الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سوريا والإسلام
(8)
مسيحو سوريا في أيام الدولة العربية
زعم الكاتب المتحمس أن المسلمين لما استولوا على سوريا ابتدؤوا يسومون
السوريين الذل والهوان، قال: (ولو أن المسلمين حكماء كباقي الفاتحين الذين
اكتسحوا سوريا أو بالحري كالسلوقيين والرومانيين الذين لم يكونوا يتعرضون
للسوريين بما يمس عوائدهم وعواطفهم دينيًّا وأدبيًّا، بل كانوا يكتفون بحفظ
سيطرتهم السياسية عليهم؛ لو كانوا حكماء، ولم يصنعوا بهم ما صنعوه؛ لما كانوا
لاقوا من السوريين إلا الملاطفة والطاعة.
ثم طفق يسرد الألفاظ التي يعرفها من اللغة تدلّ على الظلم والاستعباد , والتي
لا تدل أيضًا؛ ليعظم الأمر، ويهيج تعصب نصارى سوريا على مسلميها , وإن
كان هذا التعصب يضرّ قومه أكثر مما يضر المسلمين، وهو لا يدري لسكره بخمرة
حرية أمريكا التي سمحت له بأن يشتم الإسلام والمسلمين بما شاء قال:
(ولا يظن القارئ أن تعصب المسلمين ضد المسيحين في أيام الدولة
العربية كان بسيطًا كما نفهمه اليوم؛ كلا، بل كان استبدادًا مطلقًا واستعبادًا.
تصور أيها القارئ حالة أمة يهجم عليها في منازلها وكنائسها , ويقتل بعضها
ويسبي البعض الآخر. تصور حالة أمة يحكم عليها تارة بهدم معابدها وأخذ عشر
بيوتها، وطورًا بأخذ أحسن دورها ومنازلها لتجعل جوامع أو بيوتًا للقضاء، تصور
حال أمة يحكم عليها بأن تعلق على أبواب منازلها صور الشياطين تمييزًا لها عن
بيوت المسلمين، تصور حال أمة يحكم عليها بأن تقفل مكاتبها ويمنع أولادها
وصغارها من تعلم القراءة، تصور حال أمة لم يكن يقبل أحد من أفرادها في
دواوين الحكومة المتسلطة عليها، تصور حال أمة لم يكن يسمح لها بأن تظهر
صلبانها في الأسواق ولا بأن تدق جرسًا. تلك هي حالة المسيحيين في سوريا في
أيام الدولة العربية. ولقد حدثت هذه وجرى هذا الضغط في أيام جميع الخلفاء
الأمويين والعباسيين , وكان في الأكثر أيام جعفر المتوكل على الله في سنة
849 هـ أو بِالحَرِيّ عندما ابتدأت العربية أن تشعر بضعفها وانحطاطها.
وجوابنا عن هذا كله كلمة فذة نضطر أن نصرح بها مع الأسف , وهي أن
هذا اختراع محض , فلا هجوم على البيوت والكنائس ولا صور شياطين، ولا منع
من تعليم، فإن العرب كانوا أرحم الدول الفاتحة وأعدلها , وكانت سيرتهم نقيض ما
قال هذا المتعصب بشهادة عدول المؤرخين، حتى من الإفرنج الذين أوجدوا الغلوَّ
في التعصب الديني في الأرض، ثم طفق بعضهم يذمّه في هذا الزمان. ومن شاهد
ما تعامل به دولهم المسلمين وغيرهم في مثل بلاد جاوه؛ لشاهد ما تقشعر منه
الأبدان، وهو فوق ما اخترعته مخيلة رفول سعادة، وألصقته بالعرب , وقد تقدم
في رد النبذة السابعة السابقة ما يؤيد قولنا هذا في العرب وسنزيده بيانًا.
أما السلوقيون فقد كانت أيامهم كلها حروبًا داخلية وخارجية من أول عهدها
إلى آخره، وكان فيها من الفظائع ما فيها، ومن أقبحها ضغط الملك أنطوخيوس
الثاني على اليهود، ونهب هيكلهم , وإسرافه في قتلهم، ونهب أموالهم في القرن
الثاني قبل المسيح، وقد سَلَّم هذا الملك الفاجر الذي لقب نفسه باسم (الله) زمام
حكومته لنسائه وندمائه؛ فأسرع الخراب والدمار بسوء سيرتهن وسيرتهم إلى سوريا،
ولم تنطف من بعده نيران الثورات والفتن في سوريا. ولما ولي أنطيخوس الثالث
المُلْك انبرى لإخماد ثورة مولو القائد السوري الذي استقل في جهة نهر الفرات
فانتهز الفرصة أخيوس، وخرج عليه، وادعى الملك لنفسه وهو من بيت سلقوس
مؤسس المملكة , فشغله ذلك عن محاربة مصر زمنًا ثم عاد إليها بعدما تولاها
بطليموس الخامس وهو صغير السن، وكان استولى على فلسطين وفينيقية وسوريا
السفلى. ثم زوج بطليموس ابنته , ووعده بأن يعطيه فلسطين وسوريا السفلى مهرًا
لها، ولكنه لم يصدق. وبعد محاربة الرومانيين إياه وثورة أرمينيا عليه نهب هياكل
آسيا ومعابدها فاحتوى جميع كنوزها وخزائنها، ثم طالبه ملك مصر بما وعد به
أبوه من مهر ابنته وهو فلسطين وسوريا السفلى , فأغار على مصر حتى إذا كاد
يظفر صده الرومانيون , فعاد ينتقم من اليهود بما جنى غيرهم؛ فهجم على بيت
المقدس ونهب الهيكل , وعاث فيه فسادًا ولطخه بالنجاسة. ولم تكن حال من بعده
بأمثل من حاله، فهذا نموذج من سيرة السلوقيين الذين فضلهم هذا المتعصب الغالي
على العرب الذين كانوا أفضل الفاتحين في الأرض وأرفقهم وأعدلهم. إن سوريا لم
يستقر لها في أيامها قرار، ولم تكنها مع الأمان دار، حتى إن السوريين سئموا
الحياة في آخر عهدهم، ودعوا طغرانيس ملك أرمينية فولوه عليهم فأمنت البلاد،
واطمأن العباد، فأين مثل هذه الثورات والفتن في أيام العرب؟ لقد استولى على
سوريا كثير من الفاتحين الغرباء فلم يمتزج السوريون بأحد امتزاجهم بالعرب،
وحسبك أنهم استعربوا فلم تعد تعرف لهم جنسية غير العربية. فاعتبر بتعصب هذا
الكاتب الذي أراه بغض المسلمين النور ظلمة، والسعادة شقاءً، والخير شرًّا،
والحق باطلاً، وانظر هل يتيسر لنا جمع كلمة السوريين , وفيهم مثل هذا يكتب
وينشر ويفرق ويمزق، ويقنع المسلمين بأن سيرة سلفهم توجب عليهم عداوة
النصارى، ولا يجد له من أبناء ملته مفندًا ولا رادعًا، حتى كأن الجميع معه في
آرائه مع علمهم بخطأه واختلاقه.
أما الرومانيون فتاريخهم معروف، وعتوهم وجورهم غير مجهول , ومؤرخو
النصارى يعترفون بما قاسى السوريون منهم عامة، وما قاسى اليهود منهم خاصة،
لا سيما بعد ما دخل الرومانيون في النصرانية. ولقد تنصر معظم أهل سوريا،
ولكن لم يتجنسوا بالجنسية الرومانية، ولم يكن حكامهم يعاملونهم على اتفاقهم معهم
في الدين معاملة المساواة؛ لذلك أدهشهم عدل الإسلام، ومساواته فكانوا عونًا
للمسلمين على الروم في حربهم، ولولا ذلك لم يتم للعرب فتح سوريا في تلك المدة
القصيرة. قال البلاذري في فتوح البلدان:
حدثني أبو جعفر الدمشقي قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه لما
جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردّوا
على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: (قد شُغلنا عن نصرتكم
والدفع عنكم، فأنتم على أمركم) فقال أهل حمص: (لولايتكم وعدلكم أحب إلينا
مما كنا فيه من الظُّلم والغَشَم، ولندفعنَّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم، ونهض
اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حِمص إلا أن نغلب ونجهد؛
فأغلقوا الأبواب وحرسوها. وكذلك فعل أهل المدن التي صُولحت من النصارى
واليهود وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا على ما كنَّا عليه وإلا
فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد.
وقال في كتابه فتوح الشام يذكر إقبال الروم على المسلمين، ومسير أبي
عبيدة من حمص: (فلما أراد أن يشخص دعا حبيب بن مسلمة فقال: اردد على
القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنَّا أخذنا منهم فإنه لا ينبغي لنا إذ لا
نمنعهم (أي نحميهم) أن نأخذ منهم شيئًا، وقل لهم: نحن على ما كنَّا عليه فيما
بيننا وبينكم من الصلح، ولا نرجع عنه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا أموالكم
لأنا كرهنا أن نأخذ أموالكم، ولا نمنع بلادكم (أي نحميها) , فلما أصبح أمر الناس
بالمسير إلى دمشق، ودعا حبيب بن مَسْلَمَة القوم الذين كانوا أخذوا منهم المال؛
فأخذ يرده عليهم، وأخبرهم بما قال أبو عبيدة , وأخذ أهل البلد يقولون: ردَّكم الله
إلينا، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم , ولكن - والله - لو كانوا هنا ما
ردوا إلينا، بل غصبونا، وأخذوا مع هذا ماقدروا عليه من أموالنا) اهـ، وقد
أورد هذين الشاهدين الشيخ شبلي النعماني في رسالة الجِزْيَة والإسلام، واستدل
بهما وبغيرهما على أن الجِزْية جزاء الحماية والدفاع (راجع ص 356 من السنة
الأولى) .
التعدي على الكنائس وجعلها مساجد لم يكن مما يستحله المسلمون كما يعلم من
له أدنى اطلاع من مسألة عمرو بن العاص مع العجوز القبطية في مصر. وهؤلاء
بنو أمية أظلم العرب قد اقترفوا هذا الإثم مرة، والقصة تدل على كونها من الظلم
على عدل العرب، وبعدهم عن مثل هذا الاعتداء، قال البلاذري في فتوح البلدان
ما نصه:
قالوا: ولما ولي معاوية بن أبي سفيان أراد أن يزيد كنيسة يوحنا في المسجد
بدمشق؛ فأبى النصارى ذلك فأمسكه، ثم طلبها عبد الملك بن مروان في أيامه
للزيادة في المسجد , وبذل لهم مالاً فأبوا أن يسلموها إليه. ثم إن الوليد بن عبد
الملك جمعهم في أيامه، وبذل لهم مالاً عظيمًا على أن يعطوه إياها فأبوا، فقال:
لئن لم تفعلوا لأهدمنها، فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين , إن من هدم كنيسة جُنَّ،
أو أَصَابته عَاهة. فَأَحْفَظَهُ قَوْلُهُ ودعا بمعول، وجعل يهدم بعض حيطانها بيده،
وعليه قباء خز أصفر , ثم جمع الفعلة والنقاضين فهدمها في المسجد. فلما استخلف
عمر بن عبد العزيز شكا النصارى إليه ما فعل الوليد بهم في كنيستهم, فكتب إلى
عامله يأمره برد ما زاده في المسجد عليهم , فكره أهل دمشق ذلك , وقالوا: نهدم
مسجدنا بعد أن أَذنا فيه وصلينا , ويُرَدُّ بِيعَةً؟ وفيهم يومئذ سليمان بن حبيب
المحاربي وغيره من الفقهاء، وأقبلوا على النصارى فسألوهم أن يُعْطَوْا جميع
كنائس الغوطة التي أخذت عُنوة، وصارت في أيدي المسلمين على أن يصفحوا
عن كنيسة يوحنا ويمسكوا عن المطالبة بها فرضوا بذلك وأعجبهم , فكتب به إلى
عمر فسره وأمضاه. اهـ
فهذه الحادثة على ما فيها من خروج الوليد عن نهج الشرع لفسقه المشهور،
تدل على شدة محافظة العرب على الكنائس، وحقوق الذمّة فإن ملكهم اضطر إلى
كنيسة ليوسع بها مسجدًا رأى أن يكون أثرًا من آثاره، وموضعًا لفخاره، بعدما
عجز عنه سلفه حُرْمة للذمة، فجاء بنفسه يسترضي النصارى، ويبذل لهم المال
الكثير، وهم يأبون عليه ويهددونه بالوقوع في العاهات، ويخاطبونه بكلمة (الجنون) ,
فهل يصح أن يكون هذا شأن رعية مظلومة مضطهدة مع الفاتحين
القاهرين، أم هو إدلال من عوملوا بالعدل والمساواة، والحِلم والإناة، ولم يتعودوا
أن يهضموا حقًّا، ولا أن يسلبوا رزقًا.
قال البلاذري: حدثني هشام بن عمار أنه سمع المشايخ يذكرون أن عمر بن
الخطاب عند مقدمه الجابية من أرض دمشق مر بقوم مجذومين من النصارى , فأمر
أن يعطوا من الصدقات، وأن يُجْرَى عليهم القوت. وقال هاشم: سمعت الوليد بن
مسلم يذكر أن خالد بن الوليد شرط لأهل الدير الذي يعرف بدير خالد شرطًا في
خراجهم بالتخفيف عنهم حين أعطوه سُلَّمًا صعد عليه , فأنفذه لهم أبو عبيدة. ولما
فرغ أبو عبيدة من أمر مدينة دمشق سار إلى حمص فمر ببعلبك , فطلب أهلها
الأمان والصلح فصالحهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وكتب لهم:
(بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب أمان لفلان بن فلان وأهل بعلبك
رومها وفرسها وعربها على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ودورهم داخل المدينة
وخارجها وعلى أرحائهم , وللروم أن يرعوا سرحهم ما بينهم وبين خمسة عشر ميلاً،
ولا ينزلوا قرية عامرة؛ فإذا مضى شهر ربيع وجمادى الأولى ساروا إلى حيث
شاءوا، ومن أسلم منهم؛ فله ما لنا وعليه ما علينا. ولتجارهم أن يسافروا إلى
حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها، وعلى من أقام منهم الجزية والخراج،
شهد الله وكفى بالله شهيدًا) .
أرأيت الفاتح الذي يصالح خصمه مثل هذا الصلح اللين يقال فيه: إنه قاس
يهدم الكنائس ويأخذ المنازل. وقد أسلفنا في النبذة الماضية أنهم كانوا يَدعُون لهم
أملاكهم حتى ما يأذنون للمسلمين أن يشاركوهم فيها ولو بحق! ! !
أما الدواوين التي زعم المتعصب أن نصارى سوريا كانوا محرومين منها فقد
كانت في الحقيقة في أيديهم خاصة , فإن عمر لما دَوَّنَ الدواوين؛ كانت دواوين
بلاد الشام بالرومية لكثرة الكتاب في الروم وقلتهم في العرب , مع عدم عناية
المسلمين باحتكار أعمال الدولة، ومن المشهور أنها ظلت على ذلك إلى عهد
عبد الملك بن مروان، وانظر ما قاله المؤرخون في سبب نقلها إلى العربية. ونختار
عبارة البلاذري لقدمه وتحريه في الرواية , قال:
(قالوا: ولم يزل ديوان الشام بالرومية حتى وَلِي عبد الملك بن مروان،
فلما كانت سنة 18 أمر بنقله، وذلك أن رجلاً من كُتَّاب الروم احتاج أن يكتب شيئًا
فلم يجد ماءً فبال في الدواة؛ فبلغ ذلك عبد الملك فأدبه , وأمر سليمان بن سعد بنقل
الديوان فسأله أن يعينه بخراج الأردن سنة ففعل ذلك؛ فلم تنقض السنة حتى فرغ
من نقله. وأتى به عبد الملك فدعا بسرجون كاتبه , فعرض ذلك عليه فغمه،
وخرج من عنده كئيبًا , فلقيه قوم من كُتَّاب الروم , فقال: اطلبوا المعيشة من غير
هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم.
فانظر هذا؛ تجد أنه لم يكن التعصب الديني مانعًا للعرب من جعل جميع
رجال الدين من الروم يكتبون بلغتهم ما شاءوا حتى أساءوا , ووجد عبد الملك أنه
ينبغي للدولة العربية أن تكون دواوينها عربية ففعل. ولم يمنع ذلك غير المسلمين
أن يكونوا عمّالاً لهم بعد تعلم العربية , ولا سيما في دولة بني العباس، بل كان مثل
إبراهيم الصابي يرتقي إلى أن يكون وزير القلم، ولسان الخليفة العباسي، وكم
ارتقى مثله من سائر الطوائف (راجع مقالات الإسلام والنصرانية في المجلد
الخامس) .
وإنك لتجد الكاتب مع تعصبه قد تفلت منه القلم، فأومأ إلى الفرق بين أول
عهد العرب وآخره، ولا شك أن أول عهدهم خير؛ لأنهم كانوا أشدّ تمسكًا بالإسلام
وعملاً به، وهذا يثبت أن الإسلام نفسه علّة للعدل؛ لأنه يأمر به. قال تعالى:
{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة:
8) أي لا تحملنَّكم عداوة بعض الناس لكم على عدم العدل فيهم، بل اعدلوا مع العدو
وغيره.
(للرد بقية)
__________(7/225)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السؤال والفتوى
تعدد الزوجات
(س20) نجيب أفندي قناوي أحد طلبة الطب في أمريكا: يسألني كثير من
أطباء الأمريكانيين وغيرهم عن الآية الشريفة {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ
مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النساء: 3) , ويقولوا: كيف
يجمع المسلم بين أربع نسوة؟ فأجبتهم على مقدار ما فهمت من الآية مدافَعَةً عن
ديني، وقلت: إن العدل بين اثنتين مستحيل؛ لأنه عندما يتزوج الجديدة لا بد أن
يكره القديمة؛ فكيف يعدل بينهما؟ والله أمر بالعدل , فالأحسن واحدة. هذا ما قلته،
وربما أقنعهم، ولكن أريد منكم التفسير وتوضيح هذه الآية، وما قولكم في الذين
يتزوجون ثنتين وثلاثًا؟
(ج) إن الجماهير من الإفرنج يرون مسألة تعدد الزوجات أكبر قادح في
الإسلام متأثرين بعاداتهم، وتقليدهم الديني، وغلوهم في تعظيم النساء بما يسمعون
ويعملون عن حال كثير من المسلمين الذين يتزوجون بعدة زوجات لمجرد التمتع
الحيواني من غير تقيد بما قيد القرآن به جواز ذلك، وبما يعطيه النظر من فساد
البيوت التي تتكون من زوج واحد وزوجات لهن أولاد يتحاسدون ويتنازعون
ويتباغضون. ولا يكفي مثل هذا النظر للحكم في مسألة اجتماعية كبرى كهذه المسألة
بل لا بد قبل الحكم من النظر في طبيعة الرجل، وطبيعة المرأة والنسبة بينهما من
حيث معنى الزوجية والغرض منها، وفي عدد الرجال والنساء في الأمم أيهما أكثر،
وفي مسألة المعيشة المنزلية، وكفالة الرجال للنساء أو العكس أواستقلال كل من
الزوجين بنفسه. وفي تاريخ النشوء البشري؛ ليعلم هل كان الناس في طور البداوة
يكتفون بأن يختص كل رجل بامرأة واحدة. وبعد هذا كله ينظر هل جعل القرآن
مسألة تعدد الزوجات أمرًا دينيًّا مطلوبًا، أم رخصة تباح للضرورة بشروط مضيق
فيها؟
أنتم معشر المشتغلين بالعلوم الطبيعية أعرف الناس بالفرق بين طبيعة الرجل
والمرأة، وأهم التباين بينهما. ومما نعلم بالإجمال أن الرجل بطبيعته أكثر طلبًا
للأنثى منها له، وإنه قلما يوجد رجل عنين لا يطلب النساء بطبيعته، ولكن يوجد
كثير من النساء اللاتي لا يطلبن الرجال بطبيعتهن، ولولا أن المرأة مغرمة بأن
تكون محبوبة من الرجل، وكثيرة التفكير في الحظوة عنده؛ لوجد في النساء من
الزاهدات في التزوج أضعاف ما يوجد الآن. وهذا الغرام في المرأة هو غير الميل
المتولد من داعية التناسل في الطبيعية فيها وفي الرجل، وهو الذي يحمل العجوز
والتي لا ترجو زواجًا على التزين بمثل ما تتزين به العذراء المُعْرِضة، والسبب
عندي في هذا معظمه اجتماعي، وهو ما ثبت في طبيعة النساء واعتقادهن القرون
الطويلة من الحاجة إلى حماية الرجال وكفالتهم، وكون عناية الرجل بالمرأة على
قدر حظوتها عنده وميله إليها، أحس النساء بهذا في الأجيال الفطرية؛ فعملن له
حتى صار ملكة موروثة فيهن، حتى إن المرأة لتبغض الرجل ويؤلمها مع ذلك أن
يعرض عنها، ويمتهنها، وإنهن ليألمن أن يرين رجلاً، ولو شيخًا كبيرًا أو راهبًا
متبتلاً، ولا يميل إلى النساء، ولا يخضع لسحرهن، ويستجيب لرقيتهن؛ ونتيجة
هذا أن داعية النسل في الرجل أقوى منها في المرأة فهذه مقدمة أُولى.
ثم إن الحكمة الإلهية في ميل كل من الزوجين الذكر والأنثى إلى الآخر الميل
الذي يدعو إلى الزواج، هو التناسل الذي يحفظ به النوع , كما أن الحكمة في شهوة
التغذي هي حفظ الشخص، والمرأة تكون مستعدة للنسل نصف العمر الطبيعي
للإنسان وهو مائة سنة، وسبب ذلك أن قوة المرأة تَضْعُف عن الحمل بعد الخمسين
في الغالب فينقطع دم حيضها , وبيوض التناسل من رحمها، والحكمة ظاهرة في
ذلك والأطباء أعلم بتفصيلها، فإذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من امرأة واحدة كان
نصف عمر الرجال الطبيعي في الأمة معطلاً من النسل الذي مقصود الزواج؛ إذا
فُرِض أن الرجل يقترن بمن تساويه في السن، وقد يضيع على بعض الرجال أكثر
من خمسين سنة إذا تزوج بمن هي أكبر منه، وعاشا العمر الطبيعي، كما يضيع
على بعضهم أقل من ذلك إذا تزوج بمن هي أصغر منه، وعلى كل حال يضيع
عليه شيء من عمره، حتى لو تزوج، وهو في سن الخمسين بمن هي في الخامسة
عشرة يضيع عليه شيء من خمس عشرة سنة. وما عساه يطرأ على الرجال من
مرض أو هِرَم عاجل أو مَوْت قبل بلوغ السن الطبيعي يطرأ مثله على النساء قبل
سن اليأس. وقد لاحظ هذا الفرق بعض حكماء الإفرنج فقال: لو تركنا رجلاً واحدًا
مع مائة امرأة سنة واحدة كاملة، فأكثر لجاز أن يكون لنا من نسله في السنة مائة
إنسان، وأما إذا تركنا مائة رجل مع امرأة واحدة سنة كاملة فأكثر ما يمكن أن يكون
لنا من نسلهم إنسان واحد، والأرجح أن هذه المرأة لا تنتج أحدًا لأن كل واحد من
الرجال يفسد حرث الآخر. ومن لاحظ عظم شأن كثرة النسل في سنة الطبيعة وفي
حال الأمم يظهر له عظم شأن هذا الفرق. فهذه مقدمة ثانية.
ثم إن المواليد من الإناث أكثر من الذكور في أكثر بقاع الأرض. وترى
الرجال على كونهم أقل من النساء يعرض لهم من الموت والاشتغال عن التزوج
أكثر مما يعرض للنساء، ومعظم ذلك في الجندية والحروب، وفي العجز عن القيام
بأعباء الزواج ونفقاته لأن ذلك يطلب منهم في أصل نظام الفطرة، وفيما جرت
عليه سنة الشعوب، والأمم إلا ما شذ، فإذا لم يبح للرجل المستعد للزواج أن
يتزوج بأكثر من واحدة؛ اضطرت الحال إلى تعطيل عدد كثير من النساء ومنعهن
من النسل الذي تطلبه الطبيعة والأمة منهن، وإلى إلزامهن بمجاهدة داعية النسل في
طبيعتهن وذلك يُحدث أمراضًا بدنية وعقلية كثيرة يمسي بها أولئك المسكينات عالة
على الأمة وَبَلاءً فيها , بعد أن كُنَّ نعمة لها، أو إلى إباحة أعراضهن والرضى
بالسفاح وفي ذلك من المصائب عليهن - لا سيما إذا كن فقيرات - ما لا يرضى به
ذو إحساس بشري. وإنك لتجد هذه المصائب قد انتشرت في البلاد الإفرنجية،
حتى أعيا الناس أمرها وطفق أهل البحث ينظرون في طريق علاجها فظهر لبعضهم
أن العلاج الوحيد هو إباحة تعدد الزوجات. ومن العجائب أن ارتأى هذا الرأي
غير واحدة من كاتبات الإنكليز، وقد نقلنا ذلك عنهن في مقالة نشرت في المجلد
الرابع من المنار (تراجع في ص741) وإنما كان هذا عجيبًا؛ لأن النساء ينفرون
من هذا الأمر طبعًا، وهنَّ يحكمن بمقتضى الشعور والوجدان، أكثر مما يحكمن
بمقتضى المصلحة والبرهان، بل إن مسألة تعدد الزوجات صارت مسألة
وجدانية عند الرجال الإفرنج تبعًا لنسائهم، حتى لنجد الفيلسوف منهم لا يقدر أن
يبحث في فوائدها وفي وجه الحاجة إليها بحث بريء من الغرض طالبًا كشف
الحقيقة - فهذه مقدمة ثالثة.
وأنتقل بك من هذا إلى اكتناه حال المعيشة الزوجية، وأُشْرِفُ بِكَ على حكم
العقل والفطرة فيها، وهو أن الرجل يجب أن يكون هو الكافل للمرأة، وسيد
المنزل لقوة بدنه وعقله. وكونه أقدر على الكسب والدفاع، وهذا هو معنى قوله
تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا
مِنْ أَمْوَالِهِم} (النساء: 34) وأن المرأة يجب أن تكون مُدَبِّرة المنزل ومربِّية
الأولاد لرقتها وصبرها، وكونها كما قلنا من قبل واسطة في الإحساس والتعقل بين
الرجل والطفل؛ فيحسن أن تكون واسطة لنقل الطفل الذكر بالتدريج إلى الاستعداد
للرجوليَّة، ولجعل البنت كما يجب أن تكون من اللطف والدعة والاستعداد لعملها
الطبيعي، وإن شئت فقل في بيان هذه المسألة أن البيت مملكة صغرى كما أن
مجموع البيوت هو المملكة الكبرى , فللمرأة في هذه المملكة إدارة نظارة الداخلية
والمعارف، وللرجل مع الرياسة العامة إدارة نظارات المالية والأشغال العمومية
والحربية والخارجية، وإذا كان من نظام الفطرة أن تكون المرأة في البيت، وعملها
محصورًا فيه لضعفها عن العمل الآخر بطبيعتها، وبما يعوقها من الحَبَل والولادة،
ومداراة الأطفال، وكانت بذلك عالة على الرجل، كان من الشطط تكليفها بالمعيشة
الاستقلالية، بله السيادة والقيام على الرجل. وإذا صح أن المرأة يجب أن تكون في
كفالة الرجل , وأن الرجال قوَّامون على النساء كما هو ظاهر فماذا نعمل والنساء
أكثر من الرجال عددًا؟ ألا ينبغي أن يكون في نظام الاجتماع البشري أن يباح
للرجل الواحد كفالة عددة نساء عند الحاجة إلى ذلك لا سيما في أعقاب الحروب التي
تجتاح الرجال، وتدع النساء لا كافل للكثير منهن ولا نصير؟ ويزيد بعضهم على
هذا أن الرجل في خارج المنزل يتيسير له أن يستعين على أعماله بكثير من الناس،
ولكن المنزل لا يشتمل على غير أهله، وقد تمس الحاجة إلى مساعد للمرأة على
أعماله الكثيرة كما تقضي قواعد علم الاقتصاد في توزيع الأعمال، ولايمكن أن
يكون من يساعدها في البيت من الرجال، لما في ذلك من المفاسد فمن المصلحة على
هذا أن يكون في البيت عدة نساء مصلحتهن عمارته - كذا قال بعضهم - فهذه
مقدمة رابعة.
وإذا رجعت معي إلى البحث في تاريخ النشوء البشري في الزواج والبيوت
(العائلات) أو في الازدواج والإنتاج، نجد أن الرجل لم يكن في أمة من الأمم يكتفي
بامرأة واحدة كما هو شأن أكثر الحيوانات، وليس هذا بمحل لبيان السبب الطبيعي
في ذلك، بل ثبت بالبحث أن القبائل المتوحشة كان فيها النساء حقًّا مشاعًا للرجال
بحسب التراضي، وكانت الأمّ هي رئيسة البيت , إذ الأب غير متعين في الغالب،
وكان كلما ارتقى الإنسان يشعر بضرر هذا الشيوع والاختلاط , ويميل إلى
الاختصاص؛ فكان أول اختصاص في القبيلة أن يكون نساؤها لرجالها دون رجال
قبيلة أخرى، وما زالوا يرتقون حتى وصلوا إلى اختصاص الرجل الواحد بعدة نساء
من غير تقيد بعدد مُعين، بل حسب ما يتيسر له فانتقل بهذا تاريخ البيوت
(العائلات) إلى دور جديد، صار فيه الأب عمود النسب وأساس البيت كما بَيَّنَ ذلك
بعض علماء الألمان والإنكليز المتأخرين في كتب لهم في تاريخ البيوت (العائلات) ,
ومن هنا يزعم الإفرنج أن نهاية الارتقاء هو أن يختص الرجل الواحد بامرأة
واحدة وهو مُسَلَّم، وينبغي أن يكون هذا هو الأصل في البيوت، ولكن ماذا يقولون
في العوارض الطبيعية والاجتماعية التي تُلجئ إلى أن يكفل الرجل عدة من النساء
لمصلحتهن، ومصلحة الأمة، ولاستعداده الطبيعي لذلك؟ وليخبرونا: هل رضي
الرجال بهذا الاختصاص وقنعوا بالزواج الفردي في أمة من الأمم إلى اليوم؟ أيوجد
في أوربا في كل مائة ألفٍ رجلٌ لا يزني؟ كلا، إن الرجل بمقتضى طبيعته
وملكاته الوراثية لا يكتفي بامرأة واحدة؛ إذ المرأة لا تكون في كل وقت مستعدة
لغشيان الرجل إياها، كما أنها لا تكون في كل وقت مستعدة لثمرة هذا الغشيان
وفائدته، وهو النسل، فَدَاعية الغَشَيَان في الرجل لا تنحصر في وقت دون وقت،
ولكن قبوله من المرأة محصور في أوقات، وممنوع في غيرها. فالداعية الطبيعية
في المرأة لقبول الرجل إنما تكون مع اعتدال الفطرة عُقَيْب الطُّهر من الحيض،
وأما في حال الحيض، وحال الحمل والأثقال فتأبى طبيعتها ذلك، وأظن أنه لولا
توطين المرأة نفسها على إرضاء الرجل، والحظوة عنده، ولولا ما يحدثه التذكر
والتخيل للذة وقعت في إبانها من التعمل لاستعادتها - لا سيما مع تأثير التربية
والعادات العمومية - لكان النساء يأبَيْن الرجال في أكثر أيام الطُّهر التي يكن فيها
مستعدات للعلوق الذي هو مبدأ الإنتاج. ومن هذا التقرير يُعلم أن اكتفاء الرجل
بامرأة واحدة تستلزم أن يكون في أيام طويلة مندفعًا بطبيعته إلى الإفضاء إليها،
وهي غير مستعدة لقبوله، أظهرها أيام الحيض والإثقال بالحمل والنفاس، وأقلها
ظهور أيام الرضاع لا سيما الأولى والأيام الأخيرة من أيام طُهْرها، وقد يُنَازَع في
هذه لغلبة العادة فيها على الطبيعة.
وأما اكتفاء المرأة برجل واحد، فلا مانع منه
في طبيعتها ولا لمصلحة النسل , بل هو الموافق لذلك؛ إذ لا تكون المرأة في حال
مستعدة فيها لملامسة الرجل، وهو غير مستعد ما داما في اعتدال مزاجهما، ولا
نذكر المرض؛ لأن الزوجين يستويان فيه، ومن حقوق الزوجية وآدابها أن يكون
لأحدهما شغل بتمريض الآخر في وقت مصابه عن السعي وراء لذَّته. وقد ذكر عن
بعض محققي الأوربيين أن تعدد الأزواج الذي وُجِدَ في بعض القبائل المتوحشة كان
سببه قلة البنات لوأد الرجال إياهنَّ في ذلك العصر - فهذه مقدمة خامسة.
بعد هذا كله أَجِلْ طرفك معي في تاريخ الأمة العربية قبل الإسلام؛ تجد أنها
كانت قد ارتقت إلى أن صار فيها الزواج الشرعي هو الأصل في تكوُّن البيوت،
وأن الرجل هو عمود البيت وأصل النسب , وأن تعدد الزوجات لم يكن محدودًا
بعدد، ولا مقيدًا بشرط، وأن اختلاف عدة رجال إلى امرأة واحدة يعدُّ من الزنا
المذموم، وأن الزنا على كثرته يكاد يكون خاصًّا بالإماء، وقلما يأتيه الحرائر إلا
أن يأذن الرجل لامرأته بأن تستبضع من رجل يعجبها ابتغاء نجابة الولد ? وأن
الزنا لم يكن مَعِيبًا ولا عارًّا صدوره من الرجل، وإنما يعاب من حرائر النساء.
وقد حظر الإسلام الزنا على الرجال والنساء جميعًا حتى الإماء , فكان من الصعب
جدًّا على الرجال قبول الإسلام والعمل به مع هذا الحجر بدون إباحة تعدد الزوجات،
ولولا ذلك لاستُبِيح الزنا في بلاد الإسلام، كما هو مباح في بلاد الإفرنج. فهذه مقدمة
سادسة.
ولا تنس مع العلم بهذه المسائل أن غاية الترقي في نظام الاجتماع وسعادة
البيوت (العائلات) أن يكون تكون البيت من زوجَيْن فقط، يعطي كل منها الآخر
ميثاقًا غليظًا على الحب والإخلاص والثقة والاختصاص , حتى إذا ما رزقا أولادًا
كانت عنايتهما مُتّفقة على حسن تربيتهم ليكونوا قرة عين لهما , ويكونا قدوة صالحة
لهم في الوفاق والوئام والحب والإخلاص - فهذه مقدمة سابعة.
فإذا أنعمت النظر في هذه المقدمات كلها، وعرفت أصلها؛ تنجلي لك هذه
النتيجة أو النتائج: هي أن الأصل في السعادة الزوجية، والحياة البيتية هو أن
يكون للرجل زوجة واحدة، وأن هذا غاية الارتقاء البشري في بابه والكمال الذي
ينبغي أن يربى الناس عليه ويقتنعوا به، وأنه قد يعرض له ما يحول دون أخذ
الناس كلهم به، وتمس الحاجة إلى كفالة الرجل الواحد أكثر من امرأة واحدة، وأن
ذلك قد يكون لمصلحة الأفراد من الرجال , كأن يتزوج الرجل بامرأة عاقر فيضطر
إلى غيرها لأجل النسل، ويكون من مصلحتها أو مصلحتهما معًا أن لا يطلقها
وترضى بأن يتزوج بغيرها لا سيما؛ إذا كان ملكًا أو أميرًا أو تدخل المرأة في سن
اليأس , ويرى الرجل أنه مستعد للإعقاب من غيرها، وهو قادر على القيام بأود
غير واحدة وكفاية أولاد كثيرين وتربيتهم، أو يرى أن المرأة الوحدة لا تكفي
لإحصانه؛ لأن مزاجه يدفعه إلى كثرة الإفضاء ومزاجها بالعكس , أو أن تكون فاركًا
منشاصًا (أي تكره الزوج) أو يكون زمن حيضها طويلاً ينتهي إلى خمسة عشر
يومًا في الشهر، ويرى نفسه مضطرًا لأحد الأمرين التزوج بثانية، أو الزنا الذي
يضيع الدين والمال والصحة، ويكون شرًّا على الزوجة من ضم واحدة إليها مع
العدل بينهما كما هو شرط الإباحة في الإسلام , ولذلك استبيح الزنا في البلاد التي
منع فيها التعدد بالمرة.
وقد يكون التعدد لمصلحة الأمة كأن تكثر فيها النساء كثرة فاحشة كما هو
الواقع في كل البلاد الإنكليزية , أو تقع حرب مجتاحة تذهب بالألوف الكثيرة من
الرجال فيزيد عدد النساء زيادة فاحشة تضطرهن إلى الكسب والسعي في حاج
الطبيعة، ولا بضاعة لأكثرهن في الكسب إلا أبضاعهن. وإذا هن بذلنها فلا يخفى
على الناظر ما وراءها من الشقاء على المرأة لا كافل لها إذا اضطرت إلى القيام
بأود نفسها، وأود وَلَدْ ليس له والد، لا سيما عقيب الولادة ومدة الرضاعة، بل
الطفولية كلها. وما قال من قال من كاتبات الإنكليز بوجوب تعدد الزوجات إلا بعد
النظر في حال البنات اللواتي يشتغلن في المعامل وغيرها من الأماكن العمومية ,
وما يعرض لهنّ من هتك الأعراض والوقوع في الشقاء والبلاء، ولكن لَمَّا كانت
الأسباب التي تبيح تعدد الزوجات هي ضرورات تتقدر بقدرها، وكان الرجال إنما
يندفعون إلى هذا الأمر في الغالب إرضاء للشهوة لا عملاً بالمصلحة، وكان الكمال
الذي هو الأصل المطلوب عدم التعدد؛ جعل التعدد في الإسلام رخصةً لا واجبًا ولا
مندوبًا لذاته، وقيد بالشرط الذي نطقت به الآية الكريمة , وأكدته تأكيدًا مكررًا
فتأملها.
قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ
النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى
أَلاَّ تَعُولُوا} (النساء: 3) ... إلخ؛ فأنت ترى أن الكلام كان في حقوق الأيتام،
ولَمَّا كان في الناس من يتزوج باليتيمة الغنية ليتمع بمالها، ويهضم حقوقها لضعفها،
حذَّر الله من ذلك وقال: إن النساء أمامكم كثيرات , فإذا لم تثقوا من أنفسكم
بالقسط في اليتامى إذا تزوجتم بهنّ فعليكم بغيرهنّ، فذكر مسألة التعدد بشرطها
ضمنًا لا استقلالاً، والإفرنج يظنون أنها مسألة من مهمات الدين في الإسلام ثم قال:
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النساء: 3) , ولم يكتف بذلك حتى قال: {ذَلِكَ
أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} (النساء: 3) أي أن الاكتفاء بواحدة أدنى وأقرب لعدم
العول، وهو الجور والميل إلى أحد الجانبين دون الآخر , من عال الميزان إذا مال،
وهو الأرجح في تفسير الكلمة، فأكد أمر العدل، وجعل مجرد توقع الإنسان عدم
العدل من نفسه كافّ في المنع من التعدد، ولا يكاد يوجد أحد يتزوج بثانية لغير
حاجة وغرض صحيح يأمن الجور؛ لذلك كان لنا أن نحكم بأن الذّواقين الذين
يتزوجون كثيرًا لمجرد التنقل في التمتع يوطنون أنفسهم على ظلم الأُولَى، ومنهم
من يتزوج لأجل أن يغيظها ويهينها، ولا شك أن هذا محرم في الإسلام لِمَا فيه من
الظلم الذي هو خراب البيوت، بل وخراب الأمم، والناس عنه غافلون باتباع
أهوائهم.
هذا ما ظهر لنا الآن في الجواب، كتبناه بقلم العجلة على أننا كنا قد أرجأنا
الجواب لنمعن في المسألة، ونراجع كتابًا أو رسالة في موضوعها لأحد علماء
ألمانيا قيل لنا: إنها ترجمت وطبعت فلم يتيسر لنا ذلك فإن بقي في نفس السائل
شيء فليراجعنا فيه والله الموفق والمعين.
* * *
الأعطار الإفرنجية والكحول
طهارتها
(س21) أحمد أفندي عزمي بمصر:
الأستاذ يعلم أن أنواع الأعطار المستحضرة بمعامل أوربا شغلت حيزًا كبيرًا
جدًّا في ميدان التجارة. وعلى تلك النسبة شاع استعمالها بين العموم خصوصًا
العائلات، ولا أزيد الأستاذ علمًا بأني ربما جاورت في بعض صفوف الصلاة
رجالاً قد عمّ المسجد روائح ما بأجسامهم وملابسهم من تلك الأعطار، على أننا نعلم
من الفن ومن المشاهدة أن تلك المستحضرات جميعًا يدخلها الكؤول (إسبرتو) ،
ويقولون: إن الكؤول نجس بإجماع المذاهب الأربعة لتخمره، وهو ينتج نجاسة
كافة أنواع هذه الأعطار؛ فإذا صحّت هذه النتيجة تبعًا لصحة المقدمة تكون مصيبة
الأمة الإسلامية من ذلك عظيمة جدًّا، ولا غرابة في ذلك؛ إذا علمنا أن الطهارة
شرط في كثير من العبادات على أن الكل - يعني كل المسلمين - واقعون في
هذه المصيبة، وهم يظنون أنهم يحسنون صُنعًا.
فهل للأستاذ - حفظه الله للإسلام - أن يخوض هذا الموضوع، ويهدينا فيه
إلى سواء السبيل فإن كنا مصيبين ثبتنا على ما نحن عليه , وإلا أعلنتم ذلك الخطأ
العام , والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. والله يحفظكم لنا.
(ج) إن هذه الأعطار طاهرة، ومعاذ الله أن يجعل دين الفطرة الطَّيْب
قذارة، وقد بَيَّنَّا ذلك بالتفصيل في المجلد الرابع من المنار، وقد انتقد ذلك جاهل،
فرددنا عليه في نبذتَيْنِ عنوانهما (طهارة الكحول. والرد على ذي فضول)
فليراجع ذلك كله (في ص 500 و821 و 866)
* * *
حضور عبادة النصارى
(س 22) أ. ف. في أسيوط يقيم المبعوثون الأمريكانيون في مدارسهم
حفلة سنوية يلقي فيها التلامذة خطبًا علمية ومناظرات أدبية , ويدعون لحضور
هذه الحفلة من شاءوا من المسلمين وغيرهم، ومن المعلوم أنهم في أول كل عمل
لهم صلاة دينية كالتي يقيمونها عند افتتاح الحفلة. وهذه الصلاة عبارة عن
دعاء يطلبون به من المسيح بصفته ابنًا لله وفاديًا للناس (نعوذ بالله) أن يبارك
الحفلة والمحتفلين. فهل يجوز للمسلمين إجابة هذه الدعوة، وحضور هذه الحفلة ?
وعند الصلاة يقفون جميعًا بهيئة هذه الصلاة، فهل يجوز قيام المسلمين معهم مجاراة
لهم؟ ثم إذا لم يقفوا، هل عليهم في سماع هذه الألفاظ وهذا الدعاء من حرج؟
أفتونا ولكم الفضل.
(ج) مجاراة المسلم لغير المسلم وتشبهه به في عمل من أعمال دينه
الخاصة به لا يجوز بحال، والمنصوص في كتب الفقه أنه يعتبر رِدَّةً، وخروجًا من
الإسلام إذا كان بحيث يشتبه بهم، ويظن أنه منهم، وأما مجرد رؤية صلاتهم ,
وسماع دعائهم من غير مشاركتهم فيه فلا يحرم، إلا على من يخشى عليه أن يميل
إلى دينهم من الأطفال ونحوهم، ودعاء غير الله شرك في الإسلام وإن كان ما
يدعى به خير، وقال الفقهاء: إن الرضى بالشرك شرك، ولكن ما كل متفرج
على شيء يرضى به، وما زال المسلمون في السلف والخلف يطَّلعون على عبادات
أهل الملل كلهم، ولم نعلم أن أحدًا من الأئمة حرّم ذلك، أو أنه ورد في الكتاب أو
السنة حظر له، وقد بلغنا أن بعض جُهّال المسلمين الذين يحضرون احتفالاتهم في
المدارس وغيرها يتشبّهون بهم في صلاتهم، ويجارونهم فيها , ولكنّك لا تجد من
الذين دفعتهم الأهواء إلى تحريم ما أحل الله من طعام ولباس؛ لأنه تشبه بالنصارى
على زعمهم - وما التشبه في المباح بردَّة ولا مُحَرَّم إن فرض - لا ينكرون على
الجُهَّال عملهم هذا، ولا يقولون كلمة في نصيحتهم (وأهواء النفس ضروب) .
__________(7/231)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(المنار في تونس)
كُتبَ في إحدى الجرائد الفرنسية التونسية مقالة لكاتب تونسي، جاء فيها أن
بعض المشايخ يخافون على نفوذهم أن يسقط إذا رسخت تعاليم المنار في نفوس
طلاّب العلم، وأنهم رأوا لذلك أن يقاوموه بالمحل والسعاية، وقد أكدت الجرائد
العربية أن هذا الخبر غير صحيح وهو المعقول؛ إذ لو أنكر أحد المشايخ شيئًا في
المنار لكتبوا إلينا؛ فإن النهي عن المنكر فرض , ولا عذر لهم في السكوت عنه مع
تصريحنا مرارًا بأن من أنكر علينا شيئًا فإننا ننشر إنكاره، وقد فعلنا ذلك تكرارًا،
ولا يكفي في الإنكار على مجلة سيارة في الآفاق الانتقاد عليها أمام بعض الناس أو
تنفيرهم عن قراءتها مع بقاء المنكر ثابتًا منتشرًا، بل لا بد من اطلاع جميع القرّاء
على الانتقاد ودليله، فكل من ينتقد المنار في شيء خصوصًا أمر الدين وهو لم يكتب
بذلك؛ فهو فاسق بسكوته عن نهينا وإرشادنا , والفاسق لا يقبل قوله المؤمنون.
***
(المناظر والمنار)
نحن نُجِلُّ المناظر ونعتقد إخلاصه في خدمة بلاده وبراءته من التعصب الذميم
ونحمد منه إطلاق حرية البحث للكُتَّاب وإن خالفوا رأيه، وإنما لُمْنَاه على نشر
مقالات (سوريا والإسلام) لأنها ضارة وهادمة لما يبني المناظر وغيره من بناء
التأليف بين أهل الوطن من حيث لا تثبت حقيقة. ولم نَلُمْه لأنها طعن في الإسلام
كما لم نلمه على نشر الرد على مقالات الإسلام والنصرانية مع علمنا بما فيها من
الخطأ , فليتأمل الرصيف العادل في الفرق، ولانعهده إلا محبًّا للحق.
__________(7/240)
غرة ربيع الآخر - 1322هـ
15 يونيه - 1904م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(الوجه الخامس والستون)
قولكم: قد صرّح الأئمة بجواز التقليد كما قال سفيان: (إذا رأيت الرجل
يعمل العمل وأنت ترى غيره فلا تتهمه) ، وقال محمد بن الحسن: (يجوز للعالم
تقليد من هو أعلم منه , ولا يجوز له تقليد مثله) ، وقال الشافعي في غير موضع:
(قلته تقليدًا لعمر , وقلته تقليدًا لعثمان , وقلته تقليدًا لعطاء) .
جوابه من وجوه
(أحدها) أنكم إن ادّعيتم أن جميع العلماء صرّحوا بجواز التقليد، فدعوى
باطلة فقد ذكرنا من كلام الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام في ذمّ التقليد وأهله
والنهي عنه ما فيه كفاية، وكانوا يسمّون المقلد (الإمعة) ، و (محقب دينه) كما
قال ابن مسعود: (الذي يحقب دينه الرجال) وكانوا يسمونه الأعمى الذي لا
بصيرة له، ويسمون المقلدين: (أتباع كل ناعق، يميليون مع كل صائح، لم
يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق) ، كما قال فيهم أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه في الجنة -، وكما سماه الشافعي (حاطب ليل) ،
ونهى عن تقليده وتقليد غيره، فجزاه الله عن الإسلام خيرًا، لقد نصح لله
ورسوله والمسلمين، ودعا إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأمر باتباعهما دون قوله،
وأمر بأن تعرض أقواله عليهما فيقبل منها ما وافقهما، ويرد ما خالفهما، نحن نناشد
المقلدين، هل حفظوا في ذلك وصيته وأطاعوه أم عصوه وخالفوه؟ وإن ادعيتم أن
من العلماء من جوز التقليد فكان ما رأى الثاني أن هؤلاء الذين حكيتم عنهم أنهم
جوّزوا التقليد لمن هو أعلم منهم من أعظم الناس رغبة عن التقليد، واتباعًا للحجة،
ومخالفة لمن هو أعلم منهم، فأنتم مقرون أن أبا حنيفة أعلم من محمد بن الحسن،
ومن أبي يوسف وخلافهما له معروف، وقد صح عن أبي يوسف أنه قال: (لا
يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا) .
(الثاني) إنكم منكرون أن يكون من قلّدتموه من الأئمة مقلّدًا لغيره أشد
الإنكار , وقمتم وتقدمتم في قول الشافعي: (قلته تقليدًا لعمر , وقلته تقليدًا لعثمان ,
وقلته تقليدًا لعطاء) ، واضطربتم في حمل كلامه على موافقة الاجتهاد أشد
الاضطراب , وادعيتم أنه لم يقلد زيدًا في الفرائض، وإنما اجتهد فوافق اجتهاده
اجتهاده، ووقع الخاطر على الخاطر، حتى وافق اجتهاده في مسائل المعادة، حتى
في الأكدرية، وجاء الاجتهاد (حذو القذة بالقذة) فكيف نصبتموه مقلدًا ههنا؟ ولكن
هذا التناقض جاء من بركة التقليد، ولو اتبعتم العلم من حيث هو، واقتديتم بالدليل
وجعلتم الحجة إمامًا لما تناقضم هذا التناقض، وأعطيتم كل ذي حق حقه.
(الثالث) إن هذا من أكبر الحجج عليكم فإن الشافعي قد صرّح بتقليد عمر
وعثمان مع كونه من أئمة المجتهدين، وأنتم مع إقراركم بأنكم من المقلدين لا ترون
تقليد واحد من هؤلاء، بل إذا قال الشافعي، وقال عمر وعثمان وابن مسعود فضلاً
عن سعيد بن المسيب، وعطاء والحسن تركتم تقليد هؤلاء، وقلدتم الشافعي،
وهذا عين التناقض فخالفتموه من حيث زعمتم أنكم قلدتموه، فإن قلدتم الشافعي
فقلدوا من قلده الشافعي، فإن قلتم: بل قلدناهم فيما قلدهم فيه الشافعي، قيل: لم
يكن ذلك تقليدًا منكم لهم، بل تقليدًا له، وإلا فلو جاء عنهم خلاف قوله لم تلتفتوا
إلى أحد منهم.
(الرابع) إن من ذكرتم من الأئمة لم يقلدوا تقليدكم، ولا سوغوه ألبتة، بل
غاية ما نُقل عنهم من التقليد في مسائل يسيرة، لم يظفروا فيها بنص عن الله
ورسوله، ولم يجدوا فيها سوى قول من هو أعلم منهم فقلدوه، وهذا فعل أهل العلم
وهو الواجب، فإن التقليد إنما يباح للمضطر، وأما من عدل عن الكتاب والسنة
وأقوال الصحابة , وعن معرفة الحق بالدليل مع تمكنه منه إلى التقليد؛ فهو كمن
عَدَلَ إلى الميْتة مع قدرته على المُذَكَّى، فإن الأصل أن لا يقبل قول الغير إلا بدليل
إلا عند الضرورة , فجعلتم أنتم حال الضرورة رأس أموالكم.
(الوجه السادس والستون)
قولكم: قال الشافعي: رأي الصحابة لنا خير من رأينا لأنفسنا؛ جوابه من
وجوه:
أحدها: إنكم أول مخالف لقوله , ولا ترون رأيهم لكم خيرًا من رأي الأئمة
لأنفسهم، بل تقولون: رأي الأئمة لأنفسهم خير لنا من رأي الصحابة لنا؛ فإذا
جاءت الفُتْيا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسادات الصحابة، وجاءت الفُتْيا
عن الشافعي وأبي حنيفة ومالك تركتم ما جاء عن الصحابة، وأخذتم ما أفتى به
الأئمة، فهلا كان رأي الصحابة لكم خيرًا من رأي الأئمة لكم لو نصحتم أنفسكم.
الثاني: إن هذا لا يوجب صحة تقليد من سوى الصحابة؛ لِما خصهم الله به
من العلم والفهم والفضل والفقه عن الله ورسوله، وشاهدوا الوحي والتلقي عن
الرسول بلا واسطة، ونزول الوحي بلغتهم وهي عَضَّة محضة لم تُشب
ومراجعتهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما أشكل عليهم من القرآن
والسنة، حتى يجليه لهم، فمن له هذه المزية بعدهم؟ ومن شاركهم في هذه المنزلة
حتى يقلد كما يقلدون؟ فضلاً عن وجوب تقليده، وسقوط تقليدهم أو تحريمه كما
صرح به غلاتهم , وتالله إن بَين علم الصحابة وعلم من قلدتموه من الفضل كما بيننا
وبينهم، وفي ذلك قال الشافعي في الرسالة القديمة بعد أن ذكرهم، وذكر من
تعظيمهم وفضلهم: (وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به
علم، وآراءهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا , قال الشافعي: وقد أثنى الله على
الصحابة في القرآن والتوراة والانجيل، وسبق لهم من الفضل على لسان نبيهم ما
ليس لأحد بعدهم.
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم (خير الناس قَرْنِي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق
شهادة أحدهم يمينه، ويمنيه شهادته) وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد قال:
قال: رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (لا تسبّوا أصحابي فلو أن أحدكم
أنفق مثل أُحُد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه) .
وقال ابن مسعود: (إن الله نظر في قلوب عباده فوجد قلب محمد خير قلوب
العباد، ثم نظر في قلوب الناس بعده فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد
فاختارهم لصحبته، وجعلهم أنصار ووزراء نبيه، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند
الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح) .
وقد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - باتباع سنة خلفائه
الراشدين، وبالاقتداء بالخليفتين، وقال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا برسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، وشهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لابن
مسعود بالعلم، ودعا لابن عباس بأن يفقهه الله في الدين، ويعلمه التأويل، وضمه
إليه مرة وقال: (اللهم علمه الحكمة) وناول عمر في المنام القدح الذي شرب منه،
حتى رأى الري يخرج من تحت أظفاره وأوله بالعلم، وأخبر أن القوم إن أطاعوا
أبا بكر وعمر يرشدوا، وأخبر لو كان بعده نبي لكان عمر، وأخبر أن الله جعل
الحق على لسانه وقلبه وقال: (رضيت لكم ما رضي لكم ابن أم عبد) يعني
عبد الله بن مسعود وفضائلهم ومناقبهم، وما خصهم الله به من العلم والفضل أكثر
من أن يذكر فهل يستوي تقليد هؤلاء , وتقليد من بعدهم ممن لا يُدانيهم ولا
يقاربهم؟
الثالث: إنه لم يختلف المسلمون أنه ليس قول من قلّدتموه حجّة، وأكثر
العلماء بل الذي نصّ عليه من قلدتموه أن أقوال الصحابة يجب اتباعها، ويحرم
الخروج منها كما سيأتي حكاية ألفاظ الأئمة في ذلك، وأبلغهم فيه الشافعي، ونُبَيِّن
أنه لم يختلف مذهبه (أن قول الصحابي حجة) ونذكر نصوصه في الجديد على
ذلك إن شاء الله، وأن مَنْ حكى عنه قولَيْنِ في ذلك؛ فإنما حكى ذلك بلازم قوله لا
بصريحه وإذا كان قول الصحابي حجَّة فقبول قول حجة واجب مُتعيَّن، وقبول
قول من سواه أحسن أحواله أن يكون سائغًا، فقياس أحد القائلين على الآخر من
أفسد القياس وأبطله.
(الوجه السابع والستون)
قولكم: وقد جعل الله - سبحانه - في فِطَر العباد تقليد المتعلمين للمعلمين
والأستاذين في جميع الصنائع والعلوم إلى آخره، فجوابه أن هذا حقٌّ لا ينكره
عاقل، ولكن كيف يستلزم ذلك صحة التقليد في دين الله، وقبول قول المتبوع بغير
حجة توجب قبول قوله، وتقديم قوله على قول من هو أعلم منه؟ وترك الحجة
لقوله، وترك أقوال أهل العلم جميعًا من السلف والخلف لقوله , فهل جعل الله ذلك
في فطرة أحد من العالمين؟ ثم يقال: بل الذي فطر الله عليه عباده طلب الحجة،
والدليل المثبت لقول المدعي، فذكر الله سبحانه في فِطَر الناس أنهم لا يقبلون قول
من لَمْ يُقم الدليل على صحة قوله، ولأجل ذلك أقام الله سبحانه البراهين القاطعة،
والحجج الساطعة، والأدلَّة الظاهرة، والآيات الباهرة على صدق رسله إقامة
للحجة وقطعًا للمعذرة، هذا وهم أصدق خلقه وأعلمهم وأبرهم وأكملهم، فأُتُوا
بالآيات والحجج والبراهين مع اعتراف أممهم لهم بأنهم أصدق الناس، فكيف
يقبل قول من عداهم بغير حجة توجب قبول قوله؟ والله تعالى إنما أوجب قبول
قولهم بعد قيام الحجة، وظهور الآيات المُسْتَلْزِمة لصحَّة دعواهم لِما جعل في
فِطر عباده من الانقياد للحجة وقبول صاحبها، وهذا أمر مشترك بين جميع أهل
الأرض مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، الانقياد للحجة، وتعظيم صاحبها وإن
خالفوه عنادًا وبغيًا، فلفوات أغراضهم بالانتقاد، ولقد أحسن القائل:
أَبِن وجه قول الحق في قلب سامع ... ودعه فنور الحق يسري ويشرق
سيؤنسه رشدا وينسى نفاره ... كما نسي التوثيق من هو مطلق
ففطرة الله وشرعه من أكبر الحجج على فرقة التقليد.
(الوجه الثامن والستون)
قولكم: إن الله سبحانه فاوت بين ذوي الأذهان كما فاوت بين قوى الأبدان،
فلا يليق بحكمته وعدله أن يعرض على كل أحد معرفة الحق بدليله في كل مسألة إلى
آخره , فنحن لا ننكر ذلك، ولا ندّعي أن الله فرض على جميع خلقه معرفة الحق
بدليله في كل مسألة من مسائل الدِّين دِقَّه وجُلَّه، وإنما أنكرنا ما أنكره الأئمة ومن
تقدمهم من الصحابة والتابعين، وما حدث في الإسلام بعد انقضاء القرون الفاضلة
في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من
نصب رجل واحد، وجعل فتاويه بمنزلة نصوص الشارع، بل يقدمها عليه، ويقدم
قوله على أقوال من بعد رسول الله - صلى الله عليه آله وسلم - من جميع أمته
والاكتفاء بتقليده عن تلقي الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله، وهذا مع تضمنه للشهادة
بما لا يعلم الشاهد، والقول بلا علم والإخبار عمَّن خالفه، وإن كان أعلم منه أنه
غير مصيب للكتاب والسنة، ومتبوعي هو المصيب، أو يقول: كلاهما مصيب
للكتاب والسنة، وقد تعارضت أقوالهما , فيجعل أدلة الكتاب والسنة متعارضة
متناقضة , والله ورسوله يحكم بالشيء وضده في وقت واحد، ودينه تبع لآراء
الرجال، وليس له في نفس الأمر حكم مُعيَّن، فهو إما أن يسلك هذا المسلك أو
يخطِّئ من خالف متبوعه، ولا بد له من واحد من الأمرين، وهذا من بركة التقليد
عليه.
إذا عرف هذا فنحن إنما قلنا ونقول لك: إن الله تعالى أوجب على العباد
أن يتقوه بحسب استطاعتهم، وأصل التقوى معرفة ما يتقى , ثم العمل به فالواجب
على كل عبد أن يبذل جهده في معرفة ما يتقيه مما أمره الله به ونهاه عنه، ثم
يلتزم طاعه الله ورسوله، وما خفي عليه فهو فيه أُسوة أمثاله ممن عدا الرسول،
فكل أحدٍ سواه قد خفي عليه بعض ما جاء به ولم يخرجه ذلك عن كونه من أهل
العلم، ولم يكلفه الله ما لا يطيق من معرفة الحق واتباعه.
قال أبوعمرو: (ليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا وقد
خفي عليه بعض أمره؛ فإذا أوجب الله سبحانه على كل أحد ما استطاعه وبَلَغته
قواه من معرفة الحق وعذره فيما خفي عليه منه فأخطأه أو قلّد فيه غيره - كان ذلك
هو مقتضى حكمته وعدله ورحمته , بخلاف ما لو فرض على العباد تقليد من
شاءوا من العلماء، وأن يختار كل منهم رجلاً ينصبه معيارًا على وحيه , ويُعْرِض
عن أخذ الأحكام واقتباسها من مشكاة الوحي، فإن هذا ينافي حكمته ورحمته
وإحسانه، ويؤدي إلى ضياع دينه وهجر كتابه وسنة رسوله كما وقع فيه من وقع)
وبالله التوفيق.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(7/253)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السؤال والفتوى
التوارث مع اختلاف الدين
(س23) أحمد أفندي صبحي في (أشمون) : ما هو حكم شريعتنا الغرَّاء
في شخص كان مسيحيًّا فأسلم ثم توفي والده فهل يرثه أم لا؟
(ج) إنه لا توراث مع اختلاف الدين ومن المسلمين من يمتعض لمثل
حادثة السؤال , ولكنهم إذا تنبّهوا إلى أن هذه المسألة من المعاملات التي تحكم فيها
الشريعة العادلة بالمساواة , ولاحظوا أنه لا يرضيهم أن يرث الولد إذا تنصّر أو
تهود مثلاً من أبيه المسلم، يظهر لهم أيجب عليهم أن يرضوا بالعكس ويفتخروا
بشريعة المساواة والعدل؟
* * *
خلود الكافر في النار
(س24) محمد أفندي حلمي كاتب سجون (حلفا) : هل حقيقة أن الكافر
والنصراني يخلدون في النار أم كيف؟ اهـ بنصه
(ج) نطق القرآن العزيز بأن الكافرين والمنافقين يخلدون في النار , وأكد
هذا في آيات , وجاء في غيرها استثناء {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} (هود: 107)
فأولوه بعدة وجوه كما أولوا إطلاق الخلود في جزاء القتل في قوله تعالى: {وَمَن
يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} (النساء: 93) الآية , قالوا: إن
المراد بالخلود طول المكث , واستقر رأي المتكلمين على أن من بلغته دعوة نبيّنا
صلى الله عليه وسلم على وجه صحيح يحرك إلى النظر , فلم يؤمن عنادًا للحق أو
جمودًا على تقليد آبائه وقومه، فهو خالد في الدار التي أعدها الله تعالى للكافرين
والمجرمين , وأشهر أسمائها (النار) وإن لم تكن كلها نارًا , بل فيها برد وزمهرير
كما ورد. واستثنوا من هذا الحكم من بلغته الدعوة فنظر فيها وبحث بجدٍّ وإخلاص
فلم يظهر له الحق , ومات على ذلك غير مقصّر في النظر، فقالوا: إنه يعذر عند
الله تعالى لأنه {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) .
* * *
إرم ذات العماد
(س 25) ومنه: ماهو تفسير {إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ} (الفجر: 7)
(ج) إرم في الآية عطف بيان لقوله (عاد) أو بدل منه في وجه , والمعنى:
عاد التي هي إرم؛ أي: عاد الأُولَى وهي قبيلة عربيّة وفيها بعث الله هودًا عليه
السلام , ولهم في وصفها بذات العماد أقوال منها: عن ابن عباس ومجاهد أن
المراد بالعماد: القدود الطوال , وينقل أن طولهم كان يبلغ اثني عشر ذراعًا ولعله
مبالغة، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن المراد بذات العماد ذات الخيام التي
تقام على الأعمدة , وكانوا أهل بادية وحلّ وترحال وهذا هو المتبادر. وقيل: ذات
العماد ذات الرفعة على الاستعارة وهو بعيد. وما في كتب القصص وبعض كتب
التفسير من أن إرم مدينة صفتها كيت وكيت فهو من خُرافات القَصَّاصين.
* * *
إحياء النبي للموتى
(س26) ومنه: موضح في الجزء الخامس من مجلة المنار (ص189 س
17) أن سيدنا محمدًا عليه الصلاة والسلام أحيا ابن جابر ولم أجد ما يثبت لي ذلك ,
فأرجو تفصيل هذه العبارة.
(ج) يريد السائل الجزء الخامس من المجلد السادس , والعبارة هناك خطأ ,
والصواب (شاة جابر) والحديث أخرجه أبو نعيم وفيه أنه صلى الله عليه وسلم
أحيا الشاة بعد ما طبخت وأكلت والحديث ضعيف , وإنما ذكرناه هناك على سبيل
التمثيل , وأخرج البيهقي في (الدلائل) أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم
وقال: لا أومن بك حتى تحيي لي ابنتي , وفيه أنه جاء قبرها وسألها هل تحب
الرجوع إلى الدنيا فأجابته ... إلخ، وهو كسابقه لا يصح له سند , على أن نقل
هذه المعجزات هو أقوى مما ينقل أهل الكتاب وغيرهم عن أنبيائهم , إذ لا أسانيد لهم
يعرف تاريخ رجالها، فيقال هذا سند صحيح أو ضعيف.
* * *
الحكمة في اختلاف الناس في الدين
(27) حسين أفندي الجمل معاون البريد في (بورسعيد) : ما الحكمة في
خلق العالم مؤمنين وكفَّارًا؟ ولِمَ لَمْ يكونوا كلهم مؤمنين.
(ج) لم يخلق الله كافرًا قط , بل كلٌّ مولود يولد على الفطرة , فأبواه
يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه كما ورد في الحديث، خلق الله تعالى هذا الإنسان
وأعطاه المشاعر والعقل، وجعله مستعدًّا لمعرفة الخير والشرّ، والحقّ والباطل
بنظره واستدلاله؛ ليجازى على كسبه وعمله، ويكون هو سبب سعادة نفسه أو
شقائها، ولو خلقه لا كسب له ولا إرادة ولا اختيار لكان إما ملكًا روحانيًّا أو حيوانًا
أعجمًا لا مؤمنًا ولا كافرًا , فمن يريد أن يكون نوع الإنسان على غير ما هو عليه،
فهو يريد في الحقيقه عدم هذا النوع بالمرَّة.
* * *
إثبات استدارة الأرض ودورانها من القرآن
(س 28) ومنه: هل في القرآن الشريف ما يؤيد قول القائلين باستدارة
الأرض ودورانها حول الشمس؟
(ج) نعم إنهم يؤيدون هذه الدعوى بمثل قوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى
النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: 5) فإن هذا يكون نصًّا صريحًا في
كروية الأرض؛ إذ به يتصور التفاف النور والظلام عليها , وما أحسن هذا التعبير
وألطفه. ومثله قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (الأعراف:
54) وهذا ظاهر في الدلالة على كرويّة الأرض أيضًا، ورأيت مختار باشا الغازي
- وهو من تعرف في البراعة بالعلوم الفلكية - يقول: إن هذا دليل قطعي على
الكروية وعلى دوران الأرض معًا، إذ لا يستقيم المعنى بدونهما , على أنه ليس من
مقاصد الدين بيان حقائق المخلوقات وكيفيّاتها , وإنما يذكر ذلك في القرآن للعبرة
والاستدلال على قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته.
أما كون حدوث الليل والنهار بسبب حركة الأرض فلا نعرف فيه نصًّا
صريحًا في القرآن , ولكن يمكن أن يستنبط منه استنباطًا , وفي كتاب (صفوة
الاعتبار) للشيخ محمد بيرم الخامس التونسي فصل في هذا الموضوع، تكلَّم فيه أولاً
على إثبات كروية الأرض بكلام الحكماء والفقهاء والصوفية والاستدلال عليه ببعض
الآيات القرآنية , ثم ذكر خلاف الحكماء في سبب الليل والنهار، هل هو حركة
الأرض على محورها تحت الشمس , أم حركة الشمس بفلكها حول الأرض؟ وأن
الثاني هو الذي كان مرجحًا عند المتقدمين ومنهم المسلمون , ثم قال ما نصه:
(ثم أحيي المذهب الأول , وتأكد الآن عند علماء العصر بهذا الفن , وأنكره
المنتسبون للعلم من المسلمين، ظنًّا أن المذهب الأول من عقائد الإسلام , وأن المذهب
الآخر مصادم للنصوص , والحق أن ليس شيئًا من هذا ولا من ذلك هو مما يجب
اعتقاده عندنا , وإنما المدار عندنا على الاعتبار بالآثار المشاهدة من الليل والنهار
وأشباه ذلك , وإثبات جريان للشمس , وأما كيفيته فلا تعلق لها بالعقائد , وسير
الشمس على كلا المذهبين؛ لأن المتأخرين يثبتون لها حركة رحوية على نفسها ,
وحركة ثانية على منطقة لها أيضًا , ثم حركة ثالثة لها مع جميع ما يتبعها من
الكواكب حول شيء مجهول كما أن هذه الدورة مجهولة المستقر أيضًا , وكأنها
المشار إليها بقوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} (يس: 38) وذلك أن (المستقر) أتى بلفظه مُنْكَرًا للإبهام فيفيد أنه غير معلوم للخلق , ولهذا أُتِي به مضافًا إلى الشمس باللام فكان منكرًا , ولم يقل: مستقرها
بالإضافة المفيدة للتعريف لأن ذلك المستقر غير معروف , وعلماء هذا الفن الآن
من غير المسلمين مقرون بذلك , فهو حينئذ دليل إجماعي بيننا وبينهم.
(ثم إن كون حدوث الليل والنهار هو من آثار دوران الأرض ربما كانت
آيات عزيزة تشير إليه , فمنها الآية المتقدمة - يعنى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ
الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الرعد: 3) فإنه تعالى
بعد أن ذكر الدلائل على وجوده من السماء؛ أي: بقوله قبل هذه الآية: {اللَّهُ الَّذِي
رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (الرعد: 2) إلخ - ذكر الدلائل الأرضية , وخرط فيها الليل والنهار، فيشير ذلك إلى
أنها آثار الأرض؛ لأن وجودهما وإن كان يستلزم الشمس والأرض معًا , لكن
تخصيصه بالانخراط في الدلائل الأرضية يدل على تعلق خاصٍّ , وهو كون
دورانها هو السبب على أن منطوق الآية فيه تدعيم لهذا، حيث قال: {يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهَار} (الرعد: 3) فجعل الليل الذي هو ظلمة الأرض يغشى به النهار الذي
هو ضوء الشمس، ففيه تلميح إلى أن الأرض هي التي تحدث ذلك بفعل الله.
ومن الآيات المشيرة إلى ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا *
وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} (الشمس: 1-4)
فجعل النهار الذي هو مقابلة وجه الأرض للشمس مجليًّا. والليل الذي هو الظلمة
الأصلية للأرض مُغشيًا لها (كان ينبغي أن يقول: غاشيًا لها) فأسند فاعلية ذلك
لغير الشمس , بل لفاعل آخر هو الليل والنهار الذي هو من آثار الأرض. وإذا
كان هذا ثابتًا، فما يدل من الآيات على طلوع الشمس وغروبها وغير ذلك يمكن
تأويله باعتبار الأبصار والعرف الجاري في اللسان) اهـ، وهوحسن وأنت ترى
الذين يعتقدون بأن الأرض تدور على محورها فيكون الليل والنهار من ذلك يقولون:
طلعت الشمس وغربت , ويقولون: غطست في البحر، وبينها وبين البحر مقدار
كذا.
* * *
مطالعة كتب الملل غير الإسلامية
(س 29) م. خ. في (تونس) : ما هو حكم الله فيمن يطالع الكتب
السماوية الأخرى مثل التوراة بقصد الإحاطة خبرًا بما جاء في غير شريعتنا , وهل
كان النهي عن قراءتها عامًّا. إذا سلمنا ذلك تكون الشعوب غير الإسلامية ممتازة
على المسلمين بعدم منع أنفسهم إجالة النظر في القرآن الشريف، فيستفيدون مما جاء
فيه من الآيات البينات , ويحتجّون به علينا به عند اللزوم , ونحن لا نقدر أن
نقابلهم بالمثل؛ لأن كتبهم مغلقة في وجوهنا. أفيدونا بما علمكم الله من العلم ولكم
أجران أجر المفيد وأجر المصيب.
(ج) الأمور بمقاصدها , فمن يطالع كتب الملل بقصد الاستعانة على تأييد
الحق وردّ شبهات المعترضين ونحوه وهو مستعد لذلك , فهو عابد لله تعالى بهذه
المطالعة , وإذا احتيج إلى ذلك؛ كان فرضًا لازمًا , وما زال علماء الإسلام في
القديم والحديث يطلعون على كتب الملل ومقالاتهم , ويردّون بما يستخرجونه منها
من الدلائل الإلزاميه , وناهيك بمثل ابن حزم وابن تيمية في الغابرين وبرحمة الله
الهندي صاحب إظهار الحق في المتأخرين. أرأيت لو لم يقرأ هذا الرجل كتب
اليهود والنصارى، هل كان يقدر على ما قدر عليه من إلزامهم وقهرهم في المناظرة ,
ومن تأليف كتابه الذي أحبط دعاتَهُم في الهند وغير الهند، أرأيت لو لم يفعل ذلك
هو ولا غيره أما كان يأثم هو وجميع أهل العلم , وهم يرون عوام المسلمين تأخذهم
الشبهات من كل ناحية ولا يدفعونها عنهم؟
نعم إنه ينبغي منع التلامذة والعوام من قراءة هذه الكتب لئلا تشوش عليهم
عقائدهم وأحكام دينهم، فيكونوا كالغراب الذي حاول أن يتعلم مشية الطاووس فنسي
مشيته ولم يتعلم مشية الحجل.
* * *
إخبار الإنسان بعمره
(س 30) ومنه: رأيت ببعض الكتب المعتمدة أن الشيخ محمد بن أبي بكر
ابن الحاج قاضي غرناطة سئل عن عمره فلم يجب قائلاً: إنه ليس من المروءة أن
يخبر الرجل بسنه كذا قال الإمام مالك اهـ، فلم أهتد لفائدة هذا الحظر الذي نسبه
لإمام دار الهجرة؛ لأنه يظهر بادئ بدء أن هذا القول مخالف لما هو مسطر بكتب
تراجم الرجال حيث نجد فيها أعمار الأعيان المترجم لهم , ولا شك أن ذلك سرى
للمؤلفين بأحد وجهين إما بالتواتر والنقل عن أولئك الأعيان أنفسهم , وإما بالوقوف
على تقييدات وقع العثور عليها بعد وفياتهم , فإذا سلمنا أن ما نسب للإمام مالك
صحيح الرواية فلا يمكن تأويله إلا بأنه ليس من المروءة أن يقوم الإنسان خطيبًا
بين الناس مجاهرًا بعمره من دون أن يسأل عن ذلك؛ لأن صنيعه والحالة تلك يعد
ضربًا من الهذيان , ولم يطالبه أحد بالتعريف بعمره. وأما إذا عكسنا النازلة
وفرضنا أن الرجل يسأله سائل عن سنه سيما إذا كان ذلك لمصلحة مثل إشهار
فضله وتعريف الناس به، فلا شبهة في أن النص المعزو لسيدنا مالك بن أنس لا
ينطبق على هاته الحال , ولا يقال: إنه غير صاحب مروءة إذا أجاب سائله عن
سؤاله , وأنت ترى أن تسجيل الأعمار بالبلاد الإفرنجية ضربة لازب على الذكر
والأنثى , وأن مشاهير رجالهم معروفة أعمارهم ومرسومة تحت كل ورقة , ولم
يضرهم ذلك شيئًا, ولم يحس أحد ثمن مروءتهم فما معنى هذا الحظر علينا حتى في
الجزئيات التي لا علقة لها بالدين مثل هاته , أفتونا بما علمكم الله من العلم لا زلتم
محط رحال المستفيدين.
(ج) إن المسألة ليست من أمر الدين في شيء , وإذا صحت الرواية عن
الإمام مالك فهو لا يقصد بها الحظر الشرعي بمعنى أنه يقول: إن إخبار الإنسان
بعمره محرم أو مكروه شرعًا، كلا إنها مسألة أدبية , وكانوا لا يرون من الأدب ولا
من الذوق أن يسأل الانسان عن عمره أو عن ماله أو أن يخبر هو بذلك بغير سبب،
كما هو مذكور في كتب الأدب والمحاضرة , ولا يزال كثير من الناس لا سيما
الشيوخ في البلاد الإسلامية على هذا الرأي أو الذوق , ويختلف سببه باختلاف
الأشخاص , ولعل الشيوخ يحبون أن يكونوا دائمًا على مقربة من عصر الشباب ,
وقلما يوجد شاب يحب أن يظن أن سنه أكثر مما هي في الواقع، إلا إذا توهم أن في
ذلك نقصًا من مهابته كأن يكون ذا منصب أصابه في سن الصبا , ويرى أن الناس
لو علموا بسنه لاستكثروه عليه كما جرى للقاضي يحيى بن أكثم فقد نقل ابن خلكان
عن تاريخ بغداد للخطيب أن يحيى بن أكثم ولي قضاء البصرة وسنه عشرون سنة
أو نحوها فاستصغره أهل البصرة , فقالوا: كم سن القاضي؟ فعلم أنه قد استُصغِر
فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضيًا
على مكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صلى الله عليه
وسلم قاضيًا على اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر بن
الخطاب رضي الله عنه قاضيًا على أهل البصرة. فجعل جوابه احتجاجًا، وجملة
القول أنهم كانوا لا يستحسنون أن يسأل المرء عن عمره أو ماله أو يخبر هو به ,
وما كانوا يقولون ذلك إلا لحاجة , وأن الإحساس الذي كان عند الشيوخ فيما يظن
هو أن ذلك السن يستلزم تذكر الموت وقرب الرحيل , وأما إحساس الشبان فهو ما
ذكرناه آنفًا من توهم الاستصغار، وهذا هو السبب في الاختلاف في تحديد أعمار
أكثر العلماء والعظماء , وعدم الجزم بتاريخ مواليدهم وبناء تاريخهم على وفياتهم.
فإن قيل: إن الكاملين من الأئمة والفضلاء يجلون عن كتمان أعمارهم لمثل
هذا الإحساس. نقول: نعم , ولكنهم يجارون من يعاشرون على ما يستحسنون
ويستقبحون ما لم يخل بالمصلحة كما قلتم؛ لأنه من آداب المعاشرة العامة , والمروءة
تختلف باختلاف عرف الناس، ألا ترى أن أكثر أهل المشرق يرون كشف الرأس
في المحافل مخلاًّ بالمروءة , ويرى عكس ذلك الإفرنج ومن قلّدهم في آدابهم.
* * *
علامات الاستفهام والتعجب وغيرهما في الكتابة العربية
(س31) ومنه: حصل لي توقف عند قراءة المنار الثاني من هذه السنة من
استعمال طابعه أو مصححه للعلامات الإصلاحية عند الإفرنج من نقطة الاستفهام
ونقطة التعجب وعلامة العطف إلخ، مع كون اللغة العربية غنية عن ذلك ,
وبالأخص منها القرآن المجيد الذي هو في أعلى درجات البيان كما لا يخفى ,
وتراكيبها تؤدي معنى الاستفهام والتعجب وكل ما يتخيله الفكر وينطق به اللسان ,
وأنكرت ذلك سيما وأنه لم يسبق له سابق بهذه المجلة البديعة , فما الباعث على ذلك؟
نرجو الإفادة، وإن كانت بالجواز واعتبار تلك العلامات مثل علامات الرفع
والنصب والخفض والسكون المصطلح عليها عندنا , فليكن الجواب بالبسط حتى
يزول ما وقع في النفس. وفي هذا المقام نقول: إني لم أفاتح أحدًا في شأن هذا
التوقف الذي حصل والذي لا ينبغي أن يفهم منه الاعتراض بل مجرد الاسترشاد.
(ج) قد عني المسلمون بكتابة القرآن عناية عظيمة فلم يكتفوا بوضع النقط
في منتهى آياته حتى زادوا على ذلك علامات الوقف والابتداء , وجعلوا ذلك على
أقسام: الوقف التام والمطلق والجائز، والممنوع إلا لضرورة ضيق النفس. ووضع
لهذه الأقسام حروف تدل عليها كالميم والطاء والجيم , و (لا) يكتبونها صغيرة في
موضع الوقف، وكان لقائل أن يقول: إن الله جعل القران سورًا , وجعل السورة
آيات , وجعل للآيات فواصل تعرف بها فهو غنيٌّ عن هذه المحسّنات , ولكنهم لم
يقولوا ذلك , بل أجمعوا على استحسان هذا التحسين في الكتابة الذي ينبه إلى
المعاني المفهومة بذاتها لأهل اللغة، لأنها في أعلى درج البيان. ولو وضعوا يومئذ
علامات أخرى لمقول القول يعرف بها متى يبتدئ وأين ينتهي , وللاستفهام
والتعجب؛ لكانوا لها أشد استحسانًا فيما نظن، لأن إعانتها على الفَهْم ليست دون
إعانة علامات الوقف، فكثيرًا ما يأتي القول المحكي في القرآن من غير أن يتقدمه
قال وقالوا. وكثيرًا ما يشتبه على غير العالم النحرير انتهاء القول المحكي، كما ترى
المفسرين يختلفون في بعض الآيات هل هي من القول المحكي أم ابتداء كلام جديد.
وكذلك يجيء الاستفهام أحيانًا مع حذف أداته , وكذلك التعجب والاستفهام أنواع
منه الحقيقي ومنه الإنكاري والتعجبي والتوبيخي , فلو وضع لكل نوع منها علامة
لكان ذلك معينًا على الفهم بسهولة , ولتقبله علماء السلف بأحسن قبول. ولكن
علماءنا لم يخطر ببالهم هذا أيامهم، بل يُقَدَّر كل تحسين وإصلاح قدره لعدم
الحاجة إليه كهذا الزمان.
ثم إنهم لم يستعملوا المحسنات التي وضعوها لكتابة القرآن في غيره مما لا
يدانيه في بيانه وسهولته , وكان ينبغي تعميم هذا الإصلاح بأن توضع نقط في
أواخر الجمل التامة وعلامات وقف حيث يحسن الوقف في أثناء الكلام , ولو فعلوا
ذلك لكان فيه ترغيب في قراءة الكتب وإعانة على الفهم , بل أفسد المتأخرون ما
وضعه المتقدمون من الفصول في الكلام اقتداء بسور القرآن , ومعنى هذا الفصل
أن يكون فارقًا يبن الكلامين ببياض في الطرس يبدأ بعده بالكلام الجديد , ولعلهم
ظنوا ان لفظ الفصل هو المقصود , فصاروا يكتبونه في وسط السطر ويبقى الكلام
به متصلاً في الكتابة بحيث لا يرى الناظر في الصحف إلا سوادًا في سواد , وذلك
مما ينفِّر عن القراءة أو يقلل من النشاط فيها , ولذلك لم يكتف علماؤنا بكون القرآن
مقسمًا إلى سور حتى قسّموه إلى أجزاء , وقسموا كل جزء إلى أحزاب وأرباع ,
وجعل بعضهم لكل عشر آيات علامة , والغرض من هذا كله التنشيط على القراءة.
فعلمنا من هذا أن كل ما يعين في الكتابة على فَهْم المعنى فهو حسن , ومنها
علامات الاستفهام والتعجب التي سَبَقنا إليها الإفرنج فهم يضعونها وإن كان في
الكلام ما يدل على المقصود بدونها كما ترى في الإنكليزية , فإن صيغة الخبر
عندهم مخالفة لصيغة الاستفهام , وهم يضعون للاستفهام علامة مع هذا. وما في
المنار من هذه العلامات هو من وضع منشئه، فهو المحرر والمصحح , وليس لغيره
في المنار عمل إلا ما كان من قول نسب إلى قائله بالتصريح أو الإشارة. وليس
هذا جديدًا فيه، وإنما تنبه إليه السائل في الجزء الذي ذكره , ولو راجع المجلدات
الماضية؛ لوجد هذه العلامات وعلامات القول والحكاية (:: " ") وغير ذلك فيها ,
ولكنها لم تلتزم التزامًا في كل جملة. وهو يراها من المحسنات، لا سيما حيث يكون
في الكلام ما يقتضي التعجب من جهة المعنى , وليس فيه صيغة التعجب , وحيث
تكون الجملة أو الجمل المبدوءة بأداة الاستفهام طويلة يتوقع أن ينسى بعض القراء
في نهايتها أن القول كله موضع للاستفهام، وهو لم ير مانعًا من استعمال هذا
التحسين لا دينيًّا ولا غير ديني. وأما هذه العلامة (،) فنستعملها للسجع وما يشبهه
من الفصل يبن الجمل قبل تمام المعنى.
* * *
العمر الطبيعي
(س32) ومنه: أرجو الإفادة على صفحات المنار أيضًا عن عمر الإنسان
الطبيعي , وهل يصح أن نعتقد مثلاً أن سلمان الفارسي عاش 350 سنة فضلاً عن
كون بعض أصحاب الطبقات يزعم أنه عاش أكثر من ذلك , وبعضهم نقل أنه أدرك
المسيح فإن هذه المسألة هي مدار كلام أهل الأدب عندنا اليوم.
(ج) إن ما ذكرتموه عن عمر سلمان رضي الله عنه لم ينقل بسند صحيح
على سبيل الجزم , وإنما قالوا: إنه (توفي سنة خمس وثلاثين في آخر خلافة
عثمان وقيل أول سنة ست وثلاثين , وقيل توفي في خلافة عمر والأول أكثر. قال
العباس بن يزيد: قال أهل العلم: عاش سلمان 350 سنة فأما 250 فلا يشكون فيه.
قال أبو نعيم: (كان سلمان من المعمرين يقال: إنه أدرك عيسى ابن مريم وقرأ
الكتابين) اهـ من (أسد الغابة) فأنت ترى أن الرواية الأولى مشكوك فيها , فما
بالك بالأخيرة المحكية ب (يقال) وهي أنه أدرك المسيح. وعباس بن يزيد
قال الدارقطني: تكملوا فيه. فقوله لا يؤخذ على غرة على أنه يجوز أن يعيش
الإنسان 250 سنة , ولا يوجد دليل علمي يحدد العمر الذي يمكن أن يعيشه الإنسان
بحيث نقطع أنه يستحيل أكثر من ذلك. وقد نشر في المقتطف الذي صدر في صفر
سنة 1311ما نصه:
(إطالة العمر)
(بحث أحد العلماء في سبب الشيوخة فاستنج أنه إذا امتنع الانسان عن
الأطمعة التي تكثر فيها المواد الترابية , وأكثر من أكل الفاكهة ذات العصار الكثير ,
وشرب كل يوم ثلاثة أكواب من الماء القراح في كل منها عشر نقط من الحامض
الفصفوريك المخفف لتذيب ما يرسب في عضلاته من أملاح الكلس (الجير) ؛ طال
عمره كثيرًا , وقد يعمر حينئذ مائتي عام) اهـ.
فأنت ترى أن علماء العصر يجوزون أن يعيش الانسان مائتي سنة بالتدبير
الصحي وحسن المعيشة من غير أن تكون بنيته قد امتازت بقوة زائدة على المعتاد ,
وهم لا ينكرون أن بعض الناس يخلقون أحيانًا ممتعين بقوى خارقة للعادة , وهؤلاء
يكونون مستعدين لعمر أطول إذا لم يفاجئهم القدر بما يقطع مدد الاستعداد. أما
العمر الطبيعي للإنسان الذي يرى الأطباء أنه خلق ليعيشه لولا ما يجنيه على نفسه
بالإفراط والتفريط فهو مائة سنة , وذلك بالقياس على سائر الحيوانات؛ إذ ثبت لهم
بالاستقراء أن الحيوان يعيش ثلاثة أمثال الزمن الذي يتم نموه فيه. ولكن لا يكاد
يخلو قطر من الأقطار في عصر من الأعصار عن بعض الناس الذين يتجاوزون
المائة , وقد ذكر بعض علماء أوربا في كتاب له أشخاصًا بلغوا نحو 170 سنة. أما
نوح عليه السلام، فالراجح أنه كان في عصر كانت فيه طبيعة الأرض وبنية
الإنسان، على غير ما هي عليه الآن، ثم تغيرت بالطوفان، وذهب بعض أهل
الكتاب إلى أن سنيهم لم تكن كسنينا , بل كانوا يسمون الفصل سنة , وحكت الكتب
السماوية خبرهم على اصطلاحهم، وهو يحتاج إلى نقل , وتاريخ ذلك العصر
مجهول بالمرة فلا يعرف عنه شيء إلا بالوحي , وما يفيده العلم الحديث من
اختلاف أطوار الأرض واختلاف حال الأحياء بحسب ذلك فلا نقيس طبيعتها
الحديثة وهي ما بعد الطوفان على طبيعتها قبل ذلك.
وجملة القول أن الذي قالوه عن اعتقاد في عمر سلمان رضي الله عنه هو
أنه 250 سنة , ولكن الرواية فيه ليست بحيث يجزم بها , ولا يوجد دليل علمي
يحمل على الجزم بكذبها فهي محتملة الصدق , وغيرها ظاهر الكذب لا سيما القول
بكونه أدرك المسيح إذ لو كان كذلك لحدث عنه , وتوفرت الدواعي على نقله عنه
ولم ينقل إلا ما ينافيه , وهو أنه أخذ النصرانية قبيل الإسلام عن بعض القسوس
(راجع قصته في آخر المجلد الرابع من المنار) .
* * *
الصفا والمروة - تطهير المسعى
(س33) السيد علي الأمين الحسيني من علماء سوريا: لدى تشرفي بالحج
إلى بيت الله الحرام في سنة عشرين من المائة الرابعة بعد الألف من هجرة سيد
المرسلين صلى الله عليه وسلم، كان أكبر همي وقت السعي بين الصفا والمروة
التحفظ من القذرات الملوثة لكل ساع هناك مما ألقاه أهل الدكاكين والأسواق المكتنفة
بهذا المشعر الشريف , ومما يعرض من دواب القوافل والمستطرقين فضلاً عن
الغبار الذي يثور في الأرض التي لم يجعل لها امتياز في التنظيف والرصف عن
سائر الأزقة كما هو حقها , ومن المشقات التي تعرض هناك مدافعة القوافل للساعين
والاختلاط بهم الموجب لإيذائهم والخلل بأعمالهم وهيئتهم الشاغل عن توجه القلب ,
واستشعار الرقة والخشوع في هذا المشعر , فكدت أقضي العجب من قلة الالتفات
لهذا الأمر وعدم الاهتمام فيه , ولم أتحقق المانع من التحجير بين الفريقين بالفولاذ
أو الحديد وفرش المسعى بالرخام بل والبسط الفاخرة , ودفع هذه المشقة عن
المتطوفين كما يصنع بالمساجد المشرفة والمشاهد المعظمة , أَوَلَيْسَ ذلك من تعظيم
شعائر الله , وهل هناك سر لعدم التفات أهل الثروة من مسلمي الآفاق الذين لم يخل
منهم عام لذلك وعدم تصديهم له؟ فإن لاح لكم شيء خال عن النقض , وأفدتمونا
يكن لكم الفخر والأجر وإلا فإن نشرتم شيئًا نافعًا بذلك فهو المعهود من سجاياكم
ومساعيكم النافعة في الدين ولا زلتم مرجعًا للمسلمين آمين آمين.
(ج) حسبنا أن ننشر هذا التنبيه الذي ورد في صورة السؤال؛ لعل بعض
أهل الغيرة يسعى في تنظيف ذلك المكان وتطهيره , وتسهيل القيام بشعيرة السعي
في ذلك الموضع الذي شرّف الله قدره بذكره من كتابه المجيد. وإننا لا نعرف سبب
إهمال العناية به , ولم نره فنبدي رأينا فيما ينبغي عمله تفصيلاً , فنسأل الله أن يمن
علينا ذلك.
_______________________(7/258)
الكاتب: رفيق بك العظم
__________
هذا أوان العبر.. فهل نحن أحياء فنعتبر
رفيق العظم
إن كل ما يحيط بنا من أحوال الأمم، وأعمال البشر وآثار العقول، وثمار
العلم والعدل، ونتائج الجهل، وفضائح الظلم آيات للعبر، وبينات لا تحتاج في
الحكم إلى كثير نظر، يلمسها الأعمى بيده، ويراها البصير حتى في نفسه وبيته
وبلده وجواره، فالمرء في هذا العصر حيثما كان وأنَّى التفت وأينما اتجه؛ يرى
من آثار العبر ما يتعظ به العاقل، ويتنبه الغافل، أفليس من العجب أن يكون
المسلمون فاقدي الشعور بهذا المحيط غافلين عن تلك العبر يتعسفون في أخريات
الأمم، تعسف الخابط في ظلام الجهالة مع وضوح الطريق ووفور أسباب السلامة
والاهتداء.
ربما كان يقوم لهم العذر يوم؛ إذ كانت الأرض متنائية الأطراف متباعدة
الأقطار، تنشأ في قطر منها دولة وتدول أخرى، فلا يسمع أهل قطر آخر بما كان
فيه وما صار إليه إلا بما ينقله السفار بعد سنين عاريًا عن الحقيقة بعيدًا عن وجوه
العبر، فما عذرهم في هذا العصر؟ وقد تضامت أطراف الأرض بقوة البخار،
واتصلت أقطارها بعضها ببعض، بأسلاك البرق، وارتبط سكانها بروابط التعاون
والاتجار؛ فاختلطوا اختلاط الأمة الواحدة على بسيط واحد، وتعرف أهل كل قطر
أحوال القطر الآخر تعرف الجار بأمور جاره، فصار ما يحدث في أقصى الشرق في
الصباح يعلمه أهل المغرب في المساء، فَغَدَا المسلمون يلمسون آثار الأمم الأخرى
لمسًا، ويسمعون أخبارها يومًا فيومًا، وتساق إليهم العِبَر كل يوم سوقًا، ويرى كل
فرد منهم نتائج ترقي الأمم بعينه، ويشاهد آثارها حتى في مَلْبسه ومَأْكله ومَسْكنه،
ومع هذا فكأنما هم في واد والعالم في واد , يرتقي غيرهم وينزلون، ويصعد سواهم
ويتدلون، فما علة هذا الخمود الشامل وإلى أية غاية هم صائرون.
أخذت الأمم أسباب العلم النافع، وشيدت صروح المدنية الحاضرة؛ فعظم
شأنُها، وتضاعفت قوتها، فانكفأت دولها على أرجاء الأرض تدوخ الممالك،
وتستأثر بالسيادة على الأرض إلا هذا الفريق العظيم من البشر وهم المسلمون فإنهم
أصبحوا طُعْمَة كل جائع، ومطمع كل طامع، تمزق ممالكهم الدول المسيحية،
وتستعبدهم الأمم الغربية، فلا تأخذهم نعرة الوطن ولا الدين ولا الجنس، ولا تنهض
بدولهم الغَيْرَة ولو على سيادتهم المطلقة في استعباد المسلمين، فالحاكم منهم والمحكوم
شقي مهضوم، والأمة كالفرد موجود في حكم المعدوم.
كل من أطلق عنان النظر على سكان الأرض يرى أن تنازع البقاء بين الأمم
قائمة حربه الآن بين أقسامهم الثلاثة الكبرى الذين إليهم ينتهي السلطان على أرجاء
الأرض وهم: المسلمون والمسيحيون والوثنيون - أتباع كونفوشيوس وبوذه -،
وقد كانت الدول المسيحية منذ تسلحت بسلاح العلم الجديد، وآنست من نفسها القدرة
على مكافحة دول الأرض، واندفعت للفتح والاستعمار لا ترى لها خصمًا قويًّا جبارًا
ينازعها الملك في أفريقيا وآسيا منازعة القرن للقرن، إلا المسلمين ولم تكن تحفل
بذلك القسم الآخر من الاثنين بل كانت تظنّ أن زلزال الساعة العظيم إنما يكون يوم
تخوض جيوشها عُبَاب الممالك الإسلامية، وتخطو أول خطوة لمناوأة دول الإسلام
فيصدها الإحجام تارة، ويسوقها الإقدام أخرى، حتى إذا مزقت حجاب الرهبة،
ومضت في وجهتها الاستعمارية بالخُدْعة تارة، والحرب أخرى انكشف لها من حال
المسلمين وضعف دولهم ما أزال ارتيابها من جهة ذلك الخصم الموهوم، ووطدت
عزيمتها على إتمام الرغبة، وإنجاح الطلبة، فبثت جنود العلم والقوة في أنحاء آسيا
وأفريقيا , ورفعتا أعلام الفتح على أكثر ممالك الإسلام.
وصرفت تلك الدول عن الأذهان ذلك الوهم الذي كان سائدًا على ساستها من
جهة قوة المسلمين الذين نازعتهم الملك في كل بقعة من آسيا وأفريقيا فغلبتهم عليه ,
وإنما منعهن عن الإجهاز على البقية الباقية منهم تنازعهن على كيفية اقتسامها. ولم
يخطر لساسة تلك الدول يوم كانت ترهب جانب المسلمين أن الفريق الثالث الذي
ينتهي إليه السلطان أيضًا على قسم عظيم من الأرض، وهم أتباع كونفوشيوس وبوذه
أعظم خطرًا على الدول المسيحية من المسلمين وأشد لَدَادَة وخِصَامًا في موقف
النضال عن الحوزة والتنازع على الملك والسلطان، حتى قامت في هذه الآونة دولة
اليابان تناهض أعظم الدول المسيحية قوة وأضخمهن ملكًا وسطوة , وتدافعها عن
حوزة الملك الموروث للجنس الأصفر منذ دحا الله الأرض، وجعل الصين على
رأي البوذيين منبت الإنسان ومهبط آدم أبي البشر، فأدهش تلك الدول ما أدهشها
من قوة العلم والمدنية التي تذرعت بها دولة اليابان لمزاحمة الدول المسيحية،
وصد غاراتها المتوالية على الممالك الشرقية على حداثة عهدها في قبول المدنية
الجديدة بجميع فنونها النافعة.
إذا تقرر هذا؛ عَلِمْنَا أن المسلمين أصبحوا في معمعان هذا التنازع العام
مغلوبين على أمرهم دون غيرهم , وأن الأمم المسيحية والوثنية كادت تنفرد بالسيادة
على الأرض؛ لأن المدنية الحاضرة أصبحت بعلومها ومخترعاتها ملاك قوة الأمم،
ومادة حياة الدول، وليس للمسلمين حظ منها، ولا لأمرائهم نزوع إلى الأخذ بأسبابها،
ولا لدولهم رغبة ما في مجاراة أربابها. وحسبك شاهدًا لا يماري فيه العقل، ولا
يكذبه الحس ما صارت إليه الممالك الإسلامية المحكومة بدول إسلامية من التقهقر في
العمران، والتدلي في العلم والصناعة , والضعف في القوة، والجبن في السياسة.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(7/269)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(رسائل أبي العلاء المعري وترجمته)
قد ولع الناس في القرون المتوسطة بحفظ الرسائل التي كانت تدور بين
الأدباء والكتاب , ومن أحسنها رسائل أبي العلاء على قلتها، حفظوها في الكتاب
ونَسُوا مؤلفاته النافعة، حتى لا نكاد نجد منها غير دواوينه الشعرية , وسبب ذلك
أن العلم كان قد أخذ في التدلي أو التولي فلا يُؤْثر منه إلا ما فيه لذة وفكاهة. وهذه
الرسائل على كونها أقل ما كتب الفيلسوف كما هي العادة، هي كنوز آداب ولطائف
لا يكاد يفهمها إلا من أوتي حظًّا من الاطلاع على اللغة العربية مفرداتها وأساليبها،
وسهمًا من تاريخها وأمثالها، ولعل الله تعالى أذن بفضله لهذه اللغة أن تنشط من
عقالها، وتستيقظ بعد طول سباتها، فأوحى لأنصار العلم أن يخدموها، وألهم رجال
المدنية أن يتدارسوها، فراجت بضاعتها في أسواق العلم في بلاده , وأعني بها
المدارس الأوربية الكبرى , وعمد القوم إخراج كنوزها، ونشرها بين الناس. ولا
أجهل أن غرض الأوربيين السياسيين الاستعانة بهذه اللغة على استعمار البلاد
العربية، ولكن العلم لا سياسة له ولا دين , فمتى أخذ رجاله بطرف منه أخذوه بجد،
وخدموه بإصلاح ونصح، ولا يضرهم مع ذلك استفاد منه قومهم أم غير قومهم.
ومن الكتب التي عُنِي الأوربيون بترجمتها ونشرها بلسانهم ولسانها رسائل
أبي العلاء المعري، نقلها إلى الإنكليزية صاحبنا الدكتور مرجليوث الإنكليزي مدرس
اللغات الشرقية بمدرسة أوكسفورد الجامعة، وقد أهدانا نسخة منها مطبوعة باللغتين ,
وفي آخرها ترجمة أبي العلاء وفهارس تشير إلى ما في الرسائل من أسماء
الرجال والنساء والقبائل والحيوانات، وأسماء الأماكن والبلاد، والاصطلاحات
العروضية، وأسماء النجوم، لكلٍّ فهرس مرتب على حروف المعجم، وما أحسن
هذا الاصطلاح وأنفعه لو كنا نجري عليه في طبع كتبنا كما يجرون عليه فيها وفي
كتبهم بالأَوْلَى.
وأنت ترى أن نقل الكتاب من لغة إلى أخرى هو أصعب من تدريسه. وإنا
لنعلم أنه يقل في قراء العربية من أهلها من يقدر على تدريس هذه الرسائل , فما
تقول في فضل أعجمي ينقلها إلى لغته. فنهنئ صاحبنا على عمله , ونشكر له
هديته أجمل شكر.
أما ترجمة أبي العلاء فقد نقلها من تاريخ الذهبي , وفيها أنه أخذ العربية عن
أهل بلده كبني كوثر وأصحاب ابن خالويه، ورحل إلى طرابلس فاستفاد من خزائن
كتبها , وإنه كان قانعًا باليسير. له وقف يحصل له منه في العام نحو ثلاثين دينارًا
قدَّر منها لمن يخدمه النصف، وكان أكله العدس , وحلاوته التين , ولباسه القطن ,
وفراشه لبد , وحصيره بورية. وكانت له نفس قوية لا يحمل منة أحد , وإلا لو
تكسب بالشعر والمديح لكان ينال بذلك دنيا ورياسة، كذا قال الذهبي، ونحن نقول:
إنه لو لم يكن كذلك لما وجدنا في شعره من الفلسفة العالية والمدارك الدقيقة في نقد
العالم البشري ما نجد. ثم ذكر ما قيل في زندقته؛ لأنه التزم أن يذكر ما روي له
وعليه، وأورد بعض شعره الدَّال على شكِّه في الدين , واعتراضه على الشرائع،
ثم نقل عن الحافظ السلفي في ضد ذلك ما نصه:
(ومما يدل على صحة عقيدته ما سمعت الخطيب حامد بن بختيار النميري
بالسمسمانية - مدينة بالخابور - قال: سمعت القاضي أبا المهذب عبد المنعم بن
أحمد السروجي يقول: سمعت أخي القاضي أبا الفتح يقول: دخلت على أبي العلاء
التنوخي بالمعرة ذات يوم في وقت خلوة بغير علم منه وكنت أتردد إليه، وأقرأ
عليه، فسمعته وهو ينشد من قبله:
كم غودرت غادة كعاب ... وعمرت أمها العجوز
أحرزها الوالدان حرزًا ... والقبر حرز لها حريز
يجوز أن تبطئ المنايا ... والخلد في الدهر لا يجوز
ثم تأوه مرات وتلا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ
مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ
نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} (هود: 103-105)
ثم صاح وبكا بكاءً شديدًا , وطرح وجهه على الأرض زمانًا , ثم رفع
رأسه ومسح وجهه فقال: سبحان مَنْ تكلم بهذا في القدم، سبحان مَنْ هذا كلامه،
فصبرت ساعة ثم سلمت عليه فرد , فقال: متى أتيت؟ فقلت: الساعة. ثم قلت:
يا سيدي أرى في وجهك أثر غيظ. فقال: لا يا أبا الفتح، بل أنشدت شيئًا من كلام
المخلوق وتلوت شيئًا من كلام الخالق , فلحقني ما ترى. فتحققت صحة دينه وقوة
يقينه) اهـ
ولعل تلك الخواطر الدالة على الإلحاد كانت في بداية أمره ثم رجع عنها على
أن أكثرها يحتمل التأويل، وإن لم يلتفت إلى ذلك المتشدقون من المرتابين في هذا
العصر.
* * *
(إلياذة هوميروس)
هوميروس كبير شعراء اليونان أشهر من نار على عَلَم , وأشهر شعره ما
سُمي بالإلياذة , وهو ما نظمه في وصف حرب قومه اليونان لطرواده، وقد
عنيت أمم العلم والأدب في القديم والحديث بنقل الإلياذة إلى لغاتها، إلا الذين أَحْيَوْا
جميع علوم اليونان بعد موتها , وهم العرب، حتى قام في هذه الأيام سليمان
أفندي البستاني مؤلف دائرة المعارف العربية فعربها نظمًا. ثم إنه شرح النظم
فكان كتابًا حافلاً بالتاريخ والأدب، ووضع له مقدمة طويلة جمع فيها فصولاً في
تاريخ هوميروس مفصلاً، وفي الإلياذة ومكانتها في نفسها وعند الأمم , وتفصيل
ما فيها من المعارف، وفي التعريب وأصوله، وفي النظم وبحوره وضروبه،
وفي الشعر وتاريخه وطبقات أهله في العرب، وفي الشعر العصري والملاحم،
وفي الشعر واللغة، وهي مقدمة مفيدة جدًّا تدل على غزارة علم المؤلف وحسن ذوقه
وسعة اطلاعه. ثم إنه وضع للكتاب معجمًا خاصًّا فَسَّر فيه غريبه، ومعجمًا آخر
للإلياذة جمع فيه ما فيها من الكلمات في الآلهة والمعاني والأعلام مشيرًا بالأرقام
إلى مواضعها من الصحائف. فالكتاب في مجموعه خزانة علم وأدب ,
وصفحاته 1258 وطبعه جميل جدًّا , والشعر فيه مضبوط بالشكل الكامل.
* * *
(الاحتفال بمعرب الإلياذة)
نشر هذا الكتاب فتقبله أهل العلم والأدب بقبول حسن، بل أكبروا أمره
وبالغت الصحف في تقريظه، ثم تألفت لجنة من أدبائنا السوريين في القاهرة
فأولموا بالأمس وليمة في فندق شبرد احتفالاً بمُعَرِّب الإلياذة اجتمع على مائدتها نحو
مائة رجل من فضلاء القطرين المصري والسوري، وأُلقيت فيه الخطب العربية
والفرنسية واليونانية، وتُلي فيه ثلاثة كتب ممّن اعتذر عن عدم حضور الاحتفال،
أحدها من الأستاذ الإمام وكان آية الآيات , وثانيها من الدكتور شميل , وثالثها من
الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد.
ورأينا هؤلاء العلماء والأدباء حاضري الاحتفال متفقين على أن تعريب
الإلياذة من أجلِّ الخدم للغة العربية , ومتعجبين من عدم سبق العرب إلى تعريبها في
أيام دولتهم العلمية؛ إذ عربوا كتب اليونان في جميع العلوم. وكان الدكتور يعقوب
أفندي صروف أول خطيب في الحفلة , فجال في هذا المعنى جولة المؤرخ العالم،
وقال: إن السُّريان الذين كانوا يعربون الكتب اليونانية في أول الأمر للعرب قد
نقلوا الإلياذة إلى لغتهم دون اللغة العربية، ثم أطنب في وصف التعريب الجديد،
وما أضيف إليه من الفوائد، وانتقل إلى ذكر فضل المؤلف وفضل بيت البستاني
في خدمة العلم فبدأ يذكر عموده، وكبيره بطرس البستاني مؤسس دائرة المعارف
وصاحب الكتب والصحف الشهيرة فصفَّق له الحاضرون استحسانًا.
وتلاه بالخطابة كاتب هذه السطور , فذكر معنى الاحتفال وفائدته ونسبة
الإلياذة إلى الشعر العربي وسبب إغفال العرب لها، بينت في هذا أن الروح الأدبي
يسبق في الأمم الروح العلمي والصناعي، فمتى سمت آداب الأمة ورق شعورها؛
تحس بحاجتها إلى العلم فتنبعث إليه وتبدأ بخدمة علم الأدب منه، فكان مقتضى هذه
القاعدة أن يبدأ العرب بنقل آداب اليونان قبل علومهم، ولكن العرب كانوا في غنى
عن هذه الإلياذة فما دونها من آداب اليونان؛ لأنه لا يكاد يوجد فيها شيء من
المعاني الشعرية والأدبية إلا وقد سبقوا إلى مثله أو خير منه، وفي شرح الإلياذة
العربية شواهد كثيرة على ذلك، والسبب فيه أن حال اليونان في حروبهم التي
يصفها هوميروس شبيه بحال العرب في بداوتهم وحروبهم، ولكن وثنيتهم تخالف
وثنية العرب. قلت: ويعلم السادة الحاضرون أن العرب لم يندفعوا إلى ترجمة
الكتب إلا بعد الدخول في الإسلام فقد كانوا قبله أُميين لا يعرفون الكتاب، فالإسلام
هو الذي ساقهم إلى طلب العلم والحكمة، فلما أرادوا ترجمة كتب اليونان للاستفادة
منها رأوا في آدابهم وأشعارهم العربية مثل ما عند أولئك وزيادة إلا ما كان من
الخرافات الدينية كأحوال الآلهة الكثيرين , وهذا ما جاء الإسلام لمحوه لا لإحيائه
بعد موته، فكان إغفال العرب للإلياذة كإغفالهم لصناعة التصوير؛ لأن الصور
كانت في أيامهم خاصة بالشعائر الوثنية، فلما تغيرت الأحوال وأراد الله لهذه اللغة
أن تنهض نهضة جديدة أحس رجال الأدب بالحاجة إلى ماعند الأمم الأخرى من
الآداب , وأقدمها وأشهرها الإلياذة , فكان صديقنا البستاني هو السابق إلى توفية هذه
الحاجة؛ فقوبل بهذا الاستحسان العظيم.
وأما الاحتفال فقد بينت أنه شكرٌ لصاحب الأثر وتربية حسنة للأمة، فإن
أصحاب الاستعداد إذا رأوا أن خواص الأمة يقدرون الآثار العلمية والأدبية قدرها
فإن استعدادهم يظهر بالفعل، وتنتفع الأمة بمباراتهم في ذلك , فقد قامت لجنة هذا
الاحتفال بشكر عالم خدم الأدب، فكأنها احتفلت بكل عالم وأديب، إذ يحس كل منهم
بأن له في هذا الاحتفال نصيبًا، والشكر مدعاة المزيد ومبعث الرغبة في العاملين،
وتركه سبب الإهمال , فإن العالم الكامل وإن كان يتلذذ بالعلم ويحب الخير لذاته لا
تنبعث همته إلى إظهار الآثار النافعة إذا علم أن قومه لا يعرفون قيمتها ولا يقدرونها
قدرها؛ لأنه يرى ذلك من العبث. وما عساه يعمله تلذذًا به لا يجيء كاملاً كما إذا
كان يرجو أن يعرض عمله على أهل البصيرة والفضل فيَزِنُوه بميزانه، ويكافئوه
على قدر إحسانه، لهذا كان الشكر بطبيعته موجبًا للمزيد، بل إن الله تعالى وهو
الغني عن العالمين وذو الكمال المطلق قد جعل شكره سببًا للمزيد فقال: {لَئِن
شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُم} (إبراهيم: 7) فلا غرو أن يزيد صديقنا البستاني في خدمته
للعلم والأدب بسبب هذا الشكر الحسن الذي نقابله به.
هذا زبدة ما بيَّنه هذا العاجز في خطابه، وهو ما خطر له عند الكلام من غير
سابقة تفكر فيه. وقد أطنب بعض الخطباء في مدح الإلياذة نفسها وزعموا أنها
ستكون ترجمتها مبدأ انقلاب في الآداب العربية وفاتحة ترقٍّ عظيم فيها , وهو
مبالغة , والعربية أغنى من ذلك، ولو نظم الإلياذة غير البستاني فأحسن نظمها كما
أحسن؛ لما لقي من الشكر بعض ما لقي. ذلك أن صاحبنا في علمه الواسع، وأدبه
الرائع، وخدمته السابقة، وشجرته الباسقة، وما أضافه إلى النظم من الشرح
والمقدمات التي هي أكثر فائدة للمطالع، وخير مرجع للمراجع، قد هز أريحية
فضلا السوريين فكان منهم ما يجب أن يكون فيه أسوة حسنة لغيرهم ممن لا يقدرون
لعامل قدرًا، ولا يؤدُّون لمحسن شكرًا، فحيا الله البستاني وحيَّا الله السوريين؛ هذا
وإننا سنعود إلى الإلياذة فنختار منها مقاطيع نعرضها للقراء إن شاء الله تعالى.
وثمن النسخة من الإلياذة جنيه إنكليزي.
* * *
(الفلسفة اللغوية)
اتسع نطاق العلوم كلها لسانية وعقلية وعملية؛ فكثرت فروعها وتعددت
طرق تعليمها، وأهل الأزهر ومن على شاكلتهم من مقلدي الأموات على جمودهم
لا ينقصون من كتب مشايخهم، ولا يزيدون فيها حتى صرنا لا نرى شيئًا من
الإصلاح في العلوم العربية، حتى علوم اللغة إلا ممن تعلم في المدارس النظامية التي
أصبح زمامها بأيدي الإفرنج في كل قطر , فبينما ترى جبر أفندي ضومط يؤلف
الكتب البديعة في البلاغة والنحو كالخواطر الحسان في المعاني والبيان، وفلسفة
البلاغة والخواطر العراب؛ إذا بجرجي أفندي زيدان يؤلف كتبًا في فلسفة اللغة
العربية وتاريخها وتاريخ التمدن الإسلامي. وقد كان ألف كتاب (الفلسفة اللغوية)
سنة 1886 م ونشره في بيروت , وأعاد طبعه في هذه السنة مع زيادة فيه.
وموضوعه: (الأدلة اللغوية التحليلية على أن اللغة العربية مؤلفة في الأصل من
أصول قليلة ثنائية أحادية المقطع مأخوذ عن محاكاة الأصوات الخارجية والأصوات
الطبيعية التي ينطق بها الإنسان نطقًا غريزيًّا) فهو يبحث عن كيفية نشأة اللغة
وارتقائها. وهو بحث جليل أفرده الإفرنج بالتدوين، وأقاموه على قواعد علمية
استقرائية، وصفحات الكتاب 118 , ولعلنا نوفق لمطالعته ونقده مساعدة لمؤلفه
على خدمة لغتنا الشريفة. وهو يطلب من مكتبة الهلال بالفجالة وثمنه عشرة قروش ,
وأجرة البريد قرش.
* * *
(الخواطر العراب)
كتاب جديد في النحو ألفه جبر أفندي ضومط أستاذ العلوم العربية في المدرسة
الكلية الأمريكانية ببيروت، وصاحب الخواطر الحسان، وفلسفة البلاغة. وضعه
بأسلوب تعليمي غاية في البسط ودقة البحث وحسن البيان، واستيفاء التقسيم وكثرة
التمثيل واختيار الأمثلة - يمثل بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والأمثال
الحكيمة والأشعار الرقيقة في الحِكَم والغزل وغيرهما , فهكذا يكون التأليف لا سيما
في مثل هذا العصر الذي كثرت فيه العلوم والفنون، وعرف فيه الاقتصاد في
الوقت , فصار الإنسان يبخل على فن النحو بالسنين الطويلة، ينفقها في مُدارسته ,
وهو من وسائل اللغة , وما اللغات وفنونها إلا وسيلة للعلوم الحقيقية التي تبين
للناس كيفية الأعمال المعاشية وغيرها. وإنه ليسهل على المعلم البارع أن يدرس
هذا الكتاب في سنة واحدة وهو كاف في هذا الفن.
الكتاب تحت الطبع , وقد تفضل صديقنا المؤلف بإرسال كراريسه إلينا تباعًا
لننتقدها، وقد تصفحنا بعض صفحاته فوجدناها تجل عن الانتقاد إلا ما لا يكاد يخلو
منه كتاب حديث كاستعمال بعض الألفاظ أو الجمل استعمالاً غير صحيح أو غير
فصيح.
* * *
(الإحاطة في أخبار غرناطة)
صدر الجزء الثاني من هذا الكتاب طبعته شركة طبع الكتب العربية على
ورق جيد كالعادة، وهو كما علم القراء من تقريظ الجزء الأول تأليف الوزير محمد
لسان الدين بن الخطيب الشهير , وأوله ترجمة محمد بن يوسف أمير المسلمين
بالأندلس لذلك العهد وآخره ترجمة محمد بن عبد الرحيم اللخمي ذي الوزارتين ,
والجزء كله في ترجمة المحمدين من حرف الميم وهو 303 صفحات، وروح لسان
الدين الشعر والأدب فهي فائضة في الكتاب، وكانت سوقه نافقة في الأندلس لعهده ,
وثمن الكتاب عشرة قروش صحيحة.
* * *
(مراثي الأمة القبطية)
صدرت النبذة الثانية من هذه النبذ التي يكتبها أحد شبان القبط في انتقاد رجال
ملته. وهذه النبذة في المدرسة الإكليركية - تاريخها ونظامها الإداري ومدرسيها
وثورتها، وهذا الانتقاد من جملة أمارات الحياة الكثيرة في هذه الطائفة المستيقظة ,
وقد أهديت لنا النسخة من بضعة أشهر , وكنا أضللناها فنشكر لكاتبها غيرته الملية
ونرجو أن تكون نافعة لقومه.
* * *
(رسالة في أن العمل بالحقائق الدينية
عماد الارتقاء في الحياة الدينوية)
ألف هذه الرسالة السيد حسين كمال أفندي الشريف أودعها محاورة بينه وبين
أخيه السيد مصطفى فهمي أفندي الشريف في أسباب تأخر الأمة الإسلامية، وما
الذي يجب عليها في تلافي هذه الأسباب وقد قرأنا جملاً منها فإذا هي في الدعوة إلى
العمل بالكتاب والسنة الصحيحة، وترك كل ما سواهما من جهة الدين , والبحث في
بعض المسائل الدينية كالأمر بالمعروف، ورجم الزاني , وفيها إنكار على منصور
أفندي الشريف لأنه يكتب في مسائل دينية برأيه، وقال: إنه لم يتلق العلم عن أحد.
وفيها بحث في الفتوى الترنسفالية المشهورة - هذا ما ظهر لنا من تصفح معظم
صفحات الرسالة ولم نقرأ شيئًا من مباحثها بالتدقيق، وقد حمدنا من المؤلف هذه
المباحث.
* * *
(جرائد جديدة)
(المنعم) جريدة سياسية وطنية أسبوعية تصدر بالقاهرة محررها لطفي
عيروط المحامي بالاستئناف ومديرها سليم أفندي عيروط المحامي , وقيمة الاشتراك
فيها ستون قرشًا مصريًّا، وقد صدر منها بضعة أعداد , وكتب إلينا من إدارتها أنه
سيكتب في العدد الثامن مقالة مهمة في استعباد البلاد بالامتيازات، وأخرى مثلها في
خيانة المجلس البلدي في الإسكندرية فتوجه الأنظار إلى الجريدة وإلى المقالتين
بخصوصهما.
(الصواب) جريدة علمية سياسية أدبية تصدر في تونس يوم الجمعة من كل
أسبوع مديرها ومحررها (محمد الجعايبي) من كُتَّّاب التونسيين وأدبائهم، وقد
رأينا في الأعداد الأخيرة منها مقالات مفيدة في انتقاد الامتحان في جامع الزيتونة،
وما أحوج الأزهر إلى مثل هذا الانتقاد، وإننا لنشكر للحكومة التونسية إطلاق
الحرية للجرائد، وقيمة الاشتراك 8 فرنكات في البلاد التونسية و 10 في الجزائر
و13 في سائر الممالك.
(النادي) جريدة مدنية أدبية اجتماعية تصدر في القاهرة باللغتين العربية
والإيطالية صاحبها الدكتور أنريكو آنساباتو. ومما أخذه صاحبها على نفسه بيان
بعض مزايا الإسلام، ولا سيما مذهب التصوف وقد جعل قيمة الاشتراك في السنة
40 قرشًا في البلاد المصرية و 12 فرنكًا في غيرها , فنتمنى له التوفيق والنجاح.
_______________________(7/271)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(لائحة المساجد)
جاء في (ع 7965) من جريدة الأهرام الصادر في 2 يونيو تحت هذا
العنوان ما نصه:
(أَبَنَّا في أعدادنا السالفة فائدة لائحة المساجد التي يعمر بها الأزهر، وتعمر
بها الجوامع، ويقام عماد الدين والعلم والأدب، وقلنا: إن معاداة هذه اللائحة والقيام
في وجهها هو عبارة عن معاداة صالح الأزهريين وتقدمهم والوقوف في وجههم.
ولقد اتفق بعض رصفائنا أمس على أن إنفاذ هذه اللائحة قد أُجِّلََ إلى العام المقبل؛
أي: حتى عودة رجال الحكومة من الإجازة , فأخذنا نبحث عن سبب التأجيل فعرفنا
أن فضيلة القاضي الأكبر قدم عريضة إلى سمو الجناب الخديوي فيها يشكو من
بعض ما جاء في اللائحة، ويدعي أنه مخالف لشروط بعض الواقفين كأن يكون
بالمسجد مبخر وسقاء وكناس , فاللائحة جمعت وظائف كثيرة في شخص واحد ,
فالمعية ترجمت شكوى فضيلة القاضي , وأُرْسِلت هذه الترجمة إلى الوكالة
الإنكليزية، فأجابتها الوكالة أن الوقت قد انقضى وأن جناب اللورد لا يقدر على درس
الشكوى واللائحة، وأنه ينعم نظره فيها بعد عودته من الاصطياف فلهذا أجل الإنفاذ.
ولقد دُهِش العقلاء لهذا العمل؛ لأن المحتلين أعلنوا مرارًا وجهارًا أنهم لا
يتعرضون لأمر من أمور الدين , فما الذي حمل المعية إذن على إرسال تلك اللائحة
إلى الوكالة الإنكليزية؟ ألا توجد في البلاد سلطة دينية عاقلة عالية تقدر على درس
اللائحة وتمحيصها؟ ولقد دار في جميع الأندية أن ذلك كله نتيجة التسابق لإرضاء
المحتلين فكما أن دولتلو رياض باشا جعل جناب اللورد كرومر صاحب المقام
الأرفع كذلك المعية أحالت على جنابه شكوى العلماء وشئون المساجد والجوامع،
فما أكبر حظ دولة تجد مثل هذا من أمة تحكمها وبلاد تحتلها، وما أعظم الفرق
الذي يجده الإنكليز بين كبار المصريين وكبار البوير فإذا كنا قد لمنا رياض باشا
على كلامه فإنا نحن نلوم المعية على فعلها ويقيننا أن الإنكليز أنفسهم يوافقوننا على
هذا اللوم.
(المنار)
حسب الناس من العبرة الكبرى بهذا الخبر الصادع أن يعرفوه , وأننا لو أردنا
أن نبدي رأينا فيها لما استطعنا أن نقف عند الحد الذي تجيزه الرسوم المتبعة، وثم
عبرة أخرى وهي سكوت الجرائد اليومية التي تلقب بالإسلامية عن هذا، وبيان
الأهرام التي يصح أن نلقبها بجريدة الأمة له وسببه أنه جاء من قِبَل الأمير وحده،
وهو الذي يرضيها منه كل شيء ولو كان للنظار فيه رأي لقامت قيامة هذه
الجرائد وأكثرت الطعن واللعن، وحملت النظار وحدهم التبعة كما هي عادتها في
كل أمر يقوي نفوذ المحتلين مع أنه لم ينفذ شيء من ذلك إلا بأمر الأمير وهو وحده
كان القادر على معارضة الاحتلال بالحق وأوربا عضده , وأما النظار فلا عضد
لهم إلا الأمير , وهو الذي يقدر على عزلهم إذا خالفوا، ولا يقدرون على إلزامه إذا
وافقوا، فكل ما أخذه الإنكليز فمنه وعليه وعلى الأمة المسكينة التي أضاعها
أمراءها في كل زمان.
* * *
(قول رياض باشا - أوعبيد الكلام)
رُفِع العلم الإنكليزي بإذن الخديوي على السودان , وخطب الأمير تحته مذعنًا
له فلم يؤثر في المصريين، وعقد الوفاق الإنكليزي الفرنسي بناء على دكريتو
خديويٍّ , ومن لوازمه تأييد الاحتلال في مصر فلم يؤثر فيهم، ولونت خريطة
مصر في مدارس حكومتها بلون المستعمرات الإنكليزية فلم يؤثر فيهم. واستشار
الأميرُ اللورد في تعيين شيخ الأزهر فلم يؤثر فيهم، ووُكِّل إلى اللورد النظر في
لائحة المساجد وأئمة الصلاة فلم يؤثر فيهم، ويقول اللورد كرومر جهرًا: إنه هو
المسئول عن إدارة هذه البلاد فلا يؤثر فيهم، وقال رياض باشا بخطبته في احتفال
تأسيس مدرسة محمد علي الصناعية: إن اللورد هو صاحب النفوذ الشامل والمقام
الأرفع، ورغب إليه في معاهدة المدرسة حتى تبلغ أشدها فقام أحداث الوطنية
يلغطون في ذلك , ويعدُّونه حادثًا جللاً فانظر على ما يسكتون، وبماذا يلغطون؟
__________(7/279)
16 ربيع الآخر - 1322هـ
30 يونيه - 1904م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دعوى الشعراني
أنه أعطي أن يقول للشيء كن فيكون
أو دعوى الأولياء الألوهية
(س34) الشيخ قاسم محمد غدير في (أسيوط) : ما تقولون في معنى
قول الشعراني: مما منَّ الله به عليَّ أن أعطاني قول (كن) فلو قلت لجبل: كن
ذهبًا لكان: إلخ.
(ج) إن الإيجاد والتصرف في الأشياء بمقتضى الإرادة المعبر عنها بكلمة
(كن) هو خاص بخالق العالم ومدبره يستحيل أن يكون لغيره , وما كان مستحيلاً فلا
تتعلق قدرة الله به فيقال بجواز إعطائه لغيره كما هو مقرر في علم الكلام فلا يقال:
إن الله تعالى قادر على أن يجعل معه إلهًا آخر , فإن القدرة لا تتعلق إلا بالممكنات
وهذا مُحالٌ , ومن يعتقد أن أحدًا غير الله يفعل ما شاء , ويوجد ويعدم , ويقلب
الأعيان بقول كن؛ فلا شك في كفره الصريح وشركه القبيح , واذا أحسنا الظن
بالشيخ الشعراني؛ فإننا نقول: إن هذه الكلمة مدسوسة عليه , فقد صرح هو في
بعض كتبه كاليواقيت بأنهم كانوا يدسون عليه في زمنه. على أن كتبه المشهورة
المتداولة طافحة بالخرافات والدعاوى التي ينكرها الشرع والعقل , وهي أضر على
المسلمين من غيرها من الكتب الضارة المنسوبة إلى المسلمين وإلى غير المسلمين.
وقد كنت من أيام أجادل بعض البابيَّة وأبين لهم فساد دينهم الجديد فقال أحدهم: ما
تقول في الشعراني؟ فعلمت أنه يريد أن يحتج بما في بعض كتبه من أن المهدي
يأتي عكا وما يقوله في (مأدبة الله بمرج عكا) فإن البابية يحملون ذلك على البهاء
الذي نشر دينه وهو في عكا ومات , فقلت له: إن كلام الشعراني - أي الذي انفرد
به - عندي كالشيء اللقا لا قيمة له , والكتب المنسوبة إليه هي العمدة في الإضلال
المنتشر بين المصريين في الأولياء لاسيما في السيد البدوي فإنها مرغبة في موالده
التي هو قرارة المنكرات والمعاصي إلخ.
وإنني لأعلم أنه لا يزال في قراء المنار على استنارتهم من يعظم عليه وقع
الإنكار على كتب الشعراني , وإن كان الغرض منه تنزيه الله تعالى , فإن الذين
أشربت قلوبهم عقائد الوثنية يعظمون المشهورين من الذين يسمونهم أولياء أكثر مما
يعظمون الله تعالى , ويُسَرُّون أن يوصف أولياؤهم بصفات الألوهية , ويرون من
الضلال أو الكفر أن يقال: إنهم بشر لا يمتازون على غيرهم بما هو فوق
خصائص البشرية , وأن ما وفق له الصالحون من العمل الصالح فإنما هو عمل
كسبي يقدر غيرهم على الإتيان بمثله بهداية الله وتوفيقه. وإن الفتنة في الدعوى
المسئول عنها أكبر من الفتنة بكل كلام أهل الكفر والإضلال إذ لا يخشى من قول
عابد الصنم: إن صنمي إله أن يفتتن به المسلم كما يخشى على عامة المسلمين ,
وكثير من المقلدين الذين يسمون علماء وخاصة من كلمة الشعراني؛ لأن هؤلاء
يأخذون هذه الكلمة بالتسليم بناءً على أنها من باب الكرامات التي ليس لها حد عندهم ,
ومتى سلموا بها جزموا بأن مثل هذا الولي يفعل ما يشاء فيصرفون قلوبهم إليه
ويطلبون حوائجهم منه؛ فيكونون قد اتخذوه إلهًا باعتقادهم أنه يقول للشيء كن
فيكون , وقد عبدوه بدعائه والاعتماد عليه , وهم مع هذا كله يغشون أنفسهم بأنهم لا
يسمونه إلهًا وإنما يسمونه وليًّا كأن الأسماء هي التي تميز الحقائق دون العقائد
والأعمال القلبية والبدنية. وإنني أذكرهم بأن المشركين كانوا يسمون معبوداتهم
أولياء ويعتقدون أنهم شفعاء , قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا
نَعْبُدُهُمْ إلا َّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفى} (الزمر: 3) , وقال: إنهم يعبدونهم {
وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) وقد بينا لهم الحق لم نخف فيه
لومة لائم فليضربوا بكلام الشعراني عرض الحائط إن كان كل ما في كتبه كلامه أو
ليحسنوا الظن به كما قلنا أولاً , ويحكموا بأن هذه الكتب مملوءة بالدسائس عليه ,
فلا يعتمد عليها ولا تتخذ حجة عليه , وهذا هو الأسلم فنبرئه ولا نبرئها , وندعو له
بالرحمة ونطرحها مكتفين بهدي الكتاب والسنة فمن تمسك بهما نجا , وما تنكب
عنهما هلك , واعْلَمْ أن أعظم ما يغش الناس بقبول كل ما ينسب للأولياء
والصالحين أمران: أحدهما وقوع بعض الأمور الغريبة على أيديهم أو في إثر
الالتجاء إليهم , وقد بينا طرق تأويل ذلك وكشف الحق فيه في مقالات الكرامات
والخوارق من المجلد الماضي , وسنزيدها بيانًا. وثانيهما: تسليم بعض الشيوخ
المعروفين بالعلم أو الصلاح بذلك.
* * *
واقعة غريبة في الموضوع
رأى في هذه الأيام رجل موحد صديقًا له من القضاة الشرعيين في المسجد
الحسيني يتضرع ويشكو لسيدنا الحسين عليه السلام , ويطلب منه قضاء حاجاته
من غير أن يذكرها بالتفصيل اكتفاءً بأنه رضي الله عنه يعرفها لأنه مطلع على
أحوال العالم كله , ولذلك كان يقول له في كلامه ما يقوله غيره من العامة: الشكوى
لأهل البصيرة عيب. فقال له الموحد: إن هذا الذي أنت فيه شرك بالله تعالى ,
وإن أحكامك الشرعية غير صحيحة مع اعتقادك وعملك هذا , وبعد جدال اتفقا على
أن يتحاكما إلى عالم في الأزهر هو من أشهر أهله في مصر بالعلم والصلاح
فقصا عليه خبرهما , وشرح له الموحد عقيدته فسأله الشيخ عن أستاذه الذي يحضر
عليه! ! فقال: ليس لي أستاذ وإنما الكلام في العقائد لا في الأشخاص. فسأل
القاضي عن صحة ما نسبه إليه , فقال له: نعم هذا الذي لقينا عليه مشايخنا ,
ومنهم فلان الصالح الشهير. فقال الشيخ للموحد: إن عقيدتك يا بني هي الشرع إذ
لا يوجد فيه شيء مما عليه الناس, فإذا لم تعتقد بأن أحدًا من الأولياء يضر أو ينفع
فإن ذلك لا يضرك , ولكن لا تتغال فتطعن فيهم؛ إذ يخشى عليك حينئذ , ولا يضرك
أيضًا أن تعتقد كما يعتقد القاضي فإن بعض علمائنا الشافعية الذين لا نستطيع أن
ننكر عليهم أو نشك في فضلهم قد أثبتوا للأولياء تصرفًا! ! فقال الموحد: إن
الأمر في اعتقادي القطعي الذي أَلْقَى اللهَ عليه هو دائر في هذه المسألة بين التوحيد
والشرك , فأنا أعتقد أنه لا ضار ولا نافع إلا الله , وأن نبينا عليه الصلاة والسلام
قد جاءنا بالهداية عن الله تعالى , ولم يكن له من الأمر شيء , وإنما عليه التبليغ
وقد بلغ رسالة ربه (وانتهت مأموريته) فقبضه الله إليه , والقاضي يقول: إن
للأولياء الميتين ديوانًا , وإنهم هم المتصرفون في الكون , فكل ما يجري فيه فإنما
يجري بتصرفهم، وهذا نقيض اعتقادي. فقال له الشيخ: إنك قلت أولاً: إنك
لقيت القاضي في المسجد الحسيني فماذا كنت تفعل هناك؟ قال: أزور سيدنا
الحسين. قال: ولماذا؟ قال: لأن زيارة القبور مسنونة للاعتبار , ولأن سيدنا
الحسين رجل عظيم من أولاد الرسول الذي جاءتنا الهداية على لسانه بذل دمه في
سيبل نصرة الدين وإزالة الظلم , فأنا بزيارته أزداد اعتبارًا وأدعو له بالرحمة
اعترافًا بفضله. قال الشيخ: قلت لك: إن اعتقادك شرعي , ولكن لا تنكر على
القاضي وغيره , فإن شيخنا فلانًا كان يرسلني في أول حضوري عليه إلى سيدنا
الحسين في حال شدته (أو قال: مرضه , لا أدري) ويأمرني أن أقول له: العادة
ياسيدنا الحسين. فيحصل له خير (أو قال غير ذلك النسيان مني) فانظر أيها
القارىء؛ تجد العالم يعترف بأن كذا هو الدين والشرع , ثم يقر على مخالفته
اعتمادًا على أن بعض مشايخه المقلدين كانوا يقرون ذلك , وهو يحسن الظن بهم,
وأعجب من هذا أن الناس الذين يسلمون بأن أمر الشعراني إذا أراد شيئًا أن يقول
له: كن فيكون لا ينافي الدين فلا يعترضون عليه , بل يعترضون على ابن تيمية
إذ يقول: لا إله له التصرف إلا الله , ولا دين إلا ما جاء في كتاب الله وسنة
رسوله. فهكذا يفعل التقليد لا يبقي عقيدة ولا دينًا ولا حجة فيه إلا الإذعان للأشخاص
الذين لا عصمة لهم من الجهل ولا من الخطأ , وإلا حكايات ووقائع غريبة ينقل مثلها
عن جميع الملل. وكثيرًا ما يكون هؤلاء المعتقدون بتصرف الأموات من أهل
العبادة والزهد والإخلاص بحسب تقاليدهم , ولذلك يُغَشُّ الآخرون بهم {وَخُلِقَ
الإِنسَانُ ضَعِيفاً} (النساء: 28) .
__________(7/281)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السؤال والفتوى
إدخالُ السعديةِ الدبابيسَ
في أشداقهم
(س35) ومنه: كنتم قلتم في تضارب السعدية بالسيوف: إن ذلك لعبة
عادية , فما تقولون في إدخال الدبابيس في أشداقهم من غير ضرر؟ .
(ج) إن هذا هزل ولا يدخل منه شيء في الدين , إذ الدين جدٌّ لا لهو فيه
ولا لعب , ولا يُدْخِل هذه الأعمال في الدين إلا {ِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً
وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا} (الأنعام: 70) أما التعود على هذه الأشياء والحيل فيها فلا
يعرفها إلا من زاولها , ومن المشعوذين في أوربا وغيرها من يفعل أعظم من ذلك.
* * *
حروف الكتابة
احترامها
(س36) ومنه: هل كل مكتوب محترم لا يجوز إلقاؤه أم ذلك خاص بما
احتوى على لفظ شريف؟ وهل غير العربي مثله في ذلك؟
(ج) ذهب الشافعية إلى أنه يجب احترام الأسماء المعظمة المكتوبة كأسماء
الله وأنبيائه كاحترام كلام الله تعالى , فلا يجوز أن تلقى حيث تداس مثلاً أو أن
يتعمد عدم الاكتراث بها , أو الإهانة لها كما يقال. وبالغ الحنفية فقالوا: إن كل
الحروف والكتابة محترمة بهذا المعنى. فأما كتابة نحو القرآن والأسماء المعظمة
فإن تعمُّد إهانتها يدل على عدم الإيمان كما ينقل عن بعض الملحدين المشهورين في
مسلمي مصر من أنه أخذ ورقة من المصحف ولفها ووضعها في أذنه يخرج بها
الوسخ منها فهذا لا شك في إلحاده وكفره. وأما إهانة كلام الناس المكتوب فلا
يتصور حدوثه من عاقل إلا لسبب كاعتقاد أن الكلام ضار , أو كتب بسوء النية
وقصد الإيذاء والدهان، مثلاً فمن قرأ جريدة ورأى فيها شيئًَا من مثل هذا فألقاها أو
مزقها ورماها؛ هل يقال: إنه عاص لله تعالى مرتكب لما حرمه؟ كلا , إن
التحليل والتحريم بغير نقل صحيح أو دليل رجيح هو المحرم , ولم نعرف دليلاً في
الكتاب ولا في السنة على أن إلقاء ورقة مكتوبة على الأرض بقصد احتقار مبني
على اعتقاد ضررها مثلاً أو بغير قصد ذلك كالاستغناء عنها , وعدم الحاجة إليها
من المحرمات التي يعذب الله فاعلها. وما عساه يقال في استنباط اللوازم البعيدة من
أن ذلك يستلزم احتقار الحروف , واحتقار الحروف يستلزم احتقار ما يكتب بها ,
وما يكتب بها عام يشمل كتاب الله وأسماءه؛ فغير مُسلَّم , ويمكن أن يستنبط مثله
فيمن يلقي قشور البطيخ والباذنجان ونحوها , بأن يقال: إن هذه نعمة يمكن أن
ينتفع بها الناس أو الدواب فيجب تعظيمها واحترامها , وعدم احترامها يستلزم الكفر
بالمنعم بها , وما أشبه ذلك. وجملة القول في المسألة أن العاقل المكلف لا يقصد
بإلقاء الورق المكتوب إهانته إلا لنحو السبب الذي ذكرناه , وهو لا شيء فيه , بل
العاقل لا يحتقر شيئًا في الوجود لذاته , أو لأنه وسيلة لشيء نافع أو شريف , فما
قاله الشافعية هو الظاهر , ولا ينبغي الغلو والتنطع فيه والله أعلم.
* * *
الطلاق
اشتراط القصد فيه
(س 37) ع. ص. بمصر (القاهرة) : كنت أتجاذب أطراف الحديث
مع صديق لي في أمور دينية , فتدرجنا إلى موضوع الطلاق فاختلفنا فيه , وكان
رأيه أن الطلاق يقع لمجرد النطق باللفظ , ولو لم يكن الطلاق مقصودًا , وأما أنا
فرأيت أنه لا يقع الطلاق إلا بعد الإصرار عليه. فهل لكم أن تتفضلوا بنشر الحقيقة
على صفحات مناركم الأغر فتنقذوا العالم الاسلامي من وهدة الاختلاف التي وقع
فيها من كثرة التأويلات , ويكون لكم علينا الفضل ومنا الشكر ومن الله الأجر.
(ج) الزواج عقدة محكمة توثق بين الزوجين بعقد مقصود مع العزم فمن
المعقول أن لا تُحَلَّ إلا بعزم , وبذلك جاء الكتاب الحكيم. قال تعالى: {وَلاَ
تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ} (البقرة: 235) أي لا تعزموا عقد
هذه العقدة إلا في وقتها وهو انتهاء عدة المرأة والكلام في المعتدة. وقال تعالى:
{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاق} (البقرة: 227) إلخ أي إن صمموا عليه وقصدوه قصدًا
صحيحًا. والقاعدة عند الفقهاء في العقود أن العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ
والمباني , وظاهر أن أعظم العقود وأهمها العقد الذي موضوعه الإنسان من حيث
يأتلف ويجتمع ويتوالد ويربي مثله , فمثل هذا العقد يجب الحرص التام عليه لأن
في حله خراب اليوت وتشتيت الشمل المجتَمِع , وضياع تربية الأولاد وغير ذلك
من المضار , ولكن أكثر فقهاء المذاهب المشهورة ذهبوا إلى أن عقدة النكاح تنعقد
بالهزل وتنحل بالهزل , حتى كأنها أهون من العقد على أحقر الماعون الذي
اشترطوا فيه مع التعاطي الإيجاب والقبول الدالين على القصد الصحيح , وحجتهم
في حديث غريب كما قال الترمذي أخرجه أحمد وأصحاب السنن ما عدا النسائي من
حديث أبي هريرة وهو: (ثلاث جدهن جد , وهزلهن جد: النكاح والطلاق
والرجعة) وقد صححه الحاكم الذي كثيرًا ما صحح الضعاف والموضوعات , وفي
إسناده عبد الرحمن بن حبيب بن أزدك قال النسائي فيه: منكر الحديث , ولذلك لم
يخرج حديثه , ولقد عرف النسائي رحمه الله تعالى من ابن (أزدك) هذا ما خفي
على كثيرين , ونحن نقدم جرح النسائي على توثيق غيره عملاً بقاعدة تقديم الجرح
على التعديل مع كون موضوع الحديث منكرًا لمخالفته ما دل عليه الكتاب من
وجوب العزم في هذا الأمر ومخالفته القياس في جميع العقود , وهو أن تكون بقصد
وإرادة وإن جعله الحافظ حسنًا. ولهذا لم يأخذ به مالك ولا أحمد - وهو أحد رواته -
على إطلاقه بل اشترطا النية في لفظ الطلاق الصريح , واشتراطه في الكناية
أولى لاحتمالها معنيين. ومن العجائب أن بعض الفقهاء يقول: إن النكاح لا يقع من
الهازل ولكن الطلاق يقع , فهو يأخذ ببعض الحديث ويترك بعضًا , وقد دعم
بعضهم حديث ابن أزدك بحديث فضالة عند الطبراني: (ثلاث لا يجوز فيهن اللعب
الطلاق والنكاح والعتق) وهو على ضعفه بابن لهيعة في سنده ينقض الأول لا
يدعمه؛ لأن عدم الجواز يستلزم الفساد لا الصحة كما يعرف من الأصول , وجاء
بلفظ آخر فيه انقطاع فلا يعول عليه ولا يبحث فيه. ثم إن مسائل العقود ومنها
النكاح والطلاق كلها مشروعة لمصالح العباد ومنافعهم ومعقولة المعنى لهم , وليس
من مصلحة المرأة ولا الرجل ولا الأمة أن يفرق بين الزوجين بكلمة تبدو من غير
قصد ولا إرادة لحل العقدة بل فيها من المفاسد والمضار ما لا يخفى على عاقل , فلا
يليق بمحاسن الملة الحنيفية السمحة أن يكون فيها هذا الحرج العظيم. هذا وقد ورد
في الأحاديث الموافقة لأصول الدين وسماحته ما يدل على أن الخطأ والنسيان غير
مؤاخذ به , ومثلهما الإكراه وقد قال تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أيْمَانِكُمْ
وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ} (المائدة: 89) أي بتوثيقها بالقصد والنية
الصحيحة والطلاق من قَبِيل الأيمان والله أعلم وأحكم.
* * *
رأي أمير المؤمنين علي رضي الله عنه
واحتياطه في أكله
(س38) عبده أفندي ناطق في (الإسكندرية) نذكر هذا السؤال بمعناه وهو
أن صاحب مجلة الهلال قال في ترجمة سيدنا علي كرم الله وجهه في المجلد السادس
(ص202 و203) : إنه كان ضعيف الرأي ولذلك فشل في مسألة الخلافة (وإنه
لم يكن يأكل طعامًا لا يعرف صانعه وحامله , فكان يختم على جراب الدقيق الذي
يأكل منه , وسئل مرة عن سبب ذلك فقال: (لا أحب أن يدخل بطني إلا ما أعلم.
والظاهر أنه كان يفعل ذلك مخافة أن يغدر به أعداؤه فيميتوه مسمومًا) اهـ هذه
عبارة الهلال وقد استبشعها السائل , وكتب إلينا أولاً فأجبناه بكتاب خاص بأن ما
ذكره في الهلال حكاية فهو منقول , فكتب يلح منفعلاً بوجوب الجواب في المنار
فنقول فيه:
(ج) إن الإمام عليًّا لم يكن يجهل من الرأي ما كان يشير به عليه بعض
الذين ظنوا أنه ضعيف الرأي كما يعلم من خبر المغيرة معه , وإنما كانت السياسة
تقضي في عهده بأن يقر بعض العمال ذوي العصبية كمعاوية على أعمالهم مع
اعتقاده بأنهم كانوا ظالمين ولكن وجد أن الدين كان أقوى عنده من دهاء السياسة
حتى لا يستطيع أن يعمل ولا أن يقر إلا ما يعتقده حقًّا وعدلاً , وهذا هو السبب
الصحيح في فشله فقد كان الدين عنده أمرًا وجدانيًّا عقليًّا لا نظريًّا فقط , وسبب ذلك
أنه تربى عليه عملاً في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عبد الباقي:
رَبيب طه حبيب الله أنت ومن ... كان المربي له طه فقد برعا
وأما مسألة الأكل فقد كان سببها الورع , وما استظهره صاحب الهلال في
غير محله , فإنه قياس على حال بعض الملوك الجبناء الظالمين الذين فتنوا بِحُبِّ
طول البقاء والنعيم والخوف من الرعية وما أبعد الفرق! ! والمؤرخون كصاحب
الهلال يأخذون الخبر على ظاهره ويستنبطون منه ما يسبق إلى خواطرهم بحسب
معرفتهم وتأثير عصرهم. أما الأثر فقد رواه أبو نعيم في الحلية بسنده إلى عبد
الملك بن عمير قال: حدثني رجل من ثقيف أن عليًّا استعمله على عكبرى. قال:
ولم يكن السواد يسكنه المصلون , وقال لي: اذا كان الظهر فرح إليَّ , فرحت إليه
فلم أجد عنده حاجبًا يحجبني دونه فوجدته جالسًا , وعنده قدح وكوز من ماء , فدعا
بظبية [1] , فقلت في نفسي: لقد أمنني حين يُخْرِج إلي جوهرًا , ولا أدري ما فيها
فإذا عليها خاتم , فكسر الخاتم فإذا فيها سويق , فأخرج منها فصبَّ في القدح ,
فصب عليها ماء , فشرب وسقاني , فلم أصبر فقلت: يا أمير المؤمنين
أتصنع هذا بالعراق , وطعام العراق أكثر من ذلك؟ قال: (أما والله ما أختم عليه
بخلاً عليه , , ولكن أبتاع قدر ما يكفيني , فأخاف أن يفنى فيوضع من غيره , وإنما
حفظي لذلك , وأكره أن أدخل بطني إلا طيبًا) . وأخرج أبو نعيم أيضًا من
طريق سفيان عن الأعمش قال: كان علي يغدي ويعشي (أي الناس) , ويأكل هو من
شيء يجيئه من المدينة. وذكر الأثر الأول من غير حكاية الراوي صاحب القوت
والغزالي في كتاب الحلال والحرام من (الإحياء) واتفقوا على أنه من
الورع, والواقعة صريحة فيه. وهكذا كانت سيرة المتقين من الخلفاء الراشدين
وكبار الصحابة والتابعين.
روى البخاري من حديث عائشة قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج ,
وكان أبو بكر يأكل من خراجه , فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر , فقال له
الغلام: أتدري ما هذا؟ قال: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية
فأعطاني. فأدخل أصبعه في فيه , وجعل يقيء , حتى ظننت أن نفسه ستخرج ,
وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء.
وروى أبو نعيم في الحلية بسنده إلى زيد بن أرقم قال: كان لأبي بكر مملوك
يغل عليه فأتاه يومًا بطعام , فتناول منه لقمة , فقال له المملوك: ما لك كنت تسألني
كل ليلة ولم تسألني الليلة؟ قال: (حملني على ذلك الجوع من أين جئت بهذا؟)
قال: مررت بقوم في الجاهلية فرقيت لهم فوعدوني؛ فلما كان اليوم مررت بهم
فأعطوني. قال: (أَُفٍّ لك كدت أن تهلكني) فأدخل يده في حلقه فجعل يتقيأ ,
وجعل لا يخرج. فقيل له: إن هذه لا تخرج إلا بالماء , فدعا بعس من ماء فجعل
يشرب ويتقيأ حتى رمى بها. فقيل له: رحمك الله كل هذا من أجل هذه اللقمة قال:
لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها , سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به) فخشيت أن ينبت شيء من
جسدي من هذه اللقمة. ورواه غيره. وروى مالك من طريق زيد بن أسلم قال:
شرب عمر لبنًا فأعجبه فسأل الذي سقاه: من أين لك هذا اللبن؟ فأخبره أنه ورد
على ماء قد سماه؛ فإذا نَعمٌ من نَعَم الصدقة وهم يسقون , فحلبوا لي من ألبانها
فجعلته في سقائي فهو هذا , فأدخل عمر يده فاستقاءه. - هذا بعض شأنهم في
الورع والاحتياط في المأكل , ولم يكن عهد أبي بكر وعمر كعهد علي في تهاون
الناس بالحلال والحرام , ولذلك بالغ هو في الاحتياط في سفره. وحاشا أن يمس
الخوفُ من السم ذلك القلب المملوء إيمانًا وشجاعة.
* * *
تركة ووصيتان
(س40) السيد حسن بن علوي بن شهاب الدين في (سنغافورة) ما قولكم
فيمن أوصى بما نصه: وما يزيد من تركتي بعدما ذُكِرَ أعلاه (يعني من دينه) يقسم
أثلاثًا؛ ثلثان للورثة يقسم بينهم , والثلث الثالث يقسم عشرين سهمًا. اهـ، وعين
مصرف العشرين السهم , ثم قال في وصية له أخرى ما نصُّه: وجعل لأولاد أخيه
أحمد مثل نصيب أحد أولاده الذكور , والوصية المتقدمة باقية على صحتها. اهـ
أما الوصيتان فمعلوم صحتهما , والورثة أم , وزوجة , وستة أولاد وثلاث بنات ,
ولا يخفاكم أنه مات قبل الاستحقاق فريق له ثلاثة أسهم ونصف سهم من العشرين
السهم قبل موت الموصي. فهل بسقوط هذه الأسهم تعود هذه الأسهم تركة أم يوزع
ما بقي على ما بقي من الأسهم , وتعود وصية؟ وعلى كلا التقديرين كيف تكون قسمة
التركة , وكيف تصحيح المسألة لأن بعض العلماء يزيد ذلك المثل أولاً في تصحيح
المسألة , ويزيد مثله للموصى له. نعم ثلث المال في واقعة الحال شيء كثير , فلو
كان الثلث مثلاً ألفًا , ومقدار مثل نصيب أحد الأولاد سبعمائة فهل يأخذ الموصى له
بمثل النصيب نصيبه كاملاً , أم يدخل النقص على الجميع. وفي مسألتنا هنا؛ هل
يشاركهم في الزائد وهي الثلاثة الأسهم والنصف السهم الذي مات مستحقوه قبل
الاستحقاق؟ نؤمل من شيم الكرام الجواب على صفحات المنار مع التوضيح
الكامل فالمسألة واقعة حال ودمتم.
(ج) نقول أولاً: إن السائل كتب حاشية للسؤال ذكر فيها اختلاف أهل
العلم في المسألة , وأن كلام ابن حجر اختلف فيها فظننا أنها ذكرت في فتاويه
بنصها , فأرجأنا الجواب لمراجعة كلام ابن حجر. إذ ليس عندنا فتاواه ولا تحفته ,
ثم رأينا أن نعطي السؤال لأحد أصدقائنا من علماء الشافعية في الأزهر ففعلنا
وجاءنا منه ما يلي بنصه:
الحمد الله أما بعد , فهاتان وصيتان على الترتيب: الأولى بالثلث وجعله
عشرين سهمًا فلتكن التركة ستين سهمًا , والثانية بمثل نصيب ذكر من أولاده.
وحيث قد مات أصحاب ثلاثة أسهم ونصف من العشرين قبل موت الموصي , فتلك
الحصة تركة , فتكون الوصية الأولى بستة عشر سهمًا ونصفًا من ستين، وتكون
التركة التي فيها الوصية الثانية ثلاثة وأربعين سهمًا ونصفًا، تقسم كلها على الورثة
لا غير وهم: أم , وزوجة , وستة ذكور , وثلاث بنات , ومسألتهم من أربعة
وعشرين , وتصح من ثمانية وأربعين , ونريد الآن الثاني؛ لأنه أسهل حسابًا ,
فلنعتبر أن الثلاثةَ والأربعين سهمًا ونصفًا ثمانيةٌ وأربعون سهمًا؛ للزوجة الثمن
بستة , وللأم السدس بثمانية , فهذه أربعة عشر. يبقى أربعة وثلاثون لستة ذكور
وثلاث بنات , فتكون القسمة على خمسة عشر باعتبار البنات فلا تنقسم الأربعة
والثلاثون سهمًا عليهم صحيحة , فتضرب في خمسة عشر فيكون حاصل الضرب
خمسمائة وعشرة يقسم ذلك الحاصل على خمسة عشر , فتكون حصة البنت أربعة
وثلاثين , وحصة الذكر ثمانية وستين , ثم تحول حصة الزوجة والأم إلى أسهم
كهذه فتضرب أربعة عشر في خمسة عشر فيبلغ مائتين وعشرة تضم إلى خمسمائة
وعشرة حصة بقية الورثة , فتكون التركة التي كانت ثلاثة وأربعين سهمًا ونصفًا
سبعمائة وعشرين سهمًا حصة جميع الورثة , فقد صحت المسألة على ذلك , ويزداد
عليه مثل نصيب ذكر وهو ثمانية وستون فتبلغ سبعمائة وثمانية وثمانين سهمًا ,
فإذا قسمت الثلاثة والأربعون سهمًا ونصف سهم إلى سبعمائة وثمانية وثمانين؛
أعطيت الزوجة تسعين والأم مائة وعشرين , وبقية الورثة خمسمائة وعشرة؛
للذكر مثل حظ الأنثيين. وكان لأولاد الأخ ثمانيةٌ وستون على سبيل الوصية , وهي
الوصية الثانية، منها أربعة أسهم وستة وعشرون جزءًا من ثلاثة وأربعين
ونصف زائدة على الثلث فهي موقوفة على إجازة الورثة، وبيان كون هذا المقدار
هو الزائد على الثلث أنه اذا كانت الثلاثة وأربعون سهمًا ونصف سبعمائة وثمانية
وثمانين فلتكن الوصية الأولى التي هي ستة عشر سهمًا ونصف مائتين وثمانية
وتسعين سهمًا وتسعة وثلاثين جزءًا من ثلاثة وأربعين ونصف , حيث تضرب ستة
عشر ونصفًا في خمسة عشر فليكن المال كله قبل الوصيتين ألفًا وستة وثمانين
سهمًا وتسعة وثلاثين جزءًا من ثلاثة وأربعين ونصف , وليكن ثلثه ثلاثمائة واثنين
وستين سهمًا وثلاثة عشر جزءًا من ثلاثة وأربعين ونصف، وحيث إن
الوصيتين على الترتيب فلتنفذ الأولى كلها وهي مائتان وثمانية وتسعين سهمًا وتسعة
وثلاثون جزءًا من ثلاثة وأربعين ونصف , ولتنفذ الثانية لأولاد الأخ فيما يتمم
الثلث. والذي يتممه ثلاثة وستون سهمًا وسبعة عشر جزءًا ونصف من ثلاثة
وأربعين ونصف مع أن حصة الذكر ثمانية وستون فيكون الزائد عن الثلث
أربعة أسهم وستة وعشرين جزءًا من ثلاثة وأربعين ونصف فيحتاج إلى إذن
الورثة.
والحاصل أن التركة بحسب الأصل ستون سهمًا؛ منها عشرون للوصية
الأولى رجع منها ثلاثة ونصف للتركة , فتكون التركة ثلاثة وأربعين سهمًا ونصفًا.
يأخذ منها أولاد الأخ ثلاثة ونصفًا تتمة الثلث , ويبقى بعد الثلاثة ونصف شيء يتمم
حصة الذكر فيحتاج إلى إذن الورثة فإن أجازوا نفذ , والا فلا نفود؛ واذا أجازوا
فلتكن القسمة على ما بينا، بحيث تصحح مسألة الورثة أولاً ثم يزاد على أصل
المسألة مقدار ما يخص الذكر , ثم يقسم بعد ذلك على الورثة , وفيهم صاحب
الوصية الثانية , ولا يخفى أن تلك الزيادة هي مسألة العول الذي يدخل على جميع
الأنصباء. وليس في هذه الواقعة خلاف ما قررنا والله أعلم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين والي
__________
(1) الظبية جراب صغير من جلد الظبية عليه شعر.(7/297)
الكاتب: رفيق بك العظم
__________
هذا أوان العبر.. فهل نحن أحياء فنعتبر
وبالجملة فقدها كل فنون المدنية النافعة التي سادت بها الدول المسيحية
وسعدت الأمم الغربية , وإليك البيان:
(نشر أحد كُتاب العثمانيين في العدد 32 من جريدة (ترك) المؤرخة 25
ربيع أول سنة 1322هـ الصادرة في مصر مقالة تستثير كوامن الشجون خلاصتها
أنه رأى في جرائد الآستانة كلامًا طويلاً عن مرور منير باشا سفير الدولة العثمانية
في باريس على صوفيا عاصمة البُلْغار؛ لأجل دعوة أميرها إلى زيارة الآستانة،
وقال: إنما استوقف خاطره من ذلك الكلام الطويل جملة واحدة وهي قول تلك
الجرائد: إن في جملة ما زاره السفير من المعاهد في تلك العاصمة - التي كانت
تسمى في عهد استيلاء الترك عليها مركز ولاية الطونة - معرض النباتات
والحيوانات والتحف، وهي العاصمة التي كانت منذ خمسة وعشرين سنة كبقية
عواصم ولايات الدولة في أوربا مثل يانيا وأدرنة ومناستر قذرة الشوارع
والطرقات ضيقتها محرومة من عناية المجالس البلدية، كل شيء فيها مهجور ما
عدا الحبوس والمعابد والقشل (التكنات) فصارت تلك العاصمة في زمن قليل -
أي منذ استقلت عن الدولة - في حالة من الترقي يكاد من رآها يجهل أنها مدينة
صوفية القديمة لما صار فيها من الشوارع العريضة المنظمة، والميادين الفسيحة
والملاعب (التياترات) والمنتزهات والترامواي الكهربائي والتلفون , وليست مدينة
صوفيا وحدها التي ترقت إلى هذه المرتبة من المدنية الأوربية، بل كل حواضر
البلاد التي دخلت تحت حكم البلغار كفلبه ووارنه وغيرهما , ولم ينحصر هذا
الترقي بالبلغار بل شمل الصرب ورومانيا واليونان , وهي الممالك التي انفصلت
عن الدولة العثمانية، واستفاض فيها نور التمدن استفاضته في البلغار وستتبعها
كريد أيضًا التي انفصلت بالأمس عنا , وأما الممالك التابعة لنا فإنها فضلاً عن أن
تترقى في فنون المدنية آخذة يومًا عن يوم بالتقهقر والخراب وإليك مدن أدرنة
وبروسة وحلب والشام وبغداد اللائي كن عواصم كبرى للملك من أزمنة متفاوتة لم
يستطعن المحافظة على عمرانهن المتخلف من ذلك الزمان. إلى أن قال: وبغض
النظر عن حاجة ولاياتنا إلى أسباب العمران؛ فإنا إذا نظرنا إلى القسطنطينية تلك
المدينة الكبرى التي يسكنها مليون من النفوس , والتي هي ذات استعداد وقابلية؛ لأن
تكون عاصمة العالم أجمع نرى أن أبنيتها أدنى من أبنية قرية من قرى الممالك
المتمدنة وطرقها وميادينها مملوءة بالأوحال شتاء، وهي قرارة الأقذار صيفًا، ثم
استرسل الكاتب في هذا الباب بما يُدْمي القلوب، ويُشْجِي النفوس، وذكر من حال
عاصمتنا الكبرى وتدنيها العظيم، وعدم مجاراتها حتى للبلدان التي انفصلت عنها
بالأمس، وفقدانها كل وسائل الراحة وأسباب العمران ما لم نر لإيراده حاجة خشية
التطويل. وأذكر أيضًا هذا الشاهد، وقد نشرته من بضع عشرة سنة جريدة الأهرام
التي تطبع بمصر وخلاصته أن صاحب الجريدة اجتمع في مدينة صوفيا يومئذ مع
أحد كتاب الجرائد الهندية الإسلامية، وجرت بينهما محادثة مما جاء فيها قول ذلك
الكاتب: (إن من يرى إمارة البلغار يكذب التاريخ، وذلك لأنه لا يصدق انفصال
هذه الإمارة عن الدولة العثمانية منذ عشرين سنة وسبقها لأمها عاصمة الدولة هذا
السبق البعيد في كل دروب المدنية والترقي في ذلك الزمان القليل) .
وأنت ترى من هذا الشاهد، ومما سبقه وهما من أقوال كتاب المسلمين أنفسهم
كيف أن الشعوب الأخرى تسرع بالترقي والمسلمون يتخلفون، وكيف هو حال
الممالك الإسلامية بالنسبة لحال الممالك المتمدنة على أن ما ذكرناه يختص بالمملكة
العثمانية دون الممالك الأخرى مع أن هذه المملكة هي أرقى حالاً بكثير من بقية
الممالك الإسلامية من حيث الترقي المدني في المعارف الضرورية لقيام الدولة
العثمانية على أمر التعليم قيامًا وإن كان في نفسه غير موفٍ بالحاجة إلا أنه لا يخلو
من شيء من الفائدة، وأخصها فائدة المدارس الحربية التي جعلت لهذه الدولة جيشًا
منظمًا بلغ الغاية من الترقي لو لم يصحبه ضعف السياسة والمال، بل ضعف أساس
الحكومة لأنها حكومة إسلامية.
هذا حال هذه المملكة , وهي على ظننا أرقى من غيرها بكثير، فما بالك
بمملكة الغرب الأقصى وفارس والأفغان، وحال الأولى من الفوضى والتردي في
الجهالة والإمعان في طرق التدلي معلوم , فهذه المملكة التي ليس بينها وبين أوربا
بلاد المدنية والترقي إلا مضيق سبتة لم تنتفع من هذا الجوار بشيء ألبتة، ولم ينفذ
إليها على قربها من أوربا شعاع من نور المدنية الجديدة، والحياة السعيدة مع أن
ذلك النور عمَّ أفق اليابان في الشرق الأقصى، وبينها وبين منبعثه آلاف من الأميال
فليس في المغرب الأقصى الآن أثر للتعليم على الأصول الجديدة ولا اسم للحكومة
المنظمة، ولا قوة للملك، ولا جند منظم للدولة، ولا معرفة لأهلها بأحوال العالم قط،
وحسبك من إمعانهم في الجهالة أن المطابع التي كانت سببًا متينًا من أسباب
انتشار العلم بين الأمم لم يبق بقعة من بقع الأرض حتى مجاهل أفريقيا إلا وجدت
فيها , وأهالي المغرب الأقصى لم يعنوا بها ولم تنتشر في بلادهم إلى اليوم.
جاء إلى مصر في هذه الآونة السيد المنبهي وزير الحربية السابق في
المغرب الأقصى بقصد أداء فريضة الحج، فاستطلعته طلع الدول والبلاد، وبسطت
لديه بعض أمانيَّ في إصلاح المملكة، فأخبرني أن المسلمين ثمة يأبون كل إصلاح،
وليس عندهم استعداد لقبول أي ضرب من ضروب الترقي والمدنية، ولما
أوضحت لديه أهون السبل للوصول إلى تقويم أود الأمة والدولة أظهر من خشونة
المركب وشدة الأوّاه على إمكان العمل في بلاد ذلك مكانها من عدم الاستعداد
للإصلاح في التعليم والإدارة والقضاء والجندية ما يظهر من كل كبير وأمير في
المسلمين إذا شكوت إليه ضعف أمته وتقهقر أهل مِلْته، حتى كأن العجز عن
النهوض أصبح من العاهات السائدة على قادة المسلمين، وخاصتهم كما هو آخذ
بنواصي عامهتم مُتسلط على نفوس كافتهم.
هذا إجمال حال مملكة المغرب الأقصى أما مملكة فارس فحسبك أن تقول: إن
تلك الأمة على عراقتها في المجد، وقدم عهدها في الدولة , وأنها من الممالك
القديمة التي كانت ذات مدنية راقية وملك عظيم أصبحت الآن في حالة من الضعف
وسوء الإدارة والتدلي عن مرتبة العلم والمدنية بحيث لا ترى لها حركة تدل على
شيء من الرقي المطلوب لمثلها هذا مع أن مليكها السابق والحالي جابا أطراف البلاد
الأوربية ووقفا على كل فنون المدنية الحاضرة، وعلما بأنفسهما وجه ترقي الأمم
المسيحية، ومع هذا فلم يغن ذلك عن تقهقر بلادهم وتدلي الأمة الإسلامية فيها شيئًا ,
فليس في البلاد الفارسية من المدارس إلا ما لا يتجاوز عدد الأنامل، وليس للدولة
نظام للجندية ولو كنظام الجندية العثمانية، وليس لثغورها التي أضحت مطمح
الدول الغربية ولا باخرة حربية، وبالجملة فسكون التناهي في الانحطاط سائد هناك
كما هو سائد في بقية البلاد الإسلامية.
وأما الأمة الأفغانية فهي إلى البداوة في كل أصول معيشتها ومعارفها أقرب
منها إلى الحضارة، وليس فيها من دلائل الحياة إلا قيام أميرها المتوفىَّ وأميرها
الحالي على ترتيب الجند وتدريبه على الحرب، وجمع كلمة القبائل والأحزاب على
الذود عن حياض الملك.
فهذا بوجه الإجمال حال المسلمين في هذا العصر، وحال دولهم المستقلة لهذا
العهد أفليس مما يُكْلِم القلوب، ويُدْمِي الأحشاء أن لا يكون فيهم ولو دولة واحدة
تضاهي أصغر الإمارات المسيحية في التقدم والارتقاء كإمارة البلغار أو الصِرب أو
رومانيا اللائي انفصلن بالأمس عن الدولة الإسلامية الكبرى فسبقنها سبقًا بعيدًا،
وصرن لها خصمًا عنيدًا؟ وما هي يا ترى علة هذا الخمود القاتل، والجمود الشامل،
الذي تَعَبَّد المسلمين، وقطع نظامهم وجعلهم يتسكعون في أخريات الأمم، حتى
سبقهم المسيحيون والوثنيون، واستعبدهم منازعوهم على الملك، وغلب على
أمرهم مزاحموهم في مضمار الحياة في كل بقعة من بقاع الأرض؟ ألأنهم دون
أولئك السابقين خلقًا؟ أو لأنهم أضعف منهم استعدادًا؟ كلا، إن الاستعداد والخلق
في أبناء الطينة الواحدة لا يخلتفان إلا بالأعراض لا بالجواهر. أو لمطلق كونهم
مسلمين وأن الإسلام مانع من المدنية كما يقول أعداؤه والمارقون منه.
هذه هي العقدة التي أصبحت مُزْدَحَم الأفكار، ومَرْمى نظر الباحثين في
طبائع الأمم في هذا العصر، وإنما قال بعضهم: إن الدين هو المانع من ترقي
المسلمين؛ لأنهم لم يروا شعبًا واحدًا منهم نهض لمجاراة الأمم المُتَمَدِّنة واستحق أن
يوضع في مصاف الشعوب الراقية حكومة ومدنية، بل كل المسلمين في هذا
التأخر سواء، وإن تفاوتوا في المراتب بتفاوت الأرجاء، مع أن مجاوريهم من
المسيحيين أصبحوا مذ انفصلوا عنهم في أسمى درجات الارتقاء، وكذلك أبناء طينتهم
الشرقية من أتباع كونفيوشيوس وبوذه وهم اليابانيون صاروا في مصاف الأمم
الراقية، ودولتهم تعد من دول المشرق العظمى مع أنهم لم يدخلوا في غمار هذا
الترقي الجديد إلا منذ ثلاثين سنة.
الذين قالوا: إن علة تدلي المسلمين هو الدين، بعضهم يقول: إن مصدر هذه
العلة تعدد الزوجات؛ لأنه يهدم نظام البيوت، ويفقد أصول التربية، ويزج بالنفوذ
في غمار الشهوات، وبعضهم يقول: إن مصدرها عقيدة القدر التي تقعد بالنفوس
عن السعي، وتستأصل شأفة الاعتماد على النفس، وبعضهم يقول: إن مصدرها
الاعتقاد بالأموات الذين يسمونهم بالأولياء والصالحين , ويعتمد عليهم عامة
المسلمين في قضاء الحاجات دون الاعتماد على تعاطي الأسباب الموصلة للحاجات
إلى غير ذلك من العلل التي إذا محصها العقل؛ يجدها بعيدة عن غرض الإسلام
أدخلها في العقائد والأعمال سوء الفهم، وهي وإن صلحت؛ لأن تكون سببًا لتدلي
المسلمين إلا أنها لا تصلح أن تكون برهانًا على أن الإسلام هو المانع من ترقي
المسلمين، بل المانع في معتقدي أمر آخر أريد وضعه لدى البحثين في موضع
النظر والنقد فأقول:
الإسلام من حيث هو دين سماوي لا يراد به إلا سعادة البشر وخيرهم لا
يسوغ لعاقل أن يقول: إنه يمنع المتدين به من مثل هذه السعادة التي أرادها الله
لعباده بواسطة الأديان، وإنما هي الأفهام تخلتف في معرفة مغزى الدين باختلاف
الأمم والعصور، وتتباين بتباين العقول. فالإسلام أول من تلقاه من الأمم كما هو
معروف الأمة العربية التي كانت مُتَرَدِّية في الضلالة مُتَهَافِتة في البداوة ليس عندها
شيء من قوانين الاجتماع ونظام الحكومات الراقية، والشعوب المتمدنة , فلما
جاءها الإسلام بأحكامه ومواعظه وأوامره ونواهيه؛ رأى العرب فيه مقصدًا قريبًا
وأمرًا جليلاً، وحكمة بالغة فانضموا إليه، وأقبلوا عليه وقالوا: هذا هو الشيء
الذي هو كل شيء وغَلَوا في ذلك الاعتقاد غُلُوًّا أًذْهَلَهم عن أن الغرور في الدين إلى
حد مزجه بكل شيء من أمور الحياة الدنيوية - وأَخَصها حياة الأمم السياسة خروج
بالدين عن مقاصده الأصلية، وافتئات على صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم -
القائل: (إذا كان شيء من أمر دينكم فإليَّ، وإذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم
أعلم به [1] ) , وهو إرشاد صريح إلى أن للدنيا أمورًا مرجعها تحكيم المصلحة
والعقل؛ فهي في جانب، والدين في جانب آخر.
العرب كما قلنا كانوا عريقين في البداوة , وحياة البداوة قاصرة على أمس
الحاجات الحيوية؛ فلم ينظروا إلى ما بعد تلك الحاجات، فهان عليهم مزج الدنيا
بالدين، فلم يجعلوا الدين غير الدنيا كما أمرهم الشارع، ولم يقفوا على سر التفريق
بين الأمرين إلا أفرادًا منهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي كان يعلم أن
المصلحة تتحول بتحول الزمان، وتدور معه كيفما دار [2] . لهذا فات العرب في
مبدأ نشوء الدولة وظهور الأمة تحكيم العقل في كثير من أمور الأمة الدنيوية،
ومصالحها الاجتماعية، وحكموا الدين في كل شيء، حتى ما لا علاقة له بالدين،
وهو ما لا نريد الخوض فيه الآن، حتى توهم من أتى بعدهم أن سنة الأولين هي
عين الدين.
وأهم الأمور التي حَكَّمُوا فيها الدين، فكان لها أقبح الأثر في حياة الأمة
الإسلامية، وهي على ما أعتقد سبب كل ما يعانيه المسلمون من ضروب الشقاء
إلى هذا اليوم إنما هي الحياة السياسية أو أمر السياسة والملك. الأمم كما هو الثابت
إنما تقوم بالحكومات , والحكومة إذا لم تكن ذات روابط قانونية تُراعى فيها حالة
كل زمان وقوم، وتسير مع ترقي الأمم كيفما سار فلا حياة للأمة بها، مثاله أن
الحكومة المطلقة إذا وافقت عصرًا وقومًا لا توافق عصرًا وقومًا آخرين وبالعكس.
ربما كانت الحكومة المطلقة في قوم أصلح منها في عصر لقوم آخرين فلا بد إذن
من ترك شأن الحكومة لمطلق المناسبات الطبيعية في كل قوم وعصر، والعرب لما
لم يكن لهم تاريخ لكيفية قيام الدول وتنظيم أصول الحكومات، ولا أصل يرجعون
إليه في ذلك كالأمم المتمدنة في ذلك العصر ألصقوا مسألة الخلافة وتأسيس قواعد
الملك بالدين فكان أول نزاع وقع على الخلافة قائمًا بالدين، وتلاه فتنة عثمان -
رضي الله عنه - فبنوها على الدين، ثم الخلاف بين علي ومعاوية - رضي الله
عنهما - فكان يحتج كل فريق من المتخاصمين على الآخر بالدين، ثم قام النزاع
بين بني هاشم وبني أمية باسم الدين، ثم بين بني هاشم وبني العباس، كذلك باسم
الدين. وأغرب من ذلك أن الخوارج الذين قالوا في مبدأ أمرهم بعدم لزوم الخلافة،
وبنسف قواعدها نسفًا لم يخطر لهم على بالهم تحويل طرز الحكومة إلى أصول
نافعة كالأصول الجمهورية مثلاً حتى اضطروا للرجوع إلى رسومها التي ألصقت
بالدين، وولوا منهم أمراء استحلوا هم وأشياعهم حتى دماء الأطفال والنساء بالدين،
وناصبوا الخلفاء العداوة، وأصلوا الأمة حربًا عوانًا مبدؤها سياسي وهو عدم
الرضى عن حكومة الخلفاء، إلا أنها انتهت إلى الانتحال في الدين. ولم يعرف
الخوارج طريق المضي في وجهتهم السياسية وبناء مذهبهم على أساس معقول؛ إذ
ليس للعرب تاريخ في ترتيب الحكومات يرجعون إليه، وكانت نتيجة ذلك كله
استئثار الخلفاء بكل وظائف الدولة كالوزارة والقضاء والحرب وبيت المال وغير
ذلك من ضروب الاستئثار بالسلطة الذي لا ينتظم به شأن دولة قط، وذهول الأمة
الاسلامية في ذلك المعترك القائم باسم الدين عن النظر فيما يوافق مصلحتها
السياسية من جهة ترتيب الدولة على طُرُز يضمن سعادة المسلمين لا مصلحة
القائمين بتلك الدعوة الدينية.
فالعرب مع إغراقهم في الحرية , وعدم استكانتهم لاستبداد الخلفاء في مبدأ
الأمر فاتهم أن يجاروا في وضع قواعد الدولة، وتأسيس أصول الحكومات ذات
الصبغة الدستورية كالجمهورية والقنصلية والحكومة المعتدلة أقرب الأمم جورًا لهم
يومئذ وهم الرومان واستمروا راضخين لحكم التنازع باسم الدين، ولما انصبغت
دولتهم بالصبغة الأعجمية، وأخذوا عن الفرس والروم، ما أخذوه من ضروب
المدنية , وأصبحوا في حاجة إلى حكومة أرقى تنزع بها يد الخليفة من القبض على
كل شئون الدولة بيده القاهرة، وتوزع الوظائف على المقتدرين على القيام بأعبائها
لم يتمكنوا من تغيير طرز الحكومة، والنظر في مستقبل حياتهم السياسية لأنها
صارت حياة دينية , هذا مع إيغال الخلفاء في الظلم واستئثارهم بالسلطة ,
فاضطروا العلماء إلى وضع قوانين خاصة برسوم الخلافة ووظائفها كقوانين الوزارة
والقضاء وأشباهها لتغل يد الخلفاء عن الاستبداد مع تحري إسنادها إلى الدين تبعًا
لصبغة الحكومة الدينية، ولكن لم تكن تلك القوانين في نظر الحكومة يومئذ إلا
شيئًا تعبديًّا لإسنادها إلى الدين , والتعبد أمر وجداني لا يكون إلا ممن أخلص لله
حق الإخلاص وليس وراءه من قوة الإكراه ما يدعو إلى العمل به قسرًا كما يكون
ذلك في الحكومات الديمقراطية التي لا توكل إلى سيطرة الوجدان، بل إلى سيطرة
القوة، ومن ثم تغلغل الفساد في جسم الحكومات الإسلامية ورضخ لها المسلمون
بحكم الدين وباستدارج الوضعيين بمثل قولهم: (أدوا للأئمة حقوقهم وسلوا الله
حقوقكم) حتى صاروا لا يعرفون أصلاً من أصول الحكومات العادلة، ولا مخرجًا
من ضيق الاستبداد، وتأصل فيهم روح الخضوع المطلق، والطاعة العمياء،
وناهيك بمثل هذا الروح الذي يسلب الإنسان قوة الإرادة، ويضعه بمنزلة الأطفال
الذين لا يعرفون محركًا لهم غير الوالدين، ولا يألفون إلا ما ألفه الوالدان، ومن ثَمَّ
ترك المسلمون كل حول وقوة، وكل اعتماد على النفس، وسعي إلى الترقي ونظر
في وجوه الاعتبار، وأحالوا ذلك على الأمراء والحكام، فإذا نهضوا بهم نهضوا،
واذا قعدوا قعدوا، بل تناهى بعضهم في ضعف قوة الإرادة والتمييز لما ألفوا
الخمول، وأَنِسُوا بالجهل، وتتابعوا في العماية فكانوا أعداءً لمن يريد من الأمراء
إصلاح أي شأن من شئونهم الاجتماعية، ومس أي عادة قبيحة من عوائدهم
الموروثة، وتاريخ الإسلام مشحون بمثل هذه الحوادث، وآخر عهد بها ما بسطناه
فيما تقدم عن أهل المملكة المراكشية الذين يأبون كل جديد.
هذه كانت نتيجة انصراف العرب أيام بداوتهم بكليتهم إلى الدين، وعدم
وضعهم السياسية جانبًا لتكون تبعًا في النمو والارتقاء لترقي حال المسلمين، ويدلك
على خطئهم في ذلك أن الحكومات البدوية التي لم تنصبغ بصبغة الحضارة وتجاري
الزمان في تقلبه والأمم الراقية في أصول حكومتها لم تزل لهذا العهد أدنى الدول
الإسلامية رقيًّا , وأهلها أكثرهم بأمور الحياة الاجتماعية جهلاً كأهالي المغرب
وجزيرة العرب الذين حالهم من التقهقر معروف إلى اليوم.
إذا تقرر هذا؛ فقد علمت علة البلاء الذي أصاب المسلمين ومصدر شقائهم
الاجتماعي إلى هذا الحين، ولا تظنن أمة وضعت نفسها في هذه المنزلة من
الإعراض عن شئون الدنيا , وألصقت كل شيء من أمور ترقيها المدني بالدين
واستسلمت لأمرائها القاهرين تلك المئات الطويلة من السنين ترضى لنفسها منزلة
أرقى منها , أو تلتمس وجوه العِبَر فتعتبر بها إلا بعد عناء طويل تلاقيه، وشقاء
كثير تعانيه. والذي أعتقده أن الشقاء الآن استحكمت حلقاته، والعبر ترادفت
وجوهها , وحسب المسلمين من ذلك أن صاروا في أخريات الأمم وكفاهم عبرة أمة
اليابان الوثنية التي نهضت للأخذ بأسباب الرقي والتقدم نهضة رجل واحد , فبلغت
في ثلاثين سنة شأو الأمم الأوربية، وناهضت دولتها أعظم الدول المسيحية. هذا
والمسلمون ينتزع ملكهم , وتهدد بالزوال دُولهم، وتتحكم الدول المتمدنة فيهم وفي
حكوماتهم، وليس في دولهم دولة تنهض باختيارها إلى تأسيس حكومة راقية
تضارع بها أصغر الدول الأوربية، وتدفع غارات الشعوب المتمدنة التي تنازع
المسلمين البقاء بقوة العلم وسلاح المدنية , وتطهير أصول الحكم من عوامل
الاستبداد القاتل. وقد استعبد الأوربيون إلى الآن ثلاثة أرباع المسلمين، ولا يمضي
ربع قرن إلا والربع الباقي يصبح في حوزتهم، وتدال دولته إليهم إذا استمر هذا
الربع في عمايته , ولج في جهالته، ولم ينهض لتدبير شئون نفسه، ويترك
الاعتماد على حكوماته التي تأصل فيها مرض الاستبداد الذي هو نار تأكل الممالك،
وتهدم صروح المجد، وتذهب بقوة الأمم وهم لا يشعرون.
إخواني: إن الحياة مع الجهل مستحيلة، والإقامة على الذل عار، والبقاء
أمام جيوش العلم والمدنية متعذر، والسلامة مع هذا الجمود غير متأتية، وما كنا
عليه بالأمس لا ينفعنا اليوم، وما نحن فيه اليوم لم يعلمه آباؤنا الأولون، ولو
علموا الغيب لاستكثروا لنا من الخير، ولكل عصر شأن، وشأن هذا العصر ما
ترون وما تسمعون من أحوال الأمم الراقية والدول الدستورية , وحياة الانسان غير
حياة الحيوان؛ لأن الأول يطلب الترقي في كل شيء، والثاني يرى الأكلة الواحدة
كل شيء فإذا أردنا الحياة فحتمًا علينا أن ننهج نهج السابقين، ونتبع خطى
المسرعين، بما لا يكون فيه حرج في الدين، ولنعتقد الاعتقاد اللائق بالدين، وهو
أنه ليس كما يقول غيرنا: دين مانع من ترقي المسلمين، ولنحترم جانب هذا الدين
بأن لا نجعله سدًّا في وجوهنا وغِلاًّ في أعناقنا فنؤيد بفعلنا هذا قول المستهزئين،
ودعوى الطاعنين، ولنتقين الله في ديننا العظيم الجليل، ولا نجعله سببًا لهلاكنا
أجمعين، فنبوء بالخزي في الدارين، ونشقى في الحياتين.
هذا أوان العبر أيها المسلمون، فهل أنتم معتبرون، وهذا نذير أمين فهل أنتم
سامعون، موت مع الجمود، وخذلان مع السكون، وفناء عاجل مع الجهل،
وخزي بين الأمم، مع الرضى بما وجدنا عليه الآباء، وحياة سعيدة مع الإقدام،
وظفر بالمطلوب مع الحركة، وبقاء مستمر مع العلم، وإيجاد حكومة ديمقراطية
مقيدة، وفخر مع الرقي إلى مرتبة الكمال. فانظروا أية الحالتين ترضون، وهذا
أوان العبر فهل أنتم معتبرون؟ والسلام على من اتبع الحق وأخذ به من المسلمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... رفيق العظم
__________
(1) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه عن أنس.
(2) يدلك على ذلك حكمه في بعض المسائل على مقتضى المصلحة مع مخالفته في ذلك لما ورد في السنة كحكمه في مسألة الطلاق والمتعة.(7/304)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(تاريخ اللغة العربية)
نوهنا في الجزء الماضي بكتاب فلسفة اللغة العربية تأليف جرجي أفندي
زيدان صاحب مجلة الهلال العربية , وأشرنا هناك إلى اشتغاله بتاريح هذه اللغة
وأهلها، وقبل أن ينتشر الجزء جاءنا منه كتاب (تاريخ اللغة العربية) وهو كتاب
ألفه جديدًا وطبعه , فبلغت صفحاته 64 صفحة، وقال: إنه يعد ما كتبه فيه خواطر
سانحة فتح بها باب البحث لأئمة الإنشاء، وعلماء اللغة ليوفوا الموضوع حقه. أما
الموضوع فهو (البحث فيما طرأ على ألفاظ اللغة العربية وتراكيبها من الدثور أو
التجدد مع إيراد الأمثلة مما دثر منها , أو تولد فيها, أو اقتبسته من سواها , وبيان
الأسباب التي دعت إلى دثور القديم وتولد الجديد) وقد جعل الكلام فيه ثمانية
فصول: (1) العصر الجاهلي , و (2) العصر الإسلامي، و (3) الألفاظ
الإدارية في الدولة العربية , و (4) الألفاظ العلمية فيها , و (5) الألفاظ العامة،
و (6) الألفاظ النصرانية واليهودية , و (7) الألفاظ الدخيلة في الدولة الأعجمية ,
و (8) النهضة الحديثة وما تستلزمه.
وقد أورد في كل فصل من الفصول أمثلة غفلاً من بيان التاريخ الذي أهمل
فيه بعض الكلم، وتجدد بعض، ومنها ما لا يحتاج إلى ذلك، وفي بعضها نظر
ظاهر أو خفي , والأمر سهل، وفي الكتاب فوائد كثيرة، وينابيع للبحث غزيرة،
وهو في حاجة إلى النقد لجدته واختصاره , ومُصنِّفه مُصنِّف يحترم الانتقاد
الصحيح ويعمل به فلعلنا نوفق لمشاركة زميلنا المؤلف وإسعاده على هذه الخدمة
الجليلة , ونحث علماء اللغة على ذلك. وثمن النسخة من الكتاب خمسة قروش
وأجرة البريد ثلاثة أرباع القرش ويطلب من مكتبة الهلال بمصر.
* * *
(رسالة في الشاي والقهوة والدخان)
كتب هذه الرسالة الشيخ جمال الدين القاسمي أحد علماء دمشق الشام وأدبائها ,
وبحث فيها عن تاريخ هذه الأشياء وصفاتها النباتية وخواصها وكيفية استعمالها،
وما قاله الأدباء والشعراء فيها , وذكر عند الكلام على الدخان اختلاف الفقهاء في
حِلِّه وحُرمته، ومقال الأطباء في مضراته ومنفعته , وختم الرسالة بنبذة في
الاعتناء باستنشاق جيد الهواء، فالرسالة علمية أدبية شرعية فكاهية، وقد طبعت في
الشام , وثمن النسخة هناك ثلاثة قروش، وليته يرسل إلى مصر طائفة من نسخها.
* * *
(شرح قانون العقوبات الجديد)
نقحت الحكومة المصرية قانون العقوبات القديم , فنسخت بعض أحكامه
وغيرت وبدلت فيه بما رأته أصلح مما كان قبله , فوصف بعد ذلك بالقانون الجديد،
وما العهد ببعيد، وقد شرحه فوزي بك جورجي المطيعي النائب لنيابة مديرية
جرجا , وطبع مع الشرح طبعًا متقنًا على ورق جيد جدًّا في مطبعة العارف الشهيرة
بإتقان عملها , فخير للراغبين في الاطلاع على هذا القانون أن يطالعوه مع شرحه
الذي يعرفهم مقاصده ووجوه مواده، وهو يطلب من مكتبة المعارف بمصر، وثمن
النسخة منه 15 قرشًا.
* * *
(قصص أو روايات)
الفرسان الثلاثة
قصة تستتبع قصصًا جُعلت أجزاء لها سمي الثاني:
(رجع ما انقطع) , وليته قال: (وصل ما انقطع) والثالث والرابع: (عود
على بدء) , والمؤلف هو إسكندر دوماس الفرنسي الشهير , وقد عربها الشيخ
نجيب الحداد , وكان المؤلف في مقدمة القصاص في حسن التأليف , والمعرب في
مقدمة المعربين والمنشئين العصريين في حسن الأداء وسلامة التركيب، قلما
تَعْثُر في كلامه بغلط أو لحن، أما موضوع القصة أو القصص فهو بيان حال بعض
الشجعان النبلاء في القرن السابع عشر، وتمثيل بعض الأخلاق والصفات
العالية في أشخاصهم كالبسالة والشهامة والمروءة والوفاء والسخاء والدهاء، يتخلل
ذلك نبذ من تاريخ فرنسا وإنكلترا في ذلك القرن - وما كانت عليه قصور الملك
من الترف والأثرة والاستبداد وفساد الأخلاق، وما كانت عليه الأمة من
ظلمات التفرق والعبودية، وما يلوح فيها آنًا بعد آن من نور يتعارف فيه طوائف
وشيع من الأمة؛ فيجتمعون فَيُهَاجِمُون معاقل الظلم، ثم يختفي آنًا آخر فيئوبون إلى
ما كانوا عليه، حتى يلمع لهم ضَوْؤُه ثانية، وينقدح من لهيب تلك الظلمة
الحالكة ظلمة الظلم والاستبداد. فالقصص مفيدة بما تمثل لقارئها من الفضائل ومن
عِبَر التاريخ، وبها يظهر للخبير الفرق بين الأمم في طور ضعف الجهل والاستبداد،
فمنها ما ترى فيه جراثيم حياة كامنة؛ فتعلم درجة استعدادها للحياة السعيدة، ومنها
ما لا ترى فيها ذلك. وما جراثيم الحياة إلا الأخلاق العالية التي أشرنا إلى بعضها،
فإنك ترى أهل أوربا في القرون المظلمة كانوا على أخلاق وعادات هي التي نهضت
بهم في ضوء العلم الذي أشرق فيهم، ولكن الأمة الفاسدة الأخلاق قد يزيدها العلم
الطارئ فسادًا كما نرى أمامنا، أنبه على عادة لا تزال باقية في القوم من عهد
جاهليتهم وهي المبارزة التي ينتقدها قومنا أشد الانتقاد , وما هي إلا بنت الشجاعة
والإباء، وأين منها ما عليه أمراء المشرق وكبراؤهم من الجبن والخنوثة التي
تسهل عليم خيانة بلادهم وأمتهم، وتسليم زمامها للأجنبي لأدنى تهديد يتهددهم به.
كانت هذه القصة قد طبعت وجمعت في مجلد واحد فنفدت، وقد طبعها أخيرًا
صاحب مطبعة ومكتبة المعارف كل جزء على حدته، وجعل قيمة الاشتراك فيها 16
قرشًا، وأما ثمن كل جزء على حدته فستة قروش وهي تطلب منه.
الأبرياء
قصة خيالية أدبية وضعها محمد أفندي محمد أحد كُتَّاب ديوان الأوقاف،
وأحسن ما فيها التنبيه إلى خطأ الناس في تزويج أبنائهم وبناتهم بما يوافق أهواء
أنفسهم دون رغباتهن ورغباتهم، وفيها كلام حسن في الغربة والكسب والاستقلال فيه
وذم الخمر ومضرتها , فنحث القراء على مطالعتها.
الفضيلة
قصة غرامية خيالية أنشأها محمود طاهر أفندي حقي المُستخدِم في مصلحة
الأوقاف بمصر، وفيها مما ينقض بناءَ الفضيلة ذِكْرُ الاسترسال في الشهوات،
وفضيحة البنات، وخيانة الزوجات، واقتراف المنكرات، وإنما سميت القصة
بالفضيلة؛ لأن فيها ذكر لفتاة اعتصمت بالعفة، واستمسكت بعرى الفضيلة،
إذ أريد منها أن تسفه نفسها لا أن موضوعها الفضيلة. كيف تنهض بالأمم أو
الأفراد فيحيون بها سعداء، من حيث يتردى الأرذلون في مهاوي الشقاء، فلعل
المؤلف يصرف عنايته فيما عساه يكتبه من القصص بعد إلى مثل هذا، وثمن
القصة خمسة قروش.
الخرافة الحسناء
أو هدية الحكماء للأغنياء
قصة خيالية أخرى موضوعها: تمثيل سفه الأمراء وأولاد الأغنياء الوارثين
في مصر، وتبديدهم المال في طرق الشهوات واللذات، وما لذلك من سوء العواقب
واضعها إسماعيل أفندي شكري وفيها روح أدبي نافع نرجو أن يكثر في مكتوب
الشبان , كما نرجو العناية من هؤلاء الكاتبين بتنقيح ما يكتبون , والعناية بتصحيح
عبارته وطبعه. وثمن هذه القصة خمسة قروش أيضًا.
* * *
(رسائل)
(البورصة) كراسة صغيرة كتبها نسيم أفندي إلعازار في بيان أهم أعمال
البورصة التي هي ميزان التجارة ودولابها في هذه البلاد , ولعمري إن أكثر التجار
والمزارعين وغيرهم في حاجة إلى معرفة حقيقة هذه البورصة واصطلاحاتها
وأعمالها، فكم خرب هذا الجهل بيوتًا، وبنى بأنقاضها بيوتًا. وثمنها قرش واحد،
وتطلب من مؤلفها بالإسكندرية.
(التقرير السنوي لجمعية الشبيبة السورية) الجمعية في بيروت
ومؤسسوها من خيرة فضلاء النصارى , ولم نر فيها اسم مسلم غير عبد الرحمن
أفندي شهبندر فيا أسفي على المسلمين، ويا شكري وثنائي على العاملين، وقد رأينا
في هذا التقرير أن مال الجمعية لا يزال قليلاً لا يذكر، وأرباب الأموال لا يزالون
في الشرق أجهل الناس، وأبعدهم عن الإحساس، (حاشا اليابان) فنتمنى للجمعية
الترقي والنجاح.
* * *
(كلمة ورد غطاها)
رسالة تتضمن محاورة بين الشيخ محمد المليجي الكتبي بمصر وفرج بنيامين
البروتستنتي في النبي والقرآن والمسيح كان فيها الفلج للشيخ، وأمثال هذه
المناظرات والمجادلات والرسائل والكتب قد كثرت في مصر بتصدي مُبشِّري
البروتستنت لمجادلة المسلمين ونشر الكتب في الرد عليهم، ونرى بعض المسلمين
يتأففون من هذا ويرون أنه ضار، ورأينا أن ضرره محصور في التنفير وإلقاء
العداوة بين المسلمين والنصارى، وأما من جهة الدين نفسه فهو نافع غالبًا إذ
المسلمون لا يكونون نصارى بسبب هذا الجدل، ولكن يُرجى أن ينتبهوا به إلى
العناية بما هو مهمل عندهم من البحث عن أدلة الدين والتحقق من مسائله وشدة
الاستمساك بها مقاومة لهؤلاء المعتدين، ولذلك كثرت المؤلفات في الرد على
النصارى فهم المغلوبون لأن كتابة هؤلاء المبشرين لا تزيد النصرانية قوة ولا
النصارى تمسكًا بها، ولكنها تزيد المسلمين تمسكًا بالدين، وعلمًا به، والرسالة
تباع عند مؤلفها بشارع الحلوجي.
* * *
(مجلات جديدة)
(لسان الأمم) مجلة علمية أدبية مدرسية شهرية تصدر في مصر باللغتين
العربية والإنكليزية لمديريها ومحرريها حسين روحى م. ع، وأبو الحادي
الدراجي هكذا ورد اسمهما على المجلة , وهنا نصرح برأي لنا قديم وهو أن يكتب
كل مؤلف أو صاحب جريدة أو مجلة لقبه الذي يخاطب به عادة مع اسمه كالشيخ أو
السيد فلان , أو فلان أفندي أو بيك أو باشا ليعلم الناس كيف يخاطبونه، ومن أي
صنف هو، والجزء من المجلة يدخل في 20 صفحة , وقيمة الاشتراك فيها 30
قرشًا في القطر المصري و 10 فرنكات في غيره.
(الحكمة) مجلة علمية طبية تهذيبية تاريخية تصدر في منتصف كل شهر
شمسي لمنشئها الدكتور عبد العزيز أفندي نظمي من كلية مونبلييه بفرنسا , وقيمة
الاشتراك فيها 30 قرشًا في القطر المصري و 20 للأطباء والتلامذة و 10 فرنكات
في غيره. وإننا لَنُسَرُّ بكثرة المجلات العلمية والطبية إذ لا يعيش منها إلا ما كان
نافعًا , لكن الجرائد قد يعيش منها الضار، لما للجمهور فيها من سوء الاختيار.
__________(7/313)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(سبب ثناء رياض باشا على اللورد كرومر)
أشرنا في الجزء الماضي إلى سخط أحداث الوطنية، من خطبة رياض باشا
في احتفال المدرسة الصناعية، واهتمام عبيد الكلام بقول الوزير دون عمل الأمير،
على أن عمل الأمير حكم نافذ فإذا أعطى عميد الاحتلال النفوذ الأرفع صار ذلك
حقًّا رسميًّا، والوزير معذور في استنجاده اللورد كرومر لحضانة المدرسة من دون
الأمير، وثنائه عليه لأنه يعتقد أن نجاح المدرسة متوقف على ذلك وإليك البيان
بالإيجاز:
المدرسة نسبت إلى اسم محمد علي لتكون تذكارًا لمرور مائة سنة على
تأسيسه هذه الإمارة التي يتمتع المنتسبون إليه بسعادتها، وقد جعل المشروع تحت
رعاية الأمير الجالس على كرسي (محمد علي) الآن فماذا كان منه ومن أهل بيته،
ومن الأمة المصرية كلها؟ كان أن افتتح الأمير الاكتتاب بمائة جنيه , فلم يزد الذين
اكتتبوا من الأمراء عن ذلك على أن أكثرهم لم يكتتبوا، وكان مجموع ما جمع من
المال من الأمة أمرائها وأغنيائها لا يبلغ بضعة آلاف من الجنيهات، وقد تبرع
الأجانب على قلتهم وعلى كون المدرسة مصرية إسلامية بنحو ذلك والكل قليل.
ونستثني ما تبرع به أحمد منشاوي باشا فإنه صار أمة وحده، والسبب في هذه
الخيبة الوطنية افتتاح الأمير الاكتتاب بمائة جنيه , ولو افتتحه بعشرة آلاف جنيه
مثلاً , لوُجِدَ عدد كثير من الأمراء والأغنياء يستحي أن يدفع واحدهم أقل من ألف
جنيه، وكان المال بذلك يكون كافيًا لتأسيس المدرسة بمال الوطنيين، ولو شاء
الأمير أن ينجح المشروع بما له من النفوذ المعنوي لفعل. أرأيت لو كان لهج أمام
الوجهاء، والأعيان الذين يقابلونه في الأيام التي يسمونها أيام التشريف بتقصير
الأمة في هذا المشروع الصناعي الذي هو ركن من أركان الحياة في البلاد أما كانوا
يتسابقون إلى البذل بسخاء عظيم؟ أرأيت لو منح بعض الذين تبرعوا بمبالغ
عظيمة كآل محمود في الرحمانية - ولا نقول: منشاوي باشا - برتبة أو وسام
عظيم أو بالثناء عليهم في محفله. أما كان يوجد كثيرون يقتدون بهم؟ بلى , ولكن
الأمير لم يفعل فمن المحتم أن اكتتابه ومسلكه كان العلة الحقيقية في عدم نجاح
الاكتتاب.
وأما اللورد كرومر فهو على كونه قد تبرع من جيبه بمثل ما تبرع به الأمير
من جيبه قد بذل نفوذه الذي يعلو كل نفوذ في هذا القطر لمساعدة المشروع بالثناء
عليه قولاً وكتابة، وبحمل المالية بل أمرها بإعطاء الجمعية أرضًا لبناء المدرسة لا
يقل ثمنها عن المال الذي جمع من الاكتتاب , وبدفع تعويض لأصحاب الأكواخ
والخِصاص (العشش) التي احتاجت الجمعية إلى إزالتها من هناك , ثم بأمر أحد
كبار المهندسين الإنكليز الذي أسس مدرسة الحكومة الصناعية على مساعدة الجمعية
في تأسيس المدرسة بغير أجر ففعل، أفننكر مع هذا أن اللورد كرومر كان خيرًا
لهذا المشروع من جميع أمراء الوطن المحبوب وأغنيائه ووجهائه وجرائده ومن
حَدَثِ السياسة الوطنية، بل ومن جميع أحداثها الذين ينكرون فضله بزعمهم حب
البلاد وأمير البلاد الرسمي. ألا نعذر رئيس الاكتتاب للمدرسة الذي بذل جهده
لإنجاحه , فخاب أمله في قومه أن يعهد بالمشروع إلى من هو أرجى الناس لإبلاغه
كماله. أمن الوطنية أن يترك الإنسان الطريق الموصل إلى نفع الوطن بالفعل،
ويلغط بذكره في القول؟ فيقال: إن مثل رياض باشا العامل للوطن قد مرق من
الوطنية لأنه شكر المحسن للوطن رجاء المزيد، وأومأ للمقصر بتقصيره رجاء
الإقلاع والتشمير , أو أنه خرج عن الموضوع؟ ؟
قال المؤيد: إن أكثر الناس قد استاءوا من خطبة الوزير. ويعني أكثر
أعضاء جمعية (العروة الوثقى) إذ لم يجتمع بأكثر الناس ولا بأكثر حاضري
الاحتفال فيقال: إنه يعنيهم , ونحن نظن أن أكثر العقلاء على اعترافهم بفضل هذه
الجمعية وهمة أعضائها مستاءون من تسمية مدارسها بأسماء أمراء مصر السابقين:
إبراهيم وعباس وسعيد وإسماعيل الذين خربت في أيامهم البلاد، وهلكت العباد،
وليس لهم أثر علمي يذكر فيشكر، وهذه ذرياتهم تتمتع بالأراضي الواسعة من البلاد،
ولا تسمح لمدرسة ولا لجمعية خيرية بفدان واحد مهما صانعتها الجمعية، وما
استياء بعض أعضاء الجمعية من خطبة رياض باشا إلا كنسبة مدارسها إلى أولئك
الأمراء , أي أنه أثر العبودية وبقايا الاستبداد السابق، وما كلمة رياض بجارحة
لاستقلال الأمة كما قيل بل هي أثر للإحساس باستقلالها إذ معنى استقلال الأمة هو
شعورها التابع لاعتقادها بأن الأمراء أجراء للأمة لا آلهة لها , فلئن كان أكبر وزير
في مصر قد أومأ إلى ما كان من إهمال الأمير لمشروع المدرسة الصناعية إيماء
فلقد كان أقل الأعراب والنساء يصرحون بتخطئة عمر بن الخطاب وهو على منبر
الرسول - صلى الله عليه وسلم - تصريحًا فهذا هو الاستقلال الذي أزاله ملوكنا
وأمراؤنا وجعلونا أذل الأمم.
قال صاحب اللواء: إنه شتم رياض باشا اقتداء بالأعرابي الذي قال لسيدنا
عمر: (لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا) وإنما يصح الاقتداء إذا قال الحدث
مثل هذا لأمير البلاد أو للسلطان، لا لرجل اعتزل الحكومة والأحكام، وهو يمقته
من قبل فاعتبروا يا أولي الأبصار.
* * *
(المتوسلون المتسولون ودعاة الوطنية)
تَطَوَّفْ في أسواق القاهرة وشوارعها في أي وقت شئت من ليل أو نهار،
وأَطِلّ من شرفات بيتك أو نوافذه مراقبًا الناس مستمعًا لأحاديثهم؛ فإنك لا تكاد
تسمع ذكر الله، وذكر نبيه وأوليائه إلا من أهل التوسل للتسول، إلا أن يأتلي مؤتل
(يحلف حالف) بسيدنا الحسين أو المتولي أو غيرهما ممن تقسم بهم العامة، وقد
غاب عن ناظري رجل أشعث أغبر أشمط كنت أراه يطوف الشوارع ولسانه رطب
يتلجلج بذكر السيدة لا يفتر طرفة عين عن ندائها: يا سيدة يا سيدة يا سيدة يا سيدة
يا سيدة.... وأعرف رجلاً شيخًا أشيب أعمى أجش الصوت ينشد الأماديح
المنظومة علي طريق المواويل بالاستغاثة بالسيدة: (يا بنت بنت النبي طلي
وشوفينا، يابنت بنت النبي دخلك أنا عيان) وأعرف امرأة عمياء كانت تجلس
في ظل دارنا وهي تحفظ أسجاعًا متناسقة في الدعاء هممت غير مرة بأن أنصت
إليها وأكتبها عنها. وأما الذين يشتركون في عبارة خاصة فكثيرون كالطوافين بكلمة:
مليم أجيب بو شأَّة، علي أُبُول سيدنا الحسين والسيدة زينب وجدهم الحبيب النبي.
أي أطلب مليمًا (عُشْر القرش المصري) أشتري به كسرة من الخبز رجاء أن
يقبله منكم سيدنا الحسين ... إلخ - يقول هؤلاء ما يقولون وقلوبهم تطوف في
صدور الناس أيها يتأثر بذكر هؤلاء السادات المتصرفين في الأكوان فيرضخ لهم
بشيء مما في يده تقربًا إليهم والتماسًا لبركاتهم، ولكنهم لو سئلوا شيئًا يبذلونه ابتغاء
مرضاة السادات فإنهم يقبضون أيديهم؛ لأن حظهم من حب السادات أن يأخذوا من
الناس على قبولهم لا أن يعطوا تقربًا إليهم، ولا غرض من مدحهم وذكرهم إلا
التأثير في نفوس من يرجى رفدهم من محبيهم، مثل هؤلاء مثل دعاة الوطنية من
أحداث السياسة المصرية تطوف البلاد وتحضر الأندية وتغشى السمار , وتقرأ
الكتب والصحف المنتشرة فلا تجد للوطنية داعيًا، ولا بذكر جلاء الإنكليز عن
مصر لاهجًا , إلا المتسول المتوسل إلى حظه باسم الوطنية لعلمه بأن التفرنج
الحديث قد جعل لهذه الكلمة شرفًا كبيرًا وذكرًا مجيدًا فهي تؤثر في نفوس بعض
الأغنياء والوجهاء ما لا يؤثر ذكر المتبولي والسيدة زينب في قلوب العامة والنساء،
فكم بذل مجنون بالوطنية البدر من الدنانير، إذا كان محب الأولياء يبذل القرش
والمليم، وحظ داعي الوطنية من اللهج بها كحظ مادح الأولياء، هو أن يقول لا أن
يفعل، وأن يأخذ لا أن يعطي، فإذا كان له منفعة من الأمير فلان فهو يجعله عماد
الوطنية وعتادها، وإن أمال عمادها، واقتلع أوتادها وأضاع لأجل شخصه طارفها
وتلادها، واذا خالف هواه سير عالم كامل أو زعيم عامل، فهو يجعل حسناته
سيئات، ويتتبع للطعن به العثرات، فأمثال هؤلاء الوطنيين يحصرون معنَى
الوطن في أشخاصهم بدعوى الوطنية كما يحصر بعض كبار المتسولين الدين في
شخصه بدعوى الصلاح والولاية، فمدعي الولاية يرمي من ينكر عليه هوسه
ودعواه بالمروق من الدين، ودَعِيُّ الوطنية يتهم من ينكر عليه هوسه ودعواه
بعداوة الوطن , وغرض كل من الفريقين المال والجاه بما يخادعون الناس (تغيير
شكل، لأجل الأكل) وتوسل للتسول، وأكثر الناس غافلون , وهم في غفلاتهم
يرزقون.
* * *
(انتقاد على مقالة العلماء والمحاكم)
زارنا أحد كبار القضاة الشرعيين في المحكمة الكبرى بعد صدور الجزء
السادس، وقال: إن ما حدثنا به المرحوم علي باشا رفاعة من اقتراح إسماعيل باشا
الخديوي الأسبق على العلماء تأليف كتاب على نسق القوانين في السهولة ... إلخ،
على غير وجهه، والصواب أن الخديوي طلب من العلماء تطبيق القانون على
الشريعة، وإرجاع أحكامها إليه فأبى الأكثرون وتصدى بعضهم لوضع كتاب في
الأحكام الشرعية يوافق القانون الفرنسي في الأكثر ومعظمه من فقه الإمام مالك.
قال: ويقال: إن الشيخ محمد مخلوف المنياوي قد أتم هذا الكتاب , وقدمه للحكومة
الخديوية أو لحاشية الأمير فلم يظهر له أثر، وحدثني بنحو هذا صديق آخر، وقال:
كان من غرض إسماعيل باشا إرضاء أوربا بتقليدها في كل شيء حتى في إبطال
بعض الأحكام الشرعية الإسلامية كإباحة تعدد الزوجات المنتقدة عندهم وتحويل
الشريعة إلى قوانينهم، وأنه كان يقول: لا يمكن أن تعمل الأمة في هذا القرن بما
وضع للعرب من نحو ثلاثة عشر قرنًا تقريبًا، ولهذا لم يكن للعلماء إجابة طلبه،
ولا بُعد في هذه الأقوال عند العارفين بحال هؤلاء الأمراء وبعدهم عن الدين وكأن
ذلك الأمير المستبد الجاهل كان يرى أن قانون الكرباج الذي وضعه محمد علي
وأفسد به بأس الأمة , ونزع منها هو ومن بعده روح الشهامة والشجاعة أفضل من
الشرع الإلهي الذي ارتقى بالأمة العربية إلى السيادة على جميع الأمم.
__________(7/317)
غرة جمادى الأول - 1322هـ
15 يوليو - 1904م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استغناء البشر عن دين جديد
ومعنى كون دين الفطرة آخر الأديان
وافتجار البابية
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ
ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا
أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب: 40) .
لقد كان من عموم رحمة الله تعالى وسعتها أن جعل للحق السلطان على
الباطل، وللخير الرجحان على الشر، فلله الشكر والحمد، ولله الأمر من قبل ومن
بعد، خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهداه إلى الحق وإلى طريق مستقيم، كَمَّله
بالمشاعر البادية والكامنة، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وأعطاه العلم والإرادة،
وأناط بعمله غوايته ورشاده، ولذلك خلقهُ ضعيفًا جهولاً، ليكون باكتسابه قويًّا
عليمًا، وجعل حياة الأمة من نوعه، شبيهة بحياة الفرد في شخصه، تتربى بكسبها
وتبلغ كمالها بالتدريج، وجعل عقل الأمة العام النبوة يظهرها في أكمل أعضائها،
كما أن عقل الأفراد يكون في أشرف عضو فيها، وشذوذ بعض آحاد الأمة عن
هدي نبيها شبيه بشذوذ بعض أعضاء الشخص عن حكم العقل، كاليد تبطش حيث
يضر البطش، أو الرجل تسعى إلى ما يحكم العقل بوجوب القعود عنه، وسبب
ذلك التقصير في التربية الدينية والعقلية.
ومن آياته تعالى أن جعل شذوذ الأفراد عن الأصل، وميلهم عن الجادة، سببًا
من أسباب التربية، وعلمًا من أعلام الهداية، كما جعل انتشار الباطل في الأمم
معدًّا لها لقبول الحق. وتغشي الظلم والاستبداد، من مقدمات الحرية والاستقلال،
فله سبحانه في أثر كل شدة رخاء، وفي تضاعيف كل نقمة نعماء، فما عَمَّ الضلال
في أمة إلا وجاءها بعده الهدى، ولا تفاقم الباطل في قوم إلا وانجلى بعد ذلك بقوة
الحق؛ كان يظهر لهم ذلك بتعليم الوحي المناسب لحالهم، حتى إذا ما استعد النوع
لأن يكون أمة واحدة، منحه الله الهداية العامة، والرحمة الشاملة، منحه دين
الإسلام، الذي هو كالعقل العام، والمرشد الحكيم لجميع الأنام.
كان لضلال البشر قبل الإسلام علتان إحداهما ضعف قوى الخلقة، وثانيهما
الانحراف عن سنن الفطرة، فكان من الضعف أن يعتقد الناس في كل مظهر من
مظاهر الخليقة لا يعرفون علته أنه هو القوة الغيبية التي قامت بها جميع المظاهر
وهي القوة الإلهية فيعبدوا ذلك المظهر. وكان من الانحراف عن قوانين الفطرة ما
كان من الأوضاع والبدع والتقاليد الوضيعة الكثيرة، ومن عجيب أمرهم أن أسندوا
معظم ذلك للدين حتى صار من المقرر عند أهل الدين وعند الحكماء الباحثين في
طبائع الملل أن الدين أوضاع كلها وراء ما تدعو إليه الفطرة ويرضي العقل، كأنه
وضع لمصادمة الخلقة ومناصبة الفطرة ومحاولة تبديل خلق الله بشرع الله حتى جاء
القرآن ينادي الداعي إليه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم:
30) فعلم الناس أن الدين الحق إقامة الفطرة لا مقاومتها، والاستنارة بنور العقل لا
إطفاؤه، وأن العمدة في معرفة الحق الدليل، والعمدة في العبادة الإخلاص لله تعالى
وحده، والعمدة في معرفة الأحكام، والحلال والحرام، اجتناب المضار واجتلاب
المنافع، فبهذا كان الإسلام هو الدين الأخير الذي أخرج البشر من حجر القصور
وعبوديته، إلى فضاء الرشد وحريته، وكان ناسخًا لما قبله من الأديان، ولا يمكن
أن ينسخ أو ينقضي الزمان.
يبلغ في الشخص رشده فيؤذن له بالتصرف في حاله، والاستقلال في أعماله
فيمضي فيها فتارة يخطئ وتارة يصيب، وينجح في عمل وفي آخر يخيب، وربما
أضاع رأس ماله زمنًا، ثم استعاده في زمن آخر، والأمم أولى بالتخبط بعد بلوغ
رشدها , إذ الرشد لا يظهر في جميع أفرادها دفعة واحدة وإنما يظهر في بعض دون
بعض، فتارة يغلب إصلاح الراشدين فيها، وطورًا يُغْلَب، والمجموع يستفيد من
كل فوز وكل خيبة , فلا يظهر الإفساد في موضع إلا ويلوح الإصلاح في موضع
آخر تامًّا أو ناقصًا حتى يبلغ الكمال البشري أشده، ويصل إلى كماله العام باستقلاله
في عمله بدون حاجة إلى مسيطر ديني جديد كما كان يقع في الأمم قبل ظهور دين
الفطرة الأخير وهو الإسلام ولا يزال الإصلاح والإفساد يتنازعان كل أمة قبل
الوصول إلى الكمال الأخير.
كذلك كان شأن الناس في الإسلام نهض به الذين ظهر فيهم أولاً، ثم عميت
عليهم سُبُلُه فوضعوا وابتعدوا، وأولوا واخترعوا، وتركوا الاستقلال بنور العقل
في فضاء الفطرة وأقاموا لهم زعماء فنيت عقولهم وإرادتهم فيهم، وكان قد أخذ
الاستقلال والاهتداء بسنن الفطرة عنهم قوم آخرون , فغلب خير هؤلاء على شرهم
كما غلب شر أولئك على خيرهم، والسيادة والسعادة يتبعان الخير والاستقلال دائمًا
وقد قُلَبَ أصحاب السيادة في الأرض المِجَنّ للخاسرين فقالوا: (إن خساركم قد
جاءكم من دينكم فاتبعونا تفلحوا) ، وكان هؤلاء الخاسرون يقولون في أيام سيادتهم:
إننا قد سُدْنا بديننا فاتبعوه أيها الناس تفلحوا، وإنما كانت السيادة لكل من السائدين
بالاستقلال واتباع سنن الفطرة التي أرشدنا إليها الإسلام؛ ساد بها أولئك من حيث
عرفوا موردها، وساد بها هؤلاء من حيث جهلوا مصدرها، وإنما يستظل أهل
الزعامة الدينية منهم والسيطرة الروحانية فيهم بظل الذين تركوهما، ويخدعون
أولئك بلقب الدين المشترك بينهما، فعلم بهذا أن المسلمين قد تركوا ما ساد وسعد به
سلفهم الصالحون، والآخرين جهلوا منبعث هذا النور الذي هم في ضوئه يسيرون،
وزعم بعضهم أن دينهم هو الذي هداهم إليه، ولكن لماذا لم يهتدوا إليه بدينهم عقيب
دخولهم في ذلك الدين بل ظلوا يتسكعون في الظلمات بضعة عشر قرنًا حتى انتشر
الإسلام فأطلق الأفكار من سيطرة الرؤساء، والإرادة من عبودية الزعماء , ووصل
تعليمه وهديه إلى تلك الأرجاء.
لا عجب في إنكار المخالفين مزية في الإسلام بالقول، بعد ما أنكرها أهله
بالفعل، ولكن العجب العُجاب في صنيع قوم قاموا يداوون الداء بالداء، ويعودون
بالنوع البشري إلى مضيق العبودية والاستخذاء. ذلك أن الأمة الإسلامية ضاقت
ذرعًا بأوزار البدع والتقاليد التي وضعها الرؤساء وألزموا الناس بها تقليدًا أعمى
فطفقت تَئِطّ وترمي عن عاتقها بعض ما حملت على غير بصيرة فيما ترميه
وتستبقيه هل هو النافع أم الضار، وتنتظر زعيمًا قائمًا بالحق ينتاشها مما وقعت
فيه من الجهل والفقر والذل والعبودية، وإذا بصائح يصيح: أنا القائم المنتظر ,
وكان ذلك مؤسس دين البابية.
* * *
البابية
المسلمون متفقون على أن الدين قد ضعف في النفوس. يعترف بهذا عالمهم
وجاهلهم في الجملة ويختلفون فيه بالتفصيل، ومتفقون على أنهم في حاجة إلى
الإصلاح وإلى أن هذا الإصلاح إنما يكون بالرجوع إلى العمل بكتاب الله تعالى
وسيرة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ويعتقدون أن هذا الإصلاح إنما يكون
على يد زعيم يدعى بالمهدي يبطل المذاهب ويقيم الناس على مثل ما كانوا عليه في
عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدين وأحسن مما كانوا عليه في الدنيا، وهذا
الاعتقاد ظهر في الشيعة وامتد إلى غيرهم من المسلمين حتى لا يكاد ينكره إلا أفراد
في كل زمان، وقد ظهر (الباب) في بلاد الفرس بهذه الدعوة في أثر ضيق شديد
فتوهم الناس ومعظمهم هناك من الشيعة الذين ينتظرون المهدي في كل يوم أنه هو،
وحمل الضيقُ والبلاءُ كثيرًا من الناس على اتباعه، وماذا كان منه؟ هل جاء على
ما كانوا يعتقدون من الصفات والنعوت والأعمال؟ كلا، إنه جاء بنزعة وثنية
مناقضة لما جاء به الإسلام من الهداية العليا التي أشرنا إلى مزاياها في مقدمة هذا
المقال، مبنية على استئصال جراثيم حرية الفكر واستقلال العقل، وعلى الخضوع
والعبودية لرجل مضطرب الفكر بعيد من نور العلم. لا مزية له إلا اللغو بما يخدع
جهال الأعجمين. وضعفاء المقلدين. الذين اعتادوا على اعتقاد الولاية والعرفان.
في أصحاب الدجل والهذيان فكان ظهور هذا الرجل واتباع كثير من الشيعة له
وتصديقهم من بعده إلى تعميم دعوته ورفع كلمته أشد مضار الاعتقاد بالمهدي
المنتظر، وأكبر العظات فيها والعبر.
لم يحاول هذا الداعي المشترع إبطال دين الإسلام فيمن ينتظرون تأييده وإنقاذه
من التقاليد التي ذهبت باستقلاله، بل حاول إفساد الفطرة وإطفاء نور العقل الذي
أذكاه الإسلام وأطلقه من سجنه، وبنى دينه الجديد على تقاليد الشيعة الذين ظهر
فيهم لأنه كان شبعان ريان بهذه التقاليد، ومحكوم الشعور والوجدان بها، ولولا هذا
ما راجت دعوته في أولئك الغلاة الذين إذا سمعوا ذكر آل البيت عليهم السلام
والرحمة ظلت أعناقهم له خاضعين، وكانوا لكل ما يقوله ذاكرهم بالخير متقبلين،
ولو أن المسلمين لا مذاهب لهم، ولا كتب دينية غير القرآن وسيرة النبي وآله
وصحبه في أعمالهم وأحوالهم وأقوالهم المنقولة بطرق متفق عليها بينهم، مطابقة
للأعمال والأحوال غير مخالفة للقرآن ما سرت إليهم هذه الضلالات في الماضي ولا
في الحاضر فهكذا فعل التقليد بالمسلمين جعلهم غرباء عنه فسهل على المضللين أن
ينتزعوا بعضهم منه.
القرآن بشر البشر بأن الله تعالى رفع عنهم سيطرة الرؤساء الروحانين حتى
خاطب من أنزله عليه بقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) وسماه عبدًا متبعًا ما أمر به , وإنما ذكرهم بما تعهده الفطرة
السليمة , فإقامة هذا الدين هو الرجوع إلى الفطرة المعتدلة كما ترشدنا إليه الآية
التي صدرنا بها المقال، وذلك تبشير برشد البشر واستقلالهم، والبابية يحاولون
إرجاع السيطرة الدينية للأشخاص بأقبح ما كانت عليه من أشكال الوثنية فهم يعيدون
البشر إلى حجر الطفولية التي تفتقر إلى القَيَّمِ المطاع طاعة عمياء.
القرآن بشر البشر بأن محمدًا خاتم النبيين فلا حاجة بعده إلى تعليم سماوي،
ولا وحي جديد؛ لأن تعليمه هو التعليم العالي الذي يرتقي به العقل ويستقل، فلا يقبل
الشيء إلا ببرهانه، ولذلك استدل على العقائد، وبَيَّن منافع الآداب والأحكام وطالب
بالدليل والبرهان، وجعله شرطًا للاعتراف بالصدق {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ} (البقرة: 111) والبابية يحاولون إرجاع أهل هذا التعليم العالي إلى
تعليم الأطفال الابتدائي الذي يؤخذ فيه كل شيء بالتسليم والإذعان، بدون دليل ولا
برهان.
القرآن أبطل التقليد لأن فيه حجرًا على العقول أن تفهم الدين عن الله بنفسها
وتفهم مصالحها في الدنيا بالتجربة والاختبار، فقال فيمن احتجوا بتقليد ما كان عليه
آباؤهم: {أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: 17.) فبين
أن أحدًا لا يأخذ بقول أحد إلا إذا عَقَلَهُ وتبين له وجه الهداية فيه. والبابية يحاولون
إقرار الذين ضلوا عن الاستقلال على ضلالهم وإلزامهم باتباع رؤسائهم في
التأويلات التي لا تعقل والخضوع لهم فيما علموا وجهلوا، بل أوجبوا عليهم
عبادتهم (يا للمصيبة والرزية، وضعف البشرية) .
القرآن جعل آية محمد الكبرى علمية أدبية، ولم يحتج على نبوته بالآيات
الكونية؛ لأنه دين العقل والآيات الكونية لا تعقل، ولأنه دين العلم وهي لا تعلم.
ولأنه جعل ركن ارتقاء البشر الهداية إلى سننه تعالى في الخلق وكونها لا تتبدل ولا
تتحول، وهي على غير السنن الكونية، والبابية زعموا أن الباب كان مؤيدًا
بالخوارق والآيات، ولكن لم يستطيعوا إثبات ذلك، بل جعلوا اللغو دلائل كما ترى
قريبًا.
القرآن أرشد البشر إلى العلوم الكونية وحثهم عليها في آيات كثيرة، والباب
حرم عليهم كل علم إلا ما يؤخذ عنه، وفرض عليهم في البيان محو جميع الكتب ثم
نسخ البهاء ذلك (في ص 22 من الكتاب الأقدس) ولئن أصاب البهائية في هذه فهم
لا يخرجون عن كونهم فرعًا من البابية، وكون ديانتهم مَبْنية على أساس البيان ,
والمبني على الفاسد فاسد.
ماذا عسى أن نقابل وننظر بين تعليم الإسلام وتعليم البابية؟ هذا شيء يطول
وأفضل منه التنبيه والإيماء إلى سبب قبول بعض المسلمين لهذا الدين مع رفضهم
لدين النصرانية الذي يجتهد دعاته في تنصيرهم، ويبذلون القناطير من الأموال،
ويتقنون فنون التشكيك والجدال، على أن البابية تشبه النصرانية بالقول بألوهية
البشر، وهي دونها فيما عدا ذلك , فإن كلام الباب بمكانة من السخف واللغو
يضحك منها الصبيان. وإنما راجت دعوته في طائفة الشيعة من المسلمين،
والسبب في ذلك أمور خاصة بهذه الطائفة، وأمور أخرى عامة يشاركهم فيها
غيرهم من طوائف المسلمين:
(السبب الأول) عموم الجهل بالقرآن، فمن فهم القرآن يستحيل أن يقبل
دينًا آخر لأنه يعلم أنه لا حاجة للبشر معه إلا إلى استعمال ما وهبهم الله من القوى
العقلية والبدنية لنيل سعادة الدنيا والآخرة، وكان يجب على المسلمين أن يُعلِّموا كل
مسلم ومسلمة هذا القرآن، لا ألفاظه فقط، بل ألفاظه ومعانيه , وكان الخلفاء
الراشدون يفرضون العطايا لمن يتعلم القرآن، ولكن سلاطين الجور من بعدهم
أبطلوا هذا، واتفق بعد ذلك أئمة الجور من الملوك والفقهاء على الاكتفاء بكتب الفقه
عن كل الدين.
(الثاني) عموم الجهل بسيرة النبي وسنته فإنهما خير البيان لما أنزل الله
تعالى، ولكنهم لم يحفلوا بذلك حتى لا تجد في مثل الأزهر من يتعلمهما، والعلة فيه
ما تقدم.
(الثالث) الجهل باللغة العربية التي يتوقف عليها فهم القرآن، ولا شك أن
تعميم تعليمها واجب إذ لا يفهم الدين بدونه، وإنني لا أعرف في بلاد المسلمين
مدرسة ولا مكانًا تعلم فيه هذه اللغة , وإنما يعلم في المدارس بعض فنونها والكتب
المؤلفة بها، أما اللغة وأساليبها فلا تعلم بحيث ينطق بها المتعلم ويكتب ويخطب ,
ولو كان أولئك الذين استجابوا للباب يعرفون هذه اللغة الشريفة لسخروا من تقليده
للقرآن بالفواصل مع كثرة اللغو والغلط واللحن في كلامه حتى إن فيه ما لا يعقل له
معنى قط , وإنما هو جعجعة وسجع كسجع الكهان، ربما يظنه الأعجمي شيئًا
عظيمًا بليغًا كالقرآن إذ لا يفهم من القرآن شيئًا، ولا يذوق لبلاغته طعمًا.
(الرابع) تعوُّد المسلمين على أخذ كلام العلماء في الدين بالتسليم من غير
إسناد إلى كتاب، ولا سنة ولا دليل , أي تعودهم على التقليد البحت الذي ذمه
القرآن وأبطله.
وقد عمَّ هذا التقليد حتى في العقائد، فلو أن رجلاً في هذه البلاد مثلاً خالف
مثل السنوسي في الصفات العشرين والدلائل التي جاء بها عليها لعدوه مارقًا من
الدين وإن وافق هدي القرآن في سرد العقائد والاستدلال عليها بآيات الله في الكون.
(الخامس) تعوُّد المسلمين على الخضوع والإذعان للظاهرين بمظهر
الصلاح واللابسين لباس التصوف، وتقديم كلامهم على كل كلام حتى ما يعتقدون
أنه من الدين بلا خلاف (راجع الكلام في الصوفية من تفسير هذا الجزء) وكم
خدع المسلمين خادع من الباطنية وغيرهم باسم التصوف، وأفسد في دينهم ما شاء
وما هؤلاء البابية إلا فرقة من الباطنية الملحدين، وكان الباب قد دخل الخلوات
وبالغ في الرياضات. قبل أن يقوم بهذا الافتئات، ومن العجائب أن علماء
المسلمين اليوم يقدسون كل كلام ينسب للمتصوفة مع اعترافهم بأن منه ما لا يفهم
ومنه ما يناقض الكتاب والسنة وإجماع الأئمة ككلام محيي الدين بن عربي وعبد
الكريم الجبلي وغيرهم. فلا عجب بعد هذا إذا قبل القوم كلام الباب في تفسير
سورة يوسف بقصة الحسين وخضعوا للغوه في البيان والصحف والخطب والرسائل
الكثيرة.
(السادس) غلو الشيعة في تعظيمهم المنتسبين لآل البيت والباب منهم
واعتقادهم الجازم بالمهدي المنتظر، وأنه معصوم لا يُسْأَل عما يفعل، ولا يعارض
فيما يحكم. وقد بنى الباب دعوته على تقاليد الشيعة في الأئمة والمهدي كما تقدم
وإننا نورد للقراء مثلاً من أقوال الباب التي يدعي أنها مُنزلة ليحكموا حكمًا
صحيحًا، ونبدأ بما أرسله إلينا في البريد الأخير أحد كبار البابية في طهران ردًّا لما
كتبناه من قبل في المنار. ومحاولة لإقناعنا بهذا الدين ولعله أمثل ما عندهم،
وسنورد بعده ما هو شر منه، وإننا نورد ما يأتي بنصه ونصححه على أصله بغاية
الدقة، فلا يتوهمن أحد أن ما فيه من الغلط والسخف من التحريف، بل هو كلام
الباب بحروفه قال:
الصحيفة السادسة في الخطب
وهي مرتبة بأربعة عشر خطبة
(الخطبة الأولى)
(هذه الخطبة قد أنشأت في كل ما سطر في ذلك الكتاب ليكون الكل بذلك من
الشاهدين.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي خلق الماء بسر الإنشاء، وأقام
العرش على الماء بشأن الإمضاء، وأنزل الآيات من عالم العماء بجريان القضاء،
وفصل ما قدر في طور السيناء بحكم الثناء، وأمضى ما قدر بالبهاء بذوبان
الاقتضاء، سبحانه وتعالى قد أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ألا يعبدوا إلا إياه،
وجعل في يدي كل أحد منهم شأنًا من قدرته التي يعجز عن مثلها كل ما سواه،
فيثبت الحق بكلماته، ويبطل الباطل بآياته لئلا يكون لأحد بعد العلم بمحل حكمه
حجة، وكان الكل له مُسَلِّمين، فسبحانه وتعالى قد جعل بينه وبين رسله شأن البهاء
من الكلام لأنها أعظم النعماء في الإنشاء، وبها يتشرف الرسل بعضهم على بعض،
كما نزل في التنزيل، بحكم الله الجليل {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً
أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى: 51) ، وجعل في كلامه شأنًا من القدرة التي لا يشتبه بكلام عباده، وإنه
سبحانه حي قادر ينزل على من يشاء بما يشاء من آياته سبحانه وتعالى عما يصفون،
أشهد الله في ذلك الكتاب بما شهد الله لنفسه بنفسه من دون شهادة أولي العلم من
عباده بأنه لا إله إلا هو لم يزل كان بلا ذكر شيء، والآن هو الكائن بمثل ما كان
لم يكن معه شيء. قد علا بعلو ذاته عن نعت الإنشاء وأهلها، وتعظم بعظمة نفسه
عن وصف الإبداع وما يشابهها. سبحانه تقطعت الإبداع كينونيته، وتفرقت
الاختراع إنيته، من قال هو هو فقد فقده لأنه لا يوجده غيره، ولا له صفة دون
ذاته ولا اسم عين بهائه فمن وحده فقد جحده؛ لأنه لا يعرفه بشيء , ولا يدركه عبد
انقطعت الأسماء من عالم العماء بجبروتيته، وامتنعت الصفات من عالم الأمثال
بملكوتيته، لم يزل كان ربًّا بلا مربوب، وعالمًا بلا معلوم، وقادرًا بلا مقدور،
وموجدًا بلا موجود، والآن كان الله بمثل ما كان وهو الكائن لا مربوب، وهو
العالم لا معلوم، وهو القادر لا مقدور، وهو الموجد لا موجود، لا اسم له ولا
وصف، ولا نعت له ولا رسم، قد تقطع الكل ذاتيته، وتفرق الكل كينونيته، لا
ذكر له بالفصل، ولا بيان له بالوصل، من قال هو الحق، يرجع الأمر إلى الخلق،
ومن قال هو العدل، يمنع العدل عن الوصف، سبحانه وتعالى قد وجدت الإبداع
بالإنشاء بلا مسِّ النار من ذاته، واخترعت المشية بالإبداع بلا فصل من نفسه،
وقد منعت الإبداع عن معرفة إبداعه، وانقطعت الاختراع عن محبته باختراعه،
سبحانه وتعالى لا ذكر هنالك لا بالنفي ولا بالإثبات، ولا بالثناء ولا بالآيات , ولا
بالبهاء ولا بالعلامات، ولا بذكر الهاء ولا الفرار عن الواو , ولا بالقيام بين
الأمرين، ولا بحرف اللاء سبحانه وتعالى عما يصفون، (وأشهد) لمحمد صلى
الله عليه وآله بما شهد الله له به حيث لا يعلم ذلك إلا هو بعدما اخترعه لعزة ذاته،
واصطفاه لقدس جنابه، وجعله منفردًا من أبناء الجنس في تلقاء جماله، للقيام على
مقامه. إذ هو لا يدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير،
(وأشهد) أن محمد بن عبد الله رسوله قد بلغ ما حمل في أمره , وقبض ما أجرى
القضاء بأيدي نفسه، سبحانه وتعالى ويحذركم الله نفسه. ألا تقولوا في حقه دون ما
قدر الله لنفسه. سبحانه وتعالى عما يشركون (وأشهد) أن أوصياء محمد صلى الله
عليه وآله اثنَيْ عشر نفسًا في كتاب الله يوم ما خلق حرفًا في الإمكان غيرهم بما قد
شهد الله لهم في عز جبروتيته , وقدس لاهوتيته , وعظم سبوحيته , وعلو
صمدانيته بما لا يعلم ذلك أحد غيره. (وأشهد) أنهم قد بلغوا ما حملوا من وصاية
رسول الله صلى الله عليه وآله , وأنهم الفائزون حقًّا. (وأشهد) أن قائمهم سلام
الله عليه حَيٌّ به قد أقام الله كل شيء , وله يمد الله كل شيء , وبه يوجد الله كل
شيء. وأن له رجعة حق بمثل ما جعل الله لهم فسوف يحيي الله الأرض بظهوره ,
ويبطل عمل المشركين. (وأشهد) أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله
ورقة مباركة عن الشجرة البيضاء لا إله إلا الله سبحانه وتعالى عما يشركون.
(وأشهد) لكل حق بمثل ما شهد الله له في علم الغيب , ولكل باطل بمثل ذلك , وإنه
ليعلم بأنِّي عبد الله مؤمن به وبآياته وبكتابه الفرقان الذي لم يوجد بمثله , وبالمحبة
لكل ما أحبه وبالبراءة لكل ما أبغضه , وكفى بالله عليَّ شهيدًا. (وأشهد) أن
الموت والسؤال والبعث والحساب وحشر الأجساد والأجسام , وما جعل الله وراء
ذلك في علمه لَحَقّ بمثل ما كان الناس في علم الله ليوقنون (وأشهد) أن كل ما
فصل في ذلك الكتاب حق من فضل الله عليَّ ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
ولقد فصل في ذلك الكتاب كل ما خرج من يدي من سنة 1240 إلى سنة
1242 من شهرها بما مضى نصفه من شهرها، وهو أربعة كتاب محكم وعشر
صحيفة متقنة التي كل واحدة منها تكفي في الحجية على العبودية لمن في السموات
والأرض , وأنا ذا أذكر أسماءها بأسماء الله منزلها لتكون حنيفًا في البيان ومذكورًا
في التبيان.
(الأولى) كتاب الأحمدية في شرح جزء الأول من القرآن. (والثانية)
كتاب العلوية وهو الذي قد فصل فيه سبعمائة سورة محكمة التي كل واحدة منها سبع
آيات. (والثالثة) كتاب الحسينية وهو الذي قد فصل فيه خمسين كتابًا محكمة
بالآيات القاهرة. (والرابعة) كتاب الحسنية في شرح سورة يوسف عليه السلام
التي كلها المفصلة بمائة وإحدى عشرة سورة محكمة التي كل واحدة منها اثنتان
وأربعين آية التي كل واحدة منها تكفي في الحجية لمن على الأرض وما في تحت
العرش لو لم تغير وكفى بالله شهيدًا. (والخامسة) صحيفة الفاطمية , وهي مرتبة
بأربعة عشر بابًا في أعمال اثنَيْ عشر شهرًا في كتاب الله. (والسادسة) صحيفة
العلوية , وهي مرتبة بأربعة عشر دعاء في جواب اثنَيْ وتسعين مسألة التي قد
فصلت بعد رجعي على الحج في الشهر الصيام. (والسابعة) صحيفة الباقرية ,
وهي مرتبة بأربعة عشر بابًا في تفسير أحرف البسملة. (والثامنة) صحيفة
الجعفرية , وهي مرتبة بأربعة عشر بابًا في شرح دعائه عليه السلام في أيام الغيبة.
(والتاسعة) صحيفة الموسوية , وهي مرتبة بأربعة عشر بابًا في جواب اثنين
نفس من عباد الله التي قد قضت في أرض الحرمين. (والعاشرة) صحيفة
الرضوية , وهي مرتبة بأربعة عشر بابًا في ذكر أربع عَشْرَةَ خطبةً غراء الناطقة
عن شجرة الثناء لا إله إلا هو العزيز المنان. (والحادي عشر) صحيفة الجوادية ,
وهي مرتبة بأربعة عشر بابًا في جواب أربع عَشْرَةَ مسألة لاهوتية. (والثاني
عشر) صحيفة الهادية , وهو مرتبة بأربعة عشر بابًا في جواب أربع عَشْرَةَ مسألة
جبروتية. (والثالث عشر) صحيفة العسكرية , وهي مرتبة بأربعة عشر بابًا في
جواب أربع عَشْرَةَ مسألة ملكوتية. (الرابع عشر) صحيفة الحجية , وهي مفصلة
بأربعة عشر دعاء قدوسية التي قد ظهرت في بدء الأمر , وتنسب إلى أيام العدل.
فكل ذلك أربع عَشْرَةَ نسخة مباركة موجودة في ذلك الكتاب مع صحيفة
المشهودية في آخره في أربعة عشر كتابًا من أولياء العباد. كل ذلك مكتوب في هذا
الكتاب , وأما ما خرج من يدي , وسرق في سبيل الحج قد نذكر تفصيله في
صحيفة الرضوية , فمن وجد منه شيئًا وجب عليه حفظه , فيا طوبى لمن استحفظ
كل نزل من لديَّ بألواح طيبة على أحسن خط , فوالذي أكرمني آياته حرفًا منها
أعز لديَّ من ملك الآخرة والأولى , وأستغفر الله ربي عن التحديد بالقليل , وسبحان
الله رب العرش عما يصفون , وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
(المنار) يرى القارئ أن هذا اللغو الذي لا يفهمه حتى كاتبه إنما خدع
بعض الفرس لما فيه من نسبة الصحف إلى آل البيت، وأن الله أوجد ويوجد
بقائمهم كل شيء , وهذا شرك , ولعلهم ظنوا أن ما لا يفهم منه هو الأفهام والعقول
كما يظن عامة المسلمين في كلام الصوفية.
* * *
أدلة الباب السبعة على دينه
هفت دليلي است كه بجهة جواب يكي إز علماء نقطة بيان نازل فرموده اندكه
أول إز عربي است وفارسي هم تفسير الدامر قوم فرمود عند عربي إند أنوشتم [1] .
(بسم الله الأفرد الأفرد)
إنني أنا الله لا إله إلا أنا قد خلقت كل شئ بأمري، وما جعلت لشيء من أول
ولا آخر جودًا من لدنا , إنا كنا على ذلك لقادرين، وانتهيت كل ما قد خلقت إلى
بديع الأول أمرًا من عندنا إنا كنا على كل شيء لمقتدرين. ثم انتهينا ما قد خلقنا
من بديع الأول إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً من لدنا إنا كنا
فاضلين. وربينا الذين أوتوا الفرقان في ألف وماتين ثم سبعين سنينا لعلهم
يستبصرون , في دينهم ليوم ظهور ربهم وحين ما يعرفهم الله نفسه ليجيبون الله
ربهم ثم لينصرون. وعلمناهم في الفرقان دلائل سبعة كل واحدة منهن يكفي كل
العالمين. قل (الأول) : إن غير الله لن يقدر أن ينزل مثل الفرقان , وهل من
خلق أعجب من هذا إن أنتم فيه تتفكرون، وأمهلنا الذين أوتوا الفرقان من يومئذ
إلى حينئذ، حتى كل يوقنون بأنهم عاجزون، لعل الذين هم يستمعون آيات الله
حين ظهور حجته بما آمنوا من قبل يؤمنون، انظر كيف قد سدد الله أبواب حجتهم،
ولا يمن الله على أمم مثلهم , ولكنهم عن أمر الله غافلون. حين ماقدروا آيته لا
سبيل لهم في دينهم إلا أن يقولون: هذا من عند الله المهيمن القيوم. وأن يقولون
هذا من عند غير الله يكذبهم قول الله من قبل في الفرقان بأن غير الله لن يقدر أن
يأتي بآية , وأنتم كلكم بذلك من قبل موقنون.
قل (الثاني) : ما استدل الله في الفرقان بأمر محمد رسول الله إلا بعجزكم
عن آيات الله إن أنتم قليلاً ما تتفكرون، ولم يكن عند الله حجة أكبر من هذا
ليستدلن الله به , وأن مادونه ما أنتم لتذكرون كمثل ظلال عند الشمس أفلا تبصرون.
وأنتم كلكم أجمعون. لتقولون: إن الفرقان أكبر آيات محمد رسول الله من قبل إن
أنتم بذلك موقنون. كيف لا تستدلون يومئذ ولا به في دين الله تدخلون.
قل (الثالث) : إن آيات الله أكبر عن آيات النبيين من قبل إن أنتم قليلاً ما
تتفكرون. إذ لو لم يكن أكبر لا ينسخ الله بآيات الفرقان دين عيسى بعد موسى ثم
النبيين قبل موسى , ولكنكم في حجة دينكم من قبل لا تتفكرون. لو لم يكن آيات
الفرقان أكبر من عصى موسى ثم كل آيات النبيين من قبل موسى وبعد عيسى كيف
ينسخ الله بها ما نزل من قبل أفأنتم في دلائل الله لا تتفكرون. أفأنتم في حجج الله
لا تتأملون، ولو أنكم أنتم من قبل في الفرقان مستبصرون. حين سمعتم من آية
لتعظمن في أفئدتكم أكبر عن خلق السموات والأرض وما بينهما، ولكنكم لا
تتفكرون ولا تتذكرون.
قل (الرابع) : إنما الآيات لا يكفين الذين أوتوا الفرقان من قبل ومن بعد إن
أنتم بما أنزل الله من قبل لموقنون. قل: إن ذلك الدليل ليثبتن الكتاب بأنه حجة من
عند الله ويكفين كل العالمين مثل ما نزل الله في سورة العنكبوت وأنتم بالليل والنهار
لتقرءون. أولم يكفهم أنا أنزلنا إليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى
لقوم يؤمنون.
قل (الخامس) : دليل عقليّ مقطوع لو أراد أحد من النصارى أن يدخل في
دين الإسلام أنتم كيف تستدلون. وهل يكن حجتكم بالغة بالكتاب أو أنتم بغيره
تستدلون. لو تستدلون بغيره لن يقبل عنكم، وإن تستدلون به فإذا أنتم غالبون.
سواء يقبل عنكم أو لا يقبل فإن حجتكم قد تمت وكملت عليه , هذا ما أنتم من قبل
في الإسلام مستدلون. كيف لا تستدلون يومئذ في البيان وأنتم على الصراط بالحق
لتمرون [2] .
قل (السادس) : قد أظهر الله قدرته في الآيات على شأن كل عنها عاجزون،
ولا يحسبن أن هذا أمر خفيف , فإنه لا تقل عما في السموات والأرض وما بينهما،
ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ما خلق الله خلقًا أعز من الإنسان , وكل عند ذلك
عاجزون. انظر كل بحروف الثمانية والعشرين متكلمون. وأن الله قد سخر تلك
الحروف وركبها بشأن كل عنها يعجزون. هذا صنع الله كل به يخلقون، إن الذين
يدعون من دون الله ما لهم دليل في كتاب الله , مثلهم مثل الذين هم كانوا من قبلهم
لو شاء الله ليهديهم , وإن يشاء ليمهلنهم , وذلك نارهم عند الله ولكنهم لا يعلمون.
ولكنهم لو يتفكرون أقرب من لمح البصر ليهتدون.
قل (السابع) : كل موقنون بأن الله لن يعزب من علمه من شيء , ولا
يعجزه من شيء لا في السموات ولا في الأرض ولا ما بينهما , وأنه كان بكل شيء
عليمًا , وأنه كان على كل شيء قديرًا. فإذا نسب أحد نفسه إليه إن لم يكن من عنده
فعلى الله أن يظهرن من يبطلن ذلك بدليل كل به يوقنون، فإن لم يظهر دليل أنه
حق من عند الله لا ريب فيه كل به مؤمنون. انظر إن الأمر في ظهور البيان
أعجب عما نَزَّل الله من قبل الفرقان وجعله آيه من عنده على العالمين، قل الله قد
نزل الفرقان من قبل بلسان محمد رسول الله في ثلث وعشرين سنة، وكل يومئذ به
لمدينون من الذين أوتوا الفرقان , ومن لم يؤمن به فأولئك هم عن صراط الله
لمبعدون، ولكن الله لو شاء لينزلن مثل ما نزل من قبل في يومين وليلتين إذا لم
يفصل بينهما إن أنتم تحبون فتستنبئون. فإنا كنا على ذلك لمقتدرين، انظر بآيه قل
نزل الله من قبل في ذكر الحج في حول كم من خلق في حول الطين يطوفون، هذا
عظمة أمر الله في آياته , وسيشهدن الذين هم يأتون من بعد في آيات البيان أكبر
من ذلك , ولكن الناس هم لا يعلمون، هذا في شأن إنا كنا بلسان الخلق مستدلون،
وإلا كيف نعرفن أنفسنا بآياتنا , وإنها هي خلق في كتاب الله تعرف بالله ربها ,
والله لا يعرف بها وإنا كنا على كل شيء لشاهدين، إن كنت في بحر الأسماء لمن السائرين. مامن إله إلا الله رب العالمين، له الأسماء الحسنى من قبل ومن
بعد، كل عباد له وكل له عابدون، وإن كنت في بحر الخلق لمن السائرين، قد
خلق الله كل شيء بأمر واحد , وجعل مثل ذلك الأمر كمثل الشمس إن تطلع بما لا
يحصي المحصون، وإنها هي شمس واحدة , وإن تغرب بمثل ذلك إنها هي شمس
واحدة، قل كل بالله قائمون، فإذا في كل الرسل أمر واحد، وفي كل الكتب أمر
واحد، وفي كل المناهج أمر واحد، كل بأمر الله من عند مظهر نفسه قائمون، هذا
معنى حديث أنتم في ذكر قائمكم لتذكرون، ليذكرن من بديع الأول إلى محمد،
وليقولن من أراد أحد من أنبياء الله فلينظرون إليَّ، ولا يقولن: فلينظرن إلى غيري
إذ كل فيه، وكل بأمر الله إذا يشاء ليظهرون. هذا معنى قول محمد من قبل في
ذكر النبيين بأنهم إياي إذ ما في كل أمر واحد قد اتصل بمحمد رسول الله، ومن
محمد إلى نقطة البيان , ومن نقطة البيان إلى من يظهره الله، وممن يظهره الله إلى
من يظهر من بعد من يظهره الله إلى آخر الذي لا آخر له أنتم مثل أول الذي لا أول
له لتستنبئون ثم لتوقنون [3] . فاذا في كل ظهور فيه وكل ما يظهر من عنده يظهر
ذلك معنى ما أنتم في بحر الأسماء تذكرون. سبحانك اللهم إنك أنت الأول ولم يكن
قبلك من شيء وأنك أنت مؤل الأولين، قل: اللهم إنك أنت الآخر، ولم يكن بعدك
من شيء وأنك أنت مؤخر الآخرين. قل: اللهم إنك أنت الظاهر فوق كل شيء ولم
يكن فوقك من شيء وأنك أنت مظهر الأظهرين. قل: اللهم إنك أنت الباطن دون
كل شيء، ولم يكن غيرك من شيء، وإنك أنت مبطن الأبطنين. سبحانك اللهم
إنك أنت القادر على كل شيء لن يعجزك من شيء لا في السموات ولا في
الأرض، ولا ما بينهما، تنصر من تشاء بأمرك إنك أنت أقدر الأقدرين. وإن كنت
في بحر الخلق ناظرين. مثل ذلك في مرءات الأزل إنا كنا منزلين، إذ لا يرى في
المرات إلا مجليها ذلك رب العالمين، فانظر من أول ما قد دخلت في دينك هل
رأيت من نبي أو حجة إلا وقد شهدت الفرقان من عند الله رب العالمين،
واستدللت به من غير أن تسكن فيه وكنت به لمن الموقنين. فلتنصفن حين ما قد
رأيت الفرقان أو آيات البيان هل رأيت ما تحجبنك عن هذا أو توقننك في هذا
إن كنت من المستبصرين، وإن ما تشاهدن غير قواعد النحويين والصرفيين ,
هؤلاء يستنبئون علمهم من كتاب الله , وما يتلى الكتاب من عند الله لا يستنبئ من
علمهم فما لهؤلاء القوم لا يتفكرون ولا يتذكرون [4] , وهذا دليل على أنكم توقنون
بأن الله قد أظهر حجته من عند من لم يتعلم شئون علمكم لعلكم أنتم بذلك
تستطيعون في دين الله توقنون، وإنا لو نشاء لننزلن مثل ما أنتم في قواعدكم
مستدلون، مثل ما قد نزلنا كتبًا من قبل , وإن كنا على ذلك لمقتدرين، وإن الله في
كل ظهور ليحبن أن يدخل الناس في دين الله بحجة ودليل , وعلى هذا لينصحن
الرسل في كل ظهور كل عباد الله المؤمنين، وإلا إذا يبعث الله ذا طول عظيم
ليدخلن الناس في دين الله سواء يحيطون علمهم بدليل أو لا يحيطون، مثل كل ما
أدخل محمد رسول الله من قبل في الإسلام بجبر وقهر فإن أولئك هم سواء يطلعون
بدليل أو لا يطلعون. ليدخلنهم الله في رضوان الدين بفضله سواء هم يعلمون أولا
يعلمون. فلتتفكرن هل يكن حجة الذين أوتوا التورية بالغة على الذين أوتوا الزبور,
كيف هم صبروا في دينهم، وما دخلوا في دين موسى ولا هم يتذكرون،
يحسبون بينهم وبين الله بأنهم محسنون، بعدما أنهم عند الذين هم أوتوا التورية
مسيئون، وكيف عند الله ولكن لا يعقلون، ثم انظر إلى الذين أوتوا الإنجيل لم يكن
حجتهم بالغة على الذين هم أوتوا التورية كيف هم قد صبروا في دينهم ويحسبون
بينهم وبين الله بأنهم محسنون، بعدما أنهم عند الذين أوتوا الإنجيل لمسيئون.
وكيف عند الله ربهم ولكنهم لا يتذكرون , ثم انظر إلى الذين أوتوا الفرقان بأن
حجتهم بالغة على الذين أوتوا الإنجيل كيف هم يحسبون بأنهم بينهم وبين الله
محسنون. وأن ما وعدهم عيسى ما جاء , وهم يحسبون بينهم وبين الله ربهم بأنهم
في دينهم مستبصرون. بعدما أنهم عند الذين أوتوا الفرقان لمسيئون وغير
مبصرون. وكيف وعند الله ربهم , ولكنهم لا يعلمون، ثم انظر إلى الذين أوتوا
الفرقان كيف حجة الذين هم آمنوا بأئمة الدين بالغة على الذين لم يؤمنوا بهم وهم
يحسبون بأنهم محسنون، بعدما أنهم عند هؤلاء غير محسنون. ثم انظر إلى الذين
أوتوا البيان فإن حجتهم بالغة على كل الأمم، وكل بينهم وبين الله يحسبون بأنهم
محسنون في دينهم محتاطون ثم لمتقون. ولكنهم عند الذين أتوا البيان غير محسنون
ولا متقون، وكيف عند الله وعند مظهر نفسه وعند شهداء مظهر نفسه ولكنهم لا
يتفكرون ولا يتذكرون. ثم انظر إلى الذين هم أوتوا الكتاب من يظهره الله في
القيامة الأخرى فإن حجتهم بالغة على الذين هم أوتوا البيان، ولكنهم يحسبون في
دينهم بأنهم متقون ومحسنون. بعدما أنهم عند الذين أوتوا ذلك الكتاب غير متقون
ولا محسنون، وكيف عند الله وعند من يظهره الله وعند أدلائه يا أولي البيان بالله
تتقون. أن لا تفضحن أنفسكم مثل الأمم قبلكم بأنكم تحسبون بينكم وبين الله بأنكم
متقون. وعند خلق آخر غير متقون ومحسنون. وكيف عند الله ربكم فلتنقطعن عن
كل علمكم وعملكم , ولتستمسكن بمن يظهره الله ثم دليله وحجته , ثم بما يستدل
المستدلون , وبأهوائكم لا تستدلون , ثم بما يرضى لترضون، ولا تجعلون
رضائه بما ترضون بل تجعلون رضائكم بما يرضى، ولا تسألونه عن آيات
غير ما يؤتيه الله فإنكم أنتم لا تستجابون. قد وصيناكم حق الوصية لعلكم في
دينكم تتقون، وعلمناكم سبل الدلائل في الآيات لعلكم في البيان لتتقون ثم
لتخلصون. ثم بالحق تستدلون. اهـ
(المنار)
الذي يمكن أن يفهم بالقرائن من مجموع هذا اللغو الطويل الذي أفرغ فيه
الباب جعبة دلائله؛ أن أهل كل دين جديد يرون أنهم محقون ومهتدون وغيرهم
مبطل , وهكذا يراهم غيرهم، وأن المسلمين الذين يؤمنون بالأئمة مع الذين لا
يؤمنون بهم كذلك؛ فوجب أن يكون دينه كذلك. ولو نهض هذا دليلاً لجاز لكل أحد
في كل يوم أن يخترع دينًا ويحتج به! ! ! . وقد جهل الباب أو نسي أن المسلمين
الذين يحتج عليهم يعتقدون بأن الأديان قد ختمت بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وأن الدليل عليها لم يكن التنازع والخلاف بين أهل الأديان بل كان دليلاً
حقيقيًّا معقولاً.
وقد بنت البهائية دينها على قوله: من يظهره الله , ولكن أي معنى لوجود
شارع يضع دينًا، ولا يلبث أن ينسخ دينه في عصره، ويكتم كتابه قبل أن يعلم به
الناس إلا قليلاً لا يعتد بهم , فإن البهائية يخفون (البيان) إذ وجد فيهم من أدرك أنه
سخرية؟ ويا ليت هذا الدين الصبياني قد انقسم إلى دينين فقط. كلا , إنه انقسم إلى
أربع فرق يكفر بعضها بعضًا في الغالب، وهي كما في خاتمة كتاب (مفتاح باب
الأبواب) الذي نوهنا به من قبل , وقد تم طبعه الآن وسيصدر بعد أيام قال مؤلفه:
* * *
فرق البابية
(الأولى البابية الخُلَّص) أي الذي اتبعوا الباب فقط، ولم يرضخوا لأوامر
من قام من بعده مثل الميرزا يحيى صبح أزل وأخيه الميرزا حسين على البهاء
وغيرهما، وهم يعملون بأحكام البيان، وينبذون جميع ما ألف، وكتب بعد الباب
ظهريًّا , وهؤلاء يبلغون نحو مائتي نفس في البلاد الإيرانية دون غيرها , وفي
أثناء وجودنا بطهران تقابلنا مع أناس منهم , وعلمنا منهم ما لا تعلمه البابية الأزلية
والبهائية.
(الثانية البابية الأزلية) وهم القائلون بخلافة أو أصالة الميرزا يحيى صبح
أزل سجين قبرص الآن أي أن الأزل هو مصداق لما ورد في كتاب البيان (من
يظهره الله أو من يريده الله) وهؤلاء يؤيدون مدعياتهم بكتب عديدة من الباب ,
والميرزا حسين عليّ إلى الميرزا يحيى، وهي موجودة عند الأزل , ويتمسكون
ويستدلون بها على بطلان أمر البهاء وأتباعه وعددهم ألفان ونيف تقريبًا في البلدان
الإيرانية وغيرها، وداعيتهم الأكبر وعميدهم الأعظم وهو الحاج الميرزا......
القاطن الآن بطهران هو وأنجاله وأناس آخرون منهم , ذكرنا أسماءهم في كتابنا
(باب الأبواب) وهؤلاء يتظاهرون بالإسلامية، ويتبرءون من الباب والبابية
ويعملون بالتَّقية، يصلون ويصومون ويقومون بجميع فرائض الدين الإسلامي في
الظاهر , ويكفرون البهاء وأتباعه ويلعنونهم في الظاهر والباطن , ويستبيحون
أموال وأنفس المسلمين والبهائية عند المقدرة , ويستعينون على قضاء حوائجهم هذه
بالكتمان وشدة الحذر , ويسندون الخلافة من بعد الميرزا يحيى إلى الحاج الميرزا
...... المذكور , ولهم إشارات ورموز خاصة بهم لمعرفة بعضهم بعضًا.
(الثالثة البابية البهائية) وهؤلاء على ما مر عليك من أخبارهم يعتقدون
بربوبية وألوهية البهاء، وأنه هو الذي بعث الأنبياء والرسل، وأن زردشت
وموسى وعيسى ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، والباب إنما كانوا يبلغون أحكامه
ويبينون آياته فهم مظاهر أوامره , وبشروا به وبظهوره كما أن ابنه الأكبر عباسًا
يكون كذلك من بعده وأن ليس لأحد أن يقوم بعده ويدعي بالأمر إلا بعد ألف سنة
كاملة , وبعد ذلك يكون الأمر لمن يظهره الله (يعني لمن يظهره هو كما علمت من
أقواله) وأن من يدعي أمرًا قبل ألف سنة يتحتم قتله لا محالة , ويبلغ عددهم نحو
ثلاثة آلاف نفس في إيران , ونحو ألفي نفس في خارجها، ولا عبرة بما يدعونه
من أنهم يبلغون الملايين من النفوس في البلدان الإيرانية ومئات الألوف في الممالك
الروسية والإفرنجية والعثمانية , ومثلها في الممالك المتحدة الأمريكية؛ لأن الإطراء
والإغراق والغلو هي ديدنهم، ودأبهم في تجسيم وتعظيم الأمور الراجعة إليهم
كشأنهم في بقية المسائل المختصة بهم.
(الرابعة البابية البهائية العباسية) هؤلاء هم البابية البهائية , ولكن يقدسون
ويمجدون العباس كتقديسهم لأبيه البهاء بل البعض منهم يجعلون البهاء مبشرًا به ,
كما كان الباب مبشرًا بأبيه , وولد العباس في اليوم الخامس من جمادى الأولى
1265 هجرية بطهران , ورافق أباه بالنفي إلى بغداد وأدرنه وعكا ولم يكن
للبابية البهائية شأن يذكر قبل ترعرعه، ولما بلغ أشده واستلم زمام الأمور بكياسته
المشهورة، نثر ونظم , عقد وحل , غَيَّرَ وبدَّل , ألَّف وصنَّف، وهو الذي أشار
على أبيه بالاستقلال في الأمر والاستبداد بالرأي حتى فرق بين أبيه وعمه الأزل ,
وجعل للبهائية شأنًا يذكر , ولولاه لما قامت للبابية قائمة، وما قام بشخص يسقط
بسقوطه ويزول بزواله إذا لا بقاء له بذاته. نعم، إنه كان يتظاهر أمام البابية أنه
كأقل عبد متواضع خاشع للبهاء، ولكنه كان ماسكًا دفة الأمر بيد من حديد، يدبرها
كيف شاء وأنى شاء، وكان يخاطبه أبوه بلفظة (آقا) ومعناها (السيد) , ولما
مات البهاء آلت إليه الرياسة , وانفرد بالمحو والإثبات في الأحكام , فذعر من ذلك
إخوته والخاصة من أصحاب أبيه مثل الميرزا آفاجان الكاشاني الملقب بخادم الله
ومحمد جواد القزويني وجمال البروجردى وأصهار البهاء , فانضم هؤلاء إلى
الميرزا محمد علي النجل الثاني للبهاء الملقب بغصن الله الأكبر , وأرسلوا الدعاة
إلى البلدان , ونزغوا إلى الطغيان والعصيان، وألفوا كتبًا بالفارسية والعربية
وطبعوها بالهند أظهروا بها مروق العباس وأشياعه في دين البهاء وكفروه وسلقوه
بألسنة حداد (عندنا نسختان من الكتب المذكورة) ، ومن جراء ذلك انشقت البابية
البهائية إلى قسمين: قسم سمي (بالناقضين) هم الميرزا محمد عليّ وأشياعه ,
وقسم سمي (بالمارقين) هم العباس وأشياعه , وقام كل منهم الآن يؤيد دعواه
ويكفر من عداه , فاعتزلوا المعاشرة، وحرموا معاملة بعضهم لبعض، وعداوة كل
منهم للآخر أشد من عداوتهم جميعًا للمسلمين وغيرهم , فهذا ما آل إليه أمر البهائية
بعد موت البهاء. ولله الأمر من قبل ومن بعد
__________
(1) هذه العبارة الفارسية لمرسل الرسالتين , ومعناها: الدلائل السبع التي تفضلت بإنزالها نقطة البيان في جواب العلماء بالعربية , ومترجمة بالفارسية فبادرت بإرسال العربية إليكم.
(2) المنار: زعم البابي أن هذا دليل عقلي , وملخصه أن كتابه البيان حجة على المسلمين كما أن القرآن حجة على النصارى , وهذا جهل مثل سابقه ولاحقه ذلك أنه يجهل طريق الاستدلال عند المسلمين وهو البرهان على الألوهية بالعقل , ويدخل في ذلك استحالة حلول الباري في البشر , والبرهان بالعقل على الحاجة إلى الرسالة وإلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم , والاستغناء عنها بدينه , وههنا يجيء الاستدلال بالقرآن بما فيه من العلوم العالية مع أن الجائي به أمي , ومن البلاغة التي أعجزت البلغاء , وليس بيان الباب إلا عيًّا ولغوًا يسهل مثله على الصبيان والمجانين.
(3) المنار: يظهر أن الشيعة يروون حديثًا مرفوعًا في هذا الموضوع , والعارف بالعربية وأساليبها يجزم بأنه موضوع لا أصل له , ويفهم من العبارة أن الباب يعتقد بخلود الناس في الدنيا.
(4) انظر إلى هذا الاعتذار السخيف عن عجزه عن الكلام الصحيح كأن الله تعالى يحب اللغو الذي لا يفهم.(7/338)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(بشائر الإصلاح في المملكة الفارسية)
كتبنا في المنار السابق مقالة بعنوان (هذا أوان العبر) أَبَنَّا فيها عن فساد
الحكم الاستبدادي , وأن الذي أودى بالمسلمين وأوهن قواهم وجعلهم دون غيرهم
قوة ورقيًّا واستعدادًا دولهم , وعدم ملائمة طرز حكومتهم لأصول الترقي الجديدة
لما أثبته التاريخ وأيده الحس في هذا العصر من أن كل الأمم التي سبقت
المسلمين وآخر السابقين أمة اليابانيين، إنما سبقوهم بتغيير طرز الحكومة
الاستبدادية إلى ما يوافق أصول ترقي الأمم ويلائم حالة العصر حيث أقاموا مقامها
الحكومات النيابية التي هي أصل في سعادة الشعوب، وأساس متين لبقاء حياة
الدول، وذكرنا قصور أمراء المسلمين ودولهم عن مجاراة الدول الأخرى استئثارًا
بالسلطة، وحرصًا على بقاء القديم على قدمه، وطلبنا من الأمة أن تلتمس وجوه
العِبَر بنفسها، وتنهض لمجاراة الأمم بغير اعتماد على حكامها، وكان هذا الشعور
الذي يشعر به كل عقلاء الأمة يشعر به أمراء المسلمين أنفسهم أيضًا، ويعلمون أن
حياة أممهم الطيبة ورقيهم السريع متوقفان على تغيير طرز الحكومة وإطلاق أعنة
العقول من أسر الاستبداد القاهر، وإنما يمنعهم من العمل بما تشعر بالحاجة إليه
الضمائر مغالبة النفس الميالة إلى الاستئثار بالسلطة، ويدلنا على هذا أننا في
الوقت الذي كنا نرمي فيه أمراء المسلمين بالتقصير، ونبين حاجة الأمة إلى تغيير
شكل الحكومة القديم، واستبدال ما يوافق حالة العصر به، ويسمو بدول المسلمين
إلى مصاف الدول الأوربية كان مظفر الدين شاه إيران المعظم يفكر فيما وصل
إليه المسلمون في مملكته، وفي حاجة دولته إلى تغيير صفة الحكومة حتى ترتقي
بالأمة إلى مرتبة الكمال، كما ارتقى بها ميكادو اليابان منذ وضع في بلاده أساس
الحكومة النيابية، وتنازل حبًّا بترقي قومه عن سلطته الاستبدادية.
جاء في الجرائد الفارسية تفصيل ما كانت ألمعت إليه منذ مدة التلغرافات
العمومية عن جمع شاه إيران لأعيان الأمة وكبار الوزراء وإلقائه عليهم خطابًا
طويلاً في تقرير وجوه الإصلاح اللازم للمملكة الفارسية، ومحصل ما جاء في تلك
الجرائد أنه جمع نحو أربعمائة شخص من الوزراء والأعيان، وقام فيهم خطيبًا
يبين ما وصلت إليه البلاد وحاجة الدولة إلى الإصلاح في كلام طويل جامع. والذي
حل منا محل الإعجاب من كلام ذلك الملك الكبير، وكان عليه المُعَوَّل وفيه المُؤَمَّل.
أنه أعلن قبل كل شيء على رءوس الملأ تنازله عن كل شيء يسمى امتيازًا للملك
أو الأسرة المالكة يمتازون به عن الرعية , وتخلى عن السلطة الاستبدادية بمحض
الرغبة بخير الدولة والأمة، وأشار عليهم بعد ذلك بالنظر في طرق الإصلاح
الواجب سلوكها على الأمة والدولة في عصر هو أحوج ما تكون فيه الأمة إلى مثل
هذه الرغائب العالية التي يندر صدورها عن ملك عظيم بمحض الإرادة، وأنت
ترى أن في قوله هذا من الصراحة في حاجة الدولة إلى حكومة نيابية ذات قوانين
عصرية ما يؤيد رأينا في المقالة السابقة، ويدلك عليه أن الشاه المعظم أحال في
ختام خطبته إيضاح الأمر، والنظر في أطراف المسألة ووضعها موضع المناقشة
بين أهل هذه الشورى على الوزير الأعظم , فخطبهم الوزير خطبة في موضوع
الإصلاح، وفيما رآه من ذلك أن وضع أمامهم أكثر قوانين الدول المتمدنة وطلب
إليهم انتخاب ما يوافق منها حالة الأمة والدولة مع مراعاة تطبيقها على أصول
الشريعة وحاجة العصر.
رأى مظفر الدين شاه لزوم الحكومة النيابية إذا أراد أن ينهض بالأمة ولزوم
الآستانة بقوانين الدول الراقية على تأسيس مثل هذه الحكومة، والأمة لم تستعد
لمثل تلك المفاجأة , فأشار إلى أنه تنازل عن حقوقه في الحكم المطلق إشارة تغني
عن كثير البيان تمهيدًا للعمل , ثم أشار بانتخاب ما يوافق مثل تلك الحكومة من
القوانين بثًّا لروح الحاجة إليها في نفوس الشعب فاذا ثبت على عزمه ومضى في
وجهته وجارى ميكادو اليابان في حسن إرادته وعلو همته وحبه لخير وطنه ورعيته
بتأسيس حكومة نيابية في مملكته فقد - والله - حقق أماني العقلاء فيه، وجعل أفئدة
من الأمة الإسلامية تهوي إليه، ونهض بقومه نهوضًا لا عِثار بعده إن شاء الله،
وحسبه من ذلك فضيلة أن يكون قدوة الأمراء المستبدين , وعِبْرة حسنة في
الآخرين، وذكرًا خالدًا في تاريخ نهضة المسلمين.
هذا وإننا لنرجو من صاحب المنار الغيور أن يتتبع في الجرائد الفارسية
خطبة الشاه المعظم ومشروع الإصلاح الذي وضعه الصدر الأعظم، ويُعَرِّب كل
ذلك أو جُله، وينشره في المنار الأغر ليطلع عليه المسلمون في كل الأقطار التي
يصل إليها المنار إفادة للمسلمين , وإعلانًا لهذه الحسنة الكبرى , والله ولي
المرشدين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (رفيق)
(المنار)
إننا لما علمنا بخبر طلب الشاه للإصلاح اهتززنا طربًا وفاجأنا من
السرور ما لا يمكن التعبير عنه، وعهدنا إلى صديق لنا من علماء الفرس هنا بأن
يُعَرِّبَ لنا ما تنشره الجرائد الفارسية التي تجيئنا من ذلك لا سيما جريدة (حبل
المتين) فأرجأنا التعريب انتظارًا لما ستقرره اللجنة التي عهد إليها الشاه العظيم
النظر في طرق الإصلاح، وأرجأنا الكتابة في المسألة لنكتب عن بينة حتى جاء
صديقنا رفيق بك يستعجلنا , وله الحق فإن هذا النبأ أعظم نبأ إسلامي طرق الآذان
في هذا العصر , وإذا حل الإصلاح في تلك المملكة الإسلامية على وجهه؛ كان لنا
أن نعد مظفر الدين أعظم ملوك المسلمين، لأنهم وضعوا أصول الاستبداد في القرن
الأول وتمسكوا بها بعده حتى أزالها هو في القرن الرابع عشر.
لا يكفي في الإصلاح تنظيم إدارة البلاد وإقامة العدل فيها، بل يجب أن
يعتنى أشد الاعتناء بالفنون العسكرية والقوى الحربية , وأن تنشر المعارف
العصرية في البلاد طولها وعرضها , وعندي أنه يجب أن يكون التعليم باللغة
العربية ولغة أخرى أوربية فإذا عاشت العربية مع العلم في تلك البلاد كان لهذه
الدولة شأن آخر في إفادة الأمة الإسلامية كلها لا سيما البلاد العربية المجاورة لها
والله الموفق للسداد.
* * *
(استقلال الحكومة باستقلال الأمة)
إن الأمم الجاهلة المحكومة بالاستبداد المُذَللة بالظلم والاضطهاد، لا يخطر
على بال أفرادها معنى يعبر عنه باستقلال الأمة، ولا يعقلون أن للرعاية أثرًا في
سيادة الحكومة إلا بما يؤدون من الإتاوات والضرائب، وما يسخرون به من
الأعمال لترقية ساداتهم المستبدين، فإذا عبثت باستقلال حكومتهم حكومة أخرى
أجنبية طفقوا يشعرون بمعنى الاستقلال بالتدريج، ويقوى فيهم هذا الشعور بنسيان
ظلم حُكَّامهم السابقين لاسيما إذا كان الأجنبي العابث ظالمًا على أن النفرة من سلطة
الأجنبي طبيعية في الأمم فإن هو عدل تمنوا لو يستبدلون بسلطته سلطة من جنسهم
عادلة ليكونوا مستقلين، ولكنهم بعد هذا كله لا يفهمون من معنى الاستقلال إلا إعادة
السلطة للأسرة الحاكمة فيهم بالاستبداد من قبل، ويبلغ فساد التصور من بعض
الأفكار أن تتخيل إرشاد الأمة إلى ضرر الاستبداد والمستبدين من عوائق الاستقلال،
وهذا من أعجب عجائب عالم الخيال.
يا معشر المتخيلين والواهمين , إنكم لن تتنسموا للاستقلال ريحًا، ولن
تستنشقوا له عرفًا، إلا بعد الاعتقاد القاطع بأن الاستقلال إنما هو استقلال الأمة
وذلك بأن ينفخ فيها روح من التربية والتعليم يشعر جميع طبقاتها بمعنى الأمة
وحقوقها، وأول هذه الحقوق أن تختار هي الحاكم الأعلى لها، وأن تقيد حكومته
بشريعتها وقوانينها التي ترضاها، وتُلْزِمه بتنفيذها بمشاورتها وتحت مراقبتها
وسيطرتها حتى يكون لها الحق بعزل من يشذ عن ذلك، أو إقامته عليه سواء
الحاكم الأكبر وغيره.
يا معشر المتخيلين والواهمين , إن أمة محرومة من هذه الروح لن تعرف
للحياة الاستقلالية معنى، ولن تذوق للسيادة القومية طعمًا، بل تظل طُعْمَة للطامعين
وألعوبة في أيدي المتغلبين، فيومًا يستعبدها من يشاركها حقيقة أو صورة في
وصف من أوصافها كاللغة أو الجنس أو الدين، ويومًا يستذلها من لا يشاركها إلا
في الصورة البشرية، فهي تتراوح دائمًا بين استعباد واستذلال، لأن طبيعتها
قاضية بهذه الحال بفقدها تلك الروح التي تبعث بطبيعتها الاستقلال.
يا معشر المتخيلين والواهمين , إن حنين الأمة التي عبث الأجانب بسلطان
حكومتها إلى حكامها السابقين المستبدين ليس حنينًا إلى الاستقلال، بل إلى الاستبداد،
وإن المحافظة على بقايا رسوم السلطة السابقة، لا يكون آلة لمقاومة السلطة
الطارئة، وإنما الذي يمنع الأمة من كل جور، ويصد عنها كل ظلم، هو ما يهبها
حقيقة الاستقلال في ذاتها، ثم في حكومتها بأن تكون الحكومة مستقلة باستقلال
الأمة قوية بقوتها، وقد عرفتم معنى ذلك الاستقلال ومهب روحه من النداء الأول،
فاعملوا له إن كنتم عاملين، أو موتوا بضعفكم إن كنتم متواكلين.
* * *
(اجتماع التلامذة وانتحارهم)
للتعليم ثمار مختلفة، منها ما يكون مطلوبًا ومقصودًا من المعلمين، ومنها ما لا
يكون مقصودًا لهم، وأعني بالمعلمين هنا مديري نظام التعليم ومؤسسي المدارس،
ومعلمو المدارس في هذه البلاد الإفرنج، سواء مدارس الحكومة أو غيرها , ومن
مقاصدهم الباطنة فيه زلزال التقاليد القديمة للأمة الذي ينتهي بإضعافها أو زوالها
وتحويل وجهة المتعلمين إلى تقليد قوم المعلمين إذ بذلك تكون لهم السيادة الحقيقية
عليهم بتحولهم عن مقومات أمتهم الذي يقطع الأمل باستقلالهم، وقد مضت سنة
الأولين بأن الضعيف يقلد القوي في الأمور التي تضر غالبًا ولا تنفع. لهذا ترى
المتفرنجين من المتعلمين ومقلدي المتعلمين قد أخذوا عن الأوربيين السُّكْر والقمار
والفحش والأزياء، والزخرف في الأثاث والماعون بدون مراعاة للاقتصاد الذي
تسمح به ثروتهم كما يفعل أولئك. وقد زالت من أكثر هؤلاء المتعلمين حرمة الدين
وآدابه , واحتقروا أمتهم حتى صارت حالة الأمة بهم شرًّا من حالها في أُمِّيَّتها قبل
انتشار هذا التعليم فيها بسياسة من يستعمر بلادها ويسخرها لسعادة قومه بأساليب
مختلفة.
ومن ثمار التعليم الذاتية: التأليف بين الأفكار التي تتلقى تعليمًا واحدًا ,
والجمع بين المتعلمين , والارتقاء أحيانًا إلى التقليد في بعض الأمور النافعة. وكنا
نرى من الغرائب أن الوحدة والاجتماع قد ظهرا في تلامذة كل البلاد حتى اليونان
وروسيا ولم يظهر لهما أثر في تلامذة مصر , وقد وجد في هؤلاء من سقط في
الامتحان فلجأ إلى بخع نفسه تفضيلاً للانتحار على العار، وترجيحًا لمرارة الموت
على مرارة الاصطبار، ولم توجد فيهم عاطفة الاتحاد والاجتماع لمقاومة منكر أو
لعمل معروف يعود نفعه عليهم خاصة أو على قومهم عامة، حتى كان ما كان في
هذه الأيام من اجتماع مئين ممن خابوا في امتحان الشهادة الابتدائية للاحتجاج على
نظارة المعارف كما يقولون، ويريدون الإنكار عليها في جعل الامتحان مرة واحدة
في السنة، اجتمعوا في حديقة الأزبكية، وخطب فيهم نفر منهم وأجمعوا على أن
يطلبوا من النظارة جعل الامتحان مرتين في كل عام حتى لا يضطر من ينجح في
كل علم إلا علمًا أو اثنين أن ينتظر سنة كاملة لإعادة امتحانه، وإننا نحمد منهم هذا
الاجتماع لذاته بصرف النظر عن موضوعه , ونتمنى من صميم الفؤاد أن نرى
دائمًا في تلامذتنا النجباء عاطفة الوحدة والوفاق، وداعية التآلف والاجتماع.
* * *
(نتيجة امتحان المدارس في هذا العام)
لبعض أصحاب الجرائد اليومية المصرية مدرسة يفاخر بها، ويوهم الناس
أنها ينبوع الحياة العلمية والسعادة الوطنية في القطر، وقد ظهر بالامتحان أنها وراء
المدارس كلها، حتى قيل: إنه لم ينجح منها أحد قط، لهذا انبرى صاحب هذه
الجريدة للطعن في الامتحان وإيهام الناس أن نظارة المعارف تشدد فيه، وأن كثرة
الذين خابوا في الامتحان أثر تشديدها الذي تريد به محو العلم من (الوطن المحبوب)
والحق أن النجاح في الامتحان كان في هذه السنة أعظم منه في السنين السابقة،
وأن مدارس المعارف لاتزال سابقة لجميع المدارس الأهلية بمراحل كثيرة. فعلى
الطاعنين في النظارة أن يُعَلِّموا أحسن من تعليمها ثم لينتقدوا عليها لعلهم يسمعون.
نعم، إن بعض المدارس الأهلية تقدم للامتحان عددًا فينجح الكثير منه نجاحًا
يضاهي نجاح مدارس الحكومة , فيقول أصحاب المدرسة وبعض الجرائد: إن
مدرسة خليل آغا مثلاً مثل مدارس الحكومة، والحق أن في هذا غشًّا، فإن
المدارس الأهلية تختار أحسن التلامذة لأداء الامتحان، ومنهم من يكون قد درس في
مدارس الحكومة , وأما الحكومة فإنها تلزم جميع من أتم سني الدراسة بالامتحان.
__________(7/355)
16 جمادى الأولى - 1322هـ
30 يوليو - 1904م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السؤال والفتوى
الأسئلة الباريسية
أرسل إلينا الكتاب الآتي من باريس صديقنا أحمد بك زكي الكاتب الثاني
لأسرار مجلس النظار بمصر فأثبتناه برمته ليطلع القراء على ما يدل عليه من
عناية علماء الفرنج بالمباحث الإسلامية الأساسية , وأهمها مسألة الاجتهاد والتقليد
التي قلما يخلو جزء من المنار من الخوض فيها، وتنويهًا بفضل صديقنا الذي
يصرف إجازته في أوربا مشتغلاً بمباحثة العلماء ومثافنة الفضلاء من حيث يشتغل
أكثر المصريين هناك باللهو واللعب والانغماس في الملاذ، وهذا نص الكتاب:
باريس في 8 يوليو سنة 1904
سيدي الأستاذ الفاضل
أحمد إليك الله الذي وفقك لخدمة دينه الكريم، ورفع مناره بمنارك القويم،
وبعد:
فقد اجتمعت مع كثير من أفاضل المتشرعين وتباحثنا في النواميس الإلهية
والوضعية، وإظهار مزايا كل منهما في الهيئة الاجتماعية، وانساق الحديث إلى
ذكر الاجتهاد، وإقفال بابه في الشرع الإسلامي، فأجبت القوم بما في محفوظي وما
كان عالقًا بذاكرتي على قدر الإمكان، ثم وعدتهم بتفصيل أوسع وبيان أوفى. ولَمَّا
كنتم وقفتم أنفسكم على أمثال هذه المباحث السامية جئت راجيًا من بحر معارفكم أن
تكتبوا خلاصة في مناركم الزاهر على الأسئلة الآتي بيانها، وأرجو أن لا تُحِيلوني
على ما سبق لكم كتابته في هذا الموضوع في الأعداد القديمة والسنوات الماضية
فإنما غرضي هو خلاصة وجيزة جامعة لأترجمها لأولئك الأفاضل ليعرفوا أن في
السويداء رجالاً، وأن الشرق لا يزال عامرًا بأرباب العقول الكبار.
وهذه خلاصة المسائل:
(1) ما هو مدلول الاجتهاد بالتفصيل والتوسع المناسب للمقام؟
(2) ما معنى قولهم: أُقْفِل باب الاجتهاد؟
(3) ما معني هذه العبارة عند العامة وعند أهل التحقيق؟
(4) متي أقفل باب الاجتهاد، وماذا ترتب على هذا الإقفال من المنافع
والمضار؟
(5 , 6) ما هو القانون بوجه التدقيق ومن الوجهة العلمية - ونعني بالقانون
ذلك النظام الذي يضعه الحاكم في مقابلة الشرع - وما هي خواصه ومميزاته؟
(7) ما هو الفرق بين الشرع والقانون؟
(8) إلى أي حد تمتد سلطة الحاكم في وضع القوانين؟
(9) ما هي الكتب والمباحث (لعله أراد الرسائل فسبق القلم) التي خاض
أصحابها في غمار هذا الموضوع (أي الأسئلة الثمانية المتقدمة) ؟
(10) ماهي المدارس الإسلامية التي يجوز مقارنتها بالأزهر ونعني بها
تلك التي في غير أرض مصر (وذكر أشهر البلاد والأقطار) .
هذه هي خلاصة الأسئلة التي أرجو المبادرة إلى الإجابة عنها مع التحقيق
المعهود من علمكم الواسع والإشارة إلى مآخذ الأجوبة، وغاية الأمل الاهتمام بها
والإسراع في كتابة الرد، وما ذلك على فضلكم بعزيز، والله يحفظكم لخدمة ملته
ودينه والسلام من المخلص.
... ... ... ... ... ... ... ... (أحمد زكي)
نشكر لصديقنا حسن ظنه بنا , ونذكر أسئلته ونجيب عنها واحدًا بعد واحد
على النسق المتبع عندنا في العدد المسلسل من أول سنتنا هذه فنقول وبالله التوفيق:
(س41) ماهو مدلول الاجتهاد ... إلخ
(ج) قال في كشاف اصطلاحات الفنون: (الاجتهاد في اللغة استفراغ
الوسع في تحصيل أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة.....، وفي اصطلاح
الأصوليين: استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل ظن بحكم شرعي , والمستفرغ
وسعه في ذلك التحصيل يسمى مجتهِدًا بكسر الهاء) ثم ذكر بعد بحث في
التعريف والقول بتجَزِّي الاجتهاد - أي جواز كونه في بعض الأحكام دون بعض -
شرط المجتهد فقال: (للمجتهد شرطان:
(الأول) معرفة الباري تعالى , وصفاته، وتصديق النبي صلى الله عليه
وآله وسلم بمعجزاته وسائر ما يتوقف عليه علم الإيمان كل ذلك بأدلة إجمالية، وإن
لم يقدر على التحقيق والتحصيل على ما هو دأب المتبحرين في علم الكلام.
(والثاني) أن يكون عالمًا بمدارك الأحكام وأقسامها وطرق إثباتها , ووجود
دلالتها , وتفاصيل شرائطها , ومراتبها , وجهات ترجيحها عند تعارضها , والتفصي
عن الاعتراضات الواردة عليها، فيحتاج إلى معرفة حال الرواة وطرق الجرح
والتعديل وأقسام النصوص المتعلقة بالأحكام وأنواع العلوم الأدبية من اللغة والصرف
والنحو وغير ذلك، هذا في حق المجتهد المطلق الذي يجتهد في الشرع. اهـ
وتجد مثل هذا التعريف في عامة كتب الأصول، وقد توسع بعضهم في
شروط المجتهد وأكثر منها، والبعض اكتفى حتى جعل الشاطبي في الموافقات
العمدة فيها فهم العربية متنًا وأسلوبًا ومعرفة مقاصد الشريعة، وأجاز تقليد المجتهد
لغيره في الفنون التي هي مبدأ الاجتهاد كأن يقلد المحدثين في كون هذا الحديث
صحيحًا، وهذا ضعيفًا من غير أن يعرف هو حال الرواة وطرق الجرح والتعديل،
وما قاله الشاطبي أقرب إلى الصواب فإن بعض ما اشترطوه في المجتهد لا ينطبق
على بعض المتفق على إمامتهم فقد اشترط بعضهم أن يعرف المجتهد كذا ألفًا من
الأحاديث , ولم يعرف عن أبي حنيفة حفظ ذلك القدر ولا ما يقاربه , إذ لم تكن
الرواية قد كثرت في عهده لا سيما في العراق وهو لم يسافر لأجلها.
وقال صاحب الهداية في فقه الحنفية: (وفي حديث الاجتهاد كلام عرف في
أصول الفقه , وحاصله: أن يكون (المجتهد) صاحب حديث , له معرفة بالفقه
ليعرف معاني الآثار , أو صاحب فقه له معرفة بالحديث لئلا يشتغل بالقياس في
المنصوص عليه. وقيل أن يكون مع ذلك صاحب قريحة يعرف بها عادات الناس
لأن من الأحكام ما يبنى عليها) اهـ، وقال صاحب فتح القدير في القيد الأخير:
(فهذا القيد لا بد منه في المجتهد فمن أتقن معنى هذه الجملة؛ فهو أهل للاجتهاد
فيجب عليه أن يعمل باجتهاده , وهو أن يبذل جهده في طلب الظن بحكم شرعي
عن هذه الأدلة، ولا يقلد أحدًا) اهـ واعتماده معرفة أحوال الناس وعاداتهم لا
مندوحة عنه، وأنت تعلم أن المجتهدين الأولين لم يكن عندهم علم يسمى الفقه
ينظرون فيه قبل الاجتهاد لتحقيق الشرط، على أن النظر في الفقه بعد تدوينه يعين
على الاجتهاد بلا شك، وإنما قالوا الظن بالحكم؛ لأن الأحكام القطعية المعلومة من
الدين بالضرورة لا اجتهاد فيها؛ لأن طلب معرفتها تحصيل حاصل كتحريم الظلم
والخمر وفرضية الصلاة والعدل.
وجملة القول أن الاجتهاد عندهم هو النظر في الأدلة الشرعية التي هي:
(الكتاب والسنة والإجماع والقياس) ؛ لمعرفة أحكام الفروع التي لم تثبت بالأدلة
القطعية المتواترة، والعمدة في شروطه فهم الكتاب والسنة، ومعرفة مقاصد الشرع
والوقوف على أحوال الناس وعاداتهم؛ لأن أحكام الشريعة لا سيما المعاملات منها
دائرة على مصالح الناس في معاشهم ومعادهم أي على قاعدة درء المفاسد وجلب
المنافع.
***
(س 42) ما معنى قولهم: أقفل باب الاجتهاد.
(ج) معناه أنه لم يبق في الناس من تتوفر فيه شروط المجتهد، ولا يرجى
أن يكون ذلك في المستقبل، وإنما قال هذا القول بعض المقلدين لضعف ثقتهم
بأنفسهم، وسوء ظنهم بالناس، وزعمهم أن العقول دائمًا في تدلٍ وانحطاط وغلوها
في تعظيم السابقين. وقد رأيت أن تلك الشروط ليست بالأمر الذي يعز مثاله ,
وتعلم أن سنة الله تعالى في الخلق الترقي إلا أن يعرض مانع كما يعرض لنمو
الطفل مرض يوقفه أو يرجعه القهقرى , ولذلك كان آخر الأديان أكملها.
***
(س43) ما معنى هذه العبارة عند العامة وعند أهل التحقيق؟
(ج) العامة يقلدون آباءهم ورؤساءهم في قولهم: إن أهل السنة ينتمون إلى
أربعة مذاهب من شذ عنها فقد شذ عن الإسلام ولا يفهمون أكثر من هذا. وأما
المشتغلون بالعلم أو السياسة فالضعفاء المقلدون منهم يفهمون من الكلمة ما فسرناها
به في جواب السؤال السابق، ويحتجون على ذلك بأن الناس قد اجتمعت كلمتهم
على هذه المذاهب فلو أجيز للعلماء الاجتهاد لجاءونا بمذاهب كثيرة تزيد الأمة
تفريقًا , وتذهب بها في طريق الفوضى، والمحققون يعلمون أن منشأ هذا
الحجر هو السياسة , فالسلاطين والأمراء المستبدون لا يخافون إلا من المعلم
ولا علم إلا بالاجتهاد، فقد نقل الحافظ ابن عبد البر وغيره الإجماع على أن المقلد
ليس بعالم، ونقله عنه ابن القيم في (أعلام الموقعين) وهو ظاهر , إذ العالم
بالشيء هو من يعرفه بدليله , وإنما يعرف المقلد أن فلانًا قال كذا , فهو ناقل لا عالم،
وربما كانت آلة الفونغراف خيرًا منه.
***
(س 44) متى أقفل باب الاجتهاد؟ وماذا ترتب على هذا الإقفال من
المنافع والمضار؟
(ج) زعموا أنه أقفل بعد القرن الخامس، ولكن كثيرًا من العلماء اجتهدوا
بعد ذلك، فلم يكونوا يعملون إلا بما يقوم عندهم من الأدلة، ولا يخلو زمن من
هؤلاء كما صرح بذلك علماء الشافعية (انظر الخطيب وغيره) ولولا خوفهم من
حكومات الجهل لبينوا للناس مفاسد التقليد الذي حرمه الله، ودعوهم إلى العمل
بالدليل كما أمر الله، وقد علمت الحكومة العثمانية منذ عهد قريب بأن بعض علماء
الشام يحملون تلامذتهم على ترك التقليد والعمل بالدليل , فشددت عليهم النكير حتى
سكتوا عن الجهر بذلك، ولا نعرف في ترك الاجتهاد منفعة ما، وأما مضاره فكثيرة ,
وكلها ترجع إلى إهمال العقل، وقطع طريق العلم، والحرمان من استقلال الفكر،
وقد أهمل المسلمون كل علم بترك الاجتهاد فصاروا إلى ما نرى.
***
(س45و46) ما هو القانون بوجه التدقيق ومن الوجهة العلمية ... إلخ
قد فسر السائل الفاضل القانون وليس في كتب أصول الدين ولا فروعه شيء
سمي بالقانون، ولكن الأحكام القضائية والسياسية منها ما تناوله علم الفقه، ومنها
ما فوض النظر فيه إلى القضاة والأئمة (الأمراء) كالعقوبات التي وراء الحدود
التي يطلقون عليها لفظ التعزير، وكطرق النظام للعمال والحكام وقواد الحروب.
ولأولي الأمر أن يضعوا لأمثال هذه الأشياء قوانين موافقة لمصالح الأمة , وتعلم
مميزات القانون من بيان الفرق بينه وبين الشرع في جواب السؤال الآتي.
***
(س47) ما هو الفرق بين الشرع والقانون؟
(ج) الشرع والشريعة في اللغة مورد الشاربة، وفي اصطلاح الفقهاء: ما
شرع الله تعالى لعباده من الأحكام الاعتقادية والعملية على يد نبي من الأنبياء عليهم
السلام. ويعرف أيضًا بما عرف به الدين وهو قولهم: وضع إلهي يسوق ذوي
العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات , وهو ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم.
وقد يُخَصُّ الشرع بالأحكام العملية الفرعية، وقد يطلق على القضاء أي حكم
القاضي. ذكر ذلك كله في كشاف اصطلاحات الفنون وغيره، فالقانون يختص
عندهم بما وراء ذلك فهو يتناول جميع ما يضعه أولو الأمر من الأحكام النظامية
والسياسية، وتحديد عقوبات التعزير وغير ذلك مما يحتاج إليه بشرط أن لا يخالف
ما ورد في الشرع، والفرق بينه وبين الشرع أن أحكام الشرع لا بد أن تستند إلى
أحد الأدلة الأربعة (الكتاب والسنة والإجماع والقياس) ، وأحكام القانون تكون
بمحض الرأي، وأن أحكام الشرع يجب العمل بها دائمًا ما لم يعرض مانع يلجئ
إلى ارتكاب أخف الضررين، وأحكام القانون يجوز تركها واستبدال غيرها بها
لمجرد الاستحسان، مثال ذلك أنه لا يجوز للحكومة أن تزيد في نصيب أحد
الوارثين لمصلحة من المصالح، أو سبب من الأسباب، ولكن يجوز أن تزيد في
راتب العامل إذا ظهر لها مصلحة في ذلك لأن الأول حكم إلهي لا يتغير، والثاني
حكم قانوني مفوض لأولي الأمر.
***
(س48) إلى أي حد تمتد سلطة الحاكم في وضع القوانين؟
(ج) إن حدود هذه السلطة منها: سلبية , وهي عدم تعدي حدود الله تعالى
فليس للحاكم أن يحل حرامًا أو يحرم حلالاً، أو يزيد في الدين عبادة، أو ينقص
منه عبادة، أو يظلم شخصًا أو قومًا , أو يميز نفسه أو أسرته أو قومه على سائر
الرعية لذاتهم فضلاً عن تمييز غيرهم، ومنها: إيجابية كالتزام العدل والمساواة في
الحقوق ومشاورة أهل الرأي من الأمة ومراعاة قاعدة وجوب درء المفاسد وجلب
المصالح.
***
(س49) ما هي الكتب التي خاض أصحابها في غمار هذا الموضوع....
إلخ.
(ج) أما مباحث الاجتهاد والتقليد فإنك تجدها في جميع كتب أصول الفقه
وتجد شيئًا منها في كتب الفروع عند الكلام في المفتي والقاضي وشروطهما وفي
كتب الكلام في مبحث الإمامة , وأبسط كتاب في ذلك (أعلام الموقعين عن رب
العالمين) لابن القيم - رحمه الله تعالى - فهو كتاب لا نظير له في بابه، وقد طبع
في الهند وصفحات جزأَيْه تزيد على 600 من القطع الكامل , وكتاب إيقاظ همم
أولي الأبصار. وهناك رسائل نفيسة لابن تيمية والسيوطي ولولي الله الدهلوي
ولغيرهما.
وأما الكلام في القوانين فقد تقدم أن علماءنا لم يخوضوا فيه , ويمكن أخذ ما
ذكرناه في ذلك من مباحثهم في حقوق الإمام وأحكام القضاء , وذلك متفرق في كتب
الفقه كلها , وفيه كتاب الأحكام السلطانية للماوردي صاحب كتاب أدب الدنيا والدين،
واذا شاء السائل زيادة الإيضاح ببيان أسماء طائفة من الكتب في ذلك فليراجعنا
في ذلك.
***
(س50) ما هي المدارس الاسلامية التي يجوز مقارنتها بالأزهر....
إلخ.
(ج) إن هذه المدارس لا حد لها، ولا يمكن عدها إذا أريد بمقارنتها
بالأزهر كونها تُعنى بالعلوم الشرعية التي يُعنَى الأزهريون بها وبمبادئها من فنون
اللغة العربية، فإن في أكثر الأمصار الإسلامية مدارس تعلم هذه العلوم، وأشبهها
بالأزهر مدرسة جامع الزيتونة في تونس ومدرسة جامع القرويين في فاس ولكن
الأزهر يفضل هذين الجامعين بوفود الطلاب إليه من جميع الأقطار التي يقيم فيها
المسلمون، ويشبه هذه المدارس الثلاث مدرسة النجف في العراق لطائفة الشيعة،
وهناك يتخرج مجتهدوهم، بل هذه أشبه بالأزهر من مدرستي تونس وفارس؛ إذ
يقصدها الشيعة من إيران والهند وسائر البلاد التي تتبوأها هذه الطائفة، وعلماء
الإسلام في سائر البلاد يقرءون العلوم الدينية، ووسائلها في المساجد الجوامع وغير
الجوامع , ويقصد هذه المساجد في المدن الكبيرة بعض أهل القرى القريبة منها.
والقسطنطينية مقصد لجميع البلاد التركية - هذا مجمل علمنا في ذلك.
هذا وإننا قد أجبنا عن مسائل الاجتهاد والشرع والقانون بما في الكتب
المصنفة أو ما تشهد له تلك الكتب؛ لأن الأسئلة تشعر بأن هذا هو الذي يريده
السائل، وفي المقام كلام آخر شرحه المنار مرات كثيرة مع أدلته وحججه من
الكِتَاب والسُّنة وآثار السلف الصالح، وخلاصته أن ماجاء به الإسلام ينقسم إلى
أقسام:
(أحدها) العقائد وأصول الإيمان، وهي على قسمين: قسم يطالب القرآن
بالبراهين العقلية عليه، ويشترط فيه العلم اليقين، وهو الإيمان بوحدانية الله تعالى
وعلمه وقدرته ومشيئته وحكمته في نظام الخلق وتدبيره وببعثة الرسل، وقسم يأمر
فيه بالتسليم بشرط أن لا يكون محالاً في نظر العقل كالإيمان بعالم الغيب من
الملائكة والبعث والدار الآخرة.
(ثانيها) - عبادة الله تعالى بالذكر والفكر والأعمال التي تربي الروح
والإرادة كالصلاة التي تذكر الإنسان بمراقبة الله تعالى , وترفع همته بمناجاته
والاعتماد عليه حتى يكون شجاعًا كريمًا، وكالزكاة التي تعطفه على أبناء جنسه
وتعلمه الحياة الاشتراكية المعتدلة الاختيارية، وكالصيام الذي يربي إرادته ويعوده
على امتلاك نفسه بالتمرن على ترك مادة الحياة باختياره زمنًا معينًا مع الحاجة
إليها , وتيسر تناولها بدون أن يلحقه لوم أو أذى , ويشعر الغني بالمساواة بينه وبين
الفقراء، وكالحج الذي يبعث في نفوس الأمة حب التعارف والتآلف بين الشعوب
المختلفة , ويقوي فيها رابطة الاجتماع، ويحيي في أرواح الشعوب الشعور بنشأة
الدين الأولى بقصد مشاهدها، والطوف في معاهدها والتآخي في مواقفها، وبعلمهم
المساواة بين الناس بتلك الأعمال المشتركة كالإحرام وغيره.
(ثالثها) -الآداب ومكارم الأخلاق وتزكية النفس بترك المحرمات وهي
الشرور الضارة وتحري عمل الخير بقدر الطاقة.
(رابعها) - المعاملات الدنيوية بين أفراد الأمة، أو بين الأمة وغيرها من
الأمم ويدخل فيها الأمور السياسية والمدنية والقضائية والإدارية بأنواعها.
فأما القسم الأول فقد علمنا أن منه ما يؤخذ بالبرهان، ومنه ما يؤخذ بالتسليم
لما ورد في كتاب الله تعالى والسنة المتواترة القطعية، وهو برهانه، ولا يؤخذ فيه
بأحاديث الآحاد وإن كانت صحيحة السند؛ لأنها لا تفيد إلا الظن , والاعتقاد يطلب
فيه اليقين بلا خلاف. فهذا القسم لا اجتهاد فيه بالمعنى الذي فسروا به الاجتهاد ,
ولا تقليد.
وأما القسم الثاني فالواجب فيه على كل مسلم أن يأخذ ما ورد في الكتاب
العزيز، وما جرت به السنة في بيانه على طريقة القرآن من قرن كل عبادة ببيان
فائدتها، وهذا القسم ليس للمجتهدين أن يَزِيدُوا فيه ولا أن ينقصوا منه؛ لأن الله
تعالى قد أتمه وأكمله، وهو لا يختلف باختلاف الزمان والعرف فيفوض إليهم
التصرف فيه. ولا يسع أحدًا التقليد فيه أي الأخذ بآراء الناس، بل يجب على
العلماء أن يبلغوه للمتعلمين تبليغًا.
وأما القسم الثالث فما ورد فيه من نص على حلال أو حرام فليس لمجتهد أن
يغيره، وقد أطلق القرآن الأمر بعمل الخير والمعروف، والنهي عن الشر والمنكر
وترك فهم ذلك لفطرة الناس , فيجب أن يلقن كل مسلم قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) وأن
يترك إلى اجتهاده تحديد الخير والشر مع بيان ما جاء فيه من التفصيل في الدين
وهو قسمان: معلوم من الدين بالضرورة كخيرية الصدق والعفة والأمانة وشرية
الزنا والسكر والقمار , وغير معلوم إلا للمشتغلين بالعلم كوجوب مساواة المرأة
للرجل , والكافر للمسلم , والعبد للحر في الحقوق أمام العدل، وكتحريم عضل
الولي - وان كان والدًا - موليته أي امتناعه عن تزويجها ممن يخطبها بغير عذر؛
فالأول لا اجتهاد فيه ولا تقليد، والثاني يجب أن يعرف تحريمه بدليله العام ككون
كل نافع خيرًا , وكل إيذاء شرًّا وحرامًا , وبديله الخاص إن وجد، وليس لأحد أن
يقول في الإسلام: هذا حلال وهذا حرام , فيقلد ويؤخذ بقوله بدون دليل. وهذه
الأمور كلها دينية محضة يتقرب بها إلى الله تعالى من حيث هي نافعة ومرتبة
للناس فيجب أن يكون الناس فيها على بصيرة.
بقي القسم الرابع - وهو الذي لا يمكن أن تحدد جزئياته شريعة عامة دائمة
لكثرتها، ولاختلافها باختلاف الزمان والمكان، والعرف والأحوال من القوة
والضعف وغيرهما، ولا يمكن لكل أحد من المكلفين أن يعرف هذه الأحكام , كما
أنه لا يحتاج إليها كل واحد فهي التي يجب فيها الاجتهاد والاستنباط من أولي الأمر
ويجب فيها تقليدهم واتباعهم على سائر الناس، ولذلك لم يحدد الدين الإسلامي كيفية
الحكومة الإسلامية، ولم يبين للناس جزئيات أحكامها , وإنما وضع الأسس التي
تُبْنى عليها من وجوب الشورى، وحجية الإجماع الذي هو بمعنى مجلس النواب
عند الأوربيين، وتحري العدل والمساواة، ومنع الضَرَر والضِرَار، وقد حدثت
أقضية للناس في زمن التنزيل منها ما نزل فيه قرآن، ومنها ما حكم فيها النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم بما أراه الله تعالى؛ فكانت تلك القواعد العامة وهذه
الأحكام نبراسًا لأولي الأمر الذين فوض الشارع إليهم وضع الأحكام باجتهادهم فهم
في ضوئها يسيرون. فلك أن تسمي كل ما يضعونه شرعًا إذا وافق ذلك؛ لأنهم
مأذونون به من الشارع، وقد بنوه على القواعد التي وضعها، ولك أن تسميه قانونًا
لأنه قواعد كلية، وأحكام وضعية يمكن الرجوع عنها إذا اقتضت المصلحة ذلك،
فقد غير بعض الخلفاء الراشدين ما وضعه البعض، بل أمر عمر - رضي الله
تعالى عنه - في عام الرمادة أن لا يُحَدَّ سارق لاضطرار الناس بسبب المجاعة،
وكانوا لا يقيمون الحدود على المحاربين في زمن الحرب، ومنه ترك سعد إقامة حد
السكر على أبي محجن عندما أبلى في الفرس وأنقذ المسلمين بعدما كادوا يُغْلَبون،
كل ذلك لأجل المصلحة , وإن استزدتنا من الدلائل زدناك.
***
الطلاق
اشتراط القصد فيه ديانة
(س51) عبد القادر بك الغرياني في الإسكندرية: ذكرتم في باب
الفتوى من الجزء الثامن أن الطلاق لا يقع بمجرد اللفظ، بل يشترط فيه النية
والقصد، فهل اشتراط النية معتبر ديانة فقط أو ديانة وقضاء ومن اشترط النية
من الأئمة.
(ج) ذكرنا هناك أن الإمامين الجليلين مالكًا وأحمد اشترطا النية في لفظ
الطلاق الصريح، وقلنا: إن اشتراطه في الكناية أولى؛ لأنه إذا اشترطت النية في
وقوع الطلاق بقوله: أنت طالق فاشتراطها في نحو قوله: اذهبي إلى بيت أبيك
أولى؛ لأن اللفظ الأول متبادر في حل عقدة الزواج، والثاني متبادر في معنى
الزيارة، أو الهجر إن قيل بغضب، وعلى القاضي أن يعتد بإخباره عن نيته في
الثاني دون الأول عملاً بالظاهر في الصيغتين كما هو شأن القاضي، وإذا لم يُرْفع
الأمر إلى القاضي فيجب العمل بالحقيقة، وهي أنه لا يقع طلاق إلا بلفظ يقصد به
حل عقدة الزوجية، والله أعلم.
***
(س52) ز. ف بمصر: هل تطلق زوجة من يسب الشيخين أبا بكر
وعمر - رضي الله تعالى عنهما -.
(ج) سب الشيخين عليهما الرضوان معصية، والمعاصي لا تحل عقد
الزوجية، وإلا لما صح لفاسق زوجية ولا نسب، وقد علم من جواب السؤال
الماضي ما يقع به الطلاق، وليس وراء ذلك إلا الردة والعياذ بالله تعالى.
_______________________(7/361)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأولياء والكفاءة في الأزواج
عن عبد الله بن بُرَيدة عن أبيه قال: (جاءت فتاة إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، قال: فجعل
الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس
للآباء من الأمر شيء) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وسنده صحيح , وهو يدل
على اعتبار الكفاءة في صفات الرجل مع الاتفاق في النسب , ويدل على أن المرأة
تتزوج برضاها، وفي هذا أحاديث كثيرة كما أن هناك أحاديث في اشتراط الولي
وكونه هو الذي يزوج بإذنها.
عن أبي حاتم المزني قال: قال رسول الله -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم-:
(إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض
وفساد كبير) ، قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه. قال: (إذا جاءكم من
ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) ثلاث مرات، رواه الترمذي، وقال: حسن غريب ,
ولم يرو أبو حاتم غيره , وأرسل الحديث أبو داود وأعله ابن القطان بالإرسال
وضعف راويه، وقد أخرجه الترمذي أيضًا من حديث أبي هريرة بلفظ: (إذا
خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد
عريض) ورواه الليث بن سعد عن أبي عجلان مرفوعًا، وقد خُولف عبد الحميد
بن سليمان في رواية الترمذي، وقال البخاري: حديث الليث أشبه، ولم يعد حديث
عبد الحميد محفوظًا، ومعنى الحديث أنه يجب تزويج البنت إذا جاءها الخاطب
الذي يُرجى أن يحسن عيشها معه؛ لأن دينه وخلقه مرضي لا يشكى منه،
واستدلوا به على اعتبار الكفاءة في الدين والخلق , وخصها بذلك بعض الصحابة
والتابعين، وبه قال مالك، ولم يعتبر هؤلاء الكفاءة في النسب، بل قالوا:
(المسلمون بعضهم لبعض أَكْفَاء) .
عن علي - كرم الله وجهه - أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال له:
(ثلاث لا تؤخر: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها
كفؤًا) رواه الترمذي، وهو حجة على تحريم عضل الأيامى - غير المتزوجات -
بلا عذر.
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (العرب أَكْفَاء بعضهم
لبعض قبيلة لقبيلة، وحيٌّ لحيٍّ، ورجل لرجل إلا حائك أو حجام) رواه الحاكم وله
ألفاظ أخرى لا يصح منها شيء. وإن قال بعضهم: إن الحاكم صححه، وماذا
عسى يغني تصحيح الحاكم، وقد سأل ابن أبي حاتم أباه عنه , فقال: هذا كذب لا
أصل له، وقال في موضع آخر: باطل، وقال ابن عبد البر: هذا منكر موضوع،
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: ولم يثبت في اعتبار الكفاءة في النسب
حديث , وأما ما أخرجه البزار من حديث معاذ رفعه: (العرب بعضهم أكفاء بعض،
والموالي بعضهم أكفاء بعض) فإسناده ضعيف. نعم وورد في الصحيح ما يدل
على فضل العرب، وفضل قريش على العرب وفضل بني هاشم على قريش،
ولكن لم يرد ذلك في أمر الكفاءة.
عن عائشة وعمر: (لأمنعن ذوات الأحساب إلا من الأكفاء) رواه
الدارقطني , والحسب المال , ولذلك اعتبر بعض العلماء الكفاءة باليسار والغنى ,
واستدلوا عليه بما رواه أحمد والنسائي وصححه , وابن حبان والحاكم من حديث
بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون
إليه المال) وما رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححاه من حديث سمرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (الحسب المال والكرم والتقوى) والفقهاء يفسرون
الحسب بالمجد الموروث.
عن عروة عن عائشة أن بريرة أُعْتِقَتْ وكان زوجها عبدًا فخيرها رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ولو كان حرًّا لم يخيرها. رواه مسلم وأبو داود والترمذي،
وهناك روايات أخرى وفيها أنها اختارت الفسخ، وهو حجة على اعتبار الكفاءة
بالحرية، بل قال الشافعي: (أصل الكفاءة في النكاح حديث بريرة) .
فعلم مما تقدم أن السنة مضت باعتبار الكفاءة بالدين والحرية والأخلاق
واليسار، وبهذا أخذ الكثير من العلماء في صدر الإسلام , وزاد أكثر العلماء النسب
والصناعة , واستدلوا عليهما بما لا يصح من الأحاديث وبما يصح من القياس،
فإنهم قالوا: إن العلة في اعتبار الكفاءة رفع الضرر والعار، وقد كانوا يفاخرون
بالأنساب ويرون من العار أن تزوج القرشية باهِلِيًّا، ولا يزالون يَتَعَيَّرون بدناءة
الحرفة والصناعة، والعمدة في ذلك العرف , ونذكر على هذا شاهدًا من كتب
الحنفية؛ إذ القضاء على مذهبهم في هذا البلاد.
جاء في الهداية أن الكفاءة تعتبر بالصنائع، وعزى ذلك إلى الصاحبين، ثم
قال ما نصه: (وعن أبي حنيفة في ذلك روايتان , وعن أبي يوسف أنه لا تعتبر
إلا أن تفحش كالحجام والحائك والدباغ. ووجه الاعتبار أن الناس يتفاخرون
بشرف الحِرَف، ويتعيرون بدناءتها. ووجه القول الآخر أن الحرفة ليست بلازمة،
ويمكن التحول عن الخسيسة إلى النفيسة منها) اهـ. وقال الكمال في الفتح
قوله: (وعن أبي حنيفة في ذلك روايتان) أظهرهما: ألا تعتبر في الصنائع
حتي يكون البيطار كفؤًا للعطار. وهو رواية عن محمد. وعنه في أخرى:
الموالي بعضهم أُكْفَاء لبعض إلا الحائك والحجام وكذا الدباغ، وهو الرواية
التي ذكرها في الكتاب عن أبي يوسف، وأظهر الرواتين عن محمد , فصار عن كل
واحد منهما روايتان؛ الظاهر عن أبي حنيفة: عدم الاعتبار، والظاهر عن محمد
كذلك إلا أن تفحش , وهو الرواية عن أبي يوسف , وفيما قدمناه من حديثٍ بقية
حيث قال فيه: (إلا حائكًا أو حجامًا) ما يفيد اعتبارها في الصنائع، لكن على الوجه
الذي ذكره في شرح الطحاوي وهو: أن الصناعات المتقاربة أكفاء كالبزاز والعطار
بخلاف المتباعدة , وعد الخياط مع الدباغ والحجام والكناس. قال: فهؤلاء
بعضهم أكفاء لبعض ولا يكافئون سائر الحرف، ولم يذكر خلافًا فكان ظاهرًا
في أن الظاهر من قول أبي حنيفة اعتبار الكفاءة , وإليه ذهب بعض الشارحين.
قال وكذا قال الشيخ أبو نصر بعد أن أثبت اعتبارها، وعن أبي حنيفة: ألا تعتبر
ونحوه في النافع وإنما قلنا: لكن على الوجه الذي ذكره في شرح الطحاوي، لأن حقيقة الكفاءة في الصنائع لا تتحقق إلا بكونهما من صناعة واحدة، وفي المحيط
وغيره: وههنا خساسة هي أخس من الكل؛ وهو الذي يخدم الظلمة يدعى
شاكرباه تابعًا وإن كان ذا مروءة ومال، قيل: هذا اختلاف عصر وزمان؛ في
زمن أبي حنيفة لا تعد الدناءة في الحرفة منقصة فلم تعتبر , وفي زمنهما تعد
فتعتبر. والحق اعتبار ذلك سواء كان هو المبني أَوْلا. فإن الموجب هو
استنقاص أهل العرف فيدور معه , وعلى هذا ينبغي أن يكون الحائك كفؤًا للعطار
بالإسكندرية لما هناك من حسن اعتبارها وعدم عَدِّها نقصًا ألبتة اللهم إلا أن يقترن
بها خساسة غيرها) اهـ.
(المنار)
علم مما أوردناه أن الكفاءة ليست من أمور العبادات، وإنما هي
من مسائل المعاملات التي يحكم فيها العرف ويستدل عليها بالقياس؛ لأنها تابعة
لمصالح الناس ورفع الضرر عنهم , ومدارها على التعيير فكل رجل كفؤ لمن إذا
تزوج منهم لا يلحقهم عار بتزويجه بين قومهم، ولذلك قالوا: إن العالم كفؤ لبنت
الشريف والحسيب وإن كان نسبه وضيعًا أو مجهولاً؛ لأن العلم أشرف الأشياء فلا
عار معه مطلقًا. وإن هذه الكفاءة تختلف باختلاف الزمان والمكان , فرُبَّ رجل يعد
كفؤًا لقوم في بلد ولا يعد كفؤًا لأمثالهم في بلد آخر لاختلاف العرف. أما حكم هذه
الكفاءة فهو: وجوب تزويج الخاطب مع تحققها واعتبار الولي عاضلاً للمخطوبة
إذا امتنع من التزويج , ولها حينئذ أن تزوج نفسها من الكفؤ بدون رضاه عند
الحنفية إن كانت رشيدة , وليس له اعتراض ولا طلب الفسخ، وعند غيرهم:
ترفع الأمر إلى القاضي فيأذن الولي البعيد بالتزويج؛ إذا كان القريب هو العاضل
أو يزوجها هو - في تفصيل معروف في الفقه - وإذا لم يكن الخاطب كفؤًا ,
وزوَّجها الولي بدون إذنها , أو زوجت نفسها هي بدون إذنه جاز لها على الوجه
الأول، وله على الثاني رفع الأمر للقاضي وطلب الفسخ دفعًا لإيذاء التَّعْيِير إلا أن
يسكت الولي حتى تلد فإنه يبطل حينئذ حق الفسخ مراعاة لمصلحة الولد.
ومسألة الكفاءة الآن من النوازل في مصر، فقد زوجت صفية بنت السيد
أحمد عبد الخالق السادات نفسها من الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، ووكلت في
العقد أجنبيًّا مع وجود أبيها في البلد , فطلب أبوها من القاضي فسخ العقد بدعوى
عدم الكفاءة , وخاضت الجرائد في ذلك بأهوائها , وامتدت أعناق قراء المنار إليه
يسألونه بيان حكم الشريعة في ذلك لعلمهم بأن الذين زعموا الدفاع عنها من الكتاب
جاهلون بها فها هو الحكم، وعليهم تطبيقه على الواقعة فإنهم أهل العرف.
__________(7/381)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الفتوى لشركة جريشام
ذكرنا في الجزء الرابع والعشرين من السنة الماضية أن بعض طلاب العلم
في تونس أشكل عليه فهم مستند مفتي الديار المصرية في الفتوى لشركة جريشام
التي أنشئت للتأمين على الحياة , وبيَّنَّا هناك أن الإشكال جاءه من تطبيق الفتوى
على ما يسمع عن الشركة لا على السؤال الذي رفع إلى المفتي. وقد كتب ذلك
الطالب وجه إشكاله في جريدة (الزهرة) التي ظهرت في تونس ثم ذوت وسقطت
فكتب إلينا أحد علماء تونس ما يأتي ردًّا عليه:
إفهام وتقويم
قرأت في العدد السابع من جريدة (الزهرة) كلامًا مسهبًا رام به صاحبه
أن يساهم في الانْتِضال لمسألة فتوى القراض (التي سموها فتوى التأمين) ,عرضه
على أفكار أولي البصيرة وبعد أن طوينا ذيله وقطعنا نيله، رأينا أن صاحبه وإن
نادى باسم النقد والاستبصار في مواضع كان بعيدًا منهما في الوصول إلى كُنْه ما
قصدناه من مراجعة وطنيِّنا الفاضل في رده الأول على كلام محتاج إلى غمز قناته،
وإيقاظ ذهن صاحبه من سباته. زاد: فما فهم استحسان تصدير الفتوى بلو حتى
وَهِمَ أنَّا نوهنا بذلك لما فيها من الشرط , وكأني به بعد حائرًا في وجه هذا التنويه
لولا أنه بين الشك واليقين في بركة تأثير الشرط في نحو هذا المقام! ولم يعلم أنَّا
إنما ألفتنا الأنظار النقادة إلى ما في (لو) من الامتناع المقتضي غرابة الصورة
وامتناع وقوعها.
مدار بحثه في هاته الفتوى على محور واحد وهو انتقاد إجمال المفتي والملام
عليه؛ إذ لم يفض في شرح المراد من الشركة مبينًا في خلال ذلك ما تبطنه في
ضميرها، ولم تذكره في سؤالها ناسيًا قولهم: (جواب المفتي على قدر سؤال
السائل) وما كرهه العلماء من إذالة العلم والفضول فيه، وقد نُقِل عن كثير من
الأئمة أنهم كانوا يكرهون الزيادة على قدر الاستفتاء ويرونه من فضول المفتي.
فاذا كان ذلك مطلوبًا فهو من باب الاحتياط , وربما لا يحتاج إليه في الأمور
الظاهرة الواضحة الجارية على المتعارف والمحمولة على الصحة؛ لأن العالم لم
يُؤْمَر بالتنقيب على القلوب، بل نُهِيَ عنه بنص الحديث الصحيح. ومع هذا فإن
المفتي ما ترك الاحتياط اللازم فيما أعاده من الألفاظ في جوابه شرحًا للمراد حيث
لم تكن عبارة السؤال من الإفصاح عن المقصود بالمكان البين لو وجد آذانًا سامعة
أو عيونًا ناظرة إلى السؤال والجواب. لو سألته الشركة عن صحة قواعدها - من
حيث حكم الشرع الإسلامي - لرأينا ماذا يجيب به المفتي بعد أن يستطلعها أحوال
رسومها، ولكنها سألته عن صورة عقد بين رجل وجماعة كهاته الشركة , وجعلت
نفسها مثالاً يجمعها بالممثل وصف الجماعة لينظر في صحتها من جانب الحكم
الشرعي , وليس سؤالها عن فرع فقهي لتنظر ماذا عسى أن يطلبه الناس منها يومًا
ما فتغير خطتها لأجله، ولا كانت هي محل السؤال ابتداءً بل كانت في موضع
المثال. والسؤال عن هذا الحكم الشرعي إن وقع وهو حكم يرجع إلى ضرب من
التجارة ربما تقصده هاته الشركة.
نعم، ربما يكون محقًّا إذا وَجَّهَ الملام على الشركة كيف تسأل عن خلاف
مرامها , وذلك عذل يتجه على ديانة السائل أو فصاحة عبارته في سؤاله! ! ومن
الواجب أن يتذكر كاتبنا شيئًا لطيفًا ما غفل عنه الباحث الأول , وهو أن المفتي
حنفي المذهب , وأنه يجب تخريج كلامه على نصوص مذهبه مادام كلامه غير
محتاج ولا قاض بصرفه إلى اختيار بعض المذاهب على بعض في خطة النظر ,
ولا ينبغي التساهل والمسارعة إلى فساد صحيح من كلام الناس.
واذ قد أتينا على ما يُفْهِمه خطة البحث في هذا الموضوع ويبعثه على تحقيق
النظر قبل المجازفة؛ فنلمم بأطلال شروطه التي ذكرها مما لا يدخل في المؤاخذة
بذنب الإجمال قال: (أول الشروط أن يكون المال نقدًا ... ) - إلى قوله - (سيما
وأن أوراق الماليات معتبرة في المعاملات اعتبار الذهب والفضة) هذا موضع
الزيادة على الإجمال لأنه رجع به إلى الغالب.
وجوابه عن هذا أن كون رأس المال دَيْنًا على غير أحد المتعاقدين جائز ماض
عند الحنفية , وما منعه مالك إلا للتهمة في القصد. لا لفساد أصل العقد، وإذا
نظرنا إلى مذهب محمد بن الحسن من جواز القراض بالفلوس الرائجة , وعدم
اشتراط خصوص الذهب والفضة , فكل ما راج رواج المال والنقدين فهو مثلها ,
وهذا هو التحقيق؛ لأن مناط اشتراط النقدين قصد قطع جرثومة الغرور، وضرر
العامل في عمله أن يقدم على شيء يظنه يساوي مقدارًا فاذا هو قاصر عما قدر،
وكل رائج معلوم القدر لا توجد فيه هاته العلة فهو كالذهب والفضة، ألا ترى أنهم
ما اكتفوا بالذهب والفضة نضارًا حتى اشترطوا أن يكونا مسكوكين. وهذا هو عين
الجواب عن الشرط الثاني إذ كان عين الأول لولا اختلاف العبارة.
قال: (رابعها أن لا يشترط على العامل الضمان ... إلخ) بناء هذا البحث
مؤسس على شفا الاشتباه في قضية الإجمال , ووهم أن الجواب وقع عن كراسة
شروط الشركة لا عن سؤال مسطور , وربما كان كلامه يحول الاعتراف بأن ذكر
هذا البحث لتكثير سوداه , وتعزيز فئته وأجناده.
قال: (خامسها عدم تأجيل مدة القراض، ونص السؤال مقتضٍ للتأجيل)
القراض في مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - من العقود التي لا يفسدها التوقيت،
والغاية إنما محور الشرط فيها على مظنة حصول القصد مما سبق له العقد وهو
معدود في ضمن ستة وعشرين عقدة لا يفسدها أي شرط فاسد.
قال: (سادسها تعيين الجزء ... إلخ) وهذا ملحق بإخوته المسوقة للتعزيز،
فلا يشتبه أمره على ذوي التمييز. ثم إن المذهب أن دخول المتقارضين في عقدة
القراض على المساكتة في تعيين الربح لا يفسد القراض بل يكون الربح فيه على
السواء في قول أبي يوسف رحمه الله , وبه الفتوى. أما لو ذكرا ما يدل على
التسوية في الربح فلا خلاف بين أبي يوسف ومحمد في جوازه. نحو أن يقولا:
على أن ما نتج من الربح بيننا.
قال: (ثم مقتضى السؤال (إذا قام بما ذكر وانتهى أمد الاتفاق المعين بانتهاء
الأقساط) أنه إن لم يوف بدفع تلك الأقساط لا حق له.... إلخ) . وههنا الخطأ
العظيم في الانتقال، والغفلة عن الحقيقة في الاستدلال؛ فأما الأول فليس الكلام
بقاضٍ أنه لا حق له في المقارضة , ولا حق له إن لم يوف , إنما قضى أنه إن لم
يوف لا حق له في المقارضة ولا في الربح. والشروط في المضاربة، إن كانت
مما يخل بجانب رب المال جازت لا سيما إن كان ذلك من شرطه هو لا من شرط
المضارب عليه , وذلك صريح صورة السؤال لأنه جاء قبل الكلام الذي ساقه كاتبنا
كلمة حذفها حذفًا لم يصادف به كنه الفهم وهي: (واشترط معهم) ، ومن الفروع
التي يذكرها الحنفية في هذا الموضع: لو شرط المضارب على رب المال أن يدفع
له داره يسكنها أو أرضه يزرعها؛ لم تفسد المضاربة. أما لو شرط رب المال ذلك
على المضارب لفسدت للجهالة في جانب رب المال. ويذكر المالكية فرعًا في كتبهم
أنه يجوز القراض على أن جميع الربح للعامل. وضمان المال إن تلف من ربه إذا
سمياه قراضًا، وقال سحنون: (هو سلف وضمانه من العامل) . وفي هذا ما
يعلمنا الفرق بين هذا وبين القمار بأن هذا شيء من جانب رب المال , وهو محمول
على الموجدة والمقدرة فلا يظن به اهتضام، ولا أن يؤكل ماله بالباطل أو يضام،
خلافًا لحال العامل المظنون به العجز والافتقار، ولأن رب المال ينزل في نحو
هاته الشروط منزلة المتبرع أنه لو شاء لأعطى وما أخذ.
قال: (إن مشاركة المسلم لهاته الجمعية ممنوعة، وذلك لأنها لا تتحاشى في
تجرها ومعاملتها الربا.... والنصوص متظاهرة على منع شركة من لا يتحفظ من
تعاطي ما ذكر إلخ) قد علمت أن اسم الشركة ما وقع إلا مثالاً , ولو فرضنا صحته
فذلك شيء ينظر فيه الرجل إلى حالة التجارة التي سموها في السؤال , وليس
المفتي بصدد تبيان كل ما يجب على المرء في صورة الاستفتاء , وإلا لَشَرَع يبين
لهم شروط البيوع كلها , وذلك لا يخص الشركة، بل كل من يظن به الجهالة
باستقراء أحكام البيوع، ومن ذا الذي يرقبها اليوم من تجار المسلمين. على أن
نسيان المفتي أن ينبه على هذا غير بعيد حيث لم يكن مما يرجع إلى شرط من
شروط الباب التي يجب استحضارها عند الإفتاء , ولذلك يذكرها كاتبنا بعد تعداد
الشروط! وتوكيل الذمي في المعاملات غير ممنوع، ولو نص له على معاملة
يحرم على الوكيل فعلها , وقد نص الحنفية رحمهم الله على صحة توكيل المسلم
ذميًّا على بيع خمر أو خنزير , ولو باشر ذلك بنفسه؛ لمنع باتفاق الناس، وقديمًا
ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوكلون المشتركين حتى المحاربين.
في صحيح البخاري (باب إذا وكل مسلم حربيًّا في دار الحرب أو دار الإسلام
جاز) أخرج فيه توكيل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أمية بن خلف
وما فيه من القصة.
وها هي تلك النوبة قد أفضت إلى كاتبنا ليعيد علينا من تبيانه ثانيًا فإن دعته
إلى ذلك الدواعي؛ فإن آذاننا مصغية إلى ما يقول.
... ... ... ... ... ... ... ... (ذلك التونسي)
__________(7/384)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المسائل الزنجبارية
جاءنا من أحد فضلاء القراء في زنجبار ما يأتي ويعقبه الجواب عنه قال:
(إن لمناركم الإسلامي من المنة على المسلمين ما ظهر أثرها من تنبه
الأفكار وتبادل الآراء فيما بينهم. لا يصل أحد أجزاء المنار حتى يسير ما فيه سير
الأمثال، وتتحدث به الأندية , وإنهم لينظرون إلى ما يأتيهم من درره بفراغ الصبر
غير أنه لما نشرتم في أعداد المنار - الجزء الثاني 16 المحرم الحرام صحيفة 57
(علم الغيب للأنبياء) الجزء الرابع 16 صفر صحيفة 144 (القرآن لقضاء
الحوائج) وصحيفة 145 (المهدي المنتظر) - أنكر ما حررتموه كثير , وتوقف
قراء المنار عن اتباعهم حتى أورد عليهم المنكرون أدلة تناقض ما حررتموه
فالتمسوا أن أكتب إليكم في ذلك لتشرحوا الأدلة بنوع بسط، أما أدلة المنكرين فقد
اعترضوا جواب: (س: القرآن لقضاء الحوائج بما رواه البخاري وغيره في
حديث الرقية بالفاتحة وبغير ذلك مما ورد , واعترضوا كلامكم في المَهدي المنتظر
بما أورده مفتي الشافعية بمكة السيد أحمد زيني دحلان بآخر كتابه (الفتوحات
الإسلامية) حيث حكى أن الأحاديث الواردة في المهدي منها صحيح وحسن
وضعيف وهو الأكثر , إلى أن قطع بعد ذلك بوجود المهدي وأنه قطعي، أما ابن
خلدون فلا يعتبرونه , ووسموه بأنه مؤرخ لا مُحَدِّث , والمعتبر في مثل هذا أقوال
المحدثين. وأما مسألة علم الغيب للأنبياء؛ فقد أوردوا على ما حررتموه ما قرره
الصاوي في حاشيتة على الجلالين في تفسيره على آية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} (الأعراف: 187) الآية , وما بعدها {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا شَاءَ
اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْب} (الأعراف: 188) وإليكم ما ذكره الصاوي بنصه:
(قوله تأكيد) أي لما قبله لبيان أنها (الساعة) من الأمر المكتوم الذي
استأثر الله بعلمه فلم يطلع عليه أحد إلا من ارتضاه من الرسل، والذي يجب
الإيمان به أن رسول الله لم ينتقل من الدنيا حتى أعلمه الله بجميع المغيبات الذي
تحصل في الدنيا والآخرة فهو يعلمها كما هي عين اليقين لما ورد: (رفعت لي
الدنيا فأنا أنظر فيها كما أنظر إلى كفي هنا) وورد أنه اطلع على الجنة وما فيها،
والنار وما فيها وغير ذلك مما تواترت به الأخبار، ولكن أُمِرَ بكتمان البعض قوله:
{لِنَفْسِي} (الأعراف: 188) معمول {لاَّ أَمْلِكُ} (الأعراف: 188) ، قوله:
{إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّه} (الأعراف: 188) أي تمليكه لي فأنا أملكه. قوله: {وَلَوْ
كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ} (الأعراف: 188) إلخ فإن قلت: إن هذا يشكل على ما تقدم
أنه اطلع على مغيبات الدنيا والآخرة، والجواب: إنه قال ذلك تواضعًا , أو أن
علمه بالغيب كلا علم من حيث إنه لا قدرة له على تغيير ما قدر الله وقوعه فيكون
المعنى حينئذ: لو كان لي علم حقيقي بأن أقدر على ما أريد وقوعه لاستكثرت ...
إلخ. إن قلت: إن دعاءه مستجاب لا يرد، أجيب بأنه لا يشاء إلا ما يشاء الله،
فلو اطلع على أن الشيء مثلاً لا يكون كذا لا يوفق للدعاء له إذ لا يشفع ولا يدعو
إلا بما فيه إذن من الله واطلاع منه على أنه يحصل ما دعا به وهو سر قوله تعالى:
{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) وفي ذلك المعنى قال
العارف:
وخصك بالهدى في كل أمر ... فلست تشاء إلا ما يشاء
وللخواص من أمته حظ من هذا المقام , ولذا قال العارف أبو الحسن الشاذلي:
(إذا أراد الله أمرًا أمسك ألسنة أوليائه عن الدعاء سترًا عليهم لئلا يدعوا فلا
يستجاب لهم فيفتضحوا) اهـ كلامه فالمرجو أن تبينوا ما هو الحق في المسائل
الثلاث , فقد أخذت محلاًّ من الأفكار ولكم الأجر والثواب.
* * *
الرقى وقضاء الحوائج
والاستشفاء بالقرآن
ثبت في الأحاديث أن الله تعالى خلق لكل داء دواء عرفه من عرفه، وجهله
من جهله، ومازال الناس ينتفعون بما علموا منها ويبحثون عما جهلوا فيزدادون
علمًا، كذلك قد جعل الله تعالى لكل شيء سببًا يتوصل إليه به. وإنما يصح كون
هذا سببًا لهذا إذا كان بينهما اتصال بالتأثير والتأثر مثلاً بحيث ينتفي وجود الثاني
لانتفاء الأول , ويوجد بوجوده إذا انتفت الموانع. ولم يثبت بالتجارب الصحيحة
المطردة أن تلاوة القرآن الكريم أو كتابته في الصحف تحمل أو الصحاف يؤكل منها
ويشرب سبب للشفاء من الأمراض وقضاء الحوائج، ولو ثبت لاستغنى به الناس
عامة أو المسلمون خاصة عن الطب والأطباء، وعن اتخاذ الأسباب والوسائل
المعروفة لسائر الحاجات والمصالح. فهذا دليل عقلي في الموضوع , وقد قرر
العلماء أن النصوص الشرعية إذا خالفت الأدلة العقلية ترد إليها بالتأويل إذ لا يمكن
إبطال حكم العقل لأنه أصل الإيمان، ولا يصح بدونه برهان.
ودليل ثان على ذلك وهو أنه لو أنزل القرآن لأجل المنافع الحسية الجسدية
كما نزل لأجل الهداية لذكر فيه ذلك، وعُدَّ من المعجزات لأنه يكون خارقًا للعادة
ولتحدى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بذلك، ولكن شيئًا من ذلك لم يكن ,
ولم يذكر العلماء في وجوه إعجاز القرآن ما ذكر , ولم يعلم أن الصحابة أو الأئمة
احتجوا على منكر بذلك.
أما إجازة النبي - صلى الله تعالى وآله وسلم - الرقية فإنني أشرحه لك بما لا
ينافي ما تقدم بالدليل، فأقول: إن الرقى والعوذ كانت من أعمال الجاهلية، وقد
نهى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عنها , وحدثت وقائع رقى فيها بعض
الصحابة فأفاد فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في العين، وفي ذي الحَمَّة أي
لدغ ذي الحمة كالعقرب والزنبور , وفي الصحيحين: (لا رقية إلا من عين أو
حمة) , وفي رواية أخرى لأبي داود زيادة: (أو دم لا يَرْقَأ) وفي أخرى عنده
وعند أحمد: (لا رقية إلا في نفس أو حمة أو لدغة) فضيق عليهم دائرة الرقى،
لم يأذن لهم بغيرها من العوذ والتناجيس التي كانوا يعلقونها على الأطفال وغيرهم
للوقاية من الأمراض والجن , ولا كتابة القرآن وغيره لذلك , وأرشدهم مع هذا كله
إلى أن الرقى والاسترقاء ينافي التوكل الذي هو كمال التوحيد والإيمان، ولا ينافيه
التداوي وغيره من الأسباب الصحيحة؛ لأن الانتفاع بالرقى أمر موهوم كما قال
حجة الإسلام وغيره.
روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: لما سئل عن صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب من حديث
طويل: (هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم
يتوكلون) : رواه غيرهما. وروى أحمد والترمذي وحسنه والنسائي في السنن
الكبرى وابن ماجه والطبراني والحاكم والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: (من استرقى أو اكتوى فقد برئ من التوكل) وفي لفظ: (ما توكل من
استرقى أو اكتوى) : قال الإمام الغزالي في كتاب التوكل من إحياء علوم الدين ما
نصه:
(اعلم أن الضرر قد يعرض للخوف في نفس أو مال , وليس من شروط
التوكل ترك الأسباب الدافعة رأسًا , أما في النفس فكالنوم في الأرض المسبعة أو
في مجاري السيل من الوادي , أو تحت الجدار المائل والسقف المنكسر؛ فكل ذلك
منهي عنه، وصاحبه قد عرض نفسه للهلاك بغير فائدة. نعم تنقسم هذه الأسباب
إلى مقطوع بها ومظنونة , وإلى موهومة. فترك الموهوم منها شرط التوكل وهي
التي نسبتها إلى دفع الضرر نسبة الكي والرقية، فإن الكي والرقية قد يقدم بهما
على المحذور دفعًا لما يتوقع , وقد يستعمل بعد نزول المحذور للإزالة. ورسول الله
صلى الله عليه وسلم لم يصف المتوكلين إلا بترك الكي والرقية والطيرة، ولم
يصفهم بأنهم إذا خرجوا إلى موضع بارد لم يلبسوا جبة، والجبة تلبس دفعًا للبرد
المتوقع، وكذلك كل ما في معناها من الأسباب) اهـ.
فالقارئ يرى أن حجة الإسلام جعل علة منافاة الرقية للتوكل كونها من
الأمور الوهمية التي لم ترتق إلى أن تكون سببًا للنفع ظنيًّا، ولكن الدجالين الذين
اتخذوا الرقى والتمائم والتعاويذ والتناجيس حرفة يأكلون بها أموال الناس بالباطل
يوهمونهم أن حرفتهم مبنية على تعظيم القرآن وقوة الإيمان , ويجعلون الحبة قبة.
وإنما كان الأخذ بالأمور الوهمية منافيًا للتوكل لأن التوكل هو كمال التوحيد والثقة
بالله تعالى، والمؤمن الكامل يجب أن يكون بعيدًا عن الأوهام لاستنارة عقله وقوة
يقينه، فهو لا يأخذ إلا بالأسباب الصحيحة التي قضت حكمة الخالق ربط المسببات
بها، وينبذ الأوهام وراء ظهره فلا يكون لها عليه سلطان، وأما سبب إجازة النبي
صلى الله عليه وسلم الرقية من العين ولدغ نحو العقرب؛ فلعله الرحمة بالضعفاء
الذين جرت العادة بأن يتأثروا أحيانًا بالأمور الوهمية وينتفعوا بها، وقد شرحنا ذلك
في المقالتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة من مقالات (الكرامات والخوارق)
فلتراجع هناك. وأذكر هنا شاهدًا: وهو أنني أعرف عالمًا من أجلّ العلماء المتقين
الذين يحاربون الأوهام أصيبت عنده امرأة بمرض عصبي تعاصى علاجه على
الأطباء وكان منشؤه الوسواس - وهو وَهْم - فلم ير بُدًّا من الرضى بالتماس راق
يرقيها لاعتقادها بذلك. وهذا التعليل يظهر تمام الظهور في الرقية من العين؛ فإن
كثيرًا من العلل التي ينسبها الناس إلى تأثير العين وهمية , وما عساه يصح من
تأثير العائن , فالمعقول أن يكون تأثير نفس في نفس، ولذلك عبر عن العين في
حديث أحمد وأبي داود الماضي بالنفس , وذلك أن بعض النفوس تؤثر بانفعالها في
نفس أخرى تتوجه إليها وتنظرها لاستعداد فيها لسرعة التأثر، وهذا من قبيل تأثير
حال الحزين في نفس من يراه ولكنه أقوى منه. فلا غرو أن يزيله التأثر من الرقية ,
وما هي إلا تلاوة شيء يعتقده المرقيُّ ويتوهم نفعه , والأوهام انفعالات في النفس
يغلب أقواها أضعفها، واللدغ له تأثير حقيقي في الجسم ولكنه ضعيف في الغالب
يبرأ أحيانًا بدون سبب , وكانت العرب في الجاهلية تطب اللدغ بالرقية فاعتقادهم
يغلب أحيانًا على ألم اللدغة فيسرع شفاؤها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم
عن ذلك , ثم علم أن بعض الناس ينتفعون به بحكم الوراثة وتأثير الوهم فأجازه ,
فقد روى أحمد وعبد بن حميد ومسلم وغيرهم من حديث جابر أن رجلاً قال: يا
رسول الله إنك نهيت عن الرقى. أنا أرقي العقرب، فقال صلى الله عليه وسلم:
(من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه) فهي رخصة لمن علم من حاله أن للوهم
سلطانًا عليه إذا احتيج إلى استعمال ذلك لنفعه , فضيق دائرة تلك الأوهام، وجعل
المأذون به على قلته منافيًا للتوكل وكمال اليقين , واشترط في الرقية أن لا تكون
فيها شرك كما في حديث عوف بن مالك عند مسلم وأبي داود. ومعنى ذلك أن لا
يكون فيها استعانة بغير الله أو ما يوهم أن غير الله ينفع أو يضر.
ومن الغرائب أن النبي صلى الله عليه وسلم لدغ مرة فغشي عليه فرقاه ناس
فلما أفاق قال: (إن الله شفاني وليس برقيتكم) رواه البخاري في التاريخ وابن
سعد والبغوي والبارودي وابن السكن وابن قانع وسمويه والطبراني والدارقطني
في الأفراد عن جبلة بن الأزرق. وهو دليل على أن الرقية لا تأثير لها، وأن
نفوس المتقين لا تؤثر فيها الأوهام. وما ورد من الرقى المأثورة فأدعية وثناء
على الله تعالى.
هذا صفوة ما يقال في تحرير المقام فأين منه ما عليه الدجالون من كتابة
الآيات لغير ما أنزلت له واتخاذها تمائم مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من
علق تميمة فقد أشرك) رواه أحمد والحاكم عن عقبة بن عامر. وقوله صلى الله
عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتَّوَلَة شرك) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه
والحاكم عن ابن مسعود. وقوله: (ثلاث من السحر الرقى والتِّوَلة والتمائم) رواه
الحاكم عن ابن مسعود وغير ذلك. ولا شك أن الرقى والتمائم في هذا الزمان من
نزعات الوثنية , فإنها ليست مبنية على اعتقاد أن القرآن يرفع الضرر ويجلب
النفع لذاته معجزة، وإنما العمدة عندهم على بركة الراقي وكاتب التمائم وتأثيره،
ولذلك لا يطلبون ذلك من كل عارف بالقرآن. فانظر كيف قلبوا الدين فتركوا
الاهتداء بالقرآن وهو قد أنزل: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2) بل زعموا أنهم
يعظمونه بترك الأسباب والسنن الإلهية التي أرشدهم إليها والاعتماد على
الانتفاع برسم حروفه وحملها.
* * *
المسألة الثانية
المهدي المنتظر
إذا قالوا: إن ابن خلدون كان مؤرخًا غير محدث فإننا نقول: إن السيد
أحمد زيني دحلان غير مُحَدث ولا مؤرخ ولا متكلم، إنما هو مقلد للمقلدين، ونقَّال
من كتب المتأخرين، ينتصر للعامة وينتصرون له لشهرته بالعلم بتقليده وظيفة إفتاء
الشافعية في مكة بالشرف الذي يخضع لصاحبه أكثر العامة وإن كان أميًّا. وعجيب
من منتمٍ للعلم ينكر على المؤرخ العلم بنقد رجال الحديث وهو فرع من فروع
التاريخ، ولقد كان ابن خلدون أوسع المؤرخين علمًا وأدقهم نقدًا وأشدهم إنصافًا،
وهو لم ينكر المهدي المنتظر لعدم الاطلاع على ما روي فيه ولا تقليدًا لأحد من
الناس , وإنما بنى إنكاره على قاعدتين: إحداهما نقد رواة أحاديثه بنقل ما قاله أئمة
الحديث في جرحهم، والثانية: عدم انطباق مزاعم الناس فيه على أصول العمران
وسنن الاجتماع البشري من قيام الأمور العامة بالعصبية، ومن أنكر شيئًا أو أثبته
بالدليل؛ فإنما يرد عليه بنقض أدلته لا بتقليد من هو دونه في كل علم بلا بينة
ولا برهان. فإن كان المنتقدون الآن يقلدون دحلان لأنه كان مفتيًا في مكة من عهد
قريب فابن خلدون قد ولي القضاء في مصر أيام كانت غاصة بأشهر علماء القرون
المتوسطة الذين يقلدهم زيني دحلان , فهو أحق بأن يقلد إذ الوظائف لم تكن تعطى
في ذلك الوقت لغريب مثله إلا إذا كان نادرة الزمان، ولكنها قد تعطى لأجهل
الجاهلين في دولة آل عثمان، فقد كان عندنا في طرابلس الشام قاض شرعي إذا
صلى وسبقه الإمام لا يعرف كيف يتم الصلاة منفردًا حتى إنه أخطأ في صلاة العيد.
ولا أريد بهذه الكلمة التعريض بأن السيد أحمد دحلان كان كهذا القاضي , وإنما
أريد التنبيه إلى أن ما يغتر به العامة من المناصب لا سيما في البلاد المشرفة ليس
موضعًا للغرور.
نحن لا نحكم على مستقبل الزمان باستحالة ظهور زعيم للمسلمين أو إمام
عظيم يخرجون على يديه من ظلمات البدع والجهل إلى نور الهداية والعلم والعمل
النافع، بل نرجو هذا من فضل الله بتوفيق المسلمين للاستعداد لقبول ذلك , فإن الله
تعالى إذا أراد أمرًا هيأ أسبابه، ولكننا نقول: إنه لا دليل على أن الله تعالى كلف
المسلمين باعتقاد ظهور مصلح فيهم معروف باسمه (المهدي) ووصفه ونسبه
أوجب عليهم طاعته، وسجل عليهم أن يبقوا في الضعف والجهل والبدع والشقاء
إلى أن يظهر فيهم ويخرجهم من ذلك كما يظن الجماهير من المسلمين منذ قرون فإن
هذا الاعتقاد كان آفة عليهم في دينهم ودنياهم، ولو كلفهم الله تعالى ذلك؛ لأنزل فيه
قرآنًا أو أمر نبيه بأن يبينه للناس بيانًا شافيًا على أنه عقيدة دينية، ولو فعل لنقل
ذلك بالتواتر قرنًا بعد قرن , ودونوه في كل عقيدة وكل كتاب حديث , ولما أهمله
مالك في مُوَطَّئِهِ والبخاري في صحيحه، ولما كان رواة خبره محصورين في فرقة
واحدة من المسلمين (وهي الشيعة) فلم يوجد له سند إلا من طريقها، ولما كانت
الروايات فيه مضطربة يثبت بعضها ما ينفيه الآخر، ولما سكت علماء أهل السنة
عن الطعن في منكره، ومن أراد أن يحكم في هذه المسألة حكمًا صحيحًا فعليه أن
يجمع كل ما رووه فيها من الأخبار مرفوعًا وموقوفًا ومرسلاً، ومن الآثار خصوصًا
ما عزي منها إلى آل البيت عليهم الرضوان والسلام. إن يفعل يظهر له فيها من
الاضطراب والتناقض والتعارض ومن لحن العبارات وأساليبها ما يجزم معه بأنها
موضوعة , وأن كثرتها وتعدد طرقها لا يزيدها إلا وهنًا ووهًى.
أمثل الرويات فيه ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن فمن دونهم من الكلم
المختصر , وفي بعضها أنه من ولد فاطمة , وفي بعض آخر أنه من ولد العباس،
وفي بعضها أنه يعيش ستًا أو سبعًا أو ثمانيًا أو تسعًا , وفي بعض آخر يعيش خمسًا
أو سبعًا أو تسعًا بالأوتار , وفي بعض آخر يعيش سبعًا بالجزم , وفي بعض تسعًا
بالجزم، وفي بعض آخر عشرًا بالجزم , وفي بعضها أنه يلي أمر الناس ثلاثين
سنة أو أربعين (ولا خير في الحياة بعده) ، وفي بعض آخر أن بعده عيسى وزمنه
خير من زمنه , وفي بعضها أن عيسى ينزل في عهده ويصلي وراءه , وفي بعض
آخر: (لن تهلك أمة أنا في أولها وعيسى ابن مريم في آخرها والمهدي في أوسطها)
وهو يناقض ما قبله , وفي بعضها: (لا مهدي إلا عيسى) وفي بعضها أن مولده
المدينة ومهاجره بيت المقدس. في بعض آخر أنه يتوجه إلى بيت المقدس فلا يبلغه
حتى يموت، وفي بعضها أنه آدم (أسمر) ضرب من الرجال، وفي بعض آخر:
وجهه كالكوكب الدري - إلى غير ذلك من الاضطراب والاختلاف.
كل هذا في الروايات التي رواها أهل السنة عن الشيعة، ومما اختص الشيعة
بروايته من الآثار عن علي - كرم الله وجهه - أنه قال في المهدي: (يرفع
المذاهب فلا يبقى إلا الدين الخالص يبايعه العارفون من أهل الحقائق عن شهود
وكشف وتعريف إلهي) ثم ذكر أن أمه اسمها نرجس وهي من أولاد الحواريين.
وأنت تعرف أنه لم يكن في زمنه كرم الله وجهه مذاهب , وأن لفظ الشهود والكشف
من اصطلاح الصوفية بعده. ومن رواياتهم: أن أبا نعيم جاء أبا جعفر الصادق
عليه السلام فسأله: هل هو قائم آل محمد الذي ينظرونه؟ فقال: كلنا قائم بأمر
الله. فسأله: هل هو المهدي؟ فقال: كلنا مهدي إلى الله. حتى سأله: أنت الذي
يقتل أعداء الله ... إلخ، فقال: كيف أكون أنا وقد بلغت خمسًا وأربعين وإن
صاحب هذا الأمر أقرب عهدًا باللبن مني وأخف على ظهر الدابة. وروي نحوه
عن غيره منهم. ورووا عنه أنه قال: قام قائم ولد العباس عند (المص) ويقوم
قائمنا عند انقضائها (بالمرا) : أي سنة 271 هـ وهو دليل على أنهم كانوا
ينتظرونه يومئذ، , والسبب في هذا معروف , وهو محاولة تأليف عصبة للقيام
بأمر الملك وجعل الخلافة في ولد الحسين.
وجملة القول أن هذه المسألة إذا أريد إدخالها في الدين كانت من مسائل
العقائد. والعقائد يجب الاعتماد فيها على اليقين، ولم تصل هذه الأحاديث الواردة
فيها إلى إفادة غلبة الظن للعلم بمنشئها , والمطاعن في أسانيدها , والاضطراب
والتناقض في مدلولاتها , ولذلك لم يذكرها المتكلمون في كتب العقائد , فلا حرج
على من أنكرها. وقد أضر المسلمين فشو القول بها إذ ظهر فيهم كثيرون بهذه
الدعوى في القديم والحديث فسفكوا الدماء، وأفسدوا عقائد كثير من المسلمين
وآخرهم مهدي السودان، والباب وخلفاؤه من أهل إيران. فعلى المسلمين أن لا
يتوكلوا على أمر إن صح بعض الأحاديث فيه أو حسن كان ظنيًّا ويَدَعُوا اليقيني من
أسباب القوة والسيادة , وهو التهذيب الصحيح بالرجوع إلى سيرة السلف في الدين ,
والعلم النافع في الدنيا والآخرة , والأعمال التي توفر المال وتحمي الحوزة. فإذا قام
فيهم مع هذا قائم هاد مهدي كانوا مستعدين للاتحاد على يديه , وإلا فإن السيادة
والسعادة يستحيل وجودهما مع استدبار طريقهما الذي سنه الله لهما , والله الموفق
والمعين.
***
المسألة الثالثة
علم الغيب للأنبياء عليهم السلام
جرت سنة الله تعالى بأن يكون غلو الناس في إطراء رجال الدين من الأنبياء
وورثتهم في العلم والعمل على نسبة الجهل بالدين , فإنك تجد الفاسق من الشعراء
المتأخرين يطري بعض المشهورين بالعلم أو الصلاح بما لم يرد عشر معشاره عن
شعراء الصحابة في النبي عليه الصلاة والسلام. وقد طوح الجهل بالناس إلى إسناد
خصائص الألوهية إلى الأنبياء والصلحاء خلافًا لنصوصهم الصريحة في ذلك،
ولكن منهم من صرح بإطلاق لقب الألوهية على أنبيائهم، ومنهم من صرح بمعناه
دون لفظه. وإن واحدهم ليقول الكلمة في ذلك فتجعل أصلاً في الدين , ويحرف
لأجلها كلام الله وكلام رسوله عن مواضعه ويحمل على غير محمله.
علمنا الله تعالى في كتابه وبسيرة خاتم رسله أن الأنبياء بشر , وأنهم عبيد لله
تعالى لا يمتازون على غيرهم إلا بالوحي الذي يلقيه سبحانه وتعالى إليهم ليبلغوه
للناس, ولا يكتموه ولوازمه. فهل يجوز لنا أن نتقالَّ هذه النعمة الكبرى
ونستصغرها فنضيف إليها شيئًا من عند أنفسنا مع قيام الدليل على خلافه , أو مع
عدم الدليل عليه؟
يقول الله عز وجل: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ
وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النمل: 65) أي فإنه هو الذي يعلمه وحده. روى
أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث عائشة رضي الله
عنها أنها قالت: (من زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم يخبر الناس بما يكون
في غد - وفي رواية يعلم ما يكون في غد - فقد أعظم على الله الفرية , والله تعالى
يقول: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} (النمل: 65)
فكهذا كان الصحابة يفهمون ويعتقدون، فهل كانوا ضالين في فهمهم واعتقادهم
حتى جاء الصاوي في المتأخرين الذين ليس لهم من العلم إلا التقليد والأماني
فوضعوا لنا العقيدة الصحيحة؟ حاش لله! بل كان أزواج رسول الله وأصحابه أعلم
الناس بدين الله وأفهمهم لكتابه، وليس مثل الصاوي من مقلدة المتأخرين بحجة في
فروع الأحكام الفقهية، فضلاً عن العقائد الدينية، بل ليس لأحد أن يقلد في عقيدته
إمامًا مجتهدًا، فكيف يقلد ضعيفًا مقلدًا.
علم الغيب لا نهاية له لأن منه علم المستقبل الذي لا نهاية له , وليس في
وسع مخلوق ولا استعداده أن يحيط علمًا بما لا نهاية له. فعلم الغيب كله محال
عقلاً على البشر والملائكة وجميع المخلوقين، وهو ممنوع نقلاً بنص الآية وما
يؤيدها من الآيات الكثيرة , فلو ورد نص بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أعطي علم ما كان وما يكون من الغيب؛ لوجب تأويله ليوافق العقل والنقل بأن يقال:
أعطي علم ما كان في الماضي من سيرة الأنبياء مثلاً وما يكون من أمر العصاة
والطائعين في الآخرة من العذاب والنعيم لأن هذا العلم هو الذي يتعلق ببعثته.
فكيف ولم يرد أن الله تعالى أطلعه على كل غيبه نخالف العقل والنقل، ونقول
على الله تعالى ورسوله ما لا نعلم! ، وقد نهانا الله تعالى عن ذلك , وعَدَّه مع
الشرك في قرن؟
لا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم كل الغيب لأن هذا ممنوع عقلاً
ونقلاً كما علمت , ولا نقول: إن الله تعالى لم يطلعه على شيء من الغيب لأن
النص ورد بأنه أطلعه وأطلع غيره من الرسل. قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ
يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26-27) إلى قوله:
{لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} (الجن: 28) فعلم أنه يظهرهم على
الغيب الذي يتعلق به تبليغ الرسالة , وذلك مشروح في القرآن , ومنه الملائكة
والجنة والنار والحساب وغير ذلك , فالواجب في هذا المقام الوقوف عند النص لا
نتعداه بزيادة ولا نقصان لأنه ليس للعقل مجال في عالم الغيب فيقيس ويستنبط. فما
كان من النصوص قطعيًّا كالآيات الكريمة المصرحة بالأخبار عن الأنبياء السابقين
وأممهم , وعن الآخرة وما فيها , وعن الملائكة والجن، وعن ما وعد الله به هذه
الأمة من الاستخلاف في الأرض فإننا نؤمن به ونقول بكفر من أنكره. وما كان
منها مرويًا في أخبار الآحاد فلا يكلف كل مؤمن بعلمه والإيمان به، ولكن من ثبتت
عنده الرواية واطمأن لسندها فإنه بالطبع يعتقدها , ولا نوجب عليه رفضها لأنها
غير متواترة إلا إذا عارضت دليلاً قطعيًّا كما لا توجب على غيره قبولها هذا هو
الأصل الذي لا نزاع فيه.
وأحاديث الآحاد الواردة بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالغيب كثيرة، وقد
ظهر تأويل المشهور منها كالإخبار بأن الله يفتح على المسلمين مصر والشام
وغيرهما من الأقطار , والإخبار بأن عمارا تقتله الفئة الباغية , وأن الحسن يصلح
الله به بين فئتين من المسلمين , وأن فاطمة عليها السلام أول أهله لاحقًا به بعد
موته , وغير ذلك. ومن هذه الروايات الآحادية ما يصح سنده، ومنها الضعيف
والموضوع، ولا حاجة لنا إلى الكذب لإثبات فضله وخصائصه عليه الصلاة
والسلام , فإن الثابت منها ليس بقليل , وحسبنا قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ
عَظِيمٍ} (القلم: 4) وقوله: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (النساء:
113) وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وغير
ذلك. وقد ذكر عليه السلام خصائصه ولم يرد فيها برواية صحيحة ولا ضعيفة أن
الله تعالى أطلعه على ما كان من الأزل , وما يكون في الأبد. فهل يحل لنا أن
نكذب على الله تعالى بغير علم , وندعي أن ذلك من الإيمان , والله تعالى يقول:
{إنما يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُون} (النحل: 105) .
وأما ما ورد من أن الجنة والنار مثلتا له في عرض الحائط أو قبلة الجدار،
ومن أنه زويت له الأرض فرأى ما يصل إليه ملك أمته منها فلا يدل على أن الله
تعالى أطلعه على ما كان وما يكون مما ليس في استعداد البشر الاطلاع عليه؛ إذ لا
نهاية له , ولا هو مما يتعلق به تبليغ الرسالة وهداية الخلق , والنصوص تنافيه.
فقول الصاوي: (والذي يجب الإيمان به ... إلخ) ، مردود لأنه زيادة عقيدة
من عقائد الدين. واللهِ قد أتم اللهُ الدين وأكمله على لسان رسوله صلى الله عليه
وآله وسلم , فلا نسلم لأحد أن فيه نقصًا يتممه الصاوي أو الجمل أو من هو أكبر
شهرة من الصاوي والجمل كالعلماء والأئمة المجتهدين (وحاشاهم من ذلك) .
ومن العجائب أن يتجرأ مثل هذا الرجل على زيادة العقيدة في الدين ثم يجعلها
إشكالاً على القرآن يستبيح به تحريفه بالتأويل لإثباتها , فيزعم أن أمر الله تعالى
لنبيه أن يقول: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (الأعراف: 188) ليس بيانًا لعقائد الدين , وإنما هو أمر بالتواضع! ! وهل يكون
التواضع بالكلام في العقيدة بخلاف الواقع؟ ؟ إن فرضنا أن هذا يجوز أن يقع
فكيف يتحقق التواضع فيه , والناس لم يعلموا أنه يعلم الغيب فيحملوا كلامه على
التواضع , لا على ظاهره؟ أم كيف يتحقق , وقد ورد نفي العلم بالغيب مورد
الاستدلال والحجة. ومن يقول تواضعًا: إنني لا أعلم كذا؛ لا يقيم الحجة على عدم
علمه به. ثم إنه ينافي دعوى التواضع قوله بعد ذلك: {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ
لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) فهو ينفي أن يكون له خصوصية غير التبليغ
بالإنذار والتبشير كأنه يقول: إن الله تعالى أمرني أن أبلغكم بأنني لا أمتاز عليكم
بصفات الألوهية كالقدرة على النفع والضر وعلم الغيب و {إنما أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ
يُوحَى إِلَيَّ} (الكهف: 110) والقرآن في جملته وتفصيله مؤيد لهذه العقيدة ,
فتأويل الآية هذا التأويل البعيد لأجل حملها على هذا الاعتقاد الجديد؛ هو من تفسير
القرآن بالرأي , وفيه ما فيه من الوعيد، ولا يمكن لعاقل ولا مجنون أن يقول مثله
في سائر الآيات كقوله تعالى: {لاَ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْب} (النمل: 65) فاتقوا الله أيها المؤمنون، ولا يغرنكم كل ما كتبه الميتون، ولا
تقولوا على الله ما لا تعلمون، وإنني في خاتمة القول أذكر القارئ بإجماع الأمة
على أن العقائد لا اجتهاد فيها ولا يؤخذ فيها باستنباط المستنبطين، وإنما يجب فيها
البرهان المؤدي إلى اليقين، وهذا الرأي الذي أورده الصاوي لم يقم البرهان العقلي
والنقلي إلا على خلافه كما تقدم , فنحن نبرأ منه. ونسأله تعالى أن يغفره له، فإنه
لم يقله إلا بحسن نية كما هو شأن كثير من الذين شرعوا للناس من الدين ما لم يأذن
به الله، ونحمده تعالى أن حفظ أشهر المفسرين من هذا التأويل , إذ لو ابتلي مثل
ابن جرير، والبيضاوي، والرازي بمثل هذا القول لتعسر محوه من نفوس العامة.
وسنشبع القول في علم الغيب عند الكلام على كشف الأولياء في بقية مقالات
الكرامات والخوارق إن شاء الله تعالى.
__________(7/388)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تأثير الجرائد وحالها في مصر
لا نعرف في هذا العصر شيئا يؤثر في النفوس تأثير الجرائد فهي التي تقيم
الأحزاب في بلاد المدنية وتقعدها وتقنعها بما تشاء من الأمور العامة والخاصة.
لذلك يستعين بها الملوك والوزراء ورؤساء الأحزاب على الأعمال العامة كما
يستعين بها الأفراد على مقاصدهم الخاصة كترويج السلع بإعلان منافعها فيها ,
وللجرائد في مصر من التأثير نحو ما لها في غيرها , ولكنها قاصرة في مصر كما
أن الأمة قاصرة , فهي تشغل الجمهور في الغالب بما يضر ولا ينفع , وتشغل
الناس بأهواء الناس وتعلق آمالهم بالأوهام، وترى الناس على كثرة ذمهم
لها منقادين بزمامها , فما تكبره؛ يستكبرونه وإن كان صغيرًا، وما تصغره؛
يستصغرونه وإن كان كبيرًا. وما تهمل البحث فيه يهملونه كأن لم يكن شيئًا مذكورًا.
تجد ما تتفق عليه الجرائد يتفق عليه الأكثرون , وما تختلف فيه فهم فيه مختلفون،
كلٌّ يؤيد ناطقًا ويتبع ناعقًا، فلو أن لهذه الجرائد مذاهب نافعة، ومقاصد عالية
ثابتة، لبلغت بها من ترقية الأمة ما شاءت. ولكنها في الأكثر قد أضرت الأمة
بتجريء الصغير على الكبير , وتضيع زمن الجمهور بالاشتغال بسفساف الأمور ,
وصرف الوجوه عن تربية الأمة على الاستقلال، وتعليلها بكواذب الأماني الآمال،
ولا غرض لها من ذلك إلا الجاه والمال.
يكتب صاحب الجريدة بحسب هواه , ويضحك من الناس غاشًّا إياهم بأنه
يخدمهم، ولا عجب إذا راجت على الغافلين دعواهم أن إطراء الأمراء والحاكمين
من الخدمة الوطنية , ولكن العجب العجاب رواج دعواهم خدمة الدين الذي هم به
جاهلون، وعن صراطه ناكبون، وقد ملأ الآفاق في هذه الأيام صياح بعض
الجرائد التي تسمي نفسها إسلامية في الشكوى من زميلهم ومحسودهم صاحب المؤيد
والنيل من عرضه , والطعن بنسبه , والتحريض على ترك جريدته انتصارًا للدين
بزعمهم؛ لأنه عقد على بنت عقدًا شرعيًّا قابلاً للفسخ بطلب الولي على إثبات عدم
كفاءته , وزعموا أنهم يريدون بذلك خدمة الدين والدفاع عنه، على أن إذا قُدِّرَ
الأمر مرفوعًا إلى المحكمة الشرعية فهلا انتظروا ما تحكم به , فإن أجازت العقد
وحكمت بالكفاءة , وإلا أطلقوا ألسنة أقلامهم على صاحب المؤيد لإنشائه عقدًا
يحتمل الفسخ غرورًا أو جهلاً بعاقبته، أو اكتفوا بذم العمل من الوجهة الاجتماعية،
وجعلوه كعادتهم قادحًا في الوطنية، وتركوا الكلام في الدين للعاملين به من العالمين.
إذا كانوا يغارون على الدين كما زعموا، فلماذا لا يتعلمون عقائده وأحكامه فقد
جاء في جريدة اللواء أنه لم ينفذ حكم المحكمة بالحيلولة بين صاحب المؤيد وزوجته
تكون إرادة الله تعالى معطلة! ! ولو جاز أن تكون الإرادة معطلة؛ لجاز أن تكون
القدرة كذلك لأن القدرة تتعلق بما تتعلق به الإرادة قطعًا، ولكن جريدة اللواء تجعل
الإرادة الإلهية بمعنى الإرادة السلطانية يجوز أن تنفذ , ويجوز أن لا تنفذ، فهلا
تعلم أصحابها عقيدتهم وغاروا عليها. وإذا كانوا يغارون علي أحكام الدين كما
يزعمون فلماذا يمدحون ويطرون الأعمال المجمع على تحريمها وكفر مستحلها
كالمرقص الذي يكون في قصر الأمير بين النساء والرجال مع الدعوة إلى شرب
الخمر جهارًا، وإذا كانوا يغارون على كرامة البنات أن يفعلن ما لا يليق بشرفهن
من التزوج بدون إذن آبائهن كما يزعمون، فلماذا قام زعيمهم صاحب جريدة اللواء
يندد بعمل محافظ مصر السابق عندما أراد التشديد على النساء المتهتكات في
الشوارع والأسواق؟ ! وتبعه في ذلك كثير من الجرائد حتى اضطروا الحكومة إلى
منع المحافظة من ذلك , وعاد النساء إلى تبرجهن المحرم بعدما كدن يقلعن عنه؟
فآية الصدق في المدافعة على الدين أن يكون المدافع عالمًا عاملاً بالدين لا يحابي
فيه كبيرًا ولا صغيرًا , ولا سلطانًا ولا أميرًا، وهؤلاء لا يتعلمون ولا يعملون،
ولكنهم يحلون بأهوائهم ويحرمون، ويرتكبون سبعين منكرًا بدعوى إزالة منكر
واحد ولا يبالون. فاعتبروا بمرشديكم أيها المسلمون.
__________(7/399)
غرة جمادى الآخر - 1322هـ
13 أغسطس - 1904م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع لما في الجزء السابع
(الوجه التاسع والستون)
قولكم: إنكم في تقليدكم بمنزلة المأموم مع الإمام المتبوع مع التابع فالركب
خلف الدليل؛ جوابه: إنَّا والله حولها ندندن، ولكن الشأن في الإمام والدليل
والمتبوع الذي فرض الله على الخلائق أن تَأْتَمَّ به وتتبعه , وتسير خلفه، وأقسم الله
سبحانه بعزته أن العباد لو أتوه من كل طريق واستفتحوا من كل باب لم يفتح لهم
حتى يدخلوا خلفه. فهذا لعمر الله هو إمام الخلق ودليلهم وقائدهم حقًّا , ولم يجعل
الله منصب الإمام بعده، إلا لمن دعا إليه ودل عليه وأمر الناس أن يقتدوا به
ويأتموا به ويسيروا خلفه , وأن لا ينصبوا لنفوسهم متبوعًا ولا إمامًا ولا دليلاً
غيره , بل يكون العلماء مع الناس بمنزلة أئمة الصلاة مع المصلين كل واحد يصلي
طاعة لله وامتثالاً لأمره وهم في الجماعة متعاونون متساعدون، وبمنزلة الوفد مع
الدليل كل واحد يحج طاعة لله وامتثالاً لأمره , لا أن المأموم يصلي لأجل كون
الإمام يصلي، بل هو يصلي؛ صلى إمامه أو لا. بخلاف المقلد فإنه إنما ذهب لقول
متبوعه لأنه قاله لا لأن الرسول قاله، ولو كان كذلك؛ لدار مع الرسول أين كان ولم
يكن مقلدًا. فاحتجاجهم بإمام الصلاة ودليل الحاج من أظهر الحجج عليهم، يوضحه.
(الوجه السبعون)
إن المأموم قد علم أن هذه الصلاة هي التي فرضها الله على عباده، وأنه
وإمامه في وجوبها سواء، وأن هذا البيت هو الذي فرض الله حجه على كل من
استطاع إليه سبيلاً، وأنه هو والدليل في هذا الفرض سواء فهو لم يحج تقليدًا
للدليل, ولم يصل تقليدًا للإمام، وقد استأجر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -
دليلاً يدله على طريق المدينة لما هاجر الهجرة التي فرضها الله عليه , وصلى خلف
عبد الرحمن بن عوف مأمومًا. والعالم يصلي خلف مثله ومن هو دونه , بل
خلف من ليس بعالم , وليس ذلك من تقليده في شيء، يوضحه.
(الوجه الحادي والسبعون)
إن المأموم يأتي بمثل ما يأتي به الإمام سواء، والركب يأتون بمثل مايأتي به
الدليل , ولو لم يفعلا ذلك لما كان هذا مُتَّبِعًا فالمتبع للأئمة هو الذي يأتي بمثل ما
أتوا به سواء من معرفة الدليل وتقديم الحجة وتحكيمها حيث كانت ومع من كانت فهذا
يكون متبعًا لهم، وأما مع إعراضه عن الأصل الذي قامت عليه إمامتهم، ويسلك
غير سبيلهم ثم يدعي أنه مؤتم بهم فتلك أمانيُّهم ويقال لهم: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن
كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) .
(الوجه الثاني والسبعون)
قولكم: إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فتحوا البلاد
وكان الناس حديثي عهد بالإسلام , وكانوا يفتونهم ولم يقولوا لأحد منهم: (عليك
أن تطلب الحق في معرفة هذه الفتوى بالدليل) ؛ جوابه: إنهم لم يفتوهم بآرائهم وإنما
بلغوهم ما قاله نبيهم وأمر به فكان ما أفتوهم به هو الحكم وهو الحجة، وقالوا
لهم: هذا عهد نبينا إلينا , وهو عهدنا إليكم فكان ما يخبرونهم به هو نفس الدليل
وهو الحكم فإن كلام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الحكم وهو دليل
الحكم وكذلك القرآن، وكان الناس إذ ذاك إنما يحرصون على معرفة ما قاله
نبيهم وفعله وأمر به , وإنما تبلغهم الصحابة ذلك فأين هذا من زمان إنما يحرص
الناس فيه على ما قاله الآخر فالآخر , وكلما تأخر الرجل أخذوا كلامه وهجروا أو
كادوا يهجرون كلام من فوقه حتى تجد أتباع الأئمة أشد الناس هجرًا لكلامهم،
وأهل كل عصر إنما يقضون ويفتون بقول الأدنى فالأدنى إليهم، وكلما بَعُد العهد
ازداد كلام المتقدم هجرًا ورغبة عنه حتى إن كتبه لا تكاد تجد عندهم منها شيئًا
بحسب تقدم زمانه [1] ، ولكن أين قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - للتابعين: لينصب كل منكم لنفسه رجلاً يختاره ويقلده دينه، ولا يلتفت إلى
غيره، ولا يتلقى الأحكام من الكتاب والسنة، بل من تقليد الرجال فإذا جاءكم عن
الله ورسوله شيء وعن من نصبتموه إمامًا تقلدونه (قول يخالفه) فخذوا بقوله
ودعوا ما بلغكم عن الله ورسوله؟ فوالله لو كشف الغطاء وحقت الحقائق لرأيتم
نفوسكم وطريقكم مع الصحابة كما قال الأول:
نزلوا بمكة في قبائل هاشم ... ونزلت بالبيداء أبعد منزل
وكما قال الثاني:
سارت مُشَرِّقًة وسرت مُغَرِّبًا ... شتان بين مُشَرِّق ومُغَِّرب
وكما قال الثالث:
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني
(الوجه الثالث والسبعون)
قولكم: إن التقليد من لوازم الشرع والقدر , والمنكرون له مضطرون إليه
ولا بد , كما تقدم بيانه من الأحكام، جوابه: إن التقليد المنكر المذموم ليس من
لوازم الشرع وإن كان من لوازم القدر , بل بطلانه وفساده من لوازم الشرع كما
عرف بهذه الوجوه التي ذكرناها وأضعافها، وإنما الذي من لوازم الشرع المتابعة.
وهذه المسائل التي ذكرتم أنها من لوازم الشرع ليست تقليدًا، وإنما هي متابعة
وامتثال فإن أبيتم إلا تسميتها تقليدًا فالتقليد بهذا الاعتبار حق وهو من الشرع , ولا
يلزم من ذلك أن يكون التقليد الذي وقع النزاع فيه من الشرع ولا من لوازمه، وإنما
بطلانه من لوازمه، يوضحه.
(الوجه الرابع والسبعون)
إن ما كان من لوازم الشرع فبطلان ضده من لوازم الشرع , فلو كان التقليد
من لوازم الشرع لكان بطلان الاستدلال واتباع الحجة في موضع التقليد من لوازم
الشرع , فإن ثبوت أحد النقيضين يقتضي انتفاء الآخر وصحة أحد الضدين توجب
بطلان الآخر. ونحرره دليلاً، فنقول: لو كان التقليد من الدين لم يجز العدول عنه
إلى الاجتهاد والاستدلال؛ لأنه يتضمن بطلانه. فإن قيل: كلاهما من الدين
وأحدهما أكمل من الآخر فيجوز العدول من المفضول إلى الفاضل؛ قيل: إذا كان
قد انسد باب الاجتهاد عندكم وقطعت طريقه وصار الفرض هو التقليد؛ فالعدول عنه
إلى ما قد سد بابه وقطعت طريقه يكون عندكم معصية وفاعله آثم، وفي هذا من
قطع طريق العلم وإبطال حجج الله وبيناته , وخلو الأرض من قائم لله بحججه ما
يبطل هذا القول ويدحضه. وقد ضمن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه
لاتزال طائفة من أمته على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم
الساعة، وهؤلاء هم أولو العلم والمعرفة بما بعث الله به رسوله فإنهم على بصيرة
وبينة بخلاف الأعمى الذي قد شهد على نفسه بأنه ليس من أولي العلم والبصائر.
والمقصود أن الذي هو من لوازم الشرع فالمتابعة والاقتداء وتقديم النصوص
على آراء الرجال وتحكيم الكتاب والسنة في كل ما تنازع فيه العلماء. وأما
الزهد في النصوص والاستغناء عنها بآراء الرجال وتقديمها عليها , والإنكار
على من جعل كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة نصب عينيه , وعرض
أقوال العلماء عليها ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة فبطلانه
من لوازم الشرع ولا يتم الدين إلا بإنكاره وإبطاله، فهذا لون والاتباع لون والله
الموفق.
(الوجه الخامس والسبعون)
قولكم: كل حجة أثرية احتججتم بها على بطلان التقليد فأنتم مقلدون
لحملتها، ورواتها ليس بيد العالم إلا تقليد الراوي ولا بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد، ولا
بيد العامي إلا تقليد العالم إلى آخره. جوابه ما تقدم مرارًا من أن هذا الذي
سميتموه تقليدًا هو اتباع أمر الله ورسوله، ولو كان هذا تقليدًا لكان كل عالم على
وجه الأرض بعد الصحابة مقلدًا , بل كان الصحابة الذين أخذوا عن نظرائهم
مقلدين، ومثل هذا الاستدلال لا يصدر إلا من مشاغب أو ملبس يقصد لبس
الحق بالباطل. والمقلد لجهله أخذ نوعًا صحيحًا من أنواع التقليد، واستدل به على
النوع الباطل منه لوجود القدر المشترك , وغفل عن القدر الفارق , وهذا هو القياس
الباطل المتفق على ذمه وهو أخو هذا التقليد الباطل كلاهما في البطلان سواء.
وإذا جعل الله سبحانه خبر الصادق حجة وشهادة العدل حجة لم يكن متبع الحجة مقلدًا.
وإذا قيل: إنه مقلد للحجة فحيهلاً بهذا التقليد وأهله وهل ندندن إلا حوله، والله
المستعان.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: إن السبب الطبيعي للتقليد هو ثقة الإنسان بمن يراه هو أعلم منه، ولثقة المتأخرين بمشايخهم يأخذون أقوالهم بالقبول، وإن خالفت أقوال الأئمة مع اعتراف شيوخهم بأنهم مقلدون , ويحتجون على هذا بما يحتج به المشايخ على وجوب تقليد الأئمة وتقديم أقوالهم على نصوص الشارع، وهو أنهم أعلم بكلام الشارع منا , فالشافعية في مصر مثلا يقولون: قال الشرقاوي إن ميضة السيد البدوي مستثناة من المياه النجسة، والمتغيرة فيجوز الوضوء منها , فإذا قيل لهم: هذا مخالف لكلام الشافعي وأصحابه، قالوا: هو أعلم بكلامهم منا , وقد قال ما قال! ! وهكذا أتباع كل طائفة فهم لا يقلدون الأئمة إلا بما يجيزه مشايخهم فهم مقلدون للمقلدين , وهذا باطل بالإجماع , ولكن ماذا تقول للمقلد الذي يستدل بجهله ولا يقبل الدليل.(7/409)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السؤال والفتوى
فناء الأجساد والحشر
إشكال
(س51) مصطفى أفندي رشدي المورلي بنيابة (الزقازيق) قلتم عند
الرد في المنار على السائل هل الحشر بالأجساد أو الأرواح فقط: إنه بالروح؛ لأن
الجسم يفنى كل عشرات من السنين كذلك الدم في كل شهور (كذا) فإذا قلنا: إن
الجسم يتغير في حال الحياة كما أثبته الطب فلماذا نرى الوشم الأخضر ثابتًا على
الأجسام طول العمر من الصغر إلى الكبر
(ج) إننا لم نقل بأن الحشر يكون بالأرواح فقط كما يفهم من السؤال، بل
صرحنا بأن الحشر يكون بالروح والجسد، ولكن لا يجب أن يكون الجسد الذي
يعود هو الذي كانت الأعمال التكليفية به؛ لأن هذا الجسد لا ثبات له كما قلنا بل هو
يتحلل في كل بضع سنين، ويبدل بغيره تدريجًا، ويبقى الإنسان كما هو , فإذا عاد
في الآخرة بغير هذا الجسد لا يستلزم ذلك أن تكون الحقيقة قد تغيرت؛ لأن الحقيقة
هي الروح، وما الجسم إلا ثوب لها كما أوضحناه هناك فليراجع , أما الإشكال الذي
أورده السائل على ما تقرر في العلم من تبدل جسد الإنسان مرات كثيرة؛ فجوابه
أنه كلما انحلت دقيقة من دقائق الجسم تخلفها دقيقة حية مثلها كمًّا وكيفًا، والوشم من
الكيفيات التي تنتقل من الدقائق الميتة إلى الدقائق الحية عند التحليل والتركيب؛
لأنه ليس صبغًا على ظاهر الجلد، بل هو مما يتأثر به الدم والعصب، فيكون
كاللون الطبيعي كذلك آثار الجروح في البدن تكون ثابتة فالخلايا الحية التي تخلف
المنحلة في موضع الاندمال تأخذ شكلها الأول، وعلى ذلك فقس.
***
الحيلة والتوهم
في دعوى مشاهدة أشباح الشهداء
(س52) م. غ، في (سوريا) قرأت في العدد الخامس من منار هذه
السنة جوابكم على السؤال التاسع عشر؛ فذكرني واقعة جرت معي وأنا في السابعة
أو الثامنة من العمر فأحببت أن أقصها على سيادتكم لأرى رأيكم فيها.
كنت في مدرسة، وكان الطريق إليها قريبًا من مقبرة , فكان دأبي أن أمر
على المقبرة كل يوم صباح مساء لأقرأ الفاتحة لشهيد فيها يسمونه زين العابدين،
فيومًا أنا واقف في قبة هذا الشهيد رأيت يدًا مجردة عن الجسم تدور فوق الصندوق
الموضوع على قبره , فحدقت ببصري برهة لأرى بقية الجسد فلم أر شيئًا فدهشت
حينئذ , واستولى عليّ الجزع وفررت هاربًا إلى البيت وقصصت ما رأيته على
والدتي، ولم أزل أتذكر ذلك كلما مررت بطريق ذلك الشهيد , فالمرجو من فضيلتكم
كشف القناع عن هذا الأمر، على أنكم تعلمون حق العلم أنني من أشد الناس إنكارًا
للبدع والخرافات والأوهام والضلالات لا أخاف في ذلك لومة لائم؛ لأني أعتقد أن
المحاباة في دين الله غير جائزة، ولو لغرض صحيح كما أوضحتموه في المنار
الزاهر غير مرة.
(ج) يزعم الألوف من المصريين أنهم يرون أشباح الشهداء في البهنسا
تطوف في أعلى قبة هناك، وقد أراد بعض علماء الأزهر اكتشاف هذا الأمر الذي
يستند فيه العوام إلى المشاهدة؛ فذهب غير واحد إلى هناك غير مرة فتبين لهم أن
هذه الكرامة مصنوعة للمرتزقين هناك من السدنة، وأن الذي يُرى في القبة إنما هو
ظلال رجال يطوفون وقت الأصيل حول القبة في مكان يحاذي الكوى من أعلاها،
فيوهم السدنة النساء والأطفال ومن في حكمهم من الرجال أنها شخوص الشهداء،
حدثني بهذا الشيخ محمد بخيت العضو الأول في المحكمة الشرعية العليا , والشيخ
أبو الفضل الجيزاوي من مدرسي الدرجة الأولى في الأزهر كل على حدته، زاد
الأول اكتشاف حيلة أخرى , وهي أنهم يطلعون الناس في قبر هناك على رأس
مكسو بشعر طويل يزعمون أنه رأس شهيد لم يتغير بمرور القرون عليه , ولكن
الشيخ وصل إلى الرأس فإذا هو جمجمة قديمة بالية وإذا بالشعر قد ألصق عليها
حديثا بنحو صمغ أو غراء، لأجل التغرير والإغراء، ولهولاء الدجالين حيل كثيرة
في خداع الأغراء، وحسبك قصة أحمد المغربي السابقة في الاعتبار.
وهناك تعليل آخر لما يتراءى لبعض الناس من نحو الذي ظهر لكم , وهو أن
اشتغال الخيال بالشيء من هذا القبيل ينتهي أحيانًا بتمثل بعض الخيالات للمرء كأنها
محسوسة كما شرحنا ذلك في مبحث رؤية الأرواح من مقالات الخوارق والكرامات؛
فراجعه في مجلد المنار السادس فالأرجح عندي أن ما ظهر لكم من هذا القبيل،
ومنه ما نسب إلى الشيخ أحمد الرفاعي أو إلى الشيخ علي أبي شباك الرفاعي من
رؤية كف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقظة فهي رؤية خيالية لا حقيقية
حسية. على أن رؤية الأرواح غير مستحيلة عقلاً، ولكن العاقل لا يسلم بخلاف
مقتضى الظاهر إلا بدليل قطعي لا يحتمل التأويل , ودعوى رؤية أرواح الأولياء
وأجساد الشهداء كانت شائعة في كثير من بلاد أوربا في القرون المتوسطة التي
يسمونها المظلمة، فلما جاء عصر العلم والنور تلاشت تلك الدعاوي فلم يبق لها إلا
أثر ضعيف في بعض عامة القرى، وكذلك يكون في غير تلك البلاد فإن سنته
تعالى في جميع أصناف البشر واحدة، ثم إن المشتغلين بالعلم من الأوربيين يدعون
أنهم وصلوا أخيرًا إلى اكتشاف طريقة صناعية لاستحضار الأرواح ورؤيتها , وأن
بعض الناس أشد استعدادًا لها من بعض، فإن صح هذا كان طريقًا طبيعيًّا لتعليل
بعض المشاهدات، ولكنها لا تعد من قبيل الكرمات.
***
رائحة الأولياء ورؤيتهم
وشفاء المرضى برؤيتهم
(س53) أحمد زكي أفندي عبده (السويس) : قد اطلعت في الجزء الخامس
على جواب سؤال عنوانه (إثبات الولاية بالرؤى والأحلام) حملني على سؤال
حضرتكم عما يحصل في بعض البيوت التي فيها قبور تنسب إلى بعض أولياء الله
تعالى من الرائحة الذكية التي تحدث في ليال معلومة من كل شهر تقريبًا , على أنّي
شممت هذه الرائحة وما كان في البيت بخور ... وأذكر لحضرتكم أن وجيهًا
حدثني بأنه مرض منذ سنين مرضًا حار في علاجه الأطباء فعز الشفاء، ولم ينجح
الدواء، إلى أن رأى ذات ليلة وهو بين النائم واليقظان شخص ولي مدفون في البيت
دخل عليه ووضع يده على خده مدة قليلة، ثم رجع من حيث أتى، وما جاء
الصبح إلا وقد شفي من مرضه وعافاه الله، وأنه وصف اليد بأنها ليست يد آدمي
وأنها كوسادة ناعمة لينة محشوة قطنًا وضعت على خده ثم رفعت، أرجو
الإفادة عن هذه الحوادث وما يشاكلها من رؤية الولي المدفون في البيت يصلي أو
يسبح أو يتوضأ مما هو شائع أمره، ولكم من الله الأجر.
(ج) ما من مسألة من المسائل التي يتضمنها هذا السؤال إلا وقد تقدم في
المنار ما يفهم منه تعليلها إلا الرائحة، ولكن أكثر الناس يحبون أن نكتب لكل
جزئية تعليلاً؛ فأما الرائحة الذكية فسببها أن بعض الناس يضعون البخور أو
الأعطار عند قبر الولي في الليالي المعهودة بلا شك، وهو أمر قد عرفناه واختبرناه،
ولقد حدث لنا ما هو أبعد منه عن التأويل , وهو أننا كنا في أيام سلوك الطريقة
النقشبندية نشم في وقت الذكر رائحة ذكية جدًّا تأتي نفحة بعد نفحة ثم تذهب، ولقد
كنا نعللها أولاً إذا حدثت ونحن في حلقة الذكر الاجتماعي التي يسمونها الختم، بأن
بعض الحاضرين فتح زجاجة عطرية ثم سدها ونحن لا نراه لأن أعيننا تكون
مغمضة مدة الختم، ثم إن ذلك صار يحدث لنا ونحن نذكر الله تعالى ولو في خلوة
بابها مغلق وليس معنا فيها أحد، وإننا مع عجزنا عن تعليل طبيعي لذلك نجزم بأن
ما يشم عند القبور عادة له سبب طبيعي وهو ما ذكرناه آنفًا؛ لأنه لو كان أمرًا
روحانيًّا أو وهميًّا لما كان عامًّا يشمه كل من حضر، بل الروحانيون أو الواهمون
خاصة.
وأما المريض الذي شفي عقيب الرؤيا فلك أن تعلل شفاءه بما تقدم شرحه في
بحث (إبراء العلل) بالكرامة والوهم من المجلد السادس، على أن صاحبك قد طال
عليه زمن المرض , ومن الأمراض ما يشفى بدون علاج إذا انتهى سيره، وأعرف
رجلاً في طرابلس مرض مرضًا طويلاً لم ينجح فيه علاج , حتى إذا كان ذات ليلة
شعر بأن في غرفته صينية من (الكبيبة) فزحف على استه إذ كان لا يقدر على
القيام حتى وصل إليها فأكلها برمتها، ولم يكن في حال الصحة ليقدر على أكل
نصفها أو ربعها فأصبح معافى، وأذكر أن المقتطف سئل مرة عن رجل مقعد
معروف في لبنان رأى ذات ليلة بعض القديسين المُعْتَقَدين عندهم أو المسيح أو مريم
عليهما السلام (الشك مني) فأصبح يمشي {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ المَفْتُونُ} (القلم: 5-6) ومثل هذه الحكايات كثيرة , وتعليلها ما شرحناه من قبل ونبهنا
عليه آنفًا , فإن كان السائل أو غيره يظن أن هذا خاص بالمسلمين؛ فلماذا لم يكن
شائعًا فيهم أيام كانوا قائمين بحقوق الإسلام في الصدر الأول، ولماذا شاع فيهم
بشيوع نزعات الوثنية، وضروب البدع والضلالة؟ ؟ وأما رؤية الأولياء فتقدم
تعليلها كما نبهنا في جواب السؤال السابق.
***
مسافة القصر في سكك الحديد
(س 54) رشيد أفندي غازي في الشام:
لا يخفى أن علماء الفروع قد حددوا سفرًا مخصوصًا للمسافر حتى يجوزوا
قصر الصلاة به، وهذه المدة تنطبق على المسافر من مدينة بيروت إلى دمشق أو
من حمص إلى طرابلس أو منها إلى دمشق أو من مصر إلى الإسكندرية فلو تزوج
دمشقي مثلاً من بيروت، ثم سافر إلى بلده على القطار الحديدي ومعه أهله وأثاث
بيته، وقطع المدة المعلومة في بضع ساعات فهل يجوز له قصر الصلاة أم لا؟
وإذا جاز له فهل من دليل على ذلك يثلج له الصدر، وتطمئن له النفس أم لا؟ ولو
ادعى مدع أن القصر في هذه المدة القليلة غير جائز فما الدليل المصادم لدليله على
طريقة الأصوليين، فلذلك أحببت نشر هذا السؤال على صفحات جريدتكم الغراء
لتتلو الأجوبة، ولتكون معلومة لعموم المكلفين. إذ لو كان سؤالاً خاصًّا لعالم خاص لم تحصل الثمرة المطلوبة , وهو الهادي.
(ج) إن الله تعالى أباح لنا قصر الصلاة والتيمم والفطر في السفر، ولم
يحدد لنا طول المسافة , فكان مقتضى الظاهر أن تباح هذه الرخص في كل ما يطلق
عليه اسم السفر لغة , ولكن العلماء حاولوا تحديد أقل مسافة لهذه الرخصة بما ورد
فيها من قول الشارع أو عمله , فاختلفوا في ذلك على أقوال كثيرة وجعلوا التقدير
بالأميال والفراسخ والمراحل , والعبرة عندهم بسير الأثقال المعتدلة، فمن قطع
المسافة المقدرة بأقل من الزمن الذي تقطع فيه بسير الأثقال كان له أن يترخص بلا
خلاف , فلا فرق إذن بين قطعها في السكة الحديدية بقوة البخار وقطعها على فرس
سابق. فلك أن تحج من يعارضك من المقلدين بعدم تفرقة الفقهاء، وأما من يطالب
بالحجة الحقيقية فلك أن تحجه بإطلاق السفر في الكتاب والسنة مع ما ورد في مسند
أحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود من حديث شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي قال:
سألت أنسًا عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج
مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين. (الشك من شعبة) قال الحافظ
ابن حجر في فتح الباري: وهو أصح حديث ورد في ذلك وأصرحه، وروى سعيد
بن منصور من حديث أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر
فرسخًا يقصر الصلاة. وقد أقره الحافظ في التلخيص , وهو يؤيد رواية الثلاثة
الأميال , وبه أخذ الظاهرية وأما حديث ابن عباس عند الطبراني أنه صلى الله عليه
وسلم قال: (يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة بُرُد من مكة إلى عسفان)
ففي إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبير وهو متروك , ونسبه النووي إلى الكذب ,
وقال الأزدي: لا تحل الرواية عنه، فأكثر ما ورد في طول المسافة ثلاثة فراسخ
إذا لم نعتبر رواية سعيد بن منصور مرجحة للشق الأول من حديث أنس وإلا فثلاثة
أميال , وهو فعل لا ينافي جواز القصر في أقل من ذلك، وأقل ما ورد في طول
المسافة ميل واحد رواه ابن أبي شيبة شيخ البخاري عن ابن عمر بإسناد صحيح ,
وبه أخذ ابن حزم مع إطلاق السفر في الكتاب والسنة، وعدم تخصيصه أو تحديده،
ومع كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصر عند خروجه إلى البقيع لأنه أقل من
ميل، وقد يقال: إنه من ضواحي المدينة فالخروج إليه لا يسمى سفرًا. والله أعلم
وأحكم.
* * *
تحويل النقود المعدنية إلى ذهبية
(س55) عبد الحميد أفندي السوسي في (الإسكندرية) : يوجد في ثغرنا
رجل غريب نازل عند أسرة مثرية أخبرني عنه من أثق بقوله أنه توجه إليه ذات
يوم بقصد الزيارة واستأذنه في الدخول , فأذن له فدخل وحياه وجلس , وبعد أن
استقر به المكان أخذا يتحادثان , وكان مخبري معه ولد له يناهز الثامنة , فما
كان من الشيخ إلا أن أعطى الولد (قرش نيكل) فأخذه الولد وبعد هنيهه استرده
الشيخ منه ووضعه بين راحتي كفيه , وأخذ يدعكه بلطف ويتمتم ويتفل عليه , ثم
ناوله للولد ثانية وإذا هو جنيه إنكليزي فاندهش مخبري من عمل هذا الرجل إلا
أنه بعدما انصرف من عنده أخذ من ابنه الجنيه وصرفه من صاحب له , وانتظر بعد
ذلك أن يتغير الجنيه فلم يتغير، وبلغني أن الرجل عمل مثل ذلك مع أفراد آخرين ,
فما رأيكم في ذلك الرجل وفيما عمله، أفيدونا.
(ج) إن المشعوذين يعملون مثل هذا وأغرب منه، والأرجح أن الرجل
أخفى القرش بلطف , واستبدل به الجنيه الذي أعطاه الولد، والظاهر أنه يريد أن
يشتهر بذلك ليقبل عليه الطامعون بالغنى من غير طرقه الطبيعية فيبتز من أموالهم
أضعاف ما ينفقه في سبيل الشهرة بالكيمياء القديمة التي لا يزال يفتن بها كثير من
الناس فيبيدون ما بأيديهم من النقد لأجل أن يستغنوا به نسيئة , وما العهد ببعيد من
قضية محمد بك أبي الشادي المحامي صاحب جريدة الظاهر فقد بذل مبلغًا عظيمًا
على بعض الناس للقيام بهذا العمل الموهوم فكان كأمثاله من الخائبين.
***
حديث التفاوت في التكليف
(س 56) محمد أفندي كامل الكاتب بالمحكمة الأهلية في (أسيوط) : ضم
أحد إخواننا مجلس جمع من الأكابر عدة بينهم عالم كبير , ودار البحث بينهم على
حالة الإسلام , فذكر هذا العالم حديثًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: (أنتم
في زمن لو تركتم عشر معشار ما وجب عليكم لهلكتم , وسيأتي على أمتي زمن لو
فعلوا عشر معشار ما وجب عليهم لنجوا) ولما كان هذا الحديث لا يقبله العقل
لمناقضته للقرآن الكريم أخذ صاحبنا يبين للعالم استحالة قبول العقل له بالآيات
القرآنية , ووافقه الحاضرون لقوة حجته، ولكن صاحب الحديث أصر عليه , ولما
لحضرتكم من الأيادي البيضاء على المسلمين في مثل ذلك جئناكم راجين فصل
الخطاب في صحة هذا الحديث وعدمها.
(ج) الحديث لم يروه أحد بهذا اللفظ مطلقًا، وحقًّا إنه هادم للدين
هدمًا , ولكن روى الترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعًا (إنكم في زمان من
ترك منكم عشر ما أمر به هلك، ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا)
وهو على كونه غير صحيح قد حملوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , إذ
لا يمكن حمله على جميع التكاليف لما يستلزمه من التفاوت بين الأزمنة في
التكليف , واللازم باطل بإجماع المسلمين وبعموم النصوص القطعية، وقالوا: إن
السبب في ذلك أن الإسلام كان عزيزًا وكان الناس كلهم أعوانًا على الحق والخير
فلا عذر للمقصر، وأما الزمان الأخير فيضعف فيه الإسلام ويقل التعاون على
الخير , فيكون للمقصر بعض العذر لفقد التعاون وكثرة الموانع من الخير والإيذاء
في الله. ويمكن حمله على ما يأمر به الحكام والسلاطين لأنه كان في العصر
الأول حقًّا وخيرًا في الغالب، ولينظر الناظر بماذا يأمر حكامنا الآن، أما كون
الحديث غير صحيح فنعني به أنه لا يكاد يرتقي عن المكذوب إلى الضعيف , وآفته
نعيم بن حماد المحدث الكبير المكثر الذي غر كثيرًا من المحدثين بعلمه وسعة روايته
حتى أخرج له البخاري في المتابعات دون الأصول , فهو لا يوثق بما انفرد به ,
ومنه هذا الحديث. صرح الترمذي راويه بأنه غريب لا يعرف إلا عن حماد وقد
عد ابن عدي في الكامل جملة مما انفرد به , ومنه ما صرحوا بوضعه، وفي
الميزان عن العباس بن مصعب في تاريخه أن حمادًا وضع كتبًا في الرد على
الحنفية وأخرى في الرد على الجهمية، وكان منهم أولاً، وقال أبو داود: كان
عنده نحو عشرين حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس لها أصل، وقال
الحافظ أبو علي النيسابوري: سمعت النسائي يذكر فضل نعيم بن حماد وتقدمه
في العلم والمعرفة والسنن , فقيل له في قبول حديثه؛ فقال: قد كثر تفرده عن
الأئمة فصار في حد من لا يحتج به، وقال في موضع آخر: إنه ضعيف , وقال
الأزدي: كان نعيم يضع الحديث. ولا شك عندي في ذلك , ومن علامة وضع
الحديث عدم انطباقه على الأصول الثابتة.
***
لبس الحرير والتحلي بالذهب
(س57) ومنه: هل اتخاذ المسلم الحرير دثارًا، والتحلي بالذهب شعارًا،
محرم عليه حقيقة بإجماع الأئمة، ما نص كتاب الله وسنة رسوله في ذلك؟
(ج) ورد في حديث الصحيحين وغيرهما النهي عن لبس الحرير والوعيد
على ذلك بأن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وحملوه على الحرير المحض،
قالوا: ومثله الغالب فيه الحرير لما يأتي، وخصه بعضهم كالحنفية باللبس فلا مانع
عندهم من الدثار ونحو الزنار وحرم بعضهم كل استعمال حتى أغطية الأواني،
وقالوا: فالنهي خاص بالرجال لحديث أبي موسى عند أحمد وأبي داود والترمذي
والنسائي وغيرهم: (أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها) ،
صححه الترمذي ولكن في إسناده سعيد بن أبي هند عن أبي موسى قال أبو حاتم:
إنه لم يلقه، وقال ابن حبان في صحيحه: إن حديثه عنه لا يصح، وقالوا فيه غير
ذلك.
وجملة القول فيه أنه لا يحتج به , وكذلك حديث علي عند أحمد وأبي داود
والنسائي وابن ماجه وابن حبان أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخذ
حريرًا فجعله في يده اليمنى وأخذ ذهبًا فجعله في شماله، ثم قال: (إن هذين حرام
على ذكور أمتي) - زاد ابن ماجه: (حل لإناثهم) ، ولا حاجة إلى تفصيل ما
قالوه في إعلاله والطعن بسنده، ولكن جرى العمل في السلف والخلف على لبس
النساء الحرير والتحلي بالذهب.
وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود: إنما نهى رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن الثوب المصمت من قز، أما السَّدَى والعَلَم فلا نرى به بأسًا،
ورجال الحديث ثقات ومن ضعف خصيف بن عبد الرحمن من رجاله لم يشك في
صدقه , وقد وثقه ابن معين وأبو زرعة، وأخرجه الحاكم بسند صحيح والطبراني
بإسناد حسن، وثبت في الصحيح: أن الصحابة لبسوا الخز، وكانت ثياب الخز
على عهدهم تنسج من حرير وصوف، وروى أبو داود: أن عشرين صحابيًّا لبسوا
الحرير الخالص، وفي حديث عمر عند أحمد ومسلم وأصحاب السنن: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير الخالص إلا هكذا ورفع لنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه الوسطى والسبابة وضمهما - ومن لفظ (إلا
موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة) زاد أحمد وأبو داود (وأشار بكفه) ، وفي
حديث البخاري النهي عن الجلوس على الحرير والديباج.
هذا ملخص ما ورد في السنة مختصرًا، أما ما ورد عن العلماء فقد ادعى
بعض الزيدية الإجماع على تحريم الحرير الخالص، وهو غير صحيح فقد روى
ابن علية وغيره الخلاف في أصل التحريم، وكان الذين أباحوه وهم الأقلون يرون
أن الأمر والنهي في الأمور الدنيوية العادية للإرشاد؛ أي لا للتحليل والتحريم الديني،
ولهذا نظائر لا خلاف فيها يقولون: الأمر للإرشاد، النهي للإرشاد: والجماهير
على تحريم الحرير الخالص للرجال وعلى حل قدر أربع أصابع من المطرز
والموشى، ومن السجوف على جوانب الثوب وجيوبه وفروجه , وتحريم ما كان
الحرير فيه هو الغالب في النسيج وحل ما كان غيره هو الغالب، وبعضهم يعتبر
قلة الحرير وكثرته في النسيج الوزن كالشافعية , وبعضهم يعتبر النسج , فيكفي أن
يكون سداه حريرًا ولحمته قطنًا أو غيره. ومحل هذا الخلاف عند عدم الضرورة أو
الحاجة , ففي حديث عند أحمد والشيخين وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه
وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير لحكة كانت بهما،
ورواية الترمذي أنهما شكوا إليه القمل، كذلك قد ورد النهي عن المعصفر والأحمر
وسيأتي تعليله بعد الكلام على الذهب.
أما استعمال الذهب في اللباس فقد ورد فيه عن معاوية قال: (نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن ركوب النمار , وعن لبس الذهب إلا مقطعًا) رواه أحمد
وأبو داود والنسائي وفي إسناده ميمون النفاد فيه مقال , وبقية رجال سنده ثقات ,
ورواه أبو داود بسند آخر فيه بقية بن الوليد، وفيه مقال أيضًا، والنمار جمع نمر
كالنمور في رواية أخرى، والمراد بالمقطع ما كان قطعًا في نحو سيف أو ثوب،
وأما استعمال الذهب وكذا الفضة في غير اللباس فلم يرد فيها شيء صحيح إلا النهي
عن الأكل والشرب في أوانيهما وصحافهما والتختم، ولم ينقل خلاف في الشرب إلا
عن معاوية بن قرة، وأما الأكل فأجازه الإمام داود الظاهري , واختلفوا في النهي
فحمله بعضهم على الكراهة وهو قول قديم للشافعي، وعليه العراقيون من أصحابه،
وردوا عليهم بحديث الصحيحين عن أم سلمة مرفوعًا: (أن الذي يشرب في آنية
الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) وفي رواية لمسلم (يأكل ويشرب في آنية
الذهب والفضة) وفي رواية أحمد وابن ماجه عن عائشة: (كأنما يجرجر في بطنه
نارًا) على التشبيه، وأما التختم بالذهب فقد ورد فيه في الصحيح حديث أحمد
ومسلم وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه عن علي أنه قال: (نهاني رسول الله -
صلى الله عليه وآله وسلم - عن التختم بالذهب وعن لباس القسي، وعن القراءة
في الركوع والسجود، وعن لباس المعصفر) وفي لفظ لأبي داود والترمذي (نهى) ،
ولكن يؤكد لفظ مسلم وغيره رواية (ولا أقول نهاكم) ولذلك ذهب بعض العلماء
إلى أن هذا النهي خاص بعلي عليه السلام حملاً له على المبالغة في الزهد، ومن
حرم التختم بالذهب ترجيحًا لقول الأصوليين أن الحكم على الواحد حكم على الأمة
ما لم يقم دليل على التخصيص؛ يرد عليه قوله: ولا أقول نهاكم، ويلزمه تحريم
المعصفر، وقد حمل بعضهم النهي فيه على الكراهة تنزيهًا، وذهب جمهور الأمة
من الصحابة ومن بعدهم إلى إباحة لبس المعصفر، والقَسي بفتح القاف ثياب من
حرير تنسب إلى بلد بمصر، وقيل هي كقزي نسبة إلى القز المعروف، وثمَّ
روايات أخرى في النهي عن خاتم الذهب، وخاتم الحديد؛ لأن الأول حلية أهل
الجنة، والثاني حلية أهل النار، وفي حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود النهي
عن حلقة الذهب وسوار الذهب وفيه: (ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبًا) .
وجملة القول أنه ثبت في الصحيح النهي عن الأكل والشرب في أواني الذهب
والفضة مع الوعيد والنهي عن التختم بالذهب، وفي حديث مسلم أنه شبهه بجمرة
من نار، ولم أره في المنتقى، وأما مذاهب العلماء فقد حمل الأقلون النهي على
التنزيه لا التحريم، وذهب داود إلى تحريم الشرب في أواني النقدين، وإباحة ما
عداه من أنواع الاستعمال، وقاس كثير من الفقهاء غير الأكل والشرب عليهما حتى
حرم الشافعية اتخاذ الأواني ولو لم تستعمل، فإن جعلوا هذا النهي عن الحرير
الخالص، وعن الأكل والشرب في أواني النقدين تعبديًّا؛ امتنع القياس على ما ورد
به النص الصحيح، وإن قالوا: إن له علة ترجع لمصلحة الناس في معايشهم
وأخلاقهم فهلم نبحث فيها.
اختلفت النصوص والآراء في علة النهي عن لبس الحرير والمعصفر بألفاظ
تفيد عموم النهي حتى للنساء مع ثبوت لبس النبي صلى الله عليه وسلم السندس
والديباج الذي أهداه اليه أكيدر دومة ولبس الصحابة له، وعن النهي عن الأكل
والشرب في آنية النقدين فقط مع حديث ابن حبان: (ويل للنساء من الأحمرين
الذهب والمعصفر) , وفي الصحيحين أن ابن الزبير خطب فقال في خطبته: لا
تلبسوا نساءكم الحرير فإني سمعت عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لا تلبسوا الحرير فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) ، وروى النسائي
والحاكم وقال: صحيح على شرطهما عن عقبة بن عامر أنه كان يمنع أهله الحلية
والحرير ويقول: (إن كنتم تحبون حلية الجنة وحريرها فلا تلبسوهما في الدنيا)
وإنما ذكرنا هذا هنا؛ لأن له علاقة بالتعليل.
قال بعض العلماء: إن العلة في تحريم الذهب والفضة الخيلاء، فهو إذن
كجر الثوب لا يحرم إلا مع الخيلاء، وقال بعضهم: إنه كسر قلوب الفقراء، وقال
بعضهم: إن العلة اجتماع هذين الأمرين، وإن أحدهما لا يكفي علة، وهذا هو
المعتمد عند الشافعية، وقالوا: إنه يخرج به إباحة استعمال أواني الجواهر كالزمرد
والياقوت فإنها مباحة إجماعًا، والخيلاء فيها أظهر منها في آنية النقدين، ولكن
ليس فيها كسر لقلوب الفقراء؛ لأن أكثرهم لا يعرفها على أن الخيلاء محرم في
نفسه، ويفهم من كلام الغزالي علة أخرى وهي تقليل النقود المسكوكة التي هي
موازين التعامل وقضاء الحاجات، وهذه العلة تظهر في تحريم الآنية دون القليل من
الحلي , وتنطبق على حديث معاوية المبيح لاستعمال الذهب قطعًا صغيرة في حلي
للنساء أو زينة في نحو سيف ومنطقة، وقد ورد في الصحيح أنه كان لقدح النبي
سلسلة من فضة، وعند أحمد (ضبة من فضة) ، وبهذا علل الغزالي تحريم الربا،
وقال: إن النقدين كالحاكم فمن جعلهما مقصودين بالاستغلال كان كمن حبس القاضي
الذي يفصل بين الناس.
هذا قول الفقهاء , وأما المحدثون فمنهم من قال: إن العلة في النهي عن
الذهب والحرير هي التشبه بأهل الجنة؛ لأن الأحاديث نطقت بذلك , ومنها قوله
صلى الله عليه وسلم للابس خاتم الذهب: (ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة)
رواه أصحاب السنن الثلاثة، ومنهم من قال: إن العلة التشبه بالكفار كما في بعض
الروايات، ولكن يعارض هذا ما ورد في الصحيح من لبس النبي صلى الله عليه
وسلم الجبة الرومية والطيالسة الكسروية، ومنهم من قال: إنه التزهيد في الدنيا
لقوله صلى الله عليه وسلم بعد النهي: (فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) ,
ولكن الله يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ
هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَة ِ} (الأعراف: 32) والذي يفهم
من هذا ومن كل رواية فيها ما يشعر بأن النهي عن الذهب والفضة والحرير؛ لأنه
لأهل الجنة أن المراد به النهي عن المبالغة في الترف والنعيم الذي يفسد بأس الأمة
ويصرف همتها إلى اللذات والانغماس في التعميم حتى تهمل أمر الدين، وتكون
طعمة للطامعين لا مجرد الزهد في الزينة. فالترف هو الذي أهلك الأمم، ودمر
القرى، وهو علة الظلم والفساد ومثار الشحناء والفتن، وسبب الاعتداء والخيانة،
وهو يختلف باختلاف أحوال الأمم فرب شيء يعد من الأمور العادية عند قوم، وهو
عند آخرين غاية السرف والترف , ولا شك أن لبس الحرير المصمت والأكل
والشرب في أواني الذهب والفضة هو غاية ما ينتهي إليه الترف والسرف في كل
زمان ومكان لا تختلف الأعصار والأحوال إلا في الصنعة فيه , وتظهر هذه العلة
في النساء كالرجال كما فهم بعض السلف إذا وصل إلى حد السرف. وإذا صح أن
هذا هو العلة وأن النهي ليس تعبديًّا كان ما عساه يعرض للإنسان من أكل أو شرب
في آنية الذهب والفضة عند كافر وكذا غير كافر فيما يظهر غير محرم، وكان
قياس الفقهاء غير الأواني عليها , وقياس الاتخاذ على الاستعمال صحيحًا لاسيما في
حالة فقر الأمة. والعمدة في معرفة الترف في الجزئيات ترتب الضرر في الأمة
عليه بفشو استعمالها سواء كان في أمر المعاش أو في الأخلاق , فالمسألة تسمى في
عرف هذا العصر أدبية اقتصادية.
وقد بحث علماء الاقتصاد السياسي في استعمال ماعون الزينة وأثاثه ورياشه
هل هو ضار بالأمة أم نافع، فرجحوا أنه نافع لأنه إذا لم يتنافس الأغنياء في ذلك
يجتمع أكثر المال عند فئة من البارعين في الكسب، ويقع باقي الأمة في مهواة
الفقر والعوز، وإذا كان للأغنياء تنافس فيما وراء الحاجيات مما ذكر (وهو ما
يسمونه الكماليات) وسماه الشاطبي في الموافقات (التحسينات) ، ينفتح بذلك
أبواب كثيرة لارتزاق الفقراء والمتوسطين منهم.
وإذا تبين بالاختبار أن استعمال كذا وكذا من الذهب والفضة والحرير لا ينافي
الاقتصاد، بل تقتضيه مصلحة الأمة في مجموعها؛ لم يكن وراءه إلا رعاية
الأخلاق. فإذا كان استعماله غير مؤثر في فساد الأخلاق، وضعف بأس الأمة فلا
بأس به , وإلا وجب اجتنابه. ويختلف هذا في الأفراد باختلاف نياتهم ومقاصدهم ,
وما يعرفونه من تأثيره في أنفسهم , ولعله لا يوجد ضابط للضار والنافع للأمة مثل
حديث معاوية السابق في القلة والكثرة، وحديث ابن عباس ومذهبه في الحديث.
والخلاصة أن نص الشارع صريح في النهي عن الحرير الخالص إلا لحاجة
لبسًا وجلوسًا عليه , وأباح أنس وابن عباس الجلوس عليه، وقال الفقهاء: أي بلا
حائل , فإن كان هناك حائل كالنسيج الأبيض الذي يوضع على الكراسي والأرائك
فلا بأس عندهم. وعن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة والتختم بالذهب
على ما فيه، وأن بعض الفقهاء حملوا ذلك النهي على الكراهة دون التحريم،
والجمهور حملوه على التحريم، وأن داود خصه بالشرب , وأكثر المتحدثين بالأكل
والشرب، وعامة الفقهاء حرموا كل استعمال إلا نحو ضبة يصلح بها إناء، وأن
الاحتياط أن يجتنب المسلم ما ورد به النهي الصريح، ويراعي المصلحة فيما وراء
ذلك بحسب اجتهاده مع الإخلاص والله أعلم.
***
لبس الزوج الذهب حال العقد هل يبطله
(س57) الحاج وان أحمد في (سنغافورة) ما قولكم إذا لبس الزوج
الذهب والفضة والحرير في حال العقد، هل يصح النكاح أم لا؟ وهل توبته في تلك
الحالة كتوبة الولي فلا يحتاج فيها إلى مضي سنة، أو لا بد منه حتى يصير كفؤًا
للعفيفة، هل يجب على من حضر من الشاهدين وغيرهما إنكاره، وهل يُفَسَّقوا
بتركهم ذلك أم كيف الحكم؟
(ج 57) الظاهر من السؤال أن السائل شافعي المذهب لأن الشافعية هم
الذين يشترطون عدالة الولي والشاهدين لصحة العقد، ويكتفون بتوبة الولي في
المجلس , ولا يجيزون شهاده الفاسق إلا بعد توبته بسنة يستقيم فيها حاله يسمونها
مدة الاستبراء، ولكنهم لم يشترطوا عدالة الزوج , وإلا لامْتَنَعَ التزوج على الفساق
عندهم، ولكن الفاسق لا يكون كفؤًا للتقية العفيفة , ولذلك يشترط في صحة عقده
عليها رضاها ولو بكرًا، والمزوج الأب؛ فإن رضيت ورضي الولي صح العقد.
وأما فسق الشهود بترك الإنكار على لابس الذهب والفضة والحرير سواء كان
الزوج أو غيره فلا يتحقق إلا إذا كانوا يعتقدون أن هذا محرم كبير ويتعين الإنكار
عليهم , وعلموا أن اللابس لا عذر له ومن الأعذار الصحيحة عندهم أن يكون مقلدًا
ببعض القائلين بالحل ممن يعتد بقولهم، وقد مر الخلاف في ذلك في جواب السؤال
السابق.
__________(7/412)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
جاءنا من سنغافورة ما يأتي فنشرناه لما فيه من النصيحة للمسلمين.
(هذه أبيات خاطب بها أعضاء ندوة العلماء بالهند سنة 1321 (مولانا السيد أبو بكر بن شهاب الدين أمتع الله به)
كلم يقدمها المسيء الجاني ... لذوي المعارف لا ذوي التيجان
نفثات مصدور إلى من هم بها ... أدرى وأحرى منه بالتبيان
وجميل شكر للذين تصدروا ... في ندوة العلما وللأركان
لله دَرُّهم سوابق حلبة ... فيها العقول فوارس الميدان
شربوا رحيق العزم والجد الذي ... لم يخش مدمنه من الحرمان
هبوا وأمر الكل شورى بينهم ... والرأي قبل شجاعة الشجعان
نهضوا لنفع المسلمين بنشر ما ... عنهم يصد طوارق الحدثان
ودعوا إلى نشر العلوم على اختلا ... ف فنونها والعلم ذو أفنان
وإلى اجتماع قلوب من أيمانهم ... بمحمد المحمود ذو اطمئنان
ولنعم ما عقدت خناصرهم على ... إبرازه من حيز الكتمان
فالعلم أشرف مقتنى وأَجَلّه ... وبه تفاضل نوعنا الإنساني
فذووه في عز ومجد باذخ ... ورفيع منزلة وسعد قران
العلم يطلب كي يزجَ بحامليه ... إلى التربع في ذرى كيوان
من حيث كان وكيف كان لعيشة ... الدنيا وللأبدان والأديان
هذا رسول الله نبهنا على ... عدل المجوس وحكمة اليونان
والاجتماع أجل حض رادع ... عبث الخصوم وسورة العدوان
والمؤمنون كما أتانا في حديث ... الصادق المصدوق كالبنيان
ومتى تخاذلنا وأهمل بعضنا ... بعضًا خلعنا خلعة الإيمان
وأصابنا الفشل الذي يقفوه ... ذل واضطهاد ليس بالحسبان
إن افتراق المسلمين أذاقهم ... ضيم الهضيمة بعد عظم الشان
وهنت عزائمنا وأصبح هازئًا ... بخمولنا الوثني والنصراني
فَعَلامَ فُرْقتنا التي ألقت بنا ... في هوة الإهمال والخذلان
ولِمَ التنافر والتباغض بيننا ... والحقد وهي مدارك النقصان
ها كل طائفة من الإسلام مُذْ ... عِنَة بوحدة فاطر الأكوان
وبأن سيدنا الحبيب محمدًا ... عبد الإله رسوله العدناني
وإمام كل منهم في دينه ... أخذًا وردًّا محكم القرآن
فإلهنا ونبينا وكتابنا ... لم يتصف بالخلف فيها اثنان
والكعبة البيت الحرام يؤمها ... قاصي الحجيج لنسكه والداني
وصلاة كل شطرها وزكاته ... حتم وصوم الفرض من رمضان
أَفَبَعْدَ هذا الاتفاق يصيبنا ... نزغ ليفتننا من الشيطان
وإن اختلفنا في الفروع فذاك عن ... خير البرية رحمة المنان
وحديث تفترق النصارى واليهود ... وأمتي فرقًا روى الطبراني
لكن زيادة كلها في النار ... إلا فرقة لم تخل عن طعان
بل كلهم في جنة وعدوا بها ... بالنص في آي من القرآن
وكذا أحاديث الرسول تضافرت ... أن المُوَحِّد في حمى الرحمن
وإذا أردت بيان ما أوردته ... فانظر فتاوى الحافظ الشوكاني
فلقد أتى فيها بما يشفي العليل ... من الدليل وساطع البرهان
وأفاد فيها ما يلاشي بيننا ... إحن النفوس وشأفة الشنآن
إيهًا رجال الندوة اجْتَهِدُوا ولا ... تهنوا فرب الخيبة المتواني
وامضوا على غلوائكم قدمًا ولا ... تخشوا معرة فاسدي الأذهان
فالحق قائدكم وأنتم تعلمون ... موارد الأرباح والخسران
أو ما رويتم حين أقبل جيش أهل ... الشام قولاً عن أبي اليقظان
والله لو بلغوا بنا طردًا إلى ... هجر لما عدنا إلى الإذعان
ولتسمعن أذًى كثيرا فاصبروا ... واكسوا المسيء مطارف الإحسان
ماذا على الحكماء من أضدادهم ... قدح السفيه ومدحه سيان
والله شاكر سعيكم ورسوله ... وأولو الفضائل من ذوي الإيمان
وقد غيرنا الشطر الأخير من آخر بيت ليكون إشارة إلى قوله تعالى: {وَقُلِ
اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (التوبة: 105) .
__________(7/425)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المصنفات
(إرشاد الأمة الإسلامية إلى أقوال الأئمة في الفتوى الترنسفالية)
قد علم القراء ما كان في العام الماضي من لغط بعض الجاهلين بفتوى مفتي
الديار المصرية لبعض أهل الترنسفال بحِل ذبيحة النصارى في تلك البلاد، وبحل
لبس القلنسوة الإفرنجية لحاجة أو ضرورة، وبحل صلاة الشافعي خلف الحنفي،
وكان السبب في اللغط أن بعض أصحاب الأهواء من الأمراء أوعز إلى بعض
الجرائد المحدثة بالتنديد بالفتوى لغرض له في ذلك فطفقت الجريدة تخبط في ذلك
محرفة السؤال والجواب عن موضعه، وقد جرت العادة بأن ما أكثرت الجرائد
الخوض فيه يخوض فيه الناس لا سيما أهل الجهل والبطالة - وكثير ما هم -، وقد
بينا يومئذ حكم الله تعالى في هذه المسائل. وأيدنا الفتوى بالبراهين الشرعية
والدلائل، ولم يكن لصاحب الجريدة المحدثة من دليل غير القال والقيل، وكان منه
الإيهام بأن بعض علماء الأزهر كتبوا لصاحب الجريدة ينكرون صحة الفتوى،
فلما وصلت هذه الدعوى إلى علماء الأزهر الأعلام انتدب بعض فضلائهم إلى
وضع رسالة يؤيدون فيها الفتوى بنصوص المذاهب الأربعة وسموها (إرشاد الأمة
الإسلامية ... إلخ) ثم إن الشيخ عبد الحميد حمروش البحراوي أحد المدرسين في
الأزهر لهذا العهد طبع الرسالة ونشرها تبرئة لعلماء الأزهر مما نسبته جريدة
(الظاهر) إليهم، وقال في مقدمة الطبع بعد ذكر ما عزي إلى علماء الأزهر ما
نصه:
عند هذا نهض جماعة من أفاضل الأزهر الأعلام أئمة المذاهب الأربعة
الذين يعول عليهم ويوثق بعلمهم في العلوم الشرعية، وراجعوا المذاهب الأربعة
واستخرجوا منها النصوص التي تلائم موضوع المسألة، وعرضوا عليها فتوى
فضيلة الأستاذ المومأ إليه فوجدوا لها من كل مذهب نصيرًا، ومن فقه كل إمام
ظهيرًا) ، ثم قال: (إنه رأى أن يخدم الإسلام بطبع هذه الرسالة لفوائد منها:
تبرئة الأفاضل علماء الأزهر من وصمة السكوت، ومما عزي إليهم من القول
بخلاف ما أفتى به عالم الدنيا، وابن بجدة الفتيا صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ
مفتي الديار المصرية , وأن الذين يشيعون مخالفة علماء الأزهر الكرام لأستاذنا
أرادوا أن يذموا واحدًا فذموا الكل فوجب تبرئة الجميع) .
والرسالة مؤلفة من مقدمة وأحد عشر فصلاً وخاتمة، وهي مطبوعة طبعًا
حسنًا على ورق جيد , وثمن النسخة ثلاثة قروش صحيحة، ومما يدل على سوء
قصد الجريدة التي كانت تلغط وتطالب علماء الأزهر ببيان الحق في الفتوى أنها لم
تكتب عن الرسالة شيئًا مع أنها أهديت إليها كما بلغنا
***
(الأمومة عند العرب)
رسالة لأحد علماء هولندا. ج. ويلكن الأستاذ في كلية ليدن، وقد عربه أحد
علماء العرب السوريين بندلي صليبا الجوزي المدرس في إحدى المدارس الروسية
بقازان وطبعها هناك , وخصص دخلها للأعمال الخيرية، والبحث في الأمومة فرع
من فروع البحث في (تاريخ العائلة) أو هو أصله الأول؛ لأن النسبة إلى الأم هي
الثابتة العامة في كل جيل من أجيال البشر وفي كل طور من أطوارهم في بداوتهم
وحضارتهم. وفي الرسالة مباحث طويلة دقيقة في الزواج عند العرب قبل الإسلام
وعند غيرهم من الأمم , وهو أنواع أطلق المعرب عليها هذه الأسماء: نكاح
الاشتراك أو المشاركة، النكاح الخارجي، النكاح الداخلي، النكاح الفردي، نكاح
تعدد الزوجات، نكاح تعدد الأزواج , نكاح النفر. وفيها كلام طويل عن المتعة في
الإسلام، وبحث في أنها كانت قبله أم لا، وهو غير محرر , والاستدلال على
المتعة بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (النساء: 24)
الذي ذكره هو ما ذهب إليه الشيعة وهو منقوض بقوله تعالى في نفس الآية: {
مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (النساء: 24) أي يجب أن يكون قصد الرجل في هذا
الاستمتاع إحصان نفسه وإحصان المرأة , لا مجرد المسافحة التي هي إراقة ماء
الشهوة، ولا شك أن المتعة يقصد بها المسافحة لا الإحصان، وقد كانت العرب
عليها فحرمها النبي , فشق ذلك عليهم فأذن لهم بها عند الضرورة وشدة الحاجة في
السفر، ثم نهاهم عنها ليكون إبطالها تدريجيًّا , والشيعة لا تزال تحلها، ويميل
بعض الناس إلى أنها رخصة للضرورة , والجماهير على أن الرخصة نسخت،
ويؤكد نسخها اعتبار الكتاب العزيز قصد الإحصان شرطًا لكون الزواج شرعيًّا،
وقوله تعالى بعد إباحة الزواج والتسري: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
العَادُونَ} (المؤمنون: 7) وروي في الصحيح أنها بقيت إلى عهد عمر فكان هو
الذي أبطلها بالمرة، والذين يقولون بالنسخ يحملون ذلك على عدم علم الجميع
بالنسخ.
وفي الرسالة مباحث تحتاج إلى الإيضاح والنقد , وفيها فوائد لا توجد في
غيرها من كتب التاريخ , فنشكر للمعرب هذه الهدية الثمينة للغته الشريفة، ونحث
الناس على قراءتها , وننتظر ورود طائفة من نسخها علينا للبيع في مكتبة المنار
فمتى جاءت نعلن ذلك في غلاف المنار.
***
(كتاب القواعد الألمانية)
وضع هذا الكتاب الأستاذ مرتين هرتمن مدرس اللغة العربية في مدرسة
الألسنة الشرقية ببرلين عاصمة بلاد ألمانيا لبيان قواعد لغته بالعربية إسعادًا لمن
يرغب في تعلم هذه اللغة من العرب، وذكر في مقدمة الكتاب إقبال الأمم على
دراسة هذه اللغة , وإننا نذكر من ذلك ما نرى فيه عبرة لنا , قال:
(ولقد انبعثت رغبة قوية عند معظم الأمم في تعلمها، ولا يوجد أديب حقيقي
في أمة من الأمم الأوربية إلا وله إلمام بهذه اللغة الشريفة وبأعظم أقسام أدبياتها.
أما الأمم الشرقية فأول من سارع منها إلى اقتناء (كذا) لغتنا هي الأمة اليونانية
حيث أرسلت ألوفًا من أبنائها إلى كليات ألمانيا لرضاع ألبان العلم من ثديها، وقلما
تدخل بيتًا من بيوت الأدباء اليونانيين إلا وتجد من يتكلم بلغتنا ويعلم بأدبياتنا، ثم
كثر عدد دارسيها في بلاد اليابان من الشرق الأقصى حيث اجتلبوا معلمين من
الألمان إلى مدارسهم الكبرى , وكثيرًا ما زاروا بأنفسهم بلادنا لأجل تحصيل لغتنا،
ومشاهدة أحوالنا وتنظيماتنا. ثم يوجد عدد من أفراد الأمة التركية يحسنون التأدية
باللغة الألمانية وأكثرهم من الموظفين بالخدمة العسكرية بقوا مدرجين في سلك
العسكرية الألماني مدة. (أما الأمة العظيمة التي سطت بعد إتيان نبيها بالشريعة
الإسلامية على قسم يذكر من المسكونة , وتميزت لغتها بالمصنفات الغزيرة العالية
- أعني الأمة الناطقة بالضاد التي مسقط رأسها جزيرة العرب المنتشرة كتبها من
أقصى المشرق إلى أقصى المغرب - فلم نر إلى الآن منها الإقدام على اقتناء
الألمانية والاطلاع على أدبياتها، نعم قد اجتهد في أيام خديوي مصر المرحوم
إسماعيل باشا الموسيو دور السويسري الموظف وقتئذ بالتفتيش على المكاتب
المصرية في إدخال اللغة الألمانية في مواد التعليم (البروجرام) وحمل السادة
إبراهيم زين الدين وأحمد نجيب على تأليف كتاب في القواعد الألمانية إلا أنه قد
اندرس مسعاه عند ذهابه من الخدمة المصرية) .... إلخ.
ثم انتقل من ذلك إلى ذكر انتدابه لتأليف هذا الكتاب تسهيلاً لمن يريد تعلم هذه
اللغة من أبناء العربية، وهو مرتب أحسن ترتيب، ومقرب للغة أشد تقريب.
يشرح الحروف والكلم، ويذكر كيفية النطق بها بالعربية بغاية الضبط، وقد جعله
دروسًا يشرح في كل درس القاعدة بالعربية ويذكر بعدها الأمثلة المفردة والمركبة،
ثم التمرينات الألمانية والعربية , وصفحات الكتاب 232 وثمن النسخة منه (3
ماركات أو 3 شلنات) وأجرة البريد (35 سنتيما) وهو يطلب بواسطة مكتبة
المنار بمصر.
***
(تاريخ البابية - أو - مفتاح باب الأبواب)
قد صدر هذا التاريخ النفيس الذي نوهنا به من قبل في المنار، ونقلنا نبذة من
خاتمته، وقد ذكر مؤلفه (ميرزا محمد مهدي خان) في فاتحته أنه في مدة إقامته
في مصر وفي أثناء سياحاته الكثيرة رأى الناس مختلفين في أمر هؤلاء البابية
لاختلاف ما يلقفونه من أخبارهم عنهم وعن أعدائهم، حتى إن أمرهم لا يزال
غامضًا مبهمًا، وأنه هو مطلع على أحوالهم كما كان والده من قبله مختبرًا لرؤسائهم،
وأن عندهم أمهات كتبهم، وقد اطلع مع ذلك على ما كتب الناس في تاريخهم
وأكثر الناس خطأً فيه الإفرنج، لذلك ساقته الرغبة إلى وضع تاريخ كبير لهم سماه
(باب الأبواب) أحصى فيه ما علم من أخبارهم وعقائدهم وشرائعهم كما هي من
غير حكم عليها بمدح أو ذم، بل صور الحقائق تصويرًا، ومثلها للقارئ تمثيلاً، ثم
اختصره بهذا الكتاب الذي جعله رسالة وفهرسًا له , وسماه (مفتاح باب الأبواب)
على أن صفحات هذا المختصر قد بلغت 440، ويعني بقوله الأبواب الذين ادعوا
بالمهدية سواء منهم من أطلق علية لقب الباب ومن لقب بالمهدي فقط.
وقد بدأ الكتاب بالكلام على الديانات السبع الكبرى في الأرض - البوذية
والبرهمية والفاشية والزردشتية والموسوية والنصرانية والإسلامية - ثم أورد ما
نقل أهل السنة والشيعة في المهدي المنتظر، وانتقل من ذلك إلى الكلام فيمن ادعوا
المهدوية أو العيسوية وذكر تراجم أشهرهم ومنهم ميرزا علي محمد الشيرازي
الملقب بالباب الذي هو المقصود من تأليف الكتاب، وذكر نشأته وتاريخه، ودعوته
وأسبابها وأسباب انتشارها في إيران ومناظرات العلماء للباب، وما كان من الفتن
إلى أن قتل الباب، ثم ذكر مزاعم البابية فيه وذكر صفاته وتأليفه وشريعته
وما جرى لأصحابه بعده من الفتن والتفرق والنفي إلى أن قام فيهم حسين علي
الملقب بالبهاء، واستمال أكثرهم إليه ونَقَّحَ لهم دين الباب , وادعى أنه الأصل، بل
أنه هو الله الذي أرسل الرسل من آدم إلى الباب، ثم ذكر شيئا كثيرًا من شريعة
البهائية وكتب البهاء إلى الملوك وغيرهم , وختم الكتاب بذكر فرق البابية في هذا
العهد وكيفية ظهورهم في بلاد أمريكا، ولعلنا ننقل في أجزاء أخرى بعض المباحث
من هذا الكتاب النفيس الذي لا يستغني قارئ عنه لا سيما في البلاد التي انبث
البابية فيها يدعون إلى دينهم كمصر وإيران، وقد ذكر المؤلف في آخر الكتاب أنه
تبرع بما يحصل من ثمنه للمنكوبين من المسلمين، وثمن النسخة منه في مصر20
قرشًا وفي إيران (تومان واحد) وفي الهند ثلاث روبيات وفي روسيا روبلتان أو
منان وفي سائر البلاد 5 فرنكات , وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر ومن مكتبتي
هندية والهلال.
__________(7/427)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سياحة العلماء وهداية الحكماء
يوم وليلة فى الريف
حالة العامة:
في أصيل يوم الإثنين (18ج1) سافر كاتب هذه السطور مع أستاذه الشيخ
محمد عبده إلى جهة (فم البحر) بدعوة الشيخ عبد المؤمن موسى عبده بهاده وكان
قد سبقنا في صباحه إلى هناك السيد علي الببلاوي شيخ الجامع الأزهر والشيخ أبو
الفضل الجيزاوي والشيخ سليمان العبد من كبار المدرسين فى الأزهر. والشيخ عبد
المؤمن هذا لم يقصد بدعوة العلماء إلى بلده التفاخر بهم فقط كما هو شأن أهل الدنيا
لاسيما العمد، بل قصد استفادة أهل بلده من علمهم وإزالة الشبهات، ومقاومة
الخرافات بإرشادهم؛ وذلك أن أكثر ما عليه عامة المصريين في القرى وغيرها من
الخيالات والاعتقادات والتقاليد الدينية مأخوذة عن أهل الطريق الذين يطوفون البلاد
والقرى لطلب الرزق بالدين والطريق فهم عميان يقودون عميانًا، ويجتهدون في
جعل الدين كله محصورًا في التعلق بهم وبشيوخهم والاعتقاد بكراماتهم، والتوسل
بهم إلى الله تعالى لقضاء الحاجات وتنفيس الكربات، وجلب الرزق ونيل الرغائب،
وقرن التوسل بالنذور للأموات والعطايا للأحياء، هذا ما يقنعون به الدهماء، ومن
أخذ عليهم أو أخذوا عليه العهد يلقنونه أحزابًا وأوردًا يذكرون لها من الخواص
والمنافع الدنيوية ما يذكرون حتى ضاع أكثر معارف الدين وآدابه وأعماله إلا هذه
الأمور وما يتصل بها من الأوهام والخرافات التي لا سند لها إلا ما اخترعوه من
الحكايات، وما خفي عليهم أمره من مثار الشبهات. فمن سَيَّبَ عجلاً أو نذر شيئًا
للسيد البدوي أو غيره ولم يقدمه , ومن اعتاد الذهاب إلى مولده ولم يذهب , فأصابه
مرض أو مصاب فى نفسه أو أهله أو ماله فأولئك يعتقدون أن الذي أوقع بهم هو
السيد , كأن السيد حاكم مستبد ظالم يفرض على الناس ما لم يفرضه الله عليهم
وينتقم منهم أشد الانتقام إذا هم قصروا في أداء ذلك، ولا يغار على حق من حقوق
الله تعالى فهو لا يتصرف بمن يترك الصلاة، أو يمنع الزكاة أو يؤذي جاره أو
يسرق متاع أخيه أو يفسد عليه زرعه أو يسمم بعض ماشيته.
كان الناس على هذا زمنا طويلاً لا يكادون يسمعون إنكار منكر ولا تنبيه منبه
ولا إرشاد مرشد إلا ما قَلَّ وندر، حتى كان بعد انتشار المنار في هذه السنين
الأخيرة أن قام كثيرون من قرائه ينكرون على الناس البدع والخرافات الفاشية فيهم,
وكان الشيخ عبد المؤمن المذكور لسلامة فطرته من أشدهم غيرة وأكثرهم دعوة
وأقواهم حجة، ولم يكن له مساعد في النهي عن هذه المنكرات في تلك الجهات إلا
الشيخ عليًّا الجربي وبعض الأذكياء , ولكن كان لهما معارض شديد التأثير في
العامة هناك بما له من سمت الصلاح والنسبة إلى الطريق والعلم وهو الشيخ محمد
الدلاصي فكان الناس فى (بهاده) ونواحيها حزبين يختصمان حزبًا يقول ويوقن
بأن لا نافع ولا ضار إلا الله تعالى، وأنه لا يتوسل إليه تعالى إلا بما شرعه لعباده
في كتابه وعلى لسان رسوله من الفرائض والسنن، وأنه لا سبب لقضاء الحاجات
وجلب المنافع والمضار إلا ما هدى الله الناس إليه من سننه المطردة في خلقه.
وحزبًا يقول: إن الأولياء في قبورهم يضرون وينفعون , ويحيون ويميتون ,
ويعطون ويمنعون، وأنه يتوسل إلى الله تعالى بذواتهم ويدعى بواسطتهم لا وحده
... إلخ، ما هو معلوم مشهور من أمثالهم.
وكان الشيخ عبد المؤمن يتمنى عَلَيَّ من زمن طويل أن أدعو الأستاذ الإمام
لزيارة بلدهم ليتكلم على الناس بالقول الفصل الذي يرجى أن يمحو كل شبهة
ويخرس لسان كل بدعة، حتى كان أن ذهبنا في ذلك اليوم الذي ذكرناه في صدر
المقال فاجتمع في تلك القرية أشهر علماء العصر، وقد اجتمع علينا أكثر أهل البلد
ليلاً متوقعين أن يسمعوا من الأستاذ الإمام ومن سائر الأساتذة الأعلام ما يقطع عرق
النزاع والخصام، وكان تلامذة الشيخ محمد الدلاصي يتوقعون منه أن يدافع عما هم
عليه، بل كان منهم من يظن أن حجته في ذلك ستعلو كل حجة , وافتتح الشيخ
عَلِيّ الجربي الكلام بسؤال الأستاذ الإمام , فأجاب حفظه الله تعالى بتقرير عقيدة
التوحيد الخالص وهي: أن لا فاعل إلا الله، وأنه لا يدعى معه أحد سواه وأن
التوسل بالأولياء والصالحين إنما يصح بمعنى الاهتداء بهديهم البَيِّن، وبأن لله أن
يكرم من عباده من شاء، ولكن لا يصح أن تكون الكرامات والخوارق كصنعة من
الصنائع في أيدى الأولياء. والحق أنه ليس لهم من الأمر شيء، وأنه لا يكلف
مؤمن بأن يعتقد بولي مخصوص، ولا بكرامة ولي معين، وكان قد وضح ذلك بما
وافقه وصدقه عليه العلماء الحاضرون.
***
ديوان الأولياء والتصرف الباطن
ثم قال منشىء هذه المجلة: يقولون: إن للأولياء ديوانًا يجتمع فيه الأحياء
والميتون فما أقروا عليه فهو الذي يقع في الكون، وإننا نرى حوادث الكون في
جملتها وتفصيلها منافية لمصلحة المسلمين حتى علت عليهم الملل كلها فاستولت
على معظم بلادهم الدول المسيحية وسبقتهم في العزة والمكانة الشعوب الوثنية، فإذا
كان أولياء المسلمين وأنصار الدين هم المتصرفون في الأكوان لا يجري فيها إلا
ما يجرونه، ولا يستقر إلا ما يقرونه فما بالهم ينصرون الكافرين على المسلمين ,
وكيف اعتز الإسلام بطائفة من سلفهم ثم هو يخذل الآن باتفاق الأحياء منهم والميتين؟
فقال الأستاذ الإمام: قد يقال: إن الأولياء يرون أن المسلمين صاروا أبعد عن
دينهم من سائر الأمم فهم ينتقمون منهم حتى يرجعوا إلى دينهم , والحق أن مسألة
الديوان والتصرف الباطني عند الصوفية المتأخرين هي رمز إلى ما كان عليه
سالفهم عندما كانت هذه الطائفة حية عاملة. ذلك أن الفقهاء كانوا يكفرون الصوفية
وكان الحكام أنصارًا للفقهاء، فكان جميع أمر الصوفية مبنيًّا على الكتمان ,
فوضعوا الرموز لعقائدهم واصطلاحاتهم وأعمالهم، وبالغوا في التستر كما هو شأن
الجمعيات السرية العاملة، وكان لهم اجتماع خفي يتباحثون فيه وينظرون في أمرهم وحمايتهم من أعدائهم، وكل ما يتفقون عليه في الباطن يسعون بتنفيذه بوسائله في
الظاهر , فإذا اتفقوا على عزل حاكم أو قتل ظالم لا يكفون عن السعي حتى ينفذ
ذلك. فهذا هو الديوان , ومعنى كون ما يجرى في الظاهر محكومًا به في الباطن،
وكذلك كان شأن الباطنية (والصوفية فرقة منهم معتدلة) كما هو معلوم في التاريخ،
ولما بَيَّن الأستاذ هذا استحسنه الشيوخ أشد الاستحسان.
تلك إشارة إلى سمر الشيوخ، وما كان فيه من الفوائد لعامة حاضريه،
ويظهر أن الشيخ الدلاصي سكت واجمًا لا راضيًا؛ لذلك عاد في النهار إلى المحفل
وألقى على الأستاذ الإمام الأسئلة الآتية قائلاً: إنه سمع ما قرره ليلاً واستحسنه،
ولكن لديه إشكالاً يحب كشفه بعرضه على الأستاذ المفتي وسماع الجواب منه،
وقال ما مثاله:
(س1) الناس إمام ومأموم، فالأول متبوع، والثانى تابع لا يعدو وحده فأنا
اتخذت الشافعي إمامًا؛ فإذا وجدت في مذهبه شيئًا، ورأيت في كتاب الله شيئًا
يناقضه أراني مرتاحًا للعمل بقول الشافعي دون قول الله تعالى مثلاً: إن الشافعي
يقول بحل الذبيحة بدون تسمية، ولكن الله تعالى يقول: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ
اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: 121) ألست معذورًا بذلك؟
(س2) إن الله فضل بعض الناس على بعض في الرزق وغيره؛ فإذا أعطى
الله عبدًا جنيهًا ألا يجوز لي أن أقول له: أعطنى ريالاً من الجنيه الذي
أعطاك الله؟
وقد علمنا من مشايخنا أن الله تعالى أعطى سيدي أبا الحسن الشاذلي وأبا
العباس المرسي وفلانًا وفلانًا سرًّا لم يعطه لغيرهم , فأي مانع من أن يطلب الإنسان
منهم شيئًا من هذا السر الذي أعطاهم الله كما يطلب الريال من صاحب الجنيه؟
قال الأستاذ الإمام: أما قولك الأول فهو خطأ كبير، وفيه خطر عظيم؛ فإن
الذين أجازوا لك تقليد الإمام الشافعي أو غيره من الأئمة - رضي الله عنهم -
يشترطون في ذلك أن لا تعرض لك شبهة في كتاب الله تعالى فترى أنك تعمل
بنقيضه فإن عرضت لك الشبهة، وجب عليك حالاً السعي في كشفها وإزالتها وإلا
زال الإيمان، فإن الشك في كتاب الله تعالى كفر صريح بإجماع المسلمين، وكذلك
نبذه وراء الظهر، وتقديم غيره عليه.
نعم، الناس إمام ومأموم، ولكن إمام هذه الأمة واحد وهو رسول الله صلى
الله عليه وسلم المعصوم , وإنما العلماء ناقلون ومبينون عنه , فمتى تعارض كلامهم
مع ما جاء عنه رجعنا إليه كما أمرونا إلا أن يظهر لنا عدم التعارض والتناقض.
قال الشيخ الدلاصى: إننى لا أشك في كتاب الله، ولكن أعلم أن إمامي قد
اطلع على الآية، وفهمها أحسن مما أفهمها، ولذلك لا أراني مخالفًا لكتاب الله ولا
شاكًّا فيه، قال الأستاذ الإمام: إن الله تعالى يحاسبك على ما تفهم وتعتقد لا على ما
فهم الشافعي، وأنت قلت الآن: إنك ترى الآية مناقضة لقول الشافعي فترجيحك
قول الشافعي حينئذ يقتضي أن يكون قول الله تعالى مرجوحًا فهو عندك دون
المشكوك فيه حقيقة؛ لأن الشك استواء الطرفين، وترجيح إحدهما يقتضي بطلان
الثاني، ولو ظنًّا؛ فإن كنت تقلد الشافعي، وترى الآية موافقة لقوله فلا إشكال ولا
محل للسؤال.
قال الشيخ الدلاصى: إن أبا حنيفة والشافعي يختلفان في الحكم (أو قال الآية
المفيدة للحكم) ونتبع أحدهما، ولا نرى في ذلك مخالفة للقرآن.
قال الأستاذ الإمام: إذا كان الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي، ولم يكن هناك
قرآن تقرؤه وتفهم منه أنه مؤيد لقول أحدهما فلا حرج عليك في الأخذ بقول من
شئت منهما لأنك لم تنحرف عن كتاب الله تعالى، ولم تلقه وراء ظهرك، وليس هذا
من السؤال الأول في شيء؛ لأن الترجيح هناك بين قول الشافعي وقول الله عز
وجل الذي تراه يناقضه. على أن المثال هناك غير صحيح , فإن الآية لا تناقض
قول الشافعي إذ النهي فيها عن متروك التسمية مقيد بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (الأنعام: 121) وقد فسروه بقوله تعالى في الآية الأخرى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: 145) فاقتنع الدلاصي، ثم قال الأستاذ:
وأما الجواب عن السؤال الثاني، فهو أننا نسلم أن الله تعالى فضل بعض
الناس على بعض في الرزق، والمواهب الظاهرة والباطنة، ولكن فضل الله على
عبده قسمان: قسم مكسوب يمكن بذله أو البذل منه، وقسم ليس في استطاعة البشر
بذله أو البذل منه؛ كالإيمان والمعارف الوجدانية، ومنها ما يسمه الصوفية بالأسرار
فإنهم قالوا: إنها أمور ذوقية لا يعرفها إلا من ذاقها، فلا يصح أن تطلب، ولا أن
توهب. يقول الكاتب: إننى لا أجزم بأن الأستاذ ساق التقسيم على هذه الصورة
من التمثيل، ولكنني أعلم أنه ذكر قسمين منها ما يدخل في الكسب ويعاون فيه
الناس بعضهم بعضًا كالمال، ومنه ما ليس كذلك، وقال: إنه لا يصح قياس
أحدهما على الآخر، فالمعنى واحد وإن اختلف التمثيل أو جاء بزيادة كلمة، أو
نقص كلمة , ثم ذكر أن الناس يسألون الأموات الذين يعتقدون فيهم الولاية ما قطعه
الله عنهم من رزق الدنيا ومصالحها، وما لا يبذل من ذلك بحسب الأسباب والسنن
الإلهية، وما يبذل , فيطلبون منهم المال وزيادة الغلة ونماء الزرع وشفاء المرضى
والانتقام من الأعداء وأمثال ذلك مما لو كان فى أيديهم، وصح لهم بذله كما يبذل
صاحب الجنيه ريالاً منه لكان لهم في أمر الآخرة التي هم في شاغل عنه.
قال الشيخ الدلاصي: إننا تلقينا عن مشايخنا كما تلقوا عن مشايخهم أن سيدي
أبا الحسن الشاذلي، وسيدي أبا العباس المرسي من أولياء الله تعالى، ومن أصحاب
السر والمدد، وأن تلامذتهم في حياتهم وأتباعهم بعد مماتهم يتوسلون بهم إلى الله
تعالى، ويطلبون منهم المدد، والسر كما نرى ذلك في كتبهم ككتب ابن عطاء الله
السكندري، وسيدي مصطفى البكري (ولعله ذكر أسماء أخرى) فهل نقول: إن
هؤلاء كانوا على ضلال أم كانوا مهتدين؟
قال الأستاذ الإمام: هل جاء مثل هذا الذي تنقله عن هؤلاء الأولياء في كتاب
الله تعالى؟ قال: لا. قال: هل جاء فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:
لا. قال: هل نقل مثله عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة؟
قال: لا. قال: هل نقل عن التابعين والأئمة المجتهدين وقدماء الصوفية؟ قال: لا.
قال: فخذ هؤلاء كلَّهم - رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين
والأئمة الأربعة وقدماء الصوفية كالخراز والجنيد رئيس الطائفة وسائر أهل
القرنين الأول والثاني وضَعْهم في كفة ميزان وضَعْ في الكفة الأخرى من ذكرت من
المشايخ المتأخرين واتبعْ الراجحَ!
قال الشيخ الدلاصي: ولكن هل نقول: إن أبا الحسن الشاذلي وأبا العباس
المرسي وياقوت العرشي وابن عطاء الله السكندري ومصطفى البكري كانوا ضالين
مخالفين لهدي الله ورسوله وأصحابه أم كانوا مهتدين.
قال الأستاذ الإمام: إنك بعد بيان الحق تكرر هذا السؤال تتسقطني لأقول:
إن كل ما خالف هدي السلف فهو ضلال؛ فتخرج فتقول للعامة: إن المفتي أو فلانًا
يضلل كبار أولياء الله تعالى، ولكنني لا أقول لك ذلك , بل أقول: إن الله تعالى ما
كلفك باتباع هؤلاء حتى لو مت ولم تعلم بوجودهم في الدنيا لما سألك الله يوم
الحساب عنهم، ولكن كلفك باتباع كتابه ونبيه وهدي أصحاب نبيه الذين أخذوا
الدين عنه مباشرة، وكانوا به خير العاملين. فهل تقول إنهم كانوا ضالين؟ ثم إنني
أقول لك: إنني أنا أحترم أبا الحسن الشاذلي، وأنا من أهل طريقته لم أسلك غيرها ,
ولكن ليس كل ما ينسب إليه يصح عنه، بل قال لي شيخي الذى سلكت عليه
الطريقة: إن هذه الأحزاب المنسوبة لسيدي أبي الحسن لم تصح عنه. قال
الدلاصي: لكنها متواترة، قال الأستاذ: كيف وفريق من الشاذلية ينكرها ثم حرر
مسألة الخلاف هنا بأمور مرتبة كما ترى:
(أولها) الكتاب والسنة العملية منقولان بالتواتر القطعي وما عداهما من
سيرة النبي وأصحابه وسلف الأمة منقول بأسانيد معروفة يمكن بها تمييز الصحيح
من غيره، وما نقل عن الشاذلي وغيره من الأولياء لا سند له يحتج به شرعًا؛ فإذا
فرضنا أن كلامهم في مرتبة كلام الله ورسوله (ولا يقول بهذا مسلم) وجب ترجيح
كلام الله ورسوله وكلام السلف على كلامهم لصحة النقل كما يرجح بين الحديثين.
وكيف وقد اشتهر الكذب عليهم، ودس الزيادات في كتبهم كما صرح بذلك
الشعراني الذي كانوا يدسون عليه في حياته، ويزيدون في كتبه ما يخالف الكتاب
والسنة، ولا تزال كتبه مملوءة بهذه الدسائس (قال) ولو صح عنه كل ما نسب إليه
لما كان مؤمنًا، بل ملبسًا يريد إفساد عقائد المؤمنين، وههنا قال أحد الشيوخ
العلماء: إن فى مصر نسخة من العهود بخط الشعراني تنقص عن النسخة
المطبوعة بنحو الثلث، فلا شك أن كل هذه الأمور المنكرة شرعًا في كتب
الشعراني من الدسائس عليه. قال الأستاذ: وهذا الذي يغلب على ظني، وأنا أعتقد
أن الطبقات والمنن ليستا من تأليفه بالمرة.
ثم قال:
(ثانيها) إذا فرضنا أن النقل عنهم صحيح وأنه لا دسائس فيما ينقل عنهم
فإننا نرجح هدي الكتاب والسنة لعصمة كتاب الله وعصمة رسوله دون غيرهما.
على أن مبحثنا يتعلق بالعقائد والتوحيد، وهي لا يؤخد فيها بأحاديث الآحاد وإن
صحت، فكيف بما لا يصح من قول الناس! !
(ثالثها) إذا فرضنا أن هؤلاء الأولياء معصومون كالأنبياء، ولم يقل بهذا
مسلم فالأولى لنا أن نأول كلامهم حتى ينطبق على هدي الكتاب والسنة والسلف لأنه
الأصل باتفاقهم وإقرارهم.
(رابعها) إذا فرضنا أن الكل في مرتبة واحدة، وأنه لا أصل ولا فرع ولا
يقول بهذا مسلم أيضًا؛ فعلينا أن نعمل بالكتاب لأنه واضح مُبين كما وصفه الله
تعالى في مواضع منه، وبالسنة لأنها بيضاء واضحة كما وصفها صاحبها، وقال:
(ليلها كنهارها) وبسيرة السلف لأنهم أعلم الناس بهما، وأما كلام الصوفية فقد
صرحوا بأنه رموز واصطلاحات لا يعرفها إلا أهلها الذين سلكوا هذه الطريقة إلى
نهايتها، وصرحوا بأن من أخذ بظاهر أقوالهم ضل، وهذا ظاهر فإن كتب محيي
الدين بن عربي مملوءة بما يخالف عقائد الدين وأصوله، وهذا كتاب الإنسان الكامل
للشيخ عبد الكريم الجيلي هو في الظاهر أقرب إلى النصرانية منه إلى الإسلام،
ولكن هذا الظاهر غير مراد وإنما الكلام رموز لمقاصد يعرفها من عرف مفتاحها ,
فإن كنت تدعي ذلك (وأشار إلى الدلاصي) فإن لي معك كلامًا آخر , وإلا حرم
عليك أن تنظر في كلام القوم لئلا تفتن في دينك (قال) وإنني لما كنت رئيس
المطبوعات أمرت بمنع طبع كتاب الفتوحات المكية وأمثالها لأن أمثال هذه الكتب لا
يحل النظر فيها إلا لأهلها: وههنا سكت الشيخ الدلاصي فلم يرجع قولاً، وظهر لنا
أنه اقتنع.
وقد تذكرت أنني كنت رأيت في كتاب للشعراني أحسبه (الجواهر والدرر)
أنه سأل شيخه عليًّا الخواص: لماذا يطلب من الناس تأويل كلام الأنبياء إذا خالف
ظاهر الشرع، ولم يطلب منهم تأويل كلام الأولياء؟ فأجابه: لأن الأنبياء
معصومون فيجب حمل كلامهم على الصحة دائمًا، والأولياء ليسوا بمعصومين
فيجوز أن يكونوا مخطئين فيما خالفوا فيه. هذا وإننا في خاتمة هذا القول نعرف
القراء بالشيخ محمد الدلاصي فنقول: إنه ليس كمن يعهدون من شيوخ الطرق
الجاهلين بل هو من أهل العلم والفهم، ولولا غلوه باعتقاد تصرف الأموات في
شئون الأحياء لكان من أحسن المرشدين للعامة , وعسى أن يكون رجع عن ذلك فقد
نقل لنا من غلوه أنه أقسم بالله تعالى إن السيد البدوي يميت ويحيي، ويفقر ويغني،
ويسعد ويشقي، ويمنع ويعطي (والعياذ بالله تعالى) ، ونتمنى أن يكون هذا النقل
عنه غير صحيح، وقد عز علينا أن ننشر ذلك عنه، ثم ذكرنا أن الإنسان لا يرى
غضاغة عليه في عزو اعتقاده إليه، وإن كذب لنا النقل فإننا ننشر التكذيب فرحين
مستبشرين لأننا نعتقد أن نفع هذا الرجل يكون عظيمًا إذا هو رجع عن ذلك الرأي
الذي لا حجة له عليه إلا أنسه به، والثقة بمشايخه الذين كانوا عليه، والعقائد لا
تقليد فيها على أنه ربما كان أعلم منهم بكتاب الله الذى استأصل الوثنية من جذورها.
والخطأ في العقائد خطر عظيم , والله الهادي.
***
شرط طلب شيخ الطريق وصفته
ثم سأل أبو زيد أفندي موسى صاحب المنزل الذي نزلنا فيه (والشيخ عبد
المؤمن ولده) الأستاذ الإمام عن سلوك الطريق قائلاً ما معناه: إذا كنت أنا جاهلاً
بما يجب عليَّ لله تعالى، وعاصيًا مقصرًا فيما أعرفه من الواجب ألا ينبغي لي أن
أطلب شيخًا مرشدًا أضع يدي فى يده وأعاهده على السمع والطاعة ليدلني على الله؟
فقال الأستاذ الإمام: ينبغي لك أن تطلب المرشد، وأنا أدلك على طريقة الطلب،
وهي أن تعمل أولاً بجد وإخلاص بما تعرفه من أمور الدين التي لا خلاف فيها حتى
إذا استقمت على ذلك، وظهرت لك أمور أخرى دقيقة يشتبه عليك الحق فيها،
فاطلب من هو أشد منك محافظة على العمل بما تعلم، وأعلم منك بتلك الدقائق
ليرشدك إلى مسلك الحق فيها بالشرط الآتي. ثم سأله الأستاذ عن أمور كثيرة منها:
أتعرف أن أكل أموال الناس بالباطل حرام، وأن إيذاء الناس حرام، وأن التعاون
على الشر حرام، وأن الكذب والخيانة حرام ... وأن الصلاة والزكاة ... من
الفرائض، وأن الصدق والأمانة والتعاون على الخير ومواساة المحتاج من الفضائل
المحمودة حتى ذكر له أمهات الفضائل والرذائل، وكان يجيب عن كل واحدة بأنه
يعرف حكمها، ولا يحتاج فيه إلى مرشد ولا أستاذ.
فقال له: إذا عملت بهذا كله بإخلاص فأنا أضمن لك على فضل الله تعالى
القبول والرضوان , وأن يهديك إلى الدقائق وكشف الشبهات، فإنه قال: {وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69) وفي
الحديث: (من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم) وتستغني عن المرشد إذا لم
تجده لقلته في هذا الزمن , وإذا وجدت من تراه سابقًا لك في العلم والعمل وحسن
الخلق، وأردت أن تسترشد به فانظر وراء هذا شرطًا واحدا وهو: أن لا يكون
دين هذا الرجل دكانه، أي أن لا يقبل منك جزاء على الإرشاد؛ فإذا رأيته لا يمد
يده للأخذ فامدد إليه يدك وعاهده على الاسترشاد بعلمه وعرفانه، وإذا كان يمد يده
للأخذ منك، فلا تمدد يدك إلى يده إلا بالسكين فإنه لص قد اتخذ الدين حرفة ,
واكتف بالعمل بما تعلم، والله يهديك ويسددك. اهـ بالمعنى مختصرًا.
__________(7/432)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قضية السادات وصاحب المؤيد
حكم الشيخ أحمد أبو خطوة القاضي الشرعي فى قضية السادات وصاحب
المؤيد المشار إليها فى الجزء الماضي بأن عقد الشيخ علي يوسف على السيدة صفية
بنت السيد عبد الخالق السادات باطل بناء على عدم الكفاءة إذ ثبت لدى المحكمة
بشهادة أهل العرف في البلد وإخبارهم أن أبا الزوجة يلحقه العار بزواج صاحب
المؤيد ببنته لأنه مشهور بالشرف، وصاحب المؤيد غير مشهور به، ولا هو
شريف بالفعل. إذ ثبت أن نسبه مزور، ولأنه من أصحاب المجد الموروث ,
وصاحب المؤيد حديث عهد بنعمة الدنيا، وذكر في الحكم السابق، ولأن حرفة
الصحافة لا تكون شريفة إلا إذا كان صاحبها على معارف وصفات فصلها القاضي
في حيثيات الحكم , وذكر أن صاحب المؤيد عارٍ منها، بل متصف بضدها. هذا
هو روح الحكم وقد أعجب به الأكثرون في القطر كله، وانتقده بعض الناس بأن
في الحيثيات أمورًا خطابية غير شرعية وتضعيفًا للقوي من دفاع أحد الخصمين مع
قبول مثله من الآخر.
__________(7/440)
16 جمادى الآخر - 1322هـ
28 أغسطس - 1904م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(الوجه السادس والسبعون)
قولكم: إنكم منعتم من التقليد خشية وقوع المقلد في الخطأ بأن يكون من قلده
مخطئا في فتواه ثم أوحيتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق ولا ريب أن
صوابه في تقليده لمن هو أعلم منه أقرب من اجتهاده هو لنفسه كمن أراد شِرَى
سلعة لا خبرة له بها فإنه إذا قلد عالما بتلك السلعة خبيرًا بها أمينًا ناصحًا كان
صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه: جوابه من وجوه:
(أحدها) أنا منعنا التقليد طاعة لله ورسوله، والله ورسوله منع منه وذم
أهله في كتابه وأمر بتحكيمه وتحكيم رسوله ورد ما تنازعت فيه الأمة إليه وإلى
رسوله، وأخبر أن الحكم له وحده، ونهى أن يتخذ من دونه ودون رسوله وليجة
وأمر أن يعتصم بكتابه ونهى أن يتخذ من دونه أولياء وأربابا يحل من اتخذهم ما
أَحَلّوه ويحرم ما حرموه وجعل من لا علم له بما أنزله على رسوله بمنزلة الأنعام
وأمر بطاعة أولي الأمر؛ إذا كانت طاعتهم طاعة لرسوله بأن يكونوا متبعين لأمره
مخبرين به، وأقسم بنفسه سبحانه أنا لا نؤمن حتى نحكم الرسول خاصة فيما شجر
بيننا لا نحكم غيره ثم لا نجد في أنفسنا حرجًا مما حكم به كما يجده المقلدون إذا جاء
حكمه خلاف قول من قلدوه وأن نسلم لحكمه تسليمًا كما يسلم المقلدون لأقوال من
قلدوه بل تسليمًا أعظم من تسليمهم وأكمل والله المستعان وذم من حاكم إلى غير
الرسول. وهذا كما أنه ثابت فى حياته فهو ثابت بعد مماته فلو كان حيًّا بين
أظهرنا وتحاكمنا إلى غيره لكنا من أهل الذم والوعيد فسنته وما جاء به من الهدى
ودين الحق لم يمت وإن فقد من بين الأمة شخصه الكريم فلم يفقد من بيننا سنته
ودعوته وهديه. والعلم والإيمان بحمد الله مكانهما من ابتغاهما وجدهما.
وقد ضمن الله سبحانه حفظ الذكر الذي أنزله على رسوله فلا يزال محفوظًا
بحفظ الله محميًّا بحمايته لتقوم حجة الله على عباده قرنًا بعد قرن إذ كان نبيهم آخر
الأنبياء ولا نبي بعده فكان حفظه لدينه وما أنزله على رسوله مغنيًا عن رسول آخر
بعد خاتم الرسل، والذي أوجبه الله سبحانه وفرضه على الصحابة من تلقي العلم
والهدى من القرآن والسنة دون غيرهما هو بعينه واجب على من بعدهم وهو محكم
لم ينسخ ولم يتطرق إليه النسخ حتى ينسخ الله العالم أو يطوي الدنيا، وقد ذم الله
تعالى من إذا دعي إلى ما أنزله وإلى رسوله صد وأعرض وحذره أن تصيبه
مصيبة بإعراضه عن ذلك في قلبه ودينه ودنياه، وحذر من خالف عن أمره واتبع
غيره أن تصيبه فتنة أو يصيبه عذاب أليم؛ فالفتنة في قلبه والعذاب الأليم في بدنه
وروحه وهما متلازمان فمن فتن في قلبه بإعراضه عما جاء به ومخالفته له إلى
غيره أصيب بالعذاب الأليم ولا بد، وأخبر سبحانه أنه إذا قضى أمرًا على لسان
رسوله لم يكن لأحد من المؤمنين أن يختار من أمره غير ما قضاه فلا خيرة بعد
قضائه لمؤمن ألبتة.
ونحن نسأل المقلدين: هل يمكن أن يخفى قضاء الله ورسوله على مَنْ قلدتموه
دينكم في كثير من المواضع أم لا؟ فإن قالوا: لا يمكن أن يخفى عليه ذلك: أنزلوه
فوق منزلة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة كلهم فليس أحد منهم إلا وقد
خفي عليه بعض ما قضى الله ورسوله به.
فهذا الصديق أعلم الأمة به خفي عليه ميراث الجدة حتى أعلمه به محمد بن
مسلمة والمغيرة بن شعبة وخفي عليه أن الشهيد لا دية له حتى أعلمه به عمر
فرجع إلى قوله. وخفي على عمر:
(1) تيمم الجنب فقال: لو بقي شهرًا لم يصل حتى يغتسل. وخفي
عليه (2) دية الأصابع فقضى بالإبهام والتي تليها بخمس وعشرين حتى أخبر أن
في كتاب عمرو بن حزم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم قضى فيها
بعشر عشر فترك قوله ورجع إليه. وخفى عليه (3) شأن الاستئذان حتى
أخبره به أبو موسى وأبو سعيد الخدري. وخفي عليه (4) توريث المرأة من
دية زوجها حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان الكلابي وهو أعرابي من أهل البادية
أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أمره أن يورث امرأة أشيم الضبابي من
دية زوجها. وخفي عليه (5) حكم إملاص المرأة حتى سأل عنه فوجده عند
المغيرة بن شعبة. وخفي عليه (6) أمر المجوس فى الجزية حتى أخبره عبد
الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذها من مجوس
هجر. وخفي عليه (7) سقوط طواف الوداع عن الحائض فكان يردهن
حتى يطهرن ثم يطفن حتى بلغه عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خلاف
ذلك فرجع عن قوله، وخفي عليه (8) التسوية بين دية الأصابع وكان يفاضل
بينها حتى بلغته السنة فى التسوية فرجع اليها. وخفي عليه (9) شأن متعة الحج
وكان ينهى عنها، حتى وقف على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بها فترك
قوله وأمر بها. وخفي عليه (10) جواز التسمي بأسماء الأنبياء فنهى عنه
حتى أخبره به طلحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كناه أبا محمد فأمسك ولم
يتماد على النهي. هذا وأبو موسى ومحمد بن مسلمة وأبو أيوب من أشهر
الصحابة، ولكن لم يمر بباله رضي الله عنه أمر هو بين يديه حتى نهي عنه. وكما
خفي عليه (11) قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (الزمر: 30)
وقوله {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: 144) حتى قال: والله كأني ما سمعتها قط قبل وقتي
هذا. وكما خفي عليه (12) حكم الزيادة فى المهر على مهور أزواج النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وبناته حتى ذكرته تلك المرأة بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ
إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} (النساء: 20) فقال: كل أحد أفقه من عمر
حتى النساء. وكما خفي عليه (13) أمر الجد والكلالة وبعض أبواب الربا فتمنى
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان عهد إليهم فيها عهدًا. وكما خفي عليه
يوم الحديبية (14) أن وعد الله لنبيه وأصحابه بدخول مكة مطلق لا يتعين لذلك
العام حتى بينه له النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكما خفي عليه (15) جواز
استدامة الطيب للمحرم وتطيبه بعد النحر وقبل طواف الإفاضة وقد صحت السنة
بذلك. وكما خفي عليه (16) أمر القدوم على محل الطاعون والفرار منه
حتى أخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا سمعتم به بأرض
فلا تدخلوها وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها فرارًا منه هذا وهو أعلم الأمة
بعد الصديق على الإطلاق وهو كما قال ابن مسعود: لو وضع علم عمر في كفة
ميزان وجعل علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر. قال الأعمش: فذكرت
ذلك لإبراهيم النخعي فقال: والله إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم.
وخفي على عثمان بن عفان أقل مدة الحمل حتى ذكره ابن عباس بقوله تعالى:
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف: 15) مع قوله {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْن} (البقرة: 233) فرجع إلى ذلك.
وخفي على أبي موسى الأشعري ميراث بنت الابن مع البنت السدس حتى
ذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورثها ذلك.
وخفي على ابن عباس تحريم لحوم الحمر الأهلية حتى ذكر أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم حرمها يوم خيبر.
وخفي على ابن مسعود حكم المفوضة وترددوا فيها شهرًا فأفتاهم برأيه ثم بلغه
النص بمثل ما أفتى به.
وهذا باب لو تتبعناه لجاء سفرًا كبيرًا فنسأل حينئذ فرقة التقليد، هل يجوز أن
يخفى على من قلدتموه بعض شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يخفى
ذلك على سادات الأمة أو لا؟ فإن قالوا: لا يخفى عليه وقد خفي على الصحابة مع
قرب عهدهم بلغوا في الغلو مبلغ مدعي العصمة في الأئمة، وإن قالوا: بل يجوز
أن يخفى عليهم وهو الواقع وهم مراتب في الخفاء في القلة والكثرة.
قلنا: فنحن نناشدكم الله الذي هو عند لسان كل قائل وقلبه إذا قضى الله
ورسوله أمرًا خفي على من قلدتموه هل تبقى لكم الخيرة بين قبول قوله ورده أم
تنقطع خيرتكم وتوجبون العمل بما قضاه الله ورسوله عينا لا يجوز سواه؟ فأعدوا
لهذا السؤال جوابًا، وللجواب صوابًا، فإن السؤال واقع والجواب لازم والمقصود
أن هذا هو الذى منعنا من التقليد فأين معكم حجة واحدة تقطع العذر وتسوغ لكم ما
ارتضيتموه لأنفسكم من التقليد.
(الوجه الثاني) أن قولكم صواب المقلد في تقليده لمن هو أعلم منها أقرب من
صوابه في اجتهاده دعوى باطلة فإنه إذا قلد من قد خالفه غيره ممن هو نظيره أو
أعلم منه لم يدر على صواب هو من تقليده أو على خطأ، بل هو كما قال الشافعي:
حاطب ليلٍ إما أن يقع بيده عود أو أفعى تلدغه. وأما إذا بذل اجتهاده في معرفة
الحق فإنه بين أمرين: إما أن يظفر به، فله أجران، وإما أن يخطئه فله أجر فهو
مصيب للأجر ولا بد , بخلاف المقلد المتعصب فإنه إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ
لم يسلم من الإثم، فأين صواب الأعمى من صواب البصير الباذل جهده؟ .
(الوجه الثالث) أنه إنما يكون أقرب إلى الصواب إذا عرف أن الصواب مع
من قلده دون غيره، وحينئذ فلا يكون مقلدًا له، بل متبعًا للحجة، وأما إذا لم يعرف
ذلك ألبتة؛ فمن أين لكم أنه أقرب إلى الصواب من باذل جهده ومستفرغ وسعه في
طلب الحق؟ .
(الوجه الرابع) أن الأقرب إلى الصواب عند تنازع العلماء من امتثل أمر
الله فرد ما تنازعوا فيه إلى القرآن والسنة، أما من رد ما تنازعوا فيه إلى قول
متبوعه دون غيره فكيف يكون أقرب إلى الصواب.
(الوجه الخامس) أن المثال الذي مثلتم به من أكبر الحجج عليكم فإن من
أراد شرى سلعة أو سلوك طريقة حين اختلف عليه اثنان أو أكثر وكل منهم يأمره
بخلاف ما يأمره به الآخر فإنه لا يقدم على تقليد واحد منهم، بل يبقى مترددًا طالبًا
للصواب من أقوالهم فلو أقدم على قبول قول أحدهم مع مساواة الآخر له في المعرفة
والنصيحة والديانة أو كونه فوقه في ذلك عُدَّ مخاطرًا مذمومًا، ولم يمدح إن أصاب
وقد جعل الله في فطر العقلاء في مثل هذا أن يتوقف أحدهم ويطلب ترجيح قول
المختلفين عليه من خارج حتى يستبين له الصواب، ولم يجعل في فطرهم الهجم
على قبول قول واحد واطراح قول من عداه.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(7/449)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الفداء والقداسة
قد اعتاد ذلك الشاب القبطي الذي كان يحرر مجلة (بشائر السلام) على
الارتزاق والتعزز عند قومه بدعوة المسلمين إلى النصرانية، ولما خُذلت تلك
المجلة، ولم يجد مجلة ولا جريدة غيرها تقبل أن تستخدمه لينشر بضاعته المزجاة
رأى أن يطبع منشورات في الدعوة إلى النصرانية , ويطوف في البلاد موزعًا لها
ويظهر أن له من قومه أعوانًا يرضخون له إسعادًا على هذا العمل الذي يرون أنه
يغيظ المسلمين، وربما يعتقد الغافلون منهم أنه ربما يشككهم في دينهم. وقد أرسل
إلينا الكاتب نسخة من منشوره وكتب عليها ما نصه:
(بما أني قد لاحظت من جريدتكم الزاهية شديد الغيرة للدفاع عن حوزة
الإسلام بعثت إليكم بهذا الخطاب للرد عليه بمعرفتكم، ونشر الرد على صحيفتكم ,
وإن لم تستطيعوا لقوة البراهين الموردة فيه أرجوكم إذًا أن تعيروه انتباهكم وتعملوا
بما فيه ودمتم) .
ومن البديهي أنه لم يرسل إلينا ذلك ويطالبنا بالرد عليه في المنار إلا لأجل
إشهاره وإشهار نفسه , ولو كان قاصدًا إقناعنا بالأوهام التى سماها براهين لما طلب
منا الرد عليها. ولعمري إن أمثال هذه الأوهام الصبيانية لا تستحق أن يرد عليها
لأن العقل الذي يخشى أن يغتر بها يستحق بها أن لا يُبَالى به وأشرف للمسلمين أن
لا يكون منهم. ولكننا مع هذا نذكر البرهان الذي قامت عليه هذه الدعوة أو هذه
الديانة التي نسبت إلى المسيح عليه السلام بعد وفاته ورفعه إلى دار الكرامة عند
ربه بقرون؛ ليحمد المسلمون ربهم على توفيقهم لهذا الدين القويم , ولتقوم حجته
على المقلدين الغافلين.
كان دعاة النصرانية يصورون مسألة الفداء بأنها الجامعة بين رحمة الله تعالى
وعدله , فلا يتصور العقل (النصراني) أن يكون خالق السموات والأرض على
أبدع نظام رحيمًا عادلاً إلا إذا حل في بطن امرأة من كرة صغيرة من مخلوقاته التي
لا يعلمها غيره , ثم ولد منها فصار إنسانًا إلهًا ثم سلط عليه أعداءه فصلبوه. وقد
بينا من قبل أن النصارى أخذوا هذه العقيدة عن الوثنيين (راجع المجلد الرابع من
المنار أو الجزء الأول من كتاب شبهات النصارى وحجج الإسلام) وقد جاءنا
المبشر القبطي في منشوره بتصوير آخر يشبه الأول , وهو أن الإيمان بواحدانية
الله تعالى يعوزه الإيمان بأنه تعالى قدوس قال: (لأنه أهون عليه تعالى أن تشرك
به آلهة كثيرة من أن تنفى عنه القداسة) ثم قال: (إنه لا يمكن أن يكون الله قدوسًا
تلقاء معاملته لعالمنا الأثيم بهذه المعاملة إلا إذا اعتبرنا صحة الفداء) فانظر إلى هذه
القداسة المتوقف عندهم إمكانها على اعتبارنا هذه العقيدة التي لا يستطيع العقل
التصديق بها , وإن قال لسان المقلدين من النصارى: إن ذلك من عقائد قلوبهم.
ما أضعف عقول المقلدين , يفسر لهم الشيء بضد معناه فيسلمون خاضعين ,
إن القداسة هي الطهارة والنزاهة، ومعنى كونه تعالى قدوسًا أنه جل جلاله منزه
عن كل ما لا يليق بالألوهية من صفات المخلوقات وشئونهم كالتحول والانتقال
والحلول في الأجسام والعجز وغير ذلك مما عبر عنه أحد أئمتنا بقوله: (كل ما
خطر ببالك فالله تعالى بخلاف ذلك) ، ولكن القداسة الإلهية عند النصارى لا تتحقق
لله، بل لا تمكن إلا باعتبار اعتقاد طائفة صغيرة من خلقه وهم البشر ولو بعضهم
بشرط أن يكون هذا الاعتقاد ضد القداسة , ونقيضها وهو أن ينتقل الخالق ويحل في
بطن امرأة.. إلخ فما أعجب هذه القداسة! ! ! وأعجب منها أن يدعو أهلها إليها
المسلمين الذين يقولون: إن الله تعالى قدوس بذاته من الأزل قبل أن يخلق
النصارى والمسيح وكل البشر , وأن هذا الوصف واجب له لا يمكن انتفاؤه ولو
كفر جميع البشر به لأن ما كان بالذات لا يزول إلا بزوال الذات، وأنه لا يتوقف
على فداء ولا غيره , وإلا كان أمرًا اعتباريًّا لا ذاتيًّا. تعالى الله عن ذلك علوًّا
كبيرًا.
يقولون: إن الغرض من هذا التفسير تنزيه الباري تعالى عن الرضى
بالمعاصي والشرور التي عملها ويعملها الناس من لدن آدم إلى أن ينقرضوا، وفي
هذا من التناقض نحو ما في سابقه لأنهم يزعمون أن من يؤمن بهذا الفداء لا يؤاخذه
الله بذنب , وهذا هو عين الرضى بالمعاصي والشرور لأنه إباحة لها. أليس من
العجائب أن يتصدى من يقول: إن الله لا يكون قدوسًا كارهًا للمعاصي إلا إذا أباحها
إلى دعوة المسلمين لعقيدته وهم الذين يعتقدون أن من تقديس الباري وتنزيهه وعدم
رضاه بالمعاصي أن جعل لكل معصية جزاء وعقوبة ليعتبروا ويتربوا بالنظر في
تأثير أعمالهم في أنفسهم وفى الكون لأنه تفضل عليهم بالإرادة والعقل والاختيار في
أعمالهم! فهل بعد هذا التقديس والتنزيه من تقديس وتنزيه؟
وقال مجيبًا عن قول المسلمين: (إن الله غفور رحيم) إن الرحمة والمغفرة
لا يمكن أن يكونا بغير الفداء؛ لأنهما حينئذ من الرضى بالمعصية , وضرب لذلك
مثل الجاني يعفو عنه الحاكم الظالم حبًّا فى الظلم وارتياحًا له كأنه يقول: إن الحاكم
إذا سمح لرعيته بأن يرتكبوا جميع الفواحش والمنكرات وقتل ابنه البريء فداءً
عنهم يكون عادلاً رحيمًا حكيمًا نزيهًا؛ لأنه عاقب البريء وجعله فدية للأثيم! !
وأي ظلم وجور وقسوة وحب للآثام والجرائم أشد من هذا؟ ولكن التقليد يعمي
البصر والبصيرة ويطفئ نور الفطرة حتى لا يكون بدعًا عند صاحبه قلب الحقائق
وتفسير النقيض بالنقيض. ومن العجيب - وأي قولهم ليس بالعجيب - أن صاحب
هذا السخف يدعو إليه المسلمين الذين يعتقدون أن رحمته تعالى قضت أن تكون
عواقب المعاصي كلها سيئة؛ لتكون أعمال الناس عبرة لهم وسببًا لتربيتهم وترقيهم
بعلمهم وعملهم، وأنه تعالى قرن وعد المغفرة بالتوبة، ووعد الرحمة بإحسان العمل
فقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82) وقال:
{إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ} (الأعراف: 56) ونهى عن اليأس من
رحمته مهما أذنب العبد لتدوم رغبته في فضل الله وقال: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ} (هود: 114) لأن آثار الحسنة في النفس ضد آثار السيئة،
والمراد من الدين ترقية النفس ليرجع المؤمن عن ذنبه ويتوب عالمًا بفائدة التوبة،
ومعنى المغفرة.
ثم إن صاحب المنشور حاول أن يجيب عن الاعتراض الذي طالما وجهناه
إليهم قولاً في مجتمعهم وكتابة في المنار , وهو أن كون الفداء هو الذي يحقق
اتصاف الباري بالرحمة والعدل (وزد هنا القداسة) يقتضي أن يكون الله تعالى قَبْلَ
صلبِ المسيح غير عادل ولا رحيم ولا قدوس فهذه الصفات إنما حدثت له على
رأيهم وإيمانهم منذ ألف وتسعمائة سنة تقريبًا، ولكن العقل يدل على أن صفاته
تعالى كلها قديمة بقدمه وكذلك كتبهم فإن إبراهيم وولده ومن قبلهم من الأنبياء كانوا
يقدسون الله تعالى ويصفونه بالرحمة والعدل , فهذه العقيدة ينقضها العقل والنقل.
فقال في جوابه: (إن الفداء وإن كان تم بعد خلق العالم بقرون فإن صاحبه
وعد به من بدء العالم ورمز إليه بالقرابين فابتدأت أثماره تظهر من ذلك الحين)
اهـ، ونقول في جواب الجواب: بخ بخ لهذه البراهين التي لا يقوى أحد على
نقضها، بل يا أسفى على الفطرة البشرية التي يبلغ التقليد إلى هذه الغاية من
إفسادها. إن القرابين وجدت في الملل الوثنية , فهل كان الوثنيون ناجين ومقربين
إلى الله بها؟ وهل كان هذا القرب والرضوان الإلهي لأنهم وعدوا من كهنتهم بأن
الله سيصلب نفسه بعد في جسم بشري يولد من فرج امرأة لأجلهم , وجعلت هذه
القرابين رمزًا لذلك؟ إن الوثنيين قد سبقوا النصارى إلى خرافة الفداء؛ إذ قالوا:
إن الإله أودين رمى نفسه في نار عظيمة فأحرقها فداءً عن عباده (راجع ص448م4
أو المقالة الخامسة من الجزء الأول من كتاب شبهات النصارى وحجج الإسلام) , ثم
إنه لم ينقل عن إبراهيم خليل الرحمن ولا عن إدريس (أخنوخ) الذي رفعه الله
إليه أنهما كانا يقولان بهذا الفداء أو يشيران إلى هذا الرمز الوثني فهل كان
التوحيد ذنبًا لهما، ولغيرهما من الأنبياء وكان الوثنيون المتقدمون هم الناجين؟
وكذلك موسى لم يقل به، بل لم يقل به أحد إلا هؤلاء النصارى.
هذه هي خرافة الفداء وهذه قيمة شبهة القرابين التي هي عندهم البرهان
المبين , ومن العجائب أن أصحابها يدعون إليها المسلمين الذين بيَّن دينهم حكمة
القرابين بما يليق بحكمة الباري ويتفق مع تقديسه وتنزيهه في قوله تعالى: {لَن
يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ
عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ} (الحج: 37) الله أكبر الله أكبر , لمع الحق
وظهر، وتلاشت شبهة الذي كفر، وبطل قول صاحب المنشور لمنكر الصلب
والفداء: (واحذر كل الحذر من إنكار ذلك , وإلا كنت منكرًا لقداسة الله، وليس
على وجه الأرض كفر أعظم من هذا , فالمشرك والملحد وعابد الصنم يكون في يوم
الدين ألطف حالاً من منكري الصلب الذي هو قداسة الله ورحمته وغفرانه) وعلم
أن الحق نقيض قوله، وهي أن العقيدة تنافي ذلك , وحسبك أن صاحبها يفضل
الملحد على المؤمن الذي ينكرها. فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين.
__________(7/453)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السؤال والفتوى
اشتراط الولي في النكاح
(س58) أ. م. المدرس في (القاهرة) : لقد أنصفتم فيما كتبتموه في
مقالة (الأولياء والكفاءة إلخ) إذ اقتصرتم فيها على ما ورد في الكفاءة من
الأحاديث مع بيان مذهب الحنفية في ذلك , وتركتم الحكم للرأي العام , وإنما نود
أن تبينوا لنا رأيكم فى وجوب اشتراط الولي أو عدمه مستدلين على ذلك بالكتاب
والسنة كما هي طريقتكم مع بيان حكمة الشريعة فى ذلك بتفصيل كاف وبيان شاف ,
لا زال مناركم هاديًا وعلمكم نافعًا كافيًا.
(ج) الذي يفهم من القرآن العزيز وكلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
ومضت به السنة , ونقل عن جماهير الصحابة ولم ينقل عنهم خلافه أن الولي هو
الذى يزوج , وأنه لابد منه إن وجد , وأن الأنثى لا تزوج نفسها , ولكن ليس للولي
أن يزوجها بدون رضاها , واكتفى الشرع بسكوت البكر لحيائها , واشترط أمر
الثيب للولي , وبذلك أعطى النساء حقًّا لم يكن لهن فى غير هذه الشريعة العادلة ,
وجعل الرجال قوامين عليهن مع العدل والشفقة وعدم الإكراه حفظًا لنظام البيوت
وجمعًا بين مصلحة الرجال والنساء , وإليك الدلائل:
قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُم} (النور: 32) وهو خطاب للرجال
الذين يتولون العقد.
وقال تعالى مخاطبًا لعموم المكلفين: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ
تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ} (البقرة: 232)
فالآية صريحة في نهي الأولياء عن عضل الثيب , ولا يملك العضل إلا من بيده
عقدة النكاح , ومن زعم أن الخطاب بالنهي للأزواج نرد عليه بالسياق وبما أخرجه
البخاري وأصحاب السنن وغيرهم بأسانيد شتى من حديث معقل بن يسار قال:
كانت لي أخت فأتاني ابن عمي فأنكحتها إياه , فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة
ولم يراجعها حتى انقضت العدة , فهويها وهويته , ثم خطبها مع الخطاب , فقلت له:
يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها , والله لا ترجع إليك أبدًا ,
وكان رجلاً لا بأس به , وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله حاجته إليها
وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله هذه الآية. قال: فَفِيَّ نزلت فكفرت عن يميني
وأنكحتها إياه. وفى لفظ: فلما سمعها معقل قال: سمعًا لربي وطاعة , ثم دعاه فقال:
أزوجك وأكرمك. ولو كان لها أن تزوج نفسها لفعلت مع ما ذكر من رغبتها. ثم
إن الآية إنما حرمت العضل على الولي ولو أراد الله أن لا يجعل للولي حقًّا على
الثيب لنزلت الآية في بيان أن لهن أن يزوجن أنفسهن. ولا يقال: إنها خاصة
بتحريم العضل عن الأزواج السابقين لأن العبرة بالعموم لا سيما مع اتحاد العلة
المشار إليها في تتمة الآية , وهي قوله تعالى: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُون} (البقرة:
232) فإنها تشير إلى مراعاة المصالح في هذه المعاملات , ولا تجعلها أمورًا
تعبدية , ومصلحة المرأة فى العودة إلى زوجها الأول مع التراضي كما أن مصلحتها
أن تتزوج مطلقًا فالعضل محرم على كل حال , وهو لا يتحقق إلا إذا كان الولي هو
الذى له حق التزويج برضاها.
وقال تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً
فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة: 237)
الظاهر أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي , وهو مروي عن ابن عباس وعائشة
وطاووس ومجاهد وعطاء والحسن وعلقمة والزهري , ولكن روى ابن جرير
وغيره فى المرفوع أنه الزوج وفي إسناده مقال وإن حسنوه , ولم يذكره السيوطي
فى أسباب النزول , ولم نرجح الأول عليه لهذا ولكن للسياق , فإنه يقول للأزواج:
إذا طلقتم قبل الدخول فعليكم أن تدفعوا نصف المهر المفروض إلا إذا سمحت
المعقود عليها بذلك بنفسها أو سمح وليها به , وليس يظهر , أو سمح الزوج به لأن
الزوج هو المكلف بالدفع , وإنما قال به قوم وأولوه لأن من قواعدهم أن الولي لا
يملك التصرف بمال موليته , ولذلك خصه بعض من قال: إنه الولي بالمطلقة
الصغيرة , وفاتهم أن المذاهب لا يصح أن تقيد القرآن ولا أن تخصصه. على أن
الجمع بين الآية وبين قاعدتهم سهل , وهو أن يحمل على عفو وسماح يعلم به الولي
رضاها أو يعوضها عنه مثله أو خيرًا منه إذا رأى أن اللائق به أن لا يأخذ من
الزوج شيئًا لأنه لم يدخل بها , وقد رأيت أن الآية تحث على هذا العفو لأن المأخوذ
فى هذه الحالة يثقل على النفوس من الجانبين؛ الزوج يراه كالغرامة والولي
والزوجة يريانه كالصدقة. ومن نظر فى التعامل والآداب الإسلامية يرى أن ما
جرى عليه المسلمون من إمضاء الولي أمثال هذه الأمور , وعدم حضور البنت
المطلقة إلى مجلس الطلاق وتصريحها بعفو , أو مباشرتها لقبض. ومن اتفاق
الناس على أن هذا لا يليق بها , ومن التسامح بين الأولياء والبنات لا سيما إذا كان
الولي أبا أو جدًّا , كل ذلك من العمل بآداب القرآن وفضائل الإسلام. وهناك آيات
أخرى كآية النساء: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} (النساء: 19) وآية البقرة: {وَلاَ
تُنكِحُوا المُشْرِكِينَ} (البقرة: 221) خاطب الرجال لأنهم هم الذين يزوجون ولم
يخاطب النساء بذلك قط.
وأما الحديث فقد روى أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا
البكر حتى تستأذن) . وهو يُفهِم أن حق مباشرة العقد للرجال , ولكنه أوجب أن
يكون برضى النساء , فالثيب لابد من أمرها صريحًا , ويُكْتَفَى أن يستأذن البكر
فتسكت , ولذلك قالوا: يا رسول الله , وكيف إذنها؟ قال: (أن تسكت) وهذا أصح
حديث فى الباب اتفق عليه أهل الصحيح , وهو يدل على أن من الآداب الاسلامية
أن لا تصرح البكر بطلب الزواج لأنه لا يليق بالحياء الإسلامي الذى هو فخر لها
وهي لا تعرف الرجال , فليعقل هذا من يقولون: إن الشريعة أعطت للبنت الحق
في أن تزوج نفسها بدون رضاء أبيها أو غيره فلا يصح أن يقال: إن ذلك مخالف
للآداب الدينية. وفى حديث عائشة المتفق عليه قالت: قلت: يا رسول الله تستأمر
النساء في أبضاعهن؟ قال: نعم. قلت: إن البكر تستأمر فتستحي فتسكت. فقال:
(سكاتها إذنها) وفى رواية (إذنها صماتها) , وهذا الاستفهام من عائشة يدل
على أنه لم يكن يعهد فى ذلك العصر أن يزوج المرأة غير وليها , وكأنهم رأوا من
الغريب أن تستأمر في ذلك.
وقالوا: ينبغي أن تعلم البكر أن سكاتها إذن. ولا ينافي هذا حديث ابن عباس
عند مسلم وأصحاب السنن (الثيب أحق بنفسها من وليها , والبكر تستأذن فى نفسها
وإذنها صماتها) لأنه يحمل على أنه لا يزوجها إلا بأمر صريح منها جمعًا بين
الأخبار الماضية والآتية وموافقة للكتاب , وأنه لا يصح العقد إلا بذلك , وأما البكر
فيجب استئذانها , ولو زوجها بدون إذنها يكون العقد موقوفًا على إجازتها , ويدل
على ذلك فى الموضعين ما تقدم في الجزء العاشر من حديث عبد الله بن بريدة ,
وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أمر الفتاة لها فأجازت عقد أبيها وتزويجه إياها.
وحديث خنساء بنت خدام الأنصارية وهو أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك ,
فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها رواه أحمد والبخاري وأصحاب
السنن.
وعن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي)
رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وكذلك ابن حبان والحاكم وصححاه , وذكر
له الحاكم طرقًا , وقال: قد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش , ثم سرد تمام ثلاثين صحابيًّا فلا يضر
مع هذا وما سيأتي الاختلاف فى وصله وإرساله.
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة نكحت بدون إذن
وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل , فإن دخل بها فلها المهر بما
استحل من فرجها , فان اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له) رواه الذين رووا
ما قبله , وحسنه الترمذي منهم , وأخرجه أيضًا أبو عوانة وابن حبان والحاكم
وأعلوه بإنكار الزهري له , وأي مانع من نسيانه إياه , وقد رواه عن ابن جريج
عشرون رجلاً. ورواه أبو داود الطيالسي بلفظ (لا نكاح إلا بولي , وأيما امرأة
نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل , فإن لم يكن لها ولي فالسلطان
ولي من لا ولي له) .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزوج
المرأة المرأة , ولا تزوج المرأة نفسها؛ فإن الزانية هي التي تزوج نفسها) رواه
ابن ماجه والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات. وروى الشافعي
والدارقطني عن عكرمة بن خالد قال: جمعت الطريق ركبًا , فجعلت امرأة ثيب
أمرها بيد رجل غير ولي , فأنكحها , فبلغ ذلك عمر فجلد الناكح والمنكح ورد
نكاحها. وقد نقل بطلان العقد بغير ولي عن علي وعمر وابن عباس وابن مسعود
وأبي هريرة وعائشة , وهؤلاء أعلم الصحابة , وقال الحافظ ابن المنذر: إنه لا
يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك. فتبين أن الكتاب والسنة وعمل الصحابة
وأقوالهم وإن شئت قلت كما يقول الفقهاء: إجماعهم على أن النكاح لا يصح بدون
ولي , وجرى على هذا سلف الأمة وخلفها عملاً. حتى الحنفية الذين رووا عن
أئمتهم في المسألة روايتين؛ ظاهر الرواية أن نكاح الحرة العاقلة البالغة ينعقد
برضاها ولو بدون ولي قال فى الهداية: (وعن أبى يوسف أنه لا ينعقد بدون ولي ,
وعن محمد: ينعقد موقوفًا) وقولهما هو الموافق للأحاديث , فهل يصح أن يترك
الحنفية هذ القول عندهم المؤيد بما رأيت من النصوص وعمل الصحابة لأجل تلك
الرواية المخالفة لذلك؟ تأمل وأنصف.
هذا هو شرع الله فى المسألة , وحكمته ظاهرة , وشرحها بالتفصيل يتوقف
على إعادة ما كتبناه غير مرة في استقلال النساء وولاية الرجال عليهن , ونقول هنا
بالإيجاز: إن النساء كن قبل الاسلام كالعبيد والماعون عند العرب وغيرهم ,
فرفعهن الله إلى مساواة الرجال فى الحقوق , والتصرف فى الأموال , ولكنه جعلهن
تحت ولاية الرجال , ولم يعطهن تمام الاستقلال فأوحب أن يكون للمرأة قيم يسوسها
ولكن ليس له أن يتصرف فى مالها ولا فى نفسها بدون إذنها ورضاها بالمعروف ,
وهذا القيم هو الأب ثم الأقرب فالأقرب من محارمها حتى تتزوج فيكون الزوج هو
القيم والرئيس عليها , فليس لها أن تنفصل من البيت موقتًا بسفر بعيد بدون ذي
محرم , وليس لها أن تنفصل منه بالمرة بالزواج بدون إذن الأقرب فالأقرب من
قوام البيت , فلابد من اتفاقها مع وليها في إنفاذ هذا الأمر الذى يهمه ويهمها لأنها
خلقت للقيام بأمر بيت , فإذا طلقها الزوج فإنها تعود إلى بيت الولي فلابد أن يكون
للولي يد في اختيار الزوج لها لئلا يلحقه من سوء اختيارها أذى أو عار. ولأنه
أعرف بأحوال الرجال منها , وأبعد عن الهوى فى الاختيار , ولأن من مقاصد
المصاهرة التآلف بين البيوت (العائلات) والعشائر، وانفرادُ المرأة باختيار الزوج
ينافي ذلك , ويكون سببًا للعداوة والبغضاء. ولأنه ليس في اتفاق الولي معها على
انتقاء الزوج وتوليه العقد عنها أدنى هضم لحريتها بعدما علم من اشتراط رضاها -
ولهذا المعنى ورد في الأحاديث أيضًا طلب استئذان الأم والعلم برضاها - وما علم
من تحريم العضل أي الامتناع من تزويجها بمن يليق بها ويرجى أن يحسن
عيشها معه كما نطقت به النصوص السابقة. وإذا اتفق أنها اذا أرادت زوجًا لم يرده
هو بلا عذر ككونه غير كفؤ يلحقه به العار هو وبيته فقد جعل لها الشرع مخرجًا
برفع أمرها إلى الحاكم , فتبين بهذا أن اشتراط الولي مع رضى الزوجة فى العقد
هو الذى يتم به نظام البيوت ويليق بكرامة النساء والرجال معًا , وأن الخروج عنه
خروج عن الشريعة والمصلحة جميعًا. وأي فساد في العائلات أكبر من خروج
العذارى من بيوتهن وعدم عودتهن إليها لاختيارهن أزواجًا يعقدن عليهم ويدعن
آباءهن وأهلهن في حيرة واضطراب , ويوقعن بينهم وبين الزوج وأهله العداوة
والخصام , وقد أشرنا إلى اشتراط الولي في مقالة الكفاءة , وهذا تفصيله ودليله
والله عليم حكيم.
* * *
زواج الشيعي بالسنية
(س59) ز. ف. في (القاهرة) : هل يجوز للسُّنّيّة أن تتزوج بشيعي أم
لا؟
(ج) قد علم مما ذكرناه في جواب سؤالك السابق وما قبله أن هذا جائز ,
وذلك أن أهل السنة يذكرون من مناقبهم التي يفضلون بها سائر أهل المذاهب
الإسلامية أنهم لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة وإنْ كفرهم متأول , وقد صرحوا
بصحة إيمان الشيعة لأن الخلاف معهم في مسائل لا يتعلق بها كفر ولا إيمان
فالشيعي مسلم له أن يتزوج بأية مسلمة. وإذا نظرنا إلى ما أصاب المسلمين من
التأخر والضعف بسبب العداوة المذهبية , وأننا في أشد الحاجة إلى التآلف
والتعاطف والاتحاد يتبين لنا أن مصاهرة المخالف فى المذهب ضرورية في هذه
الأيام التي أحس المسلمون فيها بخطئهم السابق فى التنافر والتباعد لأن المصاهرة
من أعظم أسباب الاتحاد.
* * *
تعدد الجمعة وإعادة الظهر
(س60) السيد محضار بن حسن فى (سنغافوره)
ما قولكم دام بقاؤكم فيما هو الجاري ببلد سنغافوره من تعدد الجمعة فيها فى
نحو أربعة عشر مسجدًا مع ما تعلمون من قول متأخري الشافعية في تعددها على
هذا النحو. ولكن هل يجوز الإنكار على من اقتصر على صلاة الجمعة ولم يصل
بعدها الظهر ويباح ثلبه والاستخفاف به أم لا؟
(ج) إن الشافعية يشترطون لوجوب إعادة الظهر أن يكون تعدد الجمعة
لغير حاجة بأن يكون بعض هذه المساجد كافيًا للمصلين. وإذ كانت هذه المسألة من
المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نص عن الشارع فلا يجوز أن ينكر فيها على
من لم يصل الظهر بعد الجمعة , وتجعل سببًا للتنازع بين المسلمين. ودليل
الشافعية على إعادة الظهر ضعيف جدًا , وإن كان ما فهموه من قصد الشارع اجتماع
الناس والحرص على عدم تفرقهم صحيحًا , فإن هذا لا يقتضي أن يطالبوا
بفريضتين فى وقت واحد فإذا قلنا بالتقليد فلا يجوز للشافعي أن ينكر على من اتبع
غير مذهبه؛ لأن جميع الأئمة على هدى من ربهم وإذا اتبعنا الدليل وقوته كان لنا
أن ندعوا الشافعية إلى ترك إعادة الظهر ولكن بالتي هي أحسن , ولا يجوز
لمسلم أن يهين مسلمًا أو يثلبه لأجل الخلاف في أمثال هذه المسائل الظنية , والله
أعلم وأحكم.
* * *
الذكر مع النطق باسم العدد
(س61) ومنه: ما قولكم فيما صرح به كثير من المتأخرين من أن من قال
في الصلاة هكذا: سبحان ربي العظيم وبحمده ثلاثًا - بلفظ ثلاثًا - لا بتكرير
التسبيح؛ حصل له كمال السنة وكذا لو قال بعد المكتوبة: سبحان الله ثلاثًا وثلاثين ,
الحمد لله كذلك , الله أكبر كذلك , بهذا اللفظ حصل له الفضل الموعود , وإن قال:
سبحان الله مائة ألف مرة يحصل له ثواب من كررها مائة ألف مرة , وما توسط
به بعضهم فقال: له أجر أكثر ممن قالها بدون لفظ العدد , لكنه دون أجر من كرر
العدد. وقد خالف هذا بعض من حضر قراءة عبارات المصنفين المذكور فحواها
فقال: إن النبي قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وما بلغنا أنه ألحق ثلاثًا بشيء
من أذكار الصلاة , بل أمر بتكرير الأذكار , ولم يفهم أحد من الصحابة ما فهمه
هؤلاء المصنفون فمن أدخل في الصلاة ما ليس فيها فقد عصى وتلاعب وابتدع.
أما في غير الصلاة فما ورد على النبي الله عليه وسلم نحو سبحان الله وبحمده عدد
خلقه إلخ فلا شك أن فيه فضلاً كبيرا بموجب الوعد وليس لنا أن نقيس عليه , وذكر
احتجاجًا وردًّا على ما احتج به المخالف لا حاجة إلى تسطيره لكم وقد أحببنا
استجلاء هذا الحقيقة منكم فأفيدونا , ولكم الفضل.
(ج) ما قاله هذا المعترض على المؤلفين هو الحق وكلامه كلام فقيه في
الدين , وقد صرحنا فى المنار مرارًا بأن العبادات لا قياس فيها. والعجب من
هؤلاء المصنفين يمنعون الاجتهاد بمعنى الاستدلال على الأحكام وفهم الكتاب والسنة،
ويبيحون لأنفسهم الاجتهاد بالتلاعب فى الدين وتغيير بعض أحكامه والزيادة
والنقص من عباداته مع إكمال الله إياه فقولهم: يكتفى فى أذكار الصلاة المكررة
التلفظ باسم العدد يقتضي اذا سلم أنه يجوز لنا أن نغير الأذان بأن يقول المؤذن:
(ألله أكبر أربع مرات. أشهد أن لا إله الا الله مرتين) ، وهكذا بذكر لفظ العدد، وما
هو إلا قياس شيطاني يراد به إفساد الدين. فهو قول باطل لا يلتفت إليه. أما قول
الذين سميتموهم متوسطين فهو ليس بشيء أيضًا , وإن كان لا يبلغ فساد الأول
وقبحه , فإن ذكر لفظ العدد لغو ليس له أثر في النفس؛ فنقولَ: إنه مفيد بأثره ,
ولم يعد عليه الشارع بشيء؛ فنقولَ: إننا نسلم به تعبدًا , وليس هو من قبيل:
سبحان الله وبحمده عدد خلقه. فإن هذه الصيغة أمثالها كقولك: الحمد لله عدد نعم
الله , لها أثر فى النفس بما فيها من الاعتراف بكثرة النعم , وتذكرها مجملة ,
واعترافك باستحقاق المنعم بالحمد عليها , وإنما كان الذكر عبادة باعتبار ما له من
مثل هذا الأثر في النفس , ولا ثواب عليه من حيث هو حركات فى اللسان وكيفية
فى الصوت , وإنما الثواب عليه بما ذكرنا من تأثيره فى النفس , فإن ذاكر الله مع
هذا الحضور ينمو الإيمان في قلبه ويصير كثير المراقبة لله تعالى , وذلك أعظم
رادع عن الشرور والرذائل , ومرغب فى الخيرات وأعمال الفضائل , والمراقبة
تثمر الخشية كما أن الذكر يثمر الأنس بالله تعالى أيضًا , وناهيك بذلك سعادة لا
يعرفها إلا من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه , ولهذه المعاني قوبل
الذاكر بالغافل فكان ضده , وإنما موضع الغفلة القلب فهو موضع الذكر أيضًا , وإنما
اللسان محرك لقلب المبتدئ وضعف الإيمان كما أن القلب هو المحرك للسان المؤمن
الكامل. بل الذكر فى الأصل هو ذكر القلب , ومنه التذكر والذكرى والأقوال التى
تكون سببًا لذكر القلب تسمى ذكرًا مجازًا. ولو كان ذكر اللسان مفيدًا بذاته لكان قول:
لا إله إلا الله ممن لا يفهم معناها أو لا يعتقده نافعًا والأمر ظاهر لا يحتاج إلى
زيادة إيضاح.
__________(7/457)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
التربية بركوب البحر
الشذرة الرابعة عشرة من جريدة الدكتور أراسم [*]
عن ميناء لوندرة في 3 مارس سنة 186
(في البحر) تقرر أن يقلع أصحاب السفينة التي تقلنا في يومين , وها نحن
أولاء ننام فيها الآن.
ذلك أني كنت قرأت في الصحف الإنكليزية منذ ستة أسابيع إعلانًا بأن
سفينة تسمى المونيتور تسافر عما قليل إلى بلاد البيرو فلم ألبث عند وصولي إلى
لوندرة أن سألت عنها ولاقيت ربانها في أحواض الميناء, وهو رجل في نحو الثانية
والأربعين من عمره أسمر قصير بادن , تؤذن بدانته بأن ستنتهي بسمن مفرط مع
ما هو فيه من معيشة الجد والنشاط. ويطري الناس خبرته ومتانة سفينته , وإني
قلما صادفت وجهًا أطلق من وجهه , وأدل منه على الذكاء والاستقامة، وقد
تبين لي أنه عَرَفَ في مواني إستراليا ربانًا جسورًا انقطع للملاحة لا يعرف غيرها,
كنت سافرت معه فيما سبق واتخذته صديقًا , فلما علم أني صديق صديقه أقبل علي
بصدر رحب وقلب سليم , وكان من نتيجة هذا التعارف أن اتفقنا على أن أكون طبيبًا
للسفينة كما كنت لذلك الصديق , وأن يكون (أميل) تلميذًا بحريًّا في مدة السفر.
لما سمعت والدته بهذا ارتاعت في أول الأمر لما توقعته له من سوء الطالع
في ذلك العمل فاجتهدت فى تسكين روعها مبينًا مقاصدي منه.
بلغ (أميل) الآن من السن أكثر من ثلاث عشرة سنة , وأصبح طويل القامة
قوي الجسم يتمتع بصحة تامة من أسبابها فيما أرى نظام المعيشة الذي جرى عليه ,
وقد بدا لي أن اشتغاله بتعلم الملاحة فرصة مفيدة لتربية قوته البدنية وشد أعضائه
وتذليل عضلاته بأعمال تقتضي من المهارة مثل ما تقتضيه من الشجاعة الحقيقية ,
فإني وهيلانة ما قصدنا قطعًا أن نجعله واحدًا من أجنة العلم الفاسد الذين لا حياة لهم
إلا في رؤوسهم , فليعجب من شاء بأولئك المراهقين السقام المخدجين [1] الذين
أعجزهم الدرس عن العمل , فليس هذا هو الكمال الذي نطلبه (لأميل) .
رأيت الناس في مكان لا يحضرني اسمه الآن يجرحون باطن الصَّدَفَة في
بعض الحيوانات الرخوة بطرف خنجر؛ ليحملوا هذه الحيوانات على توليد اللؤلؤ
بالصناعة , فذلك يشبه أن يكون شأن المربين مع أحسن التلامذة فهم يتلفون بناهم ,
وينهكون أجسامهم ولا أدري أي قصد لهم فى ذلك سوى الحصول على مجموع من
المعاني تتحجر فى أذهانهم تواضعوا على أن يسموها علمًا , وإني لفي شك من أن
ما يحصله المتعلمون من المعاني يعوضهم شيئًا مما خسروه في سبيل تحصيله من
قواهم وما أتلفوه من صحتهم. ولست أقصد بقولي هذا تثبيط المتعلمين عن العلم
فإن الإنسان خلق ليعلم , وإنما أريد أن يفهموا أن العمل البدني والعمل العقلي
متكافئان في لزومهما لتقوية العقل وإحصافه فعلينا أن نربي كل ما وهبه الله لنا ولا
نستخف بشيء منه.
استشرت (أميل) قبل اعتزامي على هذا الفكر فألفيته مملوء النفس به لأنه
كجميع أترابه يحب الجديد، ويأنس من نفسه فخرًا بتعلمه حرفة , ويجب في هذا
المقام أن أبين مرادي وهو أني لا أعتقد بحال أن من حقي أن أختار لولدي عملاً
تقوم به معيشته , كما أني لا أدعي لنفسي حق إلزامه الإيمان بعقيدة دينية أو سياسية.
على أنه لما يأت وقت التفكير في الحرفة التي ينبغي أن يشتغل بها ولا أدري هل
يعرف بنفسه ما يلائمه من الحرف أم لا؛ فإن تربيته في غاية البعد عن نهايتها ,
بل هي في بدايتها ولكني أرى أنه مهما حذق المربي في التبكير بإنشاء الطفل على
الميل إلى النفع والطمع فيه لم يكن ذلك منه عجلة مذمومة , ولقد عرف (أميل)
مما تلقاه على والدته من الدروس شرف العمل وكرامته فتراه يتخيل الآن أنه
سيكسب أجرة سفره بتسلقه شُرُع السفينة، وهو تخيل غير صحيح إلا في جزئه
غير أني تحاميت كل التحامي إزالة هذا الوهم من نفسه، وتركت له أن يفخر بأنه
يطعم خبزه الجاف بكده ونصبه، فإن أقل ما في هذا أنه مفخرة كنت جديرًا باللوم
لو أني حرمته منها.
ثم إن التعليم في سفينة تجارية مفيد ومقو للعقل خصوصًا إذا كانت مدته لا
تتعدى بضعة شهور , فحرية الإنسان على ظهر البحار هي أن لا يخضع إلا إلى
الواجب , فطاعة البحار في الحقيقة فيها شيء من الاختيار , وهذه هي الخاصة
الفارقة بينه وبين الجندي , فالرجل الذي يرى من نفسه الجهل ببعض نواميس
الكون فيبدي من قوتها ما يكفي لامتثال أمر الربان وهو يعلمه بقول موجز ما جهله
من تلك النواميس يكون قد جمع في عمله هذا بين الاستقلال والحكمة.
لست أبالغ لنفسي مطلقًا فيما لهذا التعلم من الآثار الحسنة والنتائج المفيدة،
فإني أعلم أن (أميل) لن يكون بحارًا لمجرد ما يمارسه من ضروب التمرن في
حبال السفينة بيد أن بلاءه في ذلك لا يمكن أن يتخلف عنه استفادته منه فإنه
بواسطته يتعلم شيئًا من أحوال البحر، وبه يعرف أجزاء السفينة الأساسية وما
يطلق عليها من الأسماء فكثير من أترابه لا يعرفون شيئًا من أمر هذه الدنيا السارحة.
أخص ما أعني به في هذا الأمر أن يحصل في ذهنه بالاختبار والمشاهدة معنى
من القوى الكونية العظمى، وما يلزم للإنسان في مقاومتها لو قهرها من ثبات
الجأش وحضور الفكر، وسيكون هذا أعظم درس له في سفره. ومما لا يسعني إلا
أن أضحك منه أنني أسمع بعض المعلمين يقولون لغلمانهم المتبطلين الذين ورموا
من صغرهم كبرًا وغرورًا: إنهم ملوك الخلق فهلا وصفوهم أيضًا بأن أيديهم
البيضاء الرقيقة لم تخلق إلا لتقود عجلة الشمس في أرجاء السماء؟ رويدًا أيها
المعلمون , قفوا هؤلاء الملوك أمام البحر فانظروا ما يعتريهم من الرعب خشية أن
تبصق أمواجه الكثيفة في وجوههم.
وأما (أميل) فإنه لا بد أن يتعلم من الآن ما يجب أن يبذله الإنسان في سبيل
سيادته على الفواعل الكونية , وكيف ينبغي أن يكون معها في كفاح مستمر ليحفظ
سلطانه على عرش الماء.
حادثت الربان وهو رجل شهم في شأن ولدي، وكاشفته بفكري في تربيته ,
ففهم حق الفهم الدرس الذي أردت تعليمه إياه وهو أن من المفروض على الشبان أن
يعتبروا العمل العقلي جزاء للعمل البدني ومكافأة عليه. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر وهو تابع لما نشر في الجزء الرابع عشر من المجلد السادس.
(1) المخدج هو الذى يولد تاقصا بعد تمام مدة الحمل.(7/465)
الكاتب: عبد الله الجيتيكير
__________
قصيدة في ندوة العلماء بالهند
تفضل علينا صديقنا الشيخ عبد الله الجيتيكير من بمبي (الهند) بإرسال هذه
القصيدة التي قدمها إلى ندوة العلماء التي اجتمعت في شهر شوال سنة 1321هـ،
وكتب إلينا أن بعض المسلمين اشتدوا في السنة الماضية في مقاومة الاجتماع
وإبطال الاحتفال وجاءوا بأمور لا تحمد عند عاقل , ولكن عزم رجال الندوة غلب
حزب التفريق والتمزيق , وصديقنا يعرض بذلك. وبهذا فهمنا ما في قصيدة أبي
بكر بن شهاب في الجزء الماضي من التعريض , والشيخ عبد الله هذا هو أخو فقيد
العلم والأدب صديقنا المرحوم محمد الجيتيكير صاحب القصائد السابقة في المنار.
وإننا ننشر القصيدة برمتها لما فيها من النصيحة والتذكير.
قال حفظه الله:
دع ذكر ربات الكلل ... وذر الصبابة والغزل
القلب مشغول فما ... للعشق فيه من محل
قد عمَّنا الداء العضا ... ل من البطالة والكسل
داء أخل بعقلنا ... والجسم منه قد اضمحل
داء به فسد المزا ... ج وفي الطباع بدا الخلل
داء لقد سلب القوى ... منا وعوض بالشلل
داء تعطل منه إحْ ... ساساتنا والخطب جل
خطب أباد جموعنا ... حتى اتصفنا بالفشل
خطب لهول وقوعه الـ ... ولدان رأسهم اشتعل
خطب تزلزلت الأرا ... ضي منه واندكّ القلل
خطب أقام قيامة ... قبل القيامة منذ حل
وارحمتاه لحالنا ... إذ في انحطاط لم نزل
ما زاد كثرتنا سوى الن ... قصان فينا والعطل
قد زال شمس نهارنا ... فى غفلة وبدا الطفل
فالآن إن لم تنتبه ... هل بعد فينا من أمل
واخيبتاه لقد أظلتنا ... من الذل الظلل
تترى أمام عيوننا الـ ... آفات تمطر كالهمل
يا أيها الملأ انظروا ... ماذا بساحتكم نزل
جلت لديكم نِقْمَة ... مذ نجم عزتكم أفل
هل فيكم من نهضة ... تنجيكم مما حصل
هل عدة مع عدة ... نرجو بها دفع الجلل
ما عندكم غير اللسا ... ن وليس يتبعه عمل
فَلَكَمْ وَكَمْ بتم تعدون ... المصائب بالجمل
هل ما أفاد مقالكم ... بين الورى غير الخجل
ليس الكلام بمنجد ... ما دام قائله وكل
إن الكلام بغير فِعْ ... لٍ كالبكاء على الطلل
كم ذا التراخي منكم ... كم ذا التكاسل والمهل
كم ذا التعصب بينكم ... كم ذا التنازع والجدل
كم ذا التجاهل والتغا ... فل والتساهل والمطل
أودى تأخركم عن الـ ... أقران فى شر الغيل
لن تفلحوا ما دمتم ... أسرى لأفكار أُوَل
والدهر حيث شغلتمُ ... عنه بغيركم اشتغل
لله يا قوم انهضوا ... وخذوا الحذار من الدغل
وإلى المعالي سارعوا ... فالجد يعلي من سفل
ها ندوة العلماء بَيْ ... نَكُمُ أقامت محتفل
من كل غطريف ... سديد العزم مقدام بطل
من كل نِحْرِير خَبِيـ ... رٍ عارف سمح أجل
لله ناد قد حوى ... فضلاء قوم واشتمل
لله درهم فكل ... منهم المسعى بذل
لله جهدهم فكم ... قد أصلحوا منا خلل
كم من مسائلَ فيهم ... تروي الأنام لدى النحل
يا معشر الإسلام فَاتَّـ ... بِعُوهُمُ وذروا المذل
فهم الأساة وعندهم ... لكم الشفاء من العلل
وارعوا حقوق إخائكم ... ودعوا النزاع على الأقل
ويكون همكمُ لإصْـ ... لاح الفساد وما أخل
بتفرق منكم لقد ... ضاقت بنا حيل الحيل
لن تستقيم شؤونكم ... والحبل منكم منفصل
يا للحمية أسعدي ... فتشددي فينا الوصل
حتى نثقف حال أحـ ... داث فأمرهمُ أجل
إن الزمان لمُنْتَهٍ ... والعمر يمضي بالعجل
لا ينفعن تأسف ... من بعد ما يقضى الأجل
والله ليس نفوسنا ... تركت سدى مثل الهمل
فغدا سيُسْأَل كلنا ... عما جناه وما فعل
ماذا يكون جوابنا ... أفلا نجيب إذا نسل
هذا وما غرضي سوى ... الذكرى ولا أبغي بدل
ما الدين إلا النصح ... والهادي هو الله الأجل
يا رب وفقنا لما ... ترضاه من حسن العمل
واهد الصراط المستقيـ ... م جميعنا وقنا الفشل
وانصر بلطفك ندوة الـ ... علما وبَلِّغْهَا الأمل
وأَعِنْ عبادك في الذي ... شرعوا به واشف العلل
واجعل لنا من أمرنا ... فرجًا وكن لمن اقتبل
وافتح بفضلك بيننا ... بالحق واقبل من سأل
وأدم صلاتك والسلا ... م على الذى نسخ الملل
والآل والأصحاب ثم ... التابعين ومن كمل
وسقى سحاب الفضل (مِدْ ... رَارًا) ومن فيها دخل
__________(7/468)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المصنفات
(كتاب روح الحياة)
أهديت إلينا من بضعة أشهر رسالة بهذا الاسم مؤلفة من 32 صفحة , وقد
كتب عليها بعد اسم الكتاب: (الدعوة الأولى) من قلم تحرير جمعية الدعوة
الإسلامية , ثم كتب بعد ذلك: (تأليف محمد حافظ صاحب مدرسة نور الإسلام
الأهلية) ففهمنا منها أن هناك جمعية للدعوة , ولكننا لم نسمع لهذه الجمعية قبل
الرسالة ولا بعدها خبرًا، ولم نر لها أثرًا، وقد اعتدنا أن نرى كثيرًا من هذه
المصنفات الحديثة الضخمة الألقاب، فنحوم عليها نبغي الورود فيتبين لنا أنها
سراب، حتى صرنا نرغب عن قراءة أكثر المصنفات الحديثة التى لا نعرف
لأصحابها شهرة في العلم لئلا نضيع وقتنا في غير المفيد. وقد كنا ظننا أن هذه
الرسالة من هذا القبيل قبيل المتهجمين على التأليف , وطبع ما يكتبون وإن كان
لغوًا إلا أننا أمسكناها لننظر فيها لأنها نسبت إلى جمعية موضوعها الدعوة الإسلامية ,
فلم يتح لنا ذلك إلا اليوم. تصفحنا بعض صفحاتها , وقرأنا جملاً من مسائلها
فرأيناها كتبت بعقل واشتملت على حكم وعظات نافعة أكثر مما كنا ننتظر , ولكننا
لم نر فيها دعوة إلى شيء معين محدود يدل على أن وراءه ما هو أرقى منه كما
يتبادر الى الذهن من كلمة (الدعوة الأولى) إذ تفهم الكلمة أن هناك أمورًا مرتبة
يتوقف بعضها على بعض قد شرعت الجمعية في بيانها لإقناع الناس بها. ومواعظ
الرسالة في تقسيم الحياة إلى وجودية وشهوانية واجتماعية , وفي العوامل الحيوية
في الشخص والعائلة والقوم والوطن , وفيها فصل في الدين وتأثيره وفضل الإسلام،
وطريقتها في البحث فلسفية. وجملة القول أن الرسالة نافعة نود أن يطالعها
الشبان المصريون الذين لا هم لهم في حياتهم إلا اللذة , ونشكر للمؤلف والجمعية
هذا العمل ونتمنى أن يزيد نجاحًا ونباتًا.
***
(الحبس في التهمة والامتحان على طلب الإقرار)
رسالة لشيخ الإسلام سعد الدين الخالدي المعروف بابن الديري نقلت من
إحدى مكاتب الآستانة واعتنى بإيضاحها وطبعها محمد روحي أفندي الخالدي المقدسي
باش شهبندر الدولة العلية في مدينة بردو الفرنسية , وفيها مباحث لا تكاد توجد
مجموعةً في كتاب. بدأها بما ورد في الحبس من نصوص الكتاب والسنة , وخرج
الأحاديث التى أوردها وذكر عللها وهو ما لم يعهد من فقهاء الحنفية إلا قليلاً , ثم
ذكر أقوال الفقهاء في ذلك. ومن مسائلها بيان أصل اعتبار غلبة الظن ,
ومراعاة ظواهر الأحوال , والكلام في الحدود ودرئها والمعافاة منها قبل الوصول
الى الحاكم وعدم العمل فيها بكل اعتراف. والكلام في حبس أرباب التهم وضربهم
لأجل الإقرار، وفي تحكيم القلب في الأمور , وهو ما يعبرون عنه اليوم بالضمير.
وفي آخرها ترجمة المؤلف وما قاله العلماء فيه ونقلوه عنه. وصفحات الرسالة
تزيد على 80 فنشكر فضل من سعى بطبعها ونشرها.
***
(علم قراءة اليد)
كتاب حديث موضوعه ما يسميه الناس عندنا علم الكف , وذلك أننا نسمع منذ
الصغر أن من العرافين من يعرف مستقبل الإنسان من النظر في كفه وقراءة ما فيها
من الخطوط الدالة على معاني لا يعرفها إلا أهلها. والعقلاء يعدون هذا ضربًا
من الدجل والاحتيال على الرزق كضرب الرمل والودع والحصى , ولا تكاد
تجد من يعتقد بأن الكف يدل حقيقة على أحوال الإنسان إلا النساء والجهلة. وما
كنا نظن أن الأوربيين عُنُوا بهذا الأمر ووضعوا فيه المصنفات الموضحة بالرسوم ,
وتصوير تقاطيع الكف وخطوطه حتى ظهر هذا الكتاب.
نقل الكتاب وجمعه من اللغات الأجنبية نجيب أفندي كاتبه رئيس القلم
الإفرنجي بالسكة الحديدية السودانية. واعتنى بضبط لغته الصاغ قولاسي محمد
أفندي فاضل أركان حرب السكة الحديدية السودانية. وهو جزآن أحدهما في فراسة
اليد , وثانيهما في أسرار الكف , وفيهما أبواب وفصول كثيرة وتسعة وعشرون
شكلاً. وصفحات الكتاب تقرب من مائتين وثمن النسخة منه 20 قرشًا أو 5
فرنكات وأجرة البريد قرش أو 30 سنتيمًا ويطلب من المكاتب الشهيرة.
***
(تاريخ اليهود)
وضع هذا التاريخ حديثًا شاهين بك مكاريوس الواسع الاطلاع في
التاريخ, وهو مؤلف من فصول في نسب اليهود وأصلهم , وفي انتشارهم
وتاريخهم قبل الخروج من مصر وبعده , وفي تفرقهم في الأرض شرقها وغربها ,
وفي ديانتهم وشريعتهم وفرقهم وعوائدهم وأشهر متقدميهم ومتأخريهم وجمعياتهم
ونوابغهم ووجهاء المعاصرين في العصر. وطريقة المؤلف وعادته في كلامه عن
الطوائف والملل النظر إلى الحسن والتنويه به , وعدم الالتفات إلى ضده بالمرة ,
فهو لا يذكر أمرًا منتقدًا لا على طريقة الاستحسان والرضى ولا على سبيل الرد
والنقض. وقد قرظ كتابه بعض فضلاء اليهود , واستحسنوا تدريسه في مدارسهم
الابتدائية لاختصاره وسهولته.
(تاريخ إيران) وقد أهدانا المؤلف مع كتابه الحديث المذكور تاريخه لإيران
الذي ألفه من عدة سنين وقدمه للشاه مظفر الدين وهو أكبر من تاريخ اليهود وأكثر
فائدة منه.
***
(الحقائق الأصلية في تاريخ المسونية العملية)
وأهدانا أيضًا هذا الكتاب من تأليفه , ويعني بالعملية ما ينسب إلى الجمعية من
المباني والآثار الأدبية لا أعمالها السياسية السرية التي كانت من أعظم أسباب
الانقلاب السياسي في أوربا. وفي الكتاب فوائد كثيرة عن هذه الجمعية لا يستغني
الباحثون عن معرفتها , ولعلنا نتكلم عن شيء من مسائل هذا الكتاب بعد مطالعته.
فنشكر للمؤلف هديته. وهذه الكتب تطلب كسائر مؤلفاته من إدارة المقطم بمصر.
***
(عود على بدء)
صدر الجزء الثاني من هذه القضية المتممة لقصة الفرسان الثلاثة , وفيها
فوائد جمة عن أخلاق الملوك المستبدين وأحوالهم , وأهمها أنه لا يؤمن جانبهم ولا
يرجى ودهم , وفيها من غرائب دسائس اليسوعيين وبراعتهم في السياسة ما
يمثل لك عظمة هذه الجمعية السرية وهول مستقبلها. وأعظم العبر فيها ما كان
من خبر بعض الحراس الثلاثة مع الملك لويس الرابع عشر في مواجهته ببيان
فساد أخلاقه وسوء تصرفه مما يدل على أن أصحاب الأخلاق العالية في كل
زمان ومكان هم الملوك الحقيقيون الذين يحتقر كل أحد نفسه أمامهم وإن كابر وتكبر.
وعتا وتجبر، وثمن الجزء الواحد ستة قروش كما تقدم ويطلب من مكتبة المعارف
بمصر.
***
(شارل وعبد الرحمن)
هي القصة الثامنة من القصص التى وضعها جرجي أفندي زيدان في تاريخ
الإسلام وهي تتضمن فتوح العرب في بلاد فرنسا إلى ضفاف نهر لوار بجوار
تورس وما كان من تكاتف الإفرنج هناك على دفعهم بقيادة شارل مارتل والأسباب
التي دعت إلى فشل العرب ونجاة أوربا منهم , أما هذه الأسباب التي شرحها
فهي ترجع إلى أمرين: أحدهما قلة العرب في الجيش وكثرة البربر وغيرهم
من الشعوب التى دخلت في الإسلام , ولم يتمكن من قلوبهم الإيمان , ولا عرفوا
حقيقة ما يأمر به هذا الدين من العدل وعدم الاعتداء في الحرب , وتحريم التعرض
لمن لا يقاتل كالرهبان والنساء. فكان هؤلاء الدخلاء لا هم لهم إلا السلب
والنهب , فتنكرت النفوس التي كانت مالت إلى المسلمين منهم , وساءت بذلك
سيرتهم. وثانيهما اجتماع كلمة الأوربيين بعد تفرقهم , وهو أضعفهما.
وثمن النسخة من القصة 10 قروش , وتطلب من مكتبة الهلال بمصر.
***
(نبراس المشارقة والمغاربة)
جريدة ظهرت في مصر مديرها السيد مصطفى بن إسماعيل وهي جريدة لا
كالجرائد التى تظهر كل آن في مهاب الأهواء المتناوحة في مصر فتعلو وتسفل ,
وتيمن وتشأم , وتمين وتصدق , بل هي جريدة تحالف فيها القول مع الاعتقاد ,
وتآخى الاعتقاد مع الدين , وجرى الدين كعادته مع حسن النية فهي تأمر بالمعروف
وتنهى عن المنكر في الأمور العامة بحسب ما يصل إليه علم من يكتبها وفهمه. وقد
انتقدنا عليها إطالة الكلام في المسألة الواحدة كالكلام في العرب ومراكش ولو
نوعت المباحث لكانت أحب , وهي تصدر في الشهر ثلاث مرات , وقيمة
الاشتراك فيها 50 قرشًا في مصر و10 روبيات في الهند وزنجبار و16 فرنكًا في
سائر البلاد. فنسأل الله أن يهديها طريق الرشاد، ويهبها الثبات والسداد، إن الله
بصير بالعباد.
***
(سيف العدالة)
جريدة سياسية أدبية انتقادية إرشادية فكاهية أسبوعية موقتًا لصاحبها حسن
أفندي لبيب البري ومحمد توفيق أفندي البحري , ولما كان أحد صاحبيها بريًّا
والآخر بحريًّا , , وكان موضوعها الانتقاد , فيتوقع أن يبينا فيها ما ظهر من الفساد
في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس , ويلبسا ذلك ثوب الانتقاد، ليكون ذلك من
جزاء أولئك الأفراد. {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: 33) , وقيمة
الاشتراك في الجريدة 80 قرشًا عن سنة في مصر و35 عن 3 أشهر و30 فرنكًا
في الخارج , فنتمنى لها التوفيق والنجاح.
__________(7/471)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(مراكش والإصلاح وحال المسلمين)
كتب إلينا من فاس أن أبا حمارة يكون سلطنة في تازه. وأنه ظهر خارجٌ آخر
يدعى أبا عمامة (وهو معروف) ، وأنه ليس لدى الحكومة في فاس أكثر من ألف
جندي , وأن الخزينة مفلسة فإن الدين الذي أخذه السلطان عبد العزيز من فرنسا قد
اشترى به من باريس كثيرًا من الأثاث والرياش والماعون وأدوات الزينة
والزخرف، وأن فرنسا قد استلمت إدارة المكس (الجمرك) بطنجة في مقابلة المال
الذي أخذه السلطان منها , وقدره 62 مليون فرنك وابتدأت بالعمل. وأن بعض
الوزراء ميال لسياستها كما كان المهدي المنبهي ميالاً إلى إنكلترا حتى إنه دخل في
حمايتها رسميًّا، وهو وزير وإن كان لا حق له في ذلك، وإن جهل هذا الوزير
الذي ذهب بما كان عند الدولة من السلاح الكثير، وأفسد عليها جيشها وأطمع
الخارجين فيها، وأن السلطان قد صادره بعد عودته من الحج هو وكاتبه، وقد
قبض على كاتبه , وامتنع هو في طنجة بحماية قنصل إنكلترا. ويظن الكاتب أن
في تداخل فرنسا في شئون البلاد خطرًا عظيمًا لأن جميع القبائل مستعدة للمقاومة
بالقوة وأنهم ما أبغضوا السلطان إلا لميله إلى الأجانب، ولولا ذلك لم تمتد دعوة
الخارج وتقوى شوكته.
هذا ملخص ما كتبه الكاتب من أخبار البلاد وهو يقول مع هذا ما يعلمه
المختبرون من أن أكثر علماء تلك البلاد لا يزالون على ما كانوا لم تحدث لهم
موعظة , ولا تجدد لهم اعتبار , ولا اقتنعوا بالحاجة إلى شيء من العلم والعمل غير
فقه المالكية ومقدماته , وعامتهم لا تزال تعتقد مع أكثر خاصتهم أن أعظم واق للبلاد
هو وجود قبور الأولياء فيها لا سيما سيدي إدريس الأكبر رضي الله عنه، ولو
عرفوا مع كتب النحو والفقه شيئًا من تاريخ المسلمين؛ لكان لهم فيه عبرة , فإن
معظم بلادهم خرجت من أيديهم واستولى عليها الإفرنج على بُعْد أكثرهم عنها ,
وكان أهلها يقولون بقول أهل مراكش ويعتقدون اعتقادهم.
كان أهل بخارى قبل فتح الروسية لبلادهم يرون أن قراءة البخاري وسرِّ
سيدي بهاء الدين شاه نقشبند إمام الطريقة المشهورة كافيان لحماية البلاد من كل
سوء، وقد دخلت الجنود الروسية عاصمتهم , وهم مشغولون بقراءة البخاري , فلم
تغن عنهم قراءة البخاري ولا البخاري نفسه ولا شاه نقشبند شيئًا من عذاب الله الذي
تركوا سنته في خلقه وأمره فى كتابه {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال:
60) .
يتوقف امتثال أمر الله في هذه الآية على معرفة الفنون العسكرية، ومنها
الرياضية والطبيعية التي يُحرِّمها الغفل من الفقهاء باسم الدين؛ فيحرموا ما فرضه
الله تعالى على الأمة اعتداء على الله وافتئاتًا على دينه , والعامة تغش بهم لأنها
اعتادت على تقليدهم. ومن ينير الله تعالى بصيرته ويؤتيه فهمًا في كتابه فيحاول
إقناع الناس بما أوجب الله تعالى عليهم من الاستعداد للأعداء بمثل ما يستعدون به
لإزالة سلطة الإسلام - وهو العالم حقًّا - يهيجون عليها العامة بأنه يدعوهم إلى
علوم الكافرين ليفسد عليهم دينهم , وأن ما يستدل به على دعاويه من كتاب الله
تعالى غير جائز لأمثاله؛ لأنه مخصوص بالذين ماتوا من المجتهدين، ولكن كيف جاز
لهم هم أن يجتهدوا بجهلهم فيحلوا ويحرموا بأهوائهم من غير بينة ولا دليل.
هذا ما وصلت إليه الأمة الإسلامية بإرشاد علمائها، واستبداد سلاطينها
وأمرائها حتى نزع الله منهم أكثر ممالكهم، ولا تزال الأمم الإفرنجية تستولي على
بلادهم مملكة بعد مملكة، ولا يرجع المتأخر عما كان عليه المتقدم. فمن نعاتب
ومن نخاطب.
الخواص والزعماء هم الذين ينهضون بالأمم، ولكن طول عهد المسلمين
باستبداد الأمراء قد أفسد النفوس، وطول عهدهم بالجهل والتقليد قد أفسد العقول،
فأي زعامة ترجى مع فساد نفس المرء وعقله.
تنحي جرائد هذه البلاد على السلطان عبد العزيز وتنعي عليه إسرافه في اللهو
واللعب واللذات الحسية، وكل أمراء المسلمين كذلك، بل يعرفون من طرق
الشهوات واللذات ما لا يخطر له على بال، وإنما يلام هذا السلطان على كونه لا
يعرف شيئًا غير اللهو، وأنى له أن يعرف شيئًا و (العلم بالتعلم) , وهو لم يتعلم
من علوم السياسة وإدارة الممالك شيئًا، ثم أنَّى له أن يعمل بما عساه يعلمه،
و (الحلم بالتحلم) أي أن الأخلاق والأعمال الحسنة إنما تنشأ عن التربية والتعود عليها,
وهو لم يترب إلا على اتباع ما يحب ويشتهي , وإننا نرى من تعلم مَنْ أمرائنا
وعرف ما لم يعرفه غيره لا يتبع إلا هواه إلا أن يعجز عنه ويضطر إلى غير ما
يهوى اضطرارًا.
الواجب على الجاهل بما ينبغي له علمه وتتوقف عليه سعادته إن كان عاقلاً
موفقًا أن يستعين بمن يعلم ذلك , ويقدر على العمل به بقدر الإمكان. ولكن طبيعة
الاستبداد كالمخدر في الجسم لا يحس معه المرء بالحاجة إلى الدواء فيسعى بطلبه
ولو أحس لوجد للمقتضي مانعًا , وهو لذة الاستبداد التي تعلو كل لذة في الكون فهو
يختار أن تطوح أمته في هوة الهلاك على أن يُعارِض استبداده وحكمه المطلق
معارض إصلاح.
السلطان عبد العزيز لا يرى أمامه، ولا حوله داعيًا إلى إصلاح عسكري أو
إداري أو علمي، ولا يشعر بأن الأمة تطالبه بشيء من ذلك، بل ربما كان يعلم أن
أمته تكره كل شيء جديد وإن كان السعادة والسيادة، أفلا يكون معذورًا بالنسبة إلى
سلطان يعلم أن في رعيته الألوف وعشرات الألوف، بل والملايين من العارفين
بدرجة ضعف الدولة , الشاعرين بخطر الجهل في الأمة والاستبداد في السلطة ,
المطالبين بالإصلاح ثم هو يحاربها كلها، ويسعى في إطفاء كل شعلة للعلم، وجذوة
للغيرة في كل زاوية من زوايا بلادها وقراها , حتى إنه ليعد من أكبر الجرائم
السياسية الاطلاع على كتاب في فن التربية والتعليم، ويعاقب على ذلك بدون
محاكمة عقابًا لا حد له ولا شرع ولا قانون؟
ساح شاه إيران فى بلاد أوربا , ورأى فيها من آيات القوة والرقي ما عرفه
الفرق بين العلم والجهل، والعمران والخراب , والترقي والتدلي، والقوة والضعف؛
فاشتهى أن يصلح حال دولته، ولكنه لا يجد في بلاده من يقدر على القيام
بالأعمال الإدارية ولا المالية ولا الحربية ولا التعليمية.
فههنا شعب إسلامي يحب الإصلاح، ولكن سلطانه لا يحبه، وهناك شعب
إسلامي لا يشعر بالحاجة إلى الإصلاح، ولكن سلطانه يشعر به. فلا شعب يقدر
على تقييد سلطان , ولا سلطان يقدر على إصلاح شعب، وأما بلاد مراكش فلا
سلطانها يشعر بما يجب ولا شعبها , فحالها شر الأحوال.
ولكن قد بلغنا أخيرًا أن بعض الكبراء في فاس يشعرون بالخطر الذي ينذرهم ,
ويتمنون لو يقتنع السلطان بمثل ما هم مقتنعون به، ويتفق معهم على العمل
لتلافي الخطر، ثم لا يجدون لذلك وسيلة، ولا يهتدون إليه سبيلاً. المسلمون
مساكين , المسلمون فقراء، أَمَا إنهم ليسوا فقراء الأيدي , ولكنهم فقراء العقول
والقلوب , فإنه لا يزال في أيديهم أفضل بقاع الأرض، ولكنهم قوم يجهلون.
نعم قد رشد من المسلمين أفراد قليلون، ولكنهم في شعوبهم القاصرة ضائعون،
ومع هذا فهم محل الرجاء في جميع الأرجاء، يعدون للإصلاح الأفراد، ويؤلفون
ما استطاعوا بين الآحاد، وإن الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد , فنسأل الله
أن يسدد أمرهم، ويشد أزرهم , ويكثر عددهم , ويقوي مددهم.
* * *
(الحجاج والسلطان والإنكليز)
أرسل السلطان إلى الحجاز لجنة لتحقيق أمر ما كان من التعدي على الحجاج
وسفك دمائهم، ونهب أموالهم، وهذا اعتراف رسمي بالتعدي إجمالاً , وتكذيب لما
نشر في الجرائد العثمانية نقلاً عما كتبه أمير مكة وإليها بعد الحج من أن الحجاج
كانوا في أمن وراحة واطمئنان. والذي نقل عن اللجنة أنها نفت طائفة من وجهاء
المدينة المنورة إلى جهة الطائف.
والمعروف أن هنالك حزبين يتنازعان , والحكام ينصرون من كان أكثر لهم
نفعًا , والناس يعرفون أن علة مصاب الحجاج في مكة لا في المدينة، وهي الأمير
والوالي , ولكن (المابين) راضٍ عنهما , فليغضب من شاء من الحجاج وغيرهم.
وعسى أن تكون اللجنة اتفقت مع الوالي والأمير على حفظ الأرواح والرفق بسلب
الأموال إذ لا يرجى المنع من السلب مطلقًا فيما نظن , فإن الاعتداء على الأرواح
فضيحة كبرى , وإذا تبين استمراره يبطل الحج لأنه يصير محرمًا بعد أن كان
واجبًا إلا إذا قدر المسلمون على حماية حرم الله، وحرم رسوله رغمًا عن الحكومة.
هذا ما كان من أمر حكومة السلطان في ذلك، وقد أنبأنا البرق بأن مجلس
النواب الإنكليزي بحث من عهد قريب في مسألة الحج المصري , وسأل حكومته
عن الطريق التي تسلكها في المحافظة على الحجاج المصريين، وهو نبأ جديد لم
يعهد من قبل، ولا غرو فإن الاحتلال الإنكليزي قد دخل في طور جديد بعد الوفاق
بين إنكلترا وفرنسا، ورضاء الدول بالوفاق , ومنه عدم البحث في أمر الاحتلال
والجلاء , وتفويض الأمر كله في مصر إلى بريطانيا العظمى بشرط أن تكون
حقوق الدول ومصالحها فيها محفوظة، فهل تفطن الحكومة الحميدية إلى وجوب
منع كل سبب يؤدي إلى تداخل الإنكليز في شأن الحجاز والحجاج؟ هذا ما يتمناه
للدولة والسلطان كل مسلم , والله الموفق.
* * *
(الرابطة الدينية والحرب الحاضرة)
لقد ظهر لنا من ميل النصارى إلى روسيا في هذه الحرب فوق ما كنا نعرف
ونظن , فإننا رأينا العوام والخواص منهم يتألمون أشد التألم لكل انكسار وكل خسار
يصيب الجنود الروسية فى الشرق الأقصى ويفرحون أو يتعزون إذا قيل: إنه قد
قتل من العساكر اليابانية عدد كثير. ظهر ذلك لنا مما نشاهد في مصر، ومما ينقل
لنا من أخبار سوريا والمهاجرين السوريين في أمريكا. وقد انتهى الغلو في حب
روسيا عند السوريين إلى أن يترك بعضهم الضحك بل والأكل في المساء الذي
يقرءون في برقياته أن روسيا قد انكسرت في واقعة كذا، وأخذ اليابانيون منها موقع
كذا، أو أغرقوا لها كذا وكذا من السفن الحربية - وإلى أن يكابر بعض أصحاب
الصحف منهم أنفسهم في الانكسار المتوالي من الروس فيصوروا الوقائع بغير
الصور التي انتهى إليهم خبرها، حتى كان في هذه الصحف ما لو اكتفى به القارئ
في تعرف أخبار هذه الحرب لاعتقد أن ليس لليابانيين مزية , وأن ما أخذوه من
المواقع والحصون من الروس قد تركه الروس لهم لحكمة حربية , ولا يلبثون أن
ينقضوا عليهم انقضاض الأسود على القرود فيمزقوهم تمزيقًا - هذا وأوربا بدعواها،
وكبريائها وخيلائها واحتقارها للشرق وأهله قد أعجبت كلها حتى أنصار روسيا
منها بأن اليابان قد بلغت من إتقان الحرب علمًا وعملاً غاية لا مطمع لأحد في
تجاوزها , فنظامهم أكمل نظام، وسلاحهم أحسن سلاح , وشجاعتهم أتم شجاعة،
وقد بلغوا الكمال الحربي في البر والبحر. والمعتدلون من أصحاب هذه الصحف
الذين لا مندوحة لهم عن ذكر جميع الوقائع كما ينقل البرق والبريد يضيفون إلى
أخبار ظفر اليابان ما لا مناسبة له من أعمال روسيا الماضية وانتصارها السابق في
بعض الحروب , وما لها من الأعذار الحاضرة، وما يرجى لها من الأماني
المستقبلة. يمثلون بذلك عظمة روسيا في أعظم تمثال وصل إليه الخيال قبل هذه
الحرب التي ذهبت بالخيالات، وفتحت للناس باب الحقيقة في الحكم. ولسنا نريد
بهذا القول تحقير روسيا أو التكهن بأنها لا تنتصر أو الرد على هذه الصحف ,
وإنما نريد بيان الواقع. في البرازيل جريدة سورية معتدلة حقًّا لا تتعصب لدين ولا
لمذهب ولا لطائفة، وهى جريدة (المناظر) كانت تذكر خلاصة أخبار الحرب كما
تصل إليها فقامت عليها قيامة السوريين هناك، وطفقت جرائدهم ترد عليها ردًّا
عنيفًا.
هذا أثر من آثار الرابطة الدينية، ويعلم من ظهر عليهم أن بعض مظاهره
منتقد وأنه على كل حال لا يفيد روسيا، ولا يدفع عنها شيئًا، وماذا عليها وهم لم
يشعروا باختيارهم، ولم يقولوا ما قالوا، وكتبوا دهانًا لها، وإنما هو سلطان الدين
الأعلى على الأرواح ظهر أثره في الأقوال والأحوال من غير تكلف، ولا اعتمال،
فهل يعتبر بهذا بعض الشعوب الذين استحوذ على أرواحهم سلطان اللذة فغلب فيهم
الشعورَ الديني حتى لا غيرة لهم على دينهم، ولا على أهله الذين يعيشون معهم
فضلاً على الذين يبعدون عنهم؟؟ ، أيتعللون بأنهم استبدلوا الشعور الوطني بالشعور
الديني خلافًا للسوريين؟ لعلهم لا يجرءون على هذا التعلل , فإن السوريين هم
الذين علموا الشرق الأدنى هذا النداء بالوطنية. فإذا كانت آية الوطنية لم تمح آية
الدين عند الأستاذ، فأجدر بها أن لا تمحوها عند التلميذ. وإذا ادعوا أن الشعور
الديني كامل فيهم، فليحاسبوا أنفسهم ليعرفوا حقيقة الدعوى. والله يعلم السر
والنجوى.
* * *
(أهواء الجرائد والدفاع عن الأمير)
لقد كان في قضية السادات وصاحب المؤيد عبرة لأولي الألباب لا نذكر منها
إثبات المحكمة كون طريقة إثبات الأنساب الرسمية غير شرعية، ولا غير ذلك،
وإنما نحب تنبيه الأفكار إلى ضرب من ضروب أهواء الجرائد التي أشرنا إليه في
الجزء الأسبق، وهو أن وكيل السادات قال في المحكمة: إن الخديو المعظم خطب
بنت موكله لصاحب المؤيد ثلاث مرات، ولم ينجح في خطبته (أو كما قال) ، ولا
يخفى أن هذه الكلمة أعظم مما انتقدته الجرائد على رياض باشا أو أبعد منه عن
الأدب مع الأمير - إن لم نقل: أكثر من هذا - فما بال تلك الجرائد التي شنت
الغارة على رياض دفاعًا عن مقام الأمير تلقت كلمة المحامي بالقبول؟ اللهم إنها
نطقت هناك عن هوى، وسكتت هنا عن هوى , فلا الإخلاص للأمير أنطقها , ولا
ضده أسكتها. فهم كمن نزل فيهم {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} (التوبة: 37) .
قلنا في الجزء الماضي: إنه ثبت للمحكمة تزوير نسب صاحب المؤيد،
والأَوْلَى لم تثبت عندها صحته.
__________(7/475)
غرة رجب - 1322هـ
11 سبتمبر - 1904م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع
(الوجه السابع والسبعون)
أن تقول لطائفة المقلدين: هل تسوغون تقليد كل عالم من السلف والخلف أو
تقليد بعضهم دون بعض؟ فإن سوغتم تقليد الجميع كان تسويغكم لتقليد من انتميتم
إلى مذهبه كتسويغكم لتقليد غيره سواء فكيف صارت أقوال هذا العالم مذهبًا لكم
تفتون وتقضون بها , وقد سوغتم من تقليد هذا ما سوغتم من تقليد الآخر , فكيف
صار هذا صاحب مذهبكم دون هذا؟ وكيف استجزتم أن تردوا أقوال هذا وتقلدوا
أقوال هذا , وكلاهما عالم يسوغ اتباعه فإن كانت أقواله من الدين فكيف ساغ لكم دفع
الدين؟ وإن لم تكن أقواله من الدين فكيف سوغتم تقليده؟
وهذا لا جواب لكم عنه. يوضحه.
(الوجه الثامن والسبعون)
أن من قلدتموه إذا روي عنه قولان وروايتان سوغتم العمل بهما وقلتم:
مجتهد له قولان فيسوغ لنا الأخذ بهذا وهذا , وكان القولان جميعًا مذهبًا لكم فهلا
جعلتم قول نظيره من المجتهدين بمنزلة قوله الآخر وجعلتم القولين جميعًا مذهبًا
لكم؟ وربما كان قول نظيره ومن هو أعلم منه أرجح من قوله الآخر وأقرب إلى
الكتاب والسنة. يوضحه.
(الوجه التاسع والسبعون)
أنكم معاشر المقلدين إذا قال بعض أصحابكم ممن قلدتموه قولاً خلاف قول
المتبوع أو خرجه على قول جعلتموه وجهًا وقضيتم وأفتيتم به , وألزمتم بمقتضاه ,
فإذا قال الإمام الذي هو نظير متبوعكم أو فوقه قولاً يخالفه لم تلتفتوا إليه ولم تعدوه
شيئًا. ومعلوم أن واحدًا من الأئمة الذين هم نظير متبوعكم أَجلّ من جميع أصحابه
من أولهم إلى آخرهم فَقَدِّروا أسوأ التقادير أن يكون قوله بمنزلة وجه في مذهبكم ,
فيالله العجب! صار من أفتى أو حكم بقول واحد من مشايخ المذهب أحق بالقبول
ممن أفتى بقول الخلفاء الراشدين وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وأبي
الدرداء ومعاذ بن جبل وهذا من بركة التقليد عليكم.
وتمام ذلك:
(الوجه الثمانون)
أنكم إن رمتم التخلص من هذه الخلطة وقلتم: بل يسوغ تقليد بعضهم دون
بعض , وقال كل فرقة منكم: يسوغ أو يجب تقليد من قلدناه دون غيره من الأئمة
الذين هم مثله أو أعلم منه؛ كان أقل ما في ذلك معارضة قولكم بقول الفرقة
الأخرى في ضرب هذه الأقوال بعضها ببعض , ثم يقال: ما الذي جعل متبوعكم
أولى بالتقليد من متبوع الفرقة الأخرى فبأي كتاب أو بأية سنة , وهل تقطعت
الأمة أمرها بينها زبرًا وصار {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون:
53) إلا بهذا السبب. فكل طائفة تدعو إلى متبوعها وتنأى عن غيره وتنهى عنه ,
وذلك مفضٍ إلى التفريق بين الأمة وجعل دين الله تابعًا للتشهي والإعراض،
وعرضة للاضطراب والاختلاف، وهذا كله يدل على أن التقليد ليس من عند الله
للاختلاف الكثير الذي فيه , ويكفي في فساد هذا المذهب تناقض أصحابه ومعارضة
أقوالهم بعضها ببعض , ولو لم يكن فيه من الشناعة إلا إيجابهم تقليد صاحبهم
وتحريمهم تقليد الواحد من أكابر الصحابة كما صرحوا به في كتبهم لكفى.
(الوجه الحادي والثمانون)
أن المقلدين حكموا على الله قدرًا وشرعًا بالحكم الباطل جهارًا المخالف لما
أخبر به رسوله فأخلوا الأرض من القائمين لله بحججه , وقالوا: لم يبق في الأرض
عالم منذ الأعصار المتقدمة. فقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد أبى حنيفة
وأبي يوسف وزفر بن الهذيل ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد اللؤلؤي ,
وهذا قول كثير من الحنفية , وقال بكر بن العلاء القشيري المالكي: ليس لأحد
أن يختار بعد المائتين من الهجرة وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي
وسفيان الثوري ووكيع بن الجراح وعبد الله بن المبارك. وقالت طائفة: ليس
لأحد أن يختار بعد الشافعي. واختلف المقلدون من أتباعه فيمن يؤخذ بقوله من
المنتسبين إليه ويكون له وجه يفتي ويحكم به ممن ليس كذلك وجعلوهم ثلاث مراتب:
(ا) طائفة أصحاب وجوه كابن شريح والقفال وأبي حامد. و (2) طائفة أصحاب
احتمالات لا أصحاب وجوه كأبي المعالي. و (3) طائفة ليسوا أصحاب وجوه ولا
احتمالات كأبي حامد [*] وغيره. واختلفوا متى انسد باب الاجتهاد على أقوال
كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان , وعند هؤلاء أن الارض قد خلت من قائم لله
بحججه , ولم يبق فيها من يتكلم بالعلم , ولم يحل لأحد بعد أن ينظر في كتاب الله
ولا سنة رسوله لأخذ الأحكام منهما ولا يقضي ويفتي بما فيهما حتى يعرضه على
قول مقلده ومتبوعه , فإن وافقه حكم به وأفتى به وإلا رده ولم يقبله. وهذه أقوال كما
ترى قد بلغت من الفساد والبطلان والتناقض والقول على الله بلا علم وإبطال
حججه , والزهد في كتابه وسنة رسوله , وتلقي الأحكام منهما مبلغها , ويأبى الله
إلا أن يتم نوره ويصدق قول رسوله أنه لا تخلو الأرض من قائم لله بحجته , ولن
تزال طائفة من أمته على محض الحق الذي بعثه به , وأنه لا يزال يبعث على رأس
كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها , ويكفي في فساد هذه الأقوال أن يقال
لأربابها: فإذا لم يكن لأحد أن يختار بعد من ذكرتم فمن أين وقع لكم اختيار تقليدهم
دون غيرهم , وكيف حرمتم على الرجل أن يختار ما يؤديه إليه اجتهاده من القول
الموافق لكتاب الله وسنة رسوله , وأبحتم لأنفسكم اختيار قول من قلدتموه وأوجبتم
على الأمة تقليده , وحرمتم تقليد من سواه , ورجحتموه على تقليد من سواه.
فما الذي سوغ لكم هذا الاختيار الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع
ولا قياس ولا قول صاحب , وحرمتم اختيار ما عليه الدليل من الكتاب والسنة وأقوال
الصحابة. ويقال لكم: فإذا كان لا يجوز الاختيار بعد المائتين عندك ولا عند غيرك
فمن أين يساغ لك وأنت لم تولد إلا بعد المائتين بنحو ستين سنة أن تختار قول
مالك دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين , أو من هو مثله من فقهاء
الأمصار أو ممن جاء بعده.
وموجب هذا القول أن أشهب وابن الماجشون ومطرف بن عبد الله وأسبغ
بن الفرج وسحنون بن سعيد وأحمد بن المعدل ومن في طبقتهم من الفقهاء كان لهم
أن يختاروا إلى انسلاخ ذي الحجة من سنة مائتين , فلما استهل هلال المحرم من
سنة إحدى ومائتين , وغابت الشمس من تلك الليلة حرم عليهم في الوقت بلا مهلة
ما كان مطلقًا لهم من الاختيار , ويقال للآخرين: أليس من المصائب وعجائب
الدنيا تجويزكم الاختيار والاجتهاد والقول في دين الله بالرأي والقياس لمن ذكرتم من
أئمتكم , ثم لا تجيزون الاختيار والاجتهاد لحفاظ الإسلام وأعلم الأمة بكتاب الله
وسنة رسوله وأقوال الصحابة وفتاواهم كأحمد بن حنبل والشافعي وإسحق بن
راهويه ومحمد بن إسماعيل البخاري وداود بن علي ونظرائهم على سعة علمهم
بالسنن ووقوفهم على الصحيح منها والسقيم وتحريهم في معرفة أقوال الصحابة
والتابعين ودقة نظرهم ولطف استخراجهم للدلائل. ومن قال منهم بالقياس فقياسه
من أقرب القياس إلى الصواب، وأبعده عن الفساد، وأقربه إلى النصوص مع شدة
ورعهم وما منحهم الله من محبة المؤمنين لهم، وتعظيم المسلمين علمائهم وعامتهم
لهم.
فإن احتج كل فريق منهم بترجيح متبوعه بوجه من وجوه التراجيح في تقدم
زمان أو زهد أو ورع أو لقاء شيوخ وأئمة لم يلقهم من بعده أو كثرة أتباع لم يكونوا
لغيره؛ أمكن الفريق الآخر أن يُبدوا لمتبوعهم من الترجيح بذلك أو غيره ما هو
مثل هذا أو فوقه , وأمكن غير هؤلاء كلهم أن يقولوا لهم جميعًا: نفوذ قولكم هذا -
إن لم يأنفوا من التناقض- يوجب عليكم أن تتركوا قول متبوعكم لقول من هو أقدم
منه من الصحابة والتابعين وأعلم وأورع وأزهد وأكثر أتباعًا وأجل. فأين أتباع ابن
عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل بل أتباع عمر وعلي من أتباع
الأئمة المتأخرين في الكثرة والجلالة , وهذا أبو هريرة قال البخاري: حمل العلم
عنه ثمانمائة رجل ما بين صاحب وتابع. وهذا زيد بن ثابت من جملة أصحاب
عبد الله بن عباس.
وأين في أتباع الأئمة مثل عطاء وطاووس ومجاهد وعكرمة وعبيد الله بن
عبد الله بن عتبة وجابر بن زيد؟ وأين في أتباعهم مثل السعيدين والشعبي
ومسروق وعلقمة والأسود وشريح؟ وأين في أتباعهم مثل نافع وسالم والقاسم
وعروة وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار وأبي بكر بن عبد الرحمن؟ فما الذي
جعل الأئمة بأتباعهم أسعد من هؤلاء بأتباعهم؟ ولكن أولئك وأتباعهم على قدر
عصرهم , فعظمهم وجلالتهم وكبرهم منع المتأخرين من الاقتداء بهم , وقالوا بلسان
قالهم وحالهم: هؤلاء كبار علينا لسنا من زبونهم. كما صرحوا وشهدوا على أنفسهم
فإن أقدارهم تتقاصر عن تلقي العلم من القرآن والسنة وقالوا: لسنا أهلاً لذلك لا
لقصور الكتاب والسنة , ولكن لعجزنا نحن وقصورنا فاكتفينا بمن هو أعلم بهما منا!!
فيقال لهم: فلِمَ تنكرون على من اقتدى بهما وحكمهما وتحاكم إليهما وعرض
أقوال العلماء عليهما فما وافقهما قبله، وما خالفهما رده. فهب أنكم لم تصلوا إلى
هذا العنقود؛ فلِمَ تنكرون على من وصل إليه وذاق حلاوته؟ وكيف تحجرتم الواسع
من فضل الله الذي ليس على قياس عقول العالمين ولا اقتراحاتهم , وهم وإن كانوا
في عصركم , ونشؤوا معكم , وبينكم وبينهم نسب قريب فالله يمن على من يشاء من
عباده.
وقد أنكر الله سبحانه على من رد النبوة بأن الله صرفها عن عظماء القرى
ومن رؤسائها وأعطاها لمن ليس كذلك بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ
قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ
بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيًا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف: 32) وقد قال
النبى صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره) وقد
أخبر الله سبحانه عن السابقين بأنهم {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: 13-14) وأخبر سبحانه أنه {بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) قال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الجمعة:
3) ثم أخبر أن {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الجمعة: 4) .
وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد , وذكرنا من مآخذهما وحجج أصحابهما
وما لهم وعليهم من المنقول والمعقول ما لا يجده الناظر في كتاب من كتب القوم من
أولها إلى آخرها , ولا يظفر به في غير هذا الكتاب أبدًا وذلك بحول الله وقوته
ومعونته وفتحه فله الحمد والمنة وما كان فيه من صواب فمن الله هو المانُّ به , وما
كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان وليس الله ورسوله ودينه في شيء منه، وبالله
التوفيق.
(تمت المناظرة)
__________
(*) كذا في الأصلين ولعله ابن حامد لأن أبا حامد في الطائفة الأولى أو هو أبو حامد والأول ابن حامد أو غيره والله أعلم اهـ من هامش النسخة المطبوعة بالهند.(7/491)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السؤال والفتوى
بلوغ الدعوة لكفار العصر
(س 62) محمود أفندي ناصف الصراف بسكة الحديد السودانية في
(حلفا) ذكرتم في الجزء السابع أن (كل من بلغته دعوة النبي صلى الله عليه
وسلم على وجه صحيح فلم يؤمن به عنادًا للحق فهو خالد في النار) , وهذا يستلزم
أن تكون الدعوة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان يدعو المشركين
للإسلام ويفرض عليهم الجزية أو الحرب في حالة إبائهم كما هو وارد في القرآن
ومذكور في التاريخ، فما حكم من لم تبلغه الدعوة بلاغًا شرعيًّا من القوم المتأخرين،
وكيف حالهم في الآخرة عند الله وهم لم يُدْعَوا للإسلام، ولم تبلغهم الدعوة على
الوجه الشرعي الصحيح.
(ج) إن دعوة خاتم النبيين عامة فحكمها واحد في زمنه وفي كل زمن بعده
إلى يوم القيامة. فمن بلغته على وجه صحيح يحرك إلى النظر فلم ينظر فيها , أو
نظر وظهر له الحق فأعرض عنه عنادًا واستكبارًا؛ فقد قامت عليه حجة الله البالغة
ولا عذر له في يوم الجزاء إذا لم يُرَقِّ روحه ويزكِّ نفسه بها ليستحق رضوان الله
تعالى , ومن لم تبلغه بشرطها أو بلغته ونظر فيها بإخلاص ولم يظهر له الحق
ومات غير مقصر في ذلك فهو معذور عند الله تعالى , ويكون حاله في الآخرة
بحسب ارتقاء روحه وزكائها بعمل الخير أو تسفلها ودنسها بعمل الشر. والخير
والشر معروفان في الغالب لكل أحد لا يكاد يختلف الناس إلا في بعض دقائقهما. ويا
سعادة من يتحرى عمل كل ما يعتقده خيرًا واجتناب كل ما يعتقده شرًّا.
وما ذكر في السؤال من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفرض على
المشركين الجزية أو الحرب غير صحيح ولا هو في القرآن ولا في التاريخ، بل
سهو من السائل , فإنه صلى الله عليه وسلم دعا مشركي العرب إلى الإسلام بالحجة
فعاندوه وآذوه وأخرجوه من وطنه , ثم صاروا يؤذونه في مهاجره ويكرهون أتباعه
على الشرك , ويصادرونهم في أموالهم حتى إذا أقدره الله تعالى على الدفاع أنشأ
يجاهدهم حتى أظفره الله تعالى بهم , ولم تضرب الجزية على أحد من المشركين بل
هي خاصة بأهل الكتاب ومن في حكمهم كالمجوس لأن لهم أديانًا تعرفهم بالله
وتأمرهم بالخير وتنهاهم عن الشر , وإن مازجتها نزغات الوثنية ونال منها
التحريف والتأويل، حتى ضل أهلها عن سواء السبيل.
***
إرادة الله وكسب الإنسان
(س 63) أمين أفندي محمد الشباسي بسكة حديد (سواكن) كنت أتحدث
مع بعض أصدقائي في أحوال المسلمين من حيث ميلهم إلى الشر أكثر من الخير,
وتفننهم في المعاصي وعدم ميلهم إلى ما فيه خيرهم الدنيوي والأخروي. فقال بأن
هذه إرادة الله بنا. فقلت له: إن هذا شر والله لا يريد الشر وكيف يريده لنا دون
غيرنا؟ فقال: إننا نستحق ذلك في علمه أزلاً فهذه إرادته. فقلت: إن هذا باطل
فقد بين الله لنا طريقي الخير والشر في القرآن وجعل لكل سلوك جزاء، ومنحنا
العقل لأجل أن نميز بينهما , فاذا أسأنا استعمال ما وهبه لنا من القوى والهداية كنا
أشقياء في الدنيا والآخرة , وإذا أحسنا استعمالها كنا سعداء فيهما , ولكننا أسأنا
الاستعمال وصرفنا قوانا الحسية والعقلية إلى الشر. فقال: من الذي صرف قوانا
العقلية نحو أحد الأمرين؟ فقلت له: الحواس وما عندنا من الجزء الاختياري.
فقال: إن العقل أكبر شيء في الإنسان وباقي الحواس دونه , فلا يصح أن تتغلب
عليه بل الله عز وجل هو الذي حول قواك نحو إرادته , فلا يقع في ملكه إلا ما
أراده وأرضاه , ثم قرأ هذه الجملة وادعى أنها آية من القرآن وهي: (إنه لا يصدر
عن أحد من عبيده قول ولا فعل ولا حركة ولا سكون إلا بقضائه وقدره) ولم أقف
عليها في المصحف , فهل هي من القرآن؟ وفي أي سورة هي؟ وهل ما قاله
صحيح؟ وإذا كان كذلك فكيف يكون العذاب؟ نرجو الفصل بيننا بما أطلعك الله
... إلخ اهـ بتصرف يسير.
(ج) أما العبارة فليست من القرآن حتمًا , وعجبنا كيف خفي ذلك عليكم
والمصحف في أيديكم. على أن نظمها مخالف لنظم القرآن , وأزيدك أن لفظ
القضاء لم يرد في القرآن لا معرفًا ولا مضافًا ولا مجردًا , وأما المسألة المتنازع
فيها؛ فكل منكما أخطأ في بعض قوله فيها وأصاب في بعض , وكلامك أقرب إلى
الحقيقة , وكلامه أميل إلى التصورات النظرية، فقولك: إن الله لا يريد الشر مني
على أن الإرادة بمعنى الرضى , وذلك غير صحيح. وإنما الإرادة هي ما يخصص
الله به الممكنات ببعض ما يجوز عليها من الأمور المتقابلة. وقوله: إنه لا يقع في
ملكه إلا ما أراده ورضيه غير صحيح في الرضى. فإن الكفر يجري في ملكه وقد
قال في كتابه: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْر} (الزمر: 7) ومن هنا تعرف أن فرقًا
بين الإرادة والرضى.
وحقيقة القول في المسألة: أن الله تعالى خلق الإنسان وأعطاه القوى البدنية
والنفسية والحواس الظاهرة والباطنة , وأقدره على الأعمال النافعة والضارة , وهداه
إلى التمييز بينها بالمشاعر والعقل والدين فهو يربي نفسه وعقله بكسبه. وأعماله
الاختيارية تابعة دائمًا لأفكاره العقلية وأخلاقه ووجداناته النفسية فهي كسبية تتبع
كسبيًّا , فمهما فسد التعليم والتربية كانت الأعمال قبيحة ضارة , ومهما صلح التعليم
والتربية كانت الأعمال صالحة نافعة حتمًا. هذا ما نشاهده من سير الإنسان منفردًا
ومجتمعًا فهو قطعي لا يقبل النزاع. وقام الدليل العقلي على أن هذا النظام الكامل
في الإنسان هو من مبدع الكائنات كلها , ولا تنافي بين الأمرين. والبحث عن كيفية
تعلق قدرة الله وإرادته في إقامة الإنسان أو غيره من الكائنات على ما هو عليه سفه
من العقل وبدعة في الدين. أما الأول فلأن العقل لا يقدر على اكتناء سر الإبداع
والتكوين , وأما الثاني فلأن الشرع نهانا عن الخوض في القدر لأنه فتنة تثير
الشكوك وتجر إلى الكفر وينتهي الأمر بصاحبها إلى أن يبرئ نفسه من ذنبه
وتقصيره , ويرمي به ربه عز وجل بذلك {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) .
وغدا يعتب القضاء ولا عذ ... ر لعاص فيما يسوق القضاء
***
الشفاعة والأنداد
(س 64) الشيخ أنور محمد يحيى شيخ عزب في (الترعة الجديدة من
الشرقية) :
يفهم من عبارة المنار في الجزء التاسع أن الأنداد على قسمين قسم يطلب منه
العمل بالاستقلال , وقسم يطلب منه أن يشفع عند الله تعالى وصرحتم بأن الشفيع
يكون ندًّا؛ لأنه يستنزل من يشفع عن رأيه ويحوله عن إرادته. فالذي يفهم من هذا
التصريح أن الذي يجب اعتقاده عدم الشفاعة عند الله تعالى مع أن الله قال في كتابه
العزيز: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) وقال {وَلاَ
يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء: 28) وقال اللقاني في جوهرته:
وواجب شفاعة المشفع ... محمد مقدمًا لا تمنع
وغيره من مرتضى الأخيار ... يشفع كما قد جاء في الأخبار
فهل يوجد نص في وجود الشفعاء؟ أرجو من حضرتكم بيان هذا الموضوع
على لسان مناركم جعلكم الله ملجأ لكل قاصد، ونجح لكم المقاصد.
(ج) قد سبق لنا في المنار بيان حقيقة الشفاعة , وأن من الآيات الكريمة ما
ينفي الشفاعة قطعًا كقوله تعالى: {وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} (البقرة: 254) وقوله: {
مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر: 18) ومنها ما هو ظاهر في
جواز الشفاعة بإذن الله لمن ارتضاه وهي ليست نصوصًا قطعية في وقوعها , وأما
الأحاديث فهي صريحة في ثبوت الشفاعة في الآخرة , وهي آحاد لا يؤخذ بها
وحدها في العقائد , ويمكن حمل الآيات النافية للشفاعة والتي تحكيها عن عقائد
المشركين في معرض الإنكار كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ
وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) على ما ينطبق على
الآيات والأحاديث التي تجيزها وتنطق بوقوعها , فلا يكون هناك تناقض ولا
تعارض , وذلك أن الشفاعة المنفية الممنوعة هي ما حكاه القرآن العزيز عن
المشركين وهي التي بمعنى الشفاعة عند الحكام لقضاء المصالح عند العجز عنها من
طرقها وأسبابها. والشفاعة الجائزة خاصة بالآخرة , وهي عبارة عن دعاء من
الشافع المشفع يأذن له به الله يستجيبه إظهارًا لكرامة عبده الشفيع، وقد سبق في
علمه القديم وتعلقت إرادته سبحانه بأن ما به الشفاعة كائن في وقته لا يتأخر ولا
يتقدم , فالشافع لم يغير شيئًا من علمه تعالى ولم يؤثر في إرادته ولم يحمله على
شيء لم يكن ليفعله لولاه.
ومن هذا التقرير يفهم أن ما عليه أكثر العامة من الاستشفاع بالأولياء أصحاب
القبور المعلومين والمجهولين لأجل دفع المكاره وجلب المنافع هو من النوع الأول
الذي يمنعه الدين , ويخل بالاعتقاد الصحيح بالله تعالى. فإنهم كثيرًا ما يصرحون
بتشبيه الشفاعة عند الباري تعالى بشفاعة المقربين من الملوك الظالمين لبعض
المجرمين , وتأثير شفاعتهم لهم. وهذا محال على الله تعالى, بل إن الملوك
العاديين الحكماء ما كانوا يقبلون شفاعة أحد , وإنما يعملون ما يعتقدون أنه الحق.
فتأمل.
***
المحرم بالرضاع
(س65) أحمد أفندي المشد المحامي في (ملوي) : هل يحرم على
مرتضعٍ زواجُ جميع بنات مرضعته أم التي رضع معها فقط.
(ج) من رضع من امرأة صارت أمه وحرم عليه جميع بناتها , ولا يحرمن
على إخوته الذين لم يرضعوا منها، وإذا رضعت بنت من امرأة حُرِّمَ على جميع
أولاد المرأة التزوج بها دون سائر أخواتها اللائي لم يرضعن.
***
الكشف ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة
(س66) الشيخ حاتم إبراهيم مأذون ناحية تندة التابعة (ملوي)
جرت بيني وبين بعض أهل العلم مناظرة في شأن أهل الكشف ورؤية النبي
عليه السلام يقظة , فأنكرتهما مستدلاًّ على نفي الأول بقوله تعالى: {قُل لاَّ يَعْلَمُ
مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} (النمل: 65) , وقوله: {وَعِندَهُ
مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (الأنعام: 59) وقوله: {عَالِمُ الغَيْبِ} (الجن
: 26) ... إلخ وكثير من الآيات وحديث عائشة المشار إليه بقوله تعالى: {إِنَّ
اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (لقمان: 34) الآية. وما نسمعه ممن عدوا الولاية -
وهي حق كل تقي - حِرْفَةً؛ نوع من الكهانة كما أخبر عليه السلام حينما قيل له:
إنهم يقولون في الشيء: كن فيكون. وكما وقع له مع ابن صياد. وعلى نفي الثاني
بأنه عليه السلام مدفون بحيث لو استكشف لرؤي نائمًا , وحياته البرزخية لا نشعر
بها , فلا كلام فيها , وبأن ذلك لو كان جائزًا لكانت عائشة التي قبره في بيتها أجدر
بذلك , ولكان من اللازم إرشاد الصحابة حينما اشتعلت بلادهم فتنًا وتقاتلت أئمتهم
وتفرقت جماعتهم. وبالجملة فلم يؤثر عن الصحابة والتابعين وتابعيهم أنهم رأوه
يقظة وما يزعمه أهل الطرق من أن الرفاعي قبَّل اليد الشريفة فليس بأول أكذوبة
لهم. وادعى هو إثباتهما مستدلاًّ بأن الكشف وقع من الصالحين الذين لا يظن فيهم
الكهانة كعبد العزيز الدباغ والسيد البدوي والدسوقي وكثير من الأولياء وأن عمر
بن الخطاب رضي الله عنه نادى وهو على المنبر: يا سارية الجبل. وأنى يكون
ذلك بدون كشف , وبأن الرؤية حصلت لكثير من الأولياء كما صرح بذلك (الإبريز) .
ولا مانع من ذلك فإنها من الكرامات , وزعم أن الشيخ محمد عبده ادّعى ذلك ,
فنرجو من سيادتكم تثبيتنا على أمر موافق للعقل والنقل كما هو شأنكم في تربية
المسلمين.
(ج) إنك لست مكلفًا بأن تصدق بما ينقل من الكشف ومن رؤية النبي صلى
الله عليه وسلم في اليقظة. والكشف ضرب من علم الغيب في الظاهر , وقد رأيت
ما كتبناه فيه في جواب الأسئلة الزنجبارية وقبلها , وقد وعدنا بأن سنزيده تفصيلاً
فانتظر ذلك.
وأما الرؤية فقد كتبنا في كتابنا (الحكمة الشرعية) ما نقل فيها عن الصوفية
والعلماء وما يحكم به العقل والدين مفصلاً في عدة كراريس , ولعلنا نلخص ذلك في
الكلام على بقية أنواع الكرامات. وإنك لتجد الآن غناء في بحث رؤية الأرواح إذا
راجعته في المجلد السادس.
واعلم أن البحث في هذه المسألة علمي لا ديني إذ الدين لم يكلفنا باعتقاد أن
الناس يرون الأرواح المجردة , ولكن نقل ذلك عن كثير من الناس ثلة من الأولين
وقليل من الآخرين , واختلف فيه: هل هو حقيقي أو خيالي؟ وبعض الصوفية
يقول: إنه لا يكون في اليقظة , ولكن في حال بين اليقظة والنوم. وقد سلك
الإفرنج له طريقًا صناعية , ولكن الاستعداد له متفاوت وفاقًا بينهم وبين المتقدمين ,
ولا يزال أمرهم فيه مبهمًا كما أشرنا إلى ذلك من قبل. وإذا ثبت أن لمعرفة بعض
المغيبات سببًا طبيعيًّا وَجَبَ استثناؤه من الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه ,
ويمكن أن يقال: إنه ليس بغيب حقيقي؛ لأننا إذا قلنا: إن الغيب كل ما غاب عنك؛
كان أكثر الموجودات المجهولة غيبًا , وكان لا سبيل إلى معرفة مجهول قط
فوجب إذًا أن يراد بالغيب ما لا طريق لمعرفته بكسب البشر لا من طريق المشاعر
ولا من طريق العقل والروح , ويخرج بهذا ما يعرف الآن قبل ظهوره من الأحداث
كالأنواء والزلازل بواسطة آلات طبيعية , وما يعرف بالحساب كالخسوف
والكسوف , ويقاس على ذلك كل ما له طريق طبيعي يوصل إليه بالسير عليه ولو
روحانيًّا. وبهذا التقرير نُكْتََفى مؤنة البدعة في الدين، ونقطع الطريق على
الدجالين، ولا نقطع طريق العلم ولا اجتهاد الإنسان في إظهار مواهبه الروحانية.
***
شرب اللبن في يوم الأربعاء
وأكل السمك في يوم السبت
(س 67) أحمد أفندي صبحي في (أشمون) نرى كثيرًا من إخواننا
المسلمين (وهم العامة وقليل من غيرهم) يقولون: إن شرب اللبن يوم الأربعاء
وأكل السمك يوم السبت مكروه شرعًا , وورد فيهما أحاديث شريفة , وهذا الاعتقاد
متمكن فيهم لا يتحولون عنه. فنرجو الإفادة: هل ورد فيه شيء في السنة؟ فإن لم
يكن فمن أين سرى إلى المسلمين؟ ونسأله تعالى أن لا يحرمنا من وجودكم.
(ج) ليس في هذه المسألة حديث مروي , وإنما سرت إلى المسلمين من
أهل الكتاب اليهود والنصارى مسألة السبت من الأولين , ومسألة شرب اللبن من
الآخرين , فإننا نرى طوائف منهم لا يشربون اللبن ولا يأكلونه مطبوخًا في يوم
الأربعاء. وسمعت بعض العامة ينسب إلى علي كرم الله وجهه أنه قال: ما
استسمكت في سبتها قط ولا استلبنت في أربعائها قط ... إلخ ومرادهم ظاهر ,
والعبارة ليست بعربية فضلاً عن كونها مأثورة عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه.
***
الاستشفاء بجلوس النساء والأطفال تحت المنبر
(وحال الخطباء والأئمة في بلاد مصر)
(س 67) حامد أفندي البكري في (دمياط) دخلت مسجد شطا يوم جمعة
للصلاة فلما صعد الإمام المنبر , وحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله
عليه وسلم؛ بكى صغير تحت المنبر وصاح , فشوش على الناس , فقرع الإمام
المنبر بالسيف مرات متواليات , ورفع صوته بما يقول , فلم يسكت الصغير ,
ولم يقم أحد لأخذه , فقال الإمام: أما فيكم أحد يأخذ هذا الصغير؟ أخرجوه ومن
معه , فقام رجل وأخذه وأخرج معه ثلاث نسوة بعد جلوس طويل انتهى بنزوله ,
وقوله لهن: والله إن لم تخرجن لأضربنكن بالسيف , فوقفت إحداهن بالصغير أمام
المنبر بين الناس , فقال: أخرجوها هي ومن معها , فإن هذه بدع ولا يجوز
دخولهن في مساجد الله بهذا الشكل، فصاح عليه أحد سكان هذه القرية قائلاً:
أنت مالك ومالها.
فقال له: اسكت. فجاوبه الرجل بقوله: (دانت موش عالم هو انت إمام ,
والله نطلعك من هنا هي صلاتنا وراك راح تدخلنا الجنة) فنزل الإمام وقال له:
صل بالناس. فقمت أنا وواحد صاحبي وصالحناه , فصعد المنبر , وأردنا ملاطفة
الثاني فلم يزده ذلك إلا نفورًا حتى قال: (أنا موش عاوز أصلي وراك ولا انا عاوز
الجنة اللي جايه لنا من صلاتنا وراك، والله ما عُتُّ مصلي وراك يا راجل انت)
فمانعته الخروج خوفًا عليه من ارتكاب هذا الإثم , فأبى إلا تنفيذ يمينه. حصل
ذلك , والناس قد هاجوا وعلا ضجيجهم , والإمام يقول: لا تفوتنا الصلاة فإنها
تمتد إلى قبيل العصر. فلما سكت الناس خطب وصلى بهم , فسألت عن جلوس
النسوة تحت المنبر , فقيل لي: إن الصغير مريض , والنساء يعتقدن أنه يبرأ
بجلوسهن به تحت المنبر أثناء الخطبة. فهل أصاب الإمام في عمله أم أخطأ؟
وما جزاء هذا الآثم؟ وما رأيكم في هذا الاعتقاد؟ وهل ورد أن يكون للمنبر بابان
متقابلان كما تعهدون في المنابر؟ أفيدونا أفادكم الله.
(ج) أصاب الإمام في منع النساء والأطفال من القعود تحت المنبر
للاستشفاء , وأخطأ ذلك الجاهل المعارض له , وما قاله يشبه أن يكون هزؤًا بالدين
واستخفافًا واحتقارًا للجنة. ولبعض الفقهاء كلام في تكفير من يستهزئ بالعبادة
وبالجنة أو النار , وإذا لم يكن مثل هذه الأقوال مما يرتد به المسلم فهو مما لا
يصدر عادة عن عارف بالدين يذعن له ويحترمه , وأكثر هؤلاء المقلدين لا سلطان
للدين على عقولهم وقلوبهم , وإنما يصلي أحدهم لأنه تعود على هذه الحركات التي
يسمونها صلاة , فإذا عارض الصلاة هواه أو غضبه تركها بلا مبالاة. وينبغي
للناس احترام إمامهم وخطيبهم ما داموا راضين بإمامته , ولكن الحكام هم السبب في
احتقار الناس لأئمة الصلاة والخطباء لأنهم يعهدون بهذا المنصب الذي هو من
مناصب ورثة الأنبياء إلى الفقراء الجهلة , ولو جعلوهم من العلماء المدرسين ,
وجعلوا رواتبهم كافية مانعة من احتياجهم إلى الطمع في الصدقات لاحترمهم الناس
وكان في احترامهم إعلاء لشأن الدين. ألا ترى أن ذلك الأحمق قد أنكر على
الخطيب , وأظهر احتقاره وعدم العمل بما أمر به محتجًّا عليه بأنه غير عالم. ومن
تدبر أمثال هذه الوقائع يتجلى له ما في مشروع الأستاذ الإمام في إصلاح المساجد
من الفائدة , ولكن أهواء السياسة قد هبت من قصر الإمارة على لائحة ترتيب
المساجد فنسفتها وألقتها في قصر الدوبارة وصار الأمر فيها إلى اللورد كرومر ولا
يدري إلا الله ما هو صانع فيها. أما جعل المنبر بالكيفية المعروفة فليس له أصل
في الدين فلا مانع منها ولا مقتضي لها.
***
استيئاس الرسل عليهم السلام
(س 67) ومنه: عرضت لي شبهة في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ
الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ
القَوْمِ المُجْرِمِينَ} (يوسف: 110) فأرجو توضيح المراد منها.
(ج) الأظهر المنطبق على قواعد العقائد أن المراد باستيئاس الرسل يأسهم
من إيمان قومهم , وفي قوله تعالى: {كُذِبُوا} (يوسف: 110) بضم الكاف
قراءتان سبعيتان إحداهما بتشديد ذال (كذبوا) ولا إشكال فيها والثانية بالتخفيف.
وفي تطبيق القواعد عليها وجهان: أحدهما أن الضمير في (ظنوا) لأقوام الرسل ,
أي ظن الأقوام أنهم كذبوا فيما أوعدوا به من وقوع العذاب عليهم، وثانيهما: أن
الضمير للرسل , وكذبوا ههنا بمعنى تمنوا أو بمعنى وجب عليهم الأمر , ومعناه
كذبتهم أنفسهم فيما تمنوا وأملوا , أي خابت آمالهم في قومهم أو في كيفية انتقام الله
لهم. قال في القاموس: وكذب قد يكون بمعنى وجب , ومنه: (كذب عليكم الحج
كذب عليكم العمرة، كذب عليكم الجهاد , ثلاث أسفار كذبن عليكم) أو من كذبته
نفسه إذا منته الأماني , وخيلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون. وقال في الأساس:
وكذب نفسه وكذبته نفسه إذا حدثته بالأماني البعيدة والأمور التي لا يبلغها وسعه
ومقدرته. والمعنى حتى إذا يئس الرسل من إيمان قومهم وظنوا - أي أيقنوا - أن
أمانيهم في إيمانهم وآمالهم في قبولهم الدعوة ضائعة جاءهم نصرنا.
وقد أنكرت عائشة رضي الله عنها قراءة التخفيف فقد روى البخاري وغيره
من طريق عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن هذه الآية قال: قلت: أَكُذِبُوا
(بالتخفيف) أم كُذِّبُوا (بالتشديد) ؟ فقالت: بل كُذِّبُوا - تعني بالتشديد - قلت:
والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن. قالت: أجل لعمري لقد استيقنوا
بذلك. قلت: لعلها كُذِبُوا (مخففة) قالت: معاذ الله لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها.
قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بهم وصدقوهم , وطال
عليهم البلاء , واستأخر عنهم النصر حتى اذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم,
وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك.
وقرأ بعض الصحابة: (كَذَبُوا) بالتخفيف مبنيًّا للمعلوم , وهي قراءة مجاهد
أي أيقن قومهم أنهم كذبوا. والظن يستعمل في الفصيح بمعنى اليقين وبمعنى الوهم
وحديث النفس , والقرائن هي التي تعين ولذلك حمل بعضهم الظن هنا على حديث
النفس , وله شواهد من اللغة.
***
جنة آدم
(س 68) ومنه: هل الجنة التي هبط منها آدم هى الجنة التي وعد المتقون
في الدار الآخرة أم هي جنة من جنات الدنيا؟ واذا كانت الثانية فما معنى قوله
تعالى: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} (البقرة: 36) .
(ج) إن جنة آدم ليست هي دار الجزاء في الآخرة , ولك أن تراجع
تفصيل ذلك في تفسير قصة آدم (في ص 203 من مجلد المنار الخامس) وفيه أن
المختار عدم البحث عن مكانها , وأن معنى {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى
حِينٍ} (البقرة: 36) أن إقامتكم في الأرض محدودة خلافًا لزعم الشيطان أن
الشجرة التي أكلتم منها هي شجرة الخلد وملك لا يبلى. ولا ينافي هذا أن تكون
الجنة في الأرض , وهناك كلام في كون القصة تمثيلاً فراجعوه.
***
التوسل بالأنبياء والأولياء
(س 68) كثر كلامنا في هذه المسألة , ولا يزال الناس يسألون عنها وقد
وقفنا قبل إتمام طبع هذه الجزء من المنار على فتوى فيها للأستاذ الإمام فألحقناه
بباب فتاوى المنار وهي فصل الخطاب وهذا نصها:
فضيلتلوا أفندم مفتي الديار المصرية متعنا الله بوجوده آمين.
أبدي أنه قد بلغني أن بعض الناس كتب إلى فضيلتكم سؤالاً يدعي فيه أني
أنكرت جاه النبي صلى الله عليه وسلم والتوسل به إلى الله تعالى وبأوليائه رضوان
الله عليهم أجمعين , والحقيقة أني لم أنكر شيئًا من ذلك ولم أتكلم به , بل الحقيقة أنه
سألني جمع من الناس عن حقيقة ما يعتقدونه ويقولونه بألسنتهم من التوسل بجاه
النبي صلى الله عليه وسلم والتوسل بأوليائه معتقدين أن النبي أو الولي يستميل
إرادة الله تعالى عما هي عليه كما هو المعروف للناس من معنى الشفاعة والجاه عند
الحكام، وأن التوسل بهم إلى الله تعالى كالتوسل بأكابر الناس إلى الحكام. فلما
رأيت منهم ذلك , وأن هذا أمر مخل بالعقيدة كما تعلمون , وأن قياس التوسل إلى
الله تعالى على التوسل بالحكام محال؛ فأجبتهم بما أعتقده وأدين الله به من تقرير
عقيدة التوحيد هي أنه لا فاعل ولا نافع ولا ضار إلا الله تعالى، وأنه لا يدعى معه
أحد سواه كما قال تعالى: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) وأن النبي
صلى الله عليه وسلم , وإن كان أعظم منزلة عند الله تعالى من جميع البشر وأعظم
الناس جاهًا ومحبة وأقربهم إليه , ليس له من الأمر شيء , ولا يملك للناس ضرًّا
ولا نفعًا ولا رشدًا ولا غيره كما في نص القرآن , وإنما هو مبلغ عن الله تعالى ولا
يتوسل إليه تعالى إلا بالعمل بما جاء على لسانه صلى الله عليه وسلم واتباع ما كان
عليه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون من هديه وسنته , وأنه لا سبب لجلب
المنافع ودفع المضار إلا ما هدى الله الناس إليه , ولا معنى للتوسل بنبي أو ولي إلا
باتباعه والاقتداء به يرشدنا إلى هذا كثير من الآيات الواردة في القرآن العظيم كقوله
تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31)
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} (الأنعام: 153) إلى غير ذلك من الآيات.
هذا هو اعتقادي , وهو الذي قلته للناس , فإن كنتم ترون فيه خطأ فأرجو بيانه ,
وإن كان هو الصواب فأرجو إقراري عليه كتابة لأدافع بذلك من أساء بي الظن
لازلتم هادين مهديين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد موسى
... ... ... ... ... ... ... ... من محلة فرنوي بحيرة
جواب المفتي
(ج) بسم الله الرحمن الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم اعتقادك هذا هو الاعتقاد الصحيح ولا يشوبه شوب من الخطأ , وهو ما يجب
على كل مسلم يؤمن بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أن يعتقده , فإن الأساس
الذي بنيت عليه رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو هذا المعنى من التوحيد
كما قال الله له: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} (الإِخلاص: 1-2) والصمد
هو الذي يقصد في الحاجات , ويتوجه إليه المربوبون في معونتهم على ما يطلبون,
وإمدادهم بالقوة فيما تضعف عنه قواهم , والإتيان بالخبر على هذه الصورة يفيد
الحصر كما هو معروف عند أهل اللغة , فلا صمد إلا هو , وقد أرشدنا إلى وجوب
القصد إليه وحده بأصرح عبارة في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: 186) وقد قال الشيخ محيي الدين بن
عربي شيخ الصوفية في صفحة 226 من الجزء الرابع من فتوحاته عند الكلام على
هذه الآية: (إن الله تعالى لم يترك لعبده حجة عليه، بل لله الحجة البالغة , فلا
يُتَوسل إليه بغيره فإن التوسل إنما هو طلب القرب منه، وقد أخبرنا الله أنه قريب
وخبره صدق) اهـ ملخصًا.
على أن الذين يزعمون جواز شيء مما عليه العامة اليوم في هذا الشأن إنما
يتكلمون فيه بالمبهمات , ويسلكون طرقًا من التأويل لا تنطبق على ما في نفوس
الناس , ويفسرون الجاه والواسطة بما لا أثر له في مخيلات المعتقدين , فأي حالة
تدعوهم إلى ذلك وبين أيديهم القرون الثلاثة الأولى , ولم يكن فيها شيء من هذا
التوسل ولا ما يشبهه بوجه من الوجوه. وكتب السنة والسير بين أيدينا شاهدة بذلك,
فكل ما حدث بعد ذلك؛ فأقل أوصافه أنه بدعة في الدين , وكل بدعة ضلالة , وكل
ضلالة في النار. وأسوأ البدع ما كان فيه شبهة الإشراك بالله , وسوء الظن به كهذه
البدع التي نحن بصدد الكلام فيها. وكأن هؤلاء الزاعمين يظنون أن في ذلك
تعظيمًا لقدر النبي صلى الله عليه وسلم أو الأنبياء والأولياء. مع أن أفضل التعظيم
للأنبياء هو الوقوف عند ما جاءوا به , واتقاء الزيادة عليهم فيما شرعوه بإذن ربهم,
وتعظيم الأولياء يكون باختيار ما اختاروه لأنفسهم. وظَنُّ هؤلاء الزاعمين أن
الأنبياء والأولياء يفرحون بإطرائهم وتنظيم المدائح وعزوها إليهم , وتفخيم الألفاظ
عند ذكرهم , واختراع شئون لهم مع الله لم ترد في كتاب الله ولا في سنة رسوله
ولا رضيها السلف الصالح؛ هذا الظن بالأنبياء والأولياء هو أسوأ الظن لأنهم
شبهوهم في ذلك بالجبارين من أهل الدنيا الذين غشيت أبصارهم ظلمات الجهل قبل
لقاء الموت , وليس يخطر بالبال أن جبارًا لقي الموت وانكشف له الغطاء عن أمر
ربه فيه يرضى أن يفخمه الناس بما لم يشرعه الله فكيف بالأنبياء والصِّدِّيقين.
إن لفظ الجاه الذي يضيفونه إلى الأنبياء والأولياء عند التوسل مفهومه العرفي
هو السلطة , وإن شئت قلت: نفاذ الكلمة عند من يستعمل عليه أو لديه , فيقال:
فلان خَلَّصَ فلانًا من عقوبة الذنب بجاهه لدى الأمير أو الوزير مثلاً. فزَعْم أن
لفلان جاهًا عند الله بهذا المعنى إشراك جلي لا خفي , وقلما يخطر ببال أحد من
المتوسلين معنى اللفظ اللغوي , وهو المنزلة والقدر , على أنه لا معنى للتوسل
بالقدر والمنزلة في نفسها لأنها ليست شيئًا ينفع , وإنما يكون لذلك معنى لو أولت
بصفة من صفات الله كالاجتباء والاصطفاء , ولا علاقة لها بالدعاء , ولا يمكن
لمتوسل أن يقصدها في دعائه , وإن كان الألوسي المسكين بنى تجويز التوسل بجاه
النبي خاصة على ذلك التأويل , وما حمله على هذا إلا خوفه من ألسنة العامة
وسباب الجهال , وهو مما لا قيمة له عند العارفين. فالتوسل بلفظ الجاه مبتدع بعد
القرون الثلاث , وفيه شبهة الشرك والعياذ بالله , وشبهة العدول عما جاء به رسول
الله صلى الله عليه وسلم , فلِمَ الإصرار على تحسين هذه البدعة.
يقول بعض الناس: إن لنا على ذلك حجة لا أبلغ منها وهي ما رواه الترمذي
بسنده إلى عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال: إن رجلاً ضرير البصر أتى النبي
صلى الله عليه وسلم , فقال: ادع الله أن يعافيني. فقال: إن شئت دعوت وإن
شئت صبرت فهو خير لك. قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء,
ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة , إني
توجهت بك إلى ربي ليقضي لي في حاجتي هذه , اللهم فشفعه فيّ. قال الترمذي:
وهو حديث حسن صحيح غريب.
ونقول أولاً: قد وصف الحديث بالغريب , وهو ما رواه واحد ثم يكفي في
لزوم التحرز عن الأخذ به أن أهل القرون الثلاثة لم يقع منهم مثله , ووهم أعلم منا
بما يجب الأخذ به من ذلك , ولا وجه لابتعادهم عن العمل به إلا علمهم بأن ذلك من
باب طلب الاشتراك في الدعاء من الحي , كما قال عمر رضي الله عنه في حديث
الاستسقاء: (إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا , وإنا نتوسل
إليك بعم نبيك العباس فاسقنا) قال ذلك رضي الله عنه والعباس بجانبه يدعو الله
تعالى , ولو كان التوسل ما يزعم هؤلاء الزاعمون؛ لكان عمر نستسقي ويتوسل
بالنبي صلى الله عليه وسلم , ولا يقول: كنا نستسقي بنبينا , والآن نستسقى بعم
نبيك , وطلب الاشتراك في الدعاء مشروع حتى من الأخ لأخيه , بل ويكون من
الأعلى للأدنى كما ورد في الحديث , وليس فيه ما يخشى منه , فإن الداعي ومن
يشركه في الدعاء وهو حي كلاهما عبد يسأل الله تعالى , والشريك في الدعاء
شريك في العبودية , لا وزير يتصرف في إرادة الأمير كما يظنون {سُبْحَانَ رَبِّكَ
رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) .
ثم المسألة داخلة في باب العقائد لا في باب الأعمال. ذلك أن الأمر فيها
يرجع إلى هذا السؤال: (هل يجوز أن نعتقد بأن واحدًا سوى الله يكون واسطة
بيننا وبين الله في قضاء حاجاتنا أو لا يجوز) أما الكتاب فصريح في أن تلك العقيدة
من عقائد المشركين , وقد نعاها عليهم في قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ
يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) , وقد جاء
في السورة التى نقرؤها كل يوم في الصلاة: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) فلا
استعانة إلا به , وقد صرح الكتاب بأن أحدًا لا يملك للناس من الله نفعًا ولا ضرًّا ,
وهذا هو التوحيد الذي كان أساس الرسالة المصطفوية كما بينا , ثم البرهان العقلي
يرشد إلى أن الله في أعماله لا يقاس بالحكام وأمثالهم في التحول عن إراداتهم بما
يتخذه أهل الجاه عندهم؛ لتنزهه جل شأنه عن ذلك , ولو أراد مبتدع أن يدعو إلى
هذه العقيدة فعليه أن يقيم عليها الدليل الموصل إلى اليقين إما بالمقدمات العقلية
البرهانية أو بالأدلة السمعية المتواترة , ولا يمكنه أن يتخذ حديثًا من حديث الآحاد
دليلاً على العقيدة مهما قوي سنده , فإن المعروف عند الأئمة قاطبة أن أحاديث
الآحاد لا تفيد إلا الظن {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: 36) والله
أعلم.
في 27 جمادى الثانية سنة 1322 ... ... ... ... محمد عبده
__________(7/495)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
ما يتعلم في السفينة
الشذرة الخامسة عشرة من جريدة الدكتور أراسم
في اليوم الخامس من شهر مارس بلغنا مينا جرافسند [1] حيث سلم مُعَرِّف
التأميز [2] زمام سفينتنا إلى مُعِّرف البوغاز الذي أخذ الآن على نفسه إبلاغنا ما
وراء مصب النهر.
في نحو الساعة السادسة من المساء برز الربان على ظهر السفينة وتعهد
بنفسه ما شحن فيها من المؤنات كالماء والبقسماط وبراميل اللحم المملح , واستوثق
من سلامتها , ثم قضينا ليلتنا على المرساة.
وقرب حد الظهيرة من الغد سارت بنا السفينة تجرها باخرة صغيرة الحجم
شديدة القوة تسمى (نلسن) , وفي وقت مرورنا حيال منارة (نور) هبت علينا
ريح طيبة , فأمكنتنا من مد بعض الشُرع , ثم تغير لون الماء فصار ذا خضرة
كدراء.
كانت تلك الساعة هي المعينة لنزولي إلى حجرات المسافرين لعيادتهم فيها ,
وليس القيام بشئون الصحة في سفينة إنكليزية كبرى من الأعمال (الوظائف) التي
يؤجر صاحبها بلا كسب فإن (المونيتور) تحمل خمسة وثلاثين راكبًا من الدرجة
الأولى , وقل منهم من يقوى على أول صدمة للبحر عدو الإنسان، ويكون آمنًا من
العثار , فلم ينج من مرضه إلا هيلانة وامرأتان أخريان أو ثلاث.
وفى اليوم الثامن من الشهر بلغنا حوالَي الكثبان , فألقى معرف البوغاز مقاليد
السفينة إلى ربانها، ونزل بالساحل ثم رجعت الباخرة الجارة بعد إبلاغنا هذا المكان
من حيث أتت، ووكلتنا إلى قوانا أي إلى شُرُع سفينتنا، ولما رأى المسافرون
والملاحون أن هذه البقعة هي آخر موقف يؤذن لهم فيه بالاقتراب من البر حمل
كثير منهم المعرف رسائل إلى أصدقائهم تتضمن بالبداهة آخر وداع لهم.
جاء دور البحارة الآن في العمل , فمدوا أيديهم إليه بهمة وإقدام , واشتغل
الضابط الأول والثاني للسفينة بترتيب الحرس , فعيَّنَا لكل حارس عمله، ثم تدلت
من جميع السواري وهي في نصف ارتفاعها أنسجة طويلة نفختها الريح وصفقتها ,
فأنشأت السفينة تميد , وأحست باستقلالها من وقت أن ثابث إليها أجنحتها، وكانت
قبيل هذا تبدو عليها علائم الكآبة والخجل أن ترى مقودة بغيرها.
أديرت على الملاحين كأس من خمر عسل السكر استحقوها كل الاستحقاق
بكدهم ونَصَبهم.
مما عرفته من الأماكن في مسيرنا (بيشى هد) وهو رأس فى أميرية
(قونتية) صاسقس , وجزيرة وايت , وستارت بوينت , وقد صار الماء الآن ذا
خضرة بهيجة تطفو على سطحه أعشاب بحرية تشبه التبن الطويل. صادفتنا سفينة
راجعة إلى إنكلترا فخاطبناها بأعلامنا الملونة، وسألناها بهذه اللغة السرية أن تبلغ
سفر سفينتا مكتب الملاحة لشركة ليود.
انتهينا من اجتياز البوغاز , فخرجنا منه وكان الجو صحوًا , فصعد المسافرون
على ظهر السفينة لاستنشاق النسيم البارد.
إني قلما رأيت اللج مرة لم يكن مرآه فيها مثارًا للعجب في نفسي , ولكن
أخص ما شغل ذهني منه الآن هو جملة العلوم التي استفادها الإنسان من ممارسة
البحر. انظر إلى النظام الكوني تجد علم الهيئة الذي يبحث فيه عنه إنما تولد من
الملاحة , فإنه لولا أن حاجة الإنسان إلى الاهتداء في سيره على ظهر البحار دفعته
إلى درس الفلك؛ لكان من المحتمل أن لا يخطر بباله أصلاً أن يتقصى سرًّا من
أسراره , فاحتياجه إلى السعي في طلب الغنى هو الذي اضطره إلى قياس الزمان
والأبعاد قياسًا مضبوطًا , فترى الملاح الساذج مع أنه لا يعرف القراءة دائمًا حائزًا
بالتحقيق لكثير من العلوم العلمية. سله إن شئت , وليكن ذلك عن بعض الأمور
الطبيعية؛ تجد كلامه فيها يرجع إلى ما قرره العالم الذي قضى سنين كاملة في دار
من دور الكتب، وإذا كنا الآن قد أنشأنا نظن أن للرياح والزوابع قانونًا، فإنما كان
ذلك بسبب ما جمع من ملاحظات البحارة المختلفين في السفن الموزعة على جميع
البحار , فأصبح أشد الفواعل الكونية تعاصيًا عن الضبط منقادًا إلى قانون، ودخل
أبعد الحوادث عن النظام في نظام العلم العام، وكشفت المسابير أغوار قعر المحيط
وقفاره المفروشه بأسلاب فرائسه , وأضحى الآن من الميسور رسم خريطة لتيارات
البحر السفلية، ثم إن الفضل فيما عرفناه من العلوم الصحيحة عن شكل العالم راجع
إلى الملاحين.
خلق البحر مثالاً للأزل لأنه مثال للحركة , فشهد تولد اليابسات المتعاقبة
وانعدامها وارتفاع الجبال، وما وقع على مر الدهور من ضروب فعل الأرض
وانفعالها مما لا يزال يرتجف منه فؤاده , وهو اليوم كما كان في مبدأ العالم لا
يعتوره نصب في جهاده وجلاده، فتراه يعض بعض سواحله، ويقرض ما يقاومه
من الصخور الصوانية , ويقتلع بعض أجزاء الأرض من أماكن مختلفة فينقلها من
أحد نصفيها إلى النصف الآخر ليبني بها سواحل جديدة وجزرًا ورءوسًا لابد أن
يهدمها بعد، وبِدَأْبِه على العمل يتحول من مكان إلى مكان على تعاقب العصور
بالقوة الساكنة التي توجد فيما لا يموت من الأشياء، وكما أنه رحم للخلائق
العضوية الأولى هو أيضًا أكبر مستودع للحياة.
من المحقق الذي لا مرية فيه أن ممارسة البحر قد وسعت دائرة علومنا،
ولكنا قد استفدنا منه ما هو أجل من العلم نفسه ألا وهو ما يتحلى به الرجال من
الفضائل التي ينميها في النفس الجهاد مع المحيط المخوف , فلولا هذا الجهاد لما
عرف الإنسان شيئًا يستحق المعرفة فما أمثل الملاحة طريقة للتربية! فذلك المربي
القاسي العبوس وأعني به البحر يبث كل يوم في أذهان غلمانه الذين يتغذون بلبان
معارفه أن النفوس متساوية , وأن الفلاح في الاعتماد عليها , ويعلمهم من البسالة ما
لا تزعزعه الخطوب , ومن الصبر ما يقوون به على احتمال كل ضروب الحرمان
واقتحام جميع المخاطر، ومن ذا الذي في وسعه أن يصف ما آتى الجنان من الثبات،
وما ألبس النفس من درع القوة , وهو - وإن غلبه الملاحون بمثابرتهم على قهره
وثباتهم في طلب الظفر به - يحق له في نفس هذا الغلب أن يفخر بغالبيه , فإنه هو
الذي أنشأهم وهم تلامذته اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) جرافسند هي أحد موانئ إنكلترا وموقعها في الجنوب الشرقي للوندرة.
(2) التأميز نهر من أنهار إنكلترا يمر بأكسفورد ولوندرة ويصب في بحر الشمال.(7/508)
الكاتب: تلميذة من دمشق
__________
الرجل والمرأة في دمشق
رسالة من الفتاة الدمشقية المهذبة صاحبة التوقيع الرمزي
حضرة الأستاذ العالم الفاضل الشيخ محمد رشيد أفندي رضا صاحب جريدة
المنار الأغر لازال ملجأ لكل خير.
الغرض من المناظرة التوصيل للحقيقة , ولجريدتكم الغراء السبق في هذا
الميدان الذي أعرف نفسي بأني لست من فرسانه وأن دخولي فيه يعد تطفلاً مني
على ذويه , لكن شدة غيرتي على بنات نوعي ذوات الخدر اضطرني للدفاع عنهن
على قدر بضاعتي واستطاعتي، فأقول: طالعت مقالة للفاضل س. ع مدرجة في
عدد 1485 من جريدة ثمرات الفنون الغراء , فرأيت حضرة الكاتب من جهة
يعترف بأن الرجل في دمشق لم يكن أحسن أخلاقًا من أخته، وأنه هو الذي جعلها
بالدرك الأسفل من الجهل، ومن جهه أخرى ينعطف ويوجه الملام عليها بتبذير
ابنها بقوله: إن أمه هي السبب , فإنه لما شرع بالمشي وأخذ يخرج إلى السوق
بدأت هي تعطيه نفقة (خرجية) وتعوده على الإسراف والتبذير ... إلخ.
فأجيبه إنه لم ينصف أخته المسكينة التي كان الرجل هو الذي ضغط عليها
أولاً حتى هوت بأولاده في هاوية الجهل كما ترى، فبأي عدل يحق لأخيها توجيه
الملام إليها مهما أساءت التصرف سواء كان بسوء التربية أو بغيرها , وهو السبب
فيما يشكو منه؛ إذ هو صاحب السيطرة عليها , وبيده إدارة التعليم وما بيد شريكته
غير خدم المنزل , فما دامت الحالة على ما ذكر فمن المسئول والمطالب يا ترى،
هل الرجل أم المرأة؟
هل المرأة هي التي قالت لابنها: إذا كبرت يا بني فأخرب ما بناه أسلافك من
مدارس العلم والتعليم، واجعل البعض منها بيوتًا لسكناك , والبعض بيتًا لمركبتك ,
والبعض إسطبلاً للدواب، والبعض قاعًا صفصفًا يأوي إليه الغراب، وابتلع ما
وقفه أسلافك على هذه المدارس، ولا تُبْقِ لها غير الاسم بكتاب المدارس؟ [*] هل
المرأة هي التي علمت ابنها الخزعبلات، وقالت له: اترك طلب العلم وتزيَّ بشعار
العلماء حتى تغش بأقوالك وأفعالك الظاهرة البسطاء من إخوانك وأخواتك , واترك
التجارة والصناعة والزراعة , واتخذ لك مهنة خرافية فادَّع أنك مشارك للعفاريت
والجان، وأنك قادر على إخراج الشياطين المردة ممن أصابتهم أمراض عصبية من
بني جنسك، وأنك قادر على الإعلام بالمغيبات , وأنك تخرج الثعابين والحيات من
أحجارها , وأن النار إذا دخلتها تكون عليك بردًا وسلامًا , وأن أمضى السلاح لا
يؤثر بجسمك , وأنك قادر بطلاسمك على التفريق بين المرء وزوجته , وأنك قادر
على صلاة المغرب في دمشق والعشاء في بغداد , وما شابه ذلك من الخرافات
والدعاوى الكاذبة والخزعبلات اللاتي يندر صدور أمثالها عن النساء الجاهلات
الللاتى ينحصر حديثهن في الأزياء (الموضة) والخياطة والرجال يقولون فيهن:
طويلات الشعور قصيرات العقول.
وأما نداء حضرته أبناء وطنه ودعوتهم إلى تهذيب بناتهم، وأن يبذلوا الدراهم
على تعليمهن كما يصرفونها على تعليم أبنائهم , فإننا مع موافقته على وجوب
التعليم نطلب منه طلب استفادة أن يدلنا رعاه الله على مدرسة وطنية في دمشق
أو في نواحيها يمكن أن تجاب فيها الدعوة التي هي بالحقيقة ضالتنا المنشودة حتى
أكون أول منادية مع حضرته , وأكون لحضرته من الشاكرين. فإن كان مراده
التعليم بالمكاتب (الكتاتيب) الموجودة , فنعيد هنا ما قلناه في مقالة سابقة من
أن هذه المكاتب ملأى من كلا النوعين الذكور والإناث , على أنها غير وافية
بالمطلوب لأن التعليم فيها محدود. وإن كان مراد حضرته إرسال البنات إلى
مدارس الأجانب كما يرسل البنون، فنحن وإياه على طرفي نقيض، وأظن أنه لا
يوافقه على هذا إلا قليل من الآباء.
قد تحقق عند كثير من الآباء والأمهات بدمشق ضرورة تعليم البنات اللائي
سيصرن أمهات ما يُحْسِنَّ أهم أعمالهن؛ وهي تربية الأولاد الذين تتألف منهم العيال
والطوائف والأمم , والذين سيكونون رجال ونساء المستقبل لأن الأطفال عندما
يكونون في أحضان أمهاتهم يرضعون من ألبانهن ينتقل إليهم كثير من عاداتهن
وصفاتهن ونطقهن , ويقتدي الولد بوالدته في كل ما يسمع منها ويرى. لذلك نرى
أن من يريد تعليم بناته يجب عليه أن يصرف عليهن مثلما يصرف على تعليم بنيه،
لكن المانع من ترقية التعليم عدم وجود مدرسة كما تقدم، ولا أنكر وجود أناس
أيضًا لا يزالون يرون تعليم البنات من الأمور المنكرة لأن المرأة بحد ذاتها عندهم
كمتاع البيت، وأن الواحد إذا صرف وقته بتعليم البقرة الحرث أفضل له من صرفه
في تعليم بنته لاعتقاده أو خوفه من أن تصير ساحرة.
وأما قوله: إنه عجز الآن عن تأسيس مدرسة بدمشق لأجل تهذيب إخوانه
وأخواته ... إلخ، فأقول في جوابه: إنه لا يخفى على حضرته ما نقله إلينا التاريخ
عما كان يعانيه ويقاسيه أعاظم الرجال الذين كانوا يتصدون لأي مشروع جديد سيما
إذا كان مخالفًا لما ألفه الأكثرون، ولو كان مؤكدًا فيه النجاح من الإهانة والهزء بهم
وبأعمالهم حتى كان السواد الأعظم يرى عمل أحدهم ضربًا من الجنون، ومع ذلك
يثبتون ولا يرجعون عن عزمهم حتى خلد ذكرهم، ووضعوا لذاتهم ذكرًا حميدًا على
صفحات التاريخ , فيجب علينا أن نقتدي بهؤلاء الرجال، ولا نهمل أي مشروع
يكون من ورائه النجاح عاجلاً أو آجلاً , وأن نترك ما نحن عليه من التكاسل ومحبة
التعظيم الكاذب والتبجيل الفارغ , وأن ننتبه من غفلتنا، ونصحو من رقدتنا،
وننظر لحالتنا , ونقابلها على حالة جيراننا الذين سبقونا بكل شيء , ونشمر عن
ساعد الجد والاجتهاد، ونتعاون كما أمرنا على البر والتقوى، وأن نؤلف جمعية من
نخبة الشبان العلماء البعيدين عن الخرافات , ونباشر بمعرفتها جمع المال اللازم
لتأسيس مدرسة وطنية لأجل تعليم البنين والبنات تكون على أحسن طراز إن شاء
الله وبه المستعان وعليه الاتكال.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (ف.ع)
... ... ... ... ... ... ... ... التلميذة في دمشق
__________
(*) المنار: تعني الكاتبة الكتاب الذي أحصيت فيه أسماء مدارس الشام.(7/511)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية وأدبية
(تاريخ التمدن الإسلامي)
صدر الجزء الثالث من هذا الكتاب لمؤلفه جرجي أفندى زيدان صاحب مجلة
الهلال وهو يبحث (فى العلم والأدب، وما كان منهما عند العرب قبل الإسلام من
التغيير في القرائح والعقول , وما نقل عن اللغات الأجنبية من العلوم , وما كان من
تأثير التمدن الإسلامي في كل ذلك) فما كان قبل الإسلام هو النجوم والأنواء
والميثولوجيا والكهانة، ويعني بالميثولوجيا: الخرافات المتعلقة بتأليه النجوم
والأنواء، والميثولوجيا الخرافات وأما العلم الحقيقي الذي كان عندهم فهو التاريخ ,
والأنساب فرع منه والأدب , ومنه الشعر والخطابة , وما هو ممزوج من الحقيقة
والوهم وهو الطب، وقد ذكر المؤلف هذه كلها سردًا على وجه التقسيم، وكانوا
يعرفون علومًا أخرى لم يتكلم عنها كعلم الريافة (استنباط المياه من الأرض)
والقيافة والعيافة والزجر وغير ذلك، ولم يكن شيء من هذه العلوم مدونًا في
الصحف والكتب، بل كان مما يعملون به ويتناقلونه باللسان لأنهم أميون. وأما
العلوم الإسلامية فهي لسانية ودينية وعقلية وكونية وفيها أكثر مباحث الكتاب.
وذكر المؤلف في مقدمته أن من الإفرنج من هضم في كتبه المسلمين أو
العرب، وغمص حقهم العلمي فلم يعترف بفضلهم، بل زعم أنهم أفسدوا ما نقلوه ,
ومنهم من أنصف واعترف بفضلهم، وهم المستشرقون الذين بحثوا وعرفوا، ولكن
بعض هؤلاء أطنب في مدح العرب، وذكر لهم من المزايا ما لا يوجد له ذكر في
كتبهم مع أن الكتب العربية هي منبع التاريخ والمعارف الإسلامية، وأنه هو توسط
بين الطرفين، ولكن لا يخفى عليه أنه يصح أن نجعل ما بين أيدينا من الكتب هو
الميزان لمعارف العرب , فإن معظم كتب سلفنا قد ضاع من أيدينا، ولم يُبْقِ لنا
الجهل بقيمة تلك الآثار، وما يلزمه من سوء الاختيار إلا أدنى الكتب وأقلها فائدة
ومكاتب الإفرنج مملوءة بتلك الذخائر المفقودة، والآثار الضائعة، ثم إن الأجنبي
عن الأمة قلما ينصفها في فضلها تمام الإنصاف، وأقل من ذلك وأبعد عن المعقول
أن يهبها ما ليس لها من المزايا والأوصاف إلا أن يكون الكاتب من أصحاب الأهواء
المعروفة لا من أهل العلم والمعرفة، ومن الهوى حب الإغراب , والكذب في
المبالغة والإطناب.
وقد قرأنا نبذًا من الكتاب متفرقة فرأيناها شاهدة لما نعتقده في المؤلف من
الإنصاف، ولكننا رأينا بعض المسلمين يرميه بالتعصب، ووصلت شكواهم منه
إلى أكبر معاهد العلم الإسلامي في مصر، وهذه الشكوى لا تزيد على ما كتبه إلينا
بعض أهل العلم في دمياط، وقد طلب منا كغيره الرد عليه , فرأينا من الظلم أن
نجازي من يتعب في خدمتنا بذكر هفواته قبل التنويه بفائدة كتابه، ولذلك بادر إلى
تقريظه قبل مطالعته، وهذا نص الكتاب الوارد من دمياط:
(قرأت ما نشر صاحب الهلال في هذه الأيام الأخيرة من تاريخ التمدن
الإسلامي؛ فوجدته وإن نوه بما للإسلام والمسلمين من الفضل إلا أن في طوايا
الكتاب وزوايا الكثير من صحائفه ما يرمي المسلمين في العصر الأول بالجمود
والتعصب الديني فإن لم يتيسر لك تصفح الكتاب فانظر الصحيفة التاسعة والثلاثين.
ليس هذا كل ما أقصد من الكتابة لحضرة الفاضل صاحب المنار، وإنما أهم
ما دعاني إلى الكتابة استلفات نظره إلى مسألة دينية أشار لها حضرة الكاتب تحت
عنوان (المأمون والاعتزال) صحيفة 141 , وهي مسألة الخلاف في القرآن هل
هو مخلوق أو غير مخلوق فإنه حرفها بظنه، وفسرها برأيه حيث قال بعد أن نوه
بفطنة المأمون، وميله إلى البحث العقلي ما نصه: (فتمكن من مذهب الاعتزال ,
وأخذ يناصر أشياعه , وصرح بأقوال لم يكونوا يستطيعون التصريح بها خوفًا من
غضب الفقهاء , ومن جملتها القول بخلق القرآن , أي أنه غير مُنْزَل) فنستلفت
نظرك أيها الفاضل لقوله: أي أنه غير مُنْزَل بل إلى الكتاب كله والسلام) .
(المنار)
أما ما جاء في (ص 39) فهو منتقد، ولكنه معتقد المؤلف فيما أرى , ولم
يقصد به إهانة الإسلام والنيل منه، قال: كان الإسلام في أول أمره نهضة عربية ,
والمسلمون هم العرب، وكان اللفظان مترادفين , فإذا قالوا: العرب؛ أرادوا
المسلمين , وبالعكس.
ولأجل هذه الغاية أمر عمر بن الخطاب بإخراج غير المسلمين من جزيرة
العرب. ونقول: إن هذا غلط سرى للمؤلف من استعمال الأجانب من عهد بعيد
فأطلقه، والصواب أن المسلمين في صدر الإسلام كانوا يطلقون كلمة العرب أحيانًا
في مقابلة المسلمين فيعنون بهم المشركين، ولم يكن اللفظان مترادفين عند المسلمين
في وقت ما على الإطلاق، بل كانوا يطلقون لفظ المسلم والمسلمين على كل من
دخل في الإسلام، وإذا أطلق على العرب خاصة كان تجوزًا يعرف بالقرينة. ولم
يخرج عمر غير المسلمين من الجزيرة اجتهادًا منه، بل عملاً بأمر النبي - صلى
الله عليه وآله وسلم - فقد أوصى بذلك في مرض موته , ثم قال المؤلف:
(وأما الإسلام وقوامه القرآن ففي تأييده تأييد الإسلام والعرب، وتمكن هذا
الاعتقاد في الصحابة لما فازوا في فتوحهم، وتغلبوا على دولتي الروم والفرس
فنشأ في اعتقادهم أنه لا ينبغي أن يسود غير العرب، ولا يتلى غيرالقرآن، وشاع
هذا الاعتقاد خصوصًا في أيام بني أمية، وقد بالغوا فيه حتى آل ذلك فيهم إلى نقمة
سائر الأمم عليهم) .
ونقول: إن القرآن بلا شك أساس الإسلام، ولكن ليس فيه ما يدل على أن
العرب يجب أن يكونوا ممتازين على غيرهم , بل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) نعم، إن تأييد العرب له تأييد لهم إذ لولاه لم يخرجوا من
ظلمة جاهليتهم , ولكن فتح بلاد الروم والفرس لم يزد الصحابة اعتقادًا بما ذكره ,
وإنما كانوا يعتقدون كما يعتقد كل مسلم إلى الآن وإلى ما شاء الله أنه لا يصح أن
يعتقد بأن شيئًا من الدين إلا ما جاء في القرآن والسنة، أو أرشد إليه الكتاب أو
السنة، وهذا الاعتقاد لا يمنع جواز قراءة كل كتاب نافع والانتفاع بكل علم في أمر
الدينا، ولاسيما وقد قال لنا نبينا: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وأمرنا أن نطلب
العلم ولو بالصين , وأن نأخذ الحكمة أينما وجدت. وما كان من أمر بني أمية؛
فهو من الأثرة والطمع ولم يميزوا أنفسهم على الأعاجم وحدهم، بل ميزوها قبل
كل شيء على آل بيت النبي عليه وعليهم السلام ثم قال:
(أما في الصدر الأول فقد كان الاعتقاد العام أن الإسلام يهدم ما قبله، فرسخ
في الأذهان أنه لا ينبغي أن ينظر في كتاب غير القرآن؛ لأنه جاء ناسخًا لكل كتاب
قبله) اهـ. ونقول: إن معنى هدم الإسلام لما هو قبله أن من دخل فيه لا يؤاخذ
على الكفر والمعاصي التي كان عليها قبله كما يعلم من النصوص الصريحة، وليس
معناه أنه أبطل العلوم والفنون الدينية والدنيوية معًا، كيف وأكثر المسلمين يقولون
إلى اليوم بأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد عندنا ما ينسخه بخصوصه، وأما
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النظر في كتب اليهود، وعن تصديقهم وتكذيبهم
فسببه عدم الثقة بما ينقلونه عن كتبهم على أنها محرفة، وقد {نَسُوا حَظاًّ مِّمَّا
ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 13) ومثلهم في هذا النصارى، وقد خالف هذا النهي بعض
الرواة، فأدخلوا في كتب المسلمين من الإسرائيليات ما شوه كتب السير والتفسير
والحديث بالأكاذيب والخرافات، ولولا نقد الحفاظ لاختلط علينا الأمر بسوء قصدهم ,
أو فهمهم كما اختلط على من قبلنا. وقد جعل المؤلف هذه النبذة مقدمة للنبذة التي
يرجح فيها أن العرب هم الذين أحرقوا مكتبة الإسكندرية، وما كان أغناه عن ذلك.
هذا ما أشار إليه الدمياطي عن (ص39) وأما تفسير المؤلف لخلق القرآن بما
فسره به في (ص141) فهو من اجتهاده الغريب الذي انفرد به، ولم يخطر على
بال أحد قبله من المعتزلة، ولا من أهل السنة , فإن هؤلاء لا يكفرون المعتزلة
بالقول بخلق القرآن , والفريقان مع سائر الفرق الإسلامية على إجماع واتفاق على
كفر من يقول: إن القرآن غير منزل؛ لأن هذا القول تكذيب صريح للقرآن وللنبي
لا يحتمل التأويل ولا التعليل، والذي يقول به يستحيل أن يلتزم شيئًا من عقائد
المسلمين وعباداتهم. وإنما يعنون بخلق القرآن ما كانوا يسمونه مسألة اللفظ، وهو
أن ألفاظ القرآن التي يكيفها التالي بصوته مخلوقة، ومن فوائد إنكار أهل السنة
والجماعة لهذا القول: أنه ربما يفضي إلى أن يقول بعض الناس إنه يلزم من
حدوث ألفاظ القرآن أن لا يكون منزلاً من الله تعالى - كما قال المؤلف - فيخرجوا
من الإسلام.
وإنا لنعلم أن كثيرًا من المسلمين يظنون أن المؤلف يتعمد أمثال هذا القول
طعنًا في الدين وتشكيكًا في الإسلام، وقد صرحنا من قبل باعتقادنا فيه، وأنه يقول
ما وصل إليه علمه بحسن نية، وأنه ليس من متعصبي النصارى الذين يرضون
تعصبهم بإفساد العلم كاليسوعيين الذين حرفوا كتب المسلمين لهذا الغرض، حتى لا
ثقة بكتاب يطبع عندهم، وبينا سبب وقوع هذه الأغلاط في كتب جرجي أفندي
زيدان، وهي أنه لم يدرس المسائل الإسلامية، ويأخذها عن أهلها من كتبها، وإنما
يتناول نتفًا منها من كتب التاريخ والأدب وغيرها؛ فيجيء بيانه للمسألة أو حكمه
عليها خطأ في بعض الأحيان مهما كانت ظاهرة جلية في مواضعها كما صرحنا
بذلك في تقريظ الجزء الثاني من هذا الكتاب. وعذر الذين يسيئون الظن فيه أنه
يقول في الإسلام بما لم يقل به أحد , ويعزو إلى أهله ما لم يخطر لأحد منهم ببال
من غير دليل , كتفسيره مسألة خلق القرآن بأنه غير منزل من الله، والحقيقة ما
قلناه , وليس لنا أن نعد ما هو بديهي عندنا بديهيًّا عند المخالفين لنا في الدين الذين
لم يدرسوه دراستنا لعدم حاجتهم إلى ذلك. نعم، كان ينبغى لهذا المؤلف الذي نعهد
فيه الإنصاف وحب الحقيقة أن يعرض المسائل الدينية الإسلامية المحضة على عالم
مسلم قبل تدوينها , وهي قليلة لا تزيد في عنائه على مراجعة الكتب في المكتبة
المصرية. وفي الكتاب مباحث أخرى تستحق النقد، ربما نعود إليها في وقت آخر ,
وفيه فوائد كثيرة لا تجدها مجموعة في كتاب عربي.
وإننا مع هذا نشكر للمؤلف عنايته واجتهاده وسبقه إلى إدخال أساليب التأليف
الحديثة في اللغة العربية، ونرجو أن يزيد في التحري مع الاعتراف بأنه لا عصمة
لأحد في اجتهاده، ونحث أهل العلم والبحث على النظر في كتبه هذه، ومن كان
ينتقدها على الإطلاق فليأتنا بخير منها؛ نكن له من السامعين الشاكرين. وصفحات
هذا الجزء 314 , وثمن النسخة عشرون قرشًا.
***
(ثلاثون عامًا في الإسلام)
كتاب وضعه موسيو ليون روس السياسي الفرنسي الذي أقام في بلاد المسلمين
30 سنة، وتعلم في أثنائها اللغة العربية وفنونها، وقرأ العلوم الإسلامية، وعاشر
المسلمين في الجزائر وتونس والآستانة ومصر والحجاز , وقد عربت جريدة
اللواء المصرية عنه الجملة الآتية (فى عدد 1506 الصادر في 22 ج 2)
فنشرناها نقلاً عنها لتكون حجة على متعصبي النصارى، وعلى أمثال صاحب
جريدة اللواء الذي ينتصر للمشايخ الجامدين الذين وصفهم صاحب الكتاب، كما
يتحامل على المصلحين الذين يبينون انطباق الإسلام على المدنية الفاضلة،
ويدعون إلى أصوله الكاملة التي طمس التقليد معالمها , وعبرة لنابتة المسلمين أبناء
التربية الحديثة الذين كفروا بهذا الدين تقليدًا للإفرنج الجاهلين به، أو المتعصبين
على أهله. قال المؤلف:
(اعتنقت دين الإسلام زمنًا طويلاً لأدخل عند الأمير عبد القادر دسيسة من
قِبَل فرنسا، وقد نجحت في الحيلة فوثق بي الأمير وثوقا تامًّا , واتخذني له
سكرتيرًا. فوجدت هذا الدين الذي يعيبه الكثيرون أفضل دين عرفته، فهو دين
إنساني طبيعي اقتصادي أدبي، ولم أذكر شيئًا من قوانيننا الوضعية إلا وجدته فيه
مشروعًا، بل إني عدت إلى الشريعة التي يسميها جول سيمون الشريعة الطبيعية
فوجدتها كأنها أخذت أخذًا عن الشريعة الإسلامية. ثم بحثت عن تأثير هذا الدين في
نفوس المسلمين، فوجدته قد ملأها شجاعة وشهامة ووداعة وجمالاًَ وكرمًا، بل
وجدت هذه النفوس على مثال ما يحلم به الفلاسفة من نفوس الخير والرحمة
والمعروف في عالم لا يعرف الشر واللغو والكذب، فالمسلم بسيط لا يظن بأحد
سوءًا، ثم هو لا يستحل المحرم في طلب الرزق، ولذلك كان أقل مالاً من
الإسرائيليين، ومن بعض المسيحيين.
ولقد وجدت فيه حل المسألتين الاجتماعيتين اللتين يشغلان العالم طرًا. الأولى
في قول القرآن: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) فهذا أجمل مبادئ
الاشتراكية، والثانية فرض الزكاة على كل ذي مال، وتخويل الفقراء حق أخذها
غصبًا إن امتنع الأغنياء عن دفعها طوعًا، وهذا دواء الفوضوية.
همت بحب فتاة جزائرية اسمها خديجة وشغفت هي بي حبًّا، إني كلما تذكرت
هذا الحديث أذوب أسفًا. تبادلنا الغرام وتشاكينا الهيام وهي لا تعرف من أمري إلا
أني مسلم. وكان حبي لها حبًا جرى مجرى دمي في مفاصلي , فأردت أن أتخذها
زوجة، وأن أرحل بها إلى فرنسا حين قضاء مهمتي فأطلعتها على شيء من سري.
واأسفاه، إنها حين علمت بذلك نهضت من جنبي مصفرة الوجه مطرقة الرأس،
وقالت: الوداع الوداع , إني أحبك فلا أستحل إفشاء سرك , ثم إني أحب قومي فلا
أستحل أن أبقى بينهم عارفة بأمر يسوءهم، ولذلك لا ينبغي لي أن أعيش فالوداع.
ثم طعنت فؤادها بخنجر فسقطت ميتة وإني لا أنساها ما دمت حيًّا.
ذلك من تأثير هذا الدين الكريم، إنه دين المحامد والفضائل، ولو أنه وجد
رجالاً يعلمونه الناس حق العلم، ويفسرونه تمام التفسير؛ لكان المسلمون أرقى
العالمين وأسبقهم في كل الميادين، ولكن وُجِدَ بينهم - ويا للأسف - شيوخ يحرفون
كلمه , ويمسخون جماله ويدخلون إليه ما ليس منه. وإني تمكنت من استغواء
بعض هؤلاء الشيوخ في القيروان والإسكندرية ومكة فكتبوا إلى المسلمين في
الجزائر يفتونهم بوجوب الطاعة للفرنسويين , وبأن لا ينزعوا إلى ثورة، وبأن
فرنسا خير دولة أخرجت للناس، ومنهم من أفتى بأن فرنسا دولة إسلامية أكثر
من الدولة العثمانية، وكل ذلك لم يكلفني غير بعض الآنية من الذهب.
مثل هؤلاء الشيوخ الذين يحسبون هذا الدين ملكًا لهم لا ينبغي لغيرهم شرحه
وتفسيره، مثل هؤلاء الشيوخ الذين يقاومون المصلحين، ويعدون كل تأويل غير
تأويلهم كفرًا وإلحادًا، مثل هؤلاء الشيوخ هم علة تأخر الإسلام والمسلمين.
سمعت في الجزائر وتونس أن الشيخ محمد عبده المصري يفسر القرآن
تفسيرًا منطبقًا على العلم والمدنية والإنسانية، فوجدت كثيرًا من الشيوخ الجامدين
يرون في ذلك بدعة، ويقولون: ما أتى بمثل هذا أحد من الأولين. فكأنهم يرون
هذا الدين متاعًا لا يخص غير الرازي والجمل والسيوطي وغيرهم من المفسرين
السابقين ولا يخص سواهم من العلماء المجتهدين. إنه إذا مَنَّ الله على الإسلام
بشيوخ عقلاء مثل الشيخ محمد عبده وغيره من المصلحين، كان خير دين أخرج
للناس، وكان المسلمون أرقى العالمين اهـ.
(المنار)
قد سررنا من نشر جريدة اللواء لهذه النبذة، كما سررنا من كتابة ذلك
الفرنسي لها، فعسى أن نراها بعد الآن معترفة على الدوام بمثل ما اعترف به هذا
السياسي الكبير، والعالم المنصف، وأن لا تنتصر بعد لأولئك الشيوخ الجامدين
على العقلاء المصلحين، وإن كان الحق يعلو كل انتصار حيث يجد حرية، وأن
تستفيد بما ينشر المنار من ذلك التفسير الذي هو حجة الله على العالمين في هذا
العصر، ومن سائر محاسن الإسلام وحكمه ومزاياه، فلا يليق بمن ينتحل لنفسه
خدمة الإسلام في مصر أن يجهل أو ينكر ما فيها من الإصلاح الذي يعرفه،
ويعترف به الفرنسي في باريس.
__________(7/514)
16 رجب - 1322هـ
26 سبتمبر - 1904م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
البيع بالنسيئة
(س69) ح. ح. فى الجبل الأسود: ما قولكم دام فضلكم فى البيع
بالنسيئة مضاعفة كأن يكون ثمن السلعة في السوق قرشًا واحدًا بالنقد, فيبيعها المالك
بقرشين نسيئة، وهل يوجد فرق في هذا البيع بين أن يكون لمسلم أو لغير
مسلم؟
(ج) إن ذلك جائز للمسلم وغيره ما لم يكن غش أو تغرير، ولا فرق في
المعاملات بين المسلم وغيره لأن الشريعة الإسلامية ساوت بين الناس في الحقوق ,
وإن اختلفوا في الجنس والدين، وإنما الشرائع الأخرى لاسيما الأوربية منها هي
التي تفاضل بين الأجناس والملل، فتميز كل شريعة أبناء جنسها في الحقوق على
غيرهم، أما الشريعة الإسلامية فإنما تقدم المسلم على غيره في الأمور التي تتعلق
بالدين، ولا يخفى أمر التراحم والتسامح مع المحتاج أو المضطر.
***
شرب الغازوزة
(س 70) ومنه: الماء الذي يقال له في اللغة التركية (غازوز) هل يجوز
شربه أم لا؟
(ج) ما كنا نظن أن هذا مما يحتاج للسؤال عنه فإنه لا يسكر قليله ولا
كثيره, وليس فيه شيء من مادة السكر، ومازال العلماء يشربون الكازوزة في
الآستانة ومصر، وفى كل بلد توجد فيه.
***
شرب الدخان في مجلس القرآن
(س71) محمد أفندي حلمي من المشتغلين بالعلم في دمياط:
قد سئلت عن حكم من يحضر لسماع أو تلاوة القرآن العزيز مستعملاً لشرب
الدخان - المسمى بالتبغ - ولكوني أرى الحكم على غير رأي من ذهب فقال
بالحرمة , أو من قال بالكراهة بدون استناد منهما لشيء مما يقطع بصحة الحكم؛
أمسكت عن الجواب، وانثنيت لأخذ رأي من آتاه الله بسطة في العلم ناظرًا بماذا
يرجع إليه رأيه في ذلك، وإليك رأينا:
نحن لانرى في حق من شرب الدخان وقت تلاوة أو سماع القرآن الشريف أنه
ارتكب محظورًا يجعله الشارع في حقه مكروهًا أو محرومًا، وكيف يتسنى لنا ذلك
ونحن على ما نعلم أنه لم يقم دليل من كتاب الله أو سنة على حرمة أو كراهة ذلك
على من ذكرنا، فهو عندنا لم يخرج عن كونه نباتًا تحول بالحرق لمادة كربونية،
ثم انتشر في الهواء مثل تحول الفحم النباتي وبقية المواد القابلة للاحتراق كذلك،
ومتى كنا نعلم أنه لم يقل أحد بتحريم أو كراهة استعمال ما يتسبب عنه انتشار ما
يتولد بالحرق من نحو الفحم النباتي في مجلس من ذكرنا , فلا يخول لنا القياس أن
نخصص أحدهما بالحكم دون الآخر متى كان الكل متحولاً لما هو من نوع واحد ,
فما يحكم به على الواحد يحكم به على غيره، وإلا كان هناك ترجيح بلا مرجح،
ولا يمكن مع هذا المتخيل أن يرى فيما ذكرنا انحطاطًا بكرامة الألفاظ المتلوة متى
كانت الآداب مرعية من الجانبين، ولا يقال: إنه من الصوارف عما هو المقصود
من المتلو مادامت الأسماع والقلوب ليست في أكنة، ولا يقال أيضًا: من شروط
تلاوة المتلو طهارة محله، وحمض الكربون بانتشاره في محل المتلو يجعله قذرًا
لأنه ليس مما عُدَّ في الشرع مستقذرًا، بل صار في زماننا هذا مستطابًا لنفوس
الكثيرين، وانتشر في سائر أنحاء الكرة الأرضية وجنح إلى تعاطيه أكثر الناس
حتى الأطفال والنساء لاسيما المخدرات , والشيء - كما قيل - يعطى حكم وقته.
هذا ما يظهر للناظر من تلك الجهة - جهة الاستعمال - أما إن نظر لهذا الجوهر
من جهة أنه يضر بصحة المتعاطي حيث يجلب لجسمه الخطر الجسيم، أو أنه
يضر الحاضرين بالنظر لاتحاد حمض كربونه بالهواء المجاور فيجعله غير صالح
للتنفس تمامًا، فذاك نظر من جهة أخرى له حكم آخر ولو لم يكن بمحضر القرآن،
هذا وليعلم المطلع على ما كتبنا أن تصدينا له ليس من قبيل الميل لما نهوى فإننا -
وربك - ما تعاطينا شرب هذا الدخان عمرنا فلا يحمله ذلك على أن يقول: هذا
امرؤ يختار حكمًا لما يشتهي , وإنما مقصدنا بيان الحق في ذلك فجئ بجوابك
الفصل أيها العالم الحكيم، وأنت الحكم الذي تُرْضَى حكومته والسلام.
(ج) إن الذين يتأثمون من التدخين المعروف في مجلس القرآن لا يبنون
ذلك على نجاسة مادة النبات، ولا على كونه أخس من غيره أو نجسًا، ولا على كون
التدخين يقتضي لذاته الإعراض عن الفهم والتدبر، وإنما يرون ذلك ينافي الأدب
لأن مجلس القرأن أفضل من مجالس العلم بغير القرآن، ولا شك أن من يدخن في
مجلس درس العلم سواء كان في مدرسة نظامية أو مسجد يعد مخلاًّ بالآداب , فإذا
كان عرف البلد يعد التدخين حال التلاوة أو سماعها مخلاًّ بالأدب، فالقول باجتنابه
ظاهر , وإذا لم يكن ذلك عرفًا عامًّا فعلى كل امرىء أن يعمل بما يعتقده وتطمئن
إليه نفسه , ومن كان أقرب إلى الأدب كان أبعد عن توجه الإنكار عليه. هذا ما
ظهر لنا في المسألة بعرضها على قواعد الشريعة وآدابها , والله أعلم وأحكم.
***
حكمة عدة الوفاة وعدة الطلاق
(س 72) مصطفى أفندي صبري مأمور مركز (البداري) : أرجو التكرم
بإفادتنا على مناركم الإسلامي عن الحكمة في تربص المتوفى زوجها أربعة أشهر
وعشرًا، وتربص المطلقة ثلاثة قروء. أفادنا الله بكم وأثابكم على إرشادنا.
(ج) الأصل في العدة بعد انفصال الزوجين بالطلاق أو بموت الرجل أن
يعلم أن المرأة غير عالقة من الرجل لئلا يشتبه حال الولد , فلا يعلم أهو للزوج
الأول أم الثاني؟ فإذا تكرر على المرأة الحيض أو الطهر ثلاث مرات؛ يعلم أنها
غير حامل , ولهذا المعنى كانت عدة الحامل أن تضع حملها , فلو ولدت في اليوم
الثاني جاز لها أن تتزوج، والمتوفى زوجها تعتد لتعرف براءة رحمها من الحمل،
ولمعنى آخر وهو الحداد على زوجها، ولذلك كانت عدتها أطول من عدة ذوات
القروء إذ لا يليق بها أن تظهر الرغبة في الزواج بعد شهرين أو ثلاثة من موت
زوجها , بل ذلك ينتقد منها ويؤلم قرابة زوجها، ولذلك زادت عدتها على عدة
غيرها ووجب عليها الحداد أربعة أشهر وعشر ليال لا تتزين فيها، ولا تمس طيبًا
مع أن الحداد على غير سائر الأهل والأقربين لا يزيد على ثلاثة أيام , فإن زاد
حرم , إلا قيل في الأب لحديث معلول ورد بسبعة أيام.
وذهب أكثر المفسرين إلى أن الحكمة في تحديد عدة الوفاة بهذا القدر أنه هو
الزمن الذي يتم فيه تكوين الجنين ونفخ الروح فيه، ولابد من مراجعة الأطباء في
هذا القول قبل التسليم به , والظاهر لنا أن الزيادة لأجل الحداد , ولم يظهر لنا شيء
قوي في تحديده، ولكن هناك احتمالات منها أنه ربما كان من عرف العرب أن لا
ينتقد على المرأة إذا تعرضت للزواج بعد أربعة أشهر وعشر من موت زوجها ,
فأقرهم الإسلام على ذلك لأنه من مسائل العرف والآداب التي لا ضرر فيها. وقد
كان من المعروف عندهم أن المرأة تصبرعن الزوج بلا تكلف أربعة أشهر , وتتوق
إليه بعد ذلك، ويروى أن عمر أمر أن لا يغيب المجاهدون عن أزواجهم أكثر من
أربعة أشهر، إذا صح أن هذا أصل في المسألة تكون الزيادة الاحتياطية عشرة أيام
والله أعلم بالصواب.
__________(7/537)
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
__________
أسباب ضعف المسلمين وعلاجه
كتب رفيق بك العظم مقالة (هذا أوان العبر) في حال المسلمين , فكان لها
من التأثير في نفوس نبهاء المسلمين أن انتدبت جريدة (تربيت) الفارسية الغراء
التي تصدر في طهران إلى ترجمتها , ثم جاءنا في بريد الهند الماضي رسالة مطولة
من أحد فضلاء حيدر أباد الدكن يثني فيها على (الرفيق) بما هو أهله من الغيرة
والإخلاص والفعل، وينتقد رأيه في جعل مزج السياسة بالدين هو السبب في
ضعف المسلمين , ويذكر ما عنده من الرأي في ذلك بغاية الأدب , ويعرضه على
فضلاء المسلمين في مصر وفي سائر الأقطار ليؤيدوه أو ينتقدوه. ولما كان هذا
البحث أهم المباحث التي أنشئ المنار لأجلها , وكان صاحب هذه الرسالة من أحسن
الكاتبين فيه أدبًا وبيانًا نشرنا مقالته كما نشرنا مقالة الرفيق. وقد قسمنا مقالة
الفاضل الهندي إلى قسمين أحدهما: في بيان الداء وأسبابه , والثاني في علاجه.
قال حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم نحمده ونستعينه
جناب سيدي محمد رشيد رضا مالك مجلة المنار الفاضل والعلامة العامل الذي
أيد الله به الدين، وجعل وجوده نعمة ومِنَّة على المؤمنين , فنشكر الله على هذه
المنحة، ونحمده على هذه النعمة.
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإني محبكم في الله حقًّا وصدقًا ,
وأسأل الله أن يزيدكم من فضله ويثيبكم على سعيكم في إحياء السنة وخدمة الأمة ,
وإني أرسلت إليكم هذه الرسالة فأرجو من فضلكم أن تدرجوها في المنار , وإن
رأيتم تحسينًا فلكم الفضل , على أنه يمكن أن تكون عليكم مشقة. ولكن في نصح
المسلمين ومحبة السنة والأمة لا أراكم تتوقفون، ولا تعوقكم أي مشقة , وإن أحببتم
أن تجيبوا بجواب خطي فذلك يكون فضلاً وكرمًا من حضرتكم.
والذي ساقني إلى كتابة هذه الرسالة أني رأيت في أثناء مطالعاتي الجزء
الثامن من المجلد السابع من مجلة المنار التي هي مُنى الأبرار، وقرة أعين الأخيار،
رسالة عنوانها (هذا أوان العبر) أنشأها الأخ الصالح الغيور رفيق بك العظم
أفصح فيها عن حالة المسلمين بما يفتت الأكباد، ويصدع الجماد، وهو لَعْمرالله
كلام من فؤاد مليء حمية وغَيْرة وطنية، ودل على حسن طوية، وإخلاص نية.
وإني لا أقصر ثنائي عليه فقط، ولا أنسى الشكر لكثير من إخواننا المصريين
الذين لا يزالون يحررون الرسائل، وينبهون الغافل. والأخ رفيق بك المعظم جعل
موضوع رسالته البحث عن سبب ضعف المسلمين، وانحلال روابطهم وتدليهم إلى
حضيض الجهل، ثم ما هو مانع للمسلمين عن الترقي ومجاراة الأمم المتمدنة
ورأيته أبدى من رأيه على ما يعتقد أن سبب ما ذكر هو مزج العرب للدين بكل
شيء من أمور الحياة الدنيوية وأخصها حياة الأمم السياسية , والأمة الإسلامية
استسلمت وصارت خاضعة لأولئك الولاة بحكم الدين حتى تأصل فيهم روح
الخضوع المطلق والطاعة العمياء لأولئك الأمراء المستبدين الذين يسومون الأمة
الخسف , ولو أن العرب في بداية الأمر وضعوا الدين جانبًا، والسياسة الاجتماعية
جانبًا، وقلدوا الأمم المتمدنة في ذلك العصر كالرومان لما سقطت الأمة الإسلامية
هذا السقوط. وبالجملة فلا نجاة إلا أن يجتمع المسلمون ويضعوا الدين جانبًا
وسياسة الملك جانبًا.
فهذه خلاصة رسالته , ولا ريب في سقوط المسلمين عن عرش مجدهم
وانتشارهم إلى حالة الهمجية عن معاقل الاتفاق، وشرههم فيما بينهم على الشقاق،
حتى صدق فيهم قوله تعالى: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (الحشر: 14) بل المسلمون قلوبهم شتى , ولا تحسبهم جميعًا لتجاهر بعض
لبعضهم بالعداوة. أحرجهم الزمان، وأراهم العبر بالعيان، وهم لاهون، فيالله
العجب ! ! إلى متى هذه الغفلة , والتردي في هذه الغواية , والتكاسل عن الجد.
والرفيق أبدى رأيه بقصد إصلاح قومه ووضعه للنقد والاختيار فشكر الله سعيه
و (إنما الأعمال بالنيات , وإنما لكل امرىء ما نوى) . والإنسان يبذل جهده ويصلح
نيته، وليس عليه أن لا يخطئ. وحيث إني ظهر لى غير ما ظهر له، ودلني
عقلي على عكس ما أبداه أحببت أن أبدي رأيي , وأضعه أيضًا للتمحيص والنقد
والاختبار فإن رآه المسلمون حسنًا صحيحًا فذلك فضل الله فليشيعوه، وليبسطوه
بالرسائل , وأرجو من أهل الجرائد أن ينشروه ليطلع عليه العام والخاص {وَذَكِّرْ
فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) وإن كان غير ذلك فذلك شأني ,
وعسى أن يُظهر الله الصواب على يد من أراد فأقول:
(إن من قرأ تواريخ المسلمين عرف ما انتاب هذه الأمة من النوائب
والمصائب التي لا تكاد تثبت لها شوامخ الجبال , وهي كثيرة , وأعظمها تأثيرًا
على جامعة الإسلام أمران ناشئان عن تركهم الدين وإهمالهم إياه؛ أحدهما في
أمورهم الشخصية، والآخر يتعلق بحياتهم الاجتماعية السياسية. بيانه: أن أعظم
سبب لسقوطهم، وتزعزع ملكهم بادئ بدء أن من لم يستحق الخلافة ولم يكن من
أهلها، ولم تجتمع له شروطها، ولم ير أهل الحل والعقد انتخابه لها هاجم أهل
الحق ونازع الحق أهله وأغار عليهم بإثارة الحروب وأعانه من رغب في جمع
الحطام؛ باستمالة الطغام من العوام، وكان ما كان حتى انتهت تلك الحروب الهائلة
التعيسة بانتصار هؤلاء الظلمة لأسباب لا حاجة بنا إلى بسطها، ولو كانت الغلبة
لأهل الحق والعلم والدين والنُهى لما كانت حالة المسلمين ما نرى، ولكن لا ينفع (لو
وعسى) في أمر مضى وانقضى.
ولما رأى هؤلاء المغتصبون أنهم لم يظفروا بما ظفروا به إلا بالقهر , وخافوا
أن يكر عليهم أهل الحق مرة أخرى مالوا عليهم ميلة ظافر غشوم فقتلوا أحلامهم،
وانتهكوا حرمتهم، ووكلت بمن بقي منهم الرقباء والجواسيس , فتفرقوا في البلاد
مختفين لا يبدون ولا يعيدون , يعاقب الواحد منهم أشد العقاب على كلمة يقولها.
يوضح ذلك قول أبي هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءَيْنِ من العلم أما أحدهما: فقد بثثته
فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم , أو كما قال) وهو في الصحيح ,
وهؤلاء المتغلبون الغاصبون جعلوا الخلافة ملكًا عضوضًا كما أخبر بذلك رسول
الله صلى الله عليه وسلم في معرض الذم , وعدلوا بها عن منهج دين الله وشرعه ,
واستأثروا ببيت مال المسلمين , واستبدوا بآرائهم معاندة لسنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم وخلفائه - رضي الله عنهم - وعصيانًا لأمر الله في كتابه، وآثروا
الجهلة والفساق بالوزارة والإمارة بجامع التشابه، ولله در القائل: (إن الطيور
على أشباهها تقع) .
فهذه أول مخالفة للدين وقعت في تاريخ الإسلام، وهي سبب سقوط المسلمين
وأعظم مانعٍ صَرَفَ المسلمين عن جميع القواعد والأصول وتفصيلها وترتيبها التي
شرعها الله لهم , وندبهم إليها لتكميل حياتهم الاجتماعية السياسية فبقيت مفرقة كما
أنزلت لا يحيط بها علمًا إلا العاملون الذين مر ذكرهم، وبيان حالهم , ومهملة لا
يحتفل بها الأشرار، ولا يسمحون بنشرها للأبرار، لما أنها مخالفة لتلك الأنفس
الشهوانية، والرغائب الحيوانية.
خاف أولئك المستبدون أن تشتهر تلك الأصول وتعتقدها عامة الأمة فيطالبوهم
بما تقتضيه جبرًا , فبقيت محجوبة في زوايا الإهمال , وبتركها شقي المسلمون،
وسعد بها في دنياهم أهل الغرب، وكانت أكبر الغنائم التي آبوا بها , واستفادوها
من حروبهم ومخالطتهم المسلمين، كما سعدوا أيضًا بفوائد العلوم الفلسفية الطبيعية
من هناك , فكان نصيبهم من علومنا ما نسمع ونرى، ونصيبنا القيل والقال،
وكثرة الجدال كالذي يحمل الأثقال، وكانوا كالمُبَلَّغ أوعى من السامع.
والسبب الثاني جناية على الدين ومخالفة له أيضًا، وهو الذي أقعدهم على
بساط الذل والهوان، وبه يرسفون حتى الآن في مهاوي الخذلان، لا يلوي أحد
منهم على الآخر، وبه كانوا شيعًا متفرقين، وكان السبب الأول كالعدو القوي
الهاجم، وتلاه السبب الثاني يجهز على الجرحى ويعاجل، وهو أعظم رزية، وأشد
بلية، ألا وهو نبذهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم ,
ومع ذلك فهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. جهل مُرَكَّب، وغواية عمياء , وفتنة
دهماء، وإلى الله شكاة رسوله {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ
مَهْجُوراً} (الفرقان: 30) إذ لم يمتثلوا وصيته - بأبي هو وأمي- فيما صح عنه:
(إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي) ورد
بروايات متقاربة المعنى. بل عدلوا عن سبيله , وأكبوا على تقليد الرجال إلى
مذاهب مختلفة، وآراء غير مؤتلفة , والله يقول وهو أصدق القائلين: {إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) فنستغفر الله،
وحسبنا الله , والعياذ بالله من هذه العاقبة الوخيمة، والتفرق المشئوم الذي يفسد
الدارين , ويشقي النشأتين، في الآخرة براءة نبينا صلى الله عليه وسلم منا وهو
الذي شفاعته أعظم ذخيرة، وفى العاجلة ذهاب الريح والنصر في حياة منغصة
بالتهاجر، وبالجملة فالتقليد جلب علينا كل طامة لو لم يكن إلا فَصْمه عرى الوفاق،
وتهييج الشقاق لكفى. ألا ترى كل فرقة من فرق التقليد تود أن لو سمح الزمان لها
باستئصال الفرق الأخرى وإعدامها من الوجود، ولقد بلغ بهم هذا الشغف إلى أحقاد،
وأثر هذا الاختلاف أشد تأثير على إحساس المسلمين كما هو مشاهد.
وإن شئت تحقيق ذلك؛ فدونك ومذهبًا من تلك المذاهب استخرج منه مسألة
مخالفة للكتاب والسنة فنبه عليها بخصوص كونها من المذهب الفلاني , ثم ادعهم
إلى الحق والعدول عن تلك المسألة. لا ريب أنك إن فعلت ذلك ترى من جماعة
ذلك المذهب العجائب والغرائب، والصياح والناح، والتأولات وسائر التمحلات،
ويقاومونك أشد مقاومة، ويرمونك بكل حجر ومدر , وتعلم حينئذ صدق ما قلنا من
أن هذه التمذهبات أذهبت من المسلمين الإحساس بكل طارق مؤثر , وصرفتهم عن
الالتفات والتوجه إلى ما سواها , ولأجل ذلك لا تكاد ترى من علمائهم فضلاً عن
عوامهم تألمًا أو إحساسًا بما يعانونه ويقاسونه من وطأة الأعداء , واعتصابهم على
بلادنا، وركوبهم كواهلنا الضعيفة، وهؤلاء الأعداء لا يزالون في جد واجتهاد
يسوموننا كل دنية , والمسلمون مع ذلك كله لاهون وغارقون في العماية المظلمة
بتلك الأفكار.
أقرب مثال لهم وأشبه حالة المجنون الذي يلعب به الأطفال ويسومونه النكال،
وهو لاهٍ بما هو فيه، وجسمه في عناء يستوجب الرحمة من الأعداء، بل صرنا
إلى حالة أحرج من حالة هذا المجنون، وتربص بنا كل ذي طمع ريب المنون،
وطوقوا أعناقنا بآصار النكال، وحملوا كواهلنا أنواع الشقاء الثقال، ونحن لا ننبث
باستغاثة، ولا نستطيع شكاية، فهل سمع السامعون أو رأى الراءون أن أحدًا يخاف أو يعجز أن يقول لمن ظلمه: (يا هذا ارحم ضعفي) ، أو (خف الله ولا تظلمني) ،
أو (اعدل في حقي) لا لا لا , لم يبلغ أحد إلى هذا الحد إلا المسلمون في هذا
الزمان، وذلك بسعي سلاطينهم وأمرائهم الذين يجب أن يخلد لهم التاريخ الثناء الجميل
بذكر غيرتهم وشجاعتهم وحسن سياستهم وتمسكهم بأوثق عرى دينهم! !
فسحقًا لهم وبعدًا من أمراء، يا ليت لنا بأكثرهم رجلاً واحدا من سواس الغرب الذين
لو أُعْطِيَ أحدهم الدنيا بحذافيرها ليحط من قدر قومه ولو بكلمة يفوه بها لم
يطاوعه طبعه، فضلاً عن أن يخون أمته، أو يرضى بالدنية لها. اللهم إلا أن يكون
في معرض الخداع لنا ليسوقنا إلى فخه، وبعكس ذلك أكثر أمرائنا ومتولي شئوننا
البطرون المتكبرون على قومهم وبني أوطانهم، ثم تراهم متملقين صاغرين بين أيدي
الأجانب يتسابقون إلى إرضائهم حتى إن أحدهم إذا لاطفه الأجنبي بكلمة،
ولعلها مخادعة يكاد فؤاده يطير فرحًا وسرورًا، ويرى كأنه أوتي مفاتيح جنة الخلد،
ويضحي أمته ووطنه، أفلا يتفكر في عاقبة نفسه وولده، إذا لم يبال بعشيرته وبلده.
هذه الكلمات هي وإن كانت نفثات مصدور لم تتجاوز الواقع , ولا تنس شكر
كثير ممن يدعي العلم والتفقه الذين لهم اليد البيضاء في التهييج بين طوائف
المسلمين الذين يزينون لهم الاختلاف، والتعصب لمذاهب الأسلاف. اللهم إنه عَمَّ
البلاء وإليك المشتكى , فيا أمة الإسلام قد تجاوز الأمر حده وبلغ السيل الزبى , فهل
من إفاقة؟ أليس التقليد أكثف حجاب دون إدراك كل حقيقة، وهل هو إلا عجز،
والعجز علة كل آفة، والعائق عن العلم والعمل، والمانع لكل سعادة شخصية أو
قومية , وفيه نزل قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) إنك إذا أمعنت النظر , وطرحت تشكيكات المُتهوِّكين جانبًا ,
وقصدت الإنصاف , ومحضت النصح لله ورسوله ولقومك وإخوانك المسلمين؛ فلا
شك أنك توافقني على ما ذكرت لك من آفات التقليد.
أيها الواقف المنصف المشفق , دونك والنظر إلى أحوال تلك الفرق، وما
صنفوه من الأسفار والأطمار التي استحكم بها هجران النصوص حتى رمت بالأمة
إلى العناد والضغائن والأحقاد، وطوحت بهيكل اتحادهم إلى الزوال والفساد،
صنفت حروفها بسواد الخطأ مع ما فيها من التعقيد والتناقض والاضطراب والخفاء ,
ولو رأيت ما لهم من المختصرات المبهمة العبارات لا تكاد ترى فيها: قال الله،
قال رسوله صلى الله عليه وسلم، بل ولا قول الإمام الذي يزعمون أنهم قلدوه أمر
دينهم. أما تعجب من أصولهم المتضادة، وآرائهم المتناقضة، وطرقهم الوعرة
الضنكة التي تحرج مَنْ أَمَّهَا , وغدوا وراحوا يقترحون على الأمة، يحرمون
ويوجبون بالخرص والظنون، لم يألوا جهدًا في التشديد والتضييق قياسًا واستنباطًا ,
وكناية وقرينة , ومفهومًا وفحوى , وإشارة وتأويلاً إلى غير ذلك مع سلوكهم فيما
ذكر طريقًا معوجًا عن طريق السلف الصالح. اشترطوا على القضاة في القضاء
والسلاطين والأمراء في السياسة شروطًا يصعب التزامها , ويستحيل العمل بها
ولولا خوف الإطالة لذكرت من مخالفتهم الكتاب والسنة , والعقول والفطر،
والسياسة والنظر ما يضحك الثكلى ويمنع من ذكره الحياء.
وبسبب هذا الغلو الذي نهى الله عنه، وذم أقوامًا عليه في قوله: {قُلْ يَا
أهل الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (المائدة: 77) الذي يسميه المقلدة احتياطًا؛
هجرت السلاطين الشريعة في أمر القضاء والسياسة بزعم دعوى أن الشريعة شاقة
وغير مطابقة لمصلحة الزمان، وتركتها عامة الأمة أيضًا في أكثر أحوالها وجميع
معاملاتها، بل أكثر المتفقهة متحيرون تراهم في عدو إلى الحيل يخبطون، ولا
تظن أن هذا الترك قريب العهد , فإنه لم ينقل إلينا التاريخ أن طائفة من طوائف
التقليد استطاعت إجراء شئونها على جميع قواعد ومسائل المذهب الذي اعتنقته ,
فتمذهبهم ليس هو تمذهب عمل واكتساب ثواب، بل اعتقاد وأقوال، ونزاع وجدال،
وتخاذل وافتراق، وضياع ونفاق، وبلاء وشقاق، وكان نتيجة هذا التقليد أن
شوهوا وجه الشريعة الغراء حتى ظن من ضعف إدراكه وعدم إحساسه أن الشريعة
ليست سوى ما بأيدي هؤلاء المقلدة , أو لم يسمع قول الشاعر:
وكل يدعي وصلاً لليلى ... وليلى لا تدين لهم بذاكا
ما درى هؤلاء السلاطين والعامة المساكين أن الشريعة وراء ما خدعوا به من
آراء الرجال، وإنما هي الكتاب والسنة , وما عليه الرعيل الأول , والخلفاء
الراشدون , وهي السهلة السمحة، والرحمة التي لا يزيغ عنها إلا ظالم , وهي في
أعلى رتب المصالح، وما ذكره المقلدة من الإحراج والتضييق لا تأتي به لأن
الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي
عدل كلها ورحمة كلها، ومصالح كلها وحكمة كلها، فما خرج إلى ضد ذلك فليس
منها.
وبالجملة فليس أضر على الأمة من هؤلاء المتفقهة المقلدة الذين هم قذى
العيون وشجى الحلوق وكرب النفوس، وحُمَّى الأرواح، وغم الصدور، ومرض
القلوب. إن استعنت بهم في لمِّ شعث الأمة لم يعينوك , أو دعوتهم إلى الصلح
والإصلاح لم يجيبوك، قد انتكست قلوبهم، وعمي عليهم مطلوبهم، ورضوا
بالأماني، وابتلوا بالحظوظ، وأتعبوا نفوسهم في غير ما شيء، وحيروا العامة
وأضاعوا الأمة.
وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها؟
اللهم إنا من هذين الطائفتين في عناء وشقاء وبلاء، اللهم أصلحهم ووفقهم إلى
ما فيه صلاحهم وصلاح الأمة، ودلهم على التوبة والأوبة إلى الأخذ بالكتاب والسنة،
اللهم جنبنا وإياهم البدع والضلالة , وألف بين قلوب المسلمين.
وما ذكرناه هو التقليد المتأصل، وما سواه فهو فرع عنه. ومن ذلك طوائف
زادت الطين بلة بلية على بلية , تلقبوا بألقاب، واتسموا بسمات؛ فمنهم القبوريون
المحتالون على سلب الأموال. أفسدوا العامة بفتن القبور والاستغاثة بهم في كل ما
قل وجل , يوهمونهم أنهم ينفعون ويضرون حتى في جلب الرزق ودفع الأعداء،
وقد كان تقليد المذاهب المار ذكره فرقهم طوائف وزرافات، وجلب عليهم الآفات،
وسلب منهم صفة التعاون والتناصر , وأمات شعورهم عن المطالبات بحقوقهم.
وفتنة القبوريين والمحتالين وتقليدهم أقعدهم عن اكتساب العلم والجد في رضى
المولى وعبادته والإخلاص له , واتكلوا على الأموات وشفاعتهم، ولهم حكايات
يطول شرحها، وسمعت بعضهم يقول: إن الولي الفلاني يرمي المدافع من قبره
على الأعداء، والعامة إذا سمعت مثل هذه الخرافات آمنوا بها، ووطنوا أنفسهم
على ذلك حتى في الدفاع عن حرمهم ووطنهم , فما بالك يا أخي تظن أنه مع هذه
الفواقر يبقى للأمة الشعور والحياة القومية , فإن بقي لك أمل بعدما عرفت ما هم فيه
من جناية التقليد عليهم فكيف يتحقق ويثبت هذا الرجاء، وقد أتت الطائفة الثالثة
أعني المتصوفة تدعو إلى تقليدها واتباع سبيلها، تدعو إلى الخمول والفقر
والانطراح والاتكال على القدر مع رفض الأسباب , واعتقاد وحدة الوجود بالأذواق
والكشوفات التي لم يشموا رائحتها , ولم يتصوروها لا بحدها ولا برسمها , ولكن
يحكى ويروى أنها حصلت لأسلافهم، ونحن لا نذكر أموات المسلمين إلا بخير،
فإنهم قدموا على ما قدموا عليه , وإنما كلامنا في الأحياء بقصد إصلاح الأمة،
وعسى أن الله يلقي في قلوبهم نورًا ويصلح شأنهم.
وبينما نحن نصيح بالويل والثبور ونتململ تململ الممرور، من مصائب
تراكمت علينا، ونئن وراء حجب التقليد التي هي كظلمات في بحر لجي يغشاه
موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض، نترجى ونتعلل
بلعل وعسى منتظرين بارقة لطف ونجاة تكون على أيدي شباننا المتخرجين في
المدارس الغربية والتعاليم الأوربية؛ إذ عاد إلينا أكثرهم بصفقة المغبون , فآبوا
إلينا ونحن على ما ترى وتشاهد من الضَعْف وانحلال الروابط الاجتماعية
والفقر المدقع , وأحوج ما نكون إلى العلوم الحديثة الغربية النافعة , ولم يبق فينا من
الخلال القومية إلا التمسك بلغتنا واللباس الصوري الظاهري , وبعض رسوم عادية ,
فرجع أولادنا وشباننا من هناك وقد بدلوها تقليدًا للغربيين , ولم يستفيدوا غير هذا
التبديل , ولم يفيدوا قومهم إلا أنهم شرعوا يطالبونهم بمحو هذا الشعار الظاهري ,
وبعده تحتجب الأمة وراء حجاب العدم بالكلية , يا ربنا يا غياث المستغيثين، إنا
مسنا الضر وأنت أرحم الراحمين.
أيها الشبان , إن من ذهبتم إليهم ودخلتم مدارسهم يعدون شعار أممهم الظاهري
أنفس الأشياء وأهمها , يسترخصون في المحافظة عليه الأنفس والأموال، فهم
الرجال والله هم الرجال، فهلا قلدتموهم في هذا الشعور والغيرة , وهلا شعرتم
وعرفتم ما عرفوه وشعروا به من منافع هذا الشعار وأسراره! ! إني وكلت
التفصيل في هذا المقام إلى عقولكم آه آه، وا حر كبداه من هذا العدو القاسي الغشوم ,
لقد افترسنا هذا التقليد في كل مكان وزمان أعدمه الله ومحا رسومه. فيا أمة
الإسلام هل من نهضة تنتصفون بها من هذا العدو وتبيدونه , فالنجاء النجاء مادام
فينا رجاء.
إلى هنا تم ما أردته من بيان أسباب سقوط الأمة الإسلامية , وعلة تقهقرهم
عن مجاراة الأمم المتمدنة في هذا الزمان , والأخ رفيق غفل عن ذلك. وقوله: إن
العرب خلطوا الدين بكل شيء من شئون الحياة ... إلخ، خلاف الواقع , وإنما
أصابهم ما أصابهم بحيدتهم عن الدين , وإهمالهم لتعاليمه خصوصًا ما يتعلق منه
بالملك وحياة الأمم , وأغرب من ذلك تمنيه لو أن العرب سلكوا بالخلافة والملك
مسلك من جاورهم في تلك الأزمنة من الأمم المتمدنة بزعمه كالرومان وغيرهم ,
وهذه أيضًا غفلة منه حفظه الله.
بيانه أن تلك الأمم لا توجد لديها قوانين سياسية كافية مهذبة متكفلة بكبح كل
متعهد، وردع كل طاغ بحكم المساواة بين الكبير والصغير , والمأمور والأمير ,
وطريقة ملك العرب الإسلاميين مع اختلالها، ومخالفتها الدين في كثير من أحكامها
وأعمالها هي أقوم وأعدل مما كان بأيدي تلك الأمم. يؤيد ذلك ما نقل إلينا التاريخ
من مهاجرة كثير من تلك الطوائف , ورغبة الآخرين ورضاهم عن ملوك العرب
أكثر من رضاهم عن ملوك بلادهم. غاية ما ينقل عن أولئك الأقوام والأمم الغابرة
أنه كان بعد كل فترة من الزمان يقوم بين أظهرهم بعض حكماء يوالون الخطب
والمواعظ , ويهيجونهم إلى الحماسة الدفاعية والهجومية، ومن وراء ذلك تفرقهم
إلى إيالات وإمارات صغيرة أكثرها غير معترف بسيادة أو تابعية لملك تلك الأمة ,
وبعض يعترف له ببعض السيادة والتابعية مع عدم الانتظام وكمال العدل، بل كان
استبداد السلاطين والأمراء هو السائد، وليس لأممهم ورعاياهم إلا التسليم , وعليهم
الطاعة العمياء , حتى إن الواحد من تلك السلاطين كان يلقي بأمته إلى التلف
والحروب لينال بعض شهواته الحيوانية من امرأة كحرب كسرى، وحشده جنده
على بني شيبان. وأسوأ حالاً منهم ملوك النصارى , وتلاعب البابوات والأحبار
والرهبان بهم أشهر من أن يذكر , فما بالك بالهند وملكهم الأوثار أو النائب عنه
وتقسمهم إلى تلك الطبقات المشهورة لديهم. أما ملوك الصين فهم في معتقدهم أبناء
السماء. هذه هي الأمم المعروفة بالملك في الزمان القديم , وإنما يسميهم بعض
الناس مهذبين لما لهم من الاجتماع على ملك بالنسبة إلى أيام الجاهلية , أما بالنسبة
إلى ملوك الإسلام فلا. برهانه أن تلك الأمم لم تثبت أمام المسلمين في كل شئون
الحياة , وذلك ببركة بعض القواعد الدينية التي عملوا بها حينًا وتركوها حينًا. أما
سياسة أوربا الحديثة الاجتماعية الملكية , فأكثرها مأخوذة من دين الإسلام وموافقة
له، ولذلك كانت نسبة نظام من تقدم ذكره بالنسبة إلى النظام الحديث أشبه بنسبة
التوحش إلى التمدن.
وكأني بمكابر وحسود لدود , أو من عذره الجهل يستبعد اقتباس النصارى هذه
المعارف عن دين الإسلام، وأقول: يا هذا , إن سابقة النصارى في الملك
وعراقتهم فيه قبل الإسلام حتى الآن أمر مُسَلَّم , والتاريخ شاهد بأنه ملك عضوض
مشوه بالاستبداد , ومكدر بالفتن والاختلاف، ومختل بالجهل والظلم، ولم يكن لديهم
شيء مما بأيديهم الآن، وانظر كيف حصل لهم ما هم فيه، وما سببه , ومتى كان
بدؤه. فلقد ثبت وتقرر لدى كل ذي لب بالبديهة، ومن أقوال كبار النصارى أنهم لم
تحصل لهم هذه المعارف والتقدم في السياسة إلا بعد الحروب الصليبية، ومخالطتهم
المسلمين , وأخذ أفراد منهم العلوم عن علماء الإسلام وحكمائه، وحينئذ ترجموا
القرآن وكثيرًا من الكتب العربية وغيرها، وهذبوها وقاموا يعلمون أقوامهم ,
وصبروا على المحن والنكال، والشدائد والأهوال، محبة لأوطانهم وبني جلدتهم
وأهل ملتهم، وبذلك نالوا مرادهم وبلغوا ما بلغوا، وحتى الآن ترى كثيرًا من
فلاسفتهم، وحكمائهم الممتازين بالعقل ومعرفة التاريخ لا يزالون يحبون العرب ,
ويعترفون لهم بمنة عليهم مع اختلاف الدين، وبعكس ذلك بعض طوائف الإسلام
ليس للعربي لديهم قيمة. وقد يقال: إذا كان دين الإسلام قد أتى بأكمل التعاليم
السياسية والاجتماعية , وأن السلاطين المسلمين تركوها لعدم مناسبتها لطبائعهم
الشهوانية؛ فما بال الخلفاء الراشدين لم يجمعوها ويرتبوها ويفرعوا عليها , وهل
عملوا بها أم لا؟
ويقال في الجواب: إن مثل هذا الاعتراض يمكن أن يقال في أشياء كثيرة،
والجواب عن بعضها هو الجواب بعينه عن باقيها , كأن يقال أيضًا: ولِمَ لَمْ يجمعوا
أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم , ولِمَ لَمْ يشرحوها , ولِمَ لَمْ يفسروا القرآن، ولم
لم يرتبوا أصول الفقه إلى غير ذلك مما اعتنى بجمعه وتدوينه المتأخرون، وذكر
الجواب عن ذلك العلماء في شروح الحديث عند ذكر البدع , وجوابهم هناك هو
جوابنا عن هذا الافتراض، ولنا أجوبة أخرى ليس هذا محل ذكرها، أما الشق
الثاني وهو أن الخلفاء هل عملوا أم لا؟ فيقال: لَعَمْرُ الله إنهم عملوا وأرشدوا
فجازاهم عن الإسلام والمسلمين خير جزاء وسيأتى لنا نقل بعض سيرتهم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(7/540)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع
شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]
في التربية بسفر البحر
يوم 14 مارس سنة - 186
اضطرتنا الريح إلى أن نجتاز خليج بسكاي [1] وقد أكد لي الربان أنه وأمثاله
يتحامون ما استطاعوا التورط في هذا المجاز الذي يهاب اسمه الملاحون أنفسهم،
وهو على شدة تلاطم الأمواج فيه لم يعق السفينة عن المسير , وربما حدا بي ذلك
إلى اعتقاد أن من البحار ما هو كبعض الناس في كونها أمثل مما اشتهرت به.
منذ بضعة أيام أتيح لي فراغ من عملي فشغلته بدرس سفينتنا , فإذا هي دنيا
صغرى تطفو على الماء جعلتها جميع العلوم والصنائع ميقاتًا لاجتماعها. ترى
الملاح فيها يلجئه عوزه إلى استئناف التمدن كل يوم فكأنه روبنسن [2] في جزيرته
يخترع معظم الفنون النافعة ليستفيد منها. ذلك أنه لخلوه من الصاحبة يتولى بنفسه
غسل ثيابه وفرشه وإصلاحها، وتدلك نظافة حجرته دلالة كافية على ما سيكون
عليه بيته الخلوي في مستقبله، فقد أوتي هذا الليث البحري من غرائز العناية
بالبيت ما أوتيته النملة.
من مزايا السفينة أيضًا أنها تؤدي إلى كل من ترتاح نفسه للعمل من ركابها
عملاً يشغله فقد عاود (قوبيدون) الاشتغال بالطهاية التي سبق له أن شرف بإجادتها
في أسفار سالفة وجعلت زوجته قهرمانة [3] واختصت (هيلانه) بمساعدتي في
التمريض , وبالعزف على البيانو تسرية للسآمة عن المسافرين , وتقوية لقلوبهم
وقلوب الملاحين أنفسهم الذين يجتمعون كل ليلة على السطح لاستماعه.
جاز (أميل) التمرينات الأولى , وصارت قدمه قدم بحار, وأنشأ يتسلق سلالم
الحبال التي على جانبي السفينة، وهو يؤدي الأعمال التي يعلمه الملاحون تأديتها
بما يكفي من الحذق المنتظر من غرٍّ مثله. ومعيشة المتعلمين البحريين أمثاله في
سفينة تجارية على ما فيها من النَّصَب والعناء معيشة صحية , فإن تعرضه لنسيم
البحر يشهي إليه الطعام حتى إنه ليكاد يلتهم حوتًا من الحيتان المسماة بالكلاب
البحرية لو قدم إليه , ولله خفته ونضارته في قميصه الأزرق ذي الطوق المنكسر
الذى يبين نحره. جاءني غدوة اليوم إثر عمل شاق بالنسبة لطفل مثله، وألقى
برأسه بين ركبتي وهو يتصبب عرقًا , فأحببت أن أشجعه لا أن أطريه؛ لأن
الإطراء هو سم النفوس يفرط فيه الآباء لأبنائهم بما يبعثهم عليه من الرحمة العمياء ,
فهم بذلك يعودونهم على إرضاء غيرهم، وكان حقًّا عليهم في رأيي أن يعلموهم
إرضاء وجدانهم. من أجل هذا اقتصرت على ضم ولدي إلى صدري وتقبيله غير
أني أحسست حينئذ بالعبرة في عيني، وهو على كل حال قد اعتبر هذه الملاطفة
مني مدحًا له لأنه انصرف من عندي للمضي على عمله مملوء القلب بالفرح، ولا
أخال أحدًا ينكر استحقاقه لهذا المدح أي لتلك الملاطفة.
ليس في السفينة أحد إلا وهو يهتم بأن يكون نافعًا من جهته حتى (لُولا) فقد
فاجأتها بالأمس , وبيدها كتاب كانت تطلع عليه طفلة في الخامسة من عمرها
اتخذتها صديقة وتعلمها فيه الهجاء اهـ.
***
يوم 19 مارس سنة -186
نحن الآن تجاه جزيرة ماديرا تجري بنا السفينة بريح طيبة كانت من بداية
سفرنا تهب من الشمال الشرقي، وقد أحدقت بنا في هذا المكان قطعان عديدة من
الخنازير البحرية , وأنشأت تمرح في الماء وتلهو بالزبد المتخلف على غوارب
الأمواج من انشقاقها بحَيْزُوم السفينة في مسيرها، فبادر جميع الركاب إلى السطح
لمشاهدتها، وكان من (لولا) عندما رأتها أن قالت: ويكأن هذه الحيوانات مغتبطة
بمعيشتها , وكأنها لم تصب بمرض البحر في حياتها.
استعد ضباط السفينة لصيدها فوقف أحدهم عند الساري المقدم , ورمى خطافًا
كان معه على واحد منها ظن أن إصابته أيسر , وحينئذ جر الملاحون الحبل المعلق
به الخطاف , وهم في هذه الحالة يجب أن يكونوا خفاف الأيدي أشداء السواعد وإلا
وجد الخنزير المصاب وسيلة للرجوع إلى الماء والانفلات من أيديهم، وقد نجحوا
في الرمية الثانية فاصطادوا أحدها، ومما شاهدته فيه أن كبده يشبه كبد الخنزير
البري , ولحمه أقل جودة من لحم الثور , على أنه يحضره في الذهن إن لم يكن
بطعمه فبلونه لأنه أحمر ضارب إلى السواد، ويستخرج من لحمه زيت جيد
للاستصباح يستعمل في السفينة. اهـ
***
يوم 22 مارس سنة -186
نحن الآن مارون أمام الجزائر الخالدات، وإن كنا لم نرها وهي مرتسمة على
سطح الماء المتسع إلا كرؤيا الحالم، وقد اضطرتنا الرياح المتعارضة إلى التوغل
في المحيط.
إننا منذ سفرنا نشعر بارتفاع الحرارة ارتفاعًا عظيمًا غير أن هذا اليوم هو
أخص يوم أحسسنا فيه بدخولنا إقليمًا غير إقليمنا حتى إن (لولا) نفسها على ما بها
من شدة التأثر بالبرد خلعت ثياب الشتاء وارتدت ثوبًا ورديًّا.
كان غروب الشمس بالأمس من أجلّ المناظر وأبهاها، وكان الليل فخيمًا ,
والقبة السماوية المظلمة تزهو بلألاء النجوم التي هي كالرمل عدًّا. وما لي وذكر
أسمائها , فلا فائدة في ذلك ويكفيني أن أسميها بالنور، ومما ميزناه منها الزهرة
التي مع كفها عن دعوى الألوهية واقتناعها بأن تكون في مصف الكواكب لم يضل
عنها ميلها إلى التغنج النسوي , فلا تزال تحب أن ترى نفسها في مرآة البحر.
في نحو الساعة الرابعة أو الخامسة من الغداة انشق النطاق الأسود الذي كان
مشدودًا حول الأفق يلأم السماء بالماء رويدًا رويدًا، ثم بدا من بين حافتيه ضوء
مخضر يحاكي ماء البحر في لونه , فانتشر على الأمواج وهو ضوء الفجر،
وساعة طلوع الفجر في العروض التي نحن فيها الآن من الساعات المشهورة على
قصرها وقصر مدة الشفق أيضًا، فإنه يخيل للرائي فيها أن العالم بأسره مضاء
بالكهرباء , وربما كان قصر مدة الشفقين سببًا في ذلك.
مما حملناه معنا في السفينة ديك صغير وضعناه مع دواجن أخرى في أحد
أقفاصها أسمعنا صياح التنبيه والإيقاظ ثلاث مرات، فكان لصوته الشبيه بصوت
البوق في نفوسنا تأثير محزن قابض بسبب أحوال الغربة التي نحن فيها، وكان
يسري إلى القلوب بلا عائق لأنه كان يذكر المسافرين بأورباهم القديمة وأراضيها
ومعيشة المزارع، وما يعالجه المزارعون من الأعمال الشاقة.
ثم تتابع انمحاء الكواكب من السماء فأخذت تنطوي في أعاليها وتصطبغ
باللون الأزدرختي.
ثم أشرقت الشمس فإذا الأمواج أنفسها وقد ملكها الإجلال وتولاها الإعظام
يخيل أنها خشعت لهذا الينبوع الذي هو مصدر الضياء والحياة , وصارت السماء
كلها جذوة نار، وترقرقت سبحات من النور الذهبي على صدر المحيط الذي برزت
منه الأرض بالتدريج تتلألأ بهاء ونضرة.
لم يقع بصري على (أميل) و (لُولا) معًا إلا في هذه الساعة وحدها من
النهار , رأيتهما جاثيين جثية عبادة واستغراق في المشاهدة، فليت شعري هل
اقترب كلاهما في تلك الساعة من إدراك معنى الألوهية بمراقبة جمال الكون وبهائه؟
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
(1) خليج بسكاس ويسمى أيضًا خليج قسقوني هو خليج في المحيط الأطلانطيقي واقع غربي فرنسا وشمالي أسبانيا.
(2) يومئ إلى روبنسن كروزو صاحب القصة المشهورة الذي كان في سفينة مقفرة يخترع كل ما يحتاج إليه من أمور المعيشة.
(3) القهرمانة: الوكيلة.(7/550)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
أرسل إلينا التقريظ الآتي للمنار أحد علماء الشيعة في بعض الأقطار فنشرناه
اعترافًا بفضله، وشكرًا له على حسن ظنه، قال حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
عريضتي بحمد الله، والصلاة على مصطفاه , وعلى آله وصحبه الذين
اهتدوا بهداه، هي أني صوبت الأنظار في مباني المنار، وإن يكن يعشي الأبصار،
فخدمته بما قدمته , والمأمول القبول، إذ لم يكلف الإنسان بما فوق الإمكان.
قل للأولى عميت جهلاً بصائرهم ... ولم يروا في سما العرفان أقمارا
بحرمة الله هبوا من سباتكم ... هذا المنار على الدنيا لقد نارا
لم يبق ما فيه من عذر لمشتبه ... ولم يدع في ديار الجهل دَيَّارا
إن ينتصر لقويم الدين منشئه ... فالله قيض للأديان أنصارا
كم أَطْلَعَت مصر في أوج العلى قمرا ... وكم تحدث وايم الله أقطارا
من قبل موسى عصاه طالما التقفت ... إفكًا وكم أبرزت للناس أسرارا
يراعه كعصى موسى ومقوله ... قد صاغه مبدع الأكوان بتارا
هذا الرشيد بمصر طالما التقفت ... أقلامه من يد الأيام سحارا
فلله أبوه من رجل أداخ البلغاء وأخاف العرفاء، وأجال مشاقص أقواله في
المشارق والمغارب، وفتل ولله دره في الذروة والغارب فقاد الشرود والشاسة،
واشتمل السياسة، وكان كالخميلة يطلع كل جميلة، وكالمندل الرطب، والمنهل
العذب , يأتيه الناهل، ويروده القاحل، ألقت إليه المعارف أفلاذ كبدها، وأبرزت
له مخباها، وشقت له معاها، وأمطرته بما أسال الشعاب، وسقى الوطاب، وتدَفَّع
في الأودية وملأ حياض الأندية فخاض الغمر، ومشى على الضحضاح، وعب
حتى امتلأ، لا تستطاع أحواله، ولا ينتحل مقاله.
إذا ما قال قافية شرودا ... تنحلها ابن حمراء العجان
فقل لمن جاراه، أو ساجل علاه، ابتعد عنها، لقد حن قدح ليس منها، ولا
تكون أمته براعية ثلة.
أليس هو الساعي في تكوين الأمة من طريق التربية , والتعليم النافع حيث لا
تعمية، ألم يضرب بعصاه صفاة العرفان، في هذا الزمان، كما ضرب ابن عمران
الحجر يوم كان، فانجبست منه تلك العيون، ولها شئون , ومن حجر الكليم مشارب ,
ولها مسارب، ولكل إعجاز جهة امتياز.
ألم يزد على باني الهرم في القدم أقام للتذكار صخورًا وأحجارًا وهي أشباح
بلا أرواح، وباني المنار أطلع الصباح، وصاح حي على الفلاح، وأثبت البناء
على ما شاء , وأعمل المعيار، ومد المطمار , وأحكم القوالب والصور، وأفاض
عليهما من الأرواح ما به حياة البشر، فهو إذن قلب العرفان يغذوه الحَيَوْة , ولولاه
لمات، وينبوع غريزيته بلا اشتباه، وكبده القائم بغذاه، ولذلك سرت أرواح مناره
في عالم الإنسان، وستسري مدى الزمان، واستقام ما بناه، واعتدل ما سواه، ولكم
أتاح الله من علماء , للقلوب أطباء، والفخر لمصر على الأمصار، بما اختصها الله
على الأقطار، من الأبدال وعرفاء الرجال , كباني المنار، أطال الله أيام مجده وشد
عرى الدين بهديه ورشده. وبلغه المآرب يوم العرض على الواجب، جلت قدرته،
وعلت كلمته.
... ... ... ... ... ... ... الداعي خادم العلم والعلماء
... ... ... ... ... ... مهدي بن علي المشتهر بشمس الدين
(رفع اللبس والشبهات عن ثبوت الشرف من قبل الأمهات)
اسم هذا الكتاب يدل على موضوعه وهو لمؤلفه السيد عابد بن أحمد بن سوده
أحد الفقهاء والمحدثين في فاس وخطيب الحرم الإدريسي هناك , وقد طبع الكتاب
على نفقته في مصر , وتفضل حفظه الله بإهدائنا نسخة منه منذ أشهر , ولم نوفق
لمطالعته لكثرة الشواغل مع رغبتنا في الاطلاع على أثر رجل فاضل يحبنا ونحبه
في الغيب , ولذلك رأينا أن نعلن شكره , ونكتفي بتنبيه الباحثين في الأنساب إلى
مؤلفه , وصفحات الكتاب 144 صفحة.
(كتاب الإملاء)
كتاب جديد في فن الرسم؛ أي رسم الحروف والكلم المفرد الذي يمسونه فن
الإملاء , وهو فرع من فن الصرف كما أن الصرف فرع من النحو , ولكنه فرع لم
يستقل في موضوعه ومسائله دون أبيه كما استقل أبوه دون جده. وقد كان علماء
اللغة يعنون بالرسم حتى لا يثقون بعلم من يخطئ فيه , ومن المأثور عنهم في ذلك
أن أحدهم رحل للتلقي عن عالم اشتهر فضله فلما بلغ بلده رأى قبل أن يلقاه صحيفة
بخطه , فقرأها فإذا فيها لفظ (بايع) مرسومة هكذا بالياء فقال: إن هذا لا يوثق
بعلمه وعاد أدراجه أسفاً أن ضيع زمنه في الرحلة إليه.
وقد انتهينا إلى زمان نرى فيه كتابة المنقطعين لدراسة العلوم العربية في مثل
الأزهر ملأى بالغلط في الرسم كغيره , ولا تستثن من كبار مدرسيهم إلا نفرًا لا
يعدون جمع القلة. وللمدارس النظامية عناية بفن الرسم لم يكن لها نظير في الأزهر
وما على شاكلته، وهم يعلمونه بطريق الإملاء يملي الأستاذ على التلامذة جملاً من
الكلام , ثم يصحح لهم ما يكتبون مع البيان. وقد نظر الأستاذ الإمام بعين الاهتمام
إلى هذا النقص في الأزهر فاقترح في مجلس إدارته أن يعهد إلى الشيخ حسين والي
أحد العلماء المدرسين فيه بأن يدرس الإملاء على طريقة المدارس النظامية، وكان
ذلك , ولما شرع هذا في التدريس توجهت عزيمته إلى وضع كتاب مطول في فن
الرسم يكون غاية الغاي في موضوعه ففعل، وهذا هو (كتاب الإملاء) .
الشيخ حسين والي تعلم في مدارس الحكومة قبل المجاورة في الأزهر، فهو
عالم بأساليب التعليم والتأليف الجديدة، وقد اشتغل في الأزهر بفنون الأدب بعناية
لا تعرف من مجاوري هذا العهد , فهو واسع الاطلاع في اللغة وأدبياتها، لذلك جاء
كتابه هذا أحسن كتاب وضع في هذا الفن أسلوبًا وأوسعه مادة , بدأه بمقدمة في
تاريخ الخط والكتابة عند الأمم، تكلم فيها على أبي جاد والحروف المفردة وصفاتها
والحركات والرقم والخط وأقسامه الثلاثة، وفيها فوائد كثيرة , ويلي المقدمة (الباب
الأول في الحروف التي تبدل) وقد أفاض فيه القول في مباحث الهمزة والألف ,
وفيه قصيدة ابن مالك في الأفعال التي وردت بالواو والياء , وأبيات أخرى فيما زيد
عليه من ذلك، وأرجوزة في الأفعال الواردة بالواو اطرادًا، وغالبًا وأخرى في
الأفعال الواردة بالياء اطرادًا وغالبًا. ويليه (الباب الثاني في الحروف التي تزاد)
يقفوه (الباب الثالث في الحروف التي تنقص) وفيه الكلام على رموز الكتب
العلمية , ورموز القراء والمحدثين , وكتبة الدواوين , والكلام في التاريخ. وبعده
(الباب الرابع في الكلمات الواجب فصلها والكلمات الواجب وصلها) وهو واسع ,
وفيه الكلام على الشكل العام والخاص , والقطعة والمدة , والعلامات التي هي في
معنى الشكل كعلامة الإشمام والروم، فأنت ترى أن أحوج الناس إلى هذا الكتاب
الأستاذة والكُتَّاب , وهو مما ينبغي أن يقتنيه كل أديب بل كل متعلم. وقد طبع في
مطبعة المنار على ورق جيد جدًّا بكيفية من الإتقان وتسهيل المطالعة لم نر مثلها في
كتاب آخر , وبلغت صفحاته 256 صفحة، وثمن النسخة منه عشرة قروش
صحيحة , وهو يطلب من مطبعة المنار بشارع درب الجماميز بمصر.
(الهدية السعيدية في الحكمة الطبيعية)
ولع المسلمون بالفلسفة في أيام مدنيتهم ولوعًا عظيمًا , ومزجوها بعلم العقائد
الدينية حتى صار فهم كتب الكلام متوقفًا على الوقوف على تلك الفلسفة خصوصًا
الكتب الكبيرة الشهيرة التي يعدونها حصون العقائد الإسلامية كالمواقف والمقاصد بل
الفلسفة أكثر ما في هذه الكتب، ومباحث العقائد أقل ما فيها، ولكن هذا الأقل هو
المقصود بالذات , ولقد ضعف علم الكلام وضعفت معه الفلسفة والمنطق في جميع
البلاد الإسلامية تبعًا لتدلي العمران والحضارة حتى كادت تندرس هذه العلوم في
مصر لولا أن وفد السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى على هذه البلاد , فنفخ
فيها روحًا علميًّا جديدًا , وما زال علماء الأعاجم لا سيما الهنديون منهم يدارسونها ,
ويطبعون كتبها القديمة , ويؤلفون فيها كتبًا جديدة فهي حية عندهم , وهم فيها أمثل
من المصريين، إلا من شذ من هؤلاء فلم يكتف بالفلسفة القديمة، بل أضاف إليها
الجديدة الأوربية فأخذها بلسان أهلها كالأستاذ الإمام. وإننا نرى في هذا العهد
الأخير أذكياء المجاورين في الأزهر يكسرون مقاطر التقليد لشيوخهم المتأخرين ,
ويوجهون أفكارهم إلى تناول كثير من العلوم والفنون القديمة والحديثة التي أهملها
أكثر شيوخ الأزهر حتى كادت تمحى منه. وقد انتدب بعض محبي الفلسفة منهم
وهو الشيخ عبد الرحمن البرقوقي إلى طبع كتاب في الفلسفة القديمة والسعي في
حمل أحد الشيوخ على تدريسه في الأزهر , فاختار كتاب (الهدية السعيدية) الذي
ألفه في هذا العصر (ملا محمد فضل الحق) من علماء خير آباد في الهند
(المتوفى سنة 1278) وأهداه إلى أمير بلاده محمد سعيد خان بهادر ونسبه إليه.
ويقول الشيخ عبد الرحمن أنه رأى هذا الكتاب خير كتاب في الفلسفة القديمة
وضعًا وسهولة. وقد طبع الكتاب في مطبعة المنار على ورق جيد كدلائل الإعجاز
مع تتمة لولد المؤلف , فكانت صفحاته زهاء مائتين وثمانين صفحة، وقد جعل
ثمنه مع ذلك ثمانية قروش صحيحة , وهو يطلب من مكتبة المنار ومن المكاتب
الشهيرة في مصر , فنحث محبي الفلسفة والراغبين في دراسة الكتب الكبيرة في
الكلام على مطالعته.
(المنتخبات العربية)
أقرب الطرق إلى تحصيل ملكة الكتابة في المنثور والمنظوم كثرة مطالعة
كلام البلغاء وأشعارهم , ولو أن طالب البلاغة حفظ بعد قراءة النحو والصرف
مختصر السعد ومطوله وحواشيهما , ولم يزاول كلام البلغاء لما ازداد إلا بعدًا عن
البلاغة كما بين ذلك الحكيم العربي ابن خلدون رحمه الله تعالى، ومما دلنا على أن
النهضة العربية الحديثة ستكون منتجة أحسن نتاج تصدي المشتغلين لإحياء آثار
البلغاء، وإقبال الناس على هذه الآثار وتفضيلها على سواها والاعتماد عليها في
تحصيل ملكة البلاغة، سواء كانت كتبًا فنية كأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز أو كتب
تمرين ككتب الأدب الشهيرة، ولكن أكثر المشتغلين بطلب الأدب تقصر همهم عن
مطالعة الكتب الكبيرة المفيدة للبلاغة كالأغاني والبيان والتبيين والكامل والعقد
الفريد. وقد فطن الناس لذلك فأنشأوا يختارون من هذه الكتب وما شابهها الفصول
والنبذ المختصرة من المنثور والمقاطيع من الشعر , ويراعون فيها السهولة
والاختصار، وقد سبق اليسوعيون إلى هذا العمل فراجت مختاراتهم العربية على
ما فيها من الدسائس الدينية والتحريف المعنوي واللفظي.
وقد عني محمد أفندي حسن محمود وأمين أفندي عمر الباجوري الكاتبان في
نظارة المعارف باختيار نبذ من كلام المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين ومقاطيع
من أشعارهم فكان لهما من ذلك كتاب سمياه (المنتخبات العربية) وطبعاه طبعًا
جميلاً يناسب ما فيه من حسن الاختيار فنحث محبي الأدب عامة , وطلاب العلم
خاصة على مطالعته , وثمن النسخة منه سبعة قروش صحيحة وصفحاته 256
(الامتيازات الأجنبية)
يعرف الخاصة والعامة أن للأجانب امتيازات في البلاد العثمانية ليس لهم
مثلها في غيرها من الممالك , وأن هذه الامتيازات من أركان الجور والظلم واختلال
النظام واضطراب القضاء وأن إسماعيل باشا خديوي مصر قد زاد للأجانب في هذه
الامتيازات فأعطاهم منها ما ليس في البلاد العثمانية تزلفًا إليهم , وطمعًا في
مساعدتهم له على ما كان يكيده في سياسته مع الدولة، حتى صار أحقر يوناني في
مصر أعز من أمرائها وعلمائها وكبرائها. وقد بحث الأوربيون في أصل هذه
الامتيازات وجاءوا فيها بالدث والرجم ولم نر أحدًا من الملسوعين بحمتها في مصر
من كتب فيها شيئًا حتى أتحفنا اليوم عمر بك لطفي وكيل مدرسة الحقوق في مصر
بكتاب خاص فيها فَنَّد فيه مزاعم الزاعمين في بيان سببها وقال: (والحقيقة أن
الامتيازات مصدرها الشريعة الإسلامية التي تسمح لغير المسلمين أن يرفعوا
منازعاتهم لجهة ملتهم , ولا تلزمهم بقبول حكومة القاضي الشرعي إلا برضائهم
عملاً بقوله تعالى: {فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (المائدة: 42)
ثم استدل بتفويض الدولة العثمانية أمر الذميين إلى أنفسهم قبل ارتباطها بالمعاهدات
الأوربية , ثم بسماح السلطان سليمان بهذه المنحة للأجانب وأنشأ بعد ذلك يسرد
المعاهدات بين الدولة العثمانية والدول الأجنبية.
وقد أحسن المؤلف في رد أوهام الإفرنج في سبب الامتيازات وأشدها ضعفًا
وأظهرها سخفًا , زعم بعضهم أن الدولة الإسلامية تأبى معاملة غير المسلمين بأحكام
شريعتها لأنها مقدسة لا تسري على غير المؤمنين، وقول بعضهم: إن القرآن هو
قانون ديني وسياسي، ولما كان منزلاً تعين أن تكون المدنية الإسلامية غير قابلة
للترقي , والشريعة غير قابلة لتقرير الحقوق , والتسليم بمعتقدات الذين لا يؤمنون
بالدين الإسلامي , فكان من الواجب إيجاد طريقة تمكن المسلمين من الاختلاط
بالأجانب! ! وهذا قول جَهُولٍ بالدين الإسلامي والقرآن والتاريخ , وكم فيهم من
مثله أو أشد منه يسمون فلاسفة حكماء.
وقد نقل المؤلف الاستدلال بالآية على ما ذكره من سبب الامتيازات عن
رسالة للشيخ محمد بخيت , ونقول أولاً: إن الآية قد نزلت في واقعة معينة , ونزل
بعدها في تلك السورة {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} (المائدة: 49) فذهب
أكثر علماء السلف إلى أن هذه ناسخة للتخيير في تلك , وعليه الشافعية في أصح
الأقوال والحنابلة , وبعضهم أنها قصرت الآية الأولى على ذلك الحكم الخاص الذي
خير الله نبيه فيه؛ أي فهي مخصصة لا ناسخة أو أن الأولى مختصة فيمن لم يعقد له
ذمة، والثانية في أهل الذمة. وأما مذهب الحنفية الذي عليه الدولة العثمانية فهو أن
أهل الذمة محمولون على أحكام الإسلام في جميع العقود وفي المواريث , ويستثنى
من البيوع بيع الخمر والخنزير , فإنهم يقرون عليه فيما بينهم في تفصيل معروف
في الفقه. والأجانب ليسوا ذميين وإنما هم حربيون أو معاهدون , ولا تجوز
معاهدتهم على شيء يخالف أحكام الشريعة ومصلحة المسلمين , ثم إنهم إذا عقدوا
معنا عهدًا فيجب أن نستقيم لهم ما استقاموا لنا، فإن نكثوا شيئًا من العهد فقد بطل
عهدهم , والامتيازات الحاضرة جلها أو كلها باطلة شرعًا فيما يظهر لنا , وهي
قائمة على أصلين: ضعفنا وجهل حاكمنا وقوتهم وأثرتهم.
هذا وإن في الكتاب فوائد كثيرة كنصوص المعاهدات وإنشاء المحاكم المختلطة
في مصر ومكانتها , وكون كثير من الامتيازات ليس لها أصل في المعاهدات وبيان
المفاسد والمشكلات في التحاكم إلى المحاكم القنصلية، وناهيك بدقة المؤلف وطول
باعه في علم الحقوق والقوانين. والكتاب مطبوع طبعًا متقنًا على ورق جيد
وصفحاته 68 ومجلد بنسيج أحمر جميل , ويطلب من مكتبة الشعب بمصر.
(الفلاكة والمفلوكين)
الفلاكة: البؤس أو التعس، والمفلوكون: البائسون العاثرو الجد. والكتاب
لأحمد بن علي الدلجي من أهل العلم والأدب، ولا نعرف له تاريخًا إلا أن كتابه هذا
يدل على علم وأدب وحسن اختيار، يعرف ذلك من مثل الفصل الذي عقد لمسألة
خلق الأفعال , وبيان أنه لا حجة للمفلوك في التعلق بالقضاء والقدر، والفصل الذي
عقده لبيان أن التوكل لا ينافي التعلق بالأسباب , والزهد لا ينافي كون المال في
اليدين , وما أحسن الفصل الذي بيَّن فيه الآفات التي تنشأ من الفلاكة أو تستلزمها
الفلاكة وتقتضيها، ومنها الكيمياء الباطلة والنجوم والمطالب، ثم إن أكثر الكتاب
في تراجم العلماء والأدباء المفلوكين , وفيه عبر وأدب وفكاهة.
وجملة القول أن الكتاب من الكتب المفيدة الفكهة التي تلذ قراءتها، وقد طبع
في مطبعة الشعب وصفحاته 145 وهو يطلب من مكتبة الشعب.
__________(7/554)
غرة شعبان - 1322هـ
10 أكتوبر - 1904م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة هندية
وردت هذه الأسئلة الستة من الهند على الأستاذ الإمام مفتي الإسلام في مصر
فأرسلها إلينا لنجيب عنها لكثرة الشواغل عنده، ولثقته بتحري تلميذه الصواب.
* * *
تلقيح للجدري والطاعون وغيرهما
(س73) الطبيب المولوي نور الدين المفتي في بنجاب (الهند) : أيجوز
التلقيح للجدري والطاعون والهواء الأصفر (أي الهيضة الوبائية) والإفرنجي
مثلاً.
(ج) لا وجه لتحريم التلقيح لهذه الأمراض ولغيرها، فإن التلقيح ضرب
من ضروب الوقاية الثابتة بالتجربة الصحيحة المتواترة، وتوقي المضارّ واجب
شرعًا بالإجماع، فما تعين سببًا للوقاية وجب الأخذ به عند ظن التعرض للضرر،
وما جاز أن يكون سببًا تجوز تجربته إذا لم يكن في التجربة محظور آخر كضرر
محقق أو مظنون , إذ لا يجوز ارتكاب الضرر لتوهم المنفعة. وهذه المسائل ترجع
إلى قاعدة وجوب دفع المضار وجلب المنافع، وقاعدة تعارض المعلوم
والموهوم، وقاعدة ارتكاب أخف الضررين. وعلماء هذه الديار متفقون على
جواز التلقيح لأجل الوقاية من الجدري، حتى إنه لا يقبل في الجامع الأزهر
تلميذ إلا إذا لقح بلقاح الجدري.
* * *
التداوي بالأدوية الإفرنجية
(س 74) ومنه: أيجوز التداوي بالأدوية الإفرنجية وفيها الكحول وأنواع من
الرطوبات المحرمة؟
(ج) يجوز التداوي بكل ما ثبت للطبيب فائدته في إزالة المرض أو تخفيفه
عملاً بعموم ما أجمعوا عليه من جواز التداوي، ولا يستثنى إلا ما حرم بالنص
كالخمر ولحم الخنزير إذا كان غيره يقوم مقامه ويستغنى به في التداوي عنه , وأما
إذا تعين دواء فإنه يصير مضطرًّا إليه {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: 173) وأما الكحول فليس محرمًا بالنص ولا وجه لتحريم كل ما كان
جزءًبا طبيعيًّا أو كيماويًّا من الخمر، وإنما يحرم كل مسكر وكل ضار، والدواء
نافع غير مسكر، فلا وجه للقول بتحريمه، إلا من يستحل التشريع بفلسفته فيحرم
برأيه ما جعله الله سببًا لمنفعة الناس. وقد سئلنا من قبل عن طهارة هذا الكحول أو
الغول ونجاسته فبينا بالدلائل الواضحة أنه طاهر، فليراجع ذلك في المجلد الرابع من
المنار.
* * *
الشهادة بالتلغراف
(س 75) ومنه: أتجوز الشهادة بالتلغراف وعليه المجوس والنصارى؟
(ج) خبر التلغراف لا يسمى شهادة عند الفقهاء فلا يعملون به فيما يتوقف
إثباته على شهادة الشهود وإنما هو خبر كالكتابة، فينبغي أن يعمل به حيث يعمل
بالكتابة بشرطها، وهو الأمن من التزوير؛ فإذا لم يكن هناك ثقة بأن هذا التلغراف
من فلان فكيف يوثق بمضمونه؟ وأما إذا كان هناك ثقة بأن هذا التلغراف من فلان
فحكمه حكم خبره , ولا يخفى أن خبر المجوسي والنصراني يعمل به في إقراره
وفي شهادته على مثله اتفاقًا. هذا ما يظهر من نصوص الفقه وأقيسته. وإذا رجعنا
إلى أصل الكتاب والسنة وحكم التشريع يتجلى لنا أن البينة في الشرع هي كل ما
يتبين به الحق بحيث يثق الحاكم أو غير الحاكم بأن هذا الشيء صحيح أو غير
صحيح , فمن التلغرافات ما ترسله الحكومة إلى عمالها فلا يشُكُّون في صحة
مضمونه وكونه من الحكومة، ومنها ما يرسله تاجر إلى آخر فلا يشك في كونه منه،
ومنها ما يشك في مرسله أو في مضمونه أو فيهما معًا. ولكل خبر حكمه. وما
ذكرناه في معنى البينة قد أوضحه ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) واستدل
عليه بالكتاب والسنة والعقل , فليراجع ذلك فيه أو في ص 170 من مجلد المنار
الخامس.
* * *
الزكاة والضرائب على الأرض في دار الحرب
(س75) ومنه: النصارى يأخذون من الأراضي في الهند قريبًا من
النصف أو الربع (أي من ريعها) فهل يعد ذلك من أصل ما يجب إخراجه من
العشر أو نصف العشر (وفي أصل السؤال ربع العشر وهو زكاة النقدين)
(ج) إن ما يجب من العشر أو نصف العشر من غلات الأرض هو من مال
الزكاة التي يجب صرفها في مصارفها الثمانية المنصوصة أو ما يوجد منها، فإذا
أخذها عامل الإمام في دار الإسلام برئت منها ذمة صاحب الأرض ووجب على
الإمام أو عامله صرفها لمستحقيها، وإذا لم يأخذها العامل وجب على المالك وضعها
حيث أمر الله. وما يأخذه النصارى وغيرهم على الأرض التي تغلبوا عليها يعد من
الضرائب ولا تسقط به الزكاة , فيجب على المسلم أن يخرجها مما بقي له من الغلة
حتمًا بشرطها.
* * *
انتفاع المرتهن بالمرهون
(س76) ومنه: هل يجوز انتفاع المرتهن بالمرهون؟
(ج) جمهور العلماء ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي على أنه لا يجوز
للمرتهن أن ينتفع بالرهن لأنهم يعدون ذلك من الربا. هذا هو دليلهم وما رووه في
الاحتجاج له من حديث أبي هريرة عند الشافعي والدارقطني والحاكم والبيهقي وابن
حبان (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) لا يصح
له سند موصول يحتج به، وهو معارض بما احتج به مجيزو الانتفاع , ومنهم أحمد
وإسحق والليث والحسن وهو حديث أبي هريرة عند البخاري وأبي داود
والترمذي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (الظهر يركب
بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا وعلى الذي يركب
ويشرب النفقة) فهذا الحديث يدل على أن الانتفاع بالرهن مشروع في الجملة،
وأنه ليس من الربا، فمن أراد الحق بدليله فهو جواز الانتفاع ما لم يكن هناك
احتيال على الربا أو شرط عدم الانتفاع برضا المرتهن ثم غدر وخالف الشرط ,
والله أعلم.
* * *
الحكم بالقوانين الإنكليزية
في الهند
(س77) ومنه: أيجوز للمسلم المستخدّم عند الإنكليز الحكم بالقوانين
الإنكليزية وفيها الحكم بغير ما أنزل الله؟
(ج) إن هذا السؤال يتضمن مسائل من أكبر مشكلات هذا العصر، كحكم
المؤلفين للقوانين وواضعيها لحكوماتهم , وحكم الحاكمين بها والفرق بين دار
الحرب ودار الإسلام فيها. وإننا نرى كثيرين من المسلمين المتدينين يعتقدون أن
قضاة المحاكم الأهلية الذين يحكمون بالقانون كفار أخذًا بظاهر قوله تعالى: {وَمَن
لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) ويستلزم الحكمُ بتكفير
القاضي الحاكمِ بالقانون تكفيرَ الأمراء والسلاطين الواضعين للقوانين , فإنهم وإن لم
يكونوا ألفوها بمعارفهم فإنها وضعت بإذنهم، وهم الذين يولون الحكام ليحكموا بها،
ويقول الحاكم من هؤلاء: أحكم باسم الأمير فلان لأنني نائب عنه بإذنه , ويطلقون
على الأمير لفظ (الشارع) .
أما ظاهر الآية فلم يقل به أحد من أئمة الفقه المشهورين، بل لم يقل به أحد
قط، فإن ظاهرها يتناول من لم يحكم بما أنزل الله مطلقًا، سواء حكم بغير ما أنزل
الله تعالى أم لا، وهذا لا يكفره أحد من المسلمين حتى الخوارج الذين يكفرون
الفساق بالمعاصي ومنها الحكم بغير ما أنزل الله. واختلف أهل السنة في الآية،
فذهب بعضهم إلى أنها خاصة باليهود وهو ما رواه سعيد بن منصور وأبو الشيخ
وابن مردويه عن ابن عباس قال: (إنما أنزل الله {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (المائدة: 47) في اليهود خاصة) . وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال:
(الثلاث الآيات التي في المائدة {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} (المائدة: 44) ...
إلخ، ليس في أهل الإسلام منها شيء هي في الكفار) وذهب بعضهم إلى أن
الآية الأولى التي فيها الحكم بالكفر للمسلمين , والثانية التي فيها الحكم بالظلم لليهود ,
والثالثة التي فيها الحكم بالفسق للنصارى , وهو ظاهر السياق. وذهب آخرون إلى
العموم فيها كلها , ويؤيده قول حذيفة لمن قال: إنها كلها في بني إسرائيل: (نِعم
الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة , كلا والله لتسلكن سبيلهم
قدّ الشراك) . رواه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم وصححه , وأولَ هذا الفريق
الآية بتأويلين:
فذهب بعضهم إلى أن الكفر هنا ورد بمعناه اللغوي للتغليظ لا معناه الشرعي
الذي هو الخروج من الملة، واستدلوا بما رواه ابن المنذر والحاكم وصححه ,
والبيهقي في السنن عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في الكفر الواقع في إحدى
الآيات الثلاث: (إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه , إنه ليس كفرًا ينقل عن المللة ,
كفر دون كفر) .
وذهب بعضهم إلى أن الكفر مشروط بشرط معروف من القواعد العامة، وهو
أن من لم يحكم بما أنزل الله منكرًا له أو راغبًا عنه لاعتقاده بأنه ظلم مع علمه
بأنه حكم الله أو نحو ذلك مما لا يجامع الإيمان والإذعان. ولعمري إن الشبهة في
الأمراء الواضعين للقوانين أشد , والجواب عنهم أعسر، وهذا التأويل في حقهم لا
يظهر، وإن العقل ليعسر عليه أن يتصور أن مؤمنًا مذعنًا لدين الله يعتقد أن كتابه
يفرض عليه حكمًا، ثم هو يغيره باختياره، ويستبدل به حكمًا آخر بإرادته إعراضًا
عنه، وتفضيلاً لغيره عليه، ويعتد مع ذلك بإيمانه وإسلامه. والظاهر أن الواجب
على المسلمين في مثل هذه الحال مع مثل هذا الحاكم أن يلزموه بإبطال ما وضعه
مخالفًا لحكم الله، ولا يكتفوا بعدم مساعدته عليه ومشايعته فيه , فإن لم يقدروا فالدار
لا تعتبر دار إسلام فيما يظهر، وللأحكام فيها حكم آخر، وهاهنا يجيء سؤال
السائل، وقبل الجواب عنه لابد من ذكر مسألة يشتبه الصواب فيها على كثير من
المسلمين وهي:
إذا غلب العدوّ على بعض بلاد المسلمين وامتنعت عليهم الهجرة , فهل
الصواب أن يتركوا له جميع الأحكام، ولا يتولوا له عملاً أم لا؟ يظن بعض الناس
أن العمل للكافر لا يحل بحال، والظاهر لنا أن المسلم الذي يعتقد أنه لا ينبغي أن
يحكم المسلم إلا المسلم، وأن جميع الأحكام يجب أن تكون موافقة لشريعته وقائمة
على أصولها العادلة ينبغي له أن يسعى في كل مكان بإقامة ما يستطيع إقامته من
هذه الأحكام وأن يحول دون تحكم غير المسلمين بقدر الإمكان. وبهذا القصد يجوز
له أو يجب عليه أن يقبل العمل في دار الحرب إلا إذا علم أن عمله يضر المسلمين
ولا ينفعهم، بل يكون نفعه محصورًا في غيرهم , ومعينًا للمتغلب على الإجهاز
عليهم , وإذا هو تولى لهم العمل وكلف بالحكم بقوانينهم فماذا يفعل وهو مأمور بأن
بحكم بما أنزل الله؟
أقول: إن الأحكام المنزلة من الله تعالى منها ما يتعلق بالدين نفسه كأحكام
العبادات وما في معناها كالنكاح والطلاق، وهي لا تحل مخالفتها بحال، ومنها ما
يتعلق بأمر الدنيا كالعقوبات والحدود والمعاملات المدنية. والمنزل من الله تعالى في
هذه قليل , وأكثرها موكول إلى الاجتهاد , وأهم المنزل وآكده الحدود في العقوبات ,
وسائر العقوبات تعزير مفوض إلى اجتهاد الحاكم , والربا في الأحكام المدنية. وقد
ورد في السنة النهي عن إقامة الحدود في أرض العدو، وأجاز بعض الأئمة الربا
فيها بل مذهب أبي حنيفة أن جميع العقود الفاسدة جائزة في دار الحرب , واستدل
له بمناحبة (مراهنة) أبي بكر رضي الله عنه لأبيّ بن خلف على أن الروم يغلبون
الفرس في بضع سنين، وإجازة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك , وصرحوا بعدم
إقامة الحدود فيها , روي ذلك عن عمر وأبي الدرداء وحذيفة وغيرهم. وبه قال
أبو حنيفة , قال في أعلام الموقعين: (وقد نص أحمد وإسحاق بن راهويه
والأوزاعي وغيرهم من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدوّ ,
وذكرها أبو القاسم الخرقي في مختصره، فقال: لا يقام الحد على مسلم في أرض
العدوّ، وقد أتي بسر بن أرطاة برجل من الغزاة قد سرق مجنة فقال: لولا أني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تقطع الأيدي في الغزو)
لقطعتك. رواه أبو داود وقال أبو محمد المقدسي: وهو إجماع الصحابة. روى
سعيد بن منصور في سننه بإسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه أن عمر كتب
إلى الناس أن لا يجلدوا أمير جيش ولا سرية ولا رجلاً من المسلمين حدًّا وهو غازٍ
حتى يقطع الدرب قافلاً لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار، وعن أبي الدرداء
مثل ذلك , ثم ذكر ترك سعد إقامة حد السكر على أبي محجن في وقعة القادسية ,
وذكر أنه قد يحتج به من يقول: لا حد على مسلم في دار الحرب كما يقول
أبو حنيفة، ولكنه علله تعليلاً آخر ليس هذا محل ذكره، وانظر تعليل عمر تجده
يصح في بلاد الحرب.
فعلم مما تقدم أن الأحكام القضائية التي أنزلها الله تعالى قليلة جدًّا , وقد علمت
ما قيل في إقامتها في دار الحرب لاسيما عند الحنفية , فإذا كانت الحدود لا تقام
هناك , فقد عادت أحكام العقوبات كلها إلى التعزير الذي يفوض إلى اجتهاد الحاكم.
والأحكام المدنية أولى بذلك لأنها اجتهادية أيضًا , والنصوص القطعية فيها عن
الشارع قليلة جدًّا , وإذا رجعت الأحكام هناك إلى الرأي والاجتهاد في تحري العدل
والمصلحة , وأجزنا للمسلم أن يكون حاكمًا عند الحربي في بلاده لأجل مصلحة
المسلمين؛ فالذي يظهر أنه لا بأس من الحكم بقانونه لأجل منفعة المسلمين
ومصلحتهم , فإن كان ذلك القانون ضارًّا بالمسلمين ظالمًا لهم فليس له أن يحكم به
ولا أن يتولى العمل لواضعه إعانة له.
وجملة القول أن دار الحرب ليست محلاًّ لإقامة أحكام الإسلام , ولذلك تجب
الهجرة منها إلا لعذر أو مصلحة للمسلمين يؤمن معها من الفتنة في الدين. وعلى
من أقام أن يخدم المسلمين بقدر طاقته , ويقوي أحكام الإسلام بقدر استطاعته , ولا
وسيلة لتقوية نفوذ الإسلام وحفظ مصلحة المسلمين مثل تقلد أعمال الحكومة لا سيما
إذا كانت الحكومة متساهلة قريبة من العدل بين جميع الأمم والملل كالحكومة
الإنكليزية. والمعروف أن قوانين هذه الدولة أقرب إلى الشريعة الإسلامية
من غيرها لأنها تفوض أكثر الأمور إلى اجتهاد القضاة , فمن كان أهلاً للقضاء
في الإسلام وتولى القضاء في الهند بصحة قصد وحسن نية يتيسر له أن يخدم
المسلمين خدمة جليلة. وظاهر أن ترك أمثاله من أهل العلم والغيرة للقضاء وغيره
من أعمال الحكومة تأثمًا من العمل بقوانينها يضيع على المسلمين معظم مصالحهم
في دينهم ودنياهم , وما نكب المسلمون في الهند ونحوها وتأخروا عن الوثنيين إلا
بسببب الحرمان من أعمال الحكومة. ولنا العبرة في ذلك بما يجري عليه الأوربيون
في بلاد المسلمين؛ إذ يتوسلون بكل وسيلة إلى تقلد الأحكام , ومتى تقلدوها
حافظوا على مصالح أبناء ملتهم وجنسهم حتى كان من أمرهم في بعض البلاد أن
صاروا أصحاب السيادة الحقيقية فيها , وصار حكامها الأولون آلات في أيديهم.
والظاهر مع هذا كله أن قبول المسلم للعمل في الحكومة الإنكليزية في الهند
(ومثلها ما هو في معناها) وحكمه بقانونها، هو رخصة تدخل في قاعدة ارتكاب
أخف الضررين، إن لم يكن عزيمة يقصد بها تأييد الإسلام وحفظ مصلحة المسلمين.
ذلك إن تعده من باب الضرورة التي نفذ بها حكم الإمام الذي فقد أكثر شروط
الإمامة, والقاضي الذي فقد أهم شروط القضاء , ونحو ذلك. فجميع حكام المسلمين
في أرض الإسلام اليوم حكام ضرورة. وعلم مما تقدم أن من تقلد العمل للحربي
لأجل أن يعيش براتبه فهو ليس من أهل هذه الرخصة فضلاً عن أن يكون من
أصحاب العزيمة , والله أعلم.
__________(7/561)
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
__________
أسباب ضعف المسلمين وعلاجه
تتمة
وحيث إنه وضح مما تقدم سبب سقوط المسلمين ثم خمولهم وتأخرهم في حلبة
الترقي والسياسة , فمما لا يخفى على كل عاقل أنه إذا عرف المرض سهل الدواء
إذا بقي من الاستعداد الطبيعي بقية يمكن معه الحياة، وغير خافٍ أيضًا أنه لا يمكن
حياة الأمة الإسلامية إلا بعود المسلمين إلى دينهم الذي به سعادتهم في الدنيا والآخرة
أما ما ذكره الأخ رفيق من دعوة المسلمين إلى ترك الدين جانبًا والسياسة جانبًا،
فهو أبعد كل بعيد , ودونه خرط القتاد , ومن المحقق أن من دعا المسلمين إلى ذلك
لا يجاب , ولو أقام على دعوته إلى يوم الحساب , كما أن دعوته في نفسها غير
صواب. والحقيقة بخلاف ذلك , فإن دعوتهم إلى دينهم الخالص أنفع لمرضهم ,
ومن البَيِّن الذي حققته التجارب أن تأثر المسلمين ونشاطهم إلى إجابة دعوة دينهم
أسهل كل سهل، وذلك كإجابتهم لدعوة فلان وفلان وفلان في كل مكان وزمان , فلا
حاجة إلى الإطالة بالتفصيل والبيان.
ودين الإسلام كما أنه أكمل الأديان وأعدلها , فسياسته أعدل كل سياسة يمكن
البشر أن ينضموا إليها؛ ألا وهي وضع كل شيء في الموضع الذي يناسبه ,
والأخذ بالأصح، والسعي في أسهل الطرق وأقربها إلى نيل المراد , وأن ينتخب
من كل شيء أزكاه لتكميل وجوده وبقاه، ويصطفى لكل شيء كفوه , وهذه هي
سنة الله في أمره الشرعي والكوني , ومقتضى حكمته الكاملة، ودلت على حسنه
ووجوبه الفطر والعقول أيضًا , وهو علامة الكمال والاستواء في الأمور الكونية
الطبيعية والانتظام البشري.
أما كونه سنة الله وحكمته في الخلق والتكوين فذلك بَيِّن لمن تفكر في نفسه
وفي الآفاق، ودونك مثالاً واحدًا لنقيس عليه , وهو انتخاب موضع البصر في
الرأس ثم وضعه في الوجه لا في القفا؛ لأن الإنسان ذو إرادة للفعل والترك ,
والأخير عدم , وفعله الطبيعي اتجاه وجهه، وتعيين مراده المحسوس موقوف على
رؤيته، فكانت الحكمة انتخاب الباصرة في هذا الموضع , وهناك حكم وأسرار
كثيرة للمتبصرين. وكذلك الإنسان والشجر عند كماله واستوائه ينتخب منه لبقاء
نوعه خلاصته فيلد ويثمر، والله ينتخب ويصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس ,
وهو يعلم حيث يجعل رسالته ومن يصلح لها. وكلام الحكماء والعقلاء في
الانتخاب للرأي والمشورة لا يمكن استقصاؤه، وقد فطر بنو آدم على التعاون في
أفعالهم وأقوالهم , فالله جل شأنه كما اختار محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى
الناس كافة , وختم به الرسالة , واختار أمته وجعلها خير أمة أخرجت للناس
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر , ولا يقرون ظالمًا على ظلمه - أي ينبغي
أن يكون هذا شأنهم - أمرهم أن يتخلقوا بأخلاقه تعالى التي يليق أن يتخلقوا بها كما
يروى: تخلقوا بأخلاق الله , ومعنى هذا الحديث صحيح في الدين، ودلت الشريعة
على أن ما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن.
فمن تلك السياسة الاجتماعية أن الله فوض إلى الأمة الإسلامية انتخاب الخليفة
وتعيينه من عائلة الخلافة، وأعظم دليل على ذلك مفارقته صلى الله عليه وسلم هذه
الدار ولم يعهد في أمر الخلافة بشيء , ولما كان بديهيًّا ومعلومًا لديهم ذلك من
دينهم لم يوصهم صلى الله عليه وسلم بغير الكتاب والسنة كما تقدم , وأيضًا من
الأدلة القطعية المعلومة من الدين بالضرورة أن الخلافة الشرعية لا تثبت لأحد إلا
بعد البيعة الاختيارية من أهل الحل والعقد ثم عامة المسلمين في سائر البلاد بواسطة
أمراء الإسلام , يدل على ذلك قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
في بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (إنها فلتة وقى الله شرها , فمن عاد
إلى مثلها فاقتلوه) وتأمل قوله: فاقتلوه. إلى من يعود الضمير ويدل على ذلك
قوله تعالى الذي هو أصل كل دليل في ذلك وهو: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) أي شأنهم ذلك , أو كما تقول: المال بين فلان وفلان أي مشترك
بينهما , والخبر يكون للأمر بل هو آكد من مجرد الأمر , كما ذكر ذلك في موضعه،
وقد جاء الأمر في الآية الأخرى صريحًا إذ قال لنبيه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل
عمران: 159) ودخول الأمة من باب أولى؛ إذ أنه صلى الله عليه وسلم غني عن
رأيهم بالوحي، وذلك ليس لهم. ومن أدلة ما ذكرناه ما قد تواترت به الأحاديث
والآثار من تسمية أموال الملك بيت مال المسلمين , ولم يرد أنها مال السلطان أو
خزينته.
ومنها انتخاب سائر الأمراء والعمال , فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه
قال: (من ولَّى على قوم أو جماعة أميرًا , وهو يرى فيهم أفضل منه فعليه لعنة
الله) .
ومنها وجوب العمل بالمشورة على الإمام غير النبي صلى الله عليه وسلم ,
وتعيين الصالحين والعقلاء لها للآيات المتقدمة التي عمل بمقتضاها الخلفاء
الراشدون. ذُكر في كنز العمال أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان إذا
نزل به أمر دعا رجالاًَ من المهاجرين والأنصار ودعا عمر وعثمان وعليًّا وعبد
الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت. ثم ولي عمر -
رضي الله عنه - فكان يدعو هؤلاء , وصح أن أهل مجلس شورى عمر - رضي
الله عنه - أهل الصفة. وليس وجوب العمل بالمشورة مقصورة على الخليفة فقط،
بل هي واجبة على سائر الأمراء والعمال , فقد صح أنهم كانوا يوصونهم بأخذ رأي
من يحضرهم من عقلاء المسلمين , بل كانوا يعينون لهم أفرادًا للرأي والمشاورة
ذكر في كنز العمال أن الصِدِّيق رضي الله عنه أوصى شرحبيل بن حسنة - وكان
أحد الأمراء - إذا نزل بك الأمر يحتاج فيه إلى رأي التقي الناصح فليكن أول من
تبدأ به أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وإليك ثالثًا خالد بن سعيد , وإياك
واستبداد الرأي عنهم أو تطوي عنهم بعض الخبر، وكانوا يسألون الأمة عن سيرة
أمرائهم، ويتفقدون رضاء الأمة عن أولئك الأمراء، وهذا هو الانتخاب اليوم عند
أهل الغرب أو مثله , ولا اختلاف إلا في العبارات واللفظ.
ومن تلك السياسة الاجتماعية الشرعية أن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم ,
ومن خفره في ذمته فعليه لعنة الله كما صح عنه ذلك صلى الله عليه وسلم.
ومنها إيجاب الزكاة على أغنيائهم لترد على فقرائهم ومنافعهم الاجتماعية.
ومنها إيجاب الاستعداد الجندي على كل فرد فرد , وحرّم القمار عليهم إلا في
ذلك , وهل يجوز القمار مع غير أهل ملتنا؟ فيه خلاف يذكرونه في تفسير {الم *
غُلِبَتِ الرُّومُ} (الروم: 1-2) .
ومنها وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى غير ذلك مما لا يتسع
المقام لبسطه.
فبتركنا ذلك وأضعاف أضعافه مما يدل عليه الشرع ويسلم به كل عقل سليم؛
صرنا إلى ما صرنا إليه , وقد أوصى عليه الصلاة والسلام أمته بأهل الذمة وأكد ,
وكان الخلفاء الراشدون إذا أقاموا أميرًا من المسلمين في ناحية يكون بها أحد من
أهل الذمة أقاموا من تحته أميرًا من أهل الذمة على قومه , وشدد رسول الله صلى
الله عليه وسلم في الوصية بالقبط وقال: (استوصوا بهم خيرًا فإن لهم رحمًا وقرابة)
ولو أن المحل يحتمل الإطالة لأتينا بما لم يكن في حساب من تأكيده صلى الله
عليه وسلم الوصية بجيراننا وإخواننا الوطنيين الذين تأكدت بيننا وبينهم عهود الله
وذمته.
وقد يعترض بأنه إذا لم تعزل السياسية جانبًا عن الدين فأي فائدة في الشورى ,
وأن تقدم أهل الغرب إنما ثبت واستقر لهم بمنعهم كل تداخل ديني في أمور السياسة
والملك؟ وقد يقال أيضًا: إن كثيرًا من أحكام الدين وعقوباته غير مناسبة للزمان
ومصلحته , والجواب عن الاعتراض الأول أن فائدة مجلس الشورى هي النظر في
جميع المسائل الاجتهادية أعني غير المنصوصة في الكتاب والسنة؛ كالنظر في
إصلاح البلاد والعباد بالعلوم والتجارة والصنائع المختلفة وحفظ الأمة عن
الاختلافات , ووضع القوانين لذلك , وإصلاح أهل الذمة، إلى غير ذلك من الفوائد
التي يصعب حصرها، ومن تلك الفوائد ما يأخذه السلاطين عشورًا من تجار
المسلمين , وهو محرم في دين الإسلام، فيمكن إذا كان أركان مجلس الشورى
منتخبين من سائر بلاد المسلمين برضاهم ووكلاء عنهم كلٌّ عن جهته وبلاده , فهو
يتطوع عن أهل جهته بذلك المقدار أو أكثر منه، وحيث إنه وكيل عنهم في ذلك
الشيء وغيره؛ فلا يبعد أن يحل ذلك لدى كل منصف من أهل العلم لا التقليد محل
القبول. إلى غير ذلك من فوائد يا لها من فوائد. وكثيرمن المسائل الشرعية قد
تتبدل تبدلاً وقتيًّا تبعًا لمصلحة الأزمنة والأمكنة، ولكنها تعود إلى أصلها بانتفاء
المقتضي , وهذه أيضًا تفوض إلى رأي المسلمين ومشورتهم، وقد ذكر ذلك علماء
الإسلام.
أما الاعتراض الثاني، فيقال في جوابه: إنه لم يعرف في دين النصرانية
ذكر للسياسة فضلاً عن أن يقال: إنهم تركوها جانبًا، أو يقال: لعل سياسة دينهم
غير موافقة لمصلحة الزمان وعرفوا ذلك بعقولهم، كما هي منسوخة لدينا لتلك العلة.
وإذا عرفت بهذا صلاح السياسة الدينية الإسلامية، وأن أهل الغرب لم
يستطيعوا أن يأتوا بأحسن منها، ولا أنسب للزمان منها، بل سياستهم إنما هي
مستفادة من الإسلام والمسلمين؛ أفلا نكون أولى منهم بها لدلالة العقل على حسنها،
ولكونها حكمًا دينيًّا شرعه الله لنا نثاب عليه، ونسعد به في دنيانا وبعد موتنا.
بقي الجواب على الاعتراض الثالث، وقد ذكر هذا الاعتراض صاحب المنار
لبعض أمراء مصر وهو أنه كان يقول: لا يمكن أن تعمل الأمة في هذا القرن بما
وضع للعرب من نحو ثلاثة عشر قرنًا تقريبًا، وقول بعضهم خلاف مصلحة الزمان -
ونعوذ بالرحمن من الكفر والخذلان - وما مرادهم بمصلحة الزمان، وليس
الزمان إلا تعاقب الليل والنهار، ولا تنسب إليه مصلحة ولا مفسدة، فيتعين أن
يكون المراد أهل الزمان الذين منهم الكافر والمسلم , فإن كان مراد هذا المعترض
المخذول أن شريعة الإسلام خلاف مصلحة المسلمين؛ فقد كذب وافترى , فإن
مخالفة المصلحة لابد من بيانه. فإما أن يقول: إن شريعة الإسلام مانعة عن الترقي
للمسلمين - وقد عرفت فيما مضى أن كل ترقٍّ ظهر على وجه الأرض بعدها أنه
من بركة الإسلام وشعاع من مشكاته - وإما أن يقول: إن المسلمين يستثقلون
الأحكام الشرعية , وينزعون إلى مخالفة سلطانهم إذا أجراها عليهم، وهذا أبعد كل
بعيد , فإن جميع المسلمين في جميع أقطار الأرض لا يسرهم إلا إقامة شريعتهم ,
وكل سلطان يخالفها فهو ممقوت لديهم لا يمنحونه ودًا، ولا يرون له طاعة، وإذا
كانت شريعة الإسلام بهذه المنزلة في اعتقاد أمة الإسلام؛ فما بال المتحذلقين
يضعون قوانين على المسلمين لا يرضون بها , وترى الأمة أنها مخالفة لمصلحتها؟
ما لنا ولتلك القوانين إن كان أهل أوربا رضوا بها فلأنفسهم , على أنهم ما
اختاروها إلا لأن قومهم رضوا بها.
هذا ما يقال في سد النزاع من أصله، أما لو تشعبت المسائل الشرعية
والقانونية مع بيان عللها وأسرارها وغاياتها ومصالحها ودفع المفاسد، ثم المعادلة
بين الجرم وعقابه بعد تنزيل الجرم منزلته مع بيان ما ينتج عنه من المفاسد - فمن
أمعن النظر لم يبق له شك ولا التباس في أن شريعة دين الإسلام هي الأوفق
بمصلحة كل زمان، وأنها الموافقة للمعقول، وهي فطرة الله التي فطر الناس
عليها, ومَن غيَّر الفطرة فإثمه عليه. اللهم أحينا مؤمنين وأمتنا مؤمنين.
وفي الحقيقة مثل هؤلاء المعترضين لا يقولون عن معرفة وعقل، ولا يرمون
لغاية وإصلاح، فقولهم هذر لا يعبأ به , إذ ليس اعتراضاتهم إلا عن دهشة وعجز
وجبن، يرومون به إرضاء أعدائهم الذين لا غرض لهم إلا اغتصاب بلادنا ودحرنا
عنها , فالمعترضون لن يرضى عنهم هؤلاء المغتصبون أبدًا، وقد أغضبوا ربهم
ونبيهم وأمتهم؛ فباءوا بغضب على غضب , وسيصيرون إلى عذاب أليم إن لم
يقلعوا ويفيئوا.
فيا أمراء المسلمين إن الغربيين لا يتقربون إليكم بتودد المخادعة محبة لذواتكم
الشخصية، فلا تنخدعوا لهم، ما ذلك إلا تلطفًا لينالوا مرامهم، ولئلا تنفروا وتنبوا
عنهم. ألا إنما هي مزاحمة عدو حاذق ليسلبوا منكم كل سعادة يسعون لذلك سعيًا
حثيثًا وأنتم لا تشعرون، كمثل الظل يُرى واقفًا وهو يسير أسرع سير إلى أن
يغشى كل شيء , ثم يشتد ظلمهم فيعطل كل تمييز وإدراك، أو كمن رآك بمجلس
فارغًا فجعل يمازحك بغاية الحذق ويزاحمك , فإن رآك أنكرته لاطفك قائلاً: إن من
ورائي من يدفعني ويدفعك , ومضايقتي لك إنما هي سبب مدافعتي عنك، ولا يزال
كذلك حتى يخرجك، وقد تمكن في موضعك فيدعي أنه حقه وأنه مستحقه؛ فإن
شئت فقف حيث توضع النعال، فليس لك من هذا الصاحب المهذب إلا الإذلال.
يا أمراء المسلمين , راقبوا الله في قومكم وأبناء وطنكم , إن ثروتكم ورغد
عيشكم ونيلكم هذه المناصب، إنما هو بهم، والنصح والإخلاص لكم محال من
سواهم، فلا تبطروا ولا يغرنكم ركوب العربات مع أهل الغرب ونسائهم , تلكم
مصانعة مؤقتة للحصول على مطالبهم , ومداهنات محفوفة بغايات، وإلا فما هي
العلة؟ ألرحم قرابة، أم لاتحاد وطن أم لرابطة دين؟ [1] فراقبوا الله فينا، وفي
بلادكم وأولادكم، والغيرة الغيرة على شرفكم وحريمكم، أتعجزون عن خداع من
خادعكم، أليس يقال: رب حيلة خير من قبيلة. والعاقل قد يتحيل بالزمان
والمصلحة، ويتعلل بخوف الفساد والأمة، ومن يوم ليوم إلى أن تتوفر لديه العدة
ويستكمل القوة وينشأ في قومه الأكفاء، ما هذا الخوف والجبن، فإن أحدًا لا
يستطيع أن يسأل السيف، وإنما هي مخادعة في السياسة وترهيبات، إن قاومهم
بثبات أصبحت أضغاث أحلام، والسعيد من اعتبر بغيره.
ثم لينظر العاقل إلى أهل الهند. وبأي الحيل خُدعت سلاطينهم. ثم إلى أي
حالة آلت حالة أولاد أولئك السلاطين والأمراء المترفين , تراهم في أنحاء البلاد
يتكففون الناس مع الفقراء والمساكين. تلك جناية آبائهم على بلادهم وقومهم، أحلتْ
النقمة بأولادهم أكثر منها بالرعية؛ لأن الرعايا كما كانوا سابقًا يتكسبون معاشهم،
بل هم الآن يتكسبون بالمكر، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
ويا معشر المسلمين , يا إخواني , يا أولياء الغيرة، يا معشر المصريين ,
بشرفكم لبيك إجابة لمستغيث تقطعت أحشاؤه غمًّا وكآبة عليكم , فأنتم
قومه وأمته ورأس ماله وربحه , بل أعز عليه من روحه. إن لي فيكم أيها
المصريون أملاً وطيدًا , أمنيتي إليكم أن تؤلفوا لجنة تسمونها مجلس الإسلام - أو ما
شئتم أن تسموها - يشترك فيها كل من أخلص لقومه ومَلَكه حُبُّه , وغرق في عشقهم ,
أولئك الذين لا يهابون الخطوب , ولا تعوقهم المصائب عن السعي في فلاح قومهم
ونجاتهم، وأشرِكوا فيها كل من يصلح للإشراك من سائر طوائف المسلمين. وعلى
أهل هذه اللجنة أن يبثوا الوعاظ الأمناء العقلاء في سائر أنحاء بلاد المسلمين،
ويدعونهم إلى الوفاق وترك التقليد الذي فرقهم، وأضاع عليهم دينهم وبلادهم،
وأوقعهم فيما هم فيه من الجهد وعدم مجاراة الأمم المتمدنة. وأهل هذه اللجنة
يؤلفون وفدًا من كبارهم وعقلائهم يوجهونه إلى حضرة السلطان الخليفة الأعظم
رأسًا، وإذا لاقوه يبينون له حالة المسلمين وأسباب وهنهم , وكذلك يبينون له كل
اختلال واقع في بلاده , ويلتمسون أن يوافقهم على إقامة مجلس شورى للمسلمين
يرأسه السلطان نفسه شبيه بإمبراطورية الجرمان أو برلمان إنكلترا. مجلس شورى
المسلمين تتألف أركانه من جميع طوائف المسلمين , وكل أمير من أمراء المسلمين
يكون له نائب في ذلك المجلس من عرب نجد وحضرموت واليمن والحجاز
والعراق ومصر إلى غير ذلك , ومن أكراد وترك وغيرهم , وأهل هذه اللجنة أثناء
عملهم يتناوبون في إقامة جماعة منهم في الآستانة. ويكون مقر لجنة الإسلام في
مصر , ومن مصر يبعثون الوفود إلى سائر بلاد الإسلام , وكذلك الدعاة والوعاظ
ليسود الأمن والأمان، لا للحرب والطعان، بل لإشاعة العلوم وإنقاذ المظلوم، ثم
إن كل أمير يبقى أميرًا على إمارته ويعقد بها مجلس شورى أيضًا , وكل هذه
الأشياء بانتخاب الأمة كشأن أهل الغرب , لكن على طريق الشرع.
ومجلس الشورى يقنن القوانين في المسائل غير المنصوصة شرعًا , ويعقد
المعاهدة بين جميع الأمراء وبين الخليفة الأعظم , ويتعاهد بلادهم ويرسل إليها
العلماء والحكماء والمهندسين , والنفقات في ذلك عليهم بالمعروف , ويحملهم على
إنشاء المدارس وتأمين الطرق ومنع الظلم وفتح أبواب التجارة، وليصلحوا من
شأنهم وجنودهم بكل قوة وعدة يستطيعون بها دفع هجوم قطاع الطريق وكل فساد.
وهم تبع لخليفتهم إمام العدل والأمان , وجندهم مع جنده جند سلطنة واحدة.
هذا ما أدعوكم إليه، وهو لا ينقص فائدة عن المدارس التي تصرفون فيها
الألوف من الدنانير، بل لا نسبة بين ذا وذا، وأين الثريا من الثرى. إنكم إن فعلتم
ذلك فقد بؤتم بالشرف وسُدتم جميع المسلمين، وكنتم السبب في نجاتهم , والله
كفيل لكم بالنصر والفلاح والتأييد. واعلموا أنكم إن رمتم ذلك الإصلاح لتجدن في
طريقه مقاومات ودسائس وعراقيل، ولكن من صبر ظفر، ومن سار على الدرب
وصل، ولا جبن يطوِّل عمرًا، ولا شجاعة تقصره، وإن تم لكم هذا المرام فمن ذا
الذي يمكنه أن يطمع في بلادكم، أو يتجرأ عليكم بالتهديد وإثارة الفتن؟ وهل يمكن
أي طماع أن يتصور في ذهنه تقسيم بلادكم واحتلالها، والحق لا يعدم نصيرًا , فإن
في أهل أوربا الحكماء والعقلاء المولعين بحب النوع الإنساني بغير تعيين بلاد
وقوم, فهم بلا شك يساعدون في فعل هذا الخير العميم.
وقد أثبتُّ في هذه الرسالة سبب سقوط المسلمين , ثم سبب خمودهم في هذه
الفترة , وأعقبت ذلك بالدواء النافع لهذا المرض , وهو ليس بالشديد ولا بالصعب
المتعذر في جانب المضار المترقبة المقبلة على سائر الأمة والبلاد , إنما ذلك
يستدعي تدبيرًا وسياسة وصبرًا وتجديد أمل بعد أمل من غير يأس وقنوط , وفي
مدة قريبة تتبين الفائدة بيانًا واضحًا، ولتسمعن من بدو الجبال فضلاً عن أهل المدن
والقرى ما يسر قلوبكم وخواطركم من الطاعة والحمية والتقدم في المعارف وبذل
الأنفس والأموال في محبة القوم والوطن , ولتذهبن الأحقاد والضغائن التي ملأت
أسماعنا من أقوال كثيرين من المسلمين من أن الأتراك يعاملون رعاياهم معاملة
الفاتح لأمة أجنبية، وأن الترك تفتخر وتعتقد أن السلطان إنما هو سلطانهم، وأنهم
أولى من سائر المسلمين بكل سلطة وإمارة إلى غير ذلك من الخيالات. فبما ذكرناه
يذهب ذلك كله ويعود المسلمون إخوانًا كما آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم في أول الإسلام، ولنا الرجاء الأوفر بمبادرة إخواننا المصريين إلى هذه
الأمنية الغالية , ولا نرجو ذلك من غيرهم إلا أن يكون ذلك غير قياس عقولنا ,
وكل ميسر لما خلق له , وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على
سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 14ج 2 سنة 1322.
... ... ... ... ... ... (صالح بن علي اليافعي)
(المنار)
صفوة كلام الكاتب أن مرض المسلمين في أمرين هما الأصل في جميع
الأعراض المؤلمة التي يتوجع منها أهل الشعور منهم؛ وهما استبداد الحكام،
والتقليد في الدين الذي استلزم التقليد في كل شيء. وكل من الأمرين مخالف
للإسلام , ويعلم قراء المنار أن هذا موافق لرأينا , وأننا لا نقاوم شيئًا مقاومتنا لهذين
المرضين الخبيثين , وإنما طريقنا في ذلك محاولة إقناع عقلاء الأمة وفضلائها بذلك
تدريجًا حتى إذا ما كثر المقتنعون بشيء نهض بتعميم الإصلاح فيه من يقيضه الله
تعالى من الزعماء الذين يظهرون في الأمم عند استعدادها للانقلابات الكبرى كما
يظهر المعدون لها لقبول الانقلاب.
أما أمنية الكاتب فهي من جملة ما يصح أن يعرض على المسلمين ليتفكر فيها
أهل الفكر منهم , وقد سبق لنا نشر مثلها في المنار , وأعجبنا منه أن سماها أمنية ,
ولكنه حث عليها بعد ذلك بما يفهم منه أن له رجاءً قويًّا في إنفاذ المصريين لها،
ولكن المصريين يعرفون من أنفسهم أنهم قد استعدوا للقول ولم يستعدوا للعمل
لأنفسهم فضلاً عن العمل لجميع المسلمين. وأن الأقوال التي تنشر في الجرائد
المصرية قد غشَّت مسلمي الأقطار الإسلامية البعيدة عن مصر بالمصريين، ولكنها
لم تغش المصريين بأنفسهم، وغاية ما كان من تأثيرها فيهم أن بغضت إليهم
الاحتلال الإنكليزي زمنًا , وعلقت آمالهم بفرنسا لا بأنفسهم، وقد انقطع حبل هذا
الأمل بالوفاق الفرنسي الإنكليزي، بل بحادثة فشودة قبله، وثبت للمصريين
بالاختبار أن جرائدهم كانت تغشهم لأجل سلب المال منهم وإحراز الجاه عندهم،
وأن الإنكليز خير لهم من أمرائهم السابقين , ويمكنهم أن يرتقوا في أيامهم إذا عملوا.
وكان ذلك محالاً عليهم من قبلهم , وأن الاحتلال المنافي للاستقلال لا يمكن أن
يقاوم بالقيل والقال، والاتكال على من لا يصح عليه الاتكال , فزالت من نفوسهم
فكرة مقاومة الإنكليز بالمرة , ولكن العقلاء يعرفون ما لا ينكره الدهماء أن
الاستقلال هو سعادة الأمم ويتمنونه لبلادهم، ولكن لا يوجد فيهم عاملون لأجل
الاستقلال.
ماذا رأى مسلمو الهند وغيرهم من النائين الذين ينظرون إلى المصريين
بالمناظير المكبرة , فتتمثل لهم صورة كل مصري في شكل أبي الهول؟ هل رأوا
في هذا الهيكل العظيم آيات الحياة الاجتماعية الحقيقية وما هي هذه الآيات؟
يذكر كاتب هذه المقالة المدارس، وبذل الألوف من الدنانير في سبيل إنشائها ,
ويا فضيحة مصر إذا ذكر إنشاء المدارس وبذل المال لها. إن في سوريا ولبنان
عدة مدارس كلية , وليس في القطر المصري مدرسة كلية , فالقطر المصري لم
يصل في الارتقاء بالتعليم - وهو أغنى قطر إسلامي - إلى مساواة قرية زحلة من قرى لبنان، بل تقول جريدة المؤيد: إن المصريين لم يستعدوا ويرتقوا إلى
الدرجة التي تمكنهم من إنشاء مدرسة كلية؟ فلا تغرنك أيها الكاتب الغيور جعجعة
الجرائد المصرية عندما تذكر إنشاء مدرسة ابتدائية، لا سيما إذا كانت منتسبة إلى
جمعية، فليس هاهنا مدارس حقيقية ولا تعليم حقيقي، ولا تغرنك شقشقة بعض
الكاتبين , فإنما هم قوم يبيعون الكلام للعوام وللأمراء العظام , والدليل على ذلك
أنك لا تجد واحدًا منهم يحارب الاستبداد والتقليد اللذين هما أقتل أمراض الأمة، بل
هما أصل جميع مصائبها ورزاياها، ذلك أن محاربة التقليد تنفر منهم العوام تبعًا
لرؤساء الدين، ومحاربة استبداد الملوك والأمراء يحرمهم من الرتب
والنياشين.
انظر كيف ظهر بُعْدَ رجائك بالمصريين , ولرجاؤك بالملوك والأمراء أبعد.
ولم يبق للإصلاح إلا شيء واحد؛ وهو السعي في تربية رجال مستقلين في
أفكارهم وإرادتهم مقتنعين بوجوب السعي في إبطال التقليد والاستبداد , والقيام
بالأعمال العامة التي ترتقي بها الأمة , والله الموفق والمعين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) حذفنا من هنا نبذة في عزيز مصر ونظار حكومتها.(7/581)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]
يوم 28 و31 مارس سنة - 186
نحن الآن سائرون تحت خط السرطان، ويُرى على (لولا) أنها لغرارتها
تقلب وجهها في السماء تفتيشًا عن ذلك الحيوان البشع الشبيه بالسرطان البحري في
شكل أرجله كما هو مرسوم في التقاويم التي جعل فيها من علامات منطقة فلك
البروج، وهي بذلك تستهدف لسخرية (أميل) وزرايته.
تجري بنا السفينة بأقصى سرعة لها تُزجيها رياح شديدة، وقد مدت جميع
شرعها فجعلت حبالها تصر صريرًا. ذلك أنا أردنا اغتنام هذه الرياح الانقلابية [1]
التي يسميها الإنكليز رياح الشمال الشرقي التجارية.
يتدرج النهار في النقص ويكاد الآن يساوي الليل.
تنقذف من باطن المياه أسراب كالغيوم من السمك الطيار، وتسف سفيف
الخطاف، فبينما كان أحد الملاحين البسلاء يوقد مدخنته (عود دخان التبغ)
البارحة؛ إذ لطمه جناح بارد مندي على خدّه فتولاه من ذلك دهش عظيم. ثم التفت
حوله فإذا هو بسمكة من ذلك الصنف تحت قدميه على ظهر السفينة، ويندر أن
تصل أمثالها في انقذافها إلى هذا الارتفاع، وإنما جذبها إليه ضوء المدخنة.
أخوف سكان البحر الأخرى التي لم يرها (أميل) حتى الآن وأهيبها بلا
نزاع، كلاب البحر , وللملاحين في صيدها نوع من الحماسة والنخوة، وقد اصطادوا
غدوة اليوم واحدًا من هذه العفاريت (كما يقولون لأنهم أطلقوا عليها أبشع الأسماء
كلها) وذلك بواسطة هبرة من لحم الخنزير زنتها نحو خمسة أرطال ألقوها إليه
وكان منظر صيده مؤثرًا؛ فاسترعى أبصار جميع المسافرين وبعثهم على الصعود
إلى ظهر السفينة لمشاهدته، وكان أول عمل لهم بعد صيده أن بتروا ذنبه بفأس ,
وهو احتياط أراه ضروريًّا على ما فيه من القسوة؛ لأنه شوهد غير مرة أن إغفاله
كان سببًا في أن يكسر بذلك الطرف المرن ساق بعض القريبين منه أثناء معالجته
التفلت من أيدي صائديه، ويأكل الملاحون أحيانًا صغار كلاب البحر غير أنهم
يقرون بألسنتهم أن لحمها غير جيد، وهم إذا قتلوا هذه الحيوانات فإنما يبعثهم على
قتلها مجرد بغضهم لها، ولشد ما يؤذونها بسبب هذا البغض , وحجتهم فيه أن ما
يصطادونه ويقتلونه منها التقم فلانًا أو فلانًا من أصحابهم، فإن لم يكن هو الذي
التقمه كان أخوه أو أحد أقاربه، ولقد حاولت صدهم عن ممارسة هذه الألاعيب
الوحشية مبينًا لهم أن الإنسان لا ينبغي له أن يعذب عدوه بعد غلبه , فذهب نصحي
أدراج الرياح، ولكني آمل أن لا تفوت (أميل) هذه العبرة.
تبقى لكلاب البحر بعد موتها في السفينة رائحة خبيثة لا تزول إلا بعد بضعة
أيام , وهكذا الأشرار يؤذون حتى بعد موتهم من يسعون لخلاص الناس من شرهم.
قلما يفهم الأطفال من القوانين شيئًا إلا قانون القصاص، ذلك أن الملاحين
اصطادوا دلفينًا [2] عشية اليوم الذي اصطادوا فيه كلب البحر فما كان من (لولا)
إلا أن قالت وهى تنظر إليه نظرًا يشفّ عن الرحمة: لقد استحق هذا، فإني رأيته
التهم كثيرًا من الأسماك الطيارة الجميلة، ولقد صدقتْ فإن ما التهمه منها لم يكن إلا
لقمة واحدة من لقمه، وإن سنة الله في خلقه أن من أَكَل أُكِل , وقد أثبتها الملاحون
لها بجعله عشاء لهم , ولحم هذا الحيوان إذا غلي في الماء كان فيه شيء من الجودة
إلا أنه يكون ناشفًا.
في نحو الدرجة السادسة عشرة والدقيقة الثلاثين من العرض الشمالي أنشأنا
نرى في السماء برجًا جديدًا يسميه الملاحون صليب الجنوب , وهو مؤلف من
خمسة نجوم.
وعجيبة أخرى أبصرناها في ذلك المكان؛ وهي أن المياه تضيء ليلاً , وقد
راع منظرها (أميل) و (لولا) فلم يستطيعا أن يفيقا من التلذذ بجماله , وإن كان
قد بعث فيهما شيئًا من الخوف , فإن كليهما سألاني من ذا الذي أوقد النار في البحر,
ففسرت لهما بما في وسعي ما أعلمه من أسباب هذه الحادثة التي لم تعلم تمام العلم ,
وقد علل العلماء وجود هذا الضوء في الماء بوجود حيوانات مضيئة تشبه النباتات
فيه.
كان ذلك النور من شدة سطوعه بحيث أن (أميل) تناول كتابًا من جيبه وقرأ
فيه على انعكاس ضوئه عن الأمواج الملتهبة هذا البيت من قصيدة لشكسبير وهو:
خير جزء في روحي ... وهي بالتحقيق روحك
نعم إن الله سبحانه لم يفض علينا جميع روحه , وما أقل ما أفيض علينا منه
غير أن هذا القليل الذي يهبه لنا يتصل بروحنا اتصالاً حقيقيًّا [3] . الذي يدهشني من
حادثة ظهور الضوء في البحار أنها تقع عادة في أحلك الليالي. اهـ
***
يوم 3 أبريل سنة - 186
قد صرنا تجاه الرأس الأخضر، ولما رأى الملاحون سكون الريح في هذا
المكان، أدلوا قواربهم وسبحوا لصيد السلاحف البحرية، وهذه السلاحف من عادتها
أن تظهر قريبًا من سطح الماء فتكون كأنها نائمة فوقه , فتصطاد بنوع من السهام له
أربعة أسنان يسميها ملاحو الإنكليز بالحبوب , وكل ما يصاب منها بتلك السهام
يجذب بعد صيده إلى القوارب بواسطة حبال تكون في أيدي الرماة، وقد رأيتهم
اصطادوا منها في ساعتين ثمانية زنة كل منها من خمسة عشر إلى خمسة وأربعين
رطلاً إنكليزيًّا. اهـ
***
يوم 4 أبريل سنة -186
أعوزتنا الرياح الانقلابية التي كانت مواتية لنا أحسن المواتاة على جرينا في
فضاء المحيط، وعوضنا عنها الآن رياحًا خفيفة متناوحة تهب على التعاقب من
جهات مختلفة للأفق , وانتقبت السماء في مواضع متفرقات منها بسحب بيضاء ,
وسفرت في مواضع أخرى بزرقة شاحبة جميلة، وللشمس في هذا المكان شروق
يخطف الأبصار ضياؤه؛ فلا تقوى على احتماله , وأما غروبها ففخيم جليل. اهـ
***
يوم 9 أبريل سنة -186
تمطرنا السماء شآبيب ووابلاً حارًّا. وكل ما نراه يؤذن باقترابنا من خط
الاستواء , فترى الملاحين على ظهر مقدم السفينة مشتغلين بوضع لحى كاذبة لهم
وتغطية رءوسهم بعوارٍ من الشعر , وارتداء ثياب بشعة، حتى إنه ليخيل للرائي
أنهم في أمس عيد المرافع، ويشهد (أميل) هذه الضروب من الاستعداد شهادة
الخائف؛ لعلمه حق العلم بما سيلاقيه، فإن كل تلميذ بحري لم يجتز خط الاستواء
لابد أن يقتحم صنوف بلائه ومحنه كما هي العادة , فلا تزال شعائر الملاحين
القديمة متبعة , وإن كانت قد فقدت كثيرًا من مظاهرها الصبيانية الوحشية التي
كانت تجعلها مخوفة جدًّا في قلب المبتدئ في الملاحة، وعلى كل حال فالملاح
طفل, ولولا ذلك لما لعب بالمخاطر ملاعبة الباسل المقدام. اهـ
***
يوم 13 أبريل سنة - 186
اصطبغ (أميل) بالمعمودية البحرية فصار الآن من أولاد إله البحر. حالة
الجو في اختلاف وتغير، فمن رياح شديدة إلى سكون عام , ومن مطر هتان إلى
شمس محرقة ترمي رءوسنا بسهام أشعتها العمودية.
لفتنا الربان إلى إعصار من الأعاصير المائية التي يخشاها الملاحون بحق ,
فرأيناه من مسافة بعيدة , وأكثر ما تثور هذه الأعاصير في جهة خط الاستواء.
اهـ
***
يوم 15 أبريل سنة - 186
صادفتنا سفينة قافلة من الهند أو من الصين إلى بريطانيا العظمى , وآذنتنا
بإشاراتها أنها مستعدة لحمل ما نُحملها من الكتب , ولما كان تبادل صنائع المعروف
مما تحفظ به المودة في البحر أرسلنا لها بعض صحف إنكليزية مضى على نشرها
ستة أسابيع , ولكن أخبارها يكون لها من الجدة عند ركابها ما لصحف الصباح عند
سكان لوندره , وقد كتبت وكتب (أميل) كلمتين لصديقنا الدكتور وارنجتون. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
(1) الرياح الانقلابية هي التي تهب بين دائرتي الانقلابيين من قطعة فلك البروج.
(2) الدلفين صنف من خنازير البحر.
(3) يعني بالروح الإلهي ما به حياة الخير والفضيلة والحق وهذا شيء من الله ليس لغيره صنع فيه فأضيف إليه.(7/590)
الكاتب: حافظ إبراهيم
__________
إلى مصر
حطمت اليراع فلا تعجبي ... وعفت البيان فلا تعتبي
فما أنت يا مصر دار الأديب ... ولا أنت بالبلد الطيب
وكم فيك يا مصر من كاتب ... أقال اليراع ولم يكتب
فلا تعذليني لهذا السكوت ... فقد ضاق بي منك ما ضاق بي
أيعجبني منك يوم الوفاق ... سكوت الجماد ولعب الصبي
وكم غضب الناس من قبلنا ... لسلب الحقوق ولم تغضب
أنابتة العصر إن الغريب ... مجد بمصر فلا تلعبي
يقولون في النشء خير لنا ... وللنشء شر من الأجنبي
أفي الأزبكية مثوى البنين ... وبين المساجد مثوى الأب
وكم ذا بمصر من المضحكات ... كما قال فيها أبو الطيب
أمور تمر وعيش يمر ... ونحن من اللهو في ملعب
وشعب يفر من الصالحات ... فرار السليم من الأجرب
وصحف تطن طنين الذباب ... وأخرى تشن على الأقرب
وهذا يلوذ بقصر الأمير ... ويدعو إلى ظله الأرحب
وهذا يلوذ بقصر السفير ... ويطنب في وِرده الأعذب
وهذا يصيح مع الصائحين ... على غير قصد ولا مأرب
وقالوا دخيل عليه العفاء ... ونعم الدخيل على مذهبي
رآنا نيامًا ولما نُفِق ... فشمر للسعي والمكسب
وماذا عليه إذا فاتنا ... ونحن على العيش لم ندأب
ألفنا الخمول ويا ليتنا ... ألفنا الخمول ولم نكذب
وقالوا (المؤيد) في غمرة ... رماه بها الطمع الأشعبي
دعاه الغرام بسن الكهول ... فجن جنونًا ببنت النبي
فضجّ لها العرش والحاملوه ... وضج لها القبر في يثرب
ونادى رجال بإسقاطه ... وقالوا تلوّن في المشرب
وعدُّوا عليه من السيئات ... ألوفًا تدور مع الأحقب
وقالوا لصيق ببيت الرسول ... أغار على النسب الأنجب
وزكَّى أبو خطوة قولهم ... بحكم أحدٌ من المضرب
فما للتهاني على داره ... تساقط كالمطر الصيب
وما للوفود على بابه ... تزف البشائر في موكب
وما للخليفة أسدى إليه ... وسامًا يليق بصدر الأبي
فيا أمة ضاق عن وصفها ... جنان المفوه والأخطب
تضيع الحقيقة ما بيننا ... ويصلى البريء مع المذنب
ويُهضم فينا الإمام الحكيم ... ويُكرم فينا الجهول الغبي
على الشرق مني سلام الودود ... وإن طأطأ الشرق للمغرب
لقد كان خصبًا بجدب الزمان ... فأجدب في الزمن المخصب
القصيدة لشاعر مصر حافظ أفندي إبراهيم , ويعني بقوله (يوم الوفاق)
الوفاق الفرنسي الإنكليزي على مسألتي مصر ومراكش , وبقوله: السفير: اللورد
كرومر عميد الدولة المحتلة في مصر. ويعني بقوله: (دخيل) ما يلغط به بعض
الأحداث هنا إذ يسمون السوريين المقيمين في مصر (دخلاء) حتى من اعتبره
القانون مصريًّا، ويعني بقوله: (فما للتهاني على داره) ... إلخ، ما ذكر في المؤيد
من أن السلطان أنعم على الشيخ علي يوسف صاحبه بمداليا الامتياز الذهبية
والفضية، وما نشر فيه من أسماء المهنئين بهذا الإنعام. وقوله: (وما للوفود على
داره) البيت غير صحيح فلا وفود ولا وفد , ولكنه من باب المبالغة الشعرية، ثم
إن خبرهذا الإنعام لما يتحقق , وقد كذبته جريدة الأهرام , وسكت لها المؤيد فلم
يؤكد الخبر.
والذي يقصده من الأبيات في حادثة زوجية صاحب المؤيد أن المصريين لا
ثبات لهم ولا اتفاق على شيء، فقد قامت قيامتهم على الشيخ علي يوسف عندما
شاع خبر عقده على بنت السادات في بيت البكري بدون حضور أبيها ولا إذنه ,
وسلقته بألسنة حداد في كل سامر وناد، ثم لم يلبثوا أن سمعوا إشاعة إنعام
السلطان عليه حتى انبرى كثيرون لتهنئته، وقد كتبنا هذه الكلمات لنزيل اشتباه من
اختلفوا في القصيدة أتتضمن الانتصار للمؤيد أم لخصومه، وليعتبر بما قال شاعر
مصر في قصيدته , وما وصف به قومه وجرائدهم كاتب المقالة في ضعف
المسلمين وأمثاله من البعداء عن هذه الديار.
__________(7/594)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(مقدمة ابن خلدون مع رحلته)
مقدمة ابن خلدون غنية عن التعريف والتقريظ , لا ينكر عارف مكانتها في
فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع، ولا فائدتها في ترقية العقل واللسان. وقد طبعت
على حدتها مرات كثيرة، وطبعها أخيراً السيد عمر الخشاب الكتبي الشهير، وطبع
على هامشها رحلة المؤلف، وجعل ثمنها مع ذلك خمسة قروش.
ولو طبع الرحلة وحدها وباع النسخة منها بخمسة قروش؛ لما شككنا في
رواجها لما فيها من الفوائد العلمية والأدبية والتاريخية، والقصائد والتراجم
والحوادث المحررة بذلك القلم البليغ. وهذه الطبعة بحروف إستانبولية جميلة لا
كطبعة العقد الفريد، وهي تطلب من مكتبة الطابع الشهيرة , ولا شك أن ستلاقي
رواجًا عظيمًا.
***
(كتاب تطبيق الإجراءات القانونية على مواد قوانين المحاكم الأهلية)
لا يستغني من يقيم في بلاد عن معرفة قوانينها التي يعامل بها في الإجارة
والقضاء , فإن الحاجة إليها لتعرض للإنسان في أوقات يعوزه فيها المحامي وغيره
من العارفين؛ فيحار ولا يدري ما هو صانع. وقد أحس بهذه الحاجة أحمد أفندي
حسن رئيس المحضرين في محكمة الاستئناف الأهلية , فألف كتابًا في ذلك , أرشد
فيه محتاج معرفة القانون إلى ما ينبغي له عمله عند عروض الحاجة , فبين له حق
إقامة الدعوى وكيفيتها، ورسومها ومواعيدها، وطرق استئنافها وتنفيذ الأحكام
وغير ذلك. وأودع كتابه هذا مجموعة المواعيد القانونية، وقانون القرعة العسكرية
والقانون النظامي، ولائحة التنظيم ولائحة المحاكم الشرعية، وغير ذلك من
القوانين واللوائح والأوامر العالية الناسخة والمخصصة. وقد طبع الكتاب في
مطبعة الشعب , فزادت صفحاته على الخمسمائة , وجعل ثمن النسخة منه عشرين
قرشًا , وهو يطلب من مكتبة الشعب بمصر.
***
(صحة المرأة في أدوار حياتها)
(وهو مختصر في القواعد الصحية التي ينبغي أن تتبعها الفتاة حال البلوغ
والزواج , والمرأة في الحمل والولادة والنفاس والرضاع ووظيفتها نحو أطفالها)
تأليف الدكتور أحمد أفندي عيسى الذي كان طبيبًا في مستشفى المجاذيب. وقد قال
المؤلف أنه اعتمد في تأليفه هذا على أشهر المؤلفات الفرنسية والإنكليزية الحديثة،
والكتاب مؤلف من 19 بابًا في المرأة جسمها وعقلها وبلوغها, وفي الزواج سنه
وموانعه، وفي العقم والحمل والوضع والإجهاض والرضاعة والأطفال، وما
يعرض للنساء في جميع الأطوار من الأمراض , وما يعرض كذلك للأطفال،
وكيفية المعالجة ومداواة الصحة، وكيفية التربية الجسدية بالتفصيل. وفي هذه
الأبواب فصول كثيرة وفوائد غزيرة، لا يستغني أحد عن مطالعتها , ولا مطالع
إلا ويستفيد منها على ما فيها من الاصطلاحات الطبية، وإننا نذكر للقارئ نموذجًا
من الفصل الثالث من الباب الأول ليرى الفرق بين الإشارة إلى هذه الأبواب وبين
ما يدخل فيها من الفوائد. وهذا الفصل قد عقده المؤلف لبيان الوقاية الصحية في
الزواج قال:
(للمدنية الحاضرة سيئات بقدر ما لها من الحسنات , فمن سيئاتها أنها سهلت
انتشار كثير من الأدواء العفنة المعدية التي تنتقل بالوراثة من السلف للخلف , فلكل
شيء آفة من جنسه. وهذه الأدواء تفعل بالأمم خفية ما كانت تفعله الأوبئة ظاهرًا في
سالف الزمان , فتنخر في جسم الأمة نخر السوس في عيدان الخشب من تصرم
حبالها وتقطع أوصالها , فتوردها موارد المهلكة والفناء. كل ذلك والأمة لاهية كأنها
في حالة خدر عام , فلا تكاد تستقيظ إلا والبلاء محيط بها إحاطة السوار بالمعصم) .
ثم بين أن اتقاء هذه الأدواء يكون باتقاء الأمراض التي تنتقل بالزواج والوراثة ,
وقال:
(وبما أن الوراثة هي انتقال الطباع والصفات والحواس من الأسلاف
للأعقاب؛ لزم قبل الزواج أن يلاحظ خلو الزوجين من الأمراض الوراثية أو
المعدية أو المسببة لهلاك أحدهما إذا تزوج , وأهم ما يجب الالتفات إليه والتبصر
فيه عند الزواج الأحوال الآتية وهي:
(1) القرابة (2) السيلان الصديدي (3) الزهري (4) السل الرئوي (5)
الإدمان على السكر (6) الأمراض العصبية (7) تشوه أعضاء التناسل (8)
ضيق الحوض (9) التشوهات الخلقية (10) أمراض القلب والكبد والكلى
(11) الأمراض الدياتيزية (أي المتعلقة بالبنية) (12) الأورام.
وقد ذكر في الكلام على السيلان والزهري ما يجب أن ينعم النظر فيه الشبان
المصريون الذين اعتادوا الفواحش غير مبالين بأرواحهم ولا بأجسادهم ولا ببلادهم
وأمتهم، وقال في الإدمان على السكر الذي فشا فيهم ما نصه:
(الإدمان على السكر أو التسمم الغولي هو نتيجة الاستمرار على شرب
الخمور سواء كان متتابعًا أو متقاطعًا، وليس هو التأثير الوقتي الناتج عن شرب
كمية عظيمة منها في آن واحد المعبر عنه بالسكر الذي تزول أعراضه بمجرد
توزيع المشروب في البنية.
وللإدمان على السكر تأثير واضح في الشخص وفي سلالته؛ فأما تأثيره على
الشخص فمعلوم للمدمنين عليه وغيرهم , وأما تأثيره على النسل فإن الشخص
المتسمم به ينتقل سمه وعلله إلى ذريته من بعده فهو خطر عليه وعلى عائلته
وذريته معًا، وعلى الأمة والنوع الإنساني بالتالي.
ولقد عرف بالبحث أن الغول (الكئول) يسكن في أعماق العناصر التشريحية
للجسم , وعلى الخصوص في الخلايا العصبية التي تضطرب إذ ذاك تغذيتها
ووظائفها، ويأخذ هذا الاضطراب والاستحالة في وظائف الخلايا في الانتشار
بطريق التلقيح؛ وإذا كان الغول يندي أخلاط الجسم وأنسجته , وبينها الخصية
والمبيضين , فلا غرابة بعد ذلك أن تكون الحيوانات المنوية والبويضات نفسها قد
غشيها من الفساد ما غشيها، أو تكون ذرية المدمنين قد أصيبت بالسقوط العصبي
الذي يدل عليه سرعة التهيج والتشنجات العصبية التي تحدث في سن الصغر
والصرع والبله، وضعف القوى العصبية العضلية التي تحدث في سن الشيخوخة.
ومما يزيد الإدمان على السكر خطرًا أنه بعد أن يقرع الشخص يتبعه في نسله
وذريته , ومن يولد من أبوين مدمنين وليس هو بمدمن , فإنه يحمل آثار الضعف
البنوي، ويكون عرضة للإصابات باضطرابات قد تنتهي بالعته أو الشلل أو العقم ,
وقد أثبت بالتجارب هذه الوراثة كل من توميف ومارسيه وكرونر ولازيج
وديجيرين وجرنيه وفورنيه ولانسروه وفيريه وكثيرون غيرهم.
وبما أن تأثير الخمور يكون بالأخص على المجموع العصبي، فأولاد المدمنين
عليها يكونون في الغالب عصبيين، فيصابون إما بآفات كبيرة في المراكز العصبية،
وإما باضطرابات في الوظائف العصبية فقط، وكذلك يصابون بعلل وراثية شاذة
شبيهة بالعلل الوراثية الزهرية أو الدرنية العديمة القياس كالعلل الناشئة عن فساد
التغذية (الديستروفيات) ووقوف النمو وغرابه الخلقة.
وللوراثة هنا كذلك تأثير قاتل على الجنين وعلى الطفل بعد ولادته حتى إنه قد
تلاشت بذلك عائلات بأجمعها في عقبين أو ثلاثة أعقاب. وزيادة على ما تقدم من
العلل قد تصاب ذرية المدمنين بتشوهات مضاعفة كعدم تساوي وتماثل الجمجمة أو
صغرها أو استسقاء الدماغ أو قصر القامة أو بتأخير أو انحراف في نمو القوى
العقلية كضعف الذاكرة والعبط والبله , أو تحفظ الحالة الصبيانية , أو أن تكون
سريعة التهيج والغضب , وكثيرًا ما تصاب كذلك بالهيستريا وما يتبعها من العلل
الحاسية والنفسانية كخلل التوازن في القوى العقلية , وعدم الاكتراث وضعف
الإرادة وشدة الانفعال , وتارة بحسن الأخلاق أو فسادها [1] .
فيعلم من ذلك ومن كثرة التجارب التي عملت أن وراثة الإدمان على السكر
هي حقيقية لاريب فيها، وعلى ذلك يجب منع زواج المدمنين على السكر في حالة
الخوف من رجوع الداء إذا لم يمتنع صاحبه عن الاستمرار فيه , وكذلك متى كانت
النتائج الناجمة عنه ذات خطر) اهـ وثمن الكتاب عشرون قرشًا فنحث كل قارئ
على مطالعته.
(قصة الأخ الغادر وما يتبعها)
لقد أحسن صاحب (مسامرات الشعب) في اختيار قصصها هذه الكَرة ما لم
يحسنه من قبل؛ إذ اهتدى إلى قصص متعددة في الصورة متحدة في الحقيقة , فيها
روح من الأدب والفضيلة؛ أولها: قصة الأخ الغادر، والثانية: قصة (لو تعارفوا
ما تآلفوا) والثالثة: قصة (الأمريكية الحسناء) والرابعة: قصة (برح الخفاء) ،
وقد صدرت الثلاث الأول، وموضوعها: نبيل فاضل من الفرنسيس عشق فتاة
مهذبة خياطة زكية الطينة، فتحبب إليها بالمجاملة وحسن المعاملة , فأحبته على
تنكره وجهلها به، فخطبها إلى جدتها الكافلة لها فرضيتا به , فأودعها حملاً قبل
تسجيل عقد الزوجة , فانقطع عنها , فظنت هي وجدتها أنه خانها وهجرها , فاشتد
حزنها , وما كان هجره لهما بل للحياة الدنيا , فإنه كان يلاعب صديقًا له بالسيف ,
فسبقت إليه ضربة ففقأت عينه وفاضت روحه , وكان حدث صديقه القاتل بفاتحة
حديثه مع الفتاة، وبما عهد إلى المسجل من تسجيل عقد الزوجية , وإرجائه
الإفصاح باسم الفتاه له وللمسجل , فترك المسجل في ورقة العقد بياضًا ليكتب فيه
الاسم.
هذه فاتحة القصة أو القصص , وهى ليست بشيء , والحديث المفيد يبتدئ
بعدها عندما أراد الصديق القاتل والمسجل البحث عن الزوجة المستودعة وإرث
بيت ذلك النبيل ولقبه (مركيز) وكان له أخ خليع فاسد الأخلاق , وهو الأخ
الغادر , وحال دون ذلك ليكون هو وارث أخيه , فاستولى على أوراقه وأحرق منها
كل ما له تعلق بتلك المرأة، وعرف مكانها فخادعها حتى أخرجها من باريس إلى
الريف ليخفيها عن الصديق والمسجل , وذلك مفصل في القصة الأولى.
وترى في الثانية شابين التقيا وتحابا في حرب فرنسا لتونكين وهما ابن
المركيز المقتول الذي لا يعرف له أبًا , وابن المركيز الوارث بالباطل تحت قيادة
الضابط القاتل، وعودتهما إلى باريس معه وكانت والدة اليتيم قد أثرت، ووالد
الآخر قد أعدم حتى أشرف على بيع دارهم القديمة للدائنين. تلك أثرت بالعمل مع
الفضيلة والاستقامة، وذاك أملق بالمقامرة وسوء السيرة، ثم علم الأخ الغادر بأن
صديق ابنه هو ابن عمه، فحاول الإيقاع بينهما بعدما أحب ابن أخيه ابنته وأحبته ,
ورجوا أن يكونا زوجين، فكلف أبوها الخاطب بأن يتعرف بنسبه تعجيزًا له. وكان
الضابط بعد عودته عاود السعي في معرفة زوج صديقه المقتول , وكان وعد والدته
بذلك , فظهرت له بوادر النجاح , وكل هذا من مباحث القصة الثانية.
وأما الثالثة فموضوعها أن غانية أمريكية جاءت مع والدتها إلى باريس وبنت
لها فيها قصرًا مشيدًا، وأظهرت من دلائل البذخ والترف ما ألفتَ إليها أعناق شبان
باريس , وكانت من أصل وضيع، وقد جاءت تحتال بذلك على اصطياد زوج من
النبلاء , فأتقنت الحيلة , وكاد ابن المركيز أن يقع في فخها.
وفي القصص الثلاث من تقبيح الخلال الفاسدة والأخلاق القبيحة، والتنفير من
القمار , والترغيب في الفضائل لاسيما الوفاء وحسن الإخاء والشجاعة وكرم
الأصل - ما فيه عبرة للقارئ , ولذلك أطلنا من الكلام عليها , وستكون القصة الرابعة
كاشفة للغطاء أو مبينة للانتهاء، ولذلك سميت (برح الخفاء)
__________
(1) ومن التجارب التي عملت بمناسبة ذلك أن جيء بكلبة تسممت بالغول , ثم أطلق عليها كلب سليم فولدت منه 12 كلبًا مات جميعها في ظرف 67 يومًا , وكان سبب وفاتها آفات في الخلايا سببها الاستحالة الغولية اهـ، من هامش الأصل.(7/596)
16 شعبان - 1322هـ
25 أكتوبر - 1904م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
الناسخ والمنسوخ في القرآن
(س 78) السيد أحمد منصور الباز في (طوخ القراموص) : ثبت أن في
القرآن ناسخًَا ومنسوخًا , وأن من المنسوخ ما نسخ حكمه وبقي رسمه، ومنه
العكس كقوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة نكالاً من الله) قد ثبت في
الصحيح أن هذا كان قرآنًا يتلى. ومما نسخ حكمه وبقي رسمه , ولا يعلم له
ناسخ كما في الصحيح: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا) إلخ،
فهل من حكمة ترشدنا إليها بمناركم وضاح السبل في إبقاء رسم الناسخ مع بقاء
حكمه، وفي نسخ لفظ مع بقاء حكمه , وعدم وجود ناسخ له.
(ج) قد تقدم في التفسير المنشور في هذا الجزء أهم أحكام النسخ وحكمته ,
ومنها: الإشارة إلى أن حكمة بقاء الآية التي نسخ حكمها التذكير بنعمة النسخ ,
والتعبد بتلاوتها، أما نسخ لفظ الآية مع بقاء حكمها , أو نسخ لفظها وحكمها معًا
فمما لا يجب علينا اعتقاده وإن قال به القائلون ورواه الراوون، وقد علله القائلون
به والتمسوا له من الحكمة ما هو أضعف من القول به، وأبعد عن المعقول.
واعلم أن القرآن كلام الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو
أصل الدين وأساسه، أحكمت آياته , فلا تفاوت فيها ولا اختلاف ولا تناقض ولا
تعارض , وما ذكروه من الجمل التي قالوا: إنها كانت من القرآن ونسخ لفظها لا
تضاهي أسلوب القرآن ولا تحاكيه في بلاغته , والتصديق بذلك مدعاة لتشكيك
الملحدين في القرآن.
وقد ثبت أن بعض الزنادقة كانوا في زمن الرواية وتلقي الحديث من الرجال
يلبسون لباس الصالحين ويضعون الحديث، وكان يروج على الناس لاستيفائهم
شروط الرواة الظاهرة من العدالة وحسن الحفظ وغير ذلك، حتى إن بعضهم تاب
ورجع عما كان وضعه ولولا اعترافه به لم يعرف، فما يدرينا أن بعضهم مات ولم
يتب ولم تعرف حقيقة حاله، وبقي ما وضعه رائجًا مقبولاً لم يطعن في سنده أهل
النقد. لأجل هذا لا يعتمد على الحديث إلا إذا كان مع صحة سنده موافقًا لأصول
الدين الثابتة بالقطع، ولغير ذلك من الحقائق القطعية ككون الشمس لا تغيب عن
الأرض كلها عندما تغيب عنا كل يوم، وإنما تغيب عنا وتشرق على غيرنا، إلا إذا
أمكن الجمع، ولا يؤخذ بأحاديث الآحاد الصحيحة السند في العقائد لأنها ظنية باتفاق
العلماء والعقلاء والله تعالى يقول: {وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (النجم:
28) ومثلها آيات في التشنيع على الكافرين باتباع الظن.
وإذا كان القرآن لا يثبت إلا بالتواتر المفيد للقطع، وكان كون الآية منسوخة
فرع كونها آية، كان لنا بل علينا أن لا نصدق بأن كون هذا القول آية منسوخة إلا
إذا روي ذلك بالتواتر من أول الإسلام كما روي القرآن.
وليس فيما زعموا أنه قرآن نسخت تلاوته شيء متواتر. وهذا الذي رووه من
حديث: (الشيخ والشيخة إذا زنيا) مروي عن أبيّ بن كعب وروي أيضًا من
حديث أبي أمامة عن خالته العجماء وعن عمر رضي الله عنه , وليس هذا من
التواتر في شيء، وكذلك الأثر الذي فيه: (لو كان لابن آدم واد لابتغى إليه ثانيًا)
... إلخ، وفي رواية: (لو كان لابن آدم واديان) ... إلخ، فهو موقوف على
أبيّ، فإن سلمنا أن السند إليه صحيح فأين التواتر الذي لا يكون إلا برواية جمع
يؤمن تواطؤهم على الكذب؟
وجملة القول أنه لم يرو في هذا المقام حديث صحيح السند إلا قول عمر في
الشيخ والشيخة إذا زنيا، وهو من رواية الآحاد، ولذلك خالف الخوارج وبعض
المعتزلة في الرجم ولم يكفرهم أحد بذلك. وأنا لا أعتقد صحته، وإن روي في
الصحيحين، فمن أنكر عليّ من المقلدين ذلك فليكتب إليّ لأسرد له عشرات من
أحاديث الصحيحين لم يأخذ بها أئمته، وفقهاء مذهبه وسائر المذاهب الذين لا ينكر
على أحد منهم شيئًا، وحجتي واضحة وهو أن المقام مقام إثبات القرآن , وطريق
إثباته التواتر بالإجماع , فلو تواترت الرواية عن عمر أو غيره وأجمع عليها؛
لقلت بأن عمر قال ذلك، والأحاديث الصحيحة الصريحة المسندة المرفوعة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم التي خالفها الفقهاء كثيرة وهي في الأعمال التي يجب
أخذها من أحاديث الآحاد بالإجماع , وعدم اعتقاد صحة هذا الحديث لا يترتب عليه
ترك مشروع , ولا إثبات خلافه , فلا ضرر فيه، وإنما الضر في ترك ما تركوه ,
ولعلك تقول: ما هو جواب مثبتي هذا الضرب من النسخ , فأقول: قال السيوطي
في الإتقان ما نصه:
(الضرب الثالث نسخ تلاوته دون حكمه , وقد أورد بعضهم فيه سؤالاً وهو:
ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم؟ وهلا أبقيت التلاوة ليجتمع العمل
بحكمها وثواب تلاوتها؟ وأجاب صاحب الفنون بأن ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه
الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق
مقطوع به , فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام , والمنام
أدنى طريق الوحي) اهـ، وهو كما ترى لا قيمة له فإن الوحي للأنبياء كله قطعي،
وبذل النفوس هنا لا معنى له. والأحكام التي رويت لنا عن الآحاد فأفادت الظن
كانت يقينية عند الذين سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم , فإذا كانوا سمعوا
الآية من النبي، ثم فرضنا أنه أمرهم بتركها وعدم قراءتها مع بقاء العمل بها، أفلا
يقال ما هي حكمة ذلك بالنسبة إليهم وإلى من بعدهم.
* * *
مذهب العامي واتباعه الرخص
(س79) ومنه: يقال: العامي لا مذهب له، فهل يجوز له أن يقلد كل
مذهب في رخصه ولو بسبب عذر ضعيف.
(ج) قولهم: العامي لا مذهب له، صحيح لا نزاع فيه , فإن ذا المذهب هو
من له طريق في معرفة الأحكام بدلائلها، والواجب على العامي أن يسأل أهل الذكر
أي العارفين بالكتاب والسنة عن كل مسألة تعرض له قائلاً: ما هو حكم الله تعالى
في هذه المسألة , فما أخبروه به عن الله وعن رسوله وجب عليه الأخذ به، إذا
اعتقد أن المسئول ثقة عارف , ولا يجوز له أن يتبع رأي أحد يخالف ذلك , فإذا
بلغه عن الشارع في أمر عزيمة ورخصة فله أن يعمل بالرخصة عند الحاجة
ويجعل العزيمة هي الأصل. ومن يسأل عن رخص المذاهب وآراء العلماء ويتبع
أسهلها عليه وأقربها من هواه فهو متلاعب بدينه.
* * *
الوصية المنامية المنسوبة إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
(س 80) أرسل إلينا السيد صالح السرجاني بمصر صورة هذه الوصية
وسألنا بيان رأينا لقراء المنار وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم , قال الشيخ أحمد خادم
الحجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام: رأيت النبي صلى الله عليه
وسلم في المنام في ليلة الجمعة وهو يقرأ القرآن العظيم , فقال لي: يا شيخ أحمد ,
المؤمنين حالهم تعبان من شدة معصيتهم , فإني سمعت الملائكة وهم يقولون: تركوا
ذكر الله سبحانه وتعالى , فأراد ربك أن يغضب عليهم , فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: يا رب ارحم أمتي فإنك أنت الغفور الرحيم، وأنا أعلمهم بذلك يتوبوا , وإن
لم يتوبوا الأمر إليك , وهم قد ارتكبوا المعاصي والكبائر , وتركوا الدعاء , واتبعوا
الزنا , ونقصوا الكيل , وشربوا الخمور , واشتغلوا بالغيبة والنميمة , واحتقروا
الفقير والمسكين ولا يعطوا الفقير حقه , وتركوا الصلاة , ومنعوا الزكاة. فأخبرهم
يا شيخ أحمد بذلك , وقول لهم: لا تتركون الصلاة , وأتوا الزكاة , وإذا مر
عليكم تارك الصلاة لا تسلموا عليه , وإذا مات لا تمشوا في جنازته , وانتبهوا
واستيقظوا , واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن , وقل لهم: الساعة قد قربت
ولا يبقى من الدنيا إلا القليل , وتظهر الشمس من مغربها , فأرسلت إليهم وصية
بعد وصية فلم يزدادوا إلا طغيانًا وكفرًا ونفاقًا، وهذه آخر وصية. فقال الشيخ أحمد:
قد استيقظت من منامي فوجدت الوصية مكتوبة بجانب الحجرة النبوية بخط
أخضر , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قرأها ولم ينقلها كنت خصمه يوم
القيامة , ومن قرأها ونقلها من بلد إلى بلد كنت شفيعه يوم القيامة. فقال الشيخ أحمد:
والله العظيم قسمًا بالله ثلاثًا إن كنت كاذبًا فأخرج من الدنيا على غير الإسلام ,
{فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:
181) ومن شك في ذلك فقد كفر , وعليكم بتقوى الله تنجوا من المهالك , وصلى
الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. تمت بالتمام والكمال , والحمد لله
على كل حال , وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم) اهـ بنصها
المطبوع المنشور.
(المنار)
إننا نتذكر أننا رأينا مثل هذه الوصية منذ كنا نتعلم الخط والتهجي إلى الآن
مرارًا كثيرة , وكلها معزوة كهذه إلى رجل اسمه الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية.
والوصية مكذوبة قطعًا لا يختلف في ذلك أحد شم رائحة العلم والدين، وإنما يصدقها
البلداء من العوام الأميين، ولا شك أن الواضع لها من العوام الذين لم يتعلموا اللغة
العربية، ولذلك وضعها بعبارة عامية سخيفة لا حاجة إلى بيان أغلاطها بالتفصيل.
فهذا الأحمق المفتري ينسب هذا الكلام السخيف إلى أفصح الفصحاء وأبلغ
البلغاء صلى الله عليه وآله وسلم , وزعم أنه وجده بجانب الحجرة النبوية مكتوبًا
بخط أخضر , يريد أن النبي الأمي هو الذي كتبه , ثم يتجرأ بعد هذا على تكفير
من أنكره. فهذه المعصية هي أعظم من جميع المعاصي التي يقول: (إنها فشت
في الأمة) وهي الكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام , وتكفير علماء أمته
والعارفين بدينه , فإن كل واحد منهم يكذب واضع هذه الوصية بها، وقد قال
المحدثون: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من
النار) قد نقل بالتواتر , ولا شك أن واضع هذه الوصية متعمد لكذبها، ولا ندري
أهناك رجل يسمى الشيخ أحمد أم لا؟
أما تهاون المسلمين في دينهم وتركهم الفرائض والسنن، وانهماكهم في
المعاصي فهو مشاهَد , وآثار ذلك فيهم مشاهَدة , فقد صاروا وراء جميع الأمم بعد
أن كانوا بدينهم فوق جميع الأمم {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} (فصلت: 16) إلا أن يتوبوا , ولا حاجة لمن يريد نصيحتهم بالكذب على الرسول ,
ووضع الرؤى التي لا يجب على من رآها أن يعتمد عليها شرعًا، بل لا يجوز له
ذلك إلا إذا كان ما رآه موافقًا للشرع. فالكتاب والسنة الثابتة بين أيدنا وهما مملوآن
بالعظات والعبر. والآيات والنذر.
* * *
كيفية فرض الصلاة والمراجعة فيه
(س81) عوض أفندي محمد الكفراوي في (زفتى) : أحقيقة ما يقال أو
يروى من أن الصلاة كانت أول ما فرضت خمسين صلاة، وأن النبي صلى الله
عليه وسلم راجع فيها ربه بإرشاد موسى عليه السلام حتى جعلها الله خمسًا في
الفعل وخمسين في الأجر؟ أفيدونا ولكم الأجر من الله ولا زال مناركم هاديًا
للمسلمين.
(ج) إن ما ذكر مروي في حديث المعراج، وقد اختلف فيه المسلمون على
صحة سنده، المثبتون له وهم الجمهور قد اختلفوا في كونه وقع يقظة أم منامًا ,
واستدل القائلون بأنه منام برواية شُريك عند البخاري إذ يقول النبي صلى الله عليه
وسلم في آخرها: (ثم استيقظت) وفي رواية له رأى ما رأى وهو بين النائم
واليقظان. ومسألة المراجعة على كل حال من المتشابهات، أو من الشئون الغيبية
الروحية، وقالوا: إن من حكمتها تكرار المناجاة وما يتبعها من منة التخفيف،
والله أعلم.
* * *
صحة الرؤى والأحلام
(س82) ومنه: هل من سند صحيح للاعتقاد بصحة الرؤى والأحلام؟ فقد
فشت بين عامة المسلمين.
(ج) إنما يُحتاج إلى صحة السند في إثبات الأخبار المنقولة عن الآحاد ,
ولا حاجة إلى ذلك هنا؛ فإن صدق الرؤيا واقع بالتجربة وثابت بالكتاب، ولكن
ما يصدق منها قليل جدًّا، ولا يقع إلا للأقل من الناس , وهو لا يُعلم إلا بعد ظهور
تأويله بالفعل , كما وقع لمن رأى في شهر يوليو سنة 1903 تلك الرؤيا للشيخ علي
يوسف , وكتب بها إليه , وكان في باريس , وهي أنه تزوج فكان لزواجه نبأ ولغط ,
وحكم القاضي ببطلان العقد , وطفق الشيخ علي يسعى ويتخذ الوسائل لدى الحكومة
وبعض النظار. وقد أجاب الشيخ علي يوسف صاحب الرؤيا بكتاب من باريس
يذكر فيه تأويلاً لها يصرفها عن ظاهرها، ولكنها وقعت بعد سنة كما رآها الرائي ,
وكتابه محفوظ عند الشيخ علي , وكتاب الشيخ علي في تأويلها محفوظ عنده.
وقد قال الصوفية: إن الرؤيا الصالحة تسرّ ولا تغرّ , فلا يجوز لأحد الاعتماد
عليها والثقة بها، وقال أهل الشرع: إن الرؤيا لا تعتبر شرعًا في إثبات الأحكام أو
نفيها. فلا يجوز لمن سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام شيئًا أن
يعتد به على أنه من الدين، وذلك لعدم الثقة بضبط الرائي وحفظه لما رأى، ولأن
الشريعة قد كملت في حياته صلى الله عليه وسلم , فلا تحتاج إلى زيادة كما قال
تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3)
* * *
كتاب إصابة السهام والعادات المتبعة في الجمعة
(س 83) السيد محمد البسيوني بكفر الباجور:
إني كنت بمجلس يحتوي أناسًا من أهل العلم، وكنا نقرأ في كتب دينية منها
(كتاب إصابة السهام فؤاد من حاد عن سنة خير الأنام) تأليف حضرة الأستاذ
الفاضل الشيخ محمود محمد أحمد خطاب السبكي أحد علماء الأزهر الشريف حالاً ,
وهذا الكتاب يحتوي على أحكام دينية , ومبطل لبعض العادات الموجودة بالمساجد
مثل قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة بصوت عالٍ، والترقي فيه بين يدي
الخطيب، واللغط في الجنائز، فرأينا بعض سادتنا العلماء يعترضون على المؤلف،
وقد ألفت كتب ضد الكتاب المذكور حتى صار الآن بعض البلاد بمركزنا , وهو
مركز منوف (المنوفية) ينقسم إلى قسمين: أحدهما تبع خطة الشيخ محمود خطاب
المذكور، والآخر غير موافق له حتى يئول الأمر أحيانًا إلى نزاع رسمي بين
الفريقين، وحيث إننا لم نعرف المصيب من المخطئ , فقد حررنا هذا راجين من
حضرتكم أن تفيدونا بمجلتكم العلمية حتى نهتدي إلى الصواب , ولحضرتكم الفضل.
(ج) إن الشيخ محمود خطاب قد أهدى إلينا كتابه المذكور في السؤال ,
وقرظناه في الجزء الأول من مجلد المنار السادس، ونقلنا عنه ما ذكره في بدع
الجمعة , وكان الشيخ محمد بخيت ألف رسالة في ذلك قرظناها في الجزء الرابع
والعشرين من المجلد الخامس، وفي الأول والرابع من الأمور المشروعة في يوم
الجمعة كمؤلف الرسالة، فالسبكي هو المصيب , وقراءة مؤلفاته نافعة إن شاء الله
تعالى، وإذا أردت زيادة الإيضاح فارجع إلى الأجزاء التي ذكرناها.
* * *
وجوب الختان أو سنته
(س 84) من الشيخ مصطفى الحنبلي في (حلوان) : حصل بيننا وبين
بعض النبهاء خلاف في مسألة فقهية دينية موجودة في كتب الفقه وهي (الختان
واجب على الذكر والأنثى) وردت هذه القاعدة الفقهية في شرح الدليل وشرح الزاد
للإمام أحمد بن حنبل , وعليكم بعد ذلك بكتاب المنتهى للإمام أحمد أيضًا , فأفتونا
ودام فضلكم.
(ج) إننا نطبع في هذه الأيام كتاب (المقنع) في الفقه الحنبلي , وهو من
المتون المعتمدة وعليه حاشية جليلة، وفيها عند قول المتن: (ويجب الختان ما لم
يخفه على نفسه) ما نصه (وهو شامل للذكر والأنثى , وعنه: لا يجب على النساء ,
وصححها بعضهم وعنه: ويستحب) اهـ المقصود , ومنه يعلم أن في المسألة روايات أشهرها الوجوب , وهو مذهب الشافعي , والرجال والنساء فيه سواء.
والمشهور أنه سنة. قال النووي: وعليه أكثر العلماء , ومنهم الحنفية والمالكية , وقد
جرى عليه العمل، ولكن لا يوجد حديث يحتج به في الأمر به فحديث: (ألق
عنك شعر الكفر واختتن) عند أحمد وأبي داود والطبراني وابن عدي والبيهقي قال
الحافظ ابن حجر: فيه انقطاع وعثيم وأبوه كليب (راوياه) مجهولان. وقال ابن
المنذر: ليس في الختان خبر يرجع إليه ولا سنة تتبع. واحتج القائلون بأنه سنة
بحديث أسامة عند أحمد والبيهقي: (الختان سنة في الرجال مكرمة في النساء)
وراويه الحجاج بن أرطاة مدلس. والذي لا نزاع فيه هو ما قلناه من أنه سنة عملية
كان في العرب وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، وعده من خصال الفطرة وهو من
ذرائع النظافة والسلامة من بعض الأمراض الخطرة.
* * *
نقض الوضوء بمس الذكر
(س 85) السيد محمد بن عبد الله بن محمد البار الحسيني في (عدن) :
نروم من حضرتكم الإعراب عما ترونه في الحديثين الواردين في انتقاض
الوضوء وعدمه؛ حديث: (من مس ذكره فليتوضأ) وحديث: (هل هو إلا
بضعة منك) هل الحديثان صحيحان؟ وهل بينهما تعارض؟ وما الذي بان لكم
الحق فيه، وما الذي يجب أن نعمل به؟
(ج) الحديث الأول فيه روايات , أصحها وأشهرها حديث بسرة مرفوعًا (من
مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ) رواه مالك والشافعي وأحمد وأصحاب السنن
الأربعة وغيرهم , وصححه غير واحد منهم , وقد احتج البخاري ومسلم بجميع
رجال سنده، ولم يخرجاه في صحيحيهما لاختلاف وقع في سماع عروة من بسرة
قال البخاري: إن مروان حدث به عروة , فاستراب , فأرسل مروان رجلاً من
حرسه إلى بسرة فعاد إليه بإثبات الخبر عنها، ومروان مطعون في عدالته وحرسيه
مجهول، ولكن ثبت عن غير واحد من الأئمة أن عروة سمع من بُسرة بعد ذلك كما
في صحيح ابن خزيمة وابن حبان قال عروة: فذهبت إلى بُسرة فسألتها فصدقته.
قال في المنتقى: وقال البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب، ووردت أحاديث
أخرى بمعناه.
وأما حديث: (هل هو إلا بضعة منك) فقد رواه أحمد وأصحاب السنن
والدارقطني من حديث طلق بن علي بلفظ: (الرجل يمس ذكره أعليه وضوء؟ قال
صلى الله عليه وسلم: هل هو إلا بضعة منك) صححه عمرو بن الفلاس ورجحه
على حديث بسرة هو وعلي بن المديني والطحاوي وصححه أيضًا ابن حبان
والطبراني وابن حزم , ولكن ضعفه الشافعي وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني
والبيهقي وابن الجوزي , وقال قوم: إنه منسوخ. منهم ابن حبان والطبراني وابن
العربي والحازمي لتأخر إسلام بسرة على إسلام طلق، ولما كان عليه الناس من
العمل بحديث بُسرة لأنها حدثت به في دار المهاجرين والأنصار , ولأن من
شواهد حديث بسرة ما رواه طلق نفسه وصححه الطبراني عنه بلفظ: (من مس
فرجه فليتوضأ) .
وجملة القول أن حديث بسرة أصح سندًا لأن رجاله رجال الصحيحين،
وحديث طلق لم يحتج الشيخان برجال سنده، وهو من رواية ابنه قيس عنه , وقال
الشافعي: سألنا عن قيس بن طلق لم نجد من يعرفه، وقال أبو حاتم وأبو زرعة:
إنه ممن لا تقوم به حجة. فالأول أصح سندًا , ومن رأى عند المصححين لحديث
طلق ما ينفي ما طعنوا به على سنده ولم يثبت عنده النسخ , فله أن يحمله على
الرخصة كما قال الشعراني في ميزانه , ويحمل حديث بسرة على العزيمة. أما
ترجيح حديث طلق على حديث بسرة فلا وجه له ألبتة، والله أعلم.
(س86) ومنه: ثم نروم الإفادة عما كان صلى الله عليه وسلم يلبسه من
الثياب في غالب أوقاته , وعما حَثَّ على لبسه صلى الله عليه وسلم وما نهى عنه،
وهل تتبُّع الثياب الفاخرة محمود أو مذموم؟ لا زلتم ممن أحيا السنة وأمات
البدعة.
(ج) كان صلى الله عليه وآله وسلم يلبس في غالب أوقاته لباس قومه من
الإزار والرداء , ولبس أيضًا من لباس الروم والفرس، وحث على لبس الثياب
البيض، وكان أحب الثياب إليه أن يلبسها الحِبَرَة كما في حديث أنس عند الشيخين
وغيرهم، وهي كـ (عنبة) برد يماني من القطن أو الكتان سمي بذلك لأنه محبر -
أي مزين - بالخطوط والألوان، وكان من أحبها إليه كذلك القميص , كما في حديث
أم سلمة عند أحمد وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه، وكان يعتَمُّ ويسدل عمامته.
ولم يتسرول ولكنه قال: (ائتزروا وتسرولوا) ونهى عن لبس الحرير المصمت
إلا لحاجة كمرض، وعن المنسوج بالذهب - وتقدم تفصيل ذلك في المنار - وعن
لباس الشهرة، وعن جرّ الثوب خيلاء، وقالوا: إن المراد بثوب الشهرة ما يخالف
به اللابسُ الناس ليرفعوا إليه أبصارهم فيتيه عليهم ويفتخر بلبوسه، وهذا من
السخف والصغار فإن عالي الهمة لا يفتخر بثيابه. ولم ينه عن اللبوس الفاخر مع
حسن القصد، بل لبس ثيابًا غالية الثمن. وفي حديث ابن مسعود عند أحمد ومسلم
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه
مثقال ذرة من كبر) فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا؛ فقال صلى
الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس) أي
احتقارهم. وجملة القول: إن اللبس من الأمور العادية , والدين لا يذم لباسًا، إلا
إذا كان في لبسه ضرر في الأخلاق أو غيرها كالإسراف.
__________(7/611)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نابتة العصر ومستقبل مصر
أو التربية الحديثة
إن للألفاظ دولاً كدول الأشخاص يعز بعضها في زمن ويذل في زمن آخر،
إذ تدول العزة إلى غيره، وإن لفظ التربية الحديثة لهو في هذا العصر أقوى الألفاظ
دولة وأعز نفرًا، حتى يوشك أن يكون له الظهور والاستعلاء على لفظ (بيك)
ولفظ (باشا) الذي طفق يتدحرج من قنة عزه بابتذال الرتب التي يقرن بها؛ إذ
صارت تباع بالدراهم والعروض، وصار سماسرة البيع يتباخسون ويتناجشون فيها،
ويبيع بعضهم على بيع بعض بالوكس والثمن البخس، حتى تَرفَّعَ الوضيع
وتبرم الرفيع، وأما لفظ التربية وما اشتق منه كالمربي والمتربي فلم يسحل مريره،
ولم يهن نصيره، ولم يخرج عن نصابه، ولم يعدُ سن شبابه.
فإذا كان لفظ (بيك) أو (باشا) قد احترم ولا يزال يحترم لأنه عنوان الجاه
والثروة والقرب من رجال الدولة، فإن لفظ (المتربي) يحترم أشد الاحترام؛ لأنه
عنوان العلم والأدب والسياسة والكياسة، وصاحبه موضع الأمل والرجاء بخدمة
الأمة، والارتقاء بالوطن إلى القمة، والمستحق لأعمال الحكومة، والقادر على
القيام بالمشروعات العظيمة، ويقولون: إن أكثر الذين تحلوا بالرتب التي تقرن
بذلك اللقب، قد تدلوا بغرور ولبسوا ثوبي زور؛ أن رتبهم من المواضعات
الرسمية التي تنحط بسوء حال الحكومة والمعية (المعية في العُرف حاشية الأمير
الحاكم) ولقب المتربي من اصطلاح أهل العلم ومواضعة أهل الذكاء والفهم،
فهم يطلقونه على صاحبه بحق، ويجرون فيه على عرق، وإني لا أنكر قولهم
الأول، ولا أعترف بإطلاق القول الثاني، فإنه إن صح أنهم لا يطلقون كلمة متربٍّ
على غير من أخذ بسهم من الفنون الحديثة على الطريقة الأوربية، واصطبغ بشيء
من ألوان المعيشة الإفرنجية، فلن يصح أن من كان له هذا السهم، فهو مثال
الفضيلة والعلم، والقادر على النهوض بالأمة والبلاد إلى ذرى السيادة والإسعاد،
وإليك البيان:
ترى جرائد الدهان تملأ ماضغيها فخرًا بأن محمد علي باشا وخلفه هم الذين
أسعدوا البلاد المصرية بإدخال هذه التربية الحديثة فيها , فأحيوها بها بعد موتها،
ولكن ما بال هذه الحياة التي نفخ روحها في الأمة منذ قرن كامل لم تصدر عنها آثار
الإحياء في الأخلاق الفاضلة والأعمال النافعة، ونظام البيوت ووحدة الأمة،
واستقلال الحكومة ومنعتها الواقية من التحيز إلى الأجنبي والاستنصار به
والاستذلال له وتمكينه من ناصيتها، ألم ترتقِ أمة اليابان بعد الأخذ بعلوم أوربا
بخمس وعشرين؟ فما بال الأمة المصرية لم ترتق بعد مائة من السنين.
إذا كان ترقي الأمة هو استقلالها ونهوضها بأحكامها وأعمالها، وكان أمراء
مصر قد نهضوا بأهلها وجذبوهم إلى الرقي والكمال، فما بال الأمير عند أول نبأة
من الأمة في طلب الاستقلال ومشاركة الشراكسة في الأعمال، قد استغاث بدولة
إنكلترا لتنقذه من الأمة، وتؤيد سلطته عليها، وتمكن له في أرضها، وقد كان من
أمرها في تمكين هذه السلطة أن أخذت من الشراكسة والترك أكثر مما كان
المصريون يطلبونه لأنفسهم، بل استولت على كل شيء، حتى لا يبرم بغير يديها
شيء.
احتلت إنكلترا أرض النيل فقيدت الحكومة وأطلقت الأهالي، وكان من هذا
الإطلاق حرية للمطبوعات كثرت بها الجرائد، وكثر اللغط في السياسة، والسياسة
هي الفتنة الكبرى للناس فتن بها المصريون حتى شغلهم عن الانتفاع بالحرية التي
منحوها، واغتر بفتنتهم كثير من الناس , فظنوا أن وراء ثرثرة الجرائد المصرية
وتبجحها بذم الإنكليز ومعارضتهم حياة طيبة واستقلالا كاملاً هاجمته القوة , فأنشأ
يواثبها ويناصبها، ولا يلبث أن يغلبها. ولم تلبث الحرب أن فثأت وانجلى الغبار
عن أفراد استنفرتهم المنفعة الشخصية فنفروا، واستفزهم طلب الجاه ففزوا وطفروا.
وقد سكنت الآن الزعازع وسكت المنازع، وأقصى ما كان من تأثير هذه
السياسة أن غرت الأمة بغيرها، ولم تحاول أن تغرها بنفسها، ودعتها إلى حياة
سياسية ولم تدعها إلى حياة اجتماعية، وفاقد الشيء لا يعطيه، ولا ينضح الإناء
إلا بما فيه.
نعم، إن المصرين لم يغتروا بأنفسهم , فإننا منذ جئنا هذه البلاد نسمع من
شكوى خاصتهم وعامتهم ما يدل على عدم ثقتهم بأنفسهم، وعدم رضاهم عن حالهم
في التعليم والتربية والعمل والاقتصاد وكل مقومات الحياة. ووجدنا الشعوب التي
مازجتهم تشكو من أخلاقهم، وحالهم أشد مما يشكون، وكنا نظن أن الجميع مبالغون
فيما يقولون، لأن رجائنا في مصر والمصريين كان عظيمًا، وقد ضعف الآن
ولكنه لم يذهب بالمرة، وإنا لنعلم أن كل المسلمين البعداء عن مصر يرجون من
المصريين ما لا يرجوه المصريون لأنفسهم من أنفسهم. ولا يغرنك ما يتشدق به
ويتفيهق بعض الأحداث الذين اتخذوا المدح حرفة يكتسبون بها المال، وقليل ما هم.
وانظر ما قالته جريدة المؤيد في هذا الشهر وفاقًا لجريدة الإجبشيان غازيت
الإنكليزية المصرية في مستقبل المصري بعد الاشتغال بعلوم أوربا مائة سنة وبعد
عشرين سنة في الحرية الحقيقية التي وهبها الاحتلال الإنكليزي لمصر.
تقول الجريدة الإنكليزية في مقالة عنوانها (مستقبل المصري) : إن مستقبل
مصر - أي حسنه - مضمون ولكن مستقبل المصري بين اليأس والرجاء، فإن ترقي
هذه البلاد المستمر في التجارة والزراعة والصناعة وجميع مرافق الحياة إنما هو من
الأجانب وبالأجانب، وإن المصري لم يشترك فيه على أنه استفاد منه قليلاً. وإن
التاريخ يثبت بالبراهين الكثيرة أن المصري فطر على الدعة والسكون والقناعة
بالوجود في العالم متى حظي بما يكفل له الحياة وحاجاتها الضرورية فلا مطمع له
ولا أمل في تحسين أموره.
وتقول: إن المصري لا عذر له الآن في هذا فإن هذا الزمان ليس كالزمان
الذي كان فيه طلب التقدم والارتقاء خطرًا عظيمًا أي من الأمراء المستبدين. ثم
جزمت بأن المصري ما استفاد ولا هو يستفيد من تقدم بلاده، ولا يسير مع الارتقاء
ولا يأخذ نصيبه من نمو الثروة في بلاده، بل كل ذلك عائد على الأجانب الغرباء
الذين ترتقي البلاد بعملهم.
وقد ترجم المؤيد المقالة في (عدد 43893) الصادر في 6 شعبان ووصفها
بقوله: (وكلها آيات بينات وحقائق ساطعات واضحات تدل على استقلال الغازيت
وحريتها فيما تنشره من المقالات النافعة المفيدة!) . ثم نشر في تلك الجريدة مقالة
أخرى لكاتب إنكليزي في معناها ينحي فيها على المصريين إنحاءً شديدًا فعربتها
جريدة المؤيد مقرة لها، وبعد ذلك نشر في المؤيد مقالة لأحد المحررين فيها في
موضوع مقالتي الجريدة الإنكليزية قال في فاتحها:
(اطلع القراء على ما عربه المؤيد عن جريدة (الإجبشيان غازيت) تحت
عنوان (مستقبل المصري) وما أظن أن أحدًا ممن وقع نظره على تينك
الرسالتين لم يعترف في نفسه ولمن معه بصدق ما جاء فيها من الحقائق المرة؛ إذ
كون المصري مخذولاً في بلده , مهملاً لشئونه الحيوية , مفصوم العروة القومية -
إلى آخر ما يمكن أن يوصف به من الإهمال والخمول والتراخي وعدم النظر إلى
المستقبل - قضية لا تحتاج إلى إقامة برهان أو بيان , ولكن الذي يجب أن يتساءل
عنه هو أسباب هذا الخذلان , وهل ثمة واسطة لإصلاح الحال) .
ثم ذكر من المقالة الثانية الإنكليزية التي نشر تعريبها في (9 ش) ما نصه:
(إن الأخلاق الفطرية للأمة المصرية , بل وكل ماضي تاريخها تدل على أن
الوصول إلى الرقي الأدبي والحياة الاجتماعية القومية يُعد من قبيل المستحيلات ,
فإنه منذ فجر التاريخ والفلاح المصري على ما هو عليه تاركًا أموره وحياته
ووجوده في أيدي غيره , واكلاً إلى الأجانب عنه تأدية الواجب الذي كان من المحتم
عليه القيام به) اهـ، ثم سأل محرر المؤيد نفسه وقراء الجريدة عن سبب ذلك
على أنه أطال الفكر فيه فلم يهتد، قال:
(إن قلنا: إن التعليم والتربية ناقصان , وإن الجهل سبب كل هذا؛ أجابونا:
فما بال هؤلاء المصريين المتعلمين الذين حازوا من علوم أوربا أسماها وأغلاها ,
وعاشروا المتمدنين منها والعاملين المجدين فيها لا يعملون ولا يفكرون؟ وما بالك
تراهم مثل أمثالهم من إخوانهم المصريين مشتغلين جل أوقاتهم بالسفاسف والصغائر؟
وأين هي الأخلاق القوية التي يوجدها التعليم والتربية في النفوس، وهم كما
تراهم وتعرفهم) . ثم قال: إنه لا يصح أن يكون السبب جو البلاد، ولا كون الأمة
عريقة بحكم الاستبداد , ولا دين الإسلام؛ لأن الأجانب يعملون في هذا الجو
ويرتقون , ولأن غير المصريين حكموا بالاستبداد ثم نجحوا وارتقوا، ولأن الإسلام
قد نهض بالأمة العربية أو نهضت به , وهؤلاء القبط في مصر كالمسلمين، ولأن
اليابان وأوربا ما ارتقيا بالدين. وغرضنا من قول هذا المحرر شهادته في
المصريين الذين تعلموا وتربوا (كما يقال) فإنها شهادة المؤيد أشهر جرائدهم , وقد
كان قال من عهد قريب: إن الأمة المصرية لم ترتق إلى درجة تؤهلها لإنشاء
مدرسة كلية.
أما سبب هذه الحيرة في علة انحطاط المصريين فهو الجهل بمعنى التربية
الصحيحة النافعة التي ترتقي بها الأمم , والتي لا يفيد التعليم بدونها الفائدة
المطلوبة, وقد بينا الفرق بين التعليم والتربية غير مرة , وقلنا: إن في مصر شيئًا
من التعليم الناقص , ولكن ليس فيها تربية قط , بل التربية فيها متعسرة أو متعذرة
أو يحال بين الناشئين الذين يربون وبين الناس لئلا تفسد عمل المربي هذه البيئة
الوبيئة بفساد الأخلاق والأعمال , ولكن أين المربي وأين يربي؟ ! وإذا هو وجد
فمن يسمع له ومن يعينه على تربية ولده؟ وبينا أيضًا أن هذا التعليم الناقص قد زاد
في إفساد أخلاق الأمة وفتح لها خروقًا من السرف والترف والإيغال في اللذة
والاستمتاع، ما فُتحت في أمة قوية إلا وأضعفتها وجعلتها من الهالكين.
وليعلم القارئ أن حياة الأمم الميتة تتوقف على الاستعداد في الأمة كما
أوضحناه في مقالة (الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد) فإذا لم تستعد الأمة ,
فبيان أمراضها وطرق علاجها لا ينفعها لأنها كالمريض الأحمق يأبى كل دواء لأنه
دواء. بل لا يسهل على غير المستعد أن يفهم أسباب الضعف وكيفية معالجته. فإذا
أقمت البراهين والحجج القيمة على أن رغبه الأمة المصرية في الرتب والنياشين
من أسباب الفساد لا يفهم قولك إلا الأقلون , ومن فهمه يكابر فيه وينكره بلسانه،
وإن اعتقده في قلبه , ومنهم أكثر أصحاب الجرائد. فما بالك إذا ذكرت لهم الأدواء
الفاتكة التي يُعد حُب الرتب والنياشين من أعراضها؟
وسنذكر في الجزء الآتي طريقة تعلم النابتة المصرية والروح الذي به تحيا
الأمم ولا ينفع مع فقده علم ولا تعليم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
__________(7/620)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]
يوم 30 أبريل سنة - 186
تتناقص الحرارة ويتدرج الهواء في البرودة لأننا صرنا في خط الجدي.
منذ يومين آلم نفوسنا فَقْد واحد من رجالنا.
ذلك أن قطعة من قطع الأخشاب المنحرفة الوضع المستعملة في السفينة لشد
حبالها لم يكن ربطها وثيقًا فأتت عليها نفحة من الريح , فهوت بها على السطح
فصادمت في هويها رأس ذلك الملاح , وهو قائم على الحراسة , فلم آل جهدًا في
تجريب جميع الوسائل الفنية لإيقاظه وتنبيهه , ولكني لم أفلح لأنه لم يبق فيه أدنى
علامة على الإدراك، فسرى الوجوم في السفينة؛ لأن هذا الملاح الباسل كان
محبوبًا عند رفقائه، وصاح الربان بصوت أجش , وقد بدت على وجهه آثار
الحزن مع انتقابه بالتجلد بأن تنقل الجثة إلى غرفته.
استولى سكون الحِداد على السفينة فما كنت ترى على ظهرها إلا أنظارًا شقت
عن الأسى , ووجوهًا نكرتها الأشجان، وأسدل الليل على البحر بالتدريج حجب
ظلماته كلها , وأرخى عليه سدول أحزانه، فما رأيته قبل تلك الليلة بهذا المقدار من
العظم والكآبة , وكانت الأمواج باصطخابها تشكو شكوى الأحياء من مضص
المصيبة؛ حتى خيل لي أنها نفوس تناجي نفوسنا.
وارباه! ما كان أشأم هذا الصخب المتقطع الناشئ من ملاطمة الأمواج لألواح
سفينة تقل ميتًا.
أقبل النهار وأدبر الليل بيد أن أضواء الشمس في إشراقها لم تقو على قشع ما
غشي النفوس من سحب الأكدار الليلية , فبقيت جميع القلوب مثلوجة متبلدة بضرب
من الهول. ذلك أن وجود الميت في بيت يبث فيه على الدوام الحزن مشوبًا
بالإجلال والرعب , والسفينة بيت مضطرب , فما يسهل انفصامه من عرى المودة
بين من تطاوحت بهم النوى من العائشين في البر يتأكد بين العائشين في السفينة
بسبب اشتراكهم في الحاجات والمخاطر.
تخلف يعقوب في ذلك الصباح عن إجابة داعي الشمس المشرقة، وعهدنا به
أنه كان على الدوام أول من يسمع ديّ صوته الشديد على ظهر السفينة , فأصبح
وقد قضي عليه أن لا يكون هو الصائح بكلمة (تمام) .
كان من أسباب اشتغال قلوب المسافرين والملاحين بالحزن أيضًا ارتقابهم لما
كان قريب الوقوع من دفن الميت , ومع كون أعمال التجهيز كلها كانت تؤدى في
سكون كأنها من وراء حجاب، كنا نخلس الملاحين في بعض الأماكن روحات
وجيئات خفية. وقد أحدت السفينة بتنكيس الأعلام التي تزهو ذروتها عادة
بارتفاعها فوقها فخرًا بالأمة المنتسبة إليها , وفي نحو الساعة العاشرة برز الربان
على ظهرها, ثم أقبل على ملاحيه , وقال بصوت منخفض: قد حلت ساعة النحس ,
فعلي بالربان الثاني وأخبروه بأننا مستعدون. ويعلم الله مقدار ما يشق علي من
تأدية هذا الفرض ولكن من الواجب القيام بالواجب.
رتب الملاحون أكوام الحبال التي كانت تعيق السير بتبعثرها على سطح
السفينة، ورفعوا أحد الأجزاء التي تتألف منها جدران السفينة فكان من ذلك نافذة
شبيهة بالكوة كنا نرى منها البحر يتراوح بين الصعود والهبوط.
كان ناقوس السفينة يطن فيحدث عند طنينه المؤلم إذا انتشر على وجه
الأمواج أثر محزن يغادر جميع القلوب واجفة.
لما كانت السفينة خلوًا من القسيسين كان من العادات المطَّردة في مثل هذه
الحالة بإنكلترا أن يعهد بصلاة الجنازة إلى ربانيها. من أجل ذلك أخذ الربان
مجلسه, وهو مكشوف الرأس، وبين يديه كتاب مفتوح , والتفت عليه حلقة من
المسافرين والملاحين يحفهم الوقار والخشية على تشوش هيئاتهم وأوضاعهم
ينتظرون البدء في الشعائر الدينية.
أشار الربان إلى رجلين من الملاحين بأن يهبطا من أحد سلالم السفينة الضيقة
فلم يلبثا أن صعدا يحملان الميت على نعش كبير مثقب , وقد لف في قطعة من
نسيج الشراع خيطت عليه وكان من الميسور تقدير ثقله بما كانا يعانيانه من الجهد
في حمله , ذلك أن العادة تقتضي في مثل هذا المقام أن يوضع في الكفن مع الجثة
قذيفا مدفع (القذيفة الكرة التي تقذف من المدفع) إحداهما عند رجليها , والأخرى
عند رأسها.
ما برزت هذه الصورة المشئومة من سدفة السلالم (السدفة الظلمة المختطلة
بالضوء) حيث كانت تبدو منها ببطء حتى اقشعرت لمرآها أبدان الحاضرين , وقد
بسط على صدر المتوفى علم من أعلام السفينة عليه ألوان البحرية الإنكليزية.
أنشأ الربان يتلو صلاة الجنازة بصوت شديد معتاد على الأمر والنهي غير أنه
كان يعتوره اللين حينًا بعد حين، فتتخلله نغمات ضعيفة مهتزة كأنها تنبعث من
القلب , وكان ما يحصل في نفسه من التنازع بين التمالك والسكينة التي يراها
لازمة لكرامته من حيث هو رجل , وبين عاطفة الرحمة التي كان يكاد يبدي بها
يكسو وجهه هيأة غريبة، جمعت بين القسوة والرحمة , وكان كاتب السفينة يتلو في
ذلك الكتاب عينه الحِكم الإنجيلية , وما كان يسع أحدًا من السامعين أن لا يعترف
بشيء من الجلال لهذا الضرب من التحاور في معنى الموت بين رجلين مستهدفين
في كل يوم لآلاف من المعاطب قد شهد كلاهما كثيرًا من إخوانهما يتخرمون من
حولهما , ويثوون في ظلمات البحر السرمدية.
هذا الذي كانا يتناوبان تلاوته، لم يك يشبه الصلوات بحال (فالكنيسة
الإنكليزية لا يصلى فيها قط على المتوفين) بل كان عبارة عن فكر مأخوذة من
التوراة في معنى قصر الأجل، ومصوغة في قوالب تشبيهات شعرية كتشبيه الحياة
بعشب البوادي يخضر في الصباح ويذبل في المساء، أو بالظل يسري علي الماء
وتشبيه جمال الرجل والمرأة شوهته السنون بثوب أكلته الأرضة، وكان جميع
الحاضرين يفهمون نص هذه العبارات العبرية؛ لأنه كان مترجمًا إلى الإنكليزية.
على أن الساعة الأخيرة قد اقتربت فكف الربان عن التلاوة , وأخذ يرقب
عظم اتساع السماء والماء، ثم صوب بصره آخر مرة إلى ذلك الشيء وهو مدرج
في نسيج يعرف الناظر إليه من خلاله شكل آدمي معرفة مبهمة , وقد وضع على
شفا الفوهة التي صنعت في جدار السفينة ليلقى منها في البحر , ولم تكن إلا إشارة
من الربان أن سمع صوت غليظ رخو لسقوط رجل ميت في البحر , فشوهد
للأمواج فوران شديد , فترجرج خفيف , فدوائر من الماء متداخل بعضها في بعض ,
فلا شيء.
التأم الآذيّ على الجثة كما يلتئم بلاط اللحد. وقال الربان بصوت خنقته
العبرة والانفعال: (أنت في وديعة البحر) .
كنت في كل المدة التي استغرقها أداء هذه الشعائر أرقب (أميل) حينًا فحينًا ,
فأجده شديد التأثر , وأما (لولا) فكنت أراها باكية.
يرجع تأثر هذين الغلامين إلى سببين؛ أولهما أن تجهيز الميت كان مقرونًا
من الوقار والهيبة بما يهز القلوب , ثانيهما أنهما لم يكونا شهدا الدفن قبل هذه المرة
لجهلهما الموت حتى هذه الساعة. نعم إنهما كانا يعرفان بالتحقيق أن كل شيء
صائر إلى الفناء فقد شهدا حيوانات تزول , وإخوانًا يتخطفون من حولهم؛ غير أني
في شك قوي من كثرة اشتغالهما بهذه الطوارئ الطبيعية ووقوفهما بالفكر عندها ,
والإنسان لا يعرف الأمور معرفة صحيحة إلا إذا فكر فيها بنفسه , ولا أعدم واهمًا
يلقي عليَّ تبعة هذا الجهل لأني أعلم أنه كان ينبغي من أجل إنشاء (أميل) على
الأصول القويمة التي يحبها ذلك الواهم أن أربيه على الخوف , وأن أحيط له الحياة
في مواعظي بوعيد القبر ومخاوف الخلود , ولكن ما حيلتي إذا كنت لم أجد من
نفسي إقدامًا على ذلك , فإني رأيته كثير الاغتباط بالحياة , فصرفت جل عنايتي في
تحبيب الواجبات إلى نفسه لا في دناءة التخويف من عقوبات الآخرة أو التأميل في
مثوباتها الغيبية.
المواعظ المحزنة لا تربي الوجدان بل تكدر صفاءه وتزعجه , فواشوقاه إلى
الساعة التي يتأثر فيها اليافع بمشهد الموت؛ فيأنس من نفسه الحاجة إلى سبر غور
ما قدر له في أخراه. [1] اهـ
***
يوم 6 مايو سنة - 186
الرياح باردة والسماء كدراء , وتزعم (لولا) أن سفرنا استغرق الربيع
والصيف والخريف , وأننا داخلون في الشتاء , وحقيقة الأمر هي أن أقاليم البلاد
فصول ثابتة كما أن فصول السنة أقاليم مرتحلة.
صارت الأمواج من الثقل والضخامة بحيث أصبح مسير السفينة شاقًّا , وقد
هبت علينا ريح خبيثة فهي ترفعنا إلى الشرق نحو جزائر فوقلند. [2] اهـ
***
يوم 8 مايو سنة - 186
اقتحمنا مدخل بوغاز ماجلان [3] , وهو مجاز وعر خطر , ورأينا هناك
طيورًا يسميها الملاحون: حمام الرأس , الواحدة منها في حجم البطة البرية , أحد
نصفيها أبيض والثاني أسود , وكانت تحوم حولنا أسرابًا , وتصطاد بشباك تمد على
كوثل السفينة (مؤخرها) , فتنشب فيها أجنحتها في غدوها ورواحها عليها ,
وتتورط فلا تستطيع انفكاكًا.
وشاهدنا طيرًا آخر أثار العجب في نفس (أميل) بعلو قامته وارتفاع طيرانه
وهو المسمى بالبطروس [4] اهـ
***
يوم 10 مايو سنة -186
رأس القرن حقيق بأن يسمى رأس الزوابع , فقد هاجت علينا فيه هيجة خلنا
فيها أن المحيط بأجمعه ينيخ بكلكله على سفينتنا الضئيلة , على أنها تقاوم وتجري
مع ما يلاطمها من الأمواج ويتقاذفها من المهاوي , لا يقعدها عن ذلك زمجرة البحر ,
فهو بهيمة كبرى وجدت من يروضها.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
(1) ما كرهه المربي لولده من إنشائه على الخوف من العقاب والرجاء في الثواب غير مكروه , ووصفه هذين الأمرين بالدناءة غير صحيح , وأمله في أن ولده يسبر غور ما قدر له في أخراه وهم ظاهر , وخدعة زينها له شكه في اليوم الآخر.
(2) جزائر فوقلند هي أرخبيل في المحيط الأطلانطيقي شرقي بوغاز ماجلان مملوك للإنكليز.
(3) بوغاز ماجلان واقع بين بتاغوينا ويكردوفو (أرض النار) اكتشفه رحالة بورتغالي اسمه ماجلان, وهو أول من بدأ بالطواف حول الأرض.
(4) البطروس طير من فصيلة الطيور الراحية الأجل يعيش في بحار إستراليا.(7/624)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خلاصة تاريخ حرب اليابان وروسيا
في هذه الحرب عِبر كثيرة منها أن ما ظهر من ارتقاء اليابان العلمي
والصناعي والأدبي قد أبطل ما كانوا يزعمون من تفاوت استعداد أجناس البشر.
ككون الجنس الأصفر أضعف استعدادًا من الأبيض , فقد اعترف الأوربيون بأن
ارتقاء اليابانيين لا يعلوه ارتقاء في أوربا , وهذه الأمة الشرقية الصفراء قد ارتقت
في مدة ربع قرن , وأوربا لم ترتق إلا بعدة قرون وما كلها في الارتقاء سواء.
ومنها أنه لا يوثق بأحد في نقل جزئيات التاريخ , ولا يوثق منه إلا بالأمور
الكلية التي تستنبط من مجموع الحوادث بعد تمحيصها والاطلاع على اختلاف
الروابط فيها , فإن نقل التاريخ لم يكن في عصر من الأعصار أيسر وأقرب إلى
الضبط منه في هذا العصر؛ لأن كل واقعة من الوقائع العظيمة يشهدها عدد من
أصحاب الشركات البرقية وأصحاب الصحف ومندوبو الدول , وكلهم مؤرخون.
وإننا مع هذا نرى ما ينقلون من أخبار هذه الحرب تختلف جزئياته وتتناقض
ويكذب بعضها بعضًا.
ونرى مؤرخي العصر وهم أرباب الصحف يرجحون بأهوائهم. لذلك كان
الموثوق به حقيقة هو النتائج التي اتفق عليها جميع الناقلين , وهي أن اليابانيين هم
الظافرون في جميع المواقع البرية والبحرية , وأنهم أخف حركة وأعلم بالحرب
وأحسن نظامًا مع الشجاعة الكاملة , وهاك ذكر أهم الحوادث والوقائع بتاريخها
ملخصًا مما عربه بعض الرصفاء عن جريدة التيمس:
في 5 فبراير أنذر المعتمد الياباني في بطرسبرج حكومة القيصر بقطع
العلاقات السياسية بين الدولتين بأمر حكومته. وفي 7 منه نشر التلغراف الذي
أرسله الكونت لمسدروف إلى سفراء روسيا ووكلائها السياسيين في أنحاء السلطنة
الروسية. وفي 8 منه وصل أسطول ياباني يخفر نقالات يابانية بقيادة الأميرال
أوريو إلى ميناء شملبو , وأطلقت البارجة كورينز الروسية القنبلة الأولى في هذه
الحرب. وفي 8 منه أيضًا هاجم الأميرال توجو الأسطول الياباني الذي في بورت
آرثر في منتصف الليل , ونسف ثلاث بوارج منه , وهي الدارعتان زارويتش
ورتفيزان والطراد بوبيدا. وفي 9 منه أعاد توجو الكَرة على الأسطول الروسي في
الصباح , فتعطلت الدارعة الروسية بولتافا وثلاثة طردات وهي نوفيك
وإسكولدوديانا. وفيه أيضًا وقعت معركة بحرية في شملبو فدمر اليابانيون الطراد
فارياج والمدفعية كوريتز. وفي 10 منه أعلنت اليابان الحرب رسميًّا , وأصدر
القيصر منشورًا إلى الشعب الروسي أعلنه به بنشوب الحرب , وقال: إنه سينتقم
من اليابان مائة ضعف ويقتل هذا الطفل قبل أن يشب. وفي 11 منه مست البارجة
الروسية ينيسي لغمًا فنسفها في تاليان وان وأغرق أسطول فلاديفوستوك باخرة
يابانية وأنقذ ركابها. وفي 12 منه أعلنت الصين الحياد وخرج المسيو بافلوف
معتمد روسيا في كوريا من سيول. وفي 14 منه اغتنمت النسافات اليابانية حدوث
عاصفة فهاجمت أسطول بورت آرثر ونسفت الطراد بويارين. وفي 17 منه تعين
الأميرال مكاروف قائدًا لأسطول بورت آرثر محل الأميرال ستارك. وفي 21 منه
صدرت إرادة قيصرية بتعين الجنرال كوروبتكين ناظر الحربية قائدًا عامًّا للجنود
الروسية في منشوريا فسافر إلى منشوريا في 12 مارس. وفي 23 منه عقد اتفاق
بين كوريا واليابان , ووقع في سيول. وفي 24 منه أيضًا حاول اليابانيون أن
يسدوا مدخل بورت آرثر عند بزوغ الفجر. وفي 25 منه تجدد القتال في بورت
آرثر بحرًا. وفي 29 منه احتل اليابانيون جزيرة هي بون تو من جزر إليوت
شرقي بورت آرثر.
وفي 2 مارس أنكرت اليابان التهم التي وجهتها روسيا إليها في البلاغات التي
نشرت في 18 و20 الماضي. وفي 6 منه أطلق الأميرال كميمورا المدافع على
فلادفستوك. وفي 9 منه نشرت اليابان ردها على المنشور الذي أصدره الكونت
لمسدروف في 22 الماضي. وفي 10 منه هاجمت النسافات اليابانية أسطول بورت
آرثر بعد منتصف الليل بقليل فغرقت نسافة روسية , وضرب الأسطول الياباني
بورت آرثر في الصباح , فدمر مباني سان شان تاو. وفي 17 منه وصل المركيز
إيتو إلى سيول موفدًا من عاهل اليابان إلى عاهل كوريا. وفي 21 و 22 منه أطلق
الأسطول الياباني المدافع على بورت آرثر , وجعل الأسطول الروسي موقفه عند
مدخل الميناء. وفي 6 منه احتل اليابانيون ويجو , وبدأ الروس يعبرون نهر يالو
متقهقرين. وفي 8 و 9 منه حدثت مناوشات على نهر يالو. وفي 12 منه استعانت
البارجة كوريو مارو اليابانية بالنسافات , ونصبت الألغام عند مدخل بورت آثر.
وفي 13 منه قطعت المدمرات اليابانية الطريق على مدمرة روسية في جوار بورت
آرثر , فأغرقتها , وفيه جرت الطرادات اليابانية أسطول الأميرال مكاروف خارج
الميناء , فأصابت البارجة بترباولسك لغمًا عند رجوعها فغرقت وغرق الأميرال
مكاروف. وفي 23 منه عبرت طلائع اليابانيين نهر يالو. وفي 25 منه نهض
أسطول فلادفستوك إلى جنسان فجأة , وأغرق فيها الباخرة اليابانية جويومارو.
وفي 26 منه أغرقت نسافتان روسيتان النقالة اليابانية كنشين مارو. وفي 27 منه
حاول اليابانيون سد مدخل بورت آرثر فلم يفلحوا , وفيه بدأ القتال على نهر يالو.
وفي 29 و 30 منه وأول مايو عبر الجنرال كوروكي نهر يالو بجوار ويجو وكسر
الروس وكانوا بقيادة الجنرال ساسولتش وغنم منهم 38 مدفعًا , واستولى على
كيوليان شنج وهي المعركة المعروفة باسم معركة يالو.
في أول مايو حاول الأميرال توجو أن يسد مدخل بورت آرثر بتغريق
البواخر والأخشاب فيه. وفي 3 منه سد اليابانيون المدخل على المدرعات
والطرادات فقط. وفي 4 منه أبحر الجيش الياباني الثاني من شلمبو صباحًا.
ووصل الأميرال (هوسايا) ومعه أسطول من النقالات إلى (بتزي هو) شرقي
بورت آرثر في شبه جزيرة لياوتونج مساء. وفي 5 منه أنزل الأميرال هوسايا
لواءً بحريًّا وفرقة من الجيش البري إلى بتزي هو. وفي 6 منه احتل الجنرال
كوروكي فنج هوانج شنج. وفي 8 منه قطع الجنرال أوكو خط السكة الحديدية عند
بولان تيان شمالي بورت آرثر. وفي 10 منه هاجم القوازق إنجو في كوريا على
غير جدوى. وفي 12 منه أطلق الأميرال كاتاوكا القابل على تاليان وان , ومست
نسافة يابانية لغمًا فغرقت في خليج كر. وفي 14منه غرقت نقالة يابانية في خليج
كر أيضًا , واحتل اليابانيون بولان تيان. وفي 15منه اصطدم الطرادان اليابانيان
يوشينو وكاسوجا فغرق الأول. وفيه مست الدراعة اليابانية هاتسوسي لغمًا بجوار
بورت آرثر. وفي 17 منه تعين الجنرال كيلر قائدًا للفرقة السيبيرية الثانية بدلاً من
الجنرال ساسوليتش. وفي 19 منه نزل الجيش الياباني الثالث إلى تاكوشان. وفي
20 منه قذفت العاصفة بالطراد الورسي بوغاتير على الصخور فتحطم بجوار
فلاديفوستوك. وفي 27 منه ألقى الأميرال توجو نطاق الحصار على شبه جزيرة
لياوتونج جنوبًا ,ى وفيه جرت معركة كنشاو , فأخذ اليابانيون تل تان شان عنوة
وغنموا 78 مدفعًا من الروس. وفي 30 منه احتل اليابانيون دلني , وبدأ الاحتكاك
بين اليابانيين وطلائع الجنرال ستكلبرج المنفذ لإنقاذ بورت آرثر في وافنج كاو.
وفي 4 يونيو مست مدفعية روسية لغمًا فغرقت بجوار بورت آرثر. وفي 7
منه أخذ اليابانيون يطلقون المدافع على بورت آرثر , واستمروا على ذلك في الأيام
التالية وفيه بدأ كوروكي بالزحف على جيش منشوريا. وفي 8 منه احتل اليابانيون
سيوين وساي متسي. وفي 11منه وضع اليابانيون الحصار على نيوشوانج. وفي
14 منه خرجت المدمرات الروسية من بورت آرثر فردها الأميرال توجو على
الأعقاب. وفي 14 و15 منه وقعت معركة وافنج كاو فخسر الروس فيها 7000
رجل و16 مدفعًا وارتدوا إلى كاي بنج , وكان الجنرال ستكلبرج يقودهم , وتعرف
هذه المعركة عند الإنكليز بمعركة تليسوه , وفي 15 منه أغرق أسطول فلاديفستوك
نقالتين بايانيتين , وهما هيتاشي مارو وسادو مارو. وفي 21 منه احتل الجنرال
أوكو هسيونج باوشنج على بعد 30 ميلاً من تليسو شمالاً. وفي 23 منه خرج
الأسطول الروسي في بورت آرثر , فرده الأميرال توجو إلى الميناء وفيه استلم
الجنرال كوروبتكين قيادة الجنود المقاتلة بنفسه. وفي 26 منه تقابل
الفريقان في جوار كاي بنج , وكان الروس نازلين في كاي بنج وتاشي كياو
ولياوينج واليابانيون في جنوب كاي بنج وساي متسي وليان شان كوان. وفيه
ضرب اليابانيون بورت آرثر برًّا واستولوا على استحكامات في الجهة الشرقية.
وفي 27 منه استولى اليابانوين على مضيق فن شوي لينج ومضيق تالج ومضيق
موتيان لنج وهذه المضايق تعد مفتاح وادي لياو. وفيه أغرق اليابانيون باخرتين في
مدخل بورت آرثر لسدها. وفي 28 منه نزلت الفرقة السادسة اليابانية في خليج كر.
وفي 30 منه أطلق أسطول فلادفستوك المدافع على ثغر جنسان.
وفي أول يوليو وصل أسطول فلادفستوك إلى بوغاز كوريا فنمي خبره إلى
الأميرال كميمورا فهب لمقاتلته ولكنه لم يدركه. وفي 3و4و5 منه دار قتال شديد
في بورت آرثر برًّا وبحرًا , ومس الطراد كيمون الياباني لغمًا في تاليان وان فغرق.
وفي 4 و6 منه اجتازت النقالتان بطرس برج وسمو لنسك من الأسطول الروسي
المتطوع بوغاز الدردنيل رافعتين العلم التجاري. وفي 6 منه غادر المارشال أوياما
توكيو قاصدًا ميدان القتال لاستلام القيادة العامة. وفيه استولى اليابانوين على
الحصن نمرة 16 في بورت آرثر. وفي 9 منه احتل الجنرال أوكو (كاي بنج) .
وفي 19 منه نسف الروس الباخرة هبسانج في خليج بتشيلي. وفي 20 منه اجتاز
أسطول فلادفستوك بوغاز تسوغارو فدخل الأوقيانوس الباسفيكي وفي أثره نسافات
يابانية. وفي 24 منه نسف اليابانيون ثلاث مدمرات روسية خارج بورت آرثر.
وفي 25 منه كسر الجنرال أوكو الروس في (تاشي كياو) بعد قتال شديد , وفيه
احتل اليابانيون (نيوشوانج) . وفي 26 منه بدأ قتال شديد حول بورت أرثر ودام
حتى 30 منه , فاستولى اليابانوين في أثنائه على (ولفشل) أي تل الذئب، وفي
31 منه زحف اليابانيوين زحفًا عموميًّا على الروس , فأجلوهم عن مواقعهم على
طول الخط إلى هاي شنج وبنشي لو وينج زولنج.
في 1 أغسطس استولى اليابانيون على شان تاي كاو وهو حصن مهم بجوار
بوت آرثر , وفي 3 منه احتل الجنرال أوكو هاي شنج ونيوشوانج , وفيه رد
الروس إلى خط الدفاع الداخلي في بورت آرثر , وفيه خرج الأسطول الروسي من
بورت آرثر ولكنه ردّ إليها، وفي 10 منه خرج الأسطول الروسي من بورت آرثر
بقيادة الأميرال ويتهوفت بناءً على الأوامر التي وردت إليه فقابله الأميرال توجو ,
ودار القتال بين الأسطولين , فقتل الأميرال ويتهوفت وخلفه الأميرال أوخنمسكي
وانهزم الأسطول الروسي , فرجع قسم منه إلى بورت آرثر ولجأت بوارج أخرى
إلى المواني المحايدة في كياوشو وتسنج تاو وشنغاي. وفي 11 منه جنحت مدمرة
روسية على بعد 20 ميلاً من واي هاي واي. وفي 12 منه ولد الغراندوق إلكسيس
ولي العهد في روسيا , وفيه قبض اليابانيون على المدمرة الروسية ويسهتلني في
ميناء شيفو وأخذوها إلى اليابان. وفي 13 منه قلد الأميرال روجستفنسكي قيادة
أسطول البلطيق. وفي 14 منه قاتل الأميرال كميمورا أسطول فلاديفستوك على
بعد أربعين ميلاً من تسوشيما شمالاً بشرق فأغرق الطراد روريك وفيه أطلق
اليابانوين المدافع على بورت آرثر. وفي 16 حاول الأسطول الروسي الخروج من
بورت آرثر ثانية , وفيه أرسل اليابانيون مندوبًا إلى الروس رافعًا الراية البيضاء
يدعوهم إلى تسليم المدينة , وإخراج غير المقاتلين حقنًا للدماء فأبوا. وفي 18 منه
حمل اليابانيون حملة جديدة على بورت آرثر وفيه مست المدفعية الروسية أوتفاجني
لغمًا فغرقت بجوار رأس لياوتي شان. وفي 19 منه احتج اليابانيون على إقامة
الطرادين الروسيين اسكولد وجررذوفوي في ميناء شنغاي بعد انتهاء الأجل القانوني.
وفي 20 منه جنح الطراد الروسي نوفيك إلى شاطئ كورسا كوفسك فراراً من
الطرادين اليابانيين كيتوزي وتسوشيما. وفي 23 منه مست الدارعة الروسية
سفستبول لغمًا في بورت آرثر , فأصابها تلف , وفيه أيضًا بدأ كوروكي بالحركات
التي انتهت بمعركة لياوينج. وفي 24 منه أمر القيصر الطرادين أسكولد
وجروزوفوي بنزع السلاح في ميناء شنغاي. وفي 25 و26 منه استولى كوروكي
على كونج شنج لنج عنوة , وحمل جيش اوكووندزو على آن شان شان. وفي 27
منه طرد اليابانيون الروس عن ضفة نهر تونج هو اليمنى. وفي 28 منه ارتد
الروس إلى لياونج بعدما خسروا كل مواقعهم الأمامية.
في أول سبتمبر انجلى الروس عن هسن لي تون وشوشان وارتدوا إلى النهر ,
وفيه استولى الجنرال كوروكي على سيكوانتون عنوة. وفي 2 و3 منه واصل
أوكو وندزو الهجوم على لياوينج. وفي 3 منه رأى كوربتكين أن الجنرال
أورلوف أتى هفوة أفسدت خطته وكشفت ميسرته للعدو, وخشي الهلاك إذا تمكن
أوكو وندزو من كسر ميمنته فأمر جيشه بالتقهقر إلى يان تاي ومكدن. وفي 4 منه
انجلت ساقة الروس عن لياوينج بعد أن قاومت اليابانيين مقاومة شديدة لتسهيل
التقهقر على كوربتكين. وفيه دخل اليابانيون لياوينج في الساعة الثالثة بعد الظهر.
(وكان الجيشان متقاربين في العدد , ويقال أن عدد الروس كان أكثر) .
وفي 4و5 منه تواصل القتال بين الروس المتقهقرين وجيش الجنرال كوروكي
وكان قد احتل مناجم يان تاي، وفي 5 منه عين المسيو ستفنس مستشار الوكالة
السياسية اليابانية في واشنطن مستشارًا سياسيًّا في كوريا , وعين المسيو ميجاتا
مستشارًا ماليًّا بناءً على المعاهدة التي أبرمت مع كوريا في 22 الجاري، وفيه
كانت ساقة الروس هدفاً لمدافع العدو فخسرت 100 رجل على طريق مكدن، وفي
6 منه تعين الكبتن فيرن قائدًا لأسطول بورت آرثر خلفًا للأميرال أوختمسكي وكان
قبلاً قومندانًا للدارعة بايان، وفي 11 منه استدعى القيصر الجيش الاحتياطي في
22 مقاطعة وطبقة واحدة من ضباط الاحتياط في كل السلطنة، وفي 14 منه نشر
تقدير الجنرال كوروبتكين لخسارة الروس بين 28 أغسطس و5 سبتمبر فبلغ 4
آلاف قتيل و12 ألف جريح , وفيه ضربت الولايات المتحدة ميعادًا تنزع النقالة لينا
الروسية التي لجأت إلى سان فرنسسكو سلاحها فيه أو تغادر الميناء , فأجاب الربان
أنه عازم على نزع السلاح، وفي 16 منه شرع اليابانيون بتضييق سكة حديد
منشوريا وفقًا لمقاس مركباتهم، وفي 18 منه هنأ القيصر الجنرال كوروبتكين
بحسن تقهقره كما هنأ الميكادو جيشه في 7 منه بانتصاره، وفي 20 منه حاول
اليابابيون اكتناف ميسرة كوروبتكين القصوى في مضيق دالنج فلم يفلحوا , وفيه
وصلت نجدات جديدة و170 مدفعًا إلى كوروبتكين، وفي 24 منه استُدْعِي الجنرال
أورلوف بناءً على قرار الجنرال كوروبتكين ومحي اسمه من الجيش بلا محاكمة،
وفي 25 منه قسمت الجنود في منشوريا قسمين؛ قسمًا بقي بقيادة كوروبتكين ,
وقسمًا سلمت قيادته إلى الجنرال جريبن برج، وفي 26 منه احتفل بافتتاح السكة
الحديدية حول بحيرة بيكال، وفيه أقرت اليابان على عقد قرض داخلي قدره 8
ملايين جنيه , وعزمت على تعديل لائحة القرعة العسكرية وجعل مدة الخدمة 17
سنة.
__________(7/629)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الانتقاد على المنار
وعدنا بأن نذكر ما ينتقد به علينا ونبين رأينا فيه إما تسليمًا، وإما تفنيدًا. وقد
أرسلت إلينا قصيدة من الكويت يزعم ناظمها أنه رد على المنار , وما هي إلا سب
وشتم لا يليق بالمؤمن أن يرد على صاحبها إلا بكلمة (سلام) وكذلك تصدت
بعض الجرائد الجديدة في تونس التي هي أدنى من جرائدنا الأسبوعية للخوض في
موضوعات المنار، فلم نر فيها شبهة تستحق الرد , وقد نصحت لها أم الجرائد
التونسية (الحاضرة) ، الغراء فقبل النصيحة حسن القصد , وكابر الكاتب فردت
عليه بالنبذة الآتية:
وإذا مروا باللغو مروا كرامًا
نصحت الحاضرة لرصيفيها الفاضلين صاحبي جريدتي الصواب، وجريدة
إظهار الحق إثر تحريرات شديدة اللهجة نشراها ضد بعضهما في صحيفتيهما ,
ودعتهما بلسان الصدق في خدمة المصلحة العامة أن يقلعا عن مثل تلك المطاعن
سيما وأن بعضها المدرج في ثانيتهما به تعريض مذموم بأكبر وأشهر مجلة علمية
أدبية إسلامية بالشرق، ونعني بها جريدة المنار الأغر التي يكتب بها فضيلة مفتي
الإسلام مولانا الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية , وقلنا لهما برفق ولين:
إن موضوع مجادلتهما من فصيلة المجلات العلمية لا من علقة الجرائد الإخبارية ,
وعليه فلا ينتج عنها في نظرنا القاصر بما لدينا من التجربة الصحافية ثمرة مثافنة
نحو عشرين سنة إلا تضليل بسطاء العقول، والتلبيس على أهل النهى بسرد
النصوص المتناقضة تارة، وبتعقيد عبارة المحررين أخرى , فتوفقت جريدة
الصواب بسلامة ذوقها لسماع النصيحة، وتطاولت خصيمتها عن الاقتداء بصنيعها
الممدوح فاستأنفت القول بعبارة أكثر قحة وأبلغ شدة مما كانت نشرته , وذلك بقلم
محرر غير محرر ما سبق بها نشره أمضى مقالته باسمه (بو بكر العروسي)
عرف بنفسه في آخرمقاله بعد تعريض ممقوت بجريدتنا , فقال: (أما الذين تعلموا
نبذة من الكتابة بكثرة مزاولة الجرائد أو موضوع مخصوص يصعب عليهم فهم
مدارك الكُتَّاب (يقصد المحرر بذلك نفسه لا محالة) الذين أخذوا فنهم من قواعد
وآداب عظيمة كالمتخرجين من الجامع الأعظم ... إلخ) .
هذه خلاصة ما كنا كتبناه في عدد 812 من جريدتنا , وزبدة ما كتبه الشاب
المتخرج من الجامع الأعظم في عدد 22 من جريدة إظهار الحق.
ونحن لا يجدر بنا أن نجاري هذا الشاب في تيار أهوائه، بل ننصح من جديد
لرصفينا الفاضل مدير إظهار الحق أن ينزه جريدته عن الخوض في تلك المواضيع
البعيدة عن خدمة المصلحة العامة , وينبه إلى أن مثل هاتة التحريرات التي لا
تستفيد منها جريدته ولا قراؤها سيما إذا كان محررها صاحب طيش ويرى نفسه من
كتاب (الصف الأول في التحرير) الذين لا يخشون ردود محرري الشرق لأنه من
أولئك الذين قيل فيهم: (إن بني عمك فيهم رماح) كما صرح بذلك.
وإذا قدر الله على جريدة إظهار الحق بعدم إدراك هاته الحقيقة , فإن صاحبها
لا محالة يسلك بجريدته طريقًا عوجاء لا يسلم من عاقبتها، ويعلم بعد حين أن حجة
مثل هذا المحرر ساقطة، وأن قلمه لا قبل له على رد سيل العرم الذي ربما يجرفه
يومًا ما فلا يجد لنفسه وليًّا ولا نصيرًا، إذ لا يخفى على صاحب إظهار الحق أن
خدمة الأمة الإسلامية عمومًا وخدمة الوطن خصوصًا لا تكون إلا بالتعاضد
والتكاتف لا بالتشاتم والتنافر بين أفرادها وخصوصًا حملة أقلامها , ثم ما لنا
وللجرائد الشرقية التي يحررها كتبة أقلامهم من البلاغة بمكان ولها قراء تقدمونا
بمراحل في ميادين الترقيات الفكرية والعرفان , فسمحت لهم معارفهم بولوج باب
المجادلات الدينية والفلسفية بصورة يقصر دونها فهم الطالب المشار إليه ومن جاء
على شاكلته , فإن لأولئك العلماء والكتاب الشرقيين من المبادئ الراسخة والآراء
الثاقبة ما لا تزحزحه عوارض طيش التخيل والغرور مثل التي شاهدناها من أحد
متخرجي الجامع الأعظم نراه تارة يطعن بشيوخه وبنظام الجامع مما ننقمه عليه،
وآونة يزعم أنهم مصدر الفضائل وركن البراعة مما سبقناه للإعلان به , ولكن لله
في خلقه أسرار) اهـ كلام الحاضرة الذي يتدفق إخلاصًا وصوابًا , وعسى أن يفيد
المخلصين.
__________(7/635)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
(كمال العناية بتوجيه ما في] لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [[*] من الكناية، وبحث
علم النبي بالغيب)
مؤلف هذه الرسالة السيد أحمد رافع الطهطاوي أحد علماء الأزهر الأسبق ,
والسيد علي الببلاوي شيخ الأزهر لهذا العهد , والشيخ عبد الرحمن الشربيني أعلم
علماء الشافعية بلا خلاف , وغيرهم من أكابر علماء الأزهر كالمرحوم الشيخ حسن
الطويل والشيخ حمزة فتح الله مفتش العربية في نظارة المعارف والشيخ محمد
بخيت وغيرهم , ولما نشرنا مسألة علم النبي الغيب في المسائل الزنجبارية كتب
إلينا مؤلف هذه الرسالة كتابًا يؤيد فيه رأينا , ويقول إنه سبق له تفنيد زعم من يقول
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع على علم الغيب كله، في رسالته هذه , وأهدانا
نسخة منها فإذا هو يقول في أول هذا المبحث ما نصه:
(تنبيه مهم) قد علمت أنه لا صفة لغيره تعالى تماثل صفة من صفاته جل
وعلا , فليس لغيره علم محيط بجميع المعلومات كما قال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} (البقرة: 255) أي لا يعلم أحد كنه شيء من
معلوماته تعالى إلا ما شاء الله أن يعلم وقال تعالى لأعلم الخلق: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي
عِلْماً} (طه: 114) وقد ذكر بعضهم أنه ما أمر عليه الصلاة والسلام بطلب
الزيادة في شيء إلا في العلم , وأخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي
الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم انفعني بما
علمتني , وعلمني ما ينفعني , وزدني علمًا , والحمد لله على كل حال) . قال
العلامة الملوي في شرحه الكبير على السلم: قلت: وهذا صريح في الرد على من
ادعى أن علم النبي صلى الله عليه وسلم مساوٍ لعلم الله تعالى محيط بكل شيء من
كل وجه إحاطة كإحاطة علم الله تعالى , وأنه ما توفي حتى أعلمه الله تعالى كل
شيء علم إحاطة , وقد ألف شيخ شيخنا العلامة اليوسي تأليفًا في الرد على من زعم
ذلك وتكفيره , واستدل على ذلك بأدلة عقلية ونقلية. كيف وهو مصادم لقوله تعالى:
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (الأنعام: 59) وقوله تعالى: {وَلَوْ
كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (الأعراف: 188)
الآية، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (لقمان:
34) وعلى القول بأنه تعالى أعلمه صلى الله عليه وسلم مفاتيح الغيب فليس علم
إحاطة كعلمه تعالى , وهو مصادم أيضًا للإجماع.
على أن سر القدر لم يعلمه ولا يعلمه نبي مرسل ولا ملك ولا غيرهما , بل
هو من مواقف العقول , ويلزم أن يكون علمه صلى الله عليه وسلم مساويًا لعلم الله
ومماثلاً له في الإحاطة والحقيقة , فيلزم حدوث علمه تعالى للمماثلة؛ لأنه يجب
لأحد المثلين ما وجب للآخر , بل ويلزم سائر لوازم العلم الحادث من العرضية
والافتقار وغيرهما , ولا يجاب بالاختلاف بالقدم والحدوث لأن القدم والحدوث
خارجان عن حقيقة العلم , والحقيقة لا تختلف باختلاف العوارض. وأما مع عدم
ادعاء المساواة لعلم الله تعالى كأن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم علم
الأولين والآخرين , فلا يمتنع لأن ذلك ليس مستلزمًا لمساواته لعلم الله تعالى
والإحاطة من كل وجه , ومن أقوى ما يرد على هذا ما ورد في الحديث من أنه
صلى الله تعالى عليه وسلم يلهم في الآخرة محامد يحمد بها الله عز وجل لم يكن
ألهمها قبل , لكن شيخ شيخنا بالغ في القول بتكفيره , والذي يظهر عدم التكفير؛
لأن هذه اللوازم بعيدة لا يقول بها هذا القائل , ولازم المذهب ليس بمذهب خصوصًا
إذا كان اللازم بعيدًا اهـ ببعض اختصار. وإنما كانت هذه اللوازم بعيدة لأنها
مأخوذة من مقدمة أجنبية؛ وهي أنه يجب لأحد المثلين ما وجب للآخر فلا يلزم من
تصور مساواة علم النبي صلى الله عليه وسلم لعلم الله تعالى في الإحاطة تصورها
كما ذكرته في كتابي (الطراز المعلم) وقد عرَّفوا اللازم البعيد بأنه ما لا يلزم من
تصور ملزومه تصوره , والقريب بأنه ما يلزم من تصور ملزومه تصوره.
والتحقيق الذي نعتقده أنه صلى الله عليه وسلم لم يفارق الحياة الدنيا حتى أعلمه الله
تعالى بالمغيبات التي يمكن البشر علمها , وعلمه بها لا كعلم الله كما سترى فلا
يجوز القول بأنه مساوٍ له فاعرف ذلك , وفي كلام العلامة أبي محمد الأمير موافقة
لكلام اليوسي حيث قال عند بيان أن علمه تعالى محيط بما هو غير متناهٍ كالأعداد
ونعيم الجنان أي فإنه لا يتناهى بمعنى أنه لا ينقطع أبدًا ما نصه: (وكون العلم
بالكمية يقتضي التناهي إنما هو في حق الحوادث لضيق دائرة العلم الحادث وقصر
تعلقه، وأما العلم القديم فتعلقه عام لا يتناهى فيتعلق تفصيلاً بما لا يتناهى) اهـ.
ووراء هذا مباحث طويلة في حقيقة علم الغيب ومفاتح الغيب، والخلاف فيما
يجوز أن يعلمه غير الله تعالى، وأكثرها مبنية على ما اعتاده المتأخرون من التعليل
والتأويل والتقييد والتخصيص والاحتمالات مما لا حاجة لأكثره , ولا يترتب على
الخلاف فيه فائدة , أما وعندنا الأصل اليقيني المتفق عليه المنصوص في كتاب الله
تعالى وهو أنه لا يعلم الغيب إلا الله , وأن الله تعالى يظهر من شاء على ما شاء ,
ولكن لا يجوز لنا أن نتحكم برأينا فنقول: إنه أطلع فلانًا على مفاتح الغيب أو على
علم الساعة ونحو ذلك إلا بنص قطعي يخصص نص القرآن القطعي والله أعلم.
***
(تأسيس النظر وأصول الكرخي)
سبق لنا تقريظ هذا الكتاب ورسالة أصول الكرخي المطبوعة معه في المجلد
الخامس , وإننا ننقل الآن ما ذكره الدبوسي مؤلف الكتاب في الفرق بين دار الإسلام
ودار الحرب لتوضيح ما تقدم في بحث الحكم بالقوانين الذي سنزيده بيانًا بعد , قال:
دار الإسلام ودار الحرب
الأصل عندنا أن الدنيا كلها داران: دار الإسلام ودار الحرب، وعند الإمام
الشافعي الدنيا كلها دار واحدة , وعلى هذا مسائل، منها: إذا خرج أحد الزوجين إلى
دار الإسلام مسلمًا مهاجرًا أو ذميًّا , وتخلف الآخر في دار الحرب، وقعت الفرقة
عندنا فيما بينهما، وعند الإمام أبي عبد الله الشافعي: لا تقع الفرقة بنفس الخروج.
ومنها: إذا أخذوا أموالنا وأحرزوها بدار الحرب ثم أسلموا عليها وهي في أيديهم
كانت لهم ملكا وعند الإمام أبي عبد الله الشافعي: لا يملكونها، وكان عليهم ردها إلى
أربابها. ومنها ما قال أصحابنا: إن المسلمين إذا استنقذوا من أيدي المشركين ما
أخذوا من أموالنا لا يأخذها أصحابها إلا بالقيمة إذا وجدوها بعد القسمة عندنا، وعند
الإمام الشافعي يأخذونها بغير شيء، ومنها أن أهل الحرب لو أخذوا من أموالنا عبدًا
ثم دخل إليهم مسلم بأمان فاشتراه منهم وأخرجه إلى دار الإسلام فإنه لا يأخذه
صاحبه إلا بالثمن وإن وهب له منهم يأخذه بالقيمة , وعند الإمام الشافعي يأخذه بغير
شيء. ومنها: أن الحربي إذا أسلم في دار الحرب ثم خرج إلينا وترك ماله , ثم
ظهر المسلمون على دارهم؛ كان جميع ماله غنيمة عندنا لأنه وقع بينه وبين ماله
مباينة الدارين , وعند الإمام أبي عبد الله الشافعي: لا يكون غنيمة، ولو أسلم ولم
يخرج إلينا حتى ظهر المسلمون عليهم؛ كان عقاره غنيمة لنا , وعند الإمام الشافعي:
لا يكون غنيمة. وعلى هذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه في الآبق إليهم: إنهم لا
يملكونه بالأخذ لأنه لما أبق صار في يد نفسه في دار الحرب لأنهم لا يملكون قهره
وعارض يد قهر مولاه قهر نفسه وعصيانه , وعند صاحبيه ملكوه , ومنها ما قال
أصحابنا: إن دار الحرب تمنع وجوب ما يندرئ بالشبهة لأن أحكامنا لا تجري في
دارهم وحكم دارهم مخالف لحكم دارنا وعند الإمام أبي عبد الله الشافعي: عليه
القصاص , وعلى هذا قال أصحابنا: لو دخل مسلمان مستأمنان في دار الحرب
فقتل أحدهما صاحبه لا قصاص عليه، وعند الإمام أبي عبد الله: عليه
القصاص، وكذلك قال أصحابنا في أسيرين مسلمين في دار الحرب قتل أحدهما
صاحبه: لا قصاص على القاتل عندنا , وعند الإمام الشافعي: على القاتل
القصاص , وعلى هذا قال أصحابنا: لو شرب المسلم الخمر أو زنا أو قذف في دار
الحرب: لا حد عليه عندنا , ويجب عند الإمام الشافعي عليه الحد) اهـ وفيه
التصريح بأن أحكامنا لا تجري في دارهم، فما بقي على المسلم الذي يرى من
المصلحة للإسلام العمل في حكومة الحربي إلا أن يراعي مصلحة المسلمين إذا هو
حكم بالقوانين.
__________
(*) (الشورى: 11) .(7/637)
غرة رمضان - 1322هـ
9 نوفمبر - 1904م(7/)
الكاتب: رفيق بك العظم
__________
ضعف المسلمين بمزج السياسة بالدين
مراجعة رفيق بك العظم للشيخ صالح بن علي اليافعي
كتبت في المنار الأغر فصلاً تحت عنوان (هذا أوان العبر) بحثت فيه عن
تقهقر المسلمين وسببه , ورأيت بعد مقدمات سردتها أن استبداد الحكومة هو علة
هذا الضعف الشامل الذي ألَمَّ بالمسلمين، وجعلهم في أخريات الأمم , وقلت: إنما
أنامهم لاستبداد الأمراء وأضعف بحياتهم السياسية الرجاء، مزج السياسية بالدين
مزجًا أدى إلى استئثار الخلفاء بالسلطة واستبدادهم بكل شئون الملك حتى أخذت
الحكومة الإسلامية شكل الحكومات المطلقة التي هي نار تأكل الممالك وتذهب بحياة
الشعوب. ولو تنبه العرب في بدء نشوء الدولة إلى أن الحياة السياسية غير الحياة
الدينية، وأسسوا هذا الملك الكبير على أساس الحكومات الديموقراطية التي كانت
عند مجاوريهم من الرومان لما استفحل داء الاستبداد المطلق في الدولة الإسلامية
إلى آخر ما ورد في ذلك الفصل.
وبما أن أكثر المقدمات كانت إجمالية أردت بها الإشارة إلى نتائج الحكم
المطلق قد التبست على حضرة الفاضل الهندي صاحب مقالة (ضعف المسلمين
وعلاجه) فحمل قولي على غير ما أردت , وكتب في المنار المنير مقالته المسهبة
في الرد عليّ , فذهب فيها مذاهب من بيان الداء والدواء تدل على وقوف على
أحوال المسلمين وعلم لا ينكر على مثله، إلا أنه آخذني على بعض المقدمات
مؤاخذة من التبس عليه فهم المراد منها , فطفق يسرد الأدلة على فضائل الدين
الإسلامي وأنه صالح لترقي المسلمين، كأنه ظن أني بقولي: إن السياسية غير
الدين، أدعو المسلمين إلى ترك الدين أو أن الإسلام غير صالح لترقي الأمة، ومعاذ
الله أن يقول بهذا مسلم عنده ذره من العلم بحقيقة الإسلام ووقوف على تاريخ
المسلمين , ولكي أدفع ما ورد على ذهنه من الشُّبه , وما تبادر إلى فهمه من ظاهر
كلامي أريد مع احترامي لغيرته العظيمة ونيته السليمة مناقشته في بعض المقدمات
التي أوردها في مقالته (ضعف المسلمين وعلاجه) تمحيصًا للحق وبيانًا للحقيقة،
فأقول:
جاء في مقدمته الأولى عن أسباب تقهقر المسلمين أن أعظم تلك الأسباب
وأولاها تغلب من لا يستحق الخلافة على من يستحقها، وجعلها ملكًا عضوضًا قائمًا
بقوة السيف. وثانيهما: نبذ المسلمين للكتاب والسنة، وافتراقهم شيعًا في الدين.
فأما السبب الثاني فلا مشاحة فيه، وقد بسطه حضرته بسطًا وافيًا أعرب فيه
عما يخالج ضمائر العقلاء من الأمة، وهو سبب مهم من أسباب تدلي المسلمين لا
ينكره إلا مكابر أو جاهل، فلا نناقشه فيه بل نوافقه عليه، ولي فيه كلام طويل
وفصول كثيرة في كتبي (أشهر مشاهير الإسلام) و (تنبيه الأفهام) فليراجعهما إن
أحب.
وأما السبب الثاني فقد جعله أخونا الفاضل أساسًا، وهو في الحقيقة نتيجة
مقدمات وأسباب لو تتبعها لما خالفني في رأيي. وبيانه أني بنيت قولي بتقهقر
المسلمين على ثلاثة أمور: (الأول) الاستبداد , و (الثاني) طرز الحكومة ,
و (الثالث) مزج المسلمين الحياة الدينية بالحياة السياسية , وهذا الأخير ينقسم إلى
قسمين وهما: طرز الحكومة , والاستبداد. فالاستبداد منشؤه الحكومة المطلقة،
وهذه منشؤها استئثار الخلفاء بالسلطة العامة باسم الدين لجعلهم حياة الأمة السياسية
حياة دينية، وأخونا الفاضل الهندي وافقني في بنائه للسبب الأول على الثاني،
وهو الاستبداد. وإنما أنكر علي كونه ناشئًا عن مزج السياسة بالدين ورأى أن منشأ
استبداد الأمراء تغلب النازعين إلى الملك ممن كانوا غير أهل للخلافة على من
كانوا أهلاً لها، وتشريدهم لهم في كل صقع وواد، وأخذ الخلافة بالغلبة دون اختيار
أهل الحل والعقد، وجعلها بعد أخذهم لها بقوة السيف ملكًا عضوضًا ذهبوا فيه
مذاهب أهل الأثرة والكبرياء وحادوا به عن طريق الشرع وآثروا الجهلة والفساق
... إلخ ما قال.
والذي يستنتج من رأيه هذا أن الخلافة لو بقيت باختيار أهل الحل والعقد
ووسدت إلى أهلها ممن عناهم حضرته - لما حل بالأمة من مصائب الاستبداد ما حل ,
ولَمَا طرأ على الدول الإسلامية من الضعف ما طرأ، وما دام مُسَلِّمًا معنا بهذه
المقدمة فقد كان يلزمه أن يبحث عن السبب الذي أفضى بالخلافة إلى غير أهلها ,
ويبين الوجه الذي يضمن بقاءها على ما تركها عليه الخلفاء الأولون سائرة على
نهج الحق والعدل، لا سبيل لأولئك النازعين إلى الملك المتوثبين على الخلافة إلى
خرق حرمتها، والتغلب على من كانوا أهلاً لها وأحق بها، ويرى ما الذي أدخل
على مركز الخلافة الاضطراب من عهد الخليفة الثالث رضي الله عنه حتى
زعزعته عواصف الفتن وغلب عليه المتغلبون، فكانت من ثم أول حلقة من سلسلة
الانقسام والتغالب الذي جر على الأمة من البلاء وأذاقها من استبداد الأمراء ما انتهى
بها إلى الغاية الشنعاء التي نشاهدها الآن بالعيان.
لو نظر حضرته إلى السبب ودقق النظر في هذا البحث لعلم أني لم أخرج في
بحثي عن هذه الوجهة، ولم أتعرض في كلامي لأصل الشريعة التي قال فيها: لو
عمل بها الخلفاء لما أصاب الأمة ما أصابها من الجور؛ إذ هذا حق لا ريب فيه،
ولم يكن كلامي دائرًا عليه بل على الأساس الذي ينبغي أن تقام عليه دعائم الدولة،
ويتكفل بسير الأمراء على نهج العدل، وعملهم بأوامر الشريعة، ويقف بهم
مرغمين عند حد القانون.
وهذا الأساس هو الذي يعرف لهذا العهد بالنظام الأساسي الذي عليه تقدم
الدول الشورية والحكومات النيابية، ولا بقاء للحكم النيابي بدونه قط.
هذا النظام هو الذي يتكفل بتنفيذ القوانين الشرعية والوضعية، ويعطي
الشعوب حق السيطرة على الحكومة والمشاركة لها في الرأي، ويحدد سلطة الأمراء
والملوك تحديدًا يمنعهم من الذهاب في سياسة الأمم مذاهب الشهوات، وأن يكونوا
أربابًا والرعية مربوبين. وهذا النظام هو الذي نهض بدول الغرب إلى أوج القوة
والمجد والسيادة على الأرض، وخرج باليابان من وهدة الهوان إلى مقام الدول
العظيمة ذات القوة والسلطان، وإلى هذا المعنى أشرت بحياة الأمم السياسية، وأنها
غير الحياة الدينية , وقلت: إن العرب بجعلهم الحياة السياسية حياة دينية مهدوا
للأمراء سبيل الاستئثار بالسلطة باسم الدين، والحكم بالهوى وبما تشتهيه نفوسهم
لا بما ينطبق على مصلحة الأمة والشرع، فإذا توهم أخونا الفاضل أن هذه الحياة لا
تكون حياة طيبة سعيدة إلا إذا انصبغت بصبغة الدين، فما رأيه في اليابانيين وهم
من الوثنيين.
استغرب الفاضل الهندي قولي أن العرب فاتهم أن يجاروا في وضع قواعد
الدولة وتأسيس أصول الحكومات ذات الصبغة الدستورية كالجمهورية والقنصلية
والحكومة المقيدة - أقرب الأمم جوارًا لهم وهم الرومان، واستعظم قولي بترك الدين
جانبًا والسياسة جانبًا، وبالغ في الاستعظام، حتى خيل للقارئ أني أدعو إلى نحلة
جديدة بعيدة عن الدين والصواب , لا أجاب إليها ولو ناديت قومي إلى يوم الحساب
يؤيد هذا قوله بعد كلام طويل: فإن دعوتهم (يعني المسلمين) إلى دينهم الخالص
أنفع لمرضهم ... إلخ الجملة التي تدل على مبلغ ظنه بي، وإني أرجو الله أن يغفر
له ولي ما دامت وجهة كلينا إلى الحق، وغرضنا محض النصيحة، وإنما التبس
على مناظري فهم المدار من كلامي فحمله على غير ما أردت، وعسى أن إيضاحي
له الآن، وتصريحي بأنه إنما كان دائرًا على النظام الأساسي للدولة، يقنع حضرته
بأني لم أرد بفصل السياسة عن الدين ترك أحكام الدين وتعاليمه، بل أريد أن
النظامات الأساسية للدول تابعة للمصلحة منوطة بالاجتهاد , وليست هي جزءًا من
الدين لا ينفصل عنه , وبيانًا للحقيقة التي يشهد بها الشرع والعقل ألخص هنا ما
كتبته في صدر الجزء الأول من أشهر مشاهير الإسلام عند الكلام على خلافة أبي
بكر رضى الله عنه, وأزيد عليه بعض الشيء إيضاحًا لما أبهم في هذه المسألة
الكبرى فأقول:
(إن وظيفة الرسل هي تبليغ الشرائع، ووضع أصول الدعوة وتقريرها على
وجه يتكفل بسعادة الناس , ولما كان لابد بعد الرسول من بقاء هذه الشرائع في قومه
للحكم بها بين الناس أنيط بالضرورة بمن يخلفه في قومه فكانت وظيفته دنيوية
يتعلق بها تنفيذ أحكام الشريعة التي تتكفل بحفظ الأمن والراحة والحقوق , ووظيفة
الرسول دينية يتعلق بها تبليغ الدين وتقرير أصول الشريعة؛ لهذا لم يعهد نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم قبل مفارقته الدنيا إلى الملأ الأعلى بالخلافة إلى أحد
سوى أنه استخلف أبا بكر رضي الله عنه بالصلاة التي هي ركن من أركان الدين
فرضيه بعد ذلك الصحابة الكرام رئيسًا للدنيا بدليل قول علي رضى الله عنه: (قد
ارتضاه رسول الله لديننا أفلا نرتضيه لدنيانا) وهذا صريح في أن الدولة غير الدين.
ومعلوم بالبداهة أن الشرائع سواء كانت دينية أو وضعية تحتاج إلى منفذ ووهذا
المنفذ هو الدولة فأول رئيس لهذه الدولة في الإسلام هو أبو بكر - رضي الله عنه -
وإنما كان أبو بكر رئيسًا للدولة بالضرورة؛ لأن الإسلام له شرائع يقتضي
تنفيذها , والرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤسس دولة بل شرع شرعًا، وجمع
الناس على دين فلهم أن يختاروا في حماية ذلك الشرع وتنفيذه الوجه الذي يتكفل
بقيامه ويعزز جانب أهله، وليس هناك نص بعينه بَيَّن كيفية تأسيس الدولة، فهم إذا
أحسنوا في الاختيار التأسيس فلأنفسهم، وإذا أخطؤوا فعليها، والشرع لا يطالبهم
بحكومة جمهورية ولا مطلقة ولا مقيدة بل يطالبهم بالعمل بأحكامه وقصد العمل بتلك
الأحكام وصونها عن العبث والضياع، وهو الذي يطالبهم باختيار طرز الحكومة
التي تضمن بقاء العمل بالشرع، وأي حكومة أفضل للمسلمين، بل لكل البشر من
الحكومة النيابية التي يتكافل بها الشعب برمته على سلامة القانون أو الشرع.
هذه مقدمة، ومقدمة أخرى وهي أن الشرع ينقسم إلى قسمين، قسم يتعلق
بالدين وهو قسم العبادات، وقسم يتعلق بالدنيا وهو قسم المعاملات، فالقسم المتعلق
بالدين نصوصه قطعية لا اجتهاد فيها , ويتلقاه الناس من الكتاب والسنة فمخالفه
يعاقب والعامل به يثاب.
والقسم المتعلق بالدنيا هو قسم المعاملات ويشتمل على أحكام الحقوق
والعقوبات، وفيها القصاص والحدود، فأحكام هذا القسم منها قطعي ومنها ما هو
موكول للاجتهاد، وهو الأكثر، والاجتهاد كما هو معلوم بالبداهة معناه وضع
الأحكام بإزاء الحوادث التي تتجدد بتجدد الزمان، وتتعدد بتعدد المصالح. فإذا
أجاز الشارع الاجتهاد في هذا القسم لاعتبار أنه دنيوي تتعلق به مصالح الأمة
الاجتماعية، فما معنى اعتبار حياة المسلمين السياسية التي تتعلق بها حاجات الدولة
والملك الدنيوية في بدء نشوء الدولة وسذاجتها حياة دينية لا يجوز فيها الاجتهاد
بتأسيس الدولة على أصول الدول العريقة في الملك.
ومقدمة ثالثة وهي أنه قد ثبت عند الأصوليين أن الأنبياء - عليهم السلام -
قد يخطئون في اجتهادهم , والعرب في صدر الإسلام لما لم يكن لديهم تاريخ في
ترتيب الحكومات يرجعون إليه لم يحسنوا تأسيس الدولة على أصول الشورى
الثابتة، فلو فرضنا أنهم اجتهدوا وأخطأوا فهل في هذا ما يدعو إلى استكبار ذكر
هذا الخطأ، والحال أن لهم أسوة بالرسل - عليهم السلام - ولماذا استكبر حضرة
المناظر الفاضل قولي: إن العرب لم يحسنوا تأسيس الدولة والملك.
ومقدمة رابعة: إذا كانت حياة المسلمين السياسية حياة دينية , والسياسة لا
تنفصل عن الدين , ومعلوم بالضرورة أن الدين لا ينسب إليه نقص في بيان وجوه
المصالح المتعلقة بسعادة المسلمين، فما هو سبب الاضطراب الذي دخل على
الخلافة من الصدر الأول وجر على الأمة من الفتن والأرزاء ما يعلمه كل واقف
على التاريخ؟ أهو نقص الدين؟ أم جهل الصحابة بأحكامه التي ترتبط بها مصلحة
دولة المسلمين , وتتوحد المشارب السياسية بين المؤمنين؟ وإذا لم يكن هذا ولا ذاك
فهل يبقى إلا التقصير بما ذكرنا.
هذه المقدمات تنتج - على ما أعتقد أنه الحق - أن السياسة غير الدين ,
وأن تأسيس الدولة منوط بالمصلحة التي تقتضيها حاجة المسلمين، وأن الصحابة -
رضوان الله عليهم - لم يتوصلوا إلى جمع كلمة الأمة السياسية كما جمع النبي صلى
الله عليه وسلم كلمتها الدينية، لأنه فاتهم تأسيس الدولة على أصول الحكم النيابي
الثابت الذي تتحد به مصالح الشعوب مهما افترقوا في المشارب والأحزاب، وكان
مبلغ اجتهادهم - رضوان الله عليهم - أن حاولوا جمع كلمة الأمة على إمارة
المؤمنين باسم الدين على أن الأمة لم تكن وقتئذ مفترقة في الدين بل في السياسة،
وإنما حصل هذا الافتراق لما رسخ في أذهان العامة من أن السياسة هي الدين، وأن
فلانًا أو فلانًا أحق دينًا بإمارة المؤمنين، والصحابة إنما أرادوا جمع كلمة الأمة باسم
الدين اعتقادًا منهم بأن الدين أنفذ إلى القلوب وأملك للضمائر، فهم على كل حال
مثابون مأجورون؛ لأنهم لم يريدوا للأمة إلا الخير، ولكن تعذر عليهم الوصول إلى
جمع كلمة المسلمين السياسية التي لا تجتمع إلا إذا كان النظام الأساسي لكل دولة في
كفالة الأمة بأسرها لا كفالة الأمير وحده، وإلى هذا أشرت في مقالتي الماضية
بقولي: إن العرب فاتهم أن يجاروا أقرب الأمم جوارًا لهم وهم الرومان في تأسيس
الحكومات ذات الصبغة الدستورية، ولم أشر إلى غير الرومان من الدول القديمة
ولا الحديثة كما اتهمني مناظري الفاضل، ذلك لأن الحكم النيابي الذي يعطي الأمة
حق المشاركة للحكومة في الرأي، وتقوم به الدول بالتكافل بين الأحزاب إنما هو
من وضع الرومان، ولم يعرف عن الفرس ولا الهنود وغيرهم. والدولة الرومانية
وإن كانت في أيام الفتح وظهور دولة الإسلام قد صارت إلى ما صارت إليه من
الضعف والهرم وفقدان أصول الشورى، إلا أن لحكوماتها تاريخًا معروفًا يرجع إليه،
لذا تأصلت في الغرب دون الشرق روح الشورى والحكم النيابي، فكانت تظهر
تارة وتختفي أخرى، حتى كانت الثورة الفرنساوية الشهيرة، ونسفت قواعد الحكم
المطلق من المملكة الفرنساوية وتبعتها بعد ذلك بقية الممالك الأوربية، وكان من
آثار الحكومات النيابية في أوربا ما لا يحتاج إلي بيان بعد أن شهد به العيان.
والخلفاء الراشدون أخذوا كثيرًا من أمور الدولة عن الأعاجم كالديوان ونحوه ,
فماذا يضر قولنا: إنهم لو أخذوا عن الرومان أصول الحكومة النيابية لكان أنفع
للمسلمين. أجل , إن الله تعالى مدح في كتابه الكريم قومًا كان أمرهم شورى بينهم،
وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة فجنح الخلفاء الراشدون - رضوان الله
عليهم - إلى الاستشارة في بعض أمور الدولة عملاً بأمر الله، وذلك لمكانتهم من
التقوى والصلاح والعدل , لكن هذا المبدأ الشوري السامي صدر عنهم بمحض
الإرادة وأدبًا مع الشارع، ولم يضعوه موضع المبدأ الأساسي العام، ويشيدوا عليه
بنيان الدولة بطريقة تشعرأن لكل فرد من أفراد الأمة حقًّا بمكاتفة الحكومة
ومشاركتها كما هو شأن الحكومات النيابية الصحيحة، بل اعتبروا الخليفة مصدر
كل شئون الدولة، وكل ما يتعلق بأمور الأمة السياسية والدينية منوط به وموكول
إليه، لذا لما مضى عصرهم الذي هو خير العصور الإسلامية قلب الخلفاء للمسلمين
ظهر المجن واستأثروا بكل مصالح الدولة , واتخذوا اسم الإمامة والخلافة سلاحًا
يضربون به وجوه المسلمين واستعبدوا به الأمة أي استعباد لما أوجدوه في نفوس
الناس من الاعتقاد بأن الإمامة ركن من أركان الدين , والإمام خليفة الله ورسوله
على المؤمنين، وبلغ غلوهم في الاستبداد والترفع عن عامة الأمة أن خطب عبد
الملك بن مروان (من الأمويين) يومًا خطبة قال في آخرها: (والله لا يأمرني أحد
بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه) . واحتجب الخلفاء العباسيون عن أنظار
الناس داخل القصور فكانوا في أواخر دولتهم وسائل للتبرك وآلات للتعظيم مع أنه
ليس لهم من الأمر شيء. وادعى الخلفاء الفاطميون في مصر الألوهية , وأوجبوا
تعظيمهم على الناس تعظيم عبادة لا سيادة، ولما زالت سطوة الخلافة، وتقلص
ظلها عن الناس، وآل الملك إلى أهل العصبيات الجديدة من الملوك والسلاطين
وكانت الأمة رضخت للاستعباد واستنامت لعوامل الاستبداد؛ استمرأوا مرعى
السلطان المطلق على الأمة، وبسطوا عليها يد القوة والقهر حتى آنست لهذا العهد
بالضعف , واستسلمت لحكم السلطة الاستبدادية، حتى ما تطيق الحرية وتأبى
التخلص من هذا الأسر، وهي ترى بعينها نتائج الحرية والعدل في الأمم الأخرى ,
وتشاهد تفاني الشعوب واستهلاكهم في سبيل التخلص من حبائل الاستبداد، ولا
ينبض لفرد من أفرادها عرق أو يتحرك منها ساكن، وإذا نادى منادٍ من المسلمين
بالإصلاح، ودعا داعٍ إلى قَدَّ قيود الأسر والانطلاق من سجن العبودية والقهر؛
عَدُّوه من المارقين وأقاموا في وجهه ألف سد باسم الدين حتى جعلوا الدين
مضغة في أفواه الغربيين، ووسيلة من وسائل الحجر على العقول , والله يشهد
والملائكة والرسول أن الإسلام أدعى إلى الخير وأهدى إلى سعادة الأمم مما
يعتقدون. وإنما إلصاقهم كل شيء بالدين وتكييفهم للدين كما يريدون؛ جعلنا
نتخبط في ظلام هذه الحيرة التي أودت بنا إلى العدم دون كل الأمم , وقد أشار إلى
هذا أخونا الهندي في مقالته بما يغنينا عن إطالة البحث والاسترسال في الآلام لا في
الكلام , وحسبنا شاهدًا على ذلك ما وصل إليه المسلمون والإسلام , والله يتولى
هدانا جميعًا وهو خير المرشدين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (رفيق)
(المنار)
قراء المنار يعرفون رأيه في هذه المسائل التي تناظر فيها هذان الكاتبان
الغيوران على ملتهما وأمتهما إلا مسألة نصب الخليفة , فإن المناظرة تشعر بأنه
أصل من أصول الدين وليس كذلك , وإنما هو من الأحكام الشرعية العلمية
الاجتهادية , والقرآن قد وضع أساس الشورى، وعمل بها النبي ليبني عليه
المسلمون هيكل حكومتهم , وترك التفصيل لاجتهادهم. فالسياسة دينية من جهة
اجتهادية من جهة أخرى , وسنوضح ذلك في مقال مخصوص يكون فصل الخطاب
إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(7/641)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
التربية بسفر البحر
شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]
يوم 14 مايو سنة - 186
انتهينا من الطواف بالرأس , ولكن ما أعظم ما بذلنا في سبيل ذلك من الجهد,
وما أشد ما عانينا من المشاق. فقد كانت الريح تزفزف ثلاثة أيام وثلاث ليال
زفزفة بلغت من الشدة إلى حد أن ساري سفينتنا الأكبر كان فيها يتنوّد تنوّد القصدة
من يبس الحشيش.
لم يكن يؤلمنا على ظهر السفينة سوى أيدي البحارين في ممارسة أعمالهم ,
وما كان أشدني إعجابًا في نفسي بسيرتهم في تلك الساعات التي قضيناها في مكافحة
البحر ومغالبة الخطر، فليست بسالة الملاح من قبيل بسالة الجندي، ولكنها تفضلها
في رأيي لأن الملاح بما له من الجرأة على الموجودات والفواعل الكونية يكافح
الموت مواجهة فلا يحول بينهما إلا سُمك لوح من الخشب , وليس غرضه من
الكفاح إبادة نظرائه بل هو في مدافعة عن حياته يعمل لتنجيتهم من الهلاك وناهيك
بالبحر عدوًّا أوتي من العدد ما هو أشدها رهبة في العالم بأسره، فإنك ترى السفينة
على وهنها وكونها ليست إلا دولابًا من الخشب تطاردها الريح والبرد والبرق
وجبال من الموج , فهي في الحقيقة تقاوم قوى كون من الأكوان برمتها.
ولا مشابهة أيضًا بين قدر الملاح وبين ما يفاخر به السفسطي من اجترائه
على معاندة القدر باستدلالاته الدقيقة اجتراءً باردًا خاليًا من العمل , هيهات فإن قدر
الملاح هو ما يتجلى في عمله من قوة نفسه وهمتها فتراه مع استعانته بربه
لاستمساكه بدينه لا يعتمد بعد ذلك إلا على نفسه أعني على صحة بصره، وضبط
حركاته وقوة أعصابه فإن قهره عدوه سلم إليه , ولكن هذا لا يكون إلا بعد أن يرى
آخر سلاح له قد تحطم.
تلك البسالة تكتسب بالتعلم، وهذه الثقة بالنفس تسري بالمعاشرة، يدلك على
ذلك أن (أميل) كان في أول عهده بالملاحة شديد الروع فما لبث أن ذهب عنه
روعه بالتأسي برفقائه؛ لأنه كان يرى من العار أن يرتجف فؤاده وتتزلزل قدماه
أمام هؤلاء الأبطال وهم ثابتون في مواطنهم. كانوا يشغلون حينًا بعد حين بإدارة
الممصات (الطلمبات) ومعالجة الحبال , فلا شيء كالعمل البدني في تقوية القلب ,
فبطالة المسافرين هي التي عند أدنى هيعة تملأ قلوبهم بالمخاوف وأدمغتهم
بالخيالات، وأما الملاح فليس للخوف متسع في وقته.
من مزايا الملاحة أيضًا أن ما فيها من مكافحة الخطر ينمي في قلوب الملاحين
حب الحياة , فمن ذا الذي كان يحسب أن الانتحار لا يكاد يكون معروفًا بينهم.
الضجر من الحياة من مميزات العصور الحديثة، وهو أخوفها عندي على
الشبان، وأشدها إيلامًا لنفسي؛ فإني أرى الأطفال يولدون غير مبالين بشيء
سائمين من كل شيء خامدي الإحساس ميتي القلوب، فكم من فتاة إذا انكشف لها
وهمها لأول مرة فيما كانت تعتقده واقعًا تمنت لو أنها ماتت قبل انكشافه. وكم من
فتى كسول لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره ولم يعامله الجد إلا معاملة الغلام
العارم يصيح قائلاً: (ما فائدة الحياة) وليس من غرضي هنا أن أبحث عن أسباب
هذه المصيبة الملمة بالنفوس والأخلاق , وإنما غرضي أن أقول لكل هؤلاء
المتبرمين: (انظروا إلى الملاح؛ تجدوا أنه هو الذي عرف قيمة الحياة لأنه في
كل يوم يذود عنها أخطارًا حقيقية لغاية نافعة وبذلك صار أهلاً لأن يقدرها حق
قدرها) .
من أجل هذه الأسباب كلها أرى أن (أميل) الآن في ولاية معلمين حاذقين.
وأما (لولا) فإنها - والحق يقال - لم تُبدِ من البسالة شيئًا يذكر لأنها لبثت
مختبأة في إحدى زوايا حجرتها فكانت كالنعامة التي يؤكد العارفون بأخلاقها أنها
تتوهم أن غمر رأسها في الظلام منجاة لها من الخطر الملم بها، وذلك ما اضطر
هيلانة إلى أن تكون قدوة لها في الإقدام تسكينًا لروعها , وكان هذا موجبًا للإعجاب
بها بحق
شجاعة النساء المحمودة
من الخطأ أن يتوهم متوهم أن لا فائدة في الشجاعة للنساء؛ فإنه إن كان يريد
بها الشجاعة الحربية فإني قليل الاعتداد بها في الرجال فأكون أقل اعتدادًا بها في
المرأة المترجلة، ولكن لا يعزب عن ذهنه أنه يوجد من ضروب الأقدار غير واحد
فإن النساء مستهدفات للمخاطر التي نحن عرضة لها ومضطرات لمغالبة ما نغالبه
من حوادث الكون الخارجي , وقد يوجد من الأحوال ما تتوقف حياتهن فيها بل
وحياة أطفالهن على سكينتهن ورباطه جأشهن , فقوة العزيمة وثبات الجنان هما من
الأخلاق اللازمة للمرأة لزومهما للرجل.
من المصائب أن تسوء تربية الفتيات إلى حد أن يتوهمن أن تكلف ضروب
الفزع القاتل عند كل مناسبة خصوصًا بحضرة الشبان مما يلفت الأنظار إليهن
فيقول من يراهن في هذه الحالة: إنهن يقصدن أن يظهرن في شكل الحمائم
المروعة، ويجمل أن يوعظن بأن الخوف لا حسن فيه مطلقًا، وأنه يجب عليهن
لأنفسهن إذا أحدق بهن الخطر أن يجتهدن في استشعار الاطمئنان والسكينة إن كن
يردن أن يصرن مثارًا للإعجاب والاستحسان. ولا صحة لما يعتقدنه على ما يظهر
من أن ثبات جنان المرأة يسيء خلقها، بل إني أجد جمالاً وشرفًا فائقين في تلك
الذات إذا كانت مع تجردها من القدرة على المهاجمة بل ومن قوة المدافعة، تقتحم
الخطر بقوة جأش تكافئ قوة الرجل.
أنا أعلم أن من الأوهام السخيفة اعتقاد أن جفاء الطبع من لوازم الشجاعة ,
ولكني أود لو أدري متى شوهد أن الشجاعة الحقيقية غيرت من رقة المرأة ورحمتها
وغير ذلك من فضائلها , حاشاها من هذا، وأن الجبن والأثرة لهما اللذان يوجبان
قسوة القلب وغلظه.
سل أمًّا جبانًا أن تشهد عملاً جراحيًّا يعمل في جسم ولدها لتسليه وتسري من
ألمه تجبك بأنها شديدة الإحساس كثيرة التأثر، وبئس العذر عذرها , فما مرادها إلا
الاحتماء من كلفة التسخير. ثم لا يتخيلنَّ أحد أن قوة العزيمة والسلطان على النفس
أو الشجاعة الحقيقية هي من الأخلاق التي لا ينتفع بها إلا في طائفتين من الأعمال
هما الحرب والملاحة، فإني أرى أن منفعتها تتعدى إلى كثير من الأمور الأخرى لأن
الرجل والمرأة مهددان كل يوم في القوم الذين يعيشان بينهم بآلاف من الأعداء
والمعاطب , ولأن البحر لا يقصد إلا إزهاق أرواحنا وما أكثر ما يعرض لنا من
الأحوال الخطرة التي يقصد فيها نقص أعراضنا والذهاب بحرماتنا. اهـ
***
يوم 20 مايو سنة - 186
تشق سفينتنا (المونيتور) بجلالة خطرها عباب أمواج المحيط الهادي ,
وتتخذ لها فيه سبيلاً , وقد عادت (لولا) بعد زوال الخطر إلى ما كانت عليه من
الابتهاج والسرور فهي تمرح وتعدو على ظهر السفينة مع ما لها من الحركات
حافظة لتوازنها , وتبدو قدماها الصغيرتان في خببها من تحت حلتها كأنهما فأرتان.
اهـ
***
يوم 25 مايو سنة -186
رسونا غداة اليوم في جوان فرناندز لضبط مقياس الزمن (الكرونومتر) .
وهذه البقعة مركبة في الحقيقة من ثلاث جزر يتألف منها مجموع متلاصق الأجزاء ,
وتسمى الأولى منها (ماساتيرا) والثانية (ماسافويرا) والثالثة (إسلادولوبوس) ,
وهي صخرة تكاد تكون جرداء أكثر الثلاثة تطوحًا نحو الجنوب , ويلقبها الملاحون
بجزيرة القيطس (عجل البحر) لأن القياطس تأوي إليها طلبًا للراحة والدفء.
الجزيرتان الأوليان ماستيرا ومسافويرا معشوشبتان شجراوان , ومع اجتهاد
الحكومة التابعتان لها في تعميرهما لا تزال قفرًا لا يعمرهما إلا المعز الوحشية،
وهي كثيرة فيهما , ويقال: إنها كانت تزيد عن ذلك لو لم تسلط عليها كلاب وحشية
مثلها تقاتلها وتفترسها. وليت شعري إلى أي حالة تصير هذه الكلاب إذا أبادت
جميع ما هنالك من المعز؟ لابد أن يأكل بعضها بعضًا.
وجزيرة جوان فرناندز تذكر بواقعة عظيمة جرت فيها وهي:
إنه في سنة 1704 رسا الملاح الإنكليزي دامبير على ماستيرا , فألقى فيها
وكيله على القوارب المدعو إسكندر شالكرك إثر مشاجرة احتدمت بينهما ترك هذا
التعيس في هذه الجزيرة القفر غير مزود إياه إلا بشيء يسير من الغذاء والعدد ,
فعاش هناك أربع سنين وأربعة أشهر من صيده وصناعته , وفي سنة 1709 اتفق
لاثنين من صيادي الثيران الوحشية أن نزلا بالجزيرة , فعثرا على ذلك الرجل فرقَّا
لحاله وحملاه معهما إلى أوربا.
وكان شالكيرك قد قيد بعض مذكرات في طريقة عيشته على تلك الجزيرة
البلقع , فاستعان بها دانيال روفويه فيما بعد على تأليف كتابه العجيب الذي عرفه
الناس جميعًا , ولشد ما يبديه الآن (أميل) و (لولا) من الاهتمام بمطالعة وقائع
روبنس كروزويه. اهـ
***
يوم 5 يونية سنة - 186
يا بشرى هذه أرض هذه أرض.
بعد أن سافرنا تسعين يومًا دخلنا خليج قلاَّ وهو من أبهى مناظر الدنيا.
وأبصرنا جزيرة لورنز وترتفع حيالنا. أقول: ترتفع وأقل ما في هذا اللفظ أنه
حقيقة في استعماله هنا , فقد نتج من حساب أحد العلماء أن سواحل سان لورنزو
كسواحل الشاطئ المجاور لها ارتفعت عن سطح البحر خمسًا وثمانين قدمًا إنكليزية
من عهد العصور التي يعرفها التاريخ.
صخور هذه الجزيرة يغمرها آلاف مؤلفة من الطيور، أخص بالذكر منها
طيرًا رأسه أسمر إلى السنجابية , وبطنه أبيض ناصع , وذنبه أسود. يقال: إنه
هو الذي يحصل منه أهل الجزيرة على السماد المعروف بالغوانو , وهو ثروتهم
الكبرى لأن الذهب والفضة كادا ينضبان من معادن بلاد البيرو فهي تتسلى عن
الحرمان منها ببيع القذر , ولا غرو فالذهب مُذهب ومُفسد والقذر مُوجد ومُخصب.
اهـ
***
يوم 6 يونيه سنة - 186
رسونا في ميناء سيودال دولوس ريس.
أخص ما أدهش (أميل) و (لولا) عند هبوطهما على البر كثرة العقبان
التي تسكن سواحل هذه الجهة , فإنها تُرى عند كل خطوة في الشوارع، وعلى
سطوح المساكن , وقد رأينا منها طائفة تبلغ الستين أو الثمانين نائمة وهى جاثمة
على جدار ورءوسها مختبئة تحت أجنحتها. ذلك أنها ليس من خلقها الجفلان , ولا
تخشى من السكان شيئًا لأنهم يجلونها. هذه الطيور في غاية الشره , وشرهها نفسه
نعمة من نعم الله على أهل تلك البلاد لأنه يساعد على حفظ الصحة في المدن،
وكان (لأميل) فيما أرى أخطاء غريبة في شأنها، فإنه لما سمع الزراية عليها ممن
درسوا أخلاقها في الكتب كان يتخيلها سلابة تسكن الهواء , أكالة دنيئة للرمم , فلم
يمض إلا ساعات قلائل حتى زال الوهم وتبين له خلاف ما كان يتوهمه أنها محتسبة ,
عيَّنها الخالق سبحانه في البلاد الحارة للقيام على تنظيف الطرق العامة , فهي
تنقيها مما يلقى على الأبواب من القمام واللحوم الفاسدة، ومما يطرح فيها من
الجيف، ويدل ما تبديه هذه الطيور من الاطمئنان إلى الإنسان والثقة به حق الدلالة
على شعورها بنفعها له.
المسافة بين قلاو وليما فرسخان أسبانوليان , وسنبلغها غدًا. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر.(7/668)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مدرسة الجمعية الخيريةفي المحلة الكبرى
الاحتفال بافتتاحها والغرض من تعليمها
ذكرنا في الجزء الخامس من هذه السنة خبر الاحتفال بتأسيس هذه المدرسة ,
وقد تم ولله الحمد بناؤها , وأهلت بالتلامذة , وانتظمت عقود الدروس فيها ,
واحتفل بافتتاحها رسميًّا أول أمس بحضور رئيس الجمعية الأستاذ الإمام وإبراهيم
بك الهلباوي من أعضاء مجلس إدارتها , ومنشئ هذه المجلة من أعضاء الجمعية،
وحضور وجهاء المجلة وعمال الحكومة فيها. وبدئ الاحتفال بتلاوة أحد التلامذة
لآيات من الكتاب العزيز، ثم وقف الرئيس فبسمل وحمد الله تعالى وصلى وسلم على
رسوله , وشكر للحاضرين عنايتهم بحضور الاحتفال الدالة على رغبتهم في نشر
العلم ومساعدة الجمعية الخيرية على عملها، وذكر الغرض من هذا التعليم الابتدائي
فقال ما خلاصته:
المدرسة تعلم المبتدئين القراءة والخط والحساب ومبادئ العربية , وتربيهم
على الأعمال الدينية والأدبية تعدهم بذلك للعيشة الصالحة في أنفسهم ومع الناس
الذين يعيشون معهم، وهذه المبادئ لا يستغني عنها إنسان فقيرًا كان أو غنيًّا ,
فالفلاح يحتاج إلى مكاتبة بعض الناس، فإذا كتب بيده أو قرأ ما يكتب إليه حسب
ما يبيعه ويشتريه بنفسه فهو خير له من الاستعانة بغيره على ذلك، ولهذا التعليم
فائدة أعلى من الاستعانة على المعيشة، وهى ارتقاء العقل واستعداده لفهم المصلحة
وتمييزها عن المفسدة , فإننا نرى كثيرًا من الناس يقع التنازع بينهم فيعتدي بعضهم
على بعض حتى تفنى ثروة الفريقين في التنازع، وإذا حاولت إقناعهم بأن هذا
ضار، وأن الخير والصواب في خلافه لا يسهل عليك ذلك لأنهم لا يفهمون. وأهم
ما تقصده الجمعية من التربية في مدارسها تنشئة المتعلمين على الفضائل كالصدق
والأمانة للذين عليهما مدار السعادة، ما نجحت أمة إلا بهما ولا هلكت إلا بفقدهما،
وقد حث الإسلام وجميع الأديان على هذين الخلقين , ونهى عن الكذب والخيانة أشد
النهي، وإننا مع ذلك نرى الكذب والخيانة فاشيين في الناس إلى حد سلبت معه ثقة
الناس بعضهم ببعض، وفقد الثقة مؤذن بالخراب والدمار. هذا التعليم سلم يرتقي
عنه الغني إلى التعليم العالي، ويجعل الفقير على مقربة من الغني في الفكر والخلق،
فإما أن يجد فيلحقه، وإما أن يحسن الاستفادة منه بخدمته ومساعدته في أعماله
بالصدق والأمانة، فهذا التعليم لا يستغني عنه أحد حتى الحمّار والجمّال.
وتعلم المدرسة أيضًا مبادئ العلوم ولغة أجنبية لإعداد من يريد خدمة
الحكومة لها. وهذا ما لا ترغب فيه الجمعية نفسها، لكنه من حاجة الناس , وإنما
رغبتها في الاستعانة به على تعلم الصناعة لمن يريدها، ولها الرجاء بهمة وجهاء
المحلة، وأهل الغيرة في أغنيائها في تأسيس قسم صناعي في هذه المدرسة , فإن
المحلة بلدة كانت معروفة بالصناعة، وقد وعد صاحب السعادة أحمد باشا المنشاوي
بأنه مستعد لمساعدة الجمعية على إنشاء القسم الصناعي، فلم يبق إلا اهتمام الوجهاء
الحاضرين بالاكتتاب في جميع المركز، وجمع المال الذي يُمكن من إتمام العمل.
وقال: قد علمت بأن أهل المحلة الكبرى ثلاثون ألفًا أو يزيدون، وهي قاعدة
مركز عدده كثير , وليس فيها إلا مدرسة للقبط , وأخرى للأمريكان , وإنني قد
رأيت في بعض سياحاتي في البلاد الأجنبية مدينة عدد سكانها ستة عشر ألف نسمة ,
وقد أنشأ الأهالي فيها مدرسة كلية تعلم فيها جميع العلوم العالية بمساعدة أهل
المركز الذي هي قاعدته أنفقوا عليها كذا من ملايين الفرنكات (نسيت العدد) على
أن فيها عدة مدارس ابتدائية، وفي كل قرية من قرى ذلك المركز مدرسة ابتدائية ,
فنرجو أن نبلغ من مجاراة أمثال هؤلاء الأحياء أن ترتقي مدرستنا هذه ويكون فيها
قسم صناعي , وأن يكون لنا في القاهرة مدرسة كلية فإن القطر المصري كله لم
يبلغ من التقدم في العلم أن كانت فيه مدرسة كلية تعلم فيها العلوم العالية.
ثم دعي كاتب هذه السطور إلى أن يخطب فيهم فلبى وقام فقال - بعد الافتتاح
بذكر الله -: رغبتم إليّ في الكلام، بعدما سمعتم من حِكَم الأستاذ الأمام، وإن مثل
الذي يعرض ما عنده من ذلك في حضرة الأستاذ إذا هو أحسن كمثل ذلك الوزير
العجمي في الآستانة، إذ كانت له منطقة مرصعة بالجواهر يتمنطق بها فوق ثيابه
يتراءى أمام الناس ويفتخر , فعلم السلطان بذلك فأمر بعض وزرائه , ويقال إنه
مصطفى فاضل باشا المصري بأن يدعوه إلى داره , ويريه ما يصغر منطقته في
عينه , فدعاه إلى العشاء والسمر فرأى من الآنية والماعون والأثاث المرصعة
بالجواهر ما خطف بصره حتى قيل إنه رأى الشباشب (كلمة مصرية مفردها
شبشب وهو الكوث أو القفش في العربية) وسيور القبقاب في المرحاض مرصعة
بالجواهر , فصار بعد ذلك يخفي منطقته تحت كسائه، ولكننا نقول شيئًا تلبية
للطلب:
جرت العادة بأن يكون الكلام في مقام الاحتفال بافتتاح مدرسة محصورًا في
مدح العلم والتعليم على أن العلم غني عن المدح باتفاق الناس على فضله، فلا يوجد
جاهل ينكر شرف العلم وشدة الحاجة إليه، ولكن الناس في أمتنا كانوا يعتقدون أن
العلم محصور في أمور مخصوصة يكفي أن يقوم بها بعض الناس فيسقط الطلب
عن الآخرين، وكان يصعب إقناع الجمهور بوجوب تعميم العلم، وبأنه يحتاج إليه
في كل شيء , ولكن قد تغيرت الآن الأحوال في هذه البلاد، وصرنا نرى جميع
طبقات الناس حتى الطهاة (الطابخين) يقذفون أولادهم ذكرانًا وإناثًا في المدارس
لإحساسهم بأن التعليم لابد منه , ولكن هذا الإحساس عند الأكثرين مبهم لا يعرفون
حقيقته ولا سببه ولا فائدة التعليم الحقيقية.
والسبب الحقيقي فيه التأثر بحال الأجانب الذين انتشروا في هذه البلاد , فهو
سبب من الخارج لا من النفس , فهذه البلاد الآن في طور الانقلاب من حال إلى
حال؛ إذ حدثت فيها مجارٍ جديدة للحياة، أو تيارات تجرف في طريقها الناس من
حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون، ومنها تيار تعميم التعليم , فالناس يرغبون
في تعليم أولادهم وهم لا يدرون ماذا يتعلمون، ولا ما هي فائدة التعلم، ولذلك لا
يميزون بين مدرسة وأخرى. وقد سألت بعض المتعلمين التعليم الثاني في المدرسة
الخديوية عن رأي التلامذة في فائدة التعليم مع العلم بأن أعمال الحكومة لا تفي
بجميع المتعلمين , فقال أنهم يرون أن المتعلم يقدر على أعمال شريفة يستغني بها لا
يقدر عليها غيره. فقلت له: إن الذي يتعلم ليعيش بعلمه لا غرض له إلا نفسه،
فهو محترف كالصانع والزارع، وقد رأينا كثيرًا من العوام حصلوا من الثروة
بالزراعة والتجارة ما لم يقاربهم فيه متعلم كزعزوع بك وفلان وفلان. والذين
ارتقوا بالتعلم في مصر قليلون كفلان وفلان من القضاة وغيرهم , ولم نجد فيهم من
حصل بعلمه ثروة كبيرة كأولئك العامة , فالتعليم في مصر لم يرتق إلى درجة يسهل
معها تحصيل الثروة الواسعة , على أن نفقات المتعلمين تكون أكثر , فإذا طلبوا
الثروة ولم يجدوها كانوا أشقى من غيرهم في المعيشة. فقال: هذا صحيح. ثم
قلت له: ألا يوجد في إخوانك المتعلمين من يفكر في التوسل بالعلم إلى خدمة أمته
وبلاده خدمة عامة , فيكون أفضل من النجار والحداد والفلاح الذين لا يعملون إلا
لأجل بطونهم، وإن كان عملهم الجزئي نافعًا للناس؟ فقال: يوجد قليل منهم يفكر
في إنشاء جريدة لخدمة الوطن. قلت: وماذا رأوا من خدمة الجرائد للناس؟ أي
شيء ضار كانت عليه الأمة فتحولت عنه بإرشاد الجرائد , وأي شيء نافع كانت
منصرفة عنه فتوجهت إليه بحثها وترغيبها؟ وهل تعرف أنت للجريدة الفلانية
والجريدة الفلانية مذهبًا ورأيًا نافعًا تمتاز بالدعوة إليه لترقية البلاد؟ فقال: لا ,
وكان قصارى الحديث معه أنه ليس لأحد غاية مقصودة من التعلم وراء خدمة
الحكومة (أقول: ويلحق بها الطب والمحاماة عند نفر قليل) .
لهذا التعليم الناقص في مصر سيئات ومضار , فإن الفتن والمعاصي الضارة
التي ألمت بالبلاد بواسطة الأجانب لم تنتشر فيها إلا بسعي هؤلاء المتعلمين، وقد
قال الأستاذ الأمام: إن من مقاصد المدارس إفادة المتعلمين الصدق والأمانة , فسلوه
وسلوا غيره من العقلاء المختبرين: ألهم ثقة بصدق أكثر المتعلمين وأمانتهم؟
يجيبوك: لا لا. والسبب في عدم إفادة التعليم أمثال هذه الصفات هو أن القائمين
بأمر التعليم لا يقصدون ذلك , فإن الحكومة إنما تقصد بمدارسها إيجاد خدم لها
يقدرون على أعمال مخصوصة , وليس لها عناية بتربية الأرواح وترقية الأمة ,
هذا وإن مدارس الحكومة خير المدارس وأرقاها تعليمًا ونظامًا. وأما المدارس
الأهلية فالمقصود منها التجارة والكسب، وأكثر أصحابها لا يعرفون طريق الجمع
بين الإفادة المطلوبة والاستفادة، وقد دخلت مرة إحدى هذه المدارس وسألت أحد
المدرسين عن الكتب التي يقرأها في الدين - والدين كما لا يخفى أساس التهذيب -
فقال: إنني كنت بدأت بقراءة شيء من السيرة النبوية , وبمناسبة ذكر المعراج
ذكرت لهم فرضية الصلاة، وأردت أن أذكر شيئًا من أحكامها، فرأيت على وجوه
التلامذة ما يدل على عدم الارتياح، فتركت درس الدين , يعني أن هؤلاء لا يعلمون
إلا ما ترتاح إليه نفوس التلامذة وتتلذذ به , أي يريدون أن يكون التلامذة هم نظار
المدارس.
ولا نعرف في البلاد مدارس غرضها تهذيب النفوس غير مدارس الجمعية
الخيرية، وذلك أن رئيس هذه الجمعية ومساعديه في إدارتها هم خيرة رجال هذه
البلاد معرفة وغيْرةً، وأقدرهم على إيجاد التعليم النافع والتربية الصحيحة، ولا
تنتج الأمم الضعيفة أمثالهم إلا بعد مخض الزمان لها في قرون طويلة، فيجب أن
تُغتنم فرصة وجودهم بمساعدة الجمعية على نشر التعليم والتربية على الوجه
الصحيح النافع، فإنه ما قصر بها إلا قلة المال. وقد أحسن وجهاء المحلة صنعًا
بتفويض أمر مدرستهم إلى الجمعية , وإنني أدعو كل واحد من السامعين إلى
مساعدة هذه الجمعية بنفسه، وبدعوة غيره إلى ذلك , فإن الأمور العامة لا تحيا
وتبلغ كمالها إلا بالدعوة، فينبغي لكل واحد أن يدعو نفسه , وكل من يظن فيه
الخير إلى مساعدتها على قدر الاستطاعة من غير تفرقة بين غني وفقير , فإن الله
تعالى يقول: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا} (الطلاق: 7) أي من كان رزقه ضيقًا فلينفق بقدر
حاله. والقليل من الكثير كثير، فلو أن كل واحد من أهالي القطر بذل للجمعية
قرشًا واحدًا في السنة لكان لها من ذلك ملايين تمكنها من تعميم التعليم في القطر.
وليعلم كل من يبذل شيئًا للجمعية ولو قليلاً أنه شريك في الأجر وفي الشرف
لمن بذل الكثير من حيث أن كل واحد بذل ما في وسعه. ومن حيث أن العمل العام
لم يقم ولا يقوم به واحد , وإنما بالتعاون والمساعدة , وباذل القليل ركن من أركان
التعاون.
ثم دعي إلى الخطابة إبراهيم بك الهلباوي فقام وذكر ملخص تاريخ هذه
الجمعية، وبَيَّن أنها جمعية عمل لا جمعية قول، وأنه أحس من نفسه بالعجز عن
الخطابة في احتفال مدرسة للجمعية على تمرنه على الخطابة.
قال: إنني دخلت في هذه الجمعية في أول تأسيسها منذ اثنتي عشرة سنة،
ولم أخطب فيها قط، وقد عرضت مناسبات للخطابة فكنت أستأذن مولانا الرئيس
بالتلويح , ووكيل الجمعية وبعض أعضاء الإدارة بالتصريح , فكانوا يضعون
أصابعهم على أفواههم إشارة إلى وجوب السكوت، وقد قامت في هذه المدة جمعيات
قولية كثيرة فذهب بها ودرس رسومها القول والخطابة على أنها لم تصادف من
المقاومة ما لقيت الجمعية الخيرية الإسلامية، وذكر أسماء هذه الجمعيات التي كانت
محترمة في أوقات كان فيها ذكر الجمعية الخيرية مخيفًا ومزدرى به، حتى كان
الداعي إلى مساعدتها لا يتوقع إلا الخيبة، وحتى إن بعض الباشوات هدد محصلها
مرة بالضرب بعد أن أهانه بالقول.
وقد ثبت رجالها مع هذه الصعوبات على عملهم ليثبتوا للناس أن الساعي
بالخير مع الصدق والإخلاص لابد أن يظفر بالنجاح إذا هو ثبت وصبر ووكذلك
كان. ونالت هذه الجمعية الثقة في نفوس الناس بعدما تولى رئاستها مولانا الرئيس
الحاضر , حتى أحس كثير من العقلاء بوجوب كفالتها للمدارس الأهلية التي ينشئها
الأهالي لتربية أولادهم، وكان السابق لذلك وجهاء المنيا فقد أنشأوا مدرسة في بني
مزار وعهدوا بإدارتها إلى الجمعية رجاء بقائها وثباتها والانتفاع بتعليمها، وكذلك
فعلتم يا وجهاء أهل المحلة , فإنكم طلبتم من الجمعية أن تدير لكم هذه المدرسة التي
أنشأتموها بأموالكم لمثل ذلك الغرض بمحض الإحساس بالثقة بالجمعية.
وبعدما أتم خطابه المفيد خُتم الاحتفال كما بدئ بتلاوة القرآن الكريم , ولا صحة
لما ذكر في المؤيد أمس من أن بعض المدعوين تصدوا للخطابة فمنعهم مأمور المركز
... إلخ. فنثني على وجهاء المحلة أطيب الثناء. ونرجو لهم كمال الارتقاء.
(إرجاء وعد)
وعدنا في الجزء الماضي بأن نكتب في هذا الجزء مقالاً في طريق تعلم النابتة
المصرية , والروح الذي تحيا به الأمم، وقد حال دون ذلك ما عرض من الكلام في
احتفال مدرسة المحلة. وفي خطبتنا فيه شيء من الموضوع الموعود به, وسنعود
إليه في جزء آخر إن شاء الله تعالى.
__________(7/673)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(كتاب الاقتصاد في الاعتقاد لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي)
أبو حامد من أكبر أئمة الأشاعرة في الكلام، وكتبه أسهل عبارة وأحسن بسطًا
وتقسيمًا وتحقيقًا من سائر الكتب، فكتابه الاقتصاد من أنفع كتب الكلام وأفيدها،
وفيه مباحث كثيرة لا توجد في كل كتب هذا العلم المعتبرة , وينتقد عليه ما ينتقد
على جميع كتب الأشاعرة من الفلسفة التي لا معنى لها في عقائد الدين , وإن كان
هو أبعد من غيره عن الجمود على المذهب لأنه خالف أصحابه الأشاعرة في بعض
المسائل , وذلك كالبحث في صفات الله تعالى من حيث أنها زائدة على الذات , فإن
الذي ساقه وأمثاله إلى ذلك الجدلَ مع المعتزلة، وما أغنى المسلمين عن المذهبين
والاكتفاء بالوقوف عند ما ورد به الشرع، وقطع به العقل من غير فلسفة فيه.
مثال هذا أن العقل والشرع علمانا أن الله تعالى خالق العالمين عالم بما خلق لا
يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فأي حاجة بنا مع هذا إلى أن
نبحث عن هذا العلم الإلهي هل هو عين الذات الإلهية أم غيرها، أم لا عينها ولا
غيرها , هل عرفنا حقيقة ذات الله وحقيقة علم الله فننسب هذا إلى تلك ونحكم بأن
النسبة بينهما كذا؟
كلا، إنها فتنة ابتلي بها علماء المسلمين إلا من لزم طريقة السلف الصالح من
الصحابة والتابعين إلى عهد الأئمة الأربعة وقد نجا منها الإمام الغزالي بعدما تصوف.
وجملة القول: إن هذا الكتاب لا يستغني عنه المشتغل بتحصيل علم الكلام لأنه
من أوضح الكتب وأحسنها , وهو يطلب من الشيخ مصطفى القباني الدمشقي
طابعه في مصر.
***
(كتاب حكمة المخلوقات للغزالي)
التفكر من أفضل العبادات بل هو عبادة النبيين والصديقين والعلماء
الراسخين , والتفكر في حكم المخلوقات يرقي العقل بزيادة العلم والروح بقوة
الإيمان. وهذا الكتاب يفتح لقارئه أبواب التفكر في الخلق بما ينبهه إلى حكمها؛ فمنها
حكم الله في السموات والنيرات، ومنها حكمه في الأرض والبحار والماء
والهواء والنار، ومنها حكمه في خلق الإنسان وأنواع الحيوان، وحكمه في خلق
النبات، فرحم الله أبا حامد، ما أعرفه بطرق النفع وما أحسن بيانه. والكتاب يطلب
من الشيخ مصطفى القباني الذي تولى طبعه وتصحيحه جزاه الله خيرًا.
***
(كتاب أنباء نجباء الأبناء)
مؤلف هذا الكتاب أبو هاشم محمد بن محمد ظفر الصقلي المتوفى سنة 565 ,
وهو مبتدأ بنبذة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم , ونبذ أخرى في أخبار بعض
كبار الصحابة، ثم في أخبار بعض الملوك الكبراء وبعض الصالحين، وأخبار
الكتاب كلها تربية مفيدة وفكاهات مستطابة، وإنني قد فتحته الآن لأنقل نبذة من
غير اختيار فإذا أنا قد فتحته على هذه الحكاية قال:
(درتازين، لقرتي عين)
قال الشيخ رحمه الله ورضي عنه: بلغني أن محمد بن عبد الرحمن الهاشمي
قال: كانت عنابة أم جعفر بن يحيى تزور أمي , وكانت لبيبة من النساء حازمة
فصيحة برزة، يعجبني أن أجدها عند أمي فأستكثر من حديثها , فقلت لها يومًا: يا أم
جعفر , إن بعض الناس يفضل جعفر على الفضل، وبعضهم يفضل الفضل على
جعفر، فأخبريني. فقالت: ما زلنا نعرف الفضل للفضل. فقلت: إن أكثر الناس
على خلاف هذا , فقالت: ها أنا أحدثك واقض أنت , وذلك الذي أردت منها.
فقالت: كانا يومًا يلعبان في داري، فدخل أبوهما فدعا بالغذاء وأحضرهما , فطعما
معه , ثم آنسهما بحديثه، ثم قال لهما: أتلعبان بالشطرنج؟ فقال جعفر - وكان
أجرأهما -: نعم. قال: فهل لاعبت أخاك بها؟ قال جعفر: لا. قال: فالعبا بها
بين يدي لأرى لمن الغلب , فقال جعفر: نعم. وكان الفضل أبصر منه بها , فجيء
بالشطرنج فصفت بينهما , وأقبل عليها جعفر وأعرض عنها الفضل , فقال له
أبوه: ما لك لا تلاعب أخاك؟ فقال: لا أحب ذلك , فقال جعفر: إنه يرى أنه أعلم
بها فيأنف من ملاعبتي، وأنا ألاعبه مخاطرة، فقال الفضل: لا أفعل، فقال أبوه:
لاعبه وأنا معك. فقال جعفر: رضيت , وأبى الفضل واستعفى أباه فأعفاه. ثم
قالت لي: قد حدثتك فاقض. فقلت: قد قضيت للفضل بالفضل على أخيه، فقالت:
لو علمت أنك لا تحسن القضاء لما حكمتك , أفلا ترى أن جعفرًا قد سقط أربع
سقطات تنزه الفضل عنهن. فسقط حين اعترف على نفسه بأنه يلعب بالشطرنج،
وكان أبوه صاحب جد. وسقط على التزام ملاعبة أخيه وإظهار الشهوة لغلبه
والتعرض لغضبه. وسقط في طلب المقامرة وإظهار الحرص على مال أخيه.
والرابعة قاصمة الظهر حين قال أبوه لأخيه: لاعبه وأنا معك، فقال أخوه: لا،
وقال هو: نعم , فناصب صفًّا فيه أبوه وأخوه. فقلت: أحسنت والله، وإنك
لأقضى من الشعبي، ثم قلت لها: عزمت عليك أخبريني هل خفي مثل هذا على
جعفر وقد فطن له أخوه؟ فقالت: لولا العزمة لما أخبرتك. إن أباهما لما خرج
قلت للفضل خالية به: ما منعك من إدخال السرور على أبيك بملاعبة أخيك؟ فقال:
أمران؛ أحدهما لو أني لاعبته لغلبته فأخجلته، والثاني قول أبي: لاعبه وأنا
معك. فما يسرني أن يكون أبي معي على أخي. ثم خلوت بجعفر فقلت له: يسأل
أبوك عن اللعب بالشطرنج فيصمت أخوك وتعترف وأبوك صاحب جد. فقال:
سمعت أبي يقول: نعم لهو البال المكدود , وقد علم ما نلقاه من كد التعلم والتأدب،
ولم آمن أن يكون بلغه أنَّا نلعب بها ولا أن يبادر فينكر , فبادرت بالإقرار إشفاقًا
على نفسي وعليه. وقلت: إن كان توبيخ فديته من المواجهة به , فقلت له: يا بني
فلمَ تقول: ألاعبه مخاطرة كأنك تقامر أخاك وتستكثر ماله؟ فقال: كلا , ولكنه
يستحسن الدواة التي وهبها لي أمير المؤمنين , فعرضتها عليه فأبى قبولها ,
وطمعت أن يلاعبني فأخاطره عليها وهو يغلبني فتطيب نفسه بأخذها. فقلت لها:
يا أماه ما كانت هذه الدواة؟ فقالت: إن جعفرًا دخل على أمير المؤمنين فرأى بين
يديه دواة من العقيق الأحمر محلاة بالياقوت الأزرق والأصفر , فرآه ينظر إليها
فوهبها له. فقلت: إيه. فقالت: ثم قلت لجعفر: هبك اعتذرت بما سمعت، فما
عذرك من الرضا بمناصبة أبيك حين قال: لاعبه وأنا معك، فقلت أنت: نعم،
وقال هو: لا؟ قال: عرفت أنه غالبي ولو فتر لعبه لتغالبت له مع ما له من
الشرف والسرور بتحيز أبيه إليه. قال محمد بن عبد الرحمن: فقلت: بخ بخ ,
هذه والله السيادة. ثم قلت لها: يا أماه أكان منهما من بلغ الحلم؟ ! فقالت: يا بني
أين يذهب بك؟ أخبرك عن صبيين يلعبان فتقول: كان منهما من بلغ الحلم؟ لقد
كنا ننهى الصبي إذا بلغ العشر وحضر من يستحي منه أن يتبسم.
(المنار)
فليتأمل هذه التربية العالية الذين يتبجحون بلفظ التربية اليوم , ويقولون: إن
المسلمين في أيام مدنيتهم لم يكن لهم عناية بالتربية، إذ لم نجد في كتبهم لهجًا بها
(أي بلفظها) فأين يوجد مثل هذه التربية عند معاصرينا اللاهجين بالكلمة الشريفة
وما اشتق منها.
__________(7/678)
16 رمضان - 1322هـ
24 نوفمبر - 1904م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مواقيت العبادة من الصلاة والصيام والحج
بعث الله خاتم النبيين للناس كافة , ومنهم البدو والحضر والأميون والمتعلمون
والمنفردون والمجتمعون، وقد ساوى سبحانه في هذا الدين الأخير بين الناس في
التكليف، فلم يجعل فيه رؤساء ومرؤوسين يكلف بعضهم بما لا يكلف به الآخر، ولم
يجعل عبادة أحد متعلقة بعبادة الآخر، حتى إن إمام الصلاة إذا عرض له ما أبطل
صلاته كان للمأمومين أن يتموا صلاتهم فرادى , وإذا تقدم واحد منهم فأتم لهم الصلاة
جماعة جاز، وكل من صحت صلاته صحت إمامته، فليس في الإسلام طوائف ولا
بيوت ممتازة بالرياسة الدينية كما في الديانات الأخرى، حتى اليهودية والنصرانية.
ولهذا جعل الله تعالى مواقيت العبادة في الإسلام متعلقة بالمشاهدة التي يستوي
فيها العالم والجاهل والبدوي والحضري لا بحساب الحاسبين والفلكيين ولا بإرادة
الرؤساء والحاكمين، فوقت صلاة الفجر يدخل بطلوع الفجر الصادق، ووقت الظهر
بزوال الشمس الذي يعرف بالظل، ووقت العصر حين يكون ظل كل شيء مثله،
ووقت المغرب بالغروب، ووقت العشاء بذهاب الشفق الأحمر، ويعرف شهر الصيام
برؤية الهلال، فإن لم ير فبإتمام شعبان ثلاثين يومًا، وكذلك شهر الفطر وأشهر
الحج، ولذلك قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ} (البقرة: 189) .
وقد مضت السنة بأن يرقب المؤذن في البلد المواقيت للصلاة، ويؤذن بها في
الناس أي يعلمهم بها فيعملون بإعلامه , ويصلون لكي لا يتكلف كل واحد من
المجتمعين في البلد مراقبة الأوقات، وكذلك وقت الصيام، إذا رأى بعض المسلمين
الهلال يذاع خبر رؤيته إياه في البلدة ويصوم الناس تصديقًا له كما يصدق الواحد في
مواقيت الصلاة التي تكون مواقيت للصيام في أيامه ولياليه؛ إذ نعتمد على أذان
الواحد في الإمساك صباحًا والفطر مساءً لا فرق بين ثبوت شهر الصيام وثبوت وقت
الصوم ووقت الفطر في كل يوم من أيام الشهر. ولا عبرة باحتمال كذب المخبر عقلاً
إذا لم يكن ثم شبهة أو دليل على كذبه كأن يؤذن للمغرب وأنت ترى شعاع الشمس
على الجدران. ويدل على عدم الفرق بين ثبوت شهر الصيام وثبوت أوائل أيامه
ولياليه لأجل الإمساك والفطر ما ذكرناه في جزء المنار الذي صدر في غرة رمضان
من العام الماضي , ومنها حديث ابن عباس عند الشيخين وأصحاب السنن وهو:
جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال - يعني رمضان-
فقال: (أتشهد أن لا إله إلا الله) قال: نعم. قال: (أتشهد أن محمدًا رسول الله)
قال: نعم. قال: (يا بلال أذن في الناس فليصوموا غداً) وغير ذلك من أحاديث
الرؤية أو إكمال العدة.
* * *
طريقة إثبات
رمضان في أمصار المسلمين
لو جرى المسلمون على السنة لاستهل بعض المعروفين بالعدالة منهم ليلة
الثلاثين من شعبان كما يستهلون في البوادي؛ فإذا رأى المستهل الهلال أمر الإمام أو
نائبه المؤذنين بإعلام الناس بذلك، وأن يصوموا، ولكنهم أبوا إلا أن يجعلوا إثبات
رمضان بالرؤية منوطًا بالحكام , وأن يبتدعوا طريقة لم تعرف في السنة، وهي أن
يزوِّروا دعوى ويحكم القاضي فيها بإثبات الشهر، ويبلغ الناس حكمه , ولا يرون
العلم بأن الدعوى مزورة والرضا بها والحكم فيها طعنًا في عدالة القاضي والشهود،
حتى لا يقبل قولهم في إثبات رمضان ولا في غيره. بل قضت قواعدهم الفقهية بأنه
لا طريقة لإلزام الناس بالصيام إلا هذا لأن حكم القاضي يرفع الخلاف في المسائل
الاجتهادية , فلا يجوز بعده لأحد أن يعمل باجتهاده في المسألة التي حكم فيها. ويرون
أن شهادة الشهود أمام القاضي برؤية الهلال لا تكفي لإعلام الناس وأمرهم بالصوم كما
فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وأصحابه الهداة المهديون ,
وشبهتهم أن الإخبار برؤية الهلال لا إلزام فيها , وإنما يجب فيها الصوم على من
صدق الخبر , وأما الحكم فيجب على كل أحد الخضوع له. وكشف هذه الشبهة أن
السنة دلت على أن من سمع خبر رؤية الهلال؛ وجب عليه الصيام كما لو رآه ,
الإخبار بالرؤية كالإخبار بالحكم المبني عليها يجب العمل به على من صدق
المخبر, ولا يجب على من لم يصدق. فإذا كان المؤذن أو المؤذنون أو الحكام هم
المخبرون بأن بعض الناس رأوا الهلال؛ فإن كل الناس يصدقون الخبر بشهادتهم ,
وكل من لا دليل عنده على كون الشهادة كاذبة فهو يصدق الشهود أيضًا , ومن قام
عنده الدليل على كذب الشهادة فإنه لا يصدقها , ولا يعتبر الحكم الذي بني عليها؛
لأن المبني على الفاسد فاسد.
والحكم بوجوب الصوم لا إلزام فيه؛ لأن الصوم معاملة بين العبد وربه والعمدة
فيها الاعتقاد؛ فإذا حكم كل قضاة الأرض بأن الشمس غربت , وأنا أراها أو أرى
شعاعها , فلا يجوز لي أن أفطر ولا أن أصلي المغرب. وأنا أصلي كل يوم اعتمادًا
على إخبار المؤذن , وأفطر في كل يوم من رمضان عند سماع مدفع المغرب أو أذان
المؤذن , وكذلك يفعل جميع المسلمين في المدن والأمصار. فأي دليل في الشرع على
التفرقة بين الإخبار بأول يوم من رمضان , والإخبار بمواقيت الإمساك والإفطار في
سائر أيامه , ومواقيت الصلاة والحج، وما هو المسوغ لتزوير دعوى لإثبات العبادة.
إذا قالوا: يجب العمل بما مضت به سنة الشارع؛ نقول: إن كتب السنة
الصحيحة بين أيدينا ناطقة بأن رؤية الهلال كانت عندهم كرؤية الفجر: مَن رأى
يخبر , والمؤذن يبلغ الناس دخول رمضان كما يبلغهم دخول وقت الصلاة
بمعرفته أو بإخبار بعض المؤمنين له , وفي الحديث الصحيح: (إن بلالاً يؤذن
بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم) وكان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى
يقال له: أصبحت أصبحت. وفي لفظ (ينادي) بدل (يؤذن) وهو متفق عليه من
حديث ابن عمر مرفوعًا , وروى مسلم والترمذي - واللفظ له - وغيرهما من
حديث سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعكم من
سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل , ولكن الفجر المستطير في الأفق) .
وإذا قالوا: إن إخبار المؤذن ليس بشرط , وفي معناه كل إعلام كالمدافع في هذا
الزمان , وإنما الأذان سنة متبعة في الإعلام بمواقيت الصلاة فقط، وإن شارك الصوم
الصلاة في بعضها فبالتبع؛ نقول: إن هذا كلام معقول مقبول , ولقد كان إخبار
المؤذن بدخول رمضان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عن شهادة بعض
المؤمنين برؤيته , فلتكن المدافع وما في معناها من طرق الإعلام عن شهادة الشهود
أمام القاضي , ودعوا هذه البدعة التي جريتم عليها. وليعلم أن الشهادة عند القاضي
لأجل الضبط والثقة بالأخبار , ولو شهد الشهود عند الوالي (كخديوي مصر) أو
نائبه الإداري كناظر الداخلية أو المحافظ , وأمر بإعلام الناس حصل المقصود.
* * *
العمل
بخبر التلغراف والتلفون
وإذا جاز العمل بصوت المدفع أو بإيقاد القناديل في المآذن ونحوها وإطفائها إذا
جرت العادة بجعل ذلك علامة على الصوم والفطر , فلا شك أنه يجوز العمل بخبر
التلغراف والتلفون لا سيما إذا كانا من عمال الحكومة حيث يؤمن التزوير ويغلب على
الظن الصدق؛ لأن الحكومة تعاقب عامل التلغراف إذا كذب أو زور عقوبة شديدة.
فخبره يوجب العلم الراجح الذي يعمل به في الأحكام كخبر المؤذن وصوت المدفع
ونحو ذلك، وقد تتعدد طرقه فيوجب العلم اليقين كالتواتر الحقيقي بل إن التلغرافات
الرسمية لا يرتاب أحد في صدقها كما هي حتى في الأمور السياسية وإن جاز الخطأ
فيها عقلاً كالكتابة وغيرها من ضروب الخبر والتبليغ.
* * *
إثبات
رمضاننا هذا في مصر
اجتمع في ليلة الثلاثين من شعبان وهي ليلة الثلاثاء قاضي مصر وأعضاء
المحكمة الشرعية وبعض العلماء لسماع شهادة المستهلين حسب العادة , فلم يشهد أحد
بأنه رأى الهلال على كثرة المستهلين، وانتظار الجائزة للشاهدين، وذلك أن رؤيته
كانت مستحيلة كما عُلم من حساب الفلكي القطعي، ولقد كان جميع العارفين بتعذر
رؤية الهلال يعتقدون اعتقادًا جازمًا بأن من يشهد برؤيته يكون كاذبًا في شهادته ومنهم
بعض أعضاء المحكمة الشرعية.
وفي نهار تلك الليلة ورد على قاضي مصر تلغراف من قاضي الفيوم الشرعي
يقول فيه: إنه شهد عنده شاهدان برؤية الهلال ليلة الثلاثاء , وحكم بذلك , ويعهد إليه
بأن يبلغ الحكومة ذلك لتبلغ الناس، فقال قاضي مصر: إن خبر التلغراف لا يعمل
به شرعًا , وهو لا يشك في أن التلغراف الذي جاءه هو من قاضي الفيوم الشرعي ,
ولذلك خاطبه بالتلغراف , وهو لا يشك في وصوله إليه وتصديقه إياه بأن يرسل إليه
الشهود الذين شهدوا هناك ليشهدوا أمامه هنا فحضروا وشهدوا , ولفقت الدعوى
المعتادة , وحكم قاضي مصر , وبلغ الحكومة بأنه ثبت عنده أن هذا اليوم (الثلاثاء)
أول رمضان، وعهد إليها أن تخبر الناس بذلك , فأمرت بإطلاق المدافع في القاهرة
فأطلقت , وبلغت سائر البلاد بالتلغراف , فمن بلغه الخبر في النهاروصدق الشهادة
والحكم؛ أمسك نهاره وقليل ما هم، وأصبح المسلمون يوم الأربعاء صائمين معتقدًا
أكثرهم أنهم أفطروا يومًا يجب عليهم قضاؤه , وطفق أهل العلم والفهم من الخواص
يتحدثون متعجبين مما حصل لاعتقادهم بأن رؤية الهلال كانت من المحال، وأن خبر
قاضي الفيوم بثبوت الشهر هو كخبر قاضي مصر لا فرق بينهما شرعًا، فلماذا أعلن
إثبات الشهر بالتلغراف والمدفع عندما شهد الشهود أمام قاضي مصر، ولم يعلن عندما
شهدوا أمام قاضي الفيوم، كلاهما قاضٍ شرعي , وطريقة الإثبات واحدة , وطريقة
إعلانه واحدة، فهل صارت العبادة الإسلامية متوقفة على رئيس مخصوص يصح
على يده ما لا يصح على يد غيره؟ ونحن نعلم أنه لم ينطق الكتاب الإلهي ,
ولم تمض السنة النبوية، ولا عمل السلف الصالح , ولا قال الأئمة المجتهدون بأن
عبادة الصيام أو غيرها تتوقف على حكم شرعي أو على أمر رئيس ولا حاكم؛
ولهذا لا يجوِّز القضاة لأنفسهم الحكم بإثبات شهر رمضان ابتداء، بل يجعلون إثباته
تبعًا للحكم بقضية من المعاملات لعلمهم بأن العبادة لا تتوقف على حكم الحاكم
إجماعًا، وإنما جرت العادة بأن يشهد المستهلون برؤية الهلال عند الحكام لأنهم هم
الذين يتيسر لهم إعلام الناس بذلك حتى لا يكلف كل واحد بتأبي الرؤية كما يستغنون
بأذان المؤذن عن تعرف الأوقات بأنفسهم , ولا فرق بين الإعلام بمواقيت الصلاة
ووقت الصيام إلا من جهة واحدة وهي: أن الشرع تعبدنا بأن يكون الإعلام
بمواقيت الصلاة بألفاظ مخصوصة، هي كلمات الأذان , أي أنه جعل هذه الكلمات
عبادة، وشعارًا دينيًّا لا أنه جعلها شرطًا للصلاة أو للعلم بوقتها.
* * *
العمل
بحساب الحاسبين في العبادة
اختلف الفقهاء في العمل بحساب الحاسب في إثبات رمضان , فقال بعضهم: لا
عبرة به مطلقًا، وقال آخرون: إن الحاسب يعمل هو بما ثبت عنده ولا يعمل غيره
بخبره، وقال بعضهم: يعمل به من صدقه.
حجة المانعين أن الشرع ورد بحصر إثبات دخول شهر الصيام برؤية الهلال
وإلا فبإكمال عدة شعبان، ومن ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنه عند البخاري
ومسلم وأبي داود والنسائي مرفوعًا: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا
وهكذا) يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين. والحكمة في ذلك ظاهرة وهي: أن
تكون طريقة إثبات العبادة واحدة تسهل على كل مكف وأن لا يكون لبعض الناس من
الرؤساء أو العلماء أو الحكام سلطة دينية تتوقف عليها العبادة، على أن حسابهم يخطئ
أحيانًا بدليل اختلافهم فيه.
وحجة المجوزين أن المقصود العلم بدخول الشهر كالعلم بدخول وقت الصلاة
والأحاديث الواردة بالرؤية وإكمال العدة لا تنفي طرق العلم الأخرى , كما أن
الأحاديث الواردة بمعرفة وقت الظهر ووقت العصر بالظل لا تنفي معرفة ذلك
بالحساب. ويمكن منع جعل إثبات العبادة خاصًّا ببعض الحاسبين الذي هو سلطة
ورياسة دينية ممنوعة في الإسلام بأن لا يعمل بقولهم إلا في بلد كثر فيه الحاسبون
الموثوق بعلمهم بحيث ثبت عند الناس صدقهم إذا اتفقت تقاويمهم. وأما الخطأ الذي
نراه في التقاويم المصرية إذ يقول بعضها: إن أول الشهر يوم كذا , ويقول الآخر:
بل يوم كذا , فهو عن جهل بعضهم بهذا الحساب , أو بأن الشهر الشرعي هو
غير الشهر الفلكي , فإن أول الشهر الشرعي هو الليلة التي يمكن أن يرى فيها الهلال
كل معتدل البصر إذا لم يحجبه سحاب أوغيره , ولعله يكون ثاني الشهر الفلكي
في الأغلب , وإننا لنراهم يكتفون بإمكان رؤية أي راءٍ , أو بإمكان الرؤية في نفسها
ولو من حديد البصر كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فإن غُمَّ على مثل زرقاء
اليمامة فأكملوا عدة شعبان ولكنه قال: (فإن غُمَّ عليكم) أي يا معشر المسلمين.
* * *
رأي مشايخ العصر في ذلك
نحن نعلم أن المؤذنين في جميع الأمصار الإسلامية يعتمدون في معرفة الأوقات
علي تقاويم الحاسبين وآلة الساعة لا على ما ورد في الشرع من مراقبة الفجر وظل
الشمس وغروبها وذهاب الشفق الأحمر، وينكرون علي من يخالف هذه التقاويم،
حتى إن العلماء ليكادون يوافقون العامة علي الإنكار في ذلك، وقد كنا مرة مع بعض
أكابر علماء الأزهر في الريف , فأبصر مفتي الديار المصرية أن الشفق قد زال فقام
إلى صلاة العشاء , فقال له بعض العلماء: قد بقي إلى وقت العشاء خمس دقائق , قال
المفتي: قد زال الشفق ولم يبق شيء فوافق الآخرون بعد كلام وصلينا جميعًا ,
ولكنني رأيتهم بعد السلام قد فتحوا ساعاتهم وقال بعضهم: الآن قد دخل الوقت. إنهم
صلوا علي علم بأن صلاتهم صحيحة , ولكن مع تأثر نفوسهم بمخالفة العادة التي
جروا عليها ولا يخفى عليهم أن الشفق يختلف في بعض البلاد وفي بعض الأحوال
عن بعض، فإذا كان في الأفق رطوبة شديدة يختلف بقاؤه عن وقت الجفاف ,
والتقاويم تبنى على الاحتياط.
كنا عند مختار باشا الغازي مع المشايخ في دعوة رمضان فجرى حديث إثبات
رمضان والعمل بالحساب وبخبر التلغراف، فقالوا: إن العمل بها غير جائز شرعًا
لأنهما ليسا من البينات الشرعية، فقال الباشا: إن الله عظيم الشأن علم ما كان
يتلاعب به رؤساء الأديان السابقة في عبادات الناس فجعل عبادة هذه الأمة متعلقة
بالمشاهدة وهي رؤية الهلال في إثبات الصيام، وبذلك يتساوى جميع الناس إذ لا يوجد
في كل مكان حاسبون متقنون يوثق بهم , ولكن إن وجد في بعض البلاد الحاسبون
الذين يؤمن تزويرهم وخطأهم كأن وضعت الحكومة لهم مرصدًا يصدر التقاويم
ويعين المواقيت تسهيلاً على الناس، فأي مانع من العمل به وهو يقين؟ فقال بعض
المشايخ: لا يجوز العمل بقول الحاسب لأنه غير شرعي , وقال بعضهم: لا يجوز
لأنه لا يوثق به فإننا نرى الحاسبين دائمًا يغلطون , فالحساب لا يوثق به , وقال
بعضهم: إن للحاسب أن يعمل بحسابه ولمن صدقه أن يعمل بقوله عندنا معشر
الشافعية، فقال الباشا: إن الحساب قطعي لا يمكن أن يخطئ وذكر لهم أمثلة حسابية
فلكية، وقال: إن من ذلك استحالة رؤية الهلال في الليلية التي شهد شهود الفيوم بأنهم
رأوه فيها لأنه كان تحت الأفق قطعًا. وذكر كاتب هذه السطور سبب خطأ بعض
الحاسبين على نحو ما تقدم , وذكر من قال من أئمة العلماء بكون حساب الشمس
والقمر قطعيًّا لا ظنيًّا كالإمام الغزالي , وقلت: إذا كان يجب على من يصدق الحاسب
أن يعمل بحسابه فإننا نرى جميع الناس يصدقونهم في مواقيت الصلاة التي هي
مواقيت الصيام في كل يوم من أيامه؛ فأي فرق بين إثبات أول يوم من أيام الصيام
وبين سائر الأيام من حيث بدايتها التي يجب فيها الإمساك والشروع في الصوم
ونهايتها التي يحل فيها الإفطار؟ قال بعضهم: إن الشرع جعل إثبات أول الشهر
برؤية الهلال وإلا فبإكمال العدة. قلت: وإن الشرع جعل إثبات أول النهار برؤية
الفجر والمؤذن الآن يؤذن في الوقت الذي يعينه الحاسب , ففي الحديث الصحيح عند
البخاري وغيره: (إن بلالاً يؤذن بليل , فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم)
وكان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت. فقال بعض المشايخ -
وهو من أعضاء المحكمة الشرعية -: إن هذا خلاف الشرع، ووافقه من في جانبه
قالا: لأنه يفيد أن الإنسان يأكل إلى وقت الفجر. فقلت: أي شرع يخالف قول
الرسول؟ أقول: إن صاحب الشرع قال هذا في أصح الروايات عنه، ويقال: إن
قوله مخالف للشرع؟ وأزيد هنا أن الحديث رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن ما عدا الترمذي من حديث ابن مسعود مرفوعًا , وأحمد ومسلم والترمذي من
حديث سمرة بن جندب وتقدم لفظه , وأحمد والشيخان من حديث عائشة وابن عمر
ولفظه ما تقدم آنفًا، وفي رواية للبخاري وأحمد زيادة: (فإنه لا يؤذن حتى يطلع
الفجر) . وجملة القول هنا: إنني أطالب الفقهاء بالتفرقة بين إثبات أول رمضان،
وإثبات سائر مواقيته ومواقيت الصلاة، وأقول: يجب العمل بما ورد في السنة في
الجميع ومنع العمل بالحساب أو إجازته في الجميع إلا أن يبينوا فرقًا صحيحًا.
ثم انتقلنا عند الباشا إلى الكلام في العمل بخبر التلغراف؛ قال بعض الشيوخ:
لا يجوز العمل به لأنه ليس بينة شرعية، ولأنه يجوز فيه الكذب، فقلت: إن الشهود
يجوز عليهم الكذب أيضًا , وشهادة الزور شائعة في هذا العصر , ولم يعهد الكذب في
خبر التلغراف الرسمي الذي يرد على الحكومة ولا في غيره إلا نادرًا. وأما كونه
غير بينة فممنوع لأن الشرع لم يحصر البينة بشهادة الشهود , فهذا العلامة ابن القيم
قد حقق أن البينة في الشرع كل ما تبين به الحق. على أن الكلام في الخبر بأن كذا
قد ثبت عند القاضي مثلاً , وأخبار التلغراف أصدق من أخبار الآحاد، لأن
عماله المخبرين مسئولون يعاقبون على الكذب. وقال الباشا: إن التلغراف يعمل
به في الحرب التي تسفك فيها دماء الألوف من الناس وتخرب البلاد، فكيف لا
يعمل به في الأخبار بإثبات العبادة التي لا يترتب عليها ضرر. وقال بعض المشايخ
المالكية: إن الشيخ عليشًا أفتى بجواز العمل بالتلغراف، وقال الشيخ عبد الخالق
المهدي العباسي: إن والدي قد أفتى بجواز العمل به لمن صدقه، لكن لا يبنى على
خبره إلزام ولا يصح للقاضي أن يحكم استنادًا على خبره , فشهادة الشهود لأجل
الحكم الملزم. قلت: إن الصيام لا يتأتى فيه الإلزام، وإن العبادة لا تحتاج في ثبوتها
إلى حكم الحكام؛ فهذه القضية التي يلفقونها ويحكمون فيها بدخول الشهر ليثبت
وقت العبادة تبعًا لها لا يعرف لها أصل في الكتاب والسنة، ولا حاجة إليها للإلزام ,
وإنما يكفي إعلام الناس بأن الشهود شهدوا برؤية الهلال , وأن يكون هذا الإعلام
بحيث يثق به الناس , وأكثر أهل القطر المصري يعلمون بإثبات الشهر بخبر
التلغراف ولا يُشكُّون فيه، وأهل القاهرة يعرفون ذلك بسماع المدافع وإيقاد القناديل
في المنائر وهي بمعنى التلغراف. اهـ الحديث بإيضاح في بعض المسائل واختصار
في بعض آخر , فمن أنكر مما كتبنا شيئًا أو كان عنده بيان آخر للحق فليرسله
إلينا ننشره شاكرين.
__________(7/694)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
حقيقة الجن والشياطين
(س 87) من أحد فضلاء القراء في (تونس) :
من رجال العلم والتقوى في بلادنا العلامة المقدس الشيخ محمد بن علي قويسم
المتوفى سنة 1114 وله فضائل مأثورة وتآليف مشهورة أحسنها وأكملها الكتاب
المسمى (سمط اللآل في معرفة الرجال) في أحد عشر جزءًا في القالب النصفي
الكبير ترجم فيه لنخبة أهل الإسلام , وخصوصًا لرجال الشفا للقاضي عياض , وقد
جاء فيه بالجزء الرابع عند تعرضه للكلام على الجن والشياطين ما يستفاد منه
اختلاف علماء الإسلام في ماهية هاته العناصر التي نسمع بها ولا نراها , فمن قائل:
إنها أجسام هوائية قابلة للتشكل , ومن قائل: إنها أجسام غير متحيزة ولا حالَّة في
متحيز , ومن قائل: إن الشيطان هو عبارة عن القوة الغضبية التي في الإنسان.
وإلى هذا الرأي ذهب جماعة من الفضلاء منهم حجة الإسلام الغزالي , وقد نقل
الشيخ قويسم المذكور آنفًا في جملة أخذه ورده في هذا الموضوع حديثًا عزاه للنصير
الطوسي نقله في شرح كتاب الإشارات هذه عبارته: (ما من مولود ولد في بني
آدم إلا ولد معه قرينه من الشيطان) فهل لكم معرفة بصحة هذا الحديث؟ وعلى
تقدير صحته نطلب الإفادة بتأويله لأنه إذا أخذ على ظاهر عبارته يبقى الفكر معه
متحيرًا؛ إذ تعلمون أن علماء الإحصاء يقدرون سكان المعمورة بألف وخمسمائة
مليون من الأنفس , فإذا كان لكل واحد منهم قرين من الشياطين؛ فلا مشاحة في أن
إحصاء الجغرافيين كاذب لأنهم أغفلوا منه النصف , ثم إنه على فرض صحة وجود
شيطان لكل إنسان فهل إذا مات الإنسان تبعه شيطانه للقبر , أو بقي عالة على
إخوانه الشياطين؟ وفي هذه الحال يمكن الجزم بأن أكثر بلاد الله شياطينًا في هذا
اليوم هي بلاد الشرق الأقصى حيث نيران الحرب محتدمة بين الروسيا واليابان
لأنه في كل يوم تزهق أرواح الألوف من البشر , ولم نسمع بموت شيطان واحد من
الشياطين المولودة مع العساكر التي اقتطفتها يد الفناء من شجرة الشباب - أفيدونا
يما عندكم من العلم عن ماهية الشياطين , وخصوصًا عن القول الذي توفق لفهمه
الإمام الغزالي ولكم الشكر سابقًا ولاحقًا اهـ.
(ج) الجن والجان والجنة بالكسر مأخوذة من مادة ج ن ن , وهذه المادة
تدل على الستر والخفاء. قال في القاموس: (وكل ما ستر عنك فقد جُنّ عنك)
بضم الجيم , ويقال أيضًا: أجن عنه واستجن , ومنه الجنين: الولد مادام في البطن.
وأطلق لفظ الجان على ضرب من الحيات قالوا: هي الحية البيضاء إلى صفرة
التي توجد في الدور. والشيطان في اللغة كل عاتٍ متمرد حتى من الدواب
والشاطن: الخبيث. والشيطان: الحية الخبيثة، قال جرير:
أيام يدعونني الشيطان من غزل ... وهن يهوينني إذ كنت شيطانا
وقال الراغب: كل قوة ذميمة للإنسان شيطان. أقول: ومنه قولهم: ركب
شيطانه: إذا غضب , ونزع شيطانه أي كبره. ومادة شطن تدل على البعد والإيغال
في الشيء , ومنها شطن البئر وهو الحبل الذي يُسقى به. وبئر شطون بعيدة القعر ,
وشطن في الأرض شطونًا دخل إما راسخا وإما واغلا، وتدل على المخالفة
والمواربة، يقال: شطن صاحبته: إذا خالفه عن نيته ووجهه , وكذلك يفعل
العتاة الخبث.
وقيل: إن الشيطان مشتق من شاط يشيط أي احترق غضبًا، فهذه اللغة تدل
على أن اللفظين (جن وشيطان) وضعا لأشياء معروفة. وكانت العرب تعتقد
كسائر الأمم أن في الكون عالمًا خفيًّا عاقلاً سموه الجن، وقالوا: إن منه الخيار
الصالحين والشرار الشياطين , وجاء الوحي يخاطبهم بما يعتقدون في الجملة لا في
التفصيل.
قال تعالى في سورة الأنعام: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ شَيَاطِينَ الإِنسِ
وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورا} (الأنعام: 112) . وقد
ورد لفظ الشيطان والشياطين كثيرًا في القرآن , ومنه ما فسروه بالأِشرار الخبثاء
كقوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} (البقرة: 14) وكانوا
يعتقدون أن من هذا العالم ما يلابس النفوس فيلقي فيها الخواطر , ومنه الهاجس
الذي يلقن الشعراء الشعر.
إن هذا الاعتقاد قديم في البشر لا يُعرف تاريخه , وفي أناجيل النصارى أن
الشياطين كانت تدخل في الناس فتؤذيهم , وأن المسيح عليه السلام كان يخرجها
منهم , وكانت اليونان تعد الجن والشياطين من عالم الأرواح , وكذلك الروم
(الرومانيون) وجعلوهم على ثلاث طبقات: طبقة الآلهة ورئيسهم الخالق الأكبر ,
وطبقة توابع الأمم والشعوب والمماليك والبلاد , وكان لجني رومية تمثال من الذهب,
والطبقة الثالثة توابع الأشخاص. وكان الهنود القدماء يقسمونهم إلى جن أخيار
وجن أشرار. ولبقية الأمم والشعوب عقائد متقاربة فيهم. وكان الناس يأخذون كل
ما يسمعونه من ذلك بالتسليم إلا بعض الفلاسفة الذين حكَّموا الدليل والتعليل في ذلك,
فأنكر بعضهم الجن , وبعضهم سلم بأن الجن من العالم الروحاني أو الهوائي حتى
إذا ما انتشرت العلوم المادية في أوربا صار يضعف هذا الاعتقاد في الناس
المشتغلين بهذه العلوم والمقلدين لهم والمتأثرين بحالهم. على أن أخبار رؤية الجن
أو سماع أصواتهم والإحساس بهم كثيرة في كل أمة , ولكن أكثرها باطل وزور ,
وبعضها صحيح رواية , ولكن لا يعسر على المنكر أن يحمله على ضروب من
التأويل ترجع في الغالب إلى أن الوهم يُري صاحبه التخيل حقيقة محسوسة , ولا
يزال الكثيرون من علماء أوربا وعقلائها يعتقدون بالجن وعلاقتهم بالإنس. وقد
حدثني واحد من كبار عمال الحكومة منهم هنا بأن رجلاً كان يستحضر الشياطين
في لوندره , وقد حضر مجلسه هناك بعض الكبراء والعلماء فأحضر لهم شيطانًا
سمعوا كلامه , ولكن لم يفهموه فقالوا له: ما هذه اللغة التي ينطق بها؟ قال: إنها
الأفغانية.
أما إنكار شيء ونفيه لعدم الإحساس به فمما يمنعه العقل , ولو أنكرنا كل ما
لم نطِّلع عليه وندركه بالحواس لما توجهت نفوسنا إلى اكتشاف هذه المجهولات
الكثيرة كالكهربائية وغيرها مما نرى آثاره أعجب مما يعزى إلى الجن. والقاعدة
العقلية أن عدم وجدان الشيء لا يقتضي عدم وجوده , فتكذيب جميع أصناف البشر
في الاعتقاد بوجود عالم خفي لا تظهر آثاره إلا نادرًا لبعض الناس بناءً على أن
المكذب لم يدرك ذلك بحواسه غير سديد , ويعجبني قول الدكتور فانديك في كلامه
على الحواس الخمس: لو كانت لنا حواس أخرى فوق الخمس التي لنا لربما
توصلنا بها إلى معرفة أشياء كثيرة لا نقدر على إدراكها بالحواس الخمس التي
نملكها , ولو كانت حواسنا الموجودة أحدَّ مما هي لربما أفادتنا أكثر مما تفيدنا وهي
على حالتها الحاضرة. ومما ذكره من الأمثلة لهذا قوله: ولو كان سمعنا أحدَّ لربما
سمعنا أصواتًا تأتينا من عالم غير العالم الذي نحن فيه إلخ. ولم يقل هذا وحده بل
قاله غيره , ويقوله كل عاقل , وقد أعجبنا منه أنه جعله في المسألة الأولى من
الجزء الأول من كتابه (النقش في الحجر) الذي ألفه للمبتدئين. فإن قيل: نسلم
أن العاقل لا ينكر وجود شيء لعدم علمه أو إحساسه به , ولكنه أيضًا لا يثبته بغير
دليل , وما يذكر من أخبار الجن عند جميع الأمم لم يقم عليه دليل , بل يجزم العقل
في بعضه أنه كذب وزور؛ نقول: هذا قول حق , والدليل منه عقلي , ومنه حسي,
ومنه الخبر الصادق الذي عرفنا به تاريخ الأولين والآخرين , وما في العالم من
الأمور التي شاهدها غيرنا وأخبر فصدقنا , وإن علم أكثر الناس بالخبر أكثر من
علمهم بالاختبار. فإذا كان أكثر ما ينقل عن الناس من أخبار الجن ظاهر البطلان
فإن بعضه ليس كذلك , وعندنا الخبر اليقين فيه , وهو خبر الوحي الذي دلت
الآيات البينات على صدق من جاء به وهو لم يخبر بشيء محال في نظر العقل أو
مجريات العلم وأعني بالوحي هنا القرآن , وأما أخبار الأناجيل في إخراج الشياطين
من الناس فإنه ليس لها سند متصل وإنما وجدت بعد المسيح بزمن طويل , وهي
منقطعة الإسناد إليه , وإن اشتهرت بعد ذلك. وكذلك الأحاديث النبوية عند من
صحت عنده فصدق الرواية. وجملة ما في القرآن أن في الكون عالمًا عاقلاً خفيًّا
يقال له الجن , وأن منه المؤمن والكافر والصالح والقاسط , وأنه يرى الناس ولا
يرونه , وأن شياطين الجن مثارات للوساوس الضارة التي تسول للإنسان الشر
وتزين له الشهوات القبيحة , ولم يرد فيه شيء ينبئ بعدد الجن ولا بحقيقتهم ,
وقوله تعالى: {وَخَلَقَ الجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} (الرحمن: 15) لا يدل على
الحقيقة كما أن خلق الإنسان من تراب ومن حمأ مسنون لا يدل على حقيقته.
ويحتمل أن يكون ذلك على حد قوله تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَل} (الأنبياء:
37) . وإذا كان هذا العالم لا يُرى فلا يرد علينا إهمال الإحصائيين له , ولا
سكوتهم عمن يموت ويولد من أفراده.
أما حديث القرين فقد أخرجه أحمد ومسلم عن ابن مسعود بلفظ: (ما منكم
أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة) قالوا: وإياك يا رسول
الله؟ قال: (وإياي، إلا أن الله أعانني فأسلم) . ومسلم من حديث عائشة بلفظ: (ما
منكم أحد إلا ومعه شيطان) قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: (وأنا، إلا أن الله
أعانني عليه فأسلم) ضبط الجمهور (فأسلم) بالفتح على أنه فعل ماضٍ من الإسلام ,
وقيل: هو مضارع للمتكلم من السلامة أي فأسلم من وسوسته. ورواه الطبراني من
حديث المغيرة وابن حبان والبغوي وابن قانع والطبراني عن شريك بن طارق ,
وليس له غيره نحو حديث عائشة , ولم أجد أحدًا من المحدثين رواه باللفظ الذي نقله
صاحب سمط اللآل عن شرح الإشارات , وفي حديث ابن مسعود عند الترمذي
والنسائي وابن حبان (إن للشياطين لمة بابن آدم , وللملك لمة , فأما لمة الشيطان
فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق , وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق , فمن
وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله , ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان)
واللمة بالفتح الإلمام بالشيء.
وللغزالي في كتاب شرح عجائب القلب من الإحياء كلام فيها يعبر فيه عن
المَلَك بسبب إلهام الخير , وعن الشيطان بسبب خاطر الشر. ولو سمي الشيطان
هنا قوة الشر وداعيته؛ لكان له من اللغة شاهد ودليل كما علمت مما ذكرناه في أول
الجواب عن الراغب , ولكن لا يمكن أن ينطبق هذا القول على كل ما ورد في
الجن. على أن القوى العامة أمور مجهولة لم يصل البشر إلى اكتناه أمرها وكشف
سرها. ولا فرق بين أن يكون معنى الحديث: إن لكل امرئ في نفسه داعية إلى
الشر تسمى الشيطان , وهي قوة من القوى المدبرة للنفس , وبين أن يكون معناه أن
بعض العوالم الخفية التي لا تحس تتصل بالنفوس المتوجهة إلى الشر فتزين لها
خواطره ودواعيه , فإن داعية الشر نجدها في أنفسنا لا ننكرها , ولكننا لا نعرف
حقيقة سببها هل هو قوة أم هو شيء خارجي يتصل بالنفس المستعدة له فيؤثر فيها
كما تؤثر العوالم الخفية المسماة بلسان الطب (ميكروبات) بالمستعدين للمرض
فتحدثه فيهم ولا تحدثه في غير المستعدين , وإن ألمت بهم. ولو قيل لنا قبل
اكتشاف هذه الأحياء (الميكروبات) : إن السل والطاعون وغيرهما من الأمراض
والأوبئة يحدث بسبب عوالم مادية صغيرة سريعة النمو في بدن المستعد للمرض
لعددناه من الخرافات أو الخيالات. وقد تقدم لنا في المنار أن هذه الميكروبات من
الجن.
أما كون التأثير في النفوس كالتأثير في الأجسام بحسب الاستعداد فيدل عليه
قوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (الزخرف: 36) أي من يعرض عن القرآن وهدايته إلى مخالفته تكون له داعية
الشر المعبر عنها بالشيطان قرينًا ملازمًا. هذا هو الظاهر , ولكن ورد في سبب
نزول هذه الآية أن المراد بالشيطان شيطان الإنس. أخرج ابن أبي حاتم عن محمد
ابن عثمان المخزومي أن قريشًا قالت: قيضوا لكل رجل من أصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم رجلاً يأخذه فقيضوا لأبي بكر طلحة بن عبيد الله إلخ , وكذلك نرى
لكل شرير شيطانًا أو أكثر من قرناء السوء.
وجملة القول أن الوحي نطق بأن في الكون جنًا لا نراهم , وكل ما قيل في
حقيقتهم فهو رجم بالغيب , وما ورد في ذلك ممكن فيجب الإيمان به من غير تأويل ,
ولا يصدنا عن ذلك خرافات الناس في الجن فإنها أشياء يتوارثونها ما أنزل الله
بها من سلطان.
***
مشاركة الشيطان للناس في الأموال والأولاد
(س 88) الشيخ مصطفى محمد السيد في (طما)
المرجو من حضرة السيد إفادتنا عن معنى قوله تعالى في سورة الإسراء:
{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي
الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} (الإسراء: 64) لأني اطلعت في تفسير الخازن فوجدته يفسر
المشاركة في الأولاد - وهو غرضنا من السؤال - بجملة أقوال منها أنها الموءودة
وأولاد الزنا والتسمية بعبد العزى ونحوه , ومنها أيضًا - وهو موضع الريب - أن
الشيطان يشارك الرجل في مباشرة زوجته إذا لم يقل: بسم الله عند المباشرة , ويقع
منه كل ما يقع من الرجل فيأتي الولد من ماء الرجل وماء الشيطان، ثم عُزي إلى
ابن عباس أن رجلاً سأله عن امرأته قائلاً: إنها استيقظت وفي ... شعلة نار , فقال:
هذا من وطء الجن. فيُعلم من هذا أن الشيطان قد ينفرد بالمباشرة , وحيث إن
هذا كان من أكبر مواضع الجدال هنا , وأن أناسًا غير قليلين يؤكدون زعمهم أن
أحد التوأمين يتشكل في صورة القط حتى يبلغ , وما ذلك إلا لكونه من نسل
الشيطان في الأصل؛ لم أر حلاًّ لهذا المشكل إلا رفع هذا الموضوع إلى حضرتكم
راجيًا الإفادة عن المعتمد الصحيح , وما عليّ إلا رفع أكف الضراعة إلى الله تعالى
أن يديمكم ملجأ للسائلين.
(ج) الاستفزاز: الاستخفاف , والإجلاب بالخيل والرجل: تمثيل لتسلط
الشيطان على من يغويه كما رجحه الإمام الرازي , وذكره من قبله من المفسرين
وجهًا , وأما المشاركة في الأموال والأولاد فجماهير المفسرين على أن المراد بها
الإغواء بالحمل على كسب الحرام والتصرف والإنفاق في الحرام , وهذه الكلية التي
ذكرها البيضاوي وغيره تشمل كل الجزئيات التي ذكرها بعضهم وزيادة. والإغواء
بالحمل على التوصل إلى الولد بالسبب المحرم , والإشراك فيه كتسميته بعبد العزى ,
والحمل على العقائد الباطلة والأفعال القبيحة والحرف الذميمة. هذا ما قالوه
واعتمدوه , ويمكن اختصاره بأن يقال: إن المشاركة في الأولاد عبارة عن الإغواء
في أمر اختيار المرأة والاتصال بها , وفي كيفية تربية الولد؛ فمن يختار فاسدة
الأخلاق والأعراق افتتانًا بجمالها أو يتصل إليها بالحرام , ويهمل هو وإياها تربية
ولده العقلية والنفسية حتى ينشأ ضالاًّ فاسقًا فإنما يفعل ذلك بوسوسة الشيطان
وإغوائه ومشاركته إياه في هذا الأمر العظيم وهو أمر الولد من أحدهما الوسوسة
بالإغواء ومن الآخر اتباع الشهوة وسوء الاختيار. فالآية مبينة لمجامع وساوس
الشيطان وإغوائه , والأمر فيها للتكوين كقوله تعالى للشيء: كن؛ أي تعلق إرادته
بكونه ووجوده. وحاصل المعنى أن الله خلق الشيطان وكوّنه على هذه الصفة وهي
الوسوسة وتزيين القبيح الضار في هذه الأمور , وهي لا تبين حقيقة الشيطان ,
وهل هو داعية للشر في النفس تقوى وتضعف بحسب الاستعداد , أو هي داعية
خارجية كما هو الظاهر. وما نقله الخازن وغيره عن ابن عباس غير صحيح ولا
يعقل ألا يكون الشيطان من عالم الحس له أعضاء كأعضاء الإنسان , وهو مخالف
لنص القرآن. ولو صح لكان كل من يترك التسمية يشاركه الشيطان، فتجد امرأته
النار الذي وجدته تلك المرأة وهو ظاهر البطلان.
***
عقوبة ترك الصيام والصلاة
(س 89) جاءنا كتاب في أثناء كتابة جواب السؤال الماضي من حمزة
أفندي الزهيري من وجهاء شرمساح , فإذا هو في الظاهر باسمنا , وفي الباطن
باسم مفتي الديار المصرية (ولعله أرسل غيره باسمنا وكتب عليه عنوان المفتي)
وإذا هو سؤال عن عقاب تارك الصوم والصلاة. سببه مناظرة بين السائل وبين
رجل ادعى أنه لا عقاب على تارك هاتين الفريضتين لأن القرآن لم يذكر لهما عقابًا
كما ذكر للزاني والسارق وغيرهما , فرد عليه حمزة أفندي بأن الإلزام بالصيام يدل
على أنه لابد من عقاب تاركه , وكذا الصلاة وذكر له قوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (النساء: 14)
فزعم الرجل أن ترك الصلاة والصيام لا يدخل في العصيان وتعدي الحدود لأنهما
من حقوق الله التي يتسامح فيها. وطلب السائل كشف هذا الغامض. وإننا نعجل
بالجواب لأن السؤال يتعلق بالصوم , فنقول:
(ج) لا غموض في المسألة ولا شبهة لذلك المجادل فتُرد , وإنما هو مكابر
يجادل في دين الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير , فإن العصيان مخالفة الأمر ,
والصلاة والصيام مما أمر الله به بل هما من أركان الإسلام التي ينهدم بهدمها وهي
من حدود الله تعالى أيضًا , فإنه تعالى قال بعد بيان أحكام الصيام: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
فَلاَ تَقْرَبُوهَا} (البقرة: 187) وتقدم تفسيرها في هذا الجزء. ولا خلاف بين
المسلمين في أن الفرض هو ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه , فمن أنكر
فرضية الصلاة والصيام فليس بمؤمن , ومن اعترف بالفرضية فقد اعترف
بالعقوبة على الترك.
ثم ماذا يقول المجادل في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن
صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} (الماعون: 4-5) أليس الويل هو الهلاك أو وادٍ في جهنم؟
وقوله مخبرًا عن أصحاب النار {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ *
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ} (المدثر: 42-44) أليست صريحة في أن العذاب
مرتب على أمور أولها: ترك الصلاة , وثانيها: منع حقوق المساكين بترك الزكاة.
روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (ليس معنى أضاعوها
تركوها بالكلية ولكن أخروها عن أوقاتها) وروي مثله عن سعيد بن المسيب.
وفي حديث أحمد ومسلم: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) وقد ورد
من الأحاديث في الوعيد على ترك الصلاة والصيام ما لا محل لنشره هنا , وهو لا
يفيد المجادل إذا لم يفده التذكير بما تقدم من معنى الفرض , وبمكانة أركان
الإسلام الخمس من سائر الفرائض , وبكون وعيد الآية التي احتج بها عليه حمزة
أفندي يشمل ذلك كله قطعًا , فحسبنا هذا من الحجة النقلية إن كان مجتهدًا , وإذا كان
مقلدًا لأحد الأئمة الأربعة؛ فليعلم أنه ما من مذهب منها إلا وهو يجزم بعقاب
تارك الصلاة والصيام في الدنيا , ويدين بعقابه في الآخرة. وتفصيل مذاهبهم في
ذلك معروف مشهور.
وأما التفرقة بين حقوق الله تعالى وحقوق العباد فليس معناه أن الله تعالى
يطلب من عباده حقوقًا لنفسه لا حظ لهم فيها إلا مجرد الطاعة له , وبناها على
المسامحة فسواء عليهم فعلوها أم لم يفعلوها , وحقوقًا أخرى لبعضهم على بعض
رتب على الإخلال بها العقوبات لأنها مبنية على المسامحة. كلا , إن هذا نقض
لدين الله تعالى من أساسه , وإنما شرعت التكاليف كلها لمصالح المكلفين وسعادتهم
في الدنيا والآخرة , والله غني عن العالمين , وبيان ذلك بالتفصيل يطول جدًّا ,
وما زال المنار يشرحه في أبوابه لا سيما باب تفسير القرآن الحكيم , وملخصه أن الله
تعالى شرع الدين لعباده لأجل صلاح أرواحهم وقلوبهم بالعبادة لأجل صلاح حالهم
في الدنيا وسعادتهم في الآخرة , فالفرائض كالعلاج الباطني الذي يقوي الدم
والعصب والعضل , ومنع المحرمات كالحمية , فإن الذي يربي روحه بالصلاة لكي
يكون كريمًا شجاعًا صبورًا بمعرفة الله وثقته به , منتهيًا عن الفحشاء والمنكر لزكاة
نفسه وطهارة قلبه - وبالزكاة ليكون عونًا لإخوانه على مصالحهم رحيمًا بالمحتاجين
شاعرًا بفضيلة الحياة الاجتماعية - وبالصيام ليتقي ربه , ولتقوى إرادته , ويتعود
على ضبط نفسه بمراقبة ربه كما تقدم شرح ذلك في الجزء الماضي - وبالحج لما
ذكرناه قبل من فوائده - ألا يجب أن يمنع في أثناء هذه المعالجة النفسية من إتيان
ما ينافيها كالتعدي على حقوق الناس الذين يطلب منه أن يكون عونًا لهم ونصيرًا
وعن الشهوات الضارة التي تفسد القلب وتستعبد الإرادة؟ بلى , وإذا كان من فوائد
العبادة أن يمتنع من يقيمها على وجهها عن جميع المحرمات بإرادته واختياره
وارتياح نفسه ألا يجب أن يمنع عن هذه المحرمات (كالقتل والسرقة والزنا)
بوضع العقوبة البدنية على ارتكابها حتى يتم له ذلك باختيار؟ بلى , فمن قبل
الإسلام فقد قبل أن يعالج روحه ويربيها بعباداته , وأركانها خمسة منها الصيام ,
فإذا رفض مع ذلك الحمية عن المعاصي التي لا تتم المعالجة إلا بتركها؛ ألزم بذلك
إلزامًا , وأما إذا ادعى الإسلام ورفض القيام بأركانه؛ فإنه يعاقب عقاب المرتد كما
حارب الصحابة مانعي الزكاة لأنهم مرتدون , وسميت تلك الحرب حرب الردة.
وكذلك يجب على إمام المسلمين أن يحارب كل قوم يتركون شعيرة من شعائر
الإسلام حتى يعودوا إليها. وأما إذا ترك بعض الأفراد ذلك؛ فعقوبة الفرد تختلف
باختلاف حاله , ولذلك جعلت من التعزير الذي يفوض تعيينه إلى رأي الحاكم.
وأما المسامحة والمشاحة التي قالوها , وتمسك بها المجادل - مع أنها لم تذكر
في القرآن - فيتضح معناها في الأمر الذي فيه حق للناس وحق لله تعالى كالقتل ,
فمن قتل يقتل , ولكن إذا عفا عنه وليّ الدم فإنه لا يقتل لمجرد المخالفة لأمر الله
بحفظ الدم؛ لأن الله تعالى لا ينتفع بقتله ولا يضر باستحيائه , وإنما حرم عليه
القتل لأنه يضره إذ يجعله شريرًا في نفسه وفي نظر الناس , ولأنه يفسد الأمن
ويغري الناس بالاعتداء والتسافك. فإذا امتنعت الفتنة المتعلقة بحقوق الناس امتنع
القتل لأن ما يريده الله بتحريمه من صلاح النفس قد يتم بالبقاء بأن يتوب القاتل
ويصلح العمل. وقد بينا غير مرة أن عذاب الآخرة على ترك الفرائض وارتكاب
المحرمات ليس من قبيل عقوبة الحكام في الدنيا , وإنما هو على حسب ارتقاء
الروح وتزكيها , أو تدسيتها وتدليها. وإنما ترتقي الروح بالعقائد الصحيحة التي لا
خرافات ولا أوهام فيها , وتتزكى بالعبادة والتهذيب , وتفسد وتتدلى باعتقاد
الخرافات وارتكاب السيئات. أفيقول المجادل: إن الذي يدعي الإيمان بالله وكتابه
لا يضر روحه ولا يدسيها ترك الفرائض التي حث عليها كتاب الله , وجعلها أركان
دينه وبين أنها تزكي النفوس وتعدها لرضوانه وقربه؟ ما أظن أنه يقول بذلك ,
فأرجو أن يتوب علن الاستهانة بأركان الإسلام , والسلام.
***
الجرائد الإسلامية والبورصة
(س 89) م. ج. في سورية: كثيرًا ما أرى الجرائد الإسلامية في
سوريا ومصر تنشر أخبارًا عن أحوال (البورصة) وتقلباتها في صعود وهبوط ,
فهل ذلك محرم شرعًا أم لا؟ أرجو إفادتنا في المنار الأغر جزاكم الله عن الإسلام
خيرًا.
(ج) القاعدة في معرفة المحرم الذي لم ينطق الشارع بتحريمه: أن كل
ضارّ محرم , فإذا كان خبر البورصة ينشر بإيعاز من المتلاعبين فيها لأجل غش
الناس وحملهم على بيع ما عندهم من العروض والحاصلات كالقطن وغيره توهمًا
أن المبادرة إلى البيع خير لهم , والحقيقة غير ذلك فلا شك أن نشره محرم ,
وكثيرًا ما يحصل هذا كما يحصل ضده , وهو إيقاف الناس على ما يجري هناك
من المساومات والعقود ليكونوا على بصيرة من أمرهم , والأمور بمقاصدها. ولا
يقال: إن أعمال البورصة وعقودها مخالفة للشرع؛ فالإخبار بها محرم على كل
حال. إذ العلم ببعض المخالفات والمحرمات ينفع أحيانًا كما إذا تواطأ قوم على
السرقة في بعض الأمكنة , فإعلام الناس بخبرهم ينبههم إلى توقي شرهم. هذا
وبعض الجرائد التي تسمى إسلامية لأن أصحابها من صنف المسلمين لا تلتزم فيما
تنشر أحكام الإسلام، ولا حدود الحلال والحرام، فتنشر (إعلانات) الخمور
والقمار المحض الذي يضر ولا ينفع , وهو محرم بالإجماع {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ
ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} (المؤمنون: 63) فإن غشهم للناس في السياسة أعظم من
غشهم في المعاملة.
__________(7/702)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]
التربية بالمعاينة
يوم 12 يونية سنة - 186
مدينة ليما في نظري كثيرة الشبه جدًّا بإحدى مدن أوربا. وإن الأوربي الذي
يسافر من بلده إلى الجانب الآخر من الدنيا فيقطع في ذلك خمسة آلاف وخمسمائة
وتسعة وثمانين ميلاً إنكليزيًّا ليستحق أن يلاقي بعد هذا السفر مَن تركهم هناك
من اليسوعيين والمحتالين والبغايا والراهبات ومعاهد الفجور.
في تلك المدينة شوارع لها من الرونق ما يناسبها، وفيها ميدان أنيق يدعى
(بالبلازاماير) في وسطه بركة فخيمة من البرنز ينبثق منها الماء في ثلاثة أحواض
على أن هناك جدولاً يخترق المدينة أُفضله كثيرًا على ذلك العمل الفني , وهذا
الجدول المسمى (بالريماق) يأخذ مياهه من مثالج جبال القورديير وبعد أن يجري
ثلاثين فرسخًا يصل إلى ليما فيقسهما إلى قسمين متساويين تقريبًا , ولست أدري
أضلال أم حق أن أحس ببرودة مياهه إذا غمست إصبعي فيها كأن ماء الثلوج لم
يمهله اندفاعه أن يسخن بحرارة الشمس.
ليست الحرارة في تلك الجهة من الشدة بالمقدار الذي قد يتوهم مع كونها لا
تبعد عن خط الاستواء إلا عشر درجات، وتعلل هذه الحالة بعلل مختلفة غير أن
أخصها وضع المدينة؛ فإن المحيط الهادي يكنفها من أحد جانبيها ويكنفها من الجانب
الآخر جبال القورديير القائمة شرقيها مكللة بالثلوج الدائمة وفي ذلك ما يساعد بلا
ريب على ترطيب الجو، وبينها وبين البحر والجبال منطقة مزدوجة تمنطق بها
الساحل لتقيه شدة الحرارة.
الذي يدهش (أميل) و (لولا) كثيرًا هو أننا بحسب منزلة الشمس الآن في
فصل الشتاء مع أننا في شهر يونية على أن الحق أن لا شتاء في بلاد البيرو، فإن
السنة فيها تنقسم إلى فصلين: فصل الرطوبة وفصل الجفاف، ففصل الرطوبة يبتدئ
من شهر أبريل ويستمر إلى أكتوبر، وفيه يغشى المدينة ضباب ثقيل فاتر يسميه أهل
البلاد بالغروي وقد يبلغ أحيانًا من الكثافة والإسفاف (الدنو من الأرض) خصوصًا
في الغداة حدًّا لا نكاد نرى فيه ما هو شديد القرب منا من الأشياء , ويقال: إن هذا
الحجاب يتمزق في شهر أكتوبر أو نوفمبر فترتفع فيه السماء سنجابية اللون ولا
يلبث الطل أن يتلاشى بحرارة أشعة الشمس النفاذة وحينئذ يبتدئ فصل الجفاف أي
الصيف.
لا ينبغي أن يفهم من قولنا فصل الرطوبة، الفصل الممطر , فإنه قد يمضي
قرن ولا تسقط على طول هذا الساحل كله قطرة من مطر. عرفت ذلك لأني منذ
بضعة أيام كنت أسأل شيخًا من هذه البلاد هل تذكر أنك شهدت مطرًا في حياتك؟
فكان جوابه لي (قط) . فسألته عن عمره , فقال: إنه ثمانون سنة.
الضباب ندى يحيل التراب إلى وحل ويكفي لإخصاب الأرض هنا إخصابًا
متوسطًا على أنه يوجد في أماكن أخرى من بلاد البيرو وديان ورُبى قريبة من
الجبال ينزل فيها من السماء سيول حقيقية؛ إذا أصابت الرمال القحلة أصبحت عما
قليل حافلة بالنبات , فالأرض لا تسأل السماء إلا أن تتصدق عليها بالماء.
فصل الجفاف بالضرورة أشد الفصلين حرارة على أن الناس هنا يؤكدون لي
أنهم يجدون مبردًا بما يهب من نسيمي البر والبحر , فكأن هذين النسيمين يقتسمان
اليوم بينهما فيهب نسيم البحر في الجملة حوالي الساعة العاشرة من الغداة , ويستمر
على هبوبه متراوحًا بين الشدة واللين إلى غروب الشمس , ثم يركد ويستتب الكون
فإذا كانت الساعة الثامنة أو التاسعة من العشي جاء دور نسيم البر الذي يهب من
الجبال فيبقى على هبوبه إلى الغداة.
سكان ليما في رأيي أشد ما فيها غرابة وأدعاه إلى المراقبة، فلا أظن أنه يوجد
في سكان بقعة أخرى من بقاع الأرض ما يوجد في ملامح وجوههم من الاختلاف
العظيم وفي ألوان جلودهم من الفروق الدقيقة الواضحة؛ ذلك بأنهم أخلاط من سلالة
المستعمرين (وأعني بهم الأشخاص المولودين في أمريكا ممن هاجروا إليها من
الدنيا القديمة خصوصًا أعقاب البيوت الأسبانيولية العتيقة) ومن الهنود والزنوج
والخلاسيين [1] وغيرهم من الأصناف فترى من ألوان وجوههم كلما ثقفتهم الأبيض
الشاحب والأصفر النحاسي والأسود الكهوفي وما يتخللهما من ضروب الاختلاف
الصغيرة المتولدة من اشتباك الأرحام واختلاط الأنساب , وإني إذا اعتبرت في
الحكم عليهم ما قام بنفسي من آثار الانفعال برؤيتهم لأول مرة؛ حكمت بأنهم
متشابكون بالأرواح كما تشابكوا بالأشباح.
تمتاز النساء البيض والخلاسيات عن غيرهن بعينين نجلاوين سوداوين
تتوقدان ذكاءً، وشعور طويلة غدائرها الثقيلة مرسلة , ولون تقاوم وضاحته الفطرية
حدة الشمس , وأنف مع خلوه من شبه الأنوف اليونانية لا يعوزه شيء من القنا [2] ,
وفم مزدان بالثنايا الجميلة على ما قد يكون فيه من السعة أحيانًا , وقامة وسيطة
معتدلة , وقدمان بلغا من الصغر حدًّا يدعو إلى العجب , ويدين صيغتا صياغة دقيقة ,
وجملة القول في وصفهن أن صورتهن هي صورة (لولا) إذا كبرت.
أنا لا أعلم إلى الآن شيئًا من أخلاقهن اللهم إلا ما ظهر لي من أنهن (أعني
الغنيات منهن) يقضين أوقاتهن بين الزهور والعطور والأقراص العطرية
والمربيات والحلاوى , ولئن اعتمدت في الحكم عليهن على ما أسمعه عنهن ممن
يحتفُّون بي لقلت: إنهن يقسمن وقتهن بين دسائس العشق وشعائر العبادة , ولا
إخال أحدًا لا يدهش إذا علم أن الأديار والكنائس تشغل من المدينة ربعها. مما أكده
لي أهل ليما أن الرجال منهم شديدو الغيرة على نسائهم , ولكني لا أعتقد في شيء
مما يقولون فإنهم لو كانوا كذلك حقيقة لما أباحوا لهن الذهاب للاعتراف في أغلب
الأوقات. اهـ
يوم 30 يونيه سنة - 186
ما لبثت مذ وصلنا الي ليما أن التزمت الاشتغال بمصالح (دولوريس) وأول
شيء رأيت من الواجب البداءة به في السبيل أن أجمع تفاصيل ما يعلمه الناس من
الأخبار الموثوق بها في شأن مولدها ووالديها ودونك بالإيجاز نتيجة ما هدتني إليه
أبحاثي:
أما والدها فهو من بيت أسبانيولي , كان رحل إلى بلاد البيرو واستوطنها بعد
الفتح بزمن يسير , وأما والدتها فكانت من النساء ذوات اللون ويعني بهن
الخلاسيات بحسب اصطلاح الناس هنا , وكانت مع احتواء عروقها علي شيء من
الدم الهندي لا يتأتى لعين غير عين المستعمر الخالص الغيور أن تكتشف فيها بقايا
سمات صنفها التي انمحى أكثر من ثلاثة أرباعها , فإنه لا قدرة لغير المستعمرين
علي أن يميزوا في الذات الجميلة لأول نظرة إليها ما يسميه الإنكليز بأثر ظلف
الشيطان المشقوق فهم يلتمسون هذا الأثر حتى في شكل الأظافر.
ويحق أن تعلم أنه مع خضوع هذه البلاد للحكومة الجمهورية , ومع تشابك
الأجيال فيها لا يزال بعض البيوتات الأسبانيولية يرون من الامتياز أن يثبتوا
صراحة أنسابهم ونقاوتها من الاختلاط , وأن يحرصوا علي بقائها كذلك فإن هذا في
رأيهم شارة من شارات الشرف وفي رأى غيرهم والحق يقال نعمة يحسدونهم عليها
يدلك عليه أن الخلاسيين في الطبقة الخامسة بل وفي الطبقة السادسة يدعوهم عجبهم
إلى التألم من أن يعرفهم الناس بهذه الصفة حتى إنهم ليبذلون كل ما يملكون لو
ضمن لهم الانفكاك من أماراتها التي مع نهايتها في الخفاء وقرب تلاشيها تنم على
خسة أصلهم كما تقرر في الآراء والأفكار.
ذلك ما حدا بي إلى أن أحدث نفسي غالبًا بأن معيشة الناس مجتمعين ربما
كانت في بدايتها مؤسسة علي حاجتهم إلى احتقار بعضهم بعضًا.
ومهما يكن من الأمر فقد كان زواج ذلك الأسبانيولي الحر بتلك الخلاسية
معتبرًا عند كل أهل بيته من سوء الحظ لأنهم كان قد علق بأذهانهم خزعبلات
متعلقة بالجيل الأحمر , ورسخت فيها شديد الرسوخ , وكانوا يرفعون عقيرتهم
افتخارًا بأنهم لا ينفكون عن تخير الأمهات. ولا أدري إن كان هذا من أسباب
الفرقة التي حصلت بين الزوجين فيما بعد. غير أنه قد عرف أن اقترانهما لم يقرن
بالهناء والغبطة فقد ماتت الفتاة الخلاسية في السابعة عشرة من عمرها بعد أن
وضعت بنتًا.
لم يطوح والد (لولا) بنفسه في الأعمال البحرية تطويحًا كليًّا إلا من بعد
تأيمه , وكانت السفينة التي غرقت به حيال سواحل ينزانس ملكًا له , وقد أجمع
الناس على أنه كان كثير الفخر ببنته , وأنه لعزمه على تربيتها تربية أعلى من
التربية التي ينشأ عليها أغلب النساء في ليما حملها معه ليضعها في إحدى مدارس
لوندره الداخلية.
كان يحب هذه الطفلة , وفي هذا أقوى موجب للظن بأنه هو الذي علقها بمزيد
الاحتراس والعناية في أدوات السفينة قبل أن تغتاله الأمواج.
بلغ خبر الغرق ما وراء البحار , غير أنه شاع أيضًا في ليما أن هذه المصيبة
شملت الرجل وبنته , فلا شك أن ما أرسلته أنا وهيلانة من الرسائل إعلامًا بنجدة
(لولا) ومطالبة بحقوقها قد حجزها مَن لهم مصلحة في إعدامها.
ما نجا من الغرق إلا ملاح واحد لم يرجع بعده إلى ليما قط لسبب لا أعلمه ,
فلم يتيسر له أن يكذِّب ما أذيع هناك عمدًا من الروايات الموضوعة.
لما وصلنا إلى ليما عرفت (لولا) بلادها إن لم أكن واهمًا من خلال ما
حفظته ذا كرتها من آثارها في الصغر , غير أن هذه البلاد لم تعرفها قط فقد كان
من عرفتهم بها من آل بيتها يتظاهرون بالريبة فيها , فيقولون: نعم إنهم كانوا
سمعوا بسفان غرق في البحر وبأنه عمهم أو ابن عمهم , ولكن ما الدليل علي أن
تلك الفتاة التي عرفتهم بها بنته فإنهم كانوا محقين كل الحق أن يعتقدوا موتها ,
وأما ما قدمته لهم من الأوراق الدالة علي ثبوت نسبها له فكانوا يتعللون عليها بأنها
مكتوبة بالإنكليزية وهم لا يفهمونها , بل إنهم ما كانوا يريدون أن يتكلفوا قراءتها.
ذلك ما اضطرني إلى أن أقصد العارفين بالقانون فكان رأيهم في القضية أنها
من القضايا المعضلة المرتبكة وأنها تقتضي فراغًا وإتلاف تقود وعبثًا كثيرًا من
عبث المحاماة , وأنت تعلم حالة القضاء في بلادنا , وهو في بلاد البيرو أدنى منه
إلى الطفولية.
عمال الحكومة الذين سألتهم في هذا الموضوع - وإن كان أغلبهم ينتمي إلى
بيت والد الفتاة - متفقون على أنه ترك بعض المال غير أنهم يقولون - وفي قولهم
أمارات الريبة -: إن جل هذا المال ضاع في سداد ديون المتوفى.
والذي ظهر لي أشد الظهور أن المضي في هذه القضية يجر إلي تشويش كثير
من المصالح الخاصة التي لا شك في أنها اتسعت بمصيبة السفان.
تلك هي حالة الأمور. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
(1) الخلاسي هو الذي يولد بين أبوين أحدهما أبيض والثاني أسود.
(2) القنا مصدر قني الأنف أي ارتفع أعلاه واحدودب وسطه وسبغ أعني طال طرفه.(7/712)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مكافأة امتحان التلامذة في الأزهر
لقد كان فيما حدث من الإصلاح في الأزهر بسعي الشيخ محمد عبده تعيين
ست مائة جنيه من الأوقاف مكافأة للطلاب الذين ينجحون في الامتحان السنوي الذي
جعل اختياريًّا؛ لأن الشيوخ المدرسين أبوا أن يمتحن طلاب العلم في الأزهر إلزامًا
لتعرف درجات تحصيلهم. وقد كان الأمير مساعدًا للشيخ على هذا التمهيد للامتحان
الإلزامي بالرضا والتنشيط للمجاورين الذين يغلب عليهم الفقر على الجد
والتحصيل , ولكن الشيوخ الذين يبغضون النظام كانوا كارهين لهذا العمل وطامعين
في جعل مكافأة الطلاب زيادة في رواتبهم وسعوا في هذا الأمر سعيه عند الأمير فلم
يفلحوا؛ لأنه على علم واختبار بفوائد الامتحان وفوائد المكافأة. وقد انبرى بعض
هؤلاء للطعن في العمل قولاً وكتابة , فزعموا أولاً أن هذه المكافأة ترغب
المجاورين في العلوم الحديثة أي التي قضى الإصلاح بإحيائها في الأزهر حديثًا
كالحساب والهندسة وتقويم البلدان والتاريخ والأخلاق الدينية والإنشاء , وتضعف
همتهم عن تحصيل العلوم الدينية , فكذبتهم جداول الامتحان وطريقته إذ ظهر أن
المكافأة على العلوم القديمة أكثر مقدارًا وأن الناجحين في العلوم الحديثة أنجح في
العلوم القديمة من سواهم. ثم انبرى بعضهم للطعن في نفس هذه العلوم الحديثة
لا سيما الحساب العملي وتقويم البلدان , فزعموا أنها ضارة مفسدة للعقول , ومن ذلك
ما نشره المؤيد بإمضاء الشيخ محمد راضي البحراوي الصغير وثابت بن منصور
الذي يقال أنه الشيخ محمد بخيت فرددنا عليهم نحن وغيرنا , ولم يفد سعي الشيوخ
شيئًا حتى قضت حوادث الزمان بأن يتقرب منذ عامين بعضهم من الأمير ويحملوه
على تحويل المكافأة على الامتحان إلى بعض الأشياخ، وكذلك كان , وحرم
الأزهر من هذا الضرب من الإصلاح وظهر لكثير من شيوخه المنصفين ضرر هذا
الحرمان وتحدثوا به؛ فتحركت أريحية الشيخ عبد الرحيم الدمرداش إلى إعادة
الامتحان، وكتب لمشيخة الأزهر ما يأتي بعد رسم الخطاب:
(بلغني من طرق متعددة , ومن مشايخ وطلبة لا أحصي عددهم أن الامتحان
الذي كان يجري في الأزهر لنيل المكافأة في كل سنة كان قد أفاد الطلبة , وبعث في
كثير منهم روح النشاط والاجتهاد في طلب العلوم التي تقرأ في الأزهر من قديم
الزمان نفسها فضلاً عن اكتساب فنون أخرى لم تكن من الدروس المقررة فيه من
زمن طويل، وأن جمهورًا عظيمًا من الطلبة خمدت نفوسهم بعد إلغاء ذلك الامتحان،
وأنه قد ضاع على الأزهر شيء كثير بذلك الإلغاء كما أكد لي ذلك من لا أحصي
عده من أهله , ولما تأكدت ذلك وأيقنت أن إعادة مثل هذا الامتحان أصبح مما
لا بد منه في زمن كثرت فيه حاجات الطلبة , وأنه يسوقهم إلى الطلب أمثال
المكافآت التي كانوا ينالونها عقب الامتحان، وكنت ممن يحب العلم أهله ويسعى إلى
ترقيته؛ رأيت أن أقدم من مالي الخاص مبلغ مائتي جنيه إنكليزي يصرف مكافآت
سنوية لمن يمتحن وتقرر لجنة الامتحان أنه من الناجحين المبرزين على من
سواهم في العلوم الآتية:
(1) علم التوحيد على شرط أن يقيم الطالب الأدلة على العقائد التي يسأل
عنها من نفسه لا أن يسرد ما يحفظه من عبارات المؤلفين بلا تعقل , وبذلك تعرف
درجته قي علم المنطق بالضرورة. (2) علم الأخلاق الدينية الباحث عن الفضائل
والرذائل من جهة ما يسعد ويشقى بها في المعاش والمعاد. (3) تفسير القرآن
الكريم من حيث هو كتاب سماوي أنزل ليحيي النفوس بمكارم الأخلاق , ويثير فيها
العبر بمن مضى ومن حضر , وكذلك الحديث الشريف. (4) علوم البلاغة قواعدَ
وعملاً بحيث يدخل فيها الإنشاء وفن الكتابة , ويندمج في ذلك النحو بالطبع. (5)
الفقه وأصوله معًا بحيث يمتحن الطالب في مسألة فقهية يردها إلى أصلها المعروف
في أصول الفقه. (6) الحساب. (7) الجبر. (8) تقويم البلدان. (9)
التاريخ.
وأعرض على مولانا أني أحب أن لا يدخل في هذا الامتحان من مضى عليه
أقل من ثماني سنين في الجامع الأزهر علي حسب سجلاته. أما بقية ما يلزم لضبط
الامتحان ليكون كافلاً بإعطاء المكافأة لمن يستحقها فذلك موكول إلى رأي مولانا
الأستاذ ورأيه الموفق إن شاء الله تعالى. وأرجو أن تتفضلوا علي بالجواب هل قبل
طلبي، والله يتولاكم برعايته) اهـ.
فكتب إليه شيخ الأزهر كتابًا رسميًّا بقبول طلبه مع الشكر علي أريحيته
وغيرته , ونحن نشكر له أيضًا هذه المبرة , ونرجو أن يقتدي غيره من الأغنياء به
في إحياء العلم والدين.
__________(7/716)
الكاتب: حافظ إبراهيم
__________
قصيدة في الحرب
لحافظ أفندي إبراهيم
أساحة للحرب أم محشر ... ومورد الموت أم الكوثر
وهذه جند أطاعوا هوى ... أربابهم أم نعم تنحر
لله ما أقسى قلوب الأولى ... قاموا بأمر الملك واستأثروا
غرهم في الدهر سلطانهم ... فأمعنوا في الأرض واستعمروا
قد أقسم البيض بصلبانهم ... لا يهجرون الموت أو ينصروا
وأقسم الصفر بأوثانهم ... لا يغمدون السيف أو يظفروا
فمادت الأرض بأوتادها ... حين التقى الأبيض والأصفر
وأثملتها خمرة من دم ... يلهو بها (الميكادو) والقيصر
وأشبهت يوم الوغى أختها ... إذ لاح فيها الشفق الأحمر
(وأصبحت تشتاق طوفانها ... لعلها من رجسها تطهر)
أشبعت يا حرب ذئاب الفلا ... وغصت العقبان والأنسر
وميرت الحيتان في بحرها ... ومطمع الإنسان لا يقدر
إن كان هذا الدب لا ينثني ... وذلك الرئبال لا يقهر
والبيض لا ترضى بخذلانها ... والصفر بعد اليوم لا تكسر
فما لتلك الحرب قد شمرت ... عن ساقها حتى قضى العسكر
سالت نفوس القوم فوق الظبا ... فسالت البطحاء والأنهر
وأصبحت (مكدن) ياقوتة ... يغادر منها الدر والجوهر
ياقوتة قد قومت بينهم ... بأنفس كالقطر لا تحصر
أضحى رسول الموت ما بينهما ... حيران لا يدري بما يؤمر
(عزريل) هل أبصرت فيما مضى ... وأنت ذاك الكيس الأمهر
كذلك المدفع في بطشه ... إذا تعالى صوته المنكر
تراه إن أوفى على مهجة ... لا الدرع يثنيه ولا المغفر
* * *
أمسى (كروباتكين) في غمرة ... وبات (أوياما) له ينظر
وطلت الروس على جمرة ... والمجد يدعوهم ألا فاصبروا
وذلك الأسطول ما خطبه ... حتى عراه الفزع الأكبر
أكلما لاح له سابح ... تحت الدجى أو قارب يمخر
ظن به (توجو) فأهدى له ... تحية (توجو) بها أخبر
تحية من واجد شبق ... أنفاسه من حرها تزفر
فهل درى القيصر في قصره ... ما تعلن الحرب وما تضمر
فكم قتيل بات فوق الثرى ... ينتابه الأظفور والمنسر
وكم جريح باسط كفه ... يدعو أخاه وهو لا يبصر
وكم غريق راح في لجة ... يهوي بها الطود فلا يظهر
وكم أسير بات في أسره ... ونفسه من حسرة تقطر
إن لم تروا في الصلح خيرًا لكم ... فالدهر من أطماعكم أقصر
تسوءنا الحرب وإن أصبحت ... تدعو رجال الشرق أن يفخروا
أتى على الشرقي حين إذا ... ما ذكر الأحياء لا يذكر
ومر بالشرق زمان وما ... يمر بالبال وما يخطر
حتى أعاد الصفر أيامه ... فانتصف الأسود والأسمر
فرحمة الله على أمة ... يروى لها التاريخ ما يؤثر
__________(7/718)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أهم ما يؤرخ من الأنباء في باب الأخبار والآراء
(الدولة العلية والإنكليز. الخلاف والوفاق والأسطول والمالية)
نقرأ في الجرائد آنًا بعد آن اهتمام الدولة بإنشاء أسطول عظيم، وقد علمنا أن
إنكلترا هي التي تحث الدولة وتدعُّها إليه، ولما زار أميرال أسطول البحر المتوسط
الإنكليزي سلطاننا بالغ السلطان في إكرامه كأنه من بيت الملك وتكلما في ذلك وأكد
الأميرال للسلطان الوعد بأن إنكلترا تساعده على تقوية البحرية حتى بالمال بشرط
أن يهتم بإصلاح المالية فيعزل ناظرها الذي كان يومئذ يولي مكانه الناظر الحاضر
ويؤلف لجنة الإصلاح المالي.
وبعد أن سمعنا هذا رأينا السلطان فعل ذلك. ومع هذا نرى الدولتين مختلفتين
على حدود عدن ونرى إنكلترا لا تنفك تسعى في تقوية نفوذها في الكويت وبلاد
العرب والسبب في هذا وذاك الخوف على زقاق البوسفور من روسيا وعلى الخليج
الفارسي منها ومن ألمانيا وتتمنى لو تقدر الدولة بقوتها على حفظ الخليجين.
* * *
(ألمانيا في شرقي أفريقية وتنصيرها المسلمين)
كتب إلينا أن ألمانيا تلزم الناس في مستعمرتها هناك بالتعلم وبالتنصر إلزامًا
وتعني بالإيقاع بين العرب المقيمين في المستعمرة وبين الأهالي الأصليين لأن
العرب أنور وأشد تمسكًا بالإسلام وجذبًا إليه وإن كانوا جاهلين. والإكراه على
الدين لم يعرف في تاريخ البشر إلا عن الأوربيين، ومن العجب أن تجترحه دولة
كألمانيا في علمها ومدنيتها اتباعًا للأثرة والإفراط في حب الذات اللذين رباها بسمرك
عليهما. وهذه الجريمة السوءى ترشد الشرق والإسلام إلى تفضيل الإنكليز على
جميع الشعوب الأوربية في كل صلة من صلاتهم بأوروبا الظالمة المتعصبة.
* * *
(الدولة العلية وفتنة نجد)
تواترت الأخبار بانتصار ابن سعود الذي اجتمعت عليه كلمة القبائل على ابن
الرشيد وقد علمنا من الأخبار الخصوصية التي جاءتنا من بلاد العرب أن ابن سعود
يتمنى الخضوع للدولة، وأنه حاول أو يحاول إرسال الوفود لمخاطبتها بذلك، ولكن
دسائس ابن الرشيد وأعوانه لدى الحكام في الحجاز والشام والعراق تحول دون
وصول هذه الوفود، وعسى أن تظهر الحقيقة للدولة لتعلم أن استمرار انتصارها
لابن الرشيد خطر عظيم وأن السياسة المثلى في إعادة نجد إلى آل سعود كما كانت
فهم أقدر على حفظها تحت رايتها وحمايتها وبذلك تأمن على الكويت أيضا ولعلها
تفعل إن شاء الله تعالى.
* * *
(إحياء جزيرة العراق)
دعت الدولة العلية السرويلكوكس المهندس الإنكليزي الشهير صاحب مشروع
خزان النيل لاختبار جزيرة العراق ووضع تقرير لكيفية إحيائها بمياه الدجلة
والفرات فلبى الدعوة وزار قبل سفره من هنا مختار باشا الغازي فأرشده هذا إلى
الوديان التي يمكن أن توضع فيها السدود وتنشأ الخزانات لأجل الري الصيفي فإن
المياه تقل هناك في الصيف حيث الحاجة إليها شديدة بعكس مياه النيل في مصر
فسُر المهندس بهذا الإرشاد وعند السفر كتب إلى الغازي كتابًا يشكر له فيه ذلك.
* * *
(القضاء الشرعي والحكومة المصرية)
أنذر قاضي مصر الحكومة بتوقيف الأحكام الشرعية إذا لم ينفذ القرار الذي
صدر من المحكمة الكبرى بالحيلولة بين الشيخ علي يوسف وصفية السادات في
القضية المعلومة فلم تنفذه ولكن جاملت القاضي ووقعت الحيلولة بالرضا. ثم إن
القاضي نشر إعلانًا في الجريدة الرسمية يطلب فيه محاسبة نظار الأوقاف الخيرية
لأن ذلك من حقوقه الشرعية فاتفق النظار مع الأمير بعد استشارة عميد الاحتلال
على منع القاضي من هذا الحق وجعله للأمير وكان صدر أمر عال لديوان الأوقاف
على أنه حق للخديوي. وقد تم هذا بكل سكون ولو لم يكن الأمير راضيا لقامت
قيامة الجرائد والعلماء بدعوى الغيرة على الشرع وحقوق السلطان....
وقد عزل الشيخ بخيت من المحكمة العليا تمهيدًا للإصلاح.
__________(7/719)
غرة شوال - 1322هـ
8 ديسمبر - 1904م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة
جرت عادة الشافعية في الأمصار التي تتعدد مساجدها بأن يصلوا الظهر
جماعة بعد أداء صلاة الجمعة، وقد نشأ صاحب هذه المجلة شافعيًّا وقلد دينه من
تربى بينهم من المنتسبين إلى هذا المذهب زمنًا فكان يعيد الظهر معهم كما يعيدون
معتقدًا أن هذا هو مذهب الشافعي , ولما قرأت فقه الشافعية علمت أن الإعادة مبنية
على قول الإمام بوجوب التجميع (إقامة الجمعة) في مسجد واحد وعدم جواز
التعدد في الاختيار، وأن التعدد إذا كان لحاجة بأن عسر اجتماع الناس في مسجد
واحد جاز.
وأنه في حال عدم جواز التعدد تكون الجمعة الصحيحة للسابق , وعلى غيره
إعادة الظهر. وقد ظهر لي بالاختبار أن التجميع في مسجد واحد يتعذر في مثل
مصر لأن أكبر مسجد فيها مسجد عمرو، وإنك لتراه في آخر جمعة من رمضان
مزدحمًا بالمصلين، والجمعة تصلى في سائر المساجد , ومنها ما يكون مزدحمًا مثله
على أن كثيرًا من المكلفين بالجمعة لا يصلون , ومع هذا ترى الشافعية يعيدون صلاة
الظهر بعد صلاة الجمعة في الأزهر وغيره , فدلنا هذا على أن إعادة الظهر صار
عادة للشافعية، وأنهم ليسوا فيها على بينة ولا علم صحيح، وقد وصلت إلينا في
أواخر رمضان رسالة مطبوعة في بيروت منسوبة إلى الشيخ نور الدين الشبراملسي
الشافعي المتوفى سنة 1087 يقول مؤلفها في أولها: إنه قد ذكر بعضهم لحسين
باشا حاكم الديار المصرية أن صلاة الشافعية الظهر جماعة يوم الجمعة لا أصل لها
قال: (فمنع أهل أزهرنا منها ظنًّا منه صدق القائل، وفضيلة الناقل) والحال
أنه إما كاذب أو جاهل، وتحرير المسألة عندنا أن فيها أربعة أوجه:
الأول: وهو الصحيح أنه لا يجوز تعدد الجمعة ما لم يشق الاجتماع بمحل
واحد - ولو غير مسجد - مشقة لا تحتمل عادة، أي يقينًا، كما قيد به الشهاب بن
حجر إلخ. ثم ذكر أن العبرة فيمن يعسر اجتماعهم بالذين تلزمهم على المعتمد لا من
يصلون بالفعل أو من تصح منهم أو من يغلب حضورهم.
والوجه الثاني: لا يجوز التعدد مطلقًا، وذكر أن السبكي انتصر له نقلاً
ودليلاً وصنف فيه أربعة مصنفات، وقال: إنه لا يحفظ عن صحابي ولا تابعي
جواز تعددها. ولكنه لم يذكر هل يحفظ عنهم القول بمنع التعدد مطلقاً؟ كلا إنه لم
يقل به أحد منهم.
والثالث: إنْ حالَ نهر عظيم بين شقي البلد كانا كبلدين يقام في كل منهما
جمعة.
والرابع: إن كانت قرى واتصلت تعددت الجمعة بعددها، ثم ذكر أن سبب
الخلاف عدم إنكار الإمام الشافعي على أهل بغداد تعدد الجمعة، وكانوا حين دخلها
يجمعون بمحلين أو ثلاثة (قال) أجاب عنه جمهور أصحابه بأنه لمشقة الاجتماع
لكثرة أهلها. وتبعهم الشيخان إلى أن نقل عن بعضهم أن مذهب الشافعي لا يحتمل
تغيره وأننا ننظر في المسألة من جهة مذهب الإمام الشافعي ومنه تعلم أنه حجة على
مؤلف الرسالة في زعمه وجوب الظهر على أهل مصر وعلى من يحتج بها مثل
احتجاجه من جهة الدليل فقط، ومنه تعلم أن سائر المذاهب الإسلامية أرجح من
مذهب الشافعية ومن وافقهم في هذه المسألة.
أما النص عن الشافعي فقد جاء في مختصر المزني ما نصه:
(ولا يجمع في مصر وإن عظم وكثر مساجدها إلا في مسجد واحد منها وأيها
جمع فيه فبدأها بعد الزوال فهي الجمعة وما بعدها فإنما هي ظهر يصلونها أربعًا لأن
النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده صلوا في مسجده وحول المدينة مساجد لا نعلم
أحدًا منهم جمع إلا فيه، ولو جاز في مسجدين لجاز في مسجد العشائر)
وجاء في (كتاب الأم) نحو ما تقدم ما نصه:
(وإن جُمع فيه أولاً بعد الزوال فهي الجمعة وإن جمع في آخر ساعة بعد
الجمعة كان عليهم أن يعيدوا ظهرًا أربعًا) .
ثم قال: (وهكذا إن جمع من المصر الواحد في مواضع، الجمعة الأولى وما
سواها لا تجزئ إلا ظهرًا. (قال الشافعي) ولو أشكل ذلك عليهم فعادوا فجمعت
منهم طائفة ثانية في وقت الجمعة أجزأهم ذلك لأن جمعتهم الأولى لم تجزئ عنهم ,
وهم أولاً حين جمعوا أفسدوا، ثم عادوا فجمعوا في وقت الجمعة، قال الربيع وفيه
قول آخر أن يصلوا ظهرًا) اهـ فهذا نص كتب المذهب الأصلية.
فأما قول المختصر: لأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده صلوا في
مسجده ... إلخ.
فهو لا يأتي في مسألتنا لأن ما حول المدينة ليس منها، وإذا صح الاستدلال
بوقائع الأعيان أمكن أن يحتج بهذا على اشتراط التجميع في المصر وجماهير
الأصوليين لا يستدلون بها.
وما في المختصر مفروض في قوم أرادوا صلاة الجمعة فعلموا بأن غيرهم قد
سبقهم فيجب عليهم الظهر عنده , ولا نعرف الآن في البلاد الإسلامية أن قومًا
يجمعون بعد العلم بأن غيرهم سبقهم بالجمعة ولو في مسجد آخر وإنما يقيمون
الصلاة عند الآذان في عدة مساجد أنشئت للحاجة إليها في الأغلب , ولا نص لهذه
المسألة في المختصر، وعبارة الأم على بسطها لا تخرج عن معنى ما اختصرها
به المزني فإن قوله الجمعة الأولى وما سواها لا تجزئ إلا ظهرًا، لا يستقيم إلا في
صورة العلم بأن الجمعة أقيمت فيشرع في الظهر ويوضحها قوله قبلها: وإن جمعوا
في آخر ساعة بعد الجمعة كان عليهم أن يعيدوا ظهرًا أربعًا. فقوله في آخر ساعة
بعد الجمعة تصوير لإقامة الجمعة بعد العلم بأنها أقيمت. وأما مسألة الإشكال فهي
تظهر إذا اجتمعوا وتحدثوا فظهر لكل فريق منهم ما شككه في صحة صلاته، ولذلك
قال: إنهم يصلون الظهر وأنهم إذا صلوا الجمعة ثانية أجزأتهم لظهور فساد الأولى.
فإذا لم نفرض أن كل فريق من المجمعين اجتمع بالآخر واتفقوا على فساد صلاتهم
كلهم. لا يمكن أن نجيز التجميع لطائفة بعد العلم اليقين بأن الجمعة أقيمت؛ إذ لو
أجزنا هذا لكان المذهب أن الجمعة تصح لأهل المسجد الذين علموا أن جميع
المساجد قد جمعت قبلهم فتكون الجمعة للمتأخرين لا للمتقدمين فيتناقض هذا مع قوله:
الجمعة الأولى.
فتحرر معنا أن الإمام الشافعي يمنع تعدد الجمعة في البلد الواحد، فيجب على
من أخذوا بقوله أن يجتمعوا في محل واحد إذا أمكن، ومن علم منهم بأن الجمعة
أقيمت ليس له أن يجمع بل يصلي الظهر وإذا اجتمعوا أُشْكِل عليهم الأمر جمعوا
ثانية وصلوا الظهر. ولم يرد نص في حال عدم العلم بالتأخر وعدم الإشكال بأن
صلى كل فريق ظانًّا أنه السابق لأن الأصل عدم صلاة غيره قبله ولم تطرأ له شبهة
تعارض الأصل والظاهر أنه لا يجب عليه إعادة الظهر ولا الجمعة.
وربما يستبعد بعض الشافعية قولنا هذا لأنه مخالف لما عليه العمل عندهم إذ
يصلون الجمعة وهم يعتقدون عدم إجزائها وينوون إعادة الظهر بعدها ولا يوجد
نص عن الشافعي ولا عن أصحابه المجتهدين يجيز لأحد أن يشرع في صلاة وهو
يعتقد أنها لا تجزئه وكلام المصنفين المقلدين في إجازة ذلك لا يعتد به، بل ظاهر
منع الشافعي لتعدد الجمعة يؤذن بأن الشروع فيها لا يجوز على مذهبه إلا لمن يعلم
أو يظن أنه السابق الذي له الجمع، فإن شك بطل إحرامه بصلاتها كما هو ظاهر،
فمن كان مقلدًا للشافعي فليتأمل هذا بإنصاف ولا يغرنه كلام المصنفين (الشبراملسي)
ومن فوقه أو تحته، فإن أكثرهم ينقلون من كتب أمثالهم المقلدين ولم يطلعوا على
نص الشافعي وهو ما ذكرناه لك عن (المختصر) و (الأم) اللذين هما أصل
المذهب، ثم إن ما تقدم من نص المذهب صريح في تعدد الجمعة بالاختيار، ولم
يقل الشافعي شيئًا في حال الاضطرار، وهى ما إذا اتسع المصر وتعذر أو تعسر
اجتماع الناس في مكان واحد منه، ولكن الأصول العامة عنده وعند سائر الأئمة من
دفع الحرج والعسر، وإجازته تعدد الجمعة في بغداد؛ إذ أقام فيها سنتين، ولم
ينقل أنه أنكر على أهلها التعدد، ولا أنه كان يصلي الجمعة ثم يصلى عقيبها الظهر
- تدل على أنه يجيز التعدد لحاجة وقد علمنا من مختصر صاحبه (المزني) أن دليله
على وجوب التجميع في مكان واحد هو فعل النبي وأصحابه وهو على القول
بنهوض الوقائع العينية الإجمالية دليلاً، محمول على عدم الحاجة للتعدد فقد كان مسجد
النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسع الناس، ومن حِكم التجميع اجتناب التفرق،
فأي مسلم يرغب عن الصلاة معه - عليه السلام - وعن سماع خطبته ويجمع بالناس
في مسجد غير مسجده؟ فالتجميع في مسجد واحد على عهده صلى الله تعالى
عليه وسلم كان للحرص على الصلاة معه والتلقي عنه، ولموافقة حكمة مشروعية
الجمعة وهو الاجتماع وتلقي المواعظ على طريقة واحدة؛ فإنه مما يزيد
في الوحدة الإسلامية، فهو الأصل، ولم يعرض من الضرورة والحرج فيه ما يقضي
بالتحول عنه. وقد عُلِمَ مما تقدم أنه لا دليل من نص الشافعي ولا من فعله
على أنه يجب على من صلى الجمعة في أمصار المسلمين التي تعددت فيها المساجد
للحاجة أن يعيد الظهر بعد صلاة الجمعة فيوطن نفسه على أداء فريضتين
في وقت واحد، وأن ما قاله في الإعادة هو من قبيل مَن تبين له بعد الصلاة أنه لم
يستكمل شروطها فوجبت عليه إعادتها. وأما ما في كتب الشافعية ومنها رسالة
الشبراملسي مما يخالف ذلك أو يزيد عليه فهو من فلسفة أولئك المصنفين الذين لا يجوِّز أحد تقليدهم.
وأما النظر في المسألة من جهة الدليل فقد علم بالجملة مما تقدم وإيضاحه أن
كلام الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - يؤذن بأن الاجتماع في مكان واحد شرط
لصحة صلاة الجمعة، والظاهر أنه حكمة من حكمها التي تراعى بقدر الإمكان،
ولا دليل على الشرطية فيما نص عليه في المختصر من فعل النبي صلى الله عليه
وسلم والصحابة. ولو كان فعلهم يدل على الشرطية لوجب القول بأن صلاة العيد
في الصحراء خارج البلد شرط لصحتها، إذ ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يخرج بأصحابه نساء ورجالاً فيصليها فيها. وكذلك كان أصحابه بعده يفعلون،
والأصل أن تقام الصلوات في المساجد فالعدول عن المسجد في العيد يدل على أنه مقصود لذاته، فلماذا لم يقل الشافعية باشتراط الخروج إلى الصحراء لصحة صلاة العيد؟
ومثل ما ذكر من الاستدلال علي وحدة المكان استدلالهم على عدد من تنعقد
بهم الجمعة، فالشافعية والحنابلة على أن أقل عدد تنعقد به الجمعة أربعون،
واستدلوا بأن المسلمين كانوا في أول جمعة جمعوها أربعين، ولم ينقل أنهم جمعوا
بأقل من هذا، ويرد عليهم حديث الذين انفضوا إلى التجارة وتركوا النبي قائمًا
يخطب، وقد صلاها بمن بقي وهم اثناعشر والحديث في الصحيح عند البخاري
ومسلم وغيرهما. وفي الواقعة نزلت آية {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا
وَتَرَكُوكَ قَائِماً} (الجمعة: 11) وما رواه الطبراني من أنهم انفضوا إلا أربعين
رجلاً، ضعيف تفرد به علي بن عاصم من الضعفاء، فهذه الواقعة علمتنا أن العدد
الكثير إنما كان لكثرة الناس. وما يدرينا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يأمر بتعدد الجمعة لو رأى أمصارًا كبيرة يتعذر أو يتعسر على الناس الاجتماع فيها
على إمام واحد في مسجد واحد كمصر والأستانة وبيروت. أو ليس سكوت أئمة
القرن الثاني ومنهم الإمام الشافعي على تعدد الجمعة في بغداد دليلاً على أنهم ما
كانوا يرون بذلك بأسًا عند الحاجة.
على أن بغداد كانت عند تعدد الجمعة فيها على عهد المنصور حديثة النشأة
ولم تكن كمصر على عهد الشبراملسي في الاتساع وكثرة الناس ولا (كبيروت)
الآن. وهى قد تم بناؤها سنة 149 أي قبل ولادة الشافعي، ولا دليل عليه من
كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، وأن موافقة سائر المذاهب فيها هو
المتعين لمن يحب الوحدة الإسلامية , والله الموفق.
__________(7/729)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
عرض أعمال الأمة على النبي
صلى الله عليه وسلم
(س 91) عبد الحميد أفندي السوسي بالإسكندرية: أرفع لفضيلتكم هذا السؤال
وهو أني سمعت فقيهًا يقول: إن أعمال الأمة المحمدية تعرض على الحضرة
المصطفوية كل أسبوع، وبالسؤال منه عن الكيفية أجابني بأنها تعرض عليه مقيدة
في كشف , فلم أرتح لجوابه وطالبته بزيادة الإيضاح بكل احترام فما كان منه إلا
أن رماني بالكفر ونهرني (وأنا السائل) وشتمني وصاحب الشريعة عليه الصلاة
والسلام يقول: (ما بعثت سبابًا , ولكن بعثت رحمة للعالمين) حصل بيني وبينه ما
حصل ولم أستفد منه شيئًا غير ما تقدم. ولما كنتم فضيلتكم من الذين يجب علينا أن
نأخذ الدين عنهم لا عن سواهم عولت على أن أستفهم من سيادتكم عن صحة ما
سمعته من الفقيه راجيًا إجابتي بجواب مؤيد بالدليل كما هي عادتكم مع بسط
الكلام عن حكمة العرض وكيفيته ولكم من الله الأجر ومن المؤمنين الشكر
(ج) إن هذا الذي قاله لك من سميته فقيهًا غير صحيح، على أنه من أمور
الآخرة أي من عالم الغيب الذي لا يبيح الدين لأحد أنك يقول فيه برأيه واجتهاده،
وإنما يجب الوقوف فيه عند النصوص الثابتة عن الشارع فإذا كانت هذه النصوص
قطعية كآيات القرآن العظيم كان الإيمان بما ورد فيها حكاية عن عالم الغيب واجبًا
وتكذيبها كفرًا، وإذا لم تكن قطعية كأحاديث الآحاد ولو صحيحة السند لا يكون التسليم
بها وجبًا بأن تعد من أركان الإيمان التي يكفر منكرها، فكيف يكفر من يسأل عن
كيفيتها وبيانها؟
نعم، إن من ثبت عنده حديث في ذلك لابد أن يصدقه ويسلم بمضمونه إذا كان
ممكنًا شرعًا وعقلاً أو بحمله على وجه ممكن. ثم إن ما ثبت من النصوص عن عالم
الغيب يجب أن تؤخذ على ظاهرها أي من غير اجتهاد فيها ولا بحث عن كيفية ما
لم يرد في النصوص ولا بيان كيفيته، فإذا فرضنا أن عندنا آية على أن الأعمال
تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، لم يكن لنا أن نسأل عن كيفية
العرض؛ لأنه من عالم الغيب الذي لا نعرفه وإنما نؤمن بما جاء فيه عن الله تعالى
لأنه جاء عن الله تعالى، وهذا لا يمنعنا عن البحث في فائدة إخبار الله تعالى به إذ
ليس في الدين شيء إلا وهو لمنفعة الناس وإصلاح حالهم. ولو كانت مسألة عرض
الأعمال على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته من قواعد الإيمان التي يكفر
منكرها لما خلت كتب العقائد من ذكرها، ولكن هؤلاء الشيوخ قد تعودوا على تكفير
كل من يعارضهم في مسألة دينية كأن الدين من مقتنياتهم يهبونه لمن شاؤوا ويمنعونه
من أرادوا، وقد يكون بعضهم أجدر بالكفر لكذبه على الله وتكفير المؤمنين.
هذه المسألة لم ترد في كتاب الله تعالى ولا في أحاديث الصحيحين أو السنن
أو المسانيد، وإنما ورد فيها خبر آحادي مرسل عن بكر بن عبد الله المزني عند
ابن سعد وهو (حياتي خير لكم ووفاتي خير لكم تحدثون فيحدث لكم، فإذا أنا مت
عرضت علي أعمالكم فإن رأيت خيرًا حمدت الله تعالى، وإن رأيت شرًّا استغفرت
الله لكم) وورد بلفظ آخر، وقد اختلف العلماء في الاحتجاج بالحديث المرسل في
الأحكام العملية فذهب بعضهم كالشافعية إلى أنه لا يحتج به فكيف يجعل حجة في
العقائد وأصول الإيمان؟ على أن هذا معارَض بمثل حديث عائشة عند البخاري إذ
قالت: وارأساه! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ذاك لو كان وأنا حي
فأستغفر لك وأدعو لك) .. الحديث , وهو أصح سنداً ومسند لا خلاف في
الاحتجاج به. ثم إن الرواية المرسلة ليس فيها بيان للكيفية التي ذكرها فقيه السؤال
ولا للتوقيت بالأسبوع فهو مفتات على الدين وعلى عالم الغيب.
أما حكمة الإخبار بعرض الأعمال على تقدير سلامته من المعارضة وما يمنع
الاحتجاج به فهي أن المؤمن بذلك إذا تذكره يكون من أسباب إحجامه عن السيئات
حياء من الرسول مع الحياء من الله تعالى.
* * *
حكم حلق اللحية
(س 92) أحد القراء في (الجزائر) ما قولكم خلدت إفادتكم في حكم حلق
اللحية.
(ج) هو مكروه والأصل فيه التخنث بالتشبه بالنساء.
* * *
حكم تعليق الوسامات في الصدور
(س93) ومنه: وما قولكم في حكم تعليق النياشين والوسامات في
الصدور خصوصًا المهداة من الدول الأوربية؟
(ج) ينظر في التحلي بهذه الأوسمة المعروفة بالنياشين من وجهين:
أحدهما: مادتها، فإذا كانت ذهبًا أو فضة فالمذاهب الأربعة متفقة على تحريم تعليقها
على الرجال، وقد تقدم في جواب السؤال السابع والخمسين من الجزء الحادي عشر
من هذا ما ورد في ذلك وحكمته.
وثانيهما: معناها وطريق الوصول إليها وما أنشئت لأجله وتأثير ذلك في
حاملها وفي الناس، وهذا لم يرد فيه شيء في السنة لأنه من المحدثات بعد التشريع
فالحكم فيه راجع إلى قاعدة تحريم كل ضار وإباحة كل نافع، ونعني بالمباح هنا
ما يقابل المحرم والمكروه. وإننا نعلم أن هذه الأوسمة قد وضعت في الأصل لتكون
سمة وعلامة تميز من يخدم دولته وأمته خدمة جليلة ليرغب غيره في مثل تلك الخدمة
حبًّا بالامتياز الذي هو ركن للشرف ركين، وهذا شيء يختلف باختلاف البلاد
والأشخاص، وإننا نرى أن نيل هذه الأوسمة وكذلك رتب التشريف التي تقارنها غالبًا
قد خرجت في هذه البلاد وفي الدولة العثمانية عن وضعها وصار الناس
يتوسلون إلى نيلها بالمال وبسيئات الأعمال، حتى عرف الخاص والعام أن لها
سماسرة في مصر والأستانة وأن لها أثمانًا معينة تختلف باختلاف درجاتها وأسمائها،
وأن بعض الأعمال السيئة كالتجسس والسعاية قد تغني عن المال في ذلك. ولا
شك أن ابتغاء هذه الوسائل الخسيسة إلى مثل هذا الشرف الوهمي، من الأعمال
المحرمة في الدين القبيحة في نظر العقل. وللحكومة المصرية اصطلاح في إعطاء
الرتب والأوسمة للمستخدمين فيها وهي أنهم يعطون على حسب درجات وظائفهم
وأنواعها ويطلبها لهم رؤساؤهم فلا يبذلون في ذلك مالاً، ولا يقدمون للقصور
أعمالاً، ثم إننا نشاهد لها في هذه البلاد مضرات أخرى في الأخلاق والاقتصاد، فإن
بعض محبي الفخفخة يبيع ما يملك ليشتري رتبة أو وسامًا حتى افتقر بعضهم،
ونرى من ينال منها شيئًا يدخل غالبًا في طور جديد من السرف والخيلاء ومنافسة
القرناء بالباطل حتى يحملهم على السعي في مساواته أو مساماته.
وكثيرًا ما يقع التنازع والتعادي في النسب والصهر للتفاوت العارض بينهم
بأخذ بعضهم رتبة أو وسامًا دون عشيرته، وكل هذه مفاسد محرمة، وقد بلغتنا
وقائع منها لا سيما بين نساء العشيرة، فإن المرأة التي ينال أبوها أو أخوها وسامًا
أو رتبة أو لقب (بك) يسرع إليها الصلف والتكبر على زوجها ويتلوه الشقاق
فالفراق أو يسعى الزوج في مساواة أبيها في ذلك. ومن هذه المضرات تعالي
الوضيع برتبته أو وسامه على الرفيع بفضله وعلمه أو مجده وشرفه حتى تبرم
الفضلاء، وتبظرم السفهاء، وصرنا نرى في الناس من يلهج بذم هذه الزينة الباطلة
وذم باعتها ومشتريها وسماسرتها. وعندي أنه لم يبق لهذه الرتب والأوسمة من
الشرف في الشرق الأدنى إلا بقية في رؤساء الجند وما كان من جمعيات أوربا
العلمية.
أما حكم هذه الأوسمة من الدول الأوربية فهو تابع لسبب إعطائها فإن كان من
يعطاها قد خدم الدولة الأجنبية خدمة جائزة شرعًا بأن كانت نافعة غير ضارة بأمته
ولا بلاده فلا يحظر حمله الوسام من هذا الوجه إلا إذا كان مرغبًا في خدمة
الأجنبي ولو بغير حق وسببًا للاعتزاز به من دون الحق. وإن كانت الخدمة غير
جائزة شرعًا فلا شك أن حمل الوسام يكون آية على الإصرار ودوام الرضا بالذنب
وأن المعصية الصغيرة لتكون بالإصرار عليها كبيرة.
* * *
اللباس الرسمي وكساوي التشريف
(س 94) ومنه: وما قولكم في اتخاذ الولاة والحكام لباسًا رسميًّا خصوصيًّا
(كالبرنس الأحمر عندنا) وتحلي العلماء والوجهاء بالكساوي التشريفية؟ أفيدونا
مأجورين.
(ج) إن الإسلام لم يشرع للناس لباسًا خاصًّا ولم يحظر عليهم زيًّا من
الأزياء، فلكل فرد ولكل صنف أن يلبس ما أحب واختار إلا ما ورد في لبس
الحرير والذهب والفضة، وقد تقدم شرحه في الجزء الحادي عشر، وما ورد من
النهي عن لباس الشهرة وتقدم أيضًا.
وأنت تعلم أن هذا اللباس تابع للرتب بل هو مظهرها ومجلاها، وقد علمت
ما فيها. ونزيد هنا التذكير بما ألمعنا به من قبل من أن الدولة العثمانية قد أخذت
ملابسها الرسمية عن الروم، وأقدمها ملابس العلماء وهي مرتبة على نحو ترتيب
الروم في أزياء البطارقة والقسيسين وهو ما يسمونه ملابس الكهنوت المطرزة أو
الموشاة بالذهب والفضة وأعلاها الحلة البيضاء التي يلبسها بطريق القسطنطينية في
المواسم والأعياد وهي في الدولة لشيخ الإسلام وقد أشرك السلطان معه الشيخ أبا
الهدى في السنة الماضية. ومن مفاسد السياسة أن العلماء صاروا يتنافسون في هذه
الملابس مع اتفاق مذاهبهم على تحريم التحلي بالذهب والفضة في اللباس وغيره
وتحريم التشبه بغير المسلمين في الشعائر الدينية ونحوها، وهم مع ذلك يحرمون
لبس القلنسوة المعروفة بالبرنيطة مطلقًا على أنها ليست لبوسًا دينيًّا! وقصارى ما قال
فقهاؤهم في قصد التشبه بالكافر في غير أمور الدين أنه مكروه، ولم يقولوا إنه
محرم، فليحظروا على أنفسهم ما يسمونه كساوي التشريف (الكسوة بالضم ويكسر
اللباس ج كسى) أولاً ليُسمع قولهم فيما هو دونها، والبرنس الأحمر المعروف
عندكم خير من الجبب المفضضة والمذهبة عندنا إذا لم يكن مثلها أو من الحرير
المصمت والله أعلم.
__________(7/733)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فرنسا والأزهر
نشرت جريدة الإجيبت الفرنسية التي تصدر في القاهرة مقالة عنوانها (فرنسا
والأزهر) في العدد الصادر في 24 نوفمبر الماضي، فأحببنا نشر ترجمتها في
المنار ليعرف أهل الأزهر ما يقول فيهم كتاب الإفرنج ويعتبر بما فيها سائر
المسلمين، وهي:
حدث في الأزهر أخيرًا أن رجلاً معتوهًا أطلق الرصاص على شيخ رواق
المغاربة، فتنبهت لهذا الحادث صحف فرنسا واهتمت بالبحث في شؤون ذلك
الفريق المخصوص الذي يعيش وراء الجدران الصامتة في تلك الكلية الإسلامية
الجامعة. ونحن نغار على كل ما يمس جاه فرنسا ونفوذها في تصديها لإدخال
الحضارة في ربوع المشرق، ونهتم بكل ما له علاقة بالوظيفة التي أخذت على
عاتقها القيام بها في تلك الأقطار، فلذلك لم يكن يسوغ لنا أن نترك هذا الحادث
المحزن من غير أن نخوض في موضوعه ونتكلم في عواقبه فإنه مرتبط بعلائق
فرنسا بالمشرق أشد الارتباط.
لا يصح لمن يعيشون بقرب هذه المدرسة أن لا يعبأوا بأي أمر يتعلق بها فإن
في وسعهم أن يعرفوا مقدار تأثيرها في العالم الإسلامي. هذه المدرسة في نظر
الباحث المدقق كسياج للأفكار الإسلامية؛ لكونها في القاهرة أعظم عواصم الإسلام
مدنية وحضارة، وبالقرب من ضريح الإمام محمد بن إدريس الشافعي أحد أصحاب
المذاهب الأربعة. بل نقول تقريبًا للحقيقة من أفهام الغربيين أن للأزهر في بلاد
المشرق تلك المكانة التي أحرزتها في الزمن الغابر مدرسة بولونيا الكلية حينما
ورث عواهل ألمانيا صولجان قياصرة الرومان، وسيف الإمبراطور شارلمان، بل
هي كمدرسة السوربون في فرنسا أيام رفع أفاضل العلماء فيها نبراس الأفكار،
فأضاء تلك الأقطار، بما جددوا من معارف اللاتينيين ومحوا من تلك الظلمات
المتراكمة التي أحدثتها غارات البرابرة. إذا كان جميع المسلمين يولون وجوههم
شطر المسجد الحرام فكذلك الغيورون على مصلحة المسلمين في الاستقبال قد جعلوا
الأزهر قبلة للأماني وكعبة للآمال، نعم إن الذي يمر بالأزهر اليوم ولم يكن قد
أوتي شيئًا من العلم والفطانة، أو البصيرة والرزانة، لا يرى في هذا البناء الذي
علته الشرفات العربية، وازدان بالحجرات المغربية. إلا آثار مدنية قديمة غادرها
الزمان في سبات عميق، فليست في الأموات ولا في الأحياء، كما كانت بزنطية
عاصمة الدولة الرومانية الشرقية حين ضرب عليها التصوف رداءه وأحاط بها
التقشف من كل مكان. فإن ما يدور فيها من المجادلات العتيقة العقيمة في العلوم
التي يسمونها الوسائل، والعلوم التي يسمونها المقاصد، لا تسفر عن وجه يشعر
يتجدد الحياة. ولكن من يسبر الأشياء بمسبار الرويَّة، وينظر إلى الأمور بعين
البصيرة، يرى في هذا الجمع المتكاثف وبين أولئك الطلبة الذين يدرسون
ويشتغلون كأمثالهم في كليات أمريكا اهتزازات تدل على حياة جديدة، ويجد في
نفسه انتعاشًا يشعر بنشأة أخرى ولكن هذه الاهتزازات الحيوية مستورة بالسكينة
والوقار، مغشاة بما امتاز به الشرق من التجرد وعدم المبالاة. ذلك أن بعض سروات
المسلمين الذين لابسوا أهل أوربا وعلموا أن مدنيتهم قائمة على أساس العلم والتربية
تبرعوا بأموال طائلة ونصبوا لأولئك الطلاب المنقطعين للرياضات وأنوار التجلي
أساتذة من الذين نبغوا في مدارس أوربا ليبثوا بينهم علومنا العصرية ومعارفنا
الحديثة بحيث قد جنحت المدينة الإسلامية جنوحًا ظاهرًا للاستقاء من معارفنا،
والامتزاج بنا بدلاً من أخذ الأهبة وحمل السلاح لمكافحة المدنية النصرانية، فهي لنا
بمثابة الأخت الصغرى، ونهضتها هذه تشابه نهضة تجدد المعارف اللاتينية في
أوربا مشابهة تامة تدعو إلى العجب والدهشة، ولكنها متأخرة عنا بستة قرون هي
المدة بين نهضة المسلمين (الأولى) ونهضتنا وليس يخشى عليها غير خطر واحد:
هو أن تتبلور عقول أهلها تبلورًا صوفيًّا تجريديًّا، والدافع لهذا الخطر والواقي منه
هو الأزهر، فإن حركته الذاتية تسير ببطء في طريق كافل نيل المرام ولن
يتخلف الأزهر عن الوفاء بما نيط به ما دام المهيمن عليه من أولئك الذين انفتقت
أذهانهم بالأفكار العصرية.
أسهبنا في شرح مقدمة الموضوع الذي نتوخى الخوض فيه، وما ذلك إلا لأنه
كان من الضروري بيان درجة الأزهر ومكانته العليا في عالم الإسلام وما له من
الشأن الكبير في مزج المدنيتين، وهو أمر واقع بلا شك في يوم من الأيام على
سواحل البحر الأبيض المتوسط. ومن المعلوم أن فرنسا وإنكلترا هما الدولتان
العظيمتان اللتان لهما السيطرة على كثير من بلاد الإسلام، ولذلك أوجبت هذه المكانة
على تينك الأمتين الكريمتين فرضًا لا يمكن سقوطه بكرور الزمان ألا وهو السعي
المتواصل في دوام تحسين العلاقات الفكرية والعلمية التي وصلت بنفسها عالم
الشرق بعالم الغرب، وأخص فرنسا التي قد اكتسبت من عهد قريب مكانة راجحة في
مراكش فإنها لا يتسنى لها بإزاء الأمم الإسلامية ترك ما هو محتم عليها بمقتضى
الروح الساري في جثمانها، وما هو مدون في تاريخها أعني وظيفتها التي هي
حماية الأمم المستضعفة ونشر ألوية الحرية والإخاء في ربوعها. فإذا نظرنا إلى
فرنسا وجدناها على رأس مملكة إسلامية فسيحة لها شأن عظيم وقيمة غالية، وهذه
المملكة تمتد من تونس إلى سنغامبيا على سواحل البحر الأبيض والمحيط
الأطلنطي، وقد ازدادت هذه المملكة بدخول مراكش في دائرتها، فليس لفرنسا إذن
أن تحتقر أية وسيلة لرفع شأن الحضارة الإسلامية في مملكتها الشاسعة الأكتاف،
البعيدة الأطراف، بل عليها أن تبذل كل ما في وسعها لتجعل لها على العالم
الإسلامي نفوذًا عقليًّا يكون لها من ورائه فوائد يا لها من فوائد لا تذكر بجانبها مزايا
ما تراه من التودد لها في بطانة صاحبي تونس وفاس فيعود ذلك عليها بالنفع أمام
ذلك المجتمع العظيم الممتد على سواحل أفريقية المتألف من قبائل متغيرة وشعوب
متنافرة، وليس الأزهر بأقل ضمانة أو أقل فعلاً من غيره من الوسائل التي يجب
على فرنسا استخدامها لزيادة نشر نفوذها الأدبي التمديني في العالم الإسلامي
المستقر في مملكتها الأفريقية.
فحينئذ نرى أن فرنسا قد نيطت بها بطبيعة الحال وظيفة يجب عليها أن لا
تتخلى عنها وذلك أنها بصفتها وارثة لملوك تونس فليس لحكومتها الجمهورية أن
تنسى أن الباي محمد صاحب تونس هو الذي أسس في حدود سنة 800 للهجرة
رواق المغاربة الذين يرحلون من بلادهم لطلب العلم بالأزهر مجذوبين إلى هذه
المدرسة التي هي كنبراس للعلوم الإسلامية قد أرسل أشعته وأنواره على الأقطار
والأصقاع كافة.
ثم جاء عبد الرحمن باي تونس (يقول المترجم هذا خلط مع المرحوم عبد
الرحمن بك كتخدا إذ ليس في بايات تونس عبد الرحمن المذكور) وجم غفير من
أبناء المغرب مثله زادوا على توالي الزمان في الأوقاف المخصصة لرواق المغاربة
بالأزهر فلما انحلت عرى الجامعة، وتضعضعت أركان الدولة الإسلامية وانمحت
الآثار، وضاعت الرسوم وانسدل على أمور الأزهر حجاب من النسيان فأغار أبناء
طرابلس على رواق المغاربة وجعلوا أنفسهم أصحاب الاستحقاق حتى ارتفع بعد أن
لم يكن شيئاً مذكورًا عدد الطلبة منهم في أيامنا هذه إلى 50 مجاورًا من 118 مغربيًّا،
وربما كان السبب في زيادة نسبتهم كون بلادهم ملاصقة لديار مصر أو زيادة
لعناية من المشايخ الطرابلسيين فإذا كان هذا الأمر مضرًّا بمصالح الرعايا
المستظلين باللواء الفرنسي من المراكشيين والجزائريين والتونسيين الذين يجاورون
بالأزهر أو يترشحون لذلك، فلا ريب في أنه مضر أيضًا ضررًا بليغًا بمصالح
فرنسا إذ يحرمها من وسيل فعالة في نشر نفوذها الأدبي والتهذيبي بين الأمم
الأسلامية العائشة في مملكتها الأفريقية، ولا يصح لنا أن نغفل عن كون السلطان
عبد العزيز سلطان مراكش بصفته مالكي المذهب يعتبر في قسم عظيم من أفريقية
الشمالية أنه هو النائب الشرعي الأكبر للجماعة أي جماعة أهل السنة من المسلمين،
وليس لنا أن ننسى أيضًا من جهة أخرى أننا إذا صرفنا النظر عن الشافعية وهم
السواد الأعظم من المجاورين ولكنهم كلهم من أهل هذه الديار نجد أن الحنفية
المتبعين للمذهب السائد في المشرق والمالكية - أي المنتميين لمذهب إمام دار
الهجرة - وهو الشائع في المغرب يبلغ عددهم 77.72 (في المائة) وفي ذلك
دليل على أن أواصر القرابة الروحية بين الأزهر والأمة الإسلامية بأفريقية
الفرنسية هي كثيرة الالتئام متينة الإحكام بحيث لا يجوز التغاضي عنها لمن أراد أن
يقوم بسياسة الدخول والامتزاج في أفريقية الشمالية الغربية، وجعل المهارة قائده
والاحتراس رائده ليفوز من عمله بالقسط الأوفر، ويتكلل مسعاه بالنجاح الأوفى.
ليس من نيتنا أن نتداخل بأي وجه كان في أمور الأزهر الداخلية، فإننا نعلم
مقدار تعلقه بما له من الاستقلال ومحافظته على كيانه مع خراب سائر النظامات
الأهلية الأخرى، ولذلك نعلم أنه ينظر شزرًا وغضبًا إلى كل تداخل أجنبي في
شؤونه الخصوصية، نحن نظن أن الأستاذ الأكبر في الأزهر لا يخطئنا في زعمنا
الذي نراه، وفي دعوانا التي ندعيها، وذلك أنه طالما جاهر الناس ونادوا على
رؤوس الأشهاد أن فرنسا لها وظيفة مقدسة في المشرق وهى حماية طائفة الكاثوليك
وهم لا يتجاوزون بضعة الآلاف عدًّا، فمن باب أولى يجوز لنا أن نقول: إن على
الجمهورية في البلاد الإسلامية واجبًا أقدس، وفرضًا ألزم، ألا وهو حماية
المسلمين أيضًا، وعددهم يتجاوز الملايين.
إن حكومة الجمهورية الفرنسية تنفق الأموال الطائلة لاستمرار المدارس
النصرانية في بلاد المشرق، فهل تكون مخطئة إذا طلبت من الأستاذ الأكبر ومفتي
الديار المصرية الإذن في الجري على سنة الملوك والأغنياء المغاربة الذين آلت
إليها ممالكهم وأملاكهم وذلك بأن تجعل في ميزانيتها إعانة سنوية لتكون بمثابة وقف
على رواق المغاربة في الأزهر؟
لا ريب أن مشايخ الأزهر لا يرفضون الوسائل التي يكون من ورائها إقبال
الطلاب على دروسهم وزيادة من يتلقى العلم عنهم فتنتشر تعاليمهم بفضل عناية
الجمهورية الحرة الكريمة الشيم فتزيد نفوذ فرنسا الأدبي في شمال أفريقية الغربي
وبذلك ينتهي أيضا الخلاف القائم الآن بين طلبة الرواق وشيخهم الحالي الذي
يتهمونه بتوزيع النصيب الأعظم من الإيراد على أبناء وطنه ومن أخص المزايا
التي تنتج عن هذا العمل تسهيل الامتزاج بين مسلمي سواحل بحر الروم الجنوبية
وبين المدنية الغربية، وبذلك الامتزاج يمكن تحقيق تلك الأماني الجسام وتجديد ما
رآه التاريخ في سالف الأيام من مآثر المفاخر وآثار الفخار التي تولدت في العالم
بأسره، وأضاءت الكون كله حينما انقادت أزمة الأحكام بأيدي العرب الأمجاد في
أسبانيا وصقلية فأدهشوا الدنيا بما ابتكرته قرائحهم الصافية من عجائب الغرائب
وروائع البدائع) . اهـ
(المنار)
لقد بالغ الكاتب في بعض ما كتب، وكان دقيق النظر في بعضه، والروح الذي
كان مستحوذًا عليه هو روح الغيرة على دولته ودلالتها على طريق لما تحاوله من
استقرار السلطان في الممالك الإسلامية المغربية. وقد تجاوز كتاب الفرنسيس في
هذا الصدد حدّ الكثرة في الآراء والأفكار، ولا نكاد نرى فيهم من يحز في المفصل
ولو اهتدوا إلى استشارة أهل الرأي الصحيح من المسلمين المخلصين للإسلام دون
تحيز إلى أمرائه وسلاطينه واطمأنوا لهم - لكان لهم من رأيهم نبراس يهتدون به
إلى الجادة.
يتوهم هؤلاء الكتاب البلغاء والساسة الأذكياء أن خلابة القول وزخرف
الدعاوي يؤثران في نفوس المسلمين حتى يبلغ القائل منها ما يريد من التأثير العقلي
والأدبي. ولعلي لو نصحت لهم أستفيد الظنة، وتكون مجلتي في مستعمراتهم تحت
المراقبة على الأقل، ولكنني أستأذنهم في كلمة مبنية على الاختبار الصحيح بعيدة
من نزغات السياسة ومفاسدها وخداعها وخلابتها، وهي أنه لا سبيل فرنسا إلى
الوفاق الصحيح مع المسلمين إلا بمساعدتهم في مستعمراتها على التعليم الإسلامي ثم
العصري وإطلاق الحرية لهم في الدين والفكر، دون الفحش والنكر، وليعتبروا
بسيرة إنكلترا في مستعمراتها، ويعلموا أنه يتسنى لهم أن يزيدوا عليها نفوذًا معنويًّا
في العالم الإسلامي إذا هم زادوا عليها في حرية التربية والتعليم، ومن لوازمها
حرية المطبوعات والجرائد.
نقول هذا حبًّا بأبناء ملتنا أولاً، وحبًّا بالأحرار النافعين للبشر ثانيًا واعتقادًا
منا بأن وفاق الحكومة الفرنسية مع أهل الجزائر وتونس ظاهرًا وباطًا خير للفريقين
من الخضوع لجبروت القوة والسلطان الذي ينفع القوي الحاكم ابتداء والضعيف
المحكوم أخيرًا؛ إذ الشدة هي أعظم مربٍّ للأمم والشعوب. وإنما كان خيرًا لهما
معًا لأنه يجمع بين منفعة الفريقين في الحال والاستقبال. وقد لاح لنا أن فرنسا
أنشأت تشعر بأن هذا هو الرأي الصواب، وإنما نحن نذكرها بأن الإقناع به يجب
أن يكون بالعمل دون القول، ومدح الحكومة الجمهورية بالانتصار للضعفاء
والتحرير للمستعبدين. ويجب أن يكون العمل في الجزائر ثم في تونس لا في
مصر، فإنفاق ألف دينار على التعليم في الجزائر مع الحرية الدينية التامة هو أقوى
تأثيرًا من إعطاء مليون دينار للأزهر، وأشد إقناعًا حتى لأهل الأزهر بحسن نية
فرنسا وانتفاء الخطر على الإسلام نفسه في تسلطها على المسلمين، أما النظر في
المقالة من الجهة السياسية فقد كتبت مقالة في المؤيد الصادر في 30 رمضان جاء
فيها بعدد ذكر أمهات مسائل المقالة ملخصة ما نصه:
وفي هذه المقال وجوه من العبر أهمها المقابلة بين فرنسا وإنكلترا التي
اعترف الكاتب بأنها ضريبة فرنسا في نشر الحضارة في المشرق والنفوذ في العالم
الإسلامي، أما إنكلترا فقد احتلت مصر من نحو ربع قرن، وعظم نفوذها فيها مع
عدم اعتراف أوروبا لها بذلك حتى كان الوفاق الفرنسي الإنكليزي، وأذعنت أوربا
للاحتلال تبعًا لفرنسا ووعدت بعدم التعرض له، ومع ذلك لم نر من إنكلترا تعرضًا
للأزهر، ولا ميلاً لنشر نفوذها فيه، كما نشرته في جميع مصالح الحكومة
المصرية، ولم يقم من ساسة الإنكليز وكتابهم من يطالب حكومته باستعمال الأزهر
للتأثير في العالم الإسلامي، وأما فرنسا التي كانت تعارض الاحتلال خوفًا منه على
ضياع مصالحها ونفوذها في مصر فإنها ما أمنت على هذه المصالح بالوفاق الأخير
مع إنكلترا حتى قدح ساستها زناد الفكر في استنباط الوسائل لبث نفوذها في أعظم
معهد للتعليم الإسلامي وجعله آلة لنشر نفوذها العقلي والأدبي في المسلمين والشرق،
ولعلها تريد أن تؤيد العلم والحضارة فيه كما أيدتهما في الجزائر، ولو كانت هي
المحتلة في مصر فماذا كانت فاعلة بالأزهر؟
إذا كان كاتب تلك المقالة لا يشك في قبول مساعدة مشايخ الأزهر لفرنسا فإننا
نحن نقطع ونجزم بعدم قبولها بالقصد الذي اقترحه. وأما إذا قدمت الإعانة المالية
للأزهر على أن تتصرف فيها إدارة الأزهر كما تشاء من غير أن يكون لفرنسا حق
في كيفية صرفها ولا في السؤال عن حالة مجاوري المغاربة وملاحظة أحوالهم أو
تعليمهم فيحتمل أن يقبلها فضيلة شيخ الجامع كما يقبل سائر الإعانات والمساعدات
من المتبرعين.
وإذا كانت فرنسا تحب أن يكون لها نفوذ عقلي أدبي في مسلمي مملكتها
الأفريقية المتحققة والمأمولة فلتطلق للمسلمين في الجزائر حرية العلم والتعلم من
غير مراقبة، ولتساعدهم على ذلك بالفعل ليظهر له أثر في الوجود يوثق به لبعده
عن نزعات السياسة، وإلا كانت هذه الأقوال والاقتراحات مثارًا لسوء ظن
المسلمين بفرنسا، وجزمهم بأنه لا توجد دولة أوروبية ناصرة للحرية الدينية
والعلمية غير إنكلترا فالأقوال والدعاوى لا تقنع أحدًا، وإنما العبرة بالأعمال.
... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ر
__________(7/738)
الكاتب: محمد الخضري
__________
انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسير
ابن جرير الطبري
إلى السيد المحترم منشئ مجلة المنار الغراء
السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد، فقد كاد يركز في الطباع أن نقد
المطبوعات من دلائل الحياة في الأمم، وشعر كل من أقدم على نشر كتاب أن
إظهار أغلاطه من دلائل العناية به بعد أن كان ذلك ثقيلاً على النفوس والأسماع شأن
الحق عند من لا يريده، ولما كنت ممن يرون وجوب النقد وإصلاح الخطأ ليحترس
كل طابع فيما ينشر وكل مؤلف فيما يكتب. جئتك راجيًا نشر كلمتي هذه:
ظهر في عالم المطبوعات كتاب جليل لإمام عظيم، ذلك تفسير محمد بن جرير
الطبري، كتاب طالما استشرفت الأنفس إلى قراءته واقتباس فوائده، اقتنيت هذا
الكتاب، وشغفت بمطالعته، فوجدت له كثيرًا من الامتياز على غيره من كتب
التأويل، ومن ذلك أنه جمع فيه ما يقرب من ألف وتسعمائة شاهد من منظوم العرب
الذين يحتج بهم في اللغة العربية فزادني ذلك فيه حبًّا.
ولكن كانت تداخلني الريبة في كثير من الشواهد لاستغلاق معانيها واعوجاج
مبانيها، فعنيت بجمعها وترتيبها على حروف المعجم ثم شرعت أقابلها على أصولها
في كتب اللغة ودواوين العرب، فهالني أن وجدت ما يقارب النصف محرفًا عن
أصله في ذلك تحريفاً يخل باللفظ والمعنى ومنه ما يخل بالوزن، وكنت رأيت على
أول صفحة من الكتاب أن الكتاب صحح بعناية جمع من أفاضل العلماء وروجعت
شواهده على مظانها، ولكن كذب الخبرَ الخُبْرُ فعمدت إلى نسختي فصححتها ثم
رأيت من الواجب على أن أعلن ذلك على صفحات مجلتكم الغراء لأمرين: أولهما
أن يصحح مقتنو الكتاب ما عندهم من نسخه، ثانيهما: أن يعرف الطابعون أن
وراءهم من ينقب عن أغلاطهم لعلهم يهتمون بالتصحيح فعلاً لا قولاً، وها أنا ذا أبدأ
اليوم بأربعة وثلاثين شاهدًا، وسأوافيك بما يتبقى إن شاء الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد الخضري
* * *
الشواهد
من معلقة طرفة
(1) تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفًا وظيفًا فوق مور معبد
جاء في الجزء الأول (ص52) وكتب هكذا: تباري عنان الناجيات ... إلخ
(2) كأن كناسى ضالة يكنفانها ... وأطر قسي تحت صلب مؤيد
ورد في الجزء الثلاثين (ص42) وكتب الشطر الثاني هكذا:
وأظرف شيء.. إلخ
(3)
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
ورد في ثلاثة مواضع آخرها في الجزء الثلاثين وكتب بدل الزاجري: الراجزي.
(4)
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد
ورد في الجزء الثلاثين (ص154) وكتب بدل يعتام: يغتام، بالغين المعجمة. والمتشدد كتب بدلها: المتشدذ بالذال المعجمة آخر الحروف، ووضع كلمة النفوس
بدل الكرام في الشطر الأول.
(5) لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه باليد
في الجزء الأول (ص360) ووضع بدل كلمة وثنياه: وتنساه. ولذلك استعصى
المعنى على المصحح فأحال على عدد (7) وياليته أحال على المعلقة فيعرف ما
خفي عليه.
من دالية النابغة
(6) وقفت فيها أصيلاًلا أسائلها ... عيت جوابًا وما بالربع من أحد
إلا أواري لأيًا ما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
جاء البيتان في خمسة مواضع إلا أنهما جاء في بعضها تامين وفي بعضهما مقتصرًا
فيهما على ما إليه الحاجة ففي الجزء الأول (ص60) كتب الشطر الأول من البيت
الثاني هكذا:
ألا أواري لأياما 7 أبينها * وكتبوا أسفل الصفحة: هكذا البيت بالأصل وهو
كما لا يخفى لا معنى له فلينظر.
وفي الجزء الأول (ص180) كتب هذا الشطر بعينه: * ألا أواري لأيام
أبينها* ولم يعقب عليه هنا ولعله فهمه.
وفي الجزء الخامس (ص164) وضع الشطر ولكن المصحح لم يفهمه
فوضع وسطه عدد (7) .
وفي الجزء الحادي عشر (ص109) وضع بدل كلمة لأيا: لأبا، بموحدة
ولعله فهم هنا المعنى فترك البيت من غير تعقيب
وفي الجزء الثلاثين (ص126) كتب الشطر الثاني من البيت الأول والأول
من الثاني هكذا:
وما بالربع من أحد إلا ... أوارويّ لأباما أتيتها
(فنعوذ بالله)
(7)
من وحش وجرة موشى أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
ورد في الجزء السابع (ص169) والشطر الأول هكذا:
*من وحس وجوه موسى أكارعه *
ولا ندري كيف فهمه المصحح وأين غاب عنه عدد (7) ؟
(8) إلا سليمان إذ قال المليك له ... قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن أنى قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد
البيت الأول ورد في الجزء الأول (ص221) وكتب في آخره: على الفند: وهو
خطأ وجاء الثاني في الجزء الثالث عشر (ص 54) وكتب الشطر الثاني هكذا:
يبنون تدمي ... إلخ، واشتبه المعنى على المصحح فأحال على عدد (7) .
(9) لا تقذفني بركن لا كفاء له ... وإن تأثفك الأعداء بالرفد
ورد في الجزء الثلاثين (ص198) وكتب الشطر الثاني هكذا: ولو تؤثفك ...
إلخ وهو غلط في الرسم يحرف المعنى.
(10) أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد
في الجزء السابع والعشرين (ص43) وكتب أول الشطر الثاني هكذا (لما يزل)
(11) غنيت بذلك إذ هم لي جيرة ... منها بعطف رسالة وتودد
في الحادي عشر (ص65) وورد الشطر الثاني هكذا: منها تعطف وتناله وتودد،
وأحيل على عدد 7.
(12) والبطن ذو عكن خميص لين ... والنحر تنفجه بثدي مقعد
في السادس (ص 48) وكتب الشطر الثاني هكذا: والبحر منفحة بيدي مقعد
(نعوذ بالله) .
(13)
نجلو بقادمتى حمامة أيكة ... بردا أسف لثانه بالإثمد
في التاسع عشر (ص60) وكتب هكذا:
نحلو بقادمتي جماعة أيكة ... بردا أسف لثانه بالإثمد
(14)
تخب إلى النعمان حتى تناله ... فدى لك من رب طريفي وتالدي
في الأول (ص47) وقد كتب الشطر الثاني
* فدى لك من رب تليدي وطارفي*
وهو تحريف لأن القصيدة دالية وقبل البيت
فلا بد من عوجاء تهوي براكب ... إلى ابن الجلاح سيرها ليل قاصد
(15)
أريني جوادًا مات هزلاً لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلاً مخلدا
في الأول (ص413) وهو من كلمة لحاتم، وقد وضع في آخر الشطر الأول كلمة:
لأنني: بدل: لعلنى، وهو تحريف.
(16) تمسي إذا العيس أدركنا نكائثها ... خرقاء يعتادها الطوفان والزود
في التاسع (ص20) وهو للراعي يصف ناقته وتأمل كيف حرفوه!
يضحي إذا العيش أدركنا ... حرفا يعتادها الطوفان والرود
(17)
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسيّ المسردّ
من كلمة لدُرَيْد بن الصِّمَة يرثي بها أخاه وقد جاء في موضعين في الثالث عشر
(ص51) وكتب الشطر الأول هكذا: فطنوا بألفي فارس مثلث. وجاء في الخامس
والعشرين (ص76) وكتب الشطر الأول فيه هكذا:
* فقلت لهم ظنوا بألفي مذحج *
(18) صاديًا يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود
لأبي زبيد الطائي وورد في الثاني عشر (ص129) ووضع فيه كلمة: عصره، بها
بدل عصرة بتاء.
(19) أتيت حُريثا زائرًا عن جنابة ... فكان حريث عن عطائي جامدا
للأعشى يذكر أن الحارث بن وعلة وهوذة بن علي وكان قصد الأول فلم يحمده
وعرج عنه إلى الثاني وورد البيت في موضعين أولهما في الخامس (ص48)
أبيت حزينًا زائرًا عن جنابة ... فكان حريب في عطائي جاهدا
الثاني في العشرين (ص24) هكذا:
أبيت حزينا زائرًا عن جنابة ... فكان حريث عن عطائي جاحدا
(20)
تضيفته يومًا فقرب مجلسي ... واصفدنى على الزمانة قائدا
من الكلمة السابقة يشير إلى هوذة بن علي وكتبت الكلمة الأخيرة هكذا: فائدًا، بفاء
وصوابها بقاف.
(21) فبات يعد النجم في مستجيرة ... سريع بأيدي الآكلين جمودها
في السابع والعشرين (ص22) هكذا:
فباتت بعد النجم في سحيرة (نعوذ بالله) .
(22)
فلا أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالاً عرت من بعد بؤس وأسعد
لعدي بن زيد وورد في السادس والعشرين (ص4) ووضع فيه كلمة: موس،
بدل بؤس.
(23)
شاقتك ظعن الحي حين تحملوا ... فتكنسوا قطنًا يصر خيامها
من معلقة لبيد ورد في الجزء السابع والعشرين (ص83) وكتب هكذا
ساقيك ظعن الحى يوم تحملوا ... فتكسبوا قطبا بصر خيامها
(24) من كل محفوف يظل عصية ... زوج عليه كلة وقرامها
من معلقة لبيد ورد في الجزء الثامن (ص45) وكتب هكذا:
من كل محفوف نطيل غصية ... زوج عليه كلة وقوامها
وفزع المصحح إلى عدد 7 ولو فزع إلى نسخة من المعلقات لأمكنه تصحيح البيت.
(25) فمضى وقدمها وكانت عادة ... منه إذا هي عرّدت إقدامها
من معقة لبيد ورد في الجزء السابع (ص98) وكتب فيه بدل عردت: عرب،
ولا معنى لها.
(26) فتوسطا عرض السري وصدعا ... مسجورة متجاورًا قلامها
من معلقة لبيد، ورد في ثلاثة مواضع (1) في الجزء السادس عشر (ص 47)
زهنا استبدلت مسحورة بمسجورة، ومتجاوزا بـ (متجاورًا) (2) في السابع
والعشرين (ص11) وهنا صححت الغلطة الأولى لأن فيها الشاهد وبقيت الثانية
على حالها (3) في الثلاثين (ص38) وهنا أنشد البيت صحيحًا.
(27) لمعفر قهد تنازع شلوه ... غبس كواسب لا يمنّ طعامها
من معلقة لبيد في الأول (ص288) وقد حرف أقبح تحريف فكتب هكذا:
لمعقر فهد تنازع سلوة ... عبس كواسب لا تميز طعامها
(28) حتى إذا يئس الرماة أرسلوا ... غضفًا دواجن قافلاً أعصامها
في الثالث عشر (ص91) وكتب بدل الشطر الثاني:
* عصفاً دواجن ناقلاً أعصامها *
(29) تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يعتلق بعض النفوس حمامها
في الخامس والعشرين (ص55) وكتب بدل تراك: أنزال، ويعتلق بالتاء
وهو غلط.
(30) بها العين والآرام يمشين خلفة ... وإطلاؤها ينهضن من كل مجثم
من معلقة زهير، في الثاني (ص37) ووضع فيه بدل خلفة خلفه وبدل مجثم:
محثم، وجاء أيضاً في التاسع عشر (ص19) وأنشد صحيحًا.
(31) أثافيّ سفعًا في معرّس مرجل ... ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلم
ورد في الأول (ص285) وفيه شفعًا بدل سفعا، وكجرم بدل كجذم.
(32) فلما وردن الماء زرقاً جمامه ... وضعن عصي الحاضر المتخيم
في الثلاثين (ص101) وفيه درقًا بدل زرقًا.
(33) وقد قلتما أن ندرك السلم واسعًا ... بمال ومعروف من الأمر نسلم
في الثاني (ص181) وفيه جعل ندرك ونسلم، بتاء التكلم وهو غلط، وإنما
هما بالنون.
(34) فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
في الثاني (ص 56) وفيه جعل الأفعال الثلاثة: تنتج وترضع وتفطم بالياء،
وإنما هي بالتاء لأن الحديث عن الحرب المذكورة في قوله:
وما الحرب إلا ماعلمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم
(المنار)
قد تركنا طريقتنا هنا في نقط الياء المتطرفة لأن الطبعة المنتقدة لا نقط للياء
فيها وهو ما عليه كاتب النقد وتساهلنا في مثل لفظ (الثاني وفي) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(7/744)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
(تفسير جزء عم يتساءلون)
تلامذة المدارس الأميرية وكثير من المدارس الأهلية يحفظون الجزأين
الأخيرين من القرآن، ولكنهم لا يفهمون معاني سورهما التي تتلى عادة في الصلاة
وقد توجهت عزيمة الأستاذ الإمام رئيس الجمعية الخيرية إلى تفسيرهما لأجل قراءة
تفسيرهما في مدارس الجمعية إلزامًا ولينتفع بهما من شاء من المسلمين في المدارس
وغيرها، وقد تم تفسيره لجزء عم يتساءلون وقال في مقدمته أنه كتب (ليكون مرجعًا
للأساتذة لمدارس الجمعية في تفهيم التلامذة معاني ما يحفظون من الجزأين
لينشأوا متعودين على فهم ما يحفظون وتدبر ما يقرؤون، وليكون ما في تلك
السور من دلائل التوحيد والعظات والعبر، مشرقًا للعقائد السليمة في نفوسهم،
وعاملاً للإصلاح في أعمالهم وأخلاقهم) وقد تبرع حفظه الله بالتفسير للجمعية
فطبع على نفقتها. أما الجزء فإن أكثر سوره مكية وهى من أول القرآن نزولاً لذلك
تراها تقرر أساس الدين وأصوله الكلية بالإجمال وهي توحيد الله تعالى والحياة
الآخرة وعمل الخير وترك الشر وهذا ما يحتاج كل ناشئ من البشر إلى الاهتداء
به ولو من غير المسلمين. وأما التفسير فحسبنا أن نقول أنه للشيخ محمد عبده، وإن
كان لا بد من التنبيه على بعض المسائل التي انفرد بتحريرها فيه دون من أعرف
من المفسرين فليكن ذلك ما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وأن سورة
الفلق نزلت في ذلك. ولا تغفل فيه عن الدقة في تجلية المعاني بما يطابق العلم
الحديث مع المحافظة على مذهب السلف كقوله في معنى بناء السماء: (والبناء ضم
الأجزاء المتفرقة بعضها إلى بعض مع ربطها بما يمسكها حتى يكون عنها بنية
واحدة وهكذا صنع الله بالكواكب، وضع كلاًّ منها على نسبة من الآخر مع ما يمسك
كلاًّ في مداره حتى كان عنها عالم واحد في النظر، سُمي باسم واحد وهو السماء التي
تعلونا ... ) إلخ.
ثمن النسخة من الجزء خمسة قروش صحيحة فهي على قلتها في مقابلة
الكتاب إعانة للجمعية الخيرية، وأجرة البريد قرش واحد وهو يطلب من مكتبة
الجمعية ومن إدارة مجلة المنار بمصر.
* * *
(كتاب الصناعتين: الكتابة والشعر)
سبق أهل القرون الثلاثة الأولى للإسلام ببلاغة القول وفصاحة المنطق.
وحس الأسلوب، وكمال البيان، وكان ما طرأ على اللغة من العجمة، وما اختاره
الضعفاء من الصنعة والكلفة، مغلوبًا صاحبه على أمره، مغمولا في أهل عصره.
ثم قوي في القرن الرابع والخامس سلطان المتكلفين، وكثر عدد الكتاب الأعجميين،
فانبرى أهل الذوق السليم والنقد الصحيح من فرسان الآداب وأئمة الكتاب
إلى كشف عوارهم وهتك أستارهم، وكان من السابقين في هذا المضمار أبو هلال
الحسين بن عبد الله بن سهل العسكري المتوفى سنة 395 وأشهر ما كتبه في
البلاغة كتاب (الصناعتين) وقد بين سبب تأليفه في المقدمة فأورد أمثلة من
الكلام الفج الغليظ، والوخم الثقيل، مما قاله الأعراب واختاره محبو الغريب
والإغراب من علماء الإعراب، ثم قال: (فلما رأيت تخليط هؤلاء الأعلام فيما
راموا من اختيار الكلام، ووقفت على موقع هذا العلم من الفضل ومكانه من
الشرف والنبل، ووجدت الحاجة إليه ماسة، والكتب المصنفة فيه قليلة. وذكر أن
أكبرها وأحسنها كتاب (البيان والتبيين) وقال بعد وصفه وعدم كفايته: فرأيت أن
أعمل كتابي هذا مشتملاً على جميع ما يُحتاج إليه في صنعة الكلام: نثره ونظمه،
ويستعمل في محلوله ومعقوده؛ من تقصير وإخلال وإسهاب وإهذار.
ثم ذكر أبوابه وما فيها من المسائل كموضوع البلاغة وحدودها ووجوهها
وتمييز جيد الكلام من رديئه , ومعرفة الصنعة فيه وبيان حسن السبك وجودة
الوصف، وذكر الإيجاز والإطناب وحسن الأخذ والتضمين وقبحه والقول في التشبيه
والسجع والازدواج وأنواع البديع ومقاطع الكلام ومباديه. وفي كل باب وفصل منه
من الأمثلة المختارة ما يطبع ملكة البلاغة في النفوس المستعدة. وقد طبع الكتاب
طبعًا جميلاً في الآستانة على نفقة أحمد أفندي ناجي الجمالي ومحمد أمين أفندي
الخانجي الكتبي ويطلب منهما ومن إدارة مجلة المنار وثمن النسخة منه غير مجلدة
عشرة قروش صحيحة والمجلدة تجليدًا أفرنجيًّا 15 وأجرة البريد قرشان.
* * *
(تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوكو)
وهو كما قال ناشره: يشتمل على مقدمات تاريخية واجتماعية في علم الأدب
عند الإفرنج وما يقابله من ذلك عند العرب من إبان تمدنهم إلى عصورهم الوسطى
وما اقتبسه الإفرنج عنهم من الأدب والشعر في نهضتهم الأخيرة وخصوصًا على يد
فيكتور هوكو. ويلحق بذلك ترجمة هذا الشاعر الفيلسوف ووصف مناقبه ومواهبه
ومؤلفاته ومنظوماته وغير ذلك. طبع الكتاب في في مطبعة الهلال بنفقتها وكان نشر
في الهلال وقد عزي إلى المقدسي (ونظن أنه محمد روحي أفندي الخالدي الشهير)
والكتاب مما يقرأ ويشكر لمؤلفه العناية بتصنيفه لما فيه من الفوائد التي تذكر أبناء
هذه اللغة بما يجب عليهم لإحياء لغتهم وما يفتح لمتأدبها من الأبواب الجديدة للفكر
والشعر. ولولا ضيق في الوقت وكثرة في الكتب المهداة الجديرة بالنظر فيها لوفيته
حقه من النقد، وقد فتحته عند كتابة هذه الكلمات فوقع نظري في الصفحة (51)
على ذكر أشهر الشعراء المولدين فإذا هو يقول في أبي تمام: هو ميال للتصنع
والتكلف والتعويص في المعاني. ولم يصفه ولا شعره بأكثر من هذا، وقد ظلمه فهو - ولا ننكر الصنعة والتفاوت في كلامه - في مقدمة الطبقة العليا وله من
المحاسن ما لم يدرك فيه شأوه أحد ممن حاول مجاراته. وذكر أبا نواس فقال: وله سبك جيد وحلاوة ورقة، وهو ما وصفه به المتقدمون، ولكن كان يجب أن
يوفيه حقه فهو أشعر المولدين على الإطلاق حاشا بشار بن برد. والكتاب يطلب
من مكتبة الهلال وثمنه عشرة قروش.
* * *
(إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد)
رسالة نفيسة للشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري
السنجاري من علماء القرن الثامن (توفي سنة 749) ذكر فيها أنواع العلوم
وأصنافها وموضوعاتها ومنافعها ومراتبها، فذكر ستين علمًا وأرشد في كل علم إلى
كتب من أحسن ما صنف فيه، ومنها علم النواميس وعلم البيطرة والبيزرة وعلم
المرايا المحرقة وعلم عقود الأبنية وعلم مراكز الأثقال وعلم جر الأثقال وعلم أنباط
المياه وعلم البنكامات وعلم الآلات الحربية. ومن هذه الرسالة يتبين لمن لم يطلع
حق الاطلاع على تاريخ المسلمين أن سلفنا رحمهم الله لم يتركوا علمًا من علوم
العمران وغيرها إلا واشتغلوا به وحصلوه وألفوا فيه وقد اخترنا ذكر بعض العلوم
التي صارت غريبة عندنا حتى إن علماء الأزهر لا يدرون موضوعاتها ولا أن
سلفهم الصالح اشتغل بها، فما بالك بما ذكره من سائر العلوم الرياضية والطبيعية
والاجتماعية كعلم السياسة وعلم تسطيح الكرة وعلم الآلات الظلية وعلم حساب
التخت والميل، ولو اقتُرح على علماء الأزهر إدخال شيء من هذه العلوم فيه
لصاحوا صيحة منكرة وقالوا: إن هذا إلا إزهاق لروح الدين وإبطال لعلومه من
المسلمين، فهل نصدق أنهم أعرق في الدين من آبائهم الأولين وسلفهم الصالحين؟
وقد أحيا هذه الرسالة بعد ما قُبرت في المكاتب القديمة الشيخ طاهر المغربي
الشهير بغيرته وعلمه، وأصلح بالمقابلة على ما عثر عليه من نسخها ما أفسد النساخ
فيها، وطبعت على نفقة أسعد بك حيدر أحد وجهاء قضاء بعلبك، وصححها سليم
أفندي البخاري من علماء دمشق، فجزى الله الأستاذين والبيك الجزاء الحسن على ما
أحسنا إلينا بهذه النصيحة والموعظة الحسنة.
* * *
(الزهرة السوداء)
قصة لإسكندر دوماس الكبير، الكاتب الفرنسي الشهير، نقلها إلى اللغة العربية
سامي أفندي نوار وموضوعها أن أحد علماء النبات كان مشغولاً باتخاذ الوسائل
الصناعية لإيجاد زهرة سوداء من (الطوليب) وأن حاسدًا كسولاً من جيرانه كان
يراقبه ليسرق الزهرة إذا هي وجدت ليفوز بشرف الاختراع وبالجائزة التي عينتها
لجنة معرض الزهور لمن يجيء بالزهرة وهي مائة ألف جنيه. ثم سجن العالم
بذنب سياسي اتهم به، فعشق ابنة السجان وعشقته وساعدته على تربية الزهرة بعد ما
وجد بصلة نباتها، وهيأه بالصناعة لإنباتها، حتى إذا ما ظهرت سرقها المراقِب
وقدمها للجنة الزراعة وكاد يفوز بالجائزة لولا أن تأثرته البنت وأثبتت سرقته إياها
بوجه كان مبرئًا لعاشقها من الذنب السياسي وانتهت القصة بتزوجه بها. هذا
الموضوع كله ولكنه مبسوط في 240 صفحة بسطاً يروق ويفيد بما فيه من تصوير
سلامة القلب وكرم الأخلاق والتوله في حب العلم والعشق المُجمَّل بالعفة والنزاهة،
كما يفيد الكتاب بأسلوب الإسهاب؛ وقد أودعها المترجم من التنبيه على مواضع
الاستفادة بما وضعه في خلال الكلام بين الأقواس ما يزيد في فائدتها الأدبية. وقد
طبع القصة صاحب مكتبة الشعب في مطبعته وهي تطلب منها وثمنها خمسة قروش
صحيحة.
* * *
(برح الخفاء)
سبق ذكر هذه القصة في تقريظ سوابقها وقد صدرت بعد صدورهن وفيها من
الفوائد تصوير الصدق والوفاء في الصحبة وتمثيل الروابط الطبيعية بين الأهل
والأقربين وكيف تبلغ كمالها في بيوت المجد، وبيان سوء عاقبة فاسدي الأخلاق في
أنفسهم وأهليهم ولا تنس ما مهدت له القصة التي قبلها من بيان طريق اختيار
الأزواج وما للإفرنج من الحيل في ذلك، فعسى أن يتنبه قراء هذه القصص لهذه
العِبر ولا يكون حظهم منها محض التفكه، كالجاهلين الذين يرون العبر بأعينهم في
الخليقة كل يوم ولا يفقهون.
* * *
(الأرجوزة العصرية)
نظم أخنوخ أفندي فانوس المحامي المشهور بمصر أرجوزة سماها بهذا الاسم
(تبحث في تاريخ اليابان وأسباب تقدمها وفي أن كثيرًا من الشرائع الدينية جاءت
بحسب الظروف والمكان، ونصائح للأمة المصرية، وتحرير المرأة، وأضرار
تعدد الزوجات، وأضرار الطلاق والتسري، وغير ذلك من المباحث الهامة) بهذا
عرفها وقدمها إلى الأمة المصرية سلالة أولئك الفراعنة ورعاياهم الذين تنطق
آثارهم بمدنيتهم، وإلى الإنسانية. وإننا نورد منها أمثلة، قال في فاتحتها:
ما لليباني عن خباه مالا ... فزلزل السهول والجبالا
وذكره صبح في الآذان ... يشجي نفوس القوم كالألحان
وبطشه قد سار في الركبان ... أحدوثة الفرسان والشجعان
وحبه للموت والجهاد ... في خدمة الأوطان والبلاد
أضحى نشيد القوم في (النوادي) ... لم تخلُ منه بقعة أو وادي
قد حير الألباب والعقولا ... إذ خالف المعقول والمنقولا
فيله شبلاً نراه أسدًا ... في لحظة معفراً مرعداً
قد اذبأر الشبل والناب بدا ... فاذعر الدب فولّى وعدا
وكل يوم يكشف الستار ... عن آية فيها النهى تحار
لكن هذي آية بالزمان ... هادية الشيوخ والشبان
ثم ذكر أن لكل شيء سببًا وأن سبب ارتقاء اليابان ما وهبه الميكادو الحاضر
من الحرية في الرأي والدين والرواية، وانتقل من هنا إلى ذم التعصب الذميم الذي
يخرب البلاد ويهلك الأمم ومنه إلى اختلاف الشرائع والأديان باختلاف الزمان
والمكان، وذكر الأمثلة من لدن آدم حتى انتهى إلى كلمة المسيح: (أعط ما لقيصر
لقيصر وما لله لله) فنظمها هكذا:
أما ترى المسيح ابن مريم ... إذ قال قولا صائبًا ومحكما
لمّا به احتاطوا وقالوا مكرًا ... العشر يعطى قيصراً أم نمرى
قال لهم وقوله حكم سرى ... لله أعطوا ما له وقيصرا
ثم زعم أن اليابان أدركوا هذه الحكمة فانطلقوا من بؤسهم للنعمة وذلك أن
كُتاب النصارى يأخذون من هذه الكلمة أو أكثر مما تعطي والناظم حسن القصد وإن
كان يعلم أنه لم يكن في اليابان أديان متنازعة وأن تنزعها كان سبب ضعفها السابق
وأن الحرية التي منحها الميكادو للأمة التي هي أزالت التعصب حتى تسنى لها
النهوض والارتقاء.
ويعلم أن الديانة البوذية لا تعصب فيها وذلك سهَّل على القوم اقتباس العلوم
والصنائع الأوربية عندما أحسوا بالحاجة إليها بعدما أرسلت إليهم حكومة الولايات
المتحدة سفنها الحربية ونكلت بها تنكيلاً، فمن هذه الجهة يصح أن نعتبر بمضرة
الجمود الذي يحول بيننا وبين اقتباس العلوم والصنائع النافعة لا سيما الحربية من
الأمم القوية وأن هذا الجمود الذي نسميه دينًا هو خلاف أمر الدين وسبب لضعفه
وإذلال أهله.
ثم ذكر ما يقصد من النصيحة بنظم الأرجوزة وهو:
وهذه نصيحتي الصفية ... إليكم من خالص الطوية
أن تجعلوا المسائل الدينية ... في حيز عن صالح الأرضية
وتقفوا في وجه كل مفسد ... وقفة من لا ينثني كالأسد
وتجعلوا المصرية الإخاء ... وكل شيء دونها هباء
ومن هنا استطرد إلى ذكر النصائح في النساء والتعليم، وختمها بنصيحة الأمير
فقال:
إليك يا مليكنا المعظما ... نبسط كفًّا سائلا مسترحما
رعاية للأمة الحزينة ... قبل فوات الفرص الثمينة
فأوسعن للفُضلا المجالا ... تحط في رحابك الرحالا
وأقصينّ الكاذب الخسيسا ... وأبعدنّ الخائن الدّسيسا
واجعل لديك الرتب السنية ... جوهرة ثمينة علية
ينالها النوابغ العظام ... أهل العلا الأفاضل الأعلام
فتزدهي في ملكك الآداب ... ويختفي من أرضك المعاب
وأمسك بحسن الرأي والمشورة ... من خبرة وحنكة مشهورة
ونظم سائر الأرجوزة كما ترى , ولعل نصائحها تنفع المستعد لقبولها.
__________(7/750)
الكاتب: حافظ إبراهيم
__________
كتاب حافظ إبراهيم إلى الشيخ محمد عبده
لما قدم حافظ أفندي إبراهيم الجزء الأول من ترجمة البؤساء إلى الأستاذ الإمام
كتب إليه الأستاذ كتاب شكر نشرناه في الجزء السابع من المجلد السادس (ص
(278) وقد جاء فيه: (فإن كان البؤس قد هبط على صاحبه (أي مؤلف الكتاب)
بتلك الحكمة، تم كان سببًا في امتيازك من بين المترفين بتلك النعمة (الترجمة)
سألت الله أن يزيد وفرك من هذا البؤس حتى يتم الكتاب على نحو ما ابتدأ) إلخ ,
وقد كتب حافظ في هذه الأيام بهذا الكتاب إلى الأستاذ يذكره بتلك الدعوة ويذكر
من تأثيرها، قال:
مولاي الأستاذ الإمام، دار الفلك دورته، وضرب الدهر ضربته، فشابت
ناصية الأمل، ونبت عذار الملل
وجاشت إليَّ النفس أول مرة ... فردت على مكروهها فاستقرت
ولولا يقين أخذته عنك، وخوف الله لبسته منك، لنعاني الأدب في ناديك وخرجت
منها وأنا أناديك: أيها المحب لأعدائه، الرحيم البر بأوليائه:
إني رجوتك للدنيا وعاجلها ... كما رجوتك يوم الدين للدين
فلئن فاتني ذلك منك في دار الفناء، فلن يفوتني إن شاء الله في دار البقاء،
ولكني ذكرت عزمك فشدّ مني، ونظرت في مأثور قولك فرَّفه عني، فبِت
أستغزر ما كنت أستنزر، وجعلت أتمزّز من تلك الصبابة الباقية، وآتدم
بالصبر على تكاليف هذه الفانية، نضبت الأولى، وعزني الصبر على الثانية،
فعمدت إلى التماس ما فوق الصبر إن كان فوقه فوق. فما زلت أنظر إلى الدنيا
من بعيد، وأتمثل فيها بقول مسلم بن الوليد:
دلت على نفسها الدنيا وصدقها ... ما استرجع الدهر مما كان أعطاني
حتى ذكرت تلك الدعوة التي دعوت عليّ في ذلك الكتاب الذي تقدمت به
إليّ فيها أيها الحكيم الذي لا يفاجأ في دهره، ولا يبادر في شيء من أمره، لم
يكن فتاك من فلاسفة الهنود [1] فيتجمل بالصبر عن لمس النقود، ولا بالساكن
في عين شمس [2] فيصرع الأماني بقوة النفس، ولكنه ذلك المخلوق الذي عق
نفسه، وتولت الكواكب نحسه ونكسه، كلما وقت لأمر وقتًا ضحك منه المقدار. أو
حسب لشيء حسابًا أفسده عليه الليل والنهار، فهو في خفض إلا من العيش،
وفي عزلة إلا عن الدهش والطيش، فأنفحه أيها الإمام بنفحة من نفحاتك،
وأدركه أيها المخلص بدعوة من دعواتك. فإني رأيتها إلى السماء أقرب منها
إلى فيك. وإلى استجابة الله أسرع منك إلى من يناديك، ولا تنزل أمري على
الجرأة عليك، إذا نفضت في هذا الكتاب جملة حالي إليك، فأنت صاحب الدعوة
الأولى ولك في محوها اليد الطولى، فكن صاحب الثانية، وإلا فهي
القاضية. اهـ
__________
(1) يشير الكاتب إلى فيلسوف من صوفية الهنود البراهمة وفد على مصر في الشهر الماضي وهو ممن لم يمس في عمره نقدًا وإنما يعيش ويسافر على التوكل وقد زار الأستاذ الأمام وتكلما في مسألة القدر وغيرها من معضلات المسائل الدينية والصوفية والفلسفية فقال الأستاذ أنه صوفي قح قد اتحد عقله وقلبه فيما هو عليه من علم واعتقاد، ولا يخفى أن المسلمين أخذوا التصوف الذي أساسه الوحدة والزهادة عن الهنود.
(2) يريد الكاتب بالساكن في عين شمس الأستاذ الإمام نفسه.(7/756)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(حسن باشا عاصم)
ليس من شأن المنار أن يذكر من الأخبار , إلا ما هو محل العظة والاعتبار ,
وليس من الاتعاظ بالحوادث أبلغ من حوادث رجال الاستقلال والاستقامة، وقد شهد
كل من عرف حسن باشا عاصم من وطني وأجنبي أنه في مقدمة رجال العلم والعمل
والاستقلال والاستقامة والإدارة والنظام، عرفوا ذلك منه بالمشاهدة والاختبار إذ كان
رئيسًا للنيابة ثم قاضيًا أهليًا ثم رئيسًا للتشريفات الخديوية ثم رئيسًا للديوان الخديوي
وقد أخذه الأمير من كرسي القضاء إلى قصر الإمارة لما عرف عنه من الجد
والنظام وكانت دائرة التشريفات قبله مختلة فأقامها على نظام ثابت خضع له حتى
الأجانب ثم رقاه إلى أكبر وظيفة في القصر وهي رياسة الديوان الخديوي فكان
صاحب المؤيد يومئذ يفتخر بحسن اختيار الأمير للرجال تفضيلاً له على اختيار
الحكومة التي تخرج مثل حشمت باشا من المديرين وتقر فيها مثل فلان وفلان.
وقد حدث في أواخر رمضان أن أحال الأمير هذا الرجل على المعاش من
غير سبب ذكر في أمر الإحالة فدهش الناس لذلك وما فتئوا يلهجون به. وقد
اتفقت الجرائد المنتشرة التي لها رأي على الثناء على حسن باشا والاعتراف
بفضله واستقامته، ومن أصحابها من اكتفى بالشهادة له بالاستقامة والصدق في خدمة
الأمة وخدمة الأمير كصاحب المؤيد والأهرام ومنها ما ذكر مع الثناء تعليلاً للإحالة
على المعاش كالمقطم، فإنه ذكر أن حسن باشا في عدله واستقامته قد خلق لأن
يكون قاضيًا لا لأن يكون في بلاط الأمراء.. . وأما (اللواء) فإنه رجح أن
سبب الإحالة غضب الأمير على رئيس ديوانه منذ حدثت مسألة استبدال
مزرعة الأمير المعروفة بمشتهر بأرض لديوان الأوقاف في الجيزة، والمسألة
مشهورة وملخصها أن طالب الاستبدال كان طلب من ديوان الأوقاف ثلاثين ألف جنيه
زيادة فما رضي الديوان حتى أخذ منه عشرين ألف جنيه فكانت الخسارة
بالنسبة إلى طلبة الأول خمسين ألف جنيه وكان ذلك بموافقة حسن باشا إذ كان
عضوًا نائبًا عن الأمير في مجلس ديوان الأوقاف الأعلى الذي تجري أمثال هذه
الأعمال بموافقته. والتفصيل معروف للناس فلا نطيل به ومهما كان من السبب في
ذلك فإن أهل العقل والفضل آسفون لحرمان حكومة البلاد من خدمة هذا الرجل
النابغة وجازمون بأن هذا من دلائل الانحطاط. ونحن جازمون مع هذا بأن حرمان
الحكومة من خدمته ربما يكون سببًا لزيادة حظ الأمة منها فقد كان على اشتغاله
بأعمال الحكومة يخدم الجمعية الخيرية أجل خدمة وكذلك جمعية إحياء العلوم
العربية، فكيف به وقد صار وقته أوسع وقد عرفناه لا يضيع شيئًا من الوقت
سُدى باختياره؟ وإنما كتبنا هذه الكلمات التي هي عند المصريين من قبيل: السماء
فوقنا، لنرغب من يقرأ المنار في سائر البلاد في التأسي برجال الجد
والاجتهاد.
***
(استعراض الأمير لجيش الاحتلال احتفالاً بجلوس ملك الإنكليز)
جرت عادة المحتلين بأن يستعرض عميدهم جيش الاحتلال في ميدان قصر
عابدين لِما لا يخفى، وقد سبق من توفيق باشا الخديوي السابق التراءي للجيش من
شرفة القصر ولكن عباس باشا الخديوي الحالي أعرض عن ذلك حتى كان في
احتفال هذا العام وكان في أول أيام الصيام أن خرج بملابسة العسكرية وحضر
الاستعراض مع اللورد كرومر تحت العلم الإنكليزي فكان لذلك تأثير عظيم في
النفوس ومحي بهذا مع ما سبقه من قبيله ما كان يتوهمه الدهماء من أن الأمير هو
المعارض للمحتلين، وأن النظار هم المشايعون لهم، وعلموا أنه أشد من نظاره وفاقًا
معهم؛ لأن أولئك يوافقونهم لمكان القوة فيما يريدون؛ وهو يمنحهم أكثر مما
يطمعون، ولا نقول إلا أن ما ظهر وتبين نافع وأن خفاء الحقيقة قبله كان ضارًّا
لما فيه من غش الأمة والقذف بها في معامي الغرور والوهم، فللأمير وفقه الله تعالى
لكل ما يريضيه الشكر أن كذب بعمله المغرّرين المخادعين الذين شغلوا
قلوب الناس بمسألة وهمية وهي مقاومة المحتلين، ونسأل الله تعالى أن يوفق أهل هذه
البلاد إلى الاستفادة من هذه الحالة بالمحافظة على أرضهم وتثميرها وعمارتها
وبالعناية بتربية أولادهم وتعليمهم العلم النافع ليحيوا حياة اجتماعية شريفة يرتقون
بها إلى أن يكونوا أمة عزيزة، فإن الحرية الهادئة لا يرتقي فيها إلا المهذب المقتصد
ومن اتبع فيها هواه خسر دينه وديناه.
* * *
(إمارة نجد)
علم الواقفون على أخبار البلاد العربية أن عبد العزيز بن عبد الرحمن
الفيصل وارث إمارة نجد قد انتصر على ابن الرشيد في ملحمة فاصلة في 17رجب
فانهزم إلى طرف الإمارة تاركًا كل ما معه من السلاح والذخائر والمال الناطق
والصامت حتى قدروا خسارته بمبلغ 220 ألف ليرة عثمانية على الأقل وقتل ممن
معه 485 رجلاً ولم يقتل من جماعة ابن سعود إلا خمسة عشر رجلاً: 2 من عنيزة
و4 من الرس و3 من بريدة والباقي من أهل الجنوب. ولو شئنا لذكرنا عدد ما
ترك ابن الرشيد من الإبل والغنم والخيل والمدافع ولكن لا فائدة في التفصيل وإنما
الفائدة في بيان خطأ اشتهر بواسطة الجرائد الكاذبة التي تكتب ما يمليه الدينار أو
الهوى، فإن بعض أغنياء العرب من أنصار ابن الرشيد يوهمون الدولة بواسطة
الجرائد وحكام العراق والحجاز والشام أن ابن سعود يريد أن يؤسس دولة مستقلة
بضم الحجاز إلى نجد بحماية الإنكليز وأنه لا وسيلة إلى منع ذلك إلا بنصر ابن
الرشيد عليه وقد انخدعت الدولة أولاً فأمدّت ابن الرشيد بالمال والسلاح والرجال
ولكن لم يغن المدد شيئًا ثم أشاعت الجرائد الكاذبة زعمها انتصار ابن الرشيد أن
الدولة جهزت جيشًا آخر من الشام لمساعدته، وظهر كذبها، والحقيقة التي علمناها من
مصادر متعددة بريئة من السياسة وخداعها وأهوائها أن ابن مسعود يريد أن يكون
تحت سيادة الدولة العثمانية، وأن يجعل لها من الحقوق والسلطة في نجد أكثر مما
كان لها بشرط واحد وهو أن لا تُدخل القوانين في تلك البلاد؛ فإن أهلها لايقبلون
إلا حكم الكتاب والسنة. وقد اجتهد ابن سعود في عرض رغبته هذه على الدولة
وايصالها إلى السلطان ولكن أعوان ابن الرشيد في العراق والحجاز حالوا
دون ذلك حتى تكفل به نقيب الأشراف في البصرة ويظن أنه أوصله إلى السلطان
ولكن لا ندري أظهر كل الحقيقة أم قضت سياسته بإظهار بعضها وإخفاء بعض ولا
حاجة لإيهام الدولة بأن ابن سعود يلجأ إلى الحماية الإنكليزية إذا هي أصرت
على إمداد ابن الرشيد وإسعاده فإننا نعلم أنه وقومه في تعصبهم الديني الشديد
يفضلون الفناء على الالتجاء إلى الإنكليز ونعلم أن أكثر البلاد العربية تخضع
له وتبغض ابن الرشيد لظلمه ولو شاء أن يستنجد أهل اليمن لأنجدوه فإن بلاده
متصلة ببلادهم وإن الخير للدولة أن تعيد هذه الإمارة إلى نصابها، وإن كانت في
ريب من أمره فلترسل إليه من أهل العلم والدين من يثق بهم ليقفوا على صحة
ما قلنا، والله الموفق.
__________(7/759)
16 شوال - 1322هـ
23 ديسمبر - 1904م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أوقاف الزوايا والحرمين والأشراف
صرف ريعها في التعليم
(س95) م. ب. في (تونس) : ما قولكم أطال الله بقاءكم في الأوقاف
الموقوفة على الزوايا والحرمين الشريفين والأشراف وغيرها مما لا يعود نفعه على
مصلحة عامة شرعية، هل يجوز جمعها وصرف ريعها في إقامة مدرسة أو
مدارس كلية خاصة بالمسلمين تزاول بها العلوم العصرية؟
(ج) الأصل في الأوقاف أن يصرف ريع الأعيان الموقوفة على ما وقفت
لأجله من البر والخير وأن لا يحول إلى جهة بر أخرى إلا إذا تعذر وضعه في
موضعه، وقد قال أكثر علمائنا: إن شرط الواقف كنص الشارع؛ أي لا يغير،
ولكن بعضهم أبطل هذا القول بالأدلة القوية وجوز صرف ريع الموقوف على شيء
غير محمود شرعًا إلى ما هو خير منه فراجع تفصيل ذلك في (ص 210) من مجلد
المنار الخامس ومنه تعلم حكم الموقوف على الزوايا والحرمين. وأما الموقوف على
الأشراف فلا وجه لحرمانهم منه بدعوى أنه ليس من المصالح الشرعية العامة إذ
لم يقل أحد من المسلمين بأن الوقف لا يجوز إلا على المصالح العامة.
أما ما يجول في فكر السائل من وجوب انتفاع المسلمين من الأوقاف القديمة
التي قصد بها الخير والنفع وهي الآن لا تكاد تفيد بل منها ما هو ضار ومعين على
الإفساد - فإنه يجول في أفكار عقلاء الأمة في كل مكان لا سيما الذين أحسوا بالحاجة
إلى العلم وهم يرون أن بعض التكايا والزوايا قد أمست مأوى الفساق والكسالى الذين
ينقطعون عن أعمال الدين والدنيا ويلجأون إلى هذه التكايا يتمتعون ويأكلون كما تأكل
الأنعام ويشربون الخمور ولا يقصرون في سائر ضروب الفجور، فلا شك أن إعانة
أمثال هؤلاء على بطالتهم وجهالتهم وفسقهم من أكبر المعاصي، والإنفاق عليهم من
ريع الأوقاف الخيرية مما يعلم بالضرورة أنه غير مقصود للواقفين رحمهم الله تعالى.
ثم إن هذه الأوقاف الخيرية على قسمين: منها ما أوقف على جهة بر مخصوصة
بشروط معروفة كالموقوف على زوايا وتكايا عامرة فيمكن للنظار أن يشترطوا
لقبول الناس في هذه التكايا أن يتعلموا ما ينفعهم وينفع الناس بهم مع المحافظة على
شروط الواقفين الموافقة للشرع. ومنها ما جهلت شروطه أو تعذرت إقامتها
كأن يندرس المكان أو يزول المكين، فهذه هي التي ينبغي لعقلاء الأمة أن يسعوا في
الاستعانة بها على إنشاء المدارس العالية التي تتعلم فيها الأمة ما تعتز به في دينها
ودنياها معًا وهي في كل قطر إسلامي كافية لذلك لولا أهواء الرؤساء الغاوين من
الأمراء والفقهاء الذين أذلوا هذه الأمة وأفسدوا عليها أمر دينها ودنياها كما أذل
أمثالهم كل أمة ذلت , وأفسدوا كل ملة فسدت , وأن أمثال هذه الأماني لا تتم لعقلاء
المسلمين إلا إذا كثروا وصار لهم من النفوذ والتأثر في نفوس العامة ما يمكنهم
من الأمور العامة , فإن الرؤساء الغاوين لا يقهرون العقلاء المصلحين إلا بقوة
الرأي العام الذي أخضعته لهم التقاليد والأوهام , ولذلك تراهم يحاربون المصلحين
بتبغيضهم إلى العوام , إن لم يتمكنوا من الانتقام منهم بالنفي أو الإعدام.
* * *
حكم اللواط
وعقوبة اللذين يأتيانه
(س 96) من عبد الفتاح أفندي هنو (بالإسكندرية) :
ما يقول حضرة الأستاذ الإمام (أدام الله بقاه) في ما يجب على اللوطية من
الأحكام الشرعية: هل هو قتل الفاعل والمفعول مطلقًا، كما ذهب إليه جماعة من
العلماء أم حكم الفاعل حكم الزاني بخلاف المفعول، كما ذهب إلى ذلك جمع آخر؟ أم
لا حدَّ على الفاعل والمفعول، كما هو المشهور عن أبي حنيفة رضي الله عنه؟ وإذا
كان الواجب قتل الفاعل والمفعول، فهل في ذلك نص قاطع من الكتاب أو من السنة
المتواترة أم لا؟ وهل في ذلك خبر آحاد أم لا؟ وهل على تقدير ورود خبر آحاد
فيه يجب العمل بمقتضاه أم لا؟ ومن قال إن حكم الفاعل حكم الزاني، هل له دليل
من الكتاب أو من السنة أو دليله القياس؟ وإذا كان دليله القياس فما العلة، وعلة
تحريم الزنا معلومة ومفقودة في اللواط؟ وهل ادعاء أن المشهور عن أبي حنيفة ما
ذكره أعلاه صحيح أم لا؟ وإذا رأيتم أن لا حدَّ على الفاعل والمفعول فهل ترون
حرمة ذلك؟ وإذا رأيتموها فهل هي من الكبائر؟ وإذا كانت منها فهل هي أكبر من
الزنا؟ وهل إذا أنكر منكر تحريم ذلك مطلقًا يحكم بكفره أم لا؟ أفيدوا لا زلتم
مهديين.
(ج) ورد هذا السؤال على مفتي الديار المصرية فأرسله إلينا لنجيب عنه
وقد كنا سئلنا في السنة الماضية عن حد اللواط فأجبنا عن السؤال في الجزء الثالث
عشر منها وملخص الجواب أن الله تعالى أمر بحبس النساء اللائي يأتين الفاحشة
وبإيذاء اللذين يأتيانها وذكر هذا باسم الموصول للمثنى المذكر والمتبادر أنه أراد
الزاني واللائط وهو المروي عن مجاهد وأبي مسلم وبه أخذ الشافعي، وقيل إن
المراد بهما فاعلا اللواط أي الفاعل والمفعول، والإيذاء في الآية مجمل وقد ورد في
بيانه من الحديث المار بقتل الفاعل والمفعول كما في حديث أحمد وأصحاب السنن
وغيرهم. وورد حديث آخر في الأمر برجمهما، وروى الطبراني أن عثمان بن
عفان أُتي برجل قد فجر بصبي فسأل عن إحصانه فقيل له أنه تزوج بامرأة ولم
يدخل بها، فقال علي لعثمان: لو دخل بها لحل عليه الرجم، فأما إذا لم يدخل بها
فاجلده الحد. فقال أبو أيوب: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
الذي ذكر أبو الحسن. ونقل ابن حجر في (الزواجر) عن بعض الصحابة الأمر
بإحراق اللوطي ولم يصح، ونقل عن بعض أئمة التابعين القول بأن حد اللواط هو
حد الزنا، قال: وبه قال الثوري والأوزاعي وهو أظهر قولي الشافعي، ويحكى عن
أبي يوسف ومحمد. وذكر مذاهب وأقوالاً أخرى تراجع في الجزء المذكور من
منار السنة الماضية. وصفوة القول: إن الله قد أمر بعقوبة اللذين بأتيان الفاحشة
وهي تشمل اللواط قطعًا بدليل التعبير عنها بلفظ الفاحشة في الكلام على قوم لوط
فإنكار ذلك إنكار لنص القرآن، وكذلك إنكار كونه معصية إذ لا عقوبة في غير
معصية ومما يدل على كونها معصية كبيرة مع الإجماع تلك الآيات التي تقبح عمل
قوم لوط أشد التقبيح مع قوله {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (الأعراف: 33) فليس لمؤمن أن يتردد في كون هذا العمل محرمًا يجب عقاب
مقترفه، أما كون العقوبة تسمى حدًّا وكونها عين عقوبة الزنا فهو مما علم برواية
الآحاد فلا حرج على من أنكره إذا لم يثبت عنده، كما روي عن أبي حنيفة، ولا
مندوحة لمنكرها عن القول بوجوب العقاب على مرتكب هذه الفاحشة بما يظن
الحاكم أنه يردعه عنها ويردع أمثاله. والعمل بأخبار الآحاد الصحيحة المبينة
لإجمال الكتاب في الأحكام العملية مما لا خلاف فيه بين علماء الأصول، والمراد
بالصحيح هنا ما يقابل الضعيف والمعلول. وأما الرواية عن أبي حنيفة فهي
في متون المذهب، قال في البداية: ومن أتى امرأة في الموضع المكروه أو عمِل
عَمَل قوم لوط فلا حد عليه عند أبي حنيفة ويُعزر، وزاد في الجامع الصغير: ويودع
في السجن وقالا: (هو كالزنا فيحد) قال في الهداية بعد هذا: وهو أحد قولي
الشافعي، وقال في قول: يقتلان في كل حال؛ لقوله عليه السلام: (اقتلوا الفاعل
والمفعول) ويروى: فارجموا الأعلى والأسفل. ولهما أنه في معنى الزنا؛ لأنه قضاء
الشهوة في محل مشتهى على سبيل الكمال على وجه تمحض حرامًا لقصد سفح الماء.
اهـ المراد.
ثم إننا نقول بأن القياس يتفق مع النص في تحريم هذه الفاحشة والعقاب عليها
بعقاب الزنا أو نحوه فإن ضررها كبير وإفسادها عظيم، فمنه إضاعة النسل بالمرة
وهي أشد ضررًا من وضعه في غير موضعه، فالأمة التي يفشو فيها اللواط يقل فيها
النسل ما لا يقل في نشوء الزنا، وإن كان الزنا أيضًا من أسباب قلة النسل وذلك أن
في فشو اللواط إهمالاً للنساء بقدره، ولا حاجة إلى زيادة التفصيل في بيان هذه المفسدة
وحسبك ما تسمع كل يوم عن فرنسا من اهتمام ساستها وعلمائها بما علم من قلة
النسل فيها. ومنه إفساد البيوت؛ فإن الذي يرتكب صاحبه هذه الفاحشة الدنيئة يسري
فيه الفحش سريان السم في الجسم فلا تبقى فيه امرأة ولا ولد إلا ويتسمم بفساده. ومن
بحث في سيرة الفساق بحث مستفيد معتبر يعرف صحة هذا القول. ومنه أن
مرتكبي هذه الجريمة يغلب عليهم المهانة وفقد إحساس الشرف والغيرة وغير ذلك
من الأخلاق الذميمة حتى إنهم يكونون محقرين مستذلين عند الأحداث والسفهاء.
ومنه أن المفعول به يصاب بداء الأبنة ولا داء يذل صاحبه ويشينه ويحقره مثل هذا
الداء الذميم الذي يتعذر كتمانه لا سيما في الكبرُ وإنك لتسمع في هذه المدنية الفاسقة
بذكر رجال من بيوتات الجاه الرفيع يوصمون بهذه الوصمة، فيقترن ذكرهم باللعنة،
ولم تبق لهم في نفوس الناس قيمة، ولولا دهان غلب على الناس لبصقوا في
وجوههم في حضرتهم كما يمضغون لحومهم في غيبتهم.
* * *
الانتقام من الأبناء بذنوب الآباء
(س97) أحمد أفندي المشد المحامي في (ملوي) : هل المولى عز وجل
ينتقم من الابن بسبب الأب؟ وما هو الدليل القرآني أو الحديث على صحة أي
القولين.
(ج) يقول الله تعالى في سورة فاطر: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن
تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (فاطر: 18) أي لا
تحمل نفس وازرة (مذنبة) وزر نفس أخرى، وإنما تحمل كل نفس وزر نفسها وإن
تدع نفس مثقلة بالذنوب والأوزار نفسًا أخرى إلى حمل شيء من ذنوبها لا تجاب
دعوتها ولا يحمل من تدعوه عنها شيئًا ولو كان من الأقربين كالآباء والأبناء، وهذا
المعنى مكرر في القرآن {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف: 49) وأما قوله تعالى:
{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِم} (العنكبوت: 13) فهو في المضلين الذين
يحملون إثم الضلال الذي وقع من الناس بإغوائهم، ويوضحه قوله تعالى {وَمِنْ
أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْم} (النحل: 25) .
* * *
تربية اللقطاء
(س98) ومنه: هل يجوز شرعًا تربية الأطفال اللقطاء؟ وهذا السؤال
مفرع على ما قبله.
(ج) التربية الصالحة من أفضل الأعمال ولا شيء منها غير جائز، ولو
فرضنا أن الأبناء يؤاخَذون بذنوب الآباء لما كان ذلك مانعًا من جواز تربيتهم، فإن
إهمال التربية الصالحة سبب لكثرة الشر والفساد في الأرض.
* * *
عقيدة الدروز
(س99) سعيد أفندي قاسم حمود في كنتون أوهايو من (أمريكا الشمالية)
دار بين جماعة منا معشر المسلمين وجماعة من الدروز اللبنانيين حديث
أفضى إلى ذكر الحشر والنشر والموقف العظيم، فقال أحد الدروز: هل تعتقدون أيها
المسلمون بيوم القيامة وبالجنة والنار؟ فقلت: نعم، قال: فأنتم إذن كالعيسويين.
فاستوقفته حينئذ عن هذه المحاجة التي أدت به إلى الكفر وجئتكم أنا وإخواني
المسلمين سائلين عن هذه الشيعة الدرزية هل تؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم
وبيوم البعث؟ أم ماذا يعبدون وبماذا يؤمنون؟ عرفونا لنكون على حذر ونؤدبهم
بمناركم المؤيد إلى أبد الآبدين آمين
(ج) لا يضرنا معشر المسلمين أن نوافق النصارى في بعض عقائدهم،
فالأصل موافقة جميع الأديان في العقائد، ولولا تحريف الأمم وإضاعتهم لَما خالفت
عقيدة نبي عقيدة من قبله من الأنبياء. وأما الدروز فإنهم فرقة من فرق الباطنية
الذين انشقوا من المسلمين وهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ولكنهم
يحرفون القرآن بالتأويل كسائر الباطنية ويعتقدون بأن العلي والبار وأبو زكريا
وعلي والمعل والقائم والمنصور والمعز والعزيز والحاكم إله واحد، والحاكم هذا
هو أعظمهم ويعبرون عنه بمولانا، ويدينون بتوحيده وهو الحاكم بأمر الله من الملوك
العبيديين المعروفين بالخلفاء الفاطميين، والحاكم هذا كان ظالمًا وظلمه مشوب بفن
من الجنون. ومبنى عقيدة الدروز على التناسخ، وقد ذكرنا طرق الاستدلال عندهم
وبعض عقائدهم في مقالات المصلح والمقلد في المجلدين الثالث والرابع من المنار،
ولا حاجة للإطالة بها والجدال معهم عبث؛ فإنه لا قانون في دينهم للاستدلال إذ
العمدة فيه على الحروف وحساب الجمل، على أن العارفين بالدين منهم قليلون وهم
الذين يدعونهم العُقًّال. وقد رأينا من المتعلمين على الطريقة العصرية ومن أهل
البصيرة والنباهة من يتمنون نشر التعاليم الإسلامية في قومهم، ولو وجد
للمسلمين نهضة للتعليم ورقي في العلم والاجتماع لسهل عليهم جذب معظم هذه
الطائفة في زمن يسير.
__________(7/778)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب المصالحة المنتظمة
بين سلطان مراكش ولويز الخامس عشر ملك فرنسا
الحمد لله وحده هذا ما صالح عليه مولانا الإمام المظفر الهمام السلطان الأعظم
الأمجد المعظم سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله بن إسماعيل - الله وليه ومولاه - ابن
إسماعيل قدس الله سره، سلطان مراكش وفاس ومكناسة وسوس وتافلالت
وغيرهم - طاغيه جنس الفرنسيس ومن في حكمه لويز الخامس عشر من اسمه
بواسطة الباشا دور المفوض إليه من قِبله وهو كونط دبرنيون، على شروط تذكر
وتفصل بعد هذا , وتم هذا الصلح وانبرم في آخر ذي الحجة الحرام عام ثمانين
ومائة وألف الموافق لتاريخ الروم لثمانية وعشرين من شهر مايه عام سبع وستين
وسبع مائة وألف.
(الشرط الأول) يؤسس هذا الصلح وينبرم على ما انبرمت عليه المصالحة
بين السلطان الأعظم سيدنا ومولانا إسماعيل قدس الله سره وبين طاغية الفرنسيس
في ذلك الوقت لويز الرابع عشر من اسمه والشروط المشار إليها هي هذه.
(الشرط الثاني) إن لرعيتي الدولتين أن يذهبوا بتجاراتهم ومراكبهم حيث
شاءوا برًّا وبحرًا في أمن وأمان بحيث لا يتعدى أحدهما على الآخر ولا يمنعهم أحد
من ذلك.
(الشرط الثالث) إذا التقت سفن سيدنا - نَصَرَهُ الله - الجهادية أو غيرها
بقراصين الفرنسيس أو غيرها من سفنهم البازركانية حاملة لسنجق الفرنسيس ,
وعندهم بصابرط من قِبل طاغيتهم على الوجه المصطلح عليه كما هو مرسوم آخر
هذه الشروط فلا يتعرض لهم ولا يفتش فيهم , ولا يطالبون بغير إحضارها , وإن
احتاجوا لما يقضونه لبعضهم على وجه الخير؛ قضوه من الجانبين , وكذلك السفن
الفرنسيسية يفعلون مع سفن سيدنا - أيده الله - ما ذكر أعلاه إذا التقوا معهم , ولا
يطالبونهم بشيء إلا بإظهار خط يد القونصوا الفرنسيسي المستوطن بإيالة سيدنا -
نصره الله - على الوجه المصطلح عله أيضًا كما هو مرسوم بآخر هذه الشروط.
ولا تطالب القراصين الفرنيسيسة الكبيرة بإحضار الباصابرط إذا التقت بهم سفن
سيدنا - أيده الله - إذ ليس من عادتهم حملها , ويؤخر البحث عن الصغار لمضي
ستة أشهر تأتي من تاريخه أولها يونية وآخرها نوفمبر الآتي. وفي هذه المدة يعطي
طاغيتهم أمارة بالكتابة للسفن الصغار , وتأتي نسخة منها على يد القنصوا لتصاحب
قراصين سيدنا في سفرهم بحيث إذا التقوا بهم يستظهر كل واحد بما عنده من ذلك
العمل في نزول الفلوكة على ما وقع الشرط فيه بينهم وبين الجزيريين.
(الشرط الرابع) إذا دخلت سفينة من سفن سيدنا الجهادية أو غيرها لمرسى
من مراسي الفرنسيس أو بالعكس، فلا يُمنعون من حمل ما يحتاجون إليه من مأكول
أو مشروب لهم ولمن معهم في سفنهم من الجانبين , وكذلك إن احتاجوا إلى آلة من
آلات سفنهم فلا يمنعون من ذلك بالثمن الجاري بين الناس من غير أن يزاد عليهم
شيء في جميع ذلك مراعاة للصلح الذي بين الرعيتين.
(الشرط الخامس) لرعيتي الدولتين الدخول لأي مرسى شاءوا من مراسي
سيدنا - أيده الله - أو من مراسي بلاد الفرنسيس والخروج منها سالمن آمنين , وأن
يبيعوا ويشتروا ما شاءوا على حسب إرادتهم , وإن باعوا من سلعهم بعضًا وأرادوا
ردّ الباقي لمراكبهم فلا يطالبون بوظيف آخر , وإنما يطالبون بتعشير السلع أولاً
عند نزولها فقط , ولا يدفعون في التعشير زيادة على غيرهم من الأجناس، ولتجار
الفرنسيس التصرف في البيع والشراء في جميع إيالة سيدنا - نصره الله - كغيرهم ,
وإن تفضل سيدنا - أيده الله - على جنس من أجناس النصارى بنقص شيء من
القُمرق أو من الصاكة وغيرها فهم من جملتهم.
(الشرط السادس) إذا انتقض الصلح بين أهل تونس والجزائر وأهل
طرابلس وغيرهم وبين الفرنسيس ودخلت سفينة من سفن الفرنسيس أيًّا كانت
لمرسى من مراسي سيدنا - نصره الله - وتبعتها سفينة حربية من سفن عدوّهم
لتأخذها، فعلى أهل تلك المرسى منع سفينة الفرنسيس المذكورة من عدوّهم المذكور ,
ولو برميه بالمدفع ليبعد عدوّهم عنها , ويحبس المركب الطالب لها بالمرسى مدة
حتى تبعد السفينة المطرودة عنها لئلا يتبعها في الحال حسبما هي العادة , وإذا
التقت مراكب سيدنا الجهادية بعدوِّهم بكوشطة الفرنسيس فلا يأخذونهم إلا بعد
تجاوز ثلاثين ميلاً.
(الشرط السابع) إذا دخلت سفينة من عدو الفرنسيس لمرسى من مراسي
سيدنا - أيده الله - وبها أسارى من الفرنسيس، فإن كانوا باقين بالمركب لم ينزل أحد
منهم للبرّ فلا كلام معهم فيهم , وإن نزلوا للبر فهم مسرحون وينتزعون من يد الذي
هم تحت أسره , وكذلك إذا دخلت سفينة من عدو سيدنا - نصره الله - لمراسي
الفرنسيس وفيها أسارى من الإيالة المولوية يفعل بهم مثل ذلك , وإن دخل عدو
للفرنسيس أيًّا كان لإيالة سيدنا بغنيمة أو دخل عدو سيدنا -أعزه الله - بغنيمة
لمراسي الفرنسيس - فإن الجميع يُمنعون من بيع الغنيمتين بالإيالتين. وإذا وجد عدو
إحدى الدولتين تحت سنجق الأخرى فلا يتعرض له ولا لماله من الجهتين , وإذا
أخذت سفينة سيدنا - أيده الله - غنيمة ووجد فيها بعض الفرنسيس ركابًا فإنهم
يسرحون بأموالهم وأثاثهم كله , وكذلك إذا غنم الفرنسيس سفينة لعدوه أيًّا كان ووجد
فيها ركابًا من الإيالة المولوية فإنهم يفعل بهم مثل ذلك، وأما إن كانوا بحرية فلا
يسرحون من الجانبين.
(الشرط الثامن) لا يلزم رؤساء المراكب البازركانية بحمل ما لم يريدوه في
سفنهم ولا أن يتوجهوا لمحل من غير إرادتهم.
(الشرط التاسع) إذا انتقض الصلح بين وجاقات الجزائر ووجاقات تونس
وطرابلس وبين الفرنسيس فلا يأمر سيدنا - نصره الله - بإعانة الوجاقات
المذكورين بشيء أصلاً , ولا يترك أحدًا من رعيته يتسلح ويركب تحت سنجق أحد
الوجاقات ليقاتل الفرنسيس ولا يترك أحدًا يخرج من مراسيه ليقاتلهم , وإن فعل أحد
من رعيته ذلك عاقبه وضمن ما أفسده , وكذلك يفعلون مع من عادى الجناب
المولوي -أسماه الله- لا يعينونه ولا يتركون من يعينونه من رعيتهم.
(الشرط العاشر) لا يكلف جنس الفرنسيس بدفع آله الحرب من بارود
ومدافع وغير ذلك مما يقاتل به.
(الشرط الحادي عشر) لطاغية الفرنسيس أن يجعل بإيالة - سيدنا - نصره
الله - من القونصوات ما أراد , وفي أي بلد شاء ليكونوا وكلاء له في مراسي سيدنا
أيده الله - ليعينوا التجار ورؤساء البحر والبحرية في جميع ما احتاجوا إليه ,
ويسمع دعاويهم , ويفصل بينهم فيما يقع بينهم من النزاع لئلا يتعرض لهم أحد من
حكام البلد غيرهم. وللقونصوات المذكورين أن يتخذوا بدورهم موضعًا لصلاتهم
وقراءتهم , ولا يُمنعون من ذلك , ومن أراد إتيان دار القونصوا للصلاة أو للقراءة
من أجناس النصارى أيًّا كانوا فلا يتعرض لهم أحد ولا يمنعون من ذلك , وكذلك
رعية سيدنا - أيده الله - إذا دخلوا بلاد الفرنسيس لا يمنعهم أحد من اتخاذ مسجد
لصلاتهم وقراءتهم بأي مدينة كانوا. ومن استخدمه القونصوات المذكورون من
كتاب وترجمان وسماسير وغيرهم فإنه لا يتعرض لمن استخدموه بوجه , ولا
يكلفون بشيء من التكاليف أيًّا كانت في نفوسهم وبيوتهم , ولا يمنعون من قضاء
حاجة القونصوات والتجار في أي مكان كانوا , ولا يدفع القونصوات ملزومًا ولا
وظيفًا عما اشتروه لأنفسهم من مأكول ومشروب وملبوس , ولا يأخذ منهم العشر
عما جاءهم من بلادهم من الحوائج المعدة للباسهم ومأكولهم ومشروبهم كيفما كانت،
ولقونصوات الفرنسيس التقدم والتصدر على غيرهم من قونصوات الأجناس
الآخرين , ولهم أيضًا أن يذهبوا حيث شاءوا من إيالة سيدنا - أيده الله - برًّا وبحرًا
من غير مانع لهم من ذلك , ويذهبون أيضًا لسفن جنسهم إن أرادوا من غير مانع
أيضًا, ودورهم موقرة لا يتعدى فيها أحد على آخر.
(الشرط الثاني عشر) إذا وقع نزاع بين مسلم وفرنسيسيّ فإن أمرهما يرفع
للسلطان - نصره الله - أو لنائبه حاكم البلاد , ولا يحكم بينهما القاضي في نازلتهما.
(الشرط الثالث عشر) إذا ضرب فرنسيسي مسلمًا فلا يحكم فيه إلا بعد
إحضار القونصوا ليجيب ويدافع عنه , وبعد ذلك ينفذ فيه الحكم بالشرع , وإن
هرب النصراني الضارب فلا يطالب به القونصوا لأنه ليس بضامن له , وكذلك إذا
ضرب المسلم الفرنسيس وهرب فلا يطالب بإحضاره.
(الشرط الرابع عشر) إذا كان لأحد من التجار دين على أحد من رعية
الفرنسيس فلا يكلف القونصوا بخلاصه إلا إذا ضمن المال وكتب في ذمته فحينئذ
يكون الخلاص عليه , وإن توفي أحد من النصارى الفرنسيس في جميع إيالة سيدنا
نصره الله - فتسلم أرزاقه وأمتعته ليد القونصوا ليزممها ويختم عليها أو يتصرف
فيها بما شاء , ولا يمنعه أحد من ذلك , ولا يتعرض له أحد من القاسمين ولا من
أهل بيت المال.
(الشرط الخامس عشر) إذا رمى الريح مركبًا من المراكب الفرنسيسية على
سواحل إيالة سيدنا - نصره الله - أو جاء هاربًا من سفن أعدائه فليعط سيدنا أمره
لجميع أهل سواحله أن من وقع عنده مثل ذلك يعينونهم على قدر طاقتهم إما بإخراج
المركب للبحر إن أمكن , وإن حرّث أعانوهم على تخليص الأمتعة التي به وجميع
آلاته وكل ما خرج من المركب يتصرف به القونصوا القريب من ذلك المكان أو
نائبه بما شاء ليخلص تلك السفينة بعد أن يعطي لمعينه أجرته , ولا يؤخذ عن تلك
السلع حال التحريث عُشر إلا ما بيع منها فيؤخذ عُشره.
(الشرط السادس عشر) إذا دخلت مراكب الفرنسيس القرصانية لمرسى من
مراسي سيدنا - نصره الله - فليلتقوا بالبشر والبشاشة مراعاة للصلح الحاصل ,
ورؤساء هذه المراكب إن اشتروا بدرهمهم شيئًا من مأكول أو مشروب لا يطالبون
بصاكة ولا بغيرها وكذلك يفعل بمن دخل لمراسي الفرنسيس من سفن سيدنا - أيده
الله - وهذا المأكول والمشروب المذكوران لأنفسهم ولأهل مراكبهم.
(الشرط السابع عشر) إذا دخل قرصان من قراصين الفرنسيس لمرسى من
مراسي الإيالة المولوية فإن القونصوا الحاضر في الوقت بالبلد يخبر حاكمها بذلك
ليتحفظ على الأسارى الذين بالبلاد لئلا يهربوا للسفينة المذكورة , فإن هرب أسير
وحصل المركب فلا يفتش عليه , ولا يطالب به القونصوا ولا غيره لأنه دخل تحت
سنجق الفرنسيس ولاذ به , وكذلك من فعل من أسارى المسلمين أيًّا كانوا ذلك
بمراسي الفرنسيس لا يفتش عليه لأن السنجق حرم.
(الشرط الثامن عشر) ما نسي من الشروط يفسر ويشرح على وجه مفيد
معتبر لكي يحصل منها خير كثير ونفع عام لرعيتي الدولتين ولأن بواسطتهما تشد
عقود الموالاة والمصافاة.
(الشرط التاسع عشر) إذا حصل خلل في الشروط التي انعقد عليها الصلح
فلا يفسد الصلح بسبب ذلك , وإنما يبحث في المسألة ويرجع فيها للحق من أي إيالة
كانت , ولا يتعرض لرعايا الدولتين الذين لا مدخل لهم في شيء من الأشياء ولا
يباشر أحد من الرعيتين الخصومة والجدال إلا بعد مخالفة الشريعة والحق إعلانًا.
(الشرط الموفي العشرين) إن قدر الله بنقض الصلح المنبرم فجميع من
بإيالة سيدنا - نصره الله - من جنس الفرنسيس يؤذن لهم في الذهاب لبلادهم
بأموالهم وأمتعتهم لمضي ستة أشهر.
***
ذكر الباصابرط المصطلح عليها
لكل مركب من المراكب الفرنسيسية البازركانية من عند أمير البحر بكل
مرسى من مراسي الفرنسيس لويس جان مري دبربون دك دبنطيور أمير البحر
بإيالة الفرنسيس السلام على كل من ينظر هذه الأسطر , نعلمه أنا دفعنا ونفذنا
إجازة بالباصابرط هذه لفلان رئيس المركب المسمى فلانًا فيه من الوسق كذا , وأنه
ذاهب إلى بلد كذا موسق بكذا مكاحلة ومدافعة كذا , رجاله كذا , وهذا بعد ما صار
النظر والاطلاع الشرعي بما فيه , فشهادة على ذلك وضعنا إمضاءنا وطابعنا ,
وكتب بخط يده كاتب البحر فلان في مدينة باريز في شهر كذا سنة كذا
لويزجان مري دبوربون وتحت ذلك ... ... من جانب حضرته السمية ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... غرامبرك مختوم
* * *
ذكر خط يد القونصوا المصطلح عليه الذي يكون عند سفن سيدنا أيده الله.
صورته:
كاتبه فلان قونصوا الفرنسيس بإيالة سيدنا - نصره الله - بثغر كذا. نُعلم كل
من رأى هذه الأحرف أن المركب المسمى كذا رئيسه فلان , وفيه كذا , وهو من
ثغر كذا بأنه هو ومن معه من إيالة السلطان المنصور بالله سيدنا محمد بن عبد الله
سلطان مراكش ومن انضاف إليه, رجاله كذا , مدافعه كذا , وشهادة على ذلك
وضعنا اسمنا على هذه الورقة التي ختمناها بخاتمنا في بلاد كذا في شهر كذا من
سنة كذا
* * *
العبرة بحال مراكش
كانت مملكة مراكش منذ قرن أو قرنين عزيزة الجانب مرهوبة الشذى من
ممالك أوربا , ولكن غرور المسلمين واختيارهم الجهل بحجة الدين قد جعل شر
أحوالهم عواقبها وخواتيمها (والعياذ بالله تعالى) فانظر أيها القارئ بعين العبرة
في هذه المعاهدة أو المصالحة بين سلطان مراكش وملك فرنسا التي وقعت من نحو
قرن ونصف؛ تجد أن السطان المسلم كان هو وقومه فرحين مغتبطين بالفخفخة
والإطراء، والألقاب الضخمة ورسوم الدعاء، والاغترار برضا ملك فرنسا بلقب
الطاغية , ولم يفقهوا أن هذه المصالحة التي توهموا أن لهم فيها العزة والشوكة
والصولة والدولة ما هي إلا مبدأ الخيبة والانخذال، ومقدمات الاضمحلال
والانحلال، ولو وجد في ذلك الوقت رجل حكيم بصير بالعواقب وقال: إن المزايا
التي أعطيتموها لفرنسا على أن لكم منها مثلها ستكون وسيلة لاستيلائها على
جيرانكم من إخوانكم ثم عليكم لانخذالكم وتفرقكم؛ لأفتى الفقهاء منهم بكفره وحكم
الحاكمون بقتله، وأجمعت الأمة على لعنه، لأنه خالف مولانا الإمام المظفر واعترض
أمره، ولكن من رأى فرنسا استولت على الجزائر ثم احتلت تونس ثم أنشبت براثنها
في مراكش التي خذلت جارتها الجزائر في محاربتها لفرنسا من قبل , وسمع ساستها
وكتابها يفتخرون بأنهم ورثوا ملك هذه البلاد وأملاكها - من رأى وسمع ما ذكر
يسهل عليه أن يعرف درجة جهل مراكش من ذلك اليوم بقوتها، وخطر استرسالها
في جهالتها، وهل أفاق بعد هذا كله المراكشيون؟ لعمرك إنهم لفي سكرتهم
يعمهون.
لا نريد بهذه الذكرى إيقاظ أهل مراكش لأجل مقاومة نفوذ فرنسا، فإننا نعلم أن
الأرض يرثها من عباد الله الصالحون لعمارتها وإقامة النظام والعدل فيها , وأهل
مراكش كأمثالهم من سائر المسلمين في هذه العصور أعداء العدل والنظام، عشاق
الخلل والاستبداد، حرب العلم والصناعة، سلم مع التفريط والإضاعة، لا هم لهم
في عالم السياسة إلا في التزلف والاستخذاء لأمير أو سلطان منهم يسومهم سوء
العذاب، ويجعل نفسه في مصاف الأرباب، وهم لا يتحامون وصفه بصفات
الألوهية، ووسم أنفسهم بسمات العبودية، ولقد كانوا يتنزهون عن هذا اللفظ
(العبودية والعبد) ثم صار يقال جهرًا ويحسب دينًا لا كفرًا. أو إقامة عدة زعماء،
وتمزيق الأمة بتفرقهم في الأهواء، ويا ويل من أنكر عليهم ما يعرفون، وأنذرهم
مغبة ما ينكرون، إنني أكتب هذا وأفكر فيمن يألم له , وأزن آلامي بكل ما
أتخيل من آلام فأراها ترجح في إحساسي واعتقادي , وإن قلمي ليقطر حبرًا أحمر
وقلبي يقطر دمًا أسود، فليقل من شاء ما شاء فلا يستطيع أحد أن يؤلمني بقوله بأشد
مما أنا فيه , وأعود إلى ما أريد من الذكرى، أريد أن يتنبه من عنده استعداد للفهم
من أعداء الإصلاح إلى حاجتهم إلى النذر والتأمل في كل قول ينتقد به حال أمتهم
وملتهم , وإن كان القائل ظنينًا عندهم في رأيه واعتقاده، وأن يعلموا أن ضعف
الأمم وهلاكها بفساد رؤسائها , وأن الذين يعظمون هؤلاء الرؤساء ويتقربون منهم
ويتمتعون بأموالهم وبجاههم - ومنه رتب الشرف وأوسمته - هم الجديرون بالاتهام
بغش الأمة في كل زمان ومكان، كذلك كانوا وكذلك هم الآن، ولكن الرياسة
تستعبد الطامعين، والسياسة فتنة للعالمين، كانت دولة مراكش عند عقد هذه
المصالحة لا تزال عزيزة قوية ولكنها جاهلة بأن دوام الدولة إنما يكون بقوة الأمة،
وقوة الأمة في هذه الأزمنة لا تكون إلا بالعلم والصناعة والثروة. ولقد كانت دولة
فرنسا لذلك العهد ملكية مطلقة كدولة مراكش، فلماذا سقطت هذه الدولة الإسلامية حتى
صارت لا تقوى على تأديب خارج عليها، ونهضت تلك الدولة حتى صارت في
مقدمة الدول العظمى؟ ولماذا صارت لا ترى مانعًا من الاستيلاء على مملكة مراكش
إلا معارضة دول أوربا , فلما رضوا قالت: أنا وارثة هذا الملك، بعد أن كانت
ترضى من صاحبه بتلك المصالحة التي يلقب فيها ملكها بالطاغية، ويرضى بما
دون المساواة لصاحب مراكش؟ ولقد كان الحال بين الدولتين على عهد لويس السادس
عشر كما كان على عهد من قبله , وكان محمد بن عبد الله بن إسماعيل
يتعالى على لويس في الخطاب كما كان يتعالى على من قبله , وآخر كتاب رأيناه منه
مؤرخ في سنة 1191 على أن محمدًا من خير من ولي مراكش عند أهلها ,
ولويس السادس عشر من شر ملوك فرنسا عند أهلها , إذ كانت الثورة الكبرى على
عهده وقد أهانت الأمة دماء الملوك بسفك دمه , فكيف نهضت فرنسا على ما كان من
ضعف ملكها , وسقطت مراكش على ما كان من عظمة سلطانها وفضله؟ الجواب
عن هذه الأسئلة واحد؛ وهو أن الأمة الفرنسية كانت تجدّ في نشر العلم وجمع
كلمة أهل الرأي لتقييد السلطة المطلقة حتى ظفرت بها وسارت على سنة الله في
ارتقاء البشر بالأسباب , والأمة المراكشية كانت تتوهم أنها مؤيدة من السماء،
ومتعبدة بالخضوع للرؤساء، لا يخطر على بالها أنها في حاجة إلى العلوم الكونية
والصناعات العملية والقوة القومية، فكانت تزيد تفرقًا من حيث يزيد الفرنسيس
اجتماعًا، وتوغل في فيافي الجهل كلما أوغل الفرنسيس في ربوع العلم، وتستخذي
لسلطة الرؤساء والحكام. إذ ساواهم الفرنسيس في الحقوق بالعوام، وتتكل على
كرامات الأحياء والأموات، كما يتكل الفرنسيس على ما وهبهم الخالق من القوى
والأدوات، فأيّ الفريقين أحق بالقوة والسيادة؟
من المصائب الكبرى أن الأمراء والسلاطين السكارى بخمرة السلطة المطلقة
والاستبداد لا يسمعون النذر التي تصيح بجوارهم، ولا يبصرون العبر التي تنزل
بديارهم، وأن الأعوان الغارِّين الغاشِّين للأمة بهم لا يكفون عن غشهم للمرؤوس،
وتملقهم للرئيس، ما دام في يده لماج يأكلونه، أو وشل يشربونه، أو وسام يتحلون
به أو يبيعونه. وإن العامة تقبل هذا الغش وتدين لذلك القهر، مفتونة بقوة الغالب
وخلابة الخالب.
جميع الممالك والبلاد الإسلامية على خطر السقوط في أيدي أوربا , وجميع
أهلها سادرون في غرورهم إلا أفرادًا من المملكة العثمانية يطلبون الإصلاح الواقي
بما يظنون نفعه , والجماهير ينبزونهم بالألقاب ويتهمونهم بسوء القصد أو بسوء
العمل , والجرائد الخاتلة الخادعة تنفر العامة منهم - هذا والمملكة العثمانية أقدر
الممالك على الإصلاح لكثرة المتعلمين القادرين على الإدارة المنتظمة فيها، وهناك
أفراد في المملكة الفارسية يقال أن الشاه نفسه يود معهم الإصلاح ولكن سلطة الشاه
مقيدة بسلطة العلماء والمجتهدين الذين لما يشعروا بالخطر المحيط بالمسلمين؛
وليس عنده رجال يقومون بالأعمال، فماذا نقول في بلاد نجد وحضرموت وهم
على بداوتهم يخضعون لرؤساء في عزلة عن الكون وما فيه من القوى الحربية
والسياسية التي لا تبارى إلا بمثلها. ولعلك إذا قلت في البلاد العربية أو الفارسية
أنه يجب على الأمة أن تتعلم العلوم الرياضية والطبيعية والاجتماعية، تُرمى بالكفر ,
ولا يبعد أن تُرمى بعده بالرصاص.
لا يسهل تذكير المسلمين إلا إذا سلبوا كل قوة وزالت من أيديهم كل سلطة
وأنى لهم الذكرى حينئذ. ولو قلت للعقلاء العائشين منهم في بلاد الجهل والاستبداد:
عليكم أن تفكروا , عليكم أن تجتمعوا , عليكم أن تتعلموا, عليكم أن تعملوا,
عليكم أن تخاطروا , ولا يغرنكم نبذ الأكثر منكم لكلام النذير لكم , وزعمهم أنه ضد
للرؤساء , بل تمثلوا حال كل بلاد استولى عليها الأجانب تجدوا أن الناصحين
كانوا فيها على خطر , ثم ظهر صدق قولهم وتأويل وعدهم - لاختلفوا في الجدل،
مع الاتفاق على ترك العمل؛ إلا من هداه الله من المتقين، وذكر فإن الذكرى تنفع
المؤمنين.
__________(7/783)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(مصاب مصر بحسانها ومحسنها)
رزئت الديار المصرية في هذا الشهر برجلين عظيمين لا خلف لهما فيما
امتازا به وهما: حسان الشعر وأديب القطر محمود سامي البارودي، ومحسن مصر
الكبير أحمد المنشاوي. فخسرت الأمة بفقدهما خسارة عظيمة لا عوض لها إلا فيما
نرجوه من فضل الله تعالى بتوفيقه من شاء أن يكون مثل (محمود) في بلاغة
اللسان وثبات الجنان وعلو الهمة ومكارم الأخلاق وحب الإصلاح , ومثل (أحمد)
في بسطة اليد وسخاء النفس وحب الخير للبشر والإعانة على الإصلاح. أما
المصاب بالأول فقد كان موجعًا لأهل الأدب لأنهم هم الذين يعرفون قيمة الفقيد،
ولمعارفه من الوجهاء والفضلاء , وقد نُسي مقامه السياسي عند من كان على رأيه
ومن كان مخالفًا له لأن علو المناصب عرض يطرأ فيكون له حكمه، ويزول
فيمحى رسمه، ولا يذكَر الإنسان إلا بصفاته وأعماله. وأما المصاب بالثاني فقد
أحست به جميع الطبقات في الأمة فتألم له العالم والجاهل والمسلم والإسرائيلي
والنصراني , بل تألم له كل عنصر يقيم في مصر حتى الأجانب؛ لأن إحسانه -
رحمه الله - كان شاملاً عامًّا , وقد كان لتشييع جنازته مشهد ما رأينا مثله لأمير
ولا لعالم أو وزير. وإننا نذكر مجملاً من سيرة الرجلين ليكون درسًا في التاريخ
يستفيد به المستبصرون.
* * *
(محمود سامي البارودي)
(ترجمته عن صحيفة كانت عنده يقال بأن الشيخ محمد عبده
كتبها معه سنة 1298)
هو محمود سامي بن حسن حسني بك البارودي ينتهي نسبه إلى نوروز
الأتابكي المالكي الأشرفي [1] . والبارودي نسبة إلى إيتاي البارود بلدة من مديرية
البحيرة بمصر , كان أحد أجداده ملتزمًا لها فنسب إليها على عادة تلك الأيام. ولد
المترجَم لثلاث بقين من رجب سنة 1255 , وبعد أن تلقى المبادي التعليمية دخل
المدارس الحربية في سنة 1267 في مبادي حكومة عباس باشا الأول وخرج منها
في أواخر سنة 1271 في أوائل حكومة سعيد باشا. كان في طبعه ميل غريزي إلى
الآداب العربية وفنون الإنشاء والنظم، فاشتعل بها حتى بلغ درجة عالية في النظم
والنثر , وفي شعره من السلاسة والمتانة وحسن التخيل ولطف الأداء وبهجة
الديباجة ما لا نرى نظيره إلا في شعر فحول المخضرمين. ثم جنحت نفسه إلى
تحصيل فنون الآداب التركية فرحل إلى القسطنطينية وأقام هناك بقلم كتابة السر
بنظارة الخارجية في الباب العالي فأتقن اللغة التركية قراءة وكتابة , وله فيها من
الأشعار والرسائل ما يعترف أدباء الترك ببلاغته، وتعلَّم هناك أيضًا اللغة الفارسية
ولما انتهت إمارة مصر إلى إسماعيل باشا وسافر إلى الأستانة لأجل القيام بالشكر
للحضرة السلطانية على ولاية مصر عاد بصاحب الترجمة في حاشيته وكان ذلك في
رمضان سنة 1279هـ.
ورقي إلى رتبة البكباشي العسكرية في سبع بَقِين من المحرم سنة 1280هـ ,
وفيها سافر مع جماعة من ضباط العسكر المصري إلى فرنسا لمشاهدة التمرينات
العسكرية التي تكون هناك كل عام في المعسكر المعروف باسم (قان دوسالون)
وسافر بعد أن قضى لبانته من ذلك إلى لندره عاصمة إنكلترا لاختبار الأعمال
العسكرية والآلات الحربية فيها ثم عاد إلى مصر فارتقى إلى رتبة القائمقام في الألاي
الثالث من الفرسان المعروف بلقب (الغارديا) وكان ذلك في 11 جمادى
سنة 1381.
وفي غاية ذي القعدة من هذه السنة ارتقى إلى رتبة أمير ألاي فكان على الألاي
الرابع من عسكر الحرس المعروف بالفارديا. ولما خرج أهل جزيرة كريد عن
طاعة الدولة في ربيع الأول سنة 1283 وأرسلت الإمارة المصرية جيشًا لإسعاد
الدولة على تأديبهم أرسِل المترجَم مع الجيش المصري بوظيفة رئيس الياورية وبعد
إخماد نار الفتنة في 3 جمادى الثانية سنة 1284 أنعم السلطان عبد العزيز عليه
بالوسام العثماني من الدرجة الرابعة , وعاد إلى مصر فكان من حجاب الخديوي (
ياور) ولما صدر الفرمان السلطاني بحصر الخديوية المصرية في ذرية إسماعيل
باشا في 13 ربيع الأول سنة 1290 وصار محمد توفيق باشا ولي العهد جعل
صاحب الترجمة رئيس الحجاب (الياوران) .
وبعد ثلاث سنين جعله الخديوي كاتب السر الخاص له (مكتوبي أو سكرتير)
وبعد سنتين عاد إلى العسكرية. ولما خرجت بلاد الصرب على الدولة عقيب فتنة
الهرسك وأرسلت الحكومة المصرية جيشًا لمساعدة الدولة على تدويخها أرسل هو إلى
الأستانة برسالة خاصة بذلك , فأقام فيها ثلاثة أشهر وعاد إلى مصر ثم أرسل إليها
برسالة أخرى تختص بفتنة البلغار وخروج الجبل الأسود على الدولة. ولما
اشتعلت نار الحرب بين الدولة وروسيا سافر بعسكره مع الجيش المصري الذي
أرسل لمساعدة الدولة إلى وارنة ولم يعد إلا بعد عقد الهدنة الأخيرة وفي خلال ذلك
رقي إلى رتبة أمير لواء ومنح الوسام المجيدي الثالث والمداليا.
وفي شهر ربيع الآخر سنة 1295 عين مديرًا للشرقية ثم عين رئيسا للشحنة
(الضبطية) في مصر مدة سنة كاملة اهتم فيها بحفظ الأمن , وكانت المخاوف
تتناوش الناس من كل مكان لما كان فيها من الأصابع الخفية التي تتلاعب بإثارة
الخواطر في ذلك الوقت أي أواخر حكم إسماعيل باشا بما كان من المنافسة بين
الأمراء والكبراء , ومن توجه كثير من الأفكار لإثارة الشرور وإيقاف حركة الإدارة
حتى إذا ما تم أمر الله بعزل إسماعيل باشا وأقيم وليّ عهده توفيق باشا أميرًا لمصر
جُعل صاحب الترجمة عضوًا في مجلس الوزارة وقلده نظارة عموم الأوقاف
المصرية وكانت مختلة معتلة فأصلح خللها وداوى عللها بما وضعه لها من
القواعد والترتيب (وسمع منه صاحب هذه المجلة أنه اجتهد يومئذ في جمع الكتب
الموقوفة المتفرقة في المساجد وإنشاء دار للكتب (كتبخانه) تجمع فيها , وكان ذلك
مبدأ الفكر في إنشاء المكتبة المصرية المعروفة بالكتبخانة الخديوية) ولما تم أمر
التصفية المصرية على ما يرام رقي المترجَم إلى رتبة فريق , وأعطي الوسام
المجيدي من الدرجة الثانية وذلك في 9 شعبان سنة 1397.
الفتنة العرابية
في غرة شهر ربيع الأول من سنة 1298هـ كانت واقعة تألب الضباط
المصريين على ناظر الجهادية لأسباب أحفظتهم عليه , فاجتمعوا على طلب عزله
من النظارة فأجيب طلبهم , وعيَّن الخديوي صاحبَ الترجمة ناظرًا للجهادية جامعًا
بينها وبين نظارة الأوقاف , فاجتهد في إثلاج صدور الضباط واتخاذ الوسائل التي
تكفل حفظ الأمن فتم له ذلك , ولكن ظهر له أن إدارة العسكرية أشد اختلالاً من
نظارة الأوقاف وأنها في حاجة إلى إصلاح عظيم لابد فيه من الروية وطلبه من
أسبابه بالتدريج , فوجه عنايته لذلك واثقًا بحسن نيته ومضاء عزيمته وثقة الأمير
والأمة به - قال كاتب الصحيفة التي نقلنا عنها ما تقدم بتصرف في العبارة دون
المعنى: وفي هذه المدة القصيرة تيسر له إصلاح كثير من شئونها , وتحويل بعض
أحوالها إلى ما هو أحسن , ومن المأمول أن يساعده التوفيق الإلهي على إتمام
مقاصده فيها إن شاء الله تعالى اهـ.
وإننا نتم ترجمته بحسب ما نعلمه من أصح الروايات , وقد علم مما مر وهو
ما كان يحفظه المرحوم مما كتب في أوائل أيام الفتنة أنه لم يكن للمترجَم سابقة
تقتضي استياءه من الأمير , فإنه نشأ في حجر الإمارة عزيزًا كريمًا فبينه وبين
رؤساء العسكرية الذين أثاروا الفتنة فرق , وهم أحمد عرابي وعلى فهمي وعبد
العال وأحمد عبد الغفار، فإنهم كانوا كأكثر المصريين في العسكرية وغيرها
مهضومي الحقوق , والمهضوم يندفع عند الفرصة إلى إزالة الهضم وطلب الحقوق
بشعور قوي من نفسه بالحاجة إلى ذلك , وكثيرًا ما يقوى سلطان الشعور على الفكر ,
فقد كان فكر زعماء الفتنة تابعًا لشعورهم بالألم والخطر المتوقع من جراءتهم على
ما فعلوا لا سيما بعد الظهور بمظهر القوة أمام قصر الإمارة وإلزام الأمير باطنًا بما
أجابهم إليه بالرضا ظاهرًا. أما محمود باشا سامي فإنه كان يعمل بالفكر لمصلحة
أميره وأمته معًا ولا يبعد أن يكون شعوره بوجوب تأييد سلطة الأمير المطلقة وقتئذ
أقوى من فكره بوجوب تأييد مطالب أهل البلاد , وعدم تمييز الترك والجراكسة
عليهم لأن الشعور دائمًا يتبع المنفعة الخاصة , والفكر يؤيد المصلحة العامة، والذي
نظنه أنه كان معتدلاً جامعًا بين مقتضى الشعور ومقتضى الفكر.
كان الرجل على ما بينَّا، ولكنه في رمضان من السنة التي جعله الأمير فيها
ناظرًا للجهادية (سنة 1298) أحس بسوء ظنه فيه واتهامه إياه بالاتفاق والاشتراك
مع الضباط فيما كان يصدر عنهم من الأعمال المخالفة للنظام فاستعفى فأعفاه
الأمير, وعين داود باشا يكن ناظرًا للجهادية. ولكن استعفاءه زاد الفتنة احتدامًا ,
ففي منتصف شوال حصلت المظاهرة المشهورة في ميدان قصر عابدين بعد ما
اجتهد الأمير في تسكين جأش الرؤساء المضطربين , وكان ما كان في القصر من
الكلام بين رئيس الفتنة أحمد عرابي وبين الأمير أولاً وقنصل الإنكليز ثانيًا وطلب
عرابي إسقاط وزارة رياض باشا , والتصديق على قانون العسكرية الجديد الذي
ألّفوه , وعزل شيخ الأزهر , وبعد المراجعة رضي بإسقاط الوزارة قبل نزوله من
القصر إلى جيشه المحدق به وتأجيل ما عداه، فأجيب إلى ذلك. ولما بلغ محمود
سامي باشا خبر سقوط وزارة رياض باشا أسف أسفًا شديدًا لاعتقاده أن الخلل سيزيد
والفوضى ستنتشر بعده , وقد سئل عن رأيه في تأليف وزارة تحت رياسة شريف
باشا وهل يجيب الدعوة ليكون فيها ناظرًا للجهادية كما كان؟ فأجاب بأنه عقد النية
على أن لا يدخل في خدمة الحكومة ما دام لرجال العسكرية سلطان يعلو سلطان
النظام , وصمم على ذلك مع الإخلاص وصدق العزيمة , ولما قبل شريف باشا
تأليف الوزارة دعاه ليكون ناظر الجهادية فأبى , ولكن الأمير توفيق باشا نفسه دعاه
وأكد له القول بأنه لم يسئ به ظنًّا قط، بل كان يعتقد إخلاصه في جميع أعماله , وأن
الذي أساء به الظن هو رياض باشا وذكر له أمورًا أثرت في نفسه تأثيرًا حمله على
قبول نظارة الجهادية لا رغبة فيها ولكن خضوعًا للأمير وتشفيًا ممن كان سببًا في
تسوئة سيرته وتشويه سمعته , ووقع بحسن نيته في الشَّرَك الذي كان يتحامى
الوقوع فيه. وفي أثناء هذه الوزارة تألف مجلس النواب المصري وعارض وكيلا
دولتي فرنسا وإنكلترا في نظر النواب وتقريرهم لميزانية الحكومة لما للدولتين من
الديون عند الحكومة التي تسمح لهم بمراقبة ماليتها. ولما أصر النواب على وجوب
النظر في الميزانية كغيرها , وعدم قبول تداخل الأجانب في ذلك , ولم يقبلوا ما
نقحت الوزارة به لائحة مجلس النواب , بل أرسلوا وفدًا إلى الأمير يطلبون تنفيذ ما
قرروه أو إسقاط الوزارة , فاختار الأميرُ صاحبَ الترجمة لتأليف وزارة تحت
رياسته ففعل , وكان ذلك في منتصف ربيع الأول من سنة 1299 وسارت الأعمال
بعد ذلك سيرًا مرضيًّا.
ثم كانت المسألة التي سموها مسألة الجراكسة وهي كيد ضباطهم لعرابي باشا
وعزمهم على قتله , وكان ناظر الجهادية فأمر بالقبض عليهم ومحاكمتهم في مجلس
حربي , والمشهور أنهم قبضوا على أربعين منهم عثمان رفقي باشا الذي كان ناظر
الجهادية من قبل , وأن رئيس المجلس الحربي الذي حكم عليهم كان راشد باشا
الجركسي فحكم عليهم بالنفي إلى أقاصي السودان , ولكن مجلس النظار طلب من
الأمير تخفيف العقوبة فأصدر أمره بذلك ولكن خاطب به نظارة الداخلية لا نظارة
الجهادية خلافًا للمتبع يومئذ , فوقع الخلاف يومئذ بين الأمير ومجلس النظار , ومن
ثم وقع الخطر وما كان أغناه عنه.
اجتهد النظار في استرضاء الأمير بواسطة جماعة من النواب استقدموهم من
بلادهم فكلموه وكلمه غيرهم فلم يجب طلبهم. وسأل حينئذ وكلاء الدول من النظار
عن حال الأوربيين في مصر: هل يخشى عليهم من خطر؟ فأجابوهم بأنه لا خوف
عليهم ولا خطر , ولكن الأمير قال عقيب ذلك لهؤلاء الوكلاء أنه لم يبق آمنًا على
مسنده ولا على دماء الأوربيين وأموالهم في مصر , فطلب قنصل فرنسا وإنكلترا
من دولتيهما إرسال أسطولين. الفرنسي طلبه للتهديد والإنكليزي طلبه للعمل , ولما
حضر الأسطولان قدم القنصلان لائحة يطلبان فيها إسقاط الوزارة وإخراج عرابي
من القطر المصري وغير ذلك , وكان ذلك في 7 رجب سنة 1299 الموافق 25
مايو (أيار) سنة 1882 فقبلها الأمير , واستعفى المترجَم من الوزارة , وكان
اعتماد الأمير على إنكلترا دون فرنسا ومن آية ذلك تصريح المستر غلادستون
يومئذ بأن دولته تريد أن تؤيد كلمة الجناب الخديوي توفيق باشا لما أظهر من أدلة
الصداقة والإخلاص ... وكان في أثناء ذلك ما كان من الفوضى والاضطراب ,
وكتب عرابي إلى قناصل الدول يضمن لهم الأمن العام , ويقترح رجوع الأسطولين
من الإسكندرية ووضع قانون أساسي يحدد حقوق الأمير والوزراء , وجعل صلات
الدول بمصر في حقوق الدولة العثمانية. وفي تلك الأثناء أرسلت الدولة درويش
باشا مندوبًا لينظر في تلافي الأمور , فكان للأعمال ظهر وبطن , واشتبه الأمر
على الناس وحشر الأجانب إلى الإسكندرية , وهاجر الألوف منهم فزاد الخوف
وكثر الاعتداء في الإسكندرية , وتفاقم الشر بعد ذلك بحريق الإسكندرية الذي كان
بمعرفة محافظها عمر باشا لطفي بوحي خفي لا يخالف. وكان مرشد الأمير في تلك
الأطوار المستر ملت قنصل إنكلترا الذي أُمر رسميًّا من دولته بأن يترك القاهرة بعد
حضور الخديوي إلى الإسكندرية ويلازمه فيها. ثم انتحل أمير الأسطول الإنكليزي
(سيمور) سببًا للعدوان فزعم أن الجهادية تحصن قلاع الإسكندرية لأجل محاربته ,
وفي سبع بقين من شعبان بلغ الإنكليز الخديوي عزم سيمور على مباشرة القتال
بعد يومين وأشاروا عليه بأن يترك قصر رأس التين ويقيم في قصر الرمل ففعل.
وفي اليوم التالي لذلك سافر الأسطول الفرنسي ولم يترك غير سفينتين , وفي اليوم
الذي بعده أطلق الأسطول مدافعه على حصون الإسكندرية - إلخ ما كان مما لا محل
هنا لشرحه بل نكتفي بالمثل: (دم أضاعه أهله) والمراد أن الفتنة قد بلغت أشدها ,
والحرب وقعت , والاحتلال حصل , والمترجَم معتزل لأعمال الحكومة جهادية
وإدارية، حتى إذا كانت الحرب البرية ألزمه عرابي إلزامًا بقيادة فرقة الصالحية
فاضطر للقبول. ولما تمكن الإنكليز من البلاد وحاكموا رجال الثورة حكم عليه
بالنفي إلى سيلان كما هو معلوم. وبهذا انتهت سيرة حياة الرجل السياسية , ومن
عرف أخلاقه وأفكاره وأطواره يجزم معنا بأنه لم يكن في عمل عمله سيئ القصد أو
التصرف , بل كان يريد الخير لبلاده تحت سلطة أميره الذي تغذى بنعمه ونعم أبيه
وارتقى في قصرهما , ولذلك عفا أمير البلاد الحالي عباس حلمي باشا عنه عند
التماس بعض أصحابه ذلك من سموه راضيًا , وقابله بعد حضوره وأعاد له جميع
حقوقه المدنية مع شدة بغضه لغيره من زعماء الفتنة العرابية , حتى إنه ليتألم
من ذكر أسمائهم. وسنذكر في الجزء الآتي نبذة من سيرة الفقيد الأدبية , وترجمة
محسن مصر أحمد باشا المنشاوي، رحمهما الله تعالى وأحسن عزاء أهليهما
ومحبيهما.
***
(سلطان زنجبار)
خلق الله سلطان زنجبار لهذا العهد مستعدًّا للخير والإصلاح , ولقد تلقى العلوم
في مدرسة بلندن فزادته بصيرة , ولم تنقص من دينه ولا من فضائله الإسلامية شيئًا
فهو فاضل ميال إلى منهج السلف كثير المذاكرة في القرآن والسؤال والبحث في
تفسيره , وقد أمر من عهد غير بعيد بإبطال بدع أهل الطرق في اجتماعهم للذكر
وغيره , فظنوا أن هذا من تأثير المنار ولم يعلموا بدرجة بغضه للابتداع وحبه
للاتباع , وقد توجهت عزيمته الصادقة إلى إنشاء مدرسة عظيمة في زنجبار ,
والحكومة تجدّ في بنائها الآن. وقد سررنا جدًّا لهذا النبأ العظيم , ولكننا لم نقف
على قانون المدرسة ولا على برنامج التعليم فيها فنذكر رأينا فيه , وإنما وصلت
إلينا آراء عنها غير مقطوع بها على اختلافها , فقيل أنهم فرضوا على كل تلميذ
35 روبية في الشهر , وقيل أنهم جعلوا التعلم فيها مجانًا لأن العرب لم يتعودوا دفع
الأجرة على التعليم , والهنود يفضلون مدارسهم لثقتهم بها في التعليم ولكون الأجرة
فيها أقل. وهذا هو القول الأخير , ولعله الصحيح , وقيل: إن العناية ستكون فيها
موجهة إلى اللغتين الفرنسية والإنكليزية ثم العربية لأن زمامها سيكون بأيدي
الإفرنج , وقيل: لم يتحقق ذلك , فعسى أن يتفضل علينا بعض القراء بالخبر اليقين
لنبدي رأينا فيه.
* * *
(الشيخ حسين الجسر)
وفد على القاهرة في هذه الأيام أستاذنا الأول الشيخ حسين الجسر الطرابلسي
العلامة الشهير مؤلف الرسالة الحميدية، فتُلقي بالحفاوة من العلماء والفضلاء
العارفين بفضله. وهو الأستاذ الذي تلقينا عنه العلوم العقلية والنقلية ما عدا الحديث
وفقه الشافعية، فإننا أخذناهما عن شيخ الشيوخ محمود نشابة (رحمه الله) وعلى يد
هذين الشيخين تخرجنا , ومنهما أخذنا الإجازة بالتدريس وسيقيم أستاذنا الجسر في
القاهرة أيامًا ويسافر بعدها إلى الحجاز لأداء الفريضة يصحبه محمد كامل بك
البحيري صاحب جريدة طرابلس، فنسأل الله لهما السلامة في السفر والإقامة.
* * *
(هدم الألمانيين للمساجد وتعصبهم على العرب)
كتب إلينا بعض من حضر المعرض الذي أقامته الحكومة الألمانية في دار
السلام قاعدة مستعمرتها في شرقي أفريقية أنه شاهد هناك المركبات المعروفة
بالعربات يجرها الرجال , منها الحسن؛ وهم يمنعون العرب منها , ومنها الرديء
ويباح للعرب قال: (ولكن بعد أن حرموهم من النوعين) . وقال: كان لرجلين
من اليونان لهما خدمة في الحكومة بيت قريب من المسجد الجامع فكانا يشتمان
المؤذن ثم شكواه إلى الحكومة فهدمت الجامع , وأعطت المسلمين جزاء حقيرًا عنه ثم
منعته فماذا ترى؟ وكان في بلد (حالقا) جامع قريب من الساحل فاستاء منه
الألمانيون وهدموه وأعطوا المسلمين بدله محلاًّ آخر فماذا ترى؟ اهـ.
أرأيت أيها القارئ لو أن حكومة إسلامية فعلت مثل هذا ماذا يكون من أثره
السيئ عند هولاء المتمدنين وعند جميع النصارى بل وعند المسلمين؟ أتذكر أن
معاوية ومن بعده من ملوك بني أمية قد اجتهدوا في إرضاء نصارى دمشق ببدل عن
تلك الكنيسة التي أرادوا بها توسعة المسجد فلم يقبلوا لأمنهم في ظل الإسلام؟
أرأيت كيف أغضبوا الوليد بن عبد الملك وأهانوه وهددوه حتى اغتصبها وأدخلها
في المسجد , وكيف جاء عمر بن عبد العزيز بعد ذلك فحاول هدم المسجد وإرجاع
ما كان منه كنيسة إلى ما كان عليه لولا أن استرضى مسلمو دمشق النصارى كما
ذكرنا في جزء سابق، أرأيت كيف أن المسلمين متفقون على أن الوليد كان ظالمًا ,
وإن أهانوه وهددوه لأن الإسلام لا يجيز له أن ينتقم منهم لنفسه بذلك , كما أنهم
متفقون على أن عمر بن عبد العزيز هو العادل الذي جرى في هذا العمل وغيره
على منهج الراشدين. فانظر الفرق بين المسلمين يوم كانوا أقرب إلى البداوة لمكان
العمل بالدين وبين الإفرنج وهم في أعلى درجة ارتقوا إليها في العلم والتربية
والعدالة؛ يظهر لك أن الإسلام هو الرحمة الكبرى للأنام، وأن هؤلاء الإفرنج مهما
ارتقوا فإنهم أشد الناس تعصبًا لأنفسهم وإيذاء لغير أبناء جنسهم. وقد سلطهم الله
على المسلمين الذين تركوا التمسك بفضائل دينهم لعلهم يرجعون بظلمهم إياهم إلى
هذا الدين، أو يكونوا من الهالكين.
* * *
(ممباسا ولاموا أو سيئات الإنكليز في الاستعمار)
قلنا في أجزاء مضت: إن إنكتلرا أقرب دول أوروبا إلى الحرية والعدل،
وأنهم إذا لم يساعدوا أهالي مستعمراتهم على الارتقاء لا يمنعونهم منه بالقوة كهولندا
وما كان على شاكلتها , وقد كتب إلينا من زار ممباسا ولاموا من مستعمراتها أن
الأموال هناك قد قلت , والأهالي قد هلكوا لعجزهم عن مجاراة النصارى , وفتك
(ميكروبات) المدنية الأوربية فيهم؛ إذ جرفت إليهم ما جرفت إلى مصر من جند
الشهوات الفتاكة على ما فيهم من الجهل العام , ولو ارتقت الإنكليز في الرحمة
والإنسانية درجة أخرى لمنعت هؤلاء المساكين أو منعت عنهم هذه المضار ,
وسارت في هذا الأمر كما سارت في بعض الأمور على منهج المسلمين الذين
يشترط عليهم القرآن أن يأمروا في الأرض التي يتمكنون منها بالمعروف وينهوا
عن المنكر , بل كتب إلينا من زنجبار أنهم أخذوا أوقاف المساجد بحجة المحافظة
عليها. فهل فعل المسلمون مثل هذا العدوان في أيام تمسكهم بالإسلام، وقوتهم التي
دان لها الأنام؟ أوفي يوم ما من الأيام.
__________
(1) وفي الأصل إلى المقام العالي المولوي الأميري الكبيري السيدي الملكي المخدومي العضدي الذخري المجاهدي السبقي نوزور الأتابكى إلخ فحذفنا هذه النسب الأعجمية كما حذفنا ألقاب الأمير والدعاء له كلما ذكر، كما هي سنة المنار السلفية.(7/792)
غرة ذو القعدة - 1322هـ
7 يناير - 1905م(7/)
الكاتب: محمد عبده
__________
توضيح وكشف إبهام في بيان معنى
] وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ [[1]
من تفسير جزء عمَّ لمؤلفه قال أيده الله:
كنت أمس ضائق الصدر لمرض صديق أفقد بفقده معينًا على العلم يذكرني إذا
نسيت , يلومني لوم المحب إن أخطأت وأصررت.
جاءني وأنا على تلك الحال صادق في مودتي , وذكر ما يقول قائل في كلام
جاء في تفسير سورة الضحى مما وضعته على جزء عم وهو: (والسائل هو
المستفهم عما لا يعلم , وليس هو طالب الصدقة , فإن هذا اللفظ لم يرد في كتاب الله
عنوانًا للفقير والمسكين , بل جرت سنة الكتاب المبين على ذكرهما بوصفهما)
يقول القائل: كيف هذا وقد جاء (السائل) عنوانًا للفقير أو المسكين في سورتي
الذاريات والمعارج - في الأولى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات: 19) وفي الثانية {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (المعارج: 24-25) ذكر الصادق ذلك من قول القائل فكأني ذكرت به ما كنت
ناسيًا , وبادرت إلى نسخة الكتاب فأصلحت الخطأ , وعولت على أن أعلن ذلك في
الجرائد حتى لا يضل ضال ولا يتطاول جاهل، وماذا عليَّ في ذلك ولست أعلى
كعبًا في استحضار الكتاب من الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، حين هم
بعقاب من يقول: إن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم قد مات , حتى ذكره الصديق
رضي الله عنه بقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (الزمر: 30) فقال:
كأني لم أسمعها من قبل أو كما قال - وحين شدد في أمر المغالاة في المهور وهو
على المنبر , فقالت له امرأة: كيف ذلك والله يقول: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ
مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا} (النساء: 20) فتنبه
رضي الله عنه للصواب وقال: رجل أخطأ وامرأة أصابت. ومن أنا من أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في العلم بكتاب الله والإحاطة بما فيه.
لكني رجعت إليَّ بعد ذلك نفسي , فراجعت الأصول التي كانت بين يدي يوم
كتبت ما كتبت , فذكرت أنني قصدت من العنوان ما يدل على المعنى بنفسه بدون
قرينة تبينه منه , وكنت حققت معنى السائل خصوصًا في آية الذاريات , وهو
المستجدي الذي يطلب من مال غيره ولا يلزم أن يكون فقيرًا ومسكينًا , وغاية أمره
أن يظن فيه الفقر إذا أحسن الظن فيه ولم يعلم أنه طلب لحاجة عارضة , ولم يفهم
منه معنى الفقر في الآيتين إلا بقرينة المال واقترانه بالمحروم , وقد أفادت القرينة
مع ذلك أنه يملك شيئًا , ولولا هذا ما عطف عليه (المحروم) الذي لا شيء عنده،
وكذلك قوله تعالى في سورة البقرة: {وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ} (البقرة: 177) فإن قرينة إعطاء المال هي
التي دلتنا على أن السائلين هنا هم طلابه , والعطف على المساكين دليل على أن
السائل لا يلزم أن يكون مسكينًا. وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم عنه المسكنة
فيما روي من قوله: (ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان واللقمة واللقمتان
والتمرة والتمرتان) . قالوا: فما هو؟ قال: (الذي لا يجد ولا يُتَصَدق عليه) .
وقد رووا عنه أنه قال: (للسائل حق وإن جاء على فرس) وقالوا: إن
السائل هو الطالب , وقد يسمى في عرف الناس الفقير بالسائل , ولكنه في الكتاب
العزيز ليس عنوانًا للفقير والمسكين، بل يفهمان منه بالنص كما تفهم المعاني الحقيقية
من دوالها الوضعية أو الغالبة فيها , فإذا أُطلق السؤال مفردًا عن القرائن المعينة لمعناه
المراد منه لم يفهم منه الفقير على ما جرت به سنة الكتاب العزيز في التعبير.
فإن سنته جارية باستعمال السؤال في معني الطلب , لا في معنى الفقر الذي هو من
اللوازم البعيدة لضرب منه , وهو طالب المال , كما هي جارية بأنه إذا أراد
الحث على معاونة الفقراء والمساكين جاء في التعبير عنهم بما يحقق أوصافهم
ويعين المراد منهم , ولهذا يبعد أن يراد من كلمة السائل في هذه السورة الفقير؛ لأنها
ليست عنوانًا له كما ذكرنا , ولا يفهم هذا المعنى منها إلا بقرينة كما سبق.
وأبعد من هذا أن يراد منها طالب المال مطلقًا؛ فإن السياق يأباه أشد الإباء لأن
لفظ السائل لابد أن يكون في الآية دالاًّ على معنى يلاقي شيئًا مما ذكر في الآيات
التي قبل {فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} (الضحى: 9) إلخ لأن هذا التفصيل مفرع على
ما قبله , فلو أريد منه طالب الصدقة لم يتوهم أن يكون ملاقيًا إلا لمعنى العائل وهو
الفقير , والسائل ليس عنوانًا له , وقد بينا أن الذي يقابل العائل فيها هو التحديث
بالنعمة.
وإذا لم يصح ملاقيًا لشيء مما سبق إلا بحمله على المستفهم طالب البيان الذي
هو عنوان له، يتبادر منه إلى الذهن عند الإطلاق تعين حمله عليه , ويكون على ذلك
ملاقيًا لمعنى {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} (الضحى: 7) ويؤيد هذا المعنى ما ورد
في أحوال الذين كانوا يسألونه عليه الصلاة والسلام بيان ما يشتبه عليهم في أهل
الكتاب الممارون , ومنهم الأعراب الجفاة , ومنهم من كان يسأل عما لا يُسأل عنه
الأنبياء , فلا غرو أن يأمره الله تعالى بالرفق بهم وينهاه عن نهرهم كما عاتبه
على التولي عن الأعمى السائل في سورة (عبس) .
وعبارة التفسير فيها إجمال جر إلي تأليف حاشية كهذه فأستغفر الله مما
صنعت فيها , وأرجو أن لا أعود إلى مثلها.
في 22 شوال سنة 1322 ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبده
__________
(1) (الضحى: 10) .(7/815)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
التعارض والترجيح في أدلة الأحكام
الخروج بالزوجة من بلدها
(س100و101) رشيد أفندي غازي مدير ناحية بيرة الأجرد سابقًا (بالشام)
من المعلوم الذي لا يختلف فيه اثنان أن مراجعة الكتب الفقهية لا يستغني عنها أحد ,
ولذلك أصبحت قريبة المنال شأن الأشياء المحتاج إليها، إلا أن المطالع بها يقف عند
وجود الاختلاف في المسألة الواحدة - ولا سيما عند وجود ترجيح أحد القولين على
الآخر بلا دليل - متحيرًا تتوق نفسه إلى الدليل , ولم يكن ممن يتجلى له خصوصًا إذا
كانت القضية من الواقعات ولم يسعه حينئذ إلا مراجعة جهابذة الفن؛ فلذلك أقدمت
بعرض سؤالي هذا على العلماء الأعلام طالبًا منهم ترجيح أحد هذين القولين على
الآخر مع بسط دليل كل منهما , وترجيح أحد الدليلين على الآخر ليكون السؤال
والجواب عامين تتميمًا للفائدة , وهذه صورة المسألة:
المرأة إذا أراد زوجها أن يخرجها إلى بلدة أخرى وقد أوفى مهرها ليس له ذلك،
كذا اختاره الفقيه أبو الليث رحمه الله , قال الإمام ظهير الدين رحمه الله: الأخذ
بقول الله تعالى أولى من الأخذ بقول الفقيه قال الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
سَكَنتُم} (الطلاق: 6) خلاصة. بزازية. ثم المرجو أيضًا بيان ما هو المقصود
من أفعل التفضيل , وهو قوله: أولى , هل هو على بابه أم لا. وأولى بالفضل
والصواب من أجاب.
(ج) التعارض والترجيح من أدق مباحث علم أصول الفقه , ولكن قلما تجد
الفقهاء يطبقون الأحكام في كتبهم على قواعده إلا للجدل في المذاهب ومحاولة كل
ترجيح مذهبه. وأما الخلاف في روايات المذهب الواحد ووجوهه فللحنفية قواعد
أخرى فيه مبنية على تقديم بعض الكتب على بعض , وبعض الفقهاء على بعض
ويسمون هذا رسم المفتي. فمن عرف ما كتبوه في ذلك يسهل عليه أن يعرف
القول الراجح بذكر قائله أو بعزوه على الكتاب المنقول عنه وإن لم يذكر الدليل إذ
المرجح المعتمد هو العزو إلى شخص أو كتاب , دون نصوص السنة والكتاب،
لأن النظر في النصوص لا يفعله إلا المجتهدون، وقد أقفل الباب دونهم منذ قرون،
هذا ما عليه الناس , ولكن يوجد في كل عصر علماء نجباء أتقياء إذا ظهر لهم
النص لا يقدمون عليه قول أحد من المجتهدين في المذهب ولا على الإطلاق.
ومنهم من يحتج بالنص إذا وافق قولاً في مذهبه ولا يحتج به إذا وافق مذهبًا آخر
بل يؤوّله أو يَكِل فهمه إلى المجتهدين الأولين في المذهب. وخير العلماء في كل
زمان ومكان من لا يقدم على النص الثابت عن الله ورسوله كلام أحد.
أما مسألة السكنى فالآية تدل على أنه يجب على الزوج أن يسكن امرأته في
مكان يسكن هو فيه , وورودها في المعتدة إنما هو من حيث كونها زوجًا , فإن لم
تكن غير المطلقة مثلها في ذلك فهي أولى منها. وهذا مما لا نزاع فيه. وما فهمه
ظهير الدين من دلالتها على أن للزوج أن يسافر بامرأته ظاهر , وأما اسم التفضيل
فهو على غير بابه إذا قلنا أن ظهير الدين لا يجيز الأخذ بقول أحد إذا ظهر له في
الكتاب أو السنة ما يخالفه , وهو أفضل الظن به. وحجة القول الذي اختاره أبو
الليث أن السفر مضارة , والله يقول بعد الأمر بالسكنى: {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا
عَلَيْهِنَّ} (الطلاق: 6) وهما قولان في المذهب , قال في فتح القدير: وإذا
أوفاها مهرها نقلها إلى حيث شاء لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن
وُجْدِكُمْ} (الطلاق: 6) وقيل: لا يخرجها إلى بلد غير بلدها؛ لأن الغريب يؤذى،
وفي قرى المصر القريبة لا تتحقق الغربة. فأنت ترى أنه أورد القول بالمنع بصيغة
التمريض , ولكنه المرجح في المذهب لأن كثيرًا من المشايخ أفتى باختيار أبي
الليث. ولا شك أن دليل الجواز أقوى بشرط أن لا يعلم أن الزوج لا يقصد بالسفر
مضارتها لأجل التضييق عليها، ففي هذه الحالة يمنع من السفر بها دون سائر
الأحوال، والله أعلم.
* * *
نجاسة الكلب واتخاذه
(س 102) محمد أفندي صدقي في (زفتى) : نرجوكم أن تبسطوا لنا
رأيكم في نجاسة الكلبُ فغير خافٍ على حضرتكم أن في بعض المذاهب من قال
بنجاسته بين لعابه وجسمه إذا كان مبتلاًّ , وأنه إذا ولغ في إناء وجب غسله سبع
مرات إحداهن بالتراب , وبعضهم قال بعدم نجاسة جسمه ولا لعابه. فأي الفريقين
أقوى حجة؟ وهل يجوز للمسلم اقتناؤه والاختلاط به أم لا؟ ولا يخفى على
حضرتكم ما هو مشهور به هذا الحيوان من الأمانة وحرصه على صاحبه. ننتظر
من حضرتكم القول الفصل والله المسئول أن يبقيكم خير هاد إلى سبيله القويم.
(ج) ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
رخص للناس في اتخاذ الكلاب للصيد والزرع والماشية كما في صحيح مسلم وغيره
لما له من المنفعة , وأذن بأكل الصيد إذا جاء به الكلب ميتًا ولم يأكل منه. وأما
الخلاف في طهارة الكلب ونجاسته فالأصل فيه أحاديث في الصحيح تأمر بغسل
الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات , وفي بعض هذه الروايات الاكتفاء بذلك , وفي
بعضها: إحداهن بالتراب , في رواية عند أحمد ومسلم: وعفروه الثامنة بالتراب،
وأحاديث الإذن باتخاذه مع العلم بتعذر الاحتراز من ملابسته عادة. ولا ترى مذهبًا
من الأربعة أخذ بأحاديث الولوغ كلها , فالشافعية والحنابلة على وجوب الغسل من
نجاسته سبع مرات إحداهن بالتراب , وعلماؤهم يعلمون أن الحديث صح بتعفيره
الثامنة بالتراب , ومن أصولهم أن زيادة الثقة في رواية مقبولة تخصص العام وتقيد
المطلق. وصرحوا بأنه نجس العين , وقالت المالكية بطهارة عينه , وأوجبوا غسل
الإناء الذي يلغ فيه سبع مرات من غير تتريب. وقالت الحنفية بنجاسة لعابه لا
عينه , ويغسل عندهم منها مرة واحدة , ومن قال بطهارته قال أن الأمر بغسل ما
يلغ فيه للتعبد , وقيل غير ذلك مما ذكرناه في المنار من قبل. ولعل العلة الحقيقية
في ذلك الاحتياط لأنه يأكل النجاسات والجيف وأثرها ضار أو الحذر من الدودة
الوحيدة , وقد فصل هذا المعنى بعض المشتغلين بالطب في مقالة نشرت في المجلد
السادس من المنار.
وقد ورد في حديث أبي هريرة عند أحمد والشيخين وأصحاب السنن (من
اتخذ كلبًا لا كلب صيد أو زرع أو ماشية انتقص من أجره كل يوم قيراط) فاستدلوا
بهذا على كراهة الاتخاذ لغير حاجة مع الجواز. إذ لو كان محرمًا لامتنع ولو لم
يكن فيه نقص الثواب , وقد اختلفوا في سبب الكراهة؛ فقيل: لأنها تروع الناس
الزائرين والسائلين والمارين , وقيل: لأن الملائكة لا تدخل البيوت التي فيها
الكلاب , وقيل: لأن بعضها شياطين أي ضارة , وقيل لأن الاحتراز عن ولوغها
في الأواني متعسر فيترتب على ذلك عدم امتثال الأمر أحيانًا. نقول: أو ينشأ عن
ولوغها الضرر من غير أن يشعر به المتخذ , وقيل لنجاستها , وقيل لعدم الامتثال.
قال الحافظ ابن عبد البر: وجه الحديث عندي أن المعاني المتعبد بها في الكلاب من
غسل الإناء سبعًا لا يكاد يقوم بها ولا يتحفظ منها , فربما دخل عليه باتخاذها ما
ينقص أجره من ذلك. وروي أن المنصور بالله سأل عمرو بن عبيد عن سبب هذا
الحديث فلم يعرفه , فقال له المنصور: لأنه ينبح الضيف ويروع السائل. وتجد
تفصيل ذلك في فتح الباري وفي نيل الأوطار. والمختار عندنا أن الكلب طاهر
العين , وأنه ينبغي لمن يتخذه لحاجته إليه أن يحترز من ولوغه في الأواني بقدر
الإمكان. فإن علم أنه ولغ في إناء فليغسله كما ورد , وإذا غسله بمحلول السليماني،
فذلك توقٍّ من الدودة الوحيدة.
* * *
الحكمة في حرمان الأخ الشقيق
في المسألة المشتركة
(س103) ومنه: قص علينا من لا نرتاب بصدقه إشكالاً ميراثيًّا حصل
في إحدى العائلات الكبيرةُ نقصُّه على حضرتكم , وهو أنه مات عميد العائلة
المذكورة عن تركة عظيمة وله من الورثة زوجة وولدان ذكر وأنثى , وقد أخذ كل
فريق ما خصه من الفريضة الشرعية ثم تزوجت البنت بعد وفاة أبيها ومكثت مع
زوجها مدة وتوفيت ولم ترزق منه بأولاد , وكانت أمها تزوجت بعد وفاة أبيها أيضًا
برجل آخر رزقت منه أولادًا بين ذكور وإناث , ولما أراد شقيقها (من الأب والأم)
أخذ نصيبه من تركة أخته المتوفاة منع بحكم شرعي حيث قيل له: إن ورثتها
هي أمها وزوجها وأخواتها من أمها فقط , وذلك على مذهب أبى حنيفة، فما هي
الحكمة الشرعية في منع أخيها الشقيق من أمها وأبيها من الميراث، ألا يكون له أسوة
بإخوتها الذين من أمها فقط؟ نرجوكم أن تبينوا لنا (إن كان ذلك جائزًا) ما هي
الحكمة الشرعية في ذلك لا زلتم مصدر الفضائل وعميد التربية الدينية والله المسئول
أن يبقيكم خير ناصر للدين والسلام.
(ج) لم ترد هذه المسألة بنصها في الكتاب والسنة وإنما هي من فروع قوله
تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا
السُّدُسُ} (النساء: 12) فقد قالوا: إن الكلالة من لا ولد له ولا والد , وأن المراد
بالأخ والأخت هنا الإخوة لأم فقط؛ لأن الكلام في ميراثها , وذلك مأثور , فهم من
أصحاب الفرائض , وأنتم تعلمون أن الوارثين على قسمين: أصحاب فرض وهم
الذين لهم حصص معينة بالنص , وعصبات وهم الذين لهم ما يبقى بعد تلك
الحصص , وفي الغالب يكون حظهم أوفر. فالسؤال ههنا ينبغي أن يكون عن
حكمة كون الإخوة لأم أصحاب فرض إذا ورثوا دون الإخوة الأشقاء والإخوة لأب ,
وهي أنهم لبعدهم جعل لهم حصة معينة هي السدس للواحد والثلث للجمع مهما
كثروا , ولو كانوا عصبة لأخذوا التركة كلها أو جلها في بعض الأحوال كما يأخذها
الأخ الشقيق. فإذا اجتمع جمع كثير من الإخوة لأم مع أخ شقيق واحد كان لهم
الثلث وله الثلثان , وكذلك الأخ لأب عند عدم الشقيق. فأنت ترى أن العصبة
أفضل , ولذلك كان الأولاد عصبات وهم أقوى الوارثين , ولما كانت القاعدة في
الإرث أن يأخذ أصحاب الفرائض فروضهم ويأخذ العصبات الباقي؛ اتفق في هذه
الصورة أن لا يبقى لهم شيء , والمسائل النادرة لا تبطل القواعد المطردة هذا ما
جرى عليه أصحاب هذا القول.
وهناك قول آخر وهو التشريك بين الأخ الشقيق والإخوة لأم , وروي أن
المسألة وقعت على عهد عمر رضي الله عنه فقال: لم يزدهم الأب إلا قربًا ,
وورث الجميع. وعليه ابن مسعود وزيد أعلم الصحابة بالفرائض وشريح القاضي
والشافعية وهو أقرب إلى العدل على أنه اجتهادي، والله أعلم.
__________(7/817)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تاريخ السودان
القديم والحديث
كتاب ظهر حديثًا في هذه البلاد، مؤلفه نعوم بك شقير رئيس قلم وكالة حكومة
السودان في مصر. كتاب كبير يدخل في ثلاثة أجزاء تزيد صفحاتها على مائة
وألف بقطع المنار وحروفه هذه , وفيه كثير من الصور والرسوم. كتاب لم ينقله
مؤلفه نقلاً من الكتب ولم يسلك فيه طريق القصص والفكاهة , بل سلك فيه مسلك
المؤرخ المطلع المختبر الراوي الممحص , ووضعه على طريقة التواريخ الأوربية
الحديثة , فهو حسن الترتيب والتبويب حسن النقل والاختيار حسن التأليف
والاستدلال حسن الاستنباط والاستنتاج كأحسن ما ألف الإفرنج في التاريخ. اعتمد
في التاريخ القديم على ما كتب أشهر مؤرخي العرب وغيرهم من الأمم مع مراجعة
معاجم العلم الأوربية , وفي الجديد على الكتب الحديثة للإفرنج والمصريين
والسودانيين والسوريين , وعلى الروايات القولية عن الرجال الذين لقيهم في مصر
والسودان من العلماء والحكام , وعلى المشاهدة والاختبار والكتابات الرسمية. وقد
سهل له ذلك استخدام الإنكليز إياه في قلم المخابرات , ومرافقته حملة اللورد ولسلي
في السودان , وتقلبه في هذه الأعمال , ولابد أن تكون هذه الصفة الرسمية التي
مكنته من معرفة أخبار فتنة السودان الأخيرة , وحقائق أخبار الفتح المصري
الإنجليزي له بعد الحكم بانفصاله من المملكة المصرية - قد حكمت عليه بأن يكتم
بعض الحقائق ويكتفي منها بالرسمي , وهذا كل ما نظنه أو نتوهمه من النقص في
هذا الكتاب , والكمال لكتاب الله وحده.
بدأ الجزء الأول وهو في جغرافية السودان بجغرافيته الطبيعية , وفيها الكلام
على حدوده ونيله وأراضيه ومعادنه وهوائه ونباته وحيوانه وسكانه. وثنى
بالجغرافية الإدارية , وجعل الباب الثالث في حضارة السودان: لغات أهله وأديانهم
ومعارفهم وزراعتهم وصنائعهم وتجارتهم وحكومتهم، والباب الرابع في عاداتهم
وخرافاتهم وأخلاقهم. والجزء الثاني في تاريخ السودان القديم وفيه خمسة أبواب.
وأما الجزء الثالث فهو في تاريخه الحديث وصفحاته سبع مائة ونيف , وفيه خمسة
أبواب: الأول في تاريخ الفتح المصري وفيه 4 فصول، الثاني في تاريخ الثورة
المهدية وفيه 23 فصلاً، الثالث في خلافة التعايشي وفيه 10 فصول، الرابع في
استرجاع السودان وفيه 8 فصول، الخامس في السودان المصري الإنكليزي , وله
ملحق في تاريخ السودان وجغرافيته، تتبعه خريطة السودان والحبشة ومصر
وسوريا وجنوب آسيا الصغرى وبلاد العرب. وقد جعل للكتاب كله فهرسًا عامًّا
مرتبًا على حروف المعجم على الطريقة الحديثة يذكر فيها البلاد والمواقع
والأشخاص وغير ذلك. وعبارة الكتاب في غاية السلاسة والانسجام ويقل فيها
الخطأ جدًّا لا كما تراه في أكثر ما يكتب المعاصرن. وثمن الكتاب ستون قرشًا
صحيحًا , وأجرة البريد خمسة قروش. فنحث القارئين على قراءته والكاتبين على
احتذاء مثاله.
* * *
تنوير الأذهان في علم حياة الحيوان والإنسان
وتفاوت الأمم في المدنية والعمران
يؤلف هذا الكتاب الذي يدل اسمه على فضله الدكتور بشاره زلزل ويصدره
بالطبع أجزاء صغيرة , وقد صدر الجزء الأول منه في 64 صفحة , وفيه من
المباحث المفيدة ما يدل على قيمة ما وراءه , وقد صدره بجملة يقدمه فيها إلى
السلطان عبد الحميد نصر الله دولته , ويتلو ذلك صورة اللورد كرومر - فهو
كالجامع بين الضب والنون - ففاتحته فمقدمته التي يبين فيها أقسام العلم الطبيعي ,
ومعنى تسمية علم المولدات الطبيعية بالتاريخ الطبيعي , ومنشأ هذا العلم وترقيه ,
وقصور الشرقيين فيه , وفيها بحث في الترجمة والنقل أنحى فيه على مترجمي هذا
العصر , ووصف من قصورهم , وعاب عليهم نقل الألفاظ الإفرنجية التي لها
مرادف في العربية , وذكر أن منها ما هو عربي الأصل كالصندل يكتبونه سانتال ,
والقلقطار الذي يكتبونه كوالتار , قال: وبعضهم لا يفهمون للحرَّاقة معنى إلا إذا
كتبت كراكة , وإنما هي عربية الأصل أخذها الإفرنج عن العرب ولكنهم أبدلوا
الحاء كافًا لأن لفظ الحاء غير مألوف عندهم؛ أي: ليس في لغتهم. ثم عاب على
فريق من المتأدبين إيثار نقل الألفاظ المصطلح عليها عند الإفرنج على علاتها ,
وزعمهم أن تعريبها يخرجها عن الدلالة العلمية الموضوعة لها , وذكر تخبطهم في
طريقتهم هذه مع بعض الأمثلة فيها. ومن رأيه أن التعريب ينبغي أن يخص
بالكلمات التي لا يوجد في الألفاظ العربية ما يدل عليها بوجه كأسماء العلماء ,
وبعض الحيوانات الغريبة التي اكتشفت حديثًا ووضعت لها أسماء جديدة , ووعد
بأنه سيجري في كتابه هذا على أسلوب جديد , وهو البحث عن الكلمات العربية
للتعبير عن المصطلحات العلمية وتحاشي النقل (إلا حيث اقتضى التعريب) قال:
(وأزيد على ذلك أنني أهملت بعض الكلمات المترجمة مما درج عليه الجمهور
بتحديه بعض الذين استعملوها جزافًا لخروجها عن حقيقة المعنى الموضوعة له
كالزلال يريدون به بياض البيض , وإنما الزلال الماء البارد. والأح في لغة العرب
بياض البيض الذي يؤكل فهو أصح دلالة على ما يسميه الإفرنج بالألبومن. وقد
سمى القدماء إحدى رطوبات العين بالبيضية بالنسبة إلى بياض البيض , والمحدثون
يسمونها بالزجاجية، كما سموا الرطوبة الثانية من رطوبات العين بالجلدية بالنسبة
إلى الجلد وهو الجمد، ويسمونها أيضًا بردة , أما المحدثون فإنهم ترجموا اللفظ
الإفرنجي فقالوا: (البلورية) إلخ ما أورده.
فأنت ترى أن هذا المؤلف يخدم العلم واللغة معًا. وسيكون الكتاب مجلدين كل
مجلد اثنا عشر جزءًا كل جزء كهذا الجزء , وهو يطبع في مطبعة الجامعة طبعًا
نظيفًا على ورق جيد , والمباحث العلمية توضح بالرسوم والصور , فنثني على
همة المؤلف وفضله , ونحث محبي العلم على الاشتراك في الكتاب وعلى من أراده
أن يكتب إليه في الإسكندرية.
* * *
تولستوي والحرب الروسية اليابانية
هي مقالات للفيلسوف المتدين تولستوي الروسي شنع فيها على الحرب
الحاضرة أقبح تشنيع , وأيد رأيه بالحجج العقلية والدينية , ووصف غش الحكومات
لرعاياها وسوقها إياهم إلى ذبح بعضهم بعضًا بغير سبب صحيح ولا فائدة توازي
خسائر الحروب , وذم رجال الدين والكتاب والعلماء الذين يشايعون الحكومة الظالمة
بنفوذهم المعنوي ويكونون عونًا لها على ذلك. وقد انتشرت هذه المقالات في العالم
وهزئ بكاتبها المفتونون بالسياسة , ومنهم من رد عليه ردًّا علميًّا بزعمه محتجين
بأن الحرب سُنة طبيعية في الاجتماع البشري وأن فوائدها كثيرة , ولكننا نقول: إن
هذه الآراء والأفكار صحيحة في ذاتها , وإذا كان البشر لم يستعدوا لها إلى الآن
فالواجب على محبي السلام وخير البشر من حملة الأقلام أن يؤيدوها ليعدوا الناس
لها , ولعله لولا الفلاسفة والكتاب الفرنسيون وغيرهم ممن سبقوا في بيان مضار
الحروب؛ لما خطر لهذا الكاتب أن يكتب ما كتبه بل لما كان الملوك ورؤساء الأمم
يتحدثون بوجوب فصل النزاع بين الدول بالتحكيم , فحبذا ما كتب الفيلسوف. وقد
ترجم هذه المقالات العربية سيد أفندي كامل أحد طلبة الحقوق في مصر بعبارة
وأسلوب كنحو عبارة جريدة المؤيد وأسلوبها وطبعها على ورق جيد فنشكر له هذه
الهمة.
* * *
سهل القريض
هو ديوان شعر لمحمود أفندي شكري سكرتير مديرية المنيا وكله مدائح في
الاحتفال بموالد الصالحين وفي السلطان والخديوي والحكام وغيرهم , وتهانٍ ومراثٍ
للوجهاء وكل هذه الضروب من المديح مما لا نحبه , ولذلك لم نقرأ منها غير أبيات
متفرقة فعسى أن نرى بعد للناظم من الشعر في الموضوعات المفيدة ما هو خير من
هذا.
__________(7/821)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
محمود سامي باشا البارودي
ذكرنا في الجزء الماضي تاريخ نشأة هذا الرجل وترجمته السياسية ,
وهذا ما وعدنا به من سيرته الأدبية ننشرها في باب الآثار فهو أولى بها.
يقولون: إن التربية هي التي تُكَوِّنُ الرجال النابغين , وليس وراء التربية
إلا الوراثة. ونقول مع الإذعان لهذا القول: إن الإنسان ابن استعداده لا ابن
أبيه وعشيرته التي يتربى فيها ويتكيف بصفاتها وعاداتها , فإن كان العامل في
الاستعداد هو الوراثة لأحد الآباء والجدود فذاك , وإلا فإن الاستعداد الذي يولد
في بعض الناس بغير سعي منهم ولا ممن يربونهم هو الأصل في تكوّن
الرجال النابغين في كل زمان ومكان. والتربية تساعد الاستعداد في تكميل
الشخص أو تقاومه فيبقى ناقصًا , وحوادث الزمان تساعد صاحبه فيظهر أثره
أو تعانده فلا يظهر له أثر. وقد ولد محمود سامي معتدل المزاج مستعدًّا
للبلاغة والتأثير في القول وللإتقان مع الاعتدال في العمل , وقد كان الزمن
الذي نشأ فيه غير مساعد على تكوين ملكة البلاغة وسجية الشاعر المفلق ,
ولم يعرف في آبائه وعشرائه شاعر مطبوع ولا كاتب بليغ , وكان المتأدبون
لا يتنافسون إلا في مثل شعر البهاء زهير وابن الفارض فمن دونهما من
المتأخرين المتكلفين , ولكن استعداده غلب وراثته الأعجمية وتربيته القومية
فنشأ في المدرسة الحربية شاعرًا ساحرًا جامعًا بين السلاسة والمتانة , وقد قال
الشعر في شبابه فكان في بدايته خيرًا من جميع شعراء عصره في نهايتهم.
ولكن له أبياتًا زعم فيها أنه جرى في الشعر على عرق إذ ورث النظم عن
خال له , والمعالي عن جده , وهي مما يوحي معاني الشعر قال:
أنا في الشعر عريق ... لم أرثه عن كلاله
كان إبراهيم خالي ... فيه مشهور المقاله
وسما جدي علي ... يطلب النجم فناله
فهو لي إرث كريم ... سوف يبقى في السلاله
ولم يكن يحفظ لخاله ما يصح له به الحكم , ولكنه سمع أنه كان ينظم
وأن نظمه ضاع , فإن صح أنه كان بليغًا فالاستعداد مؤيد بالوراثة من جهة
أمه أو هو هي. ومن نظم المترجَم في شبابه قوله في الحرب الروسية
العثمانية:
أدور بعيني لا أرى غير أمة ... من الروس بالبلقان يخطئها العد
جواثٍ على هام الجبال لغارة ... يطير بها ضوء الصباح إذا يبدو
إذا نحن سرنا صرّح الشر باسمه ... وصاح القنا بالموت واستقتل الجند
وقال معارضًا قصيدة أبي فراس (أراك عصي الدمع) :
طربت وعادتني المخيلة والسكر ... وأصبحت لا يلوي بشيمتي الزجر
كأني مخمور سرت بلسانه ... معتقة مما يضن بها التجر
ومنها في الفخر:
من النفر الغرّ الذين سيوفهم ... لها في حواشي كل داجية فجر
إذا استلّ منهم سيدٌ غربَ سيفه ... تفزعت الأفلاك والتفت الدهر
ويا لله أرق حاشية قوله: (لها في حواشي كل داجية فجر) وما أدق
غزل خياله فيه. وأما البيت الثاني فإنه ليكاد يروع ببلاغته السامع حتى يخيل
إليه أن الأفلاك تصدعت مما تفزعت فيلمس رأسه مخافة أن يصيبه كسف
منها, ويتمثل له الدهر رجلاً فجأه العجب فالتفت إلى السبب، وليكاد يلفته ما
يتخيل من التفات الدهر، ويلم به الدهش والذعر، أو يذهب به الوهم إلى أن
التفات الدهر هو التفات أهله فيحسب كل فرد من الناس قد ألوى عنقه
وشخص ببصره مقطبًا ينظر ما يكون من فعل ذلك السيف المستل في يد ذلك
البهمة الأمثل، وجملة ما يقال في البيتين: إنهما من السحر الذي يأخذ المرء
عن نفسه ويحكم سلطان الخيال في عقله وحسه، ولكني لا أعرف صيغة
(تفزّع) في هذه المادة لغيره , ولو كان لي أن أجيز مثلها لأجزتها وقلت:
إنها مما يشتق قياسًا , فإني لا أرى لغيرها مثل روعتها.
وله من قصيدة أخرى نحو هذا الفخر:
وأصبحت محسود الجلال كأنني ... على كل نفس في الزمان أمير
إذا صُلت كفّ الدهر من غُلوائه ... وإن قلت غصت بالقلوب صدور
وله قصيدة يعارض بها دالية النابغة الذبياني , ومنها في وصف الحرب
والفرس:
ولقد شهدت الحرب في إبانها ... ولبئس راعي الحي إن لم أشهد
تتقصف المران في حجراتها ... ويعود فيها السيف مثل الأدرد
عصفت بها ريح الردى فتدفقت ... بدم الفوارس كالأتيّ المزبد
مازلت أطعن بينها حتى انثنت ... عن مثل حاشية الرداء المجسد
ولقد هبطت الغيث يلمع نوره ... في كل وضاح الأسرة أغيد
تجري به الآرام بين مناهل ... طابت مشاربها وظل أبرد
بمضمر أرِنٍ كأن سراته ... بعد الحميم سبيكة من عسجد
خلصت له اليُمنى وعم ثلاثة ... منه البياض إلى وظيف أجرد
فكأنما انتزع الأصيل رداءه ... سلبًا وخاض من الضحى في مورد
زجل يردد في اللهات صهيله ... دفعًا كزمزمة الحبي المرعد
متلفتًا عن جانبيه يهزه ... مرح الصبا كالشارب المتغرد
فإذا ثنيت له العنان رأيته ... يطوي المعاهد فدفدًا في فدفد
يكفيك منه إذا استحس بنبأة ... شدًّا كألهوب الإباء الموقد
صلب السنابك لا يمر بجلمد ... في الشد إلا رضّ فيه بجلمد
نهم العتاد إذا الشفاة تقلصت ... يوم الكريهة في العجاج الأربد
وقال عندما كان يصطلي بنار الحرب في جزيرة كريد يصفها:
أخذ الكرى بمعاهد الأجفان ... وهفا السرى بأعنة الفرسان
والليل منشور الذوائب ضارب ... فوق المتالع والربى بجران
لا تستبين العين في أرجائه ... إلا اشتعال أسنة المران
نسري به ما بين لجة فتنة ... تسمو غواربها على الطوفان
إلى أن قال:
فالبدر أكدر والسماء مريضة ... والبحر أشكل والرماح دوان
والخيل واقفة على أرسانها ... لطراد يوم كريهة ورهان
وضعوا السلاح إلى الصباح وأقبلوا ... يتكلمون بألسن النيران
حتى إذا ما الصبح أسفر وارتمت ... عيناي بين ربى وبين محان
فإذا الجبال أسنة وإذا الوها ... د أعنة والماء أحمر قان
ونظم في عهد الصبا قصيدة في العلم قال في مطلعها:
بقوة العلم تقوى شوكة الأمم ... فالحكم في الدهر منسوب إلى القلم
كم بين ما تلفظ الأسياف من علق ... وبين ما تلفظ الأقلام من حكم
وهذا الذي قاله وهو من رجال الحرب يدل على مبلغ استعداده للعلم.
ومنها:
شيدوا المدارس فهي الغرس إن بسقت ... أفنانه أثمرت غضًّا من النعم
مغنى علوم ترى الأبناء عاكفة ... على الدروس به كالطير في الحرم
من كل كهل الحجا في سن عاشرة ... يكاد منطقه ينهلّ بالحكم
كأنها فلك لاحت به شهب ... تغني برونقها عن أنجم الظلم
يجنون من كل علم زهرة عبقت ... بنفحة تبعث الأموات في الرمم
ثم وصف الشاعر منهم والكاتب والحاسب والمهندس والطبيب والخطيب
والسياسي والقانوني , وذكر التهذيب والفضيلة , وقال:
أنّى يفوز لنا قدح بفائدة ... ونحن في زاخر بالجهل ملتطم
لا تجعلوا اليأس عذرًا فهو داعية ... إلى المذلة بعد العز والشمم
لو كان يعلم حيّ أن خيبته ... من زلة الرأي لم يعتب على القسم
وقال بعد النفي يصف النوى، ويذكر الهوى، ويمثل أخلاقه، ويشكو رفاقه، وقد
سمعناها من إنشاده بعد عودته:
محا البين ما أبقت عيون المهى مني ... فشِبتُ ولم أقض اللبانة من سني
عناء ويأس واشتياق وغربة ... ألا شدّ ما ألقاه في الدهر من غبن
فإن أك فارقت الديار فلي بها ... فؤاد أضلته عيون المهى عني
بعثت به يوم النوى إثر لحظة ... فأوقعه المقدار في شَرَك الحسن
فهل من فتى في الدهر يجمع بيننا ... فليس كلانا عن أخيه بمستغني
ولما وقفنا للوداع وأسبلت ... مدامعنا فوق الترائب كالمزن
أهبت بصبري أن يعود فعزني ... وناديت حلمي أن يثوب فلم يغن
وما هي إلا خطرة ثم أقلعت ... بنا عن شطوط الحي أجنحة السفن
فكم مهجة من زفرة الوجد في لظى ... وكم مقلة من غزرة الدمع في دجن
وما كنت جرّبت النوى قبل هذه ... فلما دهتني كدت أقضي من الحزن
ولكني راجعت حلمي وردني ... إلى الحزم رأي لا يحوم على أفن
ولولا بنيات وشيب عواطل ... لما قرعت نفسي على فائت سني
فيا قلب صبرًا إن جزعت فربما ... جرت سنحًا طير الحوادث باليمن
فقد تورق الأغصان بعد ذبولها ... ويبدو ضياء البدر في ظلمة الوهن
وأي حسام لم تصبه كهامة ... ولهذم رمح لا يفلّ من الطعن
ومن شاغب الأيام لان مريره ... وأسلمه طول المراس إلى الوهن
وما المرء في دنياه إلا كسالك ... مناهج لا تخلو من السهل والحزن
فإن تكن الدنيا تولت بخيرها ... فأهون بدنيا لا تدوم على فن
تحملت خوف المن كل رزيئة ... وحمل رزايا الدهر أحلى من المنّ
وعاشرت أخدانًا فلما بلوتهم ... تمنيت أن أبقى وحيدًا بلا خدن
إذا عرف المرء القلوب وما انطوت ... عليه من البغضاء عاش على ضغن
يرى بصري من لا أودّ لقاءه ... وتسمع أذني ما تعاف من اللحن
وقد نظم في منفاه بجزيرة سيلان قصيدة طويلة في السيرة النبوية على رويّ البردة قال في فاتحتها:
يا رائد البرق يمم دارة العلم ... واحْدُ الغمام إلى حيّ بذي سلم
وإن مررت على الروحاء فأمر لها ... أخلاف سارية هتانة الديم
من الغزار اللواتي في حوالبها ... ري النواهل من زرع ومن نعم
إذا استهلت بأرض نمنمت يدها ... بردًا من النور يكسو عاري الأكم
ترى النبات بها خضرًا سنابله ... يختال في حلة موشية العلم
أدعو إلى الدار بالسقيا وبي ظمأ ... أحق بالريّ لكني أخو كرم
منازل لهواها بين جانحتي ... وديعة سِرها لم يتصل بفمي
إذا تنسمت منها نفحة لعبت بي ... الصبابة لعب الريح بالعلم
أدِر على السمع ذكرها فإن لها ... في القلب منزلة مرعية الذمم
عهد تولى وأبقى في الفؤاد له ... شوقًا يفل شباة الرأي والهمم
إذا تذكرته لاحت مخايله ... للعين حتى كأني منه في حلم
فما على الدهر لو رقت شمائله ... فعاد بالوصل أو ألقى يد السلم
تكاءدتني خطوب لو رميت بها ... مناكب الأرض لم تثبت على قدم
في بلدة مثل جوف العير لست أرى ... فيها سوى أمم تحنو على صنم
لا أستقرّ بها إلا على قلق ... ولا ألذ بها إلا على ألم
إذا تلفتّ حوالي لم أجد أثرًا ... إلا خيالي ولم أسمع سوى كلمي
فمن يرد على نفسي لبانتها ... أو من يجير فؤادي من يد السقم
ليت القطا حين سارت غدوة حملت ... عني رسائل أشواقي إلى إضم
مرت علينا خماصًا وهي قاربة ... مر العواصف لا تلوي على أرم
لا تدرك العين منها حين تلمحها ... إلا مثالاً كلمح البرق في الظلم
كأنها أحرف برقية نبضت ... بالسلك فانتشرت في السهل والعلم
لا شيء يسبقها إلا إذا اعتقلت ... بنانتي في مديح المصطفى قلمي
محمد خاتم الرسل الذي خضعت ... له البرية من عرب ومن عجم
سمير وحي ومجنى حكمة وندى ... سماحة وقِرى عافٍ وريّ ظم
قد أبلغ الوحي عنه قبل بعثته ... مسامع الرسل قولاً غير منكتم
قوله: قاربة، مؤنث قارب وهو طالب الماء ليلاً. وأرم بالتحريك ككتف
بمعنى أحد، لا يستعمل إلا في النفي. ومر بقصر الجزيرة بعد عودته من سيلان
فتذكر أيام إسماعيل , ونظم معتبرًا ومذكرًا:
هل بالحمى عن سرير الملك من يزع ... هيهات قد ذهب المتبوع والتبع
هذي الجزيرة فانظر هل ترى أحدًا ... ينأى به الخوف أو يدنو به الطمع
أضحت خلاء وكانت قبل منزلة ... للملك منها لوفد العز مرتبع
فلا مجيب يرد القول عن نبأ ... ولا سميع إذا ناديت يستمع
كانت منازل أملاك إذا صدعوا ... بالأمر كادت قلوب الناس تنصدع
عانوا بها حقبة حتى إذا نهضت ... طير الحوادث من أوكارها وقعوا
لو أنهم علموا مقدار ما فغرت ... به الحوادث ما شادوا ولا رفعوا
دارت عليم رحا الأيام فانشعبوا ... أيدي سبا وتخلت عنهم الشيع
كانت لهم عصب يستدفعون بها ... كيد العدوّ فما ضروا ولا نفعوا
أين المعاقل بل أين الجحافل بل ... أين المناصل والخطية الشرع
لا شيء يدفع كيد الدهر إن عصفت ... أحداثه أو يقي من شر ما يقع
زلوا فما بكت الدنيا لفرقتهم ... ولا تعطلت الأعياد والجمع
والدهر كالبحر لا ينفك ذا كدر ... وإنما صفوه بين الورى لمع
لو كان للمرء فكر في عواقبه ... ما شان أخلاقه حرص ولا طمع
وكيف يدرك ما في الغيب من حدث ... من لم يزل بغرور العيش ينخدع
دهر يغرّ وآمال تسرّ وأعـ ... ـمار تمرّ وأيام لها خدع
يسعى الفتى لأمور قد تضر به ... وليس يعلم ما يأتي وما يدع
يأ أيها السادر المزّور من صلف ... مهلاً فإنك بالأيام منخدع
دع ما يريب وخذ فيما خلقت له ... لعل قلبك بالإيمان ينتفع
إن الحياة لثوب سوف تخلعه ... وكل ثوب إذا ما رثّ ينخلع
فهذه القصيدة من آخر ما نظم , وفيها من آيات النذر للمغرورين بكثرة
المال والدثر، ما يستعبر له صاحب القلب، ويعتبر به من له لب.
والطبع في قوله: ما شان أخلاقه حرص ولا طبع (بالتحريك) الدنس والفساد
والكسل , وأصله من طبع (كتعب) السيف إذا علاه الصدأ. والسادر في الأخير:
المتحير , والذاهب عن الشيء ترفعًا , والذي لا يبالي ما صنع.
أثره الأدبي
منتخبات ثلاثين ديوانًا
كان للفقيد في ذوق الشعر وملكة البيان ما يُشعر به شعره، واشتهر به
دون السياسة والرياسة أمره، فهو كما ترى قد ناهز الجاهليين في القوة
والمتانة، وخاطر المخضرمين في الفصاحة والبلاغة؛ وبذ المولدين في الرقة
والسلاسة، فصح أن يلقب برب السيف والقلم، وصاحب الحُكْم والحِكَم،
وفارس الميدان والبيان، والصائل بالسنان واللسان. وما زال أهل الأدب
يعجبون بذوقه وحسن اختياره , وقد رأى بعد عودته من سيلان أن يؤلف
ديوانًا في الأدب من مختار فحول الشعراء المولدين؛ ليكون عونًا للناشئين
على طبع ملكة البلاغة العربية في النفس وتقوية سليقة الشعر في الخيال ,
فاختار دواوين ثلاثين شاعرًا فقرأها واختار منها فرائدها ورتبها في سبعة
أبواب: الأدب , المديح , الرثاء، الصفات، النسيب، الهجاء، الزهد،
والحكم، ورتب أسماء الشعراء على حسب أزمنتهم لا على حسب مكانتهم وهم:
(1) بشار بن برد (2) العباس بن الأحنف (3) أبو نواس (4) مسلم بن
الوليد (5) أبو العتاهية (6) محمد بن عبد الملك الزيات (7) أبو تمام
(8) البحتري (9) ابن الرومي (10) عبد الله بن المعتز (11) أبو الطيب
المتنبي (12) أبو فراس الحمداني (13) ابن هانئ الأندلسي (14) السري
الرفاء (15) ابن نباتة السعدي (16) الشريف الرضي (17) أبو الحسن
التهامي (18) مهيار الديلمي (19) أبو العلاء المعري (20) صردر (21)
ابن سنان الخفاجي (22) ابن حبوس (23) الطغرائي (24) الغزي
(25) ابن الخياط (26) الأرجاني (27) الأبيوردي (28) عمارة اليمني
(29) سبط التعاويذي (30) ابن عنين.
ونقول: إن بشار بن برد أولهم مات سنة 167 عن نحو تسعين سنة فهو
من أهل القرن الأول والثاني , وابن عنين - بالتصغير - توفي سنة 630 وقيل
سنة 634 أي في أوائل القرن السابع فهؤلاء فحول الشعراء المولدين في نحو
سبعة قرون , فأشعارهم هي تاريخ اللغة والأدب في هذه القرون , وقد تحامى
الفقيد في اختياره المجون , فإنه كان يكرهه قولاً فكيف يثبته كتابة. وقد وضع
تعليقًا لهذا الديوان العظيم يفسر فيه الألفاظ الغريبة والمعاني المغلقة , وسيشرع
أهله في طبعه في زمن قريب إن شاء الله تعالى.
هذا هو الأثر العظيم لفقيد الأدب وأشعر الشعراء في هذا العصر , ولك
مثل من شعره في الموضوعات المختلفة , وكان أدبه النفسي أعلى من أدبه
اللساني , وقد خانه رحمه الله في نكبته كل صلة بالناس ما عدا هذه الصلة
الأدبية , فلم يف بعهده ويرعى حقوق وده من انتفعوا بجاهه ورفده، ولكن
وفى له الأدباء والشعراء، ووادَّه الفضلاء والعلماء الذين تجمعه بهم الصلة
الروحية والمشاكلة الطبيعية، فكانوا يكاتبونه في غيبته، ويغشون ناديه بعد
عودته، وكان أشدهم له وفاء الأستاذ الإمام، ومثله من يقوم بحقوق الصداقة
حق القيام، وقد عرفناه وصحبناه في هذه المدة , وكنا نذاكره في شؤون
الإصلاح فنراه متفقًا معنا في كل ما نعتقد ونكتب في وسائل إصلاح حال
المسلمين , وكان له ولع بالمنار حتى كان أحيانًا يطلبه قبل صدوره , بل قبل
تمام طبعه فنرسل له الكراسة بعد الأخرى خالصة له من دون المحبين.
توفاه الله تعالى في ليلة الثلاثاء لخمس خلون من شهر شوال فشيعت
جنازته باحتفال عظيم , وصلى عليه الأستاذ الإمام , ولم أره صلى على ميت
غيره إلا مأمومًا , وسيجتمع شعراء مصر وأدباؤها في اليوم التاسع والثلاثين
لموته - الجمعة 14 ذي القعدة 20 يناير - عند ضريحه ويؤبنونه ويرثونه بما
نظموه من القصائد , فنسأل الله تعالى أن يرحمه رحمة واسعة , ويجعل في
ذريته خير خلف له، آمين.
__________(7/825)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(ترجمة أحمد باشا المنشاوي)
هو ابن أحمد آغا المنشاوي بن الجوهري المنشاوي نسبة إلى قرية المنشاة في
مركز زفتى من مديرية الغربية بمصر , ولد سنة 1250 وقيل 1256 ومات والداه
عن ثمانية أولاد هو أصغرهم , وترك لهم مائتي فدان فرباه أخوه الأكبر محمد بك
المنشاوي وعلمه مبادي القراءة والكتابة بالعربية والتركية , وفي الثامنة عشرة من
عمره عين معاونًا في عمال المزارع التي تسمى الدائرة السنية فعرف كيفية إدارة
الزراعة وتثمير الأرض بالطرق المنتظمة التي كان يجري عليها أمراء مصر. وقد
خلقه الله كبير النفس فحدثته نفسه بالمعالي , ولم تك المعالي يومئذ إلا في قرب
الحكام ووفرة المال فوجه نفسه إلى جمع الثروة , وكان مبدأ أمره فيها أنْ اشترى
تبنًا كثيرًا من الدائرة السنية بثمن بخس فارتفع ثمنه جدًّا حتى بلغ ثمن الحمل جنيهًا؛
فربح ربحًا عظيمًا , ثم اشترى مقدارًا عظيمًا من بذر البرسيم الأردب بجنيه فعلا
ثمنه حتى بلغ ثمن الأردب اثني عشر جنيهًا , ثم اشتغل بأعمال زراعية أخرى
فنجح فيها نجاحًا عظيمًا بكده وجده حتى وثق به إسماعيل باشا المفتش العام الذي
كان يدير دفة الحكومة المصرية في عهد الخديو إسماعيل باشا , ورقاه في عمله ,
ومن أقدر على جمع الثروة ممن كان يثق به هذا ويوليه الأعمال الزراعية؟ نعم ما
كل من تسنح له الفرص يحسن استخدامها كما استخدمها المترجَم بمهارته وحذقه
الفطري وشجاعته , وقد كانت قيمة الأرض قليلة في ذلك العهد لكثرة الضرائب
والمظالم من الحكومة حتى كأن الفلاحين كلهم عبيد للأمير لا ينالون من تعبهم في
استغلال الأرض له إلا ما يسد الرمق ويحفظ الدماء ولولا الحاجة إليهم للخدمة
والاستعباد لبخلوا عليهم بذلك اللماج، الذي كان بمثابة الدواء والعلاج، ولكن
أصحاب الجراءة والإقدام، والزلفى عند أولئك الحكام، كان يسهل عليهم من جمع
الثروة ما يعز على غيرهم , وبلغنا أن المترجَم لم يملك على عهد إسماعيل باشا
أكثر من ألف فدان، فإن صح هذا كان دليلاً على أنه لم يستعن على تحصيل ثروته
الواسعة باستبداد الحكام كما زعم بعض الناس , بل حصلها بجده واجتهاده تدريجًا.
وليرجع القارئ هنا إلى ما قلناه في مقدمة ترجمة محمود سامي باشا الأدبية من هذا
الجزء ليتذكر أن نجاح الإنسان في أعماله هو أثر استعداده وثمرة خلائقه , وقد
جرى المترجَم بحسب ميله واستعداده في طرق الإثراء , وكانت براعته في عمارة
الأرض واستغلالها أشد من براعته في امتلاكها، فقد ملك عشرة آلاف فدان كانت
غلتها نحو مائة ألف جنيه في السنة , ومن الناس من يملك في مصر أكثر من ذلك
أرضًا ولا ينال منه نصف ما كان ينال المنشاوي ريعًا , وأهل هذه الديار يعرفون
كثيرًا من معاصريهم الذين ترك لهم آباؤهم عشرات الألوف من الفدادين فأضاعوها
وانقلبوا مساكين , فلا يحسبن الجاهل أن الثروة تنال بما يسمونه البخت أو بمساعدة
أصحاب السلطة والجاه أو سنوح الفرص، بل يجب أن يعلم أن الوسيلة الأولى في
الاستعداد الفطري والأخلاق ثم العمل والجد عن علم بالميل الناشئ عن ذلك ,
فالبخت اسم لمسمى وهمي , والفرص تسنح لكثير من الناس وقليل منهم المستفيد
منها، والعلم بطرق الكسب لا يغني وحده، فكم من عالم خائب؟ والجد والكد بغير
مساعدة الأخلاق قليل الغناء , فأكثر الناس كادح ناصب في تحصيل الرزق والناجح
قليل من كثير. ومن يقول أن الحريص كالمهمل المفرط، والمقتصد كالمسرف
المضيع، والجريء كالجبان الهلوع، والسخي كالبخيل المنوع، والعزيز الكريم
كالمهين اللئيم، ومن دلائل حذق المنشاوي ومهارته في تدبير أمر الثروة أن دائرته
الواسعة لم يكن فيها من العمال والكتاب عشر ما في أمثالها من دوائر أمراء مصر
وأغنيائها الذين هم فوقه علمًا ودونه مهارة وعملاً , وكان ينظر كل شيء بنفسه ولا
يتم في الدائرة عمل إلا بإذنه وتوقيعه.
كان عزيز النفس أبيًّا ولوعًا بالشهرة بالمعالي، مغرمًا بحب المدح والثناء ,
وصاحب هذه الخلال وإن لم يقف بها عند الحدود المشروعة والموضوعة خير من
المهين المغمول المستولغ الذي لا يبالي أعده الناس مسيئًا فذموه أو محسنًا فمدحوه
كما عليه كثير من أمرائنا وأغنيائنا الذين لا همّ لهم إلا التمتع باللذات البهيمية.
ولذلك كان يدخل في المآزق ويركب الصعب لإحراز المكانة في نفوس الناس.
ومن ذلك توسطه بين عربان القطر المصري وعرابي باشا حين أراد هذا إلزامهم
بقبول ضرب القرعة العسكرية في أبناءهم فأبوا وتألبوا يبغون الفتنة، ولما أغرى
شيطان السياسة المصريين بقتل الإفرنج ومن على شاكلتهم من اليهود والنصارى
الغرباء في الإسكندرية سرى سم الاعتداء منها إلى طنطا , وطفق الرعاع يقتلون
ويضربون فانبرى الفقيد يومئذ إلى إغاثتهم فنفر عنهم طائر الفتنة , وحمل المئين
منهم على قطارين إلى بلدته القرشية فوضع كبارهم في قصره العظيم والباقين في
مزارعه هناك , فكانت لهم حرمًا آمنًا يلجأ إليه الخائف، ويفرخ روع الواجف،
وكان ينفق عليهم من سعته وجهز كثيرين منهم فسافروا بحمايته ونفقته إلى بورسعيد
فأوربا. وزعم بعض المنتقدين أنه لم يفعل ذلك إلا لما كان يتوقعه من ظفر
الإنكليز وإثابتهم إياه على صنيعته , وما كان الرجل بعيد النظر في الأمور
الاجتماعية والسياسية فيدرك ما لم يكن يخطر على بال أكثر المتعلمين والحاكمين ,
بل كان على غاية البساطة في غير الأمور الزراعية والاقتصادية , وما أرى السائق
له إلا الأريحية الفطرية وحب معالي الأمور مع الإحساس بالقدرة على ذلك لما له
من الأعوان والعصبية , وقد آوى غيره من الوجهاء بعض الناس على جبنهم
وخوفهم , ولكن لم يشتهر أمرهم , وأما عمل المنشاوي فلعظمه قد طار ذكره في
الآفاق فأهديت إليه أوسمة الشرف من دول أوربا وجمعياتها. ولكن الذين تتوجه
نفوسهم إلى الشر دائمًا لا يصدقون بأنه يوجد في الدنيا من يعمل الخير لوجه الله
تعالى أو لحب الخير. على أن الذي يطلب الحظوة عند الدول أو عظماء الناس
بفعل الخير قليل في الناس , وما كثر هذا الفريق في أمة إلا ارتقت وعظم شأنها
فالمنشاوي كان خيرًا من منتقديه وإن صدق سوء ظنهم فيه، وقد فعل مثل فعله في
مصر الأمير عبد القادر وغيره من علماء وعظماء المسلمين في الشام في إبان الفتنة
التي حدثت سنة 1860 م فهل كانوا يتوقعون أن يأخذ الفرنسيس الشام فيكافئوهم
ويرفعوا شأنهم؟ كلا ثم كلا, إنهم كانوا بباعث الدين والمروءة ينبعثون، وقد كان
من المتهمين في الفتنة العرابية وحوكم فلم يثبت عليه بما يحكم به عليه , ولكنه في
أعقاب الفتنة سافر إلى بلاد الشام وأقام مدة في بيروت كان فيها عونًا للمنفيين
المحتاجين من المصريين , ولكنه لم يسلم من شرهم فسعوا فيه إلى السلطان عندما
سافر إلى الآستانة سنة 1301 فكتبوا إلى المابين أنه متفق مع إسماعيل باشا على
تأسيس دولة عربية فلم تضره سعايتهم , وأقام في الأستانة زمنًا ثم سافر إلى تونس
فأكرم الباي ورجاله مثواه , وأنعم عليه برتبة أمير الأمراء ووسام الافتخار , ثم
سافر إلى نابولي فلقي من رجال بعض الجمعيات حفاوة وإكرامًا , ثم عاد إلى مصر
سنة 1305 وأقام في قصره بالقرشية , وكان حب الكرامة والعلاء قد نما في نفسه
فلم يكن يسعه ذلك القصر الفخيم والجنة التي أنشأها له , وفيها من كل فاكهة وكل
زهر وريحان، ما لا يكاد يوجد في مكان، ولذلك كان كثير الشئون مع الأمير
والحكومة , ولا موضع في المنار لذكر شيء من ذلك وإنما نشير إلى الهضم الذي
ناله من جراء ذلك فهب بباعث ردّ الفعل إلى العلاء والكرامة من الطريق الحقيقي
فنال لقب (محسن مصر الكبير) وهو أفضل من لقب باشا وأمير.
بُعد المترجَم عن أمير البلاد لهذا العهد زمنًا ثم قرب منه , وقيل أنه قدم هدية
لولي العهد يومئذ مزرعة تبلغ ألف فدان. واتفق في زمن هذا القرب أن سرق من
مزارع الأمير ثور لم يهتد رجال الحكومة إلى سارقه فتصدى لمساعدتهم إرضاء
للأمير , وكان من أقدر الناس على ذلك لما اعتاده بواسطة خدمه وأعوانه من
التنكيل باللصوص من أيام الاستبداد , فضرب بعض المتهمين الذين أحضرهم ,
وكان عنده مأمور مركز طنطا يبغي التحقيق , فقامت لذلك قيامة الحكومة؛ لأن
المحتلين يشتدون في إزالة السلطة الشخصية من مصر , ويعاقبون أشد العقوبة كل
من يعمل عملاً لا يجيزه له القانون لأجل إرضاء الأمير أو بوحي من قصره ,
فحوكم المترجَم وحُكم عليه بالحبس ثلاثة أشهر , وعزل المأمور تأديبًا , وعزل
مدير الغربية سعد الدين باشا بالإحالة على المعاش. فعظم الأمر على الفقيد ,
وذهب بعد خروجه من السجن إلى أوربا لينتقم من اللورد كرومر بما يكتب في
الجرائد الأوربية، سول له ذلك بعض الطامعين في ماله فقبله لبساطته , ثم رجع
يائسًا , وقد أراد بعد عودته أن يغيظ المحتلين بزيادة القرب من الأمير وتعظيم شأنه ,
فلما أراد الأمير أن يسافر للاحتفال لقناطر زفتى التمس منه أن يمر على محطة
القرشية فقبل , فأعد هناك زينة واحتفالاً لم يعرف لمثلهما نظير في القطر المصري ,
وقبيل السفر كُتِب إليه من حاشية الأمير بأن العزم قد تحوّل عن المرور من هناك
فعظم عليه الأمر جدًّا , وانكمشت نفسه حينًا لتندفع إلى العمل العظيم الذي لا خيبة
فيه ولا إضاعة بل هو الشرف الرفيع الذي يمحو كل غضاضة , وما عتم أن أنشأ
تلك الوقفية العظيمة التي نوهنا بها في السنة الماضية (المجلد السادس) فعمَّ
إحسانه العلماء والفقراء من جميع الملل.
ولما توجهت نفسه للخير والبر بالسخاء الحاتمي صار يكثر معاشرة أهل
الخير والعلم , فوثق عرى وداده بالشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية , وصار
يكثر زيارته ويستشيره في شئونه , وقد عرفناه في أثناء ذلك. وكنت كثيرًا ما
أحدث الشيخ فيما تتوق إليه نفسه من السعي في إنشاء مدرسة جامعة في مصر
تكون في ضواحي القاهرة , فكان يشكو من بخل الأغنياء وجهلهم بفائدة هذا العمل
الذي لا يتم إلا بمبلغ عظيم , فلما اتصل المنشاوي به رغبه في هذا العمل الذي
يكبر على غير نفسه الكبيرة ويده المبسوطة فوعد بأنه سيفعل , ولما وقف تلك
الأرض التي قيل أن ريعها يناهز أربعين ألف جنيه في السنة , وهو في الحقيقة
لا يقل عن 25 ألف جنيه - خفنا أن يكون رجع عن رأيه فإذا هو لم يرجع , وكنت
كلما لقيته أحدثه في أمر المدرسة وأعظم من شأنها حتى إنني رأيته في غرة
رمضان من السنة الماضية فأقسم لي بالله أنه سيكلم في ذلك النهار أحد الأمراء في
شراء قصر له (بشبرا) لينشئ المدرسة فيه مؤقتًا إلى أن يبني لها البناء الذي يليق
بها , ثم علمت أنه كلمه ولم يتفق معه على الثمن. وبلغ الخبر أرباب الجرائد
فطفقوا يذكرون المدرسة الكلية الجامعة بما يزيد في تشويقه رحمه الله حتى إذا كان
يوم السبت (10 شوال الماضي) كتب إلى مجلس النظار كتابًا يطلب فيه أن تبيعه
الحكومة عشرة آلاف فدان معينة (كانت باعتها من رجل أجنبي بثمن وشروط لم
يستطع القيام بها ففسخت البيع) ليجعلها وقفًا على مدرسة كلية يريد إنشائها في
مصر بالقرب من القاهرة , ومن عادة الحكومة أن تبيع الأرض للمدارس والأعمال
الخيرية بثمن بخس , والفقيد طلب هذه الأرض بمثل الثمن الذي كانت باعتها به ,
وكتب إليها أنه يوقع على حجة الوقفية في الوقت الذي توقع له المالية على عقد
البيع. ثم توسل بالمفتي إلى نظارة المعارف بأن توصي الحكومة بالتعجيل بعقد
البيع منه , ووعدها بأن تكون المدرسة تحت رعايتها , وقد ذاكر وكيل المعارف
ناظرها في ذلك , فكتب للحكومة أحسن توصية , وبلغنا أن الحكومة قبلت ولو أمهل
القدر الرجل إلى آخر الأسبوع لتم الأمر , ولكن عاجلته المنية فاختطفته من مصر
في يوم الثلاثاء (13 شوال الموافق 20 دسمبر) فكان فقده خسارة علمية هيهات
تعوض بالألوف من هؤلاء الأغنياء البخلاء.
وقد كنا زرناه في ذهبيته بعد عيد الفطر وتحدثنا في أمر المدرسة فقال: إنني
الآن قد بدأت بضرب الطوب (الآجر) لأجل البناء في الصيف الآتي. وأخبرنا
عن المكان الذي سيبني فيه وهو في أرض له تعرف ببسوس على ضفة النيل ,
وأخبرنا أنه كان عازمًا على شراء مراكب بخارية صغيرة من النوع المعروف
بالرفاص لأجل نقل أساتذة المدرسة الذين يقيمون في القاهرة مع التلامذة الخارجيين
صباحًا ومساءً في النيل , ووعدنا بأن سيطلعنا على ذلك المكان فيا حسرة العلم
والبلاد عليه.
هيهات أن يأتي الزمان بمثله ... إن الزمان بمثله لبخيل
ومن كرمه الحاتمي أنه تبرع بألفي جنيه لمساعدة السكة الحديد الحجازية ,
واقتدت به حرمه فتبرعت بخمس مائة جنيه , وقد جمع لذلك مالاً كثيرًا بسعيه فأنعم
عليه السلطان برتبه بيلربكي. ومن الدلائل على حسن خاتمته رحمه الله تعالى أنه
قبل موته بيوم طاف على جميع الذين كان بينه وبينهم مغاضبة أو عداوة فصالحهم
على عزة نفسه وشدة ضغنه , فلم يقبضه الله تعالى إلا بعد أن زكى نفسه من الحرج
على الناس. فنسأل الله تعالى أن يحسن إليه في الآخرة أضعاف ما أحسن إلى عباده
في الدنيا , وأن يتجاوز عن جميع ما سلف منه بمغفرته وإحسانه.
أشرنا في الجزء الماضي إلى ما كان لتشييع جنازة المترجَم من المشهد الذي
لم نر مثله لأحد من الأمراء والعلماء , ونزيد الآن بيانًا فنقول: إن الشوارع كانت
غاصة بالناس من شاطئ النيل حيث كانت ذهبيته التي توفي فيها إلى محطة مصر
إذ نقل من المحطة إلى طنطا لأجل دفنه في القبر الذي أعده لنفسه. وكان الازدحام
على أشده من ميدان الأزبكية إلى المحطة , وكان في مقدمة المشيعين مفتي الديار
المصرية وأحد حجاب الأمير نيابة عنه , وكثير من العلماء والوجهاء من جميع
الطوائف والملل المقيمة في مصر , ولكن لم نر في ذلك الجمع الكبير أحدًا من أسرة
الأمراء ولا من النظار حتى كأنهم ليسوا من الأمة كما قيل. وكان المشهد في طنطا
على نحو ما كان في مصر , وزاده تأثيرًا هناك اجتماع تلامذة مدرسة الجمعية
الخيرية فيها و300 تلميذ من تلامذة مدارس جمعية العروة الوثقى في الإسكندرية
معهم الموسيقى الخاصة بهم جاءوا مع أعضاء إدارة الجمعية في قطار خاص بهم
لأجل تشييع الجنازة , وقد حمد الناس من هؤلاء الأعضاء الأكارم هذه العناية
وعدوها من شكرهم لفضل الفقيد على مدارسهم لا سيما مدرسة محمد علي الصناعية
التي لم تكن لولاه شيئًا يرجى ثباته.
مات رحمه الله تعالى عن زوجة كان مغبوطًا بها محترمًا لها أشد ما احترم
رجل امرأته , وما ذلك إلا لأنها بحسن معاملتها قد عرفت كيف تملك قلبه. وعن
شابين وبنت متزوجة وهم من غير زوجته التي مات عنها وأحد الولدين مسجون ,
وقد توجهت قلوب الناس إلى الأمير بالعفو عما بقي من مدة سجنه. وقد رضي
المسجون بأن يجعل أخاه المطلق يوسف بك قيمًا عليه. فحوم الذين اعتادوا
الاستفادة من تركات الأغنياء بالتحريش بين الوارثين وتوريطهم في الشكاوي
والدعاوي على يوسف بك هذا وأنشؤوا يوسوسون له ليوقعوا بينه وبين وكيل الدائرة
بسيوني بك الخطيب وبقية الورثة. فإذا فطن لأمرهم وعرف تأثير أمثاله ووعى
أقوال النصحاء المخلصين يرى أن هذا الوكيل كان محل ثقة أبيه الذي خبر الناس
وبلاهم , وأن ثروته كانت تزيد على عهده , وأراضيه وأملاكه تزداد عمرانًا وريعًا ,
وعند ذلك يغفل وسوسة الموسوسين ويبقى كل شيء على حاله , وإلا فإنه يخسر
بالقضايا والمشكلات أضعاف ما توهمه شياطين الإنس الآن أنه يخسره بالمسالمة
فينعم زمانًا قصيرًا ثم يعود - حماه الله - إلى حال المساكين , والعاقبة للمتقين.
* * *
(وفاة الشيخ محمد محمود الشنقيطي)
لم ترقأ دمعة عين الأدب المنسجمة على محمود سامي , ولم يهدأ روع محبي
العلم والخير حزنًا على أحمد المنشاوي حتى فجع العلم وأهله بوفاة الشيخ محمد
محمود الشنقيطي العالم اللغوي الشهير في مساء يوم الجمعة لسبع بقين من شوال.
فقد فقدت مصر بل الأمة العربية في هذا الشهر ثلاثة رجال لا خلف لهم فيمن
نعرف من أبنائها. مات رحمه الله بمرض انحلال الشيخوخة عن سن تناهز
التسعين فيما نظن , وكان حضر تشييع جنازة صديقه محمود سامي باشا ومشى
فيها قليلاً , ثم عاد عاجزًا عن متابعة السير. وقد شيعت جنازته ظهر اليوم التالي
على السُّنة التي كان يحبها وينتصر لها على نفقة صديقه الشيخ محمد عبده مفتي
الديار المصرية , ومشى فيها أهل الصفاء والوفاء من العلماء والفضلاء العارفين
بفضله , ولم يترك رحمه الله ما يورث عنه , وجميع كتبة النفيسة موقوفة ووصيه
الشيخ محمد عبده , وقد وضعت امرأته بعد وفاته وقبل صدور هذا الجزء غلامًا
يسمى باسمه. نسأل الله أن يجعله من أهل الحياة ليربيه وصيه الحكيم أحسن
تربية. وسنذكر ترجمة الفقيد في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
* * *
(رأي في احتلال فرنسا لمراكش)
جاء في رسالة لمكاتب المؤيد في باريس علي أفندي زكي نشرت في العدد
4457 منه ما نصه:
(فحق على كل محب للمراكشيين أن يبحث عن وجوه سعادتهم , وإني ممن
لا يرون في التداخل الفرنساوي بالبلاد المراكشية أدنى ضرر على شرط أن يكون
هذا التداخل غير ماس باستقلال البلاد المراكشية من جهة ولا بسياج دين أهلها ولا
بكرامتهم.
وإن كل مطلع على تاريخ البلاد وكيفية استعمارها يحكم أن مراكش لا يمكنها
أن تقوم بنفسها بما تقتضيه راحة رعاياها وسعادة بنيها , بل لا بد لها من مساعد
يساعدها ويمدها بالمال والرجال حتى تخرج من أزمتها الحالية , وإذا نظرنا إلى
الدول جمعاء نرى أن الدولة القريبة منها المشتركة معها في صوالحها هي الدولة
الفرنساوية , ولكن هذا لا يمنعنا أن نكون ضد سياسة فرنسا إذا أرادت مس استقلال
البلاد المراكشية , بل ويلزمنا محاربتها بأقلامنا وبكل جهد استطعنا حتى نرجعها
إلى صوابها) اهـ.
ويا ليت شعري ماذا فعلت محاربة إنكلترا بالأقلام لإخراجها من مصر؟ وهل
فرنسا أضعف من إنكلترا وأشد خوفًا من أقلام أمثال هذا الكاتب السياسي؟
* * *
(معاهد العلم الديني في الإسكندرية)
أمر الأمير منذ عامين بأن يكون طلاب العلم في الإسكندرية تابعين للجامع
الأزهر في قانونه ونظامه وعين الشيخ محمد شاكر الذي كان قاضي القضاة في
السودان شيخًا لعلماء الإسكندرية لأجل إدارة نظام التعليم فيها. وقد خصص في
ميزانية ديوان الأوقاف لسنة 1905 ست عشرة وأربع مائة وأربعة آلاف جنية من
ريع الأوقاف الخيرية لنفقات التعليم في الإسكندرية , وقد سار الشيخ محمد شاكر في
ذلك على نظام نذكره بعد.
__________(7/833)
16 ذو القعدة - 1322هـ
22 يناير - 1905م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أخذ الأجرة على القرآن
(س104) أ. ف. في الإسكندرية: قرأنا في مناركم نقلاً عن الأستاذ
الإمام عند تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} (البقرة:
188) إلخ الوجوه التي يعتبر أخذ المال فيها محرمًا , وفيها ما يؤخذ على العدد
المعلوم من سورة يس - وأن القراءة لا تحقق إلا إذا أريد بها وجه الله خالصة , فإذا
شابت هذه النية شائبة فقد أشرك بالله غيره في عبادته بالتلاوة - وكذا من يقرأ
القرآن لأخذ الأجرة لا غير فإذا لم تكن لا يقرأ , وعلم من ذلك أن الحرمة على
المعطي والآخذ , فإذا كان الأول يعطي بمحض إرادته , وإذا كان النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله) فكيف تكون الحرمة؟
وكيف الجمع بين القولين؟
والحديث كما لا يخفى رواه البخاري عن ابن عباس في (كتاب الطب) وهو
حجة الشافعي (كما سمعنا) على جواز أخذ الأجرة على القراءة , وحجة أبي حنيفة
على جواز أخذها على الرقى. أسعفونا بالجواب فأنا كالظمآن ينتظر ورود الماء ,
ولكم الفضل أولاً وآخرًا.
(ج) حمل بعض العلماء الأجر في الحديث على الثواب لأجل الجمع ,
وخصه بعضهم بالرقية , وينبغي أن تكون صلحًا على شفاء لديغ , فإن شفي استحق
الراقي الأجرة كما كانت واقعة الحال لأن ما جاء على خلاف القياس لا يقاس عليه ,
وقد تقدم الكلام على الرقية بالقرآن ونفعه في شفاء المرضى أو عدم نفعه في
الكلام على المسائل الزنجبارية. ومنها يعرف أنه على خلاف القياس. ومن
الأحاديث المعارضة له ما رواه أحمد والبزار من حديث عبد الرحمن بن شبل عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه , ولا تجفوا
عنه , ولا تستكثروا به) . ورجاله ثقات , وما رواه أحمد والترمذي وحسنه من
حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرءوا القرآن
واسألوا الله به فإن من بعدكم قومًا يقرءون القرآن يسألون به الناس) وما رواه
أبو داود من حديث سهل بن سعد وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرءوا
القرآن قبل أن يقرأه قوم يقيمونه كما يقام السهم يتعجل أجره ولا يتأجل) , وما رواه
أيضًا من حديث جابر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ
القرآن , وفينا الأعرابي والعجمي فقال: (اقرءوا فكل حسن , وسيجيء أقوام
يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه) فهذا وما ذكر في التفسير كافٍ في
بيان الحق , وجعل حديث الرقية خاصًّا بتلك الواقعة وما كان في معناها , وهي تدل
على أن الأجرة كانت محرمة، فإن الراقي لما أخذ الشاء أنكر عليه رفاقه من
الصحابة حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأذن لهم بأكلها , وكانوا استضافوا
أولئك العرب من المشركين فلم يضيفوهم , فرقى أحدهم لهم سيدهم وكان لديغًا على
أن يعطوه القطيع إذا شفي. فأنت ترى أنهم كانوا مضطرين ومحتاجين , ولا يقال
أن المعطي يعطي برضاه فإن العقد فاسد , وهذه شبهة مستحل الربا. والشافعي لم
يقل ما ذكر , وإنما هو بحث للشافعية في صحة الإجارة وعدمها.
***
حياة البرزخ وحياة الآخرة
(س105) يوسف أفندي هندي في بريد (بور سعيد) : أكد لي أحد طلبة
العلم بالأزهر الشريف أن الميت يشعر ويحس ويتألم ويسمع كل ما قيل أمامه حتى
وطء النعال على قبره , واستشهد بحديث عمر: (ما أنت بأسمع منهم) . وإني
شاك في ذلك لبعده عن التصور , وعدم تسليم العقل به مباشرة لأسباب، منها: عدم
تألم المرء بما يفعل بجسمه إذا خدر بدنه بالمادة المغيبة (البنج) والروح فيه , فما
باله بعد مفارقتها بدنه , ومنها أن الميت في بورسعيد يوضع في صندوق ويلقى في
حفرة رملية ويهال عليه التراب , ولا شك أن الأرض تغور به لأنها رملية فهل
يسلم العقل بأن الميت يشعر بهذا كله ونحوه , أرجو التكرم بشرح الحقيقة مأجورين.
(ج) ولع كثير من الذين يشتغلون بعلم الدين بالكلام في الغرائب , ولا
أغرب من أمور عالم الغيب , واحتجوا عليه بالروايات حتى الضعيفة والموضوعة
وأدخلوا فيه القياس على ما رووا , بل منهم من احتج فيه بالرؤى والأحلام حتى
قالوا وكتبوا ما يحمل كثيرًا من الضعفاء على الشك في أصل الدين. ومن ذلك أن
الأموات يأكلون في قبورهم ويشربون ويغشون النساء. والحق المجمع عليه أن
حياة الآخرة من أمور عالم الغيب , فما ورد فيها من النصوص القطعية عن الله
ورسوله نؤمن به من غير بحث في كيفيته , ونؤمن مع ذلك أن عالم الغيب ليس
كعالم الشهادة فلا نقيس حياة الآخرة على الحياة الدنيا في شيء. والعقل لا ينافي
هذا لأنه يدلنا على أن الذي وهبنا هذه الحياة قادر على أن يهبنا بعد الموت حياة
أخرى أرقى منها أو أدنى , وقد اختلف المسلمون في حياة البرزخ فقال الأكثرون:
إن الميت يحيا بعد الدفن لأجل السؤال , وأنه يعذب بعد الموت قبل البعث يوم
القيامة , وعليه جمهور أهل السنة لأحاديث وردت في ذلك , ولكن هذه الحياة
عندهم غيبية لا يقاس عليها.
ونقل صاحب (لوائح الأنوار البهية في شرح عقيدة الفرقة المرضية) عن
الإمام ابن حزم في كتاب الملل والنحل أن من ظن أن الميت يحيا في قبره قبل يوم
القيامة فقد أخطأ لأن الآيات تمنع من ذلك يعني قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} (غافر: 11) , وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ
أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} (البقرة: 28) قال: ولو كان الميت يحيا في
قبره لكان الله تعالى قد أماتنا ثلاثًا وأحيانا ثلاثًا , وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من
أحياه الله آية لنبي من الأنبياء - ثم ذكر قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف،
والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها - أي أن الآيات تجيء على خلاف
الأصل , والأصل هنا أنه لا حياة بعد الحياة الدنيا إلا حياة الآخرة , وذكر في
الاحتجاج قوله تعالى: {وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسْمًّى} (الزمر: 42) أي
يرسل روح الذي يموت إلى يوم القيامة فلا حياة له قبلها , ثم قال ابن حزم: ولم
يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر صحيح أن أرواح الموتى ترد
إلى أجسادهم عند المسألة , ولو صح ذلك لقلنا به , وإنما تفرد بهذه الزيادة من رد
الأرواح إلى القبور المنهال بن عمرو وليس بالقوي , تركه سعيد وغيره وقال فيه
المغيرة بن مقسم الضبي وهو أحد الأئمة: ما جازت للمنهال بن عمرو قط شهادة
في الإسلام على ما قد نقل , وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك. (قال) وهذا
الذي قلناه هو الذي صح عن الصحابة , وذكر آثارًا عنهم تؤيد ما قال.
وقد أورد صاحب اللوائح ردًّا عليه لابن القيم قال: إن أراد ابن حزم بقوله:
(من ظن أن الميت يحيا في قبره فقد أخطأ) الحياة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها
الروح بالبدن وتصرفه وتدبره ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس فهذا خطأ
كما قال , والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص. وإن أراد به حياة أخرى غير هذه
الحياة بأن تعاد الروح إليه إعادة غير المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا
حق ونفيه خطأ , وقد دل عليه النص الصحيح الصريح وهو قوله: (فتعاد روحه
في جسده) في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما وساق الحديث , وهو عند
أحمد وأبي داود , ثم ذكر أن قوله فيه: (ثم تعاد روحه في جسده) لا يدل على
حياة مستقرة , ثم ذكر أن تعلق الروح بالبدن من أول التكوين إلى يوم القيامة خمسة
أنواع ذكرها المؤلف وهذا نوع منها. أي وهو غيبي لا نعرف حقيقته. ثم ذكر أن
جرح المنهال خطأ وذكر من وثقه , وأن أعظم ما قيل فيه أنه سُمع صوت غناء من
بيته. وأما حديث أهل القليب وقوله عليه الصلاة والسلام: (ما أنتم بأسمع لما
أقول منهم) فهو يدخل في الآيات , فقد قال قتادة رضي الله عنه: أحياهم الله
تعالى حتى سمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال الحلبي في سيرته:
أقول: المراد بإحيائهم شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى صاروا كالأحياء في الدنيا
للغرض المذكور , ولا يعد أن يريد أن أرواحهم هي التي سمعت؛ فإنها هي التي
تدرك وتعقل، فلا تتوقف صحة الحديث على رجوعها إلى الأجساد , ولكن هل يقاس
على النبي غيره في مخاطبة الأرواح، والقائس لا يعرف حقيقة ما به القياس؟ أم
يعطي الله لكل أحد يكلم الموتى من الآية في أسماعهم ما أعطى نبيه عليه الصلاة
والسلام؟ كلا فعلم مما تقدم أن ما سمعتموه من أن الأموات أحياء غير صحيح، بل
هو تناقض صريح، والله أعلم.
***
دعوى الولاية والتصرف في الكون
(س106) الشيخ أنور محمد يحيى في (الإبراهيمية) : ظهر في بلدة
الإبراهيمية رجل يسمى الشيخ.... . بالتصوف ومشيخة الطريق فأخذ عليه العهد
نحو ثمانين شخصًا لما له من الشهرة بالصلاح , فراودت نفسي أن آخذ عليه العهد
وأتخذه مرشدًا , فلما اجتمعت مع أحد تلامذته وسألته عن أحوال هذا
الأستاذ؛ أقسموا لي بالله ثلاثًا أنه يوجد في تلامذته من تفوق رتبته رتبة سيدي
أحمد البدوي وأن له التصرف في الكون , فأنكرت ذلك عليه فسألني ثانيًا: أتنكر ذلك؟ فقلت له: نعم. فأجابني بأنه لا بد من أن يصيبك مرض شديد لأنك
مصر على إنكار التصرف , فصرت منتظرًا حدوث المرض كما أوعدني فلم
يحصل , فهل يجوز لنا أن ننكر على هذا شرعًا أم لا؟ بينوا لنا....
(ج) جاء في كتب العقائد أنه لا يجب على أحد أن يصدق بأن فلانًا بعينه
من أولياء الله تعالى وإن ظهرت الخوارق على يده. وإننا نذكر لك ما جاء في
اللوائح عند شرح قوله:
وكل خارق أتى عن صالح ... من تابع لشرعنا وناصح
فإنها من الكرامات التي ... بها نقول فاقف للأدلة
قال في تفسير الصالح: وهو الولي العارف بالله وصفاته حسب ما يمكن،
المواظب على الطاعات المجتنب عن المعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات
والشهوات من ذكر وأنثى إلخ , وقال في تفسير ناصح: لله ولرسوله ولكتابه
ولشريعة النبي صلى الله عليه وسلم التي أتى بها عن الله , وناصح لأئمة المسلمين
وخاصتهم وعامتهم فإن الدين النصيحة إلخ , ثم قال في سياق النقل عن ابن
حمدان حقيقة الكرامة: ولا تدل على صدق من ظهرت على يده فيما يخبر به عن
الله تعالى أو عن نفسه ولا على ولايته لجواز سلبها وأن تكون استدراجًا له. يعني
أن مجرد الخارق لا يدل على ذلك , ولذلك قال: ولا يساكنها ولا يقطع هو بكرامته
بها , ولا يدعيها , وتظهر بلا طلبه تشريفًا له ظاهرًا , ولا يعلم من ظهرت منه هو
أو غيره أنه ولي لله تعالى غالبًا بذلك وقيل: بلى. ولا يلزم من صحة الكرامات
ووجودها صدق من يدعيها بدون بينة أو قرائن خالية تفيد الجزم بذلك وإن مشى
على الماء أو في الهواء أو سخرت له الجن والسباع حتى تنظر خاتمته وموافقته
للشرع في الأمر والنهي. فإن وجد الخارق من نحو جاهل فهو مخرفة ومكر من
إبليس وإغواء وإضلال.
فهذا نص عالم من أشد الناس انتصارًا للكرامات وإنكارًا على منكريها من
المسلمين كالأستاذ أبي اسحق الإسفرايني والشيخ عبد الله الحليمي من أئمة الأشاعرة
وغيرهم من الفرق. وتفسيره للولي يؤخذ من لفظه فإن معناه الناصر والموالي ,
ولا يكون ناصرًا لدين الله ومواليًا له إلا بالعلم والعمل بالكتاب والسنة والنصيحة لله
ورسوله بإقامتهما , والنصيحة لأئمة المسلمين وهم السلاطين والأمراء الذين يحرم
منافقو هذا الزمان نصيحتهم ويلعنون الناصح لهم , ولعامتهم. ثم إنه يذكر أن الولي
لا يدعي الكرامة ولا هي تكون باختياره وتصرفه , ولكن إذا وقع له أمر خارق
للعادة حقيقة يحمل على أنه إكرام من الله وعناية منه به , ولكن ما كل من يظهر
على يده الخارق يكون وليًّا بل ربما يكون ذلك استدراجًا له، وإذا كان جاهلاً أو
عاصيًا فإننا نجزم بأن ما ظهر على يديه استدارج له ليزداد إثمًا، هذا إذا لم يظهر لنا
أنه حيلة وشعوذة , ولذلك اشترط رحمه الله العلم الجازم بوقوع الخارق. فكيف حال
هؤلاء الأدعياء الجهلاء الذين يخدعون العوام بدجلهم وحيلهم ويهددون ضعفاء العقل
بالأمراض والمصائب إذا هم أنكروا عليهم حتى كأن الكرامات صناعة لهم وسلاح
يحاربون به الناس لأكل أموالهم بالباطل والسيادة عليهم بالبهتان.
لا تصدق أحدًا يدعي الولاية أو الكرامة أو يبث التلامذة والأعوان لدعواها
وإن أنذر بعض الناس بالمرض فمرض , فإن الدعيَّ دعيّ , ولا يغرنك ما تكتبه
الجرائد التي تسمى إسلامية عن بعض أهل الجاه منهم , وأنكر عليهم وانصح
للمسلمين بالإعراض عنهم , ووالِ من والى الله ورسوله بالعلم والعمل والنصح
للمسلين. وتبرأ من العصاة الجاهلين.
__________(7/855)
الكاتب: محمد الخضري
__________
انتقاد شواهد تفسير ابن جرير الطبري
تابع لما قبله
(35) أقوى وأقفر من نعم وغيرها ... هوج الرياح بهابي الترب موّار
ورد في الجزء 27 ص 104 وكتب بدل بهابي الترب: بها في
الترب. والبيت من قصيدة النابغة التي أولها:
عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار ... ماذا تحيون من نؤى وأحجار
(36) ونركب خيلاً لا هوادة بينها ... ونعصي الرماح بالضياطرة الحمر
نعصى بالرمح أي نضرب به ونطعن , ويروى بدلها: ونسقي.
وجاء البيت شاهدًا في موضعين (1) في الجزء 17 ص 18 وأنشد هنا
صحيحًا (2) في الجزء 20 ص64 وكتب هكذا:
وتركت خيلاً لا هوادة بينها ... تسقي الرماح بالدياضرة الحمر
والبيت لخداش بن زهير العامري.
(37) كأنها برج روميّ يشيده ... بانٍ بجصّ وآجر وأحجار
ورد في موضعين (1) في الجزء 19 ص 18 وكتب هنا صحيحًا (2) في
الجزء 29 ص 129 وكتب بإسقاط كلمة (بانٍ) حتى انكسر البيت.
(38) بجيش تضل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيه سجَّدًا للحوافر
من أبيات لزيد الخيل وجاء في موضعين: (1) في الجزء الأول ص 229 وكتب
هكذا:
تجمع فضل البلق في حجراته ... ترى أولاؤكم فيه سجدًا للحوافر
(2) في الجزء الأول ص 277 وكتب هكذا:
تجمع ظل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيها سجدًا للحوافر
ويظهر أن هناك رواية بجمع بدل بجيش، ولكن المبرد روى في كامله الأبيات
الأربعة هكذا:
بني عامر هل تعرفون إذا غدا ... أبو مِكنَف قد شد عقد الدوابر
بجيش تضل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيه سجدًا للحوافر
وجمع كمثل الليل مرتجس الوغى ... كثير تواليه سريع البوادر
أبت عادة للورد أن يكره الوغى ... وحاجة رمحي في نمير وعامر
(39) لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم ... طفحت عليك بناتق مذكار
من كلمة للنابغة الذبياني يهجو زرعة بن عمرو بن خويلد، وجاء شاهدًا في الجزء 9
ص69 وكتب الشطر الثاني هكذا:
دحقت عليك نتائق مذكار
(40) كأن رماحهم أشطان بئر ... بعيد بين جاليها جرور
من أبيات لمهلهل بن ربيعة، وجاء شاهدًا في الجزء السابع ص170، كتب الشطر
الثاني هكذا:
بعيد بين حالبها حرور ... جال البئر وجولها جانبها
(41) غلام رماه الله بالحسن يافعًا ... له سيمياء لا تشق على البصر
ورد في موضعين (1) الجزء 3 ص60 وكتب في الشطر الثاني سيماء
بدون ياء قبل الألف , وهذا تحريف به ينكسر البيت و (2) في الجزء 8 ص
130 وكتب هنا صحيحًا إلا أنه ترك همز سيميا.
(42) قعودًا لدى الأبواب طلاب حاجة ... عوان من الحاجات أو حاجة بكرا
للفرزدق، وورد في موضعين (1) في الأول ص260 (2) في السابع ص172
وهنا استبدل طالب بطلاب وهو تحريف يختل معه قوام البيت.
(43) أتوني فلم أرض ما بيتوا ... وكانوا أتوني بأمر نكر
لأنكح أيمهم منذرًا ... وهل ينكح العبدَ حر لحر
ورد في الخامس ص105 وكتبا هكذا، وأحيلا على عدد 7:
أتوني فلم أرض ما بيتوا ... وكانوا أتوني بشيء منكر
لا ينكح إليهم منذر فهل ... ينكح العبد حر بحر
(44) وأشهد من عوف حلولاً كثيرة ... يمجون سب الزبرقان المزعفرا
ورد في الثاني ص26 وكتب بدل حلولاً حؤلاً، وهو غلط , والحلول جمع حالّ
مثل شاهد وشهود , وكتب بدل سبّ: بيت، وهو خطأ أيضًا , والسب بالكسرالثوب
الرقيق. هكذا رواه اللسان في مادة س ب ب ولكن رواه في مادة ح ج ج بيت
ولكنه خطأ.
(45) ما كان يرضى رسول الله فعلهم ... والطيبان أبو بكر ولا عمر
لجرير، وورد في موضعين (1) في الأول ص62 (2) في الثاني ص 30
ووضعت كلمة فعلهما بدل فعلهم، وذلك خطأ لأن قبله:
وما لتغلب إن عدوا مساعيهم ... نجم يضيء ولا شمس ولا قمر
(46) ... جاء الشتا واجثأل القنبر ...
وطلعت شمس عليها مغفر
وجعلت غير الحرور تسكر
هكذا روي الأساس , وقال: اجثأل الطائر: نفش ريشه من البرد , ووردت في
الحادي عشر ص 9 وكتبت هكذا:
جاء الشتاء واحتال القير ...
واستحفت الأمعاء وكادت تطير
وجعلت عين الحرور تسير
(47) فنكرنه فنفرن وامترست ... به عوجاء هادية وهاد جرشع
من مرثية أبي ذؤيب , ورد في الثاني عشر ص41 , وكتب هكذا:
فنكرنه فنفرن وامترست ... به هوجاء هادية وهاد جرشع
(48) تأبى بدرتها إذا ما استصعبت ... إلا الحميم فإنه يتبضع
ورد في السابع ص140 وكتب الشطر الأول هكذا:
نأنى بدريها إذا ما استصعبت
(49) وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع
ورد في ثلاثة مواضع (1) في الأول ص383 وكتب صحيحًا (2) في الحادي
عشر ص 58 وهنا استبدلت (إذ) بأو، في الشطر الثاني (3) في الثاني والعشرين
ص41 وكتب صحيحًا.
(50) وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن نتصدعا
ورد في الثلاثين ص 7 وكتب أول البيت: عشنا، بدل وكنا، فانكسر البيت وأحال
المصحح هنا على نمرة 7.
(51) وما وجد أظآر ثلاث روائم ... وأين مجرًا من حوار ومصرعا
ورد في التاسع والعشرين ص 118 وكتب هكذا:
فما وجد أطار ثلاث روائم ... وأين مجرى من جوار ومصرعا
(52) على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع
ورد في ثلاثة مواضع (1) في السابع ص85 (2) في التاسع عشر ص 80 (3)
في الثلاثين ص49 وفيهما كتب يصح بدل أصح.
(53) ومنا الذي اختير الرجال سماحة ... وجودًا إذا هب الرياح الزعازع
ورد في التاسع ص48 وكتب بدل اختير: اختار، وهو خطأ يضيع معه الشاهد.
(54) ... ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا
خلفة حتى إذا ارتبعت ... سكنت من جلق بيعا
ليزيد بن معاوية، وردا في التاسع عشر ص19 , وكتب آخر الثاني منهما تبعًا
وصوابه بيعًا , والماطرون قرية بالشام، والخلفة ثمر يخرج بعد الثمر الكثير.
(55) حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مُغلّ الأصبع
ورد في السادس ص9 وكتب بدل مغل: معل، وذلك خطأ.
(56) بذات لوث عفرناه إذا عثرت ... فالتعس أدنى لها من أن أقول لعّا
للأعشى ورد في السابع ص68 كتب الشطر الأول هكذا:
بذت لوث عفرنا إذا أعثرت
(57) وإن شفائي عبرة مهراقة ... فهل عند رسم دارس من معوّل
من معلقة امرئ القيس، ورد في الثالث ص118 وكتب هكذا:
وإن شفاي عبرة مهراقة فهل ... عند رسم دارس من معول
(58) وكأن الخمر العتيق من ... الإسفنط ممزوجة بماء زلال
باكرتها الأعراب في سنة النوم ... فتجري خلال شوك السيال
للأعشى وجاء الأول في الثالث ص9 وكتب فيه الأسفط بدل الأسفنط. وجاء
الثاني في الثالث ص5 وكتب هكذا:
باكرتها الأعراب في سنة النوم ... فيجري خلال سؤل السيال
(59) من كل نضاخة الذفري إذا عرقت ... عرضتها طامس الأعلام مجهول من: بانت سعاد , ورد في أربعة مواضع (1) في الثاني ص 227 وكتب صحيحًا.
(2) في الخامس ص74 وكتب الشطر الأول هكذا:
* من أجل نصاحة الذفري إذا عرقت *
وذكر في الكتاب عراسقها بدل عرضتها، وهي تخل قوام البيت، وفسرها
الطبري بما بين الجفنين ولم أعثر على الكلمة ولا على معناها، وهي محرفة (3)
في الحادي عشر ص100 وكتب صحيحًا (4) في السابع والعشرين ص56
وكتب هكذا:
من كل نضاجة الدفري إذا عرفت ... عرصتها طامس الأعلام مجهول
(60) في مهمه قلقت به هاماتها ... قلق الفئوس إذا أردن نصولا
ورد في الخامس ص172 , وكتب فيه قلقت وقلق بالفاء وصوابه بالقاف.
(61) فآب مضلوه بعين جلية ... وغود بالخذلان حزم ونائل
ورد في الثالث ص199 وكتب هكذا:
فاب مضلوه بعين حليه وعود بالخذلان حزم ونائل
(62) وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل
ورد في موضعين (1) في الثاني ص42 (2) في الثلاثين ص125 ,
ووضع في المرتين كلمة غافل آخر البيت وصوابه عاقل , ومعناه الممتنع في
صعوده.
(63) طرقا فتلك هما همي أقريهما ... قلصا لواقح كالقسي وحولا
ورد في السادس ص94 وكتب طرفًا وأفريهما بفائين وصوابهما بقافين.
(64) اغزوا بني ثعل والغزو جدكم عدوا الروابي ولا تبكوا لمن قتلا
ورد في التاسع والعشرين ص57 وكتب فيه الورايا بدل الروابي، والروابي:
الأشراف.
(65) رب ابن عم لسليمى مشمعل ... أروع في السفر وفي المن غزل
طباخ ساعات الكرى زاد العسل
ورد في الثالث عشر ص248 وكتب آخر الأبيات دار الكسل بدل زاد.
(66) أعطى فلم يبخل ولم يبخل ... كُوم الذرى من خول المخوول
ورد في السابع ص 169 وكتب البيت الثاني هكذا:
كرام الذرى خؤل المخول. وورد ثانيًا في الثالث والعشرين ص 116
وكتب صحيحًا.
(67) خرقوا جيب فتاتهم ... لو يبالوا سوءة الرّجُلة
ورد في الثامن ص99 وكتب هكذا:
خرقوا جيب قبابهم ... لم يبالوا سوءة الرحلة
(68) إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريث وعجل
ورد في التاسع ص108 وكتب هكذا:
إن يفون بنا خير نفل ... ويأذن الله ربي وعجل
(69) وإن الذي يسعى يحرّش زوجتي ... كساعٍ إلى أسد الشرى يستبيلها
ورد في الأول ص349 وكتب في آخر البيت يستقيلها بدل يستبيلها.
(70) أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ... ريهنة ورمس ذي تراب وجندل
ورد في السادس عشر ص 153 وكتب فيه نعف كراكب بدل نعف كويكب.
(71)
ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس منها كوكب شرق ... مؤزر بعميم النبت مكتهل
يومًا بأطيب منها نشر رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
البيت الأول ورد في الثالث ص 44 وكتب صحيحًا. والثلاثة في الحادي
والعشرين ص17 , وكتب في البيت الأول من رياض الحسن بدل من رياض
الحزن. وكتب الشطر الثاني من البيت الثاني هكذا:
* مورد بصميم النبت مكتمل *
وذلك غلط كله.
(72) إذا لسعته النحل لم يَرج لسعها ... وحالفها في بيت نُوب عواسل
ورد في أربعة مواضع (1) في الخامس ص156 , وكتب الشطر الثاني هكذا:
* وخالفها في بيت ثوب عوامل *
(2) في الحادي عشر ص 56 , وكذلك كتب (3) في الخامس والعشرين ص76
وكتب هكذا:
إذا لسعته الدبر لم يرج لسها ... وخالفها في نيت نوب 7 عوامل
لما صحت الكلمة جهل معناها , وأحيل على عدد 7. (4) في التاسع
والعشرين ص 52 وكتب كالأول والثاني. قال في اللسان:
النوب: النحل، جمع نائب لأنها ترعى وتنوب إلى مكانها. قال الأصمعي: هو من
النوبة التي تنوب الناس لوقت معروف. قال أبو عبيدة: سميت نوبًا لأنها تضرب
إلى السواد.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(7/860)
الكاتب: حافظ إبراهيم
__________
رثاء محمود سامي باشا البارودي
اجتمع جمهور من الشعراء والأدباء عند قبر أمير الشعر والأدب في اليوم
الموعود فرثوه وأبنوه بالشعر والخطب , وإننا ننشر مرثية حافظ أفندى إبراهيم،
لأنها واسطة ذلك العقد النظيم. وهى:
ردوا علي بياني بعد محمود ... إني عييت وأعيى الشعر مجهودي
ما للبلاغة غضبى لا تطاوعني ... وما لحبل القوافي غير ممدود
ظنت سكوتي صفحًا عن مودته ... فأسلمتني إلى هم وتسهيد
ولو درت أن هذا الخطب أفحمني ... لأطلقت من لساني كل معقود
لبيك يا مؤنس الموتى وموحشنا ... يا فارس الشعر والهيجاء والجود
ملك القلوب وأنت المستقل به ... أبقى على الدهر من ملك (ابن داود)
لقد نزحت عن الدنيا كما نزحت ... عنها لياليك من بيض ومن سود
أغمضت عينيك عنها وازدريت بها ... قبل الممات ولم تحفل بموجود
لبيك يا شاعرًا ضنّ الزمان به ... على النهى والقوافي والأناشيد
تجري السلاسة في أثناء منطقه ... تحت الفصاحة جري الماء في العود
في كل بيت له ماء يرف به ... يغار من ذكره ماء العناقيد
لو حنطوك بشعر أنت قائله ... غنيت عن نفحات المسك والعود
جليته بعد أن هذبته بسنا ... عقد بمدح رسول الله منضود
كفاك زادًا وزينًا أن تسير إلى ... يوم الحساب وذاك العقد في الجيد
لبيك يا خير من هزّ اليراع ومن ... هز الحسام ومن لبى ومن نودي
إن هد ركنك منكوبًا فقد رفعتْ ... لك الفضيلة ركنًا غير مهدود
إن المناصب في عزلٍ وتولية ... غير المواهب في ذكرٍ وتخليد
أكرم بها زلة في العمر واحدة ... إن صح أنك فيها غير محمود
سلوا الحجى هل قضت أربابه وطرا ... دون المقادير أو فازت بمقصود
كنت الوزير وكنت المستعان به ... وكان همك هم القادة الصيد
كم وقفة لك والأبطال طائرة ... والحرب تضرب صنديدًا بصنديد
تقول للنفس إن جاشت إليك بها: هذا مجالك سودي فيه أو بيدي
نسخت يوم (كريد) كل ما نقلوا ... في يوم (ذي قار) عن (هاني بن مسعود)
نظمت أعداك في سلك الفناء ... على رويٍّ ولكن غير معهود
كأنهم كلم والموت قافية ... يرمي بها عربي غير رعديد
أودى (المعري) تقي الشعر مؤمنه ... فكاد صرح المعالي بعده يودي
وأوحش الشرق من فضل ومن أدب ... وأقفر الروض من شدو وتغريد
وأصبح الشعر والأسماع تنبذه ... كأنه دسم في جوف ممعود
لوى به الضعف واسترخت أعنته ... فراح يعثر في حشو وتعقيد
وأنكرت نسمات الشوق مربعه ... تثيرها خطرات الخرّد الغيد
لو أنصفوا أودعوه جوف لؤلؤة ... من كنز حكمته لا جوف أخدود
وكفنوه بدرج من صحيفته ... أو واضح من قيمص الصبح مقدود
وأنزلوه بأفق من مطالعه ... فوق الكواكب لا تحت الجلاميد
وناشدوا الشمس أن تنعي محاسنه ... للشرق والغرب والأمصار والبيد
أقول للملأ الغادي بموكبه ... والناس ما بين مكبود ومفئود
غضوا العيون فإنَّ الروح يصحبكم ... مع الملائك تكريمًا لمحمود
يا ويح للقبر قد أخفى سنا قمر ... مقسم الوجه محسود التجاليد
يا ويحه حل فيه ذو قريحته ... لها بخدر المعاني ألف مولود
فرائد خرّد لو شاء أودعها ... محصي الجديد سجلات المواليد
كأنها وهى بالألفاظ كاسية ... وحسنها بين مشهود ومحسود
لآلئ خلف بلور قد اتسقت ... في بيت دهقان تستهوي نهى الغيد
محمود إني لأستحييك في كلمي ... حيًّا وميتًا وإن جوَّدت تقصيدي
فاعذر قريضي واعذر فيك قائله ... كلاهما بين مضعوف ومحدود
__________(7/866)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(الفتنة في نجد وحقيقة الحال)
كتبنا في آخر الجزء التاسع عشر نبذة في إمارة نجد وانتصار ابن سعود على
ابن الرشيد , وكذبنا بعض الجرائد المصرية التي تتجر بالأمة والملة في زعمها أن
ابن سعود خارج على الدولة العلية , وقلنا: إنه أطوع لها وأشد خضوعًا من ابن
الرشيد الذي نفَّر منها أهل نجد بظلمه. وقد جاءتنا بعد ذلك رسائل متعددة من بلاد
العرب فيها بيان الطرق التي أرسلت منها الدنانير إلى بعض أصحاب الجرائد
المصرية التي تسمى إسلامية لتشنع على ابن سعود وتكذب عن لسانه الرسائل إلى
رؤساء الجند العثماني ينكر فيها ولاية السلطان وخلافته بزعمهم. وجاءتنا أيضًا
صور البرقيات التي أرسلها الأمير ابن سعود والأمير قاسم بن ثاني قائمقام قطر
والولي الحميم للدولة العلية ومؤيد نفوذها في البلاد العربية إلى السلطان , وهي
الحجة القاطعة على أن هذه الجرائد كانت ساعية بتفريق كلمة المسلمين وغش الدولة
بإغرائها بحرب ابن سعود وعدم قبول طاعته وإن انضم إليه أكثر القبائل. وقد
اتضح للدولة العلية من هذه الرسائل التي يظهر أنها وصلت بعدما حالت العمال
المرتشون دون وصولها زمنًا - أن ابن سعود صادق في ولائه , وأكد ذلك عندها حالة
(الحسا) فإنها على عهد ابن الرشيد كانت تتناوبها المخاوف , ويتخطف الناس من
حولها حتى يعسر الوصول إليها , وكان الحجاج الذين يخرجون منها يتسلحون
ويخرجون بقوة , ثم لا تمنعهم قوتهم من المشقة العظيمة والخسائر الكثيرة، ولما
استولى ابن سعود وغلب أمره صار الناس يخرجون منها مثنى وفرادى لا
يصيبهم أذى , وحكومة البصرة وبغداد عالمة بذلك. ولذلك كفت الدولة العلية عن
إنجاد ابن الرشيد , وأمرت والي البصرة بأن يطلب الاجتماع بعبد الرحمن الفيصل
بالمحل الذي يريد لأجل المذاكرة والمشاورة في الأمر , وكانت الدولة قد قطعت
مرتب عبد الرحمن الشهري فأعادته إليه.
هذا ما كتب إلينا (بتاريخ 21 شوّال الماضي) ثم علمنا من مكاتبات من
بغداد وردت على بعض العربان التجار في مصر بأن الدولة جهزت أربعة توابير
(التابور بالتاء عربي وبالطاء تحريف) وقد وجل لذلك أنصار ابن الرشيد , وارتاب
أنصار ابن سعود الذي رُوي أنه زحف بخيله ورجله على حايل عاصمة ابن الرشيد،
وسبب الريب أن الدولة العلية كانت تريد أن تجعل القصيم معسكرًا لأجل حفظ
الأمن في بلاد نجد برضا ابن سعود. أخذت في بوادر هذا الأمر ثم سكتت عنه ,
ولعلها عادت إليه الآن ولا بد أن يأتينا الخبر اليقين بعد حين.
وإننا نبدأ الآن بنشر رسالة وردت علينا في الموضوع , ثم نذكر بعدها
الرسائل البرقية التي أشرنا إليها , وننصح الدولة العلية أن ترفق بعملها في بلاد
العرب وتحذر كل ما يريب ويشكك الناس بحسن قصدها. قال المكاتب الخبير:
(حقيقة الحال في الحادثة النجدية)
لما كانت مجلتكم الغراء هي الوحيدة في خدمة الجامعة الإسلامية، المرشدة
لجمع الكلمة مع بيان أقرب الطرق وأقومها مسلكًا وأنجحها مسعًى حتى قدرها الرأي
العمومي الإسلامي في سائر أقطار المعمورة حق قدرها , وأحلوها من القبول محلها
فصار صداها يخترق حجب المسامع، وهي نعمة جليلة توفقت لها لحسن قصدها دون
من سواها - أتيت أتلو على سمعكم ما عنَّ لنا بشأن الحادثة النجدية ذات البال في
الجامعة الإسلامية.
إن الفتنة التي حدثت في هذه السنين الأخيرة في القطعة النجدية قد نظر إليها
الرأي العام من عقلاء المسلمين وحكمائهم نظر الاهتمام كأنها الداء العضال العادي
الذي يهدد صحة الأعضاء الرئيسة من الجسد الإسلامي , حيث إنهم قد أدركوا
بثاقب أفهامهم المنورة بنور الإيمان أنها إذا لم تتداركها حكمة جلالة خليفة المسلمين
بالحل السلمي السديد لا تنتهي إلا بمداخلة يد الأغيار المشتت لجموعنا أولاً وآخرًا ,
وهذا ما عنينا به من قولنا: كأنها الداء العضال العادي إلخ.
وحقيقة إذا نظرنا نظرهم هذا أخذت بنا الدهشة كل مأخذ , واستولت علينا
الحيرة من كل جانب حتى إذا ما تثبتنا بعد الدهشة واهتدينا غب الحيرة , ورجعنا
لتلافي الأمر وليس لنا من الأمر شيء سوى استلفات واستعطاف أصحاب أهل الحل
والعقد من أمراء الدولة العلية الذين هم لا يهمهم سوى الإصلاح لتلافي هذا الأمر
وإخماد ثورة هذه الحادثة , وإطفاء نار هاته الفتنة بالإصلاح والتوفيق السديد لا
ببرق السيوف ورعد المدافع وتحشيد العساكر والضغط الموجب للانفجار وتخريب
الدار وتدمير الديار وتداخل يد الأغيار ولو بدون أهلية واستحقاق كما نعلم وتعلمون.
نعم قد ولي عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود بلاد أبيه وجده بقاعدة
الرياسة المعروفة بالمشيخة في البلاد العربية متغلبًا على الأمير عبد العزيز بن
رشيد وكما تدين تدان {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140)
لكن نظرًا لما جبل عليه الأمير ابن رشيد من إباية الغبن ولما هو متصف به من
العناد , ولما له من نفوذ الكلمة وقبول القول لدى أمراء الدولة العلية اغترارًا بما
يرون منه من بهارج القول , وطمعًا بما ينالونه من ثمين الهدايا - استمالهم لمساعدته
فساعدوه غير ناظرين لما يئول إليه أمر مساعدته من. ومن. ومن. وإذا لم يفكروا
إلا في أن في نفس مساعدته وتقويته إذهاب قسم عظيم من ملك الدولة العلية لعثمانية
فضلاً عما يكلف الدولة العلية من المشاق والخسائر وإضعاف النفوذ وتلف مئات
ألوف من المسلمين والتداخل الأجنبي إلى غير ذلك من أنواع المضرات التي لا
ثمرة لها غير التفريق والتشتيت - لوجب أن يكون ذلك حاجزًا قويًّا بين أرباب الحل
والعقد وبين الميل لمساعدة أحد الفريقين على الآخر فضلاً عن المساعدة فعلاً؛ بل
لوجب جمع فكرهم على اتخاذ الأسباب والوسائل لإصلاح ذات بين الفريقين وجمع
كلمتهم تحت الراية المقدسة العثمانية. على أن الأمل الوطيد والحق الحقيق هو أن
عبد العزيز بن سعود هو أطوع من غيره لإرادة جلالة متبوعه مع إنه لم ينظر
اليه بعين الرضا كغيره , ولو نظر إليه بعين الرضا ورأى المساواة بينه وبين غيره
لرأت الدولة العلية من خدماته الصادقة النافعة ما يجعله أقرب قريب لديها , ولا
نظن إلا أن الذي أغمض عنه هذه العين الجليلة هو مداخل الأوهام من خرافات
المموهين بأن الخطر على الحرمين الشريفين وأطرافهما من عبد العزيز بن سعود
محقق لأنه وهابي , والحال أن التوهب الذي يرمون به ابن سعود وعشائره أهل
نجد هو اعتقاد السلف الصحيح في توحيد الذات الإلهية وتقديس صفات الربوبية ,
وهذا شيء لا دخل له بالملك والسياسة , لكن المقاصد تغلب الحقائق. وأما
محافظة ابن سعود على الحرمين وطريقهما وقُصَّادهما وفود الحجاج وكسر شوكة
الذين كانوا يتعرضونهم من ثوار العشائر البادية - فهذا محسوس ومشاهد بالعيان ,
حتى رأى الحجاج منذ عامين في طريقهم كل تسهيل موفرين ومقتصدين لما كانوا
يعطون من الرسوم المقررة لرؤساء العشائر عن يد وهم صاغرون , فكفت
أيدي البادية , ورأى الحجاج من العزة والاحترام ما لم يروه قبل , وهذه قضية
مسلّمة يقر ويعترف بها حتى الخصم نفسه , فنسأل الله جل جلاله أن ينصر
دولتنا العلية ورجالها الصادقين ويلهمهم السلوك في طريق الرشاد فيصلحوا ذات
بين الفريقين , وتحفظ الدولة العلية لنفسها حقوق سيادتها المقدسة في الجانبين كذي
قبل , وإذا اختلف أحد منهم عن إرادتها وخالف رضاءها العالي إذ ذاك، فلها أن
تؤنب وتعنف وتؤدب بما شاءت وكيفما شاءت , وهي ذات السيادة المطلقة في
جميع ممالكها المحروسة.
لما حدثت الحوادث في بلاد نجد وانتصر ابن سعود على ابن الرشيد وخيف
من سوء العاقبة؛ انبرى لتلافيها أرباب الحمية الدينية وهو الشهم الغيور ذو
الصداقة والعبودية والإخلاص لحضرة متبوعة ملجأ الخلافة الكبرى الإسلامية
قائمقام قضاء قطر ورئيس العشائر وشيخ القبائل فيه (الشيخ جاسم الثاني) الذي ما
فتئ عند حدوث كل حادثة في القطعة العربية يعرض ثمين النصائح لجلالة متبوعه
الأعظم عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) فإنه حفظه الله لما
نظر لهذه الحادثة نظر المندهش المتخوف من وخامة عاقبتها؛ اهتم بها اهتمام
الحكيم المتدين العاقل , فقدم النصيحة إلى عبد العزيز بن سعود بأن لا يتخذ له يدًا
مع الأغيار مهما آل إليه الأمر , وأن لا يخرج عن رسم الطاعة لجلالة المتبوع
الأعظم ملجأ الخلافة العظمى الإسلامية , وأراه وخامة العاقبة إذا لم يسلك طريق
السمع والطاعة والخضوع لإرادة سلطان الحرمين الشريفين , وبين له من التبيان
وأوضح له من الدلائل بتنويع القول وتكرار النصائح ما أقنعه بأن الدولة العلية
تتلقى خضوعه لها بالقبول , وقد رأيت ثمرتها بقبوله لها وامتثاله إياها , فأخذ عبد
العزيز بن سعود يسلك طريق الاسترحام من جلالة متبوعه الأعظم بكمال خضوع
وتذلل وطاعة واستعطاف ودخالة بعدم الأمر بسوق العسكر عليه , وأن لا يطلق
عليه ولا على عشائره عنوان العصيان لأنه متعقد بكل المطالب , سامع ومطيع
لجميع الأوامر , وإليك ما وصلنا من نصوص تلغرافاته التي قدمها إلى الأعتاب
الملوكانية بواسطة وبلا واسطة كما تلقيناها من مصدر موثوق به (انظروا
لمنصوص تلغرافات عبد العزيز) وهي واصلة طيًّا , وأما حضرة الفاضل الشيخ
جاسم الثاني فإنه ما اكتفى ببث النصيحة لعبد العزيز حتى أشفعها كذلك بعريضة
خطية لحضرة والي ولاية البصرة , وأخرى تلغرافية إلى الأعتاب السلطانية
بواسطة الوالي وبواسطة مجلس الوكلاء الخاص وواسطة الكاتب الأول في المابين ,
وواسطة سماحة أبي الهدى أفندي , وهذا نصهما كما تلقيناهما من مصدر موثوق.
(انظروا عريضتي الشيخ جاسم الثاني) .
فأملنا ورجانا من حضرتكم نشر جميع التلغرافات والعرائض مع ما يتعلق
بخصوص حضرة الشيخ جاسم الثاني ونصائحه في مجلتكم الغراء مع ما يبدو
لفكركم السامي من الشرح والتعليق , وإنني أكرر الدعاء لفاطر الأرض والسماء أن
يوفق أمراء دولتنا العلية لحل هذه المشكلة حلاًّ سلميًّا لا دخل فيه لعامل أجنبي ,
وفي الختام أرجو قبولكم فائق احترامي.
(التلغراف الأول من ابن سعود)
إلى أعتاب سيدي وولي نعمتي سلطان البرين وخاقان البحرين خليفة رسول
الله السلطان المعظم السلطان عبد الحميد خان الثاني أدام الله عرش سلطنته إلى آخر
الدوران، آمين.
أقدم عبوديتي وطاعتي وداخلتي إلى الأعتاب السامية المقدسة ممتثلاً كل إرادة
وفرمان لست بعاصٍ ولا خارج عن دائرة الأمر , بل أنا العبد الصادق في خدمة
دولتي وجلالة متبوعي الأعظم أريد الإصلاح ما استطعت. قد ابتلاني سبحانه
وتعالى بشرذمة يحسدون ويفسدون ولا يصلحون. قاموا يشوشون أفكار دولة جلالة
ولي النعم ويدخلون على فكره الشريف الأوهام الواهية يريدون تفريق الكلمة
الإسلامية , وتقسيم الجامعة المقدسة العثمانية , وإلجائي إلى الاحتماء بالدول
الأجانب فحاشا ثم حاشا , عبد جلالتكم عثماني صرف أفدي السدة العثمانية بعزيز
روحي. أجمع كلمة بادية الخطة النجدية بما آتاني الله ومنحتني دولتي العلية من
النفوذ تحت راية مولانا أمير المؤمنين سلطان المسلمين السلطان عبد الحميد ,
نصره الله , لكن هؤلاء الذين يريدون تفريق الجامعة العثمانية لا يألون جهدًا في
إلقاء الدسائس حتى تمكنوا من جعل الأمر في غير قالبه , واستجلبوا لي انحراف
الرضاء العالي فساقوا عليّ العساكر الشاهانية أولاً , واسترحمت وقدمت طاعتي فلم
أوفق لإزالة الشبهة التي أدخلها المفسدون , والآن بلغني أن الحكومة السنية ساقت
عليّ عساكر غير الأولى , فأنا أضرع إلى مرحمة وشفقة وحنان وحماية وديانة
مولانا أمير المؤمنين أن لا يؤاخذني بدسيسة ألقاها المفسدون , ولا شبهة احتج بها
الحاسدون المزورون. فينظر إليّ حفظه الله بعين العدالة والشفقة والمرحمة ,
ويحقن دماء ألوف من المسلمين الطائعين الداعين بدوام عرش جلالته , وعلى كل
حال فليس لي إرادة أو قول أو فعل يخالف الرضاء العالي , وتظهر الحقيقة
بالاختبار , كما أني أسترحم من حكمة جلالة مولانا ومتبوعنا الأعظم وفطنته
السامية أن لا يروج مقاصد أرباب الفساد أعداء الدين والدولة الذين يريدون إشغال
دولتنا العلية وتشتيت عساكرها المظفرة يمينًا وشمالاً وإضعاف ماليتها , فإن لهم
بذلك مقاصد لا تخفى على سمو حكمة جلالة مولانا أمير المؤمنين , وأنا عبد صادق
خادم مطيع ملتجئ لمرحمة وشفقة جلالتكم.
1 رمضان سنة 1322 ... ... ... ... ... عبد الدولة العثمانية
... ... ... ... ... ... عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود
(التلغراف الثاني)
إلى أعتاب سيدي إلخ
إن مرحمة جلالتكم وشفقة عظمتكم وعفو سلطنتكم أجل وأعظم من أن يمنعوا
(كذا) عن عبد صادق في عبوديته لسدة أعتابكم مثلي , قدمت جملة دخالات على
أعتاب خلافتكم السامية الإسلامية معلنًا إذعاني وانقيادي وطاعتي لإرضاء ولي
نعمتي متبوعي الأعظم , ومع هذا فلم تصدر إرادة الرحمة والشفقة بإيقاف الحركة
العسكرية الموجهة ضدي.
مولاي أمير المؤمنين , عبد جلالتكم هذا يعلم علم اليقين ما يكلف سوق
العساكر الشاهانية إلى قطعة نجد من المشاق والأضرار على الملة الإسلامية
والجامعة العثمانية , ويعلم أن المسبب لهذه المشاق والأضرار دسيسة من أعداء
السلطنة السنية يريدون تفريق الجامعة المقدسة العثمانية؛ ليدركوا مطالبهم , وأما
عبد جلالتكم هذا فسامع مطيع مسترحم عفو جلالتكم وإن لم أذنب , دخيل على
شفقتكم ومراحمكم في عفوي (كذا) إن كان صدر مني ذنب , وحقن دماء ألوف من
المسلمين من عبيدكم الطائعين الداعين بدوام عرش السلطنة الحميدي , وحاشا حكمة
جلالتكم أن تصغوا بعد ذلك لزخارف دسائس أرباب المقاصد المفسدين , هذا
عرضي واسترحامي , والفرمان العلي الشأن لحضرة جلالة أمير المؤمنين.
5 رمضان سنة 1322 ... ... ... ... عبد الدولة العثمانية
... ... ... ... ... ... عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود
أرسل من كل واحد من التلغرافين نسخة باسم السلطان بلا واسطة , ونسخة
بواسطة باشكاتب المابين , ونسخة بواسطة مجلس الوكلاء , ونسخة بواسطة أبي
الهدى أفندي. وكذلك فعل الشيخ جاسم الثاني في تلغرافه وزاد نسخة بواسطة والي
البصرة وهو:
(تلغراف الشيخ جاسم الثاني)
إلى الأعتاب المقدسة والركاب المحروسة السلطانية , أيد الله سرير سلطنته
بالعز والنصر، آمين.
إن عبوديتي وصدقي وإخلاصي وصداقتي وغيرتي وحميتي لا يدَعوني أن
أترك النصح لديني ودولتي وسلطاني سواء صادف قبولاً أم لا , فقد سبق من هذا
العبد الصادق العرض بعدم تنسيب سوق العساكر الشاهانية على ابن سعود , وأن
الأمر دون ذلك , حيث إن المشهور والمعروف من سياسة وحكمة مولانا أمير
المؤمنين خليفة رسول رب العالمين - نصره الله وأيده - المرحمة والشفقة لعموم
التبعية السلطانية , وأن ليس في طبعه الشريف اتباع آراء أرباب المقاصد
والأغراض الذين لا يقدرون عواقب الأمور حق قدرها , والذين لا يهمهم إلا
منافعهم الشخصية، على أنه ليس هناك سبب يستوجب سوق العساكر المنصورة
على ابن سعود سوى العداوة السابقة الثابتة بحكم الطبيعة بينه وبين الأمير ابن
رشيد , وإن الأمير ابن رشيد وجد من يساعده على مقاصده من أرباب الأطماع ببذل
النقدين حبًّا للانتقام , وقد أعرضت بلسان الصدق والصداقة واسترحمت عدم
سوق العساكر الشاهانية على ابن سعود , وإن كل مطلب ومقصد يحصل بدون أن
تطلقوا على نجد وأهلها اسم العصيان الذي يكلف الحكومة السنية من المشاق
والمصاريف والخسائر ما هي غنية عنها بدون فائدة , على أن ابن سعود ليس
بعاصٍ ولا خارج عن رسم الطاعة. نعم إن الذين أدخلوا في أفكار مولانا أمير
المؤمنين سوء قصد ابن سعود وأن منه الخطر على نجد وما يليها هم أعداء
الدولة والملة الذين يريدون تفريق الكلمة , حيث إن أمثال هؤلاء لا يستفيدون
نقدًا وجاهًا وموقعًا إلا بإحداث مثل هذه المشاكل والقلاقل كما فعلوا في غير هذه
القضية وكما فعلوا في مبادئ مسألة الكويت وقد عرضت أفكاري عند حدوث كل
حادثة , والآن قد بلغني أن الدولة العلية - صانها رب البرية - قد عزمت على
إظهار عساكر مرة ثانية لنجد , وحيث إن هذا القصد مبني على أوهام لا وجود
لها؛ أتيت أعرض ما يجب عليّ ذمة ودينًا من أداء النصيحة بأن سوق العساكر على
نجد وأهلها ليس فيه صلاح ولا منه فائدة , وأجل الفائدة وأعظم الفوز بجمع
الكلمة الإسلامية العثمانية. وأهل نجد بالتحقيق ما خرجوا عن هذه الدائرة , ولا
صدر منهم سوى احتلالهم وطنهم بحكم المشيخة والرياسة حسب القواعد العربية ,
وحيث إن الذي كان مترئسًا فيها ابن رشيد قام هو ومن هو مساعد له وعلى شاكلته
يدخلون الأوهام على الحكومة السنية , وليس عندهم إلا حب الانتقام بدون
مصلحة ولا فائدة , والأولى والأصلح أن ينذر ابن سعود وكبار نجد وعلمائه
بالنذر ويبلغوا البلاغات المقتضية سياسة , ويوعظوا بالحكمة والموعظة الحسنة ,
فإن أذعنوا وأطاعوا لإرادة سلطانهم وخليفتهم فنِعمَّ ذلك وهو المقصود , وإن أبوا
وعصوا فذاك آخر علاج. على أنه قد بلغني أن ابن سعود قد استرحم مرارًا بأن
الحكومة تشكل لجنة لتحقيق أحواله وأحوال ابن رشيد وكف الطرفين، وذلك أولى
وأصلح وأحقن لدماء المسلمين وأفود للدولة العلية , وعلى كل حال استرحم
باسم العدالة والصداقة والحمية أن يصرف النظر عن سوق العساكر , وتنظر الدولة
العلية في الأمر بجعل مشايخ نجد مأمورين رسميين لا فرق بين ابن سعود وبين ابن
رشيد , كما أني أسترحم أن لا تجعل نصيحتي هذه في زوايا الإهمال , والأمر
والفرمان لحضرة من له الأمر.
8 رمضان سنة 1322 العبد الصادق قائمقام قضاء قطر ورئيس عشائرها وقبائلها.
... ... ... ... جاسم الثاني
(كتابه لوالي البصرة)
(لجناب والي ولاية البصرة الجليلة صاحب الدولة مخلص باشا الأفخم)
يقتضي على كل عبد صادق صاحب وجدان وغيرة وحمية لدينة ودولته
وسلطانه عند حدوث كل مشكلة سياسية في داخل الممالك المحروسة - أن يعرض
فكره ونصيحته لأولياء الأمور عساه أن يصادف قبولاً ويوفق لأداء واجب الخدمة
بالنصيحة , فإنه لا يخفى على دولتكم حدوث القلاقل والمشاكل في قطعة نجد بين
الأمير ابن رشيد والمترئس في وطن آبائه وأجداده عبد العزيز بن سعود حتى تحول
نظر أرباب الحل والعقد من أمراء ومأموري الدولة العلية إلى هذه المسألة فلبست
غير قالبها الحقيقي , فجعلوها محوجة للتداخل العسكري , ويقينًا أن ذلك غير موافق
للرضاء العالي , فإن رضاء أمير المؤمنين حفظه الله ونصره في حل كل مشكلة
حلاًّ لا يخالطه وجود غائلة , ولا يلجئ الدولة لتكبد المشاق والخسائر وإهراق دماء
ألوف من المسلمين , فإن كل حادث لا يحوج حقيقة إلى التداخل العسكري إذا
صارت فيه المداخلة بادئ بدء؛ كانت نتائجه غير محمودة , وموجب للتلف وتكبد
الخسائر والمشاق وإهراق دماء المسلمين , وفي النهاية لا تأتي بفائدة , ولا تنتج
نتيجة حسنة , وما ذلك إلا الخطأ السياسي يتبع , ونحن جماعة المسلمين لنا شريعة
إلهية تنهانا عن تفريق الكلمة وتأمرنا بتوحيدها والطاعة الكاملة بجميع معناها لخليفة
رسوله أمير المؤمنين بنص: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال:
46) نعم إن مَن دأبه بذر حب الشقاق والتفرقة بين جماعات المسلمين يجدون لهم
عند حدوث كل حادث بابًا واسعًا من الأوهام يدخلون فيه على متبوعهم الأعظم
ليجروا الأمور على غير وفق الرضاء العالي لينالوا بذلك مركزًا وثروة , وليس
قصدي من هذه بيان مساوي بعض الأمراء والمأمورين , بل قصدي أداء ما يجب
عليّ ذمة وحمية وديانة من أداء النصيحة ببيان لزوم حل هذه المسألة حلاًّ يوافق
للمصلحة بدون إحداث مشاكل أصعب مما هي فيه الآن وذلك امتثالاً للشريعة الإلهية
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ} (النحل: 125) فيلزم على
من هو مثل دولتكم حائزًا هذا المقام متصفًا بالصفات الحميدة أن يجعل كل اجتهاده
في حل هذه المسألة حلاًّ يوافق للمصلحة الحاضرة وذلك بطريق الإصلاح بين
الفئتين المتشاجرتين بدون مساعدة أحد الطرفين على الآخر حتى لا يوجب له
المروق عن الطاعة حقيقة وفعلاً , وذلك بأن يكف الفريقان كفًّا قطعيًّا عن إحداث
القلاقل وإلزام كل منهما الراحة والسكون , وإن كان ثمة اشتباه من ابن سعود وأمره؛
أعطى التعليمات اللازمة , وأنذر الإنذارات المقتضية. فإن أذعنوا وأطاعوا فلا
تبغوا عليهم سبيلاً , وإن عتوا وعصوا فسوق العساكر آخر علاج تستعمله الدولة
لإخضاع الرعايا. على أن ابن سعود طلب هذا الأمر مرارًا، وبحجة التوهب أدخل
أرباب الأغراض على الحكومة السنية الأوهام , ومنعوها من استعمال الرفق الذي
هو أوفق للمصلحة , ومع هذا فإني مقدم للأعتاب الملوكانية ولمجلس الوكلاء
الخاص تلغرافًا هذه صورته أقدمها لفًّا لتعرض أيضًا بواسطة دولتكم عساه أن
يصادف قبولاً فأفوز بخدمتي لديني ودولتي ومتبوعي الأعظم خليفة رسول رب
العالمين نصره الله وأيده , وعلى كل حال الأمر والفرمان لحضرة من له الأمر.
8 رمضان سنة 1322
(العبد الصادق المخلص قائمقام قطر ورئيس عشائرها وقبائلها جاسم الثاني)
(المنار)
نشرنا هذه الرسائل بنصوصها , وقد علم أن رأينا حصر المصلحة في إقرار
ابن سعود على إمارة نجد الموروثة له , وأن لا تفعل الدولة العلية في بلاد العرب
ما يزعزع ثقتهم بها , وإذا وثق بها أهل نجد سهل عليها حل عقدة اليمن، كذا
عقدة الكويت والله الموفق.
* * *
(فتنة اليمن)
شاع من مدة أن حميد الدين مدعي الإمامة في اليمن قد توفي , وكان يُظن أنه
هو الذي كان يثير الناس على الدولة , ولكن الفتنة قد عظمت من بعده وقد
استفاضت الأخبار بأن الثائرين في اليمن قد استفحل أمرهم حتى إنهم حاصروا
صنعاء عاصمة الولاية. ويؤيد هذه الأخبار ما جاءتنا به أخبار سوريا من اهتمام
الدولة بجمع عسكر الرديف الذي لا يجمع عادة إلا في الحروب العظيمة لأجل اليمن
بضرب القرعة العسكرية قبل أوانها. وقد كانت الدولة وفقها الله تعالى في غنى عن
هذا كله لو أحسنت الإدارة والسياسة هناك , فإن الأهالي لا يثورون إلا من الظلم
والضيق وسبب الظلم أن عمال الحكومة هناك أكثرهم من الأشرار الذين أرسلوا إلى
اليمن عقوبة لهم وتأديبًا , ثم إنهم يكلفون بجمع المال وإرساله إلى الأستانة ولا
يسمح لهم أن يأخذوا رواتبهم منه إلا في كل عدة أشهر مرة فيضطرونهم إلى الظلم
والرشوة والنهب. والطريقة المثلى لذلك أن تختار الدولة جميع العمال لتلك البلاد
من أهل العلم والدين، وتعهد إليهم بأن يحكموا بالشريعة دون القوانين، وتعطيهم
رواتبهم في كل شهر وتعاقب من يشذ منهم أشد العقاب. ثم يجتهد في عمران تلك
البلاد التي كانت لها مدنية لا تضارعها في وقتها مدنية.
* * *
(أريحية التساهل والوفاق)
يتوهم المتحمس للدين المتعصب له ببغض المخالفين أن من ليس على دينه
مباين له في خلائقه وصفاته البشرية , فإذا رأى منه عملاً صالحًا أو برًّا بأهل دين
آخر أو علامة من علامات الصدق والإخلاص التمس لما يرى ضروبًا من التعليل،
فإن لم يهتدِ إلى العلة والسبب جعله من مواطن العجب، وذلك للجفاء والمقاطعة
بين أبناء الملل , فإن الذين يعاشرون الناس ويختبرونهم يعلمون أن الناس - كما
ورد في الحديث - معادن خيارهم جاهلية خيارهم إسلامًا، فما من أمة إلا وفيها
الخيار والأشرار وأهل التعارف والتآلف، وذوو التناكر والتخالف.
وقد اجتمع في جنيف عاصمة سويسرة في صيف إحدى السنين ألفاف من
الأوربيين والأمريكيين , وكان هناك أحد فضلاء المصريين فلما طالت عشرتهم له
مدة الصيف ورأوا من تدينه وآدابه ما رأوا؛ قالت امرأة غالية في دينها: ما كنت
أظن قبل أن أرى هذا الرجل أن الطهارة والتقوى توجد في غير المسيحية.
ولا شك أنَّ العارفين بالنصرانية من المسلمين والعارفين بالإسلام من النصارى
يعتقدون بأن كلاًّ من الدينين يأمر بالبر والإحسان إلى كل الناس. ومن أحكام الفقه
عند المسلمين أنه يجب عليهم شرعًا إذا اضطر الذميّ أن يواسوه بما يزيل اضطراره
وأنه يستحب الإحسان عند عدم الاضطرار إلى جميع المحتاجين.
وإنما كان منشأ التعصبات والتحزبات والتباعد والتفريق بعض رؤساء الدين
والدنيا لمآرب لهم في ذلك. وقد رغب إلينا غير واحد من المتعصبين بأن نسكت عن
تنبيه المسلمين على تقصيرهم وتنفيرهم عن سيئاتهم , ونستبدل بذلك الرد على
النصارى , وما غرض أكثرهم إلا التلذذ والتشفي دون المنفعة للمسلمين والإيذاء
لغيرهم لأن الانتقاد هو دائمًا ينفع ولا يضر , والنهي عن المنكر يفشو في المسلمين،
فرض إذا لم يقم به أحد كان جميع العارفين الساكتين من الفاسقين. وكذلك رد ما يثير
الشبهات في الدين واجب , ولولا تصدي المبشرين من البروتستنت لنشر دعوتهم بين
المسلمين لما كتبنا في هذه الموضوعات خلافًا لبعض الجرائد التي تريد من التنديد
بالمبشرين إرضاء متعصبي المسلمين لمنفعتها، فلا ترد شبهة بل تثير الفتنة، على أن
هذه الدعوة تنفع المسلمين ولا تضرهم. وقد نبهنا على هذا
مرارًا.
وغرضنا في هذه النبذة أن نبشر أنفسنا بوفاق حسن في مستقبل قريب رغمًا
عن أنوف مثيري الفتن من المتعصبين , فإن تقارب العقلاء في هذا الزمن
وشعورهم بحاجة بعضهم إلى بعض وما يسبق إليه أهل البر من كل فريق - له تأثير
حسن في نفوس الأمة , ولو كانت الجرائد تنوه بإحسان مثل المرحوم أحمد باشا
المنشاوي على جميع طوائف النصارى واليهود وتذكر ما فيه من داعية التأليف،
وتبرع مثل الخواجات سمعان للجمعية الخيرية الإسلامية بمثل ذلك - لكان الأثر أقوى
والاعتبار أعم , فمثل هذه الأعمال لا يصح أن تغفل عند التنويه من هذا التنبيه.
وقد شهدنا من مدة قريبة أريحية من هذا القبيل هي كبيرة في معناها وإن
رؤيت صغيرة في صورتها , وذلك أن صديقنا نسيم بك خلاط أحد وجهاء النصارى
وفضلائهم في طرابلس الشام قدم إلى القاهرة في الشهر الماضي فزار الشيخ محمد
عبده في معهد الإفتاء بالأزهر وكان لا يعرفه إلا بآثاره , وذكر في حضرته أنه قرأ
رسالة التوحيد وأعجب بحقيقتها وبلاغة عبارتها , وذكر من إعجاب فضلاء
السوريين بها وتعلقهم بالأستاذ. وكان في المجلس جماعة من علماء الأزهر فقال
أحدهم لنسيم بك: هل اشتهرت رسالة التوحيد عندكم حتى قرأها المسلمون وغيرهم؟
فقال: نعم , ولها حظها من حسن الذكر والإعجاب كما أن جميع الطوائف عندنا
تجل سماحة الأستاذ وتعشق مشربه في الإصلاح والتأليف بين الطوائف الذي نحن
في أشد الحاجة إليه ولا نجاح لنا بسواه. قال العالم: لكنني أخبرك بخبر ربما
تعجب له وهو أن بعض علماء الأزهر لما يقرأ هذه الرسالة. فنال من البيك العجب
وقال: إني أتبرع بخمسين نسخة من الرسالة توزع على الأذكياء الفقراء. ثم إنه
أمضى ذلك التبرع بالفعل، فكان له من حسن التأثير عند المفتي وسائر العلماء ما
يستحقه.
لا جرم أن نمو هذه الأريحية فينا هي التي تقرب بعضنا من بعض وبأمثال
هؤلاء الرجال يغلب فضلاء المصلحين عصائب المفسدين المفرقين، الذين لا
تجمعهم لغة ولا جنسية ولا قانون ولا دين، بل اخترعوا لهم وطنية بالبهتان، لا
يشهد لها شرع ولا برهان، وإنما أساسها الأهواء، وابتزاز الدراهم من الدهماء.
* * *
(ترجمة الشنقيطي)
لم نتمكن من كتابة ترجمة فقيد العلم واللغة الشيخ محمد محمود الشنقيطي لأنها
تتوقف على رؤية بعض آثاره في كتبه التي تودع في دار الكتب الأميرية ولما يتم
ذلك.
* * *
(كتاب ليون تولستوي إلى القيصر)
كتب هذا الفيلسوف الشهير كتاب نصيحة إلى القيصر خاطب فيه ذلك العاهل
المطلق في ذلك الملك العظيم بقوله: (أخي العزيز) . وقد بين له فيه السيرة
السوءى التي عليها الحكومة الروسية , ونصح له بأن يتنزل من سماء عظمته إلى
أرض المملكة ويتعرف حال العمال والفلاحين ويرفق بهم , ويهب الأمة حرية
التعليم والاعتقاد والانتفاع بالأرض بإلغاء حق ملكية الحكومة لها وإباحتها للأمة
وحل عقدة مسألة العمال، ومما قاله في كتابه:
أخي العزيز: ليس لك إلا حياة واحدة فوق هذه الأرض، فإن شئت قضيتها
سدى في إيقاف حركة الإنسانية وانتقالها من الضار إلى النافع ومن الظلام إلى النور
وهي حركة قضت بها حكمة الله تعالى وجرت بها سنته، وإن شئت قضيتها بهدوء
وتقى في خدمة الله والناس بأن تعرف حاج الأمة ومطالبها فتوقف حياتك على
قضائها.
وقد ترجمت هذا الكتاب بعض الجرائد الأوربية والمصرية , وأعجب به
الناس ولم يقل أحد منهم: إن ذلك العالم قد أساء إلى دولته وسلطانه أو أمته، بل
يرون بلادًا فيها مثل هذا العقل وهذه الإرادة جديرة بأن تنهض فتزيل من بلادها
حكم الاستبداد وتلحق بالأمم العزيزة. وأما الذين يعشقون العبودية والاستخذاء، فهم
بعيدون عن أسباب الارتقاء.
* * *
(سقوط ميناء أرثر)
قد أقام الروس في هذا الموقع الحربي البري البحري من الحصون والقلاع
والمعاقل ما لا يعرف له نظير في غيره، فكان حصار اليابانيين له أليمًا شديدًا , ولكن
الحزم والعزة والثبات من العالم القوي لا يقف أمامها شيء فقد كانوا يلغمون الأرض
وينسفون الحصون حتى اضطرت الحامية الروسية إلى التسليم مع أن عندها من
المؤنة والذخائر ما يكفيها للمقاومة مدة لا تفيد إلا سفك الدماء عبثًا , فكان لهذا
التسليم وقع عظيم في العالم ارتفعت به مكانة اليابان الحربية، من حيث خفضت
منزلة الروسية، وبهذا زاد اليابانيون حماسة وإقدامًا على الحرب وظهرت بوادر
الثورة في روسيا، فقام المتعلمون يهيجون العمال، حتى اعتصبوا على ترك
الأعمال، والأمة تطلب الآن ترك الحرب والحرية العامة وما أدراك ما الحرية
العامة؟ هي إزالة العبودية، والارتقاء عن البهيمية إلى التمتع بالمزايا الإنسانية.
__________(7/868)
غرة ذو الحجة - 1322هـ
6 فبرلير - 1905م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
الحيلة في الطلاق الثلاث
(س107) محمود أفندي أبو المكارم بطنطا , من علماء الجامع الأحمدي
رجل يناهز السبعين من العمر قضى نحو أربعين سنة في وظيفة التدريس وللعامة
ثقة بفتواه , وقد اعتاد أن يرجع المطلقة من زوجها ثلاثًا أو أكثر إليه بفتوى لا أظن
أن الكتاب والسنة يبيحانها ولا السلف الصالح سبقه إليها. ذلك أن الرجل إذا أتاه
فأخبره بأنه طلق زوجته ثلاثًا , ولم يجد من هذا الرجل شبهة أو تحريفًا في كيفية
الحلف كالتنفس في أثناء اليمين القاطع للكلام أو غير ذلك من الحيل؛ يقول له:
من الذي وكل لزوجتك عند العقد عليها أهو وليها أم غيره؟ فإن قال له الثانية؛
حكم بفسخ العقد الأول وعقد له عليها ثانية , ولو كان رزق منها بأولاد. وقد حدثت
منه هذه الفتوى لأقرب الناس إلي من عدّة سنين , وملخص هذه الواقعة أن لي قريبًا
تزوج بفتاة بالغة عاقلة رشيدة وكلت رجلاً أجنبيًّا لأنها لا أقارب لها إلا ابن خالة
كان في هذا الوقت على ما أظن لم يبلغ الحلم , ومكث هذا القريب مع زوجته هذه
عدة سنين رزق منها فيها بعدة أولاد , وحدث أنه طلقها طلقة وراجعها ثم بعد مدة
طلقها ثلاثًا , وسأل عدة من العلماء فأفتوه بأن لا مسوغ شرعًا لإرجاعها إليه حتى
تنكح زوجًا غيره , فأتى إليه هذا العالم وأفتاه بما تعود عليه من الفتوى , وعقد له
عليها جديدًا , والمستفتي في الحقيقة معذور لجهله بالشريعة وثقته بما يتحلى به هذا
العالم من العمامة والجبة ذات الأكمام الواسعة , وقد عمت هذه البلوى فأرجو إفادتي
على صفحات مجلتكم الغراء عن ما ترونه في هذه الفتوى هل هي موافقة للكتاب
والسنة أو أتى بمثلها السلف الصالح أم لا؟ فإن كانت الأولى فما النصوص؟ وإن
كانت الأخرى فما قولكم في النظام الواقع بعد العقد الجديد؟ وما حكم الشريعة فيما
أعقباه من الأولاد بعد هذا العقد؟ فهذان سؤالان أرجو الإجابة عليهما بعد إثباتهما
على صفحات المجلة حيث لا ثقة لنا إلا بإرشاداتكم، جعلكم الله هادين لهذه الأمة التي
أصبحت عديمة النصير حتى يرتجع أصحاب الغايات المضلين إلى أصل الشريعة
الغراء.
(ج) إن ما ذكر في السؤال من كيفية إرجاع المطلقة ثلاثًا إلى المطلق لم
يعرف عن أحد من السلف الصالح , ولا يدل عليه كتاب , ولم تمض به سنة ,
وإنما هو من احتيال المتفقهة المبني على اختلاف المذاهب , وهو من مفاسد التقليد
للعبارات من غير مراعاة نصوص الشرع وحكمه , والكتاب والسنة لا اختلاف
فيهما {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) فمن
عمل بهما لا يمكن أن يفتي في المسألة الواحدة (كالطلاق الثلاث) بفتاوى مختلفة ,
وما أظن الرجل يدعي ذلك فيبين خطؤه بذكر الآيات والأحاديث , وإنما يدعي أنه
يفتي بمذاهب الأئمة عليهم الرضوان فنقول في بيان خطئه: إنه لم يقل أحد منهم
بجواز إقامة الرجل مع المرأة زمنًا بعقد على مذهب ثم اعتباره فاسدًا وتجديد عقد
آخر على مذهب آخر , واعتبار الأولاد الذين ولدوا لهما في زمن كل من العقدين
أولادًا شرعيين. وقد صرحوا بأنه (إذا عمل العامي بقول المجتهد في حكم مسألة
فليس له الرجوع منه إلى غيره اتفاقًا , وأما في حكم مسألة أخرى فيجوز له أن يقلد
غيره، على المختار) وذلك أن التزام أحد أقوال المجتهدين بالعمل به يرفع الاختلاف
بالنسبة إلى العامل كحكم الحاكم.
ربما يقول هذا الملفق: إن عمله من التلفيق الذي أجازه بعض العلماء. ونحن
نعترف بأن بعض العلماء أجاز التلفيق خلافًا لما جاء في كتاب الدر المختار من
كتب الحنفية من حكاية الإجماع على بطلان الحكم الملفق , ولكن الذي يجيزه
يشترط أن يكون في مسألة واحدة بحيث يأتي بحكم لم يقل به أحد من المسلمين ,
وأن لا يكون فيه رجوع عما عمل به أو عن لازمه إجماعًا كما هنا، ذكر هذا ابن
نجيم في رسالته في بيع الوقف بغبن فاحش وقال: إنه مأخوذ من إطلاقهم جواز
تقليد من قلده في غير ما عمل به. وإذا كان العاميّ الغافل عرضة للمتجرين بالدين
يصدق كل ما يقولون، فكيف يتجرأ العالم المدرس على الفتوى بأقوال متناقضة
كالقول بأن الولي شرط في صحة النكاح والقول بأنه غير شرط مع علمه بأن الحق
واحد واجتماع النقيضين محال. أيعمل بقول من قال: نحن مع الدراهم قلة وكثرة؟
وهل يستحل أولئك الذين أجازوا لأنفسهم الفتوى بالقولين المتضادين لكثرة الدراهم
أن يفتوا بهما الرجل الواحد في الموضوع الواحد؟ أم يخففون وطأة جميع الأحكام
الدينية فيفتون كل مستفتٍ بقول ليكون هذا مقلدًا لفلان والآخر مقلدًا لعلان؟ إذ لا
معنى لتقليد شخص واحد لعالمين مختلفين في مسألة واحدة لها لوازم مختلفة كواقعة
السؤال.
أما ما كان عليه السلف في مسألة الطلاق الثلاث فالإجماع على أن من طلق
امرأته ثلاث مرات فإنها لا تحل له حتى تنكح زوجًا آخر نكاحًا صحيحًا مقصودًا ,
وهذا ظاهر نص القرآن , وجرت به السنة , وعليه العمل. واختلفت الروايات
والأحاديث في الطلاق مرة واحدة بلفظ الثلاث، فالمذاهب الأربعة على اعتبارها ثلاثًا
إلا بعض الحنابلة كابن تيمية وابن القيم ولهم سلف وحديث صحيح يحتجون به ,
وتقدم تفصيله في المنار فلا نعيده , وإنما نقول: إن عمل العالم المذكور في السؤال
ليس عليه إلا أن يكون بعد العدة , وعليه إذا طلق الزوج مرة أخرى كانت ثالثة لها
حكم الثلاث.
***
توبة الآيس
(س 10) ن. ب الطالب بمدرسة خانقاه في (سراي بوسنة) : ما تقولون
في توبة الآيس هل تصح أم لا؟ صرح كثير من العلماء بصحة توبته وقبولها عند
الله استدلالاً ببعض الأحاديث مع أنهم قائلون بعدم صحة الإيمان وقت اليأس ,
وفرقوا بينهما بأن التوبة تجديد عهد والإيمان إنشاء عهد لم يكن، وبوجوه أخرى
سوى هذه. وآية {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} (النساء: 18) بظاهرها
تنادي على خلاف ذلك. نحن نطلب رأيكم في ذلك، عمَّركم الله سبحانه وتعالى.
(ج) إن الله تعالى ما ذكر في هذه الآية الذين لا توبة لهم عنده إلا بعد أن
ذكر الذين تقبل توبتهم في الآية التي قبلها بصيغة الحصر وهي: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى
اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ
اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء: 17) والمعنى ظاهر فصيح لا تعارضه تلك الأقيسة.
وما ورد في بعض الأخبار من أن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر فهي
واردة في معرض الزجر عن اليأس من رحمة الله والترغيب في التوبة ما دام
الإنسان حيًّا. وهو الواجب على المسلم إذ هو قبل الغرغرة مكلف بجميع الأحكام
الشرعية بشروطها , ومنها وجوب التوبة إذا كان عاصيًا. ولكن افرض أن الكتاب
العزيز لم يبين هذه المسألة بهذا الإيضاح الذي نراه في الآيتين، بل وَكَلَها إلى أفهام
الناس وعقولهم , فهل يتصور عقلك أن التوبة تتحقق ممن حضره الموت وأيقن
بمفارقة الدنيا؟ أليس معنى التوبة الرجوع عن المعصية إلى الطاعة مع التأسف
على ما مضى , والعزم على الاهتداء والاستقامة فيما يأتي طوعًا واختيارًا لطاعة
الله على معصيته؟ وهل هذا معقول ممن حضره الموت؟
ثم إن الحكمة من بعثة الرسل وإنزال الشرائع هي إصلاح الأرواح وترقيتها
بالإيمان الصحيح والعمل النافع ليصلح حال الناس في الدنيا ويكونوا أهلاً لجوار الله
تعالى في الآخرة مع أصحاب الأرواح العالية من الملائكة والنبيين , والتوبة من
الكفر أو من المعاصي عند حضور الموت لا تفيد صاحبها شيئًا من هذه الحكمة ,
فهي ندم عند استقبال الآخرة كالندم في الآخرة لا يفيد لأن وقت العمل قد فات،
ولكن من يتوب قبل حضور الموت أي قبل الشعور بنزوله به ويأسه من الحياة فلا
بد أن تكون نفسه قد أعرضت عن باطلها الأول وأذعنت بقبحه وتوجهت إلى الحق
والخير وهي ترجو العمل به لأملها بالحياة , وهذا صفاء في النفس وارتقاء عظيم
تستفيد به لأنها قد ارتقت عن طبقة الأشرار وإن عاجلها الموت عقيبه فلم تتمكن من
العمل الصالح الذي توجهت إليه , ولكنها لا تكون في مرتبة الذين عملوا وأصلحوا
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُون} (الجاثية: 21) .
وهنا بحث أدق من هذا وهو: هل يصرّ الإنسان على عمل السيئات
والمعاصي ثم يتوب قبيل الموت توبة صحيحة ترتقي بها روحه عن أرواح الأشرار؟
وبعبارة أخرى: هل جرت سنة الله تعلى بأن النفس التي تكيفت بأفعال الشر
والخبث تدريجًا حتى صارت أخلاقها وصفاتها سيئة وملكتها رديئة تنقلب فجأة إلى
ضد ما تكيفت به؟ المعروف في علم النفس هو ما يستفاد من آيتي التوبة المشار
إليهما في السؤال والجواب فإن قوله: {يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} (النساء: 17) يفيد
أن الحكمة بالقرب عدم تأثر النفس بالإصرار , ويفيده أيضًا قوله: {يَعْمَلُونَ السُّوءَ
بِجَهَالَةٍ} (النساء: 17) أي بسفه عارض كسورة غضب أو ثورة شهوة أي لا
بالميل الغريزي إلى الشر والخلق المطبوع , ولذلك لم يأت بهذا القيد في آية من
يقبل توبتهم. ومن قوله تعالى: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 81) وقوله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى
قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (المطففين:
14 - 15) ومن حديث النكتة السوداء. ومن قول السلف: المعاصي بريد الكفر ,
وعلم النفس والأخلاق يفيدنا أن الملكات التي تنطبع في النفس بالعمل هي صفة
للنفس كصفات الجسد، وأن مقاومة الأخلاق السيئة إنما تكون بترك العمل الذي هو
أثر الخلق الذميم , والمواظبة على عمل يضاده زمنًا طويلاً مع التكلف ليحدث في
النفس وصف يضعف ذلك الوصف ويغلب عليه , ومن عني بتهذيب نفسه أو غيره
في الكبر ولو بمقاومة بعض العادات والأخلاق يعرف صعوبة هذا الأمر وتعسره.
نعم إن من خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا فتزاحمت في نفسه آثار الخير وآثار الشر
يرجى أن يغلب في آخر عمره أثر الخير بتوفيق الله تعالى كما قال تعالى في بعض
المتخلفين عن الجهاد من المؤمنين في واقعة تبوك: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ
خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} (التوبة: 102) وربما كانت توبة الكافر من الكفر قبيل الموت أقرب إلى المعقول
لأن الإيمان مسألة عقلية، إذا زالت الشبهة وقامت الحجة يزول الكفر ويستقر
الإيمان حالاً.
وإذا طلبت زيادة النور في هذا المقام فعليك بمطالعة كتاب التوبة للإمام
الغزالي وما كتبه في معنى (سوء الخاتمة) نعوذ بالله منها في باب الخوف من
الجزء الرابع من الإحياء. ولا تأخذ بظواهر أقوال بعض الفقهاء وتعليلاتهم اللفظية
كقولهم عهد جديد وعهد قديم وغير ذلك. والله أعلم. وسنجيب عن سؤالك الآخر
في جزء آخر إن شاء الله تعالى.
__________(7/895)
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
__________
شكل حكومة الإسلام
وضعف المسلمين باستبداد الحكام
مراجعة الشيخ صالح بن علي اليافعي من (حيدر أباد الدكن)
ورده الثاني على رفيق بك العظم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ثم
أهدي السلام ورحمة الله وبركاته إلى حضرة العلامة الفاضل خادم السنة وقامع
البدعة مولانا السيد محمد رشيد رضا مدير المنار الأغر المنير، سلك الله بنا وبه
منهج الرشد والرضاء، آمين. وبعد، فإني وقفت على المراجعة التي كتبها حضرة
العلامة الفاضل كبير النفس وشديد الغيرة ورفيع الهمة، ذو المكارم الجمة، أخونا
رفيق بك العظم ونشرت في الجزء 17 من المجلد السابع من المنار تحت عنوان
(ضعف المسلمين بمزج السياسة بالدين) وافتنا هذه الرسالة في آخر رمضان شهر
الرحمة والغفران , ورأيتكم وعدتم بكتابة شيء في الموضوع فأخرت الجواب لعلمي
بأنكم إن فعلتم تأتوا بالحق الصراح وفصل الخطاب إن شاء الله. وفي رمضان
المعظم شاغل عما هو أهم من هذا , ووراء ذلك كله سبب آخر وهو أن محبكم
الحقير أصيب بالحمى , وحين حصلت الإفاقة ورأيت حضرتكم أرجأ البحث كتبت
إلى جنابكم هذه الكلمات لتنظروها أولاً ثم تصلحوا ما يلزم , ثم تنشروها في مناركم
الأغر. عسى بتكرار نشر هذه الأبحاث أن يجلي الله الصدأ عن متخيلات الأمة،
ويكشف عنهم الغمة والظلمة.
وأقول أولاً: ليعلم القراء الكرام أن هذه الأبحاث والمكاتبات والمراجعات
الصادرة مني ومن الأخ الفاضل رفيق - حفَّنا الله وإياه بالتوفيق - ليست من مباراة
المتنطعين، ولا من مغالبة المتعصبين، إنما مقصد كل منا ظهور الحق وبيان
الحقيقة التي هي ضالة كل مؤمن ومنصف , وغاية كل منا تنبيه أهل ملتنا على
حالتهم الواهنة وموقفهم الحرج المهين بإزاء الأمم المتراهنة في حلبة السبق إلى
مواقف الكمال وحلول منازل الشرف والسيادة. فيا عون الله ويا غارة الله ما لنا
وماذا حل بنا؟ أين الأنفة والغيرة التي يتحقق بها من يؤمن بقوله تعالى: {فَإِن
يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْن} (الأنفال:
66) الآية؟ أعدم وثوق بوعده تعالى شأنه إيانا النصر؟ إنه لعار علينا أن نكون
من سلالة أولئك الأبطال الشجعان , ليوث المعامع والطعان الذين أجابوا بالتلبية
داعي الإيمان , ثم نحن نخضع ونرضى بخطة الذل وموقف الهوان، فوا عجباه
ووا أسفاه! أفهذا الجبن والجمود والعبودية لغير الله محبة في هذه الحياة المنغصة
التي يزهد فيها كل ذي شهامة؟ أم انقلب الأمر وعكست القضية حتى صدق علينا
قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (البقرة: 96) وقوله تعالى:
{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} (البقرة: 96) أما نتلوها كما كان يتلوها
أسلافنا في أناس أهانهم الله وسلطنا عليهم ثم أهانونا وتسلطوا علينا؟ أم كذبنا بما
وعد الله عباده المؤمنين تكذيبًا؟ وليت شعري كيف يتصور أن عقلاً يزهد في الدنيا
وفيما عند الله معًا؟ نعوذ بالله من الحور بعد الكور {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن
تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) ويا ترى من أي صوب رمينا،
ومن أي وجهة بلينا، وما سبب هذا الداء العضال الذي حير ألباب الرجال؟
وأخونا الفاضل شريكنا في الألم والحزن والتوجع على القوم , وقد أبان في
ذلك من رأيه ما قد اطلع عليه القراء الكرام وأظهرت من رأيي ما ترجح لديَّ ,
وكان من رأيه أن هذا السقوط الذي يكاد أن يقضي على حياة الأمة باليأس والقنوط
سببه مزج السياسة بالدين منذ بدء الخلافة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا
الوقت المرذول , وشرحت من رأيي أن هذا المرض لم تصب به هذه الأمة إلا بعد
الخلافة النبوية , وسببه ترك الدين , وكلما امتد الزمان وبعد العهد زاد بُعدهم عن
الدين , وبذلك يزداد مرضهم وضعفهم الذي هم الآن يأنُّون من وطئته بلسان حالهم
لا بلسان مقالهم. وقلت: إنهم لو مزجوا السياسة بالدين كما أمرهم الله لما نزل بهم
ما نزل. الأخ الفاضل يدعوهم إلى تدارك ما فات العرب في بدء الإسلام من إقامة
سلطة شورية نيابية , وأنا ما أنكرت عليه ما استحسنه من هذه السلطة بل وافقته
عليها كما أني وإياه ككل ذي لب وغيرة مشتركون في الكآبة والنوح على ما أصاب
أهل ملتنا، وإنما أنكرت إطلاق أن سبب هذا الضعف هو مزج السياسة بالدين وتمنيه
أن لو تركوا الدين جانبًا والسياسة جانبًا، وتمنيه أيضًا أن لو سلك العرب في إقامة
الحكومة مسلك الرومان، وقوله في العرب: لعراقتهم في البداوة. والحال أنه يعلم أن
من العرب بدوًا وحضرًا , ومنهم تبابعة وسلاطين وأمراء وأقيالاً , ولو كانوا كلهم
أهل بداوة لما صح نهيه صلى الله عليه وسلم من تحضر أن يعود إلى البداوة.
والصحابة رضي الله عنهم هم سادات الحضر , وظني أن الأخ الفاضل إنما أطلق
هذا اللفظ على ما هو المتعارف في هذا الزمان من أن البداوة ليست نقصًا , أو لعل
مراده العرب غير الصحابة لأن صحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم أنالتهم كل
فضيلة. فهم سادات الحاضرة ولكن لم يوجد لديهم تاريخ أساسي ولا سياسي للدولة
لكون أسلافهم متأصلين في البداوة وهذا الاحتمال هو اللائق بعلمه وفضله. وأنا
ذكرت أن الله تعالى أغنانا بما شرع لنا ولم يحوجنا إلى الرومان ولا إلى غيرهم
على أن الوقوف على معرفة أحوالهم وتواريخهم كان يومئذ متعذرًا وفي غاية
الاستبعاد , فطريقتهم مجهولة مهجورة , والحكومات التي كانت بذلك العهد شخصية
استبدادية , ولو قلنا: إن العرب بل وأكثر طوائف ذلك العهد لم يداخل متخيلاتهم
ولم يطرق أسماعهم شورى الرومان النيابية - لم يبعد قولنا , فاقتراح ذلك على العرب
أو غيرهم ليس في محله.
ورأيت أقرب من هذا الاقتراح لو أن المسلمين توجهوا إلى الآيات والأحاديث
التي تتعلق بالإمامة العامة والحكومة فجمعوها وفرعوا عليها كما توجهوا إلى ما ورد
في غيرها من سائر الفرعيات من عبادات ومعاملات وغيرها مما دونوه في كتب
الفقه وشروح الحديث وغير ذلك , وذكرت أنه لم يمنعهم ويصدهم عما ذكر إلا ظلم
ظلمة المستبدين , وقلت: إن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لم تكن إماراتهم
شخصية استبدادية بل خلافة شورية أمرهم الله بها ووصفهم بها ومدحهم عليها ,
وأنه لم يكن في استطاعتهم رضي الله عنهم نصب مجلس شورى انتخابي كالمعهود
في هذا الزمان عند النصارى أو يكاد أن يكون مستحيلاً لأن أكثر كبارهم وقرائهم
وعلمائهم الذين لو وقع انتخاب لم يتعدهم كانوا متفرقين في الغزو والجهاد في سائر
البلاد مشتغلين بقيادة المجاهدين ونشر الدين , ولو أقيم مجلس شورى انتخابي منهم
لفاتهم الغرض الذي لأجله بعث الله أنبياءه وأنزل كتبه وهو نشر الدين , والبعض
القليل بقي في جوار الخلفاء فمن ينتخب ومن يترك؟ ومن هي الرعية التي تنتخب؟
فلم يبق في استطاعة الخلفاء في إقامة هذا الواجب شرعًا وعقلاً إلا ما عملوا به
وهو أنهم كانوا إذا نابهم الأمر ينادون: الصلاة جامعة، فيجتمع مَن ثَم مِن المسلمين ,
ويعرض الأمر المستشار فيه , فهذا عذرهم فاحفظه. وأما من سواهم ممن جاء
بعدهم من الظلمة فقل فيهم ما شئت. بقي أن الصحابة رضي الله عنهم لم يدونوا
لمن يأتي بعدهم الطريقة لتأسيس السلطة العامة؛ فجوابه أنهم لم يجمعوا غير القرآن
حذرًا من تدوين كتاب مع كتاب الله، وقد ثبت ذلك في الرسالة السابقة.
أما قول الأخ الفاضل: إنه قد ثبت عند الأصوليين أن الأنبياء قد يخطئون في
اجتهادهم , والعرب في صدر الإسلام لو فرضنا أنهم اجتهدوا وأخطأوا فهل في ذلك
ما يدعو إلى استكبار ذكر هذا الخطأ؟ فأقول في جوابه: ما ذكره من جواز اجتهاد
الأنبياء ثم جواز وقوع الخطأ فيه الذي لا يُقرون عليه ذكره الأصوليون واضطربوا
فيه , وما جزم به هو الحق الذي عليه أهل الأثر إنما بقي أمر وهو إن كان
الصحابة وسائر العرب اجتهدوا وأقاموا الحكومة , وفرض أنهم أقاموها شخصية
مطلقة فأخطأوا كما ذكر، أفليس يلزم حينئذ تجويز الخطأ على إجماعهم وعملهم
المستمر؟ وأنا وهو لا نقول به , أما إذا لم يكن إجماع فإني لا أستكبر ذكر هذا
الخطأ إنما يستكبره الجامدون على التقليد الذين يحيلون الخطأ من أئمتهم ويستثنونهم
ممن يجوز عليه الخطأ من أفراد الأمة.
قال الأخ الفاضل: والرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤسس دولة بل شرع
شرعًا. إلى أن قال: وليس هناك نص بعينه يبين كيفية تأسيس الدولة. كذا قال
وليس بصحيح على إطلاقه من وجوه:
(الوجه الأول) إن من أبعد كل بعيد أن يكون الشارع مع كمال حكمته
وعدله وعلمه الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض يدلنا على كل
أبواب الخير وطرقه , ورسوله صلى الله عليه وسلم يعلمنا أكمل الأخلاق حتى آداب
العشرة وآداب قضاء الحاجة , ثم يهمل الإرشاد إلى هذا الأمر العظيم الذي به قوام
شرعه وصلاح حزبه.
(الوجه الثاني) ما هو الجواب إذا قالت الطواغيت المستبدة وحزبهم أعوان
الشياطين وبطانات السوء: إنكم إذا سلمتم أن الشرع لم يبين تأسيس الحكومة وإنما
تركها إلى اجتهادنا، فأي قباحة إذا اخترناها شخصية مطلقة؟ وإذا كانت إمارة الخلفاء
الراشدين مطلقة فلنا بهم أسوة فنحن مثابون على كلا التقديرين ومتبعون , وأما ما
ترونه من سلاطيننا ظلمًا فإنما هو باجتهاد منهم وهم مثابون على ذلك الاجتهاد أيضًا
لأن الأمور العامة منوطة بهم واجتهادهم كافٍ , ثم يقولون: إن الاستشارة الواردة
في الكتاب إذا لم تكن تأسيسًا للدولة ولا بيانًا لطرزها فإيجابها على أي أمير باطل،
وغايته أن تكون مندوبًا إليها استحبابًا.
(الوجه الثالث) إن السلطة العامة إما أن تكون جمهورية نيابية أو شخصية
مقيدة أو شخصية مطلقة لا سبيل إلى الأخير لأن تعيين الخليفة الشرعي مشروط
برضاء المسلمين واختيارهم له وبيعتهم , والأصل أن تبقى لهم هذه الحقوق بعد
نصبه وإلا فاتت فائدة منحهم إياها ابتداءً وأيضًا فلا تعقل حكمة لهذا الانتخاب
والبيعة إلا إذا استمرت للأمة هذه الحقوق في كل شئون الدولة؛ يؤيد ذلك حجية
الإجماع , وأن الأمة لا تجتمع على ضلالة , وأنهم كالجسد الواحد إلى غير ذلك من
وصفهم بالاتحاد والاشتراك وتعميمهم بالخطاب ووصفهم بالتعاون على ما ورد من
أصول المدنية وتكميل كل خير عمومي , وفي القرآن والحديث من ذلك الكثير
الطيب , وكله منافٍ لتعيين أشخاص تستبد. فأقل حالات المستبد أن يكون عاصيًا
بتركه ما أمره الله وأوجبه عليه من استشارة المسلمين. وهذا الواجب لا يسقط
بمجرد اختياره أناسًا من خاصته الذين يتلونون بلونه ويتكيفون كيف شاء؛ إذ لا يكون
باستشارة هؤلاء مستشيرًا للمسلمين لا شرعًا ولا عرفًا , أما المستبد الظالم فتهديدات
الشارع وزواجره وإيعاده بغل يديه تارة وبالنار أخرى إلى غير ذلك من القوارع، لا
يبقى معها شك أن إقامة هذا القسم من الحكومات لا يأتي بها الشرع المتين، ولا
يرضاها الله ولا رسوله ولا المؤمنون، وتجويز أن الله شرع وأرشد إلى حكومة
مطلقة إنما يقوله البغاث والغثاء الذين لا يعبأ الله بهم المتزلفون بالمصانعة والنفاق
إلى طواغيتهم الظلمة , فقولهم هذا عار وخزي على المسلمين كما أنه كذب صريح
على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , فهو تنقيص لإكمال الأديان يقتضي نسبة
الظلم وتقريره والرضاء به على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , وأن يكون
الشرع آتيًا بنقيض ما تستحسنه العقول السليمة , ويكفي في رد هذا القول مجرد
حكايته , ويكفي في عدم المبالاة بقائليه الذين هم أهون على المسلمين من قمامة
الطريق مع وضوح افترائهم صغر أنفسهم وسقوط هممهم واقتصارهم على الحظوظ
الشخصية , واختيارهم هذا العرض الأدنى واستبداله بالذي هو خير , وتركهم
الإنسانية واعوجاجهم عن طريق العقلاء مع الوقاحة وقلة الحياء والغيرة , قلل الله
عددهم وأخزاهم.
وإذا بطلت الحكومة المطلقة شرعًا وعقلاً بقيت الحكومة المقيدة والحكومة
الجمهورية النيابية، فإذا نظرنا بالإنصاف والعدل ورمينا الإفراط والتفريط بعيدًا
عنا رأينا أن الشارع لم يهمل هذا الأمر المهم العظيم , وأن إرشادات الكتاب والسنة
دائرة على جواز تأسيس إحدى هاتين الحكومتين على التبادل واختيار إحداهما
بالمصلحة التي تقتضيها حاجة المسلمين , وعلى الحكومة الأولى مضت سنة الخلفاء
الراشدين , ويدل عليها قوله تعالى مخاطبًا لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر} (آل عمران: 159) وقد قرر علماء الأصول أن الأمر
يقتضي الوجوب , فهذه الآية أصل عظيم في جواز تأسيس الحكومة الشخصية
المقيدة بالشورى، بيانه أن الاستشارة واجبة , وترك الواجب معصية فترك
الاستشارة معصية , وقد جاء في الحديث: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)
والسلطان المستبد مخالف لأمر الله في حكمه , وكل مخالف لأمر الله في حكمه لا
يرضاه بل يسخط عليه فالسلطان المستبد لا يرضاه الله شرعًا فلزم أن هذا السلطان
لا طاعة له ولا يرضاه الله فلا يكون شرعيًّا إلا إذا كانت سلطته مقيدة بالشورى ,
فالمسلمون ينصبون الخليفة ويولونه , وهذه الآية الكريمة تقيد سلطته , وتبين طرز
الحكومة , فتعينه ونصبه بأيديهم , وأمور الحكومة مشتركة بينهم وبينه بحكم الشرع
والعقل , ويجب عليهم نصحه وطاعته في كل منصوص شرعًا , أو ما أجراه بعد
إبرام أهل الرأي والمشورة , وتكون طاعته في الأمر الأول كوجوب امتثال حكم
القاضي، ولا يلزم في أحكام القضاة المنصوصة المشاورة , وإذا كان الله أمر
رسوله صلى الله عليه وسلم بمشاورة المسلمين مع عصمته وتأييده بالوحي من
السماء فما بالك بمن يجوز عليه الخطأ وهو يدعي النيابة عن هذا الرسول المقبول
وأنه من أتباعه وأمته، أيليق به أن يرغب عن نهج متبوعه إلا أن يكون كاذبًا في
دعواه ماردًا متمردًا , والله تعالى لا يرحم المارد المتمرد.
ووالله إن هؤلاء الظلمة وأعوانهم قد تجرءوا على الله وخالفوا أمره واتبعوا
غير طريق الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين , وخالفوا العقول واستغنوا عما
لم يستغنِ عنه من يدَّعون أنهم نائبون عنه. أفسدوا أمر الأمة وأوهوا قواها وأماتوا
إحساسها وشعورها , ولقد بلغ هؤلاء النوكى من التهافت المبلغ الأردأ وهم للأمة
والدين والعقل أعداء. فلا أهلاً ولا سهلاً بهذه الوجوه القامحة ولا سمعًا ولا طاعة
ولا هم أمراؤنا بل الخصوم اللدّ. ولكن ذلك عقاب ما كسبت أيدينا، والتقصير منا
واللوم عائد علينا إذ وسدنا أمورنا إلى مثل هؤلاء وجعلناهم مختارين، وخالفنا بذلك
ديننا وعقول العقلاء ولو أنا نشترط مع تأمير كل أمير ما يضمن لنا السلامة من
فجوره وفتكه في أمورنا وأنفسنا لما تعدى طوره [1] .
أليس من العجيب الغريب أن نأتي ونعمد إلى شخص كسائر أفرادنا فنرفعه
ونعلي رتبته ونوليه أموالنا وأعراضنا وأنفسنا ونحن نرى ونذوق من أمثاله من
مزارات الاستبداد والظلم ما يضعضع الجبال ولا يجهله الأطفال , ومع ذلك كله لا
نشترط عليه شروطًا شرعها الله وقضى بها العقل؟ وهل هذا إلا عار على الإنسانية
وترك للدين أو سفاهة وجنون؟ اللهم سلم سلم، أما الحكومة الثانية أعني الجمهورية
النيابية فيستدل على جوازها بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} (النور: 55) وقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ
شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) بيانه أن وعد الله لهم بالاستخلاف جاء لتبشيرهم
وإدخال السرور على جميع المسلمين وهو لا يتحقق إلا إذا كان أمر الاستخلاف
مشتركًا بينهم ولكل فرد منهم فيه حق يستوفيه ويباشره بنفسه أصالة أو بإنابة من
يثق به , وهذا المعنى يتم بانتخاب النواب في الجمهورية , فالآية تدل على هذه
الحكومة وتحتمل الدلالة على الحكومة المقيدة أيضًا كل منهما في الوقت اللائق به.
أما قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) فهي تبين
وصفهم على سبيل المدح والرضاء والتقرير في الحال والاستقبال والمراد بالأمر
الذي لا يجوز إرادة غيره الأمر الذي أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم
فيه جعله في هذه الآية بينهم مشتركًا لم يخص به أميرًا دون مأمور على تنزيل
المعدوم الموعود به في آية الاستخلاف منزلة الموجود , والخبر بهذه الصفة يفيد
معنى الأمر مع زيادة تأكيد لدلالته على الحال والاستمرار بخلاف الأمر بصيغته
ولفظه فإنه لا يدل على التجدد.
ومما يحتمل أن يراد به هذه الحكومة أو شبيهتها قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} (النساء: 59) الآية، وللمفسرين في أولي الأمر قولان: الأول: الأمراء , والثاني:
العلماء. ومآل التفسيرين ومعناهما واحد لأن الأمراء الذين يأمر الله بطاعتهم
لا بد وأن يكونوا علماء , وقد تقدم أن الله لا يرضى بتأمير الجهلة ولا يأمرنا
بنصبهم للخلافة قط , ولا يجوز لأي طائفة من المسلمين أن يختاروا للإمارة من كان
بهذه الصفة سواء كان من نواب جمهورية أو من أهل شورى مع الإمام أو من سائر
العمال. وجه دلالة الآية أن المأمور بطاعتهم في هذه الآية جماعة لا سيما على قول
من قال: إن أولي الأمر العلماء، ولا تتحقق إطاعة كلهم أو أكثرهم إلا إذا كانوا
مجتمعين معينين بالشخص والزمان والمكان , واتفاقهم على أمر واحد , وكل ذلك لا
يتصور إلا في الجمهوريات أو ما شابهها على الأقل. والمراد بالعلماء العلماء
بالكتاب والسنة إذ لم يكن إذ ذاك علماء سواهم , وهم الذين يردون فصل متنازعاتهم
إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , أما المقلدة فإنما يتحاكمون إلى كتب مذاهبهم
وإلى ما وجدوا عليهم آباءهم من كتب وأقوال مشايخهم , والعلماء والأئمة ذموا
المقلد ونهوا عن تقليدهم وقالوا: المقلد حاطب ليل , وقالوا: ليس هو من العلماء ولا
هو داخل في عدادهم وزمرتهم.
وأيضًا قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) يؤيد ويوضح أن المراد بذلك طاعة أهل الحكومة الجمهورية أو
ماهي قريبة منها ومشابهة لها , إذ لا مراجعة ولا رجوع بعد النزاع إلا في هاتين
السلطتين , أما حكومة الفراعنة والنماردة المستبدة فلا يستطيع أحد من الأعيان
فضلاً عن عامة الرعية مراجعة أصحابها، فما بالك بمنازعتهم.
وأيضًا قوله تعالى (في شيء) عام يدخل فيه التنازع في كل الأشياء , وبعض
هذه أشياء الحكومة، فإذا كان المتنازع فيه أمرًا من أمور الحكومة فالمتنازعون فيه
هم أهلها وهو المراد. يؤيده أنه لو كان المتنازعون غير أهل الحكومة لكان رد
تنازعهم إلى أهل الحكومة ليفصلوا بينهم بحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
فلزم أن أهل الحكومة هم المتنازعون، وذلك لا يكون أبدًا إلا إذا كانت الحكومة
جمهورية أو قريبة منها، والله أعلم.
وهذه الآية الكريمة حملها أعوان السلاطين المستبدين على غير محملها
وأرادوا منها غير ما أراده الله، فموَّهوا على المسلمين وخوَّفوا بها العامة وقادوهم بها
مرغمين افتراء على الله ورسوله {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) من زوال النعمة والرياسة ثم غضب الله وعذابه.
بقي أمر وهو ما إذا تغلب على أمر المسلمين أحد هذه الطواغيت، فهل يجوز
خلعه والخروج عليه أم لا؟ والحق أنه يجوز خلعه أو يجب , وأما الخروج عليه
فلا يخلو إما أن تترجح المصلحة على المفسدة , وإما أن يتساويا , وإما أن تترجح
المفسدة على المصلحة ففي الصورتين الأوليين الجواز أو الندب , وفي الأخيرة
اختلاف , والجمهور من المتأخرين قالوا بالمنع , وأجازه كثير من السلف , وقد
خرج جماعة من كبارهم على جبابرة زمانهم ولم ينقل إلينا عن علماء ذلك العصر
إنكار عليهم ولم يبدعهم أحد منهم ولا من المتأخرين القائلين بالمنع أيضًا , أما
الأحاديث في هذا الباب فهي كثيرة وبعضها قد يوهم التعارض , ومن جمع بين
أطرافها وتحقق فحوى خطابها عرف أن الأولى والأفضل عدم الخروج في هذه
الصورة لا عدم الجواز؛ لأن السائل لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أجالدهم
بسيفي هذا؟ قال له: (ألا أدلك على ما هو خير لك من ذلك) وأرشده إلى الكف
عنهم , ووقع مثل هذا السؤال من كثير من الصحابة فأجابهم مثل ذلك أو مقاربه ,
وهو لم يقل لأحد منهم: إنك إن فعلت ذلك تكن من الظالمين المعاقبين , وفي
بعضها إطلاق الأمر بالطاعة وفي بعضها تقييدها بغير المعصية وقد كان هؤلاء
السائلون أفرادًا كل واحد يسأل عما يفعل حاله كونه منفردًا فجوابه صلى الله عليه
وسلم بالكف والصبر يحتمل أن يكون من باب الشفقة ولئلا يكلفهم ما لا يطيقونه مع
تحقق عدم المنفعة والجدوى بخروجهم , أو لئلا يفتح باب الفتن لأمته وخوفًا من أن
يحمل كل ظالم من أهل البغي وقطاع الطريق سيوفهم بدعوى التأويل فيخرجون
على الأمة يضربون برها وفاجرها , وقد صرح بهذا عليه السلام وروي عنه في
أحاديث كثيرة فأرشد إلى ما هو الأحوط والأفضل.
أما إذا كان الخارجون على هذا الظالم طائفة يترجح عادة أن يزيلوا ظلمه
ويكبحوا جماح غيه؛ فلا ريب ولا شك في جواز خروجهم عليه حيث أمن أن يكون
خروجهم فرصة يغتنمها عدو الدين -أعني الكفار- فإذا أمن هذا المانع فأقل الحالات
دخول جواز الخروج في عموم أحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي
تؤذن بجواز ذلك إن لم نقل باستحبابه وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من رأى
منكم منكرًا فليغيره بيده , فإن لم يستطع فبلسانه , فإن لم يستطع فلينكره بقلبه) -
وفي روايات زيادة - (وذلك أضعف الإيمان) .
قال أخونا الفاضل: والذي يستنتج من رأيه هذا أن الخلافة لو بقيت باختيار
أهل الحل والعقد ووسدت إلى أهلها ممن عناهم حضرته لما حل بالأمة من مصايب
الاستبداد ما حل , ولما طرأ على الدولة الإسلامية من الضعف ما طرأ - إلى أن
قال: وما دام مسلِّمًا معنا بهذه المقدمات فقد كان يلزمه أن يبحث عن السبب الذي
أفضى بالخلافة إلى غير أهلها , ويبين الوجه الذي يضمن بقاءها على ما تركها
عليه الخلفاء الأولون سائرة على نهج الحق والعدل لا سبيل لأولئك النازعين إلى
الملك المتوثبين على الخلافة إلى خرق حرمتها , والتغلب على من كانوا أهلها
وأحق بها، ويرى ما الذي أدخل على مركز الخلافة الاضطراب من عهد الاضطراب
عهد الخليفة الثالث رضي الله عنه حتى زعزعته عواصف الفتن إلخ.
وأقول: قد تقدم لنا ذكر تأسيس الحكومة الإسلامية شرعًا وبيان خلافة الخلفاء
الراشدين بما له وما عليه وفيه الكفاية على اختصاره , وجواب هذا السؤال أن نقول:
قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن
تَشَاء} (آل عمران: 26) وإلا فهل يمكن أن يكون في طوق البشر صد كل
الحوادث والاحتراز عن جميع الطوارق التي تأتي على غير المعتاد والمنتظر وهل
يلزم من وجود الأسباب انتفاء المعارضات والموانع؟ لا شيء يقطع للملك بالدوام
ولو بلغ من الانتظام والإتقان ما بلغ، وإلا فليبين لنا أخونا الفاضل ما هو السبب
الذي تداعت له أركان جمهورية الرومان، ولماذا هاج وماج وذهب أدراج الرياح
ذلك النظام المستقر على النواميس السياسية والبراهين العقلية الطبيعية لحكومة
كانت نيابية تتجدد في أوقات مقررة فاضمحلت بعد الهرم حتى لم يبق لها عين ولا
أثر أيام ظهور الإسلام والفتح الإسلامي؟ والحق أن يقال: سنة الله في خليقته
{وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140) ونحن لا نترك الأسباب
بل نعمل ونجتهد فإذا غلبنا فوضنا مع الاعتراف بأن لله الحكمة البالغة وهو
أعدل الحاكمين وما أصابنا من مصيبة فيما كسبت أيدينا.
على أن سبب تلك الأعاصير والزوابع التي زعزعت سرادقات الخلافة في
دورها الثالث معلوم منشؤها، ألا وهي دسيسة ذلك الوزغ الطريد راجت على أولئك
الأغبياء الذين أوردوا الخليفة حياض المنون , وفتحوا على الأمة باب الشر والبلاء
وهم لم يأتوا ما أتوا بدعوى دينية , وإنما ساقتهم إلى الخروج سورة غضب من لم
يستثبت ولم يغضب لله ولدينه. يوضح ذلك طلبهم واقتراحهم عليه ما لا يستحقونه
شرعًا من خلع نفسه أو تحويلهم ذلك الطريد المنحوس، والأول ليس لهم إنما هو
إلى كبار الأمة أهل الحل والعقد، وتأديب المجرم إلى الحاكم وهو هو إذ ذاك , ولو
أنهم طالبوه بالحقوق الواجبة عليه للأمة من إقامة مجلس شورى ونحوه؛ لكان هناك
شبهة على أنهم قاموا عليه بدعوة دينية. على أن تلك العصابة كانوا قبل ذلك
الحادث المحزن خاضعين مذعنين له باستحقاقه الخلافة أو حقيتها، وعلى كل حال
فالأولى بنا أن نقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} (البقرة: 134) الآية وإنما موضوع
البحث أن الشارع هل وضع أصلاً تؤسس عليه الحكومة أم لا؟ وقد مر بيان ذلك.
وقوله: فإذا توهم أخونا الفاضل أن هذه الحياة لا تكون طيبة سعيدة إلا إذا
انصبغت بصبعة الدين فما رأيه في اليابانيين وهم من الوثنيين؟ جوابه أني لم
أتوهم ذلك ولم أقل أن العقل بمجرده لا يدل على حسن هذه الحياة السياسية , وإنما
قلت: إن المسلمين هم أولى بها عقلاً وشرعًا. هذا وقد اتفق العقلاء على أن أقوى
أسباب الاتحاد والتعاون والهجوم والدفاع هي الرابطة الدينية , والجابانيون وإن
كانوا وثنيين ومعارفهم ليست فرعًا عن داعٍ ومحرك دينيّ فاتحادهم وثباتهم في
ميادين الوغى المشهودة إنما هو ناتج عن اتحادهم الديني بزعمهم و {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) .
أما من تركوا الأديان بالكلية وانخرطوا في سلك الدهرية فاتحادهم المتكلف
للمصلحة هو أوهى من بيت العنكبوت , ولذلك لا تجد دهريًّا متحققًا بدهريته شجاعًا
أبدًا، بل هو أحرص الناس على الحياة وأشد الناس حرصًا وجهدًا في أسباب الثروة
والراحة لا يبالون من أي طريق وجدوها سواء لديهم الخيانة ونقض العهد والاغتيال
والظلم إلا إذا خافوا ضررًا يحبط أعمالهم أو صعوبة تؤدي إلى إنفاق الأنفس
والأموال والمنفعة المترقبة لهم في مقابلة ذلك أقل. فإذا توجسوا أمامهم هذه العقاب
والصعاب تكايسوا وعادوا إلى روغانهم وكلامهم المشهور عنهم من ذكر المدنية
وحب الأمان والإنسانية وشبهها من حبالات مكرهم وخداعهم. والعقلاء منهم عرفوا
ذلك من أنفسهم ولهذا تلبسوا بلباس عامتهم الديني , وشاركوهم في رسومه الظاهرة
حرصًا منهم على بقاء الرابطة الدينية في عامة أقوامهم. وهم تحققوا وعرفوا أن
العامة تكون بدعوة الدين ترسًا وحائلاً عظيمًا لحفظهم وصد كل هاجم على بلادهم
وأعراضهم وأنفسهم وأموالهم، وتارة يصدرون العامة ويتخذونهم آلة للهجوم وفتح
البلاد , أما أن أحدًا من هؤلاء الدهرية التاركين للدين يستميت في هذه السبيل فحاشا
وكلا؛ لأن ذلك مُنافٍ للوازم ما زعموا أنهم درسوه من علومهم , ومناقض لما قام
بأنفسهم واعتقدوه , وإن شذ أحد منهم فذلك لأسباب أخرى كأن تنغصت حياته بالآلام
حتى انقلب عليه نعيمها عذابًا وصفوُها كدرًا , وحينئذ قد يرغب بعضهم عن هذه
الحياة , ولهذا وأمثاله ترى بعض هؤلاء ينتحر باخعًا نفسه وهؤلاء هم كبار الزنادقة
وعلماؤهم، ومثلهم في حب الحياة والحرص عليها مَن تديَّن بدين يعلم بطلانه كاليهود
الذين كانوا في عصر نبينا صلى الله عليه وسلم.
وفي مقابلة هؤلاء وعلى نقيضهم علماء الإسلام وأهل الإيمان وحزب
الرحمن الذين يتحابون في الله ويتعاونون له مستعينين به، ويشفقون على أهل
ملتهم وعوامهم ابتغاء مرضاة الله تعالى لا يبخلون ولا يجبنون ولا يتخذون العامة
وقاية وترسًا بل يتقدمون الصفوف ويصافحون الحتوف رجاء فيما عند الله ومزيد
رضاه {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9)
تحققوا بوراثة النبيين وعلموا أنه ما من فضيلة ومزية أخروية أو دنيوية إلا والوحي
وفق العقل رائدها ودليلها وموضحها إيجابًا أو استحبابًا أو إباحة , وأنهم مثابون في كل
ذلك حتى في اللقمة يرفعها أحدهم إلى فيه، وما من رذيلة أو إثم أو نقيصة دنيوية أو
أخروية إلا وقد كرهها لهم الدين المبين. فكل العلوم والمكاسب التي فائدتها ونفعها
أكثر من مضرتها المستعملة لتقدم الطوائف وشرفها فأكثرها لا ينحط حكمها
عن فروض الكفاية وقد يكون بعضها من فروض الأعيان ومنها ما يستحق حكم
الاستحباب , وأقل حالات بعضها الإباحة ومن عرف دين الإسلام عرف ما ذكرناه.
ولما فسد هذا الصنف من المسلمين فسد سائر الأمة إلا أناسًا قليلين غرباء لا
يزالون يدْعون إلى الصلاح والإصلاح فنسأل الكريم المجيب أن يكثر عددهم
وعُددهم ويؤيدهم بروح منه. ولقد ظهرت في هذا العصر تباشير الظفر والنجاح،
وطلعت أعلام الهدى والنجاح، وزال الغطاء عن أذهان كثير من المسلمين فلا يزال
يزداد اشتراك المسلمين في معارف هذه الطائفة المصلحة , وذلك بفضيلة مولانا
الإمام وشيخ الإسلام المفتي محمد عبده توَّجَه الله بتاج عزه، وأخزى عدوه وأزّه،
وأرداه في رزءه، ووقفنا الله وإياه إلى الحق وإشاعته، وإرضاء الله وطاعته،
وأعان من تصدى لخدمة هذه الطائفة وبذل المجهود والجهد في إظهار الحق ونشره،
آمين.
أماّ قول أخينا الفاضل أني استعظمت قوله بترك الدين جانبًا والسياسة جانبًا
حتى تفرس في سوء الظن به حفظه الله فصحيح , ولقد صدقت فراسته والحق أحق
أن يقال , وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم (اتقوا فراسة المؤمن) الحديث
وكان ذلك قبل معرفتي بحاله , أما الآن فقد ذهب ذلك الظن وأستغفر الله لي وله
وسرني سرورًا لا مزيد عليه موافقته إياي على ذم التمذهبات والتقليد الذي فرق
المسلمين ونهك اتحادهم , وذكر أن له فيه كلامًا طويلاً في كتابة (أشهر مشاهير
الإسلام) وددت لو أني اطلعت عليه , ولكن حتى الآن لم ييسره الله لي جعلنا الله
وإياه من حزبه , ووفقنا للعمل الصالح واتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
في 3 ذي القعدة سنة 1322 ... ... ... ... (صالح بن علي اليافعي)
(المنار) كثر في هذا الزمان الطعن في الإسلام حتى من بعض المنتسبين
إليه , وأشد ما يطعنون فيه شكل الحكومة؛ إذ يظن الأجانب أنها حكومة ملكية مطلقة,
ومن المسلمين المشتغلين بالقوانين من يطن ذلك , ومنهم من يقول: إن الشريعة
الإسلامية لم تبين شكل الحكومة ولم تضع لها أصلاً. ثم إن المستبدين الذين اتخذوا
علماء السوء أعوانًا يقنعون العامة بأن الخضوع للسلطة الاستبدادية الشخصية فرض
ديني حتى إنه ليوجد في العامة من يعتقد أن انتقاد أعمال السلاطين كفر. بل سمعت
رجلاً خطيبًا ومدرسًا رسميًّا يقول: من يعترض على السلطان فأنا لا أعتقد بصحة
إسلامه. لهذا نرى كثيرًا من أصحاب الغيرة طفقوا يبرءون دين الإسلام الحق
وشريعته العادلة مما يقول الأعداء له والجاهلون به. ورفيق بك يوجه كلامه إلى
هؤلاء المعاصرين ويريد من الدين القسم التعبدي الذي يجب الأخذ فيه بظواهر
النصوص الواردة في الكتاب والسنة بلا تصرف ولا زيادة ولا نقصان , ولا ينكر
أن للحكومة أصلاً اجتهاديًّا في الشريعة , فكلامه في ترك الدين جانبًا مبني على
الفرق بين القسم الديني المحض من الشريعة والقسم الدنيوي المحض وهو اصطلاح
عصري , وكلام الشيخ صالح اليافعي مبني على عدم التفرقة وهو الاصطلاح
الإسلامي القديم وقد فتحنا بابًا في المنار لمناظرتهما ليتجلى الحق في هذه المسألة
العظيمة التي هي مصدر كل شقاء. إذ لا يتجلي البحث الذي عمي على أهله قرونًا
طويلة إلا بكثرة المراجعة وإيضاح الدلائل. وأما أهل الذكاء والاطلاع فيكتفون بما
هو دون ذلك، وقد نشرنا في المجلد الرابع ما ورد في الأخبار النبوية وآثار السلف
في مسألة الحكومة الإسلامية , وجمعنا بين الأحاديث التي أشار إليها الشيخ صالح
في مقالته هذه. والأحاديث التي أوردناها هناك ثلاثون حديثا ونيفًا، وقد جلى الأخ
الصالح أصل المسألة على أن في بعض كلامه مجالاً للبحث , وإن لنا لعودة إلى
الموضوع في زمن قريب إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: يظهر أن الكاتب تخيل أن الواجب في الشرع من اختيار الأمة لأمراء المؤمنين واقع بالفعل , ولكنها أساءت الاختيار لجهلها، ولو استملى الوجود دون التصور الخيالي لقال أن ابتلاء المسلمين بهؤلاء الأمراء هو عقوبة على تركهم مقومات الأمة حتى صاروا أفرادًا متفرقين لا يجمعهم جامع يحقق فيهم معنى الأمة التي تختار أمراءها , وتلزمهم بالتزام شريعتها فوثب عليهم المتغلبون وأذاقوهم عذاب الهون، وإنما تكشف الغمة إذا صاروا أمة.(7/899)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
(كتاب العلم والعلماء ونظام التعليم)
كتاب صدر من عهد قريب وكتب عليه أنه السِّفر الأول من أسفار (التعاليم
الإسلامية) مؤلفه الشيخ محمد بن إبراهيم الأحمدي الظواهري أحد علماء الدرجة
الأولى بالأزهر والمدرس فعلاً في الجامع الأحمدي بطنطا وهو من النابتة الجديدة
الأزهرية التي فطنت لسيئات النظام القديم (أي عدم النظام) في الأزهر , وفساد
طريقة التعليم فيه، وشعرت بحاجة المسلمين إلى إصلاح ذلك وإلى العناية بوضع
طريقة جديدة للتعليم الإسلامي ولتربية المسلمين، وإلا كانوا حرضًا أو كانوا من
الهالكين.
وهذا الكتاب مؤلف من تسعة أبواب أولها في العلماء وفيه بيان وظائف العلماء
وأقسام التعليم وأبحاث في الأخلاق والإرشاد والعبادة والنفوذ والتأثير (والتنَوُّر)
العام والجرائد والمجلات، وبيان حال العلماء اليوم وما يجب عليهم , وطريقة نيل
العالمية ومرتبات العلماء. وثانيها في المدارس الدينية ونظامها ومعارف طلابها
ومعيشتهم وآدابهم وعقائدهم ونتيجة تعلمهم ومدة دراستهم والإصلاح وطرقه فيهم.
وثالثها في العلوم وفيه الكلام في الفقه والتفسير وسبب التهاون فيه والحديث
وثمرات علمه وكيفية الاشتغال به، والتوحيد والبلاغة والدعوة الإسلامية إلخ
ورابعها في طرق التعليم ونظامه وفيه بيان إهمال العلماء في أمر التعليم وإهمال
المشيخة في التعليم وعيوب طريقة الأزهر وطرق إصلاح التعليم. وخامسها في
تعليم الجمهور وهو تعليم المدارس الأميرية والأهلية وتعليم العامة والبعثات العلمية.
وسادسها في التعليم الابتدائي وبيان تقصيرنا فيه. وسابعها في الإرشاد وطرقه
والوعظ والخطبة. وثامنها في طرق تنفيذ الإصلاح وفيه الكلام على المكافآت
وعلى كساوي التشريف. وتاسعها في الإدارة الدينية وفيه الكلام على الإدارة الدينية
ومشيخة الجامع الأزهر واقتراح مؤتمر إسلامي ومجتمع عام للعلماء، وخاتمة الكتاب
في بيان مبدأ مؤلفه أي رأيه ومشربه.
تلك أبواب الكتاب وجل مسائله ويسرنا جدًّا أن نرى من أثر النهضة الجديدة
مدرسًا أزهريًّا يتكلم في المسائل العامة ويبحث معنا في حال المسلمين ويشعر مع
عقلاء الأمة بموقف الأمة المحفوف بالأخطار وبوجوب السعي في تلافي ذلك ويعلن
رأيه بكتاب ينشره بين الناس، فقد بحّ صوت الأستاذ الإمام من نداء الإيقاظ
والتنبيه فرأينا عيون بعض تلامذته في الأزهر قد فتحت، وأعناقهم قد التفتت،
ولكن ما زالت الألسنة ساكتة، والأقلام ساكنة، حتى سمع هذا الصوت الشديد،
ورؤيت هذه الحركة العنيفة، أعني هذا الكتاب الذي أغلظ في الإنكار على ما يراه
من المنكرات وأبرزها في أشنع صورة وأقبح منظر مما كنا نتحامى مثله في انتقادنا
ولم نعدم مع ذلك من عدنا مشددين أو متحاملين. وقد دعا إلى انتقاد مسائل الكتاب
شأن المخلص الباحث عن الحقيقة , ولكنه نهى عن انتقاد عبارته وهو يدعو إلى
إصلاح القول كما يدعو إلى إصلاح العمل ويعلم أن العلم الإسلامي لا يرتقي إلا
إذا ارتقت اللغة العربية وانتقاد العبارة وسيلة لارتقائها. وما ينبغي أن تكون
عبارة مدرس من الدرجة الأولى وداع من دعاة إصلاح العلوم العربية إلا بمكانة
يقل فيها الخطأ في الكلم والجمل والأسلوب والرسم وإننا لنهتم أولاً بالبحث في مسائل
الكتاب , ثم نذكر ما نراه في عبارته بعد ذلك ونكتفي في هذا الجزء بذكر رأي
المؤلف الذي جاء في خاتمة كتابه تنويهًا به. قال ما نصه بحروفه:
(أرى على الإجمال أننا معشر العلماء في نقص كثير وتقصير كبير وإهمال
زائد في أداء ما توجبه علينا للأمة وظيفتنا الدينية من التعليم والإرشاد وغرس
المبادئ الشريفة وتأسيس الملكات الكمالية والتفنن في سبيل إعلاء كلمة الدين وترقية
الشعوب الإسلامية إلخ إلخ , وإننا قد بلغنا في هذا النقص والتقصير حدًّا لم يبق
للعلماء معه رفعة ولا احترام ولا للأمة الإسلامية شائبة قوة ولا تقدم ولا ارتقاء في
حال من الأحوال. وإن من الواجب التنبيه إلى هذا الأمر الخطير والمبادرة إلى
الخروج من هذا النقص والتقصير والنهوض بالأمة الإسلامية وتخليصها من هذا
الخطر الذي أحدق بها بالإرشادات العالية والتربية المفيدة. أرى أن الأمة قد فاقت
العلماء الحاضرين في كثير من مراتب الاستكمال والترقي العقلي وأنه قد فُقدت
صفة التناسب بينهما حتى لم يعدوا مؤثرين عليها (كذا) وكان الواجب أن يكونوا دائمًا
هم الفائقين ليكون له سلطان على القلوب وتأثير في العقائد والأميال والأعمال.
أرى وجوب البحث والتدقيق والتدبير في معرفة ما هو كمالنا لنسارع إلى
التحقق به ومعرفة ما هي وظيفتنا وما هي واجباتها حتى نوصل الليل بالنهار في
طريق القيام بها وإتقانها. أرى وجوب البحث في معرفة ما هي الغاية التي يدعو
إليها الإسلام وما هي المبادئ والأحوال التي ينبغي أن يكون عليها المسلم في
العصر الحاضر لكي نرشد الناس إليها. أرى وجوب استئصال ما هو متفشٍّ بين
الأمة والعلماء من العقائد الفاسدة والآراء السخيفة. أرى وجوب التفاني في عتق
الأمة من رق الأوهام وتخليصها من النقائص التي لا تكاد تتناهى. أرى أن أجزاء
الكمال الإسلامي قد تفرقت وتشتتت فكان منها شيء عند الصوفية وشيء عند
العلماء وشيء عند (المتنورين) من طبقات الأمة {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) وكان منها ما فر من أيدي الأمم الإسلامية وحل عند الأمم
الغربية وما لا يكاد يوجد من يتصف به. وأرى أن العالم الكامل هو من يأخذ
بأطراف هذا الكمال أو بتعبير مشهور من يمزج الحقيقة بالشريعة , ثم يمزج هذا
المجموع بخلاصة التقدم الغربي والتمدن الحديث ويجمع صفات الكمال المتفرقة في
الأمم والأفراد.
(يستمد في علمه من العقل المفكر والنقل الصحيح والوجدان العالي الحاصل
من التقرب إلى الجناب الأقدس. لا يقدس العادة ولا يثق بفكره، يبشر وينذر
ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ويتفنن في أساليب الدعوة وطرق
الإرشاد، يبحث عن اللب ولا يقف مع القشور، يلاحظ مقاصد الشريعة وأسرار
التشريع، يقدم الأصول على الفروع والحاجيات على التحسينيات. يقرب المعقول
من المنقول. يصفح ويسامح ويصافي سائر الطوائف والفرق الإسلامية ولا يجادلهم
إلا بالتي هي أحسن (كأهل الكتاب) ويبذل الجهد في إحياء الجامعة الدينية وإماتة
المميزات الخلافية وترقية الأمة الإسلامية , ويبث في العالم مبدأ إسلاميًّا عاليًا هو
المبدأ الذي جاء سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم ليعطيه لسائر الأمم. يسعى في
سبيل سعادة الدارين وعمارة النشأتين. يجتهد في سبيل تربية أبناء المسلمين
وتقويمهم وإرشادهم , ويسلك في التربية والتعليم والإرشاد الطرق الصحيحة
والأساليب العالية.
لا تفتر له همة ولا يتراخى له عزم في سبيل الوصول إلى تلك الغاية السامية
والمطالب العالية والدعوة إلى هذه المبادئ ونشر تعاليمها بين الناس سرًّا وعلانية.
أكبر همه أن يعلي قدر المسلمين ويرفع من شأنهم ويرشدهم إلى ضروب لسعادات
الدنيوية والأخروية وأن يظهر في الكون مبدأً إسلاميًّا عاليًا وأمة مسلمة جديدة وطبقة
أخرى كاملة تضع غاية التصوف في فؤادها , ونهاية العلوم في رأسها , وتحمل لواء
الدين الإسلامي باليد اليمنى ولواء التقدم المدني باليد اليسرى وتسير بسم الله في
حرب الأهواء السخيفة والآراء الضعيفة والأخلاق الناقصة والفرق المبتدعة والمارقة
من الدين، مؤيدة بالنصر معززة بجنود الحق {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (آل
عمران: 126) .
هذا رأيي ومذهبي أبنته ليكون إما مبدأً عامًّا وإما مشروع مبدأ عام يُعدِّله أهل
العقول الكاملة والأفكار الصحيحة. ولو أن كلاًّ يبدي ما يكنُّ خاليًا من كل تعصب
ملتزمًا للآداب طالبًا للحق قابلاً له ولو من أصغر صغير؛ لأمكن للناس أن يبلغوا
من غايات الكمال ما لا يكاد يخطر بالبال.) اهـ
* * *
(الخواطر العراب في النحو والإعراب)
نوهنا في الجزء السابع بهذا الكتاب قبل تمام طبعه، فالقراء قد عرفوا أنه
تأليف جبر أفندي ضومط م. ع أستاذ العربية في الكلية الأمريكانية
ببيروت , وعرفوا أن أسلوبه جديد يسهِّل علم النحو على طلابه، ويدخلهم إليه
من أقرب أبوابه، وقد سألَنا عنه غير واحد من المشتغلين فنبشرهم بأنه قد تم
طبعه ونشره فكانت صفحاته 334 , وهو أمثل كتب التعليم التي رأيناها، يفيد
قارئه نحوًا وإعرابًا، ومعاني وآدابًا، بما فيه من الأمثلة المختارة والشرح والتمرين.
وعبارة الكتاب كعبائر كتاب العصر سهولة وأسلوبًا لذلك لا تخلو مما عساه ينتقد
على المعاصرين , ولعل بعض ذلك على قلته مبني على أن المؤلف يرى صحته ,
فقد صحح في كتابه بعض ما ينتقده العلماء بحسب القواعد أو السمع كما فعله في
باب العدد. ولا يعرف فضل الكتاب إلا بالاطلاع عليه أو بإيراد نموذج منه ولعلنا
نورده في جزء آخر.
* * *
(النوادر المُطربة)
كتاب لطيف الحجم جمعه من كتب الأدب إبراهيم أفندي زيدان وجعله خمسة
أقسام: النوادر المطربة، محاسن المحبوب، وصف الشعر، الغزل، منظومات
لجامعه. وأتبع هذه الأقسام بملحق في الشجاعة والتهديد والأسلحة وطلب الثار
والتحذير من الحرب والهزيمة والفرار، وكلها نوادر وحكم وأفاكيه وملح نثرية
وشعرية، وإليك ثلاثة أمثلة وجيزة من ذلك:
(1) قال مقاتل بن مسمع لعباد بن الحصين: لولا شيء لأخذت رأسك.
قال: نعم، ذلك الشيء سيفي. وقال:
تواعداني لتقلتني نمير ... متى قتلت نمير من هجاها
(2) نظر فيلسوف إلى رامٍ تذهب سهامه يمينًا وشمالاً فقعد في موضع
الهدف وقال: لم أر موضعًا أسلم من هذا.
(3) قيل للكاتب: إلام تدل بهذه القصبة؟ فقال: هو قصب، ولكنه
يقطع العصب، إن القلم يقطع قضاء السيف، ويفسخ حكم الحيف، ويؤمن مسالك
الخوف. والكتاب يطلب من مؤلفه من مكتبة الهلال بالفجالة.
* * *
(لا يعنيني)
خطاب ألقاه في حفلة أدبية في بيروت جرجي أفندي نقولا من بضعة أشهر ,
ونشرته جريدة المناظر المفيدة لما حواه من تشنيع أمور الإهمال الفاشي في بلادنا
وإهمال الأمور العامة , ثم طبعته على حدته لتعميم فائدته , وأهدتنا نسخة منه
فنشكر لها ذلك كما نشكر لها إهداءها كتاب الفيلسوف تولستوي في الدين , وقد أخذه
منا صديق قبل مطالعته فأضاعه ولذلك لم نتمكن من تقريظه.
__________(7/913)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(خطبة اللورد كرومر بالفيوم، أو المدنية والخمر والميسر)
سرى سم الفسق من القاهرة وسائر المدن الكبيرة في القطر إلى القرى
والمزارع في الأرياف , فكثر هنالك الخمر والميسر والزنا وغير ذلك من آفات
الترف التي تدمر القرى وتهلك الأمم إذا هي فشت فيها، ويتوهم كثيرون من العمد
وأغنياء الفلاحين أن شرب الخمر والدعوة إليه والمضاربة ونحوها من أنواع القمار
من أمارات المدنية العصرية , ولذلك سبق إليها الأمراء والوجهاء في المدن ,
والصواب أن جميع فضلاء أوربا وعقلائها لا سيما الأطباء والفلاسفة ينكرون أشد
الإنكار على السكر والقمار , والذين يأتون هاتين الرذيلتين يعدون عندهم من
السفهاء. على أن آداب ديننا أعلى من مدنيتهم، وفضائله أسمى من فضائلهم لو كنا
نعلم ونعمل.
وقد زار في هذه الأيام اللورد كرومر مدينة الفيوم فاجتمع لاستقباله والاحتفاء
به المئون من وجهاء المديرية وعمد قراها فخطب فيهم خطبة ظهرت منها مكانته
في الفضيلة مضارِعة لمكانته في السياسة. فنصح للناس بأن يتركوا الخمر والميسر
لما فيهما من إفساد الأخلاق التي يمتاز بها عادة سكان القرى والمزارع على سكان
الحواضر والمدائن , وألمع إلى انتقال هذين الوبائين من المدن إلى القرى , وأرشد
العمد إلى العناية بمنع انتشارهما. فإذا كان يوجد من سفهاء الأحلام من يعتقد أن من
دلائل مدنيته وجود الخمر في بيته وتقديمها لمن عساه يلم به من الإنكليز أو غيرهم
من الأجانب - فهذا كلام اللورد حجة عليه , فهو أعلى القوم مكانًَا وأوسعهم عرفانًا
وهو يعد معاقرة الخمر منافية للفضيلة وذاهبة بها من الأرياف بعد أن كانت تمتاز
بها على القرى وهذا هو ركن المدنية الصحيحة , وإنما تبيح أوربا الفسق لما فيه
من الكسب ولتكون الفضيلة اختيارية. وقد حثهم على الاقتصاد وحفظ العفو من
أموالهم في صناديق التوفير كما حثهم على ترك المقامرات التي تخرب البيوت
العامرة , وتجعل الأغنياء فقراء والأعزاء أذلاء، وقلما ربح منها أحد فكان من
الموسرين.
قوله في الكتاتيب المنتظمة
وأفصح عن رغبته في ازدياد عدد الكتاتيب حتى يعم تعليمها الابتدائي القطر
بلغته العربية. ولعمري إن عناية المعارف بالكتاتيب عظيمة , وإن فائدة البلاد منها
فوق ما يظن الذين لا ينظرون لشيء تفعله الحكومة في مصر إلى من وجه السياسة ,
وحسبك أنها تجعل الطبقة الدنيا من الأهالي متصلة بالطبقة التي فوقها فيسهل
انتقال الأفكار والشعور بحاجات الأمة من أعلاها معرفة وشعورًا إلى أدناها رتبة في
الوجود , وذلك تمهيد لابد منه لتكوين الأمة إذا وجد من يسعى له سعيه. وكلمة
اللورد الوجيزة تؤثر في نفوس الوجهاء والعمد وفي المساعدة على تكثير الكتاتيب
وإنجاحها تأثيرًا عظيمًا؛ إذ لا يوجد في الأرض من يحترم مقام أصحاب السلطة
كأهل هذه البلاد. ولا أظن أن لتنظيم الكتاتيب كما تفعل المعارف غائلة ما إلا إذا
صح ما نسمعه من قلة العناية بحفظ القرآن، واتقاء هذه الغائلة فرض حتم على
مفتشي هذه الكتاتيب وهو في استطاعتهم إذا أرادوا.
وقد تكلم اللورد في مسائل أخرى في مصلحة الأهالي ليست من موضوعنا ,
وزار جميع معاهد الحكومة والمدرسة الأهلية فتعجب الناس للفرق بين هؤلاء
الأجانب عنهم وبين أمرائهم وحكامهم في القرون الأخيرة.
* * *
(نشرة إفساد أو حبالة صياد)
علمنا أن قد ورد من باريس إلى مصر صحيفتان أو نشرتان سريتان إحداهما
فرنسية والأخرى عربية يزعم كاتبهما وناشرهما أنهما من لجنة عليا لجمعية عربية
غرضها فصل البلاد العربية من الخليج الفارسي إلى البحر الأحمر من سلطنة الترك
وجعلها مملكة مستقلة بمساعدة بعض الدول. وقد اطلعنا على العربية التي كتب
عليها أنها تعريب الفرنسية فإذا هي طعن في إدارة الترك وسيرتهم بل وإسلامهم
وتحريض عليهم وترغيب للعرب في الانسلاخ عنهم. ويزعم الكاتب أنه مستعد
بجمعيته لعمله من غير إهراق قطرة دم! وأن لجمعيته هذه أعضاء في جميع
البلاد العربية!
وفي رأينا أن هذه النشرة لا تعدو أمرين: أحدهما إثارة الهواجس في (يلدز)
تمهيدًا لأمر تريده بعض الدول وهو المرجوح. وثانيهما أنه وسيلة من رجل أو نفر
من المحتالين بأمثال هذه الوساوس لنيل الرتب والرواتب المالية من السلطان وهو
الأرجح , ولا يبالي هؤلاء المفسدون بما عساه يكون وراء إفسادهم من فتح أبواب
الإيذاء للجواسيس في الولايات العربية لا سيما لمن أرسلت إليهم النشرة إذا وجدت
عندهم وإن كانوا لا يعرفون مصدرها.
وقد كنا نصحنا لسلطاننا في المجلد الثاني من المنار بأن لا يبالي بشيء مما
يكتب في الجرائد الطعانة على اختلافها ونحوها هذه النشرات , وأن لا يحسن إلى
صاحب جريدة على مدح، ولا يلتفت لما تكتبه في بلاد الحرية من قدح إلا للعظة
أو معرفة الحقيقة من المنصفين، فعدم المبالاة بأصحاب الدسائس والأغراض
السافلة هو أكبر عقوبة لهم وأحسن إصلاح لغيرهم.
إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فإن جوابه أن لا يجابا
وما من سلطان أو أمير أو كبير يهتم بأمثال هذا الكلام إلا ويسلط على نفسه
السفهاء حتى لا يدعون له راحة كما هو مشاهد. ولقد كان أبو الهدى أفندي الشهير
مغرمًا بمدح الجرائد ونحوها فسلطها بذلك عليه حتى ذمته أضعاف ما مدحته فلما
ترك مكافأة المادح ومكافحة القادح، صان عرضه وحفظ غمره وبرضه، وقد
تحرشت الجرائد بمختار باشا فلم يأبه بها فتركته وشأنه. ومن كان الطمع فيهم
أكبر. كان هذا المسلك في حقهم أوجب.
أما الموعظة التي تؤخذ من أمثال هذه النشرة فهي أنه يجب على إخواننا
الترك أن يتناسوا مسألة الجنسية والنداء بها , ويجعلوا العثمانية مناط الارتباط
بسائر شعوب المملكة فإنما يمزق الأعداءُ الدولةَ باختلاف الجنسية. وإذا عنوا باللغة
العربية حتى جعلوها لسان الدولة فإنهم يجددون لهم قوة وحياة لا تغالب إن شاء الله
وهو الموفق.
* * *
(نَقَلة أخبار الحرب والثقة بالتاريخ)
نود أن نلفت الناس المرة بعد المرة إلى تهافت نقلة أخبار الحرب وتناقضهم،
ومِن ذلك أنهم ذكروا بعد استيلاء اليابانيين على ميناء (بور) آرثر أن حاميتها
سلمت الحصون والقلاع لنفاد المؤن والذخائر الحربية وهلاك معظم الجند , وقالوا:
إن التسليم كان شريفًا , ثم كروا على هذا الخبر بالنقض وأثبتوا أن ذلك التسليم عار
عظيم على الروس , وأنه كان في استطاعتهم الدفاع عدة أشهر أخرى. وكانوا قالوا:
إن الأسطول الروسي الذي تعطل وأغرق في الميناء لا ينتفع به , ثم عادوا فقالوا:
إنه يسهل استخراج سفنه ما عدا اثنتين منها ويمكن إصلاحها بنفقة قليلة. وكذلك
اختلفوا في الذخائر التي غنمها اليابانيون فحقر شأنها بعضهم وعظمه آخرون،
وكانوا قد اتفقوا على إطراء ستوسل قائد حامية الروس ثم انقلبوا يسلقونه بألسنة
حداد. والجرائد هي ينابيع هذه الأخبار مع الشركات البرقية. وقد أخذنا من ذلك
قاعدة عامة وهي أنه لا يوثق بالأخبار الحربية المختلف فيها وأما ما يتفقون عليه
فيوثق به ظنًّا بعد زمن يمر على الاتفاق وإنما الثقة الحقيقية بالنتائج المتفق عليها
ككون اليابانيين لهم الظفر في كل الوقائع. والتاريخ القديم أجدر بهذه القاعدة
وجرائد بلادنا في الجملة أجدر بعدم الثقة.
__________(7/917)
16 ذو الحجة - 1322هـ
20 فبراير - 1905م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
السواك بعد الصلاة أو عندها
(س 109) عبد الرحمن أفندي رحمي (بالخرطوم) : رأيت أحد أساتذة
العلم يستاك بعد كل صلاة ركعتين فسألته عن ذلك فقال لي: ورد في الحديث
الصحيح (كل من يصلي ركعتين بسواك أفضل ممن يصلي ستين ركعة بلا
سواك) . فقلت له: إني لا أعلم ذلك إلا أن استعمال المسواك محمود بعد اليقظة من
النوم لإزالة قذارة الأسنان ومنع الرائحة الكريهة من الفم فجئت بهذا ملتمسًا إرشادنا
إلخ.
(ج) السواك سنة مؤكدة ووردت أحاديث متعددة باستحبابه عند القيام من
النوم وعند الوضوء وعند الصلاة , ومن أصحها حديث أبي هريرة عند أحمد
والشيخين وأصحاب السنن: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل
صلاة) قال النووي: (السواك مستحب في جميع الأوقات لكن في خمسة أوقات
أشد استحبابًا: عند الصلاة , وعند الوضوء , وعند قراءة القرآن , وعند الاستيقاظ
من النوم , وعند تغير الفم. وتغيره يكون بأشياء منها: ترك الأكل والشرب , ومنها
أكل ما له رائحة كريهة , ومنها طول السكوت وكثرة الكلام) . والحديث الذي
ذكرتموه رواه الدارقطني في الأفراد عن أم الدرداء بلفظ: (ركعتان بسواك أفضل من
سبعين ركعة بغير سواك) وابن زنجويه عن عائشة مثله لكنه بلفظ صلاة بدل كعتين,
وهو ضعيف وله طرق تقويه , وليس منها ما ذكرتم.
والغرض من سنة السواك تنظيف الأسنان وتطييب الفم كما في حديث:
(ما لكم تدخلون عليّ قلحًا؟ استاكوا) إلخ. والقلح جمع أقلح وهو أصفر الأسنان.
ومن اطلع على كثرة الأحاديث في السواك يكاد يعجب لشدة تأكيدها ويتوهم إذا كان
جاهلاً بطبائع البشر وعادات الناس أنها مبالغة ربما كانت غير صحيحة إذ لا حاجة
إلى ذلك في هذا الأمر الصغير الواضح , ولكنه إذا فطن مع هذا إلى تقصير الناس
في تنظيف أسنانهم وأفواههم حتى المسلمين الذين هم أحق الناس بهذه النظافة وعلم
ما لهذا التقصير من الضرر في الصحة لأنه من أسباب تآكل الأسنان وسرعة
سقوطها , وأن هذا سبب لعدم إجادة مضغ الطعام وقلة التلذذ به , وبذلك تقل تغذيته
وفائدته، ثم فطن إلى أن مجرد إقناع الناس بأن هذا الشيء نافع لا يحملهم على
المواظبة عليه والعناية به حتى يلزموا به بأمر ديني أو يتربوا عليه من الصغر
بالإلزام والتعويد - فإنه يفهم سر ذلك الحث والتأكيد.
* * *
الاستعانة بأصحاب القبور
أو حديث (إذا ضاقت بكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور)
(س110) ن. ب. في (سراي بوسنة) : إنكم تنكرون الاستعانة
بأصحاب القبور فضلاً عن الاستعانة منهم (كذا) وأوردتم الحجج والدلائل على
ذلك إلا أنكم لم تقولوا شيئًا في حديث: (إذا تحيرتم في الأمور فعليكم بأصحاب
القبور) الذي اشتهر بين الناس وأورده ابن كمال باشا الوزير - الذي هو من
مشاهير العلماء وثقاتهم - في رسالته الأحاديث الأربعين. وشرحه على وجه يقنع
كل أحد ممن لم يتعمق في العلم مثلكم بصحة الحديث المذكور، ومضمونه الاستعانة
من أصحاب القبور (كذا) نرجوكم أن تتفضلوا علينا بحل إشكالنا هذا , والإجابة
عن الحديث المذكور ولكم الفضل ومنا الشكر، ومن الله الأجر.
(ج) الحديث لا أصل له ولم يروه المحدثون ولكن ورد في حديث أنس عند
البيهقي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه قسوة القلب فقال:
(اطلع في القبور واعتبر في النشور) وقال البيهقي: متن هذا الحديث منكر ,
وراويه مكي بن نمير مجهول , ولو صح الحديث الذي أورده ابن كمال باشا لكان
بمعناه لأن من تحير في أمره وضاق له صدره فتفكر في أصحاب القبور وكيف
تركوا كل شيء كان يهمهم ولقوا ربهم - هان عليه الأمر واتسع منه الصدر، ولا
تهولنك شهرة ابن كمال باشا بالعلم فتعجب لإيراده حديثًا لا أصل له , فهو إنما
اشتهر بفقه الحنفية , وأكثر هؤلاء الفقهاء لا يعنون بالحديث ولا يعرفون صحيحه
وضعيفه وموضوعه ومعروفه ومنكره، بل منهم من يزعم أنه لا حاجة إليه مع الفقه
إلا أن يقرأ للتبرك به ويصرحون بأنه لا يجوز العمل به لأن ذلك من الاجتهاد الذي
حرموه باجتهادهم , وإنك لترى كتب الفقهاء الذين هم أعظم منه شهرة بهذا الفقه من
غير استعانة بالوزارة والإمارة قد حشوا كتبهم بالأحاديث الموضوعة كالأحاديث
التي أوردها صاحب الدر المختار في مدح الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى
وغيرها. وقد صرح علماء هذا الشأن بأنه لا يجوز لأحد أن يسند إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم حديثًا إلا إذا كان هو قد رواه رواية يثق بها , أو يذكر درجتها
أو أخذه عن كتب الحفاظ الذين يذكرون ذلك , وليس ابن كمال الوزير منهم. ثم إن
عبارة الحديث تدل على وضعه لمن ذاق طعم الأساليب العربية الفصيحة فلعل
واضعه من المتأخرين، وناهيك بنكارة متنه ومخالفته لظاهر أصول الدين لا سيما
إذا حمل على ما ذكرتم.
وإذا فرضنا أن الحديث صح وكان معناه ما ذكرتم دون ما أولناه به فإننا نرجح
عليه ما يعارضه مما هو أقوى منه كحديث الطبراني مرفوعًا: (إنه لا يستغاث بي
إنما يستغاث بالله تعالى) وحديث ابن عباس مرفوعًا: (وإذا استعنت فاستعن
بالله) بل عندنا القطعي كقوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) فإنها
نص في عدم جواز الاستعانة بغير الله تعالى كما أن قوله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) نص في عدم جواز عبادة غيره لمكان الحصر في تقديم المفعول.
ومن عجائب تحريف المسلمين الجغرافيين لنصوص القرآن القطعية ما أطلعنا عليه
بعض الناس في الجريدة المحدثة التي تسمي الظاهر من تأويل {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) .
إذ قال المحرف: إن الاستعانة على ضربين: حقيقية، وهي الممنوعة بنص
الآية، ومجازية كالاستعانة بالموتى الصالحين , وهي جائزة لا تمنعها الآية , ولا
يتناولها الحصر فيها. ولو صح هذا لصح أن يقال مثله في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) ويقال: إن العبادة حقيقية ومجازية؛ فالأولى لله والثانية لغيره
فيعبد هؤلاء المحرفون غير الله ويسمون عبادتهم مجازية لا يخرجون بها من دائرة
الإسلام وحظيرة الإيمان، ونعوذ بالله من الخذلان، فإن هذا الضرب من التحريف
للنصوص القاطعة لم يسمع عن أمة من الأمم أقبح منه ولا يمكن أن يثبت معه دين!!
أتظن أن صاحب هذه الجريدة أضاف هذا التحريف إلى نفسه حتى لا يخشى انخداع
العامة به لعدم ثقتهم بهذه الجرائد في أمر الدين وعلمهم بجهل أصحابها؟ كلا , بل
زعم أنها جاءته من عالم أزهري، ولا تدري العامة أن رواية الثقة عن
المجهول غير معتبرة فكيف برواية غير الثقة. فبمثل هذه الكتب والصحف فسدت
الأديان , واختل نظام العلم , ولذلك نقول تبعًا للأئمة المجتهدين:
إنه لا يجوز لأحد أن يأخذ في الدين بكلام عالم ما لم يعرف دليله، فإن كان
الدليل حديثًا شريفًا فلا تصح الثقة به إلا إذا نقل عن المحدثين الثقاة الذين رووه
لتعرف درجته وتمكن مراجعته، وعلى هذا جرينا، في المنار والله المستعان، دون
فلان وفلان.
* * *
تعدد الجمعة عند الشافعية
وإعادة الظهر
(س111) مستفيد في (سنغافورا) . حصلت مباحثة أحببنا رفعها إليكم
لاستجلاء الحقيقة والاستهداء فنرجوكم الإجابة على صفحات المنار. تفضلتم في
الجزء التاسع عشر من المنار الهادي بنقل نصوص الإمام الشافعي في تعدد التجميع
مما لم تكتحل به عيوننا قبل , وجزمتم آخر الجواب بأنه لا محل لصلاة الظهر
عقب الجمعة في نحو مصر، فبعد التأمل وقع لدينا ما جزمتم به موقع الاستحسان
وعليه عملنا منذ تيقظنا. ولكن ظهر لبعض طلبة العلم من الشافعية بطرفنا أن
مقتضى تلك العبارات ونتيجتها هو أن الذمة لا تبرأ يقينًا إلا بصلاة الظهر بعد
الجمعة في نحو سيقافورة [*] وأن من أراد الاقتصار مثلاً على الجمعة فقط أو الظهر
فقط فالأولى له أن يصلي الظهر ويترك الجمعة لأنه بالظهر يبرأ يقينًا ولا تبرأ ذمته
بالجمعة وحدها يقينًا. وقال: إن ما نقلتم عن الشافعي لا يفيد سوى ما فهمه لا ما
ذكرتم. فهل ما قاله هذا البعض صحيح أم محتمل أم لا؟ ولتكونوا على بصيرة من
سيقافورة نفيدكم أنها بلد مستطيل يبلغ طوله نحو ستة أميال إنكليزية لكن عرضه لا
يبلغ نحو نصف طوله , وتُصلى الجمعة فيه في نحو خمسة عشر مسجدًا بعضها
مزدحم , وباليقين إن المحتاج إليه منها للجمعة هو بعضها , وربما كان أقل من
النصف لا لقلة المسلمين ولا لكثرة تاركي الصلاة منهم بالكلية بل لتهاونهم في
حضور الجمعة , وقد يظن أن اعتقادهم عدم إجزاء الجمعة منهم يثبط بعضهم،
فأفيدونا بالحكم على رأي الشافعي , ثم اشرحوا لنا على طريقة المنار ما هي شروط
الجمعة التي لا تصح إلا بجميعها وتبطل بفقد واحد منها؟ وما هي أدلتها الشرعية
الواضحة وبينوها بالعزو إلى مخرجيها لتتم الفائدة لمستجديكم وأهل هذه القاصية، لا
زلتم هداة للرشاد نافعين للعباد.
(ج) عبارة مختصر المزني ليس فيها ذكر إعادة الظهر على من صلى
الجمعة وعلم أنها صليت في مسجد آخر , بل هي نص في وجوب التجميع في
مسجد واحد وإن كان لا يسع الناس , وأنه لا يصلى بعد إقامتها في أحد المساجد إلا
الظهر أي بعد العلم بأنها صليت. وزادتها إيضاحًا عبارة الأم وهي: (وأيها جمع
فيه أولاً بعد الزوال فهي الجمعة , وإن جمع في آخر ساعة بعد الجمعة كان عليهم
أن يعيدوا ظهرًا أربعًا) فقوله: في آخر ساعة بعد الجمعة؛ يشعر بأنهم جمعوا مع
العلم بأن الجمعة صليت , ويؤيده مسألة الإشكال التي أوردها بعد فإنها تفيد أن
المسألة قبلها مفروضة في صورة العلم. وإنما تتأتى مسألة الإشكال التي قالها الإمام
في صورة الاجتماع والشك في السبق بعد التجميع بأن صلوا في مساجد متعددة
معتقدًا أهل كل مسجد أنهم السابقون أو غير عالمين بتجميع غيرهم بالمرة , ثم
علموا وطرأ عليهم ما أوقعهم في الشك والإشكال , ولذلك أوجب عليهم إعادة الجمعة
في قول. فقال: (ولو أشكل عليهم فعادوا فجمعت منهم طائفة ثانية في وقت
الجمعة أجزأهم ذلك) وصلاة الظهر في قول آخر وهو الذي ذكرناه هناك عنه أولاً
وعن الربيع آخرًا. وهل المراد من القولين التخيير أم يريد الإمام أن الظهر حتم
على من لم يتمكن من إعادة الجمعة أم رجع بأحد القولين عن الآخر؟ كل محتمل
ولا محل هنا للبحث في الترجيح، وإنما المراد أن الإمام لم ينص على ما إذا جمعوا
في مساجد متعددة , ولم يطرأ عليهم إشكال في السبق بأن أحرم أهل كل مسجد بها
بناء على أن الأصل عدم سبق غيرهم لهم بجمعة في بلدهم , ولو أحرموا غير
معتقدين بأحد هذه الشروط وهم يعتقدون أنها شروط (لأنهم شافعية) لكانوا عصاة
متلاعبين بالدين كمن يصلي بغير وضوء وحاشاهم من ذلك.
وجملة القول أن الإمام منع تعدد التجميع اختيارًا مع العلم , وصرح بعدم
إجزاء جمعة ثانية بعد الأولى , فجعل الاعتقاد بأن هذه الجمعة هي الأولى أو عدم
العلم بأنها مسبوقة بجمعة صليت قبلها شرطًا لصحة الجمعة , فمن لم يتحقق عندهم
الشرط لا يجوز لهم التجميع عنده. فإذا كان أهل الأمصار التي تتعدد مساجدها لا
يتحقق عندهم هذا الشرط فلا يجوز لهم التجميع إذ لا تنعقد صلاتهم بالجمعة مع فقد
شرطها، وإن كان يتحقق لأن الأصل عدم السبق كما قلنا كانت جمعتهم صحيحة ,
ولا يجوز لأحد أن يصلي عقبها ظهرًا. وأما الإقدام على صلاة فريضتين في وقت
واحد مع اعتقاد أن كلاًّ منهما واجب كما يفعل أكثر الشافعية في الأمصار فمما لا
دليل عليه في قول الإمام رحمه الله تعالى بل مقتضى المذهب حرمته.
وقد زارنا بعد كتابة ما كتبناه في الجزء التاسع عشر أحد علماء الشافعية
المدرسين في الأزهر فقرأه فأعجبه فقلنا له: أتظن أحدًا ينازع فيه؟ فقال: ربما
ينازع فيه الضعيف. فذكرنا له نحو ما كتبناه آنفًا في النية , فقال: إن هذا يقنع من
عساه يعارض وليتك كتبته. فإذا اقتنع ذلك الطالب في سنغافورة بهذا الإيضاح وإلا
فليشرح لنا فهمه ودليله.
ثم إن هذا كله مفروض فيما إن كان التجميع في مساجد تزيد عن الحاجة ,
وقد علم مما كتبه الشبراملسي وغيره أن العبرة بزيادتها عمن تجب عليهم الجمعة لا
عن المصلين بالفعل، فإذا كانت مساجد سنغافورة دون حاجة المسلمين فيها لو صلوا
الجمعة فلا إشكال في صحة الجمعة وعدم وجوب إعادة الظهر. ومن الغريب أن
يذهب ذاهب إلى ترك هذا الشعار بالمرة ويزعم أنه من الاحتياط. وقد اطلعنا في
هذه الأيام على رسالة في المسألة للشيخ مصطفى الغلاييني البيروتي كانت بيد
بعض الأزهريين , ورغب إلينا في نشرها فنحن ننشرها لزيادة الإيضاح , وسنذكر
بعد نشرها ما صح في الكتاب والسنة في صلاة الجمعة إن شاء الله تعالى.
__________
(*) هكذا يكتب اسم البلد أكثر العرب الذين فيها.(7/935)
الكاتب: مصطفى الغلاييني
__________
رسالة البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة
للشيخ مصطفي الغلابيني
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم يا ملهم الصواب، ومانح السداد، ومنزل الكتاب لهدي العباد، نسألك
الإعانة والتيسير، والهداية والرشاد، إنك على كل شيء قدير، فاهدنا قويم النجاد،
أما بعد فإني كاتب في هذه الأوراق اليسيرة ما يتعلق بصلاة الظهر بعد الجمعة كتابة
يرتفع بها ستار الأوهام، وتنقشع عن وجه الحقيقة سحب الظلام، مقيمًا على ذلك
البراهين القاطعة والحجج الواضحة الساطعة، حتى ينجلي الصبح لذي عينين،
ويزول الغطاء والرين، فتبدو الشمس من برجها مشرقة الوجه، زاهرة الطلعة،
فلا يبقى حينئذ مقول لقائل ولا مجال لمعترض، فالحق أحق أن يتبع، وما الحقيقة
إلا بنت البحث، وما القصد من هذه السطور إلا إظهار الحق وتبيان الصدق، ولا
بد للحقيقة أن يعلو منارها ويشرق سناؤها، فتغل كتائب الباطل وتزهق، وتفشل
أنصاره وتمحق؛ وقد قال بعض أساتذتنا الأعلام: (إنما بقاء الباطل في غفلة الحق
عنه) آخذًا هذا المعنى من قول الله سبحانه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ
فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) وقوله جل ثناؤه: {إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81) .
والداعي لتحرير هذه الرسالة أن بعض خطباء المساجد في مدينتنا بيروت منع
من صلاة الظهر بعد الجمعة في مسجده , فاعترض عليه بعض الفقهاء الشافعية ,
وحصل في المسألة أخذ ورد , وانقسم طلاب العلم على قسمين , فمنهم من يقول
بمنعها , ومنهم من يقول بوجوبها أو سنيتها , ومضى على ذلك أشهر , والمسألة في
ميدان البحث والانتقاد إلى أن ظهرت في هذه الأيام رسالة في الموضوع للشيخ
المرحوم علي نور الدين الشبراملسي الشافعي حكى فها أقوال الشافعية في المسألة،
وحكم بأن صلاة الظهر بعد الجمعة مع التعدد إما واجبة مع التعدد لغير حاجة وإما
سنة مع التعدد للحاجة، وقد سعى في هذه الرسالة بعض المنتسبين للعلم وأغرى
بعض المثرين بطبعها وتوزيعها على العوام مجانًا.
وقد جاء في مقدمة الساعي بطبعها من الانتقاد على الخطيب ما لا يحمد ذكره،
فقد وصفه بأنه فرق كلمة الخاصة , وشوش أذهان العامة , ثم أتبع ذلك بقوله:
(ولا يخفى ما في ذلك من الضرر المبين حيث يؤدي إلى شق عصا المسلمين) إلى
آخر ما قال. على حين أن العامة لم تشوش أفكارهم ولم تفرق كلمتهم، وإنما
تحزُّب بعض الفقهاء من أمثاله هو الذي نبه أفكار الخاصة وشتت أذهان العامة،
على أن هذه المسألة خاصة بالشافعية ومن وافقهم دون غيرهم من المسلمين، فكيف
يقال أنه شق بعمله هذا عصا المسلمين وفرق كلمتهم. وإني متكلم في هذه المسألة
على ثلاثة أبحاث: البحث الأول في الكلام على تعدد الجمعة. الثاني في الكلام
على الظهر بعد الجمعة. الثالث في عرض المسألة على الكتاب والسنة.
* * *
البحث الأول
في الكلام على تعدد الجمعة
اعلم أن الفقهاء اختلفوا في تعدد الجمعة على قسمين فمنهم من منع التعدد
مطلقًا سواء كان لحاجة أم لا، وهو غير معتمد في المذهب كما صرحوا به. ومنهم
من أجاز التعدد بشرط الحاجة وهو الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الفقهاء. ثم
اختلف أصحاب هذا القول في تفسير الحاجة على أقوال؛ فمنهم من قال: الحاجة
باعتبار من يصليها بالفعل، ومنهم من قال: الحاجة باعتبار من يغلب حضوره.
فعلى هذين القولين يكون التعدد في بيروت ونحوها زائدًا عن الحاجة؛ لأن الذين
يحضرونها تكفيهم مساجد أقل من المُعدة لها. ومنهم من قال: إن الحاجة باعتبار
من تلزمه الجمعة وهو المعتمد عندهم. فعلى هذا القول المعتمد وما قبله يكون التعدد
في بيروت ونحوها حتى مصر ودمشق لحاجة، بل هو أقل من الحاجة.
(ولُباب القول) أنه إن اعتبرتم أن الجمعة في بيروت ونحوها متعددة لغير
حاجة فيجب الاقتصار على ما يكفي الناس لا أن نوجب عليهم صلاة الظهر بعدها
لأنها عبادة لم يأمر الله ولا رسوله بها؛ وإن اعتبرتم أنها متعددة لحاجة بناء على
القول المعتمد فلا لزوم لصلاة الظهر بعدها لأن الإمام حينما دخل بغداد صلى فيها
الجمعة مع تعددها ولم يصل بعدها الظهر. واعلم أن منشأ هذه الأقاويل ما تعارض
من قول الإمام الشافعي وفعله، فظاهر كلامه أنه لا يجوز التعدد، وأما دخوله إلى
بغداد ووجوده أهلها يصلونها بمحلين أو ثلاثة، وعدم إنكاره عليهم وصلاته معهم
سنتين - فهو دليل على إقراره التعدد إن كان لحاجة. وأما من قال: إن سكوته من
باب أن المجتهد لا يرد على مجتهد، فمنقوض لأنه إن كان لا يجيز التعدد لحاجة
بدليل يُعدُّ سكوته على ذلك من باب رؤية المنكر وعدم إزالته، ونُجِلُّ الإمام عن
ذلك. وإن كان يجيز التعدد لحاجة فقد قضي الأمر , ومن قال: يحتمل أن الشافعي
صلى الظهر لا الجمعة , أو أنه كان يعيد الظهر بعد الجمعة؛ نقول له: إن الدين لا
يثبت بالاحتمال , وإن المنقول خلاف ما تحتمل وغير ما تدعي، ولهذا أجاب عنه
جمهور أصحابه بأن تعدد الجمعة في بغداد إذ ذاك لمشقة الاجتماع لكثرة أهلها ,
وتبعهم الشيخان كالروياني، قال في الحلية: (ولا نص فيه للشافعي , ولا يحتمل
مذهبه غيره) اهـ أي لم ينص الشافعي على مسألة التعدد في حالة الاضطرار ,
ومذهبه يقتضي جوازه لأن المشقة تجلب التيسير، وأما قول المزني في المختصر:
(ولا يجمع في مصر وإن عظم وكثرت مساجده إلا في مسجد واحد) فليس فيه ما
يدل على عدم جواز التعدد لحاجة , فينبغي حمله على حالة السعة والاختيار دون
المشقة والاضطرار، وهي فيما إذا وجد مسجد يجمعهم جميعًا لأن مسألة الإمام في
بغداد دليل على ذلك وصريحة في جواز التعدد عند الافتقار، فسقط قول من
قال: لا يجوز تعددها ولو في حالة الاضطرار.
وشُبهة من قال بعدم جواز تعدد الجمعة هو أنها لم تفعل في زمنه صلى الله
عليه وسلم إلا كذلك أي في مكان واحد , فلو جاز تعددها لحصل ذلك في زمنه عليه
الصلاة والسلام. ونقول في الجواب من وجوه:
الأول: أنه لم يكن من حاجة إلى التعدد لأن مسجد الرسول كان يكفيهم جميعًا
, فلا معنى حينئذ للكثرة لما هو معلوم من أن المسلمين لم يكونوا يبلغون من العدد
ما بلغوه بعد زمان النبي والخلفاء الراشدين , لكن لما اتسعت دائرة الإسلام
وكثرت فتوحاته ودخل الناس فيه أفواجًا أفواجًا في مشارق الأرض ومغاربها -
تعسر عليهم الاجتماع لإقامة الجمعة في مسجد واحد فدعتهم الحاجة إلى تعددها عملاً
بقوله عليه الصلاة والسلام: (يسروا ولا تعسروا) وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) ولأنه إن كان القصد من عدم التعدد
شعار الجمعة فالشعار حاصل أيضًا مع التعدد لحاجة.
الثاني: الحرص على الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم , وسماع خطبه
ومواعظه وأوامره ونواهيه , وأي مسلم يرغب عن الصلاة مع النبي إلى غيره.
الثالث: الحرص على اجتماع الكلمة وعدم التفرق بقدر الإمكان؛ لأن هذا
من حِكم صلاة الجمعة لا يعدل عنه إلا لضرورة كضيق المصلى الواحد مثلاً. وقد
تفلسف بعضهم , فقال: يجب إقامة الجمعة في مصلى واحد ولو غير مسجد , وإن
حصل بذلك مشقة من حر أو برد أو مطر إلخ. وقد قاس تلك المشقة على مسألة
الجهاد والحج وإن لم يكن بين المقيس والمقيس عليه جامع، قال بعض الفقهاء
عندنا: وذلك كرمل بيروت ونحوه، بخ بخ. والجواب عن ذلك أن هذا القول عارٍ
عن الدليل , ومخالف لعمل الإمام الشافعي لأنه لم يأمر أهل بغداد بالاجتماع في غير
المساجد بل أقرهم على التعدد للحاجة إليه.
إني لأعجب من تجويزهم أو إيجابهم الاجتماع للجمعة في غير المسجد إن لم
يمكن فيه لأنهم منعوا التعدد بحجة أنها لم تعدد في زمن الرسول صلى الله عليه
وسلم , فكيف يقولون بصحتها في غير المسجد مع أنها لم تفعل في زمن الرسول إلا
في المسجد [1] .
فلعمري إن هذا ترجيح بلا مرجح , فتجويزكم للمسألة الأولى يقتضي تجويز
الثانية وهو التعدد للضرورة , وهو ما أقر عليه الإمام الشافعي ولم ينكره، فعدولكم
بلا دليل عن عمل الإمام ضرب من التعنت والأوهام.
على أنه لم ينقل عن المعصوم ولا عن الصحابة ما يدل على عدم جواز التعدد ,
وأما من قال: إن عدم التعدد في زمنهم دليل على عدم جوازه؛ فنقول له: قد
أخطأت المرمى، فإن كثيرًا من الأمور لم تكن في عهد الرسول ثم دعت الحاجة
والوقت إلى إيجادها؛ منها أن القرآن لم يكن مجموعًا في عهده صلى الله عليه وسلم ,
ثم رأت الصحابة رضوان الله عليهم أن من اللازم جمعه خشية ضياعه، وهكذا
الأحاديث الشريفة كانت العلماء تتناقلها في الصدور , ثم رأوا من المصلحة كتبها
في الدفاتر , وهكذا أكثر العلوم الدينية والعربية إلخ، فهل يقال لا يجوز فعل ما تقدم؟
نعم لا يجوز أن نخترع أمرًا دينيًّا لم يكن على عهد النبي إذا لم تحوج الضرورة إلى
فعله كصلاة الظهر بعد الجمعة مثلاً.
ثم إن عدم التعدد في زمانه عليه الصلاة والسلام ليس دليلاً على عدم جواز
التعدد لأنه لم يرد قول يمنعه، ومن المعلوم المسلَّم المقرَّر أن الأصل في الشيء أن
يكون مباحًا إلا إذا ورد دليل على تحريمه أو كراهته , وأي دليل ورد في ذلك؟
فالحق الحق عباد الله , فالحق أحق أن يتبع. إن شريعتكم سهلة سمحة لا تكلف فيها
فلا تضيقوا على أنفسكم , فنبيكم يقول: (الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه)
وقال أيضًا في حديث آخر: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها , وحدّ حدودًا فلا
تنتهكوها , وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) .
فعلمت مما تقدم أن الحق من مذهب الشافعي رحمه الله تعالى هو جواز تعدد
الجمعة متى دعت الحاجة إلى ذلك , وهو ما تقتضيه قواعد الشريعة المطهرة , وأن
المعتمد في تفسير الحاجة أن العبرة بمن تجب عليهم الجمعة صلوا أم لا , فإن كانوا
لا يكفيهم مصلى واحد صلوا في عدد يكفيهم من المساجد، وعليه فالمساجد التي تقام
فيها الجمعة في بيروت ومصر وما ضارعهما من المدن متعددة للحاجة , بل هي
أقل من الحاجة إذ لو صلى كل من تلزمهم الجمعة لضاقت عليهم المساجد , وبقي
منهم جمّ بلا صلاة كما هو المشاهد في رمضان والأعياد.
* * *
البحث الثاني
في الكلام على الظهر بعد الجمعة
علمت في البحث السابق الكلام على التعدد وأن الحق جوازه. وإنا ذاكرون
لك في هذا الفصل الكلام على صلاة الظهر بعد الجمعة إذا تعددت، فنقول: إن ذلك
واقع فيما إذا كان تعددها لغير حاجة , فإن الظهر تلزم بعدها في صور نذكرها لك
قريبًا، وأما إذا تعددت لحاجة فلا ظهر بعدها مطلقًا بل هي باطلة قطعًا إن صُليت،
ولا يقال: تُسن الظهر إذا تعددت لحاجة خروجًا من خلاف من أوجبها؛ لأنا نقول:
بل السنة , بل الواجب تركها مراعاة لمن لم يقل بها لأنها لم يدل عليها دليل , بل
هي مخالفة لعمل الإمام الشافعي رضي الله عنه لأنه لم يصلها في بغداد ولم يؤثر
عنه قول في سنيتها مع التعدد لحاجة , فكيف نترك عمل الإمام ونعمل بغير قوله ,
إن هذا لمن العجب، على أن التقليد للشافعي لا لهم حتى يخترعوا أقوالاً لم يقلها أو
يخالفوه أو يقولوا بغير قوله , ومع ذلك يقولون: هذا مذهب الشافعي , وما
هو بمذهبه , وقد ذكرت لبعضهم أن كتاب (الأم) للإمام الشافعي يطبع في هذه
الأيام , فقال: لا حاجة لنا به لأنه لا يجوز أن نعمل إلا بكلام المتأخرين، يعني لا
يجوز له تقليد الشافعي! ! ! فاسمع هذا واعجب.... نعم لو ظهر أن كلام الإمام
مخالف للدليل وكلام أتباعه موافق له يجب أن نترك قول الشافعي ونتبع أتباعه؛
لأن الشافعي أمر باتباع الدليل حيثما كان , وقد صح عنه أنه قال: (إذا صح
الحديث فهو مذهبي) ونكون في هذه الحالة أيضًا متابعين للشافعي لا مناقضين له ,
ويفهم هذا السر من يفهمه ويجهله من يجهله، ولكنهم يخالفونه فيما لا دليل لهم عليه
وذلك من عدم الاطلاع على كلامه , وإهمال كتب المتقدمين التي فيها الخير كله.
وقد قال بعض الفقهاء عندنا معرضًا بالمانعين من صلاة الظهر بعد الجمعة:
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى} (العلق: 9-10) على أني أفسح صدري
وأفتح أذني لسماع اعتراضه , وأجيبه عليه , وإن كان كلامه مما لا ينبغي أن يرد
عليه , فأقول: أرأيت أيها الفقيه لو أن إنسانًا صلى الظهر ست ركعات مثلاً أتدعه
يصلي أم تمنعه؟ أرأيت لو أن جاهلاً صلى نفلاً ليس له سبب متقدم أو مقارن في
وقت من الأوقات المحظور فيها ذلك أتبيح له الصلاة أم تحظرها؟ أرأيت أرأيت
إلخ..
ولنرجع إلى بحثنا فنقول: إن مذهب الشافعي عليه الرحمة في هذه المسألة أن
الجمعة إن تعددت لغير حاجة في البلد الواحد في مواضع، فالجمعة للسابق ويصلي
الباقون الظهر لفساد جمعتهم، وإن أشكل السابق أعادوا كلهم ظهرًا , ولو أعادت
طائفة منهم الجمعة أجزأهم ذلك، ومسألة الإشكال لا تتأتى إلا إذا اجتمعوا وتذاكروا
فظهر لكل فريق منهم ما أوقع في نفسه الريب والشك في سبقه بالجمعة، وأما قبل
الاجتماع بالفريق الآخر الذي أقام جمعة ثانية وثالثة والتحدث معهم فلا يحصل الشك
، يدل على ذلك ما قاله الشافعي وهو قوله: (ولو أشكل ذلك عليهم فعادوا فجمعت
منهم طائفة ثانية في وقت الجمعة أجزأهم ذلك) اهـ فهل يستقيم ذلك إلا بعد
الاجتماع والتحدث؟ وإلا فكيف يحكمون بفساد جمعتهم كلهم بدون تثبت؟ وأما إذا
لم يُعلم السابق ولم يحصل إشكال بل صلى كل فريق ظانًّا أنه السابق , ولم يطرأ
عليه ما شككه بسبقه فلا ظهر عليه وجمعته صحيحة , وهذه الصورة لم ينص عليها
الشافعي , فينبغي حملها على ما قلناه لأن الأصل عدم سبق غيره له , ولم يكن هناك
ما يعارضه فيبقى ما كان على ما كان.
على أنه لو فرضنا أن الجمعة في بيروت ونحوها متعددة لغير حاجة - وإن
كان الواقع خلافه بناء على القول المعتمد - فلا تلزم بعدها الظهر أيضًا , والسبب
في ذلك عدم معرفة السابق بالجمعة وعدم الشك بالسبق؛ لأن كل إنسان يصلي ظانًّا
أنه السابق , ويذهب لأشغاله , ولم يكن هناك اجتماع ولا تحادث في السابق حتى
يعلموا فساد جمعتهم أو الشك في صحتها , بل من الغريب أن الداخل إلى المسجد
من الطلبة أو العامة موطن نفسه على صلاة الظهر بعد انقضاء صلاة الجمعة بدون
تثبت ولا تحقق، معتقدين أن الجمعة لا تجزئهم لأنها صارت عادة لهم قضى بها
التقليد الأعمى الصرف. وكيف يجوز أن يصلي المرء صلاة معتقدًا أنها لا تجزئه!
لعمري لم ينقل عن الشافعي ولا أصحابه ما يجيز ذلك بل ولا عن أحد من الأئمة
اللهم إلا بعض الفقهاء المتأخرين، الذين لا يجوز تقليدهم لأحد من المسلمين.
هذا وممن يقول بعدم لزوم الظهر بعدها من علماء الشافعية الأحياء عَلَمان من
أعلامهم , وبحران من بحورهم لا يمكن أن ينكر فضلهما أو يجحد علمهما , وهما
الأستاذ العلامة الفقيه المحدث الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي مدينتنا بيروت ,
والشيخ الفقيه الزاهد المفضال خاتمة المحققين في المذهب الذي أطلق عليه لقب
الشافعي الصغير الشيخ عيسى الكردي، المتوطن في دمشق الشام. وقد نقل
الموجبون لصلاتها عن كتاب الكفاية للأستاذ مفتي بيروت المتقدم ما يدل على
وجوبها أو سنيتها , وألحقوة برسالة الشبراملسي بعد طبعها وتوزيعها , فإن كانوا
يعتبرون أن كلامه ليس حجة فلا قيمة إذن لهذا النقل ولا حجة لهم به , وإن كانوا
يعتبرون أنه حجة، فنقول لهم: إنه كتب ذلك مسايرة للفقهاء المتأخرين وقد رجع
عن هذا القول كما صرح بذلك لمن استفتاه بهذا الخصوص، وقوله في المسألة هو
ما فصلناه سابقًا , وقد ألف بهذا الخصوص رسالة مطولة جوابًا لسائل سأله أسمعني
إياها.
وقد نقل عدد من أهالي بيروت أن الفهامة المحدث الفقيه علامة وقته المرحوم
الشيخ محمد الحوت الكبير البيروتي صاحب التآليف النافعة لم يكن يصلي الظهر
بعد الجمعة أبدًا، وكذا ولده العالم الزاهد الشيخ عبد الرحمن أحد القائلين بوجوبها ,
قد ثبت بإقراره أنه لا يصليها في مناظرة جرت بينه وبين بعض القائلين بعدم
مشروعيتها، وقد راقبته مرات فلم أره يصليها.
وقد رأيت في كتاب الأجوبة العراقية للشيخ الآلوسي العلامة الشهير صاحب
التفسير كلامًا في الموضوع , قال بعد أن أورد كلام متأخري الشافعية ما نصه:
وكنت إذ أنا شافعي مقلدًا هذا القول (وهو جواز تعددها في البلد الواحد) فلم أكن
أصلي الظهر بعد الجمعة. نعم كنت أحيانًا أصليها في بيتي , وأنكر في قلبي على
من يصليها في الجامع بجماعة لما كنت أسمع من كثير من العوام ما يدل على
اعتقادهم أن الله تعالى فرض على العباد يوم الجمعة وليلتها ست صلوات. وما
كنت أرى منشأ لذلك أظهر من إلزام كثير من الشافعية لإقامة الظهر في المسجد
الجامع بجماعة. وأنا اليوم أرى صلاة الظهر بعدها في البيت للاشتباه في تحقق
بعض شروط الصحة , وإني ليضيق صدري ولا ينطلق لساني) اهـ.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) اللهم إلا ما ورد من إقامتها في غيره إذ كان النبي مسافرًا مع الصحابة في بعض الأسفار , ولا حجة لهم به؛ لأن ذلك كان في السفر لا الحضر , فإن قالوا: نحن نخرج لضرورة الضيق؛ فنقول لهم: نحن نعدد للضرورة نفسها , والمسألتان سواء، على أنهم لا يعملون بهذا الحديث لأنهم يوجبون لصحة الجمعة أربعين مقيمين , والصحابة إذ ذاك مسافرون فاحتجاجهم بشيء منه وطرح الآخر ضرب من البعد عن الحق , وسيأتي معنا توضيح المقام في البحث الثالث إن شاء الله اهـ منه.(7/941)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب الإمامة والسياسة
كنا نسمع بهذا الكتاب ونرى اسمه في الكتب فنتمنى لو نراه لمكان مؤلفه أبي
عبد الله بن قتيبة في العلم وتقدمه في الزمن , فهو من أهل القرن الثالث ومن
أصحاب الرواية حتى أتاح الله لطبعه في هذه السنة محمد أفندي محمود الرافعي
وهو تاريخ للخلفاء الراشدين ومَن بعدهم من ملوك المسلمين إلى عهد المأمون.
والكتاب في انسجام عبارته وتحري مؤلفه في روايته مما لا يستغني المسلم عن
قراءته، ومن قرأه معتبرًا يعرف شيئًا من قوة روح الإسلام , وكيف أحيا الله به
هذه الأمة حتى صار يؤثر عنهم من العدل والحكمة وهم لم يدارسوا السياسة ولا
تربوا في حجورها - مالا يؤثر مثله عن ملوك أوربا وحكامها على رقيهم المشهود
في العلوم الاجتماعية والسياسية , وأخذ أممهم على أيديهم. ومما نحب توجيه النظر
إليه المقارنة بين ملوك المسلمين وأمرائهم حتى بعد أن صارت الخلافة ملكًا
عضوضًا مخالفًا لكثير من أصول الإسلام , وبين ملوكهم وأمرائهم في هذا الزمان
الذي انحطت فيه الأمة إلى حضيض الهوان. فما أورده في ذلك:
(دخول سفيان الثوري وسليمان الخواص على أبي جعفر المنصور)
ومما ذكره عن سفيان أنه أجاب أبا جعفر عندما قال له: إلىّ إليّ ادن مني؛
بقوله: إني لا أطأ ما لا أملك ولا تملك. فقال أبو جعفر: يا غلام أدرج البساط
وارفع الوطاء فتقدم سفيان فصار بين يديه , وقعد ليس بينه وبين الأرض شيء
وهو يقول: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (طه:
55) فدمعت عينا أبي جعفر , ثم تكلم سفيان دون أن يستأذن فوعظ وأمر ونهى
وذكََّر وأغلظ في قوله , فقال له الحاجب: أيها الرجل أنت مقتول. فقال سفيان:
وإن كنت مقتولاً فالساعة. فسأله أبو جعفر مسألة فأجابه. ثم قال سفيان: فما تقول
أنت يا أمير المؤمنين فيما أنفقت من مال الله ومال أمة محمد بغير إذنهم، وقد قال
عمر في حجة حجها , وقد أنفق ستة عشر دينارًا هو ومن معه: (ما أرانا إلا وقد
أجحفنا ببيت المال) وقد علمت ما حدثنا به منصور بن عمار - وأنت حاضر ذلك ,
وأول كاتب كتبه في المجلس - عن إبراهيم بن الأسود عن علقمة عن ابن مسعود
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رب متخوض في مال الله ومال رسول
الله فيما شاءت نفسه له النار غدًا) فقال أبو عبيد الكاتب: أمير المؤمنين يُستقبَل
بمثل هذا؟ فقال له سفيان: اسكت فإنما أهلك فرعونَ هامانُ وهامانَ فرعونُ. ثم
خرج سفيان , فقال أبو عبيد الكاتب: ألا تأمر بقتل هذا الرجل؟ فوالله ما أعلم أحدًا
أحق بالقتل منه. فقال أبو جعفر: اسكت يا أنوك (أي يا أحمق) فوالله ما بقي
على الأرض أحد اليوم يُستحيا منه غير هذا ومالك بن أنس. اهـ.
ومثل هذه الرواية كثير في الكتاب وغيره. هذا وقد كان الإمام مالك الذي قال
فيه المنصور ما قال يرى عدم صحة بيعته على علمه وفضله؛ لأن الحكومة كانت
دخلت في طور الإطلاق المخالف للشرع , وإن لم يكن ثَم قانون غير الشرع.
فانظر ما أبعد الفرق بين المنصور وأمثاله على علاتهم وبين ملوكنا وأمرائنا
المتأخرين , وهل يطيق أحد منهم أن يسمع من عالم كلمة حق. على أنهم قد
شرعوا لأنفسهم من الحقوق ما لم يأذن به الله كتعطيل الأحكام الشرعية واستبدال
القوانين بها , ومنع الجند والعمال أرزاقهم , وهبة ما شاءوا من بيت المال بغير
الحق. وهذه الأخيرة قديمة عهد. ونوجه أنظار القراء إلى ما في الكتاب من دلائل
الحياة الأدبية كخطب موسى بن نصير , والمقارنة بينها وبين حياتنا اليوم.
والكتاب جزءان في مجلد واحد , وثمنه عشرة قروش صحيحة , وأجرة البريد
قرش ونصف , وهو يطلب من إدارة مجلة المنار , ومن المكتبة الأزهرية.
__________(7/948)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
(نموذج من خطب السيد عبد الحق الأعظمي)
نشرنا في الجزء ال 17 من المجلد السادس خطبة من خطب صاحبنا الشيخ
عبد الحق البغدادي إمام وخطيب المسجد ذي المنارات في بمبي (الهند) فعلم منهاجه
في الخطب وأنه ينشئ الخطب إنشاء بحسب حال العصر وما ابتدع المسلمون فيه
وما عوقبوا به من البلاء وسوء الحال. وقد كان أرسل إلينا طائفة من هذه الخطب
ابتغاء نشرها في المنار فلم نتمكن من ذلك, ثم انتدب بعد ذلك صاحبنا الشيخ عبد
الله الجيتيكر الكتبي في بمبي لطبع هذه الخطب ونشرها - وهي اثنتا عشرة خطبة -
ابتغاء تعميم نفعها وحث الخطباء على احتذاء مثالها، فله مع الخطيب الشكر والثناء.
وقد أرسل الخطيب نسخًا من هذا النموذج المطبوع إلى أصحاب الجرائد التي
سمع بها وإلى بعض العلماء المشهورين في الأقطار , وطلب منهم انتقادها، وذلك من
دلائل إخلاصه وتوجهه لإحسان عمله. ونقول في هذه الخطب: إنها أنفع ما رأيناه
مطبوعًا وفي مصر من يخطب على هذه الطريقة كالشيخ خالد النقشبندي في (جامع
الست الشامية) والشيخ محمد المهدي في جامع عزبان. ولو كان هؤلاء كلهم لا
يلتزمون السجع المقفى بل يكتفون بجعل الجمل وجيزة على نحو جمل السجع لكان
أولى. ثم إن معظم هذه الخطب في الوعظ العام الإجمالي فلو فصل فيها ما انتشر
من البدع والمعاصي وبين فيها المعروف والخير المطلوب لتحسين حال المسلمين
كمساعدة الجمعيات الخيرية وكيفية التعليم والتربية ومعاملة النساء ونحو ذلك - يكون
نفعها أتم , فإن أكثر الذين يسمعون الكلام العام المجمل من العامة لا يعرفون
الغرض منه ولا يدرون ماذا يراد منهم.
وقد أعجبني من صاحب النموذج انتقاده ما يأتيه المسلمون من الشيعة وأهل
السنة في عاشوراء، وانتقدت عليه الشدة في التعبير في بعض المواضع مما له
مندوحة عنه، والتعريض في قوله: فساء مبارك صباح المسلمين. فهو غير محكم،
والتكلف في السجع وتطويله أحيانًا لا سيما الاقتباس كقوله في النبي صلى الله عليه
وسلم: (ويدعوهم إلى توحيد الخالق وتفريده بالعبادة وينقذهم من ضلال عبادة
الأصنام التي كانوا عليها عاكفين. وقال له: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ} (النحل: 125) خلقي أجمعين) . ولو أتم الآية لكان خيرًا
من وصله بها ما لا يلائمها من الحشو. وأحب له أن يعنى بتصحيح ما يطبع بعد،
فإن في هذا المطبوع شيئًا من الأغلاط الفاشية في الجرائد وكلام المعاصرين كقوله:
تعينت إمامًا. ها أنتم قد استقبلتم. والصواب: ها أنتم أولاء. والفواحش المخفية.
والصواب: المخفاة. تحصلتم على كذا , والصواب: حصلتم.
وقد أرسل إلينا طائفة من هذه النسخ للبيع فنحث الخطباء الذين يخطبون من
الدواوين المتداولة المملولة المثبطة للهمم أن يحفظوا هذه الخطب ويفضلوها فإنها
خير من تلك وأنفع. وثمن النسخة أربعة قروش وهي قليلة بالنسبة إلى الفائدة لكنها
غير قليلة بالنسبة إلى الورق والطبع، وأجرة البريد عُشرا القرش (مليمان) .
* * *
(الزهرة في نظام العالم والأمم)
رسالة لطيفة في الزهرة للشيخ طنطاوي جوهري كتبها بأسلوبه المعروف ,
وهو مزج الكلام في الطبيعة ونظام الكون بآيات القرآن الحكيم, ولو أَلِف التلامذة
وغيرهم من قراء العربية في عصرنا هذا الأسلوب؛ لانتفعوا بما في هذه الكتب
واستلذوه. وفي هذه الرسالة مقارنة بين رأي للإمام الغزالي ورأي لجون لبك العالم
الطبيعي العصري , وبحث في القرآن والمسلمين ومتأخري الإفرنج , وبحث في
جمال النبات ونظام الأزهار، والكلام على الزهر ذي الأقفال والمفاتيح , والزهر
ذي الحراس , والزهر ذي الجند, والزهر ذي السياسة الحقيقية والوهمية , والزهر
المنظم , ونور الزهر. والمؤلف يعتمد في الكلام العلمي على مؤلفات الإفرنج
الحديثة , ويزيد على ذلك إسناد هذا النظام إلى فاعله الحقيقي والتنبيه على سر
صنعته وبديع حكمته، فنحث الناس على قراءة كتبه.
* * *
(دليل مصر والسودان)
يؤلف الإفرنج كتبًا للممالك يصفونها ويبينون ما فيها من المعاهد والمشاهد
والمطابع والجرائد ويذكرون الكبراء والمشهورين وغير ذلك. ويسمى هذا النوع
من الكتب بالدليل , ويمتاز أفراده بالإضافة (فيقال: دليل فرنسا دليل إنكلترا)
وبهذه الكتب يعرف أهل الوطن من وطنهم ما لم يكونوا يعرفوه بأنفسهم، وبها
يستعين الغرباء على اختبار البلاد إذا جاءوها سائحين , وقد ألف غير واحد من
الإفرنج دليلاً لمصر والسودان ولم يُعنَ أحد من أبناء العربية بذلك حتى قام به في
هذه السنة (ثابت وإنطاكي) فألفا للقطرين دليلاً جعلاه جزءين أحدهما تبلغ
صفحاته زهاء ثلاث مائة , وثانيهما 176 صفحة , وقد ألحقا به كتاب طبائع
الاستبداد برمته، فكان الكتاب سفرًا كبيرًا ومجلدًا ضخمًا لا تستغني عنه خزائن
الكتب العربية؛ إذ عار علينا أن لا نعرف بلادنا إلا من كتب الأجانب. وثمن النسخة
من الكتاب أربعون قرشًا صحيحًا ويطلب من أصحابه بمصر.
* * *
(فتح الملك العلام في بشائر دين الإسلام)
كتاب جديد في بشائر كتب الأنبياء عليهم السلام بدين الإسلام، جمعه أحمد
أفندي ترجمان. وقد سلك فيه مسلك التدقيق مع النصارى في تحريف كتب العهد
القديم لصرفها بشائرها بالإسلام عنه إلى غيره, وجادلهم بالتي هي أحسن كإقامة
الحجة عليهم من كتبهم راجعًا عند الخلاف في التفسير إلى العبارات العبرانية.
مثال ذلك قول النبي أشعيا: (3: 40 صوت صارخ في البرية أعدوا طريق
الرب قوموا في القفر سبيلاً لإلهنا) إلخ فالنصارى حملوا هذا النص على السيد
المسيح عليه السلام , وهو لم يأت من القفر بل المراد بالقفر البلاد العربية لأن
النص العبراني (بعربه) فترجموه بالمعنى حتى لا يظهر التحريف. وفي أشعيا
أيضًا مما يؤيده (21: 13 وحي من جهة بلاد العرب في الوعر في بلاد العرب
تبيتين يا قوافل الدرانيين) . ومما يؤيده في المزامير (4: 68 غنوا لله رنموا
لاسمه , أعدوا طريقًا للراكب في القفار باسمه) والنص العبراني (بعربوت) بدل
في القفار، وهي بلاد العرب. وعلى ذلك فقس. وصفحات الكتاب تقرب من ثلاث
مائة , وعبارته في غاية النزاهة، فنحث القراء على مطالعته. ونطلب من الذين
ينشرون الجرائد والمجلات للدعوة إلى النصرانية والطعن في الإسلام أن يجيبوا
عما أورده هذا الكتاب عليهم إن كانوا يعتقدون ما يقولون.
* * *
(شهادة إسرائيل لإسماعيل)
جواهر التوراة والإنجيل، لمحمد بن إبراهيم الخليل
ألف محمد أفندي حبيب رسالة سماها بهذا الاسم ذكر، في أولها أن الكتب
المقدسة القديمة تكثر فيها الرموز والكنايات , ومن هذه الرموز استنبطت البشارات
والنذر في كتب الأنبياء بالحوادث العظيمة التي جاءت بعدهم وأعظمها ظهور الأنبياء
والشرائع. والنصارى يسمون بشارات الأنبياء ونذرهم بالنبوات , وتوسعوا في ذلك
حتى حولوا كثيرًا من أخبارهم المعروفة حوادثها إلى حوادث جاءت بعدهم ,
وتحكموا في ذلك كما تحكموا في تحويل بعض الأنبياء عن المستقبل إلى ما لا
ينطبق عليه. وقد بين محمد أفندي حبيب في رسالته هذه أمثلة من ذلك , وأظهر
خطأ القسوس فيها على نحو ما أشرنا إليه في تقريظ الكتاب السابق وهو قد كان
مساعدًا لصاحبه على تأليفة لمعرفته اللغة العبرانية.
من ذلك ما جاء في الفصل الخامس من (النشيد 16 حلقه حلاوة وكله
مشتهيات هذا حبيبي) قال المؤلف: فلفظ مشتهيات في الأصل العبراني (محمديم)
والقواميس العبرانية تقول: إن هذه اللفظة لا تفيد مشتهيات , ولكن تفيد أنه محمود
أو محمد. ونقول: إن هذه صريحة في نبينا عليه السلام , وليس عندهم بشارة
صريحة مثلها في المسيح عليه السلام وقوله قبلها: حلقه حلاوة، كناية عن فصاحة
كلامه , ولم يأت نبي بكلام أحلى مما جاء به خاتم الأنبياء. وقوله بعدها: وهذا
حبيبي، نص في لقب النبي عليه الصلاة والسلام فإنه حبيب الله عز وجل. وقد عزا
المؤلف العبارة إلى التوارة فيتوهم القارئ أنها في الأسفار المنسوبة إلى موسى عليه
السلام، وهي من النشيد كما قلنا. ومنه ما جاء في الفصل الثاني من النشيد:
(أسمعيني صوتك لأن صوتك لطيف ووجهك جميل) وفي الأصل العبراني (عيرب)
بدل جميل؛ أي عربي. ومنه ما في الفصل الثاني من نبوة حجي (7 وأزلزل كل
الأمم ويأتي مشتهى كل الأمم فأملأ هذا البيت مجدًا. قال رب الجنود) وكلمة
مشتهى هذه أصلها العبراني (حمدوت) ومعناه محمد أو محمود، وهي من الفعل
العبراني (حمد) ومنه قول المزمور الرابع والثمانين: (طوبى لأناس عزهم بك.
طرق بيتك في قلوبهم 6 عابرين في وادي البكاء) والأصل العبراني وادي بكة
(وذكر العدد في الرسالة غلطًا) فأبدل لفظ بكاء بلفظ (بكة) وهي مكة في نص
القرآن. وغير ذلك. والرسالة تطلب من مؤلفها في دكانه (المعرض العام وبرج
بابل بمصر) وثمنها نصف قرش. فنطلب من أصحاب الجرائد والمجلات
النصرانية الجواب عنها أو السكوت عنا، وإلا فإنهم مشاغبون يقولون ما لا يعتقدون.
__________(7/950)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة السنة السابعة
بسم الله وحمده نختم الجزء الرابع والعشرين من هذه السنة كما افتتحنا أول
جزء منها باسمه - جل ثناؤه - وحمده وشكره عظمت نعماؤه , فله الحمد أولاً وآخرًا ,
وباطنًا وظاهرًا {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ} (المؤمنون: 88) .
قلنا في فاتحة هذه السنة أن المنار دخل في سن التمييز بالنسبة إلى الأشخاص.
ذاك أن للأعمال أطوارًا كأطوار الناس: طفولية ومراهقة وشبابًا وكهولة
وشيخوخة, وإن العامل ليتقلب في أطوار عمله فيكون في أوله كالطفل أو الغلام
الصغير , وإن كان في علمه أو سنه كالشيخ الكبير , لأن حياة التجربة والخبر ,
غير حياة النظر والفكر , وإننا لم نقل إن المنار دخل في سن التمييز تواضعًا - كما
يقال - ولا عنينا به الخروج عن حدود الخطة التي اختططناها , أو السبيل التي
أشرعناها له وذكرناها بالإيجاز في فاتحة العدد الأول من سنته الأولى، فإن من راجع
تلك الفاتحة يعلم أن كل ما كتب في السنوات السبع تفصيل لإجمالها، ومن سنة الله
تعالى في هذا النوع أن كتابة العلم آلة لإخراجه من حيز الإجمال والإبهام , إلى حيز
التفصلة والإيضاح وأن من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم , كما ورد في
الحديث الذي ذكرناه في تلك الفاتحة؛ وإنما عنينا بالدخول في سن التمييز أن العمل
نما نموًّا طبيعيًّا، وأننا أنشأنا نعرف في هذه المعاملة بيننا وبين الناس ما لم نكن
نعلم من أمر الاستعداد للإصلاح الديني والاجتماعي، ودرجات ارتقاء الأخلاق
والأفكار، ومبلغ التعاون والتساند والاختلاف في ذلك بين أصناف الناس في قطر
واحد والتفاوت بين أهل الأقطار المتعددة.
(طفولة المنار وتمييزه)
دخلنا في هذا العمل ونحن على غرارة الأطفال في معرفة الناس؛ إذا أظهر
لنا أحد استحسانًا اعتقدنا أنه مستحسن , وكنا مسرورين , وإذا بلغنا عن آخر
استهجان اعتقدنا أنه مستهجن , وكنا آسفين عاذرين , ومتى رأينا من أحد ميلاً إلى
نشر المنار أو الدعوة معه إلي ما يدعو إليه , وثقنا به وعولنا عليه , ولم يكن في
الفكر ولا في القلب شيء إلا أن الأمة في حاجة إلى الإصلاح، وأن حوادث الزمان
أعدتها له في الجملة، وأن الكلام في ذلك والدعوة إلى ما يجب يزيدان الأمة
استعدادًا لما به تكون أمة عزيزة، ويكون عونًا للساعين في سبيل نهضتها والعاملين
لتكوينها وعزتها.
بدا لنا من فضل الله تعالى ما كنا نرجو ونحتسب، وفوق ما كنا نرجو
ونحتسب , فقد انتشر المنار في جميع الأقطار ولا يزال انتشاره في نمو مستمر من
غير سعي ولا دعوة تذكر، وبدا لنا من الناس ما علمنا به علم تجربة واختبار أنه
لا ينبغي أن يوثق بكلام أحد في أمور الجد والأعمال العامة التي لا حظ فيها
لأهواء الأفراد، إلا من شهدت له الأعمال والأخلاق بالاختبار الصحيح - وقليل ما
هم ثم قليل ما هم ثم قليل ما هم - وأنه لا ينبغي لمن لا يتبع أهواء الأمراء
والرؤساء والأغنياء أن يرجو من أحد مساعدة علي خدمة الملة والأمة، بل يجب أن
يخشى ويحذر من إيذائهم وفتنتهم.
بدا لنا أن من يريد أن يخدم دين الله وعيال الله - دون العظماء المترفين-
يجب عليه أن لا يعتمد في نجاح عمله إلا على تحري الحق والخير، والعلم بحاجة
الأمة إلى خدمته، وبأن الإحساس والشعور بهذه الحاجة قد دب في نفوس كثير من
أفرادها، وأن حركته فيها حركة حية، ولا علامة للحياة إلا النمو والزيادة. هذا هو
الأساس المتين الذي يجب البناء عليه ولا يشترط معه للنجاح إلا حرية العامل
وثباته، فمتى صادف الداعي إلى الحق حرية وثبت على عمله، فإن فضل الله تعالى
كافل له بالنجاح رغمًا عن أنوف المبطلين الذين يتعقبونه يضعون في طريقه
العقاب ويبغونه العواثير {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) .
(الدعوة إلى المنار)
بدا لنا أن الدعوة إلى العمل الذي يعمل للأمة لا يرجى نفعها إلا ممن يعتقد
نفع ذلك العمل، ويشعر بدافع الغيرة يدفعه إلى الدعوة , ولقد كنا نعرف هذا نظرًا
واستدلالاً , ولكن ذلك لم يصدف بنا قبل الاختبار عن الاغترار بأناس مدحوا على
هدى , ثم عادوا فذموا عن هوى , وأناس أقبلوا على علم , ثم أعرضوا بغير عذر.
وعن الرجاء بمن عهد إلينا إرسال المنار إلى أشخاص على أنه كفيل بالتحصيل
منهم، ومرت السنوات ولم يأت شيء من الكافل ولا من المكفول , وقد وقع لنا هذا
من غير واحد، ولم يكن ذلك مخادعة بل كان سعيًا في النفع، ولكنه غير مستوفٍ
للشرط فكان ضارًّا من حيث ينوى به النفع، فلأصحابه الشكر على نيتهم الأولى
والعذر على إهمالهم الأخير، ولولا أن كتبنا في المجلدات السابقة كلمات ظهر لنا
أنها كتبت بمداد الغرة لما نبهنا على اغترارنا في آخر هذا المجلد , ونصرح الآن
بأن العبرة في مساعدة المنار على ما نقول بعد دون ما قلنا قبل تصريحًا أو تلميحًا،
وإنما استفاد المنار من دعوة من رغبوا فيه عن اعتقاد، ودافع من شعور الغيرة
ودافعوا عنه بمدافعتهم عن اعتقادهم لا حبًّا في شخص منشئه، ولا إرضاء لبعض
محبيه , دعاة المنار وأنصاره هم أسلم الناس من الظنة , وأبرأهم من التهمة ,
وأبعدهم عن الهوى , وأقربهم بفضل الله من الهدى , إذ لا مجال لنوال , ولا مطمع
في جاه أو مال , ولا وسيلة إلى رتبة أو وسام , ولا رجاء في مدح ولا خوف من
ذام.
(مقاومة المنار)
للمنار خصماء ينفرون عنه ويذمونه، فمنهم من يطعن فيه وينفرعنه بغضًا
ببعض محبيه، ومنهم من يتجرم عليه تزلفًا إلى بعض مبغضيه، ومنهم من يكرهه
حسدًا وموجدة؛ ولا يكاد يخفى أمر هذه الأصناف على أحد إلا من كان خالي الذهن
غير مطلع على حقيقة أمرهم وحقيقة ما يطعنون فيه. وإن مقاومة أمثال هؤلاء
الناس - وإن ضخمت ألقابهم - لا تضر الحق إلا حيث يحرم الحق من الحرية
كبلاد الاستبداد والظلم , أما في بلاد الحرية فإنها تكون أكبر نفعًا له وأعون على
نشره وإعلاء شأنه، من المدح والإطراء لأن النفوس لا تتوجه إلى ما يمدح
ويدعى إليه إلا بعض توجهها إلى ما يذم ويصد عنه، وإنما يعرف الحق بالتوجه
إليه، والاطلاع عليه، ولذلك تجد أهله لا يجزعون من المناصبة، ولا يحفلون
بالقيل والقال، ولا يبالون بمحل أهل الكيد والمحال وإن تفننوا في الاعتداء
وبالغوا في الافتراء، وتجد أهل الباطل يجزعون من ذكر أعمالهم. ويضطربون
من معرفة الناس لأحوالهم، فيبذلون المال لكذبة المؤرخين وللشعراء الغاوين،
ليلبسوا الحق بالأباطيل ويشغلوا الأذهان بالخلابة والتخييل، وسيكون التاريخ
حكمًا بيننا وبين من تصدى للمنار من هؤلاء في الدنيا والله خير الحاكمين.
ومن الناس من يمقت المنار؛ لأن مباحثه ومسائله تبين للناس ما هم عليه من
الأباطيل التي اتخذوها وسيلة للرزق وجمع المال، وسلمًا للصعود في مراقي
الشرف والجاه، كبعض الدجالين الذين يدعون الولاية والقرب من الله والوساطة
بينه وبين عباده يقربونهم إليه زلفى، ويدفعون عنهم البلاء، ويستنزلون لهم النعماء،
وكسدنة القبور , وأكلة النذور , وكبعض أصحاب الجرائد الذين يخادعون الناس
بما يوهمونهم من الدفاع عن بلادهم والذود عن حقيقتهم، والدعوة إلى حفظ
شريعتهم، وهم لا شأن لهم في أمور البلاد، ولا قيمة لكلامهم عند أصحاب السلطة
والنفوذ، ولا معرفة لهم بأمر الدين فيقرروا عقائده، أو يدفعوا الشبه عنه، أو
يبينوا حكمه للجاهلين، ويذكروا بهدايته الجاهلين، وهؤلاء يعذرون بعداوتهم لنا في
دنياهم، ولا يبالون بأمر أخراهم، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين.
ومن الناس من يفر من المنار ويصد عنه لأنه يخالف رأيه ومذهبه في بعض
المسائل، وما آفة الأولين والآخرين إلا العداء بالخلاف {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *
إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (هود: 118-119) فللخروج من الخلاف خالفنا رأيهم أو
مذاهبهم، ولكننا لم نبغضهم ولم نعادهم بل نحبهم من حيث يكرهوننا، ونحترمهم
وإن كانوا لا يحترموننا، ونعذرهم وهم لا يعذروننا، ولعلنا بهذا نفضلهم ونود لو
يساووننا أو يفضلوننا، وهذا الصنف على قسمين: مقلد جامد لا يقرأ ولا يبحث
ولا يطالب بدليل بل يذم ويعيب لأنه سمع من يفعل ذلك فصدقه وتبعه، وذي رأي
ونظر يقرأ ويبحث ولكنه رأى ما يخالف اعتقاده فظنه ضارًّا فكرهه وصد عنه،
وهذا الفريق يكاد يكون نادرًا في أمتنا لهذا العهد الذي قال في أهله الشاعر:
غوينا فلا الداعي إلى الخير بيننا ... يعان ولا الداعي إلى الشر يخذل
بل كثيرًا ما نرى أُناسًا يخذلون داعي الخير لأقل شبهة، ويعينون داعي الشر
والفتنة، ولنا مع من يكره المنار لمخالفة رأيه كلمات ثلاث نقولها في خاتمة هذه
السنة:
(الأولى) من البديهي أن الخلاف في البشر طبيعي ولا يكاد يوجد اثنان
يتفقان في كل شيء حتى في الأمور العامة الظاهرة، فمن الجهل أن نجعل أمرًا
طبيعيًّا لا مفر منه سببًا للتعادي والتباغض؛ لأن ذلك يجعل هذا التعادي دائمًا
مستمرًّا في الأمة. وما استمر التعادي في أمة إلا وكانت من الهالكين.
(الثانية) إن الذي يخالفك في أمر من الأمور العامة بأن كنت تخشى ضرره
إذا نشر وهو يرجو نفعه، يجب عليك أن تتروى في أمره، فلا تقدم على عداوته
والصد عن عمله لئلا تكون صادًّا عن الحق والخير من حيث لا تعلم، بل عليك أن
تنظر في رأيه بإمعان وإنصاف فإن ظهر لك خطأه فاكتب إليه وكلمه بما ظهر لك
لينشره حيث ينشر رأيه، فإما أن تقنعه وترجعه وإما أن يقنعك ويرجعك، وإما أن
يعرض الرأيان على الناس فيكونوا هم الحاكمين، وأي ذلك كان فهو خير من
التنازع والخصام، ولا ينبغي لك أن تخاف على حقك من باطله إذا هما تصارعا
معًا فإنه ما تصارع شيئان إلا وغلب أقواهما أضعفهما، والحق أقوى من الباطل فإذا
قذف به عليه دمغه فإذا هو زاهق.
(الثالثة) أولى الناس بأن يعامل هذه المعاملة من تدل حاله على أنه يعتقد ما
يقول , وأنه يرجو النفع والإفادة للأمة، ويخلص لها الخدمة، ومن آية ذلك ترك
الدهان والتقرب إلى الذين ينال المال والجاه بالتقرب إليهم واتباع أهوائهم والعدول
عن ذلك إلى ما يسيء المبطلين من الخاصة، ولا يوافق أهواء العامة. وآية أخرى
أكبر من أختها وهي أنه ينادي دائمًا بأنه يقبل كل اعتراض وانتقاد وينشره كما
ننادي في كل عام.
(ضروب الانتقاد على المنار)
الانتقاد على المنار على ضربين: انتقاد خطة وانتقاد مسائل. فأما الأول:
فمن الناس من يرى أنه لا ينبغي للمنار الخوض في السياسة , وأول من صرح لنا
بهذا الرأي الشيخ محمد عبده عند اطلاعه على أول عدد صدر من السنة الأولى، ثم
إننا رأينا رياض باشا على هذا الرأي أيضًا، وذلك أن هذين الشيخين الكبيرين
يعتقدان أن خوض الجرائد في السياسة قد أضر بهذه البلاد، ويودان لو يكون المنار
الذي يعتقدان نفعه بعيدًا عنها , وقد ذكر لنا كل واحد منهما رأيه غير مرة، ولكن
السياسة فتنة العالمين، وإنه ليصعب على الإنسان أن يرى الأهواء تعبث بالأمور
العامة، ويرى أهلها يخفون الحقائق ويموهون على الناس ويغشونهم وهو ساكت لا
يحير قولاً ولايكشف لبسًا. على أننا قلما نقصد إلى السياسة ونبحث فيها، وإنما
نذكر في باب الأخبار والآراء أحيانًا بعض المسائل التاريخية والجوانب الطارئة،
ونذكر وجه العبرة فيها والعبر التاريخية كلها سياسية على أنهما يعنيان السياسة
المصرية، وهذه قلما نعرض لها أو نلتفت إليها. ومن الناس من ينتقد ذكر الأخبار
والأدبيات في المنار زاعمًا أنه مجلة دينية لا ينبغي التعرض فيها لغير مسائل الدين،
وجواب هؤلاء مكتوب على غلاف المجلة منذ وجدت وهو (مجلة علمية أدبية
تهذيبية ملية إخبارية) .
(مسلك المنار السلفي)
ومن هذا الفريق من ينتقد على المنار اتباع طريق السلف في الاستدلال على
المسائل بالكتاب والسنة، ويسمون هذا اجتهادًا، ويقولون: إن منشئ المنار لا
تسلم له دعوى الاجتهاد. ونجيب هؤلاء من وجهين:
(أحدهما) أن المنار يتكلم في مسائل الدين في أبواب منها باب التفسير ,
ولا ينبغي لمسلم أن يقول: إنه يجب أن نجعل أحد المذاهب أصلاً ونرجع القرآن
إليه ونحكمه فيه، بل الواجب اعتقاد أن القرآن هو أصل الدين وأساسه وينبوعه
ومصدره، يرجع إليه كل شيء منه وهو لا يرجع إلى شيء لأنه فوق كل شيء.
ومنها بابا الفقه والسؤال والفتوى، وهما موضوعان لبيان حِكم الدين وأسراره،
ودفع الشبه والاعتراضات عن الإسلام، وإقامة الحجة على المتهاون بأحكامه،
وليس يضر الإسلام والمسلمين أن يكون بعض المسائل الاجتهادية في بعض
المذاهب منتقَدًا أو غير ظاهر الحكمة أو غير معمول به إذ لا بد من هذا، وإنما
يضرنا أن يتوجه الانتقاد إلى أصل الكتاب والسنة وأن يكون هذا الأصل مخالفًا
للبرهان العقلي في عقائده وللمصلحة في أحكامه. ثم إن المنار قد أنشئ لجميع
المسلمين لا لأهل مذهب معين منهم والمسائل ترد إليه من أهل المذاهب المختلفة
في الأصول والفروع وهم لا يسألونه عن مذهب معين إلا نادرًا، وإنما يسألونه عن
أصل الدين وهو الكتاب والسنة، ومن يسأله عن مذهب معين يجبه عنه إن علم،
وإلا قال: لا أدري، بلسان المقال، أو بلسان الحال وهو السكوت.
(الوجه الثاني) إن رأي المنار أن الوحدة الإسلامية لا تتحقق إلا بالرجوع
إلى الكتاب والسنة المتبعة المجمع عليها في أمور العقائد والعبادات المحضة كما كان
السلف، وأن يكون الاجتهاد في المعاملات قائمًا على أصولهما العامة مع مراعاة
مصلحة الأمة وعُرف الزمان كما جرت المذاهب، وعدم التفريط في مصلحة الأمة
لأجل موافقة مذهب دون مذهب، وما نذكر من المسائل بأدلتها مع بيان حكمتها
وانطباقها على المصلحة نريد به مع الرد على المنكرين بيان النموذج الذي نرى
اتباعه جامعًا لكلمة الأمة ومحييًا لنشأة الدين فيها، ولا نلتزم في ذلك إلا موافقة
الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فما كتبنا شيئًا يخالف هذه الأصول ولا القياس حيث لم
توجد. فإذا كان نشر كل ما يخالف مذهبك أيها المعترض ضارًّا فكتب التفسير
والحديث ضارة؛ لأنها مملوءة بذكر الخلاف والأدلة، وكذلك أكثر كتب الفقه , وللمنار
أسوة بها.
وأما الضرب الثاني وهو انتقاد المسائل فإننا ننشر في كل سنة ما يرد علينا
منه ونذكر رأينا فيه، وقد جاءنا في أواخر هذه السنة رسالتان: إحداهما من فاس
ينتقد صاحبها فتوى نشرت في المنار، والثانية من الهند ينتقد صاحبها الحنفي ما
كتبناه في مسألة اشتراط الولي في النكاح، فلم نتمكن من الرد عليهما فأرجأناه إلى
أجزاء السنة الثامنة. وقد رأينا في جريدة الأفكار البرازيلية انتقادًا على ما كتبناه في
مسألة تعدد الأزواج سنذكر خلاصته ونجيب عنه أيضًا.
(تقريظ المنار ومدحه)
ذكرنا كل ما انتهى إلينا علمه من الانتقاد علينا، فإن كان أحد يعلم أنه كتب إلينا
شيئًا لم نذكره فليذكرنا به. ولكننا لا نذكر ولا نشير إلى تلك التقاريظ والثناء الذي
يرد علينا من هذه البلاد ومن المشرقين والمغربين، بل نثني على أهله ونشكر لهم
حسن ظنهم وثقتهم بالمنار ودعوتهم إليه، والله تعالى يتولى مثوبتهم أجمعين.
(مشتركو المنار)
زاد عدد المشتركين في هذه السنة كالتي قبلها عدة مئين، ونحن نرى أن
قراءه خير القراء وأقربهم إلى الوفاء , ولا يزال المنار متغنيًا بالثقة بوفائهم عن
الوكلاء، إلا أن كثيرين منهم لم يرسلوا إلينا القيمة انتظارًا لوكيل يطالبهم، فعسى أن
يتفضلوا بإرساها حوالة على البريد أو أحد المصارف (البنوك) وقد شغل وكيلنا
الفاضل بتونس في هذه السنة عن إنجاز وعده الذي ذكرناه في آخر السنة الماضية،
وهو يشكو من عسر التحصيل في البلاد البعيدة عن الحاضرة لما في إرسال
المحصل إليهم من النفقة فنرجو من هؤلاء ومن جميع من لم يتيسر له التحصيل
منهم أن يسعفونا بإرسال القيمة حوالة على البريد، كما نرجو من همته العالية إنجاز
وعده بتسديد حساب السنين الماضية عن قريب.
(البريد)
زادت شكوى القراء في هذه السنة من فقد أجزاء المنار وكثرت مطالبتهم
للإدارة بما لم يصل إليهم. ومنهم من رد عمال البريد أجزاءهم زعمًا منهم أنهم هم
الذين رفضوها، ثم تبين لنا خلاف ذلك، وُفقد لنا في البريد رسائل ومطبوعات
أخرى فلعل هذا الأمر لا يعود لئلا يثلم شرف البريد المصري الذي رفعه مديره
الهمام.
(السنة المقبلة)
ومما أفادنا الاختبار أن نتحامى الوعود الجازمة , وإنما نذكر ما ننويه على أنه
بيان للعزم. كعزمنا على العود إلى إنشاء المقالات الاجتماعية والفلسفية في الأبحاث
المفيدة كبحث:
(1) الشعور والوجدان، والفكر والإذعان
(2) الإعداد والاستعداد.
(3) تكون البيوت.
(4) تكون الأمم.
(5) هلاك الأمم.
(6) الحياة الزوجية.
(7) الحياة الملية.
(8) الحياة الوطنية.
(9) الزعماء والمصلحون.
(10) إيذاء المصلحين.
(11) الاستقلال والتقليد.
(12) التعاون والتخاذل.
(13) تنازع البقاء.
(14) الحياة والموت.
(15) اللغة والحياة.
(16) اللذتان
(17) الجنسية.
(18) الجمعيات.
(19) السياسة والساسة.
(20) الملك والخلافة.
(21) طغيان الاستغناء.
(22) القوة والحق.
(23) الدين والدنيا.
(24) المال والجاه.
(25) الدنيا والآخرة. وما أشبه ذلك
ونسأل الله تعالى أن يوفقنا فيما يأتي لخير ما وفقنا له فيما مضى، وأن يقينا
زلة القلم، ويحفظنا من سوء القصد في القول والعمل، وسلام على المرسلين والحمد
لله رب العالمين.
__________(7/954)
المجلد رقم (8)(8/)
غرة المحرم - 1323هـ
7 مارس - 1905م(8/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة السنة الثامنة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، إليه يصعد
الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر
أولئك هو يبور، والصلاة والسلام على روح الإصلاح وإمام المصلحين، الذي
أرسله الله رحمة للعالمين {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَياًّ وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ} (يس:
70) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ
فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 24-26) .
تلك آيات من الكتاب المبين، يذكِّر بها المنار قراءه على رأس ثمانِي سنين
ليذكروا أن في الكون ظلمةً ونورًا، وكَلِمًا خبيثًا وكلمًا مأثورًا، وعملاً سيئًا وعملاً
مبرورًا، وأن للأمم حياةً وموتًا، وأن في الناس مكرًا وفتنًا، وأن للحياة دَعوةً
يخاطب بها الأحياء، وأن لها فتنة من قِبَل الكبراء والرؤساء، وأن العاقبة للمتقين،
وإن كانوا مستضعفين {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
* وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا
يَشْعُرُونَ} (الأنعام: 122-123) .
ليتذكروا أن من يدعو إلى الحياة فهو يدعو إلى الاستقلال والمساواة، ومن
يدعو إلى الحق فهو مقاوم للباطل، وأن أبغض الأشياء إلى الرؤساء المستبدين
استقلال الفكر، والتساوي بين الناس في الحقوق، وأبغض الناس إلى الكبراء
المترفين مَن يدعو إلى نصرة الحق ومقاومة الباطل، وإلى جعل التفاضل بين الناس
بالأعمال والفضائل، فالسادات العالون والكبراء المستكبرون أعداء المصلحين في
كل زمان، وخصماء الحق والفضيلة في كل مكان، غرورًا بالقوة وطغيانًا بالغنى
و {اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ
إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً * أَوَ لَمْ
يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} (فاطر: 43-44) .
ليتذكروا بهذه الآيات كلها أن الله تعالى بيَّن للناس أن له سُننًا في حياة الأمم
وموتها، لا بد لمعرفتها بالتفصيل من الرجوع إلى التاريخ الذي يبين مصداق آياته
في الغابرين، ومن السير في الأرض لمعرفة تأويلها في الأولين والآخرين، وقد
نطقت سير البشر بتصديق قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وأنه ما وقع تغيير إلا بدعوة، وأن دعاة الخير
والإصلاح في كل أمة كانوا ممقوتين من أصحاب السلطة، ومضطهَدين من رؤساء
الأمة، أولئك الذين حُبس خيارهم مثل الإمام أبي حنيفة حتى مات في السجن،
وجلدوا الإمام مالكًا، وألزموه بيته حتى ترك الجمعة والجماعة، واضطروا الإمام
الشافعي إلى الفرار من بغداد خوفًا على دينه أو نفسه، ووطئوا الإمام أحمد بالنعال،
وما زالوا من تلك العصور يفتنون أهل العلم والتقوى، حتى تم لهم - بطول الزمان-
إفساد الدين والدنيا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) .
وإذا تذكروا أن انتقال الأمم من حال إلى حال لا يكون من الرؤساء المترفين،
ولا يأتي باختيار الأمراء والسلاطين، وإنما يكون بتغيير أفراد الأمة ما بأنفسهم من
الأفكار والعقائد والأخلاق والسجايا، وتذكروا أن المسلمين غيروا ما كان بأنفسهم في
أول نشأتهم بالتدريج؛ فغيَّر الله ما كان بهم من عزة العلم والقوة، وسيادة العدل
والفضيلة، ولن يغير ما هم الآن فيه إلا بعد الرجوع إلى ما كانوا عليه، وشرطه
قلع جراثيم التقليد، واجتثات شجرة التعصب للمذاهب، وأساسه جمع كلمة الأمة،
وتحقيق معنى الوحدة، فأنا أدعوهم إلى الإصلاح الديني قبل كل شيء؛ لأنه يتوقف
عليه كل شيء؛ فإنه " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها " كما قال الإمام
مالك بن أنس رحمه الله تعالى، صلح أول هذه الأمة بهدي كتاب الله تعالى وسنة
نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - وهداهم ذلك إلى كل إصلاح صوري ومعنوي
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ
مُنكِرُونَ} (المؤمنون: 68-69) .
أدعوهم إلى هذا الإصلاح بهذه المجلة وأدعوهم إلى الدعوة إليها وإلى ما تدعو
إليه ما أصابت، وإلى بيان خطئها فيها إذا رأوها أخطأت، أدعوهم إلى قطع الآمال
من السياسة والسياسيين، وإلى ترك الغرور بالرؤساء والحاكمين، وعدم السماع
لأتباعهم، والانخداع لأنصارهم وأشياعهم؛ لئلا يصرفوكم عن الجد بإصلاح النفس،
إلى الهزل بإرضاء الحس؛ فإنهم طلاب مال وجاه، طلاب رتبة ووسام
أصحاب أوهام، وشقشقة ألسنة وأقلام، {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} (محمد: 30) .
أدعوهم إلى الدعوة معي إلى حقيقة الإسلام والتأليف بين المسلمين، في بلاد
أبيح فيها القول للقائلين، وسهل فيها النشر على الكاتبين، وأطلقت فيها حرية العلم
والدين، فصرح فيها الملحد بإلحاده، وجاهر فيها الفاسق بفسقه، ودعا فيها الكافر
إلى كفره، ونشرت فيها الكتب والجرائد تطعن في القرآن، وتشنع على شريعة
الإسلام، ولم توجد فيها صحيفة إسلامية ترد شبهات الطاعنين، وتؤيد العقائد
بالحجج والبراهين، وتبين حكم الأحكام، وانطباقها على مصالح البشر في كل زمان
ومكان، وتأمر بالعُرف والبر، وتنهى عن البدعة والمنكر، حتى إذا أنشئ المنار
وقام بهذه الفرائض نقم منه بعض المسلمين في بلاد الحرية، وانتقم بعضهم من
عشيرته في بلاد العبودية، نقم منه المتَّجرون بالدين، ومقلِّدة المبتدعين و (الذين
يخلطون الدين بغيره، ويظنون أو يزعمون أنهم أئمة أهله) [*] هاج عليه أهل
المذاهب المتعصبون؛ لأنه يقول: إن الوهابية السلفية والأشاعرة والماتريدية
والشيعة والإباضية كلهم مسلمون، وإنه يجب عليهم تحكيم الكتاب والسنة فيما هم فيه
يختلفون، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى
اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام: 159) .
دعوت إلى هذا منذ بضع سنين، وسأدعو إليه - إن شاء الله - حتى يأتيني
اليقين، وقد عارض الدعوةَ قومٌ، أكثرهم معذور بالجهل، ثم استهدفت بعد التمكن
والانتشار لنضال قوم أضلهم الله على علم، يخذلون الحق؛ لأنهم على باطل،
وينفرون من الهداية؛ لأنهم على ضلالة، وإنك لتراهم من وراء الجدار، وتستشفهم
من خلل السُّجُوف والأستار، يكيدون ويأتمرون، ويوسوسون ويهمسون، ويستفتون
ويفتون، والله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، على أنهم هم الذين يفشون
أسرارهم، ويكشفون عوارهم، فهم كمن نزل فيهم {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى
مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ
لاَّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الحشر: 14-15) ، {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ
الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) .
لماذا لا يعارضون المعترضين على دينهم؟ لماذا لا يناهضون الطاعنين في
كتابهم؟ لماذا لا يعادون العادين على حقيقتهم؟ لماذا لا يخرجون الخارجين على
أمتهم؟ لماذا لا يفتنون الفاتنين لعامتهم؟ لماذا لا يهاجمون المتهجمين على خاصتهم؟
لماذا خفَّت عليهم دعوة كل ملة؟ وثَقُلَت عليهم الدعوة إلى الكتاب والسنة؟ ما ذاك
إلا أن قوة الحق ترهب المبطلين، ونور الرشاد يعشي أبصار الغاوين، وأما الباطل
فإنه يمد بعضه بعضًا، وإن اختلفت ألوانه، وتشعبت أفنانه {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ
بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ
فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (التوبة: 67) .
إنما يغرّ هؤلاء وأمثالهم تلك الكلمة المشهورة (القوة تغلب الحق) وهي كلمة
لا تصْدُق على الإطلاق وليس هذا موضع بيان ما فيها من الإجمال، وإنما نقول:
ليست القوة محصورة في المال والجاه، ولا في السلطة والحكم، ولا بكثرة الأعوان
والأنصار؛ فإن في العالم قوى حسية وقوى معنوية، كقوة الاعتقاد وقوة الشعور
وقوة العلم وقوة الاتحاد وقوة العدل وقوة الفضيلة وقوة الحاجة وقوة الحق. فكم من
ملك كبير يتضاءل أمام صعلوك فقير؛ لأنه يشعر بضعف الرذيلة أمام الفضيلة وبِذُلِّ
الباطل تجاه الحق. وهذا قيصر روسيا الملك المستبد القاهر قد أصبح كالمسجون في
قصره على ما له من السلطة السياسية والدينية، وقد مزق عمه كل ممزَّق، ثم
مُزقت صورته هو إشارة إلى نية الإيقاع به، أَنسوا التاريخ وما فيه من السير،
التي هي منابع العبر؟ ! كلا، إن الباطل لا يقف أمام الحق إذا وجد الحق ناصرًا
وصادف الناصر حرية {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ
وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18) .
إن للحقائق رجالاً كما أن للأوهام رجالاً، إن للدين أنصارًا، كما أن للدنيا
أنصارًا، إن الدين من حاجات البشر الطبيعية، وقوة من أعظم قواتهم المعنوية
إن الضعيف في الدين لا يستطيع الزعامة فيه، وفاقد الشيء لا يعطيه، إن
الأحرار يميلون للشيء بقدر إحساسهم بالحاجة إليه، وعلى حسب اعتقادهم بالفائدة
منه، إن الاعتقاد في الأمة قوة لا تُغالَب، والإحساس الوجداني فيها ثروة لا تنفد،
إن لوم المحبين مدعاة الإغراء، ومقاومة المعتقدين داعية التمكن والثبات، إن
المخلص في عمله يفيده ظهور خطئه، كما يفيده ظهور صوابه؛ لأن كلاً منهما يزيده
يقينًا فيما يرغب فيه عنه، إن الله تعالى وعد بنصر مَن ينصر الدين، وجعل العاقبة
للمتقين، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي
الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الأُمُورِ} (الحج: 40-41) .
يقولون: إن الإحساس بالحاجة إلى الإصلاح الديني ضعيف، وإن عدد
المعتقدين بوجوب اتباع السلف قليل، وإن الدعوة هنا إلى الرابطة الملية معارَضة
بالدعوة إلى الوطنية، ونقول: (إن كل إصلاح في الكون بدأ بضعف وانتهى بقوة
زلزلت جميع المعارضين) و {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) وما بلغو به أحداث العصر من وجوب مقاومة مَن
يهاجر إلى مصر، فهو مخالف لسنة الكون في الأمم الحية وتعوز نجاحه القدرة على
جميع العناصر الأجنبية، وأما دعوتنا هذه الإسلامية فهي هي التي تأتي بالنهضة
الوطنية؛ لأنها تهدم التقاليد التي فرقت بين الناس، وألقت العداوة والبغضاء
بين أهل الملل والمذاهب والأجناس، فكما تذكِّر المسلمين بقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92) تذكرهم أيضًا بقوله في
المخالفين {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن
دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8)
وجملة القول: إن دعوتنا هذه دعوة عامة معروضة في صحيفتنا، كما يعرض
غيرها من الدعوات السياسية والأدبية، وفي اعتقادنا أنها خير دعوة ألقيت للناس
وإن من أُسسها البُعد عن مثارات الخلاف والشقاق، ونُشهد الله تعالى أنه ليس في
قلبنا حرج على أحد من الناس، وقد صفحنا عمن ظلمنا، وعفونا عمن اعتدى علينا
{وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (المائدة: 95) .
وإننا نحمد الله ونشكره أن أعطانا فوق ما كنا نرجو، ثم نشكر أصحاب
القلوب الطاهرة والأفكار النيرة الذين تنتشر بهم الدعوة وتنمو، {فَبِشِّرْ عِبَادِ *
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا
الأَلْبَاب ِ} (الزمر: 17-18) .
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________
(*) هذه العبارة لجريدة المؤيد من تقريظها للمنار، وقد رأينا أن ننشر ذلك التقريظ هنا؛ لأنه في معنى هذه الفاتحة، وقد نُشر في العدد " 3637 " من المؤيد الأغر الصادر في 19 المحرم سنة 1320 ونصه: (صدر العدد الأول للسنة الخامسة من مجلة (المنار) الغراء وهي المجلة العلمية الدينية التهذيبية الإسلامية الوحيدة في القطر المصري لحضرة صاحبها السيد محمد رشيد رضا الطرابلسي وقد قضى حضرته أربع سنوات يُصدر هذه المجلة مثابرًا على الخدمة الملية الصحيحة، محاربًا البدع المضللة، بالحكم المدللة، والهوى بالعقل، والأوهام الغاشيات على الأفهام، بالآيات البينات من
الكلام، يعمل للإصلاح الديني جهد المستطيع، وهو - والحق يقال - مستطيع فيما يجهد به نفسه يبارز المبتدعين غير هياب، ويعتمد في أبحاثه غالبًا على الحق الغالب من مفاهيم السنة والكتاب. ...
ولذلك كان كلامه مرًّا على أذواق الذين يخلطون الدين بغيره، ويظنون أو يزعمون أنهم أئمة أهله، يشتد كلما اعتقد الحق في جانبه وفي اعتقادنا أنه لو كان أخف أسلوبًا في الوطأة؛ وألين جانبًا في المقال، من حيث لا يحيد يمنة أو يسرة عن خطته الحالية، ولا يضيع شيئًا من غرضه الذي يسعى إليه - لكان (المنار) أضعاف ما هو اليوم انتشارًا وأكثر فائدة، وأعم عائدة، وكل مسلم يشعر بحاجة الإصلاح الديني للأمة المحمدية يتمنى من صميم فؤاده أن يكون لكل قطر من الأقطار الإسلامية منار مثل هذا (المنار) له من الانتشار أضعاف ما لهذا من الظهور والانتشار، وفق الله صاحبه الفاضل دائمًا إلى طريق السداد، وأنجح عمله دائبًا بالتوفيق والرشاد، آمين) اهـ.(8/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
فطرة الإسلام وحديث الولادة عليها
(س1) سليمان عبد الله في (السويس) وهو رجل غريب كتب إلينا بأن
عنده شبهات في الدين يحب كشفها، وأنه يبدأ بالسؤال تمهيدًا لها وهو:
الحديث المشهور: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة الإسلامية أو فطرة
الإسلام وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) أصحيح هو؟ وما هي
الفطرة الإسلامية؟ أمسلمًا يولد المولود؟ أيعرف الأركان الإسلامية بالطبع والفطرة،
أم يعرف الله والنبي محمدًا فقط حاشا الأركان الأخرى! فبالإجمال ما معنى هذا
الحديث الشريف؟
(ج) أما الحديث فصحيح أخرجه البخاري من حديث ابن شهاب عن أبي
هريرة، وهو لم يدرك أبا هريرة؛ فالحديث عنده منقطع بلفظ: (كل مولود يولد
على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تُنْتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاء
هل تحسون فيها من جدعاء) ورواه مسلم والترمذي وصححه، وفيه: (يشرِّكانه)
بدل (يمجسانه) والمراد بالفطرة في الحديث ما جاء في قوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) وقد قرأ أبو هريرة الآية بعد الحديث،
وأشار البخاري إلى أنه أدرجها للبيان، وتقدم لنا تفسير الآية في المنار، ونقول هنا
ما لا بد منه؛ لأن السائل لم يطلع على المنار إلا قليلاً:
إننا نرى جميع أهل الملل - حتى الكتابيين - يعتقدون أن الدين شُرع لمقاومة
مقتضى الخلقة، وأن أصوله فوق قضايا العقول، وأحكامه وراء مدى الأفهام، وأن
الغرض منه تعذيب النفس وحرمانها من نعيم الحياة، وأنه لا حق لصاحب الدين في
طلب الدليل على عقائده، ولا في السؤال عن حكمة عباداته، ولا في تطبيق أحكامه
على مصالح الأمة وخير البشر، بل عليه أن يسلّم بكل ما يرويه له الرؤساء ويقلدهم
تقليدًا أعمى.
ثم إنهم يعتقدون أن الدين رابطة جنسية لأهله عند الله تعالى من الحقوق مثل
ما لأهل الأجناس في عُرف السياسة وقوانينها؛ أي أن اليهودي مثلاً يعتقد أن الله
اصطفى كل يهودي، وميّزه على العالمين؛ لأنه يهودي، فهو إذا أذنب يعفو الله
عنه بفضله أو بشفاعة أحد سلفه الصالحين؛ وإذا عذبه فإنما يعذبه أيامًا معدودات!
وأن غير اليهودي لا قيمة له عند الله - تعالى- إذا أحسن لا يقبل إحسانه، وإذا
أساء يتضاعف عذابه. كما أن أهل السياسة يميزون الأمة التي تضمها جنسية الدولة
ويخصها قانونها بحقوق لا تكون لغيرها؛ فلا يجيزون محاربة طائفة منها ولا تدمير
بلد من بلادها، وإن كانوا أجهل الناس وأعرقهم في الرذائل، ويستبيحون محاربة
قوم آمنين مهذبين، وإذلال كبرائهم، وإهانة عظمائهم، واستعباد دهمائهم، وإن
أفضى ذلك إلى التخريب والتدمير، وسرت عدوى هذه العقيدة وما قبلها إلى
المسلمين، فلا يكاد يسلم منها إلا الواقف على أسرار القرآن ودقائق السنة.
أما القرآن فقد أتى على أمثال هذه القواعد التقليدية؛ فنسفها نسفًا، وبيَّن للناس
أن الدين مع الفطرة في قرنٍ، ارتقاؤه هو ارتقاء الفطرة، وضعفه هو ضعف
الفطرة، وفساده هو فساد الفطرة؛ فعقائده وُضعت لترقية العقل، وآدابه وعباداته
لترقية النفس، وأحكامه وشرائعه لترقية حال الاجتماع، والتعامل بين الناس؛
ولذلك جعل العلم بالعالم علويه وسفليه، والبحث عن حكمه، ونظامه، وأسراره
وفوائده هو الأساس الذي يقوم عليه بناء التوحيد ومعرفة الله، وذكر عند طلب كل
عبادة بيان فائدتها في تقوى الله تعالى وتهذيب النفس، وتحليتها بالأخلاق العالية،
كما بيَّن عند ذكر كل خلق وأدب وحكم فائدته ومنفعته. وبَيَّن أن العقوبة على
الكفر، والرذائل والأعمال القبيحة هي علة تأثيرها الأثر السيئ في النفس، كما
أن المثوبة الحسنة أثر المعارف الصحيحة، والأعمال الصالحة في النفس.
والآيات المؤيدة لجميع ما قلناه كثيرة جدًّا، وقد فسرنا في مجلدات المنار
الماضية العشرات منها في الأصول العامة، والفروع الجزئية، وإعادته هنا تطويل
لا محل له، فإذا اشتبه السائل أو خلا فليسألْ عن الشواهد يُجب. وفي باب التفسير
من هذا الجزء شيء من ذلك.
ولم يجعل اسم الإسلام اسم جنس لطائفة من الطوائف، بل سمّى أهل الحق
مسلمين كما سماهم مؤمنين وحنفاء ومخلصين؛ لأن معاني هذه الألفاظ قائمة بهم
وجعل مدار السعادة على ما يتحقق به معنى الاسم. لا على قبول التسمي والرضى
باللفظ والمعيشة مع أصحابه؛ ولذلك قال في بعض المسلمين: {قَالَتِ الأَعْرَابُ
آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} (الحجرات: 14) ، وقال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ
وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ} (النساء: 123) الآيات، وقال: ما رأيت تفسيره في
هذا الجزء.
فعُلم مما تقدم أن معنى كَوْن دين الإسلام دين الفطرة هو أنه: موافق لسنن الله
تعالى في الخلقة الإنسانية؛ لأنه يعطي القوى الجسدية حقوقها والقوى الروحانية
حقوقها، ويسير مع هذه القوى على طريق الاعتدال حتى تبلغ كمالها. ومعنى ولادة
كل مولود على هذه الفطرة؛ هو أنه يولد مستعدًّا للارتقاء بالإسلام الذي يسير به
على سنن فطرته التي خلقه الله عليها بما يبين له أن كل عمل نفسي أو بدني يصدر
عنه يكون له أثر في نفسه، وأن ما ينطبع في نفسه من ذلك يكون علة سعادته أو
شقائه في الدنيا والآخرة، فإذا فهم هذا وأدركه يظهر له أنه سُنة الفطرة وناموس
الطبيعة،وإذا كان له أبوان - وفي معناهما مَن يقوم مقامهما في تربيته وتعليمه -
على غير الإسلام يطبعان في نفسه التقاليد التي تحيد به عن صراط الفطرة،
فالنصرانيان يُنشِّئان ولدهما على التسليم بأن البشر خلقوا كلهم أشرارًا فُجَّارًا
بمقتضى الفطرة، وأن نجاتهم وسعادتهم إنما تكون بالاعتراف بشيء واحد يجب
القول به، والاعتماد عليه، وإن لم يعقل، وهو أن واجب الوجود الذي كان منه كل
شيء، وبيده ملكوت كل شيء، قد اعتنى بأمرهم، وأعياه خلاص أرواحهم بغير ما
أنفذه منذ زمن قريب لا يبلغ ألفي سنة، وهو أنْ حلَّ في بطن امرأة منهم واتحد فيه
بجنين، فصار إلهًا وإنسانًا، ثم خرج من حيث يخرج الطفل ونشأ فيهم يأكل مما
يأكلون منه، ويشرب مما يشربون، ويألم مما يألمون له، ويتعب مما يتعبون، ثم
مكَّن شرارهم من صلبه، فصلبوه، وهو يصيح ويستغيث فلا يُغاث، ثم قُبِرَ ولُعِنَ
ودخل الجحيم، وخرج منها لأجل الرحمة بهم وإنجائهم، ومع ذلك كله لم تكن
طريقته هذه كافلة بعموم رحمته بهم، وإنما كانت خاصة بطائفة منهم، وهم الذين
استطاعوا أن يبدلوا فطرتهم، ويسلموا بهذا القول تسليمًا.
فهذا - يا سيدي - معنى كوْن دين الإسلام دين الفطرة، وهذا هو الفرق بينه
وبين أديان التقليد، وليس معناه أن المولود يولد عالمًا بالشريعة؛ فإن هذا ليس من
الفطرة في شيء، وفسر كثير من العلماء الفطرة بالاستعداد للخير والشر والحق
والباطل ورواية مسلم هكذا: (كل مولود تلده أمه على الفطرة، فأبواه بعدُ يهودانه
أو ينصرانه أو يمجسانه، فإن كانا مسلمين فمسلم) وهو الذي جرينا عليه في كتابنا
(الحكمة الشرعية) ولا تنافي إلا أننا ههنا شرحنا موافقة الإسلام للفطرة، والله
أعلم.
***
اختلاف المذاهب في الأحكام
وشهادة أوربي للإسلام
(س2) ح. ح. في الجبل الأسود:
فقيركم هذا مشغول بالتجارة، وقبل عيد الأضحى خرجت في أوربا لأجل
التجارة؛ فاجتمعت يومًا بأحد الأوربيين؛ فقال: إن أكمل الأديان وأجملها دين
الإسلام، لكن الذي كان عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي
الله عنهم - فقلت: ونحن - والحمد لله - على دينهم وعلى سبيلهم. فقال: نعم،
ولكن منكم الحنفية، ومنكم الشافعية، وغير ذلك، فكل واحد من هؤلاء مخالف
لصاحبه في الأعمال والأحكام الدينية، فعند الحنفية إذا جرى دم أحدهم ينقض
وضوءه، وعند الشافعية: لا، وإذا مس امرأة أحد الشافعية ينقض وضوءه، وعند
الحنفية: لا. فهل كان النبي يفعل كما يفعل الحنفية أم كما يفعل الشافعية؟ . فبقيت
لا أقدر على رد جوابه فإن أحسنتم بالجواب فلكم من الله الثواب.
(ج) إنه لا خلاف بين أئمة الأحكام في شيء من أصول الدين وأحكامه التي
لا يتحقق الإسلام بدونها وإنما اختلفوا في مسائل فرعية للاجتهاد والرأي فيها مجال؛
إذ لم يصح فيها شيء قطعي في الكتاب العزيز والسنة المتواترة المجمع عليها؛
ولذلك كان يعذر بعضهم بعضًا في اختلاف الرأي فيها، ويعد كلٌّ عبادة المخالف له
صحيحةً، ويصلي وراءه كما بيناه غير مرة؛ ولذلك قلنا في مقالات المصلح والمقلد:
إن الطريق إلى الوحدة الإسلامية هي أن يُجعل ما أجمعت عليه جميع المذاهب هو
الأصل الذي يؤاخي به بعضنا بعضًا ونقلنا عن كتاب (القسطاس المستقيم) لحجة
الإسلام الغزالي أن رأيه ترك المسائل الخلافية والعمل بما اتفقوا عليه. وإنك لتجد
المتعصبين لمسائل الخلاف لا يعملون بجميع مسائل الاجتماع والاتفاق، ولو عملوا
بها لأدوا جميع الفرائض وتأدبوا بأكمل الآداب، وتركوا جميع الرذائل والمحرمات
الضارة بأفرادهم وأمتهم ولكنهم قد أهملوا وتهاونوا في كل شيء، إلا في تعصب كل
فريق على الآخر فيما تفرقوا فيه، وإذا دَعَوتَهُم إلى الوفاق الذي دعا إليه الغزالي في
آخر عمره قالوا: (يا للغيرة! إنه يريد هدم المذاهب وإفساد الدين) .
أما طريقة الوفاق بين مَن يحبون البحث في هذه الفروع الخلافية ولا يرضون
بالبراءة الأصلية التي قال بها الغزالي - فالتوفيق بينهم لا يكون إلا بالرجوع إلى
السنة الآحادية والروايات القولية، ولم يثبت حديث يحتج به على وجوب الوضوء
من خروج الدم، بل ورد خلافه على أن الوضوء منه احتياطًا لا يضر، بل الأولى
أن يتوضأ الإنسان لكل صلاة إذا لم يجد مشقة في ذلك، وأما مسألة لمس المرأة ففيها
آية: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: 43) ، والأرجح أن الملامسة فيها كناية عن
الوقاع، وأما الروايات فهي متعارضة، ولكن ما ورد في عدم النقض هو الذي
يصح، كحديث وضع عائشة يدها على بطن قدم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم
- وهو يصلي رواه مسلم والترمذي، وحديث مسها برجله هو عندما اعترضت أمامه
وهو يصلي رواه النسائي وصححه الحافظ ابن حجر، والاحتياط لا يخفى، لا سيما
إذا كان اللمس بشهوة، والله أعلم.
***
نتف ريش الطائر
(س3) الشيخ محمد خطاب بالأزهر: نرى قومًا من صادة السمان في
شواطئ البحر الأبيض المتوسط ينتفون ريشه قبل ذبحه؛ لأنه لا جلد له، بل
الريش مغروس في اللحم، وفي هذا من تعذيب الحيوان ما لا يخفى، ولو نتف
ريشه بعد ذبحه خرج ما فيه من الدسم مع ريشه لانتفاء حرارته بالذبح، وقد عمت
هذه البلوى كل أهالي بلادنا، فهل يجوز أكله وهل يسوغ استعمال هذه الطريقة في
تنظيفه؟
(ج) لا خلاف في أن تعذيب الحيوان محرم ولكن تحريم نتف الطائر حيًّا لا
يقتضي تحريم أكل المنتوف المذكَّى تذكية شرعية، ولعلهم لو نتفوا السماني عقب
الذبح قبل أن تبرد حرارته لتيسر لهم وإلا فلهم أن يصبوا على ريشه ماءً سخنًا من
غير مبالغة تؤثر في بطنه، وما يفعلونه من وضع الطيور في الماء المغلي زمنًا يؤثر
تأثيرًا تمازج به رطوبة النجاسة اللحم - غير ضروري لتسهيل النتف وهو جهل،
فينبغي تنبيههم له.
***
الصيد بالبندق والرَّصَاص
(س4) ومنه: كثيرًا ما يصطاد الصيادون الطيور بالرصاص ويسمون وقت
الطلق، ولكن بعض الصيد ينزل حيًّا والبعض ميتًا؛ وما كان حيًّا بعضه به حياة
مستقرة، والبعض ليس به هذه الحياة، والصياد يذبح الجميع، وربما توانى بالتذكية
عن بعض ما فيه الحياة، فلا يدركه إلا وقد فارقته، فهل يجوز أكل هذا وهل ذكاة
فاقد الحياة واجبة؟ والمصيبة الكبرى أن كثيرًا من البيوت - بل عامتهم - يضعون
هذه الطيور، وكل أنواع الدجاج في ماء مغلي لسهولة نتف الريش قبل استخراج ما
في بطنها، وربما أوقدوا نارًا تحت هذا الماء، وهي فيه، فما حكم الله في هذا معلنًا
في المنار، للاسترشاد به شدّ الله به أواصر الدين؟
(ج) قد اختلف المشتغلون بالفقه في حِلّ صيد بندق الرصاص بعد وجوده
فحرمه بعضهم لأنه مثقل فهو بمعنى الوقذ، وأحله آخرون وجعلوه بمعنى الصيد
بالسهام وألف ابن عابدين رسالة في حله، وكذلك أحد مشايخ الإسلام في تونس.
وهو الذي أراه أقوى، وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم الصيد بالمِعراض،
وهو عصا في رأسها حديدة، أو سهم لا نصل له ولا ريش إذا خزق أي خدش،
وإن أدرك الصيد ميتًا، والحديث في الصحيحين والرصاص والبندق أشد خزقًا
وأسرع قتلاً، وإنما حرم الوقذ؛ لأنه تعذيب (راجع مقالات التذكية والموقوذة في
المجلد السادس) ولا حاجة لذبح الصيد الذي يرمى فيدرك ميتًا، أو يأتي به الكلب
ونحوه ميتًا بشرطه؛ لأن ذلك تذكية له بلا خلاف، وإذا جاز الصيد بالبندق
والرصاص فهو كذلك.
***
الجبر والقدر
(س5) ومنه: طالما يخطر في بالي ويتردد في فكري قول القائل:
ما حيلة العبد والأقدار جارية ... عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء
ولا أجد منه مُخَلِّصًا أو أقف على مسلك فلجأت لساحتكم مسترشدًا جعلكم الله ركنا
ركينًا للمسلمين.
(ج) هذا القائل يخاطب الرائي وهو لا يرى فإنه اكتفى بما في خياله عما
تحت نظره، إذ يرى العبد يحتال وهو يسأل ما حيلته والأقدار هي التي جعلته
يحتال ويعمل كما هو مشاهد، ومنه أن بعض الناس ألقوا أنفسهم في اليمّ، ومنهم
من لم يلقها، ولو كانت الأقدار حكمت على كل إنسان بأن يلقى في اليم مكتوفًا لكانوا
كلهم سواء وما هم بسواء. وظاهر إنه يريد بالإلقاء في اليمّ الحال السيئة التي يقع
الإنسان فيها ولا يجد له مفرًّا منها وليس كل الناس كذلك. والمسألة عقدتها كثرة
الكلام والتخيلات فيها، وهي بديهية لمن فهم معنى الإنسان، وسنن الأكوان، ومن
شدة الظهور الخفاء؛ فإن القدر والتقدير والمقدار الواردة في الكتاب والسنة معناها
ظاهر، وهو أن كل شيء يجري في العالم فهو يجري بسنن ونواميس ومقادير معينة
ثابتة. وهذا هو الذي يزيل الحيرة ويهدي الإنسان إلى كسب المنافع واجتناب
المضارّ، ولو كانت الأشياء تجري بغير تقدير ولا حساب لكان الإنسان الذي خلق
عالمًا متفكرًا في حيرة دائمة؛ لأنه لا يعرف طريقًا لشيء من مصالحه. وهذا أسهل
حل لمسألة القدر وأقربه وأخصره، ومن زاد عليه البحث في كيفية الخلق والتكوين
فهو من المجانين.
__________(8/18)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رسالة البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة
البحث الثالث
في عرض المسألة على كتاب الله وسنة رسوله
اعلم أن الله عز وجل قد أمر بفهم كتابه الكريم، والعمل بسنة رسوله الرؤوف
الرحيم، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24)
وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7)
وأخبرنا عليه الصلاة والسلام أنه ترك لنا شيئين لا نَضل إذا تمسكنا بهما أبدًا وهما:
كتاب الله وسنة رسوله، وقد أمرنا الله بأن نعرض ما تنازع فيه الناس واختلفوا
على الله ورسوله، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي
الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) وقال أيضًا: {إِنَّمَا كَانَ
قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (النور: 1) وقال: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) فهذه الآيات
ونحوها تدل أبلغ دلالة على أن المرجع مع الاختلاف إنما هو إلى حكم الله ورسوله،
وحكم الله كتابه، وحكم رسوله بعد أن قبضه الله هو ما صح عنه من الأحاديث، ولا
يقال: إن ما استشهدت به وارد في أمر مخصوص فلا يصلح دليلاً؛ لأنا نقول:
(إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) وهو مطلق حكم في مطلق اختلاف
ومشاجرة، ولا ريب أن الأمر هنا للوجوب؛ إذ إن الله قد تعبدنا بكلامه وكلام
رسوله دون سواهما من الخلق؛ لأنهما هما عليهما المعول وكلام غيرهما قد يخطئ
وقد يصيب؛ فلذا قال إمام أهل المدينة مالك بن أنس - رضي الله عنه -: (ما منا
إلا من رَدَّ ورُدَّ عليه إلا صاحب هذا القبر) وأشار إلى قبر الرسول الأعظم - صلى
الله عليه وسلم - وقد نقل عن الأئمة الأربعة وغيرهم - رضوان الله عليهم -
جمل كثيرة كلها دالة على أن الإنسان لا بد أن يعرض الأحكام كلها على الكتاب
والسنة، فما وافقهما عمل به، وما خالفهما نبذه وراء ظهره.
ولما كانت مسألتنا هذه مما اختلفت المذاهب فيها ليس بين الشافعية وغيرهم
فقط؛ بل بين الشافعية أنفسهم - أمواتهم وأحيائهم - وجب علينا أن نعرضها على كتاب الله وسنة رسوله، وقد بينا مسألة التعدد بيانًا شافيًا، وعرفنا أنه لم يرد نص يمنعه من القرآن ولا الأحاديث، وأن مذهب الشافعي يقتضي التعدد عند الحاجة إليه.
وقد بقي علينا عرض مسألة صلاة الظهر بعد الجمعة مع تعددها فنقول:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) ، ثم قال: {فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّّهَ كَثِيراً
لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة: 10) فأنت ترى أنه قد أمرنا بأن ننتشر في الأرض بعد
انقضاء الصلاة ونطلب من فضل الله ولم يأمرنا أن نصلي الظهر بعد الجمعة ولم
يقل إن تعددت فصلوها، فمن أين استنبطنا هذه الصلاة ومن أين أتينا بها حتى إنه
قد ورد أن النبي ما كان يصلي سنة الجمعة البعدية في المسجد، بل كان يذهب
ويصليها في البيت عملاً بهذه الآية؛ لأنه تعالى أمر بالانتشار بعد صلاة الجمعة يدل
على ذلك ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: (أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته) رواه الجماعة، وعنه (أنه
إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعًا، وإذا كان
بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد)
رواه أبو داود، قال الآلوسي عند تفسير هذه الآية: (وأخرج أبو عبيد وابن
المنذر والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن بر الحراني، قال: رأيت عبد الله
ابن بر المازني صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الجمعة خرج فدار
في السوق ساعة ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فقيل له لأي
شىء تصنع هذا، قال: إني رأيت سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - هكذا
صنع وتلا هذه الآية (فإذا قضيت الصلاة) إلخ، فعلم من هذا أن الكتاب لا ينطق
بلزوم الظهر بعد الجمعة مع التعدد بل يفهم منه خلاف ذلك لأن الأمر بالانتشار
مطلق غير مقيد.
وأما السنة السَّنية، والأحايث النبوية، فهي طافحة بما يدل على خلاف ذلك
ويناقضه كل التناقض، إذ معلوم من الدين بالضرورة أنه لم يثبت عن النبي القول
بصلاتها مع تعدد الجمعة وأنت تعلم أن الدين قد كمل في عهده - صلى الله عليه
وسلم - بحكم قوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} (المائدة: 3) فلا حاجة لنا إذن بعبادة لم نُؤمر بها.
هذا ولو أردنا أن نبحث لوجدنا التعدد لحاجة الغير حاجة ليس شرطًا في صحة
الجمعة تفسد بفقده لما علمت في البحث الأول من أنه لم يرد نصّ عن المعصوم ولا
عن الصحابة ناطق أو مقتض لعدم جواز التعدد ولو لغير ضرورة، وأما كونها
لم تفعل إلا في مصلى واحد فليس بدليل لما أوضحناه لك سابقًا إيضاحًا شافيًا، ولما
هو مقرر من أنه لا ينسب لساكت قول، على أن إيجابكم عدم التعدد؛ لأنها لم تعدد
في زمن الرسول يلزمكم أن توجبوا الخروج لصلاة العيد خارج البلد؛ لأن النبي -
صلى الله عليه وسلم - كان يخرج لصلاتها مع الصحابة إلى الصحراء ولا قائل
منكم بذلك والمسألتان سواء [*] .
فالحق الذي لا محيد عنه أن المصلى الواحد ليس شرطًا في صحة الجمعة
وإنما هو حكمة من حِكَمِها، ولو تعددت الجمعة فهي صحيحة، ولا ظُهر بعدها
سواء أكان تعددها لضرورة أم لا لأنه لم يرد ما يحظر ذلك، بل الوراد خلافه فقد
روي عن ابن عباس أنه يجيز للرجل أن يصلي الجمعة منفردًا في بستانه. قال ذلك
الشعراني في (كشف الغمة) .
وإني ذاكر لك الأحاديث الدالة على عدم مشروعية الظهر بعد الجمعة بحال من
الأحوال حتى لو لم تصل الجمعة [1] :
عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائمًا
يوم الجمعة فجاءت عير من الشام، فانتقل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر
رجلاً فنزلت هذه الآية التي في الجمعة، {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا
وَتَرَكُوكَ قَائِماً} (الجمعة: 11) الآية، رواه أحمد، ومسلم، والترمذي، وفي
رواية أقبلت عير ونحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فانفض الناس إلا
اثنا عشر رجلاً فنزلت هذه الآية (وإذا رأوا ... إلخ) رواه أحمد والبخاري،
فنسألكم معشر الفقهاء الذين توجبون لصحة الجمعة أربعين رجلاً أحرارًا مقيمين لا
يظعنون صيفًا ولا شتاءً يستمعون أركان الخطبة كلها ويقيمون الجمعة، كيف أن
النبي -عليه الصلاة والسلام - لم يُعِد الجمعة أو لم يصل الظهر؟ لأن جمعته غير
صحيحة إذ لم يبق وهو يخطب إلا اثنا عشر رجلاً، ولا شك أنه لا يسعكم إلا التسليم
بأن الجمعة لا يشترط فيها العدد المخصوص وهو غير مذهبكم، أو أن تقولوا يحتمل
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر أو أعاد الجمعة، والحال أنه لم
يثبت ذلك قطعًا والدين لا يثبت بالاحتمال أو تقولوا: حقًّا إن صلاة الظهر بعد
الجمعة بدعة لا تجوز؛ لأن النبي لم يفعلها ولو لزمت لفعلها يوم العير [**] .
ومن الأدلة على عدم طلب الظهر بعد الجمعة، بل على عدم مشروعيتها يوم
الجمعة مطلقًا، صليت الجمعة أم لم تصل، ما ورد من اجتماع عيد وجمعة في عهد
الرسول الأكرم فصلى العيد ورخص في الجمعة، ولم يرد أنه أمرهم بالظهر لأنه لم
يثبت ذلك وهاك النصوص:
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، وسأله معاوية هل شهدت مع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - عيدين اجتمعا؟ قال: (نعم صلى العيد أول النهار ثم
رخص في الجمعة؛ فقال من شاء أن يجمع فليجمع) رواه أحمد وأبو داود وابن
ماجه وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال: (اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون)
رواه أبو داود وابن ماجه وعن وهب بن كيسان، قال (اجتمع عيدان على عهد ابن
الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب ثم نزل فصلى ولم يصل
للناس يوم الجمعة فذكرت ذلك لابن عباس؛ فقال: (أصحاب السنة) رواه النسائي
وأبو داود بنحوه لكن من رواية عطاء ولأبي داود عن عطاء قال: (اجتمع يوم
الجمعة ويوم الفطر على عهد ابن الزبير في يوم واحد فجعلهما جميعًا فصلاهما
ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر) .
فهذه الأحاديث ناطقة بلسان فصيح على منبر الحق بأنه لا ظُهر بعد الجمعة بل
إن الظهر لم تشرع ذلك اليوم أقيمت الجمعة أم لم تقم، وفيما روي عن ابن عباس،
وقد سئل عن رجل صلى الجمعة منفردًا في بستانه فقال: (لا بأس إذا قام شعار
الجمعة بغيره) ، دليل على ما نقول لأن صلاته على ما أشترطه الفقهاء فاسدة، وإن
كنا لا نقول بصحة الجمعة في غير جماعة لما روى أبو داود من حديث طارق بن
شهاب: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك، أو
امرأة، أو صبي أو مريض) وفي حديث أبي هريرة، وحديث جابر (ذكر
المسافر) .
وقد قال في نيل الأوطار بعد ما أورد حديث أبي داود السابق، وحديث
النسائي وظاهره أنه لم يصل الظهر وفيه: أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه
المسوغة لم يجب على من سقطت عنه أن يصلي الظهر، وإليه ذهب عطاء حكى
ذلك عنه في البحر، والظاهر أنه يقول بذلك القائلون بأن الجمعة أصل، وأنت خبير
بأن الذي افترضه الله تعالى على عباده في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة، فإيجاب
صلاة الظهر على من تركها لعذر أو لغير عذر محتاج إلى دليل، ولا دليل يصلح
للتمسك به على ذلك فيما أعلم) . اهـ
وأنت تعلم أن مؤلفه الإمام الشوكاني من مشاهير حفاظ الحديث وفقهائه المعول
عليهم وربما يثقل هذا القول على فقهاء العصر، في كل قرية ومصر، اللهم إلا من
كان محبًا للحقيقة منهم.
قال في كشف الغمة: وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (من ترك صلاة
الجمعة لغير عذر فليتصدق بدينار فإن لم يجد فبنصف دينار فإن لم يجد فبدرهم أو
نصف درهم أو صاع حنطة أو نصف صاع أو مُدّ) فأنت ترى أنه لم يأمره
بصلاة الظهر بل أمره بالصدقة، ولا يقال أمره بالظهر والصدقة لأنه لم يثبت ذلك
والخير في الاتباع والشر في الابتداع.
(الخلاصة)
اعلم أن صفوة الكلام أن تعدد الجمعة للحاجة جائز عند الإمام الشافعي، وأن
الجمع في بلدتنا ونحوها متعددة للحاجة، وعليه فصلاة الظهر بعدها غير واجبة ولا
مسنونة بل هي بدعة غير جائزة وعلمت أن القول بصلاتها بعد الجمعة مبني على
التعدد لغير حاجة في بعض الصور وقد وفينا الكلام حقه في الأبحاث السابقة فراجعه
بدقة وإنصاف، والله أعلم.
هذا ما أردت إنشاءه وإيراده في هذه الرسالة فعسى أن تكون فصل الخطاب،
فقد جمعت من الكلام ما هو أضوأ من الشمس، وأنور من البدر، ومن الأدلة
الساطعة، والبراهين الناصعة، ما أزال عن وجه الحقيقة الغشاء، فبدت وضّاحة
الجبين، غَرَّاء الطلعة، وفيها كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد، فاجعلها اللهم
خالصة لوجهك الكريم.
__________
(*) اللهم إلا ما ورد عن صلاته إياها في المسجد لمطر وقع كما في حديث أبي هريرة عند أبي داود وابن ماجه والحاكم وذلك لعذر كما رأيت. اهـ منه.
(1) اختلف العلماء في صلاة الجمعة هل فرضت بطريق الأصالة، أم بطريق البدل عن الظهر فمنهم من قال بالأول ومنهم من قال بالثاني، وهذه الأحاديث التي سنسردها لك تؤكد مذهب القائلين بأنها فرضت بطريق الأصالة لا البدل إلا حديث العير فليس فيه دليل لهم.
(**) وقد علمت من هذا الحديث أن الأربعين ليسوا بشرط في صحة الجمعة فلو صلاها رجلان في مكان لم يكن فيه غيرهما لفعلا ما يجب عليهما، فإن خطب أحدهما فقد عملا بالسنة، وإن تركا
الخطبة فهي سنة فقط؛ لأنه لم يرد ما يدل على وجوبها، وقد قال عليه الصلاة والسلام (الجمعة واجبة على كل قرية، وإن لم يكن فيها إلا أربعة) ، وما رُوي عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (أول جمعة جمع بنا أسعد بن زرارة في بقيع الخصمان قيل لكعب كم كنت يومئذ، قال أربعون رجلاً فجمع بنا قبل مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة) ، فهو مما لا يستدل به على عدم صحتها، بأقل من العدد المذكور؛ لأن الجمهور على أن وقائع الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم، ولذا قال الشعراني الشافعي في كشف الغمة قال شيخنا - رضي الله عنه - (والظاهر أن العدد المذكور ليس بشرط ولو كان أسعد وجد دون الأربعين لجمع بهم وأقام شعار الجمعة فهي واقعة حال) ولذلك اختلفت مذاهب العلماء في العدد، فذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - إلى أن الجمعة تصح من الواحد وذهب إبراهيم النخعي، وداود وأهل الظاهر إلى أنها تصح من اثنين، وذهب أبو حنيفة وسفيان الثوري - رضي الله عنهما - إلى أنها تنعقد بأربعة أحدهم الإمام إلى آخر ما قال وأما الرجولية والإقامة والحرية فهي شروط لوجوبها دون صحتها إذ لا تجب الجمعة على المرأة والمسافر والرقيق لحديث أبي داود الآتي ولكن إن فعلوها تصح منهم فلو صلى رقيقان أو مسافران الجمعة مثلا أحدهما إمام والآخر مأموم صحت منهما، وقد ورد أن النبي صلى الجمعة في بعض أسفار مع الصحابة فلو كان يشترط في صحتها الإقامة لما فعلها الرسول ولا تحضرني الآن ألفاظ الحديث.(8/24)
الكاتب: محمد الخضري
__________
انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسير
ابن جرير الطبري
تابع لما قبله
(73) تغمد حقي ظالمًا ولوى يدي ... لوى يده الله الذي هو غالبه
ورد شطره الثاني في الثالث ص 211 وكله في الخامس عشر ص 149
وأنشد الشطر الأول هكذا (يظلمني ما لي كدا ولوى يدي) ، والصواب ما ذكرنا
والبيت في الصفحة العاشرة من الجزء الرابع حماسة.
(74) وإن مهاجرين تكنفاه ... لعمر الله قد خطيا وحابا
ورد في الأول ص 231 وهنا أنشد صحيحًا. وفي الرابع ص 143 وكتب هكذا:
وإن مهاجرين تكنفا غدا ... بيد لقد خطئا وخابا
وفي الثالث عشر ص 32 وكتب هكذا:
وإن مهاجرين تكيفاه غدا ... بيد لقد خطئا وخابا
(75) رمى فأخطأ والأقدار غالبة ... فانصعن والويل هجيراه والحرب
في الخامس ص 40 وقد كتب في أول الشطر الثاني (فالضغن) والصواب
فانصعن.
(76) فلم أر معشرًا أسروا هديا ... ولم أر جار بيت بستباء
في الثاني ص 124 ووردت الكلمة الأخيرة هكذا (يستيبا 7) .
(77) أسيئي بنا أو أحسني لا ملولة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت
ورد في الأول ص 295 وكتب الكلمة الأولى هكذا أسيئن وفي العاشر ص 93 وكتب هكذا:
أسيئي بنا أو أحسني ... لاملولة ولا معلنة أن تعلني
(78) وليلة ذات ندى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت
ورد في موضعين: في الثالث ص 15 وكتب هكذا:
وليلة ذات دجى سريت ... ولم يردني عن سراها ليت
وفي السادس والعشرين ص 83 وكتب صحيحًا.
(79) كأن لها في الأرض نسيًا تقصه ... على أمها وإن تحدثك تَبْلَتِ
في السادس عشر ص 44 وكتب الشطر الثاني هكذا:
... .................. ... إذا ما غدت وإن تحدث تبلت ...
والبيت للشنفرى، والبلت:الانقطاع، وتبلت الكلام: لما يعتريها من البهر
(80) سلام الإله وريحانه ... ورحمته وسماء دِرَر
في السابع والعشرين ص 65 وكتب هكذا:
سلام الله وريحانه ... وجته وسمادرته 7
وبعد البيت:
غمام ينزل رزق العباد ... فأحيا البلاد وطاب الشجر
(81) يا حبذا القمراء والليل الساج ... وطرق مثل ملاء النساج
في الثلاثين ص 127 وكتب هكذا:
ياحبذا القمر والليل ساج ... وطرق مثل ملا النساج
(82) وليست بسنهاء ولا رُجَّبِيَّة ... ولكن عرايا في السنين الجوائح
في الثالث ص 24 وكتب بدل بسنهاء في الشطر الأول سنهاء. وبدل عرايا في الشطر الثاني غزانا.
(83) فهممت أن أغشى إليها محجرا ... فلمثلها يغشى إليه المحجر
في التاسع عشر ص 2 وكتب بدل أغشى (ويغشى) ألقى (ويلقى) وقبل هذا البيت:
ذهبت بعقلك ريطة مطوية ... وهي التي يهدى بها لو تنشر
(84) رهبان مدين لو رأوك تنزلوا ... والعصم من شعف العقول القادر
ورد في موضعين:
(1) في السابع ص4 وكتب الشطر الثاني هكذا:
................ ... والعصم من سعف العقول الفادر ...
(2) في العشرين ص32 وكتب هكذا إلا أنه أحاله على عدد 7 يقال: وعل عاقل صعد الجبل، والفادر بالفاء المسن من الوعول.
(85) هنالك لا أرجو حياة تسرني ... سجيس الليالي مبسلاً بالجرائر
في السابع ص 139 وكتب بدل سجيس (سمير) وهو غلط.
(86) وإن كلابًا هذه عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر
في التاسع ص 56 وكتب بدل كلابًا (كلانا) وبدل بريء (ترى) فاختل
المعنى والوزن.
(87) وظلت بأعراف تعالت كأنها ... رماح نحاها وجهة الريح راكز
في الثامن ص 128 وكتب الشطر الثاني هكذا (وجهه راكز 7) وأنشد الأساس البيت هكذا:
مسبِّبة قُب البطون كأنها ... رماح نحاها وجهة الريح راكز
وفيه: يقال خيل مسببة: يقال لها: قاتلها الله وأخزاها، إذا استجيدت وفي الجمهرة كتب البيت هكذا:
وأضحت تغالي بالستار كأنها ... رماح نحاها وجهة الريح راكز
وتغالي: تسابق، تدخل رأسها بين أخواتها.
والبيت الذي فيه الأعراف بيت آخر في أول قصيدة الشماخ وهو:
وظلت بأعراف كأن عيونها ... إلى الشمس هل تدنو رِكِيّ نواكز
(88) لقد مريتكم لو أن ردتكم ... يومًا يجيء بها مسحى وأبساسي
في الخامس ص 72 وكتب هكذا:
وقد نظرتكم لو إن درتكم ... يومًا بحي به مسحي وأساسي
(89) حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها ... حجر حرام إلا تلك الدهاريس
ورد الشطر الثاني في الثامن ص31 وكتب بدل إلا تلك (الأثم) وورد البيت كله في التاسع عشر ص 2، وكتب بدل حنت (جئت) وبدل إلا تلك
(إلا ملك) .
(90) مالك ترغين ولا ترغوا الخلف ... وتضجرين والمطي معترف
في الثاني ص 355 وكتب الشطر الأول، وهو الذي أنشد هكذا:
مالك ترعين ولا ترعوا الخلف ...
(91) ناجٍ طواه الأين مما وجفا ... طيّ الليالي زلفًا فزلفا
... ... سماوة الهلال حتى أحقوقفا
والأولان في الثاني عشر ص 73 والأخيران في التاسع عشر ص 46 وكتب بدل سماوة (سماؤه) .
(92) إن سميرًا أرى عشيرته ... قد حدبوا دونه وقد أنفوا
إن يكن الظن صادقًا ببني النجار لا يطعموا الذي علفوا
في الرابع ص23 وكتبا هكذا:
إن سميرًا أرى عشيرته قد ... حدثوا دونه وقد أبقوا
إن يكن الظن صادقي ببني ... النجار لم يطعمو الذي علقوا
والبيتان من كلمة مالك بن العجلان فائية الروي.
(93) تخوف السير منها تامكًا قردًا ... كما تخوف عود النبعة السفن
ورد في الرابع عشر صفحة 70، وكتب بدل قردًا قودًا، وبدل النيعة البيعة وكلاهما غلط.
(94) تنشطته كل مغلاة الوهق ... مضبورة قرواء هرجاب فُنُق
ورد الأول في الثلاثين ص 17 وكتب بدل مغلاة معلات، المغلاة: الناقة التي تبعد
الخطو والوهق بالتحريك: المباراة والمسايرة، مضبورة: مجتمعة الخلق. القرواء:
الطويلة القرا بالفتح وهو الظهر، وقالوا في تثنيته: قروان وقريان. الهرجاب
كمفتاح الطويلة أو السريعة وقيل: هو كل عظيم البطن، الفنق بضمتين الناقة الفتية
الضخمة. والهاء عائدة على ما وصف قبل في قوله:
وقائم الأعماق خاوي المخترق ...
(95) حسبت بغام راحلتي عناقًا ... وما هي ويب غيرك بالعناق
فلو أني رميتك من قريب ... لعاقك عن دعاء الذئب عاق
ورد الأول في الأول ص 419 وكتب بدل بغام ثغام وبدل ويب ويل وفي الثاني
ص 53 وفيه كتب ويل بدل ويب. وفي الرابع ص 56 وكتب فيه بدل بغام راحلتي:
نعام راحل. وفي الخامس عشر ص13 وكتب فيه بدل ويب غيرك: وثب
عيرك، وورد الثاني في الخامس عشر ص 58 وكتب الشطر الأول هكذا:
ولو أني رميتك من بعيد ...
(96) لئن حللت بجوّ في بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك
ورد في العاشر ص 68 وكتب بدل بجو بحد.
(97) أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافًا إنني أناذلكا
ورد في الأول في موضعين أولهما ص 299 وكتب بدل: يأطر: ناظر وبدل
تأمل: تبين. الثاني ص 416 وكتب صحيحًا، إلا أنه ترك همز يأطر
فصارت هكذا ياطر.
(98) طمحت بنظرة فرأيت منها ... تحيت الخدر واضعة القرام
ورد في الأول ص 125 وكتب الشطر الثاني هكذا:
تحينت الحذر ناصعة القوام ...
وروى الطبري: سمت لي نظرة بدل: طمحت بنظرة.
(99) وحليل غانية تركت مجدلاً ... تمكو فريصته كشدق الأعلم
من معلقة عنترة ورد في التاسع ص 137 وكتب بدل وحليل غانية وخليل غائبة.
(100) عرفت المنتأى وعرفت منها ... مطايا القدر كالحدا الجثوم
ورد في الثامن ص 153 وكتب هكذا:
عرفت الصبا وعرفت منها ... مطايا العذر كالحدا الجثوم
(101) عهدي به شد النهار كأنما ... خضب البنان ورأسه بالعظلم
من معلقة عنترة ورد في الثامن ص 57 وكتب الشطر الثاني هكذا:
خضب اللبان رأسه بالعظلم ...
(102) رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
لأبي خراش ورد في السابع ص 151 وكتب الشطر الأول هكذا:
رقوني وقالوا يا خويلد لم ترع ...
ومعنى رفوني بالفاء سكنوني وقيل أراد رفؤني فألقى الهمزة والهمزة لا تلقى إلا في
الشعر وقد ألقاها في هذا البيت ومعناه أني فزعت فطار قلبي فضموا بعضي إلى
بعض.
(103) مأويّ ياربتما غارة ... شعواء كاللذعة بالميسم
ورد في الثامن عشر ص 14 وكتب هكذا:
ياربتما غارة شعواء ... كاللذاعة بالميسم
(104) حواء قرحاء أشراطية وكفت ... فيها الذهاب وحفتها البراعيم
ورد في الثلاثين ص 84 وكتب هكذا:
حوى فرحًا سراطيه وكفت ... فيها الذّهاب وحفتها البراعيم
(105) تقول إذ درأت لها وضبني ... أهذا دينه أبدًا وديني
ورد في الأول ص 385 وكتب صحيحًا وورد في الرابع ص 105 وكتب هكذا
أقول وقد درأت لها وضني ... وهذا دينه أبدا وديني
(106) مهلاً بني عمنا مهلا موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
ورد في الخامس ص 31 وكتب الشطر الثاني هكذا لا تظهرون لنا ما كان مدفونا.
(107) إن شرخ لشاب والشعر ... الأسود لم يعاصَ كان جنونا
ورد في العاشر ص 76 وكتب بدل الشباب الشاب وبدل يعاص يقاص وهو غلط
لا معنى له.
(108) إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوّه آهة الرجل الحزين
ورد في الحادي عشر ص 33 وكتب بدل إذا ما قمت: إذا قضت، فاختل المعنى
والوزن.
(109) عجبت من دهماء إذ تشكونا ... ومن أبي دهماء إذ يوصينا
... ... ... ... ... خيرًا بها كأننا جافونا
وردت في الخامس عشر ص 44 وكتبت صحيحة إلا أن تشكونا كتبت بياء مثناة من
تحت وهو غلط، ووردت في العشرين ص 77 وكتب الأخيران هكذا:
ومن أي دهماء إذ توصينا 7 ... خيرًا بها كأنهم خافونا
ولو أنه أحال على ما تقدم لكان خيرًا
__________(8/30)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ والانتقاد
(خواطر الخواطر)
مقالات أدبية حكمية وعظية لمحمود أفندي سلامة صاحب جريدة الواعظ، كان
يكتبها في جريدة اللواء أيام كان محررًا لها، وكانت خير ما ينشر في تلك الجريدة
وأعذبه في ذوق القراء على ما فيها من السجع ومرارة الوعظ؛ لأنها كانت محاورات
بين تلميذ وأستاذه الدهر، ثم عاد الكاتب إلى هذا في جريدته الواعظ لأنها أجدر
بمثله، وقد اقترح عليه ما وافق رغبته من جمع ذلك في كتاب يجعل أجزاء فجمع
معظم ما كتب في جريدة اللواء وطبعه الواعظ فجاء جزءًا لطيفًا ومن مباحثه مقالات
في الخمر والميسر، والقتل والانتحار، وطلب الدنيا، وآداب الصيام، وآثار
الغرب في الشرق، وغير ذلك فنحث القراء على مطالعته وثمنه خمسة قروش
صحيحة.
***
(طولة العمر في حديث أبو يوسف ونمر)
كتاب ألفه شكري أفندي الخوري السوري المقيم في البرازيل باللغة العامية
السورية، وأودعه من الفوائد والنصائح الصحية والأدبية ما لا يستغني عنه أحد من
العامة، على أنه لا يقصر عن إفادة الخاصة. جَعَلَه محاورة بين رجلين من عامة
اللبنانيين، وقد رأينا فيه من قدرته على تصوير أفكار العوام، ما يناسب قدرته على
ضبط عبارتهم في الكتاب، وكلا الأمرين عسير على الناشئين في دور العلم
والمشتغلين بالكتابة والتأليف باللغة العربية الصحيحة، وإننا لنعرف من أنفسنا
العجز عن المضي في ذلك بل إننا نجهل كثيرًا من كلام عامتنا، وأتذكر الآن أنني
كنت أحتاج إلى تصوير بعض المسائل الفقهية في الدرس باللغة العامية فلا أدري
ماذا أقول وإنني لأجهل كثيرًا من مفرداتهم، ولكنني رأيت فيما قرأته من الكتاب
لحنًا وغلطًا، أعني خروجًا عن العامية الملتزمة فيه كاستعمال الذال والعطف بالفاء
وغير ذلك. ولا يخلو من غلط في الرسم، كاستعمال الهاء في مواضع الواو في
مثل قوله: (الواحد يبيع استقلاله الشخصي وحريته بوظيفة حقيرة ويكون موش
عاوز الوظيفة وبيخون بلاده وأهله وعشيرته لأجل كم قرش يقبضها آخر كل شهر)
فالمعروف في الكلام العامي أن يقال (استقلالو) عند الناطقين بالقاف، وقليل ما
هم ولكن الكتاب جرى على طريقتهم ومثلها (بلادو ووظيفتو) وفي هذا المثال أيضًا
قوله: (يقبضها من غير إلحاق الباء بالفعل، ولعلها تقال قليلاً) .
ومن نصائح الكتاب النهي عن الخوض في الأمور الدينية والسياسية الآن
(والقيد بالآن للأخيرة) وجعل ذلك من أسباب الراحة التي تطيل العمر وبهذه المناسبة
تكلم في حال النصارى في سوريا وآمالهم ومستقبلهم بالاختصار وقد انتقدنا عليه في
هذا السياق ما قاله عن المسلمين من مقتهم للولاة والحكام العادلين لأنهم يحولون بينهم
وبين إيذاء النصارى؛ فهذا شيء لا يصح إلا أن يكون بالنسبة إلى بعض أهل بيروت
ولهم من النصارى أكفاؤهم في حب الاعتداء، وأما سائر مسلمي بيروت وسوريا
فإن حالهم مع الحكام الظالمين شر من حال النصارى، لأن الضرائب والمظالم
عليهم أكثر.
الجرائد والجامعة الإسلامية:
وانتقدنا عليه قوله: (إن جرائد الإسلام في كل الدنيا تدعو إلى جامعة دينية
إسلامية وكلها تُسقى من ينبوع واحد بخلاف جرائدهم التي بحت لكثرة النداء
بالجامعة العثمانية لا سيما جرائد المهجر المشتعلة بنار الغيرة على الوطن) .
أقول: ليعلم هذا الوطني الغيور أن أكثر جرائد المسلمين لم تفكر في مسألة
الجامعة الإسلامية الدينية، وأن منها ما يدعو إلى جامعة وطنية غريبة يبغض فيها
المسلم إلى المسلم الموافق له في لغته وجنسيته السياسية؛ إذا كان من بلد آخر ولو
مجاورًا له. وإن أكثر أصحابها لا يعرفون حقيقة الإسلام، وأنه ليس فيها جرائد
دينية، ويا ليت للعالم الإسلامي كله من الجرائد الدينية بعدد ما للنصارى في بيروت
أو القاهرة. وهذه مجلة المنار الإسلامية وجد في مسلمي مصر من يحرض عليها
جميع جرائد المسلمين وغيرهم في مصر وإن كان الأكثر لم يسمع ولم يجب، بل إن
بعض الجرائد اليومية للمسلمين تنشر أحيانًا ما هو طعن صريح في الشريعة والدين.
وجملة القول أنها لم تتفق على دعوة واحدة، ثم إن الجامعة الإسلامية التي
تكلم بها بعض فضلاء المسلمين لا تنافي الجامعة العثمانية في بلاد الدولة العلية بل
تجتمع معها.
سوريا والحجاز والسياسة:
وانتقدنا عليه أيضًا ما قاله في سكة الحديد الحجازية: (اللي بدها تقلب وجه
السياسة قلبة ملعونة) إذ تخيل أن غرض السلطان أو الدولة تنحية النصارى عن
سوريا وجعلها مع الحجاز بلادًا إسلامية محضة ومحط رحال المسلمين من كل الدنيا.
ليعلم أن هذا الخاطر لم يطف في دماغ تركي قط؛ لأنه فرع الرضا بالتنازل
عن الجنسية التركية وعدم تمييز التركي على العربي، وأنى ذلك وجريدة (ترك)
المعتدلة التي تصدر في مصر تعبر عن الترك (بالملة المالكة) وإنما الغرض الأول
من هذه السكة أن يسهل على الدولة سوق العساكر إلى الحجاز عند الحاجة لاسيما إذا
حدثت فيه انقلابات سياسية بدسائس الإنكليز إذ لا يمكنها حينئذ أن ترسل إليه الجيش
في البحر.
وقد عنينا بنقد الكتاب لفائدته ولأنه نشر في جريدة الهدى الغراء وجمع منها
وطبع وانتشر، ولا نحب أن نسكت على ما يحدث نفورًا ويقوي فتورًا بين أهل
الوطن فعسى أن تنبه جريدة الهدى على ذلك كما تفعل جريدة المناظر في مثله.
***
(كمال بلاغة العربية)
في مدح الفرد الكامل والأستاذ المطلق الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية،
أهديت إلينا رسالة بهذا الاسم أنشأها الشيخ كمال الدين العراقي وطبعها على نفقته،
وذكر في آخرها قصيدة له سماها: (لسان الحق في بيان الحقيقة والأخلاء
والمحبوب) .
والرسالة ساجعة بالنثر، مزينة بالشعر، مرصعة بالتوجيه والتصريع
مصنوعة من طينة أنواع البديع، على طريق أهل القرون المتوسطة وهي مناظرة
بين منشئها وأحد الشيوخ في الأزهر وتباع عند جميع الكتبية.
***
(الرياض)
صحيفة تهذيبية علمية، صناعية، اجتماعية تصدر في أول كل شهر إفرنجي
في حجم المنار لصاحبها حسن أفندي صديق في بني سويف وقيمة الاشتراك فيها
خمسون قرشًا، وقد صدر العدد الثاني منها في أول فبراير الماضي، ولم نر
عدد شهر مارس وفيما صدر فوائد كثيرة أنفعها الكلام في مصار الخمر فعسى أن يكون احتجابها عنا لا لاحتجابها في نفسها.
***
(التربية)
مجلة مدرسة شهرية لمديرها محمود أفندي عمر الباجوري يتألف العدد منها من
8 صفحات كبيرة وقيمة الاشتراك فيها عشرة قروش في القطر المصري وأربعة
فرنكات في غيره وقد أرسل إلينا العدد الثاني منها (دون الأول) وفيه نبذ علمية
وأدبية، وفكاهات وجيزة بلغة الولدان العرفية وفوائد منزلية منها ما ما نصه:
البيض يلزم غمسه في ماء مغلي عشر ثوان - لتنظيف الزجاج تضاف قطعة
من زهرة.
لحفظ الغسيل إلى الماء الذي يغسل به - لكي يكون ضوء اللمبة لامعًا ينقع
الشريط في الخل قبل استعماله.
ولعلنا نجد عبارتها في الأعداد الآتية خيرًا من هذه العبارة وأصح؛ فقد جاء في صدر العدد أن الغرض مما ينشر فيها من المقالات التمرين على الإنشاء
واختيار الأساليب المفيدة. والتلميذ في حاجة إلى ذلك في كل ما يكتبه.
***
(جريدة العجائب)
أرسلت إدارة جريدة العجائب رقاعًا إلى الجرائد ترغب إليهم فيها بالتنويه
بدخولها في السنة الرابعة فنهنئها بذلك ونرجو لها العمر الطويل بما رأيناه من ثباتها
على خطة واحدة في الاستحسان والمدح والاستهجان والنقد على حين نرى كثيرًا من
الجرائد تذم اليوم من مدحت أمس وتستحسن غدًا ما استهجنت اليوم.
***
(ديوان أبي تمام الطائي)
لا يجهل أحد من الأدباء مكان شعر أبي تمام من البلاغة وقد طبع ديوانه غير
مرة؛ فنفدت نسخه، حتى لا تكاد منها نسخة عند كتبي في مصر وقد علمنا أن
محمد أفندي جمال من أدباء بيروت شرع بطبعه على ورق جيد بإذن من نظارة
المعارف في الآستانة وكلف الشيخ محيي الدين الخياط أحد محرري جريدتي بيروت
والإقبال بضبطه وتفسير غريبه، وسيتم طبعه في أواخر صفر الآتي، ويصدر في
500 صفحة وهو يقبل الاشتراك فيه إلى أن يتم طبعه بثمانية قروش مصرية
صحيحة، وسيكون ثمنه بعد ذلك اثني عشر قرشًا؛ فمن أحب الاشتراك من أهل
هذا الديار فليرسل القيمة إلى مكتبة المنار بمصر، أو لملتزم الطبع في بيروت،
وله بعد حضور الكتاب أن يستلمه من هذه المكتبة.
__________(8/35)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(سنتنا الجديدة)
نهنئ قراء المنار بالعام الهجري الجديد، ونسأل الله تعالى أن يجعله عامًا
مباركًا عليهم وعلى جميع الأمم وقد صدَّرْنا هذا الجزء بفاتحة أطول من فواتح السنين
السابقة ولكنها على طولها مختصرة تشير إلى قواعد وحوادث في تاريخ الإصلاح
يوشك أن تشرح يومًا ما في سفر كبير.
***
(شرط الاشتراك في المنار)
المنار يتألف من 24 جزء تبلغ صفحاتها 960 ما عدا الفهرس، فالذي يشترك
فيه يطلب شيئًا معلومًا بثمن معين، وهو ما يكتب على غلافه وهذا البيع من قبيل
الاستصناع وشرطه أن من يقبل الجزء الأول من السنة يكون ملزمًا بدفع ثمن أجزاء
السنة، وليس له أن يردّ شيئًا منها؛ لأن في هذا ضررًا علينا وفقد جزء من المنار
كفقد مجموعة السنة كلها ومن لا يصل إليه بعض الأجزاء فله أن يطلبه إلى ما بعد
موعد صدروه بشهر فإن طلبه بعد ذلك لم نكن مكلفين بإرساله إليه. ومن فقد بعض
الأجزاء فإدارة المجلة غير مكلفة بإعطائه بدلاً منها، ولكنها تعد بأن تبيع الجزء إن
وجد فيها زائدًا عن المجموعات الكاملة بخمسة وعشرين مليمًا لأهل مصر وبخمسة
وسبعين سنتيمًا لسائر الناس. فمن قبل بهذا فقد وجب عليه دفع قيمة أجزاء السنة
كلها بقبول الجزء الأول وحسبنا رضاهم حجة وذمتهم وكيلاً، وإنما ذكرنا هذا مع
العلم بأنه قد يُنتقد لما نقاسي كل عام من طلب الكثيرين للأجزاء المفقودة ومنهم
أصدقاؤنا الذين يؤلمنا العجز عن إجابة طلبهم.
***
(فهرس المنار أو فهارسه)
جمع فهرس المنار العادي المرتب على حروف المعجم وكان في العزم
توزيعه مع هذا الجزء، ولكن تراءى لنا أن نضم إليه فهرسين آخرين، أو أكثر، وقد بدأنا بجمع فهرس الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وربما نضيف إليهما فهرسًا
لأسماء الأشخاص؛ فليُنتظَر من يريد تجليد أجزاء السنة السابعة صدوره
مع الجزئين الثاني والثالث فإنهما سيصدران معًا في أوائل صَفَر إن شاء الله تعالى.
__________(8/39)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المنار
جاءنا ما يأتي من أحد علماء سوريا الفضلاء المخلصين فنشرناه مع الحياء
والخجل امتثالاً لأمره وطلبًا لرضاه، قال حفظه الله:
لقد منَّ الله على المسلمين إذ أقام لهم منارًا يهديهم سبل الحكمة، ووقاهم وعث
السبيل، ولو فتح الذين أعرضوا عنه بصائرهم لرأوا أنهم في مكان وبيل، أفسكرت
بصيرتهم بل هم مسحورون بما هويت آباؤهم من المناهج، وكم ضل جيل بما ضل
من قبل به القبيل، هاهم أولاء تنزفهم أيدي الزمن بما ضلوا عن الحقائق وبما كانوا يتوهمون، أفلم يأنِ لهم أن يفيقوا من سكرتهم وينظروا ما قدمت أيديهم وسعت
إليه أرجلهم من الحال الهون، أو لم يأنِ لهم أن ينظروا ما منَّ الله عليهم إذ هيَّأ رشيدًا منهم لرفع (المنار) لعلهم يرشدون.
سلام أيها الرشيد بما رفعت (المنار) طوبى ونِعْمَ عُقبى الرشداء الأبرار
بشرى، وإن لك مدحًا في الأمصار والأعمار، نُعمى تدوم لك العمر، يُسرى تبقى لك
الدهر، حسنى تخلد لك الذكر، فوقى لك في الملأ الغر، مرحى لإصلاحك، أكرم
بعملك، لقد جلوت الديجور بالسنا؛ وأرشدت القاصي كمن دنا، وقد عنيت بمن
عنى، ولم تعن بمن حسد وشنا، كذلك حزب الهدى، لا يعنيهم السدى، ولا يثنيهم
الهوى، ولا يروعهم من جفا، حسبك الحق وكفى، لم يخب من إليه انتمى، إن لديه
الآخرة والأولى، إن هذا رجاء أُولي النهى، فاستفتح هذه الثامنة بمثل ذلك الهدى، وتوكل على الذي برأ الحِجى، وأرسل محمدًا بالهدى للورى، ليكونوا إخوانًا في
الطريقة المثلى، عليه الصلاة الحسنى، والسلام الأسنى.
وسلام عليكم قُراء (المنار) بما طبتم في الملة، إن لكم فيه لَمَا ينفعكم في
الدين، وإن لكم فيه لَمَا يرفعكم بين العالمين، وإن لكم فيه لما تعارفون، وإن لكم
فيه لما تعاطفون، وإنه لهناء لكم وتبصرة للمستمعين، ولقد من الله علينا ببلوغه
(الثامنة) يفيض بالنور المبين. وهذه كلمات لأخ لكم ليهديكم التحيات الطيبات،
ويعلن اشتراكه معكم بالمسرات، وتذكرة لعلنا نكون من العرفاء بالفضل، وعسى أن
نكون من الشاكرين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (سوري شمالي)
__________(8/40)
16 المحرم - 1323هـ
22 مارس - 1905م(8/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حياة الأمم وموتها
إن للأجسام حياة وللنفوس حياة غير حياة الأجسام، ولكن بعضهما يرتبط
ببعض، وإن للأفراد حياة، وللأمم حياة غير حياة الأفراد، ولكن إحداهما تتوقف
على الأخرى.
يُعرف الجسم الحي بطلب الغذاء الذي يحفظ حياته من الخارج ويدفع
العوارض الضارة عنه؛ وإفراز المواد الميتة من بنيته، ويستوي في هذه الحياة
النبات والحيوان، وتعرف النفس الحية بالحرص على الكرامة وارتفاع المنزلة
بالحق وبدفع أسباب المهانة، وتوقِّي طرقها، وبالنضال عن الشرف أن تصل إليه
أيدي العابثين، أو يصيبه وهم الواهمين، وأما حياة الأمة فهي أثر روح يسري في
أفرادها فيشعرهم بأن مكان كل واحد منهم من مجموع الأمة مكان أحد أعضائه من
جسده؛ فهو يلاحظ في كل عمل منفعة نفسه، ومنفعة أمته معًا، كما أن عمل كل
عضو في البدن يكون سببًا في حفظ حياته من حيث هو سبب لحفظ حياة البدن كله.
الجسم الحي أشرف من الجسم الميت وأبقى، بل الأجسام الميتة تكون غذاء
للأجسام الحية ومتاعًا تتناول منه ما تحتاج إليه لتجعله عوضًا عما يندثر منها
وينفصل عنها، كذلك الأمم الحية تتغذى من الأمم الميتة، وتنتزع منها ما تحتاج
إليه في حفظ حياتها، وطول بقائها ودوام عزتها وشرفها. فالأمة الحية أشرف من
الأمة الميتة وأرقى في مرتبة الوجود.
قد يشتبه على الجاهلين التفاضل بين الناس في الحياة والموت بهذا المعنى؛
فيذهب الجهل ببعضهم إلى أن زيدًا الميت أفضل من عمرو الحي بما هو أكثر مالاً
وعشيرة وأحسن أثاثًا ورِئْيًا. ولو رجعوا إلى العلم الصحيح والاختبار الدقيق لرأوا
أنفسهم يفضلون معاملة فلان التاجر الذي يملك ألف دينارٍ على فلان الوارث الذي
يملك مئة ألف، ويرون من الثقة والرجاء في الأول ما لا يرون في الثاني لأن الأول
يجمع ويشيد، والثاني يبيد ويبدد، فالألف تنمو في كل عام، ومائة الألف تنقص في
كل يوم من الأيام، حتى إن حديد البصر يرى الأول غنيًّا مثريًا، والثاني فقيرًا
مستجديًا، ذلك أنه ينظر إلى المستقبل الذي يسيران إليه، فيمتثل له في الحاضر
الذي يراهما فيه معروفة شؤون الأمم والشعوب، أخفى على الأكثرين من معرفة
حال الأفراد والبيوت، فكم من جاهل يفضل أمة على أخرى؛ لأنها أصح دينًا وأعدل
شريعة، أو لأنها أشرف أرومة، وأعرق في المجد جرثومة، أو لأن تراثها من
سلفها أكثر. ومزاياها الجنسية أشهر، أو لأنها أكثر عددًا ومددًا، وأعز عشيرة
ونفرًا؛ وإذا صح أن يكون هذا كله أو بعضه للأمة الميتة زمنًا من الأزمان؛ فإنه لا
يبقي إلا ريثما تتصل بها أمة حية، فترى هذه تمتص جميع مزايا تلك ومقوماتها
الحيوية، وتلك تتحمل آفات هذه وعللها البشرية، حتى تكون إحداهما في عليين،
والأخرى في أسفل سافلين.
يسهل على القارئ في الشرق القريب، أن ينظر فيما بين يديه من الشعوب
التي تضمها جنسية سياسية أو لغوية، وتفصل بينها روابط نسبية أو ملية، فإنه
يرى شعبين يمتاز أحدهما بكثرة العدد، وكثرة المال، وقوة الحكم، وقوة العلم ثم
يجد نفسه تفضل قليل المزايا منهما على كثيرها؛ لأنه يرى الشعب الكثير المزايا
يتمزق ويتفرق؛ فتذهب مزاياه بذهاب الأعوام، والشعب القليل المزايا ينمو ويسمو
ويجتمع ويتألف؛ فيعتز ويشرف بإقبال الأيام، يرى الشعب الكبير يتخاذل فيتضاءل،
والشعب الصغير يتلاءم ويتعاظم، وما ذلك إلا أن في أحدهما نسمة حياة تدفع عنه
الأعراض الضارة بالشعوب فيقوى ويزكو، وتغذيه كل يوم بغذاء جديد فينمو ويسمو،
وليس في الآخر شيء من هذه الحياة فهو كجسم العاشق يذوب ويضمحل، ويحقر
ويذل.
ويسهل على القارئ في الشرق البعيد (كالهند) أن يرى مثل هذين الشعبين
المتقابلين في الحياة والموت ولكنه يرى أكبرهما هو الذي يعز ويترقى، وأصغرهما
هو الذي يذل ويتدلى، فلا تغره حينئذ دعوة بعض المتطفلين على علم الاجتماع
وسنن الخليقة أن علة الحياة في الشعب الصغير القريب هي صغره وقلة عدده؛ لأن
اجتماع العدد القليل للتعاون والتناصر وتوحيد المصلحة العامة أسهل من اجتماع
العدد الكثير.
ويشبه هذه الوهم تعليل بعضهم لنجاح صاحب الألف ونمو ثروته، وخيبة
صاحب المئة الألف والعقار الواسع وتبدد تراثه، بأن تثمير المال القليل أسهل من
تثمير الكثير! كذلك يقول من لا يعرف معنى الحياة في الأمم والأفراد، ولسنا
بصدد بيان علة حياة أمة معينة وموت أخرى؛ فنفيض في كشف وهم الواهمين
وجهل الجاهلين، وإنما غرضنا بيان معنى الحياة المعنوية، ومميزات واجديها
ومخازي فاقديها.
التمييز بين أمة في أعلى مراقي الحياة وأوج العزة والقوة، وأمة في
الحضيض الأوهد، والشقاء المؤصد - مما يتناوله كل نظر، ويحكم به كل عقل،
ولكن التمييز بين أمتين أو شعبين أحدهما يموت بعد حياة، وثانيهما يحيا بعد موت هو
الذي يخفى على غير علماء الاجتماع المدققين؛ لأن الذي اعتاد على الحكم بادي
الرأي، ينخذع بما يرى في الأول من علامات الحياة الموروثة؛ كأثارة من علم
وبقية من حكم لا يجد مثلهما عند الثاني؛ فهو كمن يفضل وارث مئة ألف على
كاسب الألف جاهلاً بما وراء ذلك من مصير ثروة الوارث إلى الزوال، ومسير
ثروة الكاسب إلى الكمال.
لا يغرنك ما ترى من آيات الحياة في أمة تقطعت روابطها، وانفصمت عروة
الثقة بين أفرادها، وبغض إليها النظام، وفقدت التلاحم والالتئام، وإن كان ما تراه
أخلاقًا كريمة، ومعارف صحيحة، وثروة واسعة، وسلطة نافذة، مع العلم بأن هذه
الأشياء كلها هي آثار الحياة توجد بوجودها وتذهب لذهابها، فقد يكون ذلك من بقايا
إرث قديم، يعبث به الفساد الحديث، إلا أن ترى العلم والأخلاق تقرب البعيد،
وتجمع الشتيت، وتزيد في الثقة بين الناس، وتدعو إلى التعاون على البر
والإحسان، وترى الثروة تجمع مع ملاحظة مصلحة الأمة، وينفق جزء منها على
المنافع العامة، وترى السلطة موجهة لدفع الأذى عن البلاد، وإقامة العدل في العباد
وإسعاد الأفراد على الاستقلال، وإعدادهم لمشاركة الحاكمين في الأعمال.
روح الحياة في الأمة تحول الشر إلى خير، وفقدها يحول الفضائل إلى رذائل،
فما يكون فيها من عزة وإباء يصير كبرًا وعجبًا، وما يبقى من كرم وسماح يصير
إسرافًا وتبذيرًا، وتكون الشجاعة فيها سببًا للاعتداء والإيذاء، وجودة الرأي وسيلة
للمكر والاحتيال، ويتحول فيها حب الشرف والكمال، إلى حب الفخفخة بالألقاب،
وينقلب التنافس تحاسدًا، والإيثار أثرة وطمعًا وقس على هذا سائر الأخلاق التي
تفسد.
كذلك يكون العلم آلة لأهله يكيدون بها للناس ويوقعون بينهم ليستفيد الكائد من
النزاع والشقاق، أما السلطة فإنها تكون الآلة المحللة لكل التئام، والممزقة لكل شمل،
والمفرقة لكل اجتماع، إلا الاجتماع لتأييدها والخنوع لأصحابها، حتى إن الملك
أو الأمير ليتَّجر بالأمة اتِّجارًا، بل يكون هو الغاصب والناهب ما استطاع، حتى
إذا لم يبق للأمة قوة حافظة يبيعها للأجانب بالمحافظة على رياسته الصورية،
وتمكينه من شهواته الحيوانية والشيطانية.
تسري الأمراض الاجتماعية في الأمم فتذهب منها بمقومات الحياة من حيث لا
تشعر ولا تدري ولذلك يبقى لها الغرور والدعوى بأنها أشرف الأمم وأفضلها ويعسر
على من يكون على علم بأمراض الأمم أن يقنعها بأن أمة وضيعة مهينة وإن كانت
أصوات الإهانة تصيح بها في كل يوم، وأسواط العذاب تقع عليها في كل آن، وإذا كانت متكئة في غرورها على عصا الدين كان إقناعها أعسر وإشعارها
أبعد، وإن نخرت أَرَضَة البدع تلك المنسأة فانكسرت وخرت الأمة في مهواة
الضلال فهلكت.
إذا أهاب الداعي بالأمة المغرورة بالدين، وحاول إقناعها بالبراهين، وإيقاظ
الشعور فيها بما تذوق من العذاب المهين، وَاثَبَه حماة البدع الجديد، وحمل عليه
أنصار التقليد، واستعانوا عليه بالأمراء المستبدين، وحالوا بينه وبين العامة
المساكين، بل العامة هي قوة رؤساء الدنيا والدين، بها يصولون على المصلحين،
ولو كانوا يقارعون الدليل بالدليل، ويصارعون البرهان بالبرهان، لظهر للعامة
سوء حالهم، وفساد أقوالهم وأفعالهم، ولكان للمصلح على انفراده، وضعف أنصاره
وأعوانه، ما يغلبهم به على عزة سلطانهم، وعظم شأنهم؛ لأن الحق نصيره،
والفطرة البشرية عونُه، لولا أنهم يفسدونها بتقاليدهم، ويحولون بينها وبين نور
الإصلاح بغيوم سلطانهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) أظهر دلائل الحياة في الأمة التولد والنمو في أسباب
الارتقاء من العلوم والفضائل والأعمال العمومية فلا يموت فها شيء بموت القائم به،
وأظهر دلائل الموت العقم والتحلل في ذلك؛ فلا يكاد يذهب منها شيء من الخير
ويخلفه مثله؛ وإنما يموت العلم بموت العلماء، والفضل بموت الفضلاء؛ حتى
تبقي حثالة بهم تبسل الأمة.
لا تنزع روح الحياة من الأمة بما يعرض عليها من الأمراض؛ إلا إذا فتكت
هذه بمزاج الأمة الجامع لأفرادها؛ وإذا كان مزاج الجسم يتألف من أمشاج متعددة
كالدم والعصب واللمفا؛ فمزاج الأمة الاجتماعي يتألف مثله من أصول متعددة
كالنسب والجنسية والدين والحكومة، لذلك ترى الباحثين في إصلاح الأمم الفاسدة
المزاج يتخلفون؛ فيقول بعضهم: إن الأمة لا تحيا إلا بتربية النساء التي هي الأصل
في صلاح البيوت، ويقول آخرون إنها لا تحيا إلا بتقوية الرابطة الجنسية التي
تكون باللغة أو الوطن، ويقول غيرهما: إن الأصل في الحياة هو الإصلاح الديني،
على أن الدين عند المسلمين حاكم في كل شيء فإصلاحهم من جهته إصلاح لكل شيء
ويخالفهم مخالفون قائلين: بل الإصلاح إنما يكون بصلاح حال الحكومة؛ لأن
السياسة هو المدبرة لكل شيء، والصواب أن معاجلة كل ما فسد من الأصول التي
يتألف منها المزاج مما لابد منه لشفاء الأمة وجعلها في عداد الأمم الحية.
ولكن يقال: إن هذه الأصول ترجع إلى أصلين الأمة والحكومة، أيهما صلح
يسهل عليه إصلاح الآخر ولكن ما يجيء من جانب الحكومة يكون أسرع وما يأتي
من الأمة يكون أدوم وأثبت، وقد بينا ذلك في السنة الأولى من سني المنار،
وسننشر في الأجزاء الآتية مقالات في أنواع الحياة النسبية أو الزوجية، والملية
والجنسية، والسياسية، ونبين كيف يكون الإصلاح فيها، والله الملهم للسداد.
__________(8/67)