الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رأي عالم أزهري في العلماء
وحالهم في مصر
وصف مؤلف كتاب (العلم والعلماء) العالم الديني المسلم بأنه المرشد إلى
مصالح الدنيا وطريق الآخرة، ومما قاله في ذلك (ص8) : (بينما تجده في
درسه يقرر خَفِيَّات المسائل في العلوم المختلفة تجده قد خرج يخالط الناس على
اختلاف طبقاتهم كأنه واحد منهم، يرشد هذا بالعبارة وذاك بالإشارة، وهذا
بالأحاديث وهذا بالآيات، هذا بالحجج العقلية وهذا بالمشاهدات والمكتشفات، طورًا
يستشهد بحال الصحابة والتابعين، وطورًا بحال فلاسفة اليونان وحكماء
الأوربيين) ... إلخ.
وقال في (ص 9) : (العلماء لا تحصر وظيفتهم في تعليم الطلاب فنون
العلم في المدارس الدينية بالكيفية الجارية الآن؛ بل هي على الحقيقة أعم من ذلك
وأشمل وأنفع. وظيفة لها دخل في سائر الأعمال والأحوال، وترتبط بسائر الأمور
الدنيوية والأخروية؛ لأن العالم يعتبر مؤسس المبدأ الذي يسير عليه الإنسان ويبني
عليه سائر أفعاله المتعلقة بالمعاش والمعاد؛ وواضع الخطة التي تجري عليها الأمة
في سائر شؤونها المادية والأدبية وغيرها.
ثم ذكر أن للتعليم ثلاث مراتب: أولها تعليم صغار المسلمين في المدارس
الابتدائية المسماة بالمكاتب، وثانيها: تعليم جمهور الناس، وثالثها: التعليم العالي
في نحو الأزهر والجامع الأحمدي، ثم قال في علماء مصر (ص 11) ما نصه:
(ولكن من موجب الأسف أن علماءنا أعرضوا عن المرتبتين الأوليين ولم يعيروهما أقل التفات مع أنهما من أهم الضروريات اللازمة التي يتوقف عليها تقدم الأمة، وحسن نشأتها في أمري الدين والدنيا، فهما اللذان ينبغي أن يكونا ثمرة هذا
التعليم العالي الذي يشتغلون به في المدارس الدينية ويضيعون فيه الأعمار من غير أن
يعود على الأمة منه فائدة تذكر) .
(على أنه في الحين الذي يأنف فيه العلماء من القيام بهذين الواجبين أرى أنهم
لا يمكنهم أن يقوموا بهما حق القيام) ... إلخ.
ثم ألمَّ بفائدة الإرشاد وتعليم العامة وقال (ص 12) : ومما يوجب الأسف أن
هذه الوظيفة السامية لا يقوم بها العلماء الآن أيضًا، وقد بُني على إهمالها ما نراه من
النقص العظيم وعلى قواعد هذا الإهمال ثبتت جدرانه القوية التي قد (لا) تهدمها
إلا معاول القدرة القاهرة والروح الإلهي إن شاء الله تعالى. اهـ.
ثم قال في (ص 17) : (ولكن من أعجب العجب أنهم أهملوا الآن هذا
الواجب، وأعرضوا عنه؛ فكان من نتائج ذلك ضعف الشعور الديني وانتهاك
حرمات الشرع حتى فيما يرجع إلى مصالح هذه الحياة الدنيا، بل كان من نتائج ذلك
ضياع حرمة العلماء وانحياز أمر الدين، حتى كاد يعد من الأحوال الشخصية
والأمور الاستحسانية التي تختلف باختلاف المشارب والأذواق) .
ثم قال في ذلك، بعد كلمات في أهل الطريق: (فوا أسفا على هذه الوظيفة
السامية، والصفة العالية التي ضاعت بين رجال العلم ورجال الطريق. واأسفا على
تركة الإسلام التي تفرقت أيدي سبأ في أيدي من لم يعرفوا حقها ولم يقوموا بواجبها،
بل ونسوها وشوَّهوها حتى صارت في ظاهر الأمر من المعاني السافلة والأمور
الدنيئة) ... إلخ.
وقال في الكلام على الكمال في الملكات والوجدان (ص32) : (وإننا نرى
بأعيننا من العلماء المشهورين الذين أحرزوا التقدم، وشغلوا الوظائف العالية وعُدُّوا
من الرؤساء من ينقصهم هذا المعنى، وأن ملكاتهم ووجداناتهم النفسية دنيئة ناقصة،
تباين مراكزهم الرسمية وتضادّ منازلهم بين الناس وأنهم لا يزال لهم من الصفات
الناقصة ما يحطهم عن أكثر الناس، وإن كان ذلك لا يتراءى إلا لمن يعاشرهم
ويعاملهم ويخترق حجاب المظاهر الكاذبة، وقد ينبني على ذلك صدور أعمال منهم
تعد من الأعمال التي تورث النقص العام، وتوجب العار الفاضح للأمة والدين
والشواهد على ذلك كثيرة) .
إننا وإن كنا نريد بيان رأي هذا العالم الأزهري، ابن العالم الأزهري في
وصف العلماء دون انتقاد أو استحسان، لا يسعنا إلا أن نستدرك عليه ونقول: إن
في هؤلاء العلماء من يعد فخرًا للعلم والدين بعلوِّ الهمة، وشهامة النفس، وعزة
الدين، ووقار العلم، كما يشهد العدو والصديق، والقريب والغريب، وكان ينبغي
أن يصرح بذلك هنا.
ثم قال في فصل الكمال في التنور والتأثير، وشدة حاجة العالم إليهما
(ص 33) :
(أصبح علماؤنا اليوم فاقدين كل شيء من معنى النفوذ والتأثير، عارين عن
سائر موادهما، ولا شك أن هذا نقص شديد يجب تداركه. لا أقول فقدوا النفوذ
والتأثير فقط، بل واكتسبوا صبغة الاستثقال والاحتقار من أكثر الطبقات العليا،
حتى كاد يكون الحق منهم باطلاً والصدق منهم كذبًا، والنصح منهم غشًّا؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لو نظرنا بعين الاستبصار إلى سائر المرشدين إلى الحقائق، وهداة العالم
وأولهم سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - رأيناهم أولاً كانوا موضع الازدراء
والتحقير من الناس (ليته استبدل بهذين اللفظين ما هو أنزه منهما) وأن من
يتبعهم كان أقل القليل؛ فإذا ما اكتسبوا قوة النفوذ والتأثير انعكس الأمر، وأقبل
الناس عليهم، ودخلوا في دين الله أفواجا، ورأوهم بعين غير الأولى؛ كأنهم ليس
هم أولئك الأولون (كذا) ذلك لأن الناس دائمًا أسراء العادة، عُبَّاد المظاهر
إيمانهم في عيونهم، كما قال بعض العارفين. فهم دائمًا لا يستمعون إلا لمقال من
يكتسب صفات الاحترام العام، ولا يرضخون إلا لمن يحرز قوة النفوذ [1] ؛ وإذا
كان الأمر هكذا فلِمَ لا نكتسب هذه القوة لنتمكن من نشر الحقائق الإسلامية ونتوصل
إلى إعلاء كلمة الله، ثم لِمَ لا نكتسبها وهي التي ترفع الإنسان من الطبقات السافلة إلى
أعلى المراتب، وتجعله سلطان القلوب وقائد الأفكار.
ها هو فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده واحد منا، انظر لماذا علا دون أمثاله
ولم وصل إلى أن صار صاحب الرأي الأعلى في سائر الشئون الأزهرية
وصاحب الاحترام والمكانة والكلمة المسموعة عند أكثر أهل الطبقة العالية، حتى
أمكنه أن يسود أكثر الذين يبغضونه، وقد كان في أول قدومه للأزهر عند الناس
كآحاد الطلاب. أشيء جاء بالصدفة أم هذا نتيجة العلم والاجتهاد؟ لا جرم أن هذا
كان أولاً نتيجة النفوذ المكتسب من قوة العقل، وحسن البيان، وإتقان العمل،
وذلك جعل له مكانة عند الطبقة العليا، وتلك المكانة أكسبته نفوذًا آخر، وجعلت
تأثيره أقوى، وقد تمكن بهذا وذاك أن يرأس العلماء، وتكون له كلمة التصرف حتى
على شيوخه ومن يبغضونه، وأن ينشر مبادئه ويدعو الناس إليها ويلبي دعوته كثير
من الناس، وهو لو عاد إليها في بدء نشأته ما اجتمع إليه أكبر المجتمعين حوله
الآن. اهـ.
ثم أطال في وصف الشيخ، ونفوذه مما لا حاجة إلى ذكره، وقد ذكرناه ليعلم
القارئ أن المؤلف لم يكتب إلا ما يعتقد، ولذلك لم يعمم إلا واستثنى.
ثم إنه انتقل إلى الكلام على (الكمال في الفعل) فانتقد عادات العلماء، وذكر
من مخالفتهم لِما عدَّه كمالاً، ذلك لا سيما حالهم في حفلات التشريفات وتشييع الجنائز
والمجامع، وفي مجالسهم الخاصة الحافلة، وفضَّل عليهم سائر الفرق. وقفى ذلك
بذكر (التنوُّر العام) أي المشاركة في فنون العصر وحال البشر في عامة شؤونهم
وقال في (ص42) :
(لكن هناك من العلماء من يرى تنورهم قاصرًا على مناقشات الفنون والكتب
التي يدرسونها حتى لا يمكنه أن يخوض مع إنسان في حديث ما فيتقنه، وإن جلس
في مجلس عام لم يحسن التكلم فيه بل إما سكوت وإما كلام تمجه الأسماع ويأباه
الطبع السليم) اهـ.
ثم تكلم في مطالعة الجرائد والمجلات وقال ص 43: (هناك من العلماء مَن
يرى أن كلام الجرائد كذب، لا تجوز قراءته، وهو رأي واضح الفساد؛ فإن عدم
قراءة الجرائد تجعل الإنسان في انحياز تام عن العالم، وبعيدًا عنهم كأنه ليس على
ظهر البسيطة؛ وتجعله أيضًا مُسْتَثْقَلاً مُحْتَقَرًا في أعين المتنورين، كما يحتقر
الجاهل أبسط الأشياء، حتى إنهم ليعدون مخاطبتهم له تنزلاً، ومجاراتهم
واحترامهم له تفضلاً؛ لأنه في أعينهم رجل بسيط لا يعرف إلا أحكام الدين ولا
يدري ما عليه الناس) ثم قال في المجلات خاصة: (ومن أهم ما يجب الاطلاع
عليه أيضًا المجلات العلمية كالمقتطف والهلال والمنار فإنها تطلع الإنسان على
معلومات لا يستغني عنها العالم؛ وحبذا لو امتلأت صفحات المجلات الدينية
بمقالاتهم الضافية وإرشاداتهم المفيدة) اهـ وللنقل بقية.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) العامة تستعمل الرضوخ بمعنى الخضوع والامتثال، وهو المراد هنا، وإلا فالرضخ في اللغة هو العطاء القليل، ولا يصح في هذا السياق.(8/72)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقويم المؤيد لعام 1323
هذه هي السنة السابعة لهذا التقويم المفيد الذي يؤلفه محمد أفندي مسعود المحرر
بجريدة المؤيد، وقد صدر في أول المحرم مطبوعًا بمطبعة الجمهور، وهو فيما صار
إليه من الشهرة، وما صادفه من الإقبال والرغبة غني عن التقريظ له،
والترغيب فيه، إلا أن يذكر ذاكر بعض ما يمتاز به في كل سنة عما قبلها، وقد
يستغني قراؤه ومقتنوه عن ذلك بما عرفوا من ذوق مؤلفة في حسن الاختيار، ومنه أن
فتح في هذه السنة بابًا للحرب الروسية اليابانية واسعًا، ذكر فيه ملخص تاريخها،
وأكبر ملاحمها، وأشهر مواقعها وصور قوادها في البر والبحر. وفي غير هذا الباب
من التطويل في المسائل السياسية ما لا يُستغنى عن معرفته، وفي باب التاريخ فصل
طويل في تاريخ تونس ودولها مزين بصورة الباي السابق - رحمه الله - والباي
الحاضر، وفقه الله. وثمن النسخة منه خمسة قروش ما عدا أجرة البريد ويطلب من المكاتب المشهورة.
__________(8/75)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(الأزهر: مشيخته وإدارته)
ما كانت مشيخة الأزهر في زمن من الأزمان عرضة للتغيير والتبديل من
الحكام كما نراها في هذه السنين؛ فقد تناول العزل والإبدال شيوخ هذا الجامع عدة
مرات في بضع سنين: عُزل الشيخ حسُّونة باتفاق الحكومة مع الأمير وولَّى بعده
الشيخ سليم البشري، ثم عزله بمحض إرادته ووَلَّى مكانه السيد علي الببلاوي بالاتفاق
مع الحكومة، أو مع أولي الأمر - كما يقال - وفي هذا الشهر استقال هذا الشيخ
ونُصِّبَ بدله الشيخ عبد الرحمن الشربيني باتفاق الحكومة وتلا الشيخ الببلاوي في
الاستقالة من مجلس إدارة الأزهر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية والشيخ عبد
الكريم سلمان أحد أعضاء المحكمة الشرعية العليا والسيد أحمد الحنبلي شيخ رواق
الحنابلة، وكان سبق الشيخ وهؤلاء الأعضاء في الاستقالة من إدارة الأزهر الشيخ أبو
الفضل الجيزاوي عضو المالكية والشيخ سليمان العبد عضو الشافعية، والعلة في
استقالة الجميع واحدة في الحقيقة لا يسمح لنا هذا الوقت بشرحها، والتاريخ لا ينسى
شيئًا.
أما الشيخ حسونة فكان من علماء الأزهر الذين عملوا في مدارس الحكومة
ووقفوا على شيء من نظامها، وكان الغرض من جعله شيخًا للأزهر، وجعل الشيخ
محمد عبده معه في الإدارة تغيير نظام التعليم وترقيته فيه. وأما الشيخ (سليم
البشري) فهو من علماء الدرجة الأولى، وقد ولي في وقت تألب المشايخ على
الحكومة في مسألة المحاكم الشرعية المعروفة. وأما السيد (علي الببلاوي) فقد
ولي لشهرته بالصلاح بعدما استشار الأمير الحكومة في نَفَرٍ من أشهر الشيوخ فلم
ترض أحدًا منهم، وقد كان أقدر ممن سبقه على الإدارة، حتى إن أولي الأمر، وأهل
الفهم قالوا: (ما كنا نظن أنه يوجد في هؤلاء المشايخ الذين لم يزاولوا الأعمال
الإدارية ولم يعنوا بالاطلاع على أمور العالم مثل هذا الرجل) . وأما الشيخ (عبد
الرحمن الشربيني) فهو مشهور بالعلم والصلاح والزهد، وقد عرضت عليه
مشيخة الأزهر من قبل غير مرة فلم يقبلها؛ على أنها منتهى ما يطمح إليه علماء
هذا الجامع من الرياسة، وقد عجب الناس من قبوله في هذه المرة! ويقال: إن
الناس الذين كانوا عالمين باستقالة السيد (الببلاوي) قبل وقوعها وقبل ظهورها
كانوا يُرَغِّبونه في ذلك، ويقال: إنه لم يرض إلا بعد صدور الأمر بتوليته - والله
أعلم - أي ذلك قد كان وقد كثر القال والقيل وتباينت الآراء في خطته، والصواب أنه
لا يؤخذ بشيء مما قيل ولا مما يقال، حتى يُعرف السير وتُشاهد الأعمال. ونسأل
الله تعالى أن يوفقه لما فيه مصلحة هذا الجامع ومصلحة الإسلام وأن يشد أزره
بقرناء الخير والله على كل شيء قدير.
***
(غرض الحكومة الخديوية من الأزهر)
قد شاع وذاع أن سمو الأمير اتفق مع حكومته على أن كل ما يهم الحكومة
من الأزهر شيئان: الأول أن يكون أهله في أمان، والثاني تخريج القضاة الشرعيين.
ولما كان التعليم في الأزهر غير كاف لتخريج القضاة الذين تصلح بهم حال
المحاكم، وينفذ حكم الشريعة عزمت الحكومة الخديوية على إنشاء مدرسة خاصة
لتخريج القضاة الذين تصلح بهم حال المحاكم وينفذ حكم الشريعة، عزمت الحكومة
الخديوية على إنشاء مدرسة خاصة لتخريج القضاة يكون تلاميذتها من طلبة الجامع
الأزهر ولم يكن أحد يصدق هذه الإشاعة لولا أن المؤيد ذكر أن الأمير قال ذلك في
كلامه الذي خاطب به مشايخ الأزهر في حفلة إلباس الخلعة للشيخ الشربيني ووافقه
المقطم في معناه، وأسنده إلى أولياء الأمور.
وقد كثر التساؤل بين الناس عن سبب استقالة الشيخ محمد عبده من إدارة
الأزهر على عنايته العظيمة بخدمة الأزهر، وحرصه على تخريج رجال فيه
يقدرون على خدمة الشرع، وتأييد الدين، وكان ينبغي أن يكون أول سبب يخطر
في البال بعد الاطلاع على تلك الأقوال، وهو بلوغ الشغب في هذه المدرسة غايته،
ومثله من رجال الجد لم يخلق للعب بالشغب، بدون فائدة تكافئ إنفاق الوقت في
التعب، ثم اكتفاؤه بعناية أولياء الأمور بتربية جماعة من طلبة الأزهر في مدرسة
خاصة ليتخرج منهم أساتذة وقضاة، وهو شيء مما كان يميل إليه قد تيسر
الوصول إليه، ويقول (المقطم) : إن الحكومة ستنيط بالشيخ محمد عبده (مفتي
الديار المصرية) أمر هذه المدرسة؛ فإن صح ذلك فحسبه تربية البعض من الكل،
على أن تركه لإدارة الأزهر ليس للأزهر كله فإنه شيخ رواق الحنفية وهو أكثر
الأروقة طلابًا؛ فهو يبث فيهم النظام ويرشدهم إلى روح العلم والدين وهذا بعض
آخر من كل و (كل ميسر لما خلق له) .
***
(مقام الإفتاء)
جرت العادة في هذه البلاد، وفي سائر بلاد الدولة العلية، أن المفتي يجعل
داره معهدًا للإفتاء، وقد كان الشيخ العباسي مفتيًا وشيخًا للأزهر، وكان مع هذا
يفتي في داره ولكن الشيخ حسونة النواوي لما صار شيخًا للأزهر ومفتيًا جعل محل
الإفتاء في الأزهر لأنه محل عمله وكذلك فعل الشيخ محمد عبده فإنه لكثرة شغله في
إدارة الأزهر ولكون داره في خارج القاهرة أبقى محل الإفتاء حيث وضعه الشيخ
حسونة من الأزهر، ولما استقال في هذه الأيام من إدارة الأزهر رأى أنه لا معنى
لبقاء محل الإفتاء في الأزهر فعزم على اتخاذ محل آخر له، ويقال: إن الحكومة
ستبني له مكانًا في نظارة الحقانية.
***
(المعرض الزراعي)
ما ارتقى الناس في عمل من الأعمال إلا بمحاولة المتأخر أن يفوق من قبله في
عمله، ولن يحاول أحد أن يفوق أحداً في شيء إلا بعد اطلاعه على منتهى ما وصل
إليه وبحثه عن أسباب ارتقائه فيه. والمعارض أكبر معين على إطلاع الناس على
غاية ما وصل إليه الناس؛ لذلك عنيت الأمم الحية بهذه المعارض فجعلت في بلادها
معارض عامة، ومعارض خاصة بالزراعة وبالصناعة؛ وببعض فروع العلوم
والأعمال، وقلدتها الحكومة المصرية في المعرض الزراعي؛ إذ كانت هذه البلاد
زراعية قوام معيشتها الزراعة، وإنك لترى هذا المعرض يتقدم وتكثر المعروضات
فيه ويستفيد الزراع منه عامًا بعد عام. وقد كانت المعروضات في هذه السنة أكثر
منها في غيرها لاسيما الآلات الزراعية للحرث والعزق والسقي والنقل، حتى إن
محل أورنستن كوبل مد في ميدان المعرض - سكة زراعية سير عليها القطارات
بهيئة وجهت إليها الأنظار.
تعرض في هذا المعرض كل سنة الآلات والأدوات، وكذلك الأسمدة ونتائج
الغلات. وتعرض الأنعام والخيل والحمير والبغال، وقد عرض محمد أفندي صالح
سليمان فيه أيضًا آلات الخياطة والتطريز، وعرضت فيه في هذه السنة الآلة الكاتبة
بالعربية وهذا وما قبله ليس من الأمور الزراعية.
_______________________(8/76)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشيخ عبد الباقي الأفغاني
(وفاته)
نعت إلينا أخبار سوريا هذا السائح العالم العامل التقي الذي عرفناه ونحن في
صبيان المكتب؛ إذ كان يزور بلدنا في سياحته ويقيم فيها أيامًا، ومرت السنين عليه
ولم نر تغييرًا في سيرته المحمودة، وكان له حسن ظن في منشئ هذه المجلة حتى
كان يقول:
(إنَّ علم رشيد لدُنِّيّ) وقد كتب إلينا بعض من عرفه وأخذ عنه ما يأتي
نعيًا وترجمة:
فضل الحياة لا ينكره إلا حلفاء أوهام وسفسطة؛ قد عمي عليهم فيها سبل
النظام الكوني البديع الذي تدور السعادة الإنسانية على محور العلم والعمل به من
غير هوس بالتنقيب عن غير النافع والضار؛ لكن العقلاء في فلسفة الحياة مجمعون
على أمر، ومختلفون في أمر، والوهميون السوفسطائية لا من هؤلاء، ولا من
هؤلاء. يُجمع العقلاء على أن الحي يجب عليه إيفاء شكر لواهب الحياة،
ويختلفون في طرق إيفاء هذا الشكر؛ وكل مذاهبهم المختلفة تؤدي إلى نقطتين
متقاربتين، ولكن بينهما سد ثخين من الاصطلاحات والأوهام، وبئست هي من
سد بين البشر القرباء؛ فإن الأكثرين لم يتمكنوا من هدم هذا السد إما لعدم مساعدة
علمهم، وإما لعدم مساعدة ظروف حياتهم.
(النقطة الأولي) شكر الله بقبول دعوته إلى المائدة التي وضعها للأنام،
والرضا عن كل خادم بهذه المائدة.
(النقطة الثانية) شكر الله باللسان؛ بتكرير الثناء عليه مع عدم الالتفات
للمائدة لمن يهيئها ألبتة فلا يتناولون منها إلا التافة، وكثير منهم يرون أن يسبوا
المائدة، والذين يتناولون منها. أما تقارب النقطتين: فلأن كلا من السائرين يرون
هذه المائدة حاضرة فيها من كل الأنواع، ويعرفون الذي أعدها، ويعلمون أنه لابد
من التناول منها، وأنه لابد من شكر هذا الكريم العظيم. وأما السد الذي بينهم فهو
أن الشكر هل هو بقول المرء: أمدحك يا واهب، أمدحكم يا واهب، أمدحك يا
واهب، ملايين من المرات! أو بتتميم المرء مقصود الواهب من تلك الهبة
فتعريف الشكر بأحد التعريفين هو من الاصطلاح، وهو ذلك السد، ومن وراء
هؤلاء كلهم مَنْ ليس لهم إلا صورة بشرية لها من الحياة ما لسائر أنواع الحيوان
منها؛ فليسوا ممن نتكلم عنهم.
ونحن لم نرد في هذا الموقف الآن أن ندل على مسلكنا بهذا الشأن، ولكن قدمنا
هذه الكلمات لنقول: إننا نحترم العقلاء مهما اختلفوا، أو كيفما كانوا، ولهذا يؤسفنا
انقضاء حياة كبرائهم، ويجدر بنا أن نعلن أسفنا لهم، وأن نذكر محاسنهم بعد ما
يودعوننا، ويسبقوننا بذلك الرحيل الأبدي. وكل ذلك نقدمه أمام نعينا الأستاذ العالم
الزاهد الورع الشيخ عبد الباقي الأفغاني الذي يعرفه أكثر قراء المنار في سوريا.
كان الأستاذ من الزاهدين الصادقين في زهدهم، لا يماري في ذلك من عرفه،
فمن كان ممن ينتقد الزهد نطالبه أن لا ينتقد هذا الزاهد الذي كان كبير العقل؛ فإن
زهده قد أعانه على رحلة طويلة بث فيها العقليات بقدر الإمكان؛ فأكرم بزهد يثمر
مثل هذه الثمرة في مثل هذه البلاد.
نشأ هذا الفقيد - الذي عز على عارفيه فقده - في بشاور (ثم رحل في
غضاضة شبابه إلى رانفور) وهناك أكمل تحصيله على المفتي سعد الله، وأخذ يدرس
هناك نحوًا من خمس وعشرين سنة، من بعدها قصد الحجاز وفي عودته رأى في
البلاد الشامية نقص العلوم العقلية فبعد تردد طويل رجح لديه أن يُدَرِّس في بعض
البلاد من غير أن يقيم في بلدة واحدة، فطفق يسيح في البلاد من شمالي ولاية حلب
إلى الولاية الحجازية، وكانت جلَّ سياحاته مشيًا على أقدامه، كان يقيم في البلدة أو
القرية شهرين ثلاثة - أقل أو أكثر- ثم يرحل عنها لغيرها وحيث وجد شبابًا
مستعدين للعلم يرشدهم إلى سبله بقدر معارفه.
مكث على ذلك أكثر من عشرين سنة ثم انقطع عن التدريس ألبتة، وكان
يحب أن ينتشر علم أصول الفقه ولخص فيه أوراقًا على الطريقة المألوفة، وفي
أخريات هذه الحياة التي مرت بالعلم والتعليم بمبلغ العلم أقام في حمص ثلاث سنين
وهناك أتاه اليقين ورحل الرحلة الأبدية يوم الجمعة رابع المحرم 1323 وكان
لجنازته احتفال يفوق الوصف،عليه الرحمة،ولعارفيه جزاء أسفهم على فضله.
__________(8/79)
غرة صفر - 1323هـ
6 إبريل - 1905م(8/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحياة الزوجية
(1)
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً
وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} (الروم: 21) .
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة:28) .
الأزواج تلد الأفراد، ومن الأفراد والأزواج تتألف الأمم والشعوب، يجتمع
فردان فيكونان زوجًا، ولفظ الزوج يطلق على كل واحد منهما؛ لأن الزوجية
تحققت به للآخر كما تحققت بالآخر له؛ فالزوجان كونا حقيقة الزوجية؛ فهما حقيقة
واحدة ظهرت في صورتين، وروح واحدة انبثت في جسدين، وبناء واحد أقيم
بركنين، بل هما حقيقة الإنسانية الكاملة، وكل واحد منهما جزء لها، لو وجد وحده
لما وجدت الإنسانية، ولو هدم بناء وحدتهما بعد وجوده لما بقيت لها بقية {خَلَقَكُم
مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: 1) .
هؤلاء الرجال والنساء الكثيرون هم الأمة؛ فالأمة أثر الزوجية وحياتها
العزيزة تابعة للحياة الزوجية؛ فإذا كانت البيوت التي يعمرها الأزواج ويبثون منها
الأفراد في عيشة راضية وحياة طيبة خرج منها أولئك الأفراد أحياء، وكونوا بيوتًا
يكون مجموعها بلادًا، ومدائن، وقرى، ومزارع يطلق على عمارها لفظ الأمة
والمكوَّن من الأجزاء الحية يكون حيًّا بحياتها، فالحياة الزوجية الطيبة هي الأصل
في حياة الأمة، والنظر في الأصل مقدم على النظر في الفرع.
الفطرة البشرية هادية إلى الزوجية بكمال معناها، وإلى أثرها في نفس
الزوجين؛ وفي آلهما، وفيما يرزقان من الولد، فهي تسوق كل رجل إلى طلب
الازدواج بامرأة، وكل امرأة إلى قبول الاتحاد مع رجل، وهي التي تربط قلبيهما
وتمزج نفسيهما وتوحد مصلحتيهما، وتجعل الصلة بينهما أقوى من كل صلة بين
اثنين في هذا العالم، حتى يسكن كل منهما إلى الآخر عند كل اضطراب، ويأنس
به ما لا يأنس بالأهل والأصحاب، وهي التي تنقل المودة منهما إلى أهل كل منهما
حتى تكون كل عشيرة عونًا للأخرى على دفع مضار الحياة، وجلب منافعها، وهي
التي تربي عاطفة الرحمة فيها بالتعاون على تربية الولد فتنمو هذه الرحمة فيهما حتى
ينتفع بها من يعجز منهما عن مساعدة الآخر في الشؤون المشتركة لضعف أو
عجز؛ فيرى عاطفة الرحمة قد نابت عن عاطفة سكون النفس إلى الإنتاج، وعن
الإحساس بالحاجة إلى التعاون.
لكن الإنسان قد أُعطي من القوى ما يمكِّنه من التصرف في الميل الفطري،
فيحوله عن جادته، ويسلك به المجاهل والشعاب؛ فيضل ويردى؛ لذلك بغى
الرجال على النساء في عصور لا يعرف التاريخ أولها، واعتزوا عليهن بالقوة حتى
ألزموهن بالكيد والمكر، والكذب والخلابة، والتصنع والدهان؛ فأشقوهن وشقوا
معهن في أنفسهم وفي أولادهم؛ فساءت حالة البيوت؛ وساءت بها حالة الأمم
والشعوب؛ فجاء الدين مرشدًا إلى الرجوع بالفطرة إلى جادتها، بل العناية بتكميلها
وترقيتها، ثم بغى الناس في الدين، كما بغوا في الفطرة حتى عميت علينا تعاليم
أكثر الأديان، وحسبنا ما حفظناه من هداية القرآن.
يندفع الرجل لهضم حقوق المرأة بدافع الإحساس والشعور بقوته عليها
وحاجتها إليه؛ ودافع الاعتقاد بأنه سيدها وهي خادمته المسخرة، أو متاعه المملوك،
فأما الشعور بالقوة فهو آلة البغي في البشر، ولولا أن للرجل شعورًا آخر بحاجته
إلى المرأة، وميله إليها يعارض ذلك الشعور الدافع إلى البغي عليها فيكسر من
سورته- لكان البلاء أعظم والشقاء أشد. وكان يجب عليه أن يجعل عقله مؤدبًا
للشعور الدافع إلى الشر، ومؤيدًا للشعور السائق إلى الحسنى، لولا ما يعرض للعقل
من الخطأ في الاعتقاد فيخرج به عن الصواب؛ إذ يعتقد أن له الحق في أن يعامل
المرأة بما يسوقه إليه طبعه الفاسد، ورأيه الباطل، ولا سعادة في الزوجية ولا للأمة
إلا إذا صح اعتقاد الرجال؛ فعلموا أن المرأة هي شطر الحقيقة الإنسانية والرجل هو
الشطر الآخر، وأنه يجب أن يكون كل منهما متممًا لعمل الآخر في الوجود فيما
يشتركان فيه، وعونًا له على ما تختلف فيه وظيفتهما مع ملاحظة جهة الوحدة، كما
تساعد إحدى اليدين أختها، وتتم كل من الرجلين سعي صاحبتها، وكما يؤدي العقل
وظيفة الفكر، والقلب وظيفة الشعور والوجد، وكما تسمع الأذن، وتبصر العين.
والغرض من عمل كل عضو واحد وهو مصلحة الشخص؛ فإذا قام بناء الزوجية
على هذا الأساس كان بناء الأمة الذي يتألف من الأزواج، والأفراد التي ينسلها
الأزواج لتكون أزواجًا في البيوت متفرقة، وأمة في البيوت مجتمعة بناء محكمًا
رصينًا.
إذا فسد الشعور القلبي، والاعتقاد العقلي في الأمة؛ فنقضت ما أبرمته الفطرة
من ميثاق الزوجية حتى صارت المعاملة بين الأزواج كالمعاملة بين التجار والصناع
والأُجراء؛ يؤدي كل واحد من حقوق الآخر ما يمكنه من استخدامه مع ظلم القوي
للضعيف، ومكر الضعيف وخداعه للقوي - فالواجب المبادرة إلى معالجة هذا
المرض، فإن انتشاره في الأمة وباء مجتاح، وخسران لا يرجى معه نجاح؛ لأن
من يضيع حقوق أشد الناس صلة به، بل من كان متممًا لمعناه وحقيقته ومسوقًا هو
إلى حبه بمقتضى غريزته - فكيف يرجى أن يقوم بحقوق من لا يتصل به إلا بصلة
بعيدة هي فرع تلك الصلة القريبة؟ وإذا لم يقُم كل فرد من الأفراد بما عليه من
الحقوق الخاصة والعامة فكيف تتكون الأمة وتتحد على دفع الأذى، وتتعاون على
المصالح حتى تبلغ المدى؟
معالجة النفوس أعسر من معالجة الأبدان، ومعرفتها أغمض وأدق،
والإحساس بالأمراض الروحية أخفى من الإحساس بالأمراض الجسدية، لذلك كانت
الأمراض الروحية في الأفراد والجمعيات أكثر من الأمراض البدنية.
لا يتم علاج النفس المريضة إلا بإصلاح العقل والقلب معًا، وذلك بإقناع
العقل بما تقدم الإلماع إليه من معنى الزوجية، ومكانة كل واحد من الزوجين من
الآخر وبتربية شعور القلب ووجدانه تربية صحيحة مبنية على احترام ذلك المعنى
وإكباره، ليكون الوجدان مؤيدًا للفكر والاعتقاد بأن تحقق معنى الزوجية، وقيام كل
من الزوجين بحقوقها من أركان السعادة التي لا تُبنى إلا عليها. فأما تربية الكبير
على ذلك فهي متعذرة أو متعسرة، وأما إقناعه بذلك فهو سهل على العارف به ولكن
فائدة العلم بغير إذعان النفس وشعور القلب قليلة الجدوى.
إذا كان الناشئ على فساد الأخلاق وسوء الفعال لا يستطيع أن يقوِّم من نفسه
عوجها فيعامل زوجه بالحسنى التي هي أثر سكون النفس وحب القلب، فهذا لا يدل
على أن العلم بمعنى الزوجية والاقتناع بحقوقها لا يكون نافعًا بدون التربية على هذا
العلم حتى يصير وجدانًا وشعورًا؛ فإن العلم الصحيح ينازل الوجدان الفاسد،
ويبعث صاحبه على مقاومته بالتكلف حتى يزول؛ إذا لم يكن راسخًا وإلا ضعف
أثره، وحسنت الحال في الجملة؛ ولذلك ترى حياة الزوجين العالمين الفاسدي
الأخلاق أهنأ من حياة الجاهلين الفاسدين أو أقل شقاءً ونغصًا، ذلك بأن العالمين يتحبب كل منهما إلى الآخر حتى يصير التكلف حبًّا، أو تكون له أكثر ثمرات الحب وكذلك يتقي كل منهما ما يسيء قرينه بمقاومة طبعه ومغالبة ميله؛ فتكون لهما
صورة الحياة الطيبة وكثير من معناها، ثم إن الزوجين العارفين بمكان الزوجية
ووجوب مساواة الزوجين فيما عدا رياسة المنزل وزعامة العشيرة يربيان من يرزقان
من الولد على ذلك عسى أن يتم لهما في ولدهما ما فاتهما من السعادة في نفسهما.
ولولا أن العلم يكون وسيلة للتربية النفسية التي يتحد بها القلب مع العقل لما رأيت
مصلحًا يظهر في الأمة الفاسدة الأخلاق يدعوها إلى التربية كما ترى في أمتنا الآن؛
إذن نحن في حاجة إلى العلم بمعنى الزوجية وحقوقها والشروط التي تتم بها حقيقتها.
حسبنا في بيان معنى الزوجية وسرها تلك الآية التي صدَّرنا بها هذا المقال
وفي حقوقها بعض الآية التي تليها. تفيد الآية أن أركان هذه الحياة ثلاثة: أولها
سكون كل من الزوجين إلى الآخر؛ فإن المراد بالأنفس في الآية الجنس، والمراد
بالزوج ما يعم الرجال والنساء، فالحكمة الأولى للزوجية أن يكون لكل من الزوجين
وجود آخر من جنسه يسكن إليه من اضطرابه، ومثارات الاضطراب في هذه
الحياة كثيرة، وأنواع المتاعب فيها غير معدودة، وما اخترع الناس أنواع الملاهي
واللعب إلا ليقوِّموها، على أن اللعب شأن الأطفال لا شأن الرجال، وأن سكون
الزوج إلى زوجه وأنس الإنسان بشقيق نفسه وروحه وشريكه في جميع شؤون
حياته- لمما يذهب بكل اضطراب ويزيل كل وحشة؛ إذا تحققت الزوجية بكمال
معناها.
يقول المفسرون: إن العلة في أنس كل من الزوجين بالآخر، الجنسية كما
يعطيه ظاهر اللفظ في قوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف:
189) وهو صحيح عقلاً وطبعًا؛ فقد خلق الله في كل من الزوجين الذكر والأنثى
جاذبًا يجذبه إلى الأخر؛ لأجل أن يتحد به، وقد يكون هذا الجذب والانجذاب في
بعض أطوار العمر مبهمًا؛ لا يتصور صاحبه الغاية الفطرية من ذلك الاتحاد؛ وهو
أن ينشأ عنه وحدة أو وحدات أخرى من الجنس، بل ولا مقدمة هذه الغاية أيضًا،
ولكن هذا التعليل لا يصدق على إطلاقه في الوجود الخارجي، كما يعقل في الوجود
الذهني؛ لا مع كل زوجين ولا مع أكثر الأزواج - كما قيل - فإن الباحثين في
حياة البيوت يقولون: إنه قلما يوجد زوجان سعيدان كل واحد منهما مغبوط بالآخر،
راضٍ به، يسكن إليه من اضطرابه، ويصفيه حبه ووده ظاهرًا وباطنًا، على أن
هذا هو غاية الكمال في سعادة الحياة الزوجية، وأنَّى للأكثرين أو الأقلين بالكمال في
هذه الحياة.
والصواب أن أكثر الأزواج في البشر يسكن بعضهم إلى بعض، ويوده مهما
كانت حالهم من فساد الفطرة، وسوء الأخلاق، والجهل بقيمة الطمأنينة والسكينة
في الحياة، ولكن لهؤلاء الأكثرين منغصات في حياتهم، هذه لها أسباب تختلف
باختلاف البلاد والأمم، وباختلاف الأفراد في التربية والعلم، والأخلاق والأفكار،
واستقصاء هذا لا يكون إلا في كتاب مستقل؛ يكون فيه باب للأزواج في القبائل
البدوية، وفي البلاد التي تقرب حال أهلها من حال البدو في السذاجة وقلة الحاجة،
وتقارب النساء والرجال في الأدب والمعرفة، وباب لأهل الحضارة العالية؛
التي عمَّ التعليم والتربية جميع أفرادها أو أكثرهم. وباب أوسع للبلاد المذبذبة التي
بعدت عن سذاجة الفطرة، ولم تصل إلى شيء من كمال العلم والصنعة، كالبلاد
الشرقية التي طاف بها طائف المدنية الغربية؛ فزلزل أخلاقها وعاداتها، وعقائدها
وأفكارها الأولى عن سعادة الحياة الزوجية وما يتبعها، فإنك تجد أكثر الذين أصابهم
هذا الزلزال في حيرة من أمر الزواج قبل الإقدام عليه وبعد الوقوع فيه، ونحن إلى
الدخول في هذه الباب أحوج؛ لأننا في بلاد الزلزال عائشون، ولأهله في الأكثر
مخاطبون وكاتبون، ونكتفي منها في هذا المقال ببيان طرق اختيار الزوج وما يكون
من ورائه.
***
اختيار الزوج:
جرى العرف بأن يكون الرجل هو الذي يتخير المرأة ويطلبها، والأصل في
الاختيار أن يكون للمصلحة، وهي لا تتحقق إلا بصحة الجسم والتناسب مع الرجل
في الأخلاق والعادات والميل والرغبة الاتحاد أو التقارب في الصنف والطبقة؛ لأن
النفس لا تسكن وترتاح لمن يباينها في صفاتها ويخالفها في عاداتها. ولكن الناس
قلما يجرون على المصلحة الحقيقية في أعمالهم الاختيارية؛ لأن اللذة عندهم ليس
لها حدود طبيعية يقفون عندها وإنما تعرف الحدود بالشرع والعقل، والشرع يؤخذ
بالتعلُّم والاقتداء، والعقل ينمو بالتجارب والاختبار؛ لذلك تختلف الحدود في
نظر الأفراد وترى بعض الناس يبني اختياره على الهوى والميل إلى الجمال،
وبعضهم يُحكِّم المصلحة ويجعل مناطها الجاه والمال، فالأصل في اختيار المرأة عند
الأمم الجاهلة الفاسدة الأخلاق، هو الحسن والجمال اتباعًا لهوى النفس المستلذ، أو
الثروة والجاه إيثارًا للمصلحة الموهومة.
أكثر ما يقع التخير بالحسن أو الاستحسان من طائفتين: (أولاهما) الشبان
الأغرار الذين يتوهمون أن عاطفة الهوى لمن رأى أحدهم فاستحسن وأحب تدوم، فإذا
هو اقترن بمن أحب كان له نشوة سرور دائمة؛ فيعيش مغبوطًا ناعم البال قرير
العين يرى الملك ملكه، والزمان غلامه، وهيهات ما يتوهم، ولكن أنى له أن يفهم
ذلك وهو محكوم بشعوره ووجدانه، تعبث به الخواطر وتقوده الأماني التي يوليها عليه
ذلك الشعور، ثم أنى له أن يعرف سيرة الناس الذين سبقوه في تحكيم الهوى واتباع
لمحات العيون، وطاعة هواجس النفوس؛ فتزوجوا بمن استحسنوا ولم يلبث أن
تحوَّل الاستحسان استقباحًا، والحب العارض مقتًا وبغضًا.
الحسن والجمال من الأعراض التي يسرع إليها الزوال، ثم إن سلطانهما على
القلب الواحد لا يدوم، أو لا يطول إلا إذا صار عشقًا خياليًّا؛ يخطف القلب
من عالم الحسن ويزج به في عالم الخيال، وهذا الضرب من العشق لا يكون مع
ملك الاستمتاع بالمحبوب. على أن هوى الأغرار لا يتقد بالحسن الرائع، والجمال
البارع، قل لهؤلاء الأغرار ليست تلك العاطفية الرقيقة التي وجدتم عند إرسال
الطرْف إلى الوجه الذي استملحتم، هي أثرًا طبيعيًّا لشيء ثابت في ذلك الوجه؛
فتقولوا: إن العلة تلازم المعلول، بل هي شيء كامن في النفس تحركه وتهزه في
أحد الصنفين رؤية الآخر في صورة تعجب، وقد يضعف ذلك الشيء في وقت
ما، وقد تمل الصورة المحركة له، أو تعرض للعين صورة أخرى فتبطل حركتها
وتنسخ آيتها، فالاعتماد في هناء العيش وسعادة الزوجية على الاستملاح الاستحسان
الذي تحدثه النظرة العَجْلَى اعتماد على ركن غير شديد.
والطائفة الثانية: هي طائفة المترفين الذين لا هَمَّ لهم إلا الاستمتاع والتنقل في
الشهوات واللذات، وهم أعرق في البهيمية من الطائفة الأولى؛ لأن الشاب الغر
يكتفي في اختيار الزوج بملحة طرفه، وخفقة قلبه، دون الوقوف على أخلاق من
أعجب بصورتها، وخفق قلبه عند رؤيتها، ولا على سيرتها وسيرة أهلها وعشيرتها
لتعرف المنبت والنبات. قد يتفق أن تكون الفتاة التي اختارها مشاكلة له في طبعه
قريبة منه في أخلاقه وعاده؛ فيعيش معها عيشة راضية، وتسكن نفس كل منهما
إلى الآخر ويقيمان بإقامة هذا الركن الأول ركني الزوجية الآخرين - المودة
والرحمة - بحسب حالهما وطبقتهما في الأمة.
وأما المترفون الذواقون من الأمراء، وأهل الثراء، ومن تسري إليهم سمومهم
ممن دونهم، فهم أشقى الناس في بيوتهم، وما أشقى نساءهم بهم؛ ذلك أن أحدهم لا
يلبث أن يمل من تزوج بها لحسنها، أو يستهويه حسن آخر؛ فيهوي إليه وهكذا
يتبع مواقع الحسن الجديد؛ ويوغل في المحرمات فلا يكون زوجًا حقيقيًّا للأولى ولا
لغيرها، وإنما هو شقي بشهوته ومُشْقٍ لمن يتصل به؛ فإن المرأة عنده إما أن تفسد
كفساده؛ فتكون من الذواقات؛ وما أسهل ذلك على ذات الجمال البارع التي قلما
يسلم مثلها مع تطلع الفساق المترفين إليها وافتتانها هي بنفسها، وإما أن تعيش في
نكد، وتظل في كبد، وكلا الأمرين شقاء للبيوت وشقاء للأمة. فهذا إجمال يكشف
للمتفكر عن وجه الخطأ في جعل استحسان الصورة والإعجاب بالجسم أصلاً لتخير
المرأة زوجًا، وأمَّا جعله أصلاً لتخير المرأة للرجل، فذاك مما لا حاجة إلى بيان فساده
وخطأ الذاهب إليه.
يقول قائلون: (إن النظر رسول القلب، وإن الاستحسان علة الحب، والحب
هو علة ذلك السكون الذي هو ركن السعادة وسر حقيقة الزوجية) فإن لم يكن
عينه فهو علة له أو أثر من آثاره، فما بالك تطلق القول في تخطئة من يُحكِّم
استحسان الصورة، وميل القلب في الاختيار؛ كأنك تؤيد عادة مسلمي المدن الذين
يتزوجون غالبًا على السماع، غافلاً عما يتبع هذه العادة من التنافر بين الزوجين
لأول وهلة، وما يُرزآن به من الخصام والجفوة. ونقول: إننا قد بينَّا أن استحسان
الصورة، وميل القلب إلى ما يرضي العين مما لا بقاء له ولا ثبات لِمَا يُبنى عليه،
وإنما البقاء والثبات للحب الذي علته تعارف الأرواح، ومشاكلة الطباع، ولا ننكر
مع هذا أن حسن الصورة، وجمال الخلقة له أثر عظيم في نفوس عشاق المعاني؛
ربما يفوق أثره في نفوس عشاق الصور، ولكنه عندهم في الدرجة الثانية، بل
يقرب في ذوقهم من المحسنات العارضة كالثياب والحُلي؛ فإن سليم الطبع لا تسكن
نفسه إلى دوام معاشرة رث الثياب وسخها، ويأنف طبعه من الطعام الطيب في
الإناء الخبيث. وإن من الناس من تشمئز نفسه وتنفر من بعض العيوب الخلقية؛
فإذا هي فاجأته في وجه من اختير له زوجًا يلابسه ويمازجه حتى يتحد معه أتم اتحاد؛
يوشك أن تنكمش نفسه انكماشًا يتعذر معه الالتحام والالتئام، لذلك كان من السنة
في الإسلام أن لا يتزوج المرء إلا بعد الرؤية، وما جرى عليه المسلمون في أكثر
المدن أو جميعها مخالف للفطرة والشريعة جميعًا، ولكن حكم العادات أقوى سلطانًا
على نفوس الجماهير من كل حكم يخالفه.
على أن من يطلب الازدواج لإقامة سنة الفطرة، لا لمجرد إرضاء الشهوة،
ولا لأجل التنقل في معاهد اللذة، فقلما يخون الوصف رغبته فيما يحب من حسن
الصورة وجمال الخلقة، ولعلنا لو أحصينا عدد الأزواج الذين مقتوا أزواجهم استقباحًا لصورهن لَمَا وجدنا فرقًا كبيرًا بين من تزوج منهم عن رؤية ومن تزوج
عن سماع فإن للرؤية نظرًا خادعًا ليس معه للرَّوِيَّة مجال. والسماع يتثبت فيه
ويتروَّى حتى يغني عن النظر في كثير من الأحوال.
ويقولون في انتقاد ما عليه أكثر مسلمي المدن من التشدد في الحجاب: إن
الحاجة إلى رؤية الرجل من يريد الاقتران بها للوقوف على طباعها وأخلاقها
وعادها - أشد منها لمعرفة حسنها وجمالها، بل لا بد لمعرفة الأخلاق والطباع من
المعاشرة زمنًا طويلاً، ونقول: إن هذا هو الذي يظهر بادي الرأي، وأما ما
يظهر بعد التدقيق والتمحيص فهو أنه يتعسر أو يتعذر على الشاب أن يعرف
حقيقة أخلاق الشابة وطباعها ورغائبها من المعاشرة بقصد الخطبة؛ فإن ما يتنازع
الفتاة من ضروب الشعور والوجدان إذا كانت بمرأى من الفتى ومسمع يخرج بها عن حال الاعتدال الطبيعي الذي طبعت عليه، فلا يكون الحكم عليها صحيحًا؛
لأن حجابًا طبيعيًّا أسدل على أخلاقها وسجايها، ثم إن من وراء هذا الحجاب أو من
أمامه حجابًا آخر صناعيًّا، وهو ما يكون من التكلف والتصنع؛ لتكون أمام الفتى
بالمظهر الذي تظن أنه يرضيه ويجذب قلبه، فالعمدة إذن في معرفة الآداب
والأخلاق هي الوقوف على حال المنبت والعشيرة وخبر الصادق الذي يحسن النقد
ويميز بين ما يرغب فيه وما يرغب عنه.
وقد يسهل على الخلطاء والجيران من العشائر أن يعرف فتيانهم أخلاق فتياتهم
بالاختبار الصحيح؛ إذا لم يكن هناك مقدمات، ولا وسائل تشعر برغبة المختبر في
تزوج من يلاحظ أحوالها ويتنقد أعمالها، وقلما يكون هذا في المدن إلا
بين الأقربين. وحدثني السيد عبد الرحمن الكواكبي - رحمه الله - أن أهل
الآستانة إذا رضوا بالخاطب دعوه إلى دارهم، وجمعوا بينه وبين بنتهم في
مجلسهم فيراها وتراه ويسمع كلٌّ حديثَ الآخر وتسأله عن آثاره الأدبية والعلمية
ثم يكون العقد بعد ذلك.
جملة القول: إن الذين يعتمدون على مجرد استحسان الصور في تخير
الأزواج ضالون، لا يُرجى لهم أن يُكوِّنوا بيوتًا -عائلات - تكون أعضاء حية
عاملة لأمة عزيزة؛ وسيأتي بيان حال من يبني اختياره على طلب المال والثروة،
ثم من يبني اختياره على ما يجب أن يُبْنى عليه الاختيار، وقد ذكر بعضه في هذه
المقالة تمهيدًا واستطرادًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(8/81)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التحكيم بين الزوجين في الشقاق
(س6) الشيخ محمد نجيب التونتاري المدرس بالمدرسة التونتارية (روسيا) :
أعرض على حضرتكم مسألة كثرت البلوى بها في ديارنا، مستفتيًا من شريف
علمكم مترقبًا البيان الوافي بالمقصود في أحد أعداد المنار؛ ليعم نفعه ويكثر أجره
وهي: هل يوجد طريق شرعي من الكتاب والسنة للتفريق بين الزوجين عند طلب
الزوجة له وامتناع الزوج عنه مع وقوع الشقاق بينهما؟ وإني راجعت كتب الحنفية
الموجودة في أيدينا فوجدت أن قول إمامنا أبي حنيفة -رضي الله عنه - عدم التفريق
وقول الإمام محمد -رضي الله عنه- التفريق إذا وجد في الزوج عيب غير متحمل،
وتقع الفرقة بمجرد اختيار الزوجة كما ذكره في كتاب الآثار، وأما الإمام مالك وأحمد
والشافعي في أحد قوليه - رضي الله عنهم - فمذهبهم التفريق بسبب عيب الزوج إذا
كانت الزوجة تطلبه كما هو المنقول في كتبنا فاتفاق الأئمة سوى الإمام أبي حنيفة
يقوي القول بالتفريق فيكون العمل به أولى وأحوط. ثم إني بعدما نظرت في قوله
تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (النساء: 35) الآية ظهر لي بإعانة التفاسير
أنه عند وقوع الشقاق - الشقاق هو الخلاف والعداوة على ما ذكروه - بين الزوجين
ينصب القاضي الحكمين العدلين ويوليهما أمر الجمع والتفريق كما هو المروي عن
علي - رضي الله عنه - فهذان الحكمان بعد ما يطلعان على أحوال الزوجين يجتهدان
في الإصلاح بينهما وإعادتهما إلى المعاشرة بالمعروف إن أمكن؛ وإن لم يمكن ذلك؛
فإن كان النشوز من طرف الزوج فحَكَم الزوج يفرق الزوجة نيابة عنه على سبيل
التطليق، وإن كان النشوز من طرف الزوجة؛ فحَكَم الزوجة يفرقها على سبيل
(الخُلع) فكلا الأمرين - أي الجمع بالمعروف أو التفريق بالمعروف - ينبغي أن
يكون مرادًا من الإصلاح المذكور في الآية؛ وأما الإبقاء على حال الشقاق فليس هو
من الإصلاح في شيء بل هو داخل في ضمن قوله تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (النساء: 129) الآية ومناف لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء:
19) الآية وقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ
ضِرَاراً لِّتَعْتَدُوا} (البقرة: 231) الآية.
والحاصل أن الإصلاح إنما هو لدفع الشقاق، ولا يتصور ذلك إلا بأحد
الأمرين: أي بالجمع بالمعروف أو التفريق بالمعروف، ففي الآية دلالة على كلا
الأمرين أي على ثبوت حق الجمع والتفريق للحكمين؛ لتضمن معنى الإصلاح ذلك.
هذا ما ظهر لي من تأمل الآية الكريمة ولا أدري أصواب أم خطأ والمأمول من الأستاذ
إيضاح هذه المسألة وتطبيقها على الكتاب والسنة خدمة للدين والملة حتى يظهر
الصواب في هذه المسألة ولكم الأجر والمنة.
(ج) إن الآية الكريمة صريحة في وجوب التحكيم بين الزوجين إن خيف
شقاق بينهما؛ لأنه يجب أن يكونا شقيقين لا متشاقين ينضوي كل منهما إلى شق
(جانب) غير الشق الذي فيه الآخر. ولا يجيز الإسلام للمسلمين أن يدَعوهما يستبد
أقواهما بأضعفهما، والخطاب في الآية للحكام في قول وللمؤمنين في قول، والقرآن
يخاطب المؤمنين عامة في الأمور العامة؛ لأنهم المسيطرون على الحكم أو لأن
الحكم شورى بينهم؛ فإذا قصَّر أميرهم في تنفيذ الشرع ألزموه به أو عزلوه، وولوا
غيره فالقولان متلازمان. ويجب على كل من الزوجين قبول ما يحكم به الحكمان
فمن أبى الخضوع ألزمه الحاكم المؤيَّد بجماعة المسلمين بقبول تنفيذ الشرع.
وقد أخرج الشافعي في (الأم) والبيهقي في السنن وغيرهما عن عبيدة السلماني
قال: جاء رجل وامرأة إلى علي - كرم الله تعالى وجهه - ومع كل واحد منهما
فئام من الناس، فأمرهم أن يبعثوا حكَمًا من أهله وحكمًا من أهلها، ثم قال للحكمين:
تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن
تفرقا، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله - تعالى- بما عليّ فيه ولي، وقال الرجل:
أما الفرقة فلا، فقال علي - رضي الله عنه -: كذبت والله حتى تقرَّ بمثل الذي
أقرت به. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس -رضي الله عنهما - أنه قال في هذه
الآية: هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما، أمر الله - تعالى - أن يبعثوا
رجلاً صالحاً من أهل الرجل، ورجلاً مثله من أهل المرأة؛ فينظران أيهما المسيء؛
فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته، وقسروه على النفقة، وإن كانت
المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة، فإن اجتمع أمرهما على أن
يفرِّقَا أو يجمِّعَا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين، وكره ذلك
الآخر ثم مات أحدهما، فإن الذي رضي يرث الذي كره، ولا يرث الكاره
الراضي، وليس في قول ابن عباس - رضي الله عنهما - شيء لا يفهم من الآية
إلا مسألة الإرث بعد التفريق، ويقول الأصوليون والمحدثون في مثل ذلك: إنه
شيء لا مجال للرأي فيه؛ فله حكم المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وما قاله بعض الحنفية من أن نفوذ حكمهما يتوقف على رضى الزوجين
بالتحكيم أخذًا من قول (علي) للرجل: كذبت ... إلخ - غير وجيه؛ لأن معناه
الإلزام بالإقرار وكونه لا يصدق في الاتباع حتى يخضع له، وهذا لا ينافي إلزامه
به كرهًا، إن لم يرض طوعًا، قال في (فتح البيان في مقاصد القرآن) عند تفسير
{إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا} (النساء: 35) أي على الحَكمين أن يسعيا في إصلاح ذات
البين جهدهما؛ فإن قدرا على ذلك عَمِلا عليه، وإن أعياهما إصلاح حالها ورأيا
التفريق بينهما جاز لهما ذلك من دون أمر من الحاكم في البلد، ولا توكيل بالفرقة
من الزوجين، وبه قال مالك والأوزاعي وإسحاق، وهو مروي عن عثمان وعلي،
وابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي وحكاه ابن كثير عن الجمهور قالوا: لأن
الله تعالى قال: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا} (النساء: 35) وهذا
نص من الله سبحانه أنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان. وقال الكوفيون وعطاء
وابن زيد والحكم وهو أحد قولي الشافعي: إن التفريق هو إلى الإمام أو الحاكم في
البلد لا إليهما ما لم يوكلهما الزوجان أو يأمرهم الإمام أو الحاكم؛ لأنهما رسولان
شاهدان فليس إليهما التفريق: ويرشد إلى هذا قوله {إِن يُرِيدَا} (النساء: 35) ،
أي الحكمان {إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35) لاقتصاره على ذكر
الإصلاح دون التفريق. اهـ
وأنت ترى أن القول الأول هو المتبادر، ويزيده قوة أنه مروي عن أعلم
الصحابة، ولم يُرْوَ أن غيرهم منهم خالفهم فيه، وأما الاكتفاء في الآية بذكر
الإصلاح فلأنه هو المطلوب الذي ينبغي الحرص عليه وعدم المصير إلى غيره، إلا
للضرورة، والتفريق يؤخذ من المفهوم ولولا ذلك لم يقل به الصحابة والتابعون.
على أن الساعي في الإصلاح لا حكم له فيسمى حكمًا، وقد كان المسلمون في
الصدر الأول يعملون بهذه الآية على أحد الوجهين في تفسيرها وقد تركوها في هذه
الأزمنة التي انفصمت فيها عروة الدين، ونسخ الحكام المستبدون أكثر أحكام الكتاب
المبين، وأهمل الناس العناية بأمر إخوانهم المسلمين، ومن قدر على إحياء هذه
السنة كان له أجر المصلحين.
__________(8/100)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
(الأرض)
دليل حركتها من القرآن
(س 7) ومنه: ثم أيها الأستاذ قد أوردتم في بعض أعداد المنار قوله تعالى:
{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثا} (الأعراف: 54) دليلاً على دوران الأرض،
ولكن لم يظهر لي وجه الاستدلال في ذلك، وراجعت التفاسير ولم أجد ما يشفي العلة؛
فأرجو من فضلكم إيضاح ذلك أيضًا في أحد الأجزاء، وقد أورد الأستاذ العلامة
المرحوم شهاب الدين المرجاني القزاني - رحمه الله - دليلاً على حركة الأرض
قوله تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} (النمل: 88) الآية وفصَّل ذلك
وبسطه حتى لو نظر المتأمل في ذلك يظهر له أن الآية واضحة الدلالة على المدعى،
ذكر ذلك في كتابه (وفية الأسلاف) والحاصل أنه حمل المرور المذكور في الآية
على المرور في الحال، ولكن سائر المفسرين حملوه على المرور الأخروي على ما
هو الظاهر من سوق الآية، وفي آيات أخرى أيضًا سيران الجبال سيق لبيان السير
الأخروي، والمرجو من الأستاذ إفادة ما هو الصواب فيه أيضًا.
وقد أرسلت لكم مع هذا مقالة المرجاني في ذلك نقلاً عن كتابه (وفية
الأسلاف وتحية الأخلاف) وهو كتاب كبير في التاريخ - ثمان مجلدات ضخام -
لم يطبع منها إلا مقدمته، وله تصانيف أخرى نافعة معمول بها في بلادنا. وكان -
رحمه الله - سنيًّا خالصًا على مذهب السلف يتمسك بالكتاب والسنة في الأصول
والفروع وهذه عبارته:
(ويدل على حركة الأرض قوله تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ
تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (النمل:
88) فإنه خطاب لجناب الرسالة وإيذان الأمر له بالأصالة مع اشتراك غيره في
هذه الرؤية، وحسبان جمود الجبال وثباتها على مكانها، مع كونها متحركة في
الواقع بحركة الأرض، ودوام مرورها مر السحاب في سرعة السير والحركة،
وقوله: {صُنْعَ اللَّه} (النمل: 88) من المصادرالمؤكدة لنفسها، وهو مضمون
الجملة السابقة، يعني أن هذا المرور هو صنع الله كقوله تعالى: (وعد الله)
و (صبغة الله) ، ثم الصنع هو عمل الإنسان بعد تدرب فيه وتروٍّ وتحري إجادة، ولا
يسمى كل عمل صناعة، ولا كل عامل صانعًا، حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب
إليه، وقوله: {الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) كالبرهان على إتقانه
والدليل على إحكام خلقته وتسوية مروره على ما ينبغي لأن إتقان كل شيء يتناول
إتقانه فهو تثنية للمراد وتكرير له كقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
العَالَمِينَ} (آل عمران: 97) ، وقد اشتملت هذه الآية على وجوه من التأكيد
وأنحاء المبالغة، ومن ذلك تعبيره بالصنع الذي هو الفعل الجميل المتقن المشتمل
على الحكمة، وإضافته إليه تعالى تعظيمًا له وتحقيقًا لإتقانه وحسن أعماله،
ثم توصيفه سبحانه بإتقان كل شيء، ومن جملته هذا المرور ثم إيراده بالجملة الكلامية
الدالة على دوام هذه الحالة واستمرارها مدى الدهور، ثم التقييد بالحال لتدل على أنها
لا تنفك عنها دائمًا؛ فإنه قوله تعالى {وَهِيَ تَمُرّ} (النمل: 88) حال عن
المفعول به وهو الجبال ومعمول لفعله الذي هو رؤيتها على تلك الحال، وعن هذا
استدلوا على قصر عدد الحل الزائد على أصل الحل بوقوع قوله تعالى: {مَثْنَى
وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3) حالاً من الفعل، وعلى اشتراط إذن الإمام في
الجمعة؛ لقوله عليه السلام: (من تركها ولها إمام عادل أو جائر فلا جمع الله
شمله) وغير ذلك فهذه الآية صريحة في دلالتها على حركة الأرض ومرور الجبال
معها في هذه النشأة، وليس يمكن حملها على أن ذلك يقع في النشأة الآخرة، أو
عند قيام الساعة وفساد العالم وخروجه عن متعاهد النظام، وأن حسبانها جامدة
إحساسها العدم تبين حركة كبار الأجرام إذا كانت في سمت واحد؛ فإن ذلك لا يلائم
المقصود من التهويل على ذلك التقدير على أن ذلك نقض وإهدام، وليس من صنع
وإحكام، والعجب من حذاق العلماء المفسرين عدم تعرضهم لهذا المعنى مع
ظهوره واشتمال الكتب الحكمية على قول بعض القدماء به مع أنه أولى وأحق من
تنزيل محتملات كتاب الله على القصص الواهية الإسرائيلية على ما شحنوا بها كتبهم،
وليس هذا بخارج عن قدرة الله تعالى ولا بعيد عن حكمته، ولا القول به بمصادم
للشريعة والعقيدة الحقة بعد أن تعتقد أن كل ذلك حادث بقدرة الله تعالى وإرادته،
وخلقه بالاختيار كائنًا ما كان، وهو العلي الكبير وعلى ما يشاء قدير.
واعلم أن هذه الآية وما قبلها من قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا
فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النمل: 86) ، اعتراض
في تضاعيف ما ساقه من الآيات الدالة على أحوال الحشر وأهوال القيامة،
كاعتراض توصية الإنسان بوالديه في تضاعيف قصة لقمان، ومثل ذلك ليس بعزيز
في القرآن، وفائدته هنا التنبيه على سرعة تقضي الآجال وقصر الآماد والتهويل من
هجوم ساعة الموت وقرب ورود الوقت المعتاد فإن انقضاء الأزمان وتقضِّي
الأوان إنما هو بالحركة اليومية المارة على هذه السرعة المنطبقة على أحوال الإنسان
وهذا المرور وإن لم يكن مبصرًا محسوسًا، لكن ما ينبعث منه من تبدل الأحوال بها
بما يطروه من تعاقب الليل والنهار وغيره بمنزلة المحسوس المبصر {فَاعْتَبِرُوا يَا
أُولِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) فيكون هذا معجزة النبي مخصوصة به؛ إذ لم
يخبر به قبله غيره من الأنبياء، وليس بممكن حمل الآية على تسيير الجبال الواقع
عند قيام الساعة، ووفاء النشأة الآخرة؛ إذ هو ليس من الصنع في شيء، بل إفساد
أحوال الكائنات، وإخلال نظام العالم وإهلاك بني آدم) اهـ وذكرناه بنصه ولعله لا
يسلم من تحريف.
(ج) قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (الأعراف: 54)
ليس نصًّا قطعيًّا في حركة الأرض ولكنه يدل على أن الليل الذي هو ظل الأرض
يسير مسرعًا وراء النهار الذي هو نور الشمس الواقع على الأرض؛ حتى كأنه
يطلبه بإرادة واختيار، ولا يخفى أن النظر إلى تعاقب الليل والنهار يُجِيز لنا أن
نقول: إن كل واحد منهما يغشى الآخر ويتبعه أو يطلبه، ولكن جعل الليل هو
الغاشي كما يؤيده قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: 1) يشعر بأن هذه
الحركة التي يدور فيها الليل وراء النهار، والنهار وراء الليل هي للأرض، وذلك أن
العقل جازم بأن ذلك لابد أن يكون بسبب دوران الأرض تحت الشمس أو دوران
الشمس وما يتبعها من الكواكب حول الأرض في هذا المدار الواسع الذي
يبلغ نصف قطره بالنسبة إلى الشمس إذا اعتبرنا الأرض مركزًا نحو 52 مليونًا من
الأميال.وذكرنا أن مختار باشا الغازي وهو من أكبر علماء الفلك، يقول إن الآية
تدل على دوران الأرض قطعًا؛ وذلك أنه يجب حملها على أحد الوجهين المشار
إليهما، وأحدهما ممنوع بالأدلة الرياضية وهو كون الشمس التي تدور في هذا
الفلك الواسع حول الأرض، ويتبع ذلك أن كواكبها كذلك تدور حول الأرض،
ومنها ما هو أبعد منها عن الأرض كثيرًا فيتعين الوجه الثاني وهو الذي قامت عليه
الدلائل الرياضية على أنه أقرب إلى العقل والتصور.
وأما قوله تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (النمل: 88) الآية، فقد استدل بها المعاصرون على حركة الأرض، وقد قرع هذا
الاستدلال سمعي في المدرسة أيام التحصيل، ولم يحسن أحد في توجيهه إحسان
عالمكم القزاني - رحمه الله تعالى - فإن جوابه عن ورود الآية في سياق الكلام
عن قيام الساعة وأهوال الآخرة بأنه يصح أن يكون مرادًا به البرهان بقياس
النظير في العمران على النظير في الخراب - جواب وجيه وما دعم قوله به من
بيان معنى الصنع والإتقان قد أحسن فيه الصنع كل الإحسان، لولا أنهم أجابوا
عنه بأن الله تعالى أحسن الصنع وأتقنه في تخريب العالم وتبديله، كما أحسنه في
إنشائه وتكوينه فلكلٍ وجه، وليست الآية نصًّا في أحدهما ويؤيد قول الجمهور
آيات ذكر فيها تسيير الجبال في معرض الكلام على الساعة، ولسنا في حاجة إلى
نصوص قاطعة تصف الأكوان بكل أوصافها، وتبين حقائقها وماهيتها، فحسبنا أن
الله تعالى أرشدنا إلى البحث وأمرنا بالنظر لنصل إلى ما يمكن الوصول إليه
مستدلين به على علمه وحكمته , وشمول قدرته سبحانه فالكتاب مرشد، والبحث
موصل، وقد تركنا هذا النظر وصار فينا من يحرمه باسم الدين، وإن ترك الدين
بمخالفة كتابه المبين.
__________(8/103)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شهادة غير المسلم وخبره
(س8) ومنه: هل تقبل شهادة غير المسلم كالنصراني أو اليهودي في
بعض الأمور، أم لا تقبل أصلاً، وشهد طبيب نصراني بأن الزوج ضرب زوجته
ضربًا شديدًا والمرض حصل بسبب ذلك هكذا كتب الطبيب، فهل يقبل قول هذا
الطبيب؟ وهل هذا القول شهادة أم خبر؟ وما الفرق بين الشهادة والخبر؟ أم هذا
القول في حكم الكتاب فيعمل به من حيث هو كتاب؟ هذا ما كنا نرجو شرحه
من حضرتكم دام فضلكم وعم نفعكم وعلى الله أجركم.
(ج) تقبل شهادة غير المسلم في بعض الأمور، وفي ذلك نزل قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ
مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُم} (المائدة: 106) وهي في سورة المائدة التي لا نسخ
فيها فقد أخرج أحمد من حديث جبير بن نفير عن عائشة قال: دخلت على عائشة
فقالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت: نعم، قالت: فإنها آخر سورة أنزلت فما
وجدتم فيها من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرِّموه، وروى البخاري
في التاريخ وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث ابن عباس قال خرج رجل من
بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء [1] فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم،
فلما قدموا بتركته فقدوا جامًا من فضة مخوصًا [2] بذهب فأحلفهما رسول الله، ثم
وجد الجام بمكة، فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي بن بداء، فقام رجلان من أوليائه
فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهما، وقال: ففيهم نزلت هذه الآية
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} (المائدة: 106) وروى أبو داود والدارقطني
بسند قال الحافظ ابن حجر رجاله ثقات عن الشعبي، أن رجلاً من المسلمين
حضرته الوفاة بدقوقا [3] ولم يجد أحدا من المسلمين يُشهده على وصيته فأشهد رجلين
من أهل الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الأشعري يعني أبا موسى فأخبراه وقدما بتركته
ووصيته، فقال: الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا بدَّلا، ولا كتما، ولا
غيَّرا، وإنها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما.
ظاهر الآية والأحاديث مشروعية إشهاد غير المسلم، وخصَّه من قال به من
العلماء بالسفر وعدم وجود مسلمين، ولا نعلم أن أحدًا قال بالإطلاق أو بقياس غير
السفر عليه عند الحاجة. وعظُم على بعضهم جواز إشهاد غير المسلم، وحاولوا
التفصي منه فزعم بعضهم أن الآية يحتمل أن تكون منسوخة، ورُدَّ بأن سورتها آخر
القرآن نزولاً، وورد أنه لا منسوخ فيها على أن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وزعم
بعضهم أن قوله تعالى {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (المائدة: 106) معناه من غير
أقاربكم ورُدَّ بأن الخطاب في الآية للمؤمنين فغيرهم من ليس على دينهم. وقال
بعض العلماء: إن هذه الآية في غاية الإشكال. واحتج من لم يُجز إشهاد غير المسلم،
ولم يقبل شهادته عليه بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (الطلاق: 2) ،
قالوا: والكافر لا يكون عدلا وقال: الرازي في تفسيره: (أجاب الأولون عنه لم
لا يجوز أن يكون المراد بالعدل من كان عدلا في الاحتراز عن الكذب، لا من كان
عدلاً في الدين والاعتقاد، والدليل عليه أنا أجمعنا على قبول شهادة أهل الأهواء
والبدع مع أنه ليسوا عدولاً في مذاهبهم، ولكنهم لما كانوا عدولا في الاحترازعن
الكذب قبلنا شهادتهم؛ فكذا هنا. سلمنا أن الكافر ليس بعدل إلا أن قوله {وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (الطلاق: 2) عام وقوله في هذه الآية: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ
آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض} (المائدة: 106) خاص؛ فإنه
أوجب شهادة العدل الذي يكون منا في الحضر واكتفى بشهادة من لا يكون منا في
السفر؛ فهذه الآية خاصة، والآية التي ذكرتموها عامة، والخاص مقدم على العام
لا سيما إذا كان الخاص متأخرًا في النزول، ولا شك أن سورة المائدة متأخرة فكان
تقديم هذه الآية الخاصة على الآية العامة التي ذكرتموها واجبًا بالاتفاق، والله أعلم)
اهـ.
ولا شك أن المراد بعدل الشهود ما ذكره أولاً، ومن عجيب أمر الجمود على
المذهب، والتعصب للتقليد؛ أنه يُجَرِّئ صاحبه على سوء الأدب مع الله تعالى،
ومن ذلك قول بعضهم: إن الآية تخالف القياس والأصول، وأي أصل لدين الإسلام
غير القرآن؛ فيحتمل عليه أو يرجع إليه. قال في (نيل الأوطار) : (وأما اعتلال
من اعتل في ردها بأن الآية تخالف القياس والأصول لما فيها من قبول شهادة الكافر
.. و.. و..، فقد أجاب عنها من قال به بأنه حكم بنفسه مستغن عن نظيره، وقد
قبلت شهادة الكافر في بعض المواضع كما في الطب ... ) إلخ.
أما قبول قول الطبيب الكافر؛ فقد قال به بعضهم على إطلاقه، وقيده بعض
الفقهاء في المرض المبيح للتيمم أو الفطر في رمضان بما إذا صدقه المريض أي
يُعمل بقوله إذا لم تقم قرينة أو شبهة على أنه كاذب وكذلك الطبيب المسلم إذا قامت
القرينة على كذبه لا يعمل بقوله.
ثم إن من العلماء من يقول إن البينة هي كل ما يتبين به المطلوب حتى يعلم
الحاكم مثلاً أن الذي حصل هو كذا، وقد أطال ابن القيم ببيان هذا في كتابه (إعلام
الموقعين) واحتج عليه بالكتاب والسنة. وعليه يقال: إذا كان بعض الكافرين
المعروفين
بالصدق شهدوا في قضية شهادة تؤيدها القرائن، بحيث يطمئن قلب القاضي وغيره
بصحتها، وافرض أن من جملة هذه القرائن أنها ربما مَسَّتهم بضرر وأن كتمانها ربما
جر إليهم منفعة؛ فإن هذه الشهادة تعتبر على ما ذهب إليه ابن القيم (بينة شرعية) ،
على أن مذهب أصحاب الحنابلة تخصيص شهادة الكافر بمسألة الوصية كما ورد،
وبكون الشاهدين من أهل الكتاب ولو غير ذميين.
وأما الفرق بين الشهادة والخبر؛ فالأصل في الشهادة أن تكون إخبارًا عن
مشاهدة ورؤية؛ ثم إنها تطلق على التحمل وعلى الأداء، قال في كشاف
اصطلاحات الفنون:
الشهادة بالفتح والهاء المخففة لغة خبر قاطع، كما في القاموس، وشرعًا
إخبار بحق للغير على آخر عن يقين، وذلك المخبر يسمى شاهدًا: وقال في الكلام
على هذه القيود: وقولنا عن يقين يخرج الإخبار الذي هو عن حسبان وتخمين:
وكان ينبغي أن يقول الذي قد يكون عن حسبان وتخمين، ثم زاد قيدًا آخر عن فتح
القدير وهو (في مجلس الحكم) .
__________
(1) الرجل السهمي اسمه بزيل (كزبير) لا بديل بالدال أو الراء كما قيل، وتميم وعدى كانا نصرانيين وقد سرقا الجام من متاع الرجل ولم يعلما أنه كتب ورقة بجميع ما أودعهما.
(2) المخوص بتشديد الواو المنقوش بما يشبه الخوص وهو مما يعنى به الآن في علب الفضة وآنيتها وما يوضع في رؤوس العصي منها.
(3) هي بفتح الدال وضم القاف وسكون الواو أو القصر بلد بين بغداد وأرية.(8/107)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رأي عالم أزهري في العلماء
تابع لما قبله
وقال في فصل عنوانه (حال العلماء اليوم) ما نصه بحرفه ورسمه:
ماذا أقول في هذا الباب؟ وماذا ينبغي أن أقول فيه؟ والمقام حرج والحاجة إلى
الإبانة شديدة، أأخشى سطوة الرؤساء، وقيامة العلماء، فأكتب من صحائف الإطراء
ما تمزقه يد الشهود أم تأخذني العزة بالإثم فلا أرضى أن أنسب لنفسي ولا لأبناء
جنسي ما حطَّنا وحقرنا في هذا الوجود أم أسكت وأغالط شعوري وأقول: إني واحد
من كثير، أو أعلل نفسي بالقضاء والتقدير.
ربي أنت أعلم بحيرتي ودهشتي فانتشلني من أحوال هذا الترديد، وألهمني
القول الرشيد، ووفقني لما فيه الخير لي ولأهل ملتي يا رب العالمين.
تالله إن من أهم ما يستلفت الأنظار حال علماءنا اليوم، وفائدة الأمة منهم فهم
بحسب أصل الوضع المرجع الأعلى في إصلاح شؤون الأمم الإسلامية وغرس
الملكات الدينية في قلوب المسلمين، ونشر العلم بينهم ودلالتهم على ما ينبغي أن
يكونوا عليه في أمري الدنيا والآخرة وإيقافهم على قبح القبيح وحسن الحسن من
الأخلاق والعادات والقول والأفعال؛ إذ هذا هو المقصد من إفراد طائفة بالاشتغال
بالعلم وتشييد دور واسعة لهم.
ولكن المطَّلع على حالنا اليوم لا يدري هل المقصود من الاشتغال بالعلم الديني
هو هذا. أو المقصود أن يحوز الإنسان مُرَتَّبًا يقوم بضروريات معاشه، فيكون العلم
الديني من الحِرَف يُقْصَد للتعيش أو المقصود أن يحوز شرفًا وجاهًا وصفة بين
الناس لا يحوزها إلا من يؤدي الامتحان، فيقال زكي، نجيب، حاز قصب السبق
إلى غير ذلك من العبارات، أو المقصود تكميل الفرق وتتميم الطوائف حتى لا يكون
المجتمع الإسلامي خاليًا من فرقة تسمى (العلماء) تتميمًا للنظام، وإن لم تنفع هذا
المجتمع بشيء يذكره أو المقصود المحافظة على التقاليد الأولى والأحوال القديمة،
ولو بغير معنى، أو المقصود وجوده فرقة تمثل تلك الفرقة العالية التي أقامت هيكل
العلم الإسلامي وشيدت له بيتًا من العز في العصور الأولى كما يكون في تشخيص
رواية مثلا.
ولا يعرف أيضًا هل المقصود من العلم أن يعرفه الإنسان، وإن كان لا
يلاحظه في خلقه عاداته وعمله، أو لا بد أن يظهر أثر علمه في شخصه قبل غيره،
وهل الغرض أن ينحصر العلم بين جدران المدارس الدينية، أو الغرض أن تكون
المدارس كالشمس تنبعث منها الأنوار، في جميع أرجاء العالم ويكون لها أثر في
ترقي الأمم الإسلامية مثل تأثير الشمس في إنماء الزروع وإنضاج الثمار وإصلاح
هذا الكون.
على أني لا أريد أن أفيض في بيان حال علمائنا وما هم عليه فذلك شيء
مؤلم، وحسبي منه ما يعلمه الناس، وما مست الحاجة لإبانته في سابق هذا الكتاب
ولاحقه ولكني أذكر من ذلك أمرًا واحدًا مهمًا هو علة العلل في كل الأحول، ألا وإنه
مبدأ العلماء اليوم ومشربهم، فأقول: ينقسم علماؤنا في مبادئهم إلى قسمين - آخذين
بالعادة، وآخذين بالفكر، فأما الآخذون بالعادة فهم جمهور العلماء لا يميلون إلا لما
وجدوا عليه من قبلهم معتقدين أن الكمال فيه سواء في ذلك علومهم ومعتقداتهم
والكتب التي يدرسونها وطريقة التدريس والأمور الشخصية وسائر الأحوال،
والأكابر منهم أهل الكمال، هم الممتازون بالصلاح والتقوى والنظر إلى الآخرة أو
بالتدقيق في المباحث اللفظية، والمعاني الخيالية ولكن مع الجهل بالشئون العامة
وأكثر العلوم الضرورية والأحوال العمومية، ومع التلبُّس بكثير من المعتقدات
الخرافية والأوهام العامية ومع الجمود والوقوف عند حد من الفكر والتعقل أدنى
مما ينبغي ومع الاقتصار من العلم على ما لا يكفي ومع عدم النظر إلى نشر العلم أو
تقريبه من الفهم وعدم السعي فيما يصلح العامة وما يعود على الأمة بالتقريب
في أمري الدنيا والآخرة، ومع عدم الجراءة في شيء مما تنبغي الجراءة فيه ومع
عدم الاهتمام بحال المسلمين ولا بما يطرأ اليوم على الإسلام من أوجه الطعن وعدم
الاكتراث بإقناع المعترضين ورد المجادلين، بل يكتفون من العلم بتدقيق في الألفاظ
وتحقيق لبعض المعاني على ضرب خاص لا يفيد إلا بعد زمن مديد وجهد شديد.
وأما الآخذون بالفكر فهم حديثو العهد، ولم يزالوا قليلين جدًّا، وهؤلاء يرون أن
ما عليه الأولون غير صواب وينتقدون عليهم في علومهم وأخلاقهم وصلاحهم وسائر
أحوالهم، ويرون الكمال في أن يكون الإنسان قوي الفكر شديد العارضة صحيح النظر
في الشئون العامة ويعلم من علوم الكون ما يمكِّنه أن يرقِّي به الأمة، ويوقفها في
صفوف الأمم الحية ويخرجها من الأوهام وأسر الجهالة ويتغالون في ذلك إلا أنهم
مع هذا يثقون بأفكارهم ويستبدون بها ويحكمونها فيما لا ينبغي أن تحكم ويكرهون كل
قديم مما عليه الجمهور مع عدم إعطاء تربية الملكة الدينية وما يتعلق بأمر الآخرة
من العناية مثل الذي أعطوه للأمور المتقدمة بل مع إغفال ما يقرب الإنسان من
الملأ الأعلى ويظهر عليه آثار العبودية.
والذي أراه نقص المبدأين وعدم كمال الفريقين، وأن كلاًّ منهما يبتعد عن الغاية
التي ينبغي أن يصل إليها أهل العلم بقدر ما يقترب الآخر منها، وأن أجزاء الكمال
الواجب للعلماء موزعة عليهم لا مجموعة، وأن كلاًّ مصيب في شيء مخطئ في
آخر؛ فإن التمسك بالعادة قبيح كما أن الثقة بالفكر توقع الإنسان في الخطأ من حيث
لا يشعر، بل المبدأ الصحيح الذي ينبغي أن يسلكه أهل العقول الراجحة هو كما
أقول: (لا تقدس العادة ولا تثق بفكرك) بل تأمل وتدبر فعسى أن يكون ما عليه
الناس حقًّا خَفِيَ عليك، وعسى أن يكون ما رأيته صوابًا غفل عنه الناس، وما يتمسك
به الأولون من الصلاح والتقوى والانكسار، والإقبال على أمر الآخرة والتحقق
بالعبودية حسن، ولكن في موضعه وعلى وجه لا يؤدي إلى الاقتصار عليه وعدم
القيام بالشئون الواجبة على العالم من حيث هو عالم يلزمه أن يكون ذا نظر وسعة
اطلاع، وإلمام بأخلاق الناس وأحوالهم، وحسن بيان، وعلم بما يلزم من علوم
الأكوان ليمكنه أن يقوم بالواجب عليه للناس حق القيام، ويكون لقومه شمسًا مضيئة،
ولإعلاء كلمة الحق، وقيام الناس على طريق الهدى؛ سيفًا ماضيًا ومنارًا عاليًا؛
فهذا واجب وهذا لازم، ولهذا وقت ولذاك وقت آخر، فالعالم إذا جَنَّ عليه الليل ذل،
وخشع، وانكمش، وانخلع عن هذا الكون الناقص وأقبل على الحق واقترب من
ملكوت الله يسجد ويركع، ويسبح، ويقدس، ويمجد الحق، ويناجيه بما شاء
حتى تتورم قدماه وينحل جسمه؛ وإذا أصبح أصبح شهمًا جريئًا في موضع الجرأة
والشهامة يعظ، ويُرشد، ويُعلِّم، ويقول الحق، ويهدي إلى سواء السبيل،
يساير هذا، ويجلس إلى ذلك. إن استعمل الشدة في موضعها فمن غير عنف، وإن استعمل اللين فبغير ضعف، لا تفوته شاردة ولا ورادة مما يرى فيه صلاح
الأمة في أمر دنياها وآخرتها؛ فلقد قال الحق في أصحاب رسول الله {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) ، وقد كانوا إذا رآهم راءٍ في النهار ظنهم من
قُطَّاع الطريق يشنون الغارة هنا، ويعارضون عير قريش هنا وهكذا لا تأخذهم رأفة
في دين الله؛ فإذا أقبل الليل كان لهم أزيز كأزيز النحل [*] يذكرون الله تعالى،
ويسبحونه آناء الليل، وأطرف النهار لا يفترون.
وما يغلب على القسم الثاني من القيام بإصلاح الأمة وإرشادها إلى طريق
سدادها، وعدم إغفال الفكر مع الميل إلى الترقي في العلوم والمعارف والأخلاق..إلخ
حسن. ولكن على وجه لا يعقل معه قوام الدين وأساسه، وهو إيجاد الروح
الدينية العالية، والتقرب من الملأ الأعلى، وتعمير القلوب بالأنوار الإلهية
والمعارف الوجدانية التي هي غاية الكمال لمرتبة الإنسان، والتي تقرِّب من الحق
جل وعلا. وأنت تجد أكثر القرآن إنما جاء ليدعو الناس إلى سعادة وراء هذه
السعادة الدنيوية وكمال فوق هذا الكمال الظاهر.
هذا ولا بأس أن أستعين بالمقارنة والتمثيل بالأئمة الحائزين لخصال الكمال
والمشهورين بأنواعها وأقول: إن العالم لا بد أن يكون في جراءة وعقل وفكر
وحسن بيان مثل فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده وذل وتواضع وخشوع وصلاح
فضيلة الأستاذ الشيخ الشربيني.
بل أقول: إن العالم الكامل لا بد أن يكون في إقدام عمرو وحلم الأحنف وذكاء
إياس وتقوى ووجدان الجُنيد وبلاغة سَحْبَان وعبد القاهر، ونحو سيبويه وفلسفة ابن
سينا وفقه أبي حنيفة ... إلخ، وأقول ثالثًا: إن العالم الكامل هو من يجمع من الكمال
ما جمع الغزالي أو يفوقه أو يقرب منه، وأسال الله الكريم أن يوجد بيننا علماء
أقوياء كاملين يكون هذا حالهم وهكذا شأنهم إنه سميع قريب مجيب) اهـ بحروفه
وغلطه وتحريفه.
(المنار)
هذا هو اعتقاد أحد المدرسين في الأزهر بعلماء الأزهر الذين يقول بعض
الناس: إن حفظ الدين يتوقف على بقائهم على حالهم، وإن حديث الناس في مثل ما
كتب هذا الشيخ الأزهري كثير، ولكن لم يتجرأ أحد على كتابة ما يعتقد أو يسمع،
وطبعه ونشره بين الناس، ولهذا كان لكتابه تأثير عظيم عند خواص الناس
ورجا المخلصون في حب الخير لملتهم أن يكون هذا المؤلف عضدًا عظيمًا للإصلاح
ولكنه ما عتم أن زلزل رجاءهم بنبذة نشرها في بعض الجرائد اليومية عنوانها
(كتاب مفتوح لأمير البلاد) خالف فيها بعض رأيه في كتاب العلم والعلماء،كُتب في بعض الجرائد ردٌّ عليه يشعر بأنه ما كتب هذا الكتاب المفتوح إلا بتأثير لا يقوى
مثله على دفعه.وقد بلغنا أن من طلب منه كتابة الكتاب المفتوح هدده بمحو اسمه من ديوان العلماء والمدرسين إذا هو لم يكتب، فصدق القول؛ لأن للمهدد
اتصالاً بمن يظن فيهم القدرة على المحو والإثبات، ولو ثبت على رأيه لكان خيرًا له
ولو محي اسمه من المدرسين. على أن محوه لم يكن ميسورًا لأولئك المهددين.
وإننا نذكر أخانا المؤلف بأن المعتقدين مثله بحاجة الأمة إلى الإصلاح الديني
والعلمي كثيرون، ومنهم من هم أوسع نظرًا، وأبعد رأيًا في طريق الإصلاح،
وإنما يعوزهم العزم والثبات، وعدم المبالاة بما يلاقون من المعارضة والصعوبات،
فإن استطاع أن يكون كذلك؛ فليقدم ولا يخف في الحق لومة لائم، وإلا فليسكت
ويسكن خيرًا له من أن يكون كبعض أصحاب الجرائد يسير يومًا على صراط
المصلحين، ويومًا على طرق المعارضين.
__________
(*) المنار: الدوي: هو صوت النحل، وكذا صوت الذباب والريح، وأما الأزيز فإنه صوت المِرْجَل (القِدْر) عند الغليان، ويقال أيضا أزيز الرعد.(8/110)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
(كليلة ودِمنة)
لهذا الكتاب من الشهرة ما يُغني عن التعريف به، والتنويه بما فيه من الحِكَم
الرائعة، والآداب العالية؛ في العبارة البليغة والأسلوب الرفيع. قلما يوجد كاتب
مجيد في هذه اللغة لم يكن كتاب كليلة ودمنة من مادته، وهو من الكتب التي عُنيت
نظارة المعارف في مصر بطبعها وأوجبت على تلامذة مدارسها مطالعته؛ ليكون
عونًا لهم على تحصيل مَلَكَة الإنشاء والتحرير، وليستفيدوا من آدابه وحكمه ما
يفيدهم في أنفسهم، كما يفيدهم بعبارته في أقلامهم وألسنتهم. وقد طبع غير مرة في
مصر وبيروت وأوربا، ولكن كل طباعته عاطلة من حلي الصور التي وضعت
في أصله لتمثيل ما فيه من الحوادث والأمثال، أو لأجل (زيادة الأنس للقلوب،
وشدة الحرص عن المكتوب) كما قال ابن المقفع مترجم الكتاب حتى عثر الشيخ
أحمد طباره محرر جريدة (ثمرات الفنون) في بيروت على نسخة خطية من
الكتاب مزينة بالصور في مكتبة الشيخ جمال الدين القاسمي من علماء دمشق الشام
كتب عليها (إن نسخها قد تم في العاشر جمادى الأولى - سنة ست وثمانين بعد
الألف على يد أبي المنا بن نسيم النقاش) ، وعدد الصور فيها 86 فأخذ نسخه وكلف
بعضه مهرة الصناع الأوربيين بنقلها إلى الزنك ليطبع عنها فجاءت كأصلها وطبع
الكتاب بالصور واضعًا كل صورة في مكانها من الأصل وقد عني بمقابلة هذه النسخة
على النسخة المطبوعة في باريس سنة 1816 م والنسخة المطبوعة في مصر سنة
1297 هـ والنسخ المطبوعة في بيروت. قال: (اخترت منها ما كان أقربها من
الأصل وأبعدها عن التحريف والتبديل وأسلمها من الزياد والنقصان) ولهذه الصور
فائدة تاريخية؛ لأنها تمثل لنا أزياء تلك العصور الذي وضع فيها الفيلسوف الهندي
كتابه، وشيئًا من عاداتهم، وفائدة صناعية من حيث فن الرسم والتصوير، والقارئ
يرى أن هذه النسخة أحسن نسخ الكتاب، وهي مشكولة ومضبوطة، ثم النسخة منها
عشرة قروش صحيحة وأجرة البريد قرشان وتطب من إدارة المنار بمصر.
***
(جواب أهل الإيمان في تفاضل آي القرآن)
سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد تقي الدين بن تيمية الشهير عما ورد في
الحديث من أن سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) تعدل ثلث القرآن وعما
ورد في سور أخرى من التفضيل. فأجاب بجواب مطول فيه فوائد كثيرة لا توجد في
غيره، وطبع في هذه الأيام فكان كتابًا مؤلفًا من 132 صفحة، ومن مباحث
الكتاب بيان معنى المعادلة والتفاضل في القرآن، وما ورد في الفاتحة وأحكام
المذاهب في قراءتها في الصلاة، وبيان كون قصة موسى أعظم قصص الأنبياء في
القرآن، وبيان سبب عدم تكرير قصة يوسف، وغير ذلك من الكلام في قصص الأنبياء ومنها مباحث في القرآن، وكونه غير مخلوق، وفي النسخ مباحث
في التوحيد والاعتقاد والتفسير. وقد طبع على نفقه الشيخ عبد الرحمن زين
الدار الحلبي فجزاه الله خيرًا.
***
(خطب الأعظمي)
قرَّظنا في الجزء الرابع والعشرين من المجلد السابع ما طبع من هذه الخطب،
وانتقدنا على الخطيب الشدة في التعبير في بعض المواضع؛ لعلمنا بأنها تهيج عليه
بعض الجامدين على ما هم عليه الزاعمين أن كتمان عيوب الأمة والسكوت على ما
وصلت من الانحطاط واجب لئلا يطلع الأجانب على نقصنا فيحقرونا أو لأنه لا يصح
أن نبين أن المسلمين الآن منحطون عن الكافرين، ولغير ذلك من الشبه الواهية،
وقد وقع ذلك من بعض أهل الجمود في الهند وأما الذين اطلعوا على نموذج الخطب
في مصر فلم نسمع عنهم انتقادًا؛ لأنهم تعودوا على سماع وقراءة أمثال هذه الزواجر،
وإنني لا أدري أي القطرين أشد جمودًا على الحال السيئة التي وصل إليها
المسلمون: القطر المصري أم القطر الهندي، ولكنني أعلم أن في كل منهما
أنصارًا كثيرين لمن ينادي بالإصلاح ويندد بالتقاليد والعادات الضارة في أمر الدين
وأمر الدنيا، مهما غلظ وشدد، ومن يقل منهم بوجوب إلانة القول فإنما يريد الرفق
بأهل الجمود لعلهم ينجذبون إلى الحق بسهولة ولا يريد أن الشدة في غير محلها أو
غير نافعة.
وأحسن القول عند طلاب الإصلاح ما كان تأليفًا بين المسلمين، وهو أقبحه
عند الجامدين، كما ترى فيما يلي.
***
(أهل السنة والشيعة)
إن العلماء الراسخين من هاتين الطائفتين لا يقولون بأن مخالفهم في المذاهب
كافر خارج من الملة، وأهل السنة يذكرون في كتب العقائد أنهم لا يكفرون أحدًا من
أهل القبلة، وإن أتى بشيء مما يعدونه كفرًا متأولاً فيه، ولا شك أن الشيعة يؤمنون
بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، ويشهدون (أن لا إله إلا
الله وأن محمدًا رسول الله) وأن كل ما جاء به من أمر الدين حق ويقيمون الصلاة،
ويؤتون الزكاة، ويصومون رمضان، ويحجون البيت من استطاع منهم إليه سبيلاً،
ومع هذا كله تجد من المتعصبين الذين يسمون أنفسهم (أهل السنة والجماعة) من
يحكم بكفرهم، وأهل السنة والجماعة أحرص على الجمع بين أهل القبلة منهم
على التفريق، ومن القواعد عند بعض فقهائهم - وحبذا هذه القاعدة - أنه إذا وجد مئة
قول صحيح في تكفير مسلم بقول أو عمل أو اعتقاد وقول واحد ضعيف بعدم تكفيره
فالواجب أن يفتى بالقول الضعيف.
لهذا نتعجب أشد التعجب ما بلغنا عن بعض المشايخ المتفقهين في الهند أنهم
كفروا الشيخ عبد الحق الأعظمي؛ لأنه عبر في خطبة له عن الشيعة بقوله:
(إخواننا) وقد يوجد في مصر من يطلق هذه الكلمة على النصارى أو اليهود، ولا
يكفره أحد؛ للعلم بأنه يعني بلفظ الإخوان أخوة الإنسانية، لا أخوة الدين، ولا
وجه لتكفيره، إلا إذا علم أنه يعتقد أن عقائد النصارى وعباداتهم هي عين عقائد
الإسلام، وأنها حق ومرضية عند الله تعالى مثلها؛ لأنه بذلك يكون مكذبًا للقرآن،
وخارجًا خروجًا حقيقيًّا عما جاء به النبي من أصول الإيمان، وأما إذا أراد
مجرد المجاملة كما يجاملوننا بمثل هذا اللفظ، ولا يعنون به أننا على الحق من غير
ملاحظة أمر الدين، ولا أمر أخوة الإنسانية فإنه لا يحكم بكفره مادام يعتقد أن دينه
هو الحق ولا ينكر شيئًا من أصوله المجمع عليها المعلوم بالضرورة أنها منه.
يظن هؤلاء الشيوخ الغافلون المغرورون بخضوع العوام لأقوالهم من غير دليل
ولا برهان أن الإغلاظ على المخالف لمذهبهم، والغلو في عداوته من أسباب تأييد
الإسلام وأهله وخذلان الكفر وحزبه، والبدعة وفرقها، والحق الذي لا مِرْية فيه هو
أن الغلو في الخلاف والعنف في المقاومة هو الذي يغري كل ذي رأي أو مذهب أو
دين بالتعصب فيه، والجمود عليه والدفاع عنه من غير تأمل في كونه حقًّا أو باطلاً
بل لمجرد مقاومة المخالفين، وبذلك تكون الخسارة على صاحب الحق من المختلفين
لأنه لولا الغلظة والتعصب لنظر كل فريق فيما عند المخالف له نظر إنصاف،
والإنصاف أقوى أعوان الحق وأنصاره، ولو جرت القرون الأولى بالإسلام على
طريق الغلظة والشدة في مقاومة المخالف ومجادلته لما انتشر في الخافقين ذلك
الانتشار السريع.
هؤلاء الشيوخ الغالون في التعصب على كل من يخالف آراءهم أو آراء
شيوخهم في مذاهبهم أعدى أعداء الجماعة والسنة؛ لأنهم أقدر من غيرهم على تفريق
الكلمة، فهم يهدمون بناء الوحدة الإسلامية في حزب المحافظين على القديم بشبهة تأييد المذهب ومن ورائهم المتفرنجون يهدمونه بشبهة تأييد الوطنية؛ فالهدم واقع
على بناء الإسلام من داخله ومن خارجه، ولا نصير له إلا فئة تحاول الجمع
والتأليف بحمل أهل المذاهب المختلفة على تحكيم الكتاب العزيز والسنة المتواترة
فيما شجر بينهم وأن يعذر كل فريق منهم الآخر فيما وراء ذلك من الأمور
التي فيها للنظر والاجتهاد مجال، وبإقناع المتعصبين للوطنية بأن الاتحاد على
عمارة الأوطان لا يقطع الأخوة بين أهل الإسلام والإيمان، فنسأل الله أن
ينصر هذا الحزب ويؤيده على أعداء أنفسهم وأعداء ملتهم بأن يوفقهم
للدخول في السلم كافة واجتناب خطوات الشيطان الرجيم.
***
(مناظرة مَتَّى بن يونس وابن سعيد السيرافي)
كان بين متى بن يونس المنطقي وأبي سعيد السيرافي النحوي مناظرة في
المفاضلة بين المنطق والنحو وكان الفلج فيها لأبي سعيد في محفل حافل بالعلماء
والفضلاء؛ فأدلى بحجة على أن النحو قد يغني عن المنطق، وأن المنطق لا يغني
عن النحو، ولا شك أن (مَتَّى) قد عجز عن بيان فائدة المنطق، وأن بعض ما قاله
(أبو سعيد) في حجاجه لا يخلو من المغالطة ولكنه في بلاغته وقوة عارضته قد
اختلب خصمه الذي كان عييًّا حصرًا، لا يقدر أن يبين ما يعلم حق البيان.
والمناظرة من رواية أبي حيان التوحيدي وهي بعبارة انتهت إليها البلاغة، وبراعة
الأسلوب، وقد عني بطبعها صاحبنا الدكتور مرجليوث الإنكليزي المستشرق الأستاذ
بمدرسة أكسفورد الجامعة، وطبع معها ترجمتها بالإنكليزية له، والطبعة العربية لا
تخلو من تحريف قليل يعرف أكثره مما وضع في الهامش من اختلاف النسخ فنثني
على همة الدكتور لعنايته بخدمة لغتنا ثناء حسنًا.
***
(الهدى)
مجلة إسلامية علمية أدبية عمرانية إصلاحية تصدر في غرة كل شهر عربي
لمديرها سيد أفندي محمد ناظر المدرسة التحضيرية ومدير المجلة المدرسية وقد
صدر الجزء الأول منها في غرة المحرم الماضي في 28 صفحة كبيرة، وفيها بعد
فاتحة المجلة وبيان منهاجها (دعوة شريفة يخاطب بها الكاتب علماء هذه
الأمة بوجوب مقاومة البدع الغاشية، وجمع كلمة الأمة المتفرقة، ومقالة في آراء
حكماء العرب في المعدن والنبات والحيوان والإنسان، ومقالة في العلوم الاجتماعية
لأحد طلبة مدرسة الحقوق ونبذة عن مسلمي القزان، وخطرات في الإصلاح،
وقصائد لبعض شعراء العصر. وقيمة الاشتراك فيها للمصريين 40 ولغيرهم 12
فرنكًا، فنتمنى لهذا المجلة التوفيق والثبات.
***
(الصحافة)
جريدة أسبوعية تصدر في القاهرة لصاحبها ومحررها مصطفى أفندي توفيق الجراحي مؤلفة من ثمان صفحات بشكل الجريدة الرسمية، وتطبع على ورق جيد،
وهي من أحسن الجرائد الأسبوعية بمصر نزاهة واعتدلاً، وقيمة الاشتراك
فيها 70 قرشًا في مصر و22 فرنكًا في غيرها،فنتمنى لها التوفيق والنجاح.
***
(الهجرة)
جريدة أسبوعية تصدر في طنطا لصاحبها ومدير سياستها عبد الرحمن
أفندي الذهبي وهي كسابقتها في مقدمة الجرائد الأسبوعية موضوعًا على حداثة عهدهما وقد قرأنا فيها مقالات مفيدة ولكننا نحب أن يُعنى بتصحيحها فيما يأتي أكثر
من العناية به فيما مضى. وقيمة الاشتراك فيها مئة قرش في القطر المصري و30 فرنكًا في سائر الأقطار فنتمنى لها الثبات والانتشار.
__________(8/114)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البدع والخرافات
والتقاليد والعادات
كتب أحد المهندسين في القاهرة إلى مفتي الديار المصرية كتابًا قال فيه بعد
رسم الخطاب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فإني شاب مسلم مصري الجنس
تعلمت في مدارس الحكومة وحصلت على الشهادات النهائية التي أهلتني أن أشتغل
بوظيفة مهندس الآن، وطالما ألهاني الشباب عن تأدية الفرائض الدينية حينًا من
الدهر لأمر يعلمه الله، ولما أن مَنَّ الله - سبحانه وتعالى - عليَّ بالهداية وهداني
إلى الصراط المستقيم؛ قدمت لحضرتكم هذا الخطاب بصفتكم أول عالم عامل
بمصر، كما أعلمه ويعلمه إخواني جميعًا، تحبون إزالة النقائص التي يقوم بها
إخواننا في الإسلام سواء في القرى أو البنادر التابعة لحكومتنا المصرية التي لم تزل
للآن ممتعة بحرية الإسلام، وتلك النقائص كثيرة جدًّا أهمها: زيارة الأضرحة -
الخطابة يوم الجمعة بالمساجد - النذور - الأذكار.
(1) زيارة الأضرحة: تعلمون فضيلتكم أن تسعة وتسعين في المائة من
مسلمي القطر يعتقدون أن ساكن الضريح له اليد الطُّولى في شفاء الأمراض وتسهيل
الأرزاق، بل قد أشركوه مع الله - سبحانه وتعالى - في العمل مع أنه بريء من
ذلك وأنه لم يكن إلا مخلوقًا مثلنا أطاع الله وعمل بشرائعه في دنياه فأكرمه الله في
أخراه، وأني واثق أن فضيلتكم تعلمون ذلك، وسمعتم بالطلبات التي تقدم لساكن
الضريح، بل قد تطرفوا فانتقلوا من زيارة صاحب الضريح إلى التبرك بالمقصورة
أو التابوت أو عتبة مدخل الضريح، الأمر الذي يقضي فيما بعد بتغير العقائد الدينية.
(2) الخطبة يوم الجمعة: قد رأيت أغلب خطباء المساجد ليست عندهم
مقدرة تامة على أداء وظيفة الخطابة بدرجة تؤهلهم أن يبثوا في أفكار المصلين ما
يلزم اتباعه وما لا يلزم شأن كل خطيب في الزمن السابق، بل إنهم جعلوا الخطبة
محفوظة حفظوها حفظًا، وربما لا توافق الزمن الذي نحن فيه؛ لأن فائدة الخطابة
حض المصلين على ترك ما لا يوافق الشريعة، ويأتي الخطيب بأحاديث تزجر
المصلين عن ذلك، بل إن بعض الخطباء يعلو المنبر ويبتدئ بالخطبة وينتهي منها
ولا يسمع له صوت إلا في الصف الأول، وربما لا يتعدى الصف الثاني. فإذا
رأيتم عمل تعديل في مشايخ المساجد، وترك مسألة الوراثة واستحضار خطباء من
المتخرجين من مدرسة دار العلوم - يكون أليق بالإسلام والمسلمين وتكونوا قد وفيتم
الدين حقه، وجاهدتم الجهاد المفروض على كل مسلم.
(3) أرى لكل ضريح صندوقًا مخصوصًا للنذور، وما يُجمع في هذا
الصندوق من فقير أو غني جاهل أو عاقل يوزع في آخر السنة على خدَمة
الضريح، وترون فضيلتكم أن أغلب خدَمة الأضرحة هم أناس ذوو ميسرة عن
غيرهم خصوصًا في هذا الوقت الذي عم فيه جهل الزائرين؛ فإذا وافقتم على أن
يعطى ما يجمع في تلك الصناديق لديوان الأوقاف كي يصرفه في أعماله الخيرية
التي يعم نفعها أو يسلم للجمعية الخيرية الإسلامية كي تستعين به على إنشاء
المدارس وتربية الأيتام وعلى أن تنظروا في حالة الخدمة المستحقين الذين ليس
عندهم عقارات أو أطيان وتزيدوا مرتباتهم حتى يمكنهم التعيش منها، وعلى وضع
مبشرين من المتخرجين من مدرسة دار العلوم بالأضرحة كي يرشدوا الزائرين إلى
حقيقة الزيارة وفوائدها - فبهذا تثابون من الله ثواب الدنيا والآخرة.
(4) الأذكار التي تقام في البلدان أرى أنها مخالفة للشريعة؛ فإذا رأيتم
وضع عقاب صارم لكل شخص يحدث منه تهكم أو نقص فيها يكون أوفق، والله
يهديكم ويوفقكم لفعل الخير لإخواننا المسلمين جميعًا، وفي الختام أقدم لجنابكم احترامي لمقامكم العلمي. اهـ
***
(المنار)
اطلعنا على هذا الكتاب فنشرناه؛ لعلمنا أنه كما قال كاتبه صدى رأي كثيرين
من المهندسين وغيرهم، والشكوى من هذه البدع والتقاليد قد كثرت في هذه البلاد
بكثرة المتعلمين المميزين. وأما المخاطب به وهو الشيخ محمد عبده فقد بذل جهده في
مقاومة البدع بالإرشاد في دروسه العامة ومجالسه الخاصة حيث كان، وقد سعى
لإصلاح حال المساجد وما يتبعها من الأضرحة بالفعل فوضع لذلك تقريره المشهور
الذي اقترح فيه على ديوان الأوقاف أن يجعل خطباء المساجد، وأئمتها من العلماء
المدرسين، وأن يكون التفاضل بينهم بالامتحان وغير ذلك من الاقتراحات
الإصلاحية التي تحيي العلم والدين، وبعد أن أقره المجلس الأعلى، وكاد يشرع في
تنفيذه عرض ما أوقف التنفيذ كما ذكرت ذلك بعض الجرائد من نحو سنة وذكرناه
أيضًا. ولما كان هذا الرجل هو الذي انبرى لمثل هذه الخدم دون غيره من العلماء
الذين وجد فيهم من يسعى لإبطال خدمته للإسلام، فالواجب على هذا الكاتب وعلى
من على رأيه من إخوانه المسلمين أن يكتبوا بمثل هذه الكتابة إلى شيخ الجامع
الأزهر طالبين منه أن يكلف طائفة من العلماء بأن يسعوا معه في المطالبة بتنفيذ
لائحة المساجد والأضرحة؛ وبإبطال هذه البدع الفاشية في معاهد الدين وأعماله؛
وما كان له وجه شرعي من هذه الأعمال التي يستنكرها الكاتب وأمثاله فليبينوه لهم
بدليله من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة دون أقوال المقلدين؛ ليكونوا على بصيرة من
دينهم، ومتى قام بالدعوة جماعة من العلماء رُجي من النجاح ما لا يرجى من
الواحد، ولهذا قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُنَ إِلَى الْخَيْرِ وَيضأْمُرُونَ ِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوَلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .
__________(8/119)
16 صفر - 1323هـ
21 إبريل - 1905م(8/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحياة الزوجية
(2)
اختيار المرأة لِمَالِها:
إن من يختار المرأة زوجًا له لحسنها وجمالها، يختارها لصفات فيها، وإنما كان
مخطئًا لأنه عني بصفات الجسد التي يسرع إليها التغيير، ولا تكفي للقيام بحقوق
الزوجية، وما تراد له الزوجة، ولم يحفل بصفات النفس الثابتة التي هي مناط
السعادة والهناء، أو مَجْلَبَة التعاسة والشقاء، وأما من يختار المرأة لأنها ذات مال
وثروة؛ فهو إنما يختارها لأمر خارج عن ذاتها؛ فهي غير مطلوبة له، ولا
مرغوب له فيها؛ وإنما مطلوبه المال يتمتع به، وهي عنده وسيلة له؛ فإذا نزلت
بالمال جائحة أو اغتالته غائلة؛ صارت المرأة عنده كالشيء اللقا لا قيمة لها؛ ولا
حاجة إليها، وما عساها تصادفه مع وجود المال من الحظوة والكرامة؛ فأجدر به أن
يكون مصانعة ورياء، وحسب الزوجين شقاء أن يرائي بعضهما بعضًا، ويدهن
أحدهما للآخر. وهذا شأن من يطلب المال عفوًا بغير عمل لا يكون إلا مرائيًا
مداهنًا.
يعيش المنافق مع الناس الذين يدهن لهم في اضطراب دائم؛ لأنه يشعر في
نفسه بأنه يعيش مع خصماء وأعداء؛ فإذا لم يكن له من يخلص هو لهم ويخلصون
له كان شقاؤه دائمًا، واضطرابه مستمرًّا، ومن أحق بهذا الإخلاص من الزوجين
اللذين خلقا ليسكن كل منهما إلى الآخر؛ ويلابسه في جميع شؤونه لباسًا يتحد به
معه، حتى يكونا كشخص واحد؟! أرأيت إذا انعكس الأمر فكانت الزوجية التي
هي علة السكون والارتياح ومبعث الحب والإخلاص وسبب المودة والرحمة -علة
للاضطراب والانكماش، ومثارًا للرياء والدهان؟ أرأيت إذا صارت الغاية التي يقصد لأجلها الكسب، وسيلة للرزق وطريقة للربح، يلجأ إليها الكسالى المترفون، ويرغب فيها أهل الشره الطامعون؟ أرأيت إذا وصل الناس إلى الحد في فساد الفطرة والخروج عن محيط الشرعة؟ ! أيكون المال الذي يعبدون كافيًا لتحقيق سعادتهم، وحفظ شرف بيوتهم وأمتهم؟! كلا، إن هؤلاء لا حظ لهم في الحياة إلا التوغل في اللذات الجسدية، والزينة الظاهرة؛ فلا يبالي واحدهم بشرف البيت ولا
بعزة الأمة، يُخْرِبون بيوتهم بأيديهم. ويبسلون أمتهم بسوء مساعيهم، بل هم
آلات التفريق والتحليل؛ لأن كل واحد منهم يهتم بلذة نفسه، ويجتهد في أن لا
يتصل بغيره، وكيف يمكن أن يتحد بمجموع قومه من انكمشت نفسه دون الاتحاد
بزوجه، على ما لاتحاد الزوجين من العلل والجواذب النفسية والطبيعية والشرعية
والاجتماعية؟
يكثر طلب المرأة الغنية لهذا العهد في الطبقة المتعلمة على الطريقة العصرية
فلا تكاد ترى بين شبان هذه الطبقة إلا الباحثين عن البنات الوارثات؛ أو اللواتي
ينتظر أن يرثن مالاً كثيرًا، وأرضًا واسعة، ودورًا عامرة، ولا تكاد تسمع منهم
عند ذكر الزواج إلا قولهم: (إنني أطلب فتاة تملك دارًا، وكذا فدانًا من الطين)
وهذا دليل على أن التعليم الذي تعلموه ما كان إلا ضارًّا بهم، بما أفسد من فطرتهم،
وياشقاء من تتزوج بواحد منهم، فإنما يكون حظها منه أن يستعين بمالها على
التمتع بشهواته الفاسدة خارج بيتها، وويل لها إن سكتت موافقة، وألف ويل لها إن
نطقت مخالفة.
لو ذهبنا نعد مفاسد هؤلاء المخذولين في اختيارهم هذا وآثاره؛ خرج بنا القول
عن حد المقالة المنبهة، ودخل في أبواب الكتب المطولة، وكفى بما ذكرناه منبهًا
للغافل وسائقًا للنظر العقلي في ذلك وللبحث في حال هؤلاء الناس، وفيها عبر
وآيات للمتفكرين.
وقد يشتبه على بعض الباحثين ما يراه من الحب، وسكون النفس، والوفاق
وحسن المعيشة بين زوجين اختار الرجل منهما المرأة لغناها، أو استحسان
صورتها؛ فيظن أن ما قلناه غير صحيح، ونحن لا نجهل أن مثل هذا قد يقع فيكون
على حد المثل (رمية من غير رام) والسبب في مثله أن يكون بين هذين الزوجين
مشاكلة في الطباع، وتناسب في الأخلاق، وتقارب في العادات من حيث لا يدري
بذلك أحد منهما قبل الاقتران.
ولكن هذا قليل لا سيما في طلاب المال وعُبَّاده الذين يرضون أن تكون
الزوجية وسيلة له؛ لأن من بلغ منه فساد الفطرة هذا المبلغ قلما يهنأ لأحد معه عيش
كما قلنا آنفًا.
الطريقة المثلى في الاختيار:
يجب أن يُلاحظ في المرأة الصفات التي يُرجى أن يتحقق بها مضمون قوله
تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم
مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21) وقوله -عز وجل -: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ
أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (الفرقان: 74) ، وقوله - جل ثناؤه -:
{مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (النساء: 24) وهذه الصفات بعضها بدنية،
وبعضها نفسية، وبعضها قومية، ومنها ما لا بد منه في كل امرأة، ومنها ما
يختلف باختلاف أحوال الناس؛ فيشترط عند بعض دون بعض.
أما الصفات الجسدية: فمما لا خلاف في اشتراطه منها: الصحة، وسلامة
البدن من التشويه والعاهات المنفرة، ولا حاجة لتعليل هذا الشرط ولا لبيان سوء
حال الحياة الزوجية عند عدمه؛ فإنه من المعلوم بالبداهة أن النفس لا تسكن إلى
ذوي العاهات والأدواء، بل تضطرب وتنزعج منهم، وأن المرأة المريضة لا تحصن
الرجل؛ ولا تكون قرة عين له؛ بل تكون بلاء عليه، وأما ما تختلف فيه الأذواق
فهو ما وراء ذلك مما يسمون الكمال فيه حسنًا بارعًا، وجمالاً رائعًا. والميل إلى
الحسن والجمال غريزي في البشر؛ وهو مما تختلف فيه الأذواق والمشارب،
(وللناس فيما يعشقون مذاهب) ولا نعرف شعبًا من الناس يشترط رجاله الجمال
البارع في الزوج؛ وإنما يعُدونه من الأوصاف الكمالية إلا من ذكرنا في النبذة
الأولى من هذا المقال وهم الذواقون الذين يتزوجون ميلاً مع الهوى لا اتباعًا
للمصلحة، ولا إقامة لسنة الفطرة.
قد يكون من المصلحة للأكثرين تجنب الجمال البارع لمن يتزوج؛ لما ذكرنا
من منافع الزواج وحكمه، ولكن يعذر من يمقت في المرأة صفة من الصفات؛ إذا لم
يرض الاقتران بالمتصفة بها؛ كمن يمقت البحترة، أو البهصلة، أو الرسحاء، أو
النقواء. وقد تكون هذه الأوصاف من المنفرات لبعض الناس، على أن لكل ساقطة
لاقطة، وإنما يتخير الجمال البارع أو ما دون البارع من يكون موضعًا لتسابق
رغبات النساء وأهليهن إليه؛ لمكانته وجاهه، أو لثروته وماله؛ فإن من طبيعة
التفاضل أن يكون فيما تصل اليد إليه، ويسهل الاستيلاء عليه.
وأما الصفات النفسية فهي الأخلاق، والملكات، والعلم، أو العلوم، فأما
الأخلاق: فإنها علة لسعادة الحياة أو شقائها في جميع طبقات الناس على الجملة.
وأفضل أخلاق النساء: (العفة والصيانة) لأن معنى الزوجية لا يتحقق
بالاختصاص، وإنما تكون المرأة مختصة ببعلها إذا كانت عفيفة. ثم إن الحكمة في
الزوجية هي: (الإنتاج والنسل) الذي يحفظ به النوع ويكثر به سواد الأمة وتعظم
قوتها، واختلاف الرجال على امرأة واحدة من أسباب قلة النسل؛ فما هتك النساء
حجاب العفة في أمة؛ إلا وقل نسلها بمقدار شيوع الفاحشة فيها، وناهيك بما في
اختلاط الأنساب من المفاسد. لا يوجد عيب من العيوب في الخلقة أو في الأخلاق
يذهب بهناء الزوجية وغبطتها، ويمحو آيات منافعها وحكمتها - كخيانة المرأة
للرجل في نفسها، ويغنينا عن الإسهاب في بيان ذلك ما هو ثابت في الغرائز
ومعروف بالاختبار. وقد مَنَّ الشاعر العربي على أولاده بِتَخَيُّر والدتهم من ذوات
العفة، قال:
فأول إحساني إليكم تخيري ... لماجدة الأعراق باد عفافها
ومن غريب إكبار الرجال لعفة نسائهم أنك تجد الفاسقين من أشد الناس غَيرة؛
لأن علمهم بفساد النساء يزيد في حذرهم على نسائهم أن يكن كمن يعرفون من
غيرهن؛ وهذا من أسباب قلة الزواج في البلاد التي يكثر فيها الزنا؛ لأن أكثر
الرجال يخافون إن يبتلوا بمن لا عفة لهن. وأغرب منه ما اشتهر عن الفساق من
محاولة بعضهم الاختصاص ببعض البغايا، يحب الرجل بَغِيًّا تُوهمه أن له عندها
من الحظوة ما ليس لغيره؛ فيبذل لها المال الجم الكثير ليغنيها به عما تكسب من
سواه، وتكون خاصة به دون من عَداه. ومتى كانت البغي ترعى العهد، وتصفي
الود؟ ولكنه جنون الرجال بالاختصاص والغيرة؛ يخرج بهم عن محيط
العقل والتجارب، وكم أدى ذلك إلى دماء تُسفك، وأرواح تُزهق.
ومن الأخلاق التي لا يتم لأحد هناء العيش مع فقدها: (الأمانة والحرص
والاقتصاد) فإذا لم تكن المرأة أمينة على ما يعهد إليها حفظه، حريصة على ما بين
يديها من مال الرجل وكسبه، مقتصدة فيما تنفق - تسوء حال البيت ويقع فيه الشقاق
ويحيط به الشقاء.
وأما الصفات والملكات التي تختلف الرغبة فيها باختلاف الأشخاص
والطبقات، فأهمها عند الطبقات المرتقية بالعلم والتربية: (النظام وتدبير شؤون
البيت) وإذا كانت بيوت الشَّعْر في الصحاري، وشعاف الجبال، وأكواخ الفقراء
وبيوت الفلاحين في المزارع والقرى، ليس فيها من الأثاث والرياش والماعون،
ولا من المرافق والأعمال ما تعوز في إدارته وتدبيره ملكة النظام المكتسبة بالعلم
والعادة والقدوة؛ فإن في دور الطبقات العالية والمتوسطة من المتعلمين وكذا غير
المتعلمين ما لا يتم نظامه إلا إذا كانت ربة الدار مدربة على النظام والتدبير. نعم،
إن غير المتعلمين لا يؤلمهم من فقد النظام في بيوتهم، ما يؤلم الذين عرفوا قيمة
النظام وفوائده وتربوا عليه؛ أو حملهم العلم بفائدته على طلبه والاستقامة على
طريقته. يبلغ حب النظام ببعض العارفين مبلغًا لا يهنأ له عيش؛ ما دام يرى في
داره شيئًا من الخلل الذي لا يشعر غير العارفين بمعرفته بكونه خللاً يطلب إصلاحه
ككون حجرة النوم قليلة الأثاث، تَعَرُّض فرشها وحشايا سريرها للشمس والهواء كل
يوم، وككون كل من حجرة الجلوس، وحجرة الطعام، وحجرة المكتب وغيرهن
على طريقة كذا وكذا. ومن المتعلمين من يرى من ضروريات الحياة أن تكون
نفقات البيت كلها في يد ربته، وأن يكون العمل فيها بمقتضى ميزانية سنوية فإذا لم
تكن امرأته قادرة على ذلك؛ فإن نفسه لا تسكن إليها، ولا تكون هي قُرة عين له.
ولا تقل إن هذا يدخل في صفة العلم الذي ينبغي أن تكون عليه المرأة؛ فإن العلم لا
يكفي فيه، ولكنه شرط له؛ فما كل من يتعلم علمًا يقدر على العمل به، وإنما يقدر
عليه من يقرن العلم بالعمل والمزاولة.
كَثُرَ في الترك عدد الرجال الذين يريدون أن تكون المرأة قهرمانة وريحانة
معًا وفي نسائهم - لاسيما في الآستانة - عدد غير قليل قد ربين على ما يحب
الرجال. وجميع المتعلمين من النصارى، وكثير من المسلمين في سوريا ومصر
على هذا الرأي أيضًا، ولكن عدد المسلمات المتعلمات المتربيات على هذه
الطريقة قليل جدًّا في القطرين، ولذلك صار الزواج يقل في المتعلمين رويدًا، وإذا
ارتقى التعليم والتهذيب عما هو عليه الآن في الرجال؛ فإن هذه القلة تزيد زيادة
فاحشة، ولكن أكثر المتعلمين لم ترتقِ نفوسهم عن اتخاذ المرأة ريحانة يتمتع بها ما
صلحت للتمتع؛ كالزهرة تشم ويعتنى بها ما دامت غضة ذكية؛ فإذا ذبلت أُلقيت.
ولا رغبة لهم فيما وراء هذا إلا بأن تكون ذات مال يتمتع به الزوج كما يتمتع
بصاحبته؛ فهي عندهم من جملة المتاع لا فرق بينها وبين ما يحصل معها إلى دار
الزوج من الأثاث والماعون، إلا كما يفضل إناءٌ إناءً آخر من جنسه أو نوعه،
ولو كثر عدد الفتيان المهذبين لتبعه كثرة الفتيات المهذبات؛ لأنه متى عرف واشتهر
أن جماهير الشبان المحترمين لا يرغبون في غير المهذبة القادرة على إدارة المنزل،
وإقامة النظام فيه؛ بادر الناس إلى تربية بناتهم على الطريقة المرغوب فيها؛ لأن
الفتيات يطلبن الفتيان دائمًا بلسان الحال والاستعداد، فكل ما يشكو منه بعض الشبان
المهذبين من سوء تربية البنات؛ سببه سوء تربية البنين في الجمهور.
وإن لي كلمة قلتها ثم علمت أن للأوربيين كلمة تخالفها؛ فأذكرهما هنا.
أما كلمتهم فهي: (كما يريد النساء يكون الرجال) وأما كلمتي فيه (كما يريد
الرجال يكون النساء) والدليل على هذا أن النساء لا استقلال لهن في أنفسهن
وإنما هن تبع للرجال عند جميع الأمم.
يولد للزوجين غلام وجارية؛ فيربيان الغلام على أن يكون رجلاً مستقلاًّ ببيت
كبيتهما، وعلى أن ينهض بكفالتهما عند الكبر أو العجز إذا كان فقيرين، ويربيان
الجارية على أن تكون تابعة لرجل يتزوج بها فيعولها ويكفلها فيكتفيان أمرها. ينشأ
في الغلام من أول سن الإدراك شعور الاستقلال بنفسه وحاجة غيره إليه، وينشأ في
الجارية شعور القصور والحاجة إلى كفالة رجل غريب مجهول ستكون تابعة له.
ومن التقاليد العامة في أمتنا وفي غيرها أن هَمَّ النساء الأكبر هو: أن يكن بحيث
يحبهن الرجال ويرغبون فيهن؛ لأنهن في حاجة إلى كفالتهم ولا يسهل عليهن طلبهم
إلا بلسان الاستعداد، وكونهن كما يحبون ويرغبون كما قلنا آنفًا، ثم إن الوالدين
اللذين يربيان الغلام والجارية يعلمان أن تزويج الجارية أعسر عليهما من تزويج
الغلام؛ من حيث إنه لا عار عليهما ولا عليه في التماس امرأة بالطلب والبحث؛ ولا
ممن هم دونهم، وأنه من العار العظيم أن يبحثا عن زوج لبنتهما، ويعرضاها على
الرجال، وإن كانوا من الأكفاء، وأشد من ذلك عارًا أن تبحث هي عن الزوج
وتعرض نفسها على من تظن أنه يرضاها، وإن الشرف والمصلحة محصوران في
تعريضها للخاطبين بتربيتها على ما يحب الأكْفاء ويرضون. نعم، إن الأوربيين قد
حاولوا تربية النساء على الاستقلال وتعليمهن طرق الكسب وجعلوا للبنات رأيًا في
اختيار الأزواج، ولكنهم لم يخرجوا عن جعل المرأة تابعة للرجل ولم يقدروا على
جعل أكثر النساء مستقلات في معيشتهن، غنيات عن الرجال، بل هم الذين يربون
بناتهم على ما يرغب فيه جمهور فتيانهم، ويَخْطبُون الزوج بالحال وبالمال جميعًا،
ويشعرون من سعادة الحياة الزوجية بما لا يشعر بمثله من لم يبلغوا شأْوهم في الحياة
الاجتماعية، وللجارية المخطوبة عندهم مقام رفيع، ولربة البيت مكانة عالية ولأم
الأولاد المقام الأعلى، إنما قالوا كلمتهم تلك للترغيب في تعليم المرأة؛ إذ لا يقدر
الرجال على إتقان التربية إلا بإسعاد النساء لهم عليها، ثم إن هذه التربية الاستقلالية
قد أضرت بالنساء أنفسهن حتى كثرت أصوات الكاتبات منهن بالشكوى منهما، ونقلنا
بعض ما كتب في المجلد الرابع فليراجع.
***
الدين والأخلاق:
ملاك تهذيب الأخلاق وقوام الملكات الدين؛ فلو رُبِّي البنات تربية دينية
صحيحة لتم لهن تهذيب الأخلاق، وكن مصدرًا لمحاسن الأعمال، وقرة أعين
للرجال، وقد عرفت الأمم الحية ذلك؛ فعنيت بتربية البنات على آداب الدين
وأخلاقه وأعماله على فساد عقائد الكثيرين من علمائها وحكمائها؛ ذلك بأن هؤلاء
الذين رأوا في دينهم ما لا ينطبق على علمهم القطعي فتركوا الدين للعلم يعتقدون أن
الدين هو روح التهذيب والآداب في البشر، وأن هذا الروح هو الأصل في الحياة
الزوجية والحياة القومية لاسيما في النساء والناشئين؛ فإذا هو زال تعذر الاستغناء
عنه أو استبدال غيره به؛ كالشرف والعلم بالمصلحة. والذين جروا على هذه
الطريقة من نصارى الشرق يتحامون الانتقاد على الدين في حضرة النساء، وإن
كانوا لا يعتقدون ولا يؤمنون لئلا يتسرب الشك والارتياب إلى نفوس النساء، بل
أخبرني بعض علمائهم وأدبائهم المشهورين أنهم يكونون في النادي أو السامر ينتقدون
بعض رجال الدين منهم؛ فتدخل إحدى النساء فيحولون الحديث لكيلا تسمع انتقادهم
فيقل احترام الدين من نفسها ويضعف الشعور به في قلبها. ولا تجد جزءاً من هذه
العناية عند المسلمين الذين جهلوا الدين فأهملوه، بل ولا عند الذين سلم
اعتقادهم وحسن عملهم. وكل ما عند النساء المسلمات من الدين فهو من تقليد
الذين نشأن فيهم وتربين بينهم ليس للرجل فيه عناية ولا عمل، ويا ليت فساق قومنا
وزَنَادِقَتهم يكتفون بإهمال تربية النساء على آداب الدين، وتعليمهن أحكامه، ولا
يُظهرون لهن ما هم عليه من الفساد والإلحاد، فقد حدثني كثيرون من الثقات
المختبرين أن كثيرًا من المسلمين (الجغرافيين) [*] يجتمعون مع عيالهم لطعام الغداء
بعد الظهر في شهر رمضان، وأن منهم من يتزوج بالمرأة فيكرهها على
شرب الخمر معه، وأخبرني شيخ من أهل القاهرة أن رجل تزوج ببنت من أقاربه -
أي أقارب الشيخ- فدعاها إلى شرب الخمر معه فأبت ولما أعياه إلزامها طلقها.
وأغرب من هذا ما يتحدثون به عن بعض أصحاب البيوت أو البيوتات من إشراك
البنات مع الرجال في معاقرة الخمر، ومن إحضار أهل الرقص والعزف من
الرجال والنساء إلى البيوت واجتماعهم في بعض الحجرات على المعاقرة
والمخاصرة، والنساء يسمعن وينظرن من وراء السجوف والأستار.
يظن الكثيرون من فساق البلاد المشرقية أن الدين في أوربا قد صار نسيًا
منسيًّا، وأن ذلك لم يزد أممها إلا ارتقاء؛ لأنه أثر الارتقاء؛ وذلك أن هؤلاء لا
تتوجه نفوسهم ولا يهديهم استعدادهم إلا لمعرفة أمثالهم، والصواب أن أكثر أهل
أوربا متدينون، وإنما أبطلوا التقاليد النصرانية التي تنافي العمران والارتقاء؛ لأنها
ليست إلا من وضع الرؤساء؛ وهم مع ذلك أشد الناس تعصبًا لدينهم، وعلى من
يخالف دينهم، ولا ينافي ذلك كثرة الفسق في بلادهم لا سيما التي تغلب فيها
الكاثوليكية كفرنسا وإيطاليا؛ فإن من الأسباب في ذلك المذهب -الذي يعد من
أصوله-: أن القسوس والرؤساء يغفرون الذنوب، كما أن من أسبابه: الحرية
الشخصية، وعدم النكير، وإباحة الخمر (أم الخبائث) ولقد يسهل على الفاسق أن
يجد كثيرًا من الفاسقين والفاسقات في كل المدن العظيمة في الأرض، حتى ما كان
فيها الفسق منكرًا وممنوعًا إظهاره لا يراه إلا الباحثون عنه ومن بحث عن شيء مما
لا يخلو العمران منه وجده؛ فإذا هو قصر همه عليه، ظن أن كل النساء أو جلهم
على مذهبه فيه.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
أهل فرنسا أقل الأوربيين تمسكًا بالدين؛ لتطرفهم في الحرية والجمهورية التي
يرون سلطة الكنيسة الكاثوليكية خطرًا عليها، ولذلك قاوموا جمعيات القسيسين
ومدارسهم، وقد سألت فرنسيًّا عن تدين قومه، فقال: (أكثرنا متدين يحب الله ولكن
لا نحب الكنسية) .
إذا فرضنا أن تعميم التعليم والتربية على حب الوطن والآداب القومية قد يغني
عن الدين في إصلاح حال البيوت والجمعيات؛ فأوربا هي التي يمكنها أن تستغني
عنه بذلك ولكنها لم تقل بذلك ولم تُعمل به، ولا أدري بماذا يستغني المسلمون عن
آدابهم الدينية التي أمسوا لا يبالون بها. هل الرابطة الوطنية التي يلفظ بها مصطفي
كامل وأضرابه من الأَحْدَاث المتفرنجين كافية في هذه الأمة التي غلب عليها الجهل
والأمية، ووقع معظم أوطانهم في قبضة الدول الأجنبية - لأن تصلح ما أفسد الزمان
فيها من الآداب الشخصية والروابط الزوجية لتكوِّن منها أمة عزيزة قوية، وهل
يكفي في نفخ روح هذه الحياة الوطنية أن ينعق ناعق في الأمة بمدحها، وإن لم
يسمع نعاقه إلا قليل ولم يفهم مراده منهم إلا أقل القليل، وأكثر من فهم ومن لمن
يفهم، يرى أن النفاق وسيلة للدرهم؟
ومن العجائب أن هؤلاء الأحداث المتفرنجين يهذون أحيانًا أو كثيرًا بالكلام في
الأمة والملة، ويشكون بالقول من سوء الحال وخطر الاستقبال ثم لا ينتبهون
لوجوب بث روح الدين في البيوت، وتربية النساء على أعماله وآدابه ليربوا
الأطفال عليها، بل تراهم بسيرتهم عونًا للجهل على إفساد بقايا الدين التقليدية؛ إذ
لا يتعلمون شيئًا من أحكام الدين، ولا يعملون بما هو معلوم منه بالضرورة، ولا
يسألون عن دين من يخطبونها؛ وإنما يسألون: هل تعلمت لغة أجنبية؟ هل تعلمت
العزف على البيانو والعود؟ هل عندها مال كثير يساعدنا على المصيف في أوربا
والتمتع بلذاتها؟ ، وأعجب من هذه أنهم يدَّعون أحيانًا الانتصار للدين بذم أوربا
وذكر طمعها في بلاد المسلمين، واعتدائها على استقلالهم وعلى دينهم بما تبعثه من
الكتب والدعاة إلى النصرانية. ويزول هذا العجب إذا عرف سببه، وهو مخادعة
المسلمين بإيهامهم خدمة الملة لينفحوهم بالدرهم والدينار، وأنَّى يخدم الملة من لا
يفهم كتابها، ولا يعرف سنتها، ولا يتحقق بعقائدها ولا يقيم عباداتها، ولا يتخلق
بأخلاقها، بل أخذ عن أوربا من الأخلاق والعادات ما يفرق به كلمتها، ويبطل به
وحدتها، وينسخ به شِرعتها، ثم هو يشكو منها ومن آثارها في إفساد النابتة
ومجموع الأمة! .
وجملة القول: إن الحياة الزوجية في المسلمين لا يمكن أن تكون سعيدة في
نفسها ووسيلة لارتقاء الأمة وتعزيزها إلا إذا كان الزوجان معتصمين بحبل الدين،
مستمسكين بعروته في الأخلاق والآداب والأعمال؛ ليكونا قدوة لأولادهما في ذلك.
وإن الخطر الذي يهدد المسلمين وينذرهم بزوال سلطتهم من الأرض لا يزول إلا
بصلاح حال البيوت الأدبية على هذا الوجه. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (تنكح
المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)
رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن ما عدا الترمذي عن أبي هريرة، ولكن مَنْ لنا
مَنْ يُصلح لنا أخلاقنا، وآدابنا الدينية، وليس لنا زعماء ولا سراة من أهل الدين
والحكمة. وإذا ظهر فينا زعيم فإننا لضعف استعدادنا لا ننتفع به، بل يُحَكِّم فيه
جمهورنا كلام الأَحْداث المغرورين، الذين يضرهم ويفضحهم ما يدعو إليه من إحياء
روح الدين!.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) نعبر على المسلمين الذين ليسوا على شيء من الإسلام بالمسلمين الجغرافيين؛ لأن الإحصاء الذي يذكر في كتب الجغرافية يعدهم منهم، وقد نبهنا على هذا من قبل.(8/141)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
حقوق الذميين ومعاملة الأجانب
(س 9) أ. م. في سراي بوسنة: كتب محمد فريد وجدي في كتابه
(تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) في بحث واجبات المسلمين بالنسبة
للذميين، أي أهل الكتاب الذين هم في ذمة المسلمين في صحيفة 86 (وقد ترك لنا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أعظم أُسوة يجب أن نأتسي بها في
معاملة الأجانب عن ديننا ومخالفي معتقداتنا؛ فإنه عليه أشرف التحية والسلام كان
يحضر ولائمهم ويغشى مجالسهم، ويشيع جنائزهم، ويعزيهم على مصائبهم) .
ونحن لم نطلع على ذلك في كتاب غير كتابه المذكور ولا ندري: أيجوز ذلك
أم لا؟ وخصوصًا تشييع جنائزهم، فإنه صلي الله عليه وسلم على ما نعلم نُهِيَ عن
ذلك بقوله عز وجل: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة: 84) وهذا وإن نزل في حق الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم؛
إلا أنه يدخل فيهم سائر الكفار قياسًا بدليل قوله عز وجل عقيب ذلك: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة: 84) فجئنا إلى حضرتكم سائلين
أن تبينوا لنا: هل صح أنه صلى الله عليه وسلم فعل ما نقلنا آنفًا من الكتاب
المذكور، وهل جاز لنا أن نفعل ذلك اقتداء بأثر نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن
صح ذلك وجاز لنا أن نفعل؛ فما هو الجواب عن الآية الكريمة المذكورة؟ أفيدونا
بذلك آجركم الله تعالى.
(ج) ما ذكره فريد أفندي في كتابه غير صحيح على إطلاقه، وقد بيَّنا غير
مرة أنه لا يجوز الاعتماد على ما يُذكر في الكتب من الأحاديث والسنة إلا إذا كانت
مَعْزُوَّة إلى مخرِّجيها من المحدثين؛ ليعرف صحيحها من غيره، وعبارة فريد أفندي
تدل على أن ما ذكره كان سنة متبعة، ولو كان كذلك لاتفق الفقهاء أو أهل الأثر
منهم على القول بوجوبها أو سنيتها. نعم ورد في العيادة حديث صحيح ذكرناه في
المجلد السابع وفيه حديث ضعيف عند البيهقي عن أنس (كان إذا عاد رجلاً على
غير الإسلام لم يجلس عنده، وقال: كيف أنت يا يهودي كيف أنت يا نصراني) ولا
يُحتج به. وأي حجة لنا على حسن معاملة المخالفين لنا في الدين أقوى من قوله
تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن
تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} (الممتحنة: 8) ... إلخ، ومن إباحة طعام أهل الكتاب
والتزوج منهم، ومن وجوب حماية الذمي والمعاهد وغير ذلك مما هو معلوم فلا
حاجة إلى أن نعزو إلى السنة ما ليس منها، ونوجب على المسلمين ما لم يوجبه الله
تعالى عليهم مما ذكر في السؤال.
أما قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّات} (التوبة: 84) الآية،
فهو نهي عن جعل المنافقين كالمسلمين في أحكام الدين الظاهرة والاستدلال به على
تحريم تشييع جنازة الكافر أو زيارة قبره غير ظاهر، ولم أر أحدًا من علماء السلف
وأئمة الدين استنبط ذلك منها. ولكن بعض المفسرين المتأخرين رأى أن من
الاحتياط عدم زيارة قبر الكافر؛ لأنه يشبه أن يكون من القيام المذكور في قوله {وَلاَ
تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة: 84) وإن أجاز الزيارة كثير من العلماء بل نقل
بعضهم جوازها عن أكثر العلماء؛ لأنها للعبرة، والصواب أن القيام المنهي عنه هو
ما كان معهودًا من القيام على القبر بعد الدفن للدعاء والاستغفار. ولا شك أنه يحرم
على المسلم أن يشارك غير المسلمين في كل عمل من أعمال دينهم، وأنه يباح له
أن يجاملهم فيما لا ليس من أعمال دينهم ولا مخالفًا لديننا. وقد ذكرنا في المجلد
الماضي وغيره كثيرًا من أحكام معاملات المسلمين لغيرهم وفيها من التساهل ما
نفتخر به على جميع الملل، فلتراجع.
***
العدالة العامة
وحكمة الله في الناس
(س10) ومنه: ربما يقع البحث عن (الواجب الوجود تعالى وتقدس)
وأوصافه الشريفة وخصوصًا كمال عدله ورحمته تعالى، فيوجد من الشاكين
المشككين من يقول: لو كان الله موصوفًا بكمال العدل لما جعل بعض الناس مؤمنين
وبعضهم كافرين وجعل مأوى الطائفة الأولى الجنة والآخرة جهنم، فإذا أجيب له عن
ذلك بما أجبتم في واحد من أعداد المنار وهو أن الله تعالى لم يخلق كافراً قط إلى
آخر ما قلتم وأقنع بذلك أورد اعتراضًا آخر يقول فيه: نعم سلمنا أنه لم يخلق كافرًا
قط كما قلتم، لكن ليس من العدل أن يجعل بعض الناس مولودًا من الأبوين المؤمنين
اللذين يكونان سبب إيمانه وفي ديار الإسلام التي أكثر أهاليها أهل الإسلام والناشئ
بينهم في العادة يتخذ دينًا ومذهبًا مثل دينهم ومذهبهم، وأن يجعل البعض الآخر
مولودًا عن الأبوين الكافرين اللذين يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، وفي دار أهل
الكفر الذين بمجاورتهم والنشوء بينهم يكون هو في العادة مثلهم فرب رجل مؤمن
لو ولد من الأبوين الكافرين وخصوصًا في دار أهل الكفر لم يكن مؤمنًا بل قلما
يتصور ذلك وبالعكس؛ رُبَّ رجل كافر لو ولده أبوان مؤمنان، وخصوصًا لو نشأ
بين أهل الإسلام كان مسلمًا ولم يكن كافرًا. فسهّل لبعضهم الدخول إلى الإسلام
ووعده الجنة وصعب ذلك للبعض الآخر وأوعده بجهنم.
وإذا جيء إلى البحث عن كمال رحمته تعالى يقول: إما أنه تعالى ليس
متصفًا بكمال الرحمة، وإما أنه لا يدخل أو لا يخلد أحدًا في النار؛ فإن تخليد
التعذيب لا سيما بالنار التي هي أشد التعذيب الذي إذا ذكر اقشعر جلد الرجل المدني
لا يليق بإنسان، بل يخرجه عن أن يكون رحيمًا وبالطريق الأولى عن أن يكون
متصفًا بكمال الرحمة؛ فكيف يليق ذلك بالبارئ تعالى الذي نقول في حقه: إن أعمالنا
لا تضره ولا تنفعه؟ فنحن أتينا مسرعين إلى باب جنابكم راجين أن تشفوا غليل
صدورنا بحديد الرد على الاعتراضات المذكورة للشاكين المشككين وتروونا بزلال
أجوبتكم الشافية الوافية التي تكون حججًا ساطعة للموحدين، دامغة للذين امتلأت
قلوبهم بشبهات الطبيعيين والدهريين، وخلت عن اليقين المخصوص بالمؤمنين،
لا زلتم ملجأ وملاذًا للمحتاجين، إلى الاستنارة بنور علم الدين المبين، وموردًا للذين
صدورهم ظمأى، وطبيبًا للذين قلوبهم مرضى، قاهرًا للذين أفئدتهم هواء.
(ج) ترى في كتب الصوفية كلمة جليلة يرونها حديثًا عن النبي - صلى الله
تعالى عليه وسلم - ويقول المحدثون إنها لم ترو حديثًا وإنما هي ليحيى بن معاذ
الرازي رحمه الله تعالى، وهي (من عرف نفسه فقد عرف ربه) ولا يعرف علو
قدر هذه الكلمة إلا من عرف نفسه وعرف ربه فإن كانت ليحيى فلله در يحيى. من
عرف نفسه بعرفان معنى الإنسان وما خص به من المزايا والمقومات لا يصدر عنه
مثل ذلك الاعتراض الذي يهذي به جهلاء الماديين أو المقلدين الذين قال في مثلهم
الشاعر:
عمي القلوب عموا عن كل فائدة ... لأنهم كفروا بالله تقليدا
لا ينكر هؤلاء المعترضون أن الإنسان أرقى المخلوقات المعروفة في هذا
العالم ثم إنهم على اعترافهم بفضل الإنسان، وسموّ الحكمة في خلقه وتقويمه ينبذون
من الأقوال ما يستلزم الاعتراض على خلق الإنسان والاعتراف بأن عدمه خير من
وجوده.
ثم إن لاعتراضهم سببًا آخر وهو الجهل بمعنى ما ورد من إثابة المحسنين
وعقاب المجرمين إذا ظنوا أنه من قبيل عقاب الحكام لمن يخالف أوامرهم وقوانينهم
انتقامًا منهم، والحق أن ما ورد في القرآن من ذلك هو كالشرح لما أودعه الله تعالى
في خلق الإنسان من المزايا {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ
ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} (الروم: 30) . والنتيجة أن ذلك الاعتراض جهل بالحقيقة
وجهل بالشريعة.
بيان ذلك أن الإنسان خلق مستعدًّا لارتقاء وكمال في عقله وروحه غير محددين،
على أن يكون ارتقاؤه بسعيه وعمله الاختياري كما خلق مستعدًّا لأن يهبط بسعيه
واختياره إلى أخس دركة من الشر والرذيلة. هكذا خلق الإنسان كما هو معروف لنا
في أنفسنا وفيما نراه في أفراد جنسنا وجمعياته، ولم يخلق حيوانًا محضًا كسائر
أنواع الحيوان محدود الإدراك والقوى ملهما طلب ما تقوم به حياته الحيوانية
واجتناب ما لا حاجة له به في تقويمها، ولا ملكًا روحانيًّا كامل الخلقة محدود القوى
لا أثر لعلمه في ارتقائه ولا في تدليه، فالإنسان نوع من أنواع الحقائق الممكنة تعلقت
قدرة الله تعالى بإيجاده فوجد على ما نعلم من الاستعداد غير المتناهي الذي تظهر
آثاره جيلاً بعد جيل، ولو لم يوجد الله تعالى هذه الحقيقة لكان العالم ناقصًا، ولم يكن
فيه شيء من هذه الآثار البديعة التي ظهر وسيظهر بها من سنن الله تعالى وحكمه في
خلقه ما لم يكن يظهر لولا هذا النوع المكرم؛ لأن الحكمة الأزلية قضت بأن تكون
آثار مخلوق مختار في عمله غير محدود في قواه وتصرّفه.
لم يخلق الإنسان عبثًا، ولم تخلق قوة من قواه البدنية والروحية عبثًا فكل قوة
منها آلة لاكتساب الخير والسعي في أسباب الرقي؛ إذا لم يُفْرِط ولم يُفَرِّط في
استعمالها. وقد جعل الله له ميزانين يعرف بهما القسط في الوزن من التفريط وهو
الخسران والإفراط وهو الطغيان وهما العقل والدين. فمن كان له اعتراض على قوة
من قوى الإنسان أو مزية من مزاياه يزعم أنها تنافي العدل الإلهي أو الرحمة العامة
فإننا مستعدون لكشف الشبهة له في اعتراضه وإثبات أن تلك القوة آية من آيات
العدل والحكمة وأثر من آثار الفضل والرحمة.
بعد التسليم بأن الإنسان أثر من آثار الحكمة والرحمة ننظر في تأثير عمله في
نفسه التي هي حقيقتة وجوهره، كما أن البدن صورته ومظهره فنجد أن من تلك
الأعمال ما ترتقي به النفس في معارفها وصفاتها وهو ما تكتسبه من العقائد الصحيحة
والمعارف الحقيقية ومن عمل الخير والبر، ومنها ما هو بضد ذلك والمرتقون هم
الأبرار، والآخرون هم الفجار، وإذ انتهينا إلى هذا الحد من بيان حقيقة الإنسان.
فإننا نذكر مسألة الكفر والإيمان، ونذكر بعدها مسألة الرحمة والعذاب متجنبين
التطويل والإطناب، لما سبق لنا من تكرير الدخول في هذا الباب فنقول:
بينا غير مرة أن عقائد الإسلام هي مرقاة للعقل وآدابه وعباداته مرقاة للنفس
وأحكامه مرقاة للاجتماع وقد ذكرنا هذا المعنى في تفسير: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ
فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 217) من هذا الجزء. فمن دُعِيَ إلى هذه الأصول دعوة
صحيحة، فلم ينظر فيها أو نظر فظهر له الحق فعانده ولم يتبعه يكن في غاية
الانحطاط العقلي والنفسي ونهاية البعد عن الحق والخير والتوغل في الباطل والشر
وهو ما يعبر عنه بالكفر والجحود وهو الجاني على نفسه بمعاندة الحق والخير
ورفض سلم الترقي، وأما من لم تبلغه هذه الدعوة على وجهها الصحيح الذي يحرك
إلى النظر ومن بلغته فنظر فيها بالإخلاص ولم تظهر له حقيقتها فهو غير معاند
للحق ولا كاره بسوء اختيار للخير. وعلامة مثله أن يتبع ما يظهر له أنه الحق
ويعمل بما يراه من الخير بحسب فهمه واجتهاده، ولكنه مع هذا لا بد أن يكون منحط
العقل والإدراك؛ إذ عُرض عليه أرقى العقائد وأسمى الفضائل وأعدل الشرائع فلم
يهتد إلى فهم مكانة هذه الأصول فلا يكون ارتقاؤه من فهم هذه الأصول
وتقبلها وكمل نفسه بها. فالناس طبقات في الارتقاء العقلي والروحي أرقاها طبقة
المؤمنين الكاملين و (قليل ما هم) ، وأسفلها طبقة الذين ينبذون الحق لا يحفلون به
ولا ينظرون في دعوته أو يعاندونه ويجحدونه كراهة وعداء لأهله وبينهما طبقات من
الناس كالذين يقبلون الدعوة ولا يقومون بحقوقها كما يجب والذين لم تبلغهم الدعوة
بالمرة. وقد أرشدنا الدين إلى أن الناس يكونون في النشأة الآخرة في دارين
إحداهما دار نعيم ورضوان، والثانية دار آلام وخذلان سميت الأولى الجنة؛ لأن فيها
جنات وبساتين، لا بمعنى أنها بستان واحد فقط، وسميت الثانية النار والجحيم، لا
بمعنى أنها كلها جذوة نار ملتهبة، بل ورد أن فيها زمهريرًا. وأنهما دارا خلود
للسعداء والأشقياء، وكلاهما من عالم الغيب لا يجوز لنا البحث عن حقيقتهما والتحكم
في بيان كُنهما كما هو مقرَّر في علم العقائد من وجوب التفويض في أمر
الآخرة وعالم الغيب.
وخلاصة القول: إن الإنسان خلق مستعدًّا لقبول الحق والباطل، ولعمل الخير
والشر، وهو مختار في أفعاله التي بها يترقى في عقله وروحه؛ وكمالها ما أرشد
إليه الدين الحق أو يتردى فيهما؛ وغاية ترديه الجحود والكفر. وإن خلق الإنسان
على هذه الصفة التي هو عليها من أبدع حكم الله وعدله، وإن هذا النظام والإحكام
سيكون من أثره سعادة المرتقي بالإيمان الكامل والعمل الصالح في الحياة الآخرة،
وشقاوة الكافر المجرم في النشأة الثانية، وكل ذلك نتيجة عمل الفريقين وأثر سعيهما
كما يتنعم العالم الحكيم باللذات العقلية، والمعارف الصحيحة، والأخلاق الكريمة في
هذه الحياة؛ من حيث يكون الجاهل الشرير في عذاب أليم من وساوسه وهواجسه
ومفاسد أخلاقه. فالجزاء في الدنيا وفي الآخرة كله عدل ورحمة؛ لأنه أثر النظام
والحكمة، فالاعتراض على تفاوتهم في الآخرة كالاعتراض على تفاوتهم في الدنيا:
{وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} (هود: 101) {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: 118) .
وقد بينا هذه المعاني مرات كثيرة في التفسير وفي غير التفسير، وكنا نود أن
نكتب هذا الجواب في وقت صفاء وسعة ليكون أتم بيانًا، ولكن زارنا عند الكتابة
أناس شغلونا بالقيل والقال؛ فإن خفي عن السائل شيء أو أحب زيادة البيان فيه
فليكتب إلينا ثانية، والله الموفق.
__________(8/150)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتوى ابن حجر في تحريم الاجتماع للموالد
وغيرها من البدع
كتبنا غير مرة في بيان مفاسد هذه الاجتماعات التي يسمونها الموالد. وقد
سمعنا وقرأنا في الجرائد أن مولد السيد البدوي (رحمه الله تعالى) الذي احتفل به
في هذه الأيام قد حشر له من الخلائق أكثر من ألف ألف؛ أي أكثر من ضعفي
حجاج بيت الله الحرام، وأن أسواق الفحش والفجور في رواج لم يُعهد له نظير؛
لأن ثروة المصريين كل عام في مزيد، وتمسكهم بالدين كل يوم في نقص. وقد
أحببنا أن ننشر لهم فتوى في الموالد لأشهر فقهاء الشافعية في عصره - وأكثر
المصريين شافعية - وهي موافقة لسائر المذاهب؛ لأن الدليل الذي ذكره متفق عليه
ولأنه لو كانت المسألة خلافية لما أطلق القول بحكمها، ليعرف من لم يكن يعرف أن
حضور بعض العلماء العصر في هذه الموالد لا يدل على حِلِّها، وإنما يدل على
عصيانهم لله تعالى وعدم الاعتداد بعملهم ولا بعلمهم. وهي بحروفها كما في ص
112 من الفتاوى الحديثية:
وسئل -نفع الله به- عن حكم الموالد والأذكار التي يفعلها كثير من الناس في
هذا الزمان، هل هي سنة أم فضيلة أم بدعة؟ فإن قلتم إنها فضيلة؛ فهل ورد في
فضلها أثر عن السلف أو شيء من الأخبار؟ ، وهل الاجتماع للبدعة المباح جائز أم
لا؟ وهل إذا كان يحصل بسببها أو بسبب صلاة التراويح اختلاط واجتماع بين
النساء والرجال، ويحصل مع ذلك مؤانسة، ومحادثة، ومعاطاة غير مرضية شرعًا
(تحل) وقاعدة الشرع: (مهما رجحت المفسدة حرمت المصلحة) وصلاة
التراويح سنة ويحصل بسببها هذه الأسباب المذكورة فهل يمنع الناس من فعلها أم لا
يضر ذلك؟
فأجاب بقوله: الموالد والأذكار التي تفعل عندنا أكثرها مشتمل على خير
كصدقة، وذكر وصلاة وسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ومدحه،
وعلى شر، بل شرور لو لم يكن منهما إلا رؤية النساء للرجال الأجانب (لكفى)
وبعضها ليس فيها شر لكنه قليل نادر ولا شك أن القسم الأول ممنوع للقاعدة
المشهورة المقررة: (إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) فمن علم وقوع
شيء من الشر فيما يفعله من ذلك فهو عاص آثم، وبفرض أنه عمل في ذلك خيرًا
فربما خيره لا يساوي شره ألا ترى أن الشارع - صلى الله عليه وسلم - اكتفى في
الخير بما تيسر وفطم عن جميع أنواع الشر حيث قال: (إذا أمرتكم بأمر
فائتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه) فتأمله تعلم ما قررته من أن الشر
وإن قل لا يرخص في شئ منه والخير يُكتفى منه بما تيسر. والقسم الثاني سنة
تشمله الأحاديث الواردة في الأذكار المخصوصة والعامة كقوله: (لا يقعد قوم يذكرون
الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله
تعالى فيمن عنده) رواه مسلم وروى أيضًا أنه قال لقوم يذكرون الله ويحمدونه على
أن هداهم للإسلام: (أتاني جبريل -عليه الصلاة والسلام - فأخبرني أن الله تعالى
يباهي بكم الملائكة) .
وفي الحديث أوضح دليل على فضل الاجتماع على الخير والجلوس له، وأن
الجالسين على خير كذلك يباهي الله بهم الملائكة وتنزل عليهم السكينة وتغشاهم
الرحمة ويذكرهم الله تعالى بالثناء عليهم بين الملائكة، فأي فضل أَجَلُّ من هذه. وقول
السائل - نفع الله به - وهل الاجتماع للبدع المباحة جائز؟ جوابه: نعم، هو جائز
قال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: البدعة فعل ما لهم يعهد في عهد النبي
- صلى الله عليه وسلم - وتنقسم إلى خمسة أحكام: يعني الوجوب والندب ... إلخ.
وطريق معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشرع، فأي حكم دخلت فيه
فهي منه، فمن البدع الواجبة تعلم النحو الذي يُفهم به القرآن والسنة، ومن البدع
المحرمة مذهب نحو القدرية، ومن البدع المندوبة إحداث نحو المدارس والاجتماع
لصلاة التراويح، ومن البدع المباحة المصافحة بعد الصلاة، ومن البدع
المكروهة زخرفة المساجد والمصاحف أي بغير الذهب وإلا فهي محرمة، وفي
الحديث (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) وهو محمول على
الحرمة لا غير، وحيث حصل في ذلك الاجتماع لذكر أو صلاة التراويح أو
نحوها محرم وجب على كل ذي قدرة النهي عن ذلك وعلى غيره الامتناع من حضور
ذلك وإلا صار شريكًا لهم، ومن ثم صرح الشيخان بأن من المعاصي
الجلوس مع الفساق إيناسًا لهم) اهـ.
وعبارته تشعر أنه لم يكن في هذه الموالد على عهده من المنكرات عشر
معشار ما فيها اليوم؛ إذ لم يكن الفسق مباحًا في عصر من العصور كما هو اليوم مع
عموم الجهل بالدين وكثرة الدراهم والدنانير، فكيف لو رأى زماننا هذا.
وإذا كان الاجتماع للذكر أو صلاة التراويح يحرم إذا هو اشتمل على محرم، ويجب
النهي عنه لمن قدر فيكف لا يجب على شيخ الأزهر النهي عن مثل المولد الأحمدي
الذي صار موسمًا للفحش والفجور وكبائر الذنوب، والذي يمتنع لأجله طلب العلم
في الجامع الأحمدي ليكون مأوى للنساء ينامون مع الرجال ليلاً ونهارًا وللأطفال
يبولون فيه ويغوطون وللمجانين يصيحون فيه ويصخبون. وإنما خصصنا شيخ
الأزهر بالذكر؛ لأنه أقدر رجل في مصر على إبطال هذه البدع والفواحش والله
الموفق.
__________(8/155)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أحوال المغرب الأقصى
كتب إلينا من فاس عاصمة المملكة المراكشية ما يأتي:
أحوال المغرب الأقصى الحالية في غاية الارتباك والتشوش، وأضحت أعقد
من ذنب الضب، وبيان ذلك: أن سفير فرنسا طلب من السلطان باسم حكومته
تقرير مطالبه الآتية:
(1) ترتيب وتنظيم جيش يؤلف من 100 أورطة.
(2) أن يكون هذا الجيش تحت إمرة أحد قواد فرنسا ويعطى هذا القائد صفة
وعنوان مستشار لناظر الحربية الفرنسوية.
(3) أن يكون ضباط الجيش ما فوق اليوزباشي من الفرنسويين.
(4) مد الأسلاك البرقية بواسطة الفرنسويين.
(5) تعيين مستشارين فرنسويين للمالية.
ولما أُبلغ السلطان طلبات السفير ألف في الحال لجنة من خمسين واحدًا من
أعيان البلاد، وكلفهم أن يقرروا ما يجب وأن يكتبوا الجواب اللازم ليبلغ السفير
الفرنسوي، واجتمعت اللجنة قبل تاريخه بثلاثة أيام وقررت باتفاق الآراء رفض
طلبات السفير.
ولما أرسل الجواب إليه قال: (إنكم يا قوم لا تبغون الإصلاح لوطنكم، ولكن
اعلموا أن الحكومة الفرنسوية تصرف كل سنة ما يزيد عن ستة ملايين في سبيل
إعادة الأمن العام على الحدود الجزائرية الذي طالما اختل بسبب ثوراث القبائل
الناشئة من فساد أحكامكم وسوء أحوالكم؛ لذا ترى حكومتي أن ترسل جنودًا
لمقاومة كل ثورة تقوم على الحدود في المستقبل، وتضرب القبائل الثائرة وتؤدبها
وتضبط بلادها وتعين عليها الحكام والقضاة من قِبَلها (أي فرنسا) والآن أريد من
حضرة السلطان أن يصدق على طلبي هذا ويأذن أن نعمل بموجبه.
هذا ما قاله السفير الفرنسوي، وهذا ما طلبه بعد رفض طلباته الأولى على أن
الفتن والقلاقل والمشاكل، والثورات الناشئة عما يُلقيه أصحاب الدسائس مثل أبي
حمارة وأبي عمامة امتدت على طول الحدود الجزائرية حتى إن نار الثورة سرت
من الحدود إلى القبائل النازلة قرب العاصمة التي لا تبعد عن أبوابها إلا ساعتين فقط،
والحكومة متحيرة في أمرها لا تعلم كيف ترد عنها هذه النازلة، والمنتظر أن تصير
الثورة عامة في البلاد المراكشية فتقضي على المملكة ويوجد الآن جيش مؤلف من
(50000) جندي من مسلمي الجزائر في (وجده) على مقربة من الحدود
ينتظرون الأمر من الحكومة الفرنسوية لتخطي الحدود والدخول في الأرضي
المراكشية، على أن حكومة المخزن ليس لها حتى في عاصمتها أكثر من خمسمائة
جندي. كل ذلك والمسلمون قضاتهم، وحكامهم، وعلماؤهم، وعامتهم ينتظرون
المدد والفرج من قبر مولاي إدريس، والسلطان يستأجر مائتين من طلبة العلوم ويأتي
بهم كل ليلة للنداء بكلمة (يا لطيف) مائة ألف مرة فيجلسون عند قبر مولاي إدريس
ويرسلون أصواتهم إلى السماء قائلين (يا لطيف يا لطيف ……) والناس ينتظرون
من تأثير ذلك أن يمرض السفير الفرنسوي فيموت أو أن ألمانيا تعلن الحرب على
الحكومة الجمهورية. ومن المصادفات الغريبة أن وردت الأخبار بقرب وصول
إمبراطور ألمانيا إلى طنجة فابتهجت القلوب وابتسمت الثغور، ولا تسل عما دخل من
السرور بل من الغرور في قلوب هؤلاء الطلبة قراء (يا لطيف) من فوزهم الأكبر
هذا ونجاحهم باستجلاب إمبراطور الألمان إلى بلادهم ليدرأ عنه العلة الفرنسوية
نسأل الله أن يكون في عون هذه الأمة المسكينة المستسلمة إلى يد الجهل والغرور.
أما السلطان فإنه أرسل عمه مولاي عبد الملك والصدر الأعظم ومستشار ناظر
الخارجية لاستقبال عاهل الألمان ومعهم كثير من الهدايا النفسية.
ومما يصح أن يذكر أن السفير الفرنسوي لم يذكر شيئًا عن نشر المعارف وفتح
المدارس في مذكرته، بل يظهر أنه يقاوم المعارف، فقد علمنا أن بعض الأعيان
والأغنياء هنا عزموا على فتح مدرسة حربية وأخرى طبية بشرط أن يكون التدريس
فيهما باللغة العربية، ولما استأذنوا أولي الشأن في المسألة وبلغت مسامع السفير
الفرنسوي استشاط غضبًا، وأقام النكير واعترض اعتراضًا شديدًا على فتح
المدارس ولا إصلاح بدونها! !
رأينا في المنار أنكم عازمون على الرد على رسالة المهدي الوزاني ولا حاجة
إلى ذلك؛ فإنها ملآنة بقال فلان وحكى فلان، كأن الرجل مسدود الأذنين عن الآية
القائلة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ولا يخفى أن هذا الرجل ومن
ماثله يحصلون على قوتهم من وراء قبور (الأولياء) وأنتم باجتهاداتكم الدينية
المفيدة أقمتم سدًّا منيعًا بينهم وبين مطامعهم؛ فلو استطاع لنسفكم بقنبلة مدفع ولم
يكتف بالرد عليكم.
هنا ربيعة (الربيعة صندوق النذور) عبد السلام الوزاني وربيعة مولاي
إدريس يعملان ما لا يعمل معمل (فابريقة) مدافع كروب؛ إذ إن العوام ينثرون
نصف ما يكسبونه على ربيعه مولاي إدريس قائلين (يا قطب المغرب يا مولاي
إدريس) ويضعون النصف الآخر في جيب الوزاني صائحين (يا دار الضمان) .
اهـ.
(المنار)
إذا صحت راوية الكاتب، ولا نخالها إلا صحيحة فالسفير الفرنسي لم يترك
لعاقل منفذًا لتحسين الظن بفرنسا؛ لأن مقاومة العلم والاكتفاء من الإصلاح بالأخذ
بقوف رقبة الحربية، وبحجزه خزينة المالية وبمعاقد المواصلات العمومية - مما
يثير سوء الظن بأنه لا غرض لفرنسا إلا الاستيلاء على البلاد لأجل استغلالها، لا
لأجل تمدينها، أما غرور المراكشيين بزيارة عاهل ألمانيا لطنجة توهمًا أن ذلك
كرامة لمولاي إدريس - رحمه الله - فهو لجهلهم بالسبب واعتيادهم على جعل الأمور
العادية من خوارق العادات. السبب الصحيح لمعارضة ألمانيا لفرنسا في استعمار
مراكش الآن هو المناظرة والمنافسة المعروفة، وسنوح الفرصة بانكسار روسيا في
حربها مع اليابان واشتعال نيران الثورة والفتنة في بلادها، ولولا واقعة مكدن التي
خسر بها الروس نحو150رجلاً بين قتيل وجريح وأسير وتلك الثورات - لم تندفع
ألمانيا إلى ما اندفعت إليه. وليت المراكشيين يعلمون أن ألمانيا ليست خيرًا من
فرنسا في مستعمراتها، بل هي شر منها وأنهم إذا لم يستفيدوا من المناظرة بينهما
بالعقل والحكمة دون الاتكال على الكرامات فلا يكون دخول الألمان في بلادهم إلا
وبالاً عليهم.
__________(8/158)
غرة ربيع الأول - 1323هـ
6 مايو - 1905م(8/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحياة الزوجية
(3)
وأما العلم فلا يشترطه في المرأة أحد في بلادنا إلا ثلة من المتعلمين
والمتأدبين على الطريقة الإفرنجية، وقليل من العارفين بكُنه مدنية الإفرنج الذين
يقدرون محاسنها قدرها، وإن لم يتعلموا على طريقتهم. ولا يزال أكثر المسلمين لا
يعقلون لتعليم المرأة فائدة، بل يرونه ضارًّا من جهة واحدة هي عندهم لا تُوازَن ولا
تُقابَل بشيء إلا وتكون أربى منه وأكبر، وهي أن البنت المتعلمة تجرَأ على الرجال،
وتقدم على مكاتبة من تميل إليه من الشبان، وإنه ليوجد في المتعلمات لهذا العهد
من يُحكى عنهن ذلك، ومثل هذه الحكايات تسري، وتذيع بسرعة البرق وتؤخذ
بالتسليم، ويجري فيها القياس للقطع بأن علتها التعلم، وأنه حيث وجدت العلة لزمها
المعلول لا محالة. ولا يمكن إقناع العامة بأن العلم ليس علة لمكاتبة البنات للشبان
يلزم من وجودها الوجود، وإنما هو شرط يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده
وجود ولا عدم؛ لأن العامة لا تفهم مثل هذه الحجج وخاصة النساء، فالعمدة في
إقناعهم بمزايا تعليم النبات هو ظهور أثره الحسن في المتعلمات بمصر وتونس
وسوريا وغيرها من الأقطار،ولم يظهر. على أن التقليد يفعل في الأمم ما لا
يفعل الإقناع؛ وأشد الناس استعدادًا وقبولاً له الشعب المصري، وإذا وُجد في
أمرائه وكبرائه عناية بتعليم البنات تقليدًا للإفرنج الذين يُعاشرون ويُمازجون، فلا بد
أن يَعُمَّ التقليد جميع الطبقات، وقد ظهرت بوادر ذلك منذ أعوام، وهي تنمو مع
السنين والأيام، فالآباء والأمهات صاروا ينبذون بناتهم إلى المدارس،
وهم لا يدرون ماذا يتعلمن ولا يعرفون ما المصلحة في ذلك إلا أن البنت المتعلمة
يرغب فيها الخاطبون الأغنياء ما لا يرغبون في غيرها، ثم إنهم بهذا الاندفاع لا
يميزون بين مدرسة إسلامية أو غيرها، ولا يفكرون في خطر إفساد عقيدة البنت
وتحويلها عن دينها أو عادات قومها وخلائقهم المميزة لهم، ولا في كونها تطرح الحياء
وتتجرأ على مكاتبة الرجال - كما يعتقدون - لأن تيار التقليد الجارف لا تقف في
طريقه هذه الخواطر إن هي طافت بهذه العقول الضعيفة، والقلوب الميتة التي أعوزتها البصيرة والعزيمة، فلم تجدهما في وراثة ولا تربية. وفي هذا الاندفاع
خطر عظيم على الأمة، كنا ولا نزال نحدث الناس به؛ فيقبله المعتدلون وينبذه
الغلاة في التفرنج، وقد أتيح لنا في هذه الأيام ما يقنعهم وهو ما قاله اللورد كرومر في
تقريره عن مصر لسنة 1904، وإننا نذكره هنا لأن بحثنا في الحياة الزوجية إنما
هو من حيث هي ركن لحياة الأمة وسعادتها أو عكس ذلك. قال:
تعليم البنات
(كثيرًا ما أسمع الناس يقيمون الحجج والأقيسة على حمل بعض المسائل
السياسية والإدارية في بَر مصر ويبنونها على فرض أن المصريين لا يزالون
متصفين اليوم بصفات أجدادهم وخصائصهم. وعندي أن هذه الحجج والأقيسة لا
تخلو من سفسطة. فالتغير حاصل ولست أقصد أن أعظمه أو أبالغ فيه، وإنما أقول:
إنه لا يمكن أن كل خلق وصفة من الأخلاق والصفات القومية يتغير تغيرًا تامًّا في
ربع قرن، ولو أمكن ذلك لما كان مستحسنًا؛ لأنه يخشى في مثل هذا التغير السريع
أن يذهب الحَسَنُ من الأمة بجَرِيرَةِ الرديء. ولكن ليكن معلومًا عند الحكام
المصريين وعند كل من له اتصال بأمور مصر أن هناك قوات عاملة قد أثرت في
أخلاق المصريين القومية فغيرتها بعض التغير، وستغيرها أكثر من ذلك على مر
الأيام. وهذه القوات العاملة معظمها يعمل تَدْرِيجًا ويغير رويدًا رويدًا حتى لقد يخفى
عمله عن عيون المراقبين في بعض الأحوال، ولكن بعضها يعمل سريعًا، حتى لقد
غيَّر تغييرًا ظاهرًا محسوسًا.
ومن الشواهد على ذلك تعليم البنات؛ فإن الرأي العام المصري تغير في
هذه الأعوام الأخيرة تغيرًا كليًّا في هذه المسألة الجوهرية العظيمة الشأن. ومما
يزيدنا استعظامًا لهذا التغير في الرأي العام أنه آخر ما كان الناس - حتى الذين
يراقبون منهم أخلاق أهل الشرق أدق مراقبة - يتوقعون حدوثه بمثل ما حدث من
السرعة؛ نظرًا إلى الآراء المعهودة عن مقام المرأة في بلاد مصر. ولكن مصر بلاد
العجائب والغرائب، فلا عجب إذا كَذَّبَ أهلها نبوءات المصلحين الاجتماعيين
بتحولهم عن حال إلى حال؛ تحولاً لم يكن يخطر على بال، فقد كانوا منذ عشر
سنوات لا يُبالون بتعليم البنات، بل ربما استخفُّوا به واستنكفوا منه، ولذلك كانت
كتاتيبهم خالية من بناتهم سنة 1900 ما عدا 271 كُتَّابًا من جملتها الكتاتيب التي
تحت مراقبة الحكومة. وكان عدد كل البنات اللواتي يتعلمن فيها 2050 بنتًا، أما
في سنة 1904 فبلغ عدد الكتاتيب التي يتعلمن فيها 1748 كُتابًا، وبلغ عددهن فيها
10462 بنتًا. وأبلغ من ذلك أن 100 بنت طلبن دخول المدارس الابتدائية العالية
ومدارس تعليم المعلمات بالقاهرة في السنة الماضية؛ فلم يُجَبن إلى طلبهن لعدم
وجود محل لهن فيها. فأحسن خدمة يخدم بها المصريون المعارف والتعليم في
بلادهم تقوم بإنشاء مدارس ابتدائية منظمة للبنات في بنادر القطر.
هذا وإن قلة المعلمات المدربات على التعليم أفضت إلى تأخير تعليم البنات
في جميع فروعه، ولكن العقبات في هذا السبيل أسهل من العقبات التي في سبيل
وجود المعلمين المدربين على التعليم؛ فإن عند نظارة المعارف في المدارس
الابتدائية العالية والكتاتيب عددًا قليلاً من البنات المسلمات الممرنات على التعليم.
وعليه يتسع نطاق تعليم البنات شيئًا فشيئًا وفي مدرسة المعلمات الآن 15 تلميذة
ينتهي معظمهن منها في الثلاث سنوات القادمة، وينتظمن في سلك المعلمات. وقد
أخبرت أنهن متى انتهين من المدرسة لم يعسر وجود غيرهن من اللواتي يدرسن
مكانهن.
أما مقدار ما تؤثره هذه النهضة لتعليم البنات في أفكار الجيل المقبل من
بنات مصر وفي أخلاقهن ومقامهن فستُظهره لنا الأيام على مر الأعوام. على أنه إذا
تأتَّى عنها تغيير في مقامهن فالمأمول أن هذا التغيير يكون تدريجًا، وعسى أن
المصلحين الاجتماعيين - من أبناء مصر- يحفظون في أذهانهم قول مَثلهم العربي
(العجلة من الشيطان والتأني من الله) وعلى الأخص في هذه المسألة أكثر مما في
غيرها؛ لأن العجلة فيها يمكن أن تؤدي إلى طامة أدبية عظيمة، على أنه إذا لم
يتغير مقام المرأة المصرية تغيرًا تدريجيًّا فمهما قلد المصريون أهل التمدن الأوربي
ظاهرًا فهيهات أن يتشربوا روح التمدن الأوربي الصحيح بأحسن مظاهره حقيقة)
اهـ كلام اللورد.
فلينظر وليتأمل القارئ البصير كيف عَدَّ هذا السياسي الحكيم تحويل أهل
مصر بسرعة من حال إلى حال في هذه المسألة من العجائب والغرائب، التي لم
تكن تخطر في بال أحد من علماء الاجتماع وكيف أشار إلى أن هذه العجلة شيطانية
ونقول: إن نصيحته هذه للمصلحين من أبناء مصر سيحفظها له التاريخ ويذكرها له
في المستقبل مقرونة بإجلال الفضيلة والإخلاص لا سيما إذا كان إثم الانقلاب المنتظر
أكبر من نفعه كما يتوقع.
كانت حال النساء في أوربا على أسوء ما يخطر في بال البشر من المهانة
والاحتقار ولذلك كان ما يسمونه (رد الفعل) في التحول والانقلاب عظيمًا؛ فبعد أن
كانوا يعتقدون أن المرأة ليست من البشر، وإنما هي حيوان دون الإنسان وفوق
سائر الحيوانات، وبعد أن كانوا يَسُومُونها الخسف، حتى حرموا عليها أكل اللحم،
ومنعوها الكلام والضحك في حضرة الرجال، وأوجبوا عليها السمع والطاعة لزوجها
في كل شيء، ولو كان ضارًّا أو خسيسًا أو شاقًّا لا يطاق؛ أطلقوا لها العنان تتعلم ما
تشاء، وتعمل ما تشاء، وتتهتك كما تشاء وتحكم كما تشاء، حتى صارت تشارك
الرجال في أعمالهم الخاصة خارج البيوت فأهمل من أمر نظام البيوت بقدر ذلك ولا
غنى للبيوت عن النساء، وكل عمل خارجها فهو مستغن بالرجال عنهن، وانتهى
الأمر بكثيرات منهن إلى اختيار التبتل فرارًا من أثقال الزوجية، وناهيك بانتشار
البغاء، وشيوع الفاحشة وما في ذلك من المفاسد والمضرات.
وقد أنشأ العلماء والحكماء يشعرون بخطر هذا الإطلاق لصنف لا همَّ لأفراده
غير الزينة والراحة، واتباع هوى النفس؛ لأن وجدانهن أقوى من عقلهن، ولكن كل
ما يتعلق بصفات الأمم وشؤونها لا يظهر نفعه أو ضرره، ولا يمكن إيجاده أو منعه
إلا في زمن طويل.
ليس من غرضنا في هذا المقال أن نبحث عن أحوال الأمم في انتقالها وتحول
أحوالها، ولا عن حال النساء في أوربا، ومنافع تعليمهن ومضاره، وإنما غرضنا
أن نبين أن العلم الذي ينبغي أن تعرفه المرأة هو ما لا يخرج بها عن كونها امرأة
وهو ما تكون به قرة عين وخير سكن للرجل المتعلم يحسن معها به عيشه ويكون
عونًا لها على تهذيب ولده وإدارة شئون بيته لا ما تكون به فيلسوفة ولا سياسية ولا
صانعة، وهذا ما اختارته أرقى دول أوربا في العلوم والمعارف، وهي دولة ألمانيا
التي ينسب إليها بعض دول أوربا التقصير في تعليم النساء وستضطر كل الدول إلى
سلوك سبيلها في يوم من الأيام.
ليس البيت مملكة فيتوقف عمرانه على العلوم العالية والفنون الصناعية
والزراعية والتجارة، وتتوقف إدارته على معرفة الشرائع والقوانين، وليست
العلاقة بين البيوت كالعلاقة بين الدول فتضطر ربَّة البيت في حفظ حقوقه إلى
التوغل في السياسة والفنون العسكرية، حسب المرأة أن تتقن لغة أمتها وتعرف
آدابها وأن تعرف الحساب وعلم تدبير المنزل، وعلم حفظ الصحة، وعلم الأخلاق
وعلم التربية، وأن يكون هذان العلمان قائمين على أساس الدين مقرونين بمعرفة
عقائده وآدابه وأحكامه والتاريخ العام بالإجمال، وتاريخ أمتها وبلادها بالتفصيل وعلم
تقويم البلدان وعلم الاقتصاد. ثم مبادئ وموضوعات سائر العلوم وفوائدها بقوة
الإجمال، وأن تعرف الطبخ والخياطة والتطريز وما يتصل بذلك، ولا يصدنها عن
هذا أنها من بيوت الأغنياء الذين لا يطبخون طعامهم ولا يخيطون ثيابهم بأيديهم؛ فإن
علمها بذلك وتمرنها عليه نافع بل ضروري، وقد بلغنا أن قيصرة روسيا تحسن
الطبخ والخياطة وكانت فيكتوريا ملكة إنكلترا وإمبراطورة الهند تنسج وتخيط
وتطرز، فهذا كمال للنساء إن لم يعملن به فعليهن أن يعلمن كيف يعملن في بيوتهن
ويعرفن نفقته ودرجة جودته، ويحسنّ المراقبة والرياسة على الخدم التي تقوم به.
أما معرفة موضوعات وغايات العلوم والفنون المتداولة في الأمم الحية فلها
فوائد، منها: أن لا تكون عدوة أو كارهة لشيء نافع لقومها فإن من جهل شيئًا عاداه
وكرهه، وأن الإنسان يكون ناقصًا بمقدار ما يجهل من المضار والمنافع. ومنها أن
تعرف قيمة زوجها إذا هي تزوجت بمن يشتغل بعلم أو فن مما يجهل النساء
تفصيله، فإذا رأته يشتغل بتجارب زراعية أو كيماوية مثلاً عرفت فضله في ذلك
ورجت له من الفائدة ما تكون عونًا له على عمله. فإن المرأة التي تجهل قيمة
زوجها المعنوية ومعارفه التي يمتاز بها لا يهنأ لها معه عيش؛ لأنها لا ترى عمله
إلا شاغلاً له عنها؛ كأنه ضرَّة لها وهو لا يهنأ له معها عيش؛ لأنه يراها جاهلة
بقدره، بعيدة عنه في نفسه وعقله. وإن شئت قلت: إنهما يكونان شخصين متباعدين
بالروح والعقل لا يمكن أن تتكون منهما حقيقة الزوجية التي بيَّنّا معناها في النبذة
الأولى. ومن تلك الفوائد أن يكون لها رأي فيما تنصرف وجهة أولادها لإتقانه من
العلوم والفنون بعد التعليم الابتدائي والثاني. وكثيراً ما يموت الوالد وتكون المرأة
هي القيِّمة على أولادها منه فينبغي أن تعرف وجهتهم في المدرسة وغايتهم في
التعليم لتحسن القيام عليهم.
وأما فائدة اللغة وآدابها فهي بديهية لمن يقول بالتعليم، فالمرأة التي لا تفهم لغة أمتها العلمية الأدبية تكون بمنزلة البهائم لا تشعر إلا بالحاجات الجزئية التي أودع
الشعور بها في فطرة كل حيوان، ويكون سكون الرجل العالم الأريب إليها بمقدار
الداعية الحيوانية إلى ملامستها في وقت هذه الداعية، وتكون في سائر الأوقات
كَلاًّ عليه وبلاءً ومصابًا؛ إذ يراها مباينة له في إنسانيته لا تشاركه في حسن
تصوره، ودقة مداركه، ورقة شعوره بالمعاني الأدبية والأفكار الاجتماعية،
ويرى إقناعها بالمسائل المعقولة والمصلحة القطعية متعذرًا أو متعسرًا عليه؛
لأنها ليس لها لغة تعبر عما وراء الضروريات التي يدور عليها كلام العامة، ثم إنه
إذا سافر تنقطع الصلة بينه وبينها لا يكتب إليها ولا تكتب إليه فيما يتعلق بشؤون
البيت ومصلحة العشيرة إلا إعلامًا بالصحة واستعلامًا عنها ونحو ذلك، ويتعذر
عليه أن يشعرها بما يشعر به في سفره من لذة وألم وسرور وكآبة كما يتعذر
عليها ذلك.
وأما فائدة الحساب فلا يجهلها أحد في البشر؛ إلا أن يكون بعض أهل الأزهر
فالمرأة التي تعرفه يمكنها أن تضبط نفقات البيت على القاعدة التي يسمونها
الميزانية، فتجعل الخرج على نسبة إلى الدخل معروفة، فهو عون على الاقتصاد.
وقلما توجد امرأة في الأرض لا تشتري ولا تبيع شيئًا، ولا تعامل أحدًا بالمال،
والنساء اللواتي يملكن المال والعقار والأرض والعروض كثيرات، والإسلام جعل
لهن حق التصرف في أموالهن فالمرأة التي لا تعرف الحساب تكون عرضة للخطأ في
كل معاملة مالية؛ فيغشها البائع والمشتري والوكيل والأجير، ويطمع في اغتيال
مالها زوجها السفيه، ويعبث به ولدها الصغير.
وأما الاقتصاد الذي يعد الحساب من وسائله؛ فهو روح المعاملة وأُسّ النظام
ومِلاك المعيشة ودعامة السعادة. فإذا لم تكن ربة البيت عارفة بهذا الفن عاملة به فلا
يستقيم للمعيشة حال، بل تكون مضطربة بين أمواج الحوادث يتقاذفها اليسر والعسر،
ويتناوبها الغِنى والفقر، وليس الرجل بمغن في اقتصاده عن اقتصاد المرأة عن
رضى واقتناع، ولا رضى ولا اقتناع إلا بالعلم والمعرفة؛ بأن مصلحتها ومصلحة
بيتها في الاقتصاد. ألم تر أن معظم المال يذهب في سرف النساء وخيلائهن، ألم
تسمع أنين الرجال وأطيطهم من ثقل النفقة على ما يبتدع النساء كل حين من الأزياء،
والتنقل في ضروب الحلي والحلل؟ ألم تعلم بأنهن لا يعذرن الرجل؛ إذا قال: لا
أستطيع، لا أقدر، لا أملك، بل ينغصن عيشه، ويسلبن راحته، أو يبذل لهن ما
يطلبن ولو استدانه بالربا الفاحش أو باع لأجله الغالي النفيس بالثمن البخس؟
هذا مما تعرف، فهل لك أن تضم إلى معرفة الداء معرفة العلاج؛ وهو أن
تتزوج بامرأة كاتبة، حاسبة، مقتصدة، وتجعل للبيت بالاتفاق معها ميزانية يكون
الخرج فيها جزءًا من الدخل، وتكون هي المنفقة والقيمة، كما تجعل لأرضك
وعقارك ميزانية تكون أنت المنفِّذ لها، وبذلك تكون امرأتك مقتنعة بأن ما وفر من
الدخل في الحال هو عُدة لها ولأولادها في الاستقبال.
جَرَّبَ كثير من الرجال هذا العلاج فوجدوه نافعًا مفيدًا، ومنهم من أسعده الحظ
به على غير علم بفائدته؛ فأصاب السعادة عفوًا. أعرف رجلاً مسرفًا كان يضيع
كسبه الكثير بغير عقل ولا حساب، ويضطر إلى الدَّيْن حتى أخذ الدَّيْن بتلابيبه؛ لأنه
كان جاهلاً سكورًا فتزوج بفتاة كانت يهودية وأسلمت إسلامًا صحيحًا؛ فما عتم أن
حسُنت حاله فقلَّ سَرفه، وحسن عمله، وقضى دينه ثم صارت له ثروة مدَّخرة.
وحُدثت عن رجل في مصر له راتب من الحكومة لم يكن كافيًا لسعته في نفقاته
الشخصية؛ فتزوج بفتاة متعلمة مهذبة؛ فهو يعيش معها في هناء ونعيم ويقتصد من
راتبه شيئًا يدخره للمستقبل المجهول، بل أعرف غير واحد من الفقراء جعلوا كسبهم
في أيدي نسائهم فكانوا معهن في عيشة راضية يزيد فيها دخلهم على نفقتهم زيادة لها
شأن عندهم.
وإنني أظن أنه يصعب على أكثر النساء أن يبذلن جميع ما في أيديهن من
المال في الأمور الزائدة على الضروريات أو الحاجيات، ولكن يسهل عليهن أن
يبذلن أكثر مما في أيدي أزواجهن إذا كانت النفقة بيده. فالمرأة الجاهلة تقدر على
الحياة الاقتصادية في بيت فقير ولا تقدر على ذلك في بيت غني ولا متوسط إلا
بالعلم وحسن التربية.
وأما علم حفظ الصحة: فهو ضروري لكل إنسان سواء كان يعيش منفردًا أو
زوجًا أو صاحب عيال، ورئيس عشيرة؛ فمن عرف هذا العلم سهل عليه التوقي
من أكثر الأمراض والأوبئة، ووقاية من يعوله منها؛ وإذا هو أصيب بمرض فإنه
يحسن وصفه وبيان أسبابه وكيفية سيره للطبيب؛ فيكون أكبر عون له على
تشخصيه ومعرفة حقيقته، ثم إنه يحسن العمل بما يأمره به الطبيب من المعالجة فربة
البيت الجاهلة بهذا العلم تكون بلاء على نفسها وعلى زوجها وأولادها، ولا يمكن أن
تقل الأمراض والأدواء في أمة إلا إذا تعلم نساؤها هذا العلم، فكم من طفل فتك به
المرض لجهل أمه بمداواة صحته، وكم من امرأة قتلت ولدها أو زوجها بنفس
الأدوية التي وصفها الطبيب لشفائه لجهلها بأسمائها وبمقادير ما يعطى المريض منها.
ولقد يتعسر على المريض العالم أن يحسن معالجة نفسه في بيت قيِّمته جاهلة؛ لأن
أي عمل في البيت لا يتم إلا بها.
وأما علم الأخلاق فهو عون للإنسان على تكميل نفسه في الكبر، وعلم التربية
يتوقف عليه؛ لأن من لا يعرف قوى النفس وكيفية تكوين ملكاتها وانطباع أخلاقها
وطريقة تأديبها وآثار صفاتها ووجدانها فهو لا يعرف معنى الإنسان أو هو ليس
بإنسان كامل؛ فيتعذر عليه تكميل غيره بحسن التربية التي هي أهم ما يجب على
المرأة وأعلى ما يطلب منها.
ويدخل كل ما تقدم في علم تدبير المنزل ما عدا مبادئ الفنون وعلم اللغة التي
هي وسيلة كل علم؛ لأن المراد بتدبير المنزل سياسة أهله وموضوعه حقوق كل من
الزوجين على الآخر وحقوقهما على الأولاد والخدم، وحقوق هؤلاء عليهم وطريق
قيام كل بما يطلبه منه. والمرأة هي ربة البيت ومديرة نظامه؛ فينبغي أن تكون
عارفة بما عليها، ومرشدة للأولاد والخدم إلى ما يجب عليهم تحت رعايتها لينتظم
شأن البيت فتكون العيشة راضية، وليتربى الأولاد بالقدوة الصالحة فيكونوا
أعضاء صحيحة عاملة في الأمة.
ومعرفة التاريخ وتقويم البلدان هي التي تودع حب الأمة في القلب، وتبعث
فيه روح الغيرة؛ فإذا كانت المرأة جاهلة بتاريخ أمتها ومكانتها من غيرها فهي لا
تشعر بأنها عضو من جسد أمة كبيرة، لها حقوق يجب على الأفراد القيام بها،
وعلى الوالدين تربية أولادهم على احترامها، والتنافس في المسابقة إليها، واعتقاد
أنها دعامة الشرف وركن العزة والسيادة. يكون الإنسان كبير النفس، وعظيم الهمة
إذا كان يشعر بأن وجوده غير محصور في مساحة جسمه الصغير، وإنما
هو واسع بروحه المنبثة في عالم كبير يسمى الأمة تعمل له كما يعمل كل عضو في
جسده لمصلحة الجسد كله. ويكون أكبر وأعظم إذا كان يشعر بأن وجوده أوسع
وأرقى؛ لأنه خلق ليعمل ما يفيد البشر كلهم بالتقريب، والجمع بين المختلفين
والتأليف بين المتنافرين وغير ذلك من الأعمال أو يبث العلوم التي ينتفع منها
الجميع. ويكون الإنسان حيوانًا حقيرًا ضيق الوجود؛ إذا كان علمه وعمله مُوَجَّهَيْن
لخدمة شخصه ومن عساه يتصل به اتصالاً محسوسًا كأهله وعشيرته. ومن كانت
هذه حاله فإنه لا يرجى منه أن يربي أولادًا ينفعون أمتهم ووطنهم أو ينفعون الناس
أجمعين. لذلك كان لا بد لكل إنسان من ذكر أو أنثى أن يعرف التاريخ ليتسع
وجوده بقدر استعداده لعله يربي من ينفع الأمة والناس. وعلم تقويم
البلدان في معنى التاريخ، بل هو منه في الأصل ثم صار أصلاً مستقلاًّ، تلك
إشارة إلى ما يطلب من كمال المرأة وتُختار لأجله. وسنكتب كلمة في اختيار
المرأة للرجل.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(8/161)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
(أسئلة من السيد محمد بن يحيى الصقلي الحسيني من بلاد الجزائر)
قال بعد رسوم الخطاب: لما نظرنا إلى إرشاداتكم العديدة غير المتناهية
وبحثكم وتضلعكم في العلوم الدينية الإسلامية وتحققنا بعلو مكانتكم في ذلك جزمنا بأن
فيكم الكفاية لمن يريد الحصول على استفادة بأكمل بيان وأبلغ عبارة فتعلقت آمالنا
بحضرتكم وكتبنا هذا لفضيلتكم، والرجاء من الله ثم منكم أن تفيدونا ومن نفعكم لا
تحرمونا.
تقبيل أيدي العلماء
(س9) ما قولكم دام نفعكم في تقبيل العامة كبيرهم وصغيرهم غنيهم
وفقيرهم لأيدي العلماء، وتذللهم لهم حتى جعلوا ذلك من أهم الواجبات الدينية أفيدونا
هل ذلك من آداب ديننا الإسلامي الحنيف أم لا؟
(ج) إذا اعتقد العوام أن تقبيل أيدي العلماء من الواجبات الدينية كان تقبيلها
معصية يجب نهيهم عنها، ويحرم على العلماء تمكينهم منها؛ لأنهم زادوا في الدين
ما ليس منه، وشرعوا لأنفسهم ما لم يأذن به الله، ولقد كان النبي- صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم - يتحامى المواظبة على بعض العبادات المندوبة كصلاة التراويح؛
لئلا تعتقد العامة أنها واجبة. وفي حديث ابن عمر عند أبي داود (فدنونا من النبي
فقبلنا يده) ولكن لم تمض السنة عنه ولا عن أصحابه، ولا عن التابعين بتقبيل
أيدي العلماء، فهي عادة من العادات المباحة ما لم تُعتقد مشروعيتها، وكونها من
الدين.ولا حاجة لإطالة البحث في هذا؛ فإنه مما لا يختلف فيه عالم بدين الإسلام. وإننا نشكر للسائل حسن ظنه على ضعفنا وعجزنا.
***
نذر الذبائح على أضرحة الأولياء
والتوسل بهم
(س10) ومنه: وما قولكم في الذبائح على أضرحة الأولياء لسبب نذر، أو
لرجاء دفع مضرة أو غيرها؟ وكذلك التوسل ببابهم والرجاء منهم نحو قول أهل
فاس عند معاينة مكروه نازل بهم: ما دام ضريح مولاي إدريس في وسط بلدنا فلا
نخاف؛ لأنه يذود عن بلدة فاس خصوصًا وعن قطره المغربي عمومًا، وهو
ورجال المغرب (صالحو الموتى) يحفظوننا من غائلة العدو ونفوذه، وأقوالهم من
هذا القبيل كثيرة، أفيدونا بما يشفي الغليل عن هذا القبيل؛ ليعم إرشادكم كافة
الموحدين الحنفيين؟ ودمتم كعبة للقصاد، مأجورين من رب العباد.
(ج) الذبح على القبور بدعة أخذها بعض المسلمين عن أهل الكتاب وهؤلاء
أخذوها عن الوثنيين؛ إذ كانت الذبائح لأوثانهم وأصنامهم من أركان دينهم وأعظم
عباداتهم، نعم كانت القرابين عبادة في شريعة موسى -عليه السلام - وما هي إلا
للتقرب إلى الله وحده لا إلى شيء، ولا إلى شخص عظيم كما هي عند الوثنيين في
الأصل، وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز الذبح لغير الله تعالى تقربًا إليه، أو
تعظيمًا له، أو رجاء فيه؛ لأن هذا من الوثنية، وقد صرح الفقهاء بأن من فعل ذلك
على سبيل العبادة يكون مرتدًا عن الإسلام، والعبادة هي الخضوع والتعظيم لمن
تعتقد فيه السلطة الغيبية التي وراء الأسباب؛ فإن وجد هذا المعنى كان الذبح للولي
أو عنده كفرًا، وإن لم يوجد كان معصية؛ لأنه يدخل في قوله تعالى: {أَوْ فِسْقاً
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: 145) ويستحق صاحبه اللعن من رسول الله في
حديث علي - كرم الله وجهه - عند أحمد ومسلم والنسائي (لعن الله من ذبح لغير
الله) . وقال في الإقناع وشرحه ما نصه:
(ويكره الذبح عند القبر والأكل منه) لخبر أنس: (لا عقر في الإسلام) ،
رواه أحمد بإسناد صحيح قال في الفروع: رواه أحمد وأبو داود وقال عبد الرزاق:
وكانوا (أي في الجاهلية) يعقرون عند القبر بقرة أو شاة. وقال أحمد في رواية
المروذي: (كانوا إذا مات الميت نحروا جزورًا فنهى عليه الصلاة والسلام عن ذلك
وفسره غير واحد بغير هذا (قال الشيخ) يحرم الذبح والتضحية (عند القبر) ولو
نذر ذلك ناذر لم يكن له أن يوفي به كما يأتي في نذر المكروه والمحرم (فلو
شرطه واقف لكان شرطًا فاسدًا) اهـ.
نقول: وأنت ترى من الأدلة أن القول بالتحريم هو الراجح، وإن أريد
بالكراهية ما كان للتحريم، ومما ورد في النذر حديث عائشة عند أحمد والبخاري
وأصحاب السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نذر أن يطيع الله
فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه) وحديث ثابت بن الضحاك عند أبي داود
والطبراني (وقد صحح الحافظ ابن حجر إسناده) ، قال: إن رجلاً أتى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة (بضم الموحدة:
موضع) فقال: كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان
فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال: أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله
ولا فيما لا يملك ابن آدم) وقد يتوهم بعض الجاهلين من العامة أن النهي عن الذبح
لتعظيم معاهد الجاهلية لا يقتضي تحريم الذبح لتعظيم أولياء المسلمين. ونقول:
(أولاً) إن الفقهاء أجمعوا على أنه لا يجوز الذبح لغير الله كالأنبياء والكعبة.
(ثانيا) إن حكمة ذلك تطهير القلوب من التوجه إلى غير الله تعالى في مثل هذا العمل
الذي أراد به الخير والبر؛ لأن ذلك من الإشراك ولا يقبل الله تعالى من العمل إلا
ما كان خالصًا لوجهه، ومما ورد في ذلك بخصوص النذر حديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا نذر إلا فيما ابتغي به
وجه الله تعالى) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي وأورده الحافظ في التلخيص،
وسكت عنه وفي معناه روايات أخرى. و (ثالثاً) إن كثيرًا من أئمة السلف
الفقهاء، صرحوا بأن ما يذبحه النصراني لكنيسة، أو مكان، أو رجل مُعَظَّم
عندهم يحل لنا، ولكن لم يقل أحد بأن ما يذبحه المسلم لمُعَظّم عنده يؤكل، بل
أجمعوا على تحريمه وإثم فاعله. وإن قام في نفسه معنى العبادة كطلب ما لا
يُطلب إلا من الله تعالى كان مرتدًّا كما تقدم.
وأما ما يسمونه التوسل فقد بسطنا القول فيه مرات كثيرة في كل مجلد من
مجلدات المنار فليراجع ذلك السائل في مواضعه من المجلد السابع وغيره، مسترشدًا
في الفهرس بكلمة التوسل من حرف التاء، وبكلمة قبور من حرف القاف ويجد في
العدد السابق كلامًا عن اعتقاد أهل فاس بمولاي إدريس، وغرورهم في ذلك. ولكن
هذه الاعتقادات المبنية على وعث البدع والتقاليد لا تثبت أمام سيول الحقائق، فهذا
سلطان مراكش قد اضطرب وخاف سقوط ملكه فلم يكتف باللجأ إلى إدريس، بل
أشرك معه ملكًا نصرانيًّا يعتز به ويستعين به على فرنسا وهو عاهل ألمانيا، وقد
أرسل إليه عند زيارته طنجة هدية تساوي مئتي ألف جنيه، ولو كان موقنًا بحماية
قبر إدريس للمملكة؛ لكان غنيًّا عن ذلك، ولماذا لم يَحْمِ إدريس البلاد من الفتن التي
أنهكتها وكانت حجة فرنسا في التصدي لها؟
***
قصة المولد للشيخ إبراهيم الرياحي التونسي
(س11) أحد القراء (بتونس) : اشتبه على بعض الناس طعنكم في
بعض أعداد المنار بروايات قصص المولد النبوي، وقد وجهت لكم في البريد نسخة
من مولد الشيخ إبراهيم الرياحي التونسي المتوفى سنة 1266هـ، وهي الرواية
المُعتمدة رسميًّا في تونس، فهل لكم أن تنظروا فيها وتنبهوا على ما فيها من الغلط؟
(ج) إن هذه القصة كغيرها من حيث وجود الموضوعات والواهيات فيها،
ولكنها في اختصارها وعزوِ بعض الروايات فيها أمثل من غيرها، ولعلنا نذكر تخريج
هذه الروايات في جزء آخر. وهذا قوله في أول القصة (ص 4) (إن أول ما
خلق الله نور هذا النبي الأواه) لم تصح به رواية وأقوى الروايات وأكثرها في
بدء الخلق أن أول شيء خلقه الله القلم. وكذلك ما ذكره في خلق آدم غير صحيح
ومثله ما في (ص5) من نطق الدواب وبشارة أهل البحار وانقلاب الأصنام وما
ذكر عن آمنة وغير ذلك. وكان يجب الاستغناء عن هذه الروايات بالمناقب والآثار
التي هي أوضح من النهار.
__________(8/191)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(هداية أستاذ للإسلام)
(نقلها عبد الرحمن أفندي شهبندر من مجلة الملل الصادرة في مارس (آذار)
سنة 1905 إلى العربية) .
لدينا الآن رسالتان بقلم الأستاذ نشكنتايا دهيايا الرئيس الماضي لكلية حيدر
أباد (وأستاذ التاريخ في كلية مهراجا في ميسوري) والأولى منهما موضوعها لماذا
انتحلتُ الإسلام والثانية محمد نبي الإسلام وقد أصبح اسم المؤلف بعد إسلامه
محمد عزيز الدين وهو من العلماء والأفاضل الذين ساحوا في البلاد زمنًا طويلاً،
ودرسوا الأديان المختلفة وفي الرسالة الأولى ذكر أسباب هدايته واتخاذه الإسلام
دينًا لا يبارى في الصحة والسلامة.
كان المؤلف في أول أمره كثير الإعجاب بمذهب العقليين لكنه لم يلبث أن
تحول؛ لأن هذا المذهب لم يرو له غليلاً، فأخذ في درس الدين البوذي وأعجب
بظاهر رفعته الأخلاقية؛ لكنه وجده أخيرًا على عكس طبيعة البشر؛ فمَلَّه وكان ذلك
أثناء وجوده في البلاد الألمانية حيث ألقى خطابين موضوعهما البوذية بلغة تلك البلاد،
ومن ثم ذهب إلى باريس وبطرسبرج وبعدما تعلم الإفرنسية أعجب بـ (رنان)
وكان من تأثير ذلك أنه أخذ في درس لغات الساميين وأديانهم وكرس قسمًا
عظيمًا من حياته لدرس المقابلة بين الأديان العظيمة يعني اليهودية والزردشتية
والبرهمية من الجهة الواحدة والبوذية والنصرانية والإسلام من الجهة الأخرى ووقف
في سبيله إلى التنصر مسألة الفداء، ومسألة الهلاك الأبدي وما يضاف إليهما في
الكاثولوكية من اعتقاد العصمة البابوية، والتحول في العشاء الرباني ثم رجع إلى
البلاد الهندية على هذه الحال من تبلبل الفكر وهنالك فرغ نفسه مدة لدرس الرياضة
(التصوف) لكنه عاد منها أيضًا غير مقتنع، ولم يعط البوذية والإسلام حقهما في
الدرس حتى ذلك الحين فدرس الأولى منهما، ثم جاء إلى الإسلام الذي استماله
أخيرًا، وأثر في نفسه أثرًا باقيًا، وكان قد شعر بصحته منذ مدة طويلة لكن الظروف
الخارجية منعته من التصريح بذلك، حتى الثامن والعشرين من شهر آب (أغسطس)
حين صرح في محفل بدخوله في الإسلام برسالته (لماذا انتحلتُ الإسلام) .
وبنى رضاه بالإسلام على ثلاثة أسباب رئيسة: (1) صحة أخبار الإسلام
وأنه الدين التاريخي الوحيد. (2) موافقته للعقل. (3) أنه عملي (لا خيالي)
ويقول في رسالته: إن ميدانه التاريخي قد أثر حتى في أعداء محمد وأتباعه
واستشهد بكلام للأستاذ (بسورث سمث) ذكر في خطبه وهو: (إننا في الحقيقة
نعرف بعض نتف من تاريخ المسيح، ولكن أنى لنا من يكشف الحجاب عن السنين
الثلاثين التي أعدت الطريق إلى الثلاث....... .، وفي الإسلام كل شيء على
خلاف ذلك. هنا يقوم التاريخ بدلا من الغامض المظلم....... . وهنا لا تضل
المرء نفسه أو غيره من الناس لأن نور النهار يسطع على كل ما يمكن أن يصل إليه) .
والنقطة الثانية في بحثه: جَرْي الإسلام على قواعد العقل، وقد ذكر القاعدتين
الأساسيتين في الدين (توحيد الله ورسالة النبي محمد) وقال: يجب على كل
صحيح عاقل أن ينقاد لهذه الحقيقة البسيطة الجليلة، وهي توحيد الله الخالص (لا
كتوحيد اليهود الذين جعلوه إلهًا خاصًّا بهم) ، ولا يوجد في الإسلام تعاليم مثل
(ثلاثة في واحد) أو ثلاثين مليونًا من الآلهة.
ولا يرد قاعدة الرسالة النبوية باحث لأنه (متى نُسِيَتْ الحقائق الأساسية التي
تبنى عليها الحياة الأخلاقية الدينية أو أُبهمت، ومتى أصبح الإنسان مفرطًا في حب
دنياه طامعًا سيئ الأخلاق؛ ماديًّا بحتًا يظهر في تاريخ الأمم أناس أخلاقيون أحيتهم
الروح الخالصة في مولدهم ونشأتهم حتى يصبحوا أنبياء ورسلاً لله، ووظيفتهم
تذكير الناس ما كانوا نسوه وإحياء ما كانوا فقدوه) ، ويضاف إلى ذلك كله أن
الإسلام على طبق حياة الإنسان العملية. وربما توهم الناس في بعض الأحيان أن
تعاليم بوذا والمسيح على أحسن الكمال، لكن هذا خطأ، وهذه التعاليم أشبه
بالكمالات الباردة الواردة في القصص والروايات، وربما كان فيها (جمال شعري)
إلا أنه لا يعد طريقة لحكم الإنسان المدني الصناعي على صحة التعاليم والمبادئ،
فمن الواجب علينا أن ننظر إلى حاجات البشر أولاً، ثم نحكم على كمال التعاليم
بالنسبة لفائدتها. وعلى هذا المبدأ تمامًا (يعني النظر إلى حاجات البشر) أباح
الإسلام تعدد الزوجات. وسنن الزواج في هذا الدين أقرب للعمل وأشد موافقة
لحاجات الجمعية البشرية، وأجلب لترقيها من الجهة الأخلاقية الروحية (يعرض
بانتشار الفحش في البلاد الغربية إلى حد لا يوصف) ولمبادئ الإسلام الأخرى هذا
الحظ من الرفعة والمكانة.
وذكر في رسالته الثانية: (محمد نبي الإسلام) مختصرات من حياة النبي -
صلى الله عليه وسلم- ونبذًا من التحويل المدهش الذي أجراه في العالم، وفي الختام
يجيب الكاتب عن اعتراضات المتقدمين المتعصبين. (قالت المجلة) ونحن نلفت
أنظار المسلمين إلى هاتين الرسالتين، وكذلك كل طلاب الحقائق وتطلبان من محل
(لوزاك وشركاه) في لندن أو من (شوز رثمات) في حيدر أباد الدكن.
***
(الدولة العلية في نجد وخوف الفتنة)
جاءنا من بلاد العرب رسالة كتبها رجل كبير من أهل نجد في (غرة
صَفَر) يخبرنا فيها بمعنى ما وصل إلينا قبل من طرق ضعيفة ويزيدنا خبرًا
ورأيًا، قال -حفظه الله - ما ملخصه: أرسلت الدولة إلى الشيخ عبد الرحمن
الفيصل بأن يواجه والي البصرة مع (الشيخ مبارك) فتوجه الشيخ عبد
الرحمن من نجد إلى أطراف الزبير وطلع الشيخ مبارك والتقوا مع الوالي على
مسافة ساعتين من بلد سيدنا الزبير وقدّم الشيخ عبد الرحمن الطاعة لمولانا
أمير المؤمنين وكذّب جميع ما نسب إليه، وأنه خاضع لأوامر مولانا أمير
المؤمنين؛ إلا أن ابن رشيد ليس له يد على أهل نجد وبعد ذلك توجه الوالي
إلى البصرة وبلغ الآستانة ما كان، وليلة 9 ذي الحجة وصل تلغراف من
أمير المؤمنين بتولية الشيخ عبد الرحمن على نجد، ورفع يد ابن رشيد وبأن
يكون في القصيم عسكر (رسم طاعة) وأمرهم راجع إلى الشيخ عبد الرحمن
وابنه عبد العزيز آل سعود وبلغ الوالي عبد الرحمن وبعد ذلك مشى العسكر
الذي كان بأطراف النجف إلى نجد وهو ستة توابير، وفي نجد عند ابن رشيد
ثلاثة توابير وبهذا السبب صار عند أهل نجد شك في ممشى العسكر زيادة
على ما في نجد (والجميع حدر نظر ان رشيد) والمشير بنفسه طلع ومعه
ابن هذال الشيخ عنزه وشوشوا أهل نجد واستعدوا للفتنة إن كان العسكر جاء
محاربًا، وإن كان مصلحًا فلا حاجة إلى هذه الكثرة. والظاهر أن الفتنة لا تسكن
على هذه الحال. وعبد الرحمن ما توجه إلى نجد بل تربص بالكويت
ينتظر نتيجة وصول العسكر إلى أهل القصيم، وابنه عبد العزيز الظاهر أنه
جهز غزوانه (أي غزاته) ونحر القصيم (قصده) وأهل القصيم مستعدون.
نسأل الله أن يطفئ الفتن ويصلح أحوال المسلمين وحسبنا الله على من أيقظ الفتن
بينهم، وإلا فأي شيء للدولة من المصالح في نجد ولكن يغرهم المفسدون
بالدسائس الفاسدة حتى يلجئوا أهل نجد إليها إذا لم يكن لها علاج وننتظر الحوادث
ونرجو الله يصلح الأحوال ويبصر الدولة بما فيه صلاح المسلمين.
(المنار)
لم يذكر الكاتب ماذا كان بين الوالي والشيخ مبارك صاحب الكويت
وقد بلغنا من مصدر آخر دون هذا المصدر أن الشيخ قال للوالي إنه خاضع
للدولة ونادم على تورطه مع الإنكليز. ولكن الدولة قد أعوزتها السياسة
الحكيمة في هذا الزمان ولذلك غلبتها سياسة الأجانب في البلاد التي لا يوجد
فيها أحد يميل إليهم أو يعبأ بمدنيتهم كاليمن وحضرموت والكويت. وإننا كما
بدأنا النصيحة لها نعيدها ونؤكدها بأن تتحامى مثار سوء ظن أهل نجد بها،
وأن لا تحدث نفسها بمعاملتهم بالقوة وتحكيم رجالها وقوانينها فيهم، وأن لا
تخادعهم كما يخادع الأعداء، بل يجب أن تقبل الطاعة من آل سعود وتعتقد
صدقهم وتمضي الأمر بولاية الشيخ عبد الرحمن على نجد ظاهرًا وباطنًا
وتتفق معه على عدد العسكر الذي تحب أن تجعله في القصيم وإلا كان عملها
هو المنذر بالخطر الذي تريد تلافيه به. وقد جاء أمس في برقيات روتر أن
الباب العالي سأل ناظر خارجية إنكلترا عن البوارج الإنكليزية الراسية في
ميناء الكويت فأجاب بأنه لم يأته نبأ عنها، وأنه لا يقبل البحث معه فيها،
على أن البوارج أنزلت العسكر فاحتلت الكويت. وننصح للشيخ عبد
الرحمن أن لا يبني على سوء الظن وأن يخابر الدولة في مسألة كثرة العسكر
ويقنعها بعدم الحاجة إليه ويتوقى الفتنة لئلا يؤل الأمر إلى ما يندم هو والدولة
عليه، وتلحق نجد بغيرها ولات حين مندم.
***
(المسلمون في روسيا)
ثار الشعب الروسي القح الأرثوذكسي العريق على حكومة القيصر الذي
يسمى في التقاليد الروسية الأب الصغير - أي الرب - صاحب السلطة الدينية
الإلهية، وثارت أيضًا سائر الشعوب كالأرمن واليهود والفيلنديين، وأما المسلمون
فكانوا أشد العناصر الروسية مسالمة للحكومة ولكنهم طالبوا بحقوقهم ومنحتهم
الحكومة ما اختلفت فيه الروايات ففي جرائد أوربا أن مفتي القزان الذي يدعى شيخ
الإسلام (وهو محمد يار سلطانوف) دعي من أورنبورج إلى بطرسبرج وأمرته
نظارة الداخلية بأن يرفع تقريرًا يبين فيه مطالب المسلمين فطلب ما يأتي ملخصًا
بناء على منشور القيصر الصادر في 12 ديسمبر سنة 1904 الناطق بأنه عزم على
منح الرعايا غير الأرثوذكس جميع الحقوق التي يتمتع بها الروسيون وهو:
(1) أن يعطى المسلمون الذين ينالون الشهادات من المدارس الروسية حق
التدريس بالمدارس غير الإسلامية كمدارس الحكومة.
(2) أن يعطى من يُتِمّ منهم الدارسة في المدارس الثانية حق التعلم في
المدارس الروسية العالية.
(3) تعيين أئمة لتوابير العسكر المسلمين لأجل أن يؤدوا الفرائض الدينية
في موتاهم وأحيائهم، وقال: إن القرعة العسكرية تتناول في السنة نحو 40 ألفاً من
المسلمين، وأن القيصر كان أمر بتعيين أئمة لهم ولم ينفذ ذلك! .
(4) إلغاء ما توجبه المادتان 154و 157 من القانون المدني (المجلد الثاني)
من عدم السماح للمسلمين بإنشاء مسجد إلا بإذن الأسقف الأرثوذكسي في الجهة
التي يراد إنشاؤه بها.
(5) منع اضطهاد الولاة والحكام لرجال الدين كعزل والي أوفا لإمامي
مسجدين من مساجد المدينة في حادثة 16 أغسطس سنة 1904 بدون ذنب ولا
محاكمة بل افتئاتًا عليهما بأنهما ليسا أهلاً لوظيفتها على أنه أعادهما بعد ثلاثة أشهر.
(6) إعادة إدارة المدارس والمكاتب (الكتاتيب) الإسلامية أنإلى رجال الدين
المسلمين وكذلك ملجأ الصبيان والبنات في أوفا وقال: إن هذا ما كان متبعًا إلى سنة
1870 وبعدها أخذت نظارة المعارف على نفسها حق مراقبة التعليم فتأخر التعليم
الإسلامي وقل التبرع له بقلة الثقة به.
(7) جعل النظامات والقوانين الموضوعة للمسلمين متحدة موافقة للزمان،
وقال: إن النظام لمسلمي أورنبورغ باق علي ما وضع عليه في أوائل القرن
الماضي مع أن الحكومة سنَّت أخيرا لمسلمي القوقاس قانونًا أمثل منه.
(8) إعفاء رجال الدين من الخدمة العسكرية ما داموا يؤدون وظائفهم وفقاً
للمادة 1231 من القانون العسكري الذي وضع سنة 1857 التي استبدلت في القانون
الجديد بمادة خصت فائدتها برجال الدين المسيحي ومعلمي المدارس منهم وإن كان
لفظها عامًّا؛ ذلك أن هذا القانون يطلب الشبان للقرعة في الحادية والعشرين والقانون
المدني لا يبيح تعيين إمام لمسجد إلا إذا كان بالغا الخامسة والعشرين ونتيجة ذلك ألا
يعين الإمام إلا بعد الخدمة العسكرية. وقال: إن كثيرين من طلاب العلم يساقون إلى
العسكرية قسرًا، وأنه كتب إلى الحكومة في ذلك مرارًا، فلم تسمع له. هذا ما نقله
بريد أوربا ولم يذكر ماذا أجيب منه ولكن كتب إلينا أحد مسلمي روسيا ما يأتي وقد
حذفنا منه رسم الخطاب والمقدمة قال:
إن المسلمين الروسيين قد أرسلوا وفودًا من الولايات المختلفة إلى عاصمة
الروسية (بترسبورغ) كما أن شيخ الإسلام القزاني (محمد يار سلطانوف) قد
ذهب نفسه إلى بترسبورغ وطلب من حكومتهم إعادة حقوقهم الدينية التي قد وهبت
لهم أولاً. ثم كادت أن تسلب سلبًا كليًّا، بل سلبت حقيقة، فما بقي للمشيخة
الإسلامية إلا اسم يذكر في الألسن وهيكل مخيل في الهواء.
والآن قد شاع الخبر وذاع بأن الحكومة قد سمحت لهم ببعض ما طلبوه من
حقوقهم المسلوبة. وهي هذه:
(1) أن النكاح والطلاق وتقسيم التركات ونصب الإمام وعزله يكون تحت إدارة المشيخة الإسلامية كما كان.
(2) رُخص للذين أكرهوا من المسلمي على التنصر منذ سنة 1842 فتنصروا بعدما أحرق أكثر إخوانهم بالنار أن يرجعوا إلى دينهم الإسلام (وإذا فصلت أحوالهم يرتعش كل مسلم بوجوده وتكاد أن تخرج روحه) .
(3) رخص للوثينين مثل (آر) و (جرمش) أن يسلموا أو يقبلوا أي دين شاءوا، ومعلوم أن أكثرهم كانو ايتدينون بدين الإسلام وكثيرًا ما استرحموا من الحكومة أن تسمح لهم بأن يلحقوا بالمشيخة الإسلامية، ولكن مُنعوا، وبنيت الكنائس في قراهم، وألزمهم القسيسون بتعلم دين النصرانية إلزامًا، وأكرهوهم عليه إكراهًا.
(4) أن طائفة القزان ستلحق بإدارة المشيخة القزانية كما كانوا أولاً، ثم قد فصلوا بدسائس القسوس وسعيهم، حتى أن الحكومة سمتهم أهل الظن ونزعت عنهم ثياب الإسلام.
(5) أن إلزام الأئمة والمدرسين بتعلم اللغة الروسية قد رُفع (ومع ذلك ترى المسلمين يتعلمون اللغة الروسية ويجعلون قانون المعارف الزمانية منطبقًا على برواغرام أوربة والروسية) .
(6) أن المشيخة الإسلامية ستدعو العلماء الأجلاء والمدرسين النبهاء لينظموا قانون (بروغرام) المكاتب والمدارس الدينية الإسلامية وسيرسلون وفدًا إلى بترسبورغ) اهـ.
هذا ما كتبه لنا (ض. ك) وأتبعه باقتراح له ضاق عنه هذا الجزء، والناظر
فيما طلبه شيخ الإسلام يرى أنه لو لم يكن مطَّلعًا على قوانين الدولة وواقفًا على
أعمالها لما عرف ماذا يطلب ولكن من يطالب شيخ الأزهر أو طائفة من علمائه هنا
بمطالعة القوانين التي يعلَّمون أو يحكمون بها أو يحكم بها إخوانهم المسلمون في بلاد
أخرى يعد عند الأزهريين وعند الذين يجاهدون لإبقائهم في سباتهم عدوًّا للإسلام
والمسلمين، فليتأمل ويعتبر المعتبرون.
***
(ألمانيا في مستعمراتها الإفريقية)
نشرنا في العدد العشرين من المجلد السابع من هذه المجلة (المنار) أنه كتب
إلينا بعض من حضر المعرض الذي أقامته الحكومة الألمانية في دار السلام قاعدة
مستعمراتها في شرقي أفريقية أن الحكومة تمنع العرب من ركوب العربات، وأنها
هدمت المسجد الجامع وأعطت المسلمين جزاءً حقيرًا عنه ثم منعته ... إلخ، وكان
ما ساءنا من ذلك هو السبب في قولنا: إن ألمانيا ليست أمثل من فرنسا في
مستعمراتها، وقد اطلعت الوكالة السياسية لدولة ألمانيا في مصر على ما كتبناه فاهتمت
به وكتبت إلى حكومة دولتها في دار السلام تسألها عن صحة ذلك فجاءها
الجواب بأن مسألة منع العرب من ركوب العربات لا أصل لها، وأما هدم المسجد
فإنما كان بطلب المسلمين أنفسهم لبعده عن بيوتهم وقد أبدلتهم الحكومة مكانًا آخر
قريبًا وزادتهم على ذلك مالاً وافرًا. وقد أبلغتنا الوكالة الألمانية ذلك، فنحن ننشره
شاكرين لها اعتناءها بالبحث وراء الحقيقة، كما أننا نؤمل أن نسمع دائما ما يسرنا عن حكومتها في مستعمراتها، فما استُعمرت البلاد بمثل العدل والإنصاف.
***
(نابتة الأزهر والأستاذ الإمام)
لقد كبر على نابتة الأزهر ترك الأستاذ الإمام له، وذكرت الجرائد اليومية أن
نحو 500 أو 600 منهم كتبوا إليه عريضة يستعطفونه بها ليعود إلى التدريس فيه.
ونقول: إن منهم من كتب يسترشده في أمره، وقد اطلعنا على صورة كتاب لبعضهم
فرأينا أن ننشره على انتقادنا قوله (كلهم شر) ليرى القراء حسن عبارة وأفكار
تلامذته الذين يشكون الجهل، قال بعد رسم الخطاب:
(إنني نظرت في أمري بعد أن قضيت ما قضيت في الجامع الأزهر
وأضعت ما أضعت من صحتي وشبابي في طلب العلم، فلم أجد ثمنًا لما بذلت إلا
حشدًا من الصور والخيالات لا يضيء البصيرة، ولا يبعث العزيمة، ولا يعد
للسعادة في الحياة الدنيا ولا في الآخرة
ليت الحوادث باعتني الذي أخذت ... مني بعلمي الذي أعطت وتجريبي
طلبت السبيل إلى الكمال والعلم النافع فما وجدت الدليل ولا اهتديت إلى
السبيل، وكيف أطلب الخير من بين معشر أعيذك يا مولاي كلهم شر، وقد هدتني
إليك خاتمة المطاف وفاتحة الألطاف فجئتك أسألك أن تعلمني مما علمك الله وأن لا
تكلني إلى رأيي.
وها أنا ذا أبسط يد الرجاء إليك، ولم أبسط لغيرك يدًا، وأرفع إليك أمنيتي
في الحياة، وقد وضعت أملي ببابك، ومثلك من لا يخيب ببابه الأمل. اهـ
__________(8/194)
16 ربيع الأول - 1323هـ
21 مايو - 1905م(8/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحياة الزوجية
(4)
اختيار المرأة للرجل:
إن الشروط التي تعتبر ضرورية في اختيار المرأة زوجًا يجب أن تعتبر
ضرورية أيضًا في اختيار الرجل زوجًا وهي: صحة الجسم، وصحة النفس أعني
حسن الخلق والاستقامة وصحة العقل وهذه لازمة لما قبلها. ويزاد القدرة على النفقة
اللائقة -كما يقول الفقهاء- أو القدرة على الاستقلال بإنشاء عشيرة أو أسرة -كما
يقول الحكماء - وهو ما يريده العوامّ بقولهم: (فلان قادر على فتح بيت) والقدرة
على النفقة اللائقة بحال المرأة تختلف بحسب طبقتها، فزيد يستطيع كفاية من نشأت
في بيت النّعمة والترف، وعمرو يستطيع أن يمون من نبتت في أرض الفاقة
والشظف، والناس أصناف وطبقات، والله فضل بعضهم على بعض درجات،
وهذا الشرط هو ركن الكفاءة الركين في نظر أكثر النساء وعُرف أكثر الأولياء؛
وإن شئت قلت في عرف جميع الناس؛ لأن رضاء امرأة بزوج غير قادر على
كفايتها مما تعودت من طعام وكسوة وخدمة نادر لا يُعتد به. والمراد الغنية أحرص
من الفقيرة على التزوج بالغني؛ لأنها وأهلها يحتقرون الفقير وما زال الأغنياء
يتعايرون بمصاهرة من ينزل عن درجاتهم في الثروة إلا أن يعلوهم بمجد أثيل، أو
جاه عريض، فيمت إليهم بشرف صاعد أو جد مساعد، ومن رفعه المال لا يلبث أن
يمد عنقه إلى الجاه، ويحاول أن يصيبه بتنصي أهل السؤدد [*] وتذري ذوي المجد
المؤثل، لا سيما من قل من هؤلاء مالهم، وساءت في الثروة حالهم، فالمال
والشرف إذا انفردا كان كل منها شفيعًا للآخر، ومن جمع بينهما لا يكاد يرضى
بمصاهرة من فاته أحدهما، إلا إذا لم يجد له صهرًا مثله. وإنك لتجد من العوانس
في بيوتات المجد والغنى ما لا تجد في بيوت المتوسطين وأكواخ الفقراء والمعوزين،
وذلك خِطْء كبير. وعتو عظيم.
تعذر المرأة ويعذر وليها وذوو قرابتها إذا لم يرضوا بصهر يعجز عن كفايتها لأن المرأة ضعيفة الاستقلال قليلة الاحتمال، إذا مسها العوز والإقلال، لا تستقر من القلق على حال، ثم إنها ولوع بالحلية فخور بالزينة هلوع عند الحاجة، ضجور
من الشدة، فهي أحوج من الرجل إلى الكفاية، وأشد تطلعًا إلى السعة والزيادة، وإن
قومها ليألمون لإعوازها ما لا يألمون لعوز الرجل منهم وهو وارث مجدهم، وحافظ
نسبهم، ونصيرهم عند الشدة، وغوثهم عند الحاجة - لما انطوت عليه نفوسهم من
الثقة باستقلاله، وجدارته بإصابة المخرج من إقلاله، وما أودعته قلوبهم من الشعور
برقة حاشيتها دون التحمل وضيق مذاهبها عن التحول، وإن حظ الولدان
والأقربين وغيرهم من الرحمة والحنان، والخوف، والإشفاق، والحزن
والامتعاض والغضاضة والنعرة، وغير ذلك من ضروب الشعور والوجدان إنما
يكون على مقدار الداعية الطبيعية لذلك فيهم. قيل لبعضهم أي ولدك أحب إليك؟ فقال
صغيرهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر، وسقيمهم حتى يبرأ.
يشبه أن يكون الناس عندنا ماديين فإنهم يعنون بالبحث عن ثروة من يخطب
إليهم ظانين أن سعادة بنتهم وهناء عيشها مقرونان بمال من يتزوج بها، وقلما
يبحثون عن دينه وأخلاقه وآدابه. ذلك بأنهم يجهلون (أن السعادة في النفس لا في اليد
أو الجيب) يغفلون عن حال الجم الغفير من أصحاب الجيوب الملأى
والقلوب المرضى الذين شقيت بهم نساؤهم، فهن يتمنين لو كانوا فقراء الجيوب
أغنياء القلوب بالعفة والوفاء والحب والإخلاص، إذًا لكنَّ أنعم بالاً وأقر عينًا وأهنأ
عيشًا، فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، إلا من هذب نفسَه الإيمان والتقوى؛
وإن من طغيان الغنى، إذا لم يقترن بالأدب والتقى، أن يغير صاحبه زوجه وسكنه
ويتغير عليها يغيرها باتخاذ الأخدان، واتباع خطوات الشيطان، ويتغير عليها إذا زارت أو زارها الأهل والجيران، فيعذبها بالغيرة عذاب الضعف، أو يضارّها
ليضيق عليها من غير ذنب، وإنما هو ملل الذوَّاقين، وتنقل المسرفين، ومن
وراء ذلك أن إرشاده عسير، والانتصاف منه عزيز، لا سيما في بلاد فسدت
حكوماتها، وأكل السحت قضائها، فأين السعادة والهناء في مصاهرة أمثال هؤلاء؟
يسهل على الرجل المسلم أن يتخير من ربات الخدور من ترضيه فيعرف عنها من
وراء الحجاب كل ما يحب أن يعرفه ويعسر على الفتيات أن يعرفن ما تجب
معرفته لصحة تخير الزوج وإن فارقن الحجال وعاشرن الرجال؛ لأن المرأة
سريعة التصور سريعة التأثر، سريعة الحكم، سريعة الانخداع، فهي لهذا قليلة
الروية كثيرة الخطأ لا سيما إذا كانت عذراء، خاضعة لسلطان الحياء، تخدعها
النظرة، وتتجاذبها الغرة، ولذلك حظرت الشريعة الإسلامية على المرأة أن تزوج
نفسها، وجعلت أمرها في ذلك إلى وليها وإليها؛ لا بد من رضاهما معًا؛ على أنها
منحتها من حقوق التصرف في أموالها ما لم تمنحه لها شريعة سواها، بل تجد معظم
البشر من جميع الشعوب والقبائل المختلفة في الملل والنحل متفقون على استقباح
استقلال المرأة بتزويج نفسها، وعلى وجوب تفويض أمرها في ذلك إلى أوليائها
وعصبتها، ومنهم من لا يتقيد باستئذانها، واستئمارها - كما أمر الإسلام - بل كثرت
هذه العادة في المسلمين على ما ورد عن الشارع من الأوامر باستئذان البنت في أمر
زواجها واستئذان أمها أيضًا فليس للولي أن يستبد بذلك؛ فيزوجها بمن تكره ولو كان
أبًا أو جدًّا.
يحسب أكثر الرجال أن للحسن والجمال سلطانًا على قلوب النساء لا يدع فيه
لغيره أمرًا ولا نهيًا، وإن شغف النساء بالحسن يعلو شغف الرجال به؛ فلو أطلقت
لهن الحرية في تخير الأزواج لما اخترن إلا ذا الوجه الجميل والطرف الكحيل، وإن
كان خسيس الأبوين صفر اليدين عادم الفضيلتين: فضيلة العلم والأدب، هذا هو
الوجه في الحجر عليهن أن يتخيرن لأنفسهن، فإنهن يتبعن الهوى دون المصلحة
فيصبحن على ما فعلن نادمات بعد أن يقاسين من استبداد سلطان الجمال، ما لا طاقة
لهن به ولا احتمال، وهذا الحسبان خطأ سببه قياس أحد الصنفين على الآخر. وهو
السبب في تصدي حسان الوجوه من الشبان لتصبي النساء وإغوائهن، وقد يعد
نجاحهم في التصبي دليلاً على صحة القياس وما هو بدليل إلا عند من يجهل التعليل.
إن الفتنة بالجمال أولع بالرجال منها بالنساء فيقل في النساء من فتنت بجمال
الرجال كامرأة عزيز مصر وصواحبها ولا يتناول الإحصاء عدد الرجال الذين فتنوا
بجمال النساء كبني عذرة وأمثال بني عذرة من جميع القبائل والشعوب، هذا هو
السبب عندي في شكوى الرجال من قلة الوفاء في النساء. إنما يفتن المرأة من الرجال
تحببه إليها فهي مجنونة في حب الحب أي حب أن يحبها الرجل كما قالت علية بنت
المهدي حكاية عن نحيزة صنفها * تحبب فإن الحب داعية الحب * فهن يفتن
بالرجال على قدر تصبِّيهم لهن وتحببهم إليهن إذا هن صدقن، وأمن الخلابة
والحيلة، وما أسرع تصديق الفتاة الغر لوحي العيون، وانخداعها بقول الزور للود
الممذوق، والحب المصنوع، بل هي فتنة لا تكاد تسلم منها العوان، التي مارست
الرجال وعرفت الزمان.
قرأت قصة (رواية) في امرأة كانت تدعى (فاتنة باريس) وكانت تهوي
إليها أفئدة الرجال، وتمطرها سحائب الأموال، فتفوز لديها آمال وتخيب آمال،
حتى إذا ما عرض لها مرض حال له لونها، وحال بين طلاب التمتع وبينها،
انفض من حولها الناس إلا رجلاً واحدًا كان الحب قد أخذه عن نفسه، وران على
عقله وحسه، ثم اختطفه من طبيعة الرجال، وطار به في فضاء الخيال، ولم تلبث
المرأة أن أفاقت من غشية المرض فلم تر من تلك الجموع إلا ذلك الرجل فاعتقدت
أنه محب لها مخلص في حبه فاصطنعته لنفسها، وثابت على يديه إلى رشدها،
وهجرت الرجال وهاجرت معه من باريس إلى أريافها وهناك تزوجت به ومكنته من
جميع ما تملك.
هذا الذي ذكرته من افتتان النساء بالتحبب والتصبي هو العلة الأولى فيما هو
معروف بين الناس من ميل نساء المدن إلى المتورّنين والمتطرّسين، وزهدهن في
أهل العلم والدين، فهن يعتقدن أن هؤلاء في شغل عنهن، وأن أولئك لم يبالغن في
التطيب والتزين إلا لأجلهن، ثم صار ذلك عادة موروثة فيهن، وقد فشت هذه العادة
السوء في بيوت المترفين من أهل مصر وغيرها حتى إن العذارى ليقترحن أن يغير
الخاطب لهن زيه العلمي إن كان عالمًا، وقد يكون هذا التغيير وَبَالاً عليهن بعد
الزواج؛ لأنه يسهل على صاحبه الدخول في بيوت الفسق التي تخرب بيتهما وتوقع
بينهما. أما أهل البادية ومن في حكمهم فإن نساءهم لا يملن إلا لمن اشتهر بالشجاعة،
والشهامة، والرجولية، والكرم، وبهذه الصفات يتقرب الرجال إلى النساء عندهم،
ولو وجد في المدن شبان يعرفن بهذه الصفات لما فضل النساء عليهن أحدا؛ فإن
من صفات الفطرة أن تحب المرأة من الرجل ما هو من شأن الرجولية والعكس
بالعكس، وهذا الذي يحكى عن نساء الأمصار من ولعهن بالمخنثين ومن يقرب منهم
هو من فساد الفطرة. وقد كان من حسن تربية النساء في بلاد الإنكليز أنهن قربن
من الفطرة السليمة، فقد اقترح عليهن في بعض الجرائد أن يذكرن أحب صفات
الرجال إليهن فكان الجواب من أكثر من أجبن ناطقًا بحب صفات الرجولية من
الشجاعة والاستقلال والسلطة عليهن.
يقول أناس: إن الحب بين الزوجين هو الأساس الذي تقوم عليه جميع أركان
سعادة الحياة الزوجية؛ فإذا كان قويًّا راسخًا فلا يضر هذه الحياة ضعف الأركان، وإذا
كان غير قوي فإن الأركان لا تلبث أن تسقط، فيجب أن يؤذن للعذارى والأيامى
بمعاشرة العزاب على أعين أهليهن، ومراقبتهم ليتخيرن منهم من يبيعهن قلبه،
ويصفيهن حبه، وقد سبق القول في بحث تخير الرجل للمرأة بأن هذه المعاشرة
ليست سبيلاً موصلة إلى الأمنية التي يتمنون. وإذا كان يعسر على الرجل أن يعرف
قلب المرأة بمثل هذه المعاشرة التي يقصد بها الخطبة، أفلا يكون وصول المرأة إلى
قلب الرجل أعسر لا سيما إذا كانت فتاة غرًّا؟ ونزيد هنا أن كثرة معاشرة أفراد كل
من الصنفين للآخر يحبب إليهم التنقل في هذه الرياض ويزينه في قلوبهم حتى إذا ما
ازدوج اثنان منهم عن حب ثم فتر الحب للملل؛ أو لما عساه يبدو لأحدهما أو كليهما
مما لم يكن في الحسبان تحن القلوب إلى من كانت عرفت بالمعاشرة وتجنح إلى
التنقل ولا يعسر ذلك على من سبق له التمرن عليه والأنس به.
الحب هو الركن الأول أو الأساس للسعادة الزوجية، وهو السكون المذكور في
الآية الحكيمة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} (الروم:
21) أو هو علته وقد تقدم شرح ذلك فلا نعيده، ولكننا نزيد على ما قلنا هناك أن
دوام الحب وسكون القلب إنما يرجى بين زوجين لم يتعود الرجل منهما معاشرة
النساء ولا المرأة معاشرة الرجال؛ إذا كان اختيار كل منهما للآخر على الوجه الذي
بينا؛ فإن علة سكون كل منهما إلى الآخر ثابتة في أصل الفطرة، وإنما يجب
التخير للحذر من الصفات العارضة التي تشارك الفطرة في الاستحسان أو الاستهجان
ولا شيء أقطع لرابطة الزوجية وأذهب بسعادتها من ميل أحد الزوجين أو كل
منهما إلى غير زوجه ميلاً للمعنى الخاص بالزوجية.
إن الحب الذي يكون للزوجين برابطة الزوجية نفسها هو الحب الذي يُرجى
دوامه إذا رُوعي في عقد الرابطة صحة الجسم والنفس والتقارب في العادات والتأدب
بأدب الدين، وأهم هذه الآداب عفة الزوجين ورضى كل منها بالآخر نصيبًا له لا
يفضي إلى سواه، ذلك بأن النزعة الطبيعية في كل من الصنفين إلى الآخر مبهمة
مضطربة في أصل الفطرة؛ فإذا تعينت في اثنين فأفضى بعضهما إلى بعض وقد
وطَّنا أنفسهما على إقامة سنة الفطرة والدين بإحصان كل منهما للآخر وعدم التطلع
إلى سواه فهناك السكون التام والحب الخالص وليس وراء الفطرة والدين مطلع لهناء
العيش وسعادة الحياة، ولكن هذا الإنسان يخرج عن سنتهما ليتمتع بالهناء وسعادة
الحياة فيضل ويشقى.
يقول غير المسلم: إن حب الزوجية لا يكاد يتذوق حلاوته الزوجان المسلمان
لأن المرأة تكون مهددة دائما بأحد الأمرين الطلاق أو الضرة. ونجيب عن هذا القول
من وجهين، أحدهما: دفعه بقول مثله في الزوجين النصرانيين، ومن في حكمهما.
وثانيهما: البحث فيه وتعرف حقه من باطله. أما الأول فإن الزوجين اللذين يرى
أحدهما أنه ملزم بالآخر، إلزاما إجباريًّا جعله كالوهق في عنقه، والوقر على كاهله،
فإنه يمله ويستثقله فلا تسكن نفسه إليه، ولا تقر عينه به، ولا يخلص وده له،
وإن كان قد رضي به قبل العقد انخداعًا بما ينخدع به الشباب، أو ذهابًا وراء الطمع
في مال أو جاه، فالمرأة تلج في الزهو والصلف، وتتمادى في المخيلة والسرف،
والرجل يتجرع مرارة الصبر ولا يكاد يسيغه، وينشد استقلال الرجال فلا يجده،
وربما لجأ إلى السلوة باتخاذ الأخدان، أو الاختلاف إلى ذلك المكان.. إن كان،
وليس هذا القول من تخيل الشعر بل هو الحقيقة حكاية عن شعور أهلها فقد سمعت
أحد فضلاء الإنكليز، وهم أحسن الأوربيين حالاً في الحياة الزوجية، يقول ما مثاله:
إن تحريم الطلاق ومنعه يشعر الرجل بأنه ملزم بالمرأة، مجبور على وُدِّها،
والتحبب إليها لا فضل له في ذلك، وما أعصى الحب والود على الإلزام؛ كما يقول
المثل (حبني غصبًا) وإذا كان يعلم من نفسه القدرة على فراقها؛ فإنه يكون على
فطرته وأدبه في معاملتها يشعر بالسرور والارتياح لاختيار المعاملة الحسنة التي هي
مناط السعادة الزوجية، فهذا هو شعور المهذبين الممنوعين من الطلاق، فما بالك
بغير المهذبين الذين يعجزون عن مكابرة شعورهم، وتكلف المحاسنة لمن يرتبط بهم،
وللمرأة مع الفريقين شعوران مختلفان أحدهما الضعف والعجز وبها ترى نفسها
أسيرة للرجل، وثانيهما أنه لابد للرجل منها ولا قدرة له على الانفصال عنها،
والأثر الطبيعي لهذين الشعورين هو الكيد من جهة والصلف والعناد من جهة أخرى،
ولا يقال: إن هذه فلسفة لا يصدقها الواقع فإنه إن كذبها في الزوجين المتشاكلين في
الطباع المتناسبين بالتهذيب؛ فإنه يصدقها في الأزواج الذين خانهم الحظ؛ فلم
يمنحهم المشاكلة والتناسب لا سيما؛ إذا كانت المرأة عاقرًا، أو ظهرت آيات الخيانة
من أحد الزوجين أو كل منهما للآخر. ناهيك بالمرأة العاقر عند ملك أو أمير قد
جعل الحكم إرثاً في ذريته أو غني عظيم يعز عليه أن لا يكون له وارث يتمتع بماله.
وأما الوجه الثاني: وهو البحث في فَرَق المرأة وحذرها من الطلاق أو
الضرة، فقد يقال فيه أنه يكون من أسباب تحببها إلى الرجل، وعنايتها بمرضاته
وأن هذا السبب للتآلف يقابله في الرجل حذره من خسارة المال إذا أراد استبدال
زوج بزوج؛ لأن الشرع يوجب عليه أن يمتع المتروكة بما تنفقه على نفسها مدة
العدة التي لا يباح لها الزواج فيها، وهذه خسارة فوق خسارة المهر وما عساه يكون
مع المرأة من متاع وأثاث وماعون، أو يكون لها من مال تسعفه به أو تدخره لولده،
ثم إنه لابد أن يبذل للزوج الجديدة المهر اللائق بها. وهذان السببان في حرص كل
من الزوجين على التعلق بالآخر يدعمان سكون النفس الفطري في كل منها إلى
الآخر. على أن الطلاق والمضارة بزواج أخرى هو خلاف الأصل الذي عليها
الأكثرون من المسلمين، وإننا لنعلم أن الأكثرين من المتزوجين في بلادنا لا يخطر
في بال الرجل منهم، ولا المرأة أمر الطلاق، أو المضارة أعني أن الرجل لا ينويه،
والمرأة لا تتوقعه منه، وأن أكثر الذين يقع منهم الطلاق من غوغاء المسلمين؛
فإنما يقع منهم على سبيل المنع من شيء، كأن يقول واحدهم: عليه الطلاق إن فعل
كذا أو إن فعلت كذا ونحو ذلك. وما كان من ذلك تعليقًا حقيقيًّا على فعل المرأة
وهو الأكثر، يجعل الطلاق في يدها كما هو في يده فيشتركان فيه وقد ذهب الكثير
من الأوربيين إلى صحة الطلاق من كل من الزوجين وهذا شيء منه. ومن أئمة
السلف من يقول بعدم وقوع الطلاق بأيمان اللجاج وكل لفظ لا يقصد به حل عقدة
الزوجية قصدًا صحيحًا، وعليه بعض علماء الحنابلة ولو حرر المسلمون مسائل
الطلاق من غير التزام مذهب بأن يأخذوا من مجموع كلام الأئمة ما يوافق النصوص
المنطبقة على المصلحة العامة لما كان يقع الطلاق من المسلمين إلا مثل ما يقع ممن
قلدهم فيه من الإفرنج. ولعله يكون في بعض البلاد الإسلامية أقل منه في بعض
بلاد الإفرنج بل هو الآن أقل في بعض البلاد.
نعم، لا ننكر أن المسلمين في بلاد مصر قد أسرفوا في الطلاق وفي التزوج
بأكثر من واحدة فساءت حالة الحياة الزوجية فيهم وفي أمثالهم ممن على شاكلتهم وإن
قلوا وأنهم في ذلك على غير ما يحب الإسلام، ويرضى كما يعلمون في الطلاق
وكما بينا في حكم تعدد الزوجات وشرطه في المجلد الماضي، ولكن سوء هذه الحال
خاص بالمسرفين من أهلها وبمن يقربون منهم بما يروعون نساءهم ويوقعون الريب
في قلوبهن بكثرة الحديث في التزوج وإظهار الميل إلى بعض العذارى أو الأيامى
بالقول أو الفعل. وقد مرضت الفطرة في هؤلاء واعتل مرشدها، وهو الدين حتى
كان انحلال الرابطة الزوجية بعض أعراض ذلك المرض الذي فقد علاجه، فهم لا
يذوقون للحياة الزوجية طعمًا، ولو لم يروعوا نساءهم بالطلاق والمضارة إلا أن
يقيموا وجههم للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها. فإن السعادة الزوجية
كغيرها من ضروب السعادة لا تكاد تناول إلا بمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب التي
جاء بها الدين، ولذلك قال المصلح الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم (إذا جاءكم
من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) .. إلخ (رواه الترمذي والليث بن سعد) ومن
يطلب السعادة بغير ذلك فهو من الخاسرين.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تنصى القوم: تزوج في نواصيهم أي أشرافهم، ومثله (تذراهم) أي تزوج في ذروتهم.(8/208)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تزويج الشريفة بغير كفء
وسبّ العلماء، وإهانة كتب العلم
(س 14 ,15) ض. ع أحد المشتركين بالمنار في (سنغافورة) : قاضٍ
زَوَّجَ شريفة علوية صحيحة النسب شهيرته، برجل هندي مجهول النسب، شهد له
اثنان عند القاضي قالا: في بلدنا يقولون سيد. وبعد الفحص عارض ذلك القاضي
العلماء العارفون حتى اتضح بطلان العقد وفساده عند الجميع وعند القاضي أيضًا؛
فأبى الرجوع إلى الحق والاعتراف بفساد العقد وساعده رجل آخر جهلاً، وهوًى
وتعنتًا، حتى أن المساعد لما روجع بما يقوله الشرع والعلماء وأحضرت له الكتب
طفق يسب العلماء، وقال لمن عارضه اطرح هذه الكتب في إستك (قالها بالعبارة
العامية المبتذلة) فالمؤمل من فضلكم الجواب مبسوطًا على قوله اطرح هذه الكتب
في.. ..؛ فالمسألة واقعة حال والرجل والمرأة مقترنان حتى الآن سفاحًا، وعندنا
بسنغافورة اختلفت الأجوبة فمن قائل بكفر المساعد وغيره، ولا يرضى الجميع إلا
بجوابكم فانشروا جواب سؤالنا على صفحات مجلتكم المنار لا زلتم ذخرًا للخاص
والعام وناصرين لشريعة أفضل الأنام عليه الصلاة والسلام.
(ج) نشرنا في الجزء العاشر من المجلد السابع مقالة في الكفاءة بينا فيها أن
الكفاءة في النسب من المسائل الاجتهادية، وأن العبرة فيها بالتعيير وعدمه، ولذلك
صرح بعض الفقهاء بأن الشريف غير المشهور بالشرف ليس كفؤًا للشهيرة
بالشرف، والظاهر من السؤال أن الواقعة لو ثبت فيها شرف الهندي لكانت من هذا
القبيل ولا حاجة لبسط القول في هذا المقام بعد العلم بأن العلماء العارفين حاجوا
القاضي حتى حجوه واقتنع ببطلان العقد ولكنه لم يرجع إليه. ثم إنكم لم تذكروا في
السؤال هل كان لهذه الشريفة ولي أم لا؛ فإن لم يكن لها ولي وكانت هي راضية
بهذا الزوج فالعقد صحيح؛ لأنها أسقطت حق الكفاءة وليس لها أولياء يلحقهم العار
بزواجها من غير الكفؤ فيعارضوا فيه. وإن كان لها ولي فكيف زوجها القاضي بدون
إذن وليها، وهل عارض الولي أم لا؟ كان ينبغي بيان ذلك.
وأما سب ذلك الجاهل للعلماء وإهانته للكتب الدينية فهو من أكبر المعاصي
لأنه يسقط احترام العلم والدين وأهلهما من نفوس الجاهلين، ويجرئ السفهاء على
الفضلاء، حتى تكون الأمة فوضى ليس فيها كبير يحترم لفضله، ولا صغير يؤمن
بجهله، ولا يتجه كون ذلك من الكفر إلا إذا احتفت به القرائن والدلائل على أنه قال
ما قال في كتب الدين وحملتها هزؤًا بالدين نفسه؛ لأن غير معتقد به. وقد أفتى
بعض فقهاء الحنفية بِرِدَّة من يحقر علماء الدين أو كتبه ونصوصه، حتى قالوا: إن
من يعطى الفتوى فيلقيها في الأرض ازدراء واحتقارًا يكفر. ولما ذكر ابن حجر من
الشافعية قاعدة: (أن من الردة كل فعل أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا من
كافر عدّ من ذلك قوله: أو يلقي ورقة فيها شيء من قرآن أو علم شرعي أو فيها
اسم الله تعالى بل أو اسم نبي أو ملك في نجاسة، قال بعضهم أو قذر ظاهر) ... إلخ
ثم، قال فيما سرده من أعمال الردة: أو تشبه بالعلماء أو الوعاظ أو المعلمين
على هيئة مزرية بحضرة جماعة حتى يضحكوا، أو يلعب استخفافًا، أو قال:
(قصعة ثريد خير من العلم) استخفافًا أيضًا، ويشترطون في كون هذه الأعمال كفرًا
أن لا تدل قرينة على عذر صاحبها، أو تأوله لا خلاف بينهم في هذا.
والتحقيق أن الكفر هو إنكار شيء مما علم من الدين بالضرورة، وكان مجمعًا
عليه، ومثله تكذيب شيء من الدين يعتقد المكذب له أنه مما جاء به الشارع، أو
اعتقاد قبحه وبطلانه؛ لأن كل ذلك تخطئة للرسول فيما جاء به عن الله تعالى. وما
ذكر الفقهاء من المكفرات غير ذلك؛ فهو في رأيهم يرجع إليه؛ لأنه دليل عليه، أو
لازم له أو ملزوم، ولذلك رد بعضهم منه ما قاله بعض لا سيما ما كان كفرا باللزوم
وقد قالوا (إن لازم المذهب ليس بمذهب) واتفقوا على أن التأول يمنع التكفير فإذا
أتى إنسان بشيء عدوه كفرًا وردة، فذكر أن له تأويلاً يتفق مع اعتقاده بأن جميع ما
جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمر الدين حق امتنع الحكم بردته،
وقالوا: إذا وجد مئة دليل أو قول على كفر أحد وقام دليل أو قول واحد على عدم
كفره يعمل بالواحد لأنه يجب درء الحدود بالشبهات والتباعد عن التكفير ما أمكن.
ولكن هذا لا يمنع من تشديد التعزيز على من كانت الشبهة على كفره أقوى لا سيما
إذا كانت أقواله وأفعاله المشتبه في كونها كفرًا مما يفتن العامة ويضر بالناس، والله
أعلم.
__________(8/215)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مصرف الهدايا والنذور
لأضرحة الأولياء
(س16) السيد عوض جمعان سعيدان في (سنغافورة) : أرجو من سيادتكم
الإفادة عما يأتي ولكم من الله الفضل. سيدي من المشهور أن عند قبور بعض
الأولياء صناديق حديد يضع فيهن من يريد قضاء حاجته شيئًا من الدراهم، وعندنا
كثير من هذه القبور خصوصًا في جهة (جاوا) ، وتوجد تلك الصناديق عند نهاية
الشهر ملآنة بالدراهم ينفق منها القائمون بحراستها ما يقوم بنفقة المقام والباقي
يصرف على ورثة الولي إن كان له قرابة، وقد التمس مني أحد الإخوان بإلحاح أن
أعرض على سيادتكم هذا السؤال راجيًا نشره في أحد أعداد المنار والجواب عليه بما
يمكن العمل به، وهو هل يجوز للورثة أخذ تلك الدراهم مع العلم بأن طالب الحاجة
لا يقصد تقديم تلك الدراهم للورثة أو غيرهم بل يقصد بها أن تكون لذلك الولي فقط،
أفيدونا لا زلتم مؤيَّدين وبعين العناية ملحوظين.
(ج) الميت لا يملك فيكون ملكه لورثته؛ فإذا كانت الحال كما ذكرتم في
السؤال فلا يجوز لقرابة صاحب الضريح أكل ما يُلقى في الصندوق من المال لا بعد
الإنفاق على القبر ولا قبله، وكذلك لا يجوز الإنفاق منه فيما جرت به العادة من
إيقاد السرج والشموع على قبر الولي والمسجد الذي يبنى عليه؛ لأن النبي -صلى
الله عليه وآله وسلم - قد نهى عن ذلك ولعن فاعله، وقد عد العلماء اللعنة علامة على
أن الذنب من الكبائر، ومنها حديث ابن عباس قال: (لعن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) رواه أحمد وأبو
داود والترمذي وحسنه والنسائي وفي إسناده أبو صالح بازام أو باذان تُكلم فيه.
وما قاله ابن عباس تشهد له الأحاديث الصحيحة سواء سمع منه أبو صالح أم لا، ففي
حديث الصحيحين (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وفي رواية:
(لعن) بدل (قاتل) وقد فسرت هذه بتلك، وفي حديث مسلم أن النبي قال ذلك في
مرض موته وزاد (فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) وفي رواية في
الصحيحين (أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا) ... إلخ
ومنها حديث جابر عند أحمد ومسلم وأبي داود والترمذي وصححه والنسائي قال
(نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُجَصَّص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى
عليه) وفي رواية أخرى: (وأن يكتب عليه) وقد ذكرنا من قبل هذه الأحاديث،
وغيرها فمن شاء فليراجعه، أو ليراجع ما كتبه ابن حجر في بيان الكبيرة الثالثة
و4 و5 و6 و8 والتسعين من الزواجر فإنه بحث في كفر الذين يعظمون قبور
الصالحين تعظيمًا يشبه العبادة كما هو المعروف في زماننا.
أما الأموال التي يلقيها الجاهلون في تلك الصناديق توهمًا أنهم يستميلون بها
أصحاب القبور لتُقضى حاجاتهم بواسطتهم فهي لا تخرج عن ملكهم، وكان يجب
على من حضرهم أن ينهاهم عن وضعها، ويُبَيِّن لهم حكم الله في ذلك، ولكن من
يحضرونها هم الذين يأكلونها بالباطل، ويشركون فيها من يشركون. وقاعدة الفقهاء
في الأموال التي لا يعرف لها مالك أن ترصد لمصالح المسلمين العامة، ومن للمسلمين
بمن يقوم بمصالحهم العامة وليس لهم حكومة إسلامية تلتزم الشرع وتقيمه في كل
أعمالها وأحكامها، وليس لهم زعماء وسراة يرجعون إلى رأيهم وإرشادهم، فحسبنا
الله وإياه نسأل أن يهيئ لنا من يقوم بأمر ديننا قبل أن نكون من الهالكين الميئوس
منهم.
__________(8/217)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تلقين الميت وأين يجلس الملقِّن
(س 17) الحاج وان أحمد في (سنغافورة) : ما قول أئمتنا الشافعية فيما
يأتي: هل يسن للملقن أن يجلس قدام وجه الميت، أو فوق رأسه، أو وراءه، أو
يفرق بين كون الميت رجلاً أو امرأة.
(ج) هذه المسألة مما يؤخذ فيه بالاتباع ويبعد فيها القياس، والأخبار والآثار
الواردة فيها ضعيفة، ولكن قد استحب أصحاب الشافعي الأخذ بها. والوارد أن يقف
الملقن عند الرأس. أخرج الطبراني في الكبير وعبد العزيز الحنبلي في الشافي وابن
منده في كتاب الروح وابن عساكر والديلمي عن سعيد بن عبد الله الأزدي عن
أبي إمامة قال (وفي رواية شهدت أبا إمامة وهو في النزع فقال يا سعيد) : إذا أنا
مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلام - أن نصنع بموتانا
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب
على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره فليقل يا فلان بن فلانة فإنه يستوي قاعدًا ثم
ليقل يا فلان بن فلانة؛ فإنه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل يا فلان بن فلانة الثانية،
فإنه يستوي قاعدًا، ثم ليقل يا فلان بن فلانة الثالثة فإنه يقول:
أرشدنا يرحمك الله ولكن لا تشعرون فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربا، وبالإسلام
دينًا وبمحمد نبيًا وبالقرآن إمامًا؛ فإن منكرًا ونكيرًا يأخذ كل واحد منهما بيد
صاحبه ويقول: انطلق بنا ما يقعدنا عند من لقن حجته) وفي لفظ: ويكون الله
حجيجه دونهما. فقال رجل يا رسول الله؛ فإن لم يعرف اسم أمه قال: (فلينسبه إلى حواء) قال الحافظ ابن حجر في التلخيص: وإسناده صالح وقد قوَّاه الضياء في
أحكامه، ولكنهم تكلموا في سعيد راويه، وفي إسناده عاصم بن عبد الله وهو
ضعيف وقال الهيثمي: في إسناده جماعة لم أعرفهم. وأخرجه ابن منده بلفظ آخر
ورووا آثارًا بمعناه لا محل لذكرها هنا وإنما المقصود بيان أن الرواية صريحة
في أن الملقِّن يقوم عند رأس القبر. وقد ورد في أحاديث القيام عند القبر للدعاء
بالتثبيت أنه يستحب أن يقف مستقبلاً وجه الميت.
ولا وجه لقياس الوقوف للتلقين أو الدعاء؛ على الوقوف للصلاة قبل الدفن إذا
فرقوا فيه بين الذكر والأنثى؛ لمكان النص ولوجود الفرق، والله أعلم.
__________(8/219)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رش القبر بالماء
(س18) ومنه: رش القبر بالماء مستحب، هل هو عام لكل وقت أم خاص
بعد الدفن؟
(ج) ذكروا رش القبر بالماء في أحكام الدفن، وعللوه بما عللوا به وضع
الحصباء عليه وهو لا تذهب الرياح بالتراب وهو دليل على أن المراد رشه بعد الدفن
وعليه العمل، والأصل فيه ما رواه الشافعي عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - رشَّ على قبر ابنه إبراهيم ماء ووضع عليه حصباء،
وروى البيهقي أن بلال بن رباح رش قبر النبي صلى الله عليه وسلم بالماء، وفي
إسناده الواقدي، تكلموا فيه.
__________(8/220)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شعر الرأس
حلقة أو تركه
(س19) ومنه: تبقية الشعر في الرأس سنة ومنكرها مع علمه يجب تأديبه
كما في المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، فهل لها كيفية مخصوصة أم لا؟
(ج) إن إرسال الشعر وحلقه من العادات لا من العبادات، إلا ما يكون في
النسك من الحلق أو التقصير، نعم إنه لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
حلق في غير النسك وكذلك الصحابة كانوا يرسلون شعورهم، وكان ذلك من عادتهم
ولم يكونوا يعدونه دينًا، ويعجبني قول الغزالي في الإحياء (ولا بأس بحلقة لمن
أراد التنظيف، ولا بأس بتركه لمن يدهنه ويرَجِّله إلا إذا تركه قزعًا أي قِطَعًا، وهو
دأب أهل الشطارة، أو أرسل الذوائب على هيئة أهل الشرف حيث صار ذلك
شعارًا لهم؛ فإنه إذا لم يكن شريفًا كان ذلك تلبيسًا) اهـ. وهو يريد بأن المؤدَّب
بآداب الدين لا ينبغي أن يتشبه بالسفهاء؛ كأهل الشطارة ولا بمن يلزم من
تشبهه بهم تلبيس على الناس وغش لهم، وإنما صرح العلماء بكراهة حلق الرأس
وكونه مخالفًا للسنة؛ لأنه كان في الصدر الأول شعار الخوارج؛ فإذا أخذنا
بإطلاقهم كان اللوم في ترك هذه السنة موجِّهًا في هذا العصر إلى علماء الدين فإنهم
يحلقون بل ينكرون على من لم يحلق وهم مخطئون.
نعم، إن من أرسل شعره بنية الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم - في
عاداته الشريفة كان ذلك مزيد كمال في دينه؛ إذا كان مقتديًا بسننه الدينية، ومتحرِّيًا
التخلق بأخلاقه الكريمة، وقد ورد في أحاديث الشمائل بأن شعره كان إلى أنصاف
أذنيه، وكان لا يتجاوز شحمة أذنيه غالبًا، وقد يصل إلى منكبيه، وقد سدل ثم فرق
فأما السَّدْل فهو أن يرسل الشخص شعره من ورائه وعلى جبينه أي يتركه على
طبيعته، وأما الفَرق فهو أن يجعله إلى جانيه وزعم بعض العلماء أن السدل نسخ
بالفرق ولا تقوم له حجة.
وقد جرى أكثر الإفرنج وبعض المتفرنجين في هذا العصر على سنة إرسال
الشعر وفرقه، أريت إذا فعل ذلك شيخ الأزهر أو بعض شيوخه المشهورين. ألا
يعد هذا عند العامة وبعض من يعدونهم من الخاصة خرقًا لسياج الدين؟ بلى، إن حكم العادات نافذ في العلماء والجهلاء، وهو كثيرًا ما يزيد في الدين ما ليس منه في
شيء وينقص منه ما هو من سننه التي لا خلاف فيها، ولا تبعد في طلب المثال
فهو بين يديك، وفي أسئلتك وما قبلها. فمشايخ الأزهر يقرءون في شمائل
نبيهم أنه كان يسدل شعره الشريف ويفرقه وهم ينكرون على من يفعل ذلك من أهل
العلم والدين، وقد أمرني بذلك بعضهم وكان شيخًا للأزهر قائلاً: إنك من أهل العلم لا
يليق بك أن ترسل شعرك فاحلقه، فحججته بالسنة فحاجني بأن ذلك شعار
العلماء الآن.
__________(8/220)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
صلاة الظهر بعد الجمعة
والخلاف في الدين
(س20) ومنه: هل يجوز لأحد أن ينهى أهل بلدتنا (سنغافورة) وأشباهها
كما حدث الآن عن إعادة الظهر بعد الجمعة أم لا يجوز؟ لأنهم يعتقدون أنها سنة
متمسكين بقول العلامة ابن حجر الهيتمي في الجمعة من الإيعاب بعد كلام قرره فيه:
وعلى كل فالاحتياط لمن صلى جمعة ببلد تعددت فيه لحاجة ولم يعلم سبق جمعته
للكل أن يعيدوها ظهرًا خروجًا من هذا الخلاف ... إلخ، ولأنه أي النهي يوقعهم في
محظورات منها وقوعهم في أعراض أهل العلم الذين أمروهم بإعادتها وأعادوها
بأنفسهم في تلك البلدة وغِيبتهم كبيرة بالإجماع، ومنها مفاسد آخر كالنزاع والشقاق
المتولد بين أهل تلك البلدة بسبب الطعن في علمائهم المتقدمين وغير ذلك فيكون هذا
الرجل سببًا لذلك، نعوذ بالله من غضبه.
(ج) تعلمون أن الخلاف واقع بين علماء الشافعية بعضهم مع بعض وبين
علماء سائر المذاهب، كما وقع بين الأئمة ومن فوق الأئمة من علماء الصحابة -
رضي الله عن الجميع - ولا شك أن كل من ذهب إلى شيء فهو يرى مخالفه فيه
مخطئًا، ومن كان غير معصوم فهو عرضة للخطأ، وقد نقل عن الصحابة والأئمة
أنهم أخطأوا في مسائل ثم ظهر لهم الصواب فرجعوا إليه، ومنها ما هو أهم في الدين
من إعادة الظهر بعد الجمعة احتياطًا أو غير احتياط فإذا كان هذا سببًا للوقوع في
أعراضهم فمن يسلم لنا. قالوا: إن ابن عباس رجع في آخر حياته عن القول بجواز
المتعة فهل كان هذا سببًا للوقوع في عرضه ممن كانوا سمعوا منه الفتوى بالجواز
وعملوا بها؟ هل كان أهل العراق يقعون في عرض الإمام الشافعي؛ لأنه يرجع عن
مذهبه القديم بعدما عاد إلى مصر. كلا إن هذا من عمل السفهاء، وما كان لأهل العلم
أن يحفلوا بقدح هؤلاء السفهاء، ولا بمدحهم فيتركوا بيان العلم والدين لأجلهم، وهذه
سنة الله تعالى في أهل البغي والشقاق. يظهر تفرقهم وخلافهم بعد ظهور الحق {وَمَا
تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: 14) {وَمَا تَفَرَّقَ الَذينَ
أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ} (البينة: 4) {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ
أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ
مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 213) فعلى المؤمن بل من خواص المؤمن أن يأخذ
بالحق متى ظهر له ويرشد إليه متى عرفه لا يخاف فيه لوم لائم ولا خوض آثم وإذا
كان قد سبق له عمل بخلافه عن خطأ في الاجتهاد فهو مثاب على نيته وإن كان قد
أمره بذلك عالم فذلك العالم أيضًا مثاب إن كان قد تحرى الحق بقدر طاقته وهو
يستحق الدعاء والثناء لا السب والطعن.
وإذا حاسب السائل نفسه ورجع إلى وجدانه يتبين له أن الذي أكبر هذه المسألة
في نفسه وفي نفوس الكثيرين من أهل سنغافورة وجاوه هو تعودهم صلاة الظهر بعد
الجمعة، فالأمر من قبيل حكم سلطان العادة الذي ذكرناه في جواب السؤال السابق،
وإلا فلو كان المسلمون يهتمون كل هذا الاهتمام بكل مسألة حتى ما قاله بعض الفقهاء
المتأخرين: إنها من الاحتياط؛ لكان اهتمامهم بما أجمعت عليه الأمة من المحرمات،
والمكروهات والواجبات والمندوبات أعظم وأشد وأين هم من ذلك؟ فو الذي
أحيا سلفهم بإتباع الحق حيث كان، والاعتصام به بقدر الإمكان، وأماتهم بابتداع
البدع، والتفرق في الدين إلى شِيَع، لو أنهم كانوا يعلمون بما أجمعت عليه الأمة؛
لكانوا في هذا العالم هم السادة الأئمة، ولكانت الأمم التي أزالت ملكهم وورثت
عزهم، تابعة لهم خاضعة لأمرهم {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: 55) الآية.
هذا هو رأينا في الخلاف في هذه المسألة الاحتياطية التي كبرت عند بعض
أهل سنغافورة وجاوه، حتى عدها بعض أهل الهوى والجهل منهم فتنة من فتن
المنار الذي بيَّن حكم الله فيها؛ إذ كتب واحد أو اثنان منهم لأمثالهم من أصحاب
الجرائد الذين لا يصلون ظهرًا ولا عصرًا، ولا يفهمون كتابًا وسنة، يستفتحون بهم
على المنار ويطلبون منهم الرد عليه أو تحريض العلماء على ذلك، والمنار يطلب
في كل عام غير مرة من كل عالم يرى فيه شيئًا مخالفًا للكتاب والسنة أن يكتب به
إليه. وقد زعم الكاتبان أن المنار هو الذي فرَّق بين الناس في الدين وجرَّأهم على
سب الأئمة والسلف، والمنار هو الداعي لإزالة الخلاف بالاعتصام بالكتاب والسنة
والاقتداء بالسلف ولا نعرف داعيًا إلى ذلك بالقول والكتابة والنشر غيره ففي أي جزء
وفي آية صحيفة منه تكلم في السلف والأئمة؟ {إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} (ص: 7)
يُعرف منه أن المشاغبين في مسألة صلاة الظهر بعد الجمعة لا يتبعون إلا الهوى؛
فإن الكذب والبهتان والغيبة لا سيما لخدمة الدين وأهل البيت النبوي من أكبر
المحرمات بإجماع المسلمين، وأما صلاة الظهر بعد الجمعة فهي مسألة خلافية بينَّا
الحق فيها من قبل. فهل من الاحتياط الذي قاله ابن حجر أن يكذبوا ويغتابوا
ويخوضوا في أعراض العلماء ويلصقوا ذلك بغيرهم.
قد أطلت القول في هذه المسألة؛ لأن الناس قد اهتموا بها عندكم أكثر مما
تستحق، وهؤلاء أهل مصر أكثرهم شافعية ولم يهتموا لها بعض الاهتمام وهذه سنة
الله في الخلق يهتم الناس على قدر جهلهم بالأمور التي لا يترتب عليها نفع ولا ضرر
ويتركون عظائم الأمور ولا يبالون بها أرأيت أيها الأخ السائل أيهتم
قومك بالإنكار على تارك الصلاة أو مانع الزكاة كما يهتمون بمن يصلي الظهر بعد الجمعة احتياطًا ويتركها لاعتقاد أنه لم يكلف بها وفاقًا لأكثر المسلمين؟ إذا كان
هؤلاء قد تركوا كل ما حرَّمه وكرهه الدين وقاموا بكل ما قدروا عليه من أحكام الدين
فرائضه وسننه وآدابه لأنفسهم ولأمتهم فلهم الحق في الاهتمام بهذه المسألة، وإنني
أعتقد حينئذ أنهم يكونون سعداء مرضيين عند الله صلوا الظهر بعد الجمعة، أم لم
يصلوها، وإن كانوا قد قصروا في شيء من الفرائض والسنن المتفق عليها أو
يرتكبون شيئًا من المحرمات التي لا خلاف فيها فزعمهم الاهتمام والعناية بالدين؛
لأجل مسألة خلافية لم يقل بها إلا الأقلون من المسلمين زعم باطل لا سبب له إلا
التمسك بالعادة والتعصب على المخالف بغيًا وانتصارًا للنفس.
والخلاصة: أن من اعتقد أن شيئًا غير مشروع فعليه أو فله أن يبينه للناس
غير مُبَالٍ بِلَغَط اللاغطين، واختلاف الجاهلين، والله ولي المتقين.
أما سؤالكم في سماع الدعوى في بيع الرهن؛ فليس من موضوع المنار البحث
في الأحكام القضائية غير الدينية، وظاهر أن الدعوى لا تسمع ممن سكت عنها المدة
التي حددها الإمام أو نائبه.
__________(8/221)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية)
رسالة لعلي بك أبي الفتوح من علماء القوانين العاملين بها في نيابة محكمة
الاستئناف بمصر ابتدأها بقوله: (لا يظن كثير من الناس حتى من المسلمين أنفسهم
أن المبادئ المقررة في الشريعة الغراء لا توافق هذا الزمان الذي بلغ فيه الإنسان من
التمدن والترقي درجة رفيعة، ويتوهمون أن الأحكام والروابط الموجودة في القوانين
الحديثة الوضعية لا مقابل لها في الأصول الإسلامية، وإنما هي بمثابة الاختراعات
المادية الجديدة التي أنتجها فكر علماء الغرب لم يسبقهم بها أحد، ولكن الباحث في
الفقه الإسلامي ولو قليلاً لا يلبث أن يغيّر هذا الظن، ويتحقق من أن أسلافنا وصلوا
في الرفاهية وتقرير المبادئ العمرانية والاجتماعية والقضائية شأوًا قلَّما يجاريهم فيه
أحد إلا أن صعوبة كتب المتأخرين وكيفية تأليفها، وما هي عليه من التعقيد قد
أوصدت الباب في وجه من يريد الوقوف على حقيقة الشريعة الغراء غير المنقطعين
لدراستها، ولذلك فإني أشير على من يسلك هذا الطريق أن يقصد التآليف لقديمة؛
لأنها أسهل موردًا وأغزر مادة مع خلوها من التعقيد وبعدها عن المشاغبات اللفظية،
وليترك هذه الكتب الحديثة للمنقطعين لفهمها بدون ملل ولا حساب للوقت.
(أذكر هذا على إثر مطالعتي لكتاب الخراج للإمام أبي يوسف المتوفى سنة
182 هجرية وقد ألف هذا السفر الجليل برسم أمير المؤمنين هارون الرشيد، وفيه من
النصائح والأحكام ما يجدر بأمراء المسلمين اتباعه والعمل به. عثرت في هذا
المؤلف الصغير الحجم على دُرَر كثيرة لا أبخل بنظمها في هذه المقالة حتى يرى
المسلمون وخصوصًا المشتغلون منهم بالقوانين الإفرنجية أن المتقدم لم يترك شيئًا
للمتأخر، ولعلهم ينكبُّون على دراسة الشريعة والآداب؛ لأنهما لا ينافيان العصر
الحاضر ولا المدنية الحديثة إذا فُهِمَا حق الفهم ودُرِسَا بعقل وتمييز.
وما أجدر الحكومات الإسلامية باستنباط قوانينها وأحكامها من الشريعة مع
اختيار القول الأكثر مناسبة للزمان والمكان؛ لتكون هذه القوانين والأحكام أكبر
احترامًا في النفوس وأكثر موافقة لأخلاق وعوائد من وضعت لهم) اهـ.
ثم ذكر مسائل من كتاب الخراج وذكر ما ورد بمعناها في القوانين الحديثة
واستخرج العبر منها، وقال: إن أهل القوانين يظنون أن هذه المسائل من أوضاع
علماء أوربا المتأخرين؛ فهذه الرسالة مفيدة للمتعلمين في المدارس النظامية بمصر
وأوربا الذين لم يتلقوا شيئًا من علوم الشريعة فهم يغمطونها للجهل، وهذا الذي ذكره
قليل من كثير، ونقطة من بحر كبير، ومفيدة لعلماء الأزهر، وأمثالهم من
المتعلمين على طريقتهم إن كانوا يقرءون ويعتبرون بما تبين لهم من سوء أثر هذه
الكتب المتأخرة التي اختاروها للتدريس، وأثر طريقة التعليم المتمعجة التي يتعسفون
فيها فإن ذلك أقوى أسباب بُعد المسلمين عن دينهم وشريعتهم.
أما تعجب الكاتب من جدارة الحكومات الإسلامية بأخذ قوانينها وأحكامها من
الشريعة الغراء، فيقال فيه: إنه لو كان في الدنيا حكومات إسلامية لما كان لهم
معدل عن الشريعة، وهل من معنى لكون الحكومة إسلامية إلا كون تشكيلها
وأحكامها على حسب الشريعة. وهل توصف بالإسلامية الحكومة الاستبدادية
الشخصية التي يُنْشئها أو يرثها رجل يفعل فيها ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يتقيد من
شريعة الإسلام بشيء إلا ما لا يرى بدًا منه في إخضاع العامة لسلطته أو ما يراه
موافقا لمصلحته؟ هذه مجلة الأحكام العدلية التي ألفتها لجنة من علماء المسلمين هي
أحسن من القانون المدني الفرنسي، وقد أمر السلطان العثماني بالعمل بها عندما
أسس نظام العدلية، وأبطل به الامتيازات الأجنبية، فلماذا لم تتبعه الحكومة
الخديوية، بل اختارت على أحكام الشريعة الإسلامية قانون الحكومة الفرنسوية.
كلنا يعرف السبب في ذلك وهو طمع إسماعيل باشا بالاستقلال والانفصال عن
الدولة بمساعدة أوربا التي يتزلف إليه باتباع مدنيتها فانظر ماذا حل به وباستقلاله.
والرسالة قد طبعت فنحث القراء على طلبها ومطالعتها.
***
(شرح التلخيص وطريق البلاغة وكتبها)
ساءت طرق التعليم في المدارس الإسلامية بعد ضعف العلم بضعف الأمة،
وساء اختيار المعلمين للكتب؛ فصارت العلوم في المسلمين رسومًا منها الدارس
ومنها المائل. ثم تلاشى من العلوم ما لا يقوم بالرسم؛ لأنه أشبه بالروح منه بالجسم.
كعلم البلاغة الذي هو ذوق معنوي، وشعور روحاني، تطبع بملكته النفس؛ ثم
يظهر أثره في الحس، وهذه الكتب التي اختارها المتأخرون هي شروح لمتون
جعلت مذكرة لأصول المسائل، ومهمات القواعد؛ فكانت مناقشات في ألفاظها،
واستنباطات في عباراتها، تقطع على من ابتلي بها طريق التحصيل. وتضله عن
سواء السبيل، وأشهر هذه المتون متن التلخيص للشيخ جلال الدين محمد بن عبد
الرحمن القزويني الخطيب بدمشق الذي اختصر به كتاب المفتاح لأبي يعقوب يوسف
السكاكي. وقد كان البلغاء المتقدمون الذين انتهت إليهم البلاغة والقدرة على البيان
يأتون البلاغة من بابها بما يزاولون من قراءة الكلام البليغ وتفهم معانيه، والتفطن
لأساليبه ومناحيه، حتى إذا ما أحس الإمام عبد القاهر بضعف عناية الناس بفهم
الكلام البليغ ورأى النفوس منصرفة إلى العناية بزخرف اللفظ، وإن عجز عن أداء
المعنى المراد، وقصر عن التأثير المطلوب فوضع كتابيه في (أسرار البلاغة) في
البيان، و (دلائل الإعجاز) في المعاني؛ ليصرف الناس عن المجاهل التي
تعسفوا فيها، ويهديهم إلى الطريق التي ضلوها؛ ولكن جاء بعده السكاكي فاقتبس
من كتابه القواعد والأحكام التي وضعها لإقناع الجاهلين، وتسهيل الغوص على الدرر
للغواصين، فجعل الفن رسمًا محدودًا، واصطلاحات نظرية حظ الذهن منها
بالتصور والتصوير، أكبر من حظ النفس بالتأثر والتأثير، ثم اختصر الخطيب
بتلخيصه ما كتبه السكاكي فكان كتابه أوغل في الرسم والاصطلاح؛ وأبعد عن
النفوذ إلى مواقع التأثر والتأثير من الأوراح، وجاء بعد ذلك سعد الدين التفتازاني
الذي صرف كل ذكائه في ممارسة العلوم النظرية من المنطق والجدل والمناظرة
والفلسفة والكلام؛ فشرح (التلخيص) على طريقته في العلوم النظرية، فخرج
بذلك علم البلاغة عن موضوعه بالكلية، وابتليت كتب السعد بأناس وضعوا عليها
حواشي للبحث في ألفاظها وأساليبها دون البحث في أساليب الكلام البليغ المأثور
فصارت هذه الكتب عقبات أو عواثير في طريق البلاغة بل صرفت الناس عنها؛
وحالت بينهم وبينها.
مرت قرون على المسلمين وهم يتسكعون في ليل من الجهل بهيم حتى إذا
الليل عسعس، وكاد الصبح أن يتنفس، هدى الله أناسًا إلى أن يقبسوا اللغة من
مقبسها، ويجنوا البلاغة من مغرسها. وما عتم أن استبان للأزهريين المقصد،
وظهر فيهم الإمام المرشد، ثم طبع الكتابان الجليلان، (أسرار البلاغة ودلائل
الإعجاز) وقرأهما في الأزهر الأستاذ الإمام، فحاول تلامذته الجمع بين العلم
والعمل، وظهر فيهم من فاتوا شيوخهم الآخرين في بلاغة اللسان والقلم، فكتبوا
المقالات والرسائل الأدبية، وتعلقت آمال بعضهم بتأليف الكتب العلمية، وهذا كتاب
شرح التلخيص لواحد منهم وهو الشيخ عبد الرحمن البرقوقي.
جرى هذا الشارح في شرحه على أن يبين المراد من الجملة ويدعمها بشيء
مما ينصر جند المعاني على جند المباحث اللفظية التي اعتادها أهل الأزهر مستمدًا
ذلك من أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز الذين هما عمدته وعتاده، وفي هذا من جذب
طلاب الأزهر الذين لم يحضروا الكتابين على الأستاذ الإمام إلى جانب البلاغة
الحقيقية ما يرجى معها أن يكون الشرح سلمًا لهم يرتقون به إلى مطالعة الكتابين،
ويهتدون به إلى خير النجدين، وهو ما يطبع البلاغة في النفس، ويظهر أثرها في
عالم الحس، على أنه يكون عونًا لهم على فهم شرح السعد الذي قضي عليهم بتلقيه،
وأداء الامتحان فيه. ومما ينتقد على الشارح أن يأخذ الكلام من أحد الكتابين
(أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز) فيسنده إلى نفسه وإن كان طويلاً لا تصرف له فيه
وتارة يتصرف فيه تصرفًا يسيرًا لا يكون عذرًا له أن يترك عَزْوه إلى أبي عذرة
كما فعل بالفصل الذي عقده عبد القاهر في أسرار البلاغة لبيان مواقع التمثيل،
وتأثيره في النفوس؛ فإنه أخذ صفحات من صدور الفصل ووضعها في أول باب
التشبيه متصرفًا في جمل من أولها نقلها من صيغة الماضي إلى صيغة المضارع،
كأن حق المصنف فيها مضى وانقضى وصارت في مستقبلها إلى مالك آخر.
قال في ص 227:
(اعلم أن التشبيه مما اتفق العقلاء على شرف قدره وأن تعقيب المعاني به
لاسيما قسم التمثيل منه يكسبها [1] أبهة ويكسبها مَنقبة ويرفع من أقدارها، ويشب من
نارها، ويضاعف من قواها في تحريك النفوس لها ويدعو القلوب إليها، ويستثير لها
من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفًا، ويقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفًا، فإن
كان مدحًا كان أبهى وأفخم) ... إلخ، ما لا تصرف فيه وعبارة أسرار البلاغة هكذا
(ص86) :
(واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل في أعقاب المعاني أو برزت
هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته كساها أبهة؛
وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك
النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفًا؛
وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفًا؛ فإن كان مدحًا كان أبهى وأفخم) ... إلخ
وما لا تصرف فيه.
وبعد أن نقل بالحرف مواقع التمثيل وتأثيره في كل موقع، وأنشأ ينقل الأمثلة
تصرف فيها وفي الكلام عليها بعض التصرف، وكان غنيًّا عن ذلك كله.
وقد وضع للشرح مقدمة تكلم فيها عن الفصاحة والبلاغة، وعن المؤلفين في
فن البيان، وألم بما يشترط له من علم العربية، ولكن هذه المقدمة كلها أو جُلَّها
مأخوذة من كلام عبد القاهر وغيره، وما كان ينبغي للمؤلف أن يتجاوز في مقدمة
كتاب له أخذ الجملة والجملتين على سبيل التضمين. وأكثر ما أخذه قد سلخه بلفظه
ومعناه فإنك تجد قوله (في ص 7) : (أما النحو فهو معيار) إلى جمل بعده كله
من (ص 23 و 24) من (دلائل الإعجاز) ، ولا نذكر ما قاله في ص 8 من
التمثيل بالآية، وكونه من ص 26 من دلائل الإعجاز أيضًا؛ فإنه ليس من روائع
الكلام التي تملك لقائلها.
ولكن قوله في ص13 في عبد القاهر (وأرهف عليهم لسانًا أخرس الشقاشق،
وأعدم نطق الناطق , وأسال الوادي عليهم عجزًا، وأخذ منافذ القول عليهم أخذًا)
مأخوذ من قول عبد القاهر في ص 7 من المدخل الذي هو مقدمة دلائل الإعجاز
ولكن فيه شبهة عزو؛ لأنه يحكي عن رأي عبد القاهر.
وقوله في آخر ص 15 ونحو ثلثي ص 16 من دلائل الإعجاز وقوله عقبها:
(وزبدة القول: إلى نحو ثلث ص 17 مأخوذ من ص 34 و 35 من دلائل الإعجاز
وما بعدها مأخوذ من ص 37 منه. والكلام على الآية في ص 18 مأخوذ من ص 36
من دلائل الإعجاز. والكلام على بيت ابن المعتز في ص 19 مأخوذ من 47 منه) .
وقوله في ص 7: (لكن لا بد للمرء قبل ذلك أن يحظى برس من اللغة
ويصيب ذروا من النحو) فهو مأخوذ من فاتحة أساس البلاغة للزمخشري بتصرف
وقوله في ص 3 (لا يقوم بفصاحته لسان ولا يطلع فجه إنسان) هو من كلام
الشريف الرضي في وصف كلام لأمير المؤمنين لما بويع بالمدينة. ومثله قوله في
الصفحة أيضًا (وقبع في كسر بيته لا يرى إلا نفسه، ولا يسمع إلا حسه) فهو من
فاتحة نهج البلاغة للشريف، وقوله فيها قبل العبارتين: (كتب في هذا الفن قبل
الإمام عبد القاهر) إلخ مأخوذ من مقدمتنا لأسرار البلاغة، وكذلك قوله في ص 4
(وهو وإن فاق عبد القاهر في التقسيم والتبويب) إلخ ما قاله في السكاكي فهو منها
بالمعنى لا بالنص.
هذا وإننا نرى أن هذا الشرح مفيد لطلاب علم البلاغة لا سيما الأزهريين منهم
لا يجدون ما يغنيهم عنه، ولا يحسبن أحد أن ذلك الأخذ الذي نبهنا عليه يقلل من
فائدته أو يدل على ضعف مؤلفه. كلا إن الشيخ عبد الرحمن من أحسن نابتة الأزهر
تحصيلاً وفهمًا وكتابة، يدل على ذلك حسن تأليفه لما أخذه وربط بعضه
ببعض، وحسبه أن يختار الجيد النافع وإنما كان من الكمال في العمل، ومن
الأمانة في العلم أن يأخذ المعاني ويستقل بالعبارة حتى إذا احتاج أخذ شيء بنصه
عزاه إلى صاحبه. ولكن لو كانت العبارة كلها له لكان الكتاب أقل فائدة؛ إذ لم
يصل إلى درجة عبد القاهر في التحرير والتحبير. ولعل الذي سهَّل عليه ترك
العزو هو اعتقاده بأن أكثر المؤلفين المتأخرين ليس لهم إلا جمع الأقوال وتنسيقها فإذا
كان منهم من جمع المشاغبات الضارة فهو قد جمع الفرائد النافعة. والكتاب
مطبوع طبعًا جميلاً، وقد جعل ثمنه أربعة قروش صحيحة، وهي قليلة جدًّا بالإضافة
إلى ما أنفق عليه بصرف النظر عما يستفاد منه.
__________
(1) يقال (كساء الثوب يكسوه) واوي، يقال كسي زيد كرضي فهو كاسٍ ولم ينقل (كسيه) .(8/224)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رأي رجل عظيم في المسلمين والمنار
وترك الأستاذ الإمام للأزهر
كتب إلينا الكتاب الآتي أحد أعلام الأمة الإسلامية وأركان نهضتها العصرية.
ناظم مدرسة العلوم (الكلية) ومدير جريدتها (على كده انستيوت) الشهيرة
وصاحب المصنفات الكثيرة محسن الملك بهادر سيد مهدي علي خان. فنشرناه
ووصلناه برأينا فيه. قال حفظه الله:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
غب إهداء سلام ألذ من تغاريد الحمام، وأصفى من قطر الغمام، وأحلى من
صفو المدام، وأشهى من أنفاس الرياض؛ إذ هطل عليها الغمام، وأعبق من روايح
المسك الختام، وأبرق من البدر التمام، وأشرق من الشمس إذ ينقشع عنها الظلام،
أخص به حضرة المولى العلامة النحرير، والعلامة القرم الكبير، مولانا الشيخ
رشيد رضا لم تزل الأقدار تعضده في كل حال. وتصعده للظفر بالأماني والآمال،
ما لمع آل وتكررت الغدو والآصال.
(وبعد) فقد عرفت يا سيدي ما قد أصاب المسلمين من الشرور والفتن،
والدواهي والمحن، وأن الإسلام قد أدبر وآذن بوداع، وأن النفاق قد أقبل وأشرف
باطلاع، وأن الدين قد استتر وتنكر بوجهه، وتولى بركنه، ونأى بجانبه،
وتطرقت البدع المحدثة، وتسربت الأحداث المستحدثة، ورفعت الأمانة من
المسلمين، وكنست الديانة عن المؤمنين، وبدت الخيانة في حزب سيد المرسلين.
قد أعتم بنا عاتم الفتن وجللتنا حنادس المحن، وغشيتنا غياهب الإحن
وتسربلنا بسرابيل العدم والإملاق، وتقمصنا بقمص الجهل والنفاق، وطحنتنا
الجهالة بكلكلة البلى، وعركنا الجهل فسوانا بتخوم الثرى، لا ننكر من الشر نكرًا،
ولا نعرف من الخير أمرًا، سُلب منا الإخاء، وبدت فينا العداوة والبغضاء،
وسرت فينا الجهالة العمياء، فضربت بذلك علينا المتربة، وحاقت بنا المسغبة،
وجللتنا المعطبة، لا نكترث بما صارت إليه حالنا، ولا نحفل بما تحولت إليه
أحوالنا. ولا نبالي بما خابت منه آمالنا، قوضت عنا خيام المجد والاعتلاء،
وأسرجت لنا رواحل الذل والبلاء؛ وتحولنا عباديد بعد الألفة، وتباديد بعد
اجتماع الكلمة، وتركزت فينا أصول الفرقة، وتشتت اللم وتفرق، وتمزقنا كل
ممزق، يزري بنا العيون، ويزدرينا ريب المنون؛ رحل الإسلام عن عقر
داره، وتربع النفاق في محله وقراره، ومن ثم ترى الاجتماع قد تهدمت
مبانيه، وتبصر الائتلاف قد خوت مرابعه ومغانيه، وتدكدكت من الاتفاق
القنان، وانهدمت منه المصدان [1] وتصرمت أيامه ولياليه، واستبدلت بالانخفاض
معالمه وعواليه، وبالذل والصغار قصوره ومعاليه، خمدت منه كل نار، وانفل
منه كل غرار وعفت منه كل دار، وطمست منه الآثار، وعطل كل فلكه عن المدار،
وكورت شمس علائه، وخسف منه بدر سمائه، وأرجفت منها أرضه العريضة،
واغبرت صفحتها فأضحت مريضة ولم يبق من الإسلام إلا رسم خلق في المقام،
ضمنه كما ضمن الوحي السلام [2] .
يسومنا الأقوام خسفًا من كل جانب، ويستصغرنا الرجال عسفًا على ظهر كل
لاحب، لم يستبق الدهر لنا قوة ولا دولة، ولم يرض لنا إمرة ولا صولة.
وقد كان يعجبني منكم بين تلك الأحوال المزعجة، ويروقني من جنابكم في تلك
الحالات الموجعة المفجعة، ما حباكم الله سبحانه بفضله، واصطفاكم ببره، لاستفراغ
الوسع في إصلاح المسلمين، والاجتهاد البالغ التام في حضهم على النهضة لأمور
الدنيا والدين، وذلك بما كنتم تنشرون من إمضاءات بليغة، وتنشئون من رسالات
بديعة أنيقة، ومكاتبات بهية شهية رشيقة تحضون بها المسلمين على النهضة،
وتحثونهم على الأوبة، إلى ما كانوا عليه من سالف المجد والاعتلاء، وماضي الكرم
والعلياء، وسابق السبق في مضمار العز والعلا، والاقتحام في مفاوز الكرب والبلاء، والاهتمام في استجلاب المجد من كبد السماء، فيا لها ما قد تضمنت
جريدتكم الباهرة الغراء، من عبارات مهذبة، واستعارات مستعذبة، وأساليب
موشحة، وأساجيع مستملحة، فقد وشيتم إذا أنشأتم، وحبرتم حينما عبرتم، وأعجزتم
حينما أوجزتم، وأذهبتم متى أسهبتم، وخرعتم متى اخترعتم، وأنتم بعون الله
قارع هذه الصفاة، وقريع تلك الصفات، وقرن ذاك المجال، وقرين هذا النضال،
وما برحنا ننقل تلك الإمضاءات الأنيقة من مجلتكم الرشيقة، إلى اللغة الهندوستانية،
من العربية العقيانية، وننشرها في مجلتنا الشهيرة (بعلى كده انستيوت) يستفيد
منها إخواننا الجاهلون، ويستضيء بها المستضيئون ويستعين بها من أضر به ريب
المنون، لدفع كل ملمة ملكية، وكشف كل مهمة سياسية.
وقد كان قبل ذلك بمدة تنيف على ثلاثين سنين، قد نشأ في تلك الآفاق
والأرضيين، رجل من أفاخم الأعيان، اسمه السيد أحمد خان، كان رجلاً همته في
إصلاح المسلمين، والغور التام في دفع الصغار والنكبة عن إخوانه في الدين،
وكان رجلاً متنطعًا مِنْطِيقًا ذا لسان، ومنطق وبيان، يعد في مصاقع الخطباء،
وينخرط في سلك بهاليل الأدباء، يبهر الناس بأساليب خطابه، ويستجلب الخلق
ببديع هضابه، ونادر سحه وتسكابه، فبادره العلماء الأعلام، بالسب والشتام،
ورشقوه بنبال العذل والملام ولعنوه على المنابر في جوامع الإسلام على مر الدهور
وكر الأعوام، وأعلنوا بكفره، وأذنوا بالخروج عن ملته، وأفتوا بإباحة دمه، وهو
بعدُ كان لا يكترث بما كان يقع عليه، وما يبالي بما كانوا ينضون له من سيوف
العداوة معه، وكان لا يفتر عن جده واجتهاده والضرب بعصا التسيار في ميادين
بلاده، ولما صبر على كل ذاك الأذى، وتجلد كالبطل الكميّ في ميادين الوغى، لم
يبرح من وطنه، أن تمثل له الظفر وخذا بين يديه وسار من مكامن عطنه.
ولكن قد قل منكم نشر تلك الإمضاءات البديعة في إصلاح المسلمين
واجتهادكم في تحسين أمورهم من الدنيا والدين، منذ حين، وأراكم قد اقتصرتم على
اقتباس جزء يسير من تفسير العَلَم العيلم الرزين، حكيم الإسلام والمسلمين، وفخار
الملة والدين، وسناد العلماء السادة الأساطين، حضرة مولانا الفاضل العلامة الشيخ
محمد بن عبده مفتي الديار المصرية متعنا الله ببقائه ولعمري هو اليوم فارس رجالنا،
ورأس أمانينا وآمالنا، نأمل به الفوز في السعادة القصوى، ونرجو منه الظفر بما
هو غاية إربنا في الحياة الدنيا، من حصول النهضة الأخرى غب النهضة الأولى،
ولا نجد لذلك مثله في جديد تلك الخلقاء الهابطة السفلى [3] .
* * *
وقد أدهشنا خبر هائل وصل إلينا من الجامع الأزهر وأوحشنا وأقلق جل
أصحابنا والأمة وأراق الدماء من الجفون والمقل، وكادت القلوب لها أن تتهبل [4]
وقد انصدعت له الصدور، وتصدعت لها المهج في شلو كل مصدور، وذلك ما
شاع عن هذا الفيلسوف السرسور [5] ، والحلاحل الوقور، والنبراس في ظلمات
الديجور، من رفض ما كان إليه من نظارة الجامع المذكور، أسفًا على ما تجرب
من جفاء أهل عصره، لا سيما علماء مصره، ومساعدة الحضرة الخديوية للعلماء،
وقضائها بخلاف ما كان يرجى من تلك الحضرة الغراء، لما كان أيده الله تعالى يريد
من إشاعة العلوم الحديثة، وإذاعة المعارف والحكم الجديدة، زيادة على ما كان
يجري فيه من دروس العلوم الشرعية، والمسائل الفرعية، ولما لم يصغ أحد إلى
رأيه ومقالته، ولم يكترث رجل إلى ما كان فيه من محض نصاحته، تمثل لنا عند
ذاك اليأس، وتجسد لنا شبح القنوط والإبلاس [6] ، لخمود هذا النبراس، فقد كنا
نظن قبل ذلك أن سوف يحفل به عنا ليل المحن، ويقلع عنا دامس الفتن، وتقوض
عنا خيام البلاء، وتعطف عنا سهام الضراء، ويتنفس علينا صبح الإقبال، ويطلع
على وجهنا فجر الآمال، من أجل ذاك البارع الحكيم المفضال، وكنا نظن أنه قد
توقد في الإسلام مصباح يستوقد منه آلاف ألوف من المصابيح، ومفتاح ينفتح به
مغالق أبواب الفرج والتراويح، ولكن قد تبين الآن أنَّا لم نبرح عرضة للبلاء،
ودرية لرماح الضراء، وجزرًا لسيوف البأساء، مازالت هذه الخضراء تدور على
الغبراء، وما أشبه حال هذا الحكيم الرزين في المصريين، بحال السيد أحمد الذي
أعثرناك على حاله في الهنديين، فقد عظمت الرزية، وجلت المصيبة، فإنا لله وإ نا
إليه راجعون {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقبون} (الشعراء: 227) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي كده
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الهند) (محسن الملك)
***
جواب المنار
يريد السيد المحسن حفظه الله بالإمضاءات التي كانت تنشر في المنار، ثم
تركت - تلك المقالات الخطابية التي تمثل للمسلمين ضعفهم الحاضر وتذكرهم
بمجدهم الغابر، وتحثهم على إصلاح شأنهم في الدنيا والدين، والاعتبار بترقي
المعاصرين، وهذا ما كنا نكثر منه في أول نشأة المنار؛ ليكون تمهيدًا يعد النفوس
لقبول ما نعرضه من الرأي في الإصلاح الديني والاجتماعي ولإعمال الفكرة وتوجيه
الهمة إلى السعي والعمل لخدمة الأمة، ولكننا رأينا الناس قد استحسنوه، وكثيرًا
من أصحاب الصحف قد احتذوه وتقلدوه، حتى صار كأنه مقصود لذاته، لا لأجل
عمل من ورائه، ولذلك صرت ترى في الصحف المصرية التي تسمى إسلامية
كلامًا كثيرًا في حال المسلمين حتى من الذين لم يعرفوا من الإسلام إلا ما يعرف
أجهل السوقة والعوام، وإن ما عنينا به في المدة الأخيرة يشبه أن يكون مقصدًا أو
غرضًا لتلك المقدمات أو الممهدات. ولا يحسبن الأخ الكريم أننا تركناها يأسًا من
صلاح حال المسلمين. أو فرقًا من مناصبة المشاغبين، التي لا بد أن يكون عرفها
من تصدي جريدة المؤيد للوقوع بنا، بعد ما كانت تشيد وتنوِّه بعملنا، كلا إن هذا لا
يزيدنا إلا قوة في الأمل، وهمة في العمل؛ لأن اللوم بطبعه إغراء، والمقاومة من
بواعث الاعتناء، كما رأيتم في فاتحة المنار لهذه السنة. على أن ما ننشره من
الحكم والمواعظ في التفسير، وما نودعه في مطاوي سائر المباحث من التنبيه
والتذكير، هو في معنى تلك المقالات التي تنشدون ولا تخلو من الخطابيات التي
تخطبون، وقد طالبنا غير واحد صريحًا، بمثل ما أمر السيد به تلويحًا، ولذلك
وعدنا في خاتمة السنة السابعة بالعود إلى تلك المقالات في سنتنا الحاضرة، وقد
نشرنا في الجزء الثاني منها مقالة (حياة الأمم وموتها) مقدمة للكتابة في أنواع
الحياة وحالنا فيها، وسيتلو الكتابة في الحياة الزوجية مقالات في الحياة الملية
والوطنية والسياسية. ونرجو من فضل الله وكرمه أن لا نزداد إلا ثباتًا واعتناء
ما دمنا آمنين في سربنا معافين في بدننا قادرين على النفقة على نفسنا وصحيفتنا.
وأما ترك الأستاذ الإمام للأزهر فهو لم يكن من يأس ألمَّ بنفسه الكبيرة، ولا
عن ضعف في همته العلية، ولا لمقاومة علماء الأزهر لما يريده من إصلاح التعليم
أو إضافة علوم جديدة على ما يقرأ في الأزهر من العلوم، وإنما هو ما تنسمتموه
من الجرائد المصرية، ونزيدكم فيه بيانًا بمكاتبة شخصية، وقد ظلم العقلاء عندنا
وعندكم علماء الأزهر فأنزلوهم من درجتهم في العلم والفهم، كما أعطوهم أكثر من
سهمهم من الشعور والأخلاق.
أما ظلمهم إياهم فهو اعتقادهم وقولهم فيهم أنهم يعتقدون بأن العلوم الدنيوية
تقوض بناء الدين، وتفسد العقائد في قلوب المسلمين، وأن إصلاح طريقة التعليم
خروج عن صراط السلف المستقيم، وكل هذه الظنون فيهم باطلة؛ فإن من أصحاب
الدرجة العلمية الأولى فيهم من يعلمون أولادهم العلوم الدنيوية في المدارس الأميرية
وغيرها فكيف لا يخافون الكفر والضلال على أفلاذ أكبادهم مع عدم تمكنهم من
العلوم الدينية ويخافون ذلك على طلاب الأزهر المتوغلين في علوم الدين؟ إن هذا
شيء لا يعقل. ثم كيف يطعنون بأكابر علماء الإسلام الأعلام الذين تمكنوا من علوم
الدنيا وصاروا يعدون من الفلاسفة كالإمام الغزالي والإمام الرازي وفلان وفلان؟ ثم
كيف لا يطعنون بدين أكابر أمرائهم وحكامهم في هذا العصر وهم قد تعلموا هذه
العلوم في مدارس مصر وأوربا، وقلما يوجد فيهم من تلقى عقيدة الإسلام ببراهينها أو
عرف مهمات أحكامها ولو غفلاً من دلائلها وحكمها وإن منهم من يصف بعض
هؤلاء الأمراء بالتقوى والصلاح. فظلم وألف ظلم لعلماء الأزهر أن يقال فيهم إنهم
يعدون علوم الدنيا خطرًا على الدين أو عائقًا عن علومه وإنهم يجهلون أن الإسلام
جمع بين مصالح الدارين، وأنه دين عام وأن لا دين بعده أوفق لمصلحة جميع
البشر منه مع استلزام هذا لكون الإسلام يتفق مع علوم البشر ومدنيتهم في كل زمان
وإلا كان متضمناً لتكليفهم ما لا يطيقون. نعم إنه يوجد فيهم بعض الأغبياء الذين
يعبث بهم هذا الوهم ولكن الحكم على جميعهم أو أكثرهم بذلك ظلم وجور. وإنني
أقول: إن الأستاذ الإمام لم يقرر في إصلاح الأزهر شيئًا إلا برأي جماعة من كبرائهم
واستحسانهم، وقد نفذ بعض ما طلبه وحاوله برضاهم وموافقتهم وأوقف بعض
الإصلاح للأسباب التي لا أصرح بشرحها بعد رضاهم به واعترافهم بفائدته.
وأما وصفهم بأكثر مما يستحقون من الشعور بالمصلحة وإرادة الخير فهو تابع
لذلك الظلم وهو اعتقاد كثير من العقلاء في مصر وفي أقطار أخرى أن هؤلاء
الناس أعداء الإصلاح الذي عرف سراة الأمة وعقلاؤها شدة الحاجة إليه لما في
قلوبهم من الشعور بضرره، ولما عندهم من الإرادة القوية والعزيمة الصادقة والغيرة
الملتهبة على الإسلام والمسلمين، وأنهم لا يخافون في ذلك لومة لائم، ولا سطوة
حاكم، ولا حرمانًا من منفعة مالية، أو كسوة تشريف قصيبة، والحق أن هذا
الصنف الشريف الذي كان له من قوة العزيمة بالاتحاد والاتفاق ما يقيم به محمدًا
عليًّا حاكمًا على البلاد المصرية قد استُضعف فضَعُف حتى صار لا يجهر برأيه إلا
إذا أيقن أن قويًّا يمده أو حاكمًا يسنده، وكثيرًا ما يستحسن أمرًا ثم يستهجنه، أو
يستقبح شيئًا ثم يستحسنه، ولقد كان أكابر علماء الأزهر موافقين للشيخ محمد عبده
في كل شيء يقترحه لإصلاح الأزهر أيام كان مؤيدًا بنفوذ الأمير، وإنما كانوا
يرغبون إليه في أن يكون ذلك بالتدريج البطيء؛ لأنهم لم يتعودوه ويثقل على المرء
لا سيما الكبير المضي فيما لم يتعود. ولما بدا للأمير في تأييده ومساعدته وقف كل
اقتراح، وعورض كل إصلاح، حتى لم يبق للحكومة الخديوية ثقة بتخريج القضاة
في ذلك المكان فهي ستبني مدرسة جديدة لتخريجهم فيها ولم يبق لها من العناية
بالأزهر إلا حفظ الأمن فيه كما هو حق كل صنف وكل شيء على الحكومة.
لأجل هذا ترك الأزهر، ولكن آثاره الصالحة لن تتركه فهو قد وضع أساس
النظام الذي قد يضعف تارة ويقوى تارة، وقد يزاد فيه وينقص منه ولكنه لا يزول
وهو قد نفخ في نفوس كثير من الأذكياء فيه روح الشعور بالحاجة إلى إصلاح
التعليم وإصلاح الأخلاق وخدمة الإسلام والمسلمين والسعي في إزالة ما غشيهم من
البدع والفتن فأضعفهم وأذلهم فلن يموت هذا الشعور. ثم إنه لم يزدد إلا رجاء بالله
وهمة في خدمة ملته بالعمل والتدريس والتأليف لا يثنيه عن ذلك ثانٍ إلا ما يلم به
من المرض أحيانًا، شفاه الله ونفع به آمين.
هذا وإن العبرة الكبرى فيما كتب هذا السري الكبير هو إحساس المسلمين
المخلصين الذين يعرفون الإسلام ويغارون عليه بأن الإصلاح إذا ظهر في أي قطر
ففائدته لابد أن تكون عامة لكل البلاد الإسلامية، وأن النور إذا ظهر في هذه الأمة
من أي مطلع؛ فإنه ينبسط على جميع البقاع؛ لأن هذه الأمة أمة واحدة ربها واحد
وكتابها واحد ونبيها واحد، والهداة في دينه على ملة واحدة، وهي ما جاء به نبيه عنه
ومصلحتها لذلك واحدة، فما يضرها يضر جميع المتبعين لها وما ينفعها ينفعهم
أجمعين. لأجل هذا أحس الأحياء من مسلمي الهند بأن ما دهي به الإصلاح في
الأزهر هو مصيبة على الإسلام والمسلمين في جميع الأرض؛ لأنه كان يرجى أن
يكون خيره متى ثبت ونحج عامًّا لجميع مسلمي الأرض ولو بعد حين. فماذا يقول
أولئك الذين يريدون أن يقطعوا أوصال المسلمين بنزغات (الوطنية) الفاسدة في
هذا الإحساس الشريف من إخواننا في الهند وكذا في غيرها كما نشير إليه في النبذة
الآتية.
تأثير ترك الأستاذ الإمام للأزهر في المسلمين
لقد اضطربت قلوب عقلاء المسلمين ووجمت نفوسهم لهذا النبأ في كل قطر،
فقد جاءتنا الكتب والرسائل في ذلك من السودان وسوريا ومن بلاد المغرب والمشرق
ما بين شاكية وباكية منها ما يعرف مرسلوها عذر الإمام، ويرون أن لا عَتْب عليه
ولا ملام لوقوفهم على حقيقة أحوال هذه البلاد فرأيهم في ذلك كرأي أكثر العقلاء
في مصر الذين استشار الإمام بعضهم فأشاروا بوجوب تركه، ومنها ما يتضمن اللوم
لاعتقاد أصحابها أن الأستاذ الإمام قد يئس من إصلاح المسلمين؛ فترك خدمة الملة
مللاً من مقاومة الجامدين أو علمًا بأنهم غير مستعدين، وقد آلمهم ذلك لأنهم يعتقدون
أنه أكبر زعيم للإسلام في هذا العصر وأقوى نصير له في علمائه، ويشعرون بأنهم
يستمدون منه الهمة والغيرة والرأي الصحيح على بُعد الديار وتنائي الأقطار ولا أنكر
أنني أعرف من أذكياء المسلمين الأقربين دارًا، بل ومن المصريين أنفسهم من
سرى إليه شيء من هذا الوهم. وقد آلمني وسيؤلم كل ذي غيرة وشعور قول
(محسن الملك) إن اليأس والقنوط قد تمثل لأهل النهضة الإسلامية في الهند وشعروا
بأن قد طفئ نور الصلاح المنبعث من هذا الإمام فوقعوا في حنادس الظلام يحزننا
ويمضُّنا هذا القول من قوم نعتقد أن نهضتهم أعلى من نهضتنا، وهمتهم أعلى من
همتنا، والأمل فيهم أقوى من الأمل فينا، ولا نفضلهم إلا بهذا الرجل وبإتقان اللغة
العربية؛ لأننا نراهم يرجوننا أكثر مما يرجون أنفسهم كما أنه يسرنا شعورهم
بارتباطهم بنا ولا يأس منا ولا منهم إن شاء الله.
إن من أغرب ما كتب إلينا في هذه الحادثة نبذة لأحد الفضلاء في فاس
وهي: (قد ساءنا وايم الله ما بلغنا من استقالة حضرة جناب الأستاذ الإمام، وعالم
علماء الإسلام، فريد هذا العصر وغرة جبين الدهر، ذروة جهابذة الآفاق،
ونخبة كبراء المصلحين بالاتفاق، مولانا وسيدنا الشيخ محمد عبده أدام الله بقاءه
مرشدًا للعالمين من عضوية إدارة مجلس الأزهر الشريف الذي كان متَّعنا الله
بوجوده مجتهدًا في إصلاحه، كما سائتنا تلك الخطبة..... ولكن {إِن تَنصُرُوا
اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) ، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنَا} (العنكبوت: 69) وقد كدَّر ورود هذا الخبر جميع محبيكم ومحبي الأستاذ
الإمام، لعلمنا بأنكم من المجدين في إصلاح الأمة الإسلامية) ... إلخ.
وإنما كان هذا غريبًا؛ لأن تلك البلاد أبعد بلاد المسلمين عن التفكير في
الإصلاح أو الشعور بالحاجة إليه، ولكن هذه الأفكار قد سرت في كثير من أهلها من
بعض المهاجرين إليهم من المسلمين ومن قراءة بعض الصحف كالمنار. وقد ختم
هذا الكاتب كلامه بقوله (وأدام الله بقاءكم رغمًا عن أنف الجاهلين والمستبدين
والمفسدين والمقلدين) اهـ. ويوشك أن ننشر آراء أخرى في جزء آخر.
__________
(1) المنار: القنان بالكسر جمع قنة بالضم وهي الجبل الصغير والأكمة والمصدان بالضم جمع مصاد بالفتح وهو أعلى الجبل والهضبة العالية الحمراء.
(2) المنار: قوله (رسم خلق) بالتحريك أي بال وقوله ضمنه إلخ السلام بالكسر فيه بمعنى الحجارة ومن أمثالهم (أكتم للسر من السلام) ومنها (وحي في حجر) يضرب لمن يكتم سره والمراد أن الرسم البالي الذي بقي من الإسلام هو سر مكتوم خفي غير ظاهر وقد يضرب المثل للشيء الظاهر؛ لأن من معاني الوحي الكتابة والكتابة في الحجر تكون نقشًا ظاهرًا وليس بمراد هنا.
(3) المنار: الخلقاء مؤنث الأخلاق ومن معناه الأملس وتسمى السماء خلقاء وخلقاء الجبهة مستواها يريد في مستوى هذه الأرض.
(4) يقال تهبل لعياله واهتبل إذا اكتسب ولعل الكلمة في الأصل تهتبل من هبل ولده واهتبله إذا ثكله.
(5) السرسور بالضم الفطن العالم الدخال في الأمور والحلاحل السيد في عشيرته الشجاع الركين في مجلسه.
(6) الإبلاس هو الغم من اليأس والحيرة.(8/230)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
صدى الحادثة في أوربا
أو مقاومة النفوذين الفرنسي والإنكليزي للأستاذ الإمام
في الإصلاح
نشرت جريدة اللواء في عدد يوم الخميس (13 ربيع الأول) خبرًا، قالت:
إنه مترجم عن جريدة (الغلوب) الإنكليزية بغير تصرف وهذا نصه بغير تصرف.
(اختلف العلماء من عهد قريب بشأن التعليم في الأزهر وسبب ذلك أن
رئيسهم الشيخ محمد عبده حاول إدخال نظام للتعليم أوسع من النظام الحاضر الذي
وضع من قرون مضت والذي لا يتضمن غير محض تعليم مواد الأجرومية، وقليل
من بعض العلوم الأخرى بقصد تكوين قوة جديدة في الإسلام، ويريد الشيخ محمد
عبده السالف الذكر إدخال العلوم الحديثة في بروغرامه الجديد؛ ليستعين بها العلماء
على اكتساب أرزاقهم من طرق العمل والجد لا الكسل والتواكل.
وقد قاومه العلماء في مشروعه هذا مقاومة شديدة واتصل بنا أنه قال في
حديث له: إن السبب في عدم نجاحه وفشله النهائي راجع إلى محاربة النفوذين
الفرنساوي والإنكليزي السياسيين له، واستشهد بعبارة نشرت في الكتب السياسية
الفرنساوية مؤداها أن سواس فرنسا من الحزب الاستعماري لا يقبلون بوجه من
الوجوه تَنَوُّر المغاربة بنور العلم) اهـ.
ملاحظة المنار
أو انتقاده على ذلك
يعجب المصريون أن يروا في الجرائد الإنكليزية من يخبط في المسائل
المصرية على غير هدى مع وقوف الإنكليز هنا على حقائق الأمور، وذكرنا وذكر
غيرنا ممن قرأ تلك النبذة في جريدة اللواء ما كان أشيع هنا بعد ترك الشيخ محمد
عبده لمجلس إدارة الأزهر من أن بعض المصريين الذين لهم حظ فيما حدث
في الأزهر كلفوا أحد مكاتبي الجرائد الإنكليزية أن يكتب لجريدته التي يكاتبها
شيئًا يفيد معنى ما كتب في بعض الجرائد المصرية التي لها هوى في الحادثة من أن جميع علماء الأزهر مضادون للشيخ محمد عبده فيما يريد من إصلاح التعليم
وزيادة العلوم في الأزهر، ويتضمن شيئا آخر يفيد سخط الإنكليز على الشيخ،
وأتذكر أن بعض الجرائد الأسبوعية في مصر كتبت شيئًا عن هذه الإشاعة وقالت:
إن ذلك سيكتب ثم ينقل في بعض الجرائد المصرية اليومية.
ما لنا ولما أشيع في سبب الكتابة ولما قيل في مصدرها إنما نحن أمام قول
يتضمن خبرين: أحدهما: أن علماء الأزهر كارهون ومقاومون لما يريد الشيخ
محمد عبده من النظام وتوسيع دائرة العلم في الأزهر، وقد بينا في كلامنا على رسالة
(محسن الملك) أن هذا غير صحيح، وأن علماء الأزهر برآء مما يُرمون به من
الغلو في بغض العلم والنظام، والجهل بما يُعلي شأن الإسلام. وثانيهما: أن الشيخ
يقول: إنه لم يخفق فيما حاول من إصلاح الأزهر إلا بمقاومة النفوذين الفرنسي
والإنكليزي له؛ لأن ترقية المسلمين تناقض مصلحتهما في استعمار بلادهم.
ونقول: إن هذا النقل عن الشيخ غير صحيح وإن كان أكثر المسلمين يعتقد بصحة
علته المذكورة.
ولا يعقل أن يقول الشيخ ذلك؛ لأن فرنسا لا نفوذ لها في الأزهر ولا في
مصر فتقاوم، ولأن الإنكليز لم يقاوموه لما هم عليه من الحرية وعدم التعرض
للمصالح الدينية على أن المصريين الذين لم يقدروا حرية الإنكليز حق قدرها. ولم
يعلموا أنها تمثلت مع الفضيلة في اللورد كرومر في أبهج صورها، يتعجبون من
عدم مقاومة الإنكليز لإصلاح الأزهر في السنين الماضية ويظنون أن لهم يدًا في
المقاومة الآن.
أما الشيخ محمد عبده فقد سمعناه غير مرة يقول: إنه ما قصد إلى خدمة
المسلمين في شيء ولقي مقاومة فيه من غيرهم لا من إنكليزي، ولا من إفرنسي،
ولا من قبطي، ولا من شامي. ولا غرو فإن جهل المسلمين وتخاذلهم في هذا العصر
كافيان لإحباط كل سعي لترقية شأنهم لا يحتاجون إلى مساعد في ذلك، ومن يسعى
بعقل لا يقاومه العقلاء.
هذه فرنسا التي كان منهجها في مقاومة تعلم المسلمين في الجزائر أمرًا
معروفًا قد أنشأت ترجع إلى منهج الإنكليز في التساهل، وقد تكلم الشيخ محمد عبده
مع رجالها في تونس والجزائر في مساعدة المسلمين على التعليم فوجد منهم ارتياحًا
إلى ذلك وقد نشرت جريدة (الطان) من عهد قريب مقالة في الاحتفال بمدرسة
الجمعية الخلدونية ذكرت فيها أن مصدر هذه الحركة العلمية في تونس هو الشيخ
محمد عبده وبعض المجلات العلمية المصرية التي تحث المسلمين على الجمع بين
علوم الدنيا والدين، وترد فيها رأي الذي يظنون أن تعليم المسلمين يضر بفرنسا؛
لأن هؤلاء المتعلمين يكونون دعاة لاستقلال البلاد وقيامهم على المستعمرين لها
وترجمت الأهرام مقالة (الطان) فسُرّ بها المسلمون هنا.
__________(8/238)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال بالعيد المئوي لمحمد علي
والإيماء لانفصال مصر عن تركيا
احتفل جماعة من المصريين بتذكار تولية محمد علي باشا على مصر منذ مائة
سنة ميلادية. وقد اعتبروا ابتداء ولايته اختيار المصريين له دون فرمان السلطان
بتوليته الذي كان بعد مثل يوم الاحتفال بشهر وأيام كأنهم يريدون أن هذه الحكومات
استقلت بذاتها من طريق الانتخاب لا بالتبعية للدولة ذات السيادة عليها، وكنا نعهد
بأمثال هؤلاء المحتفلين الحرص على إظهار ربط مصر بالأستانة فما عدا مما
بدا؟
__________(8/240)
غرة ربيع الثاني - 1323هـ
4 يونيه - 1905م(8/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ذبائح أهل الكتاب في عصر التنزيل
(س20) السيد محمد بن عقيل في سنغافورة: اطلعت على جميع ما كتبتم
في ذبائح أهل الكتاب ثم وصل إليَّ من أحد أهل مصر كتاب يسمى التعاديل
الإسلامية في الرد على شيخ الإسلام (يعني الأستاذ الإمام) وكنت قد رأيت منذ نحو
14 عامًا فتوى لشيخنا العلامة السيد سالم بن أحمد العطاس العلوي الحضرمي مفتي
جهور تضارع فتوى شيخ الإسلام، ولكن يختلج في صدري شيء لم يذكره شيخ
الإسلام، ولا غيره فيما أعلم، وهو هل لأهل الإسلام نقل صحيح في التاريخ يفيدنا
بكيفية ذبح أهل الكتاب، أو قتلهم لما يريدون أكله في عصر المصطفى - صلى الله
عليه وعلى آله -؟ فإن وجد فهل يجب قصر حكم الحِلّ على ما كان؛ لأنه المفهوم
ويكون ما توسعوا به بعد ذلك من بدعهم فلا يفيد الحِلّ؟ فلو صح النقل بأنهم كانوا
يعصرون عنق نحو الدجاج ويوقذون نحو البقر لم يبق للمشاغب كلام، والمظنون
أن لأهل الكتاب كيفيات في الذبح في ذلك العصر كما نقل أن لهم في التسمية عند
الذبح عادات، وما صح به النقل لا نزاع فيه؛ فهل ظفرتم بنقل عن شيء من تلك
الكيفيات التي أحل الله لنا طعامهم وهو يعلمها ينجلي به غبار كل إشكال، أفيدونا بما
تعلمون لا زلتم مرشدين.
(ج) بيّنا فيما كتبناه في المجلد السادس في مسألة طعام أهل الكتاب أن
المسألة ليست من المسائل التعبدية، وأنه لا شيء من فروعها وجزئياتها يتعلق
بروح الدين وجوهره إلا تحريم الإهلال بالذبيحة لغير الله تعالى؛ لأن هذا من
عبادات الوثنيين وشعائر المشركين فحرم علينا أن نشايعهم عليه أو نشاركهم فيه،
ولما كان أهل الكتاب قد ابتدعوا وسرت إليهم عادات كثيرة من الوثنيين الذين
دخلوا في دينهم لا سيما النصرانية، وأراد تعالى أن نجاملهم ولا نعاملهم معاملة
المشركين استثنى طعامهم فأباحه لنا بلا شرط ولا قيد كما أباح لنا التزوج منهم مع
علمه بما هم عليه من نزغات الشرك التي صرح فيها بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُون} (يونس: 18) على أنه حرم علينا التزوج من المشركات
بالنص الصريح ولم يحرم علينا طعام المشركين بالنص الصريح بل حرم ما
أُهلّ به لغير الله. فأمر الزواج أهم من أمر الطعام في نفسه، والنص فيه عام
قطعي في المشركين وهو لم يمنع من التزوج بالكتابية، ولأجل كون حِل طعام
أهل الكتاب ورد مورد الاستثناء من المحرمات المذكورة بالتفصيل في سورة المائدة
صرح بعض أئمة السلف بأن النصراني إذا ذبح لكنيسته فإن ذبيحته
تؤكل مع الإجماع على أن المسلم إذا ذبح وذكر اسم النبي أو الكعبة فإن ذبيحته لا
تؤكل، وترى هذا في تفسير الإمام ابن جرير الطبري وما نقلناه في المنار عنه
وعن غيره كاف في هذا الباب، وقد رأيت في التفسير من هذا الجزء النسبة بيننا
وبين أهل الكتاب، وما ورد فيهم وما أرشدنا إليه سبحانه من مجاملتهم
ومحاسنتهم فهذه هي الحكمة في حِل طعامهم لا كونهم يذبحون على وجه مخصوص أو
يطبخون بكيفية مخصوصة. ولو كان يجوز لنا أن نقيد نصوص الكتاب المطلقة
بمثل هذا التقييد لكان يجب علينا أن ننظر في كل حكم فنقول: إن إحلاله أو تحريمه
مقيد بما إذا كان على الكيفية التي كانت في ذلك العصر فنتقيد بما كان عليه
أهل العصر الأول في جميع عاداتهم وأحوالهم؛ لأنهم خوطبوا بالأحكام وهم
على ذلك وهذا حرج عظيم وتحكُّم لم يقلْ به أحد، بل قال أهل الأصول: حكم
المطلق أن يجري على إطلاقه، ومن ثم نقول: إنه لا وَجْه للبحث عن عدد الذين
أقيمت بهم الجمعة أو صلاة العيد ولا عن كيفية المسجد أو المصلى الذي صليا
فيه عند التشريع والحكم بأن ذلك شرط لصحة الصلاة.
ثم إن المشاغبين الممارين لا يقنعهم شيء فأنت ترى أن فتوى الأستاذ الإمام لم
تكن في حِل الموقوذة من أهل الكتاب، ولا كان السؤال عن ذلك وقد سموا الذبيحة موقوذة وأكثروا من اللغو، ولا غرض لهم من ذلك إلا إيهام العامة بأن فلانًا قال
قولاً مخالفًا للشرع لعلمهم أن العوام لا يفهمون الدلائل ولا يميزون بين الحق
والباطل، وإنما يفهمون بالإجمال أن فلانًا أخطأ فيخوضون في عرضه وهذه هي لذة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. ولذلك لم يورد الذين
كتبوا في هذه المسألة شيئًا من كلامنا المؤيَّد بالكتاب والسنة وفقه الشريعة وأسرارها
والمأثورعن سلفها لا بالتسليم ولا بالإنكار، فذرهم في خوضهم واشتغالهم
بالسفاسف وصرفهم قلوب المسلمين عن كل نابغ فيهم ساع في إقالتهم عثرتهم أو إنجائهم من هلكتهم حتى يبلغ انتقام الله تعالى بهم منهم حده، وخذ بما صفا ودع ما كدر، وادع إلى الحق من تراه مستعدًّا له، والله الموفق.
__________(8/241)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عذاب القبر
(س21) الشيخ منصور نصار من مجاوري الأزهر: قد سألني بعض
الناس ببلدتنا عما يحصل للميت في قبره من النعيم أو العذاب هل المنعَّم أو المعذَّب
هو الروح فقط أم الروح مع الجسم، فأجبته بما أعلم من نص أثر ابن عمر
والغزالي الموصوف بحجة الإسلام من أن المعذب هو الروح فقط. وقد وقع
اضطراب بيني وبين أهل بلدتي في هذه المسألة، فأرجو من حضرتكم توضيح
الحقيقة على صفحات مناركم الأغر حيث إن الله تعالى نصبكم لخدمة الدين والدفاع
عن شبهات الضالين لا زلتم هادين مهديين.
(ج) قد سبق لنا الإجابة عن مثل هذا السؤال في المجلد الخامس وبينا أصل
الخلاف في عذاب القبر وأن مذهب السلف عدم البحث في كيفية ما يرد في الكتاب
والسنة من أحوال الآخرة؛ لأنها مما يجب الإيمان به كما ورد من غير فلسفة فيه
ولا تحكم على الغيب؛ إذ لا يقاس عالم الغيب على عالم الشهادة، ولو أنكم دعوتم
أهل البلد إلى هذا التسليم لأقفلتم باب الجدل في وجوههم، ولا أقبح من الجدل في
أمر الآخرة الذي لا مجال للعقل ولا للحس فيه، والذين فتحوا هذا الباب هم الذين
فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، فقامت المعتزلة تقول: إن من الناس من تأكلهم السباع
والحيتان في البحر وتصير أجسامهم أجزاء من أجسام هذه الحيوانات، ومنهم من
يحرق ويذرى رماده، فكيف تقولون يا معشر الأشاعرة: إن في القبر عذابًا على
الروح والجسد؟ والصواب أنه لا عذاب إلا عذاب الآخرة بعد البعث. وقامت
طائفة أخرى تقول: إن الجسم لا إحساس فيه؛ فالحديث الوارد في عذاب القبر يراد
به تعذيب الروح مجردة. ويقول آخرون: الروح لم تعمل السيئات إلا بواسطة
الجسد؛ فلا بد أن يكون العذاب مشتركًا ويصدق ذلك بأن تتصل الروح بجزء أو
أجزاء من البدن ولو كان رميمًا أو داخلاً في بنية حيوان، ويقع العذاب عليهما معا
وهو قول أكثر المسلمين. ثم إن الاشاعرة يقولون: بأن الإعادة في الآخرة تكون
عن عدم بأن ينعدم الجسم من الوجود، ثم يخلقه الله تعالى بذاته ومع أعراضه في
قول، وهذا القول لا يتفق مع القول بأن عذاب القبر على الروح والجسد معًا، إلا
أن يقال: إنهم استثنوا عَجْب الذَّنَب؛ فقالوا: إنه لا يفنى، فلعلهم يقولون: إن عذاب
القبر يكون على الروح مع اتصالها بعجب الذنب، ولكن قال المزني من
الشافعية: إن عجب الذنب يفنى أيضًا.
فأنت ترى أن الباحثين بعقولهم فيما ورد من أحاديث عذاب القبر في خلاف لا
يكاد يسلِّم واحد منهم للآخر، ونحمد الله تعالى أنهم لم يجعلوا هذه المسألة من أصول
العقائد التي يكفر منكرها، ولا شك أن مذهب السلف هو الحق الذي يجب الأخذ به
وهو أن نقول: إن كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم- من أمر البرزخ
والآخرة حق نؤمن به ونفوِّض الأمر في حقيقته وكيفيته إلى الله تعالى، مع العلم بأن
الأرواح هي التي تشعر باللذة والألم، وأن الأجساد لباس وآلات لتوصيل بعض
اللذات والآلام، وأي قول قلت فيه هذه المسألة لا يخرجك من الدين، فعلام التنازع
بين المسلمين.
__________(8/256)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحكمة في إنزال القرآن
(س22) عبد الحميد أفندي السوسي في (الإسكندرية) : ما هي الحكمة في
إنزال القرآن الحكيم؟ هل الحكمة بذلك التعبد بتلاوته كما يقول العلماء؟ وهل من
نص قطعي يؤيد قولهم؟ أو لنجعله حانوتًا نبيع منه (عدية يس) ونقرأه على
الموتى ونكتب آياته في آنية ونمحوها بالماء ونتعاطاها لنشفى من داء كذا أو لنقرأه
للتبرك وما هو التبرك؟ ألم يكن هو فهم آياته حق الفهم، والتأدب بآدابه
الكريمة، واتباع أوامره واجتناب نواهيه {ليَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (ص: 29) كما
قال جل ثناؤه. أرجو الجواب على صفحات مناركم، ولكم الأجر من ربي وربكم.
(ج) الحكمة من إنزال القرآن مبينة في القرآن ليس فيها شبهة لمن جعلوه
حرفة، بل فيه الحجة واللعنة على من يشترون به ثمنًا قليلاً. وليس فيها نص
قطعي يؤيد قولهم بالتعبد بتلاوته على إطلاقهم الذي يتناقلونه، ولكنهم يستدلون عليه
بأحاديث هم يتفقون على أنها ليست نصوصًا قطعية كالأحاديث التي وردت في كون
تالي القرآن يعطى بكل حرف عشر حسنات ونحو ذلك من الثواب وهناك أحاديث
أخرى في وعيد من يتلو القرآن وهو غافل عن هدايته لا بد من الجمع بينها وبينها،
وإننا نذكر المؤمنين بشيء من الآيات والأحاديث في الحكمة والفائدة
التي أنزل الله لها القرآن؛ لأن أهل الأهواء السياسية والشخصية في مصر قد جعلوا
القرآن في هذه الأيام موضعًا لأهوائهم، فكل يزعم نصره ونصر حفاظه، والله أعلم
بالصادقين، ولا تخفى على الناس آيات المنافقين.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وهاك طائفة من الآيات الكريمة في حكمة تنزيل القرآن:
(1) {الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 1-2)
(2) {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 2)
(3) {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ
إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ} (إبراهيم: 1) .
(4) {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجاً * قَيِّماً
لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً
حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} (الكهف: 1-3) .
(5) {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} (طه: 1-3) .
(6) {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان:1) .
(7) {طس تِلْكَ آيَاتُ القُرآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ *
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (النمل: 1-3) .
(8) {الم * تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً
كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (لقمان: 1-7) [*] .
(9) {حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ
لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي
أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} (فصلت: 1-5) .
(10) {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً
كَثِيراً} (النساء: 82) .
(11) {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِين} (المؤمنون: 68) .
(12) {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) .
(13) {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب} (ص: 29) .
(14) {هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:
203) .
(15) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ
وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (يونس: 57) .
(16) {كُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ
الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (هود: 120) .
(17) {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى
وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: 111) .
(18) {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ
العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} (الرعد: 37) .
(19) {هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ
أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (إبراهيم: 52) .
(20) {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44) .
(21) {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى
وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين} (النحل: 102) .
(22) {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء: 9) (وفي هذه السورة آيات أخرى فيها
عبر كبرى) .
(23) {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّداًّ} (مريم: 97) .
(24) {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ
اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر: 21) .
والآيات في هذه المعنى كثيرة، وكلها ناطقة بأن القرآن أنزل هداية للناس
وبشيرًا للمحسنين في أعمالهم ونذيرًا للمسيئين، وأنه عبرة وتذكرة وموعظة وشفاء
لما في الصدور أي القلوب من أمراض الجهل بالله، وبما له على عباده من الحقوق
وما لبعضهم من ذلك على بعض، وأمراض الأخلاق السيئة والعادات الضارة.
وهناك آيات كثيرة في وعيد المعرضين عن هدايته الغافلين عن تدبره والذين
يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا، وكون هذا من صفات الكافرين، ومن أشد ما نزل في
المؤمنين الأولين على علو كعبهم، وقوة يقينهم، من قوله تعالى في سورة الحديد:
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا
كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) ذكر الله (وما نَزَلَ من الحق) هو القرآن. قال في الجلالين: إن الآية
نزلت في الصحابة لما أكثروا المزاح، وقال السيوطي في أسباب النزول: إنها
نزلت فيهم بعد أن قدموا المدنية فأصابوا من عيشها بعد ما كان بهم من الجهد وكأنهم
فتروا في العمل. فهذا هو القرآن وهذا وعظه وتربيته للمؤمنين فانظر إلى حفاظه
اليوم وإلى الذين يزعمون أن من تعظيمه وتكريمه أن يكون حافظه أميًّا لا يكلف قراءة
ولا كتابة ولا فهمًا ولا عقلاً ولا تدبرًا ولا تذكرًا ولا تفكرًا بل يكلف أن يتلوه ولو
بغير تجويد، وأن يأكل به أوقاف الأموات ومال الأحياء، أين هم من هدايته وأين
هم مما جاء به؟
وأما الأحاديث الواردة في القرآن فمنها ما ورد في حفظه وتعلّمه وتعليمه،
وهذا مطلوب لأمرين: أحدهما: فرض عيني، وهو معرفة العقائد الصحيحة
والآداب الكاملة، وفقه الأعمال التعبدية والدنيوية التي فصلت السنة كيفياتها أو بينت
صورها. والثاني: فرض كفاية، وهو تبليغه وحفظه لأجل تبليغه بلفظه على
الوجه الذي أدى إليه وبمعناه في الدعوة إلى ما دعا إليه من العقائد والأحكام
والفضائل ليكون الدين بذلك محفوظًا، ولا ينسى أن الترغيب في قراءته وحفظه
يستلزم الترغيب في فهمه والاهتداء به؛ لأنهم كانوا يفهمونه، بل ذلك مما يتضمنه
الترغيب بلفظه. ومنها ما ورد في وعد العاملين به ووعيد المعرضين عنه والواجب
فهم مراد الشارع من مجموع كلامه؛ فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض. وهذه طائفة
من الأحاديث في ذلك.
(1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم - قال (لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه
آناء الليل وآناء النهار فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت
مثل ما يعمل. ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق فقال رجل: ليتني أوتيت
مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل) رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي
والمراد بالعمل مثل ما يعمل فلان في الأولى هو العمل بالقرآن كما تدل عليه المقابلة،
ورواية ابن عمر في الحديث نفسه (فقام به آناء الليل) إلخ. قالوا: والمراد قام
به تلاوة وطاعة. وفي الحديث رواية أخرى أَبين في المراد، وهي عند البخاري
ومسلم وغيره، وفيها بدل أوتي القرآن (رجل آتاه الله الحكمة فهو يعمل بها ويعلمها
للناس) والمراد بالحكمة القرآن جمعًا بين الروايات.
(2) عن عثمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) رواه البخاري وغيره وفي رواية عنه (إن
أفضلكم) إلخ. قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: ولا شك أن الجامع بين تعلم
القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي؛ ولهذا
كان أفضل، وهو ممن عنى الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا
إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} (فصلت: 33) والدعاء إلى الله يقع
بأمور: جملتها تعليم القرآن، وهو أشرف الجميع، وعكسه الكافر المانع لغيره
من الإسلام كما قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} (الأنعام: 157) فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه، قلت: لا؛ لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس؛ لأنهم كانوا أهل اللسان فكانوا يدرون
معاني القرآن بالسليقة أكثر مما يدردها مَن بعدهم بالاكتساب، فكان الفقه لهم سجية،
فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك لا من كان قارئًا محضًا لا يفهم شيئًا من
معاني ما يقرؤه أو يقرئه. فإن قيل: فيلزم أن يكون المقرئ أفضل ممن هو أعظم
عناء في الإسلام بالمجاهدة والرباط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً. قلنا:
حرف المسألة يدور على النفع المتعدي فيمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل،فلعل
(من) مضمرة في الخبر بعد (إن [1] ) ولا بد مع ذلك من مراعاة الإخلاص في
كل صنف منهم، ويحتمل أن تكون الخيرية وإن أطلقت لكنها مقيدة بناس
مخصوصين خُوطبوا بذلك وكان اللائق بحالهم ذلك أو المراد من المتعلمين من
يُعلِّم غيره لا من يقتصر على نفسه، أو المراد مراعاة الحيثية [2] لأن القرآن خير
الكلام فمتعلمه خير من متعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن. وكيفما كان هو
مخصوص بمن تعلم وعلَّم حيث يكون قد علم ما يجب عليه عينًا اهـ.
(المنار)
هذا كلام الحافظ في معنى الحديث وفيه بيان مراد الثوري بتفضيل
إقراء القرآن على الجهاد؛ إذ لا يمكن أن يكون من لا يفهم القرآن ولا يفيد الناس
أحكامه كالمجاهد في سبيل الله، فانظر أين هذا من زعم بعض الناس أن أمثال
الحافظ للألفاظ في مصر أفضل من المجاهدين بالإجماع فما أجرأ الناس على دعوى
الإجماع بغير علم اعتمادًا على أن العامة تقبل منهم كل قول بغير دليل.
(3) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يقول: (يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم
وصيامكم مع صيامهم وعملكم مع عملهم ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم - أي
لا تفقهه قلوبهم ولا ينتفعون بما تلوه منه - يمرقون من الدين كما يمرق السهم من
الرمية) ... إلخ، رواه البخاري.
(4) عن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - أنه قال: (المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة، طعمها طيب
وريحها طيب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة، طعمها طيب ولا
ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر،
ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحظلة طعمها مر أو خبيث وريحها مر) رواه
البخاري ومسلم، وأنت ترى أنه جعل المؤمنين قسمين قسمًا يقرأ ويعمل بما يقرأ وهو
النافع لنفسه ولغيره أو الذي هو طيب في ظاهره وباطنه وإن كان لا ينتفع بظاهره،
ولم يذكر أن من المؤمنين قسمًا آخر وهو الذي يقرأ فقط بل عدّ هذا من المنافقين.
فانظر أين علم الرسول صلى الله عليه وسلم من علم هؤلاء الذين يقولون: إن حفاظ
الألفاظ الذين لا يقصدون بها الاهتداء ولا الإرشاد بل الكسب والاستجداء أئمة في
الدين، وإن من إهانة القرآن أن يقال: إنهم يحتاجون معها إلى العلم بالقراءة
والكتابة أو شيء آخر!!! أعوذ بالله من شر هذا الزمان، الذي عبث فيه الجاهلون
بالسنة والقرآن.
(5) عن جابر - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرابي والعجمي فقال: (اقرءوا فكل
حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه) رواه أبو داود
والبيهقي في (شعب الإيمان) والمعنى: أن الذين يجيئون من بعده يقيمون ظاهر
اللفظ من غير طلب لإقامة عقائد الدين وأحكامه وهدايتهم به، فهو كالذي يقوم القدح
وهو بالكسر السهم الذي لا ريش له ولا نصل فلا تمكن المناضلة به. ومعنى
يتعجلونه ولا يتأجلونه: يطلبون الانتفاع به والأجر عليه في الدنيا لا في الآخرة.
وهذا الحديث يصدق على القراء لأجل الكسب في هذا الزمان، وأوضح منه انطباقًا
عليهم الحديث الآتي.
(6) عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: (اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل العشق،
ولحون أهل الكتابين، وسيجيء بعدي قوم يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح لا
يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم) رواه البيهقي في
(شعب الإيمان) ورزين في كتابه. والذين يعجبهم شأنهم هم الذين يطربون بقراءتهم
أو يستأجرونهم لها والذين يرون الفضيلة والخدمة للإسلام في تكثير سوادهم وشدة
احترامهم.
(7) عن جابر - رضي الله عنهما - مرفوعًا إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم -: (اقرءوا القرآن وابتغوا به الله - تعالى - من قبل أن يأتي قوم
يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه) رواه أحمد وأبو داود.
(8) عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: (اقرأ القرآن ما نهاك؛ فإن لم ينهك فلست تقرؤه) رواه الديلمي
في مسند الفردوس.
(9) عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(اقرءوا القرآن واسألوا به الله قبل أن يأتي قوم يقرءون القرآن فيسألون به الناس)
رواه أحمد والبيهقي والطبراني.
(10) عن صهيب - رضي الله عنه - مرفوعًا (ما آمن بالقرآن من
استحل محارمه) رواه الترمذي.
(11) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا (من أخذ على القرآن
أجرًا فذاك حظه من القرآن) رواه أبو نعيم في الحلية.
(12) عن بريدة -رضي الله عنه- مرفوعًا (من قرأ القرآن يتأكل به
الناس جاء يوم القيامة ووجهه عظم ليس عليه لحم) رواه البيهقي.
(13) عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -مرفوعًا (من أخذ على تعليم
القرآن قوسًا قلده الله مكانها قوسًا من نار جهنم) رواه البيهقي وأبو نعيم في الحلية.
والطبراني بلفظ آخر، والروايات في القوس متعدد، وكان أُهْدِيَ مقرئ قوسًا فأخذها.
(14) عن ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعًا: (من أخذ على تعليم
القرآن أجرًا؛ فقد تعجَّل حسناته في الدنيا والقرآن يحاجه يوم القيامة) رواه أبو نعيم.
(15) حديث أبي هريرة المرفوع في الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم
النار وفيه: (أنه يقول لله تعالى يوم القيامة تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن،
وأن الله تعالى يقول له: كذبت إنما تعلمت ليقال: إنك عالم وقرأت القرآن ليقال هو
قارئ ثم يسحب على وجهه ويلقى في النار) والأحاديث في العمل بالقرآن وابتغاء
وجه الله تعالى به كثيرة ومنها ما فيه ترغيب في البكاء فنكتفي بهذا القدر، ونذكر
جملة في ذلك من سيرة السلف الصالح الذين كانوا مهتدين بالكتاب والسنة. جاء في
كتاب إحياء علوم الدين الفصل الآتي:
في ذم تلاوة الغافلين
قال أنس بن مالك: رُبّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه، وقال ميسرة: الغريب
هو القرآن في جوف الفاجر، وقال أبو سليمان الداراني: الزبانية أسرع إلى حملة
القرآن الذين يعصون الله -عز وجل- منهم إلى عبدة الأوثان حيث عصوا الله
سبحانه بعد القرآن. وقال بعض العلماء: إذا قرأ ابن آدم القرآن ثم خلط ثم عاد فقرأ
قيل له: ما لك ولكلامي، وقال ابن الرماح: ندمت على استظهاري القرآن؛ لأنه
بلغني أن أصحاب القرآن يسألون عما يسأل عنه الأنبياء يوم القيامة، وقال ابن
مسعود: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس ينامون، وبنهاره إذا الناس
يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا
الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، ولا ينبغي له أن يكون جافيًا، ولا
مماريًا ولا صيَّاحًا ولا صخَّابًا ولا حديدًا. وقال صلى الله عليه وسلم: (أكثر منافقي
هذه الأمة قرّاؤها) . وقال صلى الله عليه وسلم: (اقرأ القرآن ما نهاك فإن لم ينهك
فلست تقرؤه) وقال صلى الله عليه وسلم: (مَا آمن بالقرآن مَنْ استحل محارمه)
وقال بعض السلف: إن العبد ليفتتح سورة فتصلي عليه الملائكة حتى يفرغ منها،
وإن العبد ليفتتح سورة فتلعنه حتى يفرغ منها فقال العلماء: إن البعد ليتلو القرآن
فيلعن نفسه وهو لا يعلم يقول: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (هود: 18) وهو
ظالم لنفسه، ألا {لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ} (آل عمران: 61) وهو منهم، وقال
الحسن: إنكم اتخذتم قراء القرآن مراحل وجعلتم الليل جملاً، فأنتم تركبونه
فتقطعون به مراحله، وإن من كان قبلكم رأوا رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها
بالليل وينفذونها بالنهار، وقال ابن مسعود: أنزل القرآن عليهم ليعملوا به فاتخذوا
دراسته عملاً، وإن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفًا وقد
أسقط العمل به وفي حديث ابن عمر وحديث جندب رضي الله عنهما لقد عشنا دهرًا
وأحدنا يؤتى الإيما قبل القرآن: فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم
فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم رأيت
رجالاً يؤتي أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته لا
يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه ينثره الدقل، وقد ورد في
التوراة: (يا عبدي، أما تستحي مني يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في
الطريق تمشي فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرؤه وتتدبره حرفًا حرفًا
حتى لا يفوتك شيء منه وهذا كتابي أنزلته إليك، انظر كم فصّلت لك فيه من القول؟
وكم كررت عليك فيه؟ لتتأمل طوله وعرضه، ثم أنت معرض عنه، أفكنت
أهون من بعض إخوانك؟ يا عبدي يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل
وجهك وتصغي إلى حديثه بكل قلبك؛ فإن تكلم متكلم أو شغلك شاغل عن حديثه
أومأت إليه أن كف، وها أنا ذا مقبل عليك ومحدِّث لك وأنت معرض بقلبك عني
أفجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك؟) اهـ.
وأما علماء الخلف وأئمتهم فهم متفقون مع السف على ذلك قال الإمام محيي
الدين النووي في آداب حملة القرآن ما نصه:
(فصل) وينبغي أن لا يقصد به توصلاً إلى غرض من أغراض الدنيا من
مال أو رياسة أو وجاهة أو ارتفاع عن أقرانه أو ثناء عند الناس أو صرف وجوه
الناس إليه أو نحو ذلك، ولا يشوب المقرئ إقراءه بطمع في رفق يحصل له من
بعض من يقرأ عليه سواء كان الرفق مالاً أو خدمة، وإن قلّ ولو كان على صورة
الهدية التي لولا قراءته عليه لما أهداها إليه، قال الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ
الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن
نَّصِيبٍ} (الشورى: 20) ، وقال تعالى: {من كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا
نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ} (الإسراء: 18) الآية. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا
يتعلمه إلا ليصيب به غرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) رواه أبو
داود بإسناد صحيح. ومثله كثير إلخ.
وقال: (فصل) ولا يتعلم إلا ممن تكملت أهليته، وظهرت ديانته، وتحققت
معرفته واشتهرت صيانته.
ونكتفي بهذا القليل من الكثير في هذا المقام.
(النتيجة)
علم مما تقدم من الآيات والأحاديث، وآثار السلف الصالح أن القرآن هو
الهداية العظمى، وأن حَمَلته وحُفَّاظه هم أئمة المسلمين ومرشدوهم ولذلك أمر عمر -
رضي الله عنه - أن لا يقرئ الناس القرآن إلا عالم بالعربية ليقيم اللفظ فلا يسري
إليه الخطأ والغلط، ويفهم المعنى فيعمل به ويعلم الناس. وقد كان المشتهرون
من الصحابة بإقراء القرآن أكابر علمائهم كعلي وعثمان وأبيّ وزيد بن ثابت وابن
مسعود وأبي الدرداء وأبي موسى الأشعري. وممن قرأ على أُبيّ أبو هريرة وابن
عباس. فينبغي الاقتداء بالسلف بأن يكون حفاظ القرآن الذين يؤخذ عنهم هم الذين
ينقطعون لإتقان علوم القرآن اللفظية والمعنوية فيتقنونها. ولا يجوز أخذ القرآن عن
الجاهلين باللغة وبأحكام الدين والمرتكبين للمحرمات والدناءات؛ لأنهم ليسوا عدولاً
يوثق بروايتهم.
__________
(*) إني لأخشى أن تكون الجرائد التي تتكلم في الدين بالهوى لا بالعلم والإخلاص مما يدخل في لهو الحديث هنا.
(1) أي إن التقدير (أن من أفضلكم) وكثيرا ما يطلق اسم التفضيل على تقدير (من) كحديث
(خيركم خيركم لأهله) .
(2) أي: إنه افضل من حيثية التعليم لا من كل جهة.(8/258)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استطراد في حفاظ القرآن بمصر
وحادثة جديدة
جرت الحكومة المصرية على إعفاء حفاظ القرآن من الخدمة العسكرية؛ فكثر
حافظوه لذلك، وهؤلاء الذين يحفظونه لهذا الغرض ولا يريدون به وجه الله تعالى
كما ورد، ولا يلبث الكثيرون منهم بعد سن القرعة العسكرية أن ينسوه إلا من اتخذه
حرفة يكتسب به. ولما أنشأت نظارة المعارف تنظم المكاتب أو الكتاتيب التي يعلم
فيها القرآن أوفدت إليه المفتشين من أهل العلم المتخرجين في الأزهر ثم في دار
العلوم، وقد تبين لهؤلاء أن الكثيرين من الحفاظ الذين انقطعوا لإقراء القرآن لا
يحسنون تلاوته بالتجويد المطلوب شرعًا، وأنهم على جهل ومهانة لا تليق بعملهم.
وقد أقرت الحكومة في مجلس النظار الذي اجتمع في هذا العام برياسة الأمير أن لا
يعفى حافظ القرآن من الخدمة العسكرية من بعد إلا من يمتحن فيظهر أنه حافظ
للقرآن ومحسن لتلاوته بالتجويد الواجب شرعًا، ومتعلم مبادئ القراءة والكتابة التي
يتعلمها الصبيان؛ أي لا يشترط أن يكون الخط جميلاً والإملاء صحيحًا، ولا أن
تكون القراءة بدون لحن، وعارف بالقواعد الأربع الصحاح في الحساب. وغرض
الحكومة من ذلك فيما يظهر أن تكثر عدد الحفاظ الذين يصلحون لإنشاء الكتاتيب
وأن يكونوا محترمين في الجملة بالارتقاء عن الأمية المحضة فينتفع الناس بهم.
ومن عجائب مصر أم العجائب أن قام بعض الناس يكتب المقالات الطويلة في
جريدة المؤيد معزوة إلى أزهري مجهول يحاول إقناع الناس بأن هذا الذي قررته
الحكومة إهانة للقرآن ولحملة القرآن، وحجته أن الذي يحفظ ألفاظ القرآن يجب أن
يستغني بها عن كل شيء حتى ما يعده لتجويد تلاوتها وفهم عبارتها. وكتب مجهول
آخر في المؤيد في تقبيح ما تريده الحكومة. وجريدة المؤيد مؤيدة لهم، ولها معهم
حجة أخرى، وهو أن من تكريم حفاظ القرآن أن يعاملوا كبعض خدمة الكنائس
والأديار الذين يعفون من خدمة العسكرية وهم غير متعلمين! ! وطفقوا يصورون
للعامة أن هذا إهانة للقرآن وأن بعض العظماء في الأمة يذرون الدموع أسفًا وحزنًا
على مصاب الإسلام بإخراج حفاظ القرآن من الأمية والجهل بالقراءة والكتابة إلى
أدنى مرقاة من سلم العلم والمعرفة. وقد نشرت في المقطم مقالة معزوة إلى أحد
العلماء جاء فيها أن تعلم الفنون العسكرية من فروض الكفاية فلا ينبغي أن يُعَدَّ
إهانة لأهل القرآن، وإذا كان الناس لا يستغنون عن الحفاظ في البلاد والقرى
ليرجعوا إليهم في ضبط القرآن أو أحكامه فالجنود يحتاجون أيضًا إلى الحفاظ في
سفرهم وإقامتهم لمثل ما يحتاج إليهم غيرهم، فقام الأزهري المجهول يهزأ بهذا
القول الحق ويزعم أن الفنون العسكرية ليست مفروضة في مثل هذه البلاد، يشير
إلى أن هذا الغرض سقط عن المسلمين في مصر لاحتلال الإنكليز فيها.
وقد نسي هذا الأزهري -إن كان هنالك أزهري- حكم مذهبه الذي يتلقاه هو
وأمثاله في الأزهر في دخول الأجانب في بلاد المسلمين فاتحين ويعتقدون أنه محكم
يعمل به في كل زمان وهو أن الجهاد عنده يكون حينئذ من الفرائض العينية التي
تجب على كل مكلف حتى مشايخ الأزهر ومجاوريه وكذا النساء في قول، فإن كان
يعتقد أن الإنكليز فتحوا هذه البلاد وملكوها وصارت في عرفه دار حرب فكيف كتب
ما عزاه المؤيد إليه، وإن كان يعتبر الظاهر الرسمي وهو أن هذه البلاد لا تزال
إسلامية وأن حاكمها هو الأمير عباس باشا حلمي الذي ولاه عليها السلطان عبد
الحميد وأن البلاد دار إسلام وأن الإنكليز فيها معلمون ومصلحون لفساد حكامها حبًّا
في الإنسانية فكيف يزعم أنه طرأ عليها ما أسقط الفرض عن مجموع أهلها حتى
انتقد الاستعداد له؟
لعله عرَّض بذلك التعريض لاعتقاده أن ذلك العالم الذي كتب في المقطم لا
يقدر أن يبين رأي فقهاء الأزهر في هذه المسألة وينشره في المقطم أو في غيره
خوفًا من الإنكليز، وإن كان الإنكليز فوق ما يظن من احترام الحرية الدينية وغير
الدينية؛ لأن نفوذهم لم يكن يمنع الناس من إظهار ما يريدون إظهاره، وإنما هو
بالسماح لهم بذلك؛ لأنهم لا يخافون عاقبة ذلك ما داموا واثقين بأن سيرتهم هي
العون لهم على إرضاء الناس وتفضيلهم إياهم على الظالمين الذين غلُّوا أيديهم عن
الظلم.
ما لنا وللبحث مع المجهولين في أمر الدين، ونحن نعلم مبلغ علمهم وغاية
مرماهم في كتابتهم، وهذا مما نحب الإعراض عن الخوض فيه، ولكن هناك أمرًا
آخر جديرًا بالاعتبار وعرضه على ما تقدم من النصوص، وهو أن الشيخ عبد
الرحمن الشربيني شيخ الجامع الأزهر كتب إلى نائب أمير البلاد (قائمقام خديوي)
رئيس مجلس النظار كتابًا رسميًّا عن قرار من مجلس إدارة الأزهر يطلب فيه أن
تعدل الحكومة عن مشروع امتحان الحفاظ بما تقدم ذكره، وهذه عبارة الكتاب بعد
حذف رسم الخطاب، منقولة عن المؤيد:
(قد علمنا أن نظارة الحربية وضعت مشروعًا جديدًا لتعديل بعض مواد
قانون القرعة العسكرية وأنه معروض الآن على مجلس شورى القوانين وأنه يقضي
بأن من يحفظ القرآن الشريف ويحسن تلاوته وليس له حرفة سواه لا يعفى من
القرعة العسكرية إلا إذا كانت له دراية بفن الحساب ونحوه.
وحيث إن كتاب الله تعالى (القرآن) هو أفضل الكتب السماوية وهو أساس
دين الإسلام، قد انعقد الإجماع على أن حفظه والتعبد بتلاوته هو من أهم أمور الدين
وأن حَمَلته من أشرف الناس وأولاهم بالاحترام والتكريم، وأن حفظه من فروض
الكفاية، وأن القائمين به كالمجاهدين في سبيل الله تعالى، وأنه أصل الأصول فكل
شيء يرجع إليه ويتبعه، فهو بمفرده كافٍ لاحترام أهله وتوقيرهم بدون ضم شيء
آخر إليه.
فلذلك وما رأيناه من ميل علماء الأزهر وغيرهم من التحرير لجانب الحكومة
السنية بالتماس العدول عن المشروع الجديد وإبقاء الحال على ما كان عليه قد جرت
المذاكرة في هذا الشأن بمجلس إدارة الأزهر بجلسته المنعقدة يوم الأحد 28 مايو
الجاري فتقرر أن يرفع الأمر إلى عطوفتكم وإلى هيئة الحكومة رجاء العدول عن
هذا المشروع وإبقاء الحال على ما كان؛ احترامًا لكتاب الله تعالى وإجابة لنداء علماء
الأمة، وأن لا يكون الامتحان في نظارة المعارف كما يقتضيه المشروع.
فلهذا اقتضى تحريره ومع الموافقة يرسل من هذا المحرر صورة إلى مجلس
شورى القوانين للعمل بما فيه، أفندم) اهـ.
وهذا الكتاب منتقد من وجوه: (منها) أن عبارته كعبارة بعض الجرائد فيها
ما ينتقد لغة ولا نطيل في هذا. (ومنها) أن الحكومة لم تشترط في إعفاء الحفاظ
من القرعة العسكرية (الدراية بفن الحساب ونحوه) وإنما اشترطت معرفةً ما
بقواعد الحساب الأربع في الصحاح دون الكسور وهو ما يمكن تحصيله في أسبوع
وإتقانه في شهر، ومعرفته كمعرفة الاسم والفعل والحرف في النحو بتمييز بعضها من
بعض بالإجمال، فإن كان العارف بهذه يعد ذا دراية بفن النحو فالعارف بالقواعد
الأربع الصحيحة يعد ذا دراية بفن الحساب. والدراية هي العلم، وقيل: هي أخص
من العلم. ثم إن المفهوم من كلمة (ونحوه) سائر الفنون الرياضية كالجبر والمقابلة
والهندسة وليس شيء من هذا مشروطًا. (ومنها) قوله: انعقد الإجماع على أن
حفظه والتعبد بتلاوته من أهم أمور الدين، وقد علم مما تقدم أن كلاًّ من الحفظ
والتعبد إنما يكونان من مهمات الدين بالشروط والآداب التي فهمت من الآيات،
والأحاديث السابقة وذلك لا يتحقق إلا في الحفاظ وأهل القرآن الذين ينطبق عليهم
معاني الآيات والأحاديث وأقوال العلماء التي تقدمت وهي لا تنطبق على الحفاظ
الأميين الذين لا حظ لهم من القرآن إلا تحريك اللسان بها للكسب أو للعبادة، فأما
تحريكها للكسب فقد علمت ما فيه على أن بعض العلماء أجاز أخذ الأجرة على
تعليمه بعقد صحيح وقلما يصلح للتعليم الأمي المحض الذي لا يعرف ما اشترطته
الحكومة في إعفاء الحفاظ. وأما المتعبد بالقراءة فلا مزية له على القارئ
بالمصحف، بل صرح العلماء بأن القراءة في المصحف أفضل، وروي
الحديث في ذلك، وهذا التعبد عندهم سنة لا فرض كفاية فهو من قبيل الذكر
والتسبيح. فكأن شيخ الأزهر لا يريد إلا إعفاء الحفاظ القائمين بحقوق القرآن وقليل
ما هم وهو خلاف المتبادر من غرض كتابه. (ومنها) قوله: إن القائمين به أي
بالحفظ كالمجاهدين في سبيل الله تعالى والظاهر أن هذا من المجمع عليه في رأي
الشيخ وقد رأيت كلام الحافظ ابن حجر فيه وأنه لا ينطبق على هؤلاء الحفاظ
الجاهلين بمعاني القرآن وإفادتها. (ومنها) قوله: وإنه أصل الأصول فكل شيء
يرجع إليه ويتبعه. وليس حفظ القرآن من غير فهم أصلاً لأصول الدين يرجع إليه
كل شيء، وإنما ذلك القرآن نفسه من حيث فهمه واستنباط الأحكام منه والاهتداء
والإرشاد به، وهؤلاء الحفظة المطلوب امتحانهم بالقراءة من غير اشتراط الصواب
وعدم اللحن ليسوا على شيء من ذلك، فعلم أن دعوى الإجماع على ما فهم من
الكتاب غير صحيحة بل لم يقل أحد من الأئمة بأن أمثال حفاظ الألفاظ الذين يًدعى
واحدهم في مصر بالفقيه لهم تلك المزايا والحقوق والاحترام الديني؛ فالنتيجة المرادة
من كتاب الشيخ المبنية وهي العدول عن المشروع احترامًا لكتاب الله تعالى لا تترتب
على تلك المقدمات، بل تنفيذ المشروع أقرب إلى احترام القرآن وأهله من العدول
عنه؛ لأن اللائق بحَمَلة القرآن أن يكونوا من أهل العلم باللغة والقراءة والكتابة وبل
أن يكونوا أعلى من ذلك كما علم مما تقدم ومما انتقد به الكتاب كونه بقرار مجلس
إدارة الأزهر الذي يعد من مجالس الحكومة وهو مقيد بقانون ليس أن له يتعداه
رسميًّا فكان اللائق أن يكون نصيحة دينية غير رسمية إن كان هناك وجه
للنصيحة.
أرسل الكتاب إلى رئيس النظار وبعد إرساله بيوم نشر المؤيد بتاريخه (وهو
24 ربيع الأول) وعدده الرسمي (وهو نمرة 667) وفي اليوم لنشره اجتمع شيخ
الأزهر ببعض أعضاء مجلس الشورى فسألوه هل في مشروع الحكومة شيء مخالف
للدين فقال: لا، وتذاكروا في كتابه إلى رئيس النظار فقال لهم على ما نقل إلينا أن
الكتاب الذي نشر وكتب لم يكن مطابقًا لم أمر هو به، وأنه رأى فيه بعد النشر ما لم
يكن يعلم واقتنع بأن إرساله كان في غير محله، وبادر إلى ملاقاة رئيس النظار
واعتذر له عن إرسال الكتاب ورغب إليه في (سحبه) وإهماله وحسبانه كأن
لم يكن فقبل الرئيس منه ذلك. وكان هذا من دلائل سلامة قلب الأستاذ شيخ الجامع
وحسن نيته، على أن سحب الكتاب قد ساء الذين سعوا فيه وحملوا الشيخ عليه كما
ساء إرساله جميع العقلاء الذين علموا أن عاقبته لا تكون حسنة، وهو الآن حديث
العامة والخاصة وجميع المسلمين ممتعضون لما صار إليه مجلس إدارة الأزهر من
التأثر بكلام أهل الأهواء الذين يذمون الحسن ويمدحون القبيح ومجاراتهم التي تفضي
إلى ما لا تحمد عقباه.
__________(8/267)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(كتاب الشعر والشعراء)
هذا الكتاب مشهور عند أهل الأدب المتقدمين والمتأخرين بفائدته وبشهرة
مؤلفه أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري أحد أئمة اللغة والأدب وصاحب
(أدب الكاتب) وغيره من التآليف المفيدة، المتوفى سنة 276هـ، وموضوع
الكتاب ما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- بقوله في أوله:
(وهذا كتاب ألفته في الشعر أخبرت فيه عن الشعراء، وأزمانهم، وأقدارهم
وأحوالهم في أشعارهم، وقبائلهم، وأسماء آبائهم، ومن كان يعرف باللقب أو الكنية
منهم، وعما يُستحسن من أخبار الرجل ويستجاد من شعره، وما أخذته العلماء
عليهم من الغلط والخطأ في ألفاظهم، وما سبق إليه المتقدمون فأخذه عنهم المتأخرون.
وأخبرت فيه عن أقسام الشعر وطبقاته وعن الوجوه التي يختار الشعر عليها
ويستحسن لها إلى غير ذلك مما قدمته في هذا الجزء الأول، وكان قصدي للمشهور
من الشعراء للذين يعرفهم جُلّ أهل الأدب، والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في
الغريب والنحو في كتاب الله -عز وجل - وحديث الرسول، صلى الله عليه
وسلم. فأما من خفي اسمه، وقلّ ذكره، وكسد شعره، فما أقل من هذه الطبقة
(كذا) إذ كنت لا أعرف منهم إلا القليل ولا أعرف لذلك القليل أخبارًا، وإن كنت
أعلم أنه لا حاجة بك إلى أن أسمي أسماء لا أدل عليها بخبر، أو زمان أو نسب،
أو نادرة، أو بيت يستجاد أو يستغرب) ... إلخ ما قاله. وهذا كاف في التعريف
بفضل الكتاب فهو من الكتب التي تطبع ملاكة البلاغة في النفس، وتعدها للإجادة
في الشعر والكتابة. ومن مختار الشعر الذي أورده وهو يحكي عن أخلاق العرب
وشهامتهم قول سعد بن ناشب:
سأغسل عني العار بالسيف جالبًا ... عليَّ قضاء الله ما كان جالبا
ويصغر في عيني تلاوي إذا انثنت ... يميني بإدراك الذي كنت طالبا
فيا لرزام رشحوا بي مقدمًا ... إلى الموت خواضًا إليه الكتائبا
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكَّب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في رأيه غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
وقول محمد بن عمير المعروف بالمقنع الكندي:
ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
وليسوا إلى نصري سراعًا وإن هم ... دعوني إلى نصر أتيتهم شدا
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
يعيرني بالدَّيْن قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
وقد طبع الكتاب على نفقة محمد أمين أفندي الخانجي الكتبي الشهير، وهو
يطلب منه ومن إدارة المنار، وثمن النسخة منه خمسة قروش صحيحة ما عدا أجرة
البريد.
***
(ديوان الحماسة)
هو مجموع ما اختاره من شعر العرب أبو تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر
الشهير، وهو أشهر من نار على علم، وكان الأدباء يتنافسون في استظهاره،
واقتباس جذى البلاغة من ناره، وقلما نبغ شاعر أو أديب، ولم يكن حفظ ديوان
الحماسة أو كثرة مطالعته من أسباب نبوغه. ولما فترت همم المتأخرين عن تلقي
مثله عن كلام العرب فتر الشعر وبرد حتى صار يقف لسماعه شعر صاحب الذوق
وتغثى نفسه عند إنشاده، وإننا نرى في زماننا هذا نهضة في إحياء اللغة نشكر
للوراقين إسعادنا بما يطبعون من الكتب النافعة كهذا الكتاب والكتاب الذي قبله وما
سيذكر بعده، فقد طبع الشيخ محمد سعيد الرافعي صاحب المكتبة الأزهرية ديوان
الحماسة طبعًا مضبوطًا بالشكل، وفسر في أدنى كل صفحة جميع الأبيات فيها
مختصرًا ذلك من شرح التبريزي المشهور وجعله في مجلد واحد بحجم أصغر من
حجم المنار؛ ليسهل تناوله على الطلاب ويخف حمله على المتأدبين، وجعل ثمنه
اثني عشر قرشًا فقط، فقد اجتمع لمريده المرغِّبان في اقتنائه كثرة الفوائد وقلة
الثمن وهو يطلب من طابعه بِالسكة الجديدة بمصر.
***
(ديوان أبي تمام)
أبو تمام من شعراء الطبقة الأولى من المولدين وجيده أعلى من جيد البحتري
والمتنبي اللذين يقرنان به، ولكن من رديئه ما هو دون رديئهما، ولعله لولا حبّ
الجناس لما ارتكب التكلف، ولما وقع في التعسف؛ فأكثر رديئه في ذلك، وهو عند
أكثر المتأخرين لا يعد رديئًا بل ربما فضَّله عشاق المحسنات اللفظية على سائر
شعره. وهو على كل حال من أهل الرعيل الأول، والذين على بلاغتهم المعول،
وقد احتذاه وأخذ عنه مَنْ بعده حتى المتنبي. وكنت ترى من العجب أن الشعر
ترتقي صناعته في هذه السنين وديوان أبي تمام لا يطبع المرة بعد المرة، وقد أحس
بهذه الحاجة محمد أفندي جمال البيروتي فانتدب لطبعه ورغب إلى الشيخ
محيي الدين الخياط أن يفسر غريبه ويضبطه بالشكل ويصحح طبعه، فأجابه إلى
ذلك، ووضع للديوان مقدمة تكلم فيها عن الشعر بكلام شعري أي بالتخيلات
والتشبيهات، وعلى البلاغة والشعر العصري وعلى وجوب التوسع في اللغة
وقبول الدخيل فيها وتعريبه، وختمها بترجمة أبي تمام. وقد بلغت صفحات الديوان
خمسمائة ونيّف، وثمنه في مصر اثنا عشر قرشًا وأجرة البريد قرشان
وفي سائر البلاد 3 فرنكات ونصف، ويطلب من طابعه ببيروت ومن إدارة مجلة
المنار بمصر.
***
(ديوان ابن نباتة المصري)
جمال الدين محمد بن نباتة المصري من شعراء القرن الثامن كان من أهل العلم
والأدب ومدح الملوك والكبراء والعلماء وهو مشهور بالرقة والسلاسة في شعره
على ما يحب المتأخرون وخاصة المصريين، فإن كلامه أحلى في ذوقهم وأدنى من
استحسانهم ومن ذلك قوله في المقاطيع:
يا مولعًا بملامي حسبك الله ... كم ذا تهيج مغرى القلب مضناه
هذا الحبيب وذا فكري وذا جلدي ... في راحتيه فقل لي كيف أنساه
إني لأعلم أن الرشد أجمعه ... في تركه غير أن النفس تهواه
ساجي اللواحظ خمري مقبله ... داجي الذوائب بدري محياه
إن كان للحب شخص فهو مهجته ... أو كان للحسن لفظ فهو معناه
أفديه بدرًا بقلب الصب غزوته ... وفي السماء برغم الصب لقياه
لو لم يكن ريقه خمرًا ومرشفه ... ما عربدت عينه واهتز عطفاه
وله في شعره نكت وكنايات مما يعرف الآن (بالنكت البلدية) لا تسلم من
المجون وابن حجة يطريه في الثناء.
وقد طبعه في هذه الأيام الشيخ محمد القلقيلي وكتب له مقدمة ذكر فيها أن الذي
أسعده على ما همت به رغبته وقصرت دونه يده إبراهيم بك رمزي صاحب مطبعة
ومسبك التمدن، ولعمري إنه قد طبع طبعًا جميلاً على ورق جيد يليق بإتقان رمزي
بك، وبلغت صفحات الديوان 596 صفحة، وقد جعل ثمنه 20 قرشًا، ولمبتاعه
كفلان من الفائدة: أحدهما: الأنس بالديوان والتمتع بمطالعته. وثانيهما: إعانة
طابعه على أعماله الأدبية التي انصرفت همته اليها وأراد رمزي بك إسعاده عليها،
وهو يطلب منه ومن مطبعة التمدن بجوار عابدين.
***
(مجلس سركيس)
سليم أفندي سركيس نشأ في حجر الصحافة حتى ترعرع وشب واكتمل فذاق
حلوها ومرها، وعرف وصلها وهجرها، وفارق فيها الدار والوطن، وهاجر
بالأهل والسكن، فاشتغل بالكتابة في الجرائد ببيروت ومصر وأمريكا ثم عاد
إلى مصر واختار أن ينشئ مجلة يقصر مباحثها على الأفاكِيه والمُلح الأدبية ففعل
فجاءت (مجلة سركيس) وحيدة في موضعها لا يستغنى عنها في هذه البلاد
بصحيفة من نوعها.
وإذا كانت المسائل العلمية والسياسية والاجتماعية والدينية وغيرها من حاجات
أصناف من الناس فالفكاهة من حاجات جميع الناس يرغب فيها العالم والفقيه
والفيلسوف والأديب والعامي والخاصي، ومن ثَمَّ كان الرجاء بنجاح مجلة (سركيس)
قويًّا لا سيما إذا أصاب في مُلَحه ونوادره مواقع الإعجاب من نفوس أبناء هذه
البلاد وهو جدير بذلك لسعة اختباره. والمجلة تصدر في الشهر مرتين وقيمة
الاشتراك فيها 60 قرشًا في مصر و20 فرنكًا في سائر البلاد.
__________(8/272)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حضرموت واليمن
نلخص ما يأتي من رسالة صديق لنا في حضرموت قال: كان خروجي إلى
حضرموت من عدن؛ لأني لم أجد مركبًا بحريًّا إذا ذاك، فازددت بذلك علمًا عن تلك
الفيافي والقفار، والبدو، والحضر، والعرب بتلك الجهات ووقفت على أحوالهم
وعاداتهم وحالة الدين واندراسه، ودسائس الإنكليز هناك وما يُنتظر للدولة العلية في
اليمن. قطعت في سيري أرض الفضلي وهي أول دولة من دول العرب هناك تلي
إنكلترا وتواليها، ولها سواحل بالقرب من عدن أشهرها يسمى (شقره) ودولتها
بدوية استبدادية، وعسكرها هم عصبة الملك وقبيلته وهم بدو حربيون، ولها
سياسة، واسم ملكها أحمد بن حسين الفضلي وهو باسط بساط العدل والأمان، ومن
عاداته أنه من سُرق له شيء أو نُهب من بلده يجيئه فيعطيه من خزينته عوض ما
سُرق أو نُهب منه ويذكي هو العيون على المعتدي حتى يظفر به ويسترد منه ما
أخذه، وله راتب سنوي من إنكلترا نحو 12000 روبية ويسمونه (مشاهرة) وقد
وقع بينه وبين الإنكليز تنافر من مدة؛ لأنه طلب سلاحًا مدافع لم تسمح له بذلك.
يليه (يافع) ويقدرون ساكنيه بنحو 75000 ألفا ويجلب منه (يصدر)
الجلود والبن والورس والزعفران والذرة والقمح وغيرهما من الحبوب. وهم بدو
قبائل متفرقة يتحاربون ويتصالحون، ولهم من الإنكليز مرتب، وقد أريدوا على
الدخول في الحماية البريطانية فأبوْا، ولما قاتلوا الإنكليز منذ عامين عاتبهم الباشا
صاحب قحطبة من ولاية الدولة العلية.
يليهم الجبال البيضاء وهي أرض ذات أنهار وخصب، أهلها بدو وهم موالون
لإنكلترا ولهم راتب منها، والعواذل وهم دولة وقصبتهم تسمى (دثينة) وهي خصبة
ذات تربة طيبة، ولم يطاوعوا إنكلترا ولذلك أجلت المهاجرين منهم من عدن
بالسعط لما عارضوا جنوده التي وجهها الإنكليز إلى بلاد العوالق.
يليهم بلاد العوالق وأهلها قبائل لهم دولة من غيرهم ولا نفوذ له (يريد بالدولة
الحاكم) وعاصمتهم أنصاب وهي ذات آثار وبقربها أحجار عليها كتابات حميرية
ولملكهم ورؤساء القبائل مرتبات ولعالمهم (عاتق باكر) الذي له نفوذ هناك حتى
إنه ليجمع الزكاة من البادية راتب شهري من الإنكليز قدره 500 روبية على أنه
يأخذ راتبًا من الدولة العلية، فهو منافق وميله القلبي إلى بريطانيا ولذلك يوسع
نفوذها هناك. أما العوالق فيقدرون عسكرهم الذي يمكنه القتال بنحو 4000 ألف
(كذا في الأصل فإن كان مراده أربعة آلاف كما هو الظاهر فلا حاجة إلى كلمة (ألف)
بعد الرقم ويقرب أن يكون عددهم أربعون بألفا ويبعد أن يكون أربع مائة ألف فما
كتب خطأ نرجو من الكاتب إصلاحه بعد وصول المنار إليه) حدثني بذلك رئيسهم
أخذًا من عددهم في الوقائع (الغزوات) القومية التي حشدهم فيها.
يلي العوالق إلى ناحية الشرق والبحر دولة الواحدي عاصمة حبان وهي بلدة
قديمة أسس جامعها سنة 266 للهجرة وكان بها من العلماء جهابذة فصحاء وقفت
على بعض قصائدهم الفصيحة التي تكاد تسيل انسجامًا، وحالتها اليوم جاهلية وهي
تحت حماية الإنكليز، وقد عقدوا عهدًا على خروجه إليهم (كذا) وساحلهم بالحاف
وقد أخذ نصفه أمير المكلا القعيطي من أخي ملكها شراء، فقامت إنكلترا تعارض فيه
والله يعلم هل يسلم له أم تأخذه إنكلترا.
(وههنا رسم الكاتب صورة تلك البلاد من عدن إلى الشحر وأنصاب العوالق
وكتب عند ذكر (الحج) أن ملكها أحمد فضل العبدي قد باع أرضه من إنكلترا
وله راتب منها. وعند (قحطبة) أنها أول ولاية للدولة العثمانية. وعند ذكر
(الشحر) أنه عند أمير المكلا القعيطي وهو داخل تحت حماية إنكلترا. وعند ذكر
(سبأ) و (مأرب) ملكهما من الأشراف وهو محالف لإنكلترا وله راتب وبينهم
عهود، وقد أوفدت إنكلترا إلى تلك البلاد وفدًا علميًّا فنقلوا رسوم الآثار والكتابات
الحميرية التي على الصخور، والأسطوانات الرخامية الحميرية ... إلخ. وقال:
إن من يشاهد نفوذ الإنكليز هناك يعتقد أن الدولة العلية سيتقلص ملكها عن قريب
بسعي أولئك الرجال. ونزيد قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِين} (الزخرف: 76) فإن عادوا للعدل، عاد الله عليهم بالفضل، ثم قال: على
أنني لم أخبركم ببعض الجبال والمراكز والقبائل فانظروا تروا أنه إذا نشبت الحرب
بين إنكلترا والدولة فإن إنكلترا تأتيها من فوقها ومن أسفل منها. وهذه المراكز
الداخلة تحت حماية إنكلترا أو في محالفتها تسمى باليمن الأسفل إلا الضالع فإنها من
اليمن الأعلى، ونفوذ إنكلترا في اليمن الأسفل يمتد مسافة شهر تقريبا وستمد سكة
حديدية تقطع هذا البر إلى (أنصاب) عاصمة العوالق ثم تمر بعد ذلك في الوادي
التي تحلها كندة ونهد والكرب إلى الكويت. ولم تدع إنكلترا رأسًا من رءوس
القبائل إلا وأعطته مرتبًا جاريًا، وكان تداخلها في هذه البلاد بواسطة واحد من
أبنائها دخل البادية ونشأ فيها فهو يتكلم بلغتها وإذا دخل فيها يلبس لها لباسها الذي
هو من السن إلى الركبة (كذا) ورداء وعمامة وتسميه البادية (عبد الله بن
منصور)
وأهل البادية يتحدثون بعدل إنكلترا وبديانتها التي تمليها عليهم القسوس بعدن،
ولقد حرت من تقريرهم لها إذ لا يعرفون معنى الدين الإسلامي ما هو، وسيكون
لذلك الأثر السيئ في تلك الأقطار إذا خالط أهلها الإنكليز، فالمعارف الدينية معدومة
بالكلية حتى إن هناك العوالق السفلى والمقاتلة منهم يقدرون بنحو 200 لا يعرفون
شيئًا من الدين ونكاحهم إنما هو نهب ينهب الواحد بنت الآخر ويتزوج بها، فإذا
ولدت ذهب أولادها يأتون بالعقد عند أبويها وإنها لتفتخر على من تزوجت
بالتراضي وينكح أحدهم أخته وخالته وزوجة أبيه بعد موته ولا يعرفون النبي،
صلى الله عليه وسلم.
والبادية كلها متسلحة بالسلاح الحديث المكتوب عليه (كارديف) و (مارتين)
و (سن إيتمنس) وإنكلترا مشددة على الخرطوش فلا يصل إليهم إلا بعد الجهد
وهم يشرونه بأثمان باهظة. وإنك لترى أهل البوادي يتسابقون إلى عدن تسابق
الجياع إلى الصقاع والمال ينهال عليهم حتى أن البدوي الذي يقنع بالروبية يعطى
من المائة إلى المائتين بلصه أو بخشيش ويسمونه (فشح) وسأخبركم بأخبار تلك
الجهة على التحقيق وبما للسادة (الشرفاء) من النفوذ هنا ككون كل قبيلة لها
(منصب) منهم أي رئيس روحي يعقد الصلح ويأخذ النذور ويستغاث بجده
المعروف بالولاية.
مكثت في تلك الجهات شهرين في حل وترحال إلى أن وافيت حضرموت
أهلها في الجملة (قبورية) وسأخبركم بحالها وبسياسة أمير المكلا فيما يأتي. أما
واردات المكلا خاصة فهي 350000 جنيه يأخذ عليها الأمير مكسًا باهظًا. وأما
الصادر وهو التنباك والسمك وغيره فنحو 100000 جنيه ولا تزال أساطيل إنكلترا
ومدرعاتها تطوف بهذه السواحل تتنسم الأخبار وعسى أن نوفق هنا للدعوة، فإنا
وجدنا حزبًا يوافق ما نحن عليه وأناسًا يعرفون المنار أكثرهم ممن يتاجرون إلى
جاوه ودولة المكلا (أي أميرها) غائب بالهند وسأوافيكم بما يتجدد. اهـ
المراد منه.
__________(8/275)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تنازع الدول في جزيرة العرب
كثرت أقوال الجرائد المصرية وغيرها في عناية الإنكليز بتقوية نفوذها في
بلاد العرب، وقد علمنا أنه جاء مصر في هذه الأيام وفد من فرنسا وآخر من ألمانيا
وكل منهما يريد الذهاب من هنا إلى بلاد العرب مستعينًا بالمصريين، فأما الوفد
الفرنسي فإن من أعضائه علي أفندي زكي المصري وكيل المؤيد في باريس وصاحب
المقالات الكثيرة التي تزيد نفوذ فرنسا في بلاد المغرب، وقد سعى صاحب المؤيد
نفسه هنا في مساعدة هذا الوفد الذي سيذهب إلى الخليج الفارسي ويكون وكيل المؤيد
في البصرة مساعدًا له. وأما البعث الألماني فقد استأجر من العربان هنا خمسين ذلولاً
واتخذ له مترجمًا من شبان المصريين بأجرة كبيرة، واشترى كثيرًا من المصاحف
المذهبة والكتب الدينية ووجهته الأمير ابن الرشيد في نجد والعبرة في هذا ظاهرة لكل
عاقل وسيرة الدولة العلية في بلاد العرب معروفة لا حاجة إلى شرحها، والأمر لله
العلي الكبير.
__________(8/278)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الانتقاد على المنار
وعدنا في آخر المجلد السابع بأن نجيب على بعض الانتقادات التي وردت
علينا في العام الماضي ولم نتمكن من ذكرها والجواب عنها؛ لأن كثرة المسائل
العارضة اضطرتنا إلى الإرجاء، ولكننا نعجل الآن بذكر انتقاد جديد جاءنا من أحد
القراء الفضلاء الواقفين على كُنْه الحال في الجزائر وغيرها من مستعمرات فرنسا
قال بعد الثناء والتحية:
(قد اطلعت في العدد الرابع من المجلد الثامن من مجلة المنار الإسلامية
الغراء ما يأتي: وليت المراكشيين يعلمون أن ألمانيا ليست خيرًا من فرنسا في
مستعمراتها بل هي شر منها وأنهم إذا لم يستفيدوا من المناظرة بينهما بالعقل والحكمة
دون الاتكال على الكرامات فلا يكون دخول الألمان في بلادهم إلا وبالاًعليهم. وبعد
أن نظرت في هذا المقال أنا وأصحابي، وتأملنا فيه من جميع أركانه لم نجده إلا غلطًا
عظيمًا، ولم نظن قبل اليوم أن أهل الفضل مثل سيادتكم يقولون كلامًا مساعدًا
لإهلاك خمسة عشر مليونا من المسلمين معاونًا لسياسة الفرنسويين التعساء) .
ثم طفق يعدد سيئات لفرنسا في الجزائر كهدم المساجد وغصب الأرزاق
ومناهضة العرب ونصر اليهود ويبرئ ألمانيا من مثل ذلك ويذكرها بالثناء. وقال:
لا تغتر بكلام الموسيو لوسياني وغيره مع الأستاذ الإمام ولا بتجديد مدرسة لأربعة
ملايين، عدد تلامذتها عشرون، فإنه في عهد الحاكم الجديد جنار كثر الكذب
والتغرير واشتريت بعض الجرائد المصرية.. . بمائتي ألف فرنك لتكون عونًا له في
سياسته ضد الإسلام حول المغرب وتوليته عليه ... إلى ما آخر ما قال.
ونحن نخشى أن يكون فهمه لسياسة فرنسا كفهمه لعبارة المنار التي انتقدها فإنه
ليس الغرض منها إلا نصيحة المراكشيين بترك الغرور بالقبور وتوجيه العناية إلى
الاستفادة من تنازع ألمانيا وفرنسا على البلاد على حد قول الشاعر العربي:
تفرقت غنمي يومًا فقلت لها ... يا رب سلط عليها الذئب والضبعا
فإن كان يرى الفائدة في استيلاء ألمانيا على مراكش بغضًا بفرنسا فإنه يريد
يشفي غيظه بما يضر المسلمين ويذهب باستقلالهم كما كان بعض المصريين يفعلون
بالسعي لدى فرنسا لإخراج إنكلترا من مصر ولو أخرجتها لحلت محلها. فالذي نوده
نحن أن تبقى البلاد مستقلة ولكن مع سعي حكومتها وزعمائها في عمرانها وإلا كنا
طالبين للخراب والجهل الدائمين وهو طلب لا قيمة له عند الله ولا عند الناس
فالأرض يرثها من هو أصلح لعمارتها شئنا أم أبينا، سخطنا أم رضينا، وأما قولي:
إن ألمانيا شر من فرنسا فهو مبني على ما كان كُتِبَ إليَّ من مستعمرتها في شرقي
أفريقية كما بينت ذلك في الجزء الخامس (ص200) فكيف غفل عنه.
أما رأينا في سياسة فرنسا مع المسلمين في مستعمراتها فقد بيناه غير مرة وقلنا:
إنه يستحيل أن يطمئن المسلمون لحكمها ما لم تمنحهم الحرية التامة في الدين
والعلم، وتساعدهم على التعليم والعمران بالفعل لا بالقول ولا بإيهام الجرائد، وإن
سميت إسلامية، وقد سمعنا وقرأنا ما دلَّنا على أنها قد اهتدت إلى هذا الرأي، فإن
كان ذلك حقًّا فسترى حُسن عاقبته وإن كان تمويهًا كما يقول المنتقد فلا يلبث أن
ينكشف، ولكن من يغلو في الانتقاد قلما يؤخذ كلامه بالقبول؛ فليفهم هذا.
__________(8/279)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استدراك
نقلنا في الجزء الماضي ما ترجمته جريدة اللواء عن جريدة الغلوب الإنكليزية
في حادثة ترك الشيخ محمد عبده للأزهر، وقد سقط مما حَكَته الجريدة من كلام الشيخ
لمحدثه هذه الجملة: ثم قال - أي الشيخ - فهل يُسر الإنكليز بتخريجي لهم رجالاً
مستعدين يفهمون حقوقهم ويعرفون كيف يدافعون عنها بقوة مستمدة من العلم
والمعرفة؟ اهـ.
__________(8/280)
16 ربيع الثاني - 1323هـ
19يونيه - 1905م(8/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاتصال بين الآيات والسور
وجمع القرآن
(س23) أ. ت بقزان (روسيا) أعرض عليكم أيها الأستاذ ما اعترض به
عليَّ أحد الروسيين -بعدما ترجمت له تفسير القرآن من مجلتكم المنار الأغر - على
قول الأستاذ بالاتصال بين الآيات والسور، قال: إن المتفق عليه عند علماء
المسلمين أن القرآن نزل إلى الرسول عليه السلام مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة
وأول سورة نزلت {اقْرأْ بِاسْمِ} (العلق: 1) على قول الأكثرين، وهذا المصحف
الذي أوله سورة الفاتحة ليس على ترتيب النزول بل جمع ورتب بهذا الترتيب في
عهد أبي بكر -رضي الله عنه - فكيف تكون الآيات والسور متصلة مع ما يليها،
على أن بعض الآيات من السورة الواحدة أنزلت بمكة وما يليها بالمدينة وبين
نزولهما عدة سنين؟ وأيضًا كيف جمعوا السور والآيات على الترتيب هل كان
بتعيين من النبي عليه السلام أم لا؟ وهل في هذا خبر متواتر أو مشهور؟
وأنا الحقير أجبت الروسي بقدر وسعي والآن أرفع المسألة إلى حضرتكم راجيًا
منكم الجواب ولكم من الله الأجر والثواب.
(ج) لا خلاف بين المسلمين في أن بعض السور نزل جملة واحدة وبعضها نزل متفرقًا على حسب الوقائع والأحوال، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي كان يجمع كل سورة عند اكتمالها ويمليها على كتبة الوحي ويقرِئها القارئين، ولكن جمع السور كلها في مصحف واحد هو الذي كان على عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه وكتبت النسخ ووزعت على الأمصار في خلافة عثمان فعملهم هذا
كان عملاً إجماعيًّا ونقلاً متواترًا، لم يختلفوا في ترتيب السور فضلاً عن ترتيب
الآيات، وإنما تردد عمر أولاً في جمع القرآن في مصحف واحد؛ لأن النبي -
صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ذلك ثم وافق منشرح الصدر وكأنه تذكر أن زمنه -
عليه السلام - كان كله ظرفًا للوحي، وإنما يكون الجمع بعد التمام، وقد روى ابن
أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: آخر ما نزل من القرآن كله {وَاتَّقُوا يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} (البقرة: 281) الآية، وعاش النبي- صلى الله عليه
وسلم - بعد نزول هذه الآية تسع ليال ثم مات، فأنت ترى أن تسع ليال في
المرض لا تتسع لجمع القرآن في مصحف واحد، وأنه لم يكن ذلك ضروريًّا فإنه
عليه الصلاة والسلام كان يأمر عند نزول كل آية بأن تلحق بسورة كذا ويعين
موضعها ويقرِئهم السورة بعد تمامها، وكان عالمًا بأن كل ذلك محفوظ في الصدور
وفي الطروس ونحوها مما يكتب عليه، ولو لم يكن هذا الترتيب متفقًا عليه؛ لأنه
مأخوذ عنه - صلى الله عليه وسلم - بالتواتر لاختلفوا فيه اختلافًا عظيمًا فلا حاجة
إلى الإطالة بذكر الروايات مع هذه الحجة.
وأما الاتصال بين السور وما فيه من التناسب والتناسق ونكت البلاغة، فهو
تابع للترتيب، وقد علمت أن الترتيب كان مقصودًا بتوقيف من الشارع، وما كان
بالقصد يراعى فيه مثل ذلك، ولو رتبت الآيات كلها على حسب النزول لكان
اتصال بعضها ببعض والتناسب بين المتقدم منها والمتأخر من مثارات العجب التي
يسأل فيها عن السبب، أما وقد رتبت بالقصد وبالتوقيف من الوحي فهي كأنها نزلت
مرة واحدة بهذا الترتيب، فاعتراض الروسي على ما نذكر من وجوه الاتصال
والتناسب بين الآيات مبني على الجهل بأن ترتيب الآيات كان توقيفيًّا، على أنه لو
كان من عمل الصحابة لما كان ذلك فيه غريبًا إلا إذا ثبت أن هذا التناسب قد انتهى
في البلاغة إلى حد الإعجاز فكان بنفسه معجزًا، وليس هذا ببعيد فوجوه الإعجاز في
القرآن كثيرة ومنها هذا الوجه الوجيه. هذا وإن التناسب في اتصال الآيات بعضها
ببعض بيِّن ظاهر لا تكلف فيه ولا تعسف، وليس هو قبيل الدعاوى النظرية فيورد
عليه ما أورد بل هو من الأمور الوجودية الحقيقية، فليفرض ما شاء في جمع
القرآن وترتيبه فهو شيء قد مضى وهذا شيء حاضر لا يمارينَّ فيه إلا مكابر،
وإننا إن شاء الله تعالى سنجرد تفسير المنار ونطبعه على حدته ونضع له مقدمة
نشرح فيها هذه المسائل وأمثالها شرحًا كافيًا، والله الموفق والمعين.
__________(8/289)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بلاد روسيا دار حرب أو إسلام
والروسيون كتابيون أم وثنيون
(س24) ومنه: قد اختلف علماؤنا في الروسيا في دارنا هل هي دار حرب
أم دار إسلام، وهل الروسيون كتابيون أم وثنيون؟ نرجو من جنابكم الإفادة بلسان
مجلتكم المنار. عزَّز الله بها المسلمين وأنار.
(ج) قد اختلفت عبارات الفقهاء والمحدثين في تعريف دار الحرب ودار
الإسلام، فلا جرم أن الذين يأخذون العلم من الألفاظ يختلفون في تطبيق تلك الأقوال
على كل دار وكل مملكة، فيمكن أن يقال: إن بعض البلاد التي لا يوجد فيها مسلم
أصلي، ولا حكم فيها للإسلام أنها دار إسلام بناء على قول بعضهم: إن دار
الإسلام هي ما يمكن للمسلم إظهار دينه فيها ولا يخاف فتنة في دينه، فأكثر بلاد
أوربا وأمريكا كذلك ولكنها ليست دار إسلام. وإن كثيرًا من البلاد التي حكامها
مسلمون يفتن المرء فيها عن دينه فلا يقدر على إظهار جميع ما يعتقد ولا أن يعمل
بكل ما يجب عليه، لا سيما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانتقاد الأحكام
المخالفة للشرع؛ فهي على قول بعضهم دار حرب. والذي يؤخذ من مجموع
الأقوال التي يعتد بها أن العبرة هنا بظهور الكلمة ونفوذ الحكم، فإذا كانت الأحكام
لأهل الإسلام لا معارض لهم في تنفيذ شريعتهم وإظهار دينهم، وكان غيرهم آمنًا في
سربه بتأمينهم، حرًّا في دينه بسلطتهم وحمايتهم، فالدار التي هذا شأنها دار إسلام
وإلا فهي دار كفر وحرب. ولعلنا نشرح هذه المسألة وما يتعلق بها من حكم الهجرة
وغيره في مقالة مستقلة. وأما الروسيون فهم أهل كتاب وإن شابت عقائدهم الوثنية
وأعمال الشرك؛ لأنهم يؤمنون بالله وبالوحي والأنبياء واليوم الآخر، وتجد تفصيل
هذا البحث في التفسير من الجزء السابع (الماضي) .
__________(8/291)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عمل الفقهاء بأقوال مذاهبهم
وإن خالفت الحديث الصحيح
(س25) الشيخ صحيح أحمد المصري إمام المسجد الكبير بكلكته الهند: قد
وقف بعض من ينتمي لطلبة العلم الشريف بالهند على قول الأستاذ الإمام في صفحة
336 الجزء (9) من المجلد السابع من مجلتكم الغراء في خلال بيانه ترك
الاهتداء بالكتاب والسنة واستبدال أقوال الناس بهما، ولكننا إذا نظرنا في أقوال
الفقهاء وتشعبها وخلافاتهم وعللها، فإننا نحار في ترجيح بعضها على بعض؛ إذ
نجد بعضها يُحتج عليه بحديث صحيح وهو ظاهر الحكمة معقول المعنى ولكنه غير
معتمد عندهم بل يقولون فيه المدرك قوي ولكنه لا يفتى به، ولماذا؟ لأن فلانًا قال
إلخ فأنكر ذلك واستكبره، وقال: لا ينبغي لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول
مثل ذلك، نعم قد يترك الفقهاء العمل بظاهر الحديث لسبب من الأسباب لكن من بعد
تبين السبب الموجب للعدول عن ظاهره أو عنه بالكلية كمعارضته بحديث آخر مثله
في الصحة أو أصح أو أقل منه في الصحة ولكنه مؤيد بأدلة أخرى، أو بأن الإجماع
أو عمل الصحابة على خلافه، ونحو ذلك، كما أن مالكا روى أحاديث القبض ورفع
اليدين عند الركوع والرفع منه في موطأه وترك العمل بها؛ لأنه أدرك عمل أهل
المدينة على خلافها، وأما ترك الحديث الصحيح بعلة أن فلانا قال فما وقفنا عليه في
شيء من الكتب التي بأيدنا، وتبعه على ذلك جميع المقلدين بكلكته، فلما رأيت القوم
في شك من صحة قول الأستاذ الإمام وكانت غيرة الجنسية والوطنية باعثًا قويًّا على
الانتصار لفضيلته ولم يكن لدي ما أنتصر به لجهلي وعدم وجود الكتب اللازمة
بطرفنا فلم أجد لي ملجأ إلا إرشادكم لا زلتم ملجأ للسائلين فحررت إليكم هذا السؤال.
والغرض من سعادتكم أن تبينوا لنا من القائلون في مثل هذا: المدرك قوي ولكنه لا
يفتى به؛ لأن فلانا قال. من غير بيان وجه العدول عن الحديث، وفي أي كتاب
ذكرت هذه المسألة وأشباهها؟ أدركونا سيدي بالجواب وإلا أصبح علماء الهند في
شك مما ينقل عن الأستاذ الإمام.
(ج) إن ما قاله في تعارض الحديثين هو المذكور في كتب الأصول التي
يرون العمل بأحكامها خاصًّا بالمجتهدين، وقد صرحوا بأنه يجب على المقلد أن
يعمل بقول علماء مذهبه، وإن خالفت الأحاديث الصحيحة التي لا يشك في صحتها
ولا يعرف لها معارضًا، ثم حكموا بأن الاجتهاد ممنوع فيجب على جميع المسلمين
أن يكونوا عالة على ما دوّنه الفقهاء، وإن رأوا فيه ما يخالف السنة الصحيحة فإن
كان المعترض ينكر هذا جئناه بنصوصهم التي لا يجهلها إلا إذا كان لم يقرأ الفقه لا
سيما فقه الحنفية. بل الأمر أعظم من ذلك، فإنهم قبل منع الاجتهاد والأخْذ من
الكتاب والسنة قد اتخذوا لهم أحكامًا عامة جعلوها أصولاً للشريعة، وقالوا: (إن ما
يخالفها من الكتاب والسنة يحمل على النسخ أو على الترجيح أو التأويل) فهم قد
جعلوا الكتاب والسنة فرعًا يُحمل على غيره لا أصلاً يُحمل غيره عليه كما ترى في
أصول الكرخي المتوفى سنة 340 هـ، وقد ذكرنا قوله وبينا رأينا فيه في المجلد
الخامس وأذكر بعض ما قاله، ويراجعه هناك من يريد التفصيل قال:
(الأصل) (أن كل آية تخالف قول أصحابنا فإنها تحمل على النسخ أو على
الترجيح، والأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق) وذكر مسائل يمكن أن
تجعل الآيات فيها أصلاً ويستغني عن قاعدته مع بقاء الحكم كما قال أصحابهم،
ثم قال:
(الأصل) (أن كل خبر يجيء بخلاف قول أصحابنا فإنه يحمل على النسخ
أو على أنه معارض بمثله؛ ثم صار إلى دليل آخر أو ترجيح فيه بما يحتج به
أصحابنا من وجوه الترجيح، أو يحمل على التوفيق وإنما يفعل ذلك على حسب قيام
الدليل، فإن قامت دلالة النسخ يحمل عليه، وإن قامت الدلالة على غيره صرنا إليه) ،
ثم ذكر أمثلة تحكم فيها بالنسخ مع عدم العلم بالتاريخ وبالمعارضة والتجريح.
وكان يجب أن يجعل الكتاب والسنة هما الأصل ويعرض قول الأصحاب وأدلتهم
عليهما، فإن وافقت وإلا تركت وعمل بالكتاب والسنة.
ومن فروع هذا الأصل عند المقلدين أنهم يحتجون ببعض الحديث على ما
يوافق قول أصحابهم ويتركون الاحتجاج ببعضه الآخر إذا خالف قولهم، وفي المجلد
السادس من المنار 66 شاهدًا على ذلك فتراجع في الأجزاء 14 و 15 و 16 منه
ومن راجع كتب الحديث يجد كثيرًا من ذلك. وقد استقر رأي أهل التقليد المتأخرين
على أن العلماء طبقات أعلاها المجتهد المطلق: وهو الذي يأخذ الأحكام من
الكتاب والسنة والإجماع والقياس، زاد الحنفية والاستحسان، وأدناها طبقة الناقلين
عن أهل التصحيح والترجيح في الأحكام المروية في المذهب، وهؤلاء يجب عليهم
الأخذ بأقوال من فوقهم من غير تقيد بمعرفة دليلهم، ويحرم عليهم ترك رواية
المذهب لما يفهمونه من الكتاب العزيز أو السنة الصحيحة، وقد صرح بذلك ابن
عابدين وغيره من المؤلفين، فإن كان المعترِض ينكر ذلك ذكرنا له العبارات بنصها
وإن كان يعترف فليخبرنا، هل دلت عبارة التفسير على ما هو أكبر منه؟
ثم بعد هذا كله إن كان يلتمس لهؤلاء القوم عذرًا في هذا، فلماذا لا يلتمس العذر
لمن يجعل الكتاب والسنة هما الأصل؟ وهو الموافق لما كان عليه السلف الصالح
والأئمة المجتهدون رضوان الله عليهم أجمعين، فقد نقل عن الأربعة وعن غيرهم
التصريح بتحريم تقليدهم وتقليد غيرهم.
__________(8/291)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إيراد على ترك التقليد
(26) (ومنه) : قال ذلك البعض عند قول الأستاذ في الصفحة المذكورة
في السؤال الأول: بل نحن نقول: إنه يجب على ذي الدين أن ينظر دائمًا إلى
كتابه حتى لا يختلط ولا يشتبه عليه شيء من أحكامه ولا يجوز لأحد ... إلخ.
يظهر من هذا الصنيع أن مراده ترك التقليد بالكلية والرجوع إلى الكتاب والسنة
وعدم التعويل على قول أحد من الفقهاء والأئمة المجتهدين، ونحن نقول: الداعي إلى
ذلك لا يخلو عن مقصد حسن يعود نفعه على الأمة أولاً، فإن كان الأول بأن كان
مراده ترك المشاغبات بين المسلمين المؤدية إلى تأخرهم في أمر دينهم ودنياهم؛
فنقول له: هل أنت بعد هذا تُطلق الحرية للأفكار والآراء في الأخذ من الكتاب والسنة
أم تحمل جميع الآراء على اتباع رأي تراه مطابقًا للكتاب والسنة؟ فإن قلت بالأول
وهو الظاهر من صنيعك فإننا نخشى أن تتعدد المذاهب بتعدد الآراء، فإن اتفاق
جميع الآراء على قول واحد غير معقول، وإن قلت بالثاني فقد دعوت إلى ما
انتدبت لإبطاله، وإن كان الثاني فقد دعا إلى ذلك محمد بن عبد الوهاب النجدي من
نحو مائة وخمسين سنة ولم يفد ذلك شيئًا في عقائدنا مع أننا نعلم قطعًا أن أتباع
الأئمة الأربعة كانوا على هدًى من ربهم متبعين لكتاب الله وسنة رسوله إلا ما شذ
عنهما؛ فطريقه إما القياس وإما الإجماع قبل ظهور هذه الدعوى وقبلها دعوة
الوهابي، والحاصل يا سيد أنه لا يخفى على فضيلتكم بما ذكرنا أن الناس بطرفنا قد
اتهموا الأستاذ ومن نقل عنه بأنهم داعون إلى اتباع مذهب النجدي، وترك المذاهب
الأربعة، فالمرجو من سيادتكم أن تبينوا لنا مراد الأستاذ بأن تجيبوا عن
الاعتراضات المتقدمة في قول ذلك البعض لينكشف لنا الغطاء عن خرافات هؤلاء
الأعاجم جزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
(ج) أما زعم المعترض أنه يلزم من تلك العبارات الرجوع إلى الكتاب
والسنة فهو صحيح، وأما قوله: وعدم التعويل على قول أحد من الفقهاء والأئمة.
فهو غير صحيح على إطلاقه، وإنما المراد عدم تقديم قول فقيه على قول الله
ورسوله، ويمكن الجمع بين الاهتداء بالكتاب والسنة والانتفاع في ذلك بكلام الأئمة
بأن ننظر في أقوالهم ونعرضها على الكتاب والسنة كما أمروا ونستعين بها على
فهمهما، فما وافق أخذنا به وما خالف ضربنا به عُرْضَ الحائط كما قال الإمام
الشافعي -رضي الله عنه - ولا نجعل كلامهم أصلاً نعرض عليه الكتاب والسنة؛
فإن وافقاه وإلا أوّلناهما أو تركناهما تعللاً باحتمال النسخ، والأصل عدمه باتفاقهم.
وأما سؤال المعترض، هل نطلق الحرية للآراء والأفكار في الأخذ من الكتاب
والسنة، أم نحملهم على رأي واحد وإيراده على كل واحد من طرفي الترديد ما
أورده، فإننا نجيبه عنه بما ليس في حسبانه فنقول: لا شك أن الكلام في المسائل
الخلافية، وقد كان السلف من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين يطلقون الحرية
في المسائل الاجتهادية لكل أحد في المسائل المتعلقة بالشخص لا بالحكومة وكانوا لا
يرون ذلك موجبًا للخلاف والتفريق ولا للتنازع والتقاطع كما حدث بعد التزام
المذاهب والتعصب لها بل كان كل يعذر الآخر فيما خالفه فيه.
وأما المسائل المتعلقة بالسياسة والقضاء لا بالأعمال الشخصية كالعبادة؛ فكانوا
يدعونها إلى الحكام الفقهاء القادرين على استنباط الأحكام، وكان هؤلاء يتشاورون
في الأمر ويردون ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله بعرضه على الكتاب والسنة، ثم
تطبيقه على مصلحة الأمة حتى صار أئمة الجور ثم سلاطين الجهل والبغي هم
الحاكمين. والواجب الآن أن نجمع كلمة المسلمين على المسائل الاجتماعية ونحيي
روح الدين فيهم بهدي الكتاب والسنة ونطلق الحرية لكل مسلم أن يهتدي بالكتاب
والسنة بحسب فهمه، إن كان من أهل الفهم الذين أعدوا له عدته وأولها معرفة العربية
وأساليبها، وما قاله علماء السلف وأئمة الخلف ممحصًا تمحيصًا وكل ذلك مدون في
كتب التفسير والحديث.
وإن لم يكن من أهل الفهم وعرض له أمر كان عليه أن يسأل من يثق بدينه وعلمه عن قول الله ورسوله في ذلك فيرويه له ويبين له معناه كما يسأل الجاهلون الآن عن فهم علماء عصرهم في كتب مذاهبهم. وأما الأحكام المتعلقة بالسياسة
والقضاء وسائر الأمور العامة فالواجب على الأمة أن تعرف الحق الواجب اتباعه فيها
لتلزم به الحكام عند القدرة على ذلك، وإنما القدرة بالعلم والاعتقاد. وليس الحق
الذي تنهض بها الأمة أن تفوِّض به أمرها لرجل واحد عالمًا كان أو جاهلاً
يدَّعي أنه ينتمي إلى مذهب عالم معين يحكم به إن شاء فيسمى عادلاً أو يتركه فيعد
ظالمًا، بل الحق أن يكون إمام المسلمين عالمًا بالكتاب والسنة مقيدًا باستشارة أولي
الأمر، وهم أهل الحل والعقد الذين كان النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -
يستشيرهم ويعمل برأيهم ولو فيما خالف رأيه، كما فعل في غزوة أحد، وكما كان
الخلفاء الراشدون يستشيرون. ولا محل للتوسع في هذا المقام، وقد فصلنا هذه
المسائل من قبل تفصيلا ولعل المعترض لو اطلع على ما كتبناه من قبل
في هذه المسائل؛ لما ضاق صدره بتلك الجملة الوجيزة وطفق يستنبط منها
ويعترض على ما يستنبط وسنطلعك على مقالات (محاورات المصلح والمقلد) فقد
طبعت على حدتها، وهي من التفصيل الذي نشرناه في المنار وصادف
استحسان العلماء والفضلاء.
وأما قوله: إنه يعلم قطعًا أن أتباع الأئمة الأربعة كانوا كذا وكذا فنقول فيه:
إن المنقول عن الأئمة وأصحابهم تحريم التقليد ومنعه ووجوب الأخذ بالكتاب والسنة
وستجد طائفة من هذه النقول عنهم في كتاب (محاورات المصلح والمقلد) ولكن لم
يتبعهم في هذا كل ما انتمى إليهم لا سيما في هذه الأزمنة المتأخرة؛ فإن كلام الأئمة
الأولين صار مجهولا حتى للمنقطعين إلى العلم، والأستاذ الإمام يسعى في إحياء
كتبهم وهو رئيس جمعية ألفت لهذا الغرض، وأما العوام فأكثرهم لا يعرف الآن
من الدين إلا بعض المسائل الخلافية بين المذهب الذي يدعيه والمذهب المنتشر في
بلده كانتشار مذهبه المدعى، ثم إن أكثرهم لا يعملون إلا بقليل مما يعلمون من
مسائل الوفاق والخلاف، والمعترض وأمثاله لا يخافون من هذا الضياع للدين ولكنهم
يخافون من الدعوة إلى الكتاب والسنة والاهتداء بهما بحجة الخوف على المذاهب
التي لم يبق منها إلا الجدل فيما بقي من دروس المقلدين الدَّارِسة.
وأما اتهام الأستاذ وغيره بالدعوة إلى مذهب الوهابي؛ فهو من ضيق العطن
وقلة العلم فقد اتخذ المتعصبون اسم الوهابي وصاروا يهددون به الناس، والأستاذ
الإمام لا يدعو إلا إلى الكتاب والسنة فمن اتبعهما فهو المهتدي عنده وعندنا وإن سمي
وهابيًّا، ومن أعرض عنهما فهو الضال وإن سمي نفسه سنيًّا أو أشعريًّا أو حنفيًّا أو
شافعيًّا، وإنما يخاف من النبذ بالألقاب من لا يعرف الله ولا يرجوه بعمله، وإنما
يرجو مرضاة العوام الذين يشتمون كل مخالف لتقاليدهم التي ليس بها من علم إن هم
إلا يخرصون.
وجملة القول: إن من يرغب عن الكتاب والسنة فقد سَفِهَ نفسه وكان بريئًا من
الأئمة، وإن ادعى اتِّباعهم فإنهم حرموا التقليد الأعمى كما ستعرفه تفصيلاً من
الرسالة التي نرسلها إليك، ونرجو أن تكتب إلينا بما يشتبه على المعترض أو عليك.
__________(8/294)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خرافة في سبب تحريم الخمر
(س27) سعيد أفندي قاسم حمود في كنتون أوهايو (أمريكا) دار بيني
وبين جماعة من النصارى حديث أفضى إلى تحريم الخمر فقال أحدهم: لماذا
حرمت الخمر عليكم طائفة المحمدية؟ فأجبته على حسب معرفتي وما كنت أسمعه
شائعًا على ألسنة العامة في سورية قبل هجرتي إلى الولايات المتحدة: حرم لأجل
ذبح الراهب بحيرا قال: ومن ذبحه؟ قلت: أحد الصحابة الكرام، قال: وهل
تعرف اسمه؟ قلت: كلا، قال: ألم يعرف النبي من نحره؟ قلت: نعم (لعله يريد
لا) فقال الملحد في الدين: لماذا لم يقتله وكيف يسكر النبي - صلى الله عليه
وسلم - ويؤخذ سيفه من جنبه ولا ينبأ بذلك؟ فضاق ذَرْعي، ولما كان للإسلام في
مشارق الأرض ومغاربها صوى ومنار كمنار الطريق أتيتكم في عريضتي هذه كي
تفيدونا، ما سبب تحريم الخمر؟ من قتل الراهب بحيرا ولكم الأجر والثواب من
العزيز الوهاب.
(ج) بعد أن أرسلتم هذا السؤال وصل إليكم الجزء الخامس من المنار الذي
فيه تفسير {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (البقرة: 219) فعلمتم سبب تحريم
الخمر وأنه كان بالتدريج، فلم يكن تأخير الجواب عن هذه الخرافة النصرانية ضائر
بعد ما علمتم الحق، ومن لوازمه زهوق الباطل. أما حكاية قتل الراهب بحيرا فهي
من أكاذيب الرهبان، وقد سمعتها لأول مرة من أحد رهبان دير قزحيا في لبنان،
طَرَقَنَا في ليلة شاتية وكنا في سامرنا (حجرة السهر) بالقلمون فأكرمنا مثواه واجتمع
عليه الصبية وكنت منهم، فقص علينا قصة الراهب بحيرا ووصف من حب النبي
- صلى الله عليه وسلم - له واصطحابه إياه وتحريمه الخمر لأجله، والقصة في
ذلك أن بعض الصحابة ائتمروا بالراهب وخافوا غضب النبي - صلى الله عليه
وسلم - على قاتله إذا هو عرفه فكادوا له حتى سكروا مع النبي - صلى الله عليه
وسلم (حاشاه من ذلك فإنه لم يشرب الخمر قط) ذات ليلة فأخذ أحد المؤتمرين
سيف النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم مستغرق وقتل به الراهب وأعاده
إلى غمده، فلما استيقظوا غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - غضبًا شديدًا أن
رأى حبيبه الراهب مقتولاً وسأل من قتله؟ قالوا: من كان سيفه ملطخًا بالدم فهو
قاتله فاستلوا سيوفهم فاعتقد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه هو القاتل في حال
السكر (حاشا لله) فحرم الخمر لأجل ذلك.
وكان غرض الراهب من ذلك أن يبين لنا أن نبينا -عليه الصلاة والسلام - كان
يحب الرهبان ويصطفيهم، وقد كان منا من أجاب الراهب بأن القصة كاذبة لا أصل
لها، وما كنا نظن أنها شائعة، وأن من عامة المسلمين من يصدقها. ولهم أكاذيب
أخرى في هذا الراهب المغمول لا يعرف لها أصل غير اختراع مخيلاتهم حتى زعم
بعضهم أنه هو الذي علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - الدين والشريعة. والحق
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير الراهب بحيرا غير مرة واحدة في الشام،
وكان عليه السلام ابن تسع سنين، وبيان ذلك مفصل في المجلد السادس من المنار
(راجع ص 394منه) وحكى بعض المؤرخين من النصارى أن بحيرا قتلته اليهود،
والصحيح أنه لا يعرف له تاريخ ولم يكن له شأن، وإنما اهتم النصارى بالكلام عنه
بعد أن رأوا في كتب المسلمين أنه بشر بنبوة محمد عليه السلام عند ما رآه مع
عمه بالشام فحولوا الأمر إلى ما علمت.
__________(8/297)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ترجمة النبي (صلى الله عليه وسلم)
في أوراق البردي
(س28) محمد أفندي كامل الكاتب بمحكمة (أسيوط) الأهلية: اطلعت
بجريدة مصر في العدد 3804 الصادر يوم الأربعاء 7 يونيه سنة 1905 ضمن
الحوادث المحلية على الفقرة الآتي نصها بالحرف الواحد:
(تفيد أنباء ألمانيا أن رئيس غرفة التجارة في مدينة هدلبرج أعطى مكتبة
المدرسة الجامعة هناك مجموعة من أوراق البردي مكتوبة باللغة العربية وتحتوي
هذه المجموعة على ألف ورقة خطيرة جدًّا يرجع بعضها إلى السنين الأولى من
الهجرة، وكثير من هذه الأوراق يُسفر عن أمور جديرة في تاريخ سيادة الإسلام على
مصر، ولكن الأهم من كل ذلك هو العثور على ترجمة حياة النبي - صلى الله عليه
وسلم - ويقال: إنها ترجمة غريبة جدًّا، وإن فيها سرًّا جديدًّا يجلو شيئًا من
أسرار التاريخ الغامضة) . اهـ
ولما كان ذلك يهم العالم الإسلامي معرفته والمطلع على هذه الفقرة يستنتج
أمرين:
(أولهما) : أن وجود مثل هذه الكتابة باللغة العربية على ورق البردي الذي
لم يكن معروفًا إلا في زمن الفراعنة - إن صح - كان مما يدعو إلى الظن بأن ذلك
من عمل المدلسين.
(ثانيا) : أن جريدة مصر قالت: إنه وجد بين هذه الأوراق ورقة فيها
ترجمة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقال: إنها ترجمة غريبة جدًّا، وأن
فيها سرًّا جديدًا يجلو شيئًا من أسرار التاريخ الغامضة. على أن مثل هذه الترجمة
إن لم تكن موافقة لما أتى به القرآن والمتواتر بالدليل القطعي عن صاحب الترجمة
- صلى الله عليه وسلم - فلا بد وأن يكون عدم ذكر هذا السر سرًّا آخر تقصد به
جريدة مصر الإيهام بأن هناك شيئًا يناقض ما عليه المسلمون من العقائد.
فهل للأستاذ علم بتلك الأوراق يرفع النقاب عن ذلك السر الذي أشغل الألباب؟
هذا ما نرجو الجواب عنه على صفحات المنار، زادكم الله بسطة في العلم
والرزق.
(ج) قد كتب إلينا غير واحد فيما نشرته جريدة مصر، وكان منشأ الاهتمام
بذلك توهّم أن كل ما كتب وقدم عهده يصير مسلَّمًا به مقطوعًا بصحته، والصواب
أن ما كتبه الناس في الزمان الماضي هو كالذي يكتبونه الآن، والذي سوف يكتبونه
في الزمن الآتي: منه الحق والباطل، والخطأ والصواب، والصدق والكذب، ومنه
ما يكتب عن علم وما يكتب عن ظن وعن جهل. والقاعدة المقررة: (أن المكتوب
كالمسموع لا يوثق به إلا إذا روي بسند متواتر أو سند متصل يُحتج برواته ويُوثق بهم
للعلم بعدالتهم) ، فما عساه يوجد في أوراق البردي المسئول عنها من سيرة النبي -
صلى الله تعالى عليه وسلم - يعرض على المعلوم من الدين بالضرورة أو الرواية
الموثوق بها، فإن وافقه كان له حكمه وإلا ضربنا به عُرْضَ الحائط، ولا نراه شبهة
على المعروف عندنا بل ما عندنا يكون حجة قاطعة على أن ما في تلك الأوراق كذب
لا قيمة له في التاريخ. أما أوراق البردي فقد استعملت في الإسلام وفي دار الكتب
المصرية أوراق منه أقدم ما عرف تاريخه منها قد كتب في الربع الأخير من القرن
الأول للهجرة، وأحدثه كتب في أوائل القرن الرابع.
__________(8/298)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(معونة الرحمن في مذهب أبي حنيفة النعمان)
أرجوزة في مذهب الحنفية من نظم الشيخ إسماعيل أحمد الإسلامبولي أصلاً
المصري وطنًا، وقد كتب إلينا صاحبها (بحثت في الكتبخانة مدة على منظومة في
المذهب الحنفي كالألفية في النحو؛ فوجدت منظومات كثيرة منها ما هو أربعة آلاف
بيت ومنها ما هو سبعة آلاف بيت وما بين ذلك، فاستعنت الله ولخصت المذهب في
ألفي بيت، وسميتها كذا، وقد طبعتها بعد أن قرَّظها الشيخ محمد راضي والشيخ
محمد بخيت والشيخ محمد عشري، وتباع النسخة بقرشين في مصر بمكتبة الشيخ
أحمد المليجي قريبًا من الأزهر، وبمكتبة درويش سليمان بالسيدة زينب) إلخ،
وهاك نموذجًا من الأرجوزة من أول كتاب الصلاة.
فرض على مكلف وتطلب ... من ابن سبع وابن عشر يضرب
تاركها تكاسلاً يعزر ... بحبسه وجحدها مكفر
والصلوات فرضت في خمس ... فصل ركعتين قبل الشمس
وأربع العشا وظهر عصر ... ثم ثلاثًا مغربًا كالوتر
فالظهر من زوالها حتى ترى ... ظلك مثليك بمثل قدرا
والفيء لا يحسب عند القيس ... ظل يرى عند وقوف الشمس
والعصر منها للغروب في الأفق ... ومغرب منه إلى غيب الشفق
ثم العشا فالوتر لانفلاق ... والصبح بين الفجر والإشراق
ولم تجز صلاة فرض أو وجوب ... عند شروق واستواء وغروب
وقد وصف الشيخ محمد راضي نظمها بالسهولة في العبارة، والرقة في
الإشارة، ووصفه الشيخ بخيت برقة العبارة ودقة الإشارة.
***
(العقل والدين)
قصة أدبية تاريخية موضوعها حياة موسى المشترع الإسرائيلي العظيم
وتحرير العبرانيين من عبودية المصريين وتأسيس المملكة الإسرائيلية والشريعة
الموسوية ومصادرها، مؤلفها رفول أفندي سعادة صاحب مقالات سوريا والإسلام
التي لم ينس القراء ردنا عليها في السنة الماضية. حاول المؤلف في هذه القصة
إقناع القارئين بأن موسى -عليه السلام- قد اخترع الشريعة التي جاء بها اختراعًا
اعتمد فيه على ما اقتبسه من الشريعة والديانة المصرية التي تلقاها من أعظم الكهنة
المصريين وأعلمهم. وإننا نقول: إذا جاز للإنسان أن يخترع قصة يعزو فيها أقوالاً
وأعمالاً إلى أناس مجهولين لأجل العبرة والموعظة أو الفكاهة والتسلية -أفلا يجوز
أن يعزو مثل هذا إلى الأنبياء وأهل الشرائع والأديان؛ لأجل زلزلة الاعتقاد بهم أو
إزالته. وقد كنا تنسمنا مما كتبه واضع القصة في الإسلام أنه لا يؤمن بدين من
الأديان فحققت لنا هذه القصة ما كنا قد استنبطناه من كلامه المخترع في الإسلام.
ولست أعرف ما يقصد إليه المؤلف بكلامه في إبطال الأديان ومحاولة إقناع الناس
بأنها وضعية مختلقة، أيظن أن ترك الدين يرقي البشر في آدابهم وأخلاقهم التي هي
منبع سعادتهم وهناء معيشتهم، أم يبتغي بما يكتب الشهرة والانتظام في سلك ملاحدة
الفلسفة؟
أكثر البشر يؤمنون بالدين ومنهم العلماء والفلاسفة وقد ارتاب كثيرون في
دينهم؛ لأنهم وجدوا فيه ما لا يمكن التصديق به سواء كان منه أو مما ألصق به
الرؤساء المتبعون حتى تعذر الفصل بين الأصل والدخيل، ولكن أغلب هؤلاء
المرتابين لم ينكروا فائدة الدين الذي أنكروه ولم يستحلوا تشكيك العامة فيه. وقد قال
أحد الفلاسفة الأوربيين المتأخرين قبل موته: إن هذا الشيء الذي يسمونه دينًا نافع
للبشر وليس عندي من الدلائل العلمية ما يثبته ولا ما ينفيه، والأولى للناس أن
يثبتوا عليه.
إذا أمكن أن يتربى أفراد من الأمة على الفضائل بالعمل وحسن القدوة ومن
غير تلقين للدين، بحيث ينشئون على حب الخير واجتناب الشر، فلا يمكن أن
تتربى الأمة كلها أو أكثرها على ذلك، وأما الدين فيصح أن يكون وازعًا عن الشر
وباعثًا على الخير لجميع الناس؛ إذا عرفوه بروحه وجوهره وأزاحوا عنه غواشي
التقاليد التي غشيته وعلموا أنه سار على سنة الارتقاء كسائر الشئون البشرية فاتبعوا
فيه الهداية الأخيرة التي جاء بها خاتم النبيين، وإلا كان نافعًا للعامة دون الخاصة
فهو على كل حال نافع للناس، فالجهاد لإبطاله بالمرة جناية عظيمة لا تأتي إلا عن
هوى ضار.
يقول رفول أفندي سعادة وأمثاله ممن مرقوا من الدين ثم انبروا لمناضلته: إن
للدين مضرات مشهورة في إفساد عقول الناس بالخرافات وحملهم على عداوة العقل
والعلم النافع، وتقول: عليكم بمحاربة الخرافات والأوهام ومناهضة أهلها من
الأحبار والقسيسين وتربية الأولاد على الاستقلال ودعوا الأنبياء وأصول
تعاليمهم النافعة إن كنتم تحبون أن تفيدوا الناس وإلا فأنتم للشهرة الضارة
تطلبون.
***
(كلم القرآن)
وضع العلماء كتبًا كثيرة في تفسير ألفاظ القرآن الغريبة منها المطول
والمختصر ومنها المنظوم، وقد انبرى في هذه الأيام محمود أفندي شكري كاتب السر
في مديرية المِنيا لوضع كتاب في ذلك، امتاز على غيره بوضع كلم القرآن على
حدتها مفصولا بينها وبين تفسيرها بخط عمودي، وربته على ترتيب السور واعتمد
في تفسير الألفاظ على كتب اللغة غالبًا، وقد طبع الكتاب في مطبعة المنار طبعًا
جميلا فبلغت صفحاته 192 وهو يطلب من مؤلفه في المنيا.
***
(الفصول البديعة في أصول الشريعة)
كتاب جديد وضعه محمود أفندي عمر الباجوري لخص فيه كتاب جمع
الجوامع المشهور، وضم إلى ذلك فوائد أخرى فالفصل الأول: في العقيدة، وهي
جمل وجيزة على الطريقة النظرية التي جرى عليها المتكلمون، والفصل الثاني: في
مقدمات أصول الفقه، وسائر الفصول إلى التاسع في مباحث الأصول، والفصل
العاشر في أصول ومسائل أدبية وفلسفية. وصفحات الكتاب تناهز المائة وثمنه
أربعة قروش، ولعله يكون مُرّغبًا للمتخرجين بالمدارس العصرية في النظر في
علوم الأصول الإسلامية لأجل الوقوف على تفصيل ما أجمله هذا المتن الوجيز.
***
(الدروس الابتدائية في المبادئ الجغرافية)
كتاب يدل اسمه على مسماه أودعه مؤلفه سيد أفندي محمد ناظر المدرسة
التحضيرية ما يتعلمه تلاميذ المدارس الابتدائية في السنة الأولى حسب قانون
المعارف. وقد راج هذا الكتاب في المدارس الأهلية لسهولته وحسن وضعه فأعاد
المؤلف طبعه في هذا العام، وزينه بالرسوم التي تشوِّق التلميذ وتعين الأستاذ على
التعليم.
***
(هداية الطلاب إلى حل مسائل الحساب)
عني بوضع هذا الكتاب عبد العزيز أفندي وعلي أفندي صبحي المستخدم في
دار الكتب المصرية (الكتبخانة الخديوية) وقد طبع الجزء التحضيري منه، وهو
يشتمل على (مسائل محلولة وغيرها، وقوانين عمومية لتلامذة السنة الأولى والثانية
من المدارس الابتدائية حسب آخر بروجرام قررته نظارة المعارف العمومية) ،
وسيتلوه الجزء الثاني لتلاميذ السنتين الثالثة والرابعة، ولا شك أن هذا الكتاب يعين
التلاميذ على إتقان الحساب بالسهولة، فنحثهم على مطالعته وهو ويطلب من مؤلفيه
وثمن النسخة منه 15 مليمًا.
__________(8/299)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
انطفاء فتنة نجد واستقرار الأمر
في آل سعود
قد علم القراء مما قصصنا عليهم من قبل أن ابن رشيد الذي كان متغلبا على
بلاد نجد جار وظلم معتمدًا على أن الدولة تؤيده وتنصره بما كان يوهمها من أن آل
سعود الوهابية يريدون محو سلطتها من بلاد العرب، وهو الذي يؤيد نفوذها، وكان
هو وأنصاره يستعينون على ذلك ببعض رجال الحكومة في البصرة والشام
والحجاز وبعض الجرائد المصرية التي توصف (بإسلامية) فقد حاول هؤلاء
الأنصار إقناع الآستانة أو يلدز بأن آل سعود متفقون مع الأجانب على تمليكهم بلاد
نجد وما كانوا ينطقون ولا يكتبون إلا بأجرة عظيمة يأخذونها من بعض كبار التجار
الأغنياء المشايعين لابن رشيد، فكانوا يوقعون الفتنة بين المسلمين ويغشون دولتهم
وسلطانهم حبًّا في منفعة أنفسهم.
ولما تمكن أهل الغيرة والنجدة من أمراء العرب وغيرهم من إقناع الدولة العلية
بخضوع آل سعود لها وبعدهم عن الفتن والاستظهار بالأجانب لشدة تمسكهم بدينهم،
عمدت الدولة إلى التحقيق، فأرسلت المشير أحمد فيضي باشا إلى نجد ليدعو أهل
البلاد النجدية ورؤساء القبائل إلى الطاعة، ويتبين هل هناك جنود أجنبية كما زعم
الواشون فأجيبت دعوته، وعلم أن آل سعود هم المخلصون الصادقون، وأن ابن
رشيد وأنصاره هم الغاشون المخادعون.
فحصر سلطة ابن رشيد في بلده وعشيرته وجعل عبد الرحمن الفيصل أمير
سائر بلاد نجد وقبائلها فاستراحت الدولة بذلك من الدسائس والمفاسد التي كانت
تسري إلى بلاد نجد من مصر وغيرها، فالشيخ عبد الرحمن الفيصل وولده عبد
العزيز آل سعود لا يعرفان غير بلادهم وسلطانهم ولا علاقة لهم بمصر ولا بغيرها
ولا يبالون بعبث العابثين ولا بدسائس المفسدين. وإننا ننشر هنا ما جاءنا من بلاد
العرب من صور الرسائل التي أرسلها المشير أحمد فيضي باشا إلى أهل نجد
المتهمين وإلى الآستانة وولاية البصرة؛ لأن هذه رسائل رسمية قاطعة لألسنة
الفسدة من أصحاب الجرائد الكاذبة في مصر وغيرهم.
كتاب المشير أحمد فيضي باشا
إلى عُنيزة
(بسم الله الرحمن الرحيم)
نحمد الله الواحد مستوجب الشكر والحمد، مالك الأمر من قبل ومن بعد،
والصلاة والسلام على نبينا الذي أرسله بالهدى ودين الحق، وعلى آله وأصحابه
أولياء الخلق. وبعد، فإن خليفة الله في الآفاق، الثابت البيعة في الأعناق، مصباح
مشكاة الخلافة، مفتاح باب الرحمة والرأفة، ولي الأمر، المنصوص على طاعته
بلسان الذكر المحكم، سلطان البرين والبحرين عنوان الشرف والإقدام، أمير
المؤمنين، حامي حوزة الدين، إمام الإسلام والمسلمين، مظهر العدل والإحسان،
مصدر اللطف والامتنان؛ حضرة السلطان ابن السلطان، والخاقان ابن الخاقان،
مولانا الغازي عبد الحميد خان، قوّى الله شوكته، وفسح كما تهوى الشريعة مملكته،
أمرنا بالسير إليكم مع جنوده الشاهانية المنصورة لإصلاح أحوالكم وبلادكم فامتثلنا
أمره، وعملنا إرادته العالية (كذا) فارتحلنا وجئناكم كما أمر دامت ذاته المقدسة
سعيًا نسير فيكم بسيرته الحسنة صوناً لكم ورعيًا ونبث الإنصاف حسبما يريد فيكم،
ونغضي عما تلف من وقائعكم ومغازيكم، ونعفو كما من شأنه العفو عن الكثير
ونرفع أعلام الإصلاح بين شعوبكم وقبائلكم، ونوصل وسائلكم لباب النجاح على
حسب منازلكم، ولا تحسبوا عدتنا لإراقة دم، ومؤاخذة بما مضى وتقدم، فارقدوا
أمنا، وأطيعوا أولي الأمر منا، وتدبروا {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ
فَلَهَا} (الإسراء: 7) وسابقوا لمرضاته، وتقربوا من ألطافه، أيها المسلمون
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ} (الواقعة: 10-11) إنا لا نقضي فيكم
بسوى الكتاب والسنة، ولا نولي أعمالكم من تشب به نار الفتنة، بل نولي عليكم
من تحمدون ولايته، وتقبلون بأحكام روايته، فادخلوا تحت رواق صفح الملك، فعفوه
ممدود السرادق، وولوا ركنه الشديد واستظلوا بطود حلمه الشاهق، واستقبلوا إنعامه
والمنى، واعتصموا بعروته الوثقى {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ
الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} (الأنعام: 120) ولا تتبعوا المجرمين ليمكروا
فيكم {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام: 123) عجلوا بالجواب
الصواب، وأرسلوا من تعتمدون عليهم لأجل المواجهة والاستقبال، ولهم منا الرأي
وأمان الله فلا يحصل عليهم سوء ولا مكروه، فاعتمدوا وبالله الاعتماد، والسلام
على من سبح في كفه الجماد، والسلام.
وكتب المشير مثل هذا الكتاب لبريدة، وذلك بعد أن فتش المعاهد التي زعم
ابن رشيد أن فيها عسكرًا من الأجانب وكان مقامه حينئذ في (القوارة) على مسافة
يوم ونصف من عنيزة ويوم بل بعض يوم من بريدة وكتب إمضاءه (مأمور
إصلاحات القصيم مشير) وقد جاءه الجواب ناطقًا بأنهم لم يكونوا عاصين للدولة
فيطيعوا الآن بل هم طائعون من قبل ومن بعد، ولكن الدولة ألبستهم ثوب العصيان
بتزوير ابن رشيد. وأرسل كل أمير معتمدًا من قبله لمواجهة الوالي وكشف الحقائق
فأكرمهم وخلع عليهم، ولما رأى ما يحملون من خطوط الأمراء شد رحله ونزل
بريدة فواجهه أمير البلد صالح بن حسن المهنا فكساه وعاهده وأَمَّرَه على بلاده وترك
عنده خمسين جنديا ولواء عثمانيًّا ثم رحل إلى عنيزة فواجهه الأمير عبد العزيز العبد
الله السليم فلقي منه ما لقي ابن مهنا من اللطف والإكرام وكان كتب إلى عنيزة
الكتاب الآتي جوابًا عن كتابهم إليه.
(الكتاب الثاني من المشير إلى أهل عنيزة)
إلى كافة أكابر وأصاغر أهل عنيزة: الحمد لله ولي الإحسان، والصلاة
والسلام على سيدنا محمد الذي بعثه الله رحمة للأكوان. السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته. أما بعد فقد وصل إلينا معتمدكم عبد الله بن محمد القاضي وصحبته
المضبطة المحررة من طرفكم، وعرض طاعتكم وانقيادكم لأوامر حضرة أمير
المؤمنين فصرنا ممنونين لذلك، وحمدنا الله على ما هنالك، ثم نحن بينا له
مقصودنا، وعرفناه كما كتبنا لكم سابقًا مطلوبنا، وهو سيصل إليكم، ويكشف الحال
لديكم، وطلب منا معتمدكم المشار إليه لكم الأمان والعفو عما سلف وعدم تولية ابن
رشيد عليكم، فلكم أمان الله وقد عفونا عما سلف ولا نولي ابن رشيد عليكم ولا نحكم
بغير أحكام الشريعة ليصير معلومكم والسلام، 4 صفر سنة 1323 (الإمضاء)
وقد أطلع المشير أمراء نجد على ترجمة ما أرسله إلى الأستانة وإلى ولاية
البصرة في ذلك وهو كما جاءنا من البلاد العربية.
(ترجمة الرسالة البرقية التي أرسلها المشير إلى باشكاتب المابين الهمايوني)
بمقتضى تعليمات حضرة خليفة رسول من خصوص أهالي القصيم، قد عفا الله
عما سلف منهم وقد أطاعوا وانقادوا لأوامر الدولة العلية، والجميع لازموا الدعوات
بزيادة ودوام عمر وشوكة سلطاننا المعظم، فبناء على هذا فالذين كانوا بالبصرة
وعزموا إلى إستانبول محمد الشبيلي ومحمد وعبد الله الشعبي قد استرحم أقرباؤهم
الذين ساكنين في عنيزة المستظهرين للعفو العمومي أن يشملهم هذا العفو فاعفوا عن
الموصى إليهم وأعيدوهم إلى البصرة وبشَّروهم بالعفو كي يوجب المسرورية، وهذا
المسترحم منكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الإمضاء)
وقد كتب رسائل أخرى إلى والي البصرة وقومندان موقعها العسكري بالعفو
عن أهالي القصيم والأمر بإطلاق المحبوسين ومساعدة المتجرين وهذه ترجمتهم لها:
ترجمة الرسالة الأولى
إلى قومندان البصرة صاحب السعادة حضرة الأفندي
من جملة أهالي القصيم آل الشبيلي وسائرهم حيث استفادوا من العفو العمومي
فليداوموا على أمور تجارتهم وقضاء مصالحهم، ومن سكنة ولاية البصرة سليمان
الشبيلي وأولاده وأعوانه فلا يتعرض لهم بسوء ومن طرفكم أيضًا ابذلوا لهم التأمين
ولا تخلون أحدا (أي لا تدعوا أحدا) من أتباع ووكلاء ابن رشيد يتعرضهم بسوء
من سبب المادة السابقة ولأجل البيان حرر هذا الأمر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (التوقيع)
ترجمة الرسالة الثانية
الشبيلي محمد السليمان بحسب وصول العساكر الشاهانية إلى القصيم أبرز
من حسن الخدامة في طرفنا، والده الذي في البصرة ووكلاؤه في دائرة الأصول أجروا
في حقهم رعاية مخصوصة وأشغالهم الذي تقع في الحكومة تأمرون بعنايتكم بعنايتكم بترويجها.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (التوقيع)
(المنار)
هذا ما كتب إلينا من البلاد العربية بنصه وقد سرّنا أن الدولة وفّقها الله أرسلت
إلى نجد هذا الرجل الذي سلك مسلك الحكمة وحفظ كرامة الدولة وحقن دماء المسلمين
وأنام الفتنة التي كان أيقظها ابن رشيد، وهذا ما كنا أشرنا به وتمنيناه وليتها وفقت
لمثل ذلك في اليمن قبل استفحال الفتنة واشتغال نيران الثورة، ولكنها لم ترسل إلى
اليمن إلا أهل السلب والنهب المغرورين بقوة الدولة على رعيتها وإن الولد الذي يُربى
بالقسوة والعنف لا ينشأ إلا عاقًّا ينتظر الفرصة للانتقام من مربيه، فليت عمال الدولة
القساة في سوريا وغيرهم يفهمون هذه القاعدة الطبيعية.
__________(8/303)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
لائحة المساجد وما أنفذ منها
واضع هذه اللائحة ومقترح إصلاح المساجد معروف، وهو الأستاذ الإمام،
فإنه بعد أن صار عضوًا في مجلس الأوقاف الأعلى، وأشرف على أحوال هذه
المصلحة الإسلامية العظيمة رأى أن غلات الأوقاف تزيد عامًا بعد عام وأن
مرتبات المستخدمين في هذه المصلحة عظيمة تضاهي نفقات مصالح الحكومة،
ورأى من ناحية ثانية أن المساجد التي أوقفت عليها الأوقاف العظيمة مهملة
والمستخدمين فيها من الأئمة والخطباء فمَنْ دونهم لا يرضخ لهم إلا بالقليل جزاء على
خدمتهم، فمنهم من راتبه خمسون قرشًا في الشهر، ومنهم من يعطى أقل من ذلك
والإمام أو الخطيب الذي يرتقي راتبه إلى مئة قرش أو يزيد قليلاً يعد من ذوي
الطبقة العليا، ورأى هذا المصلح - أيده الله بروح منه - أن أكثر المستخدمين في
المساجد لا يقدرون على أداء وظائفهم على وجهها، وأن استبدال القادرين
بالعاجزين متعذر مع قلة الرواتب إذ ينبغي أن يكون الإمام والخطيب من أهل العلم
والخادم منقطعًا للخدمة، قادرًا عليها، ولا يكون هذا مع قلة المرتبات.
أجال هذا المصلح الغيور قداح الفكر في هذه المسألة فرأى أن السعي في
إصلاح حال المساجد يستتبع إصلاحًا آخر وهو خدمة العلم والإعانة عليه بإيجاد مورد
جديد لرزق أهل الأزهر يرغِّب الناس في طلب العلم، ذلك أن أول ما يهم الإنسان
في هذه الحياة الدنيا أمر رزقه، ويرى الناظر في تقلب الزمان أن الأقوات تغلو في
هذا البلد، حتى إن ثمن أكثر الأشياء قد تضاعف في زمن قليل فإذا استمرت هذه
الحال في مصر كان المقام فيها عسيرًا على غير الموسرين وقلت الرغبة في طلب
العلم بالأزهر، هذا ما بعث المصلح على البحث عن أحوال المساجد والمستخدمين
فيها ووضع تلك اللائحة التي اشتهر أمرها، وإنني أثبت ههنا نص لائحته التي
وافق المجلس الأعلى على تنفيذها بعد البحث والتعديل ثم أوقفت بأمر الأمير في
العام الماضي، ونتبعها بما أخذ منها وصدر الأمر في هذا العام بتنفيذه، وهو:
اللائحة الأولى
المادة الأولى: إن هذا الترتيب لا يترتب عليه (رفت) أحد من وظيفته إلا
بوفاته، أو وقوع أمر يستوجب رفتًا حسب الجاري، كما أنه لا يقتضي الإخلال
بشىء من اختصاصاته الحالية.
الباب الأول في ترتيب الخدمة:
(المادة الثانية) توحد الإمامة في جميع المساجد ما عدا الجامع الأزهر
والمساجد التي فيها عدة أماكن يمكن اعتبار كل منها مسجدًا مستقلاًّ، ويجب في هذه
الحالة أن يؤدي الصلاة أحد الأئمة بعد الآخر، ولا يجتمع إمامان للصلاة في آن
واحد إلا إذا اختلفت الأماكن، بحيث لا يشوش أحدهما على الآخر، ومع ذلك فتعدد
الأمكنة لا يستلزم تعدد الأئمة، بل لا يكون ذلك إلا للضرورة.
الإمام: هو رئيس المسجد في جميع شؤونه ما عدا المساجد التي فيها دروس
منتظمة مثل الأزهر وما يلحق به مما يكون له شيخ خاص يديره من حيث هو
مدرسة.
(المادة الثالثة) يقوم الإمام بوظيفة الخطبة والمساجد التي تعدد فيها الأئمة،
وهي المذكورة في المادة الثانية يقوم بالخطبة أوفر الأئمة راتبًا، فإن تساووا في
الراتب قدُم أقدمهم في وظيفة الإمامة.
(المادة الرابعة) توحد وظيفة المؤذنين في كل مسجد إلا عند تعدد المآذن
فيكون لكل مأذنة مؤذن واحد لجميع الأوقات.
(المادة الخامسة) يعين ملاحظ في المساجد التي يُرى لزوم وجود ملاحظ
فيها، وهذا الملاحظ يكون رئيس الخدمة وعليه القيام بمراقبتهم في جميع أعمالهم تحت
رئاسة إمام المسجد.
(المادة السادسة) أعمال الميقاتية تضاف إلى المؤذنين.
(المادة السابعة) يضاف عمل المبلغين إلى المؤذنين وفي مساجد القسم الرابع
التي لا منارة فيها تكون قراءة السورة على المؤذن.
(المادة الثامنة) العمل الذي يؤديه الآن المرقي والمستقبل يعوض بما يعبر
عنه شرعًا بالأذان الثاني ويحول على المؤذنين.
(المادة التاسعة) تالي القرآن في المسجد يعطى ما يرتب له على سبيل
الصلة.
(المادة العاشرة) ملاحظو المساجد هم أمنة عهدتها ويستثنى من ذلك بعض
المساجد التي لها خَزَنَة مخصوصون في جدول الترتيب، ويدخل في وظائف
الملاحظين ما كان للنقيب.
(المادة الحادية عشرة) يدخل تحت لفظ الخدمة أرباب الوظائف الآتية ولا
يقيدون بتسمية: الفراشون، والوقادون، والملاءون، والسقاءون، البوابون،
والسعَاة، وخَدَمَة الأسْبِلة في المساجد وما أشبه ذلك.
(المادة الثانية عشرة) الوظائف الآتية لا علاقة لها بترتيب الخدمة وليس
النظر فيها من عمل المجلس الآن: خدمة الأسبلة المستقلة عن المساجد والفقهاء
والدلايلية، والساعاتية، ومتعهدو السواقي، وخفراء القبور، والترَبِيَّة، والخدمة
المختصون بالأضرحة من جهة كونها أضرحة بأنواعهم، وشيخ الليثية، وقراء
الربعة، وكتبة النذور.
(المادة الثالثة عشر) وظيفة المبخر (البخورجي) تكون من أعمال أحد
الخدمة والمبالغ المرتبة لها تكون من ضمن مرتبه.
(المادة الرابعة عشر) وظيفة الداعي (الدعجي) لا تكون مستقلة وإنما
تضاف إلى عمل أحد موظفي المسجد ومرتبها يحسب من مرتبه.
الباب الثاني في المرتبات:
(المادة الخامسة عشرة) أئمة الجوامع بجميع أنحاء القطر يجعلون أربع درجات:الأولى بثمانية جنيهات، الثانية بخمسة، الثالثة بأربعة، والرابعة بثلاثة.
الملاحظون يكونون بجنيهين، الخزنة يكونون بجنيهين.
المؤذنون ينقسمون إلى أربع درجات:
الأولى: 150قرشًا لمصر والإسكندرية، والثانية 125قرشًا لعواصم
المديريات ومحافظات بورسعيد ودمياط والسويس، والثالثة 100 قرش لعواصم
المراكز والبلاد التي عدد سكانها عشرة آلاف نسمة فما فوق، وإن لم تكن عواصم
مراكز، والرابعة 75 قرشًا لبقية القرى.
سائر الخدمة يكونون كالمؤذنين ما عدا المستثنين مثل خدمة الجامع الأزهر
ونحوه.
قراء القرآن في الجوامع يكونون أربع درجات: الأولى 50 قرشًا، والثانية
40 قرشًا، والثالثة 30 قرشًا، والرابعة 20 قرشًا على حسب درجات الجوامع.
الباب الثالث في شروط التوظيف:
(المادة السادسة عشرة) الإمام يشترط فيه أن يكون عالمًا حائزًا لشهادة
العالمية فإن لم يوجد مرشح حائز لشهادة العالمية يكتفي بشهادة الأهليلة فإن لم يوجد
أيضًا مرشح حائز لشهادة الأهلية ينتخب اللائق بالامتحان على حسب القواعد المتبعة
الآن.
(المادة السابعة عشرة) الملاحظون يشترط فيهم أن يكونوا أقوياء البنية
ويفضل أولاً من يقرأ ويكتب ويحفظ القرآن ثم من يقرأ ويكتب فقط.
(المادة الثامنة عشرة) الخازن يشترط فيه أن يعرف القراءة والكتابة ومبادئ الحساب.
(المادة التاسعة عشرة) المؤذنون يشترط فيهم مثل الملاحظين، ولا يمنع فَقْد
البصر من التوظيف بوظيفة المؤذنين.
(المادة العشرون) يشترط في الخَدَمة أن يكونوا سليمي البنية وأوجه التفصيل
تسري عليهم، وهي المذكورة في الملاحظين.
أحكام عمومية:
(المادة الحادية والعشرون) عدد الموظفين ومرتباتهم في كل مسجد يكون على
حسب الجدول الذي قرره المجلس وأرفق بهذا.
(المادة الثانية والعشرون) إذا وجد في شروط الواقفين زيادة في عدد
الموظفين عما هو وارد في الجدول فيعطى للزائد ما هو مقرر له بشرط الواقف فقط،
كذلك إذا وجد في شروط الواقفين زيادة في مرتب أية وظيفة عما هو وارد في
الجدول فتعطى الزيادة بحسب شرط الواقف.
باب توزيع العلاوات:
(المادة الثالثة والعشرون) يلاحظ في إعطاء العلاوات على حسب الترتيب
الجديد في كل مسجد أن لا يتجاوز مجموعها مع ما هو جار صرفه الآن مجموع ما
يخصه على حسب هذا الترتيب:
يبدأ في التوزيع لكل وظيفة على الوجه الآتي:
أولاً: الأئمة الحائزون لدرجة العالمية أو الشهادة الأهلية أو الذين يحصلون
على إحدى هاتين الشهادتين بعد الآن.
ثانيًا: من يقرأ ويكتب ويحفظ القرآن من الملاحظين والمؤذنين والخدمة ثم من
يقرأ ويكتب فقط منهم.
ثالثًا: الخازن الذي يعرف القراءة والكتابة ومبادئ الحساب.
وحيث إن مبلغ الأحد عشر ألف جنيه لم يكن مقررًا فقط لمساجد القاهرة، بل
لمساجد عموم القطر فيشترط أن لا يزيد مجموع هذه العلاوات هذه السنة في مدينة
القاهرة عن سبعة آلاف جنيه فإن زاد يقطع من كل وظيفة بنسبة الناقص.
إذا بقي شيء من مبلغ سبعة الآلاف جنيه بعد التوزيع على الوجه المشروع
فيما سبق فهذا الباقي يوزع على من يتلوهم ممن هم حائزون لشروط هذا الترتيب.
ومع ذلك إذا خلت في مسجد وظيفة زائدة عن المقرر في هذا الترتيب يوزع
مرتبها لتكملة مرتبات موظفي ذلك المسجد الذي تنطبق عليهم قواعد هذا الترتيب من
جهة العدد المرتب وشروط التوظف.
(المنار)
قد تركنا الجدول الملحق بهذه اللائحة لبيان المستخدمين والمرتبات لهم على
حسب الترتيب الجديد؛ لأنه لم يعمل به، وإنما العمل بالجدول الملحق بالمذكرة الآتية
المبنية على اللائحة الأولى، ولكنها دونها في الفائدة والإصلاح، وهي:
مذكرة
مرفوعة إلى مجلس الأوقاف الأعلى
يعلم حضرات أعضاء المجلس حالة خدمة المساجد وفقرهم وقلة المرتبات
المقررة لهم مقابل خدمة هذه المحلات الطاهرة، وقد ترتب على اهتمام الديوان بشدة
المراقبة في نظافة المساجد، وترتيب إنارتها وأدواتها أن صار أولئك الخدمة
مسئولين عن أعمال كثيرة ربما كانت سببًا للتضيق عليهم في السعي في الكسب
والارتزاق من الخارج، وقد كثرت شكاويهم لجانب المعية السنية وللديوان وعلى
لسان الجرائد المحلية من عدم كفاية مرتباتهم خصوصًا مع غلاء الأسعار في
الوقت الحاضر والتمسوا زيادتها لمساعدتهم في معايشهم وبالبحث في مرتبات هؤلاء
الخدمة تبين أنه عددهم في مساجد مصر وبولاق بلغ 1627 منهم 1360 رواتبهم
تنحصر بين الخمسين والخمسة وسبعين قرشًا فأقل، وهذه (مَاهِيَّة) لا
تنفع فردًا واحدًا في أمور معيشته، فكيف بهم وهم ذوو عائلات.
وحيث إن ميزانية الديوان وارد فيها مبلغ إحدى عشر ألف جنيه لزيادة ماهيات
خدمة المساجد ومخصص منه مبلغ سبة آلاف جنيه لتوزيعه على مساجد مصر على
الطريقة المذكورة في قرار المجلس الصادر بتاريخ 8 فبراير سنة 1904م عن
ترتيب المساجد.
وحيث إن هذا الترتيب صدر لنا أمر عال بتاريه 31 مايو 1904 بإيقاف
تنفيذه لحينما ينظر فيه بطرف جناب ولي النعم الأفخم.
وحيث إن ترك هؤلاء الخدمة بتلك المرتبات القليلة وهم يصيحون ويستغيثون
مما لا يليق بمصلحة خيرية تجود بالكثير من أموالها في وجوه البر والخير وعلى
الفقراء والمساكين وأجدر بها أن تفيض بشيء على من يقيمون شعائر الدين ويقومون
بخدمة تلك المحالّ الطاهرة.
فبناء على ذلك رأينا أن نضع مشروعًا لعلاوة تلك المرتبات، حتى إذا وافق عليه المجلس أنفذ وارتفع الضرر نوعًا عن أولئك المساكين وها هو:
الأئمة والخطباء:
حيث إن الأئمة والخطباء بالمساجد تختلف حالتهم بعضهم عن بعض فقد رؤي
تقييم مرتباتهم إلى ثلاث درجات:
الأولى: الأئمة والخطباء الحائزون لدرجة العالمية وماهية كل منهم أقل من
جنيهين ونصف شهريًّا تكمل إلى هذا القدر بشرط أن الموجود منهم ولم يكن مكلفًا
بإعطاء دروس لتعليم العوام يكلف به مثل غيره لانتفاع العامة بالأمور الدينية.
الثانية: الأئمة والخطباء الحائزون لشهادة الأهلية وماهية كل منهم أقل من جنيه
وخمسمائة مليم شهريًّا تكمل إلى هذا القدر بالشرط المتقدم ذكره.
الثالثة: الأئمة والخطباء الغير الحائزين لدرجة العالمية ولا لشهادة الأهلية
وماهية كل منهم أقل من جنيه واحد شهريًّا تكمل إلى هذا القدر.
(المدرسون) المدرسون الموجودون في بعض المساجد من كان منهم ماهيته
أقل من جنيهين اثنين ونصف شهريًّا تكمل إلى هذا القدر.
(مشايخ الخدمة) هؤلاء من كان منهم مرتبه أقل من جنيه ونصف يكمل إلى
هذا القدر.
(المؤذنون) من كان منهم ماهيته أقل من سبعمائة وخمسين مليمًا شهريًّا
تكمل إلى هذا القدر ما عدا المؤذنين في المساجد الشهيرة وهي الجامع الأزهر ومسجد
سيدنا الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة والسيدة فاطمة النبوية والسيدة سكينة
والإمام الشافعي والسلطان أبو العلا فتكون ماهية الواحد منهم جنيهًا شهريًّا.
(قراء السورة) هؤلاء من كان منهم ماهيته أقل من مائتين وخمسين مليمًا
شهريًّا تكمل إلى هذا القدر.
(وظائف الخَدَمة) الخَدَمة مثل الوقّاد والكناس والبواب والملا وغيرهم من
كان منهم ماهيته أقل من سبعمائة وخمسين مليمًا شهريًّا تكمل إلى هذا القدر.
(متعهدو إقامة الشعائر) المتعهدون المكلفون بالصرف على بعض المساجد من جميع اللوازم ممن كان مرتبه أقل من جنيهين اثنين يكمل إلى هذا القدر.
وبناء على ذلك فالزيادة الممكن إضافتها على مرتبات هؤلاء الخدمة جميعهم بمساجد مصر وبولاق بحسب هذا الترتيب هي ما يأتي:
فمبلغ الستة آلاف وستمائة وثلاثة وثمانين جنيهًا هو اللازم زيادته على
ماهيات خدمة المساجد بمصر على الكيفية التي توضحت ونؤمل التصريح لنا بمبلغ
317 جنيهًا لتوزيعه بمعرفتنا على بعض الوظائف التي لم ينلها شيء من هذه القاعدة
بحسب ما نراه من الضرورة والأهمية فيكون المقتضي التصريح به من المجلس
مبلغ سبعة آلاف جنيه، وهو المخصص لمساجد مصر في القرار السابق.
بناء عليه قد تحررت هذه المذكرة للنظر وتقرير ما يتراءى.
(المنار)
قد نشرنا هذه المذكرة كما وصلت إلينا لم نصلح من لحنها شيئًا وهي مصرحة
بأن الترتيب الأول أوقف بأمر الأمير، وقد كنا ذكرنا هذا وذكرته بعض الجرائد في
وقته وبأن ما عرض في هذه المذكرة على المجلس الأعلى إنما يرفع الضرر عن
المستخدمين في المساجد نوعًا ما فهو جزء من الإصلاح المطلوب في تلك اللائحة،
ويفهم منها أن الرجاء غير مقطوع من تنفيذ الترتيب الأول الذي وضعه الأستاذ
الإمام، وما هي إلا كلمة من الأمير وفقه الله وقد نفذ، ولو كان في مسلمي مصر
عامة وعلماء الأزهر خاصة أمة تهتم بمصالح المسلمين العمومية وتسعى لها سعيها
لأكبروا أمر هذا الإصلاح الذي اقترحه المفتي، وأجمعت كلمتهم على استعطاف
الأمير والشفاعة عنده والإلحاح على جنابه في تنفيذ هذا الإصلاح الذي يحيي بيوت
الله تعالى ويعين على إقامة شعائر الدين على وجهها كما يرغب الناس في طلب
العلوم الدينية ويكون سببًا للانتفاع بها.
وقد ذكرت جريدة المؤيد أن جماعة من المستخدمين في المساجد شكروا للجناب
العالي إيقاف تنفيذ الترتيب الجديد لما فيه من الرحمة بهم ورعاية مصالحهم، وهذا
جهل منهم؛ لأنهم ظنوا أن الترتيب يقضي باستبدال العلماء بالجاهلين في الإمام
والخطابة حالا فلا بد من عزلهم ووضع بعض علماء الأزهر في مواضع الخطباء
والأئمة الجاهلين منهم، وليس الأمر كذلك كما رأيت، وإننا نسأل الله تعالى أن يلهم
قلب الأمير تنفيذ الأصل كما ألهمه الرضى بهذا الفرع الذي لا يرفع الضرر كله.
وجملة القول: إن ما عرضه ديوان الأوقاف على مجلسه الأعلى في هذه
المذكرة قد أقره المجلس بعد تنقيح قليل كاشتراط بعض الشروط في وظائف الخدمة،
وصدر الأمر العالي بتنفيذه وسيكون مقدمة لتنفيذ الترتيب الأول إن شاء الله تعالى.
__________(8/307)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
محاربة الوهم للعلم
أو تأثير السعاية في الدولة العثمانية
زار القطر المصري في ربيع هذا العام الحاج محيي الدين بك حمادة فنزل
ضيفًا عند صهره الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، ثم عند ابن أخيه خليل
باشا حمادة في الإسكندرية، وكان الغرض من هذه الزيارة صلة الرحم والاستراحة
من عناء العمل، ولما علم بقرب عودته إلى بيروت السعاة المحّالون الذين يطلق
عليهم لفظ (الجواسيس) في عرف هذا العصر كتبوا إلى (المابين الهمايوني)
يَشُون به، وقد شاع أن مما كتبوه أن هذا الرجل الجليل البعيد عن السياسة بجميع
معانيها يحمل فتوى من صهره بوجوب خلع السلطان، ويحمل كتبًا ضارة يريد
توزيعها في سوريا وقد بلغنا أنه كتب من (المابين) إلى أمير مصر سؤال عن
الحاج محيي الدين وأين نزل وماذا يفعل؟ وأن الأمير ذكر ذلك لخليل باشا حمادة
وأخبره بأنه أجاب (المابين) أحسن جواب وأثنى على الحاج محي الدين ولكن ذلك
لم يغن شيئًا.
ولما عاد الحاج محيي الدين إلى بيروت، وكان ذلك بعد سفر الأمير إلى الآستانة
قبض عليه عند نزوله إلى البلد وأخذ إلى دار الحكومة وفتشت أمتعته وجميع ما
يحمله فلم يروا فيها شيئًا يثير عليه شبه السياسة إلا تفسير جزء (عم يتساءلون)
وأسماء جماعة من فقراء بيروت بإزائها أرقام. فأما التفسير فقد أرسل إلى لجنة
التفتيش بديوان المعارف فقرئ فقيل: إن فيه عبارة ضارة وهي تفسير لفظ الزبانية
في سورة (العلق) بالشرط وأعوان الولاة، على أن هذا التفسير يوجد في جميع كتب
اللغة وكتب التفسير، فلا يبعد أن يمنع دخولها إلى الممالك المحروسة إذا دامت الحال
على ما هي عليه الآن، وأما أسماء الفقراء وما جمع باسمهم من الصدقات فلعل
الحكومة المظفرة المنصورة ظنت أن الغرض منها تأليف حزب للقيام بعمل سياسي
ثم علمت أن الحاج محيي الدين رجل معروف بالبر وعمل الخير يصمد إليه الفقراء
والمعوزون المتعففون وأن ثروته لا تفي بإسعاف كل من يقصد إليه فاغتنم فرصة
وجوده في قطر إسلامي غني للاستعانة بكرام أهله على ما يطلب منه لا سيما لعيال
بعض العساكر الذين يخشى أن يلجئهم العوز إلى الثورة فعمله هذا خدمة جليلة لدولته
ولوطنه. على أنه لولا تداخل سفارة إنكلترا في الآستانة في أمر هذا الرجل لظل
ضيف الحكومة العادلة ولكنه أفرج عنه بأمر السلطان.
الحاج محيي الدين حمادة رجل وجيه عند جميع طبقات الناس من جميع الملل
في بيروت وغيرها، ومحترم عند الحكومة ومشهور بالاستقامة والتقوى والإخلاص
للدولة وقد ناهز الثمانين أو زاد عليها ولم يزن بريبة سياسية ولا غير سياسية، فسماع
حكومة الآستانة لقول مفسد دنيء فيه، ومعاملتها إياه بمثل تلك المعاملة قد نفخ
الرعب في قلوب أهل ولاية بيروت من الرجا إلى الرجا؛ لأن سماع الوشاية في
مثل هذا الرجل ممن لا قيمة لهم يقتضي أن يسمع مثلها في كل أحد وما من أحد إلا
وله عدو أو أعداء لا يأمن أن ينتقموا منه بورقة يكتبونها. وإذا كان القبض على
الحاج محي الدين حمادة قد أظهر فضله وشرفه باهتمام الناس بأمره وإقبال وجهاء
جميع الطوائف على زيارته وتداخل سفارة إنكلترا بطلب الإفراج عنه فغيره لا
يرجو مثل هذه العناية والحفاوة، وما كل الناس كأهل بيروت في الجرأة والإقدام.
حمل هذا الرعب بعض أهل الحذر في بيروت وطرابلس وصيدا وغيرها
من البلاد على إخفاء كتبهم أو على إحراقها بالنار وما عتم أن ظهر أن الحذر كان
غيدرًا (الغيدار هو من يظن سواءً فيصيب) فإن الوشايات كثرت وأنشأت الحكومة
تدمرعلى بيوت الناس (دمر دخل بدون استئذان) وتأخذ جميع ما فيها من الكتب
والأوراق إلى دار العدل والإنصاف وتقبض على من وقعت عليه الشبهة من أهلها
وتحبسه؛ لترى ما يستحق من العقوبة على اقتناء الكتب التي تسميها ضارة أو
ممنوعة، ومن يعرف ما يسمونه ضارًّا أو ممنوعًا ومعرفته متوقفة على تعريفهم به،
وإعلانه للناس وهم يسرونه ويكتمونه إلا عند العقوبة.
بدءوا في طرابلس الشام ببيت الشيخ عبد الرحمن الكمالي فدمروا عليه في
داره وأخذوا كتبه وأوراقه وقبضوا على ولد له من طلاب العلم وحبسوه في دار
الحكومة وفعلوا هذا بآخرين. وكان من مثار الريب بل دلائل سوء القصد عند هذه
الحكومة أن وجدت في الكتب نسختين من صحيح البخاري فاستنبط من ذلك أن
صاحب الكتب قد أخذ على نفسه أن يوزع نسخ البخاري على الناس وذلك لا يكون
إلا بقصد سيئ يضر بالسياسة ويخشى منه الخطر على حكومة العدل والعلم والدين.
ووجدوا قصيدة في مدح رجل يسمى منصورًا فسئل من عنده القصيدة عن منصور
الممدوح أين هو؟ فقال: في جبل لبنان، قيل: كذبت، بل أنت تعني أميرًا في
مصر.
وقد أرسلت حكومة طرابلس وكيل المدعي العمومي (رئيس النيابة)
والمستنطق وبعض شرطتها إلى القلمون فدخلوا دارنا وأخذوا ما فيها من الكتب
والأوراق وقبضوا على شقيقنا السيد إبراهيم أدهم فأودعوه مع الكتب في دار
الحكومة مهد العدل والأمن، وإننا ننتظر ما يكون بعد ذلك من حسن معاملتها لآل
بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ودخلوا دار علي كسن من القلمون؛ لأن
له ولدًا مجاورًا في الأزهر، ولا أدري ماذا وجدوا فيها ولعلهم لم يجدوا شيئًا، وقد
وقع مثل ذلك في بيروت حتى أن حكومتها فتشت مطبعة الإقبال ومكتبة الإنسي
وأخذت ما فيهما من الكتب للبحث فيها.
لعل من يعتقد أن آفة السلطة المطلقة العلم، يظن أن خوف الناس ورعبهم من
الكتب وتوقعهم العقاب الشديد على اقتنائها آية نجاح هذه السلطة، وقد يكون هذا
الظن ضد الحقيقة فإن مقاومة العلم وإهانة أهله ربما كانتا سببًا في إيقاظ الأذهان
النائمة وإشهاد الأبصار المغضية ما لم تكن تشاهده من مضرات هذه الحكومة بل قد
تكون سببًا لإحفاظ قلوب جميع طبقات الأمة على هذه الحكومة، ومتى حقدت الأمة فلا
يلبث مرجل حقدها أن ينفجر بحوادث الزمان مهما كانت صاغرة مستسلمة وجاهلة
بطرق تغيير الحكومات وقلب الدول. فإن لم تكن لدى حكومتنا عبرة بالأمة الروسية
التي يكاد تعظيمها للقيصر يكون عبادة حقيقية فلتعتبر بالأمة المصرية -التي هي أشد
الأمم استسلامًا للحكام- كيف ثارت في وجه توفيق باشا الذي كان ألين أمراء هذا
البيت عريكة وأبعدهم عن القسوة والطغيان.
إننا نعلم علم اليقين أن أهل سوريا لا يتفكرون في مسألة الجنسية المشئومة ولا
يخطر على بالهم أن يسعوا للاستقلال ويجعلوا حكامهم منهم وأبعد من هذا عن
أذهانهم التفكر في الاتصال بسائر البلاد العربية على أن يكونوا جزءًا من مملكة
عربية مستقلة وإنما أقصى أمانيهم أن تكون حكومتهم العثمانية عادلة معينة لهم على
العلم والترقي، ولكن لا يوجد أحد من البشر يضطهد على فكره واعتقاده ويسلب
الأمن فلا يدري متى يهجم عليه في بيته ويروع به أهله وعياله، ثم يكون راضيًا
من المضطهِدين لا يحب زلزالهم ولا يتمنى زوالهم ولا يسعى في ذلك متى وجد
طريقًا للسعي.
إن هذا الهجوم على البيوت ومؤاخذة الناس على ذنوب لم تكن ذنوبًا إلا
باختراع مخيلات الظالمين ككون الرجل يملك من الكتاب الفلاني نسختين وكونه
يقتني الكتاب الفلاني، وأن سماع الحكام لأقوال الجواسيس والسعاة في مثل ذلك،
كل ذلك يعد من سوالب الأمن، فكل أحد يتوقع في كل ساعة من ليل أو نهار أن
يفاجأ بما فوجئ به سواه.
ارفقوا أيها الحكام المسلطون بهؤلاء الضعفاء الذين مكنكم من ظلمهم تفرّقهم
وما فرقهم إلا عدم وجود ألم شديد عام يجمعهم، فربما كان ظلمكم إياهم هو الجامع
لكلمتهم عليكم. ارحموا فإن الرحمة خير لكم على كل حال، وقد تكون القسوة نافعة
لهم ضارة بكم ولو بعد حين. لا تعلموا الناس ما لم يكونوا يعلمون ولا تذكروهم بما
لم يكونوا يذكرون، واتقوا الله إن كنتم به تؤمنون.
__________(8/315)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حذر حكومة مدينة حلب من الثورة
من أخبار حلب أن الحكومة السَّنية أرسلت شرذمة من زبانيتها ليلاً إلى سوق
الباذستان، وهي التي تباع فيها العاديات والأمتعة المستعملة، وفيه كثير من الأسلحة
العتيقة، فأحاط الزبانية بمائة دكان، وأرسلوا إلى أصحابها فحضر بعضهم وفتحوا لهم
دكاكينهم فأخذوا ما فيها من السلاح، ومن لم يحضر كسروا دكانه وأخذوا ما فيها
فاعتقد الناس أن الحكومة خائفة وجلة من رعيتها تحذر أن يقتدوا بالروسيين فيقوموا
عليها طالبين تغيير شكل الحكومة المطلقة وإقامة العدل وإباحة العلم وإطلاق الحرية
للناس، ولولا هذا العمل لم يكن يخطر ببال أحد شيء من ذلك.
ونحن نعتقد أن هذه الأعمال سيندم عليها فاعلوها؛ إذ تأتي بضد ما أرادوا منها
وسيظهر لهم ذلك إذا استمروا عليها، وإننا نود من صميم قلوبنا أن تترك دولتنا
محاربة رعيتها وتنزع من ذهنها وساوس الجرائد الإفرنجية التي تخدعها بإيهامها أن
البلاد مستعدة للخروج عليها لتصرفها بذلك عن اغتنام فرصة انكسار روسيا واشتغال
أوربا بالمنازعات لإصلاح بلادها. وقد نصحنا للدولة مثل هذه النصيحة في فتنة
نجد فظهر صدق قولنا، وتبين بعد الحرب والخصام أن اللين في المعاملة هو الذي
يأتي بالخير ويجمع الكلمة والله الموفق.
__________(8/318)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجمعية الخيرية الإسلامية
تنشر هذه الجمعية في كل عام تقريرًا تلخص فيه أعمال مجلس إدارتها في
السنة الماضية، وتذكر فيه ميزانيتها ومشروعاتها للسنة القابلة بعد أن تعرض ذلك
على الجمعية العمومية التي تجتمع في شهر المحرم، وقد حضرنا الاجتماع في هذا
العام ثم أرسل إلينا التقرير بعد طبعه فأرجأنا الكلام فيه إلى الآن.
علم من التقرير أن عدد تلامذة مدارس الجمعية في مصر والإسكندرية وطنطا
وبني مزار وأسيوط والمحلة وبور سعيد 766 تلميذًا منهم 469 يتعلمون
على نفقة الجمعية و 297 تلميذًا يتعلمون على نفقة أنفسهم. وقد بلغ ما أنفقته
الجمعية على مدارسها في السنة الماضية 4639 جنيهًا وكسور الجنيه، وبلغ ما
أخذته من الأجرة على التعليم فيها 842 جنيها ونصف تقريبًا.
وقد بلغ ما حَصَّلته الجمعية من الاشتراكات السنوية في السنة الماضية 1353
جنيهًا؛ لأن المشتركين قد زادوا 80 عضوًا والمساعدين زادوا 20 عضوًا فصار
عدد الأعضاء 518 شخصًا والمساعدين 100 وقيمة اشتراكهم السنوي يبلغ
1836، ولكن منهم من يشترك ويمطل في الدفع، ومنهم من لا يدفع ما يفرضه على
نفسه حتى تيأس الجمعية منه ويأمر الرئيس بمحو اسمه، ولو اتكلت هذه الجمعية
على كرم أغنياء البلاد ومروءتهم لسقطت منذ سنين كما سقط غيرها من الجمعيات
الأدبية والخيرية التي أُسست في هذه البلاد قبلها وبعد تأسيسها، ولكن مؤسسيها
الحكماء قد عرفوا أخلاق أهل بلادهم ودرجة سخاء أغنياهم وثبات أهل بلادهم
فوضعوا في قانون الجمعية مادة لولاها لم تقم للجمعية قائمة وهي أن نصف الإيراد
يجعل للاستغلال والنصف الآخر يصرف على التعليم وإعانة الفقراء، فانظر كيف
صارت على قلة المشتركين فيها تنفق على التعليم وحده أضعاف ما يأتي من
الاشتراك ببركة تلك المادة.
وقد يتعجب الغريب إذا علم أن الجمعية الخيرية الإسلامية الوحيدة في أغنى
الأقطار الإسلامية لم يشترك فيها من نحو عشرة آلاف ألف مسلم إلا 518 وأن أعظم
مبلغ دخل في خزينتها من هؤلاء المشتركين في السنة الماضية لم يزد عن ربع نفقات
الجمعية على التعليم إلا قليلاً، ولكن المصريين الفضلاء العقلاء يرون أن هذه خطوة
كبيرة بالنسبة لضعف الأخلاق في بلادهم وأنه لولا عناية الشيخ محمد
عبده ونفوذه الديني والأدبي ومساعدة أعضاء الجمعية الوجهاء له لما وصلت
الجمعية إلى عشر هذا القدر بأريحية أغنياء القطر وشعورهم الملي والاجتماعي.
فأهل مصر لا يعوزهم إلا الأخلاق كالكرم الحقيقي والثبات والعزيمة، فإذا كثر فيهم أصحاب هذه الأخلاق فانهم ينهضون بذكائهم وثروتهم في زمن قريب.
أما ما أنفقته الجمعية في سنة 1322هـ على الفقراء فنحو 430 جنيهًا، والناتج
لقسم إعانة الفقراء من صافي الإيرادات العمومية بلغ خمس مائة جنيه وثلاثة
جنيهات تقريبًا. ومعظم إيراد الجمعية من أطيانها ومن الاحتفال السنوي في حديقة
الأزبكية، وقد بلغ ما وصل إلى الصندوق من هذا الاحتفال في العام الماضي 1557
جنيهًا.
ولو كان أصحاب الجرائد وأهل الغيرة على الأمة والبلاد يقومون بالدعوة إلى
هذه الجمعية على وجهها لكثر المشتركون والمساعدون والمتبرعون، ولقدرت
الجمعية بذلك على أن تخدم البلاد خدمة لا ترجى من سواها بمال أكثر من
مالها؛ لأن رئيسها ووكيلها والعاملين من أعضاء إدارتها هم خيرة من أنبتت أرض
مصر في هذا العصر وهم يخدمون الجمعية بقدرة وهمة وإخلاص بأموالهم وأنفسهم،
فعسى أن يوفق الله من أراد به الخير إلى هذه الدعوة الصالحة.
__________(8/319)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوفدان الفرنسي والألماني
في بلاد العرب
ذكرنا في الجزء الماضي خبر هذين الوفدين كما أخبرنا بعض العربان النجديين
في مصر، ثم إن المخبر أحفى واستقصى فعلم أنه لا وفد إلا الوفد الفرنسي، وأن
أعوانه كانوا يشترون المصاحف والكتب باسم وفد ألماني تورية أو تعمية، وأن وجهة
الوفد نجد من طريق العقبة، وأنه قد سمع أن الحكومة العثمانية قد علمت بالوفد
فانتظرت ريثما دخل في حدود بلادها فردته على أعقابه، وإننا ننتظر التفصيل
في ذلك ولعلنا نقف عليه بعد أيام.
__________(8/319)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جمعية العروة الوثقى الخيرية
أسست هذه الجمعية لأجل نشر التعليم في الإسكندرية فنجحت بهمة أعضائها
الكرام من وجهاء الثغر الإسكندري حتى صار لها خمس عشرة مدرسة: تسع منها
للذكور عدد تلاميذها 1578، وست للبنات عدد تلميذاتها 549، وكان عدد المجموع
في السنة الدراسية الماضية 1575 منهم 911 يتعلمون بأجرة و 664 بغير أجرة،
والمجموع في هذه السنة 2127 منهم 1126 بأجرة و 1001 بلا أجرة، فنرجو لهذه
الجمعية مزيد من النجاح ولعلنا نعود إلى ذكرها في فرصة أخرى.
__________(8/320)
غرة جمادى الأول - 1323هـ
3 يوليو - 1905م(8/)
الكاتب: مسلم غيور
__________
المسلمون والقبط [*]
أو آية الموت وآية الحياة
قرأنا في جريدة الوطن القبطية مقالة عنوانها (التعليم الديني والحكومة) بحث
فيها كاتبها في مشروع الحكومة الجديد من إعفاء حفاظ القرآن من الخدمة العسكرية
بحثًا قال فيه: إن الحكومة المصرية رأت أن هؤلاء الحفاظ كثروا في هذه الديار كما
كثر الرهبان والشمامسة والقسيسون في كل بلاد نصرانية تعامل خَدَمة الدين معاملة
الحكومة المصرية لهم فأرادت حكومة مصر أن تخص هذا الإعفاء بمن يستحقه،
أي وهو من يتعلم من مبادئ القراءة والكتابة ما يمكنه من خدمة الدين بتعليم القرآن
الكريم وغيره مما يتعلمه الأولاد في المكاتب لا من يدعون أنهم يخدمون الدين والعلم
وهم أبعد الناس عن ذلك. قال الكاتب:
(وظاهر من هذا أن الحكومة المصرية أرادت أن تعلي قدر الدين الإسلامي
بما نوت من الإصلاح؛ لأنها رأت أن الإعفاء بلا تدقيق ولا حساب يجعل الدين
سلاحًا يتسلح به كل طالب للتخلص من الخدمة المفروضة على كل وطني فالذين
يتذرعون بهذه الذريعة ويجعلون أنفسهم من الفقهاء حبًّا في الخداع والتخلص من
خدمة الوطن وليس حبًّا بالعلم والدين، إنما يؤدي فعلهم إلى إسقاط حرمة الدين بين
الناس) إلى أن قال: (فحكومة مصر قصدت خدمة الدين بتنقية صفوفه من الذين
لا يصلحون لخدمته والاشتهار بين الناس باسمه وبإعادته إلى مجده الأول حين كان
العلماء والفقهاء (هم) الذين توفرت فيهم شروط العلم والفقه، وليس الذين هربوا من
واجب وطني وجعلوا الدين حيلة وواسطة للفرار منه) .
جعل الكاتب القبطي الغيور على ملته وقومه هذا الكلام مقدمة وتمهيدًا لمطالبة
الحكومة بأن تعامل خَدمة الدين من القبط كما تريد أن تعامل خَدمة الدين من
المسلمين بأن تشترط في إعفاء الشمامسة والعرفاء وغيرهم من خَدمة الكنيسة، أو
الدير من القرعة العسكرية أن يكونوا متعلمين من مبادئ القراءة والكتابة ما يجعلهم
محترمين في أعين المتعلمين، ويمكنهم من إحسان خدمة الدين. وقال: (إذا كانت
الحكومة تشترط عليهم مثل الذي تريد أن تشترطه على الفقهاء (أي: الحفاظ) فإنها
تحسن إلى الأمة القبطية أكبر إحسان وترقي في درجة الذين يخدمون دين النصرانية
بين رعاياها وهي تخطو خطوة كبرى في سبيل الإصلاح المطلوب للبطركخانات)
ثم أطال في بيان أعمال هؤلاء في خدمة ملتهم، وقال: (إن الأمة القبطية كلها
ألسنة صارخة بمطالبة الحكومة بهذا الإصلاح) .
قرأت هذه المقالة فكان يتمثل لي عند كل جملة منها ما كتب في (المؤيد) من
المقالات الطويلة العريضة والنبذ الموجزة في أخباره المحلية الصارخة بالتألم
والشكوى من مشروع الحكومة: إنه إهانة للدين والقرآن، وتحقير لخَدمة الإسلام،
وإنزال لهم عن مرتبة خَدمة النصرانية في الاحترام، إذ لا تشترط الحكومة في
إعفاء القساوس والرهبان والشمامسة ونحوهم معرفة بالقراءة والكتابة ولا بمبادئ
الحساب ولا بإتقان ما يقرءون من كتب الدين، وتمثل لي بالمقابلة بين ما تشكو منه
الجريدتان الفرق بين آيات الموت وآيات الحياة، الجريدة الإسلامية تشكو من العلم
وتعده إهانة لدينها وهضمًا لحقوق حملة كتابه، وذلك أظهر آيات موت الأمم إن
كانت الأمة على رأي المؤيد أو راضية بقوله وقول من شايعوه على ذلك. والجريدة
القبطية تشكو من الجهد وتعد إقرار خدمة دينها عليه إهانة لهم وتقصيرًا من الحكومة
في مساواتهم بالمسلمين في العناية بدينهم وإعانتهم على إصلاح قومهم وذلك أظهر
آيات الحياة والطائفة القبطية على رأيها لا محالة.
عجبًا للمؤيد يذكر كل سنة في الكلام على نتيجة الامتحان في المدارس سبق
القبط للمسلمين في التعلم؛ إذ المشتغلون والناجحون من الأولين أكثر منهم في
الآخرين ويظهر التبرم والشكوى من ذلك فما باله قام يحارب العلم والتعليم في
مشروع حفظ القرآن ومشروع الكتاتيب؟ إن كان لا يعرف فضيلة العلم لذاته قل أو
كثر، بل يعرفه بميل القائمين بأمر البلاد أو عدمه فيذم ما رغبوا فيه ويمدح ما
رغبوا عنه فليسكت عن الشكوى من قلة المتعلمين من المسلمين؛ لأن جناب اللورد
كرومر الذي بيده أزمّة البلاد يشكو من ذلك في تقاريره كل عام.
إن رغبة القبط فيما يزعم المؤيد أن المسلمين يرغبون عنه، وبكاء الجريدة
القبطية على ما تبكي منه الجريدة الإسلامية هو أدل على الفرق البعيد بين الفريقين
من كثرة عدد المتعلمين في أحدهما وقلته في الآخر؛ لأن الرغبة عن العلم والبكاء منه
أدل على موت الأمة من ترك الكثيرين له؛ إذ يجوز أن يكون الترك لعذر غير
الكراهة والتنوُّر [1] .
كذلك الرغبة في العلم وطلبه والبكاء من فقده أدل على الحياة من مجرد القيام
به من أفراد كثيرة) ... إلخ.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (مسلم غيور)
(المنار)
إننا لم نقرأ كل ما نشره المؤيد في هذه المسألة ولكننا قرأنا بعضه فلم نره
صوابًا، وفي هذه المقالة حدة في الإنحاء عليه قد استثقلناها فحذفناها ومقصودنا
بالذات المقابلة بين المسلمين والقبط في هذا الأمر لا سيما بعد أن مضى زمن على ما
نشرته جريدة الوطن القبطية؛ فلم نر من القبط من انتقده وما حذفناه ليس منه، وقد
بينا رأينا في المسألة معززًا بالدلائل والبراهين.
__________
(*) أشرت في مقالة (حياة الأمم وموتها) التي نشرت في الجزء الثاني من هذه السنة إلى الفرق بين المسلمين والقبط في العناية بالمعارف وطالما عزمت على كتابة مقالات في المقابلة بين مسلمي مصر وقبطها وبين المسلمين والنصارى عامة، ثم أرجأتها وقد نشرت من عهد قريب مقالة في المقطم تتعلق بالموضوع خاصة بمسألة إعفاء حفاظ القرآن من القرعة العسكرية بإمضاء (مسلم غيور) فأحببت نشرها هنا لما فيها من الذكرى والاعتبار.
(1) التنور هنا لا معنى له فهو تحريف حتما.(8/321)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
الدين في نظر العقل الصحيح
محمد توفيق صدقي
(1)
قرأت في إحدى المجلات العربية مقالة بقلم أحد طلبة المدارس العالية، ذكر
فيها شيئًا من المذهب المادي في مصير الإنسان وأصله، وتبجح بأن هذا هو معتقده
وأن لا حق بعد ذلك، ولما كانت هذه الأفكار وأمثالها مما يخالج قلوب شبابنا اليوم؛
حتى صار جمهورهم لا يعبأ بعقائد الدين، ويظن أنها ضرب من أساطير الأولين لا
حاجة لعصرنا الحاضر بها تحركت نفسي لكتابة شيء في هذا الموضوع بعد عمل
الفكر وإحالة النظر في أطرافه، وجعلت اعتمادي فيما أقول على البراهين العقلية
الصحيحة التي تنتهي إلى البديهيات بحيث لا تجد فرقًا بينها وبين البراهين
الرياضية؛ لتكون أعظم مؤثر في قلوبهم، وليعلموا أن الدين في حججه يفوق المادية
في نظرياتها وأوهامها. ولإيفاء المقام حقه رأيت أن أبدأ بذكر حكم العقل في المادة
من جهة تركيبها، وتحليلها، وأصلها من حيث الحدوث والقدم، ثم أنتقل إلى
براهين وجود الخالق وما يليق به من الصفات، ثم أتكلم عن الروح والبعث، وأختم
كلامي بأدلة النبوة عمومًا، والمحمدية خصوصًا، وبذلك يتم الاعتقاد الإسلامي،
ويكون الإنسان مؤمنًا بالله واليوم الآخر والنبوة وما أتت به.
المادة وتركيبها:
الأجسام التي نراها شاغلة حيزًا من الفراغ تقبل القسمة إلى أجزاء أصغر منها
وكل جزء يقبل القسمة إلى ما هو أصغر منه، وهكذا فإذا استرسل العقل في القسمة،
فإما أن يقف عند حد أو لا يقف، فإن لم يقف كان ذلك قولاً بأن كل جسم أخذناه
بيدنا وحصرناه بين أصابعنا مركب من أجزاء لا نهاية لها وهذه الأجزاء مهما صغرت
فلا يمكن أن تحصر لعدم تناهيها. لكن هي محصورة بالحس؛ إذًا هذا الفرض باطل.
بقي القول بأن العقل لا بد أن يقف عند حد في القسمة، فهذا الحد إما أن يكون
له امتداد أو ليس له امتداد، فإن كان له امتداد فالعقل يتصور قبوله للقسمة ونرجع
إلى ما قلناه في الشق الأول: إذا لم يبق إلا القول بأنه لا امتداد له. وإذا ثبت هذا
علمت أن جميع الأجسام مركبة من أجزاء لا امتداد لها مطلقًا ولكن لها وضع معين
فهي مثل النقط الهندسية، وإنما تمتاز عنها في أنها أشياء وجودية لا وهمية. هذه
الأجزاء هي ما نسميه بالجواهر الفردة ويسمي حملتها الماديون (بالمادة) أو
(الأثير) وقالوا: إن اجتماع بعضها ببعض على أوضاع مختلفة وبأعداد مختلفة قد
نشأت عنه العناصر الأصلية، فيجوز أن تكون كل ذرة من الأوكسيجين مركبة من
جوهرين مثلا والذرة من عنصر آخر مركبة من ثلاثة أو أربعة وباتحاد العناصر
المختلفة بعضها ببعض تكونت المركبات، وسواء صحت هذه النظريات أو لم تصح
فالشيء الذي لا شك فيه هو وجود الجوهر الفرد وأنه الجزء الذي لا يتجزأ ومنه
تركبت الموجودات.
حدوث المادة:
قلنا: إن الجوهر الفرد هو ما ليس له امتداد، وله وضع معين وهو شيء
وُجودي كل ما كان له وضع معين فالعقل يتصور جواز انتقاله من موضع إلى آخر
وهذا الانتقال هو الحركة، فلو فرضنا أن الجوهر الفرد قديم لتصور العقل إمكان
تحركه من مكان إلى آخر، ولو أمكن ذلك لأمكن وجود حركات في الأزل لا أول لها
وهذا محال؛ لأنه يستلزم جواز تحرك الجوهر حركات لا عدد لها قبل كل حركة،
وكونها لا عدد لها يستلزم أنها لا تحصر، ولا تدخل تحت عد وإتيان الجوهر الفرد
بها يدل على أنه يمكن عدها وعد ما لا يعد تناقض بديهي البطلان؛ إذا ثبت أن
الجوهر لا يجوز أن يتحرك في الأزل، لكن جواز تحركه من لوازم ذاته بحيث لا
يتصور وجوده بدون ذلك الجواز، وحيث إن فرض وجوده في الأزل يؤدينا إلى
المحال، وما يؤدي إلى المحال محال ثبت أنه لا يمكن أن يكون موجودًا في
الأزل، أي إنه حدث بعد أن لم يكن.
وجود الواجب:
يقسّمون المعلوم إلى قسمين: واجب لذاته، وغير واجب لها، فالواجب لذاته
هو ما كان وجوده من لوازم ذاته بحيث لا يمكن أن ينفك عنها. وغير الواجب
قسمان: موجود بالفعل، وغير موجود. وغير الموجود قسمان: جائز وجوده،
ومستحيل. والمستحيل: هو ما لا يمكن وجوده، فكل موجود إما أن يكون واجبًا أو
جائزًا ولا ثالث لهما، أما الواجب فسبق تعريفه وأما الجائز فهو ما جاز عليه الوجود
والعدم ولا يرجح أحدهما إلا بمرجح، إذا عرفت هذا فنقول:
الجوهر الفرد موجود فإما أن يكون واجبًا أو جائزا لا يمكن أن يكون واجبًا؛
لأنه قد ثبت أنه كان معدومًا في الأزل، والواجب لا يمكن أن ينفك عنه الوجود لا
أزلا ولا أبداً، إذًا هو جائز والجائز لا يمكن أن يرجح وجوده على عدمه إلا بمرجح
والمرجح لا يمكن أن يكون سوى الواجب إذ لم يبق سواه غير المستحيل، إذًا
الواجب موجود قطعًا.
أحكام الواجب:
قد سبق أن الوجود لا ينفك عنه أي: إنه قديم باقٍ، فلا أول لوجوده ولا آخر
له وهذا بمقتضى التعريف السابق. ومن أحكامه أنه ليس له وضع معين ولا جهة
يشار إليه فيه وإلا لتصور العقل جواز تحركه ولو جازت عليه الحركة لكان حادثًا،
ولو كان حادثًا لما كان واجبًا، وحيث ثبت أنه لا وضع ولا جهة له ثبت أنه لا
امتداد له وإلا لشغل حيزًا من الفراغ وتعين له الموضع والجهة.
إذا عرفت هذا علمت أنه لا يجوز عليه الحلول ولا الاتحاد ولا التجسد؛ لأنه
لو حلّ أو اتحد بجسم المسيح على مذهب أو تجسد وظهر بصورة المسيح على
المذهب الآخر كما يقول النصارى لوجبت له الحركة وإلا لما كان للحلول والاتحاد
والتجسد معنى حقيقيًّا تعالى الله عن أن يظهر في مخلوق أو يتصور بصورته.
ومن أحكامه التفرد بالوجود؛ لأنه لو كان هناك واجبان فأكثر وخلق أحدهما
جائزًا من الجائزات فإما أن يبقى الآخر قادرًا على خلق هذا الشيء بعينه أو غير
قادر، فإن بقي قادرًا أمكنه تحصيل الحاصل وهو محال؛ لأنه يستلزم أن يكون
للشيء الواحد وجودات متعددة، وإن لم يبق قادرًا زالت قدرته القديمة عن بعض
الأشياء، والقديم لا يزول؛ لأن قدمه إما أن يكون لذاته أو لشيء آخر قد اقتضى
وجوده، فإن كان قدمه لذاته فلا يمكن أن يزول من الذات ما هو لها وإن كان لغير
ذاته فما دام المقتضي موجودًا فلا يمكن أن يزول المقتضى.
هذا واعلم أن قول النصارى: إنه واحد في الذات،ثلاثة في الأقانيم - مُحال
لأنهم يعتقدون أن كل أقنوم يمتاز عن الآخر بخواص كثيرة، فالأول يمتاز بخاصية
الأبوة، والثاني بالبنوة وبالحلول أو التجسد، والثالث بالانبثاق، وأن الامتياز بينهم
حقيقي بحيث إن ما يثبتونه لأحدهم لا يمكن أن يثبتوه للآخر. إذا عرفت هذا أقول
الشيء الذي به الامتياز إذا ثبت لأحد الأقانيم فهو ثابت لذاته، وإذا ثبت لذاته فهو
ثابت لذات الله تعالى، وبما أنه علة للامتياز فلا يمكن أن يثبت للأقنوم الآخر وإذا لم
يثبت له لم يثبت لذاته، وإذا لم يثبت لذاته لم يثبت لذات الله وعليه يكون الشيء
الواحد ثابتًا للذات وغير ثابت لها، فمثلاً: إذا قلنا: إن الابن حلّ أو تجسد أي إن
ذاته حلت أو تجسدت كانت ذات الله حالة أو متجسدة، ولكن الآب لم يحلّ ولم
يتجسد فذات الله لم تحل ولم تتجسد، وعليه تكون ذات الله حالة أو متجسدة وغير
حالة ولا متجسدة وهذا تناقض ظاهر البطلان.
بقي عليّ أن أذكر كلمة صغيرة في القدرة قبل ترك هذا الموضوع وهي أنها لا
تتعلق بالمستحيل. وخلق حوادث في الأزل مستحيل؛ لأنه يستلزم وجود حوادث لا
أول لها وهو باطل وعليه فالقدرة الأزلية لا توجد الحوادث إلا في غير الأزل،
والأزل لا يمكن العقل تصوره فهو ليس مركبًا من لحظات لا أول لها؛ لأن ذلك
أيضًا باطل فلم يكن ثَمَّ دهر ولا زمان بخلاف ما إذا فرضنا أن الجوهر الفرد قديم
فإنه يستلزم جواز وجود الحركات في الأزل وذلك يستلزم تعاقبها وتعاقبها يستلزم
وجود الزمان، أما خلق الحوادث في غير الأزل فلا يستلزم وجود لحظات متعاقبة
ولا وجود متجددات في الأزل.
والخلاصة: أن الواجب قديم باق قدير متفرد بالوجود ليس كمثله شيء، وهو
السميع البصير.
الروح والبعث:
عناصر الجسم الكيماوية معروفة ومشهورة وعناصره (الهستولوجية) هي ما
يسمونه بالخليات، وكل خلية حية بذاتها بحيث يمكن بقاؤها حية بعد انفصالها عن
الجسم مدة من الزمن، وتأتي من الأعمال مثل ما تأتيه في الجسم؛ فمثلاً كرات الدم
البيضاء إذا فصلت عن الجسم ووضعت في وسط مناسب لحياتها تبقى حية مدة
فتتحرك وتتغذى وتنقسم، وليس الأمر قاصرًا على الخليات، بل ما تركب منها من
الأعضاء والعضلات وغيرها؛ وإذا فصل من الجسم يبقى حيًّا مدةً؛ فمثلاً: قلب
الضفدعة يستمر على ضرباته بضع دقائق، وكذا العضلات الأخرى من الجسم
تنقبض وتنبسط إذا نبهت، ثم إن جميع وظائف الجسم وحواسه ومدركاته لها مراكز
مخصوصة في المخ والنخاع الشوكي؛ بحيث إذا أتلف هذا المركز بطلت الوظيفة،
وبين المراكز والأعضاء اتصال بالأعصاب الحساسة والمحركة؛ ولهذه الحقائق
المحسوسة ظن الماديون أن لا معنى للقول بالروح؛ إذ لا أثر لها في الحياة ولا في
غيرها ولو كان هناك شيء يليق أن يسمى روحًا، فالمخ أولى الأشياء بهذه التسمية ثم
إنهم شاهدوا أن الجسم دائم في التغير والانحلال والتركيب بحيث إن جسم الإنسان
في بضع سنين يكون قد تغير كله وأتى بدله جسم آخر. وفسروا شعور الإنسان
بشخصه أنه لم يتغير طول حياته بأن الانطباعات والتأثرات المخصوصة في جوهر
المخ تتجدد في كل مادة. وبعد أن أنكروا ما يسميه علماء الأديان روحًا وأنه شيء
يقوم بذاته، ولا يتغير، وأنه ليس من مادة عالمنا هذا إلى آخره بعد أن أنكروا ذلك
ووجدوا أن جسم الإنسان بعد الموت ينحل ويدخل في تراكيب النباتات والحيوانات
الأخرى، ومن بينها الإنسان قالوا: إذًا البعث مستحيل؛ لأن الإنسان ليس له روح
مخصوصة تممتاز عن جسمه وليس جسمه ثابتًا له بل ربما دخل في جسم إنسان
آخر وعليه فالحشر روحيًّا كان أو جسديًّا ضرب من المحال.
هذا هو ملخص مذهبهم. والناقد البصير يرى أنه مبني على المحسوس
والمعقول إلا في نقطة واحدة هي محور غلطه ومركز شططه وهي قولهم: إن
شعور الإنسان بشخصه من أول العمر إلى آخره ناشئ عن الانطباعات المخصوصة
وتجدّدها في كل مادة تدخل في تركيب مخّه لا لشيء ثابت من أول الحياة إلى آخرها؛
إذًا لا علاقة بيني الآن وبين شخصي بعد بضع سنين سوى الانطباعات
المخصوصة المتماثلة في المادتين. أقول: المتماثلة؛ لأنها لا يمكن أن تكون هي
بعينها؛ لأنها أعراض لا قيام لها بذاتها ولا تنتقل من مادة إلى أخرى فكأنه بعد
مرور بضع سنين على الإنسان يعدم من الوجود ويوجد شخص آخر غيره ومع ذلك
يشعر كل بأنه هو الآخر بعينه لتماثل الانطباعات فيهما ولو سلمنا ذلك فلماذا لا يكون
البعث من هذا القبيل؟ وإذا وجد شخص آخر فيه مثل ما فيَّ من الانطباعات فهل
أشعر بأني أنا هو وهو يشعر بأنه أنا؟ وما الفرق بين هذه وتلك؟ وهل إذا عدم
أحدنا يشعر الآخر بإنه هو الأول بعينه؟ كلا، ثم كلا، إذاً لا بد أن يكون هناك
شيء ثابت في الإنسان من أول الحياة إلى آخرها وبه تتحقق شخصيته ويمتاز
وجوده وسواء كان هذا الشيء من عالمنا هذا أو من عالم آخر فلا يهمنا، وهذا
الشيء هو روح الإنسان وجوهره وحقيقته وحيث إننا لا ندري مكانه ولا كنهه فلا
يمكننا الحكم بأن يدخل في تركيب إنسان آخر، ولم لا يجوز أن يبقى محفوظًا إلى يوم
القيامة ثم يعاد في جسم جديد.
ولا عبرة بالجسم الأول المتبدل المتغير الداخل في تركيب غيرنا بعد انحلاله؛
فإن شخصية الإنسان لا تتحقق به ولا تتوقف عليه. إذا علمت هذا أيقنت أن للإنسان
روحًا بالمعنى المتقدم وكذا لكل حيوان له شعور بشخصه وأن ليس البعث ضربًا من
المحال بل هو من الجائزات، وسنأتي في مقال آخر بأدلة النبوة وصدق ما أتت به
وبعد ذلك نثبت بالبرهان النقلي وجوب البعث يوم القيامة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء
... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق صدقي
... ... ... ... ... ... ... ... ... الطبيب بسجن طُرى
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(8/330)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]
يوم 15 يولية - سنة - 186:
(فوائد الشدائد - بذل النفس للمحبوب أول الحب)
كان منا خرق وطيش كادت عواقبه تكون علينا خسارًا مبينًا ذلك أني و (أميل)
و (لولا) خرجنا عشية أمس نتنزه والساحل ممتطين أفراسًا فأوغلنا في مسيرنا
معتسفين، ولا يلبث الإنسان بأدنى بحث في شكل هذه السواحل الظاهري أن يدرك
أن البلاد نشأت من الزلازل الأرضية.
من أسمى الأفهام التي انتهت إليها حكمة العلوم الحديثة على ما أرى [1] إدراك
أن للناس فوائد فيما يُبتلون به من المصائب، فإن لها دخلاً عظيمًا في تكون العالم
المادي.
وما أدراك ما هذه المصائب؟ إذا رُجَّت الأرض رجًّا، وتولاها الاضطراب
عمَّ الفزع كل من على ظهرها ممن يشهدون زلزالها، ورأيت الحيوانات جافلة
حيرى لا تدري ماذا يراد بها.
وإن لمن شهد الزلازل من سكان هذه البلاد قصصًا عنها يروونها للأجانب
تحاكي قصص التوراة، فكأي من قرية كانت بالأمس عامرة سعيدة أصبحت خاوية
على عروشها، فلا يجد الباحث عنها في عرصاتها إلا أطلالاً بالية، ورسومًا دارسة،
وإذا انقضت الزلازل لم يكن للناس حديث مدة الشهر التالي لوقوعها إلا قصصها
المحزنة فمن رجال ذهبت عقولهم من الفزع، وأموال لعبت بها أيدي الضياع،
ونساء وأطفال وشيوخ خرت عليهم بيوتهم فخنقهم ردمها.
لا يسلم تاريخ هذه الرزايا من اختلاط القصص به، فمما يحكيه الناس هنا أنهم
شاهدوا في زلزلة ليلية على وميض البروق المشئوم أن الأرض قد انشقت وبرزت
هياكل قدماء الأنقين [2] من قبورها ثم عادت فغيبت في هذه المهاوي التي ما لبثت
أن التأمت عليها.
سكان شطوط المحيط في هذه البلاد أشد تعرضًا للمعاطب، فإن البحر في بدء
الزلزال يتقهقر عن الأرض كأن قد ملكه الذعر، ثم يعاود الكرة وقد هاج غضبه
واشتد صخبه ولجبه، وهنالك تنكسر أناجر السفن، وتنقطع سلاسلها، وتأخذها
أعاصير الماء فتدور بها دورانًا، وأما جسور المياه فإنها تستسلم لضغط الأمواج
فتفتح أبوابها للخراب والهلاك.
وللبيرويين من المعرفة الصحيحة بما لأرضهم التي استودعوها حياتهم وعيالهم
وآمالهم من ضروب الختل ما يجعلهم في عامة أوقاتهم على حذر منها، فتراهم لا
يذوقون النوم إلا غرارًا مستعدين على الدوام للهبوب من بيوتهم لأقل لغط أو أدنى
رجة سائلين ما الخطب؛ فإذا قيل زلزلة برزوا جميعًا.
على أن لهم بهذا القطر الذي تميد بهم أرضه كلف العاشقين لجماله وخصبه، فإنك
تجد في البقاع المزروعة منه حقول الذرة، وقصب السكر والقطن والفواكه
الأسبانيولية كالبرتقال، والليمون، والرمان، والتين، والزيتون قد ازدوجت بجميع
فواكه المنطقة الحارة كالموز والأناناس؛ فتلك الأرض المتزلزلة حبلى بالحياة فهي
تنمو وتعلو وتتنفس، ولا ينبغي أن ينقم منها أنها في عملها هذا تشوش نظام عمل
الإنسان أحيانا بما لها من صنوف التدمير وضروب التخريب.
الآثار والمدن المجهولة في البيرو
والموازنة بين القوى والأعمال
يوم 28 يوليه سنة - 186
كثيرًا ما نلاقي هنا هنودًا أصليين يشتغل بعضهم بالتماس الثلج من رءوس
الجبال ونقله على ظهور البغال إلى (ليما) حيث يعتبر من أوائل مشتهيات المائدة،
وبعضهم ينقل الملح إليها من سواحل البحر على قطعان اللاما [3] .
ياله من بَوْن بعيد بين ما عليه هؤلاء الهنود الآن من الذل والشقاء وما كانوا
فيه من العظمة والرخاء.
معابد الأنقين التي يرشد أهلها السائح إلى زيارتها، وطريقهم الحربي المشهور
الذي اختطوه لمقاتلتهم، ونظام رَيّهم العجيب الذي كانوا يبلغون به مياه الجداول
الصغيرة إلى الحقول بما كانوا يحتفرونه من الخنادق ليخصبوا به من الأرضين ما
صار بعدهم محلاًّ، كل ذلك مما يحمل على الاعتقاد بأن الأجيال الأصلية التي كانت
متوطنة وسط أمريكا أوقفت في سبيل تقدمها بحلول الجيل الأبيض الذي انقضّ
عليها في بلادها انقضاض العقاب؛ فعاقها عن رقيها، فإنها كانت تسعى إليه، ومن
ذا الذي في استطاعته أن يخبرنا بما كان يحصل لو أنهم أمهلوا حتى بلغوا مثال
تمدنهم الصحيح ربما كان انعكس الأمر، فذهب مثل خريستوف كلومب من حمر
الجلود فاكتشف الدنيا القديمة.
قبائل الهنود التي لم تخضع إلى اليوم للحكومة الأمريكية تحذر ما يقدم لها من
الهدايا وما تدعو به من المزايا على حد قول القائل: (الروم أخشى) [4]
ولم تفلح الحكومة في إرسال الدعاة إليهم لدعوتهم إلى النصرانية، فإنهم
يعلمون أن لفظ إنجيل في فم الأبيض معناه الاستعباد لجيلهم ومصادرتهم في أرضهم
لم يسلم الساحل الذي كنا نتنزه عليه من فعل الزلازل الأرضية التي لا شك في
أنها تبتدئ من سلسلة جبال الإندز [5] ؛ فإن الإنسان فيما يلاقيه هنالك من الشقوق
والأنجاد والأغوار التي لا تلبث بعد انخسافها أن ترتفع، لا يزال يعرف ميدان تكافح
الفواعل النارية.
كانت (لولا) تسير على الساحل وكلها زهو وعجب باستقبالها (أميل) في
بلادها ومرحبتها إياه غير مفكرة في شيء عسى أن يكون من الحبائل تحت هذا
الساحل المتباين الذي دعثرته العواصف والأعاصير، فهمزت جوادها بحدة مفطرة،
وأخذت به شط البحر، وكنا نحن نتبعها ولكن من بُعد لبلادة فَرَسَيْنا على أن (أميل)
لم يلبث أن خف إليه خفة المستيئس لما نبهته هيعاتي إلى الخطر الذي كانت ملاقية
له، فلما بلغ تلك الفارسة المرحة لم تكن إلا على نحو مائة متر من هوة بين
صخرتين؛ كان لا محيص لها من التردي فيها بجوادها مرسلة الشعر في الهواء
مشرعة السوط، فأخذ بعنان فرسها وقسره على التحول يسرة، فرفع يديه قائمًا على
رجليه وحرن، ثم ما لبث أن وقف كأنه أُلهم الوقوف فجأة.
فأما (لولا) فقد اُمتقعت (تغير لون وجهها) وارتعدت فرائصها؛ لأنها كانت
أبصرت الهوة وشكرت (لأميل) همته بأن قبلته تقبيلاً يشف عن الوداعة وسلامة
القلب كالذي يقع من أخت لأخيها.
وفي يقيني أن هذه الحادثة لم تزد شيئًا على ما يضمره كل منهما للآخر من
المحبة والوداد، ولكني أحسب أني لاحظت من عهد حصولها فرقًا دقيقًا في رعايات
(أميل) لها بزيادة تحدبه عليها، فكان بذل النفس للمحبوب أول الحب.
ذلك أمر لا بد أن تكشفه لنا الأيام؛ لأني وهيلانة قد عودنا هذين الغلامين على
أن نصدقهما لمجرد قولهما فلا إخالهما يجسران على غشنا. اهـ
يعتقد بعض أهل (ليما) أن من المدن البيروية أو المكسيكية القديمة ما لا تزال
موجودة لم يبلغها الفاتحون من أسبانيا، وإذا سألتهم أين هذه القرى لا تجد منهم أحدًا
يستطيع أن يجيبك عن هذا السؤال، ثم إذا قلت: كيف أن أحدا من سائحي اليوم لم
يعثر عليها؟ أجابوك: إن هؤلاء الأقوام القدماء سكان تلك المدن مكنوفون من كل
ناحية بالصحاري، والآجام، والمستنقعات، وسلاسل الجبال وغيرها من العقبات
الكثيرة وبذلك حفظوا استقلالهم على أن الوصول إليهم يقتضي وطء قبائل متوحشة
تمنع الأجانب من دخول أرضها؛ وتجزي عليه بالقتل واسمهم الهنود البسلاء
(انديوس براقوس) وهم جيل حربي يسكن الهضاب الواقعة شرقي البيرو
والقونشوس ويقال: إنهم من أكلة لحوم البشر.
ولقد ذهب فريق آخر من البيرويين في دعاويهم إلى ما هو أبعد من ذلك فلم
يقتصروا على القول بوجود المدن المذكورة بل قالوا: إن بعض ركاب التعاسيف
الخاملي الذكر والمترفقين من التجار وطلاب المهن زاروها المرة بعد المرة، ومن
هؤلاء الزوار من انقطع ذكرهم فلم يسمع عنهم شيء، ومنهم من حكوا ما عاينوه
منها، فهم مصدر ما عرف عنها، غير أنهم لبعدهم عن الحضارة بل وعن العلم لم
يخبروا بما اكتشفوه إلا بعض التجار الرحل أو الصيادين، ولم يستطع هؤلاء عن
حكايتهم لما وعوه أن يؤدوا لمن سمعوا منهم إلا أخبارًا مبهمة جدًّا.
والذي ينبغي أن يعتقد في مثل هذه الأحاديث هو أن يحسن قبل نَبْذِها
واعتبارها من الأساطير؛ أن يفكر فيها مرتين؛ لأنها على كل حال ليست بعيدة عن
الحقيقة بعد أن اكتشف استفنس [6] وغيره من السائحين الذين جابوا وسط أمريكا ما
اكتشفوا من الآثار الحقيقية، وبعد الأبحاث التي حصلت وسط الغابات الكثيفة ولم
يشهدها إلا الببغاءات والقردة وخصوصًا بعد أن ثبتت للعالم صحة بعض الآثار
المروية عن الهنود ثبوتًا واضحًا من أطلال القرى المكتشفة مثل قوبان
وقيشي وأوقوزينجو وبالانقا وغيرها من القرى الكثيرة المدفونة تحت جذور الأشجار
من قرون طويلة.
نعم إن موضوع البحث والنظر هاهنا ليس مدنًا بائدة بل هو مدن حية قد يعثر
فيها أن وجدت على تاريخ جيل من أجيال البشر برمته ومعابدهم وآلهتهم وقسيسيهم
وشرائعهم وعوائدهم.
ربما مال (أميل) و (لولا) إذا سمعا مثل هذه الحكايات فاتقدت بها مخيلتهما إلى
أن يباشر البحث عن تلك المدن المجهولة، فإن من هو مثلهما في سن المراهقة لا
يفكر في العقبات ولا يحسب لها حسابًا فهما من هذه الجهة شبيهان بعامة الناس ولو
أني ثبطت عزم هذين القرنين الصغيرين وأخمدت توقد ذهنهما للُمْتُ نفسي على ذلك،
ولكني انتهزت هذه الفرصة فقلت لهما لا يزال في بلاد البيرو كما في غيرها كثير من
الأشياء التي يلزم اكتشافها غير أنه يجب على الإنسان قبل كل شيء أن يعرف
كيف يزن قواه بطبيعة ما يريد مباشرته من الأعمال. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر تابع لما في ص 712م7.
(1) لقد طاش رأيه فإن القرآن القديم نطق بهذه الحكمة التي رآها حديثة في آيات كثيرة جدًّا ولكنه لا يعلم ذلك.
(2) الأنقين: جمع أنقى، وهو أحد أشراف قدماء الهنود بأمريكا.
(3) اللاما: حيوان من حيوانات البيرو بأمريكا يشبه الجمل.
(4) الروم أخشى: جزء من بيت شعر لشاعر لاتيني أذكر منه شطره الأول ومثاله:
... ... ... الروم أخشى وإن هم قدموا تحفا.
(5) سلسلة جبال الإندز: هي سلسلة عظيمة من الجبال في أمريكا الجنوبية.
(6) سائح أمريكي شهير.(8/335)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أعمال مجلس إدارة الأزهر
يرى كثير من الناس أن الجرائد في هذا العصر هي بمثابة كتب التاريخ؛
لأنها تتصدى لذكر جميع الحوادث، وتبحث في عللها وأسبابها ونتائجها ومسبباتها
فإذا أراد مؤرخ تأليف تاريخ الأمة، أو بلاد تنشر فيها الجرائد فما عليه إلا أن
يراجعها ويستمد منها إذا كانت حرة لم يستعبدها الحكام المستبدون وعلى هذا الرأي
يمكن لمن يريد كتابة تاريخ حديث للأزهر أن يراجع الجرائد المصرية في دار
الكتب المصرية، ويأخذ عنها ما كتبته عن هذا المكان. ولعله لا يوجد عاقل عارف
بحال هذا القطر يثق بحرية جرائده في نفسها، وتحريها الصواب والحقيقة في
الحوادث المهمة التي لها شأن في تاريخها، وسردها بأسبابها ونتائجها الحقيقية خدمة
للتاريخ، فإن هؤلاء العقلاء يعلمون أن لهذه الجرائد مذاهب شتى وأهواء مختلفة ولا
يعني أصحابها بيان كل شيء له شأن في التاريخ وقلما يوجد فيها من يتحرى الحق
في أكثر ما يكتب بل يكتبون ما يبلغهم على غرة إذا لم يكن مخالفًا لمذاهبهم وإلا
تصرفوا فيه أو سكتوا عنه. هذه مسألة الأزهر قد خاضت فيها الجرائد واختلفت
فيها أقوالها بعضها مع بعض بل اختلفت فيها أقوال الجريدة الواحدة هذه تستحسن
مرة ما كانت تستقبح وتلك تذم اليوم ما كانت تمدح بالأمس، ولو قرأ قارئ جميع ما
كتب عن الأزهر منذ عشر سنين أي منذ تأسيس مجلس الإدارة له ودخوله في طور
النظام - وإن لم يعمل بذلك النظام كله - لرأى أقوالاً مضطربة لا تتجلى منها حقيقة.
والسبب في ذلك أن العامل الحقيقي في هذا النظام هو الشيخ محمد عبده وله حزب
على رأيه يضاده حزب آخر يود أن يبقى كل خلل على ما كان، وقد اختلفت الأهواء لذلك فاختلفت الأقوال وضاعت الحقيقة حتى أن أكثر المصريين القارئين الكاتبين لا
يعرفون حقيقة ما كان عليه الأزهر ولا حقيقة الإصلاح والنظام الذي سعى إليه
الشيخ محمد عبده، فتم له شيء منه بإسعاد الأمير العباس -وفقه الله تعالى-
لمرضاته، بل هم يهيمون في أودية الظنون في هذه المسألة ككثير من أمثالها،
ومنهم الذي يصدقون بعض الجرائد في قولها: إن هذا الإصلاح كان إفسادًا لعقائد
أهل الأزهر.
ظهر في هذه الأيام كتاب جديد اسمه (أعمال مجلس إدارة الأزهر بمصر من
ابتداء تأسيسه سنة 1312 إلى غاية 1322) أي إلى أن استقال من إدارته ذلك
المصلح العظيم والعامل الذي كان يُنسب إليه كل عمل في هذا الجامع مدة وجوده فيه.
إن مؤلف الكتاب لم يذكر اسمه عليه، ولكن كل قارئ له يثق بكل ما كتب فيه،
وإن لم يعرف كاتبه؛ لأنه يرى أنه تاريخ رسمي أو شبه رسمي، فهو قد جرى
على طريقة الجبرتي في البحث عن كل شيء في وقته، وقد تم له ما لم يتم
للجبرتي من التدقيق، فهو يذكر كل مسألة مبينًا تاريخها، وما دار بين الأزهر
ومعية الأمير والحكومة فيها وما وضعه أو قرره مجلس الإدارة إما بالنص وإما
بالمعنى الذي لا يخرج عن مفهوم النص في البيان والتاريخ وعدد الخطاب (النمره)
وغير ذلك من احتياطه وتحريه إن سكت عن بيان ما لم يقف عليه باليقين، وهو
قليل كعدد الطلاب الذين امتحنوا في سنة 1314 فإنه لم يبينه بالجدول الذي
وضعه لذلك.
ومن إنصاف المؤلف أن نسب الأعمال المتفق عليها إلى مجلس الإدارة لا إلى
شيخ الأزهر الذي هو رئيسه ولا إلى بعض الأعضاء بالتعيين، وما كان فيه خلاف
ذكره، وما انفرد به بعض شيوخ الأزهر من سعي أو عمل ذكره كما هو، وقد
خص الأمير بالثناء وبين أنه كان المؤيد والمعضد لكل ما جرى في الأزهر في هذه
المدة ولولاه لم يكن شيء مما كان.
وإننا نذكر عناوين فصول الكتاب ليكون قارئ هذا التقريظ على بينة منه وهي:
(1) تشكيل مجلس إدارة الأزهر وأسبابه (2) قانون المرتبات (3) حال
الأزهر ومرتبات الشيوخ قبل النظام الجديد (4) إلحاق التعليم في الجامع الأحمدي
بالأزهر (5) إلحاق التعليم في المسجد الدسوقي ودمياط بالأزهر (6) كساوي
التشريف (7) نظام التدريس والامتحان (8) المسامحة أو عطلة الدراسة (9)
مساعدة الجناب العالي على تنفيذ القانون بالملل من الأوقاف (10) نظام التدريس
والامتحان (11) مكافأة امتحان الطلبة (12) مشايخ الأروقة والحارات
والملاحظون (13) فائدة الامتحان والعلوم الحديثة (14) دار الكتب (الكتبخاتة)
في الأزهر (15) إصلاح التعليم (16) نظام الجرايات (17) امتحان التدريس
وشهادة العالمية (18) العلوم والكتب ونظام التدريس (19) مسألة زاوية العميان
(20) الشيخ حسونة النواوي (21) الشيخ عبد الرحمن القطب (22) الشيخ
سليم مطر البشري (23) جدول مواد التعليم في الأزهر (24) إحصاء أصحاب
الكساوي المظهرية في عشر سنين (25) السيد علي الببلاوي (26) تأخر العلوم
الشرعية بالأزهر (27) تأخر اللغة العربية بالأزهر (28) إلحاق الإسكندرية في
النظام والتعليم بالأزهر (29) الشيخ محمود باشا والشيخ أحمد باشا (30) الشيخ
محمد شاكر (31) مرتبات أولاد العلماء وما تنفقه الحكومة على الأزهر (32)
حالة الأزهر الصحية وتعيين طبيب له (33) إعانة ديون الأوقاف لمعاهد العلم
بالمال (34) محافظة المجلس على حقوق الأزهر وشرفه (35) الشغب الذي
انتهى باستقالة الببلاوي والعضوين العاملين بالمجلس.
وقد فسر طابع الكتاب عبارات مجملة أو مبهمة منه لعل المؤلف ما كان يحب
أن تفسر. يدل اسم الكتاب وعناوين فصوله على أنه تاريخ لهذا الطور الذي دخل
فيه الأزهر منذ عشر سنين وفيه ما هو أهم من ذلك وأكثر فائدة للمسلمين وهو بيان
أخلاق علماء الأزهر وأفكارهم وشئونهم في هذا العصر، فإن لحال هذا الصِنف من
الناس شأنًا عظيمًا في حال الإسلام والمسلمين فهم منها بمنزلة القلب من الجسد إذا
صلح صلحت وإذا فسد فسدت، وهذا هو السبب في شدة عناية الشيخ محمد عبده
بأمر الأزهر وسعيه في إصلاحه واحتمال الشدائد في هذه السبيل على أنه في بلاد لا
تعرف قيمة سعيه حق المعرفة، وإن كان لا يفوق احترامه فيها احترام أحد.
الكتاب مطبوع طبعًا نظيفًا، وثمن النسخة منه أربعة قروش، وأجرة البريد
قرش واحد وهو يطلب من إدارة المجلة (المنار) ومن مكتبة هندية والمعارف
والهلال وغيرها، وقد أبيح لإدارة المنار أن تبيعه من الأزهريين خاصة بثلاثة
قروش صحيحة ولا شك في أنه سيصادف رواجًا عظيمًا لما فيه من الفوائد
العظيمة.
__________(8/340)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تاريخ دول العرب والإسلام
سبق لنا تقريظ الجزء الأول من هذا الكتاب في المجلد الأول من المنار ويسرنا
أن مؤلفه محمد طلعت بك حرب قد أعاد طبعه في هذا العام؛ لأن نسخه الأولى قد
نفدت، وأنه قد شمر عن ساعد الهمة لإتمام تأليف الكتاب وطبعه. ونعيد التذكير
بمباحث الجزء الأول وهو مؤلف من تمهيد وثلاثة أبواب في كل باب منها فصول.
فالتمهيد في حدود بلاد العرب ومواطنها وحاصلاتها، ومناخها، ومساحة الجزيرة،
وتشوف الإفرنج إليها، والباب الأول فيما كانت عليه العرب قبل الإسلام، وفيه
مباحث في طبائع العرب، وأحوالها، وصفاتها، وأقضيتها، وحكوماتها، وأحكامها،
وحروبها، وفي الزواج، والطلاق، والاعتقادات، والخرافات، واللغة، والشعر
والشعراء، والأسواق، والمعارف، والكتابة، والصناعة، والتجارة، والنقود،
والمسكوكات، والموازين.
والفصل الثاني في العرب البائدة، والثالث والرابع في العرب الباقية. والباب
الثاني في العرب بعد الإسلام، وفيه فصلان، الأول: في الوحي والدعوة والهجرة
وملخص السيرة النبوية، والثاني: في القرآن والإسلام، وهو مختتم بفصل نفيس من
رسالة التوحيد للأستاذ الإمام. والكتاب يُطلب من مؤلفه ومن إدارة مجلة المنار
وثمنه ثمانية قروش صاغ.
__________(8/343)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب زهر الربيع
في المعاني والبيان والبديع
كان الشيخ أحمد الحملاوي مدرسًا في مدرسة دارالعلوم فطلب منه ناظرها أن
يؤلف كتابًا في البلاغة خاليًا من الحشو والتعقيد جامعًا للقواعد والمسائل المهمة في
الفنون الثلاثة، فبدأ بوضع هذا الكتاب، وحال دون إتمامه نقله إلى مدرسة
المنصورة، ثم أتم تأليفه في سنة 1320 هـ، وكان عُين ناظرًا لمدرسة عثمان باشا
ماهر، وقد طبعه في هذا العام بالمطبعة الأميرية فكانت صفحاته 237. وإننا لكثرة
الشواغل في هذا الصيف لا نرجو أن نجد وقتًا نُطالع فيه بعض أبواب الكتاب لنُبين
مكانته من سائر كتب البلاغة التي هي على نسقه في سرد المسائل مع أمثلتها، ولكن
مزاولة المؤلف للتعليم في المدارس الأميرية بعد تعلمه فيها وفي الأزهر مما يرجح
كون الكتاب مختصرًا مفيدًا سهلاً نافعًا إن شاء الله تعالى.
__________(8/343)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الروزنامة التونسية
محمد ابن الخوجه رئيس قلم المحاسبة بوزارة تونس من سروات التونسيين
وفضلائهم، وهو يضع تقويمًا سنويًّا يسميه الروزنامة التونسية وسنة 1323 هي
السنة الخامسة لهذا التقويم، وقد زادت صفحاته فيها على خمسمائة صفحة من القطع
المتوسط، والكلام فيه على خمسة أقسام: فلكي، وأدبي، وسياسي، وإداري،
وتجاري. وقد ذكر في القسم الأدبي من هذه السنة زيارة رئيس جمهورية فرنسا
لتونس سنة 1321 وزيارة باي تونس لباريس 1322 وما لقيه كل واحد من
الاحتفال والحفاوة، وتاريخ نشأة العلائق بين فرنسا وتونس، وذكر من القسم
السياسي نظام الحماية في تونس والقواعد النظامية فيها، ودوائر الحكومة
وكبار علمائها ورجالها. وتكلم في القسم الإداري على الوزارة، والكتابة العامة،
والإدارة والمجالس الشرعية وجامع الزيتونة الأعظم، والجمعية الخلدونية وغيرها
من الجمعيات والمدارس والمستشفيات، والمجالس، والمصالح الكثيرة، والمعارف،
وجيش الاحتلال والبحرية الفرنسية، والمذاهب والملل، وغير ذلك. فهذه
الروزنامة تاريخ رسمي أو شبه رسمي لتلك المملكة لا يستغني عنه
محب التاريخ وثمنها في تونس خمسة فرنكات وأجرة البريد فرنك واحد.
__________(8/344)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تذكار المهاجر
ديوان شعر لقيصر أفندي إبراهيم معلوف اللبناني نظمه في مهاجره
بالبرازيل أيام كان مشتغلاً بجريدة (البرازيل) العربية كتابة وإدارة وكان ينشر ما
ينظمه في جريدته، وبعد أن ترك الجريدة وانصرف إلى الاشتغال بالتجارة جمع تلك
القصائد والمقاطيع وطبعها في ديوان سماه (تذكار المهاجر) وقد تفضل علينا بإهداء
نسخة منه كتب عليها بخطه هذين البيتين بعد ذكر الإهداء إلى المجلة:
لما رأيتك للمعارف ناشرًا ... وبكرمة الآداب أفضل عامل
أهديت ديواني لفضلك راجيًا ... منك التشرف بانتقاد عادل
وقد كان هذان البيتان سببًا في إرجاء تقريظ الديوان إلى هذا اليوم؛ لأننا كنا
ننتظر فرصة نقرأه فيها بإمعان، وننظر فيه نظر الناقد حتى سنحت لنا الفرصة في
الأسبوع الماضي إذ سافرنا إلى الإسكندرية فجعلنا الديوان رفيق الطريق فقرأنا
مقدمته وكثيرًا من قصائده ومقاطيعه فتجلت علينا روح الناظم في جلباب من الظرف
واللطف والإخلاص يعز على من تجلت عليه فيه أن ينظر إلى أثرها بعين الانتقاد،
دون عيني الحب والوداد.
فأنا أخطب وداده على البعد، وأرغب إليه أن يعفيني من نظرة النقد، وإن
كان لا يقبل من المجلة التي وصفها بالحُرة هذا العذر فليأذن لي بأن أفرض لها النقد وأفرض على نفسي العذر، تقول المجلة: إن هذا الشعر لم يجر على أساليب فحول شعراء العرب الجاهليين، أو المخضرمين، أو المولدين وأقول: لو عني الناظم
باحتذاء مثال أولئك الفحول لَعَلا قوله على أفهام أكثر قراء جريدته؛ لأنهم من
المهاجرين إلى أمريكا لأجل التجارة والكسب، وأكثر القارئين منهم لم يتعلموا غير
مبادئ القراءة والكتابة فهم لا يفهمون شعر بشار بن برد وأبي نواس، ولا شعر
البحتري وأبي تمام، وإنما عني الناظم بما نظم لأجلهم لا لأجل أولئك المعاصرين
لمثل من ذكرنا من المقرمين، وتقول المجلة: إن في الديوان كثيرًا من الألفاظ
والأساليب العامية كان للناظم مندوحة عنها، وأقول: إن أكثر الكتاب
والشعراء المعاصرين يستعمل مثل ذلك لا سيما كتاب الجرائد وأكثرهم يخطئ
وهو يظن أنه مصيب، وصاحبنا يمتاز بأنه عالم أن شعره لم يسلم من ذلك الخطأ،
وقد اعتذر عنه في الصفحة الثالثة عشرة من المقدمة بأنه نظم ما نظم بعيدًا في
بلاد بعيدة عن بلاغة اللغة العربية وأساليبها الشعرية وكتبها اللغوية ...
إلخ، ما قاله.
ثم إن هذا الديوان يمتاز على الدواوين التي وضعت لجمهور أهل هذا العصر
بأنه لا يختص بالمدح، والنسيب، والرثاء، والهجو، بل جال فيه الناظم في
المسائل الاجتماعية، والموضوعات الأدبية، وهو بداية نظمه؛ فعسى أن نرى في
الجزء الثاني من ديوانه ما هو أرقى معنى وأسلوبًا.
__________(8/344)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أنباء سوريا المزعجة
- الدولة والرعية
قد تبين أن حكومة (المابين الهمايوني) في خوف ووجل من سوريا أن تخرج
عليها كاليمن أو مع اليمن، وسوريا أبعد بلادها عن هذا العمل وعن التفكر فيه،
ولكن (المابين) قد صدق فيها تقارير الجواسيس والمفسدين، وأقوال المشاغبين
المحتالين الذين يخوفون (المابين) بما يكتبون من الرسائل والكتب في الدعوة إلى
الاستقلال، وزاد الطين بلة ما تكتبه الجرائد الأوربية في هذه الأيام عن ثورة اليمن
مدعية أنها ثورة مدبرة لها أنصار ودعاة في الحجاز وسوريا وسائر البلاد العربية
وكل ذلك أكاذيب يبغون بها الفتنة وإغراء الحكومة العثمانية برعيتها ليفني المسلمون
أنفسهم بأيديهم.
صدق المابين كل ذلك فأمر الولاة والمتصرفين بالإغارة على بيوت من يظن
أن عندهم كتبًا، أو جرائد، أو رسائل من مصر، وأخذ كل ما يوجد في تلك البيوت
وقراءته كلمة كلمة ومحاسبة أصحابه على كل ما يُشتمّ منه رائحة الشبهة، وقد ذكرنا
في الجزء الماضي بعض هذه الحوادث ثم جاءتنا الجوائب بعده بإنه قد جاء إلى
بيروت لجنة عسكرية ملكية أرسلها السلطان من الآستانة لتتولى التحقيق في هذه
الأمور المهمة ولا تدع بيتًا من بيوت الكبراء إلا وتفتشه، وقد كان من أوائل عملها
الإحاطة بدار عباس أفندي رئيس ملة البابية في عكا ودار الفريق رمزي باشا
وغيرهما وأخذ ما فيها من الأوراق والكتب المشتبه فيها. وقد فعل متصرف
طرابلس مثل ذلك ببيت عبد اللطيف أفندي الغلاييني وبيوت أخرى. وفتشوا في
حمص بيت (قائمقام) نقيب الأشراف، ولا يزال الهجوم على البيوت مستمرًّا في
كل مكان.
وقد بلغنا أن الكتب التي أخذت في بيروت من المكتبة الأنسية ومن طبعة
الإقبال قد اعتبرت من النوع الذي يسمى غير لائق وأنها حولت إلى العدلية وأنه
ورد نبأ برقي من الأستانة إلى بيروت بوجوب العناية والتشديد في شأن ضبط كتب
أبي الهدى أفندي التي وجدت في مطبعة الإقبال.
وإن للحكومة في الكتب والأوراق والجرائد تقسيمًا غريبًا فمنه ما يسمونه
الأوراق المضرة والعقوبة عليه شديدة جدًّا، ومنه ما يسمونه الأوراق الممنوعة وهو
أعم من المضرة إذا أطلق يراد بالعام ما وراء الخاص والعقوبة عليه أخف، ومنه ما
يسمونه غير لائق وهو أهون عندهم، ومن البلاء أن الرعية لا تعرف شيئاً من
حدود هذه الأقسام ورسومها فقد صار ما لم يكن ممنوعًا من قبل من الممنوع أو
الضار والناس لا يشعرون. نوقش عبد اللطيف أفندي الغلاييني الحساب أن وجد
عنده نسخ من مجلة نور الإسلام الدينية التي كانت تنشر في الزقازيق وكان عبد
اللطيف أفندي وكيلاً لها في طرابلس لم يتحرج من ذلك؛ لأنها كانت ترد إليه في
البريد العثماني وعمال البريد هم العالمون بالممنوع من الكتب؛ لأنهم يؤمرون
بإمساكه وعدم إيصاله إلى أربابه.
ولو كانت سوريا مستعدة للخروج على الدولة لا ينقصها إلا الحوادث التي
تؤلم الجمهور وتجمع الكلمة - لخشى أن تكون هذه الأعمال هي السبب في الثورة
والخروج، ولكننا نعلم علم اليقين أن سوريا غير مستعدة لذلك وستعلم ذلك الدولة بعد
هذا التحقيق والتدقيق فتندم أنها آلمت الناس وظلمتهم وذكرتهم بما لم يكن يخطر على
بال أحد منهم.
وأما الذين يكتبون في ذلك ما يكتبون من المنشورات والمقالات في جرائد
البلاد الحرة فلا غرض لهم إلا ابتزاز المال أو الرتب والأوسمة من الدولة كما بينّا
ذلك مرارًا.
وإنه ليؤلم العثماني الغيور أن يرى الإنكليز آمنين على سلطتهم في مصر لا
يبالون بما يقال، ولا بما يكتب، حتى إنهم يعتقدون أنه لم يبق لهم حاجة بجيش
الاحتلال القليل الباقي في البلاد، ويرى دولته في وَجَل شديد من رعيتها فتداوي هذا
الوجل بالتشديد والقوة وهو دواء غريب في بابه فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم.
ومن أعجب ما يتناقله الناس، مما يوسوس به في هذا الباب الخناس، خوف
(المابين) من مصر والمصريين عامة، والأستاذ الإمام خاصة، والمصريون أشد من
الترك حبًّا فيه، إلا أفراد تعلموا السعاية والتجسس من الآستانة، وكل المصريين
يمقتونهم، والأستاذ الإمام مشغول عن هذه السخافات بخدمة مصر والإسلام، وهو
يعتقد أن السعي من جهة السياسة، لا يأتي إلا بالخيبة والتعاسة، فهو يرى الكلام في
السلطة والخلافة، من قبيل اللغو والسخافة، ومن المضحكات المبكيات أن حكومة
بيروت ظلت ثمانية أيام تفتش في الساحل وتتجسس في البيوت لعلها تعثر على
الشيخ محمد عبده لاعتقادها أنه جاء بيروت مستخفيًا، وأنزلته الباخرة الخديوية في
جهة رأس بيروت وأنه سيتولى زعامة قلب السلطة في سوريا بنفسه، والرجل
مريض لا يقدر على مفارقة سريره الذي ترفرف عليه قلوب العقلاء والفضلاء
مشفقة أن يخترمه حكم القضاء، فتحبط أعمال، وتنقطع آمال، ويخشى من سوء
المآل، هذه حال الرجل هنا وتلك حال الحكومة العثمانية هناك، ولم يشفق عليها
رئيس الجواسيس الذين شغلوها فيكاشفها بالحقيقة التي تسكن روعها، وترأب
صدعها.
قلنا: إن ذلك الخوف من أعجب ما ينقل وما هو بالعجيب ولا بالأعجب،
فإن الدول في مثل هذا الطور الذي وصلت إليه دولتنا -أصلحها الله تعالى-
تبني أكبر من هذا البناء على أساس أوهن من هذا الأساس، بل يفعل الحكم المطلق
في طور الحياة والقوة مثل هذه الفعال، ويفتك بحكم الوشاية بأعظم الرجال، ألم يأتك
نبأ موسى بن نصير في الأندلس وكيف فتح البلاد؟ وكيف ساسه ابنه عبد العزيز
أحسن سياسة؟ ثم كيف كافأه سليمان بن عبد الملك بانتزاعه وولده عبد
الله من السلطة، وقتل ولده عبد العزيز غيلة، سمع وشاية المفسدين فيه؛ فأوعز إلى
من قتله وهو يصلي بالناس صلاة الفجر كما قتل الإمام العادل عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - وإنا نقص على القراء ما دار بين سليمان وموسى ليعلموا
كيف ظهر لسليمان خطأه ويعتبروا بذلك؟
قال ابن قتيبة في كتاب الإمامة والسياسة:
قدوم رأس عبد العزيز بن موسى
على سليمان
وذكروا أن سلميان لما ظن أن القوم قد دخلوا الأندلس وفعلوا ما كتب به إليهم
عزل عبد الله بن موسى عن أفريقية وطنجة والسوس في آخر سنة ثمان وتسعين
في ذي الحجة وأقبل هؤلاء حتى قدموا على سليمان وموسى بن نصير لا يشعر بقتل
عبد العزيز ابنه، فلما دخلوا على سليمان ووضع الرأس بين يديه بعث إلى موسى
فأتاه فلما جلس وراء القوم قال له سليمان: أتعرف هذا الرأس يا موسى؟ قال:
نعم، هذا رأس عبد العزيز بن موسى. فقام الوفد فتكلموا بما تكلموا به. ثم إن
موسى قام فحمد الله، ثم قال: وهذا رأس عبد العزيز بين يديك يا أمير المؤمنين؛
فرحمة الله عليه؛ فلَعَمْرُ الله ما علمته نهاره إلا صَوَّامًا، وليله إلا قَوَّامًا، شديد الحب
لله ولرسوله، بعيد الأثر في سبيله، حسن الطاعة لأمير المؤمنين، شديد الرأفة بمن
وليه من المسلمين، فإن عبد العزيز قضى نحبه، فغفر الله له ذنبه، فوالله ما كان
بالحياة شحيحًا، ولا من الموت هائبًا، وليعز على عبد الملك وعبد العزيز والوليد أن
يصرعوه هذا المصرع، ويفعلوا به ما أراك تفعل، ولهو كان أعظم رغبة فيه، وأعلم
بنصيحة أبيه، أن يسمعوا فيه كاذبات الأقاويل، ويفعلوا به هذه الأفاعيل، فرد
سليمان عليه قال: بل ابنك المارق من الدين، والشاق عصا المسلمين، المنابذ لأمير
المؤمنين، فمهلاً أيها الشيخ الخَرِف، فقال موسى: والله ما بي من خرف، ولا أنا
عن الحق بذي جَنَف، ولن ترد محاورة الكلام مواضع الحِمَام، أنا أقول كما قال
العبد الصالح {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: 18) فتأذن
في رأسه يا أمير المؤمنين. واغرورقت عيناه؛ فقال له سليمان: نعم، فخذه. فقام
موسى فأخذه وجعله في طرف قميصه الذي كان عليه، ثم أدبر في السماطين فوقع
الطرف الآخر عن منكبيه وهو يجره لا يحفل به ولا يرفعه، فقال له خالد بن الريان:
ارفع ثوبك يا ابن نصير، فالتفت موسى وقال: ما أنت وذاك يا خالد. قال سليمان:
دعه حسبه ما فعلنا به، فلما توارى موسى، قال سليمان: إن في الشيخ لبقية بعد، ثم
إن موسى التفت إلى حبيب بن أبي عبيدة (قاتل ابنه) فكلمه بكلام غليظ حتى ذكر
أمرًا خفيًّا من نسبه فأفحمه.
ثم إن سليمان كشف عن أمر عبد العزيز فألفى ذلك باطلاً، وإن عبد العزيز لم
يزل صحيح الطاعة مستقيم الطريقة، فلما تحقق عند سليمان باطل ما رفع إليه عن
عبد العزيز ندم، وأمر بالوفد فأخرجوا ولم ينظر في شيء من حوائجهم وأهدر موسى
بقية القضية التي كان قاضاه عليها، وكان سليمان قد آلى قبل خلافته لئن ظفر
بالحجاج بن يوسف وموسى بن نصير ليعزلنهما ثم لا يليان معه من أمور الناس شيئًا،
فلما رضي عن موسى جعل يقول: ما ندمت على شيء ندامتي أن لا كنت خلوًا
من اليمين على موسى في أن لا أوليه شيئًا، ما مثل موسى أستغنى عنه. اهـ.
ثم ذكر شيئًا من خبر موسى مع سليمان.
وانظر الفرق العظيم بين عصرنا وعصر بني أمية الذي ما زلنا نشكو منه؛
إذ هم الذين حولوا الحكومة الإسلامية إلى ما يسمى في عرف السياسيين اليوم
بالسلطة المطلقة، فقد بيّن موسى للملك خطأه، ولما ظهر ذلك لسليمان بن عبد الملك
ندم على ما فعل بالرجل وولديه، ولم يكافئ الذين امتثلوا أمره بالظلم إلا بالإعراض
عنهم، فيا ليت حكامنا في هذا العصر يرجعون عن خطئهم إذا ظهر لهم ويعرضون
عمن شايعهم على الظلم ولا يشركونه معهم في رأي ولا حكم. وفي القصة عبرة
بصبر موسى بن نصير عندما فوجئ برأس ولده بين يديه، وولده من يحزن على
مثله الغريب لفضله وشجاعته وحسن إدارته وسياسته، وإننا في هذا المقام نذكر
شيئًا من خبر موسى إتمامًا للعبرة، وليتذكر نابتة عصرنا شيئًا من تاريخ سلفهم الذين
فتحوا البلاد وأحسنوا فيها السياسة وأقاموا العدل على أنهم لم يعرفوا من علوم
السياسة، والقضاء، والإدارة بعض ما يعرف اليوم بعض المحامين المحتالين على
سلب الأموال وإضاعة الحقوق ونصر الأباطيل، أو الموظفين الذين تشكو منهم
السماء والأرض أو بعض الذين يسمونهم (متربين) لأنهم تعلموا في أوربا وهم
الذين أفسدوا أخلاق أمتهم وأغروها بالخمور والفجور والقمار وغير ذلك من أسباب
الدمار حتى فسد بأسها وذهبت سيادتها وإنما الفرق بيننا وبين أولئك السلف الحياة
الملية، والاعتقاد الصحيح، والأخلاق العالية.
خطبة موسى بن نصير في ذات الجماجم:
لما وَلّي عبد العزيز بن مروان موسى بن نصير أفريقية وعزل حسان بن
النعمان الذي ولاه عليها عبد الملك رحل إليها ووافته الجيوش في ذات الجماجم؛ فقام
فيهم خطيبًا؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أيها الناس، إن أمير المؤمنين أصلحه
الله رأى رأيًا في حسان بن النعمان فولاه ثغركم ووجهه أميرًا عليكم، وإنما الرجل
في الناس بما أظهر، والرأي فيما أقبل وليس فيما أدبر، فلما قدم حسان بن النعمان
على عبد العزيز - أكرمه الله - كفر النعمة، وضيع الشكر ونازع الأمر أهله فغير
الله ما به. وإنما الأمير أصلحه الله صنو أمير المؤمنين وشريكه ومن لا يتهم في
عزمه ورأيه، وقد عزل حسان عنكم وولاني مكانه عليكم ولم يَألُ أن أجهد نفسه في
اختياره لكم، وإنما أنا رجل كأحدكم فمن رأى مني حسنة فليحمد الله، وليحض على
مثلها، ومن رأى مني سيئة فلينكرها؛ فإني أخطئ كما تخطئون وأصيب كما
تصيبون، وقد أمر الأمير - أكرمه الله - لكم بعطاياكم وتضعيفها ثلاثًا فخذوها هنيئًا
مريئًا، ومن كان له حاجة فليرفعها إلينا وله عندنا قضاؤها على ما عز وهان من
المواساة إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله) .
خطبة موسى بأفريقية:
وذكروا أن موسى لما قدم أفريقية ونظر إلى جبالها، وإلى ما حولها جمع
الناس ثم صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنما كان قبلي
على أفريقية أحد رجلين مسالم يحب العافية ويرضى بالدون من العطية، ويكره أن
يكلم ويحب أن يسلم، أو رجل ضعيف العقيدة، قليل المعرفة، راضٍ بالهوينا،
وليس أخو الحرب إلا من اكتحل السهر، وأحسن النظر، وخاض الغمر، وسمت
به همته، ولم يرض بالدون من الغُنم لينجو ويسلم دون أن يُكْلَم أو يَكْلِم، ويبلغ
النفس عذرها في غير خرق يريده، ولا عنف يقاسيه، متوكلاً في حزمه حازمًا في
عزمه، مستزيدًا في علمه، مستسرًا لأهل الرأي في إحكام رأيه مستحكًا بتجاربه،
ليس بالمتجابن إقحامًا، ولا بالمتخاذل إحجامًا، إن ظفر لم يزده الظفر إلا حذرًا،
وإن نكب أظهر جلادة وصبرًا، راجيًا من الله حسن العاقبة، فذكر بها المؤمنين
ورجاهم إياها لقول الله تعالى: {إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49) أي الحذرين.
وبعد، فإن كل من كان قبلي كان يعمد إلى العدو الأقصى، ويترك عدوًّا منه أدنى
ينتهز منه الفرصة، ويدل منه على العورة، ويكون عونًا عليه عند النكبة، وايم
الله لا أريم هذه القلاع والجبال الممتنعة، حتى يضع الله أرفعها، ويذل أمنعها،
ويفتحها على المسلمين بعضها أو أجمعها أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين.
(المنار)
لا يظنن ظان أن هذا الكلام صادر عن تصورات وخيالات لا أثر لها في النفس،
ولا يشهد لها من قائلها العمل، كما يعلمون عن بعض خطباء هذا العصر، وكتابه
الذين يقتبسون أقوال الناس ويتخيلون عبارات، ثم يؤلفون ذلك على الصورة التي
يظنون أنها تسر الناس، وتطلق ألسنتهم بالثناء عليهم ويسمون ذلك خطبة أو مقالة.
كلا إن موسى هو فاتح بلاد المغرب وبلاد الأندلس، ومؤسس الحكومة الإسلامية
فيهما فعمله خير من قوله، وأخلاقه وآدابه مصدر أعماله، ولا مُرشد له في ذلك إلا
الدين المبين، وقد سأله سليمان بن عبد الملك أسئلة عن سيرته في حربه، فأجابه بما
يدل على فراسته وبعد نظره وسعة اختباره وقوة دينه.
قال له سليمان: ما الذي كنت تفزع إليه في مكان حربك من أمور عدوك؟
قال: التوكل والدعاء إلى الله يا أمير المؤمنين. قال سليمان: هل كنت تمتنع في
الحصون والخنادق أو كنت تخندق حولك؟ قال: كل هذا لم أفعله، قال: فما كنت
تفعل؟ قال: كنت أنزل السهل، وأستشعر الخوف والصبر، وأتحصن بالسيف
والمغفر، وأستعين بالله وأرغب إليه في النصر. قال سليمان: فمن كان من العرب
فرسانك؟ قال: حمير. قال: فأي الخيل رأيت في تلك البلاد أصبر؟ قال أشقرها،
قال: فأي الأمم كانوا أشد قتالاً؟ قال: إنهم يا أمير المؤمنين أكثر مما أصفهم.
قال له: أخبرني عن الروم. قال: أسود في حصونهم، عقبان على خيولهم، نساء
في مواكبهم، إن رأوا فرصة افترصوها، وإن خافوا غلبة فأرعال ترقل في أجبال،
لا يزالون عارًا في هزيمة تكون لهم منجاة، قال: فأخبرني عن البربر، قال: هم
يا أمير المؤمنين أشبه العجم بالعرب لقاء، ونجدة، وصبرًا وفروسية، وسماحة،
وبادية غير أنهم يا أمير المؤمنين غُدْر. قال فأخبرني عن الأسبان (أهل أسبانيا)
قال: ملوك مترفون، وفرسان لا يجبنون. قال: فأخبرني عن الإفرنج، قال:
هناك يا أمير المؤمنين العدد والعدة، والجلد والشدة، وبين ذلك أمم كثيرة، منهم
العزيز ومنهم الذليل، وكلاًّ قد لقيت بشكلِهِ؛ فمنهم المصالح ومنهم المحارب المقهور،
والعزيز البذوخ. قال: أخبرني كيف كانت الحرب بينك وبينهم أكانت عَقبًا؟ قال:
لا أمير المؤمنين، ما هزمت لي راية قط، ولا نض لي جمع، ولا نكب
المسلمون معي نكبة منذ اقتحمت الأربعين إلى أن شارفت الثمانين، قال: فضحك
سليمان وقال: فأين الراية التي حملتها يوم مرج راهط مع الضحاك؟ قال: تلك يا
أمير المؤمنين زبيرية وإنما عنيت المروانية. قال: صدقت، وأعجبه كلامه.
فليتأمل قومنا اليوم بسيرة سلفهم، ولينظر المتفرنجون في أثرهم، وليقيدوا
أنفسهم بهم ليعلموا، هل صاروا بعدهم إلى تدلٍّ وسقوط، أم إلى رفعة وصعود؟
اللهم إنهم قد ارتقوا في فنون الزينة والتفنن في اللذات الجسدية، غير أنهم تدلوا في
الأخلاق والمزايا الإنسانية، فليحاسبوا أنفسهم إن كانوا يعقلون.
__________(8/346)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نظرة في المبارزة
رسالة وجيزة في المبارزة التي اعتادها الإفرنج ومن يقتدي بهم من الشرقيين
كتبها سليم أفندي عواد بين فيها أنواع المبارزة وتاريخها، وحكمها في قوانين الدول
الأوربية واليابان والولايات المتحدة وهي تطلب من مكاتب الإسكندرية، وثمنها
قرش صحيح.
__________(8/346)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إصلاح الطرق الصوفية
(مقالة أرسلها شيخ مشايخ الطرق إلى جريدة المؤيد ونقلناها عنها)
من أهم الأشياء التي كان العقلاء يطلبون المبادرة بإصلاحها في الطرق
الصوفية الأمور التي لها مظاهر عمومية والتي لا تحصل بين طائفة من الصوفية أو
بين الرجل منهم ونفسه بل يشترك في رؤيتها والتأثر منها الصوفي وغيره والوطني
والأجنبي معًا، وهذه الأمور أهمها:
1- المواكب التي كان يراها الناس كل يوم في أزقة المدن، وطرقات القرى
وبلدان الأرياف، وما يتخلل الكثير منها من المنكرات كالموكب الأحمدي وغيره،
وكانت في الأصل موعدًا سنويًّا لاجتماع رجال الطريقة، أو الطرق ثم صارت إلى
هذه الحالة السيئة.
2- اجتراء البعض على تقليد احتفالات دينية في مكان عمومي أو مجتمع
عمومي بقصد أن يتفرج عليه الحضور كما وقع كثيرًا أمام السياح وفي بعض منازل
الإفرنج في مصر.
3- الموالد التي تقام وما يصاحبها ويتخللها من الأمور التي تخالف الآداب
الشرعية، وينعكس به الغرض الخيري الموضوع له المولد بالمرة.
4- والثالث الأذكار التي يقيمها الصوفية في كل محل وناد وكثير منها مُباين
بالمرة للذكر الشرعي المندوب إليه في الكتاب والسنة، وهو توجه المرء إلى الله
تعالى سواء نطق باسمه الكريم أو لم ينطق، قائمًا كان أو قاعدًا، قال تعالى:
{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ
تَكُن مِّنَ الغَافِلِينَ} (الأعراف: 205) ، وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} (النساء: 103) .
فعن الأمر الأول كتبت لعطوفة رئيس الداخلية، وقد تفضل حبًّا منه بالنافع من
الأمر وعمل منشورًا هذا نصه:
(نظارة الداخلية منشور نمرة 80 بتاريخ 11مايو سنة 1905 بعدم عمل مواكب صوفية إلا بإذن من مشيخة الطرق) .
طلب سماحة شيخ مشايخ الطرق الصوفية بمكتوبه لها رقم 27 إبريل سنة
1905 نمرة 99 إنفاذ ما قرره المجلس الصوفي من منع عمل المواكب باسم الصوفية
في القاهرة والأقاليم إلا بإذن من المشيخة؛ لأجل مراقبة ومنع ما يتخللها من الأمور
المغايرة للآداب، وحيث إننا نرى موافقة ذلك فأكدوا بإجراء إيجابه بأنحاء جهتكم
ومرسل بهذا عدد () من نسخ هذا المنشور لتوزيعها على الفروع التابعة إليكم.
سماحتلو حضرة شيخ مشايخ الطرق الصوفية:
هذه صورة ما كتب للمديريات والمحافظات بناء على طلب سماحتكم بشأن
المواكب التي باسم الصوفية، ونأمل أن لا يعطى الإذن بعملها إلا لمن يتحقق أنه
ممن يحافظون على الآداب تمام المحافظة، ولا يقدم على شيء يخل بها، أفندم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ناظر الداخلية
... ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى فهمي
تحريرًا في 11 مايو سنة 1905
ومتى نفذ هذا تمامًا امتنعت كل هذه الموبقات المرذولة وأبطلت المواكب إلا ما
كان لضرورة كالمواكب التي تحصل في المولد النبوي وغيره مع مراعاة الآداب
التامة.
وعن الأمر الثاني، عند تعديل قانون العقوبات المصري في سنة 1904
تكلمت مع اللجنة المكلفة بدرسه في مجلس الشورى في وضع مادة لمنع ذلك،
فوضعتها في ضمن المادة 139 وجعلت العقوبة المجعولة عليها هي الحبس مدة لا
تزيد عن سنة، أو غرامة لا تتجاوز الخمسين جنيهًا مصريًّا.
والسبب في وضع ذلك في قانون العقوبات أن من يفعل ذلك قد لا يكون من
رجال الصوفية فلا يمكن إجراء العقوبات الصوفية عليه.
فإذا أنفذ رجال البوليس هذه المادة والمنشور السابق ذكره حق تنفيذهما امتنع
حصول هذه المنكرات من الآن تمامًا.
وعن الأمر الثالث، وجد أنه لو قيد عدم عمل أي مولد إلا برخصة من
المشيخة العمومية كان في ذلك تضييق وصعوبة على الناس. ولكن وضعت مادة
خصوصية لذلك في لائحة الصوفية الداخلية وهي المادة السادسة من الباب الخامس
قيل فيها (ويشترط أن لا يجاور مكان المولد شيء مما ينافي الآداب الشرعية
كالألعاب والسخريات ونحوها) وكان المولد النبوي في مصر في هذا العام والعام
الماضي مثالاً لذلك.
وتنفيذ هذا الأمر منوط بوكلاء المشيخة في الجهات وبالرأي العام، فحيثما
وجد شيء مغايرًا لذلك فله أن يحيط المشيخة العمومية علمًا به، وهي تجري ما يلزم
حِياله.
وعن الأمر الرابع، اشترط في المادة الثانية من الباب الخامس من اللائحة
الداخلية الصوفية أن يبعد عن الطرق كل من أقام الذكر بهيئة مخلة للآداب الشرعية
كالتمايل المشبه للرقص والتخبط ونحوه، وتنفيذ ذلك يكون بمثل تنفيذ الأمر المتقدم
تماماً. اهـ
(المنار)
يعلم القراء أننا أنشأنا نطالب بإصلاح أهل الطرق منذ أنشأنا المنار، وقبل
إنشائه كنا نطالب شيخ مشايخ الطرق في مصر بذلك، وقد ذكرنا في المنار منذ سنين
أنه وعدنا بذلك مرارًا، وهذا الإصلاح الذي كتب عنه الآن لا يغني فتيلاً، فأما جعل
الاحتفالات بإذن شيخ المشايخ في القاهرة ووكلائه في سائر بلاد القطر فليس بالأمر
المهم، بل خاض الناس وبعض الجرائد في ذلك، وقالوا: إن الإذن لا يعطى إلا لمن
يدفع مبلغًا من المال، وأما وضع القانون العقوبة على الأمر الثاني فهو يجعله كسائر
ما يعاقب عليه لا يأتيه إلا من أمن العقوبة، وما هو من جوهر الطريق، وإنما هو
من إهانته، والأمر المهم ما قال شيخ المشايخ أنه منعه في اللائحة التي وضعها
لمشيخة الطرق، ويظهر من عبارته أنه في ريب من تنفيذها، بل هو معتقد أنها لا
تنفذ؛ لأنه ناطها برأي وكلائه والجماهير، على أن الجماهير كوكلائه جاهلون
يرغبون في هذه البدع.
نعم، إن سُرادق الرقص وأكواخ الزنا قد منعت من المولد النبوي، كما منعت
قبله من مولد الدمرداش، ولكن لا يزال الذكر في المَولِد على ما ينكر شيخ المشايخ،
وهو بين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله وفي داره أيضًا، وقد كان الفحش والزنا
وغيرهما من المنكرات في مولد السيد البدوي أعم وأكثر في هذا العام منها في الأعوام
السابقة، وكتب في ذلك كثير من الجرائد فلم تبال مشيخة الطرق بذلك، ولم تعمد
إلى منعه ولا إلى النهي عنه، فلعلنا نجد من شيخ المشايخ همة عملية في إزالة هذه
البدع من بعد تكون بدايتها إبطال الأغاني الغرامية والرقص والتمايل
بالذكر من داره في رمضان، ويا ليته بيّن لنا وجه الضرورة في المواكب التي
تعرض أمامه في المولد النبوي لنعذره على إبقائها.
__________(8/353)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مرض الأستاذ الإمام
لقد مرض أستاذنا منذ أشهر مرضًا كنا نظن أنه من الأمراض الهينة التي
كانت تعتاده، ولكن طال الزمان ورأينا كل من عُرِضَ عليه من الأطباء ينهاه عن
الأعمال العقلية وإجهاد الفكر، ويأمره بالحمية والراحة التامة وهو لا يزداد إلا إجهادًا
لنفسه وجهادًا لأمته، وكان موضع المرض المعدة والأمعاء، فانتقل إلى الكبد
فاختلف الأطباء حينئذ بين قائل: إن المعدة هي الأصل والكبد تأثرت منها وقائل:
إن الكبد بتمددها تضغط على المعدة فتمنعها من وظيفتها وأجمعوا على اختلافهم في
أي العضوين هو الأصل على وجوب ترك العمل بتاتًا والتعجيل بالسفر إلى أوربا،
وكل منهم أشار بترجيح بلاد واختيار أطبائها فرضي الأستاذ بالسفر، ولكن لم يرض
القدر إذ كانت السفن الدورية التي تنقل الناس إلى أوربا لا تقبل زيادة على من سبق
إلى أخذ جوازاتها من السائحين والمصطافين إلى 14 من الشهر الإفرنجي الماضي
(يونيو) فأخذ جوازًا وصبر عن السفر، ولكنه لم يصبر عن العمل كدأبه وعادته،
فكان يبيت على فراش الآلام ويغدو إلى محل عمله؛ فينظر في الفتاوى وفي
أعمال مجلس الشورى، ومجلس الأوقاف الأعلى وأعمال الجمعية الخيرية
الإسلامية وأوقاف الحنفية، ويشتغل مع اللجنة التي يرأسها لوضع نظام لمدرسة
القضاء الشرعي، ويحضر امتحان مدرسة دار العلوم وينظر في حاجات العفاة
وطلاب المساعدة، والشفاعة عند الحكام فيقضي حاجاتهم حتى ثقلت عليه وطأة
المرض وعجز عن الخروج واشتدت عليه الآلام حتى كان - والذي خلقه حجة
على هذه الأمة التي زرئت بالكسل والخمول - يشتغل على فراشه عند سكون نوبة
الألم ولم يكن شيء من ذلك الشغل لنفسه ولا لأهله وولده ولكنه للناس، وهل كان
الناس يشفقون عليه ادخارًا له أو تأدبا معه أو عملاً بالذوق الذي به أهل هذا البلد؟
كلا إنهم كانوا يكلفونه النهوض بأثقالهم وقوفًا على سريره وهو مضطجع أو
مستلقٍ عليه، وكان يعمل ما قدر ويعتذر عما يعجز طالبًا الإنظار والإمهال إلى أن
تحسن الحال.
جرى على هذه الحال يعمل للناس والمرض يعمل فيه عمله، وينهك قواه
وينحل جسده، حتى إذا ما دنا موعد سفره رآه بعض الأطباء فقال: إن المرض
ينذر بالخطر ولا يجيز له الإقدام على السفر، فجيء بطبيب آخر؛ فقال قولة الأول،
فكتم هذا القول من عرفه من الأصدقاء وذي القربى، وساروا به في اليوم التالي إلى
الإسكندرية (10 ربيع الآخر) ورآه من ليلته بعض أطبائها؛ فقالوا مثل ما قال
الأولان، وهو لم يعلم بهذا القول بل قيل له: إن الأطباء قالوا: إن جسمك لا يقوى
على مشقة سفر البحر؛ فيجب أن تتربص في الإسكندرية لعلك بتغيير الهواء تجد
قوة تمكنك من السفر، وعند ذلك هيأ له الصديق الوفي محمد بك راسم دار أخيه في
رمل الإسكندرية ونقله إليها.
كانت الجرائد اليومية أذاعت خبر سفر الأستاذ إلى أوربا، ثم ذكرت أنه أرجأ
السفر بأمر الأطباء فعلم القاصي والداني من أهل هذا القطر بمرضه، وظهر من آيات
مكانته في نفوس الناس ما لم يكن يعلم كله، فكان شُغلاً شاغلاً للعقلاء والفضلاء من
جميع الأصناف والطبقات، فكان أمراء البيت الخديوي ومن حضر من نظار
الحكومة لا سيما رئيسهم (القائم مقام الخديوي) وغيرهم من كبراء الأمة يترددون
على الدار التي يقيم فيها المرة بعد المرة، وكان بعض الأمراء يرسلون إليه أطباءهم
وكانت الرسائل ترد كل يوم في البرق والبريد من جميع أنحاء القطرين - مصر
والسودان - تسأل عن صحته، وكلما وجد يومًا راحة تبشر الجرائد بها الأمة
فيصبح الناس مطمئنين فإذا سكتت الجرائد يومًا عن البشارة لجّوا في السؤال
مستخبرين.
أما نحن - معشر أهليه وأقرب أصدقائه ومريديه - فإننا نتراوح بين اليأس
والرجاء إذا رأيناه في راحة من الألم يرجح أملنا حتى إذا ما تألم عظم خوفنا
ووجلنا، فمثلنا في ذلك مثل مقياس الحرارة كل يوم في صعود وهبوط بحسب ما
نرى من حاله، ولا غرو فهو كالهواء لحياتنا المعنوية وكالشمس لأمتنا المسكينة،
ونسأل الله تعالى دفع البلاء واللطف في القضاء، وتعجيل الشفاء، إنه سميع الدعاء.
__________(8/355)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اعتذار للقراء الكرام
لا يجهل أحد من قراء (المنار) صلتنا بالأستاذ الإمام، ولا حاجة لأنْ
نقول: إن مرضه قد شغلنا عن كل شيء؛ فقد كنا نزوره في مصر كل يوم ونمكث
عنده ما شاء الله أن نمكث، ولما سافر إلى الإسكندرية سافرنا معه وأقمنا أيامًا رأينا
فيها حاله حسنت بعض الحسن، فعدنا إلى القاهرة وكتبنا بعض الجزء الثامن، ثم
جئنا الإسكندرية فأقمنا عنده أيامًا كان آخرها خيرًا من أولها، فعدنا إلى القاهرة
وأتممنا الثامن، وكتبنا بعض التاسع، ثم جئنا الإسكندرية وعدنا مرة بعد مرة ولم
نصدر الجزء الثامن؛ لأنه لم يتم إلا وقد جاء موعد التاسع فعزمنا على إصدارهما
معًا، وقد مر على الموعد أيام والعذر ظاهر، ولا شك أن تأخير هذين الجزئين
يستتبع تأخير ما بعدهما أيضًا وهو تأخير لا يضر؛ لأن ما يُكتب في (المنار) لا
يخلقه تأخر الزمان؛ لأنه ليس من الأخبار الطارئة التي تسبقنا الجرائد إليها فتغني
القراء عما نكتبه، وبهذا قد ظهر عذرنا للذين كتبوا إلينا من بلاد كثيرة فلم نجبهم،
ولعله لا يضيع عندنا شيء إن شاء الله تعالى.
__________(8/357)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إعذار بعد اعتذار
أخبرنا محصل (المنار) في القاهرة بأن كثيرًا من المشتركين يقولون له: إنهم
يريدون زيارتنا ودفع قيمة الاشتراك في الإدارة. فنحن نشكر لهؤلاء المحبين رغبتهم
في زيارتنا، ونحن أشد رغبة في التشرف بزيارتهم، ونرجوهم مع ذلك أن يدفعوا
الاشتراك للمحصل؛ لتكون الزيارة بيننا ودية أدبية فقط، ولكي لا يحرم المحصل من
أجرة التحصيل منهم؛ إذ ليس له شيء إلا على ما يحصله بيده، فالدفع إليه أحب إلينا
وأنفع له، فلعل إخواننا الكرام يرضوننا جميعًا.
ثم إنا نذكر السادة المشتركين في القطر المصري والسودان بأن يتفضل أهل
الفضل منهم بإرسال قيمة الاشتراك إلينا بالتحويل على البريد ولا يلجئونا إلى الكتابة
إليهم أو التحويل عليهم، ولا شك أن من يرجع إلى وجدانه ويفكر فيما نحن فيه من
الشواغل يلبي مسرعًا، ويجعلنا له من الشاكرين.
__________(8/358)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رأي غريب في عاقبة السُّكر
جاء في بعض الجرائد أن بعض حكماء أمريكا يرى أن الناس بعد كذا ألفًا من
السنين يصيرون كلهم مجانين؛ بتوارث تأثير السُّكر في دمائهم وأعصابهم؛ فأولاد
السكارى دائمًا مستعدون للجنون فإذا هم اعتادوا مثله على السُّكر جاء أولادهم أشد
استعدادًا له منهم، وهكذا يتسلسل نمو الاستعداد للجنون حتى يصير جنونًا في بعض
طبقات النسل؛ ولذلك يكثر الجنون في الناس عامًا بعد عام، وأكثر ما يصيب
السكورين، فإذا دام انتشار السُّكر، وإقبال الناس على هذه الخمور الكثيرة الأنواع
فإنها يوشك أن تعم البشر بعد ألوف من السنين فيكون كل واحد منهم مستعدًّا للجنون
فيظهر فيهم بالتدريج حتى يغتالهم غول السُّكر أجمعين.
يعد أكثر الناس هذا القول غُلُوًّا في المبالغة، ولكن لا يوجد عاقل عالم ينكر أن
السُّكر يعد النسل للجنون، فهل يتعظ بذلك الفساق وعبيد اللذة، ويخافون على نسلهم
إذا لم يخافوا على أنفسهم من سائر عواقب السكر في الدنيا والآخرة؟ كلا، إن
الإنسان خلق ضعيفًا لا يقوى على مقاومة الشهوة إلا إذا أُدِّبَ تأديبًا دينيًّا من الصغر،
فإنه حينئذ يرجى له أن يقوى على جند الشهوة المحرمة في الغالب، فإن غلبته نفسه
على الإلمام بشيء تذكر الله فلاذ بالتوبة والإنابة.
لقد ران حب اللذة على العقول فأضعف الفكر وختم على القلوب، فأمات
شعور الحق والخير، وصرف الحواس عن الاعتبار بما ترى وتسمع، فكأن هؤلاء
المدمنين لا يظنون أن في السُّكر شيئًا من الضرر، ولذلك يوجد فيهم من يلزم به
أهله وولده ويجمعهم عليه. رأيت في بعض الجرائد أن رجلاً من الأغنياء أخذ ولده
ليلاً إلى بعض ملاهي الأزبكية حيث المقامرة والسكر فطفق الوالد يقامر حتى رأى
ولده يهوم طلبًا للنوم؛ فطلب له كأسًا من الجعة (البيرة) فأنكره الولد وعافه؛ فألحَّ
عليه والده ومربيه حتى شربه بالتدريج وكان ذلك مفتاح الشرور فلم يلبث الولد أن
عاد إلى ذلك حتى اعتاد وانغمس في الفساد وانقطع عن الدرس والمدرسة فيا لله
ولهذه التربية.
آفة هؤلاء الجاهلين الذين سفهوا أنفسهم فساد الدين، ومن العجائب أن منهم
من يتوهم أن عقله وفكره أرقى من أن يقبل الدين، وأن المتدينين لا يكونون إلا
منحطين في مراتب البشرية، كأن أعلا مراتب البشرية عند هؤلاء السفهاء أن
ينصرف الإنسان إلى اللذات البهيمية فلا يكون بينه وبين الثور والخنزير والقرد
فرق في غير الصورة الجسدية إلا بخروجه هو في طاعة شهواته عن مقتضى
الفطرة والإسراف في كل شيء حتى يكون حرضًا أو يكون من الهالكين، ولو صح
هذا الرأي لكانت البهائم أفضل من الناس كما هو ظاهر.
__________(8/358)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
افتخار جريدتي
اللواء والعالم الإسلامي بالكذب
من القواعد المعروفة أن الإنسان يتكبر إذا كان يشعر في نفسه بأنه وضيع بين
كبراء لا يجاريهم؛ إلا إذا تكلف الظهور بمظهرهم؛ لأن صيغة التكبر تدل على
التكلف. ومن لوازم التكبر الكذب في القول ليتم به التكبر بالفعل، وكأن صاحب
جريدتي اللواء والعالم الإسلامي على غروره بنفسه يشعر بأن جريدته لا قيمة لها
فهو يخترع الرسائل ويدعي أنها جاءته من الهند وجاوه والآستانة، وغيرها من
البلاد، ثم يتبجح ويفتخر بذلك ويدعي أن جريدتيه موضع ثقة الأمم والشعوب
الإسلامية في العالم الإسلامي، ولعلك لا تجد شيئًا من هذا التبجح والتنفج في جريدة
يومية أخرى ولا في جريدة أسبوعية؛ إلا أن يكون بعض ما يسمونه في مصر
بالجرائد الساقطة فالتيمس والتان ونيويورك هرالد وأمثالها تستحي أن تفخر ولو
بكلمة حق؛ لأنها ترى الكمال في أن يفخر بها الناس، لا في أن تفخر هي بنفسها.
وإذا أحببت أن ترى شاهدًا من شواهد رسائل اللواء المكذوبة فراجع العدد
1754 والعدد 1762 تجد في الأول منهما مقالة، وفي الآخر مقالة أخرى زعم أنها
جاءته من جاوه تؤيد ما كتبه في العدد 1754 من جهة، وتستدرك عليه من جهة
أخرى وأنت ترى أن مدة ما بين العددين سبعة أيام، ففي هذا الأسبوع طار عفريت
من الجن بعدد اللواء من القاهرة فقطع البحر الأحمر والمحيط الهندي إلى جاوه ثم
حمل رسالة من أحد المسلمين هناك وعاد بها إلى إدارة اللواء الأغر، ولولا هذا
العفريت لما وصل اللواء إلى جاوه، وكتب ذلك الكاتب ووصلت رسالته إلى مصر
إلا في زهاء شهرين من الزمان.
يقول الناس في أمثالهم: (إذا كنت كذوبًا فكن ذكورًا) أي لئلا تفتضح عند
الناس فتحتقر، ولكن صاحب الجريدتين قد أَمِنَ من أهل وطنه المحبوب أن يحتقروه
مهما قال وفعل فهو مستغن عن تكلف عناء التذكر والتوفيق بين الكذب السابق
واللاحق.
يسهل على اللواء الأغر أن يكذب في يومه على أمسه، فكيف يطالَب بأن لا
يكذب في أسبوع على ما قبله؟ رأيت بالمصادفة ما نقله عن جريدة الأهرام في
استرجاع شيخ الجامع الأزهر لكتابه الذي أرسله إلى رئيس النظار (القائم مقام
الخديوي) في مسألة إعفاء حفاظ القرآن من الخدمة العسكرية. جريدة الأهرام قالت
يوم الجمعة: إن شيخ الجامع اقتنع بأن إرسال ذلك الكتاب لم يكن من الصواب
فاسترجعه رسميًّا وأبطل عدده (نمرته) الرسمي، وجريدة اللواء زعمت في يوم
السبت التالي لتلك الجمعة أن جريدة الأهرام قالت: إن الحكومة كلفت شيخ الجامع
بسحب كتابه. ولم يكن أحد من الناس نسي ما في جريدة الأهرام؛ لأنه لم يمر عليه
سوى ليلة واحدة.
وكأننا ببعض الذين يعرفون كنه اللواء وصاحبه، يعذلوننا على إضاعة
نحو صفحتين من المنار في بيان كذبه، ولعلهم يرجعون عن عذلهم؛ إذا علموا أننا
لا نقصد بهذا إلا الرد على الذين أخبرونا بأن اللواء نشر مقالة من جاوه وأخرى من
كلكته في ذم المنار وطلبوا منا الرد عليهما ليعلموا أننا لا نثق بما يكتب في هذه
الجريدة ولا نقرأه على أنه لم يكن في تلك المقالتين إلا السب والشتم، فلو أنهما
تضمنتا نقل شيء من المنار والرد عليه لبينا للناس الحق في ذلك.
__________(8/359)
16 جمادى الأولى - 1323هـ
19 يوليو - 1905م(8/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مصاب الإسلام بموت الأستاذ الإمام
مات الأستاذ الإمام، ولو كان كِبَر النفوس، وطهارة الأرواح، وعلو الهمم
مما يحول دون الموت؛ لما مات أبدا، ولكن كل حي يموت إلا الحي القيوم
{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) .
مات الأستاذ الإمام؛ فمات ذلك العلم الواسع، والحكمة البالغة، والحجة
الناطقة، والمعارف الكونية والإلهية، والعلوم الكسبية واللدنية، مع البيان الساحر
والأدب الباهر، والبلاغة التي تمتلك العقول والقلوب، والفصاحة التي تستهوي
الأسماع والنفوس.
مات الأستاذ الإمام، فماتت تلك الأخلاق القدسية، والشمائل المحمدية،
والصدق في القول والفعل، والإخلاص في السر والجهر، والوفاء في القرب والبعد،
والسخاء في العسر واليسر، والعفة في الشباب والكهولة، والحلم عند الغيظ
والمغاضبة، والعفو مع القدرة على المؤاخذة، والتواضع وخفض الجناح للمخلصين،
والشهامة والترفع على المنافقين والمستكبرين، واللين للحق وأهله، والشدة على
الباطل، وجند الشجاعة التي تهابها الأمراء والعظماء، والقناعة التي رفعت رأسه
فوق الرؤساء.
مات الأستاذ الإمام؛ فماتت تلك الأعمال النافعة، والمشروعات الرافعة،
والمساعي الجديدة، والوسائل المفيدة، والاجتهاد في ترقية الأمة، والدفاع عن الملة،
والدعوة إلى التوحيد والتأليف، والاشتغال بأفضل التعليم والتأديب، والتربية
الصحيحة للمريدين، والجمع بين علوم الدنيا والدين، ومواساة البائسين والمعوزين،
وكفالة أولاد الفقراء والمساكين.
مات الأستاذ الإمام فماتت تلك الآمال البعيدة، والمقاصد الحميدة، التي كانت
مطوية في ذلك الجرم الصغير، الذي انطوى فيه العالم الكبير، تلك الآمال التي
تتضاءل دونها همم الملوك والأمراء، وتتصاغر أمامها نفوس الزعماء والأغنياء
الذين هم عن استعمال مواهبهم مصروفون، وعن الثقة بربهم محجوبون، وعن سنته
في خلقه غافلون.
مات الأستاذ الإمام فراع موته الناس، من جميع الطوائف والأجناس، فعلم
علماء الدين، أنهم فقدوا ركنهم الركين، الذي تحمل عنهم رد الشبهات، وغير ذلك
من فروض الكفايات، وعلماء الدنيا، أنهم خسروا ركنهم الأقوى، الذي يدفع عنهم
مطاعن المتعصبين، وتكفير الجامدين، ويثبت أن الإسلام جمع بين المصلحتين،
ولا يتم ذلك إلا بالجمع بين العلمين، وشعر طلاب الإصلاح بأنهم فقدوا إمامهم
العظيم، الذي كملت فيه صفات الزعيم، وأحسَّ الفقراء والمساكين بأنهم رزءوا
بكافل اليتامى وغوث العاجزين، ولم يجهل القائمون بالشؤون العامة شدة وقع هذه
الطامة، وأنهم نكبوا بصاحب الرأي الثاقب، والعمل النافع، مربي الرأي العام في
الشورى والجمعية العمومية، صاحب اليد البيضاء في الأوقاف الإسلامية،
المضطلع بإصلاح الأزهر والمحاكم الشرعية، الناهض بأعباء الجمعية الخيرية،
الموفق بين الحكومة والرعية، واعترف أهل الملل بأن مصابه مصاب الإنسانية،
والخسارة الكبرى على العلم والمدنية.
مرض هذا البر الرحيم؛ فكان على فراش الموت يسأل عن بعض الضعفاء،
ويبحث عن مساكن القواعد من النساء، ليواسيهم بالبر من وراء الستر، وقال لي:
إن فلانًا الغريب قد انقطع عن السفر بدَيْن عليه، وإنني مستغن الآن عن مائة جنيه
فإن كانت كافية أرسلتها إليه، ولكنه غاب عن الوجود، قبل أن يقضي لبانته من
البر والجود.
مرض هذا المصلح العظيم فاضطربت الأمة المصرية لمرضه فكانت الدار
التي يمرَّض فيها كعبة العائدين من العلماء والأمراء، والوزراء، والأدباء والفضلاء،
والفقراء، والأغنياء وكان البرق يناجيها كل يوم مع البريد، بالنيابة عن العاجز
والبعيد، سائلين عن صحته، أو مهنئين بما يقال عن راحته، فكان يحمد الله أن
جعل الدهماء من أمته يعرفون لخادمها خدمته، ويشكرون للعامل لها عمله، ويقول
لئن شفيت لأجهدن النفس في خدمتهم أجمعين؛ حتى أكون حرضًا أو أكون من
الهالكين.
مرض الأستاذ الإمام، فلم يعقه المرض عن خدمة المسلمين والإسلام،
واحتضر الأستاذ الإمام، وهو يلتهب غيرة على المسلمين والإسلام.
نقول: مات الأستاذ الإمام؛ فنبدئ القول ونعيده ننصر الحس، ونكابر النفس
فقد كادت تحسب أن موته رؤيا منام، وأضغاث أحلام، وما هو إلا الحق اليقين
ومصير الأولين والآخرين، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ} (الأنبياء: 34) ، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا
تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: 35) .
مات أستاذنا وإمامنا، ولك اللهم البقاء فلا تفتنَّا بعده، ولا تحرمنا أجره،
واغفر اللهم لنا وله.
نعم، إنه قد مات ولكن لم تمت علومه ومعارفه، ومآثره وعوارفه، فلقد ربى
أرواحًا، وأصلح إصلاحًا، وألف كتبًا، وترك علماء وأدبًا، وأمات سننًا سيئة له
أجْرُ إماتتها، وأحيا سننًا حسنة له أجرها وأجر من يعمل بها، وعلمنا كيف نفهم
القرآن، ونقيم شرائع الإسلام، مع توخي نفع الناس أجمعين، والإخلاص لله رب
العالمين.
مات أستاذنا وإمامنا فكبر علينا موته، ولكنه ربانا على الصبر وعلمنا كيف
نتعزى عنه حتى في مرض موته، فقد كان هجيراه في تلك الكربات والسكرات،
كلمة الله التي أمرنا بتكرارها في الصلوات. (الله أكبر) فلئن كان بفضل الله كبيرًا
فينا فالله أكبر، ولئن كان مرضه وموته كبيرًا علينا فالله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم، {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (آل عمران: 101) .
لبى دعوة ربه برمل الإسكندرية في الساعة الخامسة بعد الزوال من يوم
الثلاثاء ثامن جمادى الأولى؛ فنعاه البرق بآلاته الناطقة والكاتبة إلى العاصمة
وغيرها من مدن القطر؛ فاضطربت لنعيه القلوب، وذرفت العيون، واسترجعت
الألسنة وحوقلت، وطفق الناس يعزي بعضهم بعضًا متفقين على أن المصاب به
عام، وأشد وقعه على المسلمين والإسلام، وما كنت تسمع من القريب والغريب،
والبغيض والحبيب، والوطني والأجنبي، والرشيد والغوي، والعالم والجاهل،
والمفضول والفاضل إلا كلمة (خسارة لا تعوض) أو كلمة (عوض الله الأمة
به خيرًا) أو قول الشاعر:
وما كان قيسًا رزءه رزء واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
أو قول الآخر:
ولكن الرزية فَقْد حُرٍّ ... يموت لموته خَلق كثير
وقد اجتمع مجلس النظار فقرر أن تحتفل الحكومة رسميًّا بتشييع جنازته في
الإسكندرية ومصر، وأن تنقل جثته على قطار خاص إلى العاصمة، ففعلت،
وشاركتها الأمة ونزلاؤها والمحتلون بهذا التشييع الذي لم يسبق مثله لغيره حتى كان
يخيل للمشيع أنه لم يبق أحد من سكان الإسكندرية ولا من سكان القاهرة إلا وقد
حضر ليودع هذا الإمام الوداع الأخير، وقد صُلي عليه في الجامع الأزهر، ودفن
في قرافة المجاورين تغمده الله برحمته ورضوانه، وأسكنه فسيح جناته.
ولما كان المنار هو الداعي إلى الانتفاع بهذا الإمام المصلح في حياته، فجدير
به أن يرشد إلى الاستفادة بسيرته بعد مماته، فلا نطيل في الرثاء والتأبين وإن كان
بالحق، ولكننا نقص على القراء مخلص سيرته مع التزام الصدق؛ ليظهر لهم كيف
تعلم وتربي حتى صار إمامًا حكيمًا، وماذا عمل حتى صار مصلحًا عظيمًا،
وسنضع له تاريخًا مطولاً نفصل فيه ما أجملنا، ونشرح فيه ما لخصنا، ونودعه
كثيرًا من رسائله ومكاتباته، وخطبه ومقالاته، وما كتب به إليه بعض العلماء
والعظماء، وما قاله فيه نوابغ الكتاب والشعراء، وما أبَّنَتْه به الجرائد، وما رثي به
من غُرَر القصائد، ونسأل الله تعالى أن يحسن عزاءنا وعزاء الأمة فيه، ويوفقنا
في مصابنا لما يحبه سبحانه ويرضيه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(8/375)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ملخص سيرة الأستاذ الإمام
(1)
أصله ونسبه ومولده
هو محمد بن عبده بن حسن خير الله من مديرية البحيرة في القطر المصري.
وبيت خير الله تركماني الأصل كما أخبرنا الفقيد رحمه الله تعالى ولا أذكر عنه شيئًا
من تاريخ قدوم عشيرتهم إلى القطر المصري إلا أنهم كانوا يقيمون في الخيام وأن
علي باشا مبارك أخبره أن عبد اللطيف البغدادي المؤرخ الشهير ذكر في الرحلة
الكبرى أنه جاء (محلة نصر) ونزل ضيفًا في بيت التركماني، وأمه من عشيرة
كبيرة في مديرية الغربية تعرف بعائلة عثمان وتنسب إلى بني عدي قبيلة سيدنا
عمر بن الخطاب ويقال: إنها من ذريته.
وكان والده شهمًا شجاعًا وقورًا سخي النفس وكانت والدته برة رحيمة
بالمساكين ذكية الفؤاد شديدة الحياء ولا أبعد إذا قلت: إن والديه كانا من أسلم الناس
فطرة وأحسنهم خلقًا. وكانت هذه الأخلاق فيهما موروثة ومكتسبة بالمعاشرة والقدوة
لا بتعليم المدارس ولا بتأديب المعلمين. وهذا أصل عظيم في استعداد الرجل لما
وصل إليه من الكمال الذي لم نر ولم نسمع بمثله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) رواه البخاري
ومسلم.
ولد قدس الله تعالى روحه في أواخر سنة خمس وستين أو ست وستين ومائتين
وألف من الهجرة الشريفة (روايتان من كتابته) في قرية من قرى مديرية الغربية
كان والده هاجر إليها هو وأخوه بهنس فرارًا من ظلم حكام مديرية البحيرة في أواخر
حكم محمد علي باشا الكبير وكان له قرابة في تلك القرية، وفي أثناء إقامته فيها كان
يتردد إلى بعض القرى القريبة فيها ويتعارف هو وأهلها؛ فأدى ذلك التعارف إلى
المصاهرة إذ تزوج بوالدة الفقيد وهي من قرية تسمى (حصة شبشير) قريبة من
مدينة طنطا وأقام معها في قرية تسمى (شتر) إلى أواخر مدة عباس باشا الأول
والي مصر ثم ألجأته الحوادث بعد ذلك إلى الرجوع إلى بلده وهي قرية تسمى
(محلة نصر) في البحيرة وفيها نشأ وترعرع.
***
تعليمه وتربيته
نشأ كما ينشأ أمثاله من أبناء البيوت المعروفة في القرى ولم يدخل المكتب
لتعلم القراءة والكتابة إلا بعد أن جاوز العاشرة من سنه وقد كتب هو عن مبدأ تعلمه
وتأدبه ما نصه: (تعلمت القراءة والكتابة في منزل والدي ثم انتقلت إلى دار حافظ
قرآن قرأت عليه وحدي جميع القرآن أول مرة ثم أعدت القراءة حتى أتممت حفظه
جميعه في مدة سنتين أدركني في ثانيتهما صبيان من أهل القرية جاءوا من مكتب
آخر ليقرأوا القرآن عند هذا الحافظ ظنًّا منهم أن نجاحي في حفظ القرآن كان من
أثر اهتمام الحافظ. بعد ذلك حملني والدي إلى طنطا حيث كان أخي لأمي الشيخ
مجاهد رحمه الله لأُجَوِّد القرآن في المسجد الأحمدي لشهرة قرائه بفنون التجويد وكان
ذلك في سنة 1279 هجرية) .
(ثم في سنة إحدى وثمانين جلست في دروس العلم وبدأت بتلقي شرح
الكفراوي على الأجرُّومية في المسجد الأحمدي بطنطا وقضيت سنة ونصفًا لا أفهم
شيئًا لرداءة طريقة التعليم فإن المدرسين كانوا يفاجئوننا باصطلاحات نحوية أو فقهية
لا نفهمها ولا عناية لهم بتفهيم معانيها لمن لم يعرفها فأدركني اليأس من النجاح
وهربت من الدرس واختفيت عند أخوالي مدة ثلاثة أشهر، ثم عثر عليَّ أخي فأخذني
إلى المسجد الأحمدي وأراد إكراهي على طلب العلم فأبيت وقلت له: قد أيقنت أن لا
نجاح لي في طلب العلم ولم يبق عليّ إلا أن أعود إلى بلدي وأشتغل بملاحظة
الزراعة كما يشتغل الكثير من أقاربي. وانتهى الجدال بتغلبي عليه فأخذت ما كان
لي من ثياب ومتاع، ورجعت إلى محلة نصر على نية أن لا أعود إلى طلب العلم
وتزوجت في سنة 1282 على هذه النية.
فهذا أول أثر وجدت في نفسي من طريقة التعليم في طنطا وهي بعينها
طريقته في الأزهر وهو الأثر الذي يجده خمسة وتسعون في المائة ممن لا يساعدهم
القدر بصحبة من لا يلتزمون هذه السبيل في التعليم - سبيل إلقاء المعلم ما يعرفه أو
ما لا يعرفه بدون أن يراعي المتعلم ودرجة استعداده للفهم غير أن الأغلب من الطلبة
الذين لا يفهمون تغشهم أنفسهم فيظنون أنهم فهموا شيئًا فيستمرون على الطلب إلى
أن يبلغوا سن الرجال، وهم في أحلام الأطفال، ثم يبتلى بهم الناس وتصاب بهم
العامة فتعظم بهم الرزية؛ لأنهم يزيدون الجاهل جهالة، ويضللون من توجد عنده
داعية الاسترشاد ويؤذون بدعاويهم من يكون على شيء من العلم ويحولون بينه وبين
نفع الناس بعلمه.
بعد أن تزوجت بأربعين يومًا جاءني والدي ضحوة نهار وألزمني بالذهاب
إلى طنطا لطلب العلم وبعد احتجاج وتمنع وإباء لم أجد مندوحة عن إطاعة الأمر
ووجدت فرسًا أُحضر فركبته، وأصحبني والدي بأحد أقاربي وكان قوي البنية شديد
البأس ليشيعني إلى محطة (إيتاي البارود) التي أركب منها قطار السكة الحديدية
إلى طنطا.
كان اليوم شديد الحر والريح عاصفة ملتهبة سافياء، تحصب الوجه بشبه
الرمضاء، فلم أستطع الاستمرار في السير فقلت لصاحبي: أما مداومة المسير فلا
طاقة لي بها مع هذه الحرارة ولا بد من التعريج على قرية أنتظر فيها أن يخف الحر،
فأبى علي ذلك فتركته وأجريت الفرس هاربًا من مشادته وقلت: إني ذاهب إلى
(كنيسة أدرين) - بلدة غالب سكانها من خؤولة أبي - وقد فرح بي شبان القرية [*]
لأنني كنت معروفًا بالفروسية واللعب بالسلاح وأملوا أن أقيم معهم مدة يلهو فيها كل
منا بصاحبه. أدركني صاحبي وبقي معي إلى العصر وأرادني على السفر فقلت له
خذ الفرس وارجع وسأذهب صباح الغد وإن شئت قلت لوالدي: إنني سافرت إلى
طنطا فانصرف وأخبر بما أخبر وبقيت في هذه القرية خمسة عشر يومًا تحولت فيها
حالتي، وبدلت فيها رغبة غير رغبتي.
ذلك أن أحد أخوال أبي واسمه الشيخ درويش سبقت له أسفار إلى صحراء
ليبيا، ووصل في أسفاره إلى طرابلس الغرب وجلس إلى السيد محمد المدني والد
الشيخ ظافر المشهور الذي كان قد سكن الأستانة وتوفي بها وتعلم عنده شيئًا من العلم
وأخذ عنه الطريقة الشاذلية، وكان يحفظ الموطأ وبعض كتب الحديث ويجيد
حفظ القرآن وفهمه، ثم رجع من أسفاره إلى قريته هذه واشتغل بما يشتغل به الناس
من فلح الأرض وكسب الرزق بالزراعة.
وإن هذا الشيخ جاءني صبيحة الليلة التي بتها في الكنيسة وبيده كتاب
يحتوي على رسائل كتبها السيد محمد المدني إلى بعض مريديه بالأطراف بخط
مغربي دقيق، وسألني أن أقرأ له فيها شيئًا لضعف بصره فدفعت طلبه بشدة ولعنت
القراءة ومن يشتغل بها ونفرت منه أشد النفور، ولما وضع الكتاب بين يدي رميته
إلى بعيد لكن الشيخ تبسم وتجلى في ألطف مظاهر الحلم، ولم يزل بي حتى أخذت
الكتاب، وقرأت منه بضعة أسطر فاندفع يفسر لي معاني ما قرأت بعبارة واضحة
تغالب إعراضي فتغلبه وتسبق إلى نفسي. وبعد قليل جاء الشبان يدعونني إلى
ركوب الخيل واللعب بالسلاح والسباحة في نهر قريب من القرية فرميت الكتاب
وانصرفت إليهم. بعد العصر جاءني الشيخ بكتابه وألح علي في قراءة شيء منه
فقرأت وفسر، ثم تركته إلى اللعب وفعل في اليوم الثاني كما فعل في الأول أما اليوم
الثالث فقد بقيت أقرأ له فيه وهو يشرح لي معاني ما أقرأ نحو ثلاث ساعات لم أملّ
فيها فقال لي: إني في حاجة إلى الذهاب إلى المزرعة ليعمل بعض العمل فيها فطلبت
منه إبقاء الكتاب معي فتركه، ومضيت أقرأه وكلما مررت بعبارة لم أفهمها وضعت
عليها علامة لأسأله عنها إلى أن جاء وقت الظهر وعصيت في ذلك اليوم كل رغبة
في اللعب وهوى ينازعني إلى البطالة، وعصر ذلك اليوم سألته عما لم أفهمه فأبان
معناه على عادته، وظهر عليه الفرح بما تجدد عندي من الرغبة في المطالعة والميل
إلى الفهم.
كانت هذه الرسائل تحتوي على شيء من معارف الصوفية وكثير من
كلامهم في آداب النفس وترويضها على مكارم الأخلاق وتطهيرها من دنس الرذائل
وتزهيدها في الباطل من مظاهر هذه الحياة الدنيا.
لم يأت عليَّ اليوم الخامس إلا وقد صار أبغض شيء إلى ما كنت أحبه من
لعب ولهو، وفخفخة وزهو، وعاد أحب شيء إلى ما كنت أبغضه من مطالعة وفهم
وكرهت صور أولئك الشبان الذين كانوا يدعونني إلى ما كنت أحب ويزهدونني في
عِشْرة الشيخ رحمه الله فكنت لا أحتمل أن أرى واحدًا منهم بل أفر من لقائهم جميعًا
كما يفر السليم من الأجرب.
في اليوم السابع سألت الشيخ ما هي طريقتكم فقال: طريقتنا الإسلام فقلت أو
ليس كل هؤلاء الناس بمسلمين؟ قال لو كانوا مسلمين لما رأيتهم يتنازعون على
التافه من الأمر ولما سمعتهم يحلفون بالله كاذبين بسبب وبغير سبب. هذه الكلمات
كانت كأنها نار أحرقت جميع ما كان عندي من المتاع القديم - متاع تلك الدعاوى
الباطلة والمزاعم الفاسدة، متاع الغرور بأننا مسلمون ناجون، وإن كنا في غمرة
ساهين، سألته: ما وردكم الذي يتلى في الخلوات أو عقب الصلوات؟ فقال: لا
ورد لنا سوى القرآن تقرأ بعد كل صلاة أربعة أرباع مع الفهم والتدبر. قلت: أنى لي
أن أفهم القرآن ولم أتعلم شيئًا؟ قال: أقرأ معك ويكفيك أن تفهم الجملة وببركتها
يفيض الله عليك التفصيل وإذا خلوت فاذكر الله على طريقة بينها.
وأخذت أعمل على ما قال من اليوم الثامن فلم تمض عليَّ بضعة أيام إلا وقد
رأيتني أطير بنفسي في عالم آخر غير الذي كنت أعهد [1] واتسع لي ما كان
ضيقًا، وصغر عندي من الدنيا ما كان كبيرًا، وعظم عندي من أمر العرفان
والنزوع بالنفس إلى جانب القدس ما كان صغيرًا، وتفرقت عني جميع الهموم ولم
يبق لي إلا هم واحد وهو أن أكون كامل المعرفة كامل أدب النفس ولم أجد إمامًا
يرشدني إلى ما وجهت إليه نفسي إلا ذلك الشيخ الذي أخرجني في بضعة أيام من
سجن الجهل إلى فضاء المعرفة، ومن قيود التقليد إلى إطلاق التوحيد، - هذا هو
الأثر الذي وجدته في نفسي من صحبة أحد أقاربي وهو الشيخ درويش خضر من
أهالي (كنيسة أدرين) من مديرية البحيرة. وهو مفتاح سعادتي إن كانت لي سعادة
في هذه الحياة الدنيا، وهو الذي رد لي ما كان غاب عن غريزتي، وكشف لي ما
كان خفي عني مما أودع في فطرتي.
وفي اليوم الخامس عشر مر بي أحد سكان بلدتنا (محلة نصر) فأخبرني
أن والدتي ذهبت إلى طنطا لتراني فعلمت أن سيقول لوالدي أنني لا أزال في الكنيسة
فأصبحت مبكرًا إلى طنطا خوف عتاب الوالد واشتداده في اللوم؛ لأنني لو كنت أقمت
له ألف دليل على أنني وجدت في مهربي مطلبه ومطلبي لَمَا اقتنع.
ذهبت إلى طنطا وكان ذلك قرب آخر السنة الدراسية في شهر جمادي الآخرة
من سنة 1282 هجرية لكن اتفق أن بعض المشايخ كانت ماتت بنته فعاقه الحزن
عليها عن إتمام شرح الزرقاني على العزية وآخر عرض له عارض منعه عن إتمام
شرح الشيخ خالد على الأجرومية فأدركت كلاًّ منهما في أوائل الكتاب الذي كان
يدرسه وجلست في الدرسين فوجدت نفسي أفهم ما أقرأ وما أسمع والحمد
لله. وعرف ذلك مني بعض الطلبة فكانوا يلتفون حولي؛ لأطالع معهم قبل الدرس ما
سنتلقاه. وفي يوم من شهر رجب من تلك السنة كنت أطالع بين الطلبة وأقرر
لهم معاني شرح الزرقاني فرأيت أمامي شخصًا يشبه أن يكون من أولئك الذين
يسمونهم بالمجاذيب فلما رفعت رأسي إليه قال ما معناه: ما أحلى حلوى مصر
البيضاء: فقلت له وأين الحلوى التي معك؟ فقال: سبحان الله من جد وجد. ثم
انصرف فعددت ذلك القول منه إلهامًا ساقه الله إليَّ ليحملني على طلب العلم
في مصر دون طنطا.
وفي منتصف شوال من تلك السنة ذهبت إلى الأزهر وداومت على طلب
العلم على شيوخه مع محافظتي على العزلة والبعد عن الناس حتى كنت أستغفر الله
إذا كلمت شخصًا كلمة لغير ضرورة. وفي أواخر كل سنة دراسية كنت أذهب إلى
(محلة نصر) لأقيم بها شهرين - من منتصف شعبان إلى منتصف شوال - وكنت
عند وصولي إلى البلد أجد خال والدي الشيخ درويشًا قد سبقني إليه فكان يستمر معي
يدارسني القرآن والعلم إلى يوم سفري. وكل سنة كان يسألني، ماذا قرأت؟
فأذكر له ما درست فيقول: ما درست المنطق؟ ما درست الحساب؟ ما درست شيئًا
من مبادئ الهندسة؟ وهكذا وكنت أقول له بعض هذه العلوم غير معروف الدراسة
في الأزهر فيقول: طالب العلم لا يعجز عن تحصيله في أي مكان، فكنت إذا
رجعت إلى القاهرة ألتمس هذه العلوم عند من يعرفها فتارة كنت أخطئ في
الطلب وأخرى أصيب إلى أن جاء المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني إلى مصر
أواخر سنة 1286.
وقد صاحبته من ابتداء شهر المحرم سنة 1287 وأخذت أتلقى عنه بعض
العلوم الرياضية والحكمية (الفلسفية) والكلامية وأدعو الناس إلى التلقي عنه كذلك
وأخذ مشايخ الأزهر والجمهور من طلبته يتقولون عليه وعلينا الأقاويل، ويزعمون أن تلقي تلك العلوم قد يفضي إلى زعزعة العقائد الصحيحة، وقد يهوي بالنفس
في ضلالات تحرمها خيري الدنيا والآخرة فكنت إذا رجعت إلى بلدي عرضت ذلك
على الشيخ درويش فكان يقول لي: إن الله هو العليم الحكيم ولا علم يفوق
علمه وحكمته وإن أعدى أعداء العليم هو الجاهل، وأعدى أعداء الحكيم هو السفيه
وما تقرب أحد إلى الله بأفضل من العلم والحكمة فلا شيء من العلم بممقوت عند الله
ولا شيء من الجهل بمحمود لديه إلا ما يسميه بعض الناس علمًا وليس في الحقيقة
بعلم كالسحر والشعوذة ونحوهما إذا قصد من تحصيلهما الإضرار بالناس.
هذا ما كتبه الفقيد عن مبدأ تربيته وتعلمه في ترجمته التي كتبها لي قبل اشتداد
مرضه الأخير، وكان حدثني قبل بشيء من ذلك ومنه أنه لم يكن يواظب على
حضور دروس من لا يفهم أو لا يستفيد منهم وأنه ربما كان يحضر درس أحدهم
وفي يده كتاب آخر يطالع فيه مدة الدرس وأن من شيوخه الذين فهم منهم واستفاد في
أول تحصيله الشيخ محمد البسيوني وأنه بعد الحضور في الأزهر ثلاث سنين مل
الدروس المعتادة كأنه أخذ حظه منها، وصارت نفسه تطلب شيئًا جديدًا وتميل إلى
العلوم العقلية ولكنه حضر جميع الكتب وفهمها ولم يكن يرتاح إلى إعادة شيء منها.
وكان الشيخ حسن الطويل ممتازًا في الأزهر بعلم المنطق فحضره عليه ولم يكن
يشفي ما في نفسه بل كانت تتشوف دائمًا إلى علم غير موجود فكان يبحث في
خزائن الكتب الأزهرية عن طلبته المجهولة فيظفر ببعض الشيء ومما ظفر به
القطب على الشمسية ناقصا. وقرأ الشيخ حسن الطويل لهم شيئا من الفلسفة ولكن لم
يكن يجزم بأن المعنى كذا بل كان الدرس احتمالات أو أشبه بالحرز فيما بينهم حتى
جاء السيد جمال الدين فسكنت إليه نفسه من اضطرابها ووجدت عنده جميع طلبتها،
وأقصى أمنيتها، وأخبرني رحمه الله تعالى أن الذي أخبره بقدوم السيد جمال الدين
هو أحد المجاورين في رواق الشوام قال له إنه جاء مصر عالم أفغاني عظيم وهو
يقيم في خان الخليلي فسر بذلك وأخبر الشيخ حسنا ودعاه إلى زيارته معه فألفياه
يتعشى فدعاهما إلى الأكل معه فاعتذرا فطفق يسألهما عن بعض آيات القرآن وما
قاله المفسرون والصوفية فيها ثم يفسرها لهم، فكان هذا مما ملأ قلب فقيدنا به عجبًا
وشغفه حبًّا؛ لأن التصوف والتفسير هما قرة عينه أو كما قال مفتاح سعادته.
وأخبرني رحمه الله تعالى أنه قرأ على السيد كتاب الزوراء للدواني في
التصوف، وشرح القطب على الشمسية والمطالع وسلم العلوم من كتب المنطق،
والهداية والإشارات وحكمة العين وحكمة الإشراق من الفلسفة، وعقائد الجلال
الدواني والتوضيح مع التلويح في الأصول، والجفميني في الهيئة القديمة وكتابا آخر
في الهيئة الجديدة نسيت اسمه.
ثم إن السيد أرشده كغيره من تلامذته إلى الإنشاء وكتابة المقالات الأدبية
والاجتماعية والسياسية ومرنهم على الخطابة فبرع فقيدنا في ذلك حتى صار أبرع
من أستاذه نفسه؛ لأن عبارة السيد رحمه الله تعالى كانت على متانتها وبلاغتها لم
تصف من كدورة العجمة إلى صفاء الانسجام العربي الخالص كعبارة الشيخ، ثم إن
مجالس السيد في ناديه وسامره كانت كلها مجالس علم وحكمة وأدب وسياسة وقلما
كان يفوت فقيدنا شيء منها إذ كان يلازمه ملازمة ظله وما يستفيده المرء بالمذاكرة
في ساعة لا يستفيده بالدرس في ساعات؛ لأن المدرس يكلفك كل ما يلقيه إليك سواء
كنت تشعر بالحاجة إليه وتعتقد الاستفادة منه أم لا وسواء كنت مستعدًّا لفهمه أم لا،
وأما المذاكرة فهي مشاركة اختيارية في البحث والإنسان لا يختار إلا ما يرى نفسه
محتاجة إليه ومستعدة لفهمه فمثل الدرس يلقى إليك كمثل من يكلفك أن تأكل مقدارًا
معينًا من الأطعمة التي قد تعاف بعضها ولا تستطيع تناولها إلا بكلفة وغثاثة فأنت لا
تتغذى إلا ببعضها والباقي إما أن يضر وإما أن لا ينفع ومثل المذاكرة كالطعام الذي
تشتهيه وتتناول منه ما يكفيك فيكون كله غذاءً نافعًا. وقد قال بعض علماء التربية
من الإفرنج: إنه قلما يفلح من يقيم في مدارس العلم زمنًا طويلاً. ولقد كانت مجالس
أستاذنا الفقيد كمجالس أستاذه (رحمهما الله) تفيض علمًا وحكمةً وأدبًا، ولكن الفصل
بينهما في هذا هو أن السيد كان يلقي الحكمة لكل أحد، وأما الشيخ فكان تخاطب كل
أحد أو كل فريق بما يرى أنه مستعد له ومتوجه إليه، وقد قال لي رحمه الله تعالى:
إن السيد جمال الدين كان يلقي الحكمة لمريدها وغير مريدها، ومن خواصه أنه يجذب
مخاطبة إلى ما يريد وإن لم يكن من أهله وكنت أحسده على ذلك لأنني تؤثر فيَّ حالة
المجلس والوقت فلا تتوجه نفسي للكلام إلا إذا رأيت له محلاًّ، وهكذا الكتابة إلخ
ما قاله وسنذكره في محله من تاريخه إن شاء الله تعالى.
تدريسه ودعوته إلى إصلاح التعليم في الأزهر
كان عفا الله عنه قبل أخذ شهادة التدريس يطالع مع بضع الطلاب الدروس
التي يحضرونها في الأزهر، ثم اتفقت الرغبة على أن يقرأ لطائفة منهم بعض الكتب
فقرأ لهم إيساغوجي في المنطق، ثم شرح العقائد النسفية للسعد التفتازاني مع حواشيه
ثم مقولات السجاعي بحاشية العطار وغير ذلك من الكتب التي لم تكن تقرأ في
الأزهر فكثر سواد المجتمعين عليه، وكان يدعوهم إلى مطالعة ما لم يتعودوا من
الفنون والكتب ويفتح لهم أبواب المذاكرة والمناقشة ليلاً فكانوا يغتالون الليل ولا
يشعرون بطوله وفُتن الأذكياء بحسن بيانه ودقة فهمه وحسده أناس منهم فأحفظوا
عليه قلب الشيخ عليش فكان ما كان من حادثته معه إذ ذهب ابن للشيخ عليش مع
طالب آخر فقالوا: إن فلانًا يقرأ شرح العقائد النسفية وقد رجح في درسه أمس مذهب
المعتزلة على مذهب الأشعرية وكان الشيخ عليش رحمه الله أذنًا يصدق بكل ما سمع،
وكان شديد الغيرة في الدين حديد المزاج سريع الغضب فكبر عليه أن يقرأ أحد
الطلاب مثل ذلك الكتاب الذي لم يكن الشيوخ الكبار يتسامون لقراءته فأرسل إلى
الفقيد فجاءه وهو يقرأ الدرس في المسجد الحسيني فقال الشيخ عليش: بلغني أنك تقرأ
شرح العقائد النسفية درسًا قال نعم. قال الشيخ عليش: وبلغني أنك رجحت مذهب
المعتزلة على مذهب الأشعرية قال إذا كنت أترك تقليد الأشعري فلماذا أقلد المعتزلي
إذًا أترك تقليد الجميع وآخذ بالدليل قال الشيخ عليش: أخبرني الثقة بذلك قال هلم
الثقة الذي يشهد بذلك فليميز أمامنا هنا بين المذهبين وليخبرنا أيهما رجحت، قال
الشيخ عليش: أوَمثلك يفهم شرح العقائد؟ قال الكتاب حاضر وأنا حاضر فسلني إن
شئت. فكبُر على الطلبة الحاضرين مثل هذه المراجعة من طالب للشيخ عليش
المهيب وقال بعضهم: إن هذا يرسل شعره ويجمعه تحت عمامته وأخذ عمامته عن
رأسه ولغط الحاضرون فتركهم الفقيد رحمه الله تعالى وذهب حاسرًا عن رأسه فقال
أناس: إن الشيخ عليشًا ضربه، وقال آخرون: إنه منعه من الدرس وكثرت
الإشاعات والأقوال والرؤى والأحلام فيه وفي السيد جمال الدين، والصواب أن
هذا كل ما حصل وأن الفقيد لم يمتنع من قراءة الدرس ولكنه كان يضع بجانبه
عصا وقال إذا جاء الشيخ بعكازه فله هذه العصا وكان من الشجاعة على ما يعهد
عارفوه كما سنبين ذلك في الكلام على أخلاقه. أما تأثير هذه الحادثة فقد كان أكبر منها
بل كان هو مبدأ خوض بعض الجامدين في دين كل من السيد الحكيم والأستاذ
الإمام رحمهما الله تعالى وسنعقد لذلك فصلاً خاصًّا في تاريخ الفقيد، نبين فيه أنه
لم يسلم أحد من أئمة الدين ولا من كبار الحكماء والصوفية من مثل هذا الطعن
وأنه من مناقب حكيمينا قدس الله روحهما وأن الذين يتشفون بمثل هذا الخوض من
الأعداء والحاسدين ومن يقلدهم من المساكين والمجانين لو عقلوا لكتموه وسعوا في
إزالته.
نعم إن ذلك الخوض والتقول مما نزين به تاريخ هذين الحكيمين ولكن لا ننكر
أن تأثيره السيئ وقع على الأمة الإسلامية عامة وعلى الأزهر خاصة دون الرجلين
اللذين لم يحترم الناس لا سيما عقلاء الأمة الإسلامية في هذا العصر أحدًا من أهل
المشرق كاحترامهم لهما ذلك أنه كان عقبة في سبيل إصلاحهما واستفادة الأمة منهما
وهما مأجوران عند الله تعالى بحسن نيتهما وبذلهما جهد المستطاع في خدمة أمتهما
وملتهما. وقد كاد يترتب على ذلك حرمان فقيدنا من شهادة العالمية ومرتبة التدريس
في الأزهر لولا عدل الشيخ العباسي وإنصافه.
كتب الأستاذ الإمام رحمه الله عن امتحانه ما نصه:
(عرضت نفسي على مجلس الامتحان في 13 جمادى سنة 1294 هجرية
وابتليت في الامتحان أشد الابتلاء لتعصب الأكثر من أعضائه مع المرحوم الشيخ
عليش وكان يعاديني على الغيب اتباعًا لآراء من لا رشد عندهم من بلداء الطلبة،
وكانوا قد أجمعوا أمرهم على أن لا يمنحوني درجة ما في العلم وجرت أمور قبل
الامتحان يطول شرحها، ولكن كان أمر الله أغلب فخرجت من هذا الامتحان بالدرجة
الثانية وصرت مدرسًا من مدرسي الجامع الأزهر وأخذت أقرأ العلوم الكلامية
والمنطقية) إلخ.
وقد أخبرني رحمه الله أن بعض الشيوخ تقاسموا قبل الامتحان يمينًا مؤكدة لا
يأخذنَّ فلان درجة ما ولما وقع الامتحان ورأوا من حسن الجواب عما سألوه فوق ما
كانوا ينتظرون، طفقوا يناقشون ويراجعون، وينتقلون به ويستطردون حتى صار
الامتحان مناظرة، تتولاها المشاغبة والمكابرة، فعند ذلك حلف الشيخ العباسي أنه لم
ير أحدًا امتحن في عصره مثله وأنه لو كان فوق الدرجة الأولى درجة ممتازة
لاستحقها فأراد أحد الشيوخ وأظنه الشيخ الرافعي أن يوفق ويصلح فأخذ الورقة، وكتب له بالدرجة الثانية وطفق يعرضها على إخوانه الذين كانوا متفقين على
حرمانه ليوقعوا عليها فوقعوا ثم أعطوها للشيخ العباسي فأمضاها لهم ولم يحب أن يراجعهم بعد أن رأى منهم ما رأى فظفروا ببعض المطلوب وهو حرمانه من الدرجة الأولى، وما كانوا ضائرين.
طلبه العلم بعد التدريس والدخول في الأعمال
هذا مجمل سيرة الرجل في تلقي العلم عن الشيوخ منذ بدأ إلى أن صار مدرسًا
وإنك لتجد أكثر طلاب العلوم عندنا يعدون أخذ شهادة العالمية غاية التحصيل والتعلم
فلا تتوجه همتهم بعده إلا إلى استغلال العلم وطلب المال به وإحراز الجاه والمكانة
عند الناس بما ينالون به من وظيفة وعمل. وإن صاحبنا لم يسلك مسلكهم بل سار
على سبيل سلفنا الصالح الذين يؤثر عنهم: اطلب العلم من المهد إلى اللحد، فكان
يقول إلى آخر حياته: إنني لا أزال طالب علم أبتغي المزيد منه في كل يوم. فكان له
في طلب العلم ثلاثة أدوار أولها الطلب على طريقة الأزهر المعروفة من المناقشة
في عبارات كتب المؤلفين وقراءة المتون مع الشروح والحواشي والتقارير - سلكها
زمنًا حتى ملَّها وتوجهت نفسه إلى علم أعلى وفهم أجلى فقبض الله تعالى له ذلك
العلامة الحكيم السيد جمال الدين فقرأ له علومًا أخرى على طريقة أسهل مسلكًا
وأقرب غاية، فانتاشه من الإخلاد إلى أرض العبارات الركيكة والأساليب الضعيفة،
والاحتمالات البعيدة، ورفعه إلى سماء عرفان الحقيقة والإفصاح عنها بالعبارة
الرشيقة، بعد إطلاقه من قيود تقليد المؤلفين، وتعويده على الحكم باليقين، فهذا هو
الدور الثاني وهو خاص كسابقه بالعلوم الإسلامية التي كتبت باللغة العربية مع
شيء قليل من العلوم الحديثة، وتطبيق العلم على حال المسلمين الأخيرة، وأما
الدور الثالث فهو النظر في علوم الإفرنج، قرأ رحمه الله كثيرًا مما ترجم من الكتب
ثم تعلم اللغة الفرنسية فصار يقرأ الكتب فيها لا يكاد يتركها يومًا من الأيام. وكانت
عنايته بعلوم الأخلاق والنفس وأصول الاجتماع الإنساني والتاريخ وفلسفته وفن
التربية أشد من عنايته بسائر العلوم وقلما علم بكتاب لإفرنجي يتكلم فيه عن الإسلام
والمسلمين إلا واستحضره وقرأه وقد قرأ عدة كتب في تربية الإرادة خاصة، وفي
سفره الأخير إلى سويسره تعلم هناك القلم المسند؛ لأنه علم أن في بعض المكاتب
الأوربية كتبًا فيه وأن الإنكليز نقلوا من حضرموت بعض ما هنالك من الآثار
الحميرية؛ ولذلك دخل شأن في تاريخ العرب والإسلام.
وهذه العلوم الإفرنجية هي التي أعطته القوة العظيمة في المدافعة عن الإسلام
وفي زيادة البصيرة بخدمته؛ لأنه عرف من أين يهاجمه أعداؤه وكيف ترد هجماتهم.
وكان يقول: من لم يعرف لغة من لغات العلم الأوربية لا يعد عالمًا في هذا العصر
وقد كتب لي في ترجمته عن تعلمه اللغة الفرنسية ما نصه:
(بدأت بتعلم اللغة الفرنساوية عندما كانت سني أربعًا وأربعين سنة ولكن
ميلي إلى تعلم لغة أجنبية ابتدأ في أثناء الحوادث العُرابية فتعلمت الهجاء ثم تركته
ونسيته تقريبًا وعندما سافرت إلى فرنسا أول مرة أقمت هناك عشرة أشهر كنت
أحرر فيها جريدة (العروة الوثقى) ولم أتعلم شيئًا من الفرنساوية؛ لأن اجتماعي
كان بالسيد جمال الدين وبرفاق من العرب واشتغالي بتحرير تلك الجريدة كان لا يسمح
لي بوقت كاف للتعلم بدراسة منتظمة فذهب عليَّ ذلك الزمن بدون فائدة في اللغة لا
كثيرة ولا قليلة. أما بعد عودتي من النفي إلى مصر واشتغالي بالقضاء في
المحاكم الأهلية والحكم بها خصوصًا في الجنايات على أصول القوانين الفرنساوية
وجلوسي بين قضاة يغلب عليهم العلم بتلك القوانين في لغتها فقد قوي عندي الميل إلى
تعلم اللغة الفرنساوية حتى لا أكون في معرفة القوانين أضعف ممن أجلس معهم
مجلس القضاء، وبعد مجيئي إلى القاهرة واشتغالي بالقضاء في إحدى محاكمها
وجدت الوقت والحال مناسبين للبدء في العمل فبحثت عن معلم فوجدت أستاذًا لا بأس
به فدعوته فجاءني حاملاً كتاب نحو في يده (كرامير) فسألته ما هذا فقال كتاب نحو
فقلت له لا وقت عندي لأنْ أبتدئ، وإنما عندي زمن لأنْ أنتهي، ثم ناولته قصة من
تأليف ألسكندر دوماس وقلت له: أنا أقرأ وأنت تصلح لي النطق وتفسر لي الكلم وما
عدا ذلك فهو عليَّ والنحو يأتي في أثناء العمل، وهكذا أتممت الكتاب وكتابًا بعده
وثالثًا عقبه وكنت أطالع وحدي بصوت مرتفع كلما وجدت نفسي في بيتي خاليًا
فتعلمت مبادئ اللغة الفرنساوية، وحصلت منها ما كان يمكنني من القراءة والفهم لكن
ما كنت أستطيع الكلام.
سافرت بعد ذلك إلى فرنسا وإلى سويسرا عدة مرات في أيام العطلة الصيفية
وكنت أحضر دروس العطلة في كلية جنيف، وبهذه الطريقة تعلمت اللغة الفرنساوية
في أوقات الفراغ مع اشتغالي بالقضاء في المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف. ثم
إن الذي زادني تعلقًا بتعلم لغة أوربية هو أني وجدت أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أنه
على شيء من العلم يتمكن به من خدمة أمته ويقتدر به على الدفاع عن مصالحها كما
ينبغي إلا إذا كان يعرف لغة أوربية كيف لا وقد أصبحت مصالح المسلمين مشتبكة
مع مصالح الأوربيين في جميع أقطار الأرض، وهل يمكن مع ذلك لمن لا يعرف
لغتهم أن يشتغل للاستفادة من خيرهم أو للخلاص من شر الشرار منهم؟) اهـ.
الكلام في تربيته خاصة
هذا ما يقال في طلبه للعلم، وأما تربيته فقد عُلم مما مر شيء منها وهو أنه نشأ
في بيت يوصف أهله بالأخلاق الفطرية الحميدة التي لا ينقصها إلا نور العلم وقد
كان له ولم يعن في صباه إلا بالفروسية وأعمال الرجولية، فكان يلعب بالسلاح
ويسابق الناشئين معه على ظهور الجياد ويكثر من السباحة وهذه الألعاب مما يحسن
أن يربى عليها الولدان بالقصد كما قال الحكماء وعلماء التربية وهي مما يربى
عليه أولاد الملوك والأمراء في أوربا. بعد أن أخذ حظه من هذه التربية الفطرية أخذه الشيخ درويش خضر بالتربية الدينية فألزمه العزلة ومجاهدة النفس. وكان من
جبلته أن يأخذ كل شيء بقوة فكان في مدة طلبه للعلم يصوم النهار ويقوم الليل
بالصلاة والتلاوة والذكر، ويمشي مطرقًا لا ينظر إلا حيث يضع قدميه ولا يكلم
أحدًا إلا لضرورة وقد ظل عدة سنين لا يلقي نظره على امرأة أجنبية حتى في
الطريق. وقد كان لكثرة الانهماك في الذكر والفكر والنظر في كتب التصوف
والتنقل في أحوال القوم ومقاماتهم يخرج عن حسه ويزج في عالم الخيال أو عالم
المثال كما يقولون فيناجي أرواح السابقين. ولو كان يجيز شرح ذلك لشرحناه، ولكنه
كان يقول: إن ما يحصل للصوفية من الأحوال غير الطبيعية لا يجوز ذكره لغير
العارف به ولا تجوز كتابته بحال ولو كنت ملكًا لحكمت بقتل الذين يكتبون ذلك؛
لأنهم يفتنون كثيرًا من الناس ولا يفيدون به أحدًا. وقال ما معناه ما زَجَّ أحد نفسه
في عالم الخيال ثم قدر على الخروج منه إلا أن يجذبه جاذب آخر ويخرجه منه وذلك
قليل. وأقول: إن السيد جمال الدين هو الذي أخرجه منه، ورقى به إلى ما هو خير
منه، ولم يتمكن من ذلك إلا بعد أن جاراه عليه زمنًا عرفه به أنه أعرف بتلك
المعاهد، وأسبق إلى تلك المشاهد بما كان يحل له من عقد كلام الصوفية التي
يعجز عن حلها، حتى أقنعه بأنه من أفراد أهلها، وسنذكر في التاريخ الكبير الذي
نضعه لفقيدنا شيئا مما كتبه على طريقة الصوفية. وأقول هنا لو كان الجماهير من
الناس يعرفون في أيام حادثة الشيخ عليش شيئًا من أمر الرجل في تصوفه وتنسكه
لهاجوا على الشيخ عليش وإن كانت شهرته بالصلاح عظيمة وعلى من وشى إليه
من فساد المجاورين، ولما خاضوا في فقيدنا بالذي خاضوا ولكنه كان يبالغ في كتمان
ذلك خوفًا من الرياء وحب السمعة والأمة مستعدة للشر والشبهة عليه حضور كتب
الفلسفة والكلام على عالم غريب وهو السيد رحمهم الله أجمعين.
قلنا: إن السيد جمال الدين هو الذي نقل فقيدنا من حال إلى حال في التربية كما
نقله في العلم، وكان الشيخ درويش هو الذي مهد له السبيل للأمرين. وقبل أن ننتقل
من الكلام في تربيته وتعليمه إلى الكلام في عمله وإصلاحه نذكر أن الشيخ درويشًا
هو الذي رباه أيضًا على التعرض للإرشاد الديني والتصدي لنصيحة الناس فمهد
السبيل التي سلكها به السيد جمال - سبيل الإصلاح العلمي والسياسي - ذلك أن الشيخ
درويشًا رأى أن مريده قد كملت نفسه بعد العزلة الطويلة وكمل سلوكه فصار بمأمن
من المعاشرين الذين يقطعون الطريق على المريدين فأمره بمخالطة الناس والتعرض
لإرشادهم وقد كتب رحمه الله في ذلك ما نصه.
(قلت: إنني كنت في أوائل مدة طلب العلم بعد مجيئي إلى الأزهر في عزلة
عن الناس إلا من استفيد منه علمًا أو نصيحة لكن بعد مضي سبع سنين على ذلك -
والشيخ يقودني في سبيل الرياضة وقهر النفس على المكاره بالصوم تارة وبلبس
الخشن والتعرض لانتقاد الناس تارة أخرى - قال لي عندما رجعت إلى محلة نصر
في سنة 1288 إلى متى العزلة وما الفائدة في العلم وتحصيله إذا لم يكن لك نورًا
تهتدي به ويهتدي به الناس؟ إن المكروه أن تستأثر بالفائدة دون أهل ملتك وإن من
لم ينفع بما تعلم فقد أضاع أهم ثمرة تقصد من غراس المعرفة فعليك أن تخالط الناس
وتعظهم وترشدهم إلى الطريق القويمة والسنة الصالحة: فذكرت له اشمئزازي من
الناس وزهادتي في معاشرتهم وثقلهم على نفسي إذا لقيتهم وبعدهم عن الحق ونفرتهم
منه إذا عرض عليهم فقال لي: هذا من أقوى الدواعي إلى ما حثثتك عليه فلو كانوا
جميعهم هداة مهديين لما كانوا في حاجة إليك. ثم أخذ يستصحبني في مجالس العامة
ويفتح الكلام في الشؤون المختلفة ويوجه إليّ الخطاب لأتكلم فيتكلم الحاضرن
فأجيبهم وأنطلق في القول على وجل في أول الأمر، وما زال بي حتى وجد عندي
شيئًا من الألفة مع الناس والاستئناس بمكالمتهم وفي شوال من تلك السنة ودعني
وبكى بكاءً شديدًا ومات في السنة الثانية رحمه الله تعالى) اهـ. أقول: يظهر أنه
أحس بأن عمله قد تم بتكميل تربية مريده وأنه ألهم بأنه قد دنا أجله إذا تم
عمله فبكى بكاء مودع، وللصوفية من هذا الإلهام والشعور ما هو معروف مشهور.
طور العمل والإصلاح
(تمهيد) لو سأل سائل: أي الرجال أعظم في الأمة وأفضل؟ لاختلف
الجواب باختلاف أفهام الأفراد ومذاهبهم، فهذا يقول أعظمهم العالم وذاك يقول بل
الفيلسوف، ويقول ثالث: بل هو الرجل الصالح فينبري رابع قائلاً بل القائد
الفاتح ويخالفهم رجل آخر يدعي أن أفضل الناس السياسي الحاذق ويقول آخرون
أقوالا أخرى. وإذا رجعت بالجميع إلى البرهان رأيتهم يتفقون على أن أعظم الرجال
وأفضلهم المصلحون الذين يوجهون عزائمهم إلى رفع الأمة من الدرجة الدنيا إلى
الدرجة العليا، وهؤلاء قلما تجود الأجيال بواحد منهم على كثرة العلماء والصلحاء
والقواد والسياسيين في كل زمان.
إنما يكون الرجل عظيمًا بأمرين أحدهما فطري لا يأتي بالكسب وهو الاستعداد
الذي يكون له بكمال الخلقة واعتدال المزاج، وحسن الوراثة الموالدين والأجداد،
وثانيهما كسبي وهو التربية القويمة والتعليم النافع، وقد كان استعداد الأستاذ الإمام
لكل أمر عظيمًا حتى كان استعداده هو الأصل في حسن تربيته وتعلميه. فقد علمت
مما مر أن فطرته السليمة لم تقبل الاستمرار على حضور دروس لا تفهمها ولم
يعرف هذا عن غيره من المبتدئين بطلب العلم حتى أذكيائهم الذين استفادوا بعد
العناء فقد كانوا يصبرون على ما لا يفهمون زمنًا طويلاً، وإذا حفظ أحدهم شيئًا
بالتكرار ظن أنه هذا فهم وعلم لا سيما إذا حفظ تفسير المتن من شرحه وحاشيته.
ولكن صاحبنا لم يكن يترك المسألة حتى يفهمها ويوقن أو يرجح أن الحكم فيها كذا
ولذلك أسرع إليه الملل من دروس مشايخ الاحتمالات. وكان يقول: إن
حضور كتب العربية على طريقتهم قد أضر بذهنه وعقله وإنه ظل يكنس ذهنه
وينظفه منها بضع سنين فلم ينظف تمام النظافة. وأما السيد جمال الدين فإنه كثيرًا ما
كان يشرح معنى المسألة حتى تتجلى للأفهام ثم يقرأ عبارة الكتاب ويطبقها عليها فإن
انطبقت وإلا أبان ما فيها من التقصير أو يقرأ العبارة ويبحث في دليلها فيقره أو
يفنده ويجزم بغيرها وبهذه الطريقة ارتقى إلى أن يحكم بنفسه في المسائل ولا
يرضى بالفهم مع التسليم لمؤلف الكتاب فالذي امتاز به صاحب الترجمة على إخوانه
الأزهريين هو أنه في بدايته لم يرض أن يحضر شيئًا لا يفهمه، وفي نهايته لم يرض
بما يفهمه إلا بعد أن يستشير فيه الدليل فيرضاه له، وأنه لم يقنع بالعلوم المتداولة في
الأزهر بل كان من أوائل عهده بالعلم إلى يوم وفاته يطلب العلوم ويقدم منها ما يزيده
كمالاًً في نفسه ويعينه على رفع شأن ملته وأمته، ولو أنه تعلم في حداثته على
طريقة قويمة كما تعلم النابغون من حكماء أوربا وعلمائهم في المدارس النظامية ولم
يضيع ذلك الوقت الطويل في البطالة وفي الطريقة الأزهرية الملتوية لرأينا من
آياته العلمية أضعاف ما رأينا على أن ما رأيناه يكاد يكون من الخوارق فإنه لم
يكن يتكلم في علم إلا وتراه صاحب القدح المعلى فيه حتى كأنه هو الواضع له، فمن
شاء أن يقتدي بطريقته المثلى من الأزهريين وغيرهم فليفعل عسى أن يكون من
المفلحين، وأما تربيته فقد علمت مما تقدم آنفًا أنه تربى على طريقة الصوفية القويمة
الخالية من البدع والخرافات حتى ملك نفسه وكملت أخلاقه وصار الدين
وجدانًا له، ثم انتقل من ذلك إلى أخذه بالبرهان. وأهم ما اتفق له تربية الإرادة أي
ملكة العزيمة والإقدام فقد كان فيها نسيج وحده في أمته.
تقدم أن الرجل توجهت نفسه إلى العمل والإصلاح قبل أن يصير مدرسًا رسميًّا
فبدأ بإحياء اللغة ونفخ روح العلم والدين في الأزهر، ثم إن السيد جمال الدين وجه
وجهه إلى الإصلاح الاجتماعي والسياسي فجعله ساعده وعضده في ذلك فاشتغل بها
مدة، ثم استقر رأيه على أن الإصلاح محصور في إحياء لغة الأمة وإصلاح نفوسها
بالتربية والتعليم النافع.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) في العبارة إيجاز بديع بالحذف إذ لم يذكر أنه وصل إلى القرية ولقي شبانها بل طوى ذلك لدلالة ما بعده عليه وقد اقتدى رحمه الله في هذا بأسلوب الكتاب العزيز.
(1) سنذكر هنا ثم في تاريخه المطول معنى ما قاله في تأثير التصوف في نفسه وما لم يقله ونبين ما كان له من المنفعة والضرر الذي تلافاه السيد جمال الدين في تربية فقدنا الثانية.(8/379)
غرة جمادى الآخر - 1323هـ
2 أغسطس - 1905م(8/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة
ملخص سيرة الأستاذ الإمام
(2)
دخوله في الماسونية - من التمهيد
كان السيد جمال الدين قد أخذ على نفسه العهود والمواثيق أن يعمل عملاً
عظيمًا ينهض بدولة إسلامية نهوضًا يعيد للإسلام مجده وكان مضطلعًا بذلك، إلا أنه
كان مستعجلاً يريد أن يعمل هذا العمل العظيم ويرى أثر نجاحه وثمرة غراسه في
حياته؛ لذلك جاءه من طريق الحكومة والسلطة وتوسل إليه بالعلم فاتخذ له في مصر
تلاميذ بدأ يقرأ لهم كتب أصول الدين والفلسفة حتى إذا ما وثق بهم مزج لهم السياسة
بالعلم وخاف استبداد إسماعيل باشا أن يحول بينهم وبين ما يشتهون، فانتظم مع
مريديه في سمط الجمعية الماسونية وكان باتحادهم رئيس محفل مرّن فيه تلامذته
على الخطابة والبحث في حياة الأمم وموتها، ونهوض الدول وسقوطها، وقد دخل
في هذا المحفل شريف باشا وبطرس باشا غالي وكثيرون من الكبراء والأذكياء.
وكان توفيق باشا ولي عهد الخديوية مشايعًا للسيد ومحفله، ومكان صاحب الترجمة
من السيد مكانه المعلوم فكان دخوله في الماسونية متممًا لتربيته وتعليمه، وصلة بينه
وبين توفيق باشا وكثير من رجال مصر وسببًا لبحثه في أحوال الحكومة
المصرية، ووقوفه على نقائصها ومساويها وتوجهه إلى السعي في إصلاحها وممهدًا له الطريق للعمل الذي قام به قبل الثورة وبعدها على ما نقصده هنا بالإيجاز،
وفي التاريخ الذي سنؤلفه للفقيد بالتفصيل. وقبل أن ننتقل من هذا التمهيد نقول:
إن الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى- ترك الماسونية من زمن طويل، وقد
أكثر أبناؤها من دعوته إلى محافلها بعد رجوعه من النفي إلى مصر فلم يجب،
وأهدوا إليه وسامًا فلم يقبله. وقد سألته عن حقيقتها مرة فقال بأن عملها في البلاد
التي وجدت فيها للعمل قد انتهى وهو مقاومة سلطة الملوك والباباوات الذين كانوا
يحاربون العلم والحرية وهو عمل عظيم كان ركنًا من أركان ارتقاء أوربا، وإنما
يحافظون عليها الآن كما يحافظون على الآثار القديمة، ويرونها جمعية أدبية تفيد
التعارف بين الناس.
وأخبرني بأن دخوله مع السيد فيها كان لغرض سياسي اجتماعي، وأنه قد
تركها من سنين ولن يعود إليها، وأنها ابتذلت في مصر ابتذالاً لم يكن من قبل.
وأخبرني أنه أرشد مرة أحد ولاة بيروت إلى إبطال محفل ماسوني علم أنه يكيد
للدولة العلية بإيعاز بعض الدول الأوربية فهاب ذلك الوالي وظن أنه فوق قدرته،
ولكن الفقيد -رحمه الله تعالى- هداه السبيل إلى ذلك وشد من عزيمته ففعل، بل كان
مبدأ انسحابه مع السيد جمال الدين من الماسونية عندما جاء إلى مصر رئيس الشرق
الأعظم الإنكليزي، وهو يومئذ ولي العهد للدولة الإنكليزية فاجتمعت المحافل
الماسونية حفاوة به، وذكر أحد رؤسائها ولي العهد بهذا اللقب فاعترض السيد جمال
الدين، وقال: إنه لا يسمح بأن يحتفل بأحد على أنه ولي العهد لدولة من الدول لا
سيما الدولة الإنكليزية التي من وصفها كيت وكيت، وليس لها فضل على
الجمعية ... إلخ ما قاله. ولا أذكر منه إلا مثل هذا الإجمال فرد عليه بعض رؤساء
المحافل، وبعد مناقشة انسحب من الماسونية هو وخواص مريديه ولما رأى بعض
علماء الأزهر بعد ذلك ترقي الأستاذ الإمام ونفوذه في الحكومة توهموا أن ذلك
بمساعدة الجمعية له، فدخل كثيرون منهم فيها ومنهم من دخل بدعوة بعض أصحابه
من أهلها، ولم يدخل أحد منهم لأجل عمل يفيد الأمة والبلاد إلا جماعة السيد جمال
الدين.
إصلاحه في مدارس الحكومة والأزهر
إذا تمهد هذا فنقول: قد عين الفقيد في أواخر سنة 1295 مدرسًا للتاريخ في
مدرسة دار العلوم، وللعلوم العربية في مدرسة الألسن الخديوية، فكان يدرس فيهما
مع الاستمرار على التدريس في الجامع الأزهر؛ فبدأ في دار العلوم بقراءة مقدمة
ابن خلدون؛ لأنه مقدمة للتاريخ، وإنما غرضه بث أفكاره السياسية والاجتماعية في
أذهان التلاميذ فكان يطبق ما فيها من الكلام عن نهوض الدول وسقوطها وشؤون
العمران وأصوله على أمته ويبين أسباب ضعفها والوسائل التي تذهب به وتعيد إليها
ما فقدت من عزها ومجدها، وكان يكلف التلاميذ كتابة المقالات والفصول في ذلك؛
فكان كل واحد يشعر بروح جديد يدب في هيكله ويرى نفسه مخلوقًا لخدمة بلاده
وإعلاء شأن أمته. وقد كتب رحمه تعالى في ذلك العهد كتابًا حافلاً في علم الاجتماع،
وفلسفة التاريخ انتقد فيه بعض ما قاله ابن خلدون، واستدرك عليه وبين ما
نسخته طبيعة الاجتماع في هذا العصر من أحكام العمران في العصور الغابرة،
وكان في مدرسة الألسن آية البيان في إحياء اللغة العربية، وإشراع الطريق اللاحب
في التعليم، والخروج بالطلاب من مآزق العهد القديم، ثم إن دروسه في الأزهر
كانت بناءً جديدًا للعقائد على أسس البراهين القطعية، وتجديدًا لما بلي من سائر
العلوم العقلية، وكانت حلقة درسه في الأزهر واسعة جدًّا تحيط بأعمدة كثيرة، وكان
يقرأ في بيته درسًا في الأخلاق أو السياسة لطائفة من المجاورين قرأ في ذلك كتاب
تهذيب الأخلاق لابن مسكويه فكان ذلك سبب طبعه المرة الأولى وقرأ كتاب (كيزو)
في السياسة ولا أدري أتمه أم لا.
كان القصد من هذه الدروس تكوين نابتة جديدة من السكان في مصر تحيي
اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وتقوِّم عِوج الحكومة المصرية، فقد كانت هذه
الحكومة لذلك العهد قد رثت ووهت، ووقعت في النزع أو أوشكت، عظم فيها
سلطان الأجانب، وأحاطت بها سيول الفتن من كل جانب، ومنيت الأمة التي تمدها
بالمتربة والمسغبة، وضربت عليها الذلة والمسكنة، ذلك بما أسرف إسماعيل باشا
في الضرائب والمكوس، وتعذيب الأجساد والنفوس، فأما آثار إسماعيل باشا في
البلاد فلا يزال الكهول والأشياخ يحدثون بها الشبان والغلمان، وأما ما فعله السيد
جمال الدين ومريده الشيخ محمد عبده من السعي في إصلاح الحكومة في الحال،
وتربية الرجال لأجل الاستقبال، فلا يعرفه إلا من كان يعمل معهما، ويتلقى عنهما،
ومن شاء من أهل هذه الديار، أن يروي شيئًا من تلك الأخبار، فليراجع من بقي
من تلامذتهما الأخيار، كالشيخ عبد الكريم سلمان وسعد بك زغلول وإبراهيم بك
اللقاني وحفني بك ناصف ومحمد بك صالح وسلطان أفندي محمد وغيرهم. ولو
طال العهد على عملهما لتم لهما المراد، ولما حدثت الثورة العُرابية، ولكن خانهما
الزمان، وما قدر كان.
كان من عمل السيد جمال الدين ومريديه أن اتصلوا بولي العهد توفيق باشا
الخديو السابق، واتفقوا معه على تغيير شكل الحكومة وإصلاح شئونها؛ فكان يعدّ
السيد والشيخ من أقوى أنصاره وأوليائه، ولما انتهى الحيف والجور والخلل بخلع
إسماعيل باشا، ونصب توفيق باشا أميرًا على مصر في رجب سنة 1296 طفق
السيد جمال الدين يطالبه بإنجاز وعوده، وأولها إنشاء مجلس نواب للحكومة وجعل
الوزارة مسئولة، وظهرت طلائع الإصلاح على يده، ولكن وجد من الواشين من
غَيَّرَ قلبه على السيد والشيخ، وأوهمه أنهما يسعيان في تقييد سلطته أو إزالتها،
فأمر بنفي السيد، فأُخِذَ من داره ليلاً في عربة مقفلة وليس عليه غير قميص واحد
وأرسل في قطار خاص إلى السويس، ومن هناك ذهب إلى الهند وأمر بعزل الشيخ
من مدرسة دار العلوم، ومدرسة الألسن، وبأن يقيم في قريته (محلة نصر) لا
يفارقها إلى بلدة أخرى، وخاصة عاصمة البلاد والمدن الكبيرة كالإسكندرية وغيرها.
وكان ذلك في رمضان سنة 1296.
عمله في المطبوعات والحكومة
وفي أواسط سنة 1297 توجهت عناية رياض باشا إلى تحسين كتابة الجريدة
الرسمية وجعلها مفيدة مرغوبًا فيها من الناس، فاستشار الشيخ حسين المرصفي
ومحمود باشا سامي البارودي كُلاًّ علي حدته فأشارا برأي واحد كأنهما تواصيا به
وهو جعل الشيخ محمد عبده محرِّرًا فيها ففعل بعد أن استرضى توفيق باشا؛ فصدر
الأمر العالي بتعيينه محررًا ثالثًا، وانتظر رياض باشا مدة من الزمن فلم يرَ تغييرًا
يُحمد. ثم إنه كتب من الإسكندرية يأمر قلم المطبوعات في مصر بأن تكتب مقالة
في مالية مصر تلم بشيء من تاريخها الماضي، وحالها الحاضر الذي وضع له
قانون التصفية، وأن تنشر هذه المقالة في أول عدد يصدر من الجريدة الرسمية
وكان قد بقي له يوم واحد، فحاص كُتَّاب الجريدة وحاروا وأرسلوا إلى صاحب
الترجمة من أحضره من الأزهر وكلفوه كتابة المقالة فكتبها في مجلسه ونشرت فلما
قرأها رياض باشا أعجب بها أشد الإعجاب وسأل عن كاتبها فقيل له هو فلان فزاد
عجبه أن وجد في الأزهر شاب واقف على تاريخ المالية في مصر، عارف بجميع
شئونها، قادر على بيان ذلك والإفصاح عنه. وفي أواخر هذه السنة طلبه رياض
باشا وسأله عن رأيه في إصلاح الجريدة؛ فبين له رأيه في تقرير ضاف، فأمر بأن
تؤلف لجنة للنظر في التقرير من وكيل الداخلية، ومدير المطبوعات، وكاتب
التقرير، وأن تضع لائحة لقلم المطبوعات، وتحرير الجريدة فكان ذلك، وعُين
الفقيد رئيسًا لقلم تحرير الجريدة الرسمية العربية، فاختار لها من المحررين المهرة
الشيخ عبد الكريم سلمان والشيخ سعد زغلول (هو سعد بك زغلول المستشار
بمحكمة الاستئناف لهذا العهد) والشيخ سيد وفا (رحمه الله) وهم ممن كانوا
يحضرون دروسه ودروس السيد جمال الدين وبرعوا في الكتابة معه على يد السيد
ثم ماذا كان من شأنه؟ كان ما لم يكن يخطر على قلب بشر وهو أن رئيس التحرير
للجريدة الرسمية صار مهيمنا على الحكومة والأمة ينتقد الأعمال والأقوال، وينتقل
بالناس من حال إلى حال.
وضع لائحة أو قانونًا لقلم المطبوعات أجازه، وأنفذه رياض باشا؛ فكان من
أحكامه أن جميع إدارات الحكومة ومصالحها ومجالسها في العاصمة وغيرها ملزمة
بأن تكتب إلى إدارة المطبوعات مخبرة بما عملت فأتمت، وما شرعت فيه، وكذلك
المحاكم ترسل إليها نتائج أحكامها، وأن لإدارة المطبوعات الحق في انتقاد كل ما
تراه منتقدًا من الأعمال، وأن لها حق المراقبة على الجرائد الوطنية والأجنبية التي
تصدر في القطر المصري، وأن تبحث عن حقيقة ما تقوله في رجال الحكومة
وأعمالها، وعلى الحكومة مساعدتها على ذلك بمعنى أنه إذا نشر في بعض الجرائد
ما ترتاب إدارة المطبوعات فيه؛ فإن لها أن تسأل المصلحة أو الإدارة التي يسند
إليها ذلك عن الحقيقة بواسطة نظارة الداخلية إن لم يكن ما نشر مسندًا إلى النظارة،
وإلا سألتها هي مباشرة؛ فإن كان حقًّا ما نشر في الجريدة، وجب على الحكومة
مؤاخذة من نسب إليه الذنب؛ وذكر ذلك في الجريدة الرسمية، وإن كان كذبًا طولب
مدير الجريدة بإثباته، وإلا أنذر، وإذا تكرر إنذار جريدة ثلاث مرات يمنع إصدارها
ألبتة أو إلى الأجل الذي تراه الإدارة. وأن من حق رئيس تحرير الجريدة الرسمية أن
يجعل فيها قسمًا غير رسميّ ينشر فيه لنفسه ولغيره ما يراه نافعًا من المقالات الأدبية
ويدخل في الأدبية الاجتماعية والاقتصادية ما أشبه ذلك- وقد أجاز هذا القانون وأنفذه
رياض باشا لما له من العناية بالإصلاح ولثقته بكفاءة صاحب الترجمة، وغَيْرَتِهِ
وإخلاصه في الخدمة العامة، وإن في هذا لعبرة لأولي الألباب، صاحب عمامة أزهرية يدخل في حكومة مطلقة بعيدة في أعمالها عن رجال العلم والدين فيشرف
من نافذة غرفة تحرير الجريدة على نظارات الحكومة ومجالسها، ومحاكمها،
ومصالحها؛ فيصلح لهم ما يكتبون، ويرشدهم إلى إصلاح العمل فيما يعملون، ثم
يشرف من نافذة أخرى على الأمة؛ فيقوم من أخلاقها. ويصلح ما فسد من عاداتها،
بالوعظ الصحيح، والإرشاد الحقيقي، ويطل من نافذة ثالثة على الجرائد العربية
فيعلمها حسن التحرير، ويربيها على الصدق في القول ويجعل للصادق منها
سلطانًا نصيرًا، وتأثيرًا مأثورًا، يا لها من عمامة شرفت برأس صاحبها حتى
حسدتها الطرابيش، وهابتها التيجان والبرانيط، ونذكر هنا على سبيل الفكاهة أن بعض الكبراء رغبوا إلى الأستاذ الإمام في ذلك العهد أن يستبدل الطربوش
بالعمامة؛ لأن صاحب العمامة لا يرتقي إلى مراتب الرؤساء والنظار
كصاحب الطربوش، فأبى عليهم ذلك فأرادوا الاستعانة عليه برياض باشا فأوهموه
أنه يميل إلى لبس الطربوش ولكنه لا يلبسه إلا بأمره فسأله فظهر له أنه لا يرغب
في ترك زيه، وأنه إذا ألزمه بذلك إلزامًا؛ فإنه يمتثل ما دام في عمل الحكومة؛
فإذا خرج من عمله عاد إلى عمامته؛ فقال رياض باشا: كلا، إنني لا أرضى لك
الطربوش؛ لأنني أحب أن يعلم الناس أنه يوجد تحت العمائم من العقول والأفهام
مثل ما يوجد تحت الطرابيش وغيرها. فلله دَرُّ رياض باشا، وجزاه الله الخير فإنه
هو الذي أحضر السيد جمال الدين ومكن له في أرض مصر، وهو الذي كان السبب
في ظهور مواهب الشيخ محمد عبده في أول نشأته حتى إنه حَكَّمَهُ في انتقاد نظارة
الداخلية وهو أحد العمال المتوسطين فيها.
كان من أثر مراقبة إدارة المطبوعات للجرائد أن اجتهد أصحابها في انتقاء
المحررين، وقد أنذر - عَامَلَه الله تعالى بإحسانه - مدير جريدة شهيرة بمنع جريدته
إذا لم يختر لها محررًا صحيح العبارة في مدة عينها؛ ففعل ذلك المدير. ولم يكن
يأذن بطبع كتاب من الكتب الضارة. وكان من أثر انتقاد كتاب الحكومة أن نبه شأن
المجيدين منهم، وفتحت مدارس ليلية لتعليم المقصرين، وتبرع - تغمده الله
برحمته - بقراءة درس في بعضها. فهذا هو مبدأ النهضة القلمية الحقيقية في مصر
فالفضل فيها للسيد جمال الدين، وللشيخ محمد عبده، رحمهما الله تعالى.
وأما انتقاد أعمال الحكومة فكان من أسباب تحريها الحق، والعدل، والاجتهاد
في إصلاح كل نظارة، وقد عني الفقيد يومئذ بنفسه في انتقاد نظارة المعارف ومثل
مساوي التعليم والتربية في مدارسها شر تمثيل؛ فضاق ذرع ناظر المعارف لذلك
العهد فلاذ برياض باشا شاكيًا من الجريدة الرسمية، فقال له رياض باشا: إن كان ما
كتب حقًّا فلا وجه للشكوى منه، وإن كان باطلاً فعليك أن تبين ذلك بالدليل والبرهان،
وفلان ينشره في الجريدة الرسمية نفسها؛ فإنه لا يقصد بما يكتب فيها إلا المصلحة
فسكت الناظر واجمًا.
عمله في مجلس المعارف الأعلى
اقتنع رياض باشا بما في نظارة المعارف من الخلل، وعلم أن ما يكتب في
الجريدة الرسمية حق فذاكر الفقيد في ذلك، وفي وسائل تلافيه، فعرض عليه أن
يكون للمعارف مجلس أعلى يكون له الحكم الفصل في إدارة المعارف العمومية
ويكون الناظر منفذًا لما يقرره، فأنفذ ذلك رياض باشا، وجعل صاحب الترجمة
عضوًا في هذا المجلس؛ فكان له فيه الاقتراحات النافعة للبلاد، ولولا كثرة ما جعل
فيه من الأعضاء الأجانب الذين يعارضون المشروعات النافعة ثم حدوث الثورة
لارتقت معارف البلاد في ذلك العهد ارتقاء عظيمًا. صدر الأمر العالي بتشكيل هذا
المجلس في 28 ربيع الآخر سنة 1298 وقد تألفت منه لجنة للنظر في إصلاح
طرق التعليم والتربية في جميع المدارس، وكان الفقيد الكاتب العربي لجلساتها، وكان
له فيها الآراء الصحيحة، والحجج القيمة على ما يطلب من الإصلاح.
أذكر من اقتراحه شيئًا سمعته، ولا أدعي أنني أحيط به كل الإحاطة وهو أنه
اقترح مرة على المجلس أن يطلب من الحكومة مبلغًا عظيمًا من المال يوزع على
المدارس الأجنبية مكافأة لها على خدمة العلم ونشره في البلاد فهش الأعضاء
الأوربيون لهذا الاقتراح، وعارض فيه بعض الأعضاء الوطنيين ووافق الآخرون
الذين عرفوا ما يرمي إليه المتقرح فتقرر بأكثر الآراء. ثم إنه اقترح في جلسة
أخرى أن يقرر المجلس وجوب جعل المدارس الأجنبية تحت مراقبة نظارة المعارف
لينظر مفتشو النظارة في نظام التعليم فيها، فهش الأعضاء الوطنيون لهذا الاقتراح
وعارض فيه الأجانب، فأقام عليهم الحجة بأن جميع الدول الأوربية تراقب
جميع المدارس التي تأخذ منها إعانة وتفتش مدارسها إذ يجب على الحكومة أن تعلم
أنها لا تضيع دراهمها، بل تنفقها فيما ينفع بلادها. فقال بعضهم: إن هذا قول حق
وإنما نعارض الآن في هذا الاقتراح؛ لأننا نعلم أن المعارف في مصر منحطة وإنما
اجتمعنا لترقيتها وأرباب المدارس الأجنبية مرتقون في العلوم والمعارف، ولا يصلح
السافل للإشراف على من هو أعلى منه، ولا المنحط للحكم على المرتقي. فقال
الفقيد - رحمه الله تعالى -: كان يصح هذا الدفاع لو لم تكن أنت ورفاقك من أعضاء
مجلس المعارف المصري؛ فإذا كان الطلب في نفسه حقًّا وعدلاً فلا يصح أن يرفض؛
لأن المعارف العمومية لم ترتق في البلاد المصرية؛ لأن عدم ارتقاء المعارف
وانتظام المدارس لا ينافي وجود أفراد من الموظفين في النظارة من الأوربيين أو
المصريين المتعلمين في مدارس أوربا العالية يصلحون لتفتيش المدارس الأجنبية،
فنهضت حجته وتقرر اقتراحه.
وإنها لأمنية يتلحز على ذكرها السلطان والأمير، ويسيل لتوهمها لعاب الناظر
والوزير، ولكن تقف دونها الآمال حسرى، وتنحني أمامها العقول حيرى، وتكبو
في غاياتها جياد السياسة، ويصغر عن الطمع فيها أهل الرياسة، ثم تسمو إليها تلك
الهمة، وتستنزلها من أعلى القمة، ولولا الفتنة العُرابية لجعل لنا ذلك العضو أو
الكاتب سيطرة على مدارس الأجانب على ما كان لهم في ذلك الزمان من النفوذ
والسلطان، فكيف لو كان ذا منصب أعلى، ونفوذ أقوى؟
دعوته نظارة الأوقاف إلى الإصلاح
كان لنظارة الأوقاف من حظ إرشاده، نفعنا الله بعلومه وآثاره نحو ما كان
لسائر النظارات ومصالح الحكومة، وكان من تأثير إخلاصه أن عزمت هذه النظارة
يومئذ على عمل جليل وهو أن تصل دار الكتب المصرية (الكتبخانة) ومدرسة دار
العلوم بالأزهر، وتوسع دائرة المدرسة بحيث تدرس فيها جميع العلوم ويبلغ عدد
طلابها 500 طالب، ويكون المتخرجون فيها هم المقدمين في أعمال الحكومة، ولو
تم هذا لكانت الأوقاف ينبوع الحياة لهذه البلاد. ولكن حال دون هذا ودون ما كانت
الحكومة شرعت فيه من الإصلاح الإداري والقضائي والعسكري تلك الفتنة
المشؤومة.
الثورة العرابية
علم مما تقدم أن البلاد المصرية كانت في أواخر إمارة إسماعيل باشا في
ظلمات بحر من الظلم لُجيّ، يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات
بعضها فوق بعض، ظلمة الجوروالظلم، وظلمة الفقر والفاقة، وظلمة الشرور
وفساد الأخلاق، والآداب، وظلمة تحكم الأجانب، وسيطرتهم على الحكومة بحجج
المراقبة المالية لما لها من الديوان على إسماعيل باشا وسلطتهم على الرعية التي
أغرقها في الاستدانة منهم كثرة الضرائب والجزى، وكثرة الضرب وسوء الجزاء،
وكان يظهر من غمرات هذه الظلمات بصيص من النور في مواضع مختلفة لمعت
جَذْوة منه في الأزهر فنفخ الشيخ عليش نفخة أخمدتها ولكنها ما أطفأتها، ثم كان هذا
النور يظهر في معاهد خاصة فتعشو إليه الأبصار، ويسير في ضوءه من سار، حتى
أشرق وتلألأ في إدارة المطبوعات، وانتشر نوره في سائر الجهات، وكان ما كان
من أخذ الحكومة والناس بوسائل الإصلاح ومقاصده فرحين مستبشرين بأميرهم
الجديد (توفيق باشا) لعفته عن أموالهم، ورغبته في إصلاح حالهم، وبوزيرهم
العامل المخلص (رياض باشا) وإذا بناجم الفتنة قد نجم، وطائر الشر قد وقع، إذ
هب ضباط الجيش من المصريين يطالبون بحقوقهم، وأيديهم على مقابض
سيوفهم، وتلك هي ما يسمونه بالثورة العرابية.
لا يعنينا في هذا المقام خبر هذه الثورة ولا تاريخها، وإنما يعنينا أن نبين في
تاريخ أستاذنا أنه كان كارهًا لها، منددًا بزعمائها وهو بينهم؛ لأنه كان يعلم أنها
تحبط عمله الذي مضى فيه، وكل إصلاح تعمله الحكومة أو تنويه، وأنها تمهد
للأجانب سبيل الاستيلاء على البلاد، بل كان هو وأستاذه يتوقعان ذلك من سيرة
إسماعيل باشا، وقد صرح السيد بذلك في خطبه وفي بعض ما كتب وطبع لذلك
العهد، وحاول أن يحول دون ما يخشى ويتوقع بالسعي في الإصلاح، فليس ما
نقوله عن أستاذنا من أنه كان لا يجهل خطر الثورة بالدث والرجم بالغيب، بل هو
قول مؤيد بالدلائل وثابت بالرواية الصحيحة عنه، وعن الصادقين من العارفين بما
كان.
كان ينتقد على زعماء الثورة بالقول خطابة وجدالاً في أنديتهم وسمارهم
وبالكتابة في الجريدة الرسمية حتى أرسل إليه عرابي مرة من يتهدده، ويقول: إنك
أهنت الشرف العسكري بما كتبت عن الجيش ورؤسائه. أرسل إليه ضابطين إلى
قلم المطبوعات من الداخلية فطردهما وهددهما بالضرب إذا هما لم يخرجا. وكان
عرابي وأعوانه ينفضون من المجلس يدخل فيه.
زار مرة طُلبة باشا في أيام عيد الفطر، فإذا بعرابي وأعوانه جلوس يتكلمون في
الاستبداد والحرية، والحكومة المطلقة، والحكومة النيابية الدستورية، واتفقوا على
أن الأمن على الأرواح والأموال، وصعود الأمة في مراقي الكمال، من آثار
الحكومة المقيدة بلا جدال، وأن هذا التحويل قد آن في مصر أوانه، وأدركها إبَّانه،
فعارض الأستاذ في ذلك، وقال: إن أول ما يجب أن يُبدأ به التربية والتعليم لتكوين
رجال يقومون بأعمال الحكومة النيابية على بصيرة مؤيدة بالعزيمة، وحمل الحكومة
على العدل والإصلاح، ومنه تعويدها الأهالي على البحث في المصالح العامة
واستشارتها إياهم في الأمر بمجالس خاصة تنشأ في المديريات والمحافظات، وليس
من الحكمة أن تعطى الرعية ما لم تستعد له فذلك بمثابة تمكين القاصر من التصرف
بماله قبل بلوغ سن الرشد، وكمال التربية المؤهلة والمعدة للتصرف المفيد. فطفق
عرابي يجادله هو وأحد أساتذة المدرسة الحربية، وكان مما احتج به الفقيد عليهما
أن الأمة لو كانت مستعدة لمشاركة الحكومة في إدارة شئونها لما كان لطلب ذلك
بالقوة العسكرية معنى؛ فما يطالب به رؤساء العسكرية الآن غير مشروع؛ لأنه
ليس تصويرًا لاستعداد الأمة ومطلبها، ويخشى أن يجر هذا الشغب على البلاد احتلالاً
أجنبيًّا يسجل على مسببه اللعنة إلى يوم القيامة. عند ذلك أبدى المجادل نواجذه لغير
تبسم، وقال أرجو أن لا أستحق هذه اللعنة، وليس الجند هو يطلب مجلس النواب،
ولكنه مؤيد لطلب أعيان البلاد ووجهائها، ثم أسر إلى الأستاذ أن سلطان باشا جمع
الأعيان لهذا الطلب. وقد كتبنا في ص512 من مجلد المنار الرابع ردًّا على
صحافي عرَّض بأن الأستاذ الإمام كان من أركان الثورة العرابية نذكره هنا وهو
عرض هذا الانفجاني المتذقح بذكر الفتنة العرابية، ويا ليته كان يعرف حقيقة الفتنة
العُرابية ويعرف المتهورين فيها، والناصحين لهم بالاعتدال، فهو لا يعرف ولا
يحب أن يعرف، وإذا أحب فليسأل العارفين، وليراجع كتابة الكتابين، وعند ذلك
تظهر له مزية من عرَّض به إن كان من المنصفين، يظهر له أن هذا الرجل الكبير
العقل البعيد الرأي كان ينتقد أعمال عرابي وتهوره في جريدة الوقائع الرسمية في
القسم الأدبي منها على حين ترتعد فرائص قصر الخديوية من عرابي، وحين
يرى هذا المنتقد الشجاع أن رئيس النظار ينزل من ديوانه بأمر عرابي مكرهًا،
ويسمع من أتباعه ما يكره. وتظهر له تلك الخطبة التي خطبها هذا الرجل العظيم
في زعماء الثورة العرابية عندما ألزموه بحضور مجتمعهم وأن يقوم فيهم خطيبًا.
ماذا كان موضوع خطبته؟
كان موضوعها بيان تاريخي بأن المعهود في سير الأمم وسنن الاجتماع أن
القيام على الحكومات الاستبدادية، وتقييد سلطتها وإلزامها بالشورى وبالمساواة بين
الرعية، إنما يكون من الطبقات الوسطى والدنيا إذا فشا فيهم التعليم الصحيح
والتربية النافعة، وصار لهم رأي عامّ، وأنه لم يعهد في أمة من أمم الأرض أن
الخواص، والأغنياء، ورجال الحكومة يطلبون مساواة أنفسهم بسائر الناس وإزالة
امتيازاتهم واستئثارهم بالجاه والوظائف، ومشاركة الطبقات الدنيا لهم في ذلك فكيف
حصل في هذه المرة ومن أهل هذا المجتمع؟ (قال) فهل تغيرت سنة الله في الخلق
وانقلب سير العالم الإنساني؟ أم بلغت الفضيلة فيكم حدًّا لم يبلغ إليه أحد من
العالمين، حتى رضيتم واخترتم عن روية وبصيرة أن تشاركوا سائر أمتكم في
جاهكم ومجدكم، وتساووا الصعاليك حبًّا بالعدالة الإنسانية؟ أم تسيرون على حيث
لا تدرون، وتعملون ما لا تعلمون؟ وأمثال هذا الكلام الذي فهمه بعضهم فطفقوا
ينغضون رءوسهم وعلا على أفهام الآخرين.
هذا ما قاله الشيخ محمد عبده في أعظم مجتمع لرؤساء العرابيين ولو كانوا
يعقلون لرجعوا به إلى رشدهم، ولكن الأمة لم تكن استعدت لفهم إرشاد هذا الحكيم
ولما تستعد الآن، ولهذا الأستاذ أن يتمثل بقول ابن الفارض، رحمه الله تعالى:
ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى ... ولكنها الأهواء عمت فأعمت
هذ ما كتبناه منذ أربع سنوات كاملة، ولا حاجة إلى كثرة الشواهد والوقائع في هذه
السيرة المختصرة.
ولا يلتبسنَّ على القارئ معارضة الإمام للعرابيين في مشروع مجلس النواب
وتقييد السلطة مع أنه كان الداعي الثاني إلى ذلك بعد أستاذه، وأول من تلقى ذلك
عنه، فإنه كان يحاول أن يكون ذلك برضى الأمير وحكومته، لا بالخروج عليه
وأن يكون في البداية من قبيل التمرين والتعويد مقرونًا بالتربية والتعليم إلى أن تبلغ
النابتة الجديدة أشدها، وتصل من طريق الحكمة إلى رشدها، وقد رأيت كيف كان
التوسل منه فيما رويناه لك عنه، وهو لم يفارق القوم المطالبين بالصلاح عند مهب
الفتنة، ويلجأ إلى قصر الإمارة أو يتفيأ ظلال العزلة، لأنه في فكره وسط بين
الطرفين، وفي عمله بين المصلحتين، وقد قال لعرابي مرارًا كثيرة: عليك بالهدوء
والسكينة، وأنا أضمن لك أكثر مما تطلب في بضع سنين، ونهاه بعد ذلك عن محاربة
الإنكليز.
انتهت الثورة بالاحتلال الإنكليزي، وقبض على زعمائها وألقوا في غيابة
السجن ليحاكموا فيقتلوا تقتيلاً. وجعل الفقيد منهم لأمر ما، وصدر الأمر بأن تكون
محاكمتهم بالقانون الإنكليزي، وعين لهم محام إنكليزي جاءهم فسمع منهم وكلفهم أن
يكتبوا دفاعهم بأيديهم كل يكتب عن نفسه، ولا يطعن في غيره، فلم يرَ في كتابة أحد
ما تقوم به الحجة، وتقعد به التهمة، ويدل على الغوص في أعماق الحوادث،
والإحاطة بما لها من الأسباب والنتائج إلا ما كتبه وما قاله فقيدنا بالأمس، وقد زاد
المحامي على بيان ذلك أن أشعره بالخفايا، وأطلعه على ما في زوايا القصر من
الخبايا، كقوله: إن الحاشية خاطبت محافظ الإسكندرية بلسان البرق بكذا في يوم كذا
وعدد كذا بأن يفعل كيت وكيت. وأعطاه من المستندات ما يقلب وجه المسألة، ولا
ترضى إظهاره السياسة، وسنشرح ذلك في تاريخ الفقيد بالتفصيل. حكم على
عرابي ورفاقه المعروفين بالنفي الأبدي، وعلى صاحب الترجمة بالنفي ثلاث سنين
وثلاثة أشهر. وقد كان النفي بلاء وشقاء على كل المنفيين حاشا الإمام؛ فإنه كان
رحمة له ونعمة عليه ومزيدًا في كمال علمه وتربيته وسببًا لنشر علمه في بلاد كثيرة؛
ذلك أنه كان من أهل الإخلاص والتقوى فجعل الله تعالى له من كل ضيق فرجًا
ومخرجًا بل بدل له النقمة نعمة والسيئة حسنة، فكان مبدأ حياة جديدة له نبينها فيما
يلي هذا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(8/401)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
الدين في نظر العقل الصحيح
لصاحب الإمضاء محمد توفيق صدقي
(المقالة الثانية)
النبوة
النبوة إصلاح في الأرض من قِبل الله تعالى على يد شخص يصطفيه من
بين خلقه. معنى أنها من قِبل الله أنها ليست مستمدة من معلومات من جاور هؤلاء
المصطفين الأخيار من الأقوام. بل هي أرقى بكثير مما عليه الناس وما وصلوا إليه.
وفائدتها تقدم العالم بسرعة إلى الإمام وإصلاح ضمائر الخلق وما تكنه صدورهم
بسبب ما توجبه من الإيمان باليوم الآخر، وما فيه من عقاب أو ثواب؛ وبذلك تستقيم
أمورهم في السر والعلن، ذكرنا الإيمان باليوم الآخر وحده ولم نذكر الإيمان بالله مع
أنهما مرتبطان أتم الارتباط؛ لأن الأول لا سبيل للعقل أن يجزم به بدون النبوة
بخلاف الثاني فالعقل وحده كاف لمعرفته ومعرفة صفاته كما بيناه آنفًا. إذ الغرض
الأكبر من النبوة حمل الناس على الإيمان بذلك اليوم وإصلاح حالهم الدينية والدنيوية
إصلاحًا لا يصِلون إليه بأنفسهم، ولو بعد مئات من السنين إن لم نقل آلاف منها.
هذا ولما كان محمد -عليه السلام- المثال الأكبر للأنبياء وتاريخه أقرب عهدًا وأصح
سندًا رأيت أن أتكلم على حياته بما يقتضيه المقام؛ إيضاحًا لما أجملته فيما مر من
الكلام، وهذا يستلزم ذكر أحوال العالم في ذلك الوقت، ثم أحواله -عليه السلام-
وما أتى به من الإصلاح في الأرض، ولذا أبدأ الآن بوصف حالة العالم في عصره
فأقول:
كثرت المشاغبات في الدين، وطمس نور الحق بين العالمين. تشعبت الآراء
وتعددت الأهواء، وعبد كٌّل ما شاء الشيطان من الأباطيل. عَمَّ السجود للأوثان،
وعبدت الصور والصلبان، واعتقد الناس الألوهية في التماثيل. خلط الخلق في
شأن اللاهوت، وتوهموا ظهوره في الناسوت، فاتخذ البشر آلهة من دون واجب
الوجود. سهل على الناس اعتقاد السلطة في بعض الأفراد، وظنوا أن بيدهم
الإشقاء والإسعاد، فهابوا مقامهم وأعلوا شأنهم، فطغى أولئك وبغوا، وافتروا ما
شاءوا من الأحكام، وقالوا لما تصف ألسنتهم الكذب هذا حلال وهذا حرام. أصبح
الناس عبيدًا أذلاء، في جهالة عمياء، اشتغل الرؤساء بالمطامع الشخصية، وتفانوا
في الحصول على لذاتهم البهيمية، وأخذوا العويص من المسائل الدينية ذريعة
للمشاجرات والمماحكات. فتعددت البدع وكثرت الفرق وظهرت مذاهب الإباحيين
والدهريين، أثار كل رئيس من تحت يده من المرؤوسين، وأشهروا الحرب على
الآخرين فأريقت دماء العالمين.
هذا كان حال الأمم في كل بقعة من الأرض، وفي بلاد العرب أدهى وأمرّ. عم
الفساد وزاد العناد، وزال العلم، وحل الجهل، وفسدت الأخلاق في سائر الآفاق.
ليس ما ذكر تخيلات شعرية، ولا أفكار وهمية، بل هي حقائق تاريخية
اتفق عليها أهل العلم، ولم يشذ عنهم ذو فهم.
ظهر في هذا الوسط الجاهل والظلام الحالك، الذي يضل فيه كل سالك، محمد
العربي والنبي الأمي. ونشأ يتيمًا فقيرًا لا أب له يهذبه ويربيه ولا معلم يرشده
ويهديه.
قد يزعم بعض المجادلين أنه تعلم القراءة والكتابة ليدفع بذلك ما سيُلقى على
سمعه من قوة البرهان ولكنه وهمٌ نُزيله بما يأتي من الدلائل الواضحة:
(1) أن الجمهور الأعظم من أمته كان أميًّا إلا نفرًا قليلاً؛ فإذا أضفنا إلى
ذلك يُتمه وفقره وأميته فلا نجد أي حامل يحمله على تعلم القراءة والكتابة؛ إذ أولى له
أن يسعى على عيشه من أن يصرف وقته في الحصول على شيء لا يعرفه إلا
القليل ممن جاوره.
(2) تعلم القراءة والكتابة يحتاج إلى زمن ليس بقصير، وخصوصًا في
بلاد ليس فيها دور للعلم ولا كتب ولا مدرسون؛ فلو سعى في تعلمهما لوجد مشقة
عظيمة ولما أمكنه إخفاء أمره إذ لا بد أن يشاهده الناس ولو مرة واحدة مع أنه كان
يجاهر بأميته على رءوس الأشهاد، ولم يوجد من يعارضه {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ
مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48) .
(3) لم يعهد عنه أنه كان يماشي أحدًا ممن اشتهر بمعرفة القراءة والكتابة
قبل نبوَّته.
(4) لو كان أحد من الناس يعلمه لاضطر النبي إلى تقديمه على أصحابه
ولأظهر له احترامًا زائدًا، ولفاه المعلم بذلك لبعض الناس مع أنه لم يحصل شيء
من ذلك مطلقًا.
(5) لم يشاهد أنه في منزله أو خارجه قبل النبوة أو بعدها كان يستعمل
قرطاسًا أو قلمًا في تأليف شيء ما، أو تدوينه. فلو فرضنا أنه لم يشاهد وهو يتعلم
فيبعد جدًّا أن لا يشاهد وهو يستعمل القراءة والكتابة في شئونه الخاصة.
(6) لو كان ابتدأ بتعلم القراءة والكتابة لا لقصد دعوى النبوة لأظهر افتخاره
بذلك وجاهر به ولو كان لقصد دعوى النبوة فمن البعيد جدًّا أن يدبر حيلة كهذه
وخصوصًا إذا أضفناها إلى غيرها مما يسميه أعداؤه حيلاً؛ فإنها تغيب عن أذهان
الفلاسفة والسياسيين؛ لأنهم إذا دبروا عدة حيل يظهر أمرهم، ولو في إحداها على
ممر الأزمان، فكيف يتأتى لواحد مثل محمد في أول نشأته أن يدبر كل ذلك بنفسه
ويكتمه حتى يصير كهلاً، ولا يفتضح أمره مرة واحدة؟ إن ذلك لبهتان عظيم.
والخلاصة: أن حاله ووسطه الذي تربى فيه كان اليتم والفقر، والجهل
والأمية؛ والأوهام، والضلال، والوثنية، وقد أحاط به فساد الأخلاق من جميع
الجهات، والتف حوله عشيرته الغارقة في بحر من الخرافات والترهات، فكيف
كان تأثير ذلك في نفسه؟ لم يكن له ذاك التأثير المعهود بل نشأ منشأ يخالف ما عليه
أهله وقومه: بغضت إليه الوثنية في مبدأ عمره. فلم يعرف عنه أنه سجد لصنم قط،
أو احتفل بمعبود مع أهله. كانوا يشربون حوله الخمور، وينغمسون في الشهوات
والفجور، وهو بعيد عنهم منكر عليهم، كانوا يشتغلون بالتافه من الأمور ويثيرون
الحروب لمسائل واهية، ولم يكن هو منهم، كانوا يقومون ويقعدون، ويتفانون
ويقتتلون لقصيدة أو بيت شعر وهو لا يحفل بذلك ولا يجاريهم عليه. ماذا كانت
حاله إذًا؟ الجد والاستقامة دأبه، والصدق والأمانة طبعه حتى عرف بين أهل
مكة بالأمين وهو في ريعان شبابه. ينهمك الشبان عادة في الشهوات ولو كانوا
معلمين مهذبين، ولكنه هو يتزوج العوان ويبقى معها إلى ما بعد الأربعين حتى حين
وفاتها ولا ينظر إلى سواها ويعيش معها بكل طهارة وعفة فلم يسمع عنه أنه ارتكب
منكرًا في زمن شبابه، أو علق بحب فتاة أو مَالَ إلى عشقها مع أن قومه كانوا
غارقين في هذه البحار، وقصائدهم تشهد بذلك. ماذا كان شغله إذًا؟ كان شغله
رعي الأغنام، ثم التجارة، ثم التعبد في الخلاء والتحنث بمناجاة الله تعالى.
قام عند بلوغه الأربعين بدعوة الخلق إلى عبادة الحق وقرر أن للعالم إلهًا
واحدًا بريئًا من كل ما ينسبونه إليه مما لا يليق به وأثبت ذلك بالحجج البينات، أمر
الناس باستعمال الفكر والعقل في كل شيء ونهى عن التقليد وحض على النظر في
الموجودات. أطلق للناس الحرية الصحيحة وحرم عليهم الخضوع لرئيس في الدين
أو لأي أحد سوى رب العالمين، ومنعهم من الالتجاء إلا إليه مباشرة وأمرهم
بالاستعانة به وحده. أعطى الروح والبدن ما يطلبانه بشرط أن لا يضر بهما ولم
يحث على المبالغة في الزهد ولا الرهبانية، بل أمر بالسعي والعمل وتصريف
الأعضاء فيما خلقت لأجله مع مراعاة أن لا يضر ذلك بالمرء أو بغيره. أباح
الطيبات وحرم الخبائث. وأمر بالعدل والمساواة ومسالمة المخالفين في الدين
ومعاملتهم بالتي هي أحسن والتوفيق بيننا وبينهم ونهى عن الإكراه في الدين وأوجب
تأمين الراغبين في النظر فيه ولو وقت الحرب {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ
فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (التوبة: 6)
إلى غير ذلك مما لم تهتد إليه الناس في الغرب إلا بعد أن وصل إليهم شعاع من نور
الإسلام في الشرق. فارجع البصر إلى تاريخ أوروبا قبل الإصلاح الديني بلوثر
وقبل الإصلاح السياسي بالثورة الفرنساوية لتعرف ما كانوا عليه. أتى مع ذلك
بجميع الأخلاق الفاضلة المعتدلة والعبادات الصالحة والمعاملات الكاملة والمبادئ
السليمة والسياسات القويمة وغيرها مما كان السبب في إصلاح أمر الإنسان وتحريره
من العبودية، وإنقاذ العقل من الأسر، ورده إلى مملكته؛ ليحكم فيها بالقسط فنهض
الشرق نهضة سريعة عالية لم يعهد لها مثيل في التاريخ، ثم امتدت إلى الغرب.
فهذه هي آثار ذلك الأمي وهذه هي أعماله فماذا يجيب الضالّون؟
زعم بعضهم بعد أن سلم بأميته أنه لابد أن يكون تلقى ما أتى به من أحد الناس
بالمشافهة؛ فيجيب بأن ذلك التلقي الموهوم إما أن يكون حصل قبل النبوة أو بعدها.
فإن كان قبل النبوة، فإما أن يكون حصل ذلك في بلاده، أو في غيرها، أما
في غيرها فهو لم يسافر إلا إلى بلاد الشام، وذلك مرتين الأولى مع عمه أبي طالب
قبل بلوغه رشده، والثانية في سن الخامسة والعشرين مع غلام خديجة وفي كلتيهما
لم يكن منفردًا ولم يشاهده أحد من التجار المسافرين معه يتلقى العلم عن أحد ولم
يغب عن قومه إلا مدة التجارة وإلا لو غاب عنهم بضع سنين لقالوا له: لعلك تعلمت
هذا مدة غيابك عنا. وهم لم يفوهوا بمثل هذا مع أنهم كانوا يحاولون أن يلصقوا به
هذه الشبهة وهي التعلم من الناس وأيضًا فأي حامل يحمل هذا الفقير الذي نشأ هذا
المنشأ الذي بيناه ولم يوجد من ينبهه ويرشد فكره لفضيلة العلم حتى يترك ما يقتات
به وهو في تلك البلاد الأجنبية وما به إرضاء خديجة التي بعثته إليها ويجهد نفسه
في البحث عن عالم ليس من أمته، ولم يكن على عقائدهم ويرضخ له حتى يبعث في
قلبه كل هذه التعليمات ويسلم له فيما خالف معتقد آبائه وأجداده؟.
وإن زعم أنه حصل ذلك في بلاده فهو غير ممكن لأسباب:
(1) أنه كان يُشاهَد يفعل ذلك، ولو مرة واحدة.
(2) أن المعلم له إما أنه كان من الوثنيين، وهذا لا يمكن أن يعلِّمه ما في
التوراة والإنجيل وغيرهما من عقائد الموحدين، وإما أنه كان من اليهود، وهذا لا
يمكن أن يعلمه أخبار المسيح وأمه والإقرار لهما بالفضل والنزاهة، وإما أنه كان من
النصارى، وهذا لا يعلمه أن ينكر لاهوت المسيح، ولا التثليث، ولا الصلب ولا
أن يرمي النصارى بالتحريف في كتبهم، ولا غير ذلك مما يوجد في القرآن من
الإنكار عليهم، وإما أنه كان من المبتدعين، ومثل هذا أولى أن يشتهر بين الناس
بنفسه أو تعرف له علاقة في التاريخ بمحمد عليه السلام تؤهله أن يتعلم منه.
(3) أي حامل يحمل هذا المعلم على إجهاد نفسه، وصرف وقته في تعليم
هذا الغريب الأمي، ولِمَ لَمْ يدعُ الناس إلى هذه الأشياء بنفسه، أو يختار أحدًا ممن
اشتهر بشعر أو بخطابة أو شيء من العلم، أو كان له جاه أو أعوان أو مال أو غير
ذلك مما يكسب المهابة في قلوب الناس.
(4) أنه من الصعب جدًّا أن يقدر أحد من الناس أن يهذب هذا الأميّ كل
هذا التهذيب، وأن يخرجه من عقائد آبائه وأجداده ويدخل في ذهنه مسائل النبوة
والوحي، والتنزيه، والتوحيد ويجعله يعتقد ذلك اعتقادًا يقينيًّا إلا إذا كان هذا المعلم
مقتدرًا عالمًا حكيمًا، ومثل هذا لم يعرف له ذكر في بلاد العرب، ولا فيما جاورها
فكيف لم يشتهر بالعلم والفضل، وأي مؤرخ لذلك العهد ذكر كلمة عن أحد مثل هذا
متمسكًا بما يوجد في القرآن من العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق
والمبادئ وغيرها.
(5) لِمَ لَمْ يُسِرّ هذا المعلم إلى أحد بأنه يعلم محمدًا ويهذبه وما الذي حمله
على إخفاء هذه المسألة وكتمها هذا الكتمان المطلق؟ .
(6) لِمَ لَمْ يُشاهد محمدًا يحترم أحدًا قبل نبوته أكثر من غيره، أو يلوذ به
ويلازمه كما هو شأن التلميذ مع معلمه؟ .
(7) أي شيء ألزمه الصبر أربعين سنة ولم يجعله يسارع إلى دعوى النبوة،
ولم لم يبادر إلى سرد القصص التي تعلمها مرة واحدة. وكذلك الأحكام والعقائد
وغيرها خوفًا من الذهاب من الذاكرة والنسيان، وهو الأمي الذي لا يمكنه أن
يستعمل مذكرة لشيء مطلقًا خوفًا من أن يطلع عليها أحد وهي معه. شأن الذي يريد
أن يدعي شيئًا مثل هذا أن يظهر عليه عدة محاولات تدل على ما تطويه سريرته،
ثم يتجرأ فيزداد شيئًا فشيئًا، لا أن يسكت أربعين سنة ثم يندفع بدعواه مرة واحدة
بعزيمة واحدة قوتها في الأول كقوته في الآخر.
(8) كيف أن هذه الفكرة لم تأخذ بلبه ومشاعره فتجعله مشتغلاً بها طول
السنة؟ وكيف يتناساها أحد عشر شهرًا ويشتغل بها شهر رمضان فقط من كل سنة
فيستعد فيه لما سيدعيه كما يزعمه أولو الأهواء في عزلته السنوية؟ عادة المفترين
أن تأخذ مثل هذه النيات بحواسهم وعقولهم حتى يظهر للناس أنهم دائمًا في انشغال
بال، ولكن النبي ما كان يشغله شيء عن شيء وإلا لأنهك الفكر بدنه، وصار سقيمًا،
وكلت قواه العقلية من كثرة الحيل، وتعدد الصعوبات التي كان يلاقيها فتضعف
عن أن تدبر كل ما كان يدبره لولا الإرشادات الإلهية، والإلهامات الربانية وكيف
علم أنه لن ينقضي أجله حتى يتم القرآن في آخر سنة من حياته ويأمن على نفسه
فيأتي به نجومًا نجومًا؟
وإن كان التعلم حصل بعد ظهوره بالنبوة:
(1) فكيف ابتدأ دعواه على جهله، وأي منبه قام بفكره حتى حمله على ذلك
وكيف ضمن أنه يجد من يعلمه.
(2) لِمَ لَمْ يشاهَد مرة يلجأ إلى أحد الناس ليتعلم منه؟ .
(3) لِمَ لَمْ يقدِّم هذا المعلم ويفضله على أصحابه أو يوصي له بالخلافة ولِمَ
بقي معلمه مرءوسًا له، ولم يكن رئيسًا عليه؟ (راجع أيضًا الأوجه السابقة) .
(4) لِمَ لَمْ يوجد بين أصحابه من كان يأنف من أن يتلقى العلم عنه ويخضع
لأمره وينتهي بنهيه، فأين كان هذا المعلم حتى ساوى نفسه بأصحابه؟ هذا ولم
يعرف أحد بينهم ممتازًا بعلم سوى ما أخذه بإقرارهم جميعًا عن كتاب الله وحديث
رسوله فإن كان هذا المُعلم موجودًا في عصر النبوة، فلِمَ لَمْ يشتهر قبل دعوى محمد
بالعلم الفلسفة؟ ولِمَ أخفى نفسه حتى ادَّعى محمد النبوة؟ ولِمَ لَمْ يظهر بين العرب حتى
تجلّه وتحترمه احترامها لمحمدٍ؟ وأي شيء استفاده حتى يكتم كل هذا؟ فيالله من
التعصب الذي يُعمي ويُصمّ.
علمت مما تقدم أنه كان أميًّا، وأنه لم يتلق العلم عن أحد شفاهيًّا فكيف أتى بما
أتى؟ وكيف عمل ما عمل؟ شيء آخر في تاريخه، وهو أنه لم يجارِ العرب في
الاشتغال بالشعر، أو النثر، أو الخطابة، أو غير ذلك مما كانت تتفانى فيه العرب
ولم يشتهر بينهم بشيء من ذلك مطلقًا ولم ينقل عنه أنه قال كلامًا في منتهى البلاغة
قبل نبوته وكان قليل العناية بمجتمعاتهم وافتخارهم بنثرهم ونظمهم فكيف أتى بهذه
البلاغة الخارقة للعادة؟ وكيف أتى بهذا الأسلوب المعجز واخترعه؟ وكيف لم
يوجد فرق في البلاغة بين أول ما نزل من القرآن وآخره مع أن العادة أن الإنسان
يتدرج في الشيء فيكون آخر ما أتى به أحسن مما ابتدأ بإنشائه؟ وكيف يكون الكل
معجزًا مع أن المعتاد من البلغاء أن يكون بعض كلامهم في منتهى البلاغة والبعض
الآخر ليس كذلك؟ كيف لم تجد العرب إعجازًا في كلامه الذي ينسبه لنفسه قبل
النبوة أو بعدها؟ مع أنه لم يظهر عليه شيء يدل على عنايته بإنشاء أحدهما دون
الآخر، بل كثيرًا ما كان يقول أحدهما في عين الظروف التي يقول فيها الآخر بدون
تكلف أو تحوير فيما يلقيه من أول وهلة. كيف أمكنه الجزم بأن جميع الناس لن
تقدر على الإتيان بكلام مثل القرآن منفردين ومجتمعين، ويخبر بذلك قبل وقوعه
ويصدق خبره {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا} (البقرة: 24) الآية وغيرها فما هذه
الحجج الملجمات؟ وما هذه البراهين المفحمات؟.
قام بالدعوة إلى الله وحده، ولا حول له ولا قوة، والناس حواليه أحباء ما
ألفوا أعداء لما دعوا إليه. فسفه آراءهم. ونكس أصنامهم. ولاقى بسبب ذلك منهم
ما لاقى ما يثبط الهمم ويذهب بالعزائم، لولا تثبته في أمره وجزمه بالظفر والنجاح.
نجا من جميع الشراك التي كانت تُنصب له في الحروب وغيرها، وسَلِمَ من الدسائس
التي كانت تعمل له والتربصات لقتله غِيلةً، التي كانت تعقد عليه، ووعد أصحابه
بالنصر والفتح والتمكين في الأرض والخلافة، فوقع كل ذلك لهم، وصدق في جميع
ما أخبر به من المغيبات. تحققت نبوته وصح إخباره بانتصار الروم على الفرس
في السورة المعروفة مع أنهم كانوا في حالة لا يرجى معها نصر لشدة ضعفهم وقوة
عدوهم، وهو لم يكن من السياسيين ولا المطلعين على مواقع البلاد وأحوال الأمم
وتاريخها فكيف يتأتى له الحكم بشيء مثل هذا ويعرض نفسه للتكذيب والخذلان مع
أن المسألة ليست مما يهم كثيرًا، حتى يبت الحكم فيها؟ فلولا ثقته بالوحي لما تجرَّأ
على القول بأنهم سيغلبون في بضع سنين، وعرض نفسه للسخرية والتكذيب وهو
أحرص الناس على عدم افتضاح أمره كما يقول أعداؤه. وإذا صحت قراءة من قرأ
(سيغلبون) بالبناء للمجهول، أي أن المسلمين تغلبهم ففيها أيضًا الإخبار بمغيب لو لم
يقع لظهر كذبه! . اجتمعت عليه العرب مرة أحزابًا واتحدوا على محو ذكره من
الوجود انتقامًا. فأرسل الله عليهم ريحًا وألقى في قلوبهم الرعب من غير سبب ففروا
انهزامًا. وكفى الله المؤمنين القتال. فما كل هذه المصادفات إن صح ما يقول
الواهمون الذين يتمحكون بهذه التأويلات الفارغة ويتمسكون بالتعليلات الباردة.
سمعت من بعضهم بعد أن أدهشه الدليل بأن النبي لم يتعلم من واحد مخصوص قولاً
يريد به تسكين نفسه وتهدئة خاطره، وهو أنَّ ما كان يسمعه النبي ممن حوله من
الناس في مسائل الدين سهل عليه الإتيان بما أتى به، وأنه كان يتصيد معلوماته
ممن جاوره من النصارى واليهود باستراق السمع منهم فأقول له: مهلاً أيها المعجب
بتفسيراته، المغرور بتعليلاته، واستمع لما سأتلو عليك وأنت شهيد، ولا تكن ممن
عن الحق يحيد:
إنه لم يكن في مكة من أهل الكتاب إلا أشخاص يعدون على أصابع اليد
الواحدة، وكانوا من أجهل الناس، وأحطهم مقامًا في الهيئة الاجتماعية، وكانوا
يحترفون بدنيء الحرف، كخدمة بعض العرب أو الاتجار في بعض أشياء حقيرة.
وقد نزل في مكة من القرآن ما كان محمد في أشد الحاجة إلى من يلقنه إياه فهل يسلم
العقل أن علم محمد مستفادة من هؤلاء الأشخاص؟
هبْ أنه كان يتصيد المسائل من نصارى العرب ويهودها، فكيف أمن من
الوقوع في خرافاتهم التي يجزم العقل ببطلانها كقصة شمشون، وما يتعلق بقوته
وشعره ونحو ذلك من الأوهام التي كانت ولا تزال منتشرة بين النصارى واليهود إلى
اليوم؟ لم تنزَّه كلامه عن أضاليلهم في المسألة اللاهوتية كعقائدهم في المسيح
والصلب والتثليث، ومصارعة الله بعض الأنبياء، وظهوره بمظهر شخص لم يترو
فيما فعل فندم بعد ذلك على ما وقع منه كأنه لم يكن يعرف عواقب الأمور؟ أليس
من المعهود أن الإنسان يقع في بعض غلطات من كان يجعل كلامهم معتمدة فيما
يعتقد أنه صواب؟ فلماذا لم يقع محمد في خطأ واحد من خطئهم؟ !
كيف سلم كلامه من الغلطات في المسائل العلمية التي كانت منتشرة بينهم في
ذلك الوقت كاعتقادهم أن الشمس وقفت لفلان، أو رجعت بعض درجات، وأن
الحية لا تأكل إلا التراب، مع أنها لا تأكل التراب، وكالأوهام في شأن جنة عدن
وما ذكر معها من الأنهار مما لا يصدق به إلا الجهلة من أهل التخريف إلى غير ذلك
مما كان ذائعاً بينهم ولا يزال إلى الآن. هل يعرف الأمي الذي نشأ في وسط الجهل
وفي زمن الجهل ما صح من المسائل وما فسد منها حتى إنه لا يقع في كلامه إلا
الصحيح مع أن انتشار الخرافات والأقوال الفاسدة كان بحيث إذا كلف فليسوف
بانتقادها واختيار صحيحها لوقع في الوهم، ولحكم على بعض الصحيح بأنه باطل
وعلى كثير من الباطل بأنه صحيح، وخصوصًا في ذلك الزمن، وفي تلك البلاد
العربية التي كان فيها العلم عبارة عن مجموع خرافات للعجائز اختلطت بشيء لا
يخلو من الصحة من بعض الوجوه؛ فما بالك بمحمد الأمي والرجل العامي؟ .
أيتصور أن هذا الرجل الذي كان يعتقد في أهل الكتاب أنهم غاشون ماكرون
يحرفون الكلم عن مواضعه، ويفترون على الله الكذب، ويكتبون الكتاب بأيديهم،
ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلا، أيتصور منه وهو يعرف كل هذا
عنهم أن يثق بأقوال يسمعها من أفواه الجهلة منهم، ويزعم بعد ذلك أنها من عند الله
مع أنه ما كان يثق بقول أعظم عالم من علمائهم، بل كان يرميهم بأنهم لا يفهمون
حقائق ما عندهم من الكتاب، وأنهم يختلقون أشياء كثيرة لتضليل عامتهم وغشهم؟
فكيف يعول النبي الذي لا ينكر أحد رجحان عقله على قولهم مع أنه شرح للناس
مكرهم وكذبهم، وكيف لا يخاف أن يكذبوا عليه ويغروه ويقعوه في الخطأ الذي لا
يمكنه التخلص منه. وكيف يسلم لأحد منهم ما يقوله في دينه مع أنه يجوز أن يكون
مخطئًا، ولا أثر لما يقول في الدين لما نشاهد ذلك كثيرًا في المسلمين، وغيرهم فكم
من غلط وقع فيه الكُتَّاب الغربيون أثناء كلامهم عن الإسلام وعن عقائدهم بسبب ما
يسمعونه من جهلة المسلمين.
هل يمكن للعامي الأمي إذا سمع خليطًا من قصص بني إسرائيل من أفواه آحاد
الناس في مجالسهم مشوهة ممزوجة بكثير من الخرافات كما هو شأن العامة في
أحاديثهم غير مرتبة على حسب وقوعها، وغير مفصلة تفصيلاً يزيل ما اشتبه على
الأفهام بحيث لا يُدرى صحيحها من كذبها، أن يفهم منها حقيقة تاريخهم وعقائدهم
ودعوى أنبيائهم، ويأتي بعد ذلك بتفاصيل أهم حوادثهم، وذكر أعظم رجالهم وما
حدث لهم ويشير إلى ترتيب أزمنتها وإلى بعض البلاد التي وقعت فيها وإلى موقعها
الجغرافي، كأن يومئ إلى موقع البحر الأحمر بالنسبة إلى مصر بقوله: {فَأَتْبَعُوهُم
مُّشْرِقِينَ} (الشعراء: 60) ويأتي على القصص الطويلة كقصة يوسف وموسى
وإبراهيم ولوط وغيرهم ويعرف نسبة كل منهم إلى الآخر ويرتبها على حسب
ترتيبها الطبيعي من غير تقديم أو تأخير في حوادثها، أو يخلط فيها مع أن هذا
التاريخ أجنبي عنه وعن قومه ولم يدرسه دراسة تمكنه من أن يكتب إحدى حوادثه
الكبيرة؟ تصور حالة عامي من عامة المصريين إذا سمع أقوالاً متفرقة متشعبة من
أفواه بعض جهلة الأوروبيين عن تاريخه فهل يمكن هذا العامي أن يأتينا بشيء
عظيم صحيح من تاريخه مثل ما أتى به القرآن، ويسرد علينا آراءهم ومبادئهم
ومعتقداتهم، ويذكر أهم رجالهم ونسبتهم وتاريخ حياتهم وما أتوا به من الإصلاح في
بلادهم وينبه على وجوه العبرة في كل ما يقص علينا، وعلى ارتباط الحواث
بعضها ببعض، ولا يذكر إلا الصحيح منها، ويترك الأباطيل التي ألحقتها الأوهام
بها. قل لي بأبيك هل هذا ممكن؟ يزعم البعض أن في القرآن خطأ في هذه المسائل،
ويأتوننا بأشياء تعد على أصابع اليد الواحدة، ويزعمون أنها غلط من غير اعتماد
على دليل صحيح يعتد به.
فلو كان مصدر القرآن كما يقولون، هل كنا نجد فيه هذه الغلطات القليلة؟
(على زعمهم) فقط غير الثابتة، أم كنا نجد كل صحيفة ممتلئة بالأوهام والخرافات
والخلط في المسائل والخبط من غير اهتداء إلى صحيحها وذلك من غير كثير عناء
وتعب، بل مجرد مطالعتها كان يضحكنا ويجعلنا نهزأ بها ونتعجب من ترهاتها
وخصوصًا في زماننا هذا الذي صار فيه تلامذة مكاتبنا يضحكون من أفكار
بعض فلاسفة من سبقنا، ويتفكهون بذكرها ولا نحتاج إلى البحث والتنقيب،
وصرف الوقت في الحصول على هفوة قلّ أن تجدها في القرآن وإذا وجدناها؛ فإنها
لا تلبث أن تزول بعد التروي والتأمل والتعمق في البحث. فهل هذا هو ما ننتظره
في قول العامي المصري الذي ضربناه لك مثلاً أم كنا نستلقي على قفانا من الضحك
عند سماع بضعة أسطر من كلامه في المسائل الطبيعية، والتاريخية، والعمرانية،
والأخلاقية واللاهوتية والشرائع المدنية والعبادات الدينية - إذا حاول أن يملي علينا
شيئًا من ذلك؟ استحضر الآن في فكرك ما أتى به القرآن.
أليست الشريعة الإسلامية تضارع أعظم الشرائع كالرومانية وغيرها؟.
أليست الأخلاق المحمدية أكمل الأخلاق لتقويم النفوس مع خلوها من الضعف،
وما يوجب المسكنة وإذلال النفس وغير ذلك مما ورد في غيرها من التفريط أو
الإفراط؟
أليست قصص القرآن عبرة لمن اعتبر مع بُعدها عن سفاسف الأمور،
واللغو الذي لا فائدة فيه؟ قارنها ببعض أسفار العهد القديم مثلاً كسفري الملوك
وأخبار الأيام.
أليس من المبادئ الإسلامية ما لم تهتد الناس إليه إلا في العصر الحاضر؟ .
... ... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق صدقي
... ... ... ... ... ... ... ... ... حكيم بسجن طره
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(8/417)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]
التربية بالتأثيرات الطبيعية
يوم 14 أغسطس سنة -186
صادفنا غداة اليوم على مقربة من ليما زنجيًّا آتيًا إليها يلتمس رزقه من عرض
حيوان يسمى البوما، وهو الممثل للأسد في أمريكا كانت قبلية من المتوحشين
اصطادته حيًّا، وكان ربه وهو شبه مشعوذ يؤمل أن ينال بعض النقود من عرضه
على النظار.
كان هذا الرجل على شدة فاقته، وعجزه عن القيام بنفقة نفسه مصحوبًا بصبية
زنجية عليها طمر أزرق، رأيت في مشيتها قزلاً؛ فسألتها بالإسبانيولية التي لا
أحسنها عما أصابها فجعلها تعرج كما رأيت؛ فكان جوابها أن أرتني إحدى ساقيها
فإذا فيها جرح دامٍ، ورأيت قدميها قد ورِمتا ورمًا مفرطًا، ولما أمعنت النظر في
ساقها المجروحة عثرت على طرف شوكة غليظة في سمك لحمها، وهي التي تسبب
عنها الجرح قطعًا، ثم خبث بما اعتوره من المشي والوصب ولدغ الحشرات؛ فإن
هذين المسافرين كانا آيبين من مسافة بعيدة جدًّا.
ما زلت بهذه الشوكة حتى نجحت في سلها، ثم ضممت أجزاء الجرح بعضها
إلى بعض، ولما لم أجد خرقة أعصبه بها ناولتني (لولا) منديلها، ولم تقتصر
على ذلك بل دعتها رحمتها بهذه الفتاة إلى خلع نعليها ووضع قدميها المرضوضتين
فيهما فلائمتاهما أشد الملائمة كأنما صنعتا لهذه المسكنية فأعربت (للولا) عن
شكرها، ثم غادرناهما ومضينا في سبيلنا.
انبعثت (لولا) إلى عملها هذا بباعث من بواعث الخير القلبية، إلا أنها ما
لبثت أن أدركت صعوبة الاحتفاء في أرض صلبة خشنة كأرض البيرو، فإن طرقها
لا مشابهة بينها وبين مخارف البساتين الكبرى في إنكلترا.
أنشأ (أميل) أولاً يسخر من حيرة صديقته في مسيرها حافية، ولكنه لتأثره
من صنيعها دبت فيه النخوة فاحتملها على ظهره فقبلت ذلك مبتسمة.
إن الباقي من طريقنا لم يكن طويلاً جدًّا ومع ذلك وقف (أميل) في أثنائه
للاستراحة مرتين أو ثلاثًا متبعًا في ذلك نصيحتي، وفي آخر وقفة منها بصرنا من
بعيد بالمشعوذ يقود البوما، وعرفت (لولا) الصبية الزنجية وقد خلعت النعلين
وحملتهما في يدها، فما كان أشد غمها لهذا المرأى، انظر كيف بخستها منحتها وكيف
استعملتها.
فسرّيت عنها ما خامر قلبها من الكدر بأن قلت لها: إن العادة طبع ثانٍ، وإنَّ
هذه الصبية لا بد أن تكون تعبت من الانتعال لاعتيادها الاحتفاء على أن نية إسداء
المعروف محمودة على كل حال، ولو أخطأ صاحبها فيما يتخذه من الوسائل لإيصال
النفع.
والذي رأيته خيرًا من هذه العظة كلها هو أن ما وجده قلبها الطاهر من السرور
باحتمال (أميل) إياها قدر لها فيما أرى على أن الإنسان لا يخسر شيئًا مما يسديه
من المعروف. اهـ
يوم 28 أغسطس سنة -186
زرنا بعض أجزاء من جبال الفورديير ولم يكن سبق (لأميل) أن شاهد مثل
هذه الجبال التي يصح أن تسمى بالألب [1] الأمريكية؛ فراعه كل الروع ما لهذا
الخلق الهائل من مظاهر الفخامة والعِظَم مع أننا لم نبلغ منها إلا أدنى شعافها.
لا بد لي أن ألاحظ هنا أن القدماء كانوا قليلي التأثر بما للجبال الشامخة من
المحاسن الرائعة؛ فإنا لم نر لشعراء اللاتين من الكلام فيها إلا النذر اليسير، ومعظم
ما قالوه استهجان واستقباح، وقد يحدو بي ذلك إلى القول بأنه كان يلزم أن يدهمهم
من الكوارث المحزنة ما تهتز له نفوسهم، وأن تستضيء بصائرهم بنور العلم،
ويتمكن منها الاستعداد للبحث والتنقيب الذي هو من مزايا العصور الحديثة، ولو تم
لهم هذا لأدركوا أن في سيارنا الذي نعيش على ظهره من المظاهر الهائلة البديعة ما
يدعو إلى الإعجاب الحقيقي اهـ.
يوم 2 سبتمبر سنة - 186
كسبت (لولا) دعواها وإن شئت قلت خسرتها فكلا القولين صحيح باعتبار
جهة النظر.
اضطررنا للمصالحة في هذه القضية الكثيرة الارتباك لما يقتضيه الفصل فيها
من الانتظار أشهرًا بل سنين، فعرض على الخصم أن يعطوا لبنت السفان
مقدارًا زهيدًا من النقود وبعض ما كان لوالدها من الأرضين. والأرض هاهنا لا
قيمة لها اليوم أصلاً ما لم يستغلها صاحبها بنفسه أو بواسطة وكيل له يقيم في هذه
البلاد.
فأما أنا وهيلانة فما جئنا لنقيم في (ليما) بل قد انتهت مهمتنا ولم يبق إلا
السفر لا سيما أني تلقيت مكتوبًا من الدكتور وارنجتون يدعوني إلى لوندره لامور
نافعة لي بينها فيه، وأما قوبيدون وجورجيا فإنهما خبيران بفن الزراعة خصوصًا
زراعة الأقطار الحارة، وليسا من ذوي العقول الضعيفة وأمانتهما تقوم بكل ما في
بلاد البيرو من الذهب ولا أرى ما يمنع من العهد إليهما بزراعة أطيان (لولا) .
وإنه ليشق علي مفارقة هذين الشهمين، غير أني أرى أن إقليم إنكلترا لم
يخلق لمثلهما من الزنوج، وأما إقليم جنوب أمريكا فإنه يؤذن بأن سيكون لهما فيه
بتوالي الأيام مناخ جميل ووطن سعيد. اهـ
رجعت السفينة التي كانت حملتنا من لوندره إلى قلاو منذ ثلاثة أسابيع ويعلم
الله متى يكون مجيئها ولهذا رأينا بدلاً من اجتياز رأس القرن أن نركب هذه المرة في
سفينة تجارية على نهير الأمازون [2] تسير بنا والشاطئ حتى نبلغ سواحل البرازيل
حيث نجد سفينة تكون مسافرة إلى إنكلترا فإن هذه الطريق أقصر من الأولى بمسير
عشرين يومًا.
تنوي (لولا) أن تعود معنا؛ لأن بلادها لقلة ما عرفته منها لم تبعث في
نفسها شيئًا من الرغبة في توطنها، ولأنها تعلم فوق ذلك أننا نحبها.
ما ندمت على هذا السفر بحال (فأميل) قد مضى وقته هنا في الالتفات إلى
العلم والإمعان في مسائله؛ فهو يعود إلى بلاده الآن ناقلاً إليها مجاميع في علم
التاريخ الطبيعي، بل حاملاً ما هو خير له منها: ضروب الانفعال الكثيرة بما رأى
وصنوف الذكر لما وعى، وقد تربى طبعه في مدرسة الاختبار والحياة التي لا يربي الرجال غيرها.
نعم، إني لا أعني بهذا القول أن ألزم جميع من هم في سنه من المراهقين أن
يبتعدوا عن أوطانهم بقدر ابتعاده، ولكن رأيي الذي لا أحول عنه هو أنهم لو خرجوا
قليلاً من أصدافهم ورأوا الكون في الكون قبل أن يروه في الكتب؛ لغنموا من ذلك
أكثر مما يتوهم. اهـ.
الكتاب الرابع في تربية الشباب
المكتوب الأول من (أميل) إلى والده
وصف معيشته - نادي الطلبة الألمانيين ومحاوراتهم - تهافتهم على خدمة
الحكومة تفكر (أميل) في أمره - تألمه من عدم فهمه اللغة الألمانية - ذكره (لولا) -
استيحاشة من غربته.
برلين في 8 يناير سنة -186
انتظمت في سلك المدرسة الجامعة بعد امتحان كان لا بد من تأديته وصرت
ادعى منذ أسبوع بالسيد الشاب.
من المفروض علي أن أكاشفك بشيء من تفاصيل معيشتي وأنا طالب: أما
نهاري فأصرفه في تلقي دروس الحكمة والتاريخ والقوانين وعلم تركيب الحيوان
والنبات ومنافع أعضائهما والمقارنة بين اللغات وغير ذلك وأما ليلي فأقضيه في
مسكن استأجرته ستة أشهر بنحو مائة وخمسين فرنكًا، وأما طعامي فأتناوله في
مطعم على مائدةٍ جامعة في مقابل أربعة وعشرين صولديًّا [3] وبعد العشاء تارة آوي
إلى حجرتي، وطورًا أتنزه في المدينة، ولكوني أجنبيًّا لما أطلع على أسرار طائفة
الشبان كلها على أن أحدهم قد أخذني معه ذات ليلة إلى مدخن (مكان لتدخين التبغ)
يجتمع فيه بعض الطلبة الألمانيين؛ فما فتح بابه حتى رأيتني تائهًا مغمورًا بسحاب
مركوم من الدخان، حال بيني وبين رؤية جدران المكان وسقفه، بل رؤية المكان
برمته، وكان يخيل إلي أنه يمتد إلى غير نهاية، وكنت أسمع أصواتًا وأغاني
وقهقهات ولا أبصر شيئًا من الصور الحية، وأرى أضواء حمراء تبدو في بعض
جهات هذا المكان يغشاها ذلك السحاب كأنما تسبح منه في بحر لجي وكنت أمشي
كخابط ليل وراء الدليل، وعلى مقربة منه بين صفين من الموائد خيل إليّ أنها تعوم
في الضباب، ورأيت عليها رؤية غير مستبينة آنية من القصدير كان لمعانها المعدني
يجهد في صدع حجاب الظلام الدخاني المنسدل على القاعة كلها، ثم لمحت من
خلال هذه الآنية وجوهًا آدمية؛ لأن بصري كان يتدرج في اعتياد هذا الجو الغريب
والأنس به، ولم يكشف عني الحجاب كشفًا تامًّا إلا عندما بلغت نهاية القاعة حيث
أقيم مصطلى عظيم؛ فرأيتني في جمع حافل من الشبان على رءوسهم القلنسوات
وفي أيديهم أكواب الجعة، وبين هذا التشويش واللغط عثرت على حلاق من الطلبة
قامت بينهم مناظرات في مسائل مهمة، ولم تعقهم عن مداومة الشرب والتدخين.
إن أذني لم تعتَدْ سماع الأصوات الألمانية اعتيادًا يكفي لمتابعة مجرى الحديث
وفهمه، ومع ذلك قد فهمت من فحوى ما سمعته أنهم يتناظرون في مقاصد ووسائل
بعضها أسمى من بعض تتعلق بإصلاح أحوال البشر، وكانت البراهين والنكت
والمعاني تنبعث من أفواهم كأنها سهام نارية تنقذف بين أنفاس الدخان، ولما انتصف
الليل غادر القاعة جميع الطلبة؛ ورأيت بعض من لاحظت فيهم الحمية والغيرة على
مصالح الإنسان منصرفين إلى بيوتهم، وقد جعلوا يغنون جهارًا في وسط الشارع
أغاني مبتذلة؛ ولم يبد عليهم حينئذ ما يدل على أنهم ذاكرون لما تعاهدوا عليه من
اصطلاح شؤون الكون.
أخص غاية للطلبة من اختلافهم إلى المدارس الجامعة هنا بحسب ما سمعت
هي أن يلوا عملاً من أعمال الحكومة فكلهم يؤمل أن يكون خادمًا لها على تفاوت
بينهم في ذلك، فإذا حصل أحدهم على لقب دكتور مثلاً؛ رأيته يتقدم إليها حاملاً
شهادته راجيًا أن توليه أحد الأعمال الخالية في إدارتها ومعظم هذه الأعمال لا يولَّى
إلا بالامتحان، ولا يناله إلا من يظهر أنهم أعلم من غيرهم، وحينئذ يعول الذين
يخيبون فيه على الاشتغال بالأعمال المستقلة، ولا أدري أهذه الحالة وهي فرط الرغبة
في تقلد المناصب العامة هي التي ينبغي أن ينسب إليها التغير الذي يحصل
في عقول شبان الدكاترة عند خروجهم من الجامعة أم له سبب آخر.
فالواقع هو أنه ليس بين أخلاق الطلبة وأخلاق غيرهم من الألمانيين أدنى
مشابهة. الطلبة يتظاهرون بالتنفج [4] والشذوذ والعربدة، ويخيل إلى من يرى
غيرهم من الألمانيين أنهم ممتلئون سكينة بل جمودًا وبلادة، والأولون مشهورون
بالميل إلى الثورة وبحب الحكومة الجمهورية، وبعدم المبالاة بالخوض في أي بحث
نظري، وبالهجوم على جميع المسائل سياسية كانت أو دينية أو قومية بما يدهش من
جرأة الجنان، وبقية الأمة يظهر عليها التشدد في الاستمساك بالعوائد القديمة
وبالحكومة الملكية. وترى الطلبة يتباهون باحتقارهم جميع المميزات التي لا منشأ
لها إلا اتفاق النسب على حين أن أواسط الناس يجلون ألقاب الشرف إجلالاً لا حدَّ
له، فترى الفريقين كلمتين متمايزتين، وليس للطلبة في الحقيقة ارتباط بباقي الأمة
إلا رغبتهم العظمى في أن يلوا لهم بعد مبارحة الجامعة أعمال رسمية، على أن هذا
الارتباط كاف في عدم اكتراث الحكومة كثيرًا بما يبدونه من حدة أفكارهم الحرة.
دعتني سيرة هؤلاء الشبان إلى التفكر في سيرتي؛ فإني قد بلغت التاسعة
عشرة من عمري، ولا مقام لي بين الناس، بل لم يقف بي الاختيار حتى الآن على
صناعة نافعة أشتغل بها، وإذا أردتني على الإقرار لك بما أجده قلت إني أحيانًا آنس
من نفسي فتورًا في الهمة، وضعفًا في العزيمة، وأسائلها عما أصلح له من الأعمال،
وأنا ضائق بذلك صدرًا، نعم إنك قد رأيت مني تقدمًا سريعًا مناسبًا لحالي في
العلوم، ودرس كتب المتقدمين في أربع سنين أو خمس مضت، وما ذلك ولا شك
إلا من الطريقة التي أهلتني بها أنت ووالدتي للعمل العقلي، وهي مراقبة الأمور
والأسفار، وما تلقيته منكما من الدروس النافعة، ولا أشك أن لي طمعًا في العلم
ولكني أجهد فكري في استقصاء ما يعوزني من الخصائص، فآونة أتوهم أني أحس
في نفسي بروح إلهي يقدرني على كل شيء، وساعات يخيل إلى أني قد فنيت في
عجزي، وتجردت من حولي وقوتي، وتارة تملكني الأفكار وطورًا يستحوذ علي
وجدان الحاجة إلى العمل، والذي أراه يقينًا أني لم أجد إلى الآن استقامة واستقرارًا
فيما لنفسي من القوى إن صح أن يسمى بها ما لشاب مثلي من الشهوات القوية التي
تدعوه إلى السعي لإدراك مقام له في هذه الدنيا.
لما بلغت ليما منذ شهرين كنت أعتقد أني على علم باللغة الألمانية لما قرأته
منها في الكتب؛ فما لبثت أن تبين لي خطأي في ذلك ومنشأ هذا الخطأ أني كنت
أحسن قراءة الصحف، وعناوين الحوانيت، وأسماء الشوارع، وما على الجدر من
الإعلانات فإن الجدر هنا كما تعلم تتكلم بالألمانية، فإذا جرت حولي المحاورات
أصغيت إليها؛ وما كنت أسمع إلا أصواتًا لا أفقه شيئًا من معانيها فكنت مطلق
البصر، أسير السمع؛ لأن من الأسر المعنوي الحقيقي أن يعيش الإنسان بين قوم لا
يفهم لغتهم. كان الغلام الذي في الثالثة من عمره وهو في هذه السن لا يعرف من
هذه اللغة إلا التعلثم ببعض ألفاظها يعرف منها أكثر مما أعرف حتى إني لما كنت
أحاول مخاطبته كان يُنغض إليّ رأسه استهزاء كأنه يقول: (إليك عني، إني لا أفقه
لك قولاً) كنت بين أولئك القوم كالأصم الأبكم الذي فقد كل وسيلة للتفاهم
حتى لغة الإشارات، فهل يمكن أن ينشأ عن الأمواج الصوتية إذا اختلف انتقالها
إلى الأذن اختلافًا يسيرًا باختلاف كيفية تحريك الشفتين مثل هذه الحوائل والحجب
التي تبعد الناس بعضهم عن بعض.
استأت جدًّا من هذه العزلة فجاهدت جهادًا عظيمًا في التجرد من الانكماش الذي
أجده من حيائي الطبيعي، وأنشأت اليوم أنطق بالألمانية نطقًا مفهومًا، وإني لا علم
أنه لا يزال يعوزني تحصيل الكثير منها، ولكن من هو في مثل سني قد يبعد أن لا
يحصل في قليل من الزمن لغة هو لا ينفك يسمع أصواتها من أفواه جميع الناس في
هذه البلاد، وليس أصعب ما في هذه اللغة التكلم بها فيما أرى، بل هو فهم ما يسمع
من التحاور بها بين اثنين من أهلها، فقد كنت ذات مرة في الملعب وكان اثنان من
الممثلين يتحاوران فما استطعت في سرعة تحاورهما أن أفهم كلمة منه اللهم إلا ما
كان من تحية المساء وهي: (ليلتك سعيدة)
مثل اللغات الأجنبية إنْ لم أكن واهمًا كمثل دخان التبغ بالنادي الذي حدثتك
عنه في كونه كان يحجب عني بادئ بدء رؤية ما كان فيه من الأشياء والأشخاص،
فهي حجاب سيزول على التعاقب، وآمل أن سيظهر لي النور عما قليل.
أرجوك أن تنوب عني في تقبيل (لولا) وأود لو أدري هل هي مواظبة على
سقي الأزهار، وتمام العناية بالطيور، وتنسيق مجاميع الأعشاب والدفائن وآمل
منك إيصاءها بأن تذكرني كما أذكرها.
إذا أنا كتبت إليك فقد كتبت إلى والدتي فأنتما في قلبي لا تفترقان؛ ولهذا لا
أزيدها شيئًا إلا أسفي على حرماني من حجرتي الصغيرة التي كنت أسمع منها حركة
غدوكما ورواحكما في البيت، وعلى أُنسي بقربكما عند اصطلاء النار ليلاً فإني هنا في وحشة أي وحشة. أختم لك هذا المكتوب في الساعة الحادية عشرة من
الليل على ضوء مصباح يعلوه عاكس ضوئي يسقط منه نور ضارب إلى الحضرة، وفي إحدى زوايا حجرتي ساعة دقاقة من الصنف الذي يصوت كطير (الكوكو)
عند انقضاء كل ساعة تكرر (تكتكتها) التي لا تغير، وأسمع حسيس احتراق الحطب
في التنور، وصرير الباب من صفق الريح إياه، وأرى البدر من خارج الحجرة
شاحب الوجه يرنو إلي من خلال ستارتين كبيرتين موشاتين بالأشجار والأزهار ما
بين بيضاء وحمراء، وقد أحسست بإغريراق عيني مع أن هذه الأشياء في ذاتها لا
تدعو إلى الحزن، ولكن لا تلمني فإني ما زلت طفلاً، ولست آسى على بلادي وإنما
آسى على مفارقة مهدي؛ فإني أحبكما وأرجو من هذه الجهة على الأقل أن أعيش طول عمري طفلاً.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
(1) جبال الألب، هي سلسلة جبال عظيمة في أوربا.
(2) المعروف أن الأمازون أكبر أنهار الدنيا ولعل المؤلف يريد بقوله نهير أحد فروعه القريبة من ليما.
(3) الصولدي جزء من عشرين جزءًا من الفرنك فقيمة طعامه هي فرنك وربع.
(4) التنفج افتخار الإنسان بأكثر مما عنده.(8/427)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
(تاريخ الأستاذ الإمام)
إن التربية بناء يوضع على أساس القدوة، ويرفع على قواعد الأسوة، فسِير
عظماء الرجال، أنفع ما يذخر للأجيال، وإن العبرة بسِير المعاصرين أقوى من
العبرة بسِير الغابرين؛ لأن عامة الناس عندنا تعتقد أن الأولين من عنصر أزكى،
واستعداد أقوى، فلا يضرب معهم المتأخر بسهم، ولا يدانيهم في فضل أو علم
لذلك رأينا أن من أنفع ما نخدم به الأمة وضع تاريخ مطول للأستاذ الإمام -
رحمه الله تعالى- وقد نوهنا بذلك فيما نشرناه من سيرته. ونريد أن نقول هنا: إن
ورثة الفقيد وأصدقاءه ومريديه الذين نعرفهم هنا عون لنا على هذه الخدمة، ونرجو
من إخوانهم في الصداقة والوفاء من سائر الأقطار أن يتفضلوا علينا بما يرون من
النصائح، وما يعرفون عن الفقيد من الأعمال والمآثر مما يخفى مثله علينا، ويُظن أن
لا يكون وصل إلينا، كبعض الكتب والرسائل، وما رأوا من الأعمال أو سمعوا من
المسائل. ومن أرسل إلينا شيئًا من خط الفقيد فإننا نعيده إليه على عهد الله ورسوله.
ثم إن ما يرسل إلينا منه إن كان أثارة من علم أو أدب؛ فإننا ننشرها حتمًا
ونكافئ مرسلها بنسخة من التاريخ نهديها إليه، وإن كان كتابًا خاصًّا بمن كان أرسل
إليه فإننا لا ننشره إلا إذا كان فيه فائدة عامة من حكمة تُؤثَر، أو بلاغة تؤثِّر، على
أنه قلما يخلو كلام له من كلتا المزيتين مهما كان الموضوع الذي كتب فيه. ولا شك
أن الذين توجد عندهم هذه الآثار والأخبار، يحرصون مثلنا على تدوينها واستفادة
الناس منها في الأغلب فلا يبخلون علينا بما ينفع الأمة ويحفظ أثر الإمام، فهذا
الاستجداء سيصادف بذلاً وسماحًا إن شاء الله تعالى.
وإننا نقدر أن التاريخ لا يقل عن ألف صفحة وقد يزيد عليها، وأن تجزئته
إلى جزئين أو ثلاثة أولى، وربما نجعل له اشتراكًا.
وليعلم الشعراء الذين نظموا المراثي ونشروها في بعض الجرائد أننا لا ننشر
منها إلا ما نختار مما أرسلوه إلينا أو إلى الشيخ عبد الكريم سلمان أو حمودة بك
عبده؛ لأننا لم نتتبع الجرائد ونحفظ ما فيها من القصائد، وليس المانع من إثبات
المرثية في التاريخ هو سبق نشرها في بعض الجرائد وإنما هو ما ذكرنا من عدم
التتبع والحفظ، فمن شاء أن يرسل إلينا شيئًا مما نشر فليفعل.
وكنا نود لو بين لنا كل من أرسل أو يرسل إلينا شيئًا من كاتب وشاعر لقبه
الذي يخاطب به ووظيفته التي يذكر بها؛ لنذكره بما هو معروف به؛ إن لم يكن
متنكرًا؛ فذلك خير من نشر القصيدة أو المقالة بالتوقيع الذي يذكر فيه الاسم غفلاً لا
يعرف مسماه إلا المتصلون به، وقد يشتبه بغيره لكثرة المشاركة في الأسماء والألقاب
هنا (أي في البلاد المصرية) .
***
(كتاب الهدية العصرية إلى الجامعة الوطنية)
كتب سليمان أفندي مصوبع المحامي السوري مقالات في الاجتماع البشري
والعمران، ونشرها في جريدة ثمرات الفنون وغيرها من جرائد بيروت، ثم اقترح
عليه أن يجمع شملها في كتب، فجاء الكتاب يناهز مائتي صفحة في عشرة أبواب:
(1) في العمران أساسه وتحديده وسره.
(2) في الحاجة تأثيرها والوقاية منها.
(3) في المحاماة.
(4) في الانتقاد.
(5) في مسئولية الإنسان.
(6) في أدوار الحياة ونحو ذلك.
وفي هذه المباحث آراء صحيحة وفيها مسائل غامضة ولعل أكثر الغموض من
ضعف التأليف، وإعواز البيان؛ حتى كان الكلام كترجمة باصطلاحات جديدة،
وأسلوب لم يخلص دائمًا إلى الأسلوب العربي الصحيح من حيث: تعدية الأفعال،
وربط الكلام بعضه ببعض، ووضع الكلم موضعه، على أن فيه جملاً رائعة
وتجوزًا حسنًا في بعض المواضع. وقد كان أعجب الكتاب إليّ، وأحسنه عندي
كلامه في الدين، وبذلك تبين أن دين الأنبياء واحد، وأن الأخير مكمل لما قبله،
وعليه المعول في الخلاف، ولولا التطويل لنقلت كلامه هذا، على أنه قد سبق لنا
اقتباس ما كتبه الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى- في ذلك من رسالة التوحيد وهو
الكلام الذي ليس فوقه مطلع ولا وراءه غاية. وإننا نثني على سليمان أفندي لعنايته
بما تقلّ العناية به في تلك البلاد، ونرجو له زيادة التحرير والاجتهاد.
***
(كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة)
لهذا الكتاب ذِكر في دواوين المتقدمين لشهرة مؤلفه أبي نصر الفارابي فيلسوف
المسلمين في القرن الرابع، وقد كان من كنوز الكتب المخفية فظهر في هذه الأيام
وطبعه الشيخ فرج الكردي والشيخ مصطفى القافي الدمشقي يطلب من المكتبة
الملوكية بمصر.
مسائل الكتاب تدور على أقطاب الفلسفة اليونانية في الوجود الأول، وما يجب
له من الصفات وفي أقسام الموجودات الأخرى ومنها النفس ومن هنا ينتقل إلى
الكلام في الوحي والنبوة، ثم إلى حاجة الإنسان إلى الاجتماع والتعاون، وإنما
يكملان بالمدينة لذلك بَيَّن معنى المدينة، وقسمها إلى أقسام المدينة الفاضلة وما
يضادها من المدينة الجاهلية، والمدنية الفاسقة، والمدينة المتبدلة، والمدينة الضالة
ثم ذكر في التفصيل أقسامًا أخرى منها مدينة الخسة والشقوة، قال: (وهي التي
قصد أهلها التمتع بالملذة من المأكول، والمشروب، والمنكوح وبالجملة اللذة من
المحسوس، والتخيل وإيثار الهزل واللعب بكل وجه، ومن كل نحو) وهذه المدينة
قسم من أقسام المدينة الجاهلية. أما المدينة الفاسقة فهي أرقى من المدينة الجاهلية،
وقد عرفها بقوله: (وهي التي آراؤها الآراء الفاضلة، وهي التي تعلم السعادة،
والله -عز وجل - والثواني، والعقل الفعال، وكل شيء سبيله أن يعرفه أهل
المدينة الفاضلة، ويعتقدونه، ولكن تكون أفعال أهل المدن الجاهلية، وجميع مباحث
الكتاب تجري على طريق الفلسفة اليونانية.
ولعل من اطلع أو يطلع على هذا الكتاب يتذكر أننا كنا عبرنا عن هذه
المدينة بالفاسقة، فقام بعض الذين لم يرتقوا عن أهل المدينة الجاهلية يسلقوننا بألسنة
حداد؛ زاعمين أن ذلك يتضمن الطعن بعِرض كل من يقيم في هذه المدينة (يقولون
بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) على أنهم هم الطاعنون ولكن لا يخجلون.
***
(مرور في أرض الهناء، ونبأ من عالم البقاء)
كتاب جديد الوضع والأسلوب والتخيل ألفه شكري أفندي الخوري اللبناني
المقيم في البرازيل. فأما أرض الهناء فهي المدينة الفاضلة أو الكاملة في رأي
فلاسفة هذا العصر وعلمائه، وهي سعادة الحياة التي يتمنون أن يصل إليها البشر
بالعلم والعمل والاتفاق والتواد بين جميع الناس، وبلوغهم العمر الطبيعي - مائة سنة
أو أكثر- مع التمتع بالصحة والعافية لما يتربون عليه من الرياضة البدنية والعقلية،
وتجنب الإفراط والتفريط في الأمور كلها، لا سيما السرف في الطعام والشراب.
مرَّ بهذه الأرض روح بشري فارق جسده، وذهب إلى الدار الآخرة؛ فكانت في
طريقه إليها وقد كتب إلى صديق له في الدنيا ينبئه بوصفها على ما خيله
مؤلف الكتاب.
وأما عالم البقاء فهو معروف، والمؤلف يصور فيه موقف الحساب والجزاء
يحضره ملك شرقي ظالم وأحد المتصرفين في جبل لبنان وراهب، وشيخ مسلم،
وبخيل، ولص، وكاهن (قسيس) ، وصحافي، وطبيب، وسكير، ومحام، يحاسب
كل منهم ويعاقب على ما أفسد في الأرض، تذكر ذنوبه وتشرح عيوبه، ويعتذر
ويتنصل، فلا يعذر ولا يقبل، وأما أسلوب الكتاب فهو فكه سلس يقرب من أسلوب
العوام ويتخلله كثير من عباراتهم وأمثالهم وتشبيهاتهم، ومن قرأ طائفة منه يندفع إلى
إتمامه بسائق الرغبة وحادي اللذة، وقلما ترى بين الكتب التي تؤلف وتنشر بيننا ما
جمع بين اللذة والفائدة لا سيما في شؤون المعيشة والاجتماع والسياسة. نعم، إن
الفكاهة لا تليق في مقام الرهبة والجبروت، وفي مواقف الحساب والجزاء، ولكن
غرض المؤلف من ذلك تمثيل سيئات هذه الأصناف من الناس التي تشتغل بالمصالح
العامة؛ فتفسدها وهم الملوك المستبدون وأعوانهم والأطباء، والصحافيون،
والمحامون، والقسوس، وغيرهم من رجال الدين وقرنهم باللصوص، والبخلاء.
وليس الغرض الأول تمثيل أهوال الحساب والجزاء، وإرهاب الناس منه بل هذا
وسيلة، وذاك هو المقصد.
ومما ينتقد عليه أن ما ذكره من حال الملائكة التي تذهب بالأرواح، والتي
تتولى الحساب والجزاء، لا يتفق مع عقائد الناس، أو تخيلاتهم فيهم ولا هو في
نفسه مؤثر يصادف من النفس موقعًا يليق به وأكثره لا فكاهة فيه إلا ما ذكره من
فتنة المحامي وتهييجه الشعب في ذلك العالم؛ لأجل أن ينجو من العقاب فلا يستطيع
أحد أن يملك ضحكه عند قراءة هذا.
وقد انتقد عليه زميلنا نعوم أفندي لبكي صاحب جريدة المناظر الحرة في مقدمة
وضعها له اكتفاءه بذكر الراهبات من الأجواق التي رآها صاعدة إلى السماء، حيث
تلقى أحسن الجزاء، ففي الناس من يستحق ذلك غيرهن وأنتقد عليه أنا بقوة زعمه
أن النصارى تتقرب من المسلمين في جرائدهم ومدارسهم، والمسلمون لا يزدادون إلا
تباعدًا، والصواب أن في عقلاء الفريقين من يسعى للتساهل والتقرب سعيهما، وإن
جرائد المسلمين أبعد عن إثارة التعادي من جرائد النصارى؛ فإننا لا نرى فيها
جريدة منتشرة تتعرض للنصارى فيما يختص بدينهم ورؤسائه، كما نرى في جرائد
النصارى بمصر من ذلك حتى إن بعض الجرائد اليومية كانت من عهد قريب تطعن
وتحامي عن العقائد الإسلامية في الأزهر وتُعرض ببعض كبار العلماء والأئمة،
وتحاول إشراب الأفهام أنهم يبثون في الأزهر الإلحاد ويفسدون الدين، ومثل هذا
كثير، فما كل الجرائد كالمناظر، وأما المدارس النصرانية فأكثرها أو جميعها تلزم
التلاميذ المسلمين بالعبادات النصرانية، ولا نعرف مدرسة إسلامية في الدنيا تعامل
التلاميذ النصارى بمثل هذه المعاملة.
ثم إنه ليس لمشايخ المسلمين من العناية بعامتهم وتلقينهم التعاليم والتقاليد
الدينية مثل ما للقسوس، وأكثر حديث المشايخ مع غيرهم في الأمور العادية ويا
ليتهم كانوا يعنون بنشر مسائل الدين؛ إذًا لقلّ التنافر، فإن رأي الإسلام في
النصرانية ليس كرأي النصرانية في الإسلام؛ الإسلام يثبت أن كتاب
النصرانية حق ويوجب الإيمان بمن جاء به، وإنما يثبت أن أهلها حرفوا وانحرفوا
عن صراطها وأن إيذاءهم حرام والبر إليهم مشروع.
والنصرانية تعد الإسلام كفرًا في أصوله وفروعه، وقد ألف القسوس في ذمه
كتبًا حشوها بأكاذيب لم تخطر على قلب مسلم في الأرض، ثم إنه لم يعقد أحد من
المشايخ مجالس وسمَّارًا لأجل الطعن في النصرانية، ولم يعينوا أحدًا منهم لدعوة
النصارى إلى الإسلام كما يفعل القسوس بالمسلمين، (فأي الفريقين هو المفرق بين
العالمين) .
لهذا أرى أن أقرب طريق إلى التأليف بين الفريقين نشر تعاليم الإسلام
الصحيحة في المسلمين، وإقلاع قسوس النصارى الذين لهم السلطان الأعلى على
قلوب عامتهم عن تنفيرها من المسلمين، وكفهم عن الطعن في الإسلام، ولا أبرئ
بعض المشايخ من كلام ضار يقولونه في المجالس عندما يذكر تعصب النصارى،
ولكن مثل هذا الكلام لا يكاد يجيء في درس ديني، ولا كتاب تعليمي. وقد أقنعت
من لا أحصي من المسلمين بأن التساهل والاتفاق على المصالح الدنيوية خير يأمر
به الدين فلم أجد مقاومة تذكر، ولا ردًّا يُؤثَر، وقد كتبت من قبل بأن الصواب في
التأليف أن يحمل الأحرار من كل طائفة على المتحمسين المفرقين منها وأما حمل كل
طائفة على الأخرى فهو الداء الذي لا يرجى معه شفاء.
***
(تهذيب الأخلاق)
يولد في كل أمة ألوف من الأولاد على استعداد عظيم للعلوم والفضائل، فيضيع
استعدادهم بإغفال تربيتهم وتعليمهم وفيهم من لو علم وربي لنهض بالأمة أو لكان
ركنًا من أركان ارتقائها. على أن إغفال تربية الأولاد وتعليمهم لا يكون من والديهم
بالعمد والاختيار، وإنما هو الجهل والعجز. وقد تهمل التربية الصحيحة والتعليم
النافع في الأمة حتى لا يوجد أحد يقوم بهما ويقيمهما على قواعدهما، وأمة مثل هذه
يلوح للناظر أنها قد تودّع منها حتى لا رجاء فيها. ولكن هذا النظر غير صحيح فقد
يقيِّض الله لبلد عَمّ فيه الجهل والفساد من يربي فيه بعض الأفراد. فيكون منهم
النور المستطير، والخير الكثير كما علمت من سيرة الأستاذ الإمام -رحمه الله
تعالى- وقد ينهض الاستعداد ببعض الناس إلى أن يربي واحدهم نفسه بعد
الرشد واستقلال الفكر ثم ينبري لتربية غيره ولا بد لمثل هذا من الاسترشاد بالكتب
النافعة. ومن هذا الصنف العالم الفيلسوف أحمد بن محمد بن مسكويه صاحب
كتاب (تهذيب الأخلاق) الذي هو أحسن المختصرات في هذا العالم
الجليل.
ولعت بهذا الكتاب منذ رأيته؛ فطالعته ثم قرأته درسًا. ثم علمت بعد الهجرة
إلى مصر أن الأستاذ الإمام قرأه درسًا كما ذكرت ذلك في ترجمته، وكان الكتاب
يومئذ مجهولاً عند المشتغلين بالعلم فعُرف، وميتًا فَاستَحيى، ويسرنا أن الناس أقبلوا
عليه في هذه السنين، فقد كان طبع طبعًا قبيحًا، ونفدت نسخه فأعاد طبعه عبد
العليم أفندي صالح منذ سنين بالحرف الإسلامبولي الجميل على ورق جيد، فأقبل
الناس بسعيه عليه حتى نفدت نسخه، ورأى من الإعانة على التربية أن يطبعه ثانية
ففعل، وله من الفضل في اتخاذ الوسائل لنشره ما يضاهي قيامه بإجادة طبعه،
فعسى أن يكون في هذه الكرة أسرع انتشارًا لنبشر بأن أمتنا تزداد حبًّا في العلم
النافع، وميلاً إلى التربية الصحيحة عامًا بعد عام. وثمن النسخة من الكتاب خمسة
عشر قرشًا، وأجرة البريد قرش صحيح ويطلب من طابعه ومن إدارة المنار بمصر.
__________(8/434)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شكر واعتذار
نشكر للذين عزَّوْنا ببرقياتهم وكتبهم على مصابنا بمولانا الأستاذ الإمام،
عالمين أن مكاننا منه مكان الولد البارّ من الوالد الرحيم، والمريد الصادق من
المرشد الحكيم، على أنه تغمده الله برحمته كان أبا الأمة ومربيها، ومرشدها وهاديها،
فما من معزٍّ لنا إلا وكان يعزي نفسه ثم يذكر الأمة والإسلام، ويعترف بأن المصاب
عامّ، وكذلك رأينا التعازي التي خوطب بها أخونا حمودة بك عبده والشيخ عبد الكريم
سلمان، بل رأينا مثل هذه التعازي في أيدي بعض المريدين وسننشر نموذجًا من ذلك
في كتاب التاريخ إن شاء الله تعالى.
وأما الاعتذار فهو عن عدم مجاوبة المعزين ويدخل فيه الاعتذار لمن كاتبونا
منذ أشهر في مسائل أخرى ونخص بالذكر البحرين وزنجبار والمغرب الأقصى،
ولعلنا نكتب إليهم عن قريب.
(تنبيه) لا نسمح للجرائد المصرية بنقل ترجمة الأستاذ الإمام عن المنار ولا
يضر اقتباس قليل من العبارة مع العزو وكثير من المعنى ولو بدونه، والعلم أمانة
بين أهله.
__________(8/440)
16 جمادى الآخر - 1323هـ
17 أغسطس - 1905م(8/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة سيرة الأستاذ الإمام
(3)
حياته في المنفى
لا تكمل تربية الرجال، إلا بمكافحة الأهوال، فمعادن النفوس لا تصفو من
شوائب الضعف في الحق، وتتمكن من مقعد الصدق إلا بعد أن تعرض على
نيران الفتن، وتذاب في بوادق المحن {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ
النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد: 17) ولذلك يبتلي الله سبحانه وتعالى عباده
المصلحين بفتن المفسدين، ليعلم الصابرين والصادقين {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ} (آل عمران: 141) فالفتن والكوارث تمحص نفوس
المؤمنين بالله السائرين على سننه فتزكيها وتعليها، وتمحق الكافرين بنعمه،
والمنحرفين عن سننه؛ فتدسيها وتفنيها، وقد اتهم فقيدنا في الثورة بما هو بريء
منه، وتفنن المنافقون يومئذ بأخبار السوء عنه، حتى أنذر بالإعدام، ثم استبدل
ذلك بالنفي ثلاثة أعوام، فما حقد على واش ولا محتال، بل كتب من السجن
إلى صاحب له يعجب من كيدهم ثم قال:
(ولئن عشت لأفعلن المعروف، ولأغيثن الملهوف، ولأنقذن الهاوي في
حفرة الغدر، ولآخذن بيد المتضرع من ضغط الظلم، ولأتجاوزن عن السيئات،
ولأتناسين جميع المضرات، ولأبينن لقومي أنهم كانوا في ظلمات يعمهون،
ولأظهرن الصديق في أجمل صوره، ولأجلونه للناس في أبهج حلله، ولأثبتن لهم
ببرهان العمل أنه فكرك الثاني في روحك الواحدة، وجسمك الآخر في حياتك
المتحدة، وأنه صاحبك إذا طال ليل الكدر، ومصباحك إذا غسق دجى الهموم،
تستضيء به في حل ما انعقد، وتستعين بقوته في تيسير ما عسر، وتذهب به إلى
أوج المعالي، والناس من معجزات الصديق يتعجبون.
إلى أن قال:
لكني أقول لكم: إن هذه الحوادث المريعة سوف تنسى، وإن هذا الشرف
سوف يرد، ولئن أبت طبيعة هذه الأرض بخسَّتها أن يكون لها من عوده نصيب
فليعودن في بلاد خير منها، ولأجذبن إلى المجد أحبتي ومن إلى المجد ينجذبون،
كل ذلك إن عشت وساعدتني صحة الجسم، ولا أطلب شيئًا فوق هذين سوى معونة
الله الذي عرفه بعض الناس وبعضهم له منكرون) .
والكتاب طويل وسننشره برمته في تاريخ الفقيد.
وله قصيدة في الثورة نظمها في ظلمة السجن أيضا تزيد على مئة بيت، وقد
عرض في آخرها بما أبانه في آخر كتابه هذا من صدق العزيمة والثقة بنفسه
والاعتماد عليها في مغالبة الزمان بعد الاتكال على الله تعالى وكونه لا يخاف شيئًا
يقطع عليه طريقه في عمله لوطنه وأمته إلا الموت قال:
وأحفظ الدهر أني لا أشاكله ... فيما تبطن من غش وتمويه
أحارب الدهر وحدي ليس ينفعني ... إلا الثبات وحسبي من أصافيه
تعلم الدهر مني كيف يطعنني ... فخاب ظنًّا وخانته مزاكيه
وليس يعجزني عن كسر فيْلَقه ... إلا المنايا تفاجيني فتحميه
إن المنايا سهام الله سددها ... وليس يخطئ سهم الله مرميه
أريت من كانت له هذه النفس العالية، والعزيمة الماضية، أيحط من قدره أن
يتهم بالسياسة فيلقى في غيابة السجن، أم يطفئ نور استعداده الإخراج والنفي؟ كلا.
عمله في أوربا لمصر والإسلام
سافر رحمه الله تعالى إلى سوريا فأقام فيها نحو سنة، ثم سافر إلى أوربا
على اتفاق بينه وبين أستاذه وصديقه السيد جمال الدين لأجل الاشتغال بما كان يسمى
(المسألة المصرية) فأقام فيها عشرة أشهر معظمها في باريس حيث أصدرا جريدة
العروة الوثقى، وكانا أسسا لها جمعية من مسلمي الهند ومصر والغرب وسوريا؛
غرضها السعي في جمع كلمة المسلمين، وإيقاظهم من رقادهم وإعلامهم بالأخطار
المحدقة بهم، وإرشادهم إلى طريق مقاومتها.
كان السيد جمال الدين مدير سياسة الجريدة والشيخ محمد عبده المحرر الأول
لها؛ على أنه لم يكن لها محرر سواه إلا من كان يترجم بعض الأخبار من الجرائد
الأوربية، ويلقيها إلى الشيخ يصححها وينفخ فيها من روح العبرة ما ينفخ. كان
السيد منبع الأفكار والآراء السياسية التي تنشر في الجريدة لا سيما ما هو من سيئات
الإنكليز في الهند وغيرها، وكان الشيخ يبرز هذه المسائل في صورة تروع الأبصار،
وتحرك الأفكار ويتصرف فيها ما شاء.
أما المقالات التي كان يكتبها في الاجتماع والوعظ، والأخلاق السياسة
الإسلامية فقد كانت من الآيات البينات التي لا يكاد يوجد في كلام البشر ما
يساهمها في البلاغة والتأثير حتى كان علماء المسلمين وعقلاؤهم في كل قطر
يتوقعون أن تحدث تلك الجريدة انقلابًا عامًّا في المسلمين، حدثني الثقة عن السيد
سلمان أفندي الكيلاني نقيب بغداد أنه كان يقول كلما قرأ عددًا من جريدة (العروة
الوثقى) يوشك أن يحدث انقلاب في بعض بلاد الإسلام قبل أن يصدر العدد الذي
بعد هذا. والسيد (سلمان) هذا كان من بقايا زعماء المسلمين يخضع له مئات
الألوف من العرب والعجم. وسمعت شيخنا الشيخ حسين الجسر العالم الطرابلسي
الشهير يقول: لو طال الزمان على جريدة العروة الوثقى لأحدثت نهضة جديدة
للمسلمين، وانقلابًا عظيمًا.
أقول: وهي هي التي نقلتني من طور إلى طور، وحَبَّبت إليّ صاحبيها حتى
جذبني الحب إلى مصر، ووصل حبل ودي بالأستاذ الإمام، وحملني على نشر
حكمته، وإعلان دعوته، فقد كنت مرة أبحث في أوراق والدي العتيقة وأتصفح ما
فيها من الجرائد المطوية، فعثرت على أعداد من العروة الوثقى، فطفقت أقرأها
المرة بعد المرة، وهي تفعل في نفسي فعلها، تهدم وتبني، وتعد وتمني، وما كان
وعدها إلا حقًّا، ولا تمنيها إلا رجاء وأملاً، أحدث إصلاحًا وعملاً، فكانت هي
أستاذي الثاني الذي أثر في نفسي، وأقيم عليه بناء عملي وأملي، وأما الأستاذ الأول
فهو كتاب إحياء العلوم للإمام الغزالي الذي كان أول كتاب ملك عقلي وقلبي. أنشأت
بعد أن ظفرت بتلك الأعداد أبحث عن أخواتها في طرابلس، فكنت أجد عند الرجل
العدد، وعند الآخر العددين فأنسخ ما أجد، ثم علمت أن الشيخ (حسينًا الجسر)
احتواها كلها ومن عنده أتممت استنساخها، وأكبر أثرها عندي أنها هي التي وجهت
نفسي للسعي في الإصلاح الإسلامي العامّ بعد أن كنت لا أفكر إلا فيمن بين يدي،
وأرى كل الواجب عليَّ أن أظهر في دروسي العقيدة الصحيحة والأخلاق الفاضلة
وآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأنفر عن المعاصي، وأنا لا أعلم سبب الفساد
الذي فعل في العقائد والأخلاق ما فعل، ودفع المسلمين إلى مزالق الزلل، حتى
هدتني العروة الوثقى إلى المناشئ والعلل.
لم تكن خدمة الشيخين للإسلام في أوربا قاصرة على الوعظ والإرشاد، بل
كان لهما سعي لدى فرنسا وإنكلترا نفسها في المسألة المصرية ومسألة السودان،
وكان سعيًا - لو ظهر - غريبًا، وكان منه إقناع ناظر خارجية إنكلترا بعد فصل
السودان عن مصر وحضر الأستاذ الإمام إلى بلاد كثيرة لتوثيق العروة والتهميد
للعمل أن يترك السودان لأهله ويعدلوا عن محاولة فتحه، وكان لهما في ذلك آمال
ومقاصد ذات بال، وقد كان تقرر هذا، وما حال دون إمضائه رسميًا إلا موت محمد
أحمد مَهْدِيِّ السودان، ولو شرحنا الوسائل التي اتخذها الشيخان لذلك لحار في
براعتهما الثقلان، لا أنكر أن هذا الأعمال السياسية كان السيد جمال الدين هو
المفترع لها، ولكن كان فقيدنا عضده، وساعده، ولسانه، وقلمه ولولاه لما استطاع
المضي فيها؛ على أن فقيدنا كان بما جرى له ولشيخه مع توفيق باشا في مصر قد
ضعف أمله في الإصلاح السياسي، ووجه همه إلى الإصلاح القومي في التربية
والتعليم.
حدثني أنه قال للسيد في أوربا: إن هذه السياسة لا يأتي منها خير؛ لأن
تأسيس حكومة إسلامية عادلة مُصْلِحة لا يتوقف على إزالة الموانع الأجنبية فقط
فخير لنا أن نذهب معًا إلى مجهل من مجاهيل الأرض لا سلطان للسياسة فيه
ونحاول تربية أفراد على ما نحب؛ فإذا تيسر لنا تربية عَشْرة رجال يبذلون أنفسهم
لخدمة الأمة لا يصدهم عن ذلك الجثوم في وطن، ولا الإخلاد إلى الأهل والسكن،
بل يكون همهم الأكبر الضرب في الأرض لتربية مثلهم على ما ربوا عليه، فلا يبعد
أن يربي الواحد منهم عشرة فيكون لنا في زمن قريب مائة رجل يعملون للإسلام
والرجال هم الذين يعملون كل شيء، فقال له السيد: إنما أنت مثبط قد شرعنا في
عمل فلا بد من المضي فيه حتى يتم أو نعجز.
كان لذلك السعي في إنقاذ مصر والسودان، أو السودان فقط طريق في ذلك
الوقت لأن الاحتلال الإنكليزي كان في نظر أوربا كلها مؤقتًا، ولم تكن قدم إنكلترا
راسخة في مصر. وبعد أن رسخت القدم وتمكنت السلطة من البلاد قام بعض
الأحداث يكتبون، ويخطبون، ويقولون ما يعد أمام ما قاله وكتبه الشيخ في وقته
لغوًا، وكانوا يعدون أنفسهم بذلك خدمة مصر ومنقذيها، ويرمون مثل الفقيد
بالتقصير في خدمة الأمة والوطن على أنه هو المصري الوحيد الذي قدر على
استخدام السلطة الإنكليزية في مصر لخدمة مصر والإسلام، بعد أن صارت الخدمة
بمقاومتها من المحال، ولو كانت الخدمة النافعة هي مقاومة القوة بالكلام والكتابة
لكانت العروة الوثقى أخرجت الإنكليز من مصر قبل أن يتمكنوا منها.
مناظرة الفقيد لوزراء الإنكليز في المسألة المصرية
ذهب الفقيد إلى لندن في تلك الأثناء وتكلم مع وزراء الإنكليز في المسألة
المصرية ومسألة السودان وفي المالية المصرية وغير ذلك ونشرت الجرائد الأوربية
بعض محادثاته معهم. نذكر هنا محادثة نشرت في العدد الرابع من العروة الوثقى
الذي صدر في 22 شوال سنة 1301-14 أغسطس سنة 1884 تحت عنوان
(هؤلاء رجال الإنكليز وهذه أفكارهم) . والكلام بلسان السيد قال:
(تأخر صدور الجريدة أيامًا لضرورة ما مسنا من ضعف في المزاج مع
مصادفة رداءة الهواء في البلاد الفرنساوية هذه الأيام، والحمد لله على زوال المانع،
إلا أننا مع ذلك لم نقصر في أداء الواجب من العمل الذي قمنا به في المدافعة عن
حقوق المسلمين، فقد خلقنا والشكر لله لهذا العمل، وطبعنا عليه ونرجو ديان
السماوات والأرض أن نموت في هذه السبيل، وأن نبعث في زمرة السالكين فيها.
رأينا أن يذهب الشيخ محمد عبده (المحرر الأول لهذه الجريدة) إلى لوندرا
إجابة لدعوة من يرجى منهم الخير لملتنا، ومن يؤمل فيهم صدق النية في رعاية
مصالح المسلمين من رجال السياسة الإنكليزية، وليستكشف مناصب الفخاخ
السياسية التي ما مرت عليها قدم شرقي إلا سقطت منها فيما يعسر الخلاص منه،
وليسبر أغوار المطامع الإنكليزية التي لا يدرك منتهاها، تلك المطامع التي بعدما
التهمت ثلث المسكونة، وطوقت كرة الأرض بالفتح والاستملاك لم تزل في مد لا
جزر معه، ولا يزال رجال حكومة بريطانيا في قرم شديد لابتلاع ممالك العالم،
وكلما أساغوا قطرًا طلبوا إليه آخر، وليستطلع خفايا المقاصد من أثناء الأفكار،
وغضون الأقوال، وليقف على الطرق المألوفة بين أولئك السياسيين في التلوين
ويتبين كيف يتمكنون من إبراز محاسن الأعمال في صفات رديئة يستنكرها كل
ناظر إليها، وإظهار السيئات في ألوان بهجة تسعد الناظرين حتى يمكن بعد ذلك
وضع ميزان قسط يتميز به الزيف من النضار الخالص كي لا يغتر الجاهل، ولا يزل
العالم) .
لاقى (محرر الجريدة) كثيرًا من رجال السياسة الإنكليزية وأنفذ الناس
رأيًا فيها، وقد جرت بينه وبينهم محادثات طويلة في الأحوال المصرية، ومن
محادثاته الابتدائية ما نشر في بعض الجرائد الإنكليزية كجريدة (البال مال كازيت)
وجريدة (التروت) التي يحررها النائب الشهير مستر لابوشير وجريدة (التيمس)
وسيذكر شيئًا مما جرى بينه وبين بعض الأكابر من رجال الحكومة الإنكليزية مما
يستفيد منه الشرقيون عمومًا والمصريون خصوصًا، وستأتي جريدتنا على بعض ما
استنبطه من فحوى أقوالهم، وأدركه من مرامي أفكارهم، أما الآن فنأتي على جملة
واحدة من محادثة طويلة كانت بينه وبين اللورد (هرتنكتون) وزير الحربية
الإنكليزية ليأخذ كل مصري منها حظه ويصيب كل شرقي سهمه ويقف جميعهم
على مواقع الشرقيين من أنظار رجال الحكومة الإنكليزية.
سأل اللورد هرتنكتون وزير الحربية الإنكليزية ألا يرضى المصريون أن
يكونوا في أمن وراحة تحت سلطة الحكومة الإنكليزية؟ أَوَلا يرون حكومتنا خيرًا
لهم من حكومة الأتراك، وفلان باشا وفلان باشا؟ فأجاب الشيخ (محرر جريدتنا)
كلا، إن المصريين قوم عرب، وكلهم مسلمون إلا قليلاً، وفيهم من محبي أوطانهم
مثل ما في الشعب الإنكليزي، فلا يخطر ببال أحد منهم الميل إلى الخضوع لسلطة
من يخالفه في الدين والجنس، ولا يصح لحضرة اللورد، وهو على علم بطبائع الأمم
أن يتصور هذا الميل في المصريين. فقال الوزير هل تنكر أن الجهالة عامة في
أقطار مصر، وأن الكافة لا تفرق بين الحاكم الأجنبي والحاكم الوطني، وأن ما
ذكرته من النفرة من سلطة الأجانب إنما يكون في الأمم المهذبة؟ فأخذت الشيخ حدة
- تليق بمسلم لا يتهاون في أداء ما فرض الدين، وأوجبته حقوق الملة - وقال:
أولاً - إن النفرة من ولاية الأجنبي ونبذ الطبع لسلطته مما أودع في فطرة
البشر وليس يحتاج للدرس والمطالعة، وهو شعور إنساني ظهرت قوته في أشد
الأمم توحشًا كالزولوس؛ الذين لم تنسوا ما كابدتموه منهم في الدفاع عن أوطانهم.
وثانيًا - إن المسلمين مهما كانوا وعلى أي درجة وجدوا لا يصلون من الجهل
إلى الدرجة التي يتصورها الوزير؛ فإن الأميين منهم ومن لا يقرءون ولا يكتبون لا
يفوتهم العلم بضروريات الدين، ومن أجلاها وأظهرها عندهم أن لا يدينوا لمخالفيهم
فيه، وأن لهم في الخطب الجمعية، ومواعظ الوعاظ في مساجدهم ما
يقوم مقام العلوم الابتدائية، وأن جميع ما يتلقونه من النصائح الدينية يحذرهم من
الخضوع لمن لا يوافقهم، ويحدث فيهم من الإحساسات الشريفة الإنسانية ما لا
ينحطون معه عن سائر الأمم خصوصًا المصريين الذين ينطقون باللسان العربي،
ويفهمون دقائق ما أودع في ذلك اللسان وهو لسان دينهم.
وثالثًا - إن أرض مصر من زمن محمد علي قد انتشرت فيها العلوم والآداب
الجديدة على نحو ما هو موجود في بلاد أوربا وأخذ كل مصري نصيبًا منها على قدره
ولا تخلو قرية من القرى الصغيرة من أن يكون فيها قارءون كاتبون والأخبار
العمومية توصلها إليهم الجرائد العربية ومن لم يقرأ يستنبئ الأخبار من القارئين؛
فبهذا أضافوا إلى الشعور الطبيعي، والتقليد الديني محبة وطنية منشأها التهذيب
العمومي قوي بها الميلان الأولان، ولا أظنهم يخالفون في ذلك سائر الأمم. اهـ
أين العلماء الأذكياء؟ أين الجهلة الأغبياء؟ أين الأباة الأعلياء؟ أين السفلة
الأدنياء ليرى كل واحد منهم منزلة الشرقيين عند رجال الحكومة الإنكليزية، كل ذي
شكل إنساني وصورة بشرية يدرك ما وراء هذه الأسئلة وما تشف عنه هذه الظنون
العجيبة.
هذا اللورد هرتنكتون وزير الحربية الإنكليزية يظن أن الجهل يبلغ من
المسلمين عمومًا، والمصريين خصوصًا إلى حد سلب عنهم كل إحساس إنساني
وأنهم في حضيض من الجهل لا يميزون فيه بين الغريب والقريب، ولا بين العدو
والحبيب.
هذا دليل على أن الإنكليز- إلا من أنار الله بصيرته ووفقه لفهم الصواب -
يعتقدون أن الأمم الشرقية والأمة المصرية في درجة الحيوانات السائمة والدواب
الراعية لا تتألم إلا من الجوع، وفواعل الطبيعة المادية، وليس لها من الإحساس
إلا نوع من الانفعالات البدنية، ولا تعرف من شؤونها إلا ما به تقوم حياتها
الحيوانية؛ فتألف راكبها، والعامل عليها، ومستخدمها في أي عمل من الأعمال
الشاقة ما دام يقدم لها طعامًا وشرابًا، وإنها تهش وتبش لرؤية من يقدم لها غداءها
وعشاءها، وإن كان من أشد البلاء عليها بما يسومها من مشاق الأعمال؛ فإذا
عجزت عن العمل ذبحها وتغذى بلحومها ... إلخ إلخ.
ضاقت الحرية الإنكليزية الواسعة أن تسع جريدة العروة الوثقى، فمنعتها من
الهند ومصر، واشتدت الحكومة الإنكليزية في إعنات من تصل إليهم، وفرضت
الحكومة المصرية غرامة وعقوبة على من تُرى عنده؛ فكان ذلك مانعًا من
الاستمرار في إصدارها، وقد كان صدور آخر عدد منها وهو الثامن عشر في 26
ذي الحجة سنة 1301 - 16 أكتوبر سنة 1884 ثم سافر الفقيد إلى تونس فأقام
فيها أيامًا، ثم سافر إلى بلاد أخرى متنكرًا، فوثق عقود العروة السرية التي كان من
أغراضها ما أشرنا إليه، ولو ذكرناه مرتبًا مفصلاً لكان مثارًا للعجب من ركوب هذا
الرجل مع أستاذه الصعاب، واقتحامهما الأخطار في خدمة هذه الأمة التي كانت ولا
تزال كالمريض الأحمق يأبى العلاج؛ لأنه علاج وإن كان سهلاً سائغًا، ويمقت
حكيمه وطبيبه، وإن كان برًّا رحيمًا، فليحفظ القارئون هذا الإيجاز ليذكروه عندما
يصلون في تاريخه إلى سلوكه الأخير في مصر إعلان رأيه بتحتيم مسالمة المحتلين،
والاستفادة من حريتهم وحبهم للعمران ليعلموا أنه هو عين الحكمة التي اختيرت
بعد مساع جليلة، وتجارب طويلة.
عمله في البلاد السورية
وبعد الإخفاق في ذلك العمل السري، دون ذلك الهدي النبوي، ألقى عصا
السير في بيروت أعظم ثغور سوريا، وأقربها من العمران، فأقبل عليه أهل العقل
والفضل، وأرباب الذكاء والنبل، ويستفيضون منه سماء الحكمة، ويتلقون هدي
الحكماء والأئمة، فكانت داره مدرسة عامة يؤمها الأذكياء وعشاق المعارف من
جميع الملل والطوائف، ومما كان يقرأ عليه فيها السيرة النبوية، على صاحبها
أفضل الصلاة والتحية، وكان يقرأ التفسير في (الجامع الكبير) وفي جامع الباشورة
لا يلتزم فيه كتابًا، وإنما يقرأ في المصحف ويلقي ما يفيض الله على قلبه، وكان
الناس يقبلون على درسه إقبالاً لم يعرف في تلك البلاد لأحد من قبله حتى حسد
النصارى عليه المسلمين؛ فكانوا ينسلون إليه زرافات ووحداناً، ويقفون بباب
المسجد يمدون أعناقهم، ويشخصون بأبصارهم، ويصيخون بآذانهم لعلهم يلتقطون
شيئًا من تلك الدرر. ثم إنهم استأذنوه في دخول المسجد والجلوس في ناحية من
حلقة الدرس فأذن لهم {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّه} (التوبة: 6) .
وفي أول سنة 1303هـ دُعِي إلى التدريس في المدرسة السلطانية لإحياء
اللغة والدين فيها؛ فلبى ولم يكن في المدرسة من العلوم العربية إلا مبادئ النحو
والصرف، وما تسميه الترك (علم حال) ، وهو ما يلقن للولدان من أحكام العبادات.
فلما دخل المدرسة أدخلها في طور جديد، كما كان شأنه في عامة أعماله يدخل في
العمل مرءوسًا؛ فيكون في الواقع رئيسًا، ذلك أنه أصلح إدارتها بالاتفاق مع مديرها،
ووضع قانونًا جديدًا (بروجرام) للدروس، وزاد في العلوم التوحيد،
ومعاملات الفقه، والتاريخ الإسلامي، والمنطق، والمعاني، والإنشاء زادها
لنفسه، فكان هو الذي يدرسها حتى كانت دروسه تستغرق عامة النهار.
وكانت دروسه كلها للتلاميذ على نحو ما ذكر في رسالة التوحيد (آمالي مختلفة
تتغابر طبقاتهم … في أسلوب لا يصعب تناوله، وإن لم يعهد تداوله) إلا معاملات
الفقه فكان يقرأ فيه مجلة الأحكام العدلية التي يحكم بها في المحاكم العثمانية. وكان
يكلف تلاميذ الإنشاء حفظ شيء من نهج البلاغة، وديوان الحماسة والألفاظ الكتابية
ويشرحه لهم. وكان له هم عظيم، وعناية تامة بملاحظة آداب التلاميذ في المدرسة،
حتى إنه كان يزورها ليلاً لأجل ذلك. وقد تخرج على يديه نابتة هي الآن تخدم
البلاد بغيرتها واستقامتها وعرفانها ونباهتها.
ثم إنه في سيرته كان مربِّيًا للجماهير الذين يترددون عليه؛ فقد كان يجلس
إليه السني والشيعي والدرزي، والنصراني، واليهودي؛ فيوسع صدره للجميع
ويعامل كل واحد بالأدب الذي يليق به لا يؤذي جليسًا، ولا يغمط فضل مذاكر، ولا
مناظر على أنه لم يكن يقول غير ما يعتقد سواء كان القول في الدين أو في العلم
أو في العادات والأمور الاجتماعية، فكان - رضي الله عنه - نسخة كاملة من
رجال سلفنا، في التسامح، والتساهل، وجمع الكلمة واحترام العلم، وأهله كما
وصف في كتاب - الإسلام والنصرانية - وقد أدهش أهل الفضل بعلمه وأدبه،
وبلاغته لاسيما في الخطابة الارتجالية التي لم يكونوا يعهدونها.
وكان هنالك يشتغل بالتأليف؛ فقد نقل إلى العربية رسالة الرد على الدهريين
أو المقابلة بين الإيمان والكفر في العمران التي كتبها السيد جمال الدين باللغة الفارسة.
وشرح كتاب نهج البلاغة، ومقامات بديع الزمان الهمذاني. وقد أقبل الناس على
هذا الكتب، وانتفعوا بها حتى أنها طبعت مرارًا. وكان يكتب المقالات النافعة في
الجرائد، وسننشر ما عثرنا عليه منها في تاريخه. ولم يكتف بهذا الإصلاح
المعنوي، بل كان يسعى لدى الحكومة في إصلاح البلاد الإداري فوضع في ذلك
لائحة قدمها للوالي، وسننشرها في تاريخه أيضًا، وكتب لائحة أخرى في الإصلاح
الديني وقع عليها بعض الوجهاء وقدمت بواسطة الوالي إلى السلطان. وكان قد جال
في أرجاء الولاية واختبرها أتم الاختبار.
عودته إلى هذه الديار وما استفاده من الأسفار
وفي سنة 1306 عاد إلى القطر المصري وقد كمل تهذيبه بالأسفار، وركوب
الأخطار؛ ولذلك كان يسافر بعد ذلك في أكثر السنين مختارًا، كما كان يكرر
المطالعة والمدارسة عن رغبة، بعد أن ألزم بالدرس أولاً بالقوة، وقد كتب عن
تأثير الأسفار في نفسه ما نصه:
(أما الأسفار إلى البلاد العثمانية ومعاشرة كثير من المسلمين غير مسلمي
مصر، فقد كان من نتائجها عندي أني عرفت حق المعرفة أن مرض المسلمين نشأ
من أمرين: الأول - الجهل بدينهم، إبداع ما لم يكن منه وإلصاقه به واختلاط ما
هو من الدين بما ليس منه حتى صار عليه دينًا أجنبيًّا عن أصل الدين الإسلامي
الطاهر الرفيع. والأمر الثاني - استبداد الحكام الظالمين من المسلمين في
جميع أقطار الأرض.
وقد سافرت بعد ذلك مرات إلى أوربا وأفريقيا فكان أثر الأسفار في بلاد
المسلمين زيادة البصيرة في ذلك الذي عرفته لأول الأمر، وأثر الأسفار في أوربا
قوة الأمل في إصلاح أحوال المسلمين، فما من مرة أذهب إلى أوربا إلا ويتجدد
عندي الأمل في تغيير حال المسلمين إلى خير منها، وذلك بإصلاح ما أفسدوا من
دينهم، وتشحيذ عزائمهم إلى معرفة شؤونهم، وامتلاك ناصيتها بأيديهم دون أفراد
ظلمتهم. وهذه الآمال وإن كانت تضعف في نفسي عندما أعود إلى دياري لكثرة ما
ألاقي من العنت وشدة ما أصادف من المصاعب وسوء ما أرى من انصراف
المسلمين عن النظر في منافعهم، وشدة عداوتهم لأنفسهم وقوة رغبتم في تمكين
ظالميهم من رقابهم، وحبهم في الاستعباد لهم لغير سبب معقول، لكني متى عدت
إلى أوربا ومكثت فيها شهرًا أو شهرين تعود إليّ تلك الآمال، ويسهل عليّ تناول ما
كنت أعده من المحال، ولا تسألني عن السبب في ذلك فإني لا أستطيع تفصيله
ولكن هذا ما تحدثه الأسفار في نفسي) اهـ.
أقول: والمتبادر إلى الذهن أن السبب في ذلك هو ما يسمى في العرف الآن
بتأثير الوسط أي البيئة من المكان والمكين؛ لأن كل إنسان يحل في مكان ويشاهد
حال قوم لا بد أن يتأثر بشيء مما هم عليه بحسب استعداده، وما وجهت إليه نفسه.
وبلاد أوربا قد ارتقت ارتقاء عظميًا في العلوم، والصناعات، والكسب، والسياسة
وغير ذلك؛ فمن سافر إليها وكان من همه التجارة يزداد معرفة بطرقها، ونشاطًا في
عملها، ومن كان همه غير ذلك يتأثر بارتقاء القوم فيه، فتنهض همته إليه وناهيتك
بعلو كعب القوم في خدمة أمتهم، وإعلاء شأن ملتهم، وما يبذلون في هذه السبيل
من الأموال، وما يركبون لها من الأهوال، فمن ير ما هم عليه من العزة والسيادة،
وهو يعلم ما كانوا فيه من الضعة والمهانة، فهو جدير بأن يكبر أمله في قومه، ولا
ييأس من غدة في يومه، وكان - تغمده الله برحمته - يقول لي عندما يريد السفر
إلى أوربا: إنني أذهب لأجدد نفسي، أي فقد أخلقتها معاشرة الكسالى واليائسين.
وقد توجهت همته في هذه السنين الأخيرة لزيارة الشعوب المسلمة فبدأ بزيارة تونس
والجزائر وكان عازمًا على زيارة الهند وإيران وقزان والقوقاس في هذه السنة
وما بعدها فصرفه المرض عن عزمه في هذا العام، ثم قطع آماله كلها الحِمام.
***
سيرته في القضاء الأهلي
لما عاد من سوريا إلى مصر تسابق العظماء إلى توفيق باشا في طلب العفو
عنه فكان من الشافعين بعض الأسرة الخديوية ومختار باشا الغازي واللورد كرومر
ولم يكن أحد منهم يعرفه من قبل معرفة شخصية، ولكنهم سمعوا بفضلِه فحفظ لكل
منهم جميله وعفا عنه الأمير وهو يعلم أنه كان خصمًا للثورة العسكرية، وإن كان
روحًا مدبرة لتلك الحركة الفكرية، وأن الحكم عليه لم يكن عادلاً؛ ولذلك قال كما
روى الثقة للفقيد: ما عفوت عن أحد عفوًا كان أشبه بالاعتذار من هذا العفو. ولكنه
كان يخاف أفكاره السياسية وميله إلى تربية مَلَكَة الاستقلال في الأمة، ولذلك أمر
بأن يعين قاضيًا في المحاكم الأهلية فلما نمي الخير إلى الفقيد امتعض، وقال: إنني لم
أخلق لأكون قاضيًا أقول: حكمت على فلان بكذا، وعلى فلان بكذا، وإنما خلقت
لأكون معلمًا، وقد جربت نفسي في التعليم فنجحت، ثم طلب من ناظر الداخلية
أن يشفع له عند الأمير باستبدال التدريس في مدرسة دار العلوم بالقضاء، وقال: إنني
أعلم أنه لا ارتقاء في التدريس وإنني أرتقي في القضاء، ولكنني لا أحبه فلم يرض
توفيق باشا، وقال: إنني لا أحب أن يربي لي التلاميذ على أفكاره السياسية فرضي
الفقيد بالقضاء، وما زال يرقى فيه إلى أن بلغ أعلى درجة منه.
وقد كان قاضي العدل والإنصاف لا قاضي القانون والرسوم، وإن شئت قلت
القاضي المجتهد لا المقلد؛ ذلك أنه لم يكن يحكم بظاهر عبارة القانون وتطبيق
الوقائع عليها بادي الرأي، بل كان يتحرى إظهار الحق وإصابة العدل في القضايا
فإن انطبقت على القانون وإلا عمد إلى الصلح، وكأين من قضية خالف فيها القانون
عمدًا، حتى وشيء به بعض حساده الواقفين على ذلك، وذكر شيئًا من مخالفاته هذه
فسأله المستشار القضائي السباق مستر سكوت عن حقيقة ذلك، فقال: هل العدل
وضع لأجل القانون أم القانون وضع لأجل العدل؟ قال المستشار: بل القانون
وضع لأجل العدل، والعدل هو المقصود بالذات؛ فأنشأ حينئذ يشرح له القضايا،
ويبَيّن أنه لم يحكم فيها إلا بالعدل فقنع المسترسكوت وسُرَّ منه سرورًا عظيمًا؛ لأنه
كان منصفًا عارفًا بقيمة الرجال على أن هؤلاء الإنكليز أبعد الشعوب الأوربية عن
الرسوم في القضاء، وأقربهم إلى اعتبار الإنصاف ووجدان القاضي، ولو كانت هذه
البلاد محتلة من دولة أوربية أخرى لتعذر ارتقاء الفقيد فيها.
ومما كان يحكم فيه باجتهاده واعتقاده مسائل الربا، فإنه كان إذا تعذر عليه
الصلح يحكم برأس المال دون الربا؛ فيلجأ رب المال إلى الاستئناف؛ ليحكم له
بالربا. ومما كان يخالف القانون فيه حبس الشهود الذين يظهر له تزويرهم؛ فإنه
كان يخرجهم من الجلسة إلى الحبس، ثم إن الحكومة أقرت عمله هذا وأدخلته في
القانون بالتعديل الأخير. وقد أساء الأدب بعض الأجانب مرة في الجلسة فأمر
بحبسه فحبس، ثم جاء قنصله الجنرال إلى نظارة الحقانية شاكيًا من ذلك. وكلم
المستشار القضائي الفقيد في ذلك، قائلاً: إن هؤلاء القناصل ليس لهم عمل يشغلهم في مصر فهم يفترصون شيئًا يماحكون به الحكومة، ونحن نحب أن لا نجعل لهم سبيلاً إلى القيل والقال. فذكر له الفقيد ما كان من ذلك الأجنبي في الجلسة مع رفع
الصوت وعدم التزام الأدب المعروف، وقال: إنني ما دمت جالسًا على هذا الكرسي
لتقرير العدل، فأنا لا أقصر في احترامه؛ إذ لا يمكن احترام القضاء إلا بذلك..
إلخ ما قال، وكان مستحسنًا عند المستشار.
وقد كان يحكم على الأجانب وينفذ أحكامه، من ذلك أن كثيرًا من الفلاحين
كانوا إذا حكم على أحدهم بنزع أرض من يده يلجأ إلى رجل أجنبي، أو رجل داخل
في حمايتهم فيعطيه الأرض بعقد كاذب نكاية في خصمه، فيمنع الأجنبي الحكومة
من تنفيذ الحكم، أو ترفع الدعوى إلى المحكمة المختلطة، فتحكم فيها وكان من
المحكوم لهم من يترك الأرض للأجنبي لاعتقاده بعجزه عن انتزاعها منه في المحاكم
المختلطة، ومنهم من كان يلقي بنفسه في مهاوي الدعاوى ويخسر فيها ما شاء الجهل
أن يخسر. فعلى أمثال هؤلاء الأجانب كان ينفذ أحكامه بالقوة متحملاً تبعة التنفيذ
لعلمه بأن ذلك الأجنبي المحتال لا يتجرأ على مقاضاة الحكومة في دعوى هو فيها
مبطل يعجز عن إثبات دعواه.
ذلك شأنه في القضاء، وقد كان فيه نسيجًا وحده، ولم يكن مشغولاً فيه عما
خلق لأجله من تربية الأمة، فقد كان يعاقب المزورين، وشهداء الزور حتى طهَّر
كثيرًا من البلاد من شرهم بعد أن استفحل وطغى سيله، وكان يجتهد في الإصلاح
بين أهل البيوت وذوي القربي، ويبالغ فيحفظ حقوق اليتامى. وكان يطارد الفحش
والفجور حتى كادت الزقازيق تطهر من رجس البغايا أيام كان قاضيًا فيها كما
طهرت من التزوير. ذلك أنه كان يحكم بأشد العقوبة التي يسمح له القانون بها على
كل بغي تبرجت في الشوارع وعلى أعين الناس، حتى كاد يجعلهن من ذوات
الحجاب، وقد نقل إلينا من بعض الفساق هناك أنه قال مرة لبغي يعرفها: كيف
الحال؟ قالت: (زي الزفت، وإذا بقي القاضي أبو عمة (ذو العمامة) هنا فإنه
يقطع رزقنا من هذه البلد، عايز يرجَّع الدنيا لزمان سيدنا النبي) أو قالت ما معناه:
إن النبي ظهر ثانية. وأما براعته في تحقيق القضايا، وفراسته في تمييز البريء
من ذي الريبة فحدث عنهما ولا حرج، وقد كان مؤيدًا بالوجدان الصحيح والإلهام
الصادق؛ فإن كان كغيره من البشر عرضة للخطأ في رأية فقد كاد لا يخطئ في
وجدانه أو إلهامه. وسمعته يقول في بحث الكسب والاختيار: إنني كثيرًا ما أنظر في
قضية فأستخرج من التحقيق الطويل وجوهًا كثيرة للحكم بالإدانة مثلاً، حتى إذا ما
تمت المحاكمة وأردت النطق بالحكم تقوض كل ذلك البناء الذي كنت بنيته من وجوه
الإدانة وظهر لي بغتة أن المتهم بريء حتمًا؛ فأحكم بالبراءة فسبحان مقلب القلوب.
***
عمله في الأزهر
كان أول حديث دار بيني وبين الأستاذ الإمام - قدس الله روحه - في مصر
الحديث في إصلاح الأزهر. زرته في اليوم الثاني من وصولي إلى القاهرة بداره
(في أواخر رجب سنة 1315) وبعد التحية والسلام، وما يتصل بذلك من كلام
كاشفته باعتقادي واعتقاد من أعرف من العقلاء فيه، وأنه بقية رجاء المسلمين في
السعي للإصلاح، وأنه بلغني إنه يعمل لذلك في الأزهر، فأفاض في كلام لخصته
بعد مغادرة المجلس في عشر مسائل، قال:
(1) إن إصلاح الأزهر أعظم خدمة للإسلام، فإن إصلاحه إصلاح لجميع
المسلمين، وفساده فساد لهم.
(2) وإن أمامه عقبات وصعوبات من غفلة المشايخ، ورسوخ العادات القديمة
عندهم.
(3) وإن هذا الإصلاح لا يتم إلا في زمن طويل، وإنه إذا رأى حال الأزهر قد
صلحت قبل موته؛ فإنه يموت قرير العين ويرى نفسه سعيدًا بل يرى نفسه ملكًا.
(4) وإنه لا يرى لدخوله في الحكومة فائدة إلا الاستعانة على إصلاح الأزهر؛
فإنه لولا مكانته عند الخديوي والحكومة لما كان يسمع له في الأزهر كلام، ولا يقبل
له رأي.
(5) وإنه لم يحصل شيء من الإصلاح يذكر حتى الآن.
(6) إنه أراد أن يبدأ بأعمال عظيمة في الإصلاح اغتنامًا للفرصة، فأشيرعليه
بوجوب التدريج، ولكن لا بد له من المسايرة، وإن كان يخشى أن تضيع الفرصة
بما يسمونه التدريج.
هذه ست مسائل في موضوع الأزهر أطال القول فيها، وانتقل منها إلى
المسائل الأخرى، وأهمها تخطئة أذكياء المسلمين الذين يريدون خدمة الإسلام من
طريق السياسة، وإلى يأس من يعرفه من كبراء المسلمين من نهضهم وتخطئتهم في
ذلك. وقال لي في حديث آخر: إن نفسي توجهت لإصلاح الأزهر منذ كنت
مجاورًا فيه بعد التلقي عن السيد جمال الدين، وقد شرعت في ذلك؛ فحيل بيني
وبينه، ثم كنت أترقب الفرص فما سنحت إلا واستشرفت إليها، وأقبلت عليها،
حتى إذا ما صدفت الموانع لويت وصبرت مترقبًا فرصة أخرى. وبعد أن عدت من
النفي حاولت إقناع الشيخ محمد الإنبابي بشيء، فلم يصادف قبولاً. قلت له مرة:
هل لك أيها الأستاذ أن تأمر بتدريس مقدمة ابن خلدون في الأزهر؟ ووصفت له من
فوائدها ما شاء الله أن أصف، فقال: إن العادة لم تجرِ بذلك، فانتقلت به في شجون
الحديث إلى ذكر الشيوخ، وسألته: منذ كم مات الأشموني والصبان؟ قال: منذ كذا،
قلت: إنهما حديثا عهدٍ بوفاة، وهذه كتبهما تقرأ بعد أن لم تجر العادة بذلك. فسكت،
ولم يدخل في الحديث.
وقال لي مرة أخرى: إن بقاء الأزهر متداعيًا على حاله في هذا العصر محال
فهو إما أن يعمر، وإما أن يتم خرابه، وإنني أبذل جهد المستطيع في عمرانه؛ فإن
دفعتني الصوادف إلى اليأس من إصلاحه، فإنني لا أيأس من الإصلاح الإسلامي،
بل أترك الحكومة وأختار أفرادًا من المستعدين فأربيهم على طريقة التصوف التي
ربيت عليها؛ ليكونوا خلفًا لي في خدمة الإسلام، ثم أؤلف كتابًا في بيان حقيقة
الأزهر أمثل فيه أخلاق أهله، وعقولهم، ومبلغ علومهم، وتأثيرهم في الوجود
وأنشره باللغة العربية، ولغة إفرنجية حتى يعرف المسلمون وغيرهم حقيقة هذا
المكان التي يجهلها الناس حتى من أهله.
لما جلس عباس باشا حلمي على كرسي الخديوية تجددت للبلاد المصرية آمال،
وتوجهت إلى أعمال كان الغرض منها إزالة الاحتلال، ولو كان هذا الغرض
مما ترجى إصابته بسهام المصريين لكان الفقيد يكون في طليعة العاملين؛ لأنه كما
نعلم أنفذهم رأيًا، وأقواهم عزمًا، وأخلصهم قلبًا، ولكنه كان يعتقد بعد ذلك السعي
الذي أشرنا إليه أن المسألة لا يمكن أن تحل إلا بإتفاق الدول العظام، وأن الرجال
في اتفاقهم بعيد كما تبين، فأراد أن يكون حظه من حب الأمير الجديد للعمل السعي
في إصلاح الأزهر بنفسه، وإقناع الأمير بالسعي في إصلاح المحاكم الشرعية
والأوقاف؛ لأن هذه المصالح الثلاث إسلامية محضة لا مقاومة في إصلاحها للقوة
المحتلة، ولا منها، فاتصل بالأمير وحظي عنده وكاشفه برأيه كما كاشف الحكومة
بأمله في الأزهر، وجاء بما جاء من آيات الإقناع به حتى توصل إلى إنشاء قانون
تمهيدي للإصلاح يديره مجلس مؤلف من أكابر علماء المذاهب في الأزهر ينتخبون
انتخابًا، وقد جعل هو وصديقه الشيخ عبد الكريم سلمان من أعضائه على أنهما من
قبل الحكومة لا رأي لشيخ الأزهر، ولا للمجلس في انتخابهما، ولا في استبدالهما،
وكان الشيخ محمد الأنبابي الذي هو شيخ الأزهر لذلك العهد مريضًا، وقد كثرت
شكوى الشيخ من إدارته فعين الشيخ حسونة وكيلاً له بعد أن أخذ عليه العهد بإقامة
النظام، والاتفاق مع الفقيد على الإصلاح.
عين الشيخ حسونة وكيلاً لمشيخة لأزهر مأذونًا بإدارة شؤونه لسبع خلون من
جمادى الثانية سنة 1312 وصدر الأمر العالي بتشكيل مجلس إدارة الأزهر لست
خلون من رجب من تلك السنة -أي في الشهر الثاني -، ثم كان سعى في إقناع
الشيخ الأنبابي بالاستقالة يكاد يكون أمرًا حتمًا فاستقال، وصدر الأمر العالي بتولية
الشيخ حسونة شيخًا للأزهر في 2 المحرم سنة 1313هـ.
كان الأستاذ الإمام - رَوَّحَ الله رُوحه في دار السلام - يحب أن يجري الإصلاح
في الأزهر بإقناع كبار مشايخه ورضا أهله؛ فبدأ باستمالتهم بتكثير رواتبهم
فسعى لدى المستشار المالي الأسبق، وطلب تعيين مبلغ من خزينته المالية لمساعدة
الأزهر الذي يخرج للحكومة كذا رجالاً من القضاة الشرعيين، والمفتين والمأذونين؛
فأجيب الطلب، وعين في ميزانية سنة 1895 م مبلغ ألفا جنيه للأزهر على أن
تصرف بنظام معلوم لا برأي شيخ الأزهر وميله على ما كان يعهد في الأزهر مع
الوعد بالزيادة على هذا المبلغ في فرصة أخرى؛ إذا جاء بفائدة فكان هذا حجة للفقيد
على وجوب صنع قانون للمرتبات في الأزهر؛ ليكون لكل عالم حق معلوم يتناوله
في وقته من غير تزلف إلى شيخ الجامع أو غيره. وتلا هذا القانون قانون كساوي
التشريف، ومرتباتها، وكان الرأي فيها من قبل الشيخ الجامع يعطي من يشاء
ويمنع من يشاء، فصارت تعطى لمستحقها من غير سعي ولا تزلُّف فسر الشيوخ
بذلك سرورًا عظيمًا.
بعد هذا وجه الفقيد عنايته في المجلس إلى نظام التدريس والامتحان، وبيان
وسائل العلوم ومقاصدها، وجعل التدريس فيها على طريق توصل إلى الغاية منها
وبعد اجتماع ومذكرات طويلة وضع القانون لذلك، واحتيج في تنفيذه إلى المال فلجأ
الفقيد إلى أريحية الأمير؛ فصدر الأمر لديوان الأوقاف بصرف 3374 جنيهًا
للأزهر بينت مصارفها ومنها 464 جنيهًا لإنشاء دار الكتب الأزهرية، ثم وضع
نظام آخر لتوزيع الجرايات بالعدل.
أما نظام التدريس واختيار كتب العلوم فهو الذي أحب الأستاذ الإمام - رحمه
الله تعالى - أن يجعله برأي كبار الشيوخ؛ ليسهل تنفيذه بالرغبة، ولا يثقل عليهم
إلزامهم به من جانب القوة، وليتعود أهل هذا المكان على البحث في الأمور المهمة
والتعاون على ما ينفع الأمة، فوضع مشروع نظام التدريس، واختيار الكتب
واقترح أن تؤلف لجنة من كبار الشيوخ للبحث فيها، وإقرار ما يرونه نافعًا فألفت
اللجنة من أكثر من ثلاثين عالمًا، وجعل الشيخ سليم البشري أحد أعضاء مجلس
الإدارة رئيسًا لها. ثم انتخب منها لجنة للبحث في كل فرع من المشرع وإبداء رأيها
فيه للجنة الكبرى، وكانت هذه اللجنة مؤلفة من بضعة نفرٍ هم أكابر شيوخ الأزهر،
وضم إليهم الأستاذ الإمام من قبل مجلس الإدارة، وبعد أن أتمت هذه اللجنة عملها
قدمته إلى اللجنة الكبرى فأفرته هذه بعد تحوير قليل لا يذكر. وكانت مشيخة الأزهر
قد أسندت يومئذ إلى الشيخ سليم البشري الذي أوقف كل ما كان المجلس شرع فيه
فأوقف أيضًا مشروع إصلاح التدريس، بل كان المجلس يقرر الشيء
بالاتفاق مع رئيسه الشيخ سليم، ثم إنه لا ينفذه، ولم يكن القصد من ذلك إلا إحباط
سعي الأستاذ الإمام وإبقاء القديم على حاله، ولقد كان قادرًا على الإلزام بالتنفيذ بطلبه
رسميًّا من الحكومة ولكنه لم يكن يجب أن يكون للحكومة تصرف في الأزهر، بل أن
يبقى مستقلاًّ يصلح أهله برضا واقتناع، وهل يبقى كذلك بعده؟ الله أعلم والأيام
تظهر ما يعمل، وكان من الإصلاح الذي تم في الأزهر بسعيه -رحمه الله-
تعيين طبيب للأزهر وصيدلية (أجزاخانة) خاصة به في نفس الجامع، وإنارة
المسجد بالغاز البخاري، وإنشاء الميضأة على الأصول الصحية، وتجديد مبانٍ صحية في الأروقة وغير ذلك مما نفصله في التاريخ. ومن شاء أن يطلع على ذلك بالتفصيل التام، فليرجع إلى كتاب (أعمال مجلس إدارة الأزهر) الذي طبع في
في هذا العام [1] .
وقد انتقل الأزهر بهذا الإصلاح من خلل عام إلى شيء من النظام، ومن حالك
الدَّيْجُور، إلى بصيص من النور، ولم يتم عمل من الأعمال على ما كان يحب
رحمه الله تعالى. ولكن الإصلاح الحقيقي الذي كان روحًا محييًا ونورًا مبصرًا؛
فهو ما كان يلقيه من دروس التوحيد والتفسير والبلاغة والمنطق، فهذه الدروس
هي التي حولت نفوسًا كثيرة عن السبل المتفرقة إلى سبيل الله وصراطه وهي محل
الرجاء في هذا المكان.
(للسيرة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هو تاريخ يبين ما كان عليه الأزهر قبل الإصلاح وما صار إليه بعده، صورة ومعنى وصفحاته 124، وثمن النسخة منه 4 قروش، وأجرة البريد قرش واحد، ويطلب من إدارة المنار ومن بعض المكاتب بمصر.(8/453)
الكاتب: حافظ إبراهيم
__________
مرثية محمد حافظ أفندي إبراهيم
في الأستاذ الإمام رضي الله عنه
سلام على الإسلام بعد محمد ... سلام على أيامه النضرات
على الدين والدنيا على العلم والحجى ... على البر والتقوى على الحسنات
لقد كنت أخشى عادي الموت قبله ... فأصبحت أخشى أن تطول حياتي
فوا لهفي والقبر بيني وبينه ... على نظرة من تلكم النظرات
وقفت عليه حاسر الرأس خاشعًا ... كأني حيال القبر في عرفات
لقد جهلوا قدر الإمام فأنزلوا ... تجاليده في موحش بفلاة [1]
ولو أضرحوا بالمسجدين لأنزلوا ... بخير بقاع الأرض خير رفات
تباركت هذا الدين دين محمد ... أيترك في الدنيا بغير حماة
تباركت هذا عالم الشرق قد قضى ... ولانت قناة الدين للغمزات
***
زرعت لنا زرعًا فأخرج شطأه ... وبنت ولما نجتن الثمرات
فواهًا له ألا يصيب موفقًا ... يشارفه والأرض غير موات
مددنا إلى (الأعلام) بعدك راحنا ... فردّت إلى أعطافنا صفرات
وجالت بنا تبغي سواك عيوننا ... فعدن وآثرن العمى شرقات
وآذوك في ذات الإله وأنكروا ... مكانك حتى سودوا الصفحات
رأيت الأذى في جانب الله لذة ... ورحت ولم تهمهم له بشكاة
لقد كنت فيهم كوكبًا في غياهب ... ومعرفة في أنفس نكرات
أبنت لنا التنزيل حكمًا وحكمة ... وفرقت بين النور والظلمات
ووفقت بين الدين والعلم والحجى ... فاطلعت نورًا من ثلاث جهات
وقفت لها (نوتو ورينان) وقفة ... أمدك فيها الروح بالنفحات
وخفت مقام الله في كل موقف ... فخافك أهل الشك والنزغات
وكم لك في إغفاءة الفجر يقظة ... نفضت عليها لذة الهجعات
ووليت شطر البيت وجهك خاليًا ... تناجي إله البيت في الخلوات
وكم ليلة عاندت في جوفها الكرى ... ونبهت فيها صادق العزمات
وأرصدت للباغي على دين أحمد ... شباة يراع ساحر النفثات
إذا مس حد الطرس فاض جبينه ... بأسطار نور باهر اللمعات
كأن قرار الكهرباء بشقه ... يريك سناه أيسرُ اللمسات
***
فيا سنة مرت بأعواد نعشه ... لأنت علينا أشأم السنوات
حطمت لنا سيفًا وعطلت منبرًا ... وأذويت روضًا ناضر الزهرات
أطفأت نبراسًا وأشعلت أنفسًا ... على جمرات الحزن منطويات
رأى في لياليك المنجم ما رأى ... فأنذر بالويل والعثرات
ونبأه علم النجوم بحادث ... تبيت له الأبراج مضطربات
رمى السرطان الليث والليث خادر ... وربَّ ضعيف نافذ الرميات
فأودى به ختلاً فمال إلى الثرى ... ومالت له الأجرام منحرفات
وشاعت تعازى الشهب باللمح بينها ... ويخطر بين اللمس والقبلات
تكاد الدموع الجاريات تقله ... وتدفعه الأنفاس مستعرات
بكى الشرق فارتجت له الأرض رجة ... وضاقت عيون الكون بالعبرات
ففي الهند محزون وفي الصين جازع ... وفي مصر باك دائم الحسرات
وفي الشام مفجوع وفي الفرس نادب ... وفي تونس ما شئت من زفرات
بكى عالم الإسلام عالم عصره ... سراج الدياجي هادم الشبهات
ملاذ عياييل ثمال أرامل ... غياث ذوي عدم إمام هداة
فلا تنصبوا للناس تمثال عبده ... وإن كان ذكرى حكمة وثبات
فإني لأخشى أن يضلوا فيومئوا ... إلى نور هذا الوجه بالسجدات
فيا ويح للشورى إذا جد جدها ... وطاشت بها الأراء مشتجرات
ويا ويح للفتيا إذا قيل من لها ... ويا ويح للخيرات والصدقات
بكينا على فرد وإن بكاءنا ... على أنفس لله منقطعات
تعهدها فضل الإمام وحاطها ... إحسانه والدهر غير موات
فيا منزلاً في (عين شمس) أظلني ... وأرغم حسادي وغم عداتي
دعائمه التقوى وأساسه الهدى ... فيه الأيادي موضع اللبنات
عليك سلام الله ما لك موحشاً ... عبوس المغاني مقفر العرصات
لقد كنت مقصود الجوانب آهلاً ... تطوف بك الآمال مبتهلات
مثابة أرزاق ومهبط حكمة ... ومطلع أنوار وكنز عظات
__________
(1) تجاليد الإنسان: جسمه.(8/475)
الكاتب: شيخ بن أحمد الهادي
__________
المنار الإسلامي واللواء الوطني
بين المنار الإسلامي، وجريدة اللواء الوطنية تضاد فيما يسمونه (المبدأ)
فالمنار يدعو إلى الإصلاح الإسلامي، وثبت أن المسلمين لا يرتقون إلا بترك البدع
ورجوعهم في الدين إلى ما كان عليه السلف، وبأخذهم بوسائل القوة والمدنية
العصرية في أمر الدنيا.
ويدخل في الأول أن كل مسلم أخ لكل مسلم، وفي الثاني أن أهل كل قطر من
الأقطار ينبغي لهم التعاون على عمرانه لا يفرق بينهم في ذلك دين ولا مذهب.
وجريدة اللواء لا رأي لها في الدين والإصلاح يسقطها، ولكن لها وطنية عمياء من
معناها أنه يجب على كل مصري مسلم أن لا يتعصب على كل من يقيم في مصر من
غير أهلها الأقدمين وإن كان مسلمًا، وعلى كل مصري مسلم أن يتعصب على كل
مصري ليس بمسلم، وهذا مما ينقضه المنار، ولذلك ترى جريدة اللواء تقدح في
المنار، وقلما نطلع على شيء من طعنها، وقد صارت في هذه السنة تسند الطعن
إلى بعض الأقطار إما اختلاقًا، وإما لأن مثل أحمد المنوفي كتب إليها بذلك - هذا
الرجل من باعة الكتب كالذين يطوفون بالأزبكية، وسافر إلى كلكته فصار إمام
مسجد بها - فتسمي ذلك صوت اللواء في الهند! ! وقد يجيئها ما يفند مطاعنها فلا
تنشره، كما ترى في الرسالة الآتية التي كتب إلينا مرسلها من سنغافورة صورتها،
وكلفنا نشرها إن لم تنشر في اللواء، وهي:
عن سنغافورة في 27 جماد أول سنة 1323 إلى مصر القاهرة.
حضرة الفاضل سعادتلو أفندم صاحب اللواء دام علاه
بعد السلام قد اطلعت على ما كتبه في جريدتكم الغراء في العدد 175 حضرة
الفاضل الهندي المولوي عبد المجيد المراد آبادي أحد مدرسي العلم الشريف بكلكتا
فتأسفت كثيرًا؛ لأني لم أكن طالعت شيئًا من أفكار علماء الهند قبل في هذا
الموضوع، وظننت حينئذ أنهم في جمود وخمود لا كما كنت أظن وأسمع؛ حتى
رأيت ما كتبتموه من كلام حضرة المِفضال النواب محسن الملك كثر الله أمثاله
وحفظه، فسرى عني ذلك الأسف وحل محله الرجاء، وقد أعجبني كثيرًا مما كتبتم
على كتابه الأخير. فجزى الله أحسن الجزاء كل داع إلى الهدى نابذ للتعصب
الأعمى.
اللهم إلا أنه وقع عندى موقع الاستغراب جهل المولوى انتشار المنار بالهند
وخصوصًا في كلكته؛ إذ حضر لدي وقت قراءتي تلك الرسالة أحد أهل كلكته ممن
يقرأ المنار منذ سنين من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ويعرفون الرجال
بالحق لا بالعكس، وقد أفادني أن للمنار هناك سمعة حسنة ولكثير من الجرائد
والمجلات العربية والمصرية.
أما حصر المولوي ما وجد في المنار في نبذ المذاهب الأربعة فشيء اختص هو
به، فليعد النظر إن لم يعمه تعصبه؛ ليعلم أن المنار يدعو إلى نبذ نحو قولهم:
(إذا زنى الرجل بأمه أو بنته بعد أن يعقد عليها صارت له فراشاً ولا حد عليهما)
وأمثال ذلك، وصاحب المنار ومن على شاكلته هم المتبعون للأئمة عليهم الرضوان؛
لأن الأئمة لم يكونوا مقلدين جامدين، بل أفنوا أعمارهم في اقتباس العلم من الكتاب
والسنة.
وتنظيره بالخوارج مما دلنا على كمال عقله وعلمه بالدين والتاريخ؛ فلا نطيل
الكلام مع من كان أعمى أو يتعامى، لكننا ننصح لذوي الشأن في المدارس بأن لا
يثقوا بمن هذا علمه وعقله، وغالب الظن أن ذلك الكاتب لا عالم ولا متعلم بل
متعصب متخبط أراد التضليل فنسب نفسه إلى العلم والتدريس وإلا فليكتب لنا
العبارة المنتقدة بنصها ثم ليرد عليها بالدليل لا بقال وقيل. وأنى له ولأمثاله ذلك
فيقال له: (ليس بعشك فادرجي) ولسنا ممن يعتقد العصمة للمنار، ولكنا نعلم أن
المتعصبين لا ينكرون الأمر الحق. وأما تربصه الدوائر لمن ينفي تحريف المبطلين
وانتحال الغالين عن هذا الدين؛ فنقول له ولشيعته: تربصوا فإنا معكم متربصون،
والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وسلام على المرسلين، والحمد لله
رب العالمين، أفندم.
... ... ... ... ... ... ... ... شيخ بن أحمد الهادي
__________(8/478)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مشروع بناء مسجد في باريس
خطر هذا المشروع للخواجه (ليون لامبير) المقاول في مصر من عدة شهور
وكاشف به بعض وجهاء مصر، فعلم منهم أنه لا يرجى نجاحه، إلا إذا كان تحت
رئاسة فقيد الإسلام والشرق الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - فأرسل أحد أولاده
(فنيكسي لامبير) بكتاب منه إلى الإمام عندما ذهب إلى رمل الإسكندرية مريضًا،
فمنعناه من مقابلته؛ لأن صحته لا تسمح له بالكلام ولا الفكر في الأعمال، فعاد إلى
مصر وأرسل إليّ بعد ذلك كتابًا في 21 يوليو يرجوني فيه رجاء مؤكدًا أن أعرض
المشروع على الإمام في الوقت المناسب، وأرسل معه قائمة كتب في أعلاها
(أسماء المتحدين على مشروع بناء جامع في مدينة باريس تحت رياسة فلان) ... إلخ
ورغب إليَّ أن أكلف الإمام بإمضاء القائمة، ثم أعرضها على بعض وجهاء
الإسكندرية، ثم أرسلها إليه لكي يتيسر له إمضاؤها من وجهاء مصر، وإنني لم أرَ
فرصة مناسبة لمذاكرة فقيدنا في هذا المشروع لأعرف رأيه فيه، وبعد أن توفاه الله
تعالى بلغني أن الرجل رغب إلى شيخ الأزهر أن يجعل المشروع تحت رياسته؛
فقبل فعسى أن ينجح المشروع ويبنى المسجد في مكان يسهل على المسلمين في
باريس القصد إليه والصلاة فيه ولا يكون كجامع لوندن (لوندره) الذي حدثنا عنه
الأستاذ الإمام - رضي الله عنه - بما يأتي، قال:
خطر لرجل يهودي كان مستخدمًا في الهند ان يجمع من المسلمين مالاً يبني به
مسجدًا في لوندرة فجمع خمسين ألف جنيه، ثم جاء لوندرة فبنى مسجدًا في خارجها
على مسافة ساعة في السكة الحديدية، وهو مكان لا يصل إليه أحد من المسلمين
في لوندره؛ فهو مغلق دائمًا لا يصلي فيه أحد. وقد اشترى الرجل أرضًا لنفسه
عند الجامع، وبني فيها بيتًا لنزهته؛ إذا علم بأن بعض أمراء المسلمين أو أغنيائهم
زار لوندرة يبحث عنه ويدعوه إلي داره وإلى رؤية المسجد، ولما زار أمير الأفغان
لهذا العهد لوندره - وكان يومئذ ولي العهد للإمارة -أجاب دعوة هذا اليهودي، وبعد الطعام أعطاه خمس مئة جنيه. ولا يخالن أحد أن الأمير كان مبسوط الكف لكل
أحد يتصل به، أو يخدمه فقد كان خالد أفندي أستاذًا للغة التركية في مدرسة كمبردج
(مهمندارا) للأمير في لندن لزم خدمته وأعد له كل وسائل الراحة وهو لم ينعم عليه
إلا بجنيه واحد لم يقبله.
العبرة في هذا المقام أن المسلمين قد فتنوا بهؤلاء الأجانب فتونًا، فالخواجه
المجهول منهم يحظى عند كبيرهم وصغيرهم ويسهل عليه أن يبلغ منهم ما لا يبلغه
أوسعهم علمًا، وأبعدهم فهمًا، وأشدهم غَيْرَة، وأطهرهم سريرة؛ فلو أن مسلمًا
حاول جمع المال من الهند أو مصر لبناء مسجد في لندن أو باريس- لعجز، ولكن
الأجنبي لا يعجز عن استخدام نفوذ كل كبير فيهم حتى رجال الدين، وما أحوجنا
إلى رجال يسبرون غور الأجانب يستفيدون من خيارهم ما ينفع الأمة، ويتوقون شر
شرارهم، ويدفعونه عنها كما كان يفعل الأستاذ الإمام، رحمه الله تعالى، وجزاه
عن هذه الأمة أفضل الجزاء.
__________(8/479)
غرة رجب - 1323هـ
31 أغسطس - 1905م(8/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة سيرة الأستاذ الإمام
إفتاء الديار المصرية
وخدمة الأوقاف والمحاكم الشريعة
في ست بقين من المحرم سنة1317هـ 3 يونيو سنة 1899م صدر الأمر
العالي بناء على قرار مجلس النظار بتعيين الفقيد مفتيًا للديار المصرية وكان الأمير
أيده الله بتوفيقه، هو الذي اختاره لذلك أولاً، وقد رأيته في أول الأمر غير مرتاح
إلى هذا المنصب وإن كان شريفًا؛ لأنه ليس فيه أعمال عمومية، ولكن الرجل
الذي قدر على أن يجعل التحرير في الجريدة الرسمية وسيلة للإصلاح في الحكومة
والإرشاد للأمة لا يعجز عن التوسل بأكبر منصب شرعي إلى الخدمة الملية العامة
وكذلك كان، فإنه به خدم القضاء الشرعي والأوقاف الإسلامية أَجَلّ خدمة، وزادت في
أيام هذا المنصب شهرته وكثر عدد العارفين بفضله حتى كاد يكون المرجع في الفتوى
لجميع مسلمي الأرض وناهيك باستفتاء مثل مفتي بنجاب إياه.
كان أول عمل جليل له بعد أن صار مفتيًا تفتيش المحاكم الشرعية في القطر
كله وإظهار جميع ما فيها من الخلل وبيان مناشئه، فمنها ما كان من تقصير الحكومة
ومنها ما هو من تقصير القضاة والكُتاب، وقد كتب في ذلك تقريره المشهور فكان
مدهشًا للأفكار في دقة بحثه وتشخيصه داء هذه المحاكم، ووصفه للعلاج الذي لا
شفاء بدونه، وقد عجب الجبناء من شجاعته إذ خاطب الحكومة رسميًّا ببيان
تقصيرها وطالبها بإزالته، وقد أحلت الحكومة هذا التقرير محل الاعتبار وألفت لجنة
في نظارة الحقانية للبحث في تنفيذ ما يتيسر تنفيذه منه بالتدريج.
وكان رحمه الله صاحب الرأي في مجلس الأوقاف الأعلى بما كان يطبق
الأعمال على الشرع والمصلحة، وأهم خدمة له فيه مشروع المساجد الذي وضعه
لعمارة بيوت الله تعالى وإحياء الدين وعلومه، وترقية الخطابة، وبث الإرشاد في
الأمة، وقد نوهنا به في المنار من قبل ونشرنا في الجزء الثامن من هذا المجلد ما
أقره المجلس من ذلك المشروع ثم صدر الأمر العالي بتوقيف تنفيذه ثم صدر أمر آخر
بتنفيذ شيء منه، ومن هذا المشروع تعلم أنه رحمه الله تعالى كان يتوسل بكل
عمل يدخل فيه إلى إحياء العلم وهداية الدين وتربية المسلمين.
***
عمله في مجلس الشورى
في سنة 1317 - 1899 عين عضوًا دائمًا في مجلس الشورى فانتقل
المجلس به من حال إلى حال. كانت الحكومة قلما تحفل برأي المجلس وكان
المجلس في نظر الأمة وفي نظر أعضائه الوكلاء عنها غير مضطلع بما أُوجِد لأجله،
حتى إن جلساته كانت قلما تلتئم على أصول نظامه بحضور جميع أعضائه أو
معظمهم، فلما دخله نفخت فيه روح جديدة زال بها سوء التفاهم بينه وبين الحكومة
فصارت تحفل برأيه وتحله من الاعتبار ما لم تكن تحله فتأخذ برأيه فيما يمكن الأخذ
به وتبين له سبب ما لم تأخذ به وقوي رجاء أعضائه في خدمتهم وانتظم عقد
اجتماعهم وعظمت ثقة الأمة بهم، وكان أكثر ما ترسله الحكومة إلى المجلس لينظر
فيه يؤلف له لجنة تحت رياسة الفقيد لتدقق النظر فيه وتعرض رأيها على المجلس،
وكان له رحمه الله الرأي العالي والصوت المسموع في كل مسألة وكل مشروع فكنت
تراه في المسائل المالية حاسبًا اقتصاديًّا، وفي المسائل الإدراية إداريًّا ماهرًا وفي
اللوائح والقوانين قانونيًّا خبيرًا، وفي الأمور الشرعية إمامًا فقيهًا، وكان المجلس
يعهد إليه مذاكرة الحكومة في الشؤون العظيمة ليكون الحد الأوسط في شكل القياس
لتخرج النتيجة في خدمة البلاد صحيحة.
وقد كادت أعمال المجلس تغتال معظم وقته فكنت أتألم من ذلك لاعتقادي أن
وقته أثمن من أن يُنْفَق في خدمة المجلس فلا أكاد أجد فرصة إلا وأرغب إليه فيها
بالتخفيف والإقلال من الاشتغال بعمل المجلس حتى قلت له مرة: إن الحكومة
المصرية يشبه أن تكون أعمالها وقوانينها مؤقتة، ترى أنه أنفع للبلاد ولا تلبث هي
بعد أن تقره أن ترجع عنه بعد زمن قصير أو طويل ويوشك أن تنفق في تحقيق
بعض الأمور أيامًا كثيرة، ثم لا يتيسر إقناع هذه الأوقات في الكتابة والتأليف لكان ما
تكتب هداية لهذه الأمة باقية ما بقيت الأمة، فقال: إن الغرض الأول من العمل في
المجلس هو التعاون مع الأعضاء على الجد والاهتمام بالبحث في الأمور العامة
ومصالح البلاد وتربية الرأي العام في الأمة ليكون ذلك إعدادًا لنفوس طائفة منا
لفصل الأحكام بالشورى، فإذا ارتقت هذه الملكة في الهيأة الحاضرة للمجلس فإنها تنتقل منها إلى الهيئة التي تخلفها ويكون ذلك جرثومة من جراثيم الإصلاح
في البلاد فعلمت من هذا الجواب أنه لا يترك مذهبه في الإصلاح من طريقة
التربية العملية في عمل من أعماله وسيأتي ذكر مذهبه هذا في محله.
عمله في الجمعية الخيرية الإسلامية
يوجد في كل قطر من بلاد المسلمين أفراد تفرقت فيهم الفضائل الكثيرة التي
هي مناط حياة الأمم، ولكن يعوزهم شيء للحياة الاجتماعية في هذا العصر هو أهم
شيء وعليه يتوقف كل شيء، وهو التعاون على الخدمة العامة والأعمال المشتركة،
وإنك لا تكاد ترى في قطر إسلامي جمعيات ولا شركات ناجحة يرجى خيرها للأمة
إلا ما بدأ به مسلمو الهند ومصر في ظل الحرية الإنكليزية، ولا يزال كثيره في مهد
الطفولية، ولم تنجح في مصر جمعية من الجمعيات الكثيرة التي ألفت فيها بأسماء
مختلفة لمقاصد مختلفة مثل نجاح الجمعية الخيرية الإسلامية ولم تصادف جميعة منها
ما صادفته هذه الجمعية من الصدمات، التي يعز فيها الصبر والثبات، وكان الفضل
الأول في ثباتها ونجاحها للأستاذ الإمام أحسن الله جزاءه.
أنشئت الجمعية للتعاون على تربية أولاد الفقراء والمساكين من المسلمين
وإعانة العاجزين منهم عن الكسب على شقاء الحياة فاتهمها أعداء البشر بالسياسة
وسعوا بها إلى ذوي النفوذ والسلطة ولولا سعيه في الدفاع عنها وإقناع أهل الحل
والعقد بأنها خيرية محضة ليس من موضوعها ولا مما تقصد إليه شىء سياسي أو
سري لعفت رسومها، ثم إنه خدمها بنفسه وبالتعاون مع أصفيائه المؤسسين لها معه
كوكيلها وأعضاء إدارتها لهذا العهد خدمة جليلة حتى ارتقت عن طور الطفولة وصار
ثباتها مضمونًا بحول الله وقوته، ومما انفرد به في خدمتها دعوة الأمراء والوجهاء
والأغنياء إلى الاشتراك فيها ومساعدتها وتحصيله منهم قيم الاشتراك إذا قضت
الحال بذلك.
أسست الجمعية سنة 1310هـ، وفي سنة 1318هـ انتخب رئيسًا لها فزاد
اجتهاده في خدمتها وكان من ارتقائها في زمن رياسته أن صار إيرادها في السنة
الماضية 10395 جنيهًا، وكان في سنة 1317هـ 4430جنيهًا، وصارت أطيانها
533 فدانًا، وكان قبيل ذلك 280فدانًا، وصارت مدارسها سبعًا وكانت أربعًا، على
أنه كان يرى أن الفائدة الأولى المقصودة بالذات من الجمعية هي تعويد المسلمين
الاجتماع للخير والتعاون على البر والخدمة العامة وإشعار قلوب الأغنياء عاطفة
الرحمة والإحسان بالفقراء، كما كان يصرح بذلك في الاجتماع العام السنوي كل عام
فهو فيها عامل بمذهبه في تربية الأمة كما كان شأنه في غيرها جزاه الله عن هذه
الأمة أفضل الجزاء.
***
طبع الكتب النافعة وجمعية إحياء العلوم العربية
كان رضي الله عنه يرى أن حياة الأمة بدون حياة لغتها من المحال، وأن حياة
العلوم العربية بمثل هذه الكتب الأزهرية محال وأن لا بد للإصلاح من إحياء كتب
أئمتها وكبار علمائنا التي ألفت أيام كان العلم حيًّا في الأمة، فكان يسعى لذلك سعيه
وبهديه وإسعاده طبعنا ذينك الكتابين الجليلين اللذين هما روح علم البلاغة (أسرار
البلاغة، ودلائل الإعجاز) للشيخ عبد القاهر الجرجاني مؤسس علوم البلاغة،
ولولا تصحيح الفقيد لهما واستحضاره لنسخهما من الأقطار النائية لما تيسر طبعهما،
وفي سنة 1318هـ أسست في مصر جميعة خاصة لهذه الخدمة تحت رئاسته سُميت
(جميعة إحياء العلوم العربية) كانت فاتحة أعمالها طبع كتاب (المخصص) لابن
سيده في اللغة وهو كتاب لا نظير له في بابه، ولا غناء عنه في إحياء اللغة في هذا
العصر، وقد شرعت بعده في إحياء مدونة الإمام مالك وعني الفقيد رحمه الله تعالى
باستحضار نسخها من تونس وفاس وغيرهما من البلاد لولاه لما تيسر جمعها كلها
ولنا رجاء عظيم في بقائها وحسن خدمتها بهمة من كان وكيلها وليس لرئاستها بعد
الفقيد سواه ألا وهو حسن باشا عاصم.
***
مؤلفاته بحسب تاريخ تأليفها بالتقريب
1- الواردات: رسالة في الكلام أو التوحيد على طريقة الصوفية وأسلوبهم
وهي أول تآليفه، ولعلنا ننشرها برمتها في سيرته المطولة فقد كان أعطانا نسخة
منها.
2- رسالة في وحدة الوجود: وهي رسالة نفيسة لم أطلع عليها ولكنه هو الذي
أخبرني بها وقال: إنها ليست بمعنى ما كتب عبد الكريم الجيلي وأمثاله، مما هو
أقرب إلى مذاهب الحلول كالنصرانية منه إلى توحيد الإسلام ولكنها بأسلوب آخر
وأراه يبين فيها مراتب الوجود وتعددها من وجه، ونظامها العام ووحدتها من وجه
آخر ولعلنا نظفر بها ونطبعها.
3- تاريخ إسماعيل باشا: أخبرني بهذا الكتاب أحد تلامذته الأولين، وقال: إن
عبد الله النديم كان أخذ من الفقيد نسخته في أثناء الثورة العُرابية ونشر منه فصولاً في
جريدة الطائف بتصرف أو بغير تصرف ولم أسمع منه رحمه الله تعالى ذكرًا لهذا
الكتاب، وكنت أظن أنه لم يصنف شيئًا إلا وقد أخبرني به لأنه قص عليّ تاريخه
بالتفصيل وكتب إليّ شيئا مجملاً منه كما علم القراء.
4- فلسفة الاجتماع والتاريخ: هو الكتاب الذي ألفه أيام كان يُدَّرِس مقدمة ابن
خلدون في مدرسة دار العلوم كما ذكرنا في هذه السيرة وقد نقد هذا الكتاب عندما
عزله توفيق باشا من المدرسة ونفى السيد جمال وأخذت أوراقه، وكان -طيب الله
ثراه- يقول: أتمنى لو يحفظ هذا الكتاب من وقع في يده ويدعيه لنفسه ولو بعد موتي
لينتفع به الناس.
5- حاشية عقائد الجلال الدواني: وهي غاية الغايات في علم الكلام، وتحقيق
مسائله وتحرير الخلاف بين المتكلمين وبيان ما هو لفظي منه، وما هو حقيقي وقد
كان السيد عمر الخشاب شرع في طبعها ولعلها تتم عن قريب.
6- شرح نهج البلاغة: وهو شهير جدًّا وقد طبع في بيروت مرتين وفي
طرابلس مرة وفي مصر مرة.
7- شرح مقامات بديع الزمان الهمذاني: وهو مطبوع في بيروت ولم يعرف
لغيره شرح لهذه المقامات وقد فرغ منه في 16رمضان سنة 1306.
8-شرح البصائر النصيرية: في المنطق وهو شرح وجيز أطلق عليه لفظ
التعليقات، والكتاب عالي الأسلوب وهو من أحسن ما كتب المسلمون في المنطق،
ولم يسبق لأحد قبله كتابة عليه فيما نعلم وقد قرأه درسًا في الجامع الأزهر وحضرناه
عليه ولعله لا يتسامى أحد إلى تدريسه بعده، وإن كان من الكتب التي قرر مجلس
إدارة الأزهر تدريسها فيه رسميًّا إلا أن يكون بعض من تلقاه عنه.
9- نظام التربية بمصر: رسالة في الطريقة المُثلى لتربية المصريين
وتعليمهم وهي على إيجازها من أحسن ما كتب وأنفعه وستنشر في تاريخه.
10- رسالة التوحيد: وما أدراك ما رسالة التوحيد هي التي يصدق عليها القول
المشهور (لم ينسج ناسج على منوالها ولم تسمح قريحة بمثالها) هي التي يصح أن
تُعدّ معجزة من معجزات النبي - عليه السلام - وآية من آيات الإسلام، هي التي
ينبغي أن تجعل أصل الدعوة إلى هذا الدين، ويعم تلقينها جميع المسلمين، وقد قلت
للأستاذ الإمام - رضي الله عنه - إنه لولا اسم هذه الرسالة وما في أولها من
الاصطلاحات الكلامية الوجيزة لكان انتشارها أضعاف ما هو الآن، ولعم الانتفاع
بها كل مكان، ولكن البعيد إذا سمع باسم رسالة التوحيد يتوهم أنها عقيدة
كالسنوسية، أو كالعقائد النسفية، والقريب قد يأخذ نسخة منها، فيصرفه ذكر
الواجب والممكن والمستحيل عنها، توهمًا أنها في علم الكلام، الذي لا يتناوله إلا
العلماء الأعلام، وقد كان رحمه الله تعالى عازمًا على بسط الكلام في هذه المقدمات،
وسائر مسائل الإلهيات، وجعل الكلام فيها كالكلام في النبوة ومزايا الإسلام،
موجهًا إلى العقل وإلى الوجدان، لا مجرد تقرير وجيز للبرهان، وقد قرأها درسًا
في الأزهر وتلقيناها عنه.
11- تقرير المحاكم الشرعية: هو على خصوصية موضوعه مفيد حتى لِغَيْر
القضاة ومستخدمي هذه المحاكم من جميع أهل العلم والأدب لا سيما طلاب علم الفقه
فإنه يعطيهم من البصيرة في طريقة التحصيل على الوجه الذي ينتفعون به وينفعون
ما لا يجدونه في سواه، وفيه كثير من الفوائد الإدارية والاجتماعية والأدبية، وأحوج
الناس إليه بعد القضاة وكتاب المحاكم المرشحون للقضاء وللكتابة في هذه
المحاكم.
12- الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية: وهو مقالات كتبها لمجلة المنار
ثم جردناها منه وطبعناها على حدتها وسميناها بهذا الاسم بإذنه، فجاءت كتابًا
مستقلاًّ يناهز مئتي صفحة وقد نفدت نسخ الطبعة الأولى فأعدنا طبعه.
13- تفسير سورة العصر: كتبه لينشر في المنار إجابة لرغبتنا ورغبة بعض
أهل العلم في مدينة الجزائر الذين حضروا هناك درسه في تفسير السورة، وقد كتب
في هامش تفسير جزء عمَّ عند تفسير هذه السورة ما نصه: (وقد كتبنا تفسيرًا لهذه
السورة الشريفة نشر وحده بعد أن طبع في مطبعة جريدة المنار، وهو ما كنا ألقيناه
درسًا في مدينة الجزائر في شهر جمادى الأولى سنة 1321هـ وفيه تفصيل طويل
لما أجملناه في هذا التفسير المختصر فمن أراد بيانًا أوسع، وتفصيلاً أبدع، فليطلب
ذلك التفسير فهو فيما أعلم غير مسبوق بنظير) اهـ.
أقول: إننا طبعناه بالقطع الصغير ليوضع في الجيب وطبعنا معه ملخص
درس الأستاذ الإمام في تونس وموضوعه العلوم الإسلامية وأقرب الطرق لعلمها.
14- تفسير جزء عم: وهو على قرب العهد بطبعه (أشهر من نار على علم)
وقد كان رواجه أكثر من رواج سائر كتبه على شدة الرغبة فيها كلها حتى إنه قد
وزع منه عدة ألوف في عدة شهور وهذا شيء لم يعهد له نظير في المطبوعات
العربية.
هذه هي مؤلفاته التامة ولا حاجة هنا لذكر ما بدأ به ولم يتمه، وأما مقالاته التي
نشرت قديمًا وحديثًا في الجرائد المصرية وغيرها فهي كثيرة جدًّا وكلها آيات بينات
في العلم والدين والأدب نفع الله بها، وأعاننا على إحيائها.
(للسيرة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(8/487)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
الدين في نظر العقل الصحيح
لصاحب الإمضاء محمد توفيق صدقي
(3)
المقالة الثانية
بقية الكلام في النبوة
أليست العقائد الإسلامية أنزه العقائد وأبعدها عن مخالفة المعقول والوحيدة في
قوة الحجة ومتانة البرهان (انظر ما تقدم في المقالة الأولى) أليس في القرآن
أصول الدلائل العقلية على صحة هذه العقائد مع الرد على من خالفها بأجلى بيان؟
أليس في العبادات والأوامر والنواهي القرآنية ما يطهر القلب، ويصلح النفس
والجسم معًا وأحوال الدين والدنيا؟ أليس في القرآن من المسائل العلمية الطبيعية ما
لم يخطر على قلب بشر في ذلك الزمن وفي تلك البلاد؟ ماذا يكون قول العامي إذا
ذكر شيئًا عن البرق والرعد والصواعق؟ وماذا يقع في كلامه من الأوهام ونحن في
القرن العشرين للمسيح؟ فما بالك إذا كان في القرن السادس، فيكف لم يدخل ما
يذكره العامة من الخرافات في القرآن، ولِمَ لَمْ يذكرها محمد - صلى الله عليه
وسلم- فيه اعتقادًا منه لها، وجريًا على ما كان عليه معاصروه؟ فكم ذُكرت هذه
الأشياء في القرآن وغيرها من عجائب الكون، ومع ذلك لم يرد عنها إلا كل قول
صحيح سالم من طعن الطاعنين، فكيف تحاشى محمد الوقوع فيما يقع فيه مثله من
العامة عند ذكر هذه المسائل؟ هل يعرف العامي الأمي من العرب في ذلك الزمن أن
كل الثمرات لها حياة كحياة الحيوان، وأنها جميعها لها ذكر وأنثى، وهو الأمر الذي
لم تقل به العلماء إلا في الزمن الأخير {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} (الرعد: 3) مع أن العرب لم تكن تعرف ذلك إلا في النخيل! هل يعرف العامي أن القمر ليس مضيئًا بذاته، ويدرك أن الشمس وحدها هي مصباح عالمنا هذا فيقول {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} (الإسراء: 12) ولا يصف القمر بما يستفاد منه أنه مصدر للنور ويصف الشمس وحدها دائمًا بذلك،
كقوله: إنها سراج منير ونحو ذلك؟ هل كان أحد في ذلك الزمن يعتقد دوران الأرض
حتى يرد في القرآن: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ
الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) ؟ ! وليس ذلك في يوم القيامة على الأصح إذ
قوله (تحسبها جامدة) لا يناسب مقام التهويل والتخويف، وقوله {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة، هل كان أحد
يدرك الفرق بين جعل النهار الذي هو من حركة الأرض مجليًا للشمس، والليل
غاشيًا لها، وبَيَّن العكس حتى يأتي بهذا التعبير {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا
يَغْشَاهَا} (الشمس: 3-4) والذي أتعب المفسرين زمنًا، ولا يقول إن الشمس
هي المجلية للنهار بتحركها، كما كان ينتظر من مثل هذا العربي الأمي.
مَنْ مِنَ العامة يدرك أن صغر القمر وكبره حسب ما نشاهده ليس إلا لاختلاف
منازله بالنسبة إلى الشمس، لا لأن حجمه الحقيقي يصغر ثم يكبر شيئًا فشيئًا حتى
يقول: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ} (يونس: 5) . يظن العامة أن
المطر آتٍ من الجنة، أو من الملكوت الأعلى أو من عالم غير عالمنا هذا، ولا
يتصورون أن أصله من ماء بحار أرضنا هذه، ولكن القرآن يقول: {أَخْرَجَ مِنْهَا
مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات: 31) أي إن المياه بأنواعها التي نستعملها خارجة
من الأرض، ولم يستثن منها ماء المطر كما يتوهمون، فهل يكون في كلام الأمي
العامي في ذلك الزمن هذه الدقة في التعبير، والصدق في العبارة، والإشارة
الواضحة إلى مسائل علمية لم تكن معروفة من قبل أو معمولاً عليها في زمنه؟
هل تدرك العامة بل وكثير من الخاصة أن التغيرات في العالم أعظم برهان
على وجود الخالق تعالى؛ حتى يستشهد القرآن على ذلك باختلاف الليل والنهار
وحركات الكواكب، وشروقها وأفولها. أليس ذلك مما لم تنته إليه عظماء الفلاسفة
إلا بعد الجهد والعناء الكبير؟ !
هذا وإن القرآن قد أتى بالحِكَم الكثيرة والأمثال الصحيحة على وجه وتعبير
ينهك الفيلسوف الحكيم بدنه دون أن يأتي على تعبير مثله؛ فما بالك بهذا الأمي؟ .
فهل نقول بعد ذلك كله أن سماع النبي لخلط من جاوره من الناس الجهلاء وهوَسهم هو المصدر لهذا الكتاب الحكيم؟
فوالله لو كلف أحد الفلاسفة أن يمحص المسائل كما محصها القرآن، وأن يأتي
بأصح الآراء وأقومها في المعتقدات وغيرها، ويؤسس مثل هذا الدين الكامل ما فيه،
ويتبع السياسة الرشيدة، والحكمة البالغة في إرشاد الناس إليه كما فعل محمد -
عليه السلام- وأن يحترس من الوقوع في زلة واحدة، وأن يخبر عن بعض أشياء
في المستقبل بفكره وقريحته بحيث لا يخطئ فيها، وأن يأتي ببعض مسائل علمية لا
يعرفها معاصروه، وكلف بأن يجعل كل كلامه هذا بأسلوب غريب لم تعهده الناس
من قبل، ويكون في درجة من البلاغة لا يحاكيها أحد، وأن يقلب كيان أمة عظيمة
كالأمة العربية؛ فبعد أن كانوا أعداء صاروا إخوانًا، وبعد أن كانوا عابدين للأوهام
صاروا علماء، وبعد أن كانوا أضعف الأمم صاروا أقواها وسادتها في مدة قليلة؛ لو
كلف بهذا كله لأقرَّ في الحال بالعجز، واعترف بالضعف، فما بالك إذًا بالنبي العربي
الذي نشأ يتيمًا، فقيرًا، أميًّا في وسط الجهل والوثنية في زمن العمى والظلام
تحتاط به الخرافات من كل جانب والأباطيل من كل مكان امتزج حوله الحق بالباطل،
واختلط الصدق بالكذب يسمع قولاً حقًّا مرة، وأكاذيب بجانبه مرات؛ فلا يمكنه
أن يميز أحدهما عن الآخر لعدم علمه، تشعبت في فكره الآراء، وتضاربت في
نفسه الأقوال، فوقف وقفة الحائر ينتظر الإرشاد الإلهي حتى جاءه الوحي الرباني؛
فمحص الحق ورفض الأباطيل، وقرر الصدق وأزهق الأكاذيب. واعتمد في دعواه
على الحجج البينات؛ لا على الألاعيب، فأعظم به من نبي ختم الله به الأنبياء،
وأكرم به من رسول طار ذكره في السماء، صلى الله عليه وسلم.
بقي عليّ أن أذكر شيئًا عن أخلاقه؛ بعد أن خضعت له الملوك وهابته
الجبابرة، وانتشر اسمه في سائر الآفاق. هل طغى وبغى وانهمك في الملاذ؟ كلا
ثم كلا. ملك مُلكًا واسعًا، ولكنه ما فارقه الزهد والتقشف طول حياته، مات ولم
يترك إلا شيئًا زهيدًا، وأوصى أن يكون صدقة لأمته، لم يتغير حلمه وعفوه ورأفته
ورحمته بالناس، بل زادت.
اقتصر على زوجته العجوز إلى ما بعد الأربعين -كما قلنا سابقًا - حتى توفيت،
ومن تزوجهن بعد ذلك لم يكن فيهن بكر سوى عائشة، وتزوجها وهي في سن تكاد
أن لا تُشتهى فيه لتوثيق ما بينه وبين والدها من المحبة والمودة، وكان غرضه من
تعددهن القيام بكفالتهن لفقرهن أو عدم وجود من يقوم بشؤونهن؛ كمن فقدت
بعلها في حرب أو غضب عليها أهلها لإسلامها، أو لم يرغب فيها أحد من
أصحابه لكبر سنها، وليس للنبي أن يشير على أحد بتزوج بعضهن؛ لئلا يأخذها
مضطرًّا في زواجها فلا يحصل بينهما وفاق وكان الغرض في زواج بعضهن إيجاد
الرابطة بينه وبين أهليهن، أو تعزية بعضهن على فقد زوج كانت تتفانى في حبه،
أو إبطال عادة من عادات الجاهلية إلى غير ذلك من الأغراض الشريفة كما
يتضح للمدقق في أخبارهن؛ فشفقة بهن ورحمة لهن كان يتزوجهن، ولا يمكنه أن
يبقيهن في منزله من غير زواج لئلا يرميه الناس باستخدامهن من غير حق، أو
بإرادة الفحشاء بهن (تنزه عن ذلك وجل مقامه عنه) ولو كان غرضه الشهوة لكُنَّ من
حسان الأبكار لا الثيبات المسنات؛ فمن كان هذا شأنه لا يتصور أنه كان يطلب
بدعواه النبوة الحصول على شيء من لذات هذه الدنيا، وإلا لوجدته بعد نجاحه
متكبرًا، جبارًا، منتقمًا، فظًّا غليظ القلب، متعاليًا في نفسه، محتقرًا لغيره، فأين
هذا كله ممن كان متواضعًا متقشفًا، يخصف نعله بيده، ويرقع ثوبه ويطوي
على الجوع ليالي راضيًا بالقليل رحيمًا بالناس، لطيفًا يحترم كل أحد حسب منزلته،
حليمًا لا يغضبه جهل الجاهل ولا قلة أدب الوقيح، يعفو ويصفح عمن أساء إليه. إذا
احتاج يقترض المال حتى من اليهود وكثيرًا ما أوذي بسبب ذلك، فالله أكبر ما
أجلّ شأن النبوة وأرفعها عما يرميه به الجهلة من الناس هداهم الله.
هذا الذي ذكرناه من الدلائل هو المعول عليه في هذا الباب والسند الأقوى
للنبي في دعواه، وأما ما ظهر على يديه من خوارق العادات، فلم يكن عليه السلام
يعتمد عليها كثيرًا؛ فلذا ضربنا صفحًا عن إطالة البحث فيها وغاية ما نقول: إن هذه
المعجزات ليست من المستحيلات، بل هي مما يدخل تحت قدرة الله تعالى، وقد نقلها
الثقات نقلاً متصلاً صحيحًا، وتواتر بعضها بحيث إن الإنسان إن شك في بعض
أفرادها لا يمكنه أن يشك في مجموعها. وأمثال هذه المعجزات كانت الحجة الكبرى
والدليل الوحيد للأنبياء السابقين مع أممهم. ذلك لأن الإنسان في تلك العصور ما
كان يدرك قوة الدليل العقلي، فكان كالطفل لا تنفعل نفسه إلا بما وقع تحت حسه ولا
يتأثر إلا بما كان تحت لمسه، ولما بلغ رشده وارتقى ارتقت أدلة النبوة كذلك وآتاه
الله من الدلائل بما يناسب حالة رقيه العقلي، وجعل المعجزة الكبرى في إتيان الأمي
بما أتى به مما فصلناه، وعجز البشر جميعًا عن الإتيان بمثله، وأما المعجزات
الأخرى فلم يكن يراد بها إلا تثبيت الذين آمنوا بالحس بعد أن اقتنعوا بالعقل وإلزام
المعاندين الذي علقوا إيمانهم على رؤية هذه الخوارق، ولما لم يؤمنوا عند ظهورها ما
كان يجيبهم إلى طلب غيرها؛ لأن من لم يقتنع بهذه لا يقتنع بتلك إذ الدلالة على
الصدق في جميعها واحدة. وهذا الذي قلناه هو ما يستفاد من مجموع آي القرآن
الواردة في هذا الشأن فليراجعها من شاء.
والخلاصة: إن الدليل قسمان حسي وعقلي، أما الحسي فإنه أشد تأثيرًا على
النفس وأفعل في القلب، وأما العقلي فإنه أصح وأعم فائدة، وذلك لأنه متى أحكمت
مقدماته ونتائجه؛ فلا سبيل لتطرق الشك إليه، وكل من تصوره صدق به بخلاف
الحسي فلا يؤثر إلا على من نظره بعينه ويتطرق إليه شبهات كثيرة كالشعوذة
والتدليس والحيل، وكلما كان الإنسان بسيطًا كان فعله في نفسه أشد.
ولما كان محمد -عليه السلام - خاتم الأنبياء ومرسلاً إلى الإنسان بعد بلوغه
رشده، ودعوته ليست قاصرة على زمن أو مكان كان الأنسب أن تكون حجته عقلية
من أن تكون حسية. وقد كان ذاك، وقد ظهرت حكمة الله -جل شأنه - في هذا
النوع فآتاه في زمن طفوليته بما يناسب بساطته، وفي زمن كهولته بما يوافق رقيه
ودرجة عقله كالأب الحكيم يحمل أبناءه في صغرهم على الدرس بإعطائهم المكافأت
كالحلوى، والصور، وفي كبرهم بتبيين فوائد الدراسة ومنافعها وتأثيرها في
مستقبلهم، فالإنسان بالبعثة المحمدية أدرك قيمة عقله، وخلص من سائر القيود ولم
يبق لمشعوذ عليه سلطان أو لمحتال عليه حيلة، وقام ينفض ما على جسمه من
غبار التقليد، ونظر بعقله إلى ما حوله من الموجودات واستخدامها، وهكذا سار في
طريق الإصلاح إلى أن يبلغ الكمال إن شاء الله تعالى.
ولنختم هذه المقالة باختصارها في كلمات معدودة فنقول:
كل من أتى بإصلاح في الأرض من قِبل الله تعالى فهو نبي، ومحمد قد أتى
بالإصلاح من قِبله تعالى فهو نبي، والدليل على أن إصلاحه من عند الله أنه ليس
مستمدًّا من معلومات من جاوره من الناس كما بيناه آنفًا، وأن ما أتى به لا يقدر
البشر على الإتيان بمثل جزء منه، إذ لو كان مقتبسًا من علمهم لكانوا أقدر على
الإتيان بذلك، قال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} (هود: 14) .
إذًا القرآن كتاب الله وكل ما فيه حق من عنده تعالى فيجب الإيمان به والعمل
بما فيه لنحوز سعادة الدنيا والآخرة.
محمد توفيق صدقي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... طبيب بسجن طره
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(8/495)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]
(3)
(المكتوب الثاني)
من أراسم إلى (أميل) :
فراق الولد لوالديه سُنة فطرية- العلم في ألمانيا- نقد التلميذ ما يقرأه من أفكار
غيره- القصد في علوم المعقولات نفع الأمة بالقيام بالواجب على قدر الطاقة-
اختيار الولد العمل الذي يشتغل به بعد- بيان أنه لا حرية لأمة يتكالب شبانها على
تولي أعمال الحكومة- التحذير من الملحدين- بيان أن الرأي العام لا قيمة له إلا إذا
كانت الحكومة شورى- خدمة الأمة لذاتها لا للجزاء.
لوندره في 13 فبراير سنة -186.
إذا كنت يا عزيزي (أميل) تألم من استيحاشك؛ فنحن نألم من فراقك ولكن
يجب علينا التسليم والرضا بما لا بد منه، واعلم أنه لو كان في وُسعي أن أبرح
لوندره وأخلف من أقوم عليهم من المرضى لمرافقتك إلى حيث أنت الآن لكنت فيه
مترددًا، فقد آن لك أن تعلم كيف تسير سيرة الرجال، إن الطيور لتحب أفراخها،
ولكنها متى أنست فيها من القوة ما يكفي لاستقلالها بنفسها في الطيران شجعتها على
تجريب أجنحتها فيه، سنة الله الذي أراد أن يهب الحرية لجميع البرايا.
أنت تعلم حق العلم أني لم أرسلك إلى (بُن) إلا لأسهل عليك درس لغة
الألمانيين، وأخلاقهم وأفكارهم، وأنا أعلم أنك إلى الآن قد استقللت بنفسك في
تعلمك، فكنت في باطن الأمر وحقيقته أستاذًا لنفسك، ومرشدًا وليس ما أخذته عني
من الدروس شيئًا يذكر، ولكن قد اقتضت أحوال هذا العالم أن توجد مذاهب وطرق
لا بد في تعلمها أن تلتمس من ينابيعها، وألمانيا في يومنا هذا هي مقتبس نور
العرفان، وهي البلاد التي يجب أن يعرف لها الفضل في الحكمة والعلم والنقد
وآداب اللغة، ومدارسها الجامعة محط رحال الكثيرين من أفاضل الأساتذة وجهابذة
العلماء، ولتسمع ذلك أدعوك إلى قبول تعليمهم على غير بصيرة وتلقي أقوالهم
وآرائهم قضايا مسلمة؛ إذن أكون قد تخليت عن جميع الأصول التي أسير عليها. إن
للإنسان شيء لا ينبغي أن يسمح به لأحد؛ ألا وهو حرية الفكر، فالعلوم التي
تتلقاها في الجامعة لا يمكن أن يتسع بها نطاق عقلك، ويقوى بها إدراكك، ما لم
تراقب ما فيها من أفكار غيرك مراقبة ذاتية، وإياك ثم إياك أن تنهك قواك التي أنت
محتاج إليها في العمل بفرط الانكباب على دراسة المعقولات بَالِغَة ما بلغت من
الطلاوة، وبعد الغور؛ فإن البحث في المنقولات لا قيمة له إلا إذا أدى الباحث إلى
وسيلة ينفع بها نظراءه، والمحب لنفسه من يَقْصُر ثمرة فكره ودرسه عليها؛ لا
مراء في أن الاتصاف بالعلم من الأمور الحسنة، ولكن أجلّ منه وأحسن أن يكون
الإنسان محبًّا لوطنه نافعًا لأهله ولا يغرب عن ذهنك أن ألمانيا ليست بلادك، وأن
آثار سلفك هي حكمة القرن الثامن عشر، وأن أمك هي الثورة الفرنسية.
آلمتني عبارة من مكتوبك وهي قولك: (إني أحيانًا آنس من نفسي فتورًا في
الهمة، وضعفًا في العزيمة، وأسألها عما أصلح له من الأعمال، وأنا ضائق بذلك
صدرًا) فاعلم أنه ليس من الضروري تحقيق النفع في الإنسان أن يكون من كبار
الرجال، فأيُّما رجل صدقت نيته في فعل الخير، وصح قصده للنفع؛ فإنه يغير من
حالة القوم الذين يعيش فيهم بقدر ما من التغيير، وعلى كل حال ليست الحياة إلا
نتيجة القيام بفروض صغيرة؛ فمن أداها كلها بما في وُسعه من الوسائل كان في
الغالب أفضل ممن يسعى في الاشتهار بعمل خطير، وليس شيء من أفكارنا ولا من
أعمالنا بضائع علينا؛ فإن آثارها تظهر في من حولنا من الناس، أو في من
يخلفوننا، ومن ذا الذي يستطيع أن يقول إن الحركات الكبرى التي غيرت أحوال
العالم من جهة السياسة والعمران لم يكن فيه المستضعفين الخاملين من الخدمة
والعمل ما للرؤساء المسيطرين، كلا، بل ربما لم يكن ظهور هؤلاء واشتهارهم إلا
صورة منعكسة لفضائل أولئك ومساعيهم المحمودة.
اقنع بأن تكون كما أنت مع مواصلة السعي في تنمية غرائزك، وتوسيع نطاق
مواهبك بالدأب في العمال والمدارسة؛ إذا احتجت في بعض أوقاتك إلى تكبير دائرة،
وجودك فتصفَّح دواوين الشعراء الحقيقيين، وكتب أئمة النظار المشهورين،
وتمتع بما تجده في نفسك عند مطالعتها من عظم القدر، وسمو المكانة الذي يسري
إليك منهم؛ فإن في ذلك غبطة لا يحيط بها الوصف؛ فإذا هبطت من هذه المقامات
العلى لم تعدم حولك من النفوس الصغيرة المحتاجة للاستضاءة بنور العلم من يغنيك
الاشتغال بهم عن الاهتمام بغيرهم، ومن صنائع البر ما فيه تسلية لك عما يعوزك
من الخصائص، واعلم أنه لا يتألم مما في عقله من مواضع الضعف والقصور إلا
محب لنفسه، أو خبيث، وأما من يستسلم ويرضى بقسمته ويتعلم ليعمل؛ فإنه لا
يطلب فوق ما قسم له من العقل شيئًا، بل يكون مغتبطًا به غير حاسد.
أراك أيضًا تغلو في الاهتمام باختيار ما تمارسه من الأعمال؛ فإنه وإن كان
مما لا مرية فيه أن كل فرد من الناس يجب عليه أن يعيش من كسبه وكده، وإني
أغتمّ لو رأيتك مفرطًا في هذا الأمر الذي هو أول فرض على الإنسان ينبغي أن
تعلم أن جملة الدروس التي تتلقاها الآن، مع كونها تؤدي إلى جميع الحرف لا تفتح
لك باب واحدة منها، ولا أرى في ذلك ما يدعو إلى كدرك؛ لأن كل علم تحصله
هو ذخيرة لعقلك؛ فإن لم يفدك في نفسك؛ فقد تجد فيه وسيلة لنفع غيرك على أن ما
في الكون من طوائف الأمور المختلفة، وطبقات الحوادث المتباينة مرتبط بعضه
ببعض؛ فلا بد في معرفة أمر منها معرفة صحيحة من معرفة أمور كثيرة لها، بهذا
الأمر تعلق بعيد، ولست بهذا القول ألزمك السعي في تحصيل ما يسمى بالعلم العام
الذي هو ضرب من الخيالات والأوهام، وإنما أريد به تفهيمك أن للعلوم قضايا عامة
لا بد لك من تصور حدودها الأصلية قبل تفرغك لتحصيل علم منها على حياله.
أنت ولي أمرك في الحكم على ما يلائمك من الأعمال، وليس عليّ إلا أن
أسألك عدم التأسي في ذلك بإخوانك من الطلبة، فكن كما يرشدك إليه خلقك وميلك
إما طبيبًا، أو محاميًا، أو مهندسًا، أو صانعًا، أو آليًّا، أو غير ذلك ولكني أسألك
بالله أن لا تكون عاملاً للحكومة.
أي حرية تُرجى لقوم يتطلع المتعلمون من شبانها إلى الانتظام في سلك عمال
حكومتهم؛ قد كان فن ظلم الحكام للناس في الأيام الخالية من الفنون الصعبة الكثيرة
المشكلات، التي يلزم لتعلمها استعداد خاص، ونفس كنفس ميكافيل [1] وأما الآن
فيظهر من أحوال الرعية أنهم يعنون أشد العناية بكفاية حاكمهم مؤنة استعبادهم
بالحيلة، أو القهر؛ لأنهم يتهافتون على احتمال نير عبوديته، فأي ملك أو عاهل
يجد حول أريكته رؤوسًا خاضعة، وأطماعًا سافلة نهمة كأطماع الكلاب، التي لا هم
لها إلا قضم العظام ما دام بين يديه من الأموال الوافرة ما ينفقه كيف يشاء ومن
المناصب وألقاب الشرف والرتب الكثيرة ما يوزعه على من يريد.
ليس الإلحاد والوقاحة مقصورين على أحداث ألمانيا، حيثما حللت تجد من
الشبان من لا يعتقدون بشيء، ولا يوقرون شيئًا، فكن منهم على حذر؛ لأن هذا
الفسوق العقلي يساعد قطعًا على تثبيت الأوضاع القديمة، ذلك أن هؤلاء الذين
يدعون لأنفسهم حرية الفكر لم يخلصوا من قيد الأَثَرَةِ، ومن هذه الجهة تأخذ
الحكومة منهم بالنواصي والأقدام؛ أعني أن عبادتهم لنجح مساعيهم وطمعهم في
الوصول إلى ما يبتغون، وظمأهم إلى المناصب، والتمتع بالمرتبات الجسيمة لا
تلبث أن تدعوهم إلى توقير النظام الذي سنته الحكومة وإجلاله، وإني لا أعتد
بجراءة العقل ما لم تصحبها بسالة النفس؛ وتنزهها عن الأغراض، ثم إنه مهما كان
بلوغ كل أمنية في الدنيا ممكنًا بمحض هوى الغير ورضاء لم يعدم المستبدون عبيدًا
متحمسين؛ في خدمتهم يعملون لهم ما يشاءون، وتجد من كانوا من الشبان بالأمس
منطقيين متحذلقين يصبحون، وهم أكثر الناس سجودًا للقوة واستكانة للسلطان.
ولاية أعمال الحكومة هي بلاء الأمم في هذه الأيام فالبلاد التي رئيس حكومته
هو الذي يوزع مناصبها لا يمكن أن تكون آراء الناس فيها إلا نتيجة عمل حسابي
لما يربح منها فإذا وقع خطأ سياسي أو ديني من الحاكم، وكان ينتج للموافقين عليه
بعد الحساب عشرة آلاف فرنك مثلاً، فإنه يصير حينئذ صوابًا، وإذا أتى أمرًا
خسيسًا، ودفع ضعف هذا المقدار، قيل إنه قام هذه المرة بما تدعو إليه الهمة
والبسالة فيجب الإخلاص له.
يلهج الناس كثيرًا بذكر الرأي العام، ويقولون: إنه أقوى كفالة للحق والحرية
وهو صحيح؛ إذا كان أمر الأمة بيدها، وكانت هي التي تلي شئون إدارتها، وأما
إذا كان حالها غير هذا فالرأي العام نفسه قد يكون فيها آلة للاستبداد؛ فإن أكفل
وسيلة لظلم الأمة هي إعدام شرف النفس من أفرادها، وإزهاق روح الاستقلال بينهم
بتحبيب الحكومة القائمة إليهم، وحملهم على رجاء بقائها. ورب قائل يقول: إن
عدد العمال في الحكومة لا يذكر في جانب السواد الأعظم من الأمة، فأجيبه: إن هذا
الاعتراض عبث؛ لأنه قد نسي أن بإزاء كل عامل نال منصبًا ألفًا من الناس
يطلبونه، ويرجون رجاء قويًّا أن ينالوه يومًا من الأيام، فعالم العمال يكافئه عالم
آخر من السائلين، ومن ورائهم جميع طلاب الأموال، وإذا كان تحرير الناس من
الاستعباد لا يتأتى إلا متى أعانوا عليه بإرادتهم، فأي وسيلة تبعثهم على إرادة
التفصي من ربقته؛ إذا كان فريق منهم -وهم الذين تقوم لهم الحكومة بنفقات
مطعمهم، وملبسهم، ومسكنهم - قد بلغت بهم الحال إلى أن يكون استعبادهم قوام
معيشتهم والفريق الآخر يغبطونهم على هذه النعمة، ولا يأسفون إلا على عجزهم
عن مشاركتهم فيها.
ولست أقصد بهذا القول أن من لوازم المناصب العامة تصغير نفوس القائمين
بها، أو الساعين في تقلدها - حاش لله - فإنها في الحكومات الحرة كحكومة
أمريكا مثلاً من شأنها أن تنمي فيهم قوة العزيمة، ومكارم الأخلاق؛ لأن الحكم في
اختيارهم راجع إلى انتخاب الأمة، ولأنهم إنما يمرون بالأعمال مرورًا؛ ولأن
جميع الولايات لا تلبث أن يعود أمرها إلى الأمة، فتقلدها من تشاء، ومن هنا يعلم
أني لا أتكلم عن الأمة التي حكوماتها مؤسسة على الشورى، وإنما أتكلم عن الحكومة
التي تولى الأعمال فيها بالمحاباة والهوى؛ فشبانها يتدلون ويصغرون بسعيهم في
تقلد تلك الأعمال؛ لأن حكوماتها لا تبغي في الحقيقة إلا نفوسًا سلسة القياد تلصق
بما جرى عليه العمل من التقاليد الإدارية - وطباعًا لينة - عطفت على كل ناحية
فلم تبق لها وجهة ذاتية وعقولاً مثقفة، ولو لم تسم عن عقول العامة تستعمل زخرف
القول في تصوير ما وضع من النظام بصورة معقولة. وإني لتمر بي ساعات
أحدث فيها نفسي بأن من ظلم الشعوب أن يلوموا حكامهم على استعبادهم فأي معنى
للوهم إذا كانوا قد جعلوا مقادتهم بأيديهم، وكان الآباء لا يتمنون لأبنائهم إلا تقلد
المناصب ذات الرواتب العظيمة التي لا عمل فيه بدلاً من صرفهم إلى وجوه الكسب
الأخرى، بل إذا كان الناس يؤلمون أن يكون عالة على المصلحة العامة ويودون لو
أن للحكومة من العقل والوداعة ما يكفي لمنعها من الانتفاع بما يقدمونه لها من الفوائد،
فما أسخف عقولهم إذ جعلوا أنفسهم ترابًا ثم هم يدهشون من وطء الحكام إياهم.
أنا لا أنكر أن نيل الشاب منصبًا من المناصب الكثيرة المقررة في الحكومة
أسهل عليه كثيرًا من أن يفتح لنفسه بابًا للكسب في قومه بجدارته وأهليته الذاتية،
ولهذا لا يلبث الإنسان أن يعرف الأمم التي اعتادت الارتزاق من حكوماتها، لما
يكون فيها من فقد الاستعداد لإنشاء الأعمال وابتكارها فترى الصناعة والزراعة
والتجارة تنساق في مجرى العادة بتكلف وجهد، والأموال تحذر الخروج من جيوب
المتمولين، والتقاويم التجارية التي تأبى الحكومة حمايتها يشق عليها - كما يقال -
أن تطير بأجنحتها، والصناعات الحرة تحوم حول السلطان لنيل الأعمال والمحاباة
وترقب فرصة التطفل على مائدة المصلحة العامة، وآداب اللغة والفنون تتأثر بقوة
السلطان، وتتدلى الحياة العامة التي يحطها سلطان رجل واحد، وحاجة التغذي من
يد الحكومة تزيد على الدوام عدد طائفة الندمان والمملقين.
كأني بك تقول لي إن ذلك الذي وصفت عيب في شكل من أشكال الحكومة
وذنب لمجموع الأمة التي ترضى هذا الشكل وأنه ليس مما يعتد به كثيرًا أن يزيد
عدد عمال الحكومة واحدًا أو ينقص واحدًا؛ لأنهم جيش لا يعد - فأجيبك على هذا
بأني لست أجهل أن واحدًا من الناس ليس في قدرته أن يغير أحوال أمة بأسرها،
ولكن إذا ارتكن كل فرد من أفرادها على هذه المغالطة فاستسلم للتيار المحتوم الذي
يسوق غيره فلا ينبغي أن يرجى شرف للأوضاع القومية، ولا حرية للناس. إن
الأمم إذا تدلت وفشت فيها عدوى التأسي وجب على كل إنسان حقيق بأن يسمى
إنسانًا أن يرفع لها من نفسه لواء المجد، ويدعوها إلى النهوض، فإنها لا تنهض
من انحطاطها إلا بالمجاهدة وبذل القوة الذاتية، وكم من رجل يشكو من خسة
السرائر في قومه، ويتألم من دناءة نفوسهم وهو شريط لهم بالواسطة في فعل ما
أداهم إلى هذه الحالة بكثرة خشيته وتحرجه في سيرته؛ فإنه إذا تعفف هو عن تولي
المناصب الرسمية قد يريدها لابن أخ له، أو لأحد اللائِذين ببيته، وبهذا يصير شريكًا
في الضرر الذي يندب سوء مغباته.
هذه يا بني أفكاري قد أفضيت بها إليك صراحة، فإن كنت لا بد راغبًا في بلوغ
منصب رسمي فوسيلتك إليه ميسرة جدًّا، وهي أن تذل وتستكين، وأما إذا فضلت
كرامة نفسك واستقلالك وشرفك على المزية التي تجدها في سهولة فتح باب الكسب
وسرعته؛ فإني أهنئك عليه من صميم فؤادي، ولكن لا بد لك حينئذ أن تعرف ما
أنت داخل فيه فإنك بتنازلك عن رعاية الحكومة تضطر إلى كسب قُوتك بالعمل
والجهاد، ولا تجد من أحد حمدًا على كدك ونصبك وترى كثيرًا من الناس يسخرون
من بسالتك وإقدامك فعلام يحبونك إذا كنت تسفههم وتزري عليهم بالنهج الذي تسير
عليه في عملك وفكرك؟
اخدم الأمة ولا ترجُ منها جزاءً ولا شكورًا؛ فإنها لا تملك ما تجزيك به؛
لأنه ليس بيدها شيء من أموال البلاد، ولا من ألقاب الشرف، ولا من وسائل
التنويه وإعلاء الذكر، وعلى أنها قد تنكر ما لك من حسن النية في خدمتها فليس
عليك حينئذ إلا الاعتماد على قواك الجسدية والعقلية.. وأنه ليس في هذا الإنكار
المتوقع ما ينبغي أن يريعك؛ فليست أهم مسألة للإنسان في حياته أن يبلغ مقامًا
ساميًا بل المسألة الكبرى هي أن يكون قدره أعلى من المقام الذي يشغله.
وأما أخبار البيت فمنها أن (لولا) عهدت إلي إعلامك بأن طيورك،
وزهورك في حالة راضية،وأن دفائنك بعد أن حفظت في بطن الأرض مليونين أو
ثلاثة من السنين سالمة من التغيُّر، قد تغيرت قليلاً من غبار لندرة ودخانها، وبأنها
قد رتبت مجموع حشائشك، وأنها أشد لك ذكرًا منك لها.
وفي الختام أقبلك أنا وأمك قبلة الوداع، ونرجو أن تكون دائمًا على علم
بدروسك ومقاصدك وحالة معيشتك فكل ما يتعلق بك يعنينا. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معربة من باب تربية الشاب من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
(1) ميكافيل هو أحد رجال الحكومة الإيطالية، ومن كتابها المشهورين، ومن كتبه كتاب الأمير وهو مختصر في السياسة المفسدة للأخلاق.(8/500)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المجلد الأول من كتاب
أشهر مشاهير الإسلام
قد صدر الجزء الرابع من هذا المجلد، وهو في سيرة الخليفة الثالث عثمان
بن عفان ومَنْ اشتهر من رجال دولته، وصفحاته 220 وقد كان مصنفه (رفيق بك
العظم) وعد بأن سيوجز القول في خلافة عثمان وعلي - رضي الله عنهما -
تحاميًا للخوض في مسألة الخلافة ومثار الفتن في الأمة، فما زال به محبو التاريخ،
وطلاب الحقائق من قراء كتابه حتى أرجعوه عن رأيه، وأقنعوه بوجوب بيان تلك
الحوادث بعللها، وأسبابها، ونتائجها، ومعلولاتها؛ فأقدم على البحث بما نعهد فيه
من الأدب، والإخلاص، والبعد عن التشيع والاعتساف، فجاء بمصاص الأخبار،
واستخرج منها آيات العظة والاعتبار، ولم يأل جهدًا في حسن الاختيار، واستنباط
الحكم والأعذار لعظماء الصحابة الأخيار.
تصفحت جل ما كتبه في الفتنة التي أدت إلى قتل عثمان - رضي الله عنه-
فرأيته قد حصر ما نقمه الناس من عثمان بحق في غلبة بني أمية على أمره حتى
استبدوا بالأمر دونه، وافتاتوا عليه، وحملوه على الرجوع بما عاهد عليه المسلمين
وتاب عنه في محفل كبراء المهاجرين، وبَيَّن أن أهل الرأي ورجال الشورى من
الصحابة خافوا أن يجعلوا الخلافة أموية تقوم بالعصبية لا قرشية تقوم بالانتخاب
والشورى الشرعية، وكشف الحجاب عما كان هناك من الجمعيات السرية التي
تحرض الناس على التألب على الخليفة، وإلزامه بإبعاد دهاة بني أمية عنه، أو
اعتزاله وخلع نفسه. وبَيَّن أنه لم يكن أحد من كبراء الصحابة وزعمائهم يعتقد أن
الأمر يصل إلى ما وصل إليه، وأنهم يقتلون الخليفة ظلمًا، ولم يفعل فعلاً يبيح دمه،
وانتحل لعثمان أحد عذرين في الاعتصام بقومه. أحدهما: أنه علم أن رجال
الشورى الستة كل منهم يريد الخلافة لنفسه وله أنصار، فخاف أن يترك أنصاره
الأقربين من بني أمية فيختلف القوم دونه ويتوثب عمال الأمصار عليه؛ فلا يجد له
عاصمًا؛ لذلك ولاَّهم الأمصار وزاد استمساكه بهم حين سئل التخلي عنهم، وثانيهما:
أن قومه استلانوا جانبه واستضعفوه فغلبوا على رأيه فيهم. أقول: إن الثاني هو
الصواب ويدل عليه تعويله على تنحية مروان وذويه، وتصريحه في خطبته التي
بكى فيها وأبكى الناس (وهي في ص 797 من الكتاب) وفيها أن بني أمية قد
استحوذوا على عثمان بعد ذلك، وملكوا جَنانه لكبر سنه وضعفه، فعذلوه واستذلوه
وافتات عليه مروان بما افتات.
يعلم كل من قرأ تاريخ المسلمين أن تألب الناس على عثمان لم يكن يرجى له
صد إلا باعتزاله الخلافة، وخلع نفسه منها، أو بعزل مروان وغيره من دهاة بني
أمية الذين غلبوا على أمره، وتقلدوا معظم أعماله، وقد علمت رأي المصنف في
الأمر الثاني، وأما الأمر الأول، فقد ذكر أن لامتناع عثمان عنه أحد أسباب ثلاثة:
1- ضعف الإرادة الذي هو أثر كبر السن.
2- الخوف أن يسجلوا عليه ما اتهموه به من الأحداث، وهو يعتقد أنه لم يستحل فيها محرم.
3- العمل برأي مروان وأضرابه الذين كانوا يعلمون أن أمر الملك لا يتم لهم إلا بإراقة الدم.
والثالث هو الصواب، وربما كان غيره داعمًا له، ولولاه لكان يمكن أن يقال
إن امتناعه من اعتزال الخلافة مع تألب الناس عليه وحصرهم إياه، هو من قوة
الإرادة لا من ضعفها.
ومن فصول الكتاب التي تستحق أن ينبه عليها ويلفت إليها، فصل عقده لإثبات عدم تحامل رجال الشورى على علي - كرم الله وجهه - وبيان أن خلافة كل واحد من الراشدين جاءت في وقتها اللائق بها.
ورأيت صديقي المؤلف قد أكثر القول بهذا الجزء في تقرير رأيه في الخلافة
والحكومة الإسلامية، وبيان ضرر ما ينكره منها ويعده أصل البلاء، وعلة الضعف
والشقاء، وهو أمر أن عدم توفر شروط الشورى والاختيار في البيعة بحيث كان
شكل الخلافة وسطًا بين الشورى والاستبداد، أو بين الحكم المطلق والحكم المقيد إذ
أناطوا بالخليفة جميع الأعمال، وثانيهما اصطباغ المسلمين في حياتهم السياسية
بصبغة الدين وعدهم الخليفة رئيسًا دينيًّا.
قراء المنار يعرفون رأيه في هذه المسألة، ولم ينسوا المناظرة التي كانت
بينه وبين أحد علماء الهند في هذه المجلة. وأقول: إن هذه المسألة الكبيرة لم تنحل
فيما كتبه فلا تزال في حاجة إلى تحرير، وكنا وعدنا بكتابة رأينا فيها بالتفصيل،
ولما تسمح لنا الفرص بذلك. نقول هنا: إن ما جاء به الإسلام في ذلك، وما كان
من انتخاب الخلفاء الراشدين، وسيرتهم يصدق عليه قول الإمام الغزالي في نظام
الوجود العام (ليس في الإمكان أبدع مما كان) إلا ما كان من إصرار عثمان على
إمساك مروان، وغيره من ذوي قرابته الذي نقم منهم المسلمون، ولقد يظهر
للمؤرخ الذي وقف على نظام الحكومات النيابية في هذا العصر أنه كان ينبغي
للراشدين أن يضعوا نظامًا مثله، وإذ لم يفعلوا فلنا أن نحكم بأن عملهم كان ناقصًا.
ومثال هذا مثال من ينكر بعض مظاهر الوجود التي رأى من جنسها ما هو أحسن
منها غافلاً عن إمكان ذلك وعدم إمكانه بحسب سنن الكون العامة.
الحكومة النيابية المنتظمة القائمة على أساس الشورى، والاختيار لا تصل
إليها الأمم إلا بعد أن تربى وتتعلم في مدرسة الحكومة الاستبدادية زمنًا طويلاً، فلم
توضع حكومة نيابية منتظمة على وجه الأرض بمجرد الرأي والاستحسان من أفراد
أسسوها وأقنعوا الأمة بأن فيها مصلحتها، فقامت بها وثبتت عليها اقتناعًا بقولهم
وعملاً برأيهم. وإنما كان تأسيس الحكومات النيابية والجمهورية بما نعلم ويعلم
صديقنا مؤلف أشهر مشاهير الإسلام، ثم كان تقدمها وثباتها بالتدريج بعد ارتقاء الأمم
في العلوم والأعمال الاجتماعية بالتدريج أيضًا.
كان يقول كما يقول بعض الناس: إنه كان ينبغي للمسلمين أن يتعلموا كيفية
تأسيس الحكومة النيابية من جيرانهم الرومانيين، ثم هو يعتذر الآن عن الخلفاء
الراشدين بأن الحكومات النيابية كانت بعيدة العهد يومئذ من مجاوريهم الرومانيين
فلجأوا إلى إناطة كل شؤون الدولة السياسية والدينية بالخليفة (ص 679) فيالله
وللرومانيين هل كانت قوانينهم ومجالس شيوخهم ونوابهم عاصمة لهم من
السقوط في هوة الاستبداد، ثم من تحويل الجمهورية إلى إمبراطورية. ألم يكن
الأشراف هم أصحاب المجالس والحقوق، والعوام لا حقوق لهم؟ ألم يكن الدافع
للملك (سرفيوس) المصلح إلى منح العوام جميع الحقوق الرومانية هو التخلص من
أثرة الأشراف وظلمهم وشدة فرقه منهم؟ ألم يأت بعده الملك الطاغية (تاركان) بأشد
ضروب الاستبداد تشويهًا، فأفسد كل ما كان أصلحه (سرفيوس) وكان يقتل كل من
يتوسم فيه عدم الإخلاص له من أعضاء مجلس الشيوخ والأعيان، ويسخر الأهالي
لأعماله الخاصة حتى كانت مظالمه العامة هي السبب في تأسيس الجمهورية سنة
(510 ق م) ألم يحول (أغسطس قيصر) الجمهورية بعد استقرارها إلى
إمبراطورية سنة (28 ق م) أولم يحول نابليون الجمهورية الفرنسية إلى ملكية؟
ويفعل فعلته بمجلس النواب على أن شعب فرنسا كان أرقى من شعب رومية يومئذ؟
هل تأسست الجمهورية الرومانية كاملة؟ ألم يكن ضباط الجيش هم الذين
ينتخبون النواب في الحكومة الجمهورية؟ ألم يكن هؤلاء الضباط وعسكرهم آلة في
أيدي الأشراف المستبدين؟ ألم يقاوم الأشراف اقتراح (فوليرو) أن يكون الشعب
هو الذي ينتخب نوابه حتى ثار الشعب ونال هذا الحق بالثورة سنة 471؟ هل نال
الشعب بعد هذا حقوق المساواة إلا بالتدريج؛ إذ نال المساواة في الحقوق المدنية سنة
450 ق م، والمساواة في الحقوق السياسية سنة 397 والمساواة في الحقوق
القضائية سنة 329، ثم لم يتم له حق المساواة في الأعمال القضائية إلا بعد سنين،
والمساواة في الدين سنة 302 ق م؟ أولم تكن المساواة في جميع هذه الحقوق عامة
في الحكومة الإسلامية من أول يوم لاصطباغها بصبغة الدين الذي يخضع المتدين
لأحكامه عندما يسمعها؟ نعم، كل هذا مما لا ينكره عارف، ولولا أن كانت أركان
الحكومة الإسلامية قائمة على أساس الدين لما استقام للمسلمين حكم ولما وجد ذلك
العدل العام الذي لم تكتحل عين الزمان بمثله حتى اليوم؛ فإن الدولة الإنكليزية،
التي هي أرقى الأمم الأوربية في حكوماتها وأقربها من العدل في مستعمراتها لا
تساوي بين أبناء جلدتها في الحقوق، وبين الهنود بحيث تقتص من مثل اللورد
كتشنر لرجل هندي كما أراد عمر أن يفعل بجبلة بن الأيهم ملك غسان، وكما ساوى
بين علي ورجل من آحاد يهود، وكما أعد الصحابة من أحداث عثمان التي توجب
خلعه عدم قتل عبيد الله بن عمر أمير المؤمنين بالهرمزان الفارسي الذي قتله لقيام
القرينة عنده على إغرائه بقتل أبيه أمير المؤمنين، وإن استرضى عثمان ولي الدم
بماله ... إلخ إلخ.
وسنبين في مقال خاص بهذه المسألة كيف كان ما عمله الراشدون هو المتعين
الذي لا يمكن أن يكون خير منه يومئذ، وكيف كان الفساد الذي طرأ على الحكومة
الإسلامية فأضعف الأمة وزعزع الملة، محصورًا في هدم بني أمية للقواعد التي
وضعها القرآن للحكومة الإسلامية، وأيدتها السنة، وهي إبطال العصبية الجنسية
وجعل أمر المسلمين شورى بينهم، والإذن لأولي الأمر، وهم أهل الحل والعقد
باستنباط الأحكام مجتمعين، وإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقول
والفعل.
وجملة القول في هذا الجزء من كتاب أشهر مشاهير الإسلام أنه من أنفع
الأجزاء، وأشدها عظة وتذكيرًا بحال سلفنا {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة:
269) وهو مطبوع طبعًا حسنًا على ورق أجود من ورق الأجزاء الأولى،
وثمن النسخة منه ثمانية قروش صحيحة، وأجرة البريد قرش ونصف ويطلب من
مكتبة المنار وغيرها.
__________(8/507)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تاريخ التمدن الإسلامي
قد صدر الجزء الرابع من هذا الكتاب لمؤلفه جرجي أفندي زيدان صاحب
مجلة الهلال، وهو خاص بالبحث في سياسة الدول العربية في الشرق والغرب، وقد
جعل الكتاب أبوابًا عبر عنها بالعصور:
فأولها: العصر العربي الأول وفيه الكلام عن حال العرب، وعصبيتهم قبل
الإسلام، وعن الأرقاء والموالي والأجانب والسياسة في الجاهلية، ثم عن سياسة
الخلفاء الراشدين، وسياسة الأمويين، وأحداثهم في الدولة والإسلام.
وثانيها: العصر الفارسي الأول، يعني به زمن نفوذ الفرس واستبدادهم في
الدولة العباسية من خلافة السفاح سنة 132هـ إلى خلافة المتوكل 233هـ، وفيه
الكلام عن سياسة العباسيين، وحريتهم والعصبية العربية في زمنهم.
وثالثها: العصر التركي الأول، وفيه الكلام عن الجند التركي في الدولة
العباسية، وعن الخدم ونفوذهم، وتأثير النساء في سياسة الدولة، وفي هذا العصر
كان مبدأ فسادها وسقوطها، ثم الكلام في تشعب المملكة العباسية، وانقسامها إلى
دول فارسية وتركية وكردية.
ورابعها: العصر العربي الثاني في الأندلس ومصر.
وخامسها: العصر المغولي أو التتري، وفيه الكلام عن انحلال المملكة
الإسلامية بقيادة الترك، وتنكيلهم بالمسلمين إلى أن نهض العثمانيون بتكوين دولة
جديدة قوية.
هذا موضوع الكتاب، وهو من الفائدة بالمكان الذي يستغني فيه عن التنويه به
والحث على مطالعته. وإنا لنرجو أن يأذن لنا الزمان بفرصة نطالع فيها هذا الجزء
وما سبقه بالتدقيق؛ لنعطيها حقها من النقد والتقريظ، فنكون من الشاكرين لمؤلفه
على اجتهاده في هذه الخدمة لتاريخنا المبعثر في كتب الأخبار والآثار.
__________(8/511)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مرشد الهدايات
إلى واجبات الحلاقين والدايات
كتاب جديد للدكتور أحمد أفندي الدرندلي مفتش صحة الفيوم ويعني بالحلاقين
الأطباء الذين خصتهم الحكومة بالكشف على الموتى لتحقيق موتهم، ولمعرفة سببه،
وبالتبليغ عن الأمراض الوبائية، والتلقيح لمنع الجدري. ويعني بالدايات القوابل،
والكتاب يشرح الأمراض التي يتعلق بها عمل الفريقين وبَيَّن ما يجب عليهما فعله،
ومباحثه نافعة ينبغي اطلاع كل قارئ وقارئة عليها ليكون الناس على بصيرة من
الأمراض التي تعرض لهم، ولمن يعيشون معهم؛ فلمؤلف الكتاب الشكر أن طبع هذا
الكتاب ومن الشكر الإقبال عليه.
__________(8/511)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ديوان الرافعي
قد طبع مصطفى صادق أفندي الرافعي الجزء الثاني من ديوانه، وشعره فيه
يدخل في ستة أبواب، أولها - باب التهذيب والحكمة، وثانيها - باب النسائيات، وثالثها - باب الوصف، ورابعها - المديح، وخامسها - الغزل والنسيب،
وسادسها - الأغراض، والمقاطيع، وصفحات هذا الجزء تبلغ 120.
ومما يذكر له أنه أكرم ديوانه عن مدح زيد وعمرو وخالد وبكر فلم يمدح من
عظماء الدنيا غير السلطان وأمير مصر، ومن عظماء الدين ورجال العلم غير
الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - ومن الأغنياء غير أحمد باشا المنشاوي أيام وفق
للإحسان بماله ولهج الناس بوقفيته.
ومن باب النسائيات قوله في المرأة المصرية:
أتى عليك وإن لم تشعري الأمد ... وأنت أنت مضى أمس وحل غد
فهبك عينًا فما من الناس ذو نظر ... إلا ويؤلمه في عينه الرمد
وهبك قلبًا فما في الخلق من رجل ... إلا ويوجعه في قلبه الكمد
وهبك من كبد في جنب صاحبها ... أليس يحمل ما تغلي به الكبد
عجبت لامرأة هانت وما اعتبرت ... ومن رجال أهانوها وما رشدوا
كلاهما رجل في الناس وامرأة ... ولا مميز إلا ذلك الجسد
وكل ما حولهم في الذل مثلهم ... يستعبد الكل حتى النهر والبلد
يا بنت مصر ولا قوم نعزيهم ... ولا بلاد ولا أهل ولا ولد
زاغت عيون بني مصر وضل بها ... غيّ النفوس وهذا الجهل والفند
فأنت في نظر الراقين سائمة ... وفي نواظر فلاحيهم وتد
وأنت بينهم في كل منزلة ... صفر اليسار يستكمل العدد
أقام في رأسك الجهل الذي سلفت ... به الليالي وفي أضلاعك الحسد
وما يحلان بيتًا كان في رغد ... إلا وهاجر منه ذلك الرغد
(فالسحر والزار والأسياد) جملتها ... لأهلها نكد ما مثله نكد
ما أنت في الصين والأوثان قائمة ... وللشياطين في كل الأمور يد
تالله لو كان من علم وتربية ... شيء يمازجه ذا الصبر والجلد
إذًا لما سخرت من بنت جمعتها ... من يومها السبت أو من يومها الأحد
فهل أرى رجلاً فينا أو امرأة ... بعد الخمود وطول الذل ينتقد
يا قوم لو نام ليث الغاب نومكم ... لاستنكف الفار إن قاولوا له أسد
فهذه القصيدة تشعر بأن الشاعر يرى وجوب تعليم النساء ليسلمن من الأوهام والخرافات، ولكن له ما يدل على خلاف ذلك، كقوله في المقاطيع:
يا قوم لم تخلق بنات الورى ... للدرس والطرس وقال قيل
لنا علوم ولها غيرها ... فعلموها كيف (نشر الغسيل)
والثوب والإبرة في كفها ... طرس عليه كل شيء جميل
وأحسن ما قرأت في هذا الديوان قوله في فنون من الوصف وذكر الليل:
تقاصر عمر الزمان الطويل ... ولا بد من أجل للعليل
وضاق به الأفق ضيق القبور ... فزم الكواكب يبغي الرحيل
وراح فخفت هموم القلوب ... كما سار بعد المقام النقيل
لقد كدت أبغض لون الظلام ... لولا شفاعة طرف كحيل
طوى الشمس فاختبأت أختها ... نفور الغزالة من وجه فيل
وكانت إذا احتجبت قبله ... تجاذبها نسمات الأصيل
ترى البدر غار فأغرى بها ... وكل جميل يعادي الجميل
أم الحظ أرسل لي ذا الدجى ... فكان الرسالة وجه الرسول
أم الليل قد قام في مأتم ... فمنه الحِداد ومني العويل
ولم أنس ساعة أبصرتها ... وجسم النهار كجسمي نحيل
وقد خرجت لتعزي السماء ... عن بنتها إذ طواها الأفول
على مركب أشبهته البروج ... تمر به كالبروق الخيول
إذا قابلته لحاظ العيون ... سمعت لأسيافهن صليل
وإن قاربته ظنون النفوس ... رأيت النفوس عليه تسيل
وقد أخرجت نفحات الرياض ... زكاة الرياحين لابن السبيل
وقد عبث الدل بالغانيات ... فذي تتهادى وهذي تميل
كأن الحواجب قوس فما ... تحرك إلا جلت عن قتيل
كأن القلوب أضلت قلوبًا ... فكانت لحاظ العيون الدليل
حمائم في حرم آمن ... بهذا الضلوع بناه الخليل
وما راعها غير لون الدجى ... يصدئ لوح السماء الصقيل
فيا قبح الليل من قادم ... بوجه الكذوب ومرأى العذول
بغيض إلينا على ذله ... وشر من الذل بغض الذليل
وكم عزني بالأماني التي ... أرتني أن زماني بخيل
ومن أمل الناس ما لا ينال ... كما أن في الناس ما لا ينيل
وثمن النسخة خمسة قروش وأجرة البريد قرش ويطلب من المكتبة الأزهرية بمصر.
__________(8/512)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حقوق المرأة في الإسلام
أيقظت المدنية الأوربية العالم كله، ووجهته إلى حياة جديدة من العزة والقوة
فمن الشعوب الشرقية من سار إلى هذه الحياة من طريقها فأدركها، و (كل من سار
على الدرب وصل) وكل قارئ يعلم أن هذا هو الشعب الياباني، وهناك قوم
آخرون من الوثنيين في الهند يسيرون على هذه الطريق، ولو كان لهم استقلال في
الحكم لصاروا دولة عظيمة. وأما الشعوب الإسلامية فقد وقفت أمام هذه المدنية
موقف الحائر لا تدري كيف تستفيد منه وأول شعب إسلامي ولَّى شَطرها هو الشعب
المصري، فإن حكامه حاولوا اقتباس هذه المدنية منذ مائة سنة ولكنهم لم يسيروا
إليها من طريقها؛ فكانت العاقبة أن احتلت بلادهم دولة أوربية في الربع الأخير
من القرن.
لم يوجد للمسلمين حكومة تقودهم في الطريق الموصلة إلى النافع من هذه
المدنية مع الترقي من مضارها، ولم يكن لهم زعماء في الدين والعلم؛ إذا قالوا
يسمعون؛ وإذا هدوا يتبعون، بل ظهر في شعوبهم المتمتعة بشيء من وشل الحرية
أو غمرها (كمسلمي روسيا والهند ومصر) كتاب ومؤلفون يدعون إلى شيء من
الإصلاح الاجتماعي الذي حولت العالم إليه مدنية أوربا، ولكن صوت العارف
الناصح من هؤلاء الكتاب يكاد يخفى بين ضوضاء الغوغاء من المتطفلين والمقلدين
والمتَّجرين بالكتابة والصحافة، ولا غرض لهم منها إلا إرضاء عامة الدهماء، أو
التزلف إلى بعض الحكومات أو الرؤساء، ولو من الأجانب والغرباء، والدهماء في
جهل مبين، لا تميز بين الغث والسمين.
لا يكاد يوجد أصل من أصول الإصلاح الذي يحتاج إليه المسلمون إلا وله في
دينهم دليل يرشد إليه، أو سبق عمل يعول عليه، وقد حكموا التقاليد والعادات في
أعمالهم فلا إلى هدي الدين يرجعون، ولا بما تقضي به حال العصر يعتبرون،
وإنما تتدافعهم التقاليد القديمة والحديثة فيندفعون، ولا يدرون في أي طريق يسيرون
ولا إلى أي غاية يصيرون.
أمامك مسألة تربية النساء وتعليمهن وهي من أعظم مسائل الاجتماع في هذا
العصر والمسلمون في حيرة لا يدرون الصواب فيها، وقد كثر اختلاف الكتاب
والمصنفين فيها، حتى كأنهم في مجموعهم خيال ذلك الشاعر الذي أوردنا كلامه
المتناقض في النساء آنفًا. صاح بعض الكتاب في الهند ومصر أن علموا النساء
وربوهن، فلا ارتقاء لكم مع جهلهن، فصاح بهم آخرون إنكم مخطئون، تفسدون
في الأرض ولا تصلحون، وقد سمعنا في هذه الأيام صيحة جديدة من مسلمي روسيا
فإن أحمد بك آجايف أحد كتابهم المشهورين ألف كتابًا باللغة الروسية سماه حقوق
المرأة في الإسلام، ونقله إلى اللغة العربية سليم أفندي قبعين وطبعه وقدمه إلى قاسم
بك أمين الذي فتح بمصر باب الفتح في (مسألة النساء) بكتابه (تحرير المرأة) ثم
كتابه (المرأة الجديدة) .
ليتني كنت أدري ماذا كان لكتابه من التأثير في بلاده، ولعله كان أقرب إلى
قلوب الجمهور هناك من كتاب تحرير المرأة إلى قلوب الجمهور هنا؛ لأن الناس
هناك أكثر اعتدالاً، وأشد استعدادًا فيما أظن، ولأن أسلوب الكتاب يوافق المسلمين
عامة إذ برز في صورة الدفاع عن الإسلام والرد على الأجانب الذين يسيئون به
الظن، ويكثرون فيه الطعن، فقد ذكر الكاتب شيئًا من إفك الإفرنج واختلاقهم في
الإسلام، وطعنهم في النبي، عليه الصلاة والسلام. ثم ذكر إنصاف أفراد منهم
عرفوا شيئًا من الحق؛ فنطقوا ببعض ما عرفوا. ومن هنا انتقل إلى الكلام في
حقوق النساء في الإسلام؛ لأن الإفرنج يبالغون في الطعن بأحكام الإسلام في النساء،
ويعدونها من أكبر علل الشقاء: ذكر ما كان عليه النساء في الأمة العربية وغيرها
قبل الإصلاح الإسلامي ثم إنه ذكر الأحكام التي انفرد بها الإسلام في ذلك مستشهدًا
بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والأحكام الفقهية على بعض المذاهب وقد انتقل
بعد ذلك إلى التاريخ فتناول منه شيئًا من سيرة المسلمات اللواتي اشتهرن بالعلم
والأدب.
ويقول المؤلف في الحجاب: إنه ليس من الإسلام في شيء.
وجملة القول أن الكتاب نافع لا يخلو من أفكار جديدة ويقل فيه ما يتناوله
النقد، فنشره مما يزيد المسلمين بصيرة في هذه المسألة إن كانوا يطلبون البصيرة
ليعملوا بها، وأنى لنا العمل ومن ذا الذي يعمل، وهذه مصر التي يذكرها المؤلف
ويظن أنها عاملة قد كثرت فيها الكتب المؤلفة في تربية المرأة وتعليمها لم تتغير
الحال بها، بل لا تزال الأمة تتدحرج في التيار الذي قذفتها فيه الحرية الشخصية
والتقليد الصوري فيزداد النساء تبرجًا وتهتكًا، وزمام تعليم البنات في أيدي
الأوربيين، واللورد كرومر ينادي في تقريره الأخير بما علمه القراء في مقالات
(الحياة الزوجية) فنحن في حاجة شديدة إلى مدرسة إسلامية للبنات كالمدرسة التي
كان الأستاذ الإمام عازمًا على إنشائها للجمعية الخيرية وسترى ذكرها في ترجمته
رحمه الله تعالى.
__________(8/514)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب الرسائل الزينبية
زينب فواز أشهر النساء المتعلمات الكاتبات بالعربية لما لها من الرسائل في
الصحف المنشرة، والكتب والقصص المنتشرة، وقد جمعت رسائلها المتفرقة في
الجرائد، وطبعتها في ديوان واحد، فإذا هي سبعون أو تزيد، وكم فيها من بحث
طريف وموضوع جديد، كالكلام في بدعة الزار، وما فيها من الأوزار، وكوصف
حفلات الأعراس، في بيوت كبراء الناس، وما للنساء من التقاليد والعادات، في تلك
البيوتات، ومن هذه الرسائل مناظرات بينها وبين بعض الكاتبين والكاتبات، ومنها
ما هو في وجوب تعليم البنات. وثمن النسخة خمسة قروش صحيحة يضاف إليها
قرش أجرة البريد، وهو يطلب من مؤلفته المقيمة في سوق السلاح بمصر.
__________(8/516)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تبرج النساء في مصر
للكلام في مصر دولة ذات صولة، بل له دول متعددة يصول بعضها على
بعض والحرب بينها سجال، وأكثرها يقع في عالم من الوهم والخيال، هو بمعزل
عن عالم الحقيقة والأعمال.
قال قوم: إن النساء أسيرات الحجاب في سجون الحجال، قد استضعفهن
فاستعبدهن معشر الرجال، فيجب تحريرهن من هذا الرق، والمن عليهن بنعم العتق،
فقام آخرون يقولون: إن هذا الحجاب حكم أنزله الله في الكتاب، فالتهاون فيه
إهمال للديانة، وجناية على العفة والصيانة، وقد أكثر هؤلاء القول وسودوا
صفحات الصحف في التألم والشكوى من الدعوة إلى تخفيف الحجاب، ونبز من
يراه بالألقاب.
ليس من غرضنا أن نقول: إن هؤلاء أو أولئك مخطئون، وإنما الغرض أن
نبين أن مسألة الحجاب مسألة كلام ومراء، لا مسألة إرشاد وإصلاح، وأن الغيرة
فيها ليست غيرة على الصيانة وآداب الإسلام، وإنما هي تغاير في ذرابة اللسان
وخلابة الأقلام.
نحن نعلم أن نساء المدن الذين يطلق عليهن لفظ المخدرات والمحجبات، لا
يبلغن عشر نساء المسلمات، ثم إن مظهر هذا الحجاب، وعنوانه هو البرقع
والملحفة التي تعرف (بالملاءة) أو (الحبرة) وإن خَلَت صاحبتها بالرجال،
وشاركتهم في بعض المعاملات والأعمال، وكان الأصل في هذا البرقع أن يستر
الوجه حتى لا يظهر منه إلا العينان، والأصل في هذه الملاءة أن تستر الرأس وجميع
البدن فلا يبدو منها شيء.
فما زال هذا البرقع يرق حتى صار يشف ما وراءه فيبدوا مستورًا أجمل منه
مكشوفًا، وما زال يدق من جانبيه ويتدلى من أعلاه، والملاءة تنحسر من حوله
فتظهر الجبهة وقصبة الأنف والأذنان والليتان (صفحتا العنق) والوجنتان، ثم
خرجت الملحفة التي تعرف بالملاءة وبالحبرة عن كونها ملحفة تستر البدن والثياب
والزينة؛ فصار نساء الأغنياء والمتوسطين ومن قلدهن من دونهن يستبدلن بالملحفة
الساترة عمارة قصيرة تتدلى من الرأس إلى المرفقين، وكساء من نسيج العمارة
يشددنه على خصورهن ويزررن العمارة به من أقفائهن، ويخرجن وهن كذلك إلى
الأسواق والشوارع حاسرات عن معاصمهن المحلاة بالأسورة وسواعدهن إلى
المرافق، وإذا رفعت إحداهن يدها ظهر ما وراء المرفق من العضد لأن أردان
جلبابها واسعة جدًّا تشبه أردان (فرجيات) شيوخ الأزهر.
هذا ما تراه من صيانة مخدراتنا المسجونات وراء الحجاب، في زعم أنصاره
باللسان والكتاب: يتبرجن في الأسواق والشوارع تبرج الجاهلية الأولى مظهرات
جميع زينتهن لجميع الناظرين فلا قرط ولا خاتم ولا سوار ولا خلخال، إلا وهو
معروض في الطريق لأنظار الرجال، والرأس نصفه مكشوف وكذاك الوجه إلا ما
على الفم وأرنبة الأنف من تلك الحريرة البيضاء التي تسمى البرقع، وما هو إلا من
نوع الشفوف المعروف بالسابريّ (الذي يكون المكتسي به كالعريان) أو النهنه
الذي هو أرق من السابريّ.
أين أصحاب الغيرة الإسلامية الذين حملوا على قاسم بك أمين تلك الحملة، أن
قال: إنه يجب على المرأة أن تستر جميع بدنها إلا وجهها وكفيها، وأن لا تخلو
بأجنبي ولا تزيد؛ لأن هذا هو الحجاب المشروع؟ ألا يحملون على اللواتي أظهرن
الشعور، والنحور، والمعاصم، والسواعد، والمرافق والأعضاء، وطفقن يتبرجن
بزينتهن هذه في كل مكان؟ ألا يحملون على أزواجهن وآبائهن وأخواتهن وسائر
أهليهن فيسفهون أحلامهم، ويحركون غيرتهم، ويأمرونهم بإمساك أموالهم أن تنفق في إعانة نسائهم على هذا المنكر العظيم؟ لماذا ثارت حميتهم على القائل، ولم
تثر على الفاعلين والفاعلات. فإن زعموا أن القول لا يفيد؛ فلماذا خافوا من ذلك
القائل، ولماذا قالوا في حقه ما قالوا؟.
النساء في مدن مصر لسن مسترَّقات فيُدعى إلى تحريرهن، ولسن مظلومات
فيُدعى إلى الرفق بهن، وإنما هنَّ مسترِّقات للرجال، ظالمات لهم في الأنفس
والأموال، والسبب الغالب في هذا هو جهل الرجال، وضعف إرادتهم، وسوء
إدارتهم، فهم غير رؤساء في بيوتهم، فإذا كان تعليم البنات وتربيتهن على ما يحب
دعاة المدنية سببًا لنهوض الأمة من كبوتها وارتفاع شأنها؛ لأنهن يربين الرجال
فيكونون أصحاب عزائم، ويعلمنهم فيعرفون حقائق المصالح، كما أنهن يربين
صنفهن على التوفير والاقتصاد، والعمل الموافق لمصلحة البيوت ومصلحة
البلاد، فمن المطالِب الآن بتربية النساء؟ لا جرم أنهن هن المطالبات بتربية
أنفسهن؛ لأنهن متصرفات بإرادتهن لا بإرادة أوليائهن، ولكن هل يسمعن النداء،
ويميزن بين ما يدعو إليه الجهلاء والعقلاء؟
الحق أنه لا يرجى أن نقوم بتربية حسنة للبنات يرجى منها مقاومة تيار الفساد
الجارف إلا بتحقيق أمنية الأستاذ -الإمام رحمه الله - وهي إنشاء الجمعية الخيرية
مدرسة لهن على الوضع الذي كان عازمًا على تنفيذه في العام القابل بعد القيام بجمع
الإعانة له في هذا الشتاء كما نذكر ذلك في موضعه؛ فإذا كان عدد أهل الغيرة على
الدين والشرف، وعلى الآداب والمدنية كثيرًا؛ فليبذلوا المال للجمعية وهي زعيمة
بهذه الخدمة كما كان يريد ويحاول، رحمه الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(8/517)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خنوثة الرجال وفسوقهم
بينا في النبذة الماضية أن النساء قد استضعفن الرجال فاتبعن الهوى، وضللن
طريق الهدى. وصار التبرج في الأسواق، وإبداء الزينة للصالحين والفساق، سنة
في العمل متبعة، وإن كان في الشرع بدعة محرمة، ولذلك يوشك أن تعم جميع
النساء؛ لأنهن خلقن مولعات بالتقليد في الأزياء، والذنب في ذلك كله على الرجال،
فهم الرعاة وعليهم تبعة الاختلال.
يرخي الرجل لامرأته الطوَل بعد أن يبذل لها ثمن ما تشتهي من الحلي
والحلل، ويخرج إلى الطرق والمتنزهات، يستشرف للظباء السانحات، فلا تمر به
عذراء إلا ويلقي إليها قولاً، ولا تلمحه عوان إلا ويطلب منها نيلاً، وقد حملني على
هذا الذي كتبت الآن أنني رأيت رجلين في سن الكهولة عليهما أثر النعمة يتمشيان
في شارع من أعظم شوارع القاهرة فمر بهما فتاتان صبيحتا الوجه فكرَّا على
عقبيهما يقتفيان أثر البنتين، وينبذان بكلمات التصبي التي تَغْثَى لسماعها نفس
الحرّ حتى تكاد تقيء.
صادف هذا المنظر من نفسي أشد الاستهجان؛ على أنني لا أكاد أمر في شارع
ولا أطل من كوّ إلا وأرى ما يحاكيه، أو يزيد قبحًا وشناعة، وكأن السبب في ذلك
أنني توهمت الأدب والكمال في الكهلين.
رأيت منذ أيام شابًا يَتَأَثَّر فتاة في جَادَةٍ واسعة في أحد جانبيها قمامة وأقذار
فكان كلما دنا منها بعدت عنه حتى اضطرها إلى المشي في ذلك الجانب القذر فرارًا
من قذارة نفسه، ونتن أخلاقه، وما كان امتعاضي من هذا المنظر إلا دون امتعاضي
من منظر ذينك الكهلين اللذين كانا يتكلمان بما يعد في العرف البلدي ظرفًا وذوقًا.
ما كل متبرجة بغي أو ملتمسة خدن، بل فيهن المقلدة في الزي كيلا تعاب بين
النساء بالعجز عن مجاراة صنفها، أو بالتأخر فيما يسمونه (المودة) ولكن هذا
التبرج مطمع للفساق- وما أكثرهم لا أكثر الله من أمثالهم- ولهم العذر فقد ورد في
الحديث (أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية) رواه ابن
خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. ودخلت امرأة مِن مُزَيْنَة المسجد تَرفُل في زِينة
لها؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا أيها الناس انهوا نساءكم عن لبس
الزينة والتبختر في المسجد؛ فإن بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبس نساؤهم الزينة
وتبخترن في المساجد) رواه ابن ماجه، والتبختر في الشوارع والمَنَازه أَدْعى إلى
الفتنة منه في المساجد، فهل من ذي نفس أبية وغيرة إسلامية، يسعى في إبطال
هذه الأزياء الفاضحة، والمعاصي القادحة، وهل للكتاب أن يحملوا على هذه
العادات الشائنة حملة منكرة في الجرائد، لعلهم يفيدون؟.
__________(8/519)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحداد والمآتم
وقفت على عادة من عادات البيوت في الحداد، لم أكن أعلم بها من قبل هي أن
النساء يفرشن البسط والطنافس في البيوت مقلوبة، ويجعلن على الأرائك والحشايا
التي يُجلس عليها نسيجًا أسود، ويغيرون سائر ما في البيت من الأثاث والمتاع بعضه
بالقلب، وبعضه بالنزع، وبعضه بتغشيته بالسواد؛ ليكون كل شيء مذكرًا بالمصاب
باعثًا على تجديد الحزن، وإثارة الشجن. وهذه العادات عامة لا يكاد يخلو منها بيت
عالم، ولا جاهل، ولا رفيع، ولا وضيع إذا مات أحد من أهله لا سيما كبير البيت.
وإننا نحمد الله أن لم يبتل من رُبِّينا بينهم من الأهل والمعاشرين بهذا البعد الشديد عن
هدي الدين، والسخط لقضاء الله، تعالى. ونسأله تعالى أن يوفق علماء هذه البلاد
وكتابها إلى الاجتهاد في تغيير منكرات الحداد والمآتم، وإزالة ما اعتيد فيها من البدع
والمآتم.
__________(8/520)
16 رجب - 1323هـ
15 سبتمبر - 1905م(8/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ملخص سيرة الأستاذ الإمام
(4)
(نموذج من كتبه وترسله)
كتب من بيروت سنة 1302هـ إلى صديق عالم في بعض البلاد، وفيه من
الحث على إحياء دين الله، والاهتداء بكتاب الله، ما لا تجد مثله في كلام، إلا أن
يكون لمثل علي،عليه السلام. قال رضي الله عنه:
السلام عليكم، تحية أخ يهزه التشوق إليكم، وبعد، فقد تلقيت اليوم كتابك
وتشممت منه الحمية والنعرة الدينية وأرجو أن تصل بك بدايتك إلى ما يختار الله
لك من حسن النهاية، ولم يكن ظني في همتك، دون ما تبينت في عبارتك، فليكن
سرورك بنفسك، على قدر شفقتك على دينك، وحركة ميلك للأخذ بيده، وتقويم
أوده، فإنما هو الدين المتين الذي أطلق العقل من قيده، وأخذ على الوهم في كيده،
وهز النفوس إلى نيل الفضائل، ونكب بها عن مشايعة الرذائل، حتى ساد به
الضعفاء، وذلت لسلطانه الأقوياء، وسبق وعد الله بأن يظهره على الدين كله،
والله منجز وعده لأهله، وإنما خلقنا الله، وكلفنا صرف همومنا إليه، وتعويلنا في
شؤوننا عليه، وليس لنا من الحق في أنفسنا وأموالنا، إلا ما نبذله في تأييد ديننا،
ولا حاجة لله فيمن لم يكن له من نفسه وماله نصيب.
داوم قراءة القرآن، وتفهم أوامره ونواهيه، ومواعظه وعبره، كما كان يتلى
على المؤمنين والكافرين أيام الوحي وحاذر النظر إلى وجوه التفاسير إلا لفهم لفظ
مفرد غاب عنك مراد العرب منه، أو ارتباط مفرد بآخر خفي عليك مُتَّصَلُه، ثم
اذهب إلى ما يشخصك القرآن إليه، واحمل بنفسك على ما يُحمل عليه، وضم إلى
ذلك مطالعة السيرة النبوية واقفًا عند الصحيح المعقول، حاجزًا عينيك عن الضعيف
والمبذول [*] ، واعتبر بما قاسى النبي وأصحابه من الجهد والعناء لنصر دين الله،
وما ركبوا من المتاعب، وما احتملوا من المصاعب، على ما تعلم من درجة قربهم
إلى الله وغفرانه لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، واجعل عيشك للآخرة واستعد لما
وعد؛ فإن سعادة أبدية لا تنال إلا بسيرة محمدية، ولن تنال بنوم موسد، على
فراش ممهد، واعلم أنك محاسب على الدقيقة من أوقاتك، لإعزاز دينك كانت لك
وإلا كانت عليك، وأرجو أن يكون كل سعيك خيرًا يجعله الله نورًا يسعى بين يديك
إن شاء الله.
أما ما ذكرت من مسألة الشيخ ... فبودي لو توجه إلى الله كل مسلم،
واعتصم بحبله كل مؤمن، فما بالك بشيخ من جمال الوصف على ما ذكرت ومن علوّ
المنزلة على ما بينت، فإن تيسر لك السبيل، فتقدم لدعوته (أي إلى الاعتصام)
وادخل إليه ابتداء من طريق لا يعرفه وتلطف له في القول، وإن شئت أطلعته على
شيء من مقالات العروة الوثقى، فإذا انتهيت به إلى ما يعرف وآنست منه الميل
والرضاء فإما أن يكتب إليّ، وإما أن يستعد لتلقي كتاب مني ثم سراع إليّ بالخبر
... إلخ.
وكتب منها إلى عالم كبير في بعض البلاد في 7 جمادى الأولى في سنة
1302هـ:
(أشد ما أجد من فراقك، حرماني من محاضرة آدابك، والاقتباس من نوادر
فضلك، وتعرّف الصواب من صائب رأيك، وإنما يخفف ألم البعد عنك أن أكون
بمكان من فكرك، وأصيب حظًّا من مراسلتك، وجدير بكرمك أن تصل واصلاً،
وتجيب سائلاً، وسلامي عليك وعلى أنجالك الصالحين، والله ينفع المسلمين بسعيك
وخالص نيتك والسلام) اهـ.
فانظر كيف كان إحياء الدين وهمّ المسلمين والسعي في إصلاحهم مما يدخل في
كل أقواله، كما كان مسيرًا له في جميع أحواله، فهل تزن بمثله من ليس لهم حظ
من الدين، إلا الأكل به من السوقة والفلاحين، لا يهمهم إلا التحلق حول الموائد،
والتطواف لجمع النذور (والعوايد) .
قوة عقله وسعة علمه
يصف الناس كل نابغ بالذكاء الفطري ويعنون به سرعة الفهم وسهولة الحفظ
ولذلك كنت تجد الناس مجمعين على وصف الأستاذ الإمام بالذكاء النادر، لا يختلف
في هذا منصف ولا مكابر، أما هو فكان يقول عن نفسه إنه متوسط في الذكاء وإنه
يوجد في كل مئة رجل 75 رجلاً مثله في ذهنه، وعلى هذا كان يجب أن يكون
ثلاثة أرباع الناس أو طلاب العلم منهم خاصة مثله ولكن الناس لم يروا في الملايين
الكثيرة مثله وإنك لتسمع كثيرًا من أهل الفضل يقولون: (إن الدنيا إنما تلد مثل هذا
الرجل في كل عدة قرون مرة) وقالوا بعد موته: (إن الفراغ الذي حدث بفقده لا
يملأه أحد في هذا العصر) وقد راجعناه في قوله إن ثلاثة أرباع الناس يساوونه في
ذهنه، وقلنا له: كيف تحصل في الزمن القصير من العلم ما لا يحصلونه في الزمن
الطويل، فقال: (إن الفرق بين الناس في هذا لا يأتي من الاختلاف في الذهن فقط،
وإنما يأتي معظمه من الاختلاف في توجيه الإرادة إلى الشيء ومعرفة طريقه
وغايته قبل طلبه) وهذه حقيقة لا مرية فيها ولكنها لم تذهب بامترائنا في أن قوله
ذلك من المبالغة بمكان وإن كان قاله اعتقادًا لا تواضعًا وهضمًا لنفسه، على أننا
نعرف من أصحاب الذكاء المدهش من كان ذكاؤهم وبالاً عليهم خاصة، أو عليهم
وعلى كثير من الناس الذين يعرفون. فالعبرة بما قال وهو أن إدراك المقاصد إنما
يكون بصحة توجيه الإرادة إليها وطلبها من طرقها الطبيعية.
بلغ هذا الرجل من قوة العقل أن عجزت الأمراض الشديدة عن منعه المطالعة
فكان يقرأ في أيام مرضه أكثر مما يقرأ في صحته التي تشغله فيها الأعمال، أتظن
أنه كان يقرأ كتب القصص والفكاهات؟ كلا، إنما كان يقرأ العلوم العقلية والفلسفة
وكتب التربية والتاريخ، وقد رابه من مرضه الأخير ملله فيه من المطالعة، وقال:
إنه لم يعهد ذلك في مرض قط، فقلت له هكذا شأن أمراض المعدة على أن كثرة
الأعمال العقلية هي السبب الفعال في مرضك هذا - كما يقول الأطباء - ولم يكن
المرض يومئذ قد اشتدت وطأته.
وقد أصيب بحُمى التيفوس مرة في بيروت فبلغت نهاية شدتها وأعلى حرارتها
ولم يغب عقله ولم يهذ لسانه، حتى قال الطبيب الذي كان يعالجه: إنني لم أر مثل
دماغ هذا الرجل، ولو حدثت عن مثل ما رأيت منه لما صدقت. وكذلك قال بعض
الأطباء الذين زاروه قبل موته بأيام قليلة، فقد دب التسمم في جسمه وعقله حاضر
وذاكرته تملي على لسانه الأجوبة السديدة في وصف مرضه لمن يسأل عنه، وقد
اتفقنا نحن الذين كنا نلازمه على أن لا نحدثه في الجد ولا مسائل العلم والاجتماع
وأن نمنع عائديه من الحديث في ذلك لا سيما بعد اشتداد المرض عليه ولكنه كان
ينتقل بنا من الفكاهة إلى الجد فإذا ساقت شجون الحديث مسألة عويصة أو عبارة
احتجب معناها، أسرع ذهنه إلى كشف الحجاب عن الخفايا فجلاها، ونفث في عقدة
العويص من عراها، أذن لنا بذكر الشعر والأدب في يوم تواترت فيه نوبات الألم
فكان مما أنشده حافظ إبراهيم من مختار محفوظه قول بشار:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
وقال: إنني أنشد هذا البيت منذ سنين وأنا لم أفهمه وسألت عنه غير واحد
من الأدباء، فلم يأت أحد بتفسير ترتاح إليه النفس فلم يلبث الإمام أن قال - والألم
ينال من كبده ما ينال -: إن معناه ظاهر فإنه يريد أنهم إذا غضبوا سلُّوا سيوفهم
وأشرعوا رماحهم فكان بريقها ولمعانها هتكًا لحجاب الشمس إلى أن يمكنوها من
طلي أعدائهم وصدروهم فتخرج وهي تقطر دماء وتسيل مهجًا، هنالك يخفى ذلك
البريق واللمعان بستر الدم له ورينه عليه، فالضمير في قوله (قطرت دمًا) عائد إلى
السيوف أو الرماح، وإن لم تذكر بالقول، فهي معلومة بالقرينة، أي على حد قوله
تعالى: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (ص: 2) على التفسير المشهور.
ناهيك بمن كان يقتل عامة نهاره وزلفًا من ليله يحل المشكلات وإمضاء
الأعمال في معاهد كثيرة ولا يشكو تعبًا، ولا يخاف مللاً، كان يصبح فيغدو إلى
مجلس الشورى مثلاً فيجلي المسائل الموضوعة للبحث سواء كانت قضائية، أو
إدارية أو مالية، ويؤلف بينها وبين مصلحة البلاد ويؤيدها بالحجج القانونية والعقلية
التي تقنع الحكومة بعد اقتناع الأعضاء، ثم يخرج من هذا المجلس فيأكل طعام
الغداء ويذهب إلى الأزهر فإن كان اليوم يوم جلسة الإدارة جلسها وعمل فيها عمله،
ثم ينتقل إلى مكتب الإفتاء حيث كان ينتظره أصحاب الحاجات المختلفة في جميع
مصالح الحكومة وغيرها والمستفتون والزائرون وكتاب الجمعية الخيرية
والأزهريون من علماء ومجاورين فينظر في هذه الأمور إلى ما بعد العصر ثم
يخرج إلى ديوان الأوقاف إن كان اليوم يوم جلسة المجلس الأعلى أو مجلس إدارة
الجمعية الخيرية إن كان اليوم يوم جلسته، ثم يعود عند الغروب إلى الأزهر فيقرأ
الدرس فيخرج بعد العشاء قاصدًا داره فيجد العفاة وأصحاب الحاجات ينتظرونه في
المحطة وفي البيت يعرضون عليه حاجاتهم، وبعد هذا كله لم تكن تخلو داره ليلة
من السامرين، يتكلمون في العلم والأدب والمصالح العامة والخاصة، ولا تنس أن
الأيام التي لم تكن موعدًا لجلسة في تلك المجالس الرسمية هي التي تقرأ فيه أوراق
تلك المجالس، ولكنه كان على ذلك العقل الكبير والعرفان الغزير كثير النسيان
للأمور الجزئية لا سيما أسماء الأعلام حتى إنه نسي اسم نفسه، مرة ذهب لزيارة
صديق له فلم يجده فسأله البواب عن اسمه ليخبر مخدومه به فتوقف الأستاذ في
الجواب ذهولاً عن اسمه فقال الخادم أقول الشيخ (محمد عبده) ؟ قال: نعم، فأنت
أعرف باسمي مني.
أتقن جميع العلوم الإسلامية وضرب بسهم في العلوم والفنون العصرية قبل تعلم
اللغة الفرنسية وقد أتقن هذه اللغة في سن الكهولة وتوسع بها في العلوم على
طريقة الإفرنج، وكان يُعنى بالعلم على قدر الحاجة إليه في العلم والإصلاح، فأما
علوم اللغة العربية فقد بلغ منها أن كان أدق الناس فهمًا للقرآن ولغيره من فصيح
الكلام، وأبلغ الكتاب بلا منازع، وأخطب الخطباء بلا مدافع، وأما العلوم العقلية
فقد ارتقى فيها إلى أن كان فيلسوفًا حكيمًا، اعترف له بذلك من يعتد بمعرفتهم،
ونذكر هنا تفسيره لكلمة فيلسوف: حدثنا في طرابلس الشام قال: كنا في مجلس
بعض الوجهاء بمصر، وكان في المجلس بعض أهل العلم وحملة الأقلام من
السوريين، فقال ما معناه: إن الناس قد ابتذلوا لقب فيلسوف فصاروا يطلقونه على
غير أهله، وكان أطلق هذا اللقب في جريدة على بعض الحاضرين فجرى ههنا كلام
في معنى كلمة فيلسوف، قيل: الفيلسوف هو الذي يتقن جميع العلوم، قال الأستاذ:
إذًا لم يوجد فيلسوف في الأرض، قيل: هو الذي أتقن بعض الفنون وله إلمام
بسائرها قال: إن جميع الذين يتعلمون على الطريقة الحديثة يخرجون على إلمام بجميع العلوم العصرية ويتقنون بعضها، فما أكثر الفلاسفة المهندسين
والأطباء وفي التلامذة أيضًا، ثم قال بعد كل ما قال: الفيلسوف: هو الذي له رأي
ومذهب في العقليات يمكنه الاستدلال عليه والمدافعة عنه.
وأما العلوم الشرعية فقد كان فيها إمامًا مجتهدًا، وإن كبرت هذه الكلمة عند
الذين سجلوا على أنفسهم الحرمان من فضل الله على المتأخرين وإيتائهم من العلم
والفهم ما آتاه المتقدمين، وناهيك بفهمه في القرآن ووقوفه على أصول الشريعة
وحكمها وأسرارها وقوة حجته في إثبات عقائدها ودفع الشبهات عنها وتطبيق
أحكامها على مصالح البشر، ولست أعني بكونه إمامًا مجتهدًا في الشريعة أنه
صاحب مذهب دوَّنه أو كان يريد أن يدونه، وإنما أعني ما ذكرت آنفًا من فهمه الدين
أصوله وفروعه بالدلائل والبراهين والفقه فيه والوقوف على حكمه والقدرة على
بيانه بدون تقليد عالم معين من العلماء السابقين والأئمة المهديين الذين اتبع آثارهم
واهتدى بهديهم، وكان يرى أن من يضع للناس مذهبًا جديدًا فإنما يزيدهم عمى
وجهلاً وتفرقًا واختلافًا.
أخلاقه وشمائله
الأعمال ثمرات الأخلاق فما ذكرناه من أعمال الرجل تمثل بعض أخلاقه لأنها
بعض آثارها وأن وراء ذلك من أحاسن الخلال، وآيات الكمال، ما تقتصر عن
تمثيله جلائل تلك الأعمال، ولقد كملت للأستاذ الإمام أصول الفضائل الأربع، وما
نشأ عنها وتفرع، وإننا نشرح بعض أخلاقه لتكون قدوة للمقتدين.
طبع الله هذا الرجل على عزة النفس وعلوّ الهمة من أول نشأته وقد أدركه
السيد جمال الدين الذي درج في حجر السيادة وترعرع في بيت الإمارة وهو مجاور
في الأزهر منقطع إلى التصوف يلبس قميصًا يبدو من أعلى جيبه صدره الأشعر وقد
أرسل جمة كجمة الدراويش فراعه من صاحب هذا التقشف ما عنده من العزة والإباء
وحفظ الكرامة، ورقة شعور الشرف وأكبر أن يكون هذا أثر التربية والتخلق في
بلاد ساسها الظلم وتحكم فيها الجور المذل للنفوس، وكأنه سبق إلى نفسه أن هذا
أثر وراثة لأحد آبائه الأولين، وأنهم لا بد أن يكونوا من الملوك والحاكمين، فقال له
مرة: (قلي بالله: أي أبناء الملوك أنت؟) وهذا الخلق هو ركن الفضائل الركين،
وناهيك بقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) ،
وهو الباعث على تلك الأعمال، والحامل على الاستهانة بما بين يديها من الأهوال،
وقد يشتبه على كثير من الناس هذا الخلق الكريم، بخلق الكبر الذميم، ولذلك كان
بعض الحاسدين والجاهلين ينبز الأستاذ الإمام بهذا اللقب لا سيما عندما كانوا يرونه
مترفعًا عن الدهان والتملق للكبراء، معرضًا عمن يعارضه في مقاصده، وإن كان
من العظماء، ولو عاشروه ناظرين بعين الإنصاف لرأوا حقيقة التواضع مع الرفعة،
كيف تكون لرأوا كيف كان ذلك الرجل العظيم يخدم الفقير والمسكين، ويتجافى
جنبه عن مضحعه لأجل العفاة والمستفيدين، ومن دقائق ملاحظته في التواضع أنه
كان يتحامى صيغة الطلب الجازم في مخاطبة أصدقائه ومحبيه، بل وتلامذته
ومريديه، فيستبدل بالأمر الاستفهام والتخيير ويوسع للمخاطب العذر قبل أن يحتاج
إلى الاعتذار، ثم إذا أخلف معه يتناسى فلا يقابله بلوم ولا عتب. أذكر من لطائفه
في هذا الباب قوله لي مرة: (إنني أكون غدًا في مكان كذا بعد الظهر، فإن ذكرت
ذلك ووجدت فراغًا وأحببت أن تجيء فعلت) ذكر كل هذه القيود، وأنا أعلم أنه
يريد أن أوافيه حتمًا، ولولا ذلك لذكر لي أنه يكون في ذلك المكان ولم يزد كعادته معي
إذ كان يخبرني بمواقيته.
وقد عُرف رحمه الله تعالى بسلامة الصدر وصفاء القلب والحلم والصفح، فما
انتقم من مسيء ولا سعى في ضرر أحد قط بل كان يحسن إلى من أساء إليه: إذا
استنجده أنجده، وإذا استرفده أرفده، وإن عاد إلى الإساءة سبعين مرة، وكان أهل
الخبث والمنكر من حاسديه يظنون أنهم يخدعونه بدهائهم ودهانهم ولكن فراسته
كانت تخترق صدورهم، وتنفذ إلى سواد قلوبهم، ويقرأ في صحائف وجوههم
الأولى، ما رسم على صحائف وجوههم الأخرى، وإنما يقبل منهم ما أظهروا،
ويتغابى عما أضمروا، عملاً بما ورد في الخبر: (اصنع المعروف مع أهله ومع
غير أهله فإن أصبت أهله فقد أصبت أهله، وإن لم تصب أهله فأنت من أهله)
وكان يعجبه قول أفلاطون: (استصلاح العدو أحزم من استهلاكه) .
نعم كان يغلب عليه حسن الظن وبذلك رفع أناسًا إلى مراتب لم يكونوا أهلاً لها
والناس يعدون ذلك عليه ويغفلون عن عذره فيه، وهو أن من رفعهم ورقاهم كان لا
بد للأعمال التي رقاهم إليها من عاملين فحسن الظن ببعض من يمكن أن يعهد إليه
العمل وناطه بهم، فمنهم من ظهر بالاختبار أنَّ ظنَّ الخير فيه صادق فكان صالحًا
للخدمة شاكرًا للصنيعة ومنهم من ظهر بعد التجربة لؤمه، وتبين فساده وشؤمه، فلم
يصلح عملاً، ولم يشكر محسنًا، ومن هذا الفريق من أساء إلى من أحسن إليه،
وكفر حقوق المنعم عليه، ومنهم من أظهر الوفاء في وقت الرخاء، وأظهر حقده
وضغنه، عند الضراء والمحنة، وليت شعري ما حيلة الرجل الذي جبلت طينته
على الإحسان وتوجهت همته إلى الخدمة العامة، وقد نشأ في قوم فشا فيهم فساد
الأخلاق، وقل فيهم الوفاء والإخلاص، أيمكن أن يقال له لا تُسْدِ إلى أحد معروفًا،
ولا تسع إلى أحد بخير، إلا بعد أن تجربه عدة سنين، فتعلم أنه من المصلحين
والشاكرين؟ كيف وإنما يجرب الرجل بما يعهد إليه من الأعمال، وما يعامل به من
البر والإحسان.
على أنني لا أنكر أنه كان لسلامة قلبه يفيض أمام بعض من يعتقد إخلاصهم
بما لا تسع عقولهم، ويفضي إلى بعضهم بما تضيق عنه صدورهم، وأنه كان
لمبالغته في الحلم يعفو عمن لا تعفو المصلحة العامة عنه، ويصفح عمن يقضي
الإصلاح بالانتقام منه، وقد كان يكون هذا العفو والصفح مما يخفى على من عفا
وصفح عنهم، كما كان يُخفي الانتقام لو أنه انتقم منهم، ولعله لولا هذا الخلق لكان
نجاحه أسرع وأتم، وإصلاحه أشمل وأعم.
وكان من الكمال في الوفاء لأصدقائه، والغيرة على أحبائه، بحيث يهتم
بشأنهم في السر والجهر والبعد والقرب والغيب والشهود بمثل ما يهتم آباؤهم
وأبناؤهم أو أشد، وكثيرًا ما نراه يسعى في دفع الشر عنهم وفي سوق الخير إليهم بأشد
مما كانوا يسعون لأنفسهم، وما من صديق ولا محب له إلا وكان آمنًا من انحرافه
عنه، بل من توانيه في الانتصار له، تأثرًا بقول واشٍ محتال، أو رهبته من كيد
قوي ذي مِحال، أو طمعًا في جاه أو مال، وقد كان في وفائه هذا خير قدوة
لمعاشريه والمتصلين به يربي نفوسهم بأخلاقه وسيرته، كما يربي عقولهم بعلمه
وحكمته، فمريدوه ومحبوه أشد الناس وفاء لمن يحبون، وأعظمهم إخلاصًا لمن
يصطفون.
وقد كان على ما علمت من صفحه عن الأعداء، وكمال الوفاء للأحباء،
والإحسان لأولئك وهؤلاء - لا يخاف في طريقه إلى الإصلاح عدوًّا مبينًا، ولا يعتمد
فيه على الصديق وإن كان ناصحًا أمينًا، وإنما كان مستقلاًّ برأيه مع الاستشارة، مستقلاًّ
بإرادته مع الاستعانة، واثقًا بأن الله يؤيده ويسخر له الناس لإخلاصه لله وللناس،
يستخدم في سعيه كل من استطاع استخدامه من موافق ومخالف ووطني وأجنبي
ولكنه لا يعتمد في قلبه على أحد من الناس، ولا يغتر بأحد منهم، كان في الناس
من يظن بأن السبب في شجاعته وقوة عزيمته في عمله ونفوذه عند الحكومة وإدلاله
عليها هو اعتماده على حزبه الكبير الذي يضم جماهير العقلاء والفضلاء والكتاب
والأدباء، وفيهم من يظن أن جراءته ومضاءه وإقدامه من ثقته بتأييد الحكومة له
والقوة المحتلة من وراء الحكومة، أما هو فكان يعتقد أنه لا حول له ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم، وما وهبه من العزيمة والإخلاص وقد كلمته مرة في هذا فأقسم بالله
أنه يشعر بأنه في هذا الوجود كالعريان الذي ليس له فيه شيء وأنه لا يعتمد على
شيء إلا الله وهو المسخر لمن يشاء.
وكان رضي الله عنه معتصمًا بحبل الصدق، متحريًا ما يعتقد أنه حق، وإذا
تذكرت أن علة العلل لفشو الكذب في الناس هي شدة ظلم الحكام، واستبداد ذوي
السلطان، وأن أكذب الناس أكثرهم قربًا من الظالمين، ومعاملة للحكام المستبدين،
علمت أن ملكة صدق اللسان، لا تتربى إلا في حجر شجاعة القلب وجرأة الجنان،
ولولا شجاعته لما نادى بمقاومة الاستبداد - كما قال - في عنفوانه، والظلم قابض
على صولجانه، ولما حافظ على رأيه واعتقاده وإن خالف العلماء والحكام، وخالف
الجماهير المعبر رأيهم بالرأي العام.
هذان الخلقان - الصدق والشجاعة - هما شرطان للقدرة على الإصلاح
فالكذوب والجبان عدوان لله لا يصلحان لشيء من الخير ولا يصلح بهما شيء، وإنَّ
التزام الصدق في أمة فشا فيها الكذب، واعتادت على الدهان والملق من أشق الأمور
على النفوس، وأبعدها عن طاعة التهذيب، لما له من الأثر في إحفاظ القلوب،
والتأثير في إثارة البغضاء، وتكثير سواد الأعداء، وتنفير المحبين والأصدقاء،
فكيف يتكلفه المتكلف مع هذه المنفرات عنه، والمرغبات في ضده، ثم كيف يكون
ملكة نفسية، لا تكلف فيه ولا روية، ولا تحسبن الأمر سهلاً فإن الظهور بمخالفة
أهواء العامة مما يجبن أمامه الملوك القاهرون، وينكمش دونه العلماء العاملون،
ولهذا يدهن الرؤساء للمرءوسين، ويدهن المرءوسون للأمراء والسلاطين، فالصدق
فيما لا يرضي العامة أشد من الصدق فيما لا يرضي الخاصة، فما بالك بالصادق
فيما قد يُغضب الفريقين، والصابر على الطعن من الجانبين، أليس هو في مرتبة
الصديقين التي تلي مرتبة النبيين والمرسلين.
رأيت الأستاذ الإمام في النوم بعد موته بأيام فقال لي: إن الله تعالى أعطاني
مقام الصدق أو قال: إنني في مقام الصدق - فتذكرت كلام الشيخ محيي الدين ابن عربي
في مقام الصدق وحال الصدق، ومنه أن صاحب حال الصدق يكون كثير الظهور
بالولاية والكرامة كثير الدعوى بحق وصاحب مقام الصدق أعلى وأكمل، ويكون في
الولاية مجهولاً لا يعرف، ونكرة لا تتعرف، وتذكرت جهل الناس بمقام الأستاذ
الإمام في الولاية والعرفان، احتجابًا بمظهره الدنيوي ومعارفه الكونية، عن مرتبته
الروحية ومعارفه اللدنية، واستيقظت وعلى لساني قوله تعالى: {إِنَّ المُتَّقِينَ فِي
جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر: 54-55) .
إن ما ذكرناه من الشجاعة في التزام الصدق، والمجاهرة بنصرة الحق، هو
ما يعبر عنه كتاب العصر بالشجاعة الأدبية وأنت لا تجهل أن من لا يهاب في الحق
وثبات الحكام، ولا يخاف طعن الخواص والعوام، فهو جدير بأن لا يخيفه الحسام،
ولا ترهبه السهام. كاشفني - رحمه الله - مرة بكتاب جاءه بغير توقيع يهدده مرسله
فيه بالقتل إذا هو ظل مسترسلاً في عمل نسب إليه ورأيته غير مبالٍ به ولا مكترث،
فقلت له: إن لك أعداء لا يخافون الله وإنك تجيء دارك في الليل وهي في الخلاء
بعيدة عن العمران فهل نظرت في ذلك؟ فقال: أوتخاف علي من مثل هذا الكاتب
المهدد؟ إنني لم أهنئ نفسي إلى الآن بأنه وجد في وطني من تجرأ علي بكلمة
(أخطأت) وسألته مرة: ماذا تصنع إذا هجم عليك لص في الليل، أتطلق عليه
الرصاص من هذا المسدّس؟ وأشرت إلى مسدس معلق بسرير نومه، فقال: لا يجوز إطلاق الرصاص في البيت فإنه يزعج النساء والعيال، وليس عندي للص إلا
القبض عليه والأخذ بقوف رقبته، وكذلك يفعل.
ومن خلائقه الإنصاف في الرأي والعلم كالإنصاف في الحكم، والبعد عن
المكابرة في المذاكرة والمناظرة، فلم يكن يزدهيه الغرور والإعجاب بسعة العلم
وكثرة الصواب، ولا كان يصده الارتقاء عن مرتبة للحق إذا ظهر له، يحترم فهم
غيره ورأيه، وهذا الخلق عزيز في العلماء، لا سيما ذوي الشهرة والجاه، ومن
طلب آية على هذا فليرجع إلى ما كتبه الإمام الغزالي عنهم في بيان آفات المناظرة
من كتاب العلم في الإحياء، فإذا علم بما كان يجري والعلم حي والأمة عزيزة -
ومن لوازم ذلك الإنصاف - فما ظنه بهذا الخلق في خلف لم يبق لهم من عزة سلفهم
إلا الفخر بها، ولا من علمهم إلا الحكاية عمن قلدهم فيه.
من آيات إنصاف أستاذنا ورجوعه إلى الحق مما هو مدون في المنار. لم ينسَ
القراء ما نشرناه له في تفسير: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} (الضحى: 10) إذ
اختار قول بعض المفسرين أن المراد بالسائل من يسأل عن العلم ويطلب التفقه في
الدين وذكر فيما كتبه في تفسير (جزء عم) أن لفظ (السائل) لم يرد في كتاب الله
عنوانًا للفقير أو المسكين - فظن بعض من قرأ ذلك أن قوله يفيد أن لفظ السائل لم يرد
في القرآن بمعنى طالب المال، فذكَّره رجل من عُمَد البلاد بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ
فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (المعارج: 24-25) فحسب أنه
أخطأ فيما كتب فأرسل إلي ورقة صغيرة يصرح فيها بتخطئة نفسه وكلفني طبع
عشرة آلاف نسخة منها بعدد ما طبع من كتاب تفسير جزء عم لتلصق بنسخ التفسير
وأمر الجمعية الخيرية بأن تمسك عن بيع الكتاب حتى تطبع الأوراق وتلصق
فرجعت إلى الجزء فرأيت عبارته صحيحة إلا أنها مبهمة ليس كالمعهود في بيانه
فراجعته في ذلك، ولم أطبع الورقة فعاد إلى التأمل في العبارة ورجع إلى مسودات
تفسير الجزء فتذكر أنه ما كتب تلك العبارة في السائل إلا وهو ذاكر لما توهموا أنه
ينافيها من قوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات:19) ،
وقوله تعالى {وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (البقرة: 177) ثم كتب ما كتب في
إيضاح العبارة واعترف بما فيها من الإبهام واستغفر الله من العود إلى مثله وقد نشرنا
ذلك في ص 815 من المجلد السابع من المنار فليرجع إليه من شاء.
وكان هذا الأوَّاب الرجاع إلى الحق جبلاً راسخًا في الثبات والاستقامة لا يرجع
عما شرع فيه، فكيف يطمع في رجوعه عما طبع عليه؛ لأنه كان لا يقدم على العمل
إلا بعد الرّوية والتدبر والبصيرة والتثبت، وقد كان السيد جمال الدين يقول فيه: هو
كالفلك لا يتغير، قال هذا بعد ما غاب غيبته في بلاد المشرق ثم عاد إلى أوربا
ورأى فيه جماعة ممن كان يعرف قد تغيروا عما كان يعهد إلا الشيخ محمد عبده فإنه
لقيه كما تركه.
ولا حاجة إلى الكلام في جوده وسخائه فإنه صار فيه على اكتتامه الصدقة
وإخفائه البذل أشهر من علم، وعرف الناس كثيرًا من البائسين والعجزة الذين كان
يعولهم ويوصيهم بالكتمان، ولم يكن في أيام السراء أبسط يدًا منه في أيام الضراء،
لقيه صاحب في بيروت فقال له: إن والدي قد توفي، وليس لدي ما أنفقه في
تشييعه فأعطاه كل ما كان يملكه من النقد وهو راتبه الشهري من المدرسة السلطانية
كان قد قبضه ولم ينفق منه شيئًا ولكن الله أخلف عليه بما لم يكن يحتسب فقد كان له
دَين عند رجل في مصر يلويه ويمطله به أيام كان يتقاضاه، وهو يراه فيستحي منه
ويخشاه، فما مر يوم على بذل جميع ما في يده وإيثار صديقه على عياله حتى آذنه
مصرف (بنك) بيروت بأن حوالة برقية جاءت باسمه من مصر وإذا هي دَينه على
ذلك الرجل {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} (الطلاق: 2-3) وكان إذا وفر شيئًا من النفقة صرفه في سبل البر، كان يدخن
اللفائف المعروفة بالزنوبية والنارجيلة (الشيشة) ثم ترك التدخين بالمرة وجعل ما
كان ينفقه فيه صدقة ولولا بعض أصدقائه لما امتلك من طين هذه الأرض شيئًا ولا
حاجة إلى بيان ذلك هنا. ... ... ...
لعلي لا أحتاج إلى التنويه بغيرته على ملته وأمته، فإن بذل حياته كلها في
السعي بتربية الأمة على آداب الملة لم يكن إلا أثر من آثار هذه الغيرة، فالدليل
وجودي عملي عرفه القريب والبعيد واعترف به العدوّ والصديق ولكني أذكر في هذا
الباب شيئًا لا يعرف نظيره إلا بعض أصفيائه الذين لم يغب عنهم شيء من أحواله:
جئته مرة في رمضان سنة 1315هـ، بعد الظهر على موعد فقيل إنه نائم،
ولم يكن ينام في مثل هذا الوقت، بل كان ينام طائفة من الليل ثم يقوم في السحر
ويلبث بعد السحور إلى أن يصلي الصبح ثم ينام حتى ترتفع الشمس فمكثت ريثما
استيقظ، فسألته ما أنامه، قال ما معناه: أرّقني الليلة الفكر في حال المسلمين،
وما ينزل بهم من البلاء ببعدهم عن دينهم واتباع أهوائهم وشهواتهم، وقوي سلطان
الفكر فهاج المجموع العصبي ونبهه تنبيهًا شديدًا حتى حدثتني نفسي بأن أنزل إلى
حيث يكثر اجتماع الناس كالموسكي والأزبكية فأقف في الطريق وأنادي: أيها الناس
ماذا رأيتم في دينكم من القبيح حتى تركتموه، وماذا رأيتم فيما اخترتم بديلاً منه حتى
تقلدتموه، ثم أخطبهم في حقيقة ما هم فيه، وأنذرهم عاقبة ما هم عليه، وأبيّن لهم
طريق النجاة منه، وقد عالجت النوم فلم أملك منه شيئًا فلجأت إلى الكتابة وما كنت
لأكتب في الليل فجرى القلب بفصل جعلته آخر فصول رسالة التوحيد فثابَت إلى ذلك
نفسي وران النوم على عيني، ولكن الليل قد آذن بالرحيل فلم أنل منه نيلاً فكانت هذه
النومة في النهار عوضًا عما فاتني في الليل.
أقول: قد عرف من سبق له قراءة رسالة التوحيد أن الفصل الذي كتبه في تلك
الحالة هو الفصل الذي عنوانه (انتشار الإسلام بسرعة لم يعهد لها نظير في التاريخ)
ولعمري إن ذلك الفصل لقول فصل، وما هو بالهزل، أملاه على كاتبه الإلهام،
حتى كاد يكون معجزة من معجزات الإسلام، وقد قال في أوائله:
(ابتدأ هذا الدين بالدعوة كغيره من الأديان ولقي من أعداء أنفسهم أشد ما يلقى
حق من باطل، أوذي الداعي - صلى الله عليه وسلم - بضروب الإيذاء وأقيم في
وجهه ما كان يصعب تذليله من العقاب لولا عناية الله، وعذب المستجيبون له
وحرموا الرزق، وطردوا من الدار، وسفكت منهم دماء غزيرة، غير أن تلك
الدماء كانت عيون العزائم تتفجر من صخور الصبر يثبت الله بمنظرها المستيقنين،
ويقذف بها الرعب في أنفس المرتابين، فكانت تسيل لمنظرها نفوس أهل الريب
وهي ذوب ما فسد من طباعهم فتجري من حناجرهم جري الدم الفاسد من المقصود
على أيدي الأطباء الحاذقين، {لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ
عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} (الأنفال: 37)
تألبت الممل المختلفة ممن كان يسكن جزيرة العرب وما جاورها على الإسلام
ليحصدوا نبتته، يخنقوا دعوته، فما زال يدافع عن نفسه دفاع الضعيف للأقوياء،
والفقير للأغنياء، ولا ناصر له إلا أنه الحق بين الأباطيل، والرشد في ظلمات
الأضاليل، حتى ظفر بالعزة وتعزز بالمنعة، وقد وطئ أرض الجزيرة أقوام من
أديان أخر كانت تدعو إليها وكان لهم ملوك وعزة وسلطان وحملوا الناس على عقائدهم
بأنواع المكاره، ومع ذلك لم يبلغ بهم السعي فلاحًا، ولا أنالهم القصد نجاحًا) إلخ.
وجئته مرة في داره بعين شمس سنة 1321هـ، وكان قد وعك غداة يومه
فرأيته ينظر في ثلاثة كتب عربية يقرأ المسألة في كل منها فسألته ما بك وما هذا
الذي تنظر فيه فقال هو التهيج العصبي، الذي يلمّ بي أحيانًا في الفكر في الأمور
العامة، وهذا كتب في أصول الفقه ألهو بمباحثها عن القرآن فإنني إذا فكرت فيه
رأيت بُعد المسلمين عنه فيقوى التهيج العصبي.
وأما عاداته فقد كان يخالف فيها علماء هذه الديار، يخالفهم فيما يُكره شرعًا أو
عقلاً كتطويل الأردان وتوسعيها وجر الأذيال؛ فكان زيه أقرب إلى زي علماء
سوريا منه إلى زي علماء مصر. وكان يكره أن تقبل يده بل يصافح الناس مصافحة،
وقد منع الأزهريين عن تقبيلها بعد الدرس كعادتهم. وكان يكره أن ينشد أمامه
شعر أو يقرأ شيء في مدحه يكره ذلك رأيًا وشعورًا؛ فيتألم لسماعه وينفر منه.
ولما كتب ما كتب في الرد على مقالات هانوتو في الإسلام، ونشر ذلك في المؤيد
معزوًّا إلى أحد أئمة الإسلام، ولم يَخْفَ على الناس أنه هو الكاتب لاعتقادهم أنه لا
يوجد في مصر من يقدر على مثل ذلك غيره، وقد ذكر هذا أمامه؛ فظهر التغير
على وجهه، وقال: إنه لا يؤلمه شيء مثل هذا؛ لأنه إقرار بأن أمته بلغت من
الجهل أن انفرد فيها واحد بالقدرة على أداء بعض الواجبات التي كان من الضروري
أن يضطلع بها كثير من أفرادها في كل بلد، وأي ألم أشد من ألم من يحب ارتقاء
أمته، ورفعة شأنها، وهو يراها بهذه الحال من العجز، قال: ومن البلاء أن يعجز
الإنسان في هذه البلاد عن التنكر في بعض الخدم التي تقضي المصلحة بتنكر من
يخدم الأمة بها. وقد ذكرني قوله هذا قولاً آخر له قريبًا منه، وهو أنني أحب لو
يكون في قومي كثير من الناس الذين يفضلونني في كل علم؛ لأن ذلك يعينني على
تكميل نفسي بالرجوع إليهم فيما أجهل والاستعانة بهم على ما أعجز، ومن أكبر
المصائب على محب العلم من يستمد منه فيقف علمه عند حد بحثه لا سبيل إلى ضم
بحث غيره إليه.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) يريد بالمبذول تلك الموضوعات التي ينبذها روح الدين وتأباها قواعده العامة ونصوصه.
القطعية.(8/521)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المصاب العظيم
بوالدنا البر الرحيم
] إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [[*]
في يوم الأحد رابع رجب الحرام، فُجعنا بوفاة والدنا، ومربينا، ومربي
اليتامى، وكافل الأرامل، الشيخ الجليل، السيد النبيل، علي رضا الحسيني
الحسني أحد سادات الديار الشامية المشهورين وأجواد الأمة المحسنين، وله من
السن ستون سنة، أو ثلاث وستون سنة في الأكثر - وليس عندي هنا قيد لسنة
ولادته - فصبرنا واحتسبنا رجاء صلوات ربنا ورحمته وهدايته ومثوبته؛ فلم نقل
ولم نفعل ما لا يُرضي ربنا -جل جلاله- فله ما أعطى وله ما أخذ وإليه المصير.
وُلِدَ تغمده الله - تعالى - برحمته ورضوانه في قرية القلمون بسفح لبنان من
الجهة الشمالية بجوار طرابلس الشام، وفيها تعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم اشتغل
بطلب العلم في طرابلس على المرحوم الشيخ محمود نشابة أشهر علماء الديار
السورية، وشيخ الشيوخ في طرابلس عدة سنين، وأدى امتحان العسكرية فيها غير
مرة، ثم انقطع عن الطلب قبل أن يتم حضور الكتب، ويصل إلى مقام التدريس
لشدة حاجة والده إليه في إدارة أملاكه، والنظر في أعماله مع الحكومة والناس؛ إذ
لم يكن يومئذ له ولد رشيد سواه، ولكنه لم ينقطع عن المطالعة في كتب الدين
والأدب والتاريخ، بل كان يتراوح بين هذه الكتب ما سمح له الوقت، وكان قوي
الذاكرة طلق اللسان جريء الجنان، يذكر ما يحفظ من الأشعار، وأخبار الأوائل،
ووقائع الأواخر كلما عرض ما يذكر بشيء منها، ولكنه كان يعيد الشيء المحفوظ كما
قرأه أول مرة؛ فإن اتفق أن كان محرفًا أو ملحونًا أعاده كذلك عند الاستشهاد به
غالبًا، وإن عرف بعد حفظه ما فيه من خطأ أو تحريف، كأنما ينطبع في ذهنه لا
يقبل المحو، وكأن ما يعرض بعد ذلك من التصحيح ينطبع في مركز آخر من مراكز
الدماغ فلا يلقيه إلى اللسان إلا إذا أورد المحفوظ لأجل بيان صحته. ومن قوة
ذاكرته أنه كان يحفظ كل ما مر به في سفره وحضره، وكل ما له عند الناس، أو
لهم عنده من الحقوق المالية وإن طال عليها الزمان.
وكان مهيبًا وقورًا حتى في طور الشباب؛ يجله كل من جالسه وإن كان أكبر
منه سنًّا أو فضلاً وجاهًا كمشايخه وكبار الحكام. وأعرف ما عرف به، وغلب على
سائر أخلاقه الجود والسخاء؛ فقد كان مِضْيافًا متلافًا، مَبْذُول القِرى لكل طارق من
غني وفقير، وقريب وغريب، ومسلم وغير مسلم، كل من نزل به يلقى ما يليق
به من الإكرام والحفاوة، وكان في أول العهد يتكلف لأهل الوجاهة والثروة؛ إذا
استضافوه زيادة عما جرت به العادة في المنزل، ويقدم لغيرهم ما راج حتى كنا
ننكر عليه، ثم رجع عن هذا إلى قاعدة الصوفية (لا نبخل بموجود، ولا نتكلف
لمفقود) حتى ربما أنكرنا ذلك أحيانًا، ولا حاجة لاستثناء ما لأهل الخصوصية
الذين يدعوهم إليه من الاختصاص، وإنما الكلام في العادة اليومية مع الضيوف،
وقد بلغت عنايته بأبناء السبيل أنه كان يحمل الطعام إليهم بنفسه أحيانًا. وقد جاع
الناس في سنة من السنوات؛ فكان يرسل الدقيق والأرز إلى بيوت القانعين الذين
يفضلون الموت على السؤال في حنادس الظلام، والناس نيام، وله في إخفاء
الصدقة حذق غريب.
أنعم السلاطين العظام على جدنا الثالث بسبعة قراريط من مال عشر القلمون
وما يتبعها من المزارع؛ لينفق منها على مسجده الذي جدده في القرية، وعلى نفسه
فلما وصل هذا إلى والدنا -رحمه الله تعالى- كان في الغالب يأخذ من الحكومة
حصتها بما يسمونها (الالتزام) ثم يسمح لأكثر الأهالي بعشر كثير مما يزرعون
من البقول وغيرها، وما يجنون من الثمار، لا يعنى إلا بعشر حب الحصيد
والزيتون، وكان كثيرًا ما يفوض إليهم أمر ما يجب عليه من غير أن يخرص
ويقدر: يجيئه الرجل بشيء من النقد يزعم أنه عشر ما استفاده من أرضه فيقبل.
وكنا نقول له يجب أن تضبط جميع ما لك عند الناس ثم تأخذ ما شئت وتسمح بما شئت - فلا يعجبه. وكان كريمًا بجاهه أيضًا، إذا قصد بحاجة أو قدر على دفع
مكروه أوجب منفعة للناس فإنه يبذل جهده.
وكان حسن المجاملة عظيم التساهل في معاشرة المخالفين في الدين مع الغيرة
الشديدة على الإسلام، والمناضلة عنه بما يحج المناظر ولا يؤذيه، وإنني منذ دخلت
في سن التمييز أرى في دارنا وجهاء النصارى من طرابلس ولبنان، بل أرى فيها
القسوس والرهبان، لا سيما أيام الأعياد، وأرى الوالد -رحمه الله تعالى- يجاملهم كما
يجامل من يزوره من الحكام ووجهاء المسلمين، ويذكر ما يعرف من محاسنهم في
غيبتهم بكل إنصاف، وقد كان هذا من أسباب دعوتي إلى التساهل والوفاق وتعاون
جميع أهالي البلاد على ما يرقي البلاد مع القسط والبر المشروعين فإن الإنسان إذا
تربى على شيء، ورأى ثمرته في نفسه وفي من يعاشر، كان أعرف بفائدته لاتفاق
فكره ووجدانه فيه.
وكان شديد الغيرة على الدولة العلية، وقد عرف كثيرين من وزرائها
وعظمائها كالمرحومين شرواني باشا وحمدي باشا اللذين وليا الصدارة وولاية سورية
وكامل باشا والي أزمير اليوم، والصدر الأعظم من قبل، وجميع متصرفي لبنان
السابقين وغيرهم، فكان لإجلاله لهؤلاء، واعتقاده بحسن سياسة أكثرهم كبير الأمل
في الدولة. ولا أعلم أنه صدر منه قول، ولا فعل ينافي الإخلاص للدولة،
والسلطان المعظم، وكان يعزّ على الجواسيس المفسدين أن يأخذوا من أقواله ما
يشون به عليه، إلا أن يكون حسن ذكره لمصر، وثنائه على أميرها الماضي
وأميرها الحاضر، وقد زارها في أيامهما على أنني عرضت عليه عندما زار مصر
في سنة 1317 أن أستأذن له في زيارة الأمير فلم يرض، ومع هذا كان يملأ الأندية
ثناء على سموه، وعلى أستاذنا الإمام، وكذا على صاحب المؤيد الذي عرفه هنا،
وأما اتهامه بالسياسة في هذا العام، وجعله تحت المراقبة إلى أن وافاه الحمام،
فسببه وشاية من مصر فيه إلى السلطان بأنه من أعوان مريدي إقامة الخلافة العربية
(الموهومة) على أنه منذ سنين لم يفارق القرية؛ فهل تقلب الدول وتؤسس الممالك
من شيخ مريض في قرية لا زعماء فيها ولا ثروة، ولا سياسة، ولا حكومة، ولا
مدارس؟
وإن تعجب فعجب عُجاب أن تهتم الدولة بأمر الشيخين- الشيخ محمد عبده
والسيد علي رضا - وتأخذ الحذر منهما بعد أن نزل بهما مرض الموت، وأعجب
من هذا أن يبقى هذا الحذر على أشده بعد موتهما؛ فإن كانا قضيا عمرهما، ولم
يحفظ عنهما قول، ولم يعرف لهما فعل يؤذي الدولة؛ فهل يخشى من رفاتهما في
القبر أن يقلب دولة ويؤسس دولة؟ يا للخجل من تلاعب سفهاء الجواسيس
بالدول، الحق أقول: إنني كنت شديد الميل إلى البحث في خلل الدولة، وبيان طرق
إصلاحها، وما منعني من الاسترسال في ذلك إلا الشيخان، أعلم أن والدي يستاء إن
كتبت ما لا يُرضي الدولة وأستاذي كان ينهاني عن الكتابة في السياسة مطلقًا.
وكان الوالد تغمده الله برحمته معتصمًا بكمال الصبر في المصائب: ابتلي
بمرض الصدر المعروف بالربو وهو في شبابه؛ فكانت النوبة تشتد عليه أحيانًا
حتى يمنعه الزفير من النوم والكلام المتصل، فلا تراه إلا حامدًا شاكرًا. وكان
فخورًا بنسبه إلى البيت النبوي خلافًا لما عليه أسرتنا من البعد عن الفخر. وكان
سنيًّا شافعي المذهب، ويميل إلى الشيعة إلا أنه يعظم الشيخين والسيدة عائشة ويقول
في معاوية (لا نسبه ولا نحبه) وينحي على غير الصحابة وعمر بن عبد العزيز
من بني أمية إنحاء شديدًا. وقد كان يقرأ في كتاب أمام أستاذه الشيخ محمود نشابة
فجاء ذكر معاوية، فقال له الشيخ: لِمَ لَمْ تقل (سيدنا معاوية) قال الوالد (سيدكم
معاوية) قال الشيخ: ألا تعترف بالسيادة لصاحب الرسول - صلى الله عليه وسلم -
وكاتب الوحي؟ قال إنني لم أنكر صحبته، ولا كتابته للوحي، ولكن أقول: إنه
لا سيادة لأموي على هاشمي؛ فسكت الشيخ -رحمه الله تعالى- وكان الشيخ يحترمه
حتى كان يخاطب جميع تلامذته ويذكرهم بأسمائهم، ولا يذكره إلا بلقب السيد.
وكان - طيب الله ثراه - سليم القلب، بريئًا من الحقد والحسد، بعيدًا من الإيذاء
والانتقام، إلا أنه كان يحتقر من عاداه بقدر ما يتودد لمن والاه، فلا يعرف الدهان
والتملق، وكان باطنه خيرًا من ظاهره لأعدائه وأحبائه؛ فمهما أعرض عن عدوه
وازدرى به في الظاهر لا يستحل أن يؤذيه في الباطن، وإنني لأستحي أن أصف ما
امتاز به في معاملة الأصدقاء لئلا يشتم منها رائحة المنة على أحد منهم، مع أنه كان
يرى لهم المنة إذا حكموا في ملكه حكمه فيه.
وجملة القول: إن مزاياه كثيرة، وفضائله عظيمة، ولا بدع؛ فإن البيت الذي
نشأ فيه يندر أن يوجد مثله في هذه الأمة الآن؛ في سلامة الفطرة، وطهارة الأخلاق
وحسن الفعال؛ وإنني والله لم أحكم إلا بعد الأسفار وطول الاختبار، بل أقول إن
قريتنا تمتاز على القرى والمدن التي نعرفها بالخُبر والخَبر بالعفة والشجاعة،
والتقوى، والأخذ بالسنن، والبعد عن البدع، وإنما كانت كذلك بوجود بيتنا فيها؛ إذ
لا يخلو مسجدنا من واحد منا يقرأ علوم الدين والتهذيب للعامة واستعداد أهلها للعلم
عظيم، وكلهم في الأصل شرفاء النسب، مشهورون بالسيادة وقد كتب في سجل
الإحصاء العام للدولة المودع في الباب العالي المعبر عنه بالدركنار (القلمون سيدة القرى والمزارع) نعم، صار فيها دخلاء كثيرون، أكثرهم من مسلمي لبنان،
وأكثر ما يقع فيها من المخالفات الضرب، وسرقة الثمار. وفق الله أهلها وتاب
عليهم، إنه هو التواب الرحيم.
ومما كنت أنكره على الوالد -عفا الله عنه - بعد ما عرفت طرق التربية
الحديثة، وقرأت علم الأخلاق، اختيار الشدة والترهيب في التربية؛ فقد بلغنا مبلغ
الرجال ونحن نهاب مؤاكلته ومكالمته والاتكاء أمامه. وكان يعاقبنا على الذنب
بالإعراض والهجران حتى نتوسل إليه بأن يرضى. وقد صار في أخريات سنيه
يمازح أولاده الصغار، ويجمعهم على الطعام ذكرانًا وإناثًا؛ إذا اتفق خلو البيت من
الضيوف، وكان يوصينا دائمًا بالخوف من الله -تعالى- دون سواه. عفا الله عنه
وأحسن إليه ورحمه رحمة واسعة بمنه وكرمه، وأحسن عزاءنا عنه وثوابنا فيه.
__________
(*) (البقرة: 156) .(8/553)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نعيه إلينا وتعزيتنا عنه
توفاه الله عن ستة ذكور، أكبرهم صاحب هذه المجلة (المنار) ومنهم ثلاثة
يشتغلون بالعلم في الأزهر، وواحد في السجن متهم بالسياسة، وهو منها بريء،
وبها جاهل، ولها غير مستعد، وواحد في القرية لا غناء به. وقد كتب إلينا أحد
علماء سوريا الأعلام في التعزية ما نصه:
إنا لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، مصاب بعد مصاب، وخطوب تذهل
الألباب، لقد جلت الرزية، وفدحت المصيبة، وتضاعف الأسف، وتجددت
الأحزان، بوفاة السيد السند الكريم، الوالد البر الرحيم، الذي فجع به الفضل
والكرم ورُزئ به المجد والشرف، وإنما غار الله له، فاختار له ما عنده، فنقله من
دار المحن والشجن، إلى دار الكرامة والمنن، وأنقذه ممن أرادوا به كيدًا، وأمهلهم
رويدًا، ولسوف يأخذهم عذاب يوم شديد، إن ربك فعال لما يريد، وإن من أنجب
مثلك أيها السيد الكريم؛ فهو حي باق أمد الدهر، لا يموت له ذكر، ولا ينقطع له
أجر، بل طوبى له، وقرة عين، لا سيما بجوار سيد الكونين، تغمده الله برضوانه
وعظيم رحمته، وأسكنه بحبوحة جنته، وأحسن عزاءكم عنه جميعًا، وأنزل عليكم
السكينة والرحمة، وأسبغ عليكم النعمة والمنة، وضاعف لكم الأجر، وأفرغ عليكم
جميل الصبر، إنا إلى الله راغبون، ولمثل هذا المصير صائرون، أساله تعالى أن
يعوضك وأشقاءك عنه خيرًا، ويعوضنا حياتكم ... إلخ.
وكتب آخر من أهل العلم والأدب هناك معزيًا عن الأستاذ الإمام والسيد الوالد:
أعزي السيد أطال الله حياته عن رزأيه بأبويه، ومصيبته في والديه، وما أجلهما
من رزئين عظيمين، وخطبين جسيمين، فقد أصيب به الإسلام كله، وبكى له
العالم بأسره، وانطمس لأجله نور العرفان، وغيضت ينابيع الفضل، وهيضت
أجنحة النهضة، وانقطع به ما اتصل من الآمال، واختل ما انتظم من الأعمال،
وأما رزء فقد ذبل له روض الكرم، وهوى نجم الشرف، وسقط عمود المجد القديم
والحسب الصميم، فأحسن الله عزاء السيد عنهما، بما يرثه منهما، من المجد الذي
لا يضاهى، والعلم الذي لا يتناهى، إن شاء الله تعالى ... إلخ.
وكتب غيرهما من أهل الفضل والوجاهة في تلك البلاد، والكلام كله في سياق
واحد؛ فنشكر لكل واحد فضله، ونكتم خوف الظلم اسمه وبلده، أما الجرائد
السورية فلم تكتب شيئًا عن وفاة الشيخين؛ لأنها لا حرية لها فهي تخاف أن تكتب
ثم إن هي سلمت من الضر، فلا يؤذن لها في الشر. ولما بلغ هذه البلاد كتبت
الجرائد اليومية الشهيرة ما كتبت، وألقى إلينا البرق والبريد من رسائل المحبين في
التعزية ما ألقى. قالت جريدة الأهرام في العدد 8352:
ورد من طرابلس الشام نعي الشيخ الجليل السيد علي رضا والد حضرة العلامة
المفضال السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الإسلامية.
توفي إلى رحمة الله في يوم الأحد الماضي وهو في نحو الستين من عمره تاركًا
في دنياه أحسن ذكر مقدمًا للآخرة أعمالاً طيبات؛ فعز المصاب به على آله وعارفي
فضله ونبله؛ إذ كان الرجل وجيهًا في قومه، رحب الصدر، طيب الخلق مِضْيَافًا
كريمًا ما زار القلمون زائر إلا وكان في منزل الفقيد كأنه في منزله، ولا يذكر لهذا
البيت الكريم من قديم الزمان حتى اليوم إلا كل مأثرة طيبة وفضل ونبل.
وقد شيعت جنازته في بلدته القلمون بمشهد كبير يليق بمقام هذه الأسرة
الحسيبة الشريفة؛ فنحن نعزي حضرات أنجاله الكرام وآله الأفاضل على فقده
سائلين له الرحمة والرضوان، ولهم العزاء والصبر الجميل.
وقالت جريدة الظاهر في العدد 548:
بلغنا بمزيد الأسف انتقال فضيلة الحسيب النسيب، والعالم الفاضل السيد علي
رضا الحسيني -من أعيان طرابلس الشام وأشرافها- إلى رحمة الله - تعالى-
ورضوانه نهار الأحد 4 رجب عن عمر يناهز الستين قضاه في البر والإفادة وعمل
الخير إثر مرض حارت فيه الأطباء في بلدته القلمون فكان لنعيه رنة أسف عظيمة
في البلاد السورية لما له من سمو المكانة، وعلو القدر وشرف الأصل، وعميم
الإحسان تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته.
وقالت جريدة المقطم في العدد 5002:
ورد على حضرة العالم الفاضل الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة المنار نعي
المرحوم والده الجليل الشيخ (علي رضا) إمام القلمون وشيخ جامعها توفاه الله يوم
الأحد الماضي (4 رجب) في القلمون عن ستين عامًا قضاها في عمل الخير
والصالحات، وهو من بيت مجد موصوف بالكرم وحسن الضيافة، ومعروف في
لبنان وولاية بيروت. وقد خلف ستة أولاد كلهم من النجباء وأكبرهم حضرة الشيخ
رشيد المشار إليه آنفًا.
وقد لقي الفقيد رحمه الله من اضطهاد الحكومة الحميدية، وظلم عمالها
وقسوتهم ما أضناه وعجل عليه بالوفاة؛ فقد كان يحتضر، والعساكر العثمانية
ملازمة باب داره ليلاً ونهارًا خوفًا من أن ينهض عن فراش الموت ويخلع السلطان
أو يثل عرش آل عثمان في حكم عقلاء هذا الزمان، وابنه المدبر أمور بيته في
غياب إخوته مطروح في سجن طرابلس الشام؛ حيث يتقلب على جمر العذاب ريثما
تمتثل المحكمة أمر الظالمين، وتحكم عليه بالعقاب. وكل هذا الجور والظلم بناء
على وشايات قوم يبغضون صاحب المنار، ويحقدون على فقيد الوطن المرحوم
الشيخ محمد عبده. فاجتمع الشيخان الجليلان الآن أمام عرش العادل الديان يدعوان
إلى قاهر العتاة ومؤدب البغاة أن يجبر الضعفاء المظلومين ويكشف شر الطغاة
الظالمين.
وقالت جريدة الإخلاص في العدد 1100:
{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156)
ننعي إلى حضرة رصيفنا المحبوب العالم الكامل المهذب الشيخ رشيد رضا
أفندي - صاحب مجلة المنار الغراء- والده الجليل سليل بيت المجد الأثيل الشيخ
علي رضا إمام القلمون، وشيخ جامعها في طرابلس الشام؛ فكان لنعيه رنة أسف
وحزن لا مزيد عليهما لدى كل من عرفه؛ لأنه -فضلاً عن حسبه ونسبه - كان
رحمه الله من ذوي الغيرة على الفقراء والبائسين مشهورًا بالجود والكرم ومحبًّا
للخير، والأعمال الصالحة قضى ستين عامًا من عمره، وهو في مقدمة الغيورين
على دولته ووطنه، ولكن في المدة الأخيرة وشى الواشون بحقه على إِثْر وفاة -
المغفور له فقيد الإسلام - الشيخ محمد عبده - مفتي الديار المصرية - فأهين من
رجال حكومة الدولة على ما بلغنا فكانت هذه الإهانة سببًا كبيرًا لفقد حياته العزيزة.
ولقد ساءنا ويسوءنا، وايم الله كلما سمعنا خبرًا كهذا؛ عن رجال دولتنا العلية
ومعاملتهم هذه المعاملة لرجال اشتهروا بالغيرة والإخلاص نحو سلطانهم ودولتهم
كهذا الفقيد الجليل. وهذه هي الفرص التي ينتهزها الأغيار منا فيحفظونها لنا في
سجلاتهم إلى أن يجيء اليوم الذي يحاسبوننا فيه عليها.
فيا أيها الرجال الأمناء والمخلصون للدولة وللجالس على كرسي الخلافة
العظمى اتقوا الله وفكروا في ما هو أهم لصوالح الدولة والأمة. اخدموا جلالة
السلطان بإخلاص اللسان والفؤاد، وانبذوا الوشايات واتركوا هذه الخطة الذميمة
لأنها لا تنيلكم المرام، وهب أنكم نلتموه؛ فسوف تجازون عن عملكم هذا؛ لأنه قيل:
(بالكيل الذي تكيلون به يكال لكم وأزود) تقربوا إلى جلالة المتبوع بطريقة غير
هذه الطريقة، حتى إن الله تعالى يبارك لكم في أموالكم وعيالكم، وينقذكم، وينقذهم
من شرورالزمان وغدراته، وقد كفى ما حل بنا وبدولتنا العلية، والأمة والوطن
من سوء أعمال بعض رجال الدولة الخائنين الذين يتظاهرون بصدق الخدمة نحو المتبوع الأعظم ولكنهم أولى المنافقين. والآن بما أن المجال ليس مجال وعظ وإرشاد
بل نعي فقيد تأثر لموته الكثيرون، فموعدنا بنشر شيء من هذا القيل في
أعداد قادمة إن شاء الله.
هذا وفي ختام نقدم واجبات التعزية لجناب زميلنا الفاضل المهذب الغيور الشيخ
رشيد أفندي، وجميع إخوته أنجال الفقيد، والله نسأل أن يفرغ في قلوبهم جميل
الصبر والسلوان، ويتغمد فقيدهم الجليل بواسع الرحمة والرضوان. اهـ
__________(8/557)
غرة شعبان - 1323هـ
3 سبتمبر - 1905م(8/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحياة الزوجية
(5)
] وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا
إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون [[*] .
(الركن الثاني من أركان هذه الحياة: المودة)
تكلمنا في المقالات الأربع السابقة من هذا البحث عن الركن الأول من أركان
الحياة الزوجية، وهو سكون كل من الزوجين إلى الآخر، وبَيَّنا أنه يتوقف على
حسن اختيار كل منهما للآخر، وهذا الركن الخاص بالزوجين عليه تبنى سعادتهما
وهناء معيشتهما، وتَحققه شرط لتَحقق الركنين الآخرين، أو كمالهما، وهما المودة
والرحمة، وبتحقق الأركان الثلاثة تكمل فائدة هذه الحياة الفائدة التي أرشدنا الله
تعالى إلى طلبها منه بقوله في صفات المؤمنين {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ
أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74) .
أما الركن الثاني، وهو المودة فليس خاصًّا بالزوجين؛ لأن المودة تصل بين
عشيرتيهما بما تصل به بينهما ولذلك لم يقل (لتسكنوا إليها وتودوها) بل قال
{وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً} (الروم: 21) والخطاب للناس لا للأزواج خاصة؛ أي أنه
جعل من مقتضى الفطرة البشرية التواد بينكم بسبب الزوجية بين الزوجين، ومن
يتصل بهما بلحمة القرابة والنسب كما هو معروف بالاختبار فيمن سلمت فطرتهم من
الفساد، وعرفوا قيمة الحياة الاجتماعية فعاشوا عيشة الاجتماع لا عيشة الأفراد،
وما زال البشر يعدون المصاهرة من أسباب العصبية بين البيوت والعشائر والقبائل،
بل نرى الأمراء والملوك يحاولون بمصاهرة بعضهم بعضًا التواد والتناصر بين
دولهم، أو تخفيف العداء والتنافر بين أممهم، حتى إنهم ينبذون لذلك مذاهبهم الدينية
كما فعلت الأميرة الجرمانية التي تزوج بها قيصر روسيا؛ فهذه سنة من سنن الفطرة
عرفها البدو والحضر، وجرى عليها أدنى القبائل همجية، وأعلى الشعوب مدنية،
وتنكبها أناس مذبذبون كاد يخرج بهم فساد الفطرة عن البشرية.
نرى ونسمع في هؤلاء الذين خلقوا على صورة الإنسان من التخاصم والتنازع
مع أصهارهم وأختانهم - ما لا نرى نظيره، ولا نسمع بمثله في أهل الأضغان
الموروثة والأحقاد المتسلسلة، يرى أحدهم نعمة الآخر قذى في عينيه وحرجًا في
صدره، ويعد شرفه إذا ارتفع خافضًا لقدره، فهو أنكى حاسديه، وأنكأ جارحيه،
وأول المتربصين للوثبة عليه.
لم يقف تأثير اعتلال الفطرة في نفوس هؤلاء عند تنكيث المفتول، وتشتيت
الملموم وتقطيع الموصول، بل أوغل في النفس إلى مواضع الشعور بالحاجة إلى
الاعتصام، والإحساس برزايا الانفصام، فتخدرت الأعصاب، وانطمست البصائر
والألباب، وانتكس الطبع، وانعكس الوضع، فصارت أسباب المودة والالتئام،
عللاً للتباغض والانقسام، وانقلبت معارج الشرف والرفعة مدارج للتسفل والضعة
وأمسى ما يكتسب لأجله يكتسب به، وما يتعزز به يعتز عليه، ولا يعتد بشيء من
هذا خروجًا عن سنن الفطرة، ولا اعتداء لحدود الشريعة، وإنما يحسب من أمور
الحزم، وطرق القيام بالمصالح.
لو أحب الأزواج أنفسهم حبًّا صادقًا وسكن بعضهم إلى بعض ذلك السكون
الطبيعي لوادَّ كل منهما الآخر ووادَّ لأجله أهلَه وعشيرته بلا تكلُّف ولا تعمل،
وأحس بأن قوتهم قوة له، وشرفهم مزيد في شرفه، وكثرة مالهم زيادة في نعم الله
تعالى عليه.
لو عرف الأزواج معنى الزوجية وقيمتها، واتفق أن كان كل منهما على غير
ما يحب الآخر ويهوى؛ فلم تسكن إليه نفسه ذلك السكون المطلوب - لتودد كل منهما
للآخر توددًا لعله يصيب بالتكلف والصنعة بعض ما فاته بالسجية والفطرة؛ فإن
التودد مودة متكلفة أو صورة للود الحقيقي؛ فله جميع فوائد المودة الصورية وإنما
ينقصه روحها، وهو ما فيها أريحية النفس وأنسها بالفضيلة ولذتها واغتباطها بها،
وقد ينتهي التودد بشيء من هذا ومن فاته كمال المنفعة بشيء فليس من الرأي ولا
الكياسة أن يفوته كل جزء من أجزائه، وكل أثر من أثاره، وهو قادر على إدراكه؛
فإن بلغ النفور في قلبي الزوجين مبلغًا يعز معه التودد ويتعذر التجمل؛ فالواجب
أن يتفرقا بالمعروف والإحسان كما اجتمعا بهذا القصد؛ لأنهما تحققا حينئذ أنهما لا يقيمان حدود الله تعالى {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ} (النساء: 130) .
من المودة: أن يحب كل من الزوجين من يحب الآخر من أهله وعشيرته
وأصدقائه؛ فيسر لسرورهم، ويستاء لاستيائهم، ويتمنى لهم الخير والنعمة، ويقوم
بأداء حقوقهم كما جرى من العرف بين أمثالهم في ذلك، والتودد هو عبارة عن هذا
الأمر الأخير الذي هو عمل اختياري دون ما قبله؛ لأنه من عمل القلب، وهو شعور
اضطراري دون ما قبله؛ لأنه من عمل القلب وهو شعور اضطراري يملك
النفوس المستعدة له؛ إذا هي آنست من هو أهله.
النفوس المستعدة للود الصحيح، والحب الخالص: هي النفوس الزكية التي
آوى حسن التربية بينها إلى سلامة الفطرة، والنفوس المستأهلة لذلك هي النفوس
المستعدة له؛ فالمحبة والمودة من ثمرات المشاكلة في السجايا، والصفات النفسية
الفاضلة وأما المشاركة في الصفات الرديئة، والسجايا الخسيسة؛ فهي لا تثمر حبًّا
خالصًا، وودادًا صادقًا، ولكنها تثمر توددًا يقصد به كل من المتشاكلين الاستفادة من
الآخر، والتعاون معه على المقصد الذي وجههما إليه فساد الطبع؛ فإذا أحسَّ
بالاستغناء عنه أو يظفر بمن يقوم مقامه فيما توادَّا لأجله، ويكون الربح منه أكثر أو
المكافأة له أقل؛ فلا يلبث أن يتبدله به جذلاً مسرورًا. فأصحاب الأخلاق الفاسدة
محرومون من ملكة المودة الصحيحة، وهم في توددهم تجار مُمَاكِسُون حتى إن فساد
الفطرة يبلغ منهم أن يتَّجروا بعقد الزوجية، ويعتدوا أزواجهم من سلع التجارة كما
قدمنا في مبحث اختيار الأزواج.
من التودد ما هو رذيلة وهو تودد الشطار العيارين الذي كشفنا عن حقيقة
أمرهم آنفًا، ومنه ما هو فضيلة، وهو ما يقصد به أداء الحقوق المعروفة للخلطاء
والعشراء، وتكلف القيام بآثار المودة كراهة الحرمان من خيرها الظاهر والباطن معًا،
ورجاء أن يصير التودد ودًّا، والتحبب حبًّا؛ فقد علم بالتجربة أن تكرار العمل
بأثر خلق من الأخلاق تكلفًا قد ينتهي بأن يصير ملكة، كما ورد في الحديث (والحلم
بالتحلم) ، قالت علية بنت المهدي:
تحبب فإن الحب داعية الحب ... وكم من بعيد الدار مستوجب القرب
وهذا النوع من التودد: هو الذي نأمر به من تزوجا في أنفسهما سكونًا يبعث
كلاً منهما على مودة الآخر ظاهرًا وباطنًا، وهو ضرب من ضروب التربية القويمة
إلا أولو العزم؛ لأن الجاهل بعلم النفس وأخلاقها، والشريعة وآدابها، يقوده شعوره
على غير هدى، حتى يهوي به في مهاوي الردى، فإن كان زكي الطبع، سليم
القلب، صبر على تجرع الغصص، وتحمل المضض، من تحمل زوج لا يأنس
به، وقرين لا تسكن نفسه إليه، حتى يقتله الصبر، أو يخرج به إلى الفساد والنكر
وإن كان شرسًا شكسًا؛ كانت حياته مع الزوج الآخر في تشاكس وتعاسر، وتنافس
وتنافر، وأما العالم فإذا ابتلي بزوج لا تسكن إليه النفس، ولا يخلص له الود، فكان
العدو الذي ما من صداقته بُدّ، فإنه يتكلف إظهار صداقته، وإخفاء مقته وكراهته،
ليسلم من سوء المعاشرة، ويستظهر على آفات المنافرة، وإذا كان واسع العلم في
تربية النفوس، وأثر المعاملة في تقلب القلوب، صادق الإرادة في تربية نفسه،
قوي العزيمة في تأديب وجدانه وحسه، فإنه يطمع في أن يكون التودد ودًّا، والطبع
طبعًا، ويعطي ما يطمع، وينال ما يريد، ومصداق هذا واضح في أهل العلم،
ومصداق ما قبله ظاهر في أهل الجهل.
لك أن تقول: إننا رأينا من المتعلمين والمتعلمات في هذه البلاد أزواجًا كان
يرجى أن يكونوا حجة للعلم على الجهل بالعيشة الراضية، وقصر كل من الزوجين
طرفه على الآخر وقناعته بالاختصاص به لكمال سكون نفسه إليه، وإخلاصه في
مودته ومحبته، أو التودد إليه ومجاملته، فبدا للناس منهم ما لم يكونوا يحتسبون،
فلم تكد تنتهي أيام أعراسهم وليالي أفراحهم؛ إلا وقد نجمت بينهم قرون الفتنة، ووقع
عليهم طائر الشقاق، وصاح بهم غراب الافتراق، وياليته كان شقاقًا بكتمان،
وتسريحًا بإحسان، وإنما هداهم إلى أن يكيد أحدهم للآخر في المحاكم الشرعية،
ومنهم من قذف بهم التخاصم إلى المحاكم الأهلية.
ولي أن أجيب بأنك قد نسيت أنني أعني بالعلم علم النفس وأخلاقها، وعلم
الشريعة وآدابها، ومن تحدث عنهم لا يعرفون من ذلك شيئًا إلا قليلاً من الألفاظ
المحفوظة، والكلمات المتداولة، التي يمليها الخيال، ويلوكها اللسان، وليس لها في
النفس منشأ يعرف، ولا في الأعمال أثر يوصف، كما هو شأن الأمة في إبان موتها
توجد عندها صور من العلوم لا تطلب بها غايتها، وبقايا من الرسوم لا تجني منها
فائدتها.
سكون الزوج إلى الزوج سبب من أسباب سعادة الزوجين، وهناء معيشتهما
خاص بهما لا يشاركهما فيه أحد من الأقربين والمحبين، وأما المودة بينهما فهي من
أسباب سعادة عشيرتهما أيضًا؛ لأنها متعدية؛ فهي مبعث التناصر، والتوازرد
والتعاضد والتساند وبهذا تكون سببًا من أسباب سعادة الأمة المؤلفة من العشائر
المؤلفة من الأزواج فهذا التأليف هو الذي يتكون من مزاج الأمة فما يكون عليه من
اعتدال وكما يكون كمالاً في بنية الأمة وقرة عين لمجموعها وما يطرأ عليه من فساد
واعتلال يكون مرضًا للأمة يوردها موارد الهلكة.
إن الإنسان ليشعر بحاجته في كماله إلى الأمة وبحاجتها إليه في ذلك على قدر
قوة معنى الإنسانية فيه؛ فأدنى أفراد الإنسان حظًّا من الإنسانية لا يشعر بحاجته إلى
أحد ولا بحاجة أحد إليه إلا من تقوم بهم شؤون حياته الشخصية، فهو ينظر إلى
زوجة في البيت بالعين التي ينظر بها إلى شريكه في السوق أو معامله في الحقل،
وهي عين المبادلة في المنفعة وطلب الربح؛ فإذا قدرعلى استبدال زوج مكان زوج
يكون به حظه من التمتع أوفر، أو مكافأته له بالنفقة وغيرها أقل، فهو يقدم على
ذلك فرحًا راضيًا، كما يستبدل عاملاً بعامل، وشريكًا بشريك، وأجيرًا بأجير إذا
رأى أن الجديد أنفع له من القديم. فمثل هذا لا يمتد وجوده إلى ما وراء محيط
جسمه، فلا يتحقق فيه معنى الزوجية الذي هو عبارة عن حقيقة مؤلفة، فردين
يعيشان بروح واحدة، وإذا لم يصل في سعة الوجود إلى أن يكون زوجًا أعلى من
حياته الفردية، ووجودًا أوسع من وجوده الشخصي، وإذا صغر عن هذا فإنه يكون
أصغر وأحقر من أن يشعر بمعنى الوجود القومي والحياة الملية؛ التي ترفع صاحبها
إلى الشعور بأن كل عمل من أعمال يجب أن يكون نافعًا لأمة عظيمة وأن مجموع
أعمال العاملين في هذه الأمة يلحقه شرفه إذا كان شريفًا، وتصيبه خسته إذا كان
خسيسًا، وهذا هو شأن الإنسان الكامل فمودة الأهل هي أول مجالي الإنسانية الكاملة،
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) رواه
الترمذي من حديث عائشة وصححه ورواه أيضًا مصححًا من حديث أبي هريرة بلفظ:
(خياركم خياركم لنسائهم) وروى أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي
وغيرهم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وألطفهم
بأهله) .
ومن المودة بين الزوجين: الممازحة والملاعبة، ومن الرجال من يرى أن
مفاكهة المرأة ومداعبتها مما يذهب بمهابتها إياه، واحتشامها له، وينسى أن ترك
ذلك يذهب بأنسها به، وسكونها إليه، وحبها إياه، وإن الحب ليغني عن المهابة
والاحتشام، إن صح أن الممازحة، والملاعبة، والمفاكهة، والمداعبة لا تتفق معهما،
وما ذلك بصحيح؛ فإن أعظم الرجال قدرًا من الأنبياء، والحكماء، والملوك
المهذبين كانوا يرضون نسائهم في البيوت، ولا يتخوَّن ذلك من مهابتهم وإجلالهم
شيئًا، كان الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم - يمازح نساءه ويداعبهن، وقال:
لجابر - رضي الله عنه - حين استأذنه في نكاح الثيب (هلاَّ بكرًا تلاعبها
وتلاعبك) والحديث في الصحيحين، وكذلك كان يفعل - صلى الله عليه وسلم -
حتى رووا: (أنه كان يسابق عائشة في العدو - الجري الشديد- سابقها فسبقته ثم
سابقها فسبقها، فقال: هذه بتلك) والحديث عند أبي داود والنسائي وابن ماجه
وسنده صحيح. ويؤثر عن عمر أنه كان يقول (كل امرئ في بيته صبي) وفي
الإحياء: وقال عمر -رضي الله عنه - مع خشونته (ينبغي للرجل أن يكون في
أهله مثل الصبي فإذا التمسوا ما عنده وجدوه رجلاً) وللدعابة في البيت حد من
تجاوزه ذهبت حشمته، ومن قصر فيه ثقلت عشرته، واستثقال المرأة للرجل مدرجة
البلاء، ومدعاة الشقاء.
ومن المودة بين الزوجين الاعتدال في الغيرة، بحيث تتحامى فيها
الظنة والريبة، فينبغي للرجل أن يؤذن امرأته بأوقاته خارج البيت أين يصرفها؛ فإن
ذلك يعلي مكانه من قلبها، ويمكن الثقة به من نفسها، ويحول بينها وبين وسوسة
الشيطان، فلا تتهمه باتخاذ الأخدان، ويكون أعون له على إلزامها القرار في البيت
وتحري رضاه في الخروج عند الحاجة إليه. وإن كثيرًا من الرجال ليشاقون
النساء بالمشادة في الخروج حتى يبتغوا بهن الريبة؛ فيوقعوهن فيها، ومنهم الذين
يسلسون لهن، أو يلقون حبالهن على غواربهن فيسرحن ويمرحن ويتبرجن
تبرج الجاهلية الأولى حتى يكون البيت في نظرهن كالسجن، وإن ملل المرأة من
البيت وكراهتها له كملل التاجر من محل تجارته، والقاضي من محكمته، والأمير
من إمارته، وكراهة كل عامل من عمله سبب للضياع ومعول للخراب.
ومن المودة بين الزوجين: أن لا تخرج المرأة من دارها إلا بإذن الرجل
ورضاه، وأن لا تكفله من النفقة والزينة فوق ما يليق بحاله في الثروة، وقد مضت
التجارب بأن العهد إلى النساء بالنفقة يبعثهن على الاقتصاد، ويغريهن بالتوفير.
وارجع في سائر ما يطلب من المرأة لزوجها وولدها في المقالات السابقة؛ فالنهوض
بها مع الغبطة والسرور هو أثر المودة المطلوبة.
لو لم تكن المودة بين عشيرتي الزوجين مما يقصد بالزواج قصدًا مستقلاًّ
لكانت مما يقصد بالتبع لتوثيق رابطة الزوجية بين الزوجين؛ فإن احترام كل منهما
لقرابة الآخر مزيد في احترامه له، ولعل الذين يختارون الأزواج لمكان البيوت
والعشائر أكثر من الذين يختارون لمجرد الاستحسان الذاتي، ولا تكاد تجد في
العناصر الكريمة من لا يبالي بالمنبت، وإنما أولئك تحوت الناس وعبيد الشهوات.
إن المشاكل بين الزوجين في السجايا والعادات كافية مع سكون الزوجية لتحقق
المودة بينهما، ولكن مكان عشيرتيهما قد يفسد مودة بينهما؛ إذا كانت غير مرضية
لهم، وقد يشفع لما ينقصهما من سكون النفس، ومودة القلب لحلول عاطفة الاحترام
القومي محل عاطفة المشاكلة في بعض الطباع؛ فإن لم يأت احترام العشيرة بالمودة
فهو لا يقصر عن الإتيان بالتودد وحسن المعاشرة.
سل قضاة المحاكم الشرعية ووكلاء الدعاوى فيها، يخبروك عن أرباب
التخاصم من الأزواج أن أكثرهم من الشذاذ الذين ليس لهم عشائر معروفة أو من
البيوت التي أفسدها الترف والتربية السوءى حتى كان أهل الزوجين هم الذين
يحلون ميثاق الزوجية بينهما، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، وهم يحسبون أنهم
يحسنون صنعًا بمضارة الرجل بامرأته، والمرأة ببعلها باسم المحافظة على الحقوق
ورعاية الشرف، وما الشرف إلا في الوفاق والوئام، والوداد والالتئام.
يقع مثل هذا مع فساد الفطرة من الذين عزموا عقدة المصاهرة على رغبة
وتحيز، فما بال أولئك الذين يمتون إلى هذا العقد بوسائل الرهبة، أو الحيلة، أو
يهجمون على البيوت؛ فيأتونها من ظهورها لا من أبوابها، ويمزقون ستارها
ويهتكون حجابها، وينتزعون الخرائد من أكنافها، والفرائد من أصدافها، ويفرقون
بين الأولاد والوالدين، ويوقعون العداوة والبغضاء بين الأقربين، ماذا يكون أثرهم
في البيوت التي تتكون منها الأمة وفي الأمة التي تتكون من البيوت؟ لا يغيب عن
عاقل أن شرهم مستطير، وأن ما يفعلونه فتنة في الأرض وفساد كبير.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) (الروم: 21) .(8/573)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تزويج الشريفة بغير شريف
وفضل أهل البيت
(س 29) مستفيد في (سنغافورة) سيدي هل هذه الفتوى (المذكورة أدناه)
صحيحة ويجوز العمل بما فيها، أم الأصح خلافها أفيدونا لا زلتم خير خلف لخير
سلف عن جوهر الإسلامية، وأرجو من حضرتكم الكلام عنها في المنار وهي:
ما قولكم في من يستحل تزويج الشرائف بمن ليسوا بأشراف، بل لو كان
بعضهم يزعم أنه هاشمي أو مطلبي، أو من بقية قريش فهل يصح تزويجهم
بالشرائف أو لا؟
(الجواب والله أعلم بالصواب)
اعلم أن مراعاة الكفاءة في النكاح واجبة، وهي في النسب على أربعة درجات
(كذا) الأولى: العرب لا يكافئهم غيرهم من العجم، الثانية: قريش لا يكافئهم
غيرهم من بقية العرب، الثالثة: بنو هاشم وبنو عبد المطلب لا يكافئهم غيرهم من
بقية قريش، الرابعة: أولاد فاطمة الزهراء بنو الحسن والحسين -رضي الله عنهم-
لا يكافئهم غيرهم من بني هاشم، والدليل عليه كما في التحفة والنهاية وغيرهما
خبر مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى من العرب كنانة،
واصطفى من كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم) والأحاديث الواردة في
فضل العرب وفي فضل قريش وفي فضل بني هاشم كثيرة جدًّا. وقال ابن حجر في
التحفة والرملي في النهاية: أولاد فاطمة لا يكافئهم غيرهم من بقية بني هاشم؛ لأن
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن أولاد بناته ينتسبون إليه في الكفاءة وغيرها
كالوقف والوصية كما صرحوا به (انتهى) لأنهم أبناؤه كما ثبت في قصة المباهلة
في قوله تعالى {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} (آل عمران: 61) فإنه ورد أنه خرج
ومعه الحسن والحسين وعلي وفاطمة، وروى الحاكم قال صلى الله عليه وسلم:
(لكل بني أم عصبة إلا أبناء فاطمة فأنا وليهم وعصبتهم) وأخرج الترمذي عن أسامة
أنه صلى الله عليه وسلم أجلس الحسن والحسين يومًا على فخذيه وقال: (هذان
ابناي وابنا بنتي اللهم إني أحبهما فأحبهما) وأخرج الطبراني وغيره أنه صلى الله
عليه وسلم قال: (كل بني أم ينتمون إلى عصبة إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا
عصبتهم) (انتهى) .
فقول الشارع نص، ويترتب عليه أحكام البنوة في الأشباح والأرواح
كالحسن والحسين وأولادهما، والتشريف ببعض خصائصه صلى الله عليه وسلم
فوجوب الصلاة عليهم ودخولهم في آية التطهير وتحريم الزكاة عليهم وافتراض
محبتهم على الأمة وغير ذلك، ثم اعلم أن الشرف قسمان ذاتي، وصفاتي وقد
اصطلح العلماء على أن الشرف الذاتي للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنه بالنسبة
لذريته فكما كانت ذات النبوة مختارة الله من الوجود فجعلها الله معدنًا لكل نعت
محمود، ولم يزل يسري منها في شعبها مظهرها في المعدن، ومع ذلك فقد بلغ
الجليل الكبير في كمال التطهير لها كما قال: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب:
33) لا بعمل عملوه، ولا بصالح قدموه، بل بسابق عناية من الله لهم فتأثير
البَضْعة النبوية لا يدركه أكابر الأولياء من غيرهم، ولو جاهدوا أبد الآباد، ولهذا
السر قال الله: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 23)
إذا عرفت ذلك واتضح لك أن مقام ذات النبوة وقدرها لا يدرك، وعرفت أن الكفاءة عند العرب بل وغيرهم أمر مرعي وقد جاء الشرع في ذلك على موافقة عادتهم وعرفت أن تزويج الأدنى بمن ليس كفوءًا لها ملحق عارًا على عصبتها كما
صرح به الفقهاء الواصل ذلك العار عند تزويج الشرائف بغير الأشراف إلى مقامه صلى الله عليه وسلم فحقق لديك أن الجراءة على ذلك إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم ولذريته، وأي إيذاء أعظم من إلحاق العار فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من
آذى أهل بيتي فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله) وقال عليه الصلاة والسلام:
(لا تؤذوني في أهل بيتي) ... إلخ، وقال عليه الصلاة والسلام: (احفظوني في أهل بيتي) فإيذاؤهم من أكبر الكبائر ومن استحله كفر فلا يجوز تزويج غير
السيد بالسيدة، ولو رضيت وأسقطت الكفاءة أو رضي وليها؛ لأن الحق ليس
لهما؛ لأنه شرف ذاتي ليس من كسبهما حتى يسقطاه بل له- صلى الله
عليه وسلم - ولكافة أبناء الحسنين، ولو يتصور رضاهم، وقد ثبت أنهم مَوَالٍ
على ما سواهم من كافة الخلق بنص حديث: (من كنت مولاه فعلي مولاه) وهل
يجوز تزويج العبد مولاته، لا قائل به، بل قد منع خليفة الزمان السلطان عبد الحميد
خان أيده الله تبعًا لسلفه تزويج السيدات بغير السادة، وأمر الخليفة يجب العمل به
في المباحات فضلاً عن الموافق للحكم الشرعي. وأما ما نسب إلى الإمام مالك عالم
دار الهجرة - رضي الله عنه - أن المسلمين أكفاء فلا يبعد أنه مقول عليه؛ لأنه
ثبت عنه أنه امتنع من لبس النعال في المدينة؛ فقال: أستحي أن أطأ بنعلي أرضًا
وطئها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدمه فمن استعظم، واستشرف أرضًا وطئها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدمه يبيح ويستحل افتراش ووطء
بضعته صلى الله عليه وسلم؟ يجل قدره عن ما نسب إليه - رضي الله عنه - وفي هذا
القدر كفاية لمن منَّ الله عليه بالهداية، ومن قال بخلاف ما ذكر؛ فإما عدم اطلاع،
وإما جهل بقدره - صلى الله عليه وسلم - وقدر أهل بيته، بل من تجرأ وارتكب ذلك
بعد اطلاعه على ما ذكر؛ فهو ضعيف إيمان، بل مسلوبه لمراغمته، ومعاندته
للشرع يخشى عليه من سوء العاقبة و {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ} (الأعراف: 186) حفظنا الله من ارتكاب الموبقات، وعصمنا من الهجوم على
الخطيئات، وعرفنا قدر نبيه وأهل بيته السادات إنه ولي التوفيق غير أنه معلوم لدي كل ذي عقل أنه للضرورات تباح المحظورات وارتكاب أخف الضررين لدفع الأشد متعين فلا يلزمك العناد ارتكاب الفساد والعدول عن سبيل الرشاد. وصلى الله
على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم: قاله بفمه وكتبه بقلمه أضعف الناس
عمر بن سالم العطاس عفى الله عنه آمين، وذلك في شهر محرم سنة 1323 هـ.
(ج) سبق لنا أن نشرنا في هذه المسألة سؤالاً لأحد القراء في سنغافوره في
واقعة حال هناك ثم جاءنا من سنغافوره رسالة بتوقيع أحد الحضارمة رغب إلينا
مرسلها أن نرمز له بحرفي ع. ب قال فيها بعد الثناء والإطراء: إن ما نشرناه في
الواقعة (في ج 6 م 8) لم يكن السؤال فيه مطابقًا للواقع، وإن الشريفة التي
تزوجت بالسيد الهندي قد زوجها وليها الشرعي برضاه ورضاها مع علمها بأن
الزوج مطعون في نسبه على أنه قد شهد 12 شاهدًا من أهالي بلده وغيره بالسيادة له
وإن ما ذكره السائل أيضًا عن طعن ذلك الرجل بكتب الشرع غير صحيح، وطلب
منا هذا الكاتب أن نذكر الحكم في الواقعة على ما قرره هو من تزويج ولي الشريفة
لها برضاه ورضاها على أنه لا حاجة إلى ذلك؛ فإن الجواب الأول ناطق بصحة
العقد في هذه الحالة. وقد فهمنا من الرسالة ومن مجموع ما كتب إلينا في معناها من
تلك الجزيرة أن سبب الاهتمام بهذه المسألة هو أن بعض السادات الحضرميين الذين
يوجد منهم طائفة هناك غالون في التفاخر بأنسابهم، والإدلال بأحسابهم، ولذلك
ذهبوا في الغلو إلى ما تراه في فتوى الشيخ عمر بن سالم العطاس التي سألنا عنها
أحد القراء في سنغافوره، وقد أرسلا إليها صورتها مطبوعة فعلمنا أنهم طبعوها
ووزعوها لإثبات اعتقادهم في أنفسهم.
أما الحق في مسألة الكفاءة؛ فهو ما بيناه في الجزء العاشر من المجلد السابع
أيام حادثة الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، وقد نقل المؤيد ما كتبناه يومئذ فاطلع
عليه الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية -رحمه الله تعالى -وكان في مصيف رأس
البر فكتب إلي: (اطلعت في المؤيد على ما كتبت في الكفاءة والأولياء واستحسنته)
وإنما اطلع عليه في المؤيد؛ لأنه نشر فيه ما كتبت قبل أن أرسل المنار، ولذلك كتب
إليّ الإمام في ذلك الرقيم (كنت أنتظر أن يصل إلي المنار هنا؛ ليكون مما ألقي
عليه نظري إذا أرجعته عن أمواج البحر الأبيض، ولم أطلقه إلى بساط النيل
الأحمر فإني جالس طول يومي بين البحرين) والمقصود أن الأستاذ الإمام قد أجاز
ما كتبته في الكفاءة فكأنه أفتى به.
أما المنزع الذي رمى عنه الشيخ سالم العطاس فهو غريب، وأوغله في الغربة
والغرابة جعل الكفاءة في الشرفاء حقًّا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولجميع أبناء
الحسنين بحيث لا يصح تزويج الشريفة بغير شريف ولو رضيت ورضي وليها؛ إذًا
لا يتصور أن يرضى - النبي صلى الله عليه وسلم - وسائر الشرفاء في مشارق
الأرض ومغاربها، واستدلاله على ذلك بكونه إيذاء للنبي بإيذاء أهل بيته، قال:
وإيذاؤهم من أكبر الكبائر يكفر مستحله ثم استدلاله أيضًا بحديث (من كنت مولاه
فعلي مولاه) على كون ذراري علي موال على من سواهم من جميع الخلق
بالنص وخروجه من ذلك إلى أن جميع الناس عبيد لهم، وأنه لا قائل بجواز
تزويج العبد لمولاته! نعوذ بالله من هذا الغلو والغرور.
يستدل الشيعة بحديث (من كنت مولاه فعلي مولاه) على أن عليًّا أحق
بالخلافة ممن سبقه فيها، ولا أعرف عنهم أنهم بعدوا في الاستدلال إلى جعل جميع
الناس عبيدًا له ولذريته، بل لم يقل مسلم بأن الناس عبيد للنبي - صلى الله عليه
وسلم -، بل الإسلام يمنع هذا فمن أين جاء به العطاس يرحمه الله ويصلح باله.
وكيف يتفق استنباطه هذا مع ذكره السلطان عبد الحميد بلقب الخلافة، وإذا كان
غير الشريف العلوي الفاطمي لا يجوز أن يكون زوجًا للشريفة؛ لأنه عبدها فكيف
يكون العبد خليفة على ساداته ومواليه الذين لا يحصى عددهم، والخليفة مولى
لرعيته يجب عليهم طاعته في كل معروف، وأما الزوج فليس مولى لامرأته بهذا
المعنى، بل يقول جماهير الفقهاء: (إنه لا تجب عليها طاعته إلا في المكث في
البيت والتمكين من الاستمتاع) . والحق أن لفظ المولى في الحديث معناه الناصر،
كما قال الجوهري في الصحاح، ويطلق في اللغة على الصاحب، والقريب،
والجار، والحليف والنزيل والشريك، والعبد، والمعتق، فكيف يسمح لنا الدين أن
نتخطى هذه المعاني ونقول: إن الحديث نص في أن الناس عبيد لذرية علي؟ هل
كان أبو بكر وعمر والعباس وغيرهم من الصحابة وسائر المسلمين عبيدًا لعلي في
حياته، وهل ملك أولاده من بعده الناس بالإرث أم نص الحديث دال على أنهم
يملكونهم بالاستقلال في كل زمان؟ ظاهر قول العطاس الثاني، وكل مسلم يبرأ إلى
الله من الأول والثاني.
كان الشرفاء ومازالوا يزوجون بناتهم من غيرهم، وجميع العلماء يستحلون
هذا مع التراضي، وسائر الناس تبع لهم؛ فهل يقول العطاس: إن جميع من
استحل ذلك كافر حتى المزوجون والمتزوجات بالرضا والاختيار، فيكفر الشرفاء
مبالغة في تعظيمهم؟ .
ليس هذا المنزع الذي رأيت بأغرب من منزعه الآخر في جعل النسبة إلى
الحسن والحسين في معنى نبوة النبي - عليه الصلاة والسلام - من حيث إن شرفها
ذاتي غير مدرك، وأنها من اختيار الله تعالى، وأنها منبع لكل نعت محمود وأن
أكابر الأولياء لو جاهدوا أبد الآباد لا يلحقون لشريف أثرًا؛ لأن الله تعالى بالغ في
كمال تطهير آل البيت إذ قال: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) لا بعمل
عملوه، ولا بصالح قدموه، بل سابق عناية من الله لهم، ثم قال: ولهذا السر قال
الله: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 23) .
فانظروا أيها المنصفون كيف يلعب بكتاب الله ويحرف كلامه عن معناه،
بدعوى الاهتداء بهديه، والعمل بأمره ونهيه، وإنما هو اتباع الهوى، شرد
بالغالين عن معهد الهدى، وأحمد الله تعالى أن جعلني شريفًا غير مفتون، وجنبني
وقومي مزالّ الغرور، فأما قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) فقد ورد تعقيبًا لآيات في خطاب نساء
النبي - عليه الصلاة والسلام - يأمرهن الله تعالى بها وينهاهن، ويعلمهن بأن
جزاءهن على الخير والشر مضاعف؛ لأنهن لسن كسائر النساء، وهذا ظاهر معقول
المعنى؛ فإن بيت المرشد الكامل قدوة في الهدى والرشاد، ولو ظهر العمل السيئ
من ذلك البيت الذي جعله الله منبعًا للهدى ومشرقًا للوحي لكان أعظم منفر عن
الاهتداء والإيمان، فقوله تعالى بعد تلك الأحكام (إنما يريد الله) ... إلخ تعليل،
وبيان للحكمة في كون نساء النبي لسن كسائر النساء وكونهن جديرات بمضاعفة
العذاب على المعصية والثواب على الطاعة لمكان القدوة كقوله تعالى بعد ذكر أحكام
الصيام وما فيها من الرخص {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة:
185) وإنما قال (عنكم) لأن النبي صلى الله عليه وسلم في البيت وهو المقصود
بالتطهير أولاً وبالذات؛ لأن كمال نسائه ينسب إلى هدايته صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى:
23) فليس معناه أنه يطلب من الناس مودة قرابته أجرة بتبليغه أحكام ربه حاش
لله ما كان لنبيه أن يطلب على التبليغ أجرًا، كما نطق القرآن ونهض البرهان،
وإنما الاستثناء منفصل، ومعناه لا أسألكم أجرًا على ما جئتكم به فتتوهموا أنني
طالب منفعة لنفسي، وإنما أسألكم ما هو نافع لكم، وهو المودة في القرابة، أي أن
تودوا ذوي القربى منكم فهو إذًا بمعنى ما يؤثر عن الإنجيل من الأمر بمحبة القريب،
أو أن تودوني في قرابتي منكم، لا لأني بعثت لهدايتكم فعاملوني معاملة سائر
الأقربين، ولا تؤذوني، وأما الدين (فلكم دينكم ولي دين) لست عليه بجبار، وإنما
عليّ البلاغ وللناس الخيار.
وعقب هذا بقوله: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} (الشورى: 23)
والآية من سورة الشورى، وهي مكية من أول القرآن نزولاً وأمثال هذا الخطاب في
الدعوة والاستمالة إلى الحق كثيرة، ولا يمكن أن يحمل لفظ القربى فيه على ذرية
فاطمة - عليها السلام - لما تقدم، ولأنها لم تكن تزوجت ولا ولدت في ذلك العهد.
سبق (للمنار) قول في تفسير هذه الآية وفيه أن الشيعة هم الذين افتحروا لها
هذا المعنى غافلين عما وراءه من الطعن في الرسالة، واحتجاج الكافرين على
المؤمنين بأن الرسول كان يطلب بدعوته الدنيا لذريته كالملوك والأمراء. وإن
القرآن بجملته وتفصيله، وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفسه وأهله
ومعاملته للناس، وتوليتهم الأعمال كل ذلك مما ينسف هذه الشبهة نسفًا.
أي غلو (العطاس) - يرحمه الله ويصلح باله - ليس بالغريب؟ أإنكاره قول
الإمام مالك أن المسلمين أكفاء، واحتجاجه على ذلك بما كان من أدب هذا الإمام
مع النبي - عليه السلام - إذ كان لا يطأ أرض المدينة، واستنباطه منه عدم إباحة
افتراش البضعة النبوية ووطئها؟ أيظن أن الإمام مالكًا كان يحرم أن يمشي الناس
في المدينة بالنعال، أو أن تركب فيها الحمير والبغال؟ أيظن أنه يقيس اتخاذ المرأة
زوجًا وقرينة لرجل تشاركه في نعمته وتتحد معه في معيشته على وطء الأرض
بالنعل أو بغير النعل؟ ما هذا الفقه المقلوب؟
يسهل على من يسلك مسلك هذا المفتي في الاستنباط أن يستخرج من كلامه ما
يعده الفقهاء من المكفرات فيكفره كما كفر من يخالف فتواه، أو كاد يكفر بها جميع
المسلمين، والحق أنه لا يحكم بكفر أحد من أهل القبلة إلا بقول أو عمل يدل
دلالة قطعية على أنه لا يؤمن بالله، وبما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم-
مما هو متواتر مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة؛ فمن آذى شريفًا من آل
البيت لحظ من حظوظ الدنيا يكون عاصيًا لله كما لو آذى غيره؛ لأن الإيذاء حرام،
وأما من يؤذي الشرفاء لأنهم ينتمون إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -
فالأقرب أن يكون إيذاؤه إياه بهذا القصد معلولاً لكفره به لا علة له؛ إذ لا يعقل أن
يقصد المؤمن ذلك فلا يظهر هذا إلا فيمن يؤذي كل من قدر على إيذائه منه، فمتى
خصص فردًا أو أفرادًا علم أنه لا يؤذيهم لأجل النسبة.
وجملة القول أن الشريعة الإسلامية شريعة عدل ومساواة، لا شريعة تقسيم
ومحاباة، وأحكامها عامة مدار العبادات فيها على تزكية النفس، وتحليتها
بالفضائل، ومدار المعاملات على درء المفاسد والمضار، وجلب المنافع وحفظ
المصالح، وليس لأحد أن يخص الشرفاء أو غيرهم بأحكام شرعية تؤخذ بالتسليم
على أنها من التعبد؛ فأبناء الحسنين وغيرهم من الناس سواء في أحكامهم، وما
ورد في تخصيص آل النبي - صلى الله عليه وسلم - ببعض الأحكام كتحريم
الصدقة عليهم معقول المعنى، ولا يجوز لأحد أن يزيد عليه؛ لأن التخصيص خلاف
القياس؛ فلا يقاس عليه، وفي الحديث الصحيح أن الآل في باب تحريم الصدقة
هم بنو هاشم وبنو المطلب، لا ذرية فاطمة خاصة. وأن الكفاءة في النكاح لا
يستدل عليها بالفضائل والخصائص، وإنما يرجع فيها إلى نص الشارع، أو القياس
الصحيح. أما نص الشارع؛ فلم يصح منه في مسألتنا شيء، قال الحافظ ابن حجر
في شرح البخاري: لم يثبت في اعتبار الكفاءة في النسب حديث، أما ما أخرجه
البزار من حديث معاذ رفعه (العرب بعضهم أكفاء بعض والموالي بعضهم أكفاء
بعض) فإسناده ضعيف. اهـ وإنما الكفاءة الثابتة في السنة خاصة بالدين والحرية
والأخلاق واليسار وهذا ما كان عليه أكثر أهل الصدر الأول، من قال من الفقهاء
باعتبارها في النسب فحجته الصحيحة القياس، ومداره على دفع العار؛ فإذا لم يكن
هنالك عار بالفعل فلا اعتبار بالنسب في الكفاءة، وعلى هذا أكثر البلاد الإسلامية
فيما نظن، وإذا رضيت امرأة شريفة هي وأولياؤها بالتزوج بمَنْ ليس بشريف في
بلاد يعد ذلك فيها من العار، فلا حرج عليهم؛ لأنهم أعلم بمصلحتهم، وأحرص على
شرف أنفسهم والأمر ليس تعبدي، ولو كان ما ذكره (العطاس) من فضل أهل
البيت يجعل استنباطه صحيحًا وداخلاً في الأحكام التعبدية لكان لنا أن نقول مثله في
العلماء، فإن ما ورد في الكتاب والسنة في مدح العلم والعلماء أعظم وأظهر مما
ورد في آل البيت فهل نقول: إنه لا يحل للعالم أن يزوج ابنته بمن ليس بعالم؛ لأن ذلك إهانة للعلم الذي عظمه الله تعالى؟ ! فالأمر فيه ليس إليه، وإنما
هو متعبد بذلك؟ كلا، إن الزواج من المعاملات التي تبنى على أساس المصلحة، وكل قوم أعلم بمصلحتهم والشرع لم يحجر عليهم في اختيار الخير، وإنما حرم
عليهم الإيذاء، والله أعلم وأحكم.
هذا وإنني لا أظن بالشيخ (عمر بن سالم العطاس) إلا الخير، وحسن النية
وأشكر له حبه للشرفاء، ولولا أن فتواه طبعت لما رددت عليها في المنار، وأسأل
الله تعالى أن يحفظنا وإياه من الغلو، ويلهمنا رشدنا أجمعين.
__________(8/580)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ضمان البضاعة
وسلع التجارة والسيكارتو
(س 29) سألنا كثيرون من أهل هذا القطر وغيره من الأقطار عما جرى
عليه عرف التجارة من إرسال البضائع للبلاد مضمونة من شركة تسمى شركة
الضمان، وقد أرجأنا الجواب عن ذلك لأجل أن نبحث عن كيفية هذا التعامل بنفسنا؛
فنجيب عن بصيرة، ولم يتيسر لنا ذلك، وقد جاءنا من عهد قريب صورة فتوى في
ذلك من سنغافورة يسألنا مرسلها عن رأينا فيها فلم نجد بدًّا من التعجيل بنشره أو
بيان رأينا فيها وهذه هي:
بسم الرحمن الرحيم
(ربِّ زدني علمًا، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، الحمد لله على آلائه،
والصلاة والسلام على رسول الله وآله، أما بعد فقد ورد عليّ سؤال من بعض
التجار القاطنين بعدن فيما كثر تعاطيه في الناس ليكونوا على بصيرة من أمره ونص
سؤاله هو:
ما قولكم دام فضلكم في معاطاة التجار مع الإفرنج الجارية في هذا الزمان بغير
صيغة شرعية أصلاً، وهو أن التاجر إذا أراد إرسال مال له إلى بلد آخر على طريق
البحر يطلع ماله في إحدى البوابير الذاهبة إلى تلك البلاد المطلوب إرسال المال إليها؛
فإذا أطلع التاجر ماله وسلم نولاً على المال، وأخذ ورقة من قبطان الوابور
بوصول المال إليه في الوابور، ومقداره، وثمنه، ثم إذا كان موجود أحد الإفرنج
وعرض التاجر عليه ورقة صاحب الوابور، وسلم له على المال المقدر فيها على
كل مائة (ربية) خمس (ربيات) يقدر المال الذي طلعه، ثم يسلم له الإفرنجي
ورقة بعلامته متضمنة بكلام الإفرنج ضمانة المال عليه إذا غرق في البحر، فهو
يعطيه ثمنه بقدر ما هو محرر في ورقة قبطان الوابور، وسموا هذه المعاملة (بيمه) .
ثم إنه يوجد إفرنجي آخر إذا احتاج التاجر المذكور ثمن ماله الذي أرسله مقدمًا
فيعرض عليه ورقة الإفرنجي المتضمنة الضمان للمال؛ فعندما يراها يقدم للتاجر
ثمن ماله، ويحوله التاجر على وكيله الذي يستلمه بتلك البلدة الأخرى إن سلم المال
من الغرق، وإلا فيستلم ذلك الإفرنجي الأخير من الإفرنجي الأول الذي سلم الورقة
المتضمنة لضمان المال بلغتهم، فهل - والحال هذا - إذا جرت هذه المعاملة منا مع
أهل حرب أو مؤمنين من غير ألفاظ شرعية أصلاً، تكون من قبيل ما لو أعطونا
شيئًا من حقهم مجانًا برضاهم؟ ويجوز أخذهما أم لا يجوز ذلك أصلاً؟ أفتونا
مأجورين نفع الله بكم المسلمين. اهـ.
(الجواب) فقلت وبه القوة والحول: إن هذه المسألة هي من حوادث الزمن
الأخير، لم أر من تكلم عليها من أئمتنا الشافعية في كتبهم المتأخرة فيما اطلعت من
حيث إن الباع قصير والمقام خطير، تكأكأت مدة عن الجواب، وصاحب السؤال
يلح عليَّ في الخطاب، ويطلب مني بيان حكم الله - تعالى - فيها فلم أجد بُدًّا من
إسعافه؛ فاقتحمت ذلك متحريًا فيما هنالك، مجتهدًا في استخراجها من كلام الأئمة
تصريحًا، أو تلويحًا، فأول ما وقفت على كلام في ذلك لخاتمة محققي السادة الحنفية
الإمام العلامة ابن عابدين في حاشيته على الدر حيث قال في فصل في استئمان
الكافر بعد كلام في ذلك ما نصه: (وبما قررناه يظهر جواب ما كثر السؤال عنه
في زماننا، وهو أنه جرت العادة أن التجار إذا استأجروا مركبًا من حربي فيدفعون
له أجرته، ويدفعون أيضًا معلومًا لرجل حربي مقيم في بلاده ويسمى ذلك المال
(سوكره) على أنه مهما هلك من المال الذي في المركب بحرق أو غرق أو نهب أو
غيره فذلك الرجل ضامن له بمقابلة ما يأخذه منهم، وله وكيل عنه مستأمن في دارنا
مقيم في بلاد السواحل الإسلامية بإذن السلطان يقبض من التاجر مال السوكره، وإذا
هلك من مالهم في البحر شيء يؤدي ذلك المستأمن للتاجر بدله تمامًا، والذي يظهر
لي أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله؛ لأن هذا التزام ما لا يلزم ا. هـ.
أي فلا يحل أخذ ماله بعقد فاسد.
أي هذا الحكم مع المستأمن في دارنا، قال بخلاف المستأمن في دار الحرب،
فإن له أخذ مالهم برضاهم، ولو بربا أو قمار لأن ماله مباح لنا إلا أن الغدر حرام
وما أخذ برضاهم ليس غدرًا من المستأمن منهم في دارنا؛ لأن دارنا محل إجراء
الأحكام الشرعية؛ فلا يحل لمسلم في دارنا أن يعقد مع المستأمن إلا ما يحل من
العقود مع المسلمين، ولا يجوز أن يؤخذ منه شيء لا يلزمه شرعًا، وإن جرت به
العادة كالذي يؤخذ من زوار بيت المقدس. اهـ نقلته عن حاشية الدر لابن عابدين.
نرجع إلى الحكم على عدن هل هي الآن دار حرب لاستيلائهم عليها، أو
باقية دار إسلام على أصلها؟ نص في شرح الدر أن دار الإسلام تصير دار حرب
بثلاثة أمور: بإجراء أحكام الشرك، وباتصالها بدار الحرب ولا يعد البحر فاصلاً
بل قال تقدم أن بحر الملح ملحق بدار الحرب، والشرط الثالث أن لا يبقى فيها مسلم
أو ذمي آمنًا بالأمان الأول على نفسه، أي الأمان الذي كان ثابتًا قبل استيلاء الكفار
للمسلم بإسلامه، وللذمي بعقد الذمة اهـ. بتوضيح في حاشيتها لابن عابدين.
ولا شك أن هذه الشروط قد وجدت في عدن، فهي دار حرب عند السادة
الحنفية، ويجوز للمسلم فيها أخذ مالهم برضاهم ولو (بربا) وقمار كما تقدم آنفًا
عن العلامة ابن عابدين، أما عند الإمام الشافعي فلا تعتبر دار الإسلام دار حرب
مطلقًا، أي سواء غلب عليها الكفار أم لا منعوا المسلمين، أم لا كما في باب الجهاد،
من شرح المنهاج للإمام ابن حجر رحمه الله تعالى.
هذا ما عند السادة الحنفية، أما حكم السؤال على مذهب السادة الشافعية؛
فالذي ظهر لي من كلام فقهائنا أنه إذا لم تجر هذه الالتزامات بمعاطاة أو صيغ فاسدة
في الشرع، ولا يتلفظ بشيء منها، بل يعطيه ذلك المال بمجرد أوراق تتضمن ذلك
الالتزام على وجه إرضاء واختيار فلا بأس بقبوله من كافر أو مسلم وما أظن أحدًا
يخالف في جواز قبوله، كيف وقد نبه العلامة ابن حجر في الإيعاب في باب البيع
عند القول بجواز المعاطاة حيث قال: (ولك أن تقول الكلام جميعه مفروض فيمن لم
يعلم أو يظن رضا المأخوذ منه، ولو بلا بدل أما من علم أو ظن رضاه فلا يتأتى
فيه خلاف المعاطاة؛ لأنهم إذا جوزوا لهم الأخذ من ماله مجانًا مع علم الرضا أو ظنه
فلأن يجوز الأخذ عند بدل الشيء أولى؛ لأن المدار ليس على عوض ولا على
عدمه، بل على ظن الرضا، وحيث وجد عمل به وحينئذ لا يكون أخذًا من باب
البيع لتعذره، بل من باب ظن الرضا بما وصل إليه وعجيب من الأئمة كيف أغفلوا
التنبيه على ما ذكرت، وكأنهم وكلوه إلى كونه معلومًا) اهـ كلام الإيعاب، وكذلك
ما يؤخذ في صورة السؤال لا يكون من باب الضمان ولا عدمه، بل من أخذه
بالرضا والاختيار، هذا ما ظهر لي في المذهبين، وفوق كل ذي علم عليم والله
سبحانه وتعالى أعلم.
(الختم)
... ... ... ... ... ... الواثق بخفي الألطاف
... ... ... ... ... ... ... ... علوي بن أحمد السقاف
... ... ... ... ... ... ... ... كان الله لهما آمين.
ثم كتب عند قوله (بل من باب أخذه بالرضا والاختيار) ولك أن تقول هذا
الكافر الملتزم للغرم عند التلف فيما كتبه للمسلم مترددًا بين غنم وغرم؛ فيحتمل أن
يكون من أنواع القمار الممنوع إقراره عليه، فنقول: على فرض تسليمه أنه نوع
منه، فلا نمنعه منه إلا إن كان من الملتزمين لأحكامنا، أما كالذي في عدن كما هو
في صورة السؤال فليس من الملتزمين لأحكامنا، بل ربما قهرونا على مجاراة بعض
أحكامهم كما هو مشاهد فلا مانع من أخذ ماله برضاه، هذا ما تبادر إلى فهمي الفاتر
وعلمي الناقص فإن أصبت فمن الله، وإن وجد نص يعتمد بخلافه فالمرجع إليه والله
ولي التوفيق.
(المنار)
إن ما يسمونه (سوكرة البضائع) عقد تأمين وضمان يقوم بين التاجر
صاحب البضاعة، وبين رجل آخر هو وكيل شركة كبيرة والورقة التي ذكرها
السائل العدني في استفتائه هي صك بعقد تأمين والضمان فهي متضمنة للإيجاب
والقبول والفقهاء يعدون هذا العقد فاسدًا؛ لأن الضامن يلتزم فيه ما يلزمه شرعًا وكان
يظن أنه يأخذ ما يأخذه بدون مقابل ولكننا علمنا من بعض التجار أن لهذه الشركة
التي تؤمن التجار على بضائعهم وتضمن لهم ما يهلك منها أعمالاً في حفظ البضائع
تتفق به مع شركات النقل في المراكب وغيرها وهي إذن من قبيل الإجارة كأن
التاجر يستأجر صاحب الباخرة للنقل وصاحب التأمين للحفظ فما يأخذانه من المال
على ذلك يعد أجرة عملهما فعلى هذا يجوز للتاجر أن يسوكر بضاعته ثم إذا هي
تلفت بتقصير في الحفظ؛ جاز له أخذ ضمان عنها، وأما إذا تلفت بدون تقصير في
حفظها فلا يجوز عند الفقهاء أخذ الضمان؛ لأنه لا يلزم الأجير وإن التزمه، وقد
خرَّج السقاف الجواز في الواقعة المسئول عنهاعلى مذهب الحنفية بأنه أخذ لمال الحربي بعقد فاسد بغير عذر ولا خيانة، وهو جائز وعلى مذهب الشافعية بأنه
مال أخذ برضاء صاحبه وسكت عن إعطاء الأجرة.
ويجب التنبيه ها هنا إلى مسألة مهمة وهي أن ما يشترطه الفقهاء باجتهادهم
من شروط صحة العقود وفسادها ولزوم ما يلتزم فيها وعدمه ونفوذ الحكم بها وعدم
نفوذه ليس من الأمور التعبدية التي يتقرب بها إلى الله تعالى بحيث يكون العقد الفاسد
معصية من المتعاقدين؛ وإن كان برضاهما واختيارهما بلا غش ولا تغرير، كلا إن
هذه مسائل وضعت لأجل ضبط الأحكام وحفظ الحقوق وتسهيل الحكم بالعدل على
القضاة فهي لا تسلب الناس حرية التصرف في أموالهم بما يرونه نافعًا لهم في
حفظها، أو تنميتها مع التزام حدود الله الثابتة في كتابه العزيز وسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم؛ كتحريم الغش، والتغرير، والخداع، والغصب، ونحو ذلك وهذا
هو مراد ابن حجر الفقيه؛ إذ جوز الأخذ والعطاء بالتراضي فيما كان مخالفًا لشروط
صحة عقد البيع (ومثل البيع غيره من العقود) فكأنه قال: إن هذه الأركان
والشروط التي ذكروها لصحة العقود هي التي يلزم الحاكم الناس بها إذا تنازعوا فإذا
تراضوا فيما بينهم على خلافها فلا حرج عليهم، وعد هذا من الأمور التي سكت
عنها الأئمة لكونها معلومة بالبداهة فتبين من هذا أن العاقل الرشيد له أن يتصرف في
ماله ما لم يرتكب محرمًا، والمحرم فيه ضرر بالفاعل أو بغيره؛ فإذا ثبت بالاختيار
أن هذه (السوكرة) نافعة غير ضارة فهي جائزة إذ لم يرد نص من الشارع في
تحريمها ومدار الاجتهاد في أحكام المعاملات على دفع الضر وجلب المنفعة وحفظ
المصالح، وإذا ثبت بالاختبار أنها ضارة، ومضيعة للمال بغير فائدة كانت محرمة
والله تعالى أعلم.
__________(8/588)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
المكتوب الثالث من أميل إلى أمه [*]
إفضاؤه إليها بحبه لقينة من الممثلات - كيف تعلق قلبه بها - ستعلامه
سيرتها- تمنيه إنقاذها مما هي فيه- طلبه المغفرة من أمه بعد اعترافه لها بالحب.
تحريرًا في 12 مايو سنة 186.
إني منذ عرفت نفسي ابنك أبثك جميع ما يسوءني وما يسرني، وما أكره وما
أحب، وأكاشفك بالخير والشر، ولا أكتم عنك شيئًا حتى إني لما كنت بحضرتك ما
كنت في حاجة إلى البيان؛ لأنك كنت تطالعين أفكاري في عيني وتبصرينها تجول
على جبيني، وهذه أول مرة لي في حياتي أسررت فيها سرًّا ... وليت شعري أأبوح
به إلى قصب نهر الرين؟ إذًا لتضاحك مني كما تضاحك من أذني الملك ميداس [1]
أم أبثه إلى القمر؟ كلا فقد سمع كثيرًا من أمثاله أم أكنه في قلبي؟ إذن لأنَّبتني عليه
سريرتي. ما أنا بفاعل شيئًا من ذلك بل أريد أن أودعه صدر أمي.
على أن الإفضاء به ليس من السهولة بالمقدار الذي كنت أتوهمه فإني ما
أنشأت أخط هذه السطور الأولى من مكتوبي حتى ارتعشت يدي، وخفق قلبي ولست
إخالك إلا ساخرة مني، ولكن أقل ما أنا واثق به منك أنك لن تجدي علي أن صدقتك
الخبر؛ وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من إفشائه، وهو أني أحب.
الآن أراك تسألينني من هي التي تحبها، وأين رأيتها، وكيف عرفتها، وفي
هذه الأسئلة ما يزيدني حيرة وارتباكًا. في مدينة (بُن) ملعب من الطبقة الثانية
غير أنه مشهور بحسن اختيار القصص التمثيلية؛ فمما يمثل به قصة مريم
استوارت [2] ، وقصص شيلار [3] وقصة غويت عن فوست ومرغريتة [4] وغيرها
من القصص الشهيرة. وللموسيقى والأغاني الموقعة عليه في هذا الملعب يومان أو
ثلاثة تحل فيها محل الأدبيات والوقائع التمثيلية، وأنا أذهب إليه في بعض الأحيان
لسببين أولهما ترويح نفسي من عناء الدرس، وثانيهما إيلافها أصوات اللغة الألمانية؛
فمن نحو شهر ابتدأت قينة بافييرية [5] فتية تغني على الموسيقى هناك، وكان أول
ما غنته (قصة النبي) من توقيع مايربير فبلغت من الإجادة في تغنيتها إلى حد أن
جميع طلبة الجامعة كانوا يلهجون بذكرها كأنها آية من الآيات؛ فجريت معهم في
مصاف الإعجاب بها ولما انطلقت إلى الملعب؛ ورأيتها في باحة التمثيل كان كلي
عيونًا تبصر، وآذانًا تسمع، وليس صوتها هو الذي اشتد إعجابي به مع كونه من
أندى الأصوات وأندرها، بل الذي ملأني إعجابًا هو ما في تغنيتها من الروح، بل ما
في خلقها من الحسن والإتقان فبتُّ ليلي كله أحلم بها، ولا يفارقني طيفها، وكنت
أراها بين الأفلاك السماوية، وأسمع أنغام الكواكب الموسيقية؛ فكأن فيثاغورس [6]
كان يحب قينة عندما كان يحدث تلاميذه عن حسن ألحان النجوم.
ولخوفي من انقضاء إعجابي بها فيما يلي من التمثيل عاهدت نفسي على أن لا
أتخلف إلى الملعب ليالي تغنيتها، ولكني ما استطعت أن أوفي بعهدي وقد انتفى
عني كثيرًا خوف إقلالي من التحمس في حبها بما اكتشفته فيها على توالي الأيام من
الخصائص الجمة التي لم أكن لاحظتها من قبل، ولا بد من الاعتراف لَكِي بأني كنت
أجلس من الصف المواجه لباحة التمثيل بحيث أكون مرئيًّا لها، وقد حسب لحظي
مرة أو مرتين أنه لاقى لحظها ... ولكن ربما كان هذا ضلالاً، ومع أن التمثيل
كان يمكث أكثر من أربع ساعات كنت دائمًا أجده في غاية القصر، وأغادر مقعدي
في ختامه وقلبي مفعم بما لا يوصف من الاضطراب.
خطر في ذهني أن أخاطبها بأبيات من الشعر أنظمها وأرسلها إليها غير ممضاة
مني على يد بواب (الملعب) الهَرِم؛ ففعلت؛ وكنت أقول في نفسي وقت نظمها أن
أقل فائدة لي منها أن تعلم أن واحدًا من الناس يحبها، ولكنها كانت أبياتًا رديئة وأقر
بأنها ما كانت تؤدي نصف ما كنت أضمره لها من عواطف الميل وهذا ما دعاني
إلى عدم الاعتقاد بصحة ما قيل من أن الشعر من لوازم الحب كما قرأته ذات مرة
في بعض الكتب، وليس في قدرة أحد ممن عدا المصطفين من الخلق أن يعبر عن
كل ما يجده في نفسه، ويا ليتني كنت واحدًا من هؤلاء النوابغ الممتازين.
كنت من مساعي في القرب من هذه الفتاة واقفًا عند الحد الذي بينته لك فبينما
أنا في يوم من أيام الآحاد أجوب المنتزه الذي تجتمع فيه نساء المدينة في نحو
الساعة الثانية بعد الظهر؛ إذا بها أقبلت آخذة نحوي في مخرف؛ فخطر ببالي أولاً
أن أتنكب هذا المخرف لسلوك إحدى السبل المقاطعة له؛ لأنه كان يخيل لي أن
سأصفق مما قام بنفسي من ضروب الانفعال والاضطراب غير أني تثبت ومشيت
مشيت الجندي الباسل الذاهب إلى حومة الوغى فرأيتها في بزة بالغة من الرونق
غايته على بساطتها. وارباه! كم وددت لو كنت في تلك الساعة قفازها أو زهرة
قلنسوتها أو مظلتها التي تقيها حر الشمس؟ أقول ذلك وإني لأعلم أنه كان مني
قبيحًا ولكن لا ينبغي أن أكتم عنك شيئًا من مواضع ضعفي.
إن في اللحظ خاصة الجذب فإني كنت آنس من لحظي إذا رنوت إليها أن كله
إقرار، وتصريح بالحب، ولما مر كل منا حذاء صاحبه جرى على وجهي لألاء
حسنها كما يجري لمعان البرق، ولم أجسر على الالتفات خلفي إلا بعد أن جاوزتها
بثلاثين خطوة فرأيتها قد بعدت عني مهرولة غير أني بصرت في المسافة التي بيني
وبينها بشيء أبيض يخفق خفوق جناح الحمامة من صفق الريح إياه فما تريثت في
التقاطه فإذا هو منديلها قد سقط منها ... أو تعمدت إسقاطه فعدوت خلفها ودفعته
إليها فأظهرت الدهش من ضياعه، وتلطفت في إسدائي الشكر على رده وراقني أن
سمعتها تحسن التكلم بالفرنسية فلاح في ذهني أن أعرفها أني صاحب الشعر الذي
أرسل إليها، ولكني كنت من شدة الاضطراب الذي استولى على نفسي بحيث لم
أستطع تحريك شفتي بكلمة ما، ولا بد أن تكون حسبتني أبله.
يزعم العارفون بتركيب الحيوان، ومنافع أعضائه، أن الذاكرة لا تحفظ
الروائح وعذرهم في ذلك أنهم لم يحبوا في حياتهم؛ فإن منديلها وهو قطعة من
النسيج الباتستي [7] الرقيق كان يتضوع عن عطر لطيف لن أنساه ما دمت حيًّا. وفي
اليوم التالي لهذا اللقاء انطلقت إلى ما حول المدينة من الربى الزاهرة فجنيت باقة من
ألطف ما وجدته من الزهور البرية وأدلها على العفاف، ولما حان وقت التمثيل
خبأتها في قلنسوتي المدرسية وأخذت مجلسي في الملعب فغنت كعادتها بصوت يسمو
بسامعيه إلى السحاب؛ ولكن كان يخيل إلي أن هذه المرأة التي لاقيتها في الطريق
أمس ذلك اليوم أكمل من قينة، وإن كان استعدادها للتغنية مثارًا للإعجاب وبعد أن
انتهت من غنائها وانصرفت استعادها جميع السامعين فهطلت حولها باقات الزهر من
غرف الملعب والكراسي المقابلة لباحته، وآن لي أن ألقي إليها باقتي فاهتمت غاية
الاهتمام بأن تبصرني عند إلقائها مع تظاهري بالاختفاء خلف جيراني وما أدراك ما
فعلته حينئذ؟ لقد أهملت كل ما ألقاه غيري من الأزهار النادرة مثل زهرة الكامللية [8]
وزهر التين الهندي، والورد ذي الأسنة، وعمدت إلى باقتي الحقيرة المؤلفة
من أزهار برية فتناولتها وضمتها إلى قلبها، أفلا ترين في ذلك برهانًا على حبها لي؟
ستقولين لي أنت لا تعرفها، وقد تكون مخالفة تمام المخالفة لما تخيلته منها
وأنه كان ينبغي لك قبل أن تعلل نفسك بالأماني والأوهام أن تكون على بينة من
أخلاقها وكيفية معيشتها فأجيبك إن هذا أيضًا لم يفتني، وأقر بأني لم أقف من تحري سيرتها إلا على أخبار لا يزال فيها شيء من الغموض، ولم يجتمع لدي في هذا
الصدد إلا أقوال في غاية التعارض والتناقض، فأنت تعلمين مقدار ما للشبان فيما
بينهم من القسوة على النساء، ولا سيما الممثلات فقد بلغ الحسد من إفساد خلق الإنسان
إلى حد أن جعل من لذَّاته تمزيق أعراضهن مع ما لهن من الملكات التي هي مناط
الاستحسان العام ولست بمخفٍ عنك شيئًا مما يقولون؛ فبعضهم ينسب لها من هنات
الشباب ما يغير دمي، ويثير غضبي، وبعضهم يقول: إنها تعيش مع أمها في حي
منعزل عن المدينة، وقد أراني الطلبة هذه الأم تصحبها ليلاً عند خروجها من الملعب
من عامة النساء قد ذر شاربها، وإني لمتألم من تصور أن مثل تلك الزهرة قد نبتت
من هذه المدرة، ومهما يكن من وضاعة أصل تلك الجارية فمن الأفضل أن تعامل
بجميع ما يجب لفتاة مخلصة مثلها من صنوف الرعاية والتكريم.
على أننا إذا سلمنا حصول أسوأ ما يتأتى حصوله منها، وفرضنا أن سيرتها لم
تكن دائمًا، أفلا يكون الذنب في ذلك على مهنتها، وعلى من يعاشرونها من الناس؟
إني أراها بالغة من الظرف والكياسة مبلغًا أستبعد معه أن لا تكون لها نفس زكية،
وربما لم يتفق لها في حياتها أن تمثل لها الحب الصحيح المطهر للنفس بشرًا فاضلاً
كريمًا. وارباه أي فخر أناله لو أبيح لي أن أمد يدي إلى تلك الروح الملكية فأنتشلها
من درك الانحطاط الذي هبطت فيه لتعود إلى نور الهدى والفضيلة.
ها أنا ذا قد كشفت لك مكنون سري ونجوت بهذا الاعتراف من شديد زجر
سريرتي والآن أقع بين يديك راجيًا منك غفران خطيئتي. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب من باب تربية الشباب من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
(1) ميداس: بحسب ما جاء في أساطير اليونان هو ملك فريجيا وهي قطر من أقطار آسيا الصغرى اشتهر بواقعتين نذكر إحداهما فقط لاختصاصها بهذا الموضوع وهي أن أبولون بن المشترى حكمه في المناظرة التي قامت بينه وبين بان إله الرعاة في الموسيقى والشعر والفنون وكان بان صديقًا للملك فحكم له فلم يكتف أبولون في الانتقام من ميداس بسلخ جلده حيًّا بل جعل له بدلاً من أذنيه أذني حمار فغطاهما ميداس بتاج حتى لا يظهرا للناس ولما علم أن حلاقه لا بد له من رؤيتهما عاهده على كتمان أمرهما ولكن الحلاق لم يلبث أن ثقل عليه الكتمان فاحتفر حفرة في الأرض بمعزل عن الناس وأسر فيه قوله أن للملك ميداس أذني حمار فاتفق بعد حين أن نبتت في هذا المكان قصبات كانت كلما هزتها الريح كررت هذا القول.
(2) مريم استوارت هي بنت يعقوب الخامس ملك إيقوسيا ومريم لورين ولدت سنة 1542 م وماتت سنة 1587 تزوجت بولي عهد فرنسا (من أول حكم فرنسيس الثاني) وبعد موت زوجها رجعت إلى ايقوسيا وتزوجت بهنري درنلي ثم بالكونت بوتويل ثم ثار عليها رعاياها فلاذت باليصابات ملكة إنكلترا التي حبستها 19 سنة ثم أمرت بإعدامها.
(3) شيلار شاعر ألماني شهير ولد سنة 1759 م ومات سنة 1805 ومن أشهر قصصه المحزنة النهبة، ووالا نشنين، وغليوم تل.
(4) غويت واسمه جان ولف جانج هو أكبر كاتب ألماني ولد في فرنك فور سيرلين سنة 1749 م ومات سنة 1832 وفوست اسم لشخص خرافي مشهور في حكايات الألمان بأنه تعاهد مع الشيطان.
(5) نسبة إلى بافيير إحدى ولايات ألمانيا.
(6) فيثاغورس فليسوف يوناني ولد في ساموس سنة 569 ق م ومات سنة 470 أقام بمصر وبابليون مدة طويلة ثم رجع إلى بلاد اليونان وأسس مدرسة في كروتون وهو أول من قال بالتناسخ وعرف نظام العالم الحقيقي.
(7) الباتستي نسبة إلى باتست وهو أول صانع لهذا النسيج.
(8) الكامللية زهرة يابانية جلبها إلى أوروبا مرسل ديني اسمه كامللي فنسبت إليه.(8/593)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تأبين الأستاذ الإمام
في يوم الجمعة (17 جمادى الثانية 18 أغسطس) اجتمع خواص الناس من
العلماء والأدباء والوجهاء من المسلمين وغيرهم عند قبر الأستاذ الإمام حكيم الشرق
وحجة الإسلام الشيخ محمد عبده لتأبينه ورثائه وكان عدد المجتمعين عظيمًا، كما
كان ينتظر أو أكثر مما كان ينتظر فقد غص بهم المكان المعروف بالحوش والبطحاء
التي أمامه ورجع خلائق أمّوا المكان فلم يجدوا مقعدًا ولا موقفًا.
قام حسن باشا عاصم الذي كان رئيس الديوان الخديوي من قبل بعد تلاوة أحد
القراء آيات من الكتاب العزيز فألقى على الحاضرين سيرة الإمام، بالاختصار
اللائق بالمقام، وتلاه الشيخ أحمد أبو خطوة القاضي في المحكمة الشرعية الكبرى،
وأحد أكابر المدرسين في الجامع الأزهر وطفق يسرد ما كان للفقيد - عليه الرضوان -
من خدمة العلم والدين والإصلاح الصوري والمعنوي في الأزهر والمحاكم الشرعية،
وما له من الأيادي البيضاء على العلم والعلماء، وقد ضعف صوته أن يصل إلى
آذان الحاضرين جليًّا فامتدت الأعناق، وكاد يضطرب الجمع فاستناب عنه محمد
أفندي سعودي أحد كتاب المحكمة بعد الاعتذار. ثم قام حسن باشا عبد الرازق أحد
أعضاء مجلس الشورى فذكر من فضائل الفقيد وفواضله، وآثاره ومآثره ما شاء الله
أن يذكر، وتوسع بعض التوسع في أثره -رحمه الله تعالى - في مجلس الشورى،
وكيف كان صاحب الرأي الأعلى حتى ارتقى به المجلس، وزال ما كان عنه وبين
الحكومة من سوء التفاهم. وتقفاه قاسم بك أمين القاضي في محكمة الاستئناف
الأهلية فذكر مكانة الفقيد في الأمة، وما امتاز به من المزايا الجمة، وكيف وقف
نفسه على إصلاح أمته، وكان قدوة صالحة في علمه وسيرته، وكيف ارتقى بجده
وعلمه وعقله وقوة إرادته إلى مقام مكنه من الأخذ بزمام أمة بأسرها، وسوقها إلى
المستقبل الذي هيأه لها، وهو مقام الأمة بأوسع معناها.
تلا هؤلاء الخطباء أشعر الشعراء في هذا العصر حفني بك ناصف القاضي
بمحكمة مصر الأهلية وحافظ أفندي إبراهيم فأنشد كل منهما مرثية أبكت السامعين
بعد ما كدنا نظن أن تلك الخطب المؤثرة قد استنزفت الشؤون من العيون. فأما
مرثية (حافظ) فقد نشرناها في جزء سابق وأمّا مرثية (حفني) فسننشرها
مع سائر المراثي والتأبين من تاريخ الأستاذ الإمام رحمه الله - تعالى - رحمة
واسعة.
ثم ختم الاحتفال كما بدئ بتلاوة آيات القرآن الحكيم، وانفض الجمع وهم
يستمطرون الرحمة لفقيد الشرق والإسلام، ويسألون الله أن ينفع بسيرته الأنام، وقد
رأوا أن هؤلاء المؤمنين الذين يمثلون الطبقات العليا في الأمة على ما لهم من الصفة
الرسمية قد سجلوا مناقب الفقيد على رؤوس الأشهاد وأقرهم الألوف على ذلك.
سبق للأدباء والوجهاء في مصر أن اجتمعوا لتأبين ثلاثة رجال: شفيق بك
منصور يكن الذي كان قاضيًا في محكمة الاستئناف ثم رئيسًا للنيابة فيها ووكيلاً
للنائب العمومي (المتوفى سنة 1308) وعلي باشا مبارك ناظر المعارف الذي
خدمها في مصر بهمة واجتهاد وإخلاص بقدر ما سمحت له قدرته وحال البلاد
(المتوفى سنة1311) ومحمود سامي باشا البارودي وما العهد به ببعيد.
كل أولئك في قومه انفرد بالسبق في بعض المزايا، حتى لم يكن في عصره
من يزاحمه في مزيته فيدعي مساواته فيها، وكأنك بهذه الأمة التي زادتها الحرية
الشخصية فوضى وتهجمًا من الوضيع على محاكاة الرفيع فيما تسهل المحاكاة فيه ممّا
كان عن الرفعة دون ما كانت به الرفعة قد صارت تجتمع لتأبين من ليس لهم فيها
أثر يذكر، ولا ذكر يرفع إجابة لدعوة أهليهم وأصدقائهم حتى لا يبقى لمثل هذا
الاجتماع مزية يحفظها التاريخ أو يحفل بها المؤرخ.
قد بلغ الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى من المكانة العالية والشهرة الواسعة أن
صارت الأبصار تشخص، والقلوب من ورائها تتلفت إلى كل ما كان يكون منه أو
يصدر عنه أو يعمل أو يقال فيه وهذا ما أحسب أن يجعل تأبينه سببًا لإجلال التأبين
وحمل المقلدين على الرغبة فيه وهذا هو الذي يجعل التأبين بعد اليوم محاكاة لإجلال
الأمة لمن يؤبن لا حكاية عنه إذ يعز أن تنجذب قلوب جميع الطبقات في الأمة
لمجتمع يشاد فيه بذكر رجل يُعدّ خادمها الأمين، وإمامها في العلم والعمل والدين،
أو ينبغ فيها من يساهم الرجل في فضائله، ويكون له في الأمة ولو بعض فواضله،
فتأبين الأستاذ الإمام هو الذي جعل للتأبين شرفًا يرغب فيه ويحمل على محاكاته
وهو الذي يسلبه هذا الشرف إذا كان لغير مستحقه وإذا فهم المقلدون هذه الحقيقة
فإنهم يكرمون من يفقدون من ذوي القربى أو الصداقة بترك الدعوة إلى تأبينهم
ويتركون هذا الأمر إلى الأمة نفسها يقترحه فضلاؤها وكتابها لمن يرونه أهلاً له في
المستقبل فيكون كما ينبغي أن يكون، ولله في خلقه شؤون.
__________(8/597)
الكاتب: إدوارد برون
__________
كتاب تعزية من عالم إنكليزي
كتب مستر إدوارد برون أحد علماء الإنكليز الأعلام - المدرس في مدرسة
كمبردج الجامعة - الكتاب الآتي بالعربية إلى حمودة بك عبده يعزيه به عن أخيه
الأستاذ الإمام؛ فنشرناه هنا تنويهًا بإنصاف كاتبه وفضله وتنبيهًا للأذهان على ما
كان لإمام الشرق في نفوس علماء الغرب ليعلم من لم يكن يعلم أن تعارف إمامنا
بالإفرنج؛ قد كان حجة للإسلام وشرفًا للمسلمين. قال الكاتب:
سيدي الفاضل المكرم:
لا أعلم بأي لسان أعزيكم وكل المصريين - بل كل العالمين - على هذه
المصيبة التي عمّت الناس كلهم أجمعين، وخصت المصريين، ومنذ ورود هذا
الخبر الهائل رُب يوم أردت أن آخذ القلم بأصابعي لكي أعرب عما في القلب من
الحزن والغم الشديد ووضعته يأسًا وعجزًا لأن هذه المصيبة وراء الكلام:
خبر ما نابنا مصمئل ... جل حتى دق فيه الأجل
يا سيدي في مدة عمري رأيت كثيرًا من البلاد والعباد، وما رأيت مثل الفقيد
المرحوم قط لا في الشرق ولا في الغرب؛ فوالله كان وحيدًا في العلم، وحيدًا في
التقوى والورع، وحيدًا في البصيرة والاطلاع على ظواهر الأمور وبواطنها،
وحيدًا في البلاغة والفصاحة، عالمًا عاملاً، محسنًا ورعًا، مجاهدًا في سبيل الله
محبًّا للعلم ملجأ للفقراء والمساكين.
شامسًا في القر حتى إذا ما ... زكت الشعرى فبرد وظل
كيف أصف بهذا اللسان العاجز هذا الرجل الوحيد الفقيد الذي كنت أفتخر بأن
أحسب من أقل تلامذته إنما أرجو من سيدي أن يقبل مني تعزية من قلب حزين غير
قابل للتسلي على هذا الفقدان العظيم.
أريد إن شاء الله أن أكتب شيئًا باللغة الإنكليزية في ترجمة حال الفقيد، وقد
جمعت كل ما وجد في الجرائد العربية في هذا الباب وأرجو من حضرتك أن
تعينوني في ذلك بإرسال الترجمة الموعودة في المؤيد إذا طبع على حدة لكي أستفيد
بما فيه من المعلومات. فتقبل يا سيدي المكرم في الختام أخلص تعزيتي وأزكى
السلام.
المخلص
... إدواربرون
__________(8/600)
16 شعبان - 1323هـ
15 أكتوبر - 1905م(8/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مذهب السلف
وطريقة الحنابلة في التأليف
نموذج من مقدمات شرح عقيدة السفاريني الذي نطبعه في هذه الأيام المسمى (لوائح الأنوار البهية، وسواطح الأسرار الأثرية، لشرح الدرة
المضية، في عقيدة الفرقة المرضية) قال:
السابع
المراد بمذهب السلف ما كان عليه الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم -
وأعيان التابعين لهم بإحسان، وأئمة الدين ممن شُهد له بالإمامة، وعرف عظم شأنه
في الدين، وتلقى الناس كلامهم خلف عن سلف دون من رُمي ببدعة أو شُهر بلقب
غير مرضي مثل الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، والجبرية،
والجهمية، والمعتزلة، والكرامية، ونحو هؤلاء مما يأتي ذكرهم عند تعداد الفرق
لكن لما كان فشو البدع وظهورها كان بعد المائتين لما عُرِبَت الكتب العجمية كما
تقدم وزاد البلاء، وأظهر المأمون القول بخلق القرآن، وظهر مذهب الاعتزال
ظهورًا لا مزيد عليه بسبب انحراف الخلفاء عن مذهب الحق، وكان الذي قام في
نحورهم ورد مقالاتهم، وإبطال مذهبهم، وتزييفه، وذم من ذهب إليه أو عول عليه
أو انتمى إلى ذويه أو ناضل عنه أو مال إليه - سيدنا وقدوتنا الإمام المبجل والحبر
البحر المفضل أبا عبد الله الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، نسب مذهب السلف إليه
وعول أهل عصره من أهل الحق فمن بعدهم عليه وإلا فهو المذهب المأثور،
والحق الثابت المشهور لسائر أئمة الدين، وأعيان الأمة المقدمين.
قال حرب بن إسماعيل الكرماني في كتابه المصنف في مسائل الإمام أحمد بن
حنبل - رضي الله عنه - وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه مع ما ذكر فيها من
الآثار عن النبي المختار، والصحابة الأبرار، والتابعين الأطهار، ومن بعدهم.
قال: هذا مذهب أئمة العلم، وأصحاب الأثر المعروفين بالسنة المقتدى بهم فيها،
وأدركت من أدركت من علماء العراق والحجاز والشام عليها، فمن خالف شيئًا من
هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن
سبيل السنة ومنهج الحق، قال: وهو مذهب الإمام أحمد وإسحاق وبقي بن مَخْلد
وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم
العلم فذكر الكلام في الإيمان، والقدر، والوعيد، والإمام ... إلخ كلامه، كما سننبه
عليه في محالِّه.
وممن ألف في عقائد السلف، وذكر معتقدهم في كتب التفسير المنقولة عن
السلف مثل تفسير عبد الرزاق وتفسير الإمام أحمد وإسحاق وبقي بن مخلد وعبد
الرحمن بن إبراهيم دُحيم وعبد بن حميد وعبد الرحمن بن أبي حاتم ومحمد بن
جرير الطبري وأبي بكر بن المنذر وأبي بكر عبد العزيز وأبي الشيخ الأصفهاني
وأبي بكر بن مردويه وغيرهم، وكل الكتب المصنفة في السنة، والرد على
الجهمية، وأصول الدين المنقولة عن السلف مثل كتاب الرد على الجهمية لمحمد بن
عبد الله الجعفي شيخ البخاري وكتاب (خلق الأفعال) للبخاري، وكتاب السنة لأبي
داود ولأبي بكر الأثرم ولعبد الله بن الإمام أحمد ولحنبل بن إسحاق ولأبي بكر الخلال
ولأبي الشيخ الأصفهاني ولأبي القاسم الطبراني ولأبي عبد الله ابن منده وأمثالهم،
وكتاب الشريعة لأبي بكر الآجري والإبانة لأبي عبد الله بن بطة وكتاب الأصول
لأبي عبد الله الطلمنكي وكتاب رد عثمان بن سعيد الدارمي وكتاب الرد على الجهمية
له وغير ذلك فالأئمة الأربعة والسفيانان والحمادان وابن أبي شيبة والليث بن سعد
وابن أبي ذئب وربيعة بن عبد الرحمن والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن خزيمة وابن ماجه وابن حبان وأبو ثور وابن جريج والأوزاعي
وابن الماجشون وابن أبي ليلى وأبو عبيد بن سلام ومسعر بن كدام الإمام ومحمد بن
يحيى الذهلي إمام أهل خراسان بعد إسحاق بلا مدافعة وأبو حاتم الرازي ومحمد
بن نصر المروزي، وغير هؤلاء كلهم عقيدة واحدة سلفية أثرية، وإن كان الاشتهار
للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه للعلة التي ذكرناها حتى أن الشيخ أبا الحسن
الأشعري قال في كتابه -الإبانة في أصول الديانة- ما نصه بحروفه: (فإن قال
قائل قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة،
والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون- قيل له: قولنا الذي
به نقول، وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله، وسنة نبيه- صلى الله عليه
وسلم - وما روي عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث؛ فنحن بذلك معتصمون،
وبما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل - نضر الله وجهه - قائلون، ولمن خالف قوله
مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور
الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به المبتدعين؛ فرحمة الله عليه من إمام مقدم
وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين) انتهى. فنسب المذهب إليه لاشتهاره بذلك مع
أن سائر أئمة الدين سلكوا تلك المسالك، وبالله التوفيق.
***
الثامن
قال الجلال السيوطي في الأوائل: أول من تفوه بكلمة خبيثة في الاعتقاد الجعد
بن درهم، مؤدب مروان الحمار آخر ملوك بني أمية فقال بأن الله تعالى لا يتكلم،
قال شيخ الإسلام في الرسالة الحموية الكبرى: أصل فشو البدع بعد القرون الثلاثة،
وإن كان قد نبع أصلها في أواخر عصر التابعين، قال: ثم أصل مقالة التعطيل
للصفات إنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين، وضلال الصابئين؛ فإن أول
من حُفظ عنه قال هذه المقالة في الإسلام هو (الجعد بن درهم) وأخذها عنه الجهم
بن صفوان، وأظهرها فنسبت إليه، وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن
سمعان وأخذها أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي
سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان الجعد هذا فيما قيل من أهل حران،
وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين النمرود الكنعانيين الذين
صنف بعض الساحرين في سحرهم، والنمرود هو ملك الصابئة، كما أن كسرى
ملك الفرس، والمجوس فهم اسم جنس لا اسم علم قال وكانت الصابئة إذ ذاك إلا
قليلاً منهم على الشرك وعلماؤهم الفلاسفة، وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركًا بل
مؤمنًا بالله واليوم الآخر كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى
وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) لكن كثيرًا منهم أو أكثرهم كانوا كفارًا
ومشركين، وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل، ومذهبهم مذهب النفاة الذين
يقولون ليس له صفات إلا سلبية أو إضافية أو مركبة منها، وهم الذين بعث سيدنا
إبراهيم خليل الرحمن إليهم؛ فيكون الجعد أخذ عقيدته عن الصابئة الفلاسفة وأخذها
الجهم أيضًا- في ما ذكره الإمام أحمد -رضي الله عنه - عنه، وعن غيره وكذلك
أبو نصر الفارابي دخل حران وأخذ عن فلاسفة الصابئة تمام فلسفته لما ناظر
السمنية بعض فلاسفة الهند وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات، فرجعت
أسانيد الجهم إلى اليهود والصابئين والمشركين والفلاسفة الضالين، إما من الصابئين
وإما من المشركين، فلما عربت الكتب الرومية؛ زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان
في قلوب أهل الضلال ابتداء من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم.
ولما كان بعد المائة الثانية انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة
الجهمية بسبب بشر بن غياث المريسي وذويه. وكلام الأئمة مالك، وسفيان بن
عيينة، وابن المبارك، وأبي يوسف، والشافعي، وأحمد، وإسحاق،
والفضيل بن عياض، وبشر الحافي، وغيرهم في هؤلاء في ذمهم وتضليلهم -
معروف، وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي
ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب (التأويلات) وأبو عبد الله محمد بن عمر
الرازي في كتابه الذي سماه (تأسيس التقديس) ويوجد كثير منها في كلام خلق غير
هؤلاء مثل أبي علي الجبائي، وعبد الجبار بن أحمد الهمداني، وأبي الحسين
البصري وغيرهم هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي في كتابه كما
يعلم ذلك من كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير
في زمن البخاري وسمى كتابه (رد عثمان بن سعيد، على الكاذب العنيد، فيما
افترى من التوحيد) فإنه حكى هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي، ثم ردها
بكلام؛ إذا طالعه العاقل الذكي يسلم حقيقة ما كان عليه السلف، ويتبين له ظهور
الحجة لطريقهم، وضعف حجة من خالفهم، وقد أجمع أئمة الهدى على ذم المريسية،
بل أكثرهم كفرهم وضللهم، ويعلم بمطالعة كتاب ابن سعيد الدارمي أن
هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين الذين تسموا بالخلف هو مذهب المريسية؛
فلا حول ولا قوة إلا بالله؛ فمذهب السلف حق بين باطلين وهدى بين ضلالين، قال
سيدنا الإمام أحمد -رضي الله عنه-: لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه،
ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا نتجاوز القرآن والحديث. قال شيخ الإسلام ابن تيمية روَّح الله روحه: مذهب السلف أنهم يصفون الله تعالى بما
وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف
ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فالمعطل يعبد عدمًا، والممثل يعبد
صنمًا، والمسلم يعبد إله الأرض والسماء، والله أعلم.
***
التاسع
مذهب السلف هو المذهب المنصور والحق الثابت المأثور، وأهله هم الفرقة
الناجية والطائفة المرحومة التي هي بكل خير فائزة، ولكل مكرمة راجية من
الشفاعة والورود على الحوض ورؤية الحق وغير ذلك من سلامة الصدر والإيمان
بالقدر والتسليم بما جاءت به النصوص؛ فمن المحال أن يكون الخالفون أعلم من
السالفين كما يقوله بعض من لا تحقيق لديه - ممن لا يقدر قدر السلف، ولا عرف
الله تعالى ولا رسوله ولا المؤمنين به حق المعرفة المأمور بها - من أن طريقة
السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وهؤلاء إنما أوتوا من حيث ظنوا أن طريقة
السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ذلك بمنزلة الأميين
وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع
المجازات وغرائب اللغات، فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ
الإسلام وراء الظهور، وقد كذبوا وأفكوا على طريقة السلف وضلوا في تصويب
طريقة الخلف، فجمعوا بين باطلين: الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم،
والجهل والضلال بتصويب طريقة غيرهم.
قال الحافظ ابن رجب في كتابه (بيان فضل علم السلف على علم الخلف)
ما نصه: ومن محدثات الأمور ما أحدثه المعتزلة ومن حذا حذوهم من الكلام في
ذات الله تعالى وصفاته بأدلة العقول وهي أشد خطرًا من الكلام في القدر؛ لأن
الكلام في القدر كلام في أفعاله، وهذا كلام في ذاته وصفاته وينقسم هؤلاء إلى
قسمين: أحدهما من نفى كثيرًا مما ورد به الكتاب والسنة لاستلزامه عنده التشبيه؛
كنفي الرؤية والاستواء، وهذا طريق المعتزلة، والجهمية، وقد اتفق السلف
على تبديعهم وتضليلهم، وقد سلك سبيلهم في بعض الأمور كثير ممن ينتسب إلى
السنة والحديث من المتأخرين، والثاني: من رام إثبات ذلك بأدلة العقول التي لم
يرد بها الأثر ورد على أولئك مقالتهم، كالكرامية ومن وافقهم حتى إن منهم من أثبت
الجسم إما لفظًا، وإما معنى، ومنهم من أثبت له تعالى صفات لم يأت بها الكتاب والسنة كالحركة، وقد أنكر السلف على مقاتل رده على جهم بأدلة العقل، وبالغوا
في الطعن عليه.
والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها
جاءت من غير تكييف ولا تمثيل، ولا يصح عن أحد من السلف خلاف ذلك ألبتة
خصوصًا الإمام أحمد - رضي الله عنه - ولا خوض في معانيها ولا ضرب مثل
لها، وإن كان بعض من كان قريبًا من زمنه فيهم من فعل ذلك من ذلك اتباعًا لطريقة
مقاتل بن سليمان فلا يقتدى به في ذلك وإنما الاقتداء بأئمة الإسلام كابن المبارك
ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ونحوهم -
رضي الله عنهم - فكل هؤلاء لا يوجد في كلامهم شيء من جنس كلام المتكلمين،
فضلاً عن كلام الفلاسفة، ولم يدخل ذلك في كلام من سلم من قدح وجرح، وقد قال
أبو زرعة الرازي: (كل من كان عنده علم فلم يَصُنْ علمه واحتاج في نشره إلى
شيء من الكلام فلستم منه) وقال الحافظ ابن رجب أيضًا: وفي زماننا
تتعين كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي
عبيد، وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة
وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم وهو أشد
مخالفة لها لشذوذه عن الأمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه أو بأخذ ما لم تأخذ به الأمة من قبله، وأما الدخول مع ذلك في كلام المتكلمين والفلاسفة فشر محض، وقل من
دخل في شيء من ذلك إلا وتلطخ ببعض أوضارهم، كما قال الإمام أحمد - رضي
الله عنه -: (لا يخلو مَنْ نظر في الكلام إلا تجهم) وكان هو وغيره يُحذِّرون
من أهل الكلام، وإن ذبوا عن السنة.
وأما ما يوجد في كلام من أحب الكلام المحدث، واتبع أهله من ذم من لا
يتوسع في الخصومات والجدال، ونسبته إلى الجهل أو الحشو أو إلى أنه غير
عارف بالله أو بدينه فمن خطوات الشيطان نعوذ بالله منه. (انتهى ملخصًا) .
وفي الآداب للعلامة ابن مفلح رحمه الله - تعالى - عن الطبراني قال: حدثنا
عبد الله ابن الإمام أحمد قال: حدثني أبي قال: (قبور أهل السنة من أهل الكبائر
روضة وقبور أهل البدعة من الزنادقة حفرة، فُساق أهل السنة أولياء الله، وزهاد
أهل البدعة أعداء الله) وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا
يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها) وخرجه أهل السنن من
وجوه متعددة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي بعضها (ومن دعاء لا يسمع)
وفي بعضها (أعوذ بك من هؤلاء الأربع) وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة
-رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: (اللهم انفعني
بما علمتني وعلمني ما ينفعني) ورواه النسائي من حديث أنس - رضي الله عنه-
وزاد (وارزقني علمًا تنفعني به) ويأتي الكلام على هذا بأبسط من هذا في المقدمة،
والله أعلم.
(المنار)
كنا عند الابتداء بالاشتغال بعلم الكلام نرى في الكتب خلاف الحنابلة فنحسب
أنهم قوم جمدوا على ظواهر النقول ما فهموها حق فهمها، ولا عرفوا حقائق العلوم
وطابقوا بين النقل وبينها، وأن كتب الأشاعرة هي وحدها منبع الدين وطريق
اليقين، ثم اطلعنا على كتب القوم؛ فإذا هي الكتب التي تجلِّي للمسلمين طريقة
السلف المثلى، وتورد الناس موردهم الأحلى، وإذا بقارئها يشعر ببشاشة الإيمان،
ويحس بسريان برد الإيقان؛ وإذا الفرق بينها وبين كتب الأشاعرة كالفرق بين من
يمشي على الصراط السوي، ومن يسبح في بحر لجي، تتدافعه أمواج الشكوك
الفلسفية، وتتجاذبه تيارات المباحث النظرية، وقد ظهر لي إذ تبينت أن مذهب
السلف الصالح أسلم وأعلم وأحكم أن هذا من دلائل صدق النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم؛ لأن المسلمين بعد أن نظروا في فلسفة الحكماء الإلهيين، وخاضوا
في جميع علوم الأولين، لم يأتوا بشيء في توثيق عقد الإيمان، ولا بالوصول إلى
الحق بالبرهان، إلا بدون ما جاء به القرآن، ولو كان هذا القرآن من وضع البشر
لارتقوا عنه بعد خروجهم من الأمية وتوغلهم في العلوم العقلية من رياضية
وطبيعية وفلسفية، ومما تفضل به كتب الحنابلة سائر الكتب أنها يحتاج إليها في كل
زمان، وكتب الأشاعرة قد استغنى الناس عن معظم نظرياتها الآن؛ لأن معظمها من
الفلسفة اليونانية، وقد نسخت، وفي مناظرة فرقة المعتزلة، وقد انقرضت. نعم، لا
أقول: إن كل ما كتب الحنابلة من المسائل والمباحث صواب، وإنها معصومة من
الخطأ؛ فإليها المرجع والمآب، فإن العصمة لكتاب الله وحده {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ
غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) .
__________(8/614)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إعطاء الزكاة والصدقة للشرفاء
ومعاملتهم
(س 30) عوض بن جمعان سعيدان في (سنغافوره) ما قولكم سيدي في
إعطاء الزكوات لمن صح انتسابهم إلى الإمام الحسين بن علي عليهما السلام صحة
لا مرية فيها يعتقدها المُعْطَى والمُعْطِي اعتقادًا جازمًا مع علمهما بالنهي الوارد فيه،
وتعليل الشارع عليه الصلاة والسلام عدم حلها لآل بيته بكونها أوساخ الناس ... إلخ.
لما ذكر من غنائهم بما لهم من خمس الخمس، وللحاجة تقليدًا لقليل من متأخري
أئمة الشافعية في تحليلهم الإعطاء والأخذ (كذا كتبت العبارة والظاهر أنه يريد بيان
علة من قال بالجواز بالحاجة مع عدم استغنائهم الآن بما لهم من خمس الخمس)
فهل ما جنح إليه أولئك القليل مما يسقط به الحرج عن الآخذ، وتبرأ به ذمة المُعْطِي
أم هو اجتهاد مع وجود النص، ونسخ لما صرح الشارع بعدم حله معللاً له بأمر
ذاتي وهو مع ذلك حظ قوم لا يتعداهم، فإعطاؤه غيرهم ظلم لهم فلا يجوز.
***
(س 31) ومنه معطوفًا على ما سبق: وفي الأموال حقوق على أهلها غير
الزكاة فما هي؟ ولما كان القصد بيان الحكم المفهوم من النصوص الشرعية بعد
ذكرها وذكر ما فهمه سلف الأمة منها وذلك مما يتعذر على أهل هذه الديار، رفعنا هذه
السطور مستمدين من المنار تحقيق المسألة خدمة للشرع كما هو ديدنه وله الشكر منا
سلفًا والأجر من الله.
(ج) روى أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة أنه قال: أخذ الحسن بن
علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فِيهِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-
(كِخٍ كِخٍ، ارم بها أما علمت أنَّا لا نأكل الصدقة) .
وروى أحمد، وأبو داود والترمذي، وصححه والنسائي وابنا خزيمة وحبان
وصححاه من حديث أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً من بني مخزوم على الصدقة فقال لأبي رافع
اصحبني كيما تصيب منها فقال: لا حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله
وانطلق فسأله فقال (إن الصدقة لا تحل لنا وإن موالي القوم من أنفسهم) .
وجاء في شرح الحديث الأول من (نيل الأوطار) ما نصه: قال ابن قدامة
(لا نعلم خلافًا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة) وكذا قال أبو طالب
من أهل البيت حكى ذلك عنه في البحر، وكذا حكى الإجماع ابن رسلان، وقد نقل
الطبري الجواز عن أبي حنيفة، وقيل عنه: تجوز لهم إذا حُرموا سهم ذوي القربى،
حكاه الطحاوي ونقله بعض المالكية عن الأبهري منهم. قال في الفتح وهو وجه
لبعض الشافعية، وحكى فيه أيضًا عن أبي يوسف أنها تحل من بعضهم لبعض لا
من غيرهم، وحكاه في البحر عن زيد بن علي والمرتضى وأبي العباس والإمامية
وحكاه في الشفاء عن ابني الهادي والقاسم العياني قال الحافظ: وعند المالكية في ذلك
أربعة أقوال مشهورة: الجواز، المنع، جواز التطوع دون الفرض، عكسه،
والأحاديث الدالة على التحريم على العموم ترد على الجميع، وقد قيل أنها متواترة
تواترًا معنويًّا، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي
القُرْبَى} (الشورى: 23) وقوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} (الفرقان:
57) ولو أحلها لآله أوشك أن يطعنوا فيه، ولقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: 103) وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه
قال: (إن الصدقة أوساخ الناس) كما رواه مسلم، وأما ما استدل به القائلون بحلها
للهاشمي من الهاشمي من حديث العباس الذي أخرجه الحاكم في النوع السابع
والثلاثين من علوم الحديث بإسناد كله من بني هاشم أن العباس بن عبد المطلب
قال: قلت: يا رسول الله إنك حرمت علينا صدقات الناس، هل تحل لنا صدقات
بعضنا لبعض؟ قال: (نعم) فهذا الحديث قد اتُّهم بعض رواته، وقد أطال صاحب
الميزان الكلام على ذلك فليس بصالح لتخصيص تلك العمومات الصحيحة. وأما
قول العلامة محمد بن إبراهيم الوزير بعد أن ساق الحديث ما لفظه: وأحسب له
متابعًا لشهرة القول به (قال) والقول به قول جماعة وافرة من أئمة العترة وأولادهم
وأتباعهم، بل ادعى بعضهم أنه إجماعهم، ولعل توارث هذا عنهم يقوي الحديث.
(انتهى) فكلام ليس على قانون الاستدلال؛ لأن مجرد الحسبان أن له متابعًا وذهاب
جماعة من أهل البيت إليه لا يدل على صحته، وأما دعوى أنهم أجمعوا عليه فباطل
باطل، ومطولات من مؤلفاتهم ومختصراتها شاهدة لذلك، وأما قول الأمير في
المنحة أنها سكنت نفسه إلى هذا الحديث بعد وجدان سنده ومعضده من دعوى الإجماع
فقد عرفت بطلان دعوى الإجماع، وكيف يصح إجماع لأهل البيت والقاسم،
والهادي، والناصر، والمؤيد بالله وجماعة من أكابرهم، بل جمهورهم خارجون
عنهم، وأما مجرد وجدان السند للحديث بدون كشف عنه فليس مما يوجد سكون
النفس.
والحاصل أن تحريم الزكاة على بني هاشم معلوم من غير الفرق بين أن
يكون المزكي هاشميًّا أو غيره؛ فلا ينفق من المعاذير عن هذا المحرم المعلوم إلا ما
صح عن الشارع لا ما لفقه الواقعون في هذه الورطة من الأعذار الواهية التي لا
تخلص، ولا ما لم يصح من الأحاديث المروية في التخصيص. ولكثرة أكلة الزكاة
من آل هاشم في بلاد اليمن خصوصًا أرباب الرياسة قام بعض العلماء منهم في الذب
عنهم، وتحليل ما حرم الله عليهم مقامًا لا يرضاه الله ولا نقاد العلماء، فألف في ذلك
رسالة هي كالسراب الذي {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} (النور: 39) وصار يتسلى بها أرباب النباهة منهم، وقد يتعلل بعضهم بما قاله
البعض منهم أن أرض اليمن خرابية، وهو لا يشعر أن هذه المقالة مع كونها من أبطل
الباطلات ليست مما يجوز التقليد فيه على مقتضى أصولهم، فالله المستعان ما أسرع
الناس إلى متابعة الهوى، وإن خالف ما هو معلوم من الشريعة المطهرة.
واعلم أن ظاهر قوله (لا تحل لنا الصدقة) عدم حل صدقة الفرض، والتطوع
وقد نقل جماعة منهم الخطابي الإجماع على تحريمها عليه صلى الله عليه وآله وسلم
وتعقب بأنه قد حكى غير واحد عن الشافعي في التطوع قولاً، وكذا في رواية عن
أحمد وقال ابن قدامة: ليس ما نقل عنه من ذلك بواضح الدلالة، وأما آل النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فقال أكثر الحنفية، وهو المصحح عن الشافعية
والحنابلة وكثير من الزيدية: إنها تجوز لهم صدقة التطوع دون الفرض، قالوا: لأن
المحرم عليهم إنما هو أوساخ الناس، وذلك هو الزكاة لا صدقة التطوع، وقال في
(البحر) : إنه خصص صدقة التطوع القياس على الهبة والهدية والوقف. وقال
أبو يوسف وأبو العباس تحرم عليهم كصدقة الفرض، لأن الدليل لم يفصل.
اهـ ما في (نيل الأوطار) .
فأنت ترى أن الحديث في تحريم الصدقة على الآل صحيح، وأن الخلاف في
حكمه ضعيف، ويزيد الخلاف ضعفًا عمل الناس بالحديث من الصدر الأول حتى
صار الحكم معلومًا من الدين بالضرورة. وأن علته تنزه النبي - صلى الله عليه
وآله وسلم - عن شبهة أخذ الأجر على النبوة، وكونها طريقًا له أو لآله إلى حطام
الدنيا، ثم حمل آله على التنزه عن أوساخ الناس ليتربوا على كرامة النفس وعزتها،
ويكونوا قدوة للناس في الترفع عن الدنايا والخسائس، وأي خسة أبلغ من رضا
الإنسان بأن يكون عالة على الناس يده السفلى وأيديهم هي العليا؟ ولو جاز في
أصل الشرع بذل الصدقات لآل البيت لقدمهم الناس فيها على غيرهم حتى لا يوشك
أن يعطوا منهم غير مستحق ويحرم المستحق من غيرهم؛ رجاء أن يكون ذلك أكثر
قبولاً عند الله تعالى، وذلك مما يحمله على ترك الكسب اتكالاً على ما يبذل الناس له
من صدقاتهم. على أنهم لم يسلموا من هذا في كثير من البلاد مع تحريم الصدقة
عليهم؛ فإن الناس يبذلون لفقرائهم من صدقة التطوع ما يبذلون، ويقدمون لوجهائهم
من الهدايا ما يقدمون، حتى صارت معايشهم فائضة من أنامل الناس يوطنون أنفسهم
عليها بطنًا بعد بطن، فانصرفت همتهم عن الكسب حتى ضعف استعدادهم له فنزل
بهم الناس في سلم الحياة الاجتماعية، وهم يحسبون أنهم صاعدون فهؤلاء الذين
يحتالون لتجويز إعطائهم الزكاة يحسبون أنهم يحسنون صنعًا بالقيام بمصلحتهم،
وسد خلتهم وفاتهم أن الشارع أعلم بهذه المصلحة وأحكم، حيث حرم عليهم ما حرم،
ومن الجهل أن يقال أن التحريم خاص بذلك الزمان، وأن لنا أن نقول بنسخه
الآن.
كذلك أضر المحبون بنا معشر الشرفاء بالغلوّ في التعظيم لمكان النسب؛ لأن هذا
كان سببًا لاقتناع الجماهير منا بهذه المكانة دون مكانة العلم والاستقلال الذاتي فإن
صغيرنا يرى الكهول والشيوخ يهوون إلى يده بالتقبيل؛ فلا يشعر بحاجته إلى كمال
آخر يرتفع به ذكره ويَعلو قدره فيكون سيدًا في الناس لجده في العلم والفضل، لا
بعمل أبيه وجده من قبل، والرأي عندي للأغنياء المحبين لآل البيت أن يساعدوهم
على الاستقلال بأنفسهم حتى يكون الناس بحاجة إلى علمهم ورفدهم ولا يكونوا هم
عالة على الناس، لا أن يلصقوا بهم أوساخهم فيجعلوهم كالقمل الذي لا يعيش إلا في
الوساخة والدرن. وأن يؤاخذوا الشريف الذي يخرج عما يليق بشرفه من قوامه
النفس، والاعتصام بأدب الشرع، ما لا يؤاخذون سواه وأن يعظموا فضائله،
ويجلو فواضله بأبلغ مما يكون لمن عداه، كما توعد الله نساء النبي بمضاعفة
عذابهن على الذنب ضعفين، ووعدهن بإيتائهن أجرهن على العمل الصالح مرتين،
وهو تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين.
وأما الحقوق التي على الإنسان في ماله غير الزكاة، فمنها الواجب كالنفقة على
من تلزمه نفقته، وكإزالة ضرورة المضطر؛ فإن من رأى معصومًا مشرفًا على
الهلاك من الجوع يجب عليه إطعامه، كما يجب عليه إنقاذ الغريق عند القدرة على
ذلك، والمراد بالمعصوم: (ما لا يباح دمه شرعًا كالمحارب) ولا يفهم من ذلك
أن غير المعصوم يحرم إغاثته مطلقًا؛ فرب إنقاذ محارب يأتي بمصلحة أو يسوق
إلى هداية. ومنها ما هو مندوب كبذل المال في وجوه الخير أيًّا كانت كالضيافة
وأنفعها في هذا الزمان إنشاء المدارس للتعليم النافع والتربية الصحيحة
والجمعيات الخيرية التي تقوم بتربية اليتامى وكفالة العاجزين ونحو ذلك من
الوجوه التي يعم نفعها حتى ترتقي بالسبق فيها أم على أمة، وتستعلي بآثارها دولة
على دولة، وناهيك بالجمعيات التي تبث الدعاة في الأقطار لهداية الخلق إلى الحق
في زمن لا يحفل ملوك المسلمين وأمراؤهم فيه بالدعوة ولا يهمهم أمر الدين. وإنك
لتجد في باب التفسير في أجزاء المنار بيانًا للآيات الكريمة التي تحض على بذل
المال في سبيل الله غير فريضة الزكاة، فلا حاجة إلى كتابة شيء من الآيات هنا
وهي كثيرة جدًّا. وكذلك الأحاديث في هذا المقام كثيرة، فإن كان يرى السائل حاجة
إلى سرد شيء منها فليكتب إلينا.
__________(8/621)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
لعن معاوية والترضي عنه
وفيه حكم اللعن مطلقًا
(س 32) ومنه: سيدي، قال لي أحد العلماء: إن من يلعن معاوية أقل
خطرًا ممن يترضى عنه، ولقصور علمي لم أحر جوابًا فهل هو مصيب فيما قال أم
مخطئ؟ أفيدونا على صفحات المنار لا زلتم مؤيدين وبعين العناية ملحوظين.
(ج) هو مخطئ بلا شبهة، فالدعاء بالخير- ومنه الترضي- من البر إلا
من قام عنده دليل قطعي على أن فلانًا مات كافرًا بالله، وأن الله غضبان عليه،
وهذا لا يُعرف إلا بوحي من الله تعالى؛ لأن المعاصي والكفر في الحياة لا يدلان
دلالة قطعية على أن صاحبيهما ماتا عليهما؛ لأن الخاتمة مجهولة بلا خلاف بين
العلماء، ولا العقلاء، وأما اللعن فهو من السفه الذي لا ينبغي للمؤمن، وقد قال
صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالسباب ولا بالطعان ولا اللعان) قال الحافظ
العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: رواه الترمذي بإسناد صحيح من حديث ابن
مسعود وقال: حسن غريب والحاكم وصححه، ورواه غيرهم من حديثه ومن حديث
أبي هريرة مرفوعًا. وروى الترمذي من حديث ابن عمر وحسنه (المؤمن لا يكون
لعانًا) وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي الدرداء أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: (إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) وورد في حظر
اللعن وذمه غير ذلك من الأحاديث، وقد جعل حجة الإسلام الغزالي اللعن على ثلاث
مراتب بحسب الصفات المقتضية للعن الأولى أن يلعن الكافرين أو المبتدعين أو
الفاسقين جملة، الثانية: أن يخص طائفة منهم كآكلي الربا من الفاسقين مثلاً،
الثالثة: لعن شخص معين من هذه الأصناف. ونذكر عبارته فيها، قال رحمه الله تعالى:
الثالثة: اللعن للشخص المعين، وهذا فيه خطر كقولك زيد لعنه الله، وهو
كافر أو فاسق أو مبتدع والتفصيل فيه أن كل شخص ثبت لعنته شرعًا؛ فتجوز
لعنته كقولك فرعون لعنه الله وأبو جهل لعنه الله؛ لأنه قد ثبت أن هؤلاء ماتوا على
الكفر، وعرف ذلك شرعًا، أما شخص بعينه في زماننا كقولك زيد لعنه الله، وهو
يهودي مثلاً؛ فهذا فيه خطر؛ فإنه ربما يسلم فيموت مقربًا عند الله تعالى فكيف
يحكم بكونه ملعونًا. فإن قلت يلعن لكونه كافرًا في الحال كما يقال للمسلم: رحمه
الله، لكونه مسلمًا في الحال، وإن كان يتصور فيه أن يرتد فاعلم أن معنى قولنا
رحمه الله أي ثبته على الإسلام الذي هو سبب الرحمة وعلى الطاعة، ولا يمكن أن
يقال: ثبت الله الكافر على ما هو سبب اللعنة؛ فإن هذا سؤال للكفر، وهو في نفسه
كفر، بل الجائز أن يقال: لعنه الله إن مات على الكفر ولا لعنه الله إن مات على
الإسلام، وذلك غيب لا يدرى والمطلق متردد بين الجهتين ففيه خطر، وليس في
ترك اللعن خطر. وإذا عرفت هذا في الكافر فهو في زيد الفاسق، أو زيد المبتدع
أولى؛ فلعن الأعيان فيه خطر؛ لأن الأعيان تتقلب في الأحوال إلا من أعلم به
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يجوز أن يعلم من يموت على الكفر، ولذلك
عين قومًا باللعن فكان يقول في دعائه على قريش: (اللهم عليك بأبي جهل بن هشام
وعتبة بن ربيعة) وذكر جماعة قتلوا على الكفر ببدر حتى إن من لم تعلم عاقبته
كان يلعنه، فنهي عنه إذ روي أنه كان يلعن الذين قتلوا أصحاب بئر معونة في
قنوته شهرًا فنزل قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ
فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران: 128) يعني أنهم ربما يسلمون، فمن أين تعلم أنهم
ملعونون؟ وكذلك من بان لنا موته على الكفر جاز لعنه، وجاز ذمه إن لم يكن فيه
أذى على مسلم؛ فإن كان لم يجز، كما روي أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - سأل أبا بكر - رضي الله عنه - عن قبر مر به وهو يريد الطائف فقال:
هذا قبر رجل كان عاتيًا على الله ورسوله وهو سعيد بن العاص فغضب ابنه
عمرو بن سعيد وقال: يا رسول الله هذا قبر رجل كان أطعم للطعام وأضرب للهام من
أبي قحافة. فقال أبو بكر يكلمني هذا يا رسول الله بمثل هذا الكلام، فقال صلى الله عليه وسلم (اكفف عن أبي بكر) فانصرف ثم أقبل على أبي بكر فقال: (يا أبا
بكر إذا ذكرتم الكفار فعمموا فإنكم إذا خصصتم غضب الأبناء للآباء) [1] فكف الناس
عن ذلك. وشرب نعيمان الخمر فحُدَّ مرات في مجلس رسول الله - صلى الله عليه
وسلم- فقال بعض الصحابة: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال صلى الله عليه
وسلم: (لا تكن عونًا للشيطان على أخيك) وفي رواية (لا تقل هذا فإنه يحب
الله ورسوله) [2] فنهاه عن ذلك وهذا يدل على أن لعنة فاسق بعينه غير جائزة، ففي
الأشخاص خطر، فليجتنب ولا خطر في السكوت عن لعن إبليس مثلاً فضلاً عن
غيره. فإن قيل هل يجوز لعن يزيد لأنه قاتل الحسين أو أمر به، قلنا: هذا لم
يثبت أصلاً فلا يجوز أن يقال: إنه قتل أو أمر به ما لم يثبت فضلاً عن اللعنة؛ لأنه
لا تجوز نسبة مسلم إلى كبيرة من غير تحقيق.
نعم يجوز أن يقال قتل ابن ملجم عليًّا - رضي الله عنه - وقتل أبو لؤلؤة
عمر - رضي الله عنه - فإن ذلك ثبت متواترًا، فلا يجوز أن يرمى مسلم بفسق
وكفر من غير تحقيق. قال صلى الله عليه وسلم: (لا يرمي رجل رجلاً بالكفر ولا
يرميه بالفسق إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك) [3] وقال صلى الله عليه
وسلم (ما شهد رجل على رجل بالكفر إلا باء به أحدهما إن كان كافرًا فهو كما قال،
وإن لم يكن كافرًا فقد كفر بتكفيره إياه) وهذا معناه أن يكفره وهو يعلم أنه مسلم،
فإن ظن أنه كافر ببدعة أو بغيرها كان مخطئًا لا كافرًا. وقال معاذ قال لي رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنهاك أن تشتم مسلمًا أو تعصي إمامًا عادلاً) [4]
والتعرض للأموات أشد، قال مسروق: دخلت على عائشة - رضي الله عنها -
فقالت: ما فعل فلان لعنه الله؟ قلت توفي قالت رحمه الله: قلت وكيف هذا، قالت:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى
ما قدموا) [3] وقال عليه السلام (لا تسبوا الأموات فتؤذوا به الأحياء) [5] وقال
عليه السلام (أيها الناس احفظوني في أصحابي، وإخواني وأصهاري ولا تسبوهم
أيها الناس إذا مات الميت فاذكروا منه خيرًا) [6] .
فإن قيل: فهل يجوز أن يقال: قاتل الحسين لعنه الله، أو الآمر بقتله لعنه
الله؟ قلنا: الصواب أن قاتل الحسين إن مات قبل التوبة لعنه الله؛ لأنه يحتمل أن
يموت بعد التوبة، فإن وحشيًّا قاتل حمزة عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قتله وهو كافر، ثم تاب عن الكفر، والقتل جميعًا، ولا يجوز أن يلعن، والقتل
كبيرة، ولا يجوز أن تنتهي إلى رتبة الكفر؛ فإذا لم يقيد بالتوبة وأطلق كان فيه
خطر.
وإنما أوردنا هذا لتهاون الناس باللعنة، إطلاق اللسان بها، والمؤمن ليس
بلعان، فلا ينبغي أن يطلق اللسان باللعنة إلا على من مات على الكفر، أو على
الأجناس المعروفين بأوصافهم دون الأشخاص المعينين، فالاشتغال بذكر الله أولى
فإن لم يكن ففي السكوت سلامة. وقال مكي بن إبراهيم كنا عند ابن عون فذكروا
بلال بن أبي بردة فجعلوا يلعنونه ويقعون فيه، وابن عون ساكت، فقالوا: يا ابن
عون إنما نذكره لما ارتكبه منك [7] فقال: إنما هما كلمتان تخرجان من صحيفتي يوم
القيامة لا إله إلا الله، ولعن الله فلانًا، فلأن يخرج من صحيفتي (لا إله إلا الله)
أحب إلي من أن يخرج منها (لعن الله فلانًا) وقال رجل لرسول الله - صلى الله
عليه وسلم - أوصني فقال: (أوصيك أن لا تكون لعانًا) [8] وقال ابن عمر: إن
أبغض الناس إلى الله كل طعَّانٍ لعان. وقال بعضهم: (لعن المؤمن كعدل قتله)
قال حماد بن زيد: لو قلت إنه مرفوع لم أبال [9] وعن أبي قتادة قال: (كان يقال من
لعن مؤمنًا فهو مثل أن يقتله) وقد نقل ذلك مرفوعًا إلى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم [10]- ويقرب من اللعن الدعاء على الإنسان بالشر، حتى الدعاء على الظالم
كقول الإنسان مثلاً: لا صحح الله جسمه، ولا سلمه الله، وما يجري مجراه فإن
ذلك مذموم. وفي الخبر (إن المظلوم ليدعو على الظالم حتى يكافئه ثم يبقى للظالم
عنده فضلة يوم القيامة) .ا. هـ ما كتبه الغزالي.
(المنار)
قد أوردت كل هذا؛ ليعلم القارئ أن السنة الرجيحة، والأحاديث الصحيحة
وسيرة السلف الصالحين، وفقه أئمة الدين، كل ذلك ينهي المؤمن عن اللعن الذي
يتساهل فيه أهل الأهواء من السفهاء، وما أحسن قول حجة الإسلام: (في
لعن الأشخاص خطر، ولا خطر في السكوت عن لعن إبليس مثلاً فضلاً عن غيره)
أي فإن الله تعالى - وإن لعنه- لم يكلفنا لعنه، وأكبر العبر للمؤمن فيما تقدم تأديب
الله تعالى نبيه؛ إذ أنزل عليه حين طفق يلعن الذين قتلوا أصحاب بئر معونة {لَيْسَ
لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران:
128) وأصحاب بئر معونة سبعون رجلاً من القراء، بعثهم النبي ليعلموا الناس
القرآن، فقتلهم عامر بن الطفيل وأصحابه. وروى أحمد والشيخان والترمذي
والنسائي وابن جرير وغيرهم من حديث أنس أن الآية نزلت يوم أُحد حين كسر
المشركون رباعية النبي - صلى الله عليه وسلم - وشجوا وجهه، وفي حديث ابن
عمر عند أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن جرير أنه - صلى الله عليه وسلم
- قال يوم أُحد (اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم
العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن أمية) فنزلت الآية وهي على هذا أكبر
عبرة وأعلى تهذيبًا.
هذا وإن السواد الأعظم من المسلمين يعدون سب معاوية ولعنه من الكبائر،
ويرمون سابه بالرفض والابتداع، وإن السني من المسلمين ليعادي الشيعي على
سب معاوية وأبي سفيان بل الخلفاء الثلاثة ويعادي الخارجي على سب عثمان
وعليّ ما لا يعادي غيرهما على ترك فريضة من الفرائض، أو ارتكاب فاحشة من
الفواحش، فهذا الطعن في عظماء الصحابة وحملة الدين الأولين لو كان جائزًا في
نفسه لكفى في تحريمه ما يترتب عليه من زيادة التفريق بين أهل القبلة، وتمكين
العداوة والبغضاء في قلوبهم حتى يكفر بعضهم بعضًا. لهذا لا أبالي أن أقول لو
اطلع مطلع على الغيب فعلم أن معاوية مات على غير الإسلام لما جاز له أن يلعنه.
فما قاله ذلك الرجل للسائل مردود لا قيمة له وهو دالّ على أنه جاهل يفتي بغير علم
بل بمحض الهوى.
(استدراك)
علم مما تقدم عن الغزالي أنه لا يجوز لعن كافر، ولا فاسق حي، وأن هذا
خطر لما يتضمن من الرضا بموته على كفره أو فسوقه، ولا لعن ميت؛ لأن
الخاتمة مجهولة لا تعرف إلا بوحي من الله، وأن لعن الفساق والكفار عامة أو لعن
صِنْف معين منهم في الجملة جائز، ولكنه غير محمود شرعًا، والأولى أن
يستبدل الإنسان بذلك اللعن ذكر الله، أو الكلام في الخير. وأقول إن جواز لعن
الصنف أو النوع بمعنى عدم تحريمه مقيد بما إذا لم يكن سبًّا لهم في وجوههم؛ لأن
السب محرم في ذاته؛ لأنه بذاء مذموم وسبب للشحناء والعدوان، وقد نهى الله
تعالى عن سب معبودات المشركين، لئلا يسبوا معبود المؤمنين، فقال في سورة
الأنعام: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: 108) ولا يخفى أن حرمة الكتابي أعظم من حرمة المشرك واتقاء
تنفيره أهم، وأن إيذاءه إذا كان ذميًّا أو معاهدًا أو مستأمنًا محرم بالإجماع، وأنه لا
يصح أن يجعل لعن الفاسقين ذريعة إلى تنفيرهم عن فسقهم، كأن يحضر مجلس
السكارى ويلعن شاربي الخمر على مسمع منهم؛ لأن الإرشاد يجب أن يكون
بالمعروف واللين؛ هذا وإن لعن صنف من الكفار أو الفساق في حضرة أفراد
من الصنف هو بمثابة لعن الأشخاص فهو معصيتان؛ لأنه سب علني من جهة،
ولعن لأشخاص معينين من جهة أخرى.
فعليك أيها المؤمن أن تحفظ ما بين فكيك؛ فإنه (لا يكب الناس في النار على
وجوههم إلا حصائد ألسنتهم) كما ورد في الحديث الصحيح عند الترمذي وابن
ماجه، ولا تغتر ببعض حملة العمائم، وسكنة الأثواب العباعب، إذا رأيتهم يلعنون
الأحياء والأموات ويكفرون المسلمين، ويبرزون خروجهم عن هدى الدين في
معرض الدفاع عن الدين، فأولئك ليس لهم حظ من هدى الإسلام، ولا من علم غير
الثرثرة والتشدق في الكلام، وقد روى أحمد، من حديث أبي ثعلبة أن النبي -
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - قال: (إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسًا
الثرثارون المتفيهقون المتشدقون في الكلام) ومثله عند الترمذي من حديث جابر وله
نظائر. ومن علامات هؤلاء السفهاء أن لهم في كل مجلس لسانًا ومع كل مخاطب
وجهًا، فهم المنافقون، هنا يذمون، وهنالك يمدحون، وهم على الناس شر من
المبتدعة، وأهل الأهواء الذين يلعنون أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛
لأن هؤلاء يغتر بهم العوام ما يغترون بأولئك. وشرهم الحساد الذين ينفرون الناس
عن الحكماء المصلحين، ويخوضون في أعراض العلماء العاملين {وَعَلَى اللَّهِ
قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: 9) .
__________
(1) الحديث رواه أبو داود في المراسيل من رواية علي بن ربيعة.
(2) رواه بهذا السياق ابن عبد البر في الاستيعاب وهو عند أحمد والبخاري وغيرهم لم يسم فيه نعيمان.
(3) الحديث رواه الشيخان والسياق للبخاري من حديث أبي ذر مع تقديم لفظ الفسق والحديث الذي بعده رواه الديلمي في مسند الفرودوس بسند ضعيف.
(4) رواه أبو نعيم في الحلية من حديث طويل.
(5) رواه أحمد والبخاري والنسائي بدون ذكر قصة عائشة مع مسروق وهي عند ابن المبارك في الزهد والرقائق.
(6) رواه أحمد والترمذي والطبراني من حديث المغيرة بن شعبة.
(7) رواه الديلمي في مسند الفردوس ولبعض جمله شواهد في الصحاح كحديث أبي سعيد وأبي هريرة عند أحمد والشيخين (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نَصِيفه) وحديث ابن عمر عند أبي داود والترمذي: (اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم) وغير ذلك.
(8) ابن عون هو أبو عون عبد الله بن عون أحد أعلام السنة أدرك أنس بن مالك وروى له الجماعة وبلال بن أبي بردة هو ابن أبي موسى الأشعري كان أمير البصرة وقاضيها روى له الترمذي حديثًا واحدًا وكان قد آذى ابن عون ولذلك سبه القوم ولعنوه أمامه فلم يشايعهم بل أنكر عليهم.
(9) رواه أحمد والبخاري في التاريخ وغيرهما.
(10) أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت.
(11) المرفوع رواه الشيخان من حديث ثابت بن الضحاك بلفظ (لعن المؤمن كقتله) .(8/625)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
المكتوب الرابع من هيلانة إلى ولدها [*]
الحب الحقيقي ومعاملة الوالدين للشاب العاشق
لقد راقني منك يا بني العزيز صراحتك، وموافقة سرك لعلانيتك وإني مجتنبة
كل الاجتناب ممازحتك في غانيتك التي نطت بها أمانيك، ومع اعترافي بأن ما
قصصته عليَّ في شأنها لا يخلو من أمور تدعوني إلى التفكير، وتبيح لي أن أنبهك
في أمرها إلى تفاصيل أخالها مريبة، أتحامي أن أجرد تلك الأماني من زهوها،
وأُعريها من روائها، فليس عليك إلا أن تذكر أنك شاب غر، لما تختبر شيئًا من
أمور الدنيا، وإنك - وآسفي - لسرعان ما تتعلم أن لا تغتر بالظواهر، وعسى الله
أن لا يجعل في ذلك خسارًا عليك.
قد تعاهدت أنا وأبوك على عدم التداخل في محباتك بحال من الأحوال؛ فأنت
حينئذ آمن من ضروب عذلي وتأنيبي، ولكنك بما صرت ولي نفسك مسئول عن
جميع ما يقترفه قلبك في سبيل الحب من الآثام، واعلم أن من هو في مثل سنك
يكون شديد الارتياح إلى الاغترار والانخداع، فكم شاب يحسب من الحب ما ليس
هو إلا اضطرابًا في مشاعره، وسرابًا يبدو لحواسه؛ لأن الحب الصحيح هو
الاستيلاء على نفس المحبوب، ولا يبلغه إلا من كان حقيقًا به وأهلاً له.
لم يعلق بنفسي أدنى أثر مما للناس في الممثلات من الأوهام، وإنهم لظالمون
في حكمهم على كثير منهن، وحاشا أن أحكم على تلك القينة التي فتنتك بمحاسنها
وأنا لا أعرفها، وإنما أنبهك إلى أنك ليس لك حتى الآن أدنى وجه صحيح في أن
تستنتج من بعض أحوالها معك أنها تفضلك على غيرك من عُبَّادِها؛ فمن غرور
الشبان أن يعتقدوا أنهم محبوبون؛ لأنهم محبون، على أني أسلم لك أن قلبها ملبٍ
لعواطفك، فالذي تعرفه منها، والذي تتلمسه من وراء حبها ليس من الخصائص
المقومة للمرأة في شيء؛ لأنك إنما تعشق منها تغنيها وحسنها ودعابتها وهي مزايا
تستفيد العامة منها أكثر مما يستفيده الرجل الذي قد تصير صاحبة له، فهل تدري ما
يبقي لتمثال حبك الذي تعبده من المحاسن إذا زال عنه زخرف الملعب ورونقه
وغرور العشق وخدعه؟
أنت بنفسك فيما يظهر لي مرتاب من ماضي سيرتها؛ لأنك تتمنى لو أتيح لك
إنقاذها من الدرك الذي هي فيه، وهي فكرة كريمة جعلها أدباء العصر بدعة من
البدع، ومعاذ الله - صيانة لشرف المرأة نفسه - أن أعتقد أن ذنوبها لا تكفر، بل
إني أسلم ما قلته من أن الحب قد يمحو بعض الأدناس، ولكنا لا نعلم كثيرًا من أمثال
النساء اللاتي أُبْنَ إلى الرشد بعد الغَيّ، ثم إني لا أظنك فكرت فيما يعترض مقصدك
الدال على البسالة من الصعوبات والعوائق، فإن إنقاذ الخاطئات الذي يحسِّن الطيش
لبعض الشبان الأغرار أن يدَّعوه لأنفسهم يلابسه في معظم الأحيان من الكبر
والعجب أكثر مما يصاحبه من الإخلاص الحقيقي فكأنهم بهذا يعتقدون أن ملائكة
العشق اللاتي أهبطن إلى حضيض الرذيلة ليس لهن من الصَّلف والإباء مثل ما لهم.
إن من يحاول ذلك العمل يجب أن يكون بالغًا من قوة النفس ولطف الذوق مبلغًا
عظيمًا يسمو به عن الغض من المرأة الخاطئة وإذلالها، ثم هل أنت في سنك هذا
تأنس من نفسك قوة وإقدامًا على كتمان الغيرة؟! فإنها تبكيت ومؤاخذة للمرأة التي لم
تكن طول حياتها عفيفة، وهل لك من السلطان على نفسك ما يكفي لإخفاء ما يكون
في معظم الأحيان مثارًا للريبة منك؟ وهو ندمك على إجلالك لمثل تلك المرأة مع أنه
لا يُسمح به عادة إلا للزكية الطاهرة؛ فإذا كنت لم تستكمل هذه الصفات فخل الجهاد
عنك؛ لأنه لا يكون من ورائه إلا زيادة من تزعم إنقاذها خسرًا.
من الأمهات من يكتبن لأبنائهن في مثل هذا الموضوع على أسلوب مغاير لهذا
تمام المغايرة فقد يؤنبنهم ويجتهدن في تخويفهم من عواقب طيشهم، وغير الأمهات قد
لا يرين في كل هذا إلا مقدمة لواقعة من الوقائع الشائع حصولها بين الشبان، وهفوة
عادية من هفوات الطلبة، وربما قلن فوق ذلك، وهن مبتسمات (تهوينًا تهوينًا فمن
الواجب إقالة عثرات الشباب) وأما أنا فأعلم أنك جاد فيما كتبت، وإلا لما أفضيت
إلى بسِرِّك، ولهذا أجبتك بالجد ولست أخاف عليك إلا أن تكون خدعة لما في خيالك
من التوقد الذي هو من لوازم سنك، ومن العبث القول بالتسامح في أمر الحب فليس
أحد يسلم منه بالاستخفاف به؛ لأنه إذا لم يرفع النفس ويزكيها فإنه يسفلها ويدسيها.
وحسبي ما قلته في هذا الموضوع فلا أزيدك عليه شيئًا.
جاءتنا أخبار من البيرو فقد كتب إلينا قوبيدون وجورجيا بأنهما يذكرانك
و (لولا) ذكرًا كثيرًا.
ومما ينبغي أن تعلمه أيضًا أن (لولا) تفكر في اختيار مهنة لها؛ فقد قالت لي
من أيام مضت (إني أريد أن أتعلم حرفة من أجل أن ... ) وما عتمت أن فرت إلى
حجرتها قبل أن تتم كلامها وقد احمر وجهها خجلاً.
وأراني أدركت مرادها، وهو أن المرأة التي لا مال لها ولا حرفة ليست
حرة؛ فإذا تزوجت فإنما تتزوج في الغالب مقام زوجها ومكانته و (لولا) لعزة
نفسها، وإباءها تتذمر من هذا الاحتياج، ولا ترضى الاستكانة له فهي تريد أن
تقول يومًا ما لمن يروقها من الناس: إن في استطاعتي أن أعيش بعملي، وإني إذا
أخلصت في تحصيل الاغتباط والسعادة لك فذلك لأني أحبك.
أستودعك الله يا بني العزيز، وأوسع صدري على الدوام لتلقي أسرارك
ومشاركتك في آلامك، وأبعث لك في هذا قبلة الحب الذي لا يتغير ألا وهو الحب
الذي لك في قلب أمك. اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب من باب تربية الشاب من كتاب أميل القرن التاسع عشر.(8/632)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
(مبادئ التعليم في الدين القويم)
كتب الشيخ مصطفى بكري الأسيوطي مدرس اللغة العربية بمدرسة مغاغة
الخيرية رسالة وجيزة في أركان الإسلام الخمسة؛ لأجل تعليم المبتدئين جعلها أسئلة
وأجوبة، وهي منتزعة من الكتب المتداولة مع التساهل والتوسع في بعض المسائل،
فالرسالة سهلة من أحسن ما كُتب للمبتدئين، وكنا نود من معلمي المدارس الخروج.
عن تقليد عبارات بعض المتأخرين إلى ما هو أسهل منها وأقرب إلى الأذهان فإنه
ليحزنني أن يلقن الولدان أن الواجب اعتقاده في الله تعالى عشرون صفة واجبة
وعشرون صفة مستحيلة وصفة واحدة جائزة؛ فإن هذا الإصلاح الذي جرى عليه
السنوسي في عقيدته دقيق لا يمكن أن يفهمه المبتدئ، وحفظ الألفاظ ليس من الاعتقاد
في شيء. ما هي الصفة التي تشمل الوجودي والعدمي، والواسطة بينهما على القول
بالواسطة وما فيه من الفلسفة الغريبة؟ كيف كان الوجود الذي هو الجنس العالي
لجميع الموجودات على التحقيق صفة؟ وكيف كانت القدرة صفة وكونه قادرًا صفة
أخرى؟ وكيف جعل فعل الشيء أو تركه صفة من الصفات؟ هل وردت هذه
الاصطلاحات في الكتاب والسنة فنلتزم فهم العقيدة منها؟ هل كلفنا الله تعالى اعتقاد
كون الملائكة أجسامًا نورانية قادرة على التشكل بالصور الجميلة مسكنهم السموات
دون الأرض، وأن نعرف أربعة منهم فقط؟ هل يذكر في العقائد الوجيزة ما ورد أو
استنبط من أحاديث الآحاد عن عالم الغيب؟
لعل مؤلف هذه الرسالة وأمثاله ممن يكتبون للتعليم يسلكون مسلكًا آخر يفهمه
تلاميذهم كأن يقولوا في تنزيه الله - تعالى -: إن خالق هذه الكائنات لا يشبهها ولا
تشبهه (فليس كمثله شيء) مما نعرفه بحواسنا، وتتصوره عقولنا؛ فهو قديم ليس
قبله شيء، وهي حادثة؛ لأنه هو الخالق وهي المخلوقة، وهو باق أبدي لا يفنى
ولا يتغير، وهي تتغير وتفنى. ويقولوا في الصفات الثبوتية: إن الله تعالى عالم لا
يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض؛ لأنه خالق كل شيء
والصانع الضعيف من الآدميين يعرف دقائق صنعته أفلا يعلم الخالق من خلق؟
ويقولون في عالم الغيب: إن الله تعالى خلق خلائق كثيرة منها ما أعطانا حواسًّا
ومشاعر لإدراكه، ومنها ما هو مغيب عنا. وعالم الغيب عظيم لا يحيط به إلا الله
تعالى، وقد جاءنا الوحي بذكر بعض ما فيه كالملائكة وحقيقتهم مجهولة عندنا، لكن
الله تعالى وصفهم بأوصاف العقلاء، وأسند إليهم العبادة، وتلقين الوحي للأنبياء
وغير ذلك، فنؤمن بما جاء به الوحي من ذلك لا نزيد عليه ولا ننقص منه ولا نقيس
عليه، ولا نشبهه بما نعلم من عالم الشهادة. ولا غرابة في هذا فإننا إلى الآن لم
نعرف حقائق ما نشاهده، ومازال يظهر لنا في هذا العالم أشياء كانت مغيبة لا نرى
لها نظيرًا فيما كنا نعرف من قبلها كالكهرباء مثلاً. مثل هذا يقال ويكتب للمبتدئين.
***
(جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع)
كتاب جديد ألفه الشيخ أحمد الهاشمي وجعل له خاتمة في القوافي وفنون الشعر
وهو يمتاز على الكتب القديمة التي استمد منها بشيء يرغب القارئ في القراءة
وينبه نشاطه ويحفز ذهنه وهو أنه جعل الكتاب على الطريقة العصرية في الوضع
والطبع أي جعل فيه بياضًا كثيرًا وعناوين كثيرة وجعل كل مبحث تمرينًا، أما
البياض فهو ما يترك غفلاً في صحائف الكتاب بين أبوابه وفصوله ومباحثه، وكذا في
أعجاز السطور إذا تمت المسألة في أثناء السطر، وقد أكثر صاحب جواهر البلاغة
من هذا البياض حتى أنه ليذكر الأقسام للشىء المقسم على هذا النحو.
(فصاحة المركب سلامته بعد فصاحة مفرداته من ستة أشياء)
1- تنافر الكلمات مجتمعة
2- ضعف التأليف.
3- التعقيد اللفظي
4- التعقيد المعنوي
5- كثرة التكرار
6- تتابع الإضافات
ومثل هذا كثير، وجعل للكلام في الفصاحة عنوانًا بحروف كبيرة ولفصاحة
المفرد عنوانًا مثله ولفصاحة المركب عنوانًا آخر وعلى ذلك فقس، وقد بلغت
كراريس الكتاب (ملازمه) 21 ولو طبع على الطريقة القديمة لما زادت على 15
إلا قليلاً وإن هذا الوضع الذي يزينه حسن الطبع هو سبب من الرغبة في القراءة
كما قلنا، والرغبة في القراءة هي السبب الأول في الرواج ومن ثم ترى هذه الكتب
التي توضع وتطبع على الطريقة العصرية أكثر رواجًا ولا يغتر بهذا الذين لا يزالون
يلتزمون الطريقة العتيقة في جعل الكتاب كله كتلة واحدة سوداء يرمي إليها
الناظر بطرفه فلا يكاد يميز مبحثًا من آخر ويرون هذا الصنيع اقتصادًا في الورق
ولا يدرون أنهم لو لم يقتصدوا هذا الاقتصاد لكان خيرًا لهم وللناس، على أن
السابقين ما وضعوا الفصول في الكتب إلا ليكون بين المبحث وما يليه بياض يهدي
الطرف إلى بداية هذا وغاية ما قبله، ولكن المتأخرين جعلوا لفظ (فصل) كالمتعبد
به فصاروا يضعونه في أثناء السطر يتصل به ما قبله وما بعده، فيكون وصلاً
لا فصلاً.
وضع في آخر الكتاب تقاريظ منها تقريظ عزي إلى الأستاذ الإمام - رحمه الله
تعالى - نبهنا إليه من رأى الكتاب من الأدباء فرابهم عزوه لأن عبارته دون ما عهد
من عبارات إمام البلاغة وقد رابنا ما رابهم ووددنا لو يطلعنا المؤلف على الأصل
الذي عنده بخط الأستاذ الإمام، وهذه عبارة التقريظ (اطلعت على كتاب جواهر
البلاغة في علوم المعاني والبديع والعروض والقوافي، وفنون الشعر
والسرقات، والمحاضرات الشعرية؛ فوجدته كتابًا عظيمًا، وأسلوبًا حكيمًا، يشهد
لحضرة مؤلفه بملاك الذوق السليم، والعقل الحكيم، هداه الله إلى {الصِّرَاطَ
المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7) آمين اهـ.
ولا شك أن كل ذي ذوق سليم يعرف كلام الأستاذ الإمام يرتاب في كون هذا
التقريظ له؛ وإذا ظهر أنه له وأنه لا غلط فيه ولا تحريف التمسنا له عذرًا وأزلنا
ارتياب المرتابين.
***
(الألزم من لزوم ما لا يلزم)
(لزوم ما لا يلزم) أو اللزوميات: هو مجموع ما يؤثر عن الفيلسوف العربي
أبي العلاء المعري من الشعر في الفلسفة الإلهية والاجتماعية والكونية، وانتقاد
سيئات الإنسان في الكون وغير ذلك من ضروب التخيل والحقيقة. وهو ديوان
طويل شهير يدخل في سفرين كبيرين، وقد عمد أحمد أفندي نسيم الشاعر المصري،
وعبد الله أفندي المغيرة الأديب النجدي إلى الكتاب فاختاروا منه أَرَقَّه وأعذبه في
مذاقهما وطبعاه في ديوان لطيف سمياه (الألزم) ... إلخ، وكتبا في أوله ترجمة
وجيزة للناظم ذكرا في آخرها ما كنا أوردناه في ص 273 من المجلد السابع دليلاً
على صحة عقيدته، وقوة دينه. وقد نقلنا هناك الأبيات التي كان أنشدها في خلوته
كما كتبت في ترجمته وهكذا أورد صاحبا الألزم والبيت الأول منها محرف
وهو:
كم غودرت غادة كعاب ... وعمرت أمها العجوز
فإن السياق يدل على أنه يريد كم ماتت فتاة ناعمة الشباب كاعبة الثديين،
وعمرت بعدها أمها العجوز، ولفظ (غودرت) لا يدل على الموت؛ لأن معناه
تُركت، وكنا بعد نشر الجزء الذي كتبنا فيه الأبيات اهتدينا إلى أن غودرت محرفة
عن (غوضرت) ، ولم يتح لنا التنبيه إلى ذلك؛ إذ كنا لا نذكره عند كتابة المنار
حتى تذكرناه الآن. وإذا صح هذا ولا نخاله إلا صحيحًا فهو قد استعمل (غوضرت)
بمعنى ماتت في غضارتها ونضرة شبابها، ولكن الصيغة التي جاءت من هذه
المادة بهذا المعنى (اغتضر) ففي كتب اللغة التي في أيدينا اغتُضر فلان بالبناء
للمفعول مات شابًّا صحيحًا أي في غضارة شبابه وريعانه ومثله اختضر وهو مأخوذ
من (اختضر الكلأ) إذا أخذه أو رعاه طريًّا غضًّا في ريعان خضرته، ويقال:
اختضر الفاكهة إذا أكلها قبل إدراكها؛ إذ تكون خضراء ولا يبعد أن يكون المعري
قد روى غوضر بمعنى اغتضر أو يكون ممن يستجيز مثل هذا البناء ويراه قياسًا.
وتذكرت أيضًا- والشيء بالشيء يذكر- ما كنت كتبته في ترجمة محمود
سامي البارودي (ص 826 م 7) من نفي المعرفة بكون صيغة (تفزع) عربية
مسموعة؛ لأنها لم تذكر في مادة (ف ز ع) من القاموس وشرحه ولسان العرب
وغيرها من الكتب ثم رأيتها في القاموس نفسه في آخر مادة روع قال (وتروع: تفزع) وعزمت على ذكرها في المنار وكنت أنساها عند الكتاب مع أن جريدة الصاعقة انتقدتها علي منذ أشهر فذكرتني بها ولكن في غير وقت كتابة المنار ولكل شيء أجل.
هذا وقد طال الكلام في الاستطراد وشعر المعري غني عن التقريظ وقد طبع
المختار من اللزوميات طبعًا جميلاً وهو يطلب من طابعيه.
***
(أبو مسلم الخراساني)
قصة تاريخية غرامية هي الحلقة التاسعة من سلسلة القصص التي يؤلفها جرجي
أفندي زيدان ويطبعها في مجلته (الهلال) واسم هذه القصة يدل على أن ما فيها من
تاريخ المسلمين هو قيام أبي مسلم بالدعوة إلى الخلافة العباسية حتى سقطت بسعيه
الدولة الأموية.
وقد صارت طريقة صاحب الهلال في تأليف القصص معروفة للجماهير
فقصصه غنية بهذه الشهرة عن التفريظ والتنويه ببيان فائدتها التاريخية وفكاهتها
الأدبية، فحسب المقرظ أن يعلم الناس بأن القصة طبعت على حدتها وأنها تطلب من
مكتبة الهلال بالفجالة.
***
(السلاح الخفي - اليد الأثيمة)
قصتان إفرنجيتان ترجمهما صالح أفندي جودت ونظمتا في سلك قصص
(مسامرات الشعب) والمراد بالسلاح الخفي السم، وباليد الأثيمة يد امرأة شريرة
فاجرة كانت تنتقم بالسم من أعدائها، وفي القصتين غرائب تلذ للقارئ، ولكني
أنصح لصاحب هذه المسامرات أن يختار القصص التي تمثل الفضيلة وتشرح
محاسن آثارها على القصص التي تمثل الرذيلة وإن ساءت عاقبة أنصارها، إلا أن
تذكر الرذيلة من غير شرح لكيفيتها، وتطويل بذكرها ويكون الإسهاب في بيان سوء
مغبتها وشقاء أربابها.
***
(ألف نادرة ونادرة)
كتاب لمحمد أفندي مسعود أحد كتاب جريدة المؤيد (محرريها) جمعه من الكتب
الإفرنجية وطبعة في مطبعته المعروفة بمطبعة الجمهور وصفحاته 255 وفي هذه
النوادر ما هو فُكاهة وحكمة، وما هو فُكاهة فقط أو حكمة فقط، ومنها ما ليس بشيء،
وجملة القول فيها: إنها من المسليات التي يرغب فيها عند السآمة من العمل والكتاب
يطلب من صاحبه في (المؤيد) بمصر.
__________(8/634)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تاريخ الأستاذ الإمام
يوزع هذا الجزء من المنار ونحن شارعون في طبع قسم التأبين والمراثي
والتعازي من تاريخ الأستاذ الإمام، وهو وحده يدخل في مجلد ضخم، وفيه مما لم
يطلع عليه القراء في هذه البلاد، أقوال بعض الجرائد المعتبرة في الأقطار الغربية
والشرقية ومراثي وتعازي بعض العلماء والأدباء التي لم تنشر في الجرائد المصرية
ويتلوه طبع جزء منشآت الفقيد من المقالات العلمية والاجتماعية، والرسائل الدينية
والأدبية وغير ذلك مما هو غير منشور ولا متداول، ومنه مقالات (العروة الوثقى)
برمتها، ونؤخر طبع جزء سيرته وترجمة حياته المطولة إلى ما بعد تمام طبع هذين
الجزئين لزيادة التروي والإتقان لأنها تكتب بحرية كاملة، وتفصل فيها ما لقيه في
سبيل الإصلاح من العناء وما قيل وما كيد له.
ومتى تم طبع هذا الجزء الذي شرعنا فيه نعلن عنه في الجرائد، ونجعل لكل
مشترك في المنار الحق في أخذ نسخة منه مجانًا؛ إذا كان قد أدى قيمة الاشتراك
تامة. وإننا في هذا المقام نعيد استجداء أصدقاء الإمام ومريديه بأن يتفضلوا علينا
بل على التاريخ بما عساه يوجد عندهم من آثاره القلمية، وما يعرفون من مناقبه
الشخصية لنضع كل شيء في موضعه من التاريخ؛ فإن الطبع فيه سيكون متصلاً
إن شاء الله تعالى.
هذا وان للفقيد تغمده الله برحمته صورة شمسية قد أخذت عنه وهو يصلي في
معهد عام في لندره عند زيارته الأولى لها، وذلك أنه أدركه وقت الصلاة في ذلك
المكان الذي هو كحديقة الأزبكية بمصر، ورأى أنه إذا عاد إلى المكان الذي يقيم فيه
فإن الصلاة تخرج عن وقتها فصلى على الأرض حيث كان فأسرع حاملو الآلات
الفوتوغرافية إلى أخذ صورة عالم شرقي في هيئة عبادة لم يسبق لهم رؤية مثلها، ثم
وصلت تلك الصورة إلى هذه البلاد وإلى سوريا وتونس، فمن كان عنده صورة منها
فليتكرم علينا بها لنأخذ مثلها ونعيدها له وله الفضل والشكر.
__________(8/639)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شكر بعد شكر
كنا كلفنا بعض أصحاب الجرائد اليومية المعتبرة في هذا القطر بأن يعبروا عن
شكر منشئ هذه المجلة وأشقائه للذين عزَّوْنا عن فقد والدنا الجليل (تغمده الله
برحمته) ثم جاءتنا تعازٍ أخرى في البرق والبريد من أنحاء القطر ومن السودان ثم
من بلاد الهند ومن بلاد المغرب فوجب علينا نُبدئ الشكر ونعيده لجميع الذين تفضلوا
بتعزيتنا أولاً وآخرًا، ونسأل الله تعالى أن يقيهم الأرزاء، ويديم عليهم النعماء.
__________(8/640)
غرة رمضان - 1323هـ
29 أكتوبر - 1905م(8/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نموذج آخر
من شرح عقيدة السفاريني
(تنبيهات)
(الأول) لا خلاف بين العقلاء أن الله - سبحانه وتعالى - متصف بجميع
صفات الكمال، منزه عن جميع صفات النقص؛ لكنهم مع اتفاقهم على ذلك اختلفوا
في الكمال والنقص، فتراهم يثبت أحدهم لله ما يظنه كمالاً، وينفي الآخر عين ما
أثبته هذا لظنه نقصًا، وسبب ذلك أنهم سلطوا الأفكار على ما لا سبيل إليه من
طريق الفكر؛ فإن الله تعالى خلق العقول، وأعطاها قوة الفكر، وجعل لها حدًّا تقف
عنده من حيث ما هي مفكرة لا من حيث ما هي قابلة للوهب الإلهي. فإذا استعملت
العقول أفكارها فيما هو في طورها وحدِّها، ووفت النظر حقه أصابت بإذن الله
تعالى وإذا سلطت الأفكار على ما هو خارج عن طورها ووراء حدها الذي حده الله
لها ركبت متن عمياء، وخبطت خبط عشواء فلم يثبت لها قدم، ولم ترتكن على أمر
تطمئن إليه فإن معرفة الله التي وراء طورها مما لا تستقل العقول بإدراكها من
طريق الفكر، وترتيب المقدمات، وإنما تدرك ذلك بنور النبوة، وولاية المتابعة فهو
اختصاص إلهي يختص به الأنبياء وأهل وراثتهم مع حسن المتابعة وتصفية القلب
من وضر البدع والفكر من نزعات الفلسفة {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ
ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (البقرة: 105) .
ومما يوضح ذلك أن العقول لو كانت مستقلة بمعرفة الحق وأحكامه لكانت
الحجة قائمة على الناس قبل بعث الرسل وإنزال الكتب، واللازم باطل بالنص قال
تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الإسراء: 15) وقال تعالى {وَلَوْ
أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ
أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} (طه: 134) فكذا الملزوم، فلما بعث الله الرسل وأنزل الكتب
وجبت لله على الخلق الحجة البالغة وانقطعت علقة الاعتذار {ً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (البقرة: 213) . {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء:
165) ولما عجزت العقول من طريق الفكر عن المعرفة الحق التي هي وراء طورها
ومنحها القبول، وقد أنزل الكتاب، وأنزل فيه ما حارت في إدراكه العقول من الآيات
المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله أمرنا الشارع بالإيمان بها ونهانا عن التفكر في
ذات الله رحمة منه بنا ولطفًا لعجزنا عن إدراكه فإن تسليط الفكر على ما هو خارج
عن حده تعب بلا فائدة ونصب من غير عائدة وطمع في غير مطمع وكدّ من غير
منجع، وقد أمرنا بالإيمان بالمتشابه وفي الحديث (تعلموا القرآن والتمسوا غرائبه)
يعني فرائضه أي حدوده وهي حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال
(فأحلوا حلاله وحرموا حرامه واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه واعتبروا بأمثاله)
رواه الديلمي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وأخرجه الحاكم وصححه
من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - ولفظه عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - أنه قال: (كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل
القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف، زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم
ومتشابه وأمثال فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما
نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل
من عند ربنا) وروى نحوه البيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة، وروى
ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: (أنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته
وتفسير تفسره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله ومن ادعى
علمه سوى الله فهو كاذب) ثم رواه من وجه آخر عن ابن عباس موقوفًا بنحوه وروى
ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس -رضي الله عنهما - قال: نؤمن بالمحكم، وندين به، ونؤمن بالمتشابه، ولا ندين به، وهو من عند الله كله
وقالت عائشة - رضي الله عنها -: كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمتشابهه ولا
يعلمونه.
ولما قدم ابن صبيغ المدينة المنورة وجعل يسأل عن متشابه القرآن أرسل إليه
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقد أعد له عراجين النخل فقال
من أنت قال عبد الله بن صبيغ فأخذ عمر عرجونًا من تلك العراجين فضربه حتى
أدمى رأسه وفي رواية فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دَبَرَةً ثم تركه حتى
برئ ثم أعاد عليه الضرب، ثم تركه حتى برئ فدعا به ليعيده عليه، فقال:
إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، أو ردني إلى أرضي فأذن له إلى أرضه،
وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين. وفي فروع ابن
مفلح من علمائنا أن عمر - رضي الله عنه - أمر بهجر ابن صبيغ لسؤاله عن
الذاريات، والمرسلات، والنازعات. انتهى. وهذا من سيدنا أمير المؤمنين عمر
بن الخطاب - رضي الله عنه - لسد باب الذريعة، والآية الشريفة دلت على ذم
متبع المتشابه، ووصفهم بالزيغ، وابتغاء الفتنة، وعلى مدح الذين فوضوا العلم إلى الله وسلموا إليه، كما مدح الله تعالى المؤمنين بالغيب؛ فعلى العاقل الناصح
لدينه ونفسه أن يسلك مسلك السلف الصالح، وأن يرقى على سلم التسليم؛ فإنه من
أنجح المصالح، وأن يؤمن بالمتشابهات من آيات الأسماء والصفات كما فعل
الصحابة والتابعون، ويمتثل من نبيه خاتم النبيين وإمام المرسلين في قوله: وآمنوا
بمتشابهه، وقولوا: (آمنا به كل من عند ربنا) فلقد بالغ في النصيحة بأدلة
صحيحة، وكلمات فصيحة؛ فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيًّا عن قومه ورسولاً عن
أمته، ورضي الله - تعالى- عن آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وذوي الحق
وحزبه.
(الثاني)
اعلم أن مذهب الحنابلة هو مذهب السلف، فيصفون الله بما وصف به نفسه
وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل
فلله تعالى ذات لا تشبه الذوات متصفة بصفات الكمال التي لا تشبه الصفات من
المحدثات؛ فإذا ورد القرآن العظيم، وصحيح سنة النبي الكريم عليه أفضل الصلاة
وأتم التسليم بوصف للباري - جل شأنه - تلقيناه بالقبول والتسليم، ووجب إثباته له
على الوجه الذي ورد ونكِل معناه للعزيز الحكيم، ولا نعدل به عن حقيقة وصفه ولا
نلحد في كلامه، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا نزيد على ما ورد، ولا
نلتفت لمن طعن في ذلك ورد فهذا اعتقاد سائر الحنابلة كجميع السلف؛ فمن عدل
عن هذا المنهج القويم زاغ عن الصراط المستقيم، وانحرف فدع عنك فلانًا عن
فلان وعليك بسنة سيد ولد عدنان؛ فهي العروة التي لا انفصام لها والجُنة الواقية
التي لا انحلال لها، والله تعالى الموفق.
(الثالث)
قد ذم السلف الصالح الخوض في علم الكلام، والتقصي والتدقيق فيما زعموا
أنه قضايا برهانية، وحجج قطعية يقينية، وقد شحنوا ذلك بالقضايا المنطقية
والمدارك الفلسفية، والتخيلات الكشفية، والمباحث القرمطية، وكان أئمة الدين مثل
مالك وسفيان وابن المبارك وأبي يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل
بن عياض وبشر الحافي يبالغون في ذم الكلام، وفي ذم بشر المريسي وتضليله
حتى إن هارون الرشيد خامس خلفاء بني العباس قال يومًا: بلغني أن بشر المريسي
يقول: إن القرآن مخلوق، ولله علي إن أظفرني به الله لأقتلنه قتلة ما قتلتها أحدًا،
فأقام بشر متواريًا أيام الرشيد نحوًا من عشرين سنة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية
وهذه التأويلات التي ذكرها ابن فورك ويذكرها الرازي في (تأسيس التقديس)
ويوجد منها كلام غالب المتكلمة من الجبائي وعبد الجبار وأبي الحسين البصري
وغيرهم هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي ورد عليه الإمام الدارمي
وعثمان بن سعيد أحد مشاهير أئمة السنة من علماء السلف في زمان البخاري في
المائة الثالثة في كتابه الذي سماه (رد عثمان بن سعيد، على الكاذب العنيد، فيما
افترى على الله من التوحيد) فحكى هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام
يقتضي أن المريسي أقعد بها، وأعلم بالمعقول والمنقول من هؤلاء المتأخرين الذين
اتصلت إليهم من جهته وقد أجمع أئمة الهدى على ذم أئمة المريسية وأكثرهم كفروهم
وضللوهم وذموا الكلام وأهله بعبارات رادعة وكلمات جامعة.
قال أبو الفتوح نصر المقدسي في كتابه (الحجة على تارك المحجة) بإسناده عن
الربيع بن سليمان قال: سمعت الإمام الشافعي يقول: (ما رأيت أحدًا ارتدى بالكلام
فأفلح) ولما كلمه حفص الفرد من أهل الكلام قال: (لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله
عنه خلا الشرك بالله - عز وجل - خير له من أن يبتلى بالكلام) وقال:
حكمي في أصحاب الكلام أن يصفعوا، وينادى بهم في العشائر والقبائل هذا جزاء من
ترك السنة، وأخذ في الكلام، وقال سيدنا الإمام أحمد: (عليكم بالسنة والحديث وما
ينفعكم، وإياكم والخوض والمراء فإنه لا يفلح من أحب الكلام) ، وقال في علماء
أهل البدع من المتكلمة: (لا أحب لأحد أن يجالسهم ولا يخالطهم ولا يأنس
بهم؛ فكل من أحب الكلام لم يكن آخر أمره إلا إلى البدعة؛ فإن الكلام لا يدعوهم إلى
خير، فلا أحب الكلام، ولا الخوض، ولا الجدال عليكم بالسنن والفقه الذي تنتفعون
به، ودعوا الجدال، وكلام أهل الزيغ والمراء، أدركنا الناس وما يعرفون هذا،
ويجانبون أهل الكلام) وقال - رضي الله عنه -: من أحب الكلام لم يفلح، عاقبة
الكلام لا تأول إلى خير، أعاذنا الله وإياكم من الفتن وسلمنا وإياكم من كل هلكة، وقد
نقل عن هذين الإمامين من ذم الكلام وأهله كلام كثير مذكور في كتب علماء
السلف.
وعن عبد الرحمن بن مهدي قال دخلت على الإمام مالك بن أنس وعنده رجل
يسأله عن القرآن والقدر، فقال الإمام مالك - رضي الله عنه - للرجل لعلك من
أصحاب عمرو بن عبيد لعن الله عمرًا؛ فإنه ابتدع هذه البدعة من الكلام،
ولو كان الكلام علمًا لتكلم به الصحابة والتابعون - رضي الله عنهم - كما تكلموا في
الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل، فهل يكون أشد من هذا الإنكار من
هؤلاء الأئمة الكبار وقال محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة سمعت أبا حنيفة
يقول: (لعن الله عمرو بن عبيد فإنه مبتدع) والنصوص عن أئمة الهدى في ذلك
كثيرة جدًّا، وروى الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي في كتابه (العرش) بسنده إلى
أبي الحسن القيرواني قال سمعت الأستاذ أبا المعالي الجويني يقول: (يا أصحابنا
لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به) وقال
الفقيه أبو عبد الله الدسمي قال: حكى لنا الإمام أبو الفتح محمد بن علي الفقيه
قال: دخلنا على الإمام أبي المعالي الجويني نعوده في مرض موته فاقعد فقال لنا:
(اشهدوا على أني قد رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها السلف الصالح وأني
أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور) قال: الحافظ الذهبي قلت: (هذا
معنى قول بعض الأئمة عليكم بدين العجائز يعني أنهن مؤمنات بالله على فطرة
الإسلام لم يدرين ما علم الكلام) قال الحافظ الذهبي: وقد كان شيخنا أبو الفتح
القشيري رحمه الله تعالى يقول:
تجاوزت حد الأكثرين إلى العلى ... وسافرت واستبقيتهم في المفاوز
وخضت بحارًا ليس يدرك قعرها ... وسيرت نفسي في قسيم المفاوز
ولججت في الأفكار ثم تراجع اختياري إلى استحسان دين العجائز
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته الحموية، وقد أخبر الواقف على نهايات
أقدام المتكلمة بما انتهى إليه من مرامهم:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعًا كف حائر ... على ذقن أو قارع سن نادم
وقول بعض رؤسائهم:
نهاية إقدام العقول عقال ... ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... ... وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
قال شيخ الإسلام: ويقول الآخر منهم لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل
الإسلام وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني الله برحمته
فالويل لفلان، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي. ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكًّا
عند الموت أصحاب الكلام. قال شيخ الإسلام: ثم إذا حقق عليهم الأمر لم يوجد
عندهم من حقيقة العلم بالله، وخالص المعرفة به خبر، ولم يقعوا من ذلك على عين
ولا أثر، وما ذكرناه عن الأنباه قطرة من بحر لجي، وبالله التوفيق.
فإن قلت: (إذا كان علم الكلام بالمثابة التي ذكرت، والمكانة التي عنها
برهنت فكيف ساغ للأئمة الخوض فيه، والتنقيب عما يحتويه، ثم إنك أتيت ما عنه
نهيت، وحررت ما عنه نفرت، وهل هذا إلا في بادي الرأي مدافعة وجمع للشيئين
اللذين بينهما تمام الممانعة) قلت: إن ما ذهب إليه ذهنك من التمانع لممتنع وما
سنح في خلدك من التدافع لمندفع، بل العلم الذي نهينا عنه غير الذي ألفنا فيه
والكلام الذي حذرنا منه غير الذي صنف فيه كل إمام وحافظ وفقيه فعلم الكلام
الذي نهى عنه أئمة الإسلام هو العلم المشحون بالفلسفة والتأويل والإلحاد والأباطيل
وصرف الآيات القرآنية عن معانيها الظاهرة والأخبار النبوية عن حقائقها الباهرة
دون علم السلف، ومذهب الأثر، وما جاء في الذكر الحكيم، وصحيح الخبر، فهذا
لعمري ترياق القلوب الملسوعة بأراقم الشبهات، وشفاء الصدور المصدوعة بتراجم
المحدثات، ودواء الداء العضال، وبأزهر السم القتَّال؛ فهو فرض عين أو عين
فرض على كل نبيه، وهو العلم الذي تعقد عليه الخناصر لدحض حجة كل متحذلق
وسفيه فزال هذا الإشكال والله ولي الأفضال) اهـ. المراد.
(المنار)
ما ذكر من ذم السلف لعلم الكلام الذي يقصد به الجدل ثابت لا ريب فيه، وقد
يشكل على القراء ضرب عمر لصبيغ مع ما كان عليه المسلم من الحرية في الصدر
الأول حتى إنهم لم يقتلوا أحدًا من مثيري الفتنة على عثمان، بل نفوهم من بعض
البلاد إلى غيرها عندما رأى أمراء الأمصار أثر فتنتهم فيها، والسبب في تشديد
عمر - رضي الله عنه - على صبيغ هو تعرضه للناس وتشكيكهم في دينهم فكان
يجالس العامة والأعراب ويسألهم عن متشابه القرآن. قال في القاموس عند ذكر
اسمه (كان يعنت الناس بالغوامض والسؤالات فنفاه عمر إلى البصرة) وخبر النفي
هو المشهور، وأما الضرب ففي النفس من كلامهم فيه شيء أقله المبالغة على أن
الحاكم يجب عليه أن يدفع عن رعيته من يعتدي على عقائدهم وأفكارهم، كما يدفع
عنهم من يعتدي على أجسامهم وأموالهم، وقد سبق لنا ذكر مسألة صبيغ في المنار،
ولا أذكر الآن الموضع الذي ذكرت فيه. وأما ذم الكلام على طريقة الجدل،
والتحيز للمذاهب فقد رجع إليه أكابر النظار من علماء الكلام بعد بلوغ الكمال كحجة
الإسلام الغزالي والذي حققوه أن يلقن الجماهير من المسلمين عقيدتهم كما وردت في
الكتاب والسنة من غير تأويل ولا جدال، ولا خوض في النظريات وأن تذكر لهم
الأدلة الكونية كما ذكرت في القرآن وأن يذكر لهم وجه الاعتبار والخشية من ذكر
صفات الله تعالى مع تنزيهه عن مشابهة الحوادث فإذا ذكرنا قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ
البَصِيرُ} (الشورى: 11) نتدبر ذلك معتقدين أنه لا يخفى عليه شيء من أقوالنا
وأفعالنا ولا نبحث في كيفية سمعه وبصره كما لا نبحث عن كيفية علمه وقدرته.
__________(8/649)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحياة الزوجية
(6)
] وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا
وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون [[*]
(الركن الثالث من أركان هذه الحياة الرحمة)
تقدم أن الطور الأول من أطوار هذه الحياة خاص بالزوجين، وهو سكون
نفس كل منهما إلى الآخر ذلك السكون الذي لا نظير له بين سائر المتحابين لغير
اتحاد الزوجية، وهو وجدان من وجدانات النفس لا يعرف كنهه إلا الزوجان اللذان
أحسنا الاختيار فتعارف الروحان، وتمازج النفسان، فكانا حقيقة واحدة لها صورتان،
وأن الطور الثاني يشاركهما فيه غيرهما، وهو الود الذي تحدثه المصاهرة بين
عشيرتي الزوجين الوديدين، ونبين في هذه المقالة أن الطور الثالث مشترك بين
الزوجين وما يرزقان من الولد.
الرحمة ضرب من ضروب وجدان النفس، له مثار في النفس غير مثار السكون
إلى المحبوب والأنس به، وغير مثار مودة المشارك في المعيشة، والمشابك في
المصلحة، ذلك الذي يثير وجدان الرحمة، ويهز عاطفة الرأفة والشفقة، هو ما
ترى في غيرك من ضعف أو سقم، أو حاجة يصحبها ألم، وهذا هو ملاك الحياة
الزوجية عند حدوث الأمراض والأدواء، وعندما تذوي غصن الشبيبة هاتيك
الأهواء، ولو لم يودع الله تعالى الفطرة إلا سكون الزوج لملامسة الزوج، ومودة
كل منهما للآخر للتعاون على المصالح والمنافع التي هو قوام معيشتهما؛ لكانت
الحياة الزوجية نعيمًا في الشباب بؤسًا في الشيخوخة، سعادة في السراء، شقاوة في
الضراء، يتمتع كل من الزوجين بصحة الآخر ونشاطه، وبسطته واغتباطه، حتى
إذا لسعت أحدها حمة الضر، أو عضته ناب الفقر، أو نالت السن من فتائه وجدته ما
لم تنل الناب من ثرائه وجِدَته، استحال سكون الآخر إليه اضطرابًا منه، وانقلبت
مودته إياه مقاطعة له، ويالذاك لو كان من نقص عظيم ينافي خلق الإنسان في
أحسن تقويم.
لا تحسبن هؤلاء الذين يملون أزواجهم عند السقم أو الهرم فلا يرحمون لهن
ضعفًا، واللواتي يمللن أزواجهن في الكبر أو الفقر فلا يحفظن لهم عهدًا - قد سلمت
لهم فطرة هذا النوع الكريم الذي خلقه الله في أحسن تقويم، كلا، بل أفسدت
الشهوات فطرتهم، ونكست الأهواء خلقتهم، فلهم من الإنسان صورته وشكله، لا
روحه ولا عقله، ولا كرمه ولا فضله، بل صاروا أعدى للإنسان من الشيطان
وأضرى بمضرته من سباع الحيوان، وأيّ خير يرجوه الإنسان من نوعه، أو الأمة
في خاصتها، ممن لا خير فيه لمن انفصل لأجله عن أمه وأبيه، وأخته وأخيه
وعشيرته التي تؤويه، واتصل به على عهد الله وميثاقه في الفطرة البشرية،
والشريعة السماوية، فكان معه روحًا حلت في جسمين، وهيولي تجلت في
صورتين، ثم لم يلبث بعد فراغ حظه منه، أن انفصل عنه، لا يرحم له ضعفه،
ولا يعطف عليه عطفه، أليس المشارك له في النوع والصنف، أولى بهذه القسوة
وهذا العنف؟ بلى، إن هؤلاء الذين استعبدتهم الأثرة، واسترقتهم (الأنانية) أعداء
الأهل والأقربين بل أعداء البشر كلهم أجمعين.
هذا الضرب من فساد الفطرة هو في الرجال أكثر منه في النساء والعدوى فيه
تفعل فعلها في البيوت تسير سير البريد من بيت إلى آخر ولا آسٍ يأسو هذا
المرض الذي كاد يكون وباء، وأنى يوجد الأساة أو تنتفع الأمة بمن عساه يوجد منهم
وطب القلوب مهجور، وأهله كأهل طب الأبدان، منهم العالم العامل، ومنهم
الدجال المحتال، وقد مضت سنة الكون بأن الأمة في طور ضعفها وضعتها
تدين للدجالين المحتالين، وتنفر من العارفين الناصحين، لذا ترى مدعي طب
الأرواح عندنا من أكبر الأعوان على تخريب البيوت فمنهم الذين جعلوا طب القلوب
الظاهر وسيلة لإعانة كل زوج على قهر الآخر بالتقاضي كبعض القضاة والمحامين،
ومنهم الذين جعلوا طبها الباطن ذريعة إلى استحلال المحرمات بالفعل اعتمادًا على
شفاعة الشافعين، والانتساب بالقول إلى المشايخ الميتين.
فطر الله - تعالى- قلوب البشر على الرحمة ليتراحموا فلا يهلك فيهم العاجز
والضعيف، وكل أحد عرضة لاستحقاق الرحمة في يوم من الأيام، وجعل سبحانه
حظ الوالدين والزوجين من الرحمة أرجح ليعنى بكل فرد من الناس أقرب الناس منه
عند شدة الحاجة إلى العناية والكفالة؛ فالزوج لزوجه عند الضعف في المرض أو
الكبر، كالوالدين لولدهما عند ضعفه في الصغر، بل تجد المرأة أرحم ببعلها في
مرضه أو كبره من أمه لو وجدت، وتجد الرجل أرحم بسكنه في مرضها أو كبرها
من أبيها لو وجد إذا كانت الفطرة سليمة، فإن لم يكن كل من الزوجين أرحم بالآخر
في كبره من والديه فإنه يقوم مقامهما إذ لا يضعف كل من الزوجين ويحتاج إلى
الرحمة إلا بعد موت الوالدين في الغالب، فإن مرض وهما في صحتهما فإنهما يكونان
بعيدين عنه لا يسهل عليهما ترك بيتهما ومن عساه يكون فيه من محتاج إلى
رحمتهما؛ لأجل لزام ولدهما الكبير المتزوج. فظهر أن كلاًّ من الزوجين في حاجة
إلى رحمة الآخر به عند ضعفه لا يقوم بها سواه من الأقربين أو المستأجرين مقامه
فيها.
ليست الأريحية في سكون الزوج إلى زوجه عند داعية المسيس، ولا أريحية مودته ومودة أههله في المعاشرة والمعاملة بأكبر من الأريحية التي يجدها لرحمته
به وحنوه عليه في حال الضعف، فإن الإنسان يشعر بالارتياح من عناية غيره به
عند الحاجة ما لا يشعر بها عند الاستغناء، فالضعفاء والمرضى والمملقون يكبرون من أمر الوفاء والاعتناء، ما لا يكاد يشعر به الأقوياء والأصحاء والأغنياء {إِنَّ
الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6-7) وإن من طغيانه أن يعتقد أن
كل من يحفل به ويعني بشأنه فإنما يفعل ذلك لأجل نفسه، لا لأجله هو؛ لأن الناس
في حاجة إليه، وهو ليس في حاجة إليهم، وقد يبلغ به الطغيان إلى إدخال
زوجه وولده في هذا الحكم، فإذا تحول مدّ طغيانه إلى جزر بالمرض أو الحاجة؛
رق قلبه ولطف شعوره، وكان أعدل في الحكم وأقرب إلى عرفان قدر النعمة
والشكر عليها.
يسمون مسألة الزواج مسألة (مستقبل الإنسان) وإن كنت تجد في الأَغْرَار
من لا يفكر عند إرادة التزوج بمستقبله مع من يختاره زوجًا له؛ فإنك لا تكاد تجد
من لا يعبأ بهذا المستقبل إذا ذكر به فأعمل فكره فيه إلا ما يكون من بعض
المترفين إذا فتن أحدهم بجمال امرأة يود أن يقضي منها وطرًا، ثم لا يبالي ما يكون
بعد ذلك، ومثل هذا إذا ملّ طلق، ولا تكاد تجد امرأة ترضى بالتزوج بمثله على أن
هذا النوع من الازدواج هو أشبه بالاستئجار أو البغاء منه بالزواج، وإنما
الزواج الشرعي الطبيعي ما كان عن إرادة الاشتراك في الحياة مدة الحياة، وإلا كان
متعة بالغش والمخادعة، ولا أرى الشيعة يدينون بجواز هذا الضرب من المتعة؛
لأن الغش محرم بالإجماع لا خلاف في ذلك بين سني وشيعي. وإذا كانت مسألة
الزواج هي أعظم مسائل مستقبل الإنسان الخاصة أفلا يكون من أعظم الشقاء أن يبدأ
أمر الزوجين بالسكون والود في السراء، وينتهي بالاضطراب والتخاذل في
الضراء؟ يشكر أحد الزوجين للآخر عند إمكان استبداله أو الاستغناء عنه ويكفره
أحوج ما كان إليه، أي عاقل يرضى بهذه الخاتمة السؤى إذا علم بها أو ظن أن
ستكون؟
لا شيء يخفف أثقال الفقر وأوزاره عن كاهل الرجل يتحمله مثل المرأة التي
ترحمه في فقره فتظهر له الرضا والقناعة ولا تكلفه ما تعلم أن يده لا تنبسط له، فما
بالك إذا كانت ذات فضل تواسيه به، ولا شيء يعزي الإنسان عن مصابه في نفسه
وغيره مثل المرأة للرجل والرجل للمرأة إذا ظهرت عاطفة الرحمة في أكمل
مظاهرها فشعر المصاب بأن له نفسًا أخرى تمده في القوة على مدافعة هذه العوارض
التي لا يسلم منها البشر، واعكس الحكم في القضيتين، يتجلَّى لك وجه الصواب في
الصورتين.
إذا كان لركن الزوجية الأول وهو السكون المعهود تأثير في الثاني، وهو
المودة فلا ريب أن الركن الثالث، وهو الرحمة يكون أثرًا للركنين قبله أو فرعًا لهما
فعلى قدر السكون والمودة بين الزوجين في النعماء، تكون الرحمة بينهما في البلاء؛
لأن مصاب الوديد المحبوب يعيد للنفس ذكرى جميع حسناته، وطيب أيامه
وأوقاته، ويمثلها في أبهى حللها، ويعرضها على النفس في أجمل معارضها
(المعرض هو الثوب الذي تجلى فيه العروس) يخيل إلى المحب أن تلك الحسنات
واللذات قد اجتمعت، وأن المصاب يحاول أن يشتت شملها ويقطع حبلها، فهو
يواثب لذاته المجتمعة في شخص محبوبه، ويحاول سلب منافعه باغتيال نفس وديده،
فمن أراد أن يحسن مستقبله في هذه الحياة فليجتهد أولاً في حسن اختيار الزوج، ثم
ليخلص له المودة ثانيًا ليتمتع بوفائه أولاً وآخرًا وباطنًا وظاهرًا.
ما أجهل الرجل يسيء معاشرة امرأته، وما أحمق المرأة تسيء معاشرة بعلها
يسيء أحدهما إلى نفسه من حيث يسيء إلى الآخر فهو مغبون غالبًا ومغلوبًا، وما
رأيت ذنبًا عقوبته فيه كذنب إساءة الزوج إلى الزوج بل أرى العذاب يضاعف في
الدنيا على ذنب الزوجية فيكون زوجًا لا فردًا وكل ذنب له عقوبة في النفس أو فيما
يتعلق بالنفس تكون أثرًا طبيعيًّا له إلا ذنب أحد الزوجين في مغاضبة الآخر فإنه هو
نفسه عقوبة لنفس مقترفه يؤلمها ويمضها ثم إنه يلد لها عقوبة أو عقوبات أخرى
تكون أثرًا له كسائر الذنوب. ولكن أثر ذنب الزوجية ليس كآثار غيره؛ لأنه هو ليس
كغيره فكبر الآثار وصغرها تابع لحال المؤثرات.
أنهاك أيها المعزابة أن تسارع إلى الزواج مهما تمادت بك العزوبة إلا بعد
حسن الاختيار، وأنهاك أيتها الأيم وأولياءك أن تجيبوا خاطبًا إلا بعد التروي في
الاختيار، وأعظكما إذا أنتما تزوجتما فلم تجدا ذلك السكون النفسي كاملاً، وذلك
الودّ الطبيعي مواصلاً، أن يتحبب كل منكما ويتودد إلى الآخر ما استطاع ويجعل
أكبر همه في هبته واستيهابه قلبه لتحسن الحال، ويرجى حسن العاقبة في المآل،
فإن عجزا عن ذلك بعد الإخلاص في طلبه والجد في إدراكه، فليتفرقا يغن الله كلاًّ
من سعته، وكان الله عليمًا حكيمًا.
إذا رزق الله الزوجين الولد تنمو به بينهما المودة والرحمة، ويكون هو منبعًا
لرحمتها فاشتراكهما في هذه الرحمة الوالدية التي لها مصدر واحد ومورد واحد يؤكد
الصلة بينهما فبينا هما معتصمان بحبل الزوجية الذي هو من أقوى الروابط الحيوية
إذا هما معتصمان بحبل الوالدية الذي هو أقواها على الإطلاق، وكيف لا يكون
كذلك ورابطة الزوجية هي طاقة من طاقات حبل الوالدية إذ الوالدان هما الزوجان قد
أنتجا فكملت حيويتهما وجاءت بثمرتها.
كل واحد من الوالدين يشعر من حيث هو والد بما يشعر به الآخر ويملكه
الوجدان الذي يملك الآخر وتتولد فيه الآمال التي تتولد في الآخر، ويكون جده وسعيه
لمثل ما يجد ويسعى له الآخر ويرى سعادته عين سعادة الآخر، أرأيت هذا الاتحاد
في هذه الشؤون كلها إذا صافح اتحاد الزوجية وعانقه كيف يكون حال المتحدين في
تراحمهما وتعاطفهما؟ بل في تمازجهما وفناء كل منهما في الآخر؟ لو كانت المسألة
نظرية محضة لحكم الناظر فيها مع سلامة الفطرة بأن الحياة الوالدية هي كمال الحياة
الزوجية وأن هذا الكمال هو الذي ليس بعده كمال، فالوالدان هما أسعد الناس بنفسهما
وولدهما لا يتصور أن يقوى الزمان على شت شملها، أو نكث فتلهما، وإن
اتحادهما هذا لأكبر عون لهما على أحداث الزمان، وأفعال الطبيعة في الإنسان.
ما كان لسليم الفطرة الذي يعيش بمعزل عن فاسدي الأخلاق معتلِّي الطباع أن
يتخيل وقوع نزاع يتمادى بين الزوجين الوالدين، بله المغاضبة التي تفضي إلى
المباغضة، والمناصبة، والمناهضة، على نحو ما يكون بين أصحاب التراث
الموروثة، والأضغان المخبوءة، كما يقع الآن على مرأى منا ومسمع وألمعنا إليه
من قبل. لكن الفساد قد بلغ من هذه الأمة مبلغًا لا يصدقه عاقل، ولا يتخيله فاضل
إلا أن يرى بعينه، ويسمع بأذنه، وقد أحصى الأستاذ الإمام عليه الرحمة قضايا
سنة في إحدى المحاكم الأهلية فبان له أن 75 قضية منها كانت بين الأقربين فما بالك
بقضايا المحاكم الشرعية، ولعل 99 منها في المئة بين الأزواج والوالدين.
سبق القول بأن الحياة الزوجية هي أصل الحياة الوطنية والحياة الملية؛ فإذا
كانت الأولى سعيدة كان ذلك أصلاً في سعادة الأمة، وإذا كانت شقية كان ذلك علة
لشقاء الأمة؛ لأن الأمة مؤلفة من هذه البيوت، فمن لا خير فيه لأهله لا خير فيه
لأمته، كما علمت من حديث (خيركم خيركم لأهله) فما دامت حياتنا الزوجية
مختلفة معتلة فلا يرجى لنا أن نحيا حياة ملية طيبة. وإن هذا الشقاء في الأمة
والبيوت هو في المسلمين أثر من آثار ترك عقائدهم وآدابهم الدينية، وتقطيع
روابط الملية، فخسارتهم لسعادة الدنيا دليل على أنهم إن لم يعودوا ويتوبوا
سيخسرون سعادة الآخرة وذلك هو الخسران المبين.
نقف عند هذا الحد في بيان أركان الزوجية الثلاثة التي نطقت بها الآية
الكريمة في السورة التي ورد فيها أن الدين القيم هو فطرة الله التي فطر الناس عليها
فقد شرحناها بما أملته علينا الفطرة، وهدتنا إليه الفكرة، إذ هي التي أرشدتنا إلى
ذلك بخاتمها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} (الروم: 21) .
__________
(*) (الروم: 21) .(8/656)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من سنغافوره
(س 33-35) السيد سالم بن أحمد عبد الفتاح في سنغافوره: إني رأيت
جريدتكم (المنار) الأغر في أبهى الكمال لإرشاد أهل الضلال والبدع، وإني سائلكم
أن تفتونا عن الأسئلة الآتية:
(1) ما قولكم فيمن اعتادوا تلطيخ قبلة المسجد بالسواد وغيره من أصناف
الألوان وتقطيع أطراف أثوابهم وإلصاقها بالبصاق على حيطان المساجد من داخلها.
(ج 1) عن تلطيخ جدران المساجد وإلصاق الخرق عليها:
تلطيخ قبلة المسجد وجدرانه بالسواد وغيره من الألوان ينظر فيه من وجهين:
القصد منه وأثره في شغل المصلين به عن الصلاة، فإن كان القصد منه تلويث
المسجد وتقذيره كما تشعر به كلمة (تلطيخ) فهو معصية، وقد ذكر بعض الفقهاء أن
من يلطخ المسجد بنجس أو قذر يكون مرتدًّا يعنون أنه لا يعقل أن يهين أحد بيتًا
ينسب إلى الله تعالى بتخصيصه لعبادته فيه وهو يؤمن بأن هذه العبادة حق شرعه الله
تعالى، وكأنهم لم يلتفتوا إلى احتمال أن يقع تقذير المسجد من غافل عن الكفر بالله
وعن حقية العبادة التي تؤدي في هذا المكان، ولكن القرائن قد تكون دالة دلالة قطعية
على أن ملوث المسجد غير كافر بالله ولا منكر لشيء من شريعة أهل المسجد ولا
قاصد إلى إهانة المسجد فلا وجه للحكم بالردة حينئذ والتلويث محظور على كل حال
ولا وجه لإباحته.
وإن كان القصد منه تزيينه بالألوان فحكمه على كونه خلاف السنة يختلف
باختلاف حال المصلين فإن كانوا قد اعتادوا الصلاة في المساجد المزوقة بالألوان
فصارت لا تشغل قلوبهم عن معنى الصلاة من التوجه إلى الله تعالى وتدبر ذكره
وكلامه فيها فالأمر في التزيين أهون إذ ليس فيه إلا مخالفة السنة التي جرى عليها
سلف الأمة في الأمور الظاهرة من غير إخلال بأمور الدين الباطنة كالتوجه إلى الله
تعالى والخشوع لذكره وتدبر كلامه، وإن كان المصلون في هذا المسجد غالبًا لم
يعتادوا ذلك فالأمر أشد؛ لأن هذا العمل يكون مخالفًا لآداب الدين الظاهرة والباطنة كما
علمت.
هذا ما يقال في فقه المسألة وأما المروي في المساجد مما يتعلق بها فكثير ومنه
ما رواه أحمد ومسلم من حديث أنس مرفوعًا (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من
القذر والبول والخلاء، وإنما هي لقراءة القرآن وذكر الله والصلاة) ومنها حديثه
عند أحمد والشيخين (النخاعة في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها) وفي رواية أخرى
البصاق بدل النخاعة، وقد كانت أرض المسجد ترابًا لا فرش عليها وكفارتها في
مساجدنا أن تمسح وينظف المحل، وقد ورد في الحديث النهي عن البصاق في
المسجد ومن تنخم فليبصق في ثوبه أي كمنديله وورد في البصاق فيه وعيد شديد.
وجاء ذكر زخرفة المساجد في بعض الأحاديث التي وردت في علامات الساعة
وفي افتراق الأمة مقرونة إلى بدع وضلالات يقتضي السياق إنها مثلها كحديث
عوف بن مالك عند الطبراني: (كيف أنت يا عوف إذا افترقت الأمة على ثلاث
وسبعين فرقة واحدة منها في الجنة وسائرهن في النار؟ قال وكيف ذلك، قال: إذا
كثرت الشرط، وملكت الإماء، وقعدت الجهلاء على المنابر، واتخذوا القرآن
مزامير، وزخرفت المساجد ورفعت المنابر، واتخذ الفيء دولاً والزكاة مغرمًا
والأمانة مغنمًا وتُفُقه في دين الله لغير الله وأطاع الرجل امرأته وعق أمه وأقصى أباه
ولعن آخر هذه الأمة أولها وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم وأُكرم
الرجل اتقاء شره فيومئذ يكون ذلك) الحديث،وهو ضعيف وله شواهد في زخرفة
المساجد وغيرها كحديث أبي الدرداء عند ابن أبي الدنيا في المصاحف (إذا زخرفتم
مساجدكم وحليتم مصاحفكم فعليكم الدمار) وأقوى من ذلك حديث ابن عباس عند
أبي داود (ما أمرت بتشييد المساجد) وفسره ابن عباس بزخرفتها كما زخرفت
اليهود والنصارى، وفي فقه المسألة حديث عثمان بن طلحة عند أحمد وأبي داود
وفيه (فإنه لا ينبغي أن يكون في قبلة البيت شيء يلهي المصلي) .
ومنها في أشراط الساعة حديث ابن مسعود الطويل عند الطبراني ومنه (يا ابن مسعود إن من أعلام الساعة وأشراطها أن تزخرف المحاريب، وأن تخرب
القلوب، يا ابن مسعود إن من أعلام الساعة وأشراطها أن تكنف المساجد وتعلو
المنابر) الحديث. وله حديث آخر فيه هذا اللفظ وهو عند البيهقي في البعث وابن
النجار قال البيهقي: إسناده فيه ضعف إلا أن أكثر ألفاظه قد روي بأسانيد متفرقة
أقول: منها حديث أنس عند أحمد وأصحاب السنن ما عدا الترمذي أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد) وقد صححه ابن
خزيمة وأورده البخاري تعليقًا بلفظ (يتباهون) بها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً) .
وأما إلصاق قطع من أطراف ثيابهم بجدر المسجد فالذي تبادر إلى فهمي أنهم
يقصدون به دفع ضرر أو جلب منفعة قياسًا على ما نراه في هذه البلاد وغيرها من
ربط بعض الجاهلين قطعًا من أثوابهم ببعض الأشجار المعتقدة أو أضرحة الموتى
المشهورين بالصلاح أو أبواب الحجرات التي دفنوا فيها وكل هذه الأعمال مما تبع
فيه المسلمون الجغرافيون سنن من قبلهم من الوثنيين بعد انتقال هذه الأعمال الوثنية
إلى أهل الكتاب فلا حاجة إلى إطالة القول فيها ولا شبهة على هذه البدع لأعداء
السنة وأنصار البدعة إلا جعلها من أذيال ما يسمونه زيارة القبور وأين زيارة القبور
المأذون فيها للاعتبار بالموت من هذه الأعمال الوثنية؟
***
(س 2) ما قولكم في تقبيل شواهد الأموات والتوسل بها، والدعاء بهذه
الدعوات: عباد الله جئناكم طلبناكم، أغيثونا أعينونا بهمتكم وجدواكم؟
(ج 2) عن تقبيل أحجار القبور ودعاء الموتى والتوسل:
يريد السائل بشواهد الموتى الأحجار الكبيرة التي توضع تجاه رءوس الموتى
من قبورهم وتقبيل هذه الأحجار من سنن الوثنية، وأقبح البدع في الإسلام، وأما
دعاء الموتى فهو عبادة حقيقية لهم وإن غير المبتدعون اسمها وأطلقوا عليها لفظ
التوسل، وقد كان هذا النوع من العبادة، وهو دعاء غير الله، أي نداؤه لطلب المنفعة
منه أو دفع الضرر، أو التقرب به إلى الله واتخاذه شفيعًا هو جل ما يعرف من
عبادة المشركين لغير الله ولذلك فسر الدعاء بالعبادة حيث ورد في هذا المقام من
القرآن. قال تعالى في سورة الأعراف {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ
فَادْعُوَهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الأعراف: 194) وقال تعالى في
سورة فاطر {إِن تَدْعُوَهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ
يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 14) وقال في سورة الجن {وَأَنَّ
المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) والآيات في هذا لا تحصى،
وقال تعالى في سورة يونس: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ
وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) الآية وقال تعالى في سورة
الزمر {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا
إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) الآية. وقد فصلنا القول في هذه المسألة في
المجلدات السابقة مرارًا كثيرة وفندنا فيها مزاعم أهل التحريف والتأويل فليراجع ذلك
في محالِّه مع الاستعانة بالفهرس. يطلب منه لفظ التوسل ولفظ الشفاعة ولفظ قبور
الصالحين أو القبور مطلقًا.
***
(س 3) في ليلة نصف شعبان من كل سنة يفككون الصناديق والحواصيل
(كذا) ويزعمون أن في تلك الليلة تقسيم وتوسيع الأرزاق. وفي أول ليلة من السنة
الجديدة يجمعون شيئًا من النقود وغيرها كالحلي وشيئًا من حشيش الأرض يسمونه
(السعدى) وعودًا من نخل المدينة، ويجعلون الجميع فوق غطاء قدر ويزعمون أن
تلك السنة تدخل عليهم بهذه الأشياء التي فعلوها؟ أفتونا في ذلك ودمتم مأجورين.
(ج 3) عن بدع ليلة نصف شعبان وأول السنة:
قد كتبنا في بدع ليلة نصف شعبان غير مرة فمنها ما كتبناه في الجزئين السابع
عشر والرابع والعشرين من المجلد السادس ومنها ما كتبناه في الجزء الذي صدر في
16 شعبان من المجلد الثالث وغير ذلك. ولم نذكر فيما أوردناه من بدع الناس في
هذه الليلة مسألة تفكيك الصناديق والحواصيل للاستعانة على سعة الرزق، وكأن هذا
من الخرافات المعروفة ببلاد السائل دون البلاد التي عرفناها وهي خرافة يتبرأ منها
الإسلام ومن ينتسب إليه بحق. ومثله ما ذكره من خرافاتهم في أول السنة ويشبه أن
يكون هذا من خرافات بعض العجائز الجاهلات، ويطلق المصريون على أمثال هذه
السخافات اسم (علم الركة) يعنون به تقاليد النساء وخرافاتهن ومزاعمهن وهن قلما
يسندن شيئًا من هذا الجهل الذي يسمينه علمًا إلى الدين، ولولا أن علم الركة في
سنغافورة وأمثالها من البلاد التي يغلب فيها الجهل يستند في بعض مسائله إلى الدين
لما احتاج السائل إلى جواب عن هذه المسألة يحتج به على الجاهلين.
__________(8/662)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دعوى الرقيقة
بعد موت السيد أنها أم ولد له
(س 36) عوض بن جميعان سعيدان (بسنغافورة) [*] ما هو الحكم في
جارية رجل تسكن معه في بيت وتتولى خدمته، ثم مات عنها وزعمت أنه يطؤها
فهل قولها كافٍ في إثبات نسب الابن وما يترتب عليه؟ أم لا بد من عدم معارضة
ورثة سيدها إن كان له ورثة، أو لا يكفي إلا استلحاق الحائز للتركة للابن؟ أم لا بد
من إرقاق الجارية وولدها إلا بإقرار السيد لا غير وإقامة الحد عليها؟ أفيدونا بما
تعتقدون أنه الحق والمسألة واقعة والخبط والخلط كثير لا زلتم هداة للحق دعاة
للصدق.
(ج) سكنى الجارية في بيت سيدها لا يجعلها فراشًا إلا إذا أقر أنه جعلها
كذلك إقرارًا صريحًا؛ فإن جاءت بولد في حياته وادعاه كان ولده بلا خلاف وكانت
هي أم ولد لها حكمها المعروف، وإن لم يدعه فكذلك عند مالك والشافعي وأحمد؛
لأنه يكفي عندهم اعترافه بوطئها وهو الذي أعتقد ولا حاجة لذكر دعواه الاستبراء
أو نفيه الولد لأنه ليس مما نحن فيه، وما نحن فيه دعواها أنه اتخذها فراشًا، ولا بد
في إثبات ذلك من بينة. وحاصل الخلاف في المسألة أن الحنفية يقولون: لا يثبت
كون ولد أمته ابنًا له إلا باستلحاقه، كأن يعترف به إن ولد وهو حي، أو يقول:
إن جاءت بولد هو ابني أو مني ثم يموت فتلد بعد موته. وعند الأئمة الآخرين يكفي
في ذلك أن يعترف بوطئها فأما مجرد دعواها بعده فلا يثبت بها شيء. وإن كان هناك ورثة واعترفوا بأن الولد لمورثهم من جاريته فلا نزاع ولا إشكال وإلا
فالجارية على رقها ما لم تأت ببينة على إقرار سيدها بافتراشها، وأما إقامة الحد
عليها فالشبهة تدرؤه فيما نعتقد.
__________
(*) ذكرنا في الجزء الماضي السؤال عن لعن معاوية أو الترضي عنه مسندًا لهذا السائل وإنما جاءنا بإمضاء (م، م) وهو أحد القراء ولم يأذن بالتصريح باسمه.(8/666)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تفسير.. (فإذا هما اجتمعا لنفس مرة)
(س 37) ومنه: ما الذي ترونه صوابًا في قول الشاعر:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ...
إلى قوله:
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة ... بلغت من العلياء كل مكان
أنشد البيت أحد الأدباء (مِرّة) على أنه مصدر بمعنى القوة صفة لنفس
فاعترضه شاعر بأن الشاعر لم يقل إلا (مَرَّةً) أي اجتمعا معًا فاحتج الأديب بما قاله
بعض الشراح كالعكبري وبجواز الوصف بالمصدر كما في ألفية ابن مالك فأجاب
الشاعر أن شرط جواز المصدر لم يتحقق فتأوّل الأديب واحتج بأن (مرة) لم تذكر في
القاموس ولا كتاب لسان العرب بمعنى (معًا) كأن يقولوا جاء الزيدان مرة: أي معًا
كما يستعملونها للعدد سواء. فما هو الحق فيما ذكر أفيدونا؟
(ج) الأصل الذي يبنى عليه الترجيح بين الأقوال في مثل هذه المسألة هو
الرواية فالشاعر الذي ضبط (مرة) في البيت بفتح الميم يحتاج في إثبات قوله إلى
رواية معروفة عن أبي الطيب المتنبي أنه قال (مرة) بالفتح، وإلى رواية أخرى عن
كندة بأن هذه الكلمة تستعمل في لسانهم ظرفًا بمعنى (معًا) فإن لم يستطع
إثبات الرواية فما عليه إلا أن يعتمد الرواية التي سنذكرها، أو يتابع الأديب في قراءة
(مرة) بالكسر كما ضبطها شراح ديوان المتنبي.
قال الواحدي في شرحه: (فإذا هما اجتمعا لنفس مرة) أي آبية للذل
والضيم، ولا تستلينها الأعداء، وقال العكبري: النفس المِرة هي القوية الشديدة من
مر الحبل والمرة الشدة، ومنه قوله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} (النجم: 6)
والنفس المرة هي التي لا تقبل الضيم، وظاهر كلامهم أن (مرة) صفة وهو غير
معروف، وإنما فسروه بالمعنى، والأصل ذات مرة فحذف المضاف. وما قاله
الشاعر في الوصف بالمصدر كان يستغنى عنه بقولهم: إن الوصف به على كثرته
سماعي، وإن ما ذكر من شروطه إنما ذكر لضبط المسموع لا لأجل القياس. ومن
الروايات المتداولة في البيت ولم يذكرها الشارحان (فإذا هما اجتمعا لنفس
حرة) بالحاء المهملة وصف من الحرية وهي أظهر معنى وأصح مبنى ولا يبعد
أن تكون مرة محرفة عن (حرة) والله تعالى أعلم.
__________(8/667)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من الجزائر
جاءتنا الأسئلة الآتية من الجزائر وأحب مرسلها أن يرمز إلى اسمه بكلمة
(غويشم) قال بعد الثناء والسلام:
الفتن بين الصحابة رضي الله عنهم
(س 38) إنني أحببت أن أشرب من بحر علومكم فهم مسألة الفتن الواقعة
بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين مع علمهم لا شك بأفضلية بعضهم على
بعض وسبب قتل سيدنا عثمان - رضي الله عنه- وكيف نسلك طريق الاعتقاد في
ذلك تفصيلاً وتحقيقًا وتعميقًا وتدقيقًا؟ ومرادنا من استمداد هذا المرغوب من
حضرتكم الفخيمة لكونها نتيجة حضرة المغفور له مولانا الأستاذ الإمام الشيخ سيدنا
محمد عبده رضي الله عنه فنحصل على بعض أفكاره في المسألة رحمه الله
وأعزكم من بعده.
(ج) لا يمكن التفصيل والتحقيق المطلوب في هذه المسألة في جواب سؤال
وإنما يكون ذلك في مصنف خاص بها، ولو ذكر ذاكر خلاصة وجيزة لمصنف وضعه أو هيأه لصعب التسليم بها على من لم يطلع اطلاعه ولم يقتنع بمآخذه لتلك الخلاصة
وأحب لكم أن تقرءوا ما كتبه رفيق بك العظم في كتابه (أشهر مشاهير الإسلام)
وتعملوا رأيكم في ذلك وتراجعوا فيه كتب التاريخ حيث تجدون حاجة للمراجعة وما
يشتبه عليكم بعد ذلك فراجعونا لنبين لكم رأينا فيه. على أننا نذكر هنا شيئًا وجيزًا
ينير لكم طريق البحث.
أما علم الصحابة عليهم الرضوان بفضل بعضهم على بعض فهو على كونه
ضروريًّا في الجملة وكونه على غير ما يظن الجمهور في التفصيل لا يستلزم عدم
وقوع الخلاف فإن معاوية إذا كان يعلم أن عليًّا يفضله في العلم والتقوى فقد يعتقد أنه
هو يفضل عليًّا في السياسة والإدارة وقول العلماء (يوجد في المفضول ما لا يوجد
في الفاضل) معقول لا سبيل إلى إنكاره وهو مما لا يخفى على عاقل ويؤيده
استدراك التلميذ على الأستاذ والمبتدئ على المنتهي في مسائل يكون هو المصيب
فيها؛ ولأجل ذلك نبحث في كل ما قاله العلماء الراسخون وأئمة الفنون الواضعون
رجاء أن نعلم ما لم يعلموا أو نصيب بعض الأغراض التي أخطئوا كما قال الإمام
مالك رضي الله عنه: كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر:
يشير إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويريد بعموم كلامه الصحابة فمن
دونهم من علماء التابعين وهو يعلم أن فيهم من لا يُعد ممن يفضله في فهم الشريعة
والوقوف على أحكامها. إذا فهمت هذا فلا تعجب لاختلاف الصحابة يوم السقيفة ولا
يوم اختيار أحد الستة الذين جعل عمر الأمر فيهم ولا لاختلاف علي ومعاوية فإن
الصحابة لم يكونوا كالأشاعرة والماتريدية لهذا العهد مقلدين لشيوخهم بأن أفضلهم
فلان ففلان إلخ ولا ممن يقول إن الأفضل يجب أن يكون هو الخليفة. على أن
الأشاعرة وغيرهم يجوزون إمامة رجل مع وجود أفضل منه إذا كان المولَّى حائزًا
الشروط التي لابد منها للإمامة.
ثم اعلم أن كبار الصحابة كانوا يعلمون من مجموع ما جاء في الكتاب العزيز
عن الشورى ومن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في سياسته وأحكامه ومن
جعله الخلافة في قريش أن شكل الحكومة الإسلامية يجب أن يكون وسطًا بين ما
يسمى اليوم حكومة جمهورية وحكومة ملكية ووسطًا بين ما يسمى اليوم حكومة
الأشراف وحكومة الأفراد، أعني أن الذي فهموه كان وسطًا حقيقيًا بين ما ذكرت من
غير ملاحظة هذه الأطراف وكونه وسطًا بينها. فلهذا لم يجعلوها في آل البيت
خاصة بم إذ لو فعلوا ذلك لكانت من نوع حكومات الأشراف التي استعبدت الناس
وجعلت الملك إلهًا معبودًا ولا نستبعد أنهم كانوا يفطنون لهذا الأمر لا سيما مع علمك
بما أوتوه من نور البصيرة الذي أعشى شعاعه بصائر الفلاسفة والحكماء حتى هذا
العهد، وقد رأيت أن هذا الأمر وقع بالفعل من الفاطميين عندما جعلوا الخلافة تراثًا
فيهم لمكان نسبهم.
ومن هنا تعرف سبب تألب الناس على عثمان بعد أن قويت عصبية بني أمية
باستكثاره من استعمالهم حتى خيف أن يتحول وضع الخلافة عن الشرع ويصير حكم
أشراف يقوم بالعصبية. وعثمان لم يكن يقصد هذا ولكن الحوادث مهدت له بما كان
من لينه وحيائه وشره قومه وطمعهم فيه حتى أحس المسلمون بالخطر قبله وهو لا
يرى قومه في جواز استعمالهم إلا كسائر الناس. فارجع بعد هذا إلى ما قلناه في تقريظ
كتاب (أشهر مشاهير الإسلام) في الجزء الثالث عشر من منار هذه السنة.
وحسبك الآن هذه التنبيهات، وعليك بعد كثرة القراءة بمراجعتنا في المشكلات.
***
ثبوت رمضان بقول المنجم
(س 39) ومنه: ثم أستفتيكم في مسألة ثبوت شهر رمضان بقول المنجم ولماذا قال خليل (لا بمنجم) .
(ج) راجع ص 694 وما بعدها في المجلد السابع تجد القول في ذلك
مفصلاً تفصيلاً.
***
صلاة النساء في المساجد
(س 40) ومنه: هل يجوز للمرأة أن تصلي في المسجد أم لا؟ لأن في
بلادنا رجالاً طغاة بمالهم وجاههم حرموا المساجد على النساء وأحلوا لهم العفرات ... (كذا) .
(ج) كان النساء على عهد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - يصلين مع
الرجال في المسجد يقفن وراءهم،فصلاتهن في المسجد سنة متبعة ثابتة لم يختلف في
صحتها أحد من المسلمين، فتحريم ذلك على الإطلاق جهل فاضح. والأحاديث
القولية في ذلك كثيرة أشهرها حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال: (إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن) رواه أحمد والشيخان
وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه، ولكن ورد أن يخرجن غير متبرجات بزينة فقد
روى أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة مرفوعًا (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله
وليخرجن تفلات) أي غير متطيبات قالوا: ويلحق بالطيب ما في معناه من المحركات
لداعي الشهوة كالحلي والحلل وجميع ضروب الزينة. وروى مسلم في صحيحه
وأبو داود والنسائي في سننهما من حديثه أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: (أيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة) وأعم منه حديث
زينب امرأة ابن مسعود في صحيح مسلم (إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبًا) .
نعم، ورد أيضًا أن صلاة النساء في بيوتهن أفضل من صلاتهن في المسجد
فقد روى أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر (لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى
المساجد وبيوتهن خير لهن) وله شواهد. وروى أحمد وأبو يعلى والطبراني في
الكبير من حديث أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (خير مساجد
النساء قعر بيوتهن) وفي إسناد الحديث ابن لهيعة وهو ممن طُعن في روايتهم
ويجوز حمله على غير صلاة الجماعة. وفي الباب رأي عائشة - رضي الله عنها - قالت: (لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى من النساء ما رأينا
لمنعهن من المسجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها) رواه الشيخان، وعلى هذا
الرأي بنى المتأخرون منع النساء من المساجد، فهو اجتهاد لا يصح أن ينسخ
النص القطعي الصريح، ويحرم ما أحل الله ورسوله، نعم، إن علم أن
خروجهن إلى المسجد يكون سببًا للفتنة جاز- أو وجب - منع من يعلم أو يظن
الافتنان بهن فقط مع إزالة سبب الفتنة ولكن لا يصح أن يقال أن خروجهن إلى
المسجد وصلاتهن فيه محرمة عليهن ولا أن يجعل حكمًا عامًّا مطلقًا.
***
ذنوب الخطيب الذي يحث على الكسل والخرافات
(س 41) ومنه: كم هي ذنوب الخطيب الذي لا يأمر الناس إلا بالعجز
والكسل والموت والخرافات والتقليد وسيئ العادات؟ لا زلت بحرًا يستجلب دره،
ومزنًا يستوكف دره، والسلام.
(ج) هذا الخطيب شر خطباء الفتنة وذنوبه لا تحصى إلا إذا أمكن إحصاء
تأثيرها الضار في الأمة وأنى يحصى وهو من الأمور المعنوية التي لا تعرف
بالعد والحساب؟ فمن سيئات هؤلاء الخطباء وآفاتهم في الأمة أن كانوا علة من علل
فقرها وضعفها في دينها ودنياها وضياع ممالكها من أيديها، فهم أضر على المسلمين،
من الأعداء المحاربين، ومن دعاة الضلال الكافرين، ومثلهم كمثل الطبيب الجاهل
يقتل العليل، وليس هذا محل شرح سيئاتهم بالتفصيل، ولكن لا بد من التنبيه على
سيئة منها حادثة لم تكن من قبل وهي أن أبناء المسلمين الذين تعلموا العلوم
العصرية وعرفوا أحوال الأمم وسياستها، وتأثير آدابها في مدنيتها، وعزتها ولم
يقفوا على حقيقة الآداب الإسلامية، ولا غير ذلك من الأصول الدينية، يتوهمون
أن هؤلاء الخطباء ينطقون بلسان القرآن، ويبينون للناس لباب ما جاء به الدين
من الحكم والأحكام، ويستدلون على ذلك بإجازة العلماء ما يقولون وما يوردون في
كلامهم من الأحاديث وإن كانت موضوعة أو واهية، وما يرصعونه به من الآيات وإن
كانت لما ينهون عنه آمرة وعما يأمرون به ناهية، ولكن أنَّى للسامع المسكين، أن
يميز الغث من السمين، إذا كان لم يطلع على تفسير الكلام القديم، ولم يقرأ علم
الحديث الشريف، فلا جرم ينفر من الدين نفور الكاره له، المعتقد أن معارف البشر
أهدى منه، وإذا كان عارفًا بدينه فإنه ينفر من صلاة الجمعة وأعرف من المصلين
من يتحرى أن يدخل المسجد بعد فراغ الخطيب من خطبته، وحدثني الأستاذ الإمام
- رحمه الله تعالى - أن رجلاً من النابغين في العلوم العصرية كان كثير الخوض في
الدين والإنكار لبعض أصوله وفروعه فما زال به الأستاذ حتى أزال شبهاته وأقنعه
بأن يصلي فبدأ بصلاة الجمعة في الجامع الأزهر فسمع خطبة من الخطب المسئول
عنها فنفر، وقال: إن هذا شيء لا يصلح به أمر البشر، وما أنا بعائد إلى سماع هذه
الخطابة، انخداعًا بما للشيخ محمد عبده من الخلابة.
هذا وإن مقام الخطابة هو مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ومقام خلفائه
ونوابهم، وقد أهين هذا المقام في هذا العصر لاسيما في مصر فصار يعهد به كثيرًا
إلى أجهل الناس وأقلهم احترامًا في النفوس لأن الخطابة في نظر ديوان الأوقاف هنا
وظيفة رسمية تؤدى بعبارة تحفظ من ورقة فتلقى على المنبر أو تقرأ في الصحيفة
ككنس المسجد يقوم بها أي رجل، وفي نظر طلابها حرفة ينال بها الرزق. فهمّ
الديوان في الخطيب أن يكون قليل الأجرة لتتوفر أموال الأوقاف فيوضع ما يزيد
منها عن النفقات التي لا تفيد المسلمين في خزائنه أو خزائن البنك وقد اجتهد الأستاذ
الإمام - رحمه الله تعالى - في إحياء هذا الركن الإسلامي يجعل الخطابة خاصة
بالعلماء الأعلام، فوقفت السياسة في طريق مشروعه مدة حياته ولعلها تتنحى فينفذ
بعد موته.
__________(8/668)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
المكتوب الخامس في المدرسة الجامعة
كتب في 10 يوليه سنة -186 من (أميل) إلى أبيه:
كلفتني بأن أجعلك على علم بدروسي فموافاة لرغبتك أقول: الجامعة التي
أختلف إليها بناء في غاية الجدة، وتفتح قاعاتها للتدريس في فصل الصيف من
الساعة السابعة صباحًا إلى الساعة الأولى بعد الظهر، ومن الساعة الثالثة بعده إلى
الساعة السادسة، وتنقسم دروس الأساتذة فيها إلى عامة وخاصة فالأولى تلقى
بالضرورة مجانًا ويدفع الطلبة في مقابل تلقي الثانية (فريدريكين) ذهبًا (50 فرنكًا)
كل ستة أشهر وتنقسم جامعة (بُن) مثل كل الجامعات في ألمانيا إلى أربع مدارس
اختيارية إحداها للقوانين، والثانية للحكمة، والثالثة للطب، والرابعة للإلهيات
ويتعلق بكل من هذه المدارس الأربع فروع مختلفة يدرسها فيها رجال مخصصون
بها.
الجامعة تخلي بيننا وبين حرية التصرف في وقتنا، إما بإضاعته أو بالانتفاع
به؛ لأني لا أرى لأحد منها أدنى تفتيش، ولا أقل هيمنة علينا في سيرتنا على أني
أعتقد ما قلته لي كثيرًا من أن النظام التأديبي الناجع هو ما يفرضه الإنسان على
نفسه ويلتزم اتباعه.
لا مراء في أن أساتذة جامعتنا متضلعون من العلوم غير أني كثيرًا ما يشق علي
أن أتتبع سلسلة أفكارهم في الدروس لسببين: أولهما أن هذه الأفكار ليست في ذاتها
واضحة، وثانيهما: أني لقلة تعودي على تصوير فكري بالألمانية حتى الآن أجد من
الصعوبة في فهم تلك الأفكار أكثر مما يجده غيري من المتعودين، ويدهشني من
أمر هؤلاء العلماء أنهم على سمو مكانتهم في العلم وبُعد صيتهم مغبونون في أجر
عملهم؛ إذ استدللت على هذا بما يبدو عليهم من رقة الحال وبقناعتهم باليسير من
العيش ورثاثة ملبسهم الذي يكاد يكون وسخًا وفقرهم هذا يؤلمني ويزيدهم في نفسي
إجلالاً على إجلالهم الذي تدعوني إليه معارفهم، فأولئك رجال يحبون العلم لا لكسب
المال ولا للتمتع بالحطام وإنما يحبونه لما يحصله للعقل من لذاته وضروب اغتباطه.
ثم إن بعض المدرسين يرتجلون الدروس مطنبين فيها، وبعضهم وهم
الأكثرون يأتون بها مكتوبة فيلقونها على الطلبة، وهؤلاء يصغون لما يلقى عليهم
ويكتبون ما يعلقونه منه، وقد وضعت لنفسي نمطًا في اختزال الكتابة؛ وهو وإن
كنت لا أشك في قصوره لأوليَّته يمكنني من إثبات الحدود الأساسية لما أسمعه من
الجمل.
ينقسم الطلبة باعتبار مذاهبهم إلى كاثوليكيين وبروتستانتيين متشددين يعد
بعضهم نفسه للأعمال الخطابية، وحكماء يجتهدون في تأويل المذاهب تأويلاً مطابقًا
للعقل، وماديين وهم قليل يصرحون بأن زمن الديانات قد انقضى، وأنه لا ينبغي
إضاعة الوقت في العكوف على ما لا حقيقة له من هواجس القرون الوسطى
وأحلامها.
رأيتك دائمًا تجتنب الخوض معي في المذاهب والأسرار الدينية واستنتجت من
سكوتك عنها أنك قصدت مني الاستقلال بنفسي في الاعتقاد، ولقد حملتني عظيمًا؛
فإني حتى هذا اليوم في غاية البعد عن معرفة ما يستقر عليه فكري في كثير من
المسائل التي ترجفني محاولة سبر غورها على أنه لا بد من الإقرار لك بأني لست
مطرحًا هذه الطائفة من الأفكار ولا مغفلاً لها، فكم مرة نظرت إلى السماء في سكون
الليل، وحاولت على حداثة سني وجهلي أن أقرأ في نجومها حلاً للغز هذا العالم،
وأني منذ اليوم الذي شهدت فيه إلقاء جثة الملاح في البحر -وإخالك تذكره- لا ينفك
عني التفكير في سر الموت حتى في أحلامي، وقد سألت القبور أن تكشفه لي فلم
تحر جوابًا! فعمدت من عهد دخولي الجامعة إلى مطالعة ترجمة الفيدا [1] الألمانية
والزنداويستا [2] ، والتوراة فأثرت قراءتها في نفسي تأثيرًا بليغًا، وكان يتراءى لي
منها عالم جديد، ولكن من خلال ظلمات لا يسعني إلا الإقرار بأنها لم تنقشع ولست
أدري، أأعكف على دراسة هذه الكتب؟ أم أعدل عن إماطة الظلمات عما لا يتناهى؟
فلا أشتغل إلا بما هو ثابت محقق من نتائج العلم.
أنا الآن أحوج مني فيما مضى إلى إرشادك والاستضاءة بنور علمك، ومن ذا
الذي استرشده وأستهديه سواك؟
جميع الطلبة يتعلمون المجالدة والمناضلة، وأنا مقتدٍ بهم في ذلك فلي كل يوم
ساعة أو ساعتان أقضيهما في ممارستها؛ لأن في هذه الممارسة تمرينًا مفيدًا في
تقوية الأعضاء وتنميتها، ويؤكد لي العارفون من الطلبة أن أمهر المجالدين من يندر
التحرش به. ومع أني لا أرجو مطلقًا أن أبلغ في المجالدة والمناضلة مبلغ الفارس
سان جورج [3] أود لو أثبت في قاعة الممارسة ثبوتًا كافيًا أني على علم باستعمال
السلاح حتى يحسب الطلبة حسابي فلا يستخفون بإغضابي فإن المبارزة كثيرة
الوقوع بينهم وهم يجرحون فيها أحيانًا، ولكن يندر والحمد لله أن يقتلوا ومن يجرح
منهم لا يبالي بخدش وجهه، بل يعتبر ندب الجروح على ما فيها من التشويه لخلقه
من موجبات إجلال النساء له.
ثم إني أختم مكتوبي راجيًا أن تثق مني بدوام محبتي لك وتعلق قلبي بك.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب من باب تربية الشاب من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
(1) الفيدا: كتاب الهنود المقدس، وهو اسم عام تحته أربعة كتب خاصة وهو الريجفيدا والسمافيدا والباجورافيدا والاثارفافيدا.
(2) الزنداويستا: مجموع ما لأتباع زرادشت من الكتب المقدسة.
(3) سان جورج: شخص يذكر في الأساطير أنه أمهر المجالدين والمناضلين.(8/673)
الكاتب: حسين أفندي عبد الفتاح
__________
البداوة من باب الآثار الأدبية
قصيدة من نظم حسين أفندي عبد الفتاح الجمل ويعني بالبداوة تلك المعيشة
العربية الخالية من ترف المدنية، لا سُكنى البادية فقط.
ليت البداوة لي مهد ولي وطن ففي الحضارة لي شغل عن الجذل
أعني بداوة عرب طاب مولدهم ... وطاب محتدهم في الأعصر الأول
فالأريحية فيها والندى خلق ... ملازم لهم في الخصب والمحل
ترى العفاف لديهم مد أروقة ... محفوفة بالتقى في كل محتفل
أما الوفاء فقد حازوا الفخار به ... فلا ضريب لهم في كل مرتحل
لا يغدرون ولو كانت منيتهم ... رهن الوفاء ولا يمسون في وجل [1]
نال السموأل فيه غاية وقفت ... عنها الملوك وقوف العاجز الخمل
ضحى ابنه خوف غدر لو تحمله ... لكان للعذر فيه واضح السبل [2]
وعامر كان في حفظ الجوار له ... بيت من المجد مرفوع اللواء علي
يحمي المجار به من كل غائلة ... مِ الإنس والجن بل من سطوة الأجل [3]
وفي التقى كان عبد الله ذا ورع ... لا يعرف الشر في شيء من العمل [4]
ولابن عباس في حفظ العلوم مدى ... ما فيه من مطمع يومًا إلى رجل [5]
ماذا يقال وقد سارت مناقبهم ... كالشمس فينا بنور غير منتقل
وكيف للشعراني يأتي على صفة ... الصديق أو عمر الفاروق ثم عليّ محامد طبعت فيهم وغيرهم ... تكلفوها وليس الكحل كالكَحَل
كأنما نبتت هذي الفضائل في ... أرجائها فنمت في السهل والجبل فهم كأنهم يغذون من كرم ... أو أنه فطرة فيهم من الأزل
__________
(1) كان حنظلة الطائي وعد النعمان بن المنذر بالرجوع بعد عام لاستقبال الموت فطلب النعمان من يضمنه فضمنه شريك بن عدي فعجب النعمان من رجوع حنظلة وليس داعٍ غير الوفاء وعفا عنه.
(2) كان امرؤ القيس الكندي قد استودع السموأل سلاحًا ودروعًا وسافر إلى بلاد الروم فمات وهي عند السموأل فطلبها منه ملك كندة فلم يسلمها فجرد الملك عليه جيشًا وحاصره في حصنه المشهور بقوله:
لنا جبل يحتله من نجيره ... منيع يرد الطرف وهو كليل
فوقع ابن السموأل أسيرًا عند الملك فهدده بقتله إن أبى تسليم الوديعة فأبى وقال له: ما كنت لأخفر ذمامي وأبطل وقائي فافعل ما شئت. فذبح ولده والسموأل ينظر، وانصرف الملك خائبًا ولم يأخذ الوديعة غير أصحابها الوارثين.
(3) كان الأعشى امتدح الأسود العنسي فأجازه بشيء كثير من الحلل والعنبر فخاف على ما معه فأتى عامر بن الطفيل فقال: أجرني قال: قد أجرتك قال: من الإنس والجن؟ قال: من الإنس والجن
قال: ومن الموت قال: نعم. قال: وكيف تجيرني من الموت؟ قال: إذا مت وأنت جاري بعثت إلى أهلك الدية، فقال: الآن علمت أنك تجيرني.
(4) هو عبد الله بن الزبير ترك عطاءه (ماهيته) في المسجد ثم أرسل خادمه بعد حين ليحضره فقال الخادم وأنَّى لنا ذلك،وقد دخل المسجد بعدنا كثير؟ فقال عجبًا؛ وهل بقي أحد يأخذ ما ليس له.
(5) فضل ابن عباس مشهور إنما أذكر هنا أنه أنشد مرة قصيدة من شاعر (هو عمر بن أبي ربيعة) وجرى في المجلس ما اقتضى أن ينشدها ابن عباس فأنشدها وقد بلغت سبعين بيتًا فعجب الحاضرون فقال مِمَّ تعجبون وهل يسمع أحد شيئًا ولا يحفظه؟(8/675)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(الثورة في روسيا)
العلم نور لا ينتشر في بلاد إلا وينجاب عنها من ظلمات الظلم بقدر ما يفيض
عليها منه؛ فإذا تمكن في النفوس وملكها وصار صفة من صفات عدد كثير من أهلها
فبشر أهلها بالسعادة بعد زمن طويل أو قصير؛ لأن العلم مع الجهل وآثاره من الظلم
والاستبداد لا يتجاوران على وفاق وسلام، بل يفتآن يتنازعان ويتصارعان حتى
يصرع أقواهما أضعفهما وينزعه من الأرض.
مقارعة العلم ومنافعه للجهل ومصارعه هي مقارعة طائفة من جند الحق
لطائفة من جيوش الباطل، والحق هو القوي المنصور، والباطل معه هو الضعيف
المخذول، اللهم إذا هما وجدا فتجاولا وتصاولا ولكن قد يحول دون ظهور جند الحق
مانع فيظهر الباطل ويظن الظانون أنه قد غلب الحق على أمره وكيف يسمى غير
الموجود مغلوبًا.
فاض شعاع من العلم بمصالح الأمم، وسنن العدل في الدول على البلاد
الروسية؛ فما زال يزيح من تلك الظلمات المتراكمة في النفوس حتى انزاحت
فأشرقت العقول، واستنارت القلوب؛ فعرفت حق الراعي على الرعية وحقوق
الرعية على الراعي، وتمكن هذا العرفان في نفوس كثير من المتعلمين فكان
وميضه يلوح لأبصار المستبدين من أفق المدارس الكلية فينذرهم بالصواعق المحرقة
فتهلع قلوبهم، ثم لا تلبث أن تعود إلى طمأنينتها اغترارًا برسوخ السلطة المطلقة
القائمة على صخرة تقاليد الدين، وجهالة الأكثرين حتى إذا ما انكشف للعالم كله
ضعف دولة الاستبداد والظلم، وانهزامها من وجه دولة العدل والعلم، في الحرب
الروسية اليابانية، إذ نكلت الثانية بالأولى في جميع الوقائع البحرية والبرية ظهر
أهل العلم من الروسيين، وقاموا بالدعوة إلى الخروج على الحكام المستبدين،
فنفخوا في البلاد روح الثورة؛ فاشتعلت نارها، وكثر أنصارها، ولم يثنهم عن
عزمهم أن وضعت الحرب أوزارها، وفرغت الحكومة للثورة تبلو أخبارها،
وتضرب وجوهها وأدبارها.
بعد كفاح طويل عريض، وأخذ للثائرين أليم شديد، وثبات من طلاب الحرية
أمام أرباب العبودية، وإصرار من طلاب العدل على مقاومة الظلم والجهل،
خضع القيصر العظيم لأولئك الشراذم من شعبه الحقير، وأمر بتحويل شكل
الحكومة الروسية، من إطلاق الاستبداد إلى قيود الشورى القانونية، فقالوا: إنه
خضع اضطرارًا لا اختيارًا، فلا تغتروا بما أمر اغترارًا، بل أصروا أيها الثائرون
والمتعصبون، يكن لكم كل ما تطلبون، فهم لا يزالون يقترحون، فهل يعتبر حالهم
جيرانهم الأقربون؟
***
(تعزيتنا عن والدنا)
لا تزال ترد علينا التعازي من محبينا في المشرق والمغرب كالهند،
وسنغافوره وجاوه وتونس والجزائر وفاس فنشكر لمن كتب ولمن سيكتب إلينا في
ذلك عودًا على بدء، ونخص بالذكر أهل الوفاء في الديار التونسية من العلماء
والأدباء، وأصحاب الصحف الفضلاء. وإننا ننشر بعض ما تفضلوا به ليكون
تعزية للبعيد من الأقربين.
كتب أحد العلماء المدرسين بعد الثناء الذي هو أهله والدعاء:
(العزاء بعد ثلاث، وإن كان تذكارًا بالمصيبة، فإن تركه ثلمة في وجوه الود،
وشبهة في صحته مريبة، اليوم وصلت إليّ مجلة المنار فقرأت الخبر الأليم بوفاة
والدكم البر الرحيم، ذلك الخبر الذي ملأ فؤادي أسفًا مشاركة لكم على ما يجده ابن
بار على فقد والد شفيق.
وفوق مشاركتك أيها الأخ في الحزن كيف لا آسف على فقد صاحب تلك
الشمائل الزكية؟ لولا أن فيما بذرته من كمالك الفطريّ مسلاة ومتعزى عنه فإنك تخلِّد
له ذكرًا أحرى مما كانت تخلد له صفاته الطيبة، وأنتم بحمد الله كما قال الشاعر:
نجوم سماء كلما انقض كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
ثم عظيم أن يلم بك أيها السيد مصابان في زمن متقارب بمربي نفسك الشاعرة
وبأصل فطرتك الطاهرة، فتعزَّ بأن الله جعلك لهما لسان صدق في الآخرين،
وعليك صلوات الله ورحمته بالصابرين) .
وكتب عالم آخر من المدرسين:
حياك الله سيدي الأخ، وعظم أجرك كما عظم رزءك، ومنحك من صلواته
ورحمته وهدايته ما أنت أهله، فلقد أبديت صبرًا جميلاً وثباتًا عظيمًا أمام مصابين
عظيمين تتدكدك لهما الجبال الرواسخ، وفاة والدك الجسماني، قبل أن يجف القلم
من تأبين والدك الروحاني، فرحمهما الله من أبوين صالحين تركا للإسلام فاضلاً
نحريرًا مثل جنابكم الكريم فهما بذاك لم يموتا، وإنما غابا عن هذا الوجود الكدر
وخلفا عملاً كبيرًا، وسراجًا منيرًا نسأل الله تعالى أن يطيل بقاءه، ويديم إشراقه
وارتقاءه ... إلخ.
وكتبت جريدة (الترقي) الغراء التي تصدر في تونس ما يأتي تحت عنوان
(الشام) ننعي لقراء الترقي شيخًا جليلاً، وسيدًا كريمًا نبيلاً من نسل السلالة المطهرة
ألا وهو سيد سادات الديار الشامية، وفرع الدوحة الحسينية المرحوم الشيخ علي
رضا أفندي الحسيني الحسني والد رصيفنا العلامة الفيلسوف الكبير السيد محمد
رشيد رضا صاحب مجلة المنار المنير.
قضى هذا الفاضل عمره المديد في إسداء المبرات، وأعمال الخيرات؛ فكان
كفيل الأرامل، ومربي اليتامى والمحسن للقريب والبعيد، وقد قرأ العلم بطرابلس الشام وارتقى في مراتب الدولة العلية التي كان مخلصًا في خدمتها للحد الذي جعله
ممتازًا على بقية الأشراف بوراثة أعشار بلد القلمون التي كان أنعم بها السلاطين
العظام على أسلافه الأكرمين، وكان رحمه الله كما جاء في المنار (حسن المجاملة
عظيم التساهل في معاشرة المخالفين في الدين مع الغيرة الشديدة على الإسلام
والمناضلة عنه بما يحج المناظر ولا يؤذيه) كعلماء السلف برد الله مضاجعهم.
اتهمه مصادروه (أعداء الدولة) في الأوقات الأخيرة بالجاسوسية، وبأنه
يسعى مع المرحوم فقيد الإسلام الشيخ محمد عبده لتقويض أركان الخلافة العثمانية
(لا سمح الله) فدسوا بفراشه عقارب سعايتهم الممقوتة وأوغروا عليه صدور رجال
الدولة؛ فجعلته تحت مراقبة الجواسيس الحقيقيين بما تحرجت له النفوس الطاهرة
والقلوب الرحيمة؛ فكان يقابل تحرشهم بالصبر واللين، ويدعو الله مع أبنائه بتوفيق
دولة الإسلام، وبتطهير ساحة سراية يلدز من أهل السوء والعدوان هذا، وقد تسابقت
الجرائد الشرقية لتمجيده وتأبينه بأجمل عبارة تليق بمنزلته حيًّا وميتًا، ونحن نضم
لتلك التعازي عبارات تعزيتنا ونسأل الله أن يفسح له في صعيد الجنة، وأن يجمل
عزاء بنيه خصوصًا رصيفنا العلامة المفضال محرر المنار الأغر اهـ.
(المنار)
نخص هذا الرصيف الفاضل بمزيد الشكر والثناء أن أحسن الظن بنا وبالغ في
مجاملتنا. ونذكر هنا أن كثيرًا من كتب التعزية قد شنعت على الحكومة العثمانية
سوء معاملتها لوالدنا وشقيقنا، بل جاء شيء من ذلك أيضًا في بعض البرقيات
(التلغرافات) فلم ننشر شيئًا منها لئلا يتوهم أننا ننتقم بذلك لنفسنا، ونستدرك على
الترقي أن السيد الوالد - رحمه الله تعالى - لم يدخل في أعمال الحكومة الرسمية
على تعارفه بكثير من وزراء الدولة وكبرائها. هذا وقلما عزانا أحد عن والدنا إلا
وأعاد تعزيتنا عن أستاذنا تغمدهما الله تعالى برحمته، ومتعهما بدار كرامته.
__________(8/677)
16 رمضان - 1323هـ
13 نوفمبر - 1905م(8/)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
الدين في نظر العقل الصحيح
(4)
المقالة الثالثة
(الإسلام هو الإصلاح الأكبر)
مقال آخر آتي به اليوم تتميمًا لمقالي السابق (الدين في نظر العقل الصحيح)
وإيضاحًا لما أجملته هناك في مسألة الإصلاح الإسلامي في الأرض. ولا أريد أن
أذكر المسائل التي شارك الإسلام فيها غيره من الأديان الأخرى، ولكني ذاكر ما
امتاز به عنها ليتضح للأهل الإنصاف، أنه هو الإصلاح الأكبر بلا خلاف.
***
التوحيد والتنزيه:
أتى القرآن بالتوحيد الخالص والتنزيه المطلق فقال {قُلْ هُوَ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} (الأنعام: 103)
{َليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) وتحاشى ما يوهم التشبيه والتجسيم إلا ما
اقتضته ضرورة التعبير اللغوي حتى أنه أزال في مثل قوله {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (الروم: 27) ما يتبادر منه من التمثيل بالمخلوقين بقوله بعده {وَلَهُ المَثَلُ لأَعْلَى} (الروم: 27) ففاق بذلك جميع الكتب الأخرى الممتلئة بالتشبيهات والتمثيلات حتى
الساقطة الباردة منها. وأبان بمثل قوله {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (الإسراء: 44) وقوله {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} (مريم: 93) أن لا شجر، ولا حجر، ولا بشر تجوز عبادته من دون الله تعالى
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) فعرف الإنسان حقيقة حاله، وأن لا
يليق به أن يخاف أحدًا سوى الخالق - تعالى - فخلص بذلك من الأوهام المحيطة به
من كل جانب. هدأ الله بعد ذلك روعه منه، وأعلمه أنه به رؤوف رحيم، بل أشفق
عليه من الأم على ولدها، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد يجيب دعوة الداعي إذا
دعاه. فأحبه المسلم لإحسانه إليه وقربه منه مع جلاله وخاف من عقابه إذا هو
عصاه. فمن غمره الملك بنعمه كان له محبًّا ولكنه يخاف أن يقع منه ما يغضبه.
ومع ذلك إذا عصاه الإنسان ثم رجع إليه وجد بابه مفتوحًا وغفرانه واسعًا {قُلْ يَا
عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً
إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم} (الزمر: 53) اللهُ أكبر. أين هذا الاعتدال في العقيدة من
إفراط قوم يظنون أن الله لا يحب الإنسان إلا إذا قتل نفسه لتكفير ذنبه فأوقعهم ذلك
في الإشراك الحقيقي وإن أنكروه وفي التشبيه والتجسيم وما خالف المعقول والمنقول.
وأين ذاك الاعتدال من تفريط آخرين يعتقدون أن الله بعيد عنهم ولا يبالي بهم ولا
يريد بهم خيرا.
يزعم بعض من يدعي العلم من قسيسي المسيحيين أنه لم يرد في كتاب
المسلمين ما يدل على حب الله لهم وحبهم له بل كل ما فيه الخوف والانزعاج منه
فلذا أورد هنا ما ورد في القرآن الشريف في ذلك المعنى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ} (البقرة:
165) {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة: 54) {إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: 222) {وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ} (البقرة: 177) {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه} (الإِنسان: 8) وفيه من ذكر
الرضى والرأفة والرحمة والغفران ما لا يوجد في كتب المسيحيين أنفسهم ويكفيك أن
كل سورة مبتدأه بالرحمن الرحيم. فهل إله المسلمين قاس كما يهذون؟ إلا أن التعصب
يعمي ويصم.
والخلاصة: أنه بهذه العقيدة الصحيحة اجتثت جذور الوثنية من الأرض وكذا
كل عقيدة اتفقت معها في الحقيقة وإن اختلفت عنها في الشكل وتبع ذلك طهارة
العقول من الوساوس والخرافات التي أحاطت بالأمم الأخرى، فأي إصلاح أكبر من
هذا؟
***
المساواة:
قرر الإسلام أن أفراد البشر عند الله سواء وأنه لا ينظر إلى صورهم وأزيائهم
بل إلى قلوبهم. وأن رحمته تعالى لمن أطاعه ولو كان عبدًا حبشيًّا وعذابه لمن
عصاه ولو كان شريفًا قرشيًّا فلا فرق بين الغني والفقير، والصعلوك والأمير،
والحر والعبد إلا بالتقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) فرفع بذلك كل
امتياز موهوم بين الأفراد، ولم يجعل لأحد على الآخر سلطانًا إلا ما اقتضته حدود
الشريعة؛ لدفع الأذى وحفظ الأمن وفيما عدا ذلك لا مسيطر على الإنسان إلا الله
وحده، وليس بيننا وبينه تعالى حجاب أو واسطة {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ
عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) فلا كاهن ولا رئيس في الدين ليقرب الناس
من رب العالمين. زال بذلك كل ما كان وضعه رؤساء الأديان الأخرى من الحجْر
على العقول وعلى ما منحه الله لنا من الحرية كدعوى التوسط بين الله والناس في
غفران الذنوب وإباحة ارتكاب بعض المحرمات في مقابلة دريهمات يأخذونها ومنع
الناس من قراءة كتبهم الدينية إلى غير ذلك من المفاسد التي وقع فيها الأمم الأخرى
بسبب عبارات وردت في كتبهم فهموها بهذا المعنى بحق أو بغير حق واستمروا
على العمل بها إلى ما بعد مجيء الإسلام بعدة قرون ثم أخذ بعض الطوائف في
الإصلاح بمثل ما أتى به ديننا القويم من قبل.
أمكن المسلم بسبب ذلك أن يقف بين يدي الله تعالى وحده ويقرأ كتابه بنفسه
ويفهم منه ما شاء أن يفهم فلا توسط ولا مراقبة ولا حجر. والناس غيره في عبودية
وذل وغباوة وجهل. ذم الإسلام بعد ذلك التقليد ونهى عن متابعة الأهل في شيء إلا
بدليل {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ
آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) وأمر المسلم أن ينظر في
القول ليميز صدقه من باطله. بدون نظر إلى قائله {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ
القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر:
17-18) فأي دين أتى بمثل هذا كله؟ .
***
العقل والعلم بالحقائق رائد الإيمان الصادق:
امتاز القرآن الشريف عن غيره من الكتب الدينية بمخاطبة العقل في جميع
العقائد والتحاكم إليه عند التخالف والتعاند، فلم يقرر عقيدة أو يرد أخرى إلا بالدليل
العقلي. أي كتاب غيره أقام الدليل على حدوث العالم بحركات الأجرام السماوية؟
تذكر حجة إبراهيم على قومه في سورة الأنعام مثلا تأمل قوله في الرد على مَنْ عَبَدَ
مريم والمسيح {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَام} (المائدة: 75) وقوله {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ
اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران: 59) ردًّا على
من اتخذ ولادته بدون أب دليلاً على ألوهيته. وقوله في إثبات النبوة: {أَمْ يَقُولُونَ
تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} (الطور: 33-34)
وقوله {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (يونس: 16) وقوله {وَمَا
كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت:
48) وقوله في عدم استحالة البعث {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ
عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ} (يس: 81) إلى غير ذلك من
الآيات التي هي أساس علم الكلام كما بينا ذلك في المقال السابق.
ولم يكتف بإقامة الحجة على العقائد فقط، بل لا تجد في الغالب أمرًا أو نهيًا
إلا أتبعه بالدليل ولم يرض بالاستسلام والرضوخ بدون معرفة السبب فقال مثلاً:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183)
أي أن الصيام الذي يقوي الإرادة، ويربي النفس على مراقبة الله تعالى ويعرفها
مقدار النعم عند فقدها أعظم معد للتقوى. وقال في الحدود {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ
يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 179) وقال في الأخلاق: {وَلاَ تَسْتَوِي
الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34) وغير ذلك كثير مما لم يأت في كتاب سواه فلا تجد صحيفة منه
خالية من قوله: (لعلكم تعقلون. تتفكرون. يا أولي الألباب. لأولى النهي. لذي
حجر ... إلخ إلخ) ثم ما ورد فيه بشأن العلم والعلماء كثير {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ} (العنكبوت: 43) {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28)
{َمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ} (آل عمران: 7) {قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون} (الزمر: 9) وبذلك كله صار المسلم لا
يبالي بعقيدة خالفت العلم الصحيح أو ناقضت حكم العقل فبينما تجد غيره يرضخ
لعقيدة لا يفهمها ولا يمكنه أن يعبر عنها بما يجعله يفقهها بل يذعن ويسلم ثم يقيم
الصلوات والأدعية لترسخ بالقوة في ذهنه؛ بينما تجد ذلك في غيره تجده هو يشق
الحجب بفكره ويرقي إلى الملكوت الأعلى بعقله عملاً بقول كتابه {قُلِ انظُرُوا مَاذَا
فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (يونس: 101)
لا يطالب القرآن أحدًا بالإيمان لمجرد سرد قصص عن المعجزات وخوارق
العادات بل أمر بالتدبر والنظر فيه {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) وخالف بذلك سائر الكتب الأخرى وفتح للعقل بابًا واسعًا للبحث فيما
أتى به حتى يجزم بأن صدوره من مثل محمد العربي الأمي صلى الله عليه وسلم
ضرب من المحال. ولم يرد أن يغلق دونه الباب بتعداد حكايات لم تخل أمة
من نسبة أمثالها إلى مؤسسي دينهم بل قد ورد في كلام بعضهم كالمسيح مثلاً ما يدل
على إنكاره لها إن صحت الرواية عنه. وذلك قوله: (جيل شرير وفاسق يطلب آية
ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي) يريد بذلك أنه كما آمنت أهل نينوى بيونس
لمجرد الوعظ فتؤمن الناس بي أيضًا؛ لهذا السبب بعينه بدون معجزة، وما ورد بعدها
من قوله: (لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون
ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال) قال فيه المحققون من
المسيحيين أنفسهم: إنه تفسير من جانب كاتب الإنجيل، وهو غلط لوجهين (الأول) :
أن المسيح لم يمكث في بطن الأرض - على قولهم - إلا يومًا وليلتين كما هو صريح
جميع الأناجيل و (الثاني) : أنه بعد قيامته لم يظهر لأحد من هؤلاء الطالبين، ولم
يشاهده سوى بعض النساء وبعض المعتقدين فيه. فكيف يكون ذلك آية مقنعة
للمخالفين؟
وخلاصة القول: إن هذه العبارة تنفي جميع المعجزات، ومع التساهل لا تبقي
واحدة، وقد بينا لك حالها، فهذا هو شأن جميع الأديان التي لا حجة لها إلا أمثال
هذه الأقاصيص والأعجوبات؛ فهل تقارن هذه بالدين الذي لا عقيدة ولا أمر ولا
نهي ولا حكم فيه،إلا ويتبعه الدليل العقلي من نفس كتابه؟ فلله دره من دين أحيا
العقل بعد أن أماتوه، ونهض به إلى حظيرة العلم بعد أن دفنوه، فأي إصلاح أكبر
من هذا؟
***
رفع وهْم عن الناس في مسألة تأثير الشياطين:
أتى الإسلام والناس جميعًا واهمون في مسألة تأثير الشياطين: رسخ في عقول
الأمم كافة أن الأرواح الخبيثة مسلطة على الإنسان بالأذى؛ فإذا رأوا مفلوجًا أو
مشلولاً، أو مجنونًا، أو أبكم، أو أصم، أو مصابًا بأي مرض آخر نسبوا ذلك إليها
؛ فامتلأت قلوبهم رعبًا منها، وخافوا من الأماكن القديمة، أو الخالية، أو المظلمة،
أو من سقوط شيء على الأرض أو من دخول محال التغوط إلى غير ذلك من
الأوهام التي لا يزال أثرها في نساء أهل مصر إلى اليوم. ويا ليت الأمر كان قاصرًا
على ما ذكر، بل ظهرت نتيجة ذلك في أعمالهم وكانت سببًا في ضررهم ضررًا
بليغًا؛ فإذا أصيب أحدهم بمرضٍ ما، تداووا بالعزائم والطلاسم وإيقاد البخور أو
زيارة بعض القبور أو تعليق أوراق أو الاستنجاد براقٍ! حتى يتمكن الداء،
وتستفحل العلة؛ فلا يقوى الطبيب على استئصالها أو إيقاف سيرها، ويموت
الشخص ضحية للجهل والوهم؛ هذا كان شأن الأمم في هذه المسألة، وهذه كانت
أفكارهم، وكانت تأتيهم الأديان، ولا تزيل عنهم هذه الخزعبلات المميتة للنفوس
والأجسام، بل إن بعضها أيدها تأييدًا ونص على صحتها صريحًا؛ فنجد أن كل
صحيفة من كتبها تدل على أن الشياطين هي علة هذه الأمراض كالصرع وأنواع
الشلل، والبكم، والصمم، وأنواع الجنون، والعتاهة، وغير ذلك مما عرفت
أسباب أكثره العلوم الطبية الحديثة، وما لا تعرفه قاسته على غيره لوجود التشابه
العظيم بينهما، ولشفاء بعضه باستعمال العلاجات المادية المحضة كالمواد الكيميائية
ونحوها.
أتى الإسلام والناس على هذه الحالة فلم يشأ أن يتركهم وشأنهم يخبطون خبط
العشواء في الليلة الدهناء، بل أصلح هذه كما أصلح غيرها مما يميت النفس والجسم
معًا صغيرًا كان أو كبيرًا، وذلك بالإفصاح أن ليس للشيطان على الإنسان من سلطان إلا بالإغراء والوسوسة أن يؤذيه في جسمه أو عقله أو إحدى حواسه بشيء
مطلقًا، قال تعالى حكاية عن الشيطان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم} (إبراهيم: 22) وقال تعالى
في خطابه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ} (الحجر:
42) وما ورد فيه من قوله: {لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ
المَسِّ} (البقرة: 275) هو على سبيل التمثيل والتشنيع الذي ورد مثله في كل لغة
مهما كان اعتقاد قائله فهو على حد قوله في مقام آخر: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ
الشَّيَاطِينِ} (الصافات: 65) [1] وتلك عبارة واحدة لم يرد غيرها. فليطالع
القارئ العهد الجديد للنصارى مثلاً ليعلم الفرق بين هذا وذاك.
بمثل هذه الحقائق التي قررها القرآن صار المسلم الحق لا يعبأ بالشيطان، ولا
يخشى منه أذى أو ضررًا، إلا ما كان دعوة لشهوة، أو نحوها مما يجب عليه أن
يحترس منه؛ فإذا أصابه مرض ما لم يستشف بقديس أو قسيس كما يفعل غيره بل
يطلب الطب والدواء، ويأتي البيوت من أبوابها، فأعظم به من كتاب لم يهمل شيئًا
فاسدًا إلا أصلحه. فبأي كتاب يمكن أن نقارنه؟ .
الله أكبر أن دين محمد ... وكتابه أقوى وأقوم قيلا
لا تذكروا الكتب السوالف عنده ... طلع الصباح فأطفئ القنديلا
الاعتقاد الصحيح لا يكون إلا باقتناع العقل بدليل لا بإرهاب أو ترغيب. فمن
لم يطمئن قلبه بالبرهان لا يحصل له الإيمان، وإن تظاهر بشيء منه فهو منافق
كذاب، فلا معنى لإدخال عقيدة في القلب، بواسطة التهديد بالقتل أو الضرب،
وهذا ما لا جدال فيه، وعليه فاستعمال القوة للحمل على اعتقاد هوس وجنون وسعي
فيما لا يمكن أن يكون؛ لهذا نهى الله المؤمنين عن الإكراه نهيًا صريحًا في عدة
مواضع من كتابه العزيز {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيّ} (البقرة:
256) {وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف:
29) {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى
يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99) ثم طيب قلوبهم بنحو قوله {لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ
إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105) وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّك} (هود: 118-119) ففقه المسلمون أن
ليس من وظيفتهم بالنسبة لغيرهم ما نهاهم الله عنه. أمروا بالقتال، ولكن لا للعقيدة
بل لدفع الأذى وأمن الفتنة وحماية الدعوة {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ
كُلُّهُ لِلَّهِ} (الأنفال: 39) الفتنة هي ما يفتن به المرء في دينه من أنواع الأذى
والاضطهاد والمعنى: قاتلوهم حتى يأمن كل منكم على نفسه، ويكون دينه كله خالصًا
لله لا يشوبه خوف أحد، أو كتمان شيء لعدم إغضابه أو إظهار آخر لا يدين به
لأجل إرضائه، بل يكون دينكم وخضوعكم كله لله بدون مبالاة بغيره. ولو كان
القتال لأجل الدين لما كان هناك معنى لقوله {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ
وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) وقوله {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم
مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى
مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ} (التوبة: 4) وهذه الآيات مدنية. نزلت وقد أعلن
القتال وأنشبت الحرب أظفارها، فكيف ينهى عن قتال من لم يقاتل أو يعقد عهد مع
المشركين، إذا كانت الحرب لأجل الدين؟ ولما أمر الله تعالى في سورة براءة بقتال
المشركين الذين خانوا العهود، ونقضوا المواثيق وبدءوا بالعدوان، وكانوا مهددين
للمسلمين في كل وقت وأوان، وخيف أن يدخل أحد في الإسلام حذر القتل - أمَّن كل
من رغب فيه ليهتدي إليه بدون إكراه فقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ
حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُون} (التوبة: 6)
والخلاصة: أن المسلمين إذا أمكنهم الدعوة إلى دينهم دعوا إليه بالحكمة
والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ولكن إذا هددت الدعوة، وخيفت
الفتنه قاتلوا حتى يخضع المهدد لسلطانهم ويأمنوا شره، وبعد ذلك يعطفون عليه
بالرفق واللين والإحسان وحمايته في مقابلة جزء يسير يدفعه من ماله وله أن يقيم
على أي دين شاء. هذا هو حكم الجهاد في الإسلام كما يستفاد من مجموعة آي
القرآن الواردة في هذا الشأن. أما ما خالف ذلك فليس من الإسلام في شيء ويكون
الحامل عليه الملك والاستعمار لا الدين، وهذا مبحث آخر فليس للمسلم أن يقاتل من
كان آمنًا منه، لأجل أن يكرهه على دينه، أو يسيء إلى من خالفه في الاعتقاد {لاَ
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) أو يقطع علائقه مع أهله
لأجل الدين {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} (لقمان: 15) أو يعاقب بأكثر مما عوقب به. أو
يقتل في حربه شيخًا أو طفلاً أو امرأة. إلى غير ذلك من شرائع العدل والرأفة
والرحمة؛ فأي دين بلغ من القوة ما بلغ الإسلام وعمل بمثل هذه القوانين العادلة؟
قارن ذلك بما فعله بنو إسرائيل مع غيرهم وما فعله النصارى مع مخالفيهم ومع
بعضهم.
يقولون: إن المسيح عليه السلام فاق محمدًا عليه الصلاة والسلام بالدعة
والمرحمة، ونقول: هب أن ذلك صحيح فهل يقارن من عاش ثلاث سنين في
الضعف والمسكنة بمن عاش ثلاثًا وعشرين وهابته الملوك والجبابرة؟ فما يدرينا أنه
لو عاش مثل ما عاش وبلغ مثل ما بلغ ماذا كان يفعل؟ عاش محمد عليه السلام
ثلاث عشرة سنة أو أكثر ولم يبدُ منه عداوة لأحد وعاش المسيح عليه السلام
ثلاث سنوات فبدت منه البغضاء للناس إذا صح ما نقل عنه، نعم إنه قال: (أحبوا
أعداءكم، باركوا لاعنيكم) ولكنه كان أول من خالف ذلك على روايتهم فقال:
(من لم يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون
لي تلميذًا) وقد برهن على هذا القول بالعمل حينما قيل له أمك وإخوتك واقفون
خارجًا طالبين أن يكلموك فقال: (من هي أمي ومن هم إخوتي؟ ومد يده نحو تلاميذه
وقال ها أمي وإخوتي، من يصنع مشيئة أبي هو أخي وأختي وأمي) وقال في
مثل له: (أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فائتوا بهم إلى هنا اذبحوهم
قدامي) فما هذا التناقض وما هذه الحال؟ والحق يقال: إن حب العدو فوق الطبيعة
البشرية فمن أراد أن يغيرها لا يلتفت إليه، ولا يسمع له قول كما هو مشاهد في
العالم الآن بأجمعه، ولكن الشريعة الإسلامية أتت لتقويم معوج الطبيعة لا
لتغييرها وتبديلها فأمرت بما يقدر عليه الإنسان بجهد قليل بأن حثت على
الإحسان إلي المسيء {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} (الرعد: 22) ومدحت ذلك
ولكنها أقرت بأن الأخذ بالمثل لا ظلم فيه ولا عدوان ولكنها لم تندب إليه كما ندبت إلى الأول {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (الشورى: 43)
فانظر الفرق بين ما وافق الفطرة، وبين ما حاول تبديلها. وهذا هو الشأن في كل
المسائل التي خالف فيها الإسلام الأديان الأخرى المعروفة {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) .
***
إصلاح حال المرأة:
أتى الإسلام وحال المرأة في اختلال: بنات موءودة وحقوق مهضومة، وذل
واحتقار، حتى ظن بعض من كان يعتقد بنوع من البعث أن المرأة لا نصيب لها فيه.
طلاق لأوهى الأسباب أو إمساك مع البغضاء والشحناء، تعدد لا حد له أو اقتصار
على واحدة أوقع غيرها فريسة للفقر والأهواء، فماذا عمل الإسلام في هذه الحالة
المختلة، وكيف أزال العلة؟
حرم وأد البنات تحريمًا بتًّا. وأنذر الناس عذابًا أليمًا يوم القيامة إن لم يتركوه
{وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (التكوير: 8-9) رفع شأن المرأة
وحفظ حقوقها وجعل لها مثل ما عليها فقال {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} (البقرة: 228) وهي درجة القوة والإنفاق كما ذكر
في آية أخرى. ساوى بينها وبين الرجل في جميع الأوامروالنواهي الدينية {إِنَّ
المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ
وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ
وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ
لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب: 35) وقال أيضًا: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ
عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} (آل عمران: 195) فعلم الرجل أنها قرينة له في
الآخرة كما هي في الدنيا، ولا امتياز بينهما في ذلك.
أمر بالإحسان إليهن في عدة مواضع ومعاشرتهن بالمعروف، ونهى عن
إمساكهن ضرارًا. وطيب قلب الرجل إذا حصل فيه شيء من الكره بقوله:
{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ
خَيْراً كَثِيراً} (النساء: 19) حتى لا يتسرع إلى الطلاق لأقل سبب وأوجب عليه
التروي وتحكيم حكمين من أهلها قبل أن يقدم على ذلك {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا
فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ} (النساء: 35) الآية؛ لأن الطلاق وأن كان مباحًا لكنه
أبغض الحلال إلى الله كما ورد في الحديث، أما إذا لم يمكن التوفيق بينهما لسبب ما
من الأسباب فعدمه فيه حرج كبير مخل بالعائلة والنظام ويجر إلي ما لا تحمد عقباه
ولذلك نجد من حرم عليهم في شريعتهم أخذوا يتخلصون من ذلك بكل وسيلة.
قال المولعون بالأوهام أن إباحة الطلاق تقلل الحب بين المرأة وزوجها؛ لأنها
مهددة به في كل وقت. ولكنا نقول: هل المرأة التي تعلم أن الجامعة بينهما قسرية
اضطرارية تضمن حب زوجها لها أكثر من التي تعلم أنه لو لم يكن هناك حب لسهل
افتراقهما؟ فما هذا القلب قلب الحقائق إلى الضد؟.
كان تعدد الزوجات غير محدود عند العرب وعند غيرهم فوضع الإسلام له
حدًّا كما هو معلوم، ولم يندب إليه وقيده بشرط عدم الخوف من عدم العدل، وفوائد
الإباحة كثيرة، منها:
(1) أن الإنسان إذا أصاب امرأته مرضٌ مزمن جعله ينفر منها فإما أن
يبقيها أو يطلقها، أما طلاقها والحالة هذه فهو خلاف المروءة والإنسانية؛ إذ لا
يمكنها أن تتزوج بغيره، وربما لا يكون لها عائل سواه، وإن أبقاها ولم يتزوج
عليها تعطل نسله هو أيضًا، وتعرض للإصابة بأمراض كثيرة تنشأ من عدم القيام
بهذه الوظيفة أو اضطرته الشهوة إلى الزنا، أما إذا كان هو المصاب بذلك المرض
المزمن فطلاقها إذًا يكون عين الحكمة والصواب فتسلم من العدوى إن كان مرضه
معديًا؛ فيمكنها التزوج بغيره والقيام بوظيفتها التناسلية أو الاشتغال بشيء تكتسب
منه قوتها. وهذا أيضًا من فوائد الطلاق. فهل الطلاق والتعدد إصلاح للمرأة أم
إضرار بها؟ ومثل المرض المزمن العقم في النساء فالتزوج عليهن خير حل لهذه
المسألة وخصوصًا فيمن كان يطلب وارثًا له في مال أو ملك.
(2) عدد النساء أكثر من عدد الرجال فلو لم يبح التعدد لوُجد عدد كبير
منهن لا حيلة لهن سوى الاتجار في أعراضهن كما هو مشاهد في أكثر بلاد أوروبا
وذلك يجعلهن مبتذلات معرَّضات للأمراض وإذا افتقرن ومرِضن أو كبِرن في السن
أو فقدن عضوًا منهن فلا مخلِّص لهن من سوء الحال سوى الانتحار. فهل في التعدد
إصلاح أم إضرار بهن؟ هذا وإذا علمنا أن شهوة الرجال أقوى من النساء بكثير
وأنهم يميلون إلى التعدد بخلاف الإناث كما هو مقرر في العلوم الباحثة في هذا الشأن
أيقنَّا أن إباحة التعدد موافقة للنوع الإنساني من كل وجه، ولا ننكر أنها قد تجر إلى
بعض مضار. ولكن باستعمال العقل والحزم يغلب نفعها على ضررها
ولا يزول ما بين الرجل العاقل وبين امرأته من المودة والرحمة التي جعلها الله
بينهما بسبب التعدد كما يتوهم البعض؛ لأن قلب الرجل يسع أكثر من واحدة كما أن
قلب الأم يسع جميع أولادها، وقلب الأستاذ جميع تلاميذه النبهاء. فالتعدد لا يمنع
من حب الجميع ألبتة ولا ينافيه. ولكنه ينافي العشق والغرام الذي هو أحد أمراض
الحب. وأقصد بالعشق عبادة ذات مخصوصة والتفاني فيها بما يؤدي إلى الموت إن
فقدت ومثل هذا لا يليق بعاقل وهو لا يدوم بل سريع الزوال فالحب المقصود وجوده
هو المعبر عنه بقوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21) أي حب
شفقة، وحنان، وحب أخلاق، لا حب ذات، وهذا لا ينافيه التعدد، فقد توجد المودة
والرحمة، والشفقة، والحنان، وحب الأخلاق من شخص لكثيرين، ومتى علمت
المرأة ذلك من الرجل، وعلمت أنه هو عائلها وكافلها أحبه قلبها رغم أنفها، وإن
كرهت شريكاتها فيه. وهذا الكره ناشئ من شهوة الاستئثار بالنفع وهي شهوة لا
يجوز للرجل أن يطيعها فيها إذا اقتضت الضرورة خلافها.
ولو عقلت المرأة أن غيرها يود من يقوم بشؤونه مثلها، وأن قلة الرجال
بالنسبة لهن تستلزم قيام رجل واحد بشؤون أكثر من واحدة لوجدت نفسها مخطئة في
إيثار النفع الخاص على النفع العام. الأمر الذي تحاشاه ديننا القويم، والخلاصة أن
الشريعة الإسلامية حلت مسألة المرأة أحسن حل، وأصلحت حالها إصلاحًا لم تأت
به شريعة أخرى، وقد أخذت الأفكار في أوربا تتقرب إلى ما أتى به الإسلام بعد أن
عادته عداء شديدًا مدة مديدة.
الحديث شجون، إيثار النفع العام على النفع الخاص هو مما يعبر عنه
المسيحيون (بإنكار الذات) . فهل الدين الذي يدعو المرأة لأن ترى غيرها شريكة
لها في زوجها كالذي يدعوها لأن تستأثر بشخص وحدها، وترى غيرها من النساء
يرحن ويغدون في الطرقات كل يوم إلى ما بعد نصف الليل ليحصلن على ما به
يقتتن ويكتسبن؟ هل الدين الذي كان أهله في الصدر الأول يطلقون نساءهم
ليزوجوهن إخوانهم من المسلمين ويطعموهن طعامًا هم أنفسهم محتاجون إليه يقال
عنه أنه لم يعلمهم إنكار ذاتهم! ! ألم يرد في كتابهم قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} (الحشر: 9) هل الدين الذي كان صاحبه يدعو
ربه لينجيه من القتل والصلب بقوله على زعمهم: (إن أمكن فلتعبر عني هذه
الكأس) وزعمهم أنه لما حصل بالفعل ضجر وخارت قواه وصرخ قائلاً: (إلهي
إلهي لماذا تركتني) كالدين الذي كان صاحبه لا يبالي بالأذى والقتل في سبيل نصرة
الله ودينه وقد احتمل من الاضطهادات مدة ثلاث وعشرين سنة ما لم يحتمله سواه وهو يتلو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاّ} (التوبة: 111) الآية،
أيهما برهن للعالم على إنكاره لذاته في سبيل هداية الناس وإرشادهم إلى الحق
مهما أصابه، وكان يقابل سهام العدو بصدره وحده، ويقول: (أنا النبي لا
كذب، أنا ابن عبد المطلب) ؟ الله أكبر. أين هذا من ذاك. فما كان أغنانا عن
هذا الجدال كله لولا اعتداؤهم علينا. هل أوجب المسيح الزكاة، والصوم، والحج على متبعيه مثل ما أوجب القرآن. أليس في هذه الثلاث أكبر معنى لإنكار الذات
ونفع الناس والاستعلاء على الشهوات ووطئها بالأقدام، وتحمل المصاعب والمشاق
للحصول على رضوان الله. أبعد ذلك يقولون إن المسلمين لا يعرفون معنى لإنكار
الذات الذي يطنطنون به ويدعونه بألسنتهم، وهم أبعد الناس عنه وأكثرهم انغماسًا في
الملاذ والشهوات. ولكن ليقف القلم عند هذا الحد ولنرجع إلى ما كنا فيه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: الصواب أن الشياطين هنا نوع من الحيات كما في التفاسير المعتمدة.(8/681)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
(دعوة اليابان إلى الإسلام)
خواطر وآراء
كان أُشِيعَ منذ سنين أن أولي الأمر في اليابان قد عرفوا بارتقائهم في العلم
والسياسة أن دينهم الوثني باطل، وأنهم يبحثون في غيره من الأديان؛ ليختاروا لهم
منها ما يظهر لهم أنه أهداها سبيلاً وأقومها قيلاً وأقواها دليلاً، وأقربها من صداقة
المدنية وأبعدها عن عداوة العلوم الكونية، وأنهم لاحت لهم بوارق، فراجعت
حكومتهم في ذلك سلطان العثمانيين، لأنه أكبر سلاطين المسلمين، شاع ذلك أيام
أرسل السلطان عبد الحميد تلك السفينة الحربية (أرطغول) إلى بلاد اليابان لتزور
حكومتها وأرسل معها وفدًا دينيًّا ليبين لها حقيقة الإسلام كما قيل، ولكن السفينة
غرقت قبل أن تصل إلى حيث تقصد، ثم سكت الناس عن الكلام في إسلام تلك الأمة
ونسوه، ولم يكن قد ظهر لهم حقيقة أمرها في القوة والمدنية.
ولما ظهر من أمرها في الحرب الأخيرة في هاتين السنتين ما ظهر، وغلب
نور فضلها - وهي دولة الشمس - على نور القمر، عاد المسلمون إلى حديثهم
الأول في إسلامها فتحدث به المصري، والسوري، والهندي، والروسي
والجزائري، والتونسي، والأفغاني، والصيني، من غير مواطأة بين مسلمي هذه
الأقطار، ولا تقليد أحد منهم للآخر في الأفكار، وإنما هو شعور بعثه في نفوس هذه
الشعوب القصية ما يعلمونه من الخطر على بقايا السلطة الإسلامية بما جلب عليهم
حكامهم من الجهل والاستبداد مع وقوف دول أوروبا لهم بالمرصاد، وبما اعتادوا
عليه - أعني المسلمين - من الاتكال على الحكام في الأعمال، والاستعاذة بهم من
خواطر التكافل والاستقلال والنهوض بجلائل الأعمال.
إسلام هذه الأمة العزيزة ذات الدولة القوية قد صار من الأماني التي يتخيلها
كثير من المسلمين المتفكرين الذين يألمون من سلطة المخالف لهم في الدين، فمنهم
من يلهو بتخيلها في خلوته، ويتمثل بما قال ذلك الشاعر في معشوقته:
أماني من سُعدى عذاب كأنما ... سقتنا بها سُعدى على ظمأ بردا
مُنى إن تكن حقًّا تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمنًا رغدا
ومنهم من يتحدث بها في الأندية والسمار، ويشرح ما يكون لها من الفوائد
والآثار، ويقول: إن أسلم (الميكادو) فأنا أول المبايعين، وأضمن له ذلك في جميع
شعوب المسلمين، ومنهم من ارتقى عن الأماني ووهم أحلام المستيقظين، وعن لغو
الحديث وهو فاكهة الكسالى والعاجزين إلى حث من يظن فيهم كمال العلم بحقيقة
الإسلام على تأليف رسالة أو كتاب لدعوة أولئك الأقوام، ومنهم من يقترح أن يجمع
شيء من المال يجهز به دعاة من فضلاء الرجال ليأتوا البيوت من الأبواب وينشر
الدعوة بالقول والكتاب ومنهم من ارتقى إلى الاستعداد للدعوة بالفعل ويقال: إنه قد
انتدب إلى ذلك أفراد من الشيعة في الهند.
رأينا بعض أولئك المتمنين، وتحدثنا مع بعض المقترحين فرأينا أن السياسة
هي ولدت في نفوسهم هذه الرغبة، وقلما تجد فيهم من يود إسلام تلك الأمة لباعث
ديني خالص من شوائب السياسة، وإني ليحزنني أن لا أرى في قومي كثيرًا ممن
بهتم بنشر الإسلام لذاته رغبة في سعادة من يدخل فيه وفوزه برضوان الله تعالى
ويعزيني عن حزني أن أرى الاهتمام بحفظ السلطة الإسلامية عظيمًا في نفوس كثير
من المسلمين، فإن للإسلام ركنين أحدهما للآخرة، وثانيها للدنيا وإن ضعف أحدهما
أهون من ضعفها كليهما وإن كان القوي لا يغني عن الضعيف إلا أن يستند إليه
المصلحون في إقامة الآخر وإرجاعه إلى أصله.
قلت لبعض المتكلمين معي في هذه الأمنية: إن اليابانيين مستعدون لقبول دين
يتفق مع العلم، والمدنية، والقوة، وإنا نحن وإياكم لعلى اعتقاد بأن الإسلام الذي
عليه المسلمون ليس كذلك وإلا لما حرموا من العلم والمدنية والقوة ما اعتز به غيرهم،
وأن الإسلام الذي جاء به القرآن الكريم وبينته السنة السنية، وكان عليه أهل
الصدر الأول هو كذلك، ثم إن ما تطلبونه بدعوة هذه الأمة إلى الإسلام هو الاعتزاز
السياسي بهم والتمتع العاجل بحمايتهم، وإنما يرجى هذا إذا وجهت الدعوة أولاً إلى
ملكهم ورجال حكومته، هؤلاء قوم سياسيون يوشك أن لا يعتدُّوا بقول أمثالنا في بيان
دين له ملوك وأمراء بدون استفتائهم فيه، فإذا نحن كتبنا رسالة الدعوة وبينا فيها
أصول العقائد والأحكام في الإسلام وأهمها عند هؤلاء شكل الحكومة وهو كونها
وسطًا بين الديمقراطية والدسقراطية المتطرفتين، مشروطًا فيها مشاورة أولي الأمر
في الشؤون السياسية واستنباط الأحكام، وهم أهل الحل والعقد وأصحاب المكانة
والرأي. فما يشعركم أنهم يراجعون في ذلك السلطان الذي يرون المسلمين يلقبونه
بخليفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعترفون له بالرياسة الدينية، وإذا هم فعلوا
فماذا تتوقعون من جواب السلطان، ومن مفتي الدولة الأكبر الملقب بشيخ الإسلام؟
قيل: ننتظر أن يكون الجواب تكذيب الرسالة، ولكننا نقول: إن هؤلاء العقلاء لا
يستفتون حكومة شخصية مطلقة في شأن حكومة شورية مقيدة، بل يعتمدون على
الدليل والبرهان، والاستشهاد على ما يدعون إليه بما مضت به السنة ونطق به
القرآن، قلت: المسألة فيها نظر، تجب فيه إجالة الفكر.
وهنا خاطر آخر، إذا قلنا لهؤلاء القوم: إن هذا الدين هو الدين الوحيد الذي
حفظ أصله، وضبط تاريخه؛ فكتابه المنزل نقل بالتواتر الصحيح فهو يقرأ في
مشارق الأرض ومغاربها كما كان يقرأه النبي وأصحابه، ويكتب في بلاد العرب
والعجم كما كتبه حفظة الوحي وكتَّابه، وأن ما فسره وبينه من السنة العملية قد تواتر
كذلك تواترًا حقيقيًّا لم تنقطع سلسلته في يوم من الأيام، وما يؤثر عن النبي
وأصحابه من الأقوال، قد ضبط ضبطًا لم يعهد مثله في جيل من الأجيال، ومع هذا
كله نفرض عليكم ما رضيه جماهيرنا لأنفسهم وهو أن تتبعوا في الدين رأي عالم من
المجتهدين الذين أفتوا وعلموا بعد النبي وأصحابه بعشرات أو مئات السنين، ولا
نبيح لكم أن تأخذوا الدين من كتابه المنزل وسنة نبيه المرسل، وتردوا الشريعة من
ينبوعها الأول، فإن رضيتم بذلك عددناكم من المسلمين، وإلا كنتم في نظرنا من
الضالين المضلين، إذا فصلنا لهم هذا القول أفتراهم يرضون بأن نكون لهم هداة
مرشدين على رضانا بحرمان أنفسنا من الاستقلال بفهم الدين؟ أتراهم يتركون لنا
ونحن دونهم في العلم ما نجحوا به من الاجتهاد والاستقلال، والاعتماد في قبول أي
شيء أو رفضه على قواعد الاستدلال؟ أتراهم يرون من الخير لدولتهم وأمتهم،
ولمسابقة الأوروبيين في ثروتهم وقوتهم، أن يتعبدوا في أعمالهم السياسية والمالية
والمدنية، بأقوال التتارخانية والشرنبلالية والولوالجية، أو أمثالهم من كتب
المالكية والشافعية، كلا إن البداهة لتقضي بأن أمثال هؤلاء المستقلين في كل شيء
لا يقبلون إلا دينًا معقولاً مساعدًا على مسابقتهم للأمم الراقية في كل شيء فيستحيل
أن يقيدوا أنفسهم بفهم رجال غير معصومين وجدوا في زمان كانت سياسته وحروبه
ومدنيته ومعاملاته التجارية وغيرها مباينة لما عليه أهل هذا العصر مباينة تقضي
باختلاف الأحكام، أو أن يدينوا باعتقاد العصمة لأئمة آل البيت عليهم السلام،
ويأخذون ما يرويه عنهم الشيعة بالاستسلام؟
نحن نجزم بأن الإسلام دين الارتقاء الذي يناسب كل عصر فليس في كتابه
العزيز ولا في سنته الثابتة التي لا خلاف فيها بين المسلمين ما يبطئ، بسير أمة
مستقلة ومسابقتها لسائر الأمم ولكن في الأحكام الخلافية التي هي محل الاجتهاد بين
الفقهاء ما لا يوافق مصالح الناس في كل عصر فالتزام أقوال بعض المجتهدين
وأتباعهم في أحكام المعاملات والسياسات والأخذ بكتب أي طائفة من الفقهاء هو
عائق لأمة تلتزمه عن مجاراة أمم لا تلتزم إلا ما ترى فيه في مصلحتها التي تختلف
باختلاف ما يستحدث الناس آنًا بعد آن من ضروب التفنن في الكسب واستعمار الأرض. فمن يدعو اليابانيين إلى الإسلام يجب أن يكون عالمًا بالكتاب والسنة وما في هذا العصر من طرق مدنية الأمم والدول، وأن لا يلتزم الدعوة إلى
مذهب معين وإلا كان من الخائبين، والويل لهذه الدعوة إذا جاءت من قبل
شيوخ الرسوم المقلدين، وأين نجد هؤلاء الدعاة الهداة المهديين؟
ومن المسائل التي يجب إجالة الفكر فيها عند البحث في هذه الدعوة (مسألة
الوطنية) التي يدعو إليها بعض الأحداث المتسممين بغواية أوروبا، أو إغوائها
للمسلمين، ومن مقتضاها على ما يعرف القراء أن المسلم الياباني إذا جاء بلادًا
إسلامية غير بلاده، وأراد الإقامة فيها يجب أن يُعَدَّ دخيلاً، وأن يسعى الوطنيون
في مقاومته وعرقلة أعماله؛ لئلا يربح من بلادهم ما هم أحق به في شريعة
الوطنية، وإن كانت أعماله خدمة لهم حتى في دينهم أو ترقية بلادهم، وإن كان لا
يوجد في البلاد من يغني عنه فيها.
إذا سرى سم هذا الضرب من الوطنية في كل قطر من الأقطار الإسلامية ألا
يكون مانعًا من استفادة بعضهم بما يفضلهم به الآخرون من علم وعمل؟ إذا كان
اليابانيون أنفسهم على هذه الطريقة فهل يهمهم من أمر المصري والسوري والمغربي
ما يحملهم على إفادة إخوانهم في هذه البلاد بما أُوتوه من عزة وقوة وعلم وصناعة؟
ماذا ينتظر أهل مذهب الوطنية الكاذبة من دخول اليابانيين في الإسلام، ومن أصول
مذهبهم أن الرابطة الجامعة بين الناس هي عصبية البقعة لا الدين ولا اللغة!! بل ولا
السياسة فإن أحداث الوطنية في مصر لا يعدون العثماني السوري شريكًا لهم في
وطنيتهم، ولكن الشعور بميل المسلمين في مصر إلى إسلام اليابانيين وباستفادتهم
منه يدلنا على أن الرابطة الإسلامية لا تزال أقوى من الرابطة الوطنية التي يدعو
إليها الأحداث الجاهلون.
ولا ينسين المتمني لو يسلم اليابانيون، والباحث في دعوتهم ليعتز بإسلامهم
في بلاده، وإن بعدت عنهم أنهم إذا قصدوا إلى الدخول في سياسة بلاد غير بلادهم
فإن حكومتها إذا كانت إسلامية تناهضهم باسم الدين وعلماء الرسوم المقلدون يؤيدون
حكوماتهم في أمثال هذه الأمور، بل هم عضد الحكام وأنصارهم في كل شيء فهم
يفتون لهم بكفر اليابانيين لا سيما إذا كانوا لا يلتزمون في إسلامهم إتباع مذهب من
المذاهب الأربعة في الأحكام واتباع الأشاعرة أو الماتريدية في تقرير العقائد، هذا إذا
كانت الحكومة التي تقاومهم تنتسب إلى أهل السنة كالدولة العثمانية أو إتباع مذهب
الشيعة إذا أرادوا الدخول في سياسة الدولة الإيرانية. وبذلك يكون دخولهم في
الإسلام لأجل السياسة فتنة للمسلمين لا يستهان بها، ولا يسهل الحكم بنتيجتها.
وقد يقال: لو لم تستفد البلاد الإسلامية البعيدة عن اليابان من إسلامهم إلا
الاستفادة المعنوية لكفى وأدنى هذه الفائدة أن تخفف أوروبا وطأتها عن المسلمين في
مستعمراتها بل وفي الممالك الإسلامية المستقلة التي يعبث الدول باستقلالها كل يوم
حتى صار مهددًا بالزوال والعياذ بالله تعالى، ولا يبعد أن يلهم الله ملوك المسلمين
رشدهم فيخالفون هذه الدولة العزيزة إذا قضت حكمته بأن لا تنازعها على لقب
(الخلافة) الذي كان بركان كل بلاء وعلة كل شقاء أصاب هؤلاء المسلمين ماضيهم
وحاضرهم. أقول: وإن أمام هذه المخالفات ووراءها من مقاومة أوربا ما لا ينكره
بصير، ولا فائدة لنا في الخوض فيه وإنما نودع هذا المبحث الجديد (تمني إسلام
اليابانيين) من المسائل والخواطر ما يذكر الناسي وينبه الغافل إلى المسائل التي يفيد
تذكرها والفكر فيها.
لتجدن أجدر المسلمين بالاستفادة من إسلام اليابانيين- لو حصل - مسلمي
الصين وأن استفادة الدولة اليابانية منهم لأكبر من استفادتهم منها، ذلك أن مسلمي
الصين لا يقل عددهم عن عدد اليابانيين، وهم أشد أهل الصين بأسًا وأعز نفرًا،
وأبرع في الجندية، وأحسن أثرًا، فيسهل على الدولة اليابانية على قربها منهم، ومعرفة كثير من رجالها بلغتهم أن تستعين بهم على ما تريد مملكة الصين فتسود في
الشرق الأقصى سيادة يمتد شعاعها إلى الشرق الأدنى، فيحييه حياة جديدة تكون مبدأ
لدخول العالم كله في المدنية الفضلى، واستقامته على الطريقة المثلى، بالجمع بين
الدنيا والدين بين مطالب الجسد والروح بين سعادة العاجلة والآخرة، وذلك هو الفوز المبين.
تلك الخواطر التي عارضت الفكر وهو يجول في رياض هذه الأمنية هي من
أهم مسائل الإصلاح التي تذكرنا بمواضع ضعفنا، وناهيك بمسألة فقد العلماء
المستعدين للدعوة الصحيحة إلى الإسلام التي يقدر أصحابها على التأسي بالأنبياء
عليهم السلام في مخاطبتهم الناس على قدر عقولهم، وبما يناسب استعدادهم. إنك
لتدخل بيوت بعض علمائنا فتجد فيها ألواحًا معلقة على الجدر مكتوبًا عليها بخط يلفت
جماله النظر (العلماء ورثة الأنبياء) وألواحًا أخرى مثلها في الجمال والبهاء كتب
عليها (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) [*] علقت لتوهم الزائر أن صاحب الدار
من هؤلاء الورثة، لكن الخبير الذي لا تخدعه الأزياء ولا تغره الرسوم يعلم أن
واحدًا من هؤلاء العلماء الرسميين لا يقدر على إقناع أحد من أهل هذا العصر بدعوة
الإسلام بل يخشى أن يكون حديث الواحد منهم في الدين مع أهل العلوم الاجتماعية
والسياسية حجابًا كثيفًا دونه بل شبهات قوية تصد عنه. وإذا كانوا يعجزون عن
كشف شبهة تعرض لتلميذ يتلقى العلوم العصرية وهو مؤمن بالله ورسوله وكتابه
ولكنه جرى في التعلم بالدليل فأَنَّى يقدرون على تمثيل الدين لفلاسفة العصر وساسته
معقول العقائد سامي الآداب منطبق الأحكام على منافع الأمم في ثروتها ومدنيتها
ومصالح الدول في إدارتها وسياستها ويقنعونهم بأن الإسلام لا يعيد العقل إلى وثاقه
ولا يكبل الفكر بأوهاقه فيقيد العلم بعد إطلاقه ثم يدحضون بالآيات البينات ما
يوردونه عليه من الشبهات؟ أين يوجد هؤلاء العلماء في المسلمين؟ وإذا عطس
الصبح فظهر واحد منهم أيعترف له الرسميون بالعلم والدين؟ وهل الحكام والعوام
إلا تبع لهؤلاء الرسميين الضخام وهم مجموع المسلمين؟ ودين الناس مما يقرره
علماؤهم الرسميون لحكامهم وعامتهم. ناظر مُناظر بعض العلماء الغربيين في كثير
من مسائل الإسلام التي يشتبهون فيها فنهض بالحاجة فقال له مرة إن ما تقوله
صحيح ومعقول ولكنه فلسفة وعقل لا دين وإنما دين الناس ما هم عليه. وقال مرة
أخرى أرأيت إذا سألت علماء الأزهر ما عدا الشيخ محمد عبده عن هذه المسائل
أيجيبونني بمثل هذه الأجوبة؟ قال: لا أدري بماذا يجيبون وحسبك أن تعلم هذا هو
الإسلام من إسنادي إياه إلى القرآن والسنة.
الدعوة إلى الدين لا يقوم بها في هذا العصر كل من قرأ السنوسية والعقائد
النسفية، ولو وقف مع ذلك على المواقف العضدية، وكل ما يقرأ في الأزهر من
الكتب الفقهية. للدعوة معارف أخرى، منها فهم الكتاب العزيز والاطلاع على السنة
ومعرفة ما فيها من حكم التشريع، ومنها معرفة السيرة النبوية وتاريخ الإسلام،
والبصيرة في علم الاجتماع والتاريخ العام، والإلمام بسائر العلوم العصرية،
والاطلاع على ضروب الأساليب المدنية، ومنها غير ذلك مما يتعلق
بالدعاة ومن تراد دعوتهم، وقد فصلنا القول فيها من قبل فليراجعه في المجلد الرابع
من شاء. وقد كان الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - يحاول إعداد فريق من
طلاب العلم في الأزهر للدعوة، ولكن السياسة ما زالت تعارضه في عمله وتغري
بذلك أهل الجمود من الشيوخ حتى جاءه الأجل قبل أن يتحقق له الأمل.
الاستعداد للدعوة يسير على أهل الأزهر إذا سلكوا سبيل الإصلاح التي كان
يريدها الأستاذ الإمام، ولكن أنَّى لهم بمثل الزعيم الذي فقدوا. وإن في فضلاء
المسلمين من غير أهل هذا المكان من هم أقدر على هذا العمل إذا حاولوه وإنما
يحتاجون فيه مع الهمة والعزيمة إلى المال وأغنياء المسلمين لا يزال أكثرهم حليف
الجهل وأسير البخل. وقد يتوهم الكثيرون منهم أن دعاة النصرانية المنتشرين
كالجراد في جميع البلاد تنفق عليهم دولهم من خزائنها والصواب أن جميع نفقات
جمعياتهم ومدارسهم مما يتبرع به أولو الطول منهم وهي نفقات تبلغ الملايين من
الجنيهات. فأين هذا السخاء الذي يؤيد به هؤلاء الناس دينهم من شح قومنا وقبض
أيديهم عن كل ما يؤيد الدين وينفع جمهور المسلمين، وأعجب منهم أننا نفتخر
عليهم بأننا أشد غيرة على ديننا منهم على دينهم، فما أجهلنا بحالنا وحالهم.
__________
(*) العباراتان ترويان في الأحاديث المرفوعة، فأما الأول فحديث له أصل وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان وصححه عن أبي الدرداء ولكن إسناده مضطرب، وأما الثاني فموضوع، قال ابن بحر والزركشي: لا أصل له.(8/705)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نصائح صحية للبنات من مجلة أبقراط
صحة الغنية وصحة الفقيرة. منفعة العمل في الدار. مضرة قراءة الروايات.
مضرة الخلوة. مضرة حكايات الخوادم والعجائز. مضرة تلوين الوجه. مضار
الزار وأمراضه وحقيقته.
جاء في باب صحة العائلات من مجلة أبقراط الطبية ما يأتي بنصه:
(أيتها الفتاة الصغيرة إن عمرك الآن لا يتجاوز الثلاثة عشر، ولكن ألا
تدرين أن هذه الثلاثة عشر ستكون عشرين، ثم ثلاثين، ثم أربعين، ثم ما شاء الله؟
إني لا أظنك إلا عارفة بذلك. وها أنت متمتعة بالصحة خالية البال مالكة لأنواع
السعادة تمرحين في بحبوحة من ثروة والديك فهل تستطيعين الصبر على ضياع
شيء من ذلك؟ إني أعيذك بالله فإن الصحة والهناء لا يعوضان غير أني أرى شيئًا
أريد أن أحدثك به لعلك تكونين على بينة منه. أرى أن الفتاة الفقيرة تقضي عمرها
في عافية لا مزيد عليها، والفتاة الغنية كل يوم عندها طبيب يعالجها، فلماذا؟ إذا
كنت لا تعرفين فأنا عارف ويمكنني أن أعرفك أن الفتاة الفقيرة خادمة أبيها وأمها
وإخوتها، وربما كانت خادمة لغيرهم أيضًا، والفتاة المتوسطة هي خادمة نفسها
وزوجها إن كانت متزوجة، أو خادمة نفسها فقط، أما الفتاة الغنية بنت (البك أو
الباشا) فليست بخادمة بل يخدمها الناس، ولا عمل لها لأنها ترى كل عمل إهانة
لنفسها وتعبًا لذاتها. تأملي أيتها الفتاة قليلاً يظهر لك سر المسألة. العمل لا بد منه
للفتاة مهما كانت مترفهة، وهو قرين الصحة. والبطالة نذير المرض عند الفتيات
فعليك بالعمل ولو بسيطًا، وأحذرك من مطالعة الروايات فإنها تضر بالصحة ولست
مكلفًا أن أبين لك السبب، ولديك في منزل والدك ألف عمل وعمل ولا أحسن من
الخياطة والتطريز.
مما يجب أن أحذرك منه أيتها الفتاة هو الجلوس وحدك لأنه مضر من جملة
أوجه متعب للفكر، ومتعب للمعدة؛ لأن الفتاة التي تجلس وحدها تكون ساكنة ساكتة
لا تتحرك وهذا موجب للإمساك وغيره.
ولا أريد أن أقول لك لا تسمعي حكايات الخدامات والعجائز؛ لأنها تضر
بالصحة إذ ربما تظنينني أمزح، مع أني لا أقول إلا حقًّا، والأسباب غير مجهولة
غير أن الوقت لا يسمح لي بشرحها لك.
ومتى صرت شابة في سن السابعة عشر مثلاً فإياك وتلك الألوان التي تستعملها
بعض الفتيات، فإنها فضلاً عن خروجها عن حد الأدب تضر أيضًا بالصحة؛ لأنها
مركبة من مواد سامة تضيع نضرة الوجه، وتجعل للجلد ثنيات كتلك التي تظهر
على وجوه العجائز.
ولا تشدي خصرك بهذه (الكورسيه) المعروف (بالبوسطو) لأنها تؤذي
الظهر، وتسبب أمراض المعدة والأمعاء، وتعطل حركة التنفس، وحركة الهضم
وكذلك لا تستعملي الأساور الزجاجية التي تدخلين يديك فيها بالعنف؛ فإنها فضلاً
عن ضررها أصبحت من زينة النساء الباغيات، وليس فيها من البهجة شيء.
ولا يخفاكِ أن لبعض الأخلاق تأثيرًا كبيرًا على الصحة؛ فالكبرياء لا تصحب
إنسانًا إلا وكانت له علة لدوام انقباض صدره، والاستبداد يجعله في كدر دائم لكثرة
المعارضين، والعوائد مثل الأخلاق أيضًا؛ فإياك والتدخين لأن الفتاة التي تشرب
الدخان يصفر وجهها وتضعف ضعفًا شديدًا، ومتى صارت كذلك تحتاج للألوان التي
تستعمل لإخفاء صفرة الوجه، وهذه الألوان قلنا: إنها تضر أيضًا.
وعندي مسألة أريد أن أتحفكِ بها أيتها الفتاة، ولكنها تحتاج إلى إمعان النظر
وعدم التعصب، وتحكيم العقل وهذه المسألة هي: هل الزار حقيقي؟ وهل هو مفيد
للصحة؟ وهل له اسم عند الأطباء؟ وهل يمكنهم أن يعالجوه كباقي الأمراض؟
ولماذا يهيج بالطبل والبخور؟ وما السر في تكلم العفريت على لسان المصابة إذا
كان هناك عفريت ... إلخ؟ وأنا الآن أبين لك هذه المسائل واحدة فواحدة.
الاعتقاد يجر إلى النفس انفعالاً والانفعال له تأثير على الجسم، ومتى عرفنا
هذه المقدمة الصغيرة تمكنا أن نبحث في تلك التفصيلات الطويلة العريضة.
أما كون الزار حقيقيًّا فهذا مما لا شك فيه وهو موجود في سائر أقطار
المسكونة غير أن حقيقته غير الحالة الظاهرة في القطر المصري لأن الشائع هنا هو
أن المصاب به مس من الجن أو الأولياء مع أن هذا الاعتقاد فاسد، ومن العجب أن
كثيرًا من الناس إذا قال لهم أحد: إن الجن أو الأولياء ليس لهم دخل في الزار،
يقولون: إنه لا يصدق الشرع. حالة كون جميع الشرائع تخدم الاعتقاد بذلك وأكبر
دليل على فساد هذا الزعم أن لهذا المرض أطباء يعالجونه وينجحون في
معالجته نجاحًا بينًا ولو كان من الجن أو الأولياء لما أمكن الطبيب مداواته وليست
مجلتنا شرعية حتى نتكلم فيها على الأولياء أو مجلة عمومية فلسفية فنتكلم على
الجن.
تسمع المرأة أو الفتاة أن في بيت إحدى قريباتها أو خليلاتها ليلة زار فلا يهدأ
بالها إلا إذا كانت ذات نصيب من تلك الليلة خصوصًا إذا كانت مدعوة إلى الحضور
فتروح سليمة متعافية أو مريضة منهوكة ولكنها لا تشعر بشيء، ومتى حضرت
مجلس الزار، وسمعت الطبل واستنشقت رائحة البخور جاءها العفريت أو الشيخ
كما يُقال، وتعود إلى منزلها في أشد التعب ثم تشعر بنشاط لا يمكث إلا قليلاً ثم تزداد
الآلام فيما بعد فيقولون: إن الشيخ قد غضب، وهكذا وهي لا تعلم بحقيقة الحال،
ولا يزال هذا دأبها حتى تكون من الهالكين مع أنها لو عرفت أن هذا من الأمراض
العصبية ويسميه الطبيب تشنجًا، ويمكنه مداواته لتخلصت من تلك المصائب.
لعلك أيتها الفتاة تقولين: إنك قد قلت أن المصابة تشعر بنشاط بعد الزار فكيف
ذلك إن كان الأمر غير حقيقي؟ فأضرب لكِ مثلا: إذا جئت بعصا رفيعة وضربت
بها ضربات خفيفات متواليات على خاصرة القدم (بطن الرجل) فإنك تجدين لذلك
لذة كما لو وضعت قطعة صغيرة من الثلج بين كتفيك، وهذه ليست لذة ولكنها ألم في
الحقيقة كاللذة التي توجد في الزار، وأما النشاط الذي يحدث بعد ذلك فلا يحتاج
لبحث؛ لأن كل مضرة تزول يحدث بعدها نشاط ثم يعقبه رد فعل أو (نكبة) وهذا
معنى ذلك.
أما النساء اللواتي يُرى عليهن هذا العارض فعلى قسمين: الأول النساء اللاتي
يصرعن عند استنشاق الروائح سواء كانت كريهة أو عطرية، أو عند الغضب أو
سماع الأصوات المزعجة كدق الطبل ورنة الموسيقى أو عند الفزع من أمر فجائي،
أو التأثر من أي شيء، مهما كانت واسطته، وهذا الفريق من المصابات، أو
المصابين عندهم مرض عصبي يمكن الطبيب أن يعالجه فعلى من شعر به أن يبادر
إلى التعالج قبل أن يستفحل الأمر.
والقسم الثاني: هو النساء اللاتي يرقصن على رنة الآلات المستعملة لهذه
الغاية رقصًا منتظمًا، ويتكلمن كلامًا يوهمن به أنهن مختلطات بالجن أو الأولياء
ويطلبن أشياء من أزواجهن، ويمسسن بأيديهن على رؤوس الأطفال لتحصل لهم
بركة الولي، أو رعاية العفريت، وهذا القسم من النساء خليعات لا دواء لهن غير
الزجر والإهانة والتكذيب؛ فإنهن مدعيات، وكلهن ذوات الثروة أو الأزواج
الأغنياء، ومن يلاحظ أن المرأة الغنية التي تحضر مجالس الزار إذا افتقرت يفارقها
الزار، وهي تعرف حقيقة الأمر) . اهـ.
__________(8/713)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تاريخ الإصلاح في الأزهر
أو أعمال مجلس إدارة الأزهر
من أراد أن يعرف حقيقة الأزهر وما كان عليه قبل أن ينتدب الأستاذ الإمام عليه
الرحمة لإصلاحه، وما كان من هذا الإصلاح فيه مدة اشتغال ذلك المصلح في إدارته
فليقرأ كتاب (أعمال مجلس إدارة الأزهر) فإنه تاريخ رسمي للإصلاح ولحال المكان
والمكلين وثمن النسخة منه أربعة قروش، ويسمح لمن كان أزهريًّا بربعها وهو يطلب
من مكتبة المنار وغيرها.
__________(8/716)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تفسير الفاتحة ومُشْكِلات القرآن
كنا جردنا تفسير الفاتحة من المنار، وضممنا إليه ما كتبه الأستاذ الإمام -رحمه
الله تعالى - في المسائل التي ينتقدها أعداء الإسلام على النبي صلى الله عليه وسلم
والقرآن كمسألة الغرانيق، ومسألة زيد وزينب ومسألة القدر وطبع ذلك كله في كتاب
نفدت نسخه سريعًا وألحَّ علينا الكثيرون بطبعه ثانيةً فطبعناه مع زيادة بيان وفوائد
وضممنا إليه ما كتبه الأستاذ الإمام في رواية سحر اليهود للنبي عليه الصلاة والسلام
فجاء كتابًا جامعًا لأهم ما يؤثر عن فقيدنا في الإرشاد القويم. وقد كان الكتاب يباع
أخيرًا بخمسة قروش صحيحة فرأينا أن نعيد ثمنه إلى قرشين ونصف قرش (25
مليمًا) على ما زدنا فيه وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر. ومن طلب أن يرسل
إليه في البريد فليرسل ثلاثة قروش صحيحة.
__________(8/716)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إحصاء رسمي
لخسائر الدولتين في الحرب الأخيرة
رأينا في جرائد مصر وسوريا والهند عدة إحصاءات لخسائر الحرب بين
روسيا واليابان فاخترنا منها الإحصاء الآتي الذي نشر في جريدة (ثمرات الفنون)
وهو:
اهتم الإحصائيون السياسيون اهتمامًا شديدًا لوضع الإحصاءات الدقيقة لخسائر
الحرب الروسية واليابانية، وقد نقلت إحدى الجرائد الروسية إحصاء رسميًّا قالت
أنه أدق وأضبط إحصاء يوثق به وإليك بيانه:
الخسائر الروسية البرية
اسم الموقعة ... ... قتلى وجرحى ... ... أسرى ... ... مدافع
تيورنتشان ... ... 2500 ... ... 350 ... ... 28
كينتشاو ... ... 2500 ... ... 400 ... ... 52
وافنغو ... ... 5000 ... ... 300 ... ... 15
لياوان ... ... 30000
شاهو ... ... 70000 ... ... ... 16 ...
هيواتياي ... ... 10000
موكدن ... ... ... 110000 ... ... 40000 ... ... 40
بورارثور ... ... 20000 ... ... 30000 ... 456 ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإجمالي ... ... 250000 ... 71050 ... 607
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*** ...
الخسائر اليابانية البرية
اسم الموقعة ... ... جرحى وقتلى ... ... أسرى ... ... مدفع
تيورنتشان ... ... ... 900 ... ... ...
كينتشاو ... ... ... 5000
وافنغو ... ... 1500
لياوان ... ... 50000
شاهو ... ... ... 30000 ... ... ... ... ... ... 12 ... ...
هايواتياي ... ... 9000 ... ... 300 ... ... ...
موكدن ... ... ... 60000 ... ... ... ... ... ... 3
يورارثور ... ... 70000 إلى مائة ألف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإجمالي ... ... 226400 ... ... 300 ... ... 15
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
***
خسائر الروس البحرية
اسم الطراد ... ... ... ثمنه بملايين فرنك
بورودينو ... ... ... (أغرق) 35
إسكندر الثالث ... ... (أغرق) 35
سوفوروف ... ... ... (أغرق) 35
أريول ... ... ... (أسر) 35
رتفيزان ... ... (أخرج من البحر) 35
سيسوي ... ... ... (أغرق) 35
نافارين ... ... ... (أغرق) 15
بتروباولسك ... ... ... (أغرق) 25
بولتافا ... ... ... (أخرج) 25
سباسطبول ... ... ... (أغرق) 35
أوسلايبا ... ... ... (أغرق) 30
يبرسفيت ... ... ... (أخرج) 30
يوبيدا ... ... ... (أغرق) 30
نقولا الأول ... ... ... (أسر) 30
***
مدرعات لحماية الشطوط
أوشوكوف ... ... ... (أغرق) ... 10 ... ...
أبركسين ... ... ... (أسر) ... 10
سينيافين ... ... ... ... (أسر) ... 10
ديريك ... ... (أغرق) ... 15
ابايان ... ... (أخرج) ... 20 ...
ناخيموف ... ... ... (أغرق) ... 15
فلادمير مونوماخ ... ... ... (أغرق) 15
بالادا ... ... (أخرج) ... 13
فارياج ... ... (أخرج) ... 15
نوفيك ... ... (أغرق) ... 10
بوريارين ... ... ... ... (أغرق) 10
جيتمشوج ... ... ... ... (أغرق) 10
أزمرود ... ... (أغرق) 10
ومجموع ذلك كله 28 دارعة بين طرادات وحراقات وغواصات، وينبغي أن
نضيف إلى هذا العدد عددًا من سفن الشحن التي أغرقت أو أسرت، ولا يقل
عددها عن 20 وبضعة من الغواصات، ومثلها من الزوارق، وقد بلغ ثمن مجموع
الأسطول الذي خسرته روسيا سبعمائة مليون فرنك، والأنكى من كل ذلك أن معظم
سفن أسطولها وقع في قبضة اليابان.
أما اليابانيون فقد خسروا في البحر طرادين وحراقتين فقط وقد بلغت خسارة
الروس الحربية بوجه عام نحو 5 أو 6 مليارات فرنك، أما خسائر اليابان فبلغت من
3 إلى 4 مليارات فرنك.
وبلغ ما اقترضته روسيا أثناء الحرب مليارًا و574 مليون فرنك، وبلغ ما
اقترضته اليابان مليارين من الفرنكات.
وهذا ما ترجمته الثمرات، وقد أصلحنا فيه غلطًا في الأرقام. ورأينا نحوه في
جريدة (حبل المتين) الفارسية ومجموع خسائر اليابان البرية فيها 216400.
__________(8/717)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تبرج النساء وأنصار الحجاب
كتبنا في الجزء الثالث نبذة في الشكوى من تبرج النساء بمصر حثثنا فيها
أنصار الحجاب على إعمال أقلامهم في الانتقاد على هذا التبرج القبيح الذي يتبرأ
منه الدين والأدب، ولا ترضاه المدنية الأوربية التي أسرفت في إطلاق العنان
للنساء إسرافها المعروف؛ إذ صارت حال نسائنا المسلمات في الأسواق والشوارع
أبعد عن الصيانة والأدب من حال نساء الإفرنج، كانت حملتنا شديدة على حملة الأقلام
الذين أنكروا على الأقوال في المسألة، وسكتوا عن الأفعال التي يشاهدونها حيثما
توجهوا، وغرضنا بذلك حفز الهمم لانتقاد التبرج في الصحف المنشرة،
وإزعاجها إلى تسفيه الرجال الذين يسمحون لنسائهم بهذا التهتك.
ندبنا أولئك الكاتبين فلم ينتدب منهم أحد للكتابة في انتقاد الفعل، ولكن وجد
ممن كان أَلَّفَ في المسألة من انتقد علينا القول، وله وجه من حيث إن عبارتنا توهم
أننا لا نعتقد بإخلاص أحد ممن كتب وألف ولا غيرته، وإننا نرفع هذا الوهم
بالتصريح كما رفعناه آنفًا بالتلميح؛ إذ قلنا: إن الغرض من القول: الحفز والإزعاج
إلى الانتقاد فنقول: إننا نعتقد إخلاص بعض الكاتبين حتى المختلفين فيما كتبوا ولكن
المخلص في تفنيد قول يراه خطأ لا يسلم من تبعة التقصير في انتقاد الأفعال الخاطئة
إذا كان غيورًا مخلصًا، وإننا لم يتمثل لنا عند كتابة تلك النبذة إلا الذين ذكرنا أنهم
سودوا وجوه الصحف في الإنكار على طالب تخفيف الحجاب وعنينا بالصحف
الجرائد اتباعًا للعرف ولم نقصد واحدًا معينًا منهم.
وإننا لا نزال نبدئ القول ونعيده في المسألة معتقدين أن حملة الجرائد على هذا
التبرج وتشنيعها على الرجال الذين يمكنون نساءهم منه ويرضون لهن به يفيد فائدة عظيمة، وأن سكوت الكتَّاب عنه ينافي الغيرة، وأن أولى الكتَّاب بهذا الانتقاد المرة
بعد المرة هم الذين فاضت بكلامهم أنهار الجرائد ردًّا على كتاب تحرير المرأة
وكتاب المرأة الجديدة، وأنهم إذا استمروا على سكوتهم كان قولنا الذي قصدنا به
المبالغة في حثهم غير مبالغ فيه، وإذا كان لبعضهم مانع من الكتابة اليوم فلا يصح
أن تغلبهم الموانع في سائر الأيام.
__________(8/719)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
موعظة وعبرة في وفاة حرة
في منتصف شهر شعبان الماضي، توفيت إلى رحمة - الله تعالى - فاطمة
بنت الأستاذ الإمام الكبرى، زوج محمد بك يوسف بمرض مفاجئ قضى عليها بعد
أسبوع من نزوله بها، وكانت قد رأت نفسها في النوم مع والدها في روضة،
فَعُبْرت الرؤيا في المرض بأنه مرض الموت، فأوصت بأن لا تُنعى، وأن تشيع
جنازتها على السُّنة، فلا يمشي أمامها قراء ولا منشدون، ولا حملة الرياحين
ونحوهم، وأن لا تكفن بحرير، وأوصت بأن يوقف عشرة فدادين من أطيانها على
الأعمال الخيرية، وخصت بعض ذوي القربى ومن كان يواسيهم والدها بشىء من
الريع، وقد شُيعت جنازتها كما أوصت. ولعلها أول امرأة في مصر أوصت بمثل
هذا في عصر يحكم النساء فيه على الرجال حتى العلماء بالمحافظة على هذه البدع
الذميمة! فهكذا تكون بنات العلماء العاملين. هذه هي العبرة التي لأجلها ذكر
المنار وفاة امرأة فضلت الرجال باتباع الدين حية وميتة، وأذكر من فضلها -
رحمها الله - أنها لم تخرج في جنازة والدها ولم تكن تتردد لزيارة قبره، ولكنها
قبيل أسبوع المرض زارت القبر، وعادت تقول: إن في جانب قبر والدي مكانًا
آخر لا بد أن أدفن فيه، وقد كان ذلك.
كان الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - أول رجل معروف ترك بدع الجنائز
والمآتم جهرًا عندما مات والداه وبعض ولده، حتى إنه لم يكن يحتفل الاحتفال
الذين يسمونه (الميتم) تحريفًا عن المأتم، ويتوهم الجاهلون من قول الجرائد: إن
مأتم فلان سيكون ثلاثة أيام عملاً بالسنة - أن الاحتفال المعتاد هنا مسنون، وأن النبي
والصحابة كانوا يجتمعون كل ليلة من الثلاث في دار الميت أو عند بيته حيث تعد
لهم المقاعد ويهيأ لهم الخدم فيخوضون في شجون الحديث والقرآن يتلى. حاش لله،
ما جاءت السنة بمثل هذا، وإنما مضت السنة بأن المصاب لا يعزى بعد ثلاث؛ لأن
التعزية بعدها تذكير بالمصيبة، ثم إن كثيرًا من الكبراء أصحاب العزائم قد تركوا
بدع الجنائز، وناهيك برياض باشا؛ فإنه عندما توفيت زوجه لم يشيع جنازتها
بالأناشيد أمامها ولا بالفراشين المؤتزرين بالحرير الحاملين للرياحين في شبه المباخر
من الفضة كما يفعل الأغنياء تقليدًا لمباخر النصارى، وفعل مثل ذلك كثيرون من
العلماء والوجهاء، فلا عذر بعد هذا لمن يعتذر عن عدم ترك هذه البدع بالمحافظة
على التقاليد والعادات.
__________(8/720)
غرة شوال - 1323هـ
28 نوفمبر - 1905م(8/)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
الدين في نظر العقل الصحيح
لصاحب التوقيع محمد توفيق صدقي
تتمة المقالة الثالثة
الرقيق وإصلاح حاله وتحريره
قُضي على البشر أن يستعبد بعضهم بعضًا من قديم الأزمان، فلم تخل أمة من
الاسترقاق واختطاف الناس للتجارة فيها، عومل الرقيق بضروب من القسوة في
سائر الشعوب بما يجعل وجه الإنسانية يحمرّ خجلاً وقلب المؤمن ينفطر من الله
وجلاً، ولكن هكذا كان وهكذا حصل.
أتى الإسلام فرقّ لحالهم كما كان شأنه لجميع الضعفاء، منع الاسترقاق بتاتًا
إلا أن يكون في حرب شرعية مع قوم لم يؤمَن أذاهم من غير المسلمين، وبهذه
القاعدة سد أكثر ينابيعه وغلق أبواب الظلم والعدوان، أمر بالإحسان إلى الأرقاء
ومعاملتهم بالرفق واللين، فقال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي القُرْبَى} (النساء:
36) إلى أن قال: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النساء: 36) ونهى عن لطم المملوك
وضربه وجعل كفارة ذلك العتق، فقال عليه الصلاة والسلام (من لطم مملوكه أو
ضربه فكفارته عتقه) وليس هذا فقط، بل قال: (إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت
أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما
يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم) وقال: (لا يقل أحدكم عبدي أمتي، وليقل
فتاي وفتاتي وغلامي) وحث على تهذيبهم وتعليمهم في مثل قوله: (من كانت له
جارية فعلمها وأحسن إليها وتزوجها كان له أجران) هذا، وقد أمر الله تعالى
بتزويجهم، فقال في القرآن الشريف: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ
عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ} (النور: 32) .
وإذا افترش السيد أمته فولدت له كان الأولاد أحرارًا ويرثون في أبيهم إلى
غير ذلك من القواعد العادلة التي لم تأت بها شريعة قط، وليس هذا كل ما فعله
الإسلام بأولئك الضعفاء، بل جعل تحرير الرقاب كفارة لكثير مما يقع من الإنسان
مخالفًا للدين، حتى في أبسط المسائل كالحنث في الأيمان، فقال: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} (المائدة: 89)
إلى أن قال: {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (المائدة: 89) وليس هذا فقط، بل أمر بجمع
الأموال (الزكاة) من الأغنياء وصرف جزء منها في تحرير الرقاب {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ
لِلْفُقَرَاءِ} (التوبة: 60) إلى قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} (التوبة: 60) الآية،
وكرر حث ذوي اليسار على ذلك المرة بعد المرة: {لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ
المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} (البقرة: 177) إلى أن قال:
{وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى} (البقرة: 177) إلى قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} (البقرة: 177) وقال أيضُا: {فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} (البلد: 11-13) إلى غير ذلك مما يطول شرحه، أليس ما أتى به القرآن
منذ قرون هو ما تفتخر به المدنية الحديثة وتتيه إعجابًا به؟
يزعم دعاة المسيحية أن ما قام به الأوربيون في الزمن الأخير هو من آثار
دينهم فيهم، ولكن الحقيقة أن ذلك نتيجة الرقي العقلي والعلمي الذي وصلوا إليه عن
قريب ولا دخل للدين فيه، وإلا فلماذا قضوا القرون العديدة في استعباد الناس على
أشنع الأحوال! !
وهل ورد في المسيحية كلمة واحدة عن تحرير الرقيق؟ الذي ورد فيها هو
أمر الأرقاء أن يطيعوا مواليهم مع الخوف والرعب كما يطيعون المسيح - عليه
السلام - وأن يبالغوا في حسن القيام بخدمتهم تمجيدًا لتعاليمه عليه السلام، كما يقول
بولس في رسائله، وقد وافق على ذلك بطرس الحواري في رسالته الأولى حيث
أوصى العبيد بأن يخضعوا لساداتهم ويخشوهم فأين هذا من ذاك؟ وأين الثرى من
الثريا. ولِمَ لَمْ يهتم المسيح بشأن العبيد! ويرق لحالتهم كما رق الإسلام وَيَنْهَ عن
الاسترقاق متبعيه، أو يأمر باستعمال الرفق بهم واللين ولو بجملة واحدة؟ يقولون:
إنه لم يأت ليسن شرائع أو ينسخ ما كان موجودًا منها، ونقول ردًّا عليهم: لمَ حرَّم
الطلاق والتزوج بالمطلقة والتعدد في الزوجات، أما كان يمكنه أن ينهى الناس عن
استعمال القسوة على الأقل مع أولئك الضعفاء؟ وإذا قدر على الأول فكيف لم يقدر
على الثاني مع أن الأول أشق على النفوس من الثاني [1] .
هذا والحق يقال: إن ما أتى به الإسلام لم يأت بمثله دين على وجه البسيطة
ولو كان المسلمون في درجة الأوربيين مدنية وعلمًا لكانوا أولى الناس بذلك العمل
العظيم وهو تحرير الأرقاء الذي لم يعرفه غير دينهم، ولكن قضى الله أن يكون
المسلمون حجة على دينهم كما كان يقول حكيمنا الأستاذ الإمام قدس الله روحه.
***
أصناف آخرون رعاهم الإسلام بعين رعايته
(الفقراء والمساكين)
قضت الحكمة الإلهية أن يكون الناس مختلفين في الدرجات ما بين غني وفقير
أو صعلوك وأمير إلى غير ذلك من أنواع الاختلافات التي قامت بسببها الأعمال في
الأرض ودارت حركة الاشتغال وكثرت المنافسات في الحصول على العيش
والارتقاء، جاء الإسلام فقرر هذه القاعدة العمرانية {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً} (الزخرف: 32) وخالف بذلك من أراد أن
يجعل المعيشة اشتراكية لأن ذلك هدم للنظام ومدعاة للكسل وترك الأعمال وإيقاع
للبشر في مهواة الفقر والفاقة والتقهقر، ولذلك لم ينجح ولن ينجح من حاول تبديل
خلق الله ولكن من الاختلاف نشأ مرض التباغض في جسم الهيئة الاجتماعية فحقد
الفقير على الغني وأراد به السوء، فأفهم الإسلام هؤلاء البائسين حكمة الله في ذلك
وأمرهم بالتزام الصبر والرضا بقضائه ووعدهم خيرًا في الآخرة، ثم عطف على
الأغنياء وألزمهم أن يعطوهم شيئًا من أموالهم مساعدة لهم في معاشهم، وكرر ذلك
المرة بعد المرة، حتى إنك قلما ترى سورة من القرآن خالية من ذلك (وآتوا الزكاة)
فاستلَّ بذلك ضغائن أهل الفاقة، ومحص صدورهم من الغل، فأي دواء أنجع من
هذا؟ وأي دين أوجب ذلك كما أوجب القرآن وميز بين الصدقة والزكاة؟
(الأيتام)
لم يهمل الإسلام شأنهم، بل حافظ على حقوقهم وحرم اغتيال شىء من مالهم:
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} (النساء: 10) ونهى عن إغضابهم وإذلالهم فقال: {فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} (الضحى: 9) وحث على إطعامهم في نحو قوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ *
يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} (البلد: 14-15) .
(ابن السبيل)
عندي أن اللقيط أجدر بهذا اللقب من المسافر وغيره، فإن لم يكن هو المراد
بهذه التسمية وحده فليكن مما يدخل في عمومها، وإن كان اللقطاء في بلاد الإسلام
قليلين وعليه يكون القرآن قد أمر بصرف جزء من الزكاة في تربيتهم وإعدادهم
لأن يكونوا نافعين للمجتمع الإنساني، فأي شىء يفتخر به الغربيون لم يوجد في
ديننا؟ وأي دين وجد فيه ما يمكن أن يفهم منه هذا المعنى بصراحة مثل ذلك؟ [*] .
***
الخمر والميسر ولحم الخنزير
نهى القرآن نهيًا صريحًا عن هذه الأشياء الثلاثة بما لا يقبل تأويلاً، ولم يرد
عن نبيه أنه حول الماء خمرُا معجزة له ليشربه الناس، ولم يأت في عبادات الإسلام
ما يشرب فيه الخمر على أنه دم الإله تعالى وحكمة تحريم الخمر والميسر لا
تخفى على أحد، وأما لحم الخنزير فقد سبق أننا كتبنا في المنار في إحدى السنين
الماضية ما فيه من المضرات التي هي علة تحريمه ونجاسته.
***
مصالح الدنيا
أباح القرآن بعد ذلك الطيبات أكلاً وشربًا وزينة ولباسًا - اقرأ أوائل سورة
الأعراف - وأمر بالسعي والعمل وتصريف الأعضاء فيما خلقت لأجله {فَامْشُوا فِي
مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: 15) {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10) فلم يحث على زهد
أو رهبانية أو إخصاء أو نحو ذلك مما هو عقبة في سبيل الرقي والتقدم (انظر مثلاً
إنجيل متى إصحاح 19: عدد 10-12) .
وجملة القول: إن الإسلام لم يدع أصلاً من أصول الإصلاح إلا أتى به، ولكن
العمل بما قال به الفقهاء المقلدون لا بما دل عليه اللفظ والأسلوب في الكتاب ولا
فضيلة إلا قررها فهو وحدة الدين الكامل بلا شك ولا مراء، ولا يراد بالدين
والأنبياء إلا أن يكونوا كالطب والأطباء لأمراض الاجتماع، ولا يعرف قدر الدين
إلا بقدر شفائه للأدواء، فهل هناك دواء شافٍ لمن تعاطاه غير الإسلام، لهذا أخذت
الأمم تقرب منه يومًا بعد يوم إلى أن يتحقق نبأ الغيب {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} (التوبة: 33) .
***
المقالة الرابعة وهي الخاتمة
(في رد بعض شبهات)
إذا قامت في نفس الإنسان شبهة ولم يمكنه أو لم يرغب إزالتها أعمته عن قوة
البراهين، ولو كانت تلمس باليد وصارت عقبة في سبيل فهمه لها، وكلما ناداه
منادي العقل والإنصاف أن أذعن، صاح به شيطان الشبهة أن لا تغتر، وإلى غير
اعتقادك لا تركن، ولذلك تجده يقرأ من البراهين، ما هو آيات للمستيقنين، ولا
يزداد إلا جمودًا وللحق جحودًا، فلهذا رأيت أن أختم مقالاتي السابقة برد ما أعلم
أنه العقبة الكبرى أمام اقتناع الكثيرين ممن يقرأونها وهم غالبًا صنفان، إما أن
يكونوا ممن أثرت في عقولهم نظريات الماديين، وإما أن يكونوا من المسيحيين.
شبهتان للماديين في القرآن
أما الأولون فأعظم ما يشتبه عليهم ذكر قصة آدم في القرآن، وخلق العالم في
ستة أيام؛ لأن ما عندهم من نظريات (داروين) وغيرها يحول دون التسليم بما
ورد في الكتاب، ولي كلمتان أقولهما لهذا الصنف من الناس (الأولى) أني أقر
وأعتقد أن مذهب (داروين) هو أسمى ما وصل إليه الفكر البشري لحل معميات هذه
المسائل (الآثار الجيولوجية) الأعضاء الأثرية، التشابه العظيم بين الحيوانات
وخصوصًا بين أجنتها وغير ذلك من المسائل العلمية في عالمي الحيوانات والنباتات
التي لا يمكن تعليلها الآن بأحسن من هذا المذهب؛ ولكن لا ينتج من ذلك أنه هو
الحق الذي لا يصل البشر إلى تعليل آخر غيره، فكم من نظريات عمل بها العالم
أجيالاً وقرونًا في تفسير كثير من المسائل وقد اعتقدنا الآن خلافها، أما كنا في
الزمن الأول نعتقد أن العناصر أربعة فقط (الهواء، والنار، والماء، والتراب)
أما كنا نعتقد أن الأرض هي مركز العالم وأن الشمس والسيارات تدور حولها؟ أما كنا
نعتقد صحة خبطهم وخلطهم في أمزجة الإنسان وأسباب الأمراض ومعالجتها؟ أما
كنا نعتقد بكل هذه المسائل وغيرها ونظن أنها الحق الذي ما بعده إلا الباطل؟ فما هو
اعتقادنا اليوم؟ أترك القارئ ليتفكر في هذه المسألة وليستحضر في ذهنه تلك الدهور
الغابرة.
(الكلمة الثانية) لم يرد في القرآن الشريف نص قطعي على أن آدم أول بشر
خلق على وجه الأرض ولا على أنه أبو جميع الناس ولا على أنه خلق مباشرة من
التراب بل وجد فيه ما يشير إلى خلاف هذه المسائل ومثل ذلك قوله تعالى: {إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (البقرة:
30) فإن لم يكن قبله أحد فمن يخلف حتى سماه خليفة؟ ولو لم تشاهد الملائكة
إفساد الناس في الأرض وسفكهم دماء أنفسهم فمن أين علموا ذلك؟ ومثل قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ
مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: 1) اعلم أن القرآن كثيرًا ما يخاطب العرب
دون غيرهم من الأمم كما في قوله {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 2) فلا يتحتم أن يكون المراد بكل خطاب للناس فيه جميع من على
وجه الأرض، وإنما هؤلاء قد يكونون مطالبين بالتبع للعرب المخاطبين ابتداء
على حد قول القائل: (إياك أعني واسمعي يا جارة) ومثل قول الخطيب لسامعيه:
يا أيها الناس لا تشربوا الخمر، مثلاً فهو وإن كان يخاطب الحاضرين إلا أنه لا يقصد
نهيهم وحدهم عن الشرب بل هم وجميع من على شاكلتهم، فكذا يجوز أن يكون
الخطاب في هذه الآية التي نحن بصددها للعرب وإن كان غيرهم مطالبًا
بالتقوى مثلهم، وقد ورد في القرآن لفظ الناس لو لم يرد به إلا طائفة قليلة وذلك نحو
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} (البقرة:
13) .
فالمراد بالناس هنا طائفة المؤمنين، وإذا تصفحنا القرآن وجدنا أن التكلم في
أكثره مع العرب؛ إذا علمت هذا أقول (يا أيها الناس) أي العرب، و (من نفس
واحدة) أي نفس أمهم لأن الأم هي الأصل المعول عليه ولها الحظ الأوفر في
تكوين الإنسان، كما يتضح للناظر في العلوم الطبيعية؛ وإذا لا حظت أن هذه
الآية هي أول سورة النساء أدركت ما فيها من حسن الابتداء وبراعة الاستهلال
{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء: 1) أي من جنسها، كما في قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} (الروم:21) أو باعتبار أن المرأة هي أصل الرجل، ولو كان
المراد في مثل هذه الآية، أن آدم وحواء هما أصل جميع الأمم لما قال في آخرها
{وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: 1) بل كان يقول: (وبث منهما
جميع الرجال والنساء) أو ما يفيد هذا المعنى من التعبير كما هو مقتضى السياق،
ولكن عبارة القرآن الشريف صريحة في أن المبثوث منهما بعض الرجال وبعض
النساء لا كلهم، هذا ولا مانع من أن يكون آدم وحواء هما أبوا العرب وبعض الأمم
الشرقية، وأما غيرهم فلهم آباء آخرون، ولا يوجد في القرآن ما ينافي ذلك، وقد
علمت أن هذه الآية على هذا التفسير فيها دليل لنا لا علينا إن قلنا بذلك المذهب
مذهب دارون ولذا أوردناها في هذا المقام، واعلم أن القرآن قد يخاطب النبي فقط
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (الطلاق: 1) وقد يخاطب العرب وقد يخاطب
أولاد آدم {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ} (الأعراف: 31) وقد يخاطب المؤمنين
في زمن النبي ومع ذلك قد يريد بالخطاب من هم على شاكلة المخاطبين لا المخاطبين
فقط ففي هذه الآية التي نحن بصددها وإن كان الخطاب لبني آدم على اعتقادنا إلا
أن المطالب بالتقوى جميع الناس، هذا وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ
صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} (الأعراف: 11) إشارة إلى أن الله
تعالى خلق الناس أولاً، ثم صورهم ثانيًا، أي أحسن خلقتهم ثم أسجد الملائكة
لبعض أفرادهم الذي اختاره أن يعمر بعض الجهات ويكون خليفة لقوم بادوا فيها.
ومثل ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ * وَالْجَانَّ
خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ
مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ} (الحجر: 26-28) فكأنه يشير إلى أنه خلق الإنسان
من الطين (وليس فيها دليل على أن ذلك مباشرة) ثم أمر الملائكة بالسجود لأحد
أفراد الإنسان الذي خلقه مثلهم أولاً من الطين الذي يترفع الملائكة عنه ويحتقرونه
فكأنه يقول: أنا آمركم أن تسجدوا لهذا الفرد المخلوق من الطين كغيره من الناس
الذين تحتقرونهم ولذلك كرر قوله: {مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ} (الحجر: 26)
وقد يتمسك البعض بقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن
تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران: 59) قائلاً: إن كان آدم كسائر
أفراد البشر مخلوقًا من ذكر وأنثى على مذهب (داروين) فلم خُصَّ بالذكر دون أي فرد
آخر، قلت: لأن الخطاب مع النصارى الذين يعتقدون بخلقة آدم من تراب
مباشرة فأتاهم بما هو أعجب على حسب اعتقادهم كأنه يقول: إن كان آدم في
اعتقادكم مخلوقًا من أب ولا أم فكيف تعجبون ممن خلق بلا أب فقط.
فإن قيل: لم قال (عند الله) ولم يقل (عندكم) قلت: ليشعر بأن هذا التمثيل إن
لم يكن مقبولاً عندهم فهو عند الله مقبول، وكذا عند جميع المنصفين من الناس؛
لأن ما قبله تعالى فهو حق مقبول عندهم، كأنه قال: إن مثل عيسى كمثل آدم
خلقه كما خلقه وإن لم تقبلوا هذا التمثيل فهو عند الله مقبول، ثم إن الضمير في قوله
(خلقه) عائد على ما أرى إلى المسيح عليه السلام؛ لأنه هو موضوع الكلام أي أنه
خلقه من تراب كما خلق آدم، ومن المعلوم أن المسيح لم يخلق مباشرة من التراب
فيكون آدم مثله وعليه تكون هذه الآية أيضًا لنا لا علينا إن قلنا بمذهب (داروين)
ومعناها هكذا: إني آتيكم بمثل مقبول عند الله وإن لم تقبلوه وهو أن المسيح مخلوق
من تراب كأي فرد من أفراد البشر وأخص آدم بالذكر؛ لأنكم إذ اعتقدتم فيه هذا الأمر
العجيب - وهو خلقه بلا أب ولا أم - كان الواجب أن لا تندهشوا من مسألة
المسيح التي هي أقل غرابة من ذلك.
إذا علمت ذلك تحققت أن القرآن قد أشار إلى أن آدم أب لجميع البشر
الموجودين الآن وليس هو أول من خلق، ولم يخلق مباشرة من تراب، وعليه يكون
جميع ما ورد في القرآن بشأنه سهل التفسير بما ينطبق على مذهب (داروين) تمامًا.
وأما خلق العالم في ستة أيام فقد ورد في القرآن أن اليوم عند الله آلاف من
السنين {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: 47) وقال أيضًا:
{تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (المعارج: 4) فيجوز أن يكون المراد بهذه الأيام الستة آلافًا من السنين [**] .
***
شبهات النصارى في القرآن
وأما الصنف الثاني وهم المسيحيون، فلهم شبهات:
الأولى: أن القرآن قد أخذ ما أتى به من الأمم الأخرى ويستشهدون على ذلك
بما يوجد فيه مشابهًا أو مماثلاً ما عند غيرنا من القصص أو العبادات أو العقائد أو
غير ذلك، ولكني أذكرهم بثلاث مسائل:
1- أن القرآن أتى ليصلح ما كان فاسدًا عند الأمم لا لأن يزيله كله ويأتي بشىء جديد من الأول إلى الآخر. كلا بل إذا وجد حسنًا أبقاه وإذا وجد قبيحًا محاه.
2- أن القرآن نص على أن الله بعث لكل أمة رسولاً في عدة مواضع منه منهم من نعرف ومنهم من لا نعرف، وإذا وجد عند هؤلاء الأمم شىء من القصص الصحيحة
والعقائد الحقيقية والعبادات، فإن وافق عليه القرآن فما ذلك إلا لأنها وحي من عند
الله لهؤلاء الناس، وإن خالف شيئًا منها فما ذلك إلا لوقوع الغلط فيها على ممر
الأزمان، وإن رد عليها فما ذلك إلا لأنها مما افترته الناس على الله.
3- إذا صح ذاك التعليل فيما أتى به القرآن مماثلاً ما عند الناس فماذا يقولون فيما يوجد فيه مما لم يأت به دين آخر ولم يعرفه أحد إلا في الأيام الأخيرة وقد فصلنا ذلك
في المقالات السابقة.
(الشبهة الثانية) ورد بعض غلطات في القرآن على زعمهم، ولا حجة لهم
على ذلك إلا مقارنة القرآن بكتبهم، فإن وجدوه موافقًا في شيء قالوا: أخذه منها
وإن خالف قالوا أخطأ، وإن أتى بما لم يعرفوه قالوا اخترع، فتعسًا لحجتهم
المضحكة.
نحن لا نريد أن نطيل الكلام معهم في هذا الباب ولكنا نطالبهم بأن يجيبونا عن هذه المسائل الثلاث بما يقتنعون به هم أنفسهم اقتناعًا حقيقيًّا بدون رياء أو مكابرة:
1- أن يثبتوا بالبرهان القاطع صحة نسبة هذه الكتب إلى من نُسبت إليهم.
2- وأن كاتبيها موحى إليهم من الله وأنهم لم يخطئوا في شيء كتبوه.
3- وأنها وصلت إلينا كما كتبها هؤلاء بدون تحريف لا بالزيادة ولا بالنقص ولا بالتبديل.
نحن نعلم وكل الناس يعلمون إلا الجاهلين أن في هذه الكتب عبارات تدل على
أن كاتبيها ليسوا من نسبت إليهم ولنضرب مثلاً واحدًا (إصحاح 34: 5 و 6) من
سفر التثنية يدل على أن الكاتب لم يكن موسى، وإن قيل أن أحدًا أضافها فمن هو حتى
نثق بأقواله؟ وكيف يضيف إلى كتاب الله ما لم يكن منه؟ وإذا أمكن مثل هذه الإضافة
فلِمَ لم يمكن إضافة غيرها مما لم ينزله الله؟ ثم نسألهم كيف ألف الناس كتبًا كثيرة
ونسبوها إلى الموحى إليهم كذبًا؟ كيف ميزتم الكتب الصادقة من الكاذبة وما هي
حججكم؟ لم رفضت بعض الطوائف ما سلمته الأخرى؟ بماذا اعتقدتم أن كاتبيها
ملهمون من الله، هل للخوارق التي يتناقلها جميع الأمم عن مؤسسي دينهم بل وعن
غيرهم كالصالحين والأولياء والقديسين أم لماذا؟ أوَلم يقعوا في الغلط؟ مع أننا نجد
أنهم كانوا يفسرون الأشياء على غير حقيقتها كتفسير كثير من الأمراض بتأثير
الشياطين، وكظنونهم في قوس قزح الذي برهن العلم أنه موجود منذ وجد السحاب
والنور وأنه نتيجة انكسار النور في مثل الماء أو البلور.
نحن نعلم وأهل العلم يعلمون أن هذه الكتب مملوءة بما يسمونه غلط الكاتب،
وفيها من الفقرات الزائدة والناقصة ما يدهش ذوي الألباب وفيها من التناقض ما
يحير العقول، ولنضرب مثلاً لكل، أما مثل غلط الكاتب فما ورد في السفر الثاني
للأيام إصحاح (16- 1) إذا قورن بالسفر الأول للملوك (15-33) ومثل الزيادة
ما ورد في رسالة يوحنا الأولى (5-7) التي فيها إشارة صريحة لعقيدة التثليث ومثل
التناقض ما في الإصحاح 9 عدد 7 من كتاب الأعمال والإصحاح 22 عدد 9 من
نفس الكتاب إذ يقول في الأول أن الذين معه سمعوا الصوت وفي الثاني أنهم لم
يسمعوا الصوت، فإذا جاز أن يكون الكاتب أخطأ في النسخ وانتشر خطأه في جميع
النسخ فكيف لا يجوز أن يكون حرّف شيئًا وانتشر كذلك؟ ! وإذا جازت الزيادة في
الفقرات والنقص فيها، فكيف نأمن أنه لم يزد أو ينقص ما يخل بالمعنى؟ وإذا وجد
التناقض فيكف نرجح الصحيح على الباطل؟ هذا هو حال الكتاب الذي يتخذونه
ميزانًا لكتاب الله تعالى وشتان ما بين هذا وذاك.
وإننا نؤيد قولنا بإيراد أربعين شاهدًا من هذه الكتب على وجه الاختصار الذي
لو راجعته لوجدته إما خطأ وإما تناقضًا، وإما زيادة، وإما دليلاً على أن المؤلف
ليس من نسب إليه الكتاب إلى غير ذلك من الدلائل على فساد هذه الكتب وإذا لم تفهم
بعض ما أشير إليه من عباراتها فطالع أحد التفاسير لتفهم غرضي لأني لا أريد
ذكرها بالتفصيل والتكلم عليها خوفًا من التطويل الممل فلذا أكتفي بالإشارة إلى
أماكنها وأترك الباحث وراء الحق ببحث كما شاء وهي هذه:
أربعون شاهدًا من (الكتاب المقدس) عندهم على تناقضه واختلاله:
1- رسالة يوحنا الأولى 5: 7
2- تيموثاوس الأولى 3: 16
3- أكو 5: 15 ومر 16: 14
4- أعمال 7: 9 و 22: 9
5-أعمال 22: 10 و 26: 16
6- يوحنا 3: 13
7- يوحنا 2: 19 ومتى 36: 60 و 61
8- يوحنا 5-31و 8-14
9 - مرقس 16-16و 2ويوحنا20: 1
10- مرقس 2-26
11- مرقس 10-46 ولوقا 18-35
12- مرقس 6-8 ولوقا 9-3
13- متى 27-9
14- متى 12-4
15- متى 6-13
16- متى 19-28
17- متى 5-2و 17و18
18- متى 5-17و 31 و 32 و 38 و 39
19- متى 16-27 وأيو 2: 18 وأتسا 4-15و 17و18 وأكو 10-11
ومتى 24: 34
20- متى 1-12
21- متى 1-11و17
22- متى 9: 18ومرقس 5-23
23- دانيال 9-24
24- حزقيال 45-و46 وسفر العدد 28و29
25- حزقيال 18-20 وخروج 20-5
26- أرميا 52-1-34
27- نحميا 12-1-26
28- 2 ايام 15-19 وا ملو 15-33
29 - 2 أيام 22-1وملو 8-26
30 -2 أيام 22-2و 2 ملو 8-26
31- 1 أيام 19-18و2صمو 10-18
32- 1أيام 18-4و 2 صمو 8-4
33- يشوع 10: 13 وتكوين 14: 14 (انظر 2 صمو 1: 17 وقضا 18: 29)
34- يشوع 15: 63 (انظر صموئيل الثاني 5: 6 - 8)
35- يشوع 24: 29- 31
36- تثنية 23: 2و3
37- تثنية 34: 5 - 10
38- خروج 12- 40
39- تكوين 46: 15
40 - تكوين 36: 31- 39
ناهيك بما في هذه الكتب من الغلط والخطأ في المسائل العلمية والأخلاقية
والاعتقادية، وقد أشرنا إلى بعضها فيما سبق.
... ... ... ... ... ... ... ... (محمد توفيق صدقي)
(المنار)
إن ما ذكره في كون آدم ليس أول البشر على الإطلاق موافق لمذهب الصوفية
الذي يؤيدونه بالكشف كما يعلم من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي.
وللمقالة بقية.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: كان سكوت المسيح عن مثل هذا لأن الأمة لم تستعد له مع علمه بأن الدين الأخير سيبينه في وقته وقد عبر عن رسول هذا الدين بقوله: روح الحق الذي يبين لكم كل شيء.
(*) المنار: جاء في آية مصارف الزكاة ذكر ثمانية أصناف منها أربعة ذكرت بلام الملك [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ] (التوبة: 60) إلخ والباقيات ذكرت هكذا [وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ] (التوبة: 60) والحكمة في ذلك أن الأصناف الأولى يملّك أفرادهم نصيبهم من الزكاة، وأما الأربعة الباقية فهي من المصالح العامة التي يصرف المال فيها ولا يملكه أفراد الآخذين وقد فسروا (في سبيل الله) بالجهاد وزاد بعضهم الحج والأستاذ الإمام يقول: (إنه يشمل غير ذلك من المصالح العامة كبناء المادارس والمستشفيات) وهو على كل حال ليس مما يملكه أفراد معينون بل يشتري به السلاح وتقام به الحصون وتنشأ به الأساطيل إلى غير ذلك مما يتوقف عليه الجهاد، فلذلك عبر عنه بقوله: (وفي سبيل الله) ولما عطف عليه (ابن السبيل) كان من مقتضى الأسلوب أن يكون هذا من المصالح فلو كان ابن السبيل خاصًّا بالمسافر الذي ينقطع في سفر كما يقول الفقهاء لعطفه على الفقراء والمساكين والمؤلفة قلوبهم والغارمين، فعلم من هذا أن ابن السبيل في قوله تعالى: {وفي سبيل الله وابن السبيل} (التوبة: 60) يجب أن يكون من المصالح التي ينفق فيها المسلمون ولفظ ابن السبيل وحده يدل على من لم يعرف له أصل ينسب إليه فنسب إلى الطريق الذي وجد فيه، وهو أظهر في اللقيط منه في المنقطع في سفره الحلال كما قال الكاتب.
(**) المنار: اليوم في اللغة هو الزمن فالستة الأيام هي ستة أزمنة انتقلت بها السموات والأرض من طور إلى طور حتى تم خلقهما على هذه الصفة المشاهدة كما أوضحنا ذلك في المجلد السادس ... ... (ص331) .(8/721)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقرير مشيخة علماء الإسكندرية
سنة 1322 الدراسية
(تمهيد)
جاء في كتاب (أعمال مجلس إدارة الأزهر) ما نصه:
في 29 المحرم سنة 1321 و27 أبريل سنة 1903 صدرت الإرادة السنية بإلحاق التدريس والامتحان في ثغر الإسكندرية بالجامع الأزهر، ومضمون الإرادة:
(إن الجناب العالي وافق إرادته العلية أن تكون الإسكندرية ملحقة بالأزهر في التدريس
والعلوم والامتحان وأن مجلس إدارته يضع لها القوانين والنظامات، ويرتب درجات
العلماء الموجودين فيها وقت صدور هذه الإرادة ويحصر الأماكن التي تدرس فيها
العلوم هناك وأن يكون ترتيب درجات علمائها بحضور ثلاثة من مشهوريهم الأقدمين) .
ثم ذكر بعد هذا أن شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية - يعني الأستاذ الإمام
رحمه الله - سافرا إلى الإسكندرية للابتداء بتنفيذ هذا الأمر - الذي كان من رغائب
الثاني وأثر سعيه - فرتبا درجات العلماء، وأحصيا عددهم، واختارا الشيخ محمود
باشا شيخًا لعلماء الإسكندرية، وبعد أن عادا اشتغلا مع مجلس إدارة الأزهر بوضع
قانون لسير التدريس والامتحان في الإسكندرية فوُضع، ثم إن الشيخ محمود باشا
أَبَى أن يكون شيخًا لعلماء الإسكندرية تابعًا للأزهر، فوقف العمل، واتفق أن جاء
الشيخ محمد شاكر قاضي قضاة السودان في ذلك العهد إلى مصر بالإجازة فأراده أحد
أعضاء المجلس (يعني الأستاذ الإمام) على أن يكون شيخًا لعلماء الإسكندرية
فصادف منه ارتياحًا فأشار عليه أن يعمل ليصل إلى هذه الغاية فقام بالأمر خير
قيام، ومهد لذلك باسترضاء الجهتين: جهة السودان لتوافق على نقله وجهة مصر
لترضى بتعيينه شيخًا لعلماء الإسكندرية، وكلل سعيه فيهما بالنجاح فقرر مجلس
الإدارة في 16 أبريل سنة 1904 انتخابه لهذه الوظيفة الجليلة، وأن يكتب إلى
نظارة الداخلية لتستصدر الأمر العالي بذلك فكان ما طلبه المجلس وصدر الأمر
العالي بتعيينه شيخًا لعلماء الإسكندرية في 10 صفر سنة 1322 و26 أبريل 1904
وانحل ذلك المشكل العظيم. اهـ ما أردت نقله من كتاب أعمال الأزهر.
وأقول: إن الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - كان يتوسم في الشيخ محمد
شاكر الهمة والنشاط في العمل ويعرف فيه حب النظام فلذلك اختاره قاضيًا للسودان
أولاً، ثم شيخًا لعلماء الإسكندرية آخرًا، وهو الذي أقنع الحكومة السودانية بأن
ترضى بنقله وأقنع مجلس إدارة الأزهر بطلب تعيينه وتسهيل السبيل له وانظر ما
جاء عن مبادئ عمله في كتاب (أعمال مجلس الأزهر) قال مؤلفه:
(قام شيخ علماء الإسكندرية الجديد بعمله أحسن قيام لما فيه من الفطنة وشدة
الذكاء ولعلمه بما يجب لهذا الزمان الحاضر وعضده مجلس الإدارة الأزهرية وشيخ
الأزهر أكبر التعضيد وسهل له الطريق في استعمال فكرته ولم يقيده بنظام سوى
نظام الأزهر نفسه ونسخ له صور القوانين والقرارات التي يجري عليها العمل
المستمر وقرر له كل ما طلبه في سير الأعمال وضبط نظامها وتكليف العمال بما
يطلبه منهم فأمضى بقية سنته في ترتيب وتنظيم وفي تعويد العلماء على العمل
وضبط المواعيد والمواظبة على إلقاء الدروس واستصدر أخيرًا من مجلس الإدارة
قرارًا بحصر المساجد التي يكون فيها التدريس في ثمانية مساجد) ... إلخ.
ثم ذكر أنه في آخر السنة الدراسية قدم تقريرًا إلى مشيخة الجامع الأزهر
فصَّل فيه أعماله في تلك المدة وما يريده في السنة الجديدة. ونقول: قد تمت هذه
السنة ووضع لها تقريرًا رفعه (للأعتاب الخديوية) لا لمشيخة الأزهر وهو موضع
ما نكتب هنا بعد هذا التمهيد فنبدي رأينا في مسائله التي فيها مجال للرأي ثم في
عبارته.
مبحث التعليم الديني
رأيه ورأينا
في مقدمة التقرير كلام في فائدة عرض الأعمال على أصحاب الأفكار والآراء
قال بعده: (وهذه خلاصة الأعمال في مشيخة العلماء بمدينة الإسكندرية وإن
المشيخة ليسرها أن ترى ذلك اليوم الذي يتناول فيه كبار الكتاب أقلامهم لإفاضة
البحث في ترقية التعليم الديني وإعلاء شأن معاهد العلوم الدينية استنهاضًا للهمم
وترغيبًا في تربية الشبيبة المصرية من كل الطبقات التي تتكون منها الأمة تربية
إسلامية مؤسسة على اتباع شريعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وعلى العمل
بما جاء به من عند ربه بحيث تكون دعائم التعليم لكل أبناء المسلمين هي تلك الدعائم
التي بني عليها الإسلام، وهي الإقرار لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم
بالرسالة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأداء فريضة الحج إلى بيت
الله الحرام حتى لا نرى في الشبيبة المصرية (وهم رجال الغد) من يجترئ على
ترك فريضة أو سُنة أو يستطيع الصبر على مسلم يتركها وهو على فعلها قدير، والله
يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) .
***
(المنار)
قد أحسن الأستاذ في عرض تقريره على محك النقد بما كتبه في هذه المقدمة
وبما كتب به إلينا وإلى غيرنا من أصحاب الصحف. وإننا نبدأ بإبداء رأينا في هذه
الجملة فنقول: إنه يعني بالشبيبة -وهي مصدر- الشبان، بل من دونهم من
المميزين المرشحين، وما ذكره بشأن تربيتهم تربية إسلامية غير كافٍ على ما في
العبارة من الإطناب الذي أفضى إلى التكرار إيضاحًا للواضح في قوله (على اتباع
شريعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وعلى العمل بما جاء به) وقوله بعد هذا
(بحيث تكون دعائم التعليم) ... إلخ، لا يصلح تصويرًا وبيانًا للاتباع والعمل فإن
التعليم غير التربية العملية، ثم إن الذي يجب أن يتعلمه كل مسلم من الإسلام ليس
هو الإقرار لله بالوحدانية ... إلخ ما ذكره؛ لأن كل مسلم يقر هذا الإقرار ويسهل
عليه أن يتعلم كيفية إقامة الصلاة في مجلس واحد وكذلك أحكام الصوم ولا يجب
على مسلم تعلم أحكام الزكاة والحج إلا إذا كانا مفروضين عليه لغناه، ثم إن تعليم
هذا الإقرار وهذه الأعمال لا يترتب عليه ما ذكره غاية له بقوله (حتى لا نرى في
الشبيبة المصرية من يجترئ على ترك سنة أو فريضة) ... إلخ، فإن الأستاذ
الكاتب يعلم كما نعلم أن عدد المسلمين الذين تعلموا هذه الأمور وعملوا بها لا يتناوله
الإحصاء ولا يكاد يوجد فيهم من لا يجترئ ولا يصبر على ما ذكر.
إن الأحاديث التي اكتفت في إجراء أحكام الإسلام على المرء بالشهادتين
والعمل بالأركان الأربعة الأخرى؛ إنما هي في شأن الكافرين الذين يدخلون في
الإسلام، فهذه هي الأمور الظاهرة التي يعدون بها مسلمين وقد كان ممن قام بالأركان
الخمسة في الظاهر المنافقون الذين نزل فيهم من الآيات ما نزل، وقال فيهم النبي -
صلى الله عليه وسلم - ما قال، والمبتدئون من جهلة الأعراب الذين سلموا بظاهر
الدين، ولم يفهموا عقائده بالبرهان المفيد اليقين إلا بعد حين وفيهم نزل {قَالَتِ
الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات: 14) الآية.
الغاية التي ذكرها إنما ترجى للكملة من الذين تربوا على الأصول الثلاثة في
حديث جبريل المتفق عليه من رواية عمر وأبي هريرة وهي الإسلام المفسر
بالأركان الخمسة التي ذكرها صاحب التقرير، وهي عبارة عن القسم العملي من
عبادات الدين والإيمان وهو عبارة عن القسم الاعتقادي منه والإحسان وهو الأدب
الكامل الذي هو أثر الاعتقاد الصحيح والعبادة القويمة والتهذيب المعتدل. ونعني
بتربيتهم على هذه الأصول الثلاثة تعويدهم العمل بالعملي منها من أول النشأة بحسن
القدوة لا بمجرد الطلب باللسان وتلقينهم العلمي منها بالدلائل التي يخضع لها العقل
ويطمئن بها القلب.
وجملة القول: إن عبارة التقرير في هذا المقام مضطربة وغير مبينة لما يجب
من التربية الإسلامية والتعليم الإسلامي ولا للضروري منه وهو:
(1) العقائد الدينية على طريقة القرآن مع كشف الشبهات التي فشت في هذا
العصر بين المسلمين من غير خلط بفلسفة اليونان وشبهات المبتدعة الذين انقرضوا
ودرست مذاهبهم.
(2) والآداب الدينية مع بيان فوائدها للمتأدب بها في نفسه وفيمن يعيش
معهم بحيث يقتنع بتعلمها أن فيها سعادة الدنيا قبل الآخرة، ويتضح له ذلك بالتأدب
بها فعلاً.
(3) والأحكام العملية مع بيان أسرارها وفوائدها في نفس العامل وفي
صلته بالناس الذين يعيش معهم على ما بينا آنفًا. هذا ما يذكر في دعائم التعليم
الديني بالإجمال ونحث الكتاب على الترغيب في إقامة هذه الدعائم بتعليمها لأولاد
المسلمين وتنشئتهم على العمل بها في البيوت وفي المدارس حتى يصير العلم بها
مؤيدًا بالوجدان. وإنا لنعلم أن كاتب التقرير يقر هذا في نفسه، وإن لم تتناوله عبارته
وله أن يقول: إن سيرته التي سيشرحها تتفق معه في الجملة، وإن كان اللاحق لا
يدفع الإيراد السابق. ونحن لا نرتاب في حسن قصده وما قلناه بيان جاء في
وقته.
التعليم الإسلامي في الأغنياء والأعلياء
ثم قال الأستاذ صاحب التقرير بعد ما تقدم: (ومما يجب أن يتنبه له عقلاء
الإسلام وعظماء الأمة أن التعليم الديني قد كاد يكون منحصرًا في طبقات الفقراء
وبعض الطبقات الوسطى من الأمة الإسلامية دون الطبقات العليا منها وذلك خطر
غير قليل على الجامعة الإسلامية بمرور الدهور والأعوام إذا قدر أن ينتهي الأمر
بانحصار التعليم الديني في تلك الطبقات فتكون الرئاسة الدينية منحصرة فيهم
لا يتولاها سواهم من الطبقات الأخرى وبالتالي تكون كل الوظائف الدينية في أيدي
أولئك الأقوام ومن خصائصهم وبعبارة أصرح تكون الفضائل والمزايا الدينية مجردة
عن القوة المالية، والقوة المالية بعيدة عن المزايا الدينية، وبين أيدينا من نتائج هذا
التفريق في القوى الفعالة وهذا التدلي في التربية الدينية ما يصلح عبرة لكرام القوم
وخاصة المسلمين وعقلاء الأمة.
(فلينظر العقلاء وسادات الإسلام إلى موقفهم هذا فلعلهم إذا فكروا فيه كثيرًا
يترجح عندهم أن يتربى أبناؤهم تربية دينية إسلامية محضة تحت كفالة خيرة العلماء
العاملين المرشدين حتى إذا تخرجوا على هذا المبدأ القويم كانوا أقدر على خدمة
دينهم وأمتهم الخدمة التي ترجى من أمثالهم مع الترفع عن الدناءة وعن السقوط في
مهاوي الخسران، وإذا شاء عظماء الأمة أن يتربى أبناؤهم هذه التربية فإنهم
يساعدون على ترقية التعليم الديني ويجعلون له المكانة العليا في أفئدة الناس
أجمع، وما ذلك على الله بعزيز، نسأله الهداية والتوفيق لأقوم طريق) . اهـ
***
(المنار)
هذه تتمة مقدمة التقرير، وجملة ما يقال فيها أنها من الخواطر الحميدة التي
تسنح للأذكياء، وغرض الكاتب منها فيما يظهر دعوة أغنياء المسلمين في هذه البلاد
إلى نظم أولادهم في سلك طلبة العلم الديني في الإسكندرية، والعناية بالإسعاد على
هذا التعليم. وما من مسلم متفكر إلا وهو يتمنى أن يقبل الأغنياء مع الفقراء على
تلقي العلوم الدينية والتأدب بأدب الإسلام، وإنها لأمنية لا تنال بالتعبير عنها في
تقرير ولا بالدعوة إليها والترغيب فيها بالكلام المبهم. بل بترقية المدارس الدينية
ترقية تجذب الغني إليها باعتقاد أن فيها سعادته في الدنيا قبل الآخرة بجمعها بين
علومها مع الاقتصاد في الوقت على ما سنبينه بالإيجاز الذي تقتضيه الحال.
لا يقدم الناس على شيء إلا إذا علموا علم إذعان بأنه خير لهم وأكفل
لمصالحهم ودعوة الأغنياء إلى التعليم الديني لم تبن على بيان يودع نفوسهم من العلم
بذلك ما يحملهم على إجابة الدعوة؛ فإن عبارة التقرير لم تذكر من المرغبات في
الدعوة إلا توقي الخطر على الجامعة الإسلامية الذي جعله مشروطًا بانحصار التعليم
في غير الأغنياء وفرع من هذا الأصل انحصار الرياسة الدينية في غيرهم وجعل
الوظائف الدينية تالية للرياسة في هذا ثم فسر ذلك بعبارة أصرح في مقصده وهي
جعل الفضائل والمزايا الدينية مجردة عن القوة المالية، والقوة المالية بعيدة عن
المزايا الدينية. فكأن هذا التجرد هو الخطر فاتقاؤه هو المرغب الوحيد للأغنياء في
إجابة الدعوة وهو يتوقف على الاقتناع بصحته وصحة كونه محل الخطر على
الجامعة الإسلامية، وصحة كون معاهد العلم الديني في الإسكندرية تجمع للمتعلمين
بين القدرة على النهوض بالأعمال المالية مع الفضائل والمزايا الدينية ليجمعوا بين
القوتين وكون ذلك يمنع الخطر. على أن هذا كله غير واضح في كلامه ولنا أن
نجعل كل كلمة من تلك الكلمات التي يفسر بعضها بعضًا في كلامه مرغبًا مستقلاًّ
ونوسع الدائرة بالاستنباط، ثم نرى أيكفي ذلك لإجابة الدعوة؟
أيحسب الذين اعتادوا الارتياح إلى أمثال هذا الاقتراح في الجرائد أن من
الجواذب إليه والمرغبات فيه ما ذكره الأستاذ من الخطر على الجامعة الإسلامية،
والترغيب في الرئاسة الدينية، والوظائف الدينية، وتجريد المزايا الدينية من القوة
المالية، وكفالة خيرة العلماء العاملين المرشدين، لطلاب هذه التربية مع التعليم،
أين توجد التربية الإسلامية والتعليم الديني الجامعان لكلمة المسلمين الموثقان
لروابطهم؟ ما هي الرياسة الدينية التي لا ينالها إلا من تعلم العلوم الدينية وتربي في
حجرها، ثم ما هي الوظائف الدينية التي يرفع الأغنياء أبصارهم إليها، أليست هذه
الكلمات من قبيل ما يطفو فوق أنهار الجرائد كل يوم كفقاقيع الماء، ثم يتلاشى في
الهواء؟ بلى إنها من هذا القبيل ولا تنس أننا حمدنا السانحة في نفسها وجزمنا بأن كل
مسلم عاقل يتمناها، وكيف السبيل إلى نيل الأماني!
فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
ليس في الإسلام رياسة دينية حقيقية كالرياسة في الأديان الأخر، فإن كل مسلم
مكلف فهم دينه من كتابه وسنة نبيه إن استطاع؛ فإن لم يستطع ذلك بنفسه استعان
بأي مسلم يرى أنه يعرف حكم الله الذي يطلبه لا تنحصر إفادة الدين في رؤساء
معينين. وقد مضى الاصطلاح بأن يدعى سلطان المسلمين رئيسًا دينيًّا، وإن قال
الصحابة في أبي بكر عليه الرضوان: رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
لديننا -أي في إمامة الصلاة- أفلا ترضاه لدنيانا؟ فجعلوها دنيوية وهل يطمع غني
أو فقير بهذه الرياسة الشرعية أو الدينية، مهما بلغ في التربية والعلوم الإسلامية؟
وأما الوظائف الدينية الحقيقية المحضة كإمامة الصلاة والآذان فلا يرغب فيها
الأغنياء، بل لا يرضونها لأنفسهم على أنها لا تزال مبذولة للجاهلين. وهناك
وظائف شرعية كالقضاء والإفتاء وليست مما يرغب فيه الأغنياء هنا لما هو
معروف للكاتب والقارئين.
لا خطر على الجامعة الإسلامية في انحصار الوظائف الدينية في أهل الفضائل
والمزايا الدينية من الفقراء والأوساط ومن يتحلون بهذه الفضائل والمزايا لا يعجزهم
أن يطلبوا الغنى فينالوه وأن يقنعوا الأغنياء ببذل شيء من فضول أموالهم في سبيل
الله لإقامة المصالح العامة. ثم إن تحلي الأغنياء بالفضائل والمزايا الدينية ليس مما
يتوقف على هذا التعليم الذي يدعوهم إليه الأستاذ في تقريره.
فجملة القول: إن عبارة التقرير في هذه المسألة مبهمة مضطربة كعبارته التي
قبلها.
إذا قلنا: إن المسلمين أو الجامعة الإسلامية على خطر؛ فإنما نعيد قولاً تكرر
منا في المنار كثيرًا. ونعيده الآن لنقول: إن التعليم الديني في مصر ليس له أثر ما
في حفظ ما يسمونه الجامعة الإسلامية، بل ربما كان له الأثر في إضاعتها؛ لأنه
لا يدفع الشبهات الطارئة في هذا العصر على الدين ولا يبين انطباق أحكامه على
مصالح البشر ومنافعهم الشخصية والاجتماعية، ولا يخرج رجالاً يصلحون حجة
على أهل التعليم الدنيوي باستقامتهم وفضائلهم وقدرتهم على النهوض بالأعمال
العظيمة عامة كانت أو خاصة، حتى إذا أردنا أن نقول: إن أثر التعليم الديني في
أهله هو أفضل من أثر التعليم الدنيوي بأهله أو مساوٍ له في شؤون الدنيا ويفضله في
الآخرة قلنا ذلك بقوة تخترق الآذان، وتصيب من النفوس مواقع الوجدان، بل كثيرًا
ما يأتي هذا التعليم بضد ذلك، حتى صارت جميع الطبقات التي يصفونها بالعليا
تتفكه بانتقاد أهله والخوض فيهم.
زار القاهرة في هذه الأيام أستاذ من أساتذة المدارس الإسلامية في روسيا وكان
جل همه البحث عن طرق التعليم الديني وغير الديني فساءه ما رأى في الأزهر من
الفوضى، وفساد طريقة التعليم وزرت معه بعض العظماء فكانوا إذا ذكر الأزهر
وأهله يقولون: إنه لا خير في هذا المكان يرجوه الإسلام وإن أهله (كالخشب
المسندة) وألقاب أشنع لا أحب ذكرها.
والتعليم في الإسكندرية قد أوشك يفضل التعليم في الأزهر بالنظام والمراقبة
والامتحان والمكافأة التي طالب المصلح بها أهل الأزهر وحتمها عليهم بالقانون منذ
عشر سنين أو أكثر فنفروا منها نفارًا، وأصرّ كبراؤهم على رفضها إصرارًا،
ووجدوا لهم من السياسة أنصارًا.
إنه ليسرنا أن ينفذ في الإسكندرية شيء من الإصلاح الصوري مع توجيه
الهمة إلى شيء من الإصلاح المعنوي، وأن يصدق ظن شيخنا الأستاذ الإمام في
الشيخ محمد شاكر ونراه موفقًا إلى السداد في تنظيم معاهد العلم في تلك المدينة،
ولكننا نقول: إن هذا كله لا يكفي في الإصلاح المطلوب الذي يرجى لوقاية الإسلام
ولا مسلمي مصر من الخطر ولا لجذب أولاد الأغنياء إلى هذا التعليم؛ إذ الأغنياء
أحرص الناس على الزمن أن يضيع منه خمس عشرة سنة، أو عشر سنين في معالجة
كتب محدودة في الفنون العربية والفقه الذي صار أكثره غير معمول به، والكلام
الذي معظمه نظريات في مذاهب انقرضت، وهم يرون أنه يقل في معالجي هذه
الكتب من ينجح في فهمها، وأن الذين يفهمونها قلما يوجد فيهم من يفيد الأمة فائدة
لها شأن في ترقيتها، أو الدفاع عن دينها وحقيقتها، بل قلما يوجد فيهم من تصح
عبارته العربية، وكيف يفهم الدين من لا يتقن لغته إتقانًا.
إن توحيد التعليم والتربية في الأمة باشتراك جميع الطبقات فيهما مما يتوقف
عليه تحقق وحدة الأمة وقوتها، وهو أمر يتوقف على وجود زعمام من المسلمين
يعرفون أسبابه فيأتونه من أبوابه وما أبوابه إلا المدارس التي تجمع بين علوم الدين
وعلوم الدنيا مع النظام الذي انتهى إليه رقي البشر الاجتماعي والصناعي. وأعني
بعلوم الدين علوم القرآن والسنة وما فيهما من الحكم والأسرار الموافقة لرقي الأمم في
كل زمان ومكان، ثم ما استفاده سلف الأمة منهما في تفصيل ليس هذا المقال بالذي
يتسع له فأكتفي بهذه الكلمة، كما أكتفي من بيان فوائد النظام بأن مدة تحصيل العلوم
الدينية والدنيوية لا ينبغي أن تزيد فيه عن مدة التحصيل في الأزهر لتلك الكتب التي لا غناء فيها، وهي خمس عشرة سنة، أما العلوم الأزهرية فيكفي لتحصيلها
في غير كتبهم هذه وعلى غير طريقتهم في التعليم خمس سنين.
إذا حسنت حال التعليم في الإسكندرية فإن حسنها يكون تمهيدًا لما يريد
المصلحون من ارتقاء علوم الإسلام فيها، وإن للشيخ محمد شاكر من الفطنة ما
نرجو أن يرتقي به في السلم الذي وضع للأزهر من قبل مع الاستعانة بالأذكياء
العارفين بنظام التعليم كمريدي الأستاذ الإمام الذين عرف لهم حقهم وشكر لهم
صنيعهم بمساعدته في تقريره الأخير. وما وضع للأزهر إنما كان مؤقتًا روعي فيه
ضعف الاستعداد. وكان في عزم المصلح الأول - رحمه الله تعالى - أن يُعد به
القوم إلى نظام أكمل منه تزاد به العلوم ويجعل فيه فرق تختص بإتقان بعضها بعد
الإلمام بجميعها. وسنبين بعض ذلك عند الكلام على التدريس والعلوم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(8/745)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(مسألة مكدونية)
(أوربا وتركيا - أو الدين والسياسة)
اشتد ضغط دول أوربا على دولتنا في هذه الأيام، يعرضن عليها أن يكون لهن
مراقبون لمالية الولايات المكدونية، ويحملنها على إجابتهن إلى ما طلبن بالتهديد
والوعيد. وما هذه المراقبة التي يطلبن إلا جعل إدارة تلك البلاد - وهي سياج
عاصمة الدولة - أوربية محضة. وقد كنا حين نجم ناجم الثورة في مكدونية من
نحو ثلاث سنين لا نخشى إلا من روسيا لأنها كانت تستعد للحرب فإذا هي تستعد
لليابان التي جعلت استعدادها في البر والبحر هباء منثورًا.
كتبنا في الجزء الأول لسنة المنار السادسة (سنة 1321هـ) الصادر في 30
مارس سنة 1903م نبذة في ثورة مكدونية قلنا فيها ما نصه:
(ولقد كان الإنكليز عون الدولة العثمانية على روسيا فحال لون السياسة
الجامعة بينهما، وتغير شكلها، وتبدل السلطان عاهل الألمان بالإنكليز، وهو ملك
يَطْعَمُ ولا يُطْعِمُ، شديد الجشع، قوي الطمع، إذا رأى روسيا وقد جَدَّ جَدُّها يكتفي
منها بلقمة كبيرة يلتهمها ويتركها بعد ذلك وشأنها، ولا يطوف في خاطر عاقل أنه
يسمح بجندي ألماني واحد لصديقه السلطان، إذا نزل مع الروس في ميدان
الطعان) اهـ
وإذ ظهر لنا أن اليابان كفتنا الخوف من روسيا بما نكلت بها وبما أعقبت
حربها إياها من الثورة التي كادت تدمر البلاد الروسية وتذهب بسلطانها المطلق
وتقبض ظله عن الأرض فلنذكر ما كتبناه في تلك النبذة عما نخشاه من أوربا على
تلك البلاد إذا أمنَّا روسيا، وعن اضطراب المسلمين لذلك ثم نقفي عليه بما حدث في
هذه الأيام. قلنا هناك:
كانت قلوب المسلمين في العيدين (أي عيدي سنة 1320هـ) محوّمة فوق
بلاد مراكش تؤلمها فتنة الخارج كما تسوءها سيرة المالك، وقد دخلت عليها السنة
الجديدة فاستقبلها همّ أكبر من هم مراكش - هم الدولة المسلمة الكبرى (وقاها الله
تعالى) ولا خوف عليها إلا من روسيا فإذا كانت لا تريد سوءًا فدع البلقان يضطرم
بنيران الثورة اضطرامًا ولا تخش مغبته فالدولة قادرة على تأديبه. وأسوأ عاقبة
تنتظر حينئذ استقلال مكدونية أو وضعها تحت حماية الدول الكبرى على المذهب
الجديد في سير أوروبا بالمسألة الشرقية -مذهب التفكيك وتحليل العناصر- وهذا
المذهب خير لدول أوربا، وأسهل طريقًا من حرب الدولة لأجل الفتح والتغلب؛ لأن
هذا يعوز الاتفاق على ما يتعسر الاتفاق عليه ويقتضي بذل أموال غزيرة وسفك دماء
عزيزة. وهو خير للشرقيين أو المسلمين، وأسهل عليهم أيضًا؛ لأن كل عنصر
ينحل من عناصر بلادهم وكل قطعة تنتقص من أرضهم تفيدهم عبرة كبرى وتعلمهم
كيف يحفظ الباقي. فإذا لم يتعلموا بتكرار النذر وأنواع العبر، وكانوا يفتنون كل
عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون، فهم أموات غير أحياء وما
يشعرون أيان يبعثون.
(مسألة مكدونية: مسألة عشواء، والحكم فيها غامض لما تقدم، ولأن
النصارى فيها وفي جميع ما بقي تحت حكم العثمانيين من بلاد أوروبا وما يدانيها
كبلاد الأرمن قد توجهت نفوسهم إلى الاستقلال واعتقدوا أن أوروبا نصيرة لهم وأن
الذريعة الوحيدة لإثارة نعرتها عليهم وتصديها لفصلهم من جسم الدولة الثورات التي
تضطر الأتراك إلى سفك قطرات من دمائهم تأديبًا لهم) اهـ. المراد منه.
ثم كتبنا مقالة في الجزء الحادي عشر الصادر في (غُرة جمادى الثانية) من
تلك السنة (1321هـ) رجحنا فيه أن استعداد روسيا الحربي، إنما كان لأجل
توقع الحرب مع اليابان، وأن الخوف على دولتنا يومئذ إنما هو من الجانب الذي
كانت ترجوه من قبل وهو إنكلترا وأوضحنا بعض الإيضاح ما عليه أوروبا من
التحامل علينا ولا بأس بذكر شيء من ذلك هنا. قلنا بعد الكلام في عدوان البلغار
وأخذها بمحضاة الثورة في مكدونية تعويلاً على مساعدة بعض الدول:
(أيعقل أن تتحرش بلغاريا الضغيفة بالأسد التركي إلا إذا كانت واثقة بأن
وراءها أسدًا أو أسودًا؟ إذا لم يكن الأسد الروسي الذي أعطى هذه البلاد استقلالها
هو الذي يحميها من قرنه التركي فعلى أي الأسود تعتمد؟ الأقرب عندي أن يكون
الخوف اليوم في موضع الرجاء بالأمس، فإننا لما كنا نسيء الظن بروسيا أحسنا الظن
بالإنكليز حتى توقعنا أن يكون الغرض من زيارة ملكهم لفرنسا الاتفاق معها على
عدم الرضى من روسيا بمحاربة تركيا لكيلا تساعدها فرنسا على ذلك، ولما ترجح
عندنا الآن أن روسيا لا تريد حربًا ولا تضمر غدرًا (أي لنا) انعكس الرأي الأول
وظننا السوء بإنكلترا وتوقعنا أنها قد اتفقت مع فرنسا على النفخ في نار الثورة..
إلى أن قلنا:
إن سلوك أوروبا الجديد في حل المسألة التي يسمونها الشرقية ويعنون بها
الإسلامية سلوك عجيب وأعجب صوره وأغرب أشكاله ما كان من نتيجة محاربة
الدولة العلية لليونان فقد جعلت أوربا الدولة البادئة بالعدوان المغلوبة في ميدان
الطعان، هي الفائزة بالنتيجة إذ جعلت ولي عهدها حاكمًا على ولاية عظيمة من
ولايات الدولة المنتصرة (وهي جزيرة كريت) على أن تكون هي الحافظة والحامية
لتلك الولاية، وما يدرينا لعلهم يريدون الآن سلخ ولايات مكدونية من الدولة بمثل
تلك الطريقة، وهكذا يقطعون في كل مرة عضوًا من جسم الدولة يغذون به من
يرونه أولى به حتى لا يبقى إلا الرأس والقلب فيسهل على الرءوس الاتفاق على
الإيقاع به.
إننا نرى دول أوروبا عابثة في كل حين باستقلال الدولة، ففي كل حادثة
لهم أوامر تطاع ومناهي تجتنب، والدولة راضية، وكل ما تجنيه في بعض الأحيان
لا يخرج عن مراوغة في تنفيذ بعض الأوامر أو إرجائها، وكلما تم للدولة ضرب
من ضروب هذا الظفر الوهمي هتف المغرورون مع الغارّين. نحن أصحاب
السياسة المثلى، والكلمة العليا. فإذا انتهى أجل الإرجاء، وحل اليأس محل الرجاء،
سكتوا واجمين، أو خدعوا أنفسهم معتذرين.
يقول الأوروبيون: إن الذي أذل تركيا وذللها لهم هو ظلمها لمن ليس على
دينها من رعيتها لا سيما النصارى. ولنا أن نقول إن وجدنا سامعًا: إذا كانت هذه
الدولة تظلم المخالفين لها في الدين فلماذا يهرب اليهود من مشرق أوروبا (روسيا)
ومغربها (أسبانيا) إلى بلادها؟ أمن المعقول أن يهرب الناس من ظل العدل إلى
هاجرة الظلم؟ وإذا زعمتم أنها تظلم النصارى خاصة فكيف يعقل أن تظلم المخالف
الذي يجد أنصارًا أقوياء ينتقمون له وتدع من لا ولي له ولا نصير؟ وإذا كانت
أوربا تعبث باستقلال الدولة وتفتات عليها في سياستها الداخلية حبًّا في العدل
بالمظلومين فما بال هذه الرحمة لا تحرك لهم عاطفة على اليهود الذين يستحرّ فيهم
القتل بأيدي النصارى لأنهم يهود؟ ؟ ليس موقفنا مع أوروبا موقف جدال وحجاج
ولكنه موقف قوة وضعف فالقوة تفعل والضعف ينفعل. اهـ المراد منه.
هذا شيء مما كتبناه في المسألة والعهد قريب بظهورها وقد كرت السنين فما
زادت هذه الآراء إلا بيانًا ورجحانًا. وضعت أوربا ضباطًا من جندها يحفظون
الأمن في الولايات المكدونية مع رجال الضبط العثمانيين؛ ليكونوا مطلعين على كل
ما يقع في البلاد ثم أرادت القبض على أزمَّة المالية والإدارة فاقترحت على الدولة
تعيين مندوبين ماليين من الدول العظام يضعون الميزانية للبلاد وينظرون في أمر
العمال والمستخدمين من تولية وعزل ويتصرفون في الجباية والصرف ويكونون
تابعين في أعمالهم لسفراء دولهم.
فخلاصة هذا الاقتراح: أن تكون مالية تلك الولايات وإدارتها في أيدي دول
أوروبا كما أن أمر الأمن في أيديهم وللدولة اسم السلطة والسيادة لا ينازعها فيه
منازع الآن لما عليه أمراء الشرق وملوكه من التفاني في عشق الألقاب.
رفض السلطان قبول هذا الاقتراح الجائر الذي يقلص ظل سلطته عن تلك
الولايات التي هي حظيرة لعاصمة ملكه، فألحت الدول عليه وهددته باحتلال بعض
الجزائر العثمانية التي تقرب من باب الآستانة (الدردنيل) فأصر على الإباء وله
الحق في ذلك، ولكنهم قوم يطمعون في ضعفه.
ما ودع المسلمون رمضان واستقبلوا عيد الفطر إلا وقلوبهم تكاد تنفطر أسى
وحزنًا، وحقدًا، وضغنًا، الأسف والحزن على ما وصلت إليه الدولة الإسلامية
الكبرى من الضعف بإهمال إصلاح بلادها، والحقد والضغن على أوربا المتعصبة
التي تريد محو سلطة المسلمين من أوروبا ثم من الأرض كلها. وقد رأيت من
مسلمي هذا القطر المبارك فوق ما كنت أعتقد فيهم من الغيرة والتألم على الدولة
العلية أعزها الله بالعدل والعلم والإصلاح، ومن البغض لأعدائها خذلهم الله بالتفرق
والتعادي والانقسام.
والرأي عندي وعند كل من تكلمت معهم في هذا الأمر من ذوي الرأي والفكر،
أن إصرار الدولة العلية على رفض ما يطلب الدول منها هو الصواب وأن شر
عاقبة تتوقع له لهي خير منه أو أضعف شرًّا وأقل ضرًّا. إن استيلاء الدول على
تلك الولايات بالقوة بعد مقاومة الدولة لهن لهو خير من تسليمهن إدارة ماليتها بالتهديد
والإنذار والوعيد فإن كلا الأمرين خسران مبين للبلاد وفي الخنوع والاستسلام
للوعيد خسران معنوي أعظم وهو خسران الشرف والاستقلال يقابله في المقاومة مع
حفظ هذا الشرف فوز معنوي عظيم وهو إيقاظ المسلمين في مشارق الأرض
ومغاربها وإشعارهم بالخطر الذي يتهدد سلطتهم من حيث هم مسلمون ولا شيء أنفع
لهم في هذا العصر من هذه اليقظة والشعور وقد كان الأستاذ الإمام - رحمه الله
تعالى - يقول: إن الحرب العثمانية الروسية الأخيرة قد كانت هي المبدأ لهذه
الحركة الفكرية العامة في المسلمين، وإن كان البلاء لينزل من قبل هذه الحرب في
القطر الإسلامي فلا يهتز له القطر الذي يجاوره دع البعيد عنه الذي انقطعت دونه
أخباره، وقد صرنا نرى المسلمين في كل قطر يتألمون لما يصيب إخوانهم في سائر
الأقطار لا سيما إذا كان المصاب من اعتداء الأجانب عليهم.
إن ساسة أوربا يقدرون هذه الحركة التي أشار إليها حكيمنا قدرها،
ويحيطون بما لم نحط به من خبرها، لذلك أجمعوا كيدهم على ذبح العفريت بسيفه
الخشبي [*] إذ يتعذر قتله بسواه أعني أن يزيلوا السلطة الإسلامية من الأرض بنفوذ
رؤسائها من السلاطين والأمراء، يدخلون في أمر الواحد منهم ويدعونه إلى ما
يريدون، فينالون به نيلهم والمسلمون وادعون ساكنون، يحسبون أن أولي أمرهم
منهم وأنهم لأمرهم يخضعون، فمثل أوربا في سياستها هذه وفي انتقاصها الممالك
الإسلامية من أطرافها كمثل الطبيب يخدر العضو ويقطعه حتى لا يشعر صاحبه
بشدة الألم، ولكن الطبيب يعمل هذا لمصلحة الجسم وهم يعملونه لمصلحة أنفسهم
بإعدامه بل التهامه.
يقول قوم: إن الدافع لأوربا على هذا هو التعصب على الإسلام ولذلك لا
نرى الدول النصرانية تتفق على العبث باستقلال دولة نصرانية فيجب أن يقابل
المسلمون ذلك بالتعصب على النصارى كافة. ويقول آخرون: إن أوربا بريئة من
التعصب الديني الذي لا يعرف في غير الشرق وإنما هي المصالح السياسية لا
مذهب لها ولا دين ولذلك ينتصر الإمبراطور غليوم النصراني للخليفة المسلم
العثماني وتطارد حكومة فرنسا الرهبان وتتبرأ من الكنيسة. والصواب في المسألة
أن أوربا لا تتعصب على المسلمين من حيث هم مسلمون يقرون لله بالوحدانية ولمحمد
- صلى الله عليه وسلم - بالرسالة ويصلون إلى الكعبة ويعبدون الله تعالى
على غير الطريقة التي يعبده بها سواهم، وإنما تتعصب عليهم؛ لأن لهم سلطة
ودولاً فالذين سموا تعصبها سياسيًّا قد صدقوا، والذين سموه دينيًّا لم يكذبوا، فإذا
كان لا يهمها أمر الدين الإسلامي من حيث هو اعتقاد وعبادة، فأكبر همها أن لا
يكون له سلطان ولا سيادة، ألا يجدر بالمسلمين إذًا أن يحرقوا عليها الأرم،
ويعتقدوا أن شرف سلطتهم لا يسلم (حتى يراق على جوانبه الدم) بلى وإنما
موضع الخطأ أن يحاولوا الانتقام من الذميين والمسالمين، والله تعالى يقول:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) فإيذاؤنا النصارى في بلادنا عصيان لديننا وخراب لدنيانا.
إذا كان المسلمون قد شعروا شعورًا صحيحًا بالخطر الذي ينذر سلطتهم،
والبلاء الذي يتهدد ملتهم، فعليهم أن يعرفوا كيف يقاومون العدوان بمثله؛ لأن الله
تعالى يقول: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} (البقرة: 194) أي ولا تبغوا، وإنما تعتدي علينا أوروبا بقوة أمتها، وعلمها
وصناعتها، ونظامها وثروتها، ودهائها وحكمتها، ولذلك تستفيد مما بقي لنا ما لا
نستفيد. فما دمنا على هذا الجهل والخلل، والتفرق والفشل، فإننا لا يمكن أن نقف
أمام أوربا. فإذا لم يظفروا بمكدونية تمام الظفر في هذه المرة، فإنهم يظفرون بها
وبغيرها إذا أعادوا الكرة، ولنا فيما مضي عِبرة وأي عبرة، بماذا تقاومهم؟
رؤساؤنا مستبدون، وحكامنا ظالمون، وعلماؤنا جامدون، وأغنياؤنا ممسكون،
وخواصنا مترفون، وعوامنا جاهلون، فإذا رضينا لأنفسنا بهذا فإننا نكون من الذين
يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ولا ينطبق علينا قول ربنا {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي
الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون} (الأنبياء: 105)
فعلينا أن نبذل المال ونجمع شمل الرجال، لنرقي الأمة فتُلزم الحكام بإصلاح
الحال، فإن العصر عصر الأمم لا عصر الأفراد وعصر النظام والاجتماع لا عصر
الاستبداد.
***
(وفاة الشيخ عبد القادر الرافعي)
الشيخ عبد القادر الرافعي الكبير أشهر فقهاء الحنفية في الأزهر، بل في البلاد
العربية كلها، أتقن المذاهب تعلمًا وتعليمًا وتأليفًا وعملاً بالمحاكم الشرعية؛ فقد كان
رئيس المجلس العلمي في المحكمة الشرعية بمصر. وقد وقع اختيار الحكومة على
ترشيحه لمنصب الإفتاء، فسمي مفتيًا للديار المصرية في أوائل رمضان الماضي،
فلم يلبث أن توفي فجأة ليلاً، وهو في مركبته يقصد زيارة أحد نظار الحكومة،
والناس يقصدون داره لتهنئته فاستحال السرور بالمنصب عند أهله حزنًا، وتحولت
تهنئتهم به تعزية لهم عنه وشيع جنازته مع العلماء والوجهاء نظار الحكومة، وبعض
كبار حاشية الأمير، وصُلي عليه في الجامع الأزهر ودفن في قرافة المجاورين،
وكان ذلك اليوم موعد نشر خبر تعيينه مفتيًا في الجريدة الرسمية فلم ينشر.
آل الرافعي في غنى عن التعريف فعلماؤهم وأدباؤهم وخدمة الحكومة
منهم كثيرون في وطنهم (سوريا) ومهاجر الكثيرين منهم مصر, وكان الشيخ عبد
القادر رحمه الله تعالى كبيرهم في العلم والوجاهة ومن ذوي الدرجة الأولى
في الأزهر , ومما كان يمتاز به على أكثر الشيوخ البحث في الأمور العامة وكثرة
السؤال عن أحوال الدولة، وكان بعيدًا من الفتن والخوض في الناس وقورًا،
مهيب المجلس، ذا أخلاق شريفة , حافظًا لكرامة العلم , محترمًا عند أهل الدنيا
كاحترامه عند أهل الدين , تغمده الله تعالى برحمته ورضوانه، وأحسن عزاء
ولده وأهله وأسرته الكريمة عنه.
***
(إحياء سنة أزهرية)
كان من عادة أهل الأزهر إذا مات عالم منهم أن يجتمعوا في الأزهر يوم جمعة
بعد موته لقراءة ختمة يهدى ثوابها إلى روحه ولإنشاد المراثي التي يرثيه بها الشعراء
منهم فأبطل الإصلاح هذه العادة مع عادات أخرى مثلها، ولكن شيخ الأزهر الشيخ
عبد الرحمن الشربيني أمر بالعودة إلى هذه العادة التي سماها المؤيد (سنة حسنة)
فاجتمع الأزهريون لرثاء الشيخ عبد القادر الرافعي - رحمه الله تعالى - في الجامع
الأزهر وحضر الاجتماع خلق كثير فقرءوا وأنشدوا مرثية لبعض الشيوخ، ثم وزعوا
على الحاضرين شيئًا من الحمص والزبيب كان يتناثر منهم في المسجد وهو من تمام
سنتهم التي أحييت بعد أن ماتت، وإنه ليغلب على ظني أن الرافعي - رحمه الله
تعالى - لو كان حيًّا واستشير في إحياء هذه السنة لأشار بعدم إحيائها، ولما سماها
سنة حسنة بل بدعة سيئة، وإذا كانت أمثال هذه السنن صارت تحيا بعد موتها فبشر
المسلمين بحياة العلم والدين.
__________
(*) في الحكايات الخرافية التي يلهي بها الأمهات أطفالهم " أن للعفريت سيفًا خشبيًّا إذا ذبح به مات وإذا ذبح بسيف آخر من الحديد والفولاذ فإنه لا يصيبه ضرر، ولا يحدث منه في رقبته ولا جسمه أدنى أثر، ولكنه ينتبه لمحاول قتله فيفتك به وكذلك المسلمون لا يسهل إهلاكهم إلا بواسطة رؤسائهم الذين هم سيوفهم، ولذلك تحاول أوروبا أن تكون هذه السيوف الخشبية في يدها فاللهم أصلح الراعي والرعية.(8/753)
16 شوال - 1323هـ
13 ديسمبر - 1905م(8/)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
الدين
في نظر العقل الصحيح
(6)
الشبهة الثالثة: مريم أخت هارون
قال تعالى حكاية عن قوم مريم عليها السلام في خطابهم لها {يَا أُخْتَ هَارُونَ
مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِياًّ} (مريم: 28)
قال المسيحيون (ولا تجد كتابًا لهم في الطعن في الإسلام خاليًا من ذلك) :
إن القرآن هنا نص على أن مريم هي أخت لشخص يسمى هارون فتكون هي
مريم أخت هارون وموسى النبيين - عليهم السلام - وعليه يكون القرآن قد دل
على أن عيسى عليه السلام ابن أخت موسى، فيكونان معاصرين. فانظر إلى
هذه البراهين المفحمة، والأقيسة المنطقية المدهشة! ! هل يلزم من كون مريم أم
المسيح لها أخ يسمى هارون أن تكون هي مريم أخت موسى؟ أما رأيتم أنه قد
يوجد في بيتٍ أبٌ وابن وأخت له، وتكون أسماؤهم كأسماء أشخاص من بيت آخر؟
قد رأينا ذلك كثيرًا ولكننا ما رأينا أحدًا يقول: (إن هذا البيت هو البيت الآخر بعينه) .
فما بالكم خرجتم عن العقل في مسائل الدين! ! هل ورد في القرآن أن هارون هذا
هو هارون النبي أخو موسى أم ورد فيه أن مريم العذراء هي أخت موسى الذي
جاء بالتوراة؟ ألم يقل القرآن الشريف بعد ذكره التوراة وأنبياء بني إسرائيل التابعين
لها في سورة المائدة: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} (المائدة: 46) فإذا
كان هنا ينص على أن عيسى - عليه السلام - أتى بعد جميع أنبياء بني إسرائيل
التابعين لموسى فكيف تستنتجون منه أن عيسى معاصر لموسى! وقلما يذكر المسيح
في القرآن إلا بعد ذكر موسى أو أنبياء بني إسرائيل فليتق الله المنصفون.
هذا وإذا علمنا أنهم لا يعرفون اسم أبي مريم -عليها السلام - بالجزم حتى
سماه بعض الأناجيل القديمة التي رفضوها بيهوياقيم علمنا كيف أنهم يجهلون نسبها
فلا غرابة إذا جهلوا أخًا لها يسمى هارون. بل اختلاف أناجيلهم في نسب المسيح
اختلافًا أتعبهم منذ وجودها في التوفيق بينها يجعلنا لا نعبأ بما يعرفونه عنه وعن
أهله عليه السلام. ولا حاجة لنا بتأويل بعض مفسرينا الذين قالوا: إن هارون كان
رجلاً صالحًا؛ فجعلت أخته في الصلاح والتقوى، أي أنها مثله في ذلك، أو كما
يقال أخو العرب وأخو الحرب.
***
الشبهة الرابعة: السامري
قال تعالى في حكاية عجل بني إسرائيل: {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} (طه: 85)
فقال المسيحيون: إن السامري هذا الذي ذكره القرآن هو من السامريين، وهؤلاء لم
يوجدوا إلا بعد موسى بعدة سنين. ولكنا نطالبهم بالدليل على هذا الزعم الفاسد
وكيفية استنباطهم له. وهل إذا جهلنا أصل هذا اللفظ يحملنا الجهل على أخذه من
لفظ السامريين فنقول: إنه واحد من تلك الفرقة، وبعد ذلك نبني عليه ما نبني من
الأوهام، فكم في الكتب المقدسة من ألفاظ لا يدرك اشتقاقها، ولا نعرف أصولها،
ولم لا يكون ما ورد في القرآن منسوبًا لبلد غير ما عرفنا من البلدان؟ وهل يمكنكم
الجزم بأنه لم يسم بلفظ سامرة غير سامرة فلسطين مع علمنا بخلاف ذلك. وفي
البلاد القديمة أيضًا ما يسمى (سام راه) أو (سمرا) [1] ويجوز أن يكون (السامري)
نسبة لبيت رجل من بني إسرائيل يسمى (شامر) مثلاً [2] ، وهذا الاسم وما
يشابهه له وجد في أسفار العهد القديم انظر (1 أخبار الأيام 34: 7 و12: 8)
وإذا تذكرنا أن الأسماء المعربة تتغير بالتعريب تغيرًا يبعد بها عن أصلها أحيانًا [3]
كما في عيسى بالنسبة ليشوع (بالشين) ويحيى بالنسبة ليوحنا ويونس بالنسبة
ليونان وغير ذلك فإننا لا نستغرب نسبة (السامري) إلى شامر، بل لا نرى من
الغرابة أن نجهل الأصل المعرب منه هذا اللفظ بالمرة، فانظر الفرق بين لفظ عيسى
ويشوع مثلاً، وما قيل في هذه الآية والتي قبلها يمكننا أن نرد بمثله اشتباههم في
لفظ هامان الوارد في القرآن في قصة فرعون.
ويجوز أيضًا أن يكون السامري لقبًا لشخص من بني إسرائيل، ومعناه الحافظ
وأصله من لفظ شمر العبري الذي معناه حفظ. فإذا كانت كل هذه الاحتمالات جائزة
قريبة فكيف يجزمون بخطأ القرآن في ذلك؟
***
الشبهة الخامسة: غروب الشمس في العين
قال تعالى في قصة ذي القرنين {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف:
86) أي الشمس فقالوا: إن القرآن يدل على أن الشمس تغرب في نفس الأرض،
وتجاهلوا أن في مثل هذا المقام يقول القائل في كل لغة (رأيت الشمس تغرب في
البحر) مثلاً، مع أن القائل قد يكون أعلم الجغرافيين والفلكيين، وإنما يعبر هذا
التعبير بحسب ما يبدو لنظر الواقف على ساحل البحر. والقرآن الشريف إنما نسب
الأمر إلى ذي القرنين فقال: (وجدها) إشعارًا بأن ذلك هو ما تخيله بصره، فما
أحسن هذا اللفظ في مثل هذا المقام. ولو كان الكلام في مقام التكوين والخلق ونص
القرآن على أن الشمس تغرب في جزء من الأرض؛ لكان لهم الحق في هذا الانتقاد.
على أنه تعبير معروف عند كل الناس حتى المنتقدين.
ويناسب هذا الموضوع أن نشير إلى ما قاله العلماء في مسألة جريان الشمس
بما يؤيد ما ورد في الكتاب {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} (يس: 38) قد اتفقت كلمتهم على أن الشمس وجميع ما حولها من السيارات
تجري في الفضاء إلى حيث لا يعلم أحد، وهذا يوافق كل الموافقة ما قاله القرآن
الشريف من غير زيادة ولا نقصان.
الشبهة السادسة: آزر أبو إبراهيم
قال تعالى في إبراهيم عليه السلام {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} (الأنعام:
74) فاعترض على ذلك دعاة المسيحية قائلين: إن ما ورد في التوراة هو أن أبا
إبراهيم يسمى (تارح) فمن أين أتى القرآن بآزر؟ قلنا: إننا قد تكلمنا على ما
يسمونه بالتوراة بما لا يمكنهم الرد عليه. ثم إن القرآن لم ينكر هذه التسمية وورود
اسم آخر فيه قد يكون بسبب أن الرجل مسمى باسمين، أو أحدهما لقب كما يقولون هم
أنفسهم لرفع التناقض المالئ كتبهم في أسماء كثير من الأشخاص. ولكننا لا نكتفي
بذلك، بل نبين لهم أصل هذه التسمية الواردة في القرآن؛ ليعلموا أنه لو كان أخذ ما أتى به من كتبهم كما يهذون لما خالفها في مثل هذه الأشياء البسيطة خوفًا من أن
يقع في تخطئة منهم لا حاجة إليه بها، وكان في أمن منها لو وافق على ما ورد
فيها.
آزر لفظ قديم معناه (النار) وأطلقه قدماء الفرس والكلدانيين والآشوريين
على كوكب المريخ لظنهم أنه من نار ثم عبدوه في صورة عمود وصاروا يلقبون
الأشراف منهم بهذا اللفظ (آزر) تبركًا به، وقد وجد كثيرًا في كتابات البابليين أيضًا
وعليه قال العلماء: (إن آزر هو اللقب الوثني لأبي إبراهيم) ويوافق ذلك ما ورد
في تفسير البيضاوي وغيره من أن آزر اسم للإله الذي كان يعبده، فهل فيما أتى به
القرآن بعد ذلك أدنى شهبة. بل أليس فيه حجة على صدق النبي الأمي وخصوصًا
إذا لاحظنا أن التوراة لم يرد فيها هذا اللقب، ولا في التلمود الذي سماه (زاراح)
فمن أين أتى القرآن بذلك لولا وحي الله؟
***
الشبهة السابعة: جبل الجودي
قال تعالى في سفينة هود عليه السلام: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِي} (هود: 44) فقال بعضهم: المذكور في التوراة أن اسمه (أراراط) ولم
يرد لفظ (جودي) فيها فمن أين أتى به القرآن؟ ونجيب عن ذلك بأننا لا نعبأ بكتبهم
لما ذكرناه سابقًا، ثم نبين أصل ما ذكره كتاب الله. هذا الجبل يسكن بجواره
الكرد (الأكراد) ولذلك سموه بلغتهم كاردو أو: جاردو، وحرفها اليونانيون:
جوردي ومنه عرب لفظ القرآن: جودي [*]
***
الشبهة الثامنة: الناسخ والمنسوخ
ذهب جمهور المسلمين إلى أن القرآن قد وقع فيه نسخ كثير واستدلوا على ذلك
بأحاديث آحادية، وببعض آيات وردت فيه، وغالوا في المسألة حتى أنهم جعلوا
جزءًا عظيمًا من القرآن منسوخًا. ولم يقفوا عند هذا الحد، بل (زادوا الطين بلة)
بأن ادعوا نسخ بعضه بالسنة، حتى جرأوا الخصوم على الطعن في الكتاب
العزيز، ولكن قيض الله لهم في كل زمن من رد عليهم في أكثر هذه الدعاوي أو في
جميعها من علماء الإسلام المحققين. فقد ظهر بينهم من أفهمهم معنى أكثر هذه
الآيات، وأبان لهم أن لا ناسخ ولا منسوخ فيها بالدليل الذي لا يقبل الرد مثل الإمام
الشوكاني وغيره، وقام الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وأبطل دعوى نسخ الكتاب
بالحديث. وذهب أبو مسلم الأصفهاني المفسر الشهير إلى أنه ليس في القرآن آية
منسوخة وخرّج كل ما قالوا أنه منسوخ على وجه صحيح بضرب من التخصيص،
أو التأويل ونقل عنه الفخر الرازي آراءه في ذلك في تفسيره المشهور. ومن العلماء
المتأخرين الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - فقد كان يدحض كل دعوى بالنسخ في
أي آية فسرها بالحجة الواضحة والبراهين الظاهرة وقال في أحاديث الآحاد: (إنها
ظنية يحتمل أن تكون مكذوبة من بعض رجال السند المتظاهرين بالإصلاح لخداع
الناس، حتى إن بعضهم تاب ورجع عما كان وضعه، ولولا اعترافه به لم يعرف،
فما يدرينا أن بعضهم مات ولم يتب ولم تعرف حقيقة حالة، وبقي ما وضعه رائجًا
مقبولاً لم يطعن في سنده أهل النقد) . وتبعه في كل آرائه هذه الأستاذ الرشيد،
حفظه الله. ولولا خوف التطويل لنقلت عنهم آراءهم في جميع هذه الآيات.
فليراجعها في كتبهم وليتدبر القرآن بنفسه من أراد أن يهتدي إلى الحق.
والخلاصة: إن مذهب النسخ في القرآن ليس من العقائد الإسلامية في شيء.
بمعنى أن المسلم يمكنه أن يفهم كتاب الله، ويكون مؤمنًا به حقًّا بدون أن يحتاج إلى
القول بشيء مما زعموه ألبتة. ومن أراد أن يحاججني في ذلك فعليه بالقرآن وحده.
***
الشبهة التاسعة:
هاروت وماروت - السحر - هل سحر النبي؟
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ
كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ
سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى
المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ
تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ
بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ
مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (البقرة: 101-102)
ذهب كثير من المحققين سلفًا وخلفًا إلى أن هاروت وماروت كانا رجلين
متظاهرين بالصلاح والتقوى في بابل وكانا يعلمان الناس السحر، وبلغ حسن اعتقاد
الناس بهما أن ظنوا أنهما ملكان من السماء، وما يعلمانه للناس هو بوحي من الله
وبلغ مكر هذين الرجلين ومحافظتهما على اعتقاد الناس الحسن فيهما وفي علمهما
أنهما صارا يقولان لكل من أراد أن يتعلم منهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} (البقرة: 102) أي إنما نحن أولو فتنة نبلوك ونختبرك، أتشكر أم تكفر وننصح
لك بأن لا تكفر. يقولان ذلك ليوهما الناس أن علومهما إلهية، وصناعتهما
روحانية، وأنهما لا يقصدان إلا الخير، كما يفعل ذلك دجاجلة هذا الزمان قائلين لمن
يعلمونهم الكتابة للمحبة والبغض على زعمهم: (نوصيك بأن لا تكتب لجلب امرأة
متزوجة إلى رجل غير زوجها) ، إلى غير ذلك من الأوهام والافتراء، ولليهود في
ذلك خرافات كثيرة حتى إنهم يعتقدون أن السحر نزل عليهما من الله، وأنهما
ملكان جاءا لتعليمه للناس، وقد جاراهم في ذلك جهلة المفسرين. فجاء القرآن
مكذبًا لهم في دعواهم نزوله من السماء وفي ذم السحر ومن يتعلمه أو يعلمه فقال:
{يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَيْن} (البقرة: 102) إلى آخر الآية فما
هنا نافية على أصح الأقوال ولفظ (الملكين) هنا وارد على حسب العرف الجاري بين
الناس في ذلك الوقت كما يرد ذكر آلهة الخير والشر في كتابات المؤلفين عن تاريخ
اليونان والمصريين وغيرهم وكما يرد في كلام المسلم في الرد على
المسيحيين ذكر تجسد الإله وصلبه، وإن كان لا يعتقد بذلك.
والمراد بالشياطين المذكورين قبل ذلك في قوله {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِين} (البقرة: 102) خبثاء الإنس وأشرارهم كما في قوله {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا
إِنَّا مَعَكُمْ} (البقرة: 14) وقوله {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} (الأنعام: 112) والذي يعين هذا المعنى في الآية التي نحن بصدد تفسيرها قوله
(تتلو) لأن تلاوة شياطين الجن لا يسمعها أحد، ومعنى تتلو هنا: تقصّ، وقوله
بعدها {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (البقرة: 102) يعين هذا أيضًا إذ لا يتعلم أحد
السحر إلا من شياطين الإنس.
وقوله تعالى {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ} (البقرة: 102) هو من
قبيل التمثيل وإظهار الأمر في أقبح صوره، أي بلغ من أمر ما يتعلمونه من
ضروب الحيل وطرق الإفساد أن يتمكنوا به من التفريق بين أعظم مجتمع كالمرء
وزوجه، والخلاصة: إن معنى الآية من أولها إلى آخرها هكذا:
إن اليهود كذبوا القرآن ونبذوه وراء ظهورهم واعتاضوا عنه بالأقاصيص
والخرافات التي يسمعونها من خبثائهم عن سليمان وملكه وزعموا أنه كفر وهو لم
يكفر ولكن شياطينهم هم الذين كفروا وصاروا يعلمون الناس السحر، ويدعون أنه
أنزل على هاروت وماروت اللذين سموهما ملكين، ولم ينزل عليهما شيء، وإنما
كانا رجلين يدعيان الصلاح لدرجة أنهما كانا يوهمان الناس أنهما لا يقصدان إلا
الخير ويحذرانهم من الكفر. وبلغ من أمر ما يتعلمونه منهما من طرق الحيل
والدهاء أنهم يفرقون به بين المجتمعين ويحلون به عقد المتحدين.
فأنت ترى من هذا أن المقام كله للذم فلا يصح أن يرد فيه مدح هاروت
وماروت كما توهم كثير من المفسرين. والذي يدلك على صحة ما قلناه فيهما أن
القرآن أنكر نزول أي ملك إلى الأرض ليعلم الناس شيئًا من عند الله غير الوحي إلى
الأنبياء ونص نصًّا صريحًا أن الله لم يرسل إلا الإنس لتعليم بني نوعهم فقال {وَمَا
أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} (الأنبياء: 7) وقال منكرًا على من طلب إنزال الملك {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ
وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} (الأنعام: 8) وقال في سورة الفرقان
{وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ
مَعَهُ نَذِيراً} (الفرقان: 7) إلى قوله: {فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الفرقان: 9) .
واعلم أن السحر لا يغير حقائق الأشياء، وإنما هو تخييل وشعوذة وحيل كما
قال تعالى في حكاية سحرة فرعون {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه:
66) وقال أيضًا {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوَهُمْ} (الأعراف: 116) أي
أنهم دلَّسوا عليهم وخيَّلوا لأبصارهم وأوهموهم صحة ما يفعلون. فأين هذا من قول
كتاب اليهود الذي يقول (وصارت العصيّ ثعابين) كأن المسألة كانت حقيقية.
هذا وإذا لم يكن للسحر تأثير حقيقي فلا يمكن أن يسحر النبي - صلى الله
عليه وسلم - حتى أنه صار يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله كما افتراه
المفترون؛ إذ لو جاز ذلك لجاز أن يتوهم أنه أوحي إليه شيء وهو لم يوح إليه
ولصدق عليه قول الكافرين {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الإسراء: 47) وقد
أنكر القرآن عليهم ذلك بنفسه، وإنما قالوه طعنًا فيه وردًّا لحجته الباهرة كما قالوا
عنه: إنه ساحر، وكاهن، ومجنون، وشاعر إلى غير ذلك مما اختلقوه. وأما قوله
تعالى: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ} (الفلق: 4) الذي اتخذه المفترون دليلاً على
إفكهم فمعناه هكذا:
النفَّاثة: من صيغ المبالغة كالعلامة، والفهامة يستعمل كذلك للذكر والأنثى
والنفاثات جمعه، والمراد بها هنا: النمامون المقطعون لروابط الألفة المحرقون لها
بما يلقون من ضرام نمائمهم، وما ينفثون من سموم وشاياتهم. والعقد كالعقود معنى
مثل: عقدة النكاح وعقدة البيع وغيرهما. كأنه قال تعوذ من شر من يسعى لحل
المجتمعات الخيرية والتفريق بين المحبين المتحدين.
والدليل على كذب المفترين غير ما ذكرنا أن هذه السورة مكية، وما يزعمونه
يدعون أنه حصل بالمدينة؛ فكيف يصح أن يقال نزلت فيه؟ ! وهذا التفسير الذي
ذكرناه مأخوذ من أفكار الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - وقد ذكر ما يقاربه
المحقق أبو مسلم الأصفهاني ونقله عن الإمام الرازي واستحسنه وذكر مثله المفسر
الشهير أبو السعود أيضًا.
فهذه هي أكبر مطاعنهم في القرآن الشريف وأكثرها ورودًا في كتبهم وقد
اتضح لك مما قررناه واتفق عليه العلماء المدققون أنها كالسراب يحسبه الظمآن ماء
حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا. بل إن بعضها ليس فيه على القرآن شبهة بل هو له
حجة كما يتبين لك من البحث عن أصل لفظي آزر والجودي مثلاً. وقس على
أمثالها مما لم نذكره هنا لشدة سخافته.
هذا وليعلم القوم أن ما ذكر في القرآن من المسائل الغريبة كتكلم النملة وسماع
سليمان لها إن حُمل على ظاهره، وتسخير الجن له وغير ذلك ليس مما يصادم
البداهة العقلية، أو يناقض البراهين القطعية. وإنما هو غريب، وليس كل غريب
مستحيلاً، وإلا لكانت جميع المعجزات مستحيلة، وكذا جميع الاختراعات
والاكتشافات الحديثة. فمن ادعى أن في القرآن شيئًا مستحيلاً فعليه بالدليل المنطقي
الصحيح وإلا ضربْنا بكلامه عرض الحائط واعتبرناه هاذيًا.
***
مسألة صلب المسيح
بقي عليَّ أن أنبه الناس على ما يفتريه هؤلاء الدعاة طعنًا في القرآن في
مسألة أخرى؛ وهي دعوى صلب المسيح قائلين: إنه وحده هو الذي أنكر صلب
المسيح ولم يسبقه سابق إلى ذلك، فإن هذه الحقيقة قال بها كثيرون من فرق
النصارى الأولين مثل الباسيليديين والسيرينثيين والكاربوكراتيين والتانيانوسيين
وغيرهم وقد ذكرت أكثر هذه الطوائف من قبل في رسالة لي سميتها (الخلاصة
البرهانية على صحة الديانة الإسلامية) فمن شاء فليراجعها. وورد مثل ما قاله
القرآن في كتب أخرى كالكتاب المسمى رحلة الرسل وهو يشبه كتاب الأعمال الذي
عند النصارى الآن وفيه أخبار بطرس ويوحنا وأندراوس وغيرهم ومما ورد فيه
أن المسيح لم يصلب وإنما صلب واحد آخر بدله كما رواه العلامة سيل الإنكليزي
مترجم القرآن عن آخر يدعى (فوتيس) وكذا ما ورد في إنجيل برناباس وهو
أحد الأناجيل التي رفضها المسيحيون يؤيد ما أتى به القرآن تمامًا حتى في ذكر اسم
النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - صراحة. وهذا الإنجيل مما كتب قبل الإسلام
بقرون، وإن ادعى بعضهم أن أحد المسلمين حرفه أجبنا: كيف حرف المسلمون
جميع نسخه حتى الموجودة عند النصارى؟ ولِمَ لَمْ يحرف المسلمون غيره من كتبهم
على أن المسلمين ما عرفوه إلا عنهم؟
وإن تعجب فعجب قولهم في مسألة قيام المسيح من القبر - على زعمهم - إذا
كانت هذه القيامة موهومة فأين جسده إذًا؟ وفاتهم أن موسى - عليه السلام - الذي
مات موتًا طبيعيًّا بين قومه لم يعرفوا قبره إلى الآن، ونصت التوراة على ذلك في
آخر أسفارها (تثنية 6: 34) فهل يستبعدون قولنا أن المسيح لم يعرف أحد قبره
مع ملاحظة أن التلاميذ فروا من حوله وتفرقوا وتولى الأمر غيرهم ممن لهم غاية
وغرض في إخفاء جثته -لو قتل- لإطفاء نار المشاحنات والفتن ومحو الشغب بين
الناس؟ هل يُستبعد هذا ولا يستبعد أن كاتب سفر التثنية لم يعرف قبر موسى مع
وجود الفرق العظيم بين هذه الحالة وتلك؟
لا يبعد أن يكون ما يقصه النصارى علينا هو من قبيل تلفيق روايات التمثيل
وغيرها مما كتبه الناس قديمًا وحديثًا. ومثل هذه التلفيقات كان شائعًا في الأعصر
الأولى المسيحية، حتى أن كل طائفة من طوائفهم ألفت أناجيل ورسائل كثيرة
ونسبتها إلى المسيح وتلاميذه لتأييد آرائهم وهم بإقرارهم برآء منها. فيجوز أن
تكون هذه القصة مما كتب في أواخر القرن الأول أو في القرن الثاني. وقد خالفها
يومئذ طوائف كثيرة كما خالفوا في مسائل أخرى كالتجسد والتثليث. وها قد أخذ
الحق يحصحص الآن بينهم بعد أن صارعه الباطل أجيالاً عديدة وأخذ الناس يدخلون
في عقيدة التوحيد والتنزيه أفواجًا أفواجًا. وانتشرت أفكار الموحدين في أوروبا
وأمريكا وأوشك سراج الحق يكون وهاجًا.
***
إعادة برهان النبوة بالاختصار
عند هذا الحد أقف بالقارئ. وقبل أن أتركه أكرر عليه مرة أخرى بغاية
الإيجاز برهان النبوة لعلمي أنه الآن يمكنه أن يدركه إدراكًا حقيقيًّا أكثر من ذي قبل
فأضعه تحت نظر عقله مختصرًا كي يجول بسهولة في أنحائه ويحيط بأطرافه
وأرجو من المخالفين أن يُمعنوا النظر في جميع مقالاتي هذه إمعان من يريد أن
يكتب للناس ردًّا عليها لا أن يعموا بصيرتهم بأنفسهم لأجل ما ورثوه عن آبائهم.
فإن الحق أحق أن يتبع {فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (التوبة:
38)
وهاك البرهان موجزًا بقدر الإمكان:
رجل يتيم، فقير، أُمي، لم يشتغل بما كان يشتغل به قومه من الشعر أو
الخطابة ونحوهما، لم يعهد عليه الكذب في صغره، نشأ في وسط الجهل والوثنية،
فأتى والعالم محتاج إلى الإصلاح بعقائد صحيحة أشار إلى براهينها وعبادات
وشرائع وأخلاق وحكم وقصص مفيدة ومسائل علمية لم تكن معروفة وأخبار ببعض
مغيبات تحققت وأخرج العرب من أحط دركات الهمجية إلى أعلى سلم من المدنية
في مدة قليلة. ثم انتشر إصلاحه في العالم بسرعة لم تعهد. ولم يوجد فيما أتى به
شيء يقطع العقل ببطلانه إلى الآن بعد مضي ألف ومئتين من السنين. بل أخذ
الناس المرتقون يستصوبون أعماله وأقواله ويفهمون أسرارها. أتى بجميع ذلك في
عبارات خارقة للعادة في بلاغتها، ومخالفة للمعهود في أسلوبها، وطلب من البشر
أن يعارضوه في شيء مما أتى به ويستعينوا بمن شاءوا فلم يقدم على ذلك أحد ونجح،
بل أذعن جمهورهم ومن شذ افتضح، ثم هو لم ينغمس في الملاذ والشهوات
والترف كما بينا ذلك فيما مضى، بل كان أبعد الناس عنها.
فكيف لا يعثر الإنسان على غلطة مقطوع بها في قرآنه مع علمنا بحاله؟.
وكيف لم ينجح أحد في معارضته إلى الآن كما أنبأ بذلك. فلم يأت بشر بشيء
مثل جزء من كلامه لفظًا ومعنى؟
فبماذا تجيبون أيها المبطلون، وكيف تعللون ذلك أيها الواهمون؟ ولنجمع
هنا آيات القرآن الدالة على ذلك البرهان، إتمامًا للفائدة وبيانًا لكونه حجة الله
على الناس كافة.
{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} (الضحى: 6-8) ، {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً
لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48) {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ
إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} (يس: 69) {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ
تَعْقِلُونَ} (يونس: 16) {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة
: 2) {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ
وَلاَ نَذِيرٍ} (المائدة: 19) {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُم
مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 23) {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا
النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 24) .
وليلاحظ القارئ أني أوردت هذه الآيات على هذا الترتيب، لتكون كل دعوى
من البرهان السابق مؤيدة بشيء من القرآن. فأعظم به من كتاب جمع فأوعى،
وأكرم به من نعمة من الله كبرى، قشعت غياهب الظلام، وأنارت قلوب الأنام
بضياء الإسلام، فبلغ الله عنا محمدًا أزكى السلام في البداية والختام.
***
ختم المقال بذكر شيء من كتاب الله تعالى
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ *
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ
أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا
بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا
وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ
أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا
وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} (آل عمران: 190-195)
... ... ... ... ... ... ... ... (محمد توفيق صدقي)
... ... ... ... ... ... ... ... الطبيب بسجن طره
(المنار)
السبب في كتابه هذه المقالات هو أن كاتبها كان يحب البحث عن كل ما
يعرض له من الشبهات على الدين، وهو تلميذ في مدرسة الطب ولهذه الشبهات
مصدران: التعليم الجديد، ودعاة النصرانية الذين يَعْرِضُون لتلاميذ المدارس بأبلغ
مما يتصدون لغيرهم، وكان له رفيق في المدرسة اسمه عبده أفندي إبراهيم،
عرفناهما منذ سنين إذ كانا يرجعان إلينا في بعض مباحثهما ويعرضان علينا أهم
ما يشتبه عليهما كمسألة الروح والبعث وغير ذلك. وكنت أظن أنه لا يوجد في
مصر من طلاب العلوم الدينية لأجل الاقتناع والإذعان، والقدرة على الإقناع
والبيان، إلا هذان التلميذان، وأحدهما مسلم والآخر قبطي، كانا يأخذان المسألة
من مسائل الاعتقاد فيدققان فيها النظر، ويتناصفان في المناظرة إلى أن يتفقا على أن
الحق فيها كذا، فما خرجا من المدرسة إلا وقد خرج المسلم من شكوكه في
دينه، ودخل القبطي في الإسلام البرهاني الصحيح (فهو المسلم عن بصيرة تامة
وفَهم لبراهين الدين وحكمه ثبتنا الله وإياه) وهذه المقالات هي صورة اعتقادهما الذي
هداهما إليه ربهما بعد إطالة النظر والاستدلال عدة سنين وأكثر ما فيها من المسائل في
الألوهية والنبوة، وفهم القرآن مقتبس من رسالة التوحيد للأستاذ الإمام، ومن
التفسير المقتبس عنه في المنار، ومن مقالات أخرى في المنار لا تقليدًا بل اقتناعًا
بالنظر والاستدلال. وللكاتب مسائل كثيرة هداه إليها البحث والتنقيب، ومراجعة
كتب المسلمين والإفرنج لا سيما في رد شبهاتهم كما رأيت وهو يدعو من خالفه في
شيء مما كتبه إلى المناظرة بشرط أن يكون الحكم بينهما الدليل القطعي، وما هو
إلا العقل والقرآن والسنة المتواترة لأن المقام مقام تأييد الاعتقاد، وهو لا يكون
بأخبار الآحاد، ولا بتقليد الآباء والأجداد.
وكأني ببعض الشيوخ المقلدين وقد أنكروا عليه بعض المسائل التي انفرد بها
أو وافق بعض العلماء المخالفين للجمهور كمسألة ابن السبيل، ومسألة النسخ فَاللين
اللين منهم يعذره، والجامد المتعصب يغلظ عليه، وإن كان قد خرج بهذه الطريقة
من الشك إلى اليقين، وخرج صاحبه من النصرانية ودخل في الإسلام، وأن
مقاليدهم التقصر عن ذلك ولو راجعهم في شبهاتهم لما رجع إلا بالجحود والإلحاد
{وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: 33) .
__________
(1) المنار: صرح بعض المفسرين بأن السامري منسوب إلى بلد اسمها سامرة.
(2) كثرة الألفاظ التي هي في العبرية بالشين المعجمة تذكر بالعربية إذا نقلت إليها بالسين المهملة فسامرة فلسطين عبريتها شوميري واسم موسى عندهم بالمعجمة.
(3) ليس هذا خاصًّا بالعربية فالإفرنج أشد تغييرًا وتحريفًا للألفاظ المنقولة إلى لغاتهم.
(*) المنار: إن نسخ التوراة ليست متفقة على أن السفينة استوت على أراراط فإن السريانية والكلدانية منها صرحت بأنها استقرت على جبل الأكراد وهذا موافق لقول بروزس معاصر الإسكندر الأكبر أورد هذا في دائرة المعارف العربية، وقال: ووافقه أيضًا القرآن الشريف ولا تزال الروايات تشير إلى أن الجودي كان مركز الحادثة المذكورة (الطوفان) وهي تسند هذا الرأي الذي ذكره بروزس إلى وجود آثار الفلك على قمة ذلك الجبل.
(4) المنار: الضلال في اللغة أن تخطئ الطريق، وقد كان النبي قبل النبوة لا يعرف طريق الإيمان والشرع فهداه الله إليه كما قال تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (الشورى: 52) .(8/771)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
روابط الجنسية والحياة الملية
وفلسفة الاجتماع البشري
وعدنا في خاتمة المجلد السابع بأن نعود في هذا المجلد إلى نشر المقالات
الاجتماعية والفلسفية، وذكرنا هناك بعض الموضوعات التي سبقت إلى الذهن عند
كتابة تلك الخاتمة ومنها الحياة الزوجية والحياة الملية وكذا الوطنية. وقد حالت
الحوادث دون الإكثار من المقالات وسبح القلم سبحًا طويلاً في بحث الحياة الزوجية
فكان ست مقالات، ورأينا أن نقفي عليه بالكلام في الحياة الملية وكذا الوطنية بعد
تمهيد في فلسفة الاجتماع البشري بالإيجاز، فنقول:
خلق الإنسان ليعيش مجتمعًا يتعاون أفراده على الأعمال التي هي قوام حياتهم
الشخصية والنوعية وإظهار استعدادهم الإنساني في استعمار الأرض وإظهار أسرار
الكون فأعني بالاجتماع ما هو أوسع من اجتماع الزوجين الذي يشاركهم فيه سائر
أنواع الحيوان، ومن اجتماع النحل والنمل وتعاون أفرادهما على ما به حفظ حياة
نوعيهما، فالحياة الزوجية ليست خاصة بالإنسان، ولا الحياة الأهلية (العائلية)
فمن كان لا يشعر بفائدة لنفسه إلا أنه يعمل ليأكل ويطعم من يعول من أهل وولد
فحياته إن كانت أوسع من حياة الطير، فهي لا تصل إلى مرتبة بعض الذباب
والحشرات (النحل والنمل) فإن لهذين النوعين من التعاون على الأعمال المشتركة
ما تقصر عنه همة كثير من الناس، فما أحقر من يرى وجوده أضيق من وجود الذباب
والحشرات.
لا تفاوت بين أفراد نوع من أنواع المخلوقات نعلمه كالتفاوت بين أفراد البشر
يتسع وجود زيد منهم فيملأ الآفاق، ويضيق وجود عمرو حتى يضيق به قفص
جسمه، يشعر ذاك بروحه الكبيرة أنه خلق لينهض بأمة كبيرة أو ليفيد جميع الأمم،
ويَحار هذا في خدمة جسده، ويرى نفسه عاجزة عن تغذيته وتوفير لذته، فإذا
ازدوج فصارت له بيت كان همه أكبر؛ لأنه أعجز عن سياسته وأصغر، وبين
هذين الطرفين سواد عظيم لكل منهم سهم من سعة الوجود على قدر قوة الإنسانية فيه
وضعفها، فإذا كثر أصحاب السهام العظيمة في أمة من الأمم اتسع وجودها ببسط
سلطانها على الأمم التي قلت سهامها وخف بها ميزانها فينقبض وجود هذه بمقدار
اتساع وجود تلك فإما أن تعتبر فيخرج أفرادها من مضيق الحياة الشخصية الجسدية
إلى بحبوحة الحياة الاجتماعية حتى يتقلص ظل غيرهم عنهم، وإما أن يكونوا غذاء
للغالب لا بقاء لهم إلا باستبقائه إياهم لحاجته وقد ينكمش وجودهم ويتقلص حتى
يضمحل ويفنى كأن لم يكن شيئًا مذكورًا.
أين المصريون الأقدمون؟ أين الكلدانيون والآشوريون والبابليون؟ أين
الرومان والفرس الأولون، أين هنود أمريكا العريقون؟ منهم من اندغم وجوده في
وجود آخر أوسع منه وأقوى، ومنهم من انقرض وجوده فلا تحس منهم من أحد ولا
تسمع لهم ركزًا، سنة الله في التكوين والتمكين {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ
مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) الذين يتقون أسباب الفساد
والزوال، ويصلحون في الأرض بالأحكام والأعمال {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد: 11) .
قلنا: إن وجود الشخص الواحد يتسع ويضيق بمقدار معنى الإنسانية في روحه
قوة وضعفًا، وإن وجود الأمة ينبسط وينقبض بحسب كثرة أصحاب السهام العظيمة
من سعة الوجود فيها، فهذا هو معنى الحياة العزيزة في الأفراد، وفي الأمم فكمال
الشخص إنما هو في كونه يعمل للأمة التي يعتز بعزتها، ويهون بهوانها وضعتها،
وكمال الأمة إنما هو في حفظ ما به كانت أمة وبسطه يجعل وجود غيرها تابعًا
لوجودها.
ما به تكون الأمة أمة معنى يوجد في كل فرد من أفرادها يربط بعضهم ببعض
حتى يكون الجمع الكثير به واحدًا، وقد يعبر عنه بالجنسية: وهو النسب، والبيئة
أو الوطن، واللغة، والدين، والحكومة، وأنت ترى أن بعض هذه المعاني أوسع
من بعض، فأول اجتماع كان بين البشر يتعاون به أفراد كثيرون على مصلحة الجميع
هو اجتماع القبائل البدوية التي تنسب إلى أب واحد، ثم كانت دائرة الاجتماع تتسع
في البشر فتكبر الهمم وتعلو النفوس لشعورها بسعة وجودها وما هي مطالبة به من
العمل لحفظ كون كبير واسع. وكلما اتسعت دائرة الاجتماع تتسع منها فائدة البشر
فبعد أن كان امتياز القبائل والشعوب لأجل التناكر والتغابن، صار باتساع ذلك
المعنى لأجل التعارف والتعاون، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات: 13) .
إذا كانت الجنسية في الأمة هي النسب كانت بسطتها في الوجود بطيئة. كذلك
الوطن إذا كان بلادًا محدودة كمصر أو الشام أو العراق. وليس نشر اللغة وجعلها
جنسية بالأمر السهل ومثلها الدين إذا كان خاصًّا كاليهودية. وأما الحكومة فهي أوسع
من جميع ما ذكر وبها تكونت الأمم الكبرى كإمبراطورية الإسكندر والإمبراطورية
الرومانية في الزمن الماضي وكالسلطة العثمانية والحكومات الاستعمارية في هذا
الزمان. ولكن الجنسية في الحكومة لا تعد جنسية حقيقية إلا إذا كانت الشريعة أو
القوانين التي يحكم بها الرعايا المختلفون في النسب والوطن واللغة والدين مبنية
على قواعد العدل والمساواة بينهم، وكان القائمون بها من لفيفهم لا من طائفة معينة
منهم. على أن هذا الشرط الأخير إنما تشترطه الطوائف والشعوب الراقية في
معارج الاجتماع دون سواها وأن من الشعوب ما يغلب فيها الشعور بأنها خلقت
لتكون محكومة من الغرباء وأن جنسها لا يصلح للأحكام.
يكون اتساع محيط الجنسية نافعًا للبشر ما قصد بها تكثير سواد أهلها ومشاركة
كل من يدخل فيهم لهم في جملة مزاياهم. ومتى قصد الشعب الاستئثار بالمنافع دون
من يمتد وجودهم إليهم وينبسط نفوذه فيهم كان آفة على سائر الشعوب لا يعدل فيهم
ولا يمكنهم من الارتقاء في معارج الكمال الإنساني، فسنة الله في كمال الشعوب
والأمم ونقصها كسنته في الأفراد، نقص كل منهما بالأثرة والغلو في حب الذات حتى
لا يتحرك حركة إلا لمنفعة ذاته وكمال كل منهما بالقصد إلى نفع غيره وإيصال الخير
إليه وجعل المنفعة الذاتية تابعة للمنفعة العامة.
فالنتيجة لما تقدم من القواعد أن أكمل الجنسيات وأنفعها للبشر ما كانت أعم
وأشمل للطوائف والجمعيات المختلفة في النسب والوطن واللغة والدين والحكومة بأن
يقصد بها الخير للجميع والمساواة بينهم في الحقوق وتمكينهم من الرقي إلى ما
أعدتهم له الفطرة البشرية من الكمال الاجتماعي وإنها لجنسية يتحسر عليها نوابغ
الحكماء وهي موجودة في الملة الإسلامية، وإن كان المسلمون من أبعد الناس عنها
فهذه الملة هي التي عرفها كتابها العزيز بقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ
الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) .
الملة الإسلامية تساوي بين المختلفين في الأنساب والأوطان والأديان وتسمح
لمن يدخل في حكمها وهو على دينه أن ينشئ في بلادها محاكم لأهل ملته وأبناء
جلدته فلا تلزمه بأحكامها إلزامًا، فإن هو اختار حكمها بنفسه ساوت بينه وبين أقرب
الناس من بنيها وأعلى أفرادها مكانة فيها. فهي تدعو جميع البشر إلى التعارف
والتآلف في ظل حمايتها وإنه لظل ظليل يباح للمستظل به كل شيء إلا محاولة
إزالته أو إزالة فائدته للناس وهي دفع الشر والأذى عنهم وتقريب الخير منهم مع
حفظ حريتهم في أديانهم وأعمالهم التي لا تضر سواهم. هذا ما تبذله لكل من قبل
حمايتها، واستظل برايتها، ثم إنها تختص من قبل هدايتها في الدين بأخوة روحية،
أخص من هذه الأخوة الإنسانية، لأنه يشارك أهلها فيما يؤهلهم لسعادة الحياة
الأخرى، فهو أقرب إليهم بالروح ممن لا يشاركهم إلا في سعاة الحياة الدنيا.
هذه الجنسية هي نهاية ما يمكن وضعه لسعادة البشر كلهم في هذه الحياة ولكن
الناس لمّا يستعدوا لها تمام الاستعداد؛ لذلك لم يرعوها حق رعايتها ونعتقد أن
سيعودون إليها في يوم من الأيام. نقول: يعودون إليها عودًا، دون يقصدون إليها
قصدًا؛ لأنها قد وجدت في الجملة مدة قليلة على عهد الخلفاء الراشدين فرقص لها
العالم الإنساني وأقبلت عليها شعوبه أيما إقبال ثم طفق نورها يخبو بما أفسد فيها
الأمويون ومن بعدهم ولكنه كان على ضعفه أفضل عند جميع الأمم من كل ما عداه
لذلك كان يخرجهم باختيارهم من جنسياتهم إخراجًا، فيدينون لها شعوبًا ويدخلون فيها
أفواجًا.
كانت حكومة الخلفاء الراشدين حكومة عسكرية؛ لأن الدعوة لم تكن أمنت،
والسلطة لم تكن استقرت، وكانت على ذلك حكومة عادلة رحيمة فضلها كل من ذاق
حلاوتها على ما عهد من قومه. وكانت حكومة الأمويين في الشرق والغرب
وحكومة العباسيين في الشرق إسلامية في أكثر الفروع دون الأصول، وأعني
بالأصول قواعد الحكومة الأساسية كانتخاب الحاكم العام وإلزام الأمة له بالشورى
واتباع الشريعة وكانت على ذلك أفضل من جميع الحكومات التي عرفها الناس قبل
الراشدين. لو وجدت الحكومة الإسلامية على حقيقتها في دولة آمنة مطمئنة
لاختارها كل من عرفها من الراقين، حتى تكون ملاذ البشر أجمعين.
سيقول الجاهلون بحقيقة الإسلام إن هذا من غلو المسلم المذعن ويأتون على
ذلك ببعض الأعمال والتقاليد التي انتقدت على المسلمين وإنني لعلى علم بشبهاتهم
لكثرة ما بلوت من أمثالهم وما كشف تلك الشبهات عليّ بعسير ولكن القول قلما يقنع
الجاهل لا سيما إذا كان متعصبًا لرأيه، غير محيط بتفصيل ما عند خصمه.
لست أعجب ممن نشأ في دين يعادي الإسلام إذا هو أنكر مزايا الإسلام
الظاهرة، وأصوله الواضحة؛ بله المزايا التي فقدت من المسلمين، فلا أثر لها إلا
في ثنايا آيات الكتاب المبين، إنما عجبي ممن نشأ في المسلمين وهو منهم ثم يجهل
مكان الجنسية الإسلامية الواسعة العامة لجميع الشعوب والطوائف الشاملة لجميع
الخيرات والعوارف، فيدعو إلى جنسية الوطن كبعض أحداث المصريين أو جنسية
اللغة والنسب كبعض جهلة الترك. فمثل هؤلاء كمثل من يهدم مصرًا ويبني قصرًا،
بل هم أضيق وجودًا وأضعف فكرًا.
يعذر في مثل هذه الدعوة القبطي في مصر والأرمني في بلاد الترك
والإسرائيلي في فلسطين لأن السلطة في أيدي غيرهم فلهم الحق في أن يطلبوا
مساواتهم بسائر أبناء بلادهم. على أن وجود هذه الطوائف القليلة العدد أوسع من
وجود دعاة الوطنية والجنسية فإنهم يطمعون في الاستقلال ببلاد أكثرها لغيرهم فهم
يطلبون سعة وامتدادًا، ودعاة الوطنية والجنسية منا يبغون ضيقًا وتقلصًا.
لولا جنسية النسب لما تمزقت السلطة الإسلامية في ريعان شبابها فكانت
عباسية في الشرق أموية في الغرب فاطمية في الوسط والشريعة واحدة والملة واحدة
ولما كان بين ذلك من ملوك الطوائف ما كان. لولا جنسية اللغة والوطن لما تفرق
المسلمون بعد ذلك إلى دول وممالك كالتركية والفارسية والأفغانية وما كان قبلها في
الهند من السلطة التيمورية وغيرها في المشرق وكالعربية في شمال أفريقية الغربي
وغير ذلك مما كان في قلب هذه القارة الإسلامية التي استولت عليها أوروبا إلا قليلاً
ولو عقل المسلمون معنى الحياة الملية لكانوا في هذه الممالك كلها أحسن نظامًا
ووحدة من الإمبراطورية الإنكليزية.
إن الحياة الوطنية الصحيحة هي جزء من الحياة الملية الإسلامية، فإذا حيي
المسلمون في قطر ما حياة إسلامية فبشر جميع دعاة الوطنية الصحيحة من أهل
الملل التي تعيش معهم بجميع ما يطلبون من عدل وحرية ومساواة وتعاون على درء
المضار وجلب المنافع وكل ما به تعمر البلاد وتزيد خيراتها، وبشر المسلمين منهم
بأن سيكونون مركز الجاذبية العامة لجميع الشعوب المسلمة في الأرض ثم مشرق
المدينة الفضلى لجميع العالمين.
يالله العجب؛ ثلاث مئة مليون أي ثلاث مئة ألف ألف من المسلمين قد اكتظ
بهم قلب الأرض من مراكش إلى الصين ولا تجد لهم قوة ولا سلطة عزيزة لا يعبث
باستقلالها عابث، ولا يلمس شرفها لامس، أرأيت لو كان لهم حياة ملية، تشعرهم
بحقيقة الأخوة الإسلامية، أما كان يعتز بعضهم ببعض ويمد بعضهم بعضًا ولو إمدادًا
معنويًّا؟ أكان يسهل على الناقم من شعب من شعوبهم أن ينتقم منه بغيًا وعدوانًا وهو
يعلم أن قلب الأرض يخفق للعدوان عليه خفقانًا لا يستهان به؟
ما هو المرض الذي أضعف في المسلمين هذه الحياة الملية العليا؟ هو عصبية
الجنس، واللغة، والوطن، وهي العصبيات التي حاول الإسلام القضاء عليها فلما
غير الملوك شكل حكومته إلى ضدها تمكنوا من محاربته بجنسياتهم فما أفسد علينا
ديننا ودنيانا إلا الملوك المستبدون وأعوانهم من علماء السوء وتلك سنة قد خلت في
كل أمة قال فيها الشاعر:
وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها
هل من سبيل إلى إضعاف هذه النزعة الجنسية الخبيثة وإماطة هذه النزعة
الوطنية الحمقاء من طريق الحياة الملية الإسلامية وإشعار المسلمين في جميع
الأقطار بحقيقة الرابطة التي تضم بعضهم إلى بعض إشعارًا يملك الوجدان وتصدر
عنه الأعمال التي توثق هذه الرابطة وتؤكد ما فيها من حقيقة الأخوة مع بقاء كل قوم
منهم في بلادهم وتعاونهم مع سائر أهلها على عمارتها بالعدل والإحسان والتوادّ
والإخلاص؟ السبيل واضحة وهي حبل الله المتين وسراجه المنير ولكن السياسة
والجهل عقبتان كؤدان من دونها يصدان السالك عن المضي فيها ولا يذلل العقبات إلا
هم الرجال، فأين الرجال؟
السياسة المانعة من حياة المسلمين الملية نوعان: سياسة أجنبية، وسياسة
مسلمية، وإن أهل البصيرة من المسلمين لعلى خلاف في أيتهما أشد وطأة فالذين
يحكمهم الأجانب يعتقدون أن حكامهم أعداء دينهم فهم وحدهم العقبة في طريق رقيهم
في هذه الحياة. والذين يحكمهم المسلمون يعلمون أن حكامهم بجهلهم وبما تيمهم
وتبلهم من عشق الاستبداد والسلطة المطلقة التي لا تكون إلا لله هم العقبة الكبرى في
طريق الحياة الملية بالاعتصام بحبل الله المتين، والاهتداء بكتابه المبين، والجمع
بذلك بين مصالح الدنيا والدين.
ومن عرف الحكومتين، وعجم عودي السياستين، فهو أعلم بالحق، وأجدر
ببيان الفرق.
الأجانب الحاكمون في بلاد المسلمين منهم القاسي الحائف كهولندا وفرنسا
ومنهم اللين المتساهل كإنكلترا ولم يبلغ أشدها جورًا ومنعًا للمسلمين من التعليم
والتربية أن يحجب عنهم من كتب العلم والتربية ما تحرمه عليهم بعض الحكومات
الإسلامية أو المسلمية، ولكن محبي الإصلاح من المسلمين يرجون أن يغلبوا
حكوماتهم ويلزموها بالعدل والمساواة وترقية العلوم والعقول وحرية الاجتماع للخير،
ويرون الأجانب عقبة في طريقهم، فإن إكراه الحكام على ترك الاستبداد لا تتمكن منه
الأمة المستعدة له إلا بثورة داخلية، والمسلمون يعتقدون أن الأجانب يتربصون بهم
الدوائر، فإذا هم ثاروا على حكومة من حكوماتهم المستبدة اغتنم الأجانب هذه الفرصة
فأوقعوا بالدولة وقضوا عليها، فالأجانب عقبة في طريق المسلمين أينما ساروا
وتوجهوا لا فرق بين بلادهم المستقلة وبلادهم المستعمرة. وهذا هو السبب في مقت
عامة المسلمين لكل من يتكلم في عيوب الدولة العثمانية ولو كان صادقًا قاصدًا
للإصلاح، فإنهم في الغالب يعتقدون أن إظهار عيوبها عون للأجانب عليها وقد
يكونون مخطئين في اعتقادهم هذا وأنى لنا بالرجال العارفين الذين يكشفون للعامة
عن وجه الصواب فيعرفونه معرفة إذعان؟
المرشدون الرسميون فينا جاهلون بشؤوننا وسياستنا وعون للحكام كيفما كانوا
لأن لهم سهمًا من سلطتهم وأصحاب الجرائد منا لا هم لأكثرهم إلا الازدلاف إلى
الحكام، والحظوة عند العوام، على أنهم لا حرية لهم في بلادنا المستقلة تمام
الاستقلال، ولو كانت هناك حرية لوجد من يفيد لا سيما في البلاد العثمانية فإن البلاد
لم تخل من العقلاء المخلصين.
هذا شأن السياسة في صد محبي الإصلاح الحقيقي عن السعي إليه في طريقه
وأما الجهل فلا حاجة إلى بيان وجهه القبيح فإن ضرره مما لا ينكره أحد في جملته
ولا يتسع هذا المقال لتفصيله.
لا نيأس من روح الله، ولا نقنط من رحمته فإن حوادث الزمان تعمل لنا ما لا
نعمل لأنفسنا، ورب عدوان علينا لأجل إماتتنا، يكون سببًا من أسباب حياتنا،
بينا في الجزء الماضي أن الحرب الروسية العثمانية قد أحدثت في المسلمين هزة
حيوية، كما قال حكيمنا رحمه الله، وقد رأينا أثر هذه الهزة في هذا الشهر عندما علم
المسلمون بتهديد أوربا للدولة العلية واحتلال أسطولها المختلطة لجزيرة (مدللي)
لحمل الدولة على تمكينهم من إدارة الولايات المكدونية حتى أن بعض فضلاء
المسلمين في الهند (هو القاضي أمير علي الشهير) كتب إلى التيمس أشهر الجرائد
الإنكليزية يبين سوء تأثير عمل أوربا في نفوس المسلمين كافة وينذر بسوء العاقبة،
على أن الشدائد والبلايا إنما تكون محببة إذا عرفت الأمة كيف تستفيد منها فلندع
لها أثرها وفعلها الطبيعي ولنبحث فيما يجب علينا أن نعمله لحياتنا الملية، وكيف
نجتنب مكافحة السياسة ومنازعة الجهل وهو ما نبينه في مقال آخر.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(8/784)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(الدعوة إلى الإسلام)
الدعوة حياة الأديان والمذاهب والجمعيات وغيرها من الأمور العامة التي يراد
تكثير سواد أهلها فبالدعوة ينتشر الباطل ويظهر، وبترك الدعوى ينطوي الحق
ويخفى، وأشد أهل الأديان عناية بالدعوة إلى دينهم النصارى فما من مذهب من
مذاهبهم المشهورة إلا وله دعاة في جميع الأقطار تنفق عليها الجمعيات الدينية مما
تجمعه من أغنيائها، ودول أوربا تحميهم أينما كانوا، ويتبعهم سلطانها أينما تمكنوا
ولم أر كالمسلمين إهمالاً للدعوة. ولولا أن الإسلام هو دين الفطرة الموافق للمصالح
المطابق للعقول لارتدَّ عنه في هذا الزمان أكثر المنتسبين إليه من العوام الجاهلين
الذين لا يسمعون كلمة هداية، ولا يجدون في كثير من الأقطار عزة حماية، ولو أن
المسلمين يعنون بالدعوة إليه لدخل الناس فيه كل يوم أفواجًا كما كان في أول نشأته،
أيام نشر دعوته، ومن أعجب أمر هذا الدين المتين أنه ينمو بنفسه، ويجذب الناس
إليه بطبعه، (هذا وما كيف لو) .
وإنه ليسرنا أن نرى نفوس المسلمين الذين أيقظتهم حوادث الزمان قد توجهت
إلى إحياء الدعوة الإسلامية وكثر الحديث فيه بينهم، حيث يجدون حرية في دينهم،
كبلاد مصر وبلاد الهند. أما هذه البلاد فقد كان الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى -
عازمًا على إعداد فرقة من طلاب الأزهر للدعوة يتعلمون ما ينبغي لها في هذا
العصر من العلوم والفنون التي يتمكنون بها من إقناع أصناف المدعوين، وكشف
شبهات المنكرين، ولكن ما أحدثه أعداء الإصلاح من الشغب والمقاومة حالت دون
ما كان يريد، ولعل مريده الشيخ شاكر يوفق إلى ذلك في الإسكندرية إذا استقام على ما
عهد به إليه، وإن كان يعوزه ما كان المرحوم أقدر عليه، وأما مسلمو الهند فقد
انتقل الأمر فيهم من طور الفكر أو التمني إلى طور العمل والدعوة، وهاك ما جاء في
العدد الأخير من جريدة الرياض الهندية التي تصدر بالعربية والأوربية المؤرخ في
25 رمضان الماضي قال:
***
(دعوة الإسلام في السند)
مضت بضعة أشهر على إعلان الجرائد الآريوية (فرقة حديثة من هنود
الوثنيين) أنه دخل في دين الوثنية عائلة إسلامية تحتوي 56 نسمة تسكن بلدة
لركانة (بُليدة في السند) وأظهروا عليه فرحًا شديدًا وحسبوا أن هذا هو الخسران
المبين للإسلام والمسلمين، والفوز العظيم لهم، وشاع هذا الخبر أسرع من البرق
في جميع أقطار الهند، وأثر تأثيرًا سيئًا في المسلمين وحزنوا حزنًا شديدًا فمنهم من
يكذب هذا الخبر، ومنهم من يتعجب منه غاية العجب، ويقول: من ذا الذي يعبد
الله الواحد الأحد الصمد القدير الذي خلق الأرض والسماء ثم يتبع من اتخذ إلهه هواه؟
وكيف يعبد أصنامًا حجرية لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له؟ إن هذا لشيء عجاب؟
ومنهم من يشدد النكير على علمائنا الكرام بأنهم لا يسعون في تسكين قلوب
ضعفاء العقول من المسلمين، ولا ينفعون بنصائحهم جميع الأنام بل يقصرون
مواعظهم ونصائحهم على الذين يتبعونهم ويحسنون الظن بهم ولا يقدمون على
إظهار الشك في أقوالهم ويحبون أن لا يسمعوا غير (سمعنا وأطعنا) قولاً آخر - بل
ينبزون الذي يعترض عليهم بالألقاب وبئس الخطاب.
فمن الذين أنكروا هذا الخبر وكذبوه أصحاب الجرائد وأعضاء اللجنات
الإسلامية؛ فأصحاب الجرائد التمسوا في جرائدهم من المسلمين الذين يسكنون في
لركانة وحواليها أن يكاتبوهم أحوالهم.
وأعضاء اللجنات عزموا إلى إرسال الواعظين إلى لركانة ليصدقوا هذا الخبر
ويعظوا المسلمين المترددين الذين يشكون في الإسلام؛ فوصل المولوي محمد
إبراهيم ومولوي نبيي بخش مندوبين من بعض اللجنات إلى لركانة وكتبًا، وكتب
بعض المسلمين منها أنه كانت في لركانة عائلة صغيرة من الهنود وكانوا وأباؤهم
وأجدادهم هنديين يعبدون الأوثان ويحرقون أمواتهم ويعتقدون بالعقائد التي يعتقدها
سائر الهنود الوثنيين إلا أن جدهم بدلداس صار موظفًا في ديوان السادات أمراء
لركانة واختار مراسم المسلمين كما يختار أكثر الهنود مراسم العزاء بسيدنا الإمام
الحسين بن علي - رضي الله عنه - ويبنون في المحرم تماثيل مقابرهم ويلبسون
الثياب الخضراء، ويجمعون الاشتراكات لهذه التماثيل، ويقولون إنهم فقراء الإمام
وينذرون لها نذورًا كما يفعل المسلمون الجاهلون في شهر المحرم ومن الهنود من
لقب بالألقاب الإسلامية كمرزا ثفته وغير ذلك، فهكذا هذه العائلة قد اختارت رسوم
جهال المسلمين استرضاء لمواليهم المسلمين واشتهروا بالشيوخ واستمروا عليه حينًا
من الدهر إلا أنهم لم يؤمنوا ولم يدخلوا في حوزة الإسلام قط، وكانوا يعبدون
الأوثان ويحرقون أمواتهم ويرسلون نبذًا من الشعور على رؤوسهم ويستعملون
الزنانير ويسمون أبناءهم وبناتهم بأسماء المشركين ويتبعون أهل الشرك في عقائدهم
وتفردوا لهذا أو بسبب آخر من أقوامهم فسعت الآرية في انضمامهم إلى فئتهم ففازوا
بذلك وأظهروا في جرائدهم أنهم كانوا من المسلمين.
أما العالمان العاملان المذكوران فصمما عزمهما على دعوة الإسلام وتبليغه إلى
الذين لا يعرفون محاسن الإسلام وإحياء سنة من سنن الرسول - صلى الله عليه
وسلم - التي تركها العلماء منذ قرون عديدة فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان
يذهب تارة إلى عكاظ، وتارة إلى الطائف وتارة يضع مأدبة لقريش ويبلغهم آيات
الله ويحثهم على طاعة الله ويهديهم إلى سواء السبيل ويعظهم في المجامع العامة التي
تشتمل على طوائف الناس من المؤمنين والمشركين.
وعلماء هذا الزمان ما رعوا هذه السنة حق رعايتها بل حصروا مواعظهم
ونصائحهم في المساجد حيث لا يحضر إلا من يصلي ولا يصل وعظهم إلى
المسلمين الذين غرقوا في بحار المناهي والمناكر ولا يصل نداء وعظهم إلى من لا
يؤمن بالله واليوم الآخر إلا أن هذين العالمين قد أحييا هذه السنة وعملا عليها عملاً
حسنًا فعمما مواعظهما وجددا عزمهما إلى هداية الذين لا يدينون دين الحق وشرعًا
في الذهاب إلى القرى والبلاد وأنتجت مساعيهما نتائج حسنة فاعتنق الدين الإسلامي
في أسبوع واحد أربع مائة من الرجال والنساء والصبيان، وما زال عدد التاركين
الوثنية الداخلين في الإسلام يزداد يومًا في هذه الأقطاع إلى أن بلغ عدد من أسلم
857 نسمة، والعالمان المتورعان يجتهدان في دعوة الإسلام وكل يوم ننتظر أن تصل
إلينا بشارة جديدة يفرح بها المسلمون فرحًا.
يا معشر المسلمين أفلا تنظرون بعين البصيرة إلى أعمال علمائكم كيف نجحت
مساعيهم في برهة من الزمان؟ فما هذا إلا نتيجة إحيائهم سنة من سنن الرسول -
صلى الله عليه وسلم - فإن اختار علماؤنا الكرام هذه الخطة التي عمل بها رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - مدة عمره الشريف، رأيت الناس يدخلون في دين الله
أفواجًا.
فعليكم أيها المؤمنون أن تحسبوها تجربة حسنة وتبنوا عليها بناء جيدًا فإن
ارتقاء القوم لما كان يتوقف على تعليم العلوم والصنائع والتجارة وكثرة العدد والعدد
عقدتم لتعليم العلوم والصنائع جمعيات عديدة، فالأجدر أن تقيموا لدعوة الإسلام
جمعية أيضًا يشترك فيها المسلمون كلهم واجتهدوا في نشر الإسلام حق الاجتهاد،
وانظروا إلى معاصريكم من المسيحيين كيف يجتهدون في إشاعة المسيحية وكيف
يصرفون عليها قناطير الذهب والفضة كل سنة كما يظهر من رسالة مكاتبنا
المكرم التي أدرجناها.
وانظروا إلى إخوانكم الآرية كيف يجتهد كل واحد منهم في إشاعة مذهبهم
لتكثير حزبهم مع أن معتقداتهم مخالفة للعقل السليم ولا تقاوم الأدلة الفلسفية كتعدد
الآلهة ومسألة التناسخ وعبادة آلات التناسل وغير ذلك من العقائد الباطلة والشائنة
ولكنهم يجتهدون في تكثير أفراد هذه المذاهب ويفوزون فوزًا تامًّا حتى إنه لم يبق
قرية أو بلدة من الهند إلا وجد فيه عدد من هذه الفرقة الحديثة التي بدت منذ خمس
وعشرين سنة.
أما دينكم فمطابق لفطرة الله التي فطر الناس عليها وأصوله موافقة للعقل
والحكمة والفلسفة فوجهوا وجهتكم إلى هذا الأمر الجليل والتفتوا إليه أجلّ التفات
واعقدوا له جمعية جديدة أو حثوا إحدى الجمعيات الموجودة عليه لتعمل فيه بالنظام
المتين والتدبير المستقيم المستقل وتديم الجهد عليه، فالفوز والنجاح بين أيديكم لا ريب
فيهما.
إن العالمين المذكورين قد قرعا هذا الباب وفتحاه لكم وقدما نتائج مساعيهما
الحسنة إليكم ليكون لكم درسًا مفيدًا؛ فعليكم أن تنصروهما وتدبروا تدابير حسنة
لاستمرار الأعمال التي شرعوا فيها.
يا معشر المسلمين انتبهوا من هذه الغفلة وجددوا عزائمكم وقووا قلوبكم
وصمموا نياتكم وقوموا لإحياء قومكم وإشاعة دينكم وتكثير حزبكم لتكونوا من
المسلمين الصادقين الذين يفاخر بكم نبيكم الأمم لكثرة عددكم وقوة عددكم وجهادكم
بأموالكم وأنفسكم وأقلامكم وأقدامكم واسعوا بالإخلاص في إعلاء كلمة الله ونشر
شعائر الله وإفشاء أحكام الله واتفقوا واجتمعوا ولا تفرقوا فإن يد الله مع الجماعة. اهـ بنصه مع تصحيح بعض الكلمات.
***
(الدعوة إلى الإسلام في اليابان)
كانت الجرائد رددت صدى ما نشر في مجلة (شوكيما) اليابانية عن تصدي
حسان المسلم الصيني لدعوة قومها إلى الإسلام بتأليف كتاب نشره في تلك البلاد، ثم
نقل بعضًا عن الجزء الصادر من تلك المجلة في أول سبتمبر الماضي شيئًا عن
بحث لجنة الأديان اليابانية في ذلك الكتاب وملخصه أن رئيسها كلف المستر كوريما
دراسة قسم العبادات من الكتاب والمستر جورافوش دراسة قسم المعاملات والمستر
ايوا داوا دراسة قسم العقوبات مع اشتراك الجميع في المسائل العويصة من كل قسم.
وكتب إلى المستر حسان يدعوه إلى اليابان لمذكراته في مسائل كتابه فلبى وتلقته
اللجنة بالحفاوة والإكرام وكان يحضر اجتماعهم. ولما دارت المناقشة في كلمة (لا
إله إلا الله) قاعدة التوحيد أورد المستر كوريما كل ما في خياله من الأدلة النظرية
لإثبات تعدد الآلهة ولكن رفيقيه مالا إلى رأي المستر حسان. ومن رأي اللجنة أن
تنشر كل ما تراه صحيحًا من المسائل الإسلامية بعد الاتفاق عليه في الجرائد في
صحف خاصة توزع على العامة. وإننا نخشى أن يعجز أخونا حسان عن إقناع
القوم ببعض المسائل لتمسكه فيها بمذهب معين فإن الذي نعرفه عن مسلمي الصين
أنهم قلما يعرفون من الإسلام غير مذهب الحنفية. ونود أن يستحضر لنا بعض أهل
الغيرة هذه المجلة وما عساه يطبع في المناظرة ويترجمه ليتسنى لنا مشاركتهم في
بحثهم نحن ومن يهمه ذلك من العلماء ونكتب إليهم ما نراه مقنعًا لهم إن شاء الله
تعالى.
***
(مسألة مكدونية وتأثيرها في المسلمين)
اتفقت النمسا وروسيا وإنكلترا وفرنسا وإيطاليا على إرسال أسطول مؤلف
من سفنهن لتهديد الدولة العلية وإلزام السلطان بإجابة ما يطلبن من المراقبة المالية
الأوربية في تلك الولايات، وقد احتل الأسطول المتحد جزيرة مدللي وأصر السلطان
على رفض طلبهن كما قلنا في الجزء الماضي.
وكان من بعض أجوبته لسفرائهن أنه لا يقدر على احتمال سخط المسلمين في
هذه الحادثة أو ما هذا معناه ففسرت شركة روتر في برقياتها هذه الكلمة بأن السلطان
يهدد أوربا أو النصارى بالحرب الدينية وقيام المسلمين عامة على النصارى وأن
السفراء فهموا هذا منه وأن سفير الإنكليز قال: إنه هو المسئول عن كل ما ينجم من
الاعتداء على رعية دولته. والسلطان لم يقصد شيئًا مما زعموا وإنما أراد أن يبين
لهم عذره في رفض طلب الدول وهو أن المسلمين يسخطون عليه ويقولون: إنه هو
الذي أضاع بلاد الدولة.
قال روتر كلمته وطيرها بالبرق إلى مصر وغيرها فأحدثت في النفوس
اضطرابًا عظيمًا فكثر حديث الناس في المسألة حتى النساء، وانتشر الخبر في
العامة انتشارًا عظيمًا، وتوقع الأجانب حدوث فتنة عظيمة إذا تمادى الخلاف بين
الدول المتحدة وتركيا المنفردة، وأنشأت الجرائد تبين ضرر العدوان وفوائد الصفاء
والاتفاق. ولكن لم يطل ولله الحمد أمد الاضطراب والإشفاق على الدولة من عدوان
أوربا بعد تعديل وتحوير فيها فسكنت النفوس مرة واحدة واطمأنت القلوب وسكتت
الجرائد عن الخوض في المسألة ووعظ الناس بوجوب السكينة لولا ما حدث في
الإسكندرية.
حدث في الإسكندرية أن بعض رعاع اليونانيين أطلق الرصاص على آخر
فأصاب رجلًا مسلمًا فانتصر للمسلم بعض العامة ولليوناني من حضر من قومه
فانتشرت الفتنة وظن بعض الغوغاء من أحداث المسلمين أن ما يتحدث به الناس من
الحرب الدينية قد وقع فتألبوا وكثر جمعهم وصاروا يصيحون في الشوارع: الحرب
الدينية، ويضربون من يلقون من اليونانيين وغيرهم فجرح خلق كثير وعجز رجال
الشحنة عن فل الجموع وحفظ الأمن فأمر محافظ الإسكندرية بأن يجاء بمطافئ
الحريق فيرش منها الماء في المحشر ففرق الماء تلك الجموع من حيث لم يضر أحدًا
منهم ونعم الرأي رأي المحافظ.
وقد اتفقت الجرائد العربية والإفرنجية على أن الذنب في الحادثة لشرار
اليونان لا للمصريين وروى بعضها أن قنصل اليونان نفى طائفة منهم بالاتفاق مع
الحكومة. وقد قبض على جماعة من المشاغبين لأجل محاكمتهم ويقال إن الحكومة
ستعاملهم بالقسوة وتعاقبهم أشد العقاب عبرة لهم ولأمثالهم.
وروت الجرائد أيضًا أن محافظ الإسكندرية أمر الخطباء والوعاظ بأن ينصحوا
للناس بموادة النصارى وغيرهم من المخالفين لهم في الدين ليعلم الجاهلون أن الدين
يأمر بالعدل والإحسان لا بالظلم والعدوان. وقد روت البرقيات والجرائد الأوربية أن
السلطان أمر خطباء الآستانة ووعاظها بمثل هذا. وينكر بعض الناس مثل هذا
محتجًّا بأن أهل الأستانة لم يعرفوا من الخلاف بين الدولة العلية والدول ما يعرف
الأوروبيون والمصريون وأن مثل هذا الوعظ قد يضر ولا ينفع لأنه ينبه النفوس
إلى ما كانت غافلة عنه، ولا تعنينا هذه الآراء وما كان للمنار أن يذكر الحوادث إلا
لبيان العبرة فيها.
العبرة في هذه الحادثة من وجوه (أحدها) أن لعامة المسلمين غيرة على دينهم
وعلى سلطتهم وحظًّا ما من الشعور بالحياة الملية العامة ولكن ليس لهم زعماء
يخدمون هذا الاستعداد، ويستخدمونه بما ينفع الأمة والبلاد. (ثانيها) أن هؤلاء
العوام لجهلهم بدينهم عرضة لمخالفته بقصد الاهتداء بهدايته حتى يسهل دفعهم إلى
الفتن وإيقاعهم في مزالق المحن، ولا علاج لهذا الجهل إلا التعليم الديني النافع
والتربية الإسلامية القويمة، وإذا كانت الحكومة تظن أن القسوة في عقاب المذنبين
في حادثة الإسكندرية تكون تربية لسائر العوام ورادعًا لهم عن الوقوع في مثل ما
وقع فيه المعاقبون فظنها هذا إثم، فإن العوام لا يندفعون بالفكر والقياس، بل بالوجدان
والإحساس، فإذا حدث في وقت آخر ما يحرك إحساسهم للشر، فإنهم لا يتذكرون ما
سبق للمذنبين من العقوبة والضر، فعلى الحكومة المصرية أن تعنى بتعميم التعليم
الديني ما استطاعت.
(ثالثها) أن شرار الأجانب باعتدائهم على الوطنيين واعتزازهم
بحماية حكوماتهم لهم من العدل يحفظون القلوب عليهم ويملئونها حقدًا وضغنًا فإذا
جاءت أحداث الزمان بالفرصة للتشفي والانتقام، ومقابلة العدوان بالعدوان، كان من
ظلم الحكومة أن تنكل برعيتها إذا قدرت، ومن البلية عليها وعلى البلاد أن عجزت.
(رابعها) أن بعض الأجانب ينبزون هذه الحركة بلقب التعصب الديني الذي
هو عندهم من الألقاب الممقوتة ولو أنصفوا لعرفوا أن كل حركة ضدهم فهم سببها سواء كانت دينية أو دنيوية. (خامسها) أن جميع الأجانب يقتنون السلاح
ويتعلمون استعماله ويقل في الوطنيين من يقتنيه أو يحسن استعماله والحكومة
المصرية تشدد على رعيتها في اتخاذه، وذلك مما يحفظ قلوبهم على الأجانب إذ
يعتقدون أنهم يستعدون للإيقاع بهم ومن مصلحتها أن تقرب القلوب بعضها من
بعض بالمساواة وهذا يتوقف على رضاء دول أوربا فلعلهن يفكرن في ذلك.
وعلى ذكر السلاح نقول أن الحكومة العثمانية في سوريا قد أتقنت التشديد على
العلم ومنع الكتب والجرائد خوفًا من حركة الفكر ولكنها لم تتقن منع السلاح فلا يكاد
يوجد أحد في بيروت ولا لبنان لا يتخذ بنادق مرتيني وغيرها من المُدى والمسدسات
ويكثر السلاح أيضًا في سائر البلاد وسيعم، فنسأل الله أن يقيها الفتن ما ظهر منها
وما بطن.
***
(أنباء الأزهر)
الشيخ أحمد الرفاعي
هذا الشيخ هو أول من تجرأ على الجهر بمعارضة الإصلاح في الأزهر باسم الانتصار للدين ودعا الشيوخ إلى ذلك فأجاب دعوته كثيرون لا الأكثرون.
وقد كان من عاقبة أمره ما عرفه الناس هنا وخاضت فيه الجرائد، وهذا ما نشرته جريدة اللواء في (ع 877) الصادر في 18 رمضان الماضي:
(من المسائل التي يجب علينا نحن معشر الوطنيين النظر فيها وتلافيها قبل
أن ينبهنا إليها الغير تلك الحالة المكدرة التي وقعت من الشيخ أحمد الرفاعي شيخ
المقارئ. ومعلوم أن هذا الشيخ نال الحظوة السامية لدى الجناب العالي الخديوي
عدة سنوات. وكم من مرة طاف على العلماء بالعرائض لطلب عزل شيخ الجامع
والمفتي وكان الكثيرون يتبعونه، وكان يقرأ التفسير في القبة أثناء شهر رمضان.
وقد بلغ من تقربه أن سمو الأمير رشحه لمشيخة الأزهر عقب إحالة فضيلة الأستاذ
العلامة الشيخ سليم البشري على المعاش) .
(أما الذي علمناه وعلمه الكثيرون فهو أن الشيخ المذكور لما تعين شيخًا
للمقارئ أقيم ناظرًا على وقف مشروط النظر فيه لمن يكون في وظيفته فكان من
تصرفه المخالف للشرع الشريف أنه أجر لحضرة سمعان بك صيدناوي التاجر
الشهير في الموسكي قطعة أرض لمدة ستين عامًا بأجرة زهيدة جدًّا ولما بلغ هذا
الخبر أولياء الأمور فصلوه عن وظيفته من مشيخة المقارئ فأصبح غير ناظر على
الوقف ثم أبى الجناب العالي قبوله في السراي العامرة، كما أنه لم يدعه للإفطار في
عابدين مع بقية العلماء، وسيجري الشأن بإبطال عمل الرجل شرعًا وهذا وإن كان
يريح البال بعد العلم بهذه الحادثة إلا أن الجاري الآن من الغرابة بمكان ذلك أن
الشيخ لا يزال مدرسًا في الأزهر) .
(وغني عن البيان أن وظيفة التدريس خصوصًا في مدرسة كلية مثل الأزهر
الشريف هي وظيفة سامية لا تسند إلا إلى الرجل الشريف الطاهر السمعة، ولا يليق
أن يتقول الناس في الخارج على واحد يشغلها. وعندنا أن عالمًا حسن السمعة خير
ألف مرة من عالم أوسع منه علمًا يكون سيئ السمعة غير محمود الذكر لأن مثل هذا
يكون مثالاً رديئًا لتلاميذه وبه يعتقد الطلبة أن العلم يسمح لصاحبه بخراب الذمة.
فهل ترضى مشيخة الأزهر أن يهان التدريس إلى حد أن يتربع في حلقاته
من أتى أمرًا مخالفًا للشريعة السمحاء (الصواب: السمحة) .
فإن كان الشيخ قد أتى ما أتى وهو عالم بمخالفته الشرع فهذا يكفي لحرمانه من
التدريس وإن كان أتاه وهو غير عالم بمخالفته فهناك الطامة الكبرى لإسناد التدريس
لمن لا يعرف نواهي الشرع، وإن كان أتاه عن ضعف أو كبر فهو غير لائق للتدريس.
فهل لمشيخة الأزهر أن توجه أنظارها إلى ذلك صيانة لشرف العلم
والمتعلمين) اهـ.
***
(المنار)
كان للواء أن يلتمس للشيخ عذرًا فيما فعل ولو بالطرق التي يسمونها حيلاً
شرعية، وتقول: إنه بعد هذا قد أقيل الشيخ الرفاعي من مجلس إدارة الأزهر الذي
عين عضوًا فيه عقب ترك الأستاذ الإمام له والذين كانوا يعارضون الإصلاح كلهم
مثل هذا الشيخ أو دونه.
__________(8/792)
غرة ذو القعدة - 1323هـ
27 ديسمبر - 1905م(8/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحياة المِليَّة بالتربية الاجتماعية
(هذا ما وعدنا به في مقالة
روابط الجنسية والحياة الملية في الجزء السابق)
ذهب كثيرون من نابتة الترك والمصريين مذاهب الخيال الذي انعكس إلى
أفكارهم مما شهدوا من ظواهر مدنية أوربا، فحسبوا أن فلاح كل شعب وكل قطر
معلول لعلة واحدة هي تقليد أوربا بنشر العلوم الرياضية والطبيعية ونظام الحكومة
والأخذ بعادات أهلها، ويستدلون على رأيهم هذا بما كان من ارتقاء اليابان في نحو
ربع قرن بهذا التقليد، ويحسبون هذا برهانًا قاطعًا لا سبيل إلى المكابرة فيه إلا ممن
كان أعمى البصيرة جاهلاً بحال هذا العصر مغرورًا بحال قومه في حاضرهم أو
ماضيهم وكأني بمن تعود منهم قراءة الكلام المعقول في المنار وقد أنكر فاتحة هذا
القول وساء ظنه بمن سمى هذه القضية البديهية اليقين عنده تخيلاً وحسبانًا.
لا تعجلوا بالإنكار عليّ فلست بمنكر فائدة تلك العلوم، ولا أقول: إن أمة تعز
وتقوى في هذا العصر مع الجهل بها وبطرق الاستفادة منها وارجعوا إلى أنفسكم
فأنتم أعلم بها منكم بأوربا واليابان. إنكم قد سبقتم اليابانيين إلى هذا التقليد
فالمصريون منكم قد مرّ على أخذهم بهذا التقليد قرن كامل والترك قد ناهزوا ثلاثة
أرباع القرن، ولم يدرك أحد من الفريقين غبار اليابانيين الذين لا يزيد سنهم في
المدنية على ربع القرن إلا قليلاً. فدولة اليابان قد دوخت في بضع سنين أكبر دولة
شرقية، وأكبر دولة غربية وطفقت ترث الأرض وتستعمر البلاد، وبلادكم تنقص
من أطرافها، ويقتات عليكم فيما بقيت لكم رسومه منها، فأيُّ أثر لتقليد أوروبا
تحمدون، وأيُّ فائدة له في أنفسكم تعرفون.
هل يستطيع المصري أن يقول: إن حكومتنا لم تتشكل بشكل الحكومات
الأوربية فلم يتم لنا التقليد الذي هو علة النجاح؟ أنى؟ وكل ما عرفته هذه البلاد من
نظام أوربا ومدنيتها فهو من حكومتها لا من الأهالي، ولا تزال الحكومة أرقى من
الرعية تسوقها في كل طريق وتقودها بكل زمام. منح الشعب المصري حرية القول
والعمل والاجتماع منذ ربع قرن ولم توجد له جريدة ذات مذهب مليّ نافع ورأي
اجتماعي ثابت، ولا مدرسة كلية، بل ولا جزئية يعتد بتعليمها وتربيتها تنظر البلاد
إلى المتخرجين فيها نظر الرجاء بما ترى من امتيازهم على المتخرجين في مدارس
الحكومة، فمدارس الحكومة وهي في أيدي الأجانب ترجح على جميع المدارس
الأهلية رجحانًا مبينًا، ولم تؤسس فيها شركات كبيرة للزراعة أو للتجارة أو
للصناعة نجحت في عملها، فكانت موضعًا للثقة بها، ولم يوجد فيها للمسلمين وهم
السواد الأعظم غير جمعية خيرية واحدة لا تزال فقيرة بالنسبة إلى الجمعيات الخيرية
في أوربا واليابان على ما قاسى مؤسسها من العناء والبلاء في سبيلها ولا يزال
مجلس إدارتها يمحو من دفاترها في كل سنة أسماء كثير من الأغنياء الذين يشتركون
فيها وتمر عليهم السنون ولا يؤدون إليها ما فرضوه على أنفسهم لإعانة فقرائهم
وأكثرهم من المتعلمين علوم أوربا في باقي بلادهم أو في أوروبا نفسها.
وأما الأتراك فقد ملأ طلاب المدنية الآفاق أنينًا وشكوى من حكومتهم وطعنًا في
سلطاتهم وإنني على اعترافي لهم بأنهم في مجموعهم أرقى من المصريين علمًا
وأخلاقًا وأقوى عزيمة واستقلالاً أقول ما قاله كبير من كبرائهم: إننا بطعننا في
السلطان وصراخنا بالشكوى من حكومة (المابين) نعترف للعالم علنًا بأننا لسنة أمة
إذ لو كنا أمة لما قدر رجل واحد على أن يفعل فينا ما يشاء ويحكم ما يريد، ولما
عجزنا عن وضع بناء حكومتنا على أساس الشورى الشرعية التي فرضها ديننا
ورأينا نجاح الأمم بها، فهؤلاء الخائضون منا في السلطان إنما يبصقون على ذقونهم.
يريد هذا التركي الكبير أن الشعب لم يرتق إلى المستوى الذي يقدر فيه على
تغيير شكل الحكومة فهو إذًا لم يستفد من تقليد أوربا ما اعتزت به أمته وارتقت به
دولته بل كان كل خذلان أصيبت به الدولة أثرًا من آثار خيانة هؤلاء المقلدين أوروبا
المعبر عنهم بالمتفرنجين، فهم الذين اقترفوا جريمة الخيانة في حربها الأخيرة مع
روسيا وهم هم الذين أفسدوا البلاد بظلمهم وبيعهم الدماء أو الحقوق بالرشوة لأجل
إرضاء شهواتهم التي استفادوا التفنن بها من مدنية أوربا.
لا ريب أن معظم ما أخذناه عن أوربا كان سببًا في زيادة نفوذها فينا
واستيلائها على كثير من بلادنا وامتصاصها لثروتنا وقد ضعفنا وما قوينا وبعدنا عن
الاستقلال ولم نقرب منه، فلماذا كان هذا منتهى حظنا منها وكان حظ اليابان ما نعلم
من القوة والمنعة والعزة والثروة؟ وكيف السبيل إلى استخراج لبن هذه المدنية من
بين فرثها ودمها؟ أم كيف السبيل إلى نجاح أمتنا؟ فهذه الصين قد أنشأت تقتدي
باليابان في إصلاح شأنها وتنظيم حكومتها، وهذه روسيا قد وضعت الثورة حكومتها
في البوتقة لتذيبها وتنقيها من أوضارها، فإذا صلحت حال هاتين الحكومتين فإن فساد
الأرض ينحصر فينا وحدنا، وإذا جعلنا الكلام في الشعوب والملل، لا في
الحكومات والدول، فإننا لا نجهل أننا قد دفعنا من صدرها إلى عجزها، وصرنا إلى
ساقتها بعد أن كنا في مقدمتها، فماذا يجب علينا من العمل، قبل أن ينقطع منا
الأمل؟
أقول في الجواب: يجب أن نكون أمة واحدة تربطنا رابطة واحدة تصل
بعضنا ببعض حتى يشعر كل صنف وقبيل منا بل كل فرد بأنه عضو من جسم كبير
له حياة واحدة عامة منبثة في جميع الأعضاء ما دامت الأعضاء متصلة فإذا ما
انفصل عضو منها فارقته الحياة؛ إذ لا حياة له في نفسه. وإننا لا نشعر الآن بهذه
الحياة وإنما يشعر كل واحد منا بنفسه وحدها فهو يعمل لها وحدها: فالمهندس
والطبيب والفقيه والقانوني والمدرس، وسائر أهل المعارف هم كالحداد والنجار
والزارع والصانع والأجير والخفير، وغيرهم من أهل الحرف والصنائع كل
واحد منهم يتعلم ليتوسل إلى رزقه وما يمتع به نفسه وأهله لا يلاحظ مصلحة عامة
ولا رابطة جامعة فوجوده لا ينبسط إلى أكثر مما ينبسط له وجود بعض الذباب
والحشرات على ما شرحناه في مقالة روابط الجنسية، فالعلوم الرياضية والطبيعية
والشرعية وغيرها لا حظ فيها عندنا لما يسمونه الهيئة الاجتماعية وهي الأمة في
مجموعها لا أجزائها فلو صار كل فرد منا عالمًا بفن من الفنون التي ارتقت بها
أوربا ونحن على هذه الحال لما كان ذلك كافيًا لجعلنا أمة عزيزة كاملة الاستقلال
قصارى هذا العلم أن ينقل هؤلاء الأفراد من مرتبة الخزف والودع إلى مرتبة الخرز
زجاجًا كان أو جوهرًا مع بقاء كل خرزة منفردة عن الأخرى إذ لا سلك هناك تنتظم
فيه ولا ناظم يؤلف بينها في السلك فيجعلها عقدًا، وأعني بالسلك هنا رابطة الجنسية،
وبناظم العقد المربي الاجتماعي لا المربي الصناعي. حدثني محمد توفيق البكري
قال: سمعت السيد جمال الدين في الآستانة يقول: إن المسلمين لا ينتفعون بشيء من
هذه العلوم التي يتعلمونها لأن السلك عندهم منقطع ولا فائدة بدونه؟ أو ما هذا معناه
قال لي البكري: وقد فاتني أن أسأله عن مراده بهذا السلك فما رأيك فيه.
مثل المعلم الفني والمربي الصناعي كمثل من ينظف قطع المعدن أو الجوهر
لينتفع بها في الجملة ولا يبالي أكانت حبة في عقد أو فصًّا لخاتم أو كمثل من ينحت
الحجارة النحت الأول لتباع لمريدها فهو لا يبني ولا يعنيه أمر الباني أكان يريد
مسجد صلاة أم هيكل أوثان. وأما المربي الملي والمعلم الاجتماعي فهو الذي يقيم
بناء الأمة أو ينظم عقدها فيجب أن يكون هو الرئيس على معلمي الفنون والعلوم
المدير لمدارسهم؛ لأنهم هم الذين يمهدون العمل ويهيئون له الحجارة التي يقيم بها
البناء فإذا خلت مدارس الأمة من هؤلاء المربين والمعلمين فبشرها بأنها تهيئ
أفرادها للدخول في بناء غير بنائها، وهكذا نرى الذين تعلموا العلوم والفنون منا هم
الذين مكنوا الأجانب منا بنصحهم لهم في خدمتهم، وإن لم يصلوا في التشرف بهم
إلى أن يجعلوا من بنيتهم، وهكذا تتبدل أحوال الأمم وتتغير أشكالها كما صارت
كنائس القسطنطينية مساجد ومساجد قرطبة كنائس.
إلا أن حياتنا المِليَّة التي هي سلك اجتماعنا وينبوع سعادتنا لا تنفخ روحها فينا
إلا بالتربية الدينية الدنيوية، فيجب أن يكون جل اهتمام طلاب الإصلاح منا في
الدعوة إلى هذه التربية والسعي لها وإزالة العقبتين اللتين ذكرناهما في مقالة الجزء
الماضي من طريقها أعني عقبة السياسة وعقبة الجهل وكيف يكون ذلك؟
كتبت ما تقدم فلم يقف القلم دقيقة ولا لحظة انتظارًا لما يُمْليه عليه الفكر حتى
إذا انتهى إلى هذه النقطة وقف ساعة من الزمان، وكان هذا شأنه في المقالة الأولى
جرى فلم يقف إلا عند نقطة بيان العمل الواجب علينا فكانت وقفته خاتمة المقالة.
وقف القلم لوقوف الفكر، ووقف الفكر لأن تصور العاملين حال بينه وبين تصوير
العمل، انتقل من إملاء الواجبات التي يعلمها إلى البحث عن العاملين الذين يجهلهم
كأن صائحًا أهاب به: قف لا تخاطب من لا يسمع، ولا تطالب من لا يعمل،
فوقف هنيهة ثم أنشأ يجوب البلاد ويتصفح الوجوه فرأى أن أكثر الذين يعقلون ما
يقال ويقدرون على الأعمال، أحلاس بيوت وأحلاف خمول، ومن قد ظهر بما
نصح للأمة، قد استفاد بنصحه الظنة، فلا يثق به الجمهور، ولا يكلون إليه تدبير
الأمور، ثم عاد إلى قبر الأستاذ الإمام، فبكاه بالدموع السجام، وتذكر أن الأمة ما
فقدت رأيه ونصيحته، وإنما فقدت زعامته وإمامته، فإنها لم تكد تشعر بأنه رب
السلك، وربان الفلك، فتستعد لقبول ما يأتيه من النظام، إلا وقد اختطفه منها الحمام.
فإن لم يأتنا ندب بسلك ... فلا عمل هناك ولا نظام
وإن لم يأتنا نوح بفلك ... على الإسلام والشرق السلام
هذا ما كان من الفكر في سكوته عن الإملاء قد أملاه، ثم عاد إلى ما كان وعد
القلم به فوفاه.
يجب على العامل في مصر والهند ما لا يجب على العامل في الأستانة والشام
ويطلب من المصلح في تونس والجزائر ما لا يطلب من المصلح في فارس
أو قزان، ولا أذكر مراكش إذ ليس فيها -على ما أظن- رجال، ولا الصين لأن
المسلمين فيها لا يهمهم غير جمع المال، وجملة القول: إن الشعوب الإسلامية متمزقة
، في بلاد متفرقة، وليس لشعب منها من الحرية في العلم والعمل للدنيا والدين مثل ما
لمسلمي مصر والهند وهم في مقدمة المسلمين ذكاء وفطنة ولولا ما
يعوزهم من العزيمة والثبات والاستقلال الشخصي الذي تفضلهم به الشعوب العثمانية
لكانوا هم الرجاء لسائر المسلمين، ولا أعد دعوة أحداث الوطنية في مصر مانعًا
لانتفاع المسلمين بالمصريين، فإن دعوتهم لا تزال ضعيفة لا يخشى أن
تفصل هذا العضو من جسم الملة.
إنما يكون العاملون لخير الإسلام في مصر والهند بمأمن من غائلة السياسة إذا
هم اتقوا الاصطدام بالسياسة والافتتان بها، فيجب أن يكون عملهم للإسلام نفسه لا
لهوى أمير أو مليك، ولو اتكالاً على دولة أو حكومة، ولا لأجل مقاومة السلطة، أو
معاندة القوة، ولولا افتتان المصريين بالسياسة وتعلق نفوسهم بمناهضة إنكلترا اتكالاً
على فرنسا لنجحوا في ظل حرية الاحتلال الإنكليزي نهضة كانوا بها أئمة المسلمين
ولكنهم لم يكادوا يشفوا من داء الغرور بفرنسا حتى قام من خطباء الفتنة من يغرهم
بألمانيا ويغريهم بمناصبة القوة المحتلة الحقيقية اتكالاً على قوة ألمانيا الوهمية.
يخدع بعض المصريين أنفسهم ويخادعون قومهم؛ إذ يقولون: إن الحياة
الوطنية إنما تكون بكثرة الكلام في ذم كل عمل للمحتلين وإظهار الميل عنهم إلى
غيرهم، ويتوهم الأكثرون منهم ويوهمون قومهم بأن من يعمل لخير ملته وأمته في
مصر فهو على خطر إيقاع الإنكليز به؛ لأن الحرية التي عندهم لا تعدو إباحة القول
وعمل المنكر، وإن كلاًّ لَمخطئ فيما يقول ويزعم، فإن القول لا يزلزل القوم ولذلك
أباحوه؛ فإذا آنسوا أن وراءه عملاً فلا يعجزهم إحباطه، وهم هم الذين يلعبون
بالأمم والدول كما يشاءون. وأما من يعمل في سلطتهم لخير نفسه بالاهتداء بدينه
والارتقاء في دنياه فإنهم لا يصدونه عن السبيل، ولا يقيمون في وجهه العراقيل،
وقد ارتقى وثنيو الهند في ظل حريتهم ارتقاء مبينًا والمسلمون نائمون فلم يقعدوا
القائم، ولا أيقظوا النائم، ولما انتبه المسلمون من نومهم، ودعاهم الداعي إلى
العمل لقومهم، قال لهم الإنكليز إن تعملوا لأنفسكم فإنا مستعدون، وإن تهملوا
شؤونكم فما نحن لكم إلا مهملون.
الإنكليز قوم يحبون الكسب بهدوء وسلام فهم لا يحركون أضغان الناس عليهم
ولا يقصرون في تسكين ما تحرك من نفسه أو حركة خصم آخر يناظرهم، لا
يعاندون الطبيعة ولا يساعدونها على أنفسهم، فمن استعدت طبيعته لعلم أو عمل مع
مسالمتهم، اقتنعوا بأن يستفيدوا منه بحسب حاله، فهم يرضون من العالم ما
لا يرضونه من الجاهل، ويعاملون الشعب المستقل المتحد، بغير ما يعاملون به
الشعب المستذل المستعبد فما أجبن من يقول: إنهم لا يمكنوننا من العمل، وما أجهل
من يقول لماذا لا يعملون لنا ما لا نعمل لأنفسنا؟ إنهم إذًا أعداؤنا. نعم إنهم أعداؤك
العقلاء وأنت بجهلك أعدى أعداء نفسك.
إذا ما أهان امرؤ نفسه ... فلا أكرم الله من يكرمه
هذه ما نقتحم به عقبة السياسة في مصر والهند أعيده مختصرًا، وهو أن يكون
عملنا لإحياء ملتنا وترقية أمتنا بالعلوم النافعة والأعمال المالية المشتركة والجمعيات
العلمية الخيرية مع مسالمة القوة بالصدق لا بالرياء والمخادعة، وما مسالمة القوة إلا
ترك العبث بمقاومتها لأجل قوة خارجية سواها. أما مطالبتها بترك كذا مما يضر
البلاد أو فعل كذا مما يفيدها فلا ينافي المسالمة ولا يقتضي المقاومة وإذا صار في
البلاد أمة تطالب بذلك على بصيرة وحق، فإن طلبها لا يكاد يرد إذا كان معقولاً فإن
العاقل لا يظلم مع العاقل لا سيما إذا كان أمة (الكلمة للسيد جمال الدين رحمه الله)
ولن تكون هذه الأمة أمة إلا بالحياة الملية التي ندعو إليها.
تلك الحقيقة وقد يتوهم ضعفاء العقول أن فيها مصانعة للمحتلين، وما أنا
بمحتاج إلى مصانعتهم لدنيا أريدها منهم، وهم أغنى بقوتهم وبراعتهم في استعمار
البلاد وتدبير أمور الأمم عني. ولو كنت أصانع لكنت أحوج إلى مصانعة العوام
بمجاراتهم على أهوائهم لتزداد مجلتي رواجًا فيهم أو بعض الكبراء الذين يبذلون
الأموال لمن يواتيهم على ما يريدون، وما كان هذا مني ولا ذاك ولن يكون إن شاء
الله تعالى. إن أريد إلا إقناع طائفتين من الناس بما لو اقتنعوا به رجي أن تستفيد
الأمة من عملهم: الطائفة الأولى جماعة من أهل المعرفة بما ينفع الأمة يصدهم عن
العمل لها اعتقاد أن الإنكليز واقفون بالمرصاد لكل عامل لملته لأنهم أعداؤها ولا
قدرة لنا عليهم فعلينا السكون والسكوت وهؤلاء الواهمون. والطائفة الثانية مؤلفة من
أفراد كثيرين لا يعرفون النافع للأمة والمحيي للملة، وإنما يظنون أن الواجب على كل
وطني أو مسلم أن يعتقد أن كل ما يعمله المحتلون البلاد ضارٌّ، فإن كان نافعًا في
الظاهر فهو ضار في الباطن وأن يقاوم القوم بالقول فيذمهم ويقبح أعمالهم ويظهر
الميل إلى دولة أوروبية أخرى نكاية فيهم، وهؤلاء هم المخدوعون. فأولئك لجبنهم
لا يعملون بعلمهم النافع وهؤلاء لحمقهم يقولون ما لا يفعلون، والغارّون لهم
يخادعونهم بما لا يعتقدون.
أريد العمل لما يحيي الملة وينهض بالأمة ولا حرية لنا في غير مصر والهند
فأحب أن يقدرها العارفون بالخير والشر قدرها ويستفيدوا منها لينشط أهل الهند
ولكيلا يطول على المصريين أمد الوهم وسوء الظن بالإنكليز كما طال على مسلمي
الهند فحرموا الاستفادة من حريتهم حقبة من الزمن ولم يشعروا بخطئهم إلا بعد أن
رأوا الوثنيين قد علوهم بالعلم والعمل والثروة والحكم. فحسب المصريين ربع تلك
المدة وليعلموا أن اقتحام العقبة سهل كما ذكرنا، ومن بيّن لنا خطأنا فإنا له شاكرون،
ولرأيه ناشرون، نعم إن حكومة فارس - إيران - لا تعادي العلم، ولا تمنع
الاجتماع، ولكن الشعب نائم، يحلم بظهور المهدي القائم، وهي عاجزة عن
النهوض بنفسها، وما أحوجها إلى يقظة شعبها، قبل أن يفرغ لها الجاران، فتغتالها
الغيلان.
بينَّا معنى الحياة الملية وأن رابطة الملة في الإسلام هي أقوى الروابط وأعمها
نفعًا للبشر، وأن العاقل إذا فقه سرها لا يرغب عنها ولا يفضل عليها غيرها ولو لم
يكن من أهلها وأنها الآن منحلة وأنها على انحلالها موضع للأمل، وأنه يجب على
المسلمين توثيقها وتوكيدها وأن أحرى الناس بالعمل والسعي لها مسلمو الهند ومصر؛
ويليهم مسلمو التتر في روسيا واستعدادهم قوي وستظهره الحرية المنتظرة بعد
الثورة، وإن ما يمنعهم من العمل ليس إلا وهمًا يقويه الجبن أو جهالة يمدها الخداع
والغرور. هذا وسنشير إلى اقتحام عقبة الجهل فيما يأتي:
أما العمل الواجب فلا يشرح بالتفصيل إلا للعاملين، ويجب أن يكون دائرًا
على أقطاب هذه المسائل الكلية:
(1) كون تعليم الدين مؤيِّدًا للعقائد دافعًا للشبهات الرائجة في هذا العصر.
(2) كون تعليم التاريخ وعلم الاجتماع والأخلاق والآداب موثقًا للرابطة الملية بين
شعوب المسلمين وعناصرهم المختلفة.
(3) تعليم العبادات مع بيان حكمها وفوائدها في تزكية النفس وتعليم أحكام
المعاملات مع بيان انطباقها على مصالح البشر ومنافعهم في هذا الزمان، ومن ذلك
بيان أن كل محرم ضار وكل حلال نافع.
(4) تعلم العلوم الرياضية والطبيعية بقصد ترقية النفوس بمعرفة سنن الله وحكمه
في الخلق وترقية مجموع الأمة بالأعمال التي تزيد في ثروتها وعزتها.
(5) إحياء اللغة العربية بإلزام المتعلمين التحاور بها استبدالاً لها باللغة العامية
وبتعليمهم البلاغة في القول والكتابة ليكونوا كتابًا بارعين وخطباء مؤثرين. ... ... (6) تعليم الصنائع التي يمكن العمل بها في البلاد وفنون التجارة بقصد إنماء ثروة الأمة بغنى أفرادها.
(7) الجمع بين التعليم على النهج الذي شرحناه وبين التربية العملية في المدارس
الإسلامية المفقودة من الأرض.
(8) جعل مدار التعليم والتربية على استقلال الفكر واستقلال الإرادة والاستقلال
في العمل الذي يعبرون عنه بالاعتماد على النفس، وعلى حب الأمة وشرف الملة.
والكافل لهذه الأركان الثمانية هم المعلمون المربون الذين بينا وظيفتهم. وههنا
تعترضنا عقبة الجهل جهل رجال الدين - والعامة من ورائهم - بهذه الطريقة للتعليم
الديني وبفائدة العلوم الدنيوية وجهل علماء الدنيا بهذه الطريقة لتعليم علومهم. على
أن أمر هؤلاء أهون، وإرشادهم إلى المطلوب منهم أيسر، وإذا بعدنا عن علماء
الرسوم الدينية ومعاهدهم كالأزهر وما ألحق به في هذه الديار فإننا نأمن معارضتهم
ومناصبتهم لنا في تعليمنا على أن صوتهم في مصر قد خفت ونفوذهم قد ضعف،
ولا نعدم من يعلم الدين على الوجه النافع الذي أشرنا إليه حتى ممن كان تعلم في هذه
المعاهد وصادف علومًا وهداية أخرى بشرط أن يوجد المدير العام رب السلك وناظم
العقد.
لا يكون هذا إلا في المدارس الكلية فلا حياة بدونها، ولو بقي الأستاذ الإمام
حيًّا لأسست في مصر مدرسة كلية، وشرع فيها قبل مضي هذا العام فقد كان أعد لها
عدتها، وعزم على جمع المال لها في هذا الشتاء، جزاه الله عن نيته وعمله أفضل
الجزاء، وقد كان مضطلعًا بهذا الأمر ولعله يوجد في مصر من يستخدم الاستعداد
الذي تم لها كما كان يريد رحمه الله. أما إنشاء الجمعيات والشركات فإن البلاد
المصرية والهندية شرعت فيه ويرجى لها النجاح بالتدريج إن شاء الله تعالى.
هذا ما نذكر به أهل العقل والغيرة من مسلمي مصر والهند وقزان وغيرهم من
مسلمي الفرس على نومتهم، ومسلمي العثمانيين والتونسيين على ضيق عطنهم
وحيف زمنهم، وضعف مُننهم، على أن استعدادهم الفطري للعمل ربما كان أقوى،
واستقلالهم في الإرادة والفكر أقوى، ولكن اقتحام العقبتين أشق عليهم وأعسر، فهم
أحق بالاجتهاد وأجدر، ويتوقف ذلك على أعمال تعرف مما تنفثه الأخطار في
الصدور، لا مما تبثه الأفكار في السطور، وكل ميسر لما خلق له {أَلاَ إِلَى اللَّهِ
تَصِيرُ الأُمُورُ} (الشورى: 53) .
__________(8/811)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقرير مشيخة علماء الإسكندرية
الإحصاء العام
كتبنا في الجزء التاسع عشر رأينا في مقدمة هذا التقرير ونكتب الآن شيئًا عن
فصوله ومسائله المقصودة منه بنفسها وأولها فصل الإحصاء العام، وفيه أن الإقبال
على طلب العلم في الإسكندرية كان في هذا العام عظيمًا حتى بلغ عدد الطلاب في
هذا العام 721 طالبًا، وكانوا في نهاية السنة الماضية (وهي الأولى للمشيخة)
341 فالزيادة 380، ولكن لم يثبت من هؤلاء وهؤلاء إلا 440 وهو العدد الموجود
والمسجل الآن. وقد قال الأستاذ واضع التقرير (إن جميع مديريات القطر المصري
قد اشتركت في طلب العلم الشريف بهذه المدينة) وجعل ذلك دليلاً على الشعور
العام، والميل الخاص إلى الترقي في طلب العلوم الدينية وأحال في بيان هذا على
الجداول التي وضعها لإحصاء الطلاب فراجعناها فلم نر فيها ذكرًا لمديرية القليوبية،
ولا لمديرية الجيزة ولا لمديرية بني سويف. ورأينا أكثر من جاء الإسكندرية من
مديرية البحيرة وسببه ظاهر وهو قربها منها وبعدها عن مصر ثم من الغربية ولعله
لهذه العلة، وأما الشرقية والفيوم فلكل منهما طالب واحد في الإسكندرية ولمديرية
جرجا اثنان، ولكل من قنا وأسيوط والمنيا ثلاثة، وللمنوفية أربعة، وللدقهلية
خمسة، ولأسوان ستة ولا يعرف السبب في وجود هؤلاء في الإسكندرية.
وما ذكر في التقرير من كون هذا أثر الشعور العام والميل الخاص إلى الرقي
في العلوم الدينية فهو غير ظاهر؛ لأن هذا العدد قليل وأسباب الاختيار مجهولة
ولأن التعليم في الإسكندرية هو دون التعليم في مصر وطنطا من وجهين: أحدهما
أن المدرسين في المصرين أرقى في العلوم الدينية ووسائلها من المدرسين في
الإسكندرية، وثانيهما - أن الدروس نفسها أرقى والعلوم أكثر: في الإسكندرية
يقرءون الجلالين في التفسير، وفي الأزهر يقرءون البيضاوي والكشاف، وتفسير
الجلالين أصغر كتب التفسير وأقلها فائدة، والبيضاوي والكشاف أعلاها، ولا
يخفى أن روح الدين كله في القرآن، فمن لم يرتق فيه فلا رقي له. وليس في
الإسكندرية شيء من علم الأصول، ولا المعاني ولا البيان، وفهم الفقه والتفسير
والحديث لا يتم لمن لا حظ له من هذه العلوم. والعذر في عدم قراءة هذه العلوم أنه
ليس في الإسكندرية من الطلاب إلا خمس فرق ابتدائية أو خمس سنين على
إصلاحهم، وليس من غرضنا هنا الانتقاد على اختيار ما اختارت المشيخة لهذه
السنين من الدروس، وإنما الغرض بيان أن العلوم في مصر وطنطا أرقى منها في
الإسكندرية، فطالب الرقي في هذه العلوم لا يختار الأدنى وهو الإسكندرية على
الأعلى كالأزهر.
فالتنبيه على هذه الدقائق مما لابد منه للباحث في الأمور العامة، وسنن
الاجتماع؛ لأن أكثر الناس قد اعتادوا ترك التدقيق في أمثال هذه الأقوال، وأمثال
هذه الطرق من الاستدلال التي جرى عليها بعض أصحاب الجرائد في هذه البلاد،
واعتاد السكوت عن التمحيص أهل الفهم والتدقيق من الكتاب، حتى صارت دهماء
الأمة تعتقد في الأمور العامة غير الصواب، فالمعقول في مسألة إقبال الناس على
التعلم في الإسكندرية هو ما ذكرنا من أن أهل البحيرة والغربية يرجحونها لقربها وما
جاء من غير هاتين المديريتين لا يعتد به ولا ينهض دليلاً على ما يرمي إليه التقرير
من شعور الأمة بأن العلوم الدينية في الإسكندرية أرقى، فطالب الرقي يفضلها
ويختارها. ويوضح ما يريد صاحب التقرير من تفضيل مشيخته على مشيخة
الأزهر في التعليم ما ذكره في الفصل الآتي قال:
***
طرق التعليم
(كان الأزهريون ولا يزالون يعتمدون في تعليمهم لطلاب العلم الشريف
العناية بتنمية القوة العاقلة، وإعدادها للبحث واستنتاج النتائج من المقدمات، ولذلك
كانت عنايتهم بالجدل وطرق الإقناع أكثر من عنايتهم بالتماس النتائج الحقة (كذا)
من مقدماتها الصحيحة. وقد كنا نرجو الخير لطلاب العلوم من هذه الطريقة لولا أن
بعض المتأخرين استعملوها بإفراط حتى مع صغار الطلبة والمبتدئين في العلوم
فيقضي الطالب الأعوام العديدة من بداية طلبه بين تشكيكات ومناقشات واعتراضات
وأجوبة قلما يحسن معها العلم بمسائل الفنون التي يتلقاها.
ولقد أدركنا الطرف الأخير من ذلك الزمن الذي كانت عناية أكابر العلماء
فيه - الأزهريين وغيرهم - متجهة في بداية الطلب إلى تكليف الطلاب بحفظ متون
العلوم (كذا) وهي مسائلها التي تسرد سردًا، ثم التدريج معهم في إدراك تلك
المسائل تدرجًا يناسب مداركهم، وقواهم العقلية حتى يبلغوا الحد الذي يقتدرون فيه
على الاشتغال بإقامة الأدلة والبراهين على الذين كانوا يعلمون (كذا) ولكن الولع
بالشغب والمحدثات قد كاد يطفئ هذا المصباح الذي استضاء به العالم الإسلامي دهرًا
طويلاً. وهذا التدرج في التعليم كان طريقة للمتقدمين يحسن بالمتأخرين أن يسلكوها
اتباعًا لسلفهم الصالح) .
ثم نقل من مقدمة ابن خلدون نبذة في التعليم ملخصها أن التعليم إنما يكون مفيدًا؛
إذا كان على التدريج مراعي فيه استعداد الطالب بأن يقرأ له الفن ثلاثًا يلقي عليه
في الأولى أصول المسائل، وتشرح بالإجمال ويخرج بالثانية إلى التفصيل
وذكر الخلاف ووجوهه، ويستقصي في الثالثة كل عويص ويوضح كل مقفل، ثم ذكر
ابن خلدون أنه شاهد كثيرًا من المعلمين يجهلون طرق التعليم، فيلقون على المتعلم
في أول تعليمه المسائل المقفلة ويطالبونه بحلها ويخلطون عليه غايات العلوم في
مبادئها، ويكلفونه وعيها وهو لم يستعد لها في كل ذهنه، ويكسل ويهجر العلم ظنًّا
منه أنه صعب في نفسه وإنما هو سوء التعليم. ثم ذكر صاحب التقرير مفسدًا آخر
من مفسدات التعليم في مثل الأزهر فقال:
وإذا أضممنا إلى هذا الذي قاله المحقق ابن خلدون مُفْسِدًا آخر لطرق التعليم
وهو إطلاق السراح للطلاب، وتركهم يحضرون ما يشاءون، ويتركون ما يشاءون
ويتدرجون في تلقي العلوم كما يشتهون بدون مراقبة على المواظبة في الطلب ولا
ملاحظة لاستعداد الطالب فيما يريد تلقيه، كانت المصيبة أعظم والفساد أعم وأشمل
فلم يكن من العجب أن يقضي الطالب العشرات من السنين في دور العلم ومعاهد
التعليم ثم لا يكون حظه من تلك السنين الطوال إلا إضاعة العمر في الاختلاف إلى
الدروس بلا فائدة يستفيدها ولا علم يحصله ولا يقتصر ضرره على نفسه ولكنه
يتعدى إلى العلماء المتصدرين للتدريس فيكون حجة للذين يسبون التدريس في
الأزهر الشريف وملحقاته وبرهانًا تنقطع دونه ألسنة الذين يدافعون عن التعليم في
دور العلم الإسلامية)
ثم ذكر أن مشيخة الإسكندرية تداركت هذا الفساد في طرق التعليم بشيئين:
(1) تكليف بعض العلماء مراقبة الطلبة في شؤونهم الدراسية وتعويدهم على
الأخلاق المُرضية (كذا) . (2) تقرير الامتحان السنوي على كل طالب حتى لا
ينتقل من علوم سنته إلى أرقى منها إلا إذا أظهر الامتحانُ استعداده لعلوم تلك السنة،
قال: أما العيب الذي أشار إليه ابن خلدون، فقد تلافته المشيخة بشيئين أيضًا:
الأول تنبيه حضرات العلماء والمدرسين إلى ملاحظة قوى الطلبة والاقتصار على
تفهيمهم مسائل الكتب المكلفين بتدريسها (كذا) بدون تعرض لكلام الحواشي
والشروح الطوال خصوصًا مع المبتدئين في الطلب، والثاني عناية المشيخة
بانتخاب الكتب التي تناسب كل سنة من سِنِي الدراسة.
إن الذي يمكن أن يلخص به كلامه في عيوب التعليم في الأزهر وما على
شاكلته من المدارس الدينية على ما فيه من الاضطراب والإيهام هو أن العيوب ثلاثة:
(1) أن بعض المتأخرين قد استعملوا طريقة الأزهر القديمة في التعليم التي كان
يرجى خيرها بإفراط حتى مع الصغار والمبتدئين فصار الطالب يقضي السنين بين
التشكيكات والمناقشات، فقلما يحسن العلم بمسائل الفنون التي يتلقاها.
(2) الولع بالشغب والمحدثات الذي كاد يطفئ مصباح الإسلام وهو ما كان عليه
أهل الأزهر من الابتداء بحفظ المتون والتدرج في إدراك مسائلها. وقال: إن هذا ما
كان عليه سلف الأمة الصالح واستدل على ذلك بعبارة ابن خلدون.
(3) إطلاق السراح للطلاب يتدرجون كما يشتهون ويُحضرون من الكتب ما
يختارون بدون مراقبة. وذكر من ضرر هذا العيب أن الطالب يقضي العشرات من
السنين في معاهد العلم بلا فائدة، وأن ذلك برهان للذين يسبون التدريس في الأزهر
وملحقاته لا يرد وحجة لا تدحض. ثم ذكر أن مشيخة الإسكندرية قد تداركت هذه
العيوب - أي فبرئت من استحقاق السب - وبقيت هذه العيوب في الأزهر وسائر
ملحقاته في التعليم.
وإننا نبحث في هذه المسائل شاكرين لله تعالى أن وفق عالمًا من علمائنا
الرسميين للكتابة في طرق التعليم، وعرض آرائه على الباحثين والمنتقدين ولا
غرو أن نثنِّي بالشكر للشيخ شاكر.
أبدأ ببيان ما أشرت إليه من الاضطراب والإبهام، بل والإيهام في العبارة
فأقول: إن عبارة التقرير في هذا الموضوع عبارة من قضت عليه الحال بأن يداري
ويواري فيوهم بعض القارئين بما يبهم على الآخرين، ويرضي المختلفين في الرأي
بالذم في معرض المدح والمدح في معرض الذم، ويأتي بقياس مؤلف من مقدمات
تؤخذ بالتسليم وإن كانت نظريات، وتكون النتيجة أن التعليم في الأزهر له كذا
وكذا من العيوب والمفاسد، وأن التعليم في الإسكندرية له كذا وكذا من المحاسن
والفوائد، ولكن العبارة لم تواته على ما يكيد، (أي يحاول) فلم تأت إلا ببعض ما
يريد، هذا ما تومئ إليه العبارة من غرض الكاتب، وما كان مستوليًا عليه من الفكر
ومتأثرًا به من الشعور عند الكتابة ذكرناها على الطريقة الغربية في النقد وهي عندنا
أفضل ما يعتذر به عن الكاتب عند من يرى الاضطراب في القول فيحمله على
مركب آخر.
ماذا يفهم القارئ من قوله: إن طريقة الأزهريين التي درجوا عليها كانت
تقضي بالعناية بالجدل وطرق الإقناع أكثر من العناية بطلب النتائج الحقيقية من
مقدماتها الصحيحة، وقوله: إنه كان يرجو الخير لطلاب العلوم من هذه الطريقة لولا
أن أفرط فيها بعض المتأخرين فسلك فيها مع الصغار العاجزين عن الاستفادة بها.
هذه الطريقة شر طريقة جرى عليها الناس لا يصل سالكها إلا إلى إفساد العلم والدين
كما بين ذلك حجة الإسلام الغزالي في كتاب العلم من الإحياء.
ماذا يفهم القارئ من قوله بعد ذلك أنه أدرك الطرف الأخير من ذلك الزمن
الذي كانت عناية أكابر العلماء فيه متجهة إلى تكليف الطلاب حفظ المتون والتدرج
معهم في فهمها؟ أهذه هي الطريقة الأولى أم غيرها؟ ظاهر السياق أن هذا إيضاح
لما قبله وهو ما كان عليه المتقدمون لا بعض المتأخرين الذين قال: إنهم أفرطوا في
استعمال تلك الطريقة، ولا ينافي ذلك قطعًا ما ذكره من أنهم ينتهون إلى الاقتدار
على الاشتغال بإقامة الأدلة والبراهين على الذين كانوا يعلمونهم؛ لأنه إنما جعل
غايتهم الاستعداد لإقامة الأدلة والبراهين على معلميهم لا الاقتدار على إقامة البراهين
بالفعل على المطالب الصحيحة فلا يقال: إن قوله هذا مناقض لقوله السابق؛ لأن
العناية بالجدل لأجل الإقناع والإلزام لا تفضي إلى القدرة على تأليف البرهان لإفادة
العلم. وتشبيهه هذه الطريقة بالمصباح، وقوله: إن العالم الإسلامي استضاء بها دهرًا
طويلاً كرجائه الانتفاع بها في النبذة الأولى.
وأما قوله: (ولكن الولع بالشغب والمحدثات قد كاد يطفئ هذا المصباح)
فهو على إبهامه وإيهامه لا يمكن أن يحمل إلا على إفراط أولئك المتأخرين في
استعمال طريقة الأزهر وهم بعضهم؛ لأنه لم يذكر لغيرهم إساءة أخرى في اتباع
الطريقة التي حمدها، وقال: إن الأزهريين كانوا ولا يزالون عليها. ولكن كلمة
الشغب غريبة جدًّا في هذا المقام؛ لأن معناها تهييج الشر، فما هو الشر الذي هيج
على العلماء من الأزهريين وغيرهم حتى كاد يطفئ ذلك المصباح مصباح
العناية بالجدل، وتكليف الطلاب حفظ المتون والتدرج معهم في فهمها؟ ألا أن هذه
الكلمة في هذا المقام من أوابد الغرائب التي لا تأنس فيه، ولعلها اقتبست من بعض
الكلام البليغ لإفادة معنى آخر فسقطت في هذا المكان فلم تقبلها فيه الأذهان، على
أن بعض ما عورض به الإصلاح قد كاد يكون شغبًا أو كان والسياق هنا يأبى إرادته.
وجملة القول: إن الأستاذ صاحب التقرير بين طريقة الأزهر بما لا تحمد به
ولكنه حمدها، وغاية ما انتقده أن بعض المتأخرين بالغ فيها مع بعض الصغار من
الطلاب وضرر هذا قليل تسهل إزالته ما دام أكابر العلماء على خلافه، وأن الولع
بالشغب والمحدثات كاد يطفئ المصباح، ولكنه لم يطفئه فبقي وهاجًا. ويا ليته بين
لنا أزال هذا الشغب فصرنا آمنين على المصباح، أم الولع به ما زال يلح بأهله
فالمصباح على خطر؟ ولقد أيد مدح هذه الطريقة الأزهرية بقوله: إنها كانت
طريقة المتقدمين من السلف الصالح واستدل بكلام ابن خلدون. ما قاله ابن خلدون
ليس حكاية عن السلف، وإنما هو رأي له يرد به على من شاهد من المعلمين
الكثيرين الذين يخطئون طرق التعليم وليس هو كل رأيه، فرأيه مخالف لما عليه
الأزهر كما يعلم مما يأتي:
يحار قارئ التقرير فلا يدري أهذا المدح لطريقة الأزهر بيان لاعتقاد
الكاتب، أم يراد به شيء آخر؟ العبارة محتملة يقوي إرادة المدح فيها عزوها إلى
السلف والاستدلال عليها بكلام ابن خلدون، ولكن قوله بعد ذلك كله: إن هناك
مفسدًا آخر لطرق التعليم به (كانت المصيبة أعظم والفساد أعم وأشمل) يدل على أنه
لم يقصد غير الذم. فماذا فعل ذلك المصباح في هذه الظلمات المتراكمة؟
الفصل معقود لبيان طرق التعليم، فكان ينبغي أن تذكر الطرق المعروفة فيه
ويذكر أهلها ويفاضل بينها لبيان ما اختارته مشيخة الإسكندرية منها، ولكنك تخرج
من الفصل ولم تع غير طريقة واحدة للأزهر، عرضت لها عيوب ومفاسد فأزالت
مشيخة الإسكندرية عيوبها ومفاسدها، فصارت خير الطرق عندها، تعي هذا بعد أن
يضطرب ذهنك في الفهم، وتحار في التزييل بين المدح والذم، فهذا ما يقال في هذا
الفصل من التقرير.
وأما الموضوع في نفسه، فالحق الذي نعلمه فيه علم اليقين ما نقول: إن
طريق الأزهر في التعليم طريق طويلة مشتبهة الصوى، كثيرة التمعج والهُوى،
وأن أهل الأزهر كانوا ولا يزالون سائرين عليها على غوائلها، إلا نفرًا من
المتأخرين قد اتقوا بعض مفاسدها، عملاً ببعض ما هداهم إليه الإصلاح الذي دعا
إليه الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - وهو الذي اختار للشيخ محمد شاكر بعض
تلامذته منهم يدرسون في الإسكندرية. وقد بشرنا الشيخ محمد شاكر أنه أنفذ شيئًا
من ذلك الإصلاح شيئًا آخر فمجموع ما شرع فيه أربعة أمور:
1- مراقبة المعلمين للطلبة و2- تقرير الامتحان السنوي و3- حمل المعلمين على
التدرج في التعليم، و 4- اختيار الكتب، وهذه الأمور مما دعا إليه الأستاذ
الإمام في الأزهر، واشتغل بها مجلس إدارته شغلاً طويلاً كما يعلم من تاريخه
(كتاب أعمال مجلس إدارة الأزهر) وقد عارض في هذه الأمور بعض أكابر المشايخ
المتقدمين لا (المتأخرين) الذين ذمهم التقرير -المتقدمين الذين أدركهم أو بعضهم
كاتبه قبل ظهور ما عبر عنه (بالشغب والمحدثات) ومن حسن الحظ أنه لا يوجد
في مشيخة الإسكندرية أمثال هؤلاء الأكابر المتقدمين؛ إذ لو وجد أمثالهم في
شهرتهم ونفوذهم لما تيسر له أن يقرر ما قرره من إزالة المفاسد، فإن تيسر له تقريره
بالقول فلا يتيسر إنفاذه بالفعل على أن الإنفاذ عسر على كل حال لقلة من
عندنا من أهل الكفاءة؛ إذ لم تتعود هذه الطائفة على النظام ولم تعرف ما وصلت إليه
الأمم في الارتقاء في فن التعليم. وما لا يدرك كله لا يترك قلة والعمل يمد بعضه
بعضًا فنسأل الله كمال التوفيق للعامل والثبات عليه والإخلاص فيه، وأما الصواب في
نظام التعليم فلا محل هنا للكلام فيه لما سبق لنا من التفصيل من قبل ولكننا نأتي
من تاريخ الأمة فيه ومنه تعرف طريقة السلف والخلف فنقول:
***
طريقة المسلمين في التعليم وتاريخه عندهم
إن التعليم فن صناعي يرتقي بارتقاء حضارة الأمة، ويتدلى بتدليها ولم ينزل
الوحي بكيفية تنظيم المدارس وتلقين العلوم والفنون للناشئين فنقول: إن قوانين
التعليم أحكام تعبدية تتلقى بالرواية ويتبع فيها طريق السلف الصالح من أهل الصدر
الأول؛ لأنهم أعلم الناس بغرض الشارع وأشدهم محافظة عليه. وإذا كان التعليم فنًّا
صناعيًّا، فالذي ينبغي للأمة هو أن تفكر دائمًا في ترقيته، ولا يكتفي المتأخر فيه
بتقليد المتقدم بحجة أنه متبع لسلفه معظم لهم؛ إذ ليس من تعظيم الصحابة عليهم
الرضوان أن نحارب بمثل ما كانوا يحاربون به من السيوف والرماح، ونترك
المدافع وغيرها مما استحدث من آلات الكفاح، فما جاء في تقرير مشيخة
الإسكندرية من استحسان طريقة كذا اتباعًا للسلف الصالح -لو صح- غير سديد،
إنما السداد أن نختبر طرق التعليم المستحدثة ونتخير أمثلها؛ فإن التعليم في هذا
العصر أقوى عوامل الكفاح بين الأمم حتى نقلوا عن البرنس بسمرك الشهير أنه قال:
إننا قد غلبنا فرنسا بالمدرسة. على أن ما ذكر في التقرير هو مخالف لطريقة
السلف الصالح في التعليم كما هو معروف للمطلع على التاريخ وتعرفه مجملاً مما
يأتي:
كانت طريقة إفادة العلم في الصدر الأول الرواية اللسانية، ثم الإملاء
والمذاكرة، ولما كثر التصنيف واتسعت حضارة المسلمين صاروا يدرسون بعض
الكتب المصنفة وأكثرها في روايات الحديث والآثار وأشعار العرب ووقائعها وفي
العلوم العربية والشرعية المؤيدة بهذه الروايات. ولما دخلت في الأمة العلوم
اليونانية اتخذوا لهم معلمين من أهل الملل الأخرى فحدثت لهم طرق جديدة، ثم
انحصر التعليم في قراءة الكتب غالبًا فكانت طرق الناس في التعليم تابعة لطرقهم في
التأليف، وأول اشتغالهم بالتأليف في الفنون كان بجمع الروايات التي يتلقونها
والأمالي التي يهيئونها ويملونها ثم توسعوا في ذلك ويسهل أن تعرف طريقة
التدريس في كل قرن بالاطلاع على طائفة من الكتب التي صنفت فيه: روايات
ووقائع فأصول وقواعد مؤيدة بها فاختصار لتذكرة المنتهى فاقتصار على
المختصرات وما كتب عليها فخلط للعلوم وخلل في التعليم. وجملة القول في سيرة
المسلمين في التعليم: إنها كانت سائرة على سنة الفطرة بطبعها لا بقوانين وضعت
لها ثم انحرفت حتى ضاع العلم وضل الفهم وصرنا إلى ما نرى.
لم يدون المسلمون قوانين للتعليم في عنفوان دولة العلم فيهم بل كان موكولاً إلى
المدرسين يسلكون فيه مسالك الكتب المصنفة، فكثرت الطرق بكثرة المصنفات
واختلاف مذاهب المصنفين والمدرسين حتى قام في القرون الوسطى من ينتقد ما
عليه أهل عصره ومن قبلهم كالإمام الغزالي وتلميذه أبي بكر بن العربي ثم جاء
الفيلسوف الاجتماعي عبد الرحمن بن خلدون فبحث في التعليم بحثًا لم يسبقه إليه
سابق وضعه على قواعد الفلسفة فأصاب كثيرًا من الأغراض. ومن الأصول التي
قررها أن التعليم من الصنائع التي تتبع حال الحضارة والعمران في الترقي والتدلي
كسائر الصنائع وأن كثرة التأليف في العلوم عائقة عن التحصيل، وأن كثرة
الاختصارات المؤلفة في العلوم مخلة بالتحصيل. وأن خلط العلوم بعضها ببعض
يحول دون الظفر بشيء منها، وأن غاية تعليم الفن هي تحصيل الملكة فيه،
والمراد بالملكة ملكة العمل فملكة البلاغة هي أن يكون ذوق الكلام البليغ صفة مالكة
للنفس بها يسهل الإتيان بالكلام البليغ قولاً وكتابة دع فهمه والتمييز بين أقسامه
وعلى ذلك فقس. وقد استفاد ابن خلدون هذه القواعد والأصول من النظر في كتب
المتقدمين ومعرفة تاريخهم ومن اختبار حالة التعليم والتأليف في عصره، ولكن
المسلمين لم يستفيدوا من أصوله هذه ولا من أصوله في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع؛
لأن هذا إنما جاءهم في طور التدلي في العلوم والعمران كما قلنا في مقدمة أسرار
البلاغة، وما نقله عنه الشيخ محمد شاكر في تقريره هو من المواضع التي قصر
فيها وأجمل وعذره الفرار من التكرار وإنما يعرف رأيه من مجموع ما كتبه وتقدم
التنبيه على بعضه، ومنه تحصيل ذوق البلاغة بممارسة الكلام البليغ ومنه
الاستدلال على حسن طريقة التعليم بقصر مدة التحصيل، وذمه الاعتماد على الحفظ
وتفضيله طريقة تُونِسُ بالاكتفاء بخمس سنين في تحصيل الملكة على طريقة
المغرب في جعل مدة التحصيل 16 سنة وكانوا يعتمدون على حفظ المتون، وقد
استدرك عليه علماء التعليم والتربية (البيداجوجيا) في هذا العصر فيما رآه من
ابتداء المتعلم بأصول المسائل من كل باب وإعادتها بالتكرار ثلاث مرات بالتفصيل
الذي ذكره، ومن الغريب أن صاحب التقرير لم يأخذ عنه إلا المجمل المستدرك
عليه وترك سائر آرائه وهي مخالفة لما عليه المشيخة بالإسكندرية.
هذا صفوة ما نختصر به تاريخ التعليم عندنا، وأما العلوم أنفسها فكانت العناية
بها تختلف باختلاف حال الدولة التي هي أس الحضارة، وشر ما حدث في القرون
المتوسطة العناية بالجدل والخلاف في الفقه وقد انبرى حجة الإسلام الغزالي لبيان
مفاسد هذه البدعة بعد أن خاض فيها مع الخائضين، وكان في مقدمة المبرزين
***
رأي الإمام الغزالي في التعليم الإسلامي
كتب ابن خلدون ما كتب في التعليم من حيث هو فن صناعي يرتقي بارتقاء
العمران. وأما الإمام الغزالي فقد كتب فيه من حيث هو طريق للإرشاد وهداية الدين
فما ذهب إليه هو هدي السلف الصالح. والجدير بأن تهتدي به مشيخة العلوم الدينية
المحضة الذين غرضهم حفظ الدين والاهتداء به. قال في فصل (بيان القدر
المحمود من العلوم المحمودة) بعد أن قسم العلوم إلى محمود قليله وكثيره ومذموم
قليله وكثيره وهو ما لا يفيد في دنيا ولا دين وقسم يحمد منه مقدار مخصوص ويذم
التوسع فيه والاستقصاء ما نصه:
(وأما القسم المحمود إلى أقصى غايات الاستقصاء فهو العلم بالله تعالى
وبصفاته وأفعاله وسنته في خلقه وحكمته في ترتيب الآخرة على الدنيا) ثم مدحه
وبين ما يحتاج إليه طالبه من المجاهدة وتهذيب النفس وقال " وأما العلوم التي لا
يحمد منها إلا مقدار مخصوص فهي العلوم التي أوردناها في فروض الكفايات فإن
في كل علم منها اقتصارًا وهو الأقل واقتصادًا وهو الوسط واستقصاء وراء ذلك
الاقتصاد لا مرد له إلى آخر العمر. فكن أحد رجلين إما رجل مشغول بنفسك وإما
متفرغ لغيرك بعد الفراغ من نفسك فلا تشتغل إلا بالعلم الذي هو فرض عليك بحسب
ما يقتضيه حالك وما يتعلق منه بالأعمال الظاهرة من تعلم الصلاة والطهارة والصوم
وإنما الأهم الذي أهمله الكل علم صفات القلب وما يحمد منها وما يذم) وأطال في
بيان مكانة علم التهذيب من الدين وأن الأعمال الظاهرة لا تفيد عند الله بدونه ثم قال:
وإن تفرغت من نفسك وتطهيرها وقدرت على ترك ظاهرة الإثم وباطنه وصار
ذلك ديدنًا لك وعادة فيك وما أبعد ذلك منك فاشتغل بفروض الكفايات وراعِ التدريج
فيها فابتدئ بكتاب الله، ثم بسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم بعلم التفسير
وسائر علوم القرآن من علم الناسخ والمنسوخ والمفصول والموصول والمحكم
والمتشابه وكذلك في السنة. ثم اشتغل بالفروع وهو علم المذهب من علم الفقه دون
الخلاف، ثم بأصول الفقه، وهكذا إلى بقية العلوم على ما يتسع له العمر ويساعد فيه
الوقت ولا تستغرق عمرك في فن واحد منها طالبًا للاستقصاء فإن العلم كثير والعمر
قصير. وهذه العلوم آلات ومقدمات وليست مطلوبة لعينها بل لغيرها (يعني العلم
المطلوب لعينه هو العلم بالله وبسننه في خلقه وحكمته كما تقدم) وكل ما يطلب
لغيره فلا ينسى فيه المطلوب ويستكثر منه، فاقتصر من شائع علم اللغة على ما تفهم
منه كلام العرب وتنطق به ومن غريبه على غريب القرآن وغريب الحديث ودع
التعمق فيه واقتصر من النحو على ما يتعلق بالكتاب والسنة فما من علم إلا وله
اقتصار واقتصاد واستقصاء، ثم ذكر نموذجًا لهذه المراتب الثلاث ومثل لها بالكتب
المختصرة والمتوسطة والمطولة ومن رأيه أن المطولات تصنف للمراجعة لا
للتدريس ثم نهى عن الجدل والخلافيات في المذاهب وذكر أنها من البدع التي لم
يعهد مثلها في السلف وشبهها بالسم ثم قال:
وهذا كلام ربما يسمع من قائله فيقال: الناس أعداء ما جهلوا، فلا تظن
ذلك فعلى الخبير سقطت فاقبل هذه النصيحة ممن ضيع العمر فيه زمانًا وزاد على
الأولين تصنيفًا وتحقيقًا وجدلاً وبيانًا، ثم ألهمه الله رشده وأطلعه على عيبه فهجره
واشتغل بنفسه، فلا يغرنك قول من يقول ولا يعرف علله إلا بعلم الخلاف فإن علل
المذهب مذكورة في المذهب والزيادة عليها مجادلات لم يعرفها الأولون ولا الصحابة
وكانوا أعلم بعلل الفتاوى من غيرهم، بل هي مع أنها غير مفيدة في علم المذهب
ضارة مفسدة لذوق الفقه فإن الذي يشهد له حدس المفتي إذا صح ذوقه في الفقه لا
يمكن تمشيته على شروط الجدل في أكثر الأمر فمن ألف طبعه رسوم الجدل أذعن
ذهنه لمقتضيات الجدل وجبن عن الإذعان لذوق الفقه وإنما يشتغل به من يشتغل
لطلب الصيت والجاه ويتعلل بأنه يطلب علل المذهب وقد ينقضي عليه العمر ولا
تنصرف همته إلى علم المذهب فكن من شياطين الجن في أمان واحترز من شياطين
الإنس فإنهم أراحوا شياطين الجن من التعب في الإغواء والإضلال.
ثم طفق يذم الجدل في العلم مطلقًا ومنه قوله: وفي الحديث في معنى قوله
تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} (آل عمران: 7) الآية هم أهل الجدل الذين
عناهم الله بقوله تعالى فاحذرهم. وقال بعض السلف: (يكون في آخر الزمان قوم
يغلق عليهم باب العلم ويفتح لهم باب الجدل) ثم عقد بعد ذلك بابًا لبيان سبب علم
الخلاف وآفات الجدل والمناظرة والحديث الذي ذكره في تفسير الآية رواه البخاري
ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث عائشة وأورده بالمعنى. فلينظر القارئ أين
طريق السلف في العلوم الدينية من طريق الأزهر على رأي الشيخ محمد شاكر،
وكيف العناية عندهم بالجدل مكان العناية بالمهم عن السلف من العلم بالله وصفاته
وأفعاله (وهي تعرف من علم الكون) وبسننه في خلقه (وهي المعبر عنها في هذا
العصر بعلم الاجتماع وعلم نواميس الطبيعة) وعلم حكمة ترتيب الآخرة على الدنيا،
لا شيء من ذلك في الأزهر ولا في الإسكندرية، فعسى أن يوفقهم الله تعالى.
للاسترشاد بما كتبه حجة الإسلام في ذلك.
تعب الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في إقناع كبار شيوخ الأزهر في إصلاح
التعليم فكانوا لا ينفذون كل ما اقتنعوا به وهو بعض ما دعا إليه مما يريده ومنه أن
يكون الغرض من كل فن وعلم القدرة على استعماله والوصول إلى غايته دون الجدل
والمماحكة في عبارات كتبه، وهذا عين ما يقوله الغزالي وما كان يعنى به السلف.
وسنعود في الجزء الآتي إلى الكلام في التعليم إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(8/820)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
(المقتبس)
أنشأ صديقنا محمد أفندي كرد علي الدمشقي في القاهرة مجلة أدبية علمية
اجتماعية شهرية سماها (المقتبس) وقد أصدر الجزء الأول منها في شوال وهو
لشهر المحرم من العام القابل أصدره قبل وقته تعجيلاً للفائدة. اعتاد المصريون على
كثرة رؤية الصحف الجديدة وعلى سرعة فقدها فقلَّت ثقتهم بالجديد وإن كان مفيدًا
لعدم ثقتهم به وبدوامه، ولسبب آخر هو عدم ثقتهم بثبات صاحب الصحيفة على
الخطة التي يختطها لنفسه في ابتداء عمله. فمن النصيحة لقراء المنار أن نعرف
إليهم المقتبس (الكاتب) أولاً والمقتبس (المجلة) ثانيًا ليشترك من يشترك عن
بينة.
محمد أفندي كرد علي من شبان دمشق الذين حسنت تربيتهم، وعني
بتعليمهم، وقد اشتغل زمنًا بتحرير جريدة (الشام) وله مقالات كثيرة في مجلة
المقتطف، ويعرف التركية والفرنسية معرفة جيدة ويحسن الترجمة عنهما وعبارته
من أحسن عبارات كتاب هذا العصر وأسلمها من الخطأ والعسلطة والمعاظلة. وهو
حسن الاختيار فيما يقتبس من الكتب العربية والأوربية وحسن القصد فيه. وما
حمله على إنشاء هذه المجلة إلا ولوعه بنشر العلم والأدب الذي يراه نافعًا فالكتابة
إنشاء، وترجمة هي منتهى لذته لا يكره فيها إلا الخوض في السياسة، وكل ما
يختلف الناس فيه من المذاهب والمشارب، فأنشأ مجلة المقتبس ليمتع عقله بلذته.
ويفيد قراء العربية بحسب استطاعته، ودعوة أصدقائه من الكتاب إلى مساعدته،
وهو غني عن الكسب بقلمه وقد وطن نفسه على الخسارة المالية سنتين أو ثلاثًا ولكن
محبي العلم والأدب في مصر وغيرها لا يرضون له الخسارة في خدمتهم إن
شاء الله تعالى.
مباحث المجلة تدخل في عشرة أبواب:
(1) صدور المشارقة والمغاربة -وهو لتراجم الرجال الذين ينتفع بسيرتهم.
(2) المقالات.
(3) التربية والتعليم.
(4) الصحف المنسية -ينشر فيه ما طوي ذكره من منثور العربية ومنظومها في الجد والهزل.
(5) تدبير الصحة.
(6) تدبير المنزل.
(7) المطبوعات والمخطوطات، ويدخل فيه تقريظ الكتب المنشورة بالطبع
والتعريف بالكتب المخزونة في المكاتب.
(8) مقالات المجلات، يذكر فيه أهم ما في المجلات العربية والإفرنجية من
المقالات والآراء.
(9) سير العلم يدخل فيه ما يقتبس من المجلات الغربية.
(10) نفاضة الجراب، وهو في الشجون والأفاكيه.
جاء في الجزء الأول ترجمة وجيزة لابن حزم ومقالة في الأمية والكتاتيب
وأخرى في سيئات القرن الماضي ملخصة من مجلة فرنسية، ومقالة في تعليم
اللغات وهي مترجمة أيضًا وبعض مقاطيع من شعر حافظ وعبد الرحمن شهبندر
والرافعي متفرقة ونبذة في التمثيل في الإسلام، ونبذة في التناسل الغريب يريد كثرة
النسل ونبذة في العمل والعملة، وشيء من نصائح ابن حزم وشيء من نكات
الوهراني وشيء في وصف الجرائد لعبد الله باشا فكري، ونبذة في أوقات الطعام
ونبذة في استعمال السكر وأخرى في حياة الفقير ورابعة في دواء الأرق، وكلام من
كتاب مداواة النفوس لابن حزم وعن منشآت الوهراني وعن كتاب فرنسي اسمه
نصائح للعملة وعن قصة (في وادي الهموم) ، كل شيء مما تقدم في الباب اللائق
به عند الكاتب وفي باب سير العلم نحو 20 نبذة وجيزة. وغير ذلك
وقد انتقدنا عليه أمورًا لا يسلم من مثلها المبتدئ بالعمل منها أنه كتب عن ابن
حزم في ثلاثة أبواب وتكلم عن الوهراني في غير ما وضع. ترجم ابن حزم في
الباب الأول ثم ذكر شيئًا من نصائحه في باب الصحف المنسية ثم ذكر الكتاب الذي
اقتبس منه النصائح في باب المطبوعات وكان يحسن أن يذكر في باب واحد من هذا
الجزء وكذلك يقال في تكرار ذكر الوهراني والكلام في العملة. ومنها أن ما ذكره
من النصائح لم يعد من الصحف المنسية وقد طبع الكتاب قبل وجود المجلة. فإن
أراد بالصحف المنسية ما أهمل الناس العمل به فالباب واسع يدخل فيه كثير من المجلدات العظيمة في التفسير والحديث والرقائق وغير ذلك فالانتقاد على الباب
نفسه أولى.
ومنها أنه لم يحسن ذكر منشآت الوهراني والتشويق إليها والتصريح بتعمد
كتمان مكانها لأن هذا يغري أهل الولوع بأمثال هذه المسائل إلى البحث عنها ومن
بحث عن الموجود ظفر به غالبًا. ومنه أن بعض المباحث لم توضع في الأبواب التي
هي أليق بها فقد أدخل في باب التربية والتعليم الكلام في العملة والصناع وأخرج منه
بحث تعليم اللغات. وذكر شيئًا من مقاطيع الشعر في باب المقالات دون باب
الصحف المنسية. ومنها أن المنقول في بعض المواضع لم يتميز بنسبته إلى
الكتب والعلماء تميزًا ظاهرًا يعرف أوله وآخره بلا اشتباه كما يرى المدقق في
ترجمة ابن حزم وما نقل منها عن الذخيرة لابن بسام. ومنها الاختصار المخل في بعض المباحث كمبحث (الأمية والكتاتيب) فالظاهر أنه يريد الكلام على
الأمية في الإسلام وكيف انتقلت العرب بعده منها إلى التعلم حتى إنشاء الكتاتيب
قديمًا وحديثًا ولكنه جعل نحو ربع ما كتبه في معنى لفظ الأمي وفي تفسير ما ورد
في أهل الكتاب من قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلا أَمَانِي} (البقرة: 78) (وقد ذكر في المقتبس لفظ يقرءون بدل يعلمون سهوًا فليصحح)
وكان المناسب أن يذكر تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً
مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (الجمعة: 2) فقد فسر
الكتاب هنا بالكتابة وهما مصدران لكتب. ثم ذكر شأن الكتابة في الجاهلية وذكر أممًا
أخرى بالإيجاز ولم يذكر عن الإسلام بعد ذلك إلا سطرًا ونصف سطر وقال بعد
ذلك (هذه زبدة ما يقال في معنى الأمية في الإسلام) إلخ والسبب في هذا الاختصار
المخل رغبة الكاتب في إيداع الجزء مباحث كثيرة، وأمثال هذه الأمور التي انتقدناها
مما يسهل تلافيها لا سيما بعد التنبيه إليها ومنها ما تبع فيه اصطلاح
مجلات أوربا وإن لم يكن عندنا مألوفًا.
وجملة القول: إن (المقتبس) مجلة نافعة حسنة العبارة وصاحبها كما قيل له
في كل جو متنفس، ومن كل نار مقتبس، وهي مرجوة الثبات والدوام، مرجو لها
التقدم إلى الأمام، وصفحات الجزء منها 56 وقيمة الاشتراك فيها خمسون قرشًا
صحيحًا في مصر وثلاثة عشر فرنكًا في سائر الأقطار.
***
(كشف الخبايا - والمسلمون والقبط)
ظهرت جريدة أسبوعية بهذا الاسم لعبد الحميد أفندي فريد الذي كان قبطيًّا
فأسلم تاركًا خدمة الكنيسة القبطية التي كان واعظًا فيها وخدمة مدرسة القبط في
ملوي وكان ناظرًا لها تاركًا هذا وهو مورد معاشه لأنه اعتقد بعد طول البحث بحقية
الدين الإسلامي فلقي من القبط مناهضة شديدة ومناصبة قوية كما هي عادتهم، حتى
أنهم هددوه واتهموه بما يحكم فيه القضاء حكمه المهين لو ثبت فلم تثبت التهمة،
ولكنه هو ثبت في الفتنة، وأنشأ هذه الجريدة يبين فيها الآيات والدلائل التي أخرجته
من دين وهدته إلى آخر، ويذكر فيها بعض ما لقي من القوم الذين فارقهم، وما هم
عليه مما نفره منهم، فينتقد جميع ما يراه منتقدًا من هذه الطائفة، وقد صدر العدد
الأول من الجريدة في 14 شوال الماضي وفيه شيء كثير من ذلك.
لو أن القوم عذروا الرجل فيما ظهر له أنه الحق ولم يفتنوه ليكتم اعتقاده
وينافق بإظهار خلافه لما تصدى للاشتغال (بكشف الخبايا) وقد يقرأ قارئوهم هذه
الكلمات التي كتبتها فيفهم منها أنني أنتصر له وأحمد عمله؛ لأنه صار مسلمًا، فأنا
أتعصب له تعصبًا جنسيًّا كما يعهد منهم وممن اتخذ الدين جنسية من المسلمين وغير
المسلمين. ولكن من يقرأ المنار يعلم أنني أدعو دائمًا؛ لأن يكون الدين كله لله لا
للعصبية الجنسية. وقد قال نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - " ليس منا من دعا
إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية "
رواه أبو داود عن جبير بن مطعم أدعو إلى هذا لاعتقادي أن الناس إذا تركوا
العصبية الجنسية فإنهم يعذرون كل معتقد في اعتقاده ولا يفتنونه فيه، وإنما يدعو
الداعي إلى اعتقاده بالبرهان الذي يستند إليه فيه كما أمر الله تعالى بقوله {ادْعُ إِلَى
سَبِيلِ رَبِّك بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) ومن كان على بينة من
اعتقاده فهو يعتمد في نشره على بيانه للناس كما قال تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الغَيّ} (البقرة: 256) وسنة الله في الخلق تقضي باختيار
الأمثل، وترجيح الأفضل، متى وجدت الحرية، وزال الاضطهاد والفتنة.
رأيت في جريدة (كشف الخبايا) كلمة لعلي لو لم أرها لم أكتب ما كتبت،
رأيت فيها الرجل يقول القوم فيما حكاه أن أحدهم قال له - وهو أقرب الناس إليه
وأعز الأصدقاء له -: (يا ليتك كفرت بالله وصرت وثنيًّا أو طبيعيًّا، فكان ذلك
أولى وأحسن من دين محمد..) ويا ليته حذف ما حذفت من قوله فلم يكتبه كله.
ولا شك عندي بأن قائل هذه الكلمة لا حظ له من الدين إلا العصبية الجنسية السوءى،
وبغض المسلمين؛ لأن كل متدين، بل كل إنسان يرى أن أقرب الناس إليه فيما هو
عليه من كان مشاركًا له فيه على نسبة ما به الاشتراك فأقرب الناس من الكتابي من
كان يؤمن بالله وبالرسل والكتب، ثم من كان يؤمن بالله دون الرسل، ثم من كان
له دين ما ولو وثنيًّا وأبعدهم عنه من لا يشاركه في شيء من ذلك فكيف يكون قائل
تلك الكلمة مسيحيًّا يدين بما أمر المسيح من محبة الأعداء ثم يقول ما قال في دين ونبي
جاء في كتابه {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} (المائدة: 82) .
ليس الذنب في هذه العصبية الجنسية الجاهلية خاصًّا بالقبط، بل هي عامة
بعموم الجهل في البلاد فغوغاء المسلمين وكثير ممن يعدون من نبهائهم يأتون
بالأعمال المتكررة في الحفاوة بمن يسلم من النصارى فيحفظون قلوبهم ويحركون
أضغانهم وذلك ضار بمصالحهم الدنيوية التي تتوقف على البر والمجاملة، وحسن
المعاملة لا على ترك الإيذاء فقط وليست من الدين في شيء، بل هم مخالفة له؛
لأنه ينهى عن الإيذاء ويأمر بالعدل والإحسان {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ
فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) ومن الدلائل على أن عمل هؤلاء الذين يفرحون ويطربون بمن
يسلم من النصارى من عصبية الجاهلية لا من الغيرة الإسلامية أن أكثرهم يجهلون
عقائد الدين، وآدابه وأحكامه ولا يكادون يعملون بما يعلمون منها.
المسلمون والنصارى في هذه العصبية الجاهلية سواء، والعارفون بمضارها
من الفريقين قلما ينهون عنها، وقد علمت مما قص علي من الوقائع في ذلك أن
الفرق بين المسلمين والقبط فيها من وجه واحد، وهو أن علماء المسلمين وكبراءهم
من الحكام وغيرهم قلما يوجد فيهم من يميل إلى ما تفعله العامة، أو يساعدهم عليه
وأن القبط يعملون ما يعملون بتواطئ بين كبرائهم من رجال الدين، ورجال
الحكومة وغيرهم، والسبب الطبيعي في ذلك أن ما يفعله المسلمون لا يحتاج إلى
رأي، ولا تدبير، ولا مساعد، ولا نصير؛ لأنه عبارة عما يسميه فاعلوه من العامة
(هيصة) يجتمع فريق من الغوغاء يحتفلون بالمسلم الجديد بالصياح في الشوارع
بالدعاء للإسلام والتعريض بالكفار. وقلما يتنصر مسلم وإن وقع ذلك لا يبالون به
ولا يجتهدون في إرجاع المتنصر عما ذهب إليه. وأما القبط فإن جل فعلهم في منع
من يريد الإسلام من الدخول فيه بالترغيب والترهيب ثم الإيذاء، ولا يخلو ذلك من
خطر على فاعله، فالترهيب مع اتقاء الخطر لا يكون إلا من كبراء الأمة رأيًا
ونفوذًا. إن تواطؤ كبراء القبط على ما يتعلق بشرفهم آية بينة على حياتهم القومية،
وقوة رابطتهم الجنسية، وهم يفضلون المسلمين بهذا، ولكن توجيه هذه القوة إلى
مقاومة من يدخل في الإسلام، والكيد له، والحيلولة بينه وبين زوجه وولده مما لا
تقل فائدته، ولا تؤمن غائلته، فلو تساهلوا فيه وتركوا من يسلم وشأنه لكان خيرًا لهم
وإن كان يعسر عليهم ما دام المسلمون مصرين على تلك المظاهرات الصبيانية. فأنا
أدعو الفريقين إلى ترك الدين لله وجعل الرابطة الملية حاديًا يحدو بالأمة إلى
الاعتزاز بالعلم والعمل ولا عزة بمن يتوجه إلى غير دينه مقتنعًا معتقدًا ثم يترك ذلك
خوفًا ويعيش منافقًا.
ثم إنني أنصح لعبد الحميد أفندي فريد المسلم الجديد بأن يجعل عنايته في طلب
فضائل الإسلام والاجتهاد في التحقق بها حتى لا يكتب ولا يأتي ما لا يبيحه له فقد
رأيت فيما كتبه تحت عنوان عن أبواب الكنيسة السرية وأمورها الخفية إسناد حب
الباطل واتباع الفساد إلى بلعام بعد جعله نبيًّا والمسلمون لا يعترفون بنبوة بلعام حتى
على ما ذكر في التفسير من كونه هو المراد بقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ
آيَاتِنَا} (الأعراف: 175) كما يعلم من مراجعة كتب التفسير. وأنصح له أن لا
يكتب ما يكون سببًا للعداوة والبغضاء فإن كان للقبط سيئات خفية فالشرع الإسلامي
لا يأذن بفضيحة الناس وإظهار سيئاتهم لما في ذلك من إعلان القبيح وغير لك من
المضار وإن كان فيها ما يضر المسلمين جهلهم به، فالتحذير منه مما لا تعسر مع
الأدب والاحتراس وما ذكره في الأبواب السرية ليس من النصيحة للمسلمين في
شيء. الجريدة تطلب من صاحبها في ملوي وقيمة الاشتراك فيها 40 قرشًا في
مصر ويقبل من طلاب العلم كافة ومن خدمة الجوامع نصف القيمة.
***
(كتاب الخير والشر - أو قصة كاترينا)
لإسكندر ديماس الشهير بتأليف القصص الخيالية قصة سماها (كاترينا بلوم)
نقلها إلى العربية كل من محمد أفندي وجيه رئيس كتاب المجلس البلدي في
المنصورة وحسين أفندي الجمل وكيل البريد في المطرية مطرية الدقهلية نقلاها
بالتعاون والاشتراك وطبعاها على نفقتهما فكانت صفحاتها 240 وهي بشكل كتاب
الإسلام والنصرانية وجعلا ثمنها ستة قروش صحيحة لمن يطلبها بالبريد.
سمّيا القصة كتاب الخير والشر؛ لأن كاترينا التي هي موضوع القصة خيرة
فاضلة ربيت تربية فطرية بعيدة عن منازع الشر، وكان لخالها الذي رباها ولد عني
به كما عني بها فكانا متشاكلين فتحابا ورغبا كما رغب مربيهما أن يكونا زوجين
وكان هناك رجل شرير يكيد لهما، ويحاول إفساد ذات بينهما وإيقاعهما في الهلاك
فكان عاقبة أمره خسرًا وانتصر الخير على الشر. على أن اسم (كتاب الخير والشر)
أكبر من هذه القصة؛ إذ ليس موضوعها بيان أنواع الخير وطرقها والهداية إليها،
وبيان أنواع الشر وطرقها وكيفية اجتنابها، وأكبر ما في القصة من العبرة بيان
مضرة جهل المرأة، وتعصبها وتحكيم هواها في أمر تزويج ولدها؛ فقد كان جهل
أم برنار وتعصبها وتحكيم هواها في منعه من التزوج ببنت عمه البروتساتانتية أضر
من كيد ذلك الشرير له ولخطيبته، ولولاها لما كان لذاك الكيد أثر يذكر، فهذا دليل
على أن المحب الجاهل كثيرًا ما يكون أضر من العدوّ عاقلاً أو غير عاقل. ومن
قرأ وصف تلك المرأة رأى أنه ينطبق على أكثر نساء هذا العصر في هذه البلاد
وأمثالها.
وأما عبارة الترجمة فهي تفضل أكثر ما نرى من عبارات مترجمي القصص
وتتحامى كثيرًا من الأغلاط المشهورة فيها وفي الجرائد، وقد طلب المعربان في
مقدمتهما للقصة غض الطرف عن السهو والزلل وعدَّا ذلك من نظر التنشيط دون
التثبيط، وليس الأمر كذلك، فإن التنبيه على ذلك هو الذي ينشط الكاتب ويزعج إلى
الاحتراس من مثله، وهو لا يمنع من رواج العمل لا سيما في القصص؛ لأن أكثر
قرائها أو جميعهم يبتغون بها التسلية.
__________(8/832)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شيخ الأزهر
وزينة الكسوة والمحمل،
حكم الفرجة عليهما
الشيخ عبد الرحمن الشربيني شيخ الجامع الأزهر مشهور بالتقشف والزهد
والعزلة والإعراض عن أهل الدنيا، ولما ذهب إلى الإسكندرية لوداع الأمير قبل سفره
إلى أوروبا في الصيف الماضي ذكرت جريدة المؤيد من خصائصه أنه لم ير
الإسكندرية قبل هذه المرة، ولم يحضر الاحتفال بمحمل الحج أي ولا الاحتفال بنقل
كسوة الكعبة، وقد لهج الناس يومئذ بما كتب المؤيد فمنهم من قال: إن هذا ذم لا مدح
ومنهم من توقف في الحكم، ذلك أن من الناس من يظن أن الاحتفال بالكسوة
والمحمل من شعائر دين الإسلام، ويظن أن حضور العلماء فيه هو من آيات ذلك
وإلا لأبوا وأنكروا. والحق أن امتناع الشيخ الشربيني لم يكن إلا لاعتقاده بأن
حضور ذلك الاحتفال حرام، وإننا نورد هنا بعض نصوص فقهاء مذهبه في ذلك.
قال البجيرمي على الخطيب: والكسوة المعروفة حرام لاشتمالها على الفضة
(قال) والحرمة هنا عدها البلقيني من الكبائر وقال الأذرعي: إنها من الصغائر وهو
المعتمد، وقال: ويحرم زركشة أستار الكعبة من الفضة، ومثلها في حرمة الزركشة
بما ذكر ستور قبور الأنبياء والمرسلين على المعتمد خلافًا للبلقيني. وإذا قلنا
بحرمة ذلك فتحرم الفرجة عليه أيضًا كالفرجة على الزينة المحرمة، لكونها بنحو
الحرير بخلاف المرور عليها لحاجة، وامتناع ابن الرفعة من المرور أيام الزينة كان
ورعًا كما قاله الرملي. ولو أُكره الناس على الزينة المحرمة لم يحرم عليهم، وهل
يجوز التفرج عليها حينئذ، الذي يتجه المنع؛ لأن ستر الجدران بالحرير حرام في
نفسه، وعدم حرمة وضعه لعذر الإكراه لا يخرجه عن الحرمة في نفسه وما هو حرام
في نفسه يحرم التفرج عليه؛ لأنه رضاء به كما قاله ابن قاسم على المنهج اهـ
كلام البجيرمي. ومثل ذلك في حواشي الشبراملسي على الرملي.
وقال البجيرمي على الخطيب أيضًا: تنبيه يعلم من هنا، أي من الكلام على
الحرير، وما يأتي في زكاة النقد أن المحمل المشهور غير جائز، ولا تحل الفرجة
عليه، ولا يصح الوقف عليه، ومثله كسوة مقام إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -
وكذا الذهب الذي على الكسوة، والبرقع ... إلخ اهـ. ق ل على المحلى. اهـ
وقال الباجوري في حواشيه على ابن قاسم الغزي: ويحرم التفرج على المحمل
المعروف، وكسوة مقام إبراهيم ونحوه ونقل عن البلقيني جواز ذلك لما فيه من
التعظيم لشعائر الإسلام وإغاظة الكفار وهكذا كسوة تابوت الولي وعساكره اهـ
وقال الجمل في حواشيه على المنهج: ويحرم ستر الجدران ونحوها بالحرير
كستر ضرائح الأولياء إلا الكعبة وقبور الأنبياء، نعم، لا يحرم ستر الجدران به في
أيام الزينة بقدر ما يدفع الضرر، ويحرم المرور والفرجة عليها لغير حاجة خلافًا
للعلامة ابن حجر. وعلم من هذا ومما يأتي في باب زكاة النقد أن المحمل المشهور
غير جائز، ولا تحل الفرجة عليه ولا يصح الوقف عليه، ومثله كسوة مقام إبراهيم
عليه الصلاة والسلام، وكذا الذهب الذي على الكسوة والبرقع اهـ البرماوي
اهـ. الجمل.
وقال الشيخ عوض على الخطيب: وكذا يحرم تمويه كسوة الكعبة والمحمل
الشريف، والتفرج عليها حرام، وكذا الزينة التي تفعل بمصر. اهـ.
هذا هو المعتمد وما نقلوه عن البلقيني، ولم يحفلوا به هو رأي له مبني على
شبهة واهية، وهي إغاظة الكفار، ولو جاز أن نكلف إغاظة الذميين والمعاهدين لما
جاز أن ترتكب المعصية لذلك، وتعظيم شعائر الحج إنما تكون في إقامتها على
وجهها في مواضعها. وقد ذكرت الجرائد في هذه الأيام أن شيخ الجامع حضر
الاحتفال بنقل الكسوة فيا ليتنا نعرف هل ظهر له بعد أن صار شيخًا للأزهر خطأ
فقهاء المذهب وصحة رأي البلقيني فاتبعه ليعظم الشعائر ويغيظ الكفار أم ظهر له
دليل آخر على الحِل؟
__________(8/839)
16 ذو القعدة - 1323هـ
11 يناير - 1906م(8/)
الكاتب: عبد الرحمن الكواكبي
__________
تجارة الرقيق
وأحكامه في الإسلام
من آثار المرحوم السيد عبد الرحمن أفندي الكواكبي الشهير،
كتبها بعد سياحته الأخيرة قبل موته.
من كان مطلعًا على أحوال سواحل شرقي إفريقيا وسواحل جزيرة العرب
ويطلع على ما كتبه المستر..... بخصوص مسألة الرقيق وما نسبه فيها من
القصور للمؤتمر الدولي في زنجبار يستغرب جدًّا من تسرع وتهجم الكاتب
المذكور على مؤاخذة مصلحة الرقيق بدون تثبت في الأمر، ولو أن جنابه اعتنى بتحقيق مسألة الرقيق لظهرت له الحقائق الآتية:
(أولاً) أن هذه التجارة بهمة المؤتمر المشار إليه وحراسة أوربا الدائمة لم
يبق منها إلا اسمها تقريبًا.
(ثانيًا) هذه البقية مقصورة على شمال شرقي إفريقيا حيث نخَّاسة الجنس
السواكني والجنس الدنقلي يجلبون من السودان بعض الرقيق إلى الثغور المهملة
الإفريقية المقابلة من جزيرة العرب لثغور الوجه وينبع وجدة ورابغ وميلت
وقونفذة وجران.
(ثالثًا) تهريب الرقيق كاد ينحصر بسفائن جدة المشهور أصحابها بالمهارة
البحرية، وبالإقدام على المخاطرات، فهذه السفائن تنقل الرقيق من شرقي إفريقيا
إلى غربي جزيرة العرب يعني أن الثغور المذكورة التي تفصل بين السواحل الغربية
فيها وما بينهما من الثغور المهملة، تلك الثغور الباقية وحيدة في تجارة الرقيق بل
ومنذ سنين إلى الآن يتشكى أهل الحجاز من وجود قرصان في تلك المياه تحت
رياسة ابن غيبش والحكومة العثمانية لا تصغي لتلك الشكايات ألبتة.
(رابعًا) هذه السفائن ليست حرة في نقل الرقيق، إنما هي تخاف من بواخر
حراسة الرقيق، ولذلك تترصد أواخر الشهر القمري لتغتنم السرى ليلاً تحت ستار
الظلام فتقلع من الساحل الإفريقي إذا صادفت الريح موافقة عند غروب الشمس
وتصبح في شاطئ جزيرة العرب.
(خامسًا) إذا تعمق جنابه في التحقيق كما يفعله المغرمون بالحرية غرامًا
أصوليًّا يعرف أن البقية اليسيرة للرقيق هي تصدر من الحجاز مع قوافل الحجاج
فتدخل بالأكثر إلى نجد وأقل منها إلى اليمن وأقل من الجميع إلى بلاد سوريا وهذه
الأخيرة ما عاد يدخلها رقيق الذكور مطلقًا.
ثم لا بد أنه كتب ملاحظته في التدابير التي يراها تفيد في حسم هذا الأمر الذي
يشتكى منه، ونحن لأجل أن لا نترك عين هذا الاعتراض يتوجه علينا نقول: إن
أفعل التدابير في هذا الخصوص هي هذه:
(أولاً) أخذ سفائن جدة وينبع وسفائن سواكن وما في جوارها أيضًا التي
أصحابها من أهالي جدة تحت مراقبة قوية من قبل قناصل الدول المجتمعين في جدة
(ثانيًا) إبرام السفارات في الآستانة على الباب العالي أن تلزم حكومة
الحجاز بمنع بيع الرقيق علنًا حتى في سوقه المخصوص في مكة المسمى (الدكة)
كما هو الآن.
(ثالثًا) أن يصير تهديد الباب العالي تهديدًا مشتركًا دوليًّا بأن إذا بقيت تجارة
الرقيق مباحة في الحجاز فالدول (تسحب تنازلها عن إقامة وكلاء سياسيين لها في
ولاية الحجاز في غير جدة وذلك لأجل مراقبة تحرير الرقيق مع حماية الحجاج
المسلمين من رعايا الدول أو الذين في حمايتها) [1] .
لي صديق من علماء العرب المسلمين ومن مشاهير الأحرار والكتاب
السياسيين [2] فذاكرته في شأن خصوص الرقيق، والديانة الإسلامية، وما هو نظر
علماء الإسلام في هذه الخدمة للإنسانية القائمة بها الدول الغربية فقال:
إن الدين الإسلامي جوز الرق كسائر الأديان ولكن هذا الدين المترقي في
الحكمة التشريعية بالنسبة إلى كل الشرائع القديمة لم يمنع الأحكام القاسية المألوفة
منع مصادمة إنما شدد في ثبوتها وجعل للمبتلين بها كثيرة منقذة من العقوبات
الشديدة باسم الدين [3] ومن جملة ذلك أنه ضيق دائرة الرق جدًا بحيث يظهر بكل
وضوح أن قصد الشريعة الإسلامية إبطال الرق أساسًا بالتدريج كما يعلم من الأحكام
الآتية:
(1) الشريعة حصرت الرق في المتولدين من أبوين رقيقين وفي أسرى
الحرب القانونية مع غير المسلمين، وغير العرب، وغير الأقارب؛ فإن هذه
الأصناف لا تسترق.
(2) جعلت الاسترقاق غير الشرعي من أعظم المحرمات فيأتي في
المحرمات تالي النفس (وفي نسخة: ومبلغه منها أن يأتي بعد قتل النفس) .
(3) جعلت العتق هو الكفارة الوحيدة لجملة خطايا دينية إذا وجد الرقيق
مهما بلغت قيمته.
(4) جعلت العتق هو الكفارة العظمى لجميع أنواع الخطايا التعبدية.
(5) جعلت العتق من أهم النذور.
(6) جعلت العتق محللاً للحنث باليمين التي لا يتعلق بها حق من حقوق
الناس.
(7) جعلت العتق أتم وفاء لحق شكر الله على النعمة، أو على السلامة من
خطر.
(8) جعلت العتق أهم ما يوصي به المسلم بعد موته ليكافئه الله بعتقه من
عذاب الآخرة.
والحاصل أن الإسلام كاد أن يلزم أهله بأن كل فرد منهم يعتق ما يمكنه إعتاقه
من الرقيق، ولهذا لا يستمر الرقيق عند المسلم مدة طويلة قط بل مدة مؤقتة.
وكذلك الشريعة المدنية الإسلامية هم أعظم شريعة جاءت محامية عن الحرية
وذلك أنها:
(1) جعلت الرق يسقط بمجرد أن يدعي الإنسان أنه حر إذا اعتبرت لزوم
تصديقه، لأنه يدعي حقًّا طبيعيًّا وألزمت مدعي ملكه بإثبات أصل رقيته.
(2) جعلت إقرار الإنسان على نفسه بالرق ولو ألف مرة لا يسلب حريته
ولا يمنعه من ادعاء الحرية بعد.
(3) جعلت الرق يسقط بورود لفظ العتق على لسان المالك ولو هازلاً أو
سكرانًا أو بلغة لا يفهمها أو مكرهًا على النطق بها.
(4) جعلت رق الأنثى شبه ساقط بمجرد أن تلد ولدًا من مالكها فلا تنقل إلى
ملك آخر وبموته تصير حرة مطلقة.
(5) جعلت القول قولها في أن حملها هو من مالكها، وإذا أنكر فقولها يؤثر
في عتقها، وإن لم يؤثر في ثبوت نسب الولد منه.
(6) جعلت مالك جزء من رقيق ولو واحدًا من ألف إذا أعتق جزءًا عتق
الكل رغمًا عن باقي شركائه، وحق لهم تضمين المعتق خسارتهم فقط.
(7) جعلت حكم القاضي بالعتق ينفذ مطلقًا ولو كان ظالمًا في حكمه.
(8) جعلت خليفة المسلمين إذا رأى في اجتهاده (ولا بد أن يكون الخليفة
مجتهدًا شرعًا) أن كافة الأرقاء المملوكين للمسلمين رقيتهم غير صحيحة فحكم
بحريتهم جميعهم نفذ حكمه وصار العبيد أحرارًا دفعة واحدة، ولو خالف في حكمه
آراء بعض المذاهب الإسلامية القديمة إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية التي تقاوم
عادة الاسترقاق القديمة في البشر مقاومة شديدة. فشريعة الإسلام هي أول شريعة
دينية سياسية دافعت عن الحرية ونادت بإبطال الرق بتلك الوسائل وليست معاداة
الشريعة الإسلامية للرق من الغريب لأنها ظهرت في العرب الذين هم أحرص الأمم
على الحرية ونزلت في أرضهم التي نزلت فيها أيضًا صحف الحكمة على أبي
الأنبياء عليهم السلام وتحررت بلغتهم التي كتب بها أول قانون للحرية والإخاء
والمساواة، ولكن كما جرفت سيول برابرة الشمال رياض الرومان واليونان فأوقعتهم
في القرون الوسطى المظلمة، كذلك جرفت سيول المغول وإخوتهم رياض العرب
فأوقعتهم في مثل تلك القرون التي يسعون للخروج منها.
ومن ثم فالعلة الحقيقة لاستمرار الرق هي الأمراء المستبدون الذين لا يتقادون
للدين الإسلامي إلا لأجل تطبيقه على أهوائهم، فهم يتخذون الدين في الظاهر حجة
للتمتع بالرقيق لا سيما بعد أن قامت الأمم الغربية ودولها بتحريره، فهؤلاء الأمراء
يظهرون الآن أمام أوربا أنهم يودون منع الرقيق ولكن يخافون رعاياهم المسلمين لأن
الرقيق جائز شرعًا ولضرورة المحافظة على الآداب والعادات الإسلامية لا يمكنهم
إبطاله دفعة بل تدريجًا مع أن مسامير الرق في الحقيقة هي كبرياء الأمراء
والمقلدين لهم وليست هي الإسلام نفسه كما يفترونه عليه ولا بد أن يستغرب
الأوربيون إذا قلنا: إن علماء الدين الإسلامي ليس فيهم من يجوز الرقيق مطلقًا منذ
عدة قرون أي منذ لم تبق حرب قانونية إسلامية يراد بها حماية الدعوة الإسلامية
ونشرها أو يراد بها المدافعة عن الجمعية الإسلامية وكذلك لم يبق في الأمة أُسَراء
متسلسلين، وإنما العلماء الأحرار يسكتون ويتجاهلون خوفًا من الأمراء أو محاباة لهم
لأنهم يرون أن أعظم بيت في الأمراء المسلمين لم يزل منذ أربعة قرون تقريبًا متبعًا
قانونًا عائليًّا من مقتضاه عدم زواج ذكورهم بنساء غير رقيقات فأمهاتهم وزوجاتهم
جمعيهن رقيقات من الكرج أو الجركس. مع أن الرق لا ينطبق شرعًا على الكرج
منذ قرن ونصف؛ إذ انقطع دخول جيوش الإسلام إلى بلاد الكرج وكذلك لا ينطبق
على الجركس، لأنهم مسلمون ولما هو معروف أيضًا من أن الجركس يبيعون أولادهم
بيعًا أو يسترقون من المدينين لهم أولادهم في مقابلة ديونهم.
العلماء المسلمون إذا لم يسكتوا عن بيان هذا الخلل في الكرج والجركس
يلزمهم أن يحكموا ويصرخوا أيضًا بأن جميع أولئك الأمراء ليسوا بأولاد شرعيين،
وهؤلاء الأمراء يمكنهم بلا صعوبة أن يبطلوا هذا القانون العائلي كما أبطلوا أخيرًا
منذ أربعين سنة قانون قتل جميع أولاد الأميرات السلطانيات اللائي كن يزوجن
لأزواجهن بشرط أن لا يعقبن أولاد أبدًا وذلك للحرص على عظمة بيتهم الملوكي من
أن يكثر الانتساب إليه.
أما ما يقال عن حاجة المسلمين للرقيقات لأجل الخدمة فليس هناك حاجة
ضرورية، إنما هي كبرياء وعظمة وتقليد لأرباب البيوتات من الأمراء فقط كما أن
الخصيان لا ضرورة لوجودهم، والشريعة الإسلامية لا تجوز خصاء الحيوان فضلاً
عن الإنسان، وإذا وجد رجل مخصي بفعل الغير، فأكثر المذاهب الإسلامية ومن
جملتها المذهب الحنفي السلطاني تعتبره كسائر الرجال بلا فرق ولا تجوز استخدامه
في القصور بين النساء، ولا يخالف هذه المذاهب في ذلك غير المذهب الشافعي فقط.
الشريعة الإسلامية وعلماؤها الأحرار يشكرون أوربا على منعها الرقيق وهم
مسرورون من نجاح سعيها لتحقيقه ويتمنون لو أن أوربا تهتدي إلى وسيلة تكون
قاطعة مانعة بها يسد باب الرقيق بالكلية.
يقول صديقي المذكور أنه يلوح لفكرة من التدابير المؤثرة في هذا الشأن ما
يأتي:
(أولا) أن تستعمل أوربا نفوذها الأدبي في استقباح وجود الجنس الأسود
ذكورًا وإناثًا في قصور الأمراء بحجة قبح خلقتهم وأخلاقهم، وكذلك استقباح وجود
إناث بيض في تلك القصور أسيرات ذليلات بدون جناية ولا اختيار.
(ثانيًا) أن تحمل أوروبا الأمراء الشرقيين على اتباع عادات أمراء الغرب
بإعلان زواجهم الشرعي وتكرههم بالتدريج أن يطلبوا من دول أوربا أن لا تعتبر
رسمًا من ورثائهم الشرعيين في الإمارة كل مولود لهم من زوجة غير شرعية، وهذا
التحديد لأجل أن يعلن زواجها قبل الولادة بسبعة أشهر على الأقل ومنع إعلان
الزواج بعد ظهور الحمل.
(ثالثًا) أن تكلف الدول سفراءها في القسطنطينية وطنجة وطهران
وكابول وقناصلها في تونس ومصر وجدة (عوضًا عن مكة) بأن يستفتوا بواسطة
حكومات العواصم الإسلامية من المفتين الرسميين التابعين لمذاهب مختلفة عن
الحكم الشرعي في مسألة نصها كما يأتي:
ما قول علماء الشرع الإسلامي المحترمين في الإنسان هل يصح اعتباره
رقيقًا بشرائه من أوليائه أو بالسرقة أو بصورة الأسر، ولكن في حرب قامت بها فئة
صغيرة مسلمة خارجة عن الجامعة الإسلامية ومخالفة في ذلك الأسر عهد أكثر
سلاطين المسلمين عهدًا عامًّا دوليًّا بإبطال الأسر الحربي مقابل عدم وقوع الأسر
على كافة المسلمين [4] .
إن هذا الاستفتاء ينتج أن القسطنطينية تحاول في الجواب وتمنع علماء مكة
عن الجواب أما باقي العواصم فكلها تجيب بعدم جواز الرق، وهذا الجواب من
الباقين يكفي لامتناع الأمراء من فخفخة استخدام الرقيق خوفًا أدبيًّا من رعاياهم
ويكفي لامتناع الناس امتناعًا دينيًّا من تملك الرقيق فيصبح أنصار الرق من
المسلمين أعداء له، وبذلك يتم بعد سنين قلائل إبطال الاسترقاق من العالم فيرتفع عن
عاتق الإنسانية هذا العار العظيم والأولى أن يكون الاستفتاء مرفقًا بالنص العربي
السالف البيان لأجل أن لا يقع فيه تحريف من ترجمة إلى ترجمة فيجد العلماء
المتشرعون الرسميون مهربًا بالتأويل والمواربة في الجواب فيرضون السائلين
ويرضون الأمراء بخلاف ما إذا كان النص عربيًّا بلغة الشريعة الإسلامية ذاتها.
***
(المنار)
يعلم القراء أن علماء الإفرنج يعدون مسألة الرقيق من أكبر المطاعن في
الإسلام ويفتخرون بأن مدنيتهم أرقى من الإسلام؛ لأن الإسلام يأمر باستعباد البشر
وهم يحررون الأرقاء حبًّا في الإنسانية، وقد أرجع دعاة النصرانية ملكًا من ملوك
المسلمين عن الإسلام بحجة أن النصرانية والإسلام شيء واحد إلا أنها تفضله بهذه
المسألة رحمة بالبشر فرجع وتبعه قومه. على أن كتاب دينهم الذي ينصرونه
وينشرونه فيه من الشدة على الأرقاء ما لا يوجد له نظير في الإسلام، والإسلام لم
يأمر بالرق ولا جعله فرضًا ولا سنة، وإنما هو شيء كان عليه الناس من جميع الأمم
فوضع له من الأحكام ما يمحوه مع الحكمة. وهذه المقالة كان الكواكبي - رحمه الله
تعالى - كتبها ولم ينقحها فنشرناها على علاتها بتصحيح ما دفاعًا عن الإسلام وضنًّا
بآثار هذا الرجل العاقل أن تضيع حتى إننا نشرنا ذلك الرأي الذي رمجه - أي أفسد
سطوره أو شطبه كما يقولون - وأما ما ذكره عن استرقاق الكرج والشركس فما أراه
إلا له لا لصديقه الذي نقل عنه تلك المسائل الشرعية في الرق فقد عهدناه يبحث في
هذه الشؤون، ونحن لا وقوف لنا على شيء من أحوال السراري والشركسيات
والكرجيات فنحكم في المسألة، فمن كان عارفًا بذلك من فضلاء القراء فليكتب إلينا
به وله الفضل وبما يراه نافعًا في المسألة.
هذا وإن للمرحوم الكواكبي كتابًا سماه (ماذا أصابنا؟ وكيف السلامة؟) أورده
ما لم يرجع عنه من آرائه في طبائع الاستبداد مع فوائد كثيرة سياسية واجتماعية
ولعلنا نجعله ملحقًا للمنار في العام القابل.
__________
(1) هذه الجملة التي بين قوسين قد رمجت من الأصل وكأنه كان يريد أن يكتب في موضوعها رأيًا آخر وقد أصاب بحذفها على أن الدول لا تتجزأ على هذا الآن.
(2) لا يخفى على القارئ أنه يعني بهذا الصديق: الأستاذ الإمام.
(3) هذه العبارة مبهمة مقضبة والمراد منها أن الإسلام شدد في شروط جواز هذه الأمور كالرق وتعدد الزوجات تنفيرًا عنها وجعل للخروج منها منافذ كثيرة كما يأتي.
(4) ينبغي أن يزاد في السؤال: وليست هذه الحرب لأجل حماية الدعوة الإسلامية إذ لا توجد حكومة شرعية تدعو إلى الإسلام.(8/841)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من دمياط
تتعلق بقصة المولد النبوي
من الشيخ محمد عبد الفتاح المدرس ببعض مدارس دمياط قال بعد الثناء
والتحية:
جاء إلى مدينة دمياط ليلة النصف من شعبان رجل (من الأشراف) المنتسبين
للعلم، وقصد أشهر مسجد ومدرسة دينية بها (جامع البحر) حيث اجتمع خلق
كثير لرؤية ما أعده أرباب الطرق به من الاحتفال بهذه الليلة، وبعد صلاة العشاء
أخذ القوم مجالسهم فقام هذا الرجل وجلس على كرسي مرتفع أعد لتدريس شيخ
العلماء (وقد قرأ علينا هنا درسين فقيد الإسلام والشرق المرحوم الشيخ محمد عبده
حينما كان بمصيف رأس البر في السنة الماضية) وابتدأ يسرد فوائد جمة لسماع
قصة المولد النبوي ثم سرد ما لا أذكر منه على كثرته غير ما يأتي:
(1) أن أول ما خلق الله نور نبينا - صلى الله عليه وسلم - ومنه استمد
جميع مخلوقاته.
(2) أن الله تعالى حينما زوج آدم بحواء قام في الملائكة خطيبًا معلنًا بذلك
ثم فرض عليه صداقًا صلاته على النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة مرة وقد
صدع بالأمر غير أنه لم يستطع إكمال العدد بل انقطع نفَسه عند إتمام السبعين فأقاله
الله من الباقي وجعل ذلك سببًا في جعل الصداق قسمين مقدم ومؤخر.
(3) أن جميع الوحوش البرية والبحرية بشَّر بعضها بعضًا ليلة الحمل
بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ونطقت بذلك بلسان عربي مبين.
(4) أن مريم حضرت ليلة ولادة النبي مع سارة وآسية لأنهم زوجاته في
الجنة.
(5) أن العلماء اختلفوا في أمر آسية فقيل: إنها لم تكن ماتت إلى هذا الحين
لأنها رفعت إلى الجنة حيث استغاثت بالله من فرعون وعمله وقيل: إن الله أحياها لهذا
الغرض والأول أصح.
(6) أن من يعتقد أن أحد الأنبياء ولد من الفرج يكون كافرًا لأنهم جميعًا
ولدوا من ثقب في الجنب الأيسر.
(7) أن النبي وجميع الأنبياء أحياء في قبورهم حياة كحياتنا هذه لقول النبي
صلى الله عليه وسلم (أنا في قبري حي طري) وقوله: (نحن معاشر الأنبياء
أحياء في قبورنا) .
ومن الأدلة المحسوسة (تأمل) على ذلك أن عليًّا - رضي الله عنه - حمل
زوجته فاطمة بعد موتها على يديه وأتى بها إلى القبر الشريف، وقال: يا رسول الله
هذه فاطمة الزهراء بضعتك الطاهرة قد جادت بروحها إلى الله في هذا اليوم، وقد
جئت بها إليك لتزورك فانفتح القبر (سبحانك هذا بهتان عظيم) ومد النبي يديه فتلقاها
من علي وأضجعها بجانبه، وقيل: إنه ردها إليه فدفنها بالبقيع، ولذلك ترى الناس
يزورونها بالمكانين عملاً بالروايتين.
وأن سيدي أحمد الرفاعي حين زار القبر الشريف أنشد هذين البيتين. ... ...
في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت ... فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
فمدّ النبي يده الشريفة إليه أمام الحاضرين فقبَّلها.
(8) أن عدد الأنبياء ونجوم السماء كعدد شعر لحية النبي - صلى الله عليه
وسلم - 124000.
هذا يا مولاي قليل من كثيرة مما قصه هذا الرجل في تلك الليلة أمام المئات
من المسلمين عامتهم وخاصتهم، وفضيلة شيخ العلماء ساكت لا يبدي أقل اعتراض
على هذا الكلام مع ما عرف عنه من الغيرة على الدين ومحاربته لمثل هذه العقائد
التي حشرها القاصون في الدين فشوهوا بها وجهه الجميل.
لو كان هذا الرجل من العامة لسكتنا ولكنه معدود ضمن العلماء في قرية
المنزلة، وقد خطب أمام أمير البلاد هناك وصلى خلفه فريضة الجمعة سمعت ذلك
من بعض أهل المنزلة.
وقد رفع حضرة الفاضل مكاتب المقطم أمر الرجل إلى فضيلة شيخ الأزهر
وطلب منه إعلان رأيه في جميع ذلك وما نظنه إلا مبرئًا للدين من هذه الأضاليل
وسيكتب جواب فضيلته بجريدة المقطم. وكتب حضرة الفاضل مكاتب البصير
بجميع ذلك إلى جريدته أما مكاتبي الجرائد الإسلامية فلم يكتبوا شيئًا من ذلك.
لهذا نرجوكم توضيح رأيكم في ذلك خدمة للدين وأهله، والسلام.
***
جواب المنار
لو أن مدرسًا عالمًا مفسرًا محدثًا على صراط السلف الصالح قعد مقعد ذلك
الرجل المختلق على الله، ورسوله، ودينه، ونهى الناس عن بعض البدع الفاشية
والظلمات الغاشية، وفسر لهم النصوص التي تنهى عن جعل الصالحين لله أندادًا،
وجعل قبورهم أعيادًا، والأحاديث التي تلعن الذين اتخذوا القبور مساجدًا، وشرَّفوها
وأوقدوا عليها السرج، وهداهم إلى رفض البدع، والوقوف عند حدود السنن -
لزلزلت به الأرض زلزالها، ووجهت إليه العامة أنكالها، ولوجد ممن يُعرفون
بالخاصة من ينصر الجهلة عليه، ومن أصحاب الجرائد التي تُدعى إسلامية من
يفوق السهام إليه، ولكادت له السياسة وناصبته منصات الرياسة، أما أمثال هذا
المدرس فكثيرون لا سيما من المسجد الحسيني في العاصمة حيث يكثر تردد العلماء،
والمحافظين على الرسوم الدينية من الكبراء، لا سيما في شهر رمضان، ومن هؤلاء
المدرسين من يبيع البطائق للنجاة من النار، ويعلم الناس مكفرات الأوزار، ومنهم
من يبيع النشرة والحجاب لقضاء الحاجات وشفاء الأوصاب، ومنهم من يدلي
الناس بغرور، ويحوّلهم عن النور إلى الديجور، ولا منع ولا استنكار، ولا تعجب
ولا استكبار، وقد صاح من سنين صائح بهذه البدع ففرقها بتفريق الناس عنها،
ودعا إلى السنة الصحيحة فجذب إليها وأدنى منها، فاضطرب لصيحته سدنة القبور،
وأكلة ما يقدم إليها من الهدايا والنذور، ووسوسوا في شأنه لبعض المتحمسين من
العوام، وقالوا: إنه ينكر نفع عمود الرخام، هو عموم من أعمدة المسجد الحسيني
ينسب إلى السيد البدوي ويستشفي الناس بالتمسح به، وينكر صحة حديث (لو
اعتقد أحدكم بحجر لنفعه) ويقول بجهالة من اختلقه بزعمه ووضعه، فتألب الناس
على داعي السنة، كاد يبتلى بما ابتلي به الأئمة من المحنة، فلا تعجبوا لما سمعتم
فمثله كثير، والأمر لله العلي الكبير.
أما المسائل التي لخصتم بها قول ذلك المدرس فبعضها باطل بإجماع المسلمين
لم يقل به أحد منهم يعتد بقوله ومنها ما جاءت فيه روايات كاذبة أو واهية أو لا يحتج
بها في أمر اعتقاد يشترط الإذعان له في صحة الإيمان أو يعد إنكاره كفرًا ولا في
الأحكام التي يكتفي فيها بالظن، وإنما تساهل الجماهير بمثله في باب الفضائل
والمناقب. وما اختيار الناس أمثال هذه الروايات في قصة المولد إلا لجهلهم بما
أعطى الله خاتم الرسل والنبيين من المزايا التي فضل بها الأولين والآخرين،
جهلوا الفضائل الواضحة اليقينية، فاستبدلوا بها تلك الأقاويل الواهية والوضعية،
وقلما تجد في هؤلاء الغالين في الإطراء عالمًا بالحديث يعرف ما صح منه وما لم
يصح أو عالمًا بأصول العقائد يقيم البرهان عليها ويقدر على الدفاع عنها، أو عاملاً
متبعًا لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم معتصمًا بالإخلاص والتقوى. إن هم إلا
أصحاب أوهام، وشقاشق يتقربون بها من العوام، وإننا نشير إلى أجوبة تلك الأسئلة
بالتفصيل الذي يتسع له الباب.
***
1- مسألة خلق كل شيء من نور النبي صلى الله عليه وسلم
وأول من خلق الله
(ج24) قولهم: إن أول ما خلق الله نور نبينا - صلى الله عليه وسلم - لا
تكاد تجده في غير هذه القصص التي يسمونها الموالد إلا قليلاً يروونه عن عبد
الرزاق وليس في الأيدي نسخة من جامعه أو مصنفه ولا هو مما يتلقاه أهل العصر
بالرواية فيعتد بنسبته إليه، فالعمدة في قبول ما خرجه رواية الحفاظ بعده عنه وأجمعهم
للأحاديث الحافظ السيوطي ولم يذكر هذه الرواية في الخصائص الكبرى التي جمع
فيها كل ما ورد في خصائصه عليه الصلاة والسلام من صحيح وغير صحيح ولا
في الجامع الكبير أو جمع الجوامع وهو الذي قال أنه لم يترك حديثًا مرويًّا إلا أودعه
فيه وإنما أورد الرواية في كونه صلى الله عليه وسلم كان نبيًّا بين خلق آدم ونفخ
الروح فيه، ولا شيء منها في الصحيحين ولا في السنن الأربع وأقواها حديث ميسرة
الفجر عند أحمد والبخاري في تاريخه (لا في صحيحه) والطبراني والحاكم
والبيهقي وأبي نعيم قال متى كنت نبيًّا؟ قال صلى الله عليه وسلم (وآدم بين الروح
والجسد) . وحديث العرباض بن سارية عند أحمد والحاكم والبيهقي قال: سمعت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إني عند الله في أم الكتاب لخاتم
النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته) .
قال في المواهب: وأما ما اشتهر على الألسنة بلفظ: كنت نبيًّا وآدم بين الماء
والطين: فقال شيخنا العلامة الحافظ أبو الخير السخاوي في كتابه (المقاصد الحسنة)
لم نقف عليه بهذا اللفظ , انتهى. قال الزرقاني في شرحه: أي انتهى ما نقله من
كلام شيخه وبقيته (فضلاً عن زيادة: وكنت نبيًّا ولا آدم ولا ماء ولا طين) قال
شيخنا، يعني الحافظ ابن حجر في بعض الأجوبة عن الزيادة: إنها ضعيفة، والذي
قبلها قوي، ولعله أراد بالمعنى وإلا فقد صرح السيوطي في الدرر بأنه لا أصل لهما،
والثاني من زيادة العوام وسبقه لذلك الحافظ ابن تيمية فأفتى ببطلان اللفظين وأنهما
كذب وأقره في النور والسخاوي نفسه في فتاويه أجاب باعتماد كلام ابن تيمية في
وضع اللفظين قائلاً وناهيك به اطلاعًا وحفظًا أقر له بذلك المخالف والموافق. قال:
وكيف لا يعتمد كلامه في مثل هذا، وقد قال فيه الحافظ الذهبي: ما رأيت أشد
استحضارًا للمتون وعزوها منه، وكانت السنة بين عينيه ولسانه بعبارة رشيقة وعين
مفتوحة، انتهى.
وقد فسر بعض العلماء المتقدمين أمثال هذه الأحاديث بأنها أخبار عما في علم
الله تعالى ولم يرضه التقي السبكي. قال السيوطي في الخصائص:
فإن قلت: أريد أن أفهم هذا القدر الزائد فإن النبوة وصف لا بد أن يكون
الموصوف به موجودًا، وإنما يكون بعد بلوغ أربعين سنة فكيف يوصف به قبل
وجوده وقبل إرساله؟ وإن صلح ذلك فغيره كذلك؟ (قلت) قد جاء أن الله تعالى
خلق الأرواح قبل الأجساد فقد تكون الإِشارة بقوله: (كنت نبيًّا) إلى روحه الشريفة
أو إلى حقيقته والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها وإنما يعلمها خالقها ومن أمده بنور
إلهي ثم إن تلك الحقائق يؤتي الله كل حقيقة منها ما يشاء في الوقت الذي يشاء
فحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم قد تكون من قبل خلق آدم آتاه الله ذلك الوصف بأن
يكون خلقها متهيئة لذلك وأفاضه عليها من ذلك الوقت فصار نبيًّا. اهـ المراد منه
ثم أورد بعد هذا التأويل بأنه كان نبيًّا في العلم الإلهي وهو ظاهر في حديث
العرباض الذي يؤيده حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم: (إن الله
عز وجل كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة
ومن جملة ما كتبه في الذكر وهو أم الكتاب أن محمدًا خاتم النبيين) والشاهد قوله
أن حقيقة نبينا قد تكون مخلوقة قبل خلق آدم ولو كان هناك حديث يثبت أن نور
النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - خلق قبل كل شيء لاحتج به ولم يدع أن حقيقة
الإنسان هي شيء غير روحه وجسده ويبني جوابه الثاني على احتمال أن تكون حقيقة
النبي صلى الله عليه وسلم خلقت قبل حقيقة آدم. وهذا الحافظ أبو نعيم وهو
قبل السيوطي لم يذكر ذلك الحديث في كتابه (دلائل النبوة) الذي جمع فيه كل ما
رووه في هذا الشأن.
وإذا رجعت إلى استقصاء ما رووه في خلق العالم تراهم أهملوا ذلك الحديث
ورووا ما يخالفه كحديث عبادة بن الصامت عند أبي داود والترمذي (إن أول ما
خلق الله القلم) الحديث وهو عند ابن أبي شيبة وأبي نعيم في الحلية والبيهقي عن
ابن عباس (إن أول شيء خلقه الله القلم فأمره فكتب كل شيء يكون) وعند البيهقي
في الصفات عن ابن عمر، وحديث أبي هريرة عن أحمد والحاكم (كل شيء خلق
من الماء) لعل المراد كل شيء حي كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ
حَيٍّ} (الأنبياء: 30) . ولهذه الأحاديث أحاديث تعارضها وليس فيها شيء قطعي
الثبوت والدلالة، والقرآن صريح في أن السموات والأرض كانتا رتقًا ففصلهما
وخلقهن من مادة تشبه الدخان.
ثم إن لحديث عبد الرزاق تتمة فيها أن ذلك النور تجزأ مرات إلى أجزاء خلق
منها القلم واللوح والعرش والكرسي والملائكة والسماوات والأرضين والجنة والنار
ونور أبصار المؤمنين ونور قلوبهم فمعناه الظاهر أن الله خلق من نوره شيئًا وخلق
من هذا الشيء سائر الأشياء حتى نار جهنم والأرض وما فيها من الجماد والنبات
والحيوان فما معنى كون ذلك الشيء الأول نور محمد - صلى الله عليه وسلم -
الذي هو فرد من الأحياء الذين خلقهم الله في هذه الأرض التي هي من أصغر
الكواكب التي لا يعلم عددها إلا خالقها؟ وما نسبة هذا الفرد الكريم إلى ذلك الخلق
العظيم الذي منه العرش والكرسي واللوح والقلم والملائكة والسموات
والأرض والجنة والنار؟ ظاهر الحديث أن المخلوقات كلها هي نور محمد صلى
الله عليه وسلم كله وهو من المخلوقات بالضرورة فما هي نسبته إلى سائرها أي ما
هي نسبة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب النبي القرشي الذي بعثه الله تعالى نبيًّا
منذ نحو ثلاثة عشر قرنًا ونصف قرن إلى جميع المخلوقات؟ هل هو جزء منها
أو كل لها وهي أجزاء له فيقال إن حقيقة محمد هي مجموعة الكائنات ومجموعة
الكائنات هي محمد بن عبد الله الذي ولد من نحو أربعة عشر قرنًا صلى الله عليه
وسلم؟ ثم ما معنى كون هذا من نور الله، وإذا سلمنا بظاهر هذا الحديث فبماذا نُحاجّ
من نسميهم كفارًا إذا قالوا: إن واجب الوجود قد انقسم فكان هذه الأنواع من
الكائنات؟ {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) {وَلاَ
يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 80) .
هذا الحديث حديث جابر المروي عن عبد الله لا أصل له وليس فيه تعظيم
لخاتم النبيين، ورحمة الله تعالى للعالمين، بل هو مثار شبهات وشكوك في الدين
يعسر تأويلها بما يقبله عقلاء الباحثين.
] وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ [ (آل عمران: 144)
وما الرسل إلا بشر مثلكم، يوحى إليهم ما فيه هداية لكم وما البشر إلا جند قليل
من جنود الله التي لا يعلمها إلا هو قال فيهم: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) ورفع بعضهم فوق بعض درجات وجعل أفضلهم
أنفعهم لعباده ففضيلة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم على الناس أنه اختاره
من خلقه لهداية جميع الناس في طور ارتقائهم واستعدادهم لاتصال بعضهم ببعض
فهو- صلى الله عليه وسلم - أنفع الناس للناس ولو كان هو الأصل لجميع
المخلوقات وفرضنا أن هذا معقول وأنه تعالى يكلفنا ما ليس في وسعنا أن نعقله
لصرح بذلك في كتابه المبين، الذي ما فرط فيه في شيء من مهمات الدين، أو
لروي برواية صححها جماهير المحدثين، وكل ذلك لم يكن فانفراد عبد الرزاق بهذا
لا يكفي في القول بهذه المسألة التي لا يتصورها عقل، ولا يشهد لها نقل، فإن
عبد الرزاق وإن احتج كثيرون بحديثه وروى عنه الأئمة وبجلوه قد جرحه مسلم
وغيره وإليك بعض ما قالوا فيه.
قال الإمام أحمد: أتينا عبد الرزاق قبل المائتين وهو صحيح البصر ومن سمع
منه بعد ما ذهب بصره فهو ضعيف السماع. وقال النسائي: فيه نظر لمن كتب عنه
بآخره روي عنه أحاديث مناكير. وقال ابن عدي: حدث بأحاديث في الفضائل لم
يوافقه عليها أحد ومثالب لغيرهم مناكير ونسبوه إلى التشيع. وقال الدارقطني: ثقة
لكنه يخطئ على معمر في أحاديث. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن
عبد الرزاق يفرط في التشيع؟ قال: أما أنا فلم أسمع منه شيئًا ولكن كان رجلاً يعجبه
أحاديث الناس. وقال محمد بن عثمان الثقفي البصري: لما قدم العباس بن عبد العظيم
من صنعاء من عند عبد الرزاق أتيناه فقال لنا: ألست قد تجشمت الخروج إلى عبد
الرزاق ورحلت إليه وأقمت عنده؟ والله الذي لا إله إلا هو إن عبد الرزاق كذاب
والواقدي أصدق منه. أورد الحافظ الذهبي هذا ثم قال: قلت: هذا ما وافق العباسَ
عليه مسلم بل سائر الحفاظ، وأئمة العلم يحتجون به إلا في تلك المناكير المعدودة
في سعة ما روي.
وقال الذهبي في أحمد بن عبد الله ابن أخت عبد الرزاق: قال ابن حبان: كان
يدخل على عبد الرزاق الحديث، فكل ما وقع في حديث عبد الرزاق من المناكير
فبليته منه وقد تقدم ذكره كذبه أحمد والناس.
***
2- مسألة مهر حواء من آدم
(ج 43) ما ذكره في ذلك كذب صريح لا حاجة لإطالة الكلام في رده؛ إذ لا
شبهة فيه على الدين فترد، ولا شبهة عليه فتكشف ولم ينقله محدث فينظر في سنده
وإنما وردت رواية ضعيفة في أمره بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
ثلاث مرات أو عشرين مرة.
***
3- بشارة الوحوش بحمله صلى الله عليه وسلم
(ج 44) إن الأثر الذي يذكرونه في نطق الدواب والوحوش ليلة حمله -
صلى الله عليه وسلم - قد أخذه واضعو قصص المولد من رواية أبي نعيم وهو منكر
جدًّا أورده السيوطي في الخصائص الكبرى، وأنكره مع أثرين آخرين وهذه الآثار
الثلاثة قد جمعت أكثر المنكرات في قصص المولد وإننا نوردها بنصها ليعلم القراء
أنه لم يصح منها شيء فلا يغتروا بأصحاب العمائم العجراء إذا قرأوها وأجازوها قال:
(1) أخرج أبو نعيم عن عمرو بن قتيبة قال: سمعت أبي - وكان من أوعية
العلم - قال: (لما حضرت ولادة آمنة قال الله لملائكته: افتحوا أبواب السماء كلها
وأبواب الجنان كلها وأمر الله الملائكة بالحضور فنزلت تبشر بعضها بعضًا،
وتطاولت جبال الدنيا وارتفعت البحار وتباشر أهلها فلم يبق ملك إلا حضر. وأخذ
الشيطان فغلّ سبعين غلاًّ، وألقي منكوسًا في لجة البحر الخضراء، وغلّت
الشياطين والمردة، وألبست الشمس يومئذ نورًا عظيمًا وأقيم على رأسها سبعون
ألف حوراء في الهواء ينتظرن ولادة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وكان أذن
الله تلك السنة لنساء الدنيا أن يحملن ذكورًا كرامة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -
وأن لا تبقى شجرة إلا حملت، ولا خَوْف إلا عاد أمنًا؛ فلما ولد النبي - صلى الله
عليه وسلم - امتلأت الدنيا كلها نورًا وتباشرت الملائكة وضرب في كل سماء عمود
من زبرجد وعمود من ياقوت قد استنار به فهي معروفة في السماء، قد رآها رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء، قيل: هذا ما ضرب لك استبشارًا
بولادتك.
وقد أنبت الله ليلة ولد على شاطئ نهر الكوثر سبعين ألف شجرة من المسك
الأذفر جعلت ثمارها بخور أهل الجنة وكل أهل السماء يدعون بالسلامة ونكست
الأصنام كلها وأما اللات والعزى فإنهما خرجتا من خزانتهما وهما تقولان: ويح قريش
جاءهم الأمين جاءهم الصديق لا تعلم قريش ماذا أصابها. وأما البيت فأيامًا سمعوا
من جوفه صوتًا وهو يقول: الآن يرد عليّ نوري، الآن يجيئني زواري، الآن
أطهر من أدناس الجاهلية، أيتها العزى هلكت. ولم تسكن زلزلة البيت ثلاثة أيام
ولياليهن. وهذه أول علامة رأت قريش من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
(2) وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس قال: (كان من دلالات حمل رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أن كل دابة كانت لقريش نطقت في تلك الليلة، وقالت:
حمل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورب الكعبة وهو أمان الدنيا وسراج
أهلها ولم تبق كاهنة في قريش ولا في قبيلة من قبائل العرب إلا حجبت عن
صاحبتها وانتزع علم الكهنة منها، ولم يبق سرير ملك من ملوك الدنيا إلا أصبح
منكوسًا والملك مخرسًا لا ينطق يومه ذلك. ومرت وحش المشرق إلى وحش
المغرب بالبشارات وكذلك أهل البحار يبشر بعضهم بعضًا، وله في كل شهر من
شهوره نداء في الأرض ونداء في السماء: أن أبشروا فقد آن لأبي القاسم أن يخرج
إلى الأرض ميمونًا مباركًا، قال: وبقي في بطن أمه تسعة أشهر كاملة لا تشكو وجعهًا
ولا ريحًا ولا مغصًا ولا ما يعرض للنساء من ذوات الحمل، وهلك أبوه عبد الله
وهو في بطن أمه، فقالت الملائكة: إلهنا وسيدنا بقى نبيك هذا يتيمًا فقال الله:
أنا له وليّ وحافظ ونصير. وتبركوا بمولده فمولده ميمون مبارك. وفتح الله لمولده
أبواب السماء وجنانه، فكانت آمنة تحدث عن نفسها وتقول: أتاني آت حين مر بي
من حمله ستة أشهر فوكزني برجله في المنام وقال لي: يا آمنة إنك قد حملت
بخير العالمين طُرًّا فإذا ولدتيه فسميه محمدًا. فكانت تحدث عن نفاسها وتقول: لقد
أخذني ما يأخذ النساء ولم يعلم بي أحد من القوم فسمعت وجبة شديدة وأمرًا عظيمًا
فهالني ذلك فرأيت كأن جناح طائر أبيض قد مسح على فؤادي فذهب عني كل رعب
وكل وجع كنت أجد، ثم التفت فإذا أنا بشربة بيضاء لبنًا وكنت عطشى فتناولتها
فشربتها فأضاء مني نور عالٍ ثم رأيت نسوة كالنخل طوالاً كأنهن من بنات عبد مناف
يحدقن بي فبينا أنا أعجب وإذا بديباج أبيض قد مدّ بين السماء والأرض وإذا بقائل
يقول: خذوه عن أعين الناس، قال: ورأيت رجالاً قد وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق
من فضة، ورأيت قطعة من الطير قد أقبلت حتى غطت حجرتي مناقيرها من الزمرد
وأجنحتها من اليواقيت فكشف الله عن بصري وأبصرت تلك الساعة مشارق الأرض
ومغاربها ورأيت ثلاثة أعلام منصوبات علمًا في المشرق وعلمًا في المغرب وعلمًا
على ظهر الكعبة فأخذني المخاض فوضعت محمدًا - صلى الله عليه وسلم، فلما
خرج من بطني نظرت فيه فإذا أنا به ساجدًا قد رفع إصبعيه كالمتضرع المبتهل
ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السماء حتى غشيته فغيب عن وجهي. وسمعت
مناديًا ينادي: طوفوا بمحمد شرق الأرض وغربها وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه
ونعته وصورته ويعلموا أنه سُمي فيها الماحي لا يبقى شيء من الشرك إلا مُحي في
زمنه.
ثم تجلت عنه في أسرع وقت فإذا أنا به مدرج في ثوب صوف أبيض وتحته
حريرة خضراء وقد قبض على ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرطب، وإذا قائل يقول: قبض محمد على مفاتيح النصرة ومفاتيح الريح ومفاتيح النبوة. ثم أقبلت سحابة
أخرى يسمع منها صهيل الخيل وخفقان الأجنحة حتى غشيته فغيب عن عيني
فسمعت مناديًا ينادي: طوفوا بمحمد الشرق والغرب ومواليد النبيين
واعرضوه على كل روحاني من الجن والإنس والطير والسباع وأعطوه صفاء آدم
ورقة نوح وخلة إبراهيم ولسان إسماعيل وبشرى يعقوب وجمال يوسف وصوت داود
وصبر أيوب وزهد يحيى وكرم عيسى واغمروه في أخلاق الأنبياء. ثم تجلت عنه
فإذا أنا به قد قبض على حريرة خضراء مطوية؛ وإذا قائل يقول: بخ بخ قبض محمد
على الدنيا كلها لم يبق خلق من أهلها إلا دخل في قبضته وإذا أنا بثلاثة نفر في يد
أحدهم إبريق من فضة وفي يد الثاني طست من زمردة خضراء وفي يد الثالث حريرة
بيضاء فنشرها فأخرج منها خاتمًا تحار أبصار الناظرين دونه فغسله من ذلك الإبريق
سبع مرات ثم ختم بين كتفيه بالخاتم ولفه في الحريرة ثم حمله فأدخله بين أجنحته
ساعة ثم رده إلي) .
(3) وأخرج أبو نعيم بسند ضعيف عن العباس قال لما ولد أخي عبد الله
وهو أصغرنا [1] كان في وجهه نور يزهر كنور الشمس، فقال أبوه: إن لهذا الغلام
لشأنًا فرأيت في منامي (أنه خرج من منخره طائر أبيض) فأتيت كاهنة بني مخزوم
فقالت لي: لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبه ولد يصير أهل المشرق والمغرب
له تبعًا، فلما ولدت آمنة قلت لها: ما الذي رأيت في ولادتك؟ قالت: لما جاءني
الطلق واشتد بي الأمر سمعت جلبة وكلامًا يشبه كلام الآدميين ورأيت علمًا من سندس
على قضيب من ياقوت قد ضرب ما بين السماء والأرض ورأيت نورًا ساطعًا من
رأسه قد بلغ السماء ورأيت قصور الشام كلها شعلة نار ورأيت قربي سربًا من
القاطا قد سجدت له ونشرت أجنحتها ورأيت تابعة سعيرة الأسدية قد مرت وهي تقول:
ما لقي الأصنام والكهان من ولدك هذا؟ هلكت سعيرة والويل للأصنام ورأيت شابًّا أتم
الناس طولاً وأشدهم بياضًا فأخذ المولود مني فتنفل في فيه ومعه طاس من ذهب
فشق قلبه شقًّا ثم أخرج لبه فشقه شقًّا فأخرج منه نكته سوداء فرمى بها ثم أخرج صرة
من حرير أبيض ففتحها فإذا فيها خاتم فضرب على كتفه كالبيضة وألبسه قميصًا فهذا
ما رأيت.
أقول: هذه الآثار الثلاثة هي ينبوع خرافات قصة المولد والثاني منها يذكرونه
برمته في أكثرها وقد قال السيوطي بعد إيرادها هنا ما نصه:
(هذا الأخير والأثران قبله فيها نكارة شديدة ولم أورد في كتابي هذا أشد
نكارة منها ولم تكن نفسي لتطيب بإيرادها لكني تبعت الحافظ أبا نعيم في ذلك) .
هذا كلام السيوطي على تساهله في الجمع وأقول: إن أبا نعيم لم يذكر هذه
الآثار الواهية في كتابه دلائل النبوة على ما فيه من الروايات الضعيفة والمنكرة كما
ترى في النسخة المطبوعة منه فكان ينبغي أن يتبعه في ذلك لأن الخصائص
كالدلائل مؤلفة في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن ذكره لها مع براءته
منها كان خيرًا من السكوت عنها. وعبارته تدل على أنه أورد في الخصائص كثيرًا
من الروايات المنكرة وهو كذلك. وقد ذكر بعد الآثار الثلاث رواية مخزوم ابن هانئ
عن أبيه عند البيهقي وأبي نعيم وفيها أنه ارتجس ليلة المولد إيوان كسري وسقطت
منه أربع عشرة شرفة وخمدت نار فارس وغاضت بحيرة ساوة وفيها رؤيا الموبذان
وحكاية سطيح الكاهن وقال في آخرها: قال ابن عساكر: حديث غريب لا نعرفه إلا
من حديث مخزوم عن أبيه تفرد به أبو أيوب البجلي: أي وما تفرد به لا يحتج به.
وتذكر هذه الآثار في بعض القصص والكتب بعبارات مختلفة بزيادة ونقص
ولا يلتفت إلى شيء منها فإن العبرة بما يروي المحدثون، لا بما يهذي به
القصاصون، هذا وإذا أردنا أن نبحث في هذه الآثار من جهة موضوعها وحفظ
المشركين في الجاهلية وسائر الأمم لها إلى أن ظهر الإسلام، فإننا نجد فيها ما لا تقبل
معه فإن أمثال هذه الغرائب من شأنها أن تستفيض وينقلها الجماهير ولم يرو أن أحدًا
من المشركين آمن لأجلها، ولم يروها أهل الصحاح كالبخاري ومسلم بل تركوها لعدم
الثقة برواتها. وأما أبو نعيم فإنه لم يروها واثقًا بها، ولكنه كان يروي المناكير بل
والموضوعات ويسكت عليها اعتمادًا على أن الناس يعرفون درجتها من سندها
ولكنهم انتقدوا عليه ذلك هو وابن منده وكان يطعن أحدهما بالآخرة للمعاصرة. قال
الحافظ الذهبي في الميزان فيهما: لا أقبل قول كل منهما في الآخر وهما عندي
مقبولات لا أعلم لهما ذنبًا أكبر من روايتها الموضوعات ساكتين عليها.
ويوجد شيء من هذه الروايات في كتب أخرى لغير المحدثين لا يوثق بها ولا
بأسانيدها ككتاب مسامرة الأخيار المنسوب للشيخ محيي الدين بن عربي على أن فيها
ذكر المجهولين والضعفاء ورواه المناكير كسعيد بن عثمان الكريزي قال الذهبي: كان
يحدث في أصبهان بالمناكير وحفص بن الصباح الرقي قال الحاكم حدث بغير
حديث لم يتابع عليه ويحيى البابلتي ضعفوه وضعفوا شيخه أبا بكر بن مريم
الحمصي وغيرهم. وحسبنا ما في كتاب الله تعالى والأحاديث والآثار الصحيحة في
آياته وفضائله عليه أفضل الصلاة والسلام فلا حاجة لنا بأمثال هذه الروايات.
هذا وقد طال بنا القول وسنجيب عن بقية المسائل في الجزء الآتي ولم ننس
الأسئلة الواردة من تونس وسنغافورة ولكل شيء أجل.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) قال الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب: كان العباس أسن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنتين وقيل: بثلاث. أقول: وهذا القول مجمع عليه من المحدثين والمؤرخين، وهذا الحديث مبني على أن العباس أسن من والد النبي صلى الله عليه وسلم فهو مخالف لإجماع المحدثين وكفى بذلك كذبًا.(8/861)