيه حسن الظن والإسراع في الحكم في الخطأ والندم. اهـ المراد
منه.
وما أظن أن المؤلف على حذره وتوقيه قد سلم في الخطأ في بعض أحكامه.
وقد أحسن مترجم الكتاب؛ إذ قال في مقدمة الترجمة: ويعز علينا أن نقول: إن
هذا الكتاب ليس إلا (كأس ملام) يسقيه الأجنبي لأفاضل مصر وعلمائها الذين
أسكتهم الكسل وقبض الخمول على أقلامهم بيد من حديد. اهـ. وأحسن من هذا
أن تسقي الكأس من أقعدهم الكسل والخمول عن العمل لا من أسكتهم عن القول فإن
العمل قد ينفع بلا قول ولا ينفع قول بغير عمل. والعمدة في تحرير مصر على
حياتها بنفسها حتى تكون بنية صحيحة قوية فقد قال حكيمنا السيد جمال الدين:
(العاقل لا يظلم لا سيما إذا كانت أمة) .
وجملة القول: أنه ينبغي لكل مصري قراءة هذا الكتاب والاعتبار به مع
العلم أنه لا ينفعنا شيء إلا التربية الاستقلالية الملية والعلم والاقتصاد وأن لا حياة
لقوم لا همّ للأكثرين منهم إلا التمتع باللذات والاهتمام بأشخاصهم دون أمتهم أولئك
هم الذين إذا أعتقهم يسترقهم مستعبِد يسترقهم مستعبد، فليطلب المصريون تحرير
أنفسهم من أنفسهم بالعمل لا من إنكلترا بقول قائل أو كتابة كاتب يخاطب مَن لا
يسمع وإن سمع لا يملك أن يجيب كما فعل الشيخ توفيق البكري يخاطب ولي عهد
إنكلترا بالمؤيد , فحسب إنكلترا أن تبيح لهم كل عمل ومن لا يعمل لنفسه كان من
الحماقة أن يطالب أجنبيًّا ملكه بأن يحرره! وهذا لا يمنع وجوب تذكير لجرائد الأمة
بطلب الاستقلال والاستعداد له.
وثمن الكتاب عشرة قروش وأجرة البريد قرش واحد , وهو يطلب من مكتبة
المنار بشارع درب الجماميز.
(قاموس إنكليزي عربي)
يشتمل على ثلاثين ألف كلمة إنكليزية ونيّف
(وضعته إدارة المكتبة العمومية لسليم أفندي، صادر في بيروت)
سبق لنا كتابة تقريظ لهذا القاموس في السنة الماضية لم ينشر , بل لم تجمع
حروفه في المطبعة لأن ورقته قد سقطت من أيدي مرتِّبي الحروف كما أظن , وقد
ذكَّرنا بعد ذلك مذكر منا بأنه أخرج من بين الكتب التي يراد تقريظها أو التعريف
بها ولم يكتب عنه شيء في المجلة. ومما أذكر من الكتابة الأولى بيان تفسيره
بعض الكلمات العربية بمرادفها العامي. وطبع الكتاب متقن وورقه نظيف وشكله
لطيف وصفحاته 624 , ويباع بالمكتبة العمومية في بيروت.
***
(تقويم المؤيد لسنة 1324)
هذه هي السنة التاسعة لهذا التقويم فهو ترب المنار. وصاحبه محمد أفندي
مسعود يقترح في كل عام على القراء أن يرشدوه إلى ما يزيده إتقانًا، وقد كنا أول
من اقترح عليه وضع الفهرس للتقويم , ونحن الآن نقترح عليه ثانيًا أن لا يجعل
الفهرس خاصًّا بالأبواب بل عامًّا للمسائل والمباحث التي يحتاج إلى مراجعتها ,
وإني أرى أنه إذا وضع للمباحث فهرسًا مرتبًا على حروف المعجم يكون ذلك مزيدًا
في فائدته وفي إقبال الناس عليه.
***
(الدين في نظر العقل الصحيح)
قد طبعت هذه المقالات التي نشرت في سنة المنار الماضية على حدتها
وأضيف إليها مقالة كاتبها (الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي) في حكمة تحريم
الخنزير أو نجاسته ونجاسة الكلب , فكانت كتابًا يدخل في 176 صفحة من القطع
الصغير , وثمن النسخة منها مع أجرة البريد ثلاثة قروش وتطلب من مكتبة المنار.
***
(مسامرات الشعب)
راجعت هذه القصص التي تصدرها مكتبة الشعب واشتهرت , ولا غَرْوَ فهذا
الضرب من القصص المعروف بالروايات محبّب إلى جميع طبقات الناس , فيجب
أن تتضاعف العناية بعد الآن بحسن اختيار قصص المسامرات المترجمة , وأن
تؤلف لها قصص في انتقاد عادات البلاد الضارة لتكون جامعة بين الفكاهة والفائدة.
وقد كان آخر ما أهدي إلينا من هذه القصص: أهواء الشبيبة، عشيقة الملك، مقتل
هنري الرابع، الفؤاد الكليم، القاتل المتنكر، شرف الاسم، سر ولا سر،
والخنجر التركي.
فأما قصة مقتل هنري الرابع فخيرها ترجمة وفائدة سياسية , وأما قصة سر
ولا سر وقصة الخنجر التركي الملحقة بها فخيرها نزاهة وفائدة أدبية , وقد قرأنا
الثلاث كلهن والأخيرة تبين لك آراء الإفرنج وتخيلاتهم في الترك وعاصمتهم. وإننا
ننصح لصاحب المسامرات أن لا يقبل قصة تصف الرذائل والشرور وتشرح أعمال
الفجار الأرذلين بحال من الأحوال.
***
(خير الدين)
مجلة إسلامية عمومية مصورة تصدر في غرة كل شهر عربي، صاحبها
محمد الجعايبي مدير جريدة (الصواب) بتونس. وقد صدر العدد الأول منها في
غرة صفر مطبوعًا على ورق جيد مؤلفًا من 20 صفحة مصدرًا بصورة محمد
الهادي باشا باي تونس المعظم , وفيه بعد الخطبة أن المجلة صدرت بهذا الاسم
لتكون كالتمثال المذكر بخير الدين باشا التونسي الوزير المصلح صاحب كتاب
(أقوم المسالك في أحوال الممالك) وبعد وجه التسمية صورة هذا الوزير العظيم
وترجمته , تليها مقالة وجيزة في الحث على العلم، فنبذة في الشعر العصري جعلت
مقدمة لقصيدة من شعر محمد إمام أفندي العبد الشاعر المصري يخاطب بها الشرق،
وغير ذلك.
فنثني على همة رصيفنا الفاضل صاحب الصواب أن جمع بين السياسة والعلم
والآداب، ونتمنى له التوفيق في خدمته، والبلوغ بها إلى خير غايته.
***
(المنبر)
جريدة أسبوعية عمومية حرة، أصدرها في نيويورك عيد أفندي ميخائيل ذيبة
أحد أدباء السوريين في أوائل هذا العام الميلادي , وهي من دلائل ارتقاء السوريين
الأدبي في تلك البلاد، فنتمنى لهم التوفيق والنجاح.
__________(9/223)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(مسألة العقبة)
بينا في الجزء الماضي أن حقيقة المسألة عسكرية لا إدارية تتعلق بالحدود
فهي أول وليد ولدته لنا سكة حديد الحجاز فالدولة العلية ترى أن إنكلترا تخاف
عاقبة هذه السكة على مصر فهي تريد اتقاء الخطر بإقامة المعاقل الحربية في شبه
جزيرة سيناء لأن محاربتها في مصر إذا هي دخلت فيها غير معقول وهي تخاف
من إنكلترا على سوريا والحجاز إذا هي جعلتها بقعة عسكرية باسم مصر ولذلك كان
السلطان غير راضٍ بإنشاء ناشط من السكة إلى العقبة ولما اضطر إلى ذلك
باستفحال الثورة في اليمن رأى أن إنكلترا أنفذت الجنود المصرية إلى العقبة للبناء
كما قيل ورأت الجنود المصرية ومن يقودها من الإنكليز أن العساكر العثمانية
بالمرصاد فظهر الأمر وبدأ الخلاف بالشكل الذي عرفه الناس وهو أن الترك قد
اعتدوا الحدود المصرية ولعل الذي نبه الترك إلى أخذ الحذر من الإنكليز هو تعيين
خمسة آلاف جنيه مصري في ميزانية مالية مصر باسم شبه جزيرة سيناء.
فهم الإنكليز من جعل العقبة تابعة لولاية الحجاز أن الدولة العثمانية تريد بذلك
أن تمنعها منهم بسياج ديني وهو إثارة سخط المسلمين في مستعمراتهم وغيرها
عليهم إذا مدوا أيديهم إليها وما كانت الدولة لتحسن استخدام هذه القوى المعنوية ولو
كانت تريد ذلك لما حال دونه جعل العقبة تابعة لسوريا؛ لأنها على كل حال من
جزيرة العرب التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته بأن لا يبقى
فيها دينان، وأن يخرج منها يهود يثرب ونصارى نجران، وقد قاوم الإنكليز ما
توهموه من الدولة بإيهام من جنسه فأنشأوا يوهمون شعبهم وسائر الشعوب الأوربية
بأن السلطان يريد تهييج التعصب الإسلامي على المدنية الأوربية وربما وجدوا
لإيهامهم شبهة في ثرثرة أحداث السياسة في مصر الذين جعلوا اسم الإسلام والخلافة
ضيعة يستغلونها وإن أضاعوا الإسلام الذي لا يعرفون منه إلا اسمه! .
لولا أن الدولة العثمانية حذرة من عمل عسكري في سيناء باب سوريا
والحجاز لما بالت أن تزيد في مساحة ما سمحت به لمصر منها، ولولا أن إنكلترا
حذرة من تركيا على مصر لما عظمت من أمر الحدود المصرية ما عظمت، ولولا
أنها تتوقع هيجان مسلمي مصر أو ثورتهم إذا استحكمت حلقات الخلاف بينها وبين
تركيا لما أمرت بزيادة جيش الاحتلال. فإذا كان سبب النزاع هو ما يعبرون عنه
بسوء التفاهم فما أسهل سبيل الاتفاق مع حفظ شرف الدولتين وهو أن تعترف تركيا
بحدود مصر التي ذكرت في فرمانات تعيين الخديويين وفي تلغراف الصدر الأعظم
الملحق بفرمان عباس حلمي باشا الثاني وتتعهد إنكلترا بأن لا تعمل في شبه جزيرة
سيناء عملاً عسكريًّا، وقد أساءت الدولة المدخل فعسى أن تحسن المخرج.
نحن نعتقد أن الدولة العثمانية لا يخطر لها على بال - وهي في هذه الحال -
أن تزحف على مصر أما إنكلترا فلا يبعد أن تقصد إقامة المعاقل الحربية في شبه
جزيرة سيناء باسم مصر باعتبار مصر حكومة إسلامية لا تعد إقامتها على أبواب
الحجاز أو امتلاكها لجزء من الجزيرة مخالفة لوصية النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد كان يكون ذلك بكل هدوء وسلام لو لم تعارضه الدولة العثمانية وتقاومها فيه
إنكلترا بعد عجز الحكومة المصرية وإنما نعني بالهدوء والسلام هدوء نفوس
المسلمين وسلامة قلوبهم. وأن تظفر إنكلترا بتركيا ظفرًا مبينًا وتلزمها بالاعتراف
بالحدود كما تريد وتجعل بعد أرض سيناء معسكرًا ولو مصريًّا فإن كل مسلم في
الدنيا يتألم ويضطرب قلبه ويظن بالدولة الإنكليزية ظن السوء ويتوقع الاعتداء على
الأرض المقدسة كل يوم وقد عرفنا من حكمة هذه الدولة في السياسة البعد عن جرح
الشعوب في قلوبها، وإن هي جرحتها في أبدانها ورؤوسها (مصالحها وحكامها) .
إن جميع عقلاء المسلمين يفضلون دولة إنكلترا على جميع الدول! ، وإذا
أيقنوا بأن قطرًا من أقطارهم واقع تحت سلطان أجنبي وكان لهم اختيار في الترجيح
فإنهم يرجحون بريطانيا العظمى على غيرها! . ويعتقد رجال الإصلاح منهم أنه لا
يمكن الإتيان بعمل يحيي الإسلام وينفع المسلمين في بلاد إسلامية غير مصر والهند
بل لا حرية للمسلمين في الدعوة إلى كتاب ربهم المنزل وسنة نبيه المرسل إلا في
هذين القطرين.
لبريطانيا العظمى أن تعتد هذا الاعتقاد عونًا لها على كل دولة تناوئها في
الشرق وعليها أن تحافظ عليه وتتحامى مواقف الظنة فيه فإن امتلاك القلوب
بالحكمة خير من امتلاك الرقاب بالقوة، ولتكن آمنة جانب المسلمين واثقة بتفضيلهم
إياها على غيرها مادام دينهم محفوظًا ومعاهده المقدسة آمنة اعتداء الأجنبي عليها،
أو تداخل غير المسلم فيها، ولا يصدنَّها عن هذا الاعتقاد تشدُّق المغررين بالغوغاء،
فالزبد يذهب جفاءً، وإنما الناس بالعقلاء والفضلاء.
***
(الأمير الخادم للفقراء)
(صاحب الدولة البرنس حسين كامل باشا رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية)
استدار الزمان وتغيرت أحوال العمران، وتبدلت الأوضاع، وارتقت شئون
الاجتماع، فصارت عظمة الأمراء والرؤساء محصورة في خدمة الدهماء، بعد أن
كانت قائمة باستعباد الفقراء، وامتصاص دماء الضعفاء، وما فتئ أمراء المسلمين
يرون أنهم من جنس أعلى من جنس الأمة، وأن شرفهم ذاتي لطينتهم لا لشرف
الملة، فهم يترفعون عن مشاركة الجمهور في المصالح العامة، ولو اعترف لهم في
ذلك بالمزايا الخاصة، حتى في مثل هذه البلاد التي زال منها الاستبداد، ووهن
الفخر بمجد الآباء والأجداد، وصارت المعارف والأعمال هي الميزان لأقدار
الرجال - حتى قام الأمير حسين كامل باشا عم عزيز مصر بإبطال تلك التقاليد
العتيقة، وسن للأمراء سنة حسنة جديدة.
أطمع أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية في اختيار هذا الأمير رئيسًا لها بعد
الأستاذ الإمام (رحمه الله تعالى) ما يعلمونه من بره للفقراء وعنايته بالمساكين
والضعفاء، وما سبق له من قبول رياسة الجمعية الزراعية، فعرضوا عليه رجاءهم
فيه فما تأبَّى، فدعوه لرياسة الجمعية فلبى، فاستبشرت نفوس العاملين واطمأنت
قلوب الفقراء والمساكين وشكرت له ذلك ألسنة المسلمين بل ألسنة الناس أجمعين! .
***
(تنصُّر المسلمين في قبرص!)
كتب إلى جريدة (ترك) من قبرص أن عددًا كثيرًا من مسلمي قرى الجزيرة
وضياعها قد تنصروا على أيدي الدعاة (المبشرين أو المرسلين) الذين يجيئون من
بلاد اليونان لدعوة المسلمين إلى النصرانية. وقد يعجب قراء المنار لمثل هذا الخبر؛
إذ يعتقدون أن الإسلام في قوة حقه وجلاء تعاليمه وموافقتها للعقل والفطرة لا
يمكن أن يختار عليها غيرها ويعهدون أن دعاة النصرانية يقضون في دعوة
المسلمين السنين، وينفقون في سبيلها الألوف والملايين، ولا يكاد يجيب دعوتهم
في كل بضع سنين، إلا واحد أو اثنان ممن أضناهم الفقر، ولم يبق لهم من الإسلام
إلا الاسم، وقد يزول هذا العجب إذا علموا أن أولئك المتنصرين كانوا نصارى
فأسلموا ولم يوجد فيهم من المعلمين والمرشدين من يحفظ عليهم دينهم فتمادى الجهل
بخلفهم حتى جاءهم من أهل جنسهم ولغتهم من يدعو إلى دين آخر لا يرون في
اتباعه عارًا؛ إذ ليس للمسلمين هناك شأن يربي في أفرادهم إحساس الشرف الملي
والنعرة الجنسية.
الدعوة الى الإسلام:
ليس للمسلمين أن يتأسفوا لمثل هذا الخبر تأسف العجائز والزمنَى أو يشفوا
غيظهم بذم الحكومة التي تبيح الدعوة إلى دينها إلا إذا كانت لا تبيحها لدينهم أيضًا
بل عليهم أن يعتبروا ويفكروا في حفظ الإسلام وصيانة شرفه.
وليعلموا أن أكبر عار عليهم وأقوى شبهة على دينهم أن تكون حرية الأديان
خطرًا وهم مشتركون في هذه الحرية مع غيرهم والحق يعلو ولا يعلى. وإن
يتفكروا يظهر لهم أن من الواجب المحتم عليهم إنشاء جمعية للدعاة والمرشدين
تجمع المال وتربي الرجال وتبثّهم في بلاد المسلمين التي غلب عليها الجهل
كقبرص وإفريقية للإرشاد وفي بلاد غير المسلمين للدعوة إلى الإسلام نفسه.
والدليل على وجوب هذا قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .
***
(نهضة مسلمي روسيا وجرائدهم)
كتب إلينا صديقنا الشيخ محمد نجيب التونتاري في 16 ذي الحجة سنة
1323 ما نصه (وتأخر نشرها لتأخر دور السؤال الذي ورد معها) :
(إن حضرة الإمبراطور نيقولا الثاني منح الأهالي كثيرًا من الحقوق
كالحرية الدينية والوجدانية والشخصية والكلامية والاجتماعية وكثيرًا من المكرهين
(على النصرانية) عادوا إلى الإسلام رسميًّا بسبب ذلك وبمساعدة حرية الاجتماع،
حصل بين المسلمين اجتماعات عديدة في المحال المتعددة ذكروا في المسائل
السياسية الحاضرة بين الأهالي وغيرها. ويتصورون تأسيس جمعية عمومية
إسلامية في الروسية فيعد هذا دورًا جديدًا للمسلمين يؤمن منه الانقلاب الحسن في
مستقبل قريب إن شاء الله تعالى.
وإنه بمساعدة الحرية الكلامية ظهرت بيننا جرائد كثيرة في الأماكن المختلفة
وبلدة قزان مع كثرة المسلمين فيها لم تكن فيها جريدة واحدة والآن تصدر فيها خمس
جرائد:
(1) قزان مخبري: جريدة سياسية علمية مالية تصدر في كل أسبوع ثلاث
مرات.
(2) طان (صباح) كذلك.
(3) يلدز (كوكب) وهي أيضًا جريدة واسعة البروغرام.
(4) آزاد كذلك.
(5) العلم والأدب مجلة علمية تصدر قريبًا.
وفي باغجه سراي جريدتان جديدتان:
(6) عالم نسوان مخصوصة بالإناث تصدر في إدارة جريدة ترجمان
أسبوعيًا.
(7) (خاخاخا) جريدة فكاهية.
وفي باد كوبه ظهرت جريدتان، إحداهما:
(8) حيات يومية بلغة آذَرْبِيجَان. والأخرى:
(9) إرشاد هي أيضًا كذلك.
وفي تفليس أيضًا ثلاث جرائد لم أتخطر أساميها.
وفي جايق (أروالسكي) :
(13) فكر: جريدة.
(14) العصر الجديد: مجلة، كلتاهما أسبوعية.
وفي بطرس بورج جريدتان:
(15) نور.
(16) ألفت.
في أورن بورغ جريدة:
(17) وقت.
فهذا مما يعد فألاً حسنًا لخيرية الاستقلال؛ فإن الجرائد أول الوسائل في
الإصلاحات، يمكن أن يستدل بها على أن مسلمي الروس تيقظوا بعد الرقدة الدائمة،
أصلحنا الله تعالى. اهـ.
***
(إصلاح التعليم والمدارس الإسلامية في روسيا)
كتب إلينا أحد طلاب العلم في قزان يقول:
(إننا قد دخلنا في حياة جديدة منذ كنا تلاميذ لحضرتكم، فصرنا نستفيد من
كتاب الله بعد ما ظننا الاستفادة منه خاصة بأهل القرون الماضية، ولا نقبل قول
أحد بلا دليل، وأعلم يقينًا أن هذه الحياة من الروح التي نفختموها بواسطة مجلتكم،
جزاكم الله عنا خير الجزاء.
وقد ناهضت الطلبة بطلب إصلاح المدارس الإسلامية، وكلفوا مديري
المدرسة وأساتذتهم عدة مواد استصوبوها بالشورى بينهم؛ لأن طريق التعليم في
مدارس قزان وخيم جدًا! ، لا يدرس فيها إلا ما بقي من خيالات اليونان والنسفي
مع شرحه التفتازاني والنحو والصرف بكتبه المعروفة، بشرط أن يضيع من العمر
خمس سنين من غير فهم، ولا يدرس غير ما ذُكر، لا من التفسير ولا من الحديث
وغيره، ولكن المدرسين رِيعوا من هذه التكاليف واستثقلوها لاعتيادهم أكل (بلش
المحلة) - طعام من الأرز خاص بالإمام - فطردوا من التلاميذ مَن يريد الإصلاح
فأُخرج من مدرسة عالم جان البارودي اثنان وثمانون طالبًا من ذوي النهى وأبقوا
من لا يهتم بشيء من الإصلاح , وسموا الذين أُخرجوا بغير حق (بالروس الجديد) ،
ولكن الظالمين في ضلال بعيد! .
فيا أهل الغيرة والحمية الدينية: ما هذه البربرية في زمن المدنية، إلامَ نكون
ضحكة للأجنبيين؟ ! ، وحتامَ نعمه في جهالتنا أجمعين؟ ! ، فيا سيدي، هذا حال
بلادنا التي تحسن الظن بها! ! ! اهـ بنصه.
هذا، وقد رأينا جميع الجرائد الإسلامية الروسية التي تجيء مصر قد خاضت في
هذه المسألة؛ ففي العدد 24 من جريدة (ترجمان) (التي تصدر في باغجه سراي
روسيا) ترجمته:
الكتاب المفتوح
من التلاميذ الذين طُردوا في 26 فبراير من المدرسة المحمدية (المنسوبة إلى
محمد جان والد عالمجان المشهور) بقزان إلى آبائهم:
حضرات آبائنا الكرام! :
إنكم أسلمتمونا إلى المدرسة المحمدية بقزان إذ لم تجدوا مدرسة أحسن منها.
وكان مقصدكم من هذا هو أن نتعلم في المدرسة العلوم النافعة ونتحلى بالأخلاق
الفاضلة ونكون رجالاً نعمل لمصالحنا ولمصالح الأمة.
ولكننا علمنا بعد طول التجربة والاختبار - أن مدارسنا إذا بقيت على هذه
الحالة لا يُرجى منها خير ما فضلاً عن العلوم النافعة والأخلاق الفاضلة؛ والعلوم
التي نحصلها في مدارسنا لا تنفعنا أبدًا.
أما ترون أننا نخرج من المدارس وليس في يدنا شيء نكتسب به فنبقى عالة
على الناس نتَّجر بالدين، أما نحن فلا نحتمل هذه الذلة والمسكنة بعد أن نتعلم عشر
سنوات أو أكثر وليس أمامنا سوى التأذين والإمامة. وهذان المنصبان يؤول أمرهما
شيئًا فشيئًا إلى التعاسة والشقاء! ؛ فإن الأئمة والخطباء يشكون سوء حالهم، على
أن العلوم التي نتعلمها في مدارسنا لا تكفي للإمامة والخطابة أيضًا. ولا يعلِّموننا
شيئًا من الأخلاق والتربية بل نتعلم فيها الأخلاق السافلة كالجبن والطمع وظلم
الفقراء والتملق للأغنياء والكسل! .
بل لا نكون بما تعلمناه في المدارس إلا مصيبة للعوام وعلماء السوء الذين قال
فيهم نبينا عليه الصلاة والسلام ما معناه: (شر الخلائق علماء السوء الضالون
المضلون) ! ، نبقى في المدارس عشر سنين أو أكثر ونقاسي فيها من أتعاب البدن
والفكر ما لا يحمله أحد ثم نخرج لتكفُّف الناس. وأولاد الأمم المجاورة لنا يتعلمون
وعقوله سليمة وصحتهم كاملة متمتعون بكل حدة ونشاط ثم يخرجون وأدمغتهم ملأى
بالعلوم والأفكار السامية فينالون الوظائف المتنوعة ونحن نمثُل بين أيديهم بكل
خضوع ومسكنة وكلٌّ متخرجٌ في المدارس! .
وأما أساتذتنا فيملأون أدمغتنا بالخرافات والإسرائيليات، ويشوشون عقائدنا
باليونانيات والتفتازانيات، ويسوموننا حفظ الحواشي والتعليقات، ويجرعوننا
الكؤوس المُرة، مما لا تعلق له بالدين بالمَرة. يجرعوننا ذلك باسم العلوم الدينية
ونخرج من المدارس، لا بالدين تقوينا ولا بالعلوم العصرية تسلحنا. عبيد أوهام
جبناء، خلو من العقول سخفاء، ترتعد فرائص الواحد منا أمام واحد روسي أو
بالاك أو يهودي من المتعلمين.
نحن نرجو من قومنا أن لا يغفلوا عن حالهم ومستقبلهم واثقين بأبنائهم الذين
يتعلمون في المدارس الإسلامية لأننا علمنا أنه لمن يجاري المتعلمون منا في
مضمار تنازع البقاء للمتعلمين من الأمم الأخرى؛ لأن هؤلاء متسلحون بالعلوم
الصحيحة الحقيقية ونحن عُزل أنكاس مساكين.
نحن لسنا راضين عن حال مدارسنا وبذلنا جهدنا في إصلاح حالها وخالفنا
معلمينا ومربينا في أمور التربية والتعليم. فأنكروا أفعالنا وأبغضونا ونظروا إلينا
شزرًا. ثم سئموا تكاليفنا فأنشأوا يبحثون عن طرق النجاة معنا وأخذوا يطردون
الذين ينكرون حال المدرسة واحدًا بعد واحد! .
نحن نتعجب كثيرًا من أن أمتنا طلبت من الحكومة في السنين الأخيرة مطالب
جمة ولم تخطر ببالها مدارسنا التي هي حياتنا وبها بقاؤنا وتركتها في زوايا الإهمال
والنسيان. لا بقاء لنا إلا بالمدارس فكيف يجوز إهمال شأنها؟ ! .
نحن نقول ونرفع عقيرتنا: ليعلم كل فرد من أفراد الأمة أن أول درجة من
الإصلاح هي إصلاح المدارس والكتاتيب ثم إننا لا نأسف لخروجنا من هذه المدرسة
ولن ندخل غيرها؛ لأنها كلها على نسق واحد حَذْوَ النقطة بالنقطة ونختم قولنا
بكلمة نوجهها للأمة من صميم أفئدتنا:
(بادروا أيها الإخوان إلى إصلاح المدارس! ، وإلا فعليكم وعلى مدارسكم
السلام) .
(المنار)
وسننشر في الجزء الآتي مقالة مترجمة عن جريدة (وقت) ، عنوانها
(المدارس وطلبة العلوم) .
***
(قتل ابن الرشيد)
اغتنم ابن الرشيد فرصة الهدنة بينه وبين ابن سعود فغدر واعتدى فعلم ابن
سعود من أربعة جواسيس قبض عليهم أن سيبيته ليلاً فزحف عليه إلى روضة مهنا
وبعد ملحمة شديدة قتل ابن الرشيد وأخذ خاتمه وساعته ورايته وقتل جيشه تقتيلاً
وقد زحف ابن سعود على (حايل) ، وتلك عاقبة البغي {وَمَا هِيَ مِنَ لظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} (هود: 83) .
***
(تساهل المسلمين في شأن الخلافة)
يتهم أهل أوربا المسلمين بالغلو في التعصب الديني ويقولون في هذه الأيام:
إن السلطان يهيج هذا التعصب في بعض الجرائد المصرية بأنه خليفة المسلمين،
فالاعتقاد بالخلافة هو بركان التعصب، ولو كان المسلمون يتعصبون للخلافة
ويعتصمون بالخلافة كما يظن بهم لقامت قيامتهم على الشيخ محمد بخيت المدرس
بالأزهر؛ إذ ألَّف رسالة قال فيها إنه يجوز أن يكون خليفة المسلمين الذي ينصب
القضاة ويأذن بصلاة الجمعة كافرًا! واستدل على ذلك بحديث منكر أو موضوع لا
يدل عليه.
وقد قرظت رسالته جرائد المسلمين ولم ينكر عليه أحد بل وجد في أصحاب
الجرائد من ينتصر له ويدافع عنه فلتطمئن قلوب الأوربيين فإن هذه الثرثرة بلقب
الخلافة والخليفة وسيله للكسب لا أثر لها في التعصب ولو كان كتب مثل هذا
الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى لهاجت الجرائد وماجت الأمراء والشيوخ وتبعهم
العوام بلَغْو الكلام لا تعصبًا للخليفة وحماية للخلافة؛ بل لأن في ذلك من الكسب
والشهرة ما فيه! ! .
__________(9/231)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السلام على آل البيت
الانتقاد على المنار
كتب إلينا ح. ح. أحد المشتركين في الجبل الأسود:
إلى حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا:
لقد كنت سعيدًا لما وفقني الله إلى الاشتراك في المنار، وإن كنت قليل العلم
قصير الفهم لكن نفعني كثيرًا ونبهني عن كثير، ففي هذه السنين ما أتيتم بالخطأ إلا
جئتم بعده بالتصحيح إلا في ثلاثة مواضع على ما أظن فأتعجب كثيرًا و (أجتسر)
أن أكتب لفضيلتكم؛ لما أعلم أنكم ناطقون بالحق والصواب، وهى:
قلتم في (ص 295) في المجلد السابع: (ويشكو لسيدنا الحسين عليه السلام)
وقلتم في (ص 446) من المجلد الثامن: (ورواية عن علي عليه السلام) ،
وفى (ص 908) منه أيضًا: (من أثر علي وفاطمة عليهما السلام) ، فأظن
الفقير أن لا يقال بعد ذكر أحد: (عليه السلام) دون الأنبياء صلوات الله على نبينا
وعليهم أجمعين.
فإن قلتم بجواز ذلك فلِمَ خصصتم في هذه المواضع خاصة عليًّا وآله دون
غيره من الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين فأرجو من حضرتكم
التصحيح أو الجواب الشافي من غير مؤاخذتي؛ لأن كلامي هذا يدل على عدم علمي.
كما لا يخفى عليكم والسلام عليكم. اهـ.
(المنار)
اختلف العلماء في الصلاة على غير الأنبياء فأجازها قوم مطلقًا ومنعها آخرون
مطلقًا وقال بعضهم تجوز تبعًا لا استقلالاً. وممن قال بالجواز مطلقًا البخاري
واستدل كغيره بالآيات والأحاديث كحديث: (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى)
وأجيب بأن ما ورد خاصًّا بالله ورسوله وبالدعاء ابتداءً وقال ابن القيم: إن كانت
الصلاة على آل النبي وأزواجه وذريته فهي مشروعة مع الصلاة عليه وجائزة على
الانفراد وإن كانت على شخص معين أو طائفة معينة كُرهت.. إلخ ما قاله.
وأما السلام المسئول عنه فقيل إنه كالصلاة وقيل لا. قال الحافظ السخاوى:
وقد اختلفوا في السلام هل هو في معنى الصلاة فيكره أن يقال (عن علي عليه
السلام) وما أشبه ذلك؟ فكرهه طائفة منهم أبو محمد الجويني ومنع أن يقال عن
علي عليه السلام وفرق آخرون بينه وبين الصلاة بأن السلام يشرع في حق كل
مؤمن من حي وميت وحاضر وغائب وهو تحية أهل الإسلام بخلاف الصلاة؛ فإنها
من حقوق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولهذا يقول المصلي: السلام علينا
وعلى عباد الله الصالحين، ولا يقول الصلاة علينا، فعُلم الفرق ولله الحمد. اهـ.
أقول: وقد جرى بعض أئمة المحدثين كالبخارى وبعض كبار الصوفية كابن
عربي وبعض العلماء من غيرهم على تخصيص السلام بآل بيت النبي صلى الله
عليه وآله وسلم الذين هم أصحاب العباء: علي وفاطمة والحسن والحسين وممن
تبعهم فى ذلك من المتأخرين الإمام الشوكاني، والشيعة يلتزمون ذلك لسائر أئمتهم.
والشاهد الثاني من الشواهد التي ذُكرت في الانتقاد على المنار منقولة عن نيل الأوطار
لا من كلامنا.
قصة المولد لدبيع
كتب إلينا من سنغافوره أن بعض الناس استاءوا مما كتبناه في المنار بشأن
هذه القصة وما قاله المتهجمون في شأن المجلس الذي تُقرأ فيه رجمًا بالغيب وجراءة
على الله ورسوله، أما غوغاء العوام فلا كلام لنا معهم، وأما مَن يرى أنه أُوتي
نصيبًا من العلم فالعلم حكم بيننا وبينه، فليكتب إلينا رأيه مؤيدًا بحجته ونحن ننشره
مذعنين له إن ظهر لنا أنه الحق أو مبينين ما لدينا من الرد عليه مع الأدب
والاحترام لصاحبه.
المنار والشيخ محمد بخيت
بلغنا أن الشيخ بخيتًا يريد الرد على المنار دفاعًا وهجومًا وأنه استعار بعض
أجزاء منه لذلك. وإنه ليسرنا ذلك ونتمنى لو يتفضل علينا بما يكتبه ونحن ننشره
مذعنين لما نراه صوابًا باحثين فيما نراه خطأً. وكيف لا نسر بإجابتنا إلى ما ندعو
إليه العلماء في كل سنة وندعّهم إليه بالانتقاد على ما نراه منتقدًا منهم؛ ليضطروا إلى
الانتقاد علينا ولو انتصارًا لأنفسهم ودفاعًا عنها.
وقد وعدتْ بالدفاع عنه جريدة أسبوعية من الجرائد التي يعبرون عنها
بالساقطة وهي مما لا يُنظر في قولها ولا يرد عليها! .
__________(9/239)
غرة ربيع الثاني - 1324هـ
24 مايو - 1906م(9/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقالتان للأستاذ الإمام [1]
(مقتبستان من دروس السيد جمال الدين وقد نشرهما في العدد 49 من
جريدة مصر التي كانت تصدر بالإسكندرية في 15 جماد الأولى سنة 1296) .
المقالة الأولى
التربية
في ليلة الأحد الماضي انعقد درس الأستاذ جمال الدين الأفغاني وانتظم في
سلكه جم غفير من نبهاء طلبة العلم وفضلائهم وكثير من الأفندية مستخدمي الدواوين،
وبمحضر هؤلاء وأولئك شنف المسامع بمقال جليل في شأن تربية الأمة وما يلزم
أن يسلك من سبلها ولما فيه من عظم الفائدة رغبت في نشره في الجرائد الوطنية؛
تعميمًا للفوائد وبيانًا لما انطوى عليه من حسن المقاصد، قال ما معناه:
إذا وجه العقل نظر الاعتبار إلى الأجسام الحية بالحياة النباتية أو الحيوانية أو
الإنسانية علم أن قوام حياتها بتفاعل العناصر الداخلة في قوامها تفاعلاً متناسبًا
بحيث لا يتميز أحد تلك العناصر بالغلبة على باقيها غلبةً تقتضي بظهور خواصه
وتسلطها على خصائص البقية، فبذلك التناسب يتم للبدن الحي ما يسمى بالمزاج
المعتدل الحاصل لروح الحياة، فإن غلب أحد العناصر على سائرها واضمحلت
خواص بقيتها فيه انحرف المزاج وخرج عن حد الاعتدال واستولى المرض على
الجسم، وكما يكون الاختلال وفساد البنية بتغلب بعض العناصر على ما سواه منها
كذلك يكون بمغالبة المزاج للحوادث الخارجية وغلبتها عليه كالبرد الشديد المذهب
لروح الحرارة الغريزية والحر الشديد الموجب للاحتراق وتحلل الرطوبة الضرورية
المنتهي إلى اليبس نذير الموت والفناء.
ومن ثم وضعوا علوم النباتات والحيوانات والطب البشري والبيطري ليبحث
في تلك العلوم عما به يحفظ التوازن بين البسائط التي يتركب منها الجسم ويحترز
من تسلط الحوادث الخارجية عليه، ويعاد به المزاج إلى حالة الاعتدال إن خرج
عنها؛ لتتم حكمة الله تعالى في بقاء الأنواع إلى آجالها المحددة بحكم الحكمة الأزلية
فالنباتيون يعينون الأراضي القابلة للزراعة والغراسة لكل نبات، ويحددون الفصول
الملائم هواؤها لنموه، ويوضحون مواد التسميد وغير ذلك مما لا بد منه في تربية
النباتات، وكذلك الأطباء يبحثون عن مواد الأغذية، وماذا يجب أن يتخذ منها لكل
مزاج ومضار الأهوية ومنافعها، ويقفون بتجاربهم الصادقة على الأدوية النافعة لرد
البدن إلى حالة الصحة وآلات العلاج المفيدة حتى تحفظ بذلك على البدن صحته،
ويرجع إليها إن انحرف عنها، ولن يكون الطبيب طبيبًا يترتب عليه غايته حتى
يكون على علم بالتاريخ الطبيعي وعلوم النباتات؛ ليعلم خواصها، ويميز نافعها من
ضارها، وعلى بصيرة من اختلاف الأمزجة ومقتضياتها وما يلائم كل واحد على
حسبه، وخبيرًا بعلل الأمراض وأسبابها وكيفياتها من شدة وضعف وتاريخها من قدم
وحدوث حتى يعالج كلاًّ بما يليق به، فإن جهل من ذلك شيئًا كان فقده خيرًا من
وجوده.
فإن الطبيب الجاهل رسول ملك الموت؛ إذ بجهله يستعمل من الأدوية ما عساه
يهيج المرض ويعين من الأغذية ما يساعده على قسوته فيفضي ذلك إلى هلاك
المريض، وقد كان بدونه محتمل الشفاء بمقاومة الطبيعة لولا مساعدة الجاهل
وعونه.
وكما يلزم للطبيب أن يكون عالمًا بجميع ما قدمنا يجب أن يكون شفيقًا رحيمًا
صادقًا أمينًا لا يكون قصارى عمله ما يناله من جُعْل المعالجة، فإنه إن كان قَسِيًّا عديم
الرأفة أو كان خائنًا فلربما صار آلةً في أيدي أعداء المريض يستعملونه لهلاكه بإلقائه
السم في الأدوية مثلاً أو إهماله في العلاج بما يقدمونه إليه من العَرَضِ الفاني، وكذلك
إن قصر همه على ما ينال من الدينار والدرهم فإنه إن كان على تلك الصفة لم
يكترث بحال المريض ما دام يوفَّى أجر عمله، فإن هلك فقد نال ما يزيد عن مكافأته،
وإن امتد المرض زاد الإيراد بتوارد الأوقات، فعدمه أيضًا خير من
وجوده.
وكما أن روح الحياة البدني إنما يستقر حيث تجتمع أصول متضاربة ينشأ من
تغالبها مزاج معتدل كامل، وبغلبة أحدها يفسد التركيب ويذهب الروح الحيوي من
حيث أتى، كذلك روح الكمال الإنساني إنما يكون حيث تجتمع أخلاق متضادة
وملكات متخالفة يقوم من تضادها وتخالفها حقيقة الفضيلة المعتدلة التي هي ركن
لبيت سعادة الإنسان، وعليها مدار حياته الفاضلة، فإن تغلب أحد الخلقين على الآخر
فسد نظام الفضيلة واستحكمت الرذيلة وبات شقيًّا سيء الحال، وسقط في مهواة
التعب والعناء المفضيين إلى الحَيْن والهلاك.
ألا ترى أن النفس الإنسانية لا بد لها من خلق الجرأة وخلق المخافة، وهما
متضادان ومن مقاومتهما على وجه معتدل بحيث يستعمل كُلاًّ فيما يليق به من
المواقع. تتحقق فضيلة الشجاعة التي لو فقدت بتغلب المخافة لكان فاقدها عرضةً
لتعدي جميع الحيوانات عليه، ولم يستطع عن نفسه دفاعًا، وكانت حياته تحت
خطر يتهدده في جميع أوقاته، ولو أن الجرأة تغلبت على المخافة حتى ذهب أثرها
كانت تهورًا وعدم اكتراث بالمهالك لحق ولغير حق بدون تبصر ولا مراعاة حكمة،
فيلقي بروحه في مهاوي الهلكة بلا طائل يعود على نفسه أو وطنه.
وكذلك لا بد من خُلُق الإمساك والبذل، وهما متخالفات متعارضان يتقوم من
تغالبهما في النفس فضيلة السخاء، وهي البذل في موضع الاستحقاق إذا اعتدلا،
ولو أن الإمساك تغلب على ضده حتى اضمحل فيه لأمسك عن قضاء لوازمه
الضرورية فلا يأتي باللائق من الأغذية والألبسة مثلاً، فيضر ببدنه ولم يوف بحقوق
مشاركيه في المعيشة كزوجته وولده، أو في التعامل كجيرانه وأهل بلده فيقع الشقاق
بينهم ويتأدى به إلى شقاء دائم، وغير ذلك من مفاسد البخل التي لا تنحصر، ولو
تغلب البذل لأنفق جميع ما بيده في المفيد وغير المفيد حتى يصبح فقيرًا لا يجد ما
ينفقه في ألزم لوازمه فيهلك.
وهكذا جميع الملكات الفاضلة الإنسانية إنما هي واسطة لطرفين متضادين لا بد
من ظهور أثر كل منهما على نسبة معتدلة، وبغلبة أحدهما على الآخر يختل نظام
الفضيلة ولا محالة ينهدم بيت السعادة دنيويةً كانت أو أخرويةً، ولا يسعنا المقام
لتفصيل ذلك، وكما يقع العناد بتغلب أحد الضدين على الآخر في النفس يقع أيضًا
بتغلب أمر خارج على مزاج الفضيلة كغلبة التربية الفاسدة المغذية للعنصر الفاسد
بمخالطة ذوي الملكات الرذيلة والغرائز الناقصة وانفعال النفس بحركاتهم وسكناتهم
وتقليدها لأعمالهم وتقلدها بعاداتهم أو باستماع إغواء ذوي الأهواء وتمويهات أرباب
الأغراض الفاسدة الدنيئة، المذيعين للأفكار الرديئة، المؤيدين للعقائد الباطلة التي
ينبعث منها سوء الأخلاق المؤدي إلى فساد المعيشة، فللنفوس علل وأمراض كما
للأبدان ذلك.
ومِنْ ثَمَّ قد وضعت علوم التربية والتهذيب لتحفظ على النفس فضائلها،
وتردها عليها إن اعتلت وانحرفت عنها إلى جانب النقص والاعوجاج، كما وضع
الطب ولوازمه لحفظ صحة البدن، كما بينا، فالحكماء العمليون القائمون بأمر
التربية والإرشاد، وبيان مفاسد الأخلاق ومنافعها، وتحويل النفوس من حالة
النقص إلى حالة الكمال بمنزلة الأطباء، وكما لزم للطبيب أن يكون عالمًا بالتاريخ
الطبيعي والنباتات والحيوانات وعلل الأمراض وأسبابها ودرجاتها من شدة وضعف،
كذلك يلزم للحكيم الروحاني طبيب النفوس والأرواح إذا رقي منبر الإرشاد أن
يكون عالمًا بتاريخ الأمة التي قام بإرشاد أبنائها وتاريخ غيرها من الأمم أيضًا، وأن
يكون مطلعًا على درجات ترقيها ودركات تدنيها في جميع الأزمان، وأن يسبر
أخلاقها بمسبار الحكمة ليعلم أسباب أمراضها النفسية، ويقف على درجات الداء
وتمكنه فيهم، وأنه - حديث أو قديم - قوي في النفوس أو ضعيف، وما هو العلاج
اللائق بكل صنف، وكما أنه يجب على الطبيب البدني أن يكون على علم تام
بمنافع الأعضاء وغاياتها كذلك على الطبيب الروحاني أن يكون عالمًا بمنافع
الأخلاق ومضارها على طبق ما في نفس الأمر والواقع، وكما يلزم أن يكون
الطبيب شفيقًا رحيمًا صادقًا أمينًا لا ينظر إلى الدنايا ولا ينحط إلى المقاصد السافلة
كذلك على النصحاء والمرشدين أن يكونوا من ذوي الاستقامة والفضيلة مرتفعي
الهمم أولي مقاصد عالية لا يبيعون الفضيلة بحطام الدنيا ولا بالقرب والتزلف إلى
الأمراء والكبراء.
أولئك هم المرشدون الحقيقيون فإن رزقت الأمة بمثلهم فبشرها بالسعادة، وإن
رُزِئَتْ بمطببين لا أطباء، بأن صعد على منابر النصح فيها الجهلة والأغبياء
والسفلة والأدنياء، فأنذرها بالعناء والشقاء، فإن المرشد الضال والنصوح الجاهل
يودع النفوس رذائل الأخلاق باسم أنها فضائل، ويغرس فيها جراثيم الشر باسم أنها
أصول الخير، ولربما كان مقصده حسنًا لا يريد إلا خيرًا، ولكن جهله يعميه في
سلوك طريقه، ويبعده عن اتخاذ وسائله فتقع الأرواح في الجهل المركب، وهو شر
من الجهل البسيط، فإن ذا الثاني على باب الفضيلة لا يلبث إن فتح له أن يلجه ,
وصاحب الأول قد بعد عن المقصد بمراحل واستتر تحت نقع الرذيلة، واعتقد ذلك
ظلاًّ ظليلاً فلا يمكن العدول عما وقع فيه إلا بعد مكابدة شديدة وعناء طويل فلا ريب
كان عدم هؤلاء المرشدين خيرًا من وجودهم، وكذلك إن كان خائنًا أو دنيئًا ينحط
إلى سفاسف الأمور أو عدم الشفقة والإنسانية فإنه يتخذ النصيحة سلمًا للوصول إلى
أغراضه الفاسدة ومطالبه الذاتية فلا يبالي أوقع الأفراد في خير أو شر، صفت
النفوس أو تكدرت، ارتفعت الآداب أو انحطت، صحت الأرواح أو اعتلت،
فيكون آلةً بيد الأشرار وأولي الأهواء يستعملونه في فساد الأمة والعشيرة لقضاء
أوطارهم.
ألا وأن القائمين بأمر الإرشاد يحصرون في قَبِيلَيْنِ: قَبيِل الخطباء والوعاظ،
وقَبِيل الكتبة والمصنفين، ومنهم أرباب الجرائد، فإن كانوا على نحو الأوصاف
الكاملة اللازمة لمقامهم هذا كما تقدم فقد استحقوا التعظيم والاحترام، والتبجيل
والإجلال، واستوجبوا الشكر والثناء من كل قلب مخلص وقاموا بخدمة أوطانهم
وأبناء بلدتهم، وإلا استحقوا الرفض والطرد والإبعاد، ووجب على من يهمهم أمر
الإصلاح أن يقذفوا بهم من البلاد كي لا يفسدوها بمرضهم الوبائي الذي لا يقتصر
ضرره على المبتلى به، بل يتعداه بالسراية إلى كل ما سواه.
المقالة الثانية
الصناعة
قد عاد حضرة الأستاذ الفاضل والفيلسوف الكامل السيد جمال الدين الأفغاني
إلى التدريس بعد فترة تزيد مدتها عن سنة، فابتدأ - حفظه الله - يقرأ شرح إشارات
الرئيس ابن سينا في الحكمة العقلية، وهو كتاب جليل يحتوي من هذا العلم أصولاً
جليلةً غرست أصولها في بلاد المشرق من مدة تقرب من ألف سنة إلا أنها نبتت
فروعها في الغرب، وَاجْتُنِيَتْ ثمارها لغير غارسيها ولم تزل في بلادنا على
كليتها وإجمالها لم تخرج نتائجها العقلية من حد القوة إلى الفعل إلا أن هذا السيد
الفاضل قد جمع في تدريسه بين تدقيق الشرقيين وبسط الغربيين يجمع إلى الأصول
فروعها، وإلى المقدمات نتائجها، وإلى المجملات تفاصيلها بانيًا جميع أقواله على
البراهين الثابتة والحجج القويمة، ولما كانت دروسه العالية عظيمة الفوائد، جمة
الثمرات للعموم رأيت من الواجب قيامًا بالخدمة الإنسانية أن أودع بعضها قوالب
العبارات اللائقة بها، وأنشر طيب وفدها في صحف الجرنالات لتعم الفائدة، والله
يتولى التوفيق.
بين حفظه الله وأثبت أن الإنسان نوع من أنواع الحيوانات الأرضية
(لا كما يزعمه أرباب الأوهام كالصينيين وقدماء الفرس من أنهم من أبناء السماء
فليتذكر مَن له فطنة) وأنه قد أتى عليه حين من الدهر وهو على مقربة منها ينشأ
نشأتها، ويسير في عيشه سيرتها يتفيأ ظلال الأشجار, ويستكن في الجحرة
والأوكار , ليس له شعار ولا دثار , (ولكن خفيف أشعار) يقتات بنباتات وثمرات
تحضرها له القدرة الإلهية على يد القوى الطبيعية , لا تمسها يد صناعية , ولا
تربية أجنبية , ليس له من المكر والتحيل إلا ما لا يداني فيه الثعلب , ولا من العلم
والتدبير إلا ما يبعثه على الغدوّ لطلب قوته من الأعشاب وثمار الأشجار والرواح
للاستكنان في كنّ يواريه عن أعين الحيوانات العادية , والفرار من المكاره الحسية ,
كما تفر الشاة من الذئب , والأرنب من الثعلب , ولم يكن له من رفعة القدر ما
يُجلسه على كرسيّ سلطنة الوجود , ويقيمه متحكِّمًا في كل موجود , ويدعوه للحكم
بأنه خلاصة العالم ومنتهى سبر الحقائق وعماد عالم الكون، وأن جميع البسائط
والمركبات إنما خُلقت لأجله , والكواكب والسيارات إنما تتحرك لخدمته , بل كان
ضعيفًا عاجزًا جاهلا حافيًا عاريًا يزعجه كل حادث , وتستفزه كل نبأة , ويتهيب
من كل شكل وهيئة , والشاهد على ذلك ما تحكيه لنا أحوال الأمم التي كأنها قريبة
عهد بالإنسانية في جنوب أفريقيا , والقبائل المستمرة في قمم الجبال والأجم
والغابات البعيدة عن العمران البشري المعروف الذين لم تضطرهم الحاجات، ولم
تسُقهم الضرورات إلى الانتقال من مكان إلى مكان فإنهم لم يزالوا على سذاجة
الحيوانية وبساطة الفطرة لا يفهمون خطابًا، ولا يحسنون جوابًا، إلا ما كان متعلقًا
بضرورة الحياة كجلب قوت بسيط ومدافعة عادٍ من الحيوانات وجميع ما يعده
الإنسان المتمدن كمالاً وإنسانيةً فهم بعيدون منه، عارون عنه، مع بُعد تاريخهم
وامتداد زمن وجودهم على سطح الأرض.
إلا أن مبدع الكون جلت قدرته لما اختص هذا النوع من بين الأنواع الحيوانية
بخاصة العجز والفقر والحاجة حيث جعل جميع لوازم حياته خارجةً عنه لا تحصل
إلا بالتحصيل، وليس تحصيلها إلا بعد الكد والعناء وَهَبَه قوة عاقلة كلية التصرف،
عامة القبول، ووكل تربية هذه القوة إلى تعليم مدرسة الوجود الكلي فكان لكل نبات
وحيوان، بل لكل موجود مشهود حق الأستاذية وسابق الفضل على نوع الإنسان
فاسترشد بأعمالها , واهتدى بآثارها والتقط درر الحكم من فعلها وانفعالها، وتدرج
في ذلك شيئًا فشيئًا تارةً يخطئ وتارةً يصيب، وطورًا ينجلي له الحق وآخر عنه
يغيب، مرة تعوقه العوائق القَدَرية والإرادية عن إدراك الحقائق والوصول إليها،
وأخرى تجذبه الجواذب اضطرارًا للوقوف عليها حتى وصل إلى ما تراه من أحواله
الغريبة وآثاره العجيبة.
ثم بيَّن - حفظه الله - كيف كان يتقلب الإنسان في سيره هذا ويقطع عقبات
المصاعب، ويخترق حجب الجهالات، منقادًا في جميع ذلك لقائد الحاجة
والضرورة يأتمر أمره، ويتبع سيره، تارةً يتدرج إلى الكمال فيقعده مقعد رئاسة
الكون وسلطنة الوجود بما يرشده إليه من التفنن في الفنون واختراع الصنائع،
وأخرى ينحط به إلى قعر جحيم الأوهام، ويقذف به في جُبّ الخرافات، ويكبله
بقيود الاعتقادات السخيفة، ويغلّ يديه بسلاسل العادات والأفكار الرديئة، على أن
جميع اعتقاداته الفاسدة الباطلة إنما نشأت له من قياس حوادث الكون وظواهره على
ما يصدر عن ذاته (الشريفة) حيث جعل لها غايات تحاكي غاياته على تفصيل
طويل في ذلك مستشهدًا في تبيانه بشواهد أحواله الآتية المشهودة، مستدلاًّ بجميع
أعماله المنقولة المعهودة.
وأنه في جميع مراتبه لم يكن ليقيم ظهره بين الموجودات إلا بدعائم الصنائع
التي هدته إلى اختراعها تلك القوة العاقلة الكلية، لتكون له عوضًا عما سلبه من
اللوازم الضرورية والحاجية والكمالية، التي مُنِحَتْ لغيره من الحيوانات بأصل
الفطرة، وليس ذلك بخافٍ على ذي شعور فإن صنعة الحياكة مثلاً قائمة مقام القوة
السامكة للجلود الغليظة والمفرزة للأشعار والأوبار الواقية لما أحاطته من صولة
البرد والحر، بل القائمة مقام ترس يحفظ جوهر بدنه من تمزيق عادية غيره،
وصناعة الحديد والأسلحة منزّلة منزلة القوة المولدة للمخالب والبراثن والأنياب
للسباع والضباع وعوادي الطيور، وهكذا بقية الصنائع وما لم يقم منها مقام
ضروري أو حاجي قام مقام كمالي على ما يتضح لك بعدُ.
وإذا كانت الصنائع هي قوام هذا النوع وعليها مدار بقائه في أي مرتبة كانت
رأينا من الواجب أن نعرف الصناعة ونقسمها إلى أقسامها الأولية على ما قرره
الحكماء الأقدمون، وأوضحه الفلاسفة المتأخرون؛ ليتبين شرف كل صناعة على
وجه الإجمال فنقول:
الصناعة قوة فاعلة راسخة في موضوع مع فكر صحيح نحو غرض محدود
الذات، فالقوة منشأ الأثر مطلقًا فعلاً كان أو انفعالاً، فالمعلم مثلاً ذو قوة الفعل
والمتعلم ذو قوة الانفعال إلا أن قوة التأثر والقبول لا تعد صناعةً، ومن أجل ذلك
قُيدت بالفاعلة، وليست قوةً فاعلةً صناعيةً ما لم تكن تلك القوة راسخةً في
موضوعها تصدر عنها أعمال مستمرة على وجه منتظم، فالقوة الحالية التى تعرض
آنًا وآنات ثم تزول ليست منها في شيء وما لم يكن فعلها تحت سلطان الفكر فلا
تدخل في مفهوم الصناعة كالأفعال الطبيعية من إحراق النار وتمديد الحرارة وتجميد
البرودة وما شاكل ذلك فإن لم يكن الفكر صحيحًا كفكر السوفسطائي المنكر لبديهيات
العلوم، أو كان نحو غرض غير محدود الذات كأعمال الجدلي الذي أخذ على نفسه
أن لا يقر قولاً لقائل أيًّا كان حقًّا أو باطلاً فليس له حد يقف عنده، بل قوته متوجهة
إلى معارضة مقابله فإن كان نافيًا كان هو مثبتًا، وإن كان مثبتًا كان هو سالبًا فليس
بصناعة.
ثم إن نظر في عالم الوجود الكلي عَلِمَ عِلْم اليقين أنه وإن وقع كثير من
صوره وكمالاته تحت قوى طبيعية كقوى النمو والجذب والدفع أو قوى إحساسية
كقوى طلب الغذاء مثلاً في الحيوانات أو الهرب مما يؤلم الجثمان إلا أن عامة أفعاله
واقعة على ترتيب عقلي محكم، ونعني بالترتيب العقلي ما يكون مبنيًّا على مراعاة
الغايات والحكم وفوائد الكمال التي تعود على نظام الكل، وتبقى ببقائه فإن العقل
على خلاف الحس إنما ينظر الكلي الباقي أولاً ثم يتدرج منه إلى الجزئي، لا
العكس.
وإن واضع هذا النظام العام قد خول الإنسان من قوة العقل ما لم يخوله غيره
وجعلها محور صلاحه وفلاحه إن وجهها صوب وجهتها الحقيقية، فإن استعملها
لغايات طبيعية أو حسية، أي: قاصرة على موضوعها المودعة فيه لا تفيد سواه
كأن يطلب بها تنمية بدنه أو جلب ما يلائم ذائقته أو نهامته وما يشبه ذلك فقد أضاع
تلك القوة العالية الشريفة، وسلخ عنها ثمرتها وانحط إلى درجات الحيوانات، بل
النباتات التي لم تُمنَح تلك المنحة الجليلة، وأما من حفظ نفسه من السقوط، وأمسك
عليها حق تلك الخاصة أعني: العقل، فهو الذي ينظر إلى كلية العالم الكبير فيعلم
أن نوع الإنسان، وسائر الأنواع من لوازم كماله أو متمماته فيتوجه نحو حفظ ذلك
الكمال، ويوقن أن نوع الإنسان لا يحفظ بقاؤه في عالم الوجود إلا بحفظ أشخاصه
على التعاقب كما نبأنا اللطيف الخبير بما أودعنا من القوى المولدة والمصورة،
ويتحقق أن حفظ أشخاصه وأفراده إنما يكون بالاجتماع والالتئام لما لكل فرد من
كثرة الحاجات التي يضيق نطاق وسعه عن أن يأتي عليها في الأزمنة المتطاولة مع
اضطراره إلى جميعها في الآن الواحد كما تراه في مواد الأغذية التي لا تحصل إلا
بزراعة وحصاد ودرس، ثم طحن، ثم عجن وخبز وطبخ وهلم جرًّا، وجميعها
أيضًا يتوقف على صناعات كثيرة من حدادة ونجارة ونحوهما ولوازم الاكتساء من
العري وضروريات المدافعة والمكافحة مع ضواري الحيوانات، كل ذلك لا يكون
إلا بأعمال تستفرغ أجل الشخص الواحد في تعلمها فضلاً عن تحصيل غايته منها
فكيف به أن يستقل وهو محتاج إلى ثَمَرَاتِ جميعِها يومًا بيوم، بل ساعة بساعة،
فلابد من التعاون في الأعمال ليعتاض كلٌّ عن ثمن عمله بثمرة عمل الآخر فيكون
المجموع الإنساني كبدن ذي أعضاء، ويعمل كل عضو منه للبدن؛ لتكون عاقبته
لنفسه إذْ لو طلب الاختصاص - مع أنه لا بقاء له إلا في ضمن المجموع - فقد
طلب فقد نفسه من حيث لا يشعر فإذا علم جميع ذلك وضع نفسه عضوًا حقيقيًّا
وركنًا ثابتًا يقوم بأداء عمل يعود على كلية الأفراد أولاً من طريق كليتهم، ويعود
إلى شخصيته ثانيًا، ومبدأ هذا العمل فيه هو الذي نسميه بالصناعة فمن لم يكن ذا
عمل حقيقي يفيد المجتمع الإنساني، ويعين على انتظام الهيئة الكلية فهو كالعضو
الأشل لا فائدة منه على البدن إلا تكلف حمل ثقله مع عدم التألم من إزالته، فالأولى
إبانته وقطعه، بل إن كان لا يعمل ويسعى إلى بقية الأفراد في عدم العمل كالإباحية
الذين يعتقدون أنه لا ملكية لأحد في مال ولا عرض حيثما جاعوا أكلوا أو شبقوا
واقعوا، ويبثون أفكارهم بين أفراد النوع ليقتدوا بأعمالهم، ويسيروا بمثل سيرهم
فيتركون الأعمال اتِّكالا على ما بيد الغير حيث إنه مباح لهم، فإن تغلبت أفكارهم
بطلت الصنائع وذهب ما بيد الغير وما بأيديهم فيحتاجون إلى الضروري من
الأقوات وغيرها، ولا يجدون فيهلكون.
فأولئك كالأمراض السارية مثل الجذام والزهري لا بد من قطع العضو المؤف
(المصاب) بها وإلقائه في النار لئلا يتعدى ضرر مرضه إلى سائر البدن، ومن
هذا القبيل الفساق والفجار، وإن لم يكونوا إباحيين، فإن أعمالهم قد تكون قدوةً
لغيرهم، فيأتي من ضررهم ما أتى من أولئك، فينبغي أن يعاقَبوا ويؤدبوا ويحال
بينهم وبين أعمالهم هذه بكل ما يمكن، وإن كان بالتعذيب حتى يستقيموا أو لا
يقيموا.
ومن الناس مَن مثله مثل الأمراض الغير السارية والأعضاء الزائدة كمن
أصيبوا بالآفات المانعة لهم من تعاطي الأشغال كالكسحاء والبله والمعاتيه، فلا بد أن
يتحمل ثقلهم إن لم يمكن استشفاؤهم فرارًا من ألم القلب عند اختزالهم واقتطاعهم لما
لهم من العذر القائم؛ إذ حيث إن مدبر الكون قد حرمهم عطاء العقل، أو عطل فيهم
آلات خدمته فهو غير مطالِب لهم بأداء فروضه أو قضاء حقوقه إلا أن الحق الأعلى
قد بث في النفوس، وأودع في القلوب النفرة الكلية من هؤلاء، وأولئك الذين لم
يقوموا بالواجبات التي تقتضيها منهم صورة الإنسانية فهم مبغوضون في النفوس،
مطرودون من زوايا القلوب، ساقطون عن نظر الاعتبار، بل هم ملعونون من
أنفسهم أيضًا؛ إذ يجد كل واحد منهم من نفسه عندما يخلو بها أنه خسيس منحط
الدرجة رديء العاقبة، وإن كان شفاؤه يغلب عليه فيما بعد، فانظر إلى حكمة ربك
كيف تُنَبِّه الغافلَ وتُؤَيِّد العاقلَ، ولكن أكثرهم لا يعقلون؟ !
وأما ذوو البطالات ومن رفضوا الأسباب ووكلوا أنفسهم إلى التوكل الكاذب؛ إذ
لم يتحققوا معنى التوكل، وظنوا أنه عبارة عن معارضة سنة الله التي قد خلت في
عباده، ودعوا ذلك تبتلاً وانقطاعًا عن عالم الظاهر مع أخذهم لكشكول التكفف،
وخلعهم لجلباب التعفف فهم بمنزلة شعر الإبط لا ينشأ عن تكاثفه سوى عناء الحك
واستجلاب بعض العفونات إن لم يتعهد بالتطهير، ويستحب إزالتهم وتنقية الهيئة
الاجتماعية من درنهم، فإن بلغ من أمرهم أن يتخذوا ذلك أمرًا يدعى إليه، وذهبوا
في الناس يحولون وجوههم عن الأعمال، ويقلدون أعناقهم سبح المكر والحيلة،
ويسربلونهم بسرابيل التمويه والتزوير ويغرونهم بتأبط هراوة الشر، واقتناء قدح
الطمع يودعون نفوسهم أخلاق الشيطان من حب الرئاسة الكاذبة، وطلب الدنيء من
الدنيا من كل وجه والحقد والحسد والعداوات وغير ذلك، ويحجبون ذلك بأستار من
التلبيس (الغير المنتظم) ، ثم يوصونهم أن أخرجوا أيديكم من تحت تلك الأستار
طالبين انتهاب أموال الناس والاستئثار بثمرات اكتسابهم باسم أنهم وأنهم وأنهم (كما
ترى) وجب إلحاقهم بالإباحيين، وتحتم على كل ذي شعور من بني النوع أن
يسعى لقطع دابرهم واستئصال شأفتهم كيلا يفسدوا أفكار العامة وأعمالهم، ويعود
ويل ذلك كله على العامة والخاصة معًا , وبالجملة حيث تبين أن لا قوام للإنسان إلا
بالصنعة، فمن أخل بوظائفها أو رامها بالنقد فقد عمد إلى هدم بنيان الإنسانية،
فعليها أن تطرده من أبوابها وتمحو اسمه من كتابها.
ثم إن الصنعة على التعريف المتقدم تنقسم إلى أقسام إما نافعة ضرورية أو
غير ضرورية، وإما أن تكون كثيرة النفع أو قليلته أو متممة لفعل الطبيعة أو
مزينةً له، فالقسم الأول كالحدادة؛ لأنها مما يحتاج إليه جميع الصناعات العملية،
والثاني كقصر الثياب مثلاً، والثالث هو ما يكون الغاية منه نفع الإنسان لا غير
كالحكمة التي هي مقننة القوانين وموضحة السبل وواضعة جميع النظامات ومعينة
جميع الحدود وشارحة حدود الفضائل والرذائل، وبالجملة فهي قوام الكمالات العقلية
والخلقية، ومن هذا القسم الحكومة العادلة، والرابع (أي الذي هو خير بالواسطة)
كالزراعة والكتابة فإن لها غايات سوى نفس الإنسان لكنها تؤول إليه، والخامس
(وهو الكثير النفع) كالنجارة والتجارة مثلاً، والسادس كصناعة الصيد وما شاكلها،
والسابع كعلم الطب المتمم لأفعال القوى الحيوانية المساعد لها على إتمام وظائفها،
والثامن كالصباغة والنقش والتلوين وغير ذلك.
ثم إن شرف كل صناعة وكل فن بعموم موضوعه وشمول غايته، وإن أعم
الأقسام موضوعًا هو صناعة الحكمة لما بينا من أنها الباحثة عن كل ما يلزم
للإنسان اتخاذه في أعماله وأفكاره وأخلاقه، فهي أشرف الصناعات، والحدادة وإن
كانت عامةً لكنها من الحكمة بمنزلة الخادم المنقاد من السيد الحاكم الآمر اهـ.
__________
(1) منقولتان من الجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام الذي يطبع الآن وهما من أول ما كتبه.(9/265)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشيخ محمد عبده
(هذا هو عنوان الفصل السابع من تقرير اللورد كرومر عن مصر
والسودان لسنة 1905) قال:
(اختطفت المنية في السنة الماضية رجلاً مشهورًا في الهيئة السياسية
والاجتماعية بمصر أريد به الشيخ محمد عبده فأحببت أن أسطر هنا رأيي الراسخ
في ذهني، وهو أن مصر خسرت بموته قبل وقته خسارة عظيمة!
لما أتيت مصر القاهرة سنة 1883 كان الشيخ محمد عبده من المغضوب
عليهم؛ لأنه كان من كبار الزعماء في الحركة العرابية. غير أن المغفور له الخديوي
السابق صفح عنه طبقاً لما اتصف به من الحلم وكرم الخلق، فعين الشيخ بعد ذلك
قاضيًا في المحاكم الأهلية حيث قام بحق وظيفة القضاء مع الصدق والاستقامة وفى
سنة 1899 رقي إلى منصب الإفتاء الخطير الشأن فأصبحت مشورته ومعاونته في
هذا المنصب ذات قيمة عظيمة ثمينة؛ لتضلعه من علوم الشرع الإسلامي مع ما به
من سعة العقل واستنارة الذهن وأذكر مثالاً على نفع عمله، الفتوى التي أفتاها في
ما إذا كان يحل للمسلمين تثمير أموالهم في صناديق التوفير فقد وجد لهم بابًا به يحل
لهم تثمير أموالهم فيها من غير أن يخالفوا الشرع الإسلامي في شيء [1] .
أما الفئة التي ينتمي الشيخ محمد عبده إليها من رجال الإصلاح في الإسلام
فمعروفة في الهند أكثر مما هى معروفة في مصر ومنها قام الشيخ الجليل السيد أحمد
الشهير الذي أنشأ مدرسة كلية في (عليكره) بالهند منذ ثلاثين عامًا، والغاية العظمى
التي يقصدها رجال هذه الفئة هي إصلاح عادات المسلمين القديمة من غير أن
يزعزعوا أركان الدين الإسلامي أو يتركوا الشعائر التي لا تخلو من أساس ديني.
فعملهم شاق وقضاؤه عسير؛ لأنهم يُستهدَفون دائماً لسهام نقد الناقدين وطعن الطاعنين
من الذين يخلص بعضهم النية في النقد، ويقصد آخرون قضاء أغراضهم وحك
حزازات في صدورهم فيتهمونهم بمخالفة الشرع وانتهاك حرمة الدين! .
أما مريدو الشيخ محمد عبده وأتباعه الصادقون فموصوفون بالذكاء والنجابة!
ولكنهم قليلون وهم بالنظر إلى النهضة الملية بمنزلة الجيروندست في الثورة
الفرنسوية، فالمسلمون المتنطعون المحافظون على كل أمر قديم يرمونهم بالضلال
والخروج عن الصراط المستقيم فلا يكاد يؤمل أنهم يستميلون هؤلاء المحافظين إليهم
ويسيرون بهم في سبيلهم. والمسلمون الذين تفرنجوا ولم يبقَ فيهم من الإسلام غير
الاسم مفصولون عنهم بهوة عظيمة، فهم وسط بين طرفين وغرض انتقاد الفريقين
عن الجانبين كما هي حال كل حزب سياسي متوسط بين حزبين آخرين غير أن
معارضة المحافظين لهم أشد وأهم من معارضة المصريين المتفرنجين؛ إذ هؤلاء لا
يكاد يُسمع لهم صوت.
(ولا يدري) إلا الله ما يكون من أمر هذه الفئة التي كان الشيخ محمد عبده
شيخها وكبيرها فالزمان هو الذى يظهر ما إذا كانت آراؤها تتخلل الهيئة الاجتماعية
المصرية أو لا. وعسى الهيئة الاجتماعية أن تقبل آراءها على توالي الأيام؛ إذ لا
ريب عندي في أن السبيل القويم الذي أرشد إليه المرحوم الشيخ محمد عبده هو
السبيل الذي يؤمل رجال الإصلاح من المسلمين الخير منه لبني ملتهم إذا ساروا
فيه! , فأتباع الشيخ حقيقون بكل ميل وعطف وتنشيط من الأوربيين!
ولعلهم يجدون بعض التنشيط من نقلي قولاً لرجل من أهل دينهم وصف به
المعارضة التي لقيتها مدرسة عليكره الكلية المذكورة آنفاً والطريقة التي تغلَّبوا بها
على تلك المعارضة.
بعد ما وصف السيد محمود قلة اهتمام المسلمين في الهند بتعلم العلوم منذ أربعين أو
خمسين سنة قال:
(وكان هؤلاء السادة المسلمون مستاءين من قلة تقدم المسلمين في تعلم العلوم
العالية غير أنهم كانوا مستاءين من أنفسهم أيضاً ومتحسرين على العلوم التي أهملوا
تعلمها. ولكنهم لم يكونوا ممن يكتفي بالتشكي والتذمر ويقتصر على اللوم والتعنيف؛
بل إنهم لما علموا علة الشر وأصل البلوى عقدوا النية على اكتشاف علاجها أيضًا
فأنشأوا جمعية شيخها السيد أحمد خان الذي قضى العمر مجاهدًا في سبيل تهذيب
العقول بالعلوم والمعارف وجعلوا غايتها العظمى البحث عن وجوه الاعتراض التي
يعترض بها المسلمون على التعليم الذي تعلمه حكومة الهند في مدارسها ومعرفة
التعليم الذي يرجون استبداله به.
فاتضح لهم أن الرجوع إلى أساليب التعليم التي كانت متبعة في الشرق قديمًا
أضحى ضربًا من المُحال، ورأوا - على ما بهم من الإكرام والاحترام لتقاليد السلف
والاستعظام لكنوز العلوم والآداب التي توارثوها عن آبائهم - أن التعليم الذي يرقي
قومهم إلى درجة تلائم التمدن المحيط بهم ويردهم إلى مقام يشعر فيه بنفوذهم
وتأثيرهم إنما هو التعليم المبني على الاعتراف بتقدم العلوم الواسع الأبواب، الدقيق
الدروس، المحبب إلى المتعلم كل أمر بديع عجيب في علوم البلدان الأخرى وآدابها
وفلسفتها فكانت هذه السعة منهم في العقل والأصالة في الرأي أعظم خطر على
مشروعهم في بادئ الأمر لأنهم لو دعوا جموع المسلمين إلى قبول رأيهم المبني على
مبادئ لا تخالف الدين الإسلامي بالذات بل تخالف التفاسير التي يفسرها بها أكثر
المتدينين به لاستفزت الدعوة جموع المسلمين إلى المعارضة وأقامت على الجمعية
القيامة. وكانت الجمعية تعلم ذلك وتصبر عليه لانتظارها الفوز في النهاية فبقيت مدة
وليس من يؤديها عن طيب نفس حتى ضعفت المعارضة شيئاً فشيئاً أمام شجاعة
المصلحين وثباتهم. ثم أيدهم رجال خطيرو الشأن مثل المرحوم (السِّر) سلارجنك
تأييدًا ماديًّا من جهة ومعنويًّا من أخرى في اعتبار الذين يعدون الاسم العظيم
ضمانًا عظيمًا.
وكان أعضاء هذه الجمعية متخلِّقين بأخلاق تجلّهم وتنزههم عن كل غاية
شخصية فزالت الأوهام بعد إدراك حقيقة بدعتهم الرهيبة وانقلب بعض الذين كانوا
ألد خصومهم إلى أشد الأنصار غيرة عليهم. وقد مضى ثلاثة عشر عاماً [2] على
اجتماع الجمعية لوضع مشروعها، وظني أن الذين كانوا أقوى أعضائها آمالاً في
نجاح مسعاها لم يكونوا يتصورون أنها تنجح النجاح السريع الذي عاشوا حتى
شاهدوه) انتهى.
أقول: في تلك المدرسة الآن 700 طالب ولو كانت تسع غيرهم لكان فيها أكثر
منهم ومعظم الذين فيها من الهند ومنهم طلبة من بلاد الصومال وفارس وبلوخستان
وبلاد العرب وأوغندة ومويتيوس ومستعمرة الرأس، ويقيني أنه لو قصدها الطلاب
من مصر لاستُقبلوا فيها بالسرور والبشاشة وأنزلوا على الرحب والسعة! .
(وقال في أواخر الفصل الذي تكلم فيه على المحاكم الشرعية (ص132)
ما نصه:
(هذا، وإني أوافق (السر) ملكولم مكلريث على ما قاله عن الضربة الثقيلة
التي أصابت الإصلاح من هذا القبيل بموت الشيخ المرحوم محمد عبده فقد أشرت
إلى خدمات ذلك الرجل الجليل في فصل آخر من هذا التقرير وأعود فأبسط الرجاء
أيضاً أن الذين كانوا يشاركونه في آرائه لا تخور عزائمهم بفقده بل يظهرون
احترامهم لذكراه أحسن إظهار بترقية المقاصد التي كان يرمي إليها في حياته) .
اهـ.
أما ما أشار إليه من كلام السر ملكوم مكلريث المستشار القضائي في تقريره
عن المحاكم فها هو بنصه:
(ولا يسعنى ختم ملاحظاتي على سير المحاكم الشرعية في العام الماضي
بغير أن أتكلم عن مفتي الديار المصرية الجليل المرحوم الشيخ محمد عبده في شهر
يوليو الفائت، وأن أبدي شديد أسفي على الخسارة العظيمة التي أصابت هذه النظارة
بفقده! فقد كان خير مرشد لنا في كل ما يتعلق بالشريعة الإسلامية والمحاكم
الشرعية، وكنا نرجع إليه كثيرًا للتزود من صائب آرائه والاستعانة بمساعدته الثمينة
وكانت آراؤه على الدوام في المسائل الدينية أو الشبيهة بالدينية سديدة صادرة عن
سعة في الفكر، كثيرًا ما كانت خير معوان لهذه النظارة في عملها!
وفوق ذلك فقد قام لنا بخدم جزيلة لا تقدَّر في مجلس شورى القوانين في معظم ما
أحدثناه أخيرًا من الإصلاحات المتعلقة بالمواد الجنائية وغيرها من الإصلاحات
القضائية؛ إذ كان يشرح للمجلس آراء النظارة ونياتها ويناضل عنها ويبحث عن حل
يرضي الفريقين كلما اقتضى الحال ذلك، وإنه ليصعب تعويض ما خسرناه بموته؛
نظرًا لسمو مداركه وسعة اطلاعه وميله لكل ضروب الإصلاح والخبرة الخصوصية
التي اكتسبها أثناء توظُّفه في محكمة الاستئناف وسياحاته إلى مدن أوربا ومعاهد العلم،
وكانت النظارة تريد أن تكل إليه أمر تنظيم مدرسة القضاة الشرعيين المُزْمَع إنشاؤها
ومراقبتها مراقبة فعلية. أما الآن فإنه يتعذر وجود أحد غيره حائز للصفات اللازمة
للقيام بهذه المهمة ولو بدرجة تقرب من درجته، فلكل هذه الأسباب أشعر أن نظارة
الحقانية ستظل زمناً طويلاً تشعر بخسارتها بفقده) اهـ. كلام المستشار.
العبرة في كلام اللورد كرومر
مَن تأمل كلام اللورد فى هذا الفصل وتلك الشذرة استفاد منه ضروبًا من
العبر والحكم تدل على أن هذا الرجل الاجتماعي الكبير قد علم من شئون
المسلمين - وهو أجنبي - ما لم يعلمه الرؤساء من علمائهم وأمرائهم، فضلاً عن
أوساطهم ودهمائهم: فرأينا أن نبين ذلك مع شيء من الشرح والرأي:
(العبرة الأولى: بيانه لحال المسلمين)
ذلك أنه قسم المسلمين إلى ثلاثة أقسام:
(الأول) المتنطعون المحافظون على كل قديم جروا عليه وهم السواد
الأعظم.
ونقول: إنه قد بلغ من تنطعهم في جمودهم على ما ألفوا أن كان من أشد
الصعوبات التي لاقتها الدولة العلية في سبيل التعليم العسكري في طرابلس الغرب
محافظة الأهالي على زيهم المعروف، وحسبانه من أمور الدين. وإن أهل مراكش
لأشد تنطعاً وجموداً على ذلك، ولا يخفى على من شاهدوا حركات العساكر في
الحرب أو في التعليم أن لبس البرنس والرداء المعروف بالحِرام من عوائق خفة
الحركة وموانع إتقان كثير من الأعمال التى تتوقف عليها البراعة العسكرية ولا
يختلف عاقلان في كون البراعة في الأعمال العسكرية، ومن أهمها خفة الحركات
والنظام في النقل والانتقال - هي أعظم أسباب الفوز والظفر. فهذه عادة ليست مما
توجبها عقائد الدين ولا عباداته ولا فضائله وآدابه فقد صارت عقبة كؤدًا في طريق
رقي المسلمين، وعزة الإسلام وحماية الدين، فما بالك بغيرها من العادات التي
تقوم على إلحاقها بالدين بعض الشبهات؟ !
وهذا القسم من المسلمين تابع في صلاحه وفساده لشيوخ العلم الديني وشيوخ
الطريق الذين ينتمون إلى الصوفية فهو لا يصلح إلا إذا صلحوا وأصلحوا أو زال
اعتقاده بزعامتهم الدينية وقيض له بعد ذلك مصلحون آخرون.
(القسم الثاني) المتفرنجون الذين ليس لهم من الإسلام إلا اسمه.
ولله دَرّه ما أدق فكره إذ عرف أنهم مارقون من الدين ساقطون من نظر
الاعتبار لا قيمة لهم في أنفسهم، ولا صوت لهم في أمتهم، وسنعود إلى ذكر ذلك.
(القسم الثالث) المصلحون الذين يريدون إصلاح حال المسلمين الاجتماعية
مع المحافظة على الدين؛ لعلمهم أن كان فساد طرأ عليهم فمنعهم عن مجاراة الأمم
في أسباب العزة والقوة إنما هو من العادات والبدع لا من جوهر الدين.
وقد أدرك اللورد بصائب فكره أن هذا القسم هو الوسط الذى يرجى خيره بين
المتنطعين في جمودهم والمتهتكين في تفرنجهم. قال: إن هذا الحزب معروف في
الهند أكثر مما هو معروف في مصر، وإن منه السيد أحمد خان مؤسس مدرسة
عليكره الكلية منذ ثلاثين عامًا. ونقول: إن الزمن الذي قام فيه أحمد خان بعمله هذا
هو الزمن الذي كان السيد جمال الدين الأفغاني يبذر فيه بذور الإصلاح في مصر
بمساعدة الشيخ محمد عبده الذي تلقى عنه وتخرج على يديه (وترى في هذا الجزء
مقالتين من المقالات الإصلاحية التي تلقاها عنه ونشرها في جريدة مصر التى كانت
أنشئت بإرشاده) وكان السيد جمال الدين فيما نظن أقدر من السيد أحمد خان على
الإصلاح لولا أنه فُتن بالسياسة فحالت دون إتمام عمله في مصر، ولم تمكّنه من عمل
يُذكر في غيرها سوى ما كان يكتبه في أوربا من المقالات الموقظة؛ لذلك كان
الأستاذ الإمام جازمًا بأن مسالمة السياسة واتقاءها شرط للتمكن من الإصلاح كما بينَّا
في ترجمته , وغرضنا من هذه الكلمات بيان أن مسلمي الهند لم يسبقوا مسلمي
مصر إلى الاشتغال بالإصلاح، وإنما فاقوهم بمدرسة العلوم الكلية التي أسسها أحمد
خان وقد عزم الأستاذ الإمام أن يؤسس في مصر مدرسة خيراً منها لكن المنية عاجلته
قبل ذلك فقد مات قبل وقته كما قال اللورد! ! ! وقال كل عاقل عرفه.
وليعلم مسلمو مصر أن مدرسة العلوم في عليكره لم تنجح إلا لأن مؤسسيها
كانوا من عهد زعيمهم السيد أحمد خان إلى الآن على وفاق مع السلطة الإنكليزية
وتحسين للظن بها، فكانوا خيراً لملتهم ممن جعلهم سوء الظن والكُره بين معادٍ لعلوم
الإفرنج النافعة، وبين خائف من كل عمل نافع لملته، وأن الاستاذ الإمام كان على
هذا الرأي أي أنه لا بد لنا من العمل النافع للإسلام والمسلمين مع تحسين الظن بأن
الإنكليز لا يعارضوننا في ذلك، ولا يمنعونا مما ينفعنا إلا إذا أدخلنا فيه السياسة
وقصدنا مضارّتهم ومقاومتهم، وحينئذ نكون أضر على أنفسنا وأنفع لهم كما هي سُنة
الله تعالى في كل جاهل ضعيف يقاوم عالمًا قويًّا! . وسأوضح هذه المسألة في
موضع آخر.
أما ما أشار إليه اللورد من معارضة المسلمين للسيد أحمد خان وحزبه فلا
يتوقع نظيره من مسلمي مصر فإن أولئك كانوا يعادون جميع العلوم التي يصفونها
بالجديدة أو بالأوربية ويعدونها آفة الدين، والمصريون ليسوا كذلك وإنما كانوا
المتنطعون من أهل الجمود يخافون الأستاذ الإمام على الدين من جهة تعليمه للدين؛
إذ كانوا يظنون أنه ينصر مذهب الفلاسفة أو المعتزلة على مذهب أهل السنة، فلما
قرأ العقائد والتفسير في الأزهر زال ذلك الظن بتمادي السنين، وعلم أهل الأزهر
كافة أنه ينصر مذهب السلف على كل مذهب يخالفه ولا يقدم على ما نطق به
الكتاب ومضت به السنة النبوية قولاً لقائل.
فانحصرت بعد ذلك معارضة الإصلاح الذى كان يحاوله فيمن يعرف اللورد
وغيره من أهل البصيرة أنهم إنما يعارضونه لأسباب شخصية بل صرح اللورد
بذلك؛ لهذا كان كل شيء يخترعونه للطعن فيما يكون سببًا لزيادة عرفان الناس
بفضله حتى إن السواد الأعظم من الأمة المصرية صار معه في أواخر مدته. ولا
ينافى هذا قول اللورد: إن مريدي الشيخ وأتباعه الصادقين قليلون، فإنه يعني بهذا
الصادقين في طلب الإصلاح والعارفين بطرقه وهم قليلون بالطبع ولكن الذين
يوافقونهم ويحسنون الظن في طريقتهم كثيرون جدًّا بل هم الأكثرون. فعسى أن
يوفقهم الله للمُضي في العمل الذي كان إمامهم متوجهًا إليه وعند ذلك يظهر صدق
قولنا، لا سيما إذا علم الناس أن الحكومة وما وراءها من القوة راضية أو غير
ساخطة على عملهم!
بلغ من مقاومة السيد أحمد خان أن كان يُطعَن فيه على المنابر واستُفتي بعض
علماء الحرمين في أمره فأفتوا بكفره، ولم تبلغ مناهضة الأستاذ الإمام في شدتها هذا
المبلغ؛ ذلك أنه كان أقدر على الاحتجاج بالدين لما يدعو إليه وأبعد من السيد أحمد
خان عن الشذوذ وأن مناهضيه أقل غباوة وأضعف إرادة، والأمة أنبه منهم وأقرب
إلى قبول الإصلاح من أهل الهند.
(العبرة الثانية: ثناؤه على الإمام)
صفوة العبرة الأولى أن اللورد عارف من أحوال المسلمين ما لا يعرفه
أمراؤهم وعلماؤهم فيعتد بقوله فيهم. وأما العبرة الثانية فنريد بها ما في ثنائه على
الرجل وحزبه من الإنصاف وعرفان الفضل لأهله وما في تنشيطه لهذا الحزب من
قصد الخير! وقد زاد هذا الثناء قيمةً صدورُه بعد نشر كتاب (مصر الحديثة)
الذي وضعه كاتب إفرنجي اسمه (غورفيل) وطبعه باللغتين الإنكليزية والفرنسية
وقد اشتهر الكتاب بفصل فيه معزو إلى فقيدنا المرحوم فيه انتقاد شديد على الحكومة
المصرية والمحتلين الذين يدبرون أمرها ويديرون دفتها، وقد ترجمته أكثر الجرائد
العربية اليومية، ولكن الرجال العظام تبني أحكامها على الصفات والأعمال، لا
يصدها عن مقاصدها قيل وقال، واللورد ونُظَّار الحكومة ومستشاروها قد تعودوا
من فقيدنا المرحوم قول الحق الذي يعتقده في كل ما يخاطبهم به خطابًا رسميًّا أو
غير رسمي، وناهيك بتقريره عن المحاكم الشرعية وبمناقشته لناظر المعارف في
مجلس الشورى في انتقاد التعليم بمدارس الحكومة. وقد كان اللورد العظيم يضع
آراءه غير الرسمية موضع الاعتبار كرأيه في ضرر إلغاء النيابة العمومية، وكانت
الحكومة قد عزمت على ذلك وكادت تنفذه فرجعت عنه.
فهل يعتبر بهذا رجالنا الذين يمنعهم الجبن أن يقولو لكبراء المحتلين ما
يعتقدون في المصالح والأعمال؟ ! ألا يكفيهم ثناء اللورد والمستشار القضائى
على الأستاذ الإمام بما أثنيا به بعد موته واحترامهما وسائر كبراء المحتلين له في
حياته برهانًا على أن القوم رجال جدّ يجلون من يقول الحق في السر والجهر ويعمل
بالإخلاص في الخفية والعلن سواء وافق رأيهم أو خالفه ما لم يكن حربًا لهم، وأنه
لا قيمة لأهل الدهان والرياء في أنفسهم وحسبنا هذا الإيجاز في هذا المقام.
هذا وليعلم الذين يقولون: إن اللورد لم يكتب في الرجل أكثر مما يجب أو
ينتظر أو لم يوفه حقه - أن تقرير اللورد ليس تاريخًا لمصر ولا كتابًا في مناقب
العلماء والحكماء وإنما هو تقرير رسمي عن مالية مصر والسودان وإدارتهما
وحالتهما العمومية فالذي ينتظر أن يقال فيه عن مفتي الديار المصرية إنه رجل
جليل مصلح قد قام بأعماله في الحكومة خير قيام، أو ما في معنى هذا الكلام، ولكن
اللورد قد زاد بعد ذلك ما رأينا في الكلام عن حزب الرجل وتفضيله على سائر
المسلمين وتنشيطه وحثه على ترقية المقاصد التى كان يرمي إليها إمامه.
وإنني رأيت مريدي الأستاذ الإمام شاكرين للورد ما كتبه، قادرين إياه قدره،
راجين أن يصدق عليهم ظنه الحسن!
(العبرة الثالثة: حثه الأوربيين على تنشيط هذا الحزب)
إنى لأعلم أن من الناس من يعجب لقول اللورد: (فأتباع الشيخ حقيقون بكل
ميل وعطف وتنشيط من الأوربيين) وبعضهم يضعه موضع الظنة لاعتقاد
المسلمين أن الأوربيين أعداء لهم، لا يريدون لهم إصلاحًا ولا خيرًا ما، وإنما
يريدون الخير لقومهم خاصة فكيف يحث اللورد أهل أوربا كافة على تنشيط حزب
مصلح ينفع المسلمين بل لا ينفعهم غيره كما قال؟ ! والجواب على هذا الإشكال
لا يفهمه إلا من عرف كنه الفتح أو الاستعمار الأوربي وقد سبق لنا فيه قول، ونقول
هنا كلمة وجيزة فيه:
إن غرض الأوربيين من كل بلاد يدخلونها بالفتح أو باسم الحماية أو الاحتلال
المؤقت أو غير ذلك من الأسماء هو الكسب، ولا ينمو الكسب إلا بالعمران فهم
يحبون عمران البلاد يتبوَّأونها ومن ثم سموا ذلك استعمارًا! وعمران كل البلاد
إنما ينمو ويعظم على قدر اتفاق أهلها مع المستعمرين عليه، وهذا الاتفاق يتوقف
على أمور: أولها في المرتبة معرفة كل الفريقين للآخر ليكون في وفاقه وخلافه
على بصيرة، ومَن كان أعلم بالآخر كان أجدر بالفوز عند التنازع مع تساوي القوة
فكيف إذا كان الأعلم هو الأقوى؟ !
ولكن الأوربيين لا يحبون أن ينازَعوا ويقاوَموا وإن كانوا واثقين بالظفر؛ لأن
ذلك يقلل من كسبهم، ومتى قبضوا على ناصية السلطة في بلاد أمنوا من مقاومتها
بالقوة وانحصر حذرهم في مقاومة الأمة لهم بالفتن، فإن كان عمل يراد في البلاد
يعسر تنفيذه إذا كان سواد العامة مقاومًا له، فإن كان هذا السواد بحيث يخشى خروجه
على السلطة كانت موارد الكسب على خطر!
ثم إن الأوربيين يرون أن أعظم مثار للفتن التى ربما تفضي إلى الخطر على
موارد كسبهم الذي يطلبونه بنشر مدنيتهم وباستعمارهم للأرض - هو ما عليه عوام
المسلمين من الاستعداد للتهيج باسم الدين، ورُبَّ هيجة شؤمى تقوم بها بعض الدجالين
الذين تعتقد العامة صلاحهم أو بعض زعماء السياسة تذهب بعمل سنين طويلة؛ لهذا
كله كان من مصلحة الأوربيين في بلاد المشرق أن يوجد حزب نيِّر الفكر محب
للإصلاح الذي يعرّف العامة بقدر أنفسهم وبنسبتهم إلى الأجانب الذين يعيشون معهم
ويزلزل التعصب الأعمى في نفوسهم حتى لا يغرهم الغارون ويدعوهم إلى أعمال إن
أضرت بالأجانب قليلاً فهي تضر بهم كثيراً!
فالأجانب العقلاء العارفون بكنه الشرق كاللورد كرومر وأضرابه من ساسة
الإنكليز - يحبون هذا النوع من الإصلاح الذي ينفع المسلمين؛ لأنه ينفعهم هم
أيضاً لأنهم يحبون أن يكسبوا بهدوء وطمأنينة كما قال المنار غير مرة، ولكن قلما
يذهب بهم الميل إلى السعي في إيجاده أو الحث عليه؛ لأن مصلحتهم قائمة بدونه،
قائمة بقوة العلم والحكمة، وقوة السلاح والوحدة، فإذا وجد فيهم من يحث عليه
كانت السياسة منه تابعة للفضيلة الشخصية، وما أجدر اللورد كرومر بذلك!
مثل هذا الإصلاح لا يأتي من جانب المتفرنجين؛ لأنهم لا قيمة لهم في نفوس
السواد الأعظم لبُعدهم عن الدين فلابد من حزب وسط بين العامة وبين المتفرنجين
يكون له جانب إلى النظام والمدنية وجانب إلى الدين النقي السالم من الخرافات التي
هي مثار الفتن والآفات. ولا شك أن الحزب الذي كان يرأسه الأستاذ الإمام لا
غرض له إلا إزالة البدع والأوهام التي ألصقت بالدين والجمع بينه وبين مصالح
الدنيا. ومن أركان الإصلاح الذي يرمي إليه أخذ كل ما ينفعنا ولا يعارض ديننا من
علوم أوربا ومدنيتها. أما العلوم الحقيقية فلا شيء منها يخالف الدين الحق، وأما
أعمال المدنية فمنها النافع لنا كالجمعيات الخيرية والعلمية والدينية والأدبية
والشركات المشروعة ومنها الضار كالخمر والميسر والفجور.
ويعتقد هذا الحزب أنه لا يمكن لنا القيام بهذا الإصلاح إلا باتقاء السياسة فيه
واجتناب مقاومة السلطة به، ويجعل مداره على تربية النفوس بالدين وترقية شأن
البلاد الاجتماعي والاقتصادي وترك السياسة لأهلها؛ ذلك أن سياسة هذه البلاد هي
عبارة عن مسألة الاحتلال. وقد سألت الأستاذ الإمام عن رأيه فيه عندما زار
طرابلس منذ بضع عشرة سنة فقال: إنها مسألة أوربية لا شأن لنا فيها! وإنما
الشأن فيها لدول أوربا ذات المصالح في مصر مع السلطان فإذا اتفقت هذه الدول على
الجلاء كان، وهو ما لا دليل عليه الآن، هذا رأي إمامنا رحمه الله في المسألة
المصرية وقد قالت أوربا كلمتها فيها بلسان اتفاق أبريل سنة 1904 فلماذا لا نشتغل
بما يعنينا وهو في استطاعتنا من ترقية أمتنا بالتربية والتعليم ونترك ما لا طاقة لنا
به ولا يأتى منه إلا الضرر؟ ! وأقل هذا الضرر تحويل قلوب الأمة عما فيه خيرها
وفلاحها في دينها ودنياها وضغط أوربا عليها.
ههنا يقول المعترض: سلمنا أن طريقة هذا الحزب هي المثلى في إصلاح حال
المسلمين، وأن منتهى الحكمة فيها مسالمة الأوربيين، لكن مثل اللورد كرومر في
بُعْد نظره وثاقب رأيه لا يعزب عنه أن المسلمين إذا ساروا على هذه الطريقة ارتقوا
ارتقاءً حقيقيًّا يحُول دون دوام السلطة الإنكليزية فيهم فكيف يركب هذا الصعب أو
يكون حاديًّا لهذا الركب هذا الحزب؟ ! والجواب عن هذا سهل وهو أن طريقة
هذا الحزب الجامعة بين الفائدتين في الحال قد تكون جامعة بينهما في الاستقبال،
فإن الأمة إذا سارت في طريق الترقي مع المسالمة وحسن التفاهم بينها وبين هؤلاء
القوم ولقيت منهم التنشيط والمساعدة على رقيها في إبان ضعفها وعجزها - فهي لا
تترك صداقتهم في طور قوتها وهم لا يتركون صداقتها، ويمكنهم أن يربحوا منها في
طور القوة والاستقلال أكثر مما يربحون في طور الضعف والاحتلال!
والإنكليز هم القوم الذين لا يعاندون الطبيعة وإنما يسايرونها ويستفيدون من
كل طور من أطوارها بحسبه. ولعلّي لا أكون واهمًا إذا قلت: إن فرنسا لو وجدت
في الجزائر حزبًا يعمل لترقية شأن المسلمين - مع التوفيق بين مصالحهم ومصالح
الفرنسيين - لأباحت له العمل إن لم تنشطه وتساعده، على أن الإنكليز لم يساعدوا
طلاب الإصلاح في مصر كما أنهم لم يقاوموهم!
وما كتبه اللورد في تقريره الأخير هو أول قول رسمي سمعناه منه يدلنا على
ميله إلى هذا الإصلاح فأحببنا أن نزيل ارتياب المرتابين فيه؛ لأن سوء ظننا بالقوم
يضرنا ولا يضرهم، ومن الغباوة أن يظن أن القوي يصانع الضعيف، وأن مثل
الورد كرومر يكتب مثل هذه الكتابة لدولته، ويرمي فيها عن غير قوس عقيدته، وهو
يعلم أن أوروبا كلها تحل آراءه محل الاعتبار، لا سيما ما كان منها أثر التجربة
والاختبار، وقد سمعنا عنه منذ سنين أنه قال لبعض الكبراء، وقد رغب إليه في
عمل يرفع المسلمين ويرقيهم (إن مَن لا يعمل لنفسه لا يعمل له أحد، فاعملوا
ونحن نساعدكم، أو قال: وحسبكم أن لا نعارضكم) فقال الراغب: إنه ليس
عندنا رجال يهتمون بالخدمة العامة، فقال اللورد: بل عندكم رجلان: الشيخ محمد
عبده ورياض باشا فساعدوهما بالمال وهما يعملان للمسلمين ما يرقيهم ويرفع من
شأنهم!
(العبرة الرابعة: رأيه في المتفرنجين)
يظن هؤلاء المتفرنجون أن لهم مكانة عالية في نفوس الأوروبيين لتشبُّههم بهم
في عاداتهم وتزلفهم إليهم وإفراغ أموال البلاد في أكياسهم، وقد عُلِمَ مما ذكرنا عن
اللورد أنه لا يقيم لهم وزنًا، وقد علمنا مثل هذا بل ما هو شر منه عن كثير من كبراء
الأوروبيين: علمنا أنهم يحتقرون هؤلاء المتفرنجين وفى ذلك من العبرة ما لا محل
لشرحه في هذا المقام، واللبيب مَن تكفيه الإشارة وأين اللبيب فيهم وقد أفسدت
الخمور ألبابهم، وأضاع القمار صوابهم، فمعسرهم في حسرة على المال الذي يمتع
شهوته، وموسرهم في حيرة لا يدري كيف يفني ثروته، ومنتهى الفخر عندهم
كلب غريب يساير في الطرقات، ونوع جديد من المركبات، وفتاة أوربية تُخَاصَر
في المنتزهات، وتقبيح ما عليه قومهم من الآداب والعادات، وصرف العمر في
التفنن في الملذات، وإن أذاقت الأمة ضِعف الحياة وضعف الممات! .
__________
(1) قد علم قراء المنار من قبل أنه لما قام الإمام الأستاذ بذلك جمع الأمير طائفة من علماء المذاهب عنده فنظروا واتفقوا على الطريقة وكتبوا ما قدمه الأمير للحكومة وهي عرضته على المفتي وعملت بما أقره.
(2) هذا كُتب منذ أعوام.(9/276)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
طريقة إبراهيم الرشيدي
(س20) من أحد المشتركين في سنغافوره:
نبعث بهذه الأسطر لحضرة فذلكة العلوم والمعارف، صاحب المنار الأغر لا
زال منار الدين به مشيدًا، وهو:
إنه نَجَمَ في هذه الأطراف طائفة تزعم أنها على طريقة الشيخ إبراهيم
الرشيدي , ويقيمون في المساجد أذكارًا بلفظ الجلالة برفع صوت جدًّا , ويشوشون
على من هناك من المصلين , ويلقبون أنفسهم بمجاذيب , وينشدون خلال ذلك
أشعارًا من كلام الصوفية لا يعرفون معناها. وفي يوم الجمعة في أثناء صلاتها
تحصل منهم زعقات هائلة بلفظ (الله الله) ويجيب بعضهم بعضًا بذلك بحيث إذا
زعق أحدهم؛ تلاه الباقون بهذه الزعقات الشديدة المزعجة لمن في المسجد في وقت
صلاتهم الجمعة, ويحصل للمصلين تشوش منهم , وإذا نُهوا عن ذلك أجابوا أن
الناهي لهم من فريق {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} (التوبة: 32) !
وبأنهم إنما يزعقون في حالة الغيبة مستندين إلى ما في كتب الصوفية من أن المريد
إذا غلب على قلبه ذكر الباطن وضاقت أنفاسه منه بما خرج على ظاهره فيزعق
بلفظ (الله) , وإذا قاموا للذكر ليلاً وارتفعت أصواتهم بذلك ربما سقط بعضهم
مغشيًا عليه ذكرًا كان أم أنثى , وذلك بعد أن يشير الخليفة عليهم بخرقة في يديه
ويقول لهم: (أشّ) ثم يخر أحدهم مغشيًا عليه فيفيق بعد ذلك ويقول: شاهدت في
غيبتي أحمد بن إدريس وشاهدت ... إلى ما لا نطيل بذِكره. فهل هذا مما عُهِدَ في
أحد القرون الثلاثة الممدوحة أو هو مما أمر به الشارع أو السلف الصالح؟ وهل
يجب على ولاة الأمور المنع من مثل هذا؛ إذ ولي الأمر هنا لم يُقْدِمْ على منعهم
ظنًّا منه أنه مطلوب شرعًا؟ ! وإذا نُشر في المنار حكم ذلك شرعًا فولي الأمر لا
يتأخر عن حملهم على ما يحكم به الأستاذ في المنار من المنع أو الإمرار , فأدركونا
بما فيه حياة الدين والدنيا، لا زلتم عمدة لنفع المسلمين والله يحفظكم لنا أفندم.
(ج) في هذا السؤال مسائل:
(أحدها) الذكر بأسماء الله تعالى مفردة كما عليه أهل الطريق في هذا
العصر كقولهم: الله الله.. حي حي.. أو بالضمير كقولهم: هو هو.. وهذا من
البدع التي حدثت بعد الصدر الأول.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة العبودية ما نصه، بعد أن أورد ما ورد
في الحديث من أن (أفضل الذكر لا إله إلا الله) كما رواه الترمذي وغيره أو (لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) كما
رواه مالك في الموطأ:
(ومن زعم أن هذا ذكر العامة، وأن ذكر الخاصة هو الاسم المفرد وذكر
خاصة الخاصة المضمر فهم ضالون غالطون , واحتجاج بعضهم على ذلك بقوله:
{.. قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام: 91) من أبين غلط هؤلاء؛
فإن الاسم هو مذكور في الأمر بجواب الاستفهام , وهو قوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ
الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى..} (الأنعام: 91) فالاسم مبتدأ وخبره قد دل عليه
الاستفهام كما في نظائر ذلك يقال: مَن جاء؟ فتقول: زيد. وأما الاسم المفرد
مظهرًا أو مضمرًا فليس بكلام تام ولا جملة مفيدة ولا يتعلق به إيمان ولا كفر ولا
أمر ولا نهي , ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة ولا شرع ذلك رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولا يعطي القلب بنفسه معرفة مفيدة ولا حالا نافعًا وإنما يعطيه قصورًا
مطلقًا لا يحكم عليه بنفي ولا إثبات، فإن لم يقترن به من معرفة القلب وحاله ما يفيد
بنفسه وإلا لم يكن فيه فائدة , والشريعة إنما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه لا ما
تكون الفائدة حاصلة بغيره. وقد وقع من واظب على هذا الذكر في فنون من الإلحاد،
وأنواع من الاتحاد، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
وما يذكر عن بعض الشيوخ من أنه قال: (أخاف أن أموت بين النفي والإثبات)
- حال لا يُقتدى فيها بصاحبها فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء فيه، إذ لو مات
العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه؛ إذ الأعمال بالنيات، وقد ثبت أن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتلقين الميت (يعني المحتضر) لا إله إلا الله وقال:
(من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) ولو كان ما ذكره محذورًا لم يلقن
الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتًا غير محمود بل كان يلقن ما اختاره من
ذكر الاسم المفرد.
والذكر بالاسم المفرد المضمر أبعد عن السنة وأدخل في البدعة وأقرب إلى
إضلال الشيطان , فإن من قال: يا هو يا هو أو هو هو ونحو ذلك لم يكن الضمير
عائدًا إلا إلى ما يصوره قلبه , والقلب قد يهتدي وقد يضل. وقد صنف صاحب
الفصوص كتابًا سماه (الهو) ! وزعم بعضهم أن قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} (آل عمران: 7) معناه: وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو (الهو) إلا الله ,
وقيل هذا وإن كان مما اتفق المسلمون بل العقلاء على أنه من أبين الباطل , فقد
يظن ذلك من يظنه من هؤلاء (صوابًا) حتى قلت مرة لبعض من قال بشيء من
ذلك: لو كان هذا كما قلته لكُتبت: (وما يعلم تأويل هو) منفصلة.
ثم كثيرًا ما يذكره بعض الشيوخ أنه يحتج على قول القائل (الله) بقوله
سبحانه: {.. قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} (الأنعام: 91) ، ويظن أن الله أمر نبيه بأن
يقول الاسم المفرد , وهذا غلط باتفاق أهل العلم؛ فإن قوله: {قُلِ اللَّهُ..} (الأنعام: 91) معناه: الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، وهذا جواب
لقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ
قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ..} (الأنعام: 91) : أي الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، رد بذلك قول من
قال: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ..} (الأنعام: 91) [*] فقال: مَن أنزل
الكتاب الذي جاء به موسى؟ ثم قال: قل: الله أنزله , ثم ذر هؤلاء المكذبين في
خوضهم يلعبون.
ومما يبين ما تقدم ما ذكره سيبويه وغيره من أئمة النحو أن العرب يحكون
بالقول ما كان كلامًا ولا يحكون به ما كان قولاً ,فالقول لا يحكى به إلا كلام تام
جملة اسمية أو فعلية؛ ولهذا يكسرون (إن) إذا جاءت بعد القول؛ فالقول لا يحكى
به اسم , والله تعالى لم يأمر أحدًا بذكر اسم مفرد , ولا شرع للمسلمين اسمًا مفردًا
مجردًا , والاسم المفرد المجرد لا يفيد الإيمان باتفاق أهل الإسلام ولا يؤمر به في
شيء من العبادات، ولا في شيء من المخاطبات.
ونظير من اقتصر على الاسم المفرد ما يذكر أن بعض الأعراب مر بمؤذن
يقول: أشهد أن محمدًا (رسولَ) الله بالنصب فقال: ماذا يقول هذا؟ ! ، هذا
الاسم، فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلام؟ ! .
وما في القرآن من قوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (المزمل:
8) وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (الأعلى: 1) وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن
تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (الأعلى: 14-15) وقوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
العَظِيمِ} (الواقعة: 74) .. ونحو ذلك لا يقتضي ذكره مفردًا , بل في السنن أنه
لما نزل قول: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ} (الواقعة: 74) قال: (اجعلوها في
ركوعكم) ، ولما نزل قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (الأعلى: 1) قال:
(اجعلوها في سجودكم) [1] فشرع لهم أن يقولوا في الركوع: سبحان ربي العظيم ,
وفي السجود: سبحان ربي الأعلى , وفي الصحيح [2] أنه كان يقول في ركوعه:
سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى , وهذا معنى: اجعلوها في
ركوعكم وسجودكم باتفاق المسلمين..) إلخ ما أطال به رحمه الله تعالى.
(المسألة الثانية) التشويش على المصلين محظور عند جميع العلماء؛ سواء
كان بذكر أو تلاوة قرآن، أو قراءة علم أو بغير ذلك؛ فإن المساجد إنما تُبنَى للصلاة
فهي المقصودة بالذات , فيجب منع التشويش على المصلين، وإن كان بمشروع،
فكيف إذا كان بأمر غير مشروع مما يطلب منعه لذاته وإن لم يشوش على مصلٍّ؟
ولا أراني محتاجًا في هذه المسألة إلى نقل؛ لأنه لا ينازع فيه أحد , ومن أراد النقول
فليرجع إلى الجزء الأول من المجلد السادس، ومنه حديث أبي سعيد الخدري عند أبي
داود وأقوال الفقهاء في تقريظ كتاب إصابة السهام (34: 6) .
(المسألة الثالثة: المجاذيب) اعلم أن ما يسميه الصوفية بالجذب هو من
الأحوال التي لا يعرف منها أهل الطريق في هذا العصر إلا أنه ضرب من البله أو
التباله والخروج عن الآداب الشرعية والعرفية. الجذب في الحقيقة حال تطرأ على
الإنسان وهو متوجه إلى الله بالذكر والفكر فتأخذه عن نفسه وتبطل ميزان العقل في
الأقوال والأفعال , فهو فن من فنون الجنون يحدث في حالة مخصوصة وقد يحدث
من غير سبق الأعمال الاختيارية التي تؤدي إليه غالبًا إذا ما كان مَنْ يأتيها مستعدًا له , وهي الخلوة وكثرة الذكر فيه مع الجوع وقلة النوم لا سيما إذا كان الذكر
بالأسماء المفردة.
وهذا الفن من الجنون كغيره يكون متقطعًا يجيء نوبة بعد نوبة , ويكون
مطبقًا , ويكون قويًّا وضعيفًا، وصاحبه غير مكلف ما دام مأخوذًا عن عقله فإذا
كان يأتي بأقوال أو أفعال تشوش على المصلين وجب أن يمنع من دخول المسجد ,
وقد جاء في الحديث: (جَنِّبُوا مساجدنا - وفي رواية: مساجدكم - صبيانكم
ومجانينكم) .. إلخ رواه ابن ماجه من حديث واثلة، وكذلك ابن عدي والطبراني
والبيهقي وابن عساكر عنه وعن غيره. وإذا كان التشويش على المصلين بنحو رفع
الصوت كان مما يمنع منه العاقل فكيف يباح لغيره ممن يشوش بقاله وحاله؟ !
(المسألة الرابعة: الزعقات) هذه الزعقات والصيحات عند الذكر أو التلاوة
ليست من الدين في شيء لم يأذن بها الله ولا رسوله ولم تعرف عن الصحابة لكن
من الناس من يكون رقيق الوجدان شديد التأثر بما يهم نفسه , فإذا كان عابدًا وسمع
آية إنذار أو موعظة مأثورة أو عبرة يغلبه وجدانه ويظهر عليه أثر الانفعال في
وجهه وربما صرخ وبكى! وإذا كان عاشقًا وسمع غناءً أو شعرًا يظهر عليه مثل
ذلك التأثر , وقد حكي عن بعض الصوفية الصادقين شيء من ذلك , فلما ذهب
التصوف وجاء هؤلاء المقلدون الأغبياء الجهلاء بأسرار النفوس، المحرومون من
الوجدان الرقيق، الذي يتأثر بالمعنى الدقيق - جعلوا كل همهم التقليد في الإشارات
والعبارات والكلمات كما بين ذلك حجة الإسلام وصاحب العوارف وغيرهما من
متصوفة القرون الوسطى فما بالك بأهل الطريق في عصرنا هذا. قال الإمام
الغَزالي في بيان أصناف المغترين من الأحياء:
(الصنف الثالث) المتصوفة وما أغلب الغرور عليهم، والمغترون منهم فرق
كثيرة (ففرقة منهم) وهم متصوفة أهل الزمان إلا من عصمه الله اغتروا بالزي
والهيئة والمنطق فساعدوا الصادقين من الصوفية في زيهم وهيئتهم وفي ألفاظهم
وفي آدابهم ومراسهم واصطلاحاتهم، وفي أحوالهم الظاهرة من السماع والرقص
والطهارة والصلاة والجلوس على السجادات مع إطراق الرأس وإدخاله في الجيب
كالمتفكر وفي تنفس الصعداء وفي خفض الصوت في الحديث إلى غير ذلك من
الشمائل والهيئات , فلما تكلفوا هذه الأمور وتشبهوا بهم فيما ظنوا أنهم أيضًا صوفية
ولم يتعبوا أنفسهم قط في المجاهدة والرياضة ومراقبة القلب وتطهير الباطن
والظاهر من الآثام الخفية والجلية , وكل ذلك من أوائل منازل التصوف، ولو فرغوا
عن جميعها لما جاز لهم أن يعدوا أنفسهم في الصوفية كيف ولم يحوموا قط حولها ,
ولم يسوموا أنفسهم شيئًا منها بل يتكالبون على الحرام والشبهات وأموال السلاطين ,
ويتنافسون في الرغيف والفلس والحبة , ويتحاسدون على النقير والقطمير , ويمزق
بعضهم أعراض بعض مهما خالفه في شيء من غرضه وهؤلاء غرورهم ظاهر.
ثم ضرب لهم مثل العجوز تلبَس لباس الشجعان وتبرز إلى الميدان. ثم ذكر
فرقة المتشبهين بهم في الزي، وقال بعد ذلك:
(وفرقة أخرى) ادعت علم المعرفة ومشاهدة الحق ومجاوزة المقامات
والأحوال والملازمة في عين الشهود والوصال إلى القرب , ولا يعرف هذه الأمور
إلا بالأسامي والألفاظ إلا أنه تلقف من ألفاظ الطامات كلمات فهو يرددها ويظن أن
ذلك أعلى من علم الأولين والآخرين , فهو ينظر إلى الفقهاء والمفكرين والمحدثين
بعين الازدراء فضلاً عن العوام حتى إن الفلاح ليترك فلاحته والحائك يترك حياكته
ويلازمهم أيامًا معدودة ويتلقف منهم تلك الكلمات المزيفة فيرددها كأنه يتكلم عن
الوحي ويخبر عن سر الأسرار ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء فيقول في العُباد:
إنهم أجراء متعبون، ويقول في العلماء: إنهم بالحديث عن الله محجوبون،
ويدَّعي لنفسه أنه الواصل إلى الحق وأنه من المقربين، وهو عند الله من الفجار
المنافقين، وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين، ولم يُحكِم قط علمًا , ولم
يهذب خلقًا , ولم يرتب عملاً , ولم يراقب قلبًا سوى اتباع الهوى وتلقُّف الهذيان
وحفظه.
(ثم قال بعد ذكر الفرقة التي وقعت في الإباحة) :
(وفرقة أخرى) جاوزت حد هؤلاء واجتنبت الأعمال وطلبت الحلال
واشتغلت بتفقد القلوب , وصار أحدهم يدعي المقامات من الزهد والتوكل والرضا
والحب من غير وقوف على حقيقة هذه المقامات وشروطها وعلاماتها وآفاتها
(فمنهم) من يدعي الوجد والحب لله تعالى ويزعم أنه واله بالله , ولعله قد تخيل في
الله خيالات هي بدعة أو كفر فيدعي حب الله قبل معرفته , ثم إنه لا يخلو عن
مقارفة ما يكره الله عز وجل , وعن إيثار هوى نفسه على أمر الله تعالى وليس
يدري أن كل ذلك يناقض الحب.. إلخ ما ذكره في ذلك.
أقول:إذا تدبر السائل هذا القليل من كثير مما كتب أئمة هذا الشأن في ذلك
علم أن المسئول عنهم لم يبلغوا في التصوف بعدُ مَدَى هؤلاء الذين أثبت الإمام
الغزالي غرورهم. وليعلم أن الوجد وما يتبعه من مثل الزعقات ببعض الناس،
إنما يكون بعد الحب , والحب لا يكون إلا بعد المعرفة , والمعرفة بالله لا تكون إلا
بالعلم بما جاء في كتابه وما مضت به سنة نبيه مع الإذعان والعمل النفسي والبدني،
هذه هي طريقة الصوفية , ومن علامة الصادق فيها أن لا يدعيها ولا يدافع عن
نفسه إذا أنكر عليه لا سيما إذا كان الإنكار انتصارًا للدين وحماية للشرع فكل مدّعٍ
كذاب , فقد دخلنا في هذه الأمور وجربناها وكنا نذكر الذكر الباطن مع النقشبندية ,
ومنهم من كان يزعق وكدت أقلدهم ولكنني علمت أن كل ذلك من وسائل الشهرة
الباطلة , ولو شاء هؤلاء أن لا يزعقوا لما زعقوا وكم من تائب منهم قد اعترف بما
كان اقترف , والله الموفق.
(المسألة الخامسة: الغيبة ومشاهدة الأرواح) قد شرحنا حقيقة مسألة رؤية
الأرواح التي عدّوها من أعظم الكرامات في المجلد السادس فلا نعيدها , وإنما نقول:
إن المدعين كاذبون مراءون باغون للشهرة , وأن دعاويهم هذه - إن صحت -
لا تكون من الدين في شيء؛ إذ لم يرد بها كتاب ولا سنة , ومَنْ أكثر من تذكُّر ميت
وتخيله يوشك أن يتمثل له وليس ذلك بأمر كبير. ومن علامة كذب المدعي في
دعواه أن يكون في حضوره وغيبته وصحوه وسكرته تابعًا لإشارة من الخليفة يبديها أو
كلمة يقولها.
وجملة القول: إن ما حكيتم عن هذه الفرقة مما تصان عنه المساجد فإن
صدقوا في دعوى التصوف فعليهم أن يخضعوا لآداب الشرع ويصدقوا في الاتباع
من غير انتصار لأنفسهم , وإن أبوا كان على المستطيع أن يمنعهم من كل فعل في
المسجد يشوش على المصلين ويشغلهم عن الخشوع في الصلاة ولو استعان على
ذلك بقوة الحكومة , والله أعلم وأحكم.
***
غيبة العلماء والعالم الذي لا يعمل بعلمه
(س21) مستفيد من (سنغافوره)
ما يقول المنار المنير في رجل أطرى عالمًا بسعة اطلاعه وجودة مدركه
ونحو ذلك , فقال آخر حسدًا لذلك العالم وجهلاً منه بحقيقة العلم: دعني من علم
أولئك الناس الذين ظهروا اليوم وَفَسَّقَ وَكَذَّبَ ... إلى أن استشهد ببيت ابن رسلان:
وعالم بعلمه لم يعملن ... معذب من قبل عابد الوثن
فقال له المُطرِي: مهلاً فإنك تعلم أن الغيبة حرام، فالبيت يصدق عليك فإنك لم
تعمل بعلمك، فكيف الحكم في ذلك المغتاب؟ .. إلخ.
(ج) تحريم الغيبة معلوم من الدين بالضرورة؛ للنهي عنها في القرآن
وتبشيع حال أهلها , وغيبة العلماء أشد الغيبة ضررًا؛ لأنها تفضي إلى تنفير
الجاهلين عن الاستفادة منهم , وذلك صَدٌّ عن سبيل الله. ثم إن في قول ذلك الطاعن
في العلماء جراءة أخرى: وهي أن يحكم في أمر من علم الغيب ببيت من الشعر ,
وذلك من القول على الله تعالى بغير علم , وهو محرم بنص القرآن بل ذكر تحريمه
مقرونًا بتحريم الشرك بالله.
وقد قيل: إن لمعنى البيت أصلاً في الحديث لكن الطاعن لم يعرفه؛ إذ لو
عرفه لاحتج به لا بقول مَن لا حجة في كلامه. روى مسلم من حديث أبي هريرة
مرفوعًا: (إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استُشهد فأُتي به فعرَّفه
نعمته فعرفها فقال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك
القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال: إنك عالم , وقرأت القرآن ليقال:
هو قارئ. فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع
الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال: فما
عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها ذلك. قال:
كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه ثم
ألقي في النار..) فمن هذا الحديث أخذ أن هؤلاء الثلاثة أول مَن يحاسَب ويعذَّب،
ولكن ما يدرينا أن الأولية بالنسبة إلى المسلمين لا إلى المشركين وعُباد الأوثان أو
أن أفعل ليس على بابه.
ثم إن الحديث في العالِم المرائي لا في تارك العمل بعلمه، فهذا الحكم غير
صواب، وإن اشتهر وتلقاه المقلدون بالقبول. وإذا جاز أن يُغتاب العالم الذي يتهم
بالرياء ويخاض في عرضه لأجل هذا الحديث جاز أيضًا أن يغتاب الشهيد والمحسن
المنفق في سبيل الله , وهؤلاء خيار الناس وخيرهم العالم المعلم فما معنى تحريم
الغيبة إذا جازت غيبتهم؟
الرياء أمر خفي لا يجوز أن نحكم به على عالم ولا جاهل، نعم إن مؤاخذة
العالم بتحريم الشيء إذا هو فعله أشد من مؤاخذة من يفعل الذنب جاهلاً بكونه ذنبًا
من حيث الجراءة على الله , ولكن المذنب الجاهل يؤاخَذ على الذنب وعلى الجهل
معًا، فإن الجهل ليس بعذر إلا ما يكون في دقائق الشبهات وخفيات الأحكام.
ومن الأحاديث التي تلوكها ألسنة كثير من العامة فتُجرِّئهم على إهانة العلماء
حديث: (ويل للجاهل مرة وويل للعالم ألف مرة) ولا أعرف له أصلاً , وما أراه
إلا من وضع المتأخرين , وقد روى سعيد بن منصور عن جبلة مرسلاً: (ويل لمن
لا يعلم ولو شاء لعلم، واحد من الويل , وويل لمن يعلم ولا يعمل، سبع من
الويل) وهو على إرساله لا يصح , وعباراته تدل على أنه ليس من كلام الرسول
صلى الله عليه وسلم. وأخرج أبو نعيم في الحلية من حديث حذيفة: (ويل لمن لا
يعلم ولو شاء الله لعلمه , وويل لمن علم ثم لا يعمل) وهو ضعيف وإن كان معناه
صحيحًا.
***
اختيار مسجد للصلاة أو الصلاة بأجرة
(س22) : ع. ع بسنغافوره:
سيدي: في (جوهر) الإسلامية مسجد يصلون فيه الجمعة فقط ويكون في
سائر الأيام مهجورًا لا يصلي فيه إلا خدمته. وفي شهر رمضان السنة الماضية
طلب أحد وزراء تلك البلاد من أهل البلد أن يصلوا فيه صلاة العشاء والتراويح ,
وجعل لكل مَن واظب على ذلك مدة الشهر كله ستة ريالات وللإمام ثلاثين ريالاً
فأجاب طلبه جم غفير من مدعي العلم , وأنكر هذه الصلاة واحد قال: إنها غير
صحيحة ولم يجوِّز أخذ الدراهم بل قال: إن هذا هو الشرك في العبادة. والحقير
من جملة الذين حضروا هذه الصلاة ولم آخذ الأجرة , وقد جعلني المنكر في جملة
من أشركوا فهل قوله صحيح أم لا؟ فاحكم - يا سيدي - فأنت الحكم الذي ترضى
حكومته والسلام.
(ج) إن من صلى لأجل أخذ الجُعْل بحيث لو لم يكن هناك جُعْل لما صلى
بالمرة؛ فلا شك أن صلاته غير صحيحة، وأخذه للمال عليها غير جائز. ومن سمى
ذلك شركًا في العبادة فقد أعطى هذه الصلاة أكثر من حقها؛ إذ لا شيء فيها لله في
الحقيقة، وإنما الشرك أن يقصد مع الله غيره فمن قصد بالصلاة الأمرين معًا -
الثواب والمال - فهو المشرك في هذه العبادة , ومثله من قصد مرضاة الوزير
والتقرب إليه. ومن لم يقصد المال ولم يأخذه ولا رياء الوزير أو مرضاته وإنما
صلى في ذلك المسجد بعد نداء الوزير بالجعل؛ لأن الجماعة قامت في المسجد
فصار قصده إليه كقصده إلى غيره فلا يعد مشركًا ولا مرائيًا ولا يكون آثمًا.
وقد اختلف العلماء فيمن يقصد بعمله الثواب والرياء معًا أيثاب على قصد
الثواب بقدره ويعاقب على قصد الرياء بقدره أم يستحق العقاب دون الثواب؟ قال
الغزالي بالأول محتجًا بقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًًا يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) وقال العز بن عبد السلام بالثاني محتجًا
بالأحاديث الصريحة في ذلك كحديث مسلم وابن ماجه: (قال الله تعالى: أنا أغنى
الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) ، إذا كان
يوم القيامة أتي بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله عز وجل فيقول للملائكة:
اقبلوا هذا وانفوا هذا. فتقول الملائكة: وعزتك ما رأينا إلا خيرًا فيقول: نعم لكن
كان لغيري ولا أقبل إلا ما ابتغي به وجهي) . أقول: وما ابتغي به غير وجهه
تعالى قسمان: ما ابتغي به المال , وما ابتغي به الجاه كما يستفاد من قوله تعالى:
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا} (الإِنسان: 9) وفي
مسألة المسجد المسئول عنه دقيقة وهي أن الجزاء فيها على كون الصلاة فيه لا على
الصلاة نفسها فمن كان يصلي لوجه الله لا يريد جزاءًا ولا شكورًا على صلاته، ولو
لم يصلِّّ في ذلك المسجد لصلى في غيره قطعًا، ولكنه اختاره لأجل الجزاء الذي
ذكره الوزير كانت صلاته صحيحة خالصة لله , وينحصر السؤال في قصده إلى
المسجد وهو عبادة أخرى وقد علم حكم ذلك، والله أعلم.
***
النسيب الفاسق وإذهاب الرجس عن أهل البيت
(س24) الشيخ عبد الله الحضري في سنغافوره:
ملخص السؤال أن رجلاً فاسقًا يدعي أنه من آل بيت الرسول صلى الله عليه
وسلم وقد ذكر من فسقه ما يتنزه المنار عن نشره وقال: إذا سلمنا بدعواه فما معنى
قوله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب: 33) .
(ج) اعلم أن بعض الناس قد تكلموا في هذه الآية بالرأي فزعموا أن المراد
بأهل البيت جميع ذرية فاطمة عليها السلام والرضوان ما تناسلوا , وأن إرادة الله
تعالى هي مشيئته المطلقة التي بها الخلق والتكوين، ومن ثم بحثوا في عصمة
الشرفاء أو حفظهم من الذنوب. فقال بعضهم: إن معاصيهم صورية لا حقيقية
فيجب تأويلها كالمعاصي التي نُسبت إلى بعض الأنبياء، وبهذا قال بعض الصوفية.
وبحث ابن حجر الفقيه في ذلك بأنه مخالف للمشاهدة , واختار هو حفظهم من الكفر
دون المعاصي , وقال: إنه يكاد يقطع بذلك. وقال بعضهم: إنها خاصة بعلي
وفاطمة وولديهما , ولهم في هذا روايات. وبعضهم أنها تشمل معهم بقية الأئمة
الاثني عشر فهم المعصومون.
والحق الذي لا محيد عنه إلا إلى الهوى، أن المراد بالبيت في الآية بيت
النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يسكنه وهو جنس , والمراد بأهله هو ونساؤه ,
وذكر ضمير الجمع المذكر تغليبًا للأشرف إيذانًا بأن العناية به ثم بهن تبعًا له أو
رعاية للفظ الأهل , والعرب تستعمله ومنه: {إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا
سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ..} (النمل: 7) وقوله: (29: 28 {فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا..} (طه: 10) ونحو هذه الآية قوله تعالى: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمةُ
اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ} (هود: 73) والخطاب لامرأة إبراهيم عليه
السلام. هذا ما يقتضيه السياق ويتبرأ من كل ما يخالفه , فإن العبارة جاءت في آية
معطوفة على عدة آيات فيهن بالنص الذي لا يحتمل التأويل. والمراد بالإرادة فيها
ما يقصد ويراد من شرع تلك الأحكام الخاصة بهن لا إرادة الخلق والتكوين ابتداءً
فقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ} (الأحزاب: 33) .. إلخ هو
كقوله عز وجل في آخر آية الوضوء والغسل والتيمم من سورة المائدة: {مَا يُرِيدُ
اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: 6) , وقوله بعد ذكر أحكام الصيام وما فيها من الرخصة: {يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: 185) كل ذلك بيان لحكمته تعالى في
تلك الأحكام، وما فيها من الفائدة للأنام إذا هم عملوا بها , لا يفهم منها إرادة الخلق
والتكوين ابتداءً.
وقد سألني عن هذه الآية الأخيرة الشيخ التميمي مفتي الخليل عند زيارتي له
ببلده في عاشر المحرم سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وألف. قال رحمه الله: إن الله
تعالى نفى إرادة العسر بنا وأثبت إرادة اليسر , وما يريده الله تعالى لا بد من وقوعه
وما لا يريده يستحيل أن يقع , وإننا نرى العسر قد يقع كثيرًا فيذهب باليسر فأجبته
على البداهة بمثل ما تقدم آنفًا ولم أكن رأيته لأحد , وإنما هو بديهي في نفسه.
مَن فهم هذا - ولا تُحْمَل الآية سواه إلا بتحريفها عن موضعها - علم أن ما
ورد من الروايات في تخصيصها بفاطمة وعلي وولديهما مما يتبرأ منه سياق الآية؛
إذ يصير معنى الآيات يا نساء النبي لا تفعلن كذا ومن يفعل منكن كذا فجزاؤه
مضاعف ضعفين، يا نساء النبي افعلن كذا وكذا، إن الله لا يريد بهذه الأوامر
والنواهي إلا إذهاب الرجس عن علي وزوجته وولديه وتطهيرهم من كل ما يفضي إلى
اللائمة تطهيرًا كاملاً. وإن رواية تفضي إلى هذا مما يُقْطَع ببطلانها، وإن
صحح بعض المحدثين سندها , بل أقول: إنه لا معنى لإدخالهم في عموم الآية
فضلاً عن تخصيصها بهم ولا مزية في ذلك لهم , وهم غير مخاطَبين بتلك الأحكام
التي شرعت لأجل إذهاب الرجس بالعمل بها , وإنما كان يكون في ذلك مزية لو كانت
الإرادة للتكوين وكان الإخبار بها ابتدائيًا غير معلق بشيء.
أقول هذا وأنا علوي فاطمي حُسيني الأب حَسني الأم عالِم بالأخبار والآثار
الواردة في ذلك , وأفضِّل فاطمة بنت الرسول عليه الصلاة والسلام على أزواجه
أمهات المؤمنين؛ لأنها بضعة منه، لكن كتاب الله فوق كل شيء , وحكمه فوق كل
حكم , وهو قد خص أزواج نبيه بأحكام فهُن بها ممتازات على بناته وعلى جميع
النساء أو الناس، وإن فضلهن بعض الناس بمزية أو مزايا أخرى كما يَفضُل أبو بكر
وعمر عائشة وحفصة.
وإنني لأعجب أشد العجب كيف عظم افتتان الناس بالرواية في الصدر الأول
وإن كانت مخالفة لصريح القرآن حتى قال من قال في هذه الآية: إنها خاصة بأهل
الكساء أو عامة لبني هاشم وبني المطلب لحديث الترمذي والحاكم في الأول ,
وحديث الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه وأبي نعيم في الثاني , ولا يصح
في ذلك شيء خلافًا للترمذي والحاكم. ولله در عكرمة إذ كان يقول: (من شاء
باهَلْتُه أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم) وهو ما يرويه عكرمة عن
ابن عباس رضي الله عنهما كما رواه ابن أبي حاتم وابن عساكر.
وروى ابن جرير أن عكرمة كان ينادي في السوق أن قوله تعالى: {إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} (الأحزاب: 33) نزل في نساء النبي
صلى الله عليه وسلم، ولا يحتاج إلى شيء من الروايات في فهم الآية فإنها في
سياقها لا تحتمل غير ما قلنا كما هو ظاهر لكل قارئ له معرفة باللغة.
وقد علمت أن الآية لا تدل على عصمة أهل البيت , وإنما معناها أن الله
تعالى شرع لهن تلك الأحكام التي منها أن جزاءهن على الفاحشة وعلى الطاعة
يضاعَف ضعفين لأجل إذهاب الرجس عنهن وتطهيرهن تطهيرًا إذا هن امتثلن
وأطعن الله ورسوله , ولا معنى لوعيد المعصوم من الذنب بمضاعفة عذابه عليه.
فإذا فرضنا أن ذرية فاطمة داخلة في أهل البيت هنا لم يكن معنى ذلك أن يستحيل
عليهم الفسق فإذًا هم كغيرهم من البشر فيما يجوز عليهم ويمتنع وهو ما تؤيده
المشاهدة التي لا مكابرة فيها , فإن لم نقل بهذا كنا بين أمرين: تكذيب الحس أو
قذف الكثيرين من الشرفاء بأنهم أولاد زنا والأول جنون والثاني حرام!
***
العمل بالبيع والشراء وغيرهما بالعمولة العرفية
(س25) السيد حسن بن علوي شهاب من علماء العرب بسنغافوره:
ما قول المنار فيما هو الجاري الآن بين المسلمين، يبعث أحدهم إلى الآخر
بعروض تجارة فيأمره ببيعها بقيمة الوقت هناك أو بدراهم ليشتري له بها عروض
تجارة , وكذلك الوصي يبيع مال موصيه , والوكيل يقبض لموكله غلة عقاره ويجري
كل منهم لنفسه معلومًا في مقابل عمله خمسًا في المائة أو أقل أو أكثر فهل ما يأخذونه
جائز لهم شرعًا؟ إن قلتم: لا؛ فواضح , وإن قلتم: نعم؛ فما وجه ذلك المأخوذ في
الشرع؟ لأنا نرى في الشرع أنهم يعملون مجانًا كما هو مقرر في عمله. أفيدونا بارك
الله فيكم ولكم، آمين.
(ج) قال الله تعالى في أول سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) فكل ما يتعاقد عليه المسلمون يجب عليهم الوفاء به إلا إذا
كان على معصية كالاستئجار على الزنا مثلاً , فإذا اتفق تاجران على أن يبيع
أحدهما أو كل منهما للآخر ما يرسله إليه من العروض ويشتري له بثمنه أو بمال
آخر عروضًا معينة بالجنس والنوع أو غير ذلك من أنواع التعيين كما هو المتعارَف
ويأخذ على المبيع والمشترى أجرًا يقدر بنسبة قيمته كخمسة في المائة كان هذا
الاتفاق عقدًا صحيحًا يجب الوفاء به؛ لأنه لم يحل حرامًا ولم يحرم حلالاً.
فإن قيل: إن هذه الأجرة مجهولة , ويشترط في الأجرة أن تكون معلومة
وغير متوقفة على العمل كما قال كثير من الفقهاء؛ نقول: بل هي معلومة معينة ,
فإن البائع والمشتري لغيره يعرف عند الاتفاق أجر عمله في الجملة وعند تعيين
الثمن قبل عقد البيع أو الشراء ما يستحقه بالتفصيل , وهذه الأجرة لا تتوقف على
العمل ككون أجرة الطحن من الطحين. على أننا نقول: إن ما يشترطه الفقهاء في
العقود مما لم يرد به نص عن الشارع , وإنما يعلل بالمصلحة يمكن أن تختلف فيه
المصلحة باختلاف الزمان والمكان. فعِلَل الفقهاء ليست دينًا يتعبد باتباعه سواء
قامت به المصلحة أو ترتبت عليه مفسدة , ولا شك أن التجارة قد دخلت في طور
يتعسر معه النجاح مع التزام جميع أقوال فقهاء أي مذهب من المذاهب. وإذا
تمسكنا بأصول الإباحة والبراءة والمحافظة على ما أحله الله وحرمه , ولم نزد في
عقولنا شروطًا ليست في كتاب الله تعالى فإنه يمكننا أن نسابق جميع الأمم في
الأعمال المالية وتنمية الثروة التي عليها مدار قوة الأمة وعزة الملة في هذا العصر.
فإن قيل ورد في حديث أبي سعيد عند الدارقطني والبيهقي: (نهى عن عَسْب
الفحل , وعن قفيز الطحان) وفسروا قفيز الطحان بطحن الحب بجزء منه مطحونًا.
واستنبطوا من ذلك أنه لا يجوز أن تكون الأجرة بعض المعمول بعد العمل كما
قال الأئمة الثلاثة دون أحمد، وفي حديثه عند أحمد وغيره: (نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره) ومنه أخذ الشافعي
وأبو حنيفة وجوب كون الأجرة معلومة خلافًا لمالك وأحمد فإنهما حكما العرف في
ذلك فما تقول في الشروط المأخوذة من هذين الحديثين؟
والجواب: أن أمثال هذه الروايات ينظر في سندها ثم في معناها وعلة الحكم
فيها. فأما حديث أبي سعيد الأول ففي إسناده هشام أبو كليب قال ابن القطان: لا
يعرف , وزاد الذهبي أن حديثه منكر , ووثقه مغلطاي وابن حبان، والجرح مقدم
على التعديل. ثم إن ما فسروا به قفيز الطحان غير متفق عليه بل قال بعضهم:
إنه قفيز كان يؤخذ زائدًا على الأجرة , وهذا هو المتبادر وهو المعهود في بلادنا ,
فنهى عنه؛ لأنه من الباطل الذي لا مقابل له في العمل , وإنما هو من قبيل ما يسمى
الآن بالبخشيش.
وأما حديثه الآخر فرجال أحمد في سنده رجال الصحيح إلا أن إبراهيم النخعي
راويه عن أبي سعيد لم يسمع من أبي سعيد كما قال في مجمع الزوائد وذكره أبو
داود في المراسيل والنسائي غير مرفوع , وفي بعض ألفاظه: (من استأجرته) فهو
على الخلاف في الاحتجاج بمثله لا ينافي أن يكون بيان الأجرة أو تسميتها بكونها
جزءًا من كذا جزءًا مما يبيعه أو يشتريه أو يحصله فإنه بذلك يكون على بصيرة
لا يتطرق إليها الغبن والغش. ولا نعرف حديثًا غير هذين الحديثين يمكن أن يستدل
به على تحريم أخذ كذا بالمائة مما يباع أو يشترى أو يحصل أجرة أو عمولة وهما لا
يدلان على ذلك. وللوصي حكمه فيما عوقد عليه.
نعم إذا جرى العرف بين التجار أو غيرهم بأن عمل كذا لا يؤخذ عليه شيء
وأراد من عمله أن يأخذ عليه أجرًا أو عمولة من غير عقد يستحق به ذلك ولا
عُرْف يجيزه له فإنه لا يجوز له أخذه , وإذا أخذه بدون علم صاحب المال كان
سارقًا. ولا أدري أهذا ما يريد السائل بقوله: (لا نرى أنهم إنما يعملون مجانًا) أم
يريد أنه يجب أن تكون هذه الأعمال مجانًا , وقد علمت ما نعتقد في الأمرين , والله
أعلم وأحكم.
***
تقبيل أيدي الشرفاء وغيرهم
(س 27) مستفيد من سنغافوره:
ما يقول المنار المنير في تقبيل اليد؟ فإني أرى سادات اليمن وحضرموت
المنتسبين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ينكرون على مَن لم يقبل أيديهم ,
ويزعمون أنهم مستحقون لتقبيل اليد، فهل لهذا أصل في السنة؟ أفيدونا.
(ج) إن زعموا أن هذا حق شرعي لهم ثبت في السنة فمن ترك تقبيل
أيديهم يكون مخالفًا ومرتكبًا محرمًا أو مكروهًا - فقد زادوا في شريعة الله ما ليس
منها , وهذا من أعظم الكبائر. وإن كانوا يريدون أنه قد استحسن في الآداب العادية
أن تقبل أيديهم فصار ترك بعض الناس لذلك في بلاد جرت عادتها به لا يخلو من
إشعار بعدم الاحترام فالأمر سهل والسنة في التحية السلام والمصافحة. أقول هذا
وأنا أعلم بما قال النووي في ذلك , والسنة الصحيحة تعرف بعمل الناس في الصدر
الأول وبنقل ذلك , ولا يكتفى فيها بحديث الآحاد؛ إذ لا يمكن أن يشرع شيء لا
يعمل به أهل الصدر من الصحابة والتابعين , ولا يمكن أن يعمل المسلمون به
ويبقى مجهولاً لا يعرفه إلا الآحاد من المتأخرين. وقد قال صاحب المدخل عند ذكر
تقبيل اليد بدل المصافحة ما نصه: (وقد وقع إنكار العلماء لذلك فإن كان المقبل يده
عالمًا أو صالحًا أو هما معًا فأنكره مالك في المشهور عنه وأجازه غيره. وأما تقبيل
يد غير هذين فلا يعرف أحد يقول بجوازه لا سيما إذا انضاف إلى ذلك أن يكون
المقبل يده ظالمًا أو بدعيًّا أو ممن يريد تقبيل يده ويختاره فهو الداء العضال الواقع
بالفاعل والمفعول به، وبمن أعجبه ذلك منهما؛ لما ورد في ذلك من الوعيد الشديد.
نعوذ بالله من المخالفة وترك الامتثال. كل هذا سببه ترك السنة أو التهاون بشيء
منها) .
فأنت ترى أنه قد شدد في المسألة جدًّا؛ لأنه عدَّها بدعة دينية , وله الحق في
التشديد في ذلك إذا فعل التقبيل على أنه مطلوب شرعًا أو ترتب عليه مفسدة كإعانة
المبتدعين والظالمين على بدعتهم وظلمهم. وأما ما يفعل بمقتضى العادة - لا باسم
الدين - فهو مباح إلا إذا ترتبت عليه مفسدة , ومنها أن يعتقد أنه من الدين كما
يزعم سادة حضرموت!
__________
(*) أول الآية: [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ] (الأنعام: 91) إلخ.
(1) الحديث رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه عن عقبة بن عامر.
(2) قوله: (في الصحيح) يعني صحيح مسلم، ورواه أيضًا أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي من حديث حذيفة.(9/289)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إصلاح التعليم والمدارس الإسلامية في روسيا
كتبنا في الجزء الماضي شيئًا في هذا الموضوع، وكان موسى أفندى عبد الله
أحد مجاوري الروس في الأزهر ترجم لنا مقالةً من جريدة (وقت) الروسية التي
تصدر في أورنبورغ كُتبت بقلم رجل من أعقل المسلمين وأفضلهم في روسيا فضاق
ذلك الجزء عن نشرها فرأينا نشرها هنا لما فيها من الفائدة، وهي:
المدارس وطلبة العلوم
ظهرت بيننا في هذه الأيام مسألة إصلاح المدارس، مسألة خاضت فيها
الجرائد وتحدث بها الناس في كل مجتمع، وكُتب فيها ما كُتب من المقالات
والرسائل، وكثر فيها القيل والقال، وطال أمد النزاع والجدال، إلى أن سئم
البعض من المقال، بيد أنَّا مع هذه الإفاضة في الكلام ما خطونا إلى الأمام إلا
خطوةً واحدةً، والمقصد شاسع لا يُنال إلا بعد قطع مسافة طويلة.
المسألة مهمة وجديرة بأن نُعنى بها؛ لأن حياة الأمم وبقاءها إنما يكونان
بالمدارس التي هي روح الأمم ومدار سعادتها وارتقائها في العلوم والمعارف , ولا
يحصل الارتقاء في العلوم إلا بالتدريج , وكم من أمة وضعت أساسًا للعلم والمدنية
ثم انقرضت وورثتها أمة أخرى وبنت على أنقاض ما تركت الأولى وأكملت
نواقصها، ثم ودعت الدنيا، فخلفتها ثالثة ونظرت في ما تركته من الآثار وزادت
عليها وظفرت بما لم يخطر ببال الثانية، وهكذا إلى أن بلغت العلوم والحضارة ما
نراه اليوم من الرقيّ والكمال!
ووظيفة كل أمة في كل عصر هي أن تكمل ما ورثته من الآباء وتتركه
للأبناء، وإذا أهملت أمة هذه الوظيفة فقد جنت جناية لا تُغتفر على أخلاقها، بل
على النوع البشري بأَسْرِهِ.
وإذا أجَلْنا الطرف في مدارسنا نرى الفوضى سائدةً في أكنافها: لا نظام ولا
ترتيب ولا نظارة ولا محاسبة كأمتعةِ بيتٍ طُرِحَتْ إلى الشارع وقت الحريق! ومَن
أراد أن يكتب شيئًا فيما يتعلق بها يحار في اختيار نقطة يبتدئ منها , فليس إصلاح
هذه المدارس وتنظيم دروسها أمرًا هينًا بل هو أمر في غاية الصعوبة، ولكن الأمة
إذا تصدت لهذا الأمر بجد وإخلاص ذللته مهما كان صعبًا؛ إذ لا يوجد في الدنيا شيء
أشد قوة من أمة متحدة أفرادها وملتئمة أعضاؤها , وما من غاية قاصية إلا وأدركتها
الأمة المتحدة، وما من مسلك وعر إلا وعبرته الأمة المتحدة.
والمسائل التي تتعلق بمدارسنا كثيرة لا تحصى، ومضمارها واسع جدًّا لا
نهاية له , فلا خير في التحير في اختيار نقطة الكلام فأقول:
هل تفتقر مدارسنا الى الإصلاح؟
إن مسألة إصلاح المدارس مسألة جديدة بيننا. إذا رجعنا البصر إلى ما
وراءنا قبل عشرين سنة لم نعثر على أفكار مكتوبة تتعلق بالمدارس إلا قليلاً، وإذا
كان هذا القليل لم يطبع، ولم ينتشر بين الأمة لم يكن له أثره بالمرة، ولكن الفرق
عظيم بين ذلك الزمان وبين اليوم. فإنه لا يكاد يوجد اليوم من لا يبحث عن أحوال
المدارس وطلبة العلوم , وإن كان بعضنا ينكر إصلاح المدارس ويحرم تنظيم
الدروس ويدعي أن وراء إصلاح المدارس ضررًا جسيمًا يرجع إلى الأمة بالخسار
فهؤلاء المنكرون لا يزالون يتباحثون مع غيرهم في شأن المدارس والطلبة ,
والبحث عن شيء ولو بإنكار الحقيقة خير من إهمال البحث؛ لأن الناس لا يهتدون
إلى الحق إلا بعد نزاع وجدال وبحث وتنقيب، والبحث يجلو الحقيقة ويطلع
الكثيرين على مواضع خطأهم وينقذهم من التيه في غمرات الضلال.
إننا أصلحنا بيوتنا التي نسكنها والعربات التي نركبها وحوانيتنا التي نتجر
فيها ومزارعنا التي نحرثها، والأحذية التي نحتذيها، والأردية والفراء التي نلبَسها
بل وأوراقنا التي نطبع عليها كتبنا وقرآننا، وحروف مطابعنا وغيرها أفلا تكون
ديار التربية والتعليم والمدارس والمكاتب التي يتربى فيها رجال المستقبل وقادة
الأمة مفتقرة إلى الإصلاح؟
كل من تعلم في مدارسنا يكون إما مدرسًا في مدرسة أو معلمًا في مكتب أو
إمامًا وخطيبًا في مسجد أو عالمًا ذا نفوذ في الأمة أو رئيسًا لبيت من البيوت.
ولا أرى أن وجوب اتصاف هؤلاء بالفضائل الجمة وتخلقهم بالأخلاق الفاضلة
يحتاج في إثباته إلى دليل!
وإذا لم يكن المعلم والمدرس والإمام والخطيب مثالاً في الأخلاق الفاضلة
والآداب فلا يرجى منهم خير للأمة قطعًا , وليست وظائف من يكون زوجًا لامرأة
أقل من وظائف من يكون معلمًا في مكتب؛ لأن رئيس العائلة معلم في عائلته.
كيف ندعي عدم افتقار مدارسنا إلى الإصلاح ولا يدرس فيها (علم التربية)
وعلم الأخلاق وعلم السياسة والاجتماع. مع أن هذه العلوم لا بد منها لكل من يرشح
للتدريس، أو التعليم، والخطابة أو الكتابة!
أم كيف تحسب المدارس التي لا تسمع طلبتها فضيلة من الفضائل الإنسانية
ولا تدري ما هي الفلسفة الدينية معمورة غير مفتقرة إلى الإصلاح؟ وكيف ترجى
الخدمة للمسلمين من طلبة هذه المدارس؟
كل ما يدرس في مدارسنا عبارة عن عدة حواشٍ وشروحٍ وبعضه كتب من
علم الكلام أُلفت بعد ابتلاء المسلمين بالخلاف والجدل , أتكفينا هذه الدروس في هذا
الزمان؟
إذا قال لنا الذين يصدقون أقوال الكهان ويحكمون بما في كتب الطلاسم والجفر
ويحرمون ركوب السكة الحديدية، ويمتنعون من السفر تطيرًا بحيوان مخصوص:
إن مدارسنا أفاضت العلوم منذ قرون ولا تبرح تفيض وستفيض بعد الآن ,
والقارئون منا أكثر من قارئي الروس؛ لأنهم عندنا خمسة وعشرون في المائة وعند
الروس لا يزيد عن عشرين في المائة على أن مدارسهم منتظمة ودروسها على نسق
جديد والحكومة تؤيدها بمبالغ طائلة فما الذى يضطرنا إلى إصلاح مدارسنا؟ ! -
قلنا لهم: كان الذين يقرؤون في عهد آبائنا قليلين جدًّا في المدن فما بالك بالقرى وما
كان المقصد من الكتابة يومئذ إلا كتابة الكتب (الخطابات) وقراءتها أو كتابة
أسماء المواليد في سجل النفوس إذا كان القارئ إمامًا في مسجد. ولا شك أن
هذه الحاجة حاجة قليلة , وكانت مدارسنا في ذلك العهد تقضي هذه الحاجة. مضت
الأيام وتغيرت الأزمان وكثرت الحاجات ونجمت بين الأمم (المنافسة في الحياة)
أو (تنازع البقاء) وكانت الغاية من التعلم في المدارس قبل اليوم بنصف قرن
الإلمام بشيء من الدين وتعلم الكتابة. أما اليوم فقد صارت مدارس الأمم الحية دور
حياة تتخرج فيها هداة الأمة وقادتها , وهؤلاء القادة يقودون أقوامهم إلى ما فيه صلاحهم , ويسوقونهم إلى مستقبل عظيم.
إذا بقي هداتنا حيارى إذ تقود هداة الأمم الأخرى أقوامهم إلى مصالحهم فقد
خسرنا خسرانًا مبينًا!
فلتكن مدارسنا بحيث تربي لنا هداة يقودون الأمة ويكونون لها خير قدوة ,
وإن كان هذا الأمر مما كان يعد قبل اليوم بثلاث سنين خيالاً صرفًا فقد صارت الآن
حقيقةً جليةً كالشمس في وسط السماء.
هل كان يخطر ببالنا أن مسلمي الروس يضعون نظامًا في حاجاتهم الدينية
والدنيوية ويرفعونه إلى الحكومة وأنهم يجتمعون في عواصم البلاد ويأتمرون في
شؤونهم المختلفة كما رأينا اليوم بأعيننا؟ فلا غرو إذا رأينا بعد هذا وكلاء المسلمين
يجلسون متكاتفين مع وكلاء الأمم الأخرى في مجالس عالية , وبالجملة إننا نضطر
بعد اليوم إلى أن نعيش مع أهل وطننا المتقدمين في العلوم مشتركين في المصالح ,
وإذا لم نستطع أن نمشى معهم داسونا بأقدامهم وبقينا أذلاء صاغرين!
ليست الغاية اليوم من التعليم في المدارس هي تعلم الكتابة فقط، بل الغاية كما
قلنا سابقًا هو أن يتخرج فيها رجال يكونون أئمةً للأمة.
المتعلمون من الروس أكثرهم يعملون أعمالاً تحار فيها عقولنا، وأما المتعلمون
منا فلا يقدر أحدهم على أن يتكلم بالعربية الفصحى بعد أن يكون أضاع جُلَّ عمره
في تعلم لسان العرب الذى يحتاج إليه كل عالم إسلامي ديني.
أيها الإخوان! نحن في احتياج شديد إلى مدارس منظمة تهيئ لنا رجالاً تحفظ
أمتنا من الزلازل والزعازع، والأمواج والزوابع، ومن أنكر هذا فقد أنكر ما أثبته
البرهان والعيان.
... ... ... ... ... ... ... رضاء الدين بن فخر الدين
(المنار)
إن لنا رجاءً كبيرًا بمسلمي روسيا لا يزلزله ما نسمعه عن جمود الكثيرين من
أساتذتهم وشيوخهم ونفورهم من الإصلاح الذى قضت به ضرورات الزمان، فإن
طلاب الإصلاح كثيرون، وهم الغالبون حتمًا ولو بعد حين , ولعلنا نعود إلى
الموضوع ونذكر ما يصل إلينا عن مؤتمر التلاميذ الذى عقدوه في قزان وبعض ما
نراه واجبًا في إصلاح تلك المدارس.
__________(9/305)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(الحقيقة الباهرة في أسرار الشريعة الطاهرة)
كتاب وجيز للشيخ أبي الهدى أفندي الصيادي الشهير بيّن فيه شعب الإيمان
الواردة في الحديث بحسب فهمه، وهذا الكتاب أحسن ما اطلعنا عليه من كتبه، فقد
تصفحنا منه أوراقًا متفرقةً فرأينا كلامًا معتدلاً ينفع العامة، وقلما ينكر الخاصة منه
شيئًا ضارًّا يعد منفردًا به، فإثباته رؤية كثير من الناس للجن قد تبع فيه كثيرًا من
المؤلفين، وهو مما ينكره الخاصة ويعدون إشاعته ضارة، وقد سبق للمنار دليل
ذلك , وأما ما ينكرونه أو ينتقدونه عليه مما انفرد به فلم أَرَ فيه ما يضر القارئ،
مثاله قوله:
(والعلم بالله على ثلاثة أقسام: الأوامر الشرعية والنواهي الشرعية
والمباحات الدنيوية ومدارك الحواس الضرورية والضرورة العقلية، فعلم الأمر هو
علم الفرائض والسنن والفضائل، وعلم النهي هو علم الحلال والكراهة والتنزيه
وعلم المباحات هو العلم بالدنيا وأهلها وكيفية آداب المخالطة واكتساب المعيشة
وصيانة المجد وحفظ حقوق المقادير وأبهة الهيئة المجتمعة، وهذه الأقسام الثلاثة
تتعلم من الشرع وطريقها السمع , وأما مدارك الحواس والعلوم الضرورية فقد
اشترك فيها الحيوان العاقل فلا تحتاج إلى اكتساب , وبعد هذا فالهدى هو العلم، لا
يستغني القلب عن العلم طرفة عين، والعقل أيضًا محتاج إلى العلم النبوي لا يستغني
عنه بنفسه آنًا أبدًا، وكل علم مَدَّ شراعه في الأكوان انفتق رتقه بهمم الأنبياء
وباشرته العقول فسلكت فيه فجاجًا) .
فالعامي يفهم من هذا الكلام أنه يطالَب بالعلم الديني والدنيوي والخاصي لا
يقول: إن فيه شيئًا ضارًّا بعقيدة القارئ، أو آدابه وإنما ينكر هذا التقسيم وهذا البيان
للأقسام - ينكر على المؤلف أنه قال: إن الأقسام ثلاثة، وسرد أكثر من ثلاثة
معطوفًا بعضها على بعض، ينكر عليه أنه جعل كيفية الكسب وصيانة المجد والعلم
بجميع المباحات من العلم بالله، ولم يذكر أن من العلم بالله العلم بصفاته وأسمائه
وسننه وحكمه في خلقه، وإنما العلم بالله في الحقيقة هو العلم بهذه الأشياء، ولا
يصح أن يسمى غير ذلك علمًا بالله إلا بتأويل , فإن قيل: إنه طوى هذا في العلم
بالأوامر، أي: بالفرائض والسنن - وهو ما لا يتبادر من لفظها - يقول المنكر:
إن سلمنا أن هذا مما يفهم منها فإننا ننكر على المؤلف سكوته عن أهم أركان العلم
بالله ونطقه بما لا يعد من أركانه أو لا يعد منه إلا بتكلف من التأويل.
وينكَر عليه قوله: إن المباحات تُتعلم من الشرع وطريقها السمع بأنه لا حاجة
إلى أن تتعلم المباحات تعلمًا، ولا تتوقف معرفتها على السمع فإنها هي الأصل،
وإنما يتعلم من الشرع القسمان الأولان - الأوامر والنواهي - فيعلم أن ما سواها
مباح على الأصل فما سكت عنه الشرع فلم يأمر به ولم ينه عنه فهو مباح وفي
الحديث الصحيح عند البخاري ومسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) .
وينكُر عليه قوله في مدارك الحواس والعلوم الضرورية وسكوته عن العلوم
النظرية، ولا حاجة لشرح ذلك ولا لبيان سائر ما ينتقد في تلك الجملة , ومما ينكر
عليه من هذا القبيل ترتيب الشعب وخلط مسائل الإيمان منها ومسائل الإسلام ومسائل
الإحسان بعضها ببعض , إن أُريد إلا بيان أن ما ينكر على هذا الكتاب لا يكاد يتجاوز
حسن البيان وتحرير المسائل إلى كون ما كتبه ضارًّا بعقائد القارئين أو آدابهم
كما يوجد في كثير من الكتب فالكتاب إذًا نافع.
وقد أعجبني ما ذكره في شعبة الزكاة وهو: (وإذا تدبر اللبيب يرى أن
الوجود كله يتعبد لله بالزكاة عملاً بشريعة الإسلام - هذه الأرض التي هي أقرب
الأشياء إلينا تعطي جميع زكاتها من منافعها ونباتها ولا تبخل على من على ظهرها
بشيء مما عندها في فصول العام، وكذلك النبات والأشجار والحيوان والبحر
والسماوات والأفلاك والشمس والقمر والنجوم، الكل لا يدخر شيئًا من منافع
جوهريته وفوائد مادته متعاون بعضه مع البعض في طاعة الله، فمانع الزكاة مخالف
لجميع الموجودات بل وللأرضين والسماوات، ولذلك وجب شرعًا قتاله وقهره
وإجباره على إيتاء الزكاة، فتدبر سر هذا الحكم وحكمته يظهر لك شيء من
جليل معاني الشريعة ففيها البلاغ) اهـ، وهو كلام ظاهره شعري وباطنه فيه
حقيقة دقيقة، ويا ليت المؤلف توسل إلى السلطان بإلزام المسلمين بأداء الزكاة لعله
يجاب كما يجاب إلى كثير من الأمور الدنيوية التي يطلبها منه.
وقد طبع الكتاب على ورق جيد وهو يطلب من مكتبة أمين أفندي هندية.
***
(خلاصة السيرة المحمدية)
يجب على كل مسلم أن يعرف رسوله الذي هداه الله تعالى على يديه معرفة
تغذي إيمانه به وتنمي حبه في قلبه وترغّبه في التأسي به فقد قال تعالى في كتابه:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} (الأحزاب: 21) والأسوة تتوقف على معرفة سيرة من تتأسى به في أخلاقه
وشمائله وأعماله وسائر شؤونه , وقد كان يصعب على كل مسلم أن يقف على
السيرة النبوية؛ إذ لم يكن ألف فيها إلا الكتب المطولة التي تعسر الاستفادة منها على
غير العلماء , ومن محاسن هذا العصر أن ألفت فيه المختصرات السهلة في كثير
من العلوم ومنها (خلاصة السيرة النبوية) للشيخ عطية محمد البشاري مدرس اللغة
العربية في مدرسة العقادين الأميرية , كتاب لا تبلغ صفحاته عقد المئة ولكنه جامع
لأهم مسائل السيرة النبوية بالاختصار، مع الإشارة إلى شيء من وجوه الاعتبار،
ولملخص سيرة الخلفاء الراشدين , فأنصح لجميع نظار المدارس الأهلية أن يجعلوه
من أول دروس الدين ثم ينتقلون منه إلى كتاب (نور اليقين في سيرة سيد
المرسلين) وأتمنى لو يعم نشر هذين الكتابين ويُقرآن للعامة في المدن والقرى ,
ولو كنا عارفين بطرق النشر لأدركنا بعض ما نتمنى من مثل ذلك , هذا ما نرى
التنويه به نافعًا بالإجمال ولا حاجة إلى الكلام عن جزئياته بالتفصيل.
***
(إعلام البعيد والقريب بعجز مَن ظن أنه رد على السؤال العجيب)
للشيخ أحمد المليجي الكتبي مناظرات مع دعاة النصرانية بمصر وردود عليهم
منظومة ومنثورة ومنها (السؤال العجيب) وهو سؤال منظوم وجهه إليهم فنظم
بعضهم ردًّا عليه، فعاد الشيخ أحمد إلى رد في كتاب منظوم منثور بلغت صفحاته
68 والظاهر أن هذه الردود تتسلسل فلا تنقطع وإذا كان الجدل مكروهًا وضارًّا في
الاجتماع فمما يصح للمسلمين أن يفخروا به أنهم لا يعتدون، وإذا اعتدي عليهم
ينتصرون فلا يُغلبون.
***
(كتاب الموسيقى الشرقي)
يكثر المصنفون في هذه البلاد سنة بعد سنة ولكن يقل فيهم من يأتي بشيء
مبتكر، يعرِّف به المنكَّر، أو يحرر ما ليس بِمُحَرَّرٍ، أو يحيي به فنًّا مات، أو
يقيم به رسمًا درس، وقد أهدي إلينا في هذه الأيام كتاب (الموسيقى الشرقي) فإذا
نحن بمؤلفه (كامل أفندي الخُلَعِي) يحاول فيه إحياء هذا الفن الجميل - فن
الموسيقى - باللغة العربية بعد أن ذهبت به السنون، وتطاولت عليه القرون، ولم
يقدم على هذا إلا بعد أن أخذ له أهبته، وأعد له عدته، بممارسة الفن علمًا وعملاً
على أيدي أساتذة العصر فيه كالمرحوم الشيخ أحمد أبي خليل القباني الدمشقي أستاذه
الأول والشيخ عثمان الموصلي وغيرهما ثم بمراجعة إدريس بك راغب الشهير ,
فجاء سِفرًا حافل الريّ، كامل الرويّ، يدخل في مئتي صفحة كبيرة أو يزيد، ذا
طبع جميل، على ورق صقيل، وزُين بصور أشهر الموسيقيين المعاصرين مع
تراجمهم والمختار من ألحانهم فكان بذلك ذا شجون وفنون، وجديرًا بأن يكثر فيه
الراغبون.
بدأ المؤلف مقدمة كتابه بتعريف الموسيقى والنغم واللحن والصوت والأصول
التي هي موازين الألحان، ثم تكلم على الغناء وآلات الطرب والسماع، وجاء
بأقوال الحكماء والفقهاء فيه، ونقل كلام ابن خلدون في الموضوع، ثم عقد للصوت
فصلاً خاصًّا، فأطال الكلام في مباحثه الطبيعية والفنية ففصلاً للنغمات، ففصلاً لما
يعرف عندهم بالتصوير وعند الإفرنج بقلب القرار وفيهما من الرسوم والجداول،
ما يجلي ما اشتملا عليه من المسائل، وجاء بعدهما بفصول في آلات الطرب -
العود والقانون والكمنجة الإفرنجية والعربية والناي والصونومتر والمترونوم - وقد
وضع في الكتاب رسوم هذه الآلات وشرحها، وبين طرق العزف بها، ثم عقد
فصلاً معلولاً للأوزان أو الأصول بين فيه أقسام الواحدة والأوزان المصرية وهي
سبعة عشر وأوضح كل ذلك بالإشارات إلى غير ذلك من الفوائد، وهذه الفصول
كلها في مباحث الكتاب الفنية.
ثم ذكر فصولاً أكثر مباحثها أدبية كآداب المغني والسامع وغناء الحشاشين
وملاهيهم وكيفية تعليم الفن وصفة المغني وأسماء ملح الغناء بمصر وتفضيل الغناء
القديم على الحديث , وجاء بعد ذلك ببدائع الموشحات ثم تراجم أساتذة الفن
وتلاحينهم المختارة , وقد وضع في آخره تلاحين له عربية على العلامات الإفرنجية
المعروفة بالنوتة، وهو ما لم يسبقه أحد من أهل لغتنا فيما نعلم.
أنفق كامل أفندي على تأليف الكتاب وطبعه عدة سنين هي ربيع عمره وزهرة
حياته فهو جدير بأن يُكافأ بالثناء والشكر، ومن الشكر الإقبال على الكتاب وترويجه،
وثمن النسخة منه عشرون قرشًا، وهي قليلة على حسن طبعه وورقه وصوره
ورسومه فهي الجزاء المادي لمادة الكتاب، ويبقى لصاحبه حق الجزاء الأدبي لمن
يعرف مكان هذا الفن من التربية والآداب.
***
(أبدع ما نظم في الأخلاق والحكم)
جمع السيد يوسف أفندي بن عبد الغني سنو الحسيني البيروتي صاحب مكتبة
البدائع بمصر قصائد ومقاطيع في الأخلاق والحكم من نظم الأوائل والأواخر
ومزجها بمنظومات له أكثرها في الاقتباس وطبعها فكانت ديوانًا جليلاً، وقد وضع
في ذيل الصفحات تعريفًا وجيزًا بكل شاعر عند ذكره لأول مرة يذكر ما عرف من
نسبه وتاريخ ولادته ووفاته , وهاك هذه القصيدة مما اختاره لأحد الجاهليين قال:
(ومن قصيدة لعدي بن زيد)
وعاذلة هبت بليل تلومني ... فلما غَلَتْ في اللوم قلت لها اقصدي
أعاذل إن اللوم في غير كنهه ... عليَّ ثُني من غيرك المتردد
أعاذل إن الجهل من لذة الفتى ... وإن المنايا للرجال بمرصد
أعاذل ما أدنى الرشاد من الفتى ... وأبعده منه إذا لم يسدد
أعاذل من تكتب له النار يلقها ... كفاحًا ومن يكتب له الفوز يسعد
أعاذل قد لاقيت ما يزع الفتي ... وطابقت في الحجلين مشي المقيد
أعاذل ما يدريك أن منيتي ... إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
ذريني فإني إنما ليَ ما مضى ... أماميَ من مالي إذا خف عودي
وحُمَّت لميقاتي إليَّ منيتي ... وغودرت إن وُسدت أو لم أوسد
وللوارث الباقي من المال فاتركي ... عتابي فإني مصلح غير مفسد
أعاذل من لا يصلح النفس خاليًا ... عن الحي لا يرشد لقول المفند
كفى زاجرًا للمرء أيام دهره ... تروح له بالواعظات وتغتدي
بليت وأبليت الرجال وأصبحت ... سنون طوال قد أتت قبل مولدي
فلا أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالاً عرت من بعد بؤسى وأسعد
فنفسك فاحفظها عن الغي والردى ... متى تغوها يغو الذي بك يقتدي
وإن كانت النعماء عندك لامرئ ... فمثلا بها فاجر المطالب وازدد
إذا ما امرؤ لم يرجُ منك هوادة ... فلا ترجها منه ولا دفع مشهد
وعد سواه القول واعلم بأنه ... متى لا يبن في اليوم يصرمك في الغد
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
إذا أنت فاكهت الرجال بمجلس ... فقل مثل ما قالوا ولا تتزيد
إذا أنت طالبت الرجال نوالهم ... فعف ولا تأتي بجهد فتجهد
ستدرك من ذي الفحش حقك كله ... بحلمك في رفق ولما تشدد
وسائس أمر لم يَسُسْهُ أب له ... ورائم أسباب الذي لم يعود
وراجي أمور جمة لن ينالها ... ستشعبه عنها شعوب لملحد
ووارث مجد لم ينله وماجد ... أصاب بمجد طارف غير متلد
فلا تقصرنّ عن سعي ما قد ورثته ... وما اسطعت من خير لنفسك فازدد
وبالعدل فانطق إن نطقت ولا تلم ... وذا الذم فاذممه وذا الحمد فاحمد
ولا تلحُ إلا من ألام ولا تلم ... وبالبذل من شكوى صديقك فاقتد
عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سُؤلاً أن ييسَّر في غد
وللخلق إذلال لمن كان باخلاً ... ضنينًا ومن يبخل يُذَلّ ويُزْهَد
وأبدت لي الأيام والدهر أنه ... ولو حب من لا يصلح المال يفسد
ولاقيت لذات الغنى وأصابني ... قوارع من يصبر عليها يجلد
إذا ما تكرهت الخليقة لامرئ ... فلا تغشها واخلد سواها بمخلد
ومن لم يكن ذا ناصر عند حقه ... يغلب عليه ذو النصير ويضهد
وفي كثرة الأيدي عن الظلم زاجر ... إذا حضرت أيدي الرجال بمشهد
ولَلأمرُ ذو الميسور خير مغبة ... من الأمر ذي المعسور المتردد
سأكسب مجدًا أو تقوم نوائحًا ... عليَّ بليل نادباتي وعُوَّدي
ينُحْن على ميت وأعلنَّ رنة ... تؤرق عيني كل باكٍ ومسعد
وقد اخترنا المثال من شعر العرب لنذكر الناسي ونعرف الجاهل بما أوتوه في
جاهليتهم من الحكمة التي أعدتهم لفهم الإسلام وقبوله، والسيادة على العالم به
لعلهم يتذكرون فيوازنون بين ماضينا وحاضرنا، بل بين جاهليتنا قبيل الإسلام
وبين حالنا الآن في علو الفكر وعزة النفس ومكارم الأخلاق ليروا أيّ الفريقين
أرجح - ليروا هل يوجد في علمائهم من ينطق بالحكمة التي كان ينطق بها الجاهلي؟
هل يوجد في أغنيائهم من يبذل ماله لوقاية ملته وأمته من الخطر كما يبذل
الجاهلي كل ما يملك ولو لمحتاج واحد؟ ! هل يوجد في دهمائهم من يبذل روحه
لوقاية نفسه وقومه من الذل وحمايتهم من الظلم.... والكتاب يباع بأربعة قروش
بمكتبة البدائع بشارع محمد علي.
***
(حديقة الآداب)
جمع إبراهيم دسوقي أفندي أباظة نجل إبراهيم بك أباظة وهو الآن تلميذ في
المدرسة الخديوية - ما استحسنه من كراسات الإنشاء التي كتبها في المدرسة
باقتراح المعلمين، وما نظمه من الشعر، وما كتبه من الرسائل، وما خطب به في
بعض الجمعيات الأدبية التي يخطب فيها مثله، وطبع ذلك كله في كتاب سماه
حديقة الآداب , وقد أحسن في هذا العمل؛ لأن إبراز صورته العقلية والنفسية
للناس قبل أن يبلغ أشده , ويتم تعليمه جدير بأن يبعث همته في كل سنة إلى
الارتقاء عما عرف الناس منه ارتقاءً يعرفه الناس، ومن كانت حديقة الأدب له بداية
يرجى أن يكون قيل الأرب له خير نهاية.
***
(إظهار المكنون من الرسالة الجدية لابن زيدون)
رسالتا ابن زيدون أشهر في عالم الأدب من نار على علم، ومن طلاب العلم
من يحفظ الرسالة الجدية عن ظهر قلب لما فيها من الحِكَم والأمثال، والمحاسن
والنكات والإشارات التاريخية، والمختارات الشعرية، فهي خلاصة أدب رائع،
واطلاع واسع، لا يفهمها على سلاسة عبارتها إلا من ضرب في تلك المسائل بسهم،
وكان له مما تومئ إليه نصيب من العلم، ومن ثم كان الطلاب، وكثير ممن
يوصفون بالتحصيل والأستاذية في قصور عن فهمها بغير معونة الشرح أو تكرار
المراجعة؛ لذلك اقترح بعض محبي الأدب على الشيخ مصطفى العناني أحد
مساعدي التفتيش بنظارة المعارف أن يشرحها (شرحًا وجيزًا يتكفل بحل المفردات
، ويبين مقاصد الكاتب من العبارات، ويذكر مضارب الأمثال) ، قائلاً إنه لم يسبق
لها شرح على هذا المنوال، فأجابه إلى ذلك وقد وضع الشرح في أدنى الصفحة
والأصل في أعلاها وطبعها على ذلك فكانت نحو أربعين صفحة وجعل ثمنها قرشًا
ونصف قرش.
***
(نتيجة الإملاء)
رسالة وجيزة في قواعد الإملاء للشيخ مصطفى العناني، وهي على إيجازها
مفيدة جدًّا في هذا الفن حتى تكاد تكون محصية للضروري من قواعده وقد طبعت
في القطع الصغير، وثمن النسخة منها نصف قرش.
***
(حبيب الأمة)
جريدة جديدة أنشأها في تونس أحد كُتابها البارعين (عبد الرزاق الغطاس)
وقد عاهد الأمة على الحرية والاستقلال في بيان الحقائق وإسداء النصيحة من غير
محاباة للحكومة ولا مراعاة أهواء العامة أو ما هذا معناه فيما نتذكر - وقد اختزل
العدد الأول دوننا - ولعمري إن هذه الطريقة هي الطريقة المثلى، وفقنا الله وإياه
إلى الاستقامة عليها فإنه لا خير في سواها.
__________(9/309)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(مؤتمر الأديان في اليابان)
كتبنا في الجزء الثامن عشر من السنة الماضية (الصادر في 16 رمضان
سنة 1323) مقالةً في دعوة اليابان إلى الإسلام، وكتبنا بعدها نبذًا أخرى في ذلك
(راجع: ص 705 و796 و987 م8 وص75 م9) ، وقد أشرنا في الجزء الأول
من هذه السنة إلى ما كان لتلك الكتابة من التأثير في بلاد الإسلام شرقيها وغربيها
حتى إن بعض أهل الغيرة وعد ببذل المال في هذه السبيل عندما تظهر الدعوة إلى
ذلك في المنار، وبعضهم قد أرسل إلينا حوالةً ماليةً للإعانة على ذلك ووعد بتأليف
جمعية تجمع المال من الموسرين إذا نحن شرعنا في العمل , وقد أشرنا في بعض
ما كتبنا إلى أن مثل هذا العمل لا يأتي إلا من جمعية تقوم به؛ لأن ما يأتي من
الأفراد يكون ضعيفًا غير ثابت ولا دائم , وكان خطر لنا من بضعة أشهر أن نسعى
في تأليف جمعية للدعوة إلى الإسلام تكون لها مدرسة خاصة لتعليم الدعاة ما يعدهم
لإقامة هذه الفريضة المحتمة فاستشرنا بعض أهل الرأي والغيرة في ذلك بمذاكرة
الحاضر ومكاتبة الغائب فاجتمعت الآراء على استحسان المشروع، ولكن ظهر لنا
أن بعض الكبراء منهم لا يثق بقدرة الجمعية التي يراد تأليفها على جمع المال الذي
يكفي للقيام بهذا العمل خلافًا لنا في اعتقادنا أن هذا المشروع يقع أحسن الوقع من
نفوس جميع طبقات المسلمين، ويرجى تعضيده من جميع البلاد الاسلامية إذا كان
القائمون به ممن يوثق بهم في استقامتهم وكفاءتهم , وإنما كتبنا في ذلك لأجل
تحريك الهمم وتوجيه النفوس إلى العمل.
وفق الله بعض أهل الفضل للاجتماع والمشاورة في ذلك، وألفوا لجنةً
اجتمعت عدة مرات، وبحثت في المشروع، ثم لما أقبل الصيف بحره وتفريقه
اختاروا أن يرجئوا الاجتماع والسعي إلى أن ينتهي الصيف.
وكان من اقتراح بعضهم أن تعجل الجمعية بإعداد ثلاثة أو خمسة نفر
يستعدون بالمطالعة والمدارسة للسفر إلى اليابان فاستحسن اقتراحه، ولكنهم لم
يشرعوا في شيء بالفعل وما سكتوا عن ذلك إلا وأنطق الناس كلهم به خبر المؤتمر
الديني الذي قرب وقت انعقاده في عاصمة اليابان.
سبق للدولة اليابانية عقد مؤتمر ديني منذ سنين، وقد دعت أهل الملل في هذا
العام لعقد مؤتمر آخر يحضره الراسخون من أهل كل ملة يُظهرون فيه حقائق دينهم
وحججهم على كونه حقًّا مفيدًا للبشر والعمران، ويقال: إن أُولي الأمر في الأمة
اليابانية سيدخلون في الدين الذي يظهر لهم بعد البحث الطويل أنه خير الأديان،
وأعونها على ارتقاء الاجتماع والعمران.
ذكرت (الجرائد المحلية) هذا الخبر فشغل الناس به عن كل خبر حتى
كان حديث المحاور والمسامر، في كل نادٍ وسامر، بل تجد الناس يتحدثون به في
مواضع أعمالهم، عمال الحكومة في دواوينهم، والقضاة في محاكمهم، والتجار في
دكاكينهم، والفَعَلَةُ في مواضع الحرث والبناء وغيرها من الأعمال، وكل مسلم مقيم
في مصر يقول: إنه يجب أن يكون لمصر أعضاء في هذا المؤتمر، وقلما يذكر
أحد منهم اليأس من قيام الحكومة بذلك، والرجاء في الأمة إلا ويفصح بارتياحه إلى
البذل في هذه السبيل بقدر ما تسمح له سعته، ومنهم من يشترط في ذلك أن يكون
من يختارون للإرسال أهلاً لبيان ما يمتاز به دين الإسلام على جميع الأديان , ومن
شروط ذلك معرفة حقائق الدين الإسلامي وحكمته أو فلسفته كما يقولون، ومعرفة
الأديان الشهيرة الأخرى كالبوذية والبرهمية واليهودية والنصرانية , وترى العارفين
بأحوال الزمان والمكان يكادون يجمعون على أنه لا يوجد في شيوخ الأزهر مَن هم
أهل لذلك على أنه قد يرشح نفسه لمثل هذا العمل من هو دون شيوخ الأزهر علمًا
ومعرفةً ومِن الناس مَن يهوى يظهر للناس غيرته وغيرة من يحب.
ما أجدر تلك اللجنة التي جمعها غير مرة هذا الرجاء، قبل أن تتنازعه
الأهواء بالبحث في هذا الأمر فإن رأته متيسرًا قامت به، وإن رأته متعذرًا أظهرت
رأيها للناس فيه لعلهم يقنعون.
أما الدولة العلية فقد أرسلت إلى المؤتمر من قِبَلها ثلاثة نفر بأمر السلطان،
وبلغنا أن بعض مسلمي الهند وروسيا قد ذهبوا من قبل أنفسهم، وأول مسلم انتدب
لذلك رجل إنكليزي قريب عهد بالاسلام، وإن في ذلك لعبرة لأولي الأحلام.
* * *
(مسألة العقبة)
رجونا أن تحسن الدولة العلية المخرج من مسألة العقبة إذا كانت لم تحسن
المدخل فلم يقضَ لنا ما رجونا، وذلك أنها لم ترضَ بأن تحل عقدة الخلاف
بالمذاكرة بينها وبين الخديوي وحكومته فاضطرت إنكلترا إلى أن تضرب للدولة
أجلاً عشرة أيام تُخرج فيها جنودها من نقطة الخلاف وتجيب إلى تعيين لجنة تحدد
الحدود على أوجه المطلوب، وتنذرها الويل والثبور إذا هي لم تفعل، فأجابت
إنكلترا إلى ما طلبت في اليوم العاشر فكان هذا الفشل كسابقه في مكدونية وغير
مكدونية؛ إذ تنال أوربا منا كل ما تريد في تركيا ومراكش وكل مكان، ونحن
مصرون على ذنوبنا التي نؤخذ بها كما قال ربنا: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) لا ملوكنا يتوبون عن استبدادهم بالأمر، ولا
أمتنا تتوب عن غرورها ومكابرتها واسترسالها في أهوائها وجهالتها , والعجب الذي
لا ينقضي أن أكثر الذين يوصفون بالفهم منا يرون أنه يجب علينا إظهار القوة من
الضعف ووضع الستور على عيوبنا وذنوبنا التي حل بنا البلاء باقترافها لكيلا
يشمت بنا أعداؤنا، ولذلك يوهمون الأمة بأن كل خذلان نصاب به هو عين الفوز
والظفر، وسنبين الحق في هذه المسألة في مقال خاص.
* * *
(الشيخ علي الجربي)
رغب شيخ الجامع الأزهر إلى الأمير أن يجعل الشيخ عليًّا الجربي مدرسًا
واعظًا في المساجد المصرية، ويعين له راتبًا من الأوقاف الخيرية يستعين به على
عمله، فأجاب الأمير إلى ذلك وكتب من ديوانه إلى مدير الأوقاف بعد رسم الخطاب
ما يأتي:
(بناءً على التماس صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر قد سمحت المكارم
السنية بترتيب ستة جنيهات شهريًّا لحضرة الشيخ علي أبي النور الجربي محسوبة
على الأوقاف الخيرية اعتبارًا من 26 مارس نظرًا لقيامه بالوعظ وبث العلم وإرشاد
المسلمين إلى حقائق الدين الإسلامي واقتضى تحريره لسعادتكم تبليغًا للأمر، أفندم) .
ميز الشيخ علي على سائر الوعاظ بجعله واعظًا في جميع المساجد، له أن
يعلم ويعظ حيث وجد، وإنما يعين الواعظ عادةً في مسجد واحد، وذلك أن الشيخ
عليًّا جوّال وأولئك قاعدون أو متقاعدون , وما ميز عليهم في التعيين إلا وهو ممتاز
بالذات فإنك ترى العالم الأزهري من أصحاب الدرجات الرسمية إن وعظ لا يحضر
مجلسه إلا الآحاد، وترى الجربي - وهو ليس بصاحب درجة رسمية - يعظ
فيحضر مجلسه العشرات والمئات. ترى غيره يعظ في كتاب يقرأه ويعرب كلماته
ويبين للعامة ما فيها من نكات البلاغة فلا يبلغ شيء من معاني الكلام قلوبهم وترى
الجربي يعظ بغير كتاب فيفهم الناس حتى يبلغ مواقع التأثير من قلوبهم، ولم يذكر
كلمةً واحدةً من اصطلاحات فنون البلاغة. رأيت أحد علماء الأزهر يقرأ درسًا
للعامة في مسجد عينته فيه جمعية مكارم الأخلاق فإذا هو يفسر لهم حديث:
(العلماء سرج الدنيا ومصابيح الآخرة) فمكثت في المسجد ساعةً لم يَعْدُ بكلامه فيها
البحث في المصابيح هل هي عين السرج فيكون اختلاف التعبير للتفنن، أم هي
أخص منها ... وفي وزن السراج والسرج والمصباح والمصابيح , فانظر ماذا
يختارون لتلقين الناس، وكيف يشرحونه لهم، والجربي لا يفعل مثل ذلك، وإنما
يتكلم على الناس بما يعتقد أنه يفيدهم في عقائدهم وأخلاقهم وآدابهم وعباداتهم
ومعاملاتهم وفقنا الله وإياه إلى السداد والإخلاص آمين.
* * *
(جمعية العروة الوثقى الخيرية الإسلامية)
إن تقرير هذه الجمعية عن السنة الدراسية الماضية ينبئ بنجاحها وثباتها،
وفيه أنها أنفقت على التعليم في هذه السنة نحو 5536 جنيهًا منها 4341 جنيهًا
وكسور من الأجور التي تؤخذ من التلاميذ، فنشكر لأعضائها الغيورين سعيهم،
زادهم الله توفيقًا.
* * *
(تصحيح)
في ص 159 من الجزء الثاني (كأفحوص القطاة) وصوابه: (كأدحية
النعامة) ، وهو مبيضها في الرمل، وسبب سبق الذهن إلى الأفحوص ما ورد في
الحديث من تشبيه المسجد الصغير به , وفي ص217 من الجزء الثالث: (فلا
والذي بيته في السماء) والصواب وضع (ذو) مكان (الذي) كما هي الرؤية وذو
عند طيء بمعنى (الذي) .
__________(9/317)
غرة جمادة الأول - 1324هـ
23 يونيو - 1906م(9/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حال المسلمين في العالمين
ودعوة العلماء إلى نصيحة الأمراء والسلاطين
الشمس مشرقة تطوق بأشعتها الأرض كل يوم، والأبصار محدقة تحيط بما
يتنزل فيها من كل أمر، يكاد كل إنسان يعرف من أخبار الأرض ما تعرفه الشمس
إن كانت ترى الأشياء كما تريها للناس؛ لأنه جعلها بتصرفه في قوى الطبيعة
كالمدينة الواحدة يسهل على من يشاهد أمرًا في رجًا منها أن يفضي به إلى من في
سائر الأرجاء , فالبرق الخافق ما بين الخافقين، يفضي إلى المغربين بأخبار
المشرقين، وينبئ المشرقين بأعمال المغربين، فطرق العبرة معبّدة، ورواحل
الهجرة مذللة، وجني العلوم والعرفان دان، تتناوله الأيدي من كل مكان.
هذا التواصل في المكان، والتقارب في الزمان، لم يدعا عذرًا لشعب أو
جنس من الناس، إذا لم يجار ويبار سائر الشعوب والأجناس، فقد عهدنا من طبيعة
أطفال هذا النوع أن يقلدوا كباره الذين ينشئون بينهم في كل ما يرونهم عليه حتى
يكونوا رجالاً مثلهم في أعوام معدودة، وعهدنا من طبيعة رجاله أن يستقلوا دون من
تربوا معهم بأمور تكون لهم مزايا مشهودة، فالتقليد والاستقلال في الأعمال الكسبية،
كالتوارث والتباين في النواميس الطبيعية بهما يحفظ الإنسان أحسن ما وجد،
وبهما يبتدع ما لم يجد، فهما الجناحان اللذان يطير بهما البشر في جواء العلوم
والأعمال، حتى يصلوا إلى ما استعدوا له من الكمال.
ارجع الطرف إلى ما رأيت من أحوال شعوب هذا العصر، وأصخ الأذن إلى
ما تسمع من أخبارهم في كل يوم؛ تعلم أن جميع الشعوب والأجناس قد سارت على
طريق الفطرة البشرية التي أومأنا إليها آنفًا ما عدا المسلمين فإنهم كادوا يكونون في
هذا العصر من طبيعة غير طبيعة البشر , لكنها دونها بعد أن كانوا قد فاقوا سائر
البشر، وسادوهم فكانوا فوقهم أجمعين.
إن أرقى المسلمين في هذا العصر مسلمو تركيا ومصر والهند فهل تستطيع
أن تقول: إن أحدًا منهم ساوى شعبًا من شعوب الملل المجاورة لهم؟
قد انقدّ من جسم الدولة العثمانية عدة شعوب نصرانية ما منهم شعب إلا وهو
الآن أرقى من مسلمي هذه الدولة تركها وعربها وكردها - أرقى منهم في الحكومة
والمدنية، أرقى منهم في العلوم والفنون، أرقى منهم في الصنائع والأعمال، أرقى
منهم في الآداب والاجتماع، ولك أن تستغني عن ذلك كله بأن تقول: إنهم أرقى
منهم في جميع شئون الحياة. وإن تعجب فأعجب من هذا أن يكون النصارى الذين
لا يزالون تحت سلطة هذه الدولة أرقى من مسلميها في جميع شئون الحياة على أنهم
أقل منهم عددًا ومالاً وحقوقًا في مناصب الدولة , فماذا تقول إذا قابلت بين مسلمي
تركيا ونصارى فرنسا وألمانيا وإنكلترا وسائر دول أوربا اللواتي أصبحن
مسيطرات على تركيا حتى في كثير من شئونها الداخلية , وقد كن منذ قرنين أو
ثلاث قرون يرتعدن من مهابتها والخوف منها.
ماذا فعل مسلمو مصر بعد الاشتغال بالتربية والتعليم على الطريقة الأوربية
قرنًا كاملاً؟ إنه لم يوجد فيهم فلاسفة ولا مخترعون ولا مكتشفون ولا محررون
لشيء من العلوم، بل لم تَسْمُ هممهم إلى إنشاء مدرسة كلية , بل لا يكاد يوجد في
عشرة آلاف ألف منهم عشرة رجال مستقلين في الرأي والإرادة لا يهابون في الحق
حاكمًا , ولا يخافون فيه لائمًا، قد خرج حكم بلادهم من أيديهم , وهذه رقبتها تكاد
تخرج أيضًا بما يمتلك أفراد الأجانب وشركاتهم من أطيانها في كل عام، وما
يبتزون من أموالها في كل يوم , ولا نطيل في وصف حالهم فجرائدهم اليومية تغنينا
عن ذلك بما تسهب فيه آنًا بعد آن، فكيف يكون حكمنا عليهم إذا قسناهم بنصارى
أوربا أو وثنيي اليابان؟ .
وهؤلاء مسلمو الهند يعيشون بين أمم من الوثنيين البوذيين والبراهمة ومن
المجوس والإفرنج , وكانت لهم في تلك البلاد السيادة العليا في العلم والحكم قد
أمسوا وراء هذه الشعوب كلها في العلم والعمل والتربية والثروة فلم تَسْمُ هممهم
لمسابقة من هم أكثر منهم عددًا كالهندوس، ولم يخجلوا أن يسبقهم من هم أقل منهم
كالمجوس.
حدثني سائح مسلم جال في بلاد الهند جولان مختبر قال: رأيت المجوس
أرقى شعوب الهند علمًا وعملاً وأخلاقًا وآدابًا وأكثرهم برًّا وإحسانًا لأنفسهم ولجميع
من يعيش معهم. رأيتهم في بعض البلاد قد زادت مدارسهم عن حاجتهم فكانوا
يبنون المدارس لتعليم سائر الطوائف من المسلمين والوثنيين. سمعت خطيبًا منهم
يخطب في محفل حافل فأدهشني بسمو أفكاره، وسعة عرفانه، فقارنت بينه وبين
شيخ مسلم سمعته يخطب في مجتمع عام في بومباي يشبه ميدان الأزبكية في مصر
وقد أحدق به الناس، من جميع الملل والأجناس، فرأيت الفرق بين المسلم
والمجوسي عظيمًا. سمعت المسلم يذكر في خطابه من مكانة الشيخ عبد القادر
الجيلاني عند الله تعالى أنه إذا اختطف غراب عظمًا من عظام الذبائح التي تذبح في
مولد الشيخ عبد القادر فوقعت منه في مقبرة للكفار فإن الله تعالى يغفر لجميع من
دفن فيها كرامة للشيخ. وسمعته يذكر تلك الكرامة التي ذكرت في بعض كتب
مناقبه , وملخصها أن مريدًا له مات , فحمل أهله الشيخ على إحيائه فطار في الجو
ليدرك ملك الموت فيستعيد منه روح المريد فامتنع عليه ملك الموت قائلاً: لا يمكن
أن أعيد روحًا قبضتها بإذن الله إلا بإذن من الله , فغضب الشيخ واجتذب الوعاء
الذي أودع ملك الموت فيه الأرواح التي قبضها في ذلك اليوم فوقعت وانكبت
الأرواح منها فطارت كل روح إلى جسدها فحيي جميع من مات في ذلك اليوم
كرامة للشيخ ولا نجرؤ على ذكر ما قيل في شكوى ملك لربه وما أجيب به.
السواد الأعظم من مسلمي الهند يسلمون بمثل هذه الأقوال , ومن ينكرها منهم
في نفسه لا ينكرها بلسانه، وإنما ينكر الأكثرون كل دعوة إلى الإصلاح بالعلم
الصحيح والتربية القويمة كما هاج أرباب العمائم في بمباي على خطيب المسجد ذي
المنارات أن قال في خطبته: (إخواننا الشيعة) وكادت تكون فتنة لولا عناية
بعض العقلاء , وإنهم ليبذلون في مولد الشيخ من النفقات ما لو بذلوه في تعميم
التعليم لوفى به.
في الهند حركة إسلامية جديدة يرجى خيرها , ولكنها ضعيفة المنة بطيئة
السير لا يقارب أصحابها أحدًا من أهل الملل الأخرى في سعيهم وجدهم، فماذا
جرى للمسلمين، وما الذي دفع بهم من عليين إلى أسفل سافلين؟ .
بينا غير مرة أن بلاء المسلمين قد جاءهم من ناحية دينهم فمثاره غرورهم
بدينهم , أو ابتداعهم في دينهم , أو جهلهم بدينهم , أو لبسهم لدينهم كما يلبس الفرو
مقلوبًا , قبلوا كل داهية عرضها عليهم رؤساؤهم المفسدون بشكل ديني وإن كانت
ناكسةً له على رأسه، أو ناسفةً له من أساسه، وأعرضوا عن كل علم وعمل وخير
ونعمة وفائدة لم يلونها لهم رؤساؤهم الجاهلون بلون ديني , وإن كانت من لباب
الدين وصميم الدين أو من سياج الدين الذي يتوقف عليه حفظ الدين أو بقاء الدين.
ولكن هؤلاء الذين قبلوا كل شر باسم الدين، وقد يرفضون كل خير بشبهة الدين قد
خويت قلوبهم من الدين حتى لا تجد في الألوف منهم واحدًا يُحَكِّمُ ما يعتقد من الدين
في أهوائه وعاداته , فالعادات والتقاليد المتبعة هي المُحَكَّمَة دون ما يعتقد بالبرهان،
أو يعترف به؛ لأنه منصوص في القرآن.
لا نطيل في شرح هذه المسألة , ولا ندع التمثيل لها بما فعل المسلمون
بأساسيها الديني والدنيوي أو الروحاني والجسماني - أساس الإسلام الروحاني توحيد
الله تعالى , وإسلام الوجه إليه وحده , فجميع العبادات إنما شرعت للتذكير بهذا
الأصل والإمداد له والمحافظة عليه , ومن معناه أن لا يلتمس الإنسان شيئًا ما إلا
من الله تعالى، أي: من السنن العامة التي ربط بها الأسباب بالمسببات , ومن
الشرك بالله أن يطلب الإنسان شيئًا ما من غير سببه العام، المبذول من مقام الرحمة
والإحسان لجميع الأنام، فإن جهل السبب أو تعذر عليه توجه إلى الله وحده لعله
يهديه إلى سبب آخر أو يسهل له الحَزَنَ ويذلل له الصعب. ولكنك ترى جماهير
المسلمين قد صاروا أبعد الأمم عن استعراف سنن الله تعالى في خلقه والاعتماد
عليها دون الأسباب الوهمية، وما نحلوه لبعض الناس من السلطة الإلهية الغيبية،
وبهذا صار غيرهم أقرب من جماهيرهم إلى حقيقة التوحيد الخالص في الاعتقاد
والعمل، وإن كانوا هم أصحاب القول والدعوى.
وأساس الإسلام الدنيوي جعل أمر المسلمين في حكومتهم شورى بينهم لا
يستبد بها الآحاد منهم كما يستبد الملوك والأمراء في الحكم عادةً , ومن ثم أجمع
الصحابة على أن الإسلام لا ملك فيه ولا سلطان لغير الله تعالى على أهله , وأن
أحكامه شورى بين أولي الأمر وهم أهل العلم بالمصلحة العامة والرأي الذين
تحترمهم الأمة وتثق بهم , وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يرجع إلى رأيهم
في زمنه في الشؤون الدنيوية تربيةً للمسلمين بالعمل على ما أرشد إليه الكتاب
العزيز , وكان خلفاؤه من بعده يعملون برأيهم أيضًا , فهذا الأساس في القسم
الدنيوي من الإسلام كالتوحيد في القسم الديني الروحاني منه , فكما شرعت العبادات
لتدعم التوحيد وتحفظه شرعت الأحكام المدنية والقضائية , وفوض غير المنصوص
منها إلى جماعة أولي الأمر لتدعم الشورى التي هي أساس الحكم الإسلامي , ولكن
المسلمين قد فعلوا بهذا الأساس شرًّا مما فعلوا بالأساس الأول؛ لأن نزعات الوثنية
التي زلزلت التوحيد لم تكن عامةً لجميع المسلمين , ولكن الرضى بحكم الأفراد
الاستبدادي , وهدم ما بناه القرآن وأجمع عليه الصحابة من حكم الشورى قد رضي
به جميع المسلمين في بلاد لهم فيها سلطة إلا ما لا يخلو عنه الزمان من أفراد
ينكرون هذه السلطة بألسنتهم دون أن يؤلفوا جمعيات تقوضها. على أن الإنكار
باللسان، لم يتيسر لهم في كل زمان، ولذلك اكتفوا بإنكار القلب الذي سماه الرسول
أضعف الإيمان.
للإسلام أصول وفروع فمن حفظ الأصول وقصر في الفروع لا يقطع رجاؤه
من مغفرة الله تعالى , ومن ترك الأصول كان تاركًا للدين بالمرة غير معدود من
أهله ولا رجاء له مع تركها , وأهم أصول الإسلام ما ذكرنا من التوحيد في القسم
الروحاني , وحكم الشورى في القسم الجسماني , فمتى يرجو النجاة في دينه من
ترك الأصل الأول فجهل سنن الله تعالى , وعلق قلبه ببعض عبيده الذين لا يملكون
لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا كما قال القرآن في شأن خير الخلق من النبيين والمرسلين.
وكيف يرجو النجاة في دنياه من رضي بحكم الأفراد الاستبدادي , وجعل لنفسه
رئيسًا من البشر مقدسًا غير مسئول، أي: إن له في ملكه ما أثبت الله تعالى لنفسه
خاصةً بقوله: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) بل كيف
ينجو في آخرته من خالف نص القرآن وإجماع المسلمين في الصدر الأول , وهو
يسلم بقول الفقهاء عامةً أن من ترك أو رضي بترك نص القرآن ومخالفة الإجماع
المعلوم من الدين بالضرورة فهو كافر خالد في النار كعباد الأصنام.
طال الزمان على إهمال القرآن وترك الإجماع حتى صار أكثر المسلمين
يجهلون حقيقة السلطة في الإسلام , بل صار الكثيرون من عامتهم يعتقدون أن
للسلطان أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد بتفويض من الشرع كأن الشرع جعل له
سلطانًا على الشرع ينسخ منه ما يشاء , ويحكم ما يشاء , وينفذ من أحكامه ما يشاء ,
ويلغي منها ما يشاء فله من التصرف فيه ما لم يكن لمن جاء به؛ إذ قال صلى الله
عليه وسلم: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) رواه البخاري , بل
منهم من يعتقد أنه غير مساو لسائر المسلمين في الأحكام الشرعية , ومما امتاز به
عند بعضهم أنه إذا نظر إلى امرأة متزوجة واشتهاها فإنها تحرم على زوجها وتحل
له! ! وهذا كفر صريح.
وحدثني محمود باشا داماد أن الفلاحين في الأناطول يعتقدون أن السلطان
مخالف للبشر في صورته , ومن ذلك أن شعر لحيته أخضر.
أما أهل العلم والفهم فهم يَدَّعُونَ أنهم أُخِذُوا بالقهر وغلبوا على أمرهم فإذا
نطقوا بالحق عمل سيف الباطل عمله في رقابهم، فلم يبق لهم إلا الرضى بأضعف
الإيمان وهو الإنكار بقلوبهم. هل يصدق بهذه الدعوى - دعوى أضعف الإيمان -
من يمدح المستبدين ويدهن لهم ويدافع عنهم؟ هل يصدق بها من يعمل لهم ويقبل
وظائفهم ورتبهم وشارات الشرف التي ابتدعوها لأعوانهم؟
هل يصدق بها من لم يبذل جهده في دعوة أمثاله إلى الاجتماع سرًّا، لتأليف
جمعية تطالبهم بحكم الشورى جهرًا، وتقسرهم عليه بقوة الأمة قسرًا، فإن الله
تعالى ما فرض القيام بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أمة، أي
جمعية تكوّن من الأمة إلا لتكون بمأمن من المستبدين، مسيطرة عليهم باسم الدين،
فماذا فعل هؤلاء العلماء بقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وبقوله
عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده , فإن لم يستطع فبلسانه ,
فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) .
إذا ادعى هؤلاء العجز عن ذلك , فماذا يقول العلماء الذين لا يمنعهم مانع من
الاستبداد ولا من غيره عن دعوة الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للحكام
في غير بلادهم , إذا كان علماء كل بلاد يخافون بأس حكامهم فماذا يمنعهم أن
يطالبوا حكام سائر بلاد المسلمين بإقامة العدل على أساسه الذي وضعه القرآن
{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) ؟ إذا كتب علماء الأزهر أو علماء الهند
بذلك إلى سلطاني الترك والفرس وسلطان المغرب وأعلنوا نصيحتهم في الجرائد
فهل يخشون أن يقتلوا أو يصلبوا أو ينفوا من الأرض؟ أيحسبون أن كتابتهم لا تفيد
ولا تنفع؟ كيف وهم يعلمون أن بعض السلاطين يهتم لكلمة يقولها في ذلك أحد
أصحاب الطرابيش الذين لا قيمة لأقوالهم عند السواد الأعظم من المسلمين؟ ادعوه
فأرضوه، أو خذوه فغلوه.
لا شك عندنا أن كتابه علماء مصر وعلماء الهند إلى السلطان العثمانى بطلب
الإصلاح تفعل في هذه الدولة - التي يتمنى الجميع صلاح حالها - ما لا تفعله
الثورات التي تجرى فيها أنهار الدماء طلبًا للإصلاح وإزالة الاستبداد في سائر
الممالك.
علماء مصر أبعد عن فهم السياسة والوقوف على المسائل العامة من علماء
الهند , ولم يتعودوا من الاجتماع للمشاورة في مصالح المسلمين ما تعوده علماء الهند
الذين أسسوا جمعية (ندوة العلماء) وغيرهم , فعلماء الهند أولى بأن يبدؤوا بهذه
النصيحة , وعليهم أن يعجلوا بها فإن نذر الدول الأوربية تنذر الدولة العثمانية
بجعل سائر ولاياتها تحت مراقبة دول أوربا الكبرى على الطريقة التي جرين عليها
في كريت ومكدونية، وإذا تحقق ذلك - والعياذ بالله - فقد زالت سلطة المسلمين إذ
لا يعقل أن يقضين على تركيا ويبقين على إيران , ومراكش كادت تكون مذ الآن
في خبر كان.
إذا كانت آفة المسلمين من جهة دينهم قد جاءت من رؤسائهم , وكان إفساد
رؤساء الدنيا لم يتم إلا بمساعدة بعض رؤساء الدين وسكوت الآخرين , وكان طول
الأمد على هذا الإفساد قد أضعف في نفوس المسلمين الاستعداد للاستقلال الذاتي ,
وكانت عزة الأمم في هذا العصر رهينة بهذا الاستقلال , وكانت الملوك لا تترك
استبدادها مختارة , وكانت الشعوب الإسلامية لم تسم للنهوض بإكراه حكامهم على
العدل والشورى كما نهضت الشعوب المسيحية واحدًا بعد آخر كما أنبأنا تاريخ من
فازوا في الماضي وكما نشاهد اليوم فيمن يستقبلون الفوز في روسيا , وكان الذي
مكن لحكام المسلمين سلطان الاستبداد هو اعتقاد رعاياهم أن الدين يوجب طاعتهم
على الإطلاق , وكان الحق المجمع عليه أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ,
إذا كان ما ذكر كما ذكر فالواجب على العلماء الأحرار في مثل الهند ومصر أن
يبينوا لملوك المسلمين وعامتهم الحق في ذلك ما دام في القوس منزع , أن يطالبوا
الملوك بالعدل والإصلاح في الأرض بحكم الشورى , فإن لم يستجيبوا لهم
فليستعينوا عليهم بالعامة والجرائد بعد أن يبينوا للعامة في الجرائد حكم الله في
حكومة الإسلام , والفرق بين الخليفة أو السلطان أو الأمير المقيد بالشريعة
والشورى المسئول لدى الأمة في الدنيا وعند الله في الآخرة وبين الإله الذي يفعل ما
يشاء ويحكم ما يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
لعل علماء الهند لا يعرفون كنه الخطر القريب الذي تتهافت عليه الدولة
العثمانية؛ لأن أكثر جرائدهم كجرائد مسلمي مصر تكتم عنهم ما تعرف من مساويها-
على أنها لا تعرف إلا النزر اليسير - وتحليها بالفضائل والفواضل المنتحلة التي
ترى أنها تشد أواخي الآمال بها وتمثل عدوان أوربا عليها بأقبح المثل وأشنع
الصور؛ فتخلق لها من ذلك كهيئة الأعذار عن إصلاح أمورها الداخلية، وتجذب
به إليها قلوب الشعوب الإسلامية، وهي تظن أنها لا تفعل بذلك إلا خيرًا.
والحق الذي عرفناه بعد البحث الدقيق والنظر الطويل أن ضرر هذه الخطة
يرجح بجميع حسنات الجرائد , وإذا كان أكثر الناس يجهل هذا الضرر فإن بعض
أصحاب الجرائد المصرية يعرفه ولا يتسع هذا المقال لبيانه , ولكننا نلفت الأفكار
إلى البحث في مسألتين منه (إحداهما خارجية) وهي أن دعوة المسلمين في البلاد
التي وقعت تحت نفوذ أوربا إلى الاعتصام بعروة الدولة العلية هي التي كادت تجمع
كلمة الدول العظمى على الإيقاع بها والقضاء عليها من غير فائدة لها ولا لهم , وهذا
ما أعني بالخطر القريب , وقد رأينا بوادره ونعوذ بالله من أواخره (والثانية -
داخلية) وهي مناصبة الدولة للعلم والتعليم والكتب والاجتماع والتعاون لا سيما في
سوريا وفلسطين وكثرة المكوس والضرائب والمظالم مع قلة وسائل العمران ,
فلينظر المحب المنصف في عاقبة أمة تعد حكومتها اقتناء أحسن كتب العلم الدينية
والدنيوية من أكبر الجرائم والجنايات , وتشدد في العقوبة عليها ما لا تشدد على
إزهاق الأرواح وسلب الأموال حتى صار الناس يحرقون كتبهم الموروثة! !
إذا سلمنا ما يقوله بعض أصحاب الجرائد وما يعتقده بعض المخلصين من
مسلمي مصر وغيرهم أن انتقاد جرائد المسلمين لإدارة الدولة ومطالبتها بالإصلاح
تشهير ضار؛ فهل يمكن أن يسلم عاقل لجاهل يقول بلا فهم: إن نصيحة يكتب بها
علماء المسلمين للسلطان قيامًا بما أوجبه الله تعالى تُعَدُّ تشهيرًا ضارًّا؟ ما أظن أن
الجاهل الغبي الذي يخطر له مثل هذا قد خُلِقَ , ولئن كان مثله مخلوقًا فهو من
الديدان التي لا صوت لها.
أيها العلماء الأعلام , إذا كان الدين عندكم كل شيء فلن تقيموه حتى تعملوا
بقول من جاءكم به (عليه الصلاة والسلام) : (الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه
ولأئمة المسلمين وعامتهم) (رواه مسلم) فإلى لجنة (ندوة العلماء) نوجه هذا
التذكير , ثم ندعو من يقرأه من سائر العلماء أن يذكر به إخوانه , ومن أحب منهم
أن يراجعنا في موضوع النصيحة بالتفصيل وفي كيفية الاجتماع لها وطريق أدائها
فإننا مستعدون لبيان ما نسأل عنه ونضرع إلى الله تعالى أن يجعل إنقاذ هذه الأمة
على أيدي علمائها , وأن يصلح الراعي والرعية بإرشادهم , والسلام على من أجاب
داعي الله في كل مكان وزمان.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(9/357)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دفاع الشيخ محمد بخيت عن رسالتيه
والرد عليه
كتب الشيخ محمد بخيت رسالةً سماها (إزاحة الوهم والاشتباه عن رسالتي
الفونوغراف والسوكورتاه) أورد فيها ما انتقدناه عليه في الجزء الثاني من المنار
ورد عليه , وقد اطلعنا على الرد فكنا كما قرأنا جملةً من أوائله ورأينا ما فيها من
المكابرة والتناقض والتهافت. نقول في نفسنا: إن الرجل ما كتب هذا إلا ليغالط
الناس لاعتقاده بأنهم لا يفهمون ما يقال، وإنما يأخذون من جملة الأقوال؛ إنه قد دافع
عن نفسه وَفنَّدَ كلام المعترض عليه، ولما أوغلنا في القراءة ترجح عندنا أنه هو
نفسه لم يفهم ما كتب؛ إذ لو فهمه لكرَّم نفسه أن ينسب ذلك إليها، وكنا اعتقدنا فيه
مثل هذا الاعتقاد عندما نشر رده الأول في بعض الجرائد الساقطة منسوبًا إليها،
وإننا نبين بعض تهافته بما فيها العبرة للقارئين.
أدب الشيخ بخيت في رده
قال الشيخ في أواخر (ص29) من رسالتيه: (وإنما نقلنا عبارة المعترض
بطولها ليعلم الناظر فيها مقدار ما عليه من الأدب والأخلاق، ويُلبِسه المطلع عليها
برودًا من نسيج خيوطها) ، اهـ بنصه البليغ.
أقول: إنني أعترف بأن في عبارة نقد المنار لرسالتيه يبوسة وأشرت إلى
السبب العام لذلك. ذلك أنني كتبت تلك العبارة وأنا متألم الروح لقوله بجواز كون
إمام المسلمين كافرًا، واستدلاله على ذلك بحديث لا يصح الاحتجاج به مع عدم
الحاجة إلى ذلك في موضوع الرسالة. وقد تلمست له عذرًا في نشر هذه المسألة في
رسالة طبعها في وقت اشتد فيه الخلاف بين الدولة العثمانية ودولة غير مسلمة
فأعوزني العذر، ولم أجد في قاله ولا حاله منفذًا لنور الإخلاص فكتبت (تحت
عامل التأثير) كما تقول الإفرنج، فجاءت العبارة شديدة اللهجة كما يقول كتابنا،
ولكنها - بحمد الله - سالمة من مثل ما في كلام الشيخ من النبز بالألقاب، ومجاوزة
حدود الآداب، والتشدق بالفخر والإعجاب، وإليك نموذج ذلك من كلامه:
قال - بعد أن ذكر أن مستفيدًا كتب يسأله عن عبارات أشكلت عليه في
الرسالة -: (وقد رأينا أيضًا بعض الناس قد اعترض على الرسالتين معًا ونشر
اعتراضه في إحدى المجلات التي تطبع في مصر فوجدناه كلامًا عليه صبغة الحقد
(1) والحسد (2) وملؤه نفثات النفثات (كذا) في العُقَد (3) نستعيذ منه برب
الفلق (4) كما نستعيذ برب الفلق من شر ما خلق (5) ولا نجارى هذا المعترض
على مثل هذا القول! ! بل نستعين عليه بذي القوة والحول، ونفوض أمرنا إليه،
ونتوكل في جميع شؤوننا عليه، فإنه سبحانه وحده هو الذى يهب لمن يشاء من
عباده من العلم والحلم ما يشاء، ويمنعهما أو يسلبهما عمن يشاء (6) ويبتليه
ببغض العلم والعلماء (7) فيختلق ما شاء أن يختلق عليهم (8) وينسب كذبًا ما
شاء أن ينسب إليهم (9) وإن لم يكن منهم في شيء (10) ولا شخص له فيهم
ولا فيء (11) فرأيت من الحكمة والصواب أن أجيب عما جاء في الخطاب،
وعما اعترض به ذلك السباب (12) اهـ بنصه النزيه.
فأنت ترى أنه لم يخلُ سطر من هذه الأسطر من السب والشتم والنبز واللمز
والعُجْب والفخر وأنه ليس فيها وراء الشتائم والسباب التي دخلت في جمع الكثرة
غير دعوى العلم والحلم والتوكل على الله وعلو الآداب، والترفع عن مجاراة
المعترض عليه بالسباب (هذا وما فكيف لو) .
ووصف المعترض عند ابتداء الرد عليه في (ص25) بالمتعنت العنيد وقال
في (ص26) إنه عاب الكلام؛ لأنه لم يفهمه وتمثل بيت (وكم من عائب..)
إلخ ونقص منه لفظ (صحيحًا) و (السقيم) نزاهةً وتفننًا في البديع ولا يتنزه عما
رأيت وسترى من ألقابه في سبابه , وقال في (ص29) : جرت عادة المعترض
وأمثاله ممن كادوا يتميزون من الغيظ حسدًا على أن يخترعوا علينا الأباطيل، ثم
ادعى أنه في رفعة مقامه لا يخطر أحد من هؤلاء الحاسدين على جنانه، ولا يجرى
ذكره على لسانه، قال: ولكن الحسد يعمي ويصم , وقال في (ص52) عند قول
المعترض: إن الأعراب هم المقيمون في البادية، فهي مسألة خلافية بين الله تعالى
وبين هذا المعترض! ونحن ممن يقول بقول الله تعالى، ولا نقول بقول هذا
المعترض المخالف لكتاب الله، فانظر إلى أدب هذا الأستاذ مع الله تعالى ويعني
بمخالفة كتاب الله أن كتاب الله ذكر أن من الأعراب المؤمن والكافر والمنافق،
واستنبط هو باجتهاده الجديد أن هذا التقسيم ينافي كون الأعراب هم سكان البادية
ويا ليته راجع كتب اللغة وكتب التفسير قبل كتابة ما كتب لعله يعلم أن المعترض
عليه لم يقل إلا بما به قال اللغويون والمفسرون أجمعون، ولكنه إذا علم ذلك ولم
يعلم أنه لا ينافي التقسيم المبين في كتاب الله فإنه لا يستفيد ما يمنعه من القول بأن
المسألة خلافية بين ... (تعالى عما قال هذا الشيخ علوًّا كبيرًا) .
وقال عن قول المعترض (إن حديث جابر منكر أو موضوع) إنه جرأة على
الأحاديث لا فرق بينها وبين الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، وستعلم
مكان علمه بهذا كما علمت مكان أدبه فيه , وقد دعا على المعترض في آخر (57)
ونسبه إلى الاختلاق والافتراء في أول (58) وعَرَّضَ بعد ذلك بما عَرَّضَ به ,
وقال في أوائل ص (60) : وأما قول المعترض: إن المرأة والأعرابي المقيم
بالبادية وراء أنعامه ليسا مظنة (الخلافة) إلخ فهو قول من لم يؤتِهِ الله فهمًا، ولم
يذُق للكلام طعمًا، ولك كثير من مثل هذا التعبير الذي يعد في الذروة العليا من
النزاهة والأدب فلا نستقصيه , وقال في أواخر الرسالة ما قال من قبل في اتقاد
المعترض وأمثاله حسدًا له وتمثل بقول الشاعر:
إن يحسدوني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حُسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... مات أكثرهم غيظًا بما يجد
أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدرًا منها ولا أرد
وقال بعد ذلك في خاتمة الرسالة: (وأما ما قاله المعترض من سوء الأدب في
العبارة فإننا نسامحه فيه، ونرجو الله أن يسامحه حيث كان من نفسه الأمَّارة، ومع
ذلك إن عادت عدنا لها مع عدم مجاراته في السوء الذي هو غاية ما يبغيه، ونقف
عند رد ما يبديه من الشبهات بالحجج والبراهين، وإن لم يكن من فرسان ميدان
المناظرة) .
فيا ليت شعري لو لم تكن أريحية الحلم والكرم والنزاهة والأدب هزت الأستاذ
الفاضل للعفو والسماح عن المعترض ماذا كان يقول فيه، ولو لم يلُذْ بالتواضع
والخشوع والاعتصام والتوكل ماذا كان يقول عن نفسه؟ !
هذا نموذج حلمه وأدبه وتواضعه وهضم نفسه وسيرِدُ على القارئين نموذج
علمه واجتهاده في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(9/365)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاختلاف في عد آي القرآن
كتب من مدينة بانجهانبور الهند في 27-5-1906 بالإنكليزية ما ترجمته:
سيدي العزيز:
أكتب إليك أسطرًا قليلة راجيًا أن تعيرها التفاتك وأن تتكرم بالكلام أو
بإحاطتي علمًا برأيك فيما يأتي:
إني أرى اختلافًا عظيمًا في عدد آيات القرآن الأقدس وأنه عند مراجعة
مواضيع هذا الكتاب الكريم قد تنالنا مشقة عظيمة وقد يكون الأمر شاقًّا عليكم أيضًا
وقد اختلف قراء الكوفة والبصرة والشام ومكة والمدينة اختلافًا مماثلاً لذلك في
(راكواز) [*] فإنهم يختلفون اختلافًا عظيمًا في عدد الآيات التى تشتمل عليها.
أليس من الممكن عقد اجتماع سري يحضره مسلمون من مصر وتركيا
ومراكش وبلاد العرب والهند لأجل تمحيص المسألة.
وأرى أن يكون مكان الاجتماع مكة أو المدينة في أيام الحج، ومع أن هذا
الاختلاف لا يترتب عليه شيء في الكتاب الأقدس نفسه إلا أنه مما يوجب الأسف
أن لا يتفق المسلمون في الآيات والسور لكتاب صغير الحجم!
وإني لآسف على أني لا أتحصل على مناركم كما أني آسف على عدم قدرتي
على توضيح أفكاري باللغة العربية حتى أستطيع أن أكتب في جريدتكم ولكنني
أرجو أن توفق لخدمة نافعة بواسطة جريدتكم الدينية كما أرجو أن تكون ممتَّعًا
بالصحة والعافية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... صديقك المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... م. كريم بكلش
(المنار)
من آيات الحياة في الأمة أن يوجد فيها أفراد يهتمون بالكماليات والتحسينيات
من كل شيء تتلاقى فيها أفكارهم على بُعد ديارهم فَبَيْنَا كان أخونا الهندي يفكر في
مسألة ضبط عدد الآي كان أخونا أحمد أفندي أمين الديك المصري يكتب فيها
رسالته (البرهان القويم) التي تراها في الأوراق التالية وقد جاءنا بها قبل مجيء
رسالة الاقتراح من الهند فرأينا أن ننشرها برمتها ثم نعقب عليها بجملة وجيزة.
__________
(*) يقول مترجم الكتاب إنه لم يجد في المعجمات الإنكليزية معنى لهذه الكلمة.(9/368)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اشتراط القبول في الوقف عقب الإيجاب
وعدم جواز بيعه
(س 26) أرسل إلينا أحد العلماء في بمباي (الهند) ما يأتي
الحمد لله وحده.
سيدي متع الله الأنام بطول بقائكم.
وقعت عندنا مسألة يظهر لفضيلتكم أهميتها من سياق عبارة السؤال الآتي الذي
نقدمه إلى حضرتكم راجين من فضلكم أن تبينوا فيه الحكم على مذهب الإمام
الشافعي والله يديمكم ويتولاكم:
رجل وقف وقفًا مؤبدًا على أولاده وهم أبناؤه الثلاثة وبنته وزوجته وأخته بأنه
لا يُباع ولا يُرهن ولا يُوهب ولا يُتصرف فيه تصرف الملكية، وشرط لهذا الوقف
شروطًا: منها أن يكون النظر لنفسه ما دام حيًّا، ثم بعد موته يكون النظر لولده فلان
ثم لأكبر أولاد بنيه، وهلم جرَّا فإن لم يوجد من شرط له النظر أو وجد ولكن فقد
فيه الرشد فالنظر لمن شرط له بعده، فإن لم يبق أحد من المشروط لهم النظر
فالنظر لناظر مسجد فلان (أي: وإن كان ابن الواقف الذي لم يشرط له النظر
موجودًا مثلاً) , ومنها أن يأخذ الناظر الواقف من غلة الوقف كل شهر قدرًا معينًا
في مقابلة نظره ما دام حيًّا , ومنها أن يصرف من غلة الوقف على ما لا بد منه
لمصلحة الوقف الحالية وأن يحفظ كل شهر قدرًا معلومًا لما يحتاج إليه صرفه
لمصلحة الوقف في المستقبل كالبناء وغيره ثم يقسم باقي الغلة على الموقوف عليهم
المذكورين {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (النساء: 11) .
ومنها أنه إذا ماتت أخت الواقف أو زوجته فسهم كل منهما يرجع إلى أصل الغلة
وكذا ما يأخذه الواقف في مقابلة نظره يرجع إلى الغلة بعد موته , ومنها أن هذا
الوقف يبقى دائمًا وأبدًا في أبناء أولاده ما تناسلوا {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (النساء
: 11) وليس لأولاد البنات شيء في هذا الوقف وأن سهم كل بنت بعد موتها يرجع
إلى إخوتها {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (النساء: 11) , ومنها أنه إذا كان ولد
الابنة في درجة لا يرث من قبل جده وفق فرائض الله ليس له سهم في الوقف وإنما
يتبرع له الناظر بنزر يسير ومقدار معين قليل لا يزاد عليه.
ومنها أنه إذا مات أحد الموقوف عليهم، ولم يترك ولدًا صلبيًّا فإنه ينتقل سهمه
إلى إخوته {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (النساء: 11) فإن لم تكن له إخوة فإلى
أقرب عصباته وهلم جرَّا حتى إذا انقرضوا عن آخرهم تصرف الغلة في جهة البر وقد
بينها، وحينئذ يكون النظر لناظر ومتولي مسجد فلان.
وشرط أيضًا شروطًا أخر: منها أن تقسم الغلة في آخر الشهر الثالث , ومنها
أنه إذا أراد أحد الموقوف عليهم السكنى في بيت معتد للسكنى من بيوت الوقف فإنه
يسلم الكرى كل شهر قدر ما يعين عليه الناظر، وأن للناظر أن يقطع قدر الكرى
من سهم من يسكن في هذا البيت قبل أن يسلم له سهمه، فإن لم يستوف الكرى من
سهمه يطالبه به، وأن للناظر أن يأمر كل من أراد ممن سكن في هذا البيت بتخليته
ولو من غير تقصير منه , ومنها أن ليس لأحد من الموقوف عليهم أن يطالب
الناظر في حساب ما حصل من الغلة بل يقبل كلما يقدمه له الناظر.
ومن أمثالها شروط كثيرة مما لا حاجة إلى ذكرها إلا شرطًا واحدًا هو أن رقبة
الوقف إذا جرى عليها شيء سماوي من الحرق والانهدام ولم يُستطع بناؤه ثانيًا فللناظر
أن يقترض لأجل البناء، فإن لم يقرض بضمانه فليبعْ رقبة الوقف وليشترِ بثمنها
عوضًا عنها.
فلما بلغ الخبر إلى الموقوف عليهم الذين هم البطن الأول ردوه ولم يقبلوه إلا
أن الولد الذي شرط له النظر بعد الواقف قبله ثم أكره الذين لم يقبلوه على إمضائهم
في ورقة التسليم ليستلموا ما يستحقونه من الوقف، فقال أحد الرادين: إن هذا
الوقف بعد ردنا إياه صار منقطع الأول وبطُل؛ لما في المنهاج وشروحه وغيرها من
كتب الشافعية حيث صرحوا بما معناه أن الوقف يرتد برد الموقوف عليهم المعينين،
فإن كانوا البطن الأول يبطل بردهم، ومن قبل بعد الرد لم يعد له فعلى هذا إبقاء
هذا الوقف على الوقفية وإجراؤه بحسب شروطه لا يعيده وقفًا، وإكراهنا على
الإمضاء مما لا فائدة فيه , فلم يسمع قول هذا القائل , وجرى الناظر الواقف
بشروط الوقف، وجعل يسلم سهم الموقوف عليهم بعد كل ثلاثة أشهر، ويأخذ منهم
إمضاءهم على ورقة التسليم، وجعل الكرى على من سكنوا في البيت المعتد للسكنى،
وجعل يقطع من سهامهم قدر الكرى عند تسليم سهمهم إليهم واستمر هذا الحال مدةً،
وفي خلالها توفي أحد أبناء الواقف، وكان من الذين لم يقبلوا الوقف، ثم توفيت
أخت الواقف فجعل يعطي سهم الأول لإخوته الموجودين {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (النساء: 11) وجعل سهم الأخت في أصل الغلة ثم توفي الواقف وانتقل النظر
بحسب شرطه لولده فلان المذكور فجعل يحذو حذو والده في إجراء هذا الوقف
فسأله باقي الموقوف عليهم أن يسلم لهم من عين هذا الوقف قدر سهمهم ليتصرفوا
فيه مطلقًا لكون الوقف قد بطل بردهم كما علم، فأبى هذا الناظر، وامتنع عن
تسليم ما طلبوه من سهمهم في عين هذا الوقف إليهم، وقال: الوقف لازم على
الموقوف عليهم كلهم وليس لأحد في عين الموقوف حق ما.
فأقام بعض الموقوف عليهم للدعوى على الناظر الموجود عند حاكم البلد الذي
يرى إبطال مثل هذا الوقف مطلقًا بحسب قوانينه الجارية، والحكم منتظر وباقي
الموقوف عليهم كذلك تبعوا الأول في الدعوى على الناظر المذكور.
ثم إن هذا الناظر احتج في جوابه دفعًا للدعوى عليه (حسب ما يقتضيه قانون
المحكمة، وذلك أن المدعي يقدم دعواه مكتوبةً في ورقة ويحلف أن ما كتبه فيها هو
دعواه، ثم يجيب المدعَى عليه كذلك بتقديم ورقة مكتوبة ويرد الدعوى عليه ويحلف
أن ما كتبه فيها هو جواب الدعوى) أن الموقوف عليهم قد أبطلوا حقهم في عين
هذا الوقف لكونهم كتبوا إمضاءهم في ورقة التقسيم.
هذه هي الحالة والمسئول من فضيلتكم أن تبينوا حكم المسألة على مذهب
الإمام الشافعي:
أولاً - هل يلزم هذا الوقف الموقوف عليهم المعينين الذين ردوه عندما علموا
به من غير تراخٍ؟
ثانيًّا - هل يكفي في القبول إمضاء الرادين في ورقة التقسيم من غير أن
يتلفظوا بالقبول مع أن التلفظ بالصيغة شرط في العقد؟
ثالثًا - هل يؤثر القبول بعد الرد إن قلتم بكفاية الإمضاء في ورقة التقسيم؟
رابعًا - إن قلتم ببطلان الوقف بالرد فهل يبطل كله أو بعضه فإن قلتم بالثاني
فماذا يبقى وقفًا؟
خامسًا - ماذا حكم الذي بطل هل هو ملك للوقف على ما كان قبل الوقف أم
ملك للموقوف عليهم نظرًا إلى أن الواقف أخرج الملك عن نفسه وكان يملكهم
للمنفعة مدة حياته أم لا يملكه أحد، وعلى هذا فما معنى بطلان الوقف بالرد المستفاد
من صريح عباراتهم؟
سادسًا - هل يأثم الذي أقام الدعوى ومن تبعه عند من يرى بالقانون بطلان
كل وقف على المعينين فيحكم ببطلان هذا الوقف بأسره، ويجعله من تركة الواقف
وتقسيمه بين الورثة الموجودين وفق فرائض الله أم لا إثم عليهم؛ لأن الناظر
الموجود أبى أن يسلم لهم حقهم الذي طلبوا منه من عين هذا الوقف؛ ولأنه لم يقم
الدعوى من أقامها إلا بدليل أن الوقف قد بطل في حقه حينما رده؛ إذ دخول عين أو
منفعة في ملكه قهرًا بغير الإرث بعيد كما هو ظاهر، وذكره الرملي في نهاية
المحتاج بشرح المنهاج، أفتونا مأجورين.
(ج) هذا الوقف باطل عند الشافعية لاشتماله على بعض الشروط الفاسدة
وهو تفويض بيع الموقوف إلى الناظر على الوجه المذكور في السؤال قال في
المنهاج وشرحه لشمس الرملي ما نصه: (ولو وقف) شيئًا (بشرط الخيار) له
في الرجوع عنه أو في بيعه أو في تغير شيء منه بوصف أو زيادة أو نقص أو
نحو ذلك (بطل) الوقف (على الصحيح) اهـ , ولا فرق بين تفويض البيع إليه
متى شاء وبين تفويضه إليه بشرط كالمذكور في السؤال، إذ لا يُجَوِّزُ ذلك بَيْعَهُ
بحال , وإذا كان الوقف باطلاً من أصله سقطت تلك الأسئلة إلا أننا نجيب عنها
بالإيجاز.
أما جواب السؤال الأول: فهو أن الوقف على معين يشترط فيه قبوله كما
صرح به في المنهاج، وصرح الرملي في شرحه باشتراط القبول عقب الإيجاب أو
بلوغ الخبر، أي: فإن تأخر بطل في حقه.
وأما جواب الثاني: فالظاهر أنه يصح مع النية إذا لم يترتب عليه التراخي كأن
يعرض عليه كتاب الوقف قبل العلم به، فيكتب عليه فورًا أنه قبله، وأما الإمضاء
على أوراق تقسيم الغلة فهو ليس من القبول على الفور، وإن استلزم الرضا بالوقف
مع القرينة.
وأما جواب الثالث: فهو أن القبول بعد الرد لا تأثير له قال في نهاية المحتاج:
(فإن رد الأول بطل الوقف، ولو رجع بعد الرد لم يعد له) ، وقال ابن حجر في
شرحه للمنهاج (التحفة) : إنه لا تأثير للرد بعد القبول كعكسه فلو رجع الراد وقبل
لم يستحق شيئًا ولكنه قيده بحكم الحاكم على وجه، وتعقبه ابن القاسم في حاشيته،
وذكر عبارته في شرح الروض وهي: فلو رجع بعد الرد لم يَعُدْ لَهُ، وقول الروياني:
يعود له إن رجع قبل حكم الحاكم به لغيره - مردود كما بينه الأذرعي اهـ.
وأما جواب الرابع فهو أنه إذا رد بعض الموقوف عليهم بطل حقهم منه خاصةً
دون سائرهم كما صرحوا به، وفي حاشية الشبراملسي على النهاية: (فلو وقف
على جمع فقبل بعضهم دون البعض بطل فيما يخص من لم يقبل عملاً بتفريق
الصفقة) أقول: وفي القول بتفريق الصفقة مقال سيأتي على أن الأصل فيه أن
يكون في البيع أو ما هو بمعناه كالصلح، والوقف ليس كذلك؛ إذ لا معارضة فيه ,
ويترتب على تفريق الصفقة هنا أن يرث مَنْ قَبِلَ الوقفَ من الباقي فيكون حظه من
تركة المورث أكثر , فإذا قيل ببطلان الوقف كله برد من رده فهو أقرب للمذهب
والعدل معًا.
وأما جواب الخامس فهو أن ما بطل وقفه يكون ملكًا للواقف بل هو لم يخرج
عن ملكه كالوصية التي لم تقبل.
وأما الجواب عن السادس فهو أن من أقام الدعوى لإبطال الوقف لاعتقاده أنه
باطل في نفسه لاشتماله على الشرط الفاسد فلا إثم عليه؛ لأنه توسل بذلك إلى
إعطاء كل ذي حق حقه، وكذلك إذا اعتقد بطلانه برد البعض ترجيحًا للقول الثاني
في تفريق الصفقة، فالأصل في المذهب أن صحة الوقف تتوقف على الإيجاب
والقبول على الفور، وأن رد جميع الموقوف عليهم يبطله؛ لأنه يكون منقطع الأول
ورد بعضهم يأتى فيه تفريق الصفقة عندهم، والذي جروا عليه القول بجوازه وقال
في المنهاج: إنه الأظهر، أي: من قولي الشافعي ولكن قال الرملي في شرحه:
(ومقابل الأظهر البطلان في الجميع تغليبًا للحرام على الحلال) قال الربيع: وإليه
رجع الشافعي آخرًا، ثم رد الرملي قول الربيع باحتمال كون الرجوع في الذكر لا
في الفتوى، وهو الذي جروا عليه، وهو احتمال بعيد، فمن لم يطمئن له واعتقد
أن الحق في تفريق الصفقة البطلان في الجميع، فلا حرج عليه إذا سعى في إبطال
الباطل.
وأما من اعتقد أن هذا الوقف صحيح في حق بعض الموقوف عليهم دون
بعض، وأن هذه الأعيان التي وقفت بعضها ملك للورثة، وبعضها وقف على من
قَبِل- ففي الإقدام على دعوى تبطل الوقف منها وتجعلها كلها ملكًا نظر, وترجيح أحد
الأمرين فيه دقيق، فقد يقال: إن لصاحب الملك أن يطلب ملكه، وإن أدى ذلك إلى
إبطال حق غيره من الوقف، وإبطال ما يؤول إليه من جهة البر الدائمة؛ لأن هذا
غير مقصود له، وإنما يجيء بالتبع وهو الأقيس , وقد يقال: ليس له ترجيح نفسه
وإبطال جهة البر الدائمة لأجل منفعته العاجلة وهو الأورع , والمسألة دينية يُستفتى
فيها القلب، والله أعلم.
__________(9/389)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(الوقاية من السل الرئوي وطرق علاجه)
السل الرئوي أقتل الأدواء للبشر حتى قال أهل الإحصاء: إنه يغتال في كل
عام نحو ستة آلاف ألف (6ملايين) منهم، وهو بإجماع الأطباء ينتقل بالعدوى،
ولا أعون لِعَدْوَاه وفتكه بالمصابين به من الجهل بحقيقته وطرق انتقاله وكيفية توقّيه
ومعالجته، وقد ألف الدكتور خليل بك سعادة كتابًا حافلاً فيما يجب أن يعرفه
الجمهور من ذلك سماه (الوقاية من السل) .. إلخ بدأه بمقدمة في خطر هذا الداء،
وتاريخ طبه، ثم جاء بفصول في حدّه وأسباب حدوثه وطرق العدوى والوقاية
وأعراض المصاب به وتشخيصه ودرجاته وأنواعه، وكيفيات معالجته بالهواء
والرياضة والعقاقير والأدوية، وختمه بالكلام في زواج المسلولين , وعندي أنه
ينبغي لكل قارئ وقارئة الاطلاع على هذا الكتاب، وهو سهل العبارة فصيحها يستفيد
منه كل قارئ وقد طبع طبعًا متقنًا بمطبعة المعارف، ويطلب من مكتبتها بالفجالة
ومن مكتبة المنار، وثمنه 10 قروش، وأجرة البريد 15 مِليمًا.
***
(أسرار الثورة الروسية)
ذكَّرَنا كتابُ السُّلِّ بهذه القصة لمؤلفه، وهي قصة تاريخية عصرية تمثل
للقارئ كيف يقوم الظلم الفاحش مع الدهاء والنظام، وكيف يقاوم من الجمعيات
السرية بالدهاء والنظام، فإن في القصة من غرائب القسوة في الظلم من الحكومة
الروسية، وغرائب الكيد لها من جمعية النهلست السرية ما يرغب كل قارئ في
الاطلاع عليه، ولكن لا يعتبر به إلا الأحياء الفضلاء، ولا حياة لأمة مظلومة ليس
فيها جمعيات سرية لمقاومة الظلم والتنكيل بزعمائه المستبدين، فجمعية النهلست
هي التي دبرت أمر الثورة الروسية التي ستكون منشأ سعادة الأمة، وارتقاء الدولة
كما تراه مفصلاً في هذه القصة , وعبارة القصة فصيحة، وثمنها خمسة قروش
صحيحة.
***
(وقاية الأسنان)
لو علم الناس أن الأسنان يمكن أن تبقى سليمة إلى سن الشيخوخة إذا وقيت
من أسباب التلف والفساد- لبذلوا جهدهم في وقايتها؛ لأنها ركن من أركان الصحة
وركن من أركان اللذة، وركن من أركان الجمال، وهذه الثلاثة أهم ما يهم الناس
في هذه الحياة، ولكن أكثرهم لا يعلمون أنه يمكن وقايتها فهل للقارئين منهم أن
يقرأوا كتاب (وقاية الأسنان) للدكتور علي بك البقلي ويعملوا بنصيحته.
***
(نيل المراد في تشطير الهمزية والبردة وبانت سعاد)
هذه القصائد أشهر ما مدح به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شطرها الشيخ
عبد القادر سعيد الرافعي الطرابلسي فصار شريكًا لناظميها في المدح وبيان السيرة
النبوية، والشمائل القدسية، وهو جدير بذلك في مكانه من بيت العلم والأدب، وقد
طبعها مع تفسير ما قد يخفى من كلماتها، وهى تطلب من مكتبة نجله الشيخ محمد
سعيد بالسكة الجديدة.
***
(المجلة العثمانية)
مجلة أدبية علمية يصدرها في القاهرة فتحي أفندي عزمي كل شهر مرتين،
والعدد منها مؤلف من 16 صفحة، وقيمة الاشتراك فيها 50 قرشًا في القطر
المصرى، و65 في سائر الأقطار , وقد صدر منها بضعة أعداد.
***
(الأقلام)
مجلة شهرية عمومية تبحث في كل فن ومطلب، أنشأها في القاهرة جورج
أفندي طنوس أحد المحررين لجريدة الوطن، ومحمود أفندي أبو حسين , وكتب
عليها: (ويشترك في تحريرها خيرة الشعراء والمنشئين) ، والعدد مؤلف من 48
صفحة، وقيمة الاشتراك فيها40 قرشًا في القطر المصري و15 فرنكًا في غيره
تدفع عند الاشتراك , وقد ظهر الجزء الأول حافلًا بالمقالات الأدبية والقصائد
العصرية.
__________(9/394)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(نادي المدارس العليا - مثال لطفولية الأمة)
نبهنا القراء في بعض السنين السالفة إلى أمثلة من طفولية الأمة في حياتها
الاجتماعية التي ولدت فيها الأمة ولادة جديدة، بعد أن أماتها الاستبداد قرونًا عديدةً،
وهي لا تزال في طور الطفولية، بما تقلد فيه الشوابّ والكهول من الأمم الحية،
ومما تلحزت له القاهرة من لذائذ التقليد إنشاء الأندية، أنشأ قوم ناديًا فما قام إلا
وسقط، ثم قويت الرغبة فكتب في ذلك الكاتبون، وأظهر الرغبة فيه الراغبون،
حتى كان منذ سنين أن جمعت أموال ووضعت قوانين، ولكن أعيد المال إلى أربابه،
قبل أن يخرج الأمر من إهابه، وقد أعيدت الكرَّة في العام الماضي فكان الاستعداد
أتم، والداعون أنهض بالعمل وأعلم، وما الداعون إلا بعض المتخرجين في
المدارس العالية بمصر وأوربا وما المدعوون إلا أمثالهم بالفعل أو القوة.
تمخضت الدعوة فولدت (نادي المدارس العليا) وخصوا العليا بالطب
والحقوق والهندسة وقسم المعلمين العالي، أي الإفرنجي، وأخرجوا منها قسم
المعلمين العربي (دار العلوم) والأزهر , وقد دارت المناظرة في هذا الإخراج بين
الباحثين، وَفُهِمَ مما سُمِعَ وكُتِبَ في الجرائد أن المؤسسين يرون المتخرجين في هاتين
المدرستين دون المتخرجين في تلك المدارس الأربع وأدنى منهم! !
قرأنا وسمعنا كثيرًا من المقالات التي كتبت، والمباحثات التي دارت في الدعوة
إلى تأسيس النادي وما يتصل بالدعوة ككونه خاصًّا بالمسلمين؛ لأن لكل الطوائف
الأخرى أندية في مصر خاصةً بهم حتى القبط ونصارى سوريا أو عامًّا لكل أهل
الملل فرارًا من التعصب، وكحظر الخوض في المباحث الدينية والمسائل السياسية
على أهل النادي ما كانوا في النادي، قرأنا وسمعنا ولكننا لم نكتب في ذلك كلمةً
واحدةً؛ لأننا رأينا التيار مندفعًا إلى قرارة لا بد أن يصل إليها وكذلك كان.
كان مما سرنا من مواد قانون النادي حظر الخمر والميسر على أهله فيه وإن
قرن ذلك بحظر المباحثات الدينية والسياسية , ولكننا لم نلبث أن رأينا أن مجلس
إدارة النادي قد نسخ حظر المنكر وهو الخمر، فأباحه وأحكم حظر المعروف وهو
المباحث الدينية والسياسية وأصر على تحريمه فساءنا ذلك وأحزننا إذ صار النادي
شرًّا من بيوت اللهو المعروفة بالقهاوي والبير (البِيَر كعلل والبارات مواضع شرب
البيرا وغيرها من الخمور) ؛ لأن هذه البيوت لا يحظر فيها المعروف من المباحث
الدينية والسياسية التي هي أرقى المباحث وأعلاها , ومما زاد في أسفنا وغمنا
تعليلهم إباحة الخمر بكون أكثر المشتركين لا يصبرون عنها وما نتوقعه من إفساد
التلاميذ المشتركين في النادي بسوء القدوة فإنهم إذا رأوا من يعدونهم أرقى الأمة
علمًا وأدبًا يأتون في ناديهم المنكر فإنهم يقتدون بهم في ذلك طبعًا فما كان أغنى
التلاميذ عن هذا النادي لو تبصر أولياؤهم.
بَيْنَا نحن في ألم خيبة الأمل في النادي وإذا بمجلة المجلات العربية قد وافتنا
باثنتين وعشرين صفحة عن النادي فيها من الإغراق في الإطراء ما كان حاملاً لنا
على كتابة هذا الفصل، وإنه لقول فصل وما هو بالهزل.
قالت مجلة المجلات في فاتحة كلامها: (إذا ذكرنا الأعوام الأخيرة فإننا
نذكرها بَهِجِينَ جَذْلاَنيِنَ؛ لأننا شاهدنا فيها قبسًا ما عتم أن بات أخيرًا نار هدى
ونعني بذلك هذه النهضة العلمية الأدبية التي بدت مطالعها منذ أعوام، وظهرت
اليوم في كبد سماء المجد بدرًا كاملاً يرسل ضياءه اللامع إلى جميع الأنحاء فتسر به
النواظر، وتقر له الخواطر، وإننا لا نريد أن نشرح للقارئين تفاصيل هذه النهضة
السامية فليس هنا مقامها الآن، ولكننا بدأنا بها تمهيدًا لما سنورده من الكلام عن
الناشئة العصرية التي يتألف منها شبان اليوم وزهرة مصر في هذا العصر.
(لقد قام شبان اليوم بأعمال جمّة دلت على ذكائهم واقتدارهم، أعمال يؤخذ من
مجموعها أن في سويداء وادي النيل رجالاً أَكْفَاء لكل عمل مجيد، وأن سماء مصر
يستظل بها كثيرون من الذين نبغوا في العلم والفضل والذكاء) .
ثم ذكر مسألة إنشاء الأندية، وقال: إنها (إحدى كبريات المسائل) وذكر
ناديًا أنشئ، وكان عمره قصيرًا، وما كان من حركة الفكر في ذلك بعد وقال:
(وقد أيدت الناشئة العصرية هذا الأمر الطبيعي ونفت من الأذهان ذلك
الاعتقاد الذي يعده الكثيرون حجةً لا جدال فيها، وهي أن المصريين شعب مِكسال
لا حياة أدبية له، وأنهم قوم صدق فيهم قول القائلين: (قد اتفقوا على أن لا يتفقوا
واتحدوا على أن لا يتحدوا) ، ولكننا نحمد الله لأن شبابنا قد ضربوا ذلك الاعتقاد
ضربةً جعلته هباءً منثورًا وأثرًا بعد عين.
ولقد يتساءل الناس عن العمل الذي قام به شبابنا حتى صح أن يقال فيهم ما
قلناه اليوم؟ سؤال لا نرى جوابًا عليه أبلغ من القول: ليقصد كل امرئ نادي
المدارس العليا ليشاهد بعينه اتحاد الكلمة وقوة الاتحاد والزهرة اليانعة التي تملأ
القلوب غبطةً وسرورًا , ذلك النادي الكائن في أعظم أحياء العاصمة بجوار فندق
(سافوا) والذي يحق اليوم لكل واحد من المصريين أن يفاخر به ويترنم بذكره،
ذلك النادي الذي خصصنا للكتابة عنه غالب صفحات هذا العدد، ولا بدع في ذلك
لأنه غرس أيدي شبان في مقتبل العمر في حين أنه كان المنظور أن لا يقوم به إلا
الكبراء وسراة الأغنياء، ولكن ناشئتنا برهنت على أنها قوة عظمى تحطم في سبيل
إرادتها كل عقبة كؤود، وتدوس بقدمها الشوك الذي يعترض وصولها إلى زاهي
الورود) .
ثم أفاض في الكلام عن كيفية تأسيس النادي وفوائده وذكر ما كان من مساعدة
الحكومة وكبار المحتلين له ومن ارتياح الأمير له؛ إذ جعل ولي عهده مشتركًا فيه
ونشر قانونه برمته وقال في خاتمة الفصل:
(ومسك الختام لهذه الجملة المطولة اليوم هو الاستبشار بظهور هذا النادي
إلى عالم الوجود؛ لأن ظهوره جاء حجةً دامغةً، ودليلاً قاطعًا على أن المصريين
ليسوا بذلك الشعب المِكسال كما يصفهم البعض من الناس، بل إننا أمة حية لا
ينقصنا للقيام بكبير الأعمال إلا الإدارة، وطرح الضعف جانبًا فمتى اعتمدنا على
عزيمتنا تمَكَّنَّا من الوصول إلى كل غاية نطلبها، بَلَّغَنَا اللهُ ما نشتهيه من طيب
الآمال بمنّه وكرمه) اهـ.
الله أكبر , ما هذا النادي الذي كَبَّرَتْهُ مجلة المجلات هذا التكبير، وفخمته هذا
التفخيم، وجعلته البرهان القاطع، والدليل الساطع على قوة كبرى، وهمة عليا،
قد ذللت بهما نابتتنا كل صعب، واستهانت بكل خطب، وانتشلت الأمة من أسفل
السافلين، فعرجت بها إلى أعلى عليين، حتى سَامَتْ الأممَ العزيزةَ أو سَمَتْهَا، فإن
لم تكن سمتها فقد ساوتها، أكان هذا النادي فتحًا مبينًا، أم كان استقلالاً للبلاد عزيزًا،
أم رأى صاحب المجلة أن النادي أصبح مهجورًا، وخشي أن يأتي عليه حين من
الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا؟ ! فأراد أن يجذب إليه الهاجرين له بإعلاء ذكره،
وتعظيم قدرهم بقدره، إذ لا يجهل مثله أنه نادٍ قد خلت من قبله الأندية فما ملأ
منشئوها مواضعهم فخرًا، ولا ادعوا أنهم تجاوزوا السماكين عزًّا وقدرًا، ولعل هذا
هو الأقرب فإننا لم نكد نتم قراءة ما كتبه في مجلته حتى وافانا المؤيد الصادر في
26 ربيع الآخر وفيه ما يأتي مؤيد لما سمعنا من بعض المشتركين:
(إلى صفوة الشبيبة المصرية)
جاءنا هذا الكتاب يوجه كاتبه الفاضل فيه الخطاب إلى حضرات أعضاء نادي
المدارس العليا وهو بعد الديباجة:
قامت قيامة الصحف والكُتاب وغيرهم قبل إنشاء نادي المدارس العليا، وقد
أنشئ بعد اكتتاب المكتتبين واشتراك المشتركين لكن يظهر أن القوم لم يألفوا
الاجتماع بعد , فهم مشتتون على القهاوي والبارات، ولا يعرج على النادي من
المتخرجين ما يزيد عددهم على أصابع اليد الواحدة، ومن الطلبة ما يزيد على
أصابع اليدين، ويحتج بعضهم ببُعد المكان عن وسط البلدة، والبعض بحرارته ,
والبعض الآخر بوجود أصحاب معهم لا يسمح قانونه بوجودهم فيه.
وقد قال بعضهم: إن الاشتراك السنوي كبير , وبما أن فوائد الاجتماع عديدة
حيث أستلفت أنظار حضرات القائمين بإدارة النادي لتلافي ذلك على قدر الإمكان
خصوصًا فيما يتعلق ببعد الشُّقَّة، وقيمة الاشتراك، وأرجو من سعادتكم نشر هذا
بالجريدة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (دكتور. ر)
... ... ... ... ... ... مصر في 16 يونيو سنة 1906
(المنار)
علم مما تقدم أنا ننتقد من هذا النادي عدة أمور:
(1) وجود التلاميذ فيه، ولا يسع هذا الفصل بيان ذلك بدلائله.
(2) أنهم لم يعتبروا مدرسة المعلمين العربية (دار العلوم) كمدرسة
المعلمين الإفرنجية، ولم يدْعوا المتخرجين فيها إلى الاشتراك في النادي، فإن هذا
غمص للعلوم العربية، وما من متخرج في مدرسة من المدارس العليا إلا هو تلميذ
للأساتذة المتخرجين في دار العلوم، وإن قومًا يغمصون لغتهم وأساتذتها لا يرجى
للأمة خير في اجتماعهم، بل أقول: إنه كان ينبغي لهم دعوة علماء الأزهر إلى
هذا النادي؛ لأن أكبر فوائد الاجتماع في الأندية تقريب طبقات الأمة بعضها من
بعض، لا سيما الطبقات العالية المحترمة وعلماء الأزهر في مقدمتهم، ولا محل
هنا لشرح ذلك، ولا شك أن علماء الأزهر وأساتذة دار العلوم أبعد في مجموعهم
عن المنكر، وأقرب من الاستقامة والأدب من مجموع المتخرجين في المدارس
العليا؛ فوجودهم في النادي مزيد كمال في آدابه.
(3) منع المباحث الدينية والسياسية من النادي، وكان ينبغي منع البحث
في الطعن بالأديان وكل ما يلقي العداوة بين أهلها والبحث في مسألة الاحتلال أو
مقاومة المحتلين أو الحكومة وإباحة البحث في فلسفة الدين وآدابه وفي فلسفة
السياسة ومسائلها العامة والخاصة بغير مقاومة الحكومة المحلية.
(4) إباحة الخمر بعد منعها، وهذا أكبر عار على النادي من وجهين
ظاهرين.
(5) سرعة ملل المشتركين من الاجتماع فيه وتفرقهم في القهاوي والبارات
المؤذن بقلة الثبات , فهذه الأمور كلها من دلائل طفوليتنا في الحياة الاجتماعية، ولا
ينافي هذا أن في النادي أفرادًا تُحْتَرَمُ مزاياهم الفاضلة ويُرْجَى ثباتهم، ومن هؤلاء
نرجو تلافي كل خلل، والاستعانة على ذلك بنقد الناقدين، وإطراء المادحين، وإننا
لا نريد بهذا إلا النصح والإصلاح، والله الموفق والمعين.
* * *
(خطبة الأمير على العلماء في الإسكندرية)
ظفرنا بنص هذه الخطبة التي نوهت بها الجرائد في وقتها، وقد ضاق هذا
الجزء عن نشرها مع فوائد أخرى منها مقالة من أميل القرن التاسع عشر، وقصيدة
أبي طالب مشروحة، ونبذة في الثورة الروسية، وتقاريظ متعددة , وموعدنا الجزء
السادس.
__________(9/396)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البرهان القويم
في الحاجة إلى عد آي القرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا
محمد وآله وصحبه والتابعين وجميع المرسلين (وبعد) :
فإن لنا معشر المسلمين كتابًا كريمًا أرغمت لفصاحته أنوف الفصحاء
وخرت لمعانيه سُجدًا أرباب المعاني، وذلك الكتاب هو القرآن الكريم الذي
حاولت أساطين العلم ومصابيح الهدى علماء الأمة الإسلامية في كل عصر أن
تلبَس بخدمته تاج الشرف فأمضوا في ذلك أعوامًا في آجالهم وأنضوا في
تحرير أعمالهم مرهفات أقلامهم حتى أشرفت على التمام، ثم اختفت تلك
الأشباح وعليها ذلك التاج الفاخر وبقيت تلك الكنوز الثمينة تذكِّرنا بلسان حالها
قولهم:
تلك آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار
من أهم ما قام به ذلك السلف الصالح خدمة القرآن الكريم بتفسيره وجمع
أوجه قراءاته وعد آياته وحصرها وعمل المعجمات المتنوعة للاهتداء به. ثم
تلاهم في الوجود ذلك الخَلَف فبرهن بجملته على امتزاجه بنوع من الوهن
والضعف عن انتهاج مسالك الآباء وتغذية النفوس بما تغذت به أرواحهم فقلَّت
قيمة ما ورثوه في أنظارهم ومقتوا المذاكرة في شأنه مقتًا إلا بقية لا تزيد على
عدّ الأصابع في هذا المجمع الحافل أردت أن أمد يدي مع أيديهم وأحشر نفسي
في زمرتهم بعمل خدمة للقرآن الكريم وهي (دليل للاهتداء به) فأعددت للعمل
عدتي وشمرت عن ساعد الجد فسرت بالعمل شوطًا بعيدًا قاربت معه الوصول
إلى ما ارتضيته من الغاية، ثم وقفت مفكرًا في طريق تعميم النفع بتلك الخدمة
فوجدته عَدَّ آيات السور بتلك المصاحف والتفاسير التي تتبادلها الأيدي عدًّا
خاليًا من المباينة والخلاف، ولأجل تنبيه فكرة إخواني من المسلمين وأهل العلم
لتلك النقطة أخذت أشتغل لها بنفسي مع تحقيق وتدقيق حتى وصلت بها إلى ما
شاء الله أن أصل من الثقة بالنتيجة، وعلى أثر الفراغ من ذلك دعتني عوامل
الإخلاص إلى وضع هذه الأسطر اليسيرة أبدي بها لأصحاب الرأي من رجال
الدين وأولياء الحل والعقد وأرباب الأقلام نموذجًا من عملي في تحقيق عد
الآيات، وبيان ما هو الأولى بالاختيار لتعميم العد بموجبه مؤملاً من حضراتهم
تقدير الفكرة حق قدرها، والمناقشة في الموضوع ونقده وتنقيحه بما تمس
الحاجة إليه، ثم المساعدة في تنفيذ المقترح بالإشارة إلى وجوب عد آيات
المصاحف والتفاسير بالعد الذي يقر عليه الرأي ويشار إليه بالاختيار طلبًا
لتوحيده ومنعًا من تعدد العدود؛ رغبة في إفراد طريقة الاستهداء بآيات كتاب
الله الكريم في مشارق الأرض ومغاربها، والله الهادي إلى سواء السبيل.
1- القرآن الكريم 114 سورة: الأولى منها سورة الفاتحة والثانية
سورة البقرة والأخيرة سورة الناس، والسورة عبارة عن عدد محدود من الآيات
والآية عبارة عن مقدار معين من الكلمات الشريفة كان النبي عليه الصلاة
والسلام يوقف الحفظة والصحابة عليه عند التبليغ، ويسمي أول كلمة في الآية
رأس الآية وآخر كلمة فيها بالفاصلة.
2- كانت الحفظة من الصحابة تجيد مع حفظ القرآن معرفة عدد آياته،
وعدد آيات كل سورة من سوره، وعدد كل آية من سورتها، وبذلك كان إذا قرأ
القارئ منهم بعضًا من سورة قدّر ما قرأه بما فيه من الآيات. وكان إذا أراد
أحد أن يستفيد منهم ما نزل من القرآن في قوم أو حادثة عينوا له السورة التي
ذكرت الحادثة ومقدار الآيات الخاصة بذلك، وأشاروا إلى أول تلك الآيات
بعددها الخاص بها وإلى الأخيرة منها كذلك ومما يشهد لهم بهذا أولاً ما جاء
في الكتاب السابع والستين من صحيح البخاري (كتاب المغازي) بالباب
السادس والسبعين من أبوابه (باب قدوم الأشعريين) وهو حديث عن علقمة
قال فيه: (كنا جلوسًا مع ابن مسعود فجاء خباب فقال يا أبا عبد الرحمن
أيستطيع هؤلاء الشبان أن يقرؤوا كما تقرأ؟ قال: أما إنك لو شئت أمرت
بعضهم فقرأ عليك قال أجل، قال اقرأ يا علقمة. قال زيد بن حدير أخو زياد
بن حدير أتأمر علقمة وليس بأقرئنا أما إنك إن شئت أخبرتك بما قال النبي في
قومك وقومه فقرأت خمسين آية من سورة مريم، فقال عبد الله كيف ترى قال قد
أحسن..) إلخ والشاهد فيه تقدير علقمة ما قرأه من السورة بما فيه من
الآيات. وثانيًا ما جاء في الكتاب الثامن والسبعين من صحيح البخاري أيضًا
(كتاب التفسير) بالباب السابع والخمسين من أبوابه باب {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً
يُنَادِي لِلإِيمَانِ..} (آل عمران: 193) .. إلخ) وهو حديث ابن عباس رضي
الله عنهما عن مبيت النبي صلى الله عليه وسلم عند خالته ميمونة، وقد كرره
الإمام مؤلف الصحيح في كثير من المواضع، وجاء في هذا الموضع زيادة
قوله: (ثم قرأ العشر آيات الخواتم من سورة آل عمران ثم قام إلى شن.. إلخ)
وفيه الإشارة إلى عدد الآيات الخاصة بحالة معينة مع تعيين السورة التي
اشتملت عليها وعدد أول آية فيها وكذلك الأخيرة.
ومن قَبِيلِهِ ما ينقله المفسرون في أسباب نزول أوائل آل عمران عن الربيع
بن أنس من قوله: (نزلت أوائل السورة إلى نيف وثمانين آية في وفد نجران..
إلخ) وكذلك ما ذكره صاحب لُباب النقول في أسباب النزول عن المسور بن
مخرمة من قوله (قلت لعبد الرحمن بن عوف أخبرني عن قصتكم يوم أُحُد فقال:
اقرأ بعد العشرين ومائة من سورة آل عمران تجد قصتنا يوم أحد: {وَإِذْ
غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ..} (آل عمران: 121) .. إلخ) .
3- جاء بعد ذلك الزمن الذي رأيت فيه من عناية الصحابة بالقرآن ما
أسمعناك به زمن بدت فيه ظواهر قضت على الخليفة الثالث عثمان بن عفان
رضي الله عنه بنسخ المصاحف وإرسالها إلى الأمصار الإسلامية المشهورة
اتقاء الخلاف في ذلك الكتاب الفريد، وعلى أثر ذلك قام حفاظ كل مصر من
الصحابة والتابعين تبث معارفها عن آياته بتقدير آيات كل سورة من سوره
وتعيين حدود كل آية صيانة للتوقيف الذي لقنه النبي صلى الله عليه وسلم
لأصحابه ولما جاء عصر تدوين العلوم جمع ما قيل عن ذلك في كل مصر
وإذا به ستة أقوال دونت جملةً وتفصيلاً في مؤلفات جعل اسم موضوعها علم
فواصل الآي، وبواسطة هذا العلم تتبين أن اثنين من تلك الأقوال الستة نُقِلا عن
أهل المدينة عن الإمامين الجليلين أبي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح
ويعرف أولهما بالمدني الأول، وجملة الآيات فيه 6210 مع خلاف فيه بين
الإمامين في ستة مواضع، ويعرف الثاني بالمدني الأخير، وجملة الآيات فيه
6214 بلا خلاف فيه بينهما رحمهما الله ورضي عنهما.
والقول الثالث من الستة منقول عن أهل مكة ويعرف بالمكي، وفيه روايتان
إحداهما عن أُبي بن كعب وجملة الآيات فيها 6210 والثانية عن غير أُبي بلا
تعيين، وجملة الآيات فيها 6219 والقول الرابع منقول عن أهل الشام عن أبي
الدرداء وقيل عن عثمان بن عفان ويعرف بالشامي، وجملة الآيات فيه
6226، وفى رواية 6225 والأولى أرجح والخامس منقول عن أهل
الكوفة عن علي كرم الله وجهه ويعرف بالكوفي، وجملة الآيات فيه 6236
والسادس منقول عن أهل البصرة عن عطاء بن يسار وعاصم الجحدري ويعرف
بالبصري، وجملة الآيات فيه 6204 وإليك بيانها ملخصًا:
اسم القول ... عدد ... ... ... ملحوظات
المدني الأول 6210 وفيه خلاف بين قائليه في ستة مواضع
المدني الأخير 6214 ولا خلاف فيه
المكي ... 6210 قول أُبَيّ في ذلك 6219 قول غير أبيّ ممن عد ...
... ... ... ... ... ... ... الآيات بمكة ولم يعين من هو
الشامي ... 6226 الرواية الراجحة
الكوفي ... 6236 لا خلاف فيها
البصري ... 6204 لا خلاف فيها
4- مضت أجيال وأعوام، وتلك المؤلفات في زوايا الإهمال كما أهملت
أساليب السلف من الصحابة والتابعين في استهدائهم من الكتاب الكريم بالإشارة
إلى آياته بعددها كما بَيَّنا منه شطرًا فيما تقدم برقم (2) وأخيرًا قامت من
احتياجات المفكرين داعية الرجوع إلى الاستهداء من الكتاب العزيز بما يشبه
أساليب السلف في ذلك فعدّت آيات السور أواخر القرن الثالث عشر من الهجرة
الموافق للقرن التاسع عشر من الميلاد في مصحفين أحدهما طبع في الأستانة
سنة 1298 هجرية، ويعرف بالمصحف العثماني والثاني عده بأوربا مستشرق
ألماني اسمه (فلوجل) وطبع بألمانيا، وعمل عليه فلوجل نفسه مُؤَلَّفًا سماه
(نجوم الفرقان في أطراف القرآن) جمع فيه ألفاظ الكتاب العزيز كلمة كلمة
وأشار إلى جميع مواضع كل كلمة في جميع السور بالأرقام التي وضعها على
رؤوس الآي في المصحف المذكور، وبذلك استفاد من قرآننا الكريم مهرة
الغربيين في البحث والتنقيب عن المعارف العربية ما لم يحصل عليه أكثر
المتعلمين من أبناء اللغة العربية وأتباع ذلك الكتاب العزيز!
وبالتأمل في عد المُصْحَفين المذكورين وجدتهما يتفقان في عد 34 سورة
ويختلفان في عد الباقي وبإحصاء الآيات في كل منهما تبينت أن جملة آيات
المصحف العثماني 6344 وجملة آيات المصحف الألماني 6238 ولم يطابق
أحد العددين المذكورين واحدًا من الأعداد المنقولة عن السلف ولأجل
استكشاف ما به نتج هذا الخلاف أخذت أتحقق أولاً من صحة كل قول مما نقل
عن السلف في جملة آيات القرآن، وجملة آيات كل سورة من سوره وبعد
الفراغ من ذلك راجعت ما وثقته به على كل من المصحفين فوجدت أغلاطًا
لكل منهما فأحصيتها مشيرًا بالصواب أمام كل غلطة مؤملاً نجاحي في
تصحيحها وفى توحيد عدد آيات المصاحف والتفاسير لتقريب وتوحيد وسيلة
الاستهداء من ذلك الكتاب، والله المعين، وإليك بيان النتائج التي وصلت إليها:
5- جاء اختلاف عد السلف لجملة آيات القرآن من نقطة واحدة وهي أن
بعضهم اعتمد في عده من الفواصل ما لم يعتمده الآخر فواصل في عده، وعلى
هذا يكون من بين فواصل الكتاب الكريم ما لم يختلف فيه أحد من السلف ومنها
ما وقع فيها اختلافهم، وتسمى الفواصل التي من الصنف الأول بالفواصل المتفق
عليها والتي من الصنف الثاني بالفواصل الخلافية، وهذه الفواصل الخلافية
نوعان: نوع لم يرد عده إلا في قول واحد من الستة والثاني جاء عده في
قولين فأكثر، وأسمي فواصل النوع الأول بالفواصل الإفرادية وفواصل النوع
الثاني بالفواصل المشتركة.
6- في القرآن الكريم من الفواصل المتفق عليها 6101 ومن الفواصل
الخلافية 248 منها 81 فاصلة إفرادية وإليك جدولاً في تقسيم السور إلى
طوائف بحسب ما فيها من الفواصل الخلافية، وجملة ما في كل طائفة من
الفواصل المتفق عليها والمختلف فيها:
جملة المتفق جملة المختلف عدد السور نمرة ... جنس الطائفة من السور
عليه ... ... فيه ... ... مسلسلة للطوائف
عدد ... ... عدد ... ... عدد
1176 ... . . ... 39 ... 1 سور لا خلاف في فواصلها بين العادّين
818 ... ... 22 ... 22 ... 2 " الخلاف في فواصل كل منها في موضع
... ... ... ... ... ... واحد
1137 ... 40 ... 20 ... 3 " " " " " " " " " " " " " موضعين
849 ... 36 ... 12 4 ... " " " " " " " " " " " " " ثلاثة مواضع
574 ... 28 ... 7 5 ... " " " " " " " " " " " " " أربعة مواضع
394 ... 20 ... 4 6 ... " " " " " " " " " " " " "خمسة مواضع
475 ... ... 35 ... 5 7 ... " " " " " " " " " " " " " سبعة مواضع
080 ... 09 ... 1 8 ... " " " " " " " " " " " " " تسعة مواضع
101 ... ... 11 ... 1 9 ... " " " " " " " " " " " " " أحد عشر موضعًا
281 ... ... 12 ... 1 10 ... " " " " " " " " " " " " " اثني عشر "
90 ... ... 14 ... 1 11 ... " " " " " " " " " " " " " أربعة عشر "
126 ... ... 21 ... 1 12 ... " " " " " " " " " " " " " أحد وعشرين "
--- ... --- ... ---
6101 ... 248 114
7- ولأجل معرفة جملة الآيات في كل قول من أقوال السلف ينبغي فرز
الفواصل الخلافية التي جاء عدها في كل قول من تلك الأقوال على حدتها
وإضافة المفروز منها إلى الفواصل المتفق عليها فتحصل جملة الآيات في ذلك
القول. وبإجراء الفرز والحصر بالفعل ينتج البيان الآتي:
وبالتأمل في هذا البيان نجد خلافًا بين ما حققناه وما جاءت به النقول عن
المدني الأول والمكي، ومنشأ ذلك وجود خلاف للمدني الأول في ستة مواضع
ورود اضطراب من مواضع محصورة من فواصله الخلافية لم نعتمد إسقاطها
وأما في المكي فلسبب ورود روايتين في جملة الآيات فيه؛ ولإهمال الراوين
نسبة الاضطراب في المواضع المضطربة إلى إحدى الروايتين (انظر إلى
قول الثالث من رقم 3) .
8- توصلنا إلى البيان الإجمالي المذكور في رقم 7 بعمل تفصيلي مثله
لكل سورة من السور التي جاء خلاف في فواصلها؛ وذلك بإرشاد الكتب المؤلفة
في الفواصل وبعض التفاسير، ولنأتِ هنا بمثال لسورة يوضح ذلك وليكن
لسورة آل عمران فنقول:
جاء في الكتب المؤلفة أن سورة آل عمران مدنية وآياتها مائتان باتفاق
في الإجمال (أي في جملة الآيات) وخلافها سبعة مواضع (أي فواصلها
الخلافية سبع) وقد بينت كل ما يختص بكل موضع خلافي نحو قولها: (الم)
عده الكوفي (الإنجيل) الأولى عدها ما عدا الشامي.. إلخ) ثم سردت
الفواصل المتفق عليها. فلما فهمنا منها ذلك قمنا بإحصاء المواضع المتفق
عليها أولاً، وإذا بها في هذه السورة 197 موضعًا ثم عملنا جدولاً على
الصورة الآتية للمواضع الخلافية:
جدول (أ)
نمرة مسلسلة أسماء المواضع مدني أول مدني أخير مكي شامي كوفي بصري
... ... الخلافية
1 ... ... الم ... ... .. ... .. ... .. .. 01..
2 ... ... الإنجيل الأولى 01 ... 01 ... 01 01 00 01
3 ... ... الفرقان ... ... 01 ... 01 ... 01 00 01 00
4 ... ... الإنجيل الثانية ... .. ... .. ... .. ... .. 01..
5 ... ... إسرائيل ... ... .. ... .. ... .. ... .. .. 01
6 ... ... مما تحبون ... 01 ... 01 ... 01 01.. ..
7 ... ... مقام إبراهيم ... .. ... .. ... .. ... 01.. ..
... ... ... ... ... 3 ... 3 ... 3 ... 3 3 3
وبه تتبين أن كل قول من أقوال السلف عد من الفواصل الخلافية ثلاثة
مواضع بلغت معها جملة الآيات في كل منها مائتي آية، وعلى إثر مطابقة ما
يعطيه هذا البيان من جملة الآيات المذكورة عن جملة آيات السورة في كتب
الفواصل نضع للسورة الجدول الآتي مجملاً:
جدول (ب)
نمرة السورة ... اسم السورة ... الفواصل المتفق عليها مواضع الخلاف
في المصحف ... ...
3 ... ... ... آل عمران ... ... 197 ... ... ... 7 ...
ما عُدّ مواضع الخلاف في كل قول
مدني أول ... مدني أخير ... مكي شامي ... كوفي بصري
3 ... ... 3 ... 3 ... 3 ... 3 ... 3
وذلك لأجل أن يعرف منه جملة آيات السور في أي قول بضم المعدود
فيه من الفواصل الخلافية إلى الفواصل المتفق عليها. وبعد الفراغ من العمل
على هذا النمط للثقة بالمنقول عن السلف في كتب الفواصل أخذت في مراجعة
ما تحققت فيه المطابقة وتمت به الثقة على عدّ المصحف العثماني والمصحف
الذي عده (فلوجل) فكانت النتيجة ما سأذكره والله المعين.
9- قد علمنا مما ذكره برقم 6 أن جملة الفواصل المتفق عليها بين السلف
6101 وبالتأمل في المصحف العثماني وجدناه أهمل منها سبعة ووافقهم في
عد 6094 فاصلة ثم وجدناه عد من مواضع الخلاف البالغة 248 (راجع رقم
6) 145 موضعاً وانفرد بعدّ خمسة مواضع لم يقل بكونها فواصل أحد من
السلف وبمراجعة دقيقة مثل هذه المراجعة في المصحف الذي عده (فلوجل)
وجدناه أهمل من الفواصل المتفق عليها 89 موضعاً ووافقهم في الباقي
ومقداره 6012 موضعاً ورأيناه عد من الفواصل الخلافية 108 مواضع وعد
118 موضعاً لم يقل بكونها فواصل أحد من السلف وبذلك بلغت جملة الآيات
في الأول 6244 وفى الثاني 6238.
وإليك بيان إجمالي لذلك في الجدول الآتي جدول (1)
المصحف المصحف
العثماني عد فلوجل
----- ----- ...
عدد ... عدد
--- ... ---
6101 6101 ... ... الفواصل المتفق عليها بين السلف
7 ... 89 ما أهمله كل منهما من الفواصل المتفق عليها عند العد
-- ... --- ...
6094 6012 الباقي الذي عد في كل منهما من الفواصل المتفق عليها
145 ... 108 ... ما عده كل منهما من الفواصل الخلافية
5 ... 118 ما انفرد بعدّه كلاهما ولم يكن من الفواصل بل عد خطأ
-- ... --
6244 ... 6238 ... جملة آيات القرآن في كل منهما
والنتائج المذكورة إنما حصلت من عمل تفصيلي لكل سورة مما فيها
خلاف على النسق الآتي وليكن التمثيل على سورة آل عمران أيضاً.
جدول ب (3) سورة آل عمران (أي السورة الثالثة من سور القرآن)
المصحف المصحف
العثماني عد فلوجل
----- ----- ...
عدد ... عدد
--- ... ---
197 197 ... الفواصل المتفق عليها بين السلف في السورة
1 ... 12 ما أهمله كل منهما من تلك الفواصل عند العد خطأ
-- ... --- ...
196 185 الباقي الذي عده كل منهما من الفواصل المتفق عليها
3 ... 1 ... ما عده كل منهما من الفواصل المختلف فيها
1 ... 14 ... ما انفرد كل منهما بعدّه ولم يكن من الفواصل بل عده خطأ
-- --
200 200 ... جملة آيات االسورة في كل منهما
تفصيل لهذا الإجمال
أما المصحف العثماني فالفاصلة التي أهملها من الفواصل المتفق عليها
هي فاصلة (ليعلم المؤمنين) ضمن الآية رقم 166 وأما ما عده من مواضع
الخلاف فثلاث ألم * الفرقان * الإنجيل * -الثانية - أواخر الآيات 1و3و48
وأما ما انفرد بعده خطأ فهو آخر آية 166 ولفظة (للإيمان) .
وأما المصحف الذي عده فلوجل فالمواضع الاثنا عشر التي أهملها من
الفواصل المتفق عليها هي: السماء. المصير. رحيم. العالمين. العليم.
الدعاء. وأطيعون. الحكيم. الكافرين. الكافرين (الثانية) . المؤمنين.
البلاد* وهي على الترتيب في الآيات الموضوع على رؤوسها الأرقام الآتية
وهي 18و33و68و91و98و145 و160و173 و 175 و 179 و 190
و193 و 194 و 198 وألفاظها على الترتيب * ومن اتبعني. المحراب.
قائماً. سبيلاً. إخوانًا. مما تحبون. للإيمان. الطيب. شر لهم. النار. فآمنا.
من بعض. الأنهار. قليلاً.
فانظر أعانني الله وإياك وراجع هذا التحري إن استطعت وسمحت لك
الفرص ونبهني على ما تتبينه موجبًا للتنبيه بداعية الإخلاص الأخوي.
10- رأيتني أيها القارئ الكريم أقترح في فاتحة هذه الأسطر وجوب عد
آيات القرآن في المصاحف والتفاسير عدًّا موحدًا خالياً من الخلاف والخطأ.
ووجدتني بينت لك فيما تقدم (برقم3) أن للسلف ستة أقوال في حصر جملة
آيات الكتاب العزيز ولكنها غير متطابقة وكأني بك الآن تطالبني بما أجيب به
إذا سئلت عن تعيين ذلك العد وتحديده ولذلك أراني ملزمًا بمكاشفة القارئ
الكريم عن رأيي في ذلك وعرضه على محك النظر لاختباره والحكم عليه بما
يؤدي إليه النقد فأقول: قد جعلت أول الفكرة اختيار عدّ من عدود السلف الستة
للغرض الذي نتكلم في شأنه ولأجل فرزه من بينها استخرجت من مجموع
الصفات التي تبينت لي في تلك الأقوال الستة خمس مرجحات قلت: إذا توافرت
كلها أو أكثرها في واحد منها وقع الاختيار عليه أو صار ذلك القول أحق
بالاختيار من غيره، وتلك المرجحات الخمس هي ما يأتي:
الأول: ترجيح الأقوال المنقولة عن أهل الأماكن التي نزل الوحي بها
على غيرها لصيانة التوقيف فيها بكثرة الحفاظ والملقنين منهم في غيرها من
البقاع.
الثاني: ترجيح ما لم تضطرب الروايات في عد مواضعه على غيره؛ لأن
الاضطراب في موضع يؤدي إلى الشك فيه (والاضطراب شك يقع من
الراوي بسبب النسيان أو ضعف الذاكرة أو ما شاكل ذلك) .
الثالث: ترجيح ما قلت فيه المعدودات الإفرادية من الفواصل الخلافية
على غيره؛ لأن الموضع الذي يأتي عده في قولين فأكثر أقرب إلى الثقة بعده
مما لم يجئ عده إلا في قول واحد.
الرابع: ترجيح العد الذي يجزم في جملة آياته وتفصيلها برواية واحدة
مقطوع بها على غيره مما ليس ذلك وسببه بيّن.
الخامس: ترجيح ما انعدمت منه مواضع الخلف على غيره؛ لأن الخلف
في موضع موجب للشك فيه كالاضطراب بل أكثر، والخلف في موضع معين
من قول معين هو انقسام عادّي ذلك القول في عد ذلك الموضع إلى قسمين
أحدهما يقول بِعَدِّه والآخر لا يقول به (الخلف يقع من العادّين أنفسهم وأما
الاضطراب فإنه يقع من الرواة فتأمل) .
وبعرض هذه المرجحات الخمس على كل قول من أقوال السلف الستة
وجدت المدني الأخير قد فاز منها بحظ لم يكمل مثله لغيره كما تتبينه من
الجدول الآتي، ولذلك وقع عليه اختياري فهذا ما أجيب به، ولك أيها
القارئ الكريم الشأن فيما تتبين فيه الأولوية والأرجحية؛ لأني ما قلت إلا ما وصل
إليه مبلغ علمي والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وهاهو الجدول الذي أشرت إليك بالنظر فيه قريبًا
اسم البقعة ... عدد المواضع معدوداته جلس مواضع أعداد اسم القول
التي نقل القول المضطربة الإفرادية الرواية الخلف مسلسلة
عن أهلها
المدينة المنورة ... 1 ... ... 3 ... 1مجزوم بها 6 1 المدني الأول
" ... " ... ... .. ... ... 4 ... 1 " " ... .. ... 2 " الأخير
مكة المكرمة ... 4 ... ... 5 ... 2 لم يجزم لم تحدد 3 المكي
... ... ... ... ... ... بواحدة منها
بلاد الشام ... ... 1 ... ... 18 2مجزوم بكلتيهما 1 4 الشامي
الكوفة ... ... .. ... ... 43 1 مجزوم بها.. 5 الكوفي
البصرة ... ... .. ... ... 08 2 مجزوم بكلتيهما 1 6 البصري
ولست تجد في هذا الجدول عدًّا أُجري في بقعة نزل الوحي بها مع خلوّه
من المواضع المضطربة وقلة المعدودات الإفرادية عن غيره مع التثبت في
روايته والخلو من الخلف إلا المدني الأخير كما ذكرت لك فيما تقدم.
11- (بيان الحاجة إلى عدّ القرآن الكريم بالأرقام ومَن ألَّف في ذلك)
مَن يقف على أن آيات القرآن غير معدودة في المصاحف والتفاسير
بالأرقام، وأن طلاب العلم بمعاني ذلك الكتاب المحكم من المسلمين غير قليلين. وإن
كان عددهم بالنسبة إلى المجموع أقل من الواجب بكثير وأن أكثرهم ممن
لا يحفظون القرآن - يعرف الأسباب التي دعت أرباب الفكر إلى تأليف (دليل
الحيران في الكشف عن آيات القرآن) [1] و (نجوم الفرقان في أطراف القرآن) [2]
و (مفتاح كنوز القرآن) [3] و (مرآة القرآن) [4] و (تحليل القرآن) [5] ومن
ينظر في هذه المؤلفات وفى طريقة الانتفاع بها يتضح له في كل منها تقصي
عما يجب من جهة ويتبين فوق ذلك أسبابًا خارجية تمنع من تعميم الانتفاع بها
ولبيان ذلك في كل منها أقول:
(1) دليل الحيران:
هذا المؤلف أعده مؤلفه للبحث عن مواضع الآيات في سور القرآن
متى علمت أوائلها ويشير إلى الآية بعددها من السورة التي هي منها،
ويمنع من تعميم الانتفاع به أنَّ من لم يعرف أول الآية لا يمكنه الكشف
بواسطته وأن المصاحف والتفاسير المتداولة لم تكن معدودة الآيات وما
كان منها معدودًا فأرقامه لا تتفق مع أرقامها.
(2) نجوم الفرقان:
يشير هذا المؤلف إلى مواضع كل كلمة من كلمات القرآن في جميع آياته
بوضع أرقام إفرنكية كبيرة لترتيب السور في المصحف وأرقام إفرنكية صغيرة
لترتيب الآيات في السور، وعوائق تعميم الانتفاع به هي أن أرقامه إفرنكية
وجمهور المسلمين لا يعرفون تلك الأرقام لوجود أرقام خاصة لهم وأن أرقامه
لا تتفق إلا مع المصحف الذي عده (فلوجل) المطبوع بألمانيا، وأغلب
مصاحف المسلمين غير معدودة والمعدود منها لا تتفق أرقامه مع أرقامها، وإن
سرد مواضع الكلمة الواحدة من كلمات القرآن بالأرقام جملة واحدة لا يسمح
لطالب الكشف بالعثور على مطلوبه دفعة واحدة وهو سبب ربما يقضي بإهمال
المؤلف.
(3) مفتاح كنوز القرآن:
وضع هذا المؤلف على شكل منتزع إما من نجوم الفرقان مع نوع من
التحسين وإما على مثال (مرآة القرآن) الآتي وصفها فيما يلي فتكفل بذكر
مواضع كل كلمة من كلمات القرآن فيه بحيث يذكر الكلمة بين ما يسبقها وما
يلحقها من الألفاظ القرآنية، وهو شكل يتم به تمييز الموضع المراد البحث عنه
غير أنه لا يحدد الموضع تمامًا ولكنه يحصره في عشر آيات فقوله مثلاً (62 -
البقرة - الله لا إله إلا هو (الحي) القيوم (معناه أن كلمة (الحي) التي يسبقها
(الله لا إله إلا هو) ويلحقها (القيوم) توجد في العشرة السادسة العشرين
من آيات البقرة أي بين الآية رقم 251 والآية رقم 260 وبما أن المصاحف
والتفاسير غير معدودة بالعشرات ولا بغيرها صار من العسر تعميم الانتفاع بهذا
المؤلف في الكشف بواسطته.
تنبيه:
إذا عدّت آيات المصاحف والتفاسير بِعَدٍّ موحد بالأرقام يكون مفتاح كنوز
القرآن المثال الصالح لأدلة الكشف. لكن تستبدل الأرقام الدالة على عدد
الآيات بنفس أرقام العشرات ويهذب وضع الألفاظ على ترتيبها الطبيعي ويزاد
فيه قسم الحروف التي من قبيل إنْ الشرطية وما ولا.. إلخ.
(4) مرآة القرآن:
يشير هذا المؤلف إلى موضع الكلمة من السورة بعدد ترتيب أحزاب
القرآن بعد أن يحصرها بين ما يسبقها وما يلحقها من الكلمات الشريفة ويقرب
مكان الموضع من الحزب باستعماله حرف (الألف) بالإشارة إلى آخره وبما
أن تقسيم القرآن إلى أحزاب غير مألوف كلن قصور تعميم الانتفاع به للكشف
واضحًا.
(5) تحليل الآيات القرآنية:
أعد هذا المؤلف لجمع الآيات بحسب المعاني ففيه مثلاً آيات الميراث
مجموعة تحت عنوان الميراث، والآيات التي تذكر أخبار سيدنا موسى عليه
السلام تحت عنوان موسى عليه السلام، ولكون هذا المؤلف ترجمة للآيات
بالفرنسية تعبر عن معاني القرآن بقدر الإمكان وأكثر المسلمين لا يعرفون هذه
اللغة فمنفعته إذن خاصة بمن يعرفها وأرقام آياته تتفق مع المصحف عدّ
(فلوجل) المطبوع بألمانيا وهو في وضعه لم يكن دقيقًا، وإنما يوجب الثناء على
واضعه الأجنبي عن العربية وأهلها.
تنبيه:
فما رأيناه في مؤلفات العرب من قبيل تحليل الآيات القرآنية كتاب (حجج
القرآن) وهو قاصر على سرد الأدلة القرآنية التي يستدل بها كل فريق من
الفرق الإسلامية على مذهبه، وبما أن أغلب المستنيرين من المسلمين لا
يحفظون القرآن كما قلنا في أول هذا الفصل فهم إذًا في حاجة إلى دليل يعين
على الكشف في المصاحف والتفاسير بمجرد معرفة لفظ معين من الآية
المطلوبة معرفة موضعها وإلى مصنف يضم الآيات بحسب المعاني وإلى
معجم لغوي ينقسم إلى قسمين يذكر في الأول منهما الألفاظ اللغوية بحسب
ترتيبها في السور وفي الثاني تلك الألفاظ مرتبة بحسب أوائلها وبما أننا تحققنا
في المؤلفات التي وضعت لهذه الأغراض قبل زماننا هذا تقصيرًا يمنع تعميم
الانتفاع بها بسهولة كما بيّنا فيما تقدم وتيقنا بما ذكرناه آنفًًًًًًًًًًًًًًًا أن أساس ذلك
التقصير إهمال اختيار عدّ موحد تعد به الآيات في المصحف والتفاسير التي
تتبادلها الأيدي أصبحنا من غير الشك في حاجة إلى تعميم عد الآيات في
المصاحف والتفاسير قبل عمل كل شيء.
وبما أن السلف الصالح عد آيات القرآن قبلنا ونقل عنهم في ذلك ستة
أقوال ذكرناهم برقم (3) أصبح من الضروري اختيار واحد منها.
هذا ما أوقفني عن تهذيب دليلي لتبييضه ودعاني إلى عرض هذا الفكر
على السادة العلماء والإخوان الكرام أرباب الآراء الصائبة والأفكار الثاقبة
ليروا فيه رأيهم، وفي الختام أقدم شكري لكل من يأتي إلى هذا الموضع
بالمطالعة من القراء الكرام ويشاركني في الاهتمام بهذا الغرض الثاني فيمن
فيه نظره ويشرح فيه فكرته ويدقق في تأمله ثم يعرض بعد ذلك على الإخوان
المسلمين ما عنّ له ويشير بما يتراءى له قاصدًا في ذلك وجه الله الكريم الذي
لا يضيع أجر المحسنين.
... ... ... ... ... ... ... ... (أحمد أمين الديك)
(المنار)
إن علماء السلف قد عدُّوا آي القرآن وكلماته وحروفه وكتبوا في ذلك
المصنفات ونظموا فيه المنظومات، كما بيّنوا مواضع الوقف في أثناء الآيات،
وفي الأحاديث والآثار كثير من ذكر الآيات بعددها، وقد أشار إلى ذلك أحمد
أفندي وتقدم في التفسير من هذا الجزء شاهد منه. وفى الإتقان أن سبب
اختلاف السلف في عَدّ الآي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف على
رؤوس الآي للتوقيف، فإذا علم محلها وصل للتمام فيحسب السامع أنها حينئذ
ليست فاصلة والخلاف مع هذا قليل وليس بضارنا شيئًا. وأي عدد من الأعداد
اعتمدنا وضبطناه بالأرقام حصل المقصود الذي نحتاج إليه في هذا العصر
لسهولة المراجعة، ولم يكن علماء السلف يحسون لهذه الحاجة لحسن حفظهم
للقرآن واستحضارهم للآي عند إرادتها، وإني لأراجع الآية بـ (مفتاح كنوز)
القرآن في دقيقة واحدة أو فيما هو أقل من دقيقة فأستخرجها من المصحف المبين
عدد آياته بالأرقام. والسبب في عناية أحمد أفندي أمين بتحرير الخلاف في
العدد والعمل بما يظهر أنه أقرب للصواب هو استعداده الفطري للأمور
التحسينية وإن كان في أمة لم تتقن الأمور الضرورية والحاجية. ولذلك
رأيناه أول من ألّف في عصرنا في الموسيقى العربية والإفرنجية، وأول من
اجتهد في مراجعة عد الآي وضبطها وعدّ أحاديث البخاري وعمل
جدول لأبوابه ولا غرو فقد كان والده ميالاً لمثل ذلك؛ إذ كان هو الساعي
بطبع (لسان العرب) فكان خير خلف له فلا زال مُوَفَّقًا.
__________
(1) تأليف الحاج صالح ناظم وطبع بمطبعة التمدن في مصر.
(2) تأليف (جوستافوس فلوجل) وطبع بألمانيا.
(3) تأليف كاظم بك طبع أولاً بمدينة بترسبورج من روسيا على الحجر ثم بالحروف في مصر.
(4) تأليف عاكف أفندي تشريفاتي وهو خط بالكتبخانة الخديوية المصرية.
(5) تأليف الموسيو (لابوم) وطبع ب باريس من فرنسا.(9/369)
الكاتب: أحمد جان بن محمد رحيم المصطفوي
__________
المدرسة المحمدية بقزان
(روسيا)
بسم الله الرحمن الرحيم
روسيا 14 ربيع الآخر سنة 1324هـ
من أحمد جان بن محمد رحيم المصطفوي المدرس الثاني بالمدرسة المحمدية
بقزان
إلى صاحب مجلة المنار حضرة الأستاذ السيد رشيد رضا أرشده الله إلى ما
يرضى
سيدي.. أبدي إليك العذر لعدم مكاتبتي بعد مفارقتكم مع مرور سبع سنين من
تشرفي بمجالسكم لعذر يطول بيانه والعذر عند كرام الناس مقبول.
أما بعد: فيا سيدي إنا قرأنا في العدد الثالث من المنار رسالة مكتوبة من قزان
مشحونة بالكذب والافتراء على المدرسة المحمدية التي خرج منها من طلبتها من
غير إخراج انتصارًا على من أخرج منها من سيئي الخلق، وهم أربعة، وترجمة
الكتاب المفتوح كذلك. فاضطررنا إلى أن نرسل إليكم بروجرام المدرسة المحمدية
المتبع إليه في التدريس بها لتعرفوا بالمقايسة إليه كذبهم وافتراءهم.
المدرسة المحمدية أقسام: الابتدائية والرشدية والإعدادية والعالية.
ومدة التحصيل في الابتدائية ثلاث سنوات، وفى الرشدية أربع، وفى
الإعدادية أربع أيضًا، وفى العالية ثلاث سنوات أيضًا.
فالملتزم في القسم الابتدائي من النصوص: القراءة والكتابة على لسان
الأمهات مطابقًا على قواعد اللسان - وصحيح الإملاء - وحسن الخط - وقراءة
القرآن الشريف مع التطبيق على قواعد التجويد - والضروريات الدينية من
الاعتقاديات والعبادات والمعاملات والأخلاق - وتوسيع الفكر بالمعلومات المختلفة
من أحوال الطبيعيات والأمثال الحكمية، ومن الحساب قواعد الجمع والطرح
والضرب والتقسيم، وحفظ الأذكار الصلاتية وبعض السور القرآنية التي لا بد منها
للصلاة وشيء قليل من التاريخ.
ويلتزم في القسم الرشدي: القراءة العربية مع التطبيق على قواعد الصرف
والنحو والمطالعة الصحيحة مهما أمكن وتقرير ما فهم باللغة العربية وصحيح
الإملاء والإنشاء، وقراءة القرآن في الأسبوع مرة أو مرتين، وبقية قواعد لسان
الأمهات من صرفها ونحوها، وتمرين القراءة التركية العثمانية، ومن الحساب
تمرين القواعد (الأربع) بعملياتها، وشيء من الجغرافيا العمومية والوطنية،
وشيء من تاريخ الإسلام والملة، واللغة الفارسية بقراءتها وقواعدها وتقريرها
وتوسيع الأفكار بالمعلومات المختلفة أيضًا. وتحسين الخط. وتخطيط الأشكال
الهندسية لتعليم الرسم. وكتاب من (الفقه) الحنفية، وكتاب من الحديث.
ويلتزم في القسم الإعدادي المنطق (الرسالة الشمسية) ، والمعاني والبيان
والبديع، والعَروض، وأصول الفقه، وسيرة النبي (نور اليقين) والمسائل
الاعتقادية حسبما اكتفى به السلف (عقائد الطحاوي) ، والأخلاق النظري والعملي
(الطريقة المحمدية) ، والأدبيات العربية والجغرافيا. والجغرافيا العمومية،
والتاريخ العمومي، والتفسير (للجلالين) والحديث (للإمام البخاري) ، والهداية
(في الفقه الحنفي) ، ومن الطبيعيات الكيمياء. ومسائل الحساب كالكسور الأربعة
المتناسبة والفائض وغيرها ويلتزم في القسم العالي: التفسير - والحديث - وفقه
أبي حنيفة - والأدبيات العربية والعقائد المدونة مطابقًا لحالة الأمة الحاضرة (كذا)
والتاريخ مع النقيد، والجغرافيا مع تاريخها، والطبيعيات، والبيداجوجيا (لحضرة
الشيخ حسن توفيق المرحوم) .
هذا، وليحكم أهل الإنصاف بما يحصل لهم في تطبيق أقوال السفهاء لهذا
البروجرام من الصحة والفساد والصدق والكذب والحق والاختلاق. أعني هل يصح
بعد هذا قولهم: إن مدارسنا لا يدرس فيها إلا ما بقي من خيالات اليونان والتفتازاني.
وقولهم: ولا يدرس فيها غير ما ذكر لا من التفسير ولا من الحديث وغيره.
وقولهم فأخرج من مدرسة عالمجان اثنان وثمانون طالبًا من ذوي النهى وأبقوا (أو
بقي) مَن لا يهتم بشيء من الإصلاح (والمترعرعين الذين خرجوا من المدرسة
جلهم من الصنف الرشدي وغيرهم من طلبة السنة الأولى للصنف الإعدادي، وهل
يمكن لهم أن يكونوا من أهل النهى دون الباقين مع أن طريق التعليم فيها وخيم
(كما قالوا) . وهل يصح أيضًا قولهم: والعلوم التي نحصلها في مدارسنا لا تكفي
للإمامة والخطابة أيضًا. وقولهم: ولا يعلموننا فيها من الأخلاق والتربية. وقولهم:
نحن لا نكون بما تعلمنا فيها إلا مصيبة للعوام وعلماء السوء. وقولهم: أما
أساتذتنا فيملؤون أدمغتنا بالخرافات والإسرائيليات، ويشوشون عقائدنا باليونانيات
والتفتازانيات، ويسوموننا حفظ الحواشي والتعليقات. وقولهم وقولهم..
فنرجو من جنابكم أن تنشروا هذا البروجرام في المنار وأن لا تدنسوا وجه
المنار بمثل هذه الأقوال السافلة والمختلَقات الباطلة.
ثم يسألنا قراء المنار: فما سبب انتصار هؤلاء الرعاع على الباطل؟ ! .
والجواب: أن ناسًا من الذين يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وإن لم يقروا
بألسنتهم يظنون أن التدين والعلوم الدينية مانع من الترقي والتمدن الحقيقي (كما
يظنه أمثالهم من أهل الغرب) ويرون جُل المسلمين في روسيا متمسكين على الدين
ومعتمدين على أهله والمدارس الدينية. ويستخرجون من هذا وذاك أن تمدن
المسلمين في روسيا (بل وفى غيرها) موقوف على حل هذه العقدة أعنى تفرق
المسلمين من العلماء والمدارس الدينية، ولوصول هذا المقصود طريق واحد وهى
(كذا) إلقاء العداوة والبغضاء فيما بين العوام والعلماء وتشتيت المدارس الحاضرة
أيدي سبأ ثم جمعها على الأساس الصحيح كمدارس أوروبا.
فصاروا يتخذون لهذا الإلقاء والتشتيت واسطة كل ما يتيسر لهم من الأقوال
والأفعال. منهم إغواء الطلبة وأن حالهم ليست حالة مرضية لا من جهة الدروس ولا
من جهة المدرسة ولا من جهة المدرسين ولا من جهة الإدارة والقوانين المدرسية ولا
من جهة المعيشة ولا من جهة الحال ولا من جهة المال. وليدرس في المدارس الدينية
الفنون العصرية واللغة الروسية وما يتعلق بها أصلاً والعلوم الدينية تبعًا، وليحول
المدارس الدينية مدارس دنيوية وهكذا؛ لأنهم لا يحسون الاحتياج إلى المدارس
الدينية كأكثر أهل فرنسا ويقولون: إن هذه المدارس مهما تكمل يلزم أن تندرس وتفنى
بنفسها بعد ما تأسس المدارس الدنيوية بين الأمة، فيلزم عليكم أن تعجلوا الأمر ولو
بسنة.
ونحن نقول: لا تمسوا مدارسنا الحاضرة ولنصلحها بالتدريج، لئلا يكون
حالنا كحال حنين، وابنوا أنتم وأسسوا المدارس المحتاج إليها الأمة بجميع أنواعها
من متوسطها وعاليها وليندرس المدارس بعدها بنفسها (على ما تزعمون) ، ونحن
لا ننكر احتياج الأمة لمثل تلك المدارس وإلى تعلم اللغة الروسية والعلوم الرسمية،
بل نحن نحس هذا الاحتياج كإحساسكم بل أشد، وندعو الناس إليها ومع ذلك نحس
الاحتياج إلى المدارس الدينية ولا نرضى انقراضها ولا نخيل كما تخيلون وسنُدخل
اللغة الروسية إلى المدارس الدينية أيضًا بشرط أن يتخذ العلوم الدينية أساسًا لما
يتعلم فيها ولكن هذا يقتضي شيئًا من التأني ولا يستقيم بالعجلة ولا نصدق انقراض
الدينية عند انتشار المعارف، ويؤيد هذا قيام المدارس الدينية في الممالك الغربية
والأمريكية مع ارتقاء المعارف فيها غايته، ثم بعد برهة من الزمان وضعنا قبح هذه
الحركة على علم الطلبة من الصنوف العالية فانتبه المتبصرون منهم ولم يساعدوهم
بعده في حركاتهم فتفرقوا فرقتين فصاروا يسبّون الطلبة الذين لا يتحركون بتحريكهم
فعجزوا!
ثم أخذوا طريقًا آخر يُخْفون فيها مرادهم من تحريكهم. وصاروا يدّعون أن
مرادهم من التحريك إصلاح هذه المدارس مدارس دينية وهم أيضًا يهتمون للعلوم
الدينية كما نهتم بل أشد، ولكن العلوم الدينية ليس ما نسميها علومًا دينية بل غيرها
وهكذا. اهـ بنصه وفيه غلط قليل أشرنا إلى بعضه ولعله لم يراجعه.
(المنار)
نشرنا رسالة هذا الأستاذ برمتها؛ لأن الوقوف على حال مسلمي روسيا في
التعليم والتربية يهمنا جدًا طالما فيهم من الرجاء وحسن الظن وصاحبنا الأستاذ كاتب
الرسالة أدرى بتلك الحال. وما ذكره من ترتيب التعليم في المدرسة المحمدية لا
ينطبق على ما كتب إلينا بعض التلاميذ ولا يخلو على إجماله من انتقاد وحاجة إلى
الإصلاح، ويا ليته يتفضل ويرسل لنا نسخة من البروغرام لنبدي رأينا في ذلك على
بصيرة تامة، وقد اطلعنا على ما كتب رياض أفندي الشهير في إصلاح التعليم في
المدرسة الحسينية في أورنبورغ وودنا نشر خلاصته في هذا الجزء وإلقاء دلونا مع
دلوه لولا أن جاءت هذه الرسالة فحالت دون ذلك وفتحنا بابًا جديدًا من التروي في
الحكم على تعليم مسلمي روسيا.
علمنا من هذه الرسالة أنهم يتعلمون لغة الأمهات ويظهر لنا أنها اللغة التترية
ويتعلمون اللغة العثمانية والفارسية واللغة العربية وهم في أشد الحاجة إلى اللغة
الروسية ولا يستغني أهل التعليم العالي عن لغة أوروبية عامة كالفرنسية أو الإنكليزية
وهذا عبء ثقيل فلعل صديقي كاتب الرسالة يعرّفني وجه الحاجة إلى تعلم لغة
الأمهات في المدارس وليست لغة علم ولا دين ووجه الحاجة إلى اللغة الفارسية
والتركية أي جعل تعلم ذلك إلزاميًّا عامًّا. وعلمنا أنهم يقرأون معاملات الفقه في كل
قسم من الابتدائي إلى العالي ولم يذكر مصطلح الحديث. وذكر من المنطق
(الشمسية) فقط وكل ذلك منتقد كما سنبينه بعد، وأما ما ذكره في سبب انتقاد
المدارس الإسلامية فإلصاقه ببعض المبتدئين من المدرسة المحمدية محل نظر
واعتبار، ويهمنا أن نعرف مثار هذه الأفكار، وكيف السبيل إلى تلافيها، وما يجب
على العلماء فيها وسنعود إلى البحث في ذلك.
__________(9/384)
غرة جمادىالآخر - 1324هـ
23 يوليو - 1906م(9/)
الكاتب: أبو حامد الغزالي
__________
سيرة السلف الصالحين في نصيحة السلاطين
(1)
دعونا العلماء في الجزء الماضي إلى نصيحة السلاطين وإننا نذكِّرهم في هذا
الجزء ببعض ما يروى عن علماء السلف في ذلك:
(جعل الإمام الغَزالي الباب الرابع من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
خاصًّا بأمر الأمراء والسلاطين ونهيهم وقال في أوله ما نصه: (قد ذكرنا درجات
الأمر بالمعروف وأن أوله التعريف وثانيه الوعظ وثالثه التخشين في القول ورابعه
المنع بالقهر في الحمل على الحق بالضرب والعقوبة. والجائز من جملة ذلك مع
السلاطين الرتبتان الأُولَيان وهما التعريف والوعظ وأما المنع والقهر فليس لآحاد
الرعية مع السلاطين فإن ذلك يحرك الفتنة ويهيج الشر ويَكُون ما يتولد عنه من
المحذور أكثر.
وأما التخشين في القول كقوله: يا ظالم يا مَن لا يخاف الله وما يجري مجراه.
فذلك إن كان يحرك فتنة يتعدَّى شرها إلى غيره لم يجز وإن كان لا يخاف إلا على
نفسه فهو جائز بل مندوب إليه فقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار
والتصريح بالإنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة والتعرض لأنواع العذاب لعلمهم بأن
ذاك شهادة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ثم
رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله تعالى فقتله على ذلك) [1] وقال صلى
الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) [2] ووصف
النبي صلى الله عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: (قرن من حديد لا تأخذه
في الله لومة لائم وتركه قوله الحق ما له من صديق) [3] .
ولمّا علم المتصلبون في الدين أن أفضل الكلام كلمة حق عند سلطان جائر
وأن صاحب ذلك إذا قتل فهو شهيد كما وردت به الأخبار - قدموا على ذلك موطِّنين
أنفسهم على الهلاك مُحتمِلين أنواع العذاب وصابرين عليه في ذات الله تعالى
ومحتسبين لما يبذلونه من مهجهم عند الله. وطريق وعظ السلاطين وأمرْهم
بالمعروف ونهيهم عن المنكر ما نقل عن علماء السلف، وقد أوردنا جملة من ذلك
في باب الدخول على السلاطين من كتاب الحلال والحرام..) . اهـ ما كتبه
الغزالي في مقدمة الباب.
أقول: قوله: إنه ليس لآحاد الرعية التصدي لمنع السلطان عن المنكر بالقهر
صحيح لا لِمَا يترتب عليه من الفتنة فقط، بل هناك علة أخرى هي أظهر وأَوْلى
بالتقديم وهي أن إكراه الآحاد من الرعية للسلاطين مُحال وطلبه عبث لا يأتي من
عاقل، ولهذا المعنى فرض الله تعالى الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر على أُمة تتألف وتستعد لذلك كما بينَّا في الجزء الماضي، والأمة تستعد
لكل شيء بقدْره، وقوة الأمة أَشدّ بالاتحاد والاجتماع من قوة السلطان؛ لأن قوته
منها وقوتها من ذاتها ويد الله مع الجماعة. وسنعود في فرصة أخرى إلى التفصيل
في هذه المسألة. فإننا إنما نقصد الآن إلى بيان شيء من هدي السلف في نصيحة
الأمراء والسلاطين تذكيرًا للعلماء وكشفًا للقراء عن الفرق بين حالنا اليوم وحال
سلَفنا أيام كانت الأمة عزيزة قوية والدين راسخًا معمولاً به.
ندَع مما أورده الغزالي من هدي السلف في هذا الباب آثار الصحابة لئلا يقال: إنهم لا يقاس عليهم في بذل أرواحهم في سبيل الحق، وإن من كان يغلظ على
عمر بن الخطاب في الحق كان آمنًا عقوبته ليقينه بعدله ودينه ونذكر شيئًا مما أورده
عمن بعدهم قال: (وعن الأصمعيّ قال: دخل عطاء بن أبي رَباح على عبد الملك
بن مروان وهو جالس على سريره وحوالَيْه الأشراف من كل بطن وذلك بمكة
وقت حجه في خلافته فلما بصُر به قام إليه وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه
وقال له: يا أبا محمد ما حاجتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين اتقِ الله في حرم الله
وحرم رسوله فتعاهدْه بالعمار، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار فإنك بهم
جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور فإنهم حصن المسلمين، وتفقدْ أمور
المسلمين، فإنك وحدك المسؤول عنهم، واتق الله فيمن على بابك فلا تغفل عنهم
ولا تغلق بابك دونهم فقال له: أجلْ ثم نهض وقام فقبض عليه عبد الملك فقال: يا
أبا محمد إنما سألتنا حاجة لغيرك وقد قضيناها فما حاجتك أنت؟ فقال: ما لي إلى
مخلوق حاجة ثم خرج فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف) .
أقول: هذا نصح علماء الدين لمثل عبد الملك الذي كان أول معلن للاستبداد
في الإسلام حتى قال على المنبر: (مَن قال لي اتقِ الله ضربت عنقه) وأين
ملوك زماننا من عبد الملك في سياسته وفتوحاته ألا إنهم أحق بالنصيحة منه، ولكن
أين الناصحون؟ ! قال الغزالي:
(وقد روي أن الوليد بن عبد الملك قال لحاجبه يومًا: قف على الباب فإذا
مر بك رجل فأدخلْه عليّ ليحدثني فوقف الحاجب على الباب مدة فمرّ به عطاء بن
أبي رَباح وهو لا يعرفه فقال: يا شيخ ادخل إلى أمير المؤمنين فإنه أمر بذلك فدخل
عطاء على عبد الملك وعنده عمر بن عبد العزيز فلما دنا عطاء من الوليد قال:
السلام عليك يا وليد قال: فغضب الوليد على حاجبه وقال له: ويلك أمرتك أن
تُدخل إليَّ رجلاً يحدثني ويسامرني فأدخلت إليَّ رجلاً لم يرضَ أن يسميني بالاسم
الذي اختاره الله لي (يعني أمير المؤمنين) فقال له حاجبه: ما مر بي أحد غيره ثم
قال لعطاء: اجلس ثم أقبل عليه يحدثه فكان فيما حدثه به عطاء أن قال له: بلغنا
أن في جهنم واديًا يقال له هبهب أعدّه الله لكل إمام جائر في حكمه فصعق الوليد من
قوله وكان جالسًا بين يدي عتبة المجلس فوقع على قفاه إلى جوف المجلس مغشيًّا
عليه. فقال عمر لعطاء: قتلت أمير المؤمنين. فقبض عطاء على ذراع عمر بن
العزيز فغمزه غمزة شديدة وقال له: يا عمر إن الأمر جِدّ فَجِدّ. ثم قام عطاء
وانصرف فبلغنا عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: مكثت سنة أجدُ ألم غمزته في
ذراعي) .
(ويُروى عن ابن أبي عائشة أن الحجاج دعا بفقهاء البصرة وفقهاء الكوفة
فدخلنا عليه ودخل الحسن البصري رحمه الله آخر من دخل فقال الحجاج: مرحبًا
بأبي سعيد إليَّ إليَّ ثم دعا بكرسي فوضع إلى جنب سريره فقعد عليه فجعل الحجاج
يذاكرنا ويسألنا إذ ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه فنال منه ونلنا منه مقاربة
له وفَرَقًا (أي خوفًا) من شره والحسن ساكت عاضٌّ على إبهامه فقال: يا أبا سعيد
ما لي أراك ساكتًا قال: ما عسيتَ أن أقول قال: أخبرني برأيك في أبي تراب قال: سمعت الله جلّ ذكره يقول: {وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ
الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 143) فعليٌّ ممن
هدى الله من أهل الإيمان فأقول: ابن عم رسول الله وخَتَنُه على ابنته وأحب الناس
إليه وصاحب سوابق مباركات سبقت له من الله، لن تستطيع أنت ولا أحد من
الناس أن يحظرها عليه ولا أن يحول بينه وبينها وأقول: إن كانت لعلي هناة فالله
حسيبه، والله ما أجد فيه قولاً أعدل من هذا، فَبَسَرَ وجه الحجاج وتغير وقام عن
السرير مغضبًا فدخل بيتًا خلفه وخرجنا، قال عامر الشعبي: فأخذت بيد الحسن
فقلت: يا أبا سعيد أغضبت الأمير وأَوْغرت صدره فقال: إليك عني يا عامر يقول
الناس عامر الشعبي عالم أهل الكوفة أتيتَ شيطانًا من شياطين الإنس تكلمه بهواه
وتقاربه في رأيه ويحك يا عامر هلا اتقيت إن سئلتَ فصدقت أو سكتَّ فسَلِمْتَ.
قال عامر: يا أبا سعيد قد قلتُها وأنا أعلم ما فيها. قال الحسن: فذاك أعظم في الحجة عليك وأشد في التبعة. قال: وبعث الحَجَّاج إلى الحسن فلما دخل عليه قال: أنت الذي تقول، قاتلهم الله قتلوا عباد الله على الدينار والدرهم؟ ! قال: نعم قال: ما حملك على هذا؟ قال: ما أخذ الله على العلماء من المواثيق: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187) قال: يا حسن أمسك عليك لسانك وإياك أن يبلغني عنك ما أكره فأفرِّق بين رأسك وجسدك) .
أقول: وقد ساق المصنف هذه الحكاية في كتاب (ذم الجاه والرياء) مطولة
بما هو أبلغ في العبرة والفرْق بين علماء الدين الذين لا يخافون في الله لومة لائم
وعلماء الدنيا الذين يتقربون إلى الأمراء والسلاطين بما يرضيهم من سخط الله
تعالى.
قال: (روي عن سعيد بن أبي مروان قال: كنت جالسًا إلى جنب الحسن إذ
دخل علينا الحَجَّاج من بعض أبواب المسجد ومعه الحرس وهو على بِرذَوْن أصفر
فدخل المسجد على برذَوْنه [4] فجعل يلتفت في المسجد فلم يَرَ حَلْقة أَحْفَل من حلقة
الحسن فتوجه نحوها حتى بلغ قريبًا منها، ثم ثنى وَرِكه فنزل ومشى نحو الحسن فلما
رآه الحسن متوجهًا إليه تجافى له عن ناحية مجلسه قال سعيد: وتَجافَيْت له أيضًا عن
ناحية مجلسي حتى صار بيني وبينه والحسن يتكلم بكلام له يتكلم به في كل يوم فما
قطع الحسن كلامه. قال سعيد فقلت في نفسي: لأبلونَّ الحسن اليوم ولأنظرن هل
يَحْمِل الحسنَ جلوسُ الحجاج إليه أن يزيد في كلامه يتقرب إليه أو يحمل الحسن
هيبة الحجاج أن ينقص من كلامه. فتكلم الحسن كلامًا واحدًا نحوًا مما كان يتكلم
به في كل يوم حتى انتهى إلى آخر كلامه فلما فرغ الحسن وهو غير مكترث
به رفع الحجاج يده فضرب بها على منكب الحسن، ثم قال: صدق الشيخ
وبرَّ فعليكم بهذه المجالس وأشباهها فاتخذوها خُلقًا وعادةً فإنه بلغني عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن مجالس الذكر رياض الجنة ولولا ما حملناه من أمر الناس
ما غلبتمونا على هذه المجالس لمعرفتنا بفضلها. قال: ثم افترّ الحجاج فتكلم حتى
عجب الحسن ومن حضر من بلاغته فلما فرغ طفق فقام فجاء رجل من أهل الشام إلى
مجلس الحسن حيث قام الحجاج فقال: عباد الله المسلمين ألا تعجبون أني رجل شيخ
كبير وأني أغزو فأكلف فرسًا وبغلاً وأكلف فسطاطًا وإن لي ثلاث مئة درهم من
العطاء وإن لي سبع بنات من العيال، فشكا من حاله حتى رقَّ له الحسن وأصحابه
والحسن مكبّ فلما فرغ الرجل من كلامه رفع الحسن رأسه فقال: ما لهم قاتلهم الله
اتخذوا عباد الله خَولاً ومال الله دُولاً وقتلوا الناس على الدينار والدرهم؟! فإذا غزا
عدو الله غزا فيه الفساطيط الهبابة (أي العالية المشرعة) وعلى البغال السباقة، وإذا
أغزى أخاه أغزاه طاويًا راجلاً فما فتر الحسن حتى ذكرهم بأقبح العيب وأشده فقام
رجل من أهل الشام كان جالسًا إلى الحسن فسعى به إلى الحجاج وحكى له كلامه
الذي تكلم به [5] فلم يلبث الحسن أن أتته رُسل الحجاج فقالوا: أَجِبْ الأمير فقام
الحسن وأشفقنا عليه من شدة كلامه الذي تكلم به فلم يلبث الحسن أن رجع إلى مجلسه
وهو يبتسم وقلما رأيته فاغرًا فاه يضحك، إنما كان يبتسم فأقبل حتى قعد في مجلسه
فعظم الأمانة وقال: إنما تجالسون بالأمانة [6] كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا في
الدينار والدرهم، إن الخيانة أشدَّ الخيانة أن يجالسنا الرجل فنطمئن إلى جانبه ثم
ينطلق فيسعى بنا إلى شرارة من نار، إني أتيت هذا الرجل فقال: أقصر عليك لسانك
وقولك إذا غزا عدو الله كذا وكذا.. وإذا أَغْزَى أخاه أغزاه كذا لا أبا لك تُحِّرض
علينا الناس إنَّا على ذلك لا نتهم نصيحتك فأقصرْ عليك من لسانك قال: فدفعه الله
عني. وركب الحسن حمارًا يريد المنزل فبينما هو يسير إذ التفت فرأى قومًا
يتبعونه فوقف فقال: هل لكم من حاجة أو تسألون عن شيء وإلا فارجعوا فما
يبقي هذا من قلب العبد؟ !) .
قال الغزالي بعد إيراد هذا الأثر: (فبهذه العلامات وأمثالها تتبين سريرة
الباطن ومهما رأيت العلماء يتغايرون ويتحاسدون ولا يتوانسون ولا يتعاونون فاعلم
أنهم قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فهم الخاسرون، اللهم ارحمنا بلطفك يا أرحم
الراحمين) . اهـ.
أقول: وإن حاجتهم إلى التعاون في هذا العصر أشد منها في عصر الحَجَّاج
فإن المسلمين اليوم على خطر وأمراؤهم وملوكهم لا يذكرون مع ملوك بني أُميَّة
وأمرائهم حتى الحجاج فأولئك قد فتحوا الممالك وهؤلاء أضاعوها، وأولئك حفظوا
من الشريعة ما عدا جعْل أمر المسلمين شورى بينهم فإنهم جعلوه ملكًا قوامه العصبية
وهؤلاء أضاعوا الشريعة إلا قليلاً هو على خطر من جهلهم وسوء إدارتهم، وأولئك
كانوا يعدلون في الأحكام ويساوون الناس في الحقوق فلا يظلمون إلا من نازعهم في
أصل سلطتهم، وهؤلاء يظلمون في كل شيء ويبيعون الحقوق بالرشوة. وقد
رأيت أن من علماء السلف من كان يغلظ لهم وينفّر الناس من أصل سلطتهم ويغيظ
أشدهم سفكًا للدماء كالحجاج أفَلَسْنَا أحوج الآن إلى ذلك؟ ! .
الخلاصة: أنه لا بد من اجتماع العلماء وتعاونهم على فريضة النصيحة مادام
في القوس منزع وفي السلطة الإسلامية رمق.
... ... ... ... (للآثار بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الحديث قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: رواه الحاكم من حديث جابر وقال: صحيح الإسناد وذكر له شارح الإحياء روايات أخرى.
(2) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد وله ألفاظ وطرق ذكرها الشارح.
(3) لعل المسجد كان لا يزال مفروشًا بالرمل على طريقة الصدر الأول أو لعل الحَجَّاج دخل بالبرذَوْن إلى صحنه دون موضع الصلاة.
(4) يريد بقوله: (يتكلم به في كل يوم) أنه يتكلم بمثله في الوعظ وبيان الحق كما يُعلم من لاحق الكلام.
(5) يوشك أن يكون الحَجَّاج هو الذي أوعز إلى الشاميَّيْنِ بمثل ما فعلا ليعلم هل تدفع مجاملته للحسن شيئًا من كلامه فيه وفي حكومته.
(6) الجملة حديث رواه العسكري وابن المبارك والخرائطي بهذا اللفظ عن ابن عباس ورواه غيرهم بألفاظ أخرى.(9/421)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التعصب وأوربا والإسلام
للكلام دول، تحالف دول الحقائق تارة وتخالفها تارة، ورُب خلاف يجر إلى
حِلاف وحلاف ينتهي بخلاف. قد يُتهم الخليّ بالعشق حتى تجعله التهمة عاشقًا،
وقد ينكر الكَذوب الكذب حتى يكون صادقًا. مرت على الشرق الأحقاب والقرون،
ودرجت فيه الأجيال والقرون، وهو كما تعلم مشرق الأديان، ومنبت جميع أصناف
الإنسان، ولم يقع فيه بين المختلفين في الدين المتجاورين في البيئة من الغلو في
التعصب عُشْر مِعْشار ما وقع من أهل أوربا الذين اتحدوا باسم الصليب على إبادة
المسلمين أو ما وقع من تعصب نصارى هذه القارة على الوثنيين فيها بل ولا عشر
معشار ما وقع من أهل المذاهب النصرانية بعضهم مع بعض فأوربا مثار بركان
التعصب الديني في الأرض كما بيَّنا ذلك في مقالات نشرت في أعداد السنة
الأولى.
لما رجعت دول أوربا المتحدة من حرب الصليب في الشرق مغلوبة على
أمرها عاجزة عن بلوغ منتهى ما حدده لها تعصُّبها عالمة أنها دون المسلمين في
القوة الحربية والقوة العلمية والأدبية أخذت تستعد في العلم والعمل فكان خذلانها في
تلك الحرب مبدأ حياة جديدة لها على حين كانت حياة المسلمين السابقة أخذت
بالضعف والتحول فاستفادت من الانكسار، ما لم نستفد من الانتصار، وما زالوا
يرتقون فيما تركناه لهم من علم وصناعة واجتماع واعتصام، ونحن نتدلَّى بالجهل
والكسل والتفرق والانفصام، حتى دالت لهم الدولة، وعادت لهم الكرَّة، فسادوا
علينا واستولَوْا على أكثر بلادنا وقد عاملَنا أكثرُهم بالشدة والقسوة حتى ضبطت
بعض دولهم أوقافنا وهدمت أكثر مساجدنا ومنعتنا من التعليم الديني والدنيوي وسلطت
علينا قسوسها يحقرون ديننا في بلادنا.
وإن إنكلترا وهي أحسنهن استعمارًا وأقربهن إلى اللين والعدل لم تبلغ بعض
شَأْو الخلفاء الراشدين في العدل والمساواة بل ولا غير الراشدين من أكثر ملوك
الأمويين والعباسيين كما بينا ذلك غير مرة.
تحتجّ أوربا على هذه القسوة بأن الشرقيين أو المسلمين متعصبون لا يُؤمَن
شرّهم أن يقع على المخالف لهم إلا بغلّ أيديهم وتقييد أرجلهم ووضع الوقر في
أسماعهم والغشاوة على أبصارهم، ولكن إنزالها الشر المحقق عليهم خوفًا من الشر
المتوهم منهم لا يعد تعصبًا! ! لماذا؟ لأنها تقول: إنهم متعصبون للدين وإننا غير
متعصبين له، الشرقيون متعصبون؛ لأن الشرق لا يعرف جامعة غير الدين،
الغربيون غير متعصبين؛ لأن الغرب لا يعرف غير الجامعة الجنسية أو الوطنية،
المسلمون متعصبون، النصارى غير متعصبين، التعصب الإسلامي خطر على
المدنية المسيحية، ما دام هذا القرآن معتقدًا أو محترمًا فالإنسانية على خطر،
ما يأخذه الصليب من الهلال لا يعود إليه وما يأخذه الهلال من الصليب يجب أن
يسترد منه.
أمثال هذا الكلام الذي يرددونه قد فتق آذان المطلعين من المسلمين على كتب
أوربا وجرائدها وفتح أعينهم ونبه أفكارهم فاعتقدوا أن أوربا متعصبة عليهم تحاول
محو ملكهم ووجودهم الملّي من الأرض وأنها تحاربهم بهذا التعصب وربما كانت
نجاتهم بالتعصب فكادوا يحققون التهمة ويَدْعون إلى تحقيقها ولكن روح الإسلام لا
يزال غالبًا على مجموع الملة الإسلامية وهو ما سنبينه في هذا المقال.
يخفت صوت القوم في اتهام المسلمين بالتعصب حينًا من الدهر، ثم لا تلبث
السياسة أن ترفع به عقيرتها، وقد قال في هذه الأيام وزير خارجية إنكلترا في
مجلس العموم كلمة فيه سارت بها الركبان قال - والعهدة على ترجمة الجرائد -:
إن روح التعصب قد زادت في القطر المصري في هذه الأيام زيادة يُخشى معها
على مستقبل البلاد. قال كلمته في مقام الدفاع والاعتذار عن عمل أتته السياسة
الإنكليزية في مصر فأنكره عليها بعض النواب في المجلس وطلب من الوزير أن
يبين عذر الحكومة في ارتكاب ذلك المنكر وهو القسوة في معاقبة طائفة من
الفلاحين في حادثة دنشواي التي سارت بخبرها الركبان وترى مجمل خبرها في
باب الأخبار من هذا الجزء.
عهدي بصوت المعتذر في مقام الدفاع أن يكون خافتًا ليس له صدى ولكن
صوت هذا المُدافِع قد كان أشد من دويّ المَدافِع، خشعت له في المجلس الأبصار،
وخفتت له الأصوات، ولم يلبث أن حمله البرق إلى الأرجاء، فكان مع البرق رعدًا
قاصفًا في جميع الأجواء، رددت صداه الأقطار، وكان الشغل الشاغل لصحف
الأخبار، فأما الجرائد الأوربية فقد صدقت الوزير في قوله، ووافقته على ما يريد
به، جارية في ذلك على نهجها المعبد، وتقاليدها المتبعة، وتبعها من الجرائد
الإفرنجية والمتفرنجة في مصر من يرى أصحابها لهم فائدة من تغيظ إنكلترا من
المسلمين.
وأما جرائد المسلمين في مصر ومن أنصف المسلمين في المسألة من أصحاب
الجرائد الإفرنجية والسورية فقد أنكروا القول على الوزير وما كل منكِر يعرف كيف
ينكر! .
وَجِلَ مسلمو مصر وأصحاب الجرائد منهم خاصة من قول الوزير وحسبوا
لعاقبته ألف حساب وهبَّ الكُتاب منهم لدفع تهمة التعصب عن أنفسهم فجاءوا بمنتهى
ما يتولد بين الغيرة والوجل، من فنون الحِجاج والجدل، وربما كان في دفاعهم ما
يعده المتهِمون لهم مثبتًا للتهمة عليهم، ولم أَرَ منهم من شرح ما يريده الوزير من
التعصب كما اعتقد، ثم احتج على بُطلانه بما يرجى أن يكون مقنعًا للمنصف، بل
رأيت كثيرًا من الناس يعتقدون أن الوزير قال ما لا يعتقد كما قال له اللورد كرومر
وهو أيضًا لا يعتقد ما قال. أما أنا فإنني أقول: إنهما يعنيان بالتعصب غير ما
فسره به هؤلاء المدافعون من الوجوه التي يقيمون الدلائل على ردها.
هل يعني الإفرنج بالتعصب الإسلامي تحابّ المسلمين وتعاونهم على مسابقة
غيرهم في طرق الكمال الصوري والمعنوي، فنقول لهم: إنكم تشاهدون أننا
أصبحنا أضعف الأمم اتحادًا وتناصرًا، وأشدها تفرقًا وتنافرًا! هل يعنون به بغضنا
وكراهتنا للمخالف لنا في ديننا وعدم ثقتنا به بحيث يصعب عليه أن يعيش بيننا
فنقول لهم: إذًا كيف أصابت هذه الثروة الواسعة منا جالية اليهود والنصارى منكم
ومن السوريين والأرمن وسائر الملل، وكيف صار منكم رئيس الخاصة الخديوية
وكثير من مستخدميها ورؤساء دوائر كثير من أمرائنا وأغنيائنا؟ ! ، بل كيف عاش
بيننا المبشرون بالنصرانية آمنين، وهم يطعنون بديننا وكتابنا ونبينا؟ هل يعنون
به محافظتنا على شريعتنا من جهة الأحكام القضائية فنقول لهم هذه المحاكم الأهلية
والمختلطة ومدرسة الحقوق ونظارة الحقانية نفسها حُجّة عليكم فإننا تركنا معظم
شريعتنا الإلهية إلى قوانينكم الوضعية ولم يعارض حكامنا الذين فعلوا ذلك أحدٌ من
علمائنا ولا من وُجهائنا؟ هل يريدون به اعتصامنا بعُرْوة الدين في أعمالنا
الشخصية فنقول لهم: ولماذا راجت خموركم حتى عمت المدن والقرى وربحت
تجارة بُورَصكم وبغاياكم حتى أهلكت الحرث والنسل، ولماذا كان عدد أغنيائنا
الذين يزورون بيوت الفسق في بلادكم كل عام أضعاف الذين يزورون بيت الله
الحرام؟ ! ! ، ولماذا ولماذا ولماذا؟ ! ! ! هل يعنون به أن مصر تريد أن تتبع
سائر الأقطار الإسلامية بالاتحاد على الأُمنية التي يعبر عنها بالجامعة الدينية،
فنقول: أخبرونا عن قطرين إسلاميين اتحدت حكومتاهما وتحالفتا على دولة غير
إسلامية كما تفعل دولكم في تعاطفها وتحالفها؟ ! . ما كانت حكومتان لنا متحالفتين
لإعلاء كلمة الله لا سيما في هذه الأزمان، إنْ هم إلا متحالفون لوجه الشيطان،
بالأمس قامت دولكم على دولة مراكش الإسلامية فاتحدت على ما شاءت من
السيطرة عليها ولم تطلب دولة الترك ولا دولة الفرس أن يكون لهما معكم سهم ولا
قالت واحدة منهما كلمة تُشعر بالغيرة عليها أو المساعدة لها بل هما الآن متناوئتان
كل منهما تحشد الجيوش على الحدود كأنهما متحدتان على إفناء ما بقي للمسلمين من
قوة واستقلال بفتْك كل منهما بالأخرى.
على أن الحكومات هي التي تعقد المحالفات وزمام الحكومة المصرية في أيديكم
وليس للأمة في أعمالها رأي، بل ليس للحكومة نفسها من دونكم أمر ولا نهي، بل
نقول لهم: لو كان للمصريين الذين تشكون من تعصبهم رأي لَمَا اتفقوا على الاعتصام
بالجامعة الإسلامية وإنما يعملون بما أرشدتموهم إليه من العصبية الوطنية فإنه وُجِدَ
فيهم كثيرون يَعدّون المسلم غير المصري فيهم دخيلاً ويأبون الاشتراك معه في أي
عمل ويفتخرون بمعاملة الأجنبي غير المسلم.
إذًا ماذا يريدون بهذا التعصب المصمئلّ، المتحفز لمواثبة الدول، المُخْرَنْبِق
لينباع، المجَرْمِز ليمُدّ الباع، المتربص ليغتال الثروة الأوربية، المتوثب ليمحو آية
المدنية.
ألا إنهم يعنون أن المسلمين حريصون على أن يكون حكامهم منهم وأشد ما
ينكرون من ذلك أن الإسلام قد جعل من حقوق الخليفة على المسلمين أن يستجيبوا
له إذا دعاهم إلى استئصال المخالفين لهم في الدين، ويعتقدون أن السلطان عبد
الحميد ما أحيا لقب الخلافة لنفسه، وعُني بإقناع الشعوب الإسلامية بالاعتراف به
باستخدام الجرائد وغير ذلك من الوسائل إلا ليمتع نفسه بهذه القوة المعنوية الهائلة
التي يستطيع أن يهدد بها أوربا في مستعمراتها متى شاء بل هو يهددها بالقوة
والفعل، ولولا ما تحدث له من الشواغل والعراقيل في كل وقت وما تنطوي عليه
جوانحه من الخوف والحذر لما أمنت دهاءه، وقد أُعطي هذه السلطة الدينية
المخيفة.
هذا ما يعتقد الأوربيون في التعصب الإسلامي وهذا ما يخافون منه.
ولمّا كانت مسألة العقبة ورأى اللورد كرومر أن السلطان قد ظهر فيها بمظهر الشدة
والحزم أولاً ورأى ثرثرة بعض جرائد المسلمين فيها بحقوق الخليفة والخضوع
للخليفة واستنادها في بعض ما تكتب على مختار باشا الذي أنيطت به هذه المسألة
خلافًا للعادة وقرأ ما كُتب إليه في ذلك اعتقد أن السلطان قد تجرأ بإيعاز إمبراطور
ألمانيا المتهور على استعمال تلك السلطة الدينية في هذه المسألة فكتب إلى دولته
بذلك فهو قد كتب عن التعصب في مصر ما يعتقد وتبعه وزير الخارجية في ذلك إذ
لا مصدر له في المسائل المصرية سواه.
فهل يفتأ الكثيرون يقولون: إن اللورد قال ما لا يعتقد وكذلك الوزير؟ وهل تظن الجرائد بما أكثرت من الكتابة في التعصب أنها فتلت في الذروة والغارب،
وأقامت الحجة على اللورد والوزير وسائر الأجانب؟ ! .
الحجة الناهضة على تبرئة الإسلام نفسه من هذا التعصب المزعوم هي آي
القرآن الناطقة بتحريم العدوان، وبأن القتال خاص بمن يقاتلوننا في الدين أي
يقاتلون لأجل منعنا من الدعوة إلى ديننا أو من إقامته وإحياء شعائره. وهذه الآيات
كثيرة جدًّا وقد تقدم تفسير أكثرها في المنار وحَسْب المنصف منها قوله تعالى:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) وقوله عز وجل: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى
إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: 8-9) .
لو فقه الأوربيون هذه الآيات الثلاث لأذعن المنصفون منهم بأنه لو لم يَفْضُل
الإسلام جميع الملل إلا بها لكانت كافية في تفضيله عليها ولودّوا لو أقام المسلمون
هذه القرآن واهتدوا به؛ الآية الأولى تأذن للمسلمين بقتال من يقاتلهم خاصة،
وتحرم عليهم أن يكونوا هم المعتدين ومن فروع هذا التحريم ما جرى عليه
المسلمون في حروبهم من عدم التعرض للرهبان والعُباد والنساء في بلاد الحرب؛
لأنهم ليسوا ممن يحارب. وأما الذمي والمعاهد والمستأمن فيجب على المسلمين
حمايتهم ممن يحاول الاعتداء عليهم، فهل يجوز الفتك بمن تجب حمايته من
عدوه؟ ! . أما الآيتان الأُخْريان فقد نزلتا في التمييز بين المحاربين لنا في الدين
الذين نهانا عن موالاتهم في أول السورة وفي سور أخرى وبين غيرهم. فقال في
أول هذه السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم
بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
رَبِّكُمْ} (الممتحنة: 1) .. الآيات، وفيها بعد وصف هؤلاء الأعداء بأنهم أخرجوا
الرسول والمؤمنين من وطنهم (مكة) لأنهم يؤمنون بالله أنهم إن ظفروا بهم بعد هذا
النفي والإخراج يكونوا لهم أعداءً ويودوا لو يكفرون مثلهم ويبسطوا إليهم أيديهم
وألسنتهم بالسوء أي أنهم لم يكفوا بعد الإخراج والنفي عن عداوتهم.
بعد هذا قال سبحانه: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم
مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ..} (الممتحنة: 7-8) إلى
آخر الآيتين. فهو بعد إطماع المؤمنين في تحويل العداوة بينهم وبين أولئك الأعداء
إلى مودة قال إن النهي عن اتخاذهم أولياء لا يعمّ كل مشرك منهم حتى الذين لم
يقاتلوا المسلمين لأجل الدين ولم يخرجوهم من ديارهم فهؤلاء وإن كانوا كفارًا لا
ينهى عن برهم والإحسان إليهم وعن معاملتهم بالعدل وإنما النهي خاص بالذين
قاتلوهم في الدين لتحويلهم عنه ومنعهم من الدعوة إليه وأخرجوهم من ديارهم أو
ساعدوا المُخرِجين لهم على نفيهم وليس نهيًا عن معاملتهم بالعدل، بل هو نهي عن
ولايتهم ومحالفتهم ومناصرتهم؛ لأن هذا ظلم بيِّن للمسلمين.
هذا ملخص معنى الآيات فهل وُجد في العالم نبي أو حكيم أو أديب أمر
بمعاملة أعدائه وأعداء قومه بمثل هذه المعاملة التي جمعت بين العدل والرحمة على
أكمل وجه؟ أليس من أقبح الظلم وأشنع الكذب والزور أو من أشد فضائح الجهل أن
يقال في دين جاء بهذا الكمال الأعلى: إنه خطر على البشر؛ لأنه يأمر بإبادة
المخالفين له وإن كانوا مسالمين لأهله ونافعين لهم كما يقول بعض الإفرنج؟ بلى
ولكن أكثر الإفرنج يحكمون على الإسلام بما يحكيه عنه أفراد من غُلاتهم في
التعصب أو من بعض جُهال المسلمين وغوغائهم أو الذين ينتحلون السياسة
ويجعلون الدين آلة لها وهم به جاهلون.
إذا كان الإسلام نفسه بريئًا من هذه التهمة التي يلصقها به الأوربيون ويسمونها
تعصبًا فإنني لا أبرّئ كثيرًا من عَوامّ المسلمين الجاهلين من اعتقاد وجوب طاعة
السلطان إذا أمر بقتل المختلفين في الدين، وإن كانت الأمة الإسلامية قد أجمعت
على أنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ومن أكبر المعاصي الاعتداء على
غير المعتدي. وما جاء هذا الاعتقاد من الدين بل جاء من السياسة ولا نعرف تاريخ
حدوثه، ولعله كان في أيام حرب الصليب، وقد اشتهر أن السلطان سليمان استفتى
شيخ الإسلام أبا السعود في إلزام نصارى الرومللي بالإسلام أو إبادتهم؛ لأن بقاءهم
متمتّعين بحريتهم في الدين واللغة وجميع الشؤون الاجتماعية خطر على الدولة؛
لأنهم لتعصبهم لا بد أن ينتهزوا فرصة ضعف في الدولة أو تورط في حرب شاغلة
فيخرجوا عليها فلم يفتِهِ أبو السعود بذلك، ولعله لو وجد دليلاً في الكتاب أو السُّنة
أو أقوال المجتهدين أو الفقهاء المرجحين يسمح له بإسعاف سياسة السلطان في ذلك
لأخذ به وأفتى وكانت القاضية.
إذا صدق ظننا في كون حرب الصليب هي مبدأ هذه الفكرة فكرة وجوب
طاعة السلطان إذا أمر بقتل المخالفين، فهي غرس الأوربيين الذين أثاروا تلك
الحرب بتعصبهم، وهم الذين يسقون هذا الغرس وينمونه بزعمهم أنه من أصول
الإسلام، ثم بدعوة بعض دولهم بعضًا إلى الاتحاد على المسلمين ومعاملتهم بالقسوة
ليؤمن شر تعصبهم هذا.
لا أدري أي الرأيين أضلّ، وأية السياستين شر، أرأي مسلم يظن أن اعتقاد
الأوروبيين بأن السلطان العثماني قادر على تهييج المسلمين على النصارى متى شاء
من عوامل القوة التي ترهبهم، فمن السياسة أن نمدهم في اعتقادهم هذا وإن كان
خطأ عسى أن يخف ضغطهم عمن تحت سلطتهم من المسلمين ويقل تحاملهم على
الدولة العثمانية، أم رأي أوربي أو نصراني شرقي يتهم المسلمين بالتعصب
وانتهاز الفرص للإيقاع بالمخالفين عامة أو بالنصارى خاصة، ويظن أن هذا من
السياسة المثلى التي تعود على أصحابها بالفائدة الكبرى وتمكِّن لهم في الأرض،
فيبلغون ما أرادوا من سيادة وكسب، ألا يجوز أن تأتي كل من السياستين بنقيض ما
يراد بها فيكون إيهام المسلمين للأوربيين بأنهم مستعدون للفتك بهم عندما تحركهم
إرادة السلطان جامعًا لكلمة أوربا على ابتسار الثمرة قبل إرطابها. أو اجتثاث
الشجرة قبل أن تستوي على ساقها، أو يكون اتهام الأوربيين للمسلمين بالتعصب
هو الذي يجمع كلمة المغربي منهم بالمشرقي، والعربي بالعجمي، ويؤلف منهم
عصبية تجعل الظن يقينًا، والأماني منونًا، ولو بعد حين؟ .
أليس مما يذعن له كل منصف محب لخير البشر أن إنامة الفتن خير من
إيقاظها، وأن إزالة الإِحَن خير من إثارتها، فمن أظلم ممن علم هذا فأعرض عنه
واستبدل التفريق بالتأليف، وأغرى القوي بالضعيف، أو شغل الضعيف عن قوته
الذاتية، وحمله على معاداة حكومته الحقيقية، أولئك المفرقون فريقان، هذا يقول
لأوربا: إن المسلمين متعصبون، فخذيهم بالعذاب لعلهم يرجعون، وهذا يشغل مَن
تسوسهم أو تسودهم أوربا عن قوتهم الذاتية، ويعلق أمانيهم بالدولة العثمانية،
ونحمد الله أنه لم يوجد في جرائدنا من ينفّر المسلمين من النصارى كافة كما يوجد
في الجرائد الإفرنجية والمتفرنجة من ينفّر النصارى من المسلمين كافة بدعوى أن
المسلمين متعصبون عليهم، إذًا لو وقعت الواقعة، فكانت خافضة رافعة.
أما ميل المسلمين إلى الدولة العثمانية في مسألة العقبة وفي غيرها من المسائل
فليس من العدل أن يجعل بمجرده من التعصب الديني الذين يخشى منه على غير
المسلمين عامة وعلى الأوربيين خاصة؛ لأن الدولة دولتهم باعتراف إنكلترا وسائر
دول أوربا على أنهم لا يرضَوْن ترك استقلالهم لها ولا هي تطمع بذلك، ثم إن
موضع العقبة من جزيرة العرب وكونه سيكون بالحرمين الشريفين بجعله محطة
لسكة الحديد الحجازية واعتقادهم الديني في الحرمين معروف، فإذا كانوا لا
يرضون بأن يكون الحَرمان وما هو حَرَم لهما من الجزيرة تحت سلطة أجنبية فهم
معذورون؛ لأن هذه الأرض المقدسة بمنزلة المساجد عندهم وأي متدين في العالم
يرضى أن تكون معابده ومعاهده المقدسة تحت سلطة المخالف له في دينه؟ !
أوَليس القائل بأن هذا من التعصب هو أشد الناس غلوًّا في التعصب وأجدرهم بمَثل
(رمتني بدائها وانسلت) ؟ .
إن أكثر الذين يرمون المسلمين بالتعصب ينطقون بلسان السياسة وللسياسة
سريرة لا تعلم، ولغة لا تكاد تفهم، فهي ككتب الجفر لا يعلم ما تطبِّق أو تنطبق
عليه إلا بعد وقوعه، فإذا كانت السياسة تريد عملاً يتوقف على رمي المسلمين
بالتعصب فهي ترميهم به تمهيدًا لذلك العمل فلا كلام لنا مع أهلها في ذلك؛ لأننا
لسنا من أهل الشورى في سياستهم فنقول: هذا ضارّ بنا أو بكم، وهذا نافع لنا أو
لكم، أو نحن فيه سواء إذ ربما كانوا في هذه يشْكون من التعصب ظاهرًا ويبغون
في الباطن إيجاده إن لم يكن موجودًا وحينئذ نَدَع للمستقبل خطابهم فهو أقدر على
إقناعهم وإن كانوا يقولون ذلك معتقدين له ومتبرمين منه فإننا نقول لهم بلسان
الصدق كلمة ربما كانت مزيدًا في علمهم الواسع لا يستغنى عنه:
إننا لا ننكر أننا نحب أن يكون حكامنا منا فإن هذا من خصائص البشر مهما
انحطوا ولا نراكم تعيبوننا وتعاقبوننا على كوننا من البشر، إن تريدون بتسمية هذا
تعصبًا إلا أننا نتربص الدوائر بمن يحكمنا من غيرنا لنثور عليه، وهؤلاء مسلمو
روسيا حُجة عليكم تشاهدونها الآن فهم لم يفعلوا بحكومتهم المستبدة عند
الفرصة ما فعل غيرهم، ولا تنسون ما فعل بعض نصارى البلقان من قبل وما
يفعلون الآن في مكدونية.
إن نحن إلا بشر مثلكم نحب مصلحتنا ونغار على حقيقتنا على أننا أَصْفى أهل
الملل قلوبًا وأَسْلم عاقبةً. إن كنتم تودون الوفاق والجمع بين مصلحتنا ومصلحتكم
فإن ذلك ممكن لا يحول دونه تعصب ديني ولا غيره ونحن مستعدون لبيان أقرب
الطرق إليه إن شئتم. وإن كنتم تبغون الأَثَرة فينا والافتيات علينا وتعدون عدم الرضا
بذلك سرًّا وجهرًا من التعصب فاعلموا أننا متعصبون؛ لأن طبيعة البشر قد جبلت
على النُّفرة من المتسلط الذي يستأثر بالمصالح والمنافع فلا يسمح مختارًا بشيء منها
للمتسلط عليهم إلا إذا كان انتفاعه يتوقف على ذلك السماح وإن كان متفقًا معهم في
الجنس واللغة والدين والوطن فكيف إذا كان مخالفًا لهم في كل شيء؟ إذًا لا علاج
لهذه النفرة إلا العدل والمساواة والتوفيق بين المصالح وبهذه المزايا ساد الإسلام أكثر
شعوب الأرض في أقل من قرن واحد ونراكم لا ترضون بمساواتنا في بلادنا التي
نحكمها بَلْهَ بلادنا التي وقعت في حكمكم، ثم تقولون: إن ديننا جاء بالتعصب على
أنه كان يساوي أخسّ رجل من المخالفين بأعظم سيد في المسلمين كعلي بن أبي
طالب، وإنا متعصبون؛ لأننا لا نرقص طربًا لامتيازكم علينا وترفُّعكم عن
مساواتنا! ! ! .
(ذلك شأن القوة تقول ما تشاء وتفعل ما تشاء ولا تخشى معارضًا فجازى الله
رؤساءنا الذين أذلونا بظلمهم وجهلهم واستبدادهم وأضعفوا حجتنا كما أضعفوا سلطتنا
حتى صار بعض الأجانب أرحم لنا منهم، فهو يُدِلُّ علينا بعدله الإضافي ولولا ذلك
الإذلال لما كان هذا الإدلال) .
وجملة القول أن الإسلام أعدل الأديان وأرحمها بالمخالف فوصْف الإفرنج
ومقلديهم إياه بالتعصب المذموم ظلم، منهم المعتقد له سياسة ومنهم المقلد للقسوس
وللسياسيين فيه، وإن المسلمين إذا كانوا لا يسلمون من التعصب فهم أقل تعصبًا لا
سيما في هذه البلاد من جميع أهل الملل العائشين معهم وإن الإفرنج والمتفرنجين هم
الذين أيقظوا شعور التعصب فيهم بأقوالهم وأفعالهم ولذلك ترى العارفين بلغة من
لغات أوربا والمتعلمين في مدارسها أقرب إلى التعصب من المتعلمين في الأزهر
وأن هذا التعصب لا يخشى منه على أحد من غير المسلمين في مصر ولا في
غيرها إلا إذا اتحد النصارى كلهم على محاربة المسلمين وإزالة ملكهم وأن السلطان
نفسه لا يقدر على الأمر بالنفير العام من غير هذه الحالة؛ إذ لا يفتيه شيخ الإسلام
ولا غيره من العلماء بجواز اعتداء المسلم على من لم يعتدِ عليه؛ لأن هذا مخالف
لنص القرآن وأن وزير الإنكليز قد عنَى بالتعصب ما ذكرنا تبعًا للورد كرومر وهما
يعتقدان أنه قد تهيج في مصر أيام حادثة العقبة وأنه كان يخشى من الفتن لو اشتد
النزاع وطال أمده فاحتياط إنكلترا كان من العقل والسياسة وإنا نعتقد أنه لم يكن
هناك خطر على الأوربيين وأن حادثة دنشواي لا علاقة لها بتعصب الفلاحين ولا
بمسألة العقبة، وإنما كانت جرائمهم على الضباط احتماءً مجردًا من كل شائبة ما
عدا خشونة القوم المعهودة في دفاعهم عن حقيقتهم، وأن إنكلترا قست في عقوبتهم
لكيلا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم وأنها خسرت بهذه القسوة معظم ما ربحته في
السنين الطويلة من الميل إليها والأنس بحكمها إلا أنها خسارة تزول وقسوة تنسى إذا
حسنت الحال بعدها، وإن المصريين أشد المسلمين تساهلاً وأقربهم للمخالف في الدين
مودة.
هذا وإن المسلمين ثلاثة أصناف: المشتغلون بعلوم الدين كأهل الأزهر
والمشتغلون بعلوم أوربا، والعوامّ.
فأما الصنف الأول فيعتقدون أن الذمي والمعاهد وهو مَن بَيْنَنا وبين دولته عهد
سِلمي كأهل أوربا الآن والمستأمن وهو مَن دخل من الحربيين بلادنا بتأمين منا
وإن شئت قلت: يعتقدون أن جميع المخالفين لنا في الدين غير المحاربين - يحرم
الاعتداء عليهم وإيذاؤهم بل تجب علينا حمايتهم ممن يريد الاعتداء عليهم ولو
بمقاتلته والنفقة عليهم عند الاضطرار وتستحب النفقة عليهم إذا كانوا فقراء،
ومنتهى ما عند هؤلاء مما ربما يؤخذ عليهم في هذا العصر هو عدم الائتلاف
والانبساط مع المخالف لعدم العادة. وأما العوامّ وهم الصنف الثالث، فإنهم كما قلنا
يعتقدون أن السلطان إذا أمر بالاعتداء على كل مخالف وجبت طاعته لا سيما إذا
حمل راية الرسول صلى الله عليه وسلم وهم فيما عدا هذا الاعتقاد أقرب إلى سلامة
القلب وأبعد عن عداوة المخالف من عوام سائر الملل. وهذا الاعتقاد لا يخشى
ضرره وجعْله مسارًا للفتن إلا في الحالة التي أشرنا إليها وهى قيام النصارى كافة
على المسلمين ولن يكون ذلك، فإن كان فالمتعصب هو المعتدي والعوامّ يتبعون
علماء الدين، فإذا حدثت أمور يخشى معها اعتداء العوام على غيرهم فإن علماء
الدين يقدرون على دفع كل مَخْشيّ بالخطب في الجوامع وفى الجرائد مثل هذه البلاد
فإذا كتب كبار علماء الأزهر في الصحف المنشّرة أن العدوان حرام امتنع العدوان
وكان ذلك أَفْعَلَ من كثرة الشُّّّرط والجنود.
وأما الصنف الثاني في الذكر أعني المتعلمين للعلوم الأوربية، فأكثرهم لا
يمتازون عن العوام في علمهم وشعورهم بالدين ومنهم المارق منه ولكنهم أشد
حرصًا على السلطة من غيرهم ولا شيء ينفخ فيهم روح التعصب لها مثل وقوفهم
على مطامع الأوربيين، وسماعهم لأقوالهم في المسلمين، فهم يميلون إلى التعصب
سياسةً لا تدينًا، ولكن روح تساهل الإسلام غلب عليهم حتى لا يسلم منه المارق
منهم، وإنني سمعت غير واحد من كبار رجال الحكومة ومتوسطيهم يقولون: إنهم
يتهموننا بالتعصب يا ليته كان صحيحًا. فليعلم الأوربيون أن أبعدنا عن التعصب
أقربنا من الدين، وأدنانا منه أجهلنا بالدين وأعرفنا بأهل أوربا في علومهم ومدنيتهم
لا سيما من ذاق حفظها منا فمثار التعصب أوربا لا الإسلام نفسه وإذا ظلت أوربا
على اتهامها والافتيات علينا في شئوننا فيوشك أن يجيء يوم يكون فيه الشك يقينًا
وهو ما نسأل الله أن يقي البشر شرّه وإلا فإن في استطاعتها أن تجمع بين مصلحتها
ومصلحتنا ولكن بعد استشارة أهل الرأي منا وعَدّنا من البشر الذين يشعرون
ويعقلون، ويسرّون ويألمون، ولله في خلقه شئون، وهو يعلم ما لا نعلم ولا
يعلمون.
__________(9/427)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الرد على الشيخ بخيت
2- وصفه الفونغراف
قلنا في الانتقاد الوجيز الأول: إنه وصف الفونوغراف وصْف مَنْ لم يره ولم
يعرف شيئًا من علم مخترعيه فجاء في رسالة (رفع الوهم والاشتباه) يرد على
قولنا بأنه وصفه بالمقدار الذي يتعلق به ما كان بصدده قال: (كما في ص 26) :
وقد أخذنا وصفنا عن أهل الخبرة به وهو أيضًا مطابق في النتيجة تمام المطابقة لما
وصفه به المقتطف بالجزء التاسع من السنة الثانية. اهـ. وكان نقل عبارة
المقتطف في (ص7و8و9) ويعني بمطابقة وصفه لوصف المقتطف في النتيجة
اتفاقهما على أن الفونغراف آلة ناطقة! ! .
ألا هل من قارئ فيفهم. ألا هل من متفكر فيعجب. ألا هل من عاقل منصف
فيفقه كُنه هذا المصنف؟ ! إننا انتقدنا عليه وصفه الفونغراف وهو الآلة الناطقة
وصْف من لم يره. نعني أن الوصف غير مطابق للموصوف. فإذا كان الانتقاد
خاصًّا بما وصف به هذه الآلة الناطقة لا في تسميتها آلة ناطقة، فكيف يرد علينا
بأن المقتطف وصفه وصفًا آخر نتيجته أنه آلة ناطقة؟ أليس هذا اعترافًا بأنه أخطأ
في الوصف وأننا أصبنا في الانتقاد عليه؟ إذا وصف كاتبان الآلة الرافعة للأثقال
فذكرا أجزاءها وكيفية تركيبها وطريقة رفعها للأثقال فأخطأ أحدهما في الوصف
وأصاب الآخر مع اتفاقهما على كون الموصوف آلة رافعة؟ فهل يصح الرد على
من ينتقد وصف المخطئ بأنه موافق للمصيب في كون الموصوف آلة رافعة؟ وإذا
كان قوله: إنه موافق للمقتطف في كون الفونغراف آلة ناطقة فقط اعترافًا بأنه
مخالف له في وصفها وأننا مصيبون في انتقادنا فلماذا نقل عبارة المقتطف وهي
حجة عليه ولا حاجة في إثبات كون الفونغراف آلة ناطقة إلى إيرادها إذ لا نزاع في
ذلك؟ ولماذا قال: إنه أخذ وصفه عن أهل الخبرة؟ أليس هذا إصرارًا على دعوى
الإصابة في الوصف؟ كيف يجمع بين ما يقتضي الاعتراف بالخطأ وما يقتضي
إنكاره، وكيف يورد ما هو حجة عليه على أنه حجته، هل يسلم العاقل المنصف
بأنه فهم ما كتب أم التأليف عند أمثاله عبارة عن إيراد النقول، وقال ونقول، وإن
لم يتصل ما يسمى دليلاً بالمدلول، سيعلم القارئ مما يأتي ما يدل مع ما عَلِمَهُ هنا
على أنه كتب بغير فهم وأن التأليف والمناظرة عنده عبارة عن مراجعة المسائل التي
تراد من مظانها (أي من المواضع التي يظن أنها توجد فيها من الكتب) وجمْعها
منها وكتابتها وربط بعضها ببعض بعبارات تدل على أن هذه النقول موافقة لما
يدعي وإن كانت في نفسها مخالفة له وحجة عليه.
إنما كان انتقادنا عليه بما أخطأ في وصف الفونغراف وفي قوله: إن السائل
الذي سأله مقيم في الأناضول في الرومللي الشرقي بولاية سلانيك للتنبيه على أن
العالِم الديني يحتاج في هذا العصر إلى الوقوف على العلوم والفنون المتداولة فيه
ولو بطريق الإجمال الذي يعد صاحبه لمعرفة التفصيل عند الحاجة إليه فإن المسائل
الشرعية تتعلق بأعمال الناس وصنائعهم ومعارفهم ومواقع بلادهم فإذا كان الفقيه
يجهل ذلك تعذر أو تعسر عليه فهْم كثير من المسائل التي يحتاجون إلى معرفة حكم
الشرع فيها وقد يتكلم أو يكتب في مسألة من هذه المسائل على جهل بموضوع
السؤال فيعرّض نفسه بل وصِنْفه للاحتقار والازدراء. ولم نبين هذا الغرض
اعتمادًا على اكتفاء اللبيب بالإشارة ولكنه لغروره بشهرته لم ينتبه للمراد وقام برَمينا
بقلة الأدب معه كما علم القارئ من الجزء الماضي.
إلا أننا لم نقصد تنبيهه وحده لما ذكر وإنما افترضنا خطأ أحد المشهورين من
علماء الأزهر بمعارضة الإصلاح وذم العلوم التي يسمونها العصرية لتنبيه جميع
من على شاكلته إلى الحاجة إليها وكون الجاهل بها عرضة للازدراء. وإننا والله لم
نكتب تلك العبارة الوجيزة إلا بعد أن سمعنا الناس في بعض سُمَّارهم يضحكون من
تينك المسألتين ويقولون في مؤلف الرسالتين ما لا ينبغي أن نكتب! .
رأينا بعد تردد أنه لا حاجة إلى ذكر عبارته في وصف الفونغراف وعبارة
المقتطف التي قال: إنها موافقة لها في النتيجة وبيان الفرق بينهما؛ لأن هذا لا يفيد
قراء المنار فدَعه يعتقد أن الفونغراف صندوق وأنه له مخارج كمخارج الحروف
وشيء يشبه حنجرة الإنسان وأن الغرض من إدارة الزنبلك إدخال الهواء في
الصندوق لأجل أن يقرع ما يشبه الحنجرة ويكون الصوت وأن (ذلك الصندوق في
مجموع أسطواناته يشبه الإنسان في استعداده؛ لأن يصدر منه ويسمع منه كلام)
وأن الفرق بينه وبين الإنسان من وجهين: أحدهما أن مخارج الإنسان مستعدة وقابلة
بعد التكلم وقبله كل كلام.. ومخارج كل أسطوانة من أسطوانات الصندوق مستعدة
وقابلة؛ لأن يتوارد عليها خصوص الكلمات التي تكلم بها المتكلم، وثانيهما أن
الإنسان يتكلم بقصد وشعور والصندوق ليس كذلك! ، دعه في اعتقاده هذا فإنه لا
بدع في خطئه إذا أخطأ في وصفه ولا غرابة في إصابته في بعضه بعد ما سمع من
أهل الخبرة ما سمع وإنما العبرة في استباحته الكلام فيما لا يعلم وإصراره على
الخطأ بعد العلم به ومحاولته إيهام الناس أنه أصاب. وهذه العبرة تكون أكمل في
المسائل التي من شأن مثله أن يكون عارفًا بها وهي ما يأتي بعد المسألة الجغرافية.
***
(المسألة الجغرافية)
قال الشيخ بخيت في أول رسالة السكورتاه: قد ورد علينا خطاب من بعض
العلماء المقيمين بالأناضول بالرومللي الشرقي بولاية سلانيك العثمانية يتضمن كذا..
إلخ فانتقدنا عليه ذلك وبيّنا له أن الأناطول ولاية في آسيا وأن الرومللي الشرقي
غلب على ولاية من ولايات الدولة في أوربا دخلت في إمارة البلغار وأن سلانيك
ولاية عاصمة من مكدونية لا تزال في حكم الدولة، وتمنينا لو أنه أطلع أحد أولاده
الذين يتعلمون في المدارس على رسالته قبل طبعها لعلهم يصلحون له هذا الخطأ
الذي يُعدّ من الفضائح في هذا العصر، وإن لم نصرح بذلك في الانتقاد الأول بل
نبهنا المؤلف إلى حاجة علماء الدين- لا سيما الذين يدعون الاجتهاد - إلى علم
تقويم البلدان كما سيأتي. اعترف بالخطأ في هذه المسألة ولكنه تبرأ منه وألصقه
بالمطبعة المسكينة فقال ما نصه، وفيه عبرتان إحداهما في العبارة والثانية في
البراعة:
إن ما جاء في الرسالة الثانية في بيان محل إقامة السائل على وجه ما ذكره
خطأ لا يخفى على من يعلم الجغرافيا ومن لا يعلمها ولكنه خطأ مطبعي، وقد جارى
فيه الطبع بالطبع ما جاء في خطاب السائل حيث قال فيه ما لفظه: (محل الحادثة
ببلدة دراما بولاية سلانيك في روماللي الشرقي) اهـ. ثم ذكر أن مثل هذا الخطأ
يقع كثيرًا.
أقول: (أولاً) : قوله: إن هذا الخطأ لا يخفى على من لا يعرف الجغرافيا
غير صحيح والذي جرَّأه على كتابته وهو بديهي البطلان إرادته إيهام القارئ أن
مثل هذه المسألة لا تخفى عليه والإيهام دأبه وعادته وقد روي عنه أنه أخطأ فيما هو
أشد من هذه المسألة ظهورًا؛ وذلك أنه كان ينظر في قضية بالمحكمة الشرعية قبل
عزله بزمن وكان أحد الخصم فيها رحلا من خانية فسأله الشيخ بخيت عن بلده فقال:
خانية فسأله: أين خانية؟ قال: في كريت. سأله: ألست من أهل كريت نفسها؟
أجاب: بلى. فاشتبه على الشيخ بخيت كونه من أهل خانية ومن أهل كريت معًا
وسأله في ذلك فأجابه إن كريت جزيرة، وإن عاصمتها مدينة تسمى خانية وهو منها،
قال الشيخ بخيت: كلا، إن عاصمة كريت هي مدينة كريت فقال الرجل: إنه
ليس في جزيرة كريت بلدة تسمى كريت فلم يصدقه الشيخ بخيت وصدقه حسن بك
صبري وكان محاميًا في القضية فلم يقبل الشيخ بخيت قوله وعدَّه غير معقول وكأنه
استنبط هذه المسألة بقياس مصر على كريت؛ إذ يطلق اسم مصر على القطر كله
وعلى عاصمته. ولم يزل يجادل في ذلك حتى قال له أحد أعضاء المحكمة: إن
حسن بك صبري يعد عالمًا اختصاصيًّا بعلم تقويم البلدان حتى إن المحكمة إذا
أرادت تعيين خبير في مسألة تتعلق بالبلاد ومواقعها يمكنها أن تعتمد عليه فلِمَ لا
تصدقه؟ ! قال الشيخ بخيت: وأي شيء علم تقويم البلدان والجغرافيا؟ ! هذا
علم الشحاذين! ! .
أوردنا القصة بالمعنى كما بلغنا ولم يفهم الحاضرون مراده بقوله هذا علم
الشحاذين لأنهم يعلمون أن أوسع الناس علمًا بهذا العلم رجال السياسة من الملوك
والوزراء وقواد الجيوش على أنه لا يُعلَّم إلا في المدارس التي لا يدخل فيها
الشحاذون ولعله يريد أن الفقراء السائحين المعروفين بالدراويش يعرفون ما يعرف
أهل هذا العلم وبهذا يعد العلم مبتذلاً لا غضاضة على الجاهل به كأنه يظن أن هذا
العلم عبارة عن معرفة أسماء البلاد فقط وفاته أن أكثر علماء الأزهر يجهلون
جغرافية بلادهم نفسها إلا مَن تعلمها في هذه السنين! .
(ثانيًّا) قوله: (وقد جارى فيه الطبع بالطبع..) .. إلخ من اللغو الذي لا
يقبله طبع ولا عقل وما أوقعه فيه إلا ابتغاء البلاغة بالجناس وتأمل قوله: (على
وجه ما ذكر) فإنه ليس له وجه وجيه.
(ثالثًا) : لا يعقل أن تكون العبارة في الأصل الذي أرسل إلى المطبعة هكذا
(المقيمين ببلدة دراما بولاية سلانيك في روماللي الشرقي) فيجعلها طبع أهل الطبع
خطأ منهم (المقيمين بالأناضول بالرومللي الشرقي بولاية سلانيك العثمانية، فإن
مثل هذا الإبدال والقلب ليس من طبع أهل هذه الصناعة على أن الرسالة ما طُبعت
إلا بعد عرضها على المؤلف وتصحيحها) ! ! !
ثم قال الشيخ بخيت بعد ما تقدم: (وبيان محل إقامة السائل لا يتوقف عليه
شيء مما نحن بصدده وعدمه، ولذلك لم نهتم له حين ما تنبهنا إليه بعد الطبع)
نقول: نعم، إن بيان حكم المسألة لا يتوقف على معرفة مكان من يسأل عنها ونحن
لم نقل: إنه أخطأ في الجواب تبعًا للخطأ في معرفة المكان كيف وقد غلب على
ظننا أنه لا سؤال ولا سائل؛ إذ لا يمكن أن يوجد سائل مقيم في أمكنة مختلفة فما
هذه المراوغات والمغالطات؟ ! .
ثم قال: (وأما دعواه أننا ممن يذم علم الجغرافيا وينفر عنها فهي دعوى
باطلة عاطلة) إلى أن قال: إننا من شدة حسدنا له نخترع عليه الأباطيل.
ونقول: هل ينكر الشيخ بخيت أنه هو الكاتب لما نشره المؤيد في أواخر سنة
1317 بإمضاء (ثابت بن منصور) في ذم الجغرافية والتاريخ والحساب العملي
وزعم أنها علوم تضعف العقل؟ إن كان ينكر ذلك بعد اعترافه به لغير واحد من
أهل الأزهر وعلمه بأن صاحب المؤيد لم ينسه، فحسبنا ما يسمعه هؤلاء من إنكاره أم
يقول: إن هذه العلوم من الكمالات البشرية لغير أهل الأزهر ومن النقائص لهم؛ لأنها
تضعف عقولهم عن إدراك علوم الشرع، أم كان ما كتبه مقاومة للإصلاح في
الأزهر في ذلك الوقت لأمر ما، ولهذا الوقت الذي لا يطالب فيه بالإصلاح هناك
مطالب قول آخر؟ .
أما ما أكثر القول فيه من أننا نحسده فجوابنا عنه أننا نراه أجدر بأن يُرحم منه
بأن يحسد، وإننا ندعو الله أن لا يبتلينا بمثل علمه وتأليفه وأن يعافيه هو من
الابتلاء بمثل ذلك في مستقبل حياته.
ثم قال: (وأغرب من دعواه ما ذُكِرَ دعواه أن الاجتهاد اليوم لا يتم إلا
بالجغرافيا على الإطلاق حتى فيما نحن بصدده وأمثاله مما لا يختص بكون السائل
في مكان دون مكان، ولكن الحسد يعمي ويُصم والعياذ بالله تعالى) اهـ.
وأقول: إن مَن له ذوق يدرك به مرامي أساليب الكلام لا يفهم من قولنا: إن
الجغرافيا (انتقمت منه لنفسها وعلَّمته أن الاجتهاد لا يتم اليوم بدونها) ما فهمه من
أن العبارة من باب الحقيقة وأن الاجتهاد فيها يشمل الاجتهاد الجزئي ولو فيما لا
علاقة له بالبلاد والمواقع، وإنما يفهم صاحب الذوق أنها من باب الكناية أو
التعريض.
على أن الاجتهاد المطلق الذي يكون صاحبه إمامًا قادرًا على استنباط الأحكام
في كل موضوع يكون من تمامه الوقوف على هذا العلم لا سيما في هذا الزمان الذي
صارت مسائل الحدود فيه بين الممالك من أهم المسائل وأحوجها إلى التدقيق
ويترتب عليها كثير من المسائل الفقهية في زمن الحرب والسلم. وقد بينا مسائل
أخرى تتوقف معرفة حكم الشرع فيها على علم تقويم البلدان فيما كتبناه في المؤيد
والمنار من الرد على ما كتبه الشيخ بخيت وغيره من علماء الأزهر في أواخر سنة
1317 (راجع ص79، م3، من المنار) .
ونكتفي بهذه الكلمات في هذه المسألة ولينتظر الرد على استنباطه جواز كون
إمام المسلمين كافرًا من الحديث المنكر وعلى ما قاله في تصحيحه فهو الذي يُظهر
غاية شوط الرجل في العلوم الدينية فيعلم هل هي مما يحسد عليها أو يستعاذ
منها؟ ! . وبالله التوفيق.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(9/438)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رأي في اللغة العربية
قرأنا في الجزء السابع من المقتطف مقال (انتقاد فتاة مصر) لجبر أفندي
ضومط أستاذ اللغة العربية والبلاغة في مدرسة الأمريكان الكلية ببيروت ومؤلف
الكتب المفيدة في النحو والبلاغة - فرأَينا أن ننقل منه رأيه في الانتقاد اللغوي ونبين
رأينا فيه. قال:
ثالثًا: الانتقاد اللغوي
(وكثيرون من منتقدينا يأتون في هذا النوع من الانتقاد بالمبكيات المضحكات
ولا أحاشي جلة من أكابر علمائنا وكتابنا معًا. والغريب أن بعضهم ينكر القياس فلا
يجيز في الاستعمال إلا ما نص عليه في كتب أمهات اللغة، فإن لم ينص الصحاح
أو الفيروزآبادي أو لسان العرب على (احتار) مثلاً يؤاخذون من يستعملها ولو تابع
في استعمالها كثيرين من أكابر الشعراء والفقهاء. وكاد العلامة السيد محمد رشيد
رضا صاحب مجلة المنار المشهورة يهوي في مهواة هؤلاء الأقوام فإنه على سعة
علمه لم يرُقه استعمال بعضهم (احتار) مع معرفة أنه قد استعملها قبله الإمام ابن
الفارض المشهور وبعض غيره من أكابر الفقهاء كصاحب الكتاب المسمى برد
المحتار على الدر المختار. وكنت أعجب من تضييق هاته الفئة كل هذا التضييق
وما الذي يعتمدونه في الأخذ بهذه الخطة التي أخذت بخناق الكتبة والمؤلفين وخالفت
مبدأ لغة من أشهر لغات العالم باعتمادها على القياس وبمناسبة أوضاعها له حتى في
الحركات والسكتات الإعرابية إلى أن وقفت على ما كتبه العلامة الفيلسوف الإمام
الغزالي في الرد على المشبِّهة والحشوية في كتابه إلجام العوامّ فترجَّح لي أن كلام
الإمام هناك استهوى القوم فقاسوا عليه لكن حيث لا يصح القياس لوجود الفارق فأدى
قياسهم هذا لسوء الطالع إلى ما كاد يبطل القياس في ألفاظ اللغة حيث تمس الحاجة
إلى القياس وحيث لا مانع يمنع منه عقلاً أو نقلاً وبيان ذلك.
(إنه ورد في السنة ألفاظ في حق الباري سبحانه وتعالى توهم الجسمية كاليد
والعين والاستواء والنزول وغير ذلك مما أخذها الحشوية دليلاً على التجسيم
واستغووا بها العامة وبعض الخاصة بزعمهم أن ذلك مذهب السلف فتصدى الإمام
للرد عليهم وإليك بعض كلامه قال: وحقيقة مذهب السلف أن كل من بلغه حديث
من هذه الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة أمور:
(1) التقويس (2) التصديق (3) الاعتراف بالعجز (4) السكوت
(5) الإمساك (6) الكف (7) التسليم.
ثم فسر الإمساك بما نصه بالحرف الواحد قال: وأما الإمساك فأن لا يتصرف
في تلك الألفاظ بالتعريف والتبديل بلغة أخرى والزيادة فيه والنقصان منه والجمع
والتفريق بل لا ينطق إلا بذلك اللفظ وعلى ذلك الوجه من الإيراد والإعراب
والتصريف والصيغة.
ثم أفاض الإمام في هذا الموضوع بما هو غاية في بابه وحريّ بكل عالم من
علماء الكلام عند المسلمين وبكل عالم من علماء اللاهوت عند المسيحيين أن يقف
عليه فإنه مما تتطاول إليه الأعناق وتطمح إلى مثله الأبصار في كل زمان ومكان.
ولا يبعد عندي أن علوّ طبقة كلام الإمام الغزالي في هذا المقام الكلامي التنزيهي هو
الذي استهوى أهل هذه الفئة التي أشرنا إليها فعمموا الإمساك في كل ألفاظ اللغة مع
أن الإمام خصه ببعض ألفاظ منها وردت في القرآن وفي بعض الأحاديث مما تُوهم
التجسيم وبذلك حظروا على الكتبة والمتكلمين استعمال القياس حيث لا محظور من
استعماله فأبطلوا القياس بالقياس فيا لَلغرابة ويا لَلفهم والنظر الصحيحين! .
والغريب أن بعضًا من أهل الفئة يتسامحون في القياس إلا أنهم يتأَبّوْنَ كل لفظ
قاسته العامة أو استعملته على سبيل الكناية أو المجاز مع أن مسوغ القياس والمجاز
هو من الظهور حتى لم يخفَ على هؤلاء. وربما استعملوا بدلاً من ذلك اللفظ لفظًا
آخر هو في الأصل قياس أو مجاز، من ذلك: خابره في مسألة كذا أو تخابروا، فإنهم لا
يسوغون استعمال هذه اللفظة ويعدلون عنها إلى: نابأه في مسألة كذا، وتنابأوا. مع أن
هذه الأخيرة مأخوذة من النبأ والأولى من الخبر. والخبر والنبأ بمعنى واحد إلا أن
الخبر أعرف وأعم وأشهر. وكذلك يَأْبون استعمال تكاتفوا على كذا من الكتف ولا
يرون أنها كتظاهروا من الظهر على حين أن وضع الكتف للكتف في التعاون أقرب
للفهم؛ لأنه أكثر مشاهدة من وضع الظهر للظهر.
وبعضهم يرون استعمال التوفير من الكبائر ليس إلا لأن العامة تستعمله
بالمعنى الذي يراد استعماله أو وضعه له. وبعضهم يشدد النكير على عائلة الرجل
بالمعنى الذي تستعمله للعامة مع أنها (كعاقلة الرجل) من عال عياله كفاهم معاشهم
ومؤنهم أو من عال الشيءُ فلانًا أهمه، ومفادها بالقياس على عائلة الرجل أنهم
الجماعة الذين يعولهم أو الذين يهمونه، ولا أوضح من الكناية بها على نفس المعنى
الذي يراد في استعمالنا الدارج. ومثل ذلك تشديدهم على الدارج والخارج والخارق
إذا استعملت بالمعاني التي تستعمل لها في الدارج. وكل هذا غفلة عن النظر
الصحيح وقد جر إليه ما استهوى القوم من القواعد الموضوعية لتنزيه الباري تعالى
عن الجسمية على ما ألمعنا إليه. فيا لله متى نعدل عن هذا التحرج الذي يقضي
العقل والنقل بتركه؟) .
(ولا يسعني المقام الآن أن أخوض في هذا البحث إلى نهايته وربما عدت
إليه في آخر إذا أفسح لي المقتطف الأغر مجالاً بين صفحاته. ولنرجع إلى فتاة
مصر فأقول: إن الكاتب قال في صفحة 31 آخر الوجه: ولكن الرجل الغني
المطموع فيه يتناتشه الناس من كل جهة، فإن كان مبدأ الفئة التي أشرنا إليها
صحيحًا كانت لفظة (يتناتشه) فيها شيء من العامية، وعندي أن هذه العامية هي في
منتهى الفصاحة، ويا ليت الكاتب جاء في روايته بمئات من أمثال هذه اللفظة فإنها
لم تخرج عن القياس الواضح الذي لم يتغيب حتى عن العامة) اهـ.
(المنار)
إن علماء العربية قد بينوا ما هو قياسي في اللغة كالتثنية والجمع الصحيح وما
هو غير قياسي وهو ما يعبرون عنه بالسماعي ووضعوا لذلك القواعد والضوابط
ومنها أن أبنية الأفعال سماعية لا يصح أن تأتي من كل مادة بكل بناء وإن سمع مثله
من مادة أخرى، فإذا علمنا أنهم استعملوا من مادة الحيرة (حار وحيَّر وتَحيّر
واستحار) فقط اكتفينا بها ولم نزد عليها أحير إحارة وحاير محايرة واحتار احتيارًا
وتحاير تحايرًا وحيرر حيررة وتحيرر تحيررًا.. إلخ، وعلى هذا درج العلماء
والكتاب ومضت سُنتهم في انتقاد من خالف هذه القواعد فجاء بشيء غير مسموع
وهو مما لا يصح فيه القياس وإذعان المخالف للمنتقد إلا أن يكون في المسألة خلاف
في كونها مقيسة أو غير مقيسة فيذهب كل إلى مذهب حتى قام في هذا الزمان أناس
يرون أنه يجب أن يتصرف كل كاتب في اللغة كما يشاء ويختار فيدخل فيها من
العامي والمخترع والدخيل ما يستحسنه بلا قيد ولا شرط إلا مراعاة أفهام القارئين!
ولو جرى الناس على هذا الرأي في جميع الأقطار العربية لأصبحنا بعد زمن غير
طويل والمصري لا يفهم كتاب العراقي، والحجازي لا يفهم كتاب المراكشي بل
لصارت اللغة غير العربية المدونة في الكتب ولاحتجنا إلى معجمات جديدة وإلى
نحوٍ وصرف وبيان أيضًا لكل قطر! .
رأيت المنتصرين لهذا الرأي ثلاثة أصناف: الأول: قوم قليلو البضاعة في هذه
اللغة وفنونها وقد نصبوا أنفسهم للكتابة والتأليف وهم كثيرون {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ
فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ} (محمد: 30) .
والثاني: أناس يريدون إفساد العربية وهم قليلون.
والثالث: أفراد متساهلون في أمر الألفاظ لتعظيم شأن المعاني وهم على سعة في
العلم وقوة في الفهم وجبر أفندي ضومط من هذا الصنف، ولذلك يوجد في كتابه من
الأغلاط اللفظية ما لا تجد مثله في كلام مَن لا يدانيه في فنون العربية.
يوجد في مقابلة أصحاب هذا الرأي قوم جامدون على النقل كما قال جبر
أفندي حتى ضيقوا أبواب المجاز والنقل والقياس ولكنني لا أظن أنه يوجد في
المشتغلين بالعربية من يقول في اللغة كلها بمثل ما قال الإمام الغزالي في صفات
الباري سبحانه وتعالى، مثل ذلك أن ما جاء من هذه الكلمات المتشابهات مفردًا مثلاً
يمتنع تثنيته وجمعه كلفظ (عين) فقد ورد {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه: 39)
ولكن لا يجوز أن يقال: إن لله تعالى عينين إلا إذا ثبت ذلك بنص من الشارع فهل
يعرف المنتقد أحدًا ممن يصفهم بالجمود يقول: لا يجوز تثنية شيء من ألفاظ
العربية ولا جمعه إلا بنقل عن العرب؟ إني أجزم جزمًا بأن رأي الغزالي وغيره
في هذه المسألة لا دخل له في هذه المسألة قط.
وهناك قوم آخرون وسط بين هؤلاء وأولئك يقولون: إن باب القياس في أصل
العربية أوسع منه في عرف واضعي الفنون ولا سيما البصريين منهم وإنه ينبغي لنا
أن نسلك في العربية مسلك أهلها في الاشتقاق من الجوامد والتعريب والتجوز وغير
ذلك ولكن يجب أن لا نجدد فيها إلا ما نحتاج إليه ولا نجده في كتابها وإلا كانت الزيادة
تكثُّرًا يثقل علينا احتماله بغير فائدة أو من قبيل تحصيل الحاصل الذي لا يرضى به
عاقل، فكلمه (احتار) مثلاً لا حاجة إليها؛ لأنه ورد بمعناها حار وتحير وكاتب
هذه السطور يرى هذا الرأي ولكنه لا يطلق العنان فيه للأفراد لما يترتب على ذلك
من الفساد الذي أشرنا إليه في فاتحة الكلام بل يحتم أن يكون برأي جمعية من
العلماء يبحثون في ذلك ويجعلون له نظامًا وينشرون ما يرونه صوابًا في الصحف
ليعم الاستعمال، ويُؤمن الاختلاف، ولا يجوز الخروج عن شيء من النظام
الحاضر في مملكة اللغة إلا بعد اجتماع أهل العلم والرأي ووضعهم لها نظامًا جديدًا
بعد المشاورة والمذاكرة خلا ما يضطر إليه الكاتب أحيانًا من الحاجة إلى كلمة،
وقلما يقع ذلك مني عن عمد ومن هذا القليل استعمالي لفظ (تطور) بمعنى الانتقال
من طور إلى طور وقد فسرتها في عنوان المقالة (تطور الأمم وانتقالها من حال
إلى حال) .
ومن الغريب أن جبر أفندي أقام النكير أيضًا على من ينتقدون الخطأ النحوي
في الكلام ورماهم بأشنع الجهل فبالغ في ذمهم بأشد من مبالغة بعضهم في تبجحه
بذلك. وسنذكر في الجزء الآتي شيئًا مما خالف فيه القياس لتساهله.
__________(9/444)
الكاتب: عالم مدرس بجامع الزيتونة
__________
حال المسلمين في تونس والإصلاح
لعالم مدرس بجامع الزيتونة
الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
أحييك أيها المصلح المخلص النصوح الغيور منشئ مجلة المنار الغراء الأستاذ
السيد محمد رشيد رضا دام عِزّه، وبوأ من الحفظ حرزه، تحية تعرب عما في
الضمير من الشوق إلى سدتك العليا، وحضرتك الشما، ومقامك الأسنى، ممن
قدرك حق قدرك، وأدرك فيما تؤمله من الإصلاح حقيقة أمرك، فاهتدى بمنارك
إلى سواء السبيل، رغمًا عما يلاقيه أولئك المهتدون من قوم لم يستضيئوا بنور العلم
ولم يلجأوا إلى ركن وثيق إلا مَن رحم ربي من أساتذة خدموا الأمة والدين وتحملوا
في الدعاية إلى ذلك ما يلاقيه المصلحون، من هَمَج رعاع مع كل ريح يميلون،
ضلوا وأضلوا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا! . ولكن - والمنَّة لله - لم يُثبّط
ذلك عزائمهم فما وهنوا لما أصابهم من النكبات، ولا وقفوا لما اعترض سعيهم من
العقبات، ممن حسبهم المحافظة على صور العبادات، والتشبث بأهداب العادات،
والتمسك بما قاله الأقدمون ولو قبيحًا، وتزييف ما قاله المتأخرون ولو صحيحًا،
يزعمون أن ذلك هو الدين، وتجاوُز حده اتباع لغير سبيل المؤمنين.
ولولا أن منَّ الله على الأمة التونسية بزعيمها الفاضل العالم المصلح
الأستاذ ... لم تبرح في أدوية الضلال تهيم حتى تخرجت من جامعنا (الزيتونة)
نشأة هذّب الأستاذ أبقاه الله أخلاقها وأطلق أفكارها من قيود التقليد فأصبحت
مجرورة الأَرْسان تركض في ميادين الحرية وإني لمقصر في أداء ما يجب من شكره
على ما أسداه إلى أمتنا عمومًا وإلى الحقير خصوصًا من نعم تضيق المهارق عن
استقصائها، ويكلّ اليَراع إذا كلف بإحصائها، وحسبي ما أثقل به عاتقي من منة
التعريف بذلك الأستاذ الإمام قدس الله روحه، فلست والحمد لله من قوم زعموا أن
ذلك الفاضل قد ضل ضلالاً مبينًا.
بل أقول: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ
الهَوَى} (النجم: 1-3) ولكن مَن لم يكن بمرتبتك من العقل لم يذق مذاقك من
الفضل، ولعَمْر الله إن مَن سرح بصره فيما نشرته مجلتك الغراء في ترجمة هذا
الفقيد علم مصيبة رزئه على الدين وما هو بأول هدى لمنارك الذي يهدي الله لنوره
من يشاء لا برح منارك يبعث من أشعته ما يهتدي به الساري فيدأب القالي أن يطفئ
منها ما يغيظه من مساعيك المشكورة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره. اهـ.
(المنار)
نشرنا هذه الرسالة لما فيها من الفائدة التاريخية في رأي المسلمين بتونس
وحالهم بالنسبة إلى دعوة الإصلاح وإمامها المرحوم، وحرية الفكر ورغبة في
الصلة العلمية الإصلاحية بيننا وبين ناشئ جديد في العلم يرجى خيره ونشكر لهذا
النبيه الفاضل حُسن ظنّه بِنَا. ومن العجب أنه قد عهد إلينا بأن نكتم اسمه دون اسم
أستاذه المصلح الذي أرشده إلى الحقيقة، وأقامه على الطريقة، ولا ندري أنسي أم
هو يعلم أن أستاذه قوي العزيمة، شديد الشكيمة، لا يَرُوعه جهل الجاهلين، ولا
يبالي عذل العاذلين، ولكننا رجحنا الأول احتياطًا.
ونسأل الله التوفيق والنصر لهذا الحزب المصلح في تونس بمنه وكرمه.
__________(9/449)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حال المسلمين في حضرموت والإصلاح
رسالة أرسلها الأديب صاحب الإمضاء من حضرموت إلى السيد حسن بن
شهاب في سنغافوره (بعد اطلاعه على رسالة له أرسلها إلى حضرموت يدعو
بها إلى الخير) فرأينا أن ننشرها لما فيها من الدلالة على حالة البلاد العلمية
والأدبية، وهي:
كتابي إلى حضرة الماجد الفاضل السيد حسن بن علوي بن شهاب أسعد الله
أيامه، ورفع على هام السِّماك أقدامه، والروح إلى وسيم طلعته شيقة، والعبرة لما
منيت به من البيْن مترقرقة، والقلب مطبوع على الود له والثقة، وقد اكتظ
بالاشتياق، وقام فيه نبت الحب على ساق، ولم أزل أكاتمه وأنا منه في عناء،
حتى احتج عليَّ بقول أبي الطيب:
* وألذ شكوى عاشق ما أعلنا *
ويقول الآخر:
* فصرِّحْ بمن تهوى ودَعْني من الكنى *
فحينئذ فضضت ختمه، ورفضت كتمه وبعثت هذه البطاقة منهية لكم ما لديَّ من
الشوق المبرح، والبين المطوح، فإني إذا تصورت مجالسكم الفائقة، وتخيلت
منادماتكم الرائقة، استخفَّني الطرب، وهزتني أريحية الأدب ولولا أن جناحي كسير
لأوشكت أن أطير، لأقضي حق قرابته التي لا تجحد، ولله دَرّ حبيب بن أوس
حيث أنشد:
إن يفترق نسب يُؤلّف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد
وأيده الآخر:
وقرابة الأدباء يقصر دونها ... عند الكريم قرابة الأرحام
ومما يزيدني كلفًا ويحشو حشاي شغفًا، عدم أنيس أتسلى به، وأتنزَّه بمُلَحه
وأدبه، لا أجد إلا من يسخن العين منظره، ويَكْلم القلب مخبره، ويتعب الروح
مقامه، ويصكّ السمع كلامه، أما هؤلاء حولي بكل مكان منهم خلف، تخطئ إذا
جئت في استفهامها بمن. وعلى كل حال فالحرّ حيثما كان مصابٌ ببلية كالمصحف في
حانة خمار أو بيت بغية، ثم إني رأيت منكم كتابًا لبعض مكاتبيكم أثنيتم فيه على
الأيام، وشكوتم مقامكم هناك وعسى أن يكون من قَبيل قول أبي تمام:
وإذا تأملت البلاد رأيتها ... تشقى كما تشقى الرجال وتسعد
وقد وقفت على رسالتك التي رقمتها، وبوشي البديع نمنمتها، فوجدتها بارعة
المبنى، رائعة المعنى:
إذا سمع الناس ألفاظها ... خلقن لها في القلوب الحسد
غانية غنية عن الإطراء والمدح، معرضة عما يرميها به الناقصون من القدح،
ولا بد للحسناء من ذامّ، وإنما ينشأ ذم المسك من الزكام:
وكم من عائب قولاً صحيحًا ... وآفته من الفهم السقيم
ولقد نثلت الكنانة، ونفضت الجعبة، ولكن شكوت إلى غير ماجدة، وجلبت
بضاعة كاسدة، وجلوت الحسناء لعِنِّين، وقد ذم الله قومًا {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا
أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الوَاعِظِينَ} (الشعراء: 136) فما بالك بقوم زادتهم العظة
نفورًا، ومنَّتهم أنفسهم غرورًا، فلو دعوتهم ليلاً ونهارًا، لم يزدهم دعاؤك إلا فرارًا،
نعم لو غيرك قالها من الذين نصبوا بإظهار التنسُّك فخاخ الكيد، وتعارجوا لشنشنة
عرفوها عن أبي زيد لعثرت ظاهرًا بطائل من القول، ولكن ما شأن أولئك إلا
الإحالة على الأماني الخائبة، والمخرقة بالقصص والأباطيل الكاذبة، وقد استنسر
بأرضنا بغاثهم، وكثر لافترائهم تراثهم، فالله للناس من خداعهم ومكرهم، فقد
ضاق الحزام على الطبيين.
أما ما طلبته من نشر الدعوة المطابق لحقيقة حكم الشرع فدونه خرْط القتاد،
كيف وقد أدرجوه في لفائف الأغراض، وبرقعوا محياه بهذه المداهنة، وجعلوه
ذريعة لاستجلاب الأبيض والأحمر، هيهات هيهات! لَذاك أعز من مخ البعوض فلا
تبحّ صوتك بنداء الجماد، ولا تضع نفخك في رماد، فإنما شمت خلبًا، ورأيت
سرابًا، واستمطرت جهامًا، فارجع البصر، لا تغرنّك الشيات والصور، إنما كل
ما ترى بعر، ودونك فالتمس لنصحك أناسًا غيرهم، أما هم فما أَمْهروا نحلتك إلا
بالإعراض، ولا قرّضوها إلا بلساني المِقْراض، وبالجملة فالمعروف بينهم زَمِنٌ،
وجدير بأن يتمثل له ببيت أخي خزاعة، وقَمِنٌ وقد اخلولق أن يدفن في الرمس،
وينهار في الطمس، ويصير كأن لم يغنَ بالأمس، غير أني لا أقنط من رحمة الله
ولا أيأس، وأترجى من الدهر أن يبتسم ويتنفس:
فللنجم من بعد الرجوع استقامة ... وللبدر من بعد الرجوع طلوع
ومنذ أيام أنشأت رسالة في تزييف ما شاع عندنا من تعظيم يوم عاشوراء
وإظهار السرور فيه، وقراءة أحاديث وحكايات في فضله لا يقبلها إلا سفيه، وهي
واصلتكم في طي هذا، فانظروا بعين الرضا الكليلة، وما وجدتم من خطأ فاجعلوا
الصواب بديله، واعرضوها على السيد الجليل الشهم النبيل، محمد بن عقيل، وإن
رأيتم حذف شيء منها أو زيادة فلكم الرأي الأعلى. والمأمول منكم طبعها ليحصل
الانزجار بها أو إرسالها للأستاذ الحكيم منشئ مجلة المنار لنشرها في مجلته وقد
ارتضاها من رآها وما للمعاند حجة إلا قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (الزخرف: 23) تلك كلمة هو قائلها جاهلاً بأنه يفضي إلى الهلاك ساحلها، ودمتم والسلام.
... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن بن عبيد الله بن محسن السقاف
__________(9/450)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رسائل سنغافوره
وردت لنا عدة رسائل من سنغافوره تدل على أن بين العرب الكرام المقيمين
هناك تنازعًا وتخاصمًا وتباغضًا وتحاسدًا تألم له النفس ويضيق منه الصدر. إن أولئك الكرام أجدر الناس بالوفاق والوئام، كما يليق بهدي دينهم وطيب عنصرهم.
***
رسالة أحد أعضاء الجمعية الخيرية
فمن هذه الرسائل ما كتبه إلينا أحد أعضاء الجمعية الخيرية هناك وكتب بمثله
إلى المؤيد فنشره المؤيد غير مستحسن لهذا الخلاف واعظًا أهله وعظًا إجماليًّا نافعًا
لمن تدبره فرمى عن قوس عقيدتنا في ذلك. ينكر الكاتب على السيد حسن بن شهاب
ما كتبه في المؤيد يفوق به سهام اللوم على مسلمي سنغافوره وعربها الكرام
لتقصيرهم في تعليم أولادهم وغير ذلك مما يرقيهم ويرفع شأنهم ويرد عليه وعلى
كاتب آخر كتب مثل ما كتب بإمضاء (حزين) بقوله: (إن مسلمي سنغافوره
عمومًا وعربها خصوصًا استشهروا استشهار الشمس في الرابعة بالمحافظة على
الشرف والدين والسير على نهج الآداب وتعليم أولادهم لا كما زعم ذوو الأغراض
في تينك المقالتين) ثم أيد كلامه بأن الجمعية الخيرية لم تزل منذ تأسيسها (6
شعبان 1314) (توالي جلساتها باهتمام فائق فيما يعود نفعه ويجب القيام به في
مصالح المسلمين) وذكر من ذلك أنها كانت عزمت على إنشاء مدرسة لتعليم كتاب
الله وعلم الكتابة والحساب ولكن السيد محمد السقاف قام بذلك (جزاه الله خيرًا)
وأنها تحتفل باستقبال الوافدين إلى سنغافوره من أمراء المسلمين وقناصل الدولة العلية
وأنها لم تزل قائمة بالإصلاح بين المسلمين وحل ما يشكل من اختلافهم والسعي في
ائتلافهم وأنها أنشأت جمعية أخرى تحت مراقبتها سميت (جمعية مصالح
المسلمين) وطلبت من الحكومة دفن وتجهيز مَن يموت من فقراء المسلمين في
السجون والمستشفيات وأنها تدير الرأي الآن في القيام بترميم الجوامع التي تحتاج
إلى الإصلاح وبفتح مدرسة كبيرة.
هذا ما ذكر الكاتب من أعمال الجمعية الخيرية ثم ذكر أنها في آخر جلسة لها
قررت فصل السيد حسن بن علوي بن شهاب والسيد محمد بن عقيل من أعضائها؛
لأن الأول نشر كلامًا عن السيد عبد الله بن عبد الرحمن العطاس لا ظل له من
الحقيقة، والثاني نقل كلامًا في تخطئة الجمعية. فهذا ملخص الرسالة.
نشكر للجمعية كل ما ذكر من أعمالها وندعو الله أن يوفقها لخير مما عملت
ونقول لأعضائها الكرام بلسان الإخلاص: إن خير هذه الأعمال التي ذكرت هو
إصلاح ذات البيْن ولكن كيف كنتم ولا تزالون تصلحون بين الناس وقد عجزتم عن
إصلاح ذات بينكم أليس السيدان اللذان قررتم فصلهما من الجمعية هما من خياركم
ومن المعروفين في جميع أقطار الإسلام بالغيرة والفضل. ألم يكن خلاف أحدهما
مع السيد العطاس مما يجب تلافيه بالإصلاح بينهما؟ أيجوز أن يهجرهما سائر
أعضاء الجمعية لانتقادهما على مسلمي سنغافوره تقصيرهم فيما يرقيهم وعلى
الجمعية نفسها تقصيرها فيما يجب؟ أليس كلاهما حقًا؟ أيعدّ الاحتفال بأمراء
المسلمين وأمثاله ترقية للمسلمين في هذا العصر. أيكفي ذلك الكُتاب الذي أنشأه
السيد محمد السقاف (جزاه الله خيرًا) لترقية أبناء المسلمين وهو لا يُعلم فيه غير
ألفاظ القرآن الكريم والحساب والخط؟ أين التفسير والحديث والتوحيد والفقه
والأصول؟ أين وسائل هذه العلوم من فنون عربية؟ أين تاريخ الإسلام والتاريخ
العمومي الذي ينير العقل؟ أين العلوم العصرية التي هي أساس الثروة والعزة في
هذا العصر؟ لعل أعضاء ٍالجمعية الكرام يصلحون ذات بينهم ويعودون إلى
الاعتصام، والتعاون على المصلحة العامة والسلام.
***
عدة رسائل في تزوّج الهندي بالشريفة
وردت لنا عدة رسائل في هذه الواقعة التي سبق لنا القول فيها فرأيناها يناقض
بعضها بعضًا، وعلمنا منها أن الناس فيها فريقان كلٌّ يؤيد رأيه ويفند رأي الآخر
على اعتقاد أو تحيز، فإن نشرنا هذه الرسائل كلها ولا فائدة في شيء منها كنا
ظالمين لقراء المنار. فإن قال قائل: إنك أفتيت في المسألة، ثم نشرت بعض
الرسائل فيها فيجب نشر الباقي أو النظر فيه والمقابلة بينها وبيان ما يظهر بعد ذلك
أنه الحق. نقول: إن الفتوى كانت على حسب السؤال لا على حسب الواقع الذي
لم نطلع عليه. ونكتفي بأن نقول لقراء المنار هناك: إننا لا نرجح قول أحد في
المسألة فليكن ما نشر في السؤال وغيره كأن لم ينشر.
***
رسالة ذي أذن واعية
ملخص هذه الرسالة أن شيخًا معممًا يمقت المنار؛ لأن تعليمه يقلل من كسبه
وأكله لدينه - جمع زعنفة لمقاومة محبيه وقرائه وتكلم فيهم بالباطل ثم عقد اجتماعًا
دعا إليه بعض هؤلاء المحبين للمنار وبعد أن أسمعهم من الطعن ما ظن أنه أظفره
بهم قام عالم منهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (إن كنتم تحبون شأن المؤمنين فقد
قال رب العالمين: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ..} (النور: 51) الآية، وقال:
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ..} (النساء:65) الآية فهلمُّوا إلى حكم الله. وإن
كنتم تريدون غير ذلك، فالمحاكم الإنكليزية مفتوحة الأبواب واعفونا من
السباب) فبهتوا وعلموا أنهم عاجزون عن حزب الحق من جهة الشرع والقانون
جميعًا.
هذا ملخص الرسالة وإنما لم ننشرها بنصها؛ لأن كاتبها خالف طريقة حزبنا
فطعن بهؤلاء المتعرضين وذمهم ونحن ندعو الله أن يلهمنا وإياهم الأدب والصواب،
ويحسن لنا ولهم المرجع والمآب.
__________(9/453)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
المكتوب السادس - التربية الدينية والفلسفية [*]
من أراسم إلى أميل
قد حزرت يا ولدي مقاصدي في تربيتك الدينية فإني أردت أن أخلي بينك
وبين عقائدك مع علمي بمخالفتي في هذا مخالفة تامة لما تجري عليه الأمور عادة
ذلك أن الطفل لا يكاد يولد حتى ينسب إلى أحد المذاهب التي تتنازع حكومة الدنيا
فيتكفل والداه بتقليده دينًا محتجين فيه بعدم أهليته (وهو أمر بيِّن البداهة) لأن يحكم
بنفسه ويسبق عرف بلاده وعوائد قومه وتقاليد بيته إلى تحديد الدين الذي يجب
انتسابه إليه وهو الاستيلاء على نفسه وقد يقول قائل: إن الوالدين إذا فعلا ذلك
فلأنهما يعتبران أنفسهما نائبين عن الأمة في القيام عن المولود قبل أن يعرف نفسه
بنفسه فأجيبه: أسلم لك ذلك ولكني أقول إن كان من حق الأمة أن تؤدي إلى المولود
دينًا كان حقًّا عليها أيضًا أن تختار له حرفة أو عملاً من أعمال الحكومة وإذًا نصير
في حكومة دينية اشتراكية.
لا ينبغي أن نجعل ولادة المولود سببًا لسلب حريته فإن انقسام الوالدين في
ضروب الوجدان واختلافهما في الأفكار حتى في أيامنا هذه يجعل ولايتهما عليه
مشكلة مرتبكة ذلك أنه لا حرب إلا حرب البيوت فإن شأن الوالدين في الدين غالبًا
أن يكون الأب كافرًا والأم مؤمنة فكيف يكون الولد إذا تنازعه هذان المؤثران؟ أقول
إنه يكون كأهل زمانه حيران عاجزًا فإنَّا كثيرًا ما نلاقي في الناس شبانًا مشغولين
بترقيع سرائرهم بخرق من مذاهب المتدينين، يخيطونها مع آراء الأحرار من
المفكرين، ونصادف آخرين شاكّين حائرين، مع بقاء استمساكهم بأوهام الواهمين،
وقد فشا في الناس التباين والتناقض وعَمَّ بينهم التشوش والاختلاط.
وأما أنت فإنك والحمد لله لم تُبتلَ بشيء من هذه المحن لأني وأمك لم نعتقد أن
من حقنا أن نغتنم فرصة نوم عقلك فندعوك إلى اتباع ما نحن عليه بدون أن يكون
فيه رضاك. واعلم أن لي ككل إنسان غيري رأيًا في المذاهب الدينية والحكمية التي
يختلف الناس فيها وهو لا يلزمك شيئًا ولا ينبغي أن تحفل به. (أكرم أباك وأمك)
ولكن لا تطع إلا قلبك فأنت حر، ومن حقك أن تسعى وراء معرفة الحق مستعينًا
في ذلك بالهمة والبسالة والنزاهة، ولقد كان هذا السعي إلى اليوم خارجًا عن وسعك
وبعيدًا عن مقدورك فيجب الآن أن يكون هو عملك في جميع حياتك.
ومن المفروض عليك قبل أن تقتنع بشيء في مثل هذه المسائل الخطيرة أن
تبحث فيها وتدرسها فإن مثَل من يرفض المذاهب الدينية أو الحكمية على غير علم
بها كمثل من يقبلها بدون بحث فيها ولا نظر، كلاهما مناقض لنفسه، غير مسدد
في رأيه، ولا شيء في الحقيقة أَدْعَى إلى الضحك من وقاحة أحداث الذين
يجاهرون بأن المباحث النظرية التي ارتاض بها أمثال ديكارت [1] واسبينوزا [2]
وباسكال [3] ولايبنتز [4] وهيجل [5] ليست خليقة بالتفاتهم وميلهم فللجهلة الأغبياء
منهم كلمة يطنطنون بها في هذه الأيام وهي قول أحدهم وهو لم يفتح في حياته
صحيفة من كتاب الكون: (ما لي ولإضاعة وقتي في حل ما لا يسبر غوره من
مسائل وجود الله وخلود الروح ووحدة الروح والجسم أو تغايُرهما فحسبي الاشتغال
بالعلم) .
أنا لا أشك في أن العلم الآن مشتغل باستئناف عمل الديانات سالكًا فيه طرقًا
أخرى مغايرة لطرقها كل المغايرة فإنه يرجو من البحث في الحوادث بحثًا تجريبيًا
ومراقبتها مراقبة قريبة أن يصل إلى حق اليقين الذي أهل الدين يرجون بلوغه من
طريق الهداية الإلهية وإني لجازم بأنه قد سلك أقوم المناهج لبلوغ الحق، وإن كان
من المتعسر معرفة النتائج التي يؤدي إليها بحثه وإذا فقهنا حالة المعارف على ما
هي عليه الآن وجدنا شأنه المطَّرد أنه لم يفدنا في بعض ما قد يهمنا استقصاؤه من
المسائل إلا شيئًا من المعرفة قليلاً جدًّا فإنا إذا استثنينا علم تركيب الحيوان؛ لأنه قد
أمكنه أن يؤدي إلينا معنى من معاني الإنسان على ما فيه من المذاهب المتعارضة
والآراء المتناقضة وعلم طبقات الأرض؛ لأنه قد فتح لعقلنا منافذ نلمح منها على
بُعد منشأ الحياة رأينا أن العلوم الصحيحة لم تكشف لنا الستار حتى الساعة عن علة
ما من العلل الأولى والتى هي أهيج لشوق العقل من سواها ولكن قد يجيبني مجيب
بأن هذه العلل لا ينبغي الاشتغال بها قطعًا؛ لأنها ليست من متناول العقل فأقول له
ما هي غاية علمك في هذا؟ أتظن أن ما حصل من تجارب الإنسان في بضعة
آلاف من السنين يسوغ تحديد قواه وملكاته المتزايدة أم تريد أنه يكفيه على كل حال
أن يسدل الحجاب على ما يجهله لينيم طمع عقله ويخمد شوق إدراكه؟ . أنا لا
أعتقد من هذا شيئًا بل أقول إن الإنسان لا يسهل عليه الاستخذاء للجهل والاستكانة
له إما لشرف في طبعه أو لخسة فيه.
ولو أنه كان يكفي للتخلص من المسائل المحيرة أن توصف بأنها معضلة لا
حل لها لكان التقصي منها في غاية السهولة. كل حيّ يطلب النمو لجسمه ما عدا
الإنسان فإنه هو الذي يختص من بين سائر الكائنات العضوية بطلب الارتقاء بفكره
إلى ما وراء حاجاته المادية فطلبه الفكري موجود فيه سواء سمي خيالاً أو غريزة
دينية، ولست أدري مطلقًا ما عسى أن يعود على العاملين على إزالته من العائدة
بتكلف احتقاره والزراية عليه ومن ذا الذي في وسعه منهم أن ينتزعه من النفوس
الشعرية فإن تطلع الإنسان إلى ما وراء حدود عقله من مقتضيات خلقته وليس من
حقنا أن نعتبر بعض الأمور التي يتطلبها الفكر خادعة أو وهمية لمجرد أنها تحير
عقولنا أو تنبو عن إدراكنا، فأما إن كان قصدهم تجريد ما يتصوره العقل من منتهى
غايات الكمال مما يقارن تصوره من مروعات الوساوس والأوهام والأعمال المنبعثة
عن النفاق والرياء فَبِها ونعمت، وأما مُدْركات العقل التي شغلت من التاريخ مكانًا
كبيرًا فلا ينبغي التعرض لها بل لا بد أن يكون لها أيضًا محل في تربية الناشئين.
ومن هذا ترى أنه لا يزال من حق الحكمة أن توجد مع العلم وأنه يبعد عليهما
كل البعد التنافر والتنافي؛ لأن من شأنهما التضافر والتوافي.
إن كثيرًا ممن يميلون إلى محو دراسة المذاهب الدينية والحكمية منقادون في
هذا إلى حاجة طبيعية للانتقام وهم لا يشعرون فإنهم قد رأوا الحكماء ورؤساء
الأديان المقررة في أيامنا هذه بلغوا من تعاطيهم للمظالم ومتاجرتهم بالسرائر
ومقارفتهم للفظائع مبلغًا لجأ بالعقل في اشمئزازه من سيرتهم إلى الجحود المطلق
فالقسيسون هم دعاة الإلحاد لا الماديون! .
ومن اللغو تجسيم أمر الإلحاد فإنه ذنب ضعيف في ذاته يتزلزل مذعورًا أمام
وجدان الإنسان وإنما الآثام المبينة والجرائم القوية الحقيقة بأن تدافع نور الهداية
والعرفان هي التي يجرأ أصحابها عند اقترافها على التستر برداء الدين، نعم، تلك
الآثام هي التي تمتاز بذلك الامتياز الهائل وهو قلب شئون الدنيا وتشويش أحوالها
فمن ذا الذي لا يَحار حين ارتكابها من الأبهة الباطلة التي تسري من عقائد مرتكبيها
إلى بعض ما يغتصبونه من ضروب السلطة والقوة تسمع بعض المتفكرين إذا
راعهم تغلب الشر على الخير يصيحون قائلين: لأن لا يكون لنا إله خَيْرٌ من وجود
إله ظالم [6] .
ويعيب آخرون على المذاهب الدينية والحكمية أنها لم تبين للناس بيانًا مقنعًا
شيئًا من المسائل المتعلقة بنظام العالم وتنازع الخير والشر والاضطرار والاختيار،
وأنا أسلم لهم ذلك غير أني أقول: إن كلاًّ منها قد سما بفكر الإنسان إلى العُلى وغيَّر
أحوال الأمم وهدى الناس إلى طرائف الفنون وأحيا من الطرف والملح ما لولاه لظل
محجوبًا في مجاهل العدم، وكم نرى ممن يودون محو الدين المسيحي من تعليم
الناشئين مَن لم يحسن التفكير فيما كان لهذا الدين من التأثير في آداب لغتنا وأخلاقنا
وعوائدنا فهم يقولون: إنه رؤيا خبيثة رآها النوع الإنساني في منامه وأنه بنشأته
في طور التدلي والهجمية حبس روح الشعوب في ظلمات الجهل، وكل ذلك محل
للنظر والبحث، ولكن هيهات أن يقنعوا واحدًا من الناس بأن التيار الفكري الذي
جاء به ذلك الدين فغير كل ما في الدنيا لم يكن ثَمّ موجب لوجوده.
أنا أدعوك إلى دراسة هذا الدين الذي أنشأ مدنيتنا الحاضرة إنشاءً حسنًا أو
سيئًا خلافًا للقائلين بإبطالها وأحثك على أن تأخذ فيها بالجد وترجع فيها إلى أصوله؛
لأن ما يخلص إليك من مطالعة الأناجيل لا شبه بينه وبين ما يؤخذ عن رجال
الدين بحال من الأحوال فأنت ترى في الأناجيل مثلاً أن المسيح كان يأبى دائمًا
امتثال أي عمل من الأعمال الظاهرة وكان يُستهدف لزراية اليهود عليه ولومهم له
بمخالفته لهم كل وقت في السبت والصوم وغسل اليدين قبل تناول الطعام وغير ذلك
من الأعمال المشروعة وإذا كان القلب يهتز لسماع بعض المواعظ الإنجيلية فليس
ذلك ببدع فإن المسيح إنما جاء ليعلن للناس شرف صغارهم وسمو المستضعفين منهم
ووجوب تكريم الطفل والحنوّ على المرأة الخاطئة وإنك لا تجد في غير كتابه أكثر
مما تجده فيه من الميل العاطف إلى كل مكروب والرحمة لكل مهان ومحتقر ولا
أكثر من ضروب الحرمان للمتكبرين المستأثرين الذين يبتغون العلو على غيرهم من
المخلوقين، وقد كان لحبه للفقراء ولكونه نفسه فقيرًا يتتبع الأغنياء على الدوام دون
غيرهم بنُذُره وأمثاله الرائعة ولا شك أن تمكن النصرانية مع مثل هذا الأدب الذي
جاء به المسيح من تقوية امتياز الدرجات في الأمم الخالية وتأييد مزايا الأنساب
وفرط التغاير في الغنى لم يحصل إلا ببلوغ رجالها في المكر حد الإعجاز، فتلك
الأمم التي تسمي أنفسها مسيحية وتعتقد أنها على دين المسيح لم يدخل الإيمان في
قلوبها قط!
اعلم أن معرفة الشيء في وقت ما من أوقات وجوده لا تعد معرفة وإنما يعرف
إذا عرف أصله وتاريخه ومصيره، وقد نتج من اتباع البحث في الحوادث الكونية
على هذا الترتيب علوم كلها جديدة كعلم تكوُّن الأرض وعلم الأجنة فطرق البحث
هذه هي التي ينبغى عليك تطبيقها على دراسة المذاهب الدينية والحكمية وليس عليَّ
أن أتعرض بالتصويب أو التخطئة للنتائج التي يؤديك إليها بحثك إذا أحسنت فيه
نيتك وصحت عزيمتك، وغاية ما أبتغيه منك أن لا تقبل من الأصول على أنه
صحيح إلا ما تكون قد عرفت الحق فيه بنفسك.
أقول ذلك وأنا أعلم أنى أطلب إليك أمرًا عظيمًا، ولكن ما حيلتي ولا وسيلة
غيره لتنوير عقلك وهدايتك، نعم إن في الدنيا كثيرًا من العلماء الثقات المشهود لهم
قد عهد إليهم تحديد العقائد الصحيحة في الدين والحكمة والسياسة والأخلاق فهم
بعرفون كل شيء ويعلِّمون الناس كل شيء، وهذا السبب في أن نصف المتعلمين
من الناشئين يعتادون على أن يفكروا بمخاخ بعض أفراد من الناس إن صح لي
التعبير على هذا النحو.
على أن ثمة أمرًا لن تتعلمه قطعًا في مدرستهم ألا وهو الحرية، فإذا كنت
تطلب الحرية فعليك أن تطلب الحق في نفسك مستعينًا في طلبه بجميع ما لديك من
عُدَد الاستدلال والنظر وإنك سيحصل لك غير مرة مع احتراسك وتيقظك أن تعتقد
أن آراء غيرك هي آراؤك وتخطئ في كثير من المسائل قبل أن تعرف أغاليطك
ولكن لا تنس أن قوت العقل كقوت الجسم لا يكسب إلا بعرق الجبين، وأن من
أخلص في البحث عن الهُدى فقد أظهر بهذا البحث نفسه أنه جدير بالاهتداء.
وفي ختام مكتوبي أقول لك من صميم قلبي: إني وَليّك الحميم.
***
(المنار)
لقد نطق هذا الفيلسوف بالحكمة؛ إذ أبان أن من غريزة الإنسان أن يبحث عما
وراء حاجته المادية وأن هذا الارتقاء الفكري مما يمتاز به وهو مبدأ الدين في نفسه
وأنه ما دفع الناس إلى الجحود إلا سُوءُ حال رجال الدين في اتجارهم بالدين وأن
وجدان الدين يزلزل الإلحاد؛ لأنه ذنب ضعيف في نفسه وإنما الذنوب القوية التي
يعز زلزالها هي التي تُقترف على أنها من الدين وهي ذاهبة بنور هدايته ومنفرة
عنه حتى يقول: إن عدم علم الدين خير من هذا الدين. نعم، إنه أخطأ في موافقة
القائلين: لم تبين شيئًا من نظام العالم وتنازع الخير والشر والاختيار والاضطراب،
وعذره أنه لم يطلع على نهاية ارتقاء الدين لجهله بالإسلام. على أنه أحسن في
الرد على القائلين بترك دراسة الدين، وفي استخراجه محاسن الأناجيل وتصريحه
بأن النصارى غير مسيحيين. ومن أراد تفصيل هذه المسائل فليرجع إلى مقالة
(العقل والقلب والدين) من المنار. وأحسن في دعوة أميل إلى الاستقلال وترك
التقليد وتقدير الحرية العقلية قدرها.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع ترجمة كتاب أميل القرن التاسع عشر (راجع (أميل) في فهرس م8 ص) .
(1) ديكارت هو عالم رياضي جغرافي طبيعي وأخص ما يعرف به أنه فيلسوف فرنسي شهير يدعونه أبا الحكمة الحديثة لكلامه عن طريق تبحث عن الحق ولد سنة 1596 ومات 1650.
(2) اسبينوزا فيلسوف ولد في أمستردام سنة 1632 ومات سنة 1677.
(3) باسكال هو مهندس كبير وكاتب شهير ولد في كلير بونت فراند سنة 1623 ومات سنة 1662 أثبت ثقل الهواء في سنة 1648وفى سنة 1654اعتزل في بوررويال دي شان حيث كتب إقليمياته وأفكاره.
(4) لايبنتز هو عالم شهير ولد في لاينبرج وهو مخترع حساب الفروق الدقيقة.
(5) هيجل فيلسوف ألماني ولد سنة 1770 ومات سنة 1851.
(6) أجدر بمثل هؤلاء النظار أن يسموا عميًا؛ إنهم عموا عن سنن الله تعالى في الكون وجهلوا أن الشر الذي يضجون منه إنما نتج من مخالفة الناس لتلك السنن فهم الذين جلبوه على أنفسهم (وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ) (فصلت: 46) ، (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ) (هود: 101) تعالى الله عن الظلم علوًّا كبيرًا اهـ من هامش الترجمة.(9/455)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
لامية أبي طالب في الشِّعْب
لمّا أظهر النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الإسلام عظم ذلك على قريش
فقصدته ومَن آمن به بالإيذاء بل ائتمروا به وأزمعوا على قتله فمنعه قومه بنو هاشم
وبنو المطلب فنابذتهم قريش وأخرجوهم من مكة إلى الشِّعب (وهو بالكسر:
الوادي) شِعب أبي يوسف فأمر النبي مَن كان بمكة من المؤمنين أن يهاجروا إلى
الحبشة وكان يثني على النجاشي بأنه لا يُظلم عنده أحد ودخل هو وقومه الشعب
فقطعت قريش عنهم الأسواق ومنعتهم الرزق وأجمعت على أن لا تناكحهم ولا تقبل
منهم صلحًا ولا تأخذها بهم رأفة حتى يسلموه للقتل وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في
الكعبة وتمادَوْا على ذلك ثلاث سنين فاشتد البلاء على بني هاشم في الشعب وأخبر
النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب أن الأَرَضَة لحست صحيفة قريش إلا ما
كان اسمًا لله قال: أربُّك أخبرك بهذا؟ قال: نعم. قال: فوالله ما يدخل عليك أحد ثم
خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني قط أن هذه
الصحيفة التي في أيديكم قد سلط الله عليها دابة فلحست ما فيها فإن كان كما يقول
فأفيقوا فوالله لا نُسْلِمه حتى نموت، وإن كان يقول باطلاً رفعناه إليكم. فقالوا:
رضينا ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما أخبر فما زادهم إلا بغيًا وقالوا: هذا سحر ابن
أخيك. فقال: يا معشر قريش علامَ نُحبس ونحصر، وقد بان الأمر وتبين أنكم
أهل الظلم والقطيعة، ثم دخل وأصحابه بين أستار الكعبة، وقال: اللهم انصرنا
على مَن ظلمنا وقطَّع أرحامنا واستحلّ ما يَحْرم عليه منا ثم انصرف إلى الشعب،
وقال هذه القصيدة. قال البغدادي في الخزانة: قال ابن كثير هي قصيدة بليغة جدًّا
لا يستطيع أن يقولها إلا مَن نُسبت إليه وهى أفحل من المعلقات السبع وأبلغ في
تأدية المعنى. اهـ.
ونحن نذكر منها ما ذكر في الخزانة وقيل هي أكثر من ذلك، وهو:
خليليَّ ما أُُذني لأول عاذل ... بصغواء في حق ولا عند باطل [1]
خليليَّ إن الرأي ليس بشركة ... ولا نَهْنَه عند الأمور البلابل [2]
ولما رأيت القوم لا وُدّ عندهم ... وقد قطعوا كل العُرَى والوسائل [3]
وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل [4]
وقد حالفوا قومًا علينا أظنة ... يعضون غيظًا حلفنا بالأنامل [5]
صبرَتْ لهم نفسي بسمراء سَمْحَة وأبيض عضب من تراث المقاول [6]
وأحضرت عند البيت رَهْطي وإخوتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل [7]
قيامًا معًا مستقبلين رِتاجه ... لدى حيث يقضي خَلْفه كل نافل [8]
أعوذ برب الناس من كل طاعن ... علينا بسوء أو ملحّ بباطل [9]
ومن كاشح يسعى لنا بعيبة ... ومن ملحق في الدين ما لم نحاول [10]
وثور ومن أرسى ثبيرًا مكانه ... وراقٍ لبرّ في حراء ونازل [11]
وبالبيت حق البيت من بطن مكة ... وبالله إن الله ليس بغافل [12]
وبالحجر الأسود إذ يمسحونه ... إذا كنفوه بالضحى والأصائل [13]
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيًا غير ناعل [14]
وأشواط بين المروتين إلى الصفا ... وما فيهما من صورة وتماثل [15]
ومن حجّ بيت الله من كل راكب ... ومن كل ذي نذر ومن كل راجل [16]
فهل بعد هذا من معاذ لعائذ ... وهل من معيذ يتقي الله عادل [17]
يطاع بنا العِدَى وودّوا لو أننا ... تسد بنا أبواب تُرك وكابُل [18]
كذبتم وبيت الله نترك مكة ... ونَظْعَن إلا أمركم في بلابل [19]
كذبتم وبيت الله نُبْزَى محمدًا ... ولمّا نطاعن دونه ونناضل [20]
ونسلمه حتى نُصرّع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل [21]
وينهض قوم في الحديد إليكم ... نهوض الرَّوَايا تحت ذات الصلاصل [22]
وحتى نرى ذا الضِّغْن يركب ردعه من الطعن فعل الأنكب المتحامل [23]
وإنا لعمر الله إنْ جدّ ما أرى ... لتلتبسن أسيافنا بالأماثل [24]
بكفي فتى مثل الشهاب سَمَيْدَع ... أخي ثقة حامي الحقيقة باسل [25]
وما ترك قوم لا أبا لك سيدًا ... يحوط الذِّمار غير ذَرْب موكل [26]
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ... ثِمال اليتامى عصمة للأرامل [27]
يلوذ به الهلاّك من آل هاشم ... فهم عنده في رحمة وفواضل [28]
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً ... عقوبة شر عاجلاً غير آجل [29]
بميزان قسط لا يخسّ شَعْرة ... له شاهد من نفسه غير عائل [30]
ونحن الصميم من ذؤابة هاشم ... وآل قُصَيّ في الخطوب الأوائل [31]
وكل صديق وابن أخت نعدّه ... لعَمْري وجدنا غِبَّه غير طائل [32]
سوى أن رهطًا من كلاب بن مرة ... براء إلينا من معقة خاذل [33]
ونِعم ابن أخت القوم غير مكذب ... زهير حسامًا مفردًا من حمائل [34]
أشمّ من الشمّ البهاليل ينتمي ... إلى حسب في حَوْمَة المجد فاضل [35]
لعمري لقد كُلّفت وَجْدًا بأحمد ... وإخوته دأب المحب المواصل [36]
فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها ... وزينا لمن ولاه ذبَّ المشاكل [37]
فمن مثله في الناس أي مؤمل ... إذا قاسه الحكام عند التفاضل [38]
حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي إلهًا ليس عنه بغافل [39]
فأيده رب العباد بنصره ... وأظهر دينًا حقه غير ناصل [40]
فوالله لولا أن أجيء بسُبّة ... تجر على أشياخنا في القبائل [41]
لكنا اتبعناه على كل حالة ... من الدهر جِدًّا غير قول التهازل [42]
لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل [43]
فأصبح فينا أحمد في أَرُومة ... يقصر عنها سورة المتطاول [44]
حدبتُ بنفسي دونه وحميته ... ودافعتُ عنه بالذرى والكلاكل [45]
__________
(1) الصغواء كالحمراء، وصف من الصغو وهو الميل، يقال: صغوت إليه وأصغيت، يقول: إن أذنه ليست بذات صغو إلى حديث أول عاذل أي لا تسمع قوله سماع قبول وإذا كان لرصانته ورويته لا يقبل قول اللائم الأول وهو الذي من شأنه أن يسترعي السمع ويستخف النفس للمفاجأة بما يلقي من القول فهو أجدر بأن لا يصغو للتعاذل الثاني ومن بعده.
(2) النهْنه كجعفر، الثوب الرقيق يشفّ عما وراءه فاستعاره للرأي المنير الذي يُظهر ما وراء الأمور من العواقب والبلابل - كالزلازل - الهموم والوساوس جمع: بلبلة أو بِلبال كزلزلة وزلزال ولعله يعني بالرأي رأي قريش الذي يشرحه في الأبيات التالية، يقول إنه ليس بالرأي الجيد الذي أثمره اشتراك العقلاء فيه ولا بالمنير الذي يكشف خبايا الأمور المهمة وعواقبها أو يريد أن الرأي الصواب في نفسه لا يكون عند الشدائد مشتركًا مقسمًا ولا رقيقًا يدرك الخصم مغبته ويجوز أن يريد بالنهنه: الضعيف والمراد أن الرأي عندئذ يجب أن يستقلّ به العاقل ويكتمه أو ينهض به.
(3) العُرَى بالضم جمع عُرْوة وهى كل ما يُتمسَّك به، الوسائل جمع وسيلة وهي كل ما يتقرب به يريد أنهم قطعوا الروابط التي كانت تربطهم في الماضي والوسائل التي يمكن أن تقرب بعضهم من بعض ليرتبطوا بها في المستقبل.
(4) صارحونا بالعداوة: جاهرونا بها حتى صارت صريحة خالصة من شوائب التأويل والمزايل المفارق المباين، والعدو المزايل تصعب مصالحته وموادته ولقاء الأعداء قد يذهب بالعداء.
(5) التحالف: التعاهد والتعاقد بين فريقين على النصرة والحماية وأظنّه جمع سماعي لظنِّين وهو المتهم من الظِّنة وهى بالكسر: التهمة.
(6) صبر نفسه: حبسها، والسمراء السمحة القناة اللدنة تسمح لحاملها بالهز والطعن والأبيض العضب: السيف القاطع والتراث: الإرث، والمقاول جمع مِقول كمنبر وهو الرئيس دون الملك ومثله القيل، وقيل يطلق على الملك وهو حينئذ مستعار لم يكن من آبائهم ملك.
(7) رهط الرجل: قومه، والوصائل: ثياب مخططة يمانية كانت الكعبة تكسى بها.
(8) الرتاج: الباب العظيم ويطلق أيضًا على الباب الصغير فيه والنافل: مؤدي النافلة وهى التطوع بالعبادة ويعني بحيث يقضي إلخ مقام إبراهيم.
(9) المُلحّ بالشيء: المواظب عليه وأصل معنى المادة اللصوق.
(10) الكاشح: العدو الباطن العداوة كأنه يطوي كشحه عليها في قلبه، وقالوا حاول الأمر: أراده وهو تفسير بالأعم، وقال في الأساس: طلبه بحيلة وهو الصواب.
(11) ثور وثبير وحراء جبال بمكة والراقي في حراء لأجل البر والنازل هو من يصعد فيه للتعبد زمنًا ثم ينزل وثور معطوف على رب الناس مُقْسَم به.
(12) البيت: الكعبة وقد يطلق ويراد به بلده كما في قوله تعالى: [هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ] (المائدة: 95) فقوله: حق البيت يزيل هذا التجوز ويعين أن مراده الكعبة نفسها وقوى ذلك بقوله: من بطن مكة.
(13) اكتنفوه: أحاطوا به والأصائل: جمع أصيلة لغة في الأصيل وهو ما بعد العصر إلى الغروب وجمع أصيل: آصال وفى قوله: الأسود زحاف يعيب مثله المولدون.
(14) موطئ إبراهيم في الصخر: مكان معروف فيه أثر قدم تناقلت العرب أن إبراهيم وطئ هناك حافيًا فأثرت قدمه فيه، والناعل لابس النعل ورطبة: حال من الصخر ولا يريد أنها كانت رطبة بطبعها بل كرامة له.
(15) أشواط بين المروتين هي مرات السعي بينهما واحدها: شوط وهو الجري إلى الغاية ويطلق لغة على الغاية والمراد بالمروتين الصفا والمروة على التغليب وهما عَلَمان بمكة يُسعى بينهما تنسكًا وقوله: إلى الصفا معناه منتهية هذه الأشواط إلى الصفا إذ به يختم السعي وتماثل: أصله تماثيل جمع تمثال فحذف الياء ليستقيم الوزن.
(16) ليس فيه قول غريب.
(17) الإشارة راجعة إلى ما عاذ به وهو رب الناس وتلك الأماكن المقدسة والأعمال الشريفة والعاملون: الناسكون وهم الحجاج فهو يقول: ليس بعد هذه الأشياء ما يعوذ ويلجأ إليه العائذ فهل يوجد معيذ عادل ومجير منصف يعيذني تعظيمًا لما عذت به؟ ! .
(18) العِدى: بالكسر والضم اسم جمع للعدوّ وفي رواية الأعداء وهو بالمد جمع عدو وقُصر للوزن وفي (التاج) بالمد وحذف حرف العطف من ودوا والتُّرْك وكابُل (بضم الباء) صنفان من العجم كذا في الخزانة وفي القاموس: (وكابل كآمل من ثغور صخارستان) أقول: كابُل عاصمة أفغانستان وهي ليست ثغرًا والمراد بسد أبواب ترك وكابل بهم أن لا يقبلهم العجم إن قصدوا إليهم فضلاً عن العرب أو أن ينفوا إليها فلا يعودوا.
(19) قوله: نترك مكة ونظعن جواب القسم بتقدير (لا) النافية أي لا نتركها ولا نظعن لكن أمركم بلابل ووساوس ورُوي (تلاتل) وهو جمع تلتلة بمعنى الاضطراب.
(20) يقال: أبزى فلان بفلان إذا غلبه وقهره فقوله: نُبْزى محمدًا: بُني الفعل فيه للمفعول ونزعت الباء من لفظ محمد، والأصل نبزى بمحمد وهو جواب للقسم بتقدير النفي كالذي قبله قاله في الخزانة وذكر البيضاوي في تفسير: [تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُف] (يوسف: 85) أن القسم إذا لم يكن معه علامة للإثبات كان على النفي واستشهد قبل ذلك على تقدير النفي في الآية بقوله:
فقلت يمين الله أبرح قاعدًا ... ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي
ومعنى بيت أبي طالب: والله لا نغلب ونقهر بمحمد، والحال أننا لما نطاعن أمامه بالرماح ونناضل خصومه بالسهام.
(21) نسلمه معطوف على نبزى أي: ولا نسلمه حتى نصرع حوله أي حتى نُطرح حوله مقتولين، والتصريع: الصَّرْع الشديد يقال: صرعه إذا ألقاه على الأرض، والذهول: النسيان العارض والحلائل: جمع حليلة وهن الأزواج.
(22) الروايا: جمع راوية وهو ما يستقى عليه من بعير وغيره، وذات الصلاصل القرب فيها بقايا الماء واحدتها صُلصُلة: بضم الصادين وهى بقية الماء في الإداوة والقربة يعني وحتى ينهض قوم إليكم مثقلين بالحديد تسمع له قعقعة كصلصلة الماء في المزادات والقرب.
(23) الضِّغْن بالكسر: الحقد والردع بالفتح: اللطخ والأثر من الدم وركب ردعه خرّ لوجهه على دمه، والأنكب: المائل إلى جهة، والمتحامل اسم فاعل من تحامل عليه: إذا ثقل عليه وجار يعني وحتى يخر الحقود على محمد مطعونًا يركب ردعه يفعل فعل الأنكب أي ذي النكب: وهو بالفتح داء يأخذ الإبل في مناكبها وتمشى منحرفة.
(24) جدّ الأمر: اشتد وعظم والتبس الشيء بالشيء: اختلط به في ملابسته إياه والأماثل: الأشراف، يقسم أنه إن اشتد أمر قريش الذي رآه منها ولم ترجع عن غيها فإن أسيافهم ستخالط رقاب أشرافها.
(25) الشهاب: شعلة النار والسَّميدَع بفتح السين والدال المهملتين: السيد الموطَّأ الأكناف: أي الممهد الجوانب التي تأوي إليها العفاة والقصاد، والحقيقة: ما يحق للرجل أن يحميه، والباسل: الشجاع الشديد يعني بصاحب الصفات النبي صلى الله عليه وسلم.
(26) يحوط: يرعى ويحمي، الذِّمار: ما يُتذمر له إذا نِيل، ويقولون: حامي الذمار وحامي الحقيقة لمن يمنع حرمه وقومه وكل ما يجب عليه أن يحميه والذِّرِب بفتح فكسر: الفاحش البذيء اللسان وسكن الراء هنا للضرورة، والمواكل: من يكل أمره إلى غيره عجزًا: أي كيف يترك قوم كرام يعرفون قيم الرجال مثل هذا الفتى الكامل ولا يتفانون في نصره.
(27) وأبيض معطوف على (سيدًا) في البيت قبله وفسروه هنا بالكريم ففي الخزانة قال السمين في عمدة الحفاظ: عبر عن الكرم بالبياض فيقال له: عندي يد بيضاء أي معروف وأورد هذا البيت والغمام: السحاب والثِّمال بالكسر: الغياث والملجأ يغيث قومه ويطعمهم عند الحاجة، والعصمة: ما يُعتصم به ويستمسك، والأرامل: جمع أرملة وهي من مات زوجها وهي فقيرة ويطلق على كل محتاجة لا تجد عائلاً وقال ابن السِّكِّيت: الأرامل المساكين رجالاً ونساءً، وقيل إطلاق الأرامل على الرجل غير قياسي وأصله من أرمل القوم: إذا نفد زادهم وانتفروا وهو مشتق من الرمل كأنه لم يعد له ملجأ سواه، كما يقال: ترب فلان وأترب إذا افتقر، وكما يقال: فقر مُدْقع من الدقْعاء وهي الأرض لا نبات فيها والتراب. حمل قوله يستسقَى الغمام بوجهه على الحقيقة، وقالوا: إنه لما تتابعت على قريش السنون استسقى عبد المطلب بالنبي صلى الله عليه وسلم وكان غلامًا فسُقوا رواه الطبراني وابن سعد ولولا الرواية لكان المتبادر أن الكلام كناية عن كونه صلى الله عليه وسلم مصدر الخير والبركة، وهذا المعنى شائع في الناس وكثيرًا ما سمعت العامة يقولون في ذي الوجه الحسن لا سيما إذا كان مهذبًا: إن رؤيته تكثر الرزق وفى ذي الوجه القبيح: إن رؤيته تقطع الرزق وربما قالوا وجهه فيهما.
(28) الهُلاَّك بالتشديد: جمع هالك وهو المعوز، والصعلوك: السيئ الحال يطلب فضل ذوي المال والفواضل: النعم العظيمة تغدق على الناس واحدتها فاضلة.
(29) عبد شمس شقيق جَدّ النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: إنهما ولدا توأمين وكان ولده أعداء بني هاشم في الجاهلية والإسلام ونوفل هو ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي قال في الخزانة: وكان من شياطين قريش قتله علي بن أبي طالب يوم بدر.
(30) القسط: العدل، ويخسّ: ينقص، والعائل: المائل أي جزى الله آل عبد شمس ونوفلاً الذين يعادوننا ويؤذوننا بميزان العدل الذي لا ينقص حبة شعير، ووصف هذا الميزان بأنه يشهد لنفسه بالقسط أو أن القسط نفسه يشهد له وأن هذا الشاهد لا يميل ولا يجور وما طلب أبو طالب جزاء القسط لأعدائه إلا وهو يعلم أنهم ظالمون.
(31) الصميم: الخالص من كل شيء، والذؤابة: الأشراف مستعارة من ذؤابة الشعر وهي الخصلة من شعر الرأس.
(32) الغِبّ بالكسر: العاقبة أي خاب أملنا في هؤلاء فليس لنا فيهم غناء.
(33) المعقة: العقوق،؛ وبراء بالكسر: جمع بريء ككريم وكرام وبالفتح مصدر يستوي فيه القليل والكثير، تقول: إنني براء من كذا وهم براء منه وبالضم مخفف من برآء ككرماء ووزنه فِعاء.
(34) زهير هو ابن أبي أمية المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وأمه عاتكة بنت عبد المطلب أخت أبي طالب والحسام: السيف الساطع، والحمائل: ما يحمل به السيف جمع حمالة وهي العِلاقة، وقيل: لا جمع له من لفظه والمفرد المجرد وقوله غير مكذوب حال ابن أخت القوم أي لا يكذب في صدقه وولائه وحسامًا منصوب على المدح.
(35) الأشم: ذو الشمم والسيد الكريم ذو الأَنَفَة وكانوا يتمدحون بشمم الأنف وهو ارتفاع في قصبته مع استواء أعلاه، والبهاليل: جمع بُهلول بالضم: وهو السيد الجامع للخير والضحَّاك، وقال ابن عباد: هو الحَيِيّ الكريم، وحومة الشيء: معظمه وجُلّه.
(36) كلفت بالتشديد والبناء للمفعول مبالغة كلفت بالشيء (كفرحت) : إذا أحببته وأولعت به وقوله: وجدًا معناه كلف وَجْد، وفسروا الوجد بالحزن وهو أعم؛ لأنه يشمل كل ما تجده في قلبك من التأثر الباطن ويفسر في كل مقام بما يناسبه ويعني بإخوة أحمد أولاده الذين ضمه إليهم بكفالته إياه وهم جعفر وعقيل وعلي عليهم الرضوان والسلام وقالوا: إن العم أب فأولاده إخوة وقوله: دأب المحب المواصل يعني به أنه دأب في ذلك أي جدّ فيه واستمر عليه كما يفعل المحب المواصل لرسوخه في الحب وتمكّنه في الوفاء.
(37) ذبّ المشاكل: دفعها والمشكل: ما يلتبس وجه الصواب فيه أو طريق تلافيه.
(38) قوله: أي مؤمل معناه: هو مؤمل عظيم فأي هذه هي الدالة على الكمال، والتفاضل: التغالب في الفضل وبه يظهر الأفضل.
(39) الطيش: النّزَق والخفة وهو ضد الحِلْم، وموالاة الإله اتخاذه وليًّا ناصرًا.
(40) قوله: حقه غير ناصل: معناه غير خارج من مقره ولا زائل ولا متغير يقال: نصلت اللحية من الخضاب: إذا زال وعادت بيضاء ويقال: سهم ناصل إذا خرج منه نصله أي حديدته.
(41) السُّبة: بالضم العار الذي يُسب به صاحبه، وتجر من الجريرة وهى: الجريمة والجناية.
(42) التهازل بمعنى الهزل فإن تفاعل قد يأتى بمعنى فعل كتوانيت بمعنى ونيت لكنه أبلغ من المجرد، كذا قال صاحب الخزانة، وأقول: إن التفاعل هنا على أصله فإنه يريد أنه لا يخاطب قريشًا بالهزل ليقابلوه بمثله أي ليس ممازحًا لهم ومتهازلاً معهم في قوله: وإنما يقول ذلك على سبيل الجد وهذا البيت هو جواب القسم في الذي قبله.
(43) قوله يُعنى بالبناء للمفعول يقال: عُني به إذا اشتغل به مهتمًّا معتنيًا واستعمل قليلاً بالبناء للفاعل فقالوا عَنِيَ كرضي، والأباطل: جمع الباطل وأصلها الأباطيل.
(44) نوّن أحمد لضرورة الشعر، والأرومة: بفتح فضم الأصل المتطاول في الأصل: هو الذي يتحدد ويطيل قامته لينظر إلى شيء بعيد أو مرتفع، واستُعمل بمعنى الترفع والتكبر وبمعنى الاعتداء؛ لأن المترفع والمعتدي على غيره يحاول أن يزيد في طَوْله (بالفتح) كما يحاول الذي يمد قامته وينصبها أن يزيد في في طُوله (بالضم) وسَوْرَة الشيء بالفتح: الزيادة فيه بحبسه فقالوا: سورة الخمر بمعنى حِّدتها وسورة المجد بمعنى ارتفاعه وأثره وعلامته وسورة السلطان بمعنى سطوته، والسورة بالضم: المنزلة والرفعة والشرف والفضل، وأصله ما طال وحسن من البناء وكل هذه المعاني للضبطين تظهر هنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي تقصر عن رفعة أرومته وشرف أصله ما للمترفعين والمعتدين من رفعة وشرف وسطوة وحِدّة.
(45) حدبت بنفسي دونه: أي حنيت نفسي أمامه كالأحدب لأمنع عنه الأذى يقال حدب عليه وتحدب بمعنى عطف وتعطف وأصله ما ذكرنا والذرى: أعلى الشيء جمع ذروة، والكلاكل: الصدور، أي دافعت بأشرف الأشياء وأعظمها ولقد صدق أبو طالب في قوله وكان مؤمنًا بالله تعالى وبنبيه ولكنه لم يذعن له بالفعل ولم يلتزم شريعته بالعمل ولكن فضله في حماية الإسلام ومَن جاء به لا تدانيها خدمة أحد في ذلك الوقت وقت العجز والضعف فجزاه الله خير الجزاء.(9/462)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ
(هدية الابن)
رسالة كتبها بشارة أفندي إلياس عيد الحاج بطرس التاجر السوري ببلدة
(إفارة) بالبرازيل وطبعها وجعلها هدية باسم والده المقيم في (بكفيا) بلبنان. وهي
تعريف ببلدة إفارة خاصة وببلاد البرازيل عامة وبحال المهاجرين السوريين في تلك
المملكة. ومن فوائد الرسالة أنه كان فيمن أرسلت حكومة البرتغال لاستعمار
البرازيل عيال كثيرة من بقايا السلالة العربية لكي تنظف بلادها من النسل العربي.
إذًا قد كان العرب من المستعمرين الأولين لهذا البلاد وجرى السوريون على آثارهم
فهم من خيرة المهاجرين إلى تلك البلاد.
***
(تربية النفس بالنفيس)
خطاب ألقاه الدكتور محمود بك لبيب محرم في نادي المدارس العليا بالقاهرة.
أما موضوع الخطاب فيعرف من عنوانه وأما أسلوبه فيمثل لك أسلوب بعض
المتصوفة الذين كتبوا الأجفار والمصنفات في علوم الأسرار في مزجهم اصطلاحات
العلوم الكونية بما يضعونه من الاصطلاحات الغيبية الملكوتية بل هو أغرب مفرداته
وجمله، ومثاله، ومثله وإليك مثالاً منه:
(إن الحقيقة فردية لا تتجزأ، وإن الكون جوهر لا يتداعم، هؤلاء لا
يفتشون عن بواطن الأشياء، ويكتفون بعلم ظواهرها العاملة، هؤلاء لا يعرفون
للكون في الكون إلا نقطا (ضبطت في الأصل كقفل) واحدًا فسمه المركز لأهل
الكرة الأرضية، ودعه مركز السماء لأهل السموات العلية، وأطلق عليه قلب الفلك
للسموات والأرضين السمية والدنية، وسمه الطبيعة إن كنت ممن يصيح بأن
(المادة لا تتجدد ولا تنعدم) وقل عنه الروح (بالفتح) إن سألك أحد طلبة (تناسخ
الأرواح) ! وصِفه بالجريثمة (الميكروب) إن تَجْهورت في نظرك الذرات؟
وعرفها بالتخلق إن درست علوم النشوء وتابعت (داروين) ، وسمها الصوت إن
كان لك ميل في تعرف النغمات الموسيقية وفنونها، ونادها صورًا متحركة وثابتة
إن كنت تهوى الأحسن والأجمل من الفنون والأفنان، وقُلْ عنها الروح إن سُئلت
من آل مذهب (تناسخ الأشباح) وصفها بالذرة إن كنت ممن يستعين على رؤية
دقائق الأشياء بالمناظر المُجَهْوَرة (الميكروسكوب) واصطلح عليها سياسة الاقتصاد
للجامعة الإنسانية إن وددت تسيير الأمم إلى طريق الهدى والسلام، وعمار الكون
بمن تَخَلّق ونشأ فيه، وألفتها (الكرية) إن درست معلومات هارفي ومن اتبعه،
واقرأها الحرف في كلم اللغويين. وسمها الصوت إن كان لك شوق إلى (سفينة
الشيخ شهاب) ، أو تحب استماع مناغات الطيور على أوكارها. أو تميل إلى تفنن
الضاربين على الأوتار والمطربين بأصواتهم الرخيمة، وارسمها أشكالاً متحركة
وثابتة إن كانت جِبِلّتك تهوى الجميل من الفنون والأحسن من الأشكال والألوان
المصورة وغير المصورة. وسيرها سفينة تجري في الفلك بأمر مدير دفتها.
ومبخر مائها ومحرق قلبها إن تطلبت العلم ولو في الصين وأَجْرها سيارة بإرادة
قائدها وقوة جاذبيتها ورافقها إن كنت تبغي حرية الحركة والسكون المطلق فادعها
كما شئت بما شئت وفى أي مكان وزمان شئت. لا سماع بين التصويت والتسكيت لا
رؤية بين الظلمات والنور. لا نمو بين الجوع والشبع. لا انتقال بين الحركة
والسكون لا مفرق بين الأبيض والأسود لا تجزئة بين الكل والفرد. لا هيولة بين
الجوهر والعَرَض. لا شفاء بين العرض والمرض ولا تعليل بين البيت واللحد. ولا
روح بين القلب والجسد. ولا شك بين القاتم والعاتم. لا صوم بين الشك والرؤية.
لا دفء بين الماء والنار. ولا تيمم بين البطلان والرجحان) . اهـ المثال بنصه
وضبطه.
حَسْب القارئ هذا فقد ملّ أو كاد إذ لم يقرأ في حياته كلامًا كهذا الكلام ألفاظ
من اصطلاحات العلوم الطبيعية والدينية والصوفية والجغرافية تشبه خرزًا من أنواع
شتى وُضع في علبة وخضخض حتى اختلط بعضه ببعض ثم استخرج فنظم نظمًا
غير مألوف ولا معروف. فيا ليت شِعْري ماذا كان من أمر أعضاء النادي عندما
ألقاه عليهم الدكتور؟ ماذا فهموا منه؟ هل قابلوه بتصفيق الاستحسان، أم بصفير
الاستهجان؟ .
***
(الرزنامة التونسية لسنة 1324)
كتاب كبير يصدر في كل عام تزيد صفحاته على أربع مئة صفحة كبيرة فيها
من الفوائد الفلكية والتاريخية والأدبية والسياسية والإدارية والتجارية ما لا يستغني
عنه قراء العربية في تونس وغيرها ومؤلفها سيدي محمد بن الخوجة من أفضل
الكُتاب في تونس وأوسعهم علمًا واطلاعًا على الكتب العربية والإفرنجية ومن فوائد
القسم التاريخي في رزنامة هذا العام كلام مسهب لأحد علماء جامع الزيتونة الأعلام
في بيان اختلاق ما كان نُشر في جريدة اللواء المصرية منسوبًا إلى أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو كتاب عهد كتبه للأرمن بزعمهم ولم أَرَ هذا
العهد إلا في الرزنامة ولم أسمع بذكره أيام نشرته جريدة اللواء ومنها تاريخ صيد
المرجان بمياه تونس وتاريخ شركات الأخبار التلغرافية وتاريخ خسائر الحرب بين
روسيا واليابان وتاريخ الحمامات المعدنية بتونس. ومن فوائد القسم الأدبي معجم
لأسماء الأعلام الإسرائيلية ومقابر الكلاب بباريس ومعدة التمساح. وأما القسم
السياسي فهو خاص بحكومة تونس والحماية الفرنسية فيها وكذلك القسم الإداري وفيها
كل ما تهم معرفته عن ذلك القطر. وفي هذا الجزء رسوم وصور كثيرة منها
رسوم بعض المعاهد الحجازية الشريفة وقبر حواء أم البشر وصورة للرئيس ابن سينا
مع ترجمته. وغير ذلك. وثمن النسخة من هذا الكتاب 15 فرنكًا وهو يطلب من
إدارة جريدة المنبر ومن محل الحشاب في القاهرة.
***
(طوالع الملوك)
(مجلة فلكية جغرافية برزخية علمية تصدر في كل شهر عربي مرة لمنشئها
السيد محمود العالم قيمة الاشتراك في مصر 50 قرشًا أميريًّا) وكنا كتبنا تقريظًا
مطولاً لهذه المجلة الغربية في هذا العصر، فضاق عنه الجزء الماضي ولما لم يرد
إلينا بعد الجزء الأول منها شيء وقد مضت أشهر اكتفينا بهذه الإشارة.
***
(المنهل الصافي)
مجلة علمية أدبية تهذيبية تصدر مرة في الشهر لصاحبها ومحررها محمد
أفندي نجيب الخازني وكنا كتبنا لها تقريظًا جمع ولم يُنشر ثم فُقد وهي لا تزال
تصدر بانتظام فنتمنى لها طول البقاء والرواج بالتوفيق للخدمة النافعة.
***
(المِنبر)
جريدة يومية أنشأها في القاهرة محمد أفندي مسعود وحافظ أفندي عوض
الغَنيَّان عن الوصف والتعريف لشهرتهما بتحريرهما في المؤيد السنين الطوال
وباشتغال الأول منهما بالصحافة مستقلاًّ (وتقويم المؤيد) وبهذا كانا جديرين بأن
تكون بدايتهما كنهاية غيرهما في هذا العمل الجليل وأن يكونا مستقلين خيرًا منهما
مقيدين برأي غيرهما ومما يقوي الرجاء في نجاح المنبر رغبة كثير من الكاتبين في
أن يكونوا من خطبائه. فنسأل الله تحقيق الأمل مع التوفيق لخير العمل.
***
(أبو الهول)
جريدة عربية أنشأها شكري أفندي الخوري في سان باولو (البرازيل) تصدر
كل 15 يومًا مرة. وشكري أفندي الخوري جدير بأن يفيد السوريين بجريدته
ويستفيد من إقبالهم حتى تكون أسبوعية فيومية؛ لأن أسلوبه الفكِه في الكتابة يشوق
القارئ لا سيما إذا كان سوريًّا فإنه يمزج الهزل بالجد فيجمع للقارئ بين اللذة
والفائدة وعنايته بالمسائل الصحية والأدبية أنفع للناس من عناية غيره بالمسائل
السياسية والمذهبية.
__________(9/471)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(زيارة الأمير لطلاب العلم في مسجد المرسي)
أظهر الأمير لشيخ علماء الإسكندرية رغبته في زيارة مسجد أبي العباس
لرؤية طلاب العلم الديني وعيّن لذلك يوم 14 ربيع الآخر فنظم الشيخ حلقات
الدروس في ذلك اليوم وأمر المعلمين بتلقين أفراد من كل فرقة مسائل يسرّ الأمير
سماعها وزينت مصلحة الأوقاف المسجد والطريق إليه زينة جميلة وَبَلَّغَتْ حاشية
الأمير (المَعيَّة) شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية وغيرهما من كبراء الأزهر
رغبته في حضورهم هذا الاحتفال وبعد الزيارة ذهب العلماء إلى قصر رأس التين
وسمعوا من الأمير النصائح التي تتعلق بشئونهم وقلد بيده الشيخ شاكرًا الوسام
المجيدي الثاني وهم ينظرون فبيّن لهم بالقول والفعل رضاه عن عمله في إدارة
التعليم.
لهج الناس - تبعًا للجرائد - بهذه الزيارة والنصائح الأميرية ومما قيل وكُتب
أن الأمير أعزه الله وأعز به العلم - أظهر الارتياح التام للعلوم التي يسمونها الجديدة
كتقويم البلدان والحساب والهندسة وأنه ذم التقليد في نصائحه أو خطابه ففرحنا بذلك
وسررنا؛ لأن هذه ضالتنا المنشودة. وقد تمنى أصحاب الجرائد يومئذ لو يحظون
بنص خطاب الأمير للعلماء ونحن أحق بالحرص منهم على ذلك وقد طلبنا فحظينا،
ذلك أن أحد العلماء الذين حضروا ذلك المحفل المهيب كتب ما سمعه بعد الخروج
وتحرى فيه الألفاظ بقدر الطاقة وهذا نص ما كتبه:
(خطاب الأمير)
(الأمة إذا اتحدت وثقت بأفرادها وكانت ميَّالة إلى تبادل الآراء النافعة،
والسعي وراء الصالح العام.
إنه كان في مبدأ الأمر إذا قدمت أو سافرت من الإسكندرية وحصلت زيارات
رسمية لا أرى إلا الرؤساء الروحيين وبعضًا من مستخدمي المحكمة الشرعية حتى
ظننت أنه ليس في البلد علماء، أسأل عن العلماء فيقال لي: إنهم في غاية الخمول
ومن ذلك الوقت عزمت على رفعة شأنهم وحفظ كرامتهم وترتيب مرتبات تقوم
بحاجتهم وكان نتيجة ذلك المعاهد العلمية في الإسكندرية. وعند ذلك احتجنا إلى
بعض العلماء من الأزهر تتميمًا للمواد العلمية (العصرية) فحضر البعض وكان
بينهم وبين الإسكندريين غاية الوئام حتى داخلهم بعض الدسائس التي أوجبت زيادة
النفرة فيما بينهم وقاسى فيها الشيخ شاكر بعض المقاساة كما قاسى في المدة الأولى
من الحُساد فوجدنا أن هذا أمر شاقّ جدًّا فعزمنا على معاملة علماء الإسكندرية
بالقسوة الشديدة وإرجاعهم إلى الحالة الأولى لولا أننا أملنا إصلاح الحال ومتابعة
العمل النافع. غير أن مازال يوجد - الأصل (في) بدل (يوجد) - أفراد يحبون أن يستعملوا (الفسفسة) لأنهم لا قدرة لهم على العمل؛ لأنه ليس كل متعمم شيخًا، فإن بعض الناس يظهرون بمظهر العلماء ولا يحسنون شيئًا من العمل مع أن العمل قد وضعنا له البروجرامات حتى مشى على (الكسترّة) وصار الإخلال به
مضرًّا جدًّا.
وأنا أوصيت الشيخ شاكرًا أن يعامل كل واحد بحسب ما يمكنه من العمل فمَن
له قدرة على درسين يقرأهما، كذلك من يقدر على الأكثر أو الأقل. فيلزم كل واحد
السكينة ويلزم الكبير يرحم الصغير والصغير يعتبر الكبير وأن يترك (الفسفسة)
فإني إن شاء الله لدينا الميزانيات ولنا الأمل في أن تزيد الماهيات والمرتبات حتى
يعم النفع وكل ميزانية تظهر فيها من الخيرات ما فيه الكفاية.
أنا أشتد على الشيخ شاكر بيني وبينه ودائمًا أقول له: عامِلْ هؤلاء الناس
بما فيه الراحة ولي أمل شديد في حصول المطلوب كما أني سُررت جدًّا من حالة
أبي العباس والطلبة ورأيت نجاحًا باهرًا ولي أمل إن شاء الله أن يكون الأزهر كذلك.
(وهنا ضجة من كبار مشايخ الأزهر تقول - وفى رواية قولية: إن بعضهم قال -
نعم نعم يا أفندينا نجاح باهر جدًّا امتحنَّاهم فوجدنا الأمر فوق المرام بهمة أفندينا) .
الحمد لله لنا أمل قريب يظهر علماء من الإسكندرية ينفعون وطنهم وإذا خطب
أحدهم لا يخشى الإنسان من سماع خطابته ولكن هذا لا يكون إلا بالمحافظة على
النظام وترك الفساد والحسد كما أننا مستعدون لسماع أي شكوى فأبوابنا مفتوحة
لسماع أي شكوى ولكن لا نحب المجاهرة والغوغاء بين الناس. وهنا التفت إلى
شيخ الأزهر وقال له: (أحب أن يكون الأزهر متحدًّا مع الشيخ شاكر حتى يحصل
نجاح عظيم فإن حالة إسكندرية تسر جدًّا وأرغب أن يكون الأزهر كذلك. ثم إني
أحب جدًّا لزوم السكينة وأن لا يحصل شيء أبدًّا حتى إذا جئنا من السفر لا نسمع
إلا ما يسرنا) اهـ.
قال الكاتب: إنه لم يترك شيئًا مما قاله الأمير إلا كلمة أشار بها إلى أن بعض
المشايخ جاءه لأجل الفسفسة والوشاية فأمر زكي باشا فكرشه (أي طرده) ولم
يأذن له في الدخول، أقول: وهذا عين الحكمة ولا أحد أقدر على تأديب صغار
العقول من المشايخ من الأمير وفقه الله.
وهذه النصائح صريحة في استيائه من حال الأزهر وكون هذه المشيخة
الجديدة لم تأتِ على ما يرغب ويرجو ولم ينسَ الناس هنا خطبته عند إلباس الكسوة
لشيخ الأزهر الحاضر.
***
(الجريدة)
انْتُدِبَ جماعة من أعضاء مجلس شورى القوانين وغيرهم ممن كان ذاكرهم
الأستاذ الإمام في مسألة إنشاء جريدة يومية على الوجه الذي ذكرناه في ترجمته إلى
تنفيذ هذا المشروع فدَعَوْا غير واحد من وُجهاء الأغنياء للاكتتاب فاكتتبوا في مجلس
واحد بعشرة آلاف جنيه ونيف ثم وضعوا قانونًا لشركة المساهمة وعينوا مديرًا
للجريدة وأعضاء لمجلس الإدارة الذي يدير العمل وسموها (الجريدة) وهم الآن
يسعون في تأسيس المطبعة والبحث عن العمال والكُتّاب.
رأيت أكثر مَن سمعتهم يذكرون الجريدة حتى بعض المكتتبين يقولون: نخشى
أن نكون مُقَطّمًا ثانيًا، ومن الناس من يجزم بذلك ويستدلون بأن وجهاء الأعضاء
استشاروا اللورد كرومر في أمرها، وقد أيد بعض الجرائد اليومية هذا الرأي فزاد
انتشارًا ولا ريب عندنا في حسن نية أهل الرأي من القائمين بهذا العمل وقصدهم فيه
إلى خدمة هذه البلاد وعدم إيثار مصلحة على مصلحتها، وأنهم يعلمون كما يعلم كل
عاقل أن ليست مصلحة البلاد في اتخاذ حكومتها خصمًا لها والمحتلين أعداءً لأهلها
وأن ليس من الخدمة النافعة أن تهب الجرائد عند كل عمل منتقد للحكومة صائحة إن
هذا من سوء نية الحكومة أو المحتلين، وأنهم يريدون به هدم حقوق الوطنين عامدين
متعمدين، كما يعلمون أن من الخيانة للبلاد السكوت عن انتقاد ما يجب انتقاده من
أعمال الحكومة ومشروعاتها بالدليل والبرهان، مع أدب القلم واللسان، وتلك هي
الطريقة المثلى في هذه الخدمة الفضلى، وسيرى أكثر الناس أن الجريدة خير مما
كانوا يظنون؛ فأعضاء مجلس إدارة الجريدة خمسة وعشرون رجلاً ليس فيهم مَن
يعدها ركنًا لمعيشته ولا لرفعته كما هو شأن أصحاب الجرائد، فالرجاء في إخلاص
هذه الجماعة أقوى من الرجاء في إخلاص أولئك الأفراد.
على أن الفائدة الحقيقية للجريدة موقوفة على حسن اختيار الذين يتولون كتابتها
وتحريرها فإذا ظفر مجلس إدارتها بالكاتبين المحررين القادرين على الإجادة في
مسائل الاجتماع والأخلاق والاقتصاد والانتقاد والزراعة والتجارة والأدب والشريعة
والقوانين ممن لا تنبسط أيدي أصحاب الجرائد الأخرى إلى استعمال أمثالهم تسنى
لها أن تكون أرقى من كل ما عداها، وبذلك تكون قدوة صالحة للجرائد كما هو
المرجو، وإذا هي ظهرت مثل أرقى الجرائد الحاضرة رآها الناس دونها؛ لأنهم
ينتظرون أن تكون أكثر إتقانًا فهم يزنونها بهذا الميزان.
***
(حادثة دنشواي)
في 13 يونيو ذهب بعض ضباط جيش الاحتلال لصيد الحمام الداجن في جهة
دنشواي التابعة لمركز شبين الكوم وكانوا ألموا بها في سيرهم بفرقتهم إلى
الإسكندرية ولما شرعوا في الصيد استاء أصحاب الحمام واتفق أن اشتعلت النار في
جرن (بيدر) بالقرب منهم فانبرى بعض الفلاحين لصدهم عن صيد حمامهم
حرصًا عليه وخوفًا على أجران غلتهم أن تحترق من نار البنادق، وفي أثناء المقاومة
أصيبت إحدى نساء الفلاحين بنار بنادق الضباط وظن أنها قُتلت فعادت المقاومة
ملاكمة وضربًا بالعصي والطوب فجرح غير واحد وأمر الرئيس أحد الضباط
المضروبين بالسير إلى المعسكر لطلب النجدة فسار في حر محرق فأصيب بضربة
الشمس على رأسه المشجوج فمات في الطريق. وأثبت التحقيق أن الضباط مالوا
إلى المسالمة وسلموا أسلحتهم للفلاحين فما زادهم ذلك إلا خشونةً وعدوانًا وقد سلبوا
من الضباط ساعة وسلسلة مفاتيح وصفارة وأخذوا سلاحهم كما هي عادة بعضهم مع
بعض في مثل هذه الحال! .
هذا وقد عظم أمر الحادثة على المحتلين؛ لأن العزيز يعد الإهانة الصغيرة
كبيرة.
ومَن يَهُن يسهل الهوان عليه ...
فأجمعوا أمرهم على محاكمة الفلاحين في المحكمة المخصوصة بمن يعتدي على أحد
من جيش الاحتلال فاجتمعت هيئة المحكمة في شبين الكوم (في 5 ج1) وحكمت
حكمًا لا يقبل الطعن ولا الاستئناف على أربعة من الفلاحين بالشنق وعلى اثنين
بالأشغال الشاقة المؤبدة وعلى واحد بالأشغال الشاقة 15 سنة وعلى أربعة بالأشغال
الشاقة 7 سنين وعلى ثلاثة بخمسين جلدة، ثم بالحبس مع الشغل سنة وعلى خمسة
بخمسين جلدة فقط.
وقد نُفذ هذا الحكم علنًا على جميع المحكوم عليهم في قرية دنشواي وبعضهم
ينظر إلى بعض والأهل والأقربون ينظرون وعسكر الاحتلال محيط بالمكان وكان
الجلد في نظر الناس أشد من الشنق فكان لذلك أشد التأثير المزعج للناظرين، ثم
لجميع أهل القطر فهبَّت الجرائد للانتقاد والشكوى وكثر لغط الناس بظلم الإنكليز
وقال المتفلسفون منهم: إنما كان ذلك اللين السابق قبل تمام التمكن في البلاد. ثم
روعوا بزيادة جيش الاحتلال وبما قال ناظر خارجية إنكلترا في التعصب، وقد
أشرنا إليه في مقالة التعصب من هذا الجزء حتى قصرت ألسنة الذين كانوا يُثنون
على أعمال الإنكليز النافعة ويفضلونها على جميع الدول.
يقول بعض المنتقدين على الاحتلال: إن هذا الحكم سياسي ويقول من ينتصر
للإنكليز في كل شيء: بل هو قضائي عادل، وعندي أن الأولين هم المنتصرون؛
لأن القوم إذا كانوا يعتقدون أن الحكم القضائي العادل - الذي هو القصاص بالمساواة
في مثل هذه الواقعة - يجرئ الفلاحين على جيش الاحتلال لتعصبهم أو لخشونتهم وأن
هذا الجيش إذا لم يكن مما لا تطمح النفوس إلى الجرأة عليه فإنه لا يمكن للمحتلين
أن يقيموا في البلاد، وكانوا قد قسوا في الحكم للإرهاب وإقفال هذا الباب فإن السياسة
المتبعة في كل زمان تقول لهم أصبتم في التنكيل ببضعة رجال وعقابهم بأكثر مما
يحكم به العدل في القصاص العادي لمنع حدوث فتن ربما أدت إلى قتل مَنْ لا
يُحصى من الرجال وإفساد كثير من الأعمال. وإذا نحن قلنا: إن هذا الحكم قضائي
لا سياسي يقول لنا المنتقد: أين القانون أو الشرع الذي بُني عليه الحكم ومتى كان
الرأي المجرد قضاءً عادلاً وكيف يكون من العدل قَتْل كثيرين بواحد وجَلْد كثيرين
وتعذيبهم طول الحياة لجرح بعضهم مَنْ يكفي لشفائه أيام معدودات؟ ! .
فاللائق بمقام الإنكليز في الوجود أن يكون الحكم سياسيًّا وإن كانت السياسة
مجهولة للفلاحين.
ونسأل الله أن يوفق الحكومة والمسيطرين عليها إلى الطريقة المثلى لحفظ
الأمن وتهذيب الفلاحين ليمتنع العدوان الذي تأصَّل في البلاد بضعف الدين وقوة
الجهل وزوال هيبة الحكومة وأن لا يعود مثل هذا الخطأ في الفهم بين المحتلين
والمصريين. آمين.
***
(وفد الشريف إلى اليمن والثورة)
بلغنا أن الشريف أمير مكة المكرمة أرسل وفدًا مؤلفًا من أحد الأشراف وأحد
العلماء وثلاثة نفر تابعين لهما إلى زعيم الثورة في اليمن ليقنعه بالخضوع للدولة
العلية. والدولة لا تزال ترسل الجيوش إلى اليمن تباعًا، والثورة تزيد قوةً وامتدادًا
وإن قليلاً من العدل والحكمة خير من ذلك كله وأَنَّى لنا بهما؟ ! .
***
(الدولة ومؤتمر الأديان في اليابان)
بلغنا أن ما شاع في مصر وكتبناه في جزء سابق من أن السلطان أرسل وفدًا
إلى مؤتمر الأديان في اليابان غير صحيح، واليابان طلبت منه ذلك فلم يُجب وقد
كتب من الآستانة إلى بعض الناس هنا بذلك قال الكاتب: وإنني قبل أن أكتب هذا
قد اجتمعت بأحمد مدحت أفندي الذي ذكرت الجرائد المصرية أنه أحد أعضاء الوفد.
***
(إلى وكيل المنار الصديق في تونس)
قد بسطنا رجاءنا لوكيل المنار الفاضل في الجزء الأخير من السنة الماضية
والجزء الأول من هذه السنة بأن يتفضل علينا بالحساب عن السنين التي تكرم
بقبول الوكالة فيها فلم يحر جوابًا ولكن صديقه الحميم الذي مَنَّ علينا بأن نعهد إليه
بالوكالة وكلفه القبول كتب إلينا فيما كتب بأنه قد بادر إلى محاسبة المحصل وأنه
أرسل طائفة من النقود التي حاسبه عليها وأنه لا يلبث أن يكتب إلينا بيانًا بتصفية
الحساب عن مدة وكالة صديقه. ولما طال العهد بالوعد كتبنا إليه نذكّره فلم يُرجع
إلينا قولاً ولكن جاءتنا طائفة من النقود في حوالة من المحصل على البريد
فاضطررنا إلى التذكير بلسان المجلة. ولا يعزب عن فهم الصَّديقين الأديبين أننا
أحوج إلى بيان الحساب منا إلى ما أرسل من النقد؛ لأن سَنة المنار التاسعة قد
انتصفت بهذا الجزء ونحن لا نعرف ممن سدد قيمة الاشتراك إلا من جرت عادتهم
بإرسال ما عليهم إلينا ولعلهم لا يبلغون عشرة في المئة من مشتركي تونس ولهذا
يتعذر علينا أن نطالب أحدًا منهم بشيء ما لم نطلع على نتيجة أعمال الوكيل وما
كان من أمر التحصيل فعسى أن يتفضل الصديقان بالبيان المنتظر ليتسنَّى لنا عرفان
ما هنالك من حقوق المنار، ونستريح من ألم الانتظار، ونشكر لهما الشكر الصميم،
وإنما الأعمال بالخواتيم.
__________(9/474)
غرة رجب - 1324هـ
23 أغسطس - 1906م(9/)
الكاتب: أبو حامد الغزالي
__________
سيرة السلف الصالحين في نصيحة السلاطين
(تابع لما نقل عن الإحياء)
(وحكي أن حطيطًا الزيات جيء به إلى الحَجَّاج فلما دخل عليه قال: أنت
حطيط؟ قال: نعم، سل عما بدا لك فإني عاهدت الله عند المَقام على ثلاث خصال
إن سئلت لأصدَقَنَّ وإن ابتليت لأصبرَنَّ وإن عوقبت لأشكرنَّ. قال فما تقول فيّ؟
قال أقول: إنك من أعداء الله في الأرض تنتهك المحارم وتقتل بالظِّنة. قال فما
تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؟ قال أقول: إنه أعظم جرمًا منك
وإنما أنت خطيئة من خطاياه. قال فقال الحجاج: ضعوا عليه العذاب. قال فانتهى
به العذاب إلى أن شُق له القصب، ثم جعلوه على لحم وشدوه بالحبال، ثم جعلوا
يمدون قصبة قصبة حتى انتحلوا لحمه فما سمعوه يقول شيئًا. قال فقيل للحَجاج:
إنه في آخر رمق فقال: أخرجوه فارموا به في السوق. قال جعفر (أي راوي
الحكاية) فأتيته أنا وصاحب له فقلنا له: حطيط ألك حاجة؟ فقال: شربة ماء، فأتوه
بشربة ثم مات وكان ابن ثماني عشرة رحمه الله تعالى.
وروي أن عمر بن هبيرة (والي العراق لبني أمية) دعا بفقهاء أهل البصرة
وأهل الكوفة وأهل المدينة وأهل الشام وقرائها فجعل يسألهم وجعل يكلم عامرًا
الشعبي فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده منه علمًا، ثم أقبل على الحسن
البصري فسأله ثم قال: هما هذان، هذا رجل أهل الكوفة يعني الشعبي، وهذا رجل
أهل البصرة يعني الحسن فأمر الحاجب فأخرج الناس وخلا بالشعبي والحسن فأقبل
على الشعبي فقال: يا أبا عمرو إني أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها
ورجل مأمور على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم فأنا أحب حفظهم وتعهد ما
يصلحهم مع النصيحة لهم وقد يبلغني عن العصابة من أهل الديار الأمر أجد عليهم
فيه فأقبض طائفة من عطائهم فأضعه في بيت المال ومن نيتي أن أرده عليهم فيبلغ
أمير المؤمنين أني قد قبضته على ذلك النحو فيكتب إليَّ أن لا ترده فلا أستطيع ردّ
أمره ولا إنفاذ كتابه وإنما أنا رجل مأمور على الطاعة فهل عليَّ في هذا تبعة وفي
أشباهه من الأمور والنية فيها على ما ذكرت؟ قال الشعبي فقلت: أصلح الله الأمير
إنما السلطان والد يخطئ ويصيب. قال: فسُرّ بقولي وأعجبه ورأيت البشر في وجهه
وقال: فلله الحمد، ثم أقبل على الحسن فقال: ما تقول يا أبا سعيد؟ قال: قد سمعت
قول الأمير يقول: إنه أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها ورجل مأمون
على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم والنصيحة لهم والتعهد لما يصلحهم
وحق الرعية لازم لك وحق عليك أن تحوطهم بالنصيحة وإني سمعت عبد الرحمن
بن سمرة القرشي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (من استرعي رعية فلم يحطها بالنصيحة حرم الله عليه
الجنة) [1] .
ويقول: إني ربما قبضت من عطائهم إرادة صلاحهم واستصلاحهم وأن
يرجعوا إلى طاعتهم فيبلغ أمير المؤمنين أني قبضتها على ذلك النحو فيكتب إليَّ أن
لا ترده فلا أستطيع رد أمره ولا أستطيع إنفاذ كتابه وحق الله ألزم من حق أمير
المؤمنين والله أحق أن يطاع ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فاعرضْ كتاب
أمير المؤمنين على كتاب الله عز وجل فإن وجدته موافقًا لكتاب الله فخذ به وإن
وجدته مخالفًا لكتاب الله فانبذه يا ابن هبيرة اتقِ الله فإنه يوشك أن يأتيك رسول من
رب العالمين يزيلك عن سريرك ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك فتدَع
سلطانك ودنياك خلف ظهرك وتُقدم على ربك وتنزل على عملك يا ابن هبيرة: إن
الله ليمنعك من يَزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله وإن أمر الله فوق كل أمر وإنه لا
طاعة في معصية الله وإني أحذرك بأسه الذي لا يُردّ عن القوم المجرمين. فقال ابن
هبيرة: أَرْبِع على ظلعك أيها الشيخ وأعرض عن ذكر أمير المؤمنين فإن أمير
المؤمنين صاحب العلم وصاحب الحكم وصاحب الفضل وإنما ولاه الله تعالى من أمر
هذه الأمة لعلمه به وما يعلمه من فضله ونيته، فقال الحسن: يا ابن هبيرة الحساب
من ورائك سوط بسوط وغضب بغضب والله بالمرصاد يا ابن هبيرة، إنك إن تلق
من ينصح لك في دينك ويحملك على أمر آخرتك خير من أن تلقى رجلاً يُغرك
ويمنّيك فقام ابن هبيرة وقد بَسَرَ وجهه وتغيَّر لونه قال الشعبي فقلت: يا أبا سعيد
أغضبت الأمير وأوغرت صدره وحرمتنا معروفه وصِلَته فقال: إليك عني يا عامر
قال: فخرجَتْ إلى الحسن التحف والطرف وكانت له المنزلة واستخف بنا وجفانا
فكان أهلاً لما أُدي إليه وكنا أهلاً أن يفعل ذلك بنا فما رأيت مثل الحسن فيمن رأيت
من العلماء إلا مثل الفرس العربي بين المقارف [2] وما شهدنا مشهدًا إلا برز علينا
وقال لله عز وجل، وقلنا مقاربة لهم قال عامر الشعبي: وأنا أعاهد الله أن لا أشهد
سلطانًا بعد هذا المجلس فأحابيه.
وعن الشافعي رضي الله عنه قال: حدثني عمي محمد بن علي قال إني
لحاضر مجلس أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور وفيه ابن أبي ذؤيب وكان والي
المدينة الحسن بن زيد قال: فأتى الغفاريون وشكوا إلى أبي جعفر شيئًا من أمر
الحسن بن زيد فقال الحسن: يا أمير المؤمنين سل عنهم ابن أبي ذؤيب، قال:
فسأله فقال: ما تقول فيهم يا ابن أبي ذؤيب فقال: أشهد أنهم أهل تحطّم في
أعراض الناس كثيرًا والأذى لهم فقال أبو جعفر: قد سمعتم فقال الغفاريون: يا
أمير المؤمنين سله عن الحسن بن زيد فقال: أشهد عليه أنه يحكم بغير الحق ويتبع
هواه فقال قد سمعت يا حسن ما قال فيك ابن أبي ذؤيب وهو الشيخ الصالح فقال:
يا أمير المؤمنين اسأله عن نفسك فقال: ما تقول فيّ قال تعفيني يا أمير المؤمنين
قال: أسألك بالله ألا أخبرتني قال: تسألني بالله كأنك لا تعرف نفسك قال: والله
لَتخبرَنّي قال: إنك أخذْتَ هذا المال من غير حقه فجعلته في غير أهله وأشهد أن
الظلم ببابك فاشٍ قال فجاء أبو جعفر من موضعه حتى وضع يده في قفا ابن أبي
ذؤيب فقبض عليه، ثم قال له: أَمَا والله لولا أني جالس ههنا لأخذت فارس والروم
والدَّيْلم والترك بهذا المكان منك قال: فقال ابن أبي ذؤيب يا أمير المؤمنين قد ولِّي
أبو بكر وعمر فأخذا الحق وقسما بالسوية وأخذا بأقفاء فارس والروم وأصغرا
آنافهم، قال: فخلى أبو جعفر قفاه وخلَّى سبيله وقال: والله لولا أني أعلم أنك
صادق لقتلتك فقال ابن أبي ذؤيب: والله يا أمير المؤمنين إني لأنصح لك من ابنك
المهدي قال: فبلغنا أن ابن أبي ذؤيب لمّا انصرف في مجلس المنصور لقي سفيان
الثوري فقال له: يا أبا الحرث لقد سرني ما خاطبت به هذا الجبار ولكن ساءني
قولك له ابنك المهدي فقال: يغفر الله لك يا أبا عبد الله كلنا مهدي كلنا كان في
المهد! .
وعن الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو قال بعث إليَّ أبو جعفر المنصور أمير
المؤمنين وأنا بالساحل فأتيته فلما وصلت إليه وسلمت عليه بالخلافة رد عليَّ
واستجلسني، ثم قال لي: ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي قال قلت: وما الذي
تريد يا أمير المؤمنين قال: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم قال فقلت: فانظر يا
أمير المؤمنين إنك لا تجهل شيئًا مما أقول لك، قال: وكيف لا أجهله وأنا أسألك عنه
وفيه وجهت إليك وأقدمتك له قال قلت: أخاف أن تسمعه ثم لا تعمل به، قال
فصاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف وانتهره المنصور وقال هذا مجلس مثوبة
لا مجلس عقوبة فطابت نفسي وأنست في الكلام فقلت يا أمير المؤمنين حدثني
مكحول عن عطية بن بشر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما عبد
جاءته موعظة من الله في دينه فإنها نعمة من الله سِيقَتْ إليه فإن قبِلها بشكر وإلا
كانت حجة من الله عليه ليزداد بها إثمًا ويزداد بها الله سخطًا عليه) يا أمير
المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن بشر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أيما والٍ مات غاشًّا رعيته حرَّم الله عليه الجنة) [3] يا أمير المؤمنين من كره
الحق فقد كره الله، إن الله هو الحق المبين، إن الذي ليَّن قلوب أمتكم لكم حين
ولاكم أمورهم لقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بهم رءوفًا
رحيمًا مواسيًا لهم بنفسه في ذات يده محمودًا عند الله وعند الناس فحقيق بك أن تقوم
له فيهم بالحق وأن تكون بالقسط له فيهم قائمًا ولعوراتهم ساترًا لا تغلق عليك دونهم
الأبواب ولا تقم دونهم الحُجاب، تبتهج بالنعمة عندهم وتبتئس بما أصابهم من سوء،
يا أمير المؤمنين قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين
أصبحت تملكهم أحمرهم وأسودهم ومسلمهم وكافرهم وكلٌّ له عليك نصيب من العدل
فكيف بك إذا انبعث منهم فِئام وليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه، أو
ظُلامة سقتها إليه، يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عروة بن رويم قال كانت
بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة يستاك بها ويروع بها المنافقين فأتاه
جبرائيل عليه السلام فقال له: يا محمد ما هذه الجريدة التي كسرت بها قلوب أمتك
وملأت قلوبهم رعبًا فكيف بمن شقق أبشارهم وسفك دماءهم وخرب ديارهم وأجلاهم
عن بلادهم وغيبهم الخوف منه يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن زياد عن حارثة
عن حبيب بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى القصاص من نفسه
في خدش خدشه أعرابيًّا لم يتعمده فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، إن الله
لم يبعثك جبارًا ولا متكبرًا فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي فقال: اقتصَّ
مني فقال الأعرابي: قد أحللتك بأبي أنت وأمي وما كنت لأفعل ذلك أبدًا ولو على
نفسي فدعا له بخير [4] يا أمير المؤمنين قد سأل جدك العباس النبي صلى الله عليه
وسلم إمارة مكة أو الطائف أو اليمن فقال له النبي عليه السلام (يا عباس يا عم النبي: نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها) [5] نصيحة منه لعمه وشفقة عليه
وأخبره أنه لا يغني عنه من الله شيئًا إذ أوحى الله إليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ
الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) فقال يا عباس ويا صفية عمي النبي ويا فاطمة
بنت محمد إني لست أُغني عنكم من الله شيئًا، إن لي عملي ولكم عملكم [6] وقد قال
عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل أريب العقد لا
يُطَّلع منه على عورة ولا يخاف منه على حُرة ولا تأخذه في الله لومة لائم، وقال:
الأمراء أربعة فأمير قوي ظلف (أي منع) نفسه وعماله فذلك كالمجاهد في سبيل
الله يد الله باسطة عليه الرحمة، وأمير فيه ضعف ظلف نفسه وأرتع عماله لضعفه
فهو على شفا هلاك إلا أن يرحمه الله وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه فذلك الحطمة
الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شر الرعاة الحطمة) فهو الهالك
وحده [7] وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعًا.
وبعد أن أطال في وعظه بما حذفنا بعضه اختصارًا قال:
(يا أمير المؤمنين من أشد الشدة القيام لله بحقه، وإن أكرم الكرم عند الله
التقوى وإنه مَن طلب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه ومن طلبه بمعصية الله أذله
الله ووضعه فهذه نصيحتي إليك والسلام عليك) ثم نهضت فقال لي: إلى أين؟ فقلت:
إلى الولد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله فقال: قد أذنت لك وشكرت لك
نصيحتك وقبلتها والله الموفق للخير والمعين عليه وبه نستعين وعليه نتوكل وهو
حسبي ونعم الوكيل فلا تخلني من مطالعتك إياي بمثل هذا فإنك المقبول القول غير
المتهم في النصيحة، فقلت: أفعل إن شاء الله تعالى، قال:محمد بن مصعب فأمر له
بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله وقال: أنا في غنى عنه وما كنت لأبيع
نصيحتي بعَرَض من الدنيا. وعرف المنصور مذهبه فلم يجِد عليه في ذلك.
(وعن ابن المهاجر قال: قدم أمير المؤمنين المنصور مكة شرفها الله حاجًّا
فكان يخرج من دار الندوة إلى الطواف في آخر الليل يطوف ويصلي ولا يُعلم به
فإذا طلع الفجر رجع إلى دار الندوة وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة
ليصلي بالناس فخرج ذات ليلة حين أسحر فبينما هو يطوف إذ سمع رجلاً عند
الملتزم وهو يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحُول
بين الحق وأهله من الظلم والطمع، فأسرع المنصور في مِشْيته حتى ملأ مسامعه
من قوله، ثم خرج فجلس ناحية من المسجد وأرسل إليه فدعاه فأتاه الرسول، وقال
له: أجب أمير المؤمنين فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم عليه،
فقال له المنصور: ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي والفساد في الأرض
وما يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني
وأقلقني. فقال يا أمير المؤمنين: إن أمَّنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها
وإلا اقتصرت على نفسي ففيها لي شغل شاغل. فقال: أنت آمِنٌ على نفسك فقال:
الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي والفساد في
الأرض أنت! فقال: ويحك وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في يدي
والحلو والحامض في قبضتي؟ قال: وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك يا أمير
المؤمنين إن الله استرعاك أمور المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع
أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجابًا من الجص والآجُرّ وأبوابًا من الحديد وحَجَبة
معهم السلاح، ثم سجنت نفسك فيها عنهم وبعثت عمالك في جمع الأموال وجبايتها
واتخذت وزراء وأعوانًا ظلمة إن نسيت لم يذكّروك، وإن ذكرت لم يعينوك وقويتهم
على ظلم الناس بالأموال والكِراع والسلاح، وأمرت بأن لا يدخل عليك من الناس
إلا فلان وفلان، نفر سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع
ولا العاري ولا الضعيف ولا الفقير، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق، فلما
رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت أن لا يُحجبوا
عنك، تجيء إليك الأموال ولا تقسمها قالوا: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا فأتمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا وأن لا
يخرج لك عامل فيخالف لهم أمرًا إلا أَقصَوْه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره فلما
انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم وكان أول من صانعهم عمالك
بالهدايا والأموال ليقوَوْا بهم على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من
رعيتك لينالوا ظلم من دونهم من الرعية فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيًا وفسادًا وصار
هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل فإن جاء متظلم حِيلَ بينه وبين الدخول
إليك وإن أراد رفع صوته أو قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك
ووقَّفت للناس رجلاً ينظر في مظالمهم فإن جاء ذلك الرجل فبلغ بطانتك سألوا
صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته وإن كانت للمتظّلم به حرمة وإجابة لم يمكنه مما
يريد خوفًا منهم فلا يزل المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو
يدفعه ويعتلّ عليه فإذا جهد وأخرج وظهرت صرخ بين يديك فيضرب ضربًا مبرّحًا
ليكون نكالاً لغيره وأنت تنظر ولا تنكر ولا تغير فما بقاء الإسلام وأهله على هذا.
ولقد كانت بنو أمية وكانت العرب لا ينتهي إليهم المظلوم إلا رُفعت ظُلامته إليهم
فينصف ولقد كان الرجل يأتي إلى أقصى البلاد حتى يبلغ باب سلطانهم فينادي: يا
أهل الإسلام فيبتدرونه، ما لك ما لك؟ فيرفعون مَظْلِمته إلى سلطانهم فينتصف.
ولقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى أرض الصين وبها ملك فقدمتها مرة وقد ذهب سَمْع مَلِكِهِمْ فجعل يبكي فقال له وزراؤه: ما لك تبكي لا بكت عيناك؟ فقال:
إني لا أبكي على المصيبة التي نزلت بي ولكن أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمع
صوته، ثم قال: أما إن كان قد ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب نادوا في الناس ألاَ
لا يلبَس ثوبًا أحمر إلا مظلوم! فكان يركب الفيل ويطوف طرفي النهار هل يرى
مظلومًا فينصفه! هذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله قد غلبت رأفته بالمشركين
ورِقته على شح نفسه في ملكه وأنت مؤمن بالله وابن عم نبي الله لا تغلبك رأفة
بالمسلمين ورقتك على شح نفسك؟ ! .
وبعد أن أطال في موعظته وخوّفه من الله وعذاب الآخرة بما حذفنا بعضه
للاختصار بكى المنصور بكاءً شديدًا حتى نحب وارتفع صوته،ثم قال: يا ليتني لم
أُخلق ولم أكُ شيئًا، ثم قال: كيف احتيالي فيما خولت ولم أَرَ من الناس إلا خائنًا؟
فقال: يا أمير المؤمنين عليك بالأئمة الأعلام المرشدين قال: ومَن هم؟ ! قال
العلماء، قال: قد فروا مني! قال:هربوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر من
طريقتك من قِبَل عمالك ولكن افتح الأبواب وسهل الحجاب، وانتصر للمظلوم من
الظالم وامنع المظالم وخذ هذا الشيء مما حل وطاب واقسمه بالحق والعدل. وأنا ضامن على أن مَن هرب منك أن يأتيك فيعاونك على إصلاح أمرك ورعيتك. فقال المنصور: اللهم وفقني أن أعمل بما قال هذا الرجل.
(المنار)
أليس ملوكنا الآن أحوج إلى مثل هذه النصيحة من المنصور وهم غير
منصورين؟ ! أليس حالهم شرًّا من حاله وملكهم دون ملكه وهروب الخيار منهم
أكثر من هروبهم منه والخطر عليهم من الظلم أشد من خطره عليه في زمنه؟ بلى،
ولكن أين العلماء الناصحون؟ !
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) رواه البغوي بإسناد لين والشيخان وغيرهما بالمعنى.
(2) وفي نسخة (المقاريف) وكلاهما جمع مُقْرِف كمحسن، وهو ما كان أبوه غير عربي ويقابله الهجين.
(3) رواه وما قبله وكذا حديث الجريدة الآتي ابن أبي الدنيا في مواعظ الخلفاء وأبو نعيم وابن عساكر والبيهقي في الشُّعب.
(4) رواه مَن ذكر وأبو داود والنسائي.
(5) رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي وأبو نعيم وابن عساكر.
(6) رواه البخاري وغيره على خلاف في اللفظ.
(7) رواه مخرِّجو الأحاديث السابقة ومسلم وغيرهم.(9/481)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المعارف في مصر قبل الثورة العُرابية
كانت الحكومة المصرية قد دخلت في أول عهد ولاية توفيق باشا في طور
جديد من الإصلاح الحقيقي وكان الفضل الأول في تنفيذ ذلك لرياض باشا وكان
الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في تلك الوزارة الرياضية عقلاً مفكرًا وروحًا مدبرًا؛
إذ كان برياسة قلم المطبوعات وتحرير الجريدة الرسمية كالمسيطر على جميع
أعمال الحكومة كما بينا في ترجمته في المجلد الثامن، ومن ذلك عنايته بانتقاد
نظارة المعارف انتقادًا كان له شأن عظيم في إصلاح شأنها وإننا نورد هنا بعض
مقالاته نقلاً عن الجزء الثاني من تاريخ حياته (الذي يطبع الآن) وهي:
وكتب في العدد 990 منها الصادر في 18 المحرم سنة 1297 -20 ديسمبر
سنة 1880:
المعارف
كثر تحدث الناس في شأنها في هذه الأوقات وكأنهم لما فرغوا من الأفكار
المتعلقة بالأمور المالية والإدارية وما كان فيها من الاضطراب وتنوع الأحوال
وتقلب الأشكال إذ كفتهم الحكومة أمر ذلك كله بثباتها وتبصر رجالها العقلاء -
أخذوا يلتفتون إلى ما به حياتهم الحقيقية ونمو هيئتهم الاجتماعية وظهور شأنهم بين
الناس وحسبانهم في عداد أهل العلم وهو العلم النافع الذي رأينا جيراننا من الممالك
نالوا به السيادة علي غيرهم وطفقوا يتذاكرون فيما به يكون تقدمه والوسائل
الموصلة إلى انتشاره في أقطاره موجهين آمالهم إلى نظارة المعارف العمومية؛
لأنها ذات الشأن فيه فقالوا كلامًا كثيرًا أذكره كما قيل.
قالوا: إن المدارس ينبوع هذا الخير الجليل (العلم) وليس له من وسيلة
سواها ولكن تحت شروط لا بد من استيفائها (ولسنا الآن بصدد بيانها) وقد افتُتِحَت
المدارس في ديارنا من عهد المرحوم محمد علي باشا لكن كان اسمها غريبًا على
الآذان وحشيًّا عن القلوب يساق الناس إليها (كأنما يساقون إلى الموت) إذ كانوا
يظنون أن الدخول في المدارس هو الانتظام في العسكرية والدخول في العسكرية هو
الشقاء الدائم والبلاء المحتم وبعض الناس بعد التنبه كانوا لا يرون خطة أرفع من
خطة الكتابة في ديوان أو مصلحة لِمَا يرون للكاتب من المكانة عند الحكام
والتصرف في الحقوق فاكتفَوْا بإرسال أبنائهم إلى الكتبة يعلمونهم حتى إذا كبروا
انتظموا في سلوكهم وكانت لهم المنزلة المطلوبة بدون حاجة إلى مدرسة ولا مكتب
منتظم وبعض الناس ربما كان يعلم فائدة المدارس ولكن كانت توجد أسباب تمنعه
من تربية أبنائه فيها ولكننا لا نبديها، وأما في أيامنا هذه فقد تنبهت العقول ووقفوا
على فوائد العلم وثمراته حق الوقوف غير أن ذلك يقضي على الآباء بتربية أبنائهم
من الآن فصاعدًا على الطريقة المنتظمة، أما الشبان الذين فاتهم زمن التعليم في
تلك الجهالة السابقة واشتغلوا بتحصيل مادة المعاش إما بالتوظيف في الخدمات
الميرية أو طلب الكسب من وجوه أُخر ولهم شوق تام إلى كسب فضيلة العلم فلا
تساعدهم أحوالهم بالضرورة على الرجوع إلى التعليم في مكاتب الأطفال وتعطيل
أسباب معاشهم فيودُّ الكثير منهم أن تكون في البلاد مدارس ليلية يتداركون فيها
بعض ما فاتهم في الأزمنة السابقة أزمنة جهل آبائهم لعلهم بذلك ينفعون أنفسهم
وبلادهم بأكثر مما يقدرون عليه الآن حتى اهتم بعض الشبان من مدة نحو سنتين
بتأليف جمعية لفتح مدرسة ليلية ثم عارضتهم بعض الموانع فلم تساعدهم المقادير
على النجاح وكانوا في انتظار توفيق إلهي يسوق إليهم ذلك الخير حتي سمعوا بأن
نظارة المعارف تروم افتتاح مدرسة ليلية ففرحوا واستبشروا وقالوا: نعمة من الله
سِيقت إلينا نؤدي له مزيد الشكر عليها ثم انقبضت نفوسهم عندما سمعوا من شروط
تلك المدرسة أن تكون دروسها باللغة الفرنساوية خاصة ولا يقبل فيها إلا من كانت
عنده مبادئ الرياضيات والطبيعيات وله تقدُّم في اللغة الفرنساوية وقالوا: يا سبحان
الله إن المدارس الليلية في البلاد المتمدنة تُقرأ فيها العلوم الابتدائية باللغة العامية مع
التزام التسهيل في التعبير والتحاشي عن ذكر الألفاظ الاصطلاحية الغريبة أو العسرة
التفهيم وذلك لفائدتين:
(الأولى) أن كل من يعرف القراءة والكتابة يمكنه أن يفهم مبادئ العلوم بهذه
الطريقة فلا تفتر همة الذين لم ينالوا حظ التعليم في صغرهم وينتشر العلم حقيقة إذ
لا يكون في فهمه صعوبة ولا يمنع الشخص عن أشغاله النهارية.
(والثانية) أنه إذا كان التعليم على هذا النمط تكون المسائل العلمية لقربها
إلى الفهم كأحدوثات تتسلى بها النفس بل ألذ من ذلك؛ إذ لا يدخل الرجل محفل
العلم إلا ويخرج بنور جديد فتنجذب نفوس الناس إلى مستملحات العلم بدل صرف
أوقات ليلهم الطويل في مضاجعهم يتقلبون من جانب إلى جانب أو في بيوتهم
بمحادثات لا طائل تحتها أو في أماكن أخرى نتحاشى عن ذكرها يُهرعون إلى معهد
العلم ليغذوا عقولهم ويروحوا قلوبهم ولم نسمع أن أمة متمدنة افتتحت مدرسة عالية
وجعلتها ليلية فلِمَ عدل عن هذه الطريقة الجليلة في بلادنا واخترعت طريقة جديدة
وهو جعل التدريس في المدرسة الليلية بلسان أجنبي عن لسان البلد بالكلية لا يفهمه
المتفنن منهم ولا العامي والعلوم التي يقرأ بها عالية لا ابتدائية حتى يحرم الناس
الذين هم أحوج إلى التعليم وأولى به وهم الخَدَمَة وأرباب الكسب المُحِبُّون لنيل
فضيلة العلم ولا يستطيعون، ويتلهفون على ذلك ولا يجدون، وهو مما يوجب
الأسف خصوصًا وقد تواتر على الألسنة أن غالب مَن قُبلوا فيها أجانب (وإن كان
ذلك غير صحيح فعندي علم اليقين بأن الأكثر وطنيون لكن من الذين تعلموا في
مدارس الفرير ونحوها) فهل يقال بأننا تقدمنا عن تلك الممالك فترقينا حتى صارت
مدارسنا الليلية أعلى من مدارسهم أو أيقنَّا بأن العامة منا والكتاب لا يستفيدون من
ذلك شيئًا أو لاحظت نظارة المعارف أنها بذلك ستحصل في زمن قريب على أساتذة
تجعلهم معلمين في مدارسها ومكاتبها فإن كان هذا الوجه الأخير قلنا: إنها ستجعل
(مدرسة الخواجات) نهارًا فلها أن تزيد في عدد تلامذتها ما تشاء لهذا الغرض على
أنه لو سُلِكَ في المدرسة الليلية مسلك البلاد المتمدنة لتأتَّى لنا الوصول إلى هذا
المقصد فكثير من أهل العلم كان يود أن ينتظم في تلك المدرسة ليتعلم العلوم التي
فاته تحصيلها لكن منعه التدريس بلغة أجنبية وكون الدروس فوق البدايات وإن كان
الثاني قلنا: إن الاستعداد والشوق موجودان في كثير من الناس ولهم رغبة تامة في
التعليم فكيف يصح إساءة الظن بجميع شباننا إلى هذا الحد وإن كان الأول قلنا
الأولى أن لا نتكلم وإننا وحق الحق لفي حاجة كلية إلى أن يكون التعليم الليلي عندنا
مستديمًا آخذًا من البداية سهل الوسائط ميسر الأسباب بلغة بلادنا عامة أو خاصة
حتى تنقطع حجة الجاهل ويبطل برهان المتكاسل وتنبعث الغيرة في الكل إذا أقبل
البعض على التعليم ويقع التنافس في الفضائل ويجد الشبان الذين استرسلوا مع
هوى الشباب شغلاً وتوبخهم الذمة وتلعنهم ضمائرهم إذا تركوه لا يجدون لهم علة
يتعللون بها إذ ذاك بل نرى أنه لا بد أن يكون هذا التعليم الليلي إجباريًّا عامًّا لكل
مستخدم وقارئ لم يتعلم تمام ما يجب عليه في وظائفه إلا لضرورة تمنعه من مرض
ونحوه خصوصًا بعدما أعلنت الحكومة أن جميع المستخدمين في الإدارات أو
التحصيلات لا بد أن يكونوا من الدراية بحيث يقدرون على تحقيق القضايا وحل
المشكلات بأنفسهم في جميع الجنايات والحقوق والحسابات ونحو ذلك وهذا لا ريب
يستدعي أن يكون جميعهم على بصيرة تامة وذوي عقل وافر وهذا لا يمكن إلا بعد
تحلية العقل بالعلوم الابتدائية التي لا بد منها لكل من يريد الاستقلال في سيره.
هذا حاصل أقوال الناس في شأن المدرسة الليلية التي افتتحتها نظارة المعارف
قريبًا وربما كانت تلك الأقوال صحيحة ولكن إن صح ما قالوا فعليهم بتقديم آرائهم
لسعادة ناظر المعارف ليتروّى فيها ثم يجيبهم إلى مطلوبهم إن رآه موافقًا وخاليًا من
الموانع والمحظورات وإلا أقنعهم بأن تعميم النفع غير ممكن فحينئذ يعلمون الحق
ويريحون أنفسهم من الجدال ولهم أقوال في مواضيع شتى يمنعنا من ذكرها في هذا
العدد ضيق المقام وربما نذكرها غدًا إن شاء الله.
***
وكتب في العدد 993 الصادر في 21 المحرم سنة 1298 - 23 ديسمبر سنة 1880:
المعارف
مقالات الناس فيها وأفكارهم العمومية متنوعة ذكرنا بعضها في عدد سابق
ونذكر بعضًا منها في هذا العدد حفظًا لمتفرقات الأقوال لعل شيئًا منها يقارن صحة
فيصادف قبولاً وليكون ذلك دليلاً على تنبيه الأفكار والتفات أذهان الناس إلى النافع
الحقيقي، قالوا: نشرت نظارة المعارف إلى جميع فروعها منشورًا مبسوط العبارة
مشحونًا بالمعاني الرفيعة قاضيًا على نظار المدارس والمكاتب ومعلميها بوجوب
التفاتهم لوظائفهم وقيامهم بواجباتهم مبينًا لهم أن الامتحانات في العام الماضي على
الطريقة الجديدة قد أظهرت أن في بعض المدارس قصورًا في التعليم وفي بعضها
كمالاً وزيادة فاستوجب موظفو الأولى التوبيخ والإنذار وموظفو الثانية الشكر والثناء،
فعلى الجميع من الآن فصاعدًا بذل الجهد في ارتقاء درجة التعليم بحيث تكون
الاستفادة تعقلاً وتبصرًا لا حفاظًا ولَقْلقة وبيّن في هذا المنشور كيفية التعليم وطرق
التفهيم وأنذر من لم يحذُ حَذْوها بوقوعه تحت مسئولية الديوان.
فانشرحت صدور العامة والخاصة بهذه التنبيهات الأكيدة والتعليمات المفيدة
وقالوا: لو عمل بهذا المنشور لاطمأنت نفوس الكافة إلى تربية أبنائهم في مدارسنا
التي يصرف بها الآلاف من الجنيهات على خزينة الحكومة ليتربى بها على توالي
الأزمة رجال يكونون فخر البلاد وحماة ذِمارها فقد كانت النفوس في ريب من نجاح
التعليم فيها قبل اليوم ولذلك كانت مدارس الفرير والإنكليز والأمريكان والبروسيان
وغيرها عامرة بأبناء الأهالي مسلمين ومسيحيين ومدارسنا ليس فيها منهم العدد
اللائق بشأنها ولم يكن ذلك إلا لما أظهرته التجربة من نجاح التعليم في تلك وقصوره
في هذه مع مراعاة الآداب التي يفرح بها الوالدان والأقارب في المدارس الأجنبية
وإغفالها في مدارسنا لكن (الحمد لله) تلك أيام قد خلت فإن التفات سعادة ناظر
المعارف إلى كيفية التعليم وتشديده في أن تكون على وجهها الحقيقي مما يعيد الآمال
ويقويها.
إلا أنهم يتساءلون فيما بينهم بتساؤلات كثيرة منها قولهم: هل حصلت المكافأة
الحقيقية لمن أظهر الامتحان اجتهادهم من الناظر والمدرسين وهى مكافأة الدينار
والدرهم فإن مكافأة الشكر والثناء وإن كانت واجبة وهي من أجلّ المكافأة وأجملها
ولها تأثير في جلب الرغبات وتقوية العزائم لكنها لا تلتصق بالقلب التصاق النقود
والمساعدة المعاشية فإن مَنْ ضاق عليه العيش وكانت حاجته أكثر من إيراده لا تنفكُّ
عنه الوساوس ولا يبارح ذهنه الاضطراب وتغلب منغصات الحاجة وآلامها على
الفرح الذي أنعشه عندما سمع كلمة الثناء عليه ثم ذلك ينقص من اجتهاده ويحطُّ من
همته بل ربما أورث خللاً في كيفية تأديته لوظائفه خصوصًا إذا رأى غير المجتهد
مماثلاً له في الرزق وأوفر راتبًا منه، ولقد صدق القائل: النقص من الرواتب
نقص من الأعمال، لكن المنشور لم يُذكر فيه حصول تلك المكافأة مع أن المسموع
أن ميزانية المدارس كانت قابلة لذلك ونظارة المالية تسمح باستغراقها بل تودُّ لو
يُزاد فيها.
وقولهم هل جميع من نشر عليهم هذا المنشور الجليل يدركون الغرض منه
حق الإدراك وإذا أدركوه فهل يوجد عندهم من القوة العملية والتدريب على الطرق
الجديدة ما يؤهلهم لإجرائه والسير بمقتضاه بحيث تحصل الغاية منه بمجرد نشره أو
أن الكثير منهم محتاج لأن يتعلم تلك الطرق ويتمرن عليها والبعض ربما لا يمكنه
ذلك حتى ولا بالتعليم؟ وهل امتُحِنَ المعلمون والنظار كما امتُحِنَت التلامذة وعلم
المستعد منهم وغير المستعد بوجه الدقة والضبط حتى إذا وجد منهم من لا يليق
لوظيفة أُنزل عنها ورِزقه على الله ومن يليق لأعلى منها رُفع إلى ما يستحق لتوجد
الرغبة الحقيقية أولاً وتخشى عواقب الجهل والإهمال ويتوفر على المعارف زمان
تجرب فيه المعلمين مرة أخرى ويكون كله خسارة على التلاميذ المساكين. ولا
نقصد بالامتحان إلا السؤال في الفن الذي يعلمه فإذا تبين أنه يمكنه الإحاطة بمسائله
ولو بمراجعة الكتب على وجه السهولة عُدَّ عارفًا، ثم طلب الإلقاء والتدريس وكيفية
التفهيم فرُبّ عالِم لا يستطيع البيان! .
يقول الناس: إنه يوجد بين المعلمين أشخاص فضلاء نجباء عارفون بفنونهم
قادرون على تأديتها بالوجه اللائق لكن يوجد بينهم آخرون ألفوا بعض الطرق
العتيقة وتعوّدُوا عليها فلا يستطيعون بعد طول الزمن التحول عنها وإن كانوا علماء
بفنونهم، والبعض منهم يستطيع تأدية القواعد علمًا ويعجز عن تمرين المتعلم عليها
عملاً والبعض يوجد خاليًا من الأمرين يهزأ به التلامذة ولا يوقرون أستاذيته، كل
ذلك يزعمون مشاهدته بالعيان ويوجد بين المعلمين صنف من النبهاء لا يحب أن
يجهد نفسه في التعليم ويكتفي في درسه بحكاية بعض ما وقع له في يومه أو ليلته ثم
ينصرف فهل تعينت هذه الأوصاف في أربابها واعتُرف للفاضل بفضله وعَرَفَ
الناقص مقدار نفسه وأُنزل كلٌّ منزلته؟ . هل اختارت نظارة المعارف لإجراء هذا
المنشور أشخاصًا من العرفاء كلٌّ في فن مخصوص ليطوفوا على المكاتب الابتدائية
والمدارس الخصوصية ولا يكون لهم عمل سوى هذا ليقفوا على أحوال تلامذة جميع
المدارس في كل أسبوع أو خمسة عشر يومًا مثلاً ويقدموا جميع ما يرونه من
الملاحظات على وجه الدقة التامة، فإن رأوا نقصًا عرفوا سببه ومن أي الجهات
منبعه، وإن كان اعوجاجًا في طريق التعليم أرشدوا المعلم بأنفسهم وبينوا له الطريق
مرة بعد أخرى فإن اعتدل وإلا اعتزل ويكون أولئك الأشخاص تحت مسئولية شديدة
إذا ظهر فيما بعدُ نقصٌ ولم يكونوا نبهوا عليه فإن ذلك يبعث الغيرة وينشط الاجتهاد
في المعلمين وغيرهم وتكون حركة المدارس في خط مستقيم يوصل إلى المقصود
بأقرب الطرق المؤدية إليه ويسهل تدارك الخلل إذا ظهر وإزالة النقص إذا طرأ؟
هل دققت نظارة المعارف في معرفة أخلاق النظار والأساتذة الذين وضع الأطفال
في كفالتهم يدبرون أمرهم ويرشدونهم إلى كمالهم وفصلت بين صاحب الأخلاق
الفاضلة والأفكار المستقيمة والعفة والنزاهة والغيرة على نفع مَن وُكِلَ أمرهم إليه
وأداء ما وجب في ذمته حتى يكون حاله وكماله درسًا آخر يعطى للتلاميذ في كل
يوم فتنطبع هذه الكمالات في نفوسهم بأشد من انطباع صور المعلومات في عقولهم
وهو المعنى المقصود من التربية وبين مَن لا خَلاق له بأن يكون أحمق أو دنيئًا أو
عديم الغيرة والذمة أو رديء الأفكار ونحو ذلك من الذين تكون معاشرة التلاميذ لهم
موجبة لتلوثهم بالرذائل وتكون كلماته في الدرس ممزوجة بسُمّ الفساد فتُمِيت أذهانهم
وتكون عاقبة أمرهم إما جهلاً، وقد ضاع الزمان وولى الشباب، وإما علمًا صناعيًّا
مصحوبًا بشرور تعود على صاحبها بالشقاء، ويا ليتها تكون قاصرة عليه ولكن
تتعدى إلى غيره بحكم العادة المستمرة، وعند الفصل بين الفريقين بإرشاد الرقباء
النبهاء ذوي الفراسة والخبرة بأحوال العالم وأخلاقهم والأمانة في الخير والصدق فيه
يميز الخبيث من الطيب ويبحث عن المستقيمين على قدر الطاقة في أنحاء البلاد
لتفوض إليهم تربية الأطفال والشبان ليكونوا رجالاً ينفعون أنفسهم وحكومتهم التي
تصرف عليهم المصاريف الكثيرة أملاً بحصولها على رجال تقيمهم في وظائفها
الكثيرة يؤدون واجباتها بالضبط والأمانة.
يقولون: إنه لا شك في كون الكتب الموجودة في العلوم العربية مثلاً ليست
أساليبها سهلة المأخذ على التلامذة ولا موافقة لطريقة التعليم في المدارس من اشتغال
التلميذ بفنون كثيرة في زمان واحد وإنه يلزم إيجاد طريقة جديدة في التأليف وإزالة
كثير من الصعوبات التي عاقت كثيرًا من الناس عن التعليم فهل حصلت العناية
بتصنيف تلك الكتب وإن حصلت فبمَن أُنيط تصنيفها، وهلا شُكّل مجلس للنظر في
مثل تلك التسهيلات ودعي إليه أعضاء ممن لهم سعة في الفكر والاطلاع على
الطرق القديمة والجديدة ويكون لهذا المجلس حق في تعيين الكتب التي ينبغي
تدريسها في أي الفنون حتى يتأتَّى إجراء ذلك المنشور السابق على وجه الكمال.
من المحقق أن سعادة عبد الله باشا فكري وكيل عموم المدارس في سفره إلى
الجهات البحرية قد رأى أمورًا كثيرة تستحق الالتفات وطلب من نظارة المعارف
أشياء مهمة لا بد من تقريرها والإسعاف بها فهل أجيب طلبه وحصلت المذاكرة في
تلك الآراء القويمة التي أبداها حتى يفرغ من تنفيذ مقتضاها إلى البحث في غيرها
من الجهات القبلية؟ .
هذه جملة من سؤالاتهم سردناها للإحاطة بها وإنا نجيب عن ذلك بأن نظارة
المعارف هى أعلم بما يجب عليها من جميع ذلك وأنها لا تغفل شيئًا مما تعلمه نافعًا
ومفيدًا، ومن اليقين أنها لا تشرع في شيء ثم تتركه يتم بنفسه بدون مراقبة أَلْبتّة
فقد أعدت لمقاصدها وسائل؛ إذ تعلم أن زماننا هذا لا يُرى فيه إلا الأثر الظاهر ولا
يؤْثر عن رجاله إلا الأعمال الحقيقية، أما صدور الأوامر والنطق بالألفاظ العالية
بدون ترتب فائدة عليها فقد مضى وقته وأن الآمال متعلقة برجال تلك النظارة
العرفاء الأجلاء كسعادة ناظرها الأكرم الحريص على تقديم العلم والغيور الرفيع
الهمة سعادة وكيلها عبد الله باشا فكري والبصير الحاذق وكيل المكاتب الأهلية
حضرة علي بك فهمي وسنرى من أعمالهم ما يرفع جميع هذه الأوهام ويفتح
للمعارف في عصرنا هذا تاريخًا جديدًا فهذه هى الفرصة التي نرى فيها الحكومة
العالية مساعِدة على نشر المعارف وتأييدها فعلينا أن لا نضيعها.
***
وكتب في العدد 997 الصادر في 26 المحرم سنة 1298 - ديسمبر سنة 1880:
المعارف
من المحقق أن نظارة المعارف قد اهتمت وعزمت على فتح مدرسة ليلية تقرأ
فيها العلوم الابتدائية لتكون عامة النفع شاملة الفوائد يذهب إليها الرجال الذين شغلهم
الكسب والضرورات المعاشية نهارًا عن التعليم مع رغبتهم فيه وميلهم إليه ولهم من
أوقات الليل الطويل فرصة لا يضيعونها- إذا افتتح مثل هذه المدرسة- لا في تعلم ما
ينفعهم ويزيدهم نورًا وبصيرة وسيكون التدريس فيها باللغة العربية التي هى لغة
بلادنا ويُقرأ فيها درس باللغة الفرنساوية يكون قاصرًا على تعليم اللغة لا غير يُبْتَدَأ
فيه من الهجاء الفرنساوي إلى نهاية ما يلزم أن يتعلم في تلك اللغة، أما دروس اللغة
العربية فمنها ما هو خاص بتعليم قواعد اللغة، ومنها ما يكون في بعض علوم أُخر
نافعة من آداب وتاريخ أحوال الأمم وتاريخ طبيعي وبعض مبادئ الرياضة
(فيما سمعت) بحيث لا تنقص عن تلك المدرسة التي سبق منا الكلام عليها
المسماة (بمدرسة الخواجات الليلية) في جوهر ما يُقرأ بها وإن كانت تختلف عنها
بأن هذه تكون لغة التعليم فيها وطنية وتلك أجنبية وهذه آخذة من البدايات وتلك آتية
من النهايات وهذه يكون معظم نفعها بل كله للوطنيين وتلك لا نتوسم فيها ذلك إلا
ببرهان وهذه الاختلافات وإن كانت عظيمة لكنها لا تضر في المقصود.
ومما ينبغي ذكره أنه ثبت في أذهان بعض الناس أن مجرد تعلم اللغات
الأجنبية يعد فضيلة يُسعى إليها ويهتم بشأنها مع أن اللغة في ذاتها لا فضيلة فيها ولا
يصح أن تُجعل غاية تقصد، وإنما هى وسيلة لما احتوت عليه تلك اللغة من العلوم
والآداب والأفكار التي ربما لا تكون مبسوطة في اللغة الوطنية كما هى واضحة في
اللغة الأجنبية فطالب تعلم اللغة الفرنساوية مثلاً إذا لم تكن عنده مبادئ علوم وملكة
إدراك في بعض الفنون التي يطلب التفنن فيها لا يعد مصيبًا في طلبه إلا إذا طلب
معها تعلم تلك المبادئ حتى أنه عند بلوغه إلى حد الاقتدار على فهم اللغة يتيسر له
الوصول إلى الفائدة المقصودة فلا يصح بناءً على ذلك أن يكون التعلم والتعليم
الليليان قاصرين على اللغات فقط بل يلزم أن يكون معها مبادئ العلوم كما عزمت
عليه نظارة المعارف الجليلة التي لا نزال نرى مساعيها في تقدُّم أبناء البلاد وبث
روح العلم فيهم تأتي من النجاح بما يُخلّد لسعادة ناظرها ووكيلها طيب الذكر والثناء.
وبافتتاح هذه المدرسة يفحم المجادلون وتبطل حجة اللائمين الذين انصبوا إلى
البحث في المدرسة الليلية وفوائدها وما يعود على البلاد منها ونشرنا وجوه أنظارهم
فيها في بعض أعدادنا السابقة فكان هذا العمل من نظارة المعارف برهانًا فعليًّا لا
جدليًّا يقنع الناظرين ويفحم المخاصمين، ويذهب بتعللات المتعللين ومطالبًا
لأصحاب تلك الأفكار بالبرهان الفعلي أيضًا وهو توجه الهمم إلى التعلم وإفراغ
الجهد في تحصيل ثمرات العلم حتى تظهر فوائد هذا الأثر وأنا على يقين من أن
المستخدمين وغيرهم من ذوي الكسب الذين يعرفون قدر المعارف ويقدرونها حق
قدرها يجيبون نظارة المعارف إلى طلبها كما أجابتهم إلى طلبهم ويكون لجريدة
الوقائع المصرية شرف الإخبار بخير الأخبار وأجر التنبيه على الأمر وما
فيه. اهـ.
(المنار)
هذه المقالات وأمثالها كانت مبدأ نهضة جديدة في المعارف فهي سبب إنشاء
المدرسة الليلية العربية وسبب إنشاء المجلس الأعلى لنظارة المعارف كما علم من
ترجمة فقيدنا في المجلد الثامن بالإجمال وسيعلم من الجزء الأول من تاريخه
بالتفصيل. وله مقالات أخرى في انتقاد أعمال الحكومة والأُمة كانت حادي
الإصلاح ومرشده في سائر المصالح والأعمال. وقد كان من الحكمة إسناد الانتقاد
إلى حديث الناس؛ لأن الكاتب يكتب في جريدة الحكومة، ولأن انتقاد الناس أشد
تأثيرًا من انتقاد واحد وما الناس الباحثون المنتقدون يومئذ إلا ذلك الحزب الذي كان
الفقيد وأستاذه الحكيم عقله المفكر ولسانه الناطق. أما عبارته رحمه الله فإنك تراها
على قرب العهد بالأزهر وأسلوب السجع في غاية السلاسة وله مقالات أبلغ منها؛
لأنها أرقى موضوعًا وفكرًا وسنُورِد للقراء نموذجًا منها.
__________(9/505)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
الإسلام هو القرآن وحده
آراء وأفكار
للدكتور محمد توفيق أفندي الطبيب بسجن طره
هذا عنوان مقال لي جديد، أريد أن أفصح فيه عن رأي أبديه لعلماء المسلمين،
المحققين منهم لا المقلدين، حتى إذا ما كنت مخطئا أرشدوني، وإذا ما كنت
مصيبًا أيدوني، وبشيء من علمهم أمدوني، فإني لست ممن يهوى الإقامة على
الضلال، ولا ممن يلتذّ بحديث مع الجهال، فلذا أجهد النفس في تحقيق الحق
وتمحيصه، والإسراع إليه إذا ما بدا لي بارق من بصيصه، وها أنا ذا أشرع في
إيضاح المقصود بالتدقيق، راجيًا من الله التوفيق، للهداية إلى أقوم طريق فأقول:
لا خلاف بين أحد من المسلمين، في أن متن القرآن الشريف مقطوع به؛
لأنه منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ بدون زيادة ولا نقصان، ومكتوب
في عصره بأمر منه عليه السلام، بخلاف الأحاديث النبوية فلم يكتب منها شيء
مطلقًا إلا بعد عهده بمدة تكفي لأن يحصل فيها من التلاعب والفساد ما قد حصل،
ومن ذلك نعلم أن النبي عليه السلام لم يرد أن يبلغ عنه للعالمين شيء بالكتابة سوى
القرآن الشريف الذي تكفل الله تعالى بحفظه في قوله جل شأنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) فلو كان غير القرآن ضروريًّا في الدين
لأَمَرَ النبي بتقييده كتابة ولتكفل الله تعالى بحفظه، ولما جاز لأحد روايته أحيانًا على
حسب ما أداه إليه فهمه.
فإنْ قيل: إن النبي لم يأمر بكتابة كلامه لئلا يلتبس بكلام الله، قلت: وكيف
ذلك والقرآن معجز بنظمه ولا يمكن لبشر الإتيان بمثله ولِمَ لَمْ يضمن ما في
الأحاديث من الواجبات كما ضمن ما في القرآن حتى نأمن عليه من التغيير
والتحريف والاختلاف ولما كان بعض الدين قرآنًا والبعض الآخر حديثًا، وما
الحكمة في ذلك، وما الفرق بين الواجب بالقرآن والواجب بالسُّنة؟ فهذه بعض
أسئلة ألقيها على الباحثين ليجيبوا عنها إن كان ثَم جواب.
سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم: (هل يجب الوضوء من
القيء؟) فأجاب عليه السلام: (لو كان واجبًا لوجدته في كتاب الله تعالى) فهذا
الحديث صح أو لم يصح، فالعقل يشهد له ويوافق عليه، وكان يجب أن يكون مبدأ
للمسلمين لا يحيدون عنه. ولكن ويا لَلأسف لَحِقَ المسلمين ما لحق غيرهم من الأمم،
فدفع بهم في ظلمات في بحر لُجيّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب،
ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج أحدٌ منهم يده لا يكاد يراها، ومن لم يجعل
الله له من كتابه نورًا فما له من نور.
ولع الناس في الأعصر الأولى بالروايات القولية ولوعًا، وتفاخروا بكثرة
جمعها جموعًا، حتى ملأت الأحاديث الآفاق، وكثر فيها التضارب والاختلاف.
وصار من المستحيل أن يعمل الإنسان بدينه بدون أن يقلد غيره ممن أفنوا أعمارهم
في عمل مذهب لهم فأصبح التقليد من أوجب الواجبات في دين المسلمين بعد أن كان
من ألدّ أعداء القرآن المجيد. تنوعت المذاهب واختلفت المشارب وتعددت الآراء
في كل فرع من فروع الفقه حتى تجد في كل مسألة أن كل ممكن من الممكنات
العقلية قد صار مذهبًا لأحد الأئمة ووجب على المقلدين القول (بأن الكل على الحق)
فأصبح القول باجتماع الضدين بل النقيضين عقيدة من عقائد الدين بين المسلمين
فحق عليهم القول بأن سيتبعون سنن مَنْ قبلهم حتى لو دخلوا جُحْر ضب لدخلوه.
أراد بعضهم أن يزيل عن العين الرمد فقال بسد باب الاجتهاد. وبذلك شفى الرمد
بالإعماء، فصار كل من أراد أن يستعمل عقله في الدين رموه بأنه من المارقين
وهكذا ضاع الحق بين الأباطيل: ولولا عناية الله لأزهقت رُوحَه الأضاليلُ.
نظر المجتهدون في الأحاديث نظرة علموا ما فيها من الاختلاف، وتحققوا أن
أكثرها موضوعات، ولما أراد كل منهم أن يستخرج مذهبه اضطر أن يرفض منها
ما صح عند غيره، فهل يعقل أن الله يدين العالمين بشيء لا يمكن لأحد أن يميز
حقه من باطله؟ وهل يعذر المسلمون في تركهم القرآن خلف ظهورهم والاشتغال
عنه بهذه المذاهب وصرف الوقت في مراجعة الروايات التي لا تحصى لظنهم أن
القرآن غير وافٍ بالدين كله، والله تعالى يقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 38) وإذا صحت مذاهبهم، فأي تفريط أكبر من ترك القرآن لأكثر
واجباتهم في الصلاة والصوم والحج والزكاة وغير ذلك؟
دين الله سهل ميسور، والتقليد فيه محظور، فلو كان العمل بما في الأحاديث
واجبًا لَلَزِمَ كل مكلف أن يترك أي شغل آخر ويقضي الليالي الطويلة في مطالعة
المجلدات الضخمة من كتب الحديث، ليعرف الضعيف والصحيح والموضوع،
والحسن والموقوف والمرفوع، والناسخ والمنسوخ:
فهل في شرعة الإنصاف أني ... أكلف خُطَّةً لا تستطاع؟
يحتج السنيون على صحة قولهم بنحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) ولكننا نحن
القرآنيين نقول: إن إطاعة الرسول لا نزاع فيها ولكن النزاع في مسألة أخرى وهي:
هل يفرض علينا الرسول فرضًا لم يفرضه كتاب الله؟ فإذا كان ذلك صحيحًا فهل
لأولياء الأمر أن يفرضوا علينا صلوات سبعًا بدل الخمس أو صيام شهرين بدل
الشهر ونحن مأمورون بطاعتهم مثل طاعة الرسول؟ وإذا كان الأمر كذلك فما
بال جميع أصحاب المذاهب ميزوا بين أمر الله وأمر الرسول أو بين الواجب والسنة
وبين المفروض والمندوب؟ أليس ذلك إقرارًا منهم بالفرق الهائل بين الكتاب
والسنة؟
نحن لا نجهل أن كل مذهب منها يقول ببعض فرائض لا أثر لها في الكتاب،
ولكن الذي نلاحظه على أصحابها ونشكرهم عليه أنهم كانوا دائمًا يجتهدون أن
يأخذوا دليلهم على الفرضية من الكتاب إن أمكنهم حتى إن كثيرًا منهم قال بعدم
وجوب أشياء كان النبي عليه السلام يواظب عليها ويأمر أصحابه بها، إذ لم يجد
دليلاً عليها من القرآن، فأبو حنيفة مثلاً قال بأن قراءة الفاتحة في الصلاة ليست
بواجبة؛ لأنه لم يجد أمرًا بذلك في كتاب الله، وكذلك قال في الاستنجاء، وذهب
الجميع إلى القول بأن المضمضة والاستنشاق ليستا من فرائض الوضوء، وغير
ذلك كثير حتى إنك تجدهم يستنبطون كل ما قالوا بأنه فرض من الآية الواردة فيه،
وبعد ذلك يقولون بأن ما زاد عليه فهو سنة، ولو لم يثبت أن النبي تركه مرة
واحدة، أليس ذلك أثرًا من آثار الفطرة السليمة الباقية في نفوسهم؟
إذا نظر ناظر في جميع المذاهب المعروفة واستخرج منها جميع ما أجمعوا
على وجوبه وجد أنه كله مستنبط من القرآن الشريف إلا مسائل قليلة جدًّا أذكر منها
بعضها لأهميتها كعدد ركعات الصلاة، ومقادير الزكاة وما يتعلق بها.
لا شك عندي أن هاتين المسألتين متواترتان عن النبي صلى الله عليه وسلم
فليس ذلك محلاًّ للنزاع، ولكن محل النزاع هو هل كلُّ ما تواتر عن النبي أنه فعله
وأمر به يكون واجبًا على الأمة الإسلامية في جميع الأزمنة والأمكنة، وإن لم يرد
له ذكر في القرآن رأيي أنه لا يجب. وربما كان ما يفعله النبي صلى الله عليه
وسلم هو مندوبًا إليه ندبًا شديدًا أو أنه تطبيق لأوامر القرآن الباقية على أحوال
الأمة العربية، بحيث إن غيرها من الأمم لها أن تستنبط من الكتاب ما يوافق
أمورها وأحوالها كما سنبين ذلك في مسألة الزكاة.
ولنبدأ الآن بالبحث في مسألة ركعات الصلاة. قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ
فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُواًّ مُّبِيناً * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ
طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ
أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (النساء:
101- 102) إلى آخر الآية، فيتضح من هذه الآيات الكريمة أن قصر الصلاة
مباح في السفر إذا خفنا العدو، وأن صلاة الخوف للإمام ركعتان فقط وللمؤتمين واحدة
يصلي نصفهم الركعة الأولى معه، ثم يصلي النصف الآخر الركعة الثانية،
وهذا هو المتبادر من القرآن الشريف وما ذهب إليه ابن عباس وجابر بن عبد الله
ومجاهد فإذا كانت صلاة الخوف ركعة واحدة للمؤتم، وظاهر من السياق أن هذا
قصر، أي دون الواجب، فيكون الفرض في أوقات عدم الخوف هو أكثر من
ركعة، أي أن القرآن يفرض على المسلم أن يصلي في كل وقت من أوقات الصلاة
أكثر من ركعة، ولم يحدد له عددًا مخصوصًا، وتركه يتصرف كما يشاء،
وبعبارة أخرى: إن الإنسان يجب عليه أن يصلي ركعتين على الأقل، وله أن يزيد
عن ذلك ما شاء أن يزيد بحيث لا يخرج عن الاعتدال والقصد، فإن الغلو في الدين
مذموم وكذا في كل شيء {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} (الأعراف: 31) ومن
ذلك تعلم أن عدد ركعات الصلاة غير معين إلا بهذا القدر فقط، وهو أن لا
تنقص عن اثنتين ولا تزيد إلى درجة الإفراط، وبعد ذلك فللمسلم الاختيار فيما يفعل
على حسب ما يجده من نفسه ومن وقته، ولا يجوز له القصر عن الركعتين إلا
فيما ذكره القرآن الشريف، والذي يدلك من السنة على أن هاتين الركعتين لهما
الشأن الأكبر في الدين ما يأتي:
(1) أول ما فُرضت الصلاة كان النبي عليه السلام يصلي دائما ركعتين
ركعتين مدة إقامته بمكة وجزءًا من إقامته بالمدينة , فإن قيل: لعل ذلك كان في أول
الأمر لحدوث عهد المسلمين بالإسلام فناسب أن يكون التكليف حينذاك خفيفًا، قلنا:
إن المعهود في طباع البشر أن يكونوا عند دخولهم في دين جديد شديدي الرغبة في
القيام بجميع واجباتهم الدينية ويطلبون المزيد، وكلما طال عليهم العهد أخذوا في
التهاون فيها، ولذلك كان المسلمون في أول الإسلام يقومون الليل بعضه إن لم يكن
كله، وكلما ازداد اضطهاد المشركين لهم كلما ازدادوا رغبة في الصلاة فلو كلفوا
بأكثر من ركعتين في أول الأمر لوجدوا في أنفسهم من الرغبة الشديدة في العمل ما
لا يجدونه فيما بعد وخصوصًا لأنهم كانوا غير مكلفين بالجهاد ولا بغيره: كالصوم
والحج وغيرهما، ثم لو سلَّمنا أن التخفيف في الصدر الأول كان لمراعاة جانب
المسلمين الحديثي العهد بالدين وهم إذ ذاك نفر قليل فلماذا لا يراعى جانب مَنْ دَخَلَ
في الدين فيما بعد وقد كانوا يُعدُّون بالملايين؟ فلهذه الأسباب نحن نتخذ هذه المسألة
دليلاً على أن النبي ما كان يكتفي بالركعتين في ذلك الوقت إلا لبيان أنهما أقل
الواجب، ثم زاد عليهما فيما بعد لبيان أن الزيادة أولى.
(2) إن النبي لما زاد عدد ركعات الصلاة كان يقتصر على ركعتين في
سفره ولو لم يكن هناك خوف من العدو، ولو كان السفر قصيرًا جدًّا، ولو أقام
بالجهة التي سافر إليها بضعة عشر يومًا وزال عنه العناء والتعب، فلو كانت
الزيادة واجبة لعُدَّ هذا تهاونًا، وخصوصًا لأن القرآن لم يبح القصر إلا عند الخوف
من العدو ولكنهم يقولون تحكمًا: إن هذا هو القصر المراد في القرآن ولا يبالون
بمخالفة الظاهر منه ونحن نسمي ذلك (اكتفاء بالواجب) محافظة على مقام القرآن
الشريف ولا نقول في قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء:
101) إن هذا القيد في الآية المذكورة أنفًا لا مفهوم له كما يقولون اتباعًا لمذاهبهم.
(3) كان عليه السلام لا يجهر بالقراءة في الركعتين الأخيرتين، وإن جهر
في الأُوليَيْن ولا يقرأ فيهما بعد الفاتحة شيئًا من القرآن، فهل يدل ذلك على أن
منزلتهما أقل من الركعتين الأوليين؟ .
(4) إننا إذا نظرنا إلى عدد الركعات التي كان يصليها النبي في أوقات
الصلاة مع قطع النظر عما سماه المجتهدون سُنة وما سمَّوْه فرضًا نجد أنه لم يحافظ
على عدد مخصوص، فكان تارة يزيد وتارة ينقص؛ ولذلك اختلفت المذاهب في
عدد السنن وفي المندوب والمستحب والرغيبة إلى غير ذلك من التقسيمات والأسماء
التي ما كان يعرفها الرسول نفسه ولا أصحابه، ثم إن عدد الركعات التي كان
يصليها في الأوقات المختلفة من اليوم هو مختلف أيضًا، فصلاة الصبح مثلاً أربع
ركعات والظهر عشر ركعات أو اثنتا عشرة ركعة، ولكن الشيء المطرد الذي
نلحظه أنه ما صلى وقتًا أقل من ركعتين ولا تقيد بعدد مخصوص، وهذا يؤيد ما
ذهبنا إليه كل التأييد.
وأما كونه كان يصلي بعض هذه الركعات في الجماعة ويواظب على ذلك،
وإذا كانت الصلاة رباعية أو ثلاثية لم يسلم إلا مرة واحدة، وإذا ترك سهوًا بعضها
أعاده وسجد للسهو، فكل هذه أشياء لا يصح أن يُردَّ بها علينا، أما صلاة الجماعة
فهي غير خاصة بالفرض، فصلاة العيدين والكسوف والخسوف والاستسقاء وغيرها
كان يصليها جماعة وكذا صلى بعض النوافل، وأما المواظبة على جعل بعض
الصلوات أربعًا أو ثلاثًا فهو لا يدل على وجوب ما فوق الركعتين؛ لأن هذه
المواظبة المزعومة غير مسلمة كما بينا ذلك فيما سبق، وإذا سلمت فكم من أشياء
واظب عليها طول حياته، وقال بعض الأئمة: إنها غير واجبة مثل الاستنجاء أو
الاستجمار، ومثل قراءة الفاتحة في كل ركعة والمضمضة والاستنشاق، وغير ذلك
كثير جدًّا.
وأما قرن الركعات بتسليمة واحدة فكم من أشياء قرنت بل مزجت
بالفرائض، وقال الأئمة: إنها غير واجبة مثل كثير من أعمال الحج والوضوء
والصلاة، ولما لا نتخذ نحن جلوسه صلى الله عليه وسلم دائمًا بين الركعتين
الأوليين والركعتين الأخيرتين، إشارة منه إلى فصل الواجب عن غير الواجب،
وكذا عدم الجهر في الأخيرتين وعدم قراءة شيء بعد الفاتحة فيهما، وأما إعادة ما
تركه سهوًا وسجود السهو فهو أيضًا غير دليل؛ لأن السبب فيه هو أن النبي عليه
السلام لمّا كان ينوي أن يصلي أربع ركعات مثلاً، ويجد أن قلبه اشتغل بشيء آخر
أنساه ما هو فيه كان يعد ذلك تقصيرًا وذنبًا؛ فيسجد سجدتي السهو استغفارًا لله
تعالى وطلبًا للصفح عنه، وذلك بعد أن يعيد ما كان نوى أن يصليه ونسيه عقابًا
للنفس، وإن كان سهوها للفكر في أمر شريف يليق بالأنبياء، فإن حسنات الأبرار
سيئات المقربين، وليس سجود السهو هذا خاصًّا بترك الفرض، بل إذا نسي
الإنسان أي شيء مما نوى عمله لله حق عليه أن يفعله، فإذا نوى أن يصلي مثلاً
أربع ركعات، فصلى سهوًا ثلاثًا، ثم تذكر فليصل ما نسيه وليسجد لله، قال عليه
الصلاة والسلام: (إذا قام أحدكم يصلي أتاه الشيطان فلبَّس عليه حتى لا يدري كم
صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين) .
وأما الاحتجاج بالإجماع فهو غير حجة علينا؛ لأن أصحاب الرسول صلى الله
عليه وسلم ما كانوا يعرفون اصطلاحاتنا هذه الفقهية، فلا يميزون بين ما نسميه
نحن الآن سُنة أو فرضًا أو مندوبًا أو مستحبًّا، بل كانوا يحافظون على كل شيء
رأوا النبي عليه السلام يفعله، وأما إجماع الخَلَف فلا نعبأ به والاستشهاد بحديث
(لا تجتمع أمتي على ضلالة) إن صح هذا الحديث عنه عليه الصلاة والسلام،
فنحن لا نقول: إن المسلمين اجتمعت في هذه المسألة على ضلالة، فإن مَنْ عرف
أن الواجب عليه ركعتان على الأقل فصلى أربعًا تقليدًا للرسول عليه السلام شكرناه
وشكره الله ورسوله وزاده الله أجرًا، وإنما الغرض من هذا البحث هو تمحيص
المسائل علميًّا ليس إلا، وهو يفيدنا أيضًا في مسائل أخرى من الوجهة العملية فوائد
لا تحصى.
***
مبحث الزكاة
نذكر أولاً مقدار النصاب من الذهب والفضة والماشية وما يجب في كل من
الزكاة حسب ما ورد في السُّنة المتواترة [1] :
النصاب ... ... ... ... ... ... ... ... ما يخرج من الزكاة
(1) من الذهب 20 دينارًا (أي 10 جنيهات تقريبا) ... ... نصف دينار
(2) من الفضة 20 دينارًا ... (200 درهم) ... ... ... 5 درهم
(3) من الإبل 20 دينارًا ... (5 جمال) ... ... ... شاة واحدة
(4) من البقر 20 دينارًا ... (30 بقرة) ... ... ... عجل تبيع
(5) من الغنم 20دينارًا ... (40 شاة) ... ... ... شاة واحدة
فالذي يكاد يجزم به العقل أن قيمة النصاب من كلٍّ لا بد أنها كانت عند العرب
متساوية أي أن مَنْ كان عنده منهم 20 دينارًا كان كمن عنده 200 درهم أو5 جمال
أو 40 شاة؛ ولذلك تؤخذ شاة واحدة ممن عنده 40 شاة وكذا ممن عنده 5جمال ولو
لم تكن جميع هذه المقادير متساوية لكان هناك ظلم ظاهر لبعض الناس دون
الآخرين، ومما يرجح أن هذه المقادير إن لم تكن متساوية فهي متقاربة جدًّا أن
مالكًا رضي الله عنه جعل القطع ليد السارق مشروطة بسرقة ربع دينار أو ثلاثة
دراهم لتَسَاوِي هذين القدرين، وعليه يكون نصف الدينار يساوي 6 دراهم، وإذا
لحظنا أن ما يؤخذ من نصاب الذهب هو نصف دينار وما يؤخذ من نصاب الفضة
هو 5 دراهم أدركنا أن ما يؤخذ من كل هو متقارب جدًّا إن لم نقل: إنه كان
متساويًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان الأمر كذلك كان ثمن الشاة أو
العجل التبيع هو 5 دراهم أو نصف دينار: أي نحو 25 قرشًا صاغًا مصريًّا
بالتقريب، وذلك في مبدأ الإسلام وهي قيمة زهيدة جدًّا، ولا شك أن هذه القيمة
تختلف اختلافًا كبيرًا بحسب البلاد وبحسب الأزمنة، ومن ذلك نعلم أن ما بيّنته
السنة للعرب في ذلك الزمن لا يصلح لجميع الأمم في الأوقات المختلفة، ولذلك لم
يَرِد شيء من ذلك في القرآن مطلقًا؛ لأنه هو الكتاب الوحيد الذي أمر النبي
أصحابه بحمله لجميع العالمين، وتركت أمثال هذه التفاصيل فيه لتتصرف كل أمة
في الأمور بما يناسب حالها، فيجب على أولياء الأمر بعد الشورى ومراجعة
نصوص الكتاب أن يضعوا للأمة نظامًا في هذه المسألة، وفي غيرها لتسير عليه،
ولا يصح أن نجمد على ما وضع للعرب في ذلك الزمن جمودًا يبعدنا عن العقل
والصواب، فإن الذي عنده عشرة جنيهات أو خمسة جِمال مثلا إذا عد غنيًّا عند
قوم فلا يلزم أن يكون غنيًّا عند الآخرين، ثم إن ربع العشر إذا قام بإصلاح حال
الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والغارمين وبالنفقة منه على العاملين على الزكاة
والمؤلفة قلوبهم وفي سبيل الله وفي تحرير الرقاب إذا قام بكل هذه الشئون في زمن
أو بلد فليس ضروريًّا أن يكون كافيًا كذلك في زمن آخر أو في بلدة أخرى، ومن
ذلك تعلم حكمة الله في عدم تعيين شيء من ذلك في كتابه تعالى , وغاية ما ذكر فيه
الحث على إعطاء الزكاة وأنها تؤخذ من أصحاب الأموال، وأن تعطى من ثمر
النخل والزيتون والرمان يوم حصاده، ولنا أن نقيس على ذلك أن زكاة الأموال
تؤخذ سنويًّا من أربابها، وذكر فيه أيضًا مصارفها التي أشرنا إليها سابقًا.
وخلاصة القول في هذا الموضوع: أننا يجب علينا الاقتصار على كتاب الله
تعالى مع استعمال العقل والتصرف، أو بعبارة أخرى (الكتاب والقياس) وأما
السنة فما زاد منها عن الكتاب إن شئنا عملنا به وإن شئنا تركناه، وما فيها من
الحِكَم الكثيرة نقبلها على العين والرأس، وكذلك أي حكم من أي مصدر آخر.
***
كلمة في الصوم والحج
أما الصوم فجميع ما اتَّفَقَ على وجوبه المجتهدون هو واضح في القرآن
وكذلك جميع أركان الحج، وهنا يناسب أن أذكر شيئًا عن تقبيل الحجر الأسود ردًّا
على أعداء الإسلام فأقول:
هذا الحجر موضوع في أحد أركان الكعبة وأصله علامة وضعها إبراهيم عليه
السلام؛ ليعرف به الركن الذي يبتدأ منه بالطواف، والظاهر أنه قطعة أخذها من
جبل هناك يسمى أبا قبيس كما يستخلص من هذه الرواية (إن الله استودع الحجر
أبا قبيس حين أغرق الله الأرض زمن نوح عليه السلام، وقال: إذا رأيت خليلي
يبني بيتي فأخرجه له، فلما انتهى إبراهيم لمحل الحجر نادى أبو قبيس إبراهيم
فجاء فحفر عنه فجعله في البيت) فهذه الرواية على ما فيها من الأوهام وكذا
غيرها يدلنا على مأخذ هذا الحجر وتاريخه، وقد شوهد أن النبي قبَّل هذا الحجر
وكذا الركن اليماني ولم يقبّل الركنين الآخرين؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم،
وهذا العمل هو ضرب من ضروب العبادة والتذلل لله تعالى وحده كوضع الساجد
وجهه على الأرض خضوعًا لله وانكسارًا مع العلم بأن الحجر والأرض لا قيمة لهما
بالمرة، ولولا سقوط منزلتيهما لَمَا كان هناك تعبُّد في وضع الوجه عليهما، ولم
يأت معنى التعبد إلا لوضع أشرف عضو في الإنسان على هذين الشيئين الحقيرين
تعظيمًا لله كمن يُقَبِّلُ أعتاب الملوك أو ذيل ثيابهم؛ ولذلك قال عمر رضي الله عنه:
(والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يُقَبِّلُكَ مَا
قَبَّلتكَ) ، ومع كل ذلك فليس التقبيل ركنًا من أركان الحج، ولم يقل أحد بوجوبه،
ولم يَرِدْ للحجر الأسود ذكر في القرآن الشريف مطلقًا ولا لبئر زمزم ولا للشرب منها
فلندع ما يهذي به الأغبياء الجاهلون من الطاعنين في الإسلام.
بقي عليَّ لإيفاء موضوعنا حقه أن أتكلم عن مسألتين أُخْرَيَيْنِ لوُرود شيء
كثير عنهما في السنة وعدم وُرود شيء في الكتاب.
(المسألة الأولى - قتل المرتد) إنه لم يرد أمر بذلك في القرآن فلا يجوز
لنا قتله لمجرد الارتداد، بل الإنسان حر في أن يعتقد ما شاء {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن
وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29) وأما ما حصل من ذلك في صدر الإسلام فقد
كان لضعف المسلمين وقلة عددهم بالنسبة لأعدائهم والخوف من إفشاء أسرارهم
وإعانة العدو عليهم، وتمكينه منهم، وتشكيك ضعاف المسلمين في دينهم، أو لأن
المرتد كان ممن آذاهم وأبيح لهم دمه، فلمَّا تظاهر بالإسلام كفوا أيديهم عنه، ثم لما
عاد عادوا إليه فهذه أسباب قتل المرتد في العصر الأول، أما الآن فإن وُجدت
ظروف مثل تلك، وحصل مثل ما كان يحصل جاز لنا قتله؛ لأنه صار ممن
حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض بالفساد، قال الله تعالى:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ
يُصَلَّبُوا} (المائدة: 33) الآية.
وأما قتل المرتد لمجرد ترك العقيدة فهذا مما يخالف القرآن الشريف {لاَ إِكْرَاهَ
فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) ، وورد في الحديث ما معناه
(إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق فاقبلوه وإن خالف
فرُدُّوه) .
(المسألة الثانية - رجم الزاني المحصن) حد الزاني في القرآن الجلد، وقد
أنكر بعض المعتزلة الرجم وكذا جميع الخوارج، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى:
{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ} (النساء: 25) :
أي أن الأَمَةَ إذا زنت بعد الإحصان تُعاقب بنصف عقاب المحصنة من الحرائر:
أي تجلد خمسين جلدة، فقالوا: لو كان عقاب المحصنات الرجم لكان حد الإماء
نصف الرجم، والرجم لا نصف له، ثم إن القرآن تكلم عن الزنا وحَدِّه وعن رمي
المحصنات به وعقوبته، وعن اللعان وكل ذلك بإيضاح تام، فلو كان الرجم واجبًا
لذكره الله تعالى في القرآن، فهذه حجة هؤلاء القوم، والذي نقوله نحن: إن الإمام
إذا وجد أن الأمة قاسية غليظة القلوب منتشر فيها الفسق والفجور ولا يردعهم الجلد
ولا يؤثر فيهم لخشونتهم وشدتهم، وخاف على الأُمة الضعف والانحلال والفساد جاز
له والحالة هذه أن يقرر الرجم عقوبة للزنا، وأن يَعتبر مَنْ أقدم عليه وهو محصن
مفسدًا في الأرض عاصيًا لله ومحاربًا له ولدينه عملاً بالآية السابقة.
وعَذَرَ مَنْ لم يكن محصنًا، أو إن تكرر منه الذنب ولم يردعه الجلد جاز
للإمام أن يقدر الرجم على غير المحصن أيضًا بعد عدد مخصوص من وقوعه في
الإثم، والخلاصة أن المسألة تركت ليتصرف فيها أولو الأمر وليتشاوروا فيها، فإن
كان الفساد في الأُمَّة قليلاً ويردعها الجلد فبه، وإن كان المفسدون كثيرين ولا يبالون
بالجلد ولا بالدين أوجبوا تقتيلهم.
وكذلك ترك القرآن كثيرًا من الحدود وأطلق الكلام في قطع يد السارق،
والظاهر منه أن القطع لا يجب لأول مرة بل يستتاب السارق فإن تاب وأصلح وإلا
قطعت يده.
فهذه أفكاري في هذه المواضيع أعرضها على عقلاء المسلمين وعلمائهم،
وأرجو ممن يعتقد أنني في ضلال أن يرشدني إلى الحق وإلا كان عند الله آثمًا.
***
الخاتمة
إذا تقرر ذلك المذهب فما على المسلم إلا أن يطالع كتاب الله تعالى مطالعة
إمعان وتدقيق وعمل فكر، وأن يستنتج جميع ما يجب عليه في دينه ودنياه من
اعتقادات وعبادات وأخلاق ومعاملات، فإن في هذا الكتاب الهداية والكفاية وسعادة
الدنيا والآخرة.
ومن اقتصر عليه عَلِمَ سخافة مَنْ عاب الإسلام بأشياء ألصقت به وليست منه،
فاللهم اهدنا بكتابك، وأفهمنا من أسرارك، وافتح أعيننا وأَنِرْ بصائرنا، إنك
هادي الضالين مرشد الحائرين آمين. اهـ
***
(المنار)
قد سبق الكاتب إلى هذا الموضوع غيرُ واحد من المسلمين الباحثين من
أشهرهم ميرزا باقر الشهير الذي كان تنصر وصار داعية لمذهب البروتستنت، ثم
عُني بدراسة سائر مذاهب النصرانية ومذهب اليهود، ثم عاد إلى الإسلام باجتهاد
جديد، ودعا إليه في إنكلترا بغيرة وعزم شديد، وقد ذاكرني الكاتب في هذا
الموضوع مرارًا، وكذلك رفيقه الدكتور عبده أفندي إبراهيم، فأشرت عليه بعد
البحث في كثير من جزئياته أن يكتب ما يراه لعرضه في المنار على العلماء
والباحثين، فننظر ماذا يقولون ثم نقفّي عليه بما نعتقده. فنحن ندعو علماء الأزهر
وغيرهم لبيان الحق في هذه المسألة بالدلائل ودَفْع ما عُرِضَ دونه من الشبهات،
فإن المحافظة على الدين في هذا العصر لا تكون بالنظر في شبهات الفلسفة اليونانية
أو شذوذ الفِرَق الإسلامية التي انقرضت مذاهبها، وإنما تكون بإقناع المتعلمين من
أهله بحقية الدين ودفع ما يعرض لهم من الشبهات على أصوله وفروعه الثابتة،
وأهونها ما يعرض للمعتقدين المستمسكين ككاتب هذه المقالة، فإنني أعرفه سليم
العقيدة مؤمنًا بالألوهية والرسالة على وفق ما عليه جماعة المسلمين مؤديًا للفريضة،
وإنما كان إقناع مثله أَهْوَن على علماء الدين؛ لأنه يعد النص الشرعي حُجة
فلا يحتاج مُناظره لإقناعه بالألوهية والرسالة ليحتج عليه بنصوص الوحي.
وإني أعجل بأن أقول: إن أظهر الشذوذ في كلامه ما قاله في مسألة الصلاة
فإن النبي صلى الله عليه وسلم مبين للتنزيل بقوله وفعله، كما ثبت بنص القرآن وقد
تواتر عنه ما يفيد القطعَ بأن الصلاة المفروضة هي ما يعده جميع المسلمين اليوم
فرضًا، والكاتب لم يستغنِ عن السنة في بيان دعواه أن الفريضة ركعتان وغير ذلك،
ولا أطيل في المسألة الآن، وإنما ذكرتها لئلا تعلق شبهتها بأذهان بعض القراء
فيطول عليهم العهد بالجواب عنها، وسنفصل القول في الموضوع بعد أن ننظر ما
يكتبه العلماء من بيان ما يجب عليهم أو السكوت عنه، ونحب أن يكون معظم ما
يكتب في أصل المسألة لا في الأمثلة التي أوردها والله الموفق.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) قوله السنة المتواترة فيه نظر.(9/515)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الرد على الشيخ بخيت
رغب لنا ثلاثة نفر أن نكفّ عن الرد على الشيخ بخيت أحدهم صديق لنا في
القاهرة يرى أن كل ما يُكتب في المنار أَنْفَع من هذا الرد، فينبغي اختيار الأنفع
وتقديمه على ما دونه، والثاني أحمد أفندي وجدي أحد طلاب مدرسة الحقوق كتب
إلينا من السويس كتابًا أثنى فيه على المنار، وذكر من فائدته ما ذكر، ورأى أن
هذا الرد من المسائل الشخصية التي لا تليق به ولا نرتاب في إخلاص هذين
الناصحين، والثالث مجهول أرسل إلينا رَقيمًا من الإسكندرية كله سباب وشتائم،
وحكم على قلبنا وسريرتنا، ومما قاله: إن الشيخ بخيتًا اعترف في رسالته الثانية
بأنه أخطأ، ولكنه أحب أن يداري خطأه ويموهه فما كان يجوز بعد هذا أن نعود إلى
بيان فضيحته أو ما هذا معناه، ولولا هذا المعنى لم نذكر هذا الكاتب الجبان السبَّاب
فنبدأ بالجواب عن هذه الكلمة، وإن لم يستحق كاتبها جوابًا فنقول: لو أن الشيخ
بخيتًا اعترف بخطئه في قوله إن خليفة المسلمين يجوز أن يكون كافرًا أو بأن
حديث ابن ماجه الذي احتج به لا يُحتجُّ به؛ لأن سنده لا يصح ومتنه لا يدل على
ما قاله في رسالة السكورتاه - لكففنا عن الرد عليه،وإن نَبَزَنا بألقاب الجهل والحسد
و… فإننا لسنا ممن ينتصر لنفسه دون الحق وقد سبنا كثير من السفهاء في الجرائد،
وسعى كثير من المفسدين في إيذائنا، ولم نقل في أحد منهم كلمة سواء انتصارًا أو
انتقامًا، وقد هضم أناس حقوقنا المعنوية وأكل آخرون مالنا بالباطل فلم نقل في أحد
منهم كلمة ولكننا قد انتُقِدْنا غير مرة على أصدقائنا، وفى هذا الجزء وما قبله شيء
من ذلك.
وفي مقابلة هؤلاء الثلاثة نرى كثيرين من أهل الأزهر وغيرهم من أهل
الرأي والفضل قد استحسنوا هذا الرد وعَدَّوْه من أفضل طرق الإصلاح وخدمة العلم
في زمان كثر فيه التهجم على التأليف، واعتادت الجرائد مدح كل تصنيف، لا
سيما إذا كان لصاحبه حظ من الشهرة وكِفْل من الجاه وفي ذلك من الغش للأمة ما
فيه، وما زال المشتغلون بالعلم يرد بعضهم على بعض، ونحن الآن أحوج إلى هذا
منا في الزمن الماضي لِمَا في نشر المصنفات الضارة بالطبع من عموم الضرر
والإفساد.
تعوَّد الناس عندنا قراءة ردَّ بعض الجرائد على بعض في مسائل السياسة
والأخبار، ويرون مجرد الرد دليلاً على العداوة الشخصية ولم يتعودوا مثل هذا في
مسائل العلم والدين وإن كان ضرر الخطأ في هذا أشد؛ لذلك توهم بعض الناس أن
بيننا وبين الشيخ بخيت عداوة، لا سيما بعد نشر ما نشر في المؤيد فأسرع إلينا
بعض مبغضيه يذكرون لنا من السيئات ما لا نحب أن نسمعه إن صدقناهم فيه فكيف
نرضى أن نذكره في المنار، ومنه ما يتعلق بالمعاملات والمال وليس من شأن
المنار الخوض في ذلك.
نعم إن المنار لم ينشأ للبحث في الدين فقط كما نسمع تارة بعد تارة من
المفتاتين علينا بأهوائهم، ولكن باب الأخبار الذي فتح فيه من أول نشأته لا يدخل
فيه إلا ما كان فيه عبرة وموعظة للأمة.
فليعلم القاصي والداني أنه لا عداوة بيننا وبين الشيخ بخيت، وأننا لا نحب أن
نسمع عنه شيئًا مكروهًا، وأن ما يتفق لنا سماعه نطويه ولا ننشره إلا أن يكون مما
يؤيد حجتنا في المسائل العلمية والدينية التي نناظره فيها، إذ لا محاباة في العلم
والدين.
هذا وقد سبق إلى فهم صاحب المؤيد أن ما كتبناه في الجزء الماضي يشعر
بأنه هو الذي أخبرنا بأن الشيخ بخيتًا هو الكاتب لما كان نُشر في المؤيد بإمضاء
(ثابت بن منصور) فكتبنا إليه مبينين أننا لم نقصد ذلك وأن العبارة لا تدل عليه
بل فيها ما يدل على أن ذلك كان معروفًا لغير واحد، وأزيد الآن أنه كان في المقالة
التي نشرت يومئذ في المؤيد ردًّا على ثابت بن منصور إشارة إلى أن الشيخ بخيتًا
هو الكاتب لها لا أزال أذكرها هي: لو أن الشيخ ثابت بن منصور ركب مركبة
لتنقله من الخرنفش إلى الأزهر، وكان سائقها لا يعرف جغرافية القاهرة، فسار به
إلى جهة باب الحديد - أما كان يفوته الدرس؟ أو ما هذا معناه فذِكْر خروجه من
الخرنفش كان إشارة من الكاتب إلى أن ثابت بن منصور هو الشيخ بخيت، وإننا
نعرف كثيرين كانوا يعلمون ذلك ومنهم بعض أساتذة المدارس الأميرية.
كان المقصود من كتابي إلى المؤيد أن أَبْرَأ من اتهام صاحبه بأنه هو الذي
أخبرني بأن ثابت بن منصور هو الشيخ بخيت، وليس فيه كلمة تشعر بانتقاد الشيخ
بخيت، وانظر ما كتبه هو إلى المؤيد فإننا ننشره لما فيه من العبرة في اللفظ
والفحوى، وكثرة الأدب وقلة الدعوى، ولفائدة تُذكر بعد، وهو:
بيان حقيقة
صاحب المؤيد الأغر سعادتلو أفندم حضرتلري:
وبعد: فإني أرجو نشر ما يلي بجريدة المؤيد إظهارًا للحقيقة ودحضًا لِمَا
افتري به علينا ونشرتموه بها.
قد رأيت بعدَدَيْ 4956 و4957 من جريدة المؤيد أن صاحب مجلة المنار قد
ادعى أنني كتبت رسالة لجريدة المؤيد، ونشرت سابقًا تحت إمضاء (ثابت بن
منصور) .
وحيث إن هذه الدعوى باطلة عاطلة وتضاف إلى غيرها من دعاويه علينا
وعلى غيرنا، ولا يستطيع أن يأتي بواحد يزعم أني خبرته بأني كاتب الرسالة
المذكورة ولا أن يقيم حجة، ولو أوهى من بيت العنكبوت على ذلك.
وحيث إنه يجوز أن يكون المبغضون إلينا قد افترى ذلك علينا ليشوه وجه
الحقيقة الساطعة] يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِم وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ يُتِمَ نُورَهُ [.
ويمكن المؤيد أن يراجع الحقيقة ليعلم أني لم أكتب له هذه الرسالة كما أنه لم
يسبق لي أني كاتبت المؤيد ولا غيره من الجرائد في شيء ما أصلاً، فقد جئت إلى
جريدتكم الغراء بهذه السطور الوجيزة لنشرها بها دحضًا لتلك المفتريات، ولو أني
كتبت أو أكتب إلى جريدة لكتبت بإمضائي، وحاشا أن أكتب بإمضاء مجهول
مستعار، فإني ممن يعتقد أن التجهيل جهالة لا يرضاها لنفسه عاقل ولا يُقَدَّمُ عليها
إلا خائف أو جاهل، ولكن الدعاوي المختلقة على الناس عمت بها البلوى سلفًا
وخلفًا حتى قال الشاعر قديمًا:
لي حيلة فيمن ينمّ ... وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة
وفقنا الله للصدق في القول والإخلاص في العمل، ووقانا شر الخطأ والخطل،
فإنه سبحانه بيده العصمة وتمام المِنَّة والنعمة.
كتبه محمد بخيت المطيعي الحنفي بالأزهر.
(المنار)
كنت أتمنى لو يعلم الشيخ بخيت موقع كتابته هذه عند أهل الفهم والمعرفة
بالكتابة، وماذا قالوا في نقد بعض المفردات والأسلوب الذي اكتسبه من المحكمة،
ولكنهم لم يهتدوا إلى متعلق (وحيث وحيث) في كلامه، ونقول: إذا كان الشيخ
نفسه يجوِّز أن يكون بعض المبغضين له أو (إليه) قد افترى عليه ذلك وأخبرنا
وصدقناه، فلماذا جزم بأننا نحن الذين افترينا عليه هذه الفِرْية.
هذا ما لا ينبغي أن نطيل فيه، وأهم ما أقصد بنشر رسالته هذه بيان أنها تدل
على رجوعه عما كان يقوله في دروسه ومجالسه في شأن الكتابة في الجرائد، فقد
بَلَغَنا من طرق كثيرة أنه يقول بأن الكتابة في الجرائد محرمة؛ لأن الجرائد عرضة
للإهانة، وإهانة ما يكتب فيها محرم لا سيما إذا كان فيه اسم من أسماء الله تعالى أو
أسماء أنبيائه وملائكته أو شيء من القرآن أو الأحاديث، وها نحن أولاء نراه كتب
في جريدة كتابة مشتملة مع اسم الله تعالى على كل شيء من كتابه العزيز فإن كان
ينكر أنه قال بتحريم الكتابة في الجرائد حتى فيما هو دفاع عن الإسلام وتأييد له
كالرد على هانوتو (مثلاً) فإننا نسلم له إنكاره، وحَسْب الناقلين ذلك عنه أن
يعرفوا أيهما الصادق، كما عرف الناقلون عنه أنه هو الذي كتب بإمضاء ثابت بن
منصور أيهما الصادق، وإن ادعى أن رأيه واعتقاده قد تغير، فإننا نسلم ذلك
ونشكره له.
هذا وقد ضاق هذا الجزء عن بقية الرد عليه في مسألة الإمامة وموعدنا
الأجزاء الآتية.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(9/525)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رأي في اللغة العربية
وأغلاط الكُتَّاب
وَعَدْنا في الجزء الماضي أن نبيِّن شيئًا مما خالف القياس فيه جبر أفندي
ضومط تساهلاً في القياس وحبًّا في سعته لا جهلاً ولا ضعفًا في اللغة وفنونها،
وإننا نقول قبل أن نورد ما لا مَنْدُوحَة لنا عن إيراده: إن مثل هذه المخالفة والخطأ
مما نراه في كلام جميع كتاب العصر الذي نطلع عليه ولا أستثني النقادين الذين
بذلوا جُلَّ عنايتهم في التحرير والتصحيح، وأنا أُقرُّ بأنني كثيرًا ما أراجع بعض
مباحث المنار السابقة فأجد فيها من الغلط ما أعلم أن عِلَّته السهو العارض أو الجهل
السابق، لا مجرد تحريف الطبع، وأكثر ما يقع لنا من ذلك استعمال كلمة عامية أو
جمع غير قياسي أو تعدية فعل بما لم تُعَدّه به العرب، ونحو ذلك مما يكثر في
الجرائد والمطبوعات العصرية ونقرأه كل يوم فيعلق منه بأذهاننا ما يعلق على
انتقادنا له فسبق إلى أقلامنا، أعتذر بهذا عن نفسي وعن غيري من العارفين باللغة،
وأَنَّي لمثلي أن يسلم من مثل هذه الأغلاط الفاشية، وهو ممن يكتب المقال فيلقيه
إلى عمال المطبعة ورقة ورقة من غير أن يعيد إليه النظر أو يقرأ منه سطرًا ابتغاء
التصحيح والتحرير، وأما تصحيح الطبع فإنه يشغل صاحبه عن كل ما عداه حتى
لا يكاد المصحح يفهم ما يقرأ، كأن قوة ذهنه كلها توجهت إلى النظر في صور الكلم
ومحاولة تطبيقها على الأصل الذي طبع المثال الذي يراد تصحيحه عنه.
أقول: إنني لم أسلَم من الغلط ولم أر أحدًا من كُتَّاب العصر سلم منه، ولكن
أصحاب الملكات القوية والاطلاع الواسع في اللغة يقل غلطهم جدًّا، حتى إن العالم
النقاد لَيقرأ لأحدهم عدة فصول لا يجد فيها غلطة، وهؤلاء قليلون في كُتابنا اليوم
وأكثر منهم من لا تقرأ لأحدهم بضعة أسطر إلا ويعثر ذهنك بغلطة، ويرتبك فهمك
عند جملة، ولا أرى من الصواب إضاعة الوقت في الانتقاد على هؤلاء ولكن
الانتقاد على هفوات الكُتاب البارعين والعلماء الراسخين، وعلى المتوسطين بينهم
وبين أولئك المتطفلين، هو الذي يُحْيِي اللغة ويرقى بها إلى أعلى علّيين، وإعلاء
شأن اللغة واجب في نفسه لا ينسخه وجوب انتقاد المصنفات من جهة موضوعها
ومسائلها، فإذا قام بهذا قوم وبهذا آخرون رُجي لنا أن نرتقي في العلوم وفي اللغة
التي تؤدى بها العلوم، ولكن جبر أفندي لا يحفل بانتقاد اللغة بل يكتفي بأن يكون ما
يكتب مما فهمه القارئ، وإن مُزج بالألفاظ العامية التي ليست من اللغة وبالأغلاط
النحوية وأَبَقَ من أساليب العرب، وهذا هو ما ننتقده عليه، ونقول: إنه يجب على
كل كاتب أن يتبع أئمة اللغة وفنونها فيما قرروه فلا يقيس على السماعي، ولا يخرج
في القياس عن حدوده، ولا يدخل الكلمات العامية المحضة في كتابه ولا بأس بغير
المحضة وهو ما كان عربي الأصل، وهو أكثر كلامهم على تحريف فيه يسهل
تصحيحه، ذلك أن التساهل وتَرْك الأمر فوضى للكاتبين بدعوى العناية بالمعاني
مما يفسد اللغة بما يجرئ الجهلاء والضعفاء على التأليف مع كثرة غلطهم ودخيلهم
ويثني همة غيرهم عن التحصيل والإتقان.
يرى جبر أفندي ضومط أن هذا التساهل مما نحتاج إليه ونحن نمنع ذلك على
إطلاقه كما علم من الجزء الماضي، وإنما نريد إيراد بعض ما وقع له من الخطأ
وإن كان لا يكاد يسلم منه أحد منا لنبين أنه لا حاجة إليه، فيقال: ينبغي أن نجيزه
للحاجة، وأن في الصواب الذي لا نزاع فيه مندوحة عنه، وليعلم الذين ينتقدون
بعض عباراته في كتبه أن جُلَّ ما يرونه فيها خطأ يراه هو صوابًا، فهو لم يأته عن
جهل (حاشاه من ذلك) ، فلا أريد بما أورده من الأمثلة تحرير مسائلها والجزم بأنه
لا يمكن تأويل شيء منها، إنْ أريد إلا أنه خالف القياس المعروف لمحض التساهل
من غير حاجة إليه.
أول ما خطر في بالي مما انتقد في كتبه قاعدته التي بنى عليها كتاب فلسفة
البلاغة وهي على ما أذكر (الاقتصاد على فهم السامع) ، فالاقتصاد لا يتعدى بعلى
والمعنى المراد من القاعدة لا يفهم منها بذاتها بل بما شرحها به، ولو قال: التوفير
بدل الاقتصاد لكانت العبارة صحيحة؛ إذ يقال وفر عليه وإن لم تَخْلُ من توسع في
إفادة المعنى المراد وهو مما يعهد في المواضعات، بل لو قال: (القصد في كد ذهن
السامع) لَتم له ما أراد، ولم يُعدَّ الفعل بما لا يُتعدَّى إليه في لغة العرب فكل عالم
باللغة يفهم هذه العبارة لأول وهلة من غير كد للذهن ولكن عبارته لا تكاد تفهم مع
كد الذهن إلا بعد الوقوف على ما فسرها به، فما لا خطأ فيه هو الذي يتفق مع القاعدة
ومثله من يعلم أن اقتصد لا يتعدى بعلى، ولكنه التساهل الذي اتخذه مذهبًا.
ومن مخالفة القياس في مقالته (انتقاد فتاة مصر) قوله: (كما في ص من 545 المقتطف) : والتقحّم فيها على الخراب. لا يقال في اللغة: تقحّم عليه
كما يقال هجم عليه، وإنما قالوا: تقحّم الفرس بصاحبه:إذا نَدَّ به، فلم يضبط
رأسه وإذا ألقاه راكبه، فكان ينبغي أن يقول: وتقحَّما أو تقحَّمها بنا في الخراب.
ومنها قوله في ابتداء كلام: (أولاً الانتقاد النحوي) ثم قوله: (ثانيًا
الانتقاد البياني) إلخ وهو يكثر من مثل هذه في كتبه تساهلاً في مجاراة كُتاب
الجرائد وأمثالهم، وهذا غير معهود في الكلام العربي الصحيح أو الفصيح، ولا
يمكن إعرابه إلا بتكلف لا حاجة إليه لمكان الاستغناء عنه بقولنا: (الأول كذا.
الثاني كذا) وقد استعمله في أثناء الكلام كما يستعملونه، ومنه قوله: (في ص
545) وفيه مثال آخر:
وإنها أجدر كتاب لحدّ الآن يَحْسُن بنا أن نضعه في أيدي شباننا وطلبة مدارسنا
يقرءونه أولاً لما فيها من حسن الأسلوب ودقة التعبير إلخ، وإنني أجزم بأنه لولا
رأيه الذي ذكرت لما سقط من قلمه مثل هذه الجملة التي لا تكاد تنطبق على قاعدته
فيما أرى، ولا أظن أن العالم بالعربية في الهند وبخارى وروسيا وتركيا يفهمها
كما يفهمها من أَلِفَ هذا الأسلوب، واعتاد قراءة مثله من سوري ومصري.
ومنها ابتداؤه الكلام بالعطف كقوله: (وأكثر كتابنا) وإدخال (قد) على الفعل
المنفي كقوله: (قد لا يعد، قد لا يعقل، قد لا تخلو) وكان يمكنه أن يستغني عن
الواو ويستبدل (ربما) بقد؛ لإفادة التقليل،ولكنه يكتفي باستعمال الناس مجوزًا،وقد
استعمل المَناطقة قد مع النفي في القضايا الشرطيَّة السالبة،وهو يحتج بمن دونهم
في الاستعمال كابن الفارض وابن عابدين.
ومن المفردات قوله في ص 547: (صفِّيف الأحرف) وكلمة صفِّيف لم
يتفق عليها عمال المطابع فنقول: إنه اتبع العرف وإن كان عاميًّا، ولا هي من
الكلمات التي لا يوجد في العربية ما يغني عنها؛ إذ يمكن أن يقال مُرتِّب الحروف
أو جامع الحروف، وعامة المصريين يقولون جمِّيع، ومنهم من يكتبها جمَّاع
بصيغة المبالغة. ومنها قوله: في ص 552: (مقاسة) والصواب: مقيسة،
ولعل هذا من السهو أو غلط الطبع ومثله قوله ص 554: يصوغ بالصاد.
وأما الألفاظ التي صححها وتَمحَّل لجَعْلها قياسية فلا حاجة إلى استعمال تكاتفوا
منها مع كثرة ما ورد في معناها، وقوله في تعليل قياسها على تظاهروا: إن وضع
الكتف للكتف في التعاون أقرب للفهم؛ لأنه أكثر مشاهدة من وضع الظهر للظهر -
فيه نظر؛ إذ لا نسلم أن معنى تظاهروا في الأصل وَضَعَ كلٌّ ظهره إلى ظهر
الآخر والأظهر أن معناه كان كل منهم ظهيرًا للآخر أي معينًا،والظهير: المعين
والقوي الظهر، ولعل هذا هو الأصل، ولمَّا كان قوي الظهر من الإبل والدواب مما
يعتمد عليه في الإعانة سمي المعين ظهيرًا، ويجوز أن يكون من المظاهرة بين
الثوبين ونحوهما أي المطابقة بينهما؛ لأن المتظاهرَيْنِ يكونان كشيء واحد أو هو
من حماية الظهر وهو معهود عندهم فمعاونك يمنع عنك من ورائك وأنت تمنع عنه
من الأمام من حيث يمنع كل منكما عن نفسه، وهذا نحو جعله من وضع الظهر
للظهر ولكنه أظهر في التعاون، ومَنْ ماشاك كتفًا إلى كتف لا يُفْهم من مُماشاته لك
أنه يمنع عنك ويعاونك كما يفهم مما تقدم.
وما قاله أيضًا في تصحيح استعمال لفظ العائلة بمعنى الآل أو العشيرة غير
ظاهر فإن العائلة وصف لمحذوف معروف، أي الجماعة التي تعقل إبل الدية عن
القاتل من عشيرتها، فإذا كانت العائلة مِنْ عال عياله بمعنى كفاهم معاشهم ومُؤَنهم
يكون معنى الكلمة: الجماعة العائلة،أي المنفقة، وإنما المنفق هنا واحد وهو العائل
والمُنْفََقُ عليهم هم الجماعة أي العيال ومثل هذا يقال في تعليله الآخر، ولو قيل:
إن الكلمة محرَّفة عن العاقل بإبدال القاف همزة كدأب العوامّ لم يكن بعيدًا.
هذا ما يأتي به التساهل وهو إذا كان سهلاً في نفسه، ويمكن تأويل بعضه فهو
عظيم من عالم يعد من أوسع علماء اللغة اطلاعًا في هذا العصر، فماذا نقول في
كتابة جماهير المعاصرين الذين لا نكاد نفهم كلامهم لولا معرفتنا باللغة العامية؟ على
أن منه ما لا يفهم منه الغرض المجمل إلا بمعونة القرائن، فإذا كان صديقنا يجعل
المعيار في جيد الكتابة ورديئها فَهْم القارئ فعليه أن لا ينسى أن العبرة بالقارئ
العارف بالعربية الصحيحة المدونة المقروءة دون العامية التي تختلف باختلاف
البلاد، فإذا كان فَهْم المصري لا يقف في فَهْم قول بعض الكُتَّاب في بعض الصحف
(المرأة التي عندها أطول شَعْر من غيرها) فإن فَهْم الحجازي والنجدي والعراقي
وكذا الأناطولي والقوقاسي ونحوهما من الأعاجم الذين تعلموا اللغة من الكتب، لا
يدرك المراد منه مهما كدَّ ذهنه، ولعل أقرب ما يخطر لأمثال هؤلاء بعد طول
التأمل أن معنى الجملة: (المرأة التي يوجد عندها في الدار مثلاً أطول شعر هو
من شعور غيرها لا من شعرها هي) وإنما أراد الكاتب أن يقول: (أطول النساء
شعرًا) فمن تأمل هذا جزم بأنه لا يجوز لنا أن نخالف القواعد والنقل في اللغة -
مفرداتها وجملها وأساليبها - إلا لضرورة يقدرها علماء هذا الشأن بقدرها. وإنني
أميل إلى مخالفة المتقدمين في بعض ما قالوا: إنه سماعي، ولكنني لا أجيز لنفسي
الانفراد بذلك واستعماله لغير ضرورة حتى يوفق الله علماء هذه اللغة لتأليف جمعية
تنهض بهذا العمل وعسى أن يكون ذلك قريبًا.
__________(9/529)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب مرجليوث
في النبي صلى الله عليه وسلم
ألف الدكتور مرجليوث الإنكليزي المستشرق كتابًا بِلُغته في سيرة النبي صلى
الله عليه وسلم قال في مقدمته: إنه يَعدّ النبي محمدًا من أعاظم الرجال وأنه حل
معضلة سياسية هي تكوين دولة عظيمة من قبائل العرب، وأنه يُجله ويؤدي له ما
يستحقه من التعظيم والتبجيل، ولا يقصد بتأليف كتابه الدفاع عنه، ولا إدانته كما
فعل غيره من كتاب المسلمين أو النصارى، فليس من غرضه تفضيل الدين
الإسلامي على غيره ولا تقبيحه والطعن فيه، ومَنْ علم أن هذا المؤلف عرف اللغة
العربية معرفة قلما يساويه أحد من الفرنج فيها، واطلع على كثير من كتب
المسلمين يظن أن فهمه للإسلام وتاريخه أدق من أفهامهم، فهو أجدر بالقدرة على
بيان الحقيقة؛ ولكن قراءة بعض ما كتب تكفي للذهاب بهذا الظن.
يحول بين الإفرنج وفهم الإسلام وتاريخه أمور إذا سَلِمَ بعضهم من بعضها
فيندر أن يسلم منها كلها أحد (منها) تأثير ما تربَّوْا عليه ونُشِّئوا فيه من كراهة
الإسلام واحتقار المسلمين تعصبًا لدينهم، ومَنْ خُتِمَ على شعوره ووجدانه من أول
نشأته بخاتم تعسَّر عليه فَضُّه، فإن هو فضه تعسر عليه محو أثره، وإن هو نزع
رِبْقَة التقليد، آوى إلى ركن الاستقلال الشديد، وناهيك إذا كانت حياته الاستقلالية
تؤيد ذلك الشيء لمصلحة سياسية، وهذا هو الأمر الثاني وبيانه أن حرص
الأوربيين على الفتوح والتغلب وشَرَههم في الكسب من الشرق، وما تُكنُّ صدورهم
من الضغن والحقد على جيرانهم من أهله، كل ذلك مما يصرف أبصارهم عن
محاسن الإسلام حتى لا يكاد يقع بها إلا على ما يمكن انتقاده، إلا أهل الإنصاف
الكامل الذين انسلخوا من تأثير التقاليد والسياسة، ووَجَّهوا كل عنايتهم إلى معرفة
الحقائق وقليل ما هم.
(ومنها) وهو الأمر الثالث سوء حال المسلمين في هذه القرون التي ارتفع
فيها شأن أوربا في السياسة والعلم والعمران فقد أمسى المسلمون حُجَّة على أنفسهم
وعلى دينهم كما بيَّنا ذلك مرارًا.
(ومنها) ما تعوَّدوه من الجراءة على الحكم في المسائل التاريخية وكل ما
هو غير محسوس بالقرائن الضعيفة واستنباط الأمر الكلي من أمر جزئي واحد،
واختراع العلل والأسباب للحوادث بمجرد الرأي والتحكم.
(ومنها) عدم إتقانهم لفهم اللغة العربية وفنونها اللغوية والشرعية؛ لأنهم لا
يتلقون كل فن عن الأساتذة الماهرين فيه، وقد ينبغ المحصل لبعض العلوم باجتهاده
دون التلقي عن الأساتذة المهرة حتى يبرز على كثير ممن تلقى ذلك العلم ويظهر
فضله عليهم، ثم هو يخطئ فيما لا يخطئ فيه مَنْ هو دونه في التحصيل من أهل
التلقي، وقد سمعت رجلاً من أَعْلَمِ المستشرقين بالعربية وأدقهم فهمًا لها يقول: إن
المسلمين يقدمون الحديث على القرآن، فأنكرت عليه ذلك فاحتج بكلام علي لابن
عباس (رضي الله عنهما) لما بعثوا للاحتجاج على الخوارج، وهو: لا تخاصمهم
بالقرآن، فإن القرآن حمال ذو وجوه تقول ويقولون ولكن حاجّهم بالسُّنة فإنهم لن
يجدوا عنها محيصًا. اهـ. فقلت له: ليس المراد بالسُّنة هنا ما اصطلح عليه
المحدثون والفقهاء، وإنما المراد بالسنة الطريقة التي جرى عليها النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه في العمل، فهذه هي التي لا محيص عنها؛ لأنها لا تحتمل
التأويل ولا القال والقيل، وأما الأحاديث القولية فإن التأويل ينال منها كما ينال من
القرآن أو يكون أشد نَيْلاً، ومن ذلك تأويل عمرو بن العاص الحديث الناطق بأن
عمار بن ياسر تقتله الفئة الباغية بقوله: إنما قتله مَنْ أخرجه يعني عليًّا، فقال علي:
إذًا ما قتل حمزة إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي أخرجه، ولم نعلم أن
أحدًا من المسلمين قَويِّهم وضعيفهم متبعهم ومبتدعهم وَهِمَ من كلمة علي كرم الله
وجهه ما فهم هذا العالم المستشرق.
وجملة القول: أن المنصف من الأوربيين يعسر عليه أن يفهم الإسلام حق
فهمه بمجرد الوقوف على فنون العربية والاطلاع على كتبها، فما بالك بغير
المنصف وغير المتقن، وسترى فيما ننتقده على الدكتور مرجليوث أن السبب في
أكثر غلطه وخطئه في هذه السيرة هو التحكم في الاستنباط والقياس الجزئي وبيان
أسباب الحوادث، كما هو شأنهم في أخذ تاريخ الأقدمين من الآثار المكتشفة واللغات
المنسية، وأقله عدم فهم اللغة وإلا فهو من أعلمهم ومحبي الاعتدال فيهم، وإننا نبدأ
بخير قوله وأقربه من الصواب.
ذكرنا ما قال في مقدمة الكتاب من أنه يَعدُّ النبي محمدًا من أعظم الرجال إلخ.
ومما عده له من المآثر غير تكوين دولة عظيمة من قبائل العرب أمران
عظيمان أحدهما وجوب حسم المسائل التي تتعلق بسفك الدماء بغير الحرب،
والثاني أنه إذا ثارت الحرب يجب الحصول بسرعة على النتيجة لا أن تعاد الحرب
وتكرر دون جدوى (راجع ص 55) منه.
ومما اعترف به أن النبي كان صادق الكُرْه للشعر والسجع، قال: ولعل
السبب في ذلك أنه لم يتعلمهما ولم يكن للعرب من أساليب الإنشاء سواهما. قال هذا
في ص 60 وفيه رَدَّ على ما نقله في ص 55، عن ما يدور في قوله: إن أهل
البدو كانوا كثيري الاهتمام بتعلم اللغة وطلاقة اللسان في التعبير، وأنه إن صح ذلك
فلا يبعد أن النبي مارس هذا الفن حتى نبغ فيه، أقول: ولو كان النبي صلى الله
عليه وسلم عني بذلك أو مارسه لعُرِفَ ذلك ولظهر أثره في لسانه في سن الشباب
ولكن لم يًنقل عنه قبل النبوة شيء من ذلك قط، ولم يكن يوصف بالفصاحة والبلاغة
بل كان يوصف بالصدق والأمانة وأحاسن الأخلاق فقول المؤلف هو الصواب.
ومما خلط فيه الثناء بالانتقاد قوله (في ص 63) : إن النبي بين لقومه بيانًا
مؤكدًا أن الكسوف والخسوف لا يكونان لأجل امرئ مهما علا قدره، ولكنه مع ذلك
عدهما أمرًا ذا بال وأنشأ لهما صلاة مخصوصة. ونقول: إن في بيانه هذا منقبة
غير مجرد بيان الحقيقة وتطهير العقول من الوهم، وهي أنه لم يرض أن يعظم
شأنه بالباطل، فقد قال ذلك يوم مات ولده إبراهيم عليه السلام، وكَسَفَت الشمس
فظن الناس أنها كسفت لأجل موته، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن الشمس
والقمر آيتان من آيات الله، أي من دلائل حكمته وقدرته كما بين ذلك في آيات من
كتابه كقوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: 5) وأنهما لا يكسفان
لموت أحد ولا لحياته، والحديث في البخاري وغيره، وأما أمره بذكر الله والصلاة
عند الخسوف والكسوف، فذاك لأن أهم أغراض الدين التذكير بقدرة الله تعالى
وحكمته وتوجيه القلوب إليه بالشكر والدعاء، وتأثر القلوب بذلك عند حدوث مظاهر
القدرة والحكمة والنظام،أقوى وأكمل؛ ولذلك كانت مواقيت الصلوات الخمس متعلقة
بما يحدث من التغيير في الطبيعة كل يوم وليلة كطلوع الفجر وزوال الشمس وميلها
وغروبها وزوال أثر ضوئها بمغيب الشفق؛ ولذلك شُرع الذكر والدعاء أيضًا عند
نزول المطر، فالدين يرشد الناس إلى ذكر الله تعالى عند كل حادث يذكِّر بقدرته
وحكمته كيلا ينسوه فتغلب عليهم حيوانيتهم فيفترس بعضهم بعضًا.
ومما اعترف به من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وحَارَ في تعليله
على اتساع دائرة التعليل عنده كما ستعلم ما قاله في ص 63 أيضًا وهو: أنه كان له
وسائل لمعرفة الأسرار نعجز عن إدراك حقيقتها، وأن الطبيعة دون الحنكة أعطته
موهبة يُحسد عليها ألا وهي معرفة طبائع البشر، فقلما أخطأ في معرفة أحد بل لم
يخطئ قط، ونحن نقول: إن إله الطبيعة هو الذي فضله بذلك ليستعين به على
هداية البشر، وقد كان ذلك، وما النبوة إلا تخصيص إلهي غايته هداية الناس
وإخراجهم من الظلمات إلى النور فما هذه الحيرة في التعليل، والانقطاع في وَسَط
السبيل.
ومما حار في تعليله وهو من هذا القبيل سبب شروع النبي صلى الله عليه
وسلم في دعوى الرسالة فقد قال (في ص 72) يستفاد من تاريخ أشهر الرجال أن
بَدْءَهم بالأعمال العظيمة كان لأسباب معروفة تدعو إلى ذلك، أما النبي فلا يعلم
سبب لبدئه في دعوى الرسالة: ونقول: لو كان هذا الأمر من قَبيل تأسيس الممالك
لكان يستحيل أن يقدم عليه العاقل من غير أسباب طبيعية تمهد له النجاح: ككثرة
المال والمواطأة مع الزعماء والأعوان وسائر أسباب القوة، ولا عجب في ذلك فإنه
كان معتمدًا على خالق الأسباب والمسببات، وفاطر الأرض والسموات، الذي أمره
بالدعوة والتذكير، على أنه هو الولي له والنصير.
وقال (في ص 74) : إن عظمة النبي كانت في أمرين: أحدهما معرفة أن
الأمة العربية تحتاج إلى نبي، وثانيهما جَعْل هذه المعرفة ذات أثر، ونقول: إن
أمر النبوة لم يكن بمثل هذا التعمّل والتدبر والعمل والتدبير؛ إذ لو كان كذلك لكان
الاعتماد فيه على الأسباب الطبيعية، وقد تقدم آنفًا أنه لم يكن هناك أسباب؛ إذ لو
كانت لعُرِفَتْ؛ لأن الأسباب التي تأتي بأعظم المسببات لا تخفى.
وقال (في ص 80) سؤالان لا يمكن الإجابة عنهما (الأول) كيف أَتَتْ
فكرة النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل العربي دون سواه (الثاني)
كيف صادفت فيه من الصبر والعزيمة وقوة العارضة ما تحققت به؟ ولكن نقول كما
كان يقول كارليل من أيام (تيوبال كين) كان الماء يصل إلى درجة الغليان وكان
الحديد موجودًا ولم يوجد من تلك الربوات من الناس من يخترع الآلات البخارية
ونقول نحن: إنه ذهل عن الفرق العظيم بين اختراع الآلات البخارية وبين النبوة،
فإن أول مَنْ لاحظ أن لبخار الماء قوة يمكن استخدامها للرفع والدفع مثلاً لم يهتد إلى
استخدامها في تسيير المراكب البحرية والبرية ونحو ذلك، وإنما وصل الناس إلى
هذه الغاية بتدرج بطيء يبني فيه اللاحقون على ما وضع السابقون، والنبي ادَّعَى
النبوة، وجاء بالشريعة وقررها بالكتاب والعمل وجذب الناس، فتم له تكوين دين
وشريعة وأمة أحدثت بهدايته دولة قوية ومدنية راقية.
وقال (في ص 144) : إن النبي كان يعتقد في نفسه أنه كأحد أنبياء بني
إسرائيل. ونقول: إن هذا ينافي ما زعم في غير موضع من أنه قام بهذا الأمر عن
فكر وتدبير، وأنه كان يتعلم ويستفيد ويدعي أن ما استفاده من الناس وحي
من الله.
ومما أَعْياه تعليله فأحاله على الغيب ما تراه (في ص 368) من قوله: لا بد
أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم وسائط سِرِّيَّة لمعرفة الأخبار بسرعة غريبة،
يعلل بذلك ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم بالوحي والإلهام، ولو كان هناك
وسائط لَمَا خفيت عن أولئك الأذكياء الذين كانوا معه، وكان ذلك كافيًا لانفضاضهم
من حوله، وعدم بذل أرواحهم في سبيل دعوته.
ومما مدح به وأثنى قوله في (ص458) : إن النبي نهى عن التعذيب
والتمثيل الذي لم تُحرّمه أوربا إلا حديثًا. ونقول: إنها وإنْ حرّمته في بلادها؛ لأن
الأمة قويت على السلطة فيها فهي تبيحه أحيانًا في غير بلادها، فهي لم تتمكن من
هذه الفضيلة تمام التمكُّن.
هذا جُلّ ما أنصف فيه وسدد وقارب، وسنذكر نموذجًا من خطئه في تاريخ الحوادث وبيان تعليلها وأسبابها.
__________(9/533)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة من أحد علماء تونس
عمَّتْ بها البلوى
فتحنا هذا الباب لإجابة أسئلة المشتركين خاصة، إذ لا يسع الناس عامة،
ونشترط على السائل أن يبين اسمه ولقبه وبلده وعمله (وظيفته) وله بعد ذلك أن
يرمز إلى اسمه بالحروف إن شاء، وإننا نذكر الأسئلة بالتدريج غالبًا، وربما
قدمنا متأخرًا لسبب كحاجة الناس إلى بيان موضوعه، وربما أجبنا غير مشترك لمثل
هذا، ولمن يمضي على سؤاله شهران أو ثلاثة أن يُذكّر به مرة واحدة، فإن لم نذكره كان لنا عذر صحيح لإغفاله.
***
بيع الدَّيْن بالنقد
والأوراق المالية
(س27) هل يجوز بيع الدَّيْن إلى بعض البنوك أو غيرها بأحد النقدين أو
بالأوراق المالية؟ .
(ج) لا أعرف نصًّا في الكتاب أو السُّنة يمنع ذلك، وهو في القياس أشبه
بالحوالة منه ببيع النقد بالنقد، فإن المراد من هذه المعاملة أن يقتضي المشتري ذلك
الدَّين؛ لأنه أقدر على اقتضائه وليس فيه من معنى الربا من شيء، ولكن صورته
تشبه بعض صوره الخفية غير المحرمة في القرآن؛ ولذلك يشدد فيه الفقهاء ولمن
احتاج إلى ذلك أن يأخذ ما يأخذ من البنك أو غيره على أنه دَيْن يحوله بقيمته على
مدينه أو بأكثر منه، ويجعل الزيادة أجرة أو ما شاء، وههنا مسألة يجب التنبيه لها
وهي أن ما ورد في الشرع بشأن ما يصح من المعاملات المالية ونحوها، وما لا
يصح لا يراد به أن ذلك من حقوق الله على العبد كالعبادات وترك الفواحش، وإنما
المراد بذلك منع التظالم والتغابن بين الناس، فكل معاملة لا ظلم فيها جائزة، وما
كان فيها ظلم فهي حرام إلا أن تكون برضا المغبون، فمعنى صحة البيع ديانة أنه لا
ظلم فيه بنحو غبن أو غش وحكمه النفاذ، وعدم استقلال أحد المتبايعين بفسخه،
ومعنى بطلان البيع أن فيه ظلمًا لأحد المتبايعين وحكمه أن لا ينفذ إلا إذا رضي
المظلوم، فإذا أراد فسخه جاز له ذلك، مثال ذلك بيع حَمْل الحيوان نُهِيَ عنه؛ لأنه
غرر، فإذا اشتريت ما في بطن الفرس باختيارك ورضاك فولدتْه ميتًا، ولم ترجع
على البائع بالثمن بل سمحتَ به راضيًا مختارًا، ولو لموافقة العرف فإن الله تعالى لا
يعاتبه على أكله. هذا ما كنت أعتقده في مسائل المعاملات كما سبق القول في المنار،
ولم أكن رأيت فيه قولاً لأحد، وقد رأيت اليوم نحوه لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
تعالى، ولا شك أن من يبيع دَيْنه لا يكون ظالمًا لأحد ولا آكلاً ماله بالباطل الذي ليس
له مقابل، وقد يكون تحريم ذلك عليه ظلمًا له؛ لأن الغالب في سبب مثل هذا البيع
عَجْز الدائن عن اقتضاء دَيْنه بنفسه أو توقُّفه على نفقة كثيرة وكلاهما ضار به، هذا
وإن الدين قد يكون ثمن عروض، والأمر فيه عند الفقهاء لا سيما إذا بيع بالأوراق
المالية أهون والله أعلم.
***
الأوراق المالية نقود
(س28) هل تعتبر الأوراق المالية التي تحملها الدولة كالمسكوكات في
المعاملة نقدًا أو عَرَضًا أو شيئًا آخر غيرهما؟ .
(ج) الأوراق المالية المسماة (بنك نوت) هي من قبيل النقود المسكوكة،
وأكثرها تضمن بقيمتها المرقومة عليها ذهبًا فمن ملك ورقة من ورق البنك الأهلي
في مصر مثلاً كان كمن ملك مثل ما كُتِبَ على هذه الورقة ذهبًا؛ لأن الحكومة
ضامنة لها تأخذها في كل حين بتلك القيمة، كما يأخذها كل مَنْ يعتد بتلك الحكومة
من التجار وأصحاب المصارف (البنوك) وغيرهم، والفقهاء يَعدُّون هذا الورق
كوثيقة الدَّيْن.
***
المحلَّى بأحد النقدين يُعدُّ من العروض
(س29) هل يوجد في الشريعة السمحة ترخيص للتجار في مسألة المُحلَّى
بأحد النقدين فيعتبر كسائر العروض لكثرة تداوله ورواجه وصيرورته قسمًا
كبيرًا من البضائع، وعسر العمل فيما تقرر في الفقه بشأنه مع مزاحمة الأجانب
(لنا في التجارة وانتزاح ثروتنا إذا أبيح لهم ذلك ولم يُبَح لنا؟) .
(ج) المُحلَّى بالذهب والفضة لا يُعدّ ذهبًا ولا فضة في الحقيقة ولا في
العرف فهو من العروض بالضرورة، وقد رخص بعض العلماء بيع الحلي بنقد من
جنسه مع التفاضل وهو أقرب إلى الربا من بيع المحلى. قال ابن القيم في كتاب
أعلام الموقعين ما نصه:
فصل
وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعَرَايا [1] ، فإن ما حرم سدًّا
للذريعة أخفّ ممن حرم تحريم المقاصد، وعلى هذا فالمصوغ والحِلْية إن كانت
صياغته محرمة كالآنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه، وبيع هذا هو الذي أنكره
عُبادَة على معاوية فإنه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان، وهذا لا يجوز
كآلات الملاهي، وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحِلية النساء وما أبيح
من حِلية السلاح وغيرها، فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها، فإنه سفه
وإضاعة للصيغة، والشارع أحكم من أن يلزم الأُمة بذلك، فالشريعة لا تأتي به ولا
تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إليه، فلم يبق إلا أن يقال: لا يجوز
بيعها بجنسها ألبتة، بل يبيعها بجنس آخر، وفى هذا من الحرج والعسر والمشقة ما
تنفيه الشريعة، فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من
ذلك، والبائع لا يسمح ببيعه ببُرٍّ وشعير وثياب، وتكليف الاستصناع لكل من احتاج
إليه إما متعذر أو متعسر والحيل باطلة في الشرع، وقد جوّز الشارع بيع الرطب
بالتمر لشهوة الرطب، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة
إلى بيعه وشرائه، فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلعة، فلو لم يجز بيعه
بالدراهم فسدت مصالح الناس، والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم
ليس فيها ما هو صريح في المنع، وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة ولا ننكر
تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي وهو بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في
الذهب والفضة والجمهور يقولون: لم تدخل في ذلك الحلية ولا سيما فإن لفظ
النصوص في الموضوعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير كقوله: الدراهم
بالدراهم والدنانير بالدنانير وفي الزكاة قوله: (في الرقة ربع العشر) والرقة هي
الورِق وهي الدراهم المضروبة وتارة بلفظ الذهب والفضة، فإن حَمْل المطلق على
المقيد كان ناهيًا عن الربا في النقدين وإيجابًا للزكاة فيهما، ولا يقتضي ذلك نفي
الحكم عن جملة ما عداهما بل فيه تفصيل فتجب الزكاة ويجري الربا في بعض
صوره لا في كلها، وفي هذا تَوْفِيَة الأدلة حقها وليس فيها مخالفة لدليل بشيء
منها.
يوضحه أن الحلية المباحة صارت في الصنعة المباحة من جنس الثياب
والسلع لا من جنس الأثمان؛ ولهذا لم تجب فيها الزكاة فلا يجري الربا بينه وبين
الأثمان، كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع، وإن كانت من غير جنسها
فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان، وأعدت للتجارة فلا محذور في
بيعها بجنسها ولا يدخلها: إما أن تقضي وإما أن تُربي [2] إلا كما يدخل في سائر
السلع إذا بيع بالثمن المؤجل ولا ريب أن هذا قد يقع فيها لكن لو سد على الناس
ذلك لَسُدَّ عليهم باب الدَّيْن وتضرروا بذلك غاية الضرر.
يوضحه أن الناس على عهد نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يتخذون
الحلية، وكان النساء يلبسنها وكن يتصدقْن بها في الأعياد وغيرها، ومن المعلوم
بالضرورة أنه كان يعطيها المحاويج، ويعلم أنهم يبيعونها، ومعلوم قطعًا أنها لا
تباع بوزنها فإنه سفه، ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفَتْخَة لا تساوي دينارًا ولم
يكن عندهم فلوس يتعاملون بها، وهم كانوا أتقى لله وأفقه في دينه وأعلم بمقاصد
رسوله من أن يرتكبوا الحيل أو يعلموها الناس.
يوضحه أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحُلي إلا بغير
جنسه أو بوزنه والمنقول عنهم إنما هو في الصرف.
يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدًّا للذريعة كما تقدم بيانه وما حرم سدًّا
للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أبيحت
ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد
والطبيب والعامل من جملة النظر المحرّم، وكذلك تحريم الذهب والحرير على
الرجال حرم لسد ذريعة التشبه بالنساء الملعون فاعله، وأبيح منه ما تدعو إليه
الحاجة، وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة أكثر من وزنها؛
لأن الحاجة تدعو إلى ذلك وتحريم التفاضل إنما كان سدًّا للذريعة.
فهذا مَحْض القياس ومقتضى أصول الشرع ولا تتم مصلحة الناس إلا به أو
بالحيل والحيل باطلة في الشرع، وغاية ما في ذلك فعل الزيادة في مقابلة الصياغة
المباحة المتقومة بالأثمان في الغصوب وغيرها، وإذا كان أرباب التحيل يجوزون
بيع عشرة بخمسة عشر في خرقة تساوي فلسًا، ويقولون: الخمسة في مقابل
الخرقة، فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصياغة، وكيف تأتي
الشريعة الكاملة الفاضلة التي بهرت العقول حكمة وعدلاً ورحمة وجلالاً بإباحة هذا
وتحريم ذاك، وهل هذا إلا عكس المعقول والفِطَر والمصلحة.
والذي يقتضي منه العجب مبالغتهم في ربا الفضل أعظم مبالغة، حتى منعوا
بيع رطل زيت برطل زيت، وحرموا بيع الكست بالسمسم وبيع النشا بالحنطة وبيع
الخل بالزبيب ونحو ذلك، وحرموا بيع مُد حنطة ودرهم بمد ودرهم، وجاءوا بربا
النسيئة وفتحوا للتحيل عليه كل باب فتارة بالعِينَة وتارة بالمحلِّل وتارة بالشرط المتقدم
المتواطأ عليه، ثم يطلقون العقد من غير اشتراط، وقد علم الله والكرام الكاتبون
والمتعاقدون، ومن حضر أنه عقد ربا مقصوده وروحه بيع خمسة عشر مؤجلة بعشرة
نقدًا ليس إلا، ودخول السلعة كخروجها حرف جاء لمعنى في غيره، فهلا فعلوا ها
هنا كما في مسألة مد عجوة ودرهم بمد ودرهم، وقالوا: قد يجعل وسيلة إلى ربا
الفضل بأن يكون المد في أحد الجانبين يساوي بعض مد في الجانب الآخر فيقع
التفاضل.
فيالله العجب كيف حرمت هذه الذريعة إلى ربا الفضل، وأبيحت تلك الذرائع
القريبة الموصلة إلى ربا النسيئة بحتًا خالصًا، وأين مفسدة بيع الحلية بجنسها
ومقابلة الصياغة بحظها من الثمن إلى مفسدة الحيل الربوية التي هي أساس كل
مفسدة وأصل كل بلية، وإذا حصحص الحق فليقل المتعصب الجاهل ما شاء وبالله
التوفيق.
فإن قيل الصفات لا تقابل بالزيادة ولو قوبلت بها لجاز بيع الفضة الجيدة بأكثر
منها من الرديئة وبيع التمر الجيد بأزيد منه من الرديء، ولمَّا أبطل الشارع ذلك
علم أنه منع من مقابلة الصفات بالزيادة.
قيل: الفرق بين الصنعة التي هي أثر فعل الآدمي وتقابل بالأثمان، ويستحق
عليها الأجرة وبين الصفة التي هي مخلوقة لا أثر للعبد فيها ولا هي من صنعه [3]
فالشارع بحكمته وعدله منع من مقابلة هذه الصفة بزيادة إذ ذلك يقضي إلى نقض ما
شرعه من المنع من التفاضل، فإن التفاوت في هذه الأجناس ظاهر، والعاقل لا
يبيع جنسًا بجنسه إلا لما بينهما من التفاوت فإن كانا متساويين من كل وجه لم يفعل
ذلك، فلو جوز لهم مقابلة الصفات بالزيادة لم يحرم عليهم ربا الفضل وهذا بخلاف
الصياغة [4] التي جوز لهم المعاوضة عليها معه.
يوضحه أن المعاوضة إذا جوزت على هذه الصياغة مفردة جازت عليها
مضمومة إلى غير أصلها وجوهرها، إذ لا فرق بينهما في ذلك.
يوضحه أن الشارع لا يقول لصاحب هذه الصياغة: بع هذا المصوغ بوزنه
واخسر صياغتك، ولا يقول له: لا تعمل هذه الصناعة واتركها، ولا يقول له:
تحيل على بيع المصوغ بأكثر من وزنه بأنواع الحيل، ولم يقل قطّ لا تَبِعْه إلا بغير
جنسه، ولم يحرم على أحد أن يبيع شيئًا من الأشياء بجنسه.
فإن قيل: فهَبْ أن هذا قد سُلِّم لكم في المصوغ فكيف يُسَلَّم لكم في الدراهم
والدنانير المطلوبة إذا بيعت بالسبائك مفاضلاً، وتكون الزيادة في مقابلة صياغة
الضرب. قيل: هذا سؤال وارد قوي وجوابه أن السكة لا تتقوَّم فيها الصياغة
للمصلحة العامة المقصودة منها، فإن السلطان يضربها لمصلحة الناس العامة، فإن
كان الضارب يضربها بأجرة فإن القصد بها أن يكون معيارًا للناس لا يتَّجرون فيها
كما تقدم والسكة فيها غير مُقابلة بالزيادة في العرف، ولو قوبلت بالزيادة فسدت
المعاملة وانتقضت المصلحة التي ضربت لأجلها واتخذها الناس سلعة واحتاجت إلى
التقويم بغيرها؛ ولهذا قام الدرهم مقام الدرهم من كل وجه، وإذا أخذ الرجل الدراهم
وردَّ نظيرها وليس المصوغ كذلك، ألا ترى أن الرجل يأخذ مائة خفافًا ويرد
خمسين ثقالاً بوزنها، ولا يأبى ذلك الآخذ ولا القابض ولا يرى أحدهما أنه قد خسر
شيئًا، وهذا بخلاف المصوغ، والنبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه لم يضربوا
درهمًا واحدًا، وأول من ضربها في الإسلام عبد الملك بن مروان وإنما كانوا
يتعاملون بضرب الكفار. اهـ المراد منه.
***
الرخص للمسافر في
السكك الحديدية
(س30) هل يجوز للمسافر في السكك الحديدية الجمع بين الظهر والعصر
وبين المغرب والعشاء إن سافر وقت الظهر أو وقت المغرب وهو يتحقق أنه لا
يصل إلا بعد خروج الوقت ولا سبيل له إلى الصلاة أثناء السفر أم لا بد من
الوقوف عند ما تقرر في الفقه في هاته المسألة.
(ج) للمسافر في هذه السكك من الرخص ما للمسافر في غيرها؛ لأن
الشارع لم يشترط في السفر الذي تباح فيه الرخص ما يخرج المسافر في هذه السكك
منه، على أن رخصة الجمع بين الصلاتين مما ورد الحديث الصحيح بإباحتها
للمقيم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب
والعشاء في المدينة كما في صحيح مسلم وسنن الشافعي، وقد أَوَّل فقهاء المذاهب
ذلك ليوافق مذاهبهم، ولكن ابن عباس راوي الحديث قال في تعليل ذلك: (لئلا
يُحرج أُمته) فعلم أن ذلك رخصة مطلقة تؤتى عند الحاجة إليها.
__________
(1) العرايا جمع عريَّة، وبيع العرايا هو بيع الرطب بالتمر، وهما ربويان كالنقد، ولكن الشارع أباحه للحاجة إليه؛ لأن صاحب التمر قد يحتاج الرطب ولا يكون بيده نقد يشتريه به، وكان ذلك يكثر في زمن التشريع.
(2) هذه العبارة مقولة، وهي كلمة آكلي الربا الحلي المحرم بنص القرآن كأن يكون لأحدهم دَيْن مؤجل على آخر، فإذا جاء الأجل قالها له، ومعناها إما أن تعطيني الدين، وإما أن تزيد فيه لأجل الإنساء والتأخير في الأجل.
(3) لعله سقط من هنا لفظ بَيِّنٌ الذي هو الخبر.
(4) وفي نسخة الصناعة.(9/538)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
المكتوب السابع من أميل إلى أمه
في ابتداء العشق وغرور الشاب الغرّ بالمعشوقة
عن (بن) في 28 سبتمبر سنة -186.
لقد كان قولك حقًّا أيتها الوالدة العزيزة فإني قد خدعت نفسي ولا حق لي في
الشكوى على كل حال ممن كنت أحبها؛ لأنها لم تكن التزمت لي شيئًا ولا وعدتني
الصدق في حبي، بل إنها بما كانت مغمورة فيه من ضروب التبجيل والتكريم
تفضَّلت فقبلت مني اعتباطًا صنوف إجلالي ودلائل إعظامي، وقد كان هذا منها لي
تشريفًا كبيرًا، وأظن أن من كفران نعمتها أن اتهمها بخيانتي، فإنه لم يكن من ذنبها
أن كنت جادًّا فيما لم يكن غيري يتعاطاه إلا هازلاً.
على أني إن قلت لك: إني كنت أفكر في أمرها دائمًا على هذا النحو كنت
كاذبًا فإن الصدمة التي هدمت صرح غروري بها تلتها ساعة دَهَش وذهول خيل لي
فيها أن السماء خرَّتْ على رأسي، وصرت كأني في حيز الفناء، وأنك تقولين:
إنك لست أول من ابتلي بهذه الضروب من انكشاف الأباطيل وزوال الأوهام، وهو
قول لا ريب عندي في صحته غير أن ما ينتاب الإنسان لأول مرة في حياته يخيل
له أنه لم يحصل لأحد غيره في الدنيا، فكنت أسائل نفسي هل يمكن أن يوجد في
البرية من يبلغ مبلغها في الخيانة أوليس الحسن إلا نقابًا للنفاق؟ وأقول: إنها لشد
ما سخرت مني لسلامة نيتي وسرعة تصديقي..... وأحس بقشعريرة الغيرة تدب
في جسمي حتى تبلغ نخاع عظامي.
وأول يوم قامت بنفسي فيه الريب على صدقها فررت من المدينة هائمًا على
وجهي كالمجنون أَخْبِط خَبْط عَشْواء وقد تعاقبت على بصري في مسيري مشاهد
جمة من سنابل الحنطة المدركة، والقنابر المغردة، وما في الهواء من الروح
الخافق وجَدًا وحَبًّا والكفور والطواحين التي تنكشف للرائي في أمكنة مختلفة من
خلال حجب الأشجار، وقد مزقتها يد الريح، وخرير الماء المتدفق من ينابيعه
المنتحبة تحت الخضرة والديكة المغتبطة المتغطرسة واقفة على الدمن ورافعة
عقيرتها بزقائها النفاذ في كبد السماء، وأسراب العصافير سائرة متعاقبة في الجو
متنافرة، وغير ذلك من المناظر التي لولا هذه الأحوال لهزت نفسي وشرحت
صدري فلم تلفتني عن هذه الفكرة الثابتة في ذهني وهي أنها تغشني.
لمَّا رجعت إلى المدينة كان الليل قد جن فلمحت شبحًا مبهمًا يسري وجدران
البيوت كأنه ظل، فلما بلغ منعطف الشارع سقط عليه ساطع نور الغاز المنعكس،
فأراني أنه فتاة شاحبة اللون رثة الثياب تحمل طفلاً على يديها، ولست أدري تمام
الدراية لماذا خطر بفكري لرؤيتها أنها خدعت ثم هجرت، وسألت نفسي سؤالاً
محنقًا، هل تنقسم النساء في هذه الأيام إلى طائفتين: طائفة خادعة وطائفة مخدوعة؟
تأثرت هذه الفتاة بعضًا من الزمن يجذبني إليها نوع من العطف لا أعرف سره
حق المعرفة، فكلما كانت تمر على نور مصباح كنت إخالني أقرأ في وجهها خاطر
الانتحار، وقد كنت من تسخُّطي لحالتي بحيث إني كنت أودّ لو أجد السبيل إلى
عمل من أعمال البر، وما عتمت الفتاة أن دخلت في مأزق من حارات ضيقة
مظلمة ينتهي إلى فناء تكتنفه أطلال دارسة، وفى ركن من هذا الفناء بئر سُدَّت
فوهتها بغطاء غليظ من خشب مسوس مشقق فرفعت الغطاء بإحدى يديها العاريتين،
واتكأت بمرفقيها عن فم البئر وأرسلت بصرها في غيابتها وعليها سمة القنوط،
وفى هذه الساعة انفلت القمر من قبضة السحاب فألقى نوره الأغر على بلاط الفتاة
المتوحل، وكنت إذ ذاك مختفيًا خلف جزء من جدار أتتبع جميع حركات الفتاة
المسكينة بإمعان؛ لأني لم يكن بقي عندي ريب في أنها قد صممت على الانتحار،
وكنت أقول في نفسي: أقل ما في الأمر أني هاهنا لأمنعها منه وما كنت أجسر حتى
هذه الساعة أن أظهر لها خشية أن تزيدها رؤيتها لمن شاهدها في هذه الحالة
غضاضة وذلة، فبعد أن تروت هنيهة كان جبينها الكئيب في أثنائها مسرح الانفعال
والاضطراب، نظرت إلى ولدها وهمهمت بكلمات مبهمة وهي تهز رأسها ثم
هرولت داخلة أحد الأكواخ الحقيرة وأغلقت بابه عليها.
هذا كل ما علمته ويحتمل أن يكون كل ما سأعلمه من أمر هذه البائسة في
حياتي، وقد كنت تلك الليلة غير أهل لفعل الخير إذا فرض أن من الخير تَنْجِية
نفس من الموت كانت تؤمن بالحب ثم اضطرت إلى الكفر به ولَعْنه.
كأني بك تسألينني كيف ظهر لك أنك ألعوبة لهوى امرأة طائشة أجيرة
فأستأذنك في تنزيهك عن سماع تفاصيل هذا الأمر؛ لأنها لا تليق بك ويكفيني في
ذلك أن أخبرك بأنها كانت تُحرِّض طالبين أو ثلاثة غيري على التقرب منها في
وقت واحد بقبول مساعيهم، وهذا بقطع النظر عن أمير ورتمبورغي [1] يقال: إنها
تحبه لِمَالِهِ فليت شعري هل أبصر أحد في حياته نظيرة لتلك المرأة.
لم يكن همليت [2] مثلي في سوء الحظ لما كان يقول لمعشوقته أو فيليا (أيتها
المرأة اسمك الخور فإن اسم صاحبتي هو الكذب والمكر والغش) ، هذا هو التمثال
الذي بخرته ببخور أماني، وجعلت له بين الآهات العفيفات مكانًا، وكنت أتمنى لو
دنت مني الكواكب فانتزعتها من نظامها ونظمت له منها إكليلاً، على أن لي أمرًا
يسليني وهو أني لم أدنس الحب في حال جنوني به.
فاعلمي يا أماه أنه لا يزال من حقي أن أنظر إليك غير خَجِل؛ لأن خطيئتي
إنما كانت سوء حكم لا ارتكابًا لشيء من الخنا، ولكن هذا لا يقلل من استماحتي
لعفوك، فاغفري لولدك هفوته حتى يمكن أن يغفرها لنفسه. اهـ
***
المكتوب الثامن من هيلانه إلى أميل
عن (لوندرة) في 10 أكتوبر سنة -186.
اعلم يا ولدي العزيز أن ما نقع فيه من ضروب الغي هو الذي يهدينا سبيل
الرشد، وأن ما نقترفه من الذنوب هو الذي ينبئنا إذا تألمت منه ضمائرنا بأن لنا في
نفوسنا قانونًا زاجرًا، وأن الحكمة في رأيي هي أن نستفيد من كليهما لنتعلم.
لم تدهشني نهاية قصتك وسأتحامى كل التحامي أن أعيب سيرتك فيها؛ لأنك
قد عبتها بنفسك، ولم يكن كل ما كان في وسعي تأديته إليك من النصائح قبل ختامها
المحزن ليساوي ما وَعَظَتْكَ به تجربتك الذاتية، إن في أمور الكون لعدلاً، وإن
الدهر يضطرها إلى أن تظهر للناس على حقيقتها، وإن كان يلذ لمخيلة الإنسان أن
تزينها بالألوان المموهة وتغشيها بالأستار الحاجبة، وبهذا كان الدهر أستاذنا
جميعًا.
على أني إن لم أُقر لك بأن مكتوبك الأول سبَّب لي أشد ضروب القلق والحيرة
كنت قد كتمتك بعض الحق، نعم قد كان من الثقة لي بطيب عنصرك وبما أعرفه
فيك من أصول الشرف ما كان يكفيني للتأكد من أنك لا تتسفل لارتكاب دنيئة ما
ولكني كنت أخاف عليك وأنت في هذه السن خدعة القلب وجمحات العجب المفتون
وأماني البسالة الخادعة فمما يوجب الأسف أن أَصْدَق الناس في الحب وأخلصهم له
هم كذلك أشدهم تعرضًا لمخاطر دسائسه، وأما الشبان الذين يتخذون ما عليه الناس
قدوة لهم في سيرتهم فإن قلوبهم الجامدة لا تنخدع بكذب الظواهر، وهم الذين جعلت
لهم المحبات المهيِّجة كما جعلت الخمور المتبلة للسِّكِّيرِينَ.
تراهم يبذلون من الهمة والنشاط في تحصيل الغبطة أكثر مما يلزم وهم مع
هذا في أسوأ عيش وأنكده، هؤلاء الجوَّالون في ميدان الغرام المتعاطون لدسائسه
اعتاضوا عن الحب بظله، أعني الظُّرْفَ والكياسة في معاشرة النساء، وإن خسة
عواطفهم لتدل على خلوهم من الإدراك وهم شبيهون عندي بأشجار الصفصاف
الجوفاء التي تصادف على حافة السواقي (الأنهار الصغيرة) في أنها لِتعُّفن قلوبها
لم يبق لها حياة إلا في قشورها.
إن الأمم التي لا تُجِلّ رجالها نساءها ولا نساؤها أنفسهن غير جديرة بالحرية،
يدلك على ذلك أن عصور الاستعباد وانحطاط النفوس كانت هي عصور فساد
الأخلاق والانهماك في الرذائل، فإذا زالت هيبة الدين من النفوس وانعدم إحساس
الناس بما عليهم من الفروض الكبرى رأيت الناشئين إذا أعوزهم ما يضيعون فيه
أوقاتهم يتصيدون الملاذّ السهلة، فاربأ بنفسك عن هذه الرَّدْغة [3] فلا مقر لك فيها.
إني ربما كنت أَعْرَفَ منك بنفسك؛ لأنه يتفق كثيرًا لمن هم في سنك أن
يضلوا فيشطوا في طلب مثال من الواقع لما يتخيلونه من منتهى الكمال فيمن
يريدون أن يجعلوها مناطًا لحبهم، وهو قريب المنال حاضر بين أيديهم، أرى أنك
فوق حنقك على من غرتك نادم على أنك كنت غير صادق في محباتك، فتأملْ في
باطن ما تحفظه ذاكرتك تجدني قد أصبت المرمى فيما أقول، فإنك تعلم بوجود ذات
من أترابك تفكر فيها ولا تتكلم في شأنها، وتنكر ملامح وجهها وابتسامها وجرس
صوتها، وكل ما يتعلق بها حتى ثنيات حلتها تمام النكر، وإن مثالها الظاهر لَيسري
سريان الشعاع فوق كتابك إذا فتحته لتقرأ فيه ما صنفه الشعراء، وأنت تود لو
تشاهد معها كل ما في الكون من الجمال وتسمع جميع ما للبرية من الأغاريد، وهي
التي ينطبق عليها ما تتخيله من معنى الفضيلة وتودّ من أجلها لو تكون أفضل الفضلاء
فتلك الذات هي التي تحبها فإن لم تكن تأنس من نفسك شيئًا من هذا لم تكن حتى الآن
إلا طفلاً، ولم يَأْنِ لك أن تعتقد في نفسك أنك محب، فالحب الحقيقي هو الذي يرفع
النفس ويبعث على طلب الخير وعلى أن يقتضي المحب من نفسه لمحبوبه كل ما
يقتضيه لنفسه منه؛ لأن الحب هو إنصاف القلب.
فإذا تربصت حتى يحصل في نفسك هذا الوجدان الطاهر فإياك أن تدنس
اسمه بإجرائه على لسانك قبل حصوله وإلا ندمت فيما بعد أن لوثت شفتيك بالكذب.
وللشبان خطأ آخر في الحب وهو أنهم يظنون أنه إذا حصل بدسائس ووقائع
كالتي تُروى في القصص ازدادت لذته وكثر الابتهاج به، فليس الأمر كما يتوهمون؛
لأن في الحب من العظمة الذاتية ما يغنيه عن زخارف الخيال، إن الفلاح البار
إذا راح إلى بيته مساء بعد فراغ عمله وجلس لتناول مرقته، وأخذ يلحظ زوجته
وهي تغزل أو تخيط بجانب المصطلى، ثم يمسح رءوس أولاده غلاظ العضلات
مناديًا كلاًّ منهم باسمه وينكر في نفسه زمن ترقبه لزوجته (جنة) يوم الأحد في ظل
شجرة الدردار الكبرى في المزرعة ويراها لا تزال غضة الحسن موفورة الشباب
كان أبهج خيالاً أضعافًا كثيرة ممن حظي إلاهة من إلاهات الحب الجديدة.
الشباب هو سن الأماني والأحلام وطور الخيالات والأوهام، ثم إن كثرة
المطالعة لا ثمرة لها في معظم الأحيان إلا إفساد حكم القلب. على أن الحب في
غاية الغنى عن القصص الخرافية؛ لأنه عبارة عن تاريخ لأصح ما في فطرتنا من
ضروب الوجدان وأشدها استقلالاً، فوَيْلٌ لمن لا يعشق ويتولَّه إلا في الحلم؛ لأنه لا
يلبث أن ينكشف وهمه إذا حان وقت انتباهه.
يجب عليك قبل اهتمامك باختيار امرأة تحبها أن توجد لنفسك بين الناس مقامًا،
فإن كل عمل تعمله في سبيل تحصيل العلم ورفع شأنك في نظر نفسك ومغالبة ما
للأثرة من أنواع الميل الأعمى وبلوغ ما للإنسان من الشرف يفيد المرأة التي ستحبها،
كما يفيدك، وكن واثقًا بأن هذا لا يعدّ منك في حقها كثيرًا إذا كان يهمك أن تكون
أهلاً لإجلالها لك حفظًا لشرفك وصونًا لعرضك.
حاشية: فاتني أن أخبرك بأن (لولا) تتعلم الطب من أجل أن تقبلها جمعية
الطبيبات بلوندرة في عدادهن وكلنا نحبك. اهـ.
(المنار)
ليتأمل اللبيب هذا التذكير اللطيف بلولا التي تربت مع أميل مثل تربيته بعد
بيان مَنْ تستحق الحب، وبيان حقيقته وغرور الشبان فيه، فيالله ما هذه الحكمة في
هذه البلاغة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) ورتمبورغي نسبة إلى ورتمبورغ إحدى ولايات ألمانيا.
(2) همليت هو أمير جوتلاند الذي تظاهر بالجنون؛ ليأخذ بثأر أبيه الذي قتله أخوه بالسم، وقد كتب عنه شكسبير روايته المشهورة، وجوتلاند شبه جزيرة بالدينمارك عدد سكانها 942360 نفسًا وعاصمتها فيبورغ.
(3) الردْغة الماء والطين والوحل الشديد.(9/545)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(فرقان القلوب)
كُتَيِّب جديد للشيخ محمد أبي الهدى أفندي الصيادي الشهير قال في فاتحته:
(وأرى أن هذا الكتاب المستطاب جدير بأن يدرس في مكاتب الإسلام؛ لينتفع به إن
شاء الله الخاص والعام، فبإقرائه ينتفع بالثواب المنتهي، وبتعلمه ينتفع في دينه
المبتدي) ونقول: إن موضوع الكتاب مما يفيد المبتدئين؛ لأنه في أحكام وحكم
أركان الإسلام الخمسة، ولكن هناك مانعًا من تدريسه وهو ما فيه من اصطلاحات
الصوفية المعروفة وغير المعروفة التي يعسر على معلمي المدارس معرفة المراد
منها أو بيانه للتلاميذ، فماذا ترى في فهم التلاميذ لها واستفادتهم منها؟ وما قولك
في كتاب تذكر فيه العبارة وتفسر بعبارة أشد منها غموضًا، مثال ذلك ما نقله عن
الشيخ أحمد الرفاعي الكبير في بيان حقيقة التوحيد وفسره، وهو كما في (ص4)
(وجدان تعظيم في القلب يمنع عن التعطيل والتشبيه، ومعنى ذلك الوجدان
استدلال العقل وتسلط فهم القلب على ما يكن إليه الخاطر ويقف عنده السر من
البراهين النظرية التي تؤيد سر التوحيد، فيعتقد العاقل بسبب تلك البراهين القاطعة
وجود الخالق ولا ينصرف رأيه إلى التعطيل ولا إلى التشبيه) .
الظاهر أن هذا كله من كلام الرفاعي، ونقول قبل بيانه له: إن معلمي
المدارس لا بد أن يقفوا أمام هذه الجملة موقف الحيرة ويعسر عليهم إيصالها إلى
أذهان تلاميذهم؛ لأنهم لا يعقلون وجهها لتفسير وجدان التعظيم باستدلال العقل؛
فإن هذا الوجدان محله القلب واستدلال العقل: أي فكره في تأليف الأدلة النظرية من
عمل الدماغ، والقلب يطلق في لغة القرآن على ما يكون به الفكر والإدراك، وعلى
ما يكون به الشعور والوجدان، ولعله يرى أن العبارة قد مزجت الاستعمالين فبغى
أحدهما على الآخر، ولا شك عندي أن فهمه يقف عند تفسير وقوف السر وتأييد
سر التوحيد، وتسمية البراهين النظرية براهين قاطعة، وجعل نتيجتها الاعتقاد
بوجود الخالق مع أنها أقيمت على توحيده، والكلام في توحيده إنما يُبنى على
التسليم بوجوده، وعدم الانصراف إلى التعطيل والتشبيه يصدق بغفلة الذهن عنهما،
فلا تكون تلك البراهين مفيدة للتوحيد ولا مفسرة لذلك الوجدان، فإذا وقف المدرس
أمام هذه العبارة الرفاعية الرفيعة هذا الموقف، فهل ينتاشه منه ما بيَّنها به المصنف،
إذ قال:
(وبيان ذلك أن ينظر في هابطة السرور وهابطة الحزن وحال الانقباض
وحال الانبساط ومسامرة الخاطر ونشأة الحب وزفرة البغض ووارد الرأي وطلسمية
الفكر والحرص والزهد والحقد والصفح وأمثال ذلك من دقائق الأسرار القالبية التي
تتدلى إلى القلب، وتقوم بالعقل ومثلها اللطائف المجردة الخمسة: الشامَّة،
والباصرة، والسامعة، والطاعمة، واللامسة، كلها موجودة في الوجود غير منكر
وجودها وغير مدركة كيفيتها، ولهذا السر القاطع والدليل الساطع قال تعالى:
{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 21) فإذا استدل العقل وتسلط
فَهْم القلب على وجود الخالق بما في الذات المصنوعة من الدلائل التي تجحد
وو، فهنالك لا بد أن يعظِّم مولاه ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله) إلخ، ثم
انتقل إلى الكلام عن المبلِّغ لهذه الكلمة صلى الله عليه وسلم.
هذا نموذج من أول الكتاب وفيه ما هو أشد غموضًا منه في نفسه، وفي
الموضوع الذي دسّ فيه وناهيك بكلامه في الأرواح عند الكلام عن أسرار الحج الذي
جعله وسيلة للقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم مدّ يده من قبره الشريف حتى
خرجت إلى المسجد فقبَّلها الشيخ أحمد الرفاعي والناس ينظرون، وللشيخ أبي
الهدى غرام بإذاعة هذه الدعوى حتى لم يَدَعْ الكلام في الدين وأركانه يخلو منها،
وقد ذكر هذا الكتاب وجه امتياز الرفاعي على الصحابة وأئمة آل البيت بهذه المنقبة،
وذكر أنه ثالث عشر أئمة آل البيت، أي أنه يلي الإمام محمد المهدي المنتظر.
فلينظر الناظرون، أين مكانة الأُمة بمدارسها ومعلميها من رأي مؤلف هذا
الكتاب؟ نرى المتخرجين في مدارس الأستانة أكثرهم ماديون، ونرى مدارس
مصر قريبة منها، ونرى بعض الناس يكتب في الصحف اليومية أن دين الإسلام قد
تحجر من شدة الجمود فلا يقبله أهل هذا العصر بالصفة التي دُوِّن بها في الكتب،
ثم نجد فينا من يرى أنه ينبغي لنا أن نعلمه من مثل هذا الكتاب، فماذا هذا الخلف
العظيم؟
__________(9/550)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(الشورى في بلاد فارس)
تحدث الناس من زمن غير قريب بأن الشاه مظفر الدين صاحب فارس ميَّال
للإصلاح، وأن هذا الميل قَوِيَ في نفسه بعد سياحته في أوربا، وكان الناس يظنون
أن العقبة الكؤود في طريق الإصلاح لتلك البلاد نفوذ العلماء والمجتهدين الذين
يعيشون في الحكومة الاستبدادية كالملوك والأمراء، واعتقادهم كغيرهم أن الإصلاح
إنما يكون على يد المهدي المنتظر، ثم نفوذ الوجهاء والكبراء الذين رسخ في
نفوسهم حب الحكومة الدسقراطية، واستطابوا ثمراتها، ولما جاءت أنباء تلك الديار
بأن العلماء والكبراء هم الذين يطلبون الإصلاح ويلحون فيه عجب الناس منهم
وأعجبوا بهم، وتبين لأهل البصيرة أن القول بوجوب الاجتهاد في الدين والعلم هو
النور الذي هدى علماء فارس إلى هذه الجادَّة القويمة، ولا غَرْو فلا هداية إلا بالعلم
الصحيح ولا علم إلا بالاجتهاد، فالمجتهد أقرب إلى الهدى وإن ضاقت دائرة اجتهاده،
والمقلد أحق بالعمى وإن اتسعت دائرة تقليده، وأما الاعتقاد بالمهدي فإنه لا يصد
عن الإصلاح إذا عقل طلابه، يقولون: لأَنْ يجدنا المهدي أقوياء صالحين خير من
أن يجدنا ضعفاء فاسدين (كما بيَّنا ذلك في كتاب الحكمة الشرعية) .
رضي الشاه بأن تكون حكومته قائمة على أساس الشورى الإسلامية، فأمر
بذلك ونزل عما كان له بمقتضى النظام القديم من الاستبداد فهنأه الملوك بذلك ما عدا
السلطان عبد الحميد وفرح عقلاء المسلمين بذلك في جميع البلاد، وكان أشدهم
سرورًا عقلاء العثمانيين، وإنني أقول الآن في هذا العمل الجليل كلمة هي أكبر من
المقالات الضافية والقصائد البليغة، وهي أن كتاب الله جعل أمر المسلمين شورى
بينهم، فالحكم الفردي الذي يُبنى على قاعدة الاستبداد هو الحكم بغير ما أنزل الله،
فلا يجوز أن يُسمى إسلاميًّا، فإذا نفذ حكم الشورى في البلاد الفارسية على وجهه
وبقيت سائر حكومات المسلمين استبدادية وجب علينا أن نقول: إنه لا يوجد في
الأرض حكومة إسلامية حقيقية إلا الحكومة الفارسية، فالواجب علينا تأييدها لئلا
يُمحى حكم القرآن من الأرض، وإنما الواجب إقامة حكمه لا حكم من يسمي نفسه
سُنيًّا أو غير سُنيّ وهو مخالف له.
***
(جامع ومدرسة دينية في ديروط)
أكبر آيات الارتقاء البينة في هذه الديار ما نراه فيها يومًا بعد يوم من بذل
المال في سبيل العلم والدين، فهو على قلته في نمو وازدياد يدل على أنه أثر لحياة
جديدة في الأُمة، ولا ارتقاء إلا بارتقاء النفوس ولا دليل على هذا الارتقاء إلا بذل
المال والوقت في سبيل المصلحة العامة، وهي سبيل الله التي دعا إليها بدعاية
الفطرة السليمة والشريعة القويمة.
هزت الأرِيحيّة في هذا العام قطب بك قرشيّ وجه مركز ديروط الوجيه،
فاختط بجانب داره في بلدة ديروط مسجدًا جامعًا ومدرسة دينية لتعليم العلوم
الأزهرية وكُتَّابًا تحضيريًّا لها، وأوقف على هذا البناء الذي يشمل ثلاثة معاهد مائة
فدان من أجود أطيانه؛ لينفق من ريعها على المسجد والكُتَّاب وحجرات الطلاب
وعلى المعلمين والمتعلمين، وشَرَطَ أن يكون التعليم فيها تابعًا للأزهر في نظامه،
إلا أنه شرط أن يُعلَّم فيه فِقْه المالكية والحنفية فقط، ولو أطلق لكان أَوْلى؛ لأن
حوادث الزمان كثيرًا ما تقضي باندراس مذهب واستبدال غيره به، وقد سبق
الواقفَ غيرُه إلى مثل هذا الشرط فقضى الزمان على ما شرط، ولو شئنا لجئنا
بالشواهد على ذلك ولكن المقام ليس بمقام البحث في مثله، وإننا نعلم أن السبب في
هذا الشرط هو إحياء المذهب الذي ينتمي إليه أكثر أهالي تلك الجهة من صعيد
مصر وهو مذهب المالكية والمذهب الرسمي لحكومة البلاد وهو مذهب الحنفية.
وقد دعا الواقف أكابر علماء الأزهر ونظارة المعارف وكثيرًا من وجهاء
القاهرة ومديرية أسيوط إلى الاحتفال بوضع الأساس لهذا البناء، فأجاب الدعوة
شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية وطائفة من الشيوخ وأمين بك سامي من قبل
نظارة المعارف، وكان رئيس الاحتفال محمود بك صادق رئيس أقلام الديوان
الخديوي مندوبًا عن الأمير، وحضره أيضًا مدير أسيوط ومحمود باشا سليمان
وكيل مجلس شورى القوانين وكثيرون، وقد سافر المدعوون من القاهرة في قطار
خاص إلى ديروط يوم الخميس لثمانٍ خَلَوْن من رجب، وكان الاحتفال في يوم
الجمعة عاشر رجب.
بُدئ الاحتفال بتلاوة آيات من القرآن الكريم، ثم بتلاوة صحيفة الوقف، ثم
تكلم بعض من حضروا وخطبوا بما يناسب المقام، فقال أمين بك سامي كلامًا
وجيزًا مفيدًا ذكر فيه قناطر ديروط التي يتوزع منها الماء على أراضي ثلاث
مديريات، وشبه بها عمل قطب بك قرشي قائلاً ما معناه أنه يرجو أن يكون هذا العمل
ناشرًا للمعارف في أرجاء تلك البلاد كما توزع تلك القناطر الماء فتكون
ديروط معهدًا لحياة الأرواح وحياة الأرض.
وقرأ الشيخ سليمان العبد من كبار شيوخ الأزهر خطبة قال: إنه يتكلم
بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن شيخ الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية وسائر
العلماء، وموضوع الخطبة ملخص ما قيل في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ
اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (التوبة: 18) الآية، وشَرْح الحديث
الصحيح (من بنى لله مسجدًا ولو كمِفْحَص قَطَاة بنى الله له بيتًا في الجنة) ، ومن
ذلك تفسير المفحص والنكتة في اختياره والكلام في كنس المساجد وتنظيفها، ثم
أثنى على قطب بك قرشي الثناء الأوفى، وختم كلامه بالدعاء للسلطان
وللخديوي والثناء عليهما بالإطراء المعتاد، وتلاه الشيخ عبد العزيز
البشري بخطبة رشيقة العبارة استهلها بالشكوى من كثرة القائلين من المصريين وقلة
العاملين، وبيَّن أنه لا يرجى أن يعود إلى مصر مجدها السابق إلا إذا كثر العاملون
وانتقل من ذلك إلى الثناء على قطب بك قرشي ثم السلطان والأمير بأسلوبه الشعري،
والشيخ عبد العزيز هذا ميال إلى الأدبيات وأسمعني لنفسه شعرًا حسنًا يدل على
مستقبل أحسن منه إن شاء الله تعالى، وخطب محمد أفندي أحمد الصعيدي فتكلم
عن تأثير العلم في مدنية اليونان والرومان والعرب وأوربا واليابان، ثم انتقل من
ذلك إلى شرح عمل الواقف وإطرائه ومدح السلطان والخديوي، وكان هناك آخرون
قد أعدّوا شيئًا للخطابة فحال ضيق الوقت دون تلاوتها، وقد اقتُرح على صاحب
هذه المجلة أن يخطب فارتجل خطابًا وعى كثيرًا منه مُكاتِب المؤيد فكتبه ونشره
المؤيد، وقد تذكرت بقراءته فيه ما كنت ناسيًا منه، وبعض ما نسيه المكاتب، فأنا
أنشر هنا ملخص ذلك وهو:
إننا نحتفل اليوم بعمل يعتبر من المصالح العامة، فمن مقتضى المقام أن نقول
كلمة في المصالح العامة وكلمة في جنس هذا العمل منها وكلمة في الاحتفال به.
القيام بالمصالح العامة وبذل المال في سبيلها هو الأساس الذي بُنِيَ عليه مجد
الأمم وعزها، وبه ساد المسلمون في الزمن الماضي وبه سادت الأمم العزيزة
الحاضرة وبه تسود الأمم في كل زمان ومكان.
كثر الكلام في هذه الأيام في ضعف المسلمين وتأخر شعوبهم عن جميع شعوب
الأرض في كل شيء وكثر القول في علاج هذا الضعف، ومهما اختلف العقلاء في
طرق العلاج فهم لا يختلفون على أن ارتقاء الأمة متوقف على وجود العاملِين
للمصلحة العامة، الذين يبذلون في سبيل الأمة أموالهم وأوقاتهم بل وأرواحهم. إننا
على ضعفنا في العلم والمال والرأي وجميع مقومات الحياة لا يزال فينا من جراثيم
الحياة ما يكفي لإنعاشنا وإقالة عِثارنا إذا وُجد فينا الباذلون والعاملون للأمة، قال
بعض علماء الأجانب لعظيم من عقلائنا: إنني قلَّما ذاكرت الوطنيين في مسألة إلا
ورأيت فهمهم فيها كفهمنا، فالظاهر أنه لا فرق بيننا وبينكم إلا في شيء واحد وهو
كثرة الذين يهتمون بالمصالح العامة فينا وندرتهم فيكم.
إن من آيات عناية سلفنا بالمصالح العامة ما بقي لنا من أوقافهم الكثيرة على
أعمال البر المختلفة سيما مدارس العلم، وإن ما دَرَسَ من تلك الأوقاف وذهبت
معالمه وما عاد ملكًا للجهل بأصله هو أكثر مما بقي.
كيف لا يَسْبِق المسلمون إلى بذل المال في كل مصلحة عامة وعمل نافع للأمة
وحافظ لشرف الملة والإسلام، وقد جُعل بذل المال في سبيل الله من آيات الإيمان
بل جعله هو وبذل النفس أعظم الآيات (وههنا تلونا بعض الشواهد على ذلك من
القرآن الحكيم) فالبذل في المصالح العامة هو أفضل الأعمال وأشرفها، والباذلون
هم سادة الأمة وعظماؤها؛ لأن الأمة لا ترتقي إلا بهم لا سيما في هذا الزمان الذي
لا يقوم فيه عمل عظيم إلا بالمال، فالبذل فيه يعد بمثابة الفتوح والباذلون في
مَصَافَّ الفاتحين.
لم يدَعْ الإسلام فضيلة من الفضائل المحببة للأمم إلا حثَّ عليها، وهذا حديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره من أعظم ما يدعو إلى
النهوض بالأعمال التي يعم ويستمر نفعها وهو قوله: (من سنَّ سُنة حسنة فله
أجرها وأجر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة) ، فالسنة هي الطريقة الحميدة التي يعمّ
نفعها، فإذا كان الشارع قد وضع الذين يقومون بالأعمال النافعة للأمم موضع الأئمة،
أفلا يجب أن نعرف لهم قدرهم وأن نقتدي بمثل فعلهم، ولنا أن نقول: إن مُحْيي
السُّنة بعد موتها وانطماس آثارها يعد كالذي سَنَّها لأول مرة؛ لأن مُحْيي الشيء بعد
الموت كمُوجِده من العدم، فالسابقون إلى حبس الأوقاف على إحياء العلم والدين
وغير ذلك من أعمال البِرّ التي ترقِّي الأمة في هذا الزمان يعدون من واضعي السنن
الذين لهم مثل أجر من يعمل كعملهم إلى يوم القيامة.
أكتفي بهذا القول الوجيز في المشروع من حيث هو مصلحة عامة، أما كونه
مسجدًا ومدرسة دينية فقد رأيت في بعض الجرائد انتقادًا عليه لبعض الناس يرى
صاحبه أنه كان ينبغي أن يكون مدرسة ابتدائية أهلية، فإن المساجد كثيرة والتعليم
الديني قليل الجدوى، وهذا شأن الناس عندنا اليوم ينتقدون كل خير وقلما ينتقدون
الشر، لو كان قطب بك أنشأ مسجده في شارع الدرب الأحمر بالقاهرة حيث المساجد
تزيد على حاجة السكان ومدرسته بجانب الأزهر لكان هذا الانتقاد صوابًا، ولكنه
أسس هذا المعهد العلمي في جهة ليس فيها معهد لتعليم الدين. في الوجه البحري
عدة معاهد لتعليم العلوم الدينية ووسائلها من فنون العربية تابعة للأزهر: كالجامع
الأحمدي وجامع المرسي وجامع الدسوقي (وجامع دمياط) ، وليس في الوجه
القبلي معهد لذلك، على أن الوجه القبلي أحوج؛ لأن أهله أفقر والرحلة أشق عليهم
وأعسر، فلم يبقَ إلا أن المنتقد يرى أن التعليم الديني لا حاجة إليه بالمرة، ولا
أحب أن أصف صاحب هذا الرأي بما أراه يليق به فحَسْبه ما يراه الناس من قيمة رأيه.
ما هو الأثر الذي رآه المنتقد للتعليم الابتدائي في البلاد ففضله به على التعليم
الديني؟ إننا نرى أكثر المتعلمين في المدارس الابتدائية لم يزيدوا أمتهم إلا خبالاً
وبلادهم إلا خرابًا؛ لأنهم لا هَمّ لهم إلا اللذات الحيوانية والحظوظ الشخصية،
ومهما كان حال طلاب العلوم الدينية رديئًا فإنه لا يبلغ ما هم عليه من الفساد.
التعليم الديني إذا أُدي على حقيقته تترقَّى النفوس، وتقل الجرائم والفواحش،
ويندر سلب الأموال ونهش الأعراض، ويكثر الصدق والأمانة والمودة في الناس،
قد يقال: إن هذا التعليم عندنا ناقص ليس له مثل هذه الآثار الجليلة، نعم إن التعليم
الديني عندنا ناقص ولكن الواجب علينا أن نسعى في تكميل الخير الناقص لا في
إزالته من الوجود بالمرة، ليس التعليم الديني هو الناقص وحده فينا، إن كل شيء
عندنا ناقص ولو كملنا في شيء من أمور الاجتماع لسهل علينا أن نكمل في غيره؛
لأن الكمال يمد بعضه بعضًا.
لست أعني بما قلت في التعليم الابتدائي أنه لا حاجة إليه، كيف وهو وسيلة
للرقي إلى تعليم أعلى منه لا ترتقي البلاد بدونه، وإنما أعني أن فائدته دون فائدة
التعليم الديني ومفسدته إنْ لم يجعل وسيلة للكمال أشد من مفسدة النقص في التعليم
الديني كما هو مُشاهَد، نحن في أشد الحاجة إلى تعميم التعليم الابتدائي والسعي في
تكميل نقصه بحسن التربية وجعله وسيلة لِمَا فوقه، وفى الوجه القبلي مدارس
ابتدائية كثيرة للحكومة وغيرها، وفي أبي تيج مدرسة صناعية لسعادة محمود باشا
سليمان، فغرضي مما قلت أن أبين أن عمل قطب بك في محله، فإن التعليم
الدنيوي متيسر في الوجه القبلي دون التعليم الديني الذي هو أنفع منه بل هو الذي لا
بد منه.
أما الكلام في الاحتفال بهذا العمل النافع فقد سمعت بعض الناس هنا يقولون:
إنه لا حاجة إليه ولا فائدة في مثل هذه الزينة وهذا الاحتفال بمثل هذا المشروع
الديني، وأنا أعد هذا من قصر النظر ولو بَعُدَ نظر المنتقد لَرَأَى أن تأثير هذا
الاحتفال في نفخ روح القدوة والمباراة في المصالح العامة أبلغ من تأثير الخطب
والمواعظ والشعر، فإن احتفالاً يجيب الدعوة إليه العلماء الأعلام ومندوب الأمير
والحكومة ووُجهاء الأمة ينظر إليه الناس بعين الرضا، ويُعدُّ حضور هؤلاء شهادة
فعلية بنفعه وشكرًا لمن قام به، لسان الحال فيهما أفصح من لسان المقال، وإذا كان
المحتفل ينوي باحتفاله الترغيب في مثل عمله فإنه يثاب عليه أكثر مما يثاب المرء
على العمل الصالح الخفي، وإظهار العمل لا يستلزم الرياء وحب الثناء على أن
حب الثناء في الحق لا ينافي الإخلاص في العمل.
ثم ختمنا القول بحثِّ الأغنياء على الأعمال النافعة للأمة والدعاء بإصلاح
الراعي والرعية وتوفيق الجميع إلى القيام بما فيه سعادة الأمة.
***
(أخبار نجْد)
ذكرنا من قبل ما كان من اعتداء ابن الرشيد وتنكيل ابن سعود به وبقومه،
وبعد أن قُتِلَ صار ولده متعب أميرًا مكانه، وقد كان من أمر ابن سعود بعد ذلك أن
استولى على أكثر عربان ابن الرشيد وزحف إليه حتى نزل على ماء يقال له
العدوة يبعد عن حايل (بلد ابن الرشيد) نحو ست ساعات، فاستعد متعب للحصار
وضاقت عليه الدنيا؛ لأن بلده ليس فيها من القوت ما يغنيها عما يأتيها من العراق
فتوسل بابن عون باشا شيخ الزبير بأن يوسط ابن صُباح شيخ الكويت في الصلح
بينه وبين ابن سعود فذهب شيخ الزبير بنفسه إلى الكويت على ما كان بينه وبين
ابن صباح منذ سنوات من الشَّحْناء فأكرم ابن صباح وفادته، وقبل شفاعته، وكتب
إلى ابن سعود يرغب إليه بأن يرجع عن محاصرة متعب بن الرشيد حتى يتذاكر
معه فيما ينبغي، فأجاب ابن سعود رغيبته، ولا ندري على أي شيء تم ذلك
الصلح، ولعله على ترك ابن الرشيد على ما بقي له هو وبلده وما يحيط به إلا
شيئًا قليلاً كما علم مما تقدم.
أما سير الدولة هناك فإنها بعد ما كان من فيضي باشا من إزالة سوء التفاهم
بين ابن السعود والدولة قد عينت سامي باشا متصرفًا لنجد فأقام في المدينة المنورة،
ثم ذهب إلى نجد منذ أشهر فأقام في الشيحة مع العساكر المنظمة التي هناك
(والشيحة قرية من قرى القصيم) ، وكان متعب بن الرشيد قد استقبله بالحفاوة قبل
وصوله إلى القصيم في قرية سميرة التابعة لحايل، وقدم له الهدايا، وكان له صلة
بأعوانه في المدينة، والظاهر أنه أراد أن يستعين به على ابن سعود، ويقال: إنه
هون عليه شأنه، ثم طلب المتصرف من ابن سعود أن يلاقيه فالتقيا في البكيرة من
قرى القصيم، وهي التي وقعت فيها الملحمة الفاصلة التي قتل فيها عبد العزيز بن
الرشيد. جاء ابن سعود في جيش من البدو والحضر يبلغ نحو خمسة آلاف، وقد
طلب المتصرف من ابن سعود أن يترك له القصيم وينزل هو والعسكر في قصر
بريده وقصر عنيزة، ويكون هو الحاكم للقصيم يجمع المال ويستقل بالحكم، وكان
شيوخ القصيم حاضرين هذا الاجتماع مع ابن سعود فأبوا على المتصرف ذلك،
وسأله ابن سعود هل يحمل أمرًا من الدولة بذلك فقال: لا، قال ابن سعود: إننا
خاضعون لأمر أمير المؤمنين وقد عاهدنا المشير فيضي باشا على السمع والطاعة،
وأنت تعلم أن بلادنا فقيرة لا غناء فيها لأهلها فنحن لا نرضى بأن نغيّر شيئًا مما
نحن عليه، فإذا لم يكن معك أمر من السلطان بشيء فلا نقبل لك قولاً، وإذا كان
عندك أمر من السلطان فإننا نطلع عليه، فإذا كان سهلاً علينا قبلناه وإذا كان شاقًّا
فإننا نرفع أمرنا إلى أمير المؤمنين مسترحمين في رفعه عنا، ولا نَشُكّ في أنه
يرحمنا، ولا يكلفنا ما يشق علينا ولا تحمله طبيعة بلادنا، ووافقه الشيوخ على ذلك،
وقد أثنى المتصرف على متعب بن الرشيد، ووصفه بالإخلاص للدولة، فَفَهِمَ ابن
سعود أنه يعرِّض به فاستاء وافترقا مغضبين.
ومن أخبار تلك البلاد أن أهل البادية أكثروا الاعتداء على العساكر بالاعتداء
والنهب والسرقة فلما أعياهم أمرهم خاطب المتصرف ابن سعود في حماية العسكر
من البدو، وكان ابن سعود لا يزال مغضبًا مما قابله به المتصرف من العظمة
والغطرسة ومِنْ مدح خصمه في وجهه، فأجابه: إنك أنت والعسكر ما جئتم إلا
لحمايتنا فكيف تطلبون منا أن نحميكم؟ فلما رأى المتصرف أن جميع بلاد نجدْ
خاضعة لابن سعود، وأنه لا يقدر على الإقامة هناك مع مناوأته والتكبر عليه ألان
له القول وأرسل إليه الفرس الذي أهداه إليه متعب بن الرشيد هدية وكتب إليه بأنه إذا
لم يقبل الفرس فإنه يقتله ولا يبقيه عنده، فقَبِلَه وأمر الأعراب بالكف
عن العسكر فأطاعوا وحسنت الحال، وكان ذلك قبل الصلح مع متعب.
__________(9/553)
غرة شعبان - 1324هـ
23 سبتمبر - 1906م(9/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطأ العقلاء
من مقالات الأستاذ الإمام في جريدة الوقائع المصرية، وفيها تعريض
بالعرابيين كتبها في العدد 1079 الصادر في خمسة جمادى الأولى سنة 1298 - 4
أبريل سنة1881.
إن كثيرًا من ذوي القرائح الجيدة إذا أكثروا من دراسة الفنون الأدبية ومطالعة
أخبار الأمم وأحوالهم الحاضرة تتولد في عقولهم أفكار جليلة، وتنبعث في نفوسهم
همم رفيعة تندفع إلى قول الحق وطلب الغاية التي ينبغي أن يكون العالم عليها،
ولكونهم اكتسبوا هذه الأفكار وحصَّلوا تلك الهمم من الكتب والأخبار ومعاشرة أرباب
المعارف ونحو ذلك - تراهم يظنون أن وصول غيرهم إلى الحد الذي وصلوا إليه
وسير العالم بأسره أو الأمة التي هم فيها بتمامها على مقتضى ما علموه هو أمر
سهل مثل سهولة فهم العبارات عليهم وقريب الوقوع مثل قرب الكتب من أيديهم
والألفاظ من أسماعهم فيطلبون من الناس طلبًا حاثًّا أن يكونوا على مشاربهم،
ويرغبون في أن يكون نظام الأمة وناموسها العام على طبق أفكارهم، وإن كانت
الأمة عدة ملايين، وحضرات المفكرين أشخاصًا معدودين، ويظنون أن أفكارهم
العالية إذا برزت من عقولهم إلى حيز الكتب والدفاتر ووضعت أصولاً وقواعد لسير
الأمة بتمامها ينقلب بها حال الأمة من أسفل درك في الشقاء إلى أعلى درج في
السعادة، وتتبدل العادات وتتحول الأخلاق، وليس بين غاية النقص والكمال إلا أن
يُنادى على الناس باتباع آرائهم.
تلك ظنونهم التي تحدثهم بها معارفهم المكتسبة من الكتب والمطالعات، وإنهم
وإن كانوا أصابوا طرفًا من الفضْل من جهة استقامة الفكر في حد ذاته وارتفاع الهمة
وانبعاث الغيرة لكنهم أخطأوا خطأً عظيمًا من حيث إنهم لم يقارنوا بين ما حصلوه
وبين طبيعة الأمة التي يريدون إرشادها، ولم يختبروا قابلية الأذهان، واستعدادات
الطباع للانقياد إلى نصائحهم واقتفاء آثارهم، ولو أنهم درسوا طبائع العالم كما
درسوا كتب العلم، ودققوا النظر في سطور أخلاقه وعاداته الحقيقية الواقعية التي
اقتضتها حالة وجوده، بل لو قارنوا بين الحوادث المسطرة في الكتب، وتبينوا
كيفية انتقال الأمم من بداياتها إلى نهاياتها لعلموا أن الأمم في أحوالها العمومية
كالأشخاص في أحوالها الخصوصية، بل إن الأحوال العمومية هي عبارة عن
مجموع الأحوال الخصوصية، وليست الأمة مثلاً إلا مجموع أفرادها، وليس حال
الهيئة المركبة من تلك الأفراد إلا مجموع أحوال هاته الأفراد.
فعلى من يريد كمال أمة بتمامها أن يقيس ذلك بكمال كل فرد منها ويسلك في
تكميل العموم عين الطريق التي يسلكها لتكميل الواحد، هل يسهل على صاحب
الفكر الرفيع أن يودع في عقل الطفل الرضيع أو الصبي قبل رشده وقبل أن يتعلم
شيئًا من مبادئ العلوم تلك الأفكار العالية التي نالها بالجد والاجتهاد وكثرة المطالعات؟
كلا بل لو أراد أن يجعل شخصًا من الأشخاص على مثل فكره احتاج إلى أن يبدأ
بتعليمه القراءة والكتابة، ثم مبادئ الفنون السهلة التحصيل، ثم يتدرج به شيئًا
فشيئًا حتى ينتهي بعد سنين عديدة إلى بعض مطلوبه، ثم هو في خلال ذلك محتاج
إلى أن يحصر أعماله ويقيدها بقيود من الترغيب والترهيب، وأن يراقب حركاته
في أعماله خوفًا من اختلاطه بفاسدي الأخلاق والأفكار أو المائلين إلى الكسالة
والبطالة أو ورود موارد الشهوات، ونحو ذلك من الملاحظات التي لا بد منها فإن
اختل شيء من الترتيب في التعليم بأن قدم الأصعب على الأسهل مثلاً أو أهمل
ملاحظة أعماله وأحواله اختلت التربية وذهبت الأتعاب سُدى، واستحال صيرورة
حال ذلك الشخص مماثلة لحالة مرشده.
ولو أنه أراد تحويل أفكار شخص واحد وهو في سن الرجولية هل يمكنه أن
يبدلها بغيرها بمجرد إلقاء القول عليه؟ كلا، إن الذي تمكن في العقل أزمانًا لا يفارقه
إلا في أزمان. فلا بد لصاحب الفكر أن يجتهد أولاً في إزالة الشبه التي تمسك بها
ذلك الشخص في اعتقاداته، وذلك لا يكون في آنٍ واحد ولا بعبارة واحدة، ولكن
بعبارات مختلفة في التقريب بعضها سهل المأخذ قريب المنال، والبعض أرقى منه،
وبعضها خطابي، والآخر برهاني، وما شابه ذلك. فإن لم يتخذ تلك الوسائل في
إرشاده امتنع عليه مقصوده، بل ربما جره نصحه إلى الضرر بنفسه، تلك هي
الحالة المشهودة التي لا ينكرها أحد، ثم إن نجاحه في تغيير فكر واحد مع كل هذا
الاجتهاد موقوف على أن صاحب ذلك الفكر الفاسد لا يعاشر ولا يخالط في خلال
تعلمه إلا مرشده صاحب الفكر السليم، فإن كان يخالط غيره ممن يؤيد فكره الأول
طال الزمن وربما لم ينجح فيه الإرشاد، وأظن (أن) هذا يعترف به كل من
مارس الأخلاق والعادات.
إن كان هذا حال شخص واحد إذا أردنا إصلاح شأنه في صغره أو كبره مع
أنه يسهل ضبط أعماله وأحواله والوقوف على كُنْه أوصافه ودرجات تقدمه في
المقصود وتأخره فيه، فما ظنك بحال أمة من الأمم تختلف عناصرها وتتباين
شعوبها؟ فمن الخطأ بل من الجهالة أن تكلف الأمة بالسير على ما لا تعرف له
حقيقة أو يطلب منها ما هو بعيد عن مداركها بالكلية، كما أنه لا يليق أن يطلب من
الشخص الواحد ما لا يعقله أو ما لا يجد إليه سبيلاً.
وإنما الحكمة أن تحفظ لها عوائدها الكلية المقررة في عقول أفرادها، ثم
يطلب بعض تحسينات فيها لا تبعد منها بالمرة، فإذا اعتادوها طلب منهم ما هو أرقى
بالتدريج حتى لا يمضي زمن طويل إلا وقد انخلعوا عن عاداتهم وأفكارهم المنحطة
إلى ما هو أرقى وأعلى من حيث لا يشعرون، أما إذا وضع لهم من الحدود ما لم
يصلوا إلى كنهه، أو كلفوا من العمل ما لم يعهدوه، أو خولوا من السلطة ما لم
يعودوه رأيتهم يتخبطون في السير؛ لخفاء المقصود عنهم وضلال الرأي فيما لم
يكن يمر على خواطرهم، فيمكن أن يخرجوا عن حالتهم الأولى لكن إلى ما هو
أتعس منها بحكم الاستعداد القاضي عليهم بذلك.
مثلاً: إننا نستحسن حالة الحكومة الجمهورية في أمريكا واعتدال أحكامها
والحرية التامة في الانتخابات العمومية في رؤساء جمهورياتها وأعضاء نوابها
ومجالسها وما شاكل ذلك، ونعرف مقدار السعادة التي نالها الأهالي من تلك الحالة،
ونعلم أن هذه السعادة إنما أتت لهم من كون أفراد الأمة هم الحاكمين في مصالحهم
بأنفسهم؛ لأنهم أرباب الانتخاب، وإنما رؤساء الجمهوريات وأعضاء المجالس
نواب عنهم في حفظ تلك المصالح والحقوق التي رأوها لأنفسهم. وتتشوق النفوس
الحرة أن تكون على مثل هذه الحالة الجليلة، لكننا لا نستحسن أن تكون تلك الحالة
بعينها لأفغانستان مثلاً حال كونها على ما نعهد من الخشونة، فإنه لو فوض أمر
المصالح إلى رأي الأهالي لرأيت كل شخص وحده له مصلحة خاصة لا يرى سواها،
فلا يمكن الاتفاق على نظام عام، ولو طلب منهم أن ينتخبوا مائة نائب مثلاً
لرأيت كل شخص ينتخب صاحبًا له أو نسيبًا أو قريبًا، فربما ينتخبون آلافًا
مؤلفة، ثم لا ينتهي الانتخاب إلى المرغوب أصلاً لوقوف كل واحد عند انتخابه
الأول، ولو وكل إليهم انتخاب رئيس للحكومة لانتخبت كل قبيلة رئيسًا منها، ثم
يقع الهرج بين الرؤساء، وهكذا حال الأمم التي تعودت على أن يكون زمامها بيد ملك
أو أمير أو وزير يدير أعمالها بدون أن يكون لها دخل في رؤية مصالحها - لا
يمكن أن يطلب منها الدخول في أعمالها العامة وإلا فسدت، فإذا أردنا إبلاغ الأفغان
مثلاً إلى درجة أمريكا فلا بد من قرون تُبث فيها العلوم وتهذب العقول وتذلل
الشهوات الخصوصية وتوسع الأفكار الكلية حتى ينشأ في البلاد ما يسمى بالرأي
العمومي، فعند ذلك يحسن لها ما يحسن لأمريكا.
ويا عجبًا هل الشخص الذي توارث العوائد عن آبائه وأجداده ومرن عليها من
مهده إلى كهولته وتعود تفويض مصلحته إلى إرادة غيره يصح أن يطلب منه في
زمان واحد خلع جميع ذلك، ويلقى إليه زمام مصلحته وهو في جميع عمره لم يفكر
فيها، إن هذا لخطأ ظاهر.
ولكون أرباب الأفكار منا يرومون أن تكون بلادنا وهي هي كبلاد أوربا وهي
هي، لا ينجعون في مقاصدهم، ويضرون أنفسهم بذهاب أتعابهم أدراج الرياح،
ويضرون البلاد بجعل المشروعات فيها على غير أساس صحيح، فلا يمر زمن
قريب إلا وقد بطل المشروع ورجع الأمر إلى أسوأ مما كان؛ فيفوت الزمان وهم
على حالهم القديم، وكان لهم إمكان أن يكونوا على أحسن منه، فمن يُرد خير
البلاد فلا يسعى إلا في إتقان التربية، وبعد ذلك يأتي له جميع ما يطلبه - إن كان
طالبًا حقًّا - بدون إتعاب فكر ولا إجهاد نفس، وفي الكلام بقية أذكرها بعد هذا العدد.
وكتب في العدد 1082:
كلام في خطأ العقلاء
تولى أمر هذه البلاد (المصرية) أناس في أزمنة مختلفة، تظاهر كل منهم
بأنه يريد تقدمها ونقلها من حالة الهمجية (على ما يزعم) إلى حالة التمدن التي
عليها أبناء الأمم المتمدنة، وجعلوا الوسيلة إلى ذلك أن تنقل عادات أولئك الأمم
المتمدنين وأفكارهم وأطوارهم إلى هذه البلاد وظنوا أن تقليدنا لعاداتهم وأخذنا الآن
بأفكارهم اليومية، وتشبهنا بهم في الأطوار كافٍ في أن نكون مثلهم، وأن
استلامنا لتلك العادات وتلقينا الأفكار أمر غير عسير.
لم ينظروا في الأسباب والوسائل التي توصل بها أولئك الأمم إلى هذه الحال
التي هم عليها حتى يعتدوا مثلها أو قريبًا منها لترقي هذه البلاد، بل ظنوا أن هذه
الغاية من الممكن أن تكون بداية، مع أن ما نرى عليه جيراننا من الممالك الغربية
لم يصلوا إليه إلا بعد معاناة أتعاب ومقاساة مشاق وسفك دماء شريفة وثل عروش
ملك رفيعة، وكانوا في كل ذلك يقربون من المقصود تارة ويبعدون عنه أخرى،
كما يرشدنا إليه تاريخهم حتى بدلت الحوادث الدهرية طبائع الأهالي وغيرت
أخلاقهم , ونبهت الضرورات أفكارهم , وهذبت المخالطات الجهادية والتجارية
عقولهم.
إن بداية التقدم الأوربي في الحقيقة كان في نفوس الأهالي وأفراد الرعايا.
علمتهم الحروب الصليبية سبر البر والبحر، وخالطوا فيها الأمم الشرقية أجيالاً،
وطمحت أنظارهم لمغالبتهم، فدققوا في سبب قوة الشرقيين (التي كانت لهم إذ ذاك)
وبحثوا في أحوالهم فرأوا لهم عادات جميلة وفيما بينهم أفكار سامية، ورأوا في
دوائر أعمالهم اتساعًا وأيدي الصناعة والاكتساب مطلقة الحرية؛ ولذلك كان الغنى
والعز مستوكرًا أقطارهم؛ فأخذ أهالي أوربا عند ذلك في تقليدهم، لكن لا في
البهارج والزخارف بل في أسبابها والموصلات إليها وهي توسيع نطاق الصناعة
والتجارة ونحوهما من وجوه الكسب؛ فكان ذلك أساسًا للعمل وقر في النفوس وثبت
في العقول، وبنوا عليه ما شاءوا، ولو تأملنا تاريخ سير التقدم الأوربي لرأينا
أسباب التقدم يجمعها سبب واحد وهو إحساس نفوس الأهالي بآلام صعبة الاحتمال
من ظلم الأشراف (النبلاء) وغدر الملوك، وضيق وجوه الاكتساب، ونفرة دينية
على المسلمين الذين استولوا على حرمهم المقدس، وهذا الإحساس هو الذي دعا
الأنفس الكثيرة العدد إلى الخروج من هذه الآلام فطلبوا لذلك أسبابًا متنوعة أقواها
التعاضد والتعاون على ترويج وسائل الكسب وافتتاح أبواب الرزق، فكانت تعقد
لذلك المحالفات والمعاهدات وتتألف له الجمعيات , فكان جرثومة تقدمهم أمرًا منبثًّا
في غالب الأفراد ومحرزًا في أغلب العقول، وهو نشاط الأهالي في اجتلاب الثروة
وطلبهم لحرية العمل لينالوها , ورفضهم لتلك التقيدات التي كانت تمنعهم من طلب
حقوقهم الطبيعية، ثم تدرجوا فيه ينتقلون من حال إلى حال، والأصل ثابت لا
يتغير حتى عم التغير جميع العوائد والمشارب والقوانين، ولم يكن ذلك كله إلا من
حرص الأهالي أنفسهم على الخروج من الآلام التي كانوا يشعرون بها في كل لحظة
من حياتهم , ويتوارث هذا الشعور وذلك الحرص أبناؤهم من بعدهم.
أما عقلاؤنا فقد وجهوا نظرهم إلى حالة التمدن الحاضرة والأهالي على غير
علم منها بأنفسهم، فاستلفتهم العقلاء إليها لكن لا بتحريك غيرتهم إلى العمل اختيارًا ,
أو ألجأتهم إليه اضطرارًا وتسهيل الطرق لهم حتى يسير من جميع عناصر البلاد
وطبقاتها أشخاص مختلفون في الأفكار والأحوال إلى تلك البلاد المتمدنة، ويشهدوا
عاداتها وأحوالها ويهتم العقلاء منهم بالبحث عن أسباب السعادة وموجبات الشقاء
اهتمام المضطر الذي يطلب خلاص نفسه من هلاك يتوقعه، بل جلبوا إليهم كثيرًا
من أبناء تلك البلاد تظهر عليهم الرفاهية، وترى عليهم آثار النعمة يتكلمون بما لا
يفهم، ويتفكرون فيما لا يعقل , فشادوا بيننا أبنية وزينوها بما لم نكن نعهده من
أنواع الزينة، وجلبوا إلينا من مصنوعاتهم ما راق منظره وطار مخبره، لكننا لم
نشهد مصنعه، ولم ندرِ منبعه، ورأيناهم يتزينون بهذه اللطائف التي تذهب الحزن
وتشرح الخواطر ويتنافسون فيها، فأعجبتنا حالهم هذه، وقال لنا العقلاء: كونوا
مثلهم والحقوا بهم في هذه السعادة، ثم صاروا أئمة لنا في العمل، فأخذنا نتشبه بهم
لكن فيما رأيناه وهو الزينة والبهرجة غير باحثين عن كون ذلك هو الذي يلحقنا بهم
في الحقيقة أم لا، ومن ذلك ترى أفكار الغالب منا دائمًا عند ما يجد فرصة الاقتدار
موجهة إلى تشييد الأبنية، وتجويد وضعها، وإتقان ترتيبها، وتزيين بواطنها
وظواهرها , والتوسع في لوازم المآكل والمشارب وآلاتها وأوانيها والتفنن فيها،
وجلب ما هو أغلى ثمنًا وأدخل في النظر وأجلب للأنس والتأنق في الملابس
ومحاذاة الأوربيين فيها، ومحاولة أن تكون على النمط الأعلى عندهم، وعلى هذا
النحو تفننا في أنواع المفروشات وتألقنا في اقتنائها من أنواع مختلفة مما غلا ثمنه
وارتفعت عن الطاقة قيمه، وتنافسنا في ذلك كتنافس أسلافنا في افتتاح البلاد وتملك
الحصون. وبالجملة فقد سلكنا مسالك المتمدنين في ثمرات تمدنهم التي جعلوها من
زوائدهم، فأسرفنا في الإنفاق، وصار الناظر لملابسنا ومساكننا والذائق لمطاعمنا
ومشاربنا يشهد بأننا في ذلك بحمد الله متمدنون، فقد اشتركنا معهم في ثمرات التمدن،
أي ما ينتهي إليه حال المتمدن من طلبه للتمتع باللذائذ وركونه لترويح النفس
وتخفيف أتعابها.
لكن من تأمل حقيقة الأمر علم أن مثلنا في ذلك كمثل الدجاجة رأت أن
الأوزة تبيض بيضًا كبيرًا فطلبت أن تبيض مثلها، فأجهدت نفسها في أن تكون كذلك
غير عارفة أن ذلك لا يكون إلا باستعداد (أي بأن تكون أوزة) فحبست نفسها
واستعملت قوتها الدافعة حتى انشق منها ما انشق وتمزق منها ما تمزق، فإن
إفراطنا في تقليد الأوربيين ومجاراتهم في عاداتهم التي نظنها تفوق عاداتنا البسيطة
فعل في نفوس غالب الأغنياء منا فعلاً غريبًا، صرف نظرهم إلى اللذائذ واستكمال
لوازم الترف والنعيم , وأحدث في نفوسهم غفلة عما يحفظ ذلك عليهم، بل يوجب
ازدياده لديهم وهو الوقوف على الطريق المستقيم الموصل إلى اكتساب المجد
الحقيقي والشرف الذاتي الذي يتبعه الغنى والثروة والراحة المستتبعة للذة الحقيقة
والنعيم الباقي في الحياة وبعدها، ومن هذه الجهة (جهة الغفلة عن روح الثروة
وحياتها وهو التمدن الحقيقي، أعني الإحساس بوجوه اللذائذ والآلام والتنشيط في
طلب وجوه الكسب المتنوعة، وطلب المنة على تلك الوجوه ومراعاة الحقوق
والواجبات الطبيعية والشرعية) فارقوا الأمم المتمدنة فصح أن يطلق عليهم أنهم
في غاية التمدن مع أنهم إما في بدايته وإما قبلها بكثير، وحق لهم ذلك فإنهم رأوا
أبواب اللذات مفتحة قبل أن يجدوا عقلاً يقدر لهم ما يلزم منها وما لا يلزم.
كل ذلك نشأ من جلب تلك العوائد الترفيهية إلى بلادنا وطلب التحلي بها بدون
أن نحوز ما يوصلنا إليها من أنفسنا , وليتنا قبل أن نشيد بيوتنا بالارتفاع الشاهق
والترتيب المحكم ونزينها بأنواع النقوش والأثاثات أبقيناها على بساطتها , وشيدنا
في عقولنا الهمم الرفيعة والحمية التي لا تمتد إليها الأيدي، وأحكمنا طرق سيرنا في
حفظ حقوقنا، ورتبنا في مداركنا جميع الوسائل والمعدات التي تحفظ علينا ما وجدنا،
وتجذب إلينا ما فقدنا , وزينا نفوسنا بالفضائل الإنسانية والشرعية من رحمة
بالضعفاء ورفق بالملهوفين وغيرة على البلاد وأنفة عن الصغار.
لعمر الله لو قدمنا هذه الزينة الجوهرية على ذلك الرونق الصوري لكان العالم
بأسره ينظر إلينا نظر الراهب الخائف أو يرمقنا بلحظ المعظم المبجل، وكانت
معيشتنا البسيطة أوقع في نفسه من معيشته الرفيعة , وكان ذلك سهلاً لو أن
الزاعمين فينا حب الترقي والتقدم ساروا بنا من البدايات وحجبونا عن النهايات حتى
لا نراها إلا من أنفسنا فنطلبها لا لأنها أعجبت النظر ولكن لأنها بنت الفكر ونتيجته،
وكانوا يعلموننا محاذاة المتمدنين في أصول أعمالهم لا في زوائدها، فكنا بذلك
نصل إلى ما وصلوا إليه في زمن أقل بكثير من الزمن الذي نالوا فيه ما نالوا، لكن
فات الوقت ونحن الآن فيه فعلينا بالعمل غير مقتصرين على مجرد الأمل.
وكتب في العدد 1092الصادر في 19ابريل سنة1881
كلام في خطأ العقلاء
لسنا ننكر أن بلادنا كانت في الأزمان السابقة تحت تصرف أقوام خشنين لا
يعلمون للخلقة غاية إلا وجودهم الشريف، وكانوا يعدون أفراد الأهالي أنعامًا خلقت
لهم يستعملونها كيفما يريدون (كما كان ذلك شأن سائر الأمم غربية وشرقية)
فأرغموا أنف الطبيعة ومحوا أنوار الإلهام الفطري الذي وضعه الله في نفوس عباده
لفهم منافعهم ومضارهم حيث وقفوا سدًّا حصينًا بين كل شخص ومنافعه، فاستأثروا
بجميع ثمرات الأعمال، فلا يعمل العامل وله أمل بأن يجني ثمرة عمله، فإنه عندما
تبدو الثمرة يسرع حاكمه إلى قطفها، وكانت حياته معقودة بغضب ذاك الحاكم
ورضاه، فإن رضي عنه فهو في أمن عليها , وإن غضب عليه فهو إن عاش
كمريض بلغ به المرض غايته ينتظر الموت في كل لحظة، فيكون في حالة تسليم
مطلق (خائف على حياته مستسلم لقضاء حاكمه) وبالجملة لم يكن لأحد من الأهالي
حركة اختيارية ناشئة عن فكره الخاص به في تحصيل منفعة أو درء مضرة، بل
كانت أعماله تابعة لإرادة سيده الحاكم، وكان يعتقد أنه وما ملكت يداه حل للآمر
عليه، وليس لتصرف ذلك الآمر حد يجب أن ينتهي إليه، وهذه حالة يصعد بها
تاريخ هذه البلاد أجيالاً كثيرة، إذا استرسلنا في طلب مبدئها قد نصل إليه وقد لا
نصل، وبذلك الاسترقاق الظاهري والباطني فنيت الإرادة ومات الاختيار وطفئ
نور الفكر بالمرة.
وكان من جملة التقييدات العنيفة التي وضعها أولئك المتسلطون، الحجر على
أهالي المدن وغيرها في الأعمال والأقوال الشخصية، حتى كانوا من شدة التضييق
يستعملون طريقة يقال لها الكبسة، وهو أن يهجم رجال الضابطة على بعض
الأماكن ليلاً؛ ليقبضوا على من يظن بهم الاجتماع على فسق كفحش بالنساء أو
شرب للمسكرات وما شاكل هذا، فإن وجدوا شيئًا من ذلك ساقوا من يجدونه إلى
حيث يستوفي عقابًا أليمًا، وكذلك وضعوا في الأفواه لجامًا من الرهبة، فلا يكاد
ينطق الناطق بكلمة في مطلب علمي أو تجادل في حال شخص إلا ويرمى بكفر
وزندقة أو طعن في حاكم، وله عند ذلك الويل الذي لا مخلص منه. كل ذلك سمعنا
بعضه بالنقل، ورأينا بعضه الآخر بالعيان.
فتلك كانت حالة تعيسة يجب على عقلائنا أن ينتحلوا كل وسيلة لتخليص
رقاب العباد منها. فرزق الله هذه البلاد بأناس خالطوا الأمم المتمدنة، وطالعوا
أحوالها، ورأوا ما عليه أهلوها من إطلاق الإرادة وحرية الاختيار، فطلبوا لبلادنا
أن تكون في أحوال أهاليها الشخصية على مثال تلك البلاد المتمدنة، لكنهم أول ما
بدءوا به أن أباحوا (ما أقبحها من إباحة) لكل شخص أن يعمل فيما يخص نفسه
بإرادته ويتكلم فيما هو مقصور على ذاته بمقتضى فكره، وشرطوا في ذلك شرطًا
(ما أنفسه من شرط) وهو أن تكون تلك الأعمال والأقوال متعلقة بارتباطاته مع
حاكمه، فإن كانت كذلك فدونها ضرب الرقاب أو سكن الحبوس أو الجلاء عن
الأوطان، وسموا تلك الإباحة حرية ونادوا بها على الألسنة الظالمة، فكان حاصل
تلك الحرية أن لا جناح على من ارتكب أي جريمة، وتطبع بأي خلق حسنًا كان أو
سيئًا، وذهب إلى أي مذهب صحيحًا كان أو فاسدًا، وإنما عليه أن يكون تحت أمر
الحاكم ليس له حق في أن يمنع عنه مطلوبًا أو يستقضي منه مسلوبًا أيًّا كان، فلم
يجعلوا للسلطة حدًّا معينًا، وهو الذي نسميه بالقانون الذي يعرفه كل أحد، فيقف
عنده بل أبقوها على ما كانت عليه، وجعلوا تلك الحرية غطاء على هذا الاستعباد،
فهم في الحقيقة لم يقلدوا الأمم المتمدنة في إطلاق الإرادة من جهة الارتباطات
العمومية الثابتة فهذا خطأ من وجه - إن كان لهم مقصد إصلاح - وظلم إن
كانوا معتمدين هذا التقييد، ثم إنهم قلدوها في الأحوال الجزئية الشخصية مع علمهم
أن البلاد غير معتادة على مثل هذه الحرية فيها، فلذلك اندفعت الناس إلى انتهاب
الشهوات وهتكوا حرمة الوقار، وتهالكوا على شرب المسكرات في بلادنا الحارة إلى
الحد الذي لا يبلغه الأوربيون في بلادهم الباردة، وكثرت لذلك الحانات ومخازن
الشراب المهلك للعقول والأبدان، ثم تولعوا بما يتبع السكر من اللهو واللعب
وتنافسوا في الحظوة عند النساء الباغيات، واتسع الأمر في ذلك حتى صارت
المداعبة والملاعبة بين النساء والرجال في الطرق والشوارع وتعدى ذلك المرض
المعدي إلى الحرائر، فذهب الكثير منهن إلى حيث يبتغين، وافتضحت بذلك بيوت
شريفة، وكلما طلبت لذلك منعًا أو رُمت له دفعًا قال المولع: هذا حرية.
فضاع شأن الآداب وانحطت قيمة الشرف والوقار، حيث أصبح أبناء الأغنياء
وذوي المقامات يتسابقون إلى التهور في هذه الأحوال الرديئة، ويدعون إليها من
دونهم ومن فوقهم (إلا قليلاً) ويصرفون فيها ما لا يقدر من النقود (وسأجعل لذلك
موضوعًا خاصًّا) ، وكاد فساد الأخلاق يسري إلى كثير من طبقات الأهالي - هذه
نتائج حرية ذلك العمل.
وأما نتائج حرية الفكر (التي يزعمونها) فكانت خاصة بالاعتقادات
والمشارب الدينية، فأخذ كثير من الناس يجهر بين العامة بألفاظ تناقض دينه الذي
ولد فيه، فإن قيل له: خفض من صوتك وأجمل في قولك فما كل الناس يرضاه،
قال: إننا في زمان الحرية. على أن أفكاره التي يذهب إليها في مخالفة دينه ليست
بأفكار مرتبة مبنية على مبادئ ربما يقال: إنه اتخذها مشربًا. بل ألفاظ حفظها من
معاشريه لو سئل عن معناها أو طلب منه أي وهم ساقه إليها لعجز عن التعبير،
والتجأ إلى التهوس ورمى من يخاطبه بالجهل والخشونة حيث لم يوافقه على مشربه
الفاسد، ثم يتخذ هذه الخزعبلات الاعتقادية التي يظنها تنورًا وتبصرًا ذريعة
لاستباحة القبائح واستحلال المحظورات، ولقد رأيت شخصًا ينكر ألوهية الخالق
والعياذ بالله، ثم يسأل عن حكمة المعراج ومنهم من ينكر النبوات، ويعتقد
بالشياطين وما أشبه ذلك، فهؤلاء من الجهل بمكان لا يعلوهم فيه حيوان فضلاً عن
إنسان.
فهذه الحرية البتراء التي رمانا بها عقلاؤنا لم تدع لها أثرًا يحمد وإن كان
الأورباويون يحرصون عليها، فإن استعداد بلادنا لم يكن ملائمًا لمثل هذا الإطلاق
الذي هو في الحقيقة عين الرق والاستعباد، فإن الجاهل الذي لم يتعود على
تصريف إرادته وإعمال اختياره، إذا أطلق له العمل وقع في أشد من الرق وأضر
من العبودية، نعم إنه عتق من أسر الضابطة وغل الجزاء , ولكن شهواته الخبيثة
تبيعه بأبخس الأثمان إلى الإسراف والبطالة والكسل وجميع أنواع الشرور، وتودعه
سجن الفقر وتغله بطوق الذل والعار، وياليته بقي تحت سيادة القانون يسوسه حتى
في أعماله الشخصية، فالكبسة على ما كان فيها من الخطر على النفس والأموال
وشناعة الصورة، لو أحسن فيها القصد لكانت أولى وأفضل إلى زمن تتقدم فيه
التربية، فيكون لكل شخص زاجر من نفسه فترتفع الكبسة بذاتها، ويذهب الناس
أحرارًا بطبعهم، وما كان ذلك بعسير ولا محتاج إلى زمن طويل، وما ضرنا إلا
التقليد على غير تبصر بحال البلاد واستعدادها.
فتلك الحرية التي سموها إطلاق الفكر قد عتقت صاحبها من قيد العقل،
وأسلمته إلى الجهل الأعمى، فهو يتصرف به كيف ما يقتضي من المضرات، ولو
أنه بقي تحت سيادة العقل يسوسه المهذبون ويقوده المتبصرون حتى يعلم من أين
تؤتى الأفكار، وبأي الوسائل يوفى العقل حظوظه الحقيقية، لكان ذلك خيرًا وأبقى،
ولم يحتج إلا لتخفيف يسير في شناعات المتعصبين وتعيين دائرة منتظمة يردد
الكلام بين محيطها إلى زمن معين حتى تستقيم العقول، فتضرب لنفسها حدًّا تقف
عنده، ولكننا طلبنا أن نكون على مثال الأوربيين في عوائدهم حتى المُضرة
بأخلاقنا وأعمالنا وأفكارنا.
وياليت العقلاء منا في الزمن السابق اقتدوا بالبلاد المتمدنة في الأزمان السابقة
عند إرادتهم تأييد الاستقلال حقيقة حيث بدأوا بالمجالس البلدية، فكان يمكنهم أن
يضعوا لأهل البلاد قانونًا بسيطًا ينطبق على عوائدهم وأحوالهم، ويقرب فهمه من
إدراكاتهم، ثم يفوض إلى أهل كل بلد أن تنتخب منها عددًا معينًا؛ ليقوم بالفصل
بينهم على مقتضى هذا القانون، ثم يصنعوا مثل ذلك في المدن على حسبها،
ويذهب أشخاص من العارفين إلى القرى والمدن؛ ليفهموا أولئك مواد القانون السهل
البسيط، ويدربوهم على كيفية العمل به ثم لا يزلوا على المراقبة أزمانًا، فلا
تمضي مدة حتى يكون جميع الأهالي عالمين بما يجب عليهم ولهم، فتنمو فيهم القوة
وتحيا فيهم روح الاختيار كما كانت عليه الجمعيات ببلاد إيطاليا وفرنسا وغيرها
في مبدأ تمدنها، ثم يتدرجوا في القوانين إلى أرقى مما وضعوا أولاً مع تفهيمه
وتعليمه لجمهور الأهالي ليعلموه فيقفوا عند حده.
وكان في ذلك غنية عن القوانين الضخمة التي لا يفهمها إلا الراسخون في
العلم، وهي محفوظة بين دفات الكتب وصدور بعض النبهاء، لكن الأهالي
أنفسهم الذين قد وضعت هذه القوانين لهم غير عالمين بها، فكيف يطلب منهم أن
يعملوا بمقتضاها؟ إن هذا لشيء عجاب، غير أن العقلاء منا يقولون: لا بد أن نكون
مماثلين لأوربا في القوانين والعادات رغمًا عن الحق الذي يقضي علينا بأن نكون
خاضعين لأحكام بقعتنا، وما تقتضيه طبيعة موقعنا الذي نشأنا فيه، ولن يكون ذلك
أبدًا.
وإننا نخشى لو تمادينا في هذا التقليد الأعمى واستمر بنا الأخذ بالنهايات
الزائدة قبل البدايات الضرورية الواجبة أن تموت فينا أخلاقنا وعاداتنا، وأن يكون
انتقالنا عنها (لو انتقلنا) على وجه تقليدي أيضًا فلا يفيد. لكن الوقت لم يفت بعد،
فعلى من يريد بنا خيرًا أن يذهب بنا طريقًا قويمًا ولا أراه إلا نشر القوانين (وإن
كانت طويلة صعبة المنال في وقتنا هذا، وما لا يدرك كله لا يترك كله) إنما لا
يكتفي بنشرها على لسان الجرائد، فإن قارئيها قليل، ولا بإرسال المنشورات إلى
عمد البلاد فإن كثيرًا منهم قلما يفهم إذا قرأ , ولكن لا بد من تشكيل جمعيات في
القرى والمدن لتفاهم القوانين واللوائح والمنشورات، وإلا ضاعت الحقوق وكثرت
المشاكل، وصعب كبح صغار المأمورين عن الإجراءات المضرة بالحكومة
والأهالي معًا، ثم وضع حدود قويمة للأعمال الشخصية والأخلاق والتصرفات،
فإن إصلاح الأخلاق والأفكار والأعمال من أهم واجبات البلاد، وبدونه لا يمكن
إصلاح شيء من أمورها وليس بجائز أن يجعل في درجة أقل من درجة قوانين
حفظ الضبط والربط.
ومركز النظر في جميع ذلك نبهاء البلاد وذوو الشأن فيها، فعليهم إن كانوا
صادقين في الوطنية أن يبذلوا الجهد في طلب ذلك والقيام بما يلزم وإلا فإنهم مقلدون
فقط، والله أعلم.
وكتب في العدد 1400 الصادر في16جمادى الثانية سنة 1299 - 4مايو
سنة 1882
التمرن والاعتياد
حصول صورة الشيء في النفس علم، وميلها إلى طلبه أو تركه إرادة،
والتصميم على أحد الأمرين عزم وليس بعده إلا الطلب بالفعل أو الترك، والترك لا
يحمل النفس كبير مشقة سوى الوقوف على كون المتروك من الأمور التي تكلف بها
النفس تكليفًا ضروريًّا أو كماليًّا أو كان من الأمور المباحة أو المحظورة، فإذا وقفت
على حقيقته انصرفت عنه انصرافًا.
أما الطلب فهو أحد الأمرين الذي يحمل النفس عنائين أحدهما يتعلق بها من
جهة قوتها الفكرية، والثاني من جهة القوة العملية المودعة في أعضاء البدن ,
والأول مقدمة الثاني وسابق عليه، ونسبته إليه لدى أرباب الحل والعقد ورجال النقد
نسبة الأمرين المتضايفين لا يوجد أحدهما بدون الآخر.
أما الأول فهو البحث في أصل الطلب واستقصاء ما يعود منه على الطالب أو
غيره من المنافع والتنقيب عن الوسائل، التي توصل إلى الغاية بلا مشقة ولا فوات
منفعة وتقدير الأعمال إزاء الفائدة؛ لتكون المنفعة مساوية على حكم التبادل في
الأعمال البشرية أو زائدة عنها على أصل التفاضل، وذلك كله إنما يكون بعد أن
تعرف نسبة الطلب إلى غيره من المطالب ليترجح عما سواه بخاصية من الخواص
حتى لا يلزم على الشروع فيه الترجيح بلا مرجح , هذا شرح حال العناء الأول
وليس بعده إلا الشروع في العناء الثاني عناء الأعمال البدنية.
أما فوائد الأعمال فهي وإن كانت جزئياتها غير قابلة للدوام والاستمرار، إذ
هي نتيجة أعمال متجددة، وكل متجدد فنتائجه كذلك، ولكنها تقبل الدوام بكليات
أنواعها دوامًا غير مطلق , والطالب لا يستغني عن هذه الفوائد وقتًا من الأوقات،
وكيف يستغني مع أن الحامل له على العمل حاجته إلى فوائده، سواء كانت من
الضروريات أو الكماليات فهو محتاج إلى دوام الفوائد، ودوامها يتوقف على دوام
الأعمال، وهو أمر موقوف على العامل، وليس إدمانه العمل المطلوب في
موضوعنا هذا أمرًا من لوازم وجود ذاته، فيحتاج إلى صفة زائدة تقضي عليه أن
يكون دائم العمل بقدر الحاجة، وليس احتياجه كافيًا لهذا الاقتضاء، إذ ربما تحققت
الحاجة بدون أن يتحقق دوام العمل، وإلا لم نسمع بذكر التهاون والكسل والإهمال
وما شاكلها، على أن الحاجة متفاوتة فما كان منها في الدرجة الأولى درجة
الاضطرار البحت، فهو بنفسه كافٍ لإدمان العمل بخلاف ما كان منها في الدرجات
الثانوية فما فوق والصفة القاضية بالإدمان؛ أي: المتممة لعلته هي التمرن
والاعتياد.
وبعبارة أوفق بالغرض: إن ما لا تدعو إليه الحاجة أصلاً في زمن من
الأزمان قد تدعو إليه في زمن آخر لا لسد الاضطرار البحت، بل لما زاد عنه من
الحاجات الثانوية كالكماليات والمحسنات، وقد تدعو إليه بعد زمن طويل أو قصير
لسد الاضطرار البحت، فلا يجد الإنسان عنه فرارًا فيتكلفه مقهورًا مقسورًا يتصور
المنفعة على بعد ولكنه غائب في دهشة آلام الأعمال التي لم يتكلفها يومًا من الأيام
لولا حكم الصروف والحادثات التي تقلبه على بساط القهر تقلب العصفور في يدي
الطفل، فلا يزال يحس بالألم ويدمن العمل حتى يهون عليه شيئًا فشيئًا إلى أن
يزول الألم بالكلية، ولا يجد إلا عملاً بدون ألم، فإذا مضت برهة بعد الابتداء
يحس من نفسه بعض الميل إلى العمل، فكأن الألم الأول استحال إلى ضده (على
حكم تلاقي الطرفين) ، ويجد منه باعثًا طبيعيًّا إليه، وهكذا يزداد الميل ويشتد
العشق حتى لا يميل به الكسل يومًا ما إلى إهمال العمل، وهذا هو المقصود من
التمرن والاعتياد.
أما كون الشيء ربما يكون ضروريًّا في وقت دون وقت فالأمر فيه وإن كان
على ما أظن لا يحتاج إلى البيان، غير أني بحكم الحاجة لتوضيحه لبعض
الناظرين أقول:
إن الإنسان من حيث هو مفكر لا يقف عند حد محدود فيما يتعلق بلوازم حياته،
وهو في ذاته غير مكلف بكل فرض مطلوب يعده من قبيل التمدن أو الحضارة أو
الترف في المعيشة أو غير ذلك، بل يكفيه ما يسد الرمق من القوت ويقيه الحر أو
البرد من اللباس، ويكنه وقت الإيواء من البيوت غير أنه لما تأنق في هذه
الضروريات بعض التأنق ورأى أنها تقبل التحسين شيئًا فشيئًا أخذ على نفسه أن لا
يقر له قرار ولا يهدأ له جأش حتى يستخرج من دائرة الإمكان كل ما تتأدى إليه
فكرته، فجد واجتهد، واستطلع بقوته النظرية خواص العناصر فحسبها عندما
اكتشف منها معدات تساعده على غرضه أنها لم تخلق إلا له، فتسلط عليها بصفتي
التحليل والتركيب حتى فتح أبوابًا للتجارة والزراعة والصناعة ووصل إلى ما وصل
إليه الآن، وهو في هذا السير الطويل يتحمل أثقالاً على أثقال كلما وصل منه إلى
درجة ظنها آخر الدرجات، وحسب نفسه فيها غريبًا؛ فيتخذ نتائج تقاليدها الغريبة
زينة شأن كل أمر غريب نادر الوجود إذ كل نادر عزيز. قال الشاعر:
سبحانه من خص القليل بعزه ... والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي ... نفس لمحتاج إلى أنفاسه
فإذا توطنت نفسه إلى هذه الغرائب زمنًا استزاد منها حتى يبلغ بها حد الكثرة
فيستعملها في لوازمه الضرورية في كافة أحواله، ولا يخص بها وقتًا دون وقت،
إلى أن تصير من قبيل الأمور المعتادة التي لا يستغني عنها بحيث يعتبر كل ما كان
أقدم منها وفي درجة قبلها من التقاليد ساقطًا عن درجة الاعتبار وغير جائز
الاستعمال، ويتوهم أن استعماله في الحالة التي وصل إليها يزري بمقامه المنيف
ويحط بمقداره الشريف، ولا يتذكر أنه هو الإنسان أيام كان يقتات بسائط النبات،
ويستتر بأوراق الأشجار، ويأوي إلى الكهوف والأغوار، فبان بما ذُكر أن الشيء قد
يكون ضروريًّا في وقت دون آخر.
ومن وجه آخر نقول: إِنَّا إِذَا سبرنا أخبار الأمم نعلم يقينًا أن الهيئة
الاجتماعية البشرية ما وصلت إلى درجة من درجات التمدن والحضارة في وقت من
الأوقات دفعة، بل لا بد كما يشهد العيان أن تسبق أمة من الأمم إلى غاية في المدنية،
فإذا نظرت إلى جارتها، وقد بقيت في مركزها متأخرة عنها. والإنسان {قُتِلَ
الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس: 17) بحكم الحيوانية مطبوع على التعدي والشره،
فتفاخرها بما يدهش العقول ويبهر النواظر من صناعاتها الغريبة وأوضاعها الجميلة،
فترمقها تلك بعين الذاهل المندهش، وتتوهم أن ضعفها واقعي فتنقبض نوعًا من
الانقباض، فإذا توسمت فيها هذه الانكماش والذعر (الخوف) أخذت تهددها بما
تقلب عليها من ضروب الحيل والدهاء، وبما تتظاهر به من قوة الجند وكثرة العتاد؛
فتقف تلك وقفة الحائر المتفكر إلى أن يرشدها التأمل إلى أن هذه ما وصلت إلى ما
وصلت إلا بالعلم والعمل المتوقفين على الكد والاجتهاد؛ فتندفع وراء الجد بحكم
الاضطرار حتى تصل إلى ما وصلت إليه أو تكاد، غير أن تلك أيضًا بعد أن تذوق
لذة التقدم، وتنسيها سكرة التيه طعم الذل الذي كانت تقاسيه تحت رهبة جارتها
الأولى، وتعامل الأمة المجاورة لها أيضًا بمثل ما كانت تعامل به في مبدأ الأمر
حتى تضطرها كذلك إلى أن تركب متن الاجتهاد في السير وراء من تقدمها، وهكذا
كلما دخلت أمة من باب كلفت به من يجاورها من الأمم حتى تنتظم الأمم جميعًا في
سلك واحد في هذا الباب، ولكن حيث إن حب التسابق طبيعة في الناس فلا تراهم
يقفون لدى نقطة، بل متى وصلوا إلى حد ما من حدود التقدم فلا يمضي زمن
طويل حتى يقال: إن أمة كذا انتهزت فرصة عظيمة وفتحت بابًا من أبواب التقدم
عاد عليها بالنماء في الأموال والأنفس والثمرات، وبأن مجاوريها يخشون بأسها
ويراقبون حركاتها؛ فتضطرب الهيئة الاجتماعية البشرية من هذا النازل الذي لم
يكن في الحسبان، ولا تسكن خواطر بقية الأمم والممالك حتى ينساقوا إلى هذه
الخطوة التي خطاها غيرهم على غفلة منهم وهم كارهون، فبان أن الأمم قد
يحتاجون في زمن ما لا يحتاجونه في آخر , فصدق القول: إن الشيء قد يكون
ضروريًّا وقد لا يكون.
وما ذكرناه من التقلبات والتنقلات يحكي حال الجمعية الإنسانية من يوم أن
تفرقت شعوبًا وقبائل يتخالفون في العوائد والأخلاق فيتنافسون ويتحاسدون على
النقير والقطمير، ويغلب عليهم حب الذات والميل إلى الخصوصيات، فيدعون أنهم
أجناس شتى، ولا يزال حالهم كذلك يتقلبون على جمر الشحناء ويعذبون بعوامل
البغضاء، فتارة ترمي بهم الأطماع في مخاليب التكلف ومشاق التنقل من حال إلى
حال فيضطربون لهذا الأمر اضطرابًا وينقبضون منه انقباضًا , وآونة يلقي بهم
الجهد الجهيد بعد أن يروا من الصعوبات ألوانًا في بوادي الراحة عندما يصلون إلى
نقطة التمرن والاعتياد، ولكنها نقطة غير ثابتة، كما أن درجات تقدمهم غير
متناهية، فلا يزالون يترددون من التعب إلى الراحة حتى يرجعوا إلى المجرى
الطبيعي فيلتئمون بعد التفرق، ويرفعون عن أعينهم حجاب هذا التشتت.
ويا ليت شعري ما هو النازل الذي حل بالإنسان فغير معالمه الطبيعية، وبدل
أخلاقه السلمية، وحل رابطته النوعية، وإلا فعهدنا به إن لم نقل: إنه من أم وأب
تسليمًا جدليًّا فهو من نوع واحد يشف مرآه عن الوحدة التامة الناطقة بأن الإنسان من
جرثومة واحدة نشأ عنها عائلة واحدة حواها بسيط واحد، ربطتها عادات وأخلاق
متحدة الصفة، ولقد رمزت تعاليمه الحاضرة - التي منها وهو أكبرها تعميم
المواصلات، وتأكيد الروابط بين الممالك وحركة الاجتماع والتآلف - إلى هذا السر
المكنون، وبشرتنا المحافظة العامة على دعائم السلام والراحة العموميين حفظًا
لحقوق الإنسان وصونًا لذمة الشرف بأن الحركة العمومية موجهة إلى النقطة الأولى،
وكلما قربت إلى المركز زادت سرعتها شأن كل حركة طبيعية، ولقد أثرت هذه
الحال تأثيرًا خفيًّا في الجم الغفير من عقلاء الناس؛ فمالوا إلى خدمة الإنسانية من
غير أن يتعصبوا لجنس ولا دين ولا مذهب، فإذا رجع الإنسان إلى مركزه الطبيعي
لا ترى الجمعية البشرية بعد إلا كساكني منزل واحد يرتفقون بمنافعه على السواء،
ويجدون من بركات الأرض ما يكفيهم مؤنة التعب، ويكفهم عن الشقاق والعناد. إذا
أصاب قبيل منهم منفعة عادت على الجميع بدون اختصاص على حكم تبادل
الأعمال، وإذا نزل بقبيل نازل توجه الكل إلى إنقاذه مما ألم به، وساروا جميعًا
على وفق القانون الطبيعي المودع في فطرة الإنسان يهديه إليه مَن علم الطير
النياحة ومرنه على السباحة، ثم لا ترى فيهم إذ ذاك ما يحتاج معه الإنسان إلى
كلفة وعناء، بل لا ترى إلا أعمالاً جارية على منهج السهولة منهج التمرن والاعتياد،
اهـ من الجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام.
__________(9/593)
الكاتب: أحمد منصور الباز
__________
الدين كل ما جاء به الرسول
حضرة الفاضل المحترم صاحب مجلة المنار:
اطلعت على المقال المندرج في الجزء السابع من المنار لحضرة محمد أفندي
توفيق تحت عنوان (الدين هو القرآن وحده)
فأدهشني العجب لما رأيته فيه من الفلسفة الخارقة التي لم يسبق لها مثال، إذ
قرر حضرته هدم دعامة من دعائم الدين، واجتث أصلاً ثبتت جذوره في قلوب جميع
المؤمنين (ثم إن الكاتب لخص المقال بنحو عشرة أسطر تلخيصًا يمكن النزاع فيه
على أنه لا حاجة إليه) ثم قال ما نصه:
ولعمري لو لم يكن الرسول مُبَيِّنًا لأحكام الله التي لم تفصل في التنزيل:
ككيفية الصلاة من ركوع وسجود وتسبيح وتهليل ومشرعًا لما لم يرد في القرآن
حكمه، وأن ما يبينه أو يشرعه واجب الاتباع - تعطلت وظيفته وكان اقتداء الصحابة
به وتعلمهم منه عبثًا وباطلاً، فقل لي بأبيك: إذا لم يكن أمر الرسول صاحب
الشرع وصاحب الوحي المعصوم من الخطأ والزلل كأمر القرآن، والكل من عند الله
فما معنى قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر:
7) ومعنى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (المائدة: 92) ومعنى {فَإِن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) ومعنى {وَمَن
يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} (النساء: 14) ومعنى
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى} (النجم: 3) .
قل لي بإنصاف لو لم يبين الرسول كيفية الصلاة التي أمر الله بها من ركوع
وسجود أكان أحد من الصحابة يمكنه أن يؤديها على حسب رغبة الله، فيركع
الركوع المخصوص ويسجد مرتين في كل ركعة؟ ما أظن ذلك أبدًا ولا أظن
الكاتب نفسه عرف كيفية الصلاة إلا عن سنة النبي، إذ القرآن لم يبين أن يسجد
الإنسان مرتين بل أجمل الأمر وترك كيفية التفصيل للنبي، أيريد الكاتب أن
يفهم في الدين فهمًا غير ما كان يفهم رسول الله، وبذلك يكون الدين أو القرآن
(كالأستك) صالحًا لكل زمان ولا يكون جامد متحجرًا كما يقول البعض؟
أن قول الله عز وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) برهان قاطع على أن سنة الرسول يُرجع إليها ككتاب الله.
وكذا قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) أدل دليل على أن أوامر الرسول ونواهيه واجبة على متبعيه، ولا
يشتبه عليه أنها نزلت لسبب، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولماذا لم
تذكر طاعة الله إلا مقرونة بطاعة الرسول؟ أكان ذلك من باب ترادف اللفظ على
المعنى الواحد، فتكون طاعة الله هي اتباع أوامر القرآن وطاعة الرسول هي أيضًا
اتباع أوامر القرآن، أم كانت طاعة الله فيما أمر به في القرآن وطاعة الرسول فيما
بينه من الأحكام التي لم ترد فيه! قل لي أي المعنيين أرجح عندك؟ لا أظن إلا الثاني
الذي لا يقبل العقل السليم غيره.
وإني واثق من أن الكاتب مقتنع بالقرآن حيث جزم بصحته، أفلا يقتنع بما
سردته له من الآيات؟.
ولو كنت أعلم أنه يقتنع بالأحاديث التي لم يستغنِ عن الاستدلال بها في مقاله
لأوردت له كثيرًا من الأحاديث الصحيحة التي تزيل عنه الشبهة كحديث (أنتم أعلم
بأمور دنياكم فإذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به) وحديث (ما من نبي بعثه الله
في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم
إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن
جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان
حبة خردل) وحديث (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان
على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه
من حرام فحرموه، وإنما حرم رسول الله كما حرم الله)
يقول الكاتب: إن آية القصر تفيد أن الصلاة المقصورة ركعة واحدة للمأموم،
وإني لأعجب كيف استنتج ذلك؟! لأن الآية لا تفيد ركعة ولا اثنتين ولا ثلاثًا؛ لأن
الله يقول: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ} (النساء: 102) ولفظ (سجدوا)
لا يفيد ركعة ولا غيرها.
أما ما يقوله من أن النبي كان يواظب على أعمال من العبادة كثيرة، ولم
يقل أحد بوجوبها، مما يدل على أن المواظبة على الشيء لا تقتضي وجوبه - فهو
مردود؛ لأنه بيَّن لأصحابه الواجب والمندوب، وجرى على ذلك نحو أربعمائة
ألف مليون مؤمن (كذا) من عهده إلى وقتنا هذا من غير أن يشذ منهم واحد، وإني
أخجل أن أقيم على ذلك دليلاً؛ لأن إثبات البديهيات من المشكلات، أفلا يقنع
حضرته ما أقنع أولئك الملايين.
يقول: إن النبي لم يأمر بكتابة الأحاديث في عهده كما أمر بكتابة القرآن، مما
يدل على أنه لم يرغب أن يبلغ عنه شيء من غير القرآن , وهذا أيضًا مردود؛
لأنه كما أمر بكتابة القرآن أمر كثيرًا بحفظ ما يقول ويفعل، روي عنه هذا، وقد
حفظت أحاديثه في صدور الرجال الذين حفظوا القرآن وحرصوا عليها حرصًا
شديدًا، حتى إن الواحد من أصحابه كان لا يعمل عملاً إلا ويستشهد عليه بجملة
أحاديث، وقد خلف من بعدهم رجال دَوَّنُوهَا في الكتب كما دونوا القرآن، وتحروها
رواية ودراية حتى ضرب بهم المثل في شدة التحري لسنة الرسول (راجع
مصطلح الحديث وتاريخ البخاري وغيره) وجعلوا لها مراتب يعمل بحسابها في
الأحكام حتى صار اشتباهها بأحاديث الكذابين محال (كذا) .
وما كنت أظن ولا يخطر ببالي أن حضرة الفاضل صاحب المنار يذاكر
الكاتب في هذا الموضوع، ولا يقنعه وهو ابن بجدتها ويأمره بعرض مقاله في
المنار مع خلوه من الفائدة؛ لأن هذا يعد خلق مشاكل جديدة بين المسلمين وليس هذا
مما يتناوله الاجتهاد المزعوم، ولعمري إذا كان فتح باب الاجتهاد يجر إلى ذلك
فسده بالطين واجب.
ماذا يا حضرة الفاضل تطلب من الأزهريين وغيرهم من العلماء؟ أتطلب
دليلاً منهم على أن أقوال الكاتب فاسدة، بعد ما قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} (الحشر: 7) إلخ، وهل بعد أمر الله صراحة كلام لأحد؟ وهل بعد إجماع
ملايين من العلماء علي ذلك محل للاستفهام والسؤال؟ كلا.
هذا وأرجوكم يا حضرة الرشيد المرشد سد باب مثل هذه المواضيع، ونشر
هذه العجالة التي لا أكتب بعدها أبدًا في هذا الموضوع، وفقنا الله وإياكم وجميع
المسلمين للاهتداء بهدي الكتاب المبين وسنة رسول رب العالمين.
... ... ... ... ... ... ... ... أحمد منصور الباز
... ... ... ... ... ... نقيب أشراف مركز كفر صقر من طوخ
(المنار)
حذفنا من هذه المقالة ما لخص به كاتبها المقال يرد عليه، وقد أشرنا إلى ذلك
في موضعه، وحذفنا منها نحو ستة أسطر أخرى ينكر بها الكاتب ما قاله الدكتور
محمد توفيق أفندي صدقي في اختلاف الأمة في فهم الدين وإنما حذفناها لأنه لم
يلتزم فيها ما يجب في المناظرة؛ ولأنها ليس فيها شيء من القوة؛ إذ مضمونها
أن الأمة اتفقت على الشهادتين وسائر الأركان الخمسة، وليس هذا نفيًا لاختلاف
الأمة ولو كنت أجيز لنفسي مناقشة أحد من المتناظرين في أثناء المناظرة لذكرته
بالأحاديث التي نطقت بأن الأمة ستفترق وبخلاف الفقهاء والمتكلمين، وبأن الرجل
لم يقل أنهم اختلفوا في كل أصل وفرع.
أما تعجب الكاتب من عدم إقناع صاحب هذه المجلة للدكتور صدقي، ومن
حمله على كتابة رأيه في المسالة ونشره إياها فله وجه، ومن أسباب ذلك أنه لم
يتفق له أن ذاكرني في ذلك إلا وأنا مشتغل بالكتابة اشتغالاً لا مندوحة عنه، وإنني
أعلم أن من الناس من يعتقد مثل اعتقاده في ذلك، فلهذين السببين ولاعتقادي أن
الإنسان إذا كتب ما يخطر له، فإن هذه الخواطر تنتقل بالكتابة من حيز الإجمال
والإبهام إلى حيز التفصلة والجلاء، حتى إنه كثيرًا يظهر للكاتب الخطأ فيما كان
يعتقد عند كتابته له، وكنت أريد أن أبين رأيي فيما يكتب قولاً لا كتابة ولكنه اقترح
أن ينشر ذلك؛ ليعرف رأي علماء العصر فيه، فنشرناه ليكون الرد على ما فيه من
خطأ وشذوذ ردًّا على كل من يرى هذا الرأي.
وقد حدثنا بعض كبار شيوخ الأزهر وأذكياء المجاورين أن أهل الأزهر
اهتموا بذلك المقال وتحدثوا بالرد عليه، وأنهم ظنوا أن المنار ربما يتعقبهم ويرد
عليهم، فقلنا لهم: إننا لا نرد على أحد ولكننا ربما نكتب في الموضوع شيئًا بعد
انتهاء المناظرة لا نذكر فيه أحدًا من المتناظرين ولا نرد عليه، ثم بلغنا أن بعض
الأستاذين قد شرع في الكتابة بالفعل، ونحن لا نشترط على من يكتب إلا نزاهة
العبارة وسلامتها من الطعن والتهكم عملاً بأدب القرآن الحكيم {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى
هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (سبأ: 24) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(9/610)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تعليم الدين للأحداث
وخطبة الجمعة في الآستانة
جاءتنا رسالة من عالم عثماني عنوانها (أهكذا يخلف محمد في أمته)
لا نستحسن نشر مثلها في شدته وإن كان حقًّا، ولكن رأينا أن نأخذ منها ما هو من أخص مباحث المنار، وهو مسألتان إحداهما طريقة تعليم الدين للأحداث
وطريقة وعظ الرجال به بتركيا في هذا العصر الذي يسمونه (الحميدي الأنور) .
ذكر الكاتب في أوائل رسالته أن بعض المستخدمين بنظارة المعارف في
الآستانة كان قد رفع تقريرًا إلى المابين يلفت فيه السلطان إلى فقرة (ونخلع ونترك
من يفجرك) الواردة في دعاء القنوت إلى وجوب حذفها من هذا الدعاء أو حذفه هو
برمته من أدعية الصلاة، وقال: إن السلطان استشار بعض بطانته في أمر هذا
التقرير، فأشار عليه بالإغضاء عنه وبيَّن له سوء عاقبة الأمر بتركه، ذلك أن
قراءة هذا الدعاء برمته في الوتر واجبة عند الحنفية والتُّرك منهم، ومن تركه عمدًا
وجبت عليه إعادة صلاته، وقال الكاتب: (إن هذا الخبر نما إلى سفط الفاتح
(سوخته لر) فسخطوا وبربروا، ونقموا وكفروا، فأشار ذلك الداهية على جلالته
بأن يصدر إرادة بمنع الجهر بمعاقرة الخمر جهرًا على برازيق الطرق والمحال
العمومية، فما أسرع ما كان ذلك مطفئًا لجمرة أصحابنا الشيوخ وداعيا لفثء حدتهم
وإرجاع ثقتهم.
ولم يكن يخطر لنا هذا الأمر ببال سيما والارتياب في الخبر مدعاة لنسيانه،
لولا كراسة تركية صغيرة تسمى (الفباي عثماني) طبعت برخصة نظارة
المعارف في مقر السلطنة 1322، وقد حوت ما يحويه أمثالها مما يلزم للمبتدئ
تعلمه لأجل حذق القراءة. تصفحت تلك الكراسة فوجدت فيها جميع الأدعية
المأثورة حتى (رب يسر ولا تعسر) لكني لم أر مؤلفها ذكر فيها دعاء القنوت
الواجبة قراءته على مقلدي مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه والأتراك في جملتهم،
(وذكر هنا كلامًا شديدًا ثم قال) :
(وقد استعاض مؤلف الكراسة عن دعاء القنوت بهذه الفقرات (الله بردر
محمد حق رسوليدر سلطان عبد الحميد خان ثاني أفنديمز حضرتلري مقدس خلفه
سيدر، بزوم سويكيلي بادشاهمز در الله به بيغمبر يمزه بادشا همزه أطاعت أيدرز
أمر لريي طوتار نهيلرندن أجتاب أيلرز) ، ومعنى ذلك (الله واحد محمد رسوله
حقًّا سيدنا حضرة السلطان عبد الحميد خان الثاني خليفته المقدس ومليكنا المحبوب
نطيع الله ونبينا وسلطاننا ونتمسك بما أمروا به ونجتنب ما نهوا عنه)
(فعاودني عند قراءة ما تقدم الوجوم، وعجبت من هذا الارتقاء الذي شمل
جميع شؤون الأمة حتى دينها! فبعد أن كان المسلمون في أول نشأتهم يؤمرون
بالتوجه إلى الله وحده وتمييزه عما سواه بالإخلاص إليه أخذوا في هذا العصر
(عصر الترقي) يعلمون أبناءهم التوجه إلى (ثلاثة) بحيث يشركونهم في خصائص
الألوهية كي لا يفوت المسلمين التشبه بغيرهم ممن اتخذ له ثلاثة أقانيم، ويا ليتهم إذا
فعلوا ذلك قرنوا اسم الأقنومين بألقاب التبجيل وصفات التقديس كما قرنوا اسم الأقنوم
الثالث! !
هكذا أُخذ المسلمون عن أنفسهم، وصودروا في وجدانهم وحسهم، وحيل بينهم
وبين ما يشتهون من تنشئة أبنائهم. فلا يكاد الناشيء يزايل المكتب ويفلت أمثال
الكراسة المذكورة من يده حتى يتناول جريدة من جرائد أمته فيقرأ فيها في وصف
القصر (عتبه فلك مرتبه) وفي وصف المقصور (ذات قدس سمات) (ذات
فرشته سمات) أي: الذات المقدسة الشمائل أو التي شمائلها كشمائل الملائكة.
وإذا أراد أن يمتع بصره بمشاهدة حفلة صلاة الجمعة (السلاملك) رأى (كما
رأيت بعيني) عمامة شيخ الإسلام تهوي إلى بين قدمي جلالته وهو يشكر له
ويدعو.
وإذا أَمَّ المسجد لأداء فريضة الجمعة سَمِعَ حمامة المنبر المطوقة بالذهب يغرد
بصوت يستثير الطرب ويقول:
الحمد لله، ثم الحمد لله، الحمد لله الذي أيد دين حبيبه بدوام سلطة ملوك آل
عثمان الغازي عبد الحميد خان، وأبقى شريعة نبيه ببقاء سلالة آل عثمان الغازي
عبد الحميد خان، فسبحان الذي أخذ انتقامه من عدوه بعدالة ملوك آل عثمان الغازي
عبد الحميد خان.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له منح الأمن والراحة على عباده
بمحافظة ملوك آل عثمان الغازي عبد الحميد خان.
ونشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله الذي بنى نصرة الله على عباده بإطاعة
عساكر ملوك آل عثمان الغازي عبد الحميد خان، صلى الله عليه وعلى آله.
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (لكل نبي رفيق في الجنة ورفيقي فيها آل عثمان الغازي عبد الحميد
خان) صدق رسول الله الذي مدح في حديثه جنود المنتسبين بملوك آل عثمان
الغازي عبد الحميد خان) ، اهـ.
اضحك أيها القارئ أضحك الله سنك كأني بك وقد ارتبت في هذه الخطبة
وحسبتها من أوضاع كاتب السطور أو تماجنه، لكني أحلف لك بكل ما تكلفني
الحلف به أن هذه الخطبة قرئت مرات متعددة في (إسكدار) في جامع رأس السوق
في بني جشمه وبعض الذين يفهمون نهضوا حالاً، وانخزلوا عن الجماعة وخرجوا من
الجامع، وقرئت أيضًا في جوامع أخر وأجيز واضعها بمئة ليرة، وسمعها شيخ
الإسلام وغيره من العلماء وسكتوا.
لم يعن الشارع بجعل خطبة الجمعة والإنصات إليها من الفروض إلا لما من
حقه أن يكون لها من التأثير في نفوس المسلمين، بحيث تحفزهم لشحذ عزائمهم
وتوجيه هممهم نحو لَمَّ شعثهم وتوفير كل ما فيه رفعة شأنهم وحفظ كرامتهم بين
الأمم، وما قط قصد الشارع أن تكون خطبة الجمعة قصيدة محشوة بألقاب الإطراء
والتعظيم وارتكاب الكذب على حد قولهم (أعذب الشعر أكذبه) ولا (دورًا) أو
(مَوَّالاً) يتواخى فيه حسن الإيقاع وموافقة أصول الأنغام، وتكون للأمة بمثابة (نشيد
وطني) كما عند سائر الأمم.
إن شئت أيها القارئ الاستئناس لما نقول بما قرره العلماء رضي الله عنهم في
هذا الصدد فدونك ما قاله واحد من كبارهم، وقد عاش في أواخر القرن الثاني عشر
الهجري:
(ومما يكره للخطيب المجازفة في أوصاف السلاطين بالدعاء لهم، فأما أصل
الدعاء للسلطان فقد ذكر صاحب المهذب وغيره أنه مكروه، والاختيار أنه لا بأس
به إذا لم يكن فيه مجازفة في وصفه)
وكرهوا الإطناب في مدح الجائرين من الملوك بأن يصفه عادلاً وهو ظالم أو
يصفه الغازي وهو لم يزحف على العدو بخيل ولا ركاب، ولكن مطلق الدعاء لهم
بالصلاح لا بأس به.
وقد اتفق أن الملك الظاهر بيبرس لما وصل الشام وحضر لصلاة الجمعة أبدع
الخطيب بألفاظ حسنة يشير بها إلى مدح السلطان، وأطنب فيه، فلما فرغ من
صلاته أنكر عليه، وقال - مع كونه تُرْكِيًّا - ما لهذا الخطيب يقول في خطبته
السلطان السلطان، ليس شرط الخطبة هكذا. وأمر به أن يضرب بالمقارع فتشفع له
الحاضرون، هذا مع كمال علم الخطيب وصلاحه وورعه. فما خلص إلا بعد الجهد
الشديد، واتفق مثل هذا لبعض أمراء مصر في زماننا (يعني محمد بك الألفي أحد
أمراء المماليك، وقد نازعته نفسه بالخروج على السلطان، فأرسل مملوكه محمد بك
أبا الذهب إلى الشام؛ للاستيلاء عليها كما فعل محمد علي باشا في إرسال ابنه إبراهيم
والتاريخ يعيد نفسه) لما صلى الجمعة في أحد جوامع مصر، وكان مغرورًا بدولته
مستبدًّا برأيه فأطنب الخطيب في مدحه، فلما فرغ من صلاته أمر بضرب ذلك
الخطيب وإهانته ونفيه عن مصر إلى بعض القرى.
فهذا وأمثاله ينفي للخطباء أن يلتمسوا سخط الله برضا الناس، فإن ذلك
موجب لسخط الله والمقت الأبدي، نسأل الله العفو. اهـ.
من أمعن نظره فيما قلناه ونقلناه يأسف لحال الأمة الإسلامية كيف أن (سادتها
وكبراءها) في العصور المتأخرة أساءوا في إدارة شئونها وتربية أبنائها واستدرجوها
في الاستكانة والاستخذاء، حتى نزعت منها روح الحرية وفقدت النعرة والحمية،
وحل محل ذلك الضعف والخمول وعدم المبالاة بحفظ الحوزة وحماية الحقيقة إلخ.
__________(9/614)
الكاتب: عالم فاضل
__________
رأي واقتراح في مقالة التعصب
لعالم فاضل
إلى منار الإسلام والهادي إذا ضلت الإفهام، وطاشت الأحلام.
قرأت في المنار الرفيع المقالة المسهبة، بل الآية المعجبة التي تحت عنوان
(التعصب وأوربا والإسلام) بعدما استقصيت كل ما سبقها في موضوعها فوجدتها -
فضلاً عما اشتملت عليه من البراهين القاطعة والآيات الناصعة في تبرئة دين الله
الإسلام وأهله مما يكون منزع شقاق أو افتراق بين أهل الأرض مهما اختلفت نِحَلهم،
أو تباعدت حللهم، وأنه بعكس ذلك يدعو إلى الوئام العام، ولم تترك في القوس
منزعًا لرامٍ - قد بينت حقيقة الحال على وجهها بما لم يسقطه به ناطق أو محرر
وكشف النقاب عن حر المسألة التي تَخَبَّطَ فيها ذوو السياسة والكتاب؛ فألبسوا الأمر
غير لباسه، وبنوا البيت على غير أساسه.
فجاءت مظهرة رأي خواص المسلمين الذين يُعَوَّل عليهم، ويستند في مثل
تلك المواقف الحرجة إليهم، ويا حبذا لو ترجمت هذه المقالة ونشرت في جرائد
أوروبا تحت عنوان (رأي علماء المسلمين الآن) ليعلم أهلها عامة والإنجليز
خاصة ما عليه المسلمون في دينهم الخالص، وأن هناك من يقف على دخائل
الأغراض، وحقائق الأمراض وما لهم من مغارم إن كانوا قساة، أو مراحم إن كانوا
أساة، وبالاختصار أقول: إن المسلمين ليغبطون أنفسهم قبل غيرهم بمثل هذه
المقالة التي لا يسع كل منصف عدل من الفريقين إلا الإذعان لما جاء فيها إن لم
يكن ظاهرًا فباطنًا، وأنا أشهد الله أني من المعترفين بأنها هي طريق الحق التي لا
غبار عليها لغرض ذاتي أو عرضي؛ وأنها مرآة ما في قلوب المسلمين الخُلَّص
الذين لا يدينون إلا للحق وداعيه والعدل ومراعيه، فلتسلم مطبعة المنار ليقوم بها
الدليل ويعرف حكم التنزيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________(9/618)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
فتحنا هذا الباب لإجابة أسئلة المشتركين خاصة، إذ لا يسع الناس عامة،
ونشترط على السائل أن يبين اسمه ولقبه وبلده وعمله (وظيفته) وله بعد ذلك أن يرمز إلى اسمه بالحروف إن شاء، وإننا نذكر الأسئلة بالتدريج غالبًا، وربما قدمنا متأخرًا لسبب، كحاجة الناس إلى بيان موضوعه، وربما أجبنا غير مشترك
لمثل هذا، ولمن يمضي على سؤاله شهران أو ثلاثة أن يُذَكِّر به مرة واحدة
فإن لم نذكره كان لنا عذر صحيح لإغفاله.
أخذ الحق من الوالدين وضابط العقوق
(س31) من أحد القراء بمصر: ما قول عالم الأمة الإسلامية وحكيمها
ومرشدها أستاذنا السيد محمد رشيد رضا - لا زال كعبة للسائلين - في رجل
اشترى لولده أملاكًا من أناس أجانب بعضها وهو صغير والبعض الآخر وهو كبير،
دفع الوالد الثمن من عنده. فلما رشد الولد وأراد أن يأخذ ما اشترى له منعه والده من
أخذها، فهل يجوز للولد أخذها منه وله الحق في ذلك لكونها مِلكًا له أم لا؟ وهل تُعَدُّ
إساءته بأخذها منه عقوقًا يعاقبه الله عليه في الآخرة أم لا؟ أفيدوا الجواب بالدليل
الشافي، لا زلتم نجمًا للمهتدين.
(ج) الفقهاء يجيزون أخذ الحق من الوالدين وإن استاءا ولا يعدون ذلك من
العقوق الذي هو الإيذاء الشديد عرفًا، والمسألة مشكلة من حيث صلة الولد بالوالد،
وإننا نذكر أحسن ما قاله الفقهاء في ذلك ثم نتبعه النصيحة النافعة إن شاء الله تعالى.
قال شيخ الإسلام السراج البلقيني في فتاواه كما نقل عنه ابن حجر في
(الزواجر) ما يأتي:
(مسألة قد ابتلي الناس بها واحتيج إلى بسط الكلام عليها وإلى تفاريعها
لتحصيل المقصود في ضمن ذلك، وهي السؤال عن ضابط الحد الذي يعرف به
عقوق الوالدين؛ إذ الإحالة على العرف من غير مثال لا يحصل به المقصود، إذ
الناس أغراضهم تحملهم على أن يجعلوا ما ليس بعرف عرفًا، لا سيما إذا كان
قصدهم تنقيص شخص أو أذاه، فلا بد من مثال يُنْسَج على مِنْوَاله، وهو أنه مثلاً
لو كان له على أبيه حق شرعي، فاختار أن يرفعه إلى الحاكم ليأخذ حقه منه، فلو
حبسه فهل يكون عقوقًا أم لا؟)
(أجاب) هذا الموضوع قال فيه بعض العلماء الأكابر: إنه يَعْسُر ضبطه،
وقد فتح الله سبحانه وتعالى بضابط أرجو من فضل الفاتح العليم أن يكون حسنًا
فأقول: العقوق لأحد الوالدين هو أن يؤذي الولد أحد والديه بما لو فعله مع غير
والديه كان محرمًا من جملة الصغائر فينتقل بالنسبة إلى أحد الوالدين إلى الكبائر، أو
أن يخالف أمره أو نهيه فيما يدخل فيه الخوف على الولد من فوات نفسه أو عضو
من أعضائه ما لم يتهم الوالد في ذلك، أو أن يخالفه في سفر يشق على الوالد وليس
بفرض على الولد، أو في غيبة طويلة فيما ليس بعلم نافع ولا كسب أو فيه وقيعة في
العرض لها وقع، وبيان هذا الضابط أن قولنا: أن يؤذي الولد أحد والديه بما لو
فعله مع غير والديه كان محرمًا، مثاله لو شتم غير أحد والديه أو ضربه بحيث لا
ينتهي الشتم أو الضرب إلى الكبيرة، فإنه يكون المحرم المذكور إذا فعله الولد مع
أحد والديه كبيرة.
وخرج بقولنا: (أن يؤذي) ما لو أخذ فلسًا أو شيئًا يسيرًا من مال أحد والديه
أنه لا يكون كبيرة، وإن كان لو أخذه من مال غير والديه بغير طريق معتبر كان
حرامًا؛ لأن أحد الوالدين لا يتأذى بمثل ذلك لما عنده من الشفقة والحنو، فإن أخذ
مالاً كثيرًا بحيث يتأذى المأخوذ منه غير الوالدين بذلك فإنه يكون كبيرة في حق
الأجنبي، فكذلك يكون كبيرة هنا، وإنما الضابط فيما يكون حرامًا صغيرة بالنسبة
إلى غير الوالدين.
وخرج بقولنا: (ما لو فعله مع غير والديه كان محرمًا) ما إذا طالب الوالد
بدين عليه. فإذا طالب به أو رفعه إلى الحاكم ليأخذ حقه منه فإنه لا يكون من
العقوق، فإنه ليس بحرام في حق الأجنبي، وإنما يكون العقوق بما يؤذي أحد
الوالدين بما لو فعله مع غير والديه كان محرمًا، وهذا ليس بموجود هنا، فافهم
ذلك فإنه من النفائس.
وأما الحبس فإن فرَّعنا على جواز حبس الوالد بدين الولد كما صحَّحه جماعة،
فقد طلب ما هو جائز فلا عقوق، وإن فرعنا على منع حبسه كما هو المصحح
عند آخرين، فإن الحاكم إذا كان معتقده ذلك لا يجيبه إليه، ولا يكون الولد الذي
يطلب عاقًّا إذا كان معتقده الوجه الأول، فإن اعتقد المنع وأقدم عليه كان كما لو
طلب حبس من لا يجوز حبسه من الأجانب لإعسار ونحوه، فإذا حبسه الولد
واعتقاده المنع كان عاقًّا؛ لأنه لو فعله مع غير والديه حيث لا يجوز كان حرامًا،
وأما مجرد الشكوى الجائزة والطلب الجائز فليس من العقوق في شيء.
وقد جاء ولد بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو من والده
في اجتياح ماله، وحضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من ذلك عقوقًا ولا عَنَّفَ الولد بسبب الشكوى المذكورة.
وَأَمَّا إِذَا نَهَرَ الْوَلَدُ أَحَدَ وَالِدَيْهِ فإنه إذا فعل ذلك مع غير والديه وكان محرمًا كان
في حق أحد الوالدين كبيرة، وإن لم يكن محرمًا، وكذا (أف) فإن ذلك يكون صغيرة
في حق الوالدين، ولا يلزم من النهي عنهما والحال ما ذكر أن يكونا من الكبائر.
ثم ذكر البلقينى مسألة مخالفة الأمر والنهي فيما يدخل الخوف على الوالد،
ومسألة السفر وليس من موضوع بحثنا، وقد بحث ابن حجر بعد إيراد هذه الفتوى
في الضابط، وعنده أن المدار في العقوق على ما يتأذى به أحد الوالدين تأذيًا ليس
بالهين عرفًا، وإن لم يكن محرمًا لو فعله مع غيره قال: (كأن يلقاه فيقطب في
وجهه أو يقدم عليه في ملأ فلا يقوم ولا يعبأ به، ونحو ذلك، مما يقضي أهل
العقل والمروءة من أهل العرف بأنه مؤذٍ تأذيًا عظيمًا) .
وقال الغزالي في الإحياء: (وجملة عقوقهما أن يقسما عليه في حق فلا يبر
قسمهما وأن يسألاه حاجة فلا يعطيهما وأن يسباه فيضربهما) وهو قد نقل ذلك عن
(القوت) لأبي طالب المكي.
أقول: لا شك إن إيذاء الوالدين محرم، ولكن ليس كل إيذاء عقوقًا، وإنما
العقوق هو الإيذاء الشديد، وهو يختلف باختلاف العرف، عرف العقلاء وأصحاب
الذوق السليم والمعرفة بآداب الشرع وأحكامه، وإلا فإن من الوالدين من يؤذيه اتباع
ولده للحق ومخالفته لهواه الباطل؛ ولذلك قالوا: إنه لا يجب على الولد أن يطلق
امرأته امتثالاً لأمر أحد والديه، وإن مخالفتهما في مثل هذا لا تعد عقوقًا، ومثل
ذلك مخالفتهما في كل ما فيه مصلحة له وفي تركه مضرة، نعم إن من البر المحمول
أن يؤثر سرورهما على سروره عند التعارض، لا سيما إذا كانا معتدلي الأخلاق
سليمي الفطرة.
وههنا مسألة مهمة لا بد من الإلمام بها في هذا المقام لإيضاح الحق في
الواقعة المسؤول عنها، وهي أن كثيرًا من الوالدين يستبدون في أولادهم استبدادًا أشد
من استبداد الملوك الظالمين في رعيتهم حتى يعيش الولد معهما في غم دائم ونكد
لازم، والسبب في هذا الاستبداد الذي يكاد يكون منافيًا للفطرة البشرية في الوالدين
هو الاعتقاد بأن لهما حقوقًا عظيمة على الولد توجب عليه أن يخضع لكل ما يريدان،
وأن لا يكون له معهما إرادة ولا رأي ولا ملك، وإن صار أوسع منهما علمًا
وأجود رأيًا وأكبر فضلاً. فهما ينظران إليه في شبابه أو كهولته كما كانا ينظران إليه
في حداثته.
يقع هذا من الأم قليلاً ومن الأب كثيرًا، لا سيما إذا كان من أصحاب المال أو
الجاه فإنه حينئذ يغلب عليه الشعور بعزة سيادة الوالدية وعزة الغنى والرفعة جميعًا،
ويلذ له أن يرى ولده مفتقرًا إليه عاجزًا عن الاستقلال بنفسه، وذلك منتهى الجهل
وفساد الفطرة وغاية الإسراف في الاستبداد، وهو العلة لما ترى عليه أبناء الأغنياء
والكبراء الجاهلين من العجز عن كسب الثروة وعن حفظ ما يرثون منها والسبب في
إسرافهم في كل أمر.
أما الآباء العقلاء فهم الذين يعينون أولادهم على برهم ويربونهم على
الاستقلال بأنفسهم؛ لأنهم يعلمون أن هذا الاستقلال خير لهم من المال والعقار ومن
الجاه والأنصار؛ لأن عدمه يذهب بكل شيء موروث، وهو الذي ينال به كل خير
معدوم، ومن التربية على الاستقلال أن يعطي الغني ولده شيئًا من ماله وعقاره في
حياته يستغله ويتمتع بثمرته تحت نظر الوالد وإرشاده، ولذلك فوائد كثيرة لا محل
هنا لشرحها.
وقد رأيت بعض الشيوخ المدبرين في طرابلس الشام يقسم بين أولاده كل ما
يملكه، ويمسك لنفسه ما لا بد له منه، ويقول: لو أمسكت عنهم لتمنوا موتي
ليتمتعوا بما في يدي، أما الآن فهم يحبونني ويتمنون أن تطول حياتي. وقد رأينا
بأعيننا هذا القول فيهم، وكان محمد باشا المحمد أغنى أهل بلادنا (لواء طرابلس
الشام) وأعقلهم، وقد قسم جميع ما يملك بينه وبين أولاده في حياته بالمساواة؛
ليعودهم على الإدارة والاستغلال، ويربيهم على العز والاستقلال.
وما يؤثر عن القدماء في تأييد هذا ما قاله الأحنف بن قيس لمعاوية وناهيك
بعقل الأحنف وحكمته، قال يزيد: أرسل معاوية إلى الأحنف بن قيس، فلما صار
إليه قال: يا أبا بحر ما تقول في الولد؟ قال: يا أمير المؤمنين أولادنا ثمار قلوبنا،
وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، وبهم نصول على كل
جليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحوك ودهم، ويحْبوك
جهدهم، ولا تكن عليهم ثقلاً ثقيلاً فيملوا حياتك، ويودوا وفاتك، ويكرهوا قربك.
هذا وإنما زدت في جواب هذا السؤال عما سئلت عنه؛ لأنه يثقل على أن
أفتي الابن بأن له أن يأخذ حقه من أبيه كما أفتى الفقهاء، ولا أصِل ذلك بما أرجو
أن يكون سببًا في البر والصلة وتنبيه عاطفة الرحمة والشفقة في قلب الوالد لعله يتم
فضله على ولده بتسليمه ما اشتراه له من قبل؛ ليكون قرة عين له ومحبًا لطول
بقائه ومعينًا على بره وشكره، وأنصح للولد أن يبالغ في استعطاف والده
واسترضائه حتى تطيب نفسه بذلك، وأذكر الوالد بعد ما تقدم كله بما رواه أبو
الشيخ في كتاب (الثواب) من حديث علي وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (رحم الله والدًا أعان ولده على بره) فإن هذا الحديث من الأدعية التي
ترشد إلى الحكمة السامية، وإن كان في سنده مقال، ورواه الفوقاني من رواية
الشعبي مرسلاً كما في شرح الإحياء والله الموفق.
***
السفر بالزوجة
وحال المصريين في السودان
(س 32) من أمين أفندي محمد الشباسي في سواكن: إننا مستخدمي حكومة
السودان أكثرنا يترك زوجته ويسافر بدونها؛ لعدم رغبتها في السفر بصحبة الزوج
محتجة بأن الشرع الشريف لا يجيز نقل الزوجة إلى بلد آخر، فيقع الرجال في أحد
أمرين: إما التزوج بالسودانيات اللاتي لا يحصن فروجهن، وإما إتيان ما حرم الله،
وكلاهما صعب. فهل يوجد نص شرعي في الكتاب والسنة على حقيقة ما يدعي
نساؤنا أم هن يعملن بحكم العادة؟ وإذا طلب أحد من المحكمة الشرعية إلزام زوجته
بالسفر معه فماذا يكون الحكم؟ وإنني أتذكر آية شريفة، وهي قوله تعالى:
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} (الطلاق: 6) ولا يخفاكم أن وسائل الراحة متوفرة
في السودان للغاية، وأن الإنسان ليتكبد خسائر جسيمة لعدم وجود أهله معه. اهـ.
بتصرف) .
(ج) السبب الحقيقي لعدم رضاء النساء بالسفر مع أزواجهم هو فساد
التربية وقلة الدين أو كراهية الزوج لسوء معاملته، ولا يوجد نص في الكتاب أو
السنة يبيح للمرأة عصيان زوجها في مثل هذا السفر الذي لا ضرر فيه ولا ضرار،
بل الكتاب والسنة يوجبان على المرأة طاعة زوجها بالمعروف.
ومعاذ الله أن تبيح الشريعة هذا الخلل الذي يخرب البيوت ويفرق بين المرء
وزوجه ويرهقه من أمره عسرًا، نعم إنها تحرم على الرجل أن يضارَّ المرأة بسفر
أو غيره ليضيق عليها، وإذا ثبت ذلك عند الحاكم فله أن يمنعه، وفي هذه الصورة
يجب على الحاكم أن يلزم المرأة بطاعة زوجها، وأما المحاكم الشرعية في هذه
البلاد فلا نبحث عن أحكامها في باب الفتوى؛ لأن غرضنا من هذا الباب بيان أن
أحكام الشريعة توافق مصالح البشر في كل مكان وزمان، وأنها قائمة على أساس
العدل والإحسان، وأن ما يسمع عنها أو يرى من أهلها مخالفًا لذلك فهو بعيد عنها
وهي بريئة منه.
***
رمي المسلم بالكفر
(س33) من الشيخ عبد الله الحضري بسنغافوره:
ما قول سادتنا العلماء الأعلام - أنار الله بهم الإسلام - فيمن سب مسلمًا بما
لفظه: مَنْ أنت وَمَنْ تكون يا كافر يا ملعون يا عدو الله ورسوله يا يهودي يا نصراني
يا خنزير يا كلب، ثم عقَّب بعد السب بقوله: ما قدرك إلا الضرب بالنعال. وتكرر
منه القول عمدًا بحضور الجم الغفير حال كونه صحيح العقل والبدن. فما الحكم على
قائل هذا القول الشنيع؟ فهل يرد عليه قوله ويصير به كافرًا مرتدًّا والعياذ بالله أم لا.
فإن قلتم بكفره وردته لحديث (من قال لمسلم يا كافر فقد باء بها) فهل تطلق زوجته
ويستباح ماله ودمه إن لم يتب ويرجع للإسلام؟ وإن قلتم بعدم كفره وردته فما الحكم
عليه في حق أخيه المسلم إن لم يسامحه ويعفو عنه، وكان جواب الثاني للبادئ مستندًا
للحديث (من قال لمسلم يا كافر فقد باء بها) إلى آخر الحديث: ليس أنا بكافر ولا
ملعون ولا عدو لله ورسوله ولا نصراني ولا يهودي، إلى آخره - أفتونا مأجورين،
إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(ج) الظاهر أن هذا السابَّ لم يقصد بما نبز به إلا الإهانة وهو لا يكفر
بذلك بل عليه التعزير، وهذا من المحرمات يجب عليه التوبة منه واستحلال من
سبه، أما الحديث الذي ذكر في السؤال فقد أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عمر
بلفظ (أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا
رجعت إليه) وفيه روايات أخرى عنده وعند البخاري وغيرها، قال النووي في
شرح مسلم:
(هذا الحديث مما عدَّه بعض العلماء مشكلاً من المشكلات من حيث ظاهره
من حيث إن ظاهره غير مراد، وذلك أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر المؤمن
بالمعاصي كالقتل والزنا، وكذا قوله لأخيه (كافر) من غير اعتقاد بطلان دين
الإسلام، وإذا عرف ما ذكرناه فقيل في تأويل الحديث أوجه) ثم ذكرها وهي
خمسة:
(1) أحدها أنه محمول على المستحل.
(2) أن معناه رجعت نقيصته عليه يعني أنه أراد أن ينقص أخاه فكان هو
الناقص بقوله السوء.
(3) أنه محمول على الخوارج الذين يكفرون المسلمين، وردَّه النووي.
(4) أن ذلك يأول به إلى الكفر على حد قولهم: المعاصي بريد إلى الكفر.
(5) أن معناه فقد رجع عليه تكفيره (قال) : فليس الراجع حقيقة الكفر بل
التكفير لكونه جعل أخاه المؤمن كافرًا فكأنه كفَّر نفسه إما لأنه كفر من هو مثله وإما
لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام، أقول: والذي حقَّقه
الغزالي ويدل عليه أول كلام النووي وهو ما لا خلاف فيه عند العارفين أنه إنما
يكفر بذلك إذا كان قصده أن ما عليه المسلم من الإسلام كفر وهو لا يقصد هذا إلا إذا
كان يعتقد بطلان دين الإسلام.
__________(9/619)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
المكتوب التاسع من (أميل) إلى أبيه
الاستقلال في العلم، فلسفة الخلق والتكوين والاجتماع والمدنية، والاعتماد
على العقل دون الخطابة، حب الوطن. هيدلبرغ في 18 يناير سنة 1860.
غادرت مدينة (بن) ونقلت كتبي (وهي كل ما أملكه تقريبًا) إلى مدينة
(هيدلبرغ) ، ومن نظام مدارس الجامعة في ألمانيا أنه يجوز لطلبتها مطلقًا أن ينتقلوا
من إحداها إلى الأخرى من غير أن يكون في ذلك ضياع لحقوقهم فيما نالوه من
الدرجات، على أن هذا التنقل يُمَكِّن الطلبة من الاختلاف إلى دروس أنبغ الأساتذة
وأشهرهم في كل من فروع العلوم البشرية.
إني إخالني تعلمت كثيرًا من دروس هؤلاء الأساتذة المفيدة ولكني كل يوم
أتبين أن تعليم المدارس بجملته لا يمكن أن يقوم لطالب الحق مقام علمه الذاتي الذي
يجري فيه على ما ترشده إليه سريرته.
أرى مذهبين يتنازعان عقول البشر أعثر عليهما أينما وجهت فكري فأجدهما
في العلم والحكمة والدين والسياسة، ومقتضى المذهب الأول أن العالم خلق مقسورًا:
أي أن كل ما فيه خصص بإرادة أزلية، وأن صور الحياة في الكائنات الحية ثابتة
لا تتغير؛ فتندمج الأصول بعضها في بعض وتنتج الفروع ناقلة مخصصات كل
نوع من مثال أزلي له، ومقتضى المذهب الثاني أنه وجد مختارًا بمعنى أن الكائنات
لم توجد من العدم بل استحالت من طور إلى طور، وأن القوى لم تسبق في الوجود
بل نمت، وأن الأنواع النباتية والمعدنية (هكذا في الأصل ولعل صوابه والحيوانية)
مستمرة البقاء غير أنها تتغير وترتقي على مقتضى نواميس طبيعية.
وإذا انتقلت من العلم إلى التاريخ وجدت الخلاف بعينه في آراء الناس، فيرى
بعضهم أن التمدن قديم وجد مع الإنسان: يعني أن الاجتماع أوجدته قدرة أعلى من
قدرة البشر، وأن أي أمة ليس لها أن تختار قوانينها وأوضاعها، وأن للحكومة مُثُلاً
لا تحيد عنها الأمم حتى تسقط في مهاوي الفوضى، ويرى بعض آخر خلافًا
للأولين أن الإنسان نشأ متوحشًا؛ أي: أنه كان قردًا متقنُ الخلقةِ فَفَرَّ من بين
الحيوانات وأنشأ على التعاقب قوانينه ومعايشه ومكانته في البرية بعد أن خلق نفسه
إن صح التعبير على هذا النحو، وأن الأمم قد مرت في أطوار نموها ببدايا أوضاع لم
تلبث أن باعدتها بتأثير الترقي الذي لا رادَّ له، فكما أن الأرض كانت بنفسها يكون
الإنسان بنفسه، ويؤلف مجتمعه بقواه الذاتية.
وإذا رجعت إلى الديانات وصدقت أقوال مؤوليها كانت كلها مُوحَاة من الله،
فإذا سألت خصومهم عن رأيهم فيها قالوا: إنها أمور طبيعية تدخل في قوانين إدراك
الإنسان المألوفة.
وكم يكون التباين أشد ومسافة الخُلْف أوسع إذا سألت أهل وطني عن آرائهم
في الأمور السياسية، وقد استخلصت من اختلاف طرق النظر هذه نتيجة، هي أني
مع بحثي في أفكار غيري وآرائه لا ينبغي لي أن أعول إلا على شهادة عقلي،
وسريرتي هذه هي السبيل التي صممت على سلوكها، وهي التي أوضحتها لي أنت
أيضًا، ويبعد كل البعد أن تكون هذه الضرورة الملجئة لي إلى الحكم بنفسي على
الأمور مدعاة إلى الكبر والصلف بل إنها تبعث في نفسي الذلة والاستكانة؛ لأني
أكون مضطرًا في كل وقت إلى الاعتراف لنفسي بأني لا أعرف شيئًا، وأنه يجب
عليَّ أن أتذرع بالإقدام وأن أوسع نطاق معارفي وأختلس من النظر في الحوادث
مقدمات اقتناعي، وأما البراهين الخطابية التي كنت أعتقد في ساعة من الساعات
أني أدرك بها ما لا حدَّ له من العوالم فقد تبين لي أنها شبيهة بتلك الأصداف
التي يتناقلها الأطفال في أيديهم ويضعونها على آذانهم متخيلين أنهم يسمعون فيها
اصطخاب البحر.
على أني لا أدرس وأبحث من أجل أن أكون عالمًا. فكل ما ينتهي إليه طمعي
ينحصر في فهم حاجات العصر الذي أعيش فيه والأخذ بناصر الحق، وهيهات أن
أنسى بلادي أو أعيش غير مبالٍ بمجاهداتها، فإني وإن ولدت في بلاد أجنبية أجد
فرنسا حيثما نظرت فإنها تبدو لي في انتصارها الكثير الذي انتشر في أرجاء الدنيا،
وأراها حتى في مصائبها التي نزلت بها عقابًا لرجل من رجالها على تغطرسه
وتجبره، هذا الوطن الذي ما رأيته في حياتي هو في نسبته إلى أمي الثانية فَلا
يُذْكَرُ إلا وَيَتََسعر جِلدي لذكره، ولا يُنْتَقَصُ إلا ويَتَبَيَّغ دمي كله انتقامًا له، وليس
الذي يبهرني منه هو غزواته ووقائعه الحربية، وإنما هو تاريخ مكافحاته ووثباته
الباسلة في طريق الحرية، وإني أحب مفكريه الذين يعملون فيه وهم يضحكون
وأعجب بكُتَّابه الذين يهيجون القلوب وهم لنور العلم يبثون، فأنا من صميم قلبي
ملك له، وبما في نفسي من الأمل في خدمته يومًا ما تجدني مغتبطًا ومعتزًّا
بالانتساب إليك. اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(9/626)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
(طبعة الرافعي للقرآن الشريف)
طبع الشيخ محمد سعيد الرافعي صاحب المكتبة الأزهرية في مصر المصحف
الشريف طبعة لطيفة، تمتاز على جميع طبعات المصاحف بتفسير الألفاظ الغريبة
على هوامش الصفحات وَبِعَدِّ الآيات الكريمة بالأرقام على لطف حجمها وحسن
حروفها، وإننا نعتمد عليها في بيان عدد الآيات في المنار، إلا أننا نذكر العدد في
أول الآية وهي في هذا المصحف في آخرها، وهو يُطْلَب من طابعه في تلك
المكتبة، فجزاه الله خيرًا.
***
(قصيدة حفني بك ناصف في قنا)
حفني بك ناصف شهير بعلمه وأدبه، وقد نظم هذه القصيدة عندما عين
قاضيًا في محكمة قنا الأهلية، وهي من أبدع ما نظم في الذم بمعرض المدح وإظهار
السخط بمظهر الرضا، قال مخاطبًا للمستشار القضائي أو لناظر الحقانية:
رقيتني حسًّا ومعنى ... فلصنعك الشكر المثنى
وجعلت رأس الحاسدين ... بمصر من قدميَّ أدنى
وجعلت سدة منزلي ... من أسقف الهرمين أسنى
أسكنتني في بقعة ... فيها غدوت أعز شأنا
أرد المشارع سابقًا ... والسبق عند الورد أهنا
وأزور آثار الملو ... ك وكنت قبلُ بها معنًّى
بلد إذا حلت به ... قدماك قلت حللت حصنا
جبل المقطم حوله ... متعطف كالنون حسنا
هيهات أن يصل العدو ... له ويدرك ما تمنى
أرأيت يومًا مثله ... في القطر تحصينًا وأمنًا
النبت في غيطانه ... متقدم غرسًا ومجنى
والشيء يعظم حجمه ... في جوِّه ويزيد وزنًا
فالسدر كالرمان والـ ... ـجميز كالبيض المحنى
والدوم فيه دائم ... يفنى الزمان وليس يفنى
... فخاره ... لهج الأنا ... م بمدحه يُسرى ويُمنى
يكفي لترويج الأو ... اني أن يقال (قنا) فتقنى
قالوا شخصت إلى (قنا) ... يا مرحبًا بقنا و (إسنا)
قالوا سكنت السفح قلـ ... ـت: وحبذا بالسفح سكنى
قالوا (قنا) حر فقلـ ... ـت: وهل يرد الحر قنا
سرُّ الحياة حرارة ... لولاه ما طير تغنى
كلا ولا زهر تبسم ... لا ولا غصن تثنى
والحي بدء حياته ... بعد التزام البيض حضنا
تتدفق الأنهار من ... حر وتزجي الريح مزنا
ها قد أمنت البرد والـ ... ـبرداء والقلب اطمأنا
ووقيت أمراض الرطو ... بة واستراق الريح وهنا
ألقى الهواء فلا أها ... ب لقاءه ظهرًا وبطنا
وأنام غير مدثر ... شيئا إذا ما الليل جنا
قد خفَّت النفقات إذ ... لا أشتري صوفًا وقطنا
وفَّرت من ثمن الوقود ... النصف أو نصفًا وثُمنا
فالشمس تكفل راحتي ... فكأنها أمي وأحنى
فإذا بدت لي حاجة ... في الغسل ألقى الماء سخنا
أو رمت طبخًا أو علا ... ج الخبز ألقى الجو فرنا
سكنى القرى تدع السفيه موكلاً بالمال مضنى
أي الملاهي فيه يصر ... ف ماله ومتى وأنى
كل امرئ تلقاه من ... بعد الظهيرة مستكنا
... ويرى الغريب السعر أيسـ ـر حالة وأخف غبنا
يجد الحليب بعينه ... لبنًا ويلقى السمن سمنا
عش في القرى رأسًا ولا ... تسكن مع الأذناب مدنا
واربأ بنفسك أن ترى ... مستمرئًا في العيش جبنا
ودع الجزيرة والمها ... والجسر والظبي الأغنا
واسلُ الأغاني والغوا ... ني واسأل الرحمن عدنا
***
(طبقات الشافعية الكبرى)
طبقات الشافعية الكبرى للشيخ تاج الدين السبكي صاحب (جمع الجوامع)
شهيرة وكنت رأيت نسخة منها في طرابلس الشام فأعجبت بها وتمنيت لو تطبع،
فلما جئت مصر وجدت نسختين منها في دار الكتب المصرية، يظهر أن إحداهما
منقولة عن الأخرى؛ لأنهما متساويتان في التحريف، ولو وجدت نسخة صحيحة
منها لطبعتها، وقد طبعت في هذا العام بمصر على نفقة الشريف أحمد بن عبد الكريم
القادري الحسني المغربي الفاسي عن نسخة أصح من النسخ التي اطلعت عليها، على
أنها لا تسلم من تحريف لا يقف في طريق الاستفادة منها.
طريقة السبكي في هذه الطبقات أن يذكر ما يؤثر عن المترجَمين من غريب
العلم والرواية وشوارد الفوائد والمناظرات مع المعاصرين ورقائق الأشعار، وأن
يبسط كثيرًا من المسائل المهمة أو المشكلة علي سبيل الاستطراد، فطبقاته أسفار
تاريخ وحديث وكلام وفقه وأدب والكلام فيها شجون، طبعت في ستة أجزاء، تزيد
صفحات المجلد منها على 300 صفحة أو تنقص قليلاً، وثمنها خمسون قرشًا،
ويطلب من محل الحاج محمد الساسي في القاهرة.
***
(مقامات بديع الزمان الهمذاني)
مقامات البديع أشهر من نار على علم، وهي أحسن من مقامات الحريري
أسلوبًا؛ فهي مفيدة في طبع ملكة الإنشاء العربي في نفوس المتأدبين. وأسلوب
الحريري ليس بعربي فهو لا يُحتذى في الكتاب وإن كان قد بلغ الغاية في إتقان
الصنعة أو إتقان التكلف كما يقول الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى.
وقد طبع مقامات البديع في هذه الأيام محمد أفندي محمود الرافعي طبعة
مشكولة، وعلَّق عليها شرحًا وجيزًا معظمه في تفسير الغريب، ولا بد أن يكون
استعان على ذلك بشرح الأستاذ الإمام، إذًا يكون شرحه أقرب للثقة به، ولم يتح لنا
مطالعة شيء منه، وثمن النسخة أربعة قروش.
***
(أحسن ما سمعت)
ينسب إلى أبي منصور الثعالبي ديوان من مقاطيع الشعر قال: إنه أحسن ما
سمع من مختاره، وقد قرأنا طائفة من ذلك فإذا هي لا تصل إلى مرتبة الوسط مما
سمعنا، وأين نحن من صاحب اليتيمة في سماعه واطلاعه، فالغالب على الظن أن
هذا الديوان من وضع مثل ابن حجة الحموي، على أن ما فيه من الشعر يعجب أكثر
القراء في هذا العصر، فهو مما يرجى رواجه، وقد طبعه محمد أفندي محمود
الخادم مدير مطبعة الجمهور ومحمد أفندي حسن إسحاق، مع شرح وجيز لبعض
أبياته علقه عليه محمد أفندي صادق عنبر، وجعل له مقدمة حسنة الديباجة، ذكر
فيه من محاسن اللغة، وشنَّع على أهلها ووصف تقصيرهم في خدمتها، وقال:
لولا أن منهم فَذَّيْنِ أَلْمَعِيَّيْنِ عاملينِ على إحيائها لأوشكت اللغة أن تقع فيما نخاف،
وقال: إنه يعني بهذين الفذين الشيخ إبراهيم اليازجي والشيخ محمد المهدي مدرس
العلوم العربية في دار العلوم (أي مدرسة المعلمين بالناصرية) وقد أطراهما
بالألقاب، ونحن لا ننكر أن كلا من الرجلين يخدم اللغة: اليازجي بما ينتقد به
الجرائد والمصنفات ويبيَّن ما فيها من الدخيل، والمهدي بتخريج معلمي المدارس
الأميرية وطبع الملكات الصحيحة في نفوسهم، وهم العمدة في إحياء اللغة في هذه
البلاد، ولكننا لا نوافق الكاتب على الشكوى من الخطر على اللغة وعلى حصر
إحيائها في هذين العالمين، فإن في مصر وسوريا وغيرهما من الأقطار كثيرًا من
العلماء والكتاب العاملين لإحياء اللغة العربية بالكتاب والنقد والتعليم، أما إمام
النهضة في هذه الديار فالسيد جمال الدين والأستاذ الإمام رحمهما الله تعالى، فالسيد
هو أرشد الأستاذ وغيره إلى الخروج باللغة من المضيق الذي جعلها الأزهر فيه،
وكان من عمل الأستاذ ومساعديه في المطبوعات والأزهر وغيرهما ما أشرنا إليه
في ترجمته وشرحناه في تاريخه الذي يطبع الآن.
***
(الديانة الإسلامية. للمكاتب الأميرية)
كتاب وضعه الشيخ أحمد إبراهيم المصري المدرس بالمكاتب الأميرية (وهو
غير الشيخ أحمد إبراهيم الشهير مدرس الشريعة بمدرسة الحقوق الخديوية) موافقًا
لما يدرس في السنين الثانية والثالثة والرابعة بتلك الكتاتيب، وقد نظرت في بعض
صفحاته عند كتابة هذه السطور فإذا هو مشتمل على مسائل من العقائد والأحكام
وعلى كثير من الوصايا والحكم والأحاديث والحكايات الأدبية وقصص الأنبياء
عليهم السلام، وقرأت منه جملاً متفرقة فرأيت ما ينتقد في كثير من الأبواب،
ورأيته في أول الكتاب يعرف الدين الإسلامي بأنه فعل ما أمر الله به وترك ما نهى
عنه، وهذا التعريف لا يشتمل العقائد التي هي أساس الدين. ويعرف الإيمان بأنه
التصديق بما جاء به النبي من الأحكام الشرعية، وهو أيضًا لا يشتمل العقائد
وأخبار الأنبياء وغيرهم؛ لأنها لا تسمى أحكامًا، وهو قد انفرد بهذين التعريفين
وهما منتقدان من وجوه أخرى فلا يعذر فيها كما لا يعذر بالاكتفاء في قسم الإلهيات
من العقائد بعدِّ الصفات العشرين ونحو ذلك، وما ذكره من مختصر قصص الأنبياء
فيه ما لا يصح، وقد أخذه من القصص المتداولة، فسعى أن يعنى بتنقيح الكتاب عند
طبعه مرة أخرى.
***
(ديوان الرافعي)
قد صار مصطفى صادق أفندي الرافعي من شعراء العصر المشهورين، له على حداثة سنه ديوان كبير طبع في هذه الأيام الجزء الثالث منه فكان نحو 150
صفحة، وقال: إن هذا الجزء تمام الديوان، فهو سيسمي سائر شعره باسم آخر أو
أسماء أخرى، وقد جعل لهذا الجزء مقدمة في نقد الشعر سلك فيها مسلك الخيال
والفلسفة، فأتى فيها بعبارات رائعة ونكت دقيقة وحلق بعبارات أخرى في جو الخيال
حتى جاوز مسرح النظر، فلم يدرك غايته ولم يهتد إلى مراده، وسنبين قيمة هذا
الجزء بنقل شيء منه كما فعلنا في تقريظ ما قبله، فعرض الموصوف على القارئ
أبلغ في التعريف من عرض وصفه، وثمن هذا الجزء وحده خمسة قروش وأجرة
البريد قرش واحد وثمن الثلاثة الأجزاء عشرون قرشًا، وهي تطلب من مكتبة المنار
وغيرها.
***
(غرائب الاتفاق)
غرائب الاتفاق قصة طويلة تدخل في ثلاثة أجزاء، بنيت حوادثها على
المصادفات الغريبة التي لا تكاد تقع، ولكن حسن البناء يقربها من الأذهان، حتى
لا تخرجها من دائرة الإمكان، وأنفع ما فيها للقارئ تصوير الوفاء بأجمل صوره
وأكمل مظاهره، والصداقة في أبهى مرائيها، وأبدع مجاليها، وذلك بَيِّنٌ ظاهر فيما
كان بين يوشع وفيليب منذ تعارفا إلى أن ماتا، وفيها شيء آخر خفي ينبغي أن
يُنبه عليه وهو سوء عاقبة المحتالين والخائنين وحسن عاقبة أهل الاستقامة والصدق،
وفيها من الأفكار الضارة ما لا تخلو القصص من مثله: كذكر الخيانة والفسق
والحيل. القصة إفرنجية الأصل، وقد نقلها إلى العربية فقيد النظم والنثر والقصص
شاكر شقير اللبناني، وطبعت في مطبعة المعارف الشهيرة بالإتقان، وهي تطلب
من مكتبتها، وثمن الأجزاء الثلاثة عشرون قرشًا.
***
(كرة الثلج)
هي القصة الثالثة للسنة الثانية من سني (الروايات الشهرية) التي يصدرها
يعقوب أفندي جمال، مؤلفها إسكندر دوماس الشهير ومترجمها حنا أفندي أسعد
فهمي، وقد بين بها المؤلف شيئًا من أحوال التتر المسلمين وعاداتهم وتقاليدهم في
داغستان أو اعتقاده وتخيلاته فيهم، وثمنها خمسة قروش.
***
(عذراء دنشواي)
قصة يعرف موضوعها من اسمها، واضعها محمود طاهر أفندي حقي، وقد
نشرت في جريدة المنبر المصرية، وهي تشرح بعض أحوال الفلاحين في أرياف
مصر، وتمثل أفكارهم في محاوراتهم بلغتهم العامية، وثمن النسخة منها أربعة
قروش، وتطلب من المكاتب الشهيرة.
***
(الدين والأدب)
مجلة إسلامية أنشأها بقزان (روسيا) في أوائل هذا العام (ملا عالم جان
البارودي) العالم الشهير بغيرته وبخدمته للإسلام في مدرسته وجريدته، وهو يفتتح
كل عدد من هذه المجلة بتفسير آيات من القرآن المجيد بالترتيب كما نفعل، ويذكر
فيه شيئًا من الشمائل الشريفة ومباحث التربية والتعليم وغير ذلك من المسائل النافعة،
فنسأله تعالى أن ينجح عمله ويديم النفع به.
***
(النبراس)
(مجلة علمية أدبية تاريخية فكاهية تصدر في كل شهر مرة لصاحبها ومدير
تحريرها أحمد (أفندي) شاكر، صدر العدد الأول منها 12 رجب الموافق لأول
سبتمبر، وفيه بعد الفاتحة نبذة في تاريخ المدارس في الإسلام ونبذة في الكتابة
والورق وأخرى في تاريخ محمد علي جد الأسرة الخديوية بمصر، ومسائل شتى لم
نجد وقتًا يتيح لنا قراءة شيء منها، والعدد منها مؤلف من ست عشرة صفحة وقيمة
الاشتراك فيها عن سنة واحدة 15 قرشًا في مصر وخمسة فرنكات ونصف في
غيرها، فنتمنى لها النجاح والتوفيق.
***
(الكوثر)
(مجلة علمية مدرسية منزلية لمنشئها ومحررها محمد شفيق (أفندي) مدرس
بمدرسة والدة عباس باشا الأول) ، صدر العدد الأول منها في أول أكتوبر (13
شعبان) ولم يبين فيه موعد صدور المجلة وهو مؤلف من 24 صفحة نصفها
عربي والنصف الآخر إنكليزي. وفي الورقة الأولى صورة أمير البلاد وعبارة في
(تقدمتها) لأعتابه، فنتمنى لها التوفيق والنجاح.
***
(المزعج)
جريدة أسبوعية سياسية أدبية قضائية يصدرها في تونس أحد كتابها الباحثين
في شؤون الإصلاح محمد بن عمران، وجعل عنايته بالبحث في طريق التعليم في
الجامع الأعظم (جامع الزيتونة) والظاهر أن كتابته في ذلك أزعجت القوم إلى
المقاومة، فنسأل الله أن يوفق الجميع لما فيه صلاح الأمة وكشف ما غشيها من
الغمة.
__________(9/629)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(رأي في الصيام والسياسة)
ينقسم المسلمون إلى قسمين: فمنهم مسلمون صادقون وهم العارفون بالإسلام
المذعنون له، وهم الذين يحافظون على الفرائض ويجتنبون كبائر الإثم والفواحش
إلا اللمم، وإذا مسهم طائف من الشيطان فتركوا فرضًا أو أصابوا ذنبًا ذكروا الله
فاستغفروا لذنبهم، وأنابوا إلى ربهم. ومسلمون جنسيون أو جغرافيون وهم أصناف،
نخص بالذكر منهم الذين لا يعرفون حقيقة الإسلام، ولا يذعنون لما عرفوه منه،
فهم لا يصلون ولا يزكون ولا يصومون ولا يجتنبون ما يأمر به الهوى من المعاصي
ولكنهم يتعصبون للإسلام بالكلام فيمدحونه ويدافعون عنه بالحق وبالباطل، لا
يدخرون في ذلك وسعًا، لا سيما إذا كانوا من أهل الخوض في السياسة والحظوة
عند الحكام، وقد يبلغ التحمس بالرجل منهم حتى يظن السامعون أو القارئون لكلامه
أنه من أقوى الناس إيمانًا وأصدقهم إسلامًا، وهؤلاء جديرون بأن يسموا بالمسلمين
السياسيين، وإليهم نوجه الكلام فنقول:
إذا كنتم لا تتركون الإسلام من حيث هو دين شرع لتطهير النفوس وترقية
الأرواح وإعدادها بالتهذيب في الدنيا لسعادة الآخرة، ورأيتم أنه لا بد من المحافظة
عليه من حيث هو جنسية لاستبقاء الأمة التي هي قوام سياستكم - أفترون أن هذه
المحافظة تتفق مع ذلك الترك الذي عم العقائد الخفية والآداب الاجتماعية والشعائر
الملية؟ ألا تعلمون أن المحافظة على الشعائر الظاهرة هي آخر ما يزول من
مقومات الأمم وحوافظ وجودها؟ فإذا كنتم تهدمون الشعائر الظاهرة حتى الصيام
فتفطرون في رمضان جهرًا تدخنون في النهار، بل تُنصب لكم الموائد بعد الظهر
فتأكلون عليها مع أهلكم وأولادكم، فماذا أبقيتم من المقومات لهذه الجنسية السياسية؟
إن كنتم تظنون أن وضع (الفقي) في حجرة الخدم لتلاوة القرآن في الليل كافيًا
لحفظ هذه الجنسية، فإننا نقطع بأن هذا الظن من الإثم، وأنكم لستم فيه على بينة
ولا علم، فعليكم أن تفكروا في هذا المذهب في الجنسية، هل هو مؤد إلى غايتكم
السياسية، فإن رأيتم بعد التفكر - ولا بد أن تروا - أنه غير مؤد إلى هذه الغاية
فارجعوا عنه إلى ما يتبين لكم أنه خير منه.
هذا الفريق من المسلمين السياسيين يتبعون في جنسيتهم الدينية ملوكهم
وأمراءهم , ولكن الملوك والأمراء لا يتركون الشعائر الملية المعلومة من الدين
بالضرورة جهارًا بل يؤدونها ويزيدون عليها شعائر أخرى ليست من الدين،
كالاحتفال بليالي المولد والمعراج ونصف شعبان. ومن كان منهم لا يصوم رمضان
يُسِر فطره ويرائي بالصيام، فهذه المجاهرة بالفطر في نهار رمضان ممن لهم مكانة
في الأمة إفساد في الدين والدنيا , وإفساد في السياسة والاجتماع، فإن هذه الأمة لا
جنسية لها في غير دينها، فإذا أفسده هؤلاء على العامة تعذر عليهم وعلى غيرهم
من الخاصة استبدال رابطة جنسية أخرى به في زمن قريب، وهل تمهلها الأمم القوية
لتجد هذه الرابطة - إذا أمكن - في زمن بعيد؟
أما الذين لا يصومون من الغوغاء الذين لا رأي لهم ولا فكر في أمر الاجتماع
فلا كلام لنا معهم؛ لأنهم لا يقرءون , وإذا قرءوا لا يفهمون , وإذا فهموا لا
يعتبرون {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) .
لا تقل: إن المنار مازال ينكر كون الإسلام جنسية ويقول: إن اتخاذه جنسية لا
ينجي صاحبه عند الله تعالى، فما باله اليوم يرضى بهذه الجنسية ويأمر
المسلمين - سياسة - أن يراءوا بالمحافظة على الشعائر في الظاهر وإن كفروا بها
في الباطن. إنك إن تقل هذا أجبك: إن الإسلام قد شُرِعَ للناس ليكون وسيلة إلى
سعادة الدنيا والآخرة معًا، وإنما يكون كذلك إذا أقيم على أساسه الصحيح، ومن
فوائد المحافظة على شعائره الظاهرة في الدنيا تقوية الروابط الاجتماعية، فمن أقام
الدين ظاهرًا وباطنًا فقد سلك سبيل السعادتين، ومن تركه ظاهرًا وباطنًا كان بهدمه
لركني السعادة بلاء على غيره بما يعطيه للضعفاء والأحداث من سوء القدوة ويجرئهم
على ترك الشريعة، فشره يتعدى إلى الأمة ولا يكون قاصرًا عليه. وإياه نعظ بأن
لا يكون فتنة لغيره وأقل ما تنتفي به فتنته أن يحافظ على الشعائر في الظاهر فلا
يكون من الهادمين لركني الشريعة والدين وإلا فليخرج منه بالمرة وهذا قسم ثالث.
وبقي من القسمة العقلية أن يقيم الدين في الباطن دون الظاهر بأن يوقن بعقائده
ويَتَخَلَّق بأخلاقه وآدابه، ولكن يهمل الأعمال الظاهرة والشعائر العامة كالجمعة
والجماعة وصيام رمضان والحج مع الاستطاعة، وهذا ما يدعيه أناس من أهل
العصر، ويدعون أن من الدليل على صحة إسلامهم غيرتهم على الدين وأهله
ويقولون: إنهم أقاموا الركن المعنوي من الإسلام وهو الأشرف والأنفع , وأهل
الأزهر ومن على شاكلتهم أقاموا الركن الصوري كالصلاة والصيام وهو الأدنى
والأقل فائدة بل الذي لا فائدة له في نفسه، هذا ما يقولونه، والعقل لا يسلم بأن أحدًا
يوقن بعقائد الدين ويتأدب بآدابه، ثم يترك أعماله وشعائره، فإن الإنسان قد طبع
على أن تكون أعماله أثرًا لاعتقاده ووجدانه، فلو أيقنوا بعقائد الدين واصطبغ
وجدانهم بصبغته لعملوا به، أما هذه الغيرة التي يدعونها فهي غير صحيحة
وأكثرهم غير صادق في دعْوَاه بها، ومن عساه يكون صادقًا فهو لا يغار على الدين
ولا أهله من حيث هم أهله، وإنما يغار على مصالحهم السياسية والاجتماعية؛ لأنه
من رؤسائهم أو من الراجين للزعامة فيهم، فهو لا يطلب إلا الرياسة فقط؛ ولهذا
حاولنا أن نقيم عليه الحجة بأن غرضه السياسي من الأمة لا يتم له مع هدم شعائرها
ومقوماتها الملية والاجتماعية.
وأما الذين يقيمون الشعائر الظاهرة دون الباطنة كآداب النفس والغيرة
الصحيحة التي تبعث على الدفاع عن الحقيقة، وعلى جمع الكلمة وإحياء مجد
الأمة، فلا ننكر أن إسلامهم تقليدي لا ينفعهم في الآخرة إذا لم يكن له أثر في
أرواحهم يحملهم على ما أشرنا إليه. وفائدته في الدنيا قليلة؛ لأنها لا تتجاوز العامة.
فإننا نرى الخاصة - المتدين منهم وغير المتدين - في حَنَق شديد على رجال الدين
الذين ليس لهم منه إلا التقاليد البدنية الجافة التي لا أثر لها في ترقية الأمة، وهم
لا يقولون: إن صلاتهم وإن لم تنه عن الفحشاء والمنكر وصيامهم إن لم يعدهم للتقوى
مما يضر الأمة من حيث إنه صلاة وصيام، بل يقولون: إنهم بذلك حالوا بين
الأمة وبين الترقي في العلوم والآداب والاجتماع.
هكذا تفرقت الأمة أيدي سبأ، فنالت الأمم الأخرى منها كل ما تريد , والسبب
في ذلك أنه لا يوجد فيها زعماء أقاموا ركني الدين الصوري والمعنوي أو الجسدي
والروحي، وهي لا تنهض بغير هؤلاء الرجال، وقد كان الأستاذ الإمام رحمه الله
تعالى منهم، ولكن لم تكد الأمة تعرف له ذلك حتى توفاه الله إليه، ولو طالت حياته
لرجي - وقد عرف قدره - أن ينهض بها نهضة عظيمة.
* * *
(الصيام والنساء والعامة)
لا خلاف بين العقلاء المتدينين وغير المتدينين أن المرأة أحوج إلى التربية
الدينية من الرجال، ومن يقول من الماديين: إن العلم البشري يغني عن الأدب
الديني، وأن العلم الكامل مستغن عن الدين لا يقول: إن الجاهل يستغني أيضًا عن
الدين، فجميع العقلاء متفقون على أن ترك العامة والنساء للدين من أعظم البلاء
والمصائب على البشر؛ ولذلك ترى أهل أوربا يعنون بتربية النساء تربية دينية وإن
علموهن العلوم العالية، كما يعنون بحفظ الدين على العامة، وقد علمنا من
كثيرين أن عبيد الشهوات في هذه البلاد قد حملوا نساءهم على ترك الصيام وهو
آخر ما يحافظ عليه النساء من أركان الدين وشعائره، كما أنهم صاروا قدوة سيئة
في ذلك للعامة، ولم يفطن الذين يدعون الفهم والرأي منهم إلى عاقبة ترك النساء
وغوغاء العامة للدين مع فقد العلم والتربية العقلية، وإن ظهرت بوادر ذلك في تهتك
النساء وإسرافهن، وفي خيانة الخدم والعمال والصُنَّاع وغشهم وفسادهم. ألا يوشك
أن تكون هذه الفوضى الدينية الأدبية في هذه البلاد شرًّا عليها من كل ما يعده
المتحذلقون شرًّا اجتماعيًّا أو سياسيًّا، ولكن من يتدارك ذلك والأمة ليس لها زعماء؟
وحكامها ليسوا منها ليعنوا بتربيتها وتعليمها ويلزموها بما يرفع شأنها إلزامًا؟
* * *
(المدرسة الكلية أو الجامعة المصرية)
لم يمت مشروع المدرسة الكلية بموت المنشاوي بل ولا بموت الأستاذ الإمام
الذي كان عازمًا على إنشائها في الشتاء الماضي، بل كان يتمخض في الخفاء وتعد
له عدته ليظهر في مظهر كامل، ولكن مصطفى كامل بك الغمراوي فاجأنا بفتح باب
الاكتتاب للعمل من حيث لا يدري بأن هناك سعيًا يرجى وينتظر.
أرسل إلينا هذا الأريحي الفاضل - كما أرسل إلى جميع الصحف العربية -
رسالة يذكر فيها وجه الحاجة إلى إنشاء المدرسة الجامعة وتوقفها على بذل المال،
وأنه (بادر إلى الاكتتاب بخمسمائة جنيه أفرنكي لمشروع إنشاء جامعة مصرية
عامة) بثلاثة شروط:
(أحدها) أن لا تختص بجنس أو دين.
(ثانيها) أن تكون إدارتها في السنين الأولى في أيدي جماعة يصلحون لذلك.
(ثالثها) أن يكتتب الأهالي بمبلغ لا يقل عن مائة جنيه.
وما قرأنا هذه الرسالة إلا اعترانا - مع الشكر لأريحية صاحبها - وجوم
وامتعاض شديد خوفًا من الفشل بإظهار المشروع قبل أن تعد له عدته وزاد هذا
الامتعاض نشر الجرائد لاكتتابات كبيرة كذَّبَها ثانيًا من عُزِيَتْ إليهم أولاً، ثم لم نلبث
أن انشرحنا صدرًا لما حضن المشروع سعد بك زغلول الرجل الحازم القدير، وتجدد
لنا أمل بالنجاح نسأل الله أن يحققه، وسنعود إلى الكلام في ذلك.
* * *
(الأزهر ومشيخته)
كثر الخوض منذ سنة في الأزهر ومشيخته ومجلس إدارته، وكتب في
الجرائد بعض ما يتحدث به الناس من الخلل في الإدارة، والمحاباة في الامتحان،
وشهادة العالمية، وبيع الشهادات بالدراهم , وما بين شيخ الجامع ومفتي الديار
المصرية من المغاضبة والمناصبة، ومما أشيع أن المفتي شكا شيخ الجامع إلى
رئيس النظار وإلى السيد البدوي، وقد بلغنا أن شيخ الجامع ضاق صدره فاستقال،
وأنه سيقال بعد أن يعين الشيخ شاكر وكيلاً للأزهر تمهيدًا بجعله أصيلاً بعد استشارة
الأمير لحكومته في ذلك، وسنعود إلى ما نراه نافعًا من الكلام عن الأزهر في الجزء
الآتي.
***
تنبيه
ضاق هذا الجزء عن تتمة التفسير وعن الرد على الشيخ بخيت وعلى الدكتور
مرجليوث.
__________(9/636)
غرة رمضان - 1324هـ
23 أكتوبر - 1906م(9/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ماضي الأمة وحاضرها وعلاج عللها
نشرت في العدد الثالث من العروة الوثقى بالعنوان الآتي [1]
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62)
أرأيت أمة من الأمم لم تكن شيئًا مذكورًا ثم انشق عنها عماء العدم فإذا هي
بحمية كل واحد منها كون بديع النظام قوي الأركان شديد البنيان، عليها سياج من
شدة البأس ويحيطها سورين من مَنَعَة الهم، وتخمد في ساحاتها عاصفات النوازل،
وتنحل بأيدي مدبريها عُقد المشاكل. نمت فيها أفنان العزة بعد ما ثبتت أصولها
ورسخت جذورها، وامتد لها السلطان على البعيد عنها والداني إليها، ونفذت منها
الشوكة وعلت لها الكلمة وكملت القوة فاستعلت آدابها على الآداب، وسادت
أخلاقها وعاداتها على ما كان من ذلك لسابقيها ومعاصريها، وأحست مشاعر سواها
من الأمم بأن لا سعادة إلا في انتهاج منهجها وورود شريعتها وصارت وهي قليلة
العدد كثيرة الساحات كأنها للعالم روح مدبر وهو لها بدن عامل.
وبعد هذا كله وَهَى بناؤها، وانتثر منظومها، وتفرقت فيها الأهواء، وانشقت
العصا، وتبدد ما كان مجتمعًا، وانحل ما كان منعقدًا، وانفصمت عرى التعاون،
وانقطعت روابط التعاضد، وانصرفت عزائم أفرادها عما يحفظ وجودها، ودار كلٌّ
في محيط شخصه المحدد بنهايات بدنه لا يلمح في مناظره بارقة من حقوقها الكلية
والجزئية، وهو في غيبة عن أن ضروريات حاجاته لا تُنَال إلا على أيدي
الملتحمين معه بلحمة الأمة، وأنه أحوج إلى شد عضدهم من تقوية ساعده، وإلي
توفير خيرهم من تنمية رزقه، وكأنه بهذه الغيبة في سبات يخيله الناظر إليه صَحْوًا،
وذبول يظنه المغرور زهوًا، وأخذ القنوط بآمال أولئك المدهوشين فأبادها وحدثت
فيهم قناعة إليهم والرضا بكل حال، ولئن تنبه خاطر للحق في خيال أحدهم أو
استفزه داع من قلبه إلى ما يكسب ملته أو يعيد لها مجدًا عَدَّه هوسًا وهذيانًا أصيب
به من ضعف في المزاج أو خلل في البنية، أو حسب أنه لو أجاب داعي الذمة لعاد
عليه بالوبال وأورده موارد الهلكة، أو لصار من أقرب الأسباب لزوال نعمته ونكد
معيشته، ويحكم لنفسه سلاسل من الجبن وأغلالاً من اليأس فتغل يداه عن العمل
وتقف قدماه عن السعي، ويحس بعد ذلك بغاية العجز عن كل ما فيه خيره وصلاحه
ويقصر نظره عن دَرك ما أتى أسلافه من قبله، وتجمد قريحته عن فهم ما قام به
أولئك الآباء الذين تركوه خليفة على ما كسبوا وقيمًا على ما أورثوه لأعقابهم، ويبلغ
هذا المرض من الأمة حدًّا يشرف بها على الهلاك ويطرحها على فراش الموت
فريسة لكل عاد وطعمة لكل طاعم.
نعم رأيت كثيرًا من الأمم لم تكن ثم كانت، وارتفعت ثم انحطت وَقَوِيَتْ ثُمَّ
ضَعُفَتْ، وَعَزَّتْ ثُمَّ ذَلَّتْ، وصحَّت ثم مرضت، ولكن أليس لكل علة دواء؟ بلى
واأسفا ما أصعب الداء وما أعز الدواء وما أقل العارفين بطرق العلاج، كيف يمكن
جمع الكلمة بعد افتراقها وهي لم تفترق إلا لأن كلاًّ عَكَفَ عَلَى شأنه… أستغفر الله
لو كان له شأن يعكف عليه لما انفصل عن أخيه وهو أشد أعضائه اتصالاً به، ولكنه
صرف لشئون غيره وهو يظنها من شئون نفسه، نعم ربما التفت كلٌّ إلى ما هو في
فطرة كل حي من ملاحظة حفظ حياته بمادة غذائه، وهو لا يدري من أي وجه
يحصلها ولا بأية طريقة يكون في أمن عليها، كيف تبعث الهمم بعد موتها وما ماتت
إلا بعد ما سكنت زمانًا غير قصير إلى ما ليس من معاليها؟ هل من السهل رد
التائه إلى الصراط المستقيم وهو يعتقد أن الفوز في سلوك سواه؟ خصوصًا بعد ما
استدبر المقصد وفي كل خطوة يظن أنه على مقربة من الحظوة؟ كيف يمكن تنبيه
المستغرق في منامه المبتهج بأحلامه وفي أذنه وقر في ملامسه خَدَر؟ هل من
صيحة تقرع قلوب الآحاد المتفرقة من أمة عظيمة تتباعد أنحاؤها وتتناءى أطرافها
وتتباين عاداتها وطبائعها؟ هل من نبأة تجمع أهواءها المتفرقة، وتوحد آراءها
المتخالفة بعد ما تراكم جهل وران غَيْن وخُيِّلَ للعقول أن كل قريب بعيد وكل سهل
وعر؟ وأيم الله إنه لشيء عسير يعيا في علاجه النطاسي ويحار فيه الحكيم البصير،
هل يمكن تعيين الدواء إلا بعد الوقوف على أصل الداء وأسبابه الأولى والعوارض
التي طرأت عليه؟ إن كان المرض في أمة فكيف يمكن الوصول إلى علله وأسبابه
إلا بعد معرفة عمرها، وما اعتراها فيه من تنقل الأحوال وتنوع الأطوار؟ أيمكن
لطبيب يعالج شخصًا بعينه أن يختار له نوعًا من العلاج قبل أن يعرف ما عرض له
من قبل في حياته ليكون على بينة من حقيقة المرض؟ وإلا فإن كثيرًا من الأمراض
تتولد جراثيمها في طور من أطوار العمر ثم لا تظهر إلا في طور آخر لتغلب قوة
الطبيعة على مادة المرض فلا يبدو أثرها.
كلا إنه ليصعب على الطبيب الماهر تشخيص علة لشخص واحد سنو عمره
محدودة وعوارض حياته محصورة، فكيف بمن يريد مداواة أمة طويلة الأجل وافرة
العدد؟ لهذا يندر في أجيال وجود بعض رجال يقومون بإحياء أمة أو إرجاع شرفها
ومجدها إليها، وإن كان المتشبهون بهم كثيرين، وكما أن المتطبب القاصر في
الأمراض البدنية لا يزيد علاجه المرض إلا شدة لولا مساعدة الاتفاق والصدفة، بل
ربما يفضي بالمريض إلى الموت - كذلك يكون حال الذين يقومون بتعديل أخلاق
الأمم على غير خبرة تامة بشأنها وموجب اعتلالها ووجوه العلة فيها وأنواعها، وما
يكتنف ذلك من العادات وما يوجد في أفرادها من المذاهب والاعتقادات وحوادثها
المتتابعة على اختلاف مواقعها من الأرض ومكانتها الأولى من الرفعة ودرجتها
الحالية من الضعة وتدرجها فيما بين المنزلتين، فإن أخطأ طالب إصلاحها في اكتناه
شيء مما ذكرنا تحول الدواء داء والوجود فناء، فمن له حظ من الكمال الإنساني
ولم يطمس من قلبه موضع الإلهام الإلهي لا يجرؤ على القيام بما يسمونه تربية
الأمم وإصلاح ما فسد منها، وهو يحس من نفسه أدني قصور في أداء هذا الأمر
العظيم علمًا أو عملاً، نعم يكون ذلك من محبي الفخفخة الباطلة وطلاب العيش في
ظل وظائف ليسوا من حقوقها في شيء.
ظن أقوام في هذه الأزمان أن الأمم تعالج بنشر الجرائد، وأنها تكفل إنهاض
الهمم وتنبيه الأفكار وتقويم الأخلاق، كيف يصدق هذا الظن؟ وإنا لو فرضنا أن
كتاب الجرائد لا يقصدون بما يكتبون إلا نجاح الأمم مع التنزه عن الأغراض، فبعد
ما عم الذهول واستولت الدهشة على العقول وقل القارئون والكاتبون لا تجد لها
قارئًا، ولئن وجدت القارئ فقلما تجد الفاهم، وقد يحمل ما يجده على غير ما
يراد منه لضيق في التصور أو ميل مع الهوى، فلا يكون منه إلا سوء التأثير
فيشبه غذاء لا يلائم الطبع فيزيد الضرر أضعافًا، على أن الهمة إذا كانت في درك
الهبوط فمن يستطيع تفهيمها فائدة الجرائد حتى تتجه منها الرغبات لاستطلاع ما فيها
مع قِصَر المدة وتدفق سيول الحوادث؟ إن هذا وحقك لعزيز.
ويظن أقوام آخرون أن الأمة المنبثة في أقطار واسعة من الأرض مع تفرق
أهوائها وإخلادها إلى ما دون رتبتها بدرجات لا تحصر، ورضاها بالدون من
العيش والتماس الشرف بالانتماء لمن ليس من جنسها ولا مشربها، بل لمن كان
خاضعًا لسيادتها راضخًا لأحكامها - مع هذا كله يتم شفاؤها من هذه الأمراض القاتلة
بإنشاء المدارس العمومية دفعة واحدة في كل بقعة من بقاعها، وتكون على الطراز
الجديد المعروف بأوربا حتى تعم المعارف جميع الأفراد في زمن قريب، ومتى
عمت المعارف كملت الأخلاق واتحدت الكلمة واجتمعت القوة، وما أبعد ما يظنون،
فإن هذا العمل العظيم إنما يقوم به سلطان قوي قاهر يحمل الأمة على ما تكره أزمانًا
حتى تذوق لذته وتجني ثمرته، ثم يكون ميلها الصادق من بعد نائبًا عن سلطته في
تنفيذ ما أراد من خيرها، ويلزم له ثروة وافرة تفي بنفقات تلك المدارس وهي كثيرة.
وموضوع كلامنا في الضعف وداوئه، فهل مع الضعف سلطة تقهر وثروة تغني،
ولو كان للأمة هذان لما عدت من الساقطين.
فإن قالوا: يمكن التدريج مع الاستمرار والثبات، وافقناهم على الإمكان لولا ما
يكون من طمع الأقوياء، حتى لا يدعون لهم سبيلاً لأن يستنشقوا نسيم القوة، فأين
الزمان لنجاح تلك الوسائل البطيئة الأثر ... على أنا لو فرضنا مسالمة الدهر
ومنحت الأمة مدة من الزمان تكفي لبث تلك العلوم في بعض الأفراد والاستزادة منها
شيئًا فشيئًا، هل يصح الحكم بأن هذا التدريج يفيدها فائدة جوهرية، وأن ما يصيبه
البعض منها يهيؤه للكمال اللائق به، ويمكنه من القيام بإرشاد الباقي من أبناء أمته،
واعجبًا كيف يكون هذا، وإن الأمة في بُعْدٍ عن معرفة تلك العلوم الغريبة عنها،
وكيف بذرت بذورها، وكيف نبتت واستوت على سوقها وأينعت وأثمرت وبأي
ماء سقيت وبأي تربة غذيت؟ ولا وقوف لها على الغاية التي قصدت منها في
مناشئها ولا خبرة لها بما يترتب عليها من الثمرات، وإن وصل إليها طرف من ذلك
فإنما يكون ظاهرًا من القول لا نبأ عن الحقيقة، فهل مع هذا يصيب الظن بأن مفاجأة
بعض الأفراد بها وسوقها إلى أذهانهم المشحونة بغيرها يقوِّم من أفكارهم ويعدل من
أخلاقهم ويهديهم طرق الرشاد في إفادة إخوانهم، لعل الأقرب أن ناقلي تلك العلوم
وهم من أمة هذا شأنها مع ما ينعكس إليهم من الأوهام المألوفة فيها، وما رسخ في
نفوسهم على عهد الصبا وما يعظمونه من أمر الأمة التي تلقوا عنها علومهم -
يكونون بين أمتهم كخلط غريب لا يزيد طبائعها إلا فسادًا.
ماذا يكون من أولئك الناشئين في علوم لم تكن ينابيعها من صدورهم، ولو
صدقوا في خدمة أوطانهم؟ يكون منهم ما تعطيه حالهم يؤدون ما تعلموه كما سمعوه
لا يراعون فيه النسبة بينه وبين مشارب الأمة وطباعها وما مرنت عليه من عاداتها
فيستعملونه على غير وضعه. ولبعدهم عن أصله ولهوهم بحاضره عن ماضيه
وغفلتهم عن آتيه، يظنونه على ما بلغهم هو الكمال لكل نفس، والحياة لكل روح
فيرمون من الصغير ما لا يرام إلا من الكبير، وبالعكس غير ناظرين إلا إلى صور
ما تعلموه ولا مفكرين في استعداد من يعرض عليهم، وهل يكون له من طباعهم
مكان يحمد أو يزيدها على ما بها أضعافًا. وما هذا إلا لكونهم ليسوا أربابها، وإنما
هم لها نقلة وحملة، فهؤلاء الصادقون - إلا من وفقه الله منهم بعنايته الإلهية -
يكون مثلهم كمثل والدة حنون يلذ لها غذاء فتفيض منه على ولدها وهو رضيع
ليساهمها في اللذة وسنه سن اللبان لا يقبل سواه فيسرع إليه المرض وينتهى به إلى
التلف؛ فتكون منزلتهم من الأمة منزلة الآلة المحللة يشتتون بقية الجمع ويبددون
أخريات الالتئام. إن كان الفساد أبقى للقوم بعض الروابط فهؤلاء المغرورون
يغشونهم بما يذهلهم عنها، وما قصدوا إلا خيرًا إن كانوا مخلصين ويوسعون بذلك
الخصاص (الخرْق في باب ونحوه) حتى تعود أبوابًا، ويباعدون ما بين الضفاف
حتى تصير ميادين لتداخل الأجانب تحت اسم النصحاء وعنوان المصلحين،
ويذهبون بأمتهم إلى الفناء والاضمحلال وبئس المصير.
شيد العثمانيون والمصريون عددًا من المدارس على النمط الجديد، وبعثوا
بطوائف منهم إلى البلاد الغربية؛ ليحملوا إليهم ما يحتاجون له من العلوم والمعارف
والصنائع والآداب وكل ما يسمونه تمدنًا، وهو في الحقيقة تمدن للبلاد التي نشأ فيها
على نظام الطبيعة وسير الاجتماع الإنساني , هل انتفع المصريون والعثمانيون بما
قدموا لأنفسهم من ذلك، وقد مضت عليهم أزمان غير قصيرة، هل صاروا أحسن
حالاً مما كانوا عليه قبل التمسك بهذا الحبل الجديد، هل استنقذوا أنفسهم من أنياب
الفقر والفاقة؟ هل نجوا بها من ورطات ما يلجئهم إليه الأجانب بتصرفاتهم؟ هل
أحكموا الحصون وسدوا الثغور؟ هل نالوا بها من المَنَعَة ما يدفع عنهم غارة
الأعداء عليهم؟ هل بلغوا من البصر بالعواقب والتصرف في الأفكار حدًّا يميل
عزائم الطامعين عنهم؟ هل وجدت فيهم قلوب مازجتها روح الحياة الوطنية، فهي
تؤثر مصلحة البلاد على كل مصلحة وتطلبها وإن تجاوزت محيط الحياة الدنيا وإن
بادت في سبيلها خلفها وراث على شاكلتها كما كان في كثير من الأمم؟
نعم ربما يوجد بينهم أفراد يتفيهقون بألفاظ الحرية والوطنية والجنسية وما
شاكلها، ويصوغونها في عبارات متقطعة بتراء لا تعرف غايتها ولا تعلم بدايتها
ووسموا أنفسهم بزعماء الحرية أو بِسِمَةٍ أخرى على حسب ما يختارون، ووقفوا
عند هذا الحد، ومنهم آخرون عمدوا إلى العمل بما وصل إليهم من العلم فقلبوا
أوضاع المباني والمساكن، وبدلوا هيئات المآكل والملابس والفرش والآنية وسائر
الماعون، وتنافسوا في تطبيقها على أجود ما يكون منها في الممالك الأجنبية
وعدُّوها من مفاخرهم وعرضوها معرض المباهاة؛ فنسفوا بذلك ثروتهم إلى غير
بلادهم، واعتاضوا عنها أعراض الزينة مما يروق منظره ولا يحمد أثره، فأماتوا
أرباب الصنائع من قومهم، وأهلكوا العاملين في المهن لعدم اقتدارهم أن يقوموا بكل
ما تستدعيه تلك العلوم الجديدة والكماليات الجديدة؛ لأن مصانعهم لم تتحول إلى
الطراز الجديد وأيديهم لم تتعود على الصنع الجديد وثروتهم لا تسع جلب الآلات
الجديدة من البلاد البعيدة، وهذا جدع لأنف الأمة يشوه وجهها ويحط بشأنها، وما
كان هذا إلا لأن تلك العلوم وضعت فيهم على غير أساسها وفجأتهم قبل أوانها ...
علمتنا التجارب ونطقت مواضي الحوادث بأن المقلدين من كل أمة المنتحلين
أطوار غيرها يكوِّنون فيها منافذ وكوًى لتطرق الأعداء إليها، وتكون مداركهم
مهابط الوساوس ومخازن الدسائس، بل يكونون بما أفعمت أفئدتهم من تعظيم الذين
قلدوهم، واحتقار من لم يكن على مثالهم شُؤْمًا على أبناء أمتهم يذلونهم ويحقرون
أمرهم ويستهينون بجميع أعمالهم وإن جلَّت، وإن بقي في بعض رجال الأمة من
الشمم أو النزوع إلى معالي الهمم انصبوا عليه وأرغموا من أنفه حتى يمحى أثر
الشهامة وتخمد حرارة الغيرة، ويصير أولئك المقلدون طلائع لجيوش الغالبين
وأرباب الغارات يمهدون لهم السبيل ويفتحون الأبواب، ثم يثبتون أقدامهم ويمكنون
سلطتهم، ذلك بأنهم لا يعلمون فضلاً لغيرهم، ولا يظنون أن قوة تغالب قواهم.
أقول ولا أخشى لومًا: لو كان في البلاد الأفغانية عدد قليل من تلك الطلائع
عندما تغلب على بعض أراضيها الإنكليز لما بارحوها أبد الآبدين، فإن نتيجة العلم
عند هؤلاء ليست إلا توطيد المسالك والركون إلى قوة مقلديهم واستقبال مشارق
فنونهم، فيبالغون في تطمين النفوس وتسكين القلوب حتى يزيلوا الوحشة التي قد
يصون بها الناس حقوقهم ويحفظون بها استقلالهم، ولهذا لو طرق الأجانب أرضًا
لأية أمة ترى هؤلاء المتعلمين فيها يقبلون عليهم ويعرضون أنفسهم لخدمتهم بعد
الاستبشار بقدومهم، ويكونون بطانة لهم ومواضع لثقتهم كأنما هم منهم، ويعدون
الغلبة الأجنبية في بلادهم مباركة عليهم وعلى أعقابهم.
فما الحيلة وما الوسيلة والجرائد بعيدة الفائدة ضعيفة الأثر لو صحت الضمائر
فيها؟ والعلوم الجديدة لسوء استعمالها رأينا ما رأينا من آثارها والوقت ضيق والخطب
شديد؟ أي جهوري من الأصوات يوقظ الراقدين على حشايا الغفلات؟ أي قصفة
تزعج الطباع الجامدة وتحرك الأفكار الخامدة؟ أي نفخة تبعث هذه الأرواح في
أجسادها وتحشرها إلى مواقف صلاحها وفلاحها؟ الأقطار فسيحة الجوانب، بعيدة
المنكب والمواصلات عسرة بين الشرقي والغربي والجنوبي والشمالي، الرءوس
مطرقة إلى ما تحت القدم أو منغضة إلى ما فوق السماء، ليس للأبصار جولان إلى
الأمام والخلف واليمين والشمال ولا للأسماع إصغاء ولا للنفوس رغبات. وللأهواء
تحكم وللوساوس سلطان ... ماذا يصنع المشفقون على الأمة والزمن قصير؟ ماذا
يحاولون والأخطار محدقة بهم؟ بأي سبب يتمسكون ورسل المنايا على أبوابهم؟
لا أطيل عليك بحثًا، ولا أذهب بك في مجالات بعيدة من البيان، ولكني
أستلفت نظرك إلى سبب يجمع الأسباب ووسيلة تحيط الوسائل، أرسل طرفك إلى
نشأة الأمة التي خملت بعد النباهة، وضعفت بعد القوة، واستُرقَّت بعد السيادة،
وضيمت بعد المنعة، وتبين أسباب نهوضها الأول حتى نتبين مضارب الخلل
وجراثيم العلل، فقد يكون ما جمع كلمتها وأنهض همم آحادها ولحم ما بين أفرادها
وصعد بها إلى مكانة تشرف منها على رؤوس الأمم وتسوسهم، وهي في مقامها
بدقيق حكمتها - إنما هو دين قويم الأصول محكم القواعد شامل لأنواع الحكم باعث
على الألفة، داع إلى المحبة، مُزَكٍّ للنفوس مطهر للقلوب من أدران الخسائس،
منور للعقول بإشراق الحق من مطالع قضاياه، كافل لكل ما يحتاج إليه الإنسان من
مباني الاجتماعات البشرية، وحافظ وجودها، وينادي بمعتقديه إلى جميع فروع
المدنية، فإن كانت هذه شرعتها، ولها وردت وعنها صدرت فما تَراه من عارض
خَللها وهبوطها عن مكانتها، إنما يكون من طرح تلك الأصول ونبذها ظهريًّا،
وحدوث بدع ليست منها في شيء، أقامها المعتقدون مقام الأصول الثابتة، وأعرضوا
عما يرشد إليه الدين وعما أتى لأجله، وما أعدته الحكمة الإلهية له - حتى لم يبق منه
إلا أسماء تُذْكَر وعبارات تُقْرَأ، فتكون هذه المحدثات حجابًا بين الأمة وبين الحق
الذي تشعر بندائه أحيانًا بين جوانحها ... فعلاجها الناجح إنما يكون برجوعها إلى
قواعد دينها والأخذ بأحكامه على ما كان في بدايته، وإرشاد العامة بمواعظه الوافية
بتطهير القلوب وتهذيب الأخلاق وإيقاد نيران الغيرة، وجمع الكلمة وبيع الأرواح
لشرف الأمة؛ ولأن جرثومة الدين متأصلة في النفوس بالوراثة من أحقاب طويلة،
والقلوب مطمئنة إليه، وفي زواياها نور خفي من محبته فلا يحتاج القائم بإحياء
الأمة إلا إلى نفخة واحدة يسري نفثها في جميع الأرواح لأقرب وقت، فإذا قاموا
لشؤونهم ووضعوا أقدامهم على طريق نجاحهم، وجعلوا أصول دينهم الحقة نصب
أعينهم فلا يعجزهم بعدُ أن يبلغوا بسيرهم منتهى الكمال الإنساني ... ومن طلب
إصلاح أمة شأنها ما ذكرنا بوسيلة سوى هذه فقد ركب بها شططًا، وجعل النهاية
بداية، وانعكست التربية، وخلف فيها نظام الوجود؛ فينعكس عليه القصد ولا يزيد
الأمة إلا نحسًا، ولا يكسبها إلا تعسًا.
هل تعجب أيها القارئ من قولي: إن الأصول الدينية الحقة المبرأة عن
محدثات البدع تنشئ للأمم قوة الاتحاد وائتلاف الشمل وتفضيل الشرف على لذة
الحياة، وتبعثها على اقتناء الفضائل وتوسيع دائرة المعارف، وتنتهي بها إلى
أقصى غاية في المدنية؟ إن عجبت فإن عجبي من عجبك أشد، هل نسيت تاريخ
الأمة العربية وما كانت عليه قبل بعثة الدين من الهمجية والشتات وإتيان الدنايا
والمنكرات، حتى إذا جاءها الدين فوحَّدها وقوَّاها وهذَّبها ونوَّر عقولها، وقوَّم
أخلاقها، وسدَّد أحكامها؛ فسادت على العالم، وساست من تولته بسياسة العدل
والإنصاف، وبعد أن كانت عقول أبنائها في غفلة عن لوازم المدنية ومقتضياتها
نبهتها شريعتها وآيات دينها إلى طلب الفنون المتنوعة والتبحر فيها، ونقلوا إلى
بلادهم طب بقراط وجالينوس وهندسة إقليدس وهيئة بطليموس وحكمة أفلاطون
وأرسطو، وما كانوا قبل الدين في شيء من هذا، وكل أمة سادت تحت هذا اللواء
إنما كانت قوتها ومدنيتها في التمسك بأصول دينها.
وقد تكون نشأة الأمة قائمة بدعوة الملك وافتتاح الأقطار وطلب السيادة على
الأمصار، وتلك الدعوة لما تستدعيه من عظم الهمم وارتفاع النفوس عن الدنايا وبعد
الغايات وعلو المقاصد هي التي هذَّبت أخلاقهم، وقوَّمت أفكارهم، وكفتهم عن
معاطاة الرذائل وخسائس الأمور وسوافلها، ثم بعد ما مضى زمان من نشأتها أصابها
من الانحطاط ما أصابها، فبيان أسباب الخلل فيها وعلاته نفرد له فصلاً مستقلاًّ في
عدد آخر إن شاء الله، وهو الموفق للصواب.
__________
(1) نشرنا هذه المقالة في المجلد الأول من المنار ونعيد نشرها الآن؛ لما فيها من التذكير الذي
يجب أن لا يُنسى، والعنوان لنا.(9/664)
الكاتب: أبو حامد الغزالي
__________
سيرة السلف الصالحين في نصيحة السلاطين
(تابع لما في الجزء السابع وما قبله)
قال في الإحياء: وعن أبي عمران الجوني قال: لما ولي هارون الرشيد
الخلافة زاره العلماء فهنأوه بما صار إليه من أمر الخلافة؛ ففتح بيوت الأموال
وأقبل يجزيهم بالجوائز السنية، وكان قبل ذلك يجالس العلماء والزهاد، وكان يظهر
النسك والتقشف، وكان مواخيًا لسفيان بن سعيد بن المنذر الثوري قديمًا فهجره
سفيان ولم يزره؛ فاشتاق هارون إلى زيارته ليخلو به ويحدثه فلم يزره ولم يعبأ
بموضعه ولا بما صار إليه، فاشتد ذلك على هارون فكتب إليه كتابًا يقول فيه:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى أخيه سفيان
ابن سعيد بن المنذر أما بعد، ياأخي قد علمت أن الله تبارك وتعالى واخى بين
المؤمنين، وجعل ذلك فيه وله، واعلم أني قد واخيتك مواخاة لم أصرم بها حبك ولم
أقطع منها ودك، وأني مُنْطَوٍ لك على أفضل المحبة والإرادة، ولولا هذه القلادة
التي قلدنيها الله لأتيتك ولو حبوًا لما أجد لك في قلبي من المحبة، واعلم يا أبا عبد
الله أنه ما بقي من إخواني وإخوانك أحد إلا وقد زارني وهنأني بما صرت إليه،
وقد فتحت بيوت الأموال وأعطيتهم من الجوائز السنية ما فرحت به نفسي وقرت به
عيني، وإني استبطأتك فلم تأتني، وقد كتبت إليك كتابًا شوقًا مني إليك شديدًا، وقد
علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل المؤمن وزيارته ومواصلته، فإذا ورد عليك
كتابي فالعجل العجل) .
فلما كتب الكتاب التفت إلى من عنده فإذا كلهم يعرفون سفيان الثوري وخشونته
فقال: علي برجل من الباب، فأدخل عليه رجل يقال له عباد الطالقاني فقال: يا عباد
خذ كتابي هذا فانطلق به إلى الكوفة فإذا دخلتها فسل عن قبيلة بني ثور، ثم سل عن
سفيان الثوري، فإذا رأيته فألق كتابي هذا إليه، وعِ بسمعك وقلبك جميع ما
يقول، فأحص عليه دقيق أمره وجليله لتخبرني به. فأخذ عباد الكتاب وانطلق به
حتى ورد الكوفة، فسأل عن القبيلة فأرشد إليها، ثم سأل عن سفيان فقيل له: هو في
المسجد، قال: فأقبلت إلى المسجد، فلما رآني قام قائمًا وقال: أعوذ بالله السميع
العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق إلا بخير، قال عباد:
فوقعت الكلمة في قلبي فخرجت، فلما رآني نزلت بباب المسجد قام يصلي ولم يكن
وقت صلاة؛ فربطت فرسي بباب المسجد ودخلت، فإذا جلساؤه قعود قد نكسوا
رؤوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون من عقوبته، فسلمت فما
رفع أحد رأسه وردوا السلام عليَّ برؤوس الأصابع، فبقيت واقفًا فما منهم أحد يعرض
عليَّ الجلوس، وقد علاني من هيبتهم الرعدة، ومددت عيني إليهم فقلت: إن
المصلي هو سفيان، فرميت بالكتاب إليه فلما رأى الكتاب ارتعد وتباعد منه كأنه حية
عرضت له في محرابه؛ فركع وسجد وسلَّم وأدخل يده في كمه ولفها بعباءته وأخذه
فقلبه بيده ثم رماه إلى من كان خلفه وقال يأخذه بعضكم يقرؤه؛ لأني أستغفر الله أن
أمس شيئًا مسه ظلاَّم بيده، قال عباد: فأخذه بعضهم فحله كأنه خائف من فم حية
تنهشه ثم فضه وقرأه وأقبل سفيان يتبسم تبسم المتعجب، فلما فرغ من قراءته قال:
اقلبوه واكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه، فقيل له: يا أبا عبد الله إنه خليفة فلو
كتبت إليه في قرطاس نقي، فقال: اكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه، فإن كان اكتسبه
من حلال فسوف يُجْزَى به وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يَصْلَى به ولا يبقى
شيء مسه ظالم عندنا فيفسد علينا ديننا، فقيل له: ما تكتب، فقال: اكتبوا.
(بسم الله الرحمن الرحيم من العبد المذنب سفيان بن سعيد بن المنذر الثوري
إلى العبد المغرور بالآمال هارون الرشيد الذي سُلِبَ حلاوة الإيمان. أما بعد، فإني
قد كتبت إليك أعرفك أني قد صرمت حبلك وقطعت ودك وقليت موضعك، فإنك
قد جعلتني شاهدًا عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت به على بيت
مال المسلمين، فأنفقته في غير حقه وأنفذته في غير حكمه، ثم لم ترضَ بما فعلته
وأنت ناءٍ عني حتى كتبت إليَّ تشهدني على نفسك، أما إني قد شهدت عليك أنا
وإخواني الذين شهدوا قراءة كتابك وسنؤدي الشهادة عليك غدًا بين يدي الله تعالى،
يا هارون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم، هل رضي بفعلك المؤلفة
قلوبهم والعاملون عليها في أرض الله تعالى والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل؟
أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم والأرامل والأيتام؟ أم هل رضي بذلك خلق
من رعيتك؟ فشدَّ يا هارون مئزرك وأَعِدَّ للمسألة جوابًا وللبلاء جلبابًا، واعلم أنك
ستقف بين يدي الحَكَم العَدْل فقد رُزِئْتَ في نفسك إذ سُلِبْتَ حلاوة العلم والزهد ولذيذ
القرآن ومجالسة الخيار ورضيت لنفسك أن تكون ظالمًا وللظالمين إمامًا. يا هارون
قعدت على السرير، ولبست الحرير، وأسبلت سترًا دون بابك وتشبهت بالحجبة
برب العالمين ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك يظلمون الناس ولا
ينصفون، يشربون الخمور ويضربون من يشربها، ويزنون ويحُدُّون الزاني،
ويسرقون ويقطعون السارق، أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن تحكم بها
على الناس؟ فكيف بك يا هارون غدًا إذا نادى المنادي من قِبَل الله تعالى:
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} (الصافات: 22) أين الظلمة وأعوان الظلمة؟
فقدمت بين يدي الله تعالى ويداك مغلولتان إلى عنقك لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك،
والظالمون حولك وأنت لهم سابق وإمام إلى النار، كأني بك يا هارون وقد أخذت
بضيق الخناق ووردت المشاق، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك وسيئات
غيرك في ميزانك زيادة على سيئاتك بلاء على بلاء وظلمة فوق ظلمة. فاحتفظ
بوصيتي واتعظ بموعظتي التي وعظتك بها، واعلم أني قد نصحتك وما أبقيت لك
في النصح غاية، فاتق الله يا هارون واحفظ محمدًا صلى الله عليه وسلم في أمته،
وأحسن الخلافة عليهم، واعلم أن هذا الأمر لو بقي لغيرك لم يصل إليك، وهو
صائر إلى غيرك، وكذا الدنيا تنتقل بأهلها واحدًا بعد واحدٍ، فمنهم من تزود زادًا
نفعه ومنهم من خسر دنياه وآخرته، وإني أحسبك يا هارون ممن خسر دنياه
وآخرته، فإياك أن تكتب لي كتابًا بعد هذا فلا أجيبك عنه , والسلام) .
قال عَبَّادٌ: فألقى إليَّ الكتاب منشورًا غير مطوي ولا مختوم فأخذته وأقبلت
إلى سوق الكوفة وقد وقعت الموعظة من قلبي، فناديت: يا أهل الكوفة، فأجابوني،
فقلت لهم: يا قوم من يشتري رجلاً هرب من الله إلى الله؟ فأقبلوا إليَّ بالدنانير
والدراهم فقلت: لا حاجة لي في مال ولكن جبة صوف خشنة وعباءة قطوانية، قال:
فأوتيت بذلك ونزعت ما كان علي من اللباس الذي كنت ألبسه مع أمير المؤمنين،
وأقبلت أقود البرذون وعليه السلاح الذي كنت أحمله حتى أتيت باب أمير المؤمنين
هارون حافيًا راجلاً فهزأ بي من كان على باب الخليفة، ثم استؤذن لي فلما دخلت
عليه وبصر بي على تلك الحالة قام وقعد، ثم قام قائمًا وجعل يلطم رأسه ووجهه
ويدعو بالويل والحزن ويقول: انتفع الرسول وخاب المرسِل ما لي وللدنيا ما لي
ولملك يزول عني سريعًا، ثم ألقيت الكتاب إليه منشورًا كما دفع إلي فأقبل هارون
يقرأه ودموعه تنحدر من عينه، ويقرأ ويشهق، فقال بعض جلسائه: يا أمير
المؤمنين لقد اجترأ عليك سفيان فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد وضيقت عليه السجن
كنت تجعله عبرة لغيره، فقال هارون: اتركونا يا عبيد الدنيا، المغرور مَنْ
غررتموه، والشقي من أهلكتموه، وإن سفيان أمة وحده، فاتركوا سفيان وشأنه. ثم
لم يزل كتاب سفيان إلى جنب هارون يقرأه عند كل صلاة حتى توفي رحمه الله.
فرحم الله عبدًا نظر لنفسه واتقى الله في ما يقدم عليه غدًا من عمله فإنه عليه يحاسب
وبه يجازى، والله ولي التوفيق.
وعن عبد الله بن مهران قال: حج الرشيد فوافى الكوفة فأقام بها أيامًا، ثم
ضرب بالرحيل فخرج الناس وخرج بهلول المجنون فيمن خرج، فجلس بالكناسة
والصبيان يؤذونه ويولعون به إذ أقبلت هوادج هارون، فكف الصبيان عن الولوع
به، فلما جاء هارون نادى بأعلى صوته: يا أمير المؤمنين. فكشف هارون السجاف
بيده عن وجهه، فقال: لبيك يا بهلول، فقال: يا أمير المؤمنين حدثنا أيمن بن نائل
عن قدامة بن عبد الله العامري قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم منصرفًا من
عرفة على ناقة له صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك، وتواضعك في سفرك
هذا يا أمير المؤمنين خير لك من تكبرك وتجبرك. قال: فبكى هارون حتى سقطت
دموعه على الأرض، ثم قال: يا بهلول زدنا رحمك الله، قال: نعم يا أمير
المؤمنين، رجل آتاه الله مالاً وجمالاً فأنفق من ماله، وعف في جماله، كُتب في
خالص ديوان الله تعالى مع الأبرار، قال: أحسنت يا بهلول، ودفع له جائزة فقال:
اردد الجائزة إلى من أخذتها منه فلا حاجة لي فيها، قال: يا بهلول فإن كان عليك
دين قضيناه، قال: يا أمير المؤمنين هؤلاء أهل العلم بالكوفة متوافرون قد اجتمعت
آراؤهم أن قضاء الدين بالدين لا يجوز، قال: يا بهلول فنجري عليك ما يقوتك أو
يقيمك، قال: فرفع بهلول رأسه إلى السماء، ثم قال: يا أمير المؤمنين أنا وأنت
من عيال الله فمحال أن يذكرك وينساني، قال: فأسبل هارون السجاف ومضى.
(ثم قال في الإحياء بعد نصيحة للمأمون) :
وعن أحمد بن إبراهيم المقري قال: كان أبو الحسن النوري رجلاً قليل
الفضول لا يسأل عما لا يعنيه، ولا يفتش عما لا يحتاج إليه، وكان إذا رأى منكرًا
غَيَّرَه ولو كان فيه تلفه، فنزل ذات يوم إلى مشرعة [1] تعرف بمشرعة الفحامين،
يتطهر للصلاة إذ رأى زورقًا فيه ثلاثون دَنًّا مكتوب عليها بالقار: (لطف) فقرأه
وأنكره؛ لأنه لم يعرف في التجارات ولا في البيوع شيئًا يعبر عنه بلطف، فقال:
للملاح: إيش في هذه الدنان؟ قال: وإيش عليك امض في شغلك. فلما سمع النوري
من الملاح القول ازداد تعطشًا إلى معرفته، فقال له: أحب أن تخبرني إيش في
هذه الدنان، قال وإيش عليك، أنت والله صوفي فضولي هذا خمر للمعتضد، يريد
أن يتمم به مجلسه. فقال النوري: وهذا خمر؟ قال: نعم، قال: أحب أن تعطيني
ذلك المدرى. فاغتاظ الملاح عليه وقال لغلامه: أعطه حتى أنظر ما يصنع، فلما
صارت المدرى في يده صعد إلى الزورق ولم يزل يكسرها دنا دنا حتى أتى على
آخرها إلا دنا واحدًا والملاح يستغيث إلى أن ركب صاحب الجسر [2] ، وهو يومئذ
ابن بشر أفلح فقبض على النوري وأشخصه إلى حضرة المعتضد، وكان المعتضد
سيفه قبل كلامه، ولم يشك الناس في أنه سيقتله. قال أبو الحسن: فأُدْخِلْتُ عليه
وهو جالس على كرسي حديد وبيده عمود يقلبه، فلما رآني قال: من أنت قلت:
محتسب [3] , قال: ومن ولاَّك الحسبة، قلت: الذي ولاَّك الإمامة ولاَّني الحسبة يا
أمير المؤمنين، قال: فأطرق إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إليَّ، وقال: ما الذي
حملك على ما صنعت؟ فقلت: شفقة مني عليك إذ بسطت يدي إلى صرف مكروه
عنك قد قصرت عنه، قال: فأطرق مفكرًا في كلامي، ثم رفع رأسه إليَّ وقال:
كيف تخلص هذا الدن الواحد من جملة الدنان؟ فقلت: في تخلصه علة أخبر بها أمير
المؤمنين إن أذن، فقال: هات أخبرني، فقلت: يا أمير المؤمنين إني أقدمت على
الدنان بمطالبة الحق سبحانه لي بذلك، وغمر قلبي شاهد الإجلال للحق وخوف
المطالبة فغابت هيبة الخلق عني فأقدمت عليها بهذه الحالة إلى أن صرت إلى هذا
الدن فاستشعرتْ نفسي كبرًا على أني أقدمت على مثلك. فمنعت، ولو أقدمت عليه
بالحال الأول وكانت ملء الدنيا دنان لكسرتها ولم أبال، فقال المعتضد: اذهب فقد
أطلقنا يدك، غَيِّرْ ما أحببت أن تغيره من المنكر، قال أبو الحسن: فقلت: يا أمير
المؤمنين بَغُضَ إليَّ التغيير؛ لأني كنت أغير عن الله تعالى وأنا الآن أغير عن
شرطي، فقال المعتضد: ما حاجتك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين تأمر بإخراجي سالمًا،
فأمر له بذلك، وخرج إلى البصرة فكان أكثر أيامه بها خوفًا من أن يسأله أحد حاجة
يسألها المعتضد، فأقام بالبصرة إلى أن توفي المعتضد ثم رجع إلى بغداد.
فهذه كانت حالة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة
مبالاتهم بسطو السلاطين، لكنهم اتكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم ورضوا
بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة. فلما أخلصوا لله النية أثر كلامهم في القلوب
القاسية فَلَيَّنَهَا وأزال قساوتها، وأما الآن فقيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا وإن
تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا،
ففساد الرعايا بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء
حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل
فكيف على الملوك والأكابر؟ والله المستعان على كل حال اهـ.
(المنار)
هذا كلام الإمام الغزالي في ملوك عصره وعلمائه وهم الذين يفتخر أهل هذا
العصر بهم، فكيف حال ملوك عصرنا وعلمائه والذين أضاعوا الدنيا والدين،
وجعلوا المسلمين بظلمهم وفسادهم في أسفل سافلين؟ ولا نطيل هنا في وصفهم
فحسبك ما تقرأ في المقال الآتي، ولكننا نقول: إن الزمان لا يخلو من العلماء
المخلصين، وهؤلاء هم الذين ندعوهم إلى نصيحة ملوكنا وأمرائنا قبل أن يضيعوا
هذه البقية القليلة التي بقيت لنا، فالخطر قريب إن لم يتداركوه نزل، والعياذ بالله
تعالى.
__________
(1) مورد ماء.
(2) أي الحاكم المُوَلَّى من الخليفة وهو كالمحافظ في مصر.
(3) المحتسب هو من يزيل المنكرات كالبوليس.(9/673)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجامع الأزهر
مشيخته وإدارته
كتبنا في الجزء الثاني من منار السنة الماضية (ص 76 م 8) ما نصه:
ما كانت مشيخة الأزهر في زمن من الأزمان عُرْضَة للتغيير والتبديل من
الحكام كما نراها في هذه السنين، فقد تناول العزل والإبدال شيوخ هذا الجامع عدة
مرات في بضع سنين - عزل الشيخ حسونة باتفاق الحكومة مع الأمير وولي بعده
الشيخ عبد الرحمن القطب فلم يلبث أن عزله حكم المنون، فاختار الأمير للمشيخة
الشيخ سليمان البشري، ثم عزله بمحض إراداته، وولى مكانه السيد عليًّا الببلاوي
بالاتفاق مع الحكومة أو مع أولي الأمر كما يقال، وفي هذا الشهر (أي صفر)
استقال هذا الشيخ ونصب بدله الشيخ عبد الرحمن الشربيني باتفاق الحكومة، ثم
ذكرنا استقالة الأستاذ الإمام وبعض أعضاء مجلس الإدارة.
وكتبنا في نبذة أخرى أن الأمير قد اتفق مع الحكومة على أن كل ما يهم
الحكومة من الأزهر شيئان: الأول أن يكون أهله في أمان، والثاني: تخريج
القضاة الشرعيين، وأن التعليم فيه لما كان غير كافٍ لتخريج القضاة، عزمت
الحكومة علي إنشاء مدرسة لتخريج القضاة خاصة، ثم قلنا: إنه كثر التساؤل بين
الناس عن سبب استقالة الشيخ محمد عبده من إدارة الأزهر مع حرصه علي
إصلاحه، وأجبنا عن ذلك بالإشارة إلي الشغب الذي بلغ في ذلك العهد غايته في
ذلك المكان، فإن بعض الشيوخ الذين يترددون على قصر الأمير كانوا يحرضون
مدرسي الأزهر على الشكوى من شيخ الأزهر ومجلس الإدارة وعدم الخضوع لما
يراد تنفيذه من قانون، وعلى ما هو أعظم من ذلك، وقد اشتهر عند الأكثرين أن
الغرض من ذلك أن يستقيل شيخ الأزهر والمفتي (رحمهما الله) وأن الأمير هو
الذي يريد ذلك، وأكد ذلك ما نشر لذلك العهد في الجوائب المصرية والمؤيد
وغيرهما من الجرائد التي تخدم (المعية) وأهم ذلك مقال في حديث قال صاحب
الجوائب: إنه جرى بينه وبين شيخ من كبار علماء الأزهر وصفه بأوصاف فهم
الناس منها أنه الشيخ عبد الرحمن الشربيني الذي كان بعض بطانة الأمير يحاولون
إقناعه بقبول المشيخة، التي أيقنوا أن الببلاوي مستقيل منها لما اتخذ لذلك من
الأسباب الملجئة، ولما استقال السيد الببلاوي وعين الشيخ الشربيني شيخًا للأزهر،
واحتفل بإلباسه الخلعة بحضرة الأمير ألقى الأمير ذلك الخطاب على الشيوخ وكان
مؤيدًا لروح ما كانت تنشره تلك الجرائد.
كان مدار ذلك الكلام على أن كل ما يهم الأمير وحكومته من الأزهر أن يكون
في أمان وهدوء وبعد عن الشغب والقلاقل، وأن يظل مدرسة دينية كما كان وربما
كانوا يظنون أن سكون الأزهر، وراحة أهله، ورضا كبار شيوخه عن الأمير
وإخلاصهم له هو مما ينتجه جعل الشربيني شيخًا للأزهر؛ لأنه في مقدمة العلماء
الأزهريين الذين يرون وجوب بقاء الأزهر على حاله التي كان عليها في زمان
تعلمهم فيه وترك الشيخ محمد عبده له، وهو الذي يريد تغيير نظام التعليم وزيادة
العلوم والفنون فيه، ولكن جاء الأمر على نقيض ما كان يظن أولئك الظانون؛
فاستاء محبو الإصلاح من أهل الأزهر لترك الأستاذ الإمام لإدارته، كما استاء
عقلاء المسلمين في كل مكان، وأما المحافظون على الحالة العتيقة فقد رأيناهم على
عهد الشيخ الشربيني اشتد استياء من إدارة الأزهر منهم على عهد من سبقه كما
أشرنا إلى ذلك في العدد الماضي، وكثر في هذا كلام الناس وكتابة الجرائد
بالشكوى من حال الأزهر والطعن في علمائه حتى إن بعض الأفندية كتب في بعض
الجرائد اليومية يقول في بيان جهل علماء الأزهر بالدين وفقد الثقة بهم ما عناه أن
الناس لا يقصدون في حل مشكلات الدين والدفاع عنه إلا إلى بعض حملة
الطرابيش، وفي ذلك هضم لغير الأزهريين من حملة العمائم كأستاذة المدارس
الأميرية وغيرهم.
هذا ما ذكَّرنا برسالة كان أرسلها إلينا زعيم النهضة الإسلامية في الهند السيد
النواب محسن الملك خان الشهير بعلمه وفضله يرد بها على ما كنا اعتذرنا به عن
علماء الأزهر تعقيبًا على رسالته التي نشرناها في الجزء السادس من السنة الماضية،
وهي التي أظهر فيها استياءه واستياء مسلمي الهند من ترك الأستاذ الإمام للأزهر،
وطعن فيها بعلمائه طعنًا شديدًا فلم ننشرها في ذلك الوقت لمانع زال، فنحن
ننشرها الآن وهذه هي:
بسم الله الرحمن الرحيم
وإياه نعبد وإياه نستعين
سعادة الفاضل الحكيم العلامة، دمتم بالعز والكرامة:
سلام عليكم، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه النبي
الكريم، وعلي آله وصحبه السادة اللهاميم، وبعد فإنا قد سررنا وتنشطنا بحسن
صنيعكم إلينا من نشر رسالتنا المشبعة الطويلة التي كتبناها إليكم في قضية علماء
الأزهر واستقالة الأستاذ الإمام الكبير محمد بن عبده في مجلتكم الباهرة الغراء التي
صدرت في السادس عشر من شهر ربيع الأول الماضي، وقد سرني أيضًا ما قد
استتبعتم ذلك بانتقادكم الحافل البديع عقيب هذه الرسالة تحامون فيه عن علماء
الأزهر واستفراغكم الوسع بذلك في دفع ما وقع من الغلط والخطأ في الآراء التي
ارتآها الناس فيهم، ولكن الذي آمل من طيب خلقكم وطهارة سريرتكم هو أن تعفوا
عني مما قد تجاسرت في الانتقاد على هذا الانتقاد، فإنه يا أخي ليس فيما أحسب
مما ليطمئن به بال أحد أو أن يفند به ما قد رآه أكثر أهل النظر في هؤلاء العلماء
من أنهم لا يحبون إشاعة العلوم الحديثة، ولا يجوزون لها السبيل والتطريق في
المدارس والكليات، ولا واحد عندي بمقلع عن رأيه ذلك فيهم فيما أحسب. فقد
علمت يا سيدي أن تعسف علماء الأزهر وتعصبهم للعلوم الخَلِقَة البالية وخلافهم
للإصلاح في شئون التعليم والأخذ بالعلوم الحديثة ليس مما يرتاب فيه أحد، فقد
شحنت بذلك الجرائد المصرية كلها، لا سيما مجلتكم الباهرة التي نصَّت على أنهم
لا يجوزون العدول بيسير عن المنوال العتيق الذي يجري عليه نصاب التدريس في
الجامع الأزهر، ويتحرجون في تشكيل صناعة التاريخ والجغرافيا في نصاب
الدرس الحاضر، فما ظنك بالعلوم العالية الإفرنجية، وما هي فيه من المنهاج الجديد
في أرض أوروبا، أفحسبت يا سيدي أن الذين لا يزالون يقرءون ويتلون الجرائد
المصرية ولا يَفْتُرُونَ عن مطالعة جريدتكم الغراء ليلاً ونهارًا أفتراهم يقلعون عن
رأيهم في شأن هؤلاء العلماء؟ أم ترى أن اعتقادهم في هؤلاء فيما أفديتم بنفسكم بأنهم
يعتقدون بأن العلوم الدنيوية تقوض بناء الدين وتفسد العقائد في قلوب المسلمين،
وأن إصلاح طريقة التعليم خروج عن صراط السلف المستقيم، أفترى أن هذا
الاعتقاد منهم يزول أو يحول أو يضمحل بشيء عن قلوبهم مما كان عندهم من قبل،
أما تراهم يوافقونك في قولك، وكل هذه الظنون فيهم باطلة كلا ولا كرامة وحاشاهم
عن ذلك.
فأما أنتم فلعمري لم تألوا جهدًا في المحاماة عن هؤلاء العلماء، وأتيتم في بيان
ذلك بحجتين وكلتاهما ننتقد عليهما وننظر في وزنهما ورجحهما على منهاج أصحاب
النظر، أما الحجة الأولي فقولكم: إن من أصحاب الدرجة العلمية الأولى فيهم من
يعلمون أولادهم العلوم الدنيوية في المدارس الأميرية وغيرها، وأما الأخرى فقولكم:
ولا يطعنون بدين أكابر أمرائهم، وهم قد تعلموا هذه العلوم في مدارس مصر
وأوروبا، ولكن هذا الكلام منكم لا يجديهم نفعًا ولا يحامي أو يذب عنهم بشيء، فقد
عرفتم ما هو من ديدن علماء هذا العصر أنهم يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا
يقولون، وهم الذين قال فيهم الشاعر العارف الحكيم مصلح الدين السعدي الشيرازي
وهو من معاريف الشعراء ومشاهير أهل النظم - قال:
ترك دنيا بمردم آموزند ... خويشن سم وغله اندوزند
يعني بذلك أنهم يعلمون الناس ويحملونهم علي رفض الدنيا وترك زخارفها،
وهم بأنفسهم يكنزون الفضة ويحتكرون الطعام لأنفسهم [*] ومن دَيْدَنِهِم أيضًا أن لا
يطعنوا بشيء على الأمراء والولاة كيما لا يُحْرَمُوا من صِلاَتِهِم ولا ييأسوا من
استجلاب خيرهم ومبراتهم، بل وإنا نراهم يوافقون العامة في بِدَعِهم ولا يشنِّعُون
بشيء على أفاعيلهم، ويشاركونهم في الأحداث الفظيعة التي يأتون بها في الدين،
فنراهم لا ينكرون عليها، بل يعاضدونهم بموافقتهم ومشاركتهم فيها، وشاهد ذلك
قولكم في هذه النمرة التي صدرت في السادس عشر من شهر ربيع الأول الماضي
(فمشايخ الأزهر يقرءون في كتب الحديث نهي الشارع عن بناء القبور واتخاذ
المساجد عليها واتخاذها أعيادًا وتعظيمها، ثم إنهم يشاركون العامة في هذه الأعياد
التي يسمونها موالد على ما فيها من المنكرات التي نهى عنها أئمتهم في الفقه، ثم
إنهم يقرءون في شمائل نبيهم أنه كان يسدل شعره الشريف ويفرقه وهم ينكرون على
من يفعل ذلك من أهل العلم والدين، وقد أمرني بذلك بعضهم، وكان شيخًا للأزهر
قائلاً: إنك من أهل العلم لا يليق بك أن ترسل شعرك فاحلقه فحججته بالسنة فحاجني
بأن ذلك شعار العلماء الآن) وقد صرحتم قبل ذلك بشيء في قولكم ص 221 من هذه
النمرة الحاضرة (وإنما صرح العلماء بكراهة حلق الرأس وكونه مخالفًا للسنة؛
لأنه كان في الصدر الأول شعار الخوارج، فأما إذا أخذنا بإطلاقهم كان اللوم في
ترك هذه السنة موجهًا في هذا العصر إلى علماء الدين فإنهم يحلقون، بل ينكرون
على من لم يحلق وهم مخطئون) .
هذا أم كيف يوافقكم أحد في قولكم: (ظلم وألف ظلم لعلماء الأزهر أن يقال
فيهم: إنهم يعدون علوم الدنيا خطرًا على الدين أو عائقًا عن علومه، وإنهم يجهلون
أن الإسلام جمع بين مصالح الدارين) إلى آخره.
وقد سلف منا مرارًا أنا قد رأينا في الجوائب المصرية أنها قالت في شأن
رجل عظيم من العلماء: إنه محترم المقام بين علماء المسلمين، يُجِلُّه كبيرهم
وصغيرهم لعلمه وفضله ويعدونه حجة وقته وإمام زمانه في علوم الدين وأصول
الشريعة، فهذا العالم الجليل الذي ترأس العلماء في عصره، ومن رأيه ما يقول
لمدير الجوائب ما تلك ألفاظه (غرض السلف من تأسيس الأزهر إقامة بيت لله يُعبد
فيه، ويطلب فيه شرعه، ويؤخذ الدين كما تركه لنا الأئمة الأربعة رضوان الله
عليهم ... وما سوى ذلك من أمور الدنيا وعلوم الأعصر فلا علاقة للأزهر به ولا
ينبغي له) ولما راجعه المدير واستحفاه بالسؤال قائلاً: (هل حدث يا مولاي ما
يقف للأزهر في الخدمة المطلوبة منه؟ فتبسم الأستاذ ثم قال: بل إن الذي من
شأنه أن يهدم معالم التعليم الديني ويحول هذا المسجد العظيم إلي مدرسة فلسفة
وآداب تحارب الدين وتطفئ نوره في هذا البلد وغيره من البلاد الإسلامية، إلي
آخره) وتجاهر في آخر كلامه متظاهرًا قائلاً: (إن الأزهر إنما وجد لحفظ الدين
ونشر علومه ليس إلا، وليتركوه كما هو حصن للدين وإن أرادوا به إصلاحًا فليكن
الإصلاح منحصرًا في حفظ صحة الطلبة والسهر على راحتهم وتقديم الغذاء الصالح
لهم، وما سوى ذلك من مبادئ الفلسفة والعلوم الحديثة العالية فلتدخله الحكومة إن
شاءت على مدارسها الكثيرة التي هي في حاجة ماسة إليه.
أم كيف نصدقكم في قولكم هذا وإنا نرى هؤلاء العلماء قد ثاروا وشغبوا الناس
وأثاروا في إصلاح الأزهر بما اضطر الخديوي إلي إخماد الفتنة، وخاطب شيخ
الجامع الأزهر قائلاً: (إن الجامع الأزهر قد أسس وشُيِّدَ على أن يكون مدرسة
دينية إسلامية تنشر فيها علوم الدين الحنيف في مصر وجميع الأقطار الإسلامية)
ولقد كنت أود أن يكون هذا شأن الأزهر والأزهريين دائمًا. ولما كان يخال
أن هؤلاء الرهط الذين يرومون الإصلاح كلهم مفسدون قال فيهم: (أول شيء
أطلب أنا وحكومتي أن يكون الهدوء سائدًا في الأزهر الشريف والشغب بعيدًا عنه
فلا يشغل علماؤه وطلبته إلا بتلقي العلوم الدينية النافعة البعيدة عن زيغ العقائد
وشغب الأفكار؛ لأنه هو مدرسة دينية قبل كل شيء، ومن كان يحاول بث الشغب
بالوساوس والأوهام أو الإيهام بالأقوال أو بواسطة الجرائد والأخذ فيها فليكن بعيدًا
عن الأزهر، ومن كان أجنبيًّا من هؤلاء فأولى به أن يرجع إلي بلده ويبث فيها ما
يريد من الأقوال والآراء المغايرة للدين ولمصلحة الأزهر والأزهريين) [1] .
فهل في الوجود أحد يقف على هذه الأحوال ويعرفها حق المعرفة ثم يرتاب
في أن هؤلاء العلماء أكثرهم لا يجوزون الإصلاح في المنهج القديم للتعليم،
ويحسون أن العلوم الحديثة بأسرها مطفئة لنور الإسلام، ولعمري إن هؤلاء العلماء
هم الذين اتخذوا جامع الأزهر الذي كان من حقه أن يكون رحمة وبركة للمسلمين
مركزًا للنكبة وموطنًا للمذلة ومعقلاً للمتربة وموضعًا للمسغبة، ولو نظرت إلى
العلوم التي تدرس فيها لوجدتها بأسرها علومًا بالية عتيقة اتخذها المقلدة من العلماء
علومًا دينية، ولا تجد فيها إلا تلقينَ نُبَذٍ من المسائل التي تشمئِز منها العقول وتمج
قبولها أحلام الفحول، وذلك من أجل مخالفتها لقواعد الحكمة وأصول الفطرة، ولا
يوجد فيها غير تعليم ما عداها من المطالب التي لا تستنير بها أدمغة الرجال ولا
يتسع بها فضاء علمهم ومعرفتهم، بل يتركز بها التقليد في تخوم قلوبهم، وقد امتلأ
القرآن العزيز بذمه وشُحن الكتاب المجيد برَدِّه، وجلَّ همتهم في أن يحمل الناس
على منهاج يعتقدون أن الإسلام بدع هذه البدع، ونفس الأحاديث التي ليست بأدون
من أحاديث خرافة، بل عين الشرك الجلي فضلاً عن الشرك الخفي، وإنما جهدهم
في المنع عن تعليم صنعة تنفعهم بشيء إما في الدنيا أو في الدين.
هذا شيء من حالهم في تعليم العلوم، فأما سبل التعليم ومنهاج تدريسهم ونظم
الأمور فيه فأمره أشهر من أن يُذْكَر وأبين من أن يُوَضَّح، ولقد تفجع له بعض
فضلاء الهند الذي كان حالاًّ بالقاهرة، وكتب في ذلك كتابًا إلى (حيدر أباد)
عاصمة (دكن) ولقد نشرتموه في الجزء العاشر من المجلد الخامس من مجلتكم
المنار، وبعد ذلك فهل تحسبون أنا نحسن الظن بهؤلاء العلماء ونضعهم في ميزان علماءنا السلف الذين مضوا إلى رضوان الله: كالإمام الغزالي وابن رشد الأندلسي
والإمام ابن الخطيب الرازي وغيرهم، فقد كانوا يعتقدون أن العلوم الكونية والعقلية
عين هذه العلوم الدينية، وكانوا يحضون المسلمين ويحثونهم ويحرضونهم على
تحصيلها في تآليفهم وكتبهم وأسفارهم وزُبُرِهم التي كانوا يعملونها لنشر تلك العلوم
ويخاطبون فيها إخوانهم المسلمين قائلين: (معاشر الخلان إني آنست نارًا في وادي
هذه الفنون آتيكم منها بخبر أو قبس لعلكم تصطلون) أَوَلَيس هؤلاء العلماء قد عثروا
على قضية عمر بن حسام فيما أخرج الخبر به الإمام الرازي في التفسير الكبير
من أن عمر بن حسام كان يقرأ كتاب المجسطي على عمر الأبهري فقال بعض
الفقهاء يومًا: ما الذي تقرؤونه، فقال: أفسر آية من القرآن وهي قوله تعالى:
{أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} (ق: 6) فأنا أفسر كيفية
بنائها، ولقد صدق الأبهري فيما قال، فإن كل من كان أكثر توغلاً في بحار
مخلوقات الله تعالى كان أكثر علمًا بجلال الله وعظمته، انتهى كلام الرازي
بعيون ألفاظه.
أولم يعثر علماء الأزهر على فصل المقال للحكيم الفيلسوف القاضي أبي
الوليد ابن رشد (الذي) نص فيه على وجوب معرفة الموجودات والعلم بحقائقها
من جهة الشرع، وأن القرآن العزيز قد أمرنا بذلك أمرًا أكيدًا في كثير من الآيات.
وكتب في آخر ذلك ما تلك عيون ألفاظه: (وقد تبين من هذا أن النظر في كتب
القدماء واجب بالشرع، وأن من نهى عن النظر فيها فقد صد الناس عن الباب الذي
دعا الشرع منه الناس إلي معرفة الله وهو باب النظر المؤدي إلي معرفته حق
المعرفة وذلك غاية البعد عن الله تعالى ... ) أولم يدر هؤلاء العلماء أن الإمام
الغزالي كان من قوله في علم الهيئة فيما نقل عنه الفاضل عصمة الله في التصريح
شرح التشريح للشيخ العلامة بهاء الدين العاملي من أنه من لم يعرف الهيئة
والتشريح فهو عِنِّين في معرفة الله، وأعظم من ذلك كله الأثر المأثور المشهور عن
سيدنا علي فيما أشار به على سيدنا عمر رضي الله عنه بعدم إحراق خزانة الكتب
بالإسكندرية قال: إنها علوم ليست تخالف القرآن العزيز بل تعاضده وتفسره حق
التفسير لأسراره الغامضة الدقيقة وهو معروف عنه، وقد أخرج الخبر به مفصلاً
الحكيم المؤرخ الإسلامي القاضي الصاعد الأندلسي في طبقات الأمم فيما نقل عنه
العلامة المحدث ابن عيش القرشي التيمي في بعض مقاطع القسم الأول من الجزء
الأول من كتاب (الكشف عن الغثاثة) فليرجع إليه.
هذا وإنه لن يذهب عنا الأسف والكمد الذي نجده في أنفسنا من جهة قضية
الخديوي وآرائه ومن جهة الحال التي نحس في علماء الأزهر، ونحن بهذا العصر
في حاجة إلي مثل الرازي والغزالي وابن رشد الأندلسي وأمثالهم من العلماء، ومن
كانوا في ميزانهم في الدهر الحاضر مثل الأستاذ الكبير محمد بن عبده وأضرابه
الذين يضيئون العالم بنور الدين وضياء الإسلام ويُبَيِّنُون للناس ومن في قلوبهم
مرض وزيغ عن الحق أن الديانة الإسلامية كلها تطابق العقل والفطرة حذو القذة
بالقذة، وأن العلوم الكونية بِأَسْرِها في الأصل علوم دينية يجب على المسلمين
تعليمها والأخذ بها وتعلمها، فيخرجوا بذلك عن قعر الذل وغيابة الهوان والصَّغَار
التي أُلْقُوا فيها وهم صاغرون، وقد لزم الإسلام بهم عارٌ قَبُحَ به منظره وساءت
بذلك هيئته وهم يظنون من أجل ذلك أن الإسلام هو الرادع للناس عن التمدن
والارتقاء في معارج العز والاعتلاء، فأما نحن فلسنا في حاجة إلي أمثال هؤلاء
الذين يقولون: إن العلوم الحديثة مطفئة لنور الإسلام ومخمدة لناره ومطمسة لآثاره
ومجلية له عن عقر داره ومحله وقراره.
أَوَلَيْسَ أن الحال التي انتهت إليها هيئة المسلمين مما يتضاحك بها الأعداء
ويتصارخ لها الأولياء بالعويل والبكاء، وتسْكَاب الدماء، أَوَلَيس تراكمت على
المسلمين سحائب الذل والهوان، وجلَّلَتْهم غياهب العدم من كل جانب ومكان، أي
نقطة في الوجود من نقاط الأرض يكون فيها من حال المسلمين ما لا تتصدع
لها القلوب، وتتفطر بها الأكباد، وتجود لها المحاجر والآماق بأنهار الدماء السائلات
وتنسكب لها قاني الأمطار من المقل الغائرات، وخرجت الممالك من أيمانهم
واضمحلت الدول التي بقيت في أيديهم كأنهم لا حراك بهم، وصاروا في العالم
كأنهم اللعبة تتداولها أيدي الأجانب وتتلاعب بها أكف الأباعد بما خرجوا عن امتلاك
الأقارب، لا يحس فيهم شيء من آثار الثروة، ولا عندهم ميل إلي التجار والصنعة،
بل هم زاهدون فيها، وراغبون عنها، يستقبحون شكلها ومنظرها ويستفظعون
محلها ومصدرها، ورضوا بالافتقار في تحصيل كل شيء حقير، وجلب كل
ماعون يسير من أرض أوربا. يستجلبون الفُرُش والسرج للمساجد والصوامع من
أرض الإفرنج، ولا يتخذون من ذلك شيئًا بأنفسهم وأيديهم. لم يبق لهم عزة ولا
صولة وما بقي عندهم إمرة ولا دولة، وأما عددهم، فهم وإن كانوا يبلغون إلي
ألف مليون نفس في العالم فهم بعدُ ليسوا في قطر من أقطار الدنيا ممن يفتخر
هنالك بوجودهم ولا ممن يتفاخر بهم على لسان وليهم وودودهم، أو ليفرح الرجل
بالنظر إلي عيونهم وأشخاصهم أو يسير أخوهم إذا كان يرمق إلى عددهم وأفرادهم
فماذا يكون من السبب الأصيل في ذلك، وبيد من رهنت ذمة الأمور، والذي أحسب
أن جل السبب في ذلك ليس إلا نفارهم عن العلوم الحديثة وتعاميهم عنها، وإثم
ذلك كله على عاتق هؤلاء العلماء الذين يذرون تلك الأوزار ويجوزون للمسلمين أن
يخرجوا عن غمار الذل والصغار؛ ومن ثم تراهم يرعوون عن التعاليم النافعة،
ويردعون الناس عنها بفتاوى التكفير لمن ولع بهذه العلوم الحديثة، ويحولون
بينهم وبينها وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون، ولا يشعرون أن ارتقاء
الأوربيين الذي يُضْرَب به المثل ليس إلا من جهة توغلهم في العلوم الجديدة
ونبوغهم في الحكم الحديثة، وكل دولتهم وقوتهم منسوبة في الأصل إلي تجارتهم
وحرفهم، وهي في نوبتها منسوبة إلى تناغيهم في هذه العلوم الجديدة النافعة.
دع عنك أروبا وانظر إلى هذه الأمة الحقيرة التي يقال لها أمة (جابان) أفلا
يرونها كيف ارتقت في مدة لا تنيف على عدة سنين، ولا تعد إلا على أنامل
اليدين ارتقاء مبهرًا أبهرت الأنظار وخطفت لها النواظر والأبصار، فليس أنها لم
تستكمل لنفسها مدة خمسين سنة، وكانت تعد من قبل ذلك في الأقوام المتوحشة،
وتستحقرها الأمم المتمدنة، وهي اليوم في كل شأن على أعلى مراتب الصعود
والارتقاء، وقد أدهشت الدنيا بأسرها بأعمالها البديعة التي صدرت منها في هذه
الأزمان، وكل واحد يحترمها كل الاحترام، وحرمتها مركوزة في طبع كل إنسان،
فماذا الذي قلبها عن حالها القديم، وانعكس أمرها عن شأنها الفاسد الرميم؟ ما ذلك
إلا من أجل تناغيها في العلوم والحكم. والأزهريون على خبرة من حالها ومنهاج
ارتقائها ومنوالها، وإنما الأسف عليهم من أجل أنهم لا يقيسون أنفسهم بهؤلاء ولا
ينظرون في علل تلك الأشياء، ولا يفكرون في أسبابها التي أورثتهم الارتفاع
وأورثتنا الانحطاط والانخفاض، ولو كان عندهم صواب في الرأي وحزم في
الرواية ومعرفة صحيحة بالقرآن والإسلام لكانوا يستحيون مما هم فيه، ولكان كل
واحد منهم مثلكم ومثل الأستاذ الكبير محمد بن عبده يخرج نفسه من شرك التقليد
الذي أضل الناس كثيرًا، ولكان يسلك في منهاج التحقيق الذي هو الصراط المستقيم،
ويضيء فضاء الأرض برحبها، وينور العالم الإسلامي بسعته كلها بمشعلة
الإسلام ونبراس كلام الله الملك العلام.
وليت شعري ماذا الذي عَلَّمنا القرآن والإسلام؟ هل هو بعض هذه الحركات
البدنية أم نُبَذ من تلك المراسم الظاهرية أو مطالب عديدة من مسائل النفاس والحيض
يعنون بها التعليم الديني لا غيره أم ما دون ذلك؟ كلا ولا كرامة وحاشاهما عن ذلك،
بل وقد دلانا على ما فيه جُلُّ الخير وتمام النفع في الدين والدنيا وكمال الربح في
الأخلاق والمدنية وعلَّمَانَا الأصول التي بها نهتدي إلي تحصيل تلك العوائد
الثمينة والفوائد الغالية، وأوجبا علينا اكتساب العلوم الكونية والعقلية بأسرها , ولو
كان علماء الأزهر مشاركين في آرائهم لمثلكم ومثل محمد بن عبده وينظرون
بنظر الإمعان في إمضاءاتكم البديعة الرشيقة التي علمت الدنيا أن الإسلام من بين
سائر المذاهب هو المذهب الواحد الذي يرغِّبُ الناس ويشوِّقُهم في تحصيل الفوائد
الدنيوية والعوائد الملية والقومية، وهو الذي اتخذ العلم والعقل عين الإيمان والدين
ونفسهما في الأصل، ولو لم يكن الأزهريون يظنون ظنًّا باطلاً أن العلوم الدينية
بأسرها منحصرة في الفقه ومقصورة على جزئيات المسائل الفرعية التي لا يُعْتَدُّ ولا
يُعْبَأُ بها، وأكثر المطالب ليست بجديرة للعمل في هذه الأعصر والدهور، ولو عرفوا
ما في تعليمها من ضياع العمر وتضييع الوقت ذلك ما هو معلوم عند كل ذي حِجَى،
وهم يزعمون الولوع بها مما يشيد بناء الدين لما رُؤِيَ الطلبة الأزهريون كما
هم اليوم في غايتهم من الذل والهوان ونهايتهم من الصغار والخذلان، ولو كانوا
يعلمون أن العلوم العقلية والكونية عين العلوم الدينية لكانت كلية (كيمبردج)
(وأكسفورد) تحسد الأزهر وتغبطه غبطة ما كان يجحدها أحد، ولتخرج منها في
غضون عدة سنين رجال كانوا يصعدون بالبلاد الإسلامية، ويحلقون بها إلي أعلى
ذرى الارتقاء التي وصلت إليها أمة (جابان) في هذه الأعصر والأزمان.
هذا رأيي ورأي سائر الأفراد الذين لهم خبرة بأحوال الدنيا ووقوف على
أخبارها والإلمام بتواريخها، وإني لقاطع بصحة هذا الرأي ورأي هؤلاء ممن
عداني أن العلماء هم العلة الأصيلة لكل هذا الصغار والهوان وتمام تلك النكبة
والخذلان، وهم موقوفون إذًا بين يدي الرحمن ومسئولون من لدنه فليستعدوا
للجواب، فهم الأصل الأصيل لجل هذه المفاسد وكل تلك الشنائع. وأنت يا أخي لا
تستطيع وإن جهدت كل جهدك للمحاماة عن علماء الأزهر أن تغسل هذا العار عنهم،
وتدفع هذه التبعة والنقيصة منهم، فإنك لا تستطيع أن تكذب الحس والعيان ولا
أن تدفع الوقائع التي حدثت في الأدهر والأزمان، أفهذه الكلية التي مضت لبنائها
ألف سنة وتخرج منها مليون بل أضعاف مليون طلبة، ولا يزال يخرج منها كل
عام آلاف من هؤلاء الطلبة، أفيحق أن يكون نهج التعليم في هذه الكلية بحيث
يتخرج منها طائفة من صعاليك الناس وسائلين في الرقاب ويتخذون غداءهم بالذلة
وعشاءهم بالمسكنة، ويبيتون وهم مخذولون بالمسغبة، أو يجدر بها أن ينفر فيها
عن طريق التعليم التي يتخرج منها أناس يرتفع بهم منار الدين ويتقد به نار الإسلام،
ويعلو قدر المسلمين، ويهيئ بها المسلمون إلى لواحب الصعود والارتقاء، ويزيدهم
عزة وبهاء، ويهيئ لهم ذرائع الاصطعاد والاعتلاء، وإنما يحزننا أولاً
أنا نجد المسلمين في أي مصر وأية نقطة من نقاط الأرض كانوا بأسرهم ذاهلين
عن استجلاب العلم واكتساب الحكمة، غافلين عنها غير مكترثين بها، وثانيًا أنه
حيث ما نجد لهم وسائل التحصيل حاضرة ولواحب الاكتساب متسعة ومناهج
التدريس مطروقة متفتحة، وحيثما يوجد لهم كلية قديمة مثل هذه الكلية التي هي
أقدم كليات العالم يكون فيها مثل هذا التعليم الفاسد الضار الذي تضيع فيه الأعمار
ويضاع فيها الفضة والنضار، ويصطلح الناس فيه على أن يسموا مثل هذا النهج
الباطل العاطل العتيق الذي لا ينبعث المسلمون به للنهضة، وينسلب من أجلها مادة
التحقيق عن قلوبهم الخاوية، ويبغض إليهم النظر في العلوم النافعة، اصطلحوا
على أن يسموه تعليمًا دينيًّا، وعلى أن يسموا الرجل العارف بمسائل شتى من
الطلاق والرقية والنفاس والحيض رجلاً عالمًا ولا غير.
هذا وإني لست بمسهب مقالي في هذا الشأن ولا بمطنب في شكايتي من علماء
الزمان؛ نظرًا إلي ما حوت مجلتكم الباهرة الغراء من أحوال هؤلاء العلماء
وشئونهم وأخبارهم، فنحن في غنى عن إطالة الكلام عليها وبمعزل عن إسهاب
المقال فيها، وعلى كل حال فإن الأحوال الحاضرة للعلماء ومدارسهم ومكاتبهم مما
قد تبين واتضح للناس ضررها وفقدان نفعها للمسلمين وضوح الشمس في كبد
السماء، وإنما بثي وحزني على ذلك من جهة أن الأزهر كان هو المَدْرَس الواحد
في الدنيا من قديم الأعصر والأعوام الذي كان يرجى فيه إصلاح جميع المفاسد
الملية والمدنية في الإسلام ولا غير، ولو تقبل الناس آراء المفتي محمد بن عبده
وبادروها بالقبول لكنا نأمل منه خروج المسلمين عن غيابة الذل والنكبة، ونترقب
صعودهم إلى أعلى قمة من الفوز والسعادة، ولكن عليكم بعدُ أن لا تيأسوا من روح
الله، وتجِدُّوا كل الجد في إصلاح المسلمين، وأحسنوا إن الله لا يضيع أجر
المحسنين، وكتب يوم الخميس 25 خلون من شهر ربيع الآخر، وأنا مخلصكم
الصفي الوفي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... النواب محسن الملك
__________
(*) قال الشاعر العربي:
... وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... أفاويق حتى ما يدر لهل نعل.
(1) المنار: قالت حريدة اللواء يومئذ أن المراد بالأجنبي هنا صاحب المنار.(9/679)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الرد على الشيخ بخيت
تابع لما في الجزء السادس
المسائل الدينية
(المسألة الأولى: متن الحديث)
نص حديث جابر عند ابن ماجه أورده الشيخ بخيت محرَّفًا فأشرنا إلى ذلك في
تلك الجملة الوجيزة، وكان غرضنا من تلك الإشارة الفرق بين عبارة الحديث عنده
وهي (إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سَوْطَه) وعبارته عند راويه (ابن ماجه)
وهي (إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه وسوطه) فقوله: (بسلطان) معناه
(بسلطة) فيشمل كل سلطة لكل قوي. وقد اكتفينا بالإشارة لأنه لم يكن من
غرضنا تفصيل خطأ المستنبط الجديد بل عدم الثقة باستنباطه، فلما أراد أن يرد
علينا كل ما قلناه - وإن كان حقًّا - رجع إلى الكتب التي من شأنها أن تذكر هذا
الحديث وكتب بعد ذكر عبارتنا في تصحيح الرواية ما نصه (ص32) :
(ونقول في الرد عليه: قد ذكر في (البرق الوميض) حديث جابر باللفظ الذي
ذكرنا وعزوناه في الرسالة إليه، وقد ذكره في (كنز العمال) مطولاً ونسبه للبيهقي
وفيه ألفاظ لا توجد في البرق، وجاء في آخره: ألا لا تَؤُمَّنَّ امرأةٌ رجلاً ولا يَؤُمَّنَّ
أعرابيٌّ مهاجرًا ولا يَؤُمَّنَّ فاجرٌ مؤمنًا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه وسوطه.
اهـ. وقد ذكره في منتقى الأخبار باللفظ الذي ذكره المعترض، ولعله لقصوره
قصر الرواية عليه) . اهـ.
ثم ذكر بعد هذه الجملة أن الحديث ذكر في (المهذب) و (شرح الإقناع) قال
(وذكره ابن ماجه في سننه مطولاً) وذكر آخره عنه وفيه: (إلا أن يقهره بسلطان)
ثم ذكر أسماء بعض الفقهاء الذين أوردوه في كتبهم واستنبط من ذلك أن (كل من احتج
به في موضع اقتصر منه علي موضع حاجته في الاحتجاج، وكل ذلك جائز لم يقل
بمنعه أحد ولا ضرر في اختلاف الألفاظ مع اتحاد المعنى، ألا ترى أن ابن ماجه قد
ذكره في سننه بلفظٍ، والبيهقي قد ذكره بلفظٍ، ومنتقى الأخبار قد ذكره بلفظٍ؟
ولكن حب الاعتراض على الناس يُعْمِي ويصمُّ، نعوذ بالله من ذلك) . اهـ.
أقول: قد أخطأ الشيخ بخيت في هذا المقام من وجوه:
(أحدها) أن كلامه في رسالة السكورتاه كان في رواية ابن ماجه لحديث
جابر لا في الحديث علي الإطلاق، ورواية ابن ماجه ليس فيها اختلاف وليست كما
أورده فهو قد نسب إلى ابن ماجه تحريف الحديث، أو نسب إليه ما لم يروه. ولا
يخرجه من هذه الورطة كون غير ابن ماجه قد رواه باللفظ الذي ذكره إن صح ذلك.
(ثانيها) قوله: إنه عزا حديث جابر إلى (البرق الوميض) غير صحيح،
فإن المتبادَر من عبارته في رسالة (السكورتاه) أنه نقل الحديث عن سنن ابن ماجه
نفسها فإنه قال ما نصه: (ومما يدل علي أنه لا يشترط للسلطان الذي يقلد
القضاة ويأذن بالجمعة أن يكون مسلمًا، بل يجوز ذلك من السلطان الكافر - ما
أخرجه ابن ماجه وغيره عن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: ... ) وساق الحديث وذكر في آخره (اهـ) ثم قال في
ابتداء كلام هكذا:
(ولذا قال في النهاية وغيرها: ويجوز التقلد من السلطان الجائر كما يجوز
من العادل وذكر في (الملتقط) والإسلام ليس شرطًا فيه، أي في السلطان الذي يقلد.
اهـ. كلامها) .
ثم ابتدأ كلامًا جديدًا هو حكاية قال في آخرها: اهـ. من البرق الوميض،
فهل يفهم أحد من ذلك أنه نقل حديث ابن ماجه من البرق الوميض؟ ! كلا، بل هو
يغالط أو يكتب ما لا يريد ثم لا يفهم ما يكتب!
(ثالثها) : إن البرق الوميض ليس من كتب الحديث التي يُعتمد عليها
ويوثق بها فاحتجاجه بنقله لحديث ابن ماجه لا قيمة له. ولعل اقتصاره على نقل
الحديث عنه أدل على قلة الاطلاع - ولا نقول على الجهل بالحديث وكتبه - من
اقتصارنا على عبارة منتقى الأخبار الذي هو من كتب الحديث المشهورة المعروفة
بالضبط وصحة النقل.
(رابعها) قوله: إن (كنز العمال) نسب حديثه المطول إلى البيهقي يفهم منه
أنه لم يعزُهُ إلي مخرجه الذي عزاه هو إليه، وهو ابن ماجه، والصواب أنه عزاه
إلي ابن ماجه فالبيهقي ولا نقول: إن الشيخ بخيتًا لا يعرف أنهم يرمزون إلي ابن
ماجه بحرف (هـ) .
(خامسها) ذكره ابن ماجه في جملة من رووا الحديث، والكلام في روايته
خاصة تحصيل حاصل لا يصدر من محصل.
(سادسها) إن الذين احتج باختلافهم في إيراد الحديث ليسوا كلهم رواة له
وإنما هم ناقلون، فالراوي للحديث هو ابن ماجه، وكذلك البيهقي كما في (كنز
العمال) وليس صاحب (كنز العمال) من أهل التخريج وإنما هو ناقل، وكذلك
الفقهاء الذين ذكرهم، فلا يحتج بنقل أحد منهم، وإنما يجب الرجوع إلي كتب أهل
التخريج وقد علمت نص ابن ماجه، وأما البيهقي فهذا نصه كما في السنن الكبرى
له:
(أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ببغداد أخبرنا أبو
جعفر محمد بن عمر بن البحتري أخبرنا محمد بن عبد الملك الدقيقي أنا يزيد بن
هارون أخبرنا فضيل بن مرزوق حدثني الوليد بن بكير أخبرنا عبد الله بن محمد
عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا أيها الناس توبوا إلى الله عز وجل قبل أن
تموتوا وبادروا بالأعمال الصالحة وصِلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له
وكثرة الصدقة في السر والعلانية تُؤجَروا وتحمدوا وترزقوا، واعلموا أن الله عز
وجل افترض عليكم الجمعة فريضة مكتوبة في مقامي هذا في شهري هذا في عامي
هذا إلي يوم القيامة من وجد إليها سبيلاً، فمن تركها في حياتي أو بعدي جحودًا بها
أو استخفافًا بها وله إمام جائر أو عادل فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره،
ألا ولا صلاة له ألا ولا وضوء له ألا ولا زكاة له ألا ولا حج له ألا ولا بر له حتى
يتوب فإن تاب تاب الله عليه. ألا ولا تؤمن امرأة رجلاً ألا ولا يؤمن أعرابي
مهاجرًا ألا ولا يؤمن فاجر مؤمنًا إلا لمن يقهره بسلطان يخاف سطوته) عبد الله بن
محمد هو العدوي منكر الحديث لا يتابَع في حديثه، قاله محمد بن إسماعيل البخاري.
اهـ. قول البيهقي.
أقول: ومنه تعلم أن طريقه هو عين طريق ابن ماجه لا طريق آخر كما زعم
الشيخ بخيت، وأنه أورد الحديث وبيَّن جرح راويه؛ ليعلم أنه لا يُحْتَج به.
ومن نص سنن البيهقي الموافق لنص سنن ابن ماجه في قوله (إلا أن يقهره
بسلطان) تعلم أن ما في كنز العمال من النقل عنهما محرَّف.
وأما الطبراني فلم يُخَرِّج هذا الحديث، وإنما حديثه خاص بفريضة الجمعة
ليس فيها ذكر الإمامة ولا القهر بالسلطان فهو لا يعد طريقًا ليقوى به الحديث، فما
هذا الغش والتلبيس؟ !
***
المسألة الثالثة: سند الحديث
ذكر الشيخ بخيت عبارتنا في تلك العجالة في كون الحديث منكرًا أو موضوعًا
لقول البخاري في رواية التميمي: منكر الحديث، وقول وكيع فيه: يضع الحديث،
ثم إننا أخذنا ذلك عن الشوكاني ونقل هو عبارة الشوكاني، وفيها ما ذكر عن البخاري
وعن وكيع ثم قال (ص34) (ولم يقل الشوكاني: إن الحديث منكر أو موضوع كما
اجترأ عليه المعترض من نفسه، ولا يلزم من الطعن في رجال الحديث الطعن في
نفس متن الحديث علي ما سيأتي بيانه، ونذكر لك ما قيل في رجاله لتقف على حقيقة
الحال ثم نتبعه بما يتعلق بحال المتن) .
ثم ساق سند ابن ماجه ونقل بعض ما قيل في رجاله واحدًا واحدًا ثم قال (ص
38) :
(ومما أوضحنا لك في الرجال تعلم أن كلاًّ من محمد بن عبد الله بن نمير
والوليد بن بكير ثقة عدل لا طعن فيه، وقد روى الوليد وهو ثقة هذا الحديث عن
عبد الله بن محمد العدوي ورواه محمد بن عبد الله بن نمير وهو ثقة عن الوليد، وقد
تابع محمد بن عبد الله العدوي في هذا الحديث عبد الملك بن حبيب، وأن الطعن فيه
غير مُسَلَّم ولم يتفقوا عليه وأن علي بن زيد قد روى عنه قتادة والسفيانان والحمَّادان
وخلق، وكفى بذلك توثيقًا وتعديلاً، وقد خرَّج له الأربعة والبخاري في الأدب
ومسلم في صحيحه، وإن قرن معه غيره. وبالجملة فلم يطعن على أحد من رجال
هذا الحديث بالفسق وعدم العدالة، وعلى فرض تسليم الطعن فغاية ما يقتضيه
ضعف هذا الراوي المطعون فيه، وضعف الرواة لا يسقط الاحتجاج بالحديث إلا
إذا عارضه ما هو أقوى فيقدم عليه، ولم يوجد ما يعارض هذا الحديث بل وجد من
الكتاب والسنة الصحيحة والإجماع ما يشهد بصحة معناه ويؤيده كما يأتي، وكون
الراوي منكر الحديث لا يقتضي أن متن الحديث الذي رواه منكر فإن المنكر قد
اختلفوا فيه فقال في التنقيح: هو ما لم يروه أصحاب السنن والمسانيد والصحيح
ولا يوجد له أثر في كتاب من كتب الأمهات كمسند أحمد ومعجم الطبراني ومصنف
ابن أبي شيبة وغيرهم مع شدة حاجتهم إليه. اهـ) .
ثم ذكر أقوالاً أخرى في الحديث المنكر لمتأخري المحدثين، واعتمد قول
التقريب بالتفصيل فيه كالشاذ قال: (وقد عملت أن من الشاذ ما يكون صحيحًا وما
يكون حسنًا فيكون المنكر كذلك ... ) إلخ.
أقول: كلام الشيخ بخيت هنا يدل علي أحد أمرين: إما أنه لا يعرف علم
الحديث ولا بوجه الإلمام، وإنما يراجع الكتب عند الحاجة فيكتب عنها ما يلوح له
أنه يوافق غرضه، وإما أنه يحرف الكلم عن مواضعه ويدلس و.. و.. عامدًا
عالمًا. والأول هو الأظهر، ومن الدلائل علي ذلك من كلامه هذا ما ترى من أنواع
الخطأ وهي:
1- جعل الوليد بن بكير كمحمد بن عبد الله بن نمير عدلاً لا طعن فيه، وقد
قال الذهبي في الميزان: ما رأيت أحدًا وثَّقه غير ابن حبان، وقد نسب بعضهم ابن
حبان إلى التساهل في التعديل، وقالوا: إنه واسع الخطو في باب التوثيق يوثق
كثيرًا ممن يستحق الجرح، وفي تدريب الراوي للسيوطي وفتح المغيث للسخاوي
تفصيل في ذلك محصله أن له اصطلاحًا خالف فيه غيره منه أنه كان يجعل الحسن
صحيحًا، وأنه كان يوثق من لم يطعن فيه أحد. ولم يعتمد الذهبي قول أبي حاتم
فيه (شيخ) توثيقًا وكلمة (شيخ) عند أبي حاتم في المرتبة الثالثة قال في صاحبها:
(يُكتب حديثه ويُنظر فيه) أي يكتب لأجل البحث عنه، فهل يقال في مثل هذا:
إنه ثقة كمحمد بن عبد الله بن نمير الذي روى عنه الشيخان؟ !
2- قوله: إن الطعن في عبد الملك بن حبيب غير مسلَّم، هو حكاية لقول
المقري المؤرخ صاحب نفح الطيب، وهو ليس من أهل الجرح والتعديل، وقوله
هذا لا يُعْتَدُّ به فإن الجرح المفسر مقدم على التعديل لا سيما إذا أيَّد بعض أهل
الجرح فيه بعضًا. وألفاظ الجرح فيه كثيرة منها ما نقله الشيخ بخيت عن الشوكاني
وعن ابن لباب ومنها ما ذكره الذهبي في الميزان عن ابن حزم أنه قال فيه: ليس
بثقة، وقال: روايته ساقطة مطروحة. وعن الحافظ أبي بكر بن سيد الناس أنه قال
فيه إنه صُحُفِيّ لا يدري الحديث، وضعَّفه غير واحد ثم قال: وبعضهم اتهمه
بالكذب وقال ابن حزم: روايته ساقطة مطروحة أقول: فإذا أجللناه عن الكذب فهل
نُجِلُّهُ عن القول بالجهل بالحديث الذي أيَّد كلام ابن لباب فيه قول الحافظ أبي بكر
إنه صُحُفِيّ لا يدري الحديث؟ والحافظ الذهبي نفسه قد وصفه بذلك مع اعترافه
بعلمه فإنه قال فيه: (كثير الوهم صحفي) ويؤيد هذا ما نقله بخيت من مسألة
الغرارة، والجواب الذي نقله عن المقري فيها ليس بشيء فإن الذين يقولون
بالإجازة لا يعدون من أجيز بغرارة من الكتب (أي جولق) لم يقرأها ولم تقرأ عليه -
راويًا لها ضابطًا لما فيها بحيث يُحتج بمتابعته في تقوية منكر الحديث، فليت شعري
هل فهم الشيخ بخيت هذا فأغمض فيه أم لم يفهمه؟ !
3- قوله: إن علي بن زيد قد روى عنه فلان وفلان وكفى بذلك توثيقًا -
مردود بأن رواية من ذكر عنه لا تدل على عدم الطعن فيه، بل الطعن فيه منقول
فقد قال الإمام أحمد فيه: هو ضعيف، وقال البخاري وأبو حاتم: لا يُحْتَجُّ به. ولا
ينافي ذلك رواية البخاري عنه في الأدب المفرد فإنه يروي فيه عن الضعفاء ولو لم
يكن ضعيفًا عنده لروى عنه في صحيحه. وكان ابن عيينة يضعفه وقال حماد بن
زيد أخبرنا علي بن زيد وكان يقلب الأحاديث. وقال الفَلاَّس كان يحيى القطان يتقي
الحديث عن علي بن زيد. وطعن آخرون فيه فراجعْ مع هذا سائر ما قيل فيه في
ميزان الاعتدل.
4- قوله: بالجملة فلم يُطعن على أحد من رجال هذا الحديث بالفسق وعدم
العدالة - مما يُتعجَّب منه. فإن الطعن بالفسق ليس من ألفاظ جرح الرواة الدال على
عدم الاحتجاج بروايتهم، وكأن الشيخ بخيتًا ظن أن شأن المحدثين في الرواة كقضاة
المحكمة الشرعية في الشهود، بل كشأن تحوت العامة في طعن بعضهم بعض، فإن
كان هذا فهو آثم فإنهم رضي الله عنهم ما كانوا يقولون: إن فلانًا لا تقبل روايته لأنه
فاسق أو زانٍ أو مرتشٍ، بل جعلوا للجرح مراتب ليس فيها شيء من قبيل ألقاب
السباب إلا لفظ الكذب ويذكره الجمهور للضرورة، ومنهم من يتنزه عنه كالبخاري
وقلما يصرحون بفسق الفاسق، وكل ما نقلنا عنهم من ألفاظ الجرح في رواة هذا
الحديث معناه أن المجروح ليس عدلاً؛ إذ الجرح يقابل التعديل ولا حاجة إلي
التصريح بكلمة (غير عدل) وما في معناه. فليبحث في كتب هذا الفن عن مراتب
الجرح يتبين له ذلك ويعلم أن قوله: لم يطعن على أحد من رجال هذا الحديث..
إلخ - لا يفيده في تقوية سنده وجعله مما يحتج به. وقد علم القراء ما قيل في غير
محمد بن عبد الله بن نمير منهم، وحسبهم أن البخاري قال في راوي الحديث: إنه
منكر الحديث. ومن اصطلاحهم أن مَن قال فيه ذلك لا تحل الرواية عنه، فهل يقول
الشيخ إن مَن لا تحل الرواية عنه ثقة عدل يحتج بحديثه؟ !
5- قوله: ضعف الرواة لا يسقط الاحتجاج بالحديث.. إلخ - خطأ يأتي بيانه
بعد.
6- قوله: إنهم لم يتفقوا على الطعن بعبد الملك لا يفيد -على تقدير صحته -
إلا إذا كان يشترط في الاعتداد بالجرح الاتفاق عليه.. وليس الأمر كذلك بل الجرح
مقدم علي التعديل مطلقًا أو بشرط كونه مفسرًا.
7- قوله: وكون الراوي منكر الحديث لا يقتضي أن الحديث منكر - لا يفيد
بل يقوي الحجة عليه إلا إذا صح قوله: إن ضعف الرواة لحديث لا يسقط الاحتجاج
به، ولن يصح فإن كون الراوي منكر الحديث جرح له يمنع الاحتجاج بحديثه عند
البخاري، وقد يكون الحديث منكرًا وهو مما يحتج به على القول بأنه بمعنى الشاذ،
وهو ما اعتمده وإن كان غير معتمد في نفسه، وإنما المعتمد من أقوال كثيرة أن بين
المنكر والشاذ عمومًا وخصوصًا من وجه يجتمعان في كون الراوي قد انفرد برواية
كل منهما، وينفرد الشاذ بكون راويه ثقة، والمنكر بكون راويه ضعيفًا (انظر
كشاف اصطلاحات الفنون) وإنما توهم أن الشاذ والمنكر واحد من اختلاف القوم
في الاصطلاحات.
وإنما قلنا في تلك العجالة: إن الحديث منكر أو موضوع بناءً على انفراد
محمد بن عبد الله التميمي به وعدم الاعتداد بمتابعة عبد الملك بن حبيب له؛ لأنه
ليس من أهل الرواية، وقد نصوا على أن التميمي هذا لا يتابع. وإذا تفرد منكر
الحديث أو من يضعه بحديث كان متن الحديث منكرًا أو موضوعًا. فإذا أثبت الشيخ
بخيت أن لهذا الحديث روايات أخرى يكون قولنا ذاك خطأً سببه عدم اطلاعنا علي
تلك الروايات وأين هي ومَن هم رجالها.
***
آية من آيات دقة الشيخ بخيت
في علم الحديث
قال في آخر (ص40) بعد ما تقدم:
(وقول ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به شهادة نفي، قال في الرحمة المرسلة
للحافظ عبد الحي الكتاني الفاسي: وقد قال الحافظ ابن حجر في القول المسدد في
الذَّبِّ عن مسند أحمد في حديث قال ابن حبان فيه: (إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يقله ولا عمر ولا سعيد ولا الزهري) ما نصه: قول ابن حبان شهادة نفي
صدرت من غير استقراء تام على ما سنبينه فهي مردودة. اهـ. وقال الذهبي:
الكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة تام الورع. اهـ. فقول الشوكاني تالف
لا يقبل وقول وكيع: يضع الحديث، لا يقتضي أن هذا المتن موضوع ولو كان
موضوعًا ما رواه أولئك الأعلام ويسكتون عليه ولا يبينون ذلك وقد علمت متابعة
عبد الملك بن حبيب وعدم تسليم الطعن فيه وقول ابن حجر: واهي الحديث وقول
ابن عبد البر: هذا الحديث واهي الإسناد وقول البيهقي: لا يتابَع في حديثه - كل
ذلك لا يقتضي كون هذا المتن واهيًا، قال الحافظ عبد الحي الفاسي في الرحمة
المرسلة: لأن تعدد الطرق مانع من كون الحديث واهيًا شديد الضعف؛ لأن
الضعف إذا حصل له أدنى انتعاش واستئناس أحدث فيه قوة ومعلوم أن ضعيفين
يغلبان قويًّا!) . اهـ.
أقول: قد علم القراء أن هذا الحديث لم يُرْوَ إلا من طريق محمد بن عبد الله
العدوي التميمي الذي تكرر ذكره، والشيخ بخيت ينقل كل هذه المطاعن فيه وهي
أشد ألفاظ الجرح عند المحدثين ثم لا يراها جارحة له مسقطة لعدالته مانعة من
الاحتجاج بحديثه، ومن دقيق علمه أنه لا يفرق بين قولهم: فلان لم يحتج به،
وقولهم: فلان لم يقل كذا؛ إذ جعل الأول كالثاني شهادة نفي، ولعله عندما يعود
إلى عبارته هذه يستحي منها! وإذا علم أن تلاميذه رأوها وفهموها يستحي أن يظهر
بينهم بصفة المعلم؛ إذ لا أظن أنه يخفى عليهم أن قول أهل الجرح والتعديل: فلان لا
يجوز الاحتجاج به - معناه أنه غير عدل، فعبارة ابن حبان بمعنى قول البخاري منكر
الحديث أي لا تحل الرواية عنه أو هذه أشد، وأما قولهم: إن فلانًا لم يقل كذا، فلا
معنى له إلا أن القائل لم يعلم بأنه قال لعدم استقرائه.
وهل علمت أيها القاريء من هو الحافظ عبد الحي الكتاني الفاسي الذي يقتبس
الشيخ بخيت من علمه بالحديث ويحتج بقوله ورأيه؟ ! هو الشيخ الكتاني المغربي
الذي مر على القاهرة في العام الماضي و (الرحمة المرسلة) رسالة له حاول فيها
تحسين حديث البسملة (كل أمر ذي بال) وقد جعله الشيخ بخيت حافظًا ليحتج بكلامه
ولا فخر له في ذلك فإن الذي جعله من الحُفاظ لا يعرف علوم الحديث!
وجملة القول في سند هذا الحديث: أن الشيخ بخيتًا ادعى أنه لم يطعن أحد
في رجال سنده عند ابن ماجه بما يسقط عدالتها، وأنه مروي من عدة طرق يقوي
بعضها بعضًا، وأن الأعلام رووه وسكتوا عليه، وأن متابعة عبد الملك بن حبيب
للتميمي عليه معتبرة، وكل هذه الدعاوى باطلة كما علم مما تقدم على اختصاره.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(9/691)
الكاتب: طه البشري
__________
أصول الإسلام
(الكتاب - السنة - الإجماع - القياس)
جاءنا من الشيخ طه البِشْري الأستاذ المدرس بالجامع الأزهر تحت هذا
العنوان ما يأتي:
إلى الدكتور النطاسي محمد توفيق أفندي صدقي:
بعد أن نحمد الله إليك ونصلي على نبيه المجتبى ورسوله المصطفى وآله
وصحبه:
فلقد قرأنا مقالتك التي ذهبت فيها إلى أن الإسلام هو القرآن وحده، ونشدت
من العلماء من يساجلك القول ويبادلك الحجة حتى ينتهي البحث إلى الحق الذي لا
شبهة فيه، فإذا كنت مصيبًا تابعك وأيَّدك أو مخطئًا خالفك وأرشدك وإني مناظِرك
إن شاء الله تعالى بما لا ترى فيه حرجًا عليك من إلزامك بما قال زيد ورأى خالد،
لكن بالكتاب نفسه أو بما رأيت فيه حجة لنفسك من غيره ملتزمًا جهد المستطيع حد
المناظرة الصحيحة حتى تبلغ منزلة الحق الذي ننشده جميعًا فإما تهدّيًا إلى وفاق،
وإلا فقد بلغ أحدنا من مناظره عذرًا، وكثيرًا ما ابتدأت المناظرة بالمهاترة، وانتهت
بتلاحٍ، والحق ذاهب بينهما أدراج الرياح، ولا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله
تعالى أن يعافينا وإياك من هذا البلاء.
اعلم - وفقنا الله وإياك - أن أصول الإسلام أربعة: الكتاب والسنة والإجماع
والقياس.
أما الكتاب فلا تنازع فيه، بل نراك اتخذته وحده التكأة التي تستند في أمر
دينك إليها والحجة التي تنافح عن نفسك فيما ذهبت بها.
وأما السنة فلأننا نثبتها بالكتاب نفسه فهي منه تستمد، وعليه تستند وعنه
تصدر وإليه ترجع، قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) وليس هناك من معنى لتبيين الكتاب غير تفصيل مجمله،
وتفسير مشكله، وغير ذلك من مسائل الدين التي لم يتناولها الكتاب بالنص، ولم
ينبسط لها بالبيان ومثله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا
وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (البقرة: 151) . الآية فقال: {وَيُعَلِّمُكُمُ
الكِتَاب} (البقرة: 151) ولو كان المراد مجرد تبليغه لاكتفى بقوله: يتلو عليكم
آياتنا، ولا يذهب عنك أن التعليم غير الأداء والتبليغ، ثم عطف عليه بالحكمة،
وعطفها على الكتاب يقتضي أنها هنا شيء آخر وليس هناك غير السنة، وقال
تعالى في مواضع كثيرة: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء: 59)
وطاعة الله لا شك بالرجوع إلى كتابه، وطاعة الرسول بالرجوع إلى سنته، ولو
كان المراد الكتاب وحده لما كان ثمة داعٍ للتكرار، وقال تعإلى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِث..} (الأعراف: 157) .. الآية، فنص في هذه الآية الكريمة على الأخذ بما يحل
الرسول والتحرج عما يحظر مطلقًا، وقد ثبت أن السنة أباحت كثيرًا وحظرت
كثيرًا بدون أي نص أو إشارة خاصة من الكتاب ومع ذلك يجب الأخذ بكل ما جاءت
به لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر:7) .
وقد صرح الكتاب العزيز بأن كل ما أوجب الرسول وأمر، أو نهى عنه
وحظر إنما هو من الله تعالى يجب اتباعه ولا يجوز اجتنابه؛ لقوله تعإلى: {مَن
يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) وقد أكد سبحانه وتعالى على الناس
في طاعة الرسول وشدد في مواضع كثيرة من القرآن العظيم بالترغيب في اتباعه
ووعد العاملين بأمره بعد أن قرن طاعته بطاعته في قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 71) وبتخويف المخالفين لأمره،
والمتجافين عن حكمه بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) فمخالفة الرسول - ولا ريب -
مخالفة صريحة لأمر الكتاب الصريح.
وقد استدللتَ على أن الإسلام هو القرآن وحده بقوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي
الكِتَابِ مِن شَيْء} (الأنعام: 38) . وعلى تسليم أن المراد بالكتاب هنا هو
القرآن، فإن أردت أن القرآن لم يفرط في شيء من مسائل الشريعة بطريق النص
فلا نستطيع أن نوافقك على هذا احترامًا لمكان الكتاب الكريم من الثقة والصدق؛
فإن القرآن لم يتناول بطريق النص من مسائل الشريعة إلا يسيرًا، وإن أردت أن
الكتاب لم يفرط في شيء من الدين على سبيل الإجمال، قلنا: نعم، فإن القرآن لم
يفرط في شيء من كليات الشريعة، وأنت خبير بأن ذكرها مجملة ليس كافيًا في
استنباط المجتهد ما يقوِّم به العبادة ويحرر المعاملة، على أننا نقول: إن القرآن لم
يفرط في شيء من كليات الشريعة وجزئياتها، فإن ما لم ينص عليه الكتاب منها أمر
باتباع الرسول فيه، فكل مسائل الشريعة على هذا من الكتاب إما مباشرة وإما باتباع
ما يسنه الرسول الأمين.
***
عصمة السنة الصحيحة
وأنها من الله قطعًا
لا نحسبك تخالف في أن الرسول معصوم، وأن كل ما يجري على لسانه أو
يبدو من عمله إنما هو بالوحي السماوي، أو الإلهام الإلهي الصادق، وما كان
للرسول أن يشرع شرعًا يتعبد الناس به من عند نفسه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى *
إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3-4) فأمر الرسول لا يختلف عن أمر القرآن
وكلاهما معصوم، فلا مجال ثمة للسؤال بأنه هل يفرض علينا الرسول فرضًا لم
يفرضه الكتاب؟ فإن الكتاب والرسول لا يفرضان شيئًا: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ
شَيْءٌ} (آل عمران: 128) . وإنما الذي يفرض هو الله الحكيم، ومظهر هذا
الفرض إما أن يجري على لسان النبي العظيم أو يتجلى في لفظ الكتاب الكريم،
وليس الأمر بطاعتهما إلا أمرًا بطاعة الله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) .. الآية {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) فالرسول عليه السلام هو الواسطة إلينا في نقل حكم الله العظيم
قرآنًا كان أو غير قرآن، والقول - نعوذ بالله - بعدم حجية الرسول قول بالأولى
بعدم حجية الكتاب؛ فإننا لم نأخذ الكتاب إلا منه، ولم نلقفه إلا عنه وهو أمين الله
على وحيه، وبعيثه إلى خلقه وحجته على عباده.
السنة إجمالاً مقطوع بها كالكتاب لا شك في أن الكتاب مقطوع به ولم يكن هذا
القطع إلا من طريقه الذي اتصل بنا منه وهو التواتر، والسنة بالجملة جاءتنا من
هذا الطريق بعينه؛ لأن إجماع الأمة من المبدأ إلى الآن منعقد على صحة السنة
إجمالاً عن رسول الله، وأنها أصل من أصول الدين كالكتاب، وإذا كان طريق
السنة هو بعينه طريق الكتاب لا جرم كان مقطوعًا بها إجمالاً كالقطع بالكتاب
تفصيلاً.
قلنا السنة بحسب الإجمال، أما هي الشخص فسيأتي عنها بعض التفصيل في
مراتب السنة الصحيحة.
***
عصمة الشريعة كلها
لنا في إثبات هذه الدعوى وجهان:
الأول: الدلائل الدالة على ذلك من الكتاب مثل قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن
يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَه} (التوبة: 32) ونور الله
شرعه وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9)
ولو فسرنا الذكر بالشريعة كلها كتابها وسنتها لكان الأمر ظاهرًا، ولو قصرنا
تفسيره على الكتاب لجاءت السنة بطريق اللزوم لما علمت من أنها كائنة لتفصيل
مجمله، وتفسير مشكله، ولا معنى لحفظ كليات الشريعة ومجملاتها دون جزئياتها
ومفصلاتها التي هي مناط التكاليف وعليها تدور الأحكام.
والثاني: الاعتبار الوجودي الواقع من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى
الآن، فإن الله سبحانه كما قيَّض للكتاب العدد الجم من ثقاة الحفظة بحيث لو زِيد فيه
حرف واحد لصرفه الآلاف من القارئين، كذلك أقام لكل علم يتوقف عليه فهم
الشريعة من الناس من تأدى بعملهم هذا الفرض أحسن الأداء، فمنهم من استنفد
السنين الطوال في حفظ اللغات والتسميات الموضوعة على لسان العرب حتى
قرروا لغات الشريعة الغراء من القرآن والحديث، وهذا الباب الأول من أبواب فقه
الشريعة التي أوحاها الله تعالى إلى رسوله على لسان العرب، ومنهم من جدّ في
البحث عن تصاريف هذه اللغات في النطق بها رفعًا ونصبًا وإبدالاً وقلبًا وإتباعًا
وقطعًا وإفرادًا وجمعًا إلى غير ذلك من وجوه تصاريفها الإفراد والتركيب، ومنهم
من قَصَرَ عمره - وهو طويل - على البحث عن الصحيح من حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن أهل الثقة والعدالة من النقلة حتى ميزوا الصحيح من
السقيم، وتعرفوا التواريخ وصحة الدعاوى في أخذ فلان عن فلان حتى استقر
الثابت المعمول به من الحديث الشريف، فلا محل لدعوى (حصول التلاعب
والفساد) في حديث الرسول الكريم، كيف وقد علمت أن السنة شطر الدين،
والدين قد جاء إلينا بطريق التواتر القطعي؟ ! وإذا كان نقلة الكتاب العزيز هم
العدول الضُبَّاط الحُفَّاظ الأمناء فإن الحديث ورواته إن لم يكونوا هم بأعيانهم فإنهم لا
يقلون عنهم في العدالة والحفظ والضبط والثقة والأمانة، فمن طعن في صحة السنة
فقد طعن في صحة الكتاب أيضًا.
وقد عللت صحة الكتاب وفساد سند السنة بتعاليل نرى من الحتم علينا الإلمام
بها جملة ونعقبها بما يكفي لدفعها:
(1) كون متن القرآن مقطوعًا به؛ لأنه منقول عن النبي باللفظ بدون زيادة
ولا نقصان.
(2) كتابة القرآن في عصر النبي عليه السلام بأمر منه.
(3) عدم كتابة شيء من الأحاديث إلا بعد عهده بمدة كافية في حصول
التلاعب والفساد الذي حصل!
(4) عدم إرادة النبي لأن يبلغ عنه للعاملين شيء بالكتابة سوى القرآن
المتكفل بحفظه في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (الحجر: 9) .. الآية
ولو كان غير القرآن ضروريًّا في الدين لأمر النبي بتقييده كتابةً، ولتكفل الله بحفظه
ولما جاز لأحد روايته على حسب ما أداه إليه فهمه.
ونقول:
(1) أما القطع بالقرآن كله فلا شك فيه، ولكن ليس بما ادعيت من نقله
عن النبي باللفظ بدون زيادة ولا نقصان، فإن هذا ليس كافيًا في القطع بل هو إنما
تحقق بالتواتر اللفظي، وهو الذي استفيد منه عدم الزيادة والنقصان، على أنك إن
عددت مثل ذلك موجبًا للقطع يلزمك أن تعد السنة الصحيحة مقطوعًا بها - بحسب
الشخص - كلها؛ لأنها جاءتنا أيضًا بلا زيادة ولا نقصان بل ولعُدَّ كل خبر ورد من
أي طريق بلا زيادة ولا نقصان - مقطوعًا به وهو غير مُسَلَّم.
(2) وأما كتابة القرآن بأمر النبي عليه السلام في عصره فلا نزاع فيها
أيضًا، ولكن العمدة في القطع به إنما هي بالتواتر كما قدمنا بحفظه في صدور
جماعة من الصحابة غير ممكن تواطؤهم على الكذب، والذين يلونهم كذلك ثم الذين
يلونهم إلى عصرنا هذا، على أننا لا نهمل ما للكتابة من التوكيد وفوائد أخرى كثيرة:
مثل ترتيب الآيات بعضها إلى بعض بإشارة جبريل عليه السلام، فإن القرآن
نزل نُجُومًا على حسب مقتضيات الوقائع لا بهذا الترتيب. ولا يعزب عنك أن ما
سطره كُتَّاب الوحي من القرآن ليس بين أيدينا شيء منه الآن، بل نحن لم نقطع
بحصول الكتابة في عصر النبي عليه السلام إلا بالتواتر اللفظي المسلسل إلى ذاك
العهد الشريف، وهناك تستوي الكتابة وعدمها في صحة النقل مادام مصدرها موجودًا
وهو النبي الكريم المبلغ آيات الكتاب الحكيم، فإذا كنت تعد الكتابة التي سجلت في
عهده عليه السلام هي الحجة وحدها في القطع بالقرآن، فقد شككت في القرآن المتلوّ
طول هذا الزمان في كل بلاد الإسلام. فإننا ومن قبلنا إلى قريب من ذلك العهد
الشريف لم نحظَ برؤية شيء من هذا الأثر الكريم! وإذا اعتبرت القطع بالنقل عن
ذاك الأثر قلنا: لا نسلم أن هذا موجب للقطع بصحة القرآن؛ إذ إن الكتابة نفسها لا
دليل موجب للقطع بأنها من الرسول بل هي في إثبات صحتها ذاتها محتاجة إلى
التواتر اللفظي المؤيد يقينًا لصحة العزو، فعلمت أن المدار في القطع بالقرآن
هو التواتر اللفظي لا غيره وقد نُقلت إلينا السنة إجمالاً من هذا الطريق، ولا يذهب
عنك أن العرب كانت أمة أمية، أكبر اعتمادها في حفظ مأثورها كان على
الصدور لا السطور.
(3) وأما عدم كتابة شيء من الحديث في عهده فهو لا يفيد دعوى التلاعب
والفساد، بل ربما كان عدم الكتابة مما يبالغ بالنفس في تأكيد صحة أسانيد السنة،
إذ رواية الحديث الواحد بطرق متعددة وبأسانيد مختلفة مع حفظ وسطه وطرفيه أكبر
مدفع لدعوى التلاعب والفساد. ثم إنك قلت: (من التلاعب والفساد ما قد حصل)
أترمي بذلك السنة الصحيحة المعتد بها، والمعتمد عليها المسطورة في مثل صحيح
مسلم والبخاري وموطأ مالك وأمثالها مما أجمعت الأمة على صحته، أو غير ذلك
مما نص على ضعفه أو وضعه؟ إن كان الأول فقد طعنت فيما أجمع القوم على
صحته في الجملة ومنه القرآن ولا تقول بهذا، وإن كان الثاني فإنا لا نعول منه على
شيء.
(4) وأما دعوى (عدم إرادة النبي عليه السلام لأن يبلغ عنه للعالمين شيء
بالكتابة سوى القرآن) ففي هذه المقدمة - أو شبه المقدمة - نظر، على أننا لو
تنازلنا بتسليمها لما نتجت النتيجة التي تريدها، وهي أنه لم يُرد أن يبلغ عنه شيء
أصلاً سوى القرآن (طبعًا) والنبي عليه الصلاة السلام أرسل كثيرًا من الرسل إلى
الجهات المختلفة ولم نسمع ولا تستطيع أن تثبت أنه كان يقتطع لهم من صحف
الكتاب ما يكون (الحجة) في دعوتهم إلى الإسلام أولاً، ويعلمهم أحكامه ثانيًا، ولو
كان الأمر كما رأيت ما صح تبليغ أولئك السفراء إلى الدعوة ولا اعتد بإقامتهم بين
الناس أحكام الشريعة، نعم يقال: إنه كان يكتفى بمحفوظهم من الكتاب، ونقول إنه
كان كذلك يكتفى بمحفوظهم من السنة، وإن قيل: إن النبي صلي الله عليه وسلم
أصحب وفوده إلى الملوك بكتابات مرقومة ورسائل مسطورة، قلنا: إن ذلك لم
يخرج عن الإيذان بصحة بعثة أولئك الرسل عن النبي عليه السلام وكل ما فيها لا
يجاوز الإلماع إلى الغرض الذي سرحهم إليه، وأما كونه لم يترك أثرًا من الدين
مسطورًا إلا الكتاب العزيز فقد علمت أن لا يترتب عليه شيء مما نحن فيه، ولو كان
الأمر كما تري فبِمَ كان يتعلم الناس كيفيات الصلاة مثلاً وهي القاعدة الثانية من
قواعد الإسلام؟ !
ترى أننا بعد هذا في غنًى من التماس العلل لكتابة القرآن دون السنة؟ فنحن
نقيلك من أصل العلة التي أوردتها لذلك وتكلفت مؤنة ردها، ولكنا نناقشك في هذا
الرد.
قلت: (فإن قيل: إن النبي لم يأمر بكتابة كلامه لئلا يلتبس بكلام الله. قلت:
وكيف ذلك والقرآن مُعْجِزٌ بنظمه ولا يمكن لبشر الإتيان بمثله؟ !) ونقول: إن
إعجاز نظمه لا يتحقق بقدر الآية الصغيرة مثلاً فلا مانع إذن بأن يلتبس هذا القدر
من الكتاب بالسنة، أو مثله من السنة بالكتاب، وأنت أوعى وأرشد من أن تنبه إلى
المصاب بخروج آية بل آيات متفرقات من القرآن عنه، ودخول أمثالها فيه وليست
منه، على أن عدم التباس القرآن بغيره إنما يتحقق في حق العربي الخبير بأسرار
البلاغة ودلائل الإعجاز، ولكنه غير متحقق أصلاً في جانب غيره أعجميًّا كان أو
من هؤلاء المستعربين.
على أننا نرجع إلى أصل الموضوع فنقول: إن وظيفة النبي صلى الله عليه
وسلم في هذا الباب إنما هي التبليغ من أي طريق كان، وقد قال: (ألا فليبلغ
الشاهد الغائب) وذلك غير مخصوص بالكتاب بل بكل ما سمع منه قرآنًا كان أو
سنة وقد قال تخصيصًا لهذه: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي
عَضُّوا عليها بالنواجذ) .
أما جواز رواية الحديث بحسب ما يؤديه الفهم فما لم نسمعه إلا منك، فإن
المقرر المعروف أن فهم الحديث في ذاته تابع لروايته، لا أن روايته تابعة لفهمه.
وإذا كانت روايات الحديث مسوقة حسبما تبلغ الأفهام فأحرى بها أن لا تساق أصلاً.
وكيف يجول الفكر ويضطرب الفهم في شيء قبل وروده وتقرره أولاً؟ !
وإذا أردت بذلك وقوع اختلاف الأفهام في بعض الأحاديث فذلك ضروري
كاختلافها في بعض آيات الكتاب سواء بسواء.
أما رواية الحديث بمعناه إذا غاب عن الراوي لفظه فجائز؛ لأن المراد منه
هو حكمه لا التحدي بنظمه أو التعبد بلفظه. فلا بأس إذن بروايته بأي لفظ يؤدي
معناه المراد.
***
فساد دعوى الاستنباط
من الكتاب وحده
إن المستنبط من الكتاب مهما صح فهمه وغزر علمه لا بد وأن تعترضه
مواضع لا يرى الكتاب مستغنيًا في تقرير الحكم فيها بنفسه، ولا مفصحًا بما يكون
بُلغة المهتدي وكفاية الطالب، كأن يرى ثمة لفظًا يتبادل أفرادًا مختلفة الحدود على
سبيل البدل لغةً كالقرء في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} (البقرة: 228) فإنه مشترك لغة بين معنيين متناقضين (الحيض والطهر)
وهنا لا يسعه إلا ترجيح أحدهما بمرجِّح خارجي وإلا لزم إما التوقف أو التعسف
بالترجيح بلا مُرَجِّح، وقد رجَّح الحيض أبو حنيفة بما صح عنده من قوله عليه
السلام: (طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان) ، فإنه يدل على أن عدة الحرة ثلاث
حيض لا ثلاثة أطهار. وكأن يرى المجتهد أيضًا من لفظ الكتاب ما ازدحمت فيه
المعاني واشتبه المراد به اشتباهًا لا يُدْرَك بنفس العبارة، بل بالرجوع إلى شيء
آخر كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (البقرة: 43) فإن الصلاة
في اللغة: الدعاء. والزكاة: النماء. فأي دعاء وأي نماء أريد في الكتاب؟ !
لابد من تعيين المراد بشيء آخر ولقد عيَّنه النبي وبيّنه بيانًا شافيًا تصديقًا
لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44)
فالمستنبط من الكتاب لما ذكر فيه نفسه من الأحكام (إلا ما كان نصًّا) لم يسعه
تبيين المراد منه إلا بالسنة، وهذا فوق الكثير فكيف بما لم تؤمر به في الكتاب مما
انعقد الإجماع على وجوبه كواجبات الإحرام ونحوها؟ بهذا تعلم أن الاستنباط من
الكتاب وحده والتغني به في كل أحكام الدين مستحيل.
***
مراتب السنة الصحيحة
أثبتنا أن السنة بالجملة أصل من أصول الدين كالكتاب وأنها بهذا الوصف نقلت
إلينا نقلاً متواترًا لا شبهة فيه، أما هي بحسب الشخص فمنها المتواتر وهو (ما رواه
جماعة لا يتوهم تواطؤهم على الكذب ويدوم هذا الحد فيكون آخره كأوله وأوسطه
كطرفيه) وهو موجب لليقين كالعيان علمًا ضروريًّا فهو كالكتاب في صحة متنه،
وصدق عزوه بحيث يكفر منكره قطعًا؛ لأنه جحود للمستيْقَن بأنه من الله - وفيها
المشهور (وهو ما كان آحاديًّا في الأصل ثم اشتهر شهرة مستفيضة) - ومنها
الصحيح وهو (ما رواه العدول الضُبَّاط الحُفَّاظ من غير شذوذ ولا علة) . وغير ذلك
من أقسام السنة الصحيحة كثير.
وإذا كان القاتل يقاد منه بسفك دمه في عرف الشرائع - وما أدراك بحرمة
الدم - بمجرد شهادة عدلين، ألا يجب العمل في حكم شرعي بشهادة اثنين أو أكثر
من العدول الثقاة الأوفياء من صحابة رسول الله وتابعيهم. بل لو شئت لأوردنا لك
ما قال الشافعي حجة لنفسه في العمل بخبر الواحد، بل لأوردنا ما قال الله تعالى حجة
علينا في ذلك.
حكم الله بين السنة والكتاب حيث قد ثبت أن السنة الصحيحة شرع من
الله تعالى، مُتَعَبَّدٌ بها فيما كان عبادة ومتعبد بحكمها فيما كان معاملة فهي لا تناقض
الكتاب مطلقًا ولا دليل هناك على دعوى (وقوع التضارب والاختلاف) بين ما
ورد من الأحاديث الصحيحة المعمول بها في شرع الله القويم؛ لأن منشأ هذا
التضارب المدَّعى لا يخلو إما أن يكون من الأصل أو النقل أما من الأصل فمستحيل
لأنك ولا شك تعترف معنا بوجوب الصدق والفطنة والعصمة لجميع الأنبياء وليس
بشيء من هذه الواجبات أن يُحدث النبي في شرع الله بالمتضارب المتناقض، بل هذا
- والعياذ بالله تعالى - كذب لا يجوز لمسلم أن يرمي به نبيًّا معصومًا، وأما من حيث
النقل فقد بينا لك منه وجه الحجة وقلنا: إن نقلة السنة هم العدول الثقاة. وليس
(ولوع المتقدمين بجمع روايات الحديث مدعاة إلى وقوع التضارب والاختلاف فيها)
بل هو أدعى إلى حفظها وصيانتها. ولعلك لم يفُتك قراءة شيء من تاريخ أولئك
الأخيار العاملين الذين تصرمت أعمارهم في هذا السبيل؛ إذ كان يمضي الواحد منهم
الشهر والشهرين والأكثر متنقلاً بين الأقطار والأصقاع تنقُّل البدر بين منازله التماسًا
لتحقيق حديث واحد من أفواه الثقاة الأمناء، ولو أنه ظفر به من طريقه بعد طول
الجهد ثم اختلج في نفسه أقل شبهة من أحد رواته نفض يديه منه وانقلب إلى أهله
خاويًا من ذاك الحديث وفاضه.
وإليك كثيرًا من هؤلاء كالبخاري ومسلم ومالك والشافعي وأضرابهم الذين هم
الحجة في نقل الحديث الصحيح المعتد به والمعوَّل عليه وقولك بعد: (إن المجتهدين
تحققوا أن أكثر الأحاديث موضوعات!) هو حجة لنا أيضًا؛ لأن تمييزهم للموضوع
والضعيف تمييز - ولو بطريق اللزوم - لغيره وهو الصحيح.
قلت: (المجتهدون) وهم إما الصحابة الذين تلقوا الأحاديث بآذانهم عن فمه
الشريف بلا واسطة، والحديث في حق هؤلاء لا يختلف إلى صحيح وموضوع
وضعيف؛ لأن هذه الفروق إنما هي راجعة إلى قوة السند وضعفه ولا يكون هذا في
حال تسمعه من الرسول الكريم، فإن الحديث كله في حق سامعه منه عليه السلام -
صحيح مقطوع المتن كالقرآن، وأما غير هؤلاء ممن لم يتلقَّ الحديث الكريم إلا
بالواسطة، وهذه الواسطة إما أن تكون موجبة لليقين كما إذا كانت التواتر أو الظن
بالخبر أو كما إذا كانت غيره من الطرق المعتبرة التي أقلها موجب أيضًا للعمل وإن لم
يكن موجبًا لليقين؛ إذ التكليف باليقين تكليف بما لا يطاق أو موجب للحرج على
الأقل وهو مدفوع بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} (الحج:
78) بل المجتهد ليس مكلفًا فيما إذا كانت الأحكام غير مقطوعة المتون كما في
الأخبار الأحادية إلا بالبحث والتنقيب للعمل بالأقرب إلى يقينه وهو الأرجح في
ظنه والأخبار الأحادية الصحيحة تبلغ ولا شك هذا المقدار، فالعمل بها على هذا
واجب، وأيضًا كون بعض أحكام الأحاديث ظنية - لأن سندها ليس إلا موجبًا
للظن - لا يقدح في وجوب العمل بها كما لا يقدح في وجوب العمل ببعض أحكام
الكتاب نفسه التي دلائلها ظنية، وإن كانت مقطوعة المتن، كل مجتهد يحملها على
الوجه الذي يؤديه إليه مبلغ علمه وفهمه، فالقول بأن المجتهدين كلهم على حق
ليس (قول باجتماع النقيضين) بل المراد أن الحق على فرض كونه واحدًا دائر بينهم
وتعيينه في جانب واحد دون الباقين تعسف، بل المراد أن كل مجتهد بحث عن
الحق بما في وسعه حتى اهتدى إلى النقطة التي يلزمه اتباعها دون غيرها، وهي
التي يقال: إنها الحق بالنسبة له، والذي لا يجوز له التحول عنه، بل الذي خرج
ببلوغه من عهدة التكليف، فلا بأس إذن بالقول بأنهم جميعًا على الحق من هذا
الوجه.
وليس ثمة تعارض في السنة الصحيحة - كما قلنا - لا للكتاب ولا لبعضها
البعض. فإن الوارد فيها إما مُفَصِّل لما أجمل في الكتاب أو مُظْهِر لما خفي أو غير
ذلك مما يحويه معني التفصيل والبيان. وأما ما يخالف ظاهره منها الكتاب فكما يرد
في كثير من الآيات يخالف بعضه ظاهر بعض فمُؤَوَّل فيه حتى يطابق النص الكريم
سواء أخذنا بقول القائلين بنسخ السنة الصحيحة للكتاب إذا صح التعارض وامتنع
التطابق أو ذهبنا مع الذاهبين إلى أنه لا شيء من السنة بناسخ للكتاب؛ لأنه لا يقع
بينهما التعارض أصلاً، فلا تعارض هناك مطلقًا بين السنة والكتاب أما على الثاني
فظاهر، وأما على الأول ففرق ما بين النسخ وهو إلغاء حكم بآخر- كما في آيتي
العدة - والتعارض ببقاء الحكمين المتناقضين جميعًا، ولا قائل به من هؤلاء أو
أولئك.
وكذلك يقال فيما يرد من الأحاديث مخالفًا بعضه لظاهر بعض أي أنه يتأول
في أحدهما حتى يطابق الآخر أو يكون بعضه ناسخًا للبعض إذا تعارضا ولم يمكن
التطابق. فاختلاف المجتهدين راجع إما إلى الاختلاف في الفهم فيما كانت دلالته
على الحكم ظنية، وهذا يستوي فيه الاستنباط من الكتاب والسنة، وإما إلى
الاختلاف في العلم بأن يتلقى الواحد منهم حديثًا لم يصح عند الآخر - مع طول
البحث وفرط الجهد - أو لم يصل إليه علمه أصلاً. وقد يكون أحدهما ناسخًا أو
مطلقًا والثاني منسوخًا أو مقيدًا مثلاً، ولا يقال: إن أحدهما على الباطل بعد إذ
علمت ما قلنا في هذا السبيل من أن المجتهد مكلف بما يؤديه إليه اجتهاده وإلا للزم
الحرج وهو مدفوع على أن هذا ليس خاصًّا بالاجتهاد من السنة بل ومن الكتاب
أيضًا كما بينا.
أما خبر: (إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق
فاقبلوه وإن خالف فردوه) فغير صحيح على أننا لو سلمنا صحته فلا يمكن أن يكون
معناه أن يحدث بما يخالف حكم الله في كتابه وكيف وهو فوق عصمته أبلغ الناس
للكتاب حفظًا وأعظمهم لآياته تدبرًا، وأكثرهم لها ذكرًا، فتعين المعنى إذا صح
الخبر: إذا روي لكم عني حديث فاشتبه عليكم وجه الحق فيه فاعرضوه على كتاب
الله فإذا خالف فردوه فإنه ليس من قولي، والله أعلم.
أما الوارد من الطريق الصحيح فقد عرفت مبلغ القول فيه وسواء صح هذا
الخبر أو لم يصح فقد سقط الاستدلال به في هذا المقام، وأيضًا لو كان الأمر كما
رأيت من أن هذا الخبر دليل على كفاية القرآن والأمر بعدم قبول شيء من السنة إلا
ما وافقه منها نصًّا (طبعًا) لكان كل ما جاءنا من السنة - وهو بمجموعه متواتر لا
شبهة فيه - عبثًا تصان عنه أفعال العقلاء فضلاً عن الأنبياء ما دام هو بينة الذي
نص عليه صريح الكتاب، ولكان الأليق بمقام الرسول الكريم أن لا يحدث بحديث
مطلقًا حتى ولا بهذا الحديث الذي أوردته على فرض صحته وكذلك خبر: (لو كان
- أي الوضوء من القيء - واجبًا لوجدته في كتاب الله) فغير صحيح أيضًا ولو بما
أثبت ظاهره بالمعنى الذي فهمته ما أسرعنا إلى رده في الخبر المتقدم ولو صح ما
عيينا بتفسيره على ما يوافق إجماع المسلمين على أنه قد وردت السنة الصحيحة
الصريحة في ذاك نكتفي منها بخبر واحد معناه أنه سألت سائلة ابن مسعود - ومكانه
من العلم والدين والثقة مكانه - إني امرأة أصل الشعر فهل يحل ذلك لي؟ فقال: لا
يحل، فقالت: كيف وهذا ليس في كتاب الله؟ ! فقال: لو قرأت كتاب الله لوجدتيه
فيه، فقالت: إني قرأت ما بين الدفتين فلم أجده، قال ألم تقرأي: {وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) فهذا في كتاب الله، فقالت:
بلى.
* * *
الإجماع
وحجته من الكتاب العزيز أيضًا لقوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ
مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ
مَصِيراً} (النساء: 115) وليس هناك من سبيل للمؤمنين غير ما اتفقوا عليه من
قضايا الدين ككون فرض الظهر أربعًا والمغرب ثلاثًا، وكون نصاب الضأن أربعين
والبقر ثلاثين ونحو ذلك، وأين وليت وجهك إلى أي فريق شئت في تعريف هذا
الإجماع وأهله فهو حجة عليك في كل المسائل التي خالفت إجماع المؤمنين قاطبة
عليها.
القياس
أثبتَّ القياس فكفيتنا مؤنة إثباته غير أنك أنكرت السنة، ومنكرها منكر للقياس
بطريق الأولى، على أننا نثبتهما جميعًا.
(المنار)
لهذه المقالة تتمة عنوانها (العقل والدين) ويليها بقية الرد وقد نشرنا عبارته
برمتها على طولها لنزاهتها واستيفائها للمقصد.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(9/699)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أميل القرن التاسع عشر [*]
المكتوب العاشر - من أراسم إلى ولده
عن لوندرة في 15 فبراير سنة 1860
لا حق لك يا عزيزي أميل في أن تكون بلا رأي سياسي، فأيما رجل يعيش في
قوم ويظهر معتزلاً لما يتعارض بينهم من المصالح غافلاً عما يتقاسم عقولهم من
المذاهب - فهو غاية في الحقارة والخسة وكان حقه أن ينشأ بين المتوحشين بل
المتوحشون يشتغلون بمصالح قبيلتهم بغيرة وحمية.
نعم، قد كان رؤساء الحكومات أكدوا للناس في الأزمان الغابرة أنهم مرسلون
من عند الله لسياستهم وتدبير شئونهم وكان عمل الرعايا على هذا الغرض قد قصر
على الطاعة المطلقة لأوامرهم فكانوا مِلكًا لولاتهم وخاصتهم كما تملك الأرض ولا
حق للأرض في أن تثور على اليد العاملة فيها. وأما الآن فلم يبقَ في البلاد المهتدية
بهدي العلم من أنصار هذا الحق الإلهي الذي يزعمه الملوك إلا النزر اليسير وقد
قضى العقل على بعض المذاهب السياسية المأخوذة من القوانين الإلهية ثم دل
التاريخ على أن السلاطين كانوا يسقطون من عروشهم ولم تكن عناية الله تأخذ
سلاحها لنصرهم وأنه كان من الميسور للأمم كل اليسر أن يستغنوا عنهم [1] .
هذا السلطان المعصوم الذي لم يكد يبقي للإنسان جراءة على ادعائه
للأشخاص في وجه عبر التجرِبة الزاجرة لا يزال يدَّعي للأوضاع البشرية فلا تكاد
أي حكومة من الحكومات تستقر حتى تدعي أنها حلت محل المحكومين في أفكارهم
وعزائمهم.
ولا يخفى أن البلاد التي وضعت حكومتها على هذا النمط يكون من عادة
شيوخ بيوتها لفرط حزمهم وبلوغهم في حد الجبن أن يعظوا شبانها بأن لا يشتغلوا
بالسياسة.
تسمع الأب منهم يقول لابنه: (يا بني آن لك أن تغتني وتتزوج وتجعل
لنفسك في الناس ذكرًا وليس من حقك الاشتغال بما وراء ذلك لوجود رجال عهد
إليهم الحاكم بمحض إرادته أن يفصلوا في جميع المسائل ويوزعوا المثوبات
والعقوبات على الناس فهم كما تقول التوراة أنفاس منخرية التي تحرق أموال
المعاندين للنظام المقرر كما تحرق السموم نبات المزارع، فالأحزم لك أن تخلي بين
الحكومة وعملها وإذا كان لا بد لك من رأي فلا بأس من أن تختار لنفسك ما يلائمها
من الآراء على شرط أن تقصره عليها؛ لأنه لا فائدة للمرء من الاشتغال بمصالح
غيره (والعاقل من يتوقى إدخال أصبعه بين الشجرة ولحائها) [2] .
وأما الأمم الحرة فالأمور فيها تجري على ما يخالف ذلك كل المخالفة، فلا يكاد
طالب العلم فيها يملك اليسير من فصاحة المنطق حتى يمارس المناظرة في المصالح
العامة وكل فرد من أفرادها إذا أراد أن يكون شريفًا وجب عليه أن ينتمي إلى حزب
من الأحزاب وهم بعيدون كل البعد أن يعتقدوا أن في مجاهدات المعيشة السياسية
ضررًا بالمعيشة البيتية بل هم يجلون الفضائل الخاصة على نسبة اتساعها وامتدادها
في ميدان الفروض العامة ولو أن وجدان العدل كان قاصرًا على المعاملات الخاصة
لعُد من الظلم في حق عامة الناس.
إذا تكرر هذا قلت: إن جميع الأمم خلقت لتكون أحرارًا ومن العبث أن يزعم
زاعم أن منها من هي مفرطة في الطيش، وفيها من هي غالية في التحمس، ومنها
من هي غاية في الجهل، ومنها من هي متنطعة في التأنق. فقد نسي أن الوسيلة إلى
ترقية أخلاق الأمم إنما هي ترقية أوضاعها وقوانينها ولا مراء في أن هذه الأوضاع
المؤسسة على الحرية لن تنزل من السماء! وأنه من الحمق والجنون أن تنتظرها
أمة من حكامها؛ لأن جميع الحكومات المستبدة مبنية على قاعدة أن الناس عاجزون
عن سياسة أنفسهم فكيف يرضى الحكام حينئذ أن يكذبوا أنفسهم بالتخلي عنهم وقد
يرخون زمامها أحيانًا حذقًا منهم في تصريفها وحزمًا ولكنهم يعرفون عند الحاجة
كيف يرتجعون تصريف شكيمتها إلى أيديهم. ليست الحرية بجميع أنواعها مما
يعطى ويوهب بل هي مما يغنم بالجهاد والمكافحة، فشدة كفاح العقول والعزائم
وجملة إخلاص المخلصين الخاملين وتصلب من لا يستخذون للذل من أفراد الأمة -
هي التي بضرورة الأحوال نفسها تكره غاصبي حق الحرية على إرجاعه إلى
نصابه ورده إلى أربابه وما يحصل من التعذير في أثناء الجهاد لا يلبث أن يزول
وما يعقبه من الرقي دائم لا فناء له، فإن القاطع يبلى بعمله في المقطوع.
ليس من قصدي مطلقًا أن أبعث في نفسك كراهة الأمة التي خلقت للمعيشة
فيها فأنت صاحب الحكم على أهل زمانك ولكن حذار من الاحتقار لغيرك
والاستخفاف به فإن عصرنا سيشتهر في التاريخ بخطوبه ومصائبه؛ لأننا قد عملنا
في الحكومات التي تعاقبت على البلاد وهي حكومة الإصلاح والحكومة المقيدة
والجمهورية وحكومة نابليون، وليست العصور التي تغمني وتؤلمني هي التي
تسعى فيها أمة عظيمة للحصول على الحرية من خلال الحوادث، وإنما هي التي
تخلد فيها إلى الدعة من غير أن تنال حريتها.
إن لداتي من جيل بذل نفسه في سبيل الحرية وأنا أشتهي بمجامع قلبي أن
يكون الناشئون أسعد منهم حظًّا وأوفر غبطةً ولكن ينبغي لهم أن يستفيدوا من زلاتنا
وتجاربنا.
إنا قد غلونا فيما رجوناه من تصاريف الزمان، وكلما سألت نفسي عن سبب
مصائبنا خِلتني أجده في عيوب تربيتنا السياسية فأشدنا بعدًا عن الإيمان يؤمن
بالمعجزة، ذلك أنه يعتقد في تغيير أحوال الأمة بأمر من أوامر حاكم مطلق مؤقت
الحكومة أو - على الأقل - بأمر مجلس حاكم. ولقد شهدت فرنسا غير مرة تلاشي
بيوت حاكمة كانت تعتقد متانة دعائمها وزوال مقاصد لبعض الطامعين من رجالها
الذين كانوا يدعون المستقبل لأنفسهم ثم إنها لما انتصرت انتصارها العقيم القصير
المدة كان اشتغالها بتحرير نفسها واستخلاص مصايرها أقل بكثير من اشتغالها
باختيار الرجال الذين ألقى إليهم الاتفاق زمام سياستها، نعم إن شكل الحكومة
واختيار الرجال الذين يصرفون زمامها ليس مما لا يعبأ به ولكن ينبغي أن تكون
الأمة هي المنشئة لحريتها على اختلاف ضروبها.
قد مضى زمن (المسحاء) فلن يُرى بعد الآن لا في شكل حكومة منجية ولا في
صورة حكومة تأتي إلى الدنيا بالنور والهدى، فعلينا أن نخلص أنفسنا من خداع
الناس ونطهرها من وثنية الأوهام؛ لأن الأمم لا تنال حريتها باتفاق ولا بسلطة
غيبية فائقة للطبيعة [3] ولا بالبخت فلتنظر فرنسا في نفسها تجد أن بختها هو
عزيمتها.
أنت حدث ومغترب عن بلادك فوسيلتك إلى خدمتها هي أن تنفي عن عقلك
الجهل والأوهام والأضاليل التي تبذر في الدنيا بذور الطغاة الغاشمين إذا فعلت ذلك
كنت قد أديت في سعيك إلى الحرية شيئًا من العمل والتعلم ائتمارًا بالشر لاستئصاله.
فلو لم يكن نظام تربيتنا برمته من شأنه تحرير أبناء الوطن من ملكة الاستقلال
بالفكر والإرادة لكانت فرنسا قد اهتدت الطريق إلى الحرية من زمان بعيد فإما أن
يكون هذا هو ينبوع ما أصابته من ضروب العجز وإما أن أكون مخطئًا خطأً فاحشًا.
لا حق لنا أن نعيب على الأتراك اعتقادهم بالقضاء والقدر , فنحن أثبت منهم
فيه ألف مرة؛ ذلك أننا تابعون لبخت يومنا خاضعون لمقدور سياستنا مؤدون لميثاق
الطاعة لحكومتنا حتى ولو انتقلت إلى أيدي الكفار وقد أصبح خمود الهمم وانحلال
العزائم ملاذًا يلوذ به أشدنا أنفةً وإباءً تراهم لما حل بهم من الكآبة وكسوف البال
يحولون وجوههم عما يجري بين أيديهم من الأمور كما لو كان لأي واحد من الناس
أن يقنط من أهل زمانه ومن بلاده.
إذا ظهر الشر والفساد في الأمة كان حقًّا على الإنسان ومن مقتضى عظمته أن
يجاهد في إزالة سببه وليس يكفي الرجل الصالح افتخاره أحيانًا بأن يتخيل في نفسه
عالمًا آخر يطوي فيه معتقداته ويشرف من أعاليه على أمور دهره فيحتقرها بل
عليه أيضًا أن لا يدخر سلاحًا في مكافحته.
ليست أمة من الأمم من هذا العجز في شيء فأنت تعرف كلمة (جوفينال) [4]
فكن خيرًا منهم وأنور فكرًا.
إن ما يشكو منه جميع الناس في أزمان التدلي من خمود النفوس وأثرة التواكل
وبله الاستسلام لضرورة الأحوال منشؤه الناس كلهم أيضًا فما منهم إلا شريك في
الهلاك العام إما بسكوته وإما بامتناعه اختيارًا عن العمل على أن تلك الأزمان هي
التي يتأتَّى فيها للنفوس الأبية أن تشتد وتثبت في تيار الدمار فعلينا - إن لم نأنس
من نفوسنا كفاية في القوة - أن نستعين من سبقت لهم الشهادة في سبيل الحق ومن
ماتوا من الكتاب وهم يجاهدون الاستبداد ويعالجون عمى البصائر قبل أن يجنوا
ثمار كدهم ومن خروا من منابرهم من الخطباء مخضَّبين بدمائهم ومن حكم عليهم
من العقلاء بشاق الأعمال وشكلوا خلال القرون الماضية في سلاسل العبودية
المعنوية.
ولنتأمل في ماضينا فإنا نجد فيه من السجون المظلمة والمنافي وأنواع العذاب
والنكال ما يشهد لنا بنزاهة مقصدنا نزاهة لا تدافع.
ألا إن لواء الحرية يُظل جميع المقاومين والمكروبين والمهيضين في سبيل
تأدية ما فرض عليهم وبهذا اللواء سيكون لنا الفوز والظفر وعلى هذا الاعتقاد. أقبّلك
قبلة الوداع اهـ.
__________
(*) مترجم من كتاب أميل القرن التاسع عشر في التربية.
(1) ما ادعاه الكاتب من تأكيد الملوك لرعاياهم أنهم مرسلون من عند الله أمر ثابت في التاريخ بل قد بلغ الغلو في هذه الدعوى ببعضهم أن ادعى الألوهية والصحيح المعروف لذوي العقول المطهرة من رجس مذهب الماديين أنهم عبيد استخلفهم الله في الأرض بمقتضى طبيعة أهلها لحفظ نظامهم فإن أحسنوا الخلافة سعدوا وسعد بهم رعاياهم، وإن أساءوها شقوا وشقوا بهم: [يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ] (ص: 26) وما يزعم من قضاء العقل على المذاهب السياسية المأخوذة من القوانين الإلهية ليس صحيحًا على إطلاقه فإن القوانين الإلهية المحفوظة من التحريف هي أس العدل والحرية. واستشهاده بسقوط الملوك من عروشهم وعدم نصر الله لهم، وسوء تعبيره عن ذلك لا يدل إلا على أنه جهل أن الله لا ينصر إلا من نصره باتباع أوامره وأحسن السيرة في خلقه وأنه تنزه أن يحتاج في النصرة إلى الاستعانة بعدة أو سلاح.
(2) المثل العربي: (لا تدخل بين العصا ولحائها) .
(3) إنكار الكاتب تأثير السلطة الغيبية - يعني الله جل شأنه - في حرية الأمم أثر من آثار المذهب المادي القائل بأنه لا وجود لهذه السلطة، نزه الله عقولنا من لوثه.
(4) جوفينال: كاتب لاتيني هجائي شهير كان يعيش في آخر القرن الأول من الميلاد ومات في عهد الأنتونيين (بيت من بيوت الملك في روما) .(9/712)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
(حواء الجديدة أو إيفون مونار)
ألف نقولا أفندي الحداد قصةً صوَّر فيها كيف يغوي الرجل المرأة حتى ينتهك
عِرضها ثم يتركها فتقع في الشقاء، وتضطر إلى البغاء فيحتقرها الناس من دونه
وهم ظالمون وبالغ في لوم الناس على ذلك حتى عذر الفواجر أو كاد، ووعد بكتابة
القصص في المسائل الاجتماعية , وقد كتب إليَّ كتابًا أرسله مع نسخة من القصة
قبل نشرها يقول فيه: إنه يرغب الوقوف على رأي (علمائنا) في القصة
وتأثيرها فيهم فأجبته بالكتاب الآتي:
عزيزي الفاضل..
رغبت إليَّ أن أقرأ قصتك الجديدة (حواء الجديدة) وأكتب إليك برأيي فيها
وأثرها فيَّ بعد القراءة. أراك أحسنت في التصوير والتخييل. واعتصمت بحبوة
النزاهة والأدب في التعبير. وأراني استعبرت لغير ما عبارة في القصة، أما
الموضوع الاجتماعي الذي نفخت فيها من روحه فليس طريفًا عندي قرأت وسمعت
فيه شيئاً عن الإفرنج وفكرت فيه كثيراً ولعل ما قرأته لك فيه خير من قليل ما
علمته عنهم وأبشرك بمستقبل حسن في خدمة أدب النفس والاجتماع بما توجهت إليه
من وضع مثال لهذه القصة في غايتها دون خصوص موضوعها.
كل بغي شقية في هذه الحياة قبل الحياة الآخرة ولكن يعز أن يوجد في بلادنا
بغي لها من مكارم الأخلاق وشرف النفس وجودة الذهن بعض ما رويت عن
(إيفون مونار!) ويوشك أن يوجد لها ند في بلاد الإفرنج لمكان التربية الدينية
والأدبية عندهم كما وصفت من تربيتها فأكثرهن - إن لم نقل كلهن - قوارير أقذار،
وقرارات وقاحة وصغار، لا فائدة من تصغير جرائرهن، وعطف القلوب عليهن،
إلا جذب من بقي عندنا سليم الفطرة إليهن، أقول هذا وأنا على تعجبي من فساد
فطرة من يستطيع الدنو منهن ممن يحزن لشقائهن ويصدق أن أكثرهن مكرهات
على الفجور كارهات للبغاء لو وجدن مخرجًا منه لهرعن إليه حتى إنه سبق لي
بحث مع بعض أهل الفضل في وجوب السعي لإنشاء ملجأ يؤوي من يريد التوبة
منهن ويغنيهن عن طلب الرزق بأعراضهن ولو وُجد من يسعى الآن في مثل هذا
لكان يكون للاعتذار عنهن والاستعطاف عليهن فائدة.
لك أن تصف من شقائهن بما شئت من إسهاب؛ لتنذر المعرَّضات لمثل فعلهن
أن يتدهورن في هاويتهن، ولك أن تصف من فساد الفاسقين وتشوه من سيرتهم بما
استطعت من إطناب، لتنفر عن مثل عملهم، وتحذر الفتاة الغر من تغريرهم،
فتكون على بصيرة من عاقبة فجورهم، وما يتوسلون به من بهتانهم وزورهم،
وليس لك في رأيي أن تجعل ما تكتب منظاراً يكبر مخازي الفساق من جهة ليصغر
فضائح الفواسق من الجهة الأخرى.
إذا انتقدت عليك تصغير فاحشة المسافحات في مقابلة تكبير فاحشة المسافحين
مرة فإنني أنتقد الاحتجاج على تصغيرها بشيوع الفاحشة في ربات البيوت ذوات
البعول سبعين مرة لأن ذنب المسافحات أشد ضرراً من ذنب ذوات الأخدان بل لأن
إظهار ذلك وبيان أن الناس يتسامحون مع ذوات الأخدان وهم يعلمون بخيانتهن
لأزواجهن يضر نشره في قصص يقرأها النساء من العذارى والأيامى، إذ لا
تتصور التي تلين للفاسق أن بذل عرضها يفضي إلى أن تكون بغيًّا مسافحة وإنما
يغلب على ظنها أنها تصادف زوجًا يستر فضيحتها بغفلته، أو قلة غيرته.
قرأت ما كتبت إيفون عن خداع ذلك الشرير لها وعن اجتهادها في استرداد
شرفها بالسيرة الحسنة وعن عجزها وإعواز ما تروم فتمنيت لو تقرأ ذلك العذارى
اللواتي أصبحن عرضةً لمثل ذلك البذل لأعراضهن بإطلاق أهليهن العنان لهن مع
كثرة ما يحاول الفساق من مخادعتهن، وقرأت ما كتبت أنت من شيوع الفاحشة في
ربات البيوت وإغضاء الناس عنهن فتمنيت لو لم تطلع عليه قارئة لا سيما إذا كانت
عذراءً.
هذا ما كان من أثر القصة في نفسي استحسان لما عدا الأمرين المنتقَدين من
ناحية ما تنظر من تأثيرهما وأرجو أن تتوخى فيما ستكتب الغاية والفائدة أكثر مما
تتوخى من حسن الوضع ولطف التعبير وقوة التأثير وأجدر بمن يعرض عمله لنقد
الرجال أن يبلغ منه غاية الكمال.
***
(التعليم والإرشاد)
كتاب جديد تأليف السيد محمد بدر الدين الحلبي. القسم الأول منه في التعليم
وفيه الكلام على العلوم والمؤلفات وبيان الجيد منها من غيره وشرح أسباب انحطاط
العلوم الشرعية وذكر الطرق النافعة في التعليم.
هذا ما كتب على ظهر الكتاب ونقول: أما المؤلف فهو من أذكياء المجاورين
في الأزهر وقد اشتغل بتصحيح كثير من الكتب التي طبعت حديثاً وفيها كثير من
مصنفات المصلح العظيم شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وتلميذه ووارث علومه ابن
القيم وبعض كتب الأدب النفيسة فاستفاد بذلك وبالأسفار وقراءة الصحف ما امتاز به
على كثير من أقرانه وحرك همته للبحث في الكتب النافعة والتعليم.
وأما الكتاب فقد عرف من اسمه وما كتب عليه من بيان موضوعه وهو من
أهم الموضوعات لهذه الأمة التي لا ترجى لها الحياة الطيبة إلا بإصلاح التعليم
والإرشاد , وقد أهدى المؤلف كتابه إلى الجرائد والمجلات فشكرًا له على عمله
وشكرًا له على هديته , ومن الشكر أن بادرنا إلى التنويه له قبل مطالعته كله وقدمناه
على مطبوعات كثيرة أهديت إلينا من قبل.
قرأنا من الكتاب جملاً متفرقةً من فصوله فعرفنا منه وأنكرنا، عرفنا منه
مسائل كثيرة جاء بعضها مؤيدًا لما ندعو إليه منذ أنشئ المنار كبيان سوء طريقة
التعليم في مثل الأزهر وما اختير لها من الكتب وأنكرنا منه مسائل كثيرة واختلافاً
كثيرًا منه ما هو من قبيل الرأي ومنه ما هو من قبيل الحكاية والنقل , وفائدته
الإجمالية تأييد ما كتب كثيرًا لزلزال الثقة بالكتب التي تدرس في المدارس الدينية
وبمدرسيها وهذا تمهيد للإصلاح سبق إليه كثيرون من المصلحين ومقلديهم.
وحسبنا هذا التنبيه على فائدته الآن ونرجئ بيان ما أنكرنا منه وما ننتقد به
عليه إلى أن يتاح لنا مطالعته كله بالتدقيق، وعسى أن يبادر بعض من اطلع عليه
من المدققين إلى انتقاده عنايةً بهذا الموضوع ومسابقةً للأغرار الذين يحكمون
على الأشياء بادي الرأي فيظلمونها ويظلمون الناس ويغشونهم وهم لا يشعرون.
__________(9/717)