الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة
خطبة الجمعة بالأعجمية
(س1) الشيخ عبد الحق الأعظمي خطيب المسجد ذي المنارات في بمبي
(الهند) : هل يجوز العدول عن تلاوة خطبة الجمعة باللسان العربي إلى لسان البلد
التي تقام فيه الجمعة حتى ينتفع بها العموم ويحصل منها الإرشاد المطلوب فإن
بتلاوتها بالعربية على أعاجم لا يعرفون هذه اللغة فوات لفائدتها وهو إيصال الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أفهامهم وتمكين آثار الوعظ في قلوبهم وإنني في
كل أسبوع أنشئ خطبة وألقيها يوم الجمعة على مئات من المسلمين وبعد الجمعة
أسأل المتعلمين منهم الذين مارسوا اللغة العربية هل فهمتم ما تلوته على المنبر
فيقولون لم نفهم إلا كُليمات قليلة لأننا وإن كنا قرأنا قوانين اللغة العربية وعلومها إلا
أننا لا نفهم ما يُقرأ علينا بها اللهم إلا إذا نحن قرأناه وتأملناه مليًا. فآسف على تعبي
في إنشاء الخطبة فأردت أن أخطب فيهم بلغتهم الأُوردية مع ذكر أركان الخطبة
بالعربية فهل ورد في السنة وآثار السلف ما يمنع من ذلك ويحتم أداءها كلها
بالعربية وإن لم يفهمها حاضرو الجمعة كلهم أو جلهم، وبماذا كان يخطب الصدر
الأول في بلاد الأعاجم التي افتتحوها؟
(ج) قد بينا غير مرة أن معرفة اللغة العربية واجبة على كل مسلم؛ لأن
فهم الدين وإقامة شعائره وأداء فرائضه كل ذلك موقوف على فهم هذه اللغة ولا
تصح إلا بها وخطبة الجمعة من أقلها تأكيدًا وثبوتًا وإن كانت من أكبر الشعائر فائدة،
وقد كان الذين يدخلون في الإسلام من الأعاجم على عهد الصدر الأول يبادرون
إلى تعلم اللغة العربية لأجل فهم القرآن والسنة والارتباط بصلة اللغة التي لا تتحقق
وحدة الأمة بدونها وكان الصحابة يخطبون الناس باللغة العربية في كل بلاد
يفتتحونها وما كان يمر الزمن الطويل على بلاد يدخلونها إلا وتتحول لغتها إلى لغتهم
في زمن قصير بتأثير روح الإسلام، لا بالترغيب الدنيوي ولا بقوة الإلزام، ولو
كانوا يرون إقرار مَن يدخل في دينهم من الأمم الأعجمية على لغاتهم لَبادروا هم إلى
تعلم لغات تلك الأمم وأقاموا لهم فرائض الدين وعباداته بها وبقي الروماني رومانيًّا
والفارسي فارسيًّا وهلمّ جرًّا.
وإن التفريق الذي نراه اليوم في المسلمين باختلاف اللغات هو من سيئات
السياسة ومفاسدها الكبرى وإذا لم ترجع الدولتان العثمانية والإيرانية إلى السعي في
تعميم اللغة العربية في مملكتيهما فسيأتي يوم تندمان فيه وإننا لا نعتد بإصلاح في
الهند ولا بغيرها من بلاد المسلمين ما لم يجعل ركن التعليم الأول تعلم العربية
وجعلها لغة العلم.
لا يصعب عليك أن تجد عند الحنفية وجهًا لجواز الخطبة بلغة من تخطبهم
لأجل حصول المقصود من الخطبة كما جوزوا كون القاضي والمفتي من المقلدين
خلافًا لنصوص المذهب بل المذاهب كلها في اشتراط كونهما مجتهدين وكما جوزوا
كون القاضي جاهلاً وفاسقًا وكما جوزوا صلاة الجمعة في الأمصار التي ليس فيها
حاكم ينفذ الأحكام الشرعية وكما جوزوا إمامة مَن ليس مستوفيًا لشروط الإمامة،
وغير ذلك من الأحكام التي جوزوها للضرورة، وليس معنى جواز الشيء
للضرورة أن يُترك الأصل ويرضى الناس بالضرورة إلى أبد الأبيد وإنما معناه أن
يأخذوا بالاستعداد لإقامة الحق والرجوع إلى الأصل مع الإتيان بالشيء ناقصًا وذلك
بأن يترخصوا بترك بعض الشروط فيه مع الجد في تحصيلها إلى أن تتم الشروط
ويستقر كل شيء في نصابه وإلا كان لنا أن نترك الدين كله أو نحوله عن وجهه
تعللاً للضرورات التي تتحكم فيها الأهواء كما تشاء.
قلت: إن خطبة الجمعة أهون من غيرها لأنها غير مجمع على وجوبها فإن من
السلف من قال إنها مندوبة كخطبة العيد فإذا أقيمت أركانها الأصلية بالعربية وزِيد
فيها شيء من الوعظ بلغة أخرى للحاجة لا يخل ذلك بصحة الصلاة ولا بصحة
الخطبة ولكنه يدخل في الشعائر الإسلامية تشويهًا يخشى أن يصير مستمرًّا.
وليست المصيبة في عدم فهم الخطبة أقوى من المصيبة في عدم فهم الفاتحة
وغيرها من السور والآيات التي تقرأ في الصلاة، اللهم اجزِ مَن نصروا لغاتهم
على لغة كتابك حتى حالوا بينه وبين عبادك - بما يستحقون؛ فقد صارت صلاة
المسلمين تقليدية محضة لا روح فيها كصلاة كثير من أهل الملل الأخرى.
ويسهل على السائل أن يترجم خطبه النافعة بلغة القوم ويقرأ عليهم الترجمة
بعد الصلاة لينتفعوا بها ويتحسروا لعدم فهمهم أصلها العربي في إقامة الشعار الديني
لعلهم يرجعون.
والسائل يعلم أن المسلمين ما زالوا يخطبون بالعربية في جميع بلاد الأعاجم
لملاحظتهم ما قلناه، لم يختلف في هذا سني ولا شيعي. وقد عد بعض الحنفية
الضرورة التي تجيز العدول عدم وجود خطيب يحسن العربية حتى يوجد وقالوا لا
بد من السعي في إيجاده. قال شارح الإحياء: (وهل يشترط كون الخطبة كلها
بالعربية وجهان، الصحيح اشتراطه فإن لم يكن فيهم من يحسن العربية خطب
بغيرها ويجب عليهم التعليم وإلا عَصوا ولا جمعة لهم) : يعني أن الضرورة لا
يجوز أن تجعل مستمرة بل يجب السعي في إزالتها. ونحن نقول يجب عليهم تعلم
العربية ليفهموا الخطبة وما هو أهم من الخطبة كالفاتحة وسائر الأذكار والسور،
فإن لم يفعلوا كانوا عاصين ولا صلاة لهم ولا قراءة لهم وإنما لهم الصور التي لا
تؤثر في القلب ولا تزكي النفس، وما كان كذلك فلا تأثير له في سعادة الآخرة ولا
في سعادة الدنيا والله أعلم.
* * *
حد اللواطة
(س2) ومنه: ما الحكمة في أن الشارع لم ينص على حد اللواط مع
منافاته لأصل الطبيعة وفظاعته عند سائر الأمم من قديم الأزمان وأنه يُحدث
أمراضًا خطرة حسية ومعنوية فيضعف النفوس ويحط الهمم ويهدم مستقبل صاحبه
ويسمه بميسم الذل والشنار؟ ! وما باله يفشو في هذا الزمان في كثير من البلدان مع
انتشار العلم وكثرة الكتب وتقدم فن الطب واستنارة الأفكار حتى لقد كاد أن يكون
منبعه في منابع العلم كالمدارس وفُشوّه بين أرقى الطبقات كأولاد الأغنياء وبين
المنقطعين للعبادة المتزهدين المتنسكين كسكنة التكايا والأديار وغيرها؟ !
(ج) ليست الشريعة محصورة في جلود كتب الحنفية فقد ورد في اللواط
من التشديد والعقوبة في السنة نحو ما ورد في الزنا وورد فيه عن الصحابة القتل
والرجم والإحراق بالنار. أما الوارد في القرآن فالمجمل منه يشمل الفاحشتين
والتفصيل جاء في الزنا ومن العلماء مَن قال إنه يشمل اللواط أما كون المجمل
ورادًا في الفريقين، فهو أنه تعالى قال أولاً: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ
فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنّ} (النساء: 15) الآية ثم قال: {وَالَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} (النساء: 16) الآية، فتثنية (الذي) لا يجوز أن يراد بها الرجلان اللذان
يزنيان لأنها تكون لغوًا فتعين أن يراد بها فاعِلا اللواط أو الزاني واللائط كما قال
مجاهد وأبو مسلم وغيرهما وبه أخذ الشافعي. وهذا الإيذاء مُجْمَل بَيَّنَتْه السُّنَّة.
قال عليه الصلاة والسلام: (من وجدتموه يعمل بعمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل
والمفعول) ورواه أحمد وأصحاب السنن والدارَقُطني والحاكم والبيهقي والضياء
عن ابن عباس. وفي رواية لأحمد عنه: (اقتلوا الفاعل والمفعول به في عمل قوم
لوط والبهيمة والواقع على البهيمة ومن وقع على ذات محرم فاقتلوه) ، وقال صلى
الله عليه وسلم: (ارجموا الأعلى والأسفل، ارجموهما جميعًا) رواه ابن ماجه عن
أبي هريرة. وقال صلى الله عليه وسلم: (من عَمِلَ بعَمَلِ قوم لوط فارجموا
الفاعل والمفعول به) الحاكم عن أبي هريرة وروى مثل ذلك عنه الخرائطي في
مساوي الأخلاق وابن جرير. هذا بعض ما ورد في الأخبار وأما الآثار فقد روى
الشافعي وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور في سننه وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي
والبيهقي عن يزيد بن قيس أن عليًّا رجم لوطيًّا. وروى ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي
وابن المنذر وابن بشران والبيهقي عن محمد بن المنكدر أن خالد بن الوليد كتب إلى
أبي بكر الصديق أنه وُجِدَ رجل في بعض ضواحي بلاد العرب يُنْكَحُ كما تُنكح المرأة
وأن أبا بكر جمع لذلك ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان فيهم علي بن أبي طالب أشدهم يومئذ قولاً، فقال: إنَّ هذا ذنب لم تعمل به أمة
من الأمم إلا أمة واحدة فصُنِعَ بها ما قد علمتم أرى أن تحرقوه بالنار، فكتب إليه
أبو بكر أن يُحرق بالنار، وروى الطبراني عن سالم بن عبد الله وأبان بن عثمان
وزيد بن حسن أن عثمان بن عفان أُتي برجل قد فجر بغلام من قريش فقال عثمان:
أُحْصِن؟ قالوا: قد تزوج بامرأة ولم يدخل بها بعد فقال علي لعثمان: لو دخل بها
لحل عليه الرجم فأما إذا لم يدخل بها فاجلدْه الحد. فقال أبو أيوب: أشهد أني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الذي ذكر أبو الحسن. فأمر به عثمان فجُلد.
وهذا الأثر أقوى من الذي قبله.
وأما أقوال السلف والفقهاء في ذلك فقد جاء في (الزواجر) من ذلك ما نصه:
قال البغوي: اختلف أهل العلم في حد اللوطي فذهب قوم إلى أن حد
الفاعل حد الزنا إن كان محصنًا يُرجم وإن لم يكن محصنًا يُجلَد مائة وهو قول ابن
المسيب وعطاء والحسن وقتادة والنخعي وبه قال الثوري والأوزاعي وهو أظهر
قولي الشافعي ويحكى أيضًا عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وعلى المفعول به -
عند الشافعي على هذا القول - جلد مائة وتغريب عام رجلاً كان أو امرأة، محصنًا
كان أو غير محصن. وذهب قوم إلى أن اللوطي يرجم ولو غير محصن رواه
سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس وروي عن الشعبي وبه قال الزُّهْري وهو قول
مالك وأحمد وإسحاق. وروى حماد بن إبراهيم عن إبراهيم - يعني النخعي - قال:
لو كان أحد يستقيم أن يرجم مرتين لرُجم اللوطي. والقول الآخر للشافعي
إنه يُقتل الفاعل والمفعول به كما جاء في الحديث اهـ.
ثم قال صاحب (الزواجر) : (قال الحافظ المنذري: حَرَقَ اللوطية بالنار
أربعة من الخلفاء: أبو بكر وعلي وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم وهشام بن
عبد الملك) ، ثم ذكر ما كتبه خالد إلى أبي بكر وقد تقدم آنفًا.
أما ما ورد في وعيد فاعل هذه الفاحشة فكثيروقد شنَّع ابن حجر على مَن
يأتيها من المترفين، ولعنهم كما يلعنهم جميع المؤمنين، وقد وصفوا من شناعة هذه
الجريمة ولكنهم لم يذكروا أعظم مضرة لها وأقبح غائلة من غوائلها، وهي إفساد
البيوت فقلما يوجد بيت للوطي طاهر من الفسق وإنما يعم الفسق كباره وصغاره
ونساءه وأطفاله. ومع هذا كله نرى أناسًا في هذه المدينة يزنون بالهنات، ويغلبون
حب البنين على البنات، وهم يصفون أنفسهم بأنهم من الأدباء والشعراء وتستخدمهم
الحكومة ويحترمهم سائر الناس، فَتَبًّا لهذه الأخلاق، ولهؤلاء الجبناء الذين ليس لهم
خلاق!
وأما سبب فشو هذه الفاحشة فيمن ذكرتم فسببه الترف واتباع خطوات مدنية
أوربا في التمتع بالشهوات واللذات وأما فشوه في المدارس ونحوها فسببه بُعد
الرجال هناك عن النساء وتعذُّر الإفضاء إليهن. وليس لهذه المفسدة وأمثالها علاج
إلا التربية الدينية الصحيحة وكماله بإقامة الحدود.
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
* * *
التأمين على المال
(س3) ومنه: كيف يُجري المسلم عقد السكرتاه (التأمين على المال وغيره)
مع الذمي على غير أساس شرعي وكيف يستحل ماله فهل يمكن استخراج أصل
شرعي يستأنس به؟
(ج) قد سألنا هذا السؤالَ كثيرون من أهل مصر ومن غيرها وسنكتب في
ذلك في فرصة أخرى بعد شرح حقيقة هذه المعاملات.
* * *
كينالاروش
(س4) الحاج أحمد بن عبد الله بإحدى محاكم (ستريت ستلمن - سنغافروه) :
ما قولكم سادتي أدام الله النفع بكم للأنام في الدواء المعروف بكينالاروش، هل
يجوز التداوي به أم لا فإنني كثيرًا ما سمعت من أنه - والله أعلم - ممزوج ببعض
المسكرات غير أنني رأيت كثيرين مداومين استعماله، وللوقوف على الحقيقة
أحببت أن أعرض على سيادتكم هذا السؤال راجيًا منكم نشره في أحد أعداد المنار
والجواب عنه بلا أو نعم ليقف عليه كل من يريد الاستفهام عنه، ودمتم وعناية
المولى ترعاكم.
(ج) نعم بجوز استعماله لمن احتاج إليه فإنه ليس مُسْكِرًا في نفسه، ولا
يجب على المريض البحث عن الأدوية التي يصفها له الطبيب ليعرف هل فيها
جزء من بعض المسكرات أم لا، وإذا عرف أن فيها شيئًا من ذلك فلا يحرم عليه
استعمالها إذا احتاجه للتداوي وإنما يحرم عليه شرب المسكر لأنه مسكر. وإنما
حرّموا القليل من الخمور لأنه يدعو إلى الكثير كما ثبت ذلك نظرًا واستدلالاً
وتجربة في كل زمان ومكان، فشارب القليل لأجل اللذة والنشوة عاص ومنته إلى
الفسق بما يَجُرُّه ذلك إلى الإكثار، وليس في شرب الدواء الذي فيه جزء من مسكر
لأجل التداوي بالمقدار الذي يعينه الطبيب سكر ولا قصد إلى السكر ولا خوف من
الوقوع فيه.
***
صلاة مكشوف الرأس
(س5) - محمد أفندي حلمي كاتب سجن حلفا: رجل شافعي المذهب
يصلي مكشوف الرأس مع وجود عمامة وطرابيش عنده فهل يجوز ذلك؟
(ج) لا يشترط لصحة الصلاة من الملابس إلا ما يستر العورة وهي عند
الشافعية ما بين السرة والركبة؛ فصلاة مَن ذُكِرَ صحيحة ولكن الله تعالى أمرنا
بالتجمل عند الصلاة بقوله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31) ،
ومن التجمل والزينة في عرف الإسلام ستر الرأس بالعمامة وقد استبدل بها كثير
من المسلمين غيرها كالطربوش فستر الرأس في الصلاة مطلوب شرعًا وتركه
مذموم إلا لعذر وهو من شعائر النصارى.
***
تمثل جبريل للنبي
صلى الله عليه وسلم
(س6) ومنه: هل رأى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام جبريل عيانًا وهل
كان يجيئه بصورة أحد الصحابة وإذا كان هذا صحيحًا فما الدليل عليه؟
(ج) جبريل هو الروح الذي كان ينزل بالوحي على النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وكما جاء في الآيات ما يدل على أن النزول كان روحانيًّا كالتعبير بالنزول
علي القلب ورد فيها أن النبي رأى جبريل وفي ذلك قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ
القُوَى} (النجم: 5) إلى قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (النجم: 13) ،
ولكنهم قالوا إن هذه رؤية مَلَكية روحانية، أي رآه كما خلقه الله تعالى. وورد في
الأحاديث الصحيحة أنه يتمثل له الملك رجلاً أي كما تمثل لمريم عليها السلام
بشرًا سويًّا. وهذا التمثل أيضًا روحاني والذين يدَّعون رؤية الأرواح من الصوفية
وغيرهم يقولون إنها تتمثل لهم بصورة بشرية وورد أيضًا أنه كان يراه بصورة دحية
الكلبي، فإنما تمثل الملك له بصورة رجل، فقد ورد في الصحيح عند الشيخين
وغيرهما. وأما رؤيته بصورة دحية فقد رواه الطبراني عن أنس وإسناده ضعيف.
***
المعراج والرؤية
(س7) - هل عرج سيدنا محمد إلى السماء بروحه وجسمه أو بروحه دون
جسمه وهل تشرف برؤية الحق جل شأنه عيانًا أو بقلبه وإذا كان كذلك فهل يوجد
إثبات؟
(ج) اختلف العلماء فيما ذكرتم؛ لأنه لا يوجد دليل قطعي يعيّن شيئًا من
هذه الوجوه والأقرب إلى العقل أن ما رُوي من ذلك فهو روحاني. وحديث المعراج
على إطلاقه ورد في أحاديث أحادية تفيد الظن ولكن رؤية الحق لم تثبت بحديث
مرفوع صحيح وقد سئلت عنها عائشة رضي الله عنها فأنكرتها كما ورد في الصحيح
وقالت: (لقد قفّ شَعري..) إلخ، وورد في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم سُئل: هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نورًا. وفي رواية: (نورٌ
أنَّى أراه؟) أي أنه لم ير إلا النور أو أن النور منع من رؤيته، وليس المعنى أن
الله تعالى نور؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) وقال الإمام الغزالي في
الإحياء: الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى ربه ليلة المعراج، والذين
يثبتون الرؤية يروونها موقوفة على ابن عباس في تفسير: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي
أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء: 60) ، والمعروف في اللغة أن (الرؤيا) هي
ما كان في المنام، و (الرؤية) ما كان في اليقظة، وعلى كل حال يجب أن
تعتقدوا أن الله تعالى منزه عن صفات المخلوقين فلا يمكن أن تكون رؤيته كرؤيتهم
وأن ماورد يُحمل على كمال المعرفة التي تستغرق الروح وكل مداركها والله أعلم.
__________(6/506)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
حب الزينة وحب التميز
لست من محبي الأمور الفانية، ولا المغرورين بها ولكني أحب ذلك السر
الرباني الذي به نعلم خواص هذه الأمور مفردة ومركبة. وبه نتصرف فيها على
أمثلة لا يعي مجموعها عقل واحد. وإنكم لتعلمون أن ذلك السر الرباني الذي
أُودِعناه من أعظم خواصه محبة الجميل.
وحرام على من لم يروا ببصائرهم شيئًا من أسرار الصنعة الإلهية أن
يخوضوا في علم الأخلاق وعلم شرائع الاجتماع.
احفظ لي أيها القارئ هذا الكلام لعلك تتذكر وتتدبر إذا فاجأتك منّي مخالفةٌ
لبعض كتّاب هذا العلم.
لحياة الإنسان لوازم هُنَّ حاجاته الضرورية، والحيوانات تشاركه بنظائرها.
وتوابع هنَّ حاجاته الكمالية. وليس للحيوانات حظ بأشباهها. ويمكننا باعتبار الأولى
والثانية أن نقسّم حياته الواحدة إلى قسمين: حياته الجنسية. وحياته النوعية.
الحياة الجنسية يمكن حصر ما به قوامها. فالغذاء قد يكون من الأعشاب كدأب
آكلة النبات من الأنعام وغيرها. وليس هذا مبنيًا علي خيال شعري يعظمه الزهد
فيما تقبله طبيعة الإنسان؛ بل هو مجرّب محسوس أثبته لنا بالفعل قوم أوحى إليهم
الوهمُ ما أوحى من نبذ ما خلقه الله للبشر.
والإواء قد يكون حجرًا كأوجار الوحوش. وقد أتاح الله لنا أن نشاهد بالذات
معيشة بني هذا النوع في الغيران؛ ولا أعني بالذين شاهدناهم قومًا من إخوان
الوحوش في السيرة والطباع والانقطاع عن الإنس؛ بل هم فئات من زراع هذه
البلاد أولو ثاغية وراغية وأولو حرث في بلاد ذات زرع وحب الحصيد.
والكساء قد يُستغنى عنه وقد يكون من جلود الصيد أو الأنعام. ولدينا قبيلة
يقال لهم (الصُّلَيب) لم نشاهد من أكسيتهم غير جلود الآرام التي جُلّ غذائهم من
لحومها.
والوقاع لا يحتاج منه إلى أكثر مما في طبيعة النوع من تراضي أنثى وفحل
وانجذابهما لهذا الأمر بسائق ما في الفطرة.
وبهذا القدر الذي مثلنا به تُحْفَظُ الأشخاص ويبقى النوع كما حفظت أشخاص
السوارح العجماوات وأنواعها.
قلنا: إن هذا القدر يمثل لنا الحياة التي يمكن أن يعيش بها الإنسان ويتناسل.
وهل يمكننا أن نقول يوجد شيء يميز الإنسان عن باقي الحيوان في هذا
المثال من الحياة؟ قد كان يمكننا أن ندعي وجود مميز لو كان له مع هذه الحياة
أفكار عالية. وهيهات فقد أنبأنا التاريخ أن الإنسان كان معدمًا من الأفكار العالية يوم
كان يعيش مثل هذه المعيشة وكذلك بلونا الذين يحيون هذه الحياة في يومنا فلم نجد
لديهم فضل إدراك ينيفون به على الغابرين. بلى، إن وعد الله حق وإن الإنسان
بمجموعه ارتقى ولكن كان ذلك منذ طفق الاستعداد النوعي تنجلي مظاهره، وتتجلى
مناظره، ولن يبرح في رقيه ما دامت الغبراء في إزاء الزرقاء، تتجلى عليها
شمسها وتؤتيها من لدنها نظامًا.
عرَّفنا لكم الحياة الجنسية بالتمثيل وبه أوضحنا قولنا إنه يمكن حصر ما به
قوامها. أما الحياة النوعية فمن الصعب جعل حد لما يتعلق بها كما كان من الصعب
تحديد الأوهام والأفكار التي هي تابعة لها. ولكن يمكن أن نقول إن أكثر الأشياء
التي هي من فروع الحياة النوعية تابعة لناموسين عظيمين من طبيعة النفس
الإنسانية هما:
(1) حب الزينة و (2) حب التميز.
ونتكلم فيهما على الإفراد لشدة العلاقة بينهما.
(حب الزينة)
نأخذ من التمهيد المقدم كلمة نقولها هنا: لو كان الإنسان هو الآكل المواقع
لكان من السهل في معرفة ما هو أن نقول: هو آلة من جملة هذه الآلات الكونية
المتحركة بأصل صنعتها ولكن هنا فصول وقيود كثيرة زائدة على هذين الوصفين لا
نريد الآن ذكرها كلها؛ بل ذكر واحد منها وهو كونه (محبًا للجميل) فهذا القيد
وحده يمنعنا أن نقول في تعريفه ذلك الكلام ويجعلنا نتفكر وسعنا في خصائص هذا
المخلوق الكريم المصنوع لأمر عظيم.
من تأمّل في الإنسان وجد العوالم محشورة في ذرّات صغيرة من مواقع إدراكه،
ووجده حاكمًا فيها بأحكام كثيرة وإن لم تنلها يده؛ بعض تلك الأحكام له نسب
بالحقيقة متصل، وبعضها له سبب إلى طائف الوهم ممدود.
أما الذي يتعلق بالوظائف الطبيعية لحياته الفكرية من تلك الأشياء المتكثرة
فهو تقسيمه المحسوسات والمتخيلات إلى قسمين: مستحسن محبوب، ومستقبح
مكروه.
ما هو الحسَن، ما هو الزَّيِّن، ما هو الجميل؟
الحسن والزين والجميل كالحُسن والزينة والجمال، ألفاظ متعددة تدل على
معنى واحد عند رواد لب البيان. وعلى معانٍ متقاربة عند رواد القشور.
وتعدد الألفاظ مع توحد المعنى (وهو الذي يسمونه الترادف) لا عيب فيه
على لغة؛ لأنه كتعدد الحُلل لكاسية واحدة. ولكن بعض المتورعين في حفظ
الدلالات اللغوية من طوارق النسيان يجتهدون أن لا يثبتوا الترادف بادعاء معان
متقاربة أو فروق لا تكاد تذكر في مثل هذه المترادفات ولا نعيب فعلهم هذا فإن له
فوائد؛ ولكن نسألهم أن لا يعيبوا قولنا بترادف هذه الكلمات التي رُمنا بتعديدها
تفسير بعضها ببعض وبيان ترادف ما اشتقت منه ليتم من قولنا (حب الزينة)
إعلام بحب الجمال الطبيعي كالصناعي، وقد حملنا على هذه الإيضاحات ما نعلمه
من تفريق الاصطلاح وأهله بين هذه المتحدات تفريقًا أفضى إلى تشتيت الفهوم.
وهنا أستغفر من هذا الاستطراد الطويل وإنْ أوجبه المقام.
نعود إلى معرفة حقيقة الحسن الزين الجميل ثم نسأل نفسنا وغيرنا: ما هو
الحَسَنُ؟ ما هو الحُسْنُ؟ ما هو الاستحسان؟ ما هو حب المستحسن؟ لماذا
نستحسن؟ لماذا نحب الحسن؟ لماذا نختلف بالاستحسان؟ ما هو عشق
المستحسنات الذي يميل بكلٍّ نحو مستحسن فيغرم به؟
هذه مسائل تخطر في بال كثيرين ولكن قلَّ أن تجد في حجرات السرائر مقرًا
تقيم فيه برهة طويلة، أستدل على ذلك بعدم ثبات إراداتها معشر بني النوع؛ اللهم إلا
قليلاً من أحكام الحكماء الذي تزكت أرواحهم فكانوا بالأسرار من العارفين، ولا جُناح
عليَّ أن أعترف بأني لا أملك تلك المَلَكَة التي بها يتيسر الجواب عن كل مسألة من
هذه المشروحات ولكني أظن أن هذا لا يكون مانعًا من عرض ما استفاده الفكر من
ملاحظاته في عالمَيْ الشهادة والغيب. فأشد ما ساح في هذين العالَمين في سبيل
اكتشاف هاتيك الشؤون.
(1) ما هو الحسن؟ نجيب عن السؤال الأول جوابًا يفتح كل مغلق أمامه
من المسائل فنقول:
الحسن إن كان محسوسًا فهو ما يفي بالحاجات ويزيد عليها أمورًا تنبسط النفس
بمرآها لمناسبة ما خُفِيَّةٍ تَنْقدِح في النفس ويظهر للقارئ أن هذه المناسبة ببقائها خفية
بقي الكثير من أسرار الاستحسان في المحسوسات غامضًا وستأتي زيادة بيان، وإن
كان الحسن غير محسوس فهل هو ما يستحسنه كل عقل لنفسه؟ كلا، بل هو ما
تتفق العقول السليمة كلها أو جُلها على استحسانه ويجب أن نصرّح هنا بأنه لا عبرة
بكثرة الذين يستحسنون الشيء تقليدًا بل العبرة بكثرة الحكماء الذين يستحسنون
الشيء عن طول تفكر. وإذا وجدناهم مختلفين في شيء وفي جانب كل حزب كثرة؛
فإن لأصحاب العقول من أهل الزمان الذي هم فيه أن يتفكروا كما يتفكرون، ولهم
أن يصرّحوا باستحسان ما استحسنوه فليس ثمّة أغلال للأفكار. ويختلج في الأذهان
أن حرية الاستحسان في غير المحسوسات توجب انفراجًا واسعًا بين الأفراد.
وإنه ليكاد هذا الظن أن يكون صوابًا لولا سببان عظيمان:
أحدهما: أن توسع حاجة النوع إلى الاجتماع وتوسع حاجاته في الاجتماع قد
ضَيَّقا بالتدريج ذلك الانفراج من قبل أن يتسع اتساعًا عظيمًا؛ إذ كما تتسع أشياء
من الضيق تضيق أشياء من السعة.
الثاني: أن العلم الذي رزقه مجموع النوع قد قارب بين الأفكار بأنواع خاصة
سيجيء بيانُها. وبهذا التقارب صار الأفراد الذي لا يُحصَوْن جماعات تحصى،
ومن المشاهد أن لكل جماعة مستحسنات عامة لا يستنكرها الأفراد وإن لم تكن
حسنة في الحقيقة؛ لأنهم مقلدون. وأكثر هؤلاء الجماعات يذهبون إلى أن الحسن
ما حسنته مذاهبهم الدينية على أنه مهما بالغ المبالغون في حبس حرية الأفكار فلا
يسعهم مناقشة الناس إذا بدا لهم ضد ما حسنته المذاهب؛ بل يضطرون إلى
المجاملة بضروب من الاصطلاحات معروفة لمن مرَّ بتلك الأبواب. وبمثل هذا
كانت ولا تزال تحصل التغيرات في العالم، ويجب أن لا نكتم أن حكماء الناس هم
حكماء الأفكار؛ ولكن قد تصير فترات تضيع فيها الحكمة ويقوم أناس ينتحلون
لأنفسهم هذه الوظيفة بصبغة أخرى فيحيون ضالين مضلين. وفي هذه الأيام يصير
غير الحسن حسنًا.
يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسنِ
هذا، والمقام يحتاج إلى فضل بيان ولكننا أجملناه إجمالاً فمَن لم يسع ما في
باطنه كفاه ظاهره الواضح.
وسواء كان المستحسن مستحسن جماعة أو مستحسن فرد من محسوس أو
متخيل لا يمكننا تعليل وجه الاستحسان في كل شيء؛ ولكن نعلم أن العلة العامة في
استحسان الأشياء هي مناسبة تنقدح في النفوس. ونعلم أن استحسان كل شيء علة
محبته، والاهتمام به على مقدار درجة المحبة (إذ لها درجات) . ونعلم أن هذه
الاستحسانات من حيث هي طبيعية في النوع. ونعلم أنها هي التي أوصلت مصانع
الإنسان إلى هذه الصورة الباهرة الساحرة ونعلم أن هذه المصانع من المميزات
العظمى لهذا النوع. ونعلم أن الإنسان سيتسامى رقيُّه مادام يستحسن ويسعى وراء ما
يستحسنه باهتمام يسوق، وأمل يقود، وعزم يعين.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/513)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شكوى الأمهات من تربية البنات
لما نشر (المُقَطَّم) شكوى نساء الإنكليز من تربية بناتهن في هذا العصر
طلب أن يعرف رأي الأمهات في بناتهن في مصر فكتب إليه من بعضهن الشكوى
في إثر الشكوى من سوء حال تربية البنات المتعلمات وكونهن لا يحفلن بغير اللهو
والزينة والعزف بالبيانو ونحو ذلك من التُّرَّهَات، ولم تصادف هذه الشكوى أقل
اهتمام من البنات ولا دفاع عن أنفسهن، وقد توالى الحث عليهن من المقطم وكثر
الترغيب حتى جاءه رسالتان من بلدين قال أنه لم يرد منهما شكاوى من الأمهات،
إحداهما بإمضاء (ابنة قبطية) والثانية بإمضاء (ابنة شاكرة) وفحوى الرسالتين
واحد وهو أن الذنب في كل ما تشكو منه الأمهات عليهن وعلى الآباء في عدم
العناية بتربية البنات والاعتراف بأن التعليم لا يغني عن التربية شيئًا وإن كان في
نفسه نافعًا.
ولا يزال المقطم يثير كوامن الرغبات، ويحرك سواكن همم البنات، ونظن
أنه إذا نُثلت الكمائن، وبُعثرت الدفائن، وفار فى الجدل التنّور، وحُصِّلَ ما في
الصدور؛ فإنه لا يكتب في الجرائد شيء يخرج عن معنى ما كتب إلا أن تفتخر
بنت بأنها أصلحت من بيت أبيها ما كان فاسدًا، ونظمت ما كان مختلاً! أو تفتخر
أم بأن بنتها كذلك! وسواء كتب هذا أو بقي الفريقان متفقين على سوء تربية البنات،
وعلى كون الذنب في ذلك على الآباء والأمهات، فإن الحقيقة في مجموع الشعب
المصري لا تظهر بمثل هذه الرسائل لا سيّما مع الظن الراجح بأن أكثر صواحبها
من السوريات ثم من القبط، والسوريات لهن أخلاق وراثية وعادات تقليدية ليست
للمصريات وإن كانت هجرتهن إلى مصر من زمن بعيد وتربى بناتهن في مصر
وتعلمن فيها، وأما نساء القبط وبناتهن فيشاركن المسلمات المصريات في بعض
الشؤون ويفارقهن في بعضها ومسافة الخُلْف في المتعلمات من الطائفتين أوسع فإن
القبطيات المتعلمات يمزقن الحجاب ويحضرن مجالس الرجال في زينتهن كنساء
الإفرنج بلا فرق، فلا بد أن يكون لذلك أثر في سيرتهن لا يُعرف في المسلمات
اللواتي هن أكثر أهل البلاد.
ويوجد سبب آخر للخلف حتى في بنات الطائفة الواحدة وهو اختلاف معاهد
التعليم فإن من البنات المتعلمات مَن تعلمت في مدارس الحكومة ومنهن من تعلمت
في مدارس الجِزْوِيت أو الفِرِير ومنهن من تعلمت في مدارس البروتستانت
الأمريكان أو غيرهم ومنهن من تعلمت في المدارس الأهلية الإسلامية أو القبطية.
ولكل نوع من هذه المدارس تأثير خاص في نفوس من يتعلم فيها يحدث خلفًا كبيرًا
في الأخلاق والعادات والرغبات.
انظر إلى هذه الفصول بين طبقات الأمة المصرية هل تجد مثلها في إنكلترا
التي يحاولون في هذا المقام أن يسلكوا طريقها في اختبار حال البيوت ومعرفة تأثير
التربية في البنات. الأمة هنالك واحدة، وللمدارس طريقة واحدة وللتربية العامة
نظام واحد، فإذا شكا بعض النساء الإنكليز من تربية بناتهن فلك أن تعتبر شكواهن
ميزانًا للتربية في الأمة وأن تقول إن ما يصدق على هؤلاء يصدق على مَن في
طبقتهن فإذا رأيت الشكوى من جميع الطبقات فلك أن تحكم على الأمة في مجموعها
بما تضمنته الشكوى؛ حتى إذا استثني بعض الأفراد كان ذلك لأسباب خاصة فإن
القواعد الاجتماعية لا تستغرق جميع أفراد الأمم والشذوذ فيها مطَّرد.
إذا سألنا عن حال البنات المتعلمات في البيوت هل هُنَّ قرة عين لأمهاتهن أم
لا، فلا بد لنا من معرفة الجواب عن ذلك من الرجال المتعلمين المختبرين، والذي
يقرب من النظر ويؤيده الخبر أنَّ تعلّم البنات في مصر سطحي كما يقولون وأنه
عندهن ضرب من ضروب الزينة فهو في الغالب يشغلهن عن مساعدة أمهاتهن على
تدبير المنزل وخدمة البيت ومنهن مَن يعتقد أنهن أرفع منزلة من ذلك.
أما حال الأمهات معهن فيختلف باختلاف الطبقات، فالبيوت الغنية يرضى
الأمهات فيها أن يرين بناتهن مشغولات بالزينة في جميع الأوقات وأن يكنَّ ممتازات
بمعرفة ما لا يعرفه سائر البنات: من إتقان اللغات الأجنبية وإحسان العزف بالبيانو
والتفنن في بدع الزينة ويعتقدن أن هذه المزايا هي المُرَغِّبَات الكبرى لمريدي
الزواج، والأسباب الصحيحة للمسرّة والابتهاج!
وأما البيوت التي يحتاج فيها لمساعدة البنات، والتي يعسر على أصحابها
موافاة رغباتهن الجديدة التي أحدثها التعليم الجديد فلا شك أن الأمهات فيها يتبرَّمن
من تقصير البنات في مساعدتهن على تدبير المنزل وتربية الأطفال ولكنهن يكتمن
ذلك في الغالب ولا يبدينه إلا لمن يسهل عليهن إِطْلاعَهُ على عوراتهن، ووقوفه
على مساويهن.
اعتذر بعض الرجال عن البنات بمثل ما اعتذر به الكاتبتان صاحبتا الرسالتين
في المقطم بأن الذنب على الوالدين لا على البنات، فإنهما يعلمان بناتهما إلا أنهما لا
يربيانهن. وحسن الحال في المعيشة، وكل أعمال الحياة يتوقف على التربية أكثر
من توقفه على التعليم لا سيما تعليم المدارس الذي أكثره فيما لا عمل فيه؛ إذ
بالتربية يكون تمرين الأعضاء على العمل، وبالتربية تتكون الأخلاق والعادات
الحاكمة على الإرادة. والإرادة هي التي تنفّذ ما يقضي به العلم ويظهر وجه
المصلحة فيه فمن لا تربية له لا ينفعه علمه الذي تعلمه في مدرسة العلم ولا علمه
الذي تعلمه في مدرسة الوجود، لأن العلم عنده يكون صورًا خيالية تلوح في ذهنه ثم
تغيب.
وأقول: إن هذا العذر على صحته لم يصب موقعه من تبرئة البنات المتعلمات؛
لأن القصد من تعليمهن إصلاح البيوت التي أفسدها جهل أمهاتهن فإذا كان علم
المدرسة يفيد البنت الكسل، ويزيدها إعراضًا عن العمل، ويُبَغِّضُ إليها عادات أهلها
وقومها، نافعة كانت أو ضارة ويحبب إليها تقليد قوم آخرين في الزينة والترف وإن
أعجز الوصول إليهما أباها وأمها - فلا شك أن هذا التعليم سم قاتل، وبلاء نازل،
وأن تركه واجب ومقاومته ضربة لازب.
السبب الحقيقي في سوء حال البنات المتعلمات وسوء حال غير المتعلمات هو-
كما قيل - سوء التربية العامة أو ترك التربية الصحيحة النافعة، ولكن أليس من
الضروري أن يكون سوء الأخلاق الذميمة، وفتك العادات الرديئة، أقل تأثيرًا في
نفس المتعلمة منه في نفس غيرها؟ أليست فائدة العلم الكبرى مساعدة التربية لأن
المتعلم يحكم على ما عليه الناس بغير ما يحكم به الجاهل فيميز بين الضار والنافع
والصالح والفاسد أليس التعلم هو تربية للعقل الذي هو أفضل القوى النفسية، فإذا
امتازت البنت على أمِّها بالعقل وصحة الحكم على الأمر، وعرفت من الحقوق ما
لا تعرف، وساوتها في ضعف الإرادة والخضوع لسلطان العادة، أليس من المعقول
أن يتنازع ما به الامتياز وما به التساوي فيقوى هذا تارة وهذا تارة ويكون ترجيح
العقل فيما غلب فيه مبدأ دخول الإصلاح المطلوب؟
بلى؛ إن إصلاح حال الأمم يجري في هذه السبيل ولو كان التعليم في هذه
البلاد يقصد به إلى إصلاحها لارتقت في الأخلاق والأعمال كما ارتقت في التعليم
على أكثر بلاد المشرق. والأمر بخلاف ذلك فإن أخلاق الناس في كل بلاد نعرفها
أرقى من أخلاق أهل هذه البلاد كما أن عاداتهم أمثل من عاداتهم، على أن التعليم
هنا أكثر انتشارًا منه في تلك البلاد التي نعنيها، والمصريون الذين سافروا إلى تلك
البلاد يعرفون هذا وينطقون به؛ وأعجب من هذا أن أكثر الفساد والفجور لم ينتشر
في أكناف هذه البلاد ويتغلغل في أحشائها إلا بالمتعلمين، فكأنهم لم يتعلموا لأجل
العمل إلا شرب الخمور ولعب الميسر والتفنن في الزينة والانغماس في الشهوة
البهيمية حاشا نفرًا يعدّون على الأنامل هم الذين أفادهم العلم وحدهم من ألوف
المتعلمين.
السبب في هذا أن العلم الذي يعلم في المدارس المصرية - سواء كانت
للحكومة أو للأجانب أو للأهلين - لم يُقصد به إلى إصلاح النفوس وارتقائها وجعل
المصريين سعداء أعزاء، فإن مثل هذا القصد لا يأتي إلا ممن يغارون على الأمة
ويرون سعادتهم بسعادتها وعزهم بعزها، ورؤساء الحكومة المصرية ليسوا كذلك،
والجِزْوِيت والفرير والأمريكان ليسوا كذلك، ومنشئو المدارس الأهلية كان يجب أن
يكونوا كذلك؛ ولكنهم ليسوا كذلك وهذا شيء يعرفه كل أهل البصيرة في مصر
وربما نشرحه في مقالة أخرى.
تبين من هذا أن قلة استفادة البنات من التعليم سببها أنه لم يقصد به إصلاحهن
ولا إعدادهن لإصلاح بيوتهن فإن هذا التعليم جاء من الإفرنج وزمامه بأيديهم في
مدارسهم ومدارس الحكومة التي هم قُوَّام عليها (والمدارس الأهلية مُقلَّدة لهذه
المدارس تقليدًا أعمى أصم) وإنما يقصد الإفرنج جذب نساء هذه البلاد إلى النطق
بلغاتهم، والتزيِّي بأزياء نسائهم، واستحسان عادات قومهم وتعظيم شؤونهم،
ليقبضوا من صدور الأمة حب جنسها ووطنها ويقطعوا جميع روابطها المالية فتكون
طعمة لهم. ومَن تراه انتفع بتعليمهم من ذكر وأثنى وصَلُحَ حاله فاعلم أن ذلك كان
بمعونة استعداد فطري عظيم وتربية محمودة وتوفيق إلهي أمام ذلك ووراءه.
والنتيجة أنه لا يرجى أن نستفيد من تعليم البنات ولا تعليم الذكور ما يصلح
به شأننا وترتقي به أمتنا إلا إذا وُجِدَتْ عندنا مدارس يتولى إدارتها رجال يهمُّهم
إصلاح الأمة وإعلاء شأنها. وقد وُفق القبط إلى هذا أكثر مما وفق المسلمون، فإذا
نهضت بهؤلاء الهمة إلى إنشاء مدرسة كلية تناط إداراتها برجال الجمعية الخيرية
الذين أثبتوا لنا بثباتهم على خدمة الأمة أنهم خير رجالها - فبشرهم بالنجاح العاجل،
والخير الآجل، وإلا كانوا على خطر عظيم ربما لا يتنبهون له إلا بعد فوت
الفرصة، ووقوع الغصة، والأمر لله العلي الكبير.
__________(6/517)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(إرشاد الألبا إلى طريق تعليم ألف با)
في أيدي الناس ألوف من الكتب المؤلفة في العلوم والفنون ولكن أكثرها
متشابه؛ لأن بعضها في الغالب منقول من بعض مع اختصار مخل أو غير مخل
وزيادة ضارة أو نافعة وكيفما كان هذا التأليف فهو تقليد من المتأخر للمتقدم، منهم مَن
أحسنه ومنهم مَن أساء فيه وسواء كان التقليد متقنًا أو غير متقن فهو ليس من العلم
في شيء والمقلد لا يكون عالمًا ولا مفيدًا للعلم ولا مستفيدًا له؛ وإنما ينتفع بكلام
العلماء ومباحثهم من ينظر في ذلك بعين البصيرة والاستدلال. ومن نزع من عنقه
ربقة التقليد هُدي إلى الاستفادة والإفادة حتى يصح أن يقال في تأليفه إنه له وأن فيه
علمه وحتى إن الباحث المجتهد ليفيد كل موضوع وإن كان ما يظنه الناس بديهيًا لا
مجال فيه للبحث.
أمامنا الآن كتاب (إرشاد الألبا إلى طريق تعليم ألف با) الذي وضعه حديثًا
الشيخ طاهر الجزائري الشهير واسمه يدل على موضوعه. فقد سلك فيه صاحبه
مسلكًا في الاجتهاد لم يخرج فيه عمّا قاله أئمة اللغة العربية ولكنه أحسن الاختيار
والتصرف فقرَّب البعيد، وسهّل الحزَن، وذلّل الصعب الجامح، حتى أخرج لنا
علم الأوائل في أحسن صورة انتهى إليها رُقي الأواخر. فلا يتوهمنَّ أحد من الاسم
أن الموضوع بديهي لا يحتاج المؤلف فيه إلى سعة اطلاع، ولا براعة في الوضع
والتأليف، وأن لا ينتفع بهذا الكتاب إلا مُعَلِّم الكتّاب، كلا، إنه كتاب لا يستغني
عنه معلم عربي مهما علت منزلته في العلم، وإن كان كمؤلفه في سعة الاطلاع
وقوة الفهم، فإن هذا الرجل أعلم علماء سوريا في العلوم العربية بل هو أوسع مَن
نعرف اطلاعًا على مؤلفات المتقدمين والمتأخرين من أهل هذه اللغة مع تمكنه في
علومها.
وإننا نود أن يطلع عليه جميع علماء الأزهر وجميع معلمي العربية في
مدارس الحكومة والمدارس الأهلية فعسى أن يتنبه لذلك شيخ الأزهر ومفتشو
العربية في المعارف ونظار سائر المدارس فيأمروا بنشر هذا الكتاب في مدارسهم.
لو أردنا أن ننشر ما انطوى ما في الكتاب من مباحث الحروف المفردة
والمركبة ومباحث النطق والكتابة والتعليم ونورد طائفة من الشواهد والأمثلة التي
وردت فيه تسهيلاً لسبيل التعليم لأَطَلْنا في التقريظ ولا سعة هنا للتطويل.
وقد طبع الكتاب في بيروت طبعًا حسنًا على نفقة الشيخ أحمد طباره محرر
جريدة (ثمرات الفنون) الغراء وضبط فيه ما ينبغي ضبطه وصفحاته 144 وثمن
النسخة منه أربعة قروش وهو يطلب من إدارة المنار ومن مكتبة أمين أفندي هندية.
(رسالة ألف با) هي رسالة مستخرجة من كتاب (إرشاد الألبا) لأجل
التعليم وهي توافق الطرق الحديثة في التعليم على أنها مقتبسة من وضع الأئمة
المتقدمين وصفحاتها 32 وثمن النسخة منها نصف قرش صحيح وتطلب من مكتبة
هندية أيضًا.
***
(تدبير الأطفال)
كتاب حديث في فن تربية الأطفال وتدبير أمرهم في الصحة والمرض من
تصنيف الدكتور إسكندر جريديني بك مساعد أستاذ الفيسيولوجيا سابقًا في كلية
ماريون سمس الطبية في سانت لويس، أميركا، ابتدأ المؤلف كتابه بفصل في
تدبير صحة الحوامل وأمراض الحمل وحال الولادة ثم تكلم على تدبير الأطفال منذ
يولدون فلم يترك شيئًا يجب أن يبحث فيه إلا وفّاه حقه، ولم يقتصر على الكلام في
الوقاية من الأمراض الجسدية ومعالجتها؛ بل بحث في تربيتهم النفسية أيضًا وأطال
القول في ثيابهم وغذائهم وخدمتهم، وكلامهم في العلل والأمراض التي تطرأ عليهم
سهل يفهمه كل متعلم ومتعلمة.
وجملة القول في هذا الكتاب: إنه نعمة كبيرة على قراء العربية وإنه لا يستغني
عنه بيت من البيوت فنحث جميع المتعلمين على قراءته ونخص الأمهات بالحث
عليه.
وقد طبع طبعًا حسنًا في مطبعة الهلال وصفحاته 268 وثمن النسخة منه 12
قرشًا صحيحًا وأجر البريد قرشان وهو يطلب من مكتبة الهلال بالفجالة.
***
(الألفاظ المترادفة)
رسالة للإمام أبي الحسن علي عيسى الروماني (رحمه الله تعالى) اعتنى
بشرحها وطبعها محمد أفندي محمود الرافعي بعد أن صححها وضبط ألفاظها على
الشيخ محمد محمود الشنقيطي إمام اللغة في هذا العصر. والمراد بالألفاظ المترادفة
فيها الألفاظ التي يجمعها معنى عام وإن كان لكل لفظ منها معنى خاص يغاير الآخر
فهي في المفردات نحو كتاب (الألفاظ الكتابية) للهمداني في الجمل ولكن فيها من
الفوائد ما لا يُغني هو عنه.
وقد طبعت بالشكل في مطبعة الموسوعات وتباع في المكتبة الأزهرية وثمن
النسخة منها قرش ونصف فنحث طلاب العلم لا سيما المشتغلين بالكتابة والشعر
على اقتنائها ومطالعتها.
***
(مراقي الترجمة)
صدر الكتاب الرابع من مراقي الترجمة من الإنكليزية إلى العربية وبالعكس
وهو خاص بتلامذة السنة الرابعة في المدارس الابتدائية ومن فوائد هذا الجزء أنه
مشتمل على مسائل الشهادة الابتدائية في الترجمة التي امتحن بها الطلاب في
المعارف من سنة 1892 إلى سنة 1903 فنشكر لمؤلفه وناشره أبي زيد أفندي فايد
عمله ولمساعديه على التأليف عبد الحميد أفندي الشربيني ومحمود أفندي عثمان
عطا الله (الثلاثة من المدرسين في مدرسة الناصرية الأميرية) ونحث جميع
متعلمي الإنكليزية على الانتفاع بكِتَابهم وثمنه قرشان ونصف قرش فقط.
***
(المقامات العشر لطلبة العصر)
انتخب الشيخ محمد المبارك الجزائري عشر مقامات من مقامات الحريري
واختار أن يقرأها طلاب العلم لتكون مادة لهم في اللغة وقد شرحها ليسهل عليهم
فهمها فطبعها على نفقته الشيخ أحمد حسن طباره محرر جريدة (ثمرات الفنون)
الغراء في بيروت وجعل ثمن النسخة منها ثلاثة قروش ولعل محبي هذه المقامات
من طلاب العلم يكتفون بها ويجعلون همهم الاستفادة من مفرداتها من غير عناية
بأسلوبها وهي تطلب من مطبعة هندية.
***
(ملكة على عرش الفراعنة)
أسطورة إنكليزية تشرح بعض عادات المصريين الأولين وفراعنتهم
وموضوعها أن فرعون موسى عشق غادة مصرية اسمها (تاهوسر) كانت عاشقة
للشاب الإسرائيلي (بويارى) مدير الأملاك الخاصة بالأسرة الملكية وكان من كبار
الأغنياء وكانت الفتاة من أولاد أكابر الكهان ذات ثروة عظيمة ولم تجد سبيلاً للقرب
من معشوقها إلا مغادرة قصرها متنكرة بزي فقيرة والدخول في قصره والانتظام في
سلك خوادمه لعلها تستميله بما يشاهد من جمالها وكمالها ولكنها لسوء حظها علمت
بعد ذلك أنه عاشق لفتاة من قومه اسمها (راحيل) على أن الفتاة الإسرائيلية رضيت
بأن يجمع خطيبها بينها وبين المصرية إذا هي تركت دين قومها وعبدت مع
الإسرائيليين إلهًا واحدًا وكاشفتها بذلك وأخبرتها بأن سيخرجون مع موسى من مصر
فرضيت المصرية بالخروج معهم ولكن خادمة راحيل دلت فرعون عليها فأخذها إلى
قصره وكان يستميلها فلا تميل إليه حتى إذا ظهر موسى عليه السلام يدعوه إلى
إرسال بني إسرائيل معه صارت تلين له القول ليسمع نصحها له بعدم الفتك ببني
إسرائيل وفي الأسطورة من خبر موسى مع فرعون ما يصح وما لا يصح.
ومن فوائد هذه القصة العلم بأن بعض الإسرائيليين كانوا مقربين من الفراعنة
لإحسانهم خدمتهم وكانوا أصحاب ثروة واسعة على ما مني به قومهم من الظلم
والاضطهاد، ومنها تعليل عشق فرعون للفتاة وتذلُّله لها بأن نساءه على جمالهن
البارع كن يعاملنه معاملة العبد للمعبود وأن حظ الرجل الطبيعي من المرأة هو أن
يكون لها سلطان على قلبه نظير سلطانه على قلبها وأن يعامل كل منهما الآخر
معاملة النظير للنظير في الشئون الزوجية وذلك ما أعوز فرعون حتى التمسه في
عشق الفتاة فوجده، لولا أنه لم يستطع امتلاك قلبها كما ملَّكها قلبه. ومن الخطأ فيها
نسبة الكذب إلى موسى عليه السلام، وزعم أن فرعون لم يكن يعرفه قبل بعثته
وأنه بُعث وهو شيخ كبير وأن العصا كانت لهارون وكان هو الذي يعمل بها
العجائب بأمر موسى عليهما السلام وغير ذلك وهو خطأ ضار.
أما ترجمة الرواية فحسنة ومترجمها نقولا أفندي رزق الله وهي تطلب منه
ومن المكاتب الشهيرة بمصر وثمن النسخة 8 قروش.
__________(6/521)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وفاة حسن باشا ناظر البحرية
ننقل ترجمة هذا الوزير عن جريدة (محمدان) الهندية كما نقلتها عن جريدة
الأخبار الإسلامية (مسلم كرونيكل) وهي رسالة لمُكاتب هذه في لندن مأخوذة من
رسالة من الآستانة، كتب في اليوم الثالث لموت الوزير. وقد نشر في بعض
الجرائد المصرية ترجمة الرجل على نحو ما في جريدة الدولة الرسمية خالية من كل
عبرة وفائدة وذلك أن جرائد المسلمين في مصر تنحو في الأخبار العثمانية منحى
جرائد الآستانة وسوريا وهي لا تكاد تنشر إلا ما يوافق الأهواء. ومن هنا نستدل
على كون جرائد المسلمين في الهند أرقى حرية من أخواتها في مصر، ولعل سبب
ذلك أن القارئين صاروا هنالك أرقى منهم هنا في الحرية؛ إذ يحبون أن يعرفوا
الحقيقة لا أن يتلذذوا بالمدح وإن كان كذبًا.
قال المكاتب ما تعريبه:
الرأي العام مجمع على أن قوة الدولة العثمانية الحربية توازن قوة أية دولة من
الدول الكبرى ولكن بَحرية الدولة صارت من عدة سنين قرحًا في جسمها ومرضًا
في بنيتها، وقد كانت إلى عهد حرب القِرم، بحيث لا تقل عن قوة فرنسا وروسيا
إن لم تكن من أعلى القوى البحرية لذلك كان مما يثير العجب أن لا يكون لتركيا
موقف مع الدول البحرية لهذا العهد. وقد علم قراء (الكرونكل) من رسائلي
السابقة في هذا الموضوع الأسباب والأحوال التي هبطت ببحرية الدولة إلى هذا
الحضيض. وكل هذا الهبوط والتأخر ينسب إلى رجل واحد استحق لعن الأمة
التركية هذا الرجل البغيض هو حسن باشا حسني.
مات حسن باشا حسني ناظر البحرية العثمانية أول أمس وكان يرجو الناس
موته من زمن بعيد وكان موته في قصره بالكوروششمه على ضفة البوسفور وهو
في سن الثمانين، ولم يُعرف في تاريخ البشر من أول الخليقة إلى الآن رجل كان
أشد بغضًا ومقتًا إلى أمته من هذا الرجل الذي مكث في منصبه هذا نحو ربع قرن.
ولي البحرية العثمانية وهي في الدرجة الثانية من قوى البحرية الأوربية، وتركها
وهي أدنى القوى البحرية في العالم وأضعفها. ولقد تستحوذ الدهشة على الإنسان
وتملكه الحيرة إذا حاول فهم سبب إهمال البحرية من دولة حربية عارفة بمكانة
القوى البحرية في هذا العصر. على أن هذا الناظر لم يكن أقل علمًا من أعظم
أمراء البحر في أوربا؛ بل المشهور عنه أنه كان من أمثل أمراء البحر في الدول
البحرية العظمى وأمهرهم وأحذقهم، ولكن هذا الرجل الذي كان من أكبر رجال
الدولة هو الذي أضعف تلك القوة العظمى عامدًا متعمدًا، وقد وصفته إحدى الجرائد
التركية اليوم بأنه أعظم عبيد السلطان أمانة وأشدهم استقامة؛ ولكنَّ أفكارنا وشَكْلَ
الحكومات الراقية في هذا العصر يحولان دون الاعتقاد بأن الخائن لأمته ودولته
يكون ناصحًا لسلطانه وصادقًا في خدمته؛ ذلك لأن النصح للحاكم والإخلاص في
خدمته أمران لازمان لحكومته؛ إذ لا معنى لخدمة الحاكم من حيث هو حاكم إلا
خدمة الحكومة التي هو رئيسها، وكان فساد طوية حسن باشا وتركه محاسبة نفسه
واستفتاء قلبه حال دون التمييز بين الرجل من حيث هو حاكم ومن حيث هو
شخص ربما يرجى نفعه ويخشى ضره لذلك كان يقضي ليله ونهاره مدة ربع قرن
في تجريد السفن الحربية من جميع عدتها التي تكون بها صالحة للحرب. ولا
يدري أحد من الناس أين صُرفت الأموال العظيمة المخصصة للبحرية في ميزانية
الدولة؛ إذ لم يطالبه أحد بحسابها؛ بل كان مطلق التصرف ومتمتعًا بالسلطة التامة
في نظارته إلى آخر حدودها، وكان يولي ويعزل من شاء من غير سؤال ولا
مراقبة من أحد نافذ الرأي مطاع الأمر في نظارته وفي مجلس الوزراء بل وفي قصر
يلدز نفسه.
ولقد مات موتة شنيعة سبقها مرض عاثَ في جسمه سنة كاملة كان فيها
موضعًا لسبعين نوعًا من الأعمال الجراحية وذاق فيه من الآلام ما لا يُطاق، وكان
يجمجم وهو يتقلب في غمرات الموت بهذه الكلمة توبة وندمًا: (ما جنيت إذ جنيت
وحدي ولكن كان لي شركاء) ! أو ما هو في معناها وسيكون موته عبرة لغيره ممن
يدفعون إلى الجري على سننه.
عين حسن باشا ناظرًا للبحرية ولم يكن يملك شيئًا؛ حتى ولا بيتًا يقيم فيه
ومات بالأمس وهو يكاد يكون أغنى رجل في تركيا وتقدر ثروته المنقولة والثابتة
بثمانية ملايين من الجنيهات وكان دخله السنوي مئتي ألف جنيه وكان يشتري كل ما
يباع حيثما وجده وإن لم يكن قادرًا على كمال الانتفاع به؛ لأنه لم يكن يسمح له
بالخروج من القسطنطينية. وقد أقبل الناس هنا (الآستانة) على الجرائد التي نَعَتْه
بالأمس واشتروا منها عددًا عظيمًا وقد أخذتهم روعة من السرور استغرقت شعورهم
وطفق يهنئ بعضهم بعضًا بالجهر من القول بكمال الحرية، وكان الفرح عامًا في
السواحل البحرية فإن أتراك الآستانة وسواحل البحر الأسود وبحر مرمرة والساحل
الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وخليج العجم مولعون جدًا بالبحرية؛ فالسفينة
المدرعة أبهى في نظرهم من الخميس العَرَمْرَم من الجيش، ولو كانت ترجمة
الرجل الرسمية مما يستحق العناية لنقلتها من الجريدة الرسمية بحروفها؛ ذلك أن
أعماله قليلة جدًّا فلا نصيب لها من التطويل.
كان حسن ولدًا لباشا فريقٍ في البحرية ولا ينبغي أن يعتقد أنه ارتقى بنَسَبِه؛
بل كان أنجب التلامذة في المدرسة والمقدم في فرقته ومحبوبًا لكل أساتذته، ولما
نال الشهادة من المدرسة البحرية التي كانت وقئتذ حديثة النشأة عُيِّن ملازمًا في
السفينة المسماة (خداداد) وقام بخدمة الحكومة في البحر المتوسط على سواحل
إِفريقيَّة وسواحل الجبل الأسود وجزيرة كريد والبحر الأحمر وشهد حرب القِرْم
وأبلى بلاءً حسنًا في حرب سيباستبول وكان يومئذ أمير عمارة البحر الأسود في
الحرب الروسية العثمانية الأخيرة وقد أُعجب الناس بنجاحه ومهارته يومئذٍ في
إنزال الجنود العثمانية في باطوم.
ترك حسن باشا اثني عشر ولدًا، أكثرهم مستخدمون في دار الصناعة
(الترسانة) العثمانية. وكان يتكلم بالتركية واليونانية والإنكليزية.
__________(6/525)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتنة بيروت
في بيروت رهط من الأشقياء يسفكون الدماء ويهينون الوجهاء ويسلكون في
شرورهم مسلك التحمس الديني فيزعمون أنهم ينصرون الدين بفسادهم فإذا سمع
المسلم أن نصرانيًا أهان مسلمًا أو قتله يفعل كما يفعل النصراني إذا سمع بمثل ذلك
ينتقم كل منهما للمنتسب إلى دينه وإن كان مجهولاً من أي مخالف له وإن كان بريئًا
ولم توجد شريعة وضعية فضلاً عن شريعة إلهية تأمر بأخذ البريء بجريرة الأثيم
لأنه يشاركه في الانتساب إلى الدين.
وأشهر هؤلاء الأشقياء جانٍ اسمه إلياس الحلبي فقد بلغنا عنه أنه إذا عزم على
الفتك بمسلم ما يذهب أولاً إلى الكنيسة فيسجد للسيدة العذراء عليها السلام ويمس
صورتها بسلاحه ويطلب منها الإعانة على الفتك بأعداءه وأعدائها، وما كان
المسلمون من أعدائها فإنهم يبرئونها من الدنس ويحكمون بكفر قاذفها ثم ينطلق
إلى جنايته قرير العين معتقدًا أنه مؤيَّد بتلك الروح الطاهرة التي هي أبعد الأرواح عن
الرضى بهذا العدوان والشر الكبير.
ويجهل هذا الشرير وصايا الإنجيل بمحبة الأعداء ولا يجد من يذكِّره هو
وأمثاله بها كما لا يجد أشرار المسلمين من يذكرهم بوصايا الكتاب والسنة ومنها
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا ظلم أهل الذمة أديل للعدوّ) رواه الطبراني
عن جابر بلفظ: (كانت الدولة دولة العدو) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن
قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة.. إلخ) رواه أحمد والنسائي، وقوله
صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس منا مَن دعا إلى عصبية وليس منا قاتل على
عصبية وليس منا مَن مات على عصبية) رواه أبو داود عن جبير بن مطعم.
وقوله عليه السلام: (العصبية أن تعين قومك على الظلم) رواه البيهقي عن واثلة
ونحو هذه الأحاديث.
بل إننا نسمع أن من وجهاء الطائفتين من يساعد أشقياءهما حتى إن إلياس
الحلبي قد رَتَّب له بعض الأغنياء في بيروت وكبار الموظفين في لبنان الرواتب
الكافية، ولا أحب أن أذكر أسماءهم. وأعجب من هذا وذاك أن الوالي رشيد بك
الذي عهد إليه السلطان حفظ الأمن كان هو الذي يغري بعض الأشقياء ببعض لينتفع
من الفريقين وكل أهل بيروت ولبنان يعرفون هذا، وقد نوّهنا بسوء سيرته في
السنة الأولى والسنة الثانية من المنار وقلنا: إن السماء والأرض تستجيران من ظلمه.
ولكن من يسمع لنا إذا كانت الآستانة لم تسمع من المتظلمين من رعيته شكواهم
عليه؛ فقد علمنا أن طائفة من أهل بيروت شكوه بالبرق إلى السلطان، وقد كان
علم فسبقهم وأرسل إليه يقول إن طائفة من شيعة الترك الأحرار قد أعيتهم الحيل في
تتبّعي حركاتهم وسكناتهم فأرادوا أن يتظلموا مني إلى مولاي بأمور يتجرمون بها
فقبل السلطان قوله ولم يسمع لهم شكوى!
هذا الإهمال جرّ إلى تفاقم الشرور، وتغلغل الأحقاد في الصدور؛ فكانت
توري كلما قدحت الحوادث بزندها حتى إذا قتل في آخر الأسبوع بعض الأبرياء من
المسلمين انفجر البركان، وتلاحم الفريقان، وكان في أول الأسبوع الماضي ما كان،
كانت في بيروت فتنة عامة قتل فيها كثيرون من الطائفتين وجرح الكثيرون
وتعب الجند في إخماد النار وقتل منهم أفراد وهو أمر لم يسبق له نظير ونزح
عشرات الألوف من النصارى إلى جبل لبنان فعوملوا معاملة الإخوان للإخوان،
ودخل وكلاء الدول في الأمر وطلبوا من الوالي الغوي رشيد بك أن يتعهد بحفظ
الأمن فأبى لعلمه بأنه هو المجرِّئ بسوء سيرته لجميع الأشقياء بالعدوان؛ حتى لم
يبق له عليهم سلطان وقد ثبت هذا للقناصل بالبحث والاختبار فكتبوا بذلك إلى دولهم
وكان ذلك سببًا في عزل الوالي الغوي وصدور الأمر لوالي سوريا ناظم باشا بالقدوم
إلى بيروت وإعادة الأمن ومعاقبة الجناة إلى أن يعيّن لها والٍ جديد فصدع بالأمر
وأعاد الأمن وأمر الناس بالعود إلى أشغالهم بعد ما أقفلت المخازن والدكاكين وبطلت
الأعمال كلها فأبى النصارى الامتثال وقال مطران الروم للوالي أن أبناء طائفته لا
ثقة لهم بالأمن إلا أن يكون بعهد من الدول الأجنبية. والحق أنهم يثقون به في
قلوبهم ولكنهم افترصوا الحادثة لطلب ما ذُكر.
هذا ما يطمع فيه قوم منهم وبعضهم يطمع في جعْل بيروت تابعة للجبل وظنوا
أن هذه الحادثة فرصة تُغتنم ويرجى فيها أن تساعد الدول على الإلحاق فتكون
حكومة عروس سوريا أو عروس المملكة العثمانية (بيروت) مسيحية كما أن قواها
المالية والأدبية مسيحية وهم معذورون في هذا الطلب وذاك من حيث هم مسيحيون؛
إذ لو كنت في موقع كموقعهم لتمنَّيْتُ أن يكون حاكمي مسلمًا، ولكن لا عذر لمن
يمهدون لهم السبل لذلك من المسلمين بل الواجب عليهم أن لا يدعوا لهم منفذًا
للشكوى إن استطاعوا , ولعمري إن الحكومة قادرة على ذلك إذا كان الوالي مثل
ناظم باشا وإنني سمعت الناس في سوريا يلهجون بأن مدحت باشا كان ألَّف بين
الفريقين في بيروت كسائر سوريا حتى صاروا كالإخوة في التعامل ويعتقدون أن
ناظم باشا قادر على مثل هذا التأليف لا سيّما إذا علم أنه يُرضي السلطان.
لما وقعت الحادثة وردت الرسائل من النصارى إلى الجرائد السورية ومن
المسلمين إلى الجريدة الإسلامية (المؤيد) في شرح الحادثة وكل فريق يلقي التبعة
على الآخر ويعد نفسه مظلومًا، وقد انتصرت كل جريدة لقومها معتمدة على ما
كتب إليها وطفقت جرائد السوريين تلوم (المؤيد) بأنه انتصر للمسلمين تعصبًا لهم
وتنسى نفسها مع أن السوريين أعلم من المؤيد بخبث الفريقين ولهم علم يميز ما في
الرسائل من المبالغة دونه وكانوا يقولون ذلك أحيانًا مع الإنحاء على المسلمين
خاصة إلا أن جريدة (الأهرام) كتبت كتابة العثماني المعتدل الذي يريد المصلحة
وإن نشرت رسائل لغير المعتدلين. ولو كان لي سلطان على الجرائد لألزمتها بأن
تكتب في تأنيب الطائفتين كما كتبت جرائد بيروت الإسلامية والمسيحية (لا جرائد
لبنان) ؛ بل لألزمتُ المسلم بشدة لوم المسلمين والنصراني بشدة لوم النصارى؛
لأن هذا هو الأنفع في رأيي.
__________(6/527)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سعاية خائبة
لما علم بعض الأشرار بالطبع أن الأستاذ الإمام يقصد في صيف هذا العام
زيارة بلاد الجزائر وبلاد تونس افترصوا ذلك فكتبوا في السعاية به إلى حكومة
الجزائر رسالتين، إحداهما أرسلت من مصر والأخرى من الإسكندرية باسم الحاكم
الفرنسي العام وفيهما ما فيهما من قول الزور والإغراء بالإمام بزعم أنه لا يقصد
بالسفر إلى الجزائر إلا تحريض المسلمين على الثورة والخروج على الحكومة ونبذ
طاعتها وأنه قادر على ذلك، كما كتبوا بمثل ذلك إلى الآستانة عندما توجه إلى
زيارتها منذ عامين.
كتبوا هذا لاعتقادهم أن الحكومة الفرنسية هناك حكومة خرقاء تأخذ بالشبهة
وتنتقم من البريء لأدنى وهم يوسوس به شيطان من شياطين الإنس، أو يهجس به
في الخاطر عِفريت من الجن، ولظنهم أن الحكومة الفرنسية تجهل قدر الأستاذ
الإمام ومقامه الديني. ولكن الحكومة الفرنسية فوق أوهامهم وأحلامهم فقد بلغنا أنها
قد تلقت الرجل العظيم بالحفاوة والإجلال اللائقين بشخصه وبمقامه الديني والعلمي
كما تلقاه في إنكلترا كبراء الإنكليز وعلماؤهم، فسُرَّ بهذه المعاملة الحسنة لأشهر
أئمة المسلمين في هذا العصر مسلمو الجزائر ورأوا ذلك دليلاً على حسن قصد
حكومتهم وحسن سياستها فليعتبر فضلاء المصريين بهؤلاء الأبالسة الذين يعز عليهم
أن يوجد في الأمة رجل جليل عالي القدر محترم المقام حتى إنهم يبذلون جهدهم في
تنميق الكذب ليحملوا الأجانب على إهانة سادتهم وأئمة الدين الذي ينتسبون إليه وإن
كان يتبرأ منهم. ولو شاء الفضلاء الانتقام الأدبي من هؤلاء الأشرار لفعلوا ولكنهم
لا يتفقون.
__________(6/530)
16 رجب - 1321هـ
7 أكتوبر - 1903م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة بين مقلِّد وصاحب حجة
تابع لما في الجزء الثالث عشر
ويقال (سادس عشر) كل طائفة منكم - معاشرَ المقلدين - قد أنزلت جميع
الصحابة من أولهم إلى آخرهم وجميع التابعين من أولهم إلى آخرهم وجميع علماء
الأمة من أولهم إلى آخرهم إلا مَن قلَّدتموه في مكان مَنْ لا يعتد بقوله، ولا ينظر في
فتواه، ولا يشتغل بها، ولا يعتد بها، لا وجه للنظر فيها إلا للتمحُّل وإعمال الفكر
وكده في الرد عليهم، إذا خالف قولهم قول متبوعه وهذا هو المسوِّغ للرد عليهم
عندهم فإذا خالف قول متبوعهم نصًا من الله ورسوله فالواجب التمحل والتكلف في
إخراج ذلك النص عن دلالته، والتحايل لدفعه بكل طريق حتى يصح قول متبوعهم،
فيا لله لدينه وكتابه وسنة رسوله ولبدعة كادت تثل عرش الإيمان وتهد ركنه لولا
أن الله ضمن لهذا الدين أن لا يزال فيه من يتكلم بإعلامه ويذب عنه، فمَن أسوأُ
ثناءً على الصحابة والتابعين، وسائر علماء المسلمين، وأشد استخفافًا بحقوقهم،
وأقل رعايةً لواجبها، وأعظم استهانةً بهم ممن لا يلتفت إلى قول رجل واحد منهم
ولا إلى فتواه غير صاحبه الذي اتخذه وليجة من دون الله ورسوله.
ويقال (سابع عشر) من أعجب أمركم - أيها المقلدون - أنكم اعترفتم
وأقررتم على أنفسكم بالعجز عن معرفة الحق بدليله من كلام الله وكلام رسوله مع
سهولته وقرب مأخذه واستيلائه على أقصى غايات البيان واستحالة التناقض
والاختلاف عليه، فهو نقل مصدق عن قائل معصوم وقد نصب الله سبحانه الأدلة
الظاهرة على الحق، وبيَّن لعباده ما يتقون، فادعيتم العجز عن معرفة ما نصب
عليه الأدلة وتولى بيانه ثم زعمتم أنكم قد عرفتم بالدليل أن صاحبكم أوْلى بالتقليد
من غيره، وأنه أعلم الأمة وأفضلها في زمانه، وهلم جرّا.
وغلاة كل طائفة منكم توجب اتباعه وتحرم اتباع غيره كما هو في كتب
أصولهم؛ فعجبًا كل العجب لمن خفي عليه الترجيح فيما نصب الله عليه الأدلة من
الحق ولم يهتدِ إليها واهتدى إلى أن متبوعه أحق وأولى بالصواب ممن عداه ولم ينصب الله على ذلك دليلاً واحدًا.
ويقال (ثامن عشر) أعجب من هذا كله من شأنكم - معاشر المقلدين -
أنكم إذا وجدتم آية من كتاب الله توافق رأي صاحبكم أظهرتم أنكم تأخذون بها،
والعمدة في نفس الأمر على ما قاله لا على الآية، وإذا وجدتم آية نظيرها تخالف
قوله لم تأخذوا بها وتطلَّبتم لها وجوه التأويل وإخراجها عن ظاهرها حيث لم توافق
رأيه وهكذا تفعلون في نصوص السنة سواء - إذا وجدتم حديثًا صحيحًا يوافق قوله
أخذتم به وقلتم لنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم كيت وكيت، وإذا وجدتم مائة
حديث صحيح بل أكثر تخالف قوله لم تلتفتوا إلى حديث منها ولم يكن لكم منها حديث
واحد فتقولوا لنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا. وإذا وجدتم مرسلاً قد
وافق رأيه أخذتم به وجعلتموه حجة هناك، وإذا وجدتم مائة مرسل تخالف
رأيه أطرحتموها كلها من أولها إلى آخرها وقلتم لا نأخذ بالمرسل.
ويقال (تاسع عشر) أعجب من هذا أنكم إذا أخذتم بالحديث مرسلاً كان أو
مسندًا لموافقته رأي صاحبكم ثم وجدتم فيه حكمًا يخالف رأيه لم تأخذوا به في ذلك
الحكم وهو حديث واحد وكأنَّ الحديث حجة فيما وافق رأي مَن قلدتموه وليس بحجة
فيما خالف رأيه، ولنذكر من هذا طرفًا فإنه من عجيب أمرهم:
(1) فاحتج طائفة منهم في سلب طهورية الماء المستعمل في رفع
الحدث بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء
المرأة والمرأة بفضل وضوء الرجل وقالوا: الماء المنفصل عن أعضائها هو فضل
وضوئها، وخالفوا نفس الحديث فجوَّزوا لكل منهما أن يتوضأ بفضل طهور الآخر
وهو المقصود بالحديث؛ فإنه نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة إذا خلت
وليس عندهم للخلوة أثر ولا لكون الفضلة فضلة امرأة أثر فخالفوا نفس الحديث
الذي احتجّوا به وحملوا الحديث على غير محمله؛ إذ فضل الوضوء بيقين هو
الماء الذي فَضُلَ منه ليس هو الماء المتوضّأ به فإن ذلك لا يقال له فضل
الوضوء فاحتجوا به فيما لم يرد به وأبطلوا الاحتجاج به فيما أريد به.
(2) ومن ذلك احتجاجهم على نجاسة الماء بالملاقاة وإن لم يتغير
بنهيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يبال في الماء الدائم ثم قالوا: لو بال في الماء
الدائم لم ينجسه حتى ينقص عن قلتين.
(3) واحتجوا على نجاسته أيضًا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا
استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا) ثم قالوا: لو
غمسها قبل غسلها لم ينجس الماء ولا يجب عليه غسلها وإن شاء أن يغمسها قبل
الغسل فعل.
(4) واحتجوا في هذه المسألة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر
بحفر الأرض التي بال فيها البائل وإخراج ترابها ثم قالوا: لا يجب حفرها؛ بل لو
تركت حتى يبست بالشمس والريح طهرت.
(5) واحتجوا على منع الوضوء بالماء المستعمل بقوله صلى الله عليه وآله
وسلم: (يا بني عبد المطلب إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس) يعني الزكاة. ثم
قالوا: لا تحرم الزكاة على بني عبد المطلب. (لعل الصواب بني المطلب) .
(6) واحتجوا على أن السمك الطافي إذا وقع في الماء لا ينجسه بخلاف
غيره من ميتة البر فإنه يُنَجَّسُ الماء؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في البحر:
(هو الطهور ماؤه الحل ميتته) ، ثم خالفوا هذا الخبر بعينه وقالوا: لا يحل ما مات
في البحر من السمك ولا يحل شيء ما فيه أصلاً غير السمك.
(7) واحتج أهل الرأي على نجاسة الكلب وولوغه بقول النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات..) ثم قالوا:
لا يجب غسله سبعًا بل يغسل مرة ومنهم من قال ثلاثًا.
(8) واحتجوا على تفريقهم في النجاسة المغلظة بين قدر الدرهم وغيره
بحديثٍ لا يصح من طريق غطيف عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة
يرفعه: (تعاد الصلاة من قدر الدرهم) ثم قالوا: لا تعاد الصلاة من قدر الدرهم.
(9) واحتجوا بحديث علي بن أبي أطالب - كرم الله وجهه في الجنة -[1] :
في الزكاة في زيادة الإبل على عشرين ومائة أنها ترد إلى أول الفريضة فيكون
في كل خمس شاة وخالفوه في اثني عشر موضعًا منه.
ثم (10) احتجوا بحديث عمرو بن حزم أن ما زاد على مائتي درهم فلا
شيء فيه حتى يبلغ أربعين فيكون فيها درهم وخالفوا الحديث بعينه في نص ما فيه
في أكثر من خمسة عشر موضعًا [2] .
(11) واحتجوا على أن الخيار لا يكون أكثر من ثلاثة أيام بحديث المصرّاة
وهذا من إحدى العجائب فإنهم من أشد الناس إنكارًا له ولا يقولون به فإن كان حقًّا
وجب اتِّباعه، وإن لم يكن صحيحًا لم يجُز الاحتجاج به في تقدير الثلث مع أنه
ليس في الحديث تعرض لخيار الشرط فالذي أريد بالحديث ودل عليه خالفوه والذي
احتجّوا عليه به لم يدل عليه.
(12) واحتجوا لهذه المسألة أيضًا بخبر حبَّان بن مُنْقِذ الذي كان يغبن في
البيع فجعل له النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخيار ثلاثة أيام، وخالفوا الخبر كله
فلم يُثْبِتُوا الخيار بالغبن ولو كان يساوي عشر معشار ما بذله فيه وسواء قال
المشتري: لا خلابة، أو لم يقل وسواء غبن قليلاً أو كثيرًا لا خيار له في ذلك كله.
(13) واحتجّوا في إيجاب الكفارة على من أفطر في نهار رمضان بأن في
بعض ألفاظ الحديث أن رجلاً أفطر فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكفِّر
ثم خالفوا هذا اللفظ بعينه فقالوا إن استفّ دقيقًا أو بلع عجينًا أو أهليلجًا أو طيبًا
أفطر ولا كفارة عليه.
(14) واحتجّوا على وجوب القضاء على مَن تعمد القيء بحديث أبي
هريرة ثم خالفوا الحديث بعينه فقالوا: إن تقيأ بأقل من ملء فيه فلا قضاء عليه.
(15) واحتجوا على تحديد مسافة الفطر والقصر بقوله صلى الله عليه وآله
وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسافة ثلاثة أيام إلا مع
زوج أو ذي محرم) ، وهذا مع أنه لا دليل فيه ألبتة على ما ادَّعَوْه فقد خالفوه نفسه
فقالوا: يجوز للمملوكة والمكاتبة وأم الولد السفر مع غير زوج ومحرم!
(16) واحتجوا على منع المحرم من تغطية وجهه بحديث ابن عباس في
الذي وَقَصَتْه ناقتُه وهو مُحَرِم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تخمِّروا
رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة مُلبِّيًا) وهذا من العجب فإنهم يقولون: إذا مات
المحرم جاز تغطية رأسه ووجهه وقد بطل إحرامه.
(17) واحتجوا على إيجاب الجزاء على مَن قتل صيدًا في الإحرام بحديث
جابر أنه أفتى بأكلها وبالجزاء على قاتلها وأسند ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه
آله وسلم ثم خالفوا الحديث بعينه فقالوا: لا يحل أكلها.
(18) واحتجوا فيمن وجبت عليه ابنة مخاض فأعطى ثلثي ابنة لبون
فساوى ابنة مخاض أو حمارًا يساويها أنه يجزئه بحديث أنس الصحيح وفيه: (مَن
وجبت عليه ابنة مخاض ليست عنده وعنده ابنة لبون فإنها تؤخذ منه ويرد عليه
الساعي شاتين أو عشرين درهمًا) . وهذا من العجب فإنهم لا يقولون بما دل عليه
الحديث من تعيين ذلك ويستدلّون على ما لم يدل عليه بوجه ولا أريد به.
(19) واحتجّوا على إسقاط الحدود في دار الحرب إذا فعل المسلم أسبابها
بحديث: (لا تقطع الأيدي في الغزو. وفي لفظٍ: في السفر) ولم يقولوا بالحديث
فإن عندهم لا أثر للسفر ولا للغزو في ذلك.
(20) واحتجوا في إيجاب الأضحية بحديث أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أمر بالأضحية وأن يطعم منها الجار والسائل فقالوا: لا يجب أن يُطعَم
منها جارٌ ولا سائلٌ.
(21) واحتجّوا في إباحة ما ذبحه غاصب أو سارق بالخبر الذي فيه
(أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دُعي إلى طعام مع رهط من أصحابه
فلما أخذ لقمة قال: (إني أجد لحم شاة أُخذت بغير حق) فقالت المرأة: يا رسول
الله إني أخذتها من امرأة فلان بغير علم زوجها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم أن تطعم الأسارى) وقد خالفوا هذا الحديث فقالوا: ذبيحة الغاصب حلال ولم
يحرم على المسلمين.
(22) واحتجوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (جرح العجماء جبار)
في إسقاط الضمان بجناية المواشي ثم خالفوه فيما دلّ عليه وأريد به فقالوا: مَن
ركب دابة أو قادها أو ساقها فهو ضامن لما عضت بفمها ولا ضمان عليه فيما أتلفت
برجلها.
(23) واحتجوا على تأخير القَوَد إلى حين البرء بالحديث المشهور أن
رجلاً طعن آخر في ركبته بقرن فطلب القَوَد فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم (حتى يبرأ) فأبى فأقاده قبل أن يبرأ.. الحديث. وخالفوه في القصاص من
الطعنة فقالوا: لا يقتص منها.
(24) واحتجوا على إسقاط الحد عن الزاني بأَمَة ابنه أو أم ولده بقوله
صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت ومالك لأبيك) وخالفوه فيما دل عليه فقالوا:
ليس للأب من مال ابنه شيء ألبتة ولم يبيحوا له من مال ابنه عُود أراك فما فوقه
وأوجبوا حبسه في دَينه وضمان ما أتلفه عليه.
(25) واحتجوا على أن الإمام يكبّر إذا قال المقيم: قد قامت الصلاة،
بحديث بلال أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسبقني بآمين،
وبقول أبي هريرة لمروان: أن لا تسبقني بآمين، ثم خالفوا الخبر جهارًا فقالوا: لا
يؤمّن الإمام ولا المأموم.
(26) واحتجوا على وجوب مسح ربع الرأس بحديث المُغِيرة بن شُعبة أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح بناصيته وعمامته ثم خالفوه فيما دل عليه
فقالوا: لا يجوز المسح على العمامة ولا أثر للمسح عليها ألبتة فإن الفرض سقط
بالناصية والمسح على العمامة غير واجب ولا مستحب عندهم.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: لعل الصواب: (في الحقة) ؛ فإنه يقول في الزيادة: في كل خمسين حقة.
(2) الحديث عند النسائي وغيره وهو طويل وفيه: (وفي كل خمس أُواقٍ من الوَرِق خمسة دراهم، فما زاد ففي كل أربعين درهمًا درهم) .(6/539)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدليل على اشتراط الإسلام في القاضي
(س1) رضاء الدين أفندي قاضي القضاة ببلدة (أوفا) في الروسية: إنه
يستفاد من كتب الفقهاء متأخريهم ومتقدميهم اشتراط الإسلام في القاضي الذي يقضي
فيما بينهم ولا سيّما في الدعاوي التي تخص العائلات مثل النكاح والطلاق وثبوت
النسب والرضاع؛ بمعنى أن قضاء غير المسلم في هذه الأمور فيما بين المسلمين لا
يصح ولا ينفذ إذا قضى فيه لا ظاهرًا ولا باطنًا ولكن هل يوجد لهذا الاشتراط دليل
صريح من القرآن الشريف أو السنة المباركة، فنرجو حضرة الأستاذ الإحسان
بالجواب في المنار بحيث يقنع المشتبه المنصف. والفقير يظن وإن لم يتيسر له
الاطلاع إلى دليله القاطع أن القضاء فيما بين أهل الإسلام خصوصًا في الدعاوى
التي تتعلق بالزوجية وعدمها وثبوت الأنساب من المناصب الدينية لا يجوز من غير
المسلم أصلاً ولو كان عالمًا حق العلم قواعد الشريعة الإسلامية. كما أن غير المسلم
لا تجوز إمامته في الصلاة وإن كان عارفًا أحكامها بأسرها، والعجب من صاحب
(الهداية) مع التزامه ذكر طريق الاستدلال في كل مسألة وابن الهمام في الفتح مع
تبحّره في علم السنة وأصول الاستدلال - لم يذكرا في هذه المادة ما يشفي العليل
والله أعلم.
(ج) القضاء ولاية وسلطة مدنية دينية أهم شروطها: العلم بالكتاب والسنة
والقدرة على الاستنباط وكون المستنبط الذي ينفذ حكمه وتجب طاعته مسلمًا
والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) ، وقوله
تعالى في الأمر المتنازع فيه: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) ، فقوله (مِنكُمْ) و (مِنْهُمْ) يعني به
المسلمين. وقوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) .
فهذه الآيات أدلة واضحة في المقصود وقد استدل بالآية الأخيرة صاحب كتاب
(الأحكام السلطانية) على اشتراط الإسلام في القاضي. ويصح أن يستدل على
ذلك أيضًا بمثل قوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، فهذا
يشمل جميع أنواع الولاية العامة والخاصة، ومن ثَم كان اشتراط الإسلام في
القاضي مجمعًا عليه عند المسلمين والأحاديث الواردة في القضاء مبنية على شيء
معروف في الإسلام وهو كون القاضي مسلمًا، وقد جرى على ذلك الصحابة ومن
بعدهم مِن المسلمين؛ فقد قلدوا الذميين ضروبًا من الأعمال ولكن لم يقلدوهم القضاء
وقد قال الماوردي في (الأحكام السلطانية) بجواز كون وزير التنفيذ ذميًّا دون
وزير التفويض؛ لأن هذا الثاني يحكم ويولي ويجب أن يكون مجتهدًا في الدين.
وإذا نظرنا في المسألة بعين القياس نجد العلة ظاهرة؛ فالقاضي عند المسلمين
هو ولي مَن لا ولي له في كثير من الأحكام الدينية فهو يزوج المسلمة إذا غاب
الولي أو فُقد أو عضل، وهو يُطَلِّقُ على الزوج ويفسخ العقود الزوجية عندما
تقتضي المصلحة ذلك. وأمثال هذه الأحكام خاصة برجال الدين في عرف جميع
الأمم، وتقاليد جميع الملل والنِّحَل، ولعل صاحب الهداية وشارحها لم يريا حاجة
للتوسع في الاستدلال على مسألةٍ إجماعية لا نزاع فيها على أن طريقتهما في
الاستدلال هي كما ذكرتم بالنسبة إلى كتب الحنفية التي نرى أكثرها غفلاً من
الاستدلال؛ ولكن لو تعقبهما المُحدِّثُ الفقيه في السُّنة لبيَّن تقصيرهما في مواضع
كثيرة جدًا ولا أقول في أكثر المواضع.
__________(6/544)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تحريم تحليل المطلقة ثلاثًا
وبدع المحللين
(س2) عوض أفندي محمد الكفراوي بزفتى: لما كنتَ الرجل الوحيد الذي
يذبُّ عن الدين جئتُك راجيًا الإجابة عن السؤال الذي تجده بهذه الصحيفة وهو: هل
يجوز في أعمال المحلل للمطلقة ثلاثًا: أن يكون عالمًا بذلك؟ وإن كان يجوز فهل
العادة التي اتخذها المأذونون في صيغة العقد صحيحة، وهي أن يقول الرجل:
(بالتقاء الختانين تكون الزوجة مطلّقة) فهل يجوز العقد بذلك أم لا؟ ثم إنه يوجد
في أكثر البنادر رجال مخصوصون للتحليل لا كسب لهم إلا منه، فتجد الرجل يتزوج
المرأة للتحليل ثم يتزوج بعد أختها أو خالتها أو عمتها لهذه الغاية. فما قولكم في ذلك
وفي سكوت المحكمة عليه؟ أفيدونا مأجورين.
(ج) اعلم أن المطلقة ثلاث مرّات لا تحل لمَن طلقها إلا إذا تزوجت غيره
زواجًا صحيحًا شرعيًا ثم اتُّفِق إن مات زوجها الثاني أو طلقها، وهذا التحليل
المعروف ليس بزواج شرعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن فاعله
واللعنة لا تكون على سنة من سنن الدين والفطرة وإنما تكون على الكبائر من
المعاصي وليس بزواج عرفي؛ إذ لا يقول الناس في المحلل إنه متزوج. وقد روي
عن كثير من أئمة السلف القول بأن العقد المقصود به التحليل غير صحيح وجوزه
بعض الفقهاء بالرأي مع الكراهة الشديدة إذا لم يشترط في العقد أن يطلق أو نحو
ذلك من الشروط الفاسدة والقول بالجواز غير سديد، وما أَمْرُ فاعله برشيد، ولا
يليق بمحاسن الشريعة الإلهية أن تُنسب إليها هذه الفضيحة الشيطانية، وإننا نبدأ
أولاً بما جاء في (الزواجر) من حكاية الجواز وعدمه ثم نبين مفاسد هذه البدعة
الذميمة فنقول:
قال الفقيه ابن حجر الهيتمي في الجزء الثاني من (الزواجر) ما نصه:
(الكبيرة الستون والحادية والستون والثانية والستون بعد المائتين)
(رضاء المطلق بالتحليل وطواعية المرأة المطلقة عليه ورضاء الزوج المحلل
به) : أخرج أحمد والنسائي وغيرهما بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بالتَّيْس المستعار) قالوا:
بلى يا رسول الله قال: (هو المحلِّل، لعن الله المحلِّل والمحلَّل له) قال الترمذي:
والعمل على ذلك عند أهل العلم، منهم عمر وابنه وعثمان رضي الله عنهم وهو
قول الفقهاء من التابعين. وأبو إسحق الجوزجاني عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحلل فقال: (لا، إلا نكاح رغبة،
لا نكاح دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عز وجل ثم تذوق العُسيلة) وروى ابن المنذر
وابن أبي شيبة وعبد الرزَّاق والأثرم عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا أوتى
بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما، فسئل ابنه عن ذلك فقال: كلاهما زانٍ، وسأل
رجل ابن عمر فقال: ما تقول في امرأة تزوجتها لأحلها لزوجها لم يأمرني ولم يعلم
فقال له ابن عمر: لا، إلا نكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها وإنا
كنا نعد هذا سِفاحًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسئل عن تحليل
المرأة لزوجها فقال: ذلك هو السفاح، وعن رجل طلق ابنة عمه ثم ندم ورغب
فيها فأراد أن يتزوجها رجل ليحلها له فقال: كلاهما زانٍ وإن مكثا عشرين سنة أو
نحوها إذا كان يعلم أنه يريد أن يحلها، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عمن
طلق امرأته ثلاثًا ثم ندم فقال: هو عصى الله فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل له
مخرجًا، قيل له: فكيف ترى في رجل يحلها؟ فقال: مَن يخادع الله يخدعه.
(تنبيه) عَدُّ هذا كبيرة هو صريحُ ما في الحديثين الأولين من اللعن وهما
محمولان عند الشافعي رضي الله عنه على ما إذا شرط في صلب نكاح المحلل أنه
يطلق بعد أن يطأ أو نحو ذلك من الشروط المفسدة للنكاح وحينئذٍ التحليل كبيرة
فيكون كل من المطلق والمحلل والمرأة فاسقًا لإقدامهم على هذه الفاحشة وعلى ذلك
يحمل إطلاق غير واحد من الشافعية أن التحليل كبيرة؛ إذ هو بدون ذلك مكروه لا
حرام فضلاً عن كونه كبيرة ولا عبرة بما أضمروه ولا بالشروط السابقة على
العقدة. وأخذ جماعة من الأئمة بإطلاق الحديثين فحرّموا التحليل مطلقًا منهم
من ذكرناه من الصحابة والتابعين والحسن البصري فقال: إذا همّ أحد الثلاثة
بالتحليل فقد أفسد العقد، والنخعي فقال: إذا كانت نيّة أحد الثلاثة: الزوج الأول أو
الزوج الآخر أو المرأة التحليل فنكاح الآخر باطل، ولا تحل للأول، وابن المسيب
فقال: مَن تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول لم تحل له، وتبعهم مالك والليث
وسفيان الثوري وأحمد وقد سئل عمن تزوج امرأة وفي نفسه أن يحلها للأول ولم تعلم
هي بذلك فقال: هو محلل وإذا أراد بذلك التحليل فهو ملعون.ا. هـ كلام
(الزواجر) .
أما مفاسد هذه البدعة الذميمة وفضائحها فهي كثيرة وقد فصل القول فيها ابن
القيم في كتابه (إعلام الموقعين) أحسن تفصيل في سياق الكلام على تغير الفتوى
واختلافها باختلاف الزمان والمكان والأحوال عقيب المثال السابع من أمثلة ذلك
التغير والاختلاف وهو ما ورد في صحيح مسلم وغيره من أن الطلاق الثلاث باللفظ
الواحد كان يجعل طلقة واحدة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومدة خلافة
أبي بكر وصدر من خلافة عمر ثم لما رأى عمر رضي الله عنه اختلاف الحال
بكثرة هذا الطلاق المخالف للسنة رأى من المصلحة أن يمضيه على الناس ليرجعوا
عنه فأمضاه. ويقول المصنف وسبقه إلى ذلك شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره
أن الزمان قد اختلف الآن وصار من المصلحة جعل الثلاث باللفظ الواحد واحدة كما
كان في الصدر الأول وقد بيّنوا ذلك، وأوضحوه بما ليس من غرضنا ذكره إلا ما كتبه
ابن القيم في مفسدة واحدة من مفاسد الطلاق الثلاث في عصره وهذه العصور وهي
مفسدة التحليل. قال بعد ما تقدمت الإشارة إليه في المثال:
فصل
إذا عرف هذا فهذه المسألة مما تغيرت الفتوى بها بحسب الأزمنة كما عرفت
لما رآه الصحابة من المصلحة؛ لأنهم رأوا مفسدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا
تندفع إلا بإمضائها عليهم فرأوا مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع، ولم يكن
باب التحليل الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعله مفتوحًا بوجه ما؛
بل كانوا أشد خلق الله في المنع منه، وتوعد عمر فاعله بالرجم وكانوا عاملين
بالطلاق المأذون فيه وغيره.
وأما في هذا الأزمان قد شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل وقبح
ما يرتكبه المحللون مما هو رمد؛ بل عمى في عين الدين، وشجى في حلوق
المؤمنين، من قبائح تشمت أعداء الدين به، وتمنع كثيرًا ممن يريد الدخول فيه
بسببه [1] بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب، ولا يحصرها كتاب؛ يراها المؤمنون
كلهم من أقبح القبائح، ويعدّونها من أعظم الفضائح، قد قلبت من الدين رسمه،
وغيرت منه اسمه، وضمخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل، وزعم
أنه قد طيبها للحليل، فيا لله العجب أي طيب أعادها هذا التيس الملعون، وأي
مصلحة حصلت لها ولمطلقها بهذا الفعل الدون، أتُرى وقوف الزوج المطلق أو
الولي على الباب، والتيس المعلون قد حل إزارها وكشف النقاب. وأخذ في ذلك
المرتع، والزوج أو الولي يناديه لم يُقدّم إليك هذا الطعام لتشبع، فقد علمت أنت
والزوجة، ونحن والشهود والحاضرون، والملائكة الكاتبون، ورب العالمين،
أنك لست معدودًا من الأزواج، ولا للمرأة وأوليائها بك رضى ولا فرح ولا ابتهاج،
وإنما أنت بمنزلة التيس المستعار للضراب، الذي لولا هذه البلوى لما رضينا وقوفك
على الباب، فالناس يظهرون النكاح ويعلنونه فرحًا وسرورًا، ونحن نتواصى
بكتمان هذا الداء العضال ونجعله أمرًا مستورًا، بلا نثار ولا دف ولا خوان ولا
إعلان، بل بالتواصي (بهس) و (مس) والإخفاء والكتمان، فالمرأة تُنكح لدينها
وحسبها ومالها وجمالها، والتيس المستعار لا يسأل عن شيء من ذلك فإنه لا مسك
بعصمتها؛ بل قد يدخل على زوالها، والله تعالى جعل كل واحد من الزوجين سكنًا
لصاحبه وجعل بينهما مودة ورحمة ليحصل بذلك مقصود هذا العقد العظيم، وتتم
بذلك المصلحة التي شرعه لأجلها العزيز الحكيم.
فَسَلِ التيس المستعار: هل له من ذلك نصيب، أو هو من حكمة هذا العقد
ومقصوده ومصلحته أجنبي غريب، وسله هل اتخذ هذه المصابة حليلة وفراشًا
يهوي إليه، ثم سلها هل رضيت به قط زوجًا وبعلاً تعول في نوائبها عليه، وسل
أولي التمييز والعقول هل تزوجَتْ فلانة بفلان، وهل يعد هذا نكاحًا في شرع أو
عقل أو فطرة إنسان؛ وكيف يلعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً من
أمته نكح نكاحًا شرعيًا صحيحًا، ولم يرتكب في عقده محرمًا ولا قبيحًا وكيف
يشبهه بالتيس المستعار، وهو من جملة المحسنين الأبرار، وكيف تعيّر المرأة به
طول دهرها بين أهلها والجيران، وتظل ناكسة رأسها إذا ذُكِرَ ذلك التيس بين
النسوان؟ !
وَسَلِ التَّيْسَ المُستعارِ: هل حدّث نفسه وقت هذا العقد الذي هو شقيق النفاق
بنفقة أو كسوة أو وزن صداق، وهل طمعت المصابة منه في شيء من ذلك، أو
حدثت نفسها به هنالك، وهل طلبت منها ولدًا نجيبًا، واتخذته عشيرًا وحبيبًا، وسل
عقول العالمين وفِطرهم هل كان خير هذه الأمة أكثرهم تحليلاً، أو كان المحلل
الذي لعنه الله ورسوله أهداهم سبيلاً؟ !
وسل التيس المستعار ومن ابتُليت به: هل تجمَّل أحد منهما بصاحبه كما
يتجمل الرجال بالنساء والنساء بالرجال، أو كان لأحدهما رغبة في صاحبه بحسب
أو مال أو جمال، وسل المرأة هل تكره أن يتزوج عليها هذا التيس المستعار أو
يتسرَّى، أو تكره أن تكون تحته امرأة غيرها أخرى أو تسأل عن ماله وصنعته،
أو حسن عشرته وسعة نفقته، وسل التيس المستعار: هل يسأل قط عمّا يسأل عنه
مَن قصد حقيقة النكاح، أو توسل إلى بيت أحمائه بالهدية والمحمولة والنقد الذي
يتوسل به خاطب المِلاح، وسله: هل هو أبو يأخذ أو أبو يعطي، وهل قوله عند
قراءة (أبي جاد) هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو (حطي) [2] وسله: هل
تحمل من كلفة هذا العقد خذي نفقة هذا العقد أو حطي وسله عن وليمة عرسه هل
أولم ولو بشاة، وهل دعا إليها أحدًا من أصحابه فقضى حقه وأتاه، وسله: هل
تحمل من نفقة هذا العقد ما يتحمله المتزوجون، أم جاءه كما جرت به عادة الناس
الأصحاب والمهنئون، وهل قيل له: بارك الله لكما وعليكما وجمع بينكما في خير
وعافية، أم لعن الله المحلل والمحلل له لعنة تامة وافية.
فصل
ثم سل مَن له أدنى إطلاع على أحوال الناس: كم من حرة مصونة أنشب فيها
المحلل مخالب إرادته فصارت له بعد الطلاق من الأخدان، وكان بعلها منفردًا
بوطئها فإذا هو والمحلل فيها ببركة التحليل شريكان، فلعَمر الله كم أخرج التحليل
مخدرة من سترها إلى البغاء، وألقاها بين براثن العشراء والحرفاء، ولولا التحليل
لكان منال الثريا دون منالها، والتدرع بالأكفان دون التدرع بجمالها، وعناق القنا دون
عناقها، والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ بساقها، وسل أهل الخبرة: كم عقد المحلل
على أم وابنتها، وكم جمع ماؤه في أرحام ما زاد على الأربع وفي رحم الأختين،
وذلك محرم باطل في المذهبين، وهذه المفسدة في كتب مفاسد التحليل لا ينبغي أن
تُفرد بالذكر، وهي كموجة واحدة من الأمواج ومَن يستطيع عد أمواج البحر، وكم
من امرأة كانت قاصرة الطرف على بعلها فلمّا ذاقت عُسيلة المحلل خرجت على
وجهها فلم يجتمع شمل الإحسان والعفة بعد ذلك بشملها، وما كان هذا سبيله فكيف
يحتمل أكمل الشرائع وأحكمها تحليله، فصلوات الله وسلامه علي مَن صرّح بلعنته،
وسمّاه بالتيس المستعار مِن بين فسّاق أمته، كما شهد به علي بن أبي طالب كرم الله
وجهه وعبد الله بن مسعود وأبو هريرة وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر وعبد
الله بن عباس وأخبر عبد الله بن عمر أنهم كانوا يعدونه على عهد رسول الله صلى
الله وآله وسلم سِفاحًا.
(المنار)
وههنا أورد المصنف الأحاديث التي رواها هؤلاء الصحابة الكرام في لعن
المحلل وفي تسميته بالتيس المستعار وبحث في إسناد واحد منها قد أعله بعضهم
وبيَّن هو حسنه ومنها ما رواه الحاكم في (صحيحه) من حديث ابن أبي مريم
حدثنا أبو غسان عن عمر بن نافع عن أبيه قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله
عن رجل طلق امرأته ثلاثًا فتزوجها أخ له من غير مؤامرةٍ بينه ليحلها لأخيه هل
تحل للأول؟ قال: (لا، إلا نكاح رغبة كنَّا نعد هذا سفاحًا على عهد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم) قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والسفاح
هو الزنا جهرًا. ثم قال المصنف:
* * *
فصل
فسل هذا التيس هل دخل في قوله تعالي: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ
أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21) ، وهل
دخل في قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن
يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (النور: 32) ؟ وهل دخل في قوله صلى الله
عليه وآله وسلم: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر
وأحصن للفرج) ؟ وهل دخل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تزوجوا
الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) ؟ وهل دخل في قوله: (أربع
من سنن المرسلين: النكاح والتعطر والختان) وذكر الرابعة؟ وهل دخل في قوله
صلى الله عليه وآله وسلم: (النكاح سنتي فمَن رغب عن سنتي فليس مني) ؟
وهل له نصيب من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة حق على الله عونهم
الناكح يريد العفاف والمُكاتب يريد الأداء) وذكر الثالث؟ أم حقَّ على الله لعنته
تصديقًا لرسوله فيما أخبر عنه؟ وسله: هل يلعن اللهُ ورسولُه مَن فعل مستحبًّا أو
جائزًا أو مكروهًا أو صغيرًا؟ أم لعنته مختصة بمَن ارتكب كبيرة أو ما هو أعظم
منها كما قال ابن عباس: (كل ذنب خُتم بلعنة أو غضب أو عذاب أو نار فهو
كبيرة) ؟
وسله: هل كان في الصحابة محلل واحد أو أقر رجل منهم على التحليل؟
وسله لأي شيء قال عمر بن الخطاب: لا أوتَى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما؟
وسله كيف تكون المتعة حرامًا نصًا مع أن المستمتع له غرضٌ في نكاح الزوجة إلى
وقت، لكن لمّا كان غير داخل على النكاح المؤبد كان مرتكبًا للمحرم فكيف يكون
نكاح المحلل الذي إنما قصده أن يمسكها ساعة من زمان أو دونها ولا غرض له في
النكاح ألبتة؛ بل قد شرط انقطاعه وزواله إذا أخبثها بالتحليل، فكيف يجتمع في
عقل أو شرع تحليلُ هذا وتحريمُ المتعة، هذا مع أن المتعة أُبيحت في أول الإسلام
وفعلها الصحابة وأفتى بها بعضهم بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
ونكاح المحلِّل لم يبح في ملة مِن الملل قط ولم يفعله أحد من الصحابة ولا أفتى به
واحد منهم!)
(ثم قال المصنف) : (وليس الغرض بيان تحريم هذا العقد وبطلانه وذكْر
مفاسده وشرِّه فإنه يستدعي سِفرًا ضخمًا نختصر فيه الكلام؛ وإنما المقصود أن هذا
شأن التحليل عند الله ورسوله وأصحاب رسوله فألزمهم عمر بالطلاق الثلاث إذا
جمعوها ليكفوا عنه إذا علموا أن المرأة تحرم به وأنه لا سبيل إلى عودها بالتحليل.
فإنه لما تغيّر الزمان وبعد عهد الناس بالسنة وآثار القوم وقامت سوق التحليل ونفقت
في الناس فالواجب أن يرد الأمر إلى ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وخليفته من الإفتاء بما يعطل سوق التحليل أو يقللها ويخفف شرها. وإذا
عرض إلى مَن وفقه الله وبصَّره بالهدى وفقَّهه في دينه مسألة كَوْنِ الثلاث واحدة
ومسألة التحليل ووازن بينهما تبيّن له التفاوت وعلم أي المسألتين أولى بالدين،
وأصلح للمسلمين.
فهذه حجج المسألتين قد عُرضت عليك وقد أهديت إن قبِلتها إليك، وما أظن
عمى التقليد إلا يزيد الأمر على ما هو عليه ولا يدع التوفيق يقودك اختيارًا إليه،
وإنما أشرنا إلى المسألتين إشارة يطَّلع العالِم على ما وراءها وبالله التوفيق اهـ.
__________
(1) المنار: هذا الكلام صحيح مجرب في كل زمن وقد رأيت رجلاً شيخًا نصرانيًّا ولع بالكتب العربية الخطية فجمع منها كثيرًا وكان يطالع في عامة أوقاته فاعتقد بحقية الإسلام وتفضيله واختار مذهب الصوفية وقد لقيته مرة فقال لي لولا ثلاث مسائل لقلت إن الإسلام كله حق: أولها مسألة (التجحيش) - أي (التحليل) - فأزلت شبهته حتى رجع!
(2) لعل هذه السجعة نسخة ثانية وما أرى المصنف جمع بينهما.(6/545)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
(2) ما هو الحُسن؟ قد عرفتم بالذي قلناه في تعريف الحسن ما هو الحسن،
وبقي أن أقول - لأجل تذكير القارئ بأصل الموضوع - إنه هو الزينة من غير
نظر منا إلى الفرق بين الحسن الذاتي والحسن الصناعي.
(3) ما هو الاستحسان؟ هو انبساط النفس لذلك الشيء الذي وجدت فيه ما
يناسبها. ليست الصعوبة في تعريفه بهذا الرسم وإنما الصعوبة في معرفة أن
الاستحسان يحصل للمرء بالبداهة أو بالنظر والتأمل وقد سبق شيء من الإشارة إلى
هذا الأمر ولكني لا أراه مستغنيًا عن زيادة الشرح. أما استحسان بعض المحسوسات
فيحصل للبعض بالبداهة وتعقبه محبة. ولهذا السر ظن البعض أن الحب يكون
اضطراريًا على أن هذا السر وإن بقي غامضًا لا يُثبت هذه النظرية بمثل هذه
الحوادث الفذة لثبوت ضد هذه النظرية ببراهين حسية وعقلية معًا. وأما استحسان كل
المعقولات فمن أهل التفكر نتيجةُ نظرٍ وتأملٍ، ومن أهل التقليد نتيجة ثقة
بالمقلدين. والأولى أن لا يعد استحسان هؤلاء استحسانًا لأننا إذا أدخلناهم في صف
مَن لا فكر لهم من المخلوقات لم نكن عملنا غير الصواب لأنه هو المطابق لروح
الواقع ونفس الأمر.
(4) ما هو حب المستحسن؟ تقدم تعريف الحب وليس سؤالنا عن تعريفه
بل عن ذلك السر المودع في طبيعة النفس من محبة أشياء تعتبرها جميلة. ولعل
ذلك السر هو شوقها الطبيعي إلى ما وراء جسمانية المادة وما يلحقها من الجمادية
المحضة.
(5) لماذا نستحسن؟ هذا السر مودوع في نفوس الخاصة والعامة من بني
النوع ولمّا أوتينا المزية العظيمة التي تسمى (الإرادة) أراد الفاطر أن تتجلى فينَا
ظاهرة باهرة فانقسمت الأشياء في نظرنا كافة إلى ما تتوجه نحوه إرادتنا وهو ما
نستحسن وإلى ما تنصرف عنه وهو ضده. فهذا هو السر في كوننا نستحسن.
(6) لماذا نحب الحسن؟ يظهر بالذي قلناه سر حبنا الجميل ونزيد عليه
علة لا يتوقف في فهمها إنسان وهو أننا نحب الحسن لنعمل. فلولا ذلك لقنعنا بما
تنبت الأرض من كلأ، وما تفيض به من ماء، ويظهر من ملاحظة سير الماضين
والغابرين، وسنن الوجود في الأولين والآخرين - أننا لم نخلق لمثل هذا بل خلقنا
لأسرار عظيمة لا تظهر فينا إلا بحبنا الحُسن والحَسن.
(7) لماذا نختلف بالاستحسان؟ إذا كنا نحب الجميل لنعمل فنحن نختلف
بالاستحسان لتختلف أعمالنا. على أن لاختلافنا في الاستحسان عللاً أخرى منها
اختلاف الأمزجة. وبيان السر في اختلاف الأمزجة لا يبعد عن صدد علمنا هذا
ولكنه قد يبعد عن صدد هذا الفصل أو قد يبعد بنا عن الغاية التي أشرفنا عليها.
وكذلك لاختلافنا في الأعمال علل أخرى ولكن الذي ذكرناه هو من أقدم الأسباب.
(8) ما هو عشق المستحسنات الذي يميل بكل نحو مستحسن فيغرم به؟
يبقى علينا سؤال عن أمر آخر غير الحب المعتاد وهو العشق الذي مبلغ العلم فيه أنه
أعظم درجات الحب ومنتهاه. والجواب على ذلك في غاية السهولة وهي أن
النفوس قوابل، والواردات عليها فواعل، وبعض النفوس أشد قبولاً وانفعالاً لِمَا
تعرضت له من الواردات فيصيبها العشق الذي هو أعظم الحب في حين أن كثيرًا من
أخواتها اللائي يتعرضن لمثل ما تعرضت هي له لا يصيبهن إلا الحب البسيط وكثيرًا
من غير أولئك لا يصيبهن شيء ما.
هذا، وإن فيه لبلاغًا في بيان الموضوع، وكشفًا لبعض السر المودوع،
ويحار فيه من لم يرد من البيان مشارعه، ولم يذق من التقرير مشاربه، وأولئكم
ليسوا من أهل (المنار) ، ولا عليهم في مثل هذا الكلام المدار وحَسْبُ أولئكم مما
تقدم أن يسمعوا هذه الخلاصة:
(لولا حب الزينة لَمَا كان من حاجة إلى أكثر الصنائع. ولولا كثرة الصنائع
لَمَا توفرت أسباب الاجتماع. ولولا الاجتماع لَمَا تبدلت الأفكار. ولولا تبادل
الأفكار لما حصلت المعارف الإنسانية. ولولا المعارف الإنسانية لكانت حياة
الإنسان كحياة البهائم) .
ولو شئنا لشرحنا هذا الكلام بفصول كثيرة ولكننا تقللنا منه بما سبق، وفي
هذا الترتيب الذي وضعنا وضوح تام، وللعمرانيين ههنا شركة في البحث والبيان،
وتركنا لهم وظيفتهم التي هي البناء بعد أداء وظيفتنا التي هي الأساس.
ولكيلا يفوتنا النصيب من تصحيح أفكار أولئك الذين نعلمهم ناقمين على حب
الزينة ونعلم أنهم سينقمون منا تمثيلنا حب الزينة هذا التمثال الذي ستراه البصائر
فخيمًا. وكأني بهم رافعين عقيرتهم يقولون هل: يجني الناس منه إلا الدأب والكد
العمر كله في طلب الفواني، وهل في سبيل هذه المحبوبات التي لا تنتهي إلا
الوقوع في أنواع الرزايا المعروفة؟
لكيلا يبقى هذا الاعتراض بلا جواب نقول: إن الذي قلناه هو وصف لأمر
واقع على سبيل العموم والشمول لا حث وحض على حب الزينة، وأن الذي نعلمه
أن ذلك الأمر الذي وصفناه طبيعي لا يصده عن النفوس أن ينقم الناس عليه كما أن
الأكل مهما سببناه لا نستغني عنه، ثم إننا نعلم أنه لا يقول ذلك القول إلا واحد من
ذينك الاثنين الضدّين المتسفّل في دركات العواجز من الحيوانات التي تكره الحركة
وتهوى السكون، والمتسامي بعقله إلى ما فوق الفواني المتجافي عن الزوائد من
مقومات الحياة الماديّة تشوُّفًا إلى المعقولات العالية.
ومن عجبٍ أن يتَّحدا في قولهما مع اختلافهما في نيتهما. ولم يكن ذلك إلا لأن
الثاني فاتته حكمة الاعتبار بأصل الفطرة وسرها، وفاته النظر إلى الواقع ونفس
الأمر، ولم يبق علينا إلا أن ننظر هل يجوز لنا أن ننهى عن حب الزينة والجمال؟
والجواب: لا يجوز لنا ذلك لأنه لا يجوز لنا أن نحاول العبث. وهذا هو وجه
الحقيقة الذي لاح لأهل علمنا فشهدوا كما رأوا. وعلماء العمران ستراهم يقيمون أشد
النكير على رجل يقول بجواز النهي عن حب الزينة. ونحن في أمن من هذا لعلها
(الوغى) لأننا لا نزيد على قولنا:
(إنه لا يفيد) وليس في هذا القول مصادمة لقاعدة أن الحب يدخل تحت (نظام)
لأننا لم نخرجه عن النظام بهذه الكلمة ولكن الآخرين يريدون أن يخرجوه عن
الوجود لا عن النظام فقط ويوضح هذا مثال: (إذا قلنا لا يجوز النهي عن الأكل
مطلقًا لأنه لا يفيد؛ إذ هو أمر بتغيير الفطرة) فلا يفهم أحد قط من هذا الكلام أنه لا
يدخل الأكل تحت نظام، فلينظر ذو فكر ما يقول.
وقد يذهب ظن القارئ إلى أن محرر هذه الكلمات رجل من غلاة المفتونين
بهذه الصور المتحولة الفانية أو تلك المادة الجماد الخامدة، وإني لا أحاسب الناس
على ظنونهم ولكن من يحاول التعريف بشيء عن نية صافية يحرص على مقصوده
أكثر من ذي أجر وإني حريص أن يأخذ قارئ كلامي بالنصيب الأوفى من علم
طبيعة النفوس من حيث المجموع مع مراعاة حالاتها في الاجتماع وحالاتها
الشخصية فإني على يقين أن هذا العلم يورث صاحبه سلامة ذوق وسلامة صدر
وسلامة فكر ويؤديه إلى الاعتدال الذي هو محور نظام الإصلاح.
ومن أجل ذلك أذكِّر القارئ بما استحفظته إياه في صدر الكلام ومنه يعلم أن
قليلاً من التدبر يكشف عوارِ كثيرين من الذين كتبوا في الأخلاق والشرائع ويجلي
محاسن المحسنين. ومن ههنا أخالف الذين ينهون عن صرف شيء من المال في
سبيل حب الزينة، ولا أجد في مذهبهم ذلك رائحة من الحكمة قط؛ بل هو جهل
بطبائع الاجتماع فإنه لن يعدم الخاسر ما يستعيض به من الرابح، وإلا لعدم البائع
مَن يبتاع.
ومن المؤمنين بما قررناه قائل يقول: قد يحتاج الفرد وهو سابح في الأوهام
بحب الزينة إلى من ينبهه إلى الأخطار وهو حق ولكن عندي أن يكون المنبه من
نفسه في مثل هذه الحالة خيرًا من أن يكون من آخر لنربح في هذا التعود أمرًا هو
أعز وأغلى من المال الذي نخسره، ذلك هو التفكر وصدق الإرادة في مباشرة
الأشياء، ولا شك بأننا سنلقي أسارى كثيرين في هذه المعارك قد قيدتهم الشهوات
الكاذبة بأغلال الخسار، وقذفت بهم الإرادات المريضة في مهاوي الدمار، ولكن أن
نعدم أمثال هؤلاء الأسرى وإنْ كثروا خير مِن أنْ نعدَّهم مِن أبطال الجهاد في هذه
الحياة. وخير من أن لا نعدهم وكثيرًا ما يختلف طب النفوس عن طب الأبدان؛
لأن أحدها يعالج مرضًا محسوسًا بعلاج محسوس. والآخر يداوي مرضًا معقولاً
بدواء معقول ولأطباء النفوس في هذا الباب أدوية - لو استُعملت - شافية ولكن
الناس أعاروها آذانًا صمًا، ونريد أن يكون لهم علاج من المحسوسات ذلك ما
تعطيه مجاري الأحوال وينتج صحة التفكر وسلامة الإرادة.
وآخرون سيقولون لقد أسرف هذا وكاد أن لا يرى في الإسراف شيئًا مذمومًا.
كلا، إن الإسراف مذموم عندي كما هو عند الناس كافة ولكن الذين ينهون عنه هو
ما دون الإسراف وهو الذي لا أنهى عنه. ولا أريد من هؤلاء أكثر من أن يعلموا
أنه لولا أن نصرف المال فيما زين لنا لما وُجد المال، ولكن عِلْمُ هذا صَعُبَ عليهم،
ونهوّنه بأنْ نُعلِمهم أن المال ليس شيئًا غير قيمة جملة الأعمال التي يعملها النوع
وإذا علموا ذلك فليتذكروا أنه لولا حب الزينة لما كان من حاجة إلى أكثر الصنائع،
لولاه لأقفلت أسواق ومصانع يعمل فيها حاج للناس من غير اللوازم الضرورية التي
لا تتجاوز ما مثلنا به آنفًا من الغذاء والكساء والإواء.
ما إذا زُيِّن لهؤلاء بعض هذه الأسواق والمصانع ودوران فلك الأعمال على
هذه الأقطاب الحالية وما داناها في الماضي وما سيفوتها في الآتي فما البأس عليَّ
إذا دار الفلك على حسب أحلامهم؛ وإنما البأس على قوم يبلغ بهم الهوس أن يروا
الخير والسعادة في أولي السِّير من الحياة وهي سيرة الأُنس بالأوجار والأحجار؛
والفزع من خطور الأشباح وهبوب الأرواح [1] .
نتيجة عظيمة
وما قررناه أساس متين لبناء نظامي الأخلاق والشريعة. يبنى عليه في
الأخلاق ذم جمود النفس الذي من لوازمه نسيان الحظ من الحياة النوعية إلا ما
وجدت عليه الآباء. وذم غليانها الذي من لوازمه تجاوز الحدود التي وُضعت لحفظ
الحقوق. ومدح الاعتدال. وفي التمهيد نحوت المنحى الذي يفهم منه ذم جمود
النفس؛ لأنه الغالب في مشرقنا. ويُبنى عليه في الشريعة الحرية في المطاعم
وموائدها، والملابس وأزيائها، والمباني وأشكالها، وغير ذلك من الحاجات
اللوازم والتوابع، وكل شريعة لم تُبْنَ في هذه الأبواب على مثل هذا الأساس لا
يقوم لها بنيان، ولا يوفق الناس أعمالهم على أحكامها وإن تلوا حروفها، وإذ كانت
كل شريعة تنسخ ما قبلها كانت تتقرب من هذا المعنى بحسَب ترقي النوع ولذا
كانت الشريعة الأخيرة حائزة هذا المعنى تمامًا.
وحرم منها ما يضر بصحة العموم، وما يصادم نفعًا عامًّا أو حقًّا خاصًّا. وما
يجمع علماء الأخلاق على مضرته بجوهر النفس وهذا التحريم في الحقيقة معين
على صيانتها وحسن التصرف فيها، والمطلعون سيدركون ما وراء هذه الجمل من
التفاصيل. ومَن عداهم سيأتيهم التفصيل في مواضع متعددة وحسبُهم الآن أن
يتدبروا هذه النتيجة ويفكروا فيها بفكر نقي.
حبُّ التميِّز
في الفطرة زيادة على حب الزينة حب التميز فلولا هذا الثاني لبلغنا نهاية فيما
نحب من الزينة أو غيرها ولكن هو الذي أبعد الغاية على الطالبين.
والذين هم أشد حبًا للزينة هم أشد حبًّا للتميز. وعند التأمل في آثار هذه الطبيعة
نجدها ينبوعًا للخيرات والشرور معًا. وهكذا نجد الشر موجودًا دائمًا في منابت
الخير ولذلك كان تحصيل الخير في هذه الحياة عناءً كبيرًا كالعناء في تحصيل
الحنطة من بين الشوك ثم تميزها من الزؤان بل هو أكبر. ولكن أجر هذا العناء
عظيم وهو بلوغ الإنسان كماله المعد له. وقد يقصر حِجَانا الآن عن تصور ذلك
الكمال وما مَن يتقدم إلا معاونًا لمن يتأخر.
وفي خَلْق الإنسان آيات للمتدبرين، وأسرار للمعتبرين، منها تكريم هذه
الصوامت النواطق بلسان الحال عن أن تكون عبثًا؛ إذ على يده تظهر خواصها
وفي فكره وبصره يتجلى جمالها المعقول والمحسوس تحقيقًا أو اعتبارًا أو تخيلاً.
ولحب التميز الحظ الأوفر في استخدام الفكر في هذه الشؤون فهو الذي يبعث الفكر
في عالم المحسوسات والمتخيلات رائدًا يرتاد للنفس ما هو غريب عزيز الوجود مما
يود كل أحد أن يقتنيه أو ينتحله. وهكذا كانت زيادة الأول على الآخر وسيكون ما
لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب الأولين.
والحاصل أن حب التميز ميزان في كفته الواحدة أمر نُسمِّيه حسنة وهو ارتقاء
الحياة النوعية. وفي كفته الأخرى أمر نسميه سيئة وهو حرص النفوس على
الاستبداد.
والناس يفهمون من هذه الكلمة (الاستبداد) أن المقصود به عدم المشاورة
وهذا المعنى جزء مما تدل عليه هذه الكلمة التي معناها الحقيقي (نزوع النفس
للحرية المطلقة التي من جملتها تقييد حرية الغير وغصبها) وهذا هو وجه شناعته
ومن أجل هذا كان عنصر الشرور المادية والأدبية.
وقد كدنا أن نيأس لما علمنا أن هذا العِرق الضارب في أعماق الطبيعة البشرية
لا يمكن استئصاله بالقلع لولا أنْ تبين لنا أن في إزاء هذا الشوك زهرًا ولولا أنْ
ثبت لنا أنه يمكن تخفيف ما ينجم عنه بتتبع الفروع وقطع ما أمكن قطعه منها
والربانيون من الحكماء أشد الناس عداوة للذين يستبدون ذلك بما عرفوا من الحق،
وبما عطفوا على الخلق، وبما تدفعهم إليه قوة العلم، ومنة العزم.
والأخلاقي حسبه أن يذكِّر المُستبدّ بثلاثة أمور لا تفارقه ولا غيره:
العجز بالذات، والاحتياج للغير، واستحالة بلوغ الغاية.
وأن يذكِّر المُستبدّ عليهم بثلاثة أمور أيضًا:
الضعف بانحلال الرابطة، والقوة بالتعاون، الفوز بالثبات والصبر.
والسياسي وهو البحَّاث عن كل روابط الاجتماع لا أستكثر منه أن يحمل
أوزار الوغى إن استطاع في ردّ كيد المستبدين الذين وضعوا أعمالهم في كفة السيئة
من حب التميز وبئس ما اكتسبوا لأنفسهم من البغضاء. وللمُذْعِنُونَ لهم شرُّ مكانًا
وأضلُّ عن سبيل الحياة النوعية. وأقرب إلى الهوان من الأنعام وفي هذا بلاغ لعلهم
يتذكَّرون. ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... . ع. ز.
(ثمة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) جمع: ريح وهو يأتي هكذا كما يأتي جمعًا للروح.(6/552)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
الشذرة الثالثة عشر
من جريدة الدكتور أراسم [*]
السفر من أركان التربية
لا ينبغي على أحد ما لِمَا تتأثر به النفس وتحفظه الذاكرة في الصغر من
اللصوق والتمكن. هذا شكسبير [1] يدعو حاله إلى اعتقاد أن معظم الفضل في
بلوغه تلك المكانة العالية في الشعر يرجع إلى نشأته بالقرب من نهر الآون [2]
الأنيق الذي تفيض مياهه على مدينة إستراتفورد [3] وما تحيط به من الأودية
الخصبة الغنية بالشجر والنبات ومجاورته لغابة أردان [4] التي كانت متنزهًا له في
سنيه الأولى من حياته. يدلك على ذلك أنه لما كتب فيما بعد القصة الهزلية التي
عنوانها (كما تحب وترضى) اتخذ هذه الغابة نفسها محلاًّ لأهم منظر من مناظرها
ومثل أماكنها للنفوس وجلى مواقعها للأذهان بأوجز العبارات، وأوضح الإشارات،
لم يكن هذا إلا لكونه مع نزوحه عن مركز إستراتفورد الذي هو مسقط رأسه لم ينس
منظر هذا الريف بل حفظه في مطوى من مطاوي نفسه وهذا أولفيار جولد سميث
[5] ذو العقل الثاقب والذكاء المتوقد لم يذهله حين أقام في لوندرة - ما شاهده فيها
من الاختلاط والتشوش عن ذكر قرية لشوى التي نشأ فيها ولم يُنْسِهِ ما كان يراه
هناك من جدول الماء والطاحون والكنيسة وفندق الحمائم الثلاث وسياج العضاة
وغير ذلك من خصوصياتها بل إنه مدحها في القصة التي كتبها فيما بعد وسمَّاها
الكميت (الأُوَرْن) .
وكان واشنجتون أرفنج [6] الكاتب المجوني الرحَّالة الذي استهوى النفوس
ببدائع ظرفه، وخلب الألباب بدقائق وصفه، يحمد الله تعالى أن أنشأه على ضفاف
بحرِ أوتسون [7] ويقول: إن ما كسبه طبعي المختلف العناصر من الخير والتهذب
يصح أن أُرجعه إلى محبتي لهذا النهر في صغري فقد كنت في حدة الحمية
الصبيانية أكسوه بعض الخصائص النفسية وأعتقد أن له روحًا يقوم بها وأعجب ما
في طبعه من الحرية والشجاعة والصدق والاستقامة ذلك لأنه ليس من الأنهار التي
تبسم صفحاتها عن خداع وتُدْمِرُ السوءَ بما تحتها مِن الشعاب المهلكة والصخور
الغدارة بل هو طريق مائي بهي جمع إلى عظم عمقه كثرةَ اتساعه، يحمل السفن
التي توكل إلى أمواجه بقلب سليم ونية شريفة، وكنت أتخيل نوعًا من المجد والعجب
في استقامة مجراه وسكينته وسلامته الباهرة.
إنما مثلت ببعض الشعراء لأنهم هم الذين نعرف شيئًا من أحوالهم النفسية في
حياتهم غير أني لا أرتاب أبدًا في أنَّ ما يحتفّ بالناس من الأصول والأمور
الخارجية لا يُحْدِثُ في نفوس جميعهم أثراً واحداً وأنهم يختلفون أيضًا في درجة التأثر
بها وأن ما شاهده الإنسان في صغره يلازمه في كبره ويصير جزءًا من نفسه وما
صحبه من الأشياء وهو يافع لا يجانبه في كبره بل يظهر أثره في صورة خلقه وفي
مجرى أفكاره.
ليس كل ما يحيط بالإنسان مما تتناوله مشاعره يصلح على السواء لحفظ
صحة عقله فقد روي أن ملتون [8] كان يتألم ويشكو مر الشكوى وهو يتلقى دروسه
في مدرسة كمبردج الكلية من ضواحي هذه المدينة مُعلِّلاً شكواه بأنها خلو من
الظلال الوارفة التي تجذب إلاهات الشعر وتؤويها.
وكان روبرت هول الكاتب الإنكليزي الذائع الصيت الذي كان يتعلم في تلك
المدرسة بعد ملتون بقرن ونصف - ينسب أول نوبة أصابته من نوبات الجنون إلى
استواء الأرض بمركز كمبردج وخلوّها من الرُّبَى والهضاب الشجراء.
والناس وإن اختلفوا في درجات تأثرهم بفقد ما هم محتاجون إليه لا أظن أنه
يوجد منهم من لا يتأثر ألبتة بما يكون من العيوب والمناقص في المناظر الريفية
التي يراها على الدوام اللهم إلا قليلاً لا يُعتد بهم، وإذا صح ذلك فلشد ما يبلغ هذا
التأثر السيئ من أذهان الأطفال فإن الرجل البالغ قد حصل له من قوة النفس
والخيال ما يكفي لمفاعلة ما يحتف به من الأشياء فحسبه في معظم الأحيان أن
يخترق قلبه شعاع من أشعة الحب أو يكون في نفسه وجدان قوي أو تجتمع في
ذهنه بعض المعاني حتى يرتقي بالريف المبتذل الذي لا قيمة له في ذاته من شيوع
الابتذال إلى الاختصاص بشرف الخيال، وليس هكذا حال الحدث الذي بين الثانية
عشرة والثالثة عشرة من عمره فإنه في هذا السن لا عمل له في فطرة ما حوله من
المخلوقات إذ ليس في استعداده إذ ذاك ما يكسوها بهاءً، ويزيدها رونقًا ورواءً، بل إنه يتأثر بها كما هي فمن الفوائد الكبرى له أنه يولد أو يتربى بالقرب من بعض
المناظر الكونية العظمى كمنظر نهر جميل أو بحيرة أو جبل أو غابة..
منظر الريف في كورنواي منظر مهيب غير أنه واحد لا تغير فيه وليت هذه
البلاد كانت أكثر أشجارًا مما هي الآن، فإن مثل اليافع الذي لا يرى قط إلا
ناحيةٍ مِن نواحي الكون كالصخور أو البحر كمثل مَن لم يقرأ إلا كتابًا واحدًا.
لا بد في تربية الإنسان خصوصًا في صغره مِن تنوع الفواعل لتتنوع آثار
انفعاله بها ذلك لأن كل فرد من أفراده يميل إلى بعض المناظر دون البعض حتى
يكون من هذا البعض الذي ميل إليه كطبعه في الاختصاص به ومعنى هذا أن
ضروب الحسن في الطبيعة تقابلها في نفوس الناس مناسبات ذاتية وليس المنظر
الذي يتخيره الإنسان ويرتاح إليه يأتيه على الدوام، عفوًا بل لا بد من السعي وراء
تحصيله فمن الناس مَن ينشأ اتفاقًا في سهل من السهول ويكون ميله للمناظر الجبلية
ويوافق هذا قول أحد الكُتّاب في وصف رجل لا أذكر الآن مَن هو: إنه عربي وُلد
في ظل شجرة تفاح بنورمنديا [9] .
قد بلغ (أميل) السن الذي تبدو فيه حاجة الناشئ إلى الاختلاط بما حوله
والمربون يخدعون هذه الحاجة في معظم المراهقين بإيتائهم قصصًا في الأسفار
وهي ولا ريب أدعى الكتب إلى التفاتهم إليها واشتغالهم بها غير أنه مما لا نزاع فيه
أن وصف البلاد بالغًا ما بلغ من قوة البيان وضبط التحرير لا يرتقي في تأدية العلم
بها إلى درجة المعاينة؛ بل إنه أدنى منها كثيرًا فلا يمكن أن يستغني به عنها، من
أجل ذلك كان سن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة هو السن الذي يظهر فيه هوس
الملاحة في رءوس الصغار من سكان البلاد المجاورة للبحر كإنكلترا فكم من
هؤلاء الصغار البسلاء مَن يصيبهم مِن ولوعهم بالتجوال في الأقطار السحيقة مرض
لا يحد ولا يوصف كما يصيب العصفور الخطاف في الفصل الذي يهاجر فيه رفاقه
فيتسللون من بيوت أهليهم فلا يعودون إليها في حياتهم. وأما سكان البلاد الأخرى
فإن حب السفر لا يكون في الكثير منهم إلا حاجة وقتية لأنهم بعد أن يقضوا بضع
سنين على سفر يركبون فيه متن المهالك يرجعون إلى أوطانهم فيعيشون
معيشة الاستقرار.
الذي يدهشني من المربين هو قعودهم حتى الآن عن البحث في الانتفاع
بالأسفار في التربية وجعلها ركنًا من أركانها، إن قيل: إنما يمنعهم من ذلك حاجتهم
إلى الزمن: قلت إن السفر إلى أمريكا مثلاً لا يقتضي الآن منه أكثر مما يلزم لتعليم
التلميذ شكل الكرة الأرضية تعليمًا فيه شيء من الحق على ما في السفر ومعاينة
الأشياء من الفوائد الكثيرة التي لا يستفيدها المتعلم من أي درس من دروس تقويم
البلدان كتابية كانت أو شفاهية، وإن قيل: إن ما يقتضيه السفر من النفقات هو الذي
يخيف المربين منه ويصدهم عنه، قلت: قد فهمت هذا الاعتراض إلا أنه يوجد من
الطرق غير واحدة للسفر بدون كبير نفقة وإنما أكبر العوائق في هذا السبيل هو حذر
الآباء والأمهات وخوفهم على أولادهم، فإن فكرة غياب الغلام الغِرّ عن نظر أمه
ووكله لأمواج البحار ومخاوف الأسفار وتخليته ونفسه مما يُهَيَّجَ نفوس الأمهات
وتثور له قلوبهن. لا جرم أن اهتمامهن بأولادهن حقيق بالاحترام والإجلال ولكن
ينبغي أن يُفهمهن القائمون على التربية أنّ ليس في الغياب شيء يقطع أواصر
الرحم وأنّ عرى المحبة والوداد تجمع بين القلوب الشريفة والنفوس الكريمة مهما
اتسعت مسافة البعد بينها وأنه لا خوف من الحرية إلا على الأبناء الذين لم يبكر
بتعليمهم الاستقلال بالسير في هذه الحياة على أنه لا يصح أن تكون محبة الوالدين
لأولادهما الأعزاء مقصودًا بها لذاتهما؛ بل لا بد أن تكون غايتها الحرص على
مصلحتهم فإن رحمتهما بهم تدب إليها شبهة الأثرة إذا انحصرت في إبقائهم في
كنفهما وإن أخل ذلك بتلك المصلحة وفوق ذلك فإنه لم يكن من العبث أن استعملت
في أيامنا هذه قوة البخار في طي المسافات السابقة، وتقريب الأقطار المتنائية،
وأبعدت والملاحة في فتوحاتها، ورخّصت للناس أسعارها، فأصبح السفر إلى البلاد
المسامتة لنا من أسفل معتبرًا عند شبان الإنكليز من قبيل التنزه وتمضية وقت
الفراغ في البحر وقد شعر النوع الإنساني بنمو أجنحته للرقي فلا محيص من
التسليم، وإني لأخشى أن لا تغني حكمة الشيوخ الزاجرة عن السفر ولا الجدول
الأطلانطيقي شيئًا مما يجده خَلَفُنا في نفوسهم من الحمية والحاجة إلى رؤية العالم.
جميع الأمم الحرة أمم رحّالة لا يعوقها بُعْدُ المسافات ولا اختلاف الأقاليم ولا
العقبات المادية بل ولا تعلقها المتين الأعمى بالزاوية التي تعيش فيها من الأرض.
إن القوانين التي جرى عليها توزيع أجيال النوع الإنساني على البلدان قد
تحدد بعضها بالفطرة وبعضها بالتاريخ وكثير منها بسياسة الحكومات، وما زال
الحاكمون في كل عصر يعنون أشد العناية بأن يعيش المحكومون ويموتون في
الأرض التي ينبسط عليها سلطانهم سواء في ذلك الأغنياء منهم والفقراء وقد
استنتجوا من كون هذا الأمر مفيدًا لمصالح ملكهم أنه مِن الفروض التي لهم على
رعاياهم، ونجحوا في إقناعهم بذلك وكان من أوهام المربين وخيالات الشعراء وأفكار
رجال الدين ما تضافر في قرون طويلة على أن يغرس في القلوب غريزة يشترك
فيها الإنسان مع العجماوات وهي حبه للمكان الذي ولد فيه، نعم، إنها من الغرائز
الحسنة ولا تنس أنها هي السبب في تآلف الجماعات، ولكن لا يعزب عن ذِكْرِكَ
أيضًا أنه يسهل أن يساء استعمالها ليبقى المستضعفون من الناس عبيدًا للأقوياء
الغاشمين.
لما كانت جماعات الإنسان في بداية نشأته قد انحصرت كل واحدة منها في
بقعة من بقاع الأرض كانوا معتادين من صغرهم على المعيشة في الأماكن التي
يجدون فيها ما يقتاتون به ووصلت بهم في هذه الحالة إلى حَدِّ أنهم قد عدّوا هذه
العادات الانحصارية من الفضائل، وأما أنا فلا أعدها إلا معيبة ولا أقدرها بما لا
تستحق فما زال الفلاح اللاصق بأرضه يقلبها ويزرعها أدنى منزلة في الجملة من
المدنِي والمدني نفسه يستفيد ويرتقي كثيرًا إذا اتسع نطاق معاملاته مع العالم.
الأمم التي تكون عالة على أرضها أجنبية عن لغات غيرها في وسعها ولا شك
أن تقوم بعظائم الأمور وجلائل الأعمال لكنها تكون أكثر من غيرها استهدافًا لقوارع
البغي السياسي، فإنها لا تتأثر من تعطيل القوانين، ولا من إبطال كفالات الحرية ولا
من دوس حقوق الأفراد واهتضامها، ذلك لأن أبناءها يلتصقون وهم كالمستميتين
بقطعة الأرض التي تؤويهم وقد دنسها الدم الذي سفكه عدوها الظافر وجعل منه قرابًا
لسيفه فالاغتراب أشد رهبة في صدورهم من جميع المصائب ولو أحاطت بهم
فوادح الخطوب القومية من كل ناحية، فإذا نفى بعض ذوي الوجاهة والنفوذ من
الأحزاب المستضعفة إما بحكم الضرورة أو بما يتخذ من طرق القهر في زمن الفتنة
كان النفي أبلغ المحن في نفوسهم ألمًا فتراهم حيارى لا يدرون أين يذهبون ولا ماذا
يصنعون وقد صارت الدنيا في أعينهم وهم خارجون من ديارهم صحراء يعوزهم فيها
الدليل، وموحشة لا يجدون فيها الأنيس.
وأما الأمة التي يعتاد أفرادها من نعومة أظفارهم على قطع أجواز البحار ولا
يكونون بمعزل عن لغات الأمم الأخرى وعوائدها ويدرسون أبعد ضروب الحضارة
عنهم وأشدها اختلافًا فإنه لا يكون لصروف الدهر عليها سبيل ولا يخشى بَنوها
بطش القوانين الخاصة ولا التغريب؛ بل إنهم يكونون أصدق مِن فليبس الثاني [10]
إذا قالوا متشبهين به: (ما كانت الشمس لتغرب عن حكوماتنا) .
ولقائل أن يقول: إن عادة السفر قد تُضعف في الأحداث العاطفة الوطنية:
فأجيبه إني لا أميل قطعًا إلى عموم معنى الوطنية واتساعه فما أتعس مَن تكون الدنيا
كلها وطنًا له؛ إذ لا يكون الإنسان إنسانًا إلا بشرط أن ينتسب إلى طائفة معينة من
البيت الإنساني وأن يكون له لغة وأمة خاصتان به غير أنه لا ينبغي أن يتوهم أن
حب الوطن الحقيقي يَضِيعُ كثيرٌ مِن معناه إذا تجرد عن روابط الوثنية المادية التي
كثيرًا ما تشوهه وتنجس قيمته، فليس الوطن مطلقًا عبارة عن الجبل أو السهل أو
الغدير الذي يولد الإنسان بجواره اتفاقًا وليس هذا من القرميد أو الحجر ولا هو
بالمكان الذي يحصره سطح يقدر بالفراسخ المربعة كلا، ليس الوطن شيئًا من ذلك
ولكنه معنى يقوم بالذهن بل تاريخ الأمة بل آثار سلفها وإن شئت فقل إنه وجود كلي
تشعر جزئياته بالمعيشة فيه، ولا شيء من ذلك كله يضيع في ركوب متن البحار،
ولا في اجتياز المفاوز والِقفار، إذا نقش على لوح القلب، وتحققت به النفس.
جاءتنا أخبار من بلاد البيرو وبواسطة بعض معارفنا تحمل على الاعتقاد بأن
(رولوريس) قد سُلِبَتْ أموالُها بتواطئٍ حصل بين أقاربها وقد استفتينا العارفين
بالقانون فكادوا يجمعون على أن هذه القضية الغامضة لا ينجلي غموضها ولا
ينكشف سرها إلا في البيرو وأنها تقتضي أن نوسط فيها صديقًا يعهد إليه بمصلحة
الفتاة المهضومة فنقّبنا عن هذا الصديق فلم نقع عليه صنائع البر يستلزم بعضها
بعضًا، فإننا وإن لم نَتَبَنَّ هذه الفتاة الأجنبية فقد التقطناها وآويناها إلى بيتنا وصار
من الحق علينا إنصافها في بلدها.
فكرت في أن أسافر بنفسي للقيام بهذه المصلحة فرأيت غير واحدة من العقبات
تدافعني عن تنفيذ هذا العقد، من ذلك ما يقتضيه قطع تلك الشقة البعيدة من النفقات
وعدم احتمال الفوز بالحق في الدعوى والروابط التي تربطني بالبقاء في أوربا
وبالجملة فإن سبعين اعترضًا قويًا وقفت بي موقف المتردد بين الإقدام والإحجام فقد
تعاهدت أنا وهيلانة بعد الذي ذقناه من ألم الفراق أن لا نفترق ولا أدري إن كان في
مكنتها احتمال سفر شاق كهذه ولو أنه اقتضى أن تحتمل مضض الفُرقة مرة ثانية
لما تَرَيَّثْتُ في إطراح خاطره.
على أن هذا الخاطر لا يزال يساورني والحالة التي أصبحنا فيها بسبب كفالتنا
لتلك الفتاة العزيزة علينا وما يلحقنا من تبعات التقصير في شؤنها لم تكد تترك لي
حرية الاختيار في السفر بل قد شعرت بوارد يأمرني به أمرًا.
وأقول على أي حال: أفلا يجوز أن يكون الإنسان منافقًا يتخذ المقدور من
حيث لا يشعر ستارًا لإخفاء نفاقه؟ أفلا يصح أننا مع اعتقاد امتثالنا في العمل لحكم
الضرورات نتبع في أغلب أعمالنا ما توحيه إلينا شهواتنا أو نمزج المصلحة التي
نتخيل أننا نقوم بها لغيرنا بشيء من الأثرة أو يكون ميلي الغريزي إلى التجوال هو
الذي قد تنبه في نفسي واجتهدت في مواراته بحجاب صنيعة المعروف أو أن تكون
لي غاية خاصة أو سبب خفي يدفعني إلى تغيير الهواء الذي أنا فيه.
لست أقطع بشيء من ذلك ولكني كلما تساءلت خيل لي أن قصدي الأول إنما
هو نفع الولدين اللذين أخذت على نفسي تربيتهما.
ولو كان في وسعي أن لا أستفتي إلا ميلي وذوقي لجاز أن لا تكون البيرو هي
المكان الذي أتخذه من الأرض موضوعًا للدرس والتعليم وذلك لفرط بُعدها؛ ولكن ما
أوسع السفر إليها من ملعب يتجلى فيه كثير من الوقائع والمرائي، إذ يرى المسافر
سموات مجهولة له يعمرها من الكواكب ما لا ينير أقطارنا الكامدة ليلاً، وبحارًا
مشحونة بالغرائب، وسواحل قاصية أَبْرَزَها للعيان فعلُ الجبال النارية، وخليطًا
من الأجيال الآدمية التي لما يتم امتزاجها، وتُسْفِرُ أخلاقُها عن تاريخ تام.
سن المراهقة هو السن الذي يكون فيه التأثر قويًا فهو الذي تُنْقَشُ فيه على
المخ صورة العالم الخارجي أتم انتقاش وأدقه، ما ولقد حَصَّل (أميل) من العلوم
الصحيحة إن لم أكن واهمًا ما يكفي لاشتغاله بالكون وسيؤهله درس الوقائع الكونية
المحسوسة لدرس المقولات فإنّ تعليمَ فنِّ الألفاظ ومحسنات اللغة لحدث لمَّا يشاهد
شيئًا بنفسه ويراقبه ويحس به كنثر الزهر في كهف اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب من كتاب (أميل) القرن التاسع عشر في التربية، تابع لما نُشر في ص 778 من المجلد الخامس.
(1) شكسبير هو أشعر شعراء الإنكليز كما مر.
(2) نهر الآون هو أحد أنهار إنكلترا المشهورة وهو قريب من مدينة استراتفورد.
(3) استراتفورد هي أهم مدينة في مركز استراتفورد.
(4) غابة أردان هي في هذا المركز أيضًا.
(5) أولفيار جولد سميث هو شاعر وقصصي إنكليزي شهير وُلد سنة 1728 ومات 1774.
(6) واشنجتون أرفنج هو أديب وقصصي أمريكي ولد سنة 1780 ومات سنة 1859.
(7) بحر أوتسون هو خليج متسع على السواحل الشمالية للقسم الإنكليزي من أمريكا.
(8) ملتون شاعر إنكليزي شهير ولد سنة 1608 ومات 1674.
(9) نورمنديا إقليم من الأقاليم الفرنسية القديمة التي دخلها العرب الفاتحون.
(10) فليبس الثاني هو ابن أمنتاس أحد ملوك مكدونية الخمسة الذين تسمَّوْا بهذا الاسم، حَكَمَ مِن سنة 359 إلى سنة 336 ق م وفتح بلادًا كثيرة.(6/559)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت
التعليم الابتدائي لا بد منه لكل فرد من أفراد الأمة صُناعها وزراعها وأجرائها
والتعليم العالي لا بد منه لطائفة من خواصّ الأمة الذين يعملون الأعمال الكبيرة
كالمعلمين والمؤلفين والساسة والقضاة والأطباء ومديري الشركات المادية وكبار
التجار فإذا لم تتعلم الطبقات الدنيا التعليم الابتدائي كان أفرادها كالبهائم لا صلة بينهم
وبين المتعلمين ويسهل على كلِّ دجال ومحتال أن يقودهم إلى ما شاء من الشرور،
وإذا اكتفى الخواص بالتعليم الابتدائي كان ضررهم في الأمة أشد من ضرر العوام
الأميين لأنهم يعجزون عن الرقي بها والقيام بشؤونها الكلية فيختل النظام، ويعتل
مزاج المصالح، وينصرف هؤلاء الزعماء إلى الإفساد في الأرض بجهالاتهم
وشهواتهم، ولا يكون لهم حظ من التعليم الناقص إلا تقليد الأمم الراقية في الأزياء
والماعون والأثاث وذلك يُذهب بثروة الأمة ويمينيها بسوء الأسوة، ويجعلها ألعوبة
بأيدي الفاتحين، وحلبانة ركبانة للمستعمرين.
ومن العار على مصر أن تكون على سبقها البلاد العربية كلها إلى التعليم
العصري خالية من مدرسة كلية للعلوم العالية بجميع فروعها فإن المصريين
يشتغلون منذ قرن كامل بالتعليم ومنهم مَن تخرج في مدارس أوربا العالية ومع هذا
لم تَسْمُ همتهم إلى إنشاء مدرسة كلية تغنيهم عن المدارس الأجنبية الخالية من لغتهم،
ومن التربية الملّية التي تليق بهم، على أن مصر أغنى البلاد العربية وأحوجها
إلى العلوم العالية، وخواصها أعرف بهذه الحاجة من خواص مسلمي سوريا وتونس،
بله الجزائر ومراكش فإن الكثيرين منهم يرسلون أبناءهم إلى أوربا وإلى سوريا
لتكميل دراستهم في مدارسهما العالية.
في بيروت عدة مدارس كلية وليس في القاهرة مدرسة واحدة وفي تلك
المدارس مئات من أبناء المصريين وقليل من أبناء مسلمي سوريا وإنما كان هؤلاء
قليلين لأن الآباء يخافون على عقائد أبنائهم من هذه المدارس فإنها كلها دينية
ومديروها ونظارها من القسيسين وهم يُلزمون التلميذ المسلم بدخول الكنيسة
وصلاة النصارى فيها.
وفي مدارس الجزويت يَحُولون بينه وبين كل ما يذكِّره بدينه حتى إنهم يحرفون
ما يطبعونه من كتب المسلمين فينسبون كلام الله فيه إلى الناس المجهولين،
وكذلك كلام رسوله عليه السلام ويكذِبون على الإسلام والمسلمين في التاريخ لينفّروا
تلامذتهم عنه، وأَمْثَلُ مدارس سوريا وأوربا للمسلم (المدرسة الكلية الأمريكانية) في
بيروت فإنها أحسن تربية لما فيها من روح الحرية والاستقلال، واللغة العربية فيها
معتنى بها لا سيّما في هذا العهد؛ إذ الأستاذ الأول لعلومها جبر أفندي ضومط صاحب
كتاب (الخواطر الحسان في المعاني والبيان) وكتاب (فلسفة البلاغة) ، الواسع
الاطلاع على الآداب الإسلامية، المجبولة طينته بفضيلة الإنصاف، المغرم بتربية
النفوس على الفضائل، غرامه بتربية العقول على الاستقلال في طلب الحقائق،
الذي يعتمد في علم الأخلاق على كتاب (الإحياء) للغزالي أكثر مما يعتمد على سواه.
وقد وجد هذا المعلم المربي مجالاً فسيحًا للعمل بمذهبه في التعليم والتربية
على عهد رئيس المدرسة الكلية الحاضر الدكتور (هوردبلس) الذي يقول إن حياة
المدرسة في ثلاث: (كلمة لا إله إلا الله) وطلب الحقيقة بالإخلاص، والنظر إلى
المخالفين في الدين من جهة الاتفاق لا من جهة الاختلاف. هكذا حدثنا عنه صديقنا
جبر أفندي عند زيارته القاهرة في أوائل هذا الشهر وخطبته في كنيسة المدرسة يوم
المولد النبوي تؤيد ذلك، وقد نشرت (ثمرات الفنون) يومئذ مُلَخَّصًا فدلَّ ذلك
على أن هذا الرجل أشبه بفيلسوف إلهي منه بقسيس نصراني، فأين منه الأمريكان
المتعصبون في مصر؟ !
وجملة القول: إن المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت أمثل للمسلم من
مدارس مصر وسوريا والآستانة وأوربا فهي مدرسة رَبَّت ولا تزال تربي رجالاً؛ بل
هي الآن للمسلم خير منها قبل الآن. أما المدارس الابتدائية فخيرها للمسلمين
المدرسة العثمانية الأهلية في بيروت.
__________(6/566)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأستاذ الإمام - عودته
عاد الأستاذ من سياحته في أوربا والجزائر وتونس فتلقاه في محطة القاهرة
الجماهير من العلماء والوجهاء وهي حفاوة داعيتُها المحبة والإجلال. ولم تُعهد لغيره
في هذه الديار وقد أثنى على حفاوة أهل الجزائر وتونس وحكومتيهما به، وقال: إنه
رأى روحًا جديدًا في العلماء وتوجهًا جديدًا من فرنسا للمسلمين وإنه يرجو بذلك
للبلدين حياة علمية سعيدة، ونهضة إسلامية قريبة، فيأتلف الحاكم والمحكوم ويوجه
العلم إلى المعلوم.
وسننشر بعض فوائد رحلته فيما بعد.
__________(6/567)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(كلمة للمشتركين أو كلمتان)
لا يكاد يمضي يوم إلا ويجيئنا فيه مع البريد كتاب أو كتب من المشتركين
يطلبون فيها أجزاءً ناقصة من (المنار) وقلّما يرسل أحد منهم ثمنها الذي عيَّناه
وننشر إعلانه على الغلاف دائمًا، ومنهم مَن يلح في ذلك ويكرر الطلب ولنا العذر في
عدم المجاوبة (يراجع الإعلان في الصفحة الرابعة من الغلاف) .
هذه هي الكلمة الأولى وأما الثانية فنرجو من المشتركين الكرام - حيث لا
وكلاء للمنار - التفضل بإرسال قيمة الاشتراك حوالة على البريد في مصر وأن لا
يحوجونا إلى المكاتبة ونفقة التحويل كما فعل ذلك الغني العظيم في بني سويف؛ إذ
طالبناه بثمن المجلدات التي اشتراها من المنار وبقيمة الاشتراك فما أغنى عنه
الطلب، وحولنا عليه فلم يغنِ التحويل. فلو استن الناس بسُنة هذا الغني لبطلت
الأعمال وفسد العمران وهلك الإنسان ولعله يرجع إلينا المجلدات والأجزاء إذا شقّ
عليه إرسال ثمنها ولا يحوجنا إلى التصريح باسمه خلافًا لعادتنا.
***
(العبرة في ثورة مكدونية)
كل يوم تأتينا البرقيات والصحف الأوربية بضروب من أخبار الثورة وآراء
أهل أوربا فيها وكلها عِبَر للمسلم، ولكنَّ نَقَلَتَها في صحفنا لا يوجهون النفوس إلى
طرق الاعتبار بها، قامت قيامة أساقفة الإنكليز على حكومتهم، وكتبوا يحرضون
الأمة على الحكومة لتحملها معهم على الانتصار لنصارى مكدونية، والسعي في
إنقاذهم من حكم المسلمين، وقد اضطرت الحكومة أن تدافع عن نفسها، وتبرئها
من تهمة مساعدة الدولة العثمانية في الربع الأخير من القرن الماضي، وتفتخر بأنه
تيسر بمساعدتها وضع قبرص والبلغار ورومانيا والبوسنة ومصر وكريت تحت
لواء أوربا، كما اعتذرت عن عدم السعي في استقلال مكدونية بأن العنصر الأقوى
فيها مسلمون متعصبون لدينهم ولسلطانهم.
هذا، وإنك ترى أكثر الجرائد الأوربية والمقلدة لها في الوسائل والمقاصد تندد
بذبح الأتراك وتنكيلهم بالنصارى في البلاد الثائرة - أي بالثائرين ومساعديهم-
ولكنها تمدح الثائرين وتطلب مساعدتهم على إحراق بيوت الله وبيوت الناس
والفتك بحكامهم الترك وسائر المسلمين، ولو أن الدولة العلية قصرت أو عجزت
عن تأديب هؤلاء الثوار الأشرار لكانت - في نظرهم - أحق بالتأنيب، وأحوج
إلى التأديب، وقد كتبت جريدة فرنسية مقالة في هجو اليونان؛ لأنهم لم يساعدوا
الثائرين عملاً بمصلحتهم، وقالت الجريدة إن المسألة ملّية يجب فيها العمل بالغيرة
الدينية، دون المصلحة السياسية، وقد عرَّبت هذه المقالة جريدة الجوائب
المصرية.
فليعتبر بهذا المتفرنجون الذي يزعمون أن أوربا فقدت الغيرة الدينية،
ويجهلون أنه لولا هذه الغيرة لما ثار ثائر نصراني في كريت ولا مكدونية ولا
غيرهما، وأنّ هؤلاء الثوار يعلمون أنهم يعجزون عن الخروج من سلطة الدولة
العثمانية بالقوة، ولكنهم يعتمدون على انتصار الشعوب الأوربية لهم، وإلزامها
حكوماتها بمساعدتهم، وإن كانت الحكومات تقدم مصالحها على مصلحة الدين فإن
من مصالحها أيضًا إرضاء رعاياها ومراعاة إحساسهم الديني!
أما هذه الثورة فقد استعد لها المقدونيون في بلاد الدولة وفي بلاد البلغار
استعدادًا عظيمًا مبنيًا على العلوم والصنائع؛ فمدارس النصارى في تلك البلاد
تعلمهم عمل الديناميت لأجل الاستقلال، وغير ذلك من العلوم والأعمال،
والمسلمون لا يتعلمون إلا ما ينكث فتلهم ويقطع روابطهم، فلو صبر الثوار
لاستولوا عليهم بالعلم، ولكنهم عجلوا إلى امتشاق السيف، والدولة لم تكن غافلة
عما يعملون، ولكن السلطان الأعظم يحب مداواة الأدواء باللين ما وَجَدَ إلى ذلك
سبيلاً؛ ولذلك كان يَمنح الرتبَ والوسامات لكل مَن توسم منه الشر، فلما جاء
الميقات لم تغنِ الرتبُ ولا الوسامات، وكل ما هو آتٍ آت.
______________(6/568)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتك الهيضة في حِمْص وطرابُلس
كان فتك الهيضة في هذين البلدين أشد منه في سائر البلاد السورية وقد قلنا
في جزء مضى أن أكثر مَن يصاب ويموت به في طرابلس الفقراء الذين لا يبالون
بالنظافة ومداراة الصحة ولكن قد مات به في حمص جماعة من خيار أهل العلم والدين
وهم:
(1) الشيخ محمد المحمود الأتَّاسي: كان هذا الرجل شيخ العلماء وكبيرهم
في حمص مات عن ثمانين سنة لم يسأم التدريس والتعليم في أواخرها كما سئم لَبيد
الحياة في مثل سِنِّه؛ لأن الإنسان لا تطيب له الحياة بعد ذهاب الطيبين إلا إذا كان
له حياة عقلية روحانية ينعم بها وكان رحمه الله تعالى ورعًا قنوعًا لم يأكل قط بعلمه
ودينه على أنه كان أكبر العلماء جاهًا ولم يأخذ من مال الأوقاف شيئًا على أنه كان
المدرس الأول في الجامع الكبير. وكان عالي الهمة سليم القلب رقيق الطبع حسن
الفكاهة حفَّاظًا للناس في غيبهم كحضورهم ويعتقد العارفون بحال البلاد أنه أحد
الأفراد الذين حُفِظَ بهم العلم الإسلامي منذ ستين سنة؛ إذ بلغ النهاية من التلاشي.
(2) الشيخ أنيس الملوحي وهو من فقهاء الحنفية المهرة وكان مرجعًا
للخاص والعام في أحكامٍ في المعاملات لا سيما مسائل الأزواج قضى في سن
الخمسين، ولم يكن من الفقهاء الجامدين.
(3) محمد سعيد أفندي الحكيم:- كان من الشبان الأذكياء المشتغلين بالعلم
المحبين للإصلاح وتعلم الطب من والده وغيره وعمل به ولكن الأجل إذا جاء لا
ينفع معه طب ولا ينجو منه طبيب على أنه يقع بسببه ولكن الإنسان لا يهتدي دائمًا
للوقوف على الأسباب والعمل بها.
(4) الشيخ علي العمري:- أما طرابلس الشام فلم يمُت فيها من
الرجال المشهورين بالعلم أو غيره أحد إلا الشيخ عليًا العمري وهو لم يمت بالهيضة
الوبائية بل بمرض آخر كما يفهم من ترجمته في جرائد بيروت، مات عن تسعين
سنة وكان أكثر الناس يعتقدون صلاحه وكرامته ويتناقلون عنه من الخوارق والغرائب
ما لا يُحصى وأشهرها أنه كان ينفث في فنجانة القهوة وقدح الشاي أو يشرب
منهما قليلاً فتكون لهما رائحة مسكية ويأخذ عودًا أو قطعة مِن الحصير أو غيره
فيضعها في النار فتكون رائحة دخانها كرائحة العمود الهندي ويأخذ عودًا من
الكِبريت أو خلالاً فيبله بريقه ويكتب به تميمة لطالبها على أنه كان أميًا. من الناس
من يأوّل أمثال هذه الغرائب وينقلون عنه ما هو أغرب منها. ومِمَّا امتاز به على
منتحلي الكرامات من شيوخ الطريق أنه كان يأتي بأغرب خوارقه في ملأ الأمراء
والوزراء، على أن القوم يخصون بها العامة والأغبياء، وأن مختار باشا الغازي
يروي عنه مِن الخوارق مثلما يروي عنه الدَّهمْاء في طرابلس الشام.
وقد عرفناه وكان بيننا وبينه مودة ولكن كاتب هذه السطور لم يَرَ منه شيئًا
يتعاصى على التأويل. أما أخلاقه فأخصَّها التواضع والمروءة وحفظ اللسان والسعي
في مصالح الناس وكان محترمًا عند العظماء مقبول الشفاعة عند الولاة والحكام وقد
كان يتهمه بعض الناس بترك الصلاة ولكنني ما رأيته ترك صلاة وأذكر أنه كان نائمًا
عندنا في الحجرة التي أنام فيها فاستيقظت في جوف الليل على تهجده ولم أُشعره
بذلك، ولم يكن يعاهد الناس على الطريق ولا يجمعهم على الذكر ولا يتكلم
بالتصوف ولا الوعظ.
تغمده الله تعالى برحمته الواسعة وأحسن عزاء أنجاله ومحبيه.
__________(6/569)
غرة شعبان - 1321هـ
22 أكتوبر - 1903م(6/)
الكاتب: محمد عبده
__________
سورة العصر
اقترح بعض العلماء في الجزائر على الأستاذ الإمام أيام كان عندهم أن يقرأ
لهم درسًا عامًّا يستفيدون منه، ويتحقق به تلقِّيهم عنه، ففسر لهم سورة العصر وقد
كتب بعض من حضر الدرس ملخص ما قاله الإمام، وكتب بعضهم يقول: إن
بعض الكاتبين أخطأوا فيما كتبوا واقترح أن يكتب الأستاذ الإمام نفسه تفسير
السورة ويُنشر في (المنار) ليصحح عليه الكاتبون ما كتبوا فعرضنا ذلك عليه
فكتب - أيده الله بروحه - ما يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: 1-3)
المرجح أن هذه السورة من المكيات. وقد ورد عن الشافعي فيها أنه قال: لو
لم ينزل إلا هذه السورة لكفت الناس، وفي رواية عنه: لو تدبر الناس هذه السورة
لكفتهم، وصح أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا اجتمع اثنان منهم لم يتفرقا حتى
يقرأ أحدهما على الآخر هذه السورة إلى آخرها ثم يسلم أحدهما على الآخر. وقد
ظن الناس أن ذلك كان للتبرك وهو خطأ وإنما كان ليذكِّر كل واحد منهما صاحبه
بما ورد فيها خصوصًا من التواصي بالحق والتواصي بالصبر حتى يجتلب منه قبل
التفرق وصية خير لو كانت عنده.
جرت سنة الله في كتابه أن يُقْسِمَ أحيانًا بشيء من خلقه أو بشأن من شؤونه
لينبه الناس إلى ما أودع فيه من الحكمة وأنهم إن كانوا قد نسبوا إليه شيئًا من الشر
أو ظنوا فيه ضربًا من السوء فهم مخطئون؛ فإن السوء والشر ليسا في هذه الأشياء
وإنما هذا في نفوس المستعملين أو المعتقدين وقد كانت أديان يظن أهلها أن هذا
الكون الزماني وما فيه كون شر وفساد ومن الواجب على طلاب السعادة أن يحقروه
وأن يفروا من طيباته ويجردوا نفوسهم إلى عالم آخر فوق عالم الكون والفساد فجاء
الكتاب المبين يبيّن لهم سوء فهمهم عن الله. ومن طرق تنبيههم إلى خطأهم تلك
الأساليب التي جاءت في القَسَمِ ووردت في الكتاب. أراد أن يكشف لهم أن هذه
الأشياء من حكمة الله بالمنزلة التي تبلغ أن يُقْسِمَ اللهُ بها كأنها مما يعظمه الله، وناهيك
بذلك الذي يعظمه خالق كل شيء ووجود كل موجود الذي لا وجود لشيء إلا منه.
العصر: إما القطعة المعروفة من الدهر وهو الزمن الذي يعيش فيه المتكلم
مع غيره سواء قدّر بعدد من السنين كمئة سنة مثلاً أم لم يقدر، وإما الوقت
المعروف من النهار ما بين الظهر والمغرب وكل منهما تصح إرادته. وقد اعتاد
الناس سبّ الأول فكلٌّ يشتكي من عصره ويقول: هو عصر جهالة ونذالة، ونقص
مروءة، وخبث طويَّة، ورداءة عمل، وينسبون ما شاؤوا من الخير إلى ما كان
قبل عصرهم من العصور فأراد الله أن يزعج نفوسهم عن مثل هذا الاعتقاد بأن
أقسم به ليدهش عقولهم بتعظيم ما أَلِفُوا تصغيره، ورفع قدر ما اعتادوا تحقيره،
والعصر بالمعنى الثاني كان الوقت الذي يجتمع فيه الأعطال من العرب، قريش
وغيرها إما عند الحرم أو في مواضع أخر من منتديات الأحياء ويخوضون فيما لا
خير فيه من غيبة أو هزء وسخرية أو لغو من الحديث مُلْهٍ عن جد العمل فوقر في
نفوسهم أن ذلك الوقت نفسه هو قرارة السوء ومجتمع الشر فدفع الله ذلك عن الزمان
إليهم وعلمهم أن الوقت نفسه بمنزلة من الشرف يصلح معها لأن يُقْسِمَ به خالق
السموات والأرض فكان عليهم أن يستعملوه فيما يناسب هذه المنزلة ويشغلوه
بطيبات الأعمال فيخلصوا بذلك من الخسران الذي لم يلحق بهم إلا بسيئات أعمالهم.
إنما ورد هذا القَسَمُ على أي المَعْنيين تأكيدًا للخبر الذي أراد الله أن يسوقه إلينا
وهو أن الإنسان في خسر.. إلخ، وإنما احتاج هذا الخبر إلى التأكيد لأن كثيرًا من
الناس يظنون أن من الأحوال والأعمال وراء ما ذُكر في هذه السورة ما لا خسار
فيه، بل يعتقدون أن السعادة في التخلص من عقد الإيمان والعتق من قيود الفضائل،
وانطلاق النفس فيما يسمونه متسع الفكر، وحرية العمل، بدون تحرج من رذيلة،
ولا إحجام عن فاحشة، متى كانت تلذ للنفس في العاجل، وإن أدت بها إلى الهلكة
في الآجل، وإنّ من الأمم مَن يسعد وإن اتبع أفرادها أهواءهم، وملكتهم شهواتهم،
ما داموا يكسبون المال ويوفرون على أنفسهم وسائل القوة في زعمهم، سواء آمنوا
أم لم يؤمنوا، عملوا الصالحات أم لم يعملوا، تواصوا بالحق والصبر أم لم
يتواصوا، وأمثال هؤلاء الظانين يفوق عددهم الحصر في كل زمان ومكان.
(أل) : في الإنسان للاستغراق كما يدل عليه الاستثناء في قوله:] إِلاَّ
الَّذِينَ آمَنُوا [والاستغراق بأل في لسان العرب ليس كالاستغراق بلفظ (كل) الذي
يسوّر بها المناطقة قضاياهم الكلية وليست (أل) مساوية لكلٍّ التي تضاف إلى
النكرة ويريد بها العربي تعميم الحكم في جميع أفراد الجنس وإنما يراعى في (أل)
استغراق المعهود عن المخاطبين لأنها في لسانهم للعهد، وتعريف الجنس إما في فرد
أو أفراد ولن تفارق العهد في حال من الأحوال.
وكذلك التي يسميها النحاة للعهد الذهني ويتحيرون في الفرق بينها وبين النكرة
ثم يقول مَن لا يعرف خصائص اللسان منهم: إنّ الفرق في اللفظ وإجراء أحكامه،
أما المعنى فلا فرق فيه، وهو وهم فاسد فإن قول الرجل لعبده: اشترِ اللحم من
السوق، لا يُفهم منه أي لحم في الكون بأسره ولا أي سوق في العالم. ولكن قد عهد
السيد نوعًا خاصًا تعوَّد العبد شراءه وأسواقًا خاصة هي أسواق المدينة التي يقيم فيها
وإن لم يتعين أحدها فالعهد والتعريف به لم يفارقها. والفرق بين المعنى معها في
النكرة واضح لمن يعرف خصائص اللسان.
والإنسان الذي تجري عليه أحكام الإنسانية ويحدَّث عنه في مثل هذه الشئون
هو مَن بلغ سن الرشد عاقلاً يميز بين الخير والشر وليس يخطر بالبال عند
التخاطب في مثل هذا المقام الصبيان غير المكلفين ولا المجانين.
ولو أتى بلفظ (كل إنسان) لشمل ذلك. ولا تؤدي (أل) مؤدى (كل) إلا
بقرينة. فالاستغراق في الآية على حقيقته وهو شامل لجميع أفراد المكلفين من
الناس سواء كانوا ممن بلغته رسالات الأنبياء أم لم تبلغهم كما سيأتي بيانه.
والخُسر: في اللغة يطلق على الضلال وعلى الهلاك وعلى النقص وكل ما
جرَّ عليك عملك من شر فهو خسر لك وخسران وخسارة؛ لأنك كنت تبتغي بعملك
الفائدة والثمرة الطيبة تجنيها منه فإذا جر عليك ما كنت تتوقاه، وحرمك ما كنت
تتوخاه فقد خسرت لأنك ضللت في القصد، ودخل النقص عليك في بغية نفسك،
وأتاك التعب من حيث تطلب الراحة، وكل ما آلمك وأشقاك وأقلق نفسك،
واضطرب له قلبك فهو نقص في لدتك. وإذا عملت عملاً وأنت تقصد به سكون
القلب، وهناء العيش فحدث انزعاج النفس، ونقص الطمأنينة فقد ضللت به في
القصد، وخسرت في السعي، والخسر: في الآية مطلق لا يتقيد بدنيوي أو أخروي،
فكل مكلف ممن لم يتصف بالأوصاف الآتية (في السورة) يصيبه حظ من
الخسران في هذه الحياة أو في التي بعدها؛ لأن السورة مكية كما قلنا والخطاب في
المكيات كانت تراعَى فيه العمومات في كثير من الآيات، كما تراه في سورة
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: 1) مثلاً، والخسر بفقد الراحة وطمأنينة النفس.
الإيمان: في هذه السورة مطلق كذلك لم يتقيد بشيء كما ترى ولكنه محمول
على ما هو معروف عند المخاطبين، والأمسّ بعموم الخِطاب أنه إذعان النفس لليقين
بالفرق بين الخير والشر والفضيلة والرذيلة وبأن على الوجود مسيطرًا يرضى
الخير ولا يرضى الشر ويحب الفضيلة ويكره الرذيلة، وأنّ مِن رحمته أنْ يَخُصَّ مَن
شاء من خلقه بإطلاعهم على شيء من سره وأمرهم بأن يبيّنوا للناس ما التبس
عليهم من مذاهب أعمالهم، ويعرّفوهم مداخل الأهواء الفاسدة إلى قلوبهم، ومسالك
الدلائل الصحيحة إلى عقولهم، فيُقبلوا على هذه ويَتَلَقَّوْا ما يُساق إليهم منها،
ويسدوا على أنفسهم تلك ويقيموا من العزم حارسًا على نوافذها يمنع ما عساه يهوي
إليها، وهذا الإيمان هو المدلول عليه بقوله تعالى في سورة: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: 1) ، {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} (الليل: 6) ، وليس الإيمان ها هنا هو
التصديق المقرون بالإذعان لتفصيل الأحكام الواردة في شرعنا خاصة، فإن الحكم
إنما هو على الإنسان في جميع أمكنته وأزمنته لا يختص بأمة محمد صلى الله عليه
وسلم؛ بل يعم الأمم جميعها ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
فالكلام في السورة لتقرير حكم عام من أحكام الإنسان في نفسه وإنما تدخل رسالة
النبي صلى الله عليه وسلم في رسالة في حكم هذا العام ويكون مَن بلغته تلك الرسالة
ولم يصدق بجميع ما ورد به القطعي سندًا ودلالة من نصوصها خاسرًا في الدنيا
والآخرة بحكم هذا النص من جهة عمومه وبالنصوص التفصيلية الأخرى التي وردت
في كثير في سور القرآن.
وليس الإيمان كذلك مجرد ما يسميه الناس اعتقادًا وإن كان بمحض التقليد لا
عمل لعقل ولا لوجدان فيه فإن مثل هذا الإيمان قد خسرت معه أمم كثيرة ممن
صدقت بمرسلين صادقين، وأنبياء هادين، وإنما المراد منه ذلك التصديق المقرون
بطمأنينة النفس وخضوع القوى لحكم ما آمن به {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) ذلك الإيمان هو الذي كان الله ولا يزال ينوط به النجاة من
الخسران في الدنيا والآخرة. وسيأتي إيضاح ذلك أيضًا.
أما هذا الذي يتلقاه الناس من أفواه آبائهم فينشأ ابن المسلم لا يفهم معنى لما
يعتقد أو لما يقول أبوه وإنما ينطق كما ينطق وتأخذه الحمية لما يراه، يحمى له لا
يفهم لذلك معنى ولا يجد لنفسه فيه بصيرة كما ينشأ ابن النصراني أو ابن اليهودي
أو ابن المجوسي على مثل ذلك، فهو مما لا يعتد الله به وإنما يعتد الله بتلك السكينة
الروحية التي تشعر النفس بمهبطها إليها، وذلك العقد القلبي الذي يعرف القلب مكانه
منه، هذا هو الإيمان الذي يليق أن يسمى حياة للنفس يعدها للشعور بجميع ما يلزم
له وما يصح أن يحمل عليه. أما ذلك الذي سموه إيمانًا هو ليس به فهو مما يقتل
النفوس ويهلك الأرواح ويسلك بها مسالك الجهل وينتهي بها إلى مهاوي الهَلَكَة.
أما الصالحات: في هذه السورة فهي تلك الأعمال التي عرفت عند الناس
بأنها من أعمال الخير النافعة لخاصتهم وعامتهم المتفقة مع مصالحم التي لا تنكرها
الأذواق السليمة، ولا تجافيها الطباع المستقيمة، ومنها ما هو من ضروب الشكر
لمفيض الخير والإحسان على الخلائق أجمعين كالعبادات الصحيحة التي جاء بها كل
دين صحيح في أي أمة من الأمم التي دعيت إلى الأخذ بذلك الدين زمن العمل
بشريعتها. ومنها ما هو من ضروب البر كبذل الأموال في طرق الخير والسعي في
إغاثة المنكوبين، وإقالة العثار، والعدل في الحكم، وإنقاذ المظلوم من الظلم،
ونحو ذلك مما يطول تفصيله، ومنه فضائل الملكات التي تصدر عنها الصالحات
كالأمانة والعفة والإنصاف والمحبة والإخلاص وأمثال ذلك. كل هذا يسمى
صالحات وإن كان منه ما هو بدني يتعلق به العمل الظاهر، ومنه ما هو نفسي يتعلق
به العمل الباطن، والعمل يتعلق بالملكات لأنها إنما تحصل عادة بترويض النفس
عليها، ومجاهدتها في سبيل تحصيلها، ويدخل في هذه الأعمال عند كل أمة ما
وردت به شريعة رسولها ويدخل فيها ما هُدي إليه العقل عند الأمم التي لم تبلغها
رسالة.
وإن من أصول الصالحات ما هو معروف عند البشر عامة لا تختلف فيه أمة
كالأصول التي ذكرناها قبل أسطر، ولذلك سميت في الكتاب بالمعروف وسميت
أضدادها بالمنكر أي ما تعرفه النفوس السليمة وما تنكره العقول الصحيحة.
التواصي: أن يوصي كلٌّ من الشخصين صاحبه بشيء.
والحق: ما يقابل الباطل وهو يكاد يكون معروف المعنى عند كل الناس، وإنما
يخطئ أغلبهم في حمل هذا المعنى على جزئياته فيأتي الواحد منهم إلى أشد الباطل
بطلانًا ويقول إنه الحق، فلو حمل الحق ها هنا على ما يراه الموصي حقًّا لكان
المعنى: وأوصى كل منهم صاحبه بما يعتقده حقًّا وطالبه بالأخذ به، وربما كان
الآخر لا يعتقد أن الحق مع موصيه فيكون التواصي ضربًا من التنازع لأن كلاًّ
يدعو الآخر إلى ما لا يرضاه وهو النزاع بعينه فلا يصح حمل المعنى عليه وإنما
الذي يصح أن يقصد هو أن يوصي كل واحد صاحبه بتحري الحق فيما يعتقد بأن
ينبهه إلى الحرص على البحث في الأدلة والتلطف في النظر للوقوف على الحق
الذي هو الواقع لا يختلف فيه بعد معرفة وجهه فإذا رأى منه ضلة هداه بإقامة
الدليل على ما هو الهدى وإذا رأى منه تقصيرًا في النظر نهض به إليه، وإذا
وجد منه رعونة في الأخذ بظواهر الأمور دون النفوذ إلى بواطنها نصح له
باستعمال الرويَّة وإمعان الفكرة.
وهكذا يكون على الآخر أن يعمل مع صاحبه مثل ما يحب عليه أن يعمل معه،
وفرض التواصي على كل واحد يبيح للصغير أو يوجب عليه ما يبيح للكبير أو
يوجب عليه من ذلك؛ إلا أنه لا يمنع من رعاية كل قائم بواجب عليه حق الآخر
فلِوَصية الصغير وعرضها على الكبير طريقة غير طريقة سوق الوصية من الكبير
إلى الصغير، يعرف ذلك القوم على حسب آدابهم وما ألفوا في تخاطبهم.
والتواصي بالحق يدخل في الصالحات وإنما ذكره بلفظه لِيُنَوِّه بفضله ويشير إلى أنه
أصلٌ بنفسه تناط النجاة به استقلالاً.
ولا يصح أن يظن ظان أن النجاة منوطة بالتواصي بالحق وإن لم يكن
الموصي آخذًا به فلو كان مبطلاً وأوصى بالحق فقد نجا، هذا ما لا يعقل وإنما
جاءت الآية الكريمة على طريقة الإيجاز التي فضل بها القرآن جميع الكلام فإن
المراد مَن كان على الحق وأوصى به. ومن المعروف عند العقلاء أنه لا يوصي
بالشيء ولا يدعو إليه إلا من أصاب منه الحظ الأوفر، وكيف يدعو إلى أمر ويحسن
الدعوة إليه مَن لا تكون له مِن ذلك الأمر حلية يُعرف بها، وما تراه من قوم يدْعون
إلى المعروف وهم يقيمون على المنكر فذلك لا يعد دعوة صحيحة لأنهم لا يعرفون
كيف يدْعون وهم في دعوتهم إلى ما يدْعون إليه ينفرون الناس منه ولا يميلونهم إلى
ناحيته، وخطاب الكتاب إنما جاء على المعروف المألوف عند العقلاء. وإنما قال
(وتواصوا) ولم يقل: وأوصوا؛ ليبين أن النجاة من الخسران إنما تناط بحرص كل
من أفراد الأمة على الحق ونزوع كل منهم إلى أن يوصي به قومه. ومن يهمه أمر
الحق ليوصي صاحبه بطلبه يهمه أن يرى الحق فيقبله فكأنه في هذه العبارة الجزلة
قد نص على تواصيهم بالحق وقبولهم للوصية به إذا وُجِّهت إليهم.
والصبر: خلق من أمهات الأخلاق بل مساك كل خلق. قالوا في فضل
الصبر إنه ذُكر في القرآن نحو سبعين مرة وليس لنا فائدة كبرى في تحديد العدد
ولكن جاء في الكتاب العزيز ذكر الصبر ومدح أهله وتبشيرهم بالفوز والفلاح،
والصبر ملكة في النفس يتيسر معها احتمال ما يشق احتماله والرضى بما يُكره في
سبيل الحق وهو خلق يتعلق به بل يتوقف عليه كمال كل خلق وما أُتِيَ الناس مِن
شيء مثل ما أُتوا مِن فقد الصبر أو ضعفه.
كل أمة ضعف الصبر في نفوس أفرادها ضعف فيها كل شيء وذهبت منها
كل قوة، ولنضرب لذلك مثلاً: نقص العلم عند أمة من الأمم كالمسلمين اليوم، إذا
دققت النظر وجدت السبب فيه ضعف الصبر، فإن مَن عرف بابًا من أبواب العلم لا
يجد من نفسه صبرًا على التوسع فيه والتعب في تحقيق مسائله وينام على فراش من
التقليد، هيِّن ليِّن لا يكلفه مشقة ولا يجشِّمه تعبًا ويسلي نفسه عن كسله بتعظيم مَن
سبقه ولو كان عنده احترام حقيقي لسلفه لاتخذهم أسوة له في عمله فحذا حذوهم
وسلك مسلكهم وكلف نفسه بعض ما حملوا أنفسهم عليه واعتقد كما كانوا يعتقدون أنهم
ليسوا بمعصومين. ثم هو إذا تعلم لا يجد صبرًا على مشقة دعوة الناس إلى علم ما
يعلم وحملهم على عرفان ما يعرف، ولا جلدًا على تحصيل الوسائل لنشر ما عنده،
بل متى لاقى أول معارضة قبع في بيته وترك الخلق للخالق كما يقولون. يجلس
الطالب للدرس سنة أو سنتين ثم تعترضه مشقة التحصيل فيترك الدرس أو يتساهل في
فهمه أو يكل والده من الإنفاق عليه فيصرفه إلى حرفة أخرى يظنها أربح له فينقطع
عن الطلب، ويذهب في الجهل كل مذهب، وكل هذا من ضعف الصبر.
يبخل البخيل بماله ويجهد نفسه في جمعه وكنزه وتُعرض له وجوه البر
فيعرض عنها، ولا ينفق درهمًا في شيء منها، فيؤذي بذلك وطنه وملته، ويترك
الشر والفقر يأكل قومه وأمته، ولو نظرنا إلى ما قبض يده لوجدناه ضعف الصبر،
ولو صبر على محاربة خيال الفقر اللائح في ذهنه يهدده بالنزول به لَمَا أُصيب
بذلك المرض القاتل له ولأهله.
يسرف المسرف في الشهوات، ويهتك المتهتك في المنكرات، حتى ينفد
المال، وتسوء الحال، ويستبدل الذل بالعز، والفقر بالغنى، ولا سبب لذلك إلا
ضياع صبره في مقاومة الهوى، وضبط نفسه عن مواقع الردى، ولو صبر في
مجاهدة تلك النزغات لما كان قد خسر ماله، وأفسد حاله.
وهكذا لو أردت أن أعد جميع الرذائل وأبحث عن عللها الأولى لوجدتموها
تنتهي إلى ضعف الصبر أو فقده، ولو سردت جميع الفضائل وطلبت ينبوعها الذي
تستمد منه حياتها ما وجدت لها ينبوعًا سوى الصبر، أفلا يكون جديرًا بعد هذا بأن
يُخّصَّ بالذِّكر؟
فالحق حياة العلم، ومستنام السكينة، ومطمأن العقل، ومستقر الراحة للنفس
والصبر، مستمد الفضائل، ومدحرة الرذائل، ومِساك الصالحات، وملاك
الحسنات، فجدير بهذين الأصلين الجليلين أن يُخصَّا مِن بين أعمال الإنسان
بالإشادة بذكرهما، والتنويه بفضلهما، ولفت النفوس إليهما خاصةً، لتبدأ
بإحرازهما فتصلح بهما أعمالها كافة.
ربما تبين الناظر فيما ذكرنا وجه الحق في هذا الخبر الكريم وهو أن الإنسان
في خسر إلا مَن استكمل لنفسه هذه الصفات التي ذَكَرْتُ ولكنا مع ذلك نزيده
توضيحًا.
الإيمان بالمعنى الذي بيناه طور من أطوار النفوس البشرية ارتقت إليه،
لتخلص من سوء حال كانت عليه. النفوس البشرية في طموحها إلى الشهوات هي
على نحو ما عليه العجماوات مع امتياز في قوة استحضار الفائت وتمثيل الآتي،
ففاقت سائر نفوس الحيوان في الحرص على نيل ما يلذ لها مما ألفته، وادخار ما
يوفر لها أضعافه فيما يستقبل من الزمن، فكل نفس تستعمل قواها في تحصيل ما
يرمي إليه هواها، فما أعظم الشر تتصوره في أشخاص من البشر لا همّ لواحد
منهم إلا في تحصيل ما يتخيله لذيذًا أو نافعًا، وإتلاف ما يتمثله مؤلمًا أو ضارًا،
ثم ينظر إلى ذلك في يد غيره فيَثِب عليه ليستخلصه منه لنفسه أو يتلفه لزعمه أنه
ضار به ولا رادع للمعتدي إلا ما يكون من المعتدَى عليه، ولا يصدق أحد منهم
بأصل للخير أو للشر أو للفضيلة أو للرذيلة وإنما الخير عند كل واحد ما يلذه أو
ينفعه سواء آلم غيره أو أضره أم لم يكن كذلك.
أي شقاء يصيب النفوس البشرية إذا خلت من الشعور بذلك الأصل العظيم،
أصل التمييز بين الخير والشر؟ فمن لم يكن مؤمنًا بهذا الأصل ولم يصدق بالحسنى
كما ورد في سورة الليل فقد خسر خسرانًا مبينًا.
الفرد الواحد في ذلك ينال نصيبه من الضلال، وسوء الحال، إذا خلا قلبه من
ذلك الشعور فإنه يخبط في معاملته لمن معه على غير هدى، فيصيبه منهم ما يصيبه
من الأذى، ثم هو لا يزال قلق البال، حليف البلبال كما لا يخفى، ونصيب الأمة من
ذلك أعظم من نصيب الفرد بما لا حد له.
مَن لم يؤمن بالقوة العظمى، والقدرة العليا، والحكمة السامية، والسيطرة
القاهرة، التي ينتهي إليها كل عمل في الوجود، وبأن جميع ما عداها فهو في
قبضتها - فقد قصر نظره، وضعف بصره، وعظم وهمه، ووهى معتمده، يرى
كل قوة من القوى التي بين يديه كأنها مصدر وجوده، ومصرّفة أموره، وإذا أصابه
شيء من الشر لا يعرف له سببًا تخيل السبب شيئًا من تلك القوى كما يخطر بباله،
أو أصاب شيئًا من الخير بدون كسب منه اخترع له وهمه مصدرًا كما يتفق له،
فتكثر عليه الأرباب، وتنسد في وجهه طرق الأسباب، ويعتمد في شئونه على ما
لا يصح الاعتماد عليه وهذا هو منشأ ضروب الوثنية، التي كانت سببًا في فساد
العقول البشرية، والخسران الذي نزل بأهلها أفرادًا أو أممًا لا يخفى خبره على
أحد ولا يزال ينزل بها من الخسران ما يسوء أثره إلى اليوم.
أما من آمن بأن جميع القوى التي نراها إنما تصدر من قوة واحدة وهي تحت
نظام تديره إرادة واحدة وأن من الواجب على العاقل إذا جاء شيء من الخير أو
الشر لا يظهر له سببه أن يبحث بعقله حتى يقف على السبب أو ينتهي إلى مقدّر
الأسباب، فلا ريب أنه ينجو من شر ذلك الخبط، ويخلص من ورطة ذلك الخلط،
ويستوي في نظره جميع ما هو في الكون وتتساوى جميع أفراده عنده في أنها
مربوبة لا يمتاز شيء منها على آخر إلا بما ميز به من الخصائص، وما يكون له
من الآثار، فيسكن قلبه من كل ناحية، ويعظم اعتماده على تلك القوة الواحدة، ولا
يأخذ في أعماله إلا بما سنته له، فيعتبر ما وضعته من نظام الأسباب والمسببات،
فيجري عليه ثابت الجاش مطمئن القلب، غير خائف من شيء بعد ما عرف من
القدرة الإلهية ما عرف.
من لم يؤمن بأن الحكمة السامية تقضي بأن يكون في البشر مبشرون
ومنذرون يوضحون السبل، ويكشفون الحجب، ويغمض عينيه عن النظر في
الأدلة التي تؤيد دعواهم - يُحرم حظًا وافرًا من المعارف التي يصعب على عقله أو
يستحيل عليه أن يصل إليها بدون واسطة هؤلاء المرشدين، ويلتبس عليه كثير من
أمره، وتخفى عليه طرق الصواب في كثير من عمله، فيقع في الشر وهو يسعى
إلى الخير، ويصيبه الضر من حيث كان يطلب المنفعة، وأي خسران أعظم من
هذا؟ !
مَن فقد الإيمان بالله على الوجه الذي بيناه فأقل ما يخسره قوة العزيمة
بالاعتماد على من تحيط قوته بالأكوان، وأدنى ما يفقده ركون النفس إلى سندها
الأكبر عند نزول الشدائد [1] وأخف ما يصيبه من الخسران تشتت الأهواء عليه
واضطرابه بين دواعيها، وحرمانه من الهادي الذي يرشده إلى الوجهة التي ينبغي
أن يولي وجهه نحوها، فيظل في حيرة لا خلاص له منها، وأي شقاء أعظم منها،
والأمم في هذا الشقاء كالأفراد.
الأعمال الصالحة تتبع الإيمان الصحيح في الأغلب غير أن من الناس من
يظن أن الإيمان قول يعبر عن خيال في النفس لا أثر له في العمل أو أنه اعتقاد
يتخذه الشخص مميزًا له عن غيره في جامعة من الجوامع كاعتقاد المسلم بأنه من
أهل التوحيد وأنه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليتميز بذلك عن غيره من
الملل وكاعتقاد كل ذي دين بما يظنه من دين ومع ذلك لا يأخذ نفسه بالعمل على
سنن ذلك الدين. وهذا الإيمان لا ينجي صاحبه من الخسران بل لا بد في النجاة من
العمل الصالح، وقد بينا الأعمال الصالحة فيما سبق إجمالاً، ولا خسار أعظم من
خسار يحل بمن لم يأتِ تلك الأعمال، سواء كان ذلك في الدنيا أو الآخرة.
وببيان الخسران بذلك المعنى الذي فهمتَه تعلم أنه عام في كل مَن فقد الإيمان
وترك العمل الصالح سواء كان ممن بلغته دعوة الأنبياء وحاد عن سننهم، أم كان
ممن يسمونه (أهل الفترة) أم ممن لم تبلغهم إلى اليوم دعوة، سواء قلنا بنجاة
هؤلاء في الآخرة أم لم نقل؛ فإن الخُسر في الآية الكريمة ليس محدودًا بخسر
الآخرة، وخسر الآخرة ليس محدودًا بالأبدي منه، فصريح الآيات أنّ مَن لم يكن مِن
المؤمنين أو لم يعمل الصالحات فهو خاسر أي ضال أو واقع في شقاء على ما سبق
بيانه. ولا ريب في عموم ذلك لجميع أصناف البشر في أي زمان وفي أي مكان
وعلى أي حال.
بعد أن ذكر ركنين من أركان النجاة من الخسران في الأمم والأفراد جاء
بركنين آخرين لا يتم كل منهما إلا بتعاون الأفراد ولا يمكن لفرد واحد أن يستقل به،
وهما ركنا التواصي بالحق والتواصي بالصبر بالصبر على النحو الذي بينا. فإن
التواصي لا يكون إلا من متعدد فلا نجاة من الخسران إلا بأن يقوم الأفراد من الأمة
مهما عظم عددهم بأن يوصي كل واحد منهم من يعرفه من الباقين بأن يطلب الحق
ويلتزمه وأن يأخذ بالصبر في جميع شؤونه، فلو أن شخصًا واحدًا قام بذلك وأوصى
غيره ولكن الباقين لم يقوموا بمثل ما قام به لحل الخسر بالجميع في الدنيا لا محالة؛
فإن الأمة إذا غفل معظمها عن الحق والدعوة إليه ووهن الصبر في نفوسهم فلا محالة
يستولي عليها الباطل وتضعف منها العزائم فيسوء حالها وترمي بنفسها في الهلكة:
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال: 25) .
وأما في الآخرة فالخسار إنما يحيق بمن لم يوصِ أو من لم يسمع الوصية ولم
يقبلها، فإن كان الموصي لم يحصل من وسائل التقريب ما يحتاج إليه وكان نفور
صاحبه من طريقة نصحه ولو سلك غيرها لقبل منه كان الخسار في الآخرة عليه
كذلك، وأي نجاة لأمة يسكت أبناؤها على المنكر يفشو بينهم ولا تتحرك نفوسهم
إلى التناهي عنه، والمنكر مفسدة الأفراد ومقراض الأمم.
التواصي بالحق والتواصي بالصبر يدخل فيهما الأمران: الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر؛ لأن من أوصى بالحق ودعا إليه لا يتم له ذلك حتى ينهى عن
الباطل ويصد عنه، ومن أوصى بالصبر على مشاق الأعمال الصالحة لا يكمل له
ذلك حتى يبين مساوي الأعمال الخبيثة وعواقب التفريط بترك تلك الصالحات، فقد
أودع الله في هذين الركنين ركني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع
الأعمال والأحوال وقرر لنا أنْ لا نجاة لقوم من الخسران في الدنيا والآخرة إلا بأن
يقوم كل واحد منهم بما يجب عليه من ذلك في القدر الذي يمكنه وعلى الوجه الذي
يمكنه، وقد أكد لنا الخبر بما أورده مِن القَسَمِ فليس في الخبر تجوُّز، ولا فيما
تضمنه من الأمر هوادة، فمن الواجب على كل أمة تريد أن تنجو من الخسران أن
تقوم بهذا الفرض وهو التواصي بالخير والتناهي عن الشر أو التواصي بالحق
والتواصي بالصبر، فإذا طرأ على عوائد الأمة أو نزل بها من الحوادث ما بغَّض
إليها التناصح أو حبَّب إليها التساهل في فريضة التواصي كان ذلك إنذارًا بحلول
الخسار، وتعرضًا في الدنيا للعار والدمار، وفي الآخرة لعذاب النار.
ولا يجوز لأحد أن يتعلل بذلك التساهل إذا وقع من الأمة ويقنع نفسه بأنه
عاجز عن النجاح في نصيحته ولهذا يكفيه أن ينكر المنكر بقلبه وبذلك ينجو من
الخسران الأخروي إن لم ينجُ من الخسران الدنيوي كما يتوهمه بعض المسلمين
اليوم خصوصًا أولئك الذين عُرفوا بينهم بالعلماء فقد أخطأوا الخطأ العظيم في
زعمهم أن إعراض العامة عنهم ينجيهم من العقوبة الإلهية إذا لم يبذلوا النصح لهم
ولم يبينوا لهم وجه الحق وإن أنكروه وصكوا وجه الداعي إليه فقد صدق الله وعده،
وأكد خبره، ولا سبيل إلى التأويل في أمره، ولا إلى جحد ما يتلوه من أثره.
يحتج كثير من عامة أولئك العلماء بحديث: (مَن رأى منكم منكرًا فليغيره
بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه) [*] ولكنَّا نقول: إنه لا يصح
الاحتجاج به في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن تغيير المنكر عند
رؤيته شيء يتعلق بأمر خاص وهو المنكر المعين الواقع من الشخص
المعيَّن، وقد يتسامح في معاملة الشخص المعيَّن في حالة مخصوصة لشأن
مخصوص، فإنّ ملِكًا من الملوك أو أميرًا من الأمراء الظالمين لا يحتمل أن يقال
له: إن الأوْلى بك أن لا تفعل ما تفعل أو ليتك لم تفعل هذا أو ليتك فعلت هذا فضلاً
عن أن يقال له: اترك هذا فإنه منكر أو افعل هذا فإنه من المعروف، وربما
كانت كلمة من هذا القبيل سببًا في إتلاف نفس القائل بسطوة ذلك الظالم، ولكن
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم ينحصر في طلب تغيير المنكر في هذه
الحالة المحدودة، بل ذلك شامل للوعظ العام في المساجد والطرق والأسواق
والمنتديات وفي أوقات الاجتماع الخاصة وفي الحديث مع الأصحاب والأحبة وفي
كل حال من أحوال الاجتماع خاصة وعامة، ومثل هذا يستطيعه كل واحد من الناس
على حسبه، فلا يمكن لأحد أن يزعم أنه عاجز عن القيام بفرض الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر على الإطلاق؛ لأنه لا يوجد أحد يزعم العجز من جميع الوجوه إلا
أن يكون قد بلغ من العجز غاية لا يبلغها الحيوان الأعجم.
غير أنه يجب على العلماء ومَن يتشبه بهم أن يتعلموا من وسائل القيام
بالواجب ما تدعو إليه الحال على حسب الأزمان واختلاف أحوال الأمم.
وأول ما يجب عليهم في ذلك أن يتعلموا التاريخ الصحيح وعلم تكوين الأمم
وارتفاعها وانحطاطها وعلم الأخلاق وأحوال النفس وعلم الحس والوجدان ونحو
ذلك مما لا بد منه في معرفة مداخل الباطل إلى القلوب ومعرفة طرق التوفيق بين
العقل والحق وسبل التقريب بين اللذة والمنفعة الدنيوية والأخروية ووسائل استمالة
النفوس عن جانب الشر إلي جانب الخير. فإن لم يحصلوا علم ذلك كله فوِزر
العامة عليهم ولا تنفعهم دعوى العجز فإنهم ينفقون من أزمانهم في القيل والقال،
والبحث في الألفاظ والأقوال - ما كان يكفيهم أن يكونوا بحار علم، وأعلام هَدْي
ورشد، فليطلبوا العلم من سبله التي قام عليها السلف الصالح والله كفيل أن يمدهم
بمعونته. أما وقد انقطعوا إلى ما يعجزهم من القيام بأمره فلن يقبل الله لهم عذرًا،
بل فليتربصوا حتى يأتي الله بأمره.
لو قضى الزمان بأن يكون من وسائل التمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وإشغال الناس بالحق عن الباطل وبالطيب عن الخبيث أن يضرب الإنسان
في الأرض، ويمسحها في الطول والعرض، وأن يتعلم اللغات الأجنبية ليقف على
ما فيها مما ينفعه فيستعمله، وما يخشى ضرره على قومه فيدفعه - لوجب على
أهل العلم أن يأخذوا من ذلك بما يستطيعون ولهم في سلف الأمة من القرن الأول
إلى نهاية القرن الرابع من الهجرة أحسن أسوة، وأفضل قدوة، وكل ما يهونون به
على أنفسهم مما يخالف ذلك فإنما هي وساوس الشيطان، يشغلهم بها عن النظر في
معاني القرآن، ويحرمهم من التعرض لرحمة الرحمن.
بقيت مسألة كثر السؤال عنها، والإلحاح عليَّ في التعرض لها، كلما ذهبت
إلى مكان وجدت لها حاملاً، لا يلبث أن يتوجه إليَّ سائلاً، وهي مسألة الاختيار
والكسب ونسبة الأفعال الاختيارية إلى العبد أو إلى خالق العبد، ولا أنكر أن هذه
المسألة كانت من أعظم المسائل خطرًا على الإسلام والمسلمين ولكن كان في مرور
الزمان وتتابع الحوادث ما يهدي الناس إلى وجه الحق فيها ويرشدهم إلى أن يرجعوا
إلى كتاب ربهم وهدْي نبيهم.
نزوع النفوس إلى الخوض في هذه المسألة ضرب من ضعف الصبر أو فقده،
الوجدان يشهد والحس يشاهد أن الذي يرفع يده بالسيف ويضرب آخر فيقتله هو
الذي ضربه، ويقول الرائي والمخبر: إن فلانًا قتل فلانًا أو ضربه أو اعتدى عليه،
فنسبة الأفعال إلى مَن صدرت عنه من العباد مما لا يحتاج إلى بحث ولا نظر. ثم
جاء القرآن يقول: {بِمَا كَنتُمْ تَعْمَلُونَ} (المائدة: 105) ، {وَمَا أَصَابَكُم مِّن
مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) وغير ذلك من الآيات حتى قال في
الآية التي يحتجون بها: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات: 96) ، فلو سلّم
أن المراد مما تعملون العمل نفسه فقد نسب العمل إليهم وقامت أحكام الشريعة جميعًا
على هذا الأصل. ولو كان فعل العبد ليس له لبطُل تكليفُه به إذ لا يعقل أن يُدعَى
شخص إلى ما لا يقدر عليه، وأن يكلف بما لا أثر لإرادته فيه، ولو كان فعل
القاتل ليس له لامتنع القصاص ولم تكن فيه لنا حياة، فالعقل والشرع والحس
والوجدان متضافرة على أن فعل العبد فعله.
وكون جميع الأشياء راجعة إلى الله تعالى ووجود الممكنات إنما هو نسبتها إليه
ولا يتصور اعتبارها موجودة إلا إذا اعتبرت مستندة إليه مما قام عليه الدليل بل كاد
يصل إلى البداهة كذلك.
ومثل هذا يقال في عظم قدرة الله تعالى وأنه إن شاء سلبنا من القدرة
والاختيار ما وهبنا فهو أمر نشاهده كل يوم، ندبر شيئًا ثم يأتي من الموانع مِن
تحقيقه ما لم يكن في الحسبان، ونتناول عملاً ثم تنقطع قدرتنا عن تتميمه، كل ذلك
لا نزاع فيه، شمول علم الله لما كان ولما يكون قام عليه الدليل ولا شبهة فيه عند
الملّيين، فوجب على المسلم أن يعتقد بأن الله خالق كل شيء على النحو الذي يعلمه
وأن يقر بنسبة عمله إليه كما هو بديهي عنده، ويعمل بما أمره به ويجتنب ما نهاه
عنه باستعمال ذلك الاختيار الذي يجده من نفسه، وليس عليه بعد ذلك أن يرفع
بصره إلى ما وراءه، فقد نعى الله على المشركين قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا
وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 148) ، ووردت الأحاديث متواترة
المعنى في النهي عن الخوض في القدر وسره.
فلو صبر العبد حق الصبر لوقف عند ما حدّ الله له ولم ينزع بنفسه إلى تعدي
حدود الله التي ضربها لعباده، ولست أحب التكلم في هذه المسألة بأكثر من هذا وإلا
خرجت من الصابرين، وخضت في القدر مع الخائضين، ومن ثار به الهوس
فتوهم أن علينا أن نعتقد أن العبد لا فعل له فقد خالف كتاب الله، وعصى رسول
الله، وقد أقول واعتمادي على الله فيما أقول: إن مَن يقول ذلك يخرج عن دين الله،
ويعطل شرع الله، فليحذر مؤمن بالله أن يقول ذلك، وأسأل الله أن يرشدنا جميعًا
إلى ما فيه صلاح أنفسنا وأن يوفقنا للتواصي بالحق والتواصي بالصبر بفضله
وكرمه.
قد يمر بخاطر سائل أن يسأل: إذا كان هذا الذي ذكر في هذه السورة هو حكم
طبيعة الإنسان في كل فرد من أفراد المكلفين منه وإن من لم يكن على هذه الصفات
فهو خاسر ضربًا من الخسران في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، وأن مَن أخذ بالحظ
الأوفر منها نجا من ذلك الخسران فما بالنا نرى من غير المؤمنين من يتمتع بالسعادة
في هذه الدنيا أممًا وأفرادًا، ونرى من المؤمنين من يغمره الشقاء أممًا وآحادًا، وإذا
شئت مثلاً لذلك فانظر إلى حال اليابانيين وهم وثنيون أو حال بعض الأمم الأوربية
التي لا يعتقد الكثير من أفرادها بالله ولا برسله وقارن بينهم وبين الأمم المؤمنة
كالمسلمين مثلاً:
فندفع عنه هذا الخاطر بأن ما يراه في بعض الأمم من ظاهر السعادة ليس إلا
لمعان السراب حتى إذا جاءه وحقق أمره لم يجده شيئًا.
قال ماكس نوردو في كتابه المسمى (الأكاذيب العرفية لتمدُّننا) ما معناه:
(إن الناس كانوا ولم يزالوا يطلبون الحق ولم يكونوا في زمان أبعد عنه منهم
في هذا الزمان) ، ثم قال ما ترجمته: (إنك لو طرقت أي باب تسأل: هل مرت
السعادة بهذا البيت؟ لأجابك مجيب: إذا شئت فاطرق بابًا آخر؛ فإن السعادة لم
تمر ببيتنا) ! وهو يقول ذلك بعد أن ذكر ما عليه حال الأمم الأوربية جميعها ونسبته
من السعادة والشقاء وبعد أن أجمل مِن وصْف أحوالهم والمصائب التي تُتوقع لهم
والآلام الشاغلة لقلوبهم أجمعين ما يرحمهم لأجله المقصرون عنهم، ويزهّد
الراغبين في مثل حالهم، ويصدهم عن اقتفاء آثارهم، وبيَّن سبب ذلك وأنه
بُعدهم عن الحق ونزوع أنفسهم إلى الباطل وفقدهم الصبر في طلب المال
وهرولتهم خلف داعي الشهوة، لا يعصون له أمرًا، ولا يخالفون له إشارة، ومنشأ
ذلك خلو نفوسهم من الركون إلى الإله الواحد خالق الجميع ورازق الأحياء ومقدر
الأسباب لمكاسبهم على حسب ما وهبهم من القوى والقدر.
ولو اطلعت على ما أخذ اليابانيين من ذلك ومما تألم له نفوسهم من الأوهام
الوثنية التي ما اتصلت بروح إلا أفقدتها السكينة وأوجدتها الاضطراب صعب عليك
أن تحكم بأنهم سعداء فإذا كان لهم شيء من السعادة فهو ببركة التواصي بالصبر أو
عمل بعض الصالحات التي جعلها الله عمادًا للسعادة في هذه الحياة الدنيا كالأمانة
والصدق وارتفاع الهمة والأخذ بالحق فيما يرفع الشأن ويكسب العزة.
أما حال المؤمنين - إن كانوا - فهو لا يخالف الحكم الوارد في الآيات
الكريمة، فإنَّا لا نعني ولا يعني عاقل بالسعادة وفرة المال ورفه العيش في ظاهر
الأمر وإن كانت النفوس قلقة، والضمائر محترقة، ولكن السعادة سكون النفوس
وراحة الضمائر، واطمئنان السرائر، والرضى الحقيقي بما وصل إلى اليد،
والسعي المقارب إلى الرغيبة مِن سُبلها المعروفة، مع المعرفة بتلك السبل،
والاعتماد على الهادي إليها، ولا أشك في أنك تجد هذه الطمأنينة عند المؤمن
بالمعنى الذي قدمنا في أي أرض وُجِد، وفي أي أمة ولد، وأما المثل الذي ضربته
وهو جملة المسلمين فإني أقول لك - ولا أخشى لوم لائم -: إن مَن كان مؤمنًا
وعمل الصالح وقام بفريضة التواصي بالحق والتواصي بالصبر فهو راضٍ عن
نفسه، راضٍ عن ربه، سعيد وإن كان بين الأشقياء، حكيم وإن وُجد بين السفهاء،
لا يعرف الشقاء إلا بما ينعكس إليه من صورة في نفوس غيره، وأما البقية فإن
كانوا خاسرين فخسرانهم جاءهم من فقد الأركان الأربعة. أما الإيمان فلأنهم أخذوه
اسمًا، واكتفوا به علمًا ورسمًا، ورثوا عن الآباء والأمهات، صورًا وعبارات،
ومُثُل عبادات، لا يحوك بصدرهم شيء من معناها، وأوفرهم حمية على التوحيد
أملأهم من الإشراك تحت أسماء اخترعها، وألقاب اختلقها كالوسيلة والواسطة وما
يشبه ذلك مما لم ينزل به الله سلطانًا.
وأما العمل الصالح فكيف يجتمع مع الحسد والعداوة والكبرياء والجهل والكسل
ونحو ذلك مما تراه في عامتهم، والأغلب من خاصتهم، وأما التواصي بالحق
والتواصي بالصبر فلم يبقَ له أثر بينهم، يرون ما يرون من المنكرات، ويحسون بما
يحسون من فاسد الاعتقاد وكل منهم ساكت عما يرى ويحس من الآخر كأنه لا صلة
بينهما في الدين، وكأن لم يرد في دينهم ما يدعوهم إلى التناصح، ولو أن واحدًا
منهم نصح للآخر لقامت عليه قيامته، وظنه محتقرًا لمنزلته، غامطًا لحقه، وكيف لا
يخسر قوم هذا شأنهم؟ فلو أنهم رجعوا إلى دينهم، وأقاموا في أنفسهم هذه الأصول
الأربعة لرأيتهم وقد وفاهم الله وعده في قوله:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ
خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا..} (النور: 55) ، ولخرجوا مِن حكْم
الوعيد الذي أنذرهم الله به من قبل في قوله: {.. وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الفَاسِقُون} (النور: 55) .
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) .
والله أعلم
__________
(1) يؤيد هذا ما ثبت من أن الجنود المتدينة أشجع وأثبت من الملحدة أو ضعيفة الدين، وقد كتبت الجرائد الأوربية هذه الملاحظة في أثناء حرب إنكلترا والترانسفال، ومن ذلك اتفاق العارفين على أن جيش الدولة العلية في مقدمة جيوش العالم شجاعةً وصبرًا على المكاره (هذا وما ... فكيف لو) رجعت إلى ذكر الصحابة والتابعين.
(*) المنار: تتمته: (وذلك أضعف الإيمان) رواه أحمد وعبد بن حُميد ومسلم وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حبان وهو حجة على تاركي فريضة الأمر والنهي كسلاً وتعللاً؛ لأنه يأمر ببذل الاستطاعة واستنفاد الطاقة في هذه السبيل على خصوصية الموضوع، كما قال الأستاذ الإمام.(6/571)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة بين مُقلِّد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(27) واحتجوا لقولهم في استحباب مساوقة الإمام بقوله صلى الله عليه
وسلم: (إنما جُعل الإمام ليؤتم به) قالوا: والائتمام به يقتضي أن يفعل مثل فعله
سواء، ثُم خالفوا الحديث فيما دل عليه فإنّ فيه: (فإذا كبر فكبروا وإذا ركع
فاركعوا وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد وإذا صلى جالسًا
فصلوا جلوسًا أجمعون) .
(28) واحتجوا على أن الفاتحة لا تتعين في الصلاة بحديث المسيء في
صلاته، حيث قال له: (اقرأ ما تيسر معك من القرآن) وخالفوه فيما دل عليه
صريحًا في قوله: (ثم اركع حتى تطمئن راكعًا ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا ثم اسجد
حتى تطمئن ساجدًا) وقوله: (ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ) فقالوا: مَن ترك
الطمأنينة فقد صلى وليس الأمر بها فرضًا لازمًا مع أنّ الأمر بها وبالقراءة سواء
في الحديث.
(29) واحتجوا على إسقاط جلسة الاستراحة بحديث أبي حميد حيث لم
يذكرها فيه وخالفوه في نفس ما دل عليه من رفع اليدين عند الركوع والرفع منه.
(30) واحتجوا على إسقاط فرض الصلاة على النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، والسلام في الصلاة بحديث ابن مسعود، (فإذا قلت ذلك فقد تمت
صلاتك) ، ثم خالفوه في نفس ما دلَّ عليه، وقالوا صلاته تامة، قال ذلك أو لم يقله.
(31) واحتجوا على جواز الكلام والإمام على المنبر يوم الجمعة بقوله
صلى عليه وآله وسلم للداخل: (أصليت يا فلان قبل أن تجلس) قال: لا، قال
(قم فاركع ركعتين) وخالفوه في نفس ما دل عليه فقالوا: مَن دخل والإمام يخطب
جلس ولم يصلِّ.
(32) واحتجوا على كراهية رفع اليدين في الصلاة بقوله صلى الله عليه
وآله وسلم: (ما بالهم رافعي أيديهم كأنها أذناب خيل شمس) ثم خالفوه في نفس ما
دل عليه فإن فيه: (إنما يكفي أحدكم أن يسلم على أخيه من عن يمينه وشماله
السلام عليكم ورحمة الله) فقالوا: لا يحتاج إلى ذلك ويكفيه غيره من كل منافٍ
للصلاة.
(33) واحتجوا في استخلاف الإمام إذا أحدث بالخبر الصحيح أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج وأبو بكر يصلي بالناس فتأخر أبو بكر وتقدّم
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بالناس ثُم خالفوه في نفس ما دل عليه فقالوا
من فعل مثل ذلك بطلت صلاته وأبطلوا صلاة من فعل مثل النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وأبي بكر ومَن حضر من الصحابة فاحتجوا بالحديث فيما يدل عليه
وأبطلوا العمل به في نفس ما دل عليه.
(34) واحتجوا لقولهم إن الإمام إذا صلى جالسًا لمرض صلى المأمومون
خلفه قيامًا بالخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه خرج فوجد أبا بكر
يصلي بالناس قائما فتقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجلس وصلى بالناس
وتأخر أبو بكر، ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه وقالوا: إن تأخر الإمام لغير
حدث وتقدم الآخر بطلت صلاة الإمامين وصلاة جميع المأمومين.
(35) واحتجوا على بطلان صوم من أكل يظنه ليلاً فبان نهارًا بقوله صلى
الله عليه وآله وسلم: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم)
ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه فقالوا: لا يجوز الأذان للفجر بالليل لا في
رمضان ولا في غيره ثم خالفوه من وجه آخر فإن في نفس الحديث: (وكان ابن أم
مكتوم رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له أصبحت أصبحت) ، وعندهم من أكل في
ذلك الوقت بطل صومه.
(36) واحتجوا على المنع من استقبال القبلة واستدبارها بالغائط بقول النبي
صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها)
وخالفوا الحديث نفسه وجوزوا استقبالها واستدبارها بالبول.
(37) واحتجوا على شرط الصوم في الاعتكاف بالحديث الصحيح عن
عمر أنه نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فأمره رسول الله صلى
الله عليه وسلم وآله وسلم أن يوفي بنذره وهم لا يقولون بالحديث فإن عندهم أن نذر
الكافر لا ينعقد ولا يلزم الوفاء به بعد الإسلام.
(38) واحتجوا على الرد بحديث تحوز المرأة ثلاث مواريث: عتيقها
ولقيطها وولدها التي لاعنت عليه ولم يقولوا بالحديث في حيازتها مال لقيطها، وقد
قال به عمر بن الخطاب وإسحاق بن راهويه وهو الصواب.
(39) واحتجوا في توريث ذوي الأرحام بالخبر الذي فيه: التمسوا له
وارثًا أو ذا رحم، فلم يجدوا؛ فقال: أعطوه الكُبر [1] من خزاعة، فلم يقولوا به في
أن مَن لا وارث له يعطى ماله الكُبر من قبيلته.
(40) واحتجوا في منع القاتل ميراث المقتول بخبر عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده: (لا يرث قاتل ولا يقتل مؤمن بكافر) ، فقالوا بأول الحديث دون
آخره.
(41) واحتجوا على جواز التيمم في الحضر مع وجود الماء للجنازة إذا
خاف فوتها بحديث أبي جهيم بن الحرث في تيمم النبي صلى الله عليه وآله وسلم
لرد السلام ثم خالفوه فيما دل عليه في موضعين: أحدهما أنه تيمم بوجهه وكفيه دون
ذراعيه، والثاني أنهم لم يكرهوا رد السلام للمحدث ولم يستحبوا التيمم لرد السلام.
(42) واحتجوا في جواز الاقتصار في الاستنجاء على حجرين بحديث ابن
مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهب لحاجته وقال له: ائتني
بأحجار فأتاه بحجرين وروثة فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: (هذه ركس) ثم
خالفوه فيما هو نص فيه فأجازوا الاستجمار بالروث واستدلوا به على ما لا يدل عليه
من الاكتفاء بحجرين.
(43) واحتجوا على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء بصلاة النبي صلى
الله عليه وآله وسلم حاملاً أمامة بنت العاص بن الربيع إذا قام حملها وإذا ركع أو
سجد وضعها ثم قالوا من صلى كذا بطلت صلاته وصلاة من أتم به، قال بعض
أهل العلم ومن العجب إبطالهم هذه الصلاة وتصحيحهم الصلاة بقراءة (مدهامتان)
بالفارسية ثم يركع قدر نفس ثم يرفع قدر حد السيف أو لا يرفع بل يخرُّ كما هو
ساجدًا ولا يضع على الأرض يديه ولا رجليه وإن أمكن أن لا يضع ركبتيه صح
ذلك ولا جبهته؛ بل يكفيه وضع رأس أنفه كقدر نفس واحد ثم يجلس مقدار التشهد ثم
يفعل فعلاً ينافي الصلاة من فُساء أو ضُراط أو ضحك أو نحو ذلك.
(44) واحتجوا على تحريم وطء المسبية والمملوكة قبل الاستبراء بقول
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى
تستبرئ بحيضة) ، ثم خالفوا صريحه فقالوا: إن أعتقها وزوجها وقد وطئها
البارحة حل للزوج أن يطأها الليلة.
(45) واحتجوا في ثبوت الحضانة للخالة بخبر بنت حمزة وأن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قضى بها لخالتها ثم خالفوه فقالوا: لو تزوجت الخالة
بغير محرم للبنت كابن عمها سقطت حضانتها.
(46) واحتجوا على المنع من التفريق بين الأخوين بحديث علي في نهيه
عن التفريق بينهما ثم خالفوه فقالوا: لا يرد المبيع إذا وقع كذلك وفي الحديث الأمر
برده.
(47) واحتجوا على جريان القصاص بين المسلم والذمي بخبر روي أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقاد يهوديًا من مسلم لطمه ثم خالفوه فقالوا: لا قَوَد
في اللطمة والضربة لا بين مسلمين ولا بين مسلم وكافر.
(48) واحتجوا على أنه لا قصاص بين العبد وسيده بقوله صلى الله عليه
وآله وسلم: (مَن لطم عبده فهو حر) ثم خالفوه فقالوا: لا يعتق بذلك.
(49) واحتجوا أيضًا بالحديث الذي فيه: (مَن مثَّل بعبده عتق عليه)
فقالوا: لم يوجب عليه القَوَد ثم قالوا لا يعتق عليه.
(50) واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب: (في العين نصف الدية) ثم
خالفوه في عدة مواضع منها قوله: وفي العين القائمة السادة لموضعها ثلث الدية،
ومنها قوله: في السن السوداء ثلث الدية.
(51) واحتجوا على جواز تفضيل بعض الأولاد على بعض بحديث النعمان
بن بشير وفيه: (أَشْهِدْ على هذا غيري) ثم خالفوه صريحًا فإن في الحديث نفسه:
(إن هذا لا يصلح) وفي لفظ: (إني لا أشهد على جور) فقالوا: بل هذا يصلح
وليس بجور ولكل أحد أن يشهد عليه.
(52) واحتجوا على أنّ النجاسة تزول بغير الماء من المائعات بحديث: (إذا
وطأ أحدكم الأذى بنعليه فإن التراب لهما طهور) ثم خالفوه فقالوا: لو وطأ العذرة
بخفيه لم يطهرهما التراب.
(53) واحتجوا على جواز المسح على الجبيرة بحديث صاحب الشجة ثم
خالفوه صريحًا فقالوا: لا يجمع بين الماء والتراب بل إما أن يقتصر على غسل
الصحيح إن كان أكثر ولا يتيمم، وإما أن يقتصر على التيمم إن كان الجرح أكثر ولا
يغسل الصحيح.
(54) واحتجوا على جواز تولية أمراء أو حكام أو متولين مرتين واحدًا
بعد واحد بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أميركم زيد فإن قُتل فعبد الله بن
رواحة فإن قُتل فجعفر) ثم خالفوا الحديث نفسه فقالوا: لا يصح تعليق الولاية
بالشرط ونحن نشهد بالله أن هذه الولاية أصح ولاية على وجه الأرض وأنها أصح
من كل ولاياتهم من أولها إلى آخرها.
(55) واحتجوا على تضمين المتلف ما أتلفه ويملك هو ما أتلفه بحديث
القصعة التي كسرتها إحدى أمهات المؤمنين فرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
على صاحب القصعة نظيرها ثم خالفوه جهارًا، فقالوا: إنما يضمن بالدراهم
والدنانير ولا يضمن بالمثل.
(56) واحتجوا على ذلك أيضًا بخبر الشاة التي ذُبحت بغير إذن صاحبها
وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يردها على صاحبها ثم خالفوه صريحًا فإن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يملكها الذابح بل أمر بإطعامها الأسارى.
(57) واحتجوا في سقوط القطع بسرقة الفواكه وما يسرع إليه الفساد بخبر:
(لا قطع في ثمر ولو كثر) ثم خالفوا الحديث نفسه في عدة مواضع أحدها أن
فيه: (فإذا آواه إلى الجرين ففيه القطع) وعندهم لا قطع فيه آواه إلى الجرين أو
لم يؤوه. الثاني أنه قال (إذا بلغ ثمن المجن) وفي الصحيح أن ثمن المجن كان
ثلاثة درهم وعندهم لا يقطع في هذا القدر. الثالث أنهم قالوا ليس الجرين حرزًا فلو
سرق منه تمرًا يابسًا ولم يكن هناك حافظ لم يقطع.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) أكبر القوم: بضم فسكون: أكبرهم وأقعدهم في النسب وأكبرهم.(6/594)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
درس عام في التعليم الإسلامي
أول خطاب ألقاه الأستاذ الإمام في تونس على ملأ عظيم من العلماء والفضلاء
ولخصته جريدة الحاضرة التونسية الغراء ونحن ننقل عنها كل نقل المؤيد والثمرات
مع شيء من التصحيح بإذن الإمام.
إن بعض إخواننا الذين عرفناهم في تونس قد طلبوا من الفقير مسامرة أو
محاورة وربما كان ذلك اصطلاحًا عندهم ثُم قالوا درسًا فسألني بعضهم عن ذلك
فقلت: نعم هو درس ولكن لا تظنوا أنه درس في تحقيق مسألة علمية فإن عندكم
من جلة العلماء مَن نعترف بفضلهم، فمن أراد تحقيق مسألة علمية فليراجعهم، أما هذا
الفقير فرجل سائح قصدت هذه الديار للتعرف ببعض المسلمين والنظر في أحوالهم
وأمور دينهم من حيث العلم والتعليم ولذلك لما أجبت طلبهم في إقراء الدرس ما
قصدت إقراء درس حقيقي؛ ولكن التكلم فيما يختلج بفكري من أمر التعليم والعلم
والإعراب عما في ضميري مما أتمناه لإخواننا المسلمين من التقدم في العلم.
وقد رأيت في بلاد الإسلام التي سِحْتُ فيها عدة أناس يشتغلون بالعلم ولكني
وجدت عند الأغلب اشتباهًا في ما هو العلم الذي يُنفق الوقت في تحصيله. هذا فيما
يخص الأمر المهم الذي أكرره لكم ولا زلت أكرره من أهمية التعليم حتى يُنتج ذلك
التكرار ما نتمناه من التقدم ما دام الناس في حاجة إلى التكرار.
ثُم إن هناك مسألة مشتركة بيننا وبينكم عامة في سائر بلاد الإسلام وهي مسألة
الرضاء بالموجود ولها تعلق أيضًا بالتعليم. فإذا ذكرت نقصًا أو عيبًا في طريقة أو
في حالة من الأحوال قيل لك ماذا نصنع ونحن أناس متوكلون على الله وهذا مراد
الله من عباده؟ ! وهو عذر المقصر عند تقصيره في بلاد الإسلام وعون على ما
نراه من النقص في طرق تحصيل العلم ولذلك أردت ضمه إلى مبحث التعليم.
معنى العلم
أما الكلام في معنى العلم فليس الغرض منه الخوض فيما اصطلح عليه علماء
السلف الصالح أو غيرهم من المتكلمين أو الفلاسفة أو غيرهم حتى من الزنادقة؛
لأن هذه ألفاظ اصطلاحية طالما شغلت أهل العلم بتغيُّرها والأخذ والرد في معانيها.
مع أن واضعيها إنما حددوا بها المعاني حتى تنضبط ويسهل تناولها والوصول إليها،
ولكن يصح أن يقال فينا وفيهم إنهم أرادوا خيرًا فاستعملنا شرًا. ولذلك أترك
الألفاظ الاصطلاحية وأتكلم في معنى العلم من حيث هو معروف في الكتاب والسنة
وسيرة السلف الصالح وعلى لسان العامة والخاصة.
العلم جاء ذكره في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ
يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) .. الآية، وهو استفهام إنكاري معناه أنه لا يستوي عالم
وجاهل. وقال تعالى: {هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} (الرعد: 16) : أي أن
الظلمة لا تساوي النور فبيَّن لنا تعالى أن الظلمة مثال لحال من لا يعلم وأن النور
مثال لحال من يعلم.
فتبيّن من ذلك أن عدم العلم يشبه الظلمة ونحن نعلم ما يكون من الإنسان إذا
اشتد به الظلام وهو سائر في طريق يقصد غايةً معلومة؛ فإن الظلام يعمي عليه
الطريق وربما سلك طريقًا يبعده عن مقصده. وقد يصادف مهواة فيسقط فيها فتدركه
هلكته قبل الوصول إلى غايته.
وهذه حال الجاهل بوسائل أي غاية من الغايات التي يعرض للإنسان قصدها
في حياته، فكلُّ مَن طلب غاية في حياته بدون علم لا يصل إليها.
وحينئذٍ فيؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الله تعالى بيَّن لنا أن العلم للإنسان
كالنور لا بمعنى أن العلم سراج أو مصباح وإنما ذلك مثل لحال من يعلم الطريق
المُوصِّلة له إلى مطلبه والوسائل المؤدية إليه. فإن حاله يشبه من يمشي وبين يديه
نور يبين له السبيل ويكشف له ما فيه من الموانع فيتجنبها أو يذللها حتّى ينتهي إلى
غايته ظافرًا بعافيته وسلامته؛ لأن الآيات والأعلام المنصوبة لا يراها المغمور
بالظلام وإنما يراها المبصر بالضياء والنور ولما كان العلم ضوءًا يهدي إلى الخير
في الاعتقاد والعمل كان أول ما نزل على النبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب قوله
تعالى: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق: 1-2) ..
الآية فافتتح الله الوحي بتعليم القراءة، والقراءة تَعَلُّم، وجاء في الحديث الشريف
أنه قال في أول مرة: (ما أنا بقارئ) وما زال الملك به حتى قرأ الآيات.
ثم بعد أن أمر تعالى بالقراءة من لا يقرأ عادة وبيَّن له أن الذي يأمره بالقراءة
هو الذي خلق الخلق كله وهو قادر على أن يقرئه بعد أن لم يكن قارئًا وأنه الذي
خلق الإنسان الحي الناطق المفصح عما في نفسه من علق أي دَمٌ منجمد لا عقل فيه
ولا نطق فهو قادر على أن ينشئ فيه القراءة والعلم وإن لم يسبق له تعلم.
بعد أن ذكر هذا قال: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا
لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 3-5) فخص من العلم العلم بالقلم والكتابة تنويهًا بشأن التحرير
والبيان وتنبيهًا على عظم فائدته وهو إنما يكون بعلم اللسان والبراعة فيه. لا نريد من
العلم تصور القواعد وإنما نريد منه ملكة الإفصاح والبيان وكون المراد منه هذا أمر
بديهي إذ لولا الكتابة لما وصلْنا إلى درجة من الدرجات التي نراها. فافتتاحُ الله
تعالى الوحي بطلب العلم والثناء عليه سبحانه بأنه هو الذي علمه ووهبه الإنسان
إرشادٌ إلى فضل العلم وحثٌّ على تحصيله خصوصًا العلم بالقلم.
فالعلم ما يبصر الإنسان في الغاية التي يطلبها ويهديه إلى الحق الذي هو مَعقد
النجاة قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (الروم: 22) ولم يقل للجاهلين أو الغافلين. فإذا
كان للعلم هذه المزية فلا يصح أن يكون العلم المُمَثَّل له بالنور إلا علم إرشاد وتبيين،
ثم جاء في الأحاديث والأدعية المأثورة قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم انفعني
بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علمًا) [1] كأنه يقول اللهم اجعل علمي علمًا
صحيحًا ينطبق على ما بينته في كتابك، ويُروى أنه قال: (إذا أتى عليَّ يوم لا
أزداد فيه علمًا فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم) [2] ثم إننا نجد في الآثار
وأقوال العلماء غير ذلك ما يطول ذكره كما تجدون فيما يدور على ألسنة الناس عند
ذكر العلم ما يرشد إلى أنهم لا يفهمون من العلم إلا معنى التبصر في أي أمر من
الأمور والإتيان به على الوجه الأكمل بقدر الاستطاعة، فتبين من ذلك إذًا أن معنى
العلم الحقيقي الذي أثنى اللهُ عليه وميّز به المهتدين من الضالين هو الكشف عن الأمر
الحقيقي بحيث إذا أراد أن يُميلَك عنه مميلٌ لا يقدر على ذلك كمن عرف طريقًا
موصلة إلى غاية فلا يعدل عنها مهما حاول مضله.
فلا يكون العلم حقيقيًا ولا تنبعث النفس إلى تحصيله إلا إذا كان كذلك بالنسبة
إلى الغاية المطلوبة منه فإذا وجدنا من العلم ما يوصلنا إلى البصيرة بما نقصد من
الغاية في مدة قصيرة كيومين مثلاً ورأينا ما سمي علمًا ولكنه إنما يوصلنا في مدة
أطول كأربعة أيام مثلاً كان لنا أن نعد الأول علمًا حقيقيًا لأنه أرشدنا إلى أقرب طريق
مؤدية إلى الغاية وأن نعد الثاني غير علم لأنه عاقنا عنها وأوجد لنا العثار فيها
فالعدول إليه سقوط في الضلة.
وأولى بأن يسمى ضلة علمٌ يقصد بتحصيله غاية ثم هو لا يؤدي إلى تلك
الغاية بالمرة بعد إنفاق الزمن الطويل في تحصيله. فتسميته علمًا من الخطأ الذي لا
يتفق مع ما جاء في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة واستعمال الخاصة والعامة.
ولكن من الناس من يقول لك العلم يطلق بإطلاقات ثلاثة: الإدراك والقواعد والملكة،
فتحصيل القواعد وإن لم تحصل الملكة يسمى علمًا على الحقيقة فاشتغالنا بتحصيله
اشتغال بتحصيل العلم غير أن هذا القائل لم يراعِ ماذا قصد المسمي للقواعد علمًا
فإنه لم يضع لها هذا الاسم إلا لأنها توصل إلى الغاية في رأيه. فإذا استعملت لغير
الغاية فقدت معناها وعُدَّتْ من الشواغل عن العلم المطلوب، فإن شاء سمّى هذه
الشواغل جهلاً؛ لأنها ضلت عن العلم وإن شاء فليسمِّها علمًا كما يهوى، لا كما
يعرف الناس!
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: رواه الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة.
(2) رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحِلْية وابن عبد البر في العلم من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن عائشة وقد طعنوا في سنده؛ ولذلك قال الأستاذ: (ويُروى) .(6/598)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المدارس المصرية لا تربي رجالاً مستقلين
رد على المقتطف
نقل المقتطف الأغر المقالة التي كتبناها في الجزء الثالث عشر تحت عنوان
(شكوى الأمهات من تربية البنات) واستحسن محرره الفاضل ما كتبناه في التربية
العقلية وكون العقل المستنير يقوى أخيرًا ويكون من وراء قوته الإصلاح المطلوب.
وأنكر قولنا: (إن العلم الذي يعلم في المدارس المصرية لا يقصد به إلى إصلاح
النفوس وارتقائها وجعل المصريين سعداء أعزاء) وقال: إن هذا خطأ على ما يُعْلم
ويا ليته قال: على ما نظن؛ فإنه يظن ظنًّا وما هو بمستيقن وعلل علمه بقوله:
(لأن نظار المدارس ومعلميها يشغفون بالتعليم والتهذيب شغفًا حتى يتفانوا في تعليم
التلامذة وتهذيبهم كما يشغف كل عامل بعمله، وهذا نعلمه بالخبر مدة تعلُّّمنا في
المدارس الأجنبية نحن ونساؤنا ومدة مشاركتنا لهم في التعليم. فالوصمة التي
وصمهم بها جائرة جدًّا ولو اختبر اختبارنا لقال قولنا. ولا نقول إن ذلك يعم كل
النظار وكل المدرسين ولكنه شامل لأكثرهم، ولا شبهة عندنا أن أثر المدارس
المصرية وطنية كانت أو أجنبية حسن جدًّا وأنه لم يظهر حتى الآن ظهورًا باهرًا
لأنها قليلة بالنسبة إلى اتساع البلاد ولأن النجاح لا يظهر جليًّا لمن لم يراقبه عن قرب
ويرى تدرُّجه البطيء ولكن لو قابل حضرته حال هذه البلاد العلمية والأدبية الآن
بحالها منذ عشرين سنة لرأى بين الحالين بَوْنًا شاسعًا ورآها الآن أرقى مما كانت
كثيرًا وسيزيد هذا الارتقاء في العشرين سنة التالية أضعاف ما زاد في العشرين سنة
الماضية) هذه عبارة المقتطف بنصها.
يقرأ القارئ في بعض الأحيان شيئًا فيعلق بذهنه شيء مجمل منه فينكره غافلاً
عن التفصيل الذي لا مذهب معه لإنكار ثم يستدل على إنكاره بما لا دلالة فيه أو بما
فيه الحجة عليه وبمثل هذا وقع صاحب المقتطف في تحفظ دعوى المنار على ما
نعهد فيه من التحري في النقد.
لم يكن الكلام في مقالتنا تلك مبنيًّا على الطعن في معلمي المدارس المصرية
ولا في نظارها فيرد علينا بدعوى تفانيهم في التعليم والتهذيب. ولم يكن أكثر منا
اختبارًا لهؤلاء المعلمين والنظار فيصح له أن يقول ما قال، وليس قياسه المدرسة
الكلية الأمريكانية التي تعلّم فيها على المدارس المصرية قياسًا صحيحًا، وليس
البَوْنُ الشاسع بين حال البلاد اليوم وحالها منذ عشرين سنة نتيجة حسن التربية والتعليم
في المدارس المصرية وكون الغرض منه تربية المصريين على الاستقلال والفضائل
والترقي الصوري والمعنوي.
وإننا نشرح هذه المسائل بعض الشرح فنقول:
تبين من امتحان الشهادة في هذا العام أن مدارس الحكومة أكثر من غيرها
نجاحًا ومثلها مدرسة خليل أغا ومدرسة أم عباس وأن المدارس الأجنبية أقل
المدارس نجاحًا ومعظم تقصيرها في اللغة العربية وعلومها لأن مرسلي الأمريكان
والجزويت والفرير والإنكليز لا يهمهم أمر هذه اللغة ولو استطاعوا محوها من
بلادها لفعلوا وإنما يهمهم نشر مذاهبهم الدينية ولغاتهم الأعجمية وليس في هذا
إصلاح لنفوس المصريين الذين دين أكثرهم الإسلام ولغة جميعهم العربية وإنما تتم
سعادة الأمم بآدابها الدينية ورابطتها اللغوية. وإنما يعلمون اللغة العربية في
مدارسهم لأجل أن يصيدوا بها الناس ولو أبطلوها لبطلت مدارسهم،، ثم إن هذه
المدارس ليس فيها تعليم عالٍ وما دون التعليم العالي لا يُكوِّنُ رجالاً فإذا كان التعليم
المطلوب ناقصًا والتربية المطلوبة مفقودة من هذه المدارس فهل يُغني عن سعادة
المصريين شغف معلمي هذه المدارس ونظارها وتفانيهم في نشر دينهم ولغاتهم
المقصود بهما إفساد دين المصريين ولغتهم؟ !
أما المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت فقد كان التعليم والتربية فيها أفضل
ما يعد النصارى للسعادة ولا يقصر عن إفادة المسلمين الذين ليس لهم مدارس عالية
في تلك البلاد وقد كان تعليم العلوم في هذه المدرسة على عهد منشئ المقتطف باللغة
العربية ثم تحوّل الآن إلى اللغة الإنكليزية فقلَّت فائدتها لأبناء اللسان العربي ومع
هذا لا نزال نقول إنها أمثل المدارس في مصر والشام وقد كتبنا في الجزء الماضي
نبذة مخصوصة في تفضيلها وما أعوزنا ذلك لخبر كخبر محرر المقتطف الذي تعلّم
وعلّم فيها وهو عندنا في علمه وأدبه من آيات تفضيلها.
أما مدارس الحكومة التي هي أحسن المدارس في مصر فقد صرّح المحتلون
- الذين يديرونها كما يشاءون لا كما يشاء النظار والمدرسون الذين يقيمونهم فيها -
بأن الغرض منها إيجاد نفر يخدمون الحكومة ولا يخفى على ذي بصر أن من يعلّم
إنسانًا ليخدمه إنما يعلمه ما يعينه على تسخيره في خدمته، وتصريفه بمقتضى
إرادته، لا ليكون مستقلاً في نفسه متفانيًا في حب أمته وجنسه، وهَبْ أن المحتلين
لا غرض لهم من البلاد المصرية إلا ترقيتها وإعانتها على كمال الاستقلال لتستغني
عنهم وعن غيرهم فهل يقول عاقل إن من المصلحة أن يكون التعليم خاصًّا بإعداد
المتعلمين لخدمة الحكومة فقط؟ !
تعميم التعليم واجب فلو كانت فائدة التعليم هي خدمة الحكومة كما ترضى
لوجب أن نعد أفراد الأمة كلهم لأن يكونوا مستخدمين في الحكومة وإذا كان جميع
الأفراد حكامًا فمَن يكون المحكوم؟ الوظائف الكبيرة تنتزع من الوطنيين بأيدي
المحتلين وما قضت السياسة بإبقائه لهم فإنما بقاؤه صورة بدون معنى ولقب بدون
عمل فنظار الحكومة المصرية لا يبرمون ولا ينقضون، ولا يحلون ولا يعقدون إلا
ما يوحيه إليهم المستشارون من الإنكليز فصار المتعلم المصري يائسًا من الاستقلال
في أي عمل يعمله للحكومة؛ وإنما يكون التعليم لسعادة الأمة وعزتها إذا كان الغرض
منه الاستقلال الشخصي والاستقلال القومي وما أظن أن المنتقد الفاضل يقول إن
المحتلين يقصدون بالتعليم إلى الإنعام على المصريين بهذا الاستقلال الذي حصرنا
فيه السعادة والعزة القومية ولا ينكر علينا عاقل حصرنا هذا. نعم، إنهم قاموا
ببعض الإصلاح ولكن الأجانب يصلحون فيما يستعمرون الأشياء لا الأشخاص.
طلب مجلس الشورى في السنة الماضية أن تعرض عليه قوانين التعليم في
مدارس الحكومة ونظام التعليم فيها فكبُر ذلك على نظارة المعارف وكابرت في إجابة
الطلب مكابرة بعيدة ودافع ناظر المعارف بما أوحي إليه من أهل الحل والعقد
مدافعة الأبطال وقد رددنا دفاعه وبينا تهافته في مقالات نشرناها في المجلد الخامس
انتقدنا فيها قانون التعليم وسيره وبينا تقصير النظارة بما لا ينفع معها عذر معتذر.
ولو كان تعليم نظارة المعارف على الوجه الذي فيه سعادة الأمة وعزتها لما
كبر عليها أن يُطْلع مجلس الأمة على قوانينها الداخلية ولأصغت إلى شكوى الأمة
من المعارف بلسان مجلسها ولسان جرائدها.
لا يوجد في مصر قارئ ولا كاتب ولا محب لسماع الجرائد والوقوف على
الأخبار والحوادث إلا وهو يعلم أن التعليم في مدارس الحكومة بيد المستر (دنلوب)
القسيس الإنكليزي ولم تبق جريدة وطنية معتبرة في مصر إلا وقد ملأت جو هذا
القطر صياحًا في الشكوى من سيرة هذا الرجل وانتقاد أعماله في المعارف
و (المقطم) شقيق (المقتطف) لم يرد فيما نعلم هذه الشكاوي التي ترددها جرائد
المسلمين والقبط والسوريين والإفرنج مع أنه أنشئ لتأييد سياسة المحتلين ذلك لعلمه
بأنها في تفصيلها أو جملتها حق لا وجه لردها.
وإذا كان المنتقد الفاضل يعرف من نظار المدارس الأميرية ومعلميها أكثر مما
نعرف كما تفيد عباراته فهو لا شك يعرف أكثر مما نعرف من تبرمهم وشكواهم
وشدة انتقادهم وتبرمهم من سير النظارة ومن عيوبها وأعني النظار المصريين
وأخص بالذكر منهم معلمي العربية لغة البلاد الرسمية. وكل موظف في المعارف
يعرف كيف يعاقَب الناظر أو المعلم الذي يثبت لدنلوب أنه انتقد أو اعترض على
شيء من سير النظارة السري أو الجهري وهم يعلمون أن هذا الرجل هو المضطلع
وحده بهذه النظارة لا بكفاءته ولكن بقوة دولته ثم هم يائسون من قصده إلى الإصلاح
الحقيقي الذي يربي الأمة تربية حقيقية فهم يسكتون واجمين، ويهمسون بالشكوى
مستخفين، ولئن سئلوا جهرًا ليقولنَّ إننا نحن راضون، وهم عند أنفسهم وعند أكثر
الناس معذورون، وقد عيل صبر طائفة من خيارهم فاستقالوا وهم مختارون.
إن الأعمال الكبيرة لا يظهر أثرها في الأمم إلا بعد الزمن الطويل ولكن أعمال
(دنلوب) قد ظهر أثرها في نظارة المعارف في زمن أقرب مما كان ينتظر، ظهر
أثرها في سقوط مدرستين عاليتين من مدارس الحكومة وهما مدرسة
(المهندس خانة) و (مدرسة المعلمين التوفيقية) وما أحوج البلاد إلى المدرستين
وهذه نظارة المعارف في أشد الحاجة إلى معلمين ولم تغنِ عنها الأوشاب الذين يجيء
بهم دنلوب من بلاده في كل سنة هذا بعد ما ألغى التعليم المجاني وأدخل في التعليم
الابتدائي اللغة الأجنبية خلافًا لجميع الأمم التي حتَّمت جعله باللغة الأهلية ولا تسل عن
اندراس رسوم الدين في المدارس وما في ذلك من إفساد الآداب وتدنيس الأرواح حتى
إنك ترى بيوت الفسق في الأزبكية عامرة بالتلامذة وقلما ترى أحدًا منهم في بيوت الله
تعالى. هذا حال مدارس الحكومة فما بالك بما دونها؟
يقول المقتطف الأغر إن البلاد ارتقت في العشرين سنة الأخيرة بالتعليم حتى
فاقت هذه السنين ما قبلها بالرقي فوقًا ظاهرًا. ونحن نقول: إن هذه البلاد تشتغل منذ
مائة سنة بالتعليم والمدنية فإن كان هنا تقدم ظاهر في شي من الأشياء فهو نتيجة هذا
السعي الطويل في مدة قرن كامل ولا ننكر أن لهذه السنين الأخيرة فضلاً في الحرية
والعمران وإصلاح الحكومة وأن هذا من حسنات المحتلين ولكننا مع هذا لا نرى
فيمن تعلم في هذه السنين الأخيرة رجالاً مستقلين نفتخر بعلومهم أو بأعمالهم
ونستبشر بخدمتهم للأمة والبلاد بل نرى خير رجال مصر علمًا وعملاً نفرًا تربوا
وتعلموا قبل أن يتحكم دنلوب في مدارس الحكومة.
ثم إننا نرى سيرة أكثر المتعلمين ملطخة بفساد الأخلاق والإخلاد إلى
الشهوات، والمجاهرة بالمنكرات، والاستهانة بما ينسب إلى أمتهم من الأخلاق
والعادات ولا حجة لهم في هذا إلا أنه مخالف لعادات المترفين من الأوربيين، فهم
بذلك يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الطامعين، وقد قامت أوربا وقعدت لإقناع
إنكلترا باستبدال المِتْر الفرنسي باليَرْد الإنكليزي لأنه خير منه ولتتوحد المقاييس في
أوربا فأبت هذه الدولة - التي تعتقد أن عزها وسلطانها بالمحافظة على تقاليد سلفها
وعاداتهم - أنْ تغيّر مقياسها محتجة بأن الأمة التي يسهل عليها الخروج من
العادات القومية إلى عادات الأجانب لا يثبت لها استقلال، ولا يستقيم لها حال،
فأين متعلمونا الذين يسارعون في تقليد سفهاء الإفرنج في الشهوات - من محافظتهم
على هذه الروابط المقوّمات؟ !
محرر المقتطف الأغر يعتقد اعتقادنا في نقص التعليم في مصر وكونه غير
مؤدٍّ إلى الغاية منه ولعله نسي اعتقاده عند تخطئتنا. ولا حاجة لاستشهادٍ على ذلك
بأكثر من جواب سؤال له في هذا الجزء الذي انتقَدنا فيه نذكره مع السؤال بنصه
وهو:
(س) : كثر بيننا عدد المتخرجين من المدارس العالية ولم نسمع أن واحدًا
منهم قام بامتحان القضايا العلمية وإنتاج النتائج والاستدلالات التي يقف عليها علمًا
وعملاً، فهل ذلك يُعزى لنقص في التعليم أو إهمال من المتخرجين؟
(ج) يُعزى إلى الاثنين وإلى أن الأساتذة أنفسهم ليسوا من أهل الاشتغال
بالعلم ولو كانوا من أهل الاشتغال به لاقتدى بهم بعض تلامذتهم كما هي الحال في
أوربا وأميركا وفي بلاد اليابان أيضًا اهـ.
وجملة القول: إننا ما أنكرنا فائدة التعليم الحاضر بالمرة وإنما قلنا ولا
نزال نقول بأنه ناقص وغير مقصود به إلى سعادة الأمة وعزتها وليس معه
تربية للأخلاق والفضائل ولا نطلب إبطاله وإنما نطلب تعليمًا كاملاً تصحبه
تربية صحيحة وأن يكونا موجهين إلى الاستقلال، وطلب الكمال.
_______________________(6/602)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شذرة باب الآثار الأدبية
لما قَدِمَ الأستاذ الإمام من سياحته في هذا العام هنأه بالقصائد الطنَّانة جماهير
العلماء والأدباء في الأزهر وغيره ونذكر هذه الأبيات للشاب الذي زاحم في بدايته
أهل النهاية تنشيطًا له على العناية بالأدب وهو الشيخ مصطفى نجل حسن بك
عبد الرازق قال:
أقبل عليك تحية وسلام ... يا ساهرًا والمسلمون نيام
تطوي البلاد وحيث جئت لأمة ... نُشِرت لفضلك بينهم أعلام
كالبدر أتى سار يشرق نوره ... والحق أنَّى حل فهو إمام
إن يقدروا في الغرب علمك قدره ... فلَمصر أوْلى منهم والشام
فيك الرجاء لأمة لعبت بما ... يلهي الصغار وجدت الأيام
لا زلت غيظًا للضلال وأهله ... والله يرضى عنك والإسلام
* * *
مسيح الهند
عثرت في مسيرها الأيام ... أم هو الدهر هكذا والأنام
أهله بين ذي هدى وضلال ... ولياليه ذو سنا وظلام
وأرانا بمدة العمر نشقى ... وعدو المسوّمات اللجام
ليس كل الذين تبصر ناسًا ... إن بعضًا من الطيور الحمام
ولكل الورى رؤوس فإن لم ... يكن العقل كانت الأوهام
إيه (يا هند) عن مسيحك ما زلـ ... ـت وزالت ببيتك الأصنام
كان في جسمك الوباء فقد دب ... إلى العقل بعد ذاك السقام
ضلة للفتى ومن تبعوه ... أشرق الصبح والقبور نيام
مسحته الجِنَّان أم مسخته ... وتولاه جُلْجُل أم عزام؟ ! [1]
وأتته الأقوام تترى ولا غر ... وعلى الجرح للذباب ازدحام
وإذا كان في الرؤوس ضلال ... وقفت عند قصدها الأقدام
نسخ السيف ذلة ورياءً ... وجدير بناسخيه الحسام
أيهذا المسيح إن الليالي ... في بنيها من الزمان سهام
وأرى الدهر كالوغى وقديمًا ... كان بين الأنام هذا الخصام
فارفع الأرض فوق قرنيك وأمر ... يملأ الأرض بعد ذاك السلام
أو فعُد للسماء إن الشياطيـ ... ـن عليهم باب السماء حرام
وتحدَّ الورى بسخفك أو سجـ ... ـعك إن الكرى له أحلام
لو سألت الحمار حين تراه ... في نهيق لقال ذي أحكام
... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى صادق الرافعي
__________
(1) جُلْجُل وعزام: اسمان من أسماء الشياطين والنكتة ظاهرة.(6/607)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نصيحة الأستاذ الإمام لأهل الجزائر وتونس
من يعرف الأستاذ الإمام يعرف أن كل حديثه في جميع أوقاته نصح وتعليم
فمُجالسه ومُسايره يستفيد علمًا وحكمة في كل أمر من أمور الدنيا والآخرة ولذلك
نعتقد أن الذين عرفوه واجتمعوا به في رحلته الأخيرة إلى الجزائر وتونس قد سمعوا
منه نصائح لا تُحصى ولكن النصيحة العامة الشاملة التي كان يشافِه بها أهل العلم
والدراية في القطرين هي:
(1) الجد في تحصيل العلوم الدينية والدنيوية من طرقها القريبة التي أرشد
إليها في الخطاب الذي ألقاه في تونس.
(2) الجد في الكسب وعمران البلاد من الطرق المشروعة الشريفة مع
الاقتصاد في المعيشة.
و (3) مسالمة الحكومة وترك الاشتغال بالسياسة. بهذا الأخير يتم لهم كل
ما يريدون من مساعدة الحكومة الفرنسية لهم على ما قبله فإن الحكومات في جميع
الأرض يضيقون على البلاد التي يستعمرونها ماداموا يعتقدون أن أهلها ساخطون
عليهم أو لهم ضلع مع حكومة أخرى.
وهذا الإعراض عن السياسة لا ينافي مخاطبة الحكومة فيما يرونه ضارًّا بهم
من القوانين والمعاملات فإذا لم تكشف ظُلامتهم بعد الالتجاء إليها في كشفها كانوا
معذورين إذا سخطوا وتربصوا بها الدوائر.
والمشهور عند العارفين بالسياسة العامة أن فرنسا تبحث دائمًا عن طريقة
يطمئن بها أهل الجزائر لحكومتهم وتطمئن هي لرضاهم عنها ولا شك أن هذه
الطريقة تنفع الحاكم والمحكوم وعدم السير فيها يضر بالمحكوم أكثر مما يضر
بالحاكم. ونحن نعتقد أن الطريقة الوحيدة هي حسن المعاملة من فرنسا وإعراض
الجزائريين والتونسيين عن السياسة إلى العلم الذي ينير العقول، والعمل الذي
يشغل عن الفضول.
وقد ذكرنا في الجزء الماضي أن الأستاذ الإمام أنس من الحكومة الفرنسية
هناك الميل إلى هذه المعاملة وأنس من أهالي الجزائر الرجاء الحسن بحاكمهم الجديد
(موسيو جونار) وقد ذكرنا في جزء سابق أن الموسيو (روا) يميل في تونس
إلى هذا المذهب.
حقق الله الرجاء وأصلح الأحوال بمنه وكرمه.
__________(6/608)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الخطر في مراكش
استفحل أمر الخارج على الحكومة المراكشية وكانت الحرب بينه وبينها
سجالاً إلا أن الظفر في جانبه أكثر وقد تبين أن الخارج أو القائم من بيت الملك وهو
(مولاي محمد) وأن اسم (أبو حمارة) كان لقبًا مستعارًا. وقد توالى انتصار
القائم أخيرًا ويظن أنه لو أنه هاجم السلطان مرة واحدة لرجي أن يظفر ويقضي
الأمر. ولا ريب أن كل حال تنتقل إليها تلك البلاد هي خير من حالها الحاضرة في
الفتنة وقبل الفتنة بمائة سنة ونيف فإذا ظفر مولاي محمد فلا بد أن تُجدّد البلاد حكومة
فيها شيء من القوة والنظام وينتظر أن تكون أمثل من حكومة عبد العزيز، على كل
حال فإن هذا مفتون بالزينة والترف فقد كانت البلاد في النزاع أو النزع والدول
الأوربية في التنازع عليها وهو على إملاق حكومته يرسل ذلك الشاب التونسي الذي
تقرب منه بما يعلمه الخبيرون ليشتري له من أوربا ما تصبو إليه نفسه من آلات
الزينة وأدواتها وماعونها وأثاثها ويشتري له من الآستانة الولدان والجواري
الناعمات الحسان ليتمتع كما يتمتع غيره مما كان ولا يزال على شاكلته.
فتن هذا السلطان بزخرف مدينة أوربا - ويا ليته فتن بقوتها ونظامها - فسلك
سبيل أبناء الوارثين المصريين في شراء المركبات الكهربائية ونحوها فجرَّ عليه
ذلك ما وقعت فيه بلاده من الويل والثبور. ولقد كنا نصحنا لحكومته منذ ست سنين
كما نصح غيرنا من الكاتبين بأن تعتني قبل كل شيء بتأليف قوة عسكرية منتظمة
وبنشر المعارف وأن تستعين على هذا بأختها الدولة العثمانية.
و (المنار) يرسل من أول نشأته إلى وزير خارجية المغرب الأقصى وغيره
من كبراء البلاد ولكن من يقرأ ومن يسمع لنا ولأمثالنا، والمغرور بقوته - وإن
وهمية - يرى أنه مستغنٍ عن جميع العالمين {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ
اسْتَغْنَى} (العلق: 6-7) وكيف ترضى تلك الحكومة الجاهلة أن تستعين بدولة
إسلامية أرقى منها وحكام المسلمين قد مزقوا الإسلام وأهله كل ممزق لأجل شهواتهم
التي أعظمها عندهم لقب (خليفة وأمير المؤمنين) فلو ذهبت دول الإسلام والإسلام
نفسه فداءً لهذه الألقاب لما كان ذلك إلا قرة عين للمغرورين بها.
كتب بعض الكاتبين مقالات في جريدة (الحاضرة) التونسية يصفون فيها
أمراض تلك البلاد الراجعة إلى الجهل والتمسك بخرافات الخوارق وضعف الحكومة
رأى كاتب جزائري أن تسلم تلك البلاد إلى دولة أوربية لتصلحها كما أصلحت بلاده
(الجزائر) ورد عليه كاتب تونسي بأن هذا انتحار لا علاج وأن الدواء الحقيقي في
التعليم والنظام والقوة وأنه لا يتم هذا لتلك الحكومة إلا بالاستعانة بدولة أوربية وقال
إن فرنسا أحق من غيرها لقربها وجوارها. ونحن نقول إنه ليس من مصلحة دولة
من أوربا أن تستولي الآن على مراكش استيلاءً تامًّا بمعنى أن تضمها إلى أملاكها
لأن المسلمين في كل بقعة وجيل أشجع الناس وأعصاهم على الخضوع للأجنبيين
ولا طريق إلى إذلالهم وتذليلهم إلا حكامهم وأمراؤهم فهم الذي يتيسر لهم أن يفسدوا
بأسهم بالظلم المقبول منهم على الرأس والعين وببذر بذور الترف والسرف والفسق
الذي يدمر البلاد ويهلك العباد، وهذا ثابت بالاختبار والأخبار، وقد أوردنا في
المجلد الرابع ما ورد فيه من الأحاديث والآثار.
أما إذا استعان سلطان مراكش على تمدين بلاده بدولة أوربية قبل الأخذ بالقوة
كما كان يحاول عبد العزيز فيمكن بذلك أن يستولي الأجانب على تلك البلاد بسعي
حكومتها ولكن تلك البلاد لا تزال بدوية لم يذللها الضعف كما ذلل البلاد المصرية
لمحمد علي باشا بسطوة المماليك وظلمهم فتمكن هو وذريته من الاستعانة بالدول
الأوربية على تمدينها هذا التمدين التي كان وسيلة لاحتلالهم فيها وتمكُّنهم منها ولهذا
لا نظن أن دولة أوربية تمد يدها إلى مراكش بدون واسطة حكام منها، إنه لم يوجد
في هذه القرون التي طغى فيها طوفان أوربا على الشرق حاكم مسلم سلك سبيل الرشاد
في سياسة بلاده فحفظها وجعل لها شأنًا عليًا إلا عبد الرحمن أمير الأفغان الماضي
(تغمده الله برحمته) فإنه سلك الطريقة المثلى التي تعلّمها ممن سلكها قبله وهي دولة
الروس التي رُبي في بلادها، تلك هي طريقة القوة العسكرية المنتظمة ومنع الأجانب
من دخول البلاد إلا بإذن خاص إلى أجل معلوم ثم السعي في نشر التعليم وكان
يسهل على مراكش أن تحذو حذوه كما يسهل الآن على دولة الفرس (إيران) لا
سيما إذا اتفقت معه.
وبلاد مراكش أقرب شَبهًا ببلاد الأفغان فإن الأمتين بدويتان شديدتا البأس لا
يعوزهما إلا العلم والنظام. على أن دخول الأوربيين في البلاد بأي صفة دخلوا
أقرب إلى النظام والعمران وخير من الخلل والفوضى في الحكومة الأهلية
الاستبدادية الجاهلية ولا بد أن يتعلم الأهالي منهم بالتدريج فنون العمران كما نرى
في مصر. وكان الأفضل أن يصلحوا أنفسهم بأنفسهم ولكن حكامهم لا يمكِّنونهم ولا
يصلحونهم ولا بد من عمران الأرض فإن لم يعمرها أهلها عمرها الآخرون.
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) .
__________(6/609)
16 شعبان - 1321هـ
6 نوفمبر - 1903م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(58) واحتجوا في مسألة الآبِق يأتي به الرجل أن له أربعين درهمًا - بخبر
فيه: (أن مَن جاء بآبق من خارج الحرم فله عشرة دراهم أو دينار) ، وخالفوه
جهرة، فأوجبوا أربعين.
(59) واحتجوا على خيار الشفعة على الفور بحديث ابن البيلماني: (الشفعة
كحل العقال ولا شفعة لصغير ولا لغائب ومَن مُثِّل به فهو حر) ، فخالفوا جميع ذلك
إلا قوله: (الشفعة كحل العقال) .
(60) واحتجوا على امتناع القَوَد بين الأب والابن والسيد والعبد بحديث:
(لا يقاد والد بولده ولا سيد بعبده) وخالفوا الحديث نفسه فإن تمامه: (.. . ومَن
مثّل بعبده فهو حر) .
(61) واحتجوا على أن الولد يلحق بصاحب الفراش دون الزاني بحديث ابن
وليدة زمعة وفيه: (الولد للفراش) ، ثم خالفوا الحديث نفسه صريحًا، فقالوا: الأمة
لا تكون فراشًا وإنما كان هذا القضاء في أمة، ومن العجب أنهم قالوا إذا عقد على
أمه وابنته وأخته، ووطئها لم يحد للشبهة، وصارت فراشًا بهذا العقد الباطل
المحرم وأم ولده، وسريته التي يطؤها ليلاً ونهارًا ليست فراشًا له.
(62) ومن العجائب أنهم احتجوا على جواز صوم رمضان بنية ينشئها من
النهار قبل الزوال بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدخل
فيقول: (هل من غداء؟) فتقول: لا، فيقول: (فإني صائم) ، ثم قالوا لو فعل
ذلك في صوم التطوع لم يصح صومه. والحديث إنما هو في التطوع نفسه.
(63) واحتجوا على المنع من بيع المدبر بأنه قد انعقد فيه سبب الحرية،
وفي بيعه إبطال لذلك، وأجابوا عن بيع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدبر بأنه
قد باع خدمته، ثم قالوا لا يجوز بيع خدمة المدبر أيضًا.
(64) واحتجوا على إيجاب الشفعة في الأراضي والأشجار التابعة لها بقوله:
(قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشفعة في كل شرك في ريعة أو
حائط) ، ثم خالفوا نص الحديث نفسه، فإن فيه: (لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن
شريكه، فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به) ، فقالوا: لا يحل له أن يبيع قبل إذنه،
ويحل له أن يتحيل لإسقاط الشفعة، وإن باع بعد إذن شريكه فهو أحق أيضًا
بالشفعة، ولا أثر للاستئذان ولا لعدمه.
(65) واحتجوا على المنع من بيع الزيت بالزيتون إلا بعد العلم بأن ما في
الزيتون من الزيت أقل من الزيت المفرد بالحديث الذي فيه النهي عن بيع اللحم
بالحيوان، ثم خالفوه نفسه فقالوا: يجوز بيع اللحم بالحيوان من نوعه وغير نوعه.
(66) واحتجوا على أن عطية المريض المنجزة كالوصية لا تنفّذ إلا في
الثلث بحديث عمران بن حصين: أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته لا مال له
سواهم فجزأهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم فأعتق
اثنين وأرق أربعة ثم خالفوه في موضعين فقالوا: لا يقرع بينهم ألبتة ويعتق من كل
واحد سدسه. وهذا كثير جدًّا.
والمقصود أن التقليد حَكَمَ عليكم بذلك، وقادكم إليه قهرًا، ولو حكّمتم الدليل
على التقليد لم تقعوا في مثل هذا؛ فإن هذه الأحاديث إن كانت حقًا - وجب الانقياد
لها والأخذ بما فيها، وإن لم تكن صحيحة لم يؤخذ بشيء مما فيها. فأما أن تصحح
ويؤخَذ بها فيما وافق قول المتبوع، وتضعف وترد إذا خالفت قوله أو تأول فهذا من
أعظم الخطأ والتناقض، فإن قلتم: عارض ما خالفناه منها ما هو أقوى منه ولم
يعارض ما وافقناه منها ما يوجب العدول عنه وإطراحه - قيل لا تخلو هذه
الأحاديث وأمثالها أن تكون منسوخة أو محكمة، فإن كانت منسوخة لم يحتج
بمنسوخ ألبتة. وإن كانت محكمة لم يجز مخالفة شيء منها ألبتة، فإن قيل: هي
منسوخة فيما خالفناها فيه ومحكمة فيما وافقناها فيه - قيل: هذا مع أنه ظاهر
البطلان يتضمن لِما لا علم لمدَّعيه به، قائل ما لا دليل عليه، فأقل ما فيه أن
معارضًا لو قلب عليه هذه الدعوى بمثلها سواء لكانت دعواه من جنس دعواه، ولم
يكن بينهما فرق، ولا فرق وكلاهما مدعٍ ما لا يمكنه إثباته، فالواجب اتباع سنن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحكيمها والتحاكم إليها حتى يقوم الدليل
القاطع على نسخ المنسوخ منها، أو تجمع الأمة على العمل بخلاف شيء منها
وحال الثاني محال قطعًا؛ فإن الأمة - ولله الحمد - لم تجمع على ترك العمل بسنة
واحدة إلا سنة ظاهرة النسخ معلوم للأمة ناسخها، وحينئذٍ يتعين العمل بالناسخ دون
المنسوخ، وأما أن يترك السنن لقول أحد، فلا، كائنًا مَن كان وبالله التوفيق.
(الوجه العشرون) : أن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر الله وأمر رسوله
وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم وسلكوا ضد طريق أهل العلم، أما أمر الله فإنه أمر
يُرَدُّ ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله، والمقلدون قالوا: إنما نرده إلى مَن
قلدناه. وأما أمر رسوله فإنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر عند الاختلاف بالأخذ
بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين وأمر أن يتمسك بها ويعض عليها بالنواجذ،
وقال المقلدون: بل عند الاختلاف نتمسك بقول مَن قلدناه، ونقدمه على كل ما
عداه، وأما هدي الصحابة فمِن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن فيهم شخص واحد يقلد
رجلاً واحدًا في جميع أقواله ويخالف مَن عداه من الصحابة، بحيث لا يُرد من
أقواله شيئًا، وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث.
وأما مخالفتهم لأئمتهم؛ فإن الأئمة نهوا عن تقليدهم وحذروا منه، كما تقدم
ذكر بعض ذلك عنهم. وأما سلوكهم ضد طريق أهل العلم فإن طريقهم طلب أقوال
العلماء وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وأقوال خلفائه الراشدين، فما وافق ذلك منهم قبلوه ودانوا
الله به وقضوا به وأفتوا به، وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه وردوه، وما لم
يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتباع، لا
واجبة الاتباع، من غير أن يُلزِموا بها أحدًا ولا يقولوا إنها الحق دون ما خالفها،
هذه طريقة أهل العلم سلفًا وخلفًا. وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق وقلبوا أوضاع
الدين فزيفوا كتاب الله وسنة رسوله وأقوال خلفائه وأصحابه فعرضوها على أقوال
من قلّدوه، فما وافقها منها قالوا: لنا وانقادوا له مذعنين وما خالف أقوال متبوعهم
منها قالوا: احتج الخصم بكذا وكذا ولم يقبلوه ولم يَدينوا به واحتال فضلاؤهم في
ردها بكل ممكن، وتطلَّبوا لها وجوه الحيل التي تردها، حتى إذا كانت موافقة
لمذاهبهم وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها شنعوا على منازعهم وأنكروا عليه
ردها بتلك الوجوه بعينها، وقالوا: لا ترد النصوص بمثل هذا ومن له همة تسمو
إلى الله ومرضاته ونصر الحق الذي بعث به رسوله أين كان، ومع من كان لا
يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم، والخلق الذميم.
(الوجه الحادي والعشرون) : أن الله سبحانه ذم الذين فرقوا دينهم وكانوا
شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون. وهؤلاء هم أهل التقليد بأعيانهم بخلاف أهل
العلم فإنهم وإن اختلفوا لم يفرقوا دينهم ولم يكونوا شيعًا بل شيعة واحدة متفقة على
طلب الحق وإيثاره عند ظهوره وتقديمه على كل ما سواه، فهم طائفة واحدة قد
اتفقت مقاصدهم وطريقهم، فالطريق واحد والقصد واحد والمقلدون بالعكس مقاصدهم
شتى وطرقهم مختلفة، فليسوا مع الأئمة في القصد ولا في الطريق.
(الوجه الثاني والعشرون) : أن الله سبحانه ذمّ الذين تقطعوا أمرهم بينهم
زبرًا كل حزب بما لديهم فرحون. والزبر الكتب المصنفة التي رغبوا بها عن
كتاب الله ما بعث الله به رسوله، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ
وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ
* فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 51-
53) ، فأمر تعالى الرسل بما أمر به أممهم أن يأكلوا من الطيبات وأن يعملوا
صالحًا وأن يعبدوه وحده وأن يطيعوا أمره وحده وأن لا يتفرقوا في الدين، فمضت
الرسل وأتباعهم على ذلك ممتثلين لأمر الله قابلين لرحمته، حتى نشأت خلوف
قطَّعوا أمرهم بينهم زُبرًا كل حزب بما لديهم فرحون، فمن تدبر هذه الآيات ونزَّلها
على الواقع تبين له حقيقة الحالة، وعَلِمَ من أي الحزبين هو، والله المستعان.
(الوجه الثالث والعشرون) : أن الله سبحانه قال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل
عمران: 104) فخصّ هؤلاء بالفلاح دون مَن عداهم، والداعون إلى الخير هم
الداعون إلى كتاب الله وسنة رسوله، لا الداعون إلى رأي فلان وفلان.
(الوجه الرابع والعشرون) : أن الله سبحانه ذمّ مَن إذا دُعي إلى الله
ورسوله أعرض ورضي بالتحاكم إلى غيره وهذا شأن أهل التقليد، قال تعالى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ
صُدُوداً} (النساء: 61) ، فكل مَن أعرض عن الداعي له إلى ما أنزل الله
ورسوله إلى غيره فله نصيب من هذا الذم، فمستكثر ومستقل.
(الوجه الخامس والعشرون) : أن يقال لفرقة التقليد: دين الله عندكم واحد أو
هو في القول وضده، فدينه هو الأقوال المتضادة التي يناقض بعضها بعضًا ويبطل
بعضها بعضًا كلها دين الله؟ [1] ، فإن قالوا: بل هذه الأقوال المتضادة المتعارضة
التي يناقض بعضها بعضًا كلها دين الله خرجوا عن نصوص أئمتهم، فإن جميعهم
على أن الحق في واحد من الأقوال، كما أن القبلة في جهة من الجهات، وخرجوا
عن نصوص القرآن والسنة والمعقول الصريح، وجعلوا دين الله تابعًا لآراء
الرجال.
وإن قالوا: الصواب الذي لا صواب غيره أن دين الله واحد وهو ما أنزل الله
به كتابه وأرسل به رسوله وارتضاه لعباده، كما أن نبيه واحد وقبلته واحدة فمن
وافقه فهو المصيب وله أجران ومَن أخطأه فله أجر واحد على اجتهاده لا على
خطئه، قيل لهم: فالواجب إذًا طلب الحق وبذل الاجتهاد في الوصول إليه بحسب
الإمكان؛ لأن الله سبحانه أوجب على الخلق تقواه بحسب الاستطاعة، وتقواه فعل
ما أمر به وترك ما نهى عنه، فلا بد أن يصرف العبد ما أُمِر به ليفعله وما نهي
عنه ليجتنبه وما أُبيح له ليأتيه، ومعرفة هذا لا تكون إلا بنوع اجتهاد وطلب وتحرٍّ
للحق، فإذا لم يأتِ ذلك فهو في عهدة الأمر ويلقى الله ولمَّا يقضِ ما أمره.
(الوجه السادس والعشرون) : أن دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
عامة لمن كان في عصره ولمن يأتي بعده إلى يوم القيامة، والواجب على مَن بعد
الصحابة هو الواجب عليهم بعينه، وإن تنوعت صفاته وكيفياته باختلاف الأحوال،
ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة لم يكونوا يَعرضون ما يسمعون منه صلى الله
عليه وآله وسلم على أقوال علمائهم، بل لم يكن لعلمائهم قول غير قوله، ولم يكن
أحد منهم يتوقف في قبول ما سمعه منه على موافقة موافق أو رأي ذي رأي أصلاً
وكان هذا هو الواجب الذي لا يتم الإيمان إلا به، وهو بعينه الواجب علينا وعلى
سائر المكلفين إلى يوم القيامة، ومعلوم أن هذا الواجب لم يُنسخ بعد موته ولا هو
مختص بالصحابة فمن خرج عن ذلك فقد خرج عن نفس ما أوجبه الله ورسوله.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) لعل الأصل: (وكلها دين الله) أو أن أول الجملة: (فالأقوال المتضادة) إلخ وكلمة: (فدينه هو) زائدة.(6/612)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
حب القوة والروابط التي تُحدث القوة
إذا رجعنا إلى الأصل والمبدأ في تاريخ كل شيء نصف به أعيان الكائنات
نجد ثمّة إما العدم المحض وإما ذرّة لا تُذكر في جنب ما صارت إليه.
والإنسان واحد من هذه الكائنات الباهرة. فإذا أخذنا الآن لنظرنا أرقى فرد من
أفراده ووصفناه بما هو أهله من العلم واعتدال الخَلْق والخُلُق وصحة الإرادة وقوة
العزيمة وما يتبع ذلك من الفروع التي هي أجزاء التكمل فلا بد من أن نحار وننثني
في دهشة. وخليق بالأفراد الكاملين أن يحيّروا الأفكار. ولكن إذا راجعنا تاريخ هذه
الأجزاء التي حصل بمجموعها ذلك الكمال يجب أن يزيد اندهاشنا حين لا نرى لها
وجودًا في الأطوار والأدوار الأُول من حياة هذا الحيوان الناطق.
نجد علمه الباهر يرجع إلى عدم العلم؛ إذ خلق الإنسان جهولاً. وقوته
الرائعة ترجع إلى عدم القوة إذ خلق الإنسان ضعيفًا. وبالجملة يرجع اعتدال خلقه
وخلقه إلى لا شيء؛ لأنه كان جمادًا؛ بل لم يكن شيئًا مذكورًا. وأين النسبة بين
البشر السوي، العليم القوي، وبين الجماد؟ !
وأَلْصَقُ شيء بموضوع نفس الإنسان هو بيان تدرجه في كل جزء من
الأجزاء التي يكمله اجتماعها ولذلك كان من غرضنا في هذا الفصل الكلام في أعظم
جزء من تلك الأجزاء وهو القوة.
وقسمنا الكلام إلى ثلاثة أبواب:
في الأول نُعرّف القوة ونقسمها ونتكلم على حب الإنسان لها وسببه.
وفي الثاني نبين كيف حدثت القوة للإنسان ونتكلم في الروابط الثلاث: رابطة
الأديان، ورابطة الأجناس، ورابطة الحكومات، وهو أهم الأبواب.
وفي الثالث نذكر ما يحفظ القوة وما يضيعها. وهو صفوة الكلام في هذا
المقام.
(1) القوة:
القوة فاعل ذو أثر. وهي بأنواعها منبثة في كل الموجودات الحسية والغيبية.
ويعبر عنها بحسب اختلاف الموجودات واختلاف الاصطلاحات بعبارات شتى كما
يعبر عن موجود ما بحسب اختلاف اللغات بألفاظ شتى. وأكثر ما يكون الاختلاف
في التعبير عن قوى الموجودات الحسية والتعبير عن قوى الموجودات الغيبية. وقد
نسمي قوة حسية روحًا. وبهذا الاسم نسمي قوة غيبية. وقد نسمي في المحسوسات
مَلَكَة. وفي الغيبيات مَلَكًا. ولا يعلم جنود الخالق إلا هو.
أقسام القوة البشرية:
قبل معرفة قوانا وأقسامها يجمل بي وبكم أن نترنم بكلمة سواء بيننا وبين
البشر أجمعين ليستقيم بها سبيلنا في العلم. وتقرب غايتنا في العمل.
إن القوة الحقيقية هي للخالق وحده، وهي القوة التي لم يسبقها ضعف، ولن
يلحقها ضعف. وهي قوة التصرف ببدء المبروآت وتصويرها ونظم شؤونها ومنح
خواصها بسائط ومركبات. وهي القوة المقدسة من كل شوب. المادة (أي مانحة
المدد) لكل مُصوَّر حتى حين.
هذه هي القوة الربانية التي تخشع لها وحدها قلوبنا وتتوجه تلقاءها وجوهنا
رهبة ورغبة، وإليها تطير الجوانح شوقًا وهيامًا، وتحن لها الأرواح الواردة من
لدنها، وتتنسَّم من كل وجهة إقبال مددها فتحيا برجائها، وتصبر في هذه الدار حتى
يأتيها أمرها.
أما نحن فليس لنا من قوة إلا ودائع أودعها البارئ في خِلقتنا، لنتغلب فيها
على عوالم الأرض التي استخلفنا فيها. ثم لنتغالب فيها فيما بيننا، لنكون فريقين
متضادين، أعلين وأدنين، ومن قبل سبقت إرادته في الخلق أن يكون لكل مخلوق
مقابل، والخالق يفعل ما يشاء وهو العليم الحكيم، ولو شاء لجعلنا أمة واحدة. ولو
شاء لهدانا أجمعين. ولا يسأل سبحانه عن مشيئته. ولكن عن الودائع تسأل كل
نفس ماذا كسبت. فبشرى للذين يحسنون صنعًا.
أودع الخالق فينا قوى كثيرة. وجعلنا متفاوتين فيها تفاوتًا عظيمًا. فمنا من
يرزق قوة منها تعشى لها أبصارنا ونظنها من خوارق العادة وما هي من الخوارق
وإنما لديه منها فضل عظيم به يصبح ما لدينا كأن لم يكن. وقِس على الواحدة
غيرها.
القوى التي فينا تنقسم إلى حسيّة. وعقليّة. وقلبيّة. أريد بالحسية قوى الجسد
وبالعقلية قوى الإدراك، وبالقلبية قوى الإرادة.
فأمّا القوى الحسية فظاهرة كظهور الجسد. ولحفظها ما وجدت واستردادها إن
فقدت علم خاص من صدد موضوعنا أن نوصي به. وأما العقلية فمعروفة بالتأمل
ويعرض لها من الأمراض أكثر مما يعرض للقوى الحسية فقسم من أمراضها تابع
لطب القوى الحسية. وقسم منها تابع لموضوعنا. وأما القوى القلبية فخفية لا
يعرفها إلا قليل من الذين في أنفسهم يتفكرون. والذين لا يعرفونها يشوبون فيها
الكلام بكثير من الأوهام. ويعرض لهذه القوى القلبية من الأمراض أكثر مما
يعرض للحسية والعقلية. وبيانها وعلاجها هو عين موضوعنا.
حب القوة وسببه:
حب القوة تابع من توابع حب الذات وهو أعظمها. وله سببان: أحدهما تابع
لسبب حب الذات. والآخر مستقل وهو أن الكمال بأصل الفطرة معشوق للنفس،
والقوة جزء من أجزاء الكمال ومِرقاة إلى أجزائه.
ولعل القارئ لم ينسَ القاعدة التي ذكرناها في باب حب الذات وهي:
(متى كان وجود الشيء لازمًا من اللوازم العامة كان طبيعيًّا) .
فإذا حفظ القارئ هذه القاعدة يبقى عليه أن يمعن النظر: (هل حب القوة لازم
من اللوازم العامة؟) ونسعفه الآن بإبداء ما بدا لنا بهذه المسألة:
(إن حب القوة لازم من اللوازم العامة) والدليل عليه من الحس والعقل، أما
دليله من الحس فلأننا نجده من متممات الحياة. ولولاه لعدت علينا العوادي الكثيرة
التي من أيسرها الجوع فإذا نحن هباء في هواء. ولو استقرأنا استقراءً تامًّا لما
ازددنا إلا تصديقًا بهذه القضية. ولنطق لنا كل حي معترفًا بأن هذا الأمر حليف
جوانحه كل حين. ولا يريبنَّكم في هذه القضية فئة ترونهم يسعون في إضعاف
أنفسهم من إدامة جوع ومواصلة سهر وموالاة قعود في بيت مظلم واستمرار على
صمت أو تكرار حروف وكلمات وما أشبه ذلك من أنواع الإضعاف فإن هؤلاء لا
يقصدون بصنيعهم ذلك إلا القوة. أعني أنهم يضعفون القوى الظاهرة ليتوصلوا إلى
قوى وهمية (هي من فروع القوى القلبية) لها تأثير في مرضى العقول والقلوب.
وكم استعبد هؤلاء الموهمون الناس بهذه القوى حتى اتخذوهم آلهة بمعنى أنهم
يفيضون ويصرفون الخير والشر لمن أرادوا وعمن أرادوا متى أرادوا بزعمهم!
وفئة أخرى يقلدون هؤلاء عن غير معرفة بالطريق ليصلوا إلى تلك الغاية
فبشِّرْهمْ بالجنون المطبق إنهم مفتونون!
وأما دليله من العقل فلأننا نعرف من كون الإنسان أعظم عوالم الأرض كونه
مخلوقًا لأمر عظيم. ونعرف من هذا أن القوة لازمة لهذا المخلوق العظيم. ونعرف
من هذا أن حب القوة لازم له لأجل تحصيلها؛ لأنه مخلوق ذو إرادة تسبق الإرادة
عمله.
ويمكننا أن نأخذ الدليل العقلي في هذه المسألة من عين السبب الذي ذكرناه
آنفًا وهو (أن الكمال في أصل الفطرة معشوق للنفس) ولا نبالي بما يتراءى من
شبه الدور فإننا طالما عرفنا شيئًا بآخر ثم ازدادت معرفتنا بالأول بواسطة الثاني
الذي عرفناه بواسطة الأول وقد يتلازم الشيئان حتى يُستدل على أحدهما بالآخر،
ولنا على هذا الأخير أن نستدل على كون الشيء لازمًا من اللوازم العامة بكونه
طبيعيًا وعلى كونه طبيعيًا بكونه لازمًا كذلك. وللمتلازمين تارة حكم المترادفين
ككلمتي (الطبيعة) و (سنة الخالق) جل وعلا.
ومن كونه طبيعيًا أو لازمًا من اللوازم العامة نعرف أنه نافع لأنه تقرّر أن
الأشياء الطبيعية (أي التي اقتضتها إرادة الخالق على سنة مطردة) جميعها نافعة
نفعًا عامًا. ولكن المرض في العقل قد يمنعه عن أن يرى البعض منها نافعًا وقد
يضله عن السبيل المستقيم في الانتفاع منها.
فمَن ثمّة يحكمون بمرض الفطرة على فرد لا يحب القوة حبًا يحمله على
تحصيلها بقدر الطاقة. وعلى أمة تقصر عن غيرها في القوة بمرض عام في تربية
أفرادها تلصق أعراضه بكل واحد منهم وإن كان بعضهم أشد مرضًا من بعض،
ويتكون من مجموعها أعراض عامة قاتلة إن دامت.
خلاصة:
وقد تبين لكم أمران جديران أن يقيدا في لوح الذهن، ذانكم أن:
(1) حب القوة (كحب الذات) لازم نافع.
وأن: (2) التقصير في حب القوة مرض نفسي واجتماعي. فإنِ امرؤٌ أتاكم
معترفًا بمرضه، مستشفيًا من دائه، فانظروا ماذا ينفعه من العمل ومُروه أن يأخذ
من العلم ما يلزم لإصلاح العمل. وإن كان مهملاً ولم يشأ أن يعمل عملاً صالحًا
للنفس والمجتمع فانتظروا أن تبيده الأقوياء غير مشكور. وإن أمةٌ صُدّت عن
النُّذُر، وكفرت بالسنن، فالتمسوا منها مخرجًا إن كنتم فيها وقُوا أنفسكم البوار
الهون؛ إنهم قوم بور. ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز.)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/617)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
درس عام في العلم الإسلامي والتعليم
العلوم الإسلامية
ومن هنا يمكنني أن أتخلص إلى الكلام على حالتنا في تحصيل العلم في جميع
بلاد الإسلام وهو موضوعنا فنقول:
عندنا علوم شتّى نشتغل بتحصيلها ونسميها العلوم الإسلامية، وإنما سميت
بهذا الاسم؛ لأن موضوعاتها لها علاقة بدين الإسلام كالفقه وأصوله؛ وهو علم يُبحث
فيه عن طريق استنباط الأحكام من أدلتها، وكعلم التوحيد وهو علم إسلامي يبحث
فيه عن وجوده تعالى وصفاته الكمالية ثم العلوم النقلية كالتفسير والحديث واللغة
والنحو والمعاني والبيان والبديع وما سمي علم الوضع.
ومن هذه العلوم وسائل ومقاصد ونحن مشتغلون بجميعها وسائل ومقاصد. ولا
حاجة إلى الكلام في تبيين طرق الاشتغال بها عندنا وعندكم. إنما الكلام في أمر عام
معروف عند الجميع وهو طرق تحصيل هذه العلوم.
علم النحو وتدريسه
فالنحو مثلاً يدرس بتونس بكتبه التي تقرأ بمصر كالقَطْر والأشموني والصبّان
وله غايتان: الأولى التمكن من فهم كتاب الله وكلام نبيه عليه الصلاة والسلام وكلام
سلف الأمة. والثانية إصلاح اللسان من الخطأ. نشتغل بعلم هذه القواعد في هذه
الكتب ثم نشغل أنفسنا بالبحث في عبارة المؤلف هل تدل على ما قصده فقائل يقول:
نعم، ويأتي قائل آخر يقول لا. وقائل ثالث يرجح قول نعم، ورابع يرجح قول لا،
ونحو هذا مما ترونه في التقارير المكتوبة على الحواشي ويطول بذلك الزمان
وتضيع الفائدة. وينصرف الذهن عن القاعدة، ثم بعد الفراغ من العلم لا يجد
الطالب تقويمًا في لسانه ولا صحة في تحريره ولا قدرة على فهم ما جاء في كلام
العرب أو في كتاب الله وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، ويزيد الأمر صعوبة
طريقة الابتداء التي اختاروها في تدريس النحو فإن الأستاذ يبادئ الطالب وهو لا
يعلم شيئًا من اصطلاحات العلم بتحقيق المسائل وتفتيتها كما يقولون كأنه عريق في
العلم. ولا يراعي مقدار استعداده للفهم. وقد وقع لي أني مكثت سنة ونصف سنة لا
أفهم شيئًا من شرح الكفراوي على الآجرومية فحملني عدم الفهم على الهرب من
طلب العلم لتمكن اليأس من نفسي؛ ولكن لأمرٍ أراده الله قهرني والدي على الرجوع
إلى الطلب فهربت في الطريق؛ ولكني صادفت في مهربي مَن علمني كيف أطلب
العلم من أقرب وجوهه فذقت لذته واستمررت في طلبه. فعلى الأستاذ أن يكون بيده
ميزان يزن به ذهن الطالب ودرجة استعداده لقبول ما يقول. فيجب على المدرس أن
يتنازل مع المبتدي إلى درجته ثم يرتقي به شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى الدرجة التي
يتمكن فيها من إدراك دقيق المعاني. وهذا الفن - فن معرفة درجات الأذهان وكيفية
الاستفادة - فن مخصوص تستلزم قراءته ست عشرة سنة إذا كان شرح المطول
يحتاج في قراءته إلى ثمان سنين. ومن أنفق أوقاته في هذا الفن الذي أُلِّفت فيه
الكتب وبُسطت في الأفكار فإني أضمن له ثوابه عند الله تعالى أضعاف أضعاف
ثواب من يختم إقراء المطول لما أنه يرشدنا إلى الغاية التي طالبنا الله بها.
علم المعاني
والبيان والغاية منه
علم المعاني والبيان علمان يُبحث فيهما عن البلاغة وهي مطابقة الكلام
لمقتضى الحال. فما هو ذلك المقتضى؟ نجد الناظر في هذا الفن أو المعلم له يقول
هل تتحقق البلاغة بمطابقة الكلام لمقتضى الحال في الجملة أم لا بد من مراعاة
جميع مقتضيات الأحوال؟ فإن كان الأول فكيف يعد بليغًا من لم يراعِ الحال كما
ينبغي وهو يعلم أنه غير مراعٍ له، وإن كان الثاني فلا تختلف طبقات البلاغة ولا
يكون لها أعلى وأسفل. ويطول البحث ويكثر الجدال في ذلك وينصرف الذهن عن
البلاغة نفسها ولا يجد الباحث ما يرده إليها.
وهكذا نجد البحث يطول في الغالب إلى حد يشغل الذهن عن الغرض المقصود.
مع أنه لو قال الأستاذ: البلاغة صفة في الكلام تبلغ المتكلم مراده من نفس السامع
على قدر طاقته ثم إنها تكون بمراعاة حال المخاطب، وذلك ينقسم إلى قسمين ما يتعلق
بفهم الكلام وما يتعلق بالمعنى الذي سيق له الكلام، فما يتعلق بنَظْم الكلام هو موضوع
علم المعاني، ثم ينطلق في بيان ذلك وتقرير المعاني التي سمّاها الإمام عبد القاهر
الجرجاني واضع هذا الفن (معاني النحو) .
أما القسم الثاني: وهو حال المخاطب بالنسبة إلى المعنى الذي سيق له الكلام
فتتوقف معرفته على أمور كثيرة ومعارف جمة يتوصل بها إلى معرفة طبائع
الأشخاص ومداخل المعاني إلى قلوبهم، فمن أراد أن يقنع مخاطِبه بعقيدة مثلاً فعليه
أن ينظر فإن كان المخاطب ممن لا يقنع إلا بالبرهان فعليه أن يُقِيمَهُ له، وإن كان
ممّن لا يدرك البرهان، ولكنه يقنع بالمسلَّمات مثلاً سلك معه له تلك السبيل ولا
يكون بليغًا إلا إذا لاحظ ذلك مع ما يتعلق بالنَّظْم: لو سلك الأستاذ هذا المسلك لجمع
المعاني الكثيرة إلى ذهن الطالب ووَجَّهَ نفسه إلى الغاية المطلوبة منها ثم إنه بعد ذلك
كله لا يعد معلمًا للبلاغة إلا إذا وجّه فكر الطالب إلى ممارسة كلام العرب ونسْج في
التحرير والتعبير على ما نسجوا عليه حتى تحصل له ملكة البلاغة ويصل إلى الغاية
مِن علمه. فإن غاية هذا العلم تشمل كِلا أمرين: الأول أن يكون الطالب فصيحًا
بليغًا فيما يكتب أو يخطب. والثاني أن يقيس بلاغة البلغاء ببلاغة القرآن فيدرك
حقيقة الإعجاز. وهذا الأمر الثاني هو في الحقيقة ثمرة الأمر الأول، فإنّ مَن لم يكن
بليغًا بالملَكَة والعمل لا يمكنه أن يميز بين طبقات البلاغة.
أسهل طرق تعليمه
سُئِلَ الأصمعي أي الرجلين أشعَر أمسلم بن الوليد أم أبو نواس؟ فحكم لأبي
نواس. فقيل له إن أخاك أبا عبيد يحكم لمسلم بأنَّه أشعر فقال: إن أبا عبيد يروي
الشعر، ولكنه لم يكابد مشقة العمل في صناعته فليس أهلاً للحكم، وهذا قول حق
فإن مَن لم يذقْ لم يعرفْ. وأمّا ما يظن من أنه يتيسر للطالب بعد معرفته
اصطلاحات علم المعاني أن ينظر في كتب التفسير كالكشاف مثلاً ويعرف ما يقول
الكشّاف في وجوه بلاغة الآية، وبذلك يكون ممن عرف بلاغة القرآن وإعجازه
فليس من كلام المحصلين؛ لأنه لو كفى ذلك لما كانت حاجة إلى صرف الزمان
الطويل في تحصيل علم المعاني؛ بل كان لنا أن نقول إن القرآن معجزة لأن صاحب
الكشاف قال إنه معجز وننتفع بزماننا في تحصيل ما هو أنفع وذلك مما لا يعقل.
ورُبَّ قائل إن المتكلم اليوم يقول ذلك من قبيل من يأمر غيره بالبر ولا يأتمر به فقد
عرض بنفسه جزافًا بإلقاء خطبة على أناس لا يدري أخلاقهم ولا يدري ما يقولون
بعده ولا يعرف مواضع الخطاب من أنفسهم. فالجواب: نعم لم أقف على هذه
الأمور تفصيلاً؛ ولكن مدة إقامتي بهذه الحاضرة كانت مدة اجتماع بأفاضلها وعلمائها
وبذلك حصلت لي خبرة إجمالية فخطر ببالي أن ألقي جملة فيما يطابق مقتضى الحال،
وفي ظني أن ما أقوله إن لم يقع موقعًا حسنًا من نفوس جميع السامعين فلا أقلّ مِن
أن يستحسنه بعضهم وذلك يكفيني في مطابقته لمقتضى الحال.
اختلط علينا الأمر بالنظر في المعاني الاصطلاحية، وكثرة البحث فيها وانقلب
الغرض منها إلى مصاب نزل بنا في علومنا وعقولنا فانصرفنا بها عما طلب منها.
ولهذا يلزمنا أن نأخذ مأخذًا في العلوم يسهّل تحصيلَها وييسرها على الطالب. وفي
ظني أنه إذا هذبت طرق التعليم لطالب علم البلاغة مثلاً أمكنه أن يبلغ الغاية منه في
ثلاث سنين. وكذلك من أراد بلوغ الغاية من النحو لا يحتاج إلى أكثر من ذلك
بحيث يصير الطالب بعد هذا فصيحًا بليغًا مميزًا بين طبقات البلاغة شاعرًا بمعنى
إعجاز القرآن قادرًا على فَهم ما جاء في كلام السلف والانتفاع به فيما يصلح معاشه
ومعاده.
وجملة القول إن الغاية من هذه العلوم العربية هي أن يبلغ المرء بالتعلم مَبْلغًا
كان عليه العربي بالسليقة وهذا يحصل بما قدّمناه.
ومما يلزم التنبه له في التعليم أنه من حق الإنسان أن يفتح للطالب باب النظر
بنفسه في العلوم فيبيّن له القاعدة مثلاً ثم يطالبه بما يراه في انطباقها على جزئياتها
في العمل فإنه إذا عوّده على أن يقول له كل شيء، وأن يقوده في كل أمر وقف
ذهنه عند حد الاتباع وصعب عليه أن يحقق أمرًا بنفسه فعليه أن يطالبه بالعمل دائمًا
ويعلّمه طريقةَ معرفةِ الخطأ والرجوع إلى الصواب. وهذا هو ما يطلب من الدرس
بين يدي الأستاذ حتى تحصل ملكة التمييز. أما الوصول إلى غاية الكمال في العلم
بقدر الإمكان فأمره موكول لاجتهاد الطالب بعد مفارقة الدرس. ووقوف ذهن هذا
المنقاد في كل شأن عن معرفة الأمور بنفسه من الأمور المحسوسة؛ فمن ذلك أني
لما جئت هذا البلد كنت أمرُّ من طريق قصيرة من محطة سكة الحديد إلى البيت
ذهابًا وإيابًا ولكن مصحوبًا بالسيد خليل بو حاجب وقد رأيت أمس اليوم أن أذهب
إلى المحطة راجلاً فبعد أن مضيت في طريقي خطوات قيل لي إن هذا ليس هو
الطريق إلى المحطة فرجعت إلى طريق أخرى وطال عليَّ السير حتى صعب عليَّ
الرجوع إلى المنزل لتشتُّّت الطرق علي واضطررت إلى سؤال بعض المارة عن
المحطة فدلني عليها وإذا بيني وبينها أطول مما بيني وبين البيت الذي خرجت منه.
ثم بعد عودي إلى البيت خرجت ماشيًا مرة أخرى بعد نحو ساعة فاهتديت إلى
طريق المحطة؛ ولكن وقع لي اشتباه على مقربة منها. ولم تُزَلْ الشبهة إلا بسؤال
مار. أما بعد ذلك فإني لا أضل في هذه الطريق أبدًا. فالعصمة من الضلال إنما
تأتي في الحقيقة من عمل العقل وحده مع الاستعانة بما أرشد إليه المرشدون
الراشدون.
الغاية من علم التوحيد
ومن العلم ما يكون العلم والعمل به واحدًا كعلم الكلام فإن المقصد منه إنما هو
تحصيل اليقين بمسألة كثبوت الوجود لله تعالى وصفاته الكمالية التي ورد النص
بإثباتها له ودفع شبه الملحدين الذين ينكرون ثبوت شيء منها وثبوت بعثة الرسل
صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا العلم إن جرينا في تعلمه على التقليد في الدليل
كالتقليد في النتيجة، واكتفينا بفهم ما جاء من الأدلة على ألسنة من كتبوا فيها
أعرضنا عن الغاية من وضعه؛ لأن اليقين لا يحصل بقراءة الأدلة وخزنها في
الأذهان؛ وإنما يحصل بالاستدلال الصحيح وإدراك العقل وجه الدلالة من نفسه
بدون تقليد؛ وإنما يعد النظر في دليل المستدل السابق معينًا ومهيئًا للعقل إلى تصحيح
النظر. فالطريقة التي يجري عليها أغلب المعلمين ليست من غرض علم الكلام في
شيء، ومن الناس مَن إذا سألته في أمر يتعلق بعقيدة من العقائد فاجأك بقوله: لا
تقل ذلك فتكفر أو تعتزل، أو ما أشبه ذلك وهو سلاح يتخذه المرتابون في عقائدهم
ترسًا يدفعون به ما يخشون من الشبه التي تزلزل عقائدهم ولكن هذا الدفاع يدل على
ارتياب صاحبه في عقيدته قبل الدفاع؛ فإن صاحب اليقين يرتاح إلى كل ما يسمع
فإن وجد عند مخاطبه شبهة أمكنه أن يزيلها من نفسه. وتلك الطريقة من طرق
الدفاع عن العقائد هي التي أغلقت دون المسلمين أبواب العلم، فإنه كلما لاح نور إلهي
في يقين الطالب يهديه إلى طلب الحق وجد من هذه الكلمات كالاعتزال والفلسفة ما
يخمد ذلك النور فيه. ومن سوء الاستعمال في تعليم هذا العلم أن يعلم الطالب متن
السنوسية مثلاً وهو لم يحصل شيئًا من مادي العلوم. فيقال: إن الحكم العقلي ينقسم
إلى ثلاثة أقسام: الواجب والمستحيل والجائز، ثم تقرأ له هذه الأقسام بالتعاريف
الاصطلاحية وهو على جهل تام بما يدعه لفهم معنى الحكم فضلاً عن أقسامه
فيضطر الطالب إلى حفظ هذه الألفاظ بدون أن يحصل من معناها إلا على خيالات لا
تنطبق على حقيقة.
وقد قال المتقدمون إنه لا ينبغي أن يُنظر في علوم الكلام إلا بعد تحصيل
مقدماتها والاستعداد لفهم طرق الاستدلال حتى لا يضل الطالب النظر فيها وهو على
جهل من وسائل فهمها فاللازم الأخذ بأحد أمرين: إما أن يستدل الناس بالأكوان على
مُكَوِّنِهَا وبالآثار على المُؤثِّر فيها لينالوا بذلك اليقين فيما يعتقدون، كلٌّّّّّّّّ على حسب
استعداده. فالعامي مثلاً يستدل بما بين يديه من نبات وحيوان على حسب ما يظهر
له في نظامها، والسيد علي الرضا يكتب كتابًا في التشريح يقول في آخره: إنه عرف
بذلك وجود الله وأنه المنفرد بالتصرف في هذا الكون. وإما أن يعلم علم الكلام على
طريقة تكفل الانتفاع به في الوصول إلى اليقين الذي لا يقبل التزلزل، والإيمان
الذي يملأ القلب خشيةً من الله ورجاءً به وخضوعًا له. وأما طلب هذا العلم بمجرد
قراءة كتبه ومعرفة ما دلت عليه عبارتها فقط فهو في الحقيقة مما يصد عن اليقين
ويبعد عنه خصوصًا إذا خاف الناظر من أن يقال إنه فيلسوف أو معتزلي أو ما أشبه
ذلك؛ فإنه لا يقين مع التحرج من النظر؛ وإنما يكون اليقين بإطلاق النظر في
الأكوان طولها وعرضها حتى يصل إلى الغاية التي يطلبها بدون تقييد كما هدانا الله
إلى ذلك في كتابه فإنه يخاطب الفكر والعقل والعلم بدون قيد ولا حد، ووقوفنا عند حد
فهم العبارة مضر بنا في العلم ومنافٍ لما كتبه أسلافنا وما تركوه لنا من جواهر
المعقولات في الكتب النفسية المستودعة بخزائننا التي أصبحت اليوم أكلة للسوس
وفراشًا للأتربة، لا نمد أيدينا لنستلبه منها أو لنزعج السوس عن أكلها وإتلافها،
أَنْفَسُ ما فيها فَرّ من بين أيدينا ورُصِّعت به خزائنُ أمم أخرى أصبحت الآن تُنعت
بأمم النور ولو طلبناها لم نجدها.
وربما اعتذر الطالب عن قبول النصيحة بأنه لا مناص له عن صرف الزمان
في قراءة المطول ونحوه مثلاً؟ لأن غيره ككتاب الصناعتين ليس مما قرره القانون
أو لأن الأستاذ لا يريد ولأنه يبغي أن يكون عالمًا مشهورًا ولن يكون كذلك في نظر
العامة إلا إذا قرأ المطول بحواشيه في المدة المعلومة أو في أطول منها ولكن هذا لا
يصح عذرًا ولست أريد بنفي العذر أن أحمل الطالب على عصيان أستاذه أو حرمانه
مما يطلب من الشهرة بين قومه بل أريد أن أنبه إلى سلوك طريق وسط وهو أن
يجمع بين الحضور في درس الأستاذ وتحصيل حقيقة العلم فيطالع درس الأستاذ
ويضم إلى ذلك مطالعة شيء من الكلام البليغ وتحرير ما ينسج على منواله في
تحصيل الملكة المطلوبة.
ولقد عرض لي ما يعرض للطلبة اليوم وكنت أتمنى أن أبلغ من الشهرة ما بلغه
غيري فحضرت درس تلك الكتب مع اشتغالي باستكمال ما أردت من العلم على أن
طلب الشهرة في العلم إنما هو عند شعور النفس بشيء من الغرور، فإذا أدركت
حقيقة العلم نسيت شهوة الشهرة، وأدركت أنها بمنزلة من الجهل تقضي عليها
بتحصيل العلم للعلم والعمل به في سائر الأوقات وعلى أي الحالات.
للطالب أو الأستاذ أن يستعيذ من هذه البدع التي يراها جديدة ويقول إنها بدع
مخالفة لسنة السلف الصالح التي لا نريد أن نغيرها؛ لأنها لو لم تكن مفيدة لما سنَّها
أسلافنا، فما لنا إلا اتباعها وعليه يكون مثلي كمثل ذلك المغني على مسمع جماعة من
الأعاجم بكلام مجنون ليلى إلى طلوع الفجر فقيل له: بالله عليك غنِّ لنا عن ليلى
ومجنون، فقال: إن الغناء كان في ذلك، قالوا: ولماذا لم تعلمنا من قبل حتى نفرح؟
ذلك أن الطريقة التي نشير بها هي طريقة أسلافنا الأقدمين فالعَوْدُ إليها إحياء
لسُنَّتهم وعمل بآثارهم فلما كان أسلافنا جارين في تعليمهم على تلك الطريقة القويمة
كان نور العلم يضيء لهم سبلهم إلى سعادتهم في معاشهم ومعادهم وكانت الأمم التي
تعد نفسها اليوم حاملة مصابيح العلم تستضيء بنورهم.
يقول القائلون: إن طلب تغيير الطرق اعتناء بالجديد وولوع بالبدع أو نزوع
لها، وليس الأمر كذلك فإن الجديد والبدعة هو ما نراهم عليه وقد ظهر أثره وعم
ضرره فالقديم الحقيقي هو ما تدعو إليه ولا نجاح لنا إلا بالتعويل عليه.
التوكل
بقيت مسألة نبهنا عليها في أول الأمر وهي أن الواحد منا إذا لاح في ذهنه نور
إلهي يرشده إلى طريق العلم بأنه معارَض بقول له: إن الحالة الحاضرة هي ما قدر
الله لا حيلة لنا فيها فالمرء متوكل على الله مسيَّر بحسب القدرة فعلينا بتسليم أمورنا
إليه تعالى والتوكل عليه: وبذلك ينطفئ النور الذي لاح بذهنه وبعد أن كان خطر
بباله داعي العمل، ينزع إلى البطالة والكسل، والعجب أنهم يظنون هذه الوساوس
من العقائد الدينية ولكن الدين يتبرأ منها وما للدين عدو أضر من أمثال هذه
الاعتقادات.
نرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو إمامنا وقدوتنا لما بعث في دياجير الجهل
وتحكم سلطان الشرور وقبائح العادات في الأمم التي أرسل إليها لم يقل إن ذلك ما
أراده الله ولم يسلم أمره للقدر بترك العمل، وكذلك الصحابة - رضي الله عنهم -
أصابهم من الآلام في السعي ما أصابهم مع أنهم أشد الناس توكلاً على الله وأكملهم
تمسكًا بالقدر في طريق الحق فإذا كانوا قدوتنا كما هو الحق فلماذا لا نقتدي بسيرتهم
وننبذ وساوس المبطلين، وهذيان العُمْي والمغفلين، والله تعالى قد دعانا إلى طريق
الحق والتواصي بالحق والصبر وحملنا على ذلك: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر:
2-3) ، فالذين فقدوا التواصي بالحق والصبر هم - بلا شك - خاسرون.
الاحتجاج على ترك العمل بالقدر من عقائد الملحدين. وقد جاء الكتاب الكريم
بتشنيع اعتقادهم والنعي عليهم فيه. وقد حكى لنا ما كانوا يقولون من نحو: {لَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 148) ، فلا يسوغ
لأحد منا وهو يدّعي أنه مؤمن بالقرآن أن يحتج بما كان يحتج به المشركون.
مَن يزعم أنه متوكل من المتظاهرين بالصلاح فهو كاذب زِنديق؛ لأنه إنما
يدّعي التوكل، إذا طولب بأمر فيه مشقة عليه أو يجد في نفسه عجزًا عنه، لا
سيّما إذا كان في مصلحة عامة فهو يرضى بما يجد، فإذا رجع أولئك المتبتلون إلى
منافعهم الخاصة لم تجد للتوكل في نفوسهم أثرًا فهم يغشّون ويخادعون ويحتالون
لتحصيل ما به يعيشون، أو ما به على الناس يظهرون، وحينئذٍ لا يرجعون إلى
التوكل فهم كَذَبة لا يصح الاقتداء بهم. وكفانا قدوة وخير أسوة سيد المتوكلين صلى
الله عليه وسلم؛ فإنه كان على شدة توكله واعتصامه بالاستعانة بالله جل شأنه لا يفتر
عن العمل في الدعوة إلى الحق وحمل الناس عليه.
يحتج بعض الناس على كسلهم بقوله صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون
على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا) [1]
ويفسرون ذلك بأننا لو ألقينا أثقالنا على الله وتركنا أسباب عيشنا في كسبنا ومأكلنا
ومطبخنا ومرقدنا لرزقنا كما تُرزق الطير ولكن هذا الفهم خطأ بعيد عن المعنى
المراد ولولا ذلك لقال صلى الله عليه وسلم: (لرزقكم كما ترزق الطير تلبث في
أعشاشها وتفتح أفواهها فتصبح خماصًا وتمسي بطانًا) . يظنون أن هذا الحديث حث
على البطالة وترك العمل مع أنه جاء للحث على العمل. والكلام في معنى حق
التوكل ظنوه ترك السعي بالمرة وهو خطأ محض فالمراد من حق التوكل أن يعتمد
الإنسان على الله سبحانه وتعالى مع اتباع سنته التي سنها في الطلب فيحصل الطالب
من أسباب مطلوبه ما جعله الله سببًا ويدقق النظر في ذلك ما شاء حسبما طالبه الله
تعالى به. ثم بعد أن يستعمل الأٍسباب يناجي ربه بسره: أن قد أتيت بما في
استطاعتي على مقدار ما وهبتني وما بقي مما لا أعلم ولا أملك فهو في يدك فأغنني
بقدرتك ولا تحرمني معونتك، ثم يمضي في عمله. هذا هو حق التوكل. وقد أشار
إليه صلى الله عليه وسلم في قوله: (تغدو خماصًا وتروح بطانًا) . فإنه أراد بذلك
أن الطير إنما تسير في تحصيل معاشها على الإلهام الذي أودعه الله فيها، ألهمها
معرفة الأماكن التي فيها أقواتها كما ألهمها الغدو إلى تلك الأماكن لتصيب أقواتها منها
فهي تعمل بإرادتها على ذلك الشعور الذي منحه الله إياها.
فحق التوكل لا يتم لنا إلا بأن نجري في أعمالنا على ما يقوم عندنا مقام الإلهام
عند الطير. والذي يقوم عندنا مقام الإلهام هو العقل. فلا نكون متوكلين حقَّ التوكل
حتى نستعمل نفوسنا في الوسائل التي توصلنا إلى بلوغ الغاية من أعمالنا وأن نجيد
الاستعمال؛ حتى لا يقع لنا ضلال في طرق الوصول إلى المقصود، فالاعتماد على
الله بهذه الطريقة كافل نجاح الأعمال.
(الخاتمة) وبهذه الوسائل يسهل علينا التوفيق بين السعي والتوكل لا سيما
في تحصيل العلوم وهي كثيرة: وأَوْلاها بالتقدم فيما أعتقد علوم لساننا العربي فإن
إصلاح لساننا هو الوسيلة المفردة لإصلاح عقائدنا، وجهل المسلمين بلسانهم هو
الذي صدهم عن فهم ما جاء في كتب دينهم وأقوال أسلافهم؛ ففي اللغة العربية
الفصحى من ذخائر العلم وكنوز الأدب ما لا يمكن الوصول إليه إلا بتحصيل ملكة
اللسان، ولا تحصل هذه الملكة إلا بالعناية بتحصيل علومه على الوجه الذي سبق
بيانه من الجمع بين معرفة القواعد من أسهل طرقها بدون التفات إلى عبارات
المعبرين وبين العمل بالقول والقلم؛ حتى يملك الطالب من اللسان ما كان يملكه
العربي بسليقته وبدون ذلك لا نصل إلى فهم أسرار شريعتنا؛ بل تُسَدُّ في وجوهنا
طرقُ الوصول إلى الحقيقة منها.
فعلى كل مَن له غيرة على ملته أن يبذل ما في وسعه لتسهيل طرق تعليم اللغة
وتحصيل الملكة فيها قولاً وكتابةً؛ حتى يتكلم بها غالب أهلها ويكتبوا بها بالطريقة
الصحيحة؛ لأن في انحطاط لغتنا انحطاطًا لنا ولديننا وعقائدنا وأخلاقنا وانحطاط
ذلك مفسد لجميع أمورنا.
أقول قولي هذا ولا أريد به إلزام سامعه بقبوله وإلا خالفت ما أدعو إليه من
استقلال الفكر، أعرضه على مسامعهم فإن وجده السامع صوابًا أخذ به وإلا فإنه لم
يخشَ شيئًا سوى احتماله مشقة الحر في هذا المجلس وهو قدر مشترك بيني وبينه.
والله يوفقنا إلى إصلاح أحوالنا في معاشنا ومعادنا وصلى الله على سيدنا محمد
وآله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه، وغيرهم.(6/621)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دلائل الإعجاز
اللغة وقوانين اللفظ والنظم
اللغة مَلَكَة لسانية، والملكات إنما تكون بمزاولة العمل، فمن زاول كلام قوم
زمنًا طويلاً تصير لغتهم ملكة له ينطق بها بغير تكلف. والملكات تتفاوت في أفراد
من تكون لهم، فمنهم من يكون أملك بالشيء خلقًا وأملأ به يدًا فيكون العمل به كما
تمتطي الريض الذلول، ومنهم من لا يملكه إلا كما يملك الخادم البليد، يريده على
شيء فيذهب في غير ما يريد، وتسمى ملكة اللغة في الأول فصاحة وبلاغة، وفي
الثاني عيًا وفهاهة.
ثم إن كل شيء يتفق فيه كثيرون كاللغة لا بد أن يكون منضبطًا في نفسه بطرق
معروفة لهم بالسليقة المكتسبة بالمزاولة إذ لو ذهب كل واحد مذهبًا في القول لا يتفق
مع مذاهب الآخرين لما تيسر التفاهم بالتخاطب، وما كان كذلك يسهل أن توضع له
قواعد وقوانين تعرف بها تلك الطرق السليقية بوجه كلي يعين على فهم الجزئيات
ومعرفة ما عساه يطرأ على ذلك الشيء مما ليس منه في خصائصه التي امتاز بها.
ولكن ما ينضبط به الشيء في نفسه لا يشمل في العادة العامة جميع جزئيات ذلك
الشيء إلا إذا تواطأ قوم محصورون على وضع قوانين كلية وأخذ الجزئيات منها
بالاتفاق بينهم ولم يكن وضع اللغة كذلك، ولهذا كانت القوانين التي وضعوها للعربية
شاملة لأكثر الكلام العربي في أوزان مفرداته وضوابط نَظْمه غير محيطة بذلك تمام
الإحاطة.
بدأ واضعو هذه القوانين بوضع الضوابط العامة التي يشترك فيها جميع أهل
اللغة وهي قواعد أبنية الألفاظ المفردة وقواعد التركيب التي يتأدَّى بها المعنى
المقصود من التكلم وسموا ذلك علم النحو ثم قسموا هذا العلم إلى قسمين، سموا
الآخر منهما الصرف. لما فتحت العرب الممالك الأعجمية ودخل أهلها في دينهم
وحكمهم استعرب العجمي واستعجم العربي وصار هؤلاء الأعاجم المستعربون
والعرب المستعجمون يتعلمون اللغة العربية بمعونة قواعد النحو والصرف وهي -
كما قلنا - موضوعة لما يشترك فيه الجماهير وغير محيطة بما كان ينفرد به بعض
أهل اللغة فضعف الناطقون والكاتبون بالعربية عن الترقي في ملكتها إلى الدرجة
العالية مما به التفاوت وهي مرتبة الفصاحة والبلاغة واحتاجوا إلى قوانين أخرى
ترشدهم إلى المعراج الذي يظهرون عليه إلى تلك المرتبة فكان أول مَن عُني بوضع
هذه القوانين إمام اللغة في القرن الخامس للهجرة الشيخ عبد القاهر الجرجاني في
كتابيه أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز - الأول في فن البيان والثاني في فن المعاني-
وقد كان اسم البيان عامًا لكل ما يُبحث فيه عن البلاغة ثم إنهم من بعد الشيخ عبد
القاهر قسموه إلى قسمين خصوا أحدهما باسم البيان وأطلقوا على الآخر اسم
(المعاني) أخذًا من قول عبد القاهر إن مسائله هي معاني النحو.
قوانين النحو تفيدنا معرفة التراكيب الصحيحة في العربية وكيفية أدائها على
وجهها ولكنها لا تفيد متى يرجح استعمال أحد التركيبين اللذين يفيدان معنى واحدًا
على الآخر نحو (قام زيد) و (زيد قام) و (عمر المنطلق) , و (المنطلق
عمر) والذي يعرفنا موضع كل واحدة من هذه الجمل هو علم المعاني المنتزعة
قوانينه من تتبع أساليب البلغاء وملاحظة الأحوال المختلفة التي يتغير التعبير في
كلامهم بحسبها ولذلك قالوا: إن البلاغة هي موافقة الكلام لمقتضى الحال. ولكن هذه
الأحوال لا تنضبط؛ لأنها تختلف باختلاف معارف المخاطبين بموضوع الخطاب
وأذواقهم ومقاماتهم ولذلك كان الطريق الموصل إلى تحصيل ملكة البلاغة هو كثرة
مزاولة الكلام البليغ لتحصيل ذوق البلاغة؛ لأن القوانين التي وُضعت للمعاني أقل
غَنَاءً من القوانين التي وضعت للنحو وقد علمت أن قوانين النحو غير محيطة،
وكتابا عبد القاهر أبين للقوانين وأعون على ذوق الأساليب.
ونذكر هنا عبارة كتبناها في خاتمة طبع كتاب (دلائل الإعجاز) الذي تم
طبعه في هذا الشهر بينا فيها مكانته من كتب هذا الفن وهي:
أما الكتاب فيعرف مكانته من يعرف معنى البلاغة وسر تسمية هذا الفن
بالمعاني وأما من يجهل هذا السر ويحسب أن البلاغة صناعة لفظية محضة قوامها
انتقاء الألفاظ الرقيقة، أو الكلمات الضخمة الغريبة، فمثل هذا يعالج بهذا الكتاب
فإن اهتدى به إلى كون البلاغة ملكة روحية، وأريحية نفسية، رُجي أن يبرأ من
علته، ويقف على مكانة الكتاب ورتبته، وإن بقي على ضلاله القديم، وجهله
المقيم، فَأَحْكِمْ بإعضال دائه، وتعذر شفائه.
إنما وضع الكلام لإفادة المعاني، والبلاغة فيه هي أن تبلغ به ما تريد من
نفس المخاطب من إقناع وترغيب وترهيب وتشويق وتعجيب أو إدخال سرور أو
حزن وغير ذلك. وكل هذه المقاصد أمور روحانية يتوصل إليها بالكلام. فمعرفة
قوانين النحو والمعاني والبيان شرط فيها، ولكنها غير كافية للوصول إليها، بل لا
بد من الهداية إلى أسباب كون الكلام مؤثرًا وإيراد الشواهد والأمثلة الكثيرة في
المعنى الواحد والموازنة بين الكلامين يتفقان في المعنى ويختلفان في التأثير كقول
المعبِّر الأول لذلك الملك الذي رأى في نومه أنه فقد جميع أسنانه: إن جميع أهلك
وذوي قُرباك يهلكون، وقوله المعبر الثاني له: الملك يكون أطول أهله عمرًا،
وهذا المذهب هو الذي ذهب إليه الإمام عبد القاهر في كتابيه (دلائل الإعجاز)
و (أسرار البلاغة) وقد خلف من بعده خلف جعلوا البلاغة صناعة لفظية محضة،
فقالوا: المسند يعرف لكذا وكذا وينكر لكذا وكذا.. إلخ، ولم يبينوا السر في ذلك ولم
يوازنوا بين مسند منكر عرفته البلاغة وآخر أنكرته وهو مثله ويُبيِّنوا السبب في
ذلك ولم يعنوا بإيراد الشواهد والأمثلة والبحث في الفروق. وقد اختار أهل هذه
الأزمنة الأخيرة هذه الكتب المجدبة القاحلة على مثل كتب عبد القاهر الخصبة
الحافلة لكثرة الحدود والرسوم والقواعد والمشاغبات في كتب المتأخرين فكان أثرها
فيهم أن حُرموا من البلاغة والفصاحة حتى إن أعلمهم بهذه الكتب وأكثرهم اشتغالاً
بها هو أعياهم وأعجزهم عن الإتيان بالكلام البليغ (بل والصحيح) قولاً وكتابةً.
ولا غرو فقد قال أحد كبار مؤلفي هذه الكتب المشهورة إن بعض فحول هذا الفن
(البلاغة) ليسوا بلغاء، ففصل بين البلاغة وعلمها وجعله غير مؤدٍّ إليها فلم يبقَ إلا
أنه ابتدع ليتعبد به. ولولا أن قيَّض الله تعالى للعربية في هذا العصر أبلغ البلغاء
وأفصح الفصحاء الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فطفق يحيي كتب السلف النافعة
وعلومها لكنا في يأس من حياة هذه اللغة الشريفة بعد ما قضى عليها حفَظتها وأساتها.
فنسأل الله تعالى أن يمد في أيامه. ويكثر من أنصاره وأعوانه. آمين.اهـ.
وقد صدر الكتاب بورق جيد، وثمن النسخة 20 قرشًا صحيحًا، وأجرة البريد
قرشان، وهو يطلب من إدارة مجلة المنار بمصر.
__________(6/630)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب نهج البلاغة
قد طبع هذا الكتاب الجليل، المستغني بشهرته عن التعريف، طبعة جديدة
مضبوطة بالشكل على نفقة الشيخ محمد سعيد الرافعي الكتبي وهي الطبعة الثالثة
بإذن شارحه الأستاذ الإمام وقد طبع في سوريا طبعة أخرى بغير حق. وتعدد الطبع
آية على معرفة الناس بقدر الكتاب. ولا نرى وسيلة لتعريف غير العارف به إلا
تزيين المنار بخطبة الشارح - حفظه الله تعالى - فإنها في أسلوبها ومعناها صورة
مصغرة للكتاب وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدًا لله سيّاج النعم، والصلاة على النبي وفاء الذمم، واستمطار الرحمة على
آله الأولياء، وأصحابه الأصفياء، عرفان الجميل، وتذكار الدليل، وبعد: فقد
أوفى لي حكم القدر بالاطِّلاع على كتاب (نهج البلاغة) مصادفة بلا تعمل أصبته
على تغير حال، وتبلبل بال، وتزاحم أشغال، وغطلة من أعمال، فحسبته تسلية،
وحيلة للتخلية، فتصفحت بعض صفحاته، وتأملت جُملاً من عباراته، من مواضع
مختلفات، وموضوعات متفرقات، فكان يخيل لي في كل مقام أن حروبًا شبت،
وغارات شنت، وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة، وأن للأوهام عرامة [1]
وللريب دعارة، وأن جحافل الخطابة، وكتائب الذرابة، في عقود النظام،
وصفوف الانتظام، تنافح [2] بالصفيح الأبلج، والقويم الأملج، وتمتلج المهج،
برواضع الحجج، فتفل [3] من دعارة الوسواس، وتصيب مقاتل الخوانس، فما أنا
إلا والحق منتصر، والباطل منكسر، ومرج [4] الشك في خمود، وهرج الريب في
ركود، وإن مدبر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة هو حامل لوائها الغالب، أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب.
بل كنت كلما انتقلت من موضع منه إلى موضع أحس بتغير المشاهد،
وتحول المعاهد، فتارة كنت أجدني في عالم يعمره من المعاني أرواح عالية، في
حُلَل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب
الصافية، توحي إليها رشادها، وتقوّم منها مرادها. وتنفر بها عن مداحض المزال،
إلى جوادّ الفضل والكمال.
وطورًا كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة، وأنياب كاشرة، وأرواح
في أشباح النمور، ومخالب النسور، قد تحفزت للوثاب، ثم انقضت للاختلاب،
فخلبت القلوب عن هواها، وأخذت الخواطر دون مرماها، واغتالت فاسد الأهواء،
وباطل الآراء.
وأحيانًا كنت أشهد أن عقلاً نورانيًّا، لا يشبه خلقًا جسدانيًّا، فُصل عن
الموكب الإلهي. واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به
إلى الملكوت الأعلى. ونما به إلى مشهد النور الأجلى، وسكن به إلى عمار جانب
التقديس، بعد استخلاصه من شوائب التلبيس.
وآنات كأني أسمع خطيب الحكمة، ينادي بأعلياء الكلمة، وأولياء أمر الأمة،
يعرّفهم مواقع الصواب، ويبصرهم مواضع الارتياب، ويحذرهم مزالق
الاضطراب، ويرشدهم إلى دقائق السياسة. ويهديهم طرق الكياسة، ويرتفع بهم
إلى منصات الرئاسة، ويصعدهم شرف التدبير، ويشرف بهم على حسن المصير.
ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضِيّ رحمه الله من
كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، جمع متفرقه
وسماه بهذا الاسم (نهج البلاغة) ولا أعلم اسمًا بما تليق بالدلالة على معناه من هذا
الاسم، وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دل عليه اسمه ولا أن آتي
بشيء في بيان مزيته فوق ما أتى به صاحب الاختيار كما ستراه في مقدمة الكتاب.
ولولا أن غرائز الحيلة، وقواضي الذمة تفرض علينا عرفان الجميل لصاحبه
وشكر المحسن على إحسانه ما احتجنا إلى التنبيه على ما أودع نهج البلاغة من
فنون الفصاحة، وما خص به من وجوه البلاغة، خصوصًا وهو لم يترك غرضًا
من أغراض الكلام إلا أصابه، ولم يدَع للفكر ممرًّا إلا جابَهُ.
إلا أن عبارات الكتاب لبعد عهدها منا، وانقطاع أهل جيلنا عن أصل لساننا.
قد نجد فيها غرائب ألفاظ في غير وحشية، وجزالة تركيب في غير تعقيد، فربما
وقف فهم المطالع دون الوصول إلى مفهومات بعض المفردات أو مضمونات بعض
الجمل. وليس ذلك ضعفًا في اللفظ أو وهنًا في المعنى، وإنما هو قصور في ذهن
المتناول.
ومن ثَم همت بي الرغبة أن أصحب المطالعة بالمراجعة. والمشارفة
بالمكاشفة. وأعلق على بعض مفرداته شرحًا، وبعض جمله تفسيرًا، وشيء من
إشاراته تعيينًا. واقفًا عند حد الحاجة مما قصدت، موجزًا في البيان ما استطعت،
معتمدًا في ذلك على المشهور من كتب اللغة والمعروف من صحيح الأخبار، ولم
أتعرض لتعديل ما روي عن الإمام في مسألة الإمامة أو تجريحه؛ بل تركت
للمطالع الحكم فيه بعد الالتفات إلى أصول المذاهب المعلومة فيها، والأخبار
المأثورة الشاهدة عليها، غير أني لم أتحاشَ عن تفسير العبارة، وتوضيح الإشارة،
لا أريد في وجهي هذا إلا حفظ ما أذكر، وذكر ما أحفظ، تصونًا من النسيان،
وتحرزًا من الحيدان، ولم أطلب من وجه الكتاب إلا ما تعلق منه بسبك المعاني
العالية في العبارات الرفيعة في كل ضرب من ضروب الكلام وحسبي هذه الغاية
فيما أريد لنفسي ولمن يطلع عليه من أهل اللسان العربي.
وقد عني جماعة من أجلَّة العلماء بشرح الكتاب، وأطال كل منهم في بيان ما
انطوى عليه من الأسرار، وكُلٌّ يقصد تأييد مذهب، وتعضيد مشرب، غير أنه لم
يتيسر لي ولا واحد من شروحهم إلا شذرات وجدتها منقولة عنهم في بطون الكتب.
فإن وافقت أحدهم فيما رأى فذلك حكم الاتفاق وإن كنت خالفتهم فإلى صواب فيما
أظن. على أني لا أعد تعليقي هذا شرحًا في عداد الشروح. ولا أذكره كتابًا بين
الكتب. وإنما هو طراز لنهج البلاغة وعَلَمٌ تُوَشَّى به أطرافه.
وأرجو أن يكون فيما وضعت من وجيز البيان فائدة للشبان من أهل هذا
الزمان، فقد رأيتهم قيامًا على طريق الطلب، يتدافعون إلى نيل الأرب من لسان
العرب، يبتغون لأنفسهم سلائق عربية، وملكات لغوية، وكل يطلب لسانًا خاطبًا،
وقلمًا كاتبًا، لكنهم يتوخَّوْن وسائل ما يطلبون في مطالعة المقامات، وكتب
المراسلات. مما كتبه المولدون، أو قلدهم فيه المتأخرون، ولم يراعوا في تحريره
إلا رقة الكلمات، وتوافق الجناسات، وانسجام السجعات، وما يشبه ذلك من
المحسنات اللفظية، التي وسموها بالفنون البديعية، وإن كانت العبارات خلوًا من
المعاني الجليلة، أو فاقدة الأساليب الرفيعة.
على أن هذا النوع من الكلام بعض ما في اللسان العربي وليس كل ما فيه بل
هذا النوع إذا انفرد يعد من أدنى طبقات القول وليس في حلاه المنوطة بأواخر
ألفاظه ما يرفعه إلى درجة الوسط، فلو أنهم عدلوا إلى مدارسة ما جاء عن أهل
اللسان خصوصًا أهل الطبقة العليا منهم لأحرزوا من بغيتهم ما امتدت إليه أعناقهم،
واستعدت لقبوله أعراقهم، وليس في أهل هذه اللغة إلا قائل بأن كلام الإمام علي بن
أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيه وأغزره مادة
وأرفعه أسلوبًا وأجمعه لجلائل المعاني، فأجدر بالطالبين لنفائس اللغة والطامعين في
التدرج لمراقيها أن يجعلوا هذا الكتاب أهم محفوظهم، وأفضل مأثورهم، مع تفهم
معانيه في الأغراض التي جاءت لأجلها، وتأمل ألفاظه في المعاني التي صيغت
للدلالة عليها؛ ليصيبوا بذلك أفضل غاية، وينتهوا إلى خير نهاية.
وأسأل الله نجاح عملي وأعمالهم، وتحقيق أملي وآمالهم اهـ.
هذا، وقد جعل ثمن النسخة من هذه الطبعة المشكولة 15 قرشًا وهو يطلب
من طابعه.
__________
(1) العرامة: الشراسة، والدعارة: سوء الخلق، والجحافل: الجيوش والكتائب الفِرق منها، والذرابة: حدة اللسان في فصاحة، والكلام تخييل حرب بين البلاغة وهائجات الشكوك والأوهام.
(2) تنافح: تضارب أشد المضاربة، والصفيح: السيف، والأبلج: اللامع البياض، والقويم: الرمح والأملج: الأسمر وهي مجازات عن الدلائل الواضحة والحجج القويمة المبددة للوهم وإن خفي مدركها وتمتلج: أي تمتص والمهج: دماء القلوب والمراد لا تُبقي للأوهام شيئًا من مادة البقاء.
(3) فلّ الشيء والقوم هزمهم، والخوانس خواطر السوء تسلك من النفس مسالك الخفاء.
(4) المرج: الاضطراب، الهرج: هيجان الفتنة.(6/633)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية وأدبية
(ثمرات الأفكار)
لمحمد أفندي حمدي النشار الدمياطي أحد كُتّاب محكمة الإسكندرية الأهلية
شعر منسجم هَامَ به في كل واد، وارتقى به كل نجاد، فاستغاث وناجى، ومدح
ورثى، وتغزل ونسب، ولم ينسَ باب الوعظ والأدب، فقد امتاز على أكثر شعراء
العصر بانتقاد ما فشا فيه من المفاسد والمثالب، وما للمدنية الحاضرة من الفضائح
والمعايب، وقد طبع الجزء الثاني من ديوانه (ثمرات الأفكار) في هذا العام
بمطبعة (المنار) وكان طبع الجزء الأول منه منذ عشرة أعوام، وإننا نورد نموذجًا
منه للقراء حتى إذا ما أحب أحد أن يطّلع على باقيه طلب الديوان من صاحبه. قال
في بيان حالة أكثر الشبان والكهول في هذه البلاد التي باعها الترف والسرف
والفسق للأجانب بثمن بخس؛ بل بثمن موهوم يسمونه كما قال (التمدن الجديد) :
(التمدن الجديد)
بين الندامى والمدامه ... ضاع الحياء والاستقامه
وعلى الغواني والظبى ... بعنا المروءة والكرامه
وعلى الجميلة والجميـ ... ـل قد انقضى عهد الشهامه
وتسرّبت منا الدرا ... هم في الفجور ولا ندامه
والدار بعناها لند ... رك وصل هند أو أُمامه
ونفائس الميراث قد ... رهنت على ثمن المدامه
والدين إن كُتب السدا ... دُ له ففي يوم القيامه
(سبحان مَن قسم الحظو ... ظ فلا عتاب ولا ملامه)
غيري بِيَ استغنى وما ... أبقيت من مالي قلامه
فسد الزمان وأهله ... يا رب نسألك السلامه
هذا تمدن معشر ... جعلوا الفسوق له علامه
من كل مياس القوا ... م له على الخدين شامه
يهتز إعجابًا كما ... هزت معاطفها الحمامه
وإذا رأى أهل المعا ... رف ظل يهزأ بالعمامه
يأتي الصباح ولم يدع ... في غير زينته اهتمامه
ويطل في المرآة هل ... في الحسن قد وفى نظامه
ويظل ينظر خلفه ... حينًا وآونة أمامه
وكأنما بلغ الوزا ... رة والإمارة والإمامه
حتى إذا جاء المسا ... والليل قد أرخى ظلامه
هجر الرقاد فعينه ... بالغمض لم تعرف منامه
متناولاً كأس الحميا ... جامة من بعد جامه
فإذا أضاع رشده ... وغدا ولم يحسن كلامه
ألوى العنان إلى ذوا ... ت الحسن كي يشفي هيامه
وأعاد كرّة سكره الـ ... أُولى وسمّاها (انسجامه)
فسحرنه وسلبن ما ... أبقت يداه بابتسامه
ودعون مركبة لتحـ ـمله وقلن (مع السلامه)
فأتى إلى الدار التي ... وأبيك ما ذاقت طعامه
هو يبذل العشرات كي ... يرضى هواه أو غرامه
وهي التي تبكي لفا ... قتها بدمع كالغمامه
فاستقبلته بما يليـ ... ـق من التحية والكرامه
صفعت قفاه وأتبعت ... بالصفع خديه وهامه
ولربما طرحته خلـ ... ـف الباب لا ترعى ذمامه
فإذا استفاق معاتبًا ... وعلى الهوان رأى مقامه
قالت له اعذرني فمَن ... غرس القبيح جنى الندامه
يستوجب الإذلال مَن ... لم يتّبع طرق السلامه
***
(قلائد الذهب في شرح أطواق الذهب)
كتب الشيخ محمود بن عمر الزمخشري الشهير مئة مقالة في الحكم والمواعظ
سماها (أطواق الذهب) وقد تنكَّب في كتابتها طريقته المثلى في الكتابة ونحا فيها
منحى الحريري في مقاماته في التسجيع والتجنيس. ولا زراية على الزمخشري بهذا
النحو من القول فإنه كان في عصره فنًّا من فنون الأدب وصنعة من صناعات القول
يتقنها مثله ومثل الحريري من أئمة اللغة. ولم يرد الزمخشري بهذه الحِكم المنثورة،
ولا الحريري بتلك المقامات المأثورة أن يسنَّا لكتّاب العربية سنة جديدة يتبعونها،
ويرغبون عن الكلام المرسل العفو إليها؛ وإنما كان لهما فيما يظهر لي غرضان:
أحدهما الاحتيال بهذا الوضع الطريف على توجيه النفوس إلى ما فيه من الحكم
والمَثُلات، وثانيهما جمع طائفة من فرائد اللغة في المفردات، ومحاسن الجمل في
المجاز والكنيات، تزيد الناظر سعة في العربية، وقدرة على صوغ الجمل المجازية.
وقد شرح (أطواق الذهب) وفسر مفرداته غير واحد وطبع في هذا العام
شرح منها لميرزا يوسف خان ابن اعتصام الملك الأشتياني، قال فيه إنه: (أجمع
وأكفى من الشروح والتعاليق التي علقت على تلك المقالات إلى الآن) ، وقد أضاف
إلى تفسير الكلمات ما يضاهي المقالة من رسالة (أطباق الذهب) للشيخ عبد
المؤمن الأصفهاني فإنه تلا فيها تلو الزمخشري واحتذاه كما ترى في هذا المثال.
قال الزمخشري في (المقالة 58) :
(موسر يشح بالنوال، ومعسر يُلِحّ في السؤال، إذا التقيا فجندلتان تصطكان،
وجدلتان من الضرائر تحتكان، هذا كزّ شحيح غير مِعوان، له في وجه الصعلوك
فحيح أفعوان، وذاك ملحٍ ملحف، محف مجحف، وهذا يقول هات، وهو يجيبه
هيهات، له دق بالوجنتين، دق القصار بالمجينتين (الميجنة مدقة القصار) إن
منح تبشبش وتطالق، وتبصبص وتملق، وإن منع أخذ بالمخانيق، ورمى
بالمجانيق) وقال صاحب أطباق الذهب: (من شداد الدنيا غني عابس، يلقاه
فقير بائس، يطرقه حافيًا، ويسأله محفيًا، يستميح شحيحًا لا يفتح الباب
لضيفانه، ولا يكسر حواشي رغفانه، فيرجع خاسرًا، وينقلب باسرًا، حتى إذا
فجأه في طريق، ولقيه في مضيق، فيأخذ بعِنانه، طمعًا في إحسانه، والبخيل
يحمر ويصفر، ويفر وأين المفر، هناك يصدم الأشدان. ويزدحم الضدان، فهما
كصخر قرعه حديد، وقيح كدره الصديد، ونفس يعلوه زاج، وحميم يشوبه أجاج،
ودخان يتلوه عجاج) اهـ وفي المقالات ما هو أظهر في السرقة من هذه.
أُهدي إلينا الكتاب المطبوع منذ أشهر ولم نفرغ لتصفح شيء من الشرح
ولكننا في النظرة السطحية انتقدنا عدم ضبط الكلمات عند تفسيرها وإن كانت قد
ضبطت مقالات الزمخشري بالشكل الكامل. وقد طبع في (مطبعة التمدن) على
ورق جيد وهو يطلب منها.
***
(الطرائف)
جريدة أسبوعية جديدة أنشأها في القاهرة رشيد أفندي المصوبع الشاعر
السوري الذي سبق لنا تقريظ ديوانه، وقد عرفنا هذا الشاب مغرمًا بالأدبيات هائمًا
في أودية الشعر، فلا شك في أن سيكون لجريدته الحظ الوافر من المباحث الأدبية
التي هي أنفع من خوض أكثر الجرائد في هذر السياسة التي لا نكاد نجد في القنطار
منها درهمًا من الفائدة. وقد افتتح الكاتب جريدته بمقدمة قال فيها: (أقدمت على
إنشاء هذه الجريدة وأنا عالم كل العلم بما صارت إليه بضاعة الأدب من الكساد، وما
زاد من الجرائد على حاجة البلاد) وهذه الدعوى قديمة وكم قالها الذين من قبله في
عصور كانت خيرًا من العصور التي قبلها كما أن هذا العصر خير مما قبله في
رواج الأدب وانتشار الجرائد والإقبال عليها وإن كان دون ما ينبغي ويُطلب.
أما قيمة الاشتراك في الطرائف فثمانون قرشًا في القطر المصري وجنيه
إنكليزي في سائر الأقطار. فنتمنى لرصيفنا الجديد النجاح ولجريدته حسن الانتشار.
_______________________(6/636)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإسلام والمسلمون
نشر في جريدة (ناسيونال زيتونغ) الألمانية مقالة في الانتقاد على الإسلام
والمسلمين دلت على جهلٍ من كاتبها بالأديان والتاريخ أو تجاهل حمل عليه
التعصب الشديد، وقد عرَّبت جريدة مصرية هذه المقالة وردَّتْ عليها ردًّا لم يفند
جميع المسائل والتهم الباطلة التي افتجرها الألماني؛ فرأينا أن نخلص هذه المسائل
ونفندها واحدة واحدة لا سيّما بعد انتشارها باللغة العربية، وإننا نشكر لهذه الجريدة
تعريبها على ضعف شبهات كاتبها، والرد عليها على ما فيه من التقصير؛ لأنها
قامت بما في وسعها، وعملت بنصيحة كنا نصحنا لها بها في أول ظهورها وهاك
ملخص مطاعن الألماني مع الرد السديد:
(1) افتتح الألماني كلامه بذكر الثورة المكدونية واهتمام أوربا بها واعترف
بأن الدولة العثمانية راغبة في إخمادها وتحسين حال المسيحيين بحسن نية، واعترف
بأن الثوار المسيحيين هم الذين يَحُولون دون الإصلاح.
وهذا الاعتراف إثبات لسوء قصدهم ولبعد المسيحي عن الخضوع لحكمه
والامتزاج بغيره وبأن حكومة الترك الإسلامية التي تصفها أوربا بالجور والظلم
والتي هي في الواقع ونفس الأمر دون حكومة الخلفاء الراشدين ومَن بعدهم ولا
سيّما في هذا العصر - تحب رعاياها الذين من غير دينها وترغب في إصلاح
حالهم وهذا يتضمن أن تأثير الإسلام في أهله أحسن تأثير، فما كان ينبغي لصاحب
الجريدة المصرية أن يعجب من ألماني يكتب هذه الكتابة ويبني عجبه على ما اشتهر
من صداقة عاهل ألمانيا لسلطان تركيا فإن هذا الكلام لا ينافي الصداقة. ولا يطالب
الكاتب بأن لا يكتب إلا ما يوافق هوى أميره وسلطانه.
(2) واصل الألماني اعترافه المذكور بقوله: إن المكدونيين والبلغاريين
يحولون دون إجراء أي إصلاح كما أن الإسلام ظهر في كل زمان بمظهر المعادي
للمدنية المسيحية الأوربية وسيبقى كذلك على الدوام.
ونقول: إن الإسلام ظهر في زمان كانت المسيحية فيه قد دمرت مدنية
المصريين واليونانيين، فشيَّد الإسلام ما هدمته المسيحية وأحيا المدنية بعد موتها
كما شرحنا ذلك في مقالات سابقة وبعد أن أدخل المدنية في أوربا عن طريق
الأندلس كافأته على فضله بمحاربتها إياه واجتهادها في إبادته.
إن الإسلام قاوم همجية المسيحيين في القرون المتوسطة التي يسمونها القرون
المظلمة ولكنه أوغل فيها برفق فإنه دخل بلاد الأندلس وقد تمزق شملها بالظلم واستعباد
الأحرار، فجعلها بالعلم والعدل جنات تجري من تحتها الأنهار. ولما قوي ساعد
أهلها بما منحهم الإسلام من الحرية لم يرضوا من مكافأة المسلمين إلا بإبادتهم من تلك
البلاد. فأين المدنية المسيحية التي قامت هناك مقام مدنية الإسلام؟ أليست حال تلك
البلاد إلى اليوم شرًّا مما كانت عليه مع أن الرقي طبيعي في الإنسان؟
(3) زعم الألماني أن دين محمد لا يقصد إدخال الناس في عقيدته كدين
بوذا وموسى وعيسى ولكنه يحاول إخضاع الشعوب وإبادتها.
وهذا غلو منه في الجهل أو التجاهل الذي هو أفضح من الجهل؛ فإن البوذيين
لا يدعون إلى دينهم ولا يحاولون تعميمه وكذلك اليهود دينهم خاص بشعب إسرائيل
لا يتعداه ولذلك لم ينمُ عدد هذه الأمة القديمة. وأما النصارى فإن نبيهم عيسى لم يكن
إلا مصلحًا بالديانة الموسوية، وقد أكد ذلك بصيغة الحصر إذ قال: (لم أُرسل
إلا إلى خراف إسرائيل الضالة) وأمّا ما ينقلونه عنه من أنه قال لتلامذته: (اكرزوا
بالإنجيل في الخليقة كلها) . فيجب تخصيص الخليقة فيه بشعب إسرائيل ليتفق
القولان. فلم يبق دين تدل نصوص كتابه على كونه عامًا للناس كلهم إلا دين محمد
عليه الصلاة والسلام فإن كتابه يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28) وقد بعث وحده فقام دينه بالدعوة وانتشر بالدعوة ولم يكن ما كان من
الجهاد في آخر عهده إلا لحماية الدعوة من المعتدين. طالب الناس بالدخول في دينه
ليصلح فسادهم. والشعوب التي خضعت لأصحاب هذا الدين لم تَرَ أرفق من حكامه،
ولا أعدل من أحكامه، كما اعترف بهذا بعض علماء أوربا.
وإنه ليوجد في بلاد الإسلام من الملل والنحل ما لا يوجد في بلاد أخرى وكلهم
حافظون لعقائدهم وتقاليدهم ومعابدهم ومعاهدهم. ولم توجد في الأرض أمة عملت
ولا تزال تعمل لإبادة من يخالفها إلا الذين قالوا إنا نصارى من أهل أوربا فقد أبادوا
الوثنيين من أوربا كلها ثم أبادوا المسلمين واليهود من غربي أوربا، وهم الآن
يحاولون إبادتهم من شرقيها ولذلك لا يقبلون من الترك إصلاحًا مهما حسنت النية فيه؛
لأن الترك مسلمون تجب في رأيهم إبادتهم من أرض سبقهم إليها المسيحيون فهم
يتعاهدون على ما بينهم من الضغائن والأحقاد على نزع سلطة المسلمين من بلاد
أوربا كما اعتدوا عليهم في آسية وإفريقيَّة، بل كان كل أهل مذهب من مذاهب
النصرانية يسعى في إبادة أهل المذهب الآخر وهذا لم يُعرف في غير نصارى تلك
البلاد.
(4) قال الألماني: إن الإسلام سلاح بيد أمة حربية لفتح بلاد العالم.
ونقول: نعم إن الإسلام أقوى سلاح للفتح وهل يعد هذا الألماني وقومه القوة
الحربية ضَعَة ورذيلة؟ أنَّى وتلك شهادة على أمته بأنها في الدرك الأسفل من
المهانة والضعة؛ لأنها في الدرج الأعلى من القوى الحربية. نعم إن بين قوة
الإسلام وفتوحاته وقوة الألمان في فتوحاتهم فصلاً واسعًا وهو أن الإسلام كان يقصد
بالفتح هداية الأمم إلى الحق الذي تسعد به في الدنيا والآخرة وذلك بأن يريها عدله
في الأحكام وفضل متبعيه في الأخلاق وقوة يقينهم في الإيمان فيرغب فيه عقلاؤها
ويدخلون فيه بالإقناع والإذعان. لا كما دخل وثنيو أوربا في النصرانية بالسيوف
والنيران.
وأما قصد ألمانيا وسائر أمم أوربا من الفتح فهو التمتع الحيواني بخيرات البلاد
التي يفتحونها وتسخير أهلها في خدمة شهواتهم وجمع المال لهم ولم توجد بلاد
في آسية ولا إفريقية افتتحها الأوربيون ثم كانت في ظل سلطتهم متمتعة بالعدل
والحرية في الدين والدنيا كما كانت في عهد فاتحي العرب الأولين.
فهذه إنكلترا أقرب أوربا إلى العدل والحرية تفضل الصعلوك من الإنكليز في
الهند على الأمير المسلم أو الوثني الهندي وقد ساوى عمر بن الخطاب بين صعلوك
قبطي وبين ابن عمرو بن العاص فاتح مصر وحاكمها في عهده وأقاده منه … نعم إن
الإسلام قد تحولت سلطته الديمقراطية المعتدلة المقيدة بالشورى ورأي أهل الرأي من
الأمة إلى سلطة فردية مطلقة بما صار لأمرائه من العصبية التي مكنتهم من جعل
السلطة وراثة في عقبهم فأفسدوا فيه وجعلوا الفتح من متممات شهواتهم ولكن هذا
مرض عرض للمسلمين لا الإسلام وقد انتقم الله تعالى منهم بتسليط أوربا عليهم
تسومهم سوء العذاب، ومتى بلغ الانتقام حده يرجع المسلمون إلى أصول دينهم
ويقيمون لأنفسهم سلطة إسلامية صحيحة تتكون بها المدنية الفاضلة الصحيحة التي
يسعد بها العالم الإنساني.
ولا يخفى على من استيقظ من المسلمين أن أوربا تجتهد في محو السلطة
المنسوبة للإسلام من الأرض وإنها تتوهم أن هذا المحو لا يعقبه إثبات؛ ولكنهم
يعتقدون أن هذا المحو هو الذي يكون سبب الإثبات فإن السلطة الحقة المنتظرة لا
تكون إلا إذا استيقظ أكثر المسلمين من هذا النوم المستغرق ولإيقاظهم هذا صوتان:
أحدهما صوت العلم وهذا لا يمتد إلا بالتدريج الطويل وثانيهما صوت انقضاض آخر
ركن من أركان سلطتهم المبعثرة وما هو إلا صيحة واحدة فإذا هم قيام ينظرون.
فلتعلم أوربا أن محافظتها على السلطة العثمانية وإبقائها واهنة هو الذي يسهل لها
التمتع بخيرات بلاد المسلمين دون سواه؛ لأن حكام المسلمين عودوا المسلمين منذ
قرون طويلة على الاعتماد عليهم وإلقاء المقاليد لهم فإذا رجعوا بعد اليأس من حكامهم
أو زوالهم إلى قوة الإسلام نفسه فإن بأس ثلاث مئة مليون من الأسود الباسلة يعتمدون
على الله وعلى ما وهبهم من القوة على دفع الضيم لا يكون أثره في الأرض قليلاً.
(5) قال الألماني بعد ما ذكر من قوة الإسلام ما ذكر: إن القوة التي ساد
بها في آسية وإفريقية ستكون مصدر مصائبه فإنه ينقصه ما في الديانات الأخرى من
قبول الأصول والقواعد (وفي الأصل المبادئ) التي عند غير أهله وعدم الاعتداء
على الأمم التي لا تَدين به.
ونقول إن القوة التي ساد بها الإسلام أيام كان إسلامًا هي قوة الحق والعدل وما
جاءته المصائب وأحاطت به النوائب إلا بعد أن حولت سلطته التي تقيم هذين
الركنين إلى سلطة استبدادية تعبث بها كما قلنا آنفًا فالقوة الفاتحة قد زالت من زمن
طويل والسلطة السائدة إلى هذا العصر إنما بقيت سيادتها بقاعدة الاستمرار؛ فإنها
لم يكن لها مقاوم يزيل استبدادها اللهم إلا ما كان من المبادلة بين المستبدين في
بعض الأحيان. ونحن على علم بأن هذا الاستبداد لا يدوم وإذا لم يزله المسلمون
لاستعباد الملوك والأمراء لهم فهذه أوربا تزيله بالتدريج.
أما زعمه بأن مصدر مصائب الإسلام ستكون من أصلين فيه: أحدهما أن
المسلمين لا يقبلون اقتباس ما عند الأمم الأخرى وثانيهما أنهم لا يكفون عن الاعتداء
عليها فهو زعم باطل مبني على الجهل الفاضح، أو التعصب الواضح، ذلك أن
الإسلام يرشد المسلمين إلى أن يأخذوا الحكمة أنَّى وجدوها وينهاهم عن الاعتداء
على من لم يعتدِ عليهم قال الله تعالى:] وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ
تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ (البقرة: 190) [وقال عز وجل:] فَمَنِ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ (البقرة: 194) [أي
لا تزيدوا على مقابلته بمثل اعتدائه. فإن أراد بعدم قبول الإسلام أصولاً زائدة عليه
الأصول الدينية لا المعاشية فهذا صحيح وهو مصدر قوته ولكن المسلمين لم
يقصروا في مخالفته في هذا الحكم فأخذوا عن النصارى والوثنيين كثيرًا من البدع
والتقاليد وصبغوها بصبغة إسلامية وهي التي كانت سبب ضعفهم في دينهم الذي هو
أمضى سلاح بأيديهم كما قال وحكّمت غيرهم فيهم فالأمر على ضد ما زعم.
(6) قال الألماني: امتاز الإسلام بفتوحات سريعة قاسية تدل على شهامة
العرب والترك وتعصبهما وخضوعهما للأقدار وكان لهذه الفتوحات تأثير في أوربا
فقد استمر حكم العرب في الجنوب الغربي منها (أسبانيا أو الأندلس) سبعة قرون
وحكم الترك في الجنوب الشرقي ستة قرون ولم يستطع الترك ولا العرب إيجاد
رابطة بينهم وبين الأمم التي أخضعوها.
ونقول: إن التاريخ لم يعرف أرفق وألين من فاتحي المسلمين حتى قال أحد
فلاسفة الإفرنج فيهم وفي دينهم: (إن شعوب الأرض لم تَرَ قط فاتحًا بلغ من الحِلم
هذا المبلغ ولا دينًا بلغ في لينه ولطفه هذا الحد) (راجع ص 105 من كتاب
الإسلام والنصرانية) . أخطأ في نسبة القسوة إلى المسلمين في فتوحاتهم وأصاب
في وصفها بالسرعة ووصفهم بالشهامة والخضوع للأقدار ولكن مع العمل والأخذ
بالأسباب التي لا يجوز التوكل والاعتماد على القدر عندنا إلا بعد استيفائها. ومن
البلاء أن هذه المزية العظيمة قد ضعفت بعض الضعف في المسلمين ببدعة الجبر
التي فشت فيهم وروجها لابسو مرقعات الصوف من مدعي الصلاح ومن الذين
يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ومع هذا كله لا يزال المسلمون
في مجموعهم أشجع الشعوب وأشدها شهامة وسَيَهْتَدُون إلى أن التوكل يشترط فيه
الاستعداد فإذا استعدوا كما يجب يعود إليهم بفضل الله تعالى ما فُقد منهم.
وأما زعمه: أنه لم يستطع العرب ولا الترك إيجاد رابطة بينهم وبين الأمم
التي أخضعوها فهو زعم باطل على إطلاقه فإن العرب قد حولوا لغات الأمم التي
فتحوا بلادها إلى لغتهم بدون إلزام ولا قهر ولا مدارس سياسية كما يفعل الإفرنج
وهذه قدرة على عمل عجزت عنه الدول الأوربية والرومانية قبلها ورابطة اللغة من
أقوى الروابط بين الأمم. هذا هو أثرهم فيمن بقي محافظًا على دينه في البلاد التي
فتحوها.
والكاتب يعلم أن أكثر الشعوب التي استولت عليها العرب قد دخلت في دينهم
فالمجوسية نسخت من بلاد الفرس والنصرانية قَلَّ أتباعُها في مصر وسوريا ولم
يكن ذلك بقهر ولا إكراه؛ بل كان المسلمون يدخلون البلد ثم يتركونها لأهلها
ويقيمون فيها حامية قليلة تدافع عنها من يعتدي على أهلها إن كان هناك خوف وتقر
الناس على دينهم وعاداتهم، وتجعل أكثر العمال منهم؛ ولكنهم كانوا ينجذبون
للشرذمة التي تكون عندهم بجاذبية الحق والعدل والفضيلة فيها فيتبعونها في الدين
واللغة عن رغبة واختيار.
أما الترك فقد عجزوا عن مثل ذلك لأن سهمهم من الإسلام وأركانه الثلاثة كان
دون سهم العرب، وما كان للأعجمي المقلد أن يفهم من الكتاب والسنة ما يفهمه
العربي المجتهد لا سيّما بعد ظهور البدع. ومع هذا كله كان الترك أكثر رفقًا
بالشعوب التي يفتحون بلادها من سائر الفاتحين وقول الفيلسوف السابق يشملهم.
(للرد بقية)
__________(6/640)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأمر الصغير الكبير
لقد ضقت ذرعًا من أمر صغير، ولكنه على صغره كبير، فهو كالبعوض أو
كالبق يضجر منه الكمي الباسل. ويضيق عنه حلم الحكيم الفاضل، ذلك الأمر الذي
أعياني علاجه، وعمي على طريقه ومنهاجه، هو إفهام الكثيرين من قراء المنار
أن إدارة المجلة لا ترسل لأحد ما يطلبه من الأجزاء المفقودة إلا إذا أرسل مع الطلب
قيمة كل جزء قرشان ونصف قرش (25 مِليمًا) لا يستثني هذا الحكم أحد ولا يقبل
تأجيل الثمن ليرسل مع قيمة الاشتراك وإنما يستثنى طلب آخر جزء إذا علم
بصدوره المشترك ولم يصل إليه وكذلك الجزء الذي قبل الأخير بهذا الشرط.
كتبنا هذا غير مرة وجعلنا له (إعلانًا) ثابتًا في غلاف المجلة وكل هذا لم
يغنِ شيئًا فإن الرسائل تتبع الرسائل من المشتركين في كل بلد هذا يطلب جزءًا
وهذا يطلب أجزاء وهذا يقول إن المجلة لم ترسل إليه منذ شهر أو شهور وذلك
يعترف بأن العدد قد فُقد بعد وصوله ويطلب أن يرسل إليه مرة ثانية من باب الكرم
والتفضل وذاك يَعِد بأنه سيرسل ثمن ما يطلبه أو سوف يرسله مع قيمة الاشتراك
(إن شئنا) .
__________(6/645)
غرة رمضان - 1321هـ
20 نوفمبر - 1903م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حكمة الصيام وفضل رمضان
(1) قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الصيام جُنَّة) ، أي وقاية، رواه
الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة والترمذي عن معاذ وروياه مع ابن ماجه عن
عثمان بن أبي العاص بلفظ: (الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال) ،
وفي رواية للنسائي والبيهقي عن أبي عبيدة: (الصيام جنة ما لم يخرقها) ، وزاد
الطبراني في الأوسط: (بكذب أو غيبة) ، وقد روى الحديث غيرهم من طرق
أخرى.
والمعنى أن الصوم سبب للوقاية من النار كالجنة تكون سببًا للوقاية من الطعن
والضرب ما لم تخرق، وإنما كان الكذب والغيبة - وهي ذكر الناس بما يكرهون -
أن يذكروا به خارقين لجنة الصيام؛ لأن الغرض من الصيام تعويد النفس على ترك
المعاصي والشهوات المحرمة، فإن مَن يترك المباح له في الأصل - كالأكل
والشرب والملامسة الخاصة بينه وبين امرأته، وهو متمكن من فعل ذلك في كل
وقت يعنُّ له وإنما يتركه امتثالاً لأمر ربه وعملاً بما فرضه من وسائل تأديبه - كان
جديرًا بأن يتمكن من ترك المحرم عليه في الأصل، إذا اشتهى أن يصيب منه.
فالصيام يزيد في الإيمان بالله تعالى؛ لأن هذه المباحات التي يجب تركها فيه
هي التي يحتاجها الإنسان دائمًا، وتعرض له في كل وقت، فهو لا يتركها إلا
امتثالاً، وهي تذكِّره في كل وقت بالله تعالى؛ فيزداد مراقبة له، واتقاءً لمخالفته،
حتى يملك نفسه، ويضبط نزعاته الشهوية بالتكرار الذي يطبع الملكات في النفوس،
كما شرحنا ذلك في بعض المجلدات السابقة من النار.
سألني أحد الإفرنج: هل تصوم رمضان كله، فلا تفطر فيه جهرًا ولا سرًّا؟
فقلت: نعم، إنني أصومه، وكم زدت عليه من صيام التطوع. قال: وهل تظن
أن الله يكون مسرورًا ومبسوطًا من تركك الأكل والشرب ويغتاظ إذا أكلت؟ فقلت:
إن ديننا ليس كالأديان التي تعرفها، يجعل العبادة تعذيبًا للنفس بزعم أن الله يحب أن
يحرج نفوس الناس ويعنتهم كما يفعل الملوك الظالمون وإنما يعلمنا ديننا بأن الله
تعالى لم يجعل علينا في الدين من حرج ويمن علينا بأنه لو شاء لأعنتنا ولكنه لم
يفعل لأنه أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا ويرشدنا إلى أنه ما فرض علينا شيئًا إلا
لمنفعتنا وما حرم علينا شيئًا إلا لأنه يضرنا وقد ورد في الحديث القدسي: (يا
عبادي لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني..) إلخ، فهذا الصيام
نافع لنا؛ لأنه يربي لنا ملكة الحكم على أهوائنا وشهواتنا فلا يصعب علينا مع هذه
الملكة أن نترك المعاصي المضرة ...
قال: إننا نعهد أن الذي يمنع من شيء يكون بعد زوال المنع أشد ولوعًا وأكثر
ضراوة به وإنني أعرف في بلادنا كثيرًا من الناس ربّوا أولادهم على المنع من
القبائح كالسُّكْر والزنا والقمار وما هو أهون من ذلك، فلما زالت عنهم سلطة المنع
كانوا أشد الناس انغماسًا في الشهوات، وأكثرهم ارتكابًا للموبقات، فقلت: نعم إن
هذا أمر طبيعي فإن الذي يمنع بالقهر والإلزام عمّا يحبه ويشتهيه يزداد ميلاً إليه
وحبًا فيه، وقد قال الشاعر العربي:
منعت شيئًا فأكثرت الولوع به ... أحب شيء إلى الإنسان ما منعا
ولكن المنع من الأكل ونحوه في الصيام ليس منع قهر وتحكم؛ وإنما هو
امتناع اختياري عن اقتناع واعتقاد بأنه خير ونافع وسبب من أسباب السعادة ولولا
ذلك لما صام الصائم، إذ يتمكن كل أحد من الإفطار سرًّا إذا كان يستحي من الناس
أن يفطر جهرًا. ولهذا المعنى كانت تربية القسوة والقهر ضارة ومفضية إلى الإفساد
وكانت التربية الدينية الإسلامية المبنية على الاعتقاد والاقتناع هي التربية النافعة
التي لا ضرر فيها، وإننا نرى الأولاد الذين يُربَّوْن بالقسوة والحكم القاهر أذل
الناس نفوسًا وأفسدهم أخلاقًا وكذلك نرى تأثير الحكومات المستبدة القاسية في
الرعية تفسد بأس الأمة وتهبط بأخلاقها وآدابها إلى أسفل سافلين.
وقد لاحظ الفيلسوف العربي ابن خلدون هذا المعنى فعقد له فصلاً في مقدمته
واستشهد له بإنكار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على سعد بن أبي وقاص قائد
جنده في حرب الفرس معاملة أحد الشجعان بالقهر، حين أخذ سلب قتيل قتله بدون
إذنه، واحتج عمر على سعد (رضي الله عنهما) بأن ذلك يفسد بأس ذلك
الشجاع ... قال محدثي بعد تمام الحوار: إن كل ما ذكرته صحيح.
وأزيد الآن - وإن أطلت في شرح الحديث بما ليس من موضوع الصوم -
عبارة ابن خلدون في المثال الذي أوردته قال بعد ذكر عزة الذين يُساسون بالرفق
والعدل: وأما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من
سَوْرة بأسهم وتذهب المنعة عنهم لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة كما
نبينه. وقد نهى عمر سعدًا رضي الله عنهما عن مثلها لما أخذ زهرة بن حوبة سلب
الجالنوس (سلب القتيل بالتحريك ما معه من سلاح وغيره) ، وكانت قيمته خمسة
وسبعين ألفًا من الذهب وكان اتبع الجالنوس يوم القادسية فقتله وأخذ سلبه فانتزعه
منه سعد وقال له: هلاَّ انتظرت في اتباعه إذني، وكتب إلى عمر يستأذنه فكتب
إليه عمر: (تعمد إلى مثل زهرة، وقد صلى بما صلى به وبقي عليك ما بقي من
حربك وتكسر فوقه [*] وتفسد قلبه) ، وأمضى له عمر سلبه ثم انتقل ابن خلدون
إلى بيان كون الأحكام الشرعية لا تُذهب بالبأس والمنعة؛ لأن الوازع فيها نفسي
ونقل عن عمر أنه قال: (مَن لم يؤدبْه الشرع لا أدبه الله) ، حرصًا على أن يكون
الوازع لكل أحد من نفسه.
(2) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن في الجنة بابًا يقال له الريان
يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟
فيقومون فيدخلون منه فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد) رواه أحمد والشيخان
وغيرهم عن سهل بن سعد. وقد فسر بعض أهل البصيرة الحديث وأمثاله بأن
المراد بأبواب الجنة أصول الطاعات ومجامع الخير وكأنهم أخذوا هذا من حديث
الطبراني عن سهل أيضًا: لكل باب من أبواب البر باب من أبواب الجنة وإن باب
الصيام يدعى الريان، وتسميته بالريان يشير إلى ذلك. واستدل عليه الشيخ محيي
الدين بن عربي في فتوحاته بحديث ورد في أن أبا بكر يدخل الجنة من أبوابها كلها
وهو لا يعقل إلا بهذا التفسير.
(3) وقال صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى: (كل عمل ابن آدم
له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا
يرفث ولا يصخب وإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفسُ
محمد بيده لخَلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان
يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه) . رواه الشيخان
والترمذي من حديث أبي هريرة. ومعنى: (كل عمل ابن آدم له) أن لكل طاعة
من الطاعات لذة يجدها مَن أقام تلك الطاعة فللصلاة من لذة المناجاة لله تعالى ما
ليس لغيرها، ووالله إن البكاء فيها لهو ألذ عند الخاشعين من الضحك في سواها، فيا
حسرةً على مَن حُرم منها، وللزكاة لذة التفضل وعزة الغنى والسيادة، ولمناسك
الحج عمل في تحريك الشعور الديني، والتوجه إلى العالم الروحاني، يشترك فيه
الجاهل بأسراره مع العالم بها؛ ولذلك ترى العوام ينجذبون إليه كالخواص، ولا
يوجد مسلم إلا وهو يحن إلى تلك المعاهد حنين الطير إلى أوكارها، وهذه اللذة
مطَّردة فيما عدا الأركان من أعمال البر إلا الصوم فإنه ترك لا لذة ولا حظ للنفس
فيه لأنه أمر عدمي وأثره الوجودي هو الألم، فهو جدير بأن يتولى الله تعالى مثوبة
صاحبه بترقية نفسه في الكمال والتهذيب حتى يلقاه بقلب سليم، ويستحق جنات
النعيم، وقد مر تفسير كون الصيام جنة في شرح الحديث الأول.
والرفث المنهي عنه هو الإفضاء إلى النساء الذي يكون بين الزوجين وقيل
هو الكلام الفاحش؛ لأن ترك الأول مما لا يتحقق الصيام إلا به، والصَّخَب
(بالتحريك) الصوت الشديد واختلاط الأصوات. وكيف لا يكون ترك الفحش
والصخب والتسابّ وسائر المعاصي من مهمات آداب الصوم أو شروطه مع أنه لا
يتحقق إلا بترك المباح الذي لا قبح فيه وهذه الأشياء من أقبح القبائح، ولقد أحسن
حجة الإسلام في تمثيل من يترك الأكل والشرب المباحين ويفعل المحرمات بمن
يبني قصرًا ويهدم مصرًا.
وخلوف الفم: تغيُّّّّّر رائحته من الصيام والكلام كناية عن كون هذا التغير الذي
يعرض للصائم ومن شأنه أن يكون مكروهًا عند الإنسان هو محمودًا في حكم الله تعالى
مرضيًّا عنده من عبده؛ لأن أثره نافع له في تهذيب نفسه الذي هو أساس سعادته.
وقيل إن ذلك يكون في الآخرة حقيقة وورد فيه حديث.
وأما الفرحتان فأمرهما ظاهر فالفرحة عند الإفطار معروفة لجميع الصائمين
وهي ليست جثمانية محضة؛ بل هي روحانية جثمانية؛ فإن الإصابة من الطعام
المباح المستلذ بعد الجوع يصحبها الشعور الروحاني بلذة إتمام العبادة ورجاء
الرضوان الإلهي؛ ولذلك نرى لطعام رمضان شأنًا لا نجده لغيره في أوقات الجوع
التي تعرض لنا في غير الصيام مما ربما يزيد عن الجوع بالصيام. وأما الفرحة
الأخرى فلا تُعرف حقيقتها إلا بالوصول إليها.
واللهَ نسأل أن يسهل لنا سبيلها بالقيام بحقوق الصيام بحيث تتهذب به نفوسنا
وترتقي به أخلاقنا، وأن يهب لنا من فضله فوق ما نستحقه بأعمالنا.
(4) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن لم يَدَعْ قول الزور والعمل به
فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه أحمد والبخاري وأبو داود
والترمذي وابن ماجه، وهو يؤيد ما قلناه في شرح الحديث السابق.
(5) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا
غُفر له ما تقدم ذنبه) . رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة عن أبي
هريرة، وفي حديث آخر: (مَن قام) . وقد اتفق العلماء على أن المراد بالذنوب
الصغائر أو الكبائر باعتبار قيد التوبة ورَدِّ الحقوق إلى أهلها؛ لأن هذا القيد
معروف من أصل الشريعة المتفق عليه. ونقول: إن الفقه في الحديث هو أن من
صام شهرًا بباعث الإيمان واحتساب الأجر على الله تعالى - لا بمقتضى العادة
وموافقة الناس في تغيير مواعيد الأكل يجعلها في الليل بدلاً من النهار - فلا شك أن
إيمانه يقوى ويزداد ونفسه تتزكى من آثار الذنوب التي يلم بها المؤمن بسبب الغفلة
عن الله تعالى. فتحل بالصيام الذكرى محل الغفلة، ويشرق النور في مكان الظلمة،
وتمحو الحسنات ما كان في النفس من أثر السيئات، فتحسن الحال، وتصلح
الأعمال، فهذا هو معنى المغفرة؛ لأن الغفر في اللغة هو الستر والتغطية ولا أبلغ
في ستر الشيء من إزالة أثره كما تزيل الحسنات السيئات. ورواية: (ما تقدم من
ذنبه وما تأخر) ضعيفة.
(6) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا جاء رمضان فُتّحت أبواب
الجنة وغُلّقت أبواب النار وصُفّدت الشياطين) رواه الشيخان وغيرهما عن أبي
هريرة. وأبواب الجنة هي الطاعات وأبواب النار هي المعاصي كما تقدم ولا شك
أن هذه تغلق دون الصائمين وتلك تفتح أمامهم فيدخلون فيها أفواجًا، ومعنى:
(تصفَّد الشياطين) أنه لا يكون لها سبيل للوسوسة والإغواء؛ لأن أبواب المعصية
والشهوات مقفلة لا سبيل إلى الدخول فيها. وفي رواية زيادة: (وينادي منادٍ: يا
باغي الخير هلم، ويا باغي الشر أقصر) وفي رواية: (أمسك) . باغي الشيء
مريده والكلام كناية عن كون حال الصيام تقتضي المزيد في الخير والإمساك عن
الشر. وسمعت الأستاذ الإمام يقول: إن شهر رمضان لا يصلح فيه عمل الدنيا؛
فينبغي للعبد أن يتخلى فيه لعمل البر ما استطاع، أو ما هذا معناه، وقد رُوي في
فضل رمضان أحاديث كثيرة،أكثرها بين موضوع وضعيف، وحسبك من الصحيح
ما ذكرناه.
* * *
فصل فيما يثبت به الصوم والفطر
(7) جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني رأيت
الهلال يعني رمضان فقال: (أتشهد أن لا إله إلا الله؟) قال: نعم. قال (أتشهد
أن محمدًا رسول الله؟) قال: نعم. قال: (يا بلال أذِّن في الناس فليصوموا غدًا)
رواه الشيخان وأصحاب السنن عن عكرمة عن ابن عباس. وفي رواية لأبي داود:
فأمر بلالاً؛ فنادى في الناس أن يصوموا وأن يقوموا. وفي حديث آخر عند أبي
داود: أن النبي عليه السلام اكتفى مرة بشهادة ابن عمر في الصيام. وهو حجة على
ثبوت الصوم بشهادة رجل واحد.
(8) عن ربعي بن خراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال: اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالله لأهلاَّ الهلال أمس عشية فأمر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم الناس أن يفطروا. رواه أحمد وأبو داود وزاد في رواية:
وأن يغد إلى مصلاهم.
(9) قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه
فأفطروا فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له) رواه الشيخان والنسائي وابن ماجه من حديث
ابن عمر. وفي رواية للبخاري وغيره: (الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا
حتى تروه فإن غُم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) وفي رواية لمسلم وغيره: (الشهر
هكذا وهكذا) ، وأشار بالعقد إلى 29 و30، وفي لفظ للشيخين: (صوموا لرؤيته
فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) ، وظاهر أن الكلام في رؤية الهلال
وعدمها. ومعنى اقدروا له: احسبوا وقدروا، يقال قدره (من بابي ضرب ونصر)
وأقدره وقدر له. وغبي هنا: بمعنى غم في الروايات الأخرى أي لم يظهر.
والأحاديث نص في أن العبرة برؤية الهلال لا بحساب الحاسبين وتقاويم
المنجمين؛ وذلك أن هذا الدين عام للبدو والحَضَر فوجب أن تكون مواقيت عباداته
معروفة عند عامة المكلفين، غير مخصوصة بطائفة الحاسبين وجاء في بعض
الروايات (وانسكوا له) فمواقيت الحج تعرف برؤية الهلال أيضًا.
(عن كريب أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام (قال) : فقدمت فقضيت
حاجتها واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة
في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت
رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس، وصاموا،
وصام معاوية فقال: ولكنّا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين
أو نراه، فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ قال: لا، هكذا أمرنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم: رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة.
الأظهر أن المشار إليه بقوله: (هكذا أمرنا رسول الله) هو قوله: (لكنا
رأيناه ليلة السبت ... ) ... إلخ، فإنه هو المنطوق الموافق للمروي، وقيل إنه أشار
إلى ما يفهم من قوله من عدم اعتداد أهل بلد برؤية أهل بلد آخر وهو غير مروي في
المرفوع ولا هو صرح به فنكتفي بروايته فالراجح إذًا حمل قوله على المروي
المعروف. وقد اختلف علماء السلف في المسألة فقيل يعتبر كل أهل بلد رؤيتهم بَعُدَتِ
البلاد أو قَرُبَتْ، وقيل لا يلزم أهل بلد العمل برؤية أهل بلد آخر إلا إذا ثبت عند
الإمام الأعظم فبلغه؛ لأن حكمه نافذ في جميع البلاد وقيل: إن تقاربت البلاد كان
حكمها واحدًا وإن تباعدت عمل كلٌّ برؤيته، واختلفوا في حد البعد فبعضهم ناطه
باختلاف المَطَالع وهو الوجه العلمي وبعضهم ناطه بمسافة القصر، وهو قياس فقهي
وقد رجح النووي وغيره من الشافعية كل واحد من القولين وقطع بكل منهما جماعة من
الفقهاء.
ونقول: إذا اختلفت الرؤية في البلاد المتقاربة فإن كان هناك حاكم شرعي
ورجّح شهادة وبلّغها للناس وجب أن يعتمدوا عليها ولا يلتفتوا لرؤية الآخرين
لينضبط الأمر ولا يكونوا فوضى في إقامة ركن من أركان دينهم، هذا صائم وهذا
مفطر، وإن اختلفت في البلاد المتباعدة فهناك النظر والاجتهاد وقد رأيت أن بعضهم
اعتبر البُعْد باختلاف مطالع القمر وبعضهم اعتبره بمسافة القصر والأول يستلزم
تحكيم علماء الفلك وقد ذكرنا أن غرض الشرع أن يجعل ما تعرف به مواقع العبادة
عامًا يعرفه العوام والخواص حتى لا يتحكم الكبراء في المسائل الدينية كما فعلوا
في الأمم السالفة؟
والثاني يمكن أن يتجه لو ورد حديث يذكر فيه اختلاف الحكم ببعد البلاد فيقال
حينئذ: إن مسافة القصر هي البُعْد الشرعي الذي تختلف به الأحكام.
وهناك وجه آخر في البعد والقرب ربما كان أجدر بالاعتبار وهو أن البلاد
المتصلة التي بين أهلها امتزاج وتعامل كالبلاد المصرية كلها تعد بلادًا متقاربة ولا
ينبغي أن يكون بعض أهلها مفطرًا وبعضهم صائمًا، بحجة اختلاف الرؤية، فإذا
ثبتت الرؤية في بعضها يصوم الجميع وإلا أكملوا عدة شعبان ثلاثين وصاموا
متفقين وما يفعلونه الآن في الأقطار الإسلامية من الإثبات في مكان وإعلام الآخرين
به حسن في ذاته وغير حسن ما يحتف به من البدع.
وأما البلاد التي لا صلة بينها قوية سهلة ولا تعامل بينها إلا بمهاجرة بعض
أهلها من إحداها إلى الأخرى فلا بأس باعتبار كل ما يثبت عنده وإن تيسر إعلام
كل قطر الآخر بنبأ البرق الذي يؤمن تزويره، ولو كان للمسلمين إمام أعظم يُنْفِذ
حكمه الشرعي في جميع بلادهم وتيسر له إعلامهم بما يثبت عنده من الرؤية
وصاموا بذلك لكان له وجه من الحسن واتجه قال ابن الماجشون.
__________
(*) الفوق بالضم: مشق رأس السهم حيث يقع الوتر وهو إذا انكسر تعذر الرمي به والمراد بكسر الفوق إفساد البأس وإضعاف النفس، والفوق أيضًا: الحظ الكامل من النهي.(6/655)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أحاديث في الوقف
نشر المقطم في الشهر الماضي مقالةً بإمضاء (عزيز خانكي) بحث فيها
كاتبها في الوقف والمحاكم الشرعية وزعم أن الوقف ليس من الدين الإسلامي في
شيء واستدل على ذلك بعدم ورود شيء في مشروعيته في القرآن الشريف أو في
السنة، قال: (إلا حديثًا واحدًا في كتاب ابن ماجه) وقد كتبتُ نبذة في بيان نقض
زعمه هذا نُشرت في المقطم أيضًا ذكرت فيها أنه ورد في الوقف عدة أحاديث
رواها الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه الذي اعترف
به الكاتب دون غيره لعدم اطِّلاعه على كتب الحديث؛ لأن الصحيحين أوْلى منه
بالذكر إلا أن يكون أراد إيهام الناس أن الحديث محتمل للطعن فيه؛ فإن في سنن
ابن ماجه ما طعن المحدثون في إسناده، وعند ذلك يكون غير طالب للحق، ولا
مقرر له؛ فأحسن ما يحمل عليه زعمه أنه لم يَرَ في الوقف إلا حديث واحد لابن
ماجه هو عدم الاطلاع، وليس هذا طعنًا في الكاتب فإنه ليس عالمًا مسلمًا فيُعاب
بعدم الاطلاع على السنة، لا سيّما في هذا الزمن وهذه البلاد التي قلما ترى في
علمائها من يشتغل بالحديث.
وذكرت فيها غير الصحيحين وأصحاب السنن ممن روى أحاديث الوقف كابن
أبي شيبة وعبد الرزّاق والطبراني والطحاوي وابن جرير وابن عساكر.
وقد بلغنا أن عزيز أفندي خانكي قد اعتمد في نفي ما عدا حديث ابن ماجه من
أحاديث الوقف على شيخ مسلم له هوى في ذلك، وأنه عاد إليه بعد ما رددنا قوله
وكلمه في ذلك، وأجابه بأن الحديث واحد وهو مروي في جميع تلك الكتب. ثم
رأيت بعد ذلك مقالة أخرى في المقطم لداود بك عمون المحامي الشهير ذكر فيها
مقالة عزيز أفندي، وزعمه أنه لم يَرِد في الوقف إلا حديث واحد، وذكر ردنا عليه
وزعمنا أنه ورد عدة أحاديث وكتب هنا هذه الكلمة (وإن لم يذكرها) فيظهر أن
القوم يظنون أن الحجة تنهض له في عدم مشروعية الوقف إذا ثبت أنه لم يرد فيها
إلا حديث واحد. والصواب أن المشروعية تثبت بحديث واحد إذا كان ثابتًا يحتج به
وزيادة عدد الأحاديث لا يزيد الحكم مشروعية. وإنما ذكرت في الرد على عزيز
أفندي خانكي أسماء المحدّثين الذين رووا أحاديث الوقف، وذكرت أن حديث عمر
قد رواه أحمد والبخاري ومسلم لبيان أن الحديث صحيح وإزالة توهم ضعفه بانفراد
ابن ماجه به. ثم إن كون الشيء من أمور الدين لا يتوقف على ورود شيء فيه
بخصوصه؛ بل يكفي دخوله في بعض النصوص العامة، ولذلك كان وقف أبي
طلحة - رضي الله تعالى عنه - عملاً بعموم قوله تعالى: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى
تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) ، وكل عمل يُعمل لأجل التقرب إلى الله
تعالى- بكونه برًا، ويدخل في عموم النصوص التي لا معارض لها - فهو من أمر
الدين. ونذكر هنا بعض ما ورد في وقف أشهر الصحابة ومشروعية الوقف:
(وقف عمر)
عن ابن عمر أن عمر أصاب أرضًا من أرض خيبر فقال: يا رسول الله
أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه فما تأمرني؟ فقال:
(إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها) فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب
ولا تورث في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل، لا جناح على
مَن وليها أنْ يأكل منه بالمعروف ويطعم غير متموّل، وفي لفظ: غير متأثل مالاً
رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة. وفي حديث عمرو بن دينار قال في
صدقة عمر: ليس على الولي جناح أن يأكل ويؤكل صديقًا له غير متأثل، قال:
وكان ابن عمر هو يلي صدقة عمر ويهدي لناس من أهل مكة كان ينزل عليهم،
أخرجه البخاري. وفي رواية له: (تصدق بأصلها لا يباع ولا يوهب ولا يورث
ولكن ينفق ثمره) ، فما شرط عمر ما شرط إلا بأمر صريح. وجاء هذا أيضًا
مرفوعًا في رواية البيهقي. وفي رواية الدارقطني زيادة: (حبيس مادامت
السموات والأرض) فاشتراط هذه الشروط بأمر الشارع وإجازته دليل على أنها
مشروعة وأنها من أعمال الدين. قال في منتقى الأخبار: وفي الحديث من الفقه أن
من وقف شيئًا على صِنف من الناس وولده منهم دخل فيه. يريد أن ابن عمر من
ذوي القربى على أن المراد بهم قرابة عمر الواقف وهو ما جزم به القرطبي وقيل
إن المراد بهم: مَن له الحق في الخُمس. والولي على الوقف هو ما يسمونه اليوم
(ناظر الوقف) ، وفي رواية ابن أبي شيبة والعدني أن عمر أوصى به إلى حفصة
أم المؤمنين ثم إلى الأكابر من ولد عمر. أي الأكبر فالأكبر وفيه أن الولاية على
الوقف تكون بعهد من الواقف ولعل عبد الله وليه بإذن حفصة أو بعدها.
(وقف عثمان)
عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة وليس بها ماء
يُستعذب غير بئر رومة (بالضم) فقال: (من يشتري بئر رومة فيجعل فيها
دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة) فاشتريتها من صلب مالي.
ذكره البخاري تعليقًا ورواه النسائي والترمذي وقال حديث حسن، وفيه جواز
انتفاع الواقف بوقفه العام. أخذ الترمذي ذلك من قوله (فيجعل فيها دلوه مع
دلاء المسلمين) .
(وقفُ عليٍّ)
عن عمرو بن دينار أن عليًا تصدق ببعض أرضه جعله صدقة بعد موته
وأعتق رقيقًا من رقيقه وشرط عليهم أنكم تعملون في هذا المال خمس سنين.
رواه عبد الرزاق في الجامع. وعن أبي جعفر أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم خرج في جيش فأدركته القائلة وهو ما يلي الينبع فاشتد عليه حر النهار فانتهوا
إلى سمرة (شجرة السمر) فعلقوا أسلحتهم عليها وفتح الله عليهم فقسم رسول الله
صلى الله عليه وسلم موضع السمرة لعَلِيٍّ في نصيبه، قال فاشترى إليها بعد ذلك فأمر
مملوكيه أن يفجروا لها عينًا فخرج لها مثل عين الجزور فجاء البشير يسعى إلى علي
يخبره بالذي كان فجعلها علي صدقة فكتبها صدقة لله يوم تبيض وجوه وتسود
وجوه ليصرف الله بها وجهي عن النار صدقة بتة بتلة في سبيل الله للقريب
والبعيد في السلم والحرب واليتامى والمساكين وفي الرقاب. رواه ابن جرير.
وروى ابن عساكر عن أبي معشر قال: كان علي بن أبي طالب اشترط في صدقته
أنها لذوي الدين والفضل من أكابر ولده. ولعله يعني الولاية عليها.
(وقف أبي طلحة)
عن أنس أن أبا طلحة قال: يا رسول الله إن الله يقول: {لَن تَنَالُوا البِرَّ
حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) وإن أحب أموالي إلي بَيْرَحاء وإنها
صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال:
(بَخٍ بَخٍ ذلك مال رابح مرتين، وقد سمعت، أرى أن تجعلها في الأقربين) ؛
فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه،
رواه أحمد والشيخان. وفي رواية لما نزلت هذه الآية {لَن تَنَالُوا البِرَّ} (آل
عمران: 92) إلخ، قال أبو طلحة: يا رسول الله أرى ربنا يسألنا من أموالنا فأشهدك
أني جعلت أرضي بيرحاء لله.. إلخ، وفيه أنه جعلها في حسان وأُبَيِّ بن كعب.
وفي رواية أنه قال له: (اجعلها في فقراء أقاربك) . وبَيْرَحاء بفتح الموحدة وسكون
التحتية وفتح الراء تمد وتقصر ومعناها: الأرض المنكشفة.
(وقف جماعة آخرين من أكابر الصحابة)
روى ابن جرير عن محمد بن عبد الله القرشي قال: حبس عثمان بن عفان
والزبير بن العوام وطلحة بن عبد الله دورهم، وهناك روايات أخرى للبيهقي في
وقف أبي بكر وسعيد وعمرو بن العاص وحكيم بن حزام وأنس وزيد بن ثابت،
وصح في وقف المنقول مرفوعًا أن خالدًا احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله.
أما الأصل في الحث والترغيب الصريح من الشارع على الوقف فقد ورد فيه
حديث أبي هريرة المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام (إذا مات الإنسان انقطع
عمله إلا من ثلاثة أشياء صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه
أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، قال العلماء: لو جاز بيع الوقف لما
كانت الصدقة جارية بل لكانت منقطعة. وحديثه أيضًا: (من احتبس فرسًا في
سبيل الله إيمانًا واحتسابًا فإن شبعه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة حسنات)
رواه أحمد والبخاري، وهو دليل على جواز وقف المنقول وقد فعله بعض الصحابة
كما تقدم.
هذا ما أردنا أن نذكره في توضيح الرد على من زعم أنه لم يرد في الوقف
شيء من الأحاديث إلا حديث ابن ماجه في وقف عمر وقد ذكره مختصرًا. ولو
أردنا أن نذكر مذاهب العلماء وما استنبط من هذه الأحاديث من الأحكام لضاق دون
ذلك المقام.
__________(6/662)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(الوجه السابع والعشرون) : أن أقوال العلماء وآراءهم لا تنضبط ولا
تنحصر ولم تضمن لها العصمة إلا إذا اتفقوا ولم يختلفوا، فلا يكون اتفاقهم إلا حقًّا،
ومن المُحال أن يحيلنا الله ورسوله على ما لا ينضبط، ولا ينحصر، ولم يضمن لنا
عصمته من الخطأ، ولم يقم لنا دليلاً على أن أحد القائلين أولى بأن نأخذ قوله كله
من الآخر؛ بل يترك قول هذا كله، ويؤخذ قول هذا كله محال أن يشرعه الله أو
يرضى به إلا إذا كان أحد القائلين رسولاً والآخر كاذبًا على الله، فالغرض حينئذٍ
ما يعتمده هؤلاء المقلدون مع متبوعهم ومخالفيهم.
(الوجه الثامن والعشرون) : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (بدأ
الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ) ، وأخبر أن العلم يقل، فلا بد من وقوع ما
أخبر به الصادق، ومعلوم أن كتب المقلدين قد طبقت شرق الأرض وغربها، ولم
تكن في وقت قط أكثر منها في هذا الوقت، ونحن نراها كل عام في ازدياد وكثرة،
والمقلّدون يحفظون منها ما يمكن حفظه بحروفه وشهرتها في الناس خلاف الغربة؛
بل هي المعروف الذي لا يعرفون غيره فلو كانت هي العلم الذي بعث الله به رسوله
لكان الدين كل وقت في ظهور وزيادة والعلم في شهرة وظهور وهو خلاف ما أخبر
به الصادق.
(الوجه التاسع والعشرون) : أن الاختلاف كثير في كتب المقلدين وأقوالهم
وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه؛ بل هو حق يصدق بعضه بعضًا ويشهد
بعضه لبعض وقد قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً
كَثِيراً} (النساء: 82) .
(الوجه الثلاثون) : أنه لا يجب على العبد أن يقلد زيدًا دون عمرو؛ بل
يجوز له الانتقال من تقليد هذا إلى تقليد الآخر عند المقلدين. فإن كان قول مَن قلده
أولاً هو الحق لا سواه فقد جوزتم له الانتقال عن الحق إلى خلافه. وهذا محال وإن
كان الثاني هو الحق وحده فقد جوزتم الإقامة على خلاف الحق، وإن قلتم: القولان
المتضادان المتناقضان حق فهو أشد إحالة ولا بد لكم من قِسْم من هذه الأقسام الثلاثة.
(الوجه الحادي والثلاثون) : أن يقال للمقلد بأي شيء عرفت أن الصواب مع
من قلدته دون مَن لا تقلده؟ ! فإن قال: عرفته بالدليل، فليس بمقلد. وإن قال:
عرفته تقليدًا له فإنه أفتى بهذا القول ودان به وعلمه ودينه وحسن ثناء الأمة عليه
يمنعه أن يقول غير الحق. قيل له: أفمعصوم هو عندك أم يجوز عليه الخطأ؟ فإن
قال بعصمته أبطل، وإن جوّز عليه الخطأ قيل له فما يؤمّنك أن يكون قد أخطأ فيما
قلدته فيه وخالف فيه غيره. فإن قال: وإن أخطأ فهو مأجور. قيل: أجل، هو
مأجور لاجتهاده وأنت غير مأجور لأنك لم تأتِ بموجب الأجر؛ بل قد فرطت في
الاتباع الواجب فأنت إذًا مأزور. فإن قال: كيف يأجره الله على ما أفتى به ويمدحه
عليه، ويذم المستفتي على قبوله منه وهل يعقل هذا؟ قيل: المستفتي إن قصّر
وفرّط في معرفة الحق مع قدرته عليه لحِقه الذم والوعيد، وإن بذل جهده ولم يقصر
فيما أمر به واتقّى الله ما استطاع فهو مأجور أيضًا. وأما المتعصب الذي جعل
قول متبوعه عيارًا على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة يزنها بها فما وافق قول
متبوعه منها قبله وما خالفه ردّه فهذا إلى الذم والعقاب أقرب منه إلى الأجر
والصواب.
وإن قال: وهو الواقع - اتبعته وقلدته ولا أدري أعلى صواب هو أم لا
فالعهدة على القائل وأنا حاكٍ لأقواله. قيل له: فهل تتخلص بهذا من الله عند
السؤال لك عما حكمت به بين عباد الله وأفتيتهم به؟ فو الله إن لِلْحكام والمفتين
لموقفًا للسؤال لا يتخلص فيه إلا مَن عرف الحق وحكم به، وعرفه وأفتى به، وأما
من عداهما فسيعلم عند انكشاف الحال أنه لم يكن على شيء.
(الوجه الثاني والثلاثون) : أن تقول: أخذتم بقول فلان لأن فلانًا قاله أو لأن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاله. فإن قلتم: لأن فلانًا قاله، جعلتم قول
فلان حجة وهذا عين الباطل. وإن قلتم: لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قاله، كان هذا أعظم وأقبح فإنه مع تضمنه للكذب على رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، وتقوّلكم عليه ما لم يقله، وهو أيضًا كذب على المتبوع؛ فإنه لم يقل
هذا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد دار قولكم بين أمرين لا ثالث لهما:
إما جعل قول غير المعصوم حجة. وإما تقويل المعصوم ما لم يقله - ولا بد من
واحد من الأمرين، فإن قلتم: بل منهما بد، وبقي قسم ثالث؛ وهو أنَّا قلنا كذا لأن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا أن نتبع مَن هو أعلم منا، ونسأل أهل
الذكر إن كنا لا نعلم، ونرد ما لم نعلمه إلى استنباط أولي العلم فنحن في ذلك
متبعون ما أمرنا به نبينا. قيل: وهل نُدَندن إلا حول اتباع أمره صلى الله عليه
وآله وسلم فحيَّهلاً بالموافقة على هذا الأصل الذي لا يتم الإيمان والإسلام إلا به
فنناشدكم بالذي أرسله إذا جاء أمره وجاء قول من قلدتموه؛ هل تتركون قوله لأمره
صلى الله عليه وآله وسلم وتضربون به الحائط وتحرمون الأخذ به، والحالة هذه
حتى تتحقق المتابعة كما زعمتم أم تأخذون بقوله وتفوضون أمر رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم إلى الله، وتقولون هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم منا ولم يخالف هذا الحديث إلا وهو عنده منسوخ أو مُعارَض بما هو أقوى منه
أو غير صحيح عنده؟ ! فتجعلون قول المتبوع محكمًا وقول الرسول متشابهًا فلو
كنتم قائلين بقوله لكون الرسول أمركم بالأخذ بقوله لقدمتم قول الرسول أين كان،
ثم نقول في:
(الوجه الثالث والثلاثون) : وأين أَمَرَكم الرسول بأخذ قول واحد من الأمة
بعينه وترك قول نظيره ومن هو أعلم منه وأقرب إلى الرسول وهل هذا إلا نسبة
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أنه أمر بما لم يأمر به قط. يوضحه.
(الوجه الرابع والثلاثون) : أن ما ذكرتم بعينه حجة عليكم، فإن الله سبحانه
أمر بسؤال أهل الذكر، والذكر هو القرآن والحديث الذي أمر الله نساء نبيه أن
يذكرونه بقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (الأحزاب:
34) ؛ فهذا هو الذكر الذي أمرنا باتباعه وأمر مَن لا علم عنده أن يسأل أهله
وهذا هو الواجب على كل أحد أن يسأل أهل العلم بالذكر الذي أنزل على رسوله
ليخبروه به فإذا أخبروه به لم يسعه غير اتباعه وهذا كان شأن أئمة أهل العلم، لم يكن
لهم مقلد معين يتبعونه في كل ما قال فكان عبد الله بن عباس يسأل الصحابة عما
قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو فعله أو سنَّه لا يسألهم عن غير ذلك
وكذلك الصحابة كانوا يسألون أمهات المؤمنين خصوصًا عائشة عن فعل رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في بيته وكذلك التابعون كانوا يسألون الصحابة عن شأن
نبيهم فقط وكذلك أئمة الفقه كما قال الشافعي لأحمد: يا أبا عبد الله أنت أعلم
بالحديث مني فإذا صح الحديث فأعلمْني حتى أذهب إليه شاميًّا كان أو كوفيًّا أو بصريًّا
ولم يكن أحد من أهل العلم قط يسأل عن رأي رجل بعينه ومذهبه فيأخذ به وحده
ويخالف له ما سواه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/666)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطبة مِنبرية
نموذج من خطب الشيخ عبد الحق البغدادي الأزهري
إمام وخطيب المسجد ذي المنارات في بمبي (الهند)
الحمد لله الذي أعزّ مَن أطاعه، وأذل مَن عصاه، الحكيم الذي أنزل على
النبي الكريم كتابًا، مَن تمسك به فاز بالسعادة في دنياه وأُخراه، ومَن أعرض عنه
أخزاه وأرداه، وبثوب الهوان كساه، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأتوب إليه
وأستغفره، وأسأله التوفيق للسعي والعمل، والابتعاد عن الخمول والكسل، وأشهد
أن لا إله إلا الله، الواحد الأحد، المنزه عن الشريك والصاحبة والولد، وأشهد أن
سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، قام بأمر ربه خير قيام، اللهم صلِّ عليه وعلى
آله وأصحابه، الذين أزالوا ظلمات الكفر بنور الإسلام، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها الناس:
اعلموا أن السبق في مضمار الحياة الدنيوية لا يُنال إلا بالمثابرة على العمل،
والسعي الحثيث، وتقوية الأمل، والاتحاد والاتفاق، والمحبة والوفاق، والتكافل
والتضامن، والتناصر والتعاون، كما لا يأتي التقصير والفشل إلا من الضجر
والكسل، وترك الأسباب والتمسك بشعرات الاتكال، وفتور العزائم في الأعمال،
والتباغض والتخاذل والتحاسد، والتفرق والاختلاف وعدم التعاضد.
ألا وإن الديانة الإسلامية والشريعة المحمدية أمرت بالاشتغال للمعاش والمعاد،
وحثَّت على ترقية النفوس وتقوية الأجساد، وبينت مطالب الحياتين الدنيوية
والأخروية، ووضعت قوانين للعمل لها واضحة جلية، وقد رتبت حصول الدنيا
على إقامة الدين، والتمسك بحبله المتين، كما جعلت أكثر أسباب الفوز بالسعادة
الأخروية موقوفًا على إصلاح الحالة الدنيوية، فلا ينال المسلمون في الدنيا فلاحًا
وعزة ونجاحًا إلا بالدين، ولا يحصدون في الآخرة خيرًا ورضوانًا إلا بإصلاح
مزرعتها ورب العالمين.
فقد دلت الآثار وأفادت الأخبار أن المسلمين لما كانوا متمسكين بالدين،
عاملين بالقرآن العظيم، وسُنة خاتم المرسلين - انقادت لهم الدنيا بأسرها،
وأطاعتهم أمم المعمورة من عربها وعجمها؛ فدوخوا الممالك، ووطأوا بسنابك
خيولهم معظم عواصم المعمور، وما استقروا في مكان إلا مصَّروا الأمصار،
وشيدوا للعلوم خير دار، وأقاموا للمجد والسيادة دعائم، وأحْيَوْا للسياسة معالم،
ورفعوا للدين المنار؛ فأضاءوا للإسلام طريق الانتشار، فانتشر شرقًا وغربًا،
وشمالاً وجنوبًا، ينصب أعمدة المدنية الإسلامية على أساس المحبة القومية،
والمساواة بين أفراد الأمم بلا استثناء، ويُفهمهم أن الأمة كجسم واحد لا تستقيم
أمورها إلا بانتظام سائر الأعضاء، على تلك الحال قضت تلك العصابة المؤمنة
حياتها النشيطة، وها هي آثارها نصب أعيننا منتشرة في أطراف البسيطة -
تخبرنا بأنها فازت من قداح العز والعظمة والجاه في الدنيا بالمعلى والرقيب،
وستنال في العُقبى من الرضاء والخير أوفر نصيب.
أما نحن الخلف الطالح لذلك السلف الصالح فقد هدمنا كل ما شادوه، وأتلفنا
جميع ما أوجدوه وضيعنا سائر ما تركوه، وطمسنا معالم ما أوضحوه، وشوهنا
وجه ما زينوه، وتسربلنا بثياب الرضوخ للمهانة والضَّعَة، وفقدنا أخلاق الشهامة
والشمم والشجاعة، فلم نفُز من الدنيا بغير الخسران، والعِوَز والهوان، ولَجزاءُ
الآخرة أشد وأخزى، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء:
227) ، وما كان تغيُّر حال المسلمين من ذلك العز والرفعة إلى هذا الذل والضعة إلا
بعد أن أعرضوا عن الدين، ولم يأتمروا بأوامر ربهم، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) ?، أفليس من الفضيحة والعار أن
تصيروا - معاشر المسلمين - إلى هذا الصَّغار، والإسلام أمامكم، والقرآن مرشدكم،
وكذلك كان بين الأمم شأنكم، ألم يأنِ لكم أن تتركوا الأباطيل والأوهام، وتتجنبوا
الخرافات التي ألحقت بكم الأضرار الجِسام، وتقيموا الدين الصحيح غير مشوب
ببدعة؛ لتنالوا رضوان الله والغِنَى والرفعة، فاتقوا الله عباد الله، وعودوا إلى التمسك
بالدين يَعُدْ لكم عز آبائكم الأولين، وارجعوا إلى العمل بالقرآن العظيم يرجع لكم بين
الأمم مقامكم القديم، وحافظوا على إقامة السُّنّة يحفظْكم الله من كل محنة، وأنيبوا إلى
الله فإنه يقبل مَن أناب، وتضرّعوا إليه قائلين: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا
وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (آل عمران: 8) .
(الحديث) : عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (مَن تعلَّم كتاب الله،
ثم اتبع ما فيه هداه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب) ،
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَنِ اقتدى بكتاب الله لا يضل في الدنيا، ولا
يشقى في الآخرة) ، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لقد تركتكم على مثل
البيضاء، ليلها كنهارها، لا يَزيغ عنها إلا هالك) .
(التلاوة) {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي
هُدًى} (طه: 123) 0 0 0الآيات.
__________(6/669)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة
هل الدراسة عذر في ترك الصوم؟!
(س1) هل الدراسة عذر في ترك الصوم؟ - من تلميذ بمدرسة مسيحية
في مصر!
أرجوكم أن تتكرموا بإجابة سؤالي هذا، لا زال مناركم ضياء المسلمين، وكعبة
السائلين: كنت السنة الماضية بإحدى المدارس الأميرية، وكنت أستيقظ (في
رمضان) الساعة 8 ونصف، وأحضر من المدرسة، وأنام توًّا إلى المغرب ثم
أفطر وأذاكر دروسي إلى الساعة 10 وأنام، وأستيقظ للسحور الساعة 3، وأنام
ثانية الساعة 5 وأستيقظ صباحا الساعة 8 ونصف وهلم جرًّا.
وأما في هذه السنة فأصبحت في مدرسة أهلية مسيحية، وأريد أن أشتغل في
دروسي زيادة عن المطلوب! ولا يمكنني أن أنقطع عن الحصص أو بعضها؛
لأنني إذا فعلت ذلك لا يمكنني إلا أن أنقطع النهار كله فإذا لازمت الطريقة التي
كنت أفعلها وأنا في المدرسة الأميرية تعطلت عن المدرسة مدة شهر رمضان
وناهيك بعطلة شهر للتلميذ، فأنا إذن ملزم بأن أستيقظ الساعة 7، وأحضر من
المدرسة الساعة 5 تقريبًا؛ ولكنني لا أقدر أن أصوم مع الشغل طول النهار، فهل
يجوز لي أن أفطر أم لا يا مولاي؟ !
(ج) إن أكثر المسلمين يعملون في رمضان من أول النهار؛ أي قبل
اشتغال المدارس بدروسها إلى قبيل المغرب، فلا أرى أن السائل وقع في عمل شاق
لا يستطيعه الشاب في هذه الأيام القصيرة المعتدلة التي لا حر فيها، ولا زمهرير،
وما هو إلا أن عادته تغيرت بعض التغيير، ولو كان رمضان في الصيف لكان
تلامذة المدارس الأميرية يشتغلون بالمدارسة مع مكابدة مشقة الحر في الصيام أكثر
مما يشتغل غيرهم في المدارس النصرانية الآن، ولا شك أن المسلمين منهم
يصومون في الصيف كما يصومون في الشتاء. وأعني بالمسلمين الذين عرفوا
الإسلام وتربّوا عليه لا المسلمين الجغرافيين، الذين يعدون في إحصاء الحكومة
المصرية بتسع ملايين.
وأرى أنه عرض للسائل وهْم من زيادة الدراسة عليه في هذه السنة ساعتين
وتوهم أن سيصيبه من ذلك الجهد والمشقة، وأن هذا عذر يبيح الإفطار ولا مشقة
هناك تبيح الفطر في هذا العمل الاختياري إلا أن يكون هناك ضعف أو مرض.
وإنني أرجو الله تعالى أن يعينه إذا غلَّب دينَه وعقلَه على وَهْمِه، وجرّب
وصام، فلا يجد من الجهد ما يتوهمه الآن.
* * *
سؤال المَلَكين
(س2) - محمد أفندي حلمي كاتب سجون حلفا: هل يوجد حقيقةً ملكان
يسألان في القبر وما هي كيفية سؤالهم؟
ورد في أخبار صحيحة أن هناك ملكين يسألان الميت بعد موته عن الإيمان
بالله ورسوله وأن السؤال يكون بصيغة التشكيك مثل: (ما تقول في هذا الرجل
الذي بُعث فيكم؟) ، ويسمى هذا السؤال فتنة القبر ويسمى الملكان السائلان فتَّانا
القبر. والفتنة معناها الاختبار. وقد حمل أكثر المسلمين القول على ظاهره وأوَّله
بعضهم كالمعتزلة. أما كيفية السؤال فلا يعرفها إلا مَن عرف حقيقة الملائكة
والأرواح المجردة، ونكتفي بأن نقول: إنها أمور غيبية تُبنَى على التسليم كسائر
أمور الآخرة التي يصح النقل عندنا بها ولا حاجة إلى تأويل ما لم يكن ظاهره
مستحيلاً عقلاً، ولا نكفّر مَن أوَّل الخبر وأخرجه عن ظاهره، ولا من أنكر صحته
إذا لم يكن متواترًا معلومًا من الدين بالضرورة. وليراجع ما كتبناه في مسألة عذاب
القبر في المجلد الخامس.
***
كروية الأرض
(3) ومنه: هل يوجد دليل في القرآن الحكيم على أن الأرض كروية؟
(ج) إن الله تعالى أنزل القرآن هاديًا للناس، ومصلحًا لأرواحهم ومبينًا لهم
ما يتعذر عليهم الوصول إليه بغير الوحي، ولو أنزله لبيان أحوال المخلوقات لكان
ألوفًا من المجلدات، ولكن فيما يذكره تعالى في الاستدلال على قدرته وحكمته ما
يفهم منه أن الأرض كروية كقوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ
عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: 5) ، وقوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (الأعراف: 54) .
***
ليلة نصف شعبان
(س4) ومنه: هل ورد في ليلة النصف من شعبان والدعاء المختص بها
أحاديث صحيحة يعمل بها؟
(ج) إن اتخاذ هذه الليلة موسمًا من مواسم الدين من البدع الحادثة في
القرون المتوسطة، وهذا الدعاء ابتدعه أحد الجهال وما يقولونه في فضائل الليلة
غير صحيح، وقد رأيتم في النبذة السادسة من رد شبهات النصارى على القرآن
العزيز (في الجزء الثاني عشر) بيان خطأ القائلين: إن ليلة النصف من شعبان هي
الليلة التي فيها قال الله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) ،
وإثبات أن هذه هي ليلة القدر المجهولة وأن الأمر الحكيم هو أمر الوحي والشريعة؛
لأنها الليلة التي نزل فيها الكتاب المبين. وقد ذكرنا في الجزء الذي صدر في 16
شعبان سنة 1318 (من السنة الثالثة) بدع ليلة النصف من شعبان ومنكراتها،
وهي 15 بدعة وسادس عشرها الدعاء المعروف الذي لم ينزل الله به من سلطان.
وذكرنا في موضع آخر من المنار أن الصلاة التي يروون استحبابها فيها من البدع
باتفاق المحدثين والفقهاء ولا عبرة بذكر الغزالي إياها في (الإحياء) بصيغة
الضعف فإنها مكذوبة لا ضعيفة.
وأمثل ما ورد في ليلة النصف من شعبان حديث ابن ماجه عن علي: (إذا
كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها) ، وهو حديث ضعيف
إلا أن العُبَّاد عملوا به من زمن طويل وأكثر الفقهاء على أن الضعيف يعمل به في
فضائل الأعمال المشروعة في جنسها؛ لأنها إذا لم تصح لم يكن العامل قد جاء
بمنكر. وقد زاد فيه عبد الرزّاق في مصنفه: (فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس
إلى السماء فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له، ألا من مسترزق فأرزقه حتى يطلع
الفجر) . قالوا أي ينزل أمره أو ملك بإذنه.
أورد في شرح الإحياء ما ورد في شعبان من الأحاديث وقول المحدثين في
وضعها واختلاقها، ثم قال ما نصه: وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية في (العلم
المشهور) : حديث ليلة النصف من شعبان موضوع. قال أبو حاتم: محمد بن
حبان بن مهاجر يضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث أنس
فيها موضوع أيضًا لأن فيه إبراهيم بن إسحق. قال أبو حاتم: كان يقلب الأخبار
ويسرق الحديث وفيه وهب بن وهب القاضي أكذب الناس) . ا. هـ وقال التقي
السبكي في (تقييد التراجيح) : الاجتماع لصلاة ليلة النصف من شعبان ولصلاة
الرغائب بدعة مذمومة. ا. هـ
وقال النووي: هاتان الصلاتان بدعتان موضوعتان منكرتان قبيحتان، ولا
تغتر بذكرهما في كتاب القوت والإحياء، وليس لأحد أن يستدل على شرعيتهما
بقوله صلى الله عليه وسلم: (والصلاة خير موضوع) ؛ فإن ذلك يختص
بصلاة لا تخالف الشرع بوجه من الوجوه، وقد صح النهي عن الصلاة في
الأوقات المكروهة اهـ.
قلت: وقد ذكر التقي السبكي في تفسيره أن إحياء ليلة النصف من شعبان
يكفر ذنوب السنة وليلة الجمعة تكفر ذنوب الأسبوع وليلة القدر تكفر ذنوب
العمر اهـ.
وقد توارث الخلف عن السلف في إحياء هذه الليلة بصلاة ست ركعات بعد
صلاة المغرب، كل ركعتين بتسليمه يقرأ في كل ركعة منها بالفاتحة مرة
والإخلاص ست مرات، وبعد الفراغ من كل ركعتين يقرأ سورة (يس) مرة
ويدعو بالدعاء المشهور بدعاء ليلة النصف، ويسأل الله تعالى البركة في العمر ثم
في الثانية البركة في الرزق ثم في الثالثة حسن الخاتمة، وذكروا أن مَن صلى هكذا
بهذه الكيفية أُعطي جميع ما طلب، وهذه الصلاة مشهورة في كتب المتأخرين من
السادة الصوفية، ولم أَرَ لها ولا لدعائها مستندًا صحيحًا في السنة؛ إلا أنه من عمل
المشايخ، وقد قال أصحابنا إنه يكره الاجتماع على إحياء ليلة من هذه الليالي
المذكورة في المساجد وغيرها. وقال النجم الغيطي في صفة إحياء ليلة النصف من
شعبان بجماعة إنه قد أنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز، منهم عطاء وابن
أبي مليكة وفقهاء أهل المدينة وأصحاب مالك، وقالوا ذلك كله بدعة ولم يثبت في
قيامها جماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه شيء، واختلف
علماء الشام على قولين: أحدهما: استحباب إحيائها بجماعة في المسجد، وممن
قال بذلك من أعيان التابعين خالد بن معدان وعثمان بن عامر ووافقهم إسحق بن
راهويه. والثاني: كراهة الاجتماع لها في المساجد للصلاة وإليه ذهب الأوزاعي
فقيه الشام ومفتيهم اهـ.
يعني بقوله (أصحابنا) الحنفية. وإذا اتفق لبعض عباد التابعين إحياؤها
وزاد عليهم المتأخرون دعاءها وسائر البدع التي ذكرها ابن الحاج في (المدخل)
فهل ذلك ينافي كون صلاتها وكل ما يعملونه فيها بدعة مذمومة؟ كلا، إنها بدعة
زاد في قبحها جعْلها شعارًا دينيًا.
***
صيام رجب
(س5) : ومنه: هل ورد في صوم ثلاثة أيام من رجب، أو أقل قول؟
(ج) ورد في ذلك أحاديث موضوعة وواهية، وقد بيَّنَّا ذلك في المجلدين
الثاني والثالث، فلتراجع فيهما، وربما سقنا تلك الأحاديث كلها في فرصة أخرى
بالتفصيل.
***
التداوي بالخمر
(س6) : ومنه: إذا أمر أحد الأطباء المسلمين مريضًا مسلمًا بشرب مقدار
من الخمر لأجل التداوي فهل يوجد مانع شرعي من ذلك؟
(ج) اختلف العلماء في التداوي بالخمر، فمنعه بعضهم مطلقًا، وأجازه
بعضهم بشرط أن لا يقوم مقام الخمر غيرها في ذلك، ومَن عرف حكمة تحريم
الخمر وأسبابه (علم أن) التداوي الحقيقي لا يتحقق فيه التحريم؛ لأنه لا يسكر ولا
يضر، ولا يكون سببًا للعداوة والبغضاء، ولا يصد عن ذكر الله، ولا عن الصلاة؛
ولكن المؤمن المتقي يبعد عن المحرم بقدر الاستطاعة لئلا يأنس به، وكم من
متدين سولت له نفسه شرب الخمر بحجة التداوي مكابرة لشعورها الخفي بالشهوة،
ولم يكن هناك حاجة حقيقية إلى التداوي بالخمر إلا أن تكون كلمة يرمي بها فساق
الأطباء: اشرب كذا لأجل تقوية المعدة، فيشرب المغرور فينتعش فيعتاد فيدمن
فيكون من الفاسقين، ويضيع الدنيا والدين!
***
المرور بين يدي المصلي
(س7) ومنه: هل المرور من أمام المصلي يبطل صلاته ويوجب عليه
إعادتها وهل هو حرام أو مكروه كما شاع عند أغلب الناس؟
(ج) ورد في الأحاديث الصحيحة الأمر بأن يصلي المصلي إلى جدار أو
سارية أو سترة ولو عصا يغرزها أمامه ليعلم أنه يصلي. وورد في أحاديث
صحيحة النهي عن المرور بين يدي المصلي والأمر بمدافعة المار لإرجاعه حتى
قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن
يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن
الأربعة وغيرهم، وظاهر النهي والوعيد أن ذلك حرام. وفي رواية للبخاري زيادة:
ماذا عليه من الإثم، وقيد أكثر العلماء ذلك بالمرور بين يدي المصلي إلى سترة وأن
من قصر في ذلك لا يحترم بترك المرور بين يديه وجوبًا، والظاهر أن ذلك ممنوع
على كل حال قصر المصلي أم لم يقصر. وما بين يدي المصلي هو ما بين موقفه
وسجوده وهو نحو ثلاثة أذرع وقد أخذوا هذا القيد من أحاديث وردت فيه لا محل
هنا لذكرها.
وأما قطع الصلاة وبطلانها إذا مر بين يدي المصلي مار فقد وردت فيها
روايات في أشياء مخصوصة ولم يأخذ بها الجمهور وورد أنه يقي من بطلانها أن
يكون بين يدي المصلي سترة مثل آخرة الرحل. فينبغي للمسلم أن يصلي إلى سترة
وأن لا يمر بين يدي مصلٍّ مطلقًا.
* * *
الصلاة بالنعلين
(س8) : إسماعيل أفندي لبيب بمصر: نرجوكم الإجابة عما إذا كان
يجوز للمصلي الصلاة بنعله (جزمته) أم لا وهل ثبت في السنة صلاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو محتذٍ النعل وإذا ثبت فهل كان ذلك للضرورة أو للتشريع؟
هذا ما نرجوكم التفضل بالإجابة عنه ليكون قولكم فصلاً بيني وبين مناظر آخر.
(ج) الصلاة في النعلين جائزة بالإجماع وقال المحدثون وكثير من الفقهاء
بأنها السنة فقد روى أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) وغيرهم عن أبي مَسْلمة
سعيد بن يزيد قال: سألت أنسًا أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟
فقال: نعم. وروى أبو داود في سننه وابن حبان في صحيحه عن شداد بن أوس
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في
نعالهم ولا خفافهم) . وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في
نعليه قذرًا أو أذى فليمسحه وليصلِّ فيهما) وروى أيضًا من حديث أبي هريرة أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذِ بهما
أحدًا ليجعلهما بين رجليه أو ليصلّ فيهما) وروى أبو داود وابن ماجه من حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي حافيًا ومنتعلاً. وروى ابن أبي شيبة بإسناده إلى أبي عبد الرحمن إلى ابن
أبي ليلى أنه قال: صلى رسول الله عليه وسلم في نعليه فصلى الناس في نعالهم فخلع
نعليه فخلعوا فلما صلى قال: (من شاء أن يصلي في نعليه فليفعل ومن شاء أن
يخلع فليخلع) ، قال الحافظ العراقي: وهذا مرسل صحيح الإسناد. وكان الصحابة
عليهم الرضوان يصلون في نعالهم ولكنهم كانوا ينظرون قبل الصلاة فإن رأوا فيها
نجاسة مسحوا بها الأرض حتى تزول عين النجاسة، قال ابن القيم: قيل للإمام
أحمد أيصلي الناس بنعالهم؟ وقال (إي والله) وترى أهل الوسواس إذا صلى
أحدهم صلاة الجنازة في نعليه قام على عقبهما كأنه واقف على الجمر، فاعلم من هذا
أن كلاً من الأمرين جائز فليفعل المسلم في كل وقت ما يكون أيسر له.
* * *
قضاء الفرض مع نية السنة
(س9) ح. ح. في قره طاغ (الجبل الأسود) :
قد شاع - أجلَّكم الله - في بلدنا هذا كتاب (نجاة المؤمنين) بلسان التركية
وهو من تصنيفات الحاج محمد أمين من علماء إسلامبول ونحن نجد فيه مسألة ما
سمعناها من علمائنا السابقين، ولا رأيناها في غير كتابه المسمّى بنجاة المؤمنين؛
فلهذا حصل لنا شبهة في صحة هذه المسألة، وهذه صورتها بالتركية:
مسألة سنتلري قضا نيتله قيلمق
جمله نك معلوميدركه فرض نمازلري ترك وقتندن جيقارمق بيوك عصيان
وقضايه قالمش نمازلري قيلمق فرضدر قيلمه ماس وتأخيري بيوك عصيان ونافله
عملري ترك ايتمك عصيان دكلدر وبوبيان اتفاقلدر.
خصوصيله أوزرنده فرض قضاسي أولو بده قضابي إيتمزدن نافله نماز قيلسه
قبول أولميوب ثوابي أولماز رسولمزك قول شربفي مجمع الفتاوى دن معلوم
أولمشدر كناري أوقويه لرديمشدر وكناره هكذاي:
رجل عليه صلاة مفروضة لا يجوز له التطوع؛ لأن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (لا يقبل الله تعالى نافلة حتى يؤدى الفرائض) مجمع الفتوى، وفي
المضمرات: سئل ابن نجيم عمن عليه قضاء الصلاة فنوى سنة الفجر والظهر
والعصر والمغرب والعشاء عند قضاء فرض كل منهن، هل يكون تاركًا للسنة أم لا؟
فأجاب لا يكون تاركًا للسنة؛ لأن المقصود منها أن تجد صلاة في ذلك الوقت غير
فرضه رغمًا للشيطان وقد حصل، وفي النوادر قال: هذا أولى بعد ما حصل هذا؛
لأنه رُب رجل لا يقضي ما فاته من الفرائض ويصلي السنة؛ فيستحق العذاب ولا
يستحق العذاب لو ترك السنة. انتهى من (عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر) .
إنبهي كناره زيد بش وقت نمازي أزي إداي إيدركن أوقات خمسة نك
سنتلريني قضاي قلان نماز لرينه تعيين أيدوب قيلسه قضايه قالمش نمازي أداي
إيتمش أولورمي؟ الجواب أولور بوصورة مزبوره ده زيد قضا وسنت نماز لري
ثوابته نائل أولورمي؟
الجواب أولور مضمراتك فتواى سي بودر (ديمشدر) زيد أوز رنده فرض
قضاسي أولو بده قضائي قيلمز دن سنتلرى قبلرسه عذابه مستحق أولورمى؟
الجواب أولور. بوصورتده سنتلري ترك إيلسه عذابه مستحق أولورمي؟ الجواب
أولماز (نوادرك) فتواي سي (عيون بصائر) دن. بوصور تلرده زيد سنتلري
قضاي فيلمق مراد إيتد كده نه شكل نيت أيده جكدر؟ الجواب نيت إيلدم أولكي
أوزريمه قالمش صباح نمازينه بو وقتك سنتي مقامنه تكبير آله وسائر نماز لري
دخي بو يله نيت إيده. انتهى كلام الحاج محمد أمين في كتابه المسمى بنجاة
المؤمنين.
لنتعجب كيف يمكن قضاء الفوائت وأداء السنة بصلاة واحدة فينال الرجل
قضاء الفرض الذي فاته، ولا يكون تاركًا للسنة وكل ذلك بعمل واحد، نعم، إن الله
على كل شيء قدير ولكن ما تقولون أنتم - رحمكم الله - في هذه المسألة؛ لأن منا
من ذهب للعمل بقوله ومنا من لم يذهب وليس فينا عالم ليستيقظنا بحل المسألة ولا
كتاب كمجمع الفتوى والنوادر وغيرها مما ذكره الحاج محمد أمين أفندي، فالآن كما
هو فرض عليكم في كل حين وآن أن تنبهوا الغافلين من إخوانكم المسلمين بتحليل
المسائل الشرعية أينما كانوا.
أرجو توضيح هذه المسألة في مناركم في أسرع وقت؛ لأننا منتظرون جوابكم
كالمبرود ينتظر الشمس.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أفيدوا تؤجروا ثوابًا من عند الله الملك الديان.
(ج) ما ذكره مؤلف كتاب نجاة المؤمنين هو المعروف في كتب الحنفية،
وقد ثبت أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم نام مع أصحابه عن صلاة الصبح
حتى طلعت الشمس وأيقظهم حرها فصلاها بهم كما يصليها في وقتها، أذن بلال
وصلوا ركعتي السنة ثم صلوا الفريضة. والحديث في مسند الإمام أحمد وصحيحي
البخاري ومسلم وغيرهما، وهو يدل على أن السنن الراتبة تُقضى، وأنها تقدَّم
على الفريضة. وهنا مسألة أخرى وهي أن من فاتته فريضة بعذر كنوم ونسيان
وجب عليه قضاؤها، قيل فورًا، وقيل على التراخي، وقيل إنها تُصلَّى أداءً،
ومن فاتته بغير عذر وجب عليه قضاؤها على الفور لا أذكر في ذلك خلافًا. فإذا
كانت هذه الفوائت كثيرة فلا معنى لصرف الوقت بالنفل الذي معناه الزيادة على
الفرض، وكيف تتحقق الزيادة بدون تحقق الشيء المزيد عليه. وكيف يصرف
المكلف وقته في عمل لا يطالبه الله به بعد الموت ويترك فيه العمل الذي يطالَب به
ويعاقَب على تركه؟ !
هذا هو فقههم في الاقتصار على الفرض ولكننا قيدناه بترك الصلاة لغير عذر،
وأما الفقه في كونه يثاب على الفرض ثواب السنة والفرض جميعًا فهو من حيث
النية فقط كأن العبد يخاطب ربه: يا رب إنني أصرف وقتي هذا كله في الإنابة
إليك، وقضاء ما فاتني مما افترضت عليَّ وإن نفسي متوجهة إلى الزيادة والنفل؛
ولكنني بدأت بالأهم فأثبني على نيتي هذه بمضاعفة الأجر. وإذا كان الأصل في
الثواب هو تأثير العمل الصالح في إصلاح النفس وترقية الروح - فلا شك أن
الزيادة بالفعل، وهي صلاة السنة يكون لها أثر زائد على أثر الفرض فلا يكون
ثواب من يصلي السنة كثواب من يتركها وينويها مع الفرض.
وقد توسط علماء الشافعية فقالوا: إن السنن التي تتداخل ويُستغنَى ببعضها عن
الآخر هي التي لا تُقصد لذاتها كسنة الوضوء، وتحية المسجد، فإذا توضأ الإنسان
ودخل المسجد ووجد الإمام منتصبًا ونوى الفريضة مع سنة الوضوء وتحية المسجد
كان له ثواب الجميع؛ لأنه أدى الغرض من السُّنتين، فإن المراد أن يصلي الإنسان
بعد كل وضوء وعند دخول كل مسجد وقد فعل. وأما الرواتب ونحوها فلا بد
عندهم من فعلها لتحصيل ثوابها؛ لأنها مقصودة بذاتها، والحكمة فيها تكميل ما
يكون من التقصير في الفريضة، فإذا غفل القلب في الفريضة عن الله تعالى دقيقة
أو دقيقتين، وحضر مثل هذه المدة في السنة كان ذلك جبرًا للنقص وتكميلاً للفرض،
والله أعلم.
__________(6/671)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهدايا والتقريظ
(النظام والإسلام)
للشيخ طنطاوي الجوهري أستاذ العربية في المدرسة الخديوية، ولوع بمزج
العظات والحِكَم الدينية بالكلام في محاسن الكون الطبيعية، وقد ألف في هذا كتابيه
(ميزان الجواهر) و (جواهر العلوم) اللذين سبق لنا تقريظهما وبيان مزيَّة هذه
الطريقة، ثم كتب بعدهما مقالات في ذلك جمعها محمد أفندي مسعود المحرر بالمؤيد،
وطبعها بمطبعة الجمهور فكانت كتابًا صفحاته نحو 320 من القطع اللطيف، وقد
قال المؤلف في مقدمة الكتاب ما نصه:
ولقد حدا بي شدة ولوعي وشوقي لمعرفة الكون أن جعلت أوقات الرياضة
لصرف عنان الفكر للتأمل في مصنوعات الله جل وعلا مؤثرًا تلك اللذة على ما
سواها بالطبع والغريزة، فكنت إذا هبت النسمات في الخلوات أو بين أغصان
الأشجار، أو غردت الأطيار وسمعت خرير ماء الأنهار تمثل لي من تلك الأصوات،
تجلي من مباهج تلك الألوان بهجة العلم وحكمة المبدع بأظهر مجلى، وأبدع
معنى، ومن هذا كانت هذه الخواطر المودعة في هذا الكتيب الذي سميته (النظام
والإسلام) ، ورتبته على مقدمة وثلاثة أقسام: (القسم الأول) في جمال الكون
ونظامه وميزانه؛ إذ يتجلى لقارئه كيف انتظم النبات ووزن بميزان حقيقي ويفهم
السر المكنون المعبر عنه بالميزان في آيات كثيرة كقوله: {وَوَضَعَ المِيزَانَ} (الرحمن: 7) ، ونحوه وبهذا قرنت الإسلام بالنظام تذكيرًا بأنه هو الذي أيقظني
إلى النظر في هذه العلوم النظامية في الكون. و (القسم الثاني) نموذج في كيفية
فهم قَصص القرآن الشريف، وما المقصود منها كسورة يوسف وسورة سليمان
عليهما السلام مما يتساءل عنه الدارسون للعلوم، المتشوقون للاطلاع، وكيف تدعو
تلك القصص إلى الملاينة والنظام كحكمة سليمان وآداب يوسف الخلقية ليزداد
المؤمن يقينًا، ويوقن الشاكُّون من إخواننا الشبان المسلمين. (القسم الثالث) فيما
يجب على الملوك والرؤساء والعلماء والحكام ودعاة الأمة والخطباء من الآداب
العامة الكافلة لنظامها كما انتظم الكون أجمعه بالنواميس العالية والملائكة الصافين.
والكتاب يطلب من طابعه وثمن النسخة منه خمسة قروش صحيحة.
***
(واقعة السلطان عبد العزيز)
سبق لنا القول في مقالات (الترك والعرب) بأن إخواننا الترك قد سبقونا في
هذه الأيام بالاشتغال وتحصيل العلم، ومن جملة مزاياهم العلمية: تدوين تاريخهم
على الطريقة الحديثة في تأليف التاريخ وهي بيان الحوادث بعللها ونتائجها وبيان
العبرة فيها. ومن الكتب الحديثة في ذلك كتاب (واقعة السلطان عبد العزيز)
وضعه باللغة التركية أحمد صائب بك الكاتب التركي المشهور في مصر، وبعد أن
طبع بالتركية عرَّبه محمد توفيق أفندي جانا وطبع بالعربية.
وقد مهد المؤلف للكلام في السلطان عبد العزيز تمهيدًا بيَّن فيه ما توجه إليه
السلطان سليم الثالث من إصلاح الخلل الذي طرأ على الدولة العثمانية من أول
القرن الحادي عشر (الهجري) ، وما وضعه لذلك من القوانين والقواعد الوافية
بذلك ثم ما قام به بعده السلطان محمود من إصلاح الجيش وزلزلة التقاليد الزمنية
بتغيير زي رجال الدولة في اللبوس ثم ما وضع على عهد السلطان عبد المجيد من
قواعد المساواة بين الرعية.
ثم بين أن كل ذلك لم يؤثر في نهوض الدولة تحت أثقالها لسببين: أحدهما
معارضة الروسية للدولة. وثانيهما إهمال المعارف. ثم تكلم عن أحوال الباب العالي
في عهد السلطان عبد العزيز، وعن الصدور العظام في زمنه والإسراف والثورات
الداخلية في عهده وبيّن بعض فضائل فؤاد باشا وعالي باشا أعظم صدور الترك في
هذا العصر. (رحمهما الله تعالى) وما تشبَّثا به من أمور الإصلاح. ثم ما قام به
محمود نديم باشا الداماد من التخريب والهدم لكل جدار أقيم وركن بني خدمة للروسية،
ثم بين في فصل آخر سوء حال الإدارة في أواخر مدة السلطان عبد العزيز؛ أي بعد
موت عالي وفؤاد، وفيه الكلام عن تربية أولاد الأسرة المالكة، وعن صدارة
مدحت باشا وخدمة حسين عوني باشا العسكرية، وعن أحوال المالية، ومن ذلك
أن الدولة اقترضت في مدة إحدى عشرة سنة 4 مليارات و571 مليونًا و800 ألف
فرنك، ثم تكلم عن سعي أغناتيف سفير الروسية في الآستانة باستمالة السلطان
بمساعدة محمود نديم باشا، ونجاحه في ذلك، وعن الخلل الذي سرى في الدولة
بدسائس السفير البارع الصادق في خدمة دولته وعن تألُّب عقلاء العثمانيين لذلك،
وعن المطبوعات والجرائد والمطابع وتألف حزب العثمانيين الأحرار، وأولهم
الأمير مصطفى فاضل باشا المصري، وعن القصر السلطاني وحال النساء فيه،
وعن تكبر السلطان عبد العزيز وتعاظمه، وعن سوء استعمال الامتيازات التي
مُنحت لمصر وغير ذلك. وبعد ذلك كله انتقل إلى سعي مدحت باشا في مقاومة
هذا الاستبداد وظفره أخيرًا بخلع السلطان وتولية السلطان مراد.
من قرأ الكتاب لا يشك في أن الكاتب متحرٍّ للصدق محب مخلص لدولته
وجنسه، وقد انتقدنا اختصاره الذي قضى أن يكون سرد الحوادث والوقائع فيه قليلاً،
أما التعريب فسهل منسجم؛ ولكن فيه غلطًا كثيرًا، لا يخفى على العارف وثمن
النسخة منه عشرة قروش، وهو يطلب من إدارة جريدة (شوراي امت) بمصر.
***
(مراثي الأمة القبطية)
انتقد شاب قبطي رؤساء الدين في ملته بمقالات نشرها في بعض الجرائد
اليومية ثم رأى أن يجمعها ويزيد عليها، ويطبع ذلك كله ويوزعه رسائل متتابعة
يطلق عليها (النبذات) ، وقد صدرت النبذة الأولى منها، فعُلِمَ مما كتب على
غلافها أن سيكون مجموعها 12 نبذة، وقد قرأناها فعلمنا أن هناك شيئًا حقيقًا بأن
يُشكى منه، وليس لأمثالنا الحكم في جزئيات هذه الشكوى، وإنما ننظر في هذه
المسائل نظرًا عامًا، فنقول إن انتقاد نابتة الأمة لتقاليد الرؤساء، وتصرفهم هو من
علامات الحياة فيها، وإنّ تلقِّي الجماهير لهذا الانتقاد بالاستحسان والقبول دليل على
أن الحياة متمكنة، ومقابلتهم إياه بالسخط والاستهجان مِن أمارات ضعف الحياة،
وأن لنا في نهضة القبط الحديثة رأيًا ننشره في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.
وثمن النبذة من هذه النبذ نصف قرش، وهي تطلب من المكتبة الشرقية ومن
كاتبها توفيق أفندي حبيب.
***
(مضار الزار)
الزار بدعة من أقبح البدع التي تُحدِثها النزعات الوثنية والاعتقادات الخرافية؛
كاعتقاد دخول الشياطين في أجسام الناس، وإحداث الأمراض فيها، وتعاصيها
عن الخروج منها إلا بأسرار الشيوخ التي تستنجد بها شيخة الزار في حفلته التي لا
تعرف في غير هذه البلاد الموبوءة بالشيوخ والشيخات والبدع والخرافات.
كان العقلاء يمقتون بدعة (الزار) ، وأهل الدين ينكرون ما فيها من الأوزار،
ولم يكن الأكثرون يعرفون منها إلا مَحْملاً من قبائحها، ورموزًا خفية من
فضائحها؛ لأنها من أسرار النساء المكتومة، ومكايدهن المشئومة، التي استعبدن
بها الرجال، وأفسدن بها عليهم الدين والعرض والمال، حتى شَمَّرَ في هذه الأيام
عن ساعد الجد والاجتهاد الشاب النشيط محمد حلمي أفندي زين الدين مترجم ديوان
الأوقاف وكشف الحجب والأستار، عن تلك المُخبآت والأسرار، فجمع إلى ما اكتشفه
بعض الناس من قبله ما لم يكتشفوه وأورد ذلك كله في قصة سمّاها (رواية مضار
الزار) بيَّن فيها كيف تستهوي شيخة الزار أفئدة النساء إلى هذا العمل الذميم حتى
تفتك بهن الأوهام فتكًا، بدايته الأمراض، ونهايته الموت الزؤام، وذكر في آخر
القصيدة الأناشيد التي ينشدونها في حفلة الزار، وهي جديرة بأن تكون فتنة للنساء
الجاهلات، ومؤثرة في نفوسهن الضعيفة، وعقولهن السخيفة، وربما ننشرها أو
نموذجًا منها في باب البدع والخرافات من جزء آخر، وقد طبعت هذه القصة
المفيدة على ورق جيد، وثمن النسخة منها نصف قرش فقط.
***
(الذمار)
جريدة اجتماعية أسبوعية يصدرها في الإسكندرية الشيخ شاهين الخازن
والشيخ نسيم العاذار، وغرضها الأول خدمة السوريين، والمدافعة عن حقوقهم،
والمنشئان أهلٌ لذلك فيما نعرف عنهما، والسوريون أجدر بالقيام بحقوق من يخدمهم،
فنتمنى للرصيفة الجديدة ما تستحقه من الرواج والانتشار.
وقيمة الاشتراك فيها 13 فرنكًا.
__________(6/679)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(الجامعة الدينية والوطنية)
كتب إلينا صديقنا نسيم بك خلاط من وجهاء طرابُلس الشام ما يأتي (تأخر
وروده ثم نشره) .. مولاي الجهبذ الهمام:
أمسكت الكتابة عن سيدي أمدًا كاد يكون في نظري دهرًا وأنا - كما علمت -
يقيمني الشوق ويقعدني كل يوم إليه وذاك لأني كنت أُسَوِّف اللقاء، وأعلل النفس
بقرب الملتقى، في ربوع ظللها الصفا وتحت سماء خلت من أكدار العاذل والرقيب،
وكنت أقول للنفس المشتاقة: عنك ومشقة الكتابة ما دام لك في مغامزة الأرواح، ما
يغني عن مراسلة الأحباب، لكن وقد طال لهذا الآن الموعد خفت أن يحسب
السكوت لدى مولاي مللاً أو نكرانًا لجميله في تقريظ رحلتي في غربي أوربا جئت
الآن وأنا في أعالي لبنان بين رياض وغياض حيث الهواء بليل والماء نمير أبثه
أشواقي وأنفحه من خالص التحية ما ينفحني المكان من خالص النعيم وأبدي إليه
امتناني وأشهد القرطاس على شغفي به واشتياقي إليه ولي فيما عدا ذلك - باعث
يحملني لو سمح سيدي أن أشرح له إعجابي بما حواه مناره الأسنى من جلائل
المواعظ القمين بها والمحتاج إليها أهل العصر عمومًا والإسلام خصوصًا.
فإنك يا مولاي لم تألُ جهدًا في تقويم ما اعوجَّ من أفنان العبادة، ولم ترهب من
تقريع مَن شطّوا فيها عن سواء السبيل حتى استغابك مَن ألفوا التُّرَّهَات أو حادوا عن
محجَّة الدين القويم فلا سد فوك، ولا عاش من يشنوك، إنما لي عليك سؤال عساك
لا تستنكر صدوره من عاجز مثلي يشفع به علم الجميع بأني لم أبغِ عمري غير تمكين
الوئام وتوثيق الألفة وإعلاء منار الجامعة الوطنية؛ لأني منذ بلوغي الرشد (إذا
كنت للآن رشدت) رأيت وخبرت أن مصيبة الشرق وبلادنا على نوع أخص؛ إنما
كانت وتكون أبد الدهر في ظل المذاهب والأديان فلو أريد تسويد دين على آخر أو
تعميمه وجمع العالمين في كنفه ليتم هناء الناس كما زعم البعض لكان المطلب وعرًا
لأسباب جمّة أخصها ما جاء في نص: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ..} (هود: 118) إلخ،
وما علم بالاختبار الطويل العريض من أن الإنسان حليف التخاذل وولوع بالخلف
وشتات الآراء، وأن من المستحيل اجتماعه على رأي واحد فيما سوى النظريات؛
فما معنى القول إذن بالجامعة الدينية وتخيل اعتبارها من الممكنات والإعراض عن
الجامعة الوطنية الميسورة والمشهود لها قديمًا وحديثًا بأنها داعية العمران ومصدر
القوة والحضارة.
فمَن لي بمثل منارك المضيء في ظلمات الأفهام أن يزين للقوم فضلها
ومنافعها أن يجهر بالقول: (إن ما رام في الوطنية؛ بقطع النظر عن اختلاف
الأديان ما يقوم بما أنزل الرحمن من وجوب الألفة والنصفة بين الناس، والتساوي
وأحكام القسط بينهم، وتكليفهم للذب يدًا واحدة عن أعراضهم ومرافقهم، وفيها
إعلاء شأن من يحسن صنعًا؛ ولو كان من أحطهم قومًا وأخسهم محتدًا تكن في
منارك يا مولاي فعلت ما أنت أهله من الإحسان وكسرت قيودًا طالما أن منها -
واأسفَى - الشرق، فإن شئت إدراج كتابي أو ملخصه في منارك الأغر، ولعلي
أظنك فاعلاً رجوت الاتِّئاد إذ لاح لك تعقيبه وكان لاتِّئادك بي من مكان) اهـ.
(المنار)
نشكر للصديق الفاضل وفاءه، ونحمل عليه حمده وثناءه، ثم نشكر له هذا
النصح الذي تجلى بلسان السائل، وقلب المحب المخلص، ولو كان الصديق قرأ
جميع أجزاء المنار واستقرأ ما كتبته في الجامعتين الدينية والوطنية لوجد فيه جواب
سؤاله، أو العمل بنصحه وإرشاده. ولا بد لي من كلمة وجيزة أقولها الآن:
الجامعة الدينية لا تنافي عندنا الجامعة الوطنية بل تستلزمها كما أوضحنا ذلك
في مقالة عنوانها (الجنسية والدين الإسلامي) ولا يقصد الداعون إلى الجامعة
الإسلامية أن يجعلوا جميع الناس مسلمين، فيقال إنهم مخطئون في نظر العقل
ونص قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود: 118) وإنما هم يدعون المسلمين إلى العلم والمدنية الفاضلة التي لا فحش
فيها ولا فسوق ومجاراة غيرهم من أهل الملل في فنون العلم والعمل، فإنهم على
كونهم العنصر الأقوى في الشرق الأدنى قد أصبحوا وراء جميع العناصر في هذه
الفنون، ويحتج الأكثرون منهم على عداوة العلم بالدين فوجب أن يحاجوا من طريق
الدين. وأن يدعوا باسم الدين. فإنه صاحب السلطان الأعلى على نفوس هؤلاء
المتخلفين، ولكنهم لبسوه كما يلبس الفرو مقلوبًا (الكلمة لأمير المؤمنين علي كرم
الله وجهه) فنكروا معروفه وجعلوه سبب الجهل وداعية التفريق وآلة الاستعلاء
والإيذاء بعد أن كان في أول نشأته سبب العلم وداعية الوفاق وآلة العدل والمساواة
بين جميع الناس.
وللأهرام كلمة حق تقولها دائمًا وهي: إن الشرق لا يرتقي إلا بارتقاء
المسلمين، وللمقتطف كلمة حق قالها وهي: إن المسلمين لا يرتقون إلا بعد
الإصلاح الديني، وذكر هناك أن المنار داعية لهذا الإصلاح وأن صاحبه من
زعمائه، فالمنار مشتغل بدعوة المسلمين إلى الإسلام لا بدعوة النصارى وغيرهم
إليه؛ وإنما يرد شبهات دعاة النصرانية التي ينشرونها في كتبهم وجرائدهم المنشرة؛
لأنه اعتداء يجب في اعتقاده رده؛ ولأنه معارض له في دعوته، ويبين في
محاسن الإسلام ويُرَغِّب فيها من غير إيذاء لأحد.
فإذا قال الصديق: إذا كانت الجامعة الوطنية من لوازم الجامعة الإسلامية
فلماذا لا يدعو المنار إليها بالتصريح؟ فإني أذكره أو أذكر له أنني لم أقصر في
ذلك؛ ولكنني أكثرت منه في السنة الأولى أيام كان المنار منتشرًا بين أهل الوطن
الذين هم في أشد الحاجة إلى الوفاق والتعاون؛ حتى لامني بعض المسلمين
المتحمسين ولم يعضدني أحد من غيرهم. وأقللت من ذلك بعد منع المنار من تلك
البلاد وانتشاره في بلاد أفرط فيها أحداث دعاة الوطنية حتى خرجوا عن الوطنية.
لا خلاف ولا نزاع في هذه البلاد بين المسلمين والقبط باسم الدين؛ ولكن بعض
الأحداث يحرضون المصريين عامة على عداوة السوريين خاصة، وهم من أبناء
لغتهم وأتباع دولتهم والمساوين لهم في قوانين حكومتهم، وذلك بعد أن استوطنوا
بلادهم وخدموها خدمة علمية أدبية لم يخدموا أنفسهم بمثلها، ولا حجة لهؤلاء
الأحداث إلا أن السوريين ليسوا بوطنيين وإنما هم (دخلاء) فإن كان الوطني في
عرفهم هو مَن ثبت اتصال نسبه بالفراعنة؛ فالواجب عليهم أن يُخرجوا منها
أمراءها وأكثر أهلها. وإلا فليفقهوا أن الدخيل هو الأجنبي عن لغتك وحكومتك الذي
لا يخضع لقانونك ولا لشريعتك، والذي يمتص ثروة بلادك فيحولها إلى بلاده ليُغنى
من حيث تفتقر ويُعز من حيث تذل.
المنار يدافع عن الإسلام، ولا ينسى الوصية بالوفاق والوئام، وأنه يرى
المسلمين أقرب إلى معنى الوطنية الصحيحة من غيرهم، فهذه جرائد المسيحيين
حتى الدينية البحتة منها يشترك فيها المسلمون بالمئات والألوف، وقد وجد للإسلام
جريدة واحدة أو مجلة (وهي المنار) فلم تجد في المسيحيين عشرة نفر يشتركون
فيها مع اعتراف فضلائهم بأنها نافعة ومفيدة، وهناك شواهد أخرى.
المنار يدعو المسلمين إلى العلم، والعلم هو الذي يعرِّف الناس بمكانة اتفاق
عناصر الوطن على ترقيته وإعلاء شأنه. أما الذين ليس لهم من علوم العمران ما
يقرب بعضهم من بعض فإقناعهم بالوفاق والوئام باسم الوطنية غير متيسر ولكن
المتيسر هو إقناعهم بذلك من طريق الدين وهو ما نحاوله.
فالمنار يخدم الوطن الخدمة النافعة ولكنه لا يلغو باسم الوطن والوطنية؛ لأن
هذا اللغو من شِنْشِنَة الذين يقولون ما لا يفعلون.
***
(مكتبة إسلامية عمومية في روسيا)
تتضافر الأنباء على حسن حال إخواننا المسلمين في بلاد روسيا وعنايتهم
بالعلم والتربية الإسلامية، حتى إن العارفين يفضلونهم على جميع المسلمين في
مكارم الأخلاق، وفي الاتحاد والاتفاق. وقد كتب إلينا من مدينة خاركوف أن
مسلميها على قلة عددهم يشتغلون الآن بإنشاء مكتبة عمومية لا نظير لها في بلاد
روسيا، وقد انبرى لهذا الأمر وتبرع له بالمال الكثير محمد غني أفندي بن سعد
الدين أحد قراء المنار الأخيار، فجلب الكتب الكثيرة من البلاد، فنسأل الله تعالى أن
يكثر من أمثال هذا الشاب الغيور في المسلمين. ومن هنا نستدل على حسن معاملة
حكومة القيصر للمسلمين، وعلى حرية العلم فيهم، لولا أن مراقبي المطبوعات في
موسكو وغيرها يمنعون عنهم بعض أجزاء المنار بسوء فهم مترجميه لهم، لا
بشيء فيه يقتضي ذلك فإنه لم يعب السياسة الروسية لهم فقط.
***
(مسألة مراكش رأي المنار ومكاتب التيمس)
كتبنا في الجزء العاشر مقالة في الخطر المحدق ببلاد مراكش قلنا فيها: إن
الفتنة أقوى من سلطان تلك البلاد، ويوشك أن تذهب بملكه وأن ما ارتآه بعض
الناس من وجوب استيلاء فرنسا على بلاد الغرب الأقصى لا يوافق مصلحتها؛ فإن
المسلمين أشداء لا يتيسر تذليلهم إلا بأمرائهم وحكامهم.. إلخ، ثم بعد عشرين يومًا
من انتشار المنار نشرت جريدة الأهرام مثل هذا الرأي للمستر هاريس مراسل
التيمس في مراكش (صاحب العلامة الكبرى والزلفى العظمى لدى مولاي عبد
العزيز) ، فأشار باستيلاء فرنسا على الإدارة، واستخدام سلطة السلطان الدينية
لذلك، ويفهم من كلامه أن السلطان مستعد لذلك والدول موافقة ...
__________(6/683)
16 رمضان - 1321هـ
5 ديسمبر - 1903م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
زكاة الفطر
زكاة الفطر هي أول زكاة فُرضت على هذه الأمة وهي أخف الزكوات
وأيسرها؛ لأنها عبارة عن قيام كل واجد زيادة عما يكفيه في يوم عيد الفطر بكفاية
واحد من المسلمين عادم ما يكفيه في ذلك اليوم. وهي منسوبة إلى الفطر؛ لأنها تجب
به؛ أي: بالفطر من رمضان كله وذلك بالدخول في ليلة العيد وقيل: بطلوع فجره
وقال بعض العلماء: إن المراد بالفطر الفطرة والخلقة؛ لأنها تجب على الواجد الذي
لم يصم لعذر أو لغير عذر ويجب على المكلف أن يخرجها أيضًا عن أولاده الصغار
الذين لا يصومون. والصواب الأول.
والحكمة في وجوبها على مَن ذكر ظاهرة؛ فإنها شرعت لكفاية جميع الفقراء
وإغنائهم عن ذل السؤال في يوم العيد الذي هو يوم ضيافة الله تعالى للمؤمنين فلما
دخل في الفقراء أطفالهم وجب على الأغنياء أن يزكوا عن أطفالهم أيضًا، وكذلك
السيد يُخرج زكاة الفطر عن عبده وقالوا: إن الصغير إذا كان ذا مال فإنها تجب في
ماله ويخرجها الولي وإن كان أبًا وإلا أخرج عنه من مال نفسه. وقد ورد أنها كفارة
للصائم تكفر عنه ما عساه يقع منه مما ينافي حكمة الصيام فهي كالرواتب للصلاة
تجبر ما يقع من النقص فيها. ولنذكر ما ورد في مشروعيتها وأحكامها من
الأحاديث الشريفة:
(1) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله
عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على العبد
والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين) رواه أحمد والشيخان
وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم.
(2) عن أبي سعيد قال: (كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير أو
صاعًا من زبيب أو صاعًا من أقط فلم نزل كذلك حتى قدم علينا معاوية المدينة
فقال: إني لأرى مُدين من سمراء الشام يعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك)
رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم وزاد مَن عدا البخاري: قال
أبو سعيد: فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه.
(3) وعن أبي سعيد أنه قال: (ما أخرجنا على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلا صاعًا من دقيق أو صاعًا من تمر أو صاعًا من سلت أو صاعًا من
زبيب أو صاعًا من شعير أو صاعًا من أقط) رواه الدارَقُطني عن ابن عيينة عن
ابن عجلان عن عياض بن عبد الله عنه وفيه: (قال ابن المديني لسفيان بن عيينة:
يا أبا محمد إن أحدًا لا يذكر في هذا الدقيق. فقال: بلى هو فيه) ، أورد الحديث
صاحب (منتقى الأخبار) وذكر أن الإمام أحمد احتج به على إجزاء الدقيق. وقد ورد
ذكر الدقيق في غير هذه الرواية وطعن الجمهور في روايتها وقد قال أبو داود في
سننه: إن ذكر الدقيق وَهْمٌ من ابن عيينة.
(شرح الألفاظ)
الطعام في الحديث الحنطة؛ لأنه الغالب فيها عرفًا عن العرب كالمال في الإبل
ويصرف اللفظ إلى ما غلب استعماله فيه عند الإطلاق ولكن روى البخاري وغيره
عن أبي سعيد أنه قال: (وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر) ؛ ولذلك
ذهب ابن المنذر إلى أن ذكر الطعام مجمل فسره ما بعده من تعدد أصنافه ولكن نظم
الحديث يأبى هذا وإن كان لفظ الطعام يشمل ما ذكر؛ لأنه في الأصل ما يطعم
ويذاق، وقوله: حتى قدم معاوية. زاد مسلم: (حاجًّا أو معتمرًا وكلم الناس على
المنبر) ، وسمراء الشام: حنطتها. وقد بيَّن النووي أن قول معاوية هذا ليس بحجة؛
لأنه رأي له لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولذلك لم يأخذ به أبو
سعيد راوي الحديث. والأقط بتثليث الهمزة مع سكون القاف وبتثليث القاف مع فتحها
هو الجبن يُتخذ من اللبن الحامض غير منزوع الزبد، والسُّّّلت بالضم: نوع من
الشعير أملس كالحنطة ولكن برودته وطبعه كالشعير.
أما الصاع فهو خمسة أرطال وثلث عراقية كما قدره الإمام مالك وعليه
الحجازيون وعامة أهل الحديث وقال الحنفية إنه ثمانية أرطال؛ لأن الصاع الذي
يتعامل به أهل العراق كذلك. ولكن أبا يوسف رجع أخيرًا عن قول أبي حنيفة إلى
قول مالك لما ناظره ووقف على حجته.
روى الدارقطني والبيهقي عن إسحق بن سليمان الرازي أنه قال: قلت لمالك
بن أنس: أبا عبد الله كم قدر صاع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: خمسة أرطال
وثلث بالعراقي أنا حزرته، فقلت: أبا عبد الله خالفت شيخ القوم قال: مَن هو؟
قلت: أبو حنيفة يقول ثمانية أرطال. فغضب غضبًا شديدًا ثم قال لجلسائنا: يا
فلان هاتِ صاع جدك يا فلان هات صاع عمك يا فلان هات صاع جدتك. قال
إسحق: فاجتمعت آصع فقال: ما تحفظون في هذا؟ فقال هذا: حدثني أبي عن أبيه
أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال هذا: حدثني أبي
عن أخيه أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر:
حدثني أبي عن أمه أنها أدت بهذا الصاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.. فقال
مالك: أنا حزرت هذه فوجدتها خمسة أرطال وثلثًا، ولعمري إنه لا يقدَّم على قول
مالك قول في مثل هذه الأمور التي اختبرها بنفسه في مدينة الرسول عليه السلام مع
قرب العهد وهذه الأرطال تبلغ ست مئة درهم وثمانين وخمسة أسباع درهم من
الحنطة وهي قدحان من أقداح مصر.
***
وقت أداء الفطرة
(4) عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بزكاة الفطر
أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة. رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن إلا
ابن ماجه. والمراد بالصلاة هنا صلاة العيد وذلك أن الغرض منها كفاية الفقراء في
ذلك اليوم وروى ابن خزيمة أن قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ
فَصَلَّى} (الأعلى: 14-15) ، نزل في زكاة الفطر وصلاة العيد ورفع ذلك إلى
النبي عليه الصلاة والسلام وهو لا ينافي عموم الآية وأن تزكية النفس وتطهيرها
يكون بغير زكاة الفطر من الفضائل والأعمال النافعة كما يكون بها.
(5) عن ابن عباس قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة
الفطرة طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي
زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. رواه أبو داود وابن
ماجه والدارقطني والحاكم وصححه. وهو يدل على عدم جواز تأخير أداء الفطرة
عن صلاة العيد ولكن الجمهور على أن أداءها قبل صلاة العيد هو الأفضل ولا
يجوز تأخيرها عنه إلى آخر النهار، واتفقوا على أنه لا يجوز تأخيرها عن يوم العيد
والحديث حجة قائمة لا ينبغي أن يتهاون به لقول أحد.
وقد جوز بعض العلماء تقديمها على يوم العيد وقال بعضهم: إنها كالصلاة لا
تقدم على وقتها كما أنها لا تؤخر عنه. والمروي في البخاري أنهم كانوا يعطون
قبل الفطر بيوم أو يومين. وبه قال أحمد وعده تعجيلاً وروي أيضًا عن مالك وذهب
الشافعية إلى جواز إخراجها من أول رمضان. وتوسع آخرون فقالوا بجواز إخراجها
قبل دخول رمضان؛ وذلك أنهم أدخلوا فيها القياس وقد علمت أن ذلك ينافي حكمة
إغناء المساكين في يوم العيد عن السؤال فقد روى البيهقي والدارقطني عن ابن عمر
أنه قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر وقال: (أغنوهم في
هذا اليوم) وفي رواية للبيهقي: (أغنوهم عن طواف هذا اليوم) وأخرجه ابن
سعد في الطبقات من حديث عائشة , وأبي سعيد. فمن وفقه الله لاتباع السنة
يتحرى إخراجها بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العيد فإن رأى في ذلك مشقة أو في
التعجيل مصلحة فليخرجها قبل العيد بيوم أو يومين اتباعًا.
واختلف العلماء في مسائل أخرى من أحكام زكاة الفطر فذهب الشافعية إلى
أنها تجب من القوت الغالب في كل بلد. ولذلك يتعين في مثل هذه البلاد القمح رخص
ثمنه أو غلا وعندهم قول ثانٍ وهو أنه يجب على كل أحد أن يخرجها من غالب
قوته هو وإن لم يكن غالب قوت البلد. وقول ثالث وهو أنه يخيَّر في الأجناس
المنصوصة. وقد رأيت في النصوص أنهم كانوا يخرجونها مما يأكلون ولا أرى من
يرسل إلى الفقير في صبيحة العيد شيئًا من الخبز واللحم والحلوى إلا عاملاً بما ورد
ومتبعًا للسنة لا سيّما مع ملاحظة أن نفوس الفقراء والمساكين تتشوف في يوم العيد
إلى أكل الواجدين الموسرين ولذلك نرى الذين ترسل إليهم زكاة الفطر من الحنطة
يدخرون ما يعطون ثم هم يطوفون في يوم العيد على الأبواب يسألون الموسرين
الطعام. فإن قال الفقهاء: إننا تعبدنا بتلك الأصناف المذكورة في الحديث فلا يحل
لنا أن ننظر في المقصود منها فنعمل به، نقول: إن ظاهر الحديث التخيير بين
الأصناف فعليهم أن لا يقيسوا عليها غيرها من الأقوات وأن لا يجيزوا استبدال
غيرها بها ولا دفع قيمتها.
واختلفوا أيضًا فيما يملكه من تجب عليه زكاة الفطر فقاسها بعضهم كالحنفية
على الزكاة وقال: إنها لا تجب على من لا يملك نصابها وهو قياس مع الفارق؛ لأن
تلك زكاة الأموال وهذه زكاة الأبدان ولهم حديث عام في الصدقة معارَض بما هو
أقوى منه. وذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أنها تجب على من يملك ما يزيد عن
حاجته وحاجة من تلزمه نفقتهم يوم العيد وليلته عملاً بإطلاق أحاديث الوجوب
واعتبارًا بما ورد في تعليلها من أنها (طهرة للصائم) كما تقدم في حديث ابن
عباس وقد قالوا: إن الحاجة تختلف باختلاف طبقات الناس فلا تجب زكاة الفطر إلا
على مَن عنده فضل عما يليق بأمثاله في طعامه وشرابه ولبوسه وماعونه وأثاثه.
وهو ظاهر لا غبار عليه.
هذا ما نذكره فتحًا لباب النظر في السنة وتحريها في العمل والاعتبار بحكم
الدين والتفقه فيه. وإن خطباء المساجد يبينون في خطبة العيد أقوال أهل المذاهب
الأربعة لمقلديها. وقد أشرنا إلى بعض الخلاف بينهم ومن أهمه أن الحنفية على
اعترافهم بأن الفطرة تجب في الطعام وموافقتهم للآخرين في أن الحنطة في مثل هذه
البلاد هي القوت الغالب الذي ينبغي اعتباره في هذه الزكاة أجازوا أن يقدر ثمن
نصف الصاع من البر ويُعطَى للفقير نقدًا وقالوا: إن هذا أفضل؛ لأنه أنفع وقد أطال
الغزالي في الإحياء البيان في رد هذا القول. والاحتياط أن يتحرى الإنسان موافقة
الأئمة في اتباع السنة ولا خلاف بينهم في جعل زكاة الفطر من الحنطة والله أعلم.
__________(6/692)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(الوجه الخامس والثلاثون) : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أرشد
المستفتين كصاحب الشجة بالسؤال عن حكمه وسنته فقال: (قتلوه قتلهم الله) ،
فدعا عليهم حين أفتَوْا بغير علم وفي هذا تحريم الإفتاء بالتقليد فإنه ليس علمًا باتفاق
الناس فإن ما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فاعله فهو حرام وذلك
أحد أدلة التحريم. فما احتج به المقلدون هو من أكبر الحجج عليهم والله الموفق.
وكذلك سؤال أبي العسيف الذي زنى بامرأة مستأجرة لأهل العلم فإنهم لما
أخبروه بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في البكر الزاني أقره على ذلك
ولم ينكره فلم يكن ثَمَّ سؤالهم عن رأيهم ومذاهبهم.
(الوجه السادس والثلاثون) : قولهم: إن عمر قال في الكلالة: إني لأستحي
من الله أن أخالف أبا بكر، وهذا تقليد منه له فجوابه من خمسة أوجه:
(أحدها) : أنهم اختصروا الحديث وحذفوا منه ما يبطل استدلالهم ونحن
نذكره بتمامه. قال شعبة: عن عاصم الأحول عن الشعبي أن أبا بكر قال في الكلالة:
أقضي فيها برأيي فإن يكن صوابًا فمن الله وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان والله
منه بريء، هو ما دون الولد والوالد، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:
إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر. فاستحى عمر من مخالفة أبي بكر في
اعترافه بجواز الخطأ عليه وإنه ليس كلامه كله صوابًا مأمونًا عليه الخطأ ويدل
على ذلك أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أقر عند موته أنه لم يقضِ في
الكلالة بشيء وقد اعترف أنه لم يفهمها.
(الوجه الثاني) : أن خلاف عمر لأبي بكر أشهر من أن يذكر كما خالف
في سبي أهل الردة فسباهم أبو بكر وخالفه عمر وبلغه خلافه إلى أن ردهن حرائر
إلى أهلهن إلا من ولدت لسيدها منهن ونقض حكمه ومن جملتهن خولة الحنفية أم
محمد بن علي فأين هذا من فعل المقلدين بمتبوعهم. وخالفه في أرض العنوة
فقسمها أبو بكر ووقفها عمر. وخالفه في المفاضلة في العطاء فرأى أبو بكر التسوية
ورأى عمر المفاضلة. ومن ذلك مخالفته له في الاستخلاف وصرّح بذلك فقال: إن
أستخلف فقد استخلف أبو بكر، وإن لم أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم لم يستخلف. قال ابن عمر: فو الله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فعلمت أنه لا يعدل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحدًا وأنه
غير مستخلف. فهكذا يفعل أهل العلم حين تتعارض عندهم سنة رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم وقول غيره لا يعدلون بالسنة شيئًا سواها، لا كما يصرح به
المقلدون صراحًا. وخلافه له في الجد والإخوة معلوم أيضًا.
(الثالث) : أنه لو قدر تقليد عمر لأبي بكر في كل ما قاله لم يكن في ذلك
مستراح لمقلدي مَن هو بعد الصحابة والتابعين ممن لا يداني الصحابة ولا يقارنهم
فإن كان - كما زعمتم - لكم أسوة بعمر فقلِّدوا أبا بكر واترُكوا تقليد غيره والله
ورسوله وجميع عباده يحمدونكم على هذا التقليد ما لا يحمدونكم على تقليد غير أبي
بكر.
(الرابع) : أن المقلدين لأئمتهم لم يستحيوا كما استحيى منه عمر؛ لأنهم
يخالفون أبا بكر وعمر معه ولا يستحيون من ذلك لقول من قلدوه من الأئمة بل قد
صرح بعض غلاتهم في بعض كتبه الأولية أنه لا يجوز تقليد أبي بكر وعمر ويجب
تقليد الشافعي فيا لله العجب الذي أوجب تقليد الشافعي حرم عليكم تقليد أبي بكر
وعمر ونحن نُشهد الله شهادة نسأل عنها يوم نلقاه أنه إذا صح عن الخليفتين
الراشدين اللذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باتباعهما والاقتداء بهما
قول وأطبق أهل الأرض على خلافه لم نلتفت إلى أحد منهم ونحمد الله أن عافانا مما
ابتلى به من حرم تقليدهما وأوجب تقليد متبوعه من الأئمة وبالجملة فلو صح تقليد
عمر لأبي بكر لم يكن في ذلك راحة لمقلدي من لم يأمر الله ولا رسوله بتقليده ولا
جعله عيارًا على كتابه وسنة نبيه ولا هو جعل نفسه كذلك.
(الخامس) : أن غاية هذا أن يكون عمر قد قلد أبا بكر في مسألة واحدة فهل
في هذا دليل على جواز اتخاذ رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى
قول مَن سواه، بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت قوله، فهذا - والله - هو
الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض
القرون الفاضلة.
(الوجه السابع والثلاثون) : قولهم: إن عمر قال لأبي بكر: رأينا لرأيك
تبع. فالظاهر أن المحتج بهذا سمع الناس يقولون كلمة تكفي العاقل فاقتصر من
الحديث على هذه الكلمة واكتفى بها، والحديث من أعظم الأشياء إبطالاً لقوله
ففي صحيح البخاري عن طارق بن شهاب قال: جاء وفد براخة من أسد وغَطَفان
إلى أبي بكر يسألون الصلح فخيَّرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية. فقالوا:
هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية؟ قال: ننزع منكم الحلقة والكراع ونغنم ما
أصبنا لكم وتردون لنا ما أصبتم منا وتَدُونَ لنا قتلانا، وتكون قتلاكم في النار
وتتركون أقوامًا تتبعون أذناب الإبل حتى يُرِي الله خليفة رسوله والمهاجرين
والأنصار أمرًا يعذرونكم به، فعرض أبو بكر ما قال على القوم. فقام عمر بن
الخطاب فقال: قد رأيت رأيًا سنشير عليك، أما ما ذكرت من الحرب المجلية
والسلم المخزية فنِعم ما ذكرت وما ذكرت من أن نغنم ما أصبنا منكم وتردون ما
أصبتم منا فنعم ما ذكرت وأما ما ذكرت من أن تدون من قتلانا وتكون قتلاكم في
النار؛ فإن قتلانا قاتلت فقُتلت على أمر الله، أجورها على الله، لها ديات، فتتابع
القوم على ما قال عمر فهذا هو الحديث الذي في بعض ألفاظه: قد رأيت رأينا
ورأينا لرأيك تبع، فأي مستراح في هذا لفرقة التقليد؟ !
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/696)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة الشيخ محمد نجيب أفندي
وردت علينا الأسئلة الثلاثة الآتية من الشيخ محمد نجيب أفندي ابن الشيخ
شمس الدين محمد المدرس بالمدرسة الشمسية في توفتار (الروسية) فذكرناها
بنصها واختصرنا في جوابها لما سبق لنا من القول في موضوعاتها إلا المسألة
الثانية أطلنا فيها.
المسجد الأقصى وقت الإسراء
(المسألة الأولى) إن بعضًا من المخالفين اعترض على آية الإسراء فقال
ما حاصله: إن المسجد الأقصى كان خرابًا في ذلك الوقت بشهادة التواريخ
الإسلامية فكيف يصح قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ
الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى} (الإسراء: 1) الآية. انتهى.
وقد خطر في خاطري في الجواب عنه:
(أولاً) أن المسجد الأقصى كما يطلق على بنائه يطلق على محله والمحل
باقٍ ألبتة إلا أن يشكله ما وقع في حديث آحادي من ربط البراق في حلْقة الباب
وهو يفيد الإسراء إلى البناء لا إلى المحل، والآية تحتمل المعنيين.
(وثانيًا) أن أمر المعراج والإسراء من الأمور العادية؛ لكونه من
المعجزات، فهو وإن كان روحانيًّا جسمانيًّا عندنا - إلا أنه ليس بجسماني عادي بل
هو شبيه بالروحاني وأنه من أطوار النبوة ويحصل فيها ما لا يحصل في غيرها
وقد روي في الخبر أن النبي عليه السلام رأى ليلة المعراج طوفان نوح عليه السلام
ونار نمروذ عليه اللعنة، ويونس عليه السلام في بطن الحوت من الأمور الماضية،
وأهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار من الأمور الآتية، بحيث كُوشِفَ
بجميع تلك الأمور الحادثة وما يحدث بأوقاتها لكونه صلى الله عليه وسلم منخلعًا
عن قيد الزمان عند هذا الحال فحضر الجميع عنده بأوقاته فلا يبعد أن يكون رأى
المسجد الأقصى بوقت معموريته عند هذا المكان وإن لم يره المحبوس في
مطمورة الزمان ولا مانع من تصديقه من جهة العقل أيضًا بعد الإيقان بأنه من
المعجزات؛ لأن شأن المعجزات يكون هكذا فوق طور العقل وإنما حظ العقل منه
العلم بإمكانه وهذا يكفي للإذعان له. وأما تعقل المعجزات فهو ليس من وسع العقل؛
بل هو بمعزل عنه ولا فرق في ذلك بين أمر المعراج وسائر الأمور الخارقة. هذا
ما ظهر لي في الأمر والمأمول من الأستاذ زيادة التحقيق والإتقان.
(ج) إن هذا الاعتراض ليس بشيء، فذلك المكان المعبر عنه بالمسجد
الأقصى كان معروفًا وقد هُدم غير مرة وبُني، وكان يُسمى في حال هدمه وحال بنائه
باسم واحد وهو (هيكل سليمان) ، يقولون: هُدم الهيكل وبُني الهيكل وبَقِي الهيكل
مدة كذا خرابًا. وقد بنى أنيبال الروماني على أطلاله هيكلاً للمشترى ولم يتغير
اسمه عند اليهود لاعتبارهم ذلك شيئًا عارضًا لأمر ثابت لا يزول.
ولو استشكل المعترض تسميته مسجدًا لكان له وجه في الجملة ونقول: إنه أطلق
عليه المسجد كما أطلقه على حرم مكة وهو لم يكن يومئذ مسجدًا وإنما كان بيتًا
للأصنام وفي ذلك وجهان: أحدهما أنه سماه مسجدًا باعتبار ما كان عليه وما وضع له
فما بنى إبراهيم وإسماعيل الكعبة ولا سليمان الهيكل إلا للعبادة الصحيحة.
وثانيهما أنه أطلق عليهما اسم المسجد للإشارة إلى ما يؤول إليه أمرهم وهو
كونهما مسجدين للمسلمين. وما ذكره السائل من كون الإسراء والمعراج من الأمور
الروحانية حسن وسبق لنا فيه قول ولكنه ليس الوجه في تسمية ذلك المكان بالمسجد.
ثم إن ربط البراق بالحلقة في بعض الروايات ليس مشكلاً؛ إذ هدم المكان لا ينافي
وجود حلقة في أطلاله تربط بها دابة. هذا إذا كان البراق والربط في عالم الحس
والملك، فما بالك إذا كان أمرًا ملكوتيًّا، أو تمثيلاً روحانيًّا.
(تفسير: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً} (الأعراف: 190) ... الآيات)
(المسألة الثانية) إن أحد المخالفين أيضًا اعترض على قوله تعالى: {فَلَمَّا
آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الأعراف:
190) ، قال ما حاصله: إن قوله تعالى:] جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ [يُشعر بأن آدم
وحواء عليهما السلام كانا مشركين. انتهى. وما ذكر في كتب التفاسير من
التوجيهات من تقدير همزة الاستفهام أو المضاف أو التصرف في الشرك فلم يقبلها
المعترض وقال: لا بد من تصحيح الآية على ظاهرها - أيها المسلمون - فإن كان
فيه وجه آخر غير ما ذكر في التفاسير فعليكم بيانه أيها الأستاذ.
(ج) لك أن تحل الآية بهذا التفسير: الله {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (الأعراف: 189) في جنسها وهي الروح التي تتصل بالأبدان فتحييها بعد موتها
] وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [أي: جعل لها زوجًا من جنسها وذلك بعد دخولها في عالم
الأجسام. وإلى هذا التراخي أشار بقوله تعالى في سورة الزمر: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ
وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (الزمر: 6) أي: جعل تلك النفس الواحدة زوجين
ذكرًا وأنثى كما قال في سورة النجم: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * مِن
نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} (النجم: 45-46) ثم بيَّن علة جعل الزوج من جنس الزوج فقال:
] لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [وسكون كل من الزوجين إلى الآخر معروف بالطبع لجميع البشر
فلا حاجة للإشعار به. ويؤيد هذا التفسير قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم
مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21) .
وقد علمنا من أسلوب القرآن البديع أنه ينتقل من ذكر الآيات الكلية إلى ذكر
الوقائع الجزئية التي لها أثر عام في عقائد البشر وأخلاقهم كما يذكر الوقائع الجزئية
أحيانًا ويبني عليها الأحكام العامة. وقد انتقل هنا من ذكر خلق الزوجين وبيان
الحكمة في ذلك إلى ما يقع لهما ولنسلهما من الكفر بالنعمة، والجهل بتلك الحكمة،
فقال في ذلك الزوج المبهم مع زوجه: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} (الأعراف: 189) ظاهر أن المراد بالتغشي ما يكون سبب الحمل وأصله التغطية
وفيه من النزاهة ما ترى. ومرت به بمعنى استمرت على حالها قبل الحمل] فَلَمَّا
أَثْقَلَت [بالحمل وأصابتها الشدة ووهم الإسقاط والإجهاض] دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا [
قائلين:] لَئِنْ آتَيْتَنَا [ولدًا أو نسلاً صَالِحًا] لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [لنعمتك،
المؤمنين بأن الخير كله بيدك، {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} (الأعراف: 190) بأن نسبا ذلك إلى تأثير ما يسمى سببًا وما لا يصلح أن يكون
سببًا من الأمور الموهومة كالأصنام ونحوها وغفلا عن المؤثر الحقيقي الذي بيده
أزِمَّة الأسباب وهو الفاعل المختار فسرى هذا الشرك في ولدهما] فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ [وهذه الآية كقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: 65) .
هذا الذي قلناه في معنى الآية ظاهر لا إشكال فيه ولا اعتراض عليه. وإنما
جاء الإشكال من تفسير النفس الواحدة بآدم وزوجها بحواء مع اعتقاد عصمة آدم من
الشرك. وليست الآيات نصًّا ولا ظاهرًا في ذلك ويؤيد قولنا تتمة السياق وهو قوله
تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ
أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوَهُمْ إِلَى الهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوَهُمْ أَمْ
أَنتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوَهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ
إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ
يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ *
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} (الأعراف: 191-196) .
فهذه الآيات الناطقة بأبلغ الحجج على نفي الشرك وبطلانه وفساد آراء
منتحليه من مشركي العرب الذين كانوا يعتزون بأصنامهم ويستنصرون بها على
النبي عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن تكون فاتحتها قد نزلت في الاحتجاج على آدم
وحواء والنعي عليهما ما كانا عليه من الشرك المجهول - إن كان - إذ السياق
صريح في الاحتجاج على مشركي قريش ومن على شاكلتهم ولذلك حمل بعض
المفسرين النفس على قصي وكانت زوجه قرشية مثله ومن الشرك فيما آتاهما الله
من الولد أن سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي وعبد
اللات. وإلا ظهر ما قلناه من التعميم.
فإن قيل: هل من جواب معقول عن الآية على القول بأن المراد بها آدم
وحواء؟ أقول: إن أمثل ما يقال إذًا فيها هو ما جاء في الرواية وهو أنهما سميا
ولدهما عبد الحرث فقد روى أحمد والترمذي والحاكم من حديث سمرة بن جندب
مرفوعًا: (لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال لها: سميه
عبد الحارث فإنه يعيش فسمته بذلك فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره)
وأراد بالحارث نفسه فإنه كان يسمى به بين الملائكة. وفي الحديث مقال وإن حسنه
الترمذي وصححه الحاكم وكم صحح الحاكم ضعيفًا وموضوعًا وقد أطال الرازي في
رد كون الآية في آدم وحواء. وإن سلمنا بالصحة نقول: إن الذنب على حواء وإنما
أسند إليها مع زوجها؛ لأنهما متكافلان وكان ينبغي له أن ينهاها عن هذه التسمية
وليس ذلك شركًا حقيقيًّا؛ لأنها لم تكن تعتقد بأن الحارث إله ولكنه صورة للشرك
فأطلق عليه اسم الشرك مبالغة في الزجر والله أعلم.
تعليم النساء الكتابة
(المسألة الثالثة) إن بعضًا من علمائنا لا يجوزون تعليم الكتابة للنساء
وينقلون في ذلك حديثًا وهو: (لا تعلموا النساء الكتابة ولا تنزلوهن الغرف) ،
فهل له أصل بيّنوه؟ أيها الشيخ. وهذا الفقير متردد في قبوله بل يجده مخالفًا
لشرعه عليه السلام فإنه عليه الصلاة والسلام أمر كل مسلم ومسلمة بطلب العلم
والكتابة مقدمة الطلب سيما في هذه الأعصار فإنه لا يمكن فيها الطلب بدونها على
أنه مخالف صريحًا لحديث آخر وهو أنه عليه السلام قال للشَّفَّاء بنت عبد الله وهي
عند حفصة: (ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتها الكتابة) ففيه دلالة على جواز
تعلم الكتابة للنساء؛ لأن حفصه تعلمت الكتابة من الشفاء ولم يمنعها النبي عليه
السلام وهو دليل الجواز. ثم إن حديث النهي هل هو محمول على التنزيه أو
مقصور على مورده أو بينهما تناسخ، فالمرجو من جناب الأستاذ شرح ذلك لكي
يحصل التوفيق بينهما. هذا ما تذكرت وقت تحرير هذا الكتاب.
فلو تفضلتم بالجواب ولكم الأجر والمنة والله لا يضيع أجر المحسنين.
(ج) الحديث رواه الحاكم من حديث عائشة مرفوعًا وصححه، والصواب أنه
موضوع فإن في إسناده عبد الوهاب بن الضحاك الحمصي، قال أبو حاتم الرازي
فيه: كان يكذب، وقال العقيلي والنسائي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: كان
يسرق الحديث لا يحل الاحتجاج به، وقال الدارقطني: منكر الحديث وقال أبو داود:
يضع الحديث، وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: عبد الوهاب بن الضحاك
بن أبان العُرْضي - بضم المهملة وسكون الراء بعدها معجمة: أبو الحارث الحمصي
نزيل سلمية - متروك كذبه أبو حاتم. وأما حديث تعليم حفصة الكتابة فرواه
الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وأبو نُعيم والطبراني ورجاله ثقات. اهـ من
مقالة في تعليم النساء نشرناها في باب التربية والتعليم من مجلد المنار الثاني
(ص 336) .
__________
(1) الوجه في حجية هذه الآية أن ما ليس له أعضاء عاملة من الممكنات لا يرتقي إلى أن يكون سببًا من أسباب التعاون فيدعى لذلك، فكيف يدعى لفعل ما هو فوق الأسباب أو الوجه أن هذه الأصنام هي أدنى في مرتبة الوجود من الإنسان الذي له تلك الأعضاء العاملة، فكيف يستعين الأعلى بالأدنى ويدعو الأكمل الأنقص؟!(6/699)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اعتبار رؤية الهلال في الشهور العربية
(س4) : من رضاء الدين أفندي قاضي القضاة في أوفا (الروسية) :
حديث: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان
ثلاثين يومًا) الذي أخرجه الشيخان وغيرهما يوجب صوم شهر رمضان عند رؤية
هلاله أو إكمال شعبان ثلاثين يومًا ولكن هذا الحكم هل يتعدى إلى غيره من شهور
السنة بأن يقال: إذا لم يُرَ هلال شعبان يكمل رجب ثلاثين يومًا وإذا لم ير هلال
رجب يكمل جُمادَى الآخرة ثلاثين يومًا وهلم جرًّا على ما يفيده قول ابن الهمام في
حاشيته على الهداية (ج2، ص 60، طبع بولاق بمصر) أم هذا الحكم خاص
بأول شهر رمضان فقط لا يتعداه إلى سواه؟ وأما ابتداء شعبان وسائر الأهلَّة
فيعرف بغير هذا مثل التقويمات المطبوعة في عصرنا أو بعد السنة القمرية ثلاث
مائة وأربعة وخمسين يومًا من ابتداء شعبان الماضي أو غير ذلك مما لا يتعلق به
حكم شرعي أصلاً. فإننا نحن سكان القطبة الشمالية لا يمكن لنا رؤية الهلال في
أول ليلته إلا نادرًا وخصوصًا أيام الشتاء التي يقصر فيها النهار جدًّا.
فعلى الاحتمال الأول أعني لزوم رؤية هلال شعبان ورجب وغيرهما ربما
يتردد ابتداء رمضان وشوال بين ثلاثة أيام أو أزيد ولذلك يكثر فينا الاختلاف بين أئمة
المساجد في الصوم والإفطار وقد صار هذا الاختلاف في هذه الأيام أضحوكة عند أهل
سائر الملل الذين يعيشون معنا فكثيرًا ما يصوم أهل محلة ويفطر أهل محلة
أخرى والمسافة بينهما قريبة، بل ربما يختلف إمامان لمسجد واحد وأشخاص من أهل
بيت واحد.
ولما كانت هذه المسألة من المسائل الشرعية وحَرية بالاهتمام وجريدة المنار
هي المجلة الوحيدة التي تذب عن الدين - نرجو الإجابة عن هذا السؤال ولعلّي
أستفيد من جوابكم عن هذا أيضًا، كما استفدت من أجوبتكم المتقدمة ويستفيد أيضًا
سائر الإخوان وطلاب الحقيقة.
(ج) قد علم مما كتبناه في الجزء الماضي حكمة الشارع في جعل المواقيت
الدينية مما يشترك في معرفته العامة والخاصة، وعلم أيضًا أن اتفاق المسلمين في
كل قطر من الأقطار على هذه المواقيت ممكن، ولا أرى كثرة الخلاف في رؤية
الهلال من أهل البلاد المتجاورات إلا بسبب استحلال الكذب أو الاستهانة في
الشهادة برؤية هلال رمضان، بحيث يشهدون بتوهم الرؤية، لا سيما في بلاد
يكرمون فيها أولئك الشهود وأذكر أنني رأيت في بعض السنين الشمس قد غربت
كاسفة ثم شهد رجلان أظن فيهما العدالة - بأنهما رأيا الهلال فحكم القاضي
بشهادتهما في الدعوى التي جرت البدعة الذميمة بها في إثبات شهري الصيام
والإفطار وصام الناس. ولا شك أنهما كانا كاذبين في شهادتهما؛ إذ لا معنى
لغروب الشمس كاسفة إلا غروبها مع القمر. ولا أزال ألتمس لهما العذر بأنهما
لكثرة التحديق تخيلا أنهما رأيا الهلال فشهدا بالتوهم. وإذا كان الهلال بحيث يُرى
فإنه يراه في كل بلد كثيرون من المستهلين إلا أن تختلف المطالع ولما كان إخواننا
من الشيعة يعملون بالرؤية نراهم قليلي الاختلاف فيها وذلك أنهم لا يحاولون موافقة
تقاويم الحاسبين فهذه المحاولة وتلك المساهلة هما السبب عند السنيين في كثرة
الخلاف التي صاروا بها سخرية إلا حيث يتلافون ذلك كما يفعلون في مصر وقد
ذكرناه في الجزء الماضي.
وحاصل القول في الجواب أن اعتبار رؤية الهلال في المواقيت الدينية لازم
متعين وهو لا يجب في الأمور الدنيوية، وإذا دقق الحكام فإنهم يمنعون الخلاف إلا
قليلاً، وإن الاختلاف في الرؤية لا يقتضي من الخلاف في إثبات الشهور القمرية
بالرؤية أو إكمال العدة أكثر مما يقتضيه الاعتماد على التقاويم فإننا نرى التقاويم
التي تطبع في مصر كل عام تختلف في إثبات هذه الشهور. وماذا علينا إذ كان من
مقتضى عرفنا الشرعي أن يكون أول الشهر القمري في الشرع متأخرًا يومًا واحدًا
عن أول الشهر الفلكي، ولماذا لا يعمل المسلمون في كل قطر بما يثبت عند حاكم
عاصمته والمسلمون أمة واحدة، هذا ما نراه كافيًا وإن استُزِدْنَا زدنا.
__________(6/705)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حديث غريب
حديث في جمع الجوامع
وصدى دعوة المنار لتعميم العربية
(س5) من عبد الرحمن أفندي مستقيم بقرية زويه التابعة لمركز سينبر
(الروسية) قال - بعد الثناء والدعاء -:
أما بعد فقد قرأت في مناركم الأغر جوابكم لسؤال عبد الحق الأعظمي في
شأن قراءة الخطبة بغير العربية فوجدت كل كلمة منه شجرة طيبة أصلها ثابت
وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها كما تحب وترضى وتشاء
فهذه جنات تجري من تحتها الأنهار، وهذه أشجار تنثر على المستظلين بها أحلى
الثمار، وقلت في نفسي: كيف لا وهو جواب مَن امتزجت العلوم بروحه امتزاج
الماء بالراح، ورسخت الفهوم في صدره مع عظيم الانشراح، كشفتم الحجب
والأستار من بيننا؛ لأن هذه المسألة كانت متنازعة من منذ زمان بيننا، زاد الله
عمركم وإقبالكم، وكثّر أمثالكم.
(سترون جرًّا جديدًا بحبل حديد) ، بعض العلماء يقول: هو حديث نبينا
صلى الله عليه وسلم مذكور في جامع الجوامع للسيوطي. وبعضهم يقول: ليس
بحديث؛ لأن ألفاظه تأبى أن يكون حديثًا. والحقير رجعت إلى (كشف الظنون)
فما وجدت كتابًا اسمه جامع الجوامع للسيوطي وراجعت أيضًا كتاب السيوطي
المسمى بحسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة وعد كتب المؤلف فيه فما
وجدت فيه أيضًا الكتاب المذكور فنرجو من سيادتكم أن تبين لنا القول المذكور هل
هو حديث أم لا؟ وإن كان حديثًا ففي أي الكتب هو مذكور؟ في مناركم الغراء ليقف
عليه كل من يريد الاستفهام عنه ودمتم وعناية المولى ترعاكم.
(ج) للسيوطي كتاب جمع فيه كتب الحديث المعروفة للحُفاظ والمحدثين
وجميع ما وقف عليه من الأحاديث المتفرقة في غيرها من الكتب وسماه (جمع
الجوامع) ويطلق عليه أيضًا اسم الجامع الكبير. وكتابه الجامع الصغير المشهور
مختصر من قسم الأقوال من ذلك الكتاب. والكتاب جامع للأحاديث الصحيحة
والضعيفة وكثير من الموضوعات فوجود الحديث المسؤول عنه فيه لا يقتضي إثبات
إسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبحث بعض العلماء في أسلوبه وزعمهم
أنه على غير الأساليب المعهودة في الحديث له وجه.
__________(6/708)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سكنى الشيطان في بدن الإنسان
(س6) : محمد فؤاد أفندي بأنشاص الرمل:
جاء في كتاب (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) صحيفة 60 التابعة
للقول في تمهيد للأصل الأول من القسم الثاني من الكتاب في الإسلام ما يأتي:
قال الأستاذ الإمام في ص 59: معجزة القرآن أجمع من القول والعلم وكل
منهما مما يتناوله العقل بالفهم، إلى أن قال ص 60: فهي معجزة أعجزت كل
طوق أن يأتي بمثلها، ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها، وأما معجزة
موت حي بلا سبب معروف للموت أو حياة ميت أو إخراج شيطان من جسم.. إلخ.
فهل يسكن الشيطان جسم الإنسان؟ فإن كان الأمر كذلك وكما فهمته أنا من هذه
العبارة السابقة فيصدق قول من قالوا بالزار فإنهم يعتقدون بأن العفاريت إِبَّان
هيجانها تقف عن حدها بدق الطبول. فالأمل تفسير هذا المقال ولكم الشكر الجزيل
منها.
(ج) يشير الإمام الحكيم بعبارته تلك إلى أنواع المعجزات المعزوَّة في
التواريخ الأربعة التي تسمى الأناجيل إلى المسيح عليه السلام فهو يذكرها على
سبيل الحكاية ولا يستلزم ذلك إثباتها ولا نفيها؛ بل ربما فُهم من العبارة التعريض
بأن تلك الكتب تسند إلى المسيح ما لا يصح إسناده إليه، ونحن - المسلمين - لا
نعتقد بمعجزة للمسيح وراء ما أثبته له القرآن العزيز. على أننا إذا سلّمنا بأن
بعض الشياطين دخلت في أجسام بعض الناس وأنها خرجت على يد المسيح معجزة له
فلا يلزم من ذلك أن نقيس خرافات عجائز (الزار) على معجزات الأنبياء المصطفَيْن
الأخيار.
__________(6/709)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
لبس القلنسوة المعروفة بالبرنيطة
أو التشبه بالنصارى
يسافر في كل سنة عدد عظيم من أمراء المصريين وحكامهم ووجهائهم إلى
أوربا فيلبَسون فيها لَبوس الإفرنج ويتزيَّوْن بزيهم لا يدعون منه شيئًا على أن زي
هؤلاء في الأغلب هو الزي الإفرنجي لا فرق إلا فيما يوضع على الرأس فأكثر
المصريين يتبعون حكامهم بلبس الطربوش الذي أخذه الترك عن الروم وهم في
أوربا يلبسون البرنيطة لا فرق في ذلك بين الأمير والمأمور إلا أفرادًا يعدهم
الجمهور شذاذًا ويلومون بعضهم على محافظتهم على لبس الطربوش هناك.
ويظن أكثر المسلمين أن لبس البرنيطة مخل بالدين الإسلامي حتى إن جريدة
(الحاضرة) تجرأت منذ عامين على التعريض بعزيز مصر لما بلغها من لبسه
البرنيطة في أوربا وقالت: إن هذا ممنوع في الإسلام. وأجبناها يومئذ في المنار.
ونرى الناس يلهجون في هذه الأيام بخبر فتوى من بعض العلماء بعدم إخلال
لبس البرنيطة بالدين الإسلامي. قالوا: إن رجلاً من مسلمي الترانسفال سأل العالِم
عن ذلك، وقال له: إن المسلمين في تلك البلاد مضطهَدون ومهضومو الحقوق لأنهم
مسلمون وأنه لا طريق إلى معاملة حكامهم وجيرانهم لهم بالمساواة إلا مساواتهم لهم
في زيهم ولا يتم ذلك إلا بلبس البرنيطة.
فأجابه العالم بأن اللبس من أمور العادات لا من أمور الدين وأن ما قاله بعض
الفقهاء من كراهة التشبه بالكافر في عاداته قد قيدوه بقصد التعظيم لدينه لا بقصد
المصلحة وأهل الترانسفال على ما يقول السائل لا يقصدون إلى ذلك بل تحملوا
كثيرًا من الأذى في تركه والضرورات تبيح المحظورات، فأمر الكراهة أهون.
هذا ما سمعناه في المسألة ويقال: إن بعض المتفقهة استكبروا الأمر وعدّوه من
المشكلات الدينية وطفقوا يتهامسون ويتباحثون فيه، وما ذاك إلا من قلة الفقه ومن
عدم النظر في السنة وفي تاريخ الأمة فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم لبِس الجبة الرومية وهي من لبوس النصارى ولبس
الطيالسة الكسروية وهي من لبوس مجوس الفرس. وكذلك الصحابة عليهم
الرضوان لبسوا في كل بلاد فتحوها من لبوس أهلها حتى قلنسوة النصارى بغير
نكير إلا ما كتبه عمر إلى عتبة بن فرقد لما خشي على قومه الترف والسرف
وفساد البأس والمنعة فقد كتب إليه يأمره بالبروز إلى الشمس وبالخشونة وبترك زي
الأعاجم وهو أمر للمصلحة لا للتشريع، كيف وعمر يعلم أن الشارع قد لبس لبوس
الأعاجم. وقد لبس المسلمون بأمر المنصور قلانس كقلانس الكفار ولم ينكر ذلك
أحد إلا ما كان من هزل بعض الشعراء؛ ولكن المسلمين وجموا واستنكروا تغيير
السلطان محمود العثماني زي قومه بزي الإفرنج لما كانوا عليه من الجمود على
العادات ولكن عقلاء الترك الآن يعدون ذلك أصلاً من أصول الإصلاح؛ لا لأن
تغيير الزي كبير النفع؛ ولكن لما فيه من زلزال ذلك الجمود الذي كان مانعًا من
اقتباس الدولة كثيرًا من النظام النافع في الجند والإدارة والسياسة عن أوربا التي
سبقت وبرزت فيه وقد رأينا أثر سبقها وجمودنا باستيلائها على معظم بلاد المسلمين.
نعم، إنني لا أنكر أن اختيار التشبه بالأجنبي هو أثر الضعف القاضي
باحتذاء المغلوب مثال الغالب في زيه وعاده وأنه ينبغي للأمة أن تحافظ
على عادتها أشد المحافظة ما لم تكن ضارة وإذا أرادت استبدال عادة بأخرى فليكن
ذلك بحسب المصلحة لا تقليدًا محضًا للأجنبي.
ولا أنكر أن المصريين الذين يلبسون البرنيطة في أوربا ملومون وأن سبب
لبسهم إياها ضعف العزيمة ولكنني لا أقول: إنهم قد عصوا الله تعالى واستحقوا عقوبته بذلك. ولو كان أمر اللبس من أمور الدين لوجب أن نتبع فيه الشارع وقد كان يلبَس الإزار والرداء ولم يلبس السراويل قط بل لم يلبس هذه الجبة
والفرجية ذات الأكمام الواسعة والأذيال الطويلة التي جمد عليها علماء المسلمين لهذا
العهد ولكنه نهى عنها ولبس الجبة الرومية الضيقة الأكمام فكان يتعذر الوضوء بها
حتى كان يخرج يديه من أسفلها عند الوضوء ليغسلهما. وقد كنت كتبت في
موضوع اللباس والتشبه فيه بالأجانب عشرات من الصحائف في كتاب (الحكمة
الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية) ، ذكرت فيه حكم الملابس في الدين وفي
المنفعة وفي الذوق وفي عرف الصوفية وفي السياسة وذكرنا حكم التقليد فيها وقد
جاء في أول الفصل المعقود للبحث في (كيفية اللبوس والتقليد فيه) ما نصه:
قد علم مما تقدم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعض أصحابه عليهم
الرضوان قد لبسوا القباء والفروج والطيالسة الكسروية واستعملوا المياثر [1] وكل
ذلك من لبوس الفرس وأنهم لبسوا أيضًا البرانس والجبب الرومية وهي من لبوس
النصارى. والجبة الرومية لم يتقدم لها ذكر وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى
الله عليه وسلم لبسها فكان يخرج يديه من أسفلها عند إرادة غسلهما في الوضوء
لضيق أكمامها الذي لا يمكن معه التشمير. ولبسوا أيضًا البرود والحبر المخططة
والمعلمة وهي من لبوس اليمن. وتلك الثياب كانت كغيرها تُجلب إليهم من العراق
والشام ومصر واليمن، لا أنهم كانوا يحتذون مثال هذه الشعوب في صنع لبوسها؛
إذ لم يكونوا أصحاب صنائع. وفي ذلك دليل على أن الشرع ينيط أمر اللباس من
حيث كيفية الأثواب وتفاصيلها باختيار اللابس ولا يحظر على شعب وقبيل
استعمال جديلة شعب آخر؛ لأنها أمور عادية لا تتعلق بحقوق الله تعالى ولا بحقوق
الخلق لذاتها.
نعم، كان أكثر ما يلبس النبي وأصحابه الرداء والإزار تبعًا لعادة قومه لا
لوحي نزل بأولوية ذلك وأفضليته شرعًا. على أنه مناسب لحلة القطر الحجازي
الحار. وإذ لم يرد في الشرع تفضيل كيفية مخصوصة وشكل معين في الملابس،
لأن الشرع نزل فيما هو أهم من ذلك فينبغي أن يناط ذلك بالرأي الصحيح وهو إنما
يرجح ما يوافق حالة المكان والزمان) . اهـ المراد منه. وبعد هذا تفصيل في
تفضيل بعض الملابس على بعض لاختلاف الزمان والمكان.
وقد حكَّم الفقهاء العادة في أمر الملابس حتى في الشرع فاستحبوا ما كرهته
السنة لمعنى يقتضي الكراهة مع بقاء ذلك المعنى وحجتهم أنه صار عادة. فقد ورد
في الحديث النهي عن إطالة الثياب ووعيد الذي يجر ثوبه خيلاء واتفق الفقهاء على
أن إطالة الأذيال أو الأكمام للخيلاء حرام ولغير الخيلاء مكروه شرعًا. ثم إنك ترى
مثل الشيخ الحفني يقول في تفسير الحديث من حاشيته على الجامع الصغير: إن
كراهة زيادة طول الثوب عن الكعبين لغير المختال مخصوصة بمن لم يصِر ذلك
عادة لهم كأهل مصر. وقال النووي في شرح مسلم نقلاً عن القاضي عياض وأقره:
وبالجملة يكره كل ما زاد على الحاجة والمعتاد في اللباس من الطول والسعة والله
أعلم، وذكر الشمس الرملي في شرح المنهاج أن إفراط توسعة الثياب والأكمام بدعة
وسرف وتضييع للمال ثم قال: نعم ما صار شعارًا للعلماء يندب لهم لبسه ليعرفوا
بذلك فيسألوا، وليطاوعوا فيما عنه زجروا، فأنت ترى أنهم جعلوا المحظور بنص
الشارع مندوبًا شرعًا وقد رأيت ضعف شبهتهم فإننا إذا سلمنا لهم بأنه ينبغي أن
يكون للعلماء زي خاص نقول: إنه ينبغي أن يكون ذلك الزي مما لم ينهَ عنه الشارع
نهيًا صريحًا.
ولئن صح ما يقولون من تحكيم العادة بالشرع من غير ضرورة ولا حاجة
ليكوننَّ وزر هذا الزي المنهي عنه في السنة على مَن اخترعه لهؤلاء العلماء من
سلفهم الذين كانوا خيرًا منهم باعترافهم. ولا أعرف المخترع الأول لزي علماء
مصر، وهو أبعد الأزياء عن أدب السنة وعن الذوق وعن المصلحة من حيث
السعة والطول؛ ولكنني أعلم أن أول مَن اتخذ لأهل العلم زيًّا مخصوصًا فقلدوه فيه
بالتدريج هو القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة (رحمه الله) وما أظن أنه كان
من السعة والطول بالقدر الذي نشاهد ولا براءة من هذا إلا بجعل ابتداء العادة
كاستمرارها.
ولقد بلغ من سلطان العادة على علمائنا أنهم صاروا ينكرون على من يخالفهم
من أبناء صنفهم في الأردان المكبرة، والأذيال المجررة، فلا عجب إذا حملت
العادة بعضهم على إنكار لبس قلنسوة النصارى ولو لضرورة دفع مفسدة أو جلب
مصلحة مع العلم بأن الصحابة والتابعين لبسوا في صدر الإسلام البرانس وهي من
قلانس النصارى كما في البخاري وشرحه.
أما حجة هؤلاء وأمثالهم التي تروج عند العامة فهي أن ذلك تشبُّه بالنصارى
الذين يجب علينا مخالفتهم و ... وهذا الكلام غير صحيح على إطلاقه وإنما هو مقيد
بالمخالفة في الأمور الدينية التي لا يوجد في ديننا ما يؤيدها كالأناشيد في الجنائز
وحمل المباخر ونحوها أمام النعش واتخاذ قبور الأولياء والصالحين مساجد وغير
ذلك مما تشبهنا بهم فيه، بل جعلناه من شعائر ديننا مع النهي عنه في الأحاديث
الصحيحة. وأما الأمور الدنيوية كالأكل والزي فليس مما تجب فيه المخالفة بل
تقارب الناس في العادات يؤلف بينهم ويزيل التنافر الذي يعمي كل فريق عن
فضائل الآخر وإذا زال التنافر ظهر الحق على الباطل.
وقد علمت أن النبي وأصحابه لبسوا زي المشركين والمجوس بله النصارى
الذين نطق القرآن الحكيم بأنهم أقرب مودةً لنا. وأكثر ما قاله الفقهاء في هذا أنه
يكره أن يأتي المسلم أمرًا بقصد التشبه بالأجنبي عن دينه بل يأتيه أو يتركه للفائدة
والمصلحة أو عدمهما. ولا أرى من مصلحة المصريين أن يلبسوا قلنسوة الإفرنج
(البرنيطة) ؛ لأن هذا من مضعفات الرجاء باستقلالهم، وأما أهل الترانسفال
وأهل الرجاء الصالح فلا رجاء في استقلالهم لقلتهم وغلبة الإفرنج عليهم في كل
شيء، على أنه ينبغي لهم المحافظة على كل ما لا تضرهم المحافظة عليه من
عاداتهم التي لا تخالف الشرع. أما اتقاء الضرر فواجب شرعًا إن كان محققًا،
ومندوب إن كان مظنونًا، هذه هي القاعدة الشرعية ولكن أكثر الناس عبيد العادات
إلا الذين انسلخوا من التقليد الأعمى.
وقد فصلنا القول في مضار تقليد الأجانب في الأثاث والماعون والزينة في
كتاب (الحكمة الشرعية) ، ونقلنا منه نبذة في منار السنة الأولى، فلتراجع.
__________
(1) الجبة: ثوب طويل مقطوع الكمين , والطيالسة: جمع طيلسان وهو ضرب من أكسية العجم معرب (تالسان) ويقال: تطلس وتطيلس به إذا لبسه , وكانت العرب تتحامى لبسه قبل الإسلام؛ ولذلك كانوا يقولون: يا ابن الطيلسان؛ أي: يا عجمي، لكن الإسلام لا يأمر إلا بتحامي المساوي والمستقبح الضار من عوائد الأمم دون غيره؛ ولذلك تطيلس المصطفى صلى الله عليه وسلم , والميثرة: من مراكب العجم أو شيء كالفِرَاش الصغير يُحشى بقطن ونحوه ويجعل على الرحل ليكون وثيرًا وكانوا أكثر ما يتخذون المياثر من الأُرُجوان - وهو بضم الهمزة والجيم - صبغ شديد الحمرة , وقال الجوهري: هو شجر له نور أحمر أحسن ما يكون، وكأن ذلك الصبغ من ذلك الشجر , والفَرُّوج كتنور: قباء شُق من خلفه وقميص الصغير ,
والبرنس: قلنسوة طويلة. وفي البخاري أن أنسًا لبِس برنسًا أصفر من خز قال القسطلاني في شرحه: إن الناس أو النساء كانوا يلبسون هذه القلنسوة في صدر الإسلام وذكر أنها من لبوس النصارى اهـ من شرح الأحاديث في الكتاب المذكور ملخصًا.(6/710)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
احتفال الجمعية الخيرية الإسلامية
تقيم هذه الجمعية احتفالها السنوي المعتاد في مساء عيد الفطر المبارك وهو
اليوم الذي تستحب فيه الزينة وإظهار السرور، واليوم الذي تترك فيه الأعمال
لأجل تلاقي الناس وتزاورهم، واليوم الذي تنبسط فيه الأيدي بالبذل والإنفاق،
واليوم الذي يجتمع فيه بالقاهرة وجهاء القطر من كل ناحية. واحتفال الجمعية
الخيرية نِعم المساعد على ذلك كله فإنها ستزين حديقة الأزبكية زينة بديعة وتجعل
فيها جميع ضروب اللهو المباح فهناك يكون ملتقى الأصدقاء والمتحابين، وهناك
تكون نزهة الوافدين مع المقيمين، وهناك تكون لذة البذل للأجواد والمحسنين،
وهناك تكون فرحة الفقراء والمعوزين، وهناك ينمو الشعور بحب الوطن في نفوس
جميع الوطنيين، وهناك تكون المزية الكبرى ألا وهي الجمع بين زينة الحياة الدنيا
والعمل بروح الدين.
فإن الله ما شرع الدين إلا لمصلحة العباد وإنما قوام هذه المصلحة بالتراحم بين
الناس والتعاون على البر والتقوى وكل من يشتري ورقة من أوراق احتفال الجمعية
الخيرية يشعر في نفسه بأنه قد بذل ثمنها في إعانة إخوانه الفقراء والمستحقين للإعانة
والمساعدة من حيث قد متع نفسه بأبهج المناظر وأشهى النغمات والاجتماع بمن يحب
من الناس في يوم مشهود تتلألأ فيه على الوجوه أنوار البهجة والسرور وشكر نعمة الله
تعالى. فحيّا الله تعالى أولئك الرجال رجال الجمعية الخيرية لا سيّما ركنيها
الركينين رئيسها الشيخ محمد عبده ووكيلها حسن باشا عاصم، فهما الحاملان لها على
كاهليهما وسائر الأعضاء الكرام أعوان لهما وأنصار.
ونسأل الله تعالى أن يعرِّف المصريين بفائدة هذه الجمعية ويلهم قلوبهم
مساعدتها وشد أزرها فإننا - نحن المسلمين - لا نزال وراء الأمم كلها في التعاون
على الأعمال الخيرية الاجتماعية بعد أن كنا في مقدمتها وناصيتها. وعار على
أغنياء المصريين المسلمين أن لا تنتشر مدارس جمعيتهم الوحيدة ومبراتها في كل
رجا من أرجاء القطر ولن تنتشر إلا إذا اشترك فيها الناس من جميع بلاد القطر،
والله الموفق.
__________(6/716)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ربح صندوق التوفير في إدارة البريد
أشيع في هذه الأيام أن الحكومة استفتت مفتي الديار المصرية في ربا صندوق
التوفير الذي أُنشئ في إدارة البريد، فأفتاها به، والحق أن الحكومة لم تستفتِ في
ذلك؛ إذ لا معنى للاستفتاء في شيء صدر به الأمر العالي ونُفذ منذ سنين. ولكن
بعض رجال الحكومة - ومنهم مدير البوسطة - قالوا للمفتي في حديث عادي: إن
أكثر من ثلاثة آلاف مسلم من مودعي النقود في صندوق التوفير - لم يأخذوا الفائدة
المخصوصة بذلك بمقتضى الدكريتو الخديوي تدينًا، فهل توجد طريقة شرعية تبيح
للمسلمين أخذ ربح أموالهم من صندوق التوفير؟ فقال: إن الربا المنصوص لا يحل
بحال، ولما كانت مصلحة البريد تستغل الأموال التي تأخذها من الناس - لا أنها
تقترضها للحاجة - فمن الممكن تطبيق استغلال هذه الأموال على قواعد شركة
المضاربة، ويقال: إن الحكومة كلفت المفتي ببيان هذا التطبيق لتُغير قانون صندوق
التوفير، وتجعله مطابقًا لأحكام الشريعة رعاية لمصلحة رعيتها المسلمين، وإنه
شرع في ذلك بمساعدة بعض العلماء.
ويقال أيضًا: إنه لما علم الأمير بذلك افترصه، وأمر بتأليف لجنة من علماء
الأزهر ليبينوا كيفية هذا التطبيق على الوجه الشرعي، حتى إذا عُرض عليه
القانون المنقح لإصدار أمره به يكون على بصيرة من المشروع. ويقال: إن اللجنة
التي ندبها الأمير هي غير اللجنة التي تشتغل مع المفتي بالتطبيق الذي طلبته
الحكومة. وفي هذا مزيد عناية ببيان الحق، ولكن الناس فهموا منه أن الأمير على
خلاف مع حكومته في ذلك، فعسى أن يزول سوء الفهم، ويرجع إلى الحق أهل
الوهم.
وإن لنا في موضوع الربا والمصارف قولاً مبينًا، نرجئه لفرصة أخرى.
(تنبيه) تأخر باقي الرد على مقالة الألماني لكثرة المواد.
__________(6/717)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأحاديث الموضوعة في الصيام ورمضان
حديث: (إذا غاب الهلال قبل الشفق فهو لليلة وإذا غاب بعد الشفق فهو
لليلتين) ، قال ابن حِبَّان: لا أصل له.
حديث: (إذا كان أول ليلة من رمضان نادى الجليل رضوان خازن الجنة،
فيقول: لبيك وسعديك. فيقول: هيئ جنتي وزينها للصائمين من أمة أحمد ولا تغلقها
عنهم حتى ينقضي شهرهم. ثم ينادي جبريل: يا جبريل. فيقول: لبيك ربي
وسعديك. فيقول: انزل إلى الأرض فغل مردة الشياطين عن أمة أحمد لا يفسدوا
عليهم صيامهم. ولله في كل ليلة من رمضان عند طلوع الشمس وعند وقت الإفطار
عتقاء يعتقهم من النار عبيد وإماء وله في كل سماء ملك ينادي.. إلخ) الحديث
بطوله لا يصح؛ لأن أصرم راويه كذَّاب.
حديث: (لو علم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن يكون رمضان السنة
كلها) فقال رجل من خزاعة: حدثنا به. قال: (إن الجنة تزين لرمضان من
رأس الحول إلى الحول حتى إذا كان أول يوم من رمضان هبت ريح من تحت
العرش فصفقت ورق الجنة فينظر الحور العين إلى ذلك فيقلن: يا رب اجعل لنا
من عبادك في هذا الشهر أزواجًا تقر أعيننا بهم وتقر أعينهم بنا.. إلخ) . موضوع،
آفته جرير بن أيوب. قال الشوكاني بعد الإشارة إلى الحديث وما قبله في فوائده:
وسياقه (أي: الأخير) وسياق الذي قبله مما يشهد العقل بأنهما موضوعان فلا معنى
لاستدراك السيوطي لهما على ابن الجوزي بأنه قد رواهما غير مَن رواهما عنه ابن
الجوزي؛ فإن الموضوع لا يخرج عن كونه موضوعًا برواية الرواة.
حديث: (إن الله يعتق في كل ليلة رمضان ستمائة ألف عتيق من النار..
إلخ) موضوع، وله روايات بألفاظ أخرى ما زادته إلا نكارة وتوغلاً في الوضع
والبعد من العقل والدين. وقد كنا ذكرنا هذه الأحاديث وغيرها من موضوعات
رمضان في المجلد الرابع، وإنما أعدنا التذكير ببعضها الآن لكثرة تداولها وغرور
الناس بها.
__________(6/718)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الولدان في الحمامات
من العادات السيئة في مصر غشيان الولدان الحمامات في ليالي رمضان فإنك
لتراهم عامة الليل يلعبون ويمرحون فيها وكثير منهم ينامون فيها حتى إذا كانت ليلة
العيد كثروا فيها كثرة فاحشة وزاحموا الرجال في المغطس وغيره والأكثرون من
الفريقين مكشوفو العورات كما هي عادتهم السوءى.
ومن العجيب أن كثيرًا من هؤلاء الولدان يحضرون إلى الحمام مع آبائهم
وقرابتهم أو بإذنهم؛ فأولياؤهم هم - في الحقيقة - أعداؤهم؛ لأنهم يفسدون آدابهم
ويعودونهم على القحة وقلة الحياء.
وإنه ليتعذر تربية الأولاد بغير الاستعانة بالحياء الذي هو أصل الفضائل كلها،
وقد ورد في الحديث المتفق عليه: (إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت) وورد: (إن لكل
دين خلقًا وخلق الإسلام الحياء) رواه ابن ماجه عن أنس وابن عباس بسند صحيح.
__________(6/719)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إعلان الفسق في موسم العبادة
بلغ من استهانة قادة الفسق ودعاة الفحش بمسلمي مصر أن ينشروا لهم في
رمضان شهر الطاعة وموسم العبادة هذا (الإعلان) الذي ننشره بنصه الفاسد ما
عدا اسم المحل وأسماء الفواسق فيه وهو:
(نعلن حضرات العموم أنه قد حضر حديثًا لهذا الطرف حضرات الرقاصات
والمشخّصات الشهيرات اللتين حازا قصب السبق في ميادين هذا الفن وهن ... ،
وبالنسبة لشهر رمضان المعظم وإرضاءً لخاطر زبايننا الكرام قد اتفقنا معهن
بتعاطي صناعتهم التي تأخذ بمجامع القلوب في محلنا المذكور أعلاه ابتداءً من هذه
الليلة. فالأمل من العموم التشريف كي يشنّفوا أسماعهم من الأنغام الشجية النادرة
في الوجود ومَن تأخر ندم، حيث لا ينفعه الندم، وليس الخبر كالعيان والاعتماد
على الله) ! اهـ.
(المنار)
لو بقي لفساق مسلمي مصر بقية من الغيرة الملية أو الحياء الإسلامي أو
الشرف الإنساني لتجنبوا هذه المواضع النجسة المعدة لإعلان الفسق ولو في شهر
رمضان ونحوه من الأيام التي يعدونها مواسم دينية كليلة المولد النبوي، فإننا نتذكر
أننا في السنة التي قدِمنا فيها إلى مصر رأينا إعلانًا مثل هذا (الإعلان) ، فيه أن
فلانة قد استحضرت من الراقصات من استحضرت (لإحياء ليالي المولد النبوي
الشريف) ! وإنها لسخرية من أئمة الفسق بالإسلام والمسلمين، وما جرَّأهم عليها
إلا فساق المسلمين! وإن الإسلام ليتبرأ من هؤلاء الفاقدي النخوة والشرف ولو
أظهروا التبرؤ منه لكان اللوم أخف عليهم من انتسابهم إلى دين جعلوه هزؤًا ولعبًا.
__________(6/720)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بِتْخِسِّي
كلمة شيطانية هدمت ركنًا من أركان الدين في نفوس نساء مصر، هو أقوى
الأركان عندهن وهو ركن الصوم الذي عهدنا النساء أشد تمسكًا به من الرجال. تلك
الكلمة هي كلمة (بتخسي) ، يقول الشيطان للمرأة: لا تصومي بتخسي؛ أي: تذبلي
وتهزلي، ويقول ذلك بعضهن لبعض. والحق أن الصيام من أسباب الصحة، وإذا
فشا ترك الصوم في النساء فهناك الطامة الكبرى في الفساد العام، فليتنبه الرجال
لتلافي هذا الأمر إن كانوا يعقلون.
______________________(6/720)
غرة شوال - 1321هـ
20 ديسمبر - 1903م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوقف من الدين
رد ثانٍ على عزيز أفندي خانكي
مَن يكتب أو يتكلم لطلب الحقيقة أو لتقريرها يستفيد من المناقشة والمعارضة
أكثر مما يستفيد من البحث والتنقيب ويرجع إلى الحقيقة إذا ظهرت له على يد غيره
ويأخذ الحكمة أنَّى وجدها، ومن يكتب أو يتكلم لغرض يرمي إليه، أو فائدة له
يناضل دونها لا يزيده بيان الحق إلا إعراضًا عنه، ولا يفيده تجلي الصواب إلا
مكابرة فيه، فهو يجادل لإخفاء الحقيقة وصرف الأنظار عنها، وتلوين الباطل
بلونها ليشتبه على الناظرين بها، وقد اتخذ هذا التلوين والتمويه صناعة نفر من
(المحامين) الذين نصبوا أنفسهم لقبول الوكالة في كل دعوى والخصام في كل
قضية، والدعوى تكون دائمًا بين خصمين أحدهما محق والآخر مبطل وإنك لتجد
لكل خصم محاميًا فنصف هؤلاء المحامين يخاصمون في الباطل ويجاهدون في
إبطال الحق بالقول المموه والتلوين الذي يخفي ما كان ظاهرًا، ويخدع من كان
ناظرًا، وقد أتقن هؤلاء المحامون الخلابة في الخطابة حتى إنك لتجد القضاة
يشكون دائمًا من خلابتهم في خطابتهم ويقطعون عليهم الكلام ويطلبون منهم عدم
الخوض فيما وراء موضوع الدعوى. ومنهم الذين يستعينون على تقرير ما يريدون
تقريره بالكتابة في الجرائد لإقناع الجمهور بما يدعون؛ لأن لاعتقاد الجمهور أثرًا في
نفوس القضاة والحاكمين، واعتبارًا خاصًّا في وضع القوانين، ولا وزر على
الجرائد إذا نشرت آراء الناس في القضايا العامة وعرضتها بذلك للبحث والنقد
فكثيرًا ما يظهر الحق في ذلك على خلاف ما يريد الباحث الأول أو على وفق ما
يريد.
هذا الصنف أو النصف الطبيعي من المحامين يصور الحجة بشبهة داحضة،
ويمثل الشبهة حجة ناهضة، فإذا عارضته بالنقل في موضوعه قال: إنك من أهل
التقليد، وإذا قلت: هذه بيناتي هن أظهر لك. يقول: لقد علمت ما لنا في بيناتك من
حق وإنك لتعلم ما نريد. ذلك ما سلكه معنا عزيز أفندي خانكي المحامي - كتب
مقالاً في (المقطم) يريد به الطعن في بعض أحكام المحكمة الشرعية في الوقف
على غير ما يريد ويحب فتطرف فيه إلى القول بأن الوقف ليس من الدين الإسلامي
في شيء ولا دليل عليه من كتاب ولا سنة - وما هو من أهل هذا الدين ولا معرفة
له بالكتاب ولا بالسنة - فكتبنا في (المقطم) نعلمه بأن الوقف من أحكام الدين،
وقد جرى عليه أهله من الصحابة والتابعين، وذكرنا له كتب الحديث التي أنكر أن
فيها شيئًا في الوقف. ذكرنا ذلك في (المقطم) بالإجمال وفصلناه في (المنار)
(ج 17، ص 816) بعض التفصيل.
وكنا نظن أنه كتب تلك الكلمة بغير علم وأنه إذا جاءه العلم يقنع ويرجع فإذا
به وقد زاده العلم إصرارًا على رأيه، وتمويهًا له في نظر غيره، فقد كتب مقالة
في الرد علينا جاء فيها شيئًا من الخلابة غريبًا، و (أسمعني من الشعر العجيبا)
بدأها بذم التقليد تمهيدًا للقول بأنه يدعو المسلمين إلى مدنية جديدة بإنكار كون الوقف
من الدين، وجعل أوقاف المسلمين تحت أهواء المحامين وتصرف الحاكمين،
ولإيهام أنني أدعوهم إلى الجمود على اتباع السنة، وذلك تقليد يخالف (بزعمه)
الحكمة، وقد رأى قراء (المنار) أن النبذة التي كتبناها في أحاديث الوقف ردًّا
عليه تتلوها نبذة من نبذ متسلسلة في إبطال التقليد مبتدأة بالوجه السابع والعشرين
ومختتمة بالوجه الرابع والثلاثين من وجوه إبطال التقليد في الإسلام. ويعلمون أن
هذا مذهب المنار منذ أنشئ يقيم البرهان عليه كلما عنت له المناسبة، ولكن
المحامي البارع يريد بذم التقليد أن نترك اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فنبطل ما شرعه وننبذ سيرة الخلفاء الراشدين تقليدًا لرأيه الأفين في أن ذلك من
المدنية والعمران وأن الوقف منافٍ لمبادئ الاقتصاد السياسي.
قال المحامي: إنه كتب ما كتب عن الوقف مستهديًا بعظات التاريخ
مسترشدًا بأصول علم السياسة المالية مستضيئًا بكتب أئمة الفقه محترمًا أصول
وأحكام الدين الحنيف. ثم بعد أن ذكر كتاباته عن فساد التقاضي وخلل المرافعات
في المحاكم الشرعية قال: (فنفر إلينا شيخ رمانا بالجهل وبالجراءة على كتابة ما
كتبنا ونشر ما نشرنا ويستفز رجال الشرع (على) تكذيبنا، ولو أنه قرع الحجة
بالحجة والبرهان بالبرهان لهان إلا أنه اكتفى بالسباب والمهاترة عن الجدال
والمناظرة (سامحه الله) ! اهـ.
ونقول: من قرأ ما كتبنا علم أننا لم نرمِهِ بما قال ولم ندعُ أحدًا إلى تكذيبه في
كل ما كتب ونشر كما يوهم إطلاق عبارته وإننا وكلنا مناقشته في شأن المحاكم إلى
أهلها ولم نتعرض إلا لغلطه في قوله: إن الوقف ليس من الدين في شيء وإنه لم يرد
فيه حديث إلا ما انفرد به ابن ماجه في وقف عمر. وأظهرنا العجب لجراءته على
هذا النفي المطلق، واعتذرنا عنه بأنه لم يطلع على كتب الحديث وأنه لا لوم عليه
في ذلك؛ إذ قلنا: (إن هذا ليس طعنًا في الكاتب فإنه ليس عالمًا مسلمًا فيعاب بعدم
الاطلاع على السنة..) إلخ، فأين البراهين التي جاء بها على نفيه ما عدا حديث
ابن ماجه فيطالبنا بقرع البرهان بالبرهان وكيف ساغ له أن يسمي اعتذارنا عنه
سبابًا ومهاترة؟ لقد ظهر أنه يريد بهذه الألفاظ إلهاء خيالات القارئين، كما هو شأن
الصنف الذي قلنا: إنه نصف المحامين.
ولقد كان منه بعد تعميته وإبهامه، وتعريضه وإيهامه، أن زعم أنه عاد إلى
تعزيز رأيه الذي فندناه، ونفيه الذي أثبتنا سواه، فبدأ هذا التعزيز بكلام في تاريخ
الرومانيين والفرنسيين وكلام في حرية المعاملات وسهولة التجارة ورأي له في
استحسان تدريس علم الاقتصاد السياسي في المدارس الثانوية، وجعل كل هذا
تمهيدًا لرد قولنا: إن غير ابن ماجه من المحدثين رووا أحاديث في الوقف خلافًا لنفيه
المطلق، فما هذه الحجج والبراهين عند هذا الصنف من المحامين؟ ! اللهم أفرغ
الصبر الجميل على قلوب القضاة الذين يبتلون بسماع أمثال هذه الحجج والبينات.
ثم جاء بعد هذه التمهيدات العجيبة بالحجة البالغة عنده على نفي كون الوقف
من الدين وهي أن القاضي شريحًا قال: (إن الوقف غير جائز شرعًا) ، وما قال
القاضي شريح ذلك على إطلاقه كما يجيء، ولئن قاله فلا يُلتفت إلى قوله؛ لأنه
رأي له واجتهاد منه ولا رأي ولا اجتهاد مع النص عن الشارع وإجماع أئمة الفقه
الذين يستضيء محامينا بكتبهم فتعظيمه وتبجيله بعد ذلك لشريح لا يغني عنه شيئًا،
وكذلك إيهامه الجاهلين بأنه من الصحابة، إذ قال: إنه قام بعد وفاة النبي عليه
السلام يقول للملأ جهارًا: إن الوقف غير جائز شرعًا. والصواب أنه من التابعين
الذين لا يحتج أحد بآرائهم وما كان لمثله أن يعلِّم الصحابة ما يجوز شرعًا وما لا
يجوز. على أن الصحابي لا يحتج الجمهور برأيه أيضًا.
قال المحامي البارع: إن القاضي شريحًا بنى رأيه في عدم جواز الوقف مطلقًا
على أن الوقف فيه حبس عن فرائض الله المنزلة في كتابه. ونحن نرد هذا بأنه لم
يصح عنه كما سيجيء وبأن الحبس عن الفرائض المنصوصة إنما يتحقق ويكون
ممنوعًا إذا قصد الواقف حرمان بعض الورثة. من حقه في التركة كله أو بعضه لما
في ذلك من الإيذاء. ومن أسباب العداوة والبغض، فإذا انتفى هذا القصد كأن يقف
على شيء من أعمال الخير كما وقف الصحابة عليهم الرضوان فأي شيء في هذا
يقضي بالمنع؟ أما لو كان هذا ممنوعًا لكان كل عمل خيري وكل وصية للمنافع
العامة كالمدارس والملاجئ وترقية العلم من المحظورات التي لا تجوز ولا تحل
لأنها تحبس المال عن الورثة. فهل يقول المحامي البارع بهذا؛ لأن له الآن حظًّا في
زلزال أوقاف المسلمين؟ وأما زعم أن أوقاف الصحابة لم تجز إلا لأن وُرَّاثهم
أجازوها كما نقل عن العيني فهو باطل؛ لأن أحدًا لم ينقل في تلك الأحاديث أنهم
استجازوا ورثتهم أو استشاروهم ولم يوجد في روايات الأحاديث أن النبي عليه
الصلاة والسلام أمرهم بذلك أو اشترطه عليهم فالقائل به مدَّعٍ بلا دليل.
وقد جاء المحامي البارع بشبهة على كون الوقف ليس من الدين حشاها بين
دعوى القاضي شريح ودليله وإننا نذكرها متأخرة رعاية للنسق ونردها على قائلها
بالسند وهي أن الفقهاء بحثوا في مشروعية الوقف وعدمها قال: فدل ذلك على أن
المسألة خلافية بين نحارير العلماء أنفسهم، ونقول: إن العلماء النحارير قد نقلوا
الإجماع على مشروعية الوقف ولزومه، قال النووي في شرح صحيح مسلم: إن
المسلمين أجمعوا على أوقاف المساجد والسقايات. وهو يتضمن أن مطلق الوقف
مجمع عليه. وأطلق القرطبي فقال: رادّ الوقف مخالف للإجماع فلا يلتفت إليه.
لا يخفى أن إثبات الإجماع في غير الأمور العملية متعسر ومتعذر وقد علمنا
بالتواتر أن المسلمين يقفون من عهد النبي وأصحابه إلى هذا اليوم الذي جاءنا فيه
محامٍ نصراني يريد إبطال الوقف في الإسلام أو إباحة التصرف بالأوقاف تمدينًا
للمسلمين بزعمه وقطعًا لطرق الخير والبر في الواقع ونفس الأمر أو تحكيمًا للحكام
فيها، ولا حجة له إلا أن شريحًا من التابعين لم يكن يقول بالوقف؛ لأنه حبس عن
الفرائض وإننا لنوافق القاضي والمحامي في هذه الجزئية ونقول للناس: لا يجوز
لكم أن تقفوا أوقافًا بقصد منع ورثتكم من الفرائض التي فرضها الله لهم؛ بل افعلوا
الخير للخير كما أمر الله ورسوله. ولعل هذا يرضي القاضي في الآخرة ولا
يرضي المحامي في الدنيا.
ثم ذكر المحامي البارع أن: (أقطع برهان للدلالة على أن نظام الوقف يقبل
التغيير والتعديل شرعًا ما رواه العيني في شرح البخاري من أن عمر بن الخطاب
(رضي الله عنه) قال: لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم
لرددتها، فلما قال عمر هذا دل على أن نفس الإيقاف للأرض لم يكن يمنعه من
الرجوع فيها؛ وإنما منعه من الرجوع فيها أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
أمره فيها بشيء وفارقه على الوفاء به؛ فكرِه أن يرجع عن ذلك) اهـ نقل
المحامي.
ونقول: إن كلمة عمر في الرجوع عن الوقف منقطعة الإسناد؛ لأن قائلها ابن
شهاب لم يدرك عمر وقد أوردها بعض الحنفية حجة لقول أبي حنيفة: إن قول النبي
لعمر: (احبس أصلها) لا يستلزم التأبيد بل يحتمل أن يكون أراد مدة اختياره. قال
الحافظ في الفتح: ولا يخفى ضعف هذا التأويل. ولا يفهم من قوله: (وقفت
وحسبت) إلا التأبيد حتى يصرح بالشرط عند من يذهب إليه، وكأنه لم يقف على
الرواية التي فيها: (حبيس ما دامت السموات والأرض) ثم ذكر نقل القرطبي
الإجماع على الوقف. فالصواب أن عمر يريد - إن صح النقل - أنه لو لم يذكر
ذلك للنبي فيجعله النبي شرعًا مقررًا لكان رجع عنه ولكنه صار ممنوعًا من
الرجوع شرعًا، لا أنه كره الرجوع كراهة لما فيه من عدم الوفاء ولضعف تأويل
أبي حنيفة (رحمه الله) هنا خالفه صاحباه ووافقا الجمهور. فظهر أن قول عمر
حجة على أنه لا يجوز الرجوع في الوقف بعد تأبيده. ثم ذكر ما قاله الحنفية أيضًا
من أن قول النبي عليه الصلاة والسلام لعمر: (إن شئت حبست أصلها) لا يستلزم
إخراجها عن ملكه.
ومن الغرائب أن يتشبث أحد بمثل هذا، وليس في هذه الرواية إلا أن الوقف
قربة اختيارية من قرب الدين، وليس مفروضًا على المسلمين، وهذا مما لا خلاف
فيه. وأما كون العبارة تفيد جواز الرجوع عن الوقف، فمما لا وجه له ولا يذهب
إليه إلا المتعلل بالأوهام فإنه فهم تتبرأ منه العربية.
ثم انتقل المحامي البارع من هذا إلى إيهام أبعد منه عن الصواب فاستدل على
زعمه السابق أنه لم يرد في الوقف إلا حديث عمر بعدم ذكر الحديث في الموطأ -
وزعم أنه أصح كتب الحديث - وعدم ذكر غيره في صحيحي البخاري ومسلم.
وهو مخطئ في ذلك ولا يعدو خطأه سببين اثنين: أحدهما: قلة اطِّلاعه واطلاع
شيخه الذي دله على هذه الشبه في العيني وهو الذي اعتذرنا به عنه أول مرة وسماه
شتمًا، وثانيهما: تعمده الكذب مع العلم به وهذا ما لا نرضاه له، فهل يمكن أن يكون
لهذين السببين ثالث؟ الموطأ ليس أصح الكتب بل أصحها جامعا البخاري ومسلم
باتفاق المحدثين ولكن الموطأ ومسند الإمام أحمد أقدم من الصحيحين والأحاديث
الدالة على مشروعية الوقف متفق عليها، وقد ذكرنا في النبذة الأولى التي نشرناها
في الجزء السابع عشر أن حديث وقف عثمان ذكره البخاري تعليقًا وأن حديث وقف
أبي طلحة رواه أحمد والبخاري ومسلم ولكننا قلنا هناك: (الشيخان) فلعله لم يفهم أن
المراد بهما البخاري ومسلم إلا أن يدعي أنه لم يطلع على تلك النبذة، وذكرنا فيها
حديث الترغيب في وقف المنقول عند أحمد والبخاري وقلنا: إن حديث وقف خالد
لأدراعه وأعتاده صحيح، ونقول الآن: إنه في البخاري ومسلم وهو متفق عليه.
وذكرنا أن حديث الترغيب في الوقف على الإطلاق - وهو الصدقة الجارية
بالاتفاق - قد رواه أحمد والبخاري.
وحسبه هذا إن كان منصفًا لا سيما مع قولنا: إن الحديث إذا صح نهض دليلاً
سواء كانت الواقعة - إن كانت واقعة - واحدة أو تعددت. وأذكر أن مالكًا روى
بعض أحاديث الوقف؛ لأنه مذكور في سند بعضها. وأتباعه المالكية مجمعون مع
المسلمين على مشروعية الوقف فعدم ذكر أحاديثه في الموطأ لا ينهض حجة على أن
الإمام مالكًا لا يقول به فإن كثيرًا من أحكام الدين المتفق عليها لا ذكر لها في الموطأ.
ثم انتقل المحامي البارع إلى معارضة الأحاديث المجمع على العمل بها تواترًا
بحديث اعترف هو أنه شاذ وهو حديث شريح: (لا حبس عن فرائض الله) وذكر
له سند إلى شريح وليس فيه أن شريحًا أسنده إلى أحد من الصحابة ولا رفعه. ولو
رفعه بدون ذكر الصحابي لعُدَّ من مراسيله والجمهور لا يحتجون بالحديث المرسل
مطلقًا ومن قال بأنه حجة يشترط في ذلك شروطًا ليس من السهل تحقيقها لا سيما
بعد العلم بأن شريحًا يقول هذا لتأييد رأيه على رأي الجمهور. ولو سلمنا بأن
الحديث مسند مرفوع صحيح سالم من الشذوذ لما كان فيه من حجة لما علمت من أن
المتبادر منه منع القصد إلى حرمان بعض الورثة من الإرث.
على أن الرواية عن شريح فيها مقال وإن نقل المحامي عن العيني أن رجالها
ثقات فقد قال الحافظ الذهبي في الميزان: إن ابن يونس قال في راويها سليمان بن
شعيب بن الليث: إنه يروي مناكير. وإن العقيلي قال فيه: حديثه غير محفوظ، وهو
الواضع لحديث: (أبو بكر وزيري يقوم في الناس مقامي من بعدي وعمر ينطق
بالحق على لساني وأنا من عثمان وعثمان مني وعلي أخي وصاحبي يوم القيامة) ،
وإن كان سليمان بن شعيب في الرواية ليس هو حفيد الليث مع أن المتبادر أنه هو؛
لقولهم: سليمان بن شعيب غير أبيه، فهو بلا شك سليمان بن شعيب السنجري
الذي يروي عن سفيان الثوري وقد قال فيه ابن عدي: ضعيف يسرق الحديث،
فعلم من هذا أن الرواية عن شريح موضوعة أو واهية وأنها لو صحت وسلمت من
العلة والشذوذ لما كان فيها دليل على المراد.
وهذا كل ما نقل عن شريح، قال المحامي البارع: ويؤيد هذا ما رواه
الطحاوي أيضًا من حديث عكرمة عن ابن عباس قال: (سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعد ما أنزلت سورة النساء نهى عن الحبس) وأخرجه البيهقي أيضًا
فمن هذا يعلم القارئ أن رجال الدين في صدر الإسلام كانوا يتناقشون ويتناظرون في
مشروعية الوقف وأن منهم من رأى أن الوقف غير جائز شرعًا. اهـ
أقول: أما الحديث فضعيف؛ لأن في إسناده عبد الله بن لَهيعة عن أخيه
عيسى وهما ضعيفان، ولا نظر لتوثيق أحمد لعبد الله؛ لأن الجرح مقدم على التعديل
وإنما جرحه الحفاظ مع علمهم بقول أحمد فيه، ولا لتوثيق ابن حبان لعيسى لما ذكر،
ولأنه متساهل يعتد بجرحه ويتثبت بتعديله كما قال الحافظ. ويؤيد ضعفه استمرار
المسلمين كافة على الوقف من ذلك اليوم إلى هذا اليوم، وأما ما فرعه عليه أو على
مجموع ما تقدم من أن رجال الدين في صدر الإسلام كانوا يتناقشون في مشروعية
الوقف فهو باطل ولم يوجد ما يدل عليه إلا أنه ادعاه أولاً ثم ادعاه آخرًا فهو يؤيد
الدعوى بالدعوى.
بقي أننا علمنا من عبارات المحامي البارع أنه اعتمد في تمويهاته على شرح
العيني على البخاري وقد نقل ما نقل عنه مبتورًا ولو تصفح الجزء الذي نقل عنه
أو الفهرس لعلم أن في البخاري كثيرًا من الأحاديث في الوقف. وفي الورقة التي
نقل عنها من شرح العيني أنه لا خلاف بينهم في جواز الوقف وفصل ذلك ثم بيَّن
موضع الخلاف فقال (ص 469، ج 6) : (واختلفوا في جوازه مزيلاً لملك
الرقبة إذا لم يوجد الإضافة إلى ما بعد الموت ولا اتصل به حكم حاكم، فقال أبو
حنيفة: لا يجوز حتى كان للواقف بيع الوقف وهبته وإذا مات يصير ميراثًا لورثته
وقال أبو يوسف ومحمد والجمهور: يجوز حتى لا يباع ولا يوهب ولا يورث) ثم
قال: (وفيه - أي: الحديث - أن الوقف مشروع خلافًا للقاضي شريح) فعلم أنه لم
يختلف أحد من المسلمين في مشروعية الوقف إلا ما نقل عن القاضي شريح ولعله
كان لعدم علمه بالأحاديث الصحيحة فيه، وجعْل عمر شريحًا قاضيًا وإقرار الخلفاء
بعده إياه على القضاء في الكوفة لا ينافي ذلك فإن الرواية كانت في العراق قليلة
على عهده. وأما زعم المحامي أن شريحًا قام ينادي في الناس بمنع الوقف ويجادل
ويناضل فيه فغير صحيح وما ذكر من الحجج عنه لم يرو منه إلا قوله: (لا حبس
عن فرائض الله) ؛ وهي شبهة وقد علمت ما فيها متنًا وسندًا. وإن العبث بأحكام
السنة ليس سهلاً كالعبث بالقوانين. فلا تتطاول إليها خلابة ذلك الصنف من
المحامين؛ لأن لها أنصارًا يؤيدونها إلى يوم الدين.
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
__________(6/729)
الكاتب: سائح بصير
__________
بلرم - صقلية
ملاحظات سائح بصير
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا
فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46)
قضت المقادير أن أغير خطة سفري عن طريق مرسيليا إلى طريق إيطاليا
وكان لي في ذلك خطان من السير: أحدهما يمر بالروم ثم يصل إلى نابولي ثم
تكون الإقامة في نابولي نحو أربعة أيام ويعدو المركب بنا إلى ماسينا ومنها يذهب
إلى الإسكندرية، والآخر ينتهي عند بلرم (أو باليرم) وتكون الإقامة خمسة أيام
نذهب بعدها إلى ماسينا كذلك، وكان بودي لو ذهبت مع الخط الأول فكنت رأيت
بلدانًا كثيرة وآثارًا عظيمة تزيد في علمي كثيرًا مما لم أعلم إلى اليوم، غير أن بعض
أصحابي قال لي: إن بلرم هي عاصمة صقلية ويوجد فيها من الآثار العربية ما يهم
العربي أن يراه وفيها داران للكتب لا تخلو كل منهما من كتب عربية قديمة ربما
يستغرق الاطِّلاع عليها زمنًا مثل الزمن الذي تقضي الضرورة بصرفه إلى يوم
السفر إلى ماسينا، ففضلت النزول إلى بلرم ولا أذكر الآن شيئًا مما لاقيت من
الحمالين وغيرهم من مستقبلي المسافرين ولكن أعود إليه.
بعد أن أخذت مكانًا في نُزُل سنترال بشارع رومه خرجت لإيصال بعض
رسائل التوصية إلى من أرسلت إليهم فلقيت منهم ما سرني وكان أحدهم موصى بأن
يسهل لي طريق زيارة المكتبة العمومية ودار المحفوظات الرسمية والتمكن من
رؤية ما يكون فيها فوعدني بالمجيء في الغد لمرافقتي إلى المكتبة. ثم بعد ذلك
بدأت بزيارة قصر الملك ولا حاجة بي إلى وصفه فإن ذلك من شأن صاحب جريدة
أو سائح يطلب إظهار البراعة في حسن الوصف وسعة العبارة.
وغاية ما أقول إنه قصر (أو سراي) واسع كبير البيوت باهر الزينة والأثاث
كسائر قصور الملوك في أوربا أو في غيرها من البلاد الشرقية والغربية مما تنفق فيه
الأموال بحساب وبغير حساب ولا شيء منها من كد الملك أو الأمير، وإنما هي من
أموال الرعية وكسب الحفاة العراة الذين لا يجدون ما به يستترون ويشتهون، لو أنفق
على جدران أبدانهم وأركان أجسادهم جزءٌ من المليون مما أنفق على حيطان تلك
القصور وزواياها وسقوفها، ما أنا بذاكرٍ شيئًا من وصف ذلك الغنى في بلد الفقر ولكن
أذكر ما رأيت فيه مما يحب الشرقي أن يطلع عليه إما لعبرة وأما لفكاهة.
ذهب بي حارس القصر أولاً إلى حيث توجد كنيسة الملك ولا حاجة إلى وصفها
كذلك - إلا لو كان الله يحب أن تزين له معابده وتنقش لمجده مساجده كما يحب
ذلك ملوك الأرض - فوجدت في الممر الموصل إليها على الحائط المتصل بالكنيسة
حجرًا قد كتبت عليه هذه العبارة:
(خرج الأمر من الحضرة الملكية المعظمية الرجارية العلية أيد الله أيامها
وأيد أعلامها بعمل هذه الآلة لرصد الساعات بمدينة صقلية المحمية سنة ست
وثمانين وخمسمائة) ثم في أعلى الحجر سطور بالحرف اليوناني يظهر أنها ترجمة
هذه العبارة والحضرة الرجارية هي حضرة الملك رجار أو (روجير) النُّرْمَنديِّ
الذي دخل جزيرة صقلية وفتحها على العرب وكان لسانه الرسمي في حكومته
اللسان العربي واليوناني أما ميله في البناء والزينة فكان إلى الرسم اليوناني.
ولهذا الملك آثار كثيرة في بلرم ويوجد كثير من المحررات العربية والصكوك
مما كتب في أيامه أن العرب كانوا في زمن النرمنديين ممتعين بحرية تامة في شعائر
دينهم وتصرفهم في شؤونهم وإن كان هذا الملك قد هدم مساجد كثيرة لنقل أعمدتها
الجميلة إلى الكنائس التي رأى تجديدها في المدينة ويظهر من العبارة المرقومة على
الحجر أن هذا النرمندي كان عندما دخل البلاد ذهب مذهب أهلها من العرب في
المدينة ولم يحتقر ما وجد من آثار العلم فكان يأمر بصنع الآلات الفنية والفلكية ويساعد
القائمين بعملها.
رأيت في خزينة الجواهر من قصر الملك صُندوقًا عربيًّا في طول نحو ثلثي
ذراع وارتفاع ثلاثة أرباع الذراع صنع من ثمانِ مائة سنة على ما يقول الحارس
وهو مغشى بالنقوش الذهبية من أجمل ما تراه عين الآن وقيمته عند الدولة خمس
مائة ألف فرنك ورأيت في أحد بيوت القصر بابًا من الحديد مطليًّا بطلاء أصفر
جميل من أجمل ما يصنع من الأبواب وهو من صنع أيدي العرب أيام دولتهم.
رأيت بيتًا من بيوت القصر فيه صور نواب الملوك في عهد البربون بعد
النرمنديين ومع كل نائب منهم كردينال كما كان للملوك كردالة يصحبونهم
ويشركونهم في كثير من شؤون الملك لذلك كان النائب عن الملك يصحبه كردينال
يرجع إليه في أمور دينه وفي أعماله السياسية أيام كانت الأحكام المدنية والسياسية
مما يدخل فيه رجال الدين كما نقول عندنا (المفتي أو شيخ الإسلام) في عهد الملوك
الذين لا تسمح لهم أوقاتهم بتعليم العلوم الدينية فيحتاجون إلى من يرجعون إليه من
علماء الدين. غير أن المفتي وشيخ الإسلام إنما يجيب عما يسأل عنه أو يؤدي ما
كُلف به، أما الكردينال فكان يبتدئ المشوار ويقترح المطلب ويقيم نائب الملك على
المذهب ويكف يده عن العمل لا يرضاه ويحمله على بسطها فيما يتوخاه فكانت
السلطة الحقيقية مدنية سياسية دينية في نظام واحد لا فصل فيه بين السلطتين وهذا
الضرب من النظام هو الذي يعمل الباباوات وعمالهم من رجال الكثلكة على إرجاعه؛
لأنه أصل من أصول الديانة المسيحية عندهم، وإن كان ينكر وحدة السلطة الدينية
والمدنية مَن لا يدين بدينهم.
كان مما قيده بعض أصدقائي في جريدة الأمكنة التي يرغب في رؤيتها محل
يسمى بالدوم؛ أي: القبب فذهب إليه وإذا هو الكنيسة الكبرى التي تسمى كاتيدرال،
رئيسها هو مرجع رؤساء بقية الكنائس في المدينة أو الولاية وهي من عظمة البناء
وبهجة الزينة على ما يطول شرحه وأصل هذه الكنيسة الكبرى مسجد باقٍ على ما
هو عليه حتى بابه الخشبي الجميل، غاية ما في الأمر أنه زِيدتْ فيه الصور
والتماثيل. وضروب أخرى من الزينة الكنائسية ويمكن للناظر أن يتفرس ذلك
بمجرد رؤيته من الظاهر؛ لأن رسم البناء على الطريقة العربية في عامة المساجد.
زرت بعد ذلك ديرًا يسمى دير سانت جواني وهو مما كان قد كُتب في جريدة
الأماكن ولم أر فيه شيئًا سوى أن أسفل الدير كان مسجدًا فلما جاء النرمنديون حولوه
إلى كنيسة بناها راجار ونقل إليها هذه الأعمدة من المساجد التي خربها لما أعجبه
من أعمدتها، ثم أخذني السادن بعد ذلك إلى قبة قريبة من الكنيسة وقال لي: إنها على
شكل عربي ولما رأيتها خالية من الزينة المعتادة رؤيتها في أماكن العبادة النصرانية
سألته في ذلك فأخبرني أن الأسبانيين عندما غلبوا على سيسيليا سلبوا ما كان في
هذه الكنيسة من المورابيك (زينة من أجمل ما تزين به الأماكن والأدوات تصنع
من قطع دقيقة من الحجارة على أشكال مختلفة بحيث يصور بها جميع ما يمكن
تصويره من الرسوم والصور) وحملوا ذلك إلى بلادهم، وقال: إنهم لم يقتصروا
على ذلك؛ بل سلبوا الكنائس كل ما كان فيها من المصنوعات الفضية كذلك، فقلت
لصاحب كان معي: يظهر أن كل فاتح يرى من الواجب عليه أن يفسد شيئًا من عمل
من سبقه فكل منهم يقوم بما رآه واجبًا عليه.
عرفت قسيسًا حلبيًّا معلمًا للعربية بمدرسة دير الكبوشيين في بلرم - وسنأتي
على ذكره - فمما أرشدني إليه رؤية بقية من قصر يسمى العزيزة وهو اسمه في
الطليانية، فذهبت معه إليه وإذا هو قاعة كبيرة فيها سلسبيل ماء بنيت على نمط ما
كنا نسميه عندنا (القاعات الحرمية) حيطانها مزينة بالموزاييك من أجمل ما تحب
عين أن تراه ولم يبق من القصر مكان ينظر إليه السائحون إلا تلك القاعة.
أما أعلى القصر فيسكنه أناس من أهل المدينة وقد دخل بتمامه في ملك بعض
الأغنياء. والقصر من بناء الملك راجار النرمندي بناه لابنته عزيزة. وعلى مقربة
من هذا القصر قبة يقول القسيس: إنها مسجد عربي فأخذنا نحوها فإذا هي في بستان
كبير قد أغلق بابه وقيل لنا: إن خادم البستان فيه، وذهب ذاهب ليناديه، وطال بنا
الوقوف، واجتمعت علينا من الصغار والنساء صفوف أو زحوف، جلبتهم علينا
تلك العمامة وصاحبتها الجبة، وكلما طردنا فوجًا أقبل فوج، أو نجونا من موج علا
علينا موج، إلى أن جاء رجل قيل: إنه حارس البستان، وبعد قيل وقال في فتح
الباب، واحتياجه إلى إذن من صاحب البستان، رضي بالفتح، طمعًا في النفح،
فدخلنا ورأينا صعوبة جديدة في فتح القبة فذللناها. القبة من قباب المشائخ التي
يقيمها المسلمون على قبور الأولياء أو الأمراء على خلاف ما يأمر به الدين وأظن
أنها على قبر من هذه القبور وليس فيها من أثر عربي سوى شكلها هذا.
كنيسة موريالي وتساهل العرب وأين هم اليوم؟ !
مما رأيته في بلرم (صقلية) كنيسة موريالي وجميع سقفها والأغلب من
جدرانها مغشى بالموزاييك ألوانًا وأشكالاً من أبهى ما يبهج الناظر، وأجمل ما يسرح
فيه الخاطر، وفي ناحية منها قبة تعرف بمعبد الصليب فيها من التماثيل وضروب
الزينة ما يقصر عنه الوصف. وأهم ما يذكر في شأنها أنها مبنية في القرن السادس
من التاريخ المسيحي فيكون لها نحو ألف وثلاث مائة سنة والمصنوعات الخشبية
الجميلة محفوظة من ذلك العهد لم يجرؤ السوس على قرض شيء منها ببركة العناية
والاهتمام بالتنظيف وأما ما يقول به بعض الحذاق في معرفة طبائع هذه الهوام
الدقيقة من أنها تعرف الصلب وما خصص له من الأدوات وتشعر باحترام تلك
الصور والتماثيل التي صورت في تلك الأخشاب وأنها بذلك صارت مسيحية
كاثوليكية فلا يباح لها قرض الخشب المسيحي، ثم إن اعتقادها بحرمة القرض،
حملها على العمل فخالفت شهوة الأكل قيامًا بالفرض - فلا أظنه في غاية الصحة،
بل ولا في أولها كذلك. ويقال: إن الكنيسة من بناء الملك كيليولمو الثاني وقبره فيها
صندوق من حجر فيه جثته.
ومن ذلك تعرف أن العرب رحمهم الله لم يمسُّوا هذه الكنيسة بسوء مع عظمة
سطوتهم وامتداد ملكهم في سيسيليا، وتلمح من هذا أن العرب - وإن فسق كثير منهم
عن أمر ربهم - فروح الدين الإسلامي كانت تنوس في كثير من أعمالهم، نهى
الدين عن هدم الكنائس إذا لم تكن مربضًا لشر يخشى خطره على الدولة فحفظوا
لرعاياهم كنائسهم ومعابدهم ولم يصنعوا بها ما صنع غيرهم ممن جاء بعدهم، ولم
يريدوا أن يقتفوا أثر خصومهم ممن كان يهدم مساجدهم، ويخرب معابدهم، فحيا الله
أيامهم.
لا جرم أن الإسلام عربي وأحق الناس برعايته والوقوف عند حدوده بعد
فهم حقيقته هم العرب فأين هم؟ يمكن أن يقول قائل: إنهم في جزيرة العرب أو في
الشام أو في العراق أو في مصر أو في تونس والجزائر أو في المغرب الأقصى،
أفلم يكفك كل هذا العدد في أكثر من ألف بلد، حتى تقول: أين هم؟ ولكني أقول له:
إنما يكون القوم أولئك القوم إذا بقيت لهم أخلاقهم، وحياة أرواحهم، فإن كان لم يبق
إلا أشباح تشبه أشباحهم فليسوا بهم، فلي الحق أن أقول عن العرب: فأين هم؟
دير الكبوشيين ومدرستهم ومقبرتهم في بلرم
وفيه بحث الدعوة إلى الدين وإحياء اللغة
للكبوشيين دير في بلرم فيه معبد ومدرسة ومقبرتان. أما المعبد فهو المعبد لا
يحتاج إلى الكلام عليه ولا يختلف عن غيره من المعابد، وأما المدرسة فهي لتعلم
اللغات والفنون والعلوم التي يحتاج إليها المرسلون الذين يكلفون بالدعوة إلى الدين
المسيحي والتبشير بالإنجيل ونشر ما تقتضي الغيرة الدينية نشره في الأقطار النائية
كبلاد العرب والترك والفرس وغيرها. ومما يعلم فيها اللغة العربية، وأستاذها
الراهب جبرائيل ماريا الكبوشي وهو من حلب وتعلم العربية في بيروت وأخبرني
أن من أساتذته صديقنا الشيخ سعيد الشرتوني صاحب (أقرب الموارد) في اللغة.
لاقيت ذلك الراهب وحادثته في شأنه والزمن الذي قضاه في إيطاليا والداعي
إلى الإقامة فيها فتبين لي أنه جاء إليها ليخدم دينه هذه الخدمة - تعليم اللغة العربية
لنشر الدين في بلاد العرب مثلاً. وكان يتحرى في كلامه قواعد اللغة العربية بقدر
الإمكان فحمدت منه ذلك. كأنه اعتقد أنه إنما تعلم العربية لينتفع بها في منطقه وإن
كان في بلاد إيطاليا وعمل بما اعتقد، وما كان أسهل عليه أن يكلمني بالحلبية كما
يكلمني البيروتي بالبيروتية والتونسي بالتونسية ولا يبالي أكنت أفهم أم لا أفهم كما
لا يبالي الكثير ممن ذكرناهم.
وفي هذه المدرسة تعلم العلوم اللاهوتية كذلك للغاية التي ذكرناها ولا حاجة
إلى ذكر ما فيها من العلوم فإن ما تحتاج إليه للبراعة في نشر الدين والدعوة إليه
معروف عند من يعرف ما هو الدين ويتصور معنى الدعوة إليه. أما من لا يعرف
ذلك فلا نكتب له حرفًا واحدًا من هذا الكلام، فإن قال قائل: فلمن تكتب ما تكتب؟
قلت: إن فقد الفاهم فإنني أحفظه لنفسي والسلام.
هل خطر ببالنا - وكل منا يدعي الغيرة على دينه ويرى أنه الحق الذي يجب
على الناس كافة أن يخلصوا أرواحهم باعتقاده والأخذ بأصوله - أن ننشئ فرعًا من
فروع التعليم لنشر الدين وتقويم أصوله بين أهله فضلاً عن نشره بين من ليسوا من
أهله؟ أريد من أهله أولئك الذين لبِسوا رداءه واعترفوا أن الدين دينهم سواء عرفوه
حق معرفته وهم في غنى عن الدعوة إليه، أو جهلوه أو انحرفوا عن طريقه وهم
أحوج الناس إلى الإرشاد وأشدهم افتقارًا إلى من يحول إليه نظرهم، ويعطف
عليه اختيارهم؟
هل مر ببالنا أن نهيئ لهذا الفرع من التعليم ما يلزم له من فنون وأساتذة لتلك
الفنون كما يهيئ هؤلاء ما يهيئون لتعليم من يقوم بدعوة من ليس من دينهم إلى
دينهم؟ ما كان أحوجنا إلى إنشاء ضرب من التعليم خاص بمن يكلف بإرشاد من
يسيء إلى الدين باسم الدين ومن يهدم شرف الدين بعمل ينسبه إلى الدين؟
ألا يحق لنا أن نطلب من أولئك الذين صعدت بهم ألقاب الرئاسة الدينية إلى
أسمى المنازل أن يفكروا في هذا الأمر، ويقوموا بما يجب عليهم منه، إن لم يكن
لمصلحة الدين فلمصلحة أنفسهم، فإن في تقوية جانب الدين تقوية لمساندهم، وفي
تبصير العامة بشؤون الدين تمكينًا لحرمتهم في نفوس الدهماء وتسجيلاً لسيادتهم
عليها؟ أليس لنا على ضعفنا أن نذكرهم بالأمر الإلهي القارع للقلوب المزعج للهمم
في قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ المُنكَرِ 0000} (آل عمران: 104) إلخ فهل يليق بهم أن يصموا آذانهم عن
هذا الخطاب ولا يخشوا أن يكون التصامّ عنه بمنزلة الخروج من مدلول كاف
الخطاب ومشعرًا بأنهم ليسوا من أولئك الذين خوطبوا به؟ لنا بل علينا أن نطالبهم
بذلك وأن نزيد عليه مطالبتهم بالنظر في إنشاء فرع لتعليم ما يلزم لنشر الدين بين
بقية الأمم إن كانوا يعتقدون أن دينهم هو الحق فإن السكوت عن الدعوة إلى الحق
رضاء بالباطل. أولئك الملوك والأمراء الذين لا فضل لشيء عليهم في تمتعهم
بملكهم وإخضاع رعاياهم لسلطانهم مثل فضل الدين لِمَ لا يقتطعون شيئًا من مالهم
وقطعًا من زمانهم ينفقونها في الاشتغال بإحياء روح الدين، ولا يكتفون بغش العامة
بالمحافظة على رسوم كلها أو جلها لا يعرفه الدين؟ أفلا يجب عليهم أن يسعوا في
زيادة تمكين قوتهم، وتعزيز سلطتهم؟ اللهم إلا إذا ظن هؤلاء وأولئك أن الدين
حيوان يمشي على رجلين يطلب رزقه من القلوب حيث يجد الحاجة إليه، ويغدو
إلى مرعاه من النفوس متى اشتد الجوع عليه، فإذا قصر في ذلك حتى أهلكه الجوع
ومات فإنما إثمه على نفسه لا عليهم.
ربما يقول قائل: ولِمَ تستبعد هذا الظن منهم فتعبر في جانبه بكلمة (اللهم)
وهم قد يزعمون أنهم من أهل السنة وربما طلبوا الدخول في أثواب حماة السُّنَّة بهذا
الظن الذي تستبعده وما عليهم في ذلك إلا أن يقولوا: نحن سُنِّيون لا نقول باستحالة
شيء وفخرنا أن نجوز المحال ونذهب إلى جواز تجسم المعاني ونعتقد أن الأعمال
والعقائد وهي معان نفيسة وحركات بدنية - يمكن أن تنقلب أشخاصًا حيوانات تمشي
وأناسي تتكلم، أليست هذه العقيدة هي مطيتنا إلى الجنة؟ فليكن الدين رجلاً عاقلاً؟
أو ميكروبًا متنقلاً مفيدًا لا قاتلاً، يفعل لنفسه ما كان فاعلاً، ويدعنا نتمتع بالنسبة
إليه، وإن لم يكن لنا عطف عليه، فنجيب القائل بأنهم مغرورون، وإن السنة
بريئة مما يزعمون، وسيعلمون أي منقلب ينقلبون.
خرج بنا الكلام عما نحن بصدده. هذا الراهب أستاذ العربية في الدير وضع
طريقة سهلة لتعليم قواعد اللغة العربية من الصرف والنحو للإيطاليين - يضع
القاعدة العربية ثم يفسرها باللغة الإيطالية بأسلوب يسهل معه تناولها بقدر الإمكان،
وقد رأيت من تلامذة الراهب من يحسن قراءة العربية وإن كان لا يحسن التكلم بها
لعدم التمرين على السماع والنطق، وما أحوج كل عربي إلى تعلم ما يحتاج إليه من
لغته، لكن ما أشق العمل وما أوعر الطريق وما أكثر العقبات في طريق العربي
الساعي في تحصيل ملكة لسانه! ! يفني عمره وهو لا يزال يضرب برجليه في
أول الطريق، أفلا نشعر بالحاجة إلى تقريب المطلب، وتيسير المذهب في
تحصيل ما تدعو إليه الحاجة من لغتنا حتى نستطيع فهم ما أودع فيها من النفائس؟
والتعبير بها عما نجد في أنفسنا، ونحب أن نسوقه إلى بني لغتنا على وجه صحيح،
وبأسلوب فصيح؟ ألم يأنِ لنا أن نرجع إلى المعروف مما كان عليه سلفنا فنحيا
بما كان قد أحياهم، وترك ما ابتدعه أخلافهم مما أماتهم وأماتنا معهم؟
أما المقبرتان فإحداهما في بناء متسع الأرجاء تحت الأرض ينزل إليه بسلم
وفيه نوافذ يأتي إليه منها الضياء وقد وضعت فيه الجثث على ضروب شتى، فمن
الجثث ما هو في صناديق مقفلة من الخشب أو الحجر أو البرنز، ومن ذلك جثة
موسيو كرسبي رئيس الوزارة الإيطالية السابق فإنه في ذلك المحل في صندوق
مغلق، ومنها ما وضع في صناديق من البلور بحيث تظهر الجثة للرائي من داخل
الصندوق على الهيئة التي كانت عليها عند الموت. وقد يوجد في الصندوق الواحد
عدة أشخاص بادية هياكلهم، ظاهرة وجوههم، على أتم ما يحزن له قلب، وتعبر
به نفس، وهذان القسمان من الأموات إنما ينالون حظوة الاستيداع في هذا المكان
إذا كانوا من الأغنياء الذين يتمكنون أن يدفعوا إلى الدير ما يطلبه من قيمة هذه
الحظوة.
وهناك قسم آخر وهو جثث محنطة قائمة في جوانب المكان عليها ثيابها في
الحالة التي كانت عليها عند موتها وهي جثث الرهبان والقسيسين الذين يحبون أن
يودعوا في هذا المكان ليسعدوا ببركته، ولهم هيئات تنقبض لها النفس، ويضيق
بها الصدر، ولا حاجة بنا إلى تعداد ذلك ويكفي القارئ أن يتصور ميتًا في أشد ما
تكره النفس مما يصوره الموت في البدن.
وأما المقبرة الأخرى فهي كسائر المقابر على ظهر الأرض وإن كان الأموات
في بطنها وهي من أجمل الأماكن وأنظفها والقبور فيها نظيفة البناء بهجة الظاهر،
وقد غرس في المقبرة أشجار السرو بنظام بديع وقيل لنا: إن الذين يدفنون فيها هم
الأمراء والأغنياء أما الفقراء فلهم مقبرة تليق بفقرهم في مكان آخر. وكأنه قضي
عليهم بأن لا يساووا الأغنياء حتى في الموت مع أن الموت قد سوَّى بين الأغنياء
وبين أدنى طبقة من الأحياء بل جعلهم طُعمة لأقذر الديدان كما جعل ذلك حظ أمثالهم
من سائر الحيوان.
قيل: إن الحكومة بعد أن استولت على رومية منعت الدفن في المقبرة الأولى
على تلك الطريقة وأمرت أن لا يدفن الميت إلا في المقابر المعتادة كهذه المقبرة
الثانية ونحوها وإنما حفظت الحق في الاستيداع في المعابد للبابا وللملك دون سائر
الناس فهما وحدهما توضع جثتهما في صندوق وتودع في الكنيسة وقد أحسنت
الحكومة في ذلك فإن من كان محجبًا بعظمته عن الناس في حياته، يجب أن يكون
عبرة لعامتهم بعد مماته.
(المنار)
ليعتبر المصريون الذين لا يزالون على سُنة أسلافهم الفراعنة في تعظيم
القبور واتخاذها مواسم وأعيادًا بمقابر الأمم الأخرى في زينتها ونظافتها وإنك لتجد
طريق قرافة مصر شر طريق يمشي فيه الناس تكسو سالكيها ثوبًا من التراب فوق
ثيابه وإنه لثوب يكسو باطن الأنف والفم وربما تصل أذياله إلى الصدر فلا هم
أقاموا سنة الإسلام بدرس القبور وإهمالها ولا سنة سائر الملل بنظافتها وزينتها.
(للرحلة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/736)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
باب (2) : كيف حدثت القوة للإنسان؟
تلك القوى [*] تابع أصل وجودها من حيث الجملة لفطرة النوع. وأما قسط
كل فرد من كل قسم من أقسامها فتابع لتوزيع عام مرتب اقتضاه نظام الوجود
المؤسس على وجود المتضادات.
فمن كان يرجو أن ينال نصيبًا حسنًا من ذلك التوزيع فليعرض عن الذين
يجادلون في مثل هذا المقام في عمل الإنسان كقول فريق منهم: إذا كانت قوته من
صانعه قلت أو كثرت فأي فضيلة أو رذيلة له. وكقول آخرين: إذا كانت قوته منه
فلم يعتذر بصانعه إن قصر.
ولم نوصِ بهذا الإعراض تقييدًا للأفكار أن تجول في المعقولات كما خولها
الفاطر، ولا استصغارًا لهذه المسألة؛ بل لأننا نجدنا كيفما قلنا نجري في هذه الحياة
على إثابة المحسن ومؤاخذة المسيء. فعلمنا أن البحث عقيم وإن أنتج فهو لا يعدو
هذه النتيجة الموافقة لما في الإنسان من مكنونات الأسرار.
ولا نعيا أن نقول لأمثال أولئك السائلين: إن الفاطر (جل وعلا) فطر هذا
النوع على صورة يتصرف معها في عوالم الأرض ثم ينتهي إلى عالم الغيب ليُتم
هنالك فيه أمرًا لم يبتدئه عبثًا، وكان من حكمته أن يكون أفراد هذا النوع درجات.
وجعل في الأفراد شوقًا للترقي من درجة دنيا إلى درجة عليا. وأغاث هذا الشوق
بإيجاد استعداد عام في أصل الفطرة للترقي. فمن أزعجه الشوق حتى عرض نفسه
لنيل نصيب من الاستعداد العام يوشك أن ينال المنح والتحف مما في أصل الفطرة،
ومن احتج على الشوق في تسفله الخاص بأنه تابع لترتيب الدرجات العام فحجته في
نفسه داحضة؛ لأن القضاء العام في تفاوت الدرجات يقابله إيجاد استعداد عام. فلئن
صح حجة في وجود متسفلين يقابلون متعالين فلا يصح حجة في تسفل فرد بعينه.
هذا هو سبيلنا الذي اتفق البشر كلهم على سلوكه في قوانينهم الحقوقية
والجزائية وليس بعد هذا إلا هراء غاليَيْنِ: أحدهما ينكر إفاضة القوة الغيبية على
القوة الحسية مطلقًا، والآخر ينكر وجود القوة الحسية مطلقًا.
فنذرهم في هرائهم يتجادلون ونأخذ لأنفسنا نصيبًا من بناء الحكم على الواقع
لنستفيد علمًا نافعًا لنا في يومنا هذا وفي اليوم الموعود.
تدرج الإنسان في القوة
لكل فرد من أفراد الإنسان نوعان من القوة:
(1) قوة طبيعية وهي ما منحه الفاطر لشخصه من قوة جسد وعقل وقلب.
(2) قوة صناعية وهي ثمرة التعاون الذي اهتدى البشر لفوائده.
أما تدرج الإنسان في القوة الطبيعية فتابع لارتقائه في القوة الصناعية [**]
ولذلك نفيض الآن في بيان القوة الصناعية وشرح كيفية حدوثها ونحصر الكلام ههنا
في ثلاث روابط فيها ينحصر التعاون العظيم الذي ينتج القوة الصناعية. وهي:
(1) رابطة قرابة الأجساد بواسطة الأرحام، ونسميها رابطة القومية.
(2) رابطة قرابة الأفكار بواسطة الاتباع لذي دعوة، ونسميها رابطة الدين
والمذهب.
(3) رابطة قرابة القلوب بواسطة التراضي في اقتسام الأعمال التابعة لحب
الزينة وحب التميز، ونسميها رابطة المدنية.
رابطة القومية
في الإنسان أشواق لا تسكن لمطالب لا تحصر، فمنها مطالب تقتضيها مادة
جسمه. ومنها مطالب يقتضيها جوهر نفسه، ومنها مطالب تقتضيها مادة الجسم
والنفس معًا. وهذا القسم من المطالب هو الأكثر.
والباحثون في الإنسان ينفعهم أن يعرفوا هذا التقسيم فإنه يفيدهم في التفريق
بين العلل. وما أجدرهم أن يحرصوا على إصابة الحقائق في إلحاق كل معلول
بعلته. وما أجدر الحقائق أن تكون مستورة لتمتحن طلابها. وما أجدر من توجه
إليها بفكر حر متزودًا من الإخلاص؛ أن يبلغ ما يسير به الشوق إليه.
وقد عرف من قبل ومن بعد أن الإنسان لا يبلغ شيئًا من مطالبه بدون التعاون
إلا أن يكون شيئًا من بعض المطالب التي يقتضيها جوهر النفس وحده كالجمال
المتجلي في الأشباح الطبيعية بروحه المناسبة للنفس الإنسانية. فكأن العجز الفردي
بالنسبة إلى المطالب التي لا تفتأ تتجدد كل حين - داء عظيم يحول بين الإنسان وما
تطالبه به فطرته. ويهدد كل فرد بالضعف المميت. وكأن التعاون دواء هذا الداء
فهو يرفع من أمامه الحوائل، ويدفع عنه الغوائل، ويهب كل فرد قسطًا بقدر من
القوة المحيية.
لكن هذا الدواء إنما يشفي عجز كل فرد من المتعاونين بالنسبة إلى غيرهم من
إنسان وغير إنسان. فما الذي يشفي عجز كل فرد منهم بالنسبة إليهم أنفسهم إذا
أجمعوا أمرًا أن يخذلوه؟ الجواب عن هذا سيتضح من الكلام على الرابطتين
الآتيتين، وإنما عجلنا بإيراد هذا السؤال الآن للإشعار بادئ بدء بأن رابطة القومية
المؤسسة على مطلق التعاون لا تجعل المتعاونين على الغير في أمن من أن يعدو
بعضهم على بعض ولذلك نضطر أن نقول:
لئن كانت هذه الرابطة قد نفعت الإنسان فإن نفعها أبتر وقد ضرته أيضًا. قلنا
نفعته؛ لأننا لا نستطيع أن ننكر أنها قوت منه ضعفاء، وجمعت منه متفرقين، وفي
حِضنها ربت له أنواعًا من الاستعدادات حتى دبت ودرجت وسارت لتبلغ أشدها.
ونقول: ضرته؛ لأنها كما جمعت منه متفرقين فرقت منه مجتمعين. وكما عرفت
له قربى. نكرت له قربى. وكما آنسته أوحشته. وكما حببته إلى طائفة بغضته إلى أخرى. ولم تزل واقفة به أحقابًا طوالاً وقفة إخوانه من الحيوانات التي ينهش بعضها بعضًا، لا يميزه عنها إلا استواء القامة وإبانة هذه اللحمة (اللسان) عن
مكنون ضميره، ولا مكنون هنالك غير ما يريد أن يدعو به عصبته لنهش عصبة
أخرى. أو لم تروا إلى الذين جمدوا على هذه السنة القديمة من أهل البوادي؟
أرأيتم إن أمسك الصناع عنهم أكسيتهم وأخبيتهم والأدوات اللازمة لهم هل
يخصفون غير ورق الأشجار، وهل يلبثون إلا في جوف الأوجار؟
فلولا الذين غسلوا عن أذهانهم وضر الاغترار بهذه القوة البسيطة التي لا
يعدو نفعها أمن الفرد من الغريب بفضل عون القريب لكنا حتى هذا اليوم والأنعام
سواء.
ولكن أولئك النفر لما أتاهم ذلك الذكر وعلموا أن الإنسان قريب الإنسان،
كيفما كان اللون واللسان، وأَنَّى كان المسعى والمكان، أزعجهم الشوق وتشوقت
نفوسهم أن تشرف على قوى أخرى هي أسمى من تلك وأنفع للبشر الذين هم إخوان
أجمعون فأفاضت عليهم القوة الغيبية ما أفاضت من العناية بهم وبإخوانهم بني
الإنسان وذلك هو اليوم الذي طفقت فيه مواهب النوع الكامنة تتألق في هذه الأرض
التي هي عرش سلطانه، ومجلى تجليات عرفانه. ولا تزال تلك المواهب تزداد
إشراقًا ما ازداد الناسجون على منوال أولئك النفر الكرام لهم منا التحيات الطيبات.
وهب أن فينا من لم يصل فهمه إلى ما أرشد أولئك إليه فلم يعرف له فائدة
عائدة لنفسه في هذه الحياة ولم يؤمن بنصيبه في الحياة الثانية التي يتم فيها المقصود
من الجوهر الإنساني القائم في هذه الصورة البشرية فهل يحسن به أن لا يفرق في
حياته هذه بين ما يجعله عن البهائم رفيعًا، وما يجعله لها رفيقًا؟
وها نحن أولاء ننبئكم عن هذه الرابطة بما تعلمون به أنها ترفع الإنسان على
الأنعام إلا قليلاً، ونريد أن نزيد في هذا المقام تبيانًا لتدرج اتصال الإنسان وانفصاله
ونجلو في هذا المعنى أقدم شؤونه فمن كان قد حدثه بمثله عقله فسوف يحدث له ذكر
أو مَن لم يكن قد حدثه من قبل فإنه ملاقيه مفيدًا. وتاليه لذيذًا.
كان الإنسان واحدًا أبدعه الموجود مثالاً لكمال الخلق في هذه الأرض. وخلق
فيه خاصة التفريع. أما تفرع أول فرع من ذلك الأصل الواحد فلم يزل عند العقل
من الأسرار الغامضة وهو يعد خاتمة الأدوار لتكون الإنسان على هذه الصورة
المحسوسة اليوم من توقف التفريع أو التوليد على زوجين يتولد من امتزاج خلاصة
من جسديهما فرع كأحدهما (أي: إما ملقح وهو الفحل أو متلقح وهي الأنثى) ،
وللتفريع أو التوليد في كل الكائنات الأرضية ناموس تكويني هو ناموس التلقيح
وهو اقتران أجزاء معلومة ببعضها ليتولد بينها وليد جديد.
وقد عرف الآن بما ارتقى إليه علم التحليل (الكيميا) أن كل أنواع المواليد
الثلاثة تابعة لهذا الناموس. ولذلك أصبح من المعروف كيفية تولد كل شيء إلا
الأجزاء المولدة. وما يدرينا ما يحدث من العلم بعد.
فتوليد الإنسان بتوقفه على العمل المدعو بالتلقيح لأجل امتزاج الأجزاء
المعلومة ليس ببدع ولا هو أغرب من توقف النباتات بل الجمادات على ذلك، بيد
أن هذه الخاصة التي للإنسان في التوليد يشاركه بنظيرها بعض أنواع الحيوان،
والبعض الآخر من أنواع الحيوان كالديدان مثلاً هو الذي جعل مجالاً لظن بعض من
الذين لم يخضعوا للكتب الموحاة بأن التفريع الأول من الأصل الأول الذي هو
الجماد قد وجدت منه فروع كثيرة متعددة وأن هذه الفروع في خلقتها - خاصة
التفريع - على هذا التلقيح المعروف.
أما نحن الملِّيين فلا نتبع أمثال هذه الظنون بل نتبع ما أنبأ به الوحي فنقول:
إن الأصل الأول هو الجماد. والأصل الثاني بشر سوي ذو حياة كحياتنا في
الاستعداد وهو واحد. والفرع الأول الذي اشتق من ذلك البشر السوي واحد. ثم
جعل الفاطر فيهما سوائق طبيعية لإجراء التلقيح. أولها سكون النفس في كل من
المتلاقحين واطمئنانها وانبساطها وتلذذها برؤية الآخر وغايتها انجذاب كل منهما
للآخر وتلاصقها، بحيث لو ساعدت الخلقة بأكثر من هذا الوجه لتضامت ذرات
أجزائهما تمام التضام فصارا جسمًا واحدًا. ولكن الفاطر قد جعل لهذه الكهربائية حدًّا
معلومًا. وسيسألك أهل الشرائع أن تبين لهم السبب في جواز تلقيح هذا الأصل الذي
كأنه والد، لذلك الفرع الذي كأنه ولد، ثم جواز تلقيح فروعهما بعضها لبعض مع
أنهم إخوة.
ولَبَيانُ السبب في حدوث الشرائع ثم حدوث الاختلاف فيها أنفع لهم لو كانوا
يتفكرون. وأول واجب أن يعرفوه لعلهم يعلمون بذلك هو أصلح الشرائع وأنفعها،
وأبقاها وأسماها. وسنتلوا عليهم من هذا الحديث لعلهم يشعرون؛ ليتذكروا أن الشرائع
إنما تفصل من أجل الاجتماع وأن التلقيح في ذلك اليوم لم يكن محتاجًا إلى شريعة،
وأن الذي تمنعه الشرائع ليس كله قبيحًا في ذاته وإنما يقبح لعلة من العلل. فلا
تعجلوا ولا تعجبوا من ذلك التلقيح الذي هو سبب تكثر هذا النوع. ولا تسألوا عنه
ولكن سلوا عن اختلاف هذه الفروع التي أصلها واحد. وإليكم هذا البيان الكاشف:
إنه لم يكن في تلك الأيام هذه البيوت المبنية للوقاية من الحر والبرد فيظهر
أنهم كانوا يلجؤون إلى الكهوف والمغارات ويتخذون الأوجار، إما حفرًا بأيديهم إن
كانت أظفارهم يومهم ذاك أقوى من الأظافر يومنا هذا. وإما غصبًا مما حفره
غيرهم من الحيوانات كدأب قبائل منهم أبقاهم الصانع على تلك السنة لتكون حالهم
ذكرى للذين ارتقوا وآية يعتبر بها عشاق الارتقاء.
ولكن أي المغارات تكفي لأن تستكن فيها تلك الفروع التي طفقت تزيد
وتتضاعف في كل عام ما شاء الخالق أن تتضاعف. فكأنهم لما تعددوا نشأ كل زوج
منهم يلتمس في الأرض مغارًا يكنه وأولاده فهذا التفرق في المقر هو أول تفرق
وتباعد حصل بين أولئك الإخوة وذراري الإخوة. وهو من الأسباب الأصول في
اختلاف البشر هذا الاختلاف العظيم.
ولما كان بين الإنسان وسائر الحيوان بون في الفطرة والاستعداد وخلقه بهذه
الصورة البشرية يضطره في جلب النافع وجبّ الضار إلى التعاون وهو يقتضي
اجتماع متعددين ولو قليلاً منهم أتم البارئ تكوين هذا المخلوق الحي على هذا الوجه
بأشياء جعلها من أعظم مميزاته التي تبلغه الغاية من الكمال الذي يقدر لمخلوق من
أعظمها:
(1) الاستعداد للصناعة و (2) الفضل في قوة الإدراك و (3) النطق
الذي يبين به مدركاته.
فبالنطق تخاطب على أن يتعاون. وبالاستعداد للصناعة بيّن كل منهم
لأصحابه ما يصنع مما يلزمهم على أن يكفوه مؤنة ما يلزم له. وبقوة الإدراك هُدي
للذي يصنعه بقدر ما هم فيه إذ ذاك من سذاجة الحياة وبقدر ما تضطرهم إليه
الحاجات من جلب وجب.
وههنا يحسن أن نذكر قاعدة وهي أن تفرق كل اثنين فأكثر يوجب حرمان
الجميع من فوائد ما في فطرة كل من المواهب. واجتماع كل اثنين فأكثر يوجب
اشتراك الجميع في الفوائد على السوية أو التفاضل.
فالخوف من حرمان الجميع من جميع المواهب التي لا تثمر إلا بالتبادل هو
الذي يوجب الاتصال والرضى بما قسم وإن قل. أما إباء البعض واستنكافهم عن
قبول القسمة المفضولة فهو الذي يوجب الافتراق. ونلخص هذا الكلام بقولنا:
(بدل الأصل سبب الوصل. وبدل الفضل سبب الفصل) .
هذه أسباب الاتصال والانفصال تتجلى مادية فلا ينكرها فكر سليم قط.
وهناك للاتصال أسباب روحية يصورها بعضهم في أشباح من الشعر كقولهم: إن في
الإنسان طبيعة الإنس بالجنس (أي: النوع) ولكنك إذا سألتهم عن سبب الافتراق
يحارون. وفي أمن من هذا رجل يقول: إن الذي أوجب الاجتماع من جنس الذي
أوجب الافتراق وأسباب الافتراق مادية بالاتفاق فتلك مثلها. وللافتراق أسباب
أخرى أهمها ارتياد الماء والكلأ والصيد وبعد هذا يبقى علينا بيان اختلاف ألسنته
وألوانه وتباعد قرابته. أما اختلاف الألسنة فله أسباب كثيرة:
(أولها) : الفرق الطفيف الموجود بين منطق كل شخص وآخر. فإن هذا
الفرق الطفيف يحدث بدوام التفرق فرقًا عظيمًا. ويقلد أولاد المنفصل بصنعهم ما
خالفه فيه قومه الأولين بغير صنعه كرجل انفصل عن قوم وهو ينطق التاء طاءً
وآخر يعكس، وآخر ينطق الذال ظاءً وآخر يعكس، وآخر يلفظ الهمزة عينًا وآخر
يعكس، وآخر يلفظ السين صادًا وآخر يعكس، وآخر ينطق الجيم شينًا وآخر
يعكس، وآخر لا ينطق بالقاف، وآخر لا ينطق بالراء، وآخر لا ينطق بالتاء، وآخر لا ينطق بالكاف وهكذا، فهذا أكبر باب تفرقت منه اللغات ونقصت به
حروف لغة عن أخرى وكل هذا الذي مثَّلنا به محسوس نسمعه في كل يوم.
(وثانيها) : رؤية كل مجتمعين في جهة من الأرض ما لم يروه من قبل
تفرقهم عن غيرهم من نبات وجماد وحيوان، فيحتاجون أن يعبروا عنه في تخاطبهم
باسم من الأسماء. وهذا باب كبير أيضًا.
(وثالثها) : تنويع الأساليب في البيان وهو الذي أحدث الكنايات والمجاز
والأسماء المشتقة في كل لغة. وبطول الزمن تهجر الكلمة الموضوعة بادئ بدء
ويقوم المجاز أو المشتق عند قوم مقامها ولا يفعل هذا الآخرون بل قد يفعلون بكلمة
أخرى ما لم يفعله بها الأولون وهكذا فيقع البون.
(ورابعها) : أنه قبل الاجتماعات العظيمة كانت لوازم الإنسان بسيطة قليلة
وعلى مقدارها كان الكلام بسيطًا قليلاً أيضًا وبعد أن تفرقوا حدث في كل طائفة منهم
من الكلام ما كان على مقدار اجتماعهم ولوازمهم وأخذهم من غيرهم ومبلغ ما حدث
عندهم من الصنائع والأعمال.
(وخامسها) : عدم وجود حوافظ تحفظ اللغات من الاصطلاحات المغيرات
للأوضاع، فلا يشعر كل قوم بما تغير عند الآخرين فتكون الفرقة.
وهذه الأسباب التي بيناها تعد أسبابًا في كل لغة لما يسمونه الترادف مثاله في
لغتنا: أعطى وآتى من قبيل الباب الأول والليث والأسد من قبيل الثاني والسيف
والحسام من قبيل الثالث والخياطة والدرز من قبيل الرابع والدعاء والنداء من قبيل
الخامس.
وعلى القارئ الذي وعى ما قررناه ومثلنا به أن يتعرف بتدقيقه فروع هذه
الأسباب وأن ينعم بفكره في هذه الأبواب فإنه قد يهتدي من التدقيق بالفروق التي
بين المترادفات في لغة أو الفروق التي بين لغة وأخرى في المفردات إلى ما تقر به
العين من المعرفة اللذيذة المفيدة.
وعليه من بعد أن عرف تأثير التفرق في الديار على الألسنة أن يعلم أن هذا
التفرق هو المؤثر على الألوان أيضًا. فإن فريقًا مكثوا فيما جاور خط الاستواء
فاسودَّت جلودهم وآخرين لبثوا منذ القديم على شطوط الأنهار لم ينتقلوا فاصفرت
ألوانهم وشوهت خلقتهم وآخرين تنقلوا في البلاد ثم توسطوا المعمورة فابيضت
ألوانهم واعتدلت خلقتهم وصح تقويمهم وذكت عقولهم هكذا قيل من قبل وهو يشعر
بأن كل فريق من هؤلاء أولو قربى فيما بينهم. وما يجدينا هذا إن كنا لا
نعرف ما دون ذلك من القرابات والأنساب. ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز.)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) هي المشار إليها في آخر الباب الماضي.
(**) اقرؤوا أول هذا الفصل إلى قولنا: نجد علمه الباهر يرجع إلى عدم العلم؛ إذ خلق الإنسان جهولاً وقوته الرائعة ترجع إلى عدم القوة؛ إذ خلق الإنسان ضعيفًًًا.(6/745)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(كتاب التمرين - على البيان والتبيين)
قرظنا في الجزء الثالث عشر (كتاب إرشاد الألبا إلى تعليم ألف با) وهو
المِرقاة الأولى من مراقي علم الأدب للشيخ طاهر الجزائري. وقد صدر في هذه
الأيام كتاب التمرين له وهو المرقاة الثانية (قال) : (وقد جعلت لتمرين الطالب
قبل أن تبدر إليه بوادر الكلام، على ما رق وراق من النثر والنظام، ليتمثل مثل
ذلك في مرآته، ويقوى النور في مشكاته، فيحوز حسن البيان في أقرب مدة،
بدون عناء ولا شدة. وهذا هو الأصل الأول، وعليه في الفصاحة المعوَّل) .
وقد جعل الكتاب على قسمين: قسم في فصول شتى مختارة من كتب مختلفة
بعضها منثور وبعضها منظوم، فالفصل الأول في الإنسان والثاني في الحيوان وفيه
نبذ في كثير من البهائم والطيور والثالث في حكم مأثورة والرابع في أبيات مختارة
من ديوان الحماسة، وقسم في نبذ مختارة من كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ.
وقد أحسن المؤلف الاختيار والانتخاب، ولكنه أوجز واختصر، حيث يرجى
التطويل والإسهاب.
وثمن النسخة منه قرش ونصف وهو يطلب في مصر من إدارة المنار ومن
مكتبة الحاج مصطفى البابي الحلبي.
***
(تدريب اللسان على تجويد البيان)
جعل مؤلف مراقي الأدب للمرقاة الثانية التي تكلمنا عنها آنفًا تتمة خاصة بعلم
تجويد القرآن الكريم سماها (تدريب اللسان) ... إلخ ولكنها طبعت على حدتها،
وقد صدَّرها بترجمة القراء السبعة ورواتهم مختصرة وجعل الرسالة ثمانية فصول،
أولها في مخارج الحروف وآخرها في الوقف والابتداء.
وثمن النسخة قرشان ويطلب من حيث يطلب الأول.
وقد عني بطبع هذه المراقي الشيخ أحمد أفندي حسن طباره محرر جريدة
(ثمرات الفنون) الشهيرة في بيروت طبعًا متقنًا ضبط فيه ما ينبغي ضبطه بالشكل
وتطلب هناك منه.
***
(كتاب جواهر الأدب في صناعة إنشاء العرب)
هذا الكتاب من الكتب التي ظهرت في هذا العام، وصادفت ما تستحقه من
الرواج والإقبال، مؤلفه الشيخ أحمد الهاشمي، ومزيته التي قضت بالترغيب فيه
والتشويق إليه - هي جمعه لكثير من الرسائل والقصائد من كلام كُتاب العصر
وشعرائه كما جمع مثل ذلك من كلام الغابرين فلم يدع موضوعًا مما ترغب نابتة
العصر في الخوض فيه، إلا وجاء بشيء منه، كالشوق والتعارف والتهادي
والاستعطاف والعتاب والشكر والشكوى والتهنئة والعيادة والتعزية والشفاعة
والوصف وغير ذلك.
والكتاب كبير، صفحاته أربع مائة ونيِّف من القطع الصغير وثمن النسخة منه
خمسة قروش.
***
(كتاب تربية الأطفال)
وضع هذا الكتاب الدكتور عبد العزيز أفندي نظمي (حكيم بعموم مصلحة
الصحة وطبيب اختصاصي لأمراض العيون والأطفال من كليتي مونبلييه وطولوز
(فرنسا) سابقًا) . وقد سمى فصول الكتاب زيارات وهو يخاطب بها الأمهات
فالأولى في إثبات وجوب إرضاع الأمهات لأولادهم، والثانية في قوانين الرضاعة
من ثدي الأم، والثالثة في سرير الطفل وحجرة نومه، والرابعة في قانون صحة
النفاس والخامسة في الرضاعة الصناعية وشروطها، والسادسة في فطام الطفل
وغذائه والسابعة في قماط الطفل وملابسه، والثامنة في نظافة الجسم ولعب الطفل،
والتاسعة في علاج الجروح واتقاء العدوى، والعاشرة في علاج أمراض الأطفال
المنتشرة، والحادية عشرة في مشي الطفل ونمو ذكائه.
وقال في المقدمة والخاتمة إنه تجنب الاصطلاحات وبالغ في جعل العبارة سهلة
تفهمها الأمهات. وظاهر أن هذه المسائل لا تستغني أم عن معرفة قوانين الصحة فيها
فعسى أن يُقبل الناس على الكتاب وثمنه أربعة قروش فقط.
***
(ثلاث قصص)
أُهديت إلينا القصص الثلاث الآتي ذكرها ولم يسمح لنا الزمن بقراءتها أو
تعرُّف موضوعاتها في الجملة فاكتفينا بالإشارة إليها، والثناء على مهديها وهي:
(الوفاء في الحب) : قصة أدبية تاريخية غرامية تمثيلية، مؤلفها عمر
أفندي سري وقد طُبعت بمطبعة التمدن.
(غانية البادية) : هي القصة الثانية من قصص يصدرها إبراهيم أفندي
فارس صاحب المكتبة الشرقية باسم (حديقة الفكاهة) وفي كل شهر يصدر منها
ثنتان وقيمة الاشتراك فيها عشرون قرشًا صحيحًا في السنة.
(الجزاء العادل) : هي القصة الثالثة والعشرون من قصص (مسامرات
الشعب) الشهيرة وهي من تأليف أحمد حافظ أفندي عوض مبنية على القصتين
الصادرتين قبلها وقد سبق لنا ذكرهما ولا بد أن يكون قارئوهما راغبين في الوقوف
على ما جرى ليوسف البائس الفقير الذي هو موضوع القصتين الأوليين.
***
(مجلة بقراط الطبية)
(مجلة طبية عملية للأطباء وصحية للعائلات تصدر مرتين في الشهر،
لمنشئها الدكتور حسين (أفندي) يسري، قيمة الاشتراك في السنة 40 قرشًا في
القطر المصري و50 قرشًا في الممالك الأجنبية تدفع سلفًا) .
صدر عددان من هذه المجلة يدخل الواحد في 32 صفحة وفيهما كثير من
المقالات الطبية والإرشادات الصحية ولا شك أن البلاد العربية في حاجة شديدة إلى
مثل هذه المجلة النافعة، فنتمنى لها النجاح والانتشار.
***
(النيل)
جريدة سياسية أدبية انتقادية أسبوعية مصورة، أصدرها في القاهرة حديثًا
محمد أفندي غانم وسليم أفندي قبعين، وهما من الذين سبق لهم الاشتغال بخدمة
الصحافة واختبارها، فنتمنى لهما من النجاح والتوفيق أقصى ما انتهى إليه
استعدادهما، وقيمة الاشتراك في الجريدة مائة قرش صحيح في مصر وسائر بلاد
الدولة العثمانية و30 فرنكًا في الممالك الأجنبية.
***
(دلائل الإعجاز)
إذا أردت أن تحصل فنون البلاغة بسهولة وتقف على أسرارها فتكون كاتبًا أو
شاعرًا وتفهم بلاغة القرآن فما دونه فعليك بمطالعة كتاب (دلائل الإعجاز) في فن
المعاني وكتاب (أسرار البلاغة) في فن البيان لواضع العِلمين الإمام عبد القاهر
الجرجاني وثمن كل منهما 25 قرشًا ومن أسرار البلاغة ما ثمنه 15؛ لأن ورقه
دون ورق الأول ويطلبان من إدارة المنار بمصر وأجرة البريد عن كل منهما
قرشان.
__________(6/753)
الكاتب: سائح محب للمنار
__________
سيرالون
لسائح محب للمنار
قال بعد رسوم الخطاب:
إني من الذين قدّر الله لهم الاستفادة بالمنار من ابتداء ظهوره، وإني أعد
انتشاره خدمة مهمة للإسلام فسعيت حتى وجدت له مشتركين في خانيه (كريت)
ثم في فاس ومنذ بلوغي هذه الديار مازلت أُشَوِّق الناس إلى اقتناء المنار حتى كدت
أن أيأس غير أني وفقت أخيرًا إلى مشترك واحد. ولما جاءتنا المجلة أطلعت عليها
كثيرًا منهم فوجدوا مباحثها موافقة لإخباري وأخذوا يطالعونها بكل ارتياح رغمًا عن
قلة معرفتهم بالعربية. ولهذا السبب أرجو أن ستؤثر تعليماتكم المفيدة فيهم؛ لأنهم
أحوج المسلمين إليها؛ لفشو الجهْل بينهم وتأصل الغباوة في رؤوسهم ولانقطاع
علائقهم بالشرق الإسلامي لبعد المسافة ولفقدان الحمية الدينية منهم. وبما أن المنار
الأغر مشتغل بأحوال المسلمين عمومًا فيجب عليَّ إخبار الشيخ أعزّه الله بأحوال
هذه البلاد مع الاختصار فأقول:
إن عدد السكان في هذا القطر يبلغ ثلاثة ملايين، نصفهم أو ما يقرب من ذلك
على دين الإسلام كما تحققت ذلك في خلال أسفاري في الأرياف على أنه قبل عصر
واحد بالتقريب كان عُشر السكان على هذا الدين. وذلك الانتشار السريع لم يحصل
إلا بعد تملك إنكلترا للبلاد. وأما عاصمة القطر (فري تاون) فيبلغ أهل الإسلام
فيها عشرة آلاف نسمة وهذا العدد نحو ثلث السكان. والجماعة الإسلامية مركبة من
أقوام مختلفة أكثرهم عددًا قوم آكو وهم من الأرقاء الذين ركبوا البحر من سواحل
لاغوس قبل مائة سنة فأنقذهم الإنكليز في الطريق وأسكنوهم هنا في حيين
(حارتين - فولاتون وفوربي) على أن هؤلاء القوم لا يتفقون أبدًا فالعداوة متمكنة
بينهم خصوصًا أهل فوربي الذين لا تنقطع من بينهم المخاصمات والمشاغبات
بحيث إن المحاكم الإنكليزية قد ملتهم بسبب مخاصماتهم المستمرة والبعض من أهل
هذا الحي لا يتقربون إلى الجامع لما لهم من العداوة مع إخوانهم.
وفي هذه المدينة أربعة جوامع وأربع مدارس كل واحد منها مخصوص بقوم
منهم والمدارس تأخذ إعانة من الحكومة (220 ليرة للجميع في السنة) ولما جئت
ووجدت طريقة التدريس معوجة في الدرجة القصوى وعرفت أنه لا يمكن للتلميذ أن
يفهم شيئًا من العربية مهما طالت مدة التدريس صممت على تبديلها بالطريقة السهلة
وإرشاد معلميهم إلى أصول التعليم ولا سيما توجيه نظرهم إلى أخلاق التلامذة
وسلوكهم السيئ ولكني لم أصب آذانًا واعية بل قابلوا اقتراحاتي بالإعراض. ومع
ذلك فإني ما سئمت ولكن ظللت ناصحًا لهم ملحًّا في بياناتي حتى إني وفقت إلى
استمالة بعض الشبان من أهل فولاتون ومنهم ذاك المشترك.
وبعد قراءة فصول المنار أخذت في تفسير مباحثه من دينية واجتماعية وأن
الطريق التي يرشد إليها المنار هي التي لا أزال ساعيًا في إدخالهم فيها. على أن
إقبالهم على المجلة وإحلالهم إياها محل الاعتبار قد جدد آمالي. وقصدي أن أستمر
على وعظهم بالمنار.
وأما أهل فوربي فإنهم أعرضوا عني كل الإعراض وصرحوا لي بأنهم لا
يرضون أن يسمعوا الوعظ في جامعهم مع أن هذه الأيام أيام رمضان ينبغي فيها
تكثير الوعظ وتكرير التذكير خصوصًا مع فقدان الوعاظ من جوامع هذه البلاد ولا
تسل يا سيدي عما هنا من الأمور المخالفة للشرع وللآداب الإسلامية التي يعمل بها
عندنا في الشرق أقل الناس إيمانًا وأضعفهم اعتقادًا فهؤلاء السودانيون يباينون
الديانة الإسلامية على خط مستقيم في أكثر الأمور بل فيها جميعًا ولا يريدون التحلي
بتلك الآداب المحمدية بل يفضلون عليها عبادات أجدادهم المجوس!
وأخبركم أيضًا أن هنا رجلاً من نصارى الزنوج اسمه الدكتور بلائدن اشتهر
في إنكلترا وأميركا بمعارفه الواسعة وبتدقيقاته العميقة في دين الإسلام وله مؤلفات
معتبرة أشهرها (النصرانية والإسلام وجنس الزنوج) فذكر فيه من الخبر ما أدعي
أنا أنه لم يصل إلى درجته فيه أحد من علماء أوربا في الاعتراف بمحاسن ديننا
وفضائله وله إلمام بالعربية؛ فلذا أسعى في الصلة بينه وبين المنار. وهو يقول في
وجوه المسيحيين: إنهم عبثًا يسعون في تنصير الزنوج لكون هذه البلاد دار الإسلام.
ومن الأسف أن لا يعرف العالم الإسلامي هذا الرجل!
واحترازًا من التصديع أوجز الكلام فأقول: أرجو من سيادة الشيخ أن يكتب
بضعة أسطر في أحوال هذه البلاد لإيقاظ المسلمين من غفلتهم ناصحًا إياهم أن
يتركوا الطريقة القديمة في مدارسهم، وأن يدخلوا فيها الكتب النافعة من مصر
وغيرها؛ إذ لا يمكن تدريس العربية بلا كتب مع كثرتها اليوم في الشرق وأن
يصيخوا لنصيحة من يدلونهم على طريق الخير والصلاح. على أن الدجالين
يجدون عندهم كل ترحيب واعتبار وهم المغاربة وسكان الصحراء ومعلوم أنهم لا
يقدرون على نفعهم ولو أرادوا ذلك لكونهم محرومين من جميع أسباب الترقي وفاقد
الشيء لا يعطيه كما قال الأستاذ.
والمأمول أن حضرة الشيخ سيُسْدي النصيحة لهؤلاء البسطاء العقول كما
يسديها لغيرهم لعل الذكرى تكون نافعة لهم.
__________(6/756)
الكاتب: سائح محب للمنار
__________
عدن وبلاد العرب
لسائح محب للمنار
قال بعد رسوم الخطاب:
وقد وصلنا إلى عدن منذ عشرة أيام، ولم نجد سبيلاً للسفر إلى حضرموت
لعدم مصادفة ركب متوجه إليها، والأمل أن نصادفه عن قريب. وقد كررنا التوسم
في معارفنا بعدن علّنا نهتدي لمن يقوم بنشر المنار فلم نجد كفؤًا لذلك إلا صاحبنا؛
إذ هو خير الموجودين ويجتمع لديه كثير من أهل عدن يوميًّا فعسى أن يستفيد
بعضهم.
وإن شئتم الاستعلام عن أحوال أهل هذا الطرف فهم أناس عمَّهم الجهل
وغمرهم، ولهم اجتماعات على أكل القات؛ وهو نبت يشبه الشاي مشهور لعله
مخدر أو مفرح كما قيل؛ لكن من المعلوم أنه متلف للمال مميت للوقت؛ إذ يضيع
لأحدهم في الجلوس لأكله نحو ثلاث ساعات وهي قريب من ثلث عمره بعد إخراج
الأوقات اللازمة للضروريات ويصرف بعضهم فيه يوميًّا من ثلاث ربيات إلى عشر
ربيات بلا فائدة.
ثم إنه لا يلذ لهم أكله إلا وهم مجتمعون في مكان مظلم وحولهم
أباريق الماء يتلمظون به الجرعة بعد الجرعة وأمامهم المداعات (آلات التدخين)
وبجوارهم جذور وأصول القات والعشب الذي يلف به ولا يلذ لهم حينئذٍ إلا الكلام
الميت الفارغ إن كانوا من الأخيار، أو الملاعنة والسباب إن كانوا من غيرهم.
ومع سخائهم ببذل عصارة أبدانهم - وإن شئت فسمِّها دية أنفسهم - في شراء ذلك
النبت النحيس تراهم في معيشتهم مُقترين وبيوتهم وثيابهم وسخة إلا أناس قليلون إلا
أن معاملتهم سيّما مع الغرباء حسنة إلا ما ندر ولهم صبر على الضيوف بالنسبة
لغيرهم في هذا الزمان.
ومعاملة الحكومة الإنكليزية للأهالي منها المشكور ومنها المذموم، ورئيس كل
مصلحة له فيها تمام الاستبداد، والقاضي بالمحكمة الإنكليزية رجل فارسي له مدة
طويلة؛ وهو في مركزه، والأهالي يحبونه ويذكرون عنه رفقًا وعدلاً ونزاهةً،
والأمان فيها مستتب فلا تكاد تسمع بسرقة، والآن عندهم برد غير أنه حر بالنسبة
لغيرهم إذ درجة الحرارة غالبا نحو 86 فهرنهيت أي 30 سنتكراد وأزقة عدن أكثرها
وسخ قذر عفن سيما مع المطر؛ إذ نزل منذ يومين مطر بلَّ الأرض وغمرها فصار
الناس يخوضون في الأزقة بالنجاسات والقاذورات إلى نصف الساق كأنهم في
الجمالية بمصر حتى بخرت الشمس تلك الرطوبات ولذلك ترى الحميات العفنة فيها
كثيرة، وحركة التجارة فيها مشكورة.
والحكومة الإنكليزية مهتمة بتوسيع دائرة نفوذها ولها مركز في جهة اليمن
يسمى الضالع يبعد عن عدن 140 ميلاً؛ أي: مسير ستة أيام بسير القوافل ولها فيه
نحو ستة آلاف عسكري ولها في عدن وما والاها أكثر من أربعة آلاف عسكري
جُلهم من الهنود، والجمال التي تشتغل بنقل المهمات يوميًّا نحو أربعة آلاف جمل.
وقد أرادت أن تستولي على جهات جبل يافع المشهور فأرسلت أحد أبالستها إلى أمير
الجبل المسمّى في جهته سلطان الجبل فأطمعه في رشوة كبيرة على دخوله تحت
حماية الإنكليز واستدرجه حتى وصل به عدن وبوصوله تنسَّم بعض أهالي الجبل
من سكان عدن بعض الأسرار فذهب إلى قومه منذرًا فاجتمعوا وتم رأي كبارهم
على عزل الخائن وإهدار دمه هو ومن ساعده وأقاموا لهم أميرًا آخر فلما بلغ هذا
الخبر إلى عدن ضاق واليها به ذرعًا وتحيّر الخائن ولم يدرِ أين يذهب؟ !
ثم عمل الإنكليز على الانتقام من أهالي يافع فأرسلوا شرذمة من عساكرهم
التي بالضالع إلى جبل شعيب وهو أول حدود جبل يافع وبينه وبين الضالع مسيرة
يومين، فصمم عرب تلك الجهة على الهجوم على العسكر ليلاً وأنذر بهم الإنكليز
فانسحبوا راجعين إلى الضالع. وربّما كان أهل لندن لم يستحسنوا فتح حرب اليمن
قبل انتهاء حرب السومال.
والمناوشات بين العرب وعساكر الإنكليز مستمرة لا يخلو منها أسبوع غالبًا
حتى فيما قارب عدن؛ إذ منذ أيام قطع الطريق رؤساء قبيلة تبعد عن عدن نحو 24
ميلاً لقطع الإنكليز راتبهم عنهم وهو 500 ربية كل شهر وقد تحصن 40 نفسًا من
العرب في رأس جبل ومعهم بنادق مارتين، وخرج إليهم من الهنود مئتا جندي ثم
لحقتهم فرقة أخرى نحوهم وبعد المحاربة ببضع ساعات انهزم الهنود وقتل منهم نحو
أربعين منهم ضابط إنكليزي وجُرح كثيرون؛ منهم كبير تلك الفرقة، وقُتل من
العرب تسعة نفر، ويقال: إن الحرب ستجدد عليهم.
والحروب مستمرة في سواحل حضرموت وقد أمد الإنكليز أمير المكلا ببنادق
مارتين ومدافع قدموها له مع أحد بواخرهم الحربية، أما جيش أمير المكلا بقيادة
ابنه الذي قدمه إلى جهة حجر في أوائل رجب فقد عاد منهزمًا؛ لأن البدو كمنوا له
في بعض تلك الجبال وصارت بين الفئتين مناوشة طفيفة انسحب بسببها جيش
صاحب المكلا؛ غير أن الخسائر من الطرفين لا تذكر. ولم يزل أمير المكلا يحشد
الجنود وقد اجتمع له نحو أربعة آلاف رجل للحملة على حجر واجتمع نحو ستة
آلاف من البدو للدفاع عن أوطانهم وأتى وفد من السادات للصلح بين الطرفين
وستكون الحرب أو الصلح وهو الأقرب في أثناء رمضان.
وأما أخبار السومال فهي كثيرة جدًّا لكن لم أثق بصحتها فلا أتعبكم بقراءتها
ومن مجموعها يفهم أن الانكسارات تعددت على الإنكليز وأن جنود المنلا أو الرداد
كثيرة جدًّا وعنده بعض ذخائر وسلاح لا كما تزعم الجرائد نقلاً عن المصادر
الإنكليزية.
أما اليمن التركية فحالتها تعيسة جدًّا ولا بد أن يكون بلغكم ما فعل بعض قبائل
عسير وأنهم غدروا بسبعة طوابير [*] صغار من الترك فقتلوهم إلا نحو ثلاثين نفرًا
تمكنوا من الهرب والسبب في ذلك طغيان الترك وظلمهم المكرر وعدم الإنصاف،
وإذا لم تنتبه الحكومة التركية فإنها تتسبب في إهلاك الرعية والعساكر والبلاد
والمال.
(المنار)
قد ذاكرنا بعض الإنكليز هنا في مسألة تعديهم في جهة عدن على العرب مع
شدة بأس العرب وعدم أمن من يدخل بلادهم من الفتن والثورات الدائمة فقال: إننا
نعلم هذا حق العلم ولا رغبة لنا في فتح شيء من تلك البلاد؛ وإنما جل قصدنا أن
تكون عدن في أمن دائم من العرب، وكل ما يكون هناك من المناوشات فسببه
اعتداء العرب، والمدافعة ضرورة لا بد منها وهي لا تقف عند حد معلوم.
__________
(*) الطابور في العرف التركي: فرقة من العسكر نحو 800 أو ألف ويظن أنها تركية، ولكن في شرح القاموس أن (التابور) بالتاء: جماعة العسكر.(6/758)
16 شوال - 1321هـ
4يناير - 1904م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(الوجه الثامن والثلاثون) : قولهم: إن ابن مسعود كان يأخذ بقول عمر
فخلاف ابن مسعود لعمر أشهر من أن يتكلف إيراده؛ وإنما كان يوافقه كما يوافق
العالم العالم، وحتى لو أخذ بقوله تقليدًا لعمر فإنما ذلك في نحو أربع مسائل نعدها
أو كان من عماله وكان عمر أمير المؤمنين وأما مخالفته ففي نحو مائة مسألة:
منها: أن ابن مسعود صح عنه أن أم الولد تعتق من نصيب ولدها.
ومنها: أنه كان يطبق في الصلاة إلى أن مات، وعمر كان يضع يديه على
ركبتيه.
ومنها: أن ابن مسعود كان يقول في الحرام: هي يمين. وعمر يقول: طلقة
واحدة.
ومنها: أن ابن مسعود كان يحرم نكاح الزانية على الزاني أبدًا، وعمر كان
يتوّبها وينكح أحدهما الآخر.
ومنها: أن ابن مسعود كان يرى بيع الأمة طلاقها، وعمر يقول: لا تطلق
بذلك.. إلى قضايا كثيرة.
والعجب أن المحتجّين بهذا لا يرون تقليد ابن مسعود ولا تقليد عمر، وتقليد
مالك وأبي حنيفة والشافعي أحب إليهم وآثر عندهم، ثم كيف ينسب إلى ابن مسعود
تقليد الرجال وهو يقول: لقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أني أعلمهم بكتاب الله ولو أعلم أن أحدًا أعلم مني لرحلت إليه. قال شقيق:
فجلست في حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما سمعت أحدًا
يرد ذلك. وكان يقول: والذي لا إله إلا هو ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث
نزلت وما من آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني تبلغه
الإبل لركبت إليه.
وقال أبو موسى الأشعري: كنا حينًا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت
النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كثرة دخولهم ولزومهم له. وقال أبو مسعود
البدري - وقد قام عبد الله بن مسعود - ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ترك بعده أعلم بما أنزل الله من هذا القائم. فقال أبو موسى: لقد كان يشهد إذا ما
غِبنا ويؤذَن له إذا حُجبنا. وكتب عمر إلى أهل الكوفة: إني بعثت إليكم عمارًا
أميرًا وعبد الله معلمًا ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه
وسلم من أهل بدر، فخذوا عنهما، واقتدوا بهما، فإني آثركم بعبد الله على نفسي.
وقد صح عن ابن عمر أنه استفتى ابن مسعود (في ألبتة) وأخذ بقوله ولم
يكن ذلك تقليدًا له؛ بل لما سمع قوله فيها تبيّن له أنه الصواب.
فهذا هو الذي كان يأخذ به الصحابة من أقوال بعضهم بعضًا.
وقد صحّ عن ابن مسعود أنه قال: (اغدُ عالمًا أو متعلمًا ولا تكوننَّ إمَّعة) ؛
فأخرج الإمعة وهو المقلد من زُمرة العلماء والمتعلمين، وهو كما قال رضي الله عنه؛
فإنه لا مع العلماء ولا مع المتعلمين للعلم والحجة كما هو معروف ظاهر لمن تأمله.
(الوجه التاسع والثلاثون) : قولهم: إن عبد الله كان يدَع قوله لقول عمر،
وأبو موسى كان يدع قوله لقول علي. وزيد يدع قوله لقول أُبي بن كعب. فجوابه:
أنهم لم يكونوا يدعون ما يعرفون من السنة تقليدًا لهؤلاء الثلاثة كما يفعله فرقة
التقليد؛ بل من تأمل سيرة القوم رأى أنهم كانوا إذا ظهرت لهم السنة لم يكونوا
يدعونها لقول أحد كائنًا من كان وكان ابن عمر يدع قول عمر إذا ظهرت له السنة.
وابن عباس ينكر على من يعارض ما بلغه من السنة بقوله: (قال أبو بكر وعمر) ،
ويقول: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر.
فرحم الله ابن عباس ورضي عنه، فوالله لو شاهد خلَفنا هؤلاء الذين إذا قيل
لهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: قال فلان وفلان. لمن لا يداني
الصحابة ولا قريبًا من قريب. وإنما كانوا يدعون أقوالهم لأقوال هؤلاء؛ لأنهم
يقولون القول ويقول هؤلاء فيكون الدليل معهم فيرجعون إليهم ويدعون أقوالهم كما
يفعل أهل العلم الذين هو أحب إليهم مما سواه، وهذا عكس فرقة أهل التقليد من كل
وجه وهذا هو الجواب عن قول مسروق: ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد
من الناس.
(الوجه الأربعون) قولهم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قد
سن لكم معاذ فاتبعوه) فعجبًا لمحتج بهذا على تقليد الرجال في دين الله وهل صار
ما سنه معاذ سنة إلا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاتبعوه) كما صار الأذان
سنة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم وإقراره وشرعه لا بمجرد المنام فإن قيل: فما
معنى الحديث؟ قيل: معناه أن معاذًا فعل فعلاً جعله الله لكم سنة وإنما صار سنة لنا
حين أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا لأن معاذًا فعله فقط وقد صح عن
معاذ أنه قال: كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع أعناقكم، وزلة عالم، وجدال منافق
بالقرآن؛ فأما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم. وإن افتتن فلا تقطعوا منه إياسكم
فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب، وأما القرآن فإن له منارًا كمنار الطريق لا يخفى
على أحد فما علمتم منه فلا تسألوا عنه أحدًا وما لم تعلموه فَكِلُوهُ إلى عالمه، وأما
الدنيا فمن جعل الله غناه في قلبه فقد أفلح. ومَن لا فليست بنافعته دنياه، فصدع
رضي الله عنه بالحق ونهى عن التقليد في كل شيء وأمر باتّباع ظاهر القرآن
وأن لا يبالي بمن خالف فيه. وأمر بالتوقف فيما أشكل وهذا كله خلاف طريقة
المقلدين. وبالله التوفيق.
(الوجه الحادي والأربعون) : قولكم: إن الله سبحانه أمر بطاعة أولي الأمر
وهم العلماء وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به، فجوابه أن أولي الأمر قد قيل: هم
الأمراء. وقيل: هم العلماء. وهما روايتان عن الإمام أحمد والتحقيق أن الآية تتناول
الطائفتين وطاعتهم من طاعة الرسول لكن خفي على المقلدين أنهم إنما يطاعون في
طاعة الله إذا أمروا بأمر الله ورسوله فكان العلماء مبلغين لأمر الرسول، والأمراء
منفذين له فحينئذٍ تجب طاعتهم تبعًا لطاعة الله ورسوله. فأين في الآية تقديم آراء
الرجال على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثار التقليد عليها.
(الوجه الثاني والأربعون) : أن هذه الآية من أكبر الحجج عليهم وأعظمها
إبطالاً للتقليد وذلك من وجوه:
أحدها: الأمر بطاعة الله التي هي امتثال أمره واجتناب نهيه.
الثاني: طاعة رسوله ولا يكون العبد مطيعًا لله ورسوله حتى يكون عالمًا
بأمر الله ورسوله ومن أقر على نفسه بأنه ليس من أهل العلم بأوامر الله ورسوله
وإنما هو مقلد فيها لأهل العلم لم يمكنه تحقيق طاعة الله ورسوله ألبتة.
الثالث: أن أولي الأمر قد نهوا عن تقليدهم كما صح ذلك عن معاذ بن جبل
وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهم من الصحابة
وذكرناه نصًّا عن الأئمة الأربعة وغيرهم وحينئذ فطاعتهم في ذلك إن كانت واجبة
بطل التقليد وإن لم تكن واجبة بطل الاستدلال.
الرابع: أنه سبحانه قال في الآية نفسها: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) ، وهذا صريح
في إبطال التقليد والمنع من رد المتنازَع فيه إلى رأي أو مذهب أو تقليد. فإن قيل
فما هي طاعتهم المختصة بهم؛ إذ لو كانوا إنما يطاعون فيما يخبرون به عن الله
ورسوله كانت الطاعة لله ورسوله لا لهم؟ قيل: وهذا هو الحق وطاعتهم إنما هي تبع
لا استقلال ولهذا قرنها بطاعة الرسول ولم يعد العامل وأفرد طاعة الرسول وأعاد
العامل؛ لئلا يتوهم أنه إنما يطاع تبعًا كما يطاع أولو الأمر تبعًا وليس كذلك بل
طاعته واجبة استقلالاً كان ما أمر به ونهى عنه في القرآن أو لم يكن.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/768)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الفتاوى الثلاث
في لبس قلنسوة أهل الكتاب وأكل ذبائحهم
واقتداء الشافعية بالحنفية
ذكرنا في الجزء الثامن عشر أنه شاع أن بعض علماء مصر أفتى رجلاً
ترنسفاليًّا بجواز لبس القلنسوة التي يلبسها أهل أوربا وتسمى (البرنيطة) وأن
بعض الناس أكبر هذه الفتوى جهلاً منهم بالدين، وذكرنا من هداية السنة السَنَيَّةِ ما
تَبيّن به أن الإسلام لم يقيد أهله بزي مخصوص؛ لأن الزي من العادات التي
تختلف باختلاف حاجات الشعوب وأذواقهم وطبائع بلادهم فهو مباح لهم فلم يكن من
حكمة هذا الدين العام لجميع البشر أن يقيد شعوب الأرض كلها بعادة طائفة منهم
كأهل الحجاز أو غيرهم؛ ولهذا لبس النبي عليه الصلاة والسلام من لبوس
النصارى والمجوس والمشركين كما ثبت في الأحاديث الصحيحة التي أشرنا إلى
بعضها في ذلك الجزء ولذلك ترى للمسلمين في كل قطر زيًّا يشاركهم فيه غالبًا من
ليس من دينهم؛ بل أكثر لبوسهم مأخوذ عن النصارى برمته ومنه زي العثمانيين
الرسمي كما تقدم.
ثم بعد كتابة ما أشرنا إليه رأينا في بعض الجرائد أن الذي أفتى بما ذكر هو
مفتي الديار المصرية، وأنه أفتى بفتويين أخريين كانتا أيضًا موضوع لغط
الجاهلين الذين لا يعرفون من الدين إلا ما ينسب إليه من العادات والتقاليد الشائعة
بين المسلمين في بلادهم خاصة. وقد ذكر في إحدى الجرائد نص الأسئلة التي
رفعت إلى المفتي مع أجوبتها، ويقال: إن بعض أصحاب الجرائد اشترى ورقة
الفتوى من الترنسفالي بمال كثير لظنه أن فيها ما يثبت مخالفة المفتي في ذلك
للمشهور من مذهب الحكومة التي يفتي به الحكومة وللمعروف عند العامة، فيؤاخَذ!!
وسعى بعد ذلك في نشرها في الجرائد وانبرت إحداها للرد عليها أو التنويه
بخطئها بدعوى المدافعة عن الدين.
ولو كان صاحبها يعتقد بأن الفتاوى خطأ كلها أو بعضها لكان الواجب عليه أن لا
يصرح بأن إمامًا كبيرًا أفتى بها؛ لأن كثيرًا من الناس في مشارق الأرض ومغاربها
يثقون بفتواه ويعملون بها ولا يصدهم عن ذلك أن صاحب جريدة سياسية لم يرضَ
بها. فإن كان يرى أن المستفتي معتقد بصحة الفتوى فكان عليه أن يقنعه بعدم
صحتها إن قدر.
أما الأسئلة التي قدمها الترنسفالي للمفتي فهي بنصها:
(1) يوجد أفراد في هذه البلاد تلبس البرانيط لقضاء مصالحهم وعود
الفوائد إليهم فهل يجوز ذلك أم لا؟
(2) إن ذبحهم (أي: نصارى الترنسفال) مخالف؛ وذلك لأنهم يضربون
البقر بالبلط وبعد ذلك يذبحون بغير تسمية والغنم يذبحونها من غير تسمية أيضًا هل
يجوز ذلك أم لا؟
(3) إن الشافعية يصلُّّون خلف الحنفية بدون تسمية ويصلون خلفهم العيدين
ومن المعلوم أن هناك خلافًا بين الشافعية والحنفية في فرضية التسمية وفي تكبيرات
العيدين فهل تجوز صلاة كلٍّ خلف الآخر أم لا؟
هذا نص الأسئلة كما نشرتها الجرائد.
فأما المسألة الأولى فقد علمت ما فيها.
وأما الثانية فظاهر السؤال أنه عن جواز فعلهم وليس من شأن المسلم أن
يبحث عن أفعال غير المسلمين في نفسها، فلا بد أن يكون المراد الاستفهام عن
جواز أكل المسلم من تلك الذبائح، وقد أفتى المفتي بالجواز واستدل عليه بالآية
وهو موافق في ذلك للجماهير من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين كما ستعلم ذلك
بنصوصه.
وأما المسألة الثالثة ففتواه فيها بالجواز موافق لعمل سلف الأمة الصالح بلا
استثناء، وإنما استنكرها الجاهلون؛ لأن بعض الفقهاء من الحنفية والشافعية حكى في
ذلك خلافًا مبنيًّا على استنباطاتهم المعروفة الناشئة عن التعصب للمذاهب الذي يفرق
بين المسلمين ويجعلهم شيعًا، كل شيعة تبطل عبادة الأخرى وكأنهم يرون أن يكون
لكل أهل مذهب مساجد خاصة بهم كالنصارى:
وكل خير في اتباع مَن سلف ... وكل شر في ابتداع مَن خلف
كان الإمام أحمد يرى الوضوء في الفصد والحجامة والرعاف فقيل له: فإن
كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي
خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب؟ هكذا كان السلف الصالحون، حتى جاء
الخلف المتعصبون المفرقون، ولكن سَورة التعصب للمذاهب قد سكنت في هذا
العصر لذلك لا يرى المفسدون وجهًا للغط في هذا الجواب.
* * *
طعام أهل الكتاب
أما مسألة ذبيحة أهل الكتاب فهي التي أكثرت اللغط فيها الجريدة السياسية
والسؤال ناطق بأن أهل تلك البلاد (الترنسفال) يذبحون البقر بعد ضربها بالبلطة
ولكن موضع المخالفة لبعض المسلمين أنهم لا يذكرون اسم الله عليها. والمفتي أفتى
بالأخذ بنص آية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: 5) ؛ فقد قال
الله هذا بعد آية تحريم الميتة، وأحل طعامهم وهو يعلم ما يقولون عند الذبح ويعلم
ما يعتقدون بعُزَيْرٍ والمسيح. وإننا ننقل بعض كلام أئمة السلف من الصحابة
والتابعين في ذلك ثم نأتي بفقه الدين في تحريم الميتة وما أُهل به لغير الله فنقول:
جاء في تفسير الآية من كتاب (فتح البيان في فهم مقاصد القرآن) ما نصه:
(والحاصل أن حل الذبيحة تابع لحل المناكحة على التفصيل المقرر في
الفروع. والطعام اسم لما يؤكل ومنه الذبائح وذهب أكثر أهل العلم إلى تخصيصه
هنا بالذبائح ورجحه الخازن. وفي هذه الآية دليل على أن جميع طعام أهل الكتاب
من اللحم وغيره حلال عند المسلمين وإن كانوا لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم
وتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: 121) ، وظاهر هذا أن ذبائح أهل الكتاب حلال وإن ذكر اليهودي على
ذبيحته اسم عزير وذكر النصراني على ذبيحته اسم المسيح، وإليه ذهب أبو
الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس والزهري وربيعة والشعبي ومكحول.
وقال علي وعائشة وابن عمر: إذا سمعت الكتابي يسمي غير الله فلا تأكل. وهو
قول طاوس والحسن وتمسكوا بقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: 121) .
ويدل عليه أيضًا قوله:] وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ [وقال مالك: إنه يُكره ولا
يُحرم. وسئل الشعبي وعطاء عنه فقالا: يحل فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم
ما يقولون. فهذا الخلاف إذا علمنا أن أهل الكتاب ذكروا على ذبائحهم اسم غير الله.
وأما مع عدم العلم فقد حكى الكيا الطبري وابن كثير الإجماع على حلها لهذه
الآية ولما ورد في السنة من أكله (صلى الله عليه وسلم) من الشاة المصلية التي
أهدتها إليه اليهودية وهو في الصحيح وكذلك جراب الشحم الذي أخذه بعض الصحابة
من خيبر وعلم بذلك النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو في الصحيح أيضًا وغير
ذلك) .
ثم ذكر أهل الكتاب مَن هم واستثناء سيدنا علي بني تغلب منهم؛ لأنهم من
العرب الذين لم يأخذوا من النصرانية إلا شرب الخمر وذكر الخلاف في المجوس
ونقل بعد ذلك عن القرطبي أنه قال: (قال جمهور الأمة: إن ذبيحة كل نصراني
حلال سواء كان من بني تغلب أو غيرهم وكذلك اليهود) وفي تفسير ابن جرير
نحو ما تقدم ومنه روايات عن الصحابة بحل ما ذبحه النصارى للكنائس عملاً بعموم
الآية. فعلم من هذه النقول أن ذبائح أهل الكتاب حِل عند جماهير المسلمين وإن لم
يكن ذبحها على الطريقة الإسلامية؛ بل وإن كانت على خلاف الطريقة الإسلامية
عملاً بإطلاق الآية الكريمة التي هي آخر ما ورد في الأكل نزولاً وبذلك استدل
مفتي الديار المصرية وقال في نصارى الترنسفال: إنهم من أشد النصارى تعصبًا في
دينهم وتمسكًا بكتبهم ثم قال: (ومجئ الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: 5) من بعد آية تحريم الميتة:
{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (المائدة: 3) بمنزلة دفع ما يتوهم من تحريم طعام أهل
الكتاب؛ لأنهم يعتقدون بألوهية عيسى وكانوا كذلك كافة في عهده عليه الصلاة
والسلام إلا مَنْ أسلم منهم. ولفظ (أهل الكتاب) مطلق لا يصح أن يحمل على هذا
القليل النادر فإذًا تكون الآية كالصريح في حل طعامهم مطلقًا كما كانوا يعتقدونها
حلاًّ في دينهم دفعًا للحرج في معاشرتهم ومعاملتهم) . اهـ وهو موافق للنقول
التي قال بها جماهير الأئمة كما تقدم.
* * *
الفقه في تحريم الميتة وكيفية التذكية
{قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ
مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: 145) .
وألحق في آية المائدة بالميتة ما في حكمها مما مات بغير قصد التذكية وهو
المنخنقة بدخول رأسها بين عودين أو في حبل ونحو ذلك والموقوذة وهي التي
ضُربت بعصا أو حجر غير محدد ولا بقصد الذبح حتى انحلت قوتها وماتت
والمتردية من شاهق، والنطيحة أي التي تموت بالمناطحة وما أكل السبع، قال
تعالى بعد ذكر هذه الأنواع: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (المائدة: 3) ؛ أي: ما أدركتم فيه
حياة فذكيتموه بالقصد ثم قال: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (المائدة: 3) وهي أحجار
كانوا يذبحون عليها للأصنام.
فأما تحريم ما أهل لغير الله به فهو أشد المحرمات تحريمًا؛ لأن علة تحريمه
تتعلق بحفظ جوهر الإيمان؛ لأن ذكر اسم غير الله مما يعتقد على الذبيحة ضرب
من الوثنية وعمل المشركين، وأما الميتة فقد قيل: إن علة تحريمها أن احتباس الدم
فيه يجعل أكلها ضارًا وهو تعليل ينافي إطلاقه علم الطب كما ينافيه الكتاب والسنة
الصحيحة في الإذن بأكل الصيد تصيده بالجوارح فيموت من غير تذكية وكذلك
صيد اليد بشرطه قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ
اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (المائدة: 4) أي: ما أحضره الكلب ونحوه لصاحبه
ولم يأكل منه روى أحمد والبخاري ومسلم من حديث عدي بن حاتم عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما
أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما
أمسك فعلى نفسه) ، وفي رواية لهم أن عديًا قال: قلت: وإن قتلن: قال (وإن
قتلن ما لم يشركها كلب ليس معها) قلت: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيد؟
قال: (إذا رميت بالمعراض فخزق فكُلْه وإن أصبته بعرضه فلا تأكله) ، وقد
اختلف في تفسير المعراض فقيل هو سهم لا نصل له ولا ريش وقيل هو خشبة
ثقيلة في آخرها عصا محدد رأسها وقيل هو عصا في طرفها حديدة وكأنه كان يطلق
على هذه الأشياء، وكانوا يرمون الصيد بها والمراد بالخزق الخدش فإذا جرحت
هذه العصا الصيد فمات حل أكله.
وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة والحكم مجمع عليه إلا أن أحمد وإسحق منعا
الصيد بالكلب الأسود البهيم وفي رواية من حديث عدي متفق عليها أيضًا أنه قال
عليه السلام: (إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حيًّا فاذبحه
وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاة) ومذهب الشافعي أنه إذا
أكل منه بعد إحضاره يحل.
وروى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي ثعلبة الخُشني قال:
(إذ رميت سهمك فغاب ثلاثة أيام وأدركته فكله ما لم ينتن) وروى البخاري
والنسائي وابن ماجه من حديث عائشة أن قومًا قالوا: يا رسول الله إن قومًا يأتوننا
باللحم لا ندري أذُكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: (سمّوا عليه أنتم وكلوا) وكانوا
حديثي عهد بالكفر. وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عدي بن
حاتم قال: قلت: يا رسول الله إنَّا نصيد الصيد فلا نجد سكينًا إلا الظرار وشقة
العصا، فقال صلى الله عليه وسلم: (أمر الدم بما شئت) الظرار: جمع ظر بالكسر
وظرر وهو الحجر المدور المحدد. و (أمر) من أمار الشيء ومار إذا جرى أو من
مرى الضرع إذا مسحه ليدر، فعلم من مجموع الأحاديث أن الصيد قد يحل وإن مات
ولم يذبح وأن التسمية مستحبة غير واجبة ولا شرط للذبح وعليه ابن عباس وأبو
هريرة والشافعي، وأن إراقة الدم بأي شيء جائز وأن أخذ الكلب للصيد ذكاة شرعية
على أنواع منها الذبح المعروف وهو للغنم ونحوه من الحيوان الصغيرة، ومنها
النحر وهو يدل على أن ما قالوه في تعليل تحريم الميتة غير صحيح وعلى أن
الذبح المعروف الآن وهو قطع الحلقوم والمريء ليس من الأمور التي تعبدنا بها في
الذبح، بحيث لا تصح الذكاة بدونه مطلقًا؛ بل الذكاة الشرعية على أنواع: منها
الذبح والمعروف وهو للغنم ونحوه من الحيوان الصغير، ومنها النحر وهو للإبل
والخيل والبقر جاءت السنة بذلك في الجميع ومنها الصيد كما علمت، ومنها أن
الجنين يوجد في بطن أمه ميتًا فيؤكل تبعًا لها إذا ذكيت بنوع من أنواع التذكية
الصحيحة ومنها العقر والجرح.
روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه
من حديث رافع بن خديج قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فندَّ
بعير من إبل القوم ولم يكن معهم خيل فرماه رجل بسهم فحبسه فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحوش، فما فعل منها هذا
فافعلوا به هكذا) ، والجمهور على أن الرمي تذكية له خلافًا لمالك. وروى مَن عدا
الشيخين من هؤلاء عن أبي العُشَراء (بضم ففتح واسم عطارد) عن أبيه قال: قلت:
يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة قال: (لو طعنت في فخذها
لأجزأك) ، وقد حمل أبو داود هذا على المتردية والنافرة والمتوحشة وأخذ بهذا
الشافعية وكثير من الفقهاء ولكن السؤال يدل على الإطلاق وإن كان في سند الحديث
الأخير مقال.
فعلم من هذه الأحاديث الصحيحة أن التذكية الشرعية هي ما كانت بقصد من
الإنسان إلى إماتة الحيوان لأكله، فإن باشر ذلك بنفسه فله أن يفعله بكل محدد جارح
وإن كان حجرًا إلا أنه جاء في حديث النهيُ عن التذكية بالسن والظفر فقد أخرج
أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة من حديث رافع بن خديج قال:
قلت: يا رسول الله إنَّا نلقى العدو غدًا وليس معنا مُدًى (جمع مُدية وهي السكين)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا، ما
لم يكن سنًّا أو ظُفرًا) وسأحدثكم عن ذلك (أي: عن سبب استثناء السن والظفر) أما
السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة. وقد اختلف في هذه الجملة هل هي من
المرفوع أو مدرجة والراجح أنها مدرجة لتعليل النهي ولذلك لم يرضَ جميع العلماء
هذا التعليل بل قال بعضهم: إن علة النهي هي أن في الذبح بالسن والظفر تعذيبًا
للحيوان. وقيل غير ذلك. وكما تصح التذكية بكل آلة جارحة تصح بأية كيفية ممكنة
كما رأيت في الإذن بأكل ما خزقه المعراض والإذن بالطعن في الفخذ. والبلطة
التي جاء ذكرها في سؤال الترنسفالي لا تقل عن هذه المحددات إنهارًا للدم وعقرًا
للحيوان، على أنه قال: إنهم يعقرون البقر أو يضربونه بها ثم يذبحونه وظاهر أن
الذبح قبل الموت فإذا فرضنا أن الضرب بالبلطة وقذ (وهو ليس بوقذ؛ لأنها آلة
محددة ولأن الضرب بها يقصد به التذكية للأكل لا الإهلاك) فهو داخل فيما
استثنى الله تعالى بقوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (المائدة: 3) ؛ فإنهم يذبحونها كما قال
السائل فأين مكان الغيرة على دين أهل الترنسفال أن يأكلوا الموقوذة ممن لا يغار
على دين نفسه فهو يفتي بغير علم؟
ثم إن هذه الأحكام كلها خاصة بالمسلمين وأما أهل الكتاب فغير مكلفين بها
عملاً لأن الذين يقولون من العلماء أنهم مكلفون بفروع الشريعة كالشافعية يريدون
بذلك أنهم يعذبون على تركها في الآخرة عذابًا زائدًا على عذاب ترك الإيمان لا أنهم
يطالَبون بها في الدنيا فالمسلمون متفقون إذًا على أنهم غير مطالَبين بهذه الأحكام
وطعامهم مع هذا حلال بنص الكتاب كيفما كان إلا ما حرم لذاته عندنا وعندهم كلحم
الخنزير إذا أكلوه. وقد علمت أن جماهير أئمة السلف والخلف أباحوا ذبائحهم وإن
لم يذكروا اسم الله عليها؛ بل وإن ذكروا اسم غيره عملاً بعموم الآية التي اعتبروها
مخصصة للأمر بالتسمية وملاحظة لقاعدة عدم مطالبتهم بفروع الشريعة.
علمت أيضًا أن ما أهل به لغير الله هو أشد المحرمات؛ لأنه من أعمال
الشرك وأنه مع ذلك قد أحل أكله أكثر المسلمين من طعام أهل الكتاب فلأن يحلوا ما
ذكاه أهل الكتاب على غير طريقة التذكية عند المسلمين أولى فقد رأيت من
الأحاديث الصحيحة التساهل في أمر التذكية وكثرة أنواعها حتى يكاد يتعذر أن
توجد طريقة للتذكية لا تشملها هذه الأحاديث.
إن سلف الأمة الصالح من الصحابة والتابعين اعتبروا كل مَن يُنسب إلى
اليهودية والنصرانية مِن أهل الكتاب الذين تحل ذبائحهم سواء تمسكوا بدينهم أم لا
إلا ما نقل عن علي كرم الله وجهه من استثناء بني تغلب من متنصّرة العرب معللاً
ذلك بقوله: إنهم لم يأخذوا عن النصارى إلا شُرب الخمر. واكتفى الجماهير بنسبتهم
إلى النصارى ومن هنا تورع بعض أئمة المالكية كالقاضي أبي بكر بن العربي
واشترط في حل ذبائح النصارى أن يأكل منه قسيسهم وعامتهم فلم يكتفِ بعمل من
ينتسب إليهم دون علماء دينهم ورؤسائه وجرى على هذا التورع مفتي الديار
المصرية في فتواه للترانسفالي فقال ما نصه كما نشر في الجرائد: (وأما الذبائح
فالذي أراه أن يأخذ المسلمون في تلك الأطراف بنص كتاب الله تعالى في قوله:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: 5) ، وأن يعولوا على ما قاله
الإمام الجليل أبو بكر بن العربي المالكي من أن المدار على أن يكون ما يذبح من
مأكول أهل الكتاب قسيسهم وعامتهم ويعد طعامًا لهم كافة) ، ثم أوضح هذا بما نقلنا
بعضه من قبل، وقد تقدم أن القرطبي قال: (جمهور الأمة على أن ذبيحة كل
نصراني حلال سواء كان من بني تغلب أو من غيرهم) وممّن صرّح بحل ذبيحة
بني تغلب سعيد بن المسيب والحسن البصري وهما أعلم أئمة التابعين وأورعهم،
فلعل المفتي زاد في الورع عليهما تأثرًا بقول المالكية الذين تلقى مذهبهم أول
اشتغاله بالعلم، وإن كان لا يعمل الآن إلا بقوة الدليل وأراد موافقة الإجماع في فتواه
من حيث العمل بها لا من حيث اشتراط ما قاله ابن العربي، فإن الجماهير لا
يشترطونه كما علمت.
* * *
نص فتوى القاضي أبي بكر بن العربي
قال في تفسير آية: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ
لَّكُمْ} (المائدة: 5) من كتابه (أحكام القرآن) ما نصه: (هذا دليل قاطع على
أن الصيد وطعام الذين أوتوا الكتاب من الطيبات التي أباحها الله وهو الحلال
المطلق وإنما كرره الله تعالى ليرفع الشكوك ويزيل الاعتراضات عن الخواطر
الفاسدة التي توجب الاعتراضات وتحرج إلى تطويل القول. ولقد سئلت عن
النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها: هل تؤكل معها أو تؤخذ منه طعامًا؟
وهي المسألة الثامنة فقلت: تؤكل؛ لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه وإن لم تكن
هذه ذكاة عندنا ولكن الله أباح لنا طعامهم مطلقًا وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال
لنا إلا ما كذبهم الله فيه. ولقد قال علماؤنا: إنهم يعطوننا نساءهم أزواجًا فيحل لنا
وطؤهن فكيف لا نأكل ذبائحهم والأكل دون الوطء في الحل والحرمة؟) اهـ.
وقد استنكر هذه الفتوى بعض الطلاب الذين لا يعرفون من الإسلام إلا ما
يرون عليه قومهم من العادات الدينية، فسأل عنها أبا عبد الله الحفار أحد علماء
المالكية فأجاب بما نصه: (لا إشكال فيه - أي: قول ابن العربي - عند التأمل؛
لأن الله أباح لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم على الوجه الذي أبيح لهم من
ذكاة فيما شرعت فيه الذكاة على الوجه الذي شرعت. ولا يشترط أن تكون ذكاتهم
موافقة لذكاتنا في ذلك الحيوان المُزكّى ولا يستثنى من ذلك إلا ما حرم الله سبحانه
علينا بالخصوص كالخنزير وكالميتة التي لم تقتل بقصد الأكل وأما ما لم يحرم علينا
على الخصوص فهو مباح كسائر أطعمتهم وكل ما يفتقر إلى الذكاة من الحيوانات،
فإذا كان على مقتضى دينهم حل لنا أكله، ولا يشترط في ذلك أن تكون ذكاتهم
موافقة لذكاتنا؛ ذلك رخصة من الله وتيسير علينا. وإذا كانت الذكاة تختلف في
شريعتنا فتكون ذبحًا في بعض الحيوانات ونحرًا في بعض وعقرًا في بعض وقطع
عضو كرأس وشبهه كما هو ذكاة الجراد ووضعًا في ماء حار كذلك كالحلزون فإذا
كان هذا الخلاف عندنا بالنسبة إلى الحيوانات فكذلك قد يكون شرع في غير ملتنا
سل عنق الحيوان على وجه الذكاة فإذا أجاز الكتابي ذلك أكلنا طعامه كما أذن لنا
ربنا سبحانه ولا يلزمنا أن نبحث عن شريعتهم في ذلك؛ بل إذا رأينا أهل دينهم
يستحلون ذلك أكلنا كما قال القاضي أبو بكر؛ لأنها طعام أحبارهم ورهبانهم.
(وإنما وقع الاستشكال في هذه المسألة؛ لأن سل عنق الحيوان عندنا لا
يستباح به أكل الحيوان بل يصير ميتة، فصارت الطباع نافرة عن الحيوان
المفعول به ذلك، فحين أباح القاضي ذلك من طعام أهل الكتاب وقع استشكاله ولا
إشكال فيه على ما قررته. وعلى المحمل الذي ذكرته حمله بعض أئمتنا المتأخرين
المحققين) . اهـ. ولم يذكر الحفار بقية أنواع التذكية الشرعية من أخذ الكلاب
وغيرها من الجوارح المعلمة للصيد وإتيانها به ميتًا ومن الرمي بالسهم والصيد
بالمعارض وما ذكرناه كافٍ.
***
كلام الشيخ محمد بيرم في مسألة الخنق
ذكر الفقيه الحنفي الشيخ محمد بيرم الخامس في كتابه (صفوة الاعتبار)
مبحثًا طويلاً في ذبائح أوربا ونقل عن أهل مذهبه أن ذبائح أهل الكتاب حلال مطلقًا
وجاء بتفصيل في أنواع المأكول في أوربا ثم قال ما نصه:
(وأما مسألة الخنق فإن كان لمجرد شك فلا تأثير له كما تقدم وإن كان لتحقق
فلم أَرَ حكم المسألة مصرحًا به عندنا وقياسها على تحقق تسمية غير الله أنها محرمة
عند الحنفية وأما عند من يرى الحل في مسألة التسمية كما هو مذهب جمع عظيم
من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين فالقياس عليها يفيد الحِلِّية؛ حيث
خصصوا بآية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: 5) آية، {وَلاَ
تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: 121) آية، {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (المائدة: 3) وكذلك تكون مخصصة لآية المنخنقة ويكون حكم الآيتين خاصًّا
بفعل المسلمين والإباحة عامة في طعام أهل الكتاب؛ إذ لا فرق بين ما أهل به لغير
الله وما خنق فإذا أبيح الأول فيما يفعله أهل الكتاب فكذلك الثاني.
وقد كنت رأيت رسالة لأحد أفاضل المالكية نص فيها على الحل وجلب
النصوص من مذهبه بما ينثلج به الصدر سيّما إذا كان عمل الخنق عندهم من قبيل
الذكاة كما أخبر كثير من علمائهم، وأن المقصود التوصل إلى قتل الحيوان بأسهل
قِتلة لتوصل إلى أكله بدون فرق بين طاهر ونجس مستندين في ذلك لقول الإنجيل
على زعمهم فلا مرية في الحِلِّية على هاته المذاهب.
فإن قلت: كيف يسوغ تقليد الحنفي لغير مذهبه؟ قلت: أما إن كان المقلد من
أهل النظر وقلد الحنفي عن ترجيح برهان فهذا بما يقال: إنه لا يسوغ له ذلك؛ أي:
إلا أن يظهر له ترجيح دليل الحل ثانيًا، وأما إذا كان من أهل التقليد البحت كما هو
في أهل زماننا فقد نصوا على أن جميع الأئمة بالنسبة إليه سواء والعامي لا مذهب له
وإنما مذهبه مذهب مفتيه، قوله: أنا حنفي أو مالكي، كقول الجاهل: أنا نحوي، لا
يحصل له منه سوى مجرد الاسم، فبأي العلماء اقتدى فهو ناجٍ. على أن الكلام وراء
ذلك فقد نصوا على الجواز والوقوع بالفعل في تقليد المجتهد لغيره والكلام مبسوط
في ذلك في كثير من كتب الفقه وقد حرر البحث أبو السعود في شرح الأربعين حديثًا
النووية وألف في ذلك رسالة عبد الرحيم المكي فليراجعهما من أراد الوقف على
التفصيل.
فإن قيل: قد ذكرت أن الخنزير محرم وإن كان من طعامهم فلماذا لا يجعل
مخصصًا بالحِلية بهذه الآية؛ أي: آية طعامهم، وإذا جعلت آية تحريمه محكمة غير
منسوخة، فكذلك تكون المنخنقة؟ ولماذا تقيسها على مسألة التسمية ولا تقيسها على
مسألة الخنزير؟ وأي مرجح لذلك؟ فالجواب أن المأكولات منها ما حرم لعينه ومنها
ما حرم لغيره فالخنزير وما شاكله من الحيوانات محرمة لعينها ولهذا تبقى على
تحريمها في جميع أطوارها وحالاتها. وأما متروك التسمية أو ما أهل به لغير الله
والمخنقة فإن التحريم أتى فيه لعارض وهو ذلك الفعل ثم أتى نص آخر عام في
طعام أهل الكتاب وأنه حلال فأخرج منه محرم العين ضرورة وبالإجماع أيضًا وبقي
المحرم لغيره وهو مسألتان:
إحداهما: مسألة التسمية. والثانية: مسألة المنخنقة. فبقيتا في محل الكل
لتجاذب كل من نصي التحريم والإباحة لهما فوجدنا إحداهما وهي مسألة التسمية وقع
الخلاف فيها بين المجتهدين من الصحابة وغيرهم وذهب جمع عظيم منهم إلى الإباحة
وبقيت مسألة المنخنقة التي يتخذها أهل الكتاب طعامًا لهم مسكوتًا عنها فكان قياسها
على مسألة التسمية هو المتعين لاتحاد العلة.
وأما قياسها على مسألة الخنزير فهو قياس مع الفارق فلا يصح؛ إذ شرط
القياس المساواة. وإنما أطلنا الكلام في هذا المجال؛ لأنه مهم في هذا الزمان وكلام
الناس فيه كثير والله يؤيد الحق وهو يهدي السبيل.اهـ.
* * *
توضيح القول في الموقوذة وإدراك ذكاتها
قال القاضي البيضاوي في تفسير الموقوذة: هي المضروبة بنحو خشب أو
حجر حتى تموت، من (وقذته) إذا ضربته، وتبعه في ذلك أبو السعود الحنفي في
تفسيره وكذلك السيد محمد صديق حسن في تفسيره فتح البيان وزاد أن الوقذ هو شدة
الضرب حتى يسترخي ويشرف على الموت (قال) : وشاة موقوذة: ضُربت
بالخشب، وهذا هو المنصوص في القاموس وشرحه وغيرهما من المعاجم. وفي
مجمع بحار الأنوار: (الوقيذ والموقوذ هو الذي يقتل بغير محدد من عصا وحجر)
وقد صرح الإمام الرازي بأن الموقوذة في معنى الميتة والمنخنقة قال: (فإنها ماتت
ولم يسلْ دمها) وهذا لا خلاف فيه فإن الوقذ هو الضرب بغير المحدد.
وقد ذكر في تفسير قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (المائدة: 3) ، أنه استثناء
من جميع ما تقدم من المنخنقة إلى قوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} (المائدة: 3) وهو قول
علي وابن عباس والحسن وقتادة (قال) : فعلى هذا أنك إذا أدركت ذكاته بأن
وجدت له عينًا تطرف أو ذنَبًا يتحرك أو رجلاً تركض فاذبح فإنه حلال فإنه لولا
بقاء الحياة فيه لما حصلت هذه الأحوال) اهـ بحروفه.
والتعبير بالذكية يؤيده فإن أصلها - كما قال الرازي وغيره - إتمام الشيء
ومنه الذكاء في الفهم وهو تمامه ومثله الذكاء في السن ويقال: ذكيت النار؛ أي:
أتممت إشعالها، كأنه يقول: إلا ما أتممتم أنتم إماتته بذبح ونحوه. وقال في فتح
البيان في مقاصد القرآن: ففي قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (المائدة: 3) ، استثناء
متصل عند الجمهور وهو راجع على ما أدركت ذكاته من المذكورات سابقًا وفيه حياة
ثم ذكر خلاف غير الجمهور، وقال في إدراك الذكاة: وأما كيفية إدراكها فقال أهل
العلم من المفسرين: إن أدركت حياته بأن توجد له عين تطرف أو ذنَب يتحرك فأكله
جائز. وقيل: إذا طرفت عينها أو ركضت برجلها أو تحركت فاذبح فإنه حلال.
وقال الآلوسي في تفسيره: أي إلا ما أدركتموه وفيه بقية حياة يضطرب اضطراب
المذبوح وذكيتموه، وعن السيدين السندين الباقر والصادق رضي الله عنهما أن أدنى
ما يدرك به الذكاة أن يدركه وهو يحرك الأذن أو الذنب أو الجفن. وبه قال الحسن
وقتادة وإبراهيم وطاوس والضحاك وابن زيد. وقال بعضهم: يشترط الحياة المستقرة
وهي التي لا تكون على شرف الزوال وعلامتها على ما قيل أن يضطرب بعد الذبح لا
قبله. اهـ وأطال ابن جرير في رواياته عن الصحابة في تأييد الأول.
فعلم بهذا أن ما يضرب بمحدد كالبلطة لا يسمى وقيذًا ويدل على ذلك حديث
صيد المعراض في الصحيحين وغيرهما: (وإن أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا
تأكله) ، وأنه لو كان من الوقيذ فإن ما يفعله أهل الترنسفال من ذبحه وإسالة دمه
بعد ضربه محلل له كما تقدم وإنما ذكرنا هذه النقول؛ لأننا بعد كتابة ما تقدم
وتمثيله للطبع رأينا الجريدة السياسية تدَّعي أن ما يفعله أهل الترنسفال من الوقذ
وأنه لا يحل وإن ذبح وسال دمه.
وقد زادت على كلام الترنسفالي قولها: (ثم يذبحونها تتميمًا لقتلها فيسيل منها
الدم مصفرًّا دالاًّ على حصول الارتجاج المخي المفسد للدم ... ) ... إلخ والسائل لم
يقل ذلك ولو قاله لما كان مانعًا لصحة التذكية وحل الذبيحة؛ إذ لم يشترط أحد من
المسلمين أن يسيل الدم أحمر أو أسود وإنما اشترطوا علامة تدل على الحياة حتى
حركة أصغر الأعضاء كالجفن، وسيلان الدم بأي لون من أقوى علامات الحياة.
ولكن السياسة إذا تلاعبت بالدين لا تبالي بكتاب ولا سنة ولا قول إمام ولا
مفسر ولا فقيه ولا لغوي، فقد خالفت جميع العلماء في الموقوذة.
* * *
(الخلاف في التسمية)
خلُص لنا مما تقدم أن كتاب الله تعالى أباح لنا طعام أهل الكتاب مطلقًا لم
يشترط في ذلك أن يأخذنا بأحكام الإسلام في التذكية، وأن أكثر المسلمين من السلف
والخلف أخذ بهذا الإطلاق؛ فأكل النبي وأصحابه من اللحوم التي طبخوها والجبن
الذي عملوه إلا أن الحنفية اشترطوا أن لا يعلم الآكل أن ما عرض له من اللحم قد
أُهل به لغير الله أو تُرك ذكره عليه وكل ما نقلته الجريدة فهو عن مفسريهم وفقهائهم
وخالفهم في ذلك أكثر العلماء كما تقدم ونص على ذلك مفتي الحنفية في بغداد
الشهاب الآلوسي في تفسيره.
وقال الطبري في تفسير {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ} (الأنعام:
121) الآية: (واختلف أهل العلم في هذه الآية هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟
فقال بعضهم: لم ينسخ منها شيء وهي محكمة فيما عينت به وعلى هذا قول عامة
أهل العلم.
وروي عن الحسن البصري وعكرمة ما حدثنا به ابن حميد قال: حدثنا يحيى
ابن واضح عن الحسين بن واقد عن يزيد عن عكرمة والحسن البصري قال:
{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} (الأنعام: 118) ، {وَلاَ
تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (الأنعام: 121) فنسخ واستثنى من
ذلك فقال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} (المائدة: 5)
والصواب من القول في ذلك عندنا أن هذه الآية محكمة فيما أنزلت لم ينسخ منها
شيء وأن طعام أهل الكتاب حلال وذبائحهم ذكية وذلك مما حرم على المؤمنين أكله
بقوله: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ} (الأنعام: 121) بمعزل؛ لأن الله
إنما حرم علينا بهذه الآية الميتة وما أهل به للطواغيت. وذبائح أهل الكتاب ذكية
سموا عليها أو لم يسموا؛ لأنهم أهل توحيد وأصحاب كتب لله يدينون بأحكامها
يذبحون بأديانهم كما يذبح المسلم بدينه سمى الله على ذبيحته أو لم يسمه إلا أن يكون
ترك من ذكر تسميته على ذبيحته على الدينونة بالتعظيم أو بعبادة شيء سوى الله
فيحرم حينئذ أكل ذبيحته سمى الله أو لم يسمِّ) ا. هـ ويعني بالأخير من يترك
التسمية لترك الدين السماوي بالمرة أو للدخول في الوثنية.
ويؤيد تخصيصه الآية بالذبح للطواغيت أن الآية مكية وآية حل طعام أهل
الكتاب مدنية وهي من آخر القرآن نزولاً. والشافعية يحلون ترك التسمية ولو عمدًا
وقالوا: إن النهي مقيد بقوله تعالى:] وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [وفسر الفسق بقوله: {أَوْ فِسْقًا
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} (الأنعام: 145) وهو ما كان يفعله المشركون لطواغيتهم
وأهل الكتاب يحرمونه مثلنا وقد أطال الإمام الرازي في ترجيحه (راجع التفسير
الكبير) ، أما إذا لم يعلم الآكل أنهم أهلوا به لغير الله أو تركوا التسمية فأكله حلال
بإجماع السلف والخلف كاللحم الذي يباع عادة في بلاد اليهود والنصارى ولم يحضر
المسلم ذبحه ومنه اللحم الذي يباع في بلاد الترنسفال. وأما ضرب البقر بالبلطة
قبل ذبحه ليضعف فهو لا ينافي التذكية الشرعية عندنا لو فرضنا أنهم مطالَبون
بها وقد علمت أنهم غير مطالبين.
* * *
(تأييد الفتوى وحقيقتها وما به الإفتاء)
فظهر أن الفتوى مؤيَّدة بالكتاب والسنة وعمل السلف والخلف وأقوالهم وأن
خلاف الحنفية فيها لا يتحقق في واقعة الفتوى؛ إذ لا يمكن العلم بأن كل لحم يراه
المسلم هناك لم يذكر اسم الله عليه ولو فرضنا أنه تحقق فمذهب الجمهور أقوى من
مذهبهم لقوة أدلته، والمفتي يجب عليه أن يفتي بما يراه أقوى دليلاً وأقوم قيلاً
وأنفى للحرج بإجماع المسلمين من السلف والخلف، وإذا كانت المحاكم الشرعية
تسأل المفتي في مصر عن الصحيح من مذهب أبي حنيفة فليس كل مسلم مكلفًا بهذا
المذهب بل المسلمون مكلفون بكتاب الله وما صح عن رسوله، وعلى العلماء النظر
في ذلك والترجيح به بين أقوال العلماء.
وقد نقل عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم كانوا يقولون: لا يصح لأحد أن يأخذ
بقولنا ما لم يعرف دليلنا، وكذلك كان يقول جميع أئمة المسلمين (راجع نصوصهم في
مقالات المصلح والمقلد من مجلد المنار الرابع) فلم يبق بعد هذا إلا أن يرجع صاحب
تلك الجريدة عن اعتراضه بغير علم ويعلن ذلك في جريدته ليظهر أنه غير سيء
القصد وغير متلاعب بنصوص الدين عمدًا، ومتهجم على تحريم ما أحل الله قصدًا،
ويثبت أن ما يقوله بعض الناس من أن هذه الجعجعة قد انفرد بها صاحب هذه الجريدة
الذي ليس من أهل هذا الشأن دون العلماء والفقهاء وسائر الجرائد؛ لغرض سياسي
لغيره، شخصي له فهو يتوقع قضاء لبانته منه كما قضاها من غيره.
ونختم الكلام بتذكير المفتات على الشرع بقوله تعالى في سورة النحل بعد
حصر المحرمات في الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به إلا المضطر
إليه. وهو: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا
عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النحل: 116-117) .
* * *
(قول في اجتهاد المفتي وتقليده)
أما اللغط بأن إفتاء مفتي الديار المصرية بغير مذهب الحنفية يتضمن دعوى
الاجتهاد فيمكن الجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن تقليد أهل النظر الذين يسمون علماء بالمذاهب هو عبارة عن اتباع
ما يعتقدون أنه الأقوى دليلاً من أقوال الأئمة وقد أشرنا إلى أن مفتي الديار المصرية
لهذا العهد تلقى مذهب الإمام مالك في أول تحصيله للعلم فيجوز أن يكون يعتقد
ترجيحه إلى الآن، وإن كان تلقّى مذهب الحنفية وبرع فيه وعرف صحيحه من
غيره فإن لم يكن يرجح جميع مسائله فيجوز أن يكون يعتقد رجحان بعضها، وقد قال
العلماء كافة بأن تقليد بعض الأئمة في بعض المسائل وتقليد آخر في بعضها جائز
وما من عالم شهير إلا وله فتاوى فيما يخالف المذهب الذي ينسب إليه. وفي مقالات
المصلح والمقلد بيان في ذلك.
والثاني: أنه مجتهد وما كان لمَن يفسر القرآن بمثل ما يفسره به ويقيم الحجج
منه على بطلان التقليد واستحقاق صاحبه لمقت الله وعذابه أن يكون مقلدًا وحسبك
من ذلك تفسير الآيات المنشورة في هذا الجزء فراجعها واعتبر بها إن كنت من
المؤمنين، أما إنكار المقلدين الجاهلين عليه الاجتهاد فلا قيمة له؛ إذ ليس للمقلدين من
حجة ولا هم من أهلها، فَبمَ ينكرون؟ وقد نشرنا ولا نزال ننشر من الدلائل
والبراهين على بطلان التقليد في غير التفسير ما فيه مقنع لمن لم يختم الله على قلبه
وسمعه ويجعل على بصره غشاوة.
وقد كتب مفتي الديار المصرية في التوحيد والتفسير ما يقصر عنه كل ما كُتب
فيهما مما وصل إلينا من كتب الأولين والآخرين، وفضل الله ليس محصورًا في
زمن معين، ولا رحمته مقيدة بأفراد مخصوصين، بل تسع كل شيء. ولا ينافي
ذلك إفتاؤه الحكومة والمحاكم بمذهب الحنفية فإنهم يسألونه عنه لا عن اجتهاده ومن
يسأله عن رأيه يفتيه به.
فإن قيل: إن من علماء هذا العصر من يطعن فيه. نقول: إن هؤلاء الطاعنين
من الحاسدين أو المقلدين الذين أخذوا على أنفسهم تفنيد مَن يتبع الكتاب والسنة من
غير نظر في أدلته وقد طعن في الأئمة العظام من قبله مَن هم في طبقتهم علمًا
واجتهادًا ولهذا قال ابن عباس (رضي الله عنه) : (استمعوا قول القراء ولا
تصدقوا بعضهم على بعض فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرًا من التيوس في زروبها)
رواه ابن عبد البر في كتاب العلم، والمراد بالقراء العلماء، وبه عبّر في الإحياء،
وروى مثل ذلك عن مالك بن دينار بلفظ (العلماء) وقد ذكرت بعض ما طعن به على
الأئمة الأربعة لغيرهم كالبخاري وأضرابه بعض أهل العلم في عصرهم في كتاب
(الحكمة الشرعية) .
* * *
(واقعة تناسب ما تقدم)
جاء في ذكر حوادث المحرم سنة ست وثلاثين ومائتين وألف من الجزء الرابع
من تاريخ الجبرتي ما نصه (ص316) :
وفيه من الحوادث أن الشيخ إبراهيم الشهير بباشا المالكي بالإسكندرية قرر في
درس الفقه أن ذبيحة أهل الكتاب في حكم الميتة لا يجوز أكلها وما ورد من إطلاق
الآية فإنه قبل أن يغيروا ويبدلوا في كتبهم فلما سمع فقهاء الثغر ذلك أنكروه
واستغربوه ثم تكلموا مع الشيخ إبراهيم المذكور وعارضوه، فقال: أنا لم أذكر ذلك
بفهمي وعلمي، وإنما تلقيت ذلك عن الشيخ علي الميلي المغربي، وهو رجل عالم
متورع موثوق بعلمه، ثم إنه أرسل إلى شيخه المذكور بمصر يعلمه بالواقع، فألف
رسالة في خصوص ذلك وأطنب فيها فذكر أقوال المشايخ والخلافات في المذاهب
واعتمد قول الإمام الطرشوشي في المنع وعدم الحل وحشا الرسالة بالحط على علماء
الوقت وحكامه وهي نحو الثلاثة عشر كراسة (كذا) وأرسلها إلى الشيخ إبراهيم
فقرأها على أهل الثغر فكثر اللغط والإنكار خصوصًا وأهل الوقت أكثرهم مخالفون
للملة وانتهى الأمر إلى الباشا فكتب مرسومًا إلى كَتْخُدَا بيك بمصر وتقدم إليه بأن
يجمع مشايخ الوقت لتحقيق المسألة وأرسل إليه أيضًا بالرسالة المصنفة.
وأحضر كتخدا بيك المشايخ وعرض عليهم الأمر، فلطف الشيخ محمد
العروسي العبارة وقال: الشيخ علي الميلي رجل من العلماء تلقى عن مشايخنا
ومشايخهم لا ينكر علمه وفضله وهو منعزل عن خلطة الناس إلا أنه حاد المِزَاج
وبعقله بعض خلل والأولى أن نجتمع به ونتذاكر في غير مجلسكم وننهي بعد ذلك
الأمر إليكم.
فاجتمعوا في ثاني يوم وأرسلوا إلى الشيخ علي يدعونه للمناظرة فأبى عن
الحضور وأرسل الجواب مع شخصين من مجاوري المغاربة يقولان: إنه لا يحضر
مع الغوغاء بل يكون في مجلس خاص يتناظر فيه مع الشيخ محمد بن الأمير
بحضرة الشيخ حسن القويسني والشيخ حسن العطار فقط؛ لأن ابن الأمير يناقشه
ويشن عليه الغارة، فلما قالا ذلك القول تغير ابن الأمير وأرعد وأبرق وتشاتم بعض
مَن بالمجلس مع الرسل وعند ذلك أمروا بحبسهما في بيت الآغا، وأمروا الآغا
بالذهاب إلى بيت الشيخ علي وإحضاره بالمجلس ولو قهرًا عنه فركب الآغا وذهب
إلى بيت المذكور فوجده قد تغيب فأخرج زوجته ومن معها من البيت وسمَّر البيت
فذهبت إلى بيت بعض الجيران.
ثم كتبوا عرضًا محضرًا وذكروا فيه بأن الشيخ علي على خلاف الحق وأبى
عن حضور مجلس العلماء والمناظرة معهم في تحقيق المسألة وهرب واختفى لكونه
على خلاف الحق ولو كان على الحق ما اختفى ولا هرب والرأي لحضرة الباشا فيه
إذا ظهر وكذلك في الشيخ إبراهيم باشا السكندري (كذا) وتمموا العرض وأمضوه
بالختوم الكثيرة وأرسلوه إلى الباشا. وبعد أيام أطلقوا الشخصين من حبس الآغا
ورفعا الختم عن بيت الشيخ علي ورجع أهله إليه. وحضر الباشا إلى مصر في
أوائل الشهر ورسم بنفي الشيخ إبراهيم باشا إلى بني غازي ولم يظهر الشيخ علي
من اختفائه) ا. هـ
(المنار)
هذا ما كان من علماء الأزهر في أوائل القرن الماضي وهم شيوخ علماء
الأزهر الحاضرين أو شيوخ شيوخهم فيجدر بمشيخة الأزهر اليوم أن تنتصر للحق
الذي انتصرت له من قبل. وإذا كان العروسي شيخ الأزهر يقول يومئذ في تلطيف
أمر من يحرم ذبائح أهل الكتاب من العلماء أن في عقله خللاً فماذا ينبغي أن يقول
شيخ الأزهر اليوم في جاهل بالشرع يحرم ذبيحة أهل الكتاب ردًّا على فتوى مفتي
الديار المصرية بالحل المحتج عليها بالقرآن الكريم؟ وإذا كان أمير مصر في القرن
الماضي رأى وهو في كمال استقلاله وعدم دخول النصارى في أعماله - أن العالِم
الذي قال بعدم حل ذبائحهم يستحق النفي من بلاده فماذا يرى أمير مصر اليوم في
ذلك وهو أعلم من جده بوجه الحاجة إلى محاسنة الأمم النصرانية والأخذ بالأقوال
الشرعية التي تقنعها بأن ديننا دين مدنية وعمران!
لعل الرئيسان العظيمان يريان ويقولان: إن سلفنا اهتموا بتأديب الشيخين اللذين
حرما ذبائح النصارى؛ لأنهما من العلماء الذين ينخدع العوام بأقوالهم وأما المحرم
لها اليوم فهو من رجال القوانين فلا يلتفت أحد إلى قوله في الدين وهو رأي
صائب. وإن كان النهي عن المنكر من الواجب.
__________(6/771)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهة على الوحي
(س1) أحد قراء المنار بمصر:
حضرة الأستاذ الرشيد - عرضت لي شبهات في وقوع الوحي (وهو أساس
الدين) فعمدت إلى رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده حيث وقع اختياري عليها
وقرأت في بابي (حاجة البشر إلى الوحي) و (إمكان الوحي) فوجدت الكلام وجيهًا
معقولاً غير أن الحاجة إلى الشيء لا تستلزم وقوعه وكذا إمكانه وعدم استحالته
عقلاً لا يقتضي حصوله. ثم ما ذكر بعد من أن حالة النبي وسلوكه بين قومه وقيامه
بجلائل الأعمال وبوقوع الخير للناس على يده هو دليل نبوته وتأييد بعثته فليس شيئًا،
فإنه قد يكون (كون) النبي حميد السيرة في عشيرته صادقًا في دعوته - أعني
معتقدًا في نفسه - سببًا في نهوض أمته ولا يكون كل ذلك مدعاة إلى الاعتقاد
به والتسليم له.
ولقد حدث بفرنسا في القرن الخامس عشر الميلادي؛ إذ كانت مقهورة للإنكليز
أن بنتًا تُدعى (جان دَارْك) من أجمل النساء سيرةً وأسلمهن نيةً اعتقدت وهي في
بيت أهلها بعيدة عن التكاليف السياسية أنها مرسلة من عند الله لإنقاذ وطنها، ودفع
العدو عنه وصارت تسمع صوت الوحي فأخلصت في الدعوة للقتال وتوصلت
بصدق إرادتها إلى رئاسة جيش صغير وغلبت به العدو فعلاً ثم ماتت غب نصرتها
موتة الأبطال من الرجال؛ إذ خذلها قومها ووقعت في يد عدوها فألقوها في النار
حية فذهبت تاركة في صحائف التاريخ اسمًا يعبق نشره وتضوع رياه.
وهي الآن موضع إجلال القوم وإعظامهم فلقد تيسرت لهم النهضة بعدها
وجروا في العلم والرقي بعيدًا فهل نجزم لذلك أن تلك البنت نبية مرسلة؟ ! ... ربما
تذهبون إلى أن عملها لا يذكر مقارنًا بما أتت به الرسل وما وصل للناس من الخير
بسببهم فأقول: هل هناك من ميزان نزن به الأعمال النافعة لنعلم إن كانت وصلت إلى
الدرجة التي يجب معها أن نصدق دعوة صاحبها وهل لو ساعدت الصدف (كذا)
رجلاً على أن يكون أكبر الناس فعلاً وأبقاهم أثرًا واعتقد برسالة نفسه لوهم قام يفضي
بنا ذلك إلى التيقن من رسالته؟ !
أظن أن هذا كله مضافًا لغيره يدعو إلى الترجيح ولا يستلزم اليقين أبدًا على
أنني أنتظر أن تجدوا في قولي هذا خطأً تقنعونني به أو تزيدونني إيضاحًا ينكشف به
الحجاب وتنالون به الثواب. هذا، وإني أعلم من فئة مسلمة ما أعلمه من نفسي
ولكنهم يتحفظون في الكتمان ويسألون الكتب خشية سؤال الإنسان ولكنني لا أجد في
السؤال عارًا وكل عقل يخطئ ويصيب ويزلّ ويستقيم. (أحد قرائكم) .
(جواب المنار)
لقد سَرَّنَا من السائل أنه على تمكن الشبهة من نفسه لم يذعن لها تمام الإذعان
فيسترسل في تعدي حدود الدين إلى فضاء الأهواء والشهوات التي تفسد الأرواح
والأجسام بل أطاع شعور الدين الفطري ولجأ إلى البحث في الكتب ثم السؤال ممن
يظن فيهم العلم بما يكشف الشبهة ويقيم الحجة، وإن كثيرًا من الناس شبوا على
حب التمتع والانغماس في اللذة ويرون الدين صادًّا لهم عن الانهماك والاسترسال
فيها، فهم يحاولون إماتة شعوره الفطري. كما أمات النشوء في الجهل برهانه
الكسبي.
أرى السائل نظر من رسالة التوحيد في المقدمات ووعاها ولكنه لم يدقق النظر
في المقاصد والنتائج لذلك تراه مسلّمًا بالمقدمات دون النتيجة مع اللزوم بينهما ولو
عاد إلى مبحث (حاجة البشر إلى الرسالة) وتدبره وهو مؤمن بالله وأنه أقام الكون
على أساس الحكمة البالغة والنظام الكامل، فإنني أرجو له أن يقتنع. ثم إنني آنست
منه أنه لم يقرأ مبحث (وقوع الوحي والرسالة) أو لعله قرأه ولم يتدبره فإنه لم
يذكر البرهان على نفس الرسالة ويبني الشبهة عليه وإنما بناها على جزء من أجزاء
المقدمات وهي القول في بعض صفات الرسل عليهم السلام. وإنني أكشف له
شبهته أولاً فأبين أنها لم تصب موضعها ثم أعود إلى رأيي في الموضوع.
إن (جان درك) التي اشتبه عليه أمرها بوحي الأنبياء لم تقُم بدعوة إلى دين
أو مذهب تدعي أن فيه سعادة البشر في الحياة وبعد الموت كما هو شأن جميع
المرسلين ولم تأتِ بآية كونية ولا علمية لا يعهد مثلها من كسب البشر تتحدى بها
الناس ليؤمنوا بها، وإنما كانت فتاة ذات وجدان شريف هاجه شعور الدين وحرَّكته
مزعجات السياسة؛ فتحرك، فنفر، فصادف مساعدة من الحكومة واستعدادًا من
الأمة للخروج من الذل الذي كانت فيه، وكان التحمس الذي حركته سببًا للحملة
الصادقة على العدو وخذلانه. وما أسهل تهييج حماسة أهل فرنسا بمثل هذه
المؤثرات وبما هو أضعف منها فإن نابليون الأول كان يسوقهم إلى الموت مختارين
بكلمة شعرية يقولها ككلمته المشهورة عند الأهرام.
وأذكِّر السائل الفطن بأنه لم يوافق الصواب في إبعاد الفتاة عن السياسة
ومذاهبها فقد جاء في ترجمتها من دائرة المعارف ما نصه: كانت متعودة الشغل
خارج البيت كرعي المواشي وركوب الخيل إلى العين ومنها إلى البيت وكان الناس
في جوار دومرمي (أي: بلدها) متمسكين بالخرافات ويميلون إلى حزب أورليان في
الانقسامات التي مزقت مملكة فرنسا وكانت جان تشترك في الهياج السياسي
والحاسة الدينية وكانت كثيرة التخيل والورع تحب أن تتأمل في قصص العذراء
وعلى الأكثر في نبوءة كانت شائعة في ذلك الوقت وهي أن إحدى العذارَى ستخلص
فرنسا من أعدائها. ولما كان عمرها 13 سنة كانت تعتقد بالظهورات الفائقة
الطبيعة وتتكلم عن أصوات كانت تسمعها ورؤى كانت تراها، ثم بعد ذلك ببضع
سنين خُيل لها أنها قد دُعيت لتخلص بلادها وتتوج ملكها، ثم أوقع البرغنيور تعديًا
على القرية التي وُلدت فيها، فقوى ذلك اعتقادها بصحة ما خُيل لها، ثم ذكر بعد
ذلك توسلها إلى الحكام وتعيينها قائدة لجيش ملكها وهجومها بعشرة آلاف جندي،
ضباطهم ملكيون على عسكر الإنكليز الذين كانوا يحاصرون أرليان وأنها دفعتهم
عنها حتى رفعوا الحصار في مدة أسبوع وذلك سنة 1429. ثم ذكر أنها بعد ذلك
زالت خيالاتها الحماسية؛ ولذلك هوجمت في السنة التالية سنة (1430) فانكسرت
وجُرحت وأسرت.
فمن ملخص القصة يعلم أن ما كان منها إنما هو تهيج عصبي، سببه التألم من
تلك الحالة السياسية التي كان يتألم منها مَن نشأت بينهم مع معونة التحمس الديني
والاعتقاد بالخرافات الدينية التي كانت ذائعة في زمنها. وهذا شيء عادي معروف
السبب وهو من قبيل الذين يقومون باسم المهدي المنتظر كمحمد أحمد السوداني
والباب؛ بل الشبهة في قصتها أبعد من الشبهة في قصة هذين الرجلين وإن كانت
أسباب النهضة متقاربة فإن هذين كانا كأمثالهما يدعوان إلى شيء يزعمان أنه
إصلاح للبشر في الجملة.
أين هذه النوبة العصبية القصيرة الزمن، المعروفة السبب، التي لا دعوة
فيها إلى علم ولا إصلاح اجتماعي إلا المدافعة عن الوطن عند الضيق التي هي
مشتركة بين الإنسان والحيوان الأعجم، التي لا حجة تدعمها، ولا معجزة تؤيدها،
التي اشتعلت بنفخة وطفئت بنفخة، أين هي من دعوة الأنبياء التي بيَّن الأستاذ
الإمام أنها حاجة طبيعية من حاجات الاجتماع البشري طلبها هذا النوع بلسان
استعداده فوهبها له المدبر الحكيم {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه:
50) ؛ فسار الإنسان بذلك إلى كماله فلم يكن أدنى من سائر المخلوقات الحية
النامية بل أرقى وأعلى. وأين دليلها من أدلة النبوة وأين أثرها من أثر النبوة؟
إن الأمم التي ارتقت بما أرشدها إليه تعليم الوحي إنما ارتقت بطبيعة ذلك
التعليم وتأثيره وإن فرنسا لم ترتقِ بإرشاد (جان درك) وتعليمها وإنما مثلها مثل
قائد انتصر في واقعة فاصلة بشجاعته وبأسباب أخرى ليست من صنعه واستولت
أمته بسبب ذلك على بلاد رقتها بعلوم علمائها وحكمة حكمائها وصنع صناعها ولم
يكن القائد يعرف من ذلك شيئًا ولم يرشد إليه فلا يقال: إن ذلك القائد هو الذي أصلح
تلك البلاد وعمرها ومدنها، وإن عدّ سببًا بعيدًا فهو شبيه بالسبب الطبيعي كهبوب
ريح تهيج البحر فيغرق الأسطول وتنتصر الأمة.
أين حال تلك الفتاة التي كانت كبارقة خفت (ظهرت وأومضت) ثم خفيت،
وصيحة علت ولم تلبث أن خفتت، من حال شمس النبوة المحمدية التي أشرقت
فأنارت الأرجاء، ولا يزال نورها ولن يزال متألق السناء، أمي يتيم قضى سن
الصبا وسن الشباب هادئًا ساكنًا لا يعرف عنه علم ولا تخيل ولا وهم ديني ولا شعر
ولا خطابة ثم صاح على رأس الأربعين بالعالم كله صيحة: إنكم على ضلال مبين،
فاتبعونِ أهدكم الصراط المستقيم، فأصلح - وهو الأمي - أديان البشر:
عقائدها وآدابها وشرائعها وقلب نظام الأرض، فدخلت بتعليمه في طور جديد؟ لا
جرم أن الفرق بين الحالين عظيم إذا أمعن النظر فيه العاقل.
لا سعة في جواب سؤال لتقرير الدليل على النبوة وإنما أحيل السائل على
التأمل في بقية بحث النبوة في رسالة التوحيد ومراجعة ما كتبناه أيضًا من الأمالي
الدينية في المنار، لا سيما الدرس الذي عنوانه (الآيات البينات على صدق
النبوات) وإن كان يصدق على رسالة التوحيد المثل: (كل الصيد في جوف الفرا)
فإن بقي عنده شبهة فالأولى أن يتفضل بزيارتنا لأجل المذاكرة الشفاهية في
الموضوع فإن المشافهة أقوى بيانًا، وأنصع برهانًا، ونحن نعاهده بأن نكتم أمره
وإن أبى فليكتب إلينا ما يظهر له من الشبهة على ما في الرسالة والأمالي من
الاستدلال على وقوع النبوة بالفعل وعند ذلك نسهب في الجواب بما نرجو أن يكون
مقنعًا على أن المشافهة أولى كما هو معقول وكما ثبت لنا بالتجربة مع كثير من
المشتبهين والمرتابين.
__________(6/788)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
لو اعتقد أحدكم بحجر لنفعه!
(س2) الشيخ محمد حلمي أستاذ العربية بمدرسة سواكن الأميرية:
ضمني وبعض العلماء مجلس ودار بيننا الحديث في مرتبة الرسل والأنبياء
عليهم الصلاة والسلام والأولياء وآل البيت بعد الممات وهل هم قادرون على إجابة
دعوة الداع إذا دعاهم وهل يملكون لأنفسهم نفعًا أو ضرًّا وفي: (لو اعتقد أحدكم في
حجر لنفعه) ! هل هو حديث صحيح ومذكور في البخاري وفي الجامع الصغير.
فقلت أنا بالسلب في الكل وقالوا هم بالإيجاب، وقد رأينا أن نكتب لجنابكم لتأتوا لنا
في مجلتكم (المنار) بفصل الخطاب؛ فإنك نِعم الحكم الذي تُرضى حكومته، ولكم
من الله الأجر ومنا الشكر.
(ج) دعوة غير الله تعالى شرك ونعني بها اللجأ إلى غيره في طلب ما وراء
المساعدة والمعاونة الكسبية التي تكون بين الناس عادة: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ
تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) وقد أمر الله نبيه أن يبين للناس عمل الرسل
ووظيفتهم بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً * قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ
ضَراًّ وَلاَ رَشَداً * قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً * إِلاَّ
بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ 000} (الجن: 20-23) إلخ، قال البيضاوي وغيره في
تفسير قوله:] ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا [أي: لا ضرًّا ولا نفعًا ولا غيًّا ولا رشدًا (عبّر عن
أحدهما باسمه وعن الآخر باسم سببه أو مسببه إشعارًا بالمعنيين) ، أو هذا هو
الذي يسميه البُلغاء (الاحتباك) ومنه قوله تعالى: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ
زَمْهَرِيراً} (الإِنسان: 13) ؛ أي: شمسًا ولا قمرًا ولا حرًّا ولا زمهريرًا. وقالوا
في قوله] إلا بلاغًا [: إنه استثناء من قوله: (لا أملك) ؛ أي: لا أملك إلا
التبليغ والله الفاعل المؤثر الذي ينفع الناس ويرشدهم بالفعل. وهذه الآية بمعنى قوله
تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (فصلت: 6) وما في معناها من آيات
حصر وظيفة الأنبياء في التبليغ وقد شرحنا المقام مرارًا كثيرة.
وأما الحديث فقد جاء في كتاب (اللؤلؤ المرصوع) ، فيه ما نصه: حديث
(لو حسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه) موضوع كما قاله ابن تيمية. وقال ابن
الجوزي: هو من كلام عُبّاد الأصنام. اهـ ومن أعجب العجائب أن أمة التوحيد قد
فشا فيها هذا الحديث المفترى منذ فشت فيهم نزغات الوثنية ودعاء غير الله حتى إن
كل عامي يحفظه، ولما نبهنا على وضعه في درسنا العام في المسجد الحسيني وبينا
فساد الاحتجاج به قام بعض السدنة لتلك الهياكل يغري العامة بالقول بأننا نفسد لهم
دينهم أن قلنا - في عمود الرخام الذي في المسجد يتمسح به الناس ويلتمسون نفعه -:
إنه لا ينفع في الحقيقة ولا يضر وأن النافع الضار هو الله وحده ولكنه جعل للنفع
والضر أسبابًا وهدانا لاجتناب الضار واجتلاب النافع بما وهب لنا من العقل
والحواس والدين، وعَمَّ اللغط بذلك، حتى نصرنا الله رب العالمين.
* * *
الدعاء بين الخطبتين
(س3) الشيخ مبين شيخ رواق الأفغان في الأزهر: ما قولكم دام فضلكم في
رفع اليدين والصوت وتشويش الناس بالدعاء عند جلوس الإمام على المنبر بين
الخطبتين في يوم الجمعة كما هو رسم في زماننا فهل هو سنة أو مندوب أو بدعة أو
مكروه؟ وحديث عبد الله بن سلام أصح من حديث أبي موسى الأشعري في تعيين
الساعة التي يجاب فيها الدعاء. بينوا تؤجروا أثابكم الله.
(ج) حديث أبي موسى الذي يشير إليه السائل هو أن النبي عليه السلام يقول
في ساعة الجمعة: هي ما بين أن يجلس الإمام - يعني على المنبر - إلى أن يقضي
الصلاة. رواه مسلم وأبو داود وقد أعلوه مع ذلك بالانقطاع والاضطراب؛ أما
الأول: فلأن مخرمة بن بكير راويه عن أبيه قد نقل عنه أنه قال: إنه لم يسمع من
أبيه شيئًا.
وأما الثاني: فهو أنهم قالوا: إن أكثر الرواة قد جعلوا هذا الحديث من قول أبي
بردة مقطوعًا وأنه لم يرفعه غير مخرمة عن أبيه بردة ... إلخ ما قالوه وقد
استدركه الدارقطني على مسلم. وأما حديث عبد الله بن سلام فهو ناطق بأن الساعة
التي يجاب فيها الدعاء هي آخر ساعة من النهار وقد رواه ابن ماجه مرفوعًا ورواه
مالك وأصحاب السنن وغيرهم من طريق محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي
هريرة عن عبد الله بن سلام من قوله ورجاله رجال الصحيح وفي معناه أحاديث
أخرى تؤيده ويعارضها حديث أبي سعيد عند أحمد وابن خزيمة والحاكم وهو أنه
سأل النبي عنها فقال: (قد كنت علمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر)
ورجاله رجال الصحيح أيضًا، وأجيب عنه بأنه لا يصلح للمعارضة لجواز أن يكون
ذكر بعد ما نسي.
وللعلماء في تعيين ساعة الإجابة أربعون قولاً ونيف والأكثرون على ترجيح
أحد الحديثين المشار إليهما في السؤال، والأرجح أنها آخر ساعة من نهار الجمعة
والمراد بالساعة الزمانية وتصدق بدقيقة أو دقائق.
أما رفع اليدين والأصوات بالدعاء عند جلوس الخطيب بين الخطبتين فلا
نعرف له سنة تؤيده ولا بأس به لولا التشويش وأنهم جعلوه سنة متبعة بغير دليل
والمأثور طلب السكوت إذا صعد الإمام المِنبر، وإنما السكوت للسماع؛ لذلك نقول:
لا بأس بالدعاء في غير وقت السماع، ولكن يدعو خُفية، لا يؤذي غيره بدعائه
ولا يرفع كل الناس أيديهم، فيكون ذلك شعارًا من شعائر الجمعة بغير هداية من
السنة فيه؛ بل إنهم يخالفون صريح السنة؛ إذ يقوم الإمام ويشرع في الخطبة
الثانية وهم مستمرون على دعائهم، فأَولى لهم سماع وتدبر وقت الخطبة وفكر
وتأثر وقت الاستراحة وأهون فعلهم هذا أن يكون بدعة مكروهة والله أعلم.
* * *
منصب شيخ الإسلام وتاريخه
(س4) : من أ. ع. بالأزهر:
يقرع الأسماع كثيرًا لفظ (شيخ الإسلام) فهل هذا اللفظ مما اصطلح عليه
المسلمون وله مدخل في شأنهم ويعتبر من الوظائف الدينية التي يوجبها الشرع
أم هذا لفظ وضعي لا مساس له بالشرع؟ ومَن أول من اخترعه. نرجو الجواب ولكم
الأجر والثواب.
(ج) : إن هذا اللقب من الألقاب الحادثة لمنصب حادث ووظيفة شيخ
الإسلام في الدولة العثمانية الفتوى الرسمية؛ فهو المفتي الأكبر في المملكة وأحد
أعضاء مجلس الوزراء وقد وضع الملوك هذا المنصب بعد ما صارت أمور
المسلمين في أيدي الجاهلين بالشرع من السلاطين وأعوانهم الوزراء فمن دونهم
وكانوا محتاجين إلى من يفيدهم حكم الشرع في بعض ما يعرض لهم في سياستهم
للأمة لا سيما قبل أن يستبدلوا القانون بالشرع في كثير من أحكامهم. وكان اختراع
هذا اللقب في أوائل القرن التاسع زمن السلطان مراد خان الثاني الذي ولي السلطنة
في الثامنة عشرة من سنه وقد وليه في زمنه محمد شمس الدين 828 وفخر الدين
العجمي سنة 834 وشيخ الإسلام في الدولة هو الذي يولي القضاة والمفتين في
المملكة كلها بإذن السلطان، هذا هو اللقب الرسمي والعلماء كانوا يطلقونه على
البارعين في علم السنة وفقه الدين كابن تيمية والعز بن عبد السلام ويطلقونه في
مصر على شيخ الجامع الأزهر.
______________________(6/792)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
قد سمعنا أقوال الناس في أنساب الشعوب، ولكل أمة أساطير تحكيها في
أصلها ونسبها وتنتحل لها من الفضل والتميُّز ما تنتحل. وكل الذي زعموه خيال لا
يصح و (كذب النسابون) .
أما هؤلاء البحاثة النسَّابة من الأوربيين وهم أمثل النسابين في هذا العهد
لإنعامهم في التدقيق وإمعانهم في التحقيق فإنهم يذهبون إلى أن القرابة القريبة إنما
تعرف بتقارب اللغات. وقد يصح هذا لو كان لنا ثقة بأن الأقوام المتباعدة لم يطرأ
على ألسنتهم تغييرات توجب فيها قربًا من ألسنة البعداء وبعدًا من ألسنة القرباء
ولكن أنى لنا تلكم الثقة؟
وههنا نكتة كنا نود أن يسلم منها هؤلاء المحققون وهي نسبة العترة المتولدة
من والدين مختلفي القبائل إلى قبيلة الأب من دون الأم. فما الداعي أن نقول: فلان
ابن فلان حتى نوصله إلى أصل قبيلة ذي الصلب المشكوك ولا نقول:
فلان ابن فلانة حتى نوصله إلى قبيلة ذات الرحم المتيقن؟ ولكن سرى
لهؤلاء التقليد أيضًا وخلطوا ما قبل التاريخ بما بعد التاريخ؛ إذ قالوا: أصول البشر:
(1) الساميون (2) والإريانيون و (3) التورانيون ثم ألحقوا كل جيل من
الشعوب الحاضرة بأصل من هذه الأصول.
وإن نتبع الظن كما اتبعه غيرنا فإني لا أرى من قرابة للأجيال قريبة إلا
باعتبار تقارب المقرّات التي تفرق فيها البشر وهذا الرأي يعرفنا بقربى شعوب
الأرض من بعضهم فيما قبل تعريفًا يوصلنا إلى ما بعد. ويعطينا قاعدة نعتقد فيها
بقرابات الشعوب الحاضرة اعتقادًا جديدًا غير اعتقاد أولئك النسابين ومقلديهم. وهي
أن العبرة بآخر دور من المزيج وهذا يتحقق بتقارب المقر لا بتقارب اللغة،
فكم نعلم من فئة هاجرت من ديارها وحلت في ديار أخرى وتغذت من مواليدها
وتزوجوا بنسائها، ثم تغذت أولادهم من مواليدها وتزوجوا بنسائها فلم يلبثوا بطونًا
قليلة حتى صارت أعقابهم بعضًا من الذين هاجروا إليهم في اللون وتركيب البنى.
فأي الفريقين أقرب إلى هؤلاء؟ آلذين هاجروا عنهم لتقارب لغاتهم، أم الذين
هاجروا إليهم لامتزاجهم بها وتقارب أبدانهم واشتراكها في التركب من مواليد أرض
واحدة؟ ولِمَ لا ننسب أولاد المهاجرين المتولدين من بنات المهاجر إليهم إلى قبيلة
أمهاتهم؟
هذا إن حافظوا على أصل لغتهم أو أبقوا القرابة بينها وبين تلك، وقد يكون
هذا إن كان المهاجرون كثيرين كالعرب الذين هاجروا - قبل الإسلام - من الجنوب
إلى الشمال وكالأوربيين الذين هاجروا - قبل التمدن - من الشمال إلى الجنوب.
وأما إذا لم يحافظوا على اللسان - وهو كثير - فهل تجدون لهم قريبًا غير مَن
هاجروا إليهم ثم امتزجوا بهم؟
على أنه ما من أمة اختلطت بغيرها وأخذت منها إلا وتعطيها كما أخذت؛ فإن
أمة هاجرت وأخذت من المهاجر إليهم ألفاظًا وبيانات، حتى خالفت من هاجرت
عنهم بعض المخالفة فإنها تعطيهم ألفاظًا وبيانات من عندها حتى يوافق من هاجروا
إليهم لمن هاجروا عنهم بعض الموافقة، ثم قد تحدث أسباب تجعل هذا القليل من
المخالفة أو الموافقة كثيرًا.
وإنما التزمنا التعرض لهذا المبحث؛ لأن كلامنا في هذا الباب استدعى بيان ما
هو الأقدم من أحوال البشر؛ لتفيدنا معرفة تقلبه في الأطوار والأدوار معرفة ما هو
الأنسب الراجح من سننه، فإن الأنسب البقاء وبمثله يكون الارتقاء والمرجوح منه
ما باد، ومنه ما سيبيد بهمة المتفكرين.
وبالذي حررناه ينجلي لكم أن رابطة القومية قد أسسها قصد التعاون من بعد
تفرق الأزواج في كل مغار، فهو الذي جمع أبناءً من أزواج متعددين على رابطة
معناها قانون يحكم فيه بتكافل القرباء وتوحيد مصالحهم التي هي بالنسبة إلى غيرهم.
وقد رضخ البشر لهذا القانون الصناعي المادي حتى ظنه الظانون طبيعيًّا
روحيًّا فيئسوا من معالجة المرضى بالتعصبات التي لم تأذن بها الإنسانية (هي
المعنى المخلوق لأجله الإنسان) ويدلنا على كونه غير طبيعي كثرة ما يدعو
اختلاف المصالح بين القرباء إلى تبعيدهم وتقريب البعداء. وكم علمنا من حوادث
جرت على هذه السنن. وليس بعيدًا عهد المستعينين بالمماليك وهم أبعد البعداء على
سراة أمتهم وخواص أسرتهم وهم أقرب القرباء، وسواء كان المستعينون بالغريب
على القريب مدافعين أو مهاجمين فكلتا الحالتين تهدياننا إلى وقوع تعاد بين القرباء
يوقع الفرقة والتِّرَة، وحدوث تعاون بين البعداء يحدث الصلة والفرة. وهذا يهدينا
إلى أن الأصل صناعي لا طبيعي.
ولعل الذين يرون رسوخ ذلك الرضوخ لذلك القانون (رابطة القومية) طبيعيًّا،
إنما يبنون ظنهم على أن قرابة الأبدان توجب قرابة الأفكار والقلوب. وهو ظن
ليس ببعيد؛ بل يتبادر إلى ذهن كل امرئ، بيد أن إنعام النظر يهدي إلى أن الحس
يخطئ هذا الظن؛ وذلك أننا نجد أخص قرابة وهي قرابة الأولاد من الوالدين لا
توجب قرابة الأفكار والقلوب إلا إذا كانت أفكار الأولاد مأسورة بيد الوالدين أو
أحدهما وهو الأكثر.
والبداهة تشهد أن هذه القرابة الفكرية على هذا الوجه صناعية أيضًا. ومن
المشاهَد أن الذين خلصوا من هذا الأسر قد بعدوا بأفكارهم عن أفكار والديهم بعدًا
شاسعًا. ومن العجب أن هؤلاء الخالصين من ذلك الأسر على قلتهم وانفرادهم في
أممهم كانوا هم المغيرين لعادات البشر وأخلاقهم. والتغيرات التي حدثت في النوع
هي الدرجات التي تنقل فيها حتى بلغ هذا اليوم وشعوبه وأجياله متفاوتة هذا التفاوت.
بل نحن نجهر بما أخفى من هذا وهو أن البشر قبل أن يرتقوا (أي: قبل أن
تحدث لهم روابط أخرى غير رابطة القومية) لم تكن رحمتهم لأولادهم طبيعية لعلة
أنهم أجزاء منهم، وأقرب الأغيار إليهم، وأمانة عظمى في أيديهم، بل كانت
رحمتهم طبيعية لعلة أنها لازمة من اللوازم العامة فلم يكُ من فرق بينها وبين تلك
الرحمة الموجودة عند الحيوان مادام مولوده صغيرًا محتاجًا للرحمة.
وتظهر الثمرة من اختلاف العلتين في نقصها متى كبر أو فقدانها إلا أن تنقلب
إلى معنى آخر فيكون الحكم لذلك المعنى لا لها.
وذلك المعنى قد يكون الأمل بأن يكون عونهما يوم يكونان ضعيفين ويكون
قويًّا وقد يكون حنين النفس إلى ما ألفته بواسطة التربية. ومألوف النفس مرحوم
عندها ومحبوب ومولوه به. وقد تألف النفس جمادًا أو نباتًا أو حيوانًا فيكون لديها
أعز من الولد. ولا سيما إذا شارك الألفة شيء من التربية؛ لأن من جملة حب
الذات حب صنعتها وإلا لما صنعت والتربية من الصنعة؛ بل هي أم الصنائع لأن
في معناها التزييد وهو روح الصنع.
فالأمل هو الذي يجعل الأبناء أعز وأحب من البنات؛ بل فقده هو الذي كان
يجعل البنات حملاً ثقيلاً يجب الإسراع بطرحه كمثل أولئك الذين كانوا يئدونهن فلو
كانت رحمتهم للأولاد لتلك العلة المظنونة (علة كونهم أجزاء من الوالدين وأمانة
كبيرة عندهما) لما كان هذا الفرق. ولما كان فرق أيضًا بين أولاد الأبناء وأولاد
البنات وإنك لتراهم يفرقون. قال قائل منهم:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
والأمل هو الذي يكثر الحب والرحمة للأولاد إذا قلوا ولا سيّما إذا كان الوليد
وحيدًا ويقلله إذا كثروا. والتربية هي التي تجعل الصغير أعز من الكبير غالبًا
عند الأمهات. والذكر أعز من الأنثى لدى الآباء. والتربية هي التي تجعل
المربى البعيد من الإنسان في حكم الولد. كمثل ولد حملت به زوجته من غيره ثم
وضعته على فراشه وربياه في خبائهما؛ بل كولد التقطاه ليكون لهما في حكم الولد.
وتجعل غير المربى القريب من الإنسان في حكم البعيد كولد حملت به منه غير
زوجته ووضعته على غير فراشه، وولد حملت به ولما وضعته رمته ليلتقطه
الأبعدون أو لتأكله الكلاب والذئاب.
هذا، وما نحن في هذه البيانات بواترين حق تلك الصناعة التي كشفنا
أسرارها من أول نشأتها. ولكننا مهدنا تقلبها لنشير إلى بطلان أكثر التعصبات
المبنية عليها عند الذين تزكت نفوسهم وصحت أخلاقهم. فإنه لا معنى لدى أهل هذا
العلم (علم النفس وما يصلحها - علم الأخلاق) لتعصب كل قوم على آخرين بغير
الحق إلا الإثم والعدوان، والبغي والطغيان. وساء ذلك من تعاون. وما هو إلا
التغابن لو كانوا يفقهون.
وقد اغترّ بها الإنسان. يوم عداه العرفان. من أجل هذا كتب عليه الأثقلان.
الجهاد والعدوان. وغلب عليه المهلكان. الاستبداد والكفران. وبئس ذلكم الشان.
وأقبح من تلك التعصبات الباطلة الفخر بالأنساب وتخيل الشرف والمجد
بالتولد من ذاك الوالد وذاك الجد. وإن تلك لأوهام باطلة، لا تروج إلا على العقول
العاطلة، ولا يتعلق بها إلا كل ختال ختار. فقُوا أنفسكم من هذا العار - أن تكونوا
لها فاعلين، أو تكونوا بها مؤمنين.
هذا ما توصيكم به الفضيلة وهي التي تزكي حقائقكم وتهب كل نفس قوتها
وسعادتها. أما ما توصيكم به السياسة وهي التي تزكي أسماء جماعاتكم. وتهب كل
جماعة حظها من التميز على أختها فإنها توصيكم أن لا تنسوا حظكم من تلك
الرابطة، وإن استعنتم بالأوهام، وتوصيكم أن لا تجمدوا عليها لئلا تبقوا كالأنعام؛
كما بقي أهل المغارات وإخوانهم من في الخيام، فكونوا من إخوان الفضيلة أو
إخوان السياسة إنكم مخيّرون. وتفكروا ينفعكم التفكر ولعلكم ترشدون. ولا تقلدوا
إن المقلدين إخوان الهون. ومن ظن أن حكم الأمم بهذه الرابطة فأعلموه أنهم
بالسياسة حاكمون. وفي الآتي نفصله للذين يقرؤون.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز.)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/795)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استمساك العرب بالدولة العلية
زار اللورد كرزون حاكم الهند العام الخليج الفارسي من مدة قريبة ولما عرج
على جزيرة البحرين زار فيها هو وقرينته صديقنا محمد باشا عبد الوهاب أمير
دارين الشهير في محله التجاري بالبحرين، ورغبت اللادي كرزون إليه أن يطلعها
على جميع أصناف اللؤلؤ فسُرت مما شاهدته منها، ولم تكن رأته وقد زار صديقنا
المذكور جناب اللورد في بارجته الحربية كما زاره غيره من الأمراء؛ ولكن كتب
إلينا من هناك أن الزورق الذي حمل محمد باشا عبد الوهاب إلى بارجة اللورد كان
مرفوعًا عليه العلم العثماني دون غيره، وأنه عند اللقاء قدَّم إلى جناب اللورد كتابًا
بدأه بالبسملة الشريفة وحمد الله تعالى ثم ذكر أن الملوك والحكام إنما يتفاضلون
بالائتلاف الذي فيه صلاح البرايا، ثم انتقل من ذلك إلى الثناء على السلطان عبد
الحميد خان الذي أتحفه بالرتب العالية والوسامات السامية وذكر أن بلاده تتقدم في
الحضارة وترقى التجارة في ظل الدولة العلية ترقيًا مستمرًّا. ثم أثنى بعد ذلك على
الحكومة القيصرية الهندية وعلى جناب اللورد خاصة لتشريفه بزيارته ولما يراه من
الرعاية وتسهيل سبل التجارة عليه في الممالك الهندية.
وأعرب في ختام الكتاب عن رجائه ورجاء أهل بلاده في: (أن يكون هذا
التشريف الميمون سببًا في زيادة الاتفاق الصادق بين الدولتين الفخيمتين، الدولة
العلية العثمانية والدولة الفخيمة القيصرية) .
ولا يخفى أن إنكلترا تعتبر جزيرة البحرين تحت حمايتها، أما دارين فإنها
تابعة للدولة العلية، وهي - في الحقيقة - ميناء بلاد نجد في جنوب بلاد العرب،
ووجود مثل محمد باشا عبد الوهاب فيها يزيد في تعلق أهلها بالدولة العلية،
والاستمساك بعُروتها، وفق الله الدولة وأمراء العرب إلى ما به دوام الاتفاق وخير
المسلمين، آمين.
__________(6/799)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نصيحة لمسلمي سيرالون
قد علم من الرسالة المنشورة في الجزء الماضي عن سيراليون أن مسلمي تلك
البلاد قد فتك فيهم الجهل والتعادي، ولا علاج لهم من هذا الداء إلا بالتعليم والتمسك
بآداب الدين، وقد قيَّض الله لهم في هذه الأيام من يرشدهم إلى ترقية تعليم العربية
والدين؛ فعليهم أن يغتنموا هذه الفرصة ويأخذوا بإرشاد ذلك السائح. وقد جاءنا رجل
منهم سوداني اسمه هارون الرشيد يريد طلب العلم في الأزهر فأخبرنا بمثل ما كتب
السائح من حالهم التعيسة وأثنى عليه ثناءً حسنًا.
__________(6/800)
غرة ذو القعدة - 1321هـ
19 يناير - 1904م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كلمة في القبور [*]
لا نريد بهذا العنوان البحث عن تاريخ القبور كالنواويس والأهرام وما شاكلها
من معالم الوثنية الأولى، وإنما نريد الوقوف بفكرة القارئ عند اختلاف المؤرخين
في مكان قبر أبي عبيدة كاختلافهم في تعيين كثير من قبور رجلة الصحابة الكرام
الذين دوخوا هذا الملك العظيم وتحلوا بتلك الشيم الشماء وبلغوا من الفضل والتفضل
والتقوى والصلاح غاية لم يبلغها أحد من الأولين ولا الآخرين. وقد بسط
المؤرخون أخبار أولئك الرجال العظام وعنوا بتدوين آثارهم العظيمة في فتوح
الممالك والبلدان حتى لم يتركوا في النفوس حاجة للاستزادة ونعم ما خدموا به الأمة
والدين.
إن القارئ إذا وقف بفكره عند هذا الأمر وقفة المتأمل لا يلبث أن يأخذه
العجب لأول وهلة من ضياع قبور أولئك الرجال العظام، واختفاء أمكنتها عن نظر
نقلة الأخبار ومدوني الآثار على جلالة قدر أصحابها وشهرتهم التي طبقت الآفاق
وملأت النفوس وإعظامًا لقدرهم وإكبارًا لجلائل أعمالهم وثناءً عليهم وتكريمًا لذكر
أسمائهم وشكرًا لآلائهم واعترافًا بجميلهم وإقرارًا بفضيلة سبقهم بالإيمان ونشرهم
دعوة القرآن.
لا جرم أن القارئ أقل ما تحدثه به النفس عند التأمل في هذا الأمر أن أولئك
الرجال ينبغي أن تعلم قبورهم بالتعيين، وتشاد عليها القباب العاليات ذات الأساطين،
إذا لم يكن لشهرتهم بالصلاح والتقوى وصدق الإيمان وصحبتهم للنبي عليه
الصلاة والسلام فلما أتوه من كبار الأعمال، التي تعجز عنها أعاظم الرجال، فكيف
غابت قبورهم عن نظر المؤرخين، ودرست أجداثهم التي تضم أكابر الصحابة
والتابعين، حتى اختلف في تعيين أمكنتها أرباب السير، وعفا من أكثرها الأثر،
إلا ما علموه بعدُ بالحدس والتخمين، وأظهروا أثره بالبناء عليه بعد ذلك الحين، مع
أن المشاهَد عند المسلمين صرف العناية إلى قبور الأموات بما بلغ الغاية بالتأنق في
رفعها وتشييدها ورفع القباب عليها واتخاذ المساجد عندها لا سيما قبور الأمراء
الظالمين الذين لم يظهر لهم أثر يشكر في الإسلام، والمتمشيخة والدجالين الذين كان
أكثرهم يجهل أحكام الإيمان، ولا نسبة بينهم وبين أولئك الرجال العظام كأبي عبيدة
ابن الجراح وإخوانه من كبار الصحابة الكرام الذين تلقوا الدين غضًّا طريًّا، وبلغوا
بالتقوى والفضيلة مكانًا قصيًّا.
والجواب عن هذا أن الصحابة والتابعين لم يكونوا في عصرهم بأقل تقديرًا
لقدر الرجال وتعظيمًا لشأن من نبغ فيهم من مشاهير الأبطال وأخيار الأمة إلا أنهم
كانوا يأنفون من تشييد قبور الأموات وتعظيم الرفات لتحققهم النهي الصريح عن
ذلك من صاحب الشريعة الغراء الحنيفية السمحة التي جاءت لاستئصال شأفة
الوثنية ومحو آثار التعظيم للرفات، أو العكوف على قبور الأموات، ويرون أن
خير القبور الدوارس وأن أشرف الذكر في أشرف الأعمال.
لهذا اختفت عمن أتى بعد جيلهم ذلك قبور كبار الصحابة وجلة المجاهدين إلا
ما ندر ثم اختلف نقلة الأخبار في تعيين أمكنتها باختلاف الرواة وتضارب ظنون
الناقلين. ولو كان في صدر الإسلام أثر لتعظيم القبور والاحتفاظ على أماكن
الأموات بتشييد القباب والمساجد عليها لما كان شيء من هذا الاختلاف ولما غابت
عنا إلى الآن قبور أولئك الصحابة الكرام كما لم تغب قبور الدجاجلة والمتمشيخين
التي ابتدعها بعد العصور الأولى مبتدعة المسلمين وخالفوا فعل الصحابة والتابعين.
حتى باتت أكثر هذه القباب تمثل هياكل الأقدمين وتعيد سيرة الوثنية بأقبح أنواعها
وأبعد منازعها عن الحق. وأقربها من الشرك.
ولو اعتبر المسلمون بعدُ باختفاء قبور الصحابة الذين عنهم أخذوا هذا الدين
وبهم نصر الله الإسلام لما اجترؤوا على إقامة القباب على القبور وتعظيم الأموات
تعظيمًا يأباه العقل والشرع وخالفوا في هذا كله الصحابة والتابعين الذين أدوا إلينا
أمانة نبيهم فأضعناها وأسرار شريعته، فعبثنا بها، وإليك ما رواه في شأن القبور
مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله
عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ أن لا أدَع
تمثالاً إلا طمسته ولا قبرًا مُشْرِفًا إلا سوَّيته.
وفي صحيحه أيضًا عن ثمامة بن شُفَيّ، قال: كنا مع فضالة بن عبيد
بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسُوِّي. ثم قال: سمعت
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأمر بتسويتها [1] .
هكذا بلغونا الدين وأدوا إلينا أمانة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تأكيدًا لعهد
الأمانة بدؤوا بكل ما أمرهم به الرسول بأنفسهم لنستن بسنتهم ونهتدي بهدي نبيهم
ولكن قصرت عقولنا عن إدراك معنى تلك الجزئيات. وانحطت مداركنا عن مقام
العلم بحكمة التشريع الإلهي والأمر النبوي القاضي بعدم تشييد القبور اتقاء التدرج
في مدارج الوثنية. فلم نحفل بتلك الحكمة وتحكمنا بعقولنا القاصرة بالشرع فحكمنا
بجواز تشييد القبور استحبابًا لمثل هذه الجزئيات حتى أصبحت كليات وخرقًا في
الدين وإفسادًا لعقيدة التوحيد، إذ مازلنا نتدرج حتى جعلنا عليها المساجد وقصدنا
رفاتها بالنذور والقربات ووقعنا من ثم، فيما لأجله أمرنا الشارع بطمس القبور كل
هذا ونحن لا نزال في غفلة عن حكمة الشرع نصادم الحق ويصادمنا حتى نهلك مع
الهالكين. اهـ.
__________
(*) نبذة من الجزء الثالث من كتاب أشهر مشاهير الإسلام، الذي يطبع بمطابعنا في هذه الأيام.
(1) الأحاديث الواردة بالنهي عن تشييد القبور وتعظيمها ولعن من يتخذها مساجد ويقصدها بالنذور كثيرة قد استقصى الكلام عليها كثير من الأئمة المصلحين كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأمثالهما، فلتراجع في مظانها من كتب القوم كالواسطية وإغاثة اللهفان وغيرهما اهـ من هامش الأصل، ويعلم القراء أن المنار وفَّى هذا الموضوع حقه.(6/809)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة ذبائح أهل الكتاب
تأييد الفتوى بالإجماع
واقعة الفتوى أن النصارى في قطر من الأقطار (هو الترنسفال) يضربون
البقر قبل ذبحه بآلة محددة تسمى البَلْطَة ثم يذبحونه ذبحًا، وأنهم في زعم السائل لا
يسمون الله على ذبائحهم.
(تحرير الجواب)
وتحرير الجواب من حيث صحة الذبح أن ضرب الحيوان قبل ذبحه بمحدد أو
غير محدد لا ينافي كون ذبحه بعد ذلك من التذكية التي يحل بها أكله فهو حلال
بإجماع المسلمين من السلف والخلف، والمتبادر من تصريح السائل بذبح البقر هو
أنهم يذبحونه وفيه حياة، إذ الميت لا يذبح. والمتبادر أن هذه الحياة هي التي يسميها
بعض الفقهاء من الخلف الحياة المستقرة التي من علامتها انفجار الدم والحركة
العنيفة، إذ لو ذكي الحيوان وليس فيه إلا الرمق لما اعتد العامي (كالمستفتي في
الواقعة) بذبحه؛ بل لما سمّاه ذبحًا فالحياة هي الأصل، ولم يرد في السؤال مما
يدل على زوالها أو بقاء الرمق فيها فقط فيقال: إنها حلال على رأي الجمهور والأكثر
كما قال المفسرون (ونقلنا ذلك عنهم في الجزء الماضي) لا بالإجماع كما تدعي.
وما قلناه من أن إطلاق السؤال أنهم يذبحون بعد الضرب يقتضي أن يكون
المذبوح حلالاً بالإجماع نعرضه على علماء الإسلام في مصر وفي سائر الأقطار،
ونقول: إنه لا يمكن لأحد منهم رده. ومن يزعم أن أئمة المسلمين اختلفوا في حل
الحيوان يذبح بعد ضرب بأي شيء فليكتب إلينا بالبيان لننشر قوله ونحن على يقين
من أن كل عالم إسلامي يعلم أنه لا خلاف في ذلك وإنما الخلاف فيما إذا ثبت أن
الحيوان ذبح بعد عروض سبب يحال عليه الهلاك وليس فيه حياة مستقرة فقال
بعض الفقهاء: لا يحل. وقال أكثرهم: إنه يحل. وتقدم في الجزء الماضي قول
المفسرين في ذلك.
وعلامة الحياة المستقرة انفجار الدم والحركة العنيفة كما قاله فقهاء
الشافعية وقد علمت مما نقلنا عن الصحابة وغيرهم في الجزء الماضي أنه يكفي في
الموقوذة ونحوها علامة تدل على الرمق من الحياة كحركة الجفن أو الذنب وأنه
المتبادر من قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (المائدة: 3) .
وأما مسألة التسمية في الواقعة فنقول: إنه لا سبيل إلى الحكم على أهل قطر
من الأقطار بأنهم لا يذكرون الله على ذبائحهم إلا إذا كان دينهم يمنعهم من ذلك.
والمسؤول عنهم في واقعة الفتوى ليسوا كذلك؛ لأنهم نصارى ولو أحل الله ذبائحهم
وهم كذلك لما كان للاختلاف في اشتراط تسميتهم وعدمها وجه من الوجوه. وقد
نصوا على أن ذبيحة الكتابي لم يعلم أذكر اسم الله عليها أم غيره أم لم يذكر شيئًا هي
حلال بالإجماع وذلك هو الواقع في مسألتنا؛ إذ العلم بعدم ذكر اسم الله على كل ذبيحة
في قطر الترنسفال أو في أي بلد من البلاد متعذر، وإنما يتيسر العلم بذلك في
ذبيحة معينة وليس هو واقعة الفتوى. فالمسؤول عنه هو في الواقع ونفس الأمر من
المجهول وهو حلال بالإجماع. وإننا نعرض هذا أيضًا على علماء الإسلام في
مصر وفي سائر الأقطار الإسلامية، ونقول: إنه لا يمكن رده ولا نقضه ومن زعم
خلاف ذلك فعليه بالبيان. وممن صرح بالإجماع في المسألة الطبري وابن كثير
كما تقدم في الجزء الماضي.
وأما محل الخلاف في مسألة التسمية من الكتابي وعدمها فهو إذا علم المسلم
في ذبيحة معينة أن الكتابي لم يذكر اسم الله عليها أو ذكر اسم غيره وقد رأيت النقل
من الجزء الماضي عن المفسرين في أن ممن قال بالحل من الصحابة (رضي الله
عنهم) أبا الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس ومن التابعين الزهري وربيعة
(شيخ الإمام مالك) والشعبي ومكحول وعطاء، وأن الشعبي وعطاء سُئلا عن
اليهودي يذكر اسم عُزير والنصراني يذكر اسم المسيح فقالا: إن الله قد أحل
ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون: ورأيت أن عليًّا وابن عمر وعائشة القائلين بالمنع
إنما قالوا: إذا سمعت الكتابي يذكر اسم غير الله فلا تأكل، وهذه العبارة على
كونها تشترط السماع ليست نصًّا في التحريم؛ إذ يحتمل أن يكون النهي للتنزيه.
وإذا سلمنا أنه للتحريم فلنا أن نقول: إن المسلم في الترنسفال يسهل عليه أن
يأكل من اللحم الذي يجده في السوق لانتفاء الشرط وله أن يتورع في الذبيحة التي
يسمع النصراني يذكر عليها اسم غير الله فلا يأكل منها ليوافق الإجماع في الحالين،
ولا تنسَ أن السائل لم يقل: إنهم يذكرون اسم غير الله، فعلمنا من هذا أن الفتوى في
واقعتها ليست مؤيدة برأي القاضي أبي بكر بن العربي؛ بل هي مؤيدة بالإجماع ومن
الجهل العام أن يستطيع رجل جاهل بالشرع - معروف بسوء القصد - تشكيك
بعض الناس في حلها.
فإن قيل: لماذا استدل المفتي بقول القاضي أبي بكر بن العربي من أئمة
المالكية ولم يستدل بالإجماع إذا كانت المسألة إجماعية كما قلت؟ والجواب أن
المفتي لم يكن في جوابه في مقام المناظرة والاحتجاج؛ وإنما سئل عن حكم الله
فاستدل بكتاب الله لا بقول ابن العربي وبعد الاستدلال بالنص، قال: وأرى أن يعولوا
على ما قاله فلان في تفسير الآية. والغرض من ذلك الإرشاد إلى الأخذ بالاحتياط في
شبه مسألة اختلف فيها الصحابة (رضي الله عنهم) وهي ذبيحة نصارى بني تغلب
قال علي كرم الله وجهه: لا تحل لأنهم لم يأخذوا من النصرانية إلا شرب الخمر.
وقال غيره: منهم تحل لأنهم انتموا إلى النصرانية ولا يجب علينا البحث عن
أعمالهم. فأراد المفتي أن يأخذ أهل الترنسفال بالاحتياط فلا يأكلوا إلا من الذبيحة التي
يأكل منها القسيسون مع العامة، وإلى أن الدين يسر يبيح أكثر مما في واقعة السؤال،
ولم يكن قول ابن العربي هو العمدة له في الاستدلال. وما ذكرناه في مقالة الجزء
الماضي يتضمن كل ما لخصناه هنا ولكن الكلام هناك متشعب والنتائج فيه
ممزوجة بالمقدمات والدلائل والنقول فاختصرناه هنا؛ ليعقله كل قارئ. والمراد
بالإجماع بشرطه إجماع أهل السنة المحلين لذبائح أهل الكتاب دون الشيعة.
تهافت المرجف في الفتوى
ما قام أحد بدعوة إلا ووجد من لبّى دعوته حتى الذين ادعوا الألوهية من دون
الله وشبيه الشكل منجذب إليه. وقد بدأ بالإرجاف في الفتوى رجل من محرري
الجرائد الساقطة عرف بالطعن في المفتي من عدة سنين حتى زعم أنه ينكر الله أو
توحيده وحوكم في ذلك وفي مثله وحكم عليه غير مرة وسجن. ولما دفع أو اندفع
صاحب الجريدة المحدثة إلى الإرجاف استخدمه فصار يكتب له باسمه وينقل بعض
ما يكتبه له في جريدته التي صرح فيها بأنه المحرر لها فصارا اثنين في (الظاهر)
ولكنهما واحد في الحقيقة. ثم علمنا أن صاحب (الحمارة) الذي حوكم قبل الآن
في طعنه بالمفتي وسجن وحدث السياسة المشهور بالطعن في المفتي أيضًا قد انضما
إليه أو إليهما فحدث السياسة رابعهم. فهؤلاء حماة الإسلام اليوم الذين يتبجحون
بنصره والمدافعة عنه بتحريم ذبائح أهل الترانسفال وهي حلال بإجماع أهل السنة
والجماعة كما تقدم بل الحقيقة أن المعترض هو الأول وحده والآخران يصدقانه فقط.
أما مَنْفَذ الإرجاف فقد كان في أول الأمر تسمية ذبائحهم موقوذة وقد أكثر اللغو
في ذلك. ولما نشرت الجرائد المنتشرة المقالات المبينة أن حقيقة الموقوذة هي ما
ضربت بغير محدد حتى ماتت قبل أن تذبح وفيها حياة خرق له منفذًا ثانيًا وهو أن
أحبار اليهود وقسوس النصارى لا يعتدون بذبيحة أهل الترنسفال. وقد أخذ بخناقه
هذا المنفذ فخلط فيه أشد مما خلط في الأول؛ إذ كان ينقل من العبارة فيهما بعضها
على حد: (لا تقربوا الصلاة) يقتصر عليها من يريد تحريم الصلاة. وإذا صح
أن قسوس النصارى لا يعتدون بتلك الذبيحة ولا يجيزون أكلها فالفتوى صريحة في
تحريمها؛ إذ فيها اشتراط أن يأكل منها قسيسهم وعامتهم ويتفقون على أنها حلال في
دينهم. فانظر كيف يناقض المرجف نفسه فيؤيد الفتوى من حيث لا يفهم، ثم يفندها
من حيث لا يعلم.
ثم خرق له منفذًا ثالثًا وهو الطعن بابن العربي؛ لأن المفتي ذكره في فتواه وأيد
رأيه في الأخذ بالآية الشريفة مع اعتبار ذلك الشرط المذكور آنفًا. أما طريق هذا
الطعن فهو أن بعض الفقهاء بحث في فتوى لابن العربي بحل ما يختقه الكتابي وقد
تهافت قول المرجف وتناقض في هذا أيضًا ونقل في هذا أيضًا ونقل عن المالكية ما
يصرح بأن فتوى القاضي ابن العربي صحيحة على خلاف فيها وأن وجه النقد
عليها من جهة العبارة فقط وهو أنه أطلق القول ولم يقيده بأن يكون فتل عنق
الدجاجة المسؤول عنه بقصد التذكية؛ أي: الإماتة لأجل الأكل فقد جاء في نقله عن
المالكية بعد نقل ما قاله ابن العربي ما نصه:
ظاهر كلام ابن العربي التعارض ولكن جمع بينهما ابن عرفة ونصه:
وقول: ابن عبد السلام: أجاز ابن العربي أكل ما قتله الكتابي ولو رأيناه يقتل
الشاة؛ لأنه من طعامهم، يرد بأن ظاهره نوى بذلك الذكاة أولاً وليس كذلك فنقل
جميع ما تقدم عنه مختصرًا وقال ما نصه: قلت: فحاصله أن ما يرونه مذكى عندهم
يحل لنا أكله وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة.اهـ) اهـ من جريدتي المرجف.
وما قاله ابن عرفة وهو من أكبر فقهائهم موافق لما قلناه في الجزء الماضي
من أن مجموع الأحاديث يدل على أن الذكاة هي ما كان إزهاق الروح فيه بقصد
الأكل لا مطلق التعذيب والإعدام. وظاهر أن مسألة فتوى ابن العربي لم يكن
ينقصها إلا النص على أن قتل عنق الدجاجة يعد ذكاة إذا أرادوا به ذلك وكأنه لم
يذكره لدلالة القرينة عليه.
ثم ذكر قولاً آخر عن (المعيار) في المسألة وأنه أيد فتوى ابن العربي أيضًا
وقولاً آخر عن الزياتي وأنه سلمه فعلم أن المسألة مسلمة عند فقهاء هذا المذهب.
وإنما أورد المرجف هذه النقول وهي حجة عليه؛ لأنه وجد أن بعض
المتأخرين قال: إن في هذا الكلام نظرًا من وجوه. وقد تصفحنا تلك الوجوه فرأيناها
غير وجيهة، فإنه في أولها يستشكل تصديق أحبار أهل الكتاب ورهبانهم في أن هذا
حلال عندهم ويستدل على ذلك بأن القرآن شهد عليهم بالتحريف والتبديل وثبت أنهم
كذبوا بحضرة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا
تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم) ، وهذا الوجه
حجة على ذلك المتأخر فإن الله تعالى قد أطلق القول بحل طعامهم وهو عالم بذلك
منهم وأخبر به نبيه والمؤمنين.
فدل ذلك على أنه لا يطلب منا؛ بل يحرم علينا أن نعتمد على ما في كتبهم
المحرَّفة وعلى أقوالهم فيها، وإنما يحل لنا أكل طعامهم من غير بحث عن حكمه
عندهم وإنما طعامهم ما يأكلون إلا ما حرم لذاته كلحم الخنزير. وقصارى هذا
أن فقهاء المالكية كابن العربي أخطؤوا في اشتراط كون طعامهم مما يأكل منه رجال
الدين عندهم. وهذا صحيح ولذلك قلنا في الجزء الماضي: إن ما قاله ابن العربي
وعوّل عليه المفتي هو من باب الورع والظاهر ما عليه أكثر الصحابة من حل
طعامهم مطلقًا وإن لم يتمسكوا بشيء من كتبهم وأحكام دينهم كبني تغلب من متنصرة
العرب.
والوجه الثاني: البحث في التفرقة بين لحم الخنزير وما يقتلونه بالعقر
كالضرب بالشاقور. ونقول: إن الفرق قد تقدم في الجزء الماضي نقلاً عن كتاب
(صفوة الاعتبار) ، وباقي الوجوه مناقشات في العبارات على أن مقتضى هذه
الأبحاث أن لا يحل من طعام أهل الكتاب شيء إلا ما علمنا أنهم جروا فيه على
أحكام الشريعة الإسلامية وما هم بفاعلين فيكون قصارى قول الباحث أن الآية لا
معنى لها، ولم تفد حكمًا جديدًا وهو ظاهر البطلان. وإذا اعتبرنا كلام هذا المتأخر
فأكثر ما فيه أن تكون مسألة أكل ما يخنقه أو يعقره الكتابي مختلفًا فيه عند المالكية.
ويجب أن يكون من أعظم المرجحات ما كان أبعد عن الحرج المنفي بنص القرآن
وهو قول القائلين بالحِل. ولا يخفى أن هذا الخلاف ليس في موضوع فتوى مفتي
الديار المصرية؛ لأن موضوع الفتوى في حيوان يذبح بعد ضرب وهو حلال
بإجماع أهل السنة والجماعة كما تقدم. وإنما يورد المرجف ذلك في الرد على
الفتوى لإيهام العامة الذين لا يعقلون.
الفقه في تحريم الميتة
وما أُهلَّ به لغير الله
قد علم مما بيناه في الجزء الماضي من أنواع التذكية الشرعية أن الضابط
العام الذي يجمعها كلها: هو أن يكون إزهاق روح الحيوان بقصد أكله. ويشترط في
ذلك شرط ديني واحد وهو أن لا يكون فسقًا أُهل لغير الله به من مسلم أو وثني
مشرك بالله كالذي كانوا يذبحونه على النصب وهي حجارة تنصب ويذبح عليها
للأصنام، وقد نهى بعض الصحابة عن أكل ما أهل به الكتابي لغير الله وتقدم البحث
فيه في مسألة التسمية وأن الجمهور على خلافه وذكرنا في الجزء الماضي ما يؤيد
رأي الجمهور من كون آيات تحريم الإهلال لغير الله مكية ... إلخ، وتقدم أيضًا أن
ما أُهل به لغير الله هو أشد المحرم تحريمًا؛ لأن علته دينية تتعلق بجوهر التوحيد.
ومن عجائب جهل عامة المسلمين بالدين في هذا الزمن أن صار فيهم قوم
يهلون لغير الله من الشيوخ الميتين المعتقدين ولا تكاد تجد لذلك منكِرًا. بل يذكر
عن العامة أن بعض علماء الوقت يأكل من البهيمة (السائبة) للسيد البدوي عندما
تذبح على اسمه في مولده وإن ذكر اسمه عند الذبح وكأن هؤلاء المشايخ يكتفون في
التأويل بأن الذبيحة تحل؛ لأن مريق الدم منسوب إلى الإسلام ويذكر اسم الله، وإن
كانت سُيبت أولاً وسيقت آخرًا لأجل التقرب إلى السيد البدوي ويقصد بها إرضاؤه
والتماس الخير منه لذاته بدون ملاحظة شيء آخر، كما عليه البعض أو لأنه
واسطة عند الله يفعل الله لأجله ما يريد هو أو يريد المتقرب إليه عند قبره أو في
بلده.
ولكن من يتدبر القرآن ويتفقه في الدين يعلم أن تحريم ما أهل لغير الله به على
المسلمين حكمته أن لا يقعوا في مثل ذلك الذي كان عليه المشركون الذين كانوا
يعتذرون بما حكاه الله عنهم بقوله: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) ، وإذا لم نصدق أن
بعض المنتسبين للعلم يأكلون مما يذبحه بعض الناس للسيد وغيره، فإننا نعلم أن هذا
المنكر فاشٍ ولا ينكرونه على العامة ولو أنكره علماء الأزهر والجامع الأحمدي لما
استمر الناس عليه؛ بل لو أن الجرائد اليومية ساعدت (المنار) ورددت قوله في
إنكار مفاسد الموالد لزالت كلها أو بعضها ولكن الأهواء السياسية والشخصية لم تهب
على هذه الذات أنواط ولكنها هبت على الشجرة الطيبة التي يستظل بها الأستاذ الإمام
تريد أن تزعزعها أو تقلعها ولكنها شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء فلا تقوى
عليها هذه الأهواء.
بقي من بحث الفقه في التذكية وتحريم الميتة مسألة لم نذكرها في الجزء
الماضي؛ لأن المقال فيه كان قد طال وهي: ما هو الفقه في تحريم ما مات حتف
أنفه وهو المتبادر من لفظ الميتة عند الإطلاق وما هو في معناه كالمنخنقة والموقوذة
والمتردية والنطيحة وما أكل السبع منها إذا لم تذكَّ؛ أي: يجهز عليها بقصد الأكل؟
وما هو الفرق بين الصيد يأتي به الكلب المعلم ميتًا فيكون حلالاً وبين ما أكل السبع
منه فمات ولم تدرك ذكاته وما ضرب الإنسان بعصا أو حجر فمات كذلك ولم يذكَّ
بالقصد؟ وما الحكمة في جعل القصد محللاً؟
والجواب عن ذلك فيما يظهر لنا بعد اعتبار تعظيم شأن القصد في الأمور كلها؛
ليكون الإنسان معتمدًا على كسبه وسعيه وهو الحكمة الأولى في ذلك - هو أن الميت
حتف أنفه يغلب أن يكون قد مات لمرض أو أكل نبات سام، وبذلك يكون لحمه
ضارًّا كلحم الخنزير فإن هذا قد حرم لضرره (راجع الجزء الثامن) فهذه حكمة
ثانية.
وثم حكمة ثالثة غير اعتبار القصد وخوف الضرر وهي أن الطباع السليمة
تستقذر الميت حتف أنفه ولا تعده من الطيبات والدين يربي الإنسان على شرف
النفس ولذلك أحل الطيبات وحرم عليه الخبائث. وأما ما هو في معنى الميتة حتف
أنفها من المخنقة والموقوذة ... إلخ، فيظهر في علة تحريمه كل ما ذكر إلا حكمة
توقع الضرر في الجسم، فيظهر فيه بدلها تنفير الناس عن تعريض البهيمة إلى
الموت بإحدى هذه الميتات القبيحة في حال من الأحوال وأن يعرفوا أن الشرع يأمر
بالمحافظة على حياة الحيوان وينهى عن تعذيبه أو تعريضه للتعذيب ويعاقب من
يتهاون في ذلك بتحريم أكل الحيوان عليه إذا تهاون في حفظ حياته، فإن الرعاة
يغضبون أحيانًا على بعض البهائم، فيقتلونه بالضرب ويحرشون بين البهائم،
فيغرون الكبشين بالتناطح حتى يهلكا أو يكادا، وممن كان يرعى أنعام غيره بالأجرة
يقع له مثل هذا أكثر، ولو كان أكل ما هلك بتلك الميتات حلالاً لما بعد أن يتعمد
الرعاة وأمثالهم من التحوت تعريض البهائم لها ليأكلوها بعذر. ويدل على هذه
الحكمة أحاديث صحيحة منها قوله (صلى الله عليه وسلم) - بعد النهي عن الخذف
وهو الرمي بالحصا والبندق (الطين المشوي لذلك) -: (إنها لا تصيد صيدًا ولا
تنكأ عدوًّا ولكنها تكسر السن وتفقأ العين) رواه أحمد والبخاري ومسلم، هذا ما
ظهر لنا، ومَن آتاه الله حكمة وراء ذلك فليتفضل علينا ببيانها.
ذكرنا هذا البحث في فقه الشريعة وحكمتها؛ لأن أحكام المعاملات والعادات
هي معقولة المعنى كلها مبنية على قاعدة دفع المضرات وجلب المنافع وأما قول
بعض العلماء: إن أحكام الدين على قسمين: قسم تعبدي نؤديه امتثالاً لأمر الله تعالى
وإن لم نعقل وجه فائدته ومنفعته وقسم معقول المعنى نمتثل فيه الأمر من حيث
نطلب به المنفعة المقصودة منه فلا شك أن التعبدي منهما لا يظهر له وجه إلا في
أحكام العبادات التي يتقرب بها إلى الله على حسب ما وضع وشرع. ومن عجيب
أمر علماء الرسوم وأهل الرأي أنهم حكموا قياسهم ورأيهم في مسائل العبادة المحضة
حتى زادت على المنصوص أضعافًا كثيرة وجمدوا على بعض أحكام العادات ولم
يبحثوا عن عللها وحكمها بل منعوا أو كادوا يمنعون القياس فيها، فتدبر.
تأييد علماء العصر والجرائد للفتوى
لما قام المرجف يلغط في الجريدة المحدثة بالانتقاد على الفتوى نفر طائفة من
أهل العلم إلى الرد عليه في الجرائد فنشروا مقالات كثيرة أيدوا بها الفتوى
بالنصوص القاطعة، والأدلة الساطعة. ومن هذه الجرائد الأهرام والمقطم والوطن
اليومية. وأما الأسبوعية الإسلامية التي كتبت فلم نحصها ولكن أشهرها (جريدة
التمدن) التي يحرر مباحثها الدينية بعض الأزهريين والنيل والممتاز والرائد
العثماني.
وقد نشر كاتب أديب في المقطم مقالة (عتاب صديق) للعلماء ولبعض الجرائد
اليومية الإسلامية لعدم الكتابة في الموضوع فأحسن كل ما كتب إلا تعظيم شأن الخلاف
وتكبير المسألة، وهي صغيرة ولم يخالف فيها إلا المرجف ومستأجره وأيده الحدث
وصاحب الحمارة؛ ولذلك أجابه أحد العلماء المدرسين المؤلفين بجواب وجيز نشر في
(عدد 4499) من المقطم وقد جاء فيه ما نصه:
(ولعمر الحق إنما دعاهم (أي: العلماء) إلى السكوت عنها وضوح السؤال
والجواب وعدم الحاجة إلى رد أقوال المعترض على إفتاء ليس عليه بنظر الشريعة
غبار - أصل المسألة ذبيحة ضربت على رأسها ببلطة ثم ذبحت أتحل أم لا؟ أفبعد
قول السائل ثم ذبحت يتوهم أنها ميتة أو …؟ كلا) ... إلخ، أما سكوت المؤيد
فالظاهر أن سببه عدم العناية بالجريدة المحدثة وكراهة إشهارها مع اعتقاد أنها ضارة
ولهذا لم يذكر أسماء الذين ردوا عليها أيضًا. وإذا كان هناك سبب باطن أيضًا فليس
لنا أن نبحث عنه وإنما كلامنا في الظاهر فقط وأما الراوي فقد كتب أخيرًا ما يدل على
الانتصار للفتوى.
وبَيْنَا نحن نكتب في هذا المقام وردت علينا جريدة جديدة تسمى (الواعظ)
فرأينا فيها مقالة وعظية لعالم مغربي عرج على القاهرة في طريقه إلى الحج فلما
قرأ ما نشرت الجرائد في موضوع الفتوى كتب هذه المقالة وأرسلها لبعض الجرائد
الصامتة الساكتة فلم تنشرها فرغب إلى صاحب الواعظ أن ينشرها ففعل فكان فعله
مما حقق أن اسم الجريدة وافق المسمى. وقد رأينا أن ننقلها تنويهًا بالواعظ وتنبيهًا
للناس إلى مكانة المرجف من نفوس العلماء الغرباء؛ بل على مكانة المصريين عند
من يتوهم أنه يروج فيهم مثل هذا الإرجاف ومكانة الأستاذ الإمام من نفوس عقلاء
المسلمين في بلاد المغرب وهذا نصها:
(أيها المسلم) هل أتاك خبر ما شاعت به الأنباء من قيل وقال في فتوى
الشيخ الإمام، وهل علمت ما كتبه المنار مما نص عليه الفقهاء والعلماء والصحابة
وصاحب الشرع عليه الصلاة والسلام، وما حدث في أوائل القرن الماضي في
الديار المصرية؟
تأمل وانظر كيف انعكست الأحوال وانقلبت ظهرًا لبطن، وأصبح الدين آلة
في أيدي رجال العلم يحرِّمون اليوم ما حلله آباؤهم من قبل، معارضين فتوى السيد
الإمام وجمهور الفقهاء والصحابة والتابعين وصاحب الشرع عليه الصلاة والسلام.
ويا ليت شعري أهذا دليل على وقوع الأمة في شرك الجهالة وأنها ستتدلى إلى أسفل
سافلين أم ذلك تنافس يمحى ويزول؟
مَن للمسلمين برجال يؤيدون الدين ويقومون بالإصلاح ويحافظون عليه كالسيد
الإمام المفتي برأي الجمهور وما اعتمده العلماء، فهل يرد عليه بما رآه الآخرون
وهل يعترض بمذهب على مذهب؟
على أن هذه الشريعة السمحة البيضاء تشعبت فيها الأقوال؛ ليأخذ العلماء من
كل زمان بما يناسب الأمة من أحوال، ولا تكون ضيقًا على عباد الله؛ إذ هي
الشريعة التي ينتظر المسلمون وعقلاء النصارى أن تعم الأرض كلها كما قال تعالى:
{وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} (الصف: 8) وكما قال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33) ، فهل يليق أن نسِمَها بالحرج والضيق؟ وقد اعتاد العلماء أن يقووا
قولاً ضعيفًا ليأخذوا به عند الحاجة إليه. وليست فتوى السيد الإمام من هذا القبيل،
وإنما الكلام في أن الشريعة أوسع مما يضيقون.
وما لنا ولهذا وذاك! كنا نقرأ في كتب الفقه أن المفتي والقاضي لا يوليان إلا
إذا حازا درجة الاجتهاد كالأئمة الأربعة وإلا كان تقليدهما باطلاً فهل يسمح الدهر
بهم وإذا سئل العلماء عن المجتهدين يقولون: انقطع الاجتهاد من القرن السادس
وكل قاضٍ ومفتٍ بعد هذا الانقطاع فهو قاضٍ للضرورة وكأنهم بهذا حكموا على
الأمة أن تتدلى وتنقرض وقد حكموا بتطبيقهم هذا على الشريعة الغراء أن تتقلص
على الأحكام ويحل محلها القانون السياسي.
مَن لنا بقوم يشعرون بما نقول وأنا رجل مغربي طالما تمنيت أن يكون في
المسلمين رجال عظام حتى إذا ما رأيت هذا السيد في بلادي قرت به عيني. وها
أنا قد وفدت الآن على مبعث أنوار عرفانه فوجدت لغطًا دلني على أن القوم هنا لا
يبالون بشريعتهم ولا رجالها!
ويا ليت شعري هل درى إخواننا العلماء أنهم بتحريمهم ذبيحة أهل الكتاب
يفتاتون على القرآن؟ !
القرآن أحل ما جرحته كلاب الصيد وقتلته. وعلم الله تعالى أن الإنسان أفضل
من الحيوان فاستدرك ذلك وأحل ذبيحة أهل الكتاب، وإلا كانوا في نظر الشرع أقل
من الكلاب، وجل الله أن ينزل الإنسان الدين في شريعة متممة للشرائع على أخس
حيوان وأقبحه في نظرها مع أن هذا الدين جاء ليعم الأرض كلها. وهو الذي أحل
مناكحة الكتابي ومعاشرته ومجاملته ومعاهدته وأوجب الدية في قتله ولم يجز قط
الأكل في إناء ولغ فيه الكلب حتى يغسل سبع مرات إحداهن بتراب.
أيجوز لنا أن نأخذ الذبيحة من بين أنياب الكلب ولا نأخذها من بين يدي
الإنسان؟ … حاشا لله حاشا.
أظن أننا الآن أصبحنا أضحوكة في عيون الإفرنج ومضغة في أفواههم؛ إذ
يَسِموننا بالوحشية المطلقة وديننا بدين الوحوش، ذكر الله الصيد في أول سورة
المائدة فلم يشأ أن يسكت عن أهل الكتاب علمًا منه أنهم أولى بالحل، وهل ينقص
النصراني الترنسفالي في نظر ديننا عن حيوان الصيد أو أنه من التعصب الأعمى
وعدم التفطن والنظر.
وهل عرف أولئك العلماء حكمة الذبح المعتاد وشيوعه بين المسلمين
بقطع الحلقوم والمريء مع قيام غيره مقامه في الصيد والدابة الشاردة والسمك
والجراد والجنين في بطن أمه وغير ذلك:.. فليعلموا أن كل قتل بحسب الأصل
موصل للمقصود ولكن الله لحكمته ورحمته بنا وبالحيوان جعل بيننا قسمة عادلة
ومنة عامة فحرم علينا ما قتله الحيوان وما مات في الخلاء بغير قصد منا ليبقى ذلك
كله للحيوان يأكله؛ لأنها أمم أمثالنا. وكأنه تعالى لم يرض أن نأكل ما لم نقصده
ولم نفكر فيه. فأما المذكى والصيد والسمك والجراد ونحوها فإنها كلها غالبًا لا
تؤخذ إلا بالنصب والتعب.
هذا، ولما علم الله أن الناس منهم الجاهل والعالم والقوي والضعيف وضع
قانونًا عامًّا يشترك فيه عامتهم وخاصتهم في الذبح وهو ذبح العنق ولو أباح أي ذبح
لتفنن الناس في تعذيب الحيوان. فلله الحكمة البالغة. هذا هو القصد من شيوع
قطع الحلقوم والمريء مع قيام غيرها مقامها في أحوال أخرى كالسمك والجراد
والصيد وذبيحة الكتابي.
يا أيها المسلمون: هل أنتم منتهون عن هذا؟ إنه ليحزن العقلاء أن نتكلم في
صغائر الأمور وقد تركنا كبارها. وهل يجوز إكبار لبس البرنيطة مثلاً واستصغار
تعلم اللغات وأنها القتَّالة للعواطف القومية المجتثَّة لأصول المعتقدات الدينية من
مغارسها في النفوس.
تركنا كبار الأمور واستمسكنا بصغارها وإنه لعار عظيم. هلا قمنا وقعدنا هذا
القيام وهذا القعود لفروض الكفايات كالصناعات والسياسات التي ينطق بها القرآن.
لقد دخلت بلادكم الإفرنج مداخلة أُشرِبت بها القلوب والأجسام، وأصبحت
المنازل والأبواب والثياب وكل جديد فيها من آثارهم وولائد صناعاتهم. فكيف
تحللون هذا كله وتحرمون البرنيطة على الترنسفالي الذي لا قوة له ولا استقلال
يلبسها للضرورة، لعل العلم وقف على الظواهر ولم يعبأ بالبواطن بل بالقشر دون
اللب. إن الشيخ الإمام حين قرأ الدرس في بلادنا المغربية في هذا العام فهمنا أن
مصر كعبة العلم ومنبع الفضل، مؤيدًا لما كنا نسمع من قبل، ولكن لما زرتها
تزلزل يقيني في ذلك، وما هو عندي بمتهم في قوله فلعلي عند رجوعي من الديار
الحجازية أستنشق روح الوفاق على تأييد الحق وما هو ببعيد.
(المنار)
يظهر أن الكاتب صدق المرجف في زعمه أن العلماء خطَّؤوا الفتوى وإن سبق
له القول بأن شيخ الأزهر وعلماءه لا يخالفون المفتي! ! وفي هذه المقالة بيان
حكمة رابعة لتحريم الميتة وما في معناها وهو جعلها من حظ الحيوانات التي تأكل
اللحم رحمة بها.
تأييد واقعة الفتوى
بمذهب الحنفية خاصة
أشرنا في الجزء الماضي إلى أن الفتوى مؤيدة بالكتاب والسنة وعمل السلف
وإلى أن خلاف الحنفية في مسألة التسمية ليس في شيء من واقعة الفتوى التي أفتى
فيها مفتي الديار المصرية؛ لأن الحكم في واقعتها مجمع عليه، وقد رأينا أن ننقل
بعض ما قاله الحنفية إتمامًا للموضوع حتى يعلم أن المفتي موافق لمذهب الحكومة
المصرية وإن لم يكن ذلك واجبًا عليه لا سيما في المسائل الدينية الشخصية،
خصوصًا إذا لم يكن السائل عنها من رعية هذه الحكومة. وقد كنا راجعنا ما في
الفتاوى الحامدية ثم جاءتنا رسالة من بعض شيوخ الحنفية المتخرجين في الأزهر
يذكر فيها نص الفتوى بعد مقدمة في إنكار إرجاف المرجف ثم ذكر ما يؤيدها من
كتب التفسير وأقوال السلف وختم الكلام بما نصه:
بقي علينا أن نوضح موافقة الفتوى لفروع الفقه الحنفي، فنقول في كتاب
(العقود الدرية في تنقيح الحامدية) للمرحوم المحقق العلامة السيد محمد بن عابدين
رحمه الله: سئل في ذبيحة العربي الكتابي هل تحل مطلقًا أو لا؟ الجواب: تحل
ذبيحة الكتابي؛ لأن من شرطها كون الذابح صاحب ملة التوحيد حقيقة كالمسلم أو
دعوى كالكتابي ولأنه مؤمن بكتاب من كتب الله تعالى وتحل مناكحته فصار كالمسلم
في ذلك لا فرق في الكتابي بين أن يكون ذميًّا يهوديًّا أو نصرانيًّا، حربيًّا أو عربيًّا
أو تغلبيًّا لإطلاق قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: 5)
والمراد بطعامهم مذكَّاهم قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: قال ابن عباس
رضي الله عنهما: طعامهم: ذبائحهم، وقال بعد كلام: لكن في مبسوط شمس
الأئمة: وتحل ذبيحة النصراني مطلقًا سواء قال: ثالث ثلاثة أو لا ومقتضى الدلائل
وإطلاق الآية الجواز كما ذكره التمرتاشي في فتواه فمفاد ما ذكره صاحب المبسوط
حل ذبيحته مطلقًا سواء سمى عليها أو سكت عن التسمية أو قال: ثالث ثلاثة؛ لأن
قوله أولاً داخل تحته ما إذا سمى الله وما إذا لم يسمِ أصلاً بدليل قوله بعد ذلك:
ومقتضى الدلائل وإطلاق الآية الجواز، فمن هنا يعلم أن هذا القول موافق للفتوى من
غير نزاع في ذلك وهو قول صحيح في المذهب.
يدل على ما ذكره ما قاله صاحب كتاب فتاوى الهندية، حيث قال: ثم إنما
تؤكل ذبيحة الكتابي إذا لم يشهد ذبحه ولم يسمع منه شيء أو شهد وسمع منه تسمية
الله وحده؛ لأنه إذا لم يسمع منه شيئًا يحمل على أنه قد سمى الله تعالى تحسينًا للظن
به كما بالمسلم - ثم قال بعد ذلك -:
المتردية والمخنقة والموقوذة والشاة المريضة والنطيحة ومشقوقة البطن إذا
ذبحت ينظر إن كان فيها حياة مستقرة حلت بالذبح بالإجماع وإن لم تكن الحياة فيها
مستقرة يحل بالذبح سواء عاش أو لا يعيش عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -
وهو الصحيح وعليه الفتوى كذا في محيط السرخسي. اهـ.
فمن هذا كله يتبين للقراء أن ما أفتى به فضيلة مولانا الأستاذ مفتي الديار
المصرية موافق لأصول مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - ولا خلاف في ذلك
فالموقوذة التي لم تمت إذا ذكيت حل أكلها سواء كان المذكي لها مسلمًا أو يهوديًّا أو
نصرانيًّا؛ لأنها قبل موتها تسمى موقوذة كما أفاد ذلك العلامة الطبري فيما ذكرناه وفي
القدر كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) .اهـ.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (التوقيع محفوظ)
فائدة في حقيقة
تفسير ابن عباس
يوجد بين أيدي الناس كتاب في التفسير مطبوع يسمى تفسير ابن عباس
ويتوهم الجاهلون أن ابن عباس هو الذي ألّفه، والحق أن الصحابة لم يكتبوا في
التفسير شيئًا وإنما رويت عنهم فيه روايات كما رويت الأحاديث المرفوعة، وكاتب
هذا التفسير يزعم أنه اعتمد فيه على ما روي عن ابن عباس؛ ولكن الروايات عنه
كثيرة متناقضة، فبعضها صحيح وبعضها مكذوب بالضرورة؛ إذ لا يمكن أن يفسر
الآية الواحدة أو يقول في الحكم الواحد بقولين متناقضين.
وأقوال المحدثين تؤيد هذا الحكم بأن بعضها صحيح وبعضها غير صحيح، وقد
نقلنا في الجزء الماضي أن ابن عباس من الصحابة الذين قالوا: إن ذبيحة الكتابي
تحل وإن ذكر عليها اسم غير الله وأن عطاءً من الذين قالوا بمثل ذلك وعطاء هذا من
رواة التفسير عن ابن عباس.
وزعم المرجف أن ابن عباس يقول بعدم الحل ويشترط أن تكون ذبيحتهم على
شريعتنا، فإن كان لقوله نقل من الكتاب المتداول أو غيره فهو من رواية الكلبي؛
إذ نقل عنه القول بذلك وقد قال المحدثون: إن روايته كاذبة ولا أحيلك - أيها
القارئ - على كتب أسماء رجال الحديث التي يصعب عليك العثور عليها
واستخراج التراجم منها ولكنني أدلك على كتاب مشهور تراجع فيه ما أنقله لك عنه
بحروفه إذا شكك المرجف في النقل فارجع إلى الصفحتين 555و556 من الجزء
الرابع من شرح إحياء العلوم تجد ما نصه:
وقد روى عنه (أي: عن ابن عباس) التفسير جماعة من طرق مختلفة أجودها
طريق علي بن أبي طلحة وله صحيفة كانت عند أبي صالح كاتب الليث رواها عن
معاوية بن صالح عنه. وهي عند البخاري عن أبي صالح وقد اعتمد عليها في
صحيحه كثيرًا فيما علقه عن ابن عباس وأخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم
وابن المنذر كثيرًا بوسائط بينهم وبين أبي صالح.
ومن جيد الطرق عن ابن عباس طريق قيس عن عطاء بن السائب عن سعيد
بن جبير عنه وهي صحيحة على شرط الشيخين، وكثيرًا ما يخرج منها الفريابي
والحاكم في المستدرك، ومن ذلك طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى آل
زيد بن ثابت عن عكرمة أو هو وسعيد بن جبير عنه هكذا بالترديد وهي جيدة
وإسنادها حسن وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم منها كثيرًا وفي معجم الطبراني
منها أشياء.
وأوهى طرقه طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس فإن انضم إلى ذلك
رواية محمد بن مروان الصغير فهي سلسلة الكذب وكثيرًا ما يخرج منها الشعبي
والواحدي.اهـ المراد منه.
فعلم من هذا أن رواية عطاء الذي لا يشترط في ذبائح أهل الكتاب ذكر اسم
الله هي من أصح الطرق عن ابن عباس وأن رواية الكلبي الذي كان يشترط ذلك
واهية أو مكذوبة بل هو حلقة من سلسلة الكذب. وإخراج الشعبي وغيره منها لا
يفيد وثوقها؛ فإنهم لم يعتمدوها وقد علمت أن الشعبي وعطاءً قالا بعدم اشتراط
التسمية.
الاستدلال على سوء قصد المرجف
انفرد باللغط في المسألة صاحب الجريدة المحدثة وهي من الجرائد التي تلقب
في مصر بالساقطة ولقبناها في الجزء الماضي بالسياسية إيماءً لما يتحدث به الناس
من أن اللغط يقصد به عمل سياسي في الأزهر واستدلوا على هذا بسكوت حدث
السياسة عن مشاركته بهذا اللغط مع أنه كان ينتحل الشبه البعيدة للتعريض والتشهير
بالمفتي؛ لأن الحدث متهم بتلك السياسة ومعروف بالغرض.
ثم شاع أن الجريدة المحدثة لما أساءت اللغط وخرجت عن الموضوع إلى
السباب والمهاترة والتناقض قيل: إنها لم تصادف من الجانب الذي كان يظن أنها
تتقرب إليه إلا البعد والسخط ولذلك تكلم الحدث بعد طول الأزم، فأيد الباطل وخذل
الحق، وصور المسألة عن السائل بأن أهل الترنسفال (يضربون الأنعام بالبلط فأفتاه
المفتي بأنها حلال) وقد علم القراء من نص السؤال في الجزء الماضي أن السائل
قال: إنهم يذبحون البقر بعد الضرب بالبلط ويذبحون الغنم من غير ضرب. فانظر
على تحري هذا الحدث البعد عن الصدق لإيهام الناس خلاف الحق، ثم إنه يسأل
كصاحب الجريدة المحدثة أن يتنازل المفتي لقراءة لغوهم ولمجاوبتهم عليه ونحن نعلم
علم اليقين أنه لم يقرأه ولن يقرأه عملاً بقوله تعالى في صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ
هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون: 3) ، وأنه إذا سمعه يأخذ بقوله تعالى فيهم:
{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} (القصص:
55) ، {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ} (الشورى:
15) .
ولو كان الحدث وصاحب الجريدة المحدثة يطلبان الحق في المسألة لما بادر
أحدهما إلى بذل 30 جنيهًا من أصل (120) ... في ورقة الفتوى ليشنع عليها؛ إذ
توهم أن وراءها مؤاخذة رسمية بل لكان بادر عند العلم بها إلى الإمام المفتي،
وسأله إيضاح الاستدلال بالآية الكريمة التي استدل بها ودفع الشبهة عن الاستدلال
إن كانت هناك شبهة. ولولا سوء القصد لما حرفا السؤال بعد ما نشره المرجف.
فإنه نشره أولاً بنصه ثم نشره ثانيًا في تقريره على نحو ما أورده الحدث فإنه زاد
عليه قوله: (حتى تشرف على الموت) ولم يقل السائل ذلك ولو قاله لما كان مانعًا
من حل الذبح عند الجمهور ولولا سوء القصد لما غيَّر المرجف في تقريره سؤال
المستفتي عن لبس القلنسوة بعد نشره في جريدته صحيحًا فزعم أخيرًا أنه قال: إنهم
يلبسونها تشبهًا بالقوم من غير سبب! وهذا كذب صريح. والفتوى صريحة في
اشتراط عدم قصد التشبه.
ولو كان المرجف يطلب معرفة الحق في المسألة لما ترك النصوص التي
أوردناها في المسألة ولما ترك استفتاء شيخ الأزهر وعلمائه في مصر أولاً كما كتب
في بعض الجرائد وزعم أنه سيستفتي شيخ الإسلام في الآستانة وحاخام اليهود
وبطريق النصارى ثم اقتصر على استفتاء حاخام اليهود القرايين في ذبيحة
النصارى ثم اكتفى بمقالة في جريدة يهودية تفصل ما أحل لليهود من حيوان البر
والبحر وما حرم عليهم وتذكر شروط الذبح عندهم ومنه أن يكون الذابح بدرجة من
العدالة قلما توجد في الناس اليوم وأن يكون مستقبلاً بيت المقدس. ويزعم المرجف
أن الله لا يحل لنا ذبيحة النصراني إلا إذا كان مستوفيًا لتك الشروط فهو يلزم
النصراني بأن يتبع شريعة التوراة وإن كان القرآن مصرحًا عن لسان عيسى عليه
السلام بقوله: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} (آل عمران: 50) ، فكأنه
يلزمهم بعصيان عيسى فيما نسخه من أحكام التوراة؛ ليكونوا نصارى تؤكل ذبائحهم.
على أن الله تعالى أخبر عن اليهود والنصارى بأنهم لم يقيموا التوراة والإنجيل وأنهم
يحرفون الكلم عن مواضعه ليوافق أهواءهم، ثم إنه في السورة التي يذكر فيها هذه
الأحكام عنهم يحل لنا طعامهم فهو تعالى أعلم بعقائدهم وبأعمالهم وبأقوالهم وقد أحل
لنا ذبائحهم ولم يكلفنا بأن نقرأ قبل أكلها كتبهم ونطبق أحكامها على الذابح بل ورد
في الحديث: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم) ؛ أي: فيما يخبروننا به عن شريعتهم
ولكن صاحب الجريدة المحدثة يصدقهم ويحتج بكتبهم ويقيد بكلام جريدة من
جرائدهم إطلاق القرآن حل طعامهم؛ وذلك لأن مفتي الديار المصرية قال بوجوب
الأخذ بهذا الإطلاق ثم يرجع فيقول: لا يُعمل بأقوالهم! ولكن المفتي يقدم نصوص
القرآن على كل شيء كسائر أئمة المسلمين فهل نترك القرآن؛ لأن المفتي
مستمسك بالقرآن، والمرجف لا يرضيه منه ذلك.
إهانة المرجف للعلماء وتعريضه بالأمير
لما قال المرجف: إنه يريد استفتاء شيخ الإسلام في الآستانة كتب بعض
المنتقدين في الجرائد يتعجب من إهماله استفتاء شيخ الإسلام وعلمائه في مصر وهم
أعلم بالشريعة من علماء الترك وجعله شيخ الإسلام مقدسًا كالبابا فأجاب عن ذلك بما
نصه (ع 46) :
أجل لا ننكر أننا نوينا رفع الفتوى إلى مقام مشيخة الإسلام في دار الخلافة
ووصفناها بما تستوجبه حياطتها الدينية من القداسة؛ ولكننا لم نحط من كرامة
مشيخة الأزهر الجليلة إلا أننا نعلم أن المفتي وشيخ الأزهر توأمان متلازمان فلا
يقول أحدهما بما يباين قول الآخر! ! ولا نجهل النفوذ الذي للمفتي على الأزهر
ومَن فيه من المستضعفين الذين يخشون الشيخ ويتقون بطشه بهم وقد رسخ هذا
الوهم في نفوسهم وتولدت منه مخاوف هوت بأفكارهم وسقطت بمدارك بعضهم حتى
صغرت قيمتهم في نظر أنفسهم وعلى ذلك شواهد محسوسة لا تحتاج إلى إيضاح.
ا. هـ بحروفه.
فلينظر المسلمون إلى هذا المرجف كيف يطعن بفضيلة شيخ الأزهر وسائر
علمائه ويزعم أن المفتي قد استخفهم فأطاعوه حتى في خلاف ما يعتقدونه دينًا كأنه
فرعون مصر المستبد فيها. ثم هو بعد ذلك لا يستحيي أن يقول في ورقته: إن علماء
الأزهر قد جاؤوا إليه وتبرؤوا من الفتوى ومؤيديها وفي تقريره أن علماء الأزهر
كتبوا إليه بأن عدم استناد مفتي الديار المصرية في فتواه للترنسفالي إلى نصوص
مذهب أبي حنيفة يقتضي أنه مجتهد وبذلك صار معزولاً من وظيفة الإفتاء! !
(اهـ من ص 14) .
فلينظر أصحاب البصر والبصيرة إلى تعارض أقواله في العلماء - تارة بجعل
رئيسهم ومرؤوسهم تابعًا للمفتي وإن أخطأ، وتارة بجعلهم متهجمين على القول
بعزله من وظيفته، فهل يصدق عاقل نقل هذا المرجف على تعارضه وبعد ما يرى
من تحريفه السؤال والجواب وتهافته في خلط ما يزعم أنه نقل عن الكتب أو العلماء
ومزجه بأقواله.
وقد ذكر في بعض ما كتب في المقام غيرة الأمير على الدين وأن عزل المفتي
وأمثاله بيده. وأن العلماء رفعوا الأمر إلى سُموه وللقارئ أن يستنبط من هذا أن
الناقل كاذب في دعواه أو أن الأمير أعزه الله قد علم أن الذين كتبوا إليه ليسوا من
العلماء الذين يعتمد على قولهم في الدين ولولا ذلك لما أبقى المفتي في منصبه،
ونقول: إذا صح أن بعض العلماء كتب للأمير بأن الفتوى غير صحيحة وأن أكل
الذبائح المسؤول عنها حرام في مذهب الحنفية الذي يتقلده وأنه صدقهم ولم يصدق
النصوص التي أوردناها في إثبات حلها بالإجماع أو برأي الجمهور ومنهم أبو حنيفة
فلا شك أن سموه يترك أكل اللحوم في أوروبا ولو على موائد الملوك والأمراء؛ فإن
جميع ذبائح أوربا على الطريقة التي صدرت الفتوى بإثبات حلها بل هي أبعد منها
عن النصرانية؛ لأن نصارى الترانسفال متمسكون بدينهم متعصبون له كما جاء في
الفُتيا، وأما أهل أوربا فقد تساهل أكثرهم بها؛ بل مرق الكثيرون منها وإنهم
ليخنقون الطيور خنقًا ولا يذكرون اسم الله على شيء من ذبائحهم على ما يقال،
والأمير أعزه الله أعلم بحقيقة الحال.
ولعلنا نبين في الجزء الآتي شروط المفتي وما يجب أن يعتمد عليه في الفتوى
مؤدية بنصوص العلماء. وربما ألممنا أيضًا بشروط صحة الولايات التي يملك
صاحبها نصب القضاة والمفتين وأهمها الاستقلال بذلك والقدرة عليه وعلى تنفيذ
الأحكام الشرعية … وليس الغرض من هذا الذي كتبناه كله وما سنكتبه الرد على
المرجف فإنه في تهافته بحيث لا يعبأ به ولكن الفرص سنحت لبيان أحكام الدين في
هذه المسائل وإزالة الشبهات عنها فلم نغفلها.
كتاب من الترنسفال
في البحث عن حقيقة الفتيا والسؤال
بعد كتابة ما تقدم جاءنا كتاب من إمام المسلمين في الترنسفال وهو من
مشتركي المنار يذكر فيه صورة الاستفتاء والجواب على نحو ما نشر إلا أن في
الكتابة غلطًا أكثره من الإملاء، ويقول المرسل: إنه عرض الفتوى على العلماء وأن
الشافعية قالوا: قد حصل فيها غلط بقوله: (إزهاق روح الحيوان بأي طريقة
كانت) ، وقال: إنه توقف عن إرسالها حتى يصححها من جميع العلماء هناك (على
أي حالة كانت إن شاء الله تعالى) . وقال في رأس الكتاب (ولا نعلم هل هي جوابات
الأستاذ الإمام حفظه الله أو غيره) .اهـ بحروفه.
(ج. المنار) : قد علم السائل من الجزء الماضي أن هذه الأسئلة عرضت
على الأستاذ الإمام وأنها غير مفهومة كما قال ولذلك جاءت الأجوبة عن مفهومها لا
عن نصها كما أشرنا إلى ذلك في الجزء الماضي، وقد عهد في السنة أن النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم كان يجيب السائلين بمثل ذلك. وأما توقف الشافعية فيما
ذكرتم فهو لا يستلزم أن يتوقفوا في حل الذبائح عندكم؛ لأن ذبيحة الكتابي التي لا
تعلم كيفية تذكيتها حلال بإجماع أهل السنة.
وما علمت كيفيته ففيه تفصيل والجمهور من الصحابة والسلف على أن ذبائح
أهل الكتاب حلال على الإطلاق ولغير الجمهور خلاف في بعض الصور، فالشافعية
يحرمون ما ذبح وليس فيه حياة مستقرة إذا تقدم ذبحه سبب يحال عليه الهلاك فإذا
علموا في ذبيحة معينة أنها كذلك فلهم أن يجتنبوا الأكل منها وإن أباحها جمهور السلف
الصالح الذين لم يشترطوا الحياة المستقرة وإنما اشترطوا أن يكون فيها وقت الذبح
رمق واكتفوا من الدليل على ذلك بحركة أي عضو من الأعضاء وذلك ما يعبر عنه
الشافعية بحركة المذبوح وقد رأيتم النقل عن المفسرين في ذلك.
وأما لبس البرنيطة فلا دليل في الكتاب ولا في السنة على منعه. وحديث (من
تشبه بقوم فهو منهم) عند أبي داود والطبراني وابن رسلان إذا سلمنا أنه حسن كما
قيل فلنا أن نقول: إن معناه أن مَن يتشبه بقوم يعامل معاملتهم في العادة، فينبغي
للإنسان أن يتشبه بالكرام دون اللئام لكي يكرم ولا يهان، وقد قال الفقهاء: إن
التشبه لا يتحقق إلا بالقصد وأنه مكروه في الأمور العادية كالملابس تنزيهًا وأما في
الأمور الدينية فإن قصد به الكفر يكفر وإلا كان حرامًا. وهذا البحث مفصل في كتاب
(الإعلام بقواطع الإسلام) لابن حجر المكي الشافعي فراجعوه.
ولذلك قال الأستاذ الإمام في جواب سائلكم: (أما لبس البرنيطة إذا لم يقصد
فاعله الخروج من الإسلام والدخول في دين غيره فلا يعد مكفرًا. وإذا كان اللبس
لحاجة من حجب شمس أو دفع مضرة أو دفع مكروه أو تيسير مصلحة لم يكره كذلك
لزوال معنى التشبه بالمرة) اهـ.
على أن لبس البرنيطة ليس خاصًّا بأهل دين من الأديان فالمسلمون قد لبسوا
نوعًا منها قبل أن يعرفوا الإفرنج سموه البرطلة في بلاد النبط، ومن جاورهم من
العرب وكذلك أهل الأفغان ألبسوا بعض العسكر نوعًا منها قبل أن يعرفوا الإفرنج،
ومسلمو الفرس يلبسون ضربًا منها أيضًا ومثلهم أهل التركستان وخيوه وبُخَارَى
والتركمان والأفغان والشركس وأهل داغستان. وكذلك فرسان الترك. ويقال: إنه لا
يزال طائفة من مسلمي المغرب الأقصى يلبسون ضربًا منها يسمونها المظلة. وقد
علمتم أن سلطان المسلمين الأكبر وأكثر أمرائهم قد أخذوا زيهم عن النصارى بل
جعلت الدولة العلية زي العلماء الرسمي شبيهًا بزي القسيسين الديني لا العادي،
فشيخ الإسلام في الآستانة مخصوص بالحلة البيضاء كبطريق الروم وسائر لبوس
التشريف للعلماء عندها مرتب على ترتيب لبوس القسوس في الكنائس أيام الأعياد.
وربما نعود إلى توضيح هذه المسائل.
ونقول لكم الآن: إن الفتوى التي وصلت إليكم صحيحة ولا يلتفت إلى قول مَن
يخالفها فإنه جاهل بالدين والله أعلم.
(نصيحة)
من الناس من يغش ويخدع، بكل ما يرى ويسمع. فيكون ألعوبة للمخادعين،
وكرة في أيدي المختلبين، يعظمون له ما ليس بعظيم، ويخوفونه بما لا يخيف،
يدعي كاذبهم أن الأمر الفلاني قد اهتز له العالم الإسلامي واضطرب، وبكى من
هوله وانتحب، ونزلت من به من سمائه النوازل، وثارت في أرضه البراكين
والزلازل، فيصدق المخدوع هذا القال والقيل، وإن قام على نقيضه لا عليه الدليل،
ولا يرى انفراد المدعي بالخبر مدعاة ارتياب، ولا غرابته في نفسه موضع
استغراب، ويدعي جاهلهم أنه أيّد الدين والملة، وعاجزهم أنه نهض بالوطن والأمة،
فيصدق المخدوع الزعم، وينقاد بشعرة إلى الوهم، ولا يلتفت إلى جهل الزاعم أو
ضعفه، ولا يفكر في كنه العمل المزعوم ولا وصفه، بل يظل مخدوعًا بالخيال،
ومخلوبا بالمقال، من غير نظر في حقيقة الحال، ذلك شأن أكثر ما يعهد في العوام،
ومن العجب أن يشاركهم فيه أحيانًا من يعدون من الخواص، ولهذا كانت الخلابة من
موارد الكسب، وطرق الفخفخة والفخر، سار عليها بعض المستولغين فنال من جاه
الأمراء، وتناول من مال الأغنياء، ونهض آخر لتقليده فأساء التقليد. لأنه عاجز
عن الخلابة بقلمه ولسانه وقد استأجر لها من يستفيد بها ولكنه لا يفيد،
وسينقلب بالخزي المبين، والعاقبة للمتقين، فليحذر العاقل من الغرور بأمثال
هؤلاء المخادعين، لا سيما في أمر العلم والدين، فقد ورد (أن هذا العلم دين
فانظروا عمن تأخذون دينكم) .
__________(6/812)
الكاتب: سائح بصير
__________
بلرم - صقلية
(2)
المكتبة العمومية ودار المحفوظات
أما المكتبة العمومية فقد جاءني من أوصي بصحبتي ويثقل عليَّ ذكر اسمه
لطوله؛ فذهبت معه إلى تلك المكتبة، وهو أخو مديرها، وله احترام في نفوس
خدمتها، وكان يعرف قليلاً من اللغة الفرنسية، فسألته أن يطلب لي فهرس الكتب
العربية إن كانت، فطلب ذلك فبدت حركة شديدة في الخدمة وكثر الداخل والخارج،
والذاهب والآئب، ولغطت الألسن، وارتفعت الأيدي بالإشارات، وطال الزمن نحو
ربع ساعة، كل ذلك وأنا لا أفهم أسباب هذا الاضطراب، وآخر الأمر جِيء إليّ
بدفتر صغير جدًّا يحتوي على نحو خمسين صفحة وكانت تلك الضوضاء للبحث
عنه، وكل يتهم صاحبه بأنه هو الذي يعرف مقره والآخر يدافع عن نفسه تهمة
معرفته.
ولم يرعني عند تصفحه إلا كثرة ما فيه من كتب الأدعية والصلوات، كأنه
فهرس خزانة لشيخ من مشايخ الطريقة الخلوتية، أو مكتبة السادات البكرية؛ قدس
الله أرواحهم جميعًا، وإنما رأيت فيها قطعة من شرح ابن رشد على مدونة الإمام
مالك رضي الله عنه وكتابًا في السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام،
إلا أنه لا يمكن قراءة سطر واحد من تلك السيرة؛ لأن خطوطًا قد جرت على
السطور بعناية غريبة حتى عمت الحروف الأصلية وحجبت حقيقتها عن النظر مع
سلامة الظاهر من التشويه؛ فعجبت لذلك وسألت عن السبب فقيل لي: إن قسيسًا من
أهل القرن الثامن حمله التعصب على أن يأتي إلى المكتبة، ويطلب الكتاب بحجة
أنه يريد قراءته، وكان يعرف العربية حق المعرفة فسلم إليه فصنع به ذلك حتى
يصد الناس عن مطالعة ما فيه. وقد فعل مثل ذلك بمصحف من المصاحف وزوّر
كتبًا كثيرة أفسدها. وقد انكشف للحكومة حاله؛ فحوكم وصدر الحكم عليه بالحبس
مدة عشر سنين في رواية، ومدة خمس عشرة سنة في رواية أخرى.
أما القطعة من شرح ابن رشد فكانت سليمة وخطها مغربي جيد تسهل قراءته
على طالب العلم.
والكتاب الفرد الكامل الذي رأيناه في المكتبة هو كتاب النخل لأبي حاتم
السجستاني وهو صغير في نحو ستين ورقة بخط ضيق مضبوط صحيح. قرأت
منه عدة صفحات ونقلت منه عدة فقرات في تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي
أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} (إبراهيم: 24-25) ... إلخ. ومما نقلته في ذلك قول
أبي حاتم رحمه الله: ومما كرم الله به الإسلام وكرم به النخل أنه قدر جميع نخل
الدنيا لأهل الإسلام فغلبوا عليه وعلى كل موضع فيه نخل، وليس في بلاد الشرك
منه شيء، فرحم الله أبا حاتم ما كان أبعده عن صحة الحكم في طبائع العمران،
وإن كان من أفضل أهل السير وأجلّ علماء اللغة والكتاب مفيد في اللغة وهو بخط
مشرقي تاريخ نسخه شهر جُمَادَى الآخرة سنة 394، وقد بلغنا أنه طبع في ألمانيا
وكان الأجدر به أن يطبع في مصر، ولعلّ ذلك يكون إن شاء الله متى ساوى
المصريون أهل ألمانيا في اهتمامهم باللغة العربية ونفائسها!
ثم زرت دار محفوظات الدولة وهي مثل (الدفتر خانة) عندنا إلا أنها لم تبع
أوراقها ولا دفاترها لا بالقنطار ولا بالرطل كما فعل بالدفتر خانة المصرية؛ بل هي
محفوظة على ما كانت عليه من عدة قرون لا يفرط في ورقة واحدة منها. وقد
طبعت الدولة ما في الأوراق التاريخية المحررة باللسان العربي، وغيره من الألسن
الشرقية حتى يسهل على الناظر فيها معرفة ما كتب في تلك الأوراق، ويتيسر له
بعد ذلك قراءتها في أصولها خصوصًا إذا كان غير متعود على قراءة الخطوط
العربية المختلفة فإذا قابل بين المطبوع والمرقوم عرف صحة العبارة في النسختين.
ولعل المكتبة المصرية الكبرى تصنع مثل ذلك في الخطوط المكتوبة على أوراق
البَرْدِي وغيرها مما كتب بالكوفية أو النسخ القديم أو ما عفى بعضه القدم لتتم فائدة
حفظ هذه الأوراق والانتفاع بها إن شاء الله.
من العادة في المكاتب وديار حفظ الأوراق أن يجعل لها دفاتر يكتب فيها الزائر
اسمه ولقبه وتاريخ الزيارة وهي عادة حسنة تليق بأماكن أقيمت لحفظ الآثار العلمية
والمذكرات التاريخية. أما عمال المكتبة العمومية في بلرم فلم يحفلوا بهذه العادة،
واكتفوا بتقديم ورقة من أوراق طلب المطالعة لوضع إمضائي عليها كما فعل ذلك
خَدَمَة المكتبة العمومية في مسينا لكن عمال دار محفوظات الدولة راموا أن تجري
تلك العادة مجراها فطلبوا ذلك الدفتر فلم يجدوه فجدّوا في البحث والتنقيب وأخذت
الأصوات تتقاذف، والإشارات تنمو وتتزايد، على نحو ما فعل عمال المكتبة
العمومية، في اكتشاف فهرس الكتب العربية، وكنت على عجل أريد زيارة محل
آخر فحبست مدة حتى يسر الله ووجد الدفتر ووضعت إمضائي فيه. وأظنهم حمدوا
الله لأن كنت السبب في العثور عليه بعد ضياعه.
هذا وذلك يدلانك على أحد أمرين: إما قلة الزائرين لهذه الأماكن العلمية من
الأجانب وطلاب النظر في الآثار العربية، وقلة الدارسين من أهل البلاد في تلك
الكتب التي كتبت في لسان غير لسانهم اكتفاءً بتراجمها أو لعدم الحاجة إليها، وإما
شدة الإهمال من موظفي هذه الديار. وقد يتيسر لك الجمع بين الأمرين، ولم أعهد
في مكتبة أوروبية أن وقع لي مثل ما وقع في مكتبتي بلرم.
حاجة السائح إلى معرفة اللغات وأيها أنفع
ومن الأمور التي لا أجد بدًّا من نقدها أن موظفي هذه المكاتب لا يعرفون من
اللغات إلا الإيطالية، فلا يعرفون الفرنسية مع قربها من لغتهم ومن عرف منها
بعض كلمات يصعب عليه أن يؤدي بها مراده. وكان رفيقي يترجم بيني وبينهم عندما
كان معي في المكتبة العمومية، لكني بعد انصرافه وقعت في وحشة يزيدها لزم
الصمت وعدم الفائدة في الكلام وضيق الصدر عند إرادة الاستفهام عما يراد فهمه،
ولا يوجد السبيل إليه إلا من طريق الإشارة.
ولا يخفى عليك أن الإشارة إنما تصلح للإفادة والاستفادة من الأخرس إذا كنت
والدة له على ما في المثل: (أم الأخرس أعرف بلغته) فلا بد من التعود على
ضرب من الإشارة مخصوص حتى يتيسر الفهم والإفهام؛ ولهذا لم يمكني أن أستفيد
شيئًا فيما ينبغي أن يصنع لاستنساخ شيء من الكتب العربية كتلك القطعة من شرح
ابن رشد مثلاً. وبعد طول الكلام بفرنسية لا يفهمونها وإيطالية لا أفهمها انصرفت
وأنا من الجهل على مثل ما دخلت به لكن قد انكشفت عني غمة هذا الجهل بملاقاة مَن
أمكنه فهم ما أقول وأمكنني فهم ما يقول من أهل المدينة.
يناسب في هذا المحل ذكر ما يقال من أن الذي يعرف اللغة الفرنسية يسهل
عليه السفر في جميع بلاد أوربا ويتيسر له الفهم والإفهام؛ لأنها لغة عامة لا تجد
نُزلاً ولا مكانًا يرغب في زيارته إلا وأنت تجد فيه من يكفيك حاجتك فيما تريد. وقد
رأيت أن هذا القول اضمحلت صحته في مكاتب بلرم، ولم ألقَ ما يقوي صحته في
مكتبة مسينا، والمكاتب من ديار العلم التي يكثر فيها العارفون باللغات الأجنبية،
ولا ينبغي أن تخلو منه لمسيس الحاجة إليهم. وقد بت ليلة في لوندرا، ونزلت في
أكبر نزل فيها يسمى (كير أفنور أوتيل) فيه ما يزيد على ستمائة بيت للنوم، ولم
أجد فيه من يعرف الفرنسية إلا خادمين أحدهما بواب والآخر من خَدمة قاعة الطعام،
أما خَدمة أماكن النوم وغيرهم فلا يفهمون كلمة واحدة والحاجة إليهم أشد فإن
المطالب الخاصة جميعها منوطة بهم أو بهن.
إذا طلبت ماءً أو لبنًا أو قهوة أو تهيئة حمام أو نقل متاع من مكان إلى مكان أو
تصحيح منكسر أو كسر صحيح لم تجد من تطالبه إلا أولئك الذين لا يعرفون كلمة من
الفرنسية، غير أنهم لتعودهم فيما يظهر على كثرة ورود هذا النوع من الخرس
صاروا أو صرن كوالدة الأخرس يسهل عليهم أو عليهن فهم الإشارات بدون إتعاب
شديد لأعضاء المشيرين (أي: الذين يتفاهمون بالإشارة لا الذين حازوا رتبة
المشيرية العسكرية العثمانية) ؛ لكن لا يخفى عليك أن من المطالب ما لا تعبر عنه
الإشارة، فماذا تصنع إذا كنت أعلم العلماء بالفرنسية وعرض لك مثل هذا الطلب،
وليس عندك وقت يسع تعلم اللغة الإنكليزية؟ لا يسعك إلا الإقرار بأن ذلك القول الذي
قالوا مبني على تجربة قاصرة لا تصلح أن تكون مقدمة من مقدمات البرهان المعدودة
في فن المنطق.
أزيدك شيئًا في هذا؛ وهو أنك إذا كنت لا تعرف لسان القوم الذين تنزل فيهم
يجدونك طعمة أو هبة من الله سيقت إليهم؛ فهم يكلفونك من النفقات ما يشاؤون،
ولا يجدون في أنفسهم دانقًا من الرأفة بك أو الرحمة لغربتك، ولا يمكنك أن تبحث
مع ناهبك في موضوع نهبك؛ لأنه لا يفهم ما تقول، وأنت لا تفهم ما يقول،
فينتهي أمرك بدفع ما رُقم لك رغم أنفك، وغاية ما يمكنك فعله أن تتنفس الصعداء
وتهز رأسك وتلوي عنقك علامة على غضبك ولكن هذا كله لا يوفر عليك ما نقصه
منك الجهل باللسان.
وفي ظني أن من أراد أن يسافر إلى بلد لا يعرف لسانه فأولى له أن يتعلم من
لسان ذلك البلد ما يكفيه للتعامل، ومدة سنة قبل السفر تكفي لذلك، وأجرة الأستاذ
المعلم لا تصل إلى نصف ما يخسره ببركة الجهل باللسان.
أستغفر الله من خطأ فيما قلت. إذا أراد السفر إلى صقلية (سيسيليا) من بلاد
إيطاليا فعليه أن يجدَّ لمعرفة اللغة الإيطالية حتى يتكلم بسرعة، ويفهم بسرعةٍ يسبق
بها كلامُه وفَهمُه كلامَ الإيطاليين وفَهمَهم، وإلا سأل الله العوض فيما يفقد من متاعه
وما يؤخذ منه أجرة على ضياعه. عند وضع قدمه على ساحل صقلية يجتمع عليه
الحمالون والمرشدون المضلون ويتجاذبون متاعه وثيابه كلٌّ يأخذ قطعة فإن كان لا
يعرف اللسان، كان ما كان مما لا يسعه الإمكان، فإذا سلم له متاعه من التحطيم أو
الضياع، أو أصابه من ذلك ما لم يفد فيه الدفاع، وجد أمامه جيشًا من الطالبين
كل واحد يطالبه بقيمة عمله، وما هو ذلك العمل؟ هو حمل قطعة من المتاع وكلمة
قيلت غير مفهومة في هدايته إلى المحل الذي وصل إليه، مع أنه وصل برجليه،
ومن طريقٍ، كل الناس يمشون فيه. ولا تنس أنهم يجاذبونك أعضاءك حتى إن
جميع أجزائك لفي خطر من مجاذبتهم إذا لم تكن حريصًا عليها. فإذا كنت في حاجة
إلى السفر إلى هذه البلاد، والإقامة فيها مدة من الزمان لتبديل الهواء، وترويح
النفس بجمال المناظر خصوصًا أيام الربيع فعليك أن تصرف سنتين في تعلم اللغة
الإيطالية وما تنفقه في التعلم أقل مما تخسر مع تعذر التفاهم.
وجدت أن الذي يعرف الإنكليزية أسعد حظًّا في فرنسا ممن يعرف الفرنسية في
إنكلترا فإنك لا تجد نزلاً في البلاد الفرنسية إلا وفيه كثير من الخدم الذين يعرفون
الإنكليزية. سألت عن السبب في ذلك قيل لي: إن أهل فرنسا قلما يسيحون في بلاد
الإنكليز. أما الإنكليز والأميريكيون فيملؤون سهول فرنسا وجباله، ويُدهشون
بالذهب صغارها ورجالها، فاضطر الفرنسي إلى ترويج الإنكليزية في بلاده لتعجب
الزائرين، وليستكثر من الناثرين.
ويل لك إذا أقمت يومًا أو يومين في نُزُل بمسينا من أكبر ما يقصده السائحون،
رب النُّزل يعرف بعض كلمات قليلة من الفرنسية يمكنه بها أن يفهمك أن أجرة
محل النوم وحده بلا أكل ولا شرب عشرة فرنكات في الليلة ويمكنك أن تفهمه بأنك
قبلت ذلك على شرط النظافة وتوفر الراحة وإن كان لا يعمل من ذلك بما فهم منك
وإنما العمل على ما فهمت أنت منه.
تنام عند الساعة العاشرة فلا يمر عليك نصف ساعة إلا وقد أطار نومك صياح
وجلبة ودوي حركات تذهب وتجيء خارج منامك فيضيق صدرك وتطلب الفرج،
ولا تجده فتفتح الباب، وتقول كلامًا كثيرًا يفهم منه أنك في شدة الضيق مما تسمع
ولا سبيل إلى النوم فيقال لك ما تفهم منه أن هؤلاء مسافرون جاؤوا إلى المحل من
جديد وماذا يصنع معهم؟ فتطلب محلاًّ آخر للنوم ويأخذون فراشك من محلك الأول
إلى محلك الثاني فتحمد الله على الهدوء وإقبال الراحة، ثم تلقي جسمك على الفراش
ويقبل النوم على عينيك بثقله، ثُم لا يمضي نصف ساعة إلا وقد أخذت يداك تحك
وجهك وعنقك، واليسرى تحك اليمنى واليمنى تحك اليسرى، ولا يزال الحك يزيد
والمحكوك يتألم حتى تتنبه أعصاب الدماغ والعين ويصبح ذلك النوم الثقيل أخف من
نفس الجميل، فيطير عنك إلى حيث تبحث عنه ولا تجده ولا يبقى لك إلا الحك
والحكة وما هذا كله؟ هذا هو البق الذي تروعك حمرته، وتقلقك عضته؛ بل
حركته؛ بل تطير نومك رؤيته، فتطلب الخلاص وماذا تصنع؟ مضت مدة من
الليل نام فيها الصائحون فتعود إلى محلك الأول وقد نام الخادم، فتعود إلى غير
فراش أو تفرش لنفسك وهذا أفضل لك، فإذا أصبحت حُوسبت على شمعتين في
مكانين لم تصرف منهما شيئًا وعلى شيئين آخرين، وكدتَ تحاسَب على أجرة
مخدعين!
أظرف ما وقع لي مع خادم هذا النزل، طلبت منه ماءً باردًا فلم يفهم فأشرت
إلى فمي ومثلت بيدي صورة إناء الماء، فإذا هو يفتح الباب وينظر إلي كأنه فهم
أنني أشرت بيدي إلى أن الباب مغلق، وبفمي إلى فتحه؛ لأنه فتحة من فتحات
بدني، وبعد تعب أعضائي من الإشارة ولساني من التكلم بالفرنسية قمت وبحثت
عن كوب، وأشرت به إليه ففهم أني أريد ماءً؛ لكن لم يفهم أني أريده باردًا، وما
أشد التعب في تصوير الجليد له! فرغ ماء الغسل، فطلبت منه تجديده فرفع في
وجهي كرسيًّا طويلاً اشتريته لأجلس عليه في المركب ففزعت لذلك، وظننت أنه
يريد رميي به ظنًّا منه أني شتمته؛ غير أن ذلك سُرِّيَ عني عندما رأيته ينظر إليَّ
نظر الاحترام ويطلب مني بعينه أن يضع الكرسي. فاستلقيت من الضحك وذهبت
إلى موضع الغسل وأشرت إليه أن يجدد الماء ففعل. أفلا يحملك ذلك على تعلم
اللسان الإيطالي إذا أردت السفر إلى سيسيليا، وأن لا تصدق ما يقال لك من أن
معرفة الفرنسية تكفيك الحاجة في كل بلاد أوربا؟ !
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/832)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(رباعيات أبي العلاء المعري)
أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعرّي أشهر من أن يُعرَّف،
كان إمامًا في اللغة والأدب وحكيمًا كبير العقل بعيد الفكر حر القول ذهب بشعره في
فلسفة الأفكار مذاهب لم يسبقه بها سابق، ولم يلحقه بمثلها لاحق، إلا أن يكون عمر
الخيام؛ فإنه جرى على آثاره في إيداع الشعر فلسفة أفكاره، وقد عني الفرنج بنقل
أشعار هذا إلى لغاتهم وولعوا بها وصار له فيهم أنصار ومريدون؛ ولكنهم لم يهتدوا
بعد إلى أشعار إمامه وقدوته فيما امتاز به وهو أبو العلاء المعري حتى انتدب من
عهد قريب أحد أدباء سوريا إلى نقل بعض شعره إلى اللغة الإنكليزية وطبعه في
أمريكا وسماه (رباعيات أبي العلاء المعري محاكاة لكتاب ترجم إلى تلك اللغة يسمى
(رباعيات عمر الخيام) .
ذلك الأديب هو أمين أفندي ريحاني نزيل أميركا أحد دعاة الوطنية وأعداء
التعصب الذميم. وقد صدر الرباعيات بمقدمة يذكر فيها شيئًا من شمائل أبي العلاء
وفضائله وبعد فكره في فلسفة الدين والاجتماع، وقد فضله على غيره من فلاسفة
العرب حتى على الرئيس ابن سينا ولكنه أومأ إلى انتقاد المسلمين بإهمال شعره،
وعدم الإشادة بذكره، وإننا نقول: إن أبا العلاء لم يكن مغمورًا في زمنه، ولا
مهجورًا في موطنه، وإنما أخذ عنه بعض النابغين كأبي القاسم علي بن المحسن
التنوخي والخطيب أبي زكريا التبريزي؛ بل كانوا يتبركون به كما يتبركون
بالأولياء والصلحاء فقد قال الحافظ السلفي: أخبرني أبو محمد عبد الله بن الوليد بن
غريب الإيادي أنه دخل مع عمه على أبي العلاء يزوره فرآه قاعدًا على سجادة لبد،
وهو شيخ قال: فدعا لي ومسح على رأسي وكنت صبيًّا وكأني أنظر إليه الساعة
وإلى عينيه: إحداهما نادرة والأخرى غائرة جدًّا، وهو مجدر الوجه نحيف الجسم،
ولو وجد في عصره في أوربا من يقول مثل قوله:
إذا رجع الحكيم إلى حِجاه ... تهاون بالمذاهب وازدراها
لما كان له من جزاء إلا الإحراق بالنار، ولما بقي له أثر من الآثار، ولا بأس
بأن نعيد هنا عبارة جاءت في مقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) من
مجلد المنار الخامس وهي: يذكر علي بن يوسف القفطي أن صالح بن مرداس
صاحب حلب خرج إلى المعرة وقد عصى أهلها عليه فنازلها، وشرع في حصارها
ورماها بالمنجنيق، فلما أحس أهلها بالغلب سعوا إلى أبي العلاء بن سليمان
وسألوه أن يخرج ويشفع فيهم فخرج ومعه قائد يقوده فأكرمه صالح واحترمه ثم قال:
ألك حاجة؟ قال: الأمير أطال الله بقاءه كالسيف القاطع لان مسه وخشن حده،
وكالنهار البالغ قاظ وسطه وطاب برده، {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) ، فقال له صالح: قد وهبتها لك. أما السبب في
عدم طبع شعره إلا من زمن قريب في الهند ثم في سوريا ومصر فهو عين السبب
في عدم طبع مثل كتابي أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز إلا في هاتين السنتين - هو
موت العلم العربي من بضعة قرون.
وقد أحسن المترجم في نقل ما اختاره إلى الشعر الإنكليزي، وخدم الأمة
العربية بتعريف فضلاء الفرنج بفضلها ونبلها وسبقها إلى الحكمة والآراء السامية إلا
أنه قد حكم عليه النَّظْم بأن يتصرف في بعض المعاني قليلاً، وله الشكر على هذه
الأريحية.
(عرفات)
جريدة أسبوعية جديدة أصدرها في القاهرة باللغة الفرنسية صديقنا محمود بك
سالم، والغرض منها إزالة شبهات الأوربيين، ومن أخذ العلم عنهم من المسلمين
وغيرهم عن الدين الإسلامي، وإظهار محاسنه لهم، ومحمود بك من أعرف الناس
بهذه الشبهات ومثاراتها؛ فإنه تعلم العلوم الابتدائية والعالية في أوربا وتخرج في
أشهر مدارسها وهو بارع بالفرنسية ثم بالإنكليزية وله إلمام بالألمانية والإيطالية وبعد
عودته من أوربا لم يشغله القضاء - إذ كان قاضيًا في المحاكم المختلطة - عن
مدارسة العلوم الإسلامية والشغف بمثاقفة أهلها ومحاورتهم بها. وقد عرف
باستقصاء ما يكتبه الفرنج عن الإسلام والمسلمين في لغات العلم الثلاث. وقد ساح
في أوروبا وفي البلاد الإسلامية واختبر الناس. وله لسان صدق في قومه. فهو
بهذه المزايا مضطلع بأعباء هذا العمل الذي تصبو إليه نفسه من زمن بعيد ويرجى
أن تكون جريدته أنفع الجرائد للإسلام والمسلمين ولأوربا والأوربيين.
(الإنسانية)
مجلة علمية انتقادية دينية سياسية أدبية أسبوعية صاحبها، ومديرها محمد
أفندي أبو النصر المحامي ومحررها الشيخ إبراهيم الدباغ يصدر العدد منها بست
عشرة صفحة وقيمة الاشتراك فيها ستون قرشًا صحيحًا في السنة.
(الباحث)
مجلة علمية دينية تهذيبية لمنشئها الخوري جرجس فرح صفير وكيل
بطركخانة الموارنة في الإسكندرية. تصدر في كل شهر مرة. وقد صدر
الجزء الأول منها في أول يناير سنة 1940 مؤلفًا من 32 صفحة وقيمة الاشتراك
فيها 30 قرشًا صحيحًا في السنة. ولم نقرأ من هذه المجلة وما قبلها ما نتبين به
حقيقتهما لضيق الوقت وإنما نوهنا بهما عملاً بحقوق الصحافة.
(الأمة الشرقية)
مجلة علمية صناعية طبية أدبية فكاهية منشئها (ح. ص.) تصدر في كل
شهر مرة في الإسكندرية. صدر الجزء الأول منها في أول يناير سنة 1904 مؤلفًا
من 32 صفحة. وقيمة الاشتراك فيها 16 قرشًا صحيحًا في السنة وهي زهيدة
(لا تتجاوز ثمن ورقة دخول في بعض الملاعب) كما هو مكتوب في مقدمتها
ولضيق الوقت لم نتمكن من قراءتها فعسى أن تصادف نجاحًا وإقبالاً.
(النافع)
جريدة أسبوعية سياسية أدبية أصدرها في مدينة طنطا الشيخ مصطفى نافع
وكيل المؤيد سابقًا وقيمة الاشتراك فيها مائة قرش في السنة وستون قرشًا عن
نصف سنة. وإننا نتمنى لهذه الجريدة النجاح فقد سبق لصاحبها من الاشتغال
بخدمة المؤيد ما عرفه ما لا يعرف غيره من شؤون هذا العمل ومن أقدم على شيء
عن بصيرة يُرجى له ما لا يُرجى لغيره.
(الواعظ)
تقدم التنويه في هذا الجزء بجريدة سميت بالواعظ، ونقول هنا: إن منشئ هذه
الجريدة هو محمود أفندي سلامة المشهور عند قراء الصحف في مصر بما سبق
له من الاشتغال بالصحافة إنشاءً وتحريرًا، حتى إن بعض الجرائد اليومية قد وجدت
من يقرؤها بما كان ينشره فيها من المقالات الضافية في الأخلاق وانتقاد العادات،
لذلك نرجو لهذه الجريدة من النجاح والانتشار ما لا نرجو مثله لأكثر الجرائد التي
تنبت في مصر عامًا بعد عام ويومًا بعد يوم وقيمة الاشتراك فيها ستون قرشًا.
__________(6/838)
16 ذو القعدة - 1321هـ
3 فبراير - 1904م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المفتي والقاضي في الشرع
المفتي في الشرع هو الفقيه المجتهد الذي يرجع إليه الناس في معرفة ما يخفى
عليهم من أحكام الدين. قال في (كشاف اصطلاحات الفنون) ما نصه (ص
1157 ج2) : (الفقه هو اسم علم من العلوم المدونة، وهو العلم بالأحكام الشرعية
العملية من أدلتها التفصيلية، والفقيه هو مَن اتّصف بهذا العلم وهو المجتهد. قال
المحقق التفتازاني في حاشية العضدي: ظاهر كلام القوم أنه لا يتصور فقيه غير
مجتهد ولا مجتهد غير فقيه على الإطلاق. نعم لو اشترط في الفقه التهيؤ لجميع
الأحكام، وجوّز في مسألة دون مسألة تحقق مجتهد ليس بفقيه.
وجاء (في ص 1156) منه ما نصه: (الاستفتاء هو عند الأصوليين
والفقهاء مقابل الاجتهاد والمستفتي خلاف المفتي. والمفتي هو الفقيه فإن لم نقل
بتجزي الاجتهاد؛ وهو كونه مجتهدًا في بعض المسائل دون بعض فكل من ليس
مجتهدًا في الكل فهو مستفتٍ في الكل. وإن قلنا بتجزي الاجتهاد فالأمر واضح أيضًا؛
فإنه مُستفت فيما ليس مجتهدًا فيه مُفْت فيما هو مجتهد. وبالجملة فالمفتي
والمستفتي إنما يكونان متقابلين ممتنعي الاجتماع عند اتحاد متعلقهما، وأما إذا اعتبر
كونه مفتيًا في حكم مستفتيًا في حكم آخر فلا) . ا. هـ
وبيان هذا أن المفتي عندهم هو المجتهد المستعد للإفتاء بالدليل، فإن كان
مستعدًا للإفتاء في عامة الأحكام فهو المجتهد المطلق، وإن كان لا يقدر على الإفتاء
إلا في بعض الأحكام فهو مجتهد فيما هو مفتٍ به. وهذا التفصيل مبني على قول
المحققين من الأصوليين بأن الاجتهاد يتجزأ؛ أي: يجوز أن يجتهد الإنسان في بعض
المسائل فيقف على أدلتها ويعرف الحكم منها وإن عجز عن مثل ذلك في مسائل
أخرى.
وما تقدم من معنى الفقه هو اصطلاح علماء الأحكام العملية وأصولها (أي: علم
أصول الفقه) وللفقه معنى آخر هو ما يفهم من الكتاب والسنة وآثار السلف وهو فهم
أسرار الدين في إصلاح النفوس ومعرفة آفاتها وما يصلح أخلاقها. ولا مشاحة في
الاصطلاح فإن الإمام الغزالي الذي بيَّن هذا المعنى كان يستعمل المعنى الاصطلاحي
في كتبه الفقهية والأصولية، ويطلق الفقه عند المتأخرين على معرفة أقوال المؤلفين
في الأحكام.
وقد اشترطوا في القاضي أن يكون مجتهدًا؛ لأنه كالمفتي في الحاجة إلى
معرفة الحق فيما يحكم به بل هو من جهة أحوج إلى تحري الحق؛ لأنه ملزم
والمفتي مبين فقط ولكن الحنفية أجازوا أن يكون القاضي غير مجتهد عند الضرورة
اعتمادًا على أنه يستفتي فعلم أن جواز نصب القاضي من غير أهل الاجتهاد مشروط
بوجود مفت من أهله يبين له الحكم.
وهذا نص متن الهداية وهو أشهر المتون المعتمدة في مذهب الحنفية قال: (ولا تصح ولاية القاضي حتى يجتمع في المولى شرائط الشهادة ويكون من أهل
الاجتهاد) ، قال الكمال في (فتح القدير) شرح الهداية: الصحيح أن أهلية الاجتهاد
شرط الأولوية فأما تقليد الجاهل فصحيح عندنا خلافًا للشافعي رحمه الله، وهو يقول:
إن الأمر بالقضاء يستدعي القدرة عليه ولا قدرة دون العلم. ولنا أنه يمكنه أن يقضي
بفتوى غيره ومقصود القضاء يحصل به، وهو إيصال الحق إلى مستحقه. وقال
المرغيناني في تكملته للفتح: (قوله: خلافًا للشافعي ومالك وأحمد وقولهم رواية
عن علمائنا: نص محمد في الأصل أن المقلد لا يجوز أن يكون قاضيًا؛ ولكن
المختار خلافه) ثم قال: (والمراد بالعلم ليس ما يقطع بصوابه؛ بل ما يظنه
المجتهد فإنه لا قطع في مسائل الفقه، وإذا قضى بقول مجتهد فيه فقد قضى بذلك
العلم وهو المطلوب) .
ثم قال: (واعلم أن ما ذكر في القاضي ذكر في المفتي، فلا يفتي إلا المجتهد
وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد، وأما غير المجتهد ممن
يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفتٍ) .
ثم ذكر أن نقل النصوص ليس بفتوى، وإنما هو إخبار على سبيل الحكاية،
وأن هذه الحكاية لا تحل إلا إذا كان للحاكي سند إلى المجتهد الذي ينقل عنه يعتقد
صحته أو كان يأخذه عن كتاب معروف، تداولته الأيدي نحو كتب محمد بن الحسن.
فعلم من هذه النقول أن مذاهب الأئمة الأربعة متفقة على ما قاله الأصوليون من
كون المفتي هو المجتهد، وأن خلاف الحنفية في القضاء دون الإفتاء، وفيه عندهم
قولان، اعتمد صاحب الهداية على وجوب كون القاضي مجتهدًا وفاقًا لنص الإمام
محمد، واختار آخرون جواز كونه غير مجتهد اعتمادًا على وجود مفتٍ يفتيه، فكأنه
في نظر هؤلاء منفّذ فقط.
ثم قال الكمال: (وفي حديث الاجتهاد كلام عرف في أصول الفقه وحاصله أن
يكون صاحب حديث له معرفة بالفقه ليعرف معاني الآثار أو صاحب فقه له معرفة
بالحديث، لئلا يشتغل بالقياس في المنصوص عليه. وقيل: أن يكون مع ذلك
صاحب قريحة يعرف بها عادات الناس؛ لأن من الأحكام ما يبنى عليها) . اهـ
بحروفه.
وقال المرغيناني عند قوله: وقيل: إن يكون مع ذلك صاحب قريحة ... إلخ
ما نصه: (فهذا القيل لا بد منه في المجتهد، فمن أتقن معنى هذه الجمل فهو أهل
للاجتهاد؛ فيجب عليه أن يعمل باجتهاده وهو أن يبذل جهده في طلب الظن بحكم
شرعي عن هذه الأدلة ولا يقلد أحدًا) ا. هـ؛ أي: ويجب عليه أن يفتي كذلك بما
ظهر له، ولا يجوز له أن يفتي بقول أحد؛ بل علمت من نصهم أن نقل قول الغير لا
يسمى فتوى.
هذا ما فسر به المفتي والمجتهد في كتب الشريعة وابتدأنا بالنقل عن كتب
الحنفية خاصة؛ لأن الحكومة المصرية على مذهبهم، ومنها علم أن المذاهب الثلاثة
موافقة لمذهب الحنفية في اعتبار كون المفتي هو المجتهد، ولكن الجَهِلَ الظاهرَ قام
يحتج على العلم، فيحرم الاجتهاد على المفتي، ولو في بعض المسائل ويضع
للمجتهد تعريفًا جديدًا وشروطًا جديدة؛ لأن حرية المطبوعات في مصر أباحت لكل
أحد أن يخوض في كل شيء، فقد رأينا تقريرًا لبعض الجاهلين بالشرع يحتج فيه
بزعمه على بعض ما أفتى به أشهر علماء الإسلام في هذا العصر وينفي عنه
الاجتهاد في الدين بناءً على تعريف اخترعه للمجتهد لم يقل به قبله عالم ولا جاهل
وهو كما في (37) من ذلك التقرير: (المجتهد هو الرجل الوجيه عند الله وعند
الأمة البالغ مبلغ العلم ومعرفة مدارك التشريع وأسرار الشريعة بشرط أن يعترف له
الناس بذلك) ، ثم قال بعد سطور في الاستدلال على كون الاجتهاد يكاد يكون
ممنوعًا عقلاً: إن الثقة العامة ركن من أركان الاجتهاد (فإذا ادعى مُدَّعٍ أنه من
المجتهدين واختلف الناس في أمره سقطت دعواه) .
نقول: إن هذا الكلام لغو باطل؛ لأنه اختراع أصول جديدة للشرع لم يقل بها
أحد من أهله، على أنه غير معقول وغير مفهوم. دع عنك تخصيص الاجتهاد
بالرجال المقتضي أن أمهات المؤمنين - نسوة صاحب الشريعة عليه وعليهن
السلام - كن مقلدات غير مجتهدات في دينهن، وانظر في اشتراطه كون المجتهد
وجيهًا عند الله مع اشتراطه بعد ذلك أن تعترف له الأمة بذلك! ومن يقدر من الأمة
أن يحكم على الله بما لا يعرف إلا بوحي من الله؟ فهذا من غير المعقول، ثم انظر
في قوله: (البالغ مبلغ العلم) تجده من غير المفهوم، ثم انظر في اشتراط اعتراف
الأمة - مقلديها وجهلائها - لرجل بأنه وجيه عند الله وأنه بلغ مبلغ العلم وفهم
أسرار الشريعة تجده غير معقول وغير مفهوم؛ لأن الأمة لا يمكن أن
تصل إلى معرفة هذه الأمور فتحكم بها وإذا فرضنا وصولها إليها تكون أمة مجتهدة؛
أي: يكون جميع أفرادها مجتهدين وكل واحد منهم عارف بقدر الآخر وشاهد له..
ولم يشهد فرد واحد لمجتهد من السابقين بمثل ذلك.
* * *
بيان ما جاء في كتاب الأحكام السلطانية
من القول باجتهاد القاضي
(فصل) ويجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي رحمه الله أن يقلد القضاء من
اعتقد مذهب أبي حنيفة؛ لأن للقاضي أن يجتهد برأيه في قضائه، ولا يلزمه أن يقلد
في النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه، فإذا كان شافعيًّا لم يلزمه المصير في
أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها، فإن أداه اجتهاده إلى الأخذ
بقول أبي حنيفة عمل عليه وأخذ به، وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب
أن يحكم بغيره، فمنع الشافعي أن يحكم بقول أبي حنيفة ومنع الحنفي أن يحكم
بمذهب الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه لما يتوجه إليه من التهمة والممايلة في القضايا
والأحكام، وإذا حكم بمذهب لا يتعداه كان أنفى للتهمة وأرضى للخصوم.
وهذا وإن كانت السياسة تقتضيه فأحكام الشرع لا توجبه؛ لأن التقليد فيها
محظور والاجتهاد فيها مستحق، وإذا نفذ قضاؤه بحكم وتجدد مثله من بعد أعاد
الاجتهاد فيه، وقضى بما أدّاه اجتهاده إليه، وإن خالف ما تقدّم من حكمه فإن عمر -
رضي الله عنه - قضى في المشتركة بالتشريك في عامٍ، وترك التشريك في غيره،
فقيل له: ما هكذا حكمت في العام الماضي؟ فقال: تلك على ما قضينا وهذه على ما
نقضي. فلو شرط المُولِّي وهو حنفي أو شافعي على من ولاه القضاء أن لا يحكم إلا
بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة - فهذا على ضربين: أحدهما أن يشترط ذلك عمومًا في
جميع الأحكام؛ فهذا شرط باطل سواء كان موافقًا لمذهب المُولِّي أو مخالفًا له، وأما
صحة الولاية فإن لم يجعله شرطًا فيه وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي، وقال:
قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب الشافعي - رحمه الله - على وجه الأمر أو لا تحكم
بمذهب أبي حنيفة على وجه النهي كانت الولاية صحيحة والشرط فاسدًا سواء
تضمّن أمرًا أو نهيًا، ويجوز أن يحكم بما أدّاه اجتهاده إليه سواء وافق شرطه أو
خالفه، ويكون اشتراط المولي لذلك قدحًا فيه إن علم أنه اشترط ما لا يجوز، ولا
يكون قدحًا إن جهل؛ لكن لا يصح مع الجهل به أن يكون موليًا ولا واليًا. فإن
أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية؛ فقال: قد قلدتك القضاء على أن تحكم فيه
بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة كانت الولاية باطلة؛ لأنه عقدها على شرط
فاسد، وقال أهل العراق: تصح الولاية ويبطل الشرط.
والضرب الثاني: أن يكون الشرط خاصًّا في حكم بعينه فلا يخلو الشرط من أن
يكون أمرًا أو نهيًا، فإن كان أمرًا فقال له: أقد من العبد بالحر ومن المسلم بالكافر،
واقتص في القتل بغير الحديد كان أمره بهذا الشرط فاسدًا ثم إن جعله شرطًا في عقد
الولاية فسدت، وإن لم يجعله شرطًا فيها صحت وحكم في ذلك بما يؤديه اجتهاده
إليه. وإن كان نهيًا فهو على ضربين: أحدهما أن ينهاه عن الحكم في قتل المسلم
بالكافر والحر بالعبد، ولا يقضي فيه بوجوب قود ولا بإسقاطه فهذا جائز؛ لأنه
اقتصر بولايته على ماعداه، فصار ذلك خارجًا عن نظره.
والضرب الثاني أن لا ينهاه عن الحكم وينهاه عن القضاء في القصاص فقد
اختلف أصحابنا في هذا النهي هل يوجب صرفه عن النظر فيه؟ على وجهين:
أحدهما أن يكون صرفًا عن الحكم فيه وخارجًا عن ولايته، فلا يحكم فيه بإثبات قود
ولا بإسقاطه. والثاني أن لا يقتضي الصرف عنه ويجري عليه حكم الأمر به، ويثبت
صحة النظر إن لم يجعله شرطًا في التقليد ويحكم فيه بما يؤديه اجتهاده إليه اهـ.
فعلم من هذا أن القاضي لا يعزل إذا خالف مذهب موليه أو شرطه عليه تقليد
إمام معين؛ بل تجب عليه مخالفة مولّيه إذا ظهر له الدليل على أن مخالفته هي
الصواب. والمفتي في ذلك كالقاضي كما تقدّم نقلاً عن شرح الهداية؛ بل القول
بوجوب اجتهاد المفتي عند الحنفية أقوى من القول باجتهاد القاضي كما علمت،
وبهذه النصوص تعلم أن ما كتب في تلك الجريدة المحدثة من كون المفتي يصير
معزولاً إذا أفتى بخلاف مذهب موليه قول باطل، مبني على الجهل الظاهر.
وقد كان وقع مثل هذا الوهم أو قريبًا منه لبعض الأزهريين عندما علم أن
قاضي قضاة السودان حكم في بعض القضايا بمذهب الإمام مالك كالطلاق على
المعسر والغائب. فسألنا يومئذ ذلك الأزهري عن ذلك فأجبناه بنحو ما تقدم وزيادة
تتعلق بالمولي نسكت على مثلها الآن. وربما نزيد الكلام في الإفتاء والمفتي بيانًا في
جزء آخر.
__________(6/848)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(الوجه الثالث والأربعون) قولهم: إن الله سبحانه وتعالى أثنى على
السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وتقليدهم هو
اتباعهم بإحسان.
فما أصدق المقدمة الأولى وما أكذب الثانية؛ بل الآية من أعظم الأدلة ردًّا
على فرقة التقليد؛ فإن اتباعهم هو سلوك سبيلهم ومنهاجهم، وقد نهوا عن التقليد
وكون الرجل إمعة. وأخبروا أنه ليس من أهل البصيرة ولم يكن فيهم - ولله الحمد -
رجل واحد على مذهب هؤلاء المقلدين. وقد أعاذهم الله وعافاهم مما ابتلى به من
يرد النصوص لآراء الرجال وتقليده لها فهذا ضد متابعتهم وهو نفس مخالفتهم؛
فالتابعون لهم بإحسان حقًّا هم أولو العلم والبصائر الذين لا يقدمون على كتاب الله
وسنة رسوله رأيًا ولا قياسًا ولا معقولاً ولا قول أحد من العالمين. ولا يجعلون
مذهب أحد عيارًا على القرآن والسنن فهؤلاء أتباعهم حقًّا. جعلنا الله منهم بفضله
ورحمته. يوضحه:
(الوجه الرابع والأربعون) أن أتباعهم لو كانوا هم المقلدين الذين هم مقرون
على أنفسهم، وجميع أهل العلم أنهم ليسوا من أولي العلم لكان سادات العلماء
الدائرون مع الحجة ليسوا من أتباعهم، والجهّال أسعد باتباعهم منهم، وهذا عين
المحال؛ بل من خالف واحدًا منهم للحجة هو المتبع له دون من أخذ قوله بغير حجة،
وهكذا القول في اتباع الأئمة - رضي الله عنهم - معاذ الله أن يكونوا هم المقلدين
لهم الذين ينزلون آراءهم منزلة النصوص؛ بل يتركون لها النصوص فهؤلاء ليسوا
من أتباعهم، وإنما أتباعهم من كان على طريقتهم واقتفى منهاجهم.
ولقد أنكر بعض المقلدين على شيخ الإسلام في تدريسه بمدرسة ابن الحنبلي
وهي وقف على الحنابلة والمجتهد ليس منهم، فقال: إنما أتناول ما أتناول منها على
معرفتي بمذهب أحمد لا على تقليدي له. ومن المحال أن يكون هؤلاء المتأخرون
على مذهب الأئمة دون أصحابهم الذين لم يكونوا يقلدونهم. فأتبع الناس لمالكٍ ابنُ
وهب وطبقته ممن يحكّم الحجة، وينقاد للدليل أين كان، وكذلك أبو يوسف ومحمد
أتبع لأبي حنيفة من المقلدين له مع كثرة مخالفتهما له وكذلك البخاري ومسلم وأبو داود
والأثرم، وهذه الطبقة من أصحاب أحمد أتبع له من المقلدين المحض
المنتسبين إليه، وعلى هذا فالوقف على اتباع الأئمة أهل الحجة والعلم أحق به من
المقلدين في نفس الأمر.
(الوجه الخامس والأربعون) قولهم: يكفي في صحة التقليد الحديث المشهور:
(أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) .
جوابه من وجوه:
أحدها: أن هذا الحديث قد روي من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر
ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر، ومن طريق حمزة الجزري عن نافع عن
ابن عمر ولا يثبت شيء منها. قال ابن عبد البر: ثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد أن
أبا عبد الله بن مفرح حدثهم ثنا محمد بن أيوب الصموت، قال: قال لنا البزّار:
وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم
اهتديتم) فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: أن يقال لهؤلاء المقلدين فكيف استجزتم ترك تقليد النجوم التي يُهتدَى
بها وقلدتم مَن هو دونهم بمراتب كثيرة. فكان تقليد مالك والشافعي وأبي حنيفة
وأحمد آثر عندكم من تقليد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. فما دل عليه الحديث
خالفتموه صريحًا واستدللتم به على تقليد من لم يتعرض له بوجه.
الثالث: أن هذا يوجب عليكم تقليد من ورث الجد مع الإخوة منهم، ومن
أسقط الإخوة به معًا. وتقليد من قال: الحرام يمين، ومن قال: هو طلاق.
وتقليد من حرم الجمع بين الأختين بملك اليمين، ومن أباحه. وتقليد من جوز
للصائم أكل البرد، ومن منع منه. وتقليد من قال: تعتد المتوفى عنها بأقصى
الأجلين، ومن قال بوضع الحمل. وتقليد من قال: يحرم على المحرم استدامة
الطيب، وتقليد من أباحه. وتقليد من جوز بيع الدرهم بالدرهمين، وتقليد من حرمه.
وتقليد من أوجب الغسل من الإكسال، وتقليد من أسقطه. وتقليد من ورث ذوي
الأرحام، ومن أسقطهم. وتقليد من رأى التحريم برضاع الكبير، ومن لم يره.
وتقليد من منع تيمم الجنب، ومن أوجبه. وتقليد من رأى الطلاق الثلاث واحدًا،
ومن رآه ثلاثًا. وتقليد من أوجب فسخ الحج إلى العمرة، ومن منع منه. وتقليد من
أباح لحوم الحمر الأهلية، ومن منع منها. وتقليد من رأى النقض بمس الذكر، ومن
لم يره. وتقليد من رأى بيع الأمة طلاقها، ومن لم يره. وتقليد من وقف المولى عند
الأجل، ومن لم يقفه، وأضعاف أضعاف ذلك مما اختلف فيه أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، فإن سوغتم هذا فلا تحتجوا لقول على قول، ومذهب
على مذهب؛ بل اجعلوا الرجل مخير في الأخذ بأي قول شاء من أقوالهم. ولا تنكروا
على من خالف مذهبكم واتبع قول أحدهم. وإن لم تسوغوه فأنتم أول مبطل لهذا
الحديث ومخالف له وقائل بضد مقتضاه وهذا مما لا انفكاك لكم منه.
الرابع: أن الاقتداء بهم هو اتباع القرآن والسنة والقول من كل مَن دعا إليهما
منهم فالاقتداء بهم يحرم عليكم التقليد ويوجب الاستدلال وتحكيم الدليل كما كان عليه
القوم رضي الله عنهم. وحينئذٍ فالحديث من أقوى الحجج عليكم وبالله التوفيق.
(الوجه السادس والأربعون) قولكم: قال عبد الله بن مسعود: من كان مستنًّا
منكم فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد.
فهذا من أكبر الحجج عليكم من وجوه:
فإنه نهى عن الاستنان بالأحياء وأنتم تقلدون الأحياء والأموات. الثاني أنه
عيَّن المستن بهم فإنهم خير الخلق، وأبر الأمة وأعلمهم رضي الله عنهم. وأنتم
معاشر المقلدين لا ترون تقليدهم، ولا الاستنان بهم وإنما ترون تقليد فلان وفلان
ممن هو دونهم بكثير.
الثالث: أن الاستنان بهم هو الاقتداء بهم، وهو بأن يأتي المقتدي بمثل ما
أتوْا به ويفعل كما فعلوا. وهذا يبطل قبول قول أحد بغير حجة كما كان الصحابة
(رضي الله عنهم) عليه. الرابع: أن ابن مسعود قد صح عنه النهي عن التقليد
وأن لا يكون الرجل إمعة لا بصيرة له. فعلم أن الاستنان عنده غير التقليد.
(الوجه السابع والأربعون) قولكم: قد صح عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أنه قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) وقال:
(اقتدوا باللَّذَيْن من بعدي) .
فهذا من أكبر حججنا عليكم في بطلان ما أنتم عليه من التقليد؛ فإنه خلاف
سنتهم. ومن المعلوم بالضرورة أن أحدًا منهم لم يكن يدع السنة إذا ظهرت لقول
غيره كائنًا من كان، ولم يكن له معها قول ألبتة وطريق فرقة التقليد خلاف ذلك.
يوضحه:
(الوجه الثامن والأربعون) أنه صلى الله عليه وآله وسلم قرن سنتهم بسنته
في وجوب الاتباع.
والأخذ بسنتهم ليس تقليدًا لهم بل اتباعًا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
كما أن الأخذ بالأذان لم يكن تقليدًا لمن رآه في المنام. والأخذ بقضاء ما فات
المسبوق من صلاته بعد سلام الإمام لم يكن تقليدًا لمعاذ؛ بل اتباعًا لمن أمرنا بالأخذ
بذلك فأين التقليد الذي أنتم عليه من هذا؟ يوضحه:
(الوجه التاسع والأربعون) أنكم أول مخالف لهذين الحديثين؛ فإنكم لا ترون
الأخذ بسنتهم، ولا بالاقتداء بهم واجبًا وليس قولهم عندكم حجة، وقد صرح بعض
علمائكم بأنه لا يجوز تقليدهم ويجب تقليد الشافعي، فمن العجائب احتجاجكم بشيء
أنتم أشد الناس خلافًا له وبالله التوفيق يوضحه:
(الوجه الخمسون) أن الحديث بجملته حجة عليكم من كل وجه:
فإنه أمر عند كثرة الاختلاف بسنته وسنة خلفائه وأمرتم أنتم برأي فلان
ومذهب فلان. الثاني: أنه حذر من محدثات الأمور وأخبر أن كل محدثة بدعة وكل
بدعة ضلالة. ومن المعلوم بالاضطرار أن ما أنتم عليه من التقليد الذي ترك له
كتاب الله وسنة رسوله، ويعرض القرآن والسنة عليه، ويجعل معيارًا عليهما من
أعظم المحدثات له، والبدع التي برأ الله سبحانه القرون التي فضّلها وخيّرها على
غيرها منه. وبالجملة فما سنَّه الخلفاء الراشدون أو أحدهم للأمة فهو حجة لا يجوز
العدول عنها فأين هذا من قول فرقة التقليد: ليست سنتهم حجة ولا يجوز تقليدهم
فيها، يوضحه:
(الوجه الحادي والخمسون) أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال في نفس هذا
الحديث: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا) .
وهذا ذم للمختلفين وتحذير من سلوك سبيلهم وإنما كثر الاختلاف وتفاقم أمره
بسبب التقليد، وأهله الذين فرقوا الدين وصيروا أهله شيعًا كل فرقة تنصر متبوعها،
وتدعو إليها، وتذم من خالفها، ولا يرون العمل بقولهم حتى كأنهم ملة أخرى
سواهم يدأبون ويكدحون في الرد عليهم ويقولون: كتبهم وكتبنا وأئمتهم وأئمتنا،
ومذهبهم ومذهبنا، هذا والنبي واحد، والقرآن واحد، والدين واحد، والرب واحد.
فالواجب على الجميع أن ينقادوا إلى كلمة سواء بينهم كلهم وأن لا يطيعوا إلا
الرسول ولا يجعلوا معه من يكون أقواله كنصوصه ولا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا!
فلو اتفقت كلمتهم على ذلك وانقاد كل واحد منهم لمن دعاه إلى الله ورسوله
وتحاكموا كلهم إلى السنة وآثار الصحابة لقل الاختلاف وإن لم يعدم من الأرض.
ولهذا تجد أقل الناس اختلافًا أهل السنة والحديث. فليس على وجه الأرض طائفة
أكثر اتفاقًا، وأقل اختلافًا منهم لما بنوا على هذا الأصل، وكلما كانت الفرقة عن
الحديث أبعد كان اختلافهم في أنفسهم أشد وأكثر، فإن من رد الحق مرج عليه
أمره، واختلط عليه، والتبس عليه وجه الصواب، فلم يدرِ أين يذهب، كما قال
تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} (ق: 5) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/853)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة
الحكمة في كون الأنبياء لا يورَّثون
(س1) أنجي أمبوغ بن أحمد في سنغافوره: ما الحكمة في كون الأنبياء
عليهم السلام لا يورثون؟
(ج) الحكمة في ذلك دفع تهمة الكافرين والمرتابين الذين يظنون أن الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام كالملوك والأمراء كانوا يريدون بدعوتهم الثروة والجاه
والسيادة. والحجة على هؤلاء أن سيرة الأنبياء ترد هذا الزعم، وتبطله فقد كانوا
معروفين بالزهد في الدنيا، وعدم المبالاة بزخرفها والعناية بمجدها. وقد يقول
المنكر: إن المعهود في كثير من الناس أن يضيقوا ويقتروا على أنفسهم ليوفروا
التراث لذرياتهم. وهؤلاء كذلك فكان من تمام الحجة أن يجعلوا ما يتركون صدقة
لأمتهم؛ ليعلم أنه لم يكن لهم حظ في الدنيا لا لأنفسهم في حياتهم، ولا لذرياتهم بعد
مماتهم، وإنما كانوا يقصدون بدعوتهم مرضاة الله تعالى بهداية خلقه وإرشادهم إلى
ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
* * *
تكفير الحج الذنوب
(س2) عوض أفندي محمد الكفراوي بزفتى: أفيدونا عن الحج المبرور هل
يكفر جميع الذنوب الكبائر والصغائر حتى التبعات أم يكفر البعض ويبقى البعض؟
وعن أصح الأقاويل والنصوص فيه؛ لأن بيننا خلافًا في ذلك؟
(ج) الأصل في القول بالتكفير حديث أحمد والشيخين وأصحاب السنن ما
عدا أبا داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى
العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) وحديث أحمد
والشيخين وغيرهم عنه: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) وفي
رواية للترمذي: (غفر له ما تقدم من ذنبه) قال الترمذي: هو مخصوص بالمعاصي
المتعلقة بحق الله لا العباد ولا يسقط الحق نفسه؛ بل من عليه صلاة يسقط عنه إثم
تأخيرها لا نفسها فلو أخَّرها بعد ذلك تجدد إثم آخر. وقال ابن عبد البر: إن الذي
يكفَّر هو الذنوب الصغائر. وقال الطبري: هو محمول بالنسبة إلى المظالم على من
تاب وعجز عن وفائها؛ أي: فمن كان عليه حق لأحد فإنه لا يكفره عنه إلا العجز
عن أدائه مع نية الأداء عند القدرة. وقالوا: إن الحج المبرور هو المقبول والذي جاء
على الوجه الأكمل باستيفاء الأعمال البدنية والقلبية ومن ذلك أن يكون المال الذي ينفقه
حلالاً. وأنشدوا:
إذا حججت بمال أصله دنس ... فما حججت ولكن حجت العِير
لا يقبل الله إلا كل طيبة ... ما كل مَن حج بيت الله مبرور
وإذا بحثنا في معنى التكفير وسره يتيسر لنا أن نفهم أن قول هؤلاء الأئمة هو
المعقول، وأن قول بعض المتأخرين: إن الحج يكفر التبعات والموبقات، ويسقط
الحقوق. فاسد مخالف لأصول الدين وقواعد الشريعة؛ ذلك أن الكلام الإلهي والهدي
النبوي يدلان على أن الذنوب تدنس الأرواح وتُدَسِّيها، وأن الأعمال الصالحة
تطهرها وتزكيها. وأن تكرار السيئات يُحدث في النفوس ظلمات معنوية إذا كثرت
ترين على القلوب؛ أي: تغطيها حتى لا تعود تتأثر بالذكرى والموعظة، وأن
من أحاطت به سيئته بمثل هذا التكرار كان خالدًا في النار، وأن من تدارك الذنب
بالتوبة والعمل الصالح الذي يكون أثره في النفس مضادًّا لأثر ذلك الذنب يغفر له
ويكفر عنه: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114) ، {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن
تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82) .
والحج المبرور الذي لا رفث فيه ولا فسوق؛ أي: الذي ليس فيه كلام فاحش
ولا خروج عن آداب الشريعة وحدودها هو توبة نصوح وإيمان وعمل صالح له في
النفس أكبر الآثار في إصلاحها لما فيه من الانقطاع عن الأهل والوطن والأعمال
الدنيوية والإقبال على الله تعالى بزي الأموات، وإحياء شعائر أعظم المرشدين،
والوقوف في مواقف أفضل المرسلين، والتذكر بتقلبهم في تلك المعاهد المقدسة تعبدًا
لله تعالى، وتقربًا إليه وخضوعًا خالصًا لجلاله، لا حظّ للنفس فيه.
فمن حج مثل هذا الحج المبرور، واستغرق قلبه بمثل هذا الإحساس والشعور -
رُجي أن يُمْحَى ما كان عَلِقَ بنفسه من آثار الذنوب الماضية أو تغلب تلك الظلمة بهذا
النور، وعند ذلك تنبعث النفس إلى حسن الطاعة، والاستقامة على طريق الهداية،
فتعمد إلى أداء ما عليها من الحقوق لله وللناس بقدر الاستطاعة، فيصح أن يقال:
إنها ولدت ولادة جديدة؛ لأنها دخلت في دور من الحياة جديد، وأن يقال: إن السيئات
الماضية قد كفرت وغفرت؛ لأن الغفر والتكفير بمعنى تغطية الشيء وقد غطيت تلك
الظلمة الماضية وسترت بهذا النور الحاضر.
وأما مَن يتوهم أن التكفير والمغفرة عبارة عن أجرة الحركات البدنية في السفر
إلى مكة والطواف والسعي والوقوف في تلك المعاهد، وأن مثالها مثال من أفسد في
حرث غني ونسله فكلفه بعمل شاق في مقابلة ذلك الإفساد وجعل هذا في مقابلة ذاك،
فهو الذي يجهل الدين ويرى أن الله ينظر إلى حركات الأبدان دون إصلاح النفوس
والأرواح. ولو كان الأمر كذلك لكان كل من أدى أعمال الحج الظاهرة مقطوعًا له
بالمغفرة ولكان للمغرور أن يترك الفرائض، وينتهك المحارم، ويتوغل في المظالم،
ثم يسافر إلى تلك البلاد ويأتي بتلك الحركات، ويعتقد أن قد سقطت عنه جميع
الحقوق والتبعات.
وقد قالوا: إن للحج المبرور الذي يكفر السيئات علامات جِماعها الاستقامة
بعده. قال الإمام الغزالي في آخر كتاب الحج من الإحياء بعد ذكر أعمال القلب فيه
ما نصه:
(فإذا فرغ منها فليلزم قلبه الحزن والهم والخوف، وأنه ليس يدري أقُبِلَ
حجه وأُثبت في زمرة المحبوبين، أم رُد حجه وألحق بالمطرودين، وليتعرف ذلك
من قلبه وأعماله؛ فإن صادف قلبه قد ازداد تجافيًا عن دار الغرور، وانصرافًا إلى
دار الأنس بالله تعالى، ووجد أعماله قد اتزنت بميزان الشرع فليثق بالقبول فإن الله
تعالى لا يقبل إلا من أحبه، ومن أحبه تولاه وأظهر عليه آثار محبته، وكف عنه
سطوة عدوه إبليس لعنه الله. فإذا ظهر ذلك عليه دل على القبول، وإن كان الأمر
بخلافه فيوشك أن يكون حظه من سفره العناء والتعب نعوذ بالله من ذلك) اهـ.
* * *
بعض حكم الحج
(س3 و 4 و 5) سيد أفندي نصر بالجميزة:
(1) ما الحكمة في الوقوف بعرفة؟
(2) ما الحكمة بجمع الجمرات من محل مخصوص؟ وما هي حقيقة الرجم؟
وأي شيء يرجمون؟
(3) هل بئر زمزم صناعية أم طبيعية وما علة تسميتها بهذا الاسم؟
(ج) الوقوف بعرفة في معنى الاجتماع لصلاة الجمعة إلا أن جماعته أكبر،
وفائدة الاجتماع فيه أعم وأكمل، فإن المسلمين يجتمعون له من كل شعب وقبيل،
ويقصدون إليه من كل رجا من أرجاء الأرض فيتعارفون في موقف يساوي بين
الملوك والأمراء، والصعاليك والفقراء؛ إذ يجتمعون بزي واحد على عمل واحد،
ويتلقون من إمام المسلمين أو نائبه تعليمًا واحدًا بالخطبة.
وأما رمي الجمار فيقصد به التشبه بإبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ إذ كان في
تلك المعاهد يبني بيت الله، وينقل الحجارة بنفسه، ويساعده ولده إسماعيل. فإن
تذكر قيام الرجال العظام بخدمة الدين يحيي شعور الدين في النفوس، ويبعث الهمة
للاقتداء بهم. وروح هذا التشبه وسره إظهار العبودية لله تعالى، والامتثال لأمره،
واقتفاء أثر رسله في الأمور الدينية التي وضعت لإصلاح النفوس بإحياء شعور
الإيمان والتعبد لله. وللرمي أذكار مخصوصة يقصد بها ما ذكره، فتكون الحصيات
مع هذه الأذكار كالسبحة في إحصاء الأذكار المأثورة بالعدد المعين، وكانوا في
الصدر الأول إذا عدّوا يعدون على نحو الحصا والنوى، والعمدة ما ذكرناه أولاً من
معنى التأسي والتعبد.
وأما بئر زمزم فهي كسائر الآبار ماء طبيعي وبناء صناعي وفي مائها معادن
نافعة إن شاء الله تعالى. والماء الزمزم: الكثير، وروي أن هاجر أم إسماعيل عليهما
السلام هي التي اهتدت إليه عند الحاجة، وأن المَلَك فجَّره لها، والملائكة موكلون
بكل شيء، فهم أرواح النظام، ونواميس الأسباب والله أعلم.
وقد كنّا عازمين على أن ننشر في الجزء الماضي أو في هذا الجزء مقالاً
مسهبًا في أعمال الحج الظاهرة والباطنة، وفي حكمه وأسراره الروحية
والاجتماعية؛ ولكن الكلام في مسألة الفتاوى العارضة شغلنا عن ذلك حتى سافر
أكثر الحجاج الذين كنا نحب أن نزودهم بما نكتب، ولعلنا إن أمهل الزمان نكتب
ذلك في العام القابل إن شاء الله تعالى.
* * *
الصور الشمسية
(س6) عبد الكبير أفندي المصطفوي الخطيب والمدرس في (روسيا) :
شاع في عصرنا هذا التصوير بآلة مخصوصة، ونحن مجبورون من حكومتنا
الروسية على أن نصور بهذه الآلة في بعض الأحوال لإثبات أشخاصنا، ومن ذلك
أن مَن يريد منا أن يكون إمامًا في مسجد يكلَّف بأن يقدم صورته إلى الجمعية
الشرعية في أوفا عند حضوره إليها لتأدية الامتحان لإثبات أنه هو، فهل يجوز هذا
شرعًا أم لا، وما معنى الأحاديث الواردة في النهي عن ذلك؟
(ج) سبق لنا في المنار بيان السبب في النهي عن التصوير، واتخاذ
الصور بهيئة تدل على التعظيم، وهو أن القوم كانوا قريبي عهد بالوثنية، وكانت
الكعبة في الجاهلية مزينة بالصور المعتقدة، ومنها صور بعض الأنبياء، فأراد
الشارع أن ينسيهم تلك العبادة الوثنية التي ألفوها القرون الطويلة، وأَنِسَتْ نفوسهم
بها، فنهاهم عن التصوير وتعظيم الصور، كما نهاهم عن تشريف القبور واتخاذ
المساجد عليها وإيقاد السرج عندها؛ بل وعن زيارتها في أول الأمر، وعن اتخاذ
قبره وثنًا أو عيدًا.
ولقد شدّد في أمر القبور ما لم يشدد في أمر الصور، حتى كان يلعن من
يتخذها مساجد، وهو في مرض الموت؛ ولكن المسلمين ظلّوا في الغالب يتجنبون
التصوير واتخاذ الصور؛ حتى بعد زوال سبب النهي بالمرة؛ فإنه لا يخطر ببال
مسلم الآن أن يعبد صورة أو تمثالاً، ونراهم قد استباحوا ما نُهوا عنه في شأن
القبور، فاتخذوها مساجد، وأوقدوا عليها السرج والشموع، وأوقفوا لذلك الأوقاف،
مع أن معنى النهي قائم متحقق؛ بل زاد المسلمون على غيرهم - فيما نهوا - أن
يفعلوا فيه فعلهم، وهذا من عجائب انقلاب أوضاع الدين.
اتخاذ الصورة وحملها لأجل أن يُعرف الشخص بها لمصلحة ألزمته حكومته
بها - لا ضرر فيه، لا لأنه لا دخل لنزعات الوثنية، وتذكُّر عبادتها بهذه الصورة
فقط؛ بل نزيد على انتفاء علة النهي عن التصوير، واتخاذ الصور - أن الفقهاء
الذين يقلدهم المسلمون الآن قد صرّحوا بذلك، فمنهم من قال: إن اتخاذ الصور من
غير تعظيم لها لا ضرر فيه، واستدلوا على ذلك بحديث عائشة في الصحيح، وهو
أن النبي عليه الصلاة والسلام أمرها بهتك القرام (الستار) ، الذي فيه الصور؛ إذ
كان معلقًا كما تعلق الصور المعبودة، فهتكته، واتخذت منه وسادة كان النبي صلى
الله عليه وسلم يستعملها والصور فيها. ومنهم من قال: إنه لا بأس باتخاذ الصور
التي لا يعيش مثلها، وأكثر الصور الشمسية التي تُتخذ لمعرفة أشخاص أصحابها لا
حرمة فيه عليكم، لا اجتهادًا ولا تقليدًا؛ بل الأمر أوسع من ذلك.
* * *
تعليم النساء الكتابة
(س7) ومنه: ذكرتم في المنار أن الحديث الوارد في النهي عن تعليم
النساء الكتابة موضوع، وقلتم: إن تعليمهن الكتابة جائز؛ ولكن الكتاب الذي طبع في
ديارنا المسمى (تفليس إبليس) أو (فصل الخطاب) يقول إن الحديث في النهي عن
تعليم النساء الكتابة، وإسكانهن الغرف متواتر فمن أين أخذ صاحب هذا الكتاب
القول بتواتر الحديث وتصحيحه؟
(ج) : إن مؤلف ذلك الكتاب جاهل بالحديث والشرع، فلا يعتد بقوله،
وهو أخذ قوله عن أمثاله من العامة، وإننا لم نقرأ من كتابه المذكور شيئًا حرصًا
على الوقت أن يضيع منه شيء في قراءة لغو المعتدين على العلم والدين بغرورهم،
وقد رأيتم النص عن المحدثين بأن الحديث موضوع، وأنصح لكم بأن لا
تعتمدوا على أي حديث، في أي كتاب لأي مؤلف إذا لم يذكر تخريجه عن الحُفّاظ
المعروفين.
وكيف ينهى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن إسكان النساء الغرف، والله
تعالى يقول: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (الطلاق: 6) ؛ ولكن أين هؤلاء الجاهلون من فهم القرآن وتطبيق السنة عليه؟
* * *
أيعمل بخبر الجرائد في إثبات الصيام؟
(س8) الشيخ مقبل الذكير في جزيرة البحرين: اطلعنا في الجزء السابع
عشر من المنار على بحث الصيام وفضله وثبوته؛ فجزاكم الله عن الإسلام خيرًا،
فقد أوجزتم وأحسنتم، ولنا ههنا سؤال: وهو إذا ذكرت الجرائد أن شهر رمضان قد
ثبت شرعًا أن أوله الجمعة، وكان بعض أهل الأقطار البعيدة كخليج فارس
والعراق قد رأوا الهلال ليلة السبت فهل يعتمدون على خبر الجرائد إذا بلغهم في أثناء
الشهر، ويبنون عليه إتمام العدة ثلاثين يومًا إذا لم يروا هلال شوال ثم يقضون ذلك
اليوم (الجمعة) أم يتمون العدة على حسب صيامهم الذي أوله السبت ولا يجب
عليهم قضاء؟ أفيدوا مأجورين.
(ج) : الواجب على من ذكرتم أن يعملوا بحسب رؤيتهم، ويتموا العدة على
حسابهم إلا أن يروا الهلال ليلة الثلاثين بحسابهم فإنهم بنوا صيامهم على إثبات
شرعي صحيح. وما سبق في المنار استحسانه من عمل أهل القطر المصري لا
ينطبق على مثل ما ذكرتم فإنه خاص ببلاد يمكن أن يعرف أهلها كلهم إثبات الشهر
في الليلة الأولى منه ليصوموا جميعًا ويفطروا جميعًا؛ فإن الاجتماع والاتفاق في
أداء العبادة من مهمات الشرع. وأما البلاد المنقطعة بعضها عن بعض فيجب أن
يعمل أهل كل جهة بما يثبت عندهم، ولا يعمل أهل البحرين بما يثبت في البصرة
أو الهند أو مصر إلا إذا أمكن العلم بذلك في الليلة الأولى من الشهر بطريقة مأمونة
من التزوير وأنَّى لهم هذا؟
__________(6/857)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كيفية الاعتقاد بالوحي
كتب كاتب إلى الأستاذ الإمام يسأله أن يكتب في المنار كيفية الاعتقاد بالوحي،
وتعريف الوحي التعريف الذي يسهل على الفهم تناوله، وعلى الأقل قبوله، ويقول:
إنه اجتهد في فهم الوحي فلم يفهم المراد منه. فالأستاذ الإمام يحيله على رسالة
التوحيد، فإذا قرأها وتدبّر ما كتب فيها، ولم يقتنع فليحضر بنفسه إلى محل الإفتاء
في الأزهر وليسأل عما اشتبه عليه يُجَبْ عنه، وإذا لم يتيسر له الحضور فليكتب
ما يشتبه عليه.
_______________________(6/862)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
حب القوة.. رابطة الدين
قد بينا هنا لكم أن رابطة القومية لا يعدو نفعها قدرًا طفيفًا كأن يعين الرجل
رجلاً من عترته على رجل من عترة أخرى. وإن هذا القدر لو لبث عليه الإنسان
لما تميز على الحيوانات التي ينهش بعضها بعضًا. وهنا نبين كيف حدثت لهذا
النوع رابطة أخرى، وكيف أورثته قوة عظمى، وسارت به في الارتقاء مسافة
كبرى.
تأسيس
إن من المحقق المحسوس أن الأقاليم والأعمال والأعمار تحدث في أهلها ثم في
أعقابهم من الصفات الجسدية ما يجعل بينهم وبين الآخرين فروقًا تبتدئ صغيرة ثم
تكبر. فهذه من جملة الأسباب التي أوجبت - على التمادي - الفروق التي بين أبدان
البشر. وليس من صددنا الآن التصدي لذكر الأسباب الأخر؛ بل نكتفي بهذه لندعم
بها مقدمة أردنا إثباتها هنا وهي أنه (كما تتفاوت الأبدان لأسباب تتفاوت الأفكار
لأسباب) ، (ولم أر أمثال الرجال تفاوتًا) .
ومن المحقق المحسوس والمعقول أن بين القوى الثلاثة التي في الإنسان
ارتباطًا فالقوى الظاهرة مسخرة للنوعين الآخرين من قواه نعني بهما قوة الإدراك -
التي نسميها الفكر أو العقل - وقوة الطلب والإرادة - التي نسميها القلب - وإننا نجد
أن العقل والقلب يكونان على مبلغ البدن من الصحة والاعتدال والقوة. ثم نجد لصحة
البدن أسبابًا منها صحة الإدراك واعتدال الإرادة، هذا الارتباط دقيق جدًّا وفيه شبه
الدور الذي يمنعه علماء التصور والتصديق (المنطق) ولدقته خفي على أكثر الناس
إنافة كل قوة على أختها في التأثير.
فمن الناس من ظن أن صحة البدن هي التي تنتج صحة الفكر والإرادة. وقد
نسوا أن أصح البهائم بدنًا لا تفوق بالفهم أضعفها. ونسوا أن الذين ليس لهم نصيب
كبير من الحياة النوعية - كرعاء الإبل - أقرب إلى صحة الأبدان منهم إلى صحة
الأفكار ونحن بهذا الاحتجاج لم نرد تفنيد ذلك الرأي من كل الوجوه بل من وجه
الجمود على هذه الجهة وحدها.
وآخرون ظنوا أن الأصل صحة العقل فهي التي تنتج صحة البدن والإرادة.
وقد نسو أن أقوى الناس عقلاً لا يفوق بصحة البدن ضعاف الإدراك وبصحة الإرادة
ضعاف الأبدان.
كل هذه الظنون نشأت من الشعور بذلك الارتباط ولكن لم يرافقها التدقيق
فسيمت بالارتباك. والظن السديد الموطود هو أن الارتباط موجود، والدور مفقود،
والأمر دائر على فضل طفيف بينها. فهبة القلب للعقل والبدن تنيف إنافة قليلة على
اتهابه منهما. وهبة العقل للبدن تنيف قليلاً على اتهابه منه. ثم وراء الكل للعقل
والقلب جاذبان ضدان مستتران قد أوجدهما بارئ الكل محكًا للعقول؛ ليخلص الطيب
كما يخلص النور من الغثاء الأحوى. ولا يسأل من خلق الأضداد عما خلق.
سبحانه هو المنزه وحده عن الأضداد والأنداد.
هذا ما ظهر لنا من كيفية الارتباط بين قوى الجسد الظاهرة والباطنة ثم
علاقتها بالأمرين الغيبيين، وهو يعرفنا أنه مهما يكن للأمور الحسيّة من تأثير فإن
وراءها أمورًا غيبية. وأنه مهما يكن للأمور الغيبية من تأثير فإن للأمور الحسية
دخلاً وشركة. وتثمر هذه المعرفة احترام الأسباب الظاهرة أدبًا مع من لم يوجدها
عبثًا، وتشوف النفوس إلى ما وراء المعارف الحاضرة، وبمثل هذا كان رقي النوع
في المعارف.
ويؤخذ من هذا أن أوائل علم البشر كلها إلهامية وحيية وأن إلهام كل فرد يكون
بحسب قواه.
ومعنى الإلهام أو الوحي في اللغة: الإلقاء في الروع؛ أي: الإخطار على
البال. بيد أنه يكون على ثلاثة أنواع يختلف تعريفه اصطلاحًا بحسبها:
النوع الأول: عام وهو ما تكون به هداية كل نوع لما يصلح له قوامه كالذي
نراه في فطر آكلة العشب من اجتناب الأعشاب التي لا تلائمها من غير معلم ومن
غير تجربة سابقة؛ كالخيل والبقر والأنعام. وكالذي نراه من اتخاذ كل نوع من
الأنواع المتعادية أسباب الدفاع والهجوم من صياصي وخدائع. اعتبر بذلك من
صغار الحشرات إلى كبار السباع. وكالذي نشاهده من استشفاء البعض منها ببعض
الأعشاب كالسنانير والكلاب. وكالذي نراه من نظام الحيوانات المنقادة لرئيس منها
كالنحل والنمل [*] .
والنوع الثاني: خاص وهو ما تكون به هداية هذا النوع الإنساني في حياته
النوعية وشؤونه الخصوصية. ومن هذا الباب الرجاء الفجائي وأوائل الاختراعات
على اختلافها [**] .
والنوع الثالث: أخص وهو ما تكون به هداية بعض الأفراد في معرفة
شيء من عالم الغيب الذي من نحوه وردت نواميس عالم الحس فكان بها قوامه
ونظامه [****] .
ويقابل هذه الهدايات في النوعين الأخيرين الضلالات تأتي من جانب أحد
الضدين المجتنَّين المتجاذبين لعقل الإنسان وقلبه. حتى يصعد ذو هدى من النوع
الأخير إلى أعلى عالين، وينزل ذو ضلال يضاد إلى أسفل سافلين [****] .
ومن ثمة لا يكون هذان النوعان الأخيران لأفراد أهليهما على وتيرة واحدة،
وإلا لما كان التفاوت المكتوب؛ وإنما يكون أهلوهما متفاوتين على مقدار قابلياتهم
في الاتهاب.
فمن الناس من يتعلم من معلم صنعة ثم يوحى إليه أن يجرب تجربة لم يتعلمها
ليزيد في تلك الصنعة شيئًا جديدًا، ومنهم من لا يوحى إليه ذلك أو يوحى إليه أن
ينقص منها.
ومنهم من يوحى إليه أن يبتدئ، ويخترع أمرًا لم يكن من قبل ولم يعلمه إياه
معلم. ثم يوحى إليه أن يعلمه للغير أو أن لا يعلمه.
ومنهم من يلهم علم أمر سيكون [1] ومنهم من يلقى في روعه أن ينفع غيره،
ومنهم من يلقى إليه أن يضر الغير، ومنهم من ينشرح صدره لتصديق الملهم ومن لا
ينشرح صدره وهكذا.
هذا وربما طالبنا مطالب بتسمية ذينك المتجاذبين المجتنين فأقول: إنه قد سمي
من قبل جاذب الخير والسعادة والفضيلة بالروح الطاهر (القدس) ، والأمين،
وعون الله، وحبر الله، ونصر الله، وأمر الله، وروح الله، وبالنور، والشفاء،
وكل جميل. وسمي جاذب الشر والشقاء والرذيلة بالروح النجس (الرجس)
واللعين، ولعن الله، وغضب الله، وخزي الله، وبالظلام، والمرض، وكل قبيح.
ولكني أحب الذين يدركون خواص المسمى أولاً ثم يلتفتون إلى الأسماء، فإن
وافقت المطلوب كما هنا؛ وإلا التمسوا المطابق، وأكره الذين يلتفتون للأسماء أولاً
ثم يتجافون عن الخواص التي ربما لا تظهر لهم من الأسماء. أو يتجافون عن
أسماء لم يسمعوها لخواص كانوا قد سمعوا بها.
بناء
بناءً على هذا الأساس الذي مكناه نخال أو نقول:
إن البشر لما تفاوتت أبدانهم وعقولهم وقلوبهم للأسباب الظاهرة والباطنة
تفاوتت محبوباتهم ومشتهياتهم، وحرص كل منهم على مشتهاه، واتخذ إلهه هواه،
وافق ذلك المشتهى لغيره أو لم يوافق، طابق ذلك التأليه للإنسانية أو لم يطابق،
فتكونت بينهم العداوة والبغضاء، وأمسى القرباء بعداء، وزين للأقوياء منهم حطم
الضعفاء، وماذا تكون عاقبة الأقوام إذا ألَّهوا الحكام، وتعبدوا بدم الحسام، ألا
يستجير الضعاف ويجأرون، ألا يسرون بطلب المناص ويجهرون، فمن ذا الذي
يجيب دعوة المضطرين، أفتسمعها الحجار، أفتستجيب لها الأشجار، أفتغيثها
الحشرات، أفتلبيها العجماوات، أفترحم لها نفوس الذين من نارهم تضج، ومن
غبارهم تعج، لمن يشكون، أتسمعهم الكواكب وتبصرهم. أتجبر كسرهم وتنصرهم،
أتقدر ولا تريد، أم كل ذلك عنها بعيد؟ تجل يا عالم الغيب فليس إلا من لدنك
يرسل الخالق هذا المدد الذي يحتاجه أكمل عوالم الأرض خاصة، وأشرفها مزية
وأعظمها قوة، وأكرمها منزلة.
ألم تسبق عناية الفاطر أن تعد لهذا المصنوع البديع ما لا تراه الأبصار،
ولا تسمعه الآذان، ولا تبلغه الأذهان، فها هو ذا لم يجد حاجته هذه عند تلك
المحسوسات، من الجمادات الأرضية فصاعدًا إلى نيرات السموات، فهل خُبِّئ له
هذه الحاجة إلا في خزائنك يا عالم الغيب، تجل لنا بأنوارك، أشرق علينا بأسرارك،
متعنا بجمالك، هبنا من كمالك.
بل قد سبقت عناية الفاطر وهذا برهانها، وظهرت منحته وهذا سلطانها:
إنه كان رجال مطهرون مصلحون يرشدون الأقوياء إلى العدل الذي ينفعهم
أنفسهم وغيرهم يرشدون الضعاف إلى أسباب القوة التي يدفعون بها ظلم
الظالمين وعلى هذا النحو أسسوا أول ميزان في الأرض لتوزن به ذات كل بالسوى،
وتعرف به حدود القوى، فيكون الرجاء والتقوى: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الحَيَاةَ
الدُّنْيَا} (النازعات: 37 - 38) وهي القريبة التي لها بعد {* فَإِنَّ الجَحِيمَ} (النازعات: 39) على أنواعها الحسية والمعنوية {هِيَ المَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ
مَقَامَ رَبِّهِ} (النازعات: 39 - 40) الذي يربي غيره كما يربيه، ويقويه كما يقويه
{وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ} (النازعات: 40 -41) على أنواعها
الحسية والمعنوية {هِيَ المَأْوَى} (النازعات: 41) .
تالله الخدا. لم نُخلق سدى، وإن لَلَّحظة الدنيا غدا، إن هذا لقول من دعوا إلى
الهدى، في كل الأمم واللغى، من أول الأزمان حتى المدى.
هذا الذي أشرنا إليه هو مبدأ تاريخ الدين القويم ولزيادة التوضيح نقول:
لما كان الفساد يكثر كان رجال ممن تغلب فيهم الروح الطاهرة يقومون
للإصلاح، ويبرهنون للناس على أنه إذا لم توضع للمطالب والمحبوبات حدود
يخضعون لها يفسد النظام، ويفني بعضهم بعضًا، من حيث لا يستفيد آخر من يفني
الكل. وكان الناس منهم من يقبل، ومنهم من يُعرِض؛ إذ لو قبل الكل لمن أصلح
لما كان اليوم من فساد قط. ولو قبل الكل لمن أفسد لما كان اليوم من نظام قط؛ بل
قد كان اتباع المفسدين أكثر؛ لأن الفرق بين المصلح والمفسد كبير، هو فرق ما
بين الضدين.
وإذا كانت درجة المصلح عالية كان الأقربون منها أقل من الأبعدين. ولولا أن
للإصلاحات قوة تؤيدها لتلاشى كل إصلاح قام به مصلح منذ الدور الأول حتى هذا
الدور؛ ولكن تلك القوة المؤيدة هي التي تقوم للمصلح ومن يقاربه مقام الكثرة فقد
تكون عظيمة ويطيف من الإصلاح بنفوس المفسدين خطرات موقظة مزعجة فتجذب
فريقًا منهم وترجعهم عن غيرهم. وقد تكون ضعيفة ويطيف بنفوس المفسدين طائف
من الروح الخبيث فيُهلك المفسدون دعاة الإصلاح ومتبعيهم؛ ولكن لا يلبثون بعدهم إلا
قليلاً حتى تبيدهم طبيعة الفساد لتقوم الحجة فيما بعد.
وهذه خلاصة هذا الأمر:
(1) أنه في القديم فسدت العشائر.
(2) فقام في كل قوم مصلح منهم.
(3) فلم يؤمن للإصلاح إلا قليل.
(4) وزاد المفسدون.
(5) فأبادت طبيعة الفساد مَن أبادت منهم من الطاغين.
(6) واعتبر آخرون.
(7) ثم نسوا ما ذُكروا به فأصابهم ما أصاب الأولين.
(8) لتكون آية في الآخرين.
(9) وما برحوا حتى تواتر الهادون.
(10) وعلا شأن الميزان والوازنون.
(11) وخسر هنالك الطاغون والمطففون {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ
يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوَهُمْ أَو وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين: 2-3) .
هذا هو تاريخ هذا الأمر فيما قبل التاريخ.
وأما من بعد ذلك فلكل أمة كتب، منكم من يعلمها تقص عليهم أنباء مصلحين
عرفوهم ولم تعرفهم أمة أخرى.
والجدير بالذكر بعد كل ما تقدم أن الدعاة الهادين الذين قاموا في أقوامهم
بألسنتهم قد أثمر عملهم من بعد حين ثمرة كبيرة جدًّا، وهي ربط أقوام كثيرين
مختلفي الأنساب واللغات بمبادئ واحدة يدينون جميعًا بها؛ حتى يكون اسم إمامهم فيما
بينهم جميعًا مقدسًا؛ بل حتى يكون خلف الشغاف من أفئدتهم، وعمدة الحلف
والأقسام في ألسنتهم، فمثل هذه الحال من قوم أو أقوام، تقوى بينهم أواصر القلوب
ووشائج الأفكار وهي أهم من أواصر الأبدان ووشائج الأرحام.
هذه هي القرابة التي تقرب البعيد، وتحبب بالغريب، وتحمي الضعيف من كيد
القوي، هذه رابطة الدين إن سألتم عن اسمها، وإحدى مراقي الإنسانية إن سألتم عن
رسمها.
وقد عرفتم الآن كيف كان كونها , وكيف صار لونها، وأوصيكم أن لا تجمدوا
وتظنوا أن وحي الأنبياء هو من قبيل ما ذكرناه فقط؛ بل هو من أفق آخر أعلى.
أتيناكم من أجله بالأشباه والأمثال، وأريناكم في مرائي الكون الإنساني أسفل سافل
وأعلى عال. ومن لم يَرَ ينابيع العيون الصغيرة فربما لا يعرف كيف تنفجر الأنهار
العظيمة من الأرض وقد يظنها من السماء. وإنما الفرق بينها وبين الصغيرة بحسب
المدد فتفكروا وتذكروا.
ومعنى الدين الطاعة للتعاليم ويتكون من هذه الطاعة العمومية قوة قد يكون
عظمها على مبلغ أهليها من قوة الأبدان والعقول والقلوب وكثرة الأفراد. وكيف ما
كانت فإن هذه الرابطة تقضي أن يكون الكل في أنفسهم وأمام غيرهم كرجل واحد.
ويظهر أن من مقتضياتها إيجاد نانية كبرى تتضاءل بل تتلاشى فيها الغيرية حتى لا
يكون لا متغير. ولكن هذا لا يتم من جهتها حتى يعلم أفراد كل أمة حق العلم ما هو
الجوهر الحقيقي للدين القويم. ويعملوا حق العمل بما يطبع في النفس ذلك الجوهر
المطلوب.
وقد استبعد هذا قوم فحكموا أن الأديان لم تُزد الناس إلا تعاديًا، وزعموا أنها لم
تكُ إلا زيًّا من أزياء رابطة القومية مزركشًا قليلاً بما هذبت فيه يد التجارب ونقموا
منها تضييق الدائرة على الناس في تصوراتهم وفي عاداتهم وأعمالهم بكثرة ما يأتيهم
مؤسسوها من فروع الأمر والنهي والقطع والجزم، في مسائل يحتاج في إدراك
أسرارها إلى تبصر عقل سليم، وتروِّي إرادة معتدلة. ويغرق هؤلاء بما تصف
ألسنتهم وأقلامهم من الأديان؛ حتى يبعدوا عن الحكمة وهم يظنون القرب منها،
ويضلوا الحقيقة وهم يرون أنهم وجدوها؛ ولذلك ناسب أن نأتي في نبذتنا هذه بما
يفند من مزاعمهم ونبين لهم ولغيرهم منشأ هذه المزاعم؛ ليتفكر من يتفكر، ويتذكر
من يتذكر. ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز.)
(ثمة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) شاهد هذا النوع من القرآن المجيد: [وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ 000] (النحل: 68) .
(**) الشاهد: [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى 000] (القصص: 7) الآية.
(***) الشاهد: [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ] (النساء: 163) الآية.
(****) الشاهد: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً] (الأنعام: 112) .
(1) إن علم كل شيء من الأمور الغيبية لا يكون لأحد من البشر، كما لا يكون العلم لأحد منهم بكل شيء من الأشياء المحسوسة أما الأمور الخفية التي هي من عالم الحس فالعلم ببعضها ليس بغريب بالنسبة لمن فطر هذه الفطرة الغريبة وإنما الغريب العلم بالأمور التي هي من عالم الغيب فهذه هي التي يوحى بعضها للرسل المطهرين.(6/863)
الكاتب: سائح بصير
__________
بلرم - صقلية
مسينا ومقبرتها
نسيت أن أضع في جانب المقابر مقبرة مسينا وهي مقبرة في الجنوب الغربي
من المدينة، وإنك إذا قلت لصقلي: إني ذاهب إلى مسينا. يقول لك في الحال: لا بد
أن ترى المقبرة، وهي جزء من المدينة تحسب مدينة بنفسها فيها مدافن للأمراء
والأعيان مبنية على أجمل نظام، وأقربه إلى السذاجة، وفيها مكان شامخ رفيع يدفن
فيه أرباب الشهرة من المهندسين والشعراء ونحوهم.
وطريقة الدفن في تلك الأماكن تختلف، فبعضها على الطريقة المعهودة من
وضع صندوق الجثة تحت الأرض، وبعضها بوضعه في صندوق ضخم كبير لا
تمكن سرقته على ظهر الأرض، وبعضها في بيوت تفرض في عرض الجدر
العريضة وهكذا. والمقبرة مزينة بأغراس من شجر الصنوبر وضرب من فصيلة
الصنوبر يشبه الأثل، وليس به ولا أعرف اسمه بالعربية سوى أنه شيء من كبار
الطرفاء؛ لكنها نظمت بيد أوربية تعرف كيف تخضع النبات لإرادتها فتوجهه إلى
الوجهة التي تريد.
والطرق فيها على غاية ما يرام من النظافة والانتظام، وهي أنظف وأجمل من
كثير من شوارع مدينة لأحياء (مسينا) ثم إنها تأخذ من أسفل الطريق إلى قمة جبل
إذا صعدت عليه نظرت وأنت في المقبرة من البحر والساحل أجمل ما تنظر عيناك
من اللألاء والنضرة في المواقع المختلفة، ومن الأشكال الطبيعية، وبدائع الأعمال
الصناعية.
يظهر أن المقبرة أعجبتني حتى انطلق قلمي في وصفها؛ كأنه قلم صاحب جريدة ينطلق في السياسة المصرية لبيان مناحيها، ووصف ضواحيها - أعوذ بالله -
يوجد في هذه المقبرة مواضع مخصوصة للفقراء قد صُفت فيها قبورهم على نظام محكم تراها كأنها خطوط مزارع القطن في أرض غير معتدلة تقصر وتطول، وعلى
رأس كل قبر صليب أسود يخيل للرائي من بعيد أنها أجنحة الغربان الجاثمة على بقايا
الجثمان. لا أزال في وصف المقبرة كما يزال بعض الغافلين عن أنفسهم في بلادنا
يشتغلون بالسياسة عن الأدب والكياسة.
ماذا أقول في وصف هذه المقبرة؟ مدينة جميلة المناظر؛ بديعة المداخل،
بعيدة المخارج، الداخل فيها أكثر من الخارج منها، قد اختير لها شجر الصنوبر
زينة من بين الأشجار؛ لأنه في خضرة دائمة وحياة مستمرة؛ كأن أرواح من يموت
تنتقل إليه بعد مفارقة الأجساد؛ فهو لا يزال دائم الحياة في الصيف وفي الشتاء
والخريف والربيع، مدينة زينها الأحياء في حياتهم، ليعدوها لإقامتهم فيما يزعمون
بعد مماتهم، وهكذا من كان على يقين من الرحيل إلى دار هيأ تلك الدار للسكنى،
وأعد لنفسه فيها أنواع النعيم ليطيب له المقام، ولا يقلق به المكان؛ لكن هل يكفي
أن تزين لنفسك مقرًّا لجثتك وأنت لا تدري هل تشعر هناك بما زينت، أو تؤخذ
عنه إذا مت، فهل زينت دارًا لروحك بالطيبات، كما زينت دارًا لجثتك بالزهر
والنبات؟ أخاطبك وأنت مصري من سكان القاهرة لا ترى في مقبرتك، ولا في
الطريق الموصلة إليها إلا ما يخيفك من الموت، وينغصك فيه؛ غمر من الغبار،
وتلول من التراب، تتذكر بها أنك من التراب وإلى التراب.
إذا بنيت فيها مسكنًا فلست تبنيه لنفسك يوم تموت؛ ولكن تبنيه لتقيم فيه
بجانب الأموات وتشاركهم في المسكن وأنت حي تقضي فيه الأيام من رجب ومن
شعبان ومن شوال ومن ذي الحجة، وبعض أيام من بقية الشهور تأكل وتشرب وتنام
ولا تشبه جيرانك من أهل المقابر إلا في النوم الثقيل ولا تستحي من معاشرتهم وأنت
تأكل وهم لا يأكلون، وتضحك وهم ربما يبكون، وتلعب وهم لا يلعبون، تلهو
بالقيل والقال، وملاعبة النساء والأطفال، وربما أقمت في المقبرة ما تسميه بالموالد
وجلبت بذلك إليها من المغنين والمطربين والعازفين ونصبت فيها الخيام وصنعت
من لذيذ الطعام، ما تدعو إلى تناوله العلماء الأعلام والأتقياء الكرام؛ فيلبّوا دعوتك
زُرافات ووحدانًا، مشاة وركبانًا، ويخوضون في غمار اللاهين إلى أن يصلوا إلى
حيث نصبت خيامك، وهيأت طعامك، على ظهور الأموات، وبجوار تلك الرفات،
وتبيت ليلتك تلهو وتلعب، وتصيح وتصخب، كأن الموت قد فارق ديارك، وكره
جوارك، وفر من بين يديك، مشمئزًّا مما يرى لديك، أما مقبرة مسينا فلا ترى فيها
آكلاً ولا شاربًا وإنما ترى الزائرين في سكينة ووقار، لا يتكلمون إلا همسًا،
تماشيهم ولا تكاد تسمع لهم جرسًا.
صخب الصقليين وتسولهم وكسلهم
أهل مسينا من أهالي سيسيليا، وسيسيليا هي جزيرة صقلية التي ملك فيها
العرب نحو مائتي سنة، وكان منها كثير من العلماء والفقهاء والمؤرخين والفلاسفة
والصوفية وبعض الزنادقة وكل صنف من صنوف أهل العلم والمنتسبين إليه كما كان
في العراق والشام والأندلس. وقد ترك العرب آثارًا في البلاد منها ما تقدم ذكره
وهو مما لا يُذكر، ومنها كلمات في لسانهم كثيرة كالشروق للريح الشرقية وكالقبة
والطلعة والشر، ونحو ذلك من الكلمات التي ترشدك لأول وهلة إلى أصلها وإلى
البلاد التي حملت منها.
ولا أظن أن الصياح والصخب الذي اختص به أهالي سيسيليا يكون من ميراث
العرب رحمهم الله؛ فإن أصوات السيسيليين أشد قرعًا، وآلم في الأذن وقعًا، وإني لا
أشك في أن حناجرهم أشد تمرنًا على الصراخ بغير داعٍ من حناجر أهل كفر الجاموس
[*] أو سكان عرب يسار، أما العرب فكانوا يصيحون في الحرب والجلاد، ويسكتون
عند الرجوع إلى البلاد، ولعل هؤلاء استعملوا في السلم ما كان يستعمله أولئك في
الحرب كما يفعل بَحريُّةُ يافا وبيروت من ثغور سوريا، أما الإهمال والكسل فلا
أدري هل هو من طبيعة البلاد أو من ميراث تركه بعض السلف من الفاتحين؟
ويل لك إذا عُرِفْتَ بأنك غريب فإنه يتبعك السائلون الملحفون، والمكتدون
المجدون، ويلزمونك حتى تعطي شيئًا من النقد، ولا فرق في حالك بين أن تجلس
في قهوة، أو تكون في زيارة معبد، أو في تفقد مكتبة أو دار آثار، تجد من ذلك ما
لا تجده عند المتبولي ولا عند ضريح الأستاذ البيومي (رضي الله عنه) ثم تجد
الناس في الساحات وقوفًا أو جوالين لا يدرون ماذا يعملون، وإنما يتقرب إلى
الغرباء من يظن القدرة في نفسه على أن يفترس منه فريسة؛ لكن يمكنك إن كان
عندك صبر أيوب وسماجة بعض السبَّابين عندنا من المصريين أو السوريين أن لا
تعطي شيئًا أو تهرب إذا أردت.
لعلّك تفرست شيئًا من الكسل في حكاية ما وقع في فهرس الكتب العربية في
المكتبة العمومية، ودفتر الأسماء في دار المحفوظات، وأزيدك أنك إذا ذهبت عند
شركة المِلاَحة (بكسر الميم وتخفيف اللام لا المَلاَّحة بفتح الميم وتشديد اللام كما
يقول بعض أكابرنا؛ فإن التشديد يجعل الكلمة موضعًا للمِلح الذي يوضع على الطعام
ويُتناوَل أحيانًا للإسهال. أما التخفيف فهو اللازم في اسم الشركة لخفة مراكبها في
السفر على البحر الملح، وأظن اللفظ يرجع أيضًا إلى رفيقه؛ فإن في البحر ملحًا
أيضًا، لكنه ليس يكثر كالذي في تلك الكلمة المشددة) وجئت مكتب الشركة لتطلب
تذكرة سفر مثلاً تجد العامل يحرك يده ببطء كأن بعض أجزائه ينازع بعضًا؛ فإذا
فرغ من الكتابة على هذا الوجه القتَّال أسرع بمد يده إليك لطلب المبلغ فإذا دفعته
إليه وكانت لك بقية من النقد يلزمه ردها إليك كادت يده تشل بجانبه، وأنت تنظر
إليه وتنتظر أن تتناول مالك، وتنصرف وهو ينظر إليك كأنه يتمنى أن تنسى ما لك
عنده أو تمل الانتظار ويأخذك الوقت فتتركه له، وهذا ضرب من الكسل في أداء
الحق ونوع من البطء في العمل لا تجده حتى في مصر حرسها الله؛ فإن العمال
عندنا حتى في زمن الصيف لا يسمحون لأعضائهم أن تتعود هذه العادة الرديئة!
رثاثة الصقليين ووساختهم ومقابلتهم بالمصريين
أما رثاثة الملبس عند الفقراء ودنس الثياب، وعدم العناية بالنظافة في كثير
من الشؤون فذلك مما لا تجد له مثالاً في كثير من الأحياء عندنا، وإني أقص عليك
فكاهتين وقعتا في النزل الكبير التي نزلت فيه - رفع الله عماده -:
كنت أطالع في جريدة خطابًا ألقاه بعض أساتذة السوبون في باريس لمناسبة
رفع تمثال للكاتب المؤرخ الفرنسي رنان ألقاه في بلدة رنان التي ولد فيها، وكنت
مستغرقًا فيما يقول الخطيب عن القسيسين وتعاليمهم، وعن الأحرار أطال الله في
ألسنتهم، وما يرونه في فلسفتهم، وإذا بخادم النزل دخل عليّ وتحت إبطه ولد
صغير في الخامسة من سنه تقريبًا، وقد علا الوسخ وجه الصبي، وهجم القذر على
عينيه يريد أكلهما. وأنفه وفمه يسيلان؛ ذاك بما تعرف، وهذا بما لا يخفى عليك
وبيده عنقود عنب يتناول منه حبة بعد حبة، وماء كل حبة يسيل من شدقيه؛ إذا
رأيته أمكنك أن تحلف بشيء من الطلاق أو العتاق إن أمكن أن هذا من ذرية الشيخ
الدعكي رحمه الله أو أن روح الأستاذ ظهرت في مظهره اللطيف! وإذا كنت واحدًا
من بعض الأعيان أو بعض من يزج بنفسه في العلماء الذين تعهدهم أقسمت في
الحال أنه ولي من الأولياء مجذوب من المجاذيب. فإذا ذكرك مذكّر أنه إيطالي؛
قلت: لا يبعد على الله أن يكون قد ملأ قلبه جذبًا وولهًا ورزقه من ذلك في صغره، ما
لم ينله الدعكي في كبره، وإلا فكيف تسيل سعابيبه إلى هذا الحد ويكون ليس
بمجذوب؟ هذا خلف.
وربما حملك حسن الاعتقاد على أن تذهب إلى المحمل الذي تعرفه، وتستخرج
من بحر الأنساب، وأصل نسبه بمن لا يصح لأحد أن ينتسب إليه مادام على مثل هذا
الاعتقاد. فانظر بعيشك إلى هذا الطباق والتقابل بين ما كنت مستغرقًا فيه وبين ما
فاجأني من هذا المنظر الكريه، هل يمكنك أن تحدث نفسك بماذا دافعت عن نفسي في
هذه الشدة؟ دفعت فرنكًا واحدًا رميته على الأرض فالتقطه الصبي كما يلتقط العصفور
حبة الأرز وكرّ راجعًا لا يبالي بتأخر أبيه عنه ليشكرني على ذلك الإحسان كأن
الصبي كان يخاف أن أتبعه لأخذ الفرنك منه. لا تظن أني أبالغ في كلمة مما قلت فما
رأيك بهذه الوساخة؟ !
أما الفكاهة الثانية؛ فقد كنت على مائدة الطعام في محل نومي من ذلك النزل
لقلة السياح وسعة قاعة الطعام بحيث تكبر عن أن يجلس فيها شخص واحد فلما جاء
صنف من الطعام يحتاج إلى الملح تنبهت إلى المَلاَّحة (هذه المرة بتشديد اللام؛ لأن
فيها مِلحًا) كما سترى. نظرت إلى الملح فإذا فيه النقط السوداء أكثر من نزغات
الشيطان في قلوب أهل الفسق والعصيان، وأغزر من الخطيئات في بعض
المزارات، فنظرت إلى الخادم وأخذت الملاحة، وأنشأت أنكث ما فيها من النقط
السوداء نكتة نكتة وأصعّد نظري في وجه الخادم وأقطب وأظهر التقزز ولا زلت
كذلك حتى فهم أن هذا شيء من الوسخ لا أستطيع تناوله فعند ذلك تناول مني
الملاحة بغاية الكسل ثم ذهب وأطال الغيبة، وبعدما كدت أغضب مع سعة حلمي في
السفر جاء بملاحة أخرى أوسع من الأولى، وأطهر منها ملحًا فكأنه يفهم أن الوساخة
مما لا يليق؛ لكن لا يتم له هذا الفهم إلا إذا قال له شخص آخر: إن النظافة خير
منها، وإن الوسخ شيء تتقزز منه النفس وينفر منه الحس.
أما مثال هذه الواقعة الثانية فممّا يكثر في خدمنا؛ بل في بعض ساداتنا رفَّه الله
حياتهم - فإنهم ينظرون بأعينهم إلى الخبيث والخبائث، وربّما حكموا فيه بوصفه؛
لكنهم لا ينزهون المكان عنه؛ بل ربما لا ينزهون أنفسهم عن التلوث به إلا إذا
أمرهم بذلك آمر فعند ذلك يمتثلون الأمر بغيرة المختار، وعزيمة الجبار، ثم يحدثك
أحدهم بحسن ما صنع مما أمر به كأنه هو الذي اندفع إليه من نفسه كأن الأمر
الصادر إليه هو الذي أكسب الشيء حسنه وحلاه بوصفه. وأعوذ بالله أن يكون هذا
هو مذهب الأشاعرة الذين يقولون: إن حسن الفعل هو الأمر به وقبحه هو النهي عنه،
وإنه لا حسن ولا قبح للشيء في ذاته؛ فإني على يقين أنهم لا يعنون به ما يجده
أولئك الآلات في أنفسهم. وما عليك إلا أن تبحث في رأي الفريقين حتى تقف بنفسك
على تحقيق الشبه أو نفيه فإني الآن لا أكتب كتابًا في علم الكلام، ولا أكتب أسطري
هذه للأفاضل من أهل الفن فإنهم أعلى من أن يستفيدوا من قراءة أمثال هذه القصص
أوسع الله من عقولهم حتى تسع أهالي بلرم ومسينا معًا وما ذلك على الله بعزيز!
الذي يخطر ببالي من أسباب ذلك إذا أخذنا بالجد أن هذا شأن العامة من الأمم
التي طال فيها زمن الاستبداد وتصرف الإرادة الواحدة في جميع الإرادات مع ما
يطرأ على تلك الإرادة الواحدة من الاختلال وفساد المزاج فتأمر بالشيء اليوم؛ لأنه
من هواها، وتنهى عنه غدًا؛ لأنه لم يبق من مشتهاها، وأمرها واجب الإطاعة،
وفي مخالفته إضاعة أي إضاعة. فتتعود الأنفس على تعاطي الأعمال لا لأنها مما
تختاره؛ بل لأنها مما تؤمر به، ويخفى عليها وجه الحسن والقبح؛ لأن التعود على
العمل مهما كان قبيحًا يزينه للنفس أو يسهل عليها مقارفته. وسهولة المقارفة إنما
تنشأ عن عدم الإحساس برائحة القبيح، ولو بقي نتنه في شامة النفس لعافته ولما
أمكنها تعاطيه. وكذلك يخفى وجه الحسن في الشيء متى خفي وجه القبح في ضده
كما لا يخفى عليك، إن كنت من المدققين خصوصًا في علم أصول الفقه الحنفي
وقرأت ما كتبه العلامة الغُزي والمحقق الحفيد وغيرهما على التلويح للعلامة الثاني
سعد الدين التفتازاني حاشية التوضيح على مختصر البزدوي.
أما إذا سألتني عن العلامة الأول في مقابلة العلامة الثاني؛ فإني لا أتذكره الآن،
وإن صدق ظني يكون هو عبد القاهر الجرجاني؛ ولكن الأفضل لك أن تسأل شخصًا
آخر من مدرسي حاشية التجريد للبناني فإن من يقرأ هذه الحاشية يسهل عليه وزن
العلمين، وتحديد الفرق بين العلامتين، وربما قال لك: إن الأول هو القطب
الشيرازي؛ لأن سهولة كلام الإمام عبد القاهر وسلاسته تمنعهم من جعله العلامة
الأول، وإن شئت أن لا تشتغل بهذه المسألة، فهو أفضل من ذلك الأفضل، ويكون
أفعل التفضيل الأول على غير بابه والسلام.
وإنما المهم فيما نحن بصدده أن الإرادة السليمة، والطبيعة المستقيمة يمكنها أن
تميز الملح النظيف من الوسخ، وتعتني بتقديم النظيف إلى الضيف من أول الأمر،
بدون احتياج إلى إصدار أمر، وقس على ملح الطعام بقية الأملاح كالنحو ملح العلم،
والعلماء ملح العالم وهكذا كل ما يحتاج إليه في إصلاح الأغذية بدنية كانت أو
روحية دنيوية كانت أو دينية. أما إذا كنت لا تميز ولا تفهم إلا بأمر فتربص حتى
يأتي الله بأمره والله شديد العقاب.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) كفر الجاموس مزرعة بالقرب من عين شمس في ضواحي مصر.(6/869)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال لتذكار تأسيس الدولة العلية
نرى الأوربيين في مصر يحتفلون في كل عام احتفالات عمومية لدولهم؛
أهمها الاحتفال للجمهورية الفرنسية، والاحتفال لاستقلال إيطاليا وإن لهم في بلادهم
من العناية بذلك أضعاف ما نرى منهم في بلادنا حتى إنهم ليحتفلون للرجال العظماء
الذين خدموا الأمة خدمة جليلة. وبلاد مصر عثمانية؛ ولكنها مستقلة عن الدولة في
إدارتها وعامة شؤونها، وقد زال على عهد الاحتلال أكثر ما يذكِّر المصريين بها
حتى لغتها؛ فقد كانت التركية إلزامية في مدارس الحكومة المصرية ثم صارت
اختيارية ثم اضمحلت وتلاشت.
وقد استحسن نفر من نجباء الترك المقيمين في القاهرة أن يحتفلوا في كل سنة
بتذكار تأسيس الدولة العثمانية وتكونها في مثل الوقت الذي نودي فيه بعثمان الأول
سلطانًا وكان ذلك في 4 جُمَادَى الأولى سنة 699 للهجرة الشريفة الموافق 17 يناير
سنة 1300 ميلادية، وقد جعلوا هذا الاحتفال الأول على الحساب الميلادي، ولا
أدري أكان ذلك عن اختيار للحساب الميلادي؛ لأنه بالأشهر الشمسية أم السبب فيه أن
الفكر أو العزم على الاحتفال كان متأخرًا؟ والرأي الذي لا ينبغي التردد فيه أن
يكون الاحتفال بعد هذا العام على الحساب الهجري.
تألفت لجنة في إدارة جريدة (ترك) لأجل هذا الاحتفال فوضعت اللجنة قانونًا
لتأسيس جمعية خيرية للعثمانيين الذين ليس لهم جمعيات خيرية في مصر؛ وهم
المسلمون على اختلاف شعوبهم ولغاتهم فإن للنصارى العثمانيين جمعيات كثيرة منها
عدة جمعيات للسوريين خاصة: واحدة للموارنة وواحدة للروم الأرثوذكس وواحدة
للروم الكاثوليك. والسبب في ذلك أن المسلمين متأخرون عن جميع أبناء الملل في
الأعمال الاجتماعية، حتى إن مسلمي مصر لم توجد لهم جمعية خيرية إلا من عهد
قريب، وكان سبب إيجادها مشعوذ إفرنجي.
ولكن قيض الله تعالى لها أفضل رجال مصر في هذا العصر خلقًا وهمةً فثبتت
بثباتهم على شدة سعي المسلمين أنفسهم في إسقاطها، ولو لم يكن لها مورد إلا من
اشتراك المشتركين فيها لسقطت من زمن طويل فإن الرجل الغني يشترك فيها، وتمر
عليه السنون الطوال، ولا يدفع المبلغ الذي تبرع به وفرضه على نفسه. هذا وهم
يرون كثرة الجمعيات المسيحية ويساعدونها. وقد قضت الصعوبات التي مارسها
الذين نهضوا بهذه الجمعية والوشايات التي وجهت إليها من المسلمين - ومنها
اتهامهم بأنهم يساعدون مهدي السودان في وقته - أن يجعلوها خاصة بمسلمي
مصر فأصبح سائر المسلمين العثمانيين لا ملجأ لمن يصاب منهم أو ينكب في هذه
البلاد التي لا تزال أوربا تعترف بأنها عثمانية. لهذا كان تأسيس جمعية خيرية
لمسلمي العثمانيين من أفضل الأعمال الدالة على أن روح الحياة الاجتماعية دبّت في
المسلمين؛ أي: في بعضهم، ولكن أعداء أنفسهم من المسلمين سيسعون في إبطال
هذه الجمعية، ويتهمونها بمثل ما اتهموا بها أختها المصرية من قبلها، ونسأل الله أن
يقيض لها من أهل الجد والثبات ما قيّض للتي قبلها، وأن يهيئ لها أسباب النجاح
والفلاح.
دعت اللجنة نحو ثمانين رجلاً من العثمانيين من جميع الأجناس إلى فندق
الكونتيننتال، وأعدت لهم هناك مأدبة كأحسن ما يؤدب للأمراء والأقيال، وبعد
الفراغ من الطعام، افتتح رئيس الحفلة الكلام (هو لطيف باشا سليم) فذكر أن
الغرض من الدعوة قد عرف من الرقاع التي أرسلت إلى المدعوين؛ وقال: إنه دعي
إلى رياسة الاحتفال الحاضر، ولا يدري السبب في ذلك ثم تكلم كلامًا وجيزًا في
سبب ترك مثل هذا الاحتفال في الأحقاب الماضية، والسنين الخالية، أيام عز
الدولة ومجدها، وبزوغ شمس سعدها، والقيام به في مثل هذه الأيام، وقد انحطت
الدولة في نظر الأنام، فقال ما خلاصته:
إن الذي يسبق إلى الأفهام أن الاحتفال باستقلال الدولة العلية الآن ينطبق على
المثل (بعد خراب البصرة) فإن هذه الدولة التي أسسها قوم ساقهم حب المعالي إلى
إذلال الأمم ودوس هام الدول بسنابك خيولهم فأقاموها بالقوة القاهرة والسيوف الباترة
قد وصلت إلى درجة من المجد والفخر، لا تعلوها درجة ولم يحتفل في أيام عزها أحد
بتذكار استقلالها. ثم طرأ عليها الترف والفساد فضعفت وانحطت وقامت دول الغرب
تهددها بالمحو والانقراض - وذكر من مجد دول الغرب وتقدمها - وفي هذه الحالة التي
نرى فيها الدولة في النزع نحتفل بتذكار استقلالها. ألا يصح أن يقال: إن هذا (بعد
خراب البصرة) .
(قال) ماذا نريد بهذا الاحتفال الآن؟ هل نريد أن نفتخر بمجد مضى
وانقضى ونغش أنفسنا، ونخدعها بما لا يغني عن ضعفنا شيئًا؟ أم نريد أن نرثي
الدولة ونؤبّنها، ونبكي على عزها ومجدها؟ ثم قال: إنه لا يريد أن يسيء
الحاضرين، ويوقعهم في اليأس فإنه يوجد في العثمانيين الآن من الفصحاء وأصحاب
الأقلام مَن يرجى فيهم الخير للدولة. وختم كلامه بقوله: إنه قد أسست في القاهرة
جمعية خيرية وأشار إلى قانونها بين يديه وأن جمعية الاحتفال عهدت إليه بأن يكلف
جلال الدين بك عارف بإلقاء خطبة تركية وصاحب المنار بخطبة عربية. فقام جلال
الدين بك فتلا خطابًا مسهبًا مكتوبًا في ورقات صفق له القوم في أثنائه مرارًا. ثم قام
هذا العاجز منشئ المنار وخطب خطبة عربية ارتجالية سَرَّ العثمانيين عامة،
والمصريين منهم خاصة اعتدالُها واختتامُها بالدعاء للسلطان عبد الحميد أيد الله دولته
ولم يذكر اسم الرئيس والخطيب التركي.
وقد لخصت بعض الجرائد الخطبة فرأينا أن ننقل تلخيص جريدة الراوي؛ لأنه
لم يكد يغادر من الأفكار الأٍساسية التي قلناها شيئًا مهمًا إلا قولنا: إن العثمانيين أنشؤوا
يشتغلون بتحصيل العلم لما علموا أنه في هذا العصر قوام الدول وأساس القوة؛ لذلك
ننقح كلمتين مما جاء في تلك الجريدة ولنا الحق في ذلك؛ لأنه كلامنا وهو:
نحتفل اليوم بتذكار استقلال دولتنا العلية العثمانية وقد دعيت إلى الخطابة
فرأيت أن أبني على ما قاله سعادة رئيس الاحتفال في فاتحة المقال وهو كلمتان -
كلمة في معنى الاحتفال وكلمة في الدولة التي نحتفل لذكرى استقلالها وتكونها:
إنما يراد بالاحتفال إحياء الشعور بمجد من يحتفل لأجله والتذكير بتاريخه
المجيد، وهل نحن اليوم في حاجة إلى إحياء هذا الشعور وتجديد هذه الذكرى؟
وهل لدولتنا العلية تاريخ مجيد تستحق به أن يحتفل لتذكار تاريخها وتمثيل ماضيها؟
ولماذا لم يسبق للعثمانيين مثل هذا الاحتفال في الزمن الماضي.
لا شك أننا اليوم أحوج إلى مثل هذا الاحتفال منا في الزمن الماضي أيام مجد
الدولة الأكبر؛ فإن إحياء الشعور بمجد الدولة وتذكّر تاريخها يبعث فينا روح
النهوض لتأييد استقلالها، وتدارك ما فرط من خطأ بعض رجالها، وأما سبب
تأخيره إلى اليوم فهو أن مثل هذا العمل لم يكن يعهد في بلادنا؛ وإنما هو شيء
استفدناه في هذا العصر من الأوروبيين؛ فإننا نرى القوم يحتفلون للتذكير بقيام دولهم
وبأعمالهم العظيمة ويحتفلون مثل ذلك لرجالها العظام من الفاتحين وغيرهم.
وللدولة العلية العثمانية اسم عظيم في الدول، ولها تاريخ مجيد يحق للعثماني
أن يفتخر به، يعلم ذلك من النظر في كيفية تكوينها، ومن سيرتها الحميدة في
نشأتها.
يذهب الذين لا يعرفون من التاريخ إلا ظواهره إلى أن هذه الدولة قامت بالقوة
والقهر، والصواب أنها قامت بالفضيلة؛ فإن تلك الفئة التي جاءت مع أسرة
السلطان عثمان الأول من بلاد أرمينيا إلى بلاد الأناطول، ونصرت السلطان علاء
الدين السلجوقي وأيدته ثم بنت دولة عظيمة على أطلال دولته بعد سقوطها لم تكن
من القوة والكثرة بحيث تملك بلاد الفرس وبلاد الروم وجزءًا عظيمًا من بلاد أوربا.
وإننا نعلم أن السلطان محمد الفاتح قد حاصر القسطنطينية العظمى بثلاثمائة رجل
ونيف على عدد أهل بدر - رضي الله عنهم - تقريبًا ثم فتحها وهي أمنع مدينة
في الأرض وأهلها كانوا أكثر من الترك عَددًا وأحسن عُددًا وأكثر اطلاعًا
وعلماءً؛ ولكن العثمانيين كانوا متصفين بالفضائل التي أهمها الاتحاد الذي كان
الروم محرومين منه يومئذٍ. فقد نقل أنهم كانوا يتنازعون في المسائل الدينية
والفاتح على أسوار المدينة حتى إن بعض رجال الدين قال: لأن أرى تاج
السلطان محمد في مذبح كنيسة أيا صوفيا أحبّ إليَّ من أن أرى فيه كمة (طاقية)
على رأس كردينال من كرادلة الكنيسة الغربية!
لا تعجبوا من القول بأن الدولة قامت بالفضيلة لا بمجرد القوة والقسوة؛ فإن
القوم كانوا في حال بداوة فجاءهم الإسلام فجمع كلمتهم وهذّب نفوسهم حتى كان
ملوكهم الأولون على مقربة من سيرة الخلفاء الراشدين؛ فقد نقل المؤرخون أن
المؤسس لهذه الدولة السلطان عثمان الذي ترون صورته أمامكم الآن لم يترك لورثته
إلا حلة وعمامة مضرجة بالدم، والمعهود في الفاتحين المؤسسين للممالك بالقهر
والقسوة أن يتركوا القناطير المقنطرة من الذهب والجواهر والأثاث والماعون.
أما سيرة هذه الدولة المجيدة فإنها تعلم من النظر في وجه حاجة الإنسانية إليها
عند تكوينها، ومن سيرتها في بلادها. أما وجه الحاجة إلى دولة مثلها في زمنها
فأنتم أيها السادة تعرفونه من الوقوف على تاريخ الأمم التي تأسست الدولة في بلادها.
هذه الدولة مؤلفة من أمم وشعوب وقبائل لها لغات مختلفة، وأديان مختلفة؛
ولكن الدولة مسلمة وأكثر شعوبها إسلامية، وأهم عناصرها الأولى المسلمون
والروم. فأما المسلمون فقد كان ملكهم تمزق كل ممزق؛ فأما الدولة العباسية فقد
كان التتار قوضوا صرحها ثم زحف الصليبيون على بلادها من كل جانب، وأما
الدولة الفاطمية فكانت أيضًا قد زلزلت زلزالها، وهددت من الصليبيين بزوالها،
ولا أعد ملوك الطوائف والمماليك في عداد الدول فإنهم كانوا أشبه بالبيوت
(العائلات) منهم بالدول - يقوم في البيت رجل عظيم فيجعل له ذكرًا ومجدًا
ثم يسقط فيسقط البيت بسقوطه ولا يبقى فيه إلا أثره. فدول الإسلام قبل
العثمانيين ثلاث: الأموية والعباسية والفاطمية وقد كانت هذه الدول اضمحلت
وذهب الرجاء منها وبذلك كان المسلمون في حاجة إلى دولة جديدة تجمع
كلمتهم وتحمي حوزتهم.
أما الروم فقد كانوا في ذلك الوقت أسوأ حالاً من المسلمين، ولولا ذلك ما تيسر
للترك تفريق شملهم والاستيلاء على بلادهم وفتح عاصمتهم بعدد قليل. ذلك أنهم لم
يكونوا أقل من العثمانيين عددًا ولا علمًا بالحروب؛ وإنما كان ينقصهم ما كان عند
العثمانيين من الفضيلة والوحدة؛ فإن فساد الأخلاق والتنازع في الدين لا يبقي للأمم
بقية.
سار العثمانيون في تأسيس دولتهم بما تقتضيه الفضيلة الإسلامية من العدل
بالنسبة إلى غيرهم من الدول الفاتحة؛ فقد أقروا أهل الملل المخالفة لملتهم على
أديانهم ولغاتهم وعاداتهم؛ بل جعلت لهم امتيازًا يتمتعون به إلى الآن؛ حتى إنهم
يَفْضُلُون المسلمين في ذلك ببعض الأمور. وكان يسهل على هؤلاء الممتازين أن
يرتقوا في ظل عدل هذه الدولة وفضلها وتحت حمايتها إلى أقصى ما في استعدادهم.
فدولة لها مثل هذا التاريخ المجيد يصح لأبنائها أن يفتخروا بها على اختلاف
مللهم ونحلهم وأن يحتفلوا لتذكار تأسيسها واستقلالها.
ونعود إلى ذكر فائدة الاحتفال. قلنا: إن الفائدة في هذا الاحتفال هو إحياء
الشعور بمجد الدولة والتذكير بتاريخها لأجل السعي في استحياء ما كان نافعًا
واجتناب ما كان ضارًّا. وقد تكلم رئيس الاحتفال عن ضعف الدولة وإحاطة
الأخطار بها تنبيهًا وتذكيرًا؛ ولكنه لم يوقعنا في اليأس بالمرة فقد أعرب عن رجائه
ببعض فضلاء الأمة. ونزيد على ذلك فنقول: إنه لا يأس من الدولة فإنها بفضل الله
لا تزال ذات قوة عسكرية يشهد لها بها الأعداء؛ وهي قادرة على حماية الأمة؛
وإنما ينقصها قوة هي أم القوى في هذا العصر وهي قوة العلم والصناعة.
قلنا: إن هذه الدولة قامت بقوة الفضيلة الفطرية والدينية، وقد كانت هذه القوة
كافية لسيادة صاحبها على جميع الأمم؛ إذ كانت متساوية في الجهل؛ ولكن الزمان
قد تغير وصار كل شيء فيه مبنيًّا على العلم والصناعة، ولذلك تأخرت الدولة عن
غيرها فإنها لم تكن في يوم من الأيام دولة علم وكيف تكون دولة علم، وهي لم
تكن لها لغة إلا اللغة البدوية التي لا قواعد لها، ولا تتسع للعلوم والفنون. إن
اللغة العثمانية العذبة التي تعلّم الآن قد وضعت قواعدها النحوية والصرفية أثناء
القرن الماضي فأين العلم من أمة وافاها القرن الماضي، وليس لها لغة تعلم
بالقلم والكتاب؟ !
فأساس الإصلاح الذي نطلبه لحفظ استقلال الدولة هو العلم؛ فالعلم هو الذي
يقوي شوكتها والعلم هو الذي ينمي ثروتها والعلم هو الذي يجمع كلمتها، أرأيتم هذه
الشعوب المتفرقة والملل المختلفة لا يمكن أن تكون أمة واحدة إلا بالعلم، العلم هو
الذي يقرب بين البعداء، ويصل الأفكار بالأفكار، وهو الذي يمتاز به الإنسان فكل
من كان أقرب مني فكرًا كان أقرب مني ودًّا، وإنني لأفضِّل معاملة مَن لا تجمعني
به غير صلة الإنسانية على معاملة من تجمعني به كل صلة حتى صلة الدين والنسب
القريب إذا كان الأول قريبًا مني بفكره وقلبه، والآخر بعيدًا عني بعقله ولبه؛ لكن
العلم الناقص ربما كان شرًّا من الجهل البسيط فإن الجاهل البسيط يكون على شيء
من سنة الفطرة يستقيم به عمله بعض الاستقامة؛ ولكن ناقص العلم لا يستقيم على
الفطرة ولا يحسن الصناعة العلمية.
أقول هذا؛ لأنني أرى كثيرًا من الناس يحصرون السعي في إصلاح الدولة
بالإنحاء على القابضين على زمام الأحكام فيها وما هؤلاء الحكام إلا طائفة من الأمة
فإذا صلحت الأمة بالعلم والتهذيب فإنها تصلحهم لا محالة. تشكو الأمة من الحكومة
وإننا لسنا أمة في الحقيقة، ولا يمكن أن نكون أمة إلا بالعلم والتهذيب العام والدولة
غير قادرة على تعميم التعليم فعلى العقلاء منا أن يسعوا في ذلك لأجل تكوين الأمة.
إن لنا صورة الأمة وهي الأفراد المجتمعة؛ ولكن ليس لنا معناها وهو الأفراد
المتحدة. فإذا كانت هذه الصورة التي أمامكم هي السلطان عثمان مؤسس الدولة
فهؤلاء الأفراد الذين ترونهم في البلاد العثمانية هم أمة لها أن تطالب بحقوق الأمم
هذا ما أقوله وأختصر القول خوفَ الملل.
وأختم قولي بالدعاء إلى الله تعالى بأن يؤيد الدولة العلية ويوفق سلطاننا
الأعظم عبد الحميد خان ورجال دولته إلى ما فيه خيرها وحفظ مجدها، آمين.
__________(6/875)
غرة ذو الحجة - 1321هـ
18 فبراير - 1904م(6/)
الكاتب: محمد البشير ظافر الأزهري
__________
المفتي والإفتاء في الشرع
ختم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كتابه (أعلام الموقعين) بفوائد كثيرة
مطولة تتعلق بالفتوى، فرأينا أن نلخص منها ما يأتي؛ تنويرًا لبحثنا السابق، وليعلم
قليل الاطلاع أن مفتي الديار المصرية جرى في فتواه للترنسفالي على سنة السلف
الصالح، واقتدى فيها بأئمة الدين، لا بأوضاع جهلة المقلين:
الفائدة الأولى: من تلك الفوائد في أنواع الأسئلة التي تعرض على المفتي.
والثانية: في بيان أنه يجوز للمفتي أن يعدل في جواب المستفتي عمّا سأل عنه
إلى ما هو أنفع منه واستدل على ذلك بالكتاب والسنة.
والثالثة: في بيان أنه يجوز للمفتي أن يجيب السائل بأكثر مما سأله عنه،
واستدل على ذلك بالسنة (وفي صحيح البخاري باب معقود لهذا) .
والرابعة: في بيان أن من فقه المفتي ونصحه أن يدل المستفتي على ما هو خير
مما منعه منه بالفتوى فيما سأل عنه واستدل عليه بالسنة.
والخامسة: في أنه ينبغي للمفتي أن يحذر السائل مما يذهب إليه الوهم من
خلاف الصواب في الفتوى واستدل عليه بأسلوب الكتاب والسنة.
قال: (الفائدة السادسة) ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ما أمكنه
ذلك ولا يلقيه إلى المستفتي ساذجًا مجردًا عن دليله ومأخذه، فهذا لضيق عطنه وقلة
بضاعته من العلم.
ومن تأمل من فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم - وقد أوردها المصنف في
آخر الفوائد، الذي قوله حجة بنفسه - رآها مشتملة على التنبيه على حكمة الحكم
ونظيره، ووجه مشروعيته؛ وهذا كما سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: (أينقص
الرطب إذا جف؟) قالوا: نعم. فزجر عنه، ومن المعلوم أنه كان يعلم نقصانه
بالجفاف؛ ولكن نبههم على علة التحريم وسببه. ومن هذا قوله لعمر وقد سأله عن
قبلة امرأته وهو صائم فقال: (أرأيت لو تمضمضت ثم مججته، أكان
يضر شيئًا؟ قال: لا. فنبه على أن مقدمة المحظور لا يلزم أن تكون محظورة؛ فإن
غاية القبلة أنها مقدمة الجماع، فلا يلزم من تحريمه تحريم مقدمته كما أن وضع الماء
في الفم مقدمة شربه وليست المقدمة محرمة. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم:
(لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم)
فذكر لهم الحكم ونبههم على علة التحريم. ومن ذلك قوله لأبي النعمان بن بشير -
وقد خصّ بعض ولده بغلام نحله إياه - فقال: (أتحب أن يكونوا لك في البر
سواء) ؟ قال: نعم قال (فاتقو الله واعدلوا بين أولادكم) . وفي لفظ: (إن هذا لا
يصلح) وفي لفظ: (إني لا أشهد على جور) ، وفي لفظ (أشهدْ على هذا غيري)
تهديدًا لا إذنًا؛ فإنه لا يأذن في الجور قطعًا. وفي لفظ: (رده) والمقصود أنه
نبهه على علة الحكم ... إلخ الشواهد.
(الفائدة التاسعة) ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه؛ فإنه
يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام؛ فهو حكم مضمون له الصواب متضمن للدليل
على أحسن بيان، وقول الفقيه المعين ليس كذلك. وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة
الذين سلكوا على منهاجهم يتحرّون ذلك غاية التحري حتى خلفت من بعدهم خلوف
رغبوا عن النصوص، واشتقوا لأنفسهم ألفاظًا غير ألفاظ النصوص، فأوجب ذلك
هجر النصوص؛ ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به النصوص من الحكم
والدليل وحسن البيان؛ فتولد من هجر النصوص والإقبال على الألفاظ الحادثة
وتعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فألفاظ النصوص
عصمة وحجة بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب.
ولما كانت هي عصمة عمدة الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون كانت
علومهم أصح من علوم مَن بعدهم وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم.
ثم إن التابعين بالنسبة إلى من بعدهم كذلك، وهلم جرّا. ولمّا استحكم هجران
النصوص عند أكثر أهل الأهواء والبدع كانت علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية
الفساد والاضطراب والتناقض.
وقد كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا سئلوا عن مسألة
يقولون: قال الله كذا، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كذا أو فعل كذا، ولا
يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلاً قط، فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاءً لما في
الصدور، فلما طال العهد وبعد الناس من نور النبوة صار هذا عيبًا عند المتأخرين
أن يذكروا في أصول دينهم وفروعه: قال الله وقال رسول الله، أما أصول دينهم
فصرّحوا في كتبهم أن قول الله، وقول رسول الله لا يفيد اليقين في مسائل أصول
الدين؛ وإنما يحتج بكلام الله ورسوله فيها الحشوية والمجسمة والمشبهة. وأما
فروعهم فقنعوا فيها بتقليد من اختصر لهم بعض المختصرات التي لا يذكر فيها نص
عن الله ولا عن رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، ولا عن الإمام الذي زعموا أنهم
قلدوه دينهم؛ بل عمدتهم فيما يفتون ويقضون به، وينقلون به الحقوق ويبيحون به
الفروج والدماء والأموال على قول ذلك المصنف، وأجلهم عند نفسه، وزعيمهم عند
بني جنسه، من يستحضر لفظ الكتاب ويقول: هكذا قال وهكذا لفظه، والحلال ما
أحله ذلك الكتاب، والحرام ما حرمه، والواجب ما أوجبه، والباطل ما أبطله،
والصحيح ما صححه، هذا وأنَّى لنا بهؤلاء في مثل هذه الأزمان، فقد دفعنا إلى أمر
تضج منه الحقوق إلى الله ضجيجها، وتعج منه الفروج والأموال والدماء إلى ربها
عجيجها، يبدل فيه الأحكام، ويقلب الحلال بالحرام، ويجعل المعروف فيه أعلى
مراتب المنكرات، والمنكر الذي لم يشرعه الله ورسوله من أفضل القربات، الحق
فيه غريب وأغرب منه من يعرفه، وأغرب منهما من يدعو إليه وينصح به نفسه
والناس، قد فلق له فالق الإصباح صبحه عن غياهب الظلمات، وأبان له طريقه
المستقيم من بين تلك الطرق الجائرات؛ وأراه بعين قلبه ما كان عليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع ما عليه أكثر الخلق من البدع المضرات، رفع له
علم الهداية فشمر إليه، ووضح له الصراط المستقيم فقام واستقام عليه، وطوبى له
من وحيدٍ على كثرة السكان، غريبٍ على كثرة الجيران؛ بين أقوام رؤيتهم قذى
العيون، وشجى الحلوق، وكرب النفوس، وحميّ الأرواح، وغم الصدور،
ومرض القلوب، إن أنصفتهم لم تقبل طبيعتهم الإنصاف، وإن طلبته منهم فأين
الثريا من يد الملتمس، قد انتكست قلوبهم، وعمي عليهم مطلوبهم، رضوا بالأماني
وابتلوا بالحظوظ وحصلوا على الحرمان؛ وخاضوا بحار العلم ولكن بالدعاوي
الباطلة وشقاشق الهذيان، ولا والله ما ابتلت من وشله أقدامهم، ولا زكت به عقولهم
وأحلامهم، ولا ابيضت به لياليهم وأشرقت بنوره أيامهم، ولا ضحكت بالهدى
والحق منه ربوة الدفاتر إذ بلت به أقلامهم، أنفقوا في غير شيء نفائس الأنفاس،
وأتعبوا أنفسهم وحيروا من خلفهم من الناس، ضيعوا الأصول، فحُرموا الوصول؛
وأعرضوا عن الرسالة فوقعوا في مهامة الحيرة وبيداء الضلالة والمقصود أن
العصمة مضمونة في ألفاظ النصوص ومعانيها في أتم بيان وأحسن تفسير، ومن رام
إدراك الهدى ودين الحق من غير مشكاتها فهو عليه عسير غير يسير) اهـ.
(المنار)
إن ما ذكره هذا الإمام الجليل من وجوب إسناد الفتاوى إلى نصوص الكتاب
والسنة هو الذي جرى عليه جميع أئمة المسلمين؛ ولكن الذين ذكرهم خرجوا عن
هدي السنة وطريقة الأئمة فحتموا إسناد الفتوى إلى قول مؤلف من المقلدين الميتين
ولم ينقل عن عالم من علماء الإسلام جواز تقليد المقلد، ولم يكتفوا بهذا حتى صاروا
يعيبون من يفتي بالكتاب والسنة، ويزعمون أنهم بهذا ينصرون الإسلام، وما الإسلام
إلا الكتاب والسنة اللذين تركوهما وعادوهما.
وما ذكره من أوصاف العالم الذي يفتي بالنصوص ويراه الناس غريبًا ينطبق
في زمنه على شيخي الإسلام (رحمهما الله تعالى) وفي هذا الزمن على الأستاذ
الإمام (حفظه الله) فإنه لما استند في الفتوى بحل ذبائح أهل الكتاب على إطلاقها
بإطلاق نص القرآن في حلها - قام بعض الجاهلين يعيب ذلك زاعمًا أن الإفتاء بنص
القرآن غير جائز للمفتي، وإنما يجب عليه أن يذكر نص مؤلف من المؤلفين الميتين
الذي ينتسبون إلى أبي حنيفة خاصة. ويا ليت هذا العيب والأفكار كان ممن يدعون
الاشتغال بكتب الأحكام التي يسمونها فقهًا، كلا إنه صادر من أجهل أرباب الجرائد
الأخبارية بالدين وأشدهم إيغالاً في الفسق وإسرافًا في الأمر، فلو كان ابن القيم في هذا
الزمان فماذا عساه يقول ويكتب في هؤلاء؟
(الفائدة الحادية عشرة) : إذا نزلت بالحاكم أو المفتي النازلة فإما أن يكون
عالمًا بالحق فيها أو غالبًا على ظنه، بحيث قد استفرغ وسعه في طلبه ومعرفته أولاً
فإن لم يكن عالمًا بالحق فيها ولا غلب على ظنه لم يحل له أن يفتي ولا يقضي بما لا
يعلم، ومتى أقدم على ذلك فقد تعرض لعقوبة الله ودخل تحت قوله تعالى: {قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) ؛
فجعل القول عليه بلا علم أعظم المحرمات الأربع التي لا تباح بحال؛ ولهذا
حصر التحريم فيها بصيغة الحصر. ودخل تحت قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 168-169) ، ودخل في قول النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: (من أفتى بغير علم فإنما إثمه على من أفتاه) ، وكان أحد القضاة
الثلاثة الذين ثلثاهم في النار. وإن كان قد عرف الحق في المسألة علمًا أو ظنًا غالبًا
لم يحل له أن يفتي ولا يقضي بغيره بالإجماع المعلوم بالضرورة من دين
الإسلام، وهو أحد القضاة الثلاثة والمفتين الثلاثة والشهود الثلاثة، وإذا كان من
أفتى أو حكم أو شهد بغير علم مرتكبًا لأعظم الكبائر فكيف من أفتى أو حكم أو شهد
بما يعلم خلافه!
فالحاكم والمفتي والشاهد كل منهم مخبر عن حكم الله. فالحاكم مخبر منفذ،
والمفتي مخبر غير منفذ والشاهد مخبر عن الحكم الكوني القدري المطابق للحكم
الديني الأمري فمن أخبر منهم عما يعلم خلافه فهو كاذب على الله عمدًا: {وَيَوْمَ
القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} (الزمر: 60) ، ولا أظلم
ممن كذب على الله وعلى دينه. وإن أخبروا بما لم يعلموا فقد كذبوا على الله جهلاً،
وإن أصابوا في الباطن وأخبروا بما لم يأذن الله لهم في الإخبار به وهم أسوأ حالاً
من القاذف إذا رأى الفاحشة وحده فأخبر بها فإنه كاذب عند الله، وإن أخبر بالواقع
فإن الله لم يأذن له في الإخبار بها إلا إذا كان رابع أربعة فإن كان كاذبًا عند الله في
خبر مطابق لمخبره حيث لم يأذن له في الإخبار به فكيف من أخبر عن حكمه بما لم
يعلم أن الله حكم به ولم يأذن له في الإخبار به قال الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ
أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ
الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النحل: 116-117) ، وقال
تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} (الزمر: 32) .
والكذب على الله يستلزم التكذيب بالحق والصدق. وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ
كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (هود: 18) ، وهؤلاء الآيات وإن
كانت في حق المشركين والكفار فإنها متناولة لمن كذب على الله في توحيده ودينه
وأسمائه وصفاته وأفعاله، ولا تتناول المخطئ المأجور إذا بذل جهده، واستفرغ
وسعه في إصابة حكم الله وشرعه؛ فإن هذا هو الذي فرضه الله عليه فلا يتناول
المطيع لله وإن أخطأ، وبالله التوفيق.
(الفائدة الثانية عشرة) حكم الله ورسوله يظهر على أربعة ألسنة:
لسان الراوي، ولسان المفتي، ولسان الحاكم، ولسان الشاهد. فالراوي يظهر
على لسانه لفظ حكم الله ورسوله. والمفتي يظهر على لسانه معناه وما استنبطه
من لفظه. والحاكم يظهر على لسانه الإخبار بحكم الله وتنفيذه. والشاهد يظهر
على لسانه الإخبار بالسبب الذي يثبت حكم الشارع. والواجب على هؤلاء الأربعة
أن يخبروا بالصدق المستند إلى العلم فيكونون عالمين بما يخبرون به صادقين
في الإخبار به، وآفة أحدهم الكذب والكتمان فمتى كتم الحق أو كذب فيه فقد حادَّ
الله تعالى في شرعه ودينه، وقد أجرى الله سنته أن يمحق عليه بركة علمه
ودينه ودنياه إذا فعل ذلك، كما أجرى عادته سبحانه في المتبايعين إذا كتما وكذبا
أن يمحق بركة بيعهما. ومن التزم الصدق والبيان في مرتبته بورك له في علمه
ووقته ودينه ودنياه، وكان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن
أولئك رفيقًا، ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليمًا.
فبالكتمان يعزل الحق عن سلطانه، وبالكذب يقلبه عن وجهه، والجزاء من
جنس العمل؛ فجزاء أحدهم أن يعزله الله عن سلطان المهابة والكرامة والمحبة
والتعظيم الذي يلبسه أهل الصدق والبيان، ويلبسه ثوب الهوان والمقت والخزي بين
عباده، فإذا كان يوم القيامة جازى الله سبحانه من يشاء من الكاذبين الكاتمين بطمس
الوجوه وردها على أدبارها كما طمسوا وجه الحق وقلبوه عن وجهه جزاءً وافقًا،
{وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) .
(الفائدة الخامسة عشرة) ليحذر المفتي الذي خاف مقامه بين يدي الله
سبحانه أن يفتي السائل بمذهب الذي يقلده، وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك
المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلاً، فتحمله الرياسة على أن يتقَّحم الفتوى بما
يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه؛ فيكون خائنًا لله ورسوله وللسائل، وغاشًّا
له، والله لا يهدي كيد الخائنين وحرم الجنة على من لقيه، وهو غاش للإسلام وأهله،
والدين النصيحة، والغش مضاد للدين كمضادة الكذب للصدق، والباطل للحق،
وكثيرًا ما نرى المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب فلا يسعنا أن نفتي فيها بخلاف ما
نعتقده، فنحكي المذهب ثم نحكي المذهب الراجح ونرجحه ونقول: هذا هو الصواب
وهو أولى أن يؤخذ به. وبالله التوفيق اهـ.
(المنار)
ليعتبر بهذا الجهلاء الذي يزعمون أن المفتي يجب عليه أن يفتي كل سائل
بالمذهب الذي عليه الحاكم الذي قلده منصب الإفتاء، وإن خالف اعتقاده، كأن
المنصب يجيز للمسلم أن يترك اعتقاده فيحلل ما يعتقده حرامًا، ويحرم ما يعتقده
حلالاً، وفي هذا الزعم من الجناية على الدين ونصر أهواء الحكام عليه ما لا يفوق
إفساده إفساد، ونحن نعلم أن أكثر السلاطين والأمراء المتأخرين لا يعلمون من
المذاهب - التي ينتسبون إليها - شيئًا من الأحكام القضائية ولا من أحكام الحلال
والحرام إلا المشهور الذي يعرفه العوام، فإذا ولوا مفتيًا ليفتي محاكمهم ورعاياهم فمن
أي كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس نوجب على هذا المفتي أن يترك علمه واعتقاده
في كل مسألة تخالف مذهب السلطان، ويفتي الناس بالمذهب الذي ينتسب إليه
السلطان بالقول وهو في الحقيقة من العوام الذين مذهبهم مفتيهم؟
نعم، إن لإفتاء المفتي بمذهب السلطان في المسائل القضائية التي تنظر فيها
المحاكم وجهًا، إذا كان السلطان لا ينفذ إلا ما يقضي به القاضي على مذهب؛ وذلك
لأن الإفتاء والقضاء بخلاف ذلك يكون لغوًا. أما إذا كان السلطان يطلب الحق في
المسائل القضائية، ومتى ظهر له بإفتاء أو غيره وحكم به حاكم ينفذه فلا وجه
لالتزام مذهبه مطلقًا. وأما المسائل الدينية التي لا تتعلق بالمحاكم ولا تحتاج إلى
تنفيذ السلطان؛ كمسائل الحلال والحرام والعبادات، فمن أكبر الجهل بالدين أن يقال:
إنه يجب على المفتي أن يفتي فيها بمذهب السلطان ويترك اعتقاده الذي ينجيه عند
الله تعالى لأجل منصبه الذي بني على الاجتهاد في كل مذهب ويريد المقلدون أن
يقصروه على التقليد.
ثم قال ابن القيم:
(الفائدة العشرون) لا يجوز للمقلد أن يفتي في دين الله بما هو مقلد فيه،
وليس على بصيرة فيه سوى أنه قول من قلده دينه، هذا إجماع من السلف كلهم
وصرّح به الإمام أحمد والشافعي رضي الله عنهما وغيرهما. قال أبو عمرو بن
الصلاح: قطع أبو عبد الله الحليمي إمام الشافعيين بما وراء النهر والقاضي أبو
المحاسن الروياني صاحب بحر المذاهب وغيرهما: بأنه لا يجوز للمقلد أن يفتي بما
هو مقلد فيه، وقال: وذكر الشيخ أبو محمد الجويني في شرحه لرسالة الشافعي
عن شيخه أبي بكر القفال المروزي أنه لا يجوز لمن حفظ كلام صاحب مذهب
ونصوصه أن يفتي به؛ وإن كان متبحرًا فيه جاز أن يفتي.
قال أبو عمرو: ومن قال: لا يجوز له أن يفتي بذلك. معناه: لا يذكره في
صورة ما يقوله من عند نفسه بل يضيفه إلى غيره ويحكيه عن إمامه الذي قلده. فعلى
هذا من عددناه في أصناف المفتين المقلدين ليسوا على الحقيقة من المفتين؛ ولكنهم
قاموا مقام المفتين وادعوا عنهم فعُدوا منهم، وسبيلهم في ذلك أن يقولوا مثلاً:
مذهب الشافعي كذا وكذا ومقتضى مذهبه كذا وكذا وما أشبه ذلك، ومن ترك منهم
إضافة ذلك إلى إمامه فإن كان ذلك اكتفاءً منه بالمعلوم عن الصريح، فلا بأس.
قلت: ما ذكره أبو عمرو حسن، إلا أن صاحب هذه المرتبة يحرم عليه أن
يقول مذهب الشافعي لما لا يعلم أنه نصه الذي أفتى به أو يكون شهرته بين أهل
المذهب شهرة لا يحتاج معها إلى الوقوف على نصه كشهرة مذهبه في الجهر
بالبسملة والقنوت في الفجر ووجوب تبييت النيّة للفرض من الليل ونحو ذلك؛ فأما
مجرد ما يجد في كتب من انتسب إلى مذهبه من الفروع فلا يسعه أن يضيفها إلى
نصه ومذهبه بمجرد وجودها في كتبهم فكم فيها من مسألة له لا نص فيها ألبتة
ولا ما يدل عليه! وكم فيها من مسألة نصه على خلافها! وكم فيها من مسألة اختلف
المنتسبون إليه في إضافتها إلى مقتضى نصه ومذهبه! فهذا يضيف إلى
مذهبه إثباتها، وهذا يضيف إليه نفيها.
فلا ندري كيف يسع المفتي عند الله أن يقول: هذا مذهب الشافعي وهذا مذهب
مالك وأحمد وأبي حنيفة. وأما قول الشيخ أبي عمرو: إن هذا المفتي يقول: هذا
مقتضى مذهب الشافعي. فلعمر الله لا يقبل ذلك من كل مَن نصب نفسه للفُتيا حتى
يكون عالمًا بمأخذ صاحب المذهب ومداركه وقواعده جمعًا وفرقًا، ويعلم أن ذلك
الحكم مطابق لأصوله وقواعده بعد استفراغ وسعه في معرفة ذلك فيها حتى إذا أخبر
أن هذا مقتضى مذهبه كان له حكم أمثاله ممن قال بمبلغ علمه، ولا يكلف الله نفسًا إلا
وسعها.
وبالجملة: فالمفتي مخبر عن الحكم الشرعي؛ وهو إما مخبر عما فهمه عن الله
ورسوله، وإما مخبر عما فهمه من كتاب أو نصوص من قلده دينه، وهذا لون، وهذا
لون، فكما لا يسع الأول أن يخبر عن الله ورسوله إلا بما علمه فكذا لا يسع الثاني أن
يخبر عن إمامه الذي قلده دينه إلا بما يعلمه وبالله التوفيق.
(الفائدة الثانية والعشرون) إذا عرف العامي حكم حادثة بدليلها فهل له أن
يفتي به ويسوغ لغيره تقليده فيه؟ ففيه ثلاثة أوجه للشافعية وغيرهم:
أحدها: الجواز؛ لأنه قد حصل له العلم بحكم تلك الحادثة عن دليلها كما حصل
للعالم؛ وإن تميز العالم عنه بقوة يتمكن بها من تقرير الدليل، ودفع المعارض له
فهذا قدر زائد على معرفة الحق بدليله.
والثاني: لا يجوز ذلك مطلقًا، لعدم أهليته للاستدلال وعدم علمه بشروطه وما
يعارضه ولعله يظن دليلاً ما ليس بدليل.
والثالث: إن كان الدليل كتابًا أو سنة جاز له الإفتاء وإن كان غيرهما لم يجز؛
لأن القرآن والسنة خطاب لجميع المكلفين، فيجب على المكلف أن يعمل بما وصل
إليه من كتاب ربه تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ويجوز له أن يرشد
غيره إليه، ويدله عليه اهـ.
(المنار)
علم مما قاله هذا الإمام الجليل أن سلف الأمة وأئمتها مجمعون على أنه يجب
على المفتي أن يفتي بعلمه في المسألة، وإنما أجاز بعض فقهاء القرون المتوسطة أن
ينقل المفتي قول بعض الأئمة المجتهدين أو رأيه على أنه خبر ورواية، وذلك لا
يسمى فتيا وناقله لا يسمى مفتيًا، وإنما أجازوه للضرورة. وكلام هذا الإمام الحنبلي
موافق لما نقلناه في الجزء الماضي عن أئمة الحنفية والشافعية ومثلهم في ذلك
المالكية؛ لأن المسألة إجماعية.
وعلم من قوله أيضًا مما تقدم مثله من قبل، وهو أن العالم إذا كان لا يقدر على
الفتوى في جميع المسائل بالاجتهاد، وكان واقفًا على أدلة بعضها فما عرف دليله
وجب عليه أن يفتي به دون غيره، وقد تقدم في الأجزاء السابقة أن هذه المسألة
مبنية على قول أهل الأصول بتجزؤ الاجتهاد. فإذا فرضنا أن مفتي الديار المصرية
لم يستوفِ الشروط التي وضعوها للمجتهد المطلق؛ فهل يبعد على مثله وعلى من
هو دونه بمراحل أن يعرف بعض المسائل بدليلها من الكتاب والسنة؟ وما أظن أن
أحدًا من حاسديه يباهت نفسه بإنكار أهليته لذلك؛ كيف وقد أجازوها للعامي؟ !
وعلى هذا يكون وافق أئمة الأصول والفقه في فتواه للترنسفالي بالدليل من غير
صاحة إلى بناء الفتوى على دعوى الاجتهاد المطلق.
وهذا الكلام إنما هو لبيان صحة أسلوب كتابة الفتوى، أما صحة الحكم وحقية
ما أفتى به فهي مؤيَّدة بالإجماع في الواقعة كما تقدم شرحه.
__________(6/891)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الآثار المكذوبة
محمد البشير ظافر الأزهري
اعتاد كثير ممن أراد الله بهم شرًا على الاختلاق والتدليس، وزيادة أشياء في
الدين، ما أنزل الله بها من سلطان؛ ليجلبوا بها نفعًا ويكسبوا بها حطامًا، فكذبوا
وزوروا آثارًا، ونسبوها للنبي صلى الله عليه وسلم وغَرُّوا بذلك العامة، ومَوَّهُوا
عليهم حتى اعتقدوا صدق تلك الآثار، ورسخ في أذهانهم أنها من الحقائق، مع أنها
مزورة بلا ريب، ويعرفها كذلك كل من له إلمام بالحديث الشريف، ووقوف على
السنة النبوية، واطلاع على السيرة الشريفة والشمايل المنيفة، وخبرة بالتاريخ
وتبحّر في المعارف، وبُعد عن الخرافات والأوهام.
وكثيرًا ما تستر الأوهام أنوار الحقائق، وتحجب شموس المعارف، ثم لا تلبث
أن تزول لذوي الاطلاع والنقد والاختبار، فلا تغرهم تلك الزخارف ولا ينخدعون
بأعمال العامة والجهلة، ولا يقلدونهم في أعمالهم الفاسدة التي درجوا عليها، واطمأنوا
بها، وركنوا إليها ركونًا عظيمًا.
لبّس هؤلاء المزورون على المسلمين وأدخلوا في الديانة الإسلامية ما ليس
منها، وحسنوا لهم أعمال أهل الوثنية كالتمسح بالأحجار والأخشاب والأشجار
وتقبيل الأبواب والآثار المزورة؛ كأثر القدم المعزو للنبي صلى الله عليه وسلم كذبًا
وزورًا في الجامع الأحمدي، وجامع قايتباي ومسجد سيدي عبد الرازق
بالإسكندرية وحجر المرفق ومسجد البغلة والآثار التي بالرباط الكائن بقرب بركة
الحبش على شاطئ النيل.
قال المؤرخ المقريزي: وكان شيخنا السراج البلقيني يطعن في هذه الآثار
ويذكر أن له فيها مصنفًا: فترى هناك العامة مزدحمين على التمسح بتلك الآثار
والأحجار أي ازدحام معتقدين فيها اعتقادًا كبيرًا، ملتمسين منها البركات الموهومة،
مستشهدين بالأحاديث الموضوعة على أن الاعتقاد بالأحجار ينفع، مع أن ذلك من
شأن أهل الوثنية؛ فإنهم يحسنون ظنهم بالأحجار، وهؤلاء تشبهوا بهم، وساروا
على طريقهم، ولم يكتفوا بتلك الأعمال حتى اعتقدوا أنها قربة تقربهم إلى الله تعالى
زلفى؛ مع أنها مفسدة كبرى ودين الإسلام بريء من هذه الأفعال، ومن نسبتها إليه،
ومنزه عن أفعال الوثنيين، وعقائدهم الباطلة التي لا يركن إليها مَن اطّلع على
السنّة، وأُشرب قلبه بالتوحيد، وابتعد عن الشرك.
وقد رأينا إتمامًا للفائدة أن نذكر ههنا نص الفتوى التي أفتى بها حافظ الأنام
شيخ الإسلام الإمام أبو العباس أحمد ابن تيمية الحنبلي فيما نقله عنه تلميذه الحافظ
ابن القيم وغيره وهي: (أن الجهال تخترع أحجارًا يزعمون أن فيها أثر قدم النبي
صلى الله عليه وسلم فيتمسحون بها ويقبلونها كما يقول الجهال في الصخرة التي في
بيت المقدس من أن فيها أثرًا من موطئ قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وفي دمشق
مسجد يسمى مسجد القدم يقال: إن ذلك أثر قدم موسى عليه السلام. وهو باطل لا
أصل له، ولم يقدم موسى دمشق وما حولها، ومثله أحجار بمصر، وغيرها من
البلدان افتراها الكاذبون، واستخفّوا بها عقول العامة؛ بل ما يروى من حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا وطئ على الصخر أثَّر فيه قدمه، كل ذلك من الكذب
المختلق، لم ينقله أحد من أهل العلم بأحواله صلى الله عليه وسلم؛ بل هو كذب
عليه، فلا يغتر بنقل كثيرين متساهلين في ذلك ساكتين عن حكم الحديث.
وقد اتفق العلماء على ما مضت به السنة من أنه لا يشرع الاستلام والتقبيل لمقام
إبراهيم الذي ذكره الله في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة:
125) ، وذكر الأزرقي عن قتادة: أُمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد
تكلفت هذه الأمة شيئًا ما تكلفت به الأمم قبلها ذكر لنا من رأى أثره وأصابعه (كذا)
فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق، وأيضًا فإن المكان الذي كان النبي صلى الله
عليه وسلم يصلي فيه كالمدينة المنورة دائمًا لم يكن أحد من السلف يستلمه، ولا يقبله،
فكيف بما لا تعلم صحته من آثاره عليه الصلاة والسلام، وبما يعلم أنه مكذوب
كحجارة كثيرة يأخذها الكذابون، وينحتون فيها موضع قدم ويزعم غيرهم من الجهال
أن هذا موضع قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هذا غير مشروع في موضع
قدميه وقدمي إبراهيم الخليل عليه السلام فكيف يقال: إنه موضع قدميه؟ كذبًا وافتراءً
عليه؛ كالموضع الذي بصخرة بيت المقدس وغيره من المقامات. اهـ من كتاب
تنزيه المصطفى المختار عما لم يثبت من الآثار، للعلامة المحقق الشيخ أحمد بن
العجمي الوفائي الشافعي.
جاء الإسلام بقطع شأفة الوثنية ورفع أعلام التوحيد، ومحو العقائد الباطلة
الراسخة في الأذهان، ونفي كثير من الأباطيل التي كانت منتشرة، وحضّ على
التمسك بمكارم الأخلاق، والابتعاد عن سفاسف الأمور، وبين للناس ما يجب عليهم،
وأظهر الحق من الباطل، وحذّر من الوقوع في المآثم.
فعلى العاقل أن يتمسّك بأوامره ويبتعد عن تلك الآثار التي ابتدعها المزورون
ليروّجوا بها سلعتهم، ويستفيدوا الفوائد الدنيوية الوقتية فجرَّؤا الناس على الأعمال
الموجبة لغضب الله تعالى المنافية لدين الفطرة المفسدة للعقائد المزلزلة لركن
التوحيد، وسنعود إلى هذا الموضوع في فرصة أخرى.
... ... ... ... ... محمد البشير ظافر الأزهري
__________(6/900)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة
التلفيق في التقليد
(س1) مصطفى أفندي رشدي بنيابة الزقازيق:
توضأت وقبل الصلاة نزل من فمي دم خالط الريق وغلبه فانتقض الوضوء؛
لأني على مذهب الإمام الأعظم، فأردت أن أصلي على مذهب الإمام الشافعي؛ لأن
ذلك لا ينقض الوضوء عنده فهل تجوز الصلاة؟ وهل إذا اعتراني مثل ذلك وأنا داخل
للمسجد للصلاة أو فيه والوقت ضيق لا يسع الوضوء أو كنت أنا لا أستطيع
الوضوء إلا في منزلي لأسباب صحية فهل أصلي على مذهب الشافعي وإن مسست
امرأة؟
ومثال ذلك في عبارة أخرى: أن القيء ينقض الوضوء عند الإمام الأعظم دون
الإمام الشافعي فإذا قاء الإنسان وهو متهيئ للصلاة فهل يصلي على مذهب الشافعي
(ولو مس امرأة) أم في حال لمس المرأة لا تجوز الصلاة؟
ومثال ذلك أيضًا: أن صلاة الظهر تصير قضاءً عندنا إذا دخل وقت العصر
ولكن عند الإمام مالك تعد صلاتها أداءً إلى ما قبل الغروب، فإذا كنت مغتسلاً
وتوضأت على مذهب؛ فهل تجوز لي الصلاة بعد العصر وأعتبرها أداءً على
مذهب الإمام مالك؟
(ج) يعني السائل بالإمام الأعظم، أبا حنيفة؛ فإن مذهب الحنفية مؤلف في
الحقيقة من عدة مذاهب: أشهرها مذهب أبي حنيفة ومذهب أبي يوسف ومذهب
محمد بن الحسن؛ ولكن هذين الإماميين قد تلقيا عن الإمام أبي حنيفة وسارا في
الاجتهاد على طريقه في الاستنباط، ولم تعرف أقواله وآراؤه إلا عنهما، وفي كتبهما
لذلك جعل ما يؤثر عنهما من النقل عنه، وما خالفاه فيه مذهبًا واحدًا لثلاثة أئمة يقال
كبيرهم ومرشدهم الإمام الأعظم.
وقد جرى المؤلفون في هذا المذهب والمفتون فيه من المجتهدين فيه على
ترجيح أقوال بعض الثلاثة على بعض؛ فكان كل عامل بما في كتبهم مقلدًا لعدة
أشخاص في حقيقة واحدة، وهذا هو التلفيق الذي منعه الجمهور، وأجازه بعض
المحققين، وعلى القول بالجواز تكون صلاة السائل صحيحة في المسائل التي
ذكرها، وقد تقدم البحث في جواز التلفيق والاستدلال عليه في مقالات المصلح
والمقلد فليراجعه السائل في مجلد المنار الرابع (ص 361) وما بعدها وفي مباحث
جمعية أم القرى من المجلد الخامس (ص 676) ، وملخصه أن المسألة خلافية،
وأن أكثر علماء التقليد منعوا التلفيق مع أنه لازم للتقليد، وأن دليل الذين أجازوه
أقوى. وهذا الخلاف مرفوض في المقلد الذي له معرفة بمذهب إمامه، ونظر
في أدلته، وأما مَن ليس كذلك فهو عامي لا مذهب له، وإنما مذهبه مذهب
مفتيه فإذا أفتاه شافعي بشيء وحنفي بشيء فلا يجب عليه أن يتوقف عن الأخذ
بقول مفتيه في المسألة إلى أن يعرف مذهبه في جميع المسائل التي تتعلق
بموضوع الفتوى كالصلاة مثلاً.
هذا، وإنه لا دليل في الكتاب ولا في السنة على نقض الوضوء بالقيء أو
بخروج الدم فالخلاف فيهما بالرأي والاجتهاد. وأما وقت الأداء والقضاء فالحُكم فيه
أن كل إمام ينهاك عن تأخير الصلاة إلى الوقت المختلف فيه عمدًا، وإذا أخرت
بعذر فأحسن التوبة، وأقم الصلاة على وجهها في أول فرصة، وليس عليك تَعَدٍّ، أداء
أم قضاء والله أعلم.
* * *
تعريف الزنا
وتحريم الاستمتاع بما دونه
(س2) إسماعيل أفندي. ل. بمصر:
توجهت لزيارة صديق لي فوجدت عنده مجلسًا حافلاً بالإخوان، والكل
مشتغلون بالبحث في أحكام الدين، وهذا الشعور لم يوجد إلا بهمة حضرتكم أثابكم
الله، وجزاكم أحسن الجزاء، وكان من موضوع بحثهم تعريف (الزنا) :
فقال فريق: هو كذا ... - وذكر معنى الفاحشة الكبرى - وما كان غير ذلك
لا يعتبر زنا ولا تترتب عليه أحكام، وحينئذ يمكن للرجل أن يأتي المرأة في جزء
من جسمها ولا عقاب عليه.
والفريق الآخر قال: إن الإنزال بإحدى هذه الطرق يعتبر زنا.
وأخيرًا اتفقوا على سؤال المنار والسير على ما يقرره طبقًا للشريعة الإسلامية
الغراء.
(ج) : إن أرادوا بالزنا ما يَحُدُّ الحاكمُ صاحبَه الحدَّ المعروف في الفقه فهو
ما عرفه به الفريق الأول، وإن أرادوا ما حرمه أحكم الحاكمين على عباده وجعله
من أسباب مقته وسخطه فهو أعم مما قال الفريق الثاني؛ فقد روى البخاري ومسلم
وغيرهما من أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كتب على ابن
آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة؛ فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما
الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرِّجْل زناها الخُطا، والقلب
يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه) وفي رواية لمسلم: (والفم يزني وزناه
القُبل) ، وظاهر أن المراد بالنظر هو النظر إلى المرأة الأجنبية بشهوة والمراد
بالبطش لمسها وفي معنى اليد غيرها فكل ملامسة محرمة. فاستمتاع الرجل بغير
امرأته أو جاريته المملوكة له ملكًا صحيحًا شرعيًا محرم كيفما كان، سواء أنزل أم لم
ينزل.
ومقتضى الحديث الصحيح الذي تقدم أن هذا الاستمتاع يسمى زنا، وأن للزنا
مراتب أدناها النظر بشهوة عمدًا وأقصاها الفاحشة الكبرى المعروفة، وإنما وضع
الحد على من انتهى إلى الدرجة القصوى؛ لأن المضرات البدنية والمدنية والأدبية
التي يعاقب الحكام مرتكبيها لا تظهر إلا في هذه الدرجة، فالنظر مما يكثر وقوعه
ولا يعرف كونه بشهوة إلا من الناظر فترتيب الحد عليه حرج عظيم؛ لأنه من اللمم
الذي ترجى مغفرته باجتناب ما وراءه؛ {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ
اللَّمَمَ} (النجم: 32) . وأما اللمس والتقبيل فمضراته في الإصرار؛ ومنها تجرئة
مرتكبه على المحارم إذا لم يبادر إلى التوبة منه، وهي مضرة روحية لا أثر لها في
الأمة - أو في الهيئة الاجتماعية كما يقولون - إلا إذا تعدى الرجل على المرأة أو فعل
ذلك بحضور الناس، ولذلك درجات تختلف باختلاف الأشخاص والمكان والزمان
ليس من العدل أن توضع لها عقوبة معينة لا تختلف كما هو معنى الحد؛ وإنما
عقوبتها التعزير الذي يفوض إلى رأي الحاكم. فعلم من ذلك أن عدم وضع الحد على
مثل هذه الأمور ليس دليلاً على إباحتها ولا على كونها هينة عند الله تعالى.
ويتوهم بعض الناس أن ما أشرنا إليه من أنواع الاستمتاع بالنساء دون الوقاع
لم يحرم إلا لأنه مقدمة للوقاع الذي تترتب عليه المفاسد الكثيرة، وإن من وثق بنفسه
وقدر على منعها من الوقاع حل له أن يستمتع بالمرأة الأجنبية كما يشاء؛ إذ لا مفسدة
في هذا (بزعمهم) ، ومن كان من هؤلاء مجاورًا في الأزهر بعض سنين، أو
متلقيًا شيئًا من كتب الدين يستدل على ذلك بنص {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ
نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (النساء: 31) ، وبقول بعض الفقهاء: لا كبيرة بما دون
الفاحشة الكبرى وهي الوقاع.
وقد كان سألني مشافهة أحد تلامذة المدارس العالية في مصر عن ذلك، وقال:
إن التلامذة وغيرهم من الشبان في مصر يعاشرون البنات العذارى، ويستمتعون
منهن بما عدا الفاحشة المبينة فهل يحل ذلك أم يحرم؟ ! فأجبته بأنني أتعجب أشد
التعجب من كون هذا مما يخفى تحريمه على مسلم ويرى أنه مما يستفتى فيه.
نعم، إنه لم يحرم شيء في الشريعة الإسلامية إلا لأنه ضار بفاعله أو بالناس
مباشرة أو مفضٍ إلى الضرر، وإن استباحة استمتاع الرجال بالنساء فيما دون الوقاع
ضار بالمستمتعين والمستمتعات وبغيرهم. وبيان هذا بالتفصيل لا يذكر في جواب
سؤال؛ ولكننا نذكر ما يخطر لنا من ذلك الآن بالإيجاز فنقول: إن لذلك مضرات
كثيرة:
(أحدها) : أن هذا الاستمتاع يغري صاحبه بالشهوة، ويولعه باللذة، حتى لا
يكون له همّ سواها، فإن من طبيعة نفس الإنسان أنها إذا أخذت بمبادئ الأمر
المستلذ بالطبع تتدرج فيه حتى تصل إلى غايته، وتكون قبل الوصول إلى الغاية في
بلبال وهم، واشتغال فكر وقلب، وهذا ضرر في نفسه وهو أصل لمضرات أخرى
تنشأ عنه كما يعلم مما يأتي.
(ثانيها) : أنه يورث النفس الصغار والضعة؛ لأن الولوع بملاعبة النساء شر
من الولوع بملاعبة الأطفال أو الحمام، فإن هذه على كونها اشتغالاً بالمحقرات
والسفاسف التي تنافي كبر العقل وعزة النفس ليس فيها من الخنوثة ومهانة النفس ما
في الولوع بملاعبة النساء.
(ثالثها) : أنه يملك الهوى وحب اللذة زمام الإرادة، وقلما تجد عند صاحبه
عزيمة ثابتة إلا ما عساه يكون في طلب لذته، ومن يستحل الزنا فيرتكبه عند شدة
الداعية إليه في المواخير العامة لا يكون عرضة لهذه الغائلة وما قبلها كالمسترسل في
ملاعبة النساء والاستمتاع بهن في غير المسيس، وإن كان للزنا مضرات أخرى شر
منهما.
(رابعها) : أنه لا بد أن ينتهي أمر هذا الاستمتاع بالفاحشة الكبرى لما فيه من
الإلحاح بالإغراء، والتجرئة على العصيان، فإن كان الفاسق يستمتع بعذراء يحافظ
على شرفها، ويخشى عاقبة فضيحتها، وقوي لذلك على ضبط نفسه معها، فإنه لا
بد أن يجمح به سلطان الهوى المطاع إلى غيرها.
(خامسها) : أن وازع الدين والحياء من الله تعالى يضعف ويضمحل في نفس
هذا المستمتع، وفي ذلك من الضرر الروحاني ما لا محل لشرحه هنا، ومن قرأ ما
كتبناه في معنى تكفير الحج للذنوب في الجزء الماضي؛ فإنه يستغني به عن طول
الشرح.
(سادسها) : أن هذا العاصي لسلطان الدين، الخاضع لسلطان الشهوة، لا
يكتفي غالبًا بالاستمتاع بامرأة واحدة لا سيما إذا كانت الخلوة بها لا تتيسر له دائمًا
فهو إذا جاء الوقت تهم به داعية الشهوة بدافع من التأثر والتأثير العصبي فيلتمس
غير مَن عرفها أولاً حتى يضيع كثيرًا من وقته، ويُحرم بذلك من إتقان عمله في
معيشته.
(سابعها) : أن هذا العاصي يُفسد بإسلاس قياده للذة - كثيرًا من النساء وهذا
شر في نفسه، وربما يتولد منه شرور أخرى كالتنازع بين الفاسقين أو بين الفاسق
وأقارب المرأة.
(ثامنها) : أن في هذا التنقل في الفسق من إتلاف المال ما يقل عنه كل إتلاف.
(تاسعها) : أن من اعتاد على التنقل في راتع الفسق كثيرًا ما يرغب عن
الزواج ويكتفي بالمسافحة أو اتخاذ الأخدان، وفي ذلك من المفاسد ما فيه وشرحه
شرح لمضار الزنا، وإنما كلامنا في الاستمتاع بما دونه إلى أن يؤدي إليه.
(عاشرها) : أن من اعتاد ذلك يُحرم في الغالب من السعادة البيتية التي ملاكها
قناعة كل من الزوجين بالآخر، ومن تنقّل في راتع الفسق لا يكاد يرضى بمن
يتزوج بها لا سيّما إذا اعتاد الاستمتاع بمن هي أجمل منها شكلاً، أو ألطف في ذوقه
دلاً، وكذلك المرأة، وناهيك بما في فقد هذه القناعة من ضروب الشقاء، والجناية
على النسل، فإنه مخرب للبيوت التي تتألف منها الأمة.
وجملة القول أن الاستمتاع المسئول عنه ضار في ذاته ومؤدٍّ إلى الفاحشة حتمًا؛
ولكنه شر طريق إليها؛ لأن من وقع في الفاحشة ابتداءً يوشك أن يدرك قبحها
ويتوب منها قبل الاسترسال فيها؛ ولكن من يقدم لها تلك المقدمة المهيجة فإنه
ينغمس فيها حتى يغرق ويكون من الهالكين.
أما مضرات الزنا في البدن والنفس والمال والأمة أو الاجتماع فسنشرحها في
وقت آخر، فعلى المؤمن بالله واليوم الآخر أن لا ينخدع لهواه ويتجرأ على
الاستمتاع بغير حليلته الشرعية غشًّا لنفسه بأن هذا مقدمة للزنا ليس فيه كبير ضرر
فإن هذا من وسواس الشياطين.
__________(6/902)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة رُفعت إلى مفتي الديار المصرية
كتب أحمد ابن الحاج مصطفى التركي الجزائري كتابًا للأستاذ الإمام يقترح
عليه أن يؤلف كتابًا مختصرًا فيما تجب معرفته من العبادات على الجاهل، ويسأله
هل يجوز الأخذ بقول أي مذهب من المذاهب الأربعة أم لا، وعن أخذ الأوراد من
مشايخ الطرق، وعن التوسل بالأولياء مثل: اللهم يا رب بحق فلان ... إلخ، وعن
التبرك بكتابة الفاتحة في صحن وشربها للعافية من المرض أو من العين والسحر،
وعن اتخاذ حرز من الأدعية النبوية التي في صحيح البخاري لا غيرها مثل الزناتي
وأبي معشر، (قال) : فهذا الحقير يعترف بأنه باطل. ثم قال: (لأن الحقير يميل
بالطبع إلى الاقتداء بمذهب السلف الصالح، ولما كانت حضرتكم إمامنا في هذا
الزمان الذي كثر فيه الخلط والتخبط خصوصًا في بلادنا، ولم نجد من يرشدنا؛
انزوى الفقير لبابكم فلا تردوه خائبًا، والله يحفظكم ويرعاكم، وإذا ظهر لكم نشر ما
ذكرت لكم في المنار الأغر فذلك ما كنا نبغي والسلام) .
وقد أعطانا الأستاذ هذه الأسئلة لنجيب عنها بما يأتي:
أما الأول: فالعامي لا مذهب له؛ وإنما مذهبه مذهب مفتيه، فعليه أن يسأل أي
عالم عن حكم الله في المسائل التي تعرض له، وأن يأخذ بما يرشده إليه، وليس
عليه أن يسأله عن مذاهب العلماء وآرائهم.
وأما مشايخ الطرق فمنهم العالم بالشرع والجاهل به، فإذا أرشد العالم تلميذه
ومريده إلى التوبة والذكر والفكر والأدعية المأثورة في الكتاب والسنة الصحيحة فله
أن يتخذه مرشدًا ومربيًا، وأن يهتدي بهديه السالم من البدع، ولا يجوز لأحد أن
يأخذ شيئًا عن مشايخ الطرق الجاهلين بعلم الدين - وأهمه علم الأخلاق وآفات
النفس - لأنهم مضلون لا مرشدون.
وأما كتابة الآيات والأدعية في الأواني والأوراق لأجل دفع الأمراض والآفات
فهو استعمال لها في غير ما أُنزلت لأجله من هداية الناس، وتوجيه قلوبهم إلى الله
تعالى وحده حتى لا يعول على غيره في دفع الضر وجلب النفع بعد اتخاذ الأسباب
المعروفة للناس. وما ورد من نحو إجازة بعض الرقى - وهي من هذا القبيل - فلا
بد أن يكون له سبب خاص في واقعة حال خاصة، ولذلك ورد في حديث البخاري
وغيره أن من علامات المؤمن الصادق الذي يدخل الجنة بغير حساب أن لا يرقي ولا
يسترقي؛ بل يتوكل على الله تعالى في دفع ما لا يعرف سببًا عاديًّا لدفعه، وهذا ما
جرى عليه السلف الصالح رضي الله عنهم.
وإنما التوسل الصحيح؛ هو التقرب إلى الله تعالى بما شرعه من العلم والعمل
الصالح، والتوسل بالصالحين من سلف الأمة باتباع طريقتهم في الورع والتقوى
وتحري العمل بالكتاب والسنة مطلوب.
وإننا نختم هذه الأجوبة بما جاء في آخر الصفحة 113 وعامة الصفحة 114
من كتاب إغاثة اللهفان للإمام ابن القيم، فقد ذكر بعد بيان الفتنة بالدعاء عند القبور
وتوهم تأثيرها في الإجابة ما نصه بعد العنوان:
الإقسام على الله تعالى ببعض عباده
والمقصود أن الشيطان يلطف كيده بحسن الدعاء عند القبر، وأنه أرجح منه
في بيته ومسجده وأوقات الأسحار؛ فإذا تقرر ذلك عنده نقله إلى درجة أخرى من
الدعاء عنده إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، وهذا أعظم من الذي قبله؛ فإن
شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه، وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك؛
فقال أبو الحسن القدوري في شرح كتاب الكرخي: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا
يوسف يقول: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به. قال: وأكره أن
يقول: أسألك بمعقد العز من عرشك، وأكره أن يقول: بحق فلان وبحق أنبيائك
ورسولك، وبحق البيت الحرام. قال أبو الحسن: أما المسألة في غير الله فمنكرة
في قولهم؛ لأنه لا حق لغير الله عليه؛ وإنما الحق لله على خلقه. وأما قوله: بمعقد
العز من عرشك؛ فكرهه أبو حنيفة ورخص فيه أبو يوسف قال: وروي أن النبي
صلى الله عليه وسلم دعا بذلك. قال: ولأن معقد العز من العرش إنما يراد به القدرة
التي خلق الله بها العرش مع عظمته فكأنه سأل الله بأوصافه. وقال ابن بلدجي في
شرح المختار: ويكره أن يدعو الله تعالى إلا به فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك
أو بأنبيائك ونحو ذلك؛ لأنه لا حق للمخلوق على خالقه. أو يقول في دعائه: أسألك
بمعقد العز من عرشك، وعن أبي يوسف جوازه، وما يقول فيه أبو حنيفة
وأصحابه (أكره كذا) هو عند محمد حرام وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى
الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب، وفي فتاوى أبي محمد بن عبد السلام:
أنه لا يجوز سؤال الله سبحانه بشيء من مخلوقاته لا الأنبياء ولا غيرهم، وتوقف
في نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لاعتقاده أن ذلك جاء في حديث وأنه لم يعرف
صحة الحديث.
فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به، والدعاء به أبلغ في تعظيمه
واحترامه، وأنجع في قضاء حاجته نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله،
ثم نقله بعد ذلك درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثنًا يعكف عليه، يوقد عليه القنديل،
ويعلق عليه الستور، ويبني عليه المسجد، ويعبده بالسجود له، والطواف به
وتقبيله واستلامه والحج إليه، والذبح عنده.
ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيدًا ووثنًا، وأن
ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم. قال شيخنا قدس الله روحه: وهذه الأمور
المبتدعة عند القبور مراتب:
أبعدها عن الشر أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيها كما يفعله كثير من
الناس. قال: وهؤلاء من جنس عباد الأصنام ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في
صورة الميت أو الغائب كما يتمثل لعباد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين
وأهل الكتاب؛ يدعو أحدهم من يعظمه فيتمثل له الشيطان أحيانًا، وقد يخاطبهم
ببعض الأمور الغائبة، وكذلك السجود للقبر والتمسح به وتقبيله.
المرتبة الثانية: أن يسأل الله عز وجل به وهذا يفعله كثير من المتأخرين،
وهو بدعة باتفاق المسلمين.
الثالثة: أن يسأله نفسه.
الرابعة: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب أو أنه أفضل من الدعاء في
المسجد؛ فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه، فهذا أيضًا من
المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين، وهي محرمة وما علمت في ذلك نزاعًا بين
أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعل ذلك ويقول بعضهم: قبر فلان ترياق
مجرب. والحكاية المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من
الكذب الظاهر اهـ.
__________(6/907)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
بقية الكلام في رابطة الدين
إن الذين ما أرادوا إلا الإصلاح ما استطاعوا، يتألف هداهم الذي يدعون إليه
في كل جيل وكل قبيل من ركنين مشيدين على أساسين متينين: الأول: توجيه
النفوس الإنسانية إلى عالم الغيب؛ لأن هنالك كمالها المعد لها بحسبها. وأساس هذا
الركن أن النفس الإنسانية - هذه التحفة البدعية التي لم تزل من الأسرار الغامضة - لم
تخلق عبثًا. والثاني: ترقيق عواطف الناس بعضهم على بعض ليخف بتواخي
الكثيرين بعضٌ من التعادي القديم العمومي الوحشي. وأساس هذا الركن أن كمال كل
نفس - في عالمي الشهادة والغيب بغيرها سواء فضلت إفادتها للغير أو فضلت
استفادتها أو استوتا.
ثم إن كل ركن من هذين الركنين مبني من أجزاء كثيرة. وهذه الأجزاء تكون
بحسب الأدوار والأجيال. فلهذه العلة تختلف صور الأديان وجوهرها واحد.
هذه الأجزاء نسميها وسائل. ولاختلافها بحسب الحال فيما يدعو إليه
المتعددون تعددت الأديان باعتبار تعدد الدعاة وباعتبار تخالف الوسائل.
فأما الراسخون في هذا العلم فما زالوا ولا يزالون يعظمون أمر ذلك الجوهر
الذي يهدي سبل السلام ويخرج من الظلمات إلى النور.
وأما البعيدون عن العلم فلا يستغنون عن قائد يقودهم في مناهج تلك الوسائل
فالبشرى لهم إن كان قائدهم مصلحًا مخلص القلب، والويل لهم إن كان قائدهم مفسدًا،
وبالجملة فشأن هؤلاء أن يظنوا أن الوسائل روح الدين، والتذابح في سبيلها نهاية
عمل الطيبين الطاهرين، وغاية الزلف عند رب العالمين.
ولتأييد ما ذكرناه آنفًا من وحدة الجوهر لزم أن نورد شهادات من كتب الأديان،
ويجدر أن نقدم بين يدي ذلك قولنا: (إن هذا الذي علمناه بعد قراءة أسفار الأمم،
وصحف أجيال الشعوب قد أوحي لنبي أمي لم يقرأ سفرًا، ولم يخطّ سطرًا) فما
أعظم تلك المنحة (عليه الصلاة والسلام) .
فمما أوحي إليه: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ (علم على اليهود والنصارى) تَعَالَوْا إِلَى
كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ (هي) أَلاَّ نَعْبُدَ (أي: أن لا نرجو ولا نخاف شيئًا من الأشياء
رجاءً يقارنه حب واحترام، وشوق وهيام، وخوفًا يقارنه هيبة وإعظام، وخنوع
واهتمام) إِلاَّ اللَّهَ (الصانع المدبر مَن به قوام الكوائن وإليه يعود نظامها) وَلاَ
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً (أي: بمقام الأرباب من السلطة
المطلقة) مِّن دُونِ اللَّهِ (بل لله وحده السلطة المطلقة والكمال المطلق والقدس
المطلق) } (آل عمران: 64) ؛ أفلم تروا أن قوله: (سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) يفيد
ما نحن بصدده من وحدة جوهر الدين.
ومما أوحي إليه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا (علم على أتباع محمد صلى الله عليه
وسلم في زمانه) وَالَّذِينَ هَادُوا (علم على أتباع موسى) وَالنَّصَارَى (علم على
أتباع عيسى) وَالصَّابِئِينَ (علم على طائفة كانوا ببابل) مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَعَمِلَ صَالِحاً (ما يصلح لسعادة النفس) فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ (كل على حسبه)
وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ (من اختلاف النسبة) وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (على فوات أجر
العمل) } (البقرة: 62) .
ألم تروا أن ذكر الذين هادوا والنصارى والصابئين مع الذين آمنوا بمحمد، ثم
الوعد بالجزاء الذي ينفي الخوف والحزن لدى الإيمان بالغيب والعمل الصالح يفيد
أن هذا هو الدين المطلوب من كل لا الانتماء للأسماء.
ومما أوحي إليه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ
(أي: التوراة والإنجيل) وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ (أي: شاهدًا) فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ
تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ (أي: ظنونهم بأن وسائلهم لا تنسخ) عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً (أي: في الوسائل) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً (أي:
متفقة المناهج في السلوك لبلوغ الركنين المقصودين في الدين) وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ (أي:
ليظهر استعداد كل منكم بحسب زمانه ومكانه) فِي مَا آتَاكُمْ (من آلات العلم
والعمل) فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ (أي: استعملوا الآلات فيما خلقت من أجله لتكون لكم
العلوم النافعة والأعمال الرافعة وهي الخيرات بحذافيرها. وهذا الخطاب حنان
وتفضل على الفطرة ومنح لها السعة في القابلية) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً (أي: إلى
الموقف الغيبي الذي تنال فيه نفوسكم ما أعتد لها بحسب ما قدمت في الموقف
الحسي) فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (أي: ينكشف لكم هنالك ما حجبه الحس
عنكم هنا) } (المائدة: 48) .
وشواهد هذا المعنى من القرآن المجيد كثيرة. وللاختصار نكتفي بما قدمناه
ونكتفي أيضًا بشاهد واحد مما في كتب العهدين (القديم والجديد) ، فإليكموه جامعًا
هذا المعنى المجمع عليه في العهدين، سُئل المسيح: (يا معلم أي وصية هي
العظمى في الناموس؟ فقال له يسوع: تحب الرب من كل قلبك ومن كل نفسك،
ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها: تحب قريبك
كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء) (متّى، ص 22) أو لم
تروا كمال المطابقة بين ما عبرنا عنه هنالك في وصف الركنين وبين ما عبر به هنا
عنهما.
وإننا قد كتبنا هذه الأدلة للمتدينين الذين قد يُعِيرون البال لأمثال هذا المعنى أما
غيرهم فسوف يقولون: سواء علينا أصحت هذه الدعوى أم لم تصح فإننا قوم ننظر
للواقع، فنأخذ منه نفس الأمر. ونحن نقابلهم فنقول: سواء علينا أذعنتم أم لم
تذعنوا فإننا قوم ننظر للجوهر، ولا نعبأ بالصور.
وها نحن أولاء نبين لكم كيف تغايرت الوسائل حتى تغايرت صور هذه
الأديان:
إن فروع كل قانون من قوانين العالم في الأخلاق وفي نظام الاجتماع تكون
بحسب الجيل والقبيل وقد يحدث في فهم المخاطَبين بها تفاوت فيكون البون بين
قانون وقانون. وهذه أمثلة ذلك:
(1) في بعض الأجيال سُنَّ عمل شيء لتأليف القلوب. وفي أجيال أخرى
كان ذلك العمل من مفرقاتها.
(2) في بعض الأجيال شرع عمل لضرورة، وفي أخرى لم تكن الضرورة
تلك.
(3) خوطب قوم برموز فأخذها آخرون على ظاهرها، وخوطب قوم
بصريح فقالوا: هذه رموز! ! !
(4) رغب قوم بسعادة الحس وأرهبوا من شقائه، وآخرون رغبوا بسعادة
الغيب، وأرهبوا من شقائه، وشوق آخرون للأمرين فهام الأولون بوسائل الملك
والغلبة على الأمم. وهام التالون برفض النعيم في هذا العالم وعدم المبالاة بجحيمه.
واعتدل الآخرون فطلبوا نصيبًا من ههنا وههنا. واشتغلوا بكلتا الوسيلتين فكيف
تتساوى الفروع ههنا؟
فأنتم ترون من هذه الأمثلة وما ستقيسون عليها أن الوسائل ضروري فيها
التغيير وما كان تحت التغيير فهل يكون الروح واللب؟
وكثيرًا ما تتفق بعض الأجزاء بالمعنى ويفترق دوالها ما بين صريح أو رمز
كالتعبير عن كون الخالق خلق الخلق أضدادًا بأن العالم نشأ من الظلمة والنور أو أن
الظلمة نشأت من النور، وكالتعبير عن كون الفاطر فطر الإنسان فطرة بديعة وآتاه
فضلاً من العناية (كأن سخر له الأرواح الساريات بطونًا، والأجسام الجاريات
ظهورًا، والعادنات عدنًا) بأنه سواه بيده، ونفخ فيه من روحه، وخلقه على
صورته، واستخلفه في أرضه، وعلى هذين المثالين قيسوا ما اختلافه بين صريح
وكناية، وعبارة وإشارة، ولو شئنا لسردنا ههنا من الأمثلة مئات، تنتفع بها الفئات،
فليستنبع مَن قرعت سمعهم هذه الإشارات، ينابيع ذكائهم الفائضات.
والغرض من كل ذلك أن الذين يلهمون الحكمة الصافية لا يعدمون ما يبينون به
للناس دينهم الذي أحبوه من فم شخص وكرهوه من فم آخر، وهو واحد.
ذلك الدين الواحد هو ما أمر به المرسلون من إسلام النفوس إلى بارئها
وتصحيح الإرادة وتوجيهها نحو الكمال الذي اعتد للفطرة أن تناله {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: 30) ، {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران:
19) ، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفاً} (النساء: 125) ؛ ولم تكن ملة إبراهيم إلا ملة الفطرة، فقد سمعتم أنه
عاف تلك الأوضاع التي كانت في قومه (الصابئين) وهاجر من ديارهم ولم يكن
في ملته تلك الوسائل والأجزاء التي اقتضاها من بعد ذلك زمان موسى ثم لم يقتضها
زمان عيسى ولا زمان محمد (عليهم السلام) .
فيالله كم من فضل ومنة علينا لهادينا الرؤوف الرحيم، ومرشدنا الرسول
الكريم، الذي أنقذنا من الضلة؛ إذ دعانا إلى هذه الملة، ملة الأنبياء كلهم كما أوحي
إليه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) ؛ وفي
آية أخرى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 136) .
أما البعيدون عن العلم فهم عن هذا معرضون، يظنون المشاحة في الكلم
والأسماء والكز على الوسائل والأجزاء، لب الغرض وروح الدين، وغاية
المطلوب من الطيبين الطاهرين، ونهاية الزلف عند رب العالمين، ولو كان كذلك
لما غيَّر الأنبياء شيئًا من وسائل مَن قبلهم؛ إذ قد أمروا أن لا يتفرقوا في الدين،
فهل هم يخالفون الوحي؟ كلا، أم أوحي لكل منهم دين على حدة؟ كلا، وإنما
أوحي لكل منهم شرعة ومنهاج، ووضع لكل منهم في ترقية الناس معراج، وبين
الدين والشرعة فرق لغوي واصطلاحي، فاسألوا أهل العلم إن لم تعلموا، وقد حررنا
لكم آنفًا ما يفيدكم، هذا إن كنتم تذكرون.
وإنا لسائلوهم: هل لب الدين تلك المسائل التاريخية التي وقعت كما وقعت ثم
اختلف التعبير عن كيفية وقوعها؟ هل غاية ما يتوقف عليه رضا الباري وغضبه
القول بأن زيدًا أهانه عمرو أو أنه لم يهنه عمرو، وإنما أهانته يد سرية، ورأى
الناس يد عمرو فحكموا أنه هو الذي أهانه ولكنهم في الحقيقة واليقين لم يصيبوا في
حكمهم؛ لأن الذي أهانه يد سرية لا يد عمرو هل هذا كل الدين؟
وسائلوهم: هل منتهى الدين أمور تتعلق بالعادات البشرية من قيام وقعود،
وسهر وهجوع، وشبع وجوع، وذهاب ورجوع، وإقامة ورحيل، وإعلاء وتنزيل،
وأمور أخرى تتعلق بالأديان، من لحم وشعر وظفر وأسنان، أو هذا هو الدين أو
هذا كل الدين؟
وسائلوهم: هل مبلغ زلف المتدينين أن يفني بعضهم بعضًا إن استطاعوا أو
يقبل المغلوب ما قبل الغالب. إذن أين حرية التفكر. إذن أين الفضيلة للمكره فيما
يأتيه بظاهره وينكره بباطنه؟
هنالك أسئلة كثيرة يسألها من ظنوا تلك الظنون، وتربص بعضهم ببعض
ريب المنون، أما نحن فسيسألنا سائل من أهل الملل قائلاً: هل أنت تنكر الوسائل
مطلقًا؟ وهل الوصول إلى ذينك الركنين يكون بدون الوسائل؟ وهل أنت غير
معتبر لوسائل دين من الأديان وبهذا الاعتبار ألا ترد غيرها؟ وحينئذ فما ثمرة
تطويلك هذا الذي لا يغنيك مثل غيرك عن تفنيد الذاهبين إلى وسائل شرعة أخرى؟
فنقول لهؤلاء: إنه من المؤكد أننا نقبل الوسائل التي في دين محمد (عليه
السلام) ؛ لأنها قسمان:
(1) قواعد عامة شرعية يمكن البناء عليها في كل زمان ومكان.
و (2) قواعد عامة أدبية معينة ومساعدة للقواعد الشرعية. ومن شاء أن
يسألنا عن قاعدة منها لا يقبلها العقل فليفعل.. ولكن قبولنا ذلك هل يمنعنا عن تذكر
القاعدة العظمى التي يبنى عليها الإخاء الكبير، أم يأمرنا به وبالتذكير؟
إني لما رأيت الناس (منهم) من نسوا الجوهر الذي منه وإليه كل الأديان،
ومنه وإليه صلاح الإنسان، وظنوا أن الخير كله والدين في مخالفة غيرهم في كل
شيء [*] و (منهم) من اختلفوا في فهم وسائلهم فانقسموا على أنفسهم. ومنهم من
أقاموا ناسًا منهم مقام المرشدين الذي يعتقدون عصمتهم فعبثوا بالمقاصد والوسائل
عمدًا أو خطأً. و (منهم) من ليس له من الأديان إلا النسبة التي أصبحت بمقام
النسبة للقوم - لما رأيت هذه الأحوال الضارة التي ليست من الأديان في شيء نويت
بتطويلي هذا تذكيرًا؛ {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37) ،
بالجوهر، وتفنيدًا لمن أقاموا أقل الوسائل اعتبارًا مقام المقاصد العظمى على حين
أن الشعوب تشابهت في الحاجات المادية والأدبية، وتشابهت في عدم العلم والعمل
بأديانهم المقاصد والوسائل. فمن تذكر هذا التذكر يرجى به أن يتخذ نبراسًا يخرجه
من الظلام، ويهديه سبل السلام، وإن قبل هذه الذكرى عاقل من أ، ثم 1 من ب ثم
1 من ج، ثم 1 من د، فهذه هي الثمرة المطلوبة لأن (1 + 1/2)) .
وسيقول بعد هذا من يدعون حب الحكمة من الذين لم يرتبطوا بعروة من عرى
الأديان كلها: إن هذا الذي حررته إلا شعر أوحاه حب المألوف؛ وإن جنى الناس
من الديانات إلا التذابح، فيالله العجب هل حدث التذابح يوم حدثت الديانات أم هي
سنة البشر من قبل؟ ألم يكن من ثمرات الأديان تخفيف ذلك التذابح القديم؟ ألم
تحشر الشعوب الكثيرة المتغايرة في الألسنة والألوان المتباعدة في العادات والبلدان،
تحت رايات قليلة هن رايات الأديان؟
وإنا لسائلوهم: لو لم تكن الأديان التي تدور على الخوف والرجاء من القوة
الغيبية، والعدل والإحسان في البرية كيف كان المرء يصنع إذا حفت به المصائب،
وأنهكته النوائب، أيجتلب بيده لنفسه المنية؛ لأنه رأى الحياة قرارة الآلام الحقيقية،
وعش الآمال الوهمية، وكيف بيده يذهب الحياة وهي حبيبته وإن عضته، ومُناه
وإن مَنَّتْه فعَنَّتْه؟ أم يصبر تحت ما ثقل من أعباء الحياة صبر الحمار الذي لا
غرض له في المحمول، ولا أمل له بغير العفص المأكول؟
وكيف يصنع المرء إذا لاحت له رغائب فيها للغير مطالب، أيرعى الغير
وهو على أن يبيده قدير، وبأن يؤثر نفسه جدير، أم يبيده في الهوى، ويفعل الآخر
هكذا حتى لا يبقى سوى، أم للرغائب حد تقف النفس لديه، أو مطلوب أسمى
تلتفت إليه؟ أهذا شرعكم - أيها الماديون - أن يبيد القوي الضعيف أنَّى ثقفه،
ويشيد على الجنايات والخيانات شرفه، فكم أخطأ الناس إذ لم يتبعوا فيكم شرعكم،
ويذرعوا لكم ذرعكم، كأن لذتكم أن لا تكون الحكمة التي بها نظام العالم التي من
أجلها رحمكم مَن هم أقوى منكم وتركوكم بمواهبكم كلها تتمتعون، أفهذا جزاؤكم
للحكمة أن تغيروا عليه بخميس كثيف من التوهيمات الشعرية التي تريدون أن تهدموا
بها قواعدها وتحرموا الناس فوائدها؟
أفأمنتم من أنصارها الحجج القاطعة، والبراهين الساطعة؟ ساء ما تظنون،
وبئس ما تصنعون، فتفكروا لعلكم ترشدون، وتذكروا لعلكم تشكرون.
خلاصة:
والخلاصة من كل التفصيلات المتقدمة أن إقبال الجماعات الكثيرين، على
دعوة هادٍ من الهداة المطهرين، معراج من معارج الإنسان في العلم بعد الجهل،
والقوة بعد الضعف، فالفضيلة التي تكره الضر، وتنهى عن الشر، تبتهج نفسها بهذه
الأم التي تربى في حِضنها أقوامًا تباعدوا في الصور. كما تباعدوا في الكور، حتى
صاروا يتقاربون في القلوب، ويرحم الغالب منهم المغلوب، والسياسة التي تهوى
القوى، لتوزن كل جماعة مع السوى، تقرعينها بهذه الأم التي تربي لها حامية، لا
تسأل يوم الواقعة ما هيه.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز.)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) قيل لهندي عامي: هل تصلي؟ قال آكل البقر: الحمد لله , ورأيت قومًا يرمون شخصًا بالكفر فسألتهم عن دليل كفره فقالوا: إنه لبِس قبعة في أوربا , وأخبرني شيخ معمر ثقة - لا يزال حيًّا -عن نفسه أنه كان هو أول من لبس القوندرة (الجزمة) في هذا البلد، فرآه أحد الأعيان فاستحضر أخاه وقال له: إن أخاك لم يبق عليه إلا أن يعلق صليبًا في عنقه! قال: فما باله؟ قال: إنني رأيته يلبَس قوندرة أليس هي من زي الفرنجة؟ فعاد على أخيه باكيًا ناحبًا قال: فما بالك؟ قال: إنك ألبستنا العار بلبستك هذه , وقص عليه الخبر ولكن لم يمضِ عام حتى لبِس المعترض تلك اللبسة، فقال له كما قال له، فخجل، وطلب منه الإقالة! .(6/910)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تفسير سورة العصر
قد جمعنا من المنار تفسير سورة العصر للأستاذ الإمام، وطبعناه وحده في
كتاب صغير الحجم كبير الفائدة، وطبعنا معه ملخص درس الأستاذ أو خطابه في
تونس، وموضوعه (العلوم الإسلامية والتعليم) ، ويعلم قراء المنار أن هذا الكتيب
ركن من أركان الإصلاح والإرشاد، وقد كتب الشيخ محمد بن مصطفى أحد علماء
الجزائر - المشهورين بتآليفهم المفيدة - كتابًا للأستاذ الإمام، يقول فيه ما نصه:
( ... وقد اطلعت في المنار الأنور على تفسير سورة العصر بقلمكم البديع،
فراقني أسلوبه الفائق العجيب، وأخذ مني منزعه العجيب بالتلابيب، فلله أنتم ولله
دركم، ما أبعد غور فكركم الصائب، وغوص ذهنكم الثاقب، في استنباط دقائق
المسائل، وتقرير حقائق الفضائل، ولشدة شغفي به قرأته على ملأ عظيم من العلماء
والطلبة والأعيان عشر مرات في مجالس متفرقة، فاستحسنوه جدًّا، واستجزلوا
فوائده وأبدوا من السرور ما لا مزيد عليه، وأثنوا على جنابكم السامي بما أنتم أهله،
ودعوا لكم من صميم الفؤاد بسعادة الدارين) اهـ.
هذا، وإننا قد جعلنا ثمن هذا الكتاب في مصر قرشًا صحيحًا واحدًا تسهيلاً
لاقتنائه على مجاوري الأزهر وتلامذة المدارس، الذين هم أجدر الناس بالاستفادة
من حِكَمه العالية وأسلوبه الرفيع.
ومَن طلبه في البريد فعليه أن يزيد أجرة إرساله.
__________(6/917)
الكاتب: عبد الحليم بن علي بن سماية
__________
قصيدة عالم جزائري في الأستاذ الإمام
للشيخ عبد الحليم بن علي بن سماية
أُطْلِعْنَا على قصيدة تزيد على الخمسين بيتًا للشيخ عبد الحليم بن علي بن
سماية أشهر علماء الجزائر، مدح بها الأستاذ الإمام وأرسلها إليه في القاهرة من عهد
قريب، فسرَّنا منها أنها آية من آيات صلة علماء الإسلام بعضهم لبعض في الأقطار
المتباعدة، وشعور أهل المغرب منهم بما يشعر به أهل الشرق من قدر الأستاذ
الإمام، وإننا نقتطف منها هذه الأبيات:
فأنت لنا شمس تنير على المدى ... أتى نورها من غير أن نتطلعا
أدير بذكراك الذي منك قد مضى ... فأشرب كأسًا بالصفاء مشعشعا
يذكرنيك المجد والعلم والتقى ... فأنظر من علياك عرشًا مرفعا
وتلوي إلى تلك المجالس فكرتي ... فتترك قلبي بالخيار ممتعا
محافل كان العلم فيها مُجالسي ... أسامر بدرًا بالجلال تقنعا
فأسمع فصلاً من حكيم وحكمة ... إذا ما بدت خرت ذرى الزور رُكعا
فما بال أقوام هدى الله عقلهم ... يمارون فيه والسحاب تقشعا
ألم ينظروا الآثار تشهد بالعلى ... وأن نبيع الماء يوجب منبعا
لسان متى يومًا تألق برقه ... يسبح رعد السامعين لما دعا
أمن بعد إجماع عليه وأخذه ... نراه على أيدي الهوى قد تروعا
فهل مرية من بعد حق مشاهد ... وما الحق إلا أن تراه وتسمعا
يقول يشد الفعل متن بيانه ... وما القول لولا الفعل إلا مصدعا
يطالب بالأعمال في العلم أهله ... وحق له من عامل قد تضلعا
لعمرك ما تغني العلوم وحفظها ... إذا لم تكن فيها خطيبًا ومصقعا
تحس بها كالماء يسري بعوده ... متى رامه فكر لأمر تجمعا
أتى بكتاب في الكلام بيانه ... يغادر من صم الجنادل خشعا
ويمسح ران القلب عمن له رنا ... يسكن جأش القلب مهما يردعا
براهينه في النفس والكون والحجا ... وليست لرسطاليس أو مَن تصنعا
تنزه عن دور وغل تسلسل ... وكم سلسلت آياته من تنطعا
يقودك للبرهان غير مقيد ... يريك حدود العقل مهما تطلعا
__________(6/917)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مجلة بشائر السلام
يعلم قراء المنار أننا أنشأنا فصولاً كثيرة في الرد على هذه المجلة البروتستنتية
المعتدية على الإسلام وكتابه القرآن الحكيم، ونبيه خاتم النبيين، وهذه الفصول
منشورة في المجلد الرابع والخامس والسادس، ولمّا لم يزدها الرد الذي كشف النقاب
عن أباطيلها وأظهر لها الحق إلا لجاجًا وعنادًا - حركت الغيرة بعض أعضاء مجلس
شورى القوانين فخاطبوا الحكومة في شأنها وقبل أن يخاطبوها طلبوا منّا أعداد
المجلة ليراجعوها، ويُطْلع بعضهم بعضًا على ما فيها من الطعن الممنوع قانونًا
وأدبًا، وكنا سكتنا عن الرد في أجزاء قليلة لكثرة المسائل العارضة، فاضطررنا
إلى الاستمرار على السكوت؛ لأن الأجزاء لم تعد إلينا، وقد توهم بعض القراء
أننا سكتنا لأجل اعتراض ذلك المعترض من الإسكندرية الذي لم يستحسن الرد
على المجلة، وزعم أن ذلك يزيد في نشر شبهاتها، فصار الناس يسألوننا عن ذلك،
حتى كتب إلينا قاضي جزيرة البحرين - وهو من فضلاء أهل العلم والدين - من
كتاب طويل ما نصه:
(ولهفي على تقاريرك عن شبهات النصارى فما لي لا أرى لها ذكرًا،
فوربك إن أجوبتك كالشهب المحرقة لشياطينهم، الممزقة لشبهاتهم، وفهمي من
مدلول علمك وفور عقلك، فما أظنك تُصغي لغِرّ انتقدك في أجوبة شبهاتهم،
وعِلَّته التي فاه بها أوهى من انتقاده، أو في حسبانه أن دوي أصوات شبهاتهم
محصورة فيما بينهم؛ بل بعد ما أوحى بها شياطين جِنّهم، فاه بها شياطين إنسهم ... )
... إلخ.
فليعلم القاضي الفاضل وغيره من القراء أننا لم نترك الرد لذلك النقد الهراء،
فإننا نعلم أن فينا مَن لا ترضيه منا الحسنات، ويود أن يحولها إلى سيئاتٍ، وكما
انتقد ذلك الإسكندري علينا بالأمس الرد على المعتدي على الإسلام من الذين قالوا: إنا
نصارى - انتقد علينا اليوم الرد على المعتدين على الإسلام من الذين قالوا: إنا
مسلمون. وحرموا علينا طعام أهل الكتاب وهو حلال بنص الكتاب المبين،
وحرموا علينا لباسهم وقد لبِسه الرسول الأمين، ومن أعجب فنون الجنون أن يشتمك
شاتم سرًّا، ويكلفك أن تشتم نفسك جهرًا، على أن هذا الجاهل أراد أن يذم فمدح!
فقال: إننا استبدلنا الطيب بالخبيث والحلو بالمر. ومعنى هذه العبارة في لغة القرآن
أننا جعلنا الطيب بدلاً من الخبيث، والحلو بدلاً من المر، والمعنى بعكس ذلك في
لغة الجاهلين وهو ما أراده السابّ.
أما ما كان من أمر مجلس الشورى والحكومة؛ فإن الحكومة خاطبت وكيل
إنكلترا السياسي في الأمر؛ لأن الذي يصدر تلك المجلة الخاطئة إنكليزي، فخيَّر
اللورد كرومر الحكومة بين محاكمته واستتابته فرضيت بالثانية فوبخه اللورد
واستتابه. ولما انبرى مجلس الشورى لهذا الأمر قام أحداث السياسة يفتجرون في
جرائدهم ويفتخرون زاعمين أنهم أنصار الدين، وأصحاب الغيرة على الإسلام
والمسلمين، وأنه لولاهم لم يتعرض مجلس الشورى لمخاطبة الحكومة في شأن تلك
المجلة. ومن عجائب فوضى هؤلاء الأحداث أن واحدًا جديدًا منهم قام يعترض على
أكبر المنتصرين للدين، ويرميه بالتقصير في مقاومة بشائر السلام، ويعلم أو لا
يعلم أنه لولاه لَمَا قال أحد كلمة في هذا الانتصار فيما نظن، ولو كان هذا وغيره من
أصحاب الدعوى العريضة يحبون الدين ويغارون عليه أو لو كانوا يعرفونه لعرفوا
أنصاره، واتخذوهم أئمة لهم لا أعداءً وأضدادًا.
وإننا نرجو أن تُرد إلينا الأجزاء تلك المجلة التي أخذها بعض أعضاء المجلس
لنتم الرد على تلك الشبهات المموهة: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ
مِن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الحديد:
29) .
__________(6/918)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشيخ محمد الأشموني - وفاته
فاتنا أن نذكر في الجزء الماضي وفاة شيخ شيوخ أهل الأزهر الشيخ محمد
الأشموني الذي قيل فيه: إنه لا يوجد عالم أزهري الآن إلا وقد أخذ عنه أو عن أحد
تلامذته. وقد أبَّنته الجرائد بمثل: البخاري حديثًا والشافعي فقهًا وسيبويه نحوًا..
ولكنها لم تذكر له مزيَّة غير أنه عالم كبير. وقد بلغنا أنه كان يمقت هذه الحواشي
فلا يقرؤها، وكان يحفل بما يحفل به الشيوخ من كساوى التشريف ولقاء الأمراء؛
بل يكره ذلك. وروي أن سائلاً سأله في الدرس عن حكم لبس البرطلة (البرنيطة) ،
فأجابه: جئني بواحدة ألبَسها لك هنا؛ أي: في الأزهر. وكان صاحب انبساط
ودعابة مع جلسائه. مات عن مائة سنة ونيّف رحمه الله تعالى.
***
ثبت لدى قاضي مصر أن أول ذي الحجة كان يوم الأربعاء، فعيد الأضحى
يكون الجمعة، جعله الله مباركًا على أهله.
__________(6/920)
16 ذو الحجة - 1321هـ
3 مارس - 1904م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تأييد علماء الآفاق للفتوى
بحل طعام الكتابي على الإطلاق
نادت الجريدة المحدثة علماء الإسلام في الغرب والشرق للكتابة في موضوع
فتوى مفتي الديار المصرية للترانسفالي بحل طعام أهل الكتاب أو ذبائحهم خاصة،
وذكرنا في الجزء الماضي أن أحد علماء الديار التونسية أرسل إلينا رسالة في ذلك ثم
رأينا رسالة أخرى لبعض علماء فاس الأعلام في ذلك أرسلها مع كتاب منه إلى
الأستاذ الإمام، كما رأينا مقالات في بعض الجرائد الهندية، فرأينا أن ننشر الكتاب
ثم الرسالتين لما في ذلك من تأييد الحق وصلة علماء الأقطار الإسلامية بعضهم
ببعض في النوازل الفقهية ومن خذلان الباطل وأهله، وهذا نص كتاب العالم الفاسي:
الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
سيدنا الإمام، الدراكة الهمام، المتبحر مفتي الأنام، القائم بشريعة الإسلام،
الحائز قصب السبق، في الفضل والتقدم والمجد، الأستاذ مفتي الديار المصرية
أبو عبد الله سيدي محمد عبده. سلام على سيادتكم ورحمة الله.
أما بعد: فالمقصود الإعلام بأنا على محبتكم وودادكم وإن لم نَرَكم بالأبصار،
لكن نرجو الله تعالى بفضله أن يجمعنا بكم في هذه الدار، وقد أخبرني عن سيرتكم
ومحاسنكم صاحبنا وحبيبنا الفقيه الوزير العلامة الأسعد، البركة الفاضل الأمجد،
أبو عبد الله سيدي محمد الغباص الفاسي وزير الحرب الآن الذي كان سفيرًا
بالجزائر قبل هذا الوقت وإن كان لم يتلاقَ معكم أيضًا هناك وقد تأسف على ذلك.
وجاءه خبركم؛ وهو بوجدة فرجع سريعًا إلى الجزائر بقصد ذلك فلم يلحقكم هناك،
وإن كان تلاقى معكم نجله المبارك الميمون سيدي محمد؛ لكنه لم يكتفِ بذلك، ولا
زلنا جميعًا نرجو الله تعالى أن يجمعنا بسيادتكم على أحسن حال، بجاه النبي والآل.
ثُم إنه كان سألني بعد قدومه من الجزائر عن ذبيحة أهل الكتاب فأجبته بما قاله الإمام
ابن العربي وغيره من حليتها، وقد كانت وقعت فيها بفاس مذاكرة قبل هذا الوقت
فكتبت فيها جوابًا بذلك، فإذا به جاءتنا جريدة من محروسة مصر، فيها فتواكم عن
ثلاث مسائل، فأعجبتني وسُررت بها غاية السرور وضمنتها كتابًا لي في النوازل
لحسنها، ثم لما رأيت في تلك الجريدة نفسها كلامًا لبعض المارقين من الدين -
اغتظت لذلك، وعزمت أن أوجه لكم بعض ما كنت قيدته فيها من كلام الأئمة
المهتدين، فشاورت في ذلك الوزير المذكور، فحث عليَّ في تقديم إرساله على
جميع الأمور، وأعجبه ذلك مُظهرًا به غاية الفرح والسرور، ومسلِّمًا عليكم أيضًا
وطالبًا صالح أدعيتكم في خلواتكم وجلواتكم، والسلام.
... ... ... ... ... ... ... 14 ذي القعدة الحرام عام 21 ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... المهدي الوزاني بفاس ...
وأما رسالة هذا العالم فهذا نصها وكتب أنه لم يرسل جميع ما كتبه لعدم الحاجة
إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
وبعد: فهذا جواب عما كثر فيه الخوض بين الناس في ذبيحة الكتابي، هل
تؤكل أم لا؟ ، ففي نوازل العلامة أبي عبد الله سيدي محمد الورزابي أنه (سئل)
عن ذبيحة الكتابي هل تحل المزكّى كيفما كانت سواء وافقت ذكاتنا أم لا، أو فيها
تفصيل؟
(فأجاب) : قال الإمام ابن العربي: إذا سلّ النصراني عنق دجاجة حل
للمسلم أن يأكلها؛ لأن الله أحل لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم، وكل ما
يرونه في دينهم فإنه حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه ... إلخ (وقد تقدم في الصفحة
779 من المنار ثم قال الفاسي)
قلت: ومعنى قوله: وقد قال علماؤنا ... إلخ أنه حيث أباح العلماء وطء نسائهم
وبناتهم المقبوضة منهم في الصلح معهم مع أن ذلك أشد من طعامهم الذي يستحلونه
في دينهم، فيجوز لنا أكل ذبيحتهم بالأحرى؛ لأنه يُحتاط في الفروج ما لا يحتاط
في غيرها والله أعلم. (وقد أفتى الإمام الحفّار بمثل ما قاله ابن العربي وانتصر له
كما في المعيار ووجهه، فقال: أفتى ابن العربي بجواز أكل دجاجة فك نصراني
رقبتها، ولا إشكال فيه عند التأمل؛ لأنه تعالى أباح لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه
في دينهم على الوجه المباح لهم من ذكاته المشروعة لهم ولا يشترط موافقة ذكاتهم
لذكاتنا ... ) ... إلخ قاله الحفار وقد تقدم في (779 و780) من المنار ثم قال
الفاسي:
(وقد سكت ابن عرفة عن فتوى ابن العربي وأقرها وقال: حاصله أن ما
يرونه مذكى عندهم حلال لنا وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة. وكذا مؤلف المعيار
والزياتي في فتوى الحفّار وسلماه أيضًا، قلت: وأنا تابع لهم أيضًا.
الدليل على صحة ما قاله الإمام ابن العربي ما ذكره العلماء فيما ذبحه أهل
الكتاب للصنم فإنه حرام مع المنخنقة وما عطف عليها وقيدوه بما لم يأكلوه، وإلا
كان حلالاً لنا. قال الشيخ بناني على قول المختصر: (وذبح لصنم) - ما نصه:
الظاهر أن المراد بالصنم كل ما عبدوه من دون الله سبحانه وتعالى بحيث يشمل
الصنم والصليب وغيرهما؛ وإن شرط في أكل ذبيحة الكتابي كما في التتائي
والزرقاني وهو الذي ذكره أبو الحسن رحمه الله في شرح المدونة وصرح به ابن
رشد في سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح ونصه: كره مالك رحمه الله ما ذبحه
أهل الكتاب لكنائسهم وأعيادهم؛ لأنه رآه مضاهيًا لقوله عز وجل: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: 145) ، ولم يحرمه؛ إذ لم يَرَ الآية متناولة له وإنما رآها
مضاهية له؛ لأن الآية عنده إنما معناها فيما ذبحوا لآلهتهم مما لا يأكلون، قال:
وقد مضى هذا المعنى في سماع عبد الملك اهـ.
وقال في سماع عبد الملك عن أشهب: وسألته عما ذبح للكنائس قال: لا بأس
بأكله. ابن رشد: كره مالك في المدونة أكل ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم ووجه
قول أشهب أن ما ذبحوه لكنائسهم لما كانوا يأكلونه وجب أن تكون حلالاً لنا؛ لأن الله
تبارك وتعالى يقول: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: 5) ، وإنما
تأول قول الله عز وجل: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: 145) ، فيما
ذبحوه لآلهتهم ممّا يتقرّبون به إليها، ولا يأكلونه فهذا حرام علينا بدليل الآيتين
جميعًا اهـ.
فتبين أن ذبح أهل الكتاب إذا قصدوا به التقرب لآلهتهم فلا يؤكل؛ لأنهم لا
يأكلونه فهو ليس طعامهم ولم يقصدوا بالذكاة إباحته [*] وهذا هو المراد هنا، وأما ما
يأتي من الكراهة في ذبح لصليب فالمراد به ما ذبحوه لأنفسهم؛ لكن سموا عليه اسم
آلهتهم، فهذا يؤكل بكرهٍ؛ لأنه من طعامهم. هذا الغرض من كلام بناني وسلمه
الرهوني بسكوته عنه، فهذا شاهد لابن العربي قطعًا؛ لأنه علق جواز الأكل على
كونه من طعامهم والمنع منه على ضد ذلك. وأيضًا ليس كل ما يحرم في ذكاتنا
يحرم أكله في ذكاتهم، كمتروك التذكية عمدًا؛ فإنها لا تؤكل بذبيحتنا [1] وتؤكل
بذبيحتهم حسبما تقدم؛ فإذًا المدار على كوْنها من طعامهم لا غير. والله أعلم.
فظهر أن ما قاله الإمام ابن العربي لم ينفرد به؛ بل تبعه عليه جماعة من
المحققين؛ لكنه اعترضه عليه جماعة من المتأخرين، قال ابن ناجي في شرح
الرسالة: وإذا كان النصراني يسل عنق الدجاجة فالمشهور أن لا تؤكل وأجاز ابن
العربي أكلها ولو رأيناه يسل عنقها؛ لأنها من طعامهم.
ابن عبد السلام وهو بعيد: وبالغ البساطي فقال: ليت قوله هذا لم يخرج
للوجود ولا سطر في كتب الإسلام اهـ، ابن سراج: وهو هفوة؛ لأنا إذا لم نستبح
الوحشي بعقرهم فأحرى الإنسي. وعلى استباحته فعلله اللخمي بأنه ذكاة عندنا
وعقرهم الإنسي ليس بذكاة عندنا فلا يباح بذلك اهـ.
قلت: وهؤلاء المعترضون عليه لم يأتوا بحجة ولا دليل، ولا بنص صريح أو
رواية تشفي الغليل، وإنما أتوا بمجرد كلام خشن ليس فيه أدب مع القاضي،
لاعتقادهم أنه خالف ما تقرر قبله في الزمان الماضي، ولا سيما الشيخ الرهوني رحمه
الله. أيضًا المعترض عليه هو ابن عبد السلام وابن سراج والباسطي، والمؤيد
لكلامه هو الحفار وصاحب المعيار والزياتي، فيتقابلان، ويتساقطان، ويبقى كلام
ابن العربي سالمًا.
وقول الشيخ الرهوني: ويكفي في كون ما لابن العربي شاذًّا اتفاق الأئمة على
عزوه له وحده ... إلخ - فيه نظر ظاهر؛ لأن هذه المسألة إنما تكلم عليها ابن العربي
فقط دون غيره من الأئمة، فلم يتعرضوا لها بنفي، ولا بإثبات، فلذلك نسبوها له
وحده. وإنما يصح ما ذكره لو تعرضوا لها في كتبهم وأفتوا فيها بخلاف ما قاله هو،
فهنا يصح له ما قاله، أما حيث سكتوا عنها - وهو الذي تكلم عليها بالخصوص -
فلا. وأما اعتراضهم عليه فقدمنا أنهم لم يأتوا عليه بدليل فهو والعدم سواء، وقول
ابن سراج: لأنا إذا لم نستبح الوحشي بعقرهم فأحرى الإنسي ... إلخ - لا حجة فيه؛
لأن الوحشي كما قاله الزرقاني، إنما لم يستبح بعقرهم؛ لأن فيه نوعًا من التعبد؛
أي: وليسوا هم من أهله فتأمله. وأيضًا ما قاله غير متفق عليه عندنا؛ بل معترض
ولا يحتج بمختلف فيه كما هو معلوم. قال الزرقاني - على قول المختصر -:
(وجرح مسلم) ... إلخ ما نصه: فلا يؤكل بصيد الكافر؛ لقوله تعالى: {تَنَالُهُ
أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} (المائدة: 94) ؛ أي: والخطاب للمؤمنين وإنما افترق صيده من
ذبحه؛ لأن في الصيد نوع تعبد ووقوفًا مع الإضافة إلى المؤمنين في الآية ولا
يعارضه عموم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: 5) كما استدل به
أشهب وابن وهب وجماعة على عدم اشتراط الإسلام؛ لتخصيصها بالآية الأخرى
جمعًا بين الدليلين ... إلخ.
وقال في التوضيح: الاستدلال بهذه الآية على منع صيد الكتابي هو الذي في
المدونة وفيه نظر؛ لأنه اختلف في المراد بهذه الآية، فقيل: المراد بها إباحة الصيد.
وقيل: منعه واختاره اللخمي وغيره، وأن المراد الامتناع في حال الإحرام، والابتلاء
في {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ} (المائدة: 94) الاختبار، هل يصبر عنه؛ لقوله تعالى:
{لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} (المائدة: 94) ، ولقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ
ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (البقرة: 178) ا. هـ نقله بناني وأقره وكذا سلمه
الرهوني بسكوته عنه، فاستدلال ابن سراج بما قاله باطل لا يصح، وقال الرهوني
على قول الزرقاني: كما استدل به أشهب وابن وهب ... إلخ، ما نصه: ما قاله
هؤلاء هو الذي اختاره الباجي وابن يونس وابن العربي واللخمي. وقيل: إنه
مكروه. قال ابن بشير: ويمكن أن تحمل المدونة على الكراهة ... إلخ، فأنت ترى
بعضهم نظر في كلام المدونة وبعضهم تأوله، كما أن جماعة من أهل المذهب
خالفوه، فكيف يستقيم الاستدلال به لابن سراج؟ والله أعلم. قاله وقيده عبد ربه تعالى
محمد الوزاني) . اهـ الحسني العمراني.
(المنار)
جاء في كتاب الصيد من المدونة بعد ما تقدم في صيد اليهودي والنصراني ما
نصه: قال سحنون: قال ابن وهب: لا بأس بأكل صيدهما. وقال علي بن زياد:
فأنا لا أرى به بأسًا؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ
لَّكُمْ} (المائدة: 5) .ا. هـ
وهذا هو المتعين والآية ليست في الموضوع؛ وإنما هي في المحرم بالحج.
وجاء في كتاب الذبائح من المدونة ما نصه:
قلت: أفتحل ذبائح نساء أهل الكتاب وصبيانهم؟ قال: ما سمعت من مالك
فيه شيئًا؛ ولكن إذا حل ذبائح رجالهم فلا بأس بذبائح نسائهم وصبيانهم إذا أطاقوا
الذبح. قلت: أرأيت ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم أيؤكل؟ قال: قال مالك: أكرهه
ولا أحرمه. وتأول مالك فيه: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: 145) ، وكان
يكرهه من غير أن يحرمه. قلت: أرأيت ما ذبحت اليهود من الغنم فأصابوه
فاسدًا عندهم لا يستحلونه لأجل الرئة، وما أشبهها - التي يحرمونها في دينهم أيحل
أكله للمسلمين؟ قال: كان مالك مرة يجيزه فيما بلغني اهـ.
فأنت ترى هذا النص أوسع مما ذهب إليه ابن العربي الذي اشترط أن يأكل
منه أحبارهم ورهبانهم، وإذا كان الإمام مالك تأوّل النص في المحرم تحريمًا دينيًّا،
وهو ما أهل لغير الله به لأجل عموم حل طعام الكتابي، فتحليل القاضي أبي بكر ما
فتل الكتابي عنقه لا يحتاج إلى تأول؛ فإن القرآن لا يتناوله بالنص؛ إذ ليس من
الميتة حتف أنفها ولا من المنخنقة وما بعدها، نعم؛ إنه من قبيل المخنوق ولا نص
فيه، فإن المنخنقة في اللغة ما انخنقت بدون فعل فاعل وهو الذي رجحه محققو
المفسرين، قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: (والمنخنقة) ما نصه (الجزء
السادس صفحة 39) :
وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: هي التي تختنق، إما في وثاقها وإما
بإدخال رأسها في الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه فتختنق حتى تموت؛
وإنما قلت: ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك من غيره؛ لأن المنخنقة هي
الموصوفة بالانخناق دون خنق غيرها لها، ولو كان معنيًّا بذلك أنها مفعول بها لقيل:
والمخنوقة، حتى يكون معنى الكلام ما قالوا اهـ.
رسالة العالم التونسي
إلى العلامة النقَّاد السيد منشئ المنار الأغر:
لقد كنت أحب أن أوجه إلى مناركم شيئًا من قوادح أفكاري، وأنيط بقمته العليا
قبسًا من ناري، وما كنت أحسب أن سيكون أول شيء أنبئكم فيه برأيي مسألتين كثر
فيهما اللغط والاختلاف بالقطر المصري وقطرنا؛ ولكن من البخت أن استهتار الناس
وتهافتهم على مهواة الغلط في هاتين المسألتين شفع ميلي إلى مخاطبتكم بعزم أصدر
ازدواجهما هاته النتيجة التي توافيكم. ولطالما هجس بخاطري أن أصدع في مناركم
بتحقيقات أحب أن أزيل بها أوهامًا عن بعض الآراء ببلدنا غير واثق بجريدة تصلح
لنشر المسائل العلمية الحقيقية إلا جريدتكم المبني بحثها على أساسي الجدل والشرع
لا على شفا جرف الجمود والمغالطة ثم يصدني عن ذلك وفرة الأشغال، وسرعة
المناظرين إلى تسليم سلاح الجدال، وما صادفت مسألة كثر فيها اللغط عن جهل
مركب، واعتماد على عصا إرضاء العامة وتعصب، ما صادفت في هاتين المسألتين
وهما: مسألة أكل موقوذة الكتابي ونحوها من طعامه، ومسألة لبس قلنسوة أو نحوها
من لباس غير المسلمين، اللتان أفتى فيهما ذلك الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية
بالجواز لبعض مسلمي الترانزفال وبأن ذلك بما لا مطعن فيه، ولا متوقف بعد
النظر إليه؛ ولكن بعض من يستهويه حب الهذيان، والحكم فيما لا ترضى فيه
حكومته من مسائل الأديان، أبى أن يلقي عصا التسليم، ووجدها فرصة للطعن في
رجل من العلماء عظيم، بتمويهات ربما استرهبت العامة الذين دينهم الفهم،
واستهوت العلماء المشبهين بهم، الذين متى نزلت بهم الحادثة سردوا ما يحفظونه
من الكلمات، بدون ملاحظة لجانب الحقيقة ولا التفات.
ولقد كان الكثير من المنكرين ساهين أو متغاضين عن مصدر المسألة هل هو
الرغبة والاستحباب، أم تحقيق الحق وإزالة الحجاب؛ ولكن مع هذا لم يزل من بين
قومنا طائفة من أساتذة العلوم الذين تنخل نباهتم القشر من اللب، يفهمون الحقيقة خلافًا
لما لمحناه في بعض الجرائد المصرية - إن صدقت- من الحكاية عن الأزهريين خطأً
صريحًا، وكم من عائب قولاً صحيحًا، وربما كان بعض الجرائد التي لا يقوم
لأصحابها وزن في الاجتماع، ولا يلهو بها إلا الباطلون من الرعاع، قد أخذ في
هاتين المسألتين نصيبًا مع الناس، وأعجب مشيخة الإسلام في الآستانة العلية وجهلوا
أن حكم الله لا يثبته إلا الدليل، سواء كان من الأكثر أم من القليل، وسواء أحبه
الناس أم كرهوه، وبادر المحبون إلى العمل به أم أخروه!
وذلك كله أنبأنا، (وهو صادق فيما ينبي) أن كثيرًا من الجرائد المصرية لا
يترقب من بحثه بيان الحقيقة أو بالأقل دفع معرة الغلط، وإنما يقصد أن تصدر
جريدته في الميقات المعين لها ملأى كلامًا، ولو علم: إنه مبحث يقال لمثله فيه عند
المعارضة سلامًا. ونحن (وإن كنا في غنى عن تعب تغيير هاته الأخلاق بما
التزمتموه في مناركم من تشخيص الحقيقة) أحببنا أن نصدع بكلمات لنا ليعلم أهل
الحق أن لهم نصراء لا يزالون ظاهرين وإن أصبحوا ضعفاء الشيعة. ورمية رهط
يريدون مسخ الحق وتشنيعه، وما كان الله تعالى ليودَّعَ دينه أو يضيعه.
الموقوذة ونحوها من ذكاة أهل الكتاب
لمّا انقسم الناس في الدين إلى مقلّدين وناظرين وجب أن نخوض عباب هاته
المسألة تارة إلى وجهة التقليد وأخرى إلى هَدي النظر.
فأما الخطة الأولى: فإن الناس بعد أن اتفقوا أن الله تعالى أحل لنا طعام أهل
الكتاب، واتفقوا على أن ذبائحهم داخلة تحت عموم طعامهم، واتفقوا على أن لا
يشترط في ذبيحتهم أن تكون على الوصف المسطور في كتبهم - اختلفوا فيما كان من
ذكاتهم على بعض النعوت التي نص الله تعالى في صدر الآية على تحريمها
كالمنخنقة والموقوذة وما أهل به لغير الله والخلاف فيها في مذهب مالك معلوم لمن
كان ذا بصر في الفقه.
ذهب ابن عبد الحكم وابن وهب من أصحاب مالك فيما ذبح لغير الله للكنيسة أو
للمسيح إلى جواز أكله. وذهب ابن القاسم إلى منعه، وهذا يرشد إلى أنهم يختلفون في
تخصيص الطعام المباح بغير ما تلي من قبل، وفي تخصيص تحريم ما تلي علينا
بحالة لا يكون فيها طعام أهل الكتاب. ونحن هنا لا يهمنا أن نبحث عن ترجيح أحد
الاحتمالين حتى نبحث في المسألة بحث المجتهدين. وعلى قولي ابن عبد الحكم
وابن وهب انبنى ما أفتى به القاضي أبو بكر بن العربي والذي يكشف عن خلاصة
الفقه في هاته المسألة قول الإمام عبد المنعم بن الفرس الخزرجي الأندلسي المتوفى
سنة 599 في أحكام القرآن ونصه:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: 5) اتفق على أن ذبائحهم
داخلة تحت عموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ} (المائدة: 5) ؛ فلا
خلاف في أنها حلال لنا وأما سائر أطعمتهم مما يمكن استعمال النجاسات فيه
كالخمر والخنزير فاختلف فيه؛ فذهب الأكثرون إلى أن ذلك من أطعمتهم.. وذهب
ابن عباس إلى أن الطعام الذي أحل الله لنا ذبائحهم. فأما ما خيف منهم استعمال
النجاسة فيه فيجب اجتنابه… وإذا قلنا: إن الطعام يتناول ذبائحهم باتفاق فهل يحمل
لفظه على عمومه أم لا؟ فالأكثر إلى أن حمل لفظ الطعام على عمومه في كل ما
ذبحوه مما أحل لهم أو حرم الله عليهم أو حرموه على أنفسهم.
وإلى نحو هذا ذهب ابن وهب وابن عبد الحكم. وذهب قوم إلى أن المراد من
ذبائحهم ما أحل الله خاصة، وأما ما حرم الله عليهم بأي وجه كان فلا يجوز لنا، وهذا
هو المشهور من مذهب ابن القاسم. وذهب قوم إلى أن المراد بلفظ الطعام ذبائحهم
جميعًا إلا ما حرم الله عليهم خاصة لا ما حرموه على أنفسهم. وإلى نحو هذا ذهب
أشهب، والذين قالوا: الله يجوِّز لنا أكل ما لا يجوز لهم أكله اختلفوا هل ذلك على
جهة المنع أو الكراهة، وهذا الخلاف كله موجود في المذهب. واختلف أيضًا فيما
ذبحوه لأعيادهم وكنائسهم أو سموا عليه اسم المسيح هل هو داخل تحت الإباحة أم لا؟
فذهب أشهب إلى أن الآية متضمنة تحليله وأن أكله جائز وكرهه مالك رحمه الله
وتأول قوله تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} (الأنعام: 145) على ذلك ...
{الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ} (المائدة: 5) ، اختلف العلماء في الذين أوتوا
الكتاب من اليهود والنصارى مَن هم … وقد اختلف في المجوس والصابئة
والسامرة (كذا) هل هم ممن أوتي كتابًا أم لا؟ وعلى هذا يختلف في ذبائحهم
ومناكحتهم.ا. هـ ملخصه.
والناس وإن اختلفوا في الرجل المدعو إلى وليمة النصراني هل يأكل ما يراه
وَقَذه، فهم يتفقون في محل الضرورة في بلد أهله لا يذبحون إلا كذلك فماذا يصنع
المسلم من بينهم! وربما كانت هاته الكلمة تحرك مسألة تقدير الضرورة مما هي في
قوله تعالى:] إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [، ولنا فيها فهم [**] .
فإن أردنا أن نخوض في هاته المسألة خوض العارفين الناظرين - وقليل
ما هم - فإنا نقول: وردت الآية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ} (المائدة: 3)
الآية. فحرمت أشياء سمتها وأباحت شيئًا بالعموم وهو طعام الذين أوتوا الكتاب،
فمن المحتمل أن يكون عموم قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ} (المائدة: 5)
مخصوصًا بما مر من المحرمات، وقد يحتمل أن الله تعالى أراد عموم الطعام
فأورده بعد ذكر المنصوصات على وجه يشبه ورود النسخ بعد النص، وإن
كانت الآية هنا واحدة. والحنفية قاطبة يرون العام الوارد بعد الخاص ناسخًا
وخالفهم جمهور المالكية والشافعية فرأوه مخصوصًا بالمتقدم.
والحقيقة في هذا الأصل أن العام إذا ورد بعد الخاص على وجه لا يمكن فيه
الجمع بين عمومه وخصوص الخاص ينسخ الخاص لمقدار مدلول عمومه لا يبطله
فكان شبيهًا بالبيان. ولهذا سمّاه الحنفية ناسخًا نظرًا لنسخه ما اقتضاه الخصوص أول
مرة ولم يسمه غيرهم نظرًا إلى أن النسخ إبطال الحكم كله وكأنه خلف في اللفظ
والغاية متحدة.
ولقد رأيت رأيًا ربما رجح أحد الاحتمالين أيضًا وهو أن الله تعالى أحل لنا
طعام أهل الكتاب بعد أن قال: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (المائدة: 5) ،
والطيب ما وافق شروط الله تعالى مما شرع لنا ثم قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ
حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: 5) فنبّه بعطفه على الطيبات عطف الجملة على الجملة أنه
حلال متى لم يكن على شروطنا، وكان في مظنة يكون فيها غير طيب أو تحقق فيه.
أما إن وافقنا فلا حاجة إلى التنصيص عليه , وإنما قال الله تعالى: {أُوتُوا الكِتَابَ} (المائدة: 5) دون الذين يتمسكون بالكتاب أو يقرؤون الكتاب؛ ليرشدنا إلى أن مناط
الحكم هو أن يكون الطعام طعام من له انتساب إلى الكتاب، ولو انتسابًا تاريخيًّا لم
يبق منه إلا اسمه وتشيعه فلا يكلفنا البحث عن صحة فقههم فيما يأتون من ذكاتهم،
وكيف يكلفنا ذلك وهو تعالى يعلم وقد أعلمنا أنهم بدلوا كتبهم تبديلاً رفع الثقة بها،
ونسف العلم بصحة أي شيء منها لاحتمال التبديل فيه. فذهب ما يهذبه كثير من
الناس يسرد علينا نصوص التوراة. ومن عجيب حالتهم المضحكة المبكية أنهم
يبتدئون بالنكير على الناظرين في الدين ثم هم يجتهدون فيه ويشرحون مراد الله
تعالى بالتوراة والإنجيل، بعدما أيقنوا من التحريف والتبديل.
أما نقل فتوى الأستاذ الإمام من هذا الباب إلى باب ما يذبح بعد عقره أو جرحه
فإنني أخال أنه دخول إلى مفازة يعسر الخلاص منها؛ لأنه بعد موضع يفصل فيه
الفقهاء حالتها بعد الوقذ،هل كانت تعمل فيها الذكاة. واحتجاج الأستاذ الإمام أيده الله،
وسؤال السائل يدلان أنهما ما قصدا إلا صحة هذا لنا متى كان من أهل الكتاب، لا
أن المسلم يستأنف فعله [***] .
لبس القلنسوة ونحوها من لباس الكفار
أما مسألة القلنسوة فحسبهم من حيث التقليد أن الفقهاء ما قالوا إن لبس أي شيء
من ثياب الكفار موجبًا للردة إلا لباس الدين، حيث ينضم إليه قرائن تفيد كثرتها
قطعًا بأن صاحبه انسلخ عن الدين، وفرق عظيم بين نحو الزنار لباس الكنيسة وبين
لبس القلنسوة ونحوها من لباس الشعب والأمة التي ما كان الدين فيها إلا اتفاقًا. وقد
أنهى بعضهم حكم لبسها إلى الوجوب وبين الردة والوجوب مراتب كثيرة منها الكراهة
أو الإباحة، والذي يحب أن ينظر نظر المغشي عليه من التقليد يمكنه مع ذلك أن
يجزم بحالة الحكم في صورة الاستفتاء؛ فإن كنّا من أهل النظر قلنا: إن الردة
والإيمان أمران لا يتعلقان إلا بالفؤاد، والإسلام شيء يتعلق بالإذعان إلى الأحكام
الشرعية، والإعلان بتصميم القلب على تصديقها فلا يبطلان إلا حيث انهدمت هاته
المقومات، وربما كان بعض اللباس مع بعض قرائن مؤذنًا بانسلاخ صاحبه من
الإسلام؛ ولكن يكون ذلك حيث يكون اللباس لباس الدين لا لباس الأمة وحيث ينضم
إليه ترك الإعلان بكلمة الإسلام والتردد على شعائر الكفر، وكل واحد من هذين
كاف في الردة وفاقًا وخلافًا بين العلماء، أما التزام عادة من عادات الكفار لحب في
العادة لا في دين أهلها أو لانطباقها على حاجة الرقي في الوجود المدني فليس من
الكفر في شيء.
ليس إسلام العربي في عمامته وإلا لكفر إذا خلعها عند وضوئه، ولا كفر الكافر
في قبعته وإلا لكان مسلمًا إذا كشف رأسه للسلام. وإنّا ننظر أنواع الشعوب الذين
اتفقوا في الدين يختلفون في اللباس اختلافًا بعيدًا، وما يقضي ذلك باختلافهم في
الدين كاختلاف أصقاع المسلمين بين حجازي وتركي وفارسي ومصري وتونسي كل
لباس منها يخالف لباس الآخر خلافًا بينًا، والكل غير لباس الصحابة. فإذا لبس
الرجل لباسًا باعتبار أصالته فيه، فذلك الواجب أدبًا عليه. قد كان الناس يدخلون
في دين الله أفواجًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فما
سمعنا - ولو كان لسمعنا شيئًا تتوفر دواعي العلماء على نقله ولا يقعد به شيوعه عن
وصول ذكره - أحدًا منهم أمر الفارسي أن يتحول إلى اللباس العربي.
ثم مشاهدة المساواة اليوم بين مسلمي القطر الواحد وكُفَّاره في زي واحد شاهدة
على ما نقول إلا بعد أن ميز المسلمون أهل ذمتهم بعلامات حين أرادوا أن ينكثوهم
أيمانهم من بعد عهدهم ولا يرقبون فيهم ذمتهم. وهل كانت ثياب رسول الله وأصحابه
إلا كثياب المشركين من العرب؟ أم هل علمناهم حين دخلوا في الحنيفية استبدلوا
لبوسهم؟ كلا، إن الدين أكبر من الاهتمام بما يهتم له الماشطات وسخفاء
المزينين.
أما استبدال الرجل بزي زيًّا آخر كيف كان بلا داعٍ يقصد للعقلاء فشيء يدل
على سخافة عقل وانحراف إدراك؛ ولذلك يتخذ سخريًّا بين الناس في كل زمان
ومكان. نرى الرجل يلبس لبوس الإفرنج لكونه من أهل الدولة فلا يلومه أو يسخر
منه أحد فلو لبس عمامة العلماء وطيلسانهم لكان ضحكة للضاحكين. وبالعكس نرى
العالم مثلاً. وهذا هو دستور هاته المتشابهات التي صيرت السهل جليلاً، وجعلت
هؤلاء القوم لا يكادون يهتدون سبيلاً، وإليكم تحيتي وسلامي على بعد الدار،
وقناعة من التعرف بالأخبار.
وحرر في 23 ذي القعدة سنة 1321. اهـ.
__________
(*) المنار: يؤيد هذا ما تبين لنا من أن المدار في التذكية على القصد إلى الأكل.
(1) هذا على مذهب المالكية وأما الشافعي فيبيح أكل ذبيحة المسلم، وإن ترك التسمية عليها عمدًا أو سهوًا.
(**) المنار: إلى هنا انتهى بحثه في المسألة من جهة التقليد وبه علم أن كبار أئمة المذهب قالوا بحل ذبائح أهل الكتاب مطلقًا وإن لم تكن على طريقنا بل ولا على طريقهم في قول وإن ذكروا عليها اسم غير الله تعالى، وأما بحثه الآتي فهو من طريق النظر والاستدلال وهو لا يزيد قارئه إلا بصيرة في الدين وإن كان مقلدًا.
(***) المنار: قد أوجز الكاتب هنا اعتمادًا على تفصيله السابق، وهو أن الدليل النظري ونص المذهب يدلان على أن طعام الكتابي حلال كيفما ذكى، فالتفصيل الذي ذكره الفقهاء على هذا خاص بذكاة المسلم، كأنه يقول: إذا كانوا أحلوا ما أُهل به لغير الله من ذبائحهم، وأحلوا ما خنقوه وعقروه - فكيف لا يحلون ما ذبحوه؟ .(6/927)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سؤال عن فتوى
سأل سائل من طلاب العلم في الجامع الأعظم بتونس اسمه (أبو بكر العروسي)
عن مستند مفتي الديار المصرية في الفتوى لشركة التأمين على الحياة التي نشرت
في جريدة المغرب نقلاً عن جريدة الوطن، وأطال الكلام بأحكام فقهية مالكية ليست
من موضوع الفتوى في شيء؛ وإنما هي من موضوع ما كتب في الجريدتين
فعجبنا من ذلك.
وكتب إلى المفتي عالم من (وجدة) في الجزائر كتابًا يقول فيه إنه اطلع على
ما نشرته جريدة المغرب، وأنه رأى أن الفتوى منطبقة على السؤال، وأنها حق في
نفسها؛ ولكنها لا تنطبق على موضوع شركة التأمين على الحياة وشروطها؛ أي: فما
فائدة الشركة منها غير الإيهام ولما رأينا ما كتب في جريدة المغرب قد استتبع بحثًا
وسؤالاً في بلاد المغرب على أن ما نشر في جريدة الوطن لم يستتبع مثل ذلك في
المشرق أحببنا أن نبين الحقيقة فنذكر أولاً صورة السؤال والفتوى كما نشر في
جريدة المغرب ثم نبين مثار وهم الطالب فنقول:
أما صورة السؤال فهي:
حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية
ما قولكم دام فضلكم في شخص يريد أن يتعاقد مع جماعة [1] على أن يدفع
لهم مالاً من ماله الخاص على أقساط معينة ليعلموا فيه بالتجارة، واشترط معهم أنه
إذا قام بما ذكر وانتهى أمد الاتفاق المعين بانتهاء الأقساط المعينة، وكانوا قد عملوا
في ذلك المال وكان حيًّا فيأخذ ما يكون له من المال مع ما يخصم من الأرباح، وإذا
مات في أثناء تلك المدة فيكون لورثته أو لمن له حق الولاية في ماله أن يأخذوا
المبلغ تعلق مورثهم من الأرباح، فهل مثل هذا التعاقد الذي يكون مفيدًا لأربابه بما
ينتجه لهم من الربح جائز شرعًا؟ نرجوكم التكرم بالإفادة أفندم.
الجواب
الحمد لله وحده ... لو صدر مثل هذا التعاقد بين ذلك الرجل وهؤلاء الجماعة
على الصفة المذكورة كان ذلك جائزًا شرعًا، ويجوز لذلك الرجل بعد انتهاء الأقساط
والعمل في المال وحصول الربح أن يأخذ لو كان حيًّا ما يكون له من المال مع ما
خصه من الربح، وكذا يجوز لمن يوجد بعد موته من ورثته أو من له ولاية
التصرف في ماله بعد موته أن يأخذ ما يكون له من المال مع ما أنتجه من الربح
والله أعلم.
(المنار)
هذا هو نص السؤال ونص الجواب كما في الجريدتين إلا أننا ذكرنا الكلمة
الزائدة وهي: (شركة الجريشام مثلاً) في الهامش. فأين منه التأمين على الحياة؟
ومن قال أو من يقول: إن المفتي يجيب عن نيات الناس دون أسئلتهم، ومن أمثال
العامة: (إن الفتوى على قدر النص) ؛ أي: نص السؤال، نعم، إنه يجوز للمفتي
أن يفيد السائل بأكثر مما يطلبه إن رآه محتاجًا إلى ذلك، ولكن ليس لمشتغل بالعلم وقد
رأى فتوى استدل بها على ما لا تدل عليه في رأيه - أن يقول: ما مستند هذه
الفتوى في تجويزها ذلك الأمر الذي استدل بها عليه!
__________
(1) نشرت شركة الجريشام في مصر هذه الفتوى في كراس طبعته في بيان موضوعها وأعمالها، وزادت في السؤال هنا؛ أي: عند ذكر لفظ جماعة (شركة الجريشام مثلاً) ووضعت الزيادة هكذا بين قوسين للإشارة إلى أنها لم تكن في الصورة التي قدمت للمفتي وأجاب عنها.(6/938)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(الوجه الثاني والخمسون) قولكم: إن عمر كتب إلى شريح: أن اقضِ بما
في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله فإن لم يكن في سنة
رسول الله فبما قضى به الصالحون.
فهذا من أظهر الحجج عليكم على بطلان التقليد؛ فإنه أمره أن يقدم الحكم
بالكتاب على كل ما سواه؛ فإن لم يجده في الكتاب ووجده في السنة لم يلتفت إلى
غيرها فإن لم يجده في السنة قضى بما قضى به الصحابة، ونحن نناشد الله فرقة
التقليد هل هم كذلك أو قريبًا من ذلك؟ وهل إذا نزلت بهم نازلة حدث أحد منهم
نفسه أن يأخذ حكمها من كتاب الله ثم ينفذه فإن لم يجدها في كتاب الله أخذها من سنة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإن لم يجدها في السنة أفتى فيها بما أفتى به
الصحابة، والله يشهد عليهم وملائكته وهم شاهدون على أنفسهم بأنهم إنما يأخذون
حكمها من قول من قلّدوه وإن استبان لهم في الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة خلاف
ذلك لم يلتفوا إليه ولم يأخذوا بشيء منه إلا بقول من قلدوه.
فكتاب عمر من أبطل الأشياء وأكسرها لقولهم وهذا كان سير السلف المستقيم،
وهديهم القويم، فلما انتهت النوبة إلى المتأخرين ساروا عكس هذا السير وقالوا: إذا
نزلت النازلة بالمفتي أو الحاكم فعليه أن ينظر أولاً: هل فيها اختلاف أم لا؟ فإن لم
يكن فيها اختلاف لم ينظر في كتاب ولا في سنة؛ بل يفتي ويقضي فيها بالإجماع؛
وإن كان فيها اختلاف اجتهد في أقرب الأقوال إلى الدليل فأفتى به وحكم به، وهذا
خلاف ما دل عليه حديث معاذ وكتاب عمر، وأقوال الصحابة.
والذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة أوْلى فإنه مقدور مأمور فإنَّ عِلْم
المجتهد بما دل عليه القرآن والسنة أسهل عليه بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق
الأرض وغربها على الحكم، وهذا إن لم يكن متعذرًا فهو أصعب شيء، وأشقه إلا
فيما هو من لوازم الإسلام، فكيف يحيلنا الله ورسوله على ما لا وصول لنا إليه،
ويترك الحوالة على كتابه وسنة رسوله اللذين هدانا بهما ويسرهما لنا، وجعل لنا إلى
معرفتهما طريقًا سهلة التناول من قرب. ثم ما يدريه فلعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم
وليس عدم العلم بالنزاع علمًا يصدمه فكيف يقدم عدم العلم على أصل العلم كله؟ ثم
كيف يسوغ له ترك الحق المعلوم إلى أمر لا علم له به وغايته أن يكون موهومًا،
وأحسن أحواله أن يكون مشكوكًّا فيه شكًّا متساويًا أو راجحًا؟ ثم كيف يستقيم هذا على
رأي من يقول: انقراض عصر المجمعين شرط في صحة الإجماع فما لم ينقرض
عصرهم فلمن شاء في زمنهم أن يخالفهم. فصاحب هذا السلوك لا يمكنه أن يحتج
بالإجماع حتى يعلم أن العصر انقرض ولم ينشأ فيه مخالف لأهله.
وهل أحال الله الأمة في الاقتناء بكتابه وسنة رسوله على ما لا سبيل لهم إليه،
ولا اطّلاع لأفرادهم عليه؟ وترك إحالتهم على ما هو بين أظهرهم حجة عليهم باقية
إلى آخر الدهر، وهم متمكنون من الاهتداء به، ومعرفة الحق منه وهذا من أمحل
المحال؟
وحين نشأت هذه الطريقة تولد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول،
وانفتح باب دعواه وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين إذا احتج عليه بالقرآن
والسنة قال: هذا خلاف الإجماع وهذا الذي أنكره أئمة الإسلام. وعابوا من كل
ناحية على من ارتكبه وكذبوا من ادعاه، فقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله:
من ادّعى الإجماع فهو كاذب لعل الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم؛
ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغه. وقال في رواية المروزي: كيف
يجوز للرجل أن يقول: أجمعوا؟ ! إذا سمعتهم يقولون: أجمعوا فاتهمهم. لو قال:
إني لم أعلم خلافًا. كان (أحسن) ، وقال في رواية أبي طالب: هذا كذب، ما علمه
أن الناس مجمعون؟ ولكن يقول: ما أعلم فيه اختلافًا فهو أحسن من قوله: إجماع
الناس. وقال في رواية أبي الحارث: لا ينبغي لأحد أن يدعي الإجماع لعل الناس
اختلفوا، ولم يزل أئمة الإسلام على تقديم الكتاب على السنة، والسنة على الإجماع،
وجعل الإجماع في المرتبة الثالثة. قال الشافعي: الحجة كتاب الله وسنة رسوله
واتفاق الأئمة، وقال في كتاب اختلافه مع مالك: والعلم طبقات: الأولى: الكتاب.
والسنة. الثانية: ثم الإجماع فيما ليس كتابًا ولا سنة. الثالثة: أن يقول الصحابي فلا
يعلم له مخالف من الصحابة. الرابعة: اختلاف الصحابة. الخامسة: القياس. فقدم
النظر في الكتاب والسنة على الإجماع، ثم أخبر أنه إنما يصير إلى الإجماع فيما لم
يعلم فيه كتابًا ولا سنة وهذا هو الحق.
وقال أبو حاتم الرازي: العلم عندنا ما كان عن الله تعالى من كتاب ناطق
ناسخ غير منسوخ، وما صحت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
مما لا معارض له، وما جاء عن الأولياء من الصحابة ما اتفقوا عليه فإذا اختلفوا لم
يخرج من اختلافهم، فإذا خفي ذلك ولم يفهم، فعن التابعين، فإذا لم يوجد عن التابعين
فعن أئمة الهدى من أتباعهم مثل أيوب السختياني وحماد بن زيد وحماد بن سلمة
وسفيان ومالك والأوزاعي والحسن بن صالح. ثم ما لم يوجد عن أمثالهم فعن مثل
عبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك وعبد الله بن إدريس ويحيى بن آدم
وابن عيينة ووكيع بن الجراح، ومن بعدهم محمد بن إدريس الشافعي ويزيد بن
هارون والحميدي وأحمد بن حنبل وإسحق بن إبراهيم الحنظلي وأبي عبيد القاسم..
انتهى.
فهذه طريقة أهل العلم وأئمة الدين جعل أقوال هؤلاء بدلاً عن الكتاب والسنة
وأقوال الصحابة بمنزلة التيمم إنما يصار إليه عند عدم الماء. فعدل هؤلاء
المتأخرون المقلدون إلى التيمم والماء بين أظهرهم أسهل من التيمم بكثير. ثم حدثت
بعد هؤلاء فرقة هم أعداء العلم وأهله فقالوا: إذا نزلت بالمفتي أو الحاكم نازلة لم
يجز أن ينظر فيها في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا أقوال الصحابة؛ بل إلى ما قاله
مقلده ومتبوعه، ومن جعله عيارًا على القرآن والسنة فما وافق قوله أفتى به وحكم
به، وما خالفه لم يجز له أن يفتي به ولا يقضي به؛ وإن فعل ذلك تعرض لعزله عن
منصب الفتوى والحكم. واستفتي له: ما تقول السادة والفقهاء فيمن ينتسب إلى مذهب
إمام معين يقلده دون غيره ثم يفتي أو يحكم بخلاف مذهبه هل يجوز له ذلك أم لا؟
فينغض المقلدون رؤوسهم ويقولون: لا يجوز ذلك ويقدح فيه.
ولعل القول الذي عدل إليه هو قول أبي بكر وعمر وابن مسعود وأبي ابن
كعب ومعاذ بن جبل وأمثالهم فيجيب هذا الذي انتصب للتوقيع عن الله ورسوله بأنه:
لا يجوز له مخالفة قول متبوعه لأقوال من هو أعلم بالله ورسوله منه؛ وإن كان مع
أقوالهم كتاب الله وسنة رسوله، وهذا من أعظم جنايات فرقة التقليد على الدين،
ولو أنهم لزموا حدهم ومرتبتهم وأخبروا إخبارًا مجردًا عمّا وجدوه من السواد في
البياض من أقوال لا علم لهم بصحيحها من باطلها لكان لهم عذرًا ما عند الله ولكن هذا
مبلغهم من العلم وهو معاداتهم لأهله وللقائمين لله بحجته، وبالله التوفيق.
(الوجه الثالث والخمسون) قولكم: منع عمر من بيع أمهات الأولاد وتبعه
الصحابة وألزم بالطلاق الثلاث وتبعوه أيضًا.
جوابه من وجوه:
(أحدها) : أنهم لم يتبعوه تقليدًا له بل أداهم اجتهادهم في ذلك إلى ما أداه إليه
اجتهاده ولم يقل أحد منهم قط: إني رأيت ذلك تقليدًا لعمر.
(الثاني) : أنهم لم يتبعوه كلهم فهذا ابن مسعود يخالفه في أمهات الأولاد
وهذا ابن عباس يخالفه في الإلزام بالطلاق الثلاث وإذا اختلف الصحابة وغيرهم
فالحاكم هو الحجة.
(الثالث) : أنه ليس في اتباع قول عمر رضي الله عنه في هاتين المسألتين
وتقليد الصحابة - لو فرض - له في ذلك ما يسوغ تقليد من هو دونه بكثير في كل ما
يقوله وترك قول من هو مثله ومن هو فوقه وأعلم منه؛ فهذا من أبطل الاستدلال وهو
تعلق ببيت العنكبوت فقلّدوا عمر، واتركوا تقليد فلان وفلان فأما وأنتم تصرحون
بأن عمر لا يقلد وأبو حنيفة والشافعي ومالك يقلدون فلا يمكنكم الاستدلال بما أنتم
مخالفون له فكيف يجوز للرجل أن يحتج بما لا يقول به؟ !
(الوجه الرابع والخمسون) قولكم: إن عمرو بن العاص قال لعمر لما احتلم:
خذ ثوبًا غير ثوبك. فقال: لو فعلت صارت سنة.
فأين هذا من الإذن من عمر في تقليده، والإعراض عن كتاب الله وسنة
رسوله؟ وغاية هذا أنه تركه لئلاّ يقتدي به من يراه ويفعل ذلك ويقول: لولا أن هذا
سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما فعله عمر، فهذا هو الذي خشيه عمر
والناس مقتدون بعلمائهم شاؤوا أو أبوا، فهذا هو الواقع، وإن كان الواجب فيه
تفصيل.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/939)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(الحماسة السنية الكاملة المزية في الرحلة العلمية التركزية الشنقيطية)
للشيخ محمد محمود بن التلاميد التركزي الشنقيطي شهرة طائرة في جو علوم
العربية كما نوهنا بذلك مرارًا، ويتمنّى محبو العلم من العارفين بمكانة هذا الرجل
منه ومحبي الاستفادة منه لو يطبع له تأليف يزدادون به علمًا. ونبشرهم بأن رحلته
العلمية تم طبعها من عهد قريب، ونشرت في هذه الأيام وفيها مجمل من سيرة
الشيخ، وآثاره في النظم والنثر. فمن ذلك ابتداء تحصيله بالمغرب وابتداء رحلته
إلى المشرق، وذكر ما استنبطه من العلم الذي أخطأ فيه من قبله، وذكر بعض
مشهوري النحاة الذين أخطؤوا في عدم صرف عمر، وابتداء رثاثة نفسه، وذكر
مشهورات قبائل العرب، وفيها مناظرات ومكاتبات بينه وبين بعض العلماء في
المغرب والمشرق، وغير ذلك من الفوائد الكثيرة.
وقد سلك المؤلف في رحلته هذه مسلك الحرية التامة في كتابة ما يعتقده في
نفسه وفي غيره من الذين خالفوه في بعض المسائل، وأنحى على المخالفين له بشدة
عظيمة. وإذا كانت هذه الطريقة منتقدة عند بعض القارئين فهو الذي عهدناه لا
يخاف في حق اعتقده لومة لائم.
ولعلّنا ننشر من الرحلة شيئًا في المنار، وإننا نحث أهل العلم والأدب على
قراءة هذه الرحلة؛ فإنهم يجدون فيها من سيرة هذا الرجل الشهير، ومن علمه وأدبه
ما لا مطمع في الوقوف عليه لولاها.
***
(تحذير المسلمين من الأحاديث الموضوعة على سيد المرسلين)
كتاب جديد ألّفه حديثًا الشيخ محمد البشير ظافر الأزهري جمع فيه فصولاً
كثيرة في الحث على الاشتغال بالحديث، وفي وضع الحديث وأسبابه والمؤلفين فيه،
وفي ذكر الكتب والرسائل التي تكثر فيها الأحاديث الموضوعة، وفي الخطباء
المتهجمين على ذكر الأحاديث الموضوعة في خطبهم، وفي الخرافات الإسرائيلية
التي دخلت في كتب المسلمين، وأشهر رواتها، وفي الحكم والأمثال التي رفعها
الوضاعون وهي موضوعة، وفي طائفة من الأحاديث الموضوعة مرتبة على
حروف المعجم. وقد طبع هذا الكتاب في مطبعة (الراوي) فنشكر لمؤلفه عنايته،
وخدمته ونحث القرّاء على مطالعة كتابه، وهو يباع بمكتبة المنار وغيرها، وثمن
النسخة منه ثلاثة قروش وأجرة البريد نصف قرش.
***
(ديوان سبط ابن التعاويذي)
سبط ابن التعاويذي هو أبو الفتح محمد بن عبد الله توفي سنة 853؛ وهو
شاعر مشهور قال فيه ابن خَلِّكَان: (كان شاعر وقته لم يكن فيه مثله جمع بين
جزالة الألفاظ وعذوبتها ورقة المعاني ودقتها، وهو في غاية الحسن والحلاوة، وفيما
أعتقده لم يكن قبله بمائتي سنة من يضاهيه) ، وله ديوان كبير عُني بنسخه وطبعه
حديثًا الدكتور مرجليوث الإنكليزي مدرس العلوم العربية في مدرسة أكسفُرد الجامعة
في إنكلترا. وقال في مقدمته: إنه أخذه من نسختين في المكتبة البلدانية المشهورة
إحداهما مبوبة على ما وصفه المصنف في خطبته، والأخرى على ترتيب القوافي..
إلخ ما ذكره. وهو يدل على ما بذل من العناية في جمع الديوان وترتيبه.
وقد وصف الدكتور الديوان بعبارة رقيقة لا أثر للعُجْمة ولا للتكلف فيها على ما
فيها من السجع والجناس فقال: (وكم في هذا الديوان من مدحة رافعة للقدر،
وأرجوزة شارحة للصدر، ومن أهجية جارحة للأعراض وشكاية مصيبة
للأعراض، ومرثية مبكية للعيون، وقطعة مختلفة الفنون، فإن القصائد كأنها مرايا
تظهر فيها أسرار القلوب، وخفايا الخطوب، وتكاد أن تعيد الأموات، وتجعلهم
ذوي حياة، وتُظهر مَنْ غَبَر وسلف، نصب عين من خلف، حتى يشترك فيما كان
يداخلهم من المقة والمقت، عند قديم الوقت، ويشاهدهم في السراء والضراء
عنه اختلاف الشؤون، ويسمع حديثهم ذا الشجون) .
فأنت ترى هذا السجع الرقيق لا يأباه لنفسه أكتب كُتّاب العصر، فإن وجد من
الكاتبين من يرى مثل قوله: (المقة والمقت، عند قديم الوقت) من التكلف في
التجنيس والتسجيع فأنا ضامن بأن ابن الفارض يتمنّى مثله في شعره، ولا يأباه
الحريري في نثره، وقلما تجد في الأزهر من يحسن مثله.
وقد وضع للديوان فهرسين؛ أحدهما في إحصاء أسماء الممدوحين والمهجوين
وغيرهم ممن ذكر في هذا الديوان مع بيان نوع الشعر الذي قيل فيهم. وثانيهما في
أهم المعاني الجائلة في أبيات الديوان مرتبة على حروف المعجم كالأباء، وأخذ
الممدوح الجائزة دون المادح، وإعادة الدعوة العباسية في مصر، والأتراك، والتشيع
والعين، وعيوب الشعر، وقلاية الجاثليق، ونحو ذلك من المعاني التي يحتاج
إلى مراجعتها الباحثون، وهذه الفهارس التي يلحقها الإفرنج بكتبهم وما يطبعونه من
كتبنا مفيدة جدًّا لتسهيل المراجعة على الباحث والمؤلف، ومتى صرنا نعرف قيمة
الوقت فإننا نحذو حذوهم فيها، وقد طبع الكتاب بالشكل الكامل في مطبعة المقتطف،
وهو بفهارسه نحو 500 صفحة، وثمن النسخة منه غير مجلدة 36 قرشًا صحيحًا،
وثمن المجلدة تجليدًا عاديًّا 40 قرشًا، والمجلدة تجليدًا متقنًا مرسومًا بالذهب 45
قرشًا. فنشكر للمؤلف عنايته وخدمته للغتنا، وننبّه قومنا للاعتبار بذلك، فإننا صرنا
نأخذ لغتنا وآدابها عن الإفرنج.
***
(أسرار النجاح)
كتاب يشتمل على مقالات مفيدة جدًّا في الثروة والكسب؛ مؤلف من مقدمة
وثلاثة أبواب. أما المقدمة ففي أنفع النصائح والاعتماد على النفس، والمحافظة
على الوقت ومصادر الثروة، والثبات على العمل واختياره، وأهم الأعمال
الصناعية، وأما الباب الأول ففي الزراعة، وفيه ثلاثة مباحث، وأما الثاني ففي
الصناعة وفيه أربعة مباحث، وأما الثالث ففي التجارة وفيه سبعة مباحث.
واضع الكتاب إبراهيم بك رمزي صاحب جريدة التمدن، ومن قرأ جريدته
يعرف كُنه أفكاره المفيدة في أمثال هذه الموضوعات، وقد جعل الكتاب هدية إلى أبناء
الوطن، فهو يوزع عليهم بغير ثمن، وهذا دليل على غيرة المؤلف وإخلاصه في حب
الخير لبلاده؛ ولكن قومنا مغلولو الأيدي، ومقيدو الأرجل، فلا يستطيعون السعي،
ولا يقدِرون على الكسب بالهمة التي يريدها أمثاله من النبهاء إلا بعد فك تلك الأغلال
وكسر تلك القيود، ولا بد لذلك من جهاد في عالم العمائم ينتصر فيه من يدعو إلى
الأصلح في عمارة البلاد، وترقية العباد. ولا شك عندنا في أن مثل هذا الكتاب من
أنفع الكتب التي نشرت فإن الناس إذا علموا وجوه الفوائد يقوون على محاربة التقاليد
والعوائد.
***
(الزهرة)
جريدة أسبوعية صدرت في تونس زمنًا، ثم احتجبت زمنًا، وقد برزت ثانية
من كمها فنرجو أن يعبق عطرها، ويعم نشرها.
__________(6/943)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحرب بين اليابان والروسية
الروسية دولة تشب شبابًا عجبًا، مساحة أرضها تناهز سدس الأرض؛ ولكن
معظمها في أقصى الشمال حيث البحار جامدة من شدة البرد، لا يُنتفع بها، وسكانها
مائة ألف ألف أو يزيدون عشرة آلاف ألف ونيفًا، ونحو ثمانين ألف ألف منهم
خاضعون للكنيسة الشرقية، يتقلدون المذهب الأرثوذكسي مذهب الحكومة الرسمي.
وجيشها في وقت السلم زهاء 1896 ألفًا، ويقال: إن في إمكانها تجنيد أربعة ملايين
ونصف إذا وجدت المال الكافي لذلك. ونقول: إذا وجدت المال فإنها لا تجد الضباط
والقواد الذين يديرون نظام هذا الجيش مجتمعًا؛ ولكن لها من العسكر مددًا لا ينفد في
حرب أي دولة من الدول الكبرى. وقد ارتقت أساطيلها في السنين الأخيرة وكثرت
حتى صارت قوتها البحرية في الدرجة الثالثة أي بعد إنكلترا وفرنسا.
ويقال: إن عدد سفنها الحربية يزيد على مائتي سفينة متفرقة في البحر الأسود
وبحر قزوين وبحر البلطيك وبحر الصين؛ ولكن السفن الجديدة القوية التي يعتمد
عليها في الحرب لا تزيد على خمسين سفينة. ثم إن عسكر هذه الدولة في البر والبحر
متمرن على القتال والنزال، مستعد له في كل حال، ومالية الروس في ارتقاء مستمر
ولهم خزينة مخصوصة للحرب. نعم، إن الأمة الروسية في ظلمات من الجهل،
ودولتها في غمرات من الاستبداد؛ ولكن كان من الحكمة أن بدأت بإصلاح العسكرية
ثم المالية، وأما الإدارة والمعارف فلا يتأتى إصلاحهما في مثل تلك البلاد الواسعة
والأمة العريقة في الجهل إلا بالتدريج البطيء، ولهذه الدولة رجال لا يبارون في
السياسة؛ فهم في الدرجة الأولى؛ ولذلك نالت بين الدول مقامًا عليًّا، وقد قلت منذ
سنين: إن روسيا كشاب في سن العشرين، وألمانيا كشاب في الثلاثين، وإنكلترا
ككهل في الأربعين، وفرنسا قد أشرفت على الخمسين أو دخلت فيها.
أصبحت هذه الدولة القاهرة مرهوبة الشذا من دول أوربا القوية، ولقد حالفتها
دولة فرنسا فكان حديث الأمم أن فرنسا على عظمتها وغناها وقوتها وعلمها هي
التابعة وروسيا هي المتبوعة. أليس من العجيب أن تتجرأ على هذه العظمة
والجبروت دولة شرقية حديثة المدنية كدولة اليابان التي لا يكاد يزيد عدد رعيتها
على ثلث عدد الروسيين إلا قليلاً؟ أليس من العجيب أن يغاضب هذا الطفل الصغير
(كما يقول القيصر) ذلك الشاب الممتلئ قوةً وشبابًا، وزهوًا وإعجابًا، ثم يواثبه
فيخيفه ولا يخاف منه؟ !
بلى، إن هذا من مواطن العجب، عند من لا يعرف السبب، عند هؤلاء
الأفراد الذين لا يعرفون معنى حياة الأمم وعزة الدول، وإن كانوا من الكثرة بحيث
يطلق عليهم لفظ (أمة) - عند الذين لهم هيئات حكومات يطلق عليها لفظ (الدولة) - عند الأفراد الذين لم يشعروا بأن في الكون سنة إلهية سمّاها الناس (تنازع البقاء)
وهي تقضي بنمو الحي القوي بتغذيه بالضعيف والميت، وإنما لم يشعروا؛ لأنهم لم
يذوقوا (ومَن ذاق عرف) ؛ أما الميت منهم فلم يذق لأنه ميت، وأما الضعيف فلم
يشعر؛ لأن معدته لا تقبل الغذاء فإرادته لا تطلبه فهو في معنى الميت إلا أنه أشقى
منه بما بقي له من الشعور بالألم عند تغذي الأصحاء به.
أظن أن القارئ فهم المراد؛ لأنه يعرف أن أكثر الذين يعيش معهم لا يحسون
ولا يشعرون بأنهم طعام للأمم الحية ومن عساه يحس منهم بذلك فإنه يتألم ولا يكاد
يبدي حراكًا؛ لأنه إذا قوي على الحركة صاح به سائر الضعفاء واستعانوا عليه
بالأموات وقالوا جميعًا: هلموا به فإنه يريد أن يغير ما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا من
جراثيم ما نحن فيه (أي: من الضعف والموت الزؤام فإنهم في ذلك دون سواه) فهذا
يرميه بكسر القيود، وذلك ينبذه باعتداء الحدود، وفلان يقول: إنه أجاز لنا أن نأكل
مع الآكلين. وفلان ينادي: بل أجاز لنا أن نلبس من لبوس السائدين، لقد أوقعنا في
البلاء المبين، وسلب منا بإباحة الأكل واللباس الدنيا والدين. فإذا أجاز لهم مع
الغذاء والكساء أن يكسبوا مع الكاسبين، فقد استحق عندهم أن يكون من
المخرَجين.
أمثال هؤلاء لهم أن يعجبوا من مواثبة دولة توصف بالشرقية مثلهم لأعظم دولة
في الغرب والشرق؛ ولكن الذين يعرفون معنى الحياة لا يعجبون فإنهم يعلمون أن
هذه الأمة قد ارتقت في معارج الحياة الاجتماعية فالتمست الغذاء، والحي الصحيح
يتغذى دائمًا بغيره - فصادفت المقاومة فسلت الحسام ولجأت إلى القوة فحاربت دولة
الصين التي يبلغ سكان بلادها زهاء ثلث البشر فقهرتها واستولت على طائفة من
بلادها تسمى كوريا قريبة من اليابان، وهي تستمد منها غلاتها وتنفق فيها تجارتها
وعليها كان النزاع، وتنازلت الصين لليابان بعد الحرب عن ميناء (بورت آرثر)
وطاليانوان، وهما الثغران اللذان يرن ذكرهما كل يوم في الآذان؛ ولكن روسيا
حسدتها على هذه النعمة وخافت مع غيرها من الدول الأوروبية عاقبة اليابان فاتفقت
مع ألمانيا وفرنسا على حرمان الظافر من ثمرة ظفره وقضت هذه الدول الثلاث على
اليابان بالخروج من منشوريا وكانوا تغلغلوا فيها وباستقلال كوريا (وذلك بعد
الحرب سنة 1895 م) ، وفي أثناء ذلك احتلت الروسية منشوريا بحجة تسوية
مسألة اليابان والمحافظة على استقلال الصين الذي عقدت المحالفة الثلاثية لأجله؛
ولكنها لم تخرج منها بعد خروج اليابان ولم تكتفِ بذلك حتى اتفقت مع الصين على
إصلاح ثغر بورت أرثر وطاليانوان ثم طفقت تمد السكك الحديدية في منشوريا،
وتقيم فيها الحصون والقلاع بحجة حماية السكة الحديدية، وقد خاطبتها اليابان في
الجلاء عن منشوريا (حفظًا لاستقلال الصين) فماطلت وسوَّفت، ثم وعدت وعدًا
إلى أجل مسمى فانقضى الأجل ولم تفِ بالوعد فعلمت اليابان أن السعي في إخراجها؛
إنما كان لأجل الحلول في محلها والاستئثار بغنيمتها فطفقت تستعد للكفاح،
وتطالب الروسية بالوفاء بوعدها مع شروط أخرى بغاية الإلحاح، ولما أبطأت عليها
بالجواب آذنتها بقطع الصلات السياسية، وابتدأتها بالحرب بحرية وبرية.
أما قوة اليابان البرية فقد قالوا: إنها تستطيع أن تجهز في زمن السلم زهاء ثلاث
مائة ألف مقاتل. وأما أساطيلها فهي أقل من مجموع الأساطيل الروسية سفنًا؛ ولكنها
في الغالب أسرع منها سيرًا وأبعد رميًا وعدد السفن الحربية عندها على اختلاف
أنواعها ثلاث وثلاثون يقابلها خمسون عند عودتها؛ ولكن هذه لا تستطيع إرسالها
كلها إلى الشرق الأقصى فاليابان هناك أقوى أسطولاً والفحم الحجري عندهم أقرب
تناولاً لكثرته في بعض جزائرهم، وعندهم حياض كثيرة لإصلاح السفن التي
يعرض لها في الحرب التلف في آلاتها أو في ذاتها. وقوة اليابان البحرية سهلت
عليها إنزال جنودها البرية حيث تشاء من مواني كوريا وإمدادها بما تحتاج إليه من
المؤن والذخائر. وقد حصرت الأسطول الروسي في مرفأ ميناء بورت أرثر بعد أن
دمرت بعض مدرعاته في مهاجماتها تدميرًا.
لهذه الأسباب ولصعوبة إرسال الجنود مع ذخائرها ومؤنها من قلب البلاد
الروسية إلى منشوريا يعد الناس الدولتين المتحاربتين متكافئتين فبعضهم يرجح
النصر لهذه، وبعضهم يرجح لتلك ومنهم من يفصل في ترجيحه فيقول: إن الظفر
يكون في أول الأمر لليابان في البر كما كان لها في البحر؛ ولكن العاقبة تكون
لخصمها؛ لأن مدد الجنود الروسية لا ينفد وعندها المال الكثير الذي يمكنها من
مواصلة الحرب مدة سنة كاملة من غير أن تحتاج إلى القرض ثم إن الاكتتاب من
رعيتها للمعاونة على هذه الحرب قد بدأ بصفة مدهشة؛ أي: إنه بدأ بالملايين من
الروابل (قيمة الروبل عشرة قروش مصرية) فبماذا ينتهي؟
أما ميل الأمم إلى المتحاربتين فمختلف؛ فالإنكليز والأمريكان يميلون إلى
اليابان ويقال: إن الإنكليز حرضتها على الحرب، وفرنسا تميل إلى حليفتها روسيا.
وأما ألمانيا فقد اختلفت الرواية عنها والراجح عندي أنها تودد إلى روسيا ظاهرًا وتود
ضعفها باطنًا؛ لأنها جارتها وحليفة عدوتها (فرنسا) وقد ظهر ميل الإنكليز
والأمريكان لليابان في جرائدهم كما ظهر ميل فرنسا لروسيا في جرائدها؛ بل إن
شركة روتر البرقية الإنكليزية تعتني بنقل الأخبار التي تفيد خذلان الروسيين،
وشركة هافاس الفرنسية بالعكس.
وقد بالغت الجرائد الإنكليزية في الطعن والتنفير من روسيا حتى خافت
حكومتها مغبة ذلك وطفق الملك يتودد إلى القيصر ويكثر مقابلة سفيره في لندن
والإقبال عليه. وأما المسلمون عامة فإنهم يودون ضعف روسيا؛ لأنها أكبر خطر
على دولهم المستقلة الثلاث - تركيا وإيران وأفغانستان -؛ ولكن السلطان عبد الحميد
افترض ارتباك روسيا واشتغالها بأمر الحرب فبالغ في التودد إلى القيصر، وهي
سياسة حكيمة بصرف النظر عمّا يقول كبراء الترك من وجود اتفاق سري بينهما فإن
إظهار الميل عن روسيا إلى اليابان يحفظ قلب القيصر ورجال دولته على
تركيا فيضمرون الانتقام منها في أول فرصة من حيث لا ينفع هذا الميل السلطان ولا
الدولة من وجه آخر.
وأما النصارى في البلاد العثمانية فهم أشد الناس ميلاً إلى روسيا لا سيّما الروم
الأرثوذكس منهم؛ والسبب في ذلك النزعة الدينية؛ ولكنك تجد أفرادًا منهم يميلون
إلى اليابان؛ لأنها دولة شرقية قد ارتقت في العلم والنظام والصناعة فهم يفتخرون
بها؛ لأنهم يعدون الشرق كله وطنهم والرابطة الوطنية أعلى في نفوسهم من الرابطة
الدينية؛ بل يرون أن الرابطة الدينية ضارة في الدنيا وغير نافعة في الآخرة! فإنها
هي التي حالت دون مساواتهم بمن يعيشون معهم في بلاد واحدة من كل وجه. وهذا
الاعتقاد فاشٍ في المتعلمين من النصارى؛ ولكن لم يغلب وجدان الأكثرين كما غلب
أفكارهم - فهم يميلون إلى مشاركتهم في الدين - وإن كانوا غير معتقدين. ولو وجد
في المسلمين عدد كثير يميل إلى هذه الوطنية، ولو مع المحافظة على دينهم لكثر
عدد النصارى الوطنيين وتضاعف. وليس من موضوع بحثنا أن نطيل في حديث
الوطنية، وإنما ذكرنا هذه المسائل؛ لأنها من العبر التي يصح أن نستفيدها من تأثير
الحرب فذلك أنفع لنا من معرفة عدد الذين يخفرون سكة حديد منشوريا ومعرفة طول
نهر (يالو) وعرضه.
وأهم مباحث هذه الحرب مبحث عاقبتها وتعديها إلى الدول الأخرى، ويظن أن
أوربا كلها يسيئها أن يكون في الشرق دولة قوية عالمة صناعية، ويسرها أن يتمزق
شمل الجنس الأصفر كما تمزق شمل المسلمين؛ إذ لم يكن لها منازع في السيادة
على الشرق غير المسلمين، وما أمنت جانبهم باستيلائها على أكثرهم وتعصبها على
باقيهم إلا نجم لها في الشرق نجم آخر ينازعها في هذه السلطة؛ لذلك يظن أن لا
يجني اليابان من انتصارهم - إن هم انتصروا - أكثر مما جنوا من انتصارهم على
الصين، وأن أوربا لا تمكنهم من توسيع نطاق ملكهم في الشرق ولا من تمدين الصين
وتعليمها إلا أن تشاء إنكلترا وأمريكا مقاومة روسيا بهما.
وقد بحث السياسيون منهم في عاقبة ارتقاء اليابان وأنذروا أوربا الخطر من
الجنس الأصفر إذا اجتمع شمله واتحدت كلمته. وأظن أن فرنسا لا تتورط في الحرب
لأجل روسيا إذا هي انكسرت، وإذا هي تورطت فإنها تورط إنكلترا، وهنالك
الخطر العظيم على أوربا كلها وعلى آسيا، وعقلاء الدول الأوربية يتقون هذا الخطر
أشد التقوى ولذلك اتفقوا على حل (المسألة الشرقية) بالمطاولة لا بالمناجزة
والأقرب إلى المعقول أن يحتل منشوريا وكوريا معًا أو الأولى فقط جيش مؤلف من
دول أوربا الكبرى؛ لتبقى السيادة للأبيض على الأصفر، ولتؤمن إغارة روسيا على
هذه البلاد مرة أخرى، وإلا فإن الحرب تستمر سنين طويلة.
وأما إذا انتصرت الروسية عاجلاً أو آجلاً فهل تترك لها أوربا وأمريكا مملكتي
منشوريا وكوريا غنيمة باردة وترضيان بأن تكون لها السيادة العليا في الشرق
الأقصى والكلمة النافذة في الصين؟ كلا، إن هذا بعيد من المعقول، وإن الخطر في
انتصار روسيا أشد من الخطر في انكسارها، وإنه ينتظر حينئذ أن تهب الصين إلى
مساعدة اليابان، فإذا ظهرت روسيا على الجنس الأصفر كله فللدول طريقتان:
إحداهما سلمية: وهي الاتفاق على إلزام روسيا بجعل منشوريا وكوريا تحت حماية
الدول الكبرى واحتلالهن إياها بجيش مختلط، وإلزام اليابان بالغرامة التي تثقل
كاهلها وأخذها بالعقوبات التي لا ينهض لها معها رأس، ولا يرتفع لها فيها صوت.
والثانية حربية تسلك إذا تعذر الاتفاق بين الدول ذات الشأن وهي إنكلترا والولايات
المتحدة ثم ألمانيا وفرنسا، أو أبت عليهن روسيا الدخول في الأمر، ولا بد أن تشد
فرنسا عضدها حينئذٍ، ولا مندوحة لإنكلترا والولايات المتحدة عن إمداد اليابان
بالعساكر البرية والأساطيل البحرية إن بقي أسطول روسيا في الشرق حيًّا إلى أن
تتمكن من تعزيزه بأسطول بحر البلطيك وماذا يفعل الدب الروسي حينئذ؟
إذا كانت المحالفة بين روسيا وفرنسا تقضي على هذه بإسعادها في الحرب إذا
أسعدت خصمها دولة أخرى فهناك الطامة الكبرى، وتكون الكلمة العليا في أوربا
لمن تنصره ألمانيا؛ فإن أسطول فرنسا في البحر المتوسط لا يقف أمام أسطول إنكلترا
فيه؛ لأن هذا أقوى أساطيل إنكلترا، وهي تستطيع أن تعززه حالاً بأسطول بحر
المانش وأسطول البحر الشمالي. والأقرب إلى التصور أن تنتصر ألمانيا يومئذ
لإنكلترا على عدوتها الظاهرة وهي فرنسا، وعدوتها الخفية وهي روسيا وتجعل
السيادة في العالم بين الجرمانيين والسكسونيين فإنهم أقرب نسبًا ومذهبًا.
نقول هذا على تقدير وقوع ما تحذر منه أوربا وتتوقاه، على أنها تتوقعه وتخشاه
والأرجح أن الدول تقدر على إلزام الغالب والمغلوب بما تحكم به؛ وأنها تكتفي
بإضعاف الدولتين المتنازعتين في السيادة على الشرق الأقصى، وتجعله مرتعًا مباحًا
لجميع الأوروبيين والأمريكيين، ويكون النجاح للسابقين، ويظن بعض الناس هنا
أن الحرب العامة تفيد الدول المهضومة كالدولة العثمانية وإيران وبعض الدول
الصغيرة في أوربا، ولكن المتفكرين يرجحون أو يعتقدون بأن الحرب العامة لا
تنتهي إلا بانتهاء المسألة الشرقية، وابتلاع الدول القوية للضعيفة في تلك الفرصة ,
وقانا الله شرها وألهم الأقوياء ما فيه أمن الضعفاء.
هذا ما سنح لنا من الأخبار والآراء في هذا المقال لم نقصد به التفكيه والتسلية
ولا تدوين تاريخ الحرب ولا التحزب السياسي بالانتصار لدولة دون أخرى، وإنما
نقصد التنبيه والإيقاظ للاعتبار بأحوال الأمم الحية وأعمالها، وأمانيها وآمالها، لعل
القارئ يتدبر فتحن نفسه إلى العزة والقوة، ويتمنّى أن تكون أمته حية قوية، ثم
يقوده التمني إلى التفكر في وسائله ليصير رجاءً وأملاً، يستلزم سعيًا ويقتضي عملاً،
وليت شعري أمن التمني أم من الرجاء ما يفكر به الأكثرون من استفادة الدولة
العثمانية والدولة الفارسية من هذه الحرب التي يرون أنها تشغل روسيا عنهما
عشرين سنة؟
سئل عظيم من رجال إحدى الدولتين أتستفيد دولتا الإسلام - تركيا وإيران -
من هذه الحرب؟ فأجاب الرجل العظيم: هل استفاد من حديثنا هذا النائم (وأشار
إلى رجل نائم في المجلس) واتفق أن استيقظ النائم عند الجواب فقال السائل: ها قد
استيقظ النائم. قال: نعم؛ ولكن النوم لا يزال ملء عينيه.
كم من فرصة سنحت لنا وخفت، ثم تولت وخفيت، ونحن في طريقنا
سائرون، وبحالنا راضون، كتبنا (في 30 جمادى الثانية سنة 1317 الموافق 4
نوفمبر سنة 1899) مقالة عنوانها (الفرصتان) جاء فيها ما نصه كما في
(ص 532) من مجلد المنار الثاني:
وأما فرصة الدولة العلية فهي اشتغال روسيا فإنكلترا وسائر دول أوربا
الكبرى بالمسألة الصينية؛ وإنما الخطر على الدولة من روسيا التي يعرف الناس أن
سياستها التقليدية تقتضي محو اسمها من لوح الدول؛ وضمها إلى الإمبراطورية
الروسية العظمى، أو من اتفاق أوربا على تقسيمها. يدل على شغل روسيا عنها
بالطمع في الصين الفيحاء البعيدة الأرجاء أن هذه الدولة قد عزمت على تعزيز الخط
الحديدي العظيم الذي أنشأته في سبيريا (وطوله 4695 ميلاً) بخط آخر ينشط من
الطريق الأعظم في بلاد منشوريا التي هي في الشمال الشرقي للصين ممتدًّا إلى
ميناء بورت آرثر وينو شونغ ويقرب أن تمده من هذه إلى بكين عاصمة الصين،
ويقدر المال اللازم لهذا النشاط بعشرين مليون جنيه كما قدر المال اللازم لطريق
سبيريا الأعظم بستة وخمسين مليون جنيه إذا مدّ عليه خط واحد.
وإنها قد قررت إنفاق 9 ملايين جنيه لتعزيز أسطولها بالبوارج من الطراز
الجديد، فخمسة وثمانون مليونًا من الجنيهات من دولة لا تعد من الدول الغنية ليس إلا
لتلك الغنيمة الكبرى التي تتوقعها في الصين، ويؤكد ذلك تقوية الأسطول مع أمنها
على ثغورها في أوربا من الدول البحرية، وعلمها بأن اليابان لا تقدم على محاربتها
فتخاف منها على فلاديفوستك وميناء بورت آرثر، ولا يخشى على هاتين
الحاضرتين من غير اليابان، هذا ولا بد لإنكلترا وفرنسا وألمانيا من مزاحمة روسيا،
ولا بد أن يمتد اشتغالهن بتلك المملكة إلى سنين كثيرة.
فيجب على الدولة العلية أن تشتغل بنفسها ما دام الطامعون في شغل عنها فقد
مضى عليها نحو نصف قرن، وهي مشغولة بالسياسة الخارجية عن الإصلاح
الداخلي والدول الأوروبية تطالبها بالإصلاح، وهي التي تحول بينها وبينه. وقد
بيّنا رأينا في الإصلاح الواجب من قبل في مقالات نشرت في المنار، وأخرى في
المؤيد وأهمها: تعميم التعليم العسكري، وتقوية الأسطول، ومساعدة الرعية على
تعميم المعارف، وانتقاء العمال والحكام من الأكْفَاء، والدولة العلية وسلطانها الأعظم
أعلم منا بما ينبغي ويجب من ذلك اهـ.
هذا ما قلناه منذ سنين والدولة لم تعمل شيئًا منه يُذكر؛ ولكن اليابان استعدت
في هذه المدة وابتدأت روسيا بالحرب، وقد نقلت الجرائد الأوروبية من أقوال قيصر
روسيا وكبار قواده ما يدل على اعترافهم ببسالة هذه الدولة واستعدادها، وأنهم لا
يقدرون على الانتقام منها إلا بعد زمن طويل يتم فيه استعدادهم. ونقلت من أقوال
اليابانيين وأناشيدهم ما يدل على احتقارهم الروسيين ورميهم إياهم بالجهل والظلم
واعتقادهم بأنهم هم الغالبون بالعلم والنظام ودلائل النصر بادية لهم: {فَاعْتَبِرُوا يَا
أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
وبقي علينا أن نشير إلى ما يجب على دولة إيران فإن الخطر عليها من روسيا
أشد منه على غيرها؛ وربما يكون أول شيء تتوجه إليه روسيا بعد ذهاب منشوريا
من يدها إذا هي غلبت عليها أن تأخذ بلاد فارس عوضًا عنها فتستر خذلانها وتنكي
إنكلترا، فالواجب على دولة إيران أن تعتني قبل كل شيء باتخاذ الوسائل لتسليح
أهالي بلادها وتمرينهم على رمي الرصاص؛ ليكونوا كلهم مدافعين إذا دخل العدو
بلادهم كما هو حكم الشريعة الإسلامية، وأن تعتني أشد الاعتناء بالتعليم العسكري،
واستجلاب الأسلحة والذخائر الجديدة بقدر الطاقة، وأظن أن إنكلترا تساعدها في هذا
الوقت إذا أرادت ولها أن تطلب ضباطًا من أختها تركيا فقد مضى زمن التقاطع
والتدابر.
وأما أفغانستان فهي غنية عن التنبيه والإنذار فإن عنايتها بالتعليم العسكري
واستعمال السلاح لا مزيد عليها، فإذا انهزمت روسيا من أمام اليابان؛ فإنها لا تقوى
على مهاجمة الأفغان، لما عليه هؤلاء من شدة الباس، وصعوبة المراس، ووعورة
البلاد، وحسن الاستعداد.
__________(6/946)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دعوى الخلافة
تعريب مقالة نشرت في جريدة (ترك) الغراء
إن دعوى الخلافة هي من أهم الأسباب الداعية لتشتت شمل المسلمين،
والمانع الوحيد لوفاقهم ووئامهم وما هي بالشيء الجديد، وإنما بدأت منذ زمان سيدنا
علي ومعاوية ونمت بعدئذ وتشعبت إلى شُعب كثيرة. واشرأبَّت نحوها أعناق الأمم
الإسلامية بأسرها حتى إن كل أمة من هذه الأمم لا يروقها وجود الخلافة عند غيرها،
ولا تراها صالحة إلا لها. فكم من دماء على هذه المسألة قد أريقت، وكم أرواح
زهقت، وأطفال يُتمت، ونساء رملت، وكم أضرت هذه الدعوى بالإسلام من
الأضرار البليغة المادية والأدبية.
وأكثر الكل تبجحًا بدعوى الخلافة هم العرب؛ إذ يتخذون انتسابهم إلى النبي
صلى الله عليه وسلم، ونزول القرآن باللغة العربية، ومدنية العرب بعد الإسلام
حجة على تأييد مدعاهم. ولا يروقهم كون الخلافة بيد الترك الذين تشرفوا بالدين
الحنيف منذ سبعة قرون ولا يرونها لائقة بهم. ومع ذلك فإن الوفاق والوئام لا أثر
لهما بين العرب. فترى مثلاً أن أهل الحجاز يريدون أن يكون شريف مكة هو
الخليفة وأن الخلافة حقه، لا ينازعه فيها منازع. كما أن كل شيخ مشايخ عربان
اليمن يريد الخلافة لنفسه.
أما السوريون فإن أفكارهم تناقض هذه الأفكار كل المناقضة. ولو عطفنا النظر
إلى المسلمين القاطنين في إفريقية لرأينا المراكشيين يدعون أن سلطانهم من نسل
النبي وأنه أحق بالخلافة من غيره. أما سكان وادي النيل فإنهم يريدون أن تكون
القاهرة مركزًا للخلافة كما كانت في العصور الغابرة فتراهم لا يألون جهدًا في تعميم
هذا الفكر بين أفراد المصريين. وأما الإيرانيون فإنهم لا يعتقدون بصحة خلافة الذين
تولوا الخلافة بعد أولاد الرسول، ولا يقبلون غيرهم أحدًا. فعلى ظني أن هذه
الدعاوى جميعها مبنية على أسس واهية، وهذه الأفكار أوهام باطلة، وهذه الأقوال
غير صحيحة.
فأول شرط من شروط الخلافة هو أن تكون الأمة التي تبغي حمل تبعة هذا
المنصب على عاتقها، هي أكثر الأمم الإسلامية جاهًا وأبعدهم في الحضارة شأوًا،
وأقدرهم على درء العدو عن حوزة الخلافة المقدسة، وهو ما يقضي به العقل
والشرع. فإذا نظرنا إليهم نظرة الناقد البصير، فهل نرى غير العثمانيين منهم أمة
تحوز هذه الأوصاف جميعها؟ كلا؛ فالخلافة لا تقاس بباباوية الكاثوليك. ولم تكن
وظيفة الخليفة محصورة في رفع الأكف والدعاء لحفظ الخلافة الإسلامية وصيانتها.
بل إن من الواجب على الخليفة أن يريق الدماء ويبذل الأموال للذود عن حقوقها.
فلا المراكشيون الذين لا يزالون على ما كانوا عليه من الهمجية منذ القرون
الوسطى، ولا حملة الرمح ورماة السهام من قبائل أفريقيا، ولا شريف مكة الذي لا
يهمه سوى سلب الحجاج أموالهم، ولا أصحاب الأوهام الباطلة من المصريين؛
بقادرين على القيام بحقوق هذا المنصب. ولا يمكن أن يقوم بأعبائه غير العثمانيين
الذين تؤهلهم له حضارتهم وموقعهم الجغرافي وبسالة جنودهم وانتظامها. وما أتوه
من الخدم الجزيلة، وما أراقوه من الدماء في سبيل هذه الغاية في العصور الخالية؛
لهو أقوى دليل على ما قدمناه؛ ولكن هل استفادوا مقابل ذلك شيئًا من الفائدة المادية؟
كلا ثم كلا. فلو لم يحملوا تبعة هذا المنصب على عاتقهم لاستراحوا من هذا
العناء، ولأمضوا حياتهم السياسية بكل راحة وهناء! ولما تسلطت النصارى -
حتى الأميركيون منهم- على الأتراك، ولما ترقبوا الفرص لإيقاع الأذى بهم.
وكل ذلك لم يكن إلا لكون الأتراك هم عضد الإسلام الأقوى، وجميع السهام
المصوبة نحو الإسلام لا تقع إلا على رؤوس الأتراك! أما ما يقال من أن الترك لم
يقوموا بأعباء هذا المنصب حق القيام فهو صحيح. ولكن ليبرز من يقدر على القيام
بأعبائه أكثر منهم على شرط أن يؤيد أقواله بالأفعال. وحينئذٍ يرى العثمانيين
مستعدين لتسليم هذه الأمانة المقدسة والانزواء في زاوية الراحة.
أما إذا قال قائل: إن الحكومة العثمانية لا تترك للسوريين واليمانيين
والبغداديين مجالاً فنقول: مَن ذا الذي يا ترى غلّ أيدي المراكشيين والتونسيين
والمصريين عن العمل؟ ولكن هيهات: (طبيب يداوي والطبيب عليل) ! اهـ.
(المنار)
قول الكاتب الأديب: إن دعوى الخلافة كانت بلاءً على المسلمين، وأنها
أضرت بهم كثيرًا صحيح، وكان يجب عليه أن يبحث في تلافي هذا الضرر لا أن
يهيجه بتعظيم قومه وتحقير سائر المسلمين على اختلاف أجناسهم وبلادهم. وكان
يجب عليه أن يمثل لهم قوة الدولة العثمانية عزًّا لهم وشرفًا لا عارًا عليهم وهضمًا،
إن الكاتب أخطأ في سيره بمقالته، وإننا نبين له خطأه ووجه الصواب الذي كان ينبغي
له أن يعرفه، وأن يعرف الناس به وهو أنه لا يوجد في سوريا ولا في مصر من
يفكر في جعل خليفة المسلمين سوريًّا أو مصريًّا أو بغداديًّا. وأما الكلام في المسألة
فقد وجد في مصر وحدها من أفراد من أهل البطالة الذين يكسبون المال والجاه من
الآستانة ومصر بكتابة التقارير للإيهام والتغرير، وقد كتبوا أوراقًا ونظموا
أشعارًا يوهمون بها السلطان بأن خديو مصر يسعى للخلافة سعيها وأن الأمة
المصرية تابعة له. ويريدون بهذا التقرب إلى السلطان تارة، وإلى الخديو أخرى
على أنهم يخوفون السلطان منه؛ ليقضي له حاجاته عنده، وحال هؤلاء معلوم وهم
يوقنون بأن الأمة المصرية لا تفكر في هذا المعنى، ولا ترجوه فضلاً عن كونها تسعى
إليه.
هذا ما نعلمه علم اختبار في القطرين ونعرف برواية الصادقين أن أهل مكة
والمدينة لا يريدون أن يكون أميرها خليفة للمسلمين، وكذلك البلاد العربية كلها تود
أن تكون دائمًا تحت رعاية الدولة العثمانية وسيادتها بشرط أن تقيم فيها العدل، وأما
الذين يخرجون في اليمن فهم معدودون، يستفزهم ظلم أحكام الترك فيهيجون، ولو
حكموا بالعدل لما كانوا يثورون.
فهذا ما نقوله بناءً على اختبار من نثق بهم كصديقنا محمد باشا عبد الوهاب أمير
دارين وصديقنا المرحوم الكواكبي الذي ساح في الجزيرة واختبرها حق الاختبار؛
ولكن العرب لا يصبرون على الضيم، فإذا ساءت معاملتهم ساءت أعمالهم. وأما أهل
مراكش فلا علاقة لهم بالسلطة التركية. ودعوى سلطانهم الخلافة كدعوى سلطاننا لم
تحمل أحدهما صاحبَها على منازعة الآخر، وأما كونها مانعة من اتحادهما فالملوم
فيه أعلم السلطانين وأحكمهما؛ إذ يرضى أن يكون اللقب سبب التفريق بين رؤساء
المسلمين بلا فائدة. وأما الإيرانيون فعذرهم أوضح الأعذار؛ لأن المسألة عندهم دينية
محضة، فلا يمكن مطالبتهم بترك اعتقادهم إلا بالحجة الدينية. ومقالة جريدة (ترك)
سياسية لا دينية.
فعلم من هذا أن تصوير الكاتب الفاضل مسألة الخلافة غير صحيح من جهة
الواقع؛ أي: إنه ليس في المسلمين من ينازع الترك بالفعل لأجل لقب الخلافة وهذا
هو روح المسألة.
وأما قوله: إن العرب يحتجون على كونهم أحق بالخلافة بكذا فغير صحيح
أيضًا؛ وإنما يحتجون بالأحاديث الصحيحة المتفق عليها الناطقة بأن الخلافة في
قريش، وهي حجة لم يخالفهم فيها أحد من علماء الترك فهذه كتبهم في العقائد
والفقه والحديث متفقة مع كتب علماء العرب على اشتراط القرشية في الخلافة. ولا
يقدر أن يقول: إن حديث الرسول من (الأوهام الباطلة والأسس الواهية) ؛ وإنما
الباطل ما ذكره هو في شروط الخلافة من الجاه والحضارة والموقع الجغرافي، نعم،
إن القوة هي المدار الحقيقي؛ ولكن يجب على المسلمين أن يجعلوا قوتهم مؤيدة
للحق الذي جاءت به شريعتهم وحجة له، لا خاذلة له وحجة عليه. ولو كانت
الحضارة شرطًا لما صحت خلافة الراشدين.
وأما قوله: هاتوا لنا من يقدر على القيام بحقوق الخلافة من غير الترك
لنسلمها إليهم، فجوابه أن الخلافة ليست حقًّا شائعًا منتشرًا بين أفراد الشعب التركي
الممتاز على جميع الشعوب بحضارته فيقال ذلك؛ وإنما هي منصب تقلده الأمة
لرجل واحد، وهذا الواحد يجب أن تقيده الأمة بشريعتها، فإذا كان ما يقوله الكاتب
صحيحًا فليختر الترك أو ليربوا رجلاً قرشيًا من آل البيت على صفات الخلافة،
ويجعلوه بقوتهم التي وصفها خليفة للمسلمين، ولا يتوقف هذا على ما يُعجِّز الكاتب به
الشعوب الإسلامية من مطالبتها بالاستعداد لإزالة قوة الترك وإيجاد خلافة بقوة
أخرى.
وخلاصة القول: إن البحث في الخلافة والخليفة من اللّغو الذي يُخشى ضره،
ولا يُرجى نفعه. وإن الذي يجب على كل مسلم في هذا العصر هو أن يؤلف بين
المسلمين في حكومتهم وأفرادهم، وأن لا يجعل هذا اللقب سببًا للتفريق، ولا
اختلاف اللغات سببًا للاختلاف. وأنه لا يضر الترك شيء مثل جعلهم التركية
جامعة لهم يفتخرون بها على سائر المسلمين وتعمدهم إضعاف الشعوب الإسلامية؛
ليمتازوا بالقوة وحدهم، فإنهم إذا أمسوا وحدهم فلا بد أن تبتلعهم أوربا وقد رأوا العبرة
بالممالك التي انفصلت منهم، والممالك التي تهدد بالانفصال. والكاتب الفاضل يعلم
أن القوة التي افتخر بها ليست مؤلَّفة من الترك وحدهم؛ بل منهم ومن العرب
والأكراد والأرناؤوط وغيرهم. فعليه أن يحث قومه على مساواة جميع الشعوب التي
تتألف منها الدولة بأنفسهم في بلاد الدولة، وأن يتقربوا من سائر الشعوب الإسلامية
بخدمة الإسلام نفسه؛ أي: بإحياء لغة كتابه المنزل من عند الله تعالى على
رسوله العربي، وبإقامة شريعته العادلة، وبتأمين حرم الله وحرم رسوله، فإن عار
سلب الشريف أموال الحجاج، إنما هو على الدولة التي تحكم الحجاز لا على
الشريف الذي هو أحد عمالها الذين يوليهم سلطانها (خادم الحرمين الشريفين) فإذا
فعلت الدولة ذلك - ووجهت قوتها إلى جمع الشعوب، وتأليف القلوب - رُجي لها
الفوز بالمرغوب، وإلا كانت هي المقطعة لأوصال الإسلام محافظةً على سيادة
العنصر التركي.
وأما ما تبجح به من أعمال الترك وجهادهم في سبيل الخلافة المقدسة، فهو
أغرب ما في المقالة، فإن الترك أيام حروبهم وفتوحاتهم لم يكونوا يذكرون لفظ
الخلافة، ولا يتبجحون به كاليوم ولم تكن حروبهم دينية؛ إذ لم يكن يتقدمها دعوة
إلى الإسلام، ولم تكن لحماية الدعوة وحرية الدين؛ وإنما كانت لسعة الملك، ولذلك
لم ينتشر الإسلام في الممالك، التي افتتحوها بسعيهم وإقامتهم للدين، ولا ارتقت فيها
الحضارة بمدنيتهم، ولا اتسعت دائرة المعارف بعلومهم، ولا قدروا على تحويلها
إلى لغتهم وجنسهم بحسن سياستهم؛ بل أحفظوها عليهم، حتى أمكنتها الفرصة
فتملصت من أيديهم، وهذا حق يسوءنا ذكره، ولا يسعنا إنكاره، فعلينا وعلى أخينا
الكاتب الفاضل أن نرغب عن الفخر بالباطل إلى تأليف القلوب بالحق، وما هو إلا
شدة حاجة بعضنا إلى بعض، وتناسي أننا شعوب مختلفة فحسبنا أن الإسلام جمع
بيننا، وجعلنا بنعمة الله إخوانًا، وأن الخلافة الحقيقية لم تكن إلا للراشدين ثم صارت
ملكًا عَضوضًا.
ألم يكن أفضل مما كتبه في رمي العرب عامة والمصريين والسوريين منهم
خاصة ببغض الترك، وتمني نزع لقب الخلافة منهم أن يذكّر الجميع بأن أوربا
واقفة للمسلمين عامة بالمرصاد، وأن أعون شيء لها عليهم اختلافهم وتفرقهم، وأنه
لا مصلحة لأحد منهم في هذا التفرق، وأن الدولة العلية هي أقوى دولهم فإذا أوقع
الأعداء بها - وهي قائمة - فكيف يرجى أن تنهض بهم أمة نائمة؟ ! ألم يكن
الأفضل لمن يعتقد أن التنازع على لقب الخليفة هو المانع من اتحاد المسلمين أن
يدعو قومه إلى السكوت عن هذا اللقب، ويدعو سائر الحكومات الإسلامية إلى
الاتحاد على حفظ البلاد الإسلامية مع بقاء كل أمير في إمارته، وكل سلطان في
سلطنته كما يتحالف ويتحد ملوك النصارى؟ !
ليخبرني الكاتب الفاضل: أي ضرر يلحق الدولة أو الإسلام والمسلمين إذا
سكتنا عن الفخر بهذا اللقب الذي اعترف هو بأن ادعاءه قد فرق كلمة المسلمين؟ !
إن قال: تفوت فائدته في تكبير أوربا شأن الدولة العلية، أقول: وهل كان هذا
التكبير إلا ضارًّا؛ إذ هو الذي أقام قيامة أوربا على الترك كما قال، وهو الذي
يحمل دول أوربا على التضييق على مسلمي مستعمراتهم توهمًا أنهم يميلون إلى
الدولة، على أنهم لا يتركون الضغط على الدولة لإرضائهم. وإن قال: إنه يفوتها
بذلك ما تجنيه من مسلمي تلك المستعمرات من الفوائد - نقول: لا نُسَلِّم أن نحو
مساعدة مسلمي الهند لسكة الحديد الحجازية هو لأجل لقب الخلافة، ولئن سلمنا؛
لنقولن: إن هذه الفوائد لا توازي بعض مضرة مناهضة أوربا ونفور العرب من
الدولة إن صح قوله الأول: إنهم نافرون.
__________(6/954)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دعاء شعبان
انتقاد المنار
تكرر منا الوعد بأننا نقبل الانتقاد علينا، ونذكر رأينا فيه فإما تسليمًا، وإما
تفنيدًا. وقد كنَّا ذكرنا في الجزء السابع عشر من هذه السنة كلامًا في بدع ليلة
النصف من شعبان، ذكرنا أن من ذلك الدعاء المشهور الذي لم ينزل الله به من
سلطان. ثم تنبهنا إلى ما كنا قرأناه في كتاب (كنز العمال) من أن لبعض ألفاظ
الدعاء أصلاً مرويًّا في الجملة كما سنذكره، وكتب إلينا عقيب ذلك الشيخ إبراهيم
السمنودي المنصوري كتابًا يقول فيه: أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه وغيره عن
ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما دعا عبد قط بهذه الدعوات إلا وسع الله عليه في
معيشته: يا ذا المن ولا يمن عليه، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول لا إله إلا
أنت، ظهر اللاجين، وجار المستجيرين، ومأمن الخائفين، إن كنت كتبتني عندك
في أم الكتاب شقيًّا فامحُ عني اسم الشقاوة، وأثبتني عندك سعيدًا، وإن كنت كتبتني
عندك في أم الكتاب محرومًا مقترًا عليَّ رزقي فامحُ حرماني ويسر رزقي وأثبتني
عندك سعيدًا موفقًا للخير إنك تقول في كتابك الذي أنزلت: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ
وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 39) . وأخرج بعضه عبد بن حميد وغيره
عن عمر رضي الله تعالى عنه. وكذا ابن جرير عن شقيق بن وائل ومعلوم أن ليس
في ذلك للرأي مجال، فيكون في حكم المرفوع اهـ.
(المنار)
مصنف ابن أبي شيبة، ومسند عبد بن حميد لم تتداولها الأيدي، ولا نعرف
في عصرنا مَن يرويهما متلقيًا نسخهما، بحيث يصح أن يعتمد على هذه النسخ
والرجلان من متقدمي المحدثين، وكل ما رووه فهو في كتب الحديث المتداولة،
صحيحه في الصحاح، وحسنه في الحسان وضعيفه في الضعاف. وهذا كتاب
الجامع الكبير للسيوطي يقول: إنه أحصى فيه جميع هذه الكتب المعروفة، ولم نجد
في كنز العمال - الذي هو الجامع الكبير وزيادة إلا أنه مختلف الترتيب - هذا
الحديث عن هذين المحدثين. وإنما أخرج عن الحاكم - بسند ضعيف -عن الحسن
بن أبي الحسن أظنه ذكر عن عبد الله بن مسعود قال: كان إدريس النبي صلى الله
عليه وسلم يدعو بدعوة، كان يأمر أن لا تعلِّموها السفهاء فيدعون بها (كذا) ، فكان
يقول: يا ذا الجلال والإكرام ... وساق نحو ما تقدم مع تغيير في العبارة، ولم يذكر:
(فإنك تقول في كتابك ... ) ... إلخ وعن اللالكائي عن أبي عثمان النهدي أنه
سمع عمر يقول في طوافه: (اللهم إن كنت كتبتني عندك في السعادة فأثبتني فيها
وإن كنت كتبتني في الشقاوة فامحُني منها، وأثبتني في السعادة، فإنك تمحو ما تشاء
وتثبت وعندك أم الكتاب) ، ولو صح هذا وما قبله - وما هما بصحيحين - لم يكن
فيهما حجة على هذا الشعار الديني المبتدع في ليلة النصف، والدعاء الملفق الذي
يطلب فيه محو ما في أم الكتاب، على أن الرواية الأولى لم يجزم فيها بقول ابن
مسعود، والثانية أبعد عن المقصود.
ونرجو من الأستاذ السمنودي أن يكتب إلينا سند ما رآه، وإلا فلا معوَّل عليه
أَنَّى كان.
__________(6/959)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة السنة السادسة
نحمد الله تعالى ونشكره أن أتم لنا ست سنين في خدمة الأمة والدين، وأن
جعل هذا المنار حيًّا ناميًا يزيد الإقبال عليه والثقة به سنة بعد سنة، ويتجدد له في
كل عام مئون من المشتركين. ثم بعد شكر الله تعالى نشكر أهل الفضل والغيرة
الذي وازرونا في عملنا بالترغيب في المنار الهمام في تونس الذي تجدد لنا بسعيه
وهمته عدد عظيم من المشتركين، ووعد - وهو خير مَن وفّى - بأنه لا يأتي شهر
صفر، ولنا عند أحد في تلك البلاد قرش واحد من الاشتراك. ثم ذلك السري
الشيعي الذي طلب منا خمسين نسخة تُرسل باسمه وهو يدفع قيمتها. وكذلك بعض
كبراء المصريين الذي كان مشتركًا بعدة نسخ فزادها في السنة الماضية عشرًا،
ومثله كبير فقيه بلاد العرب، زاد في اشتراكه عشر نسخ، فحيَّا الله هؤلاء الكرام،
وأدامهم أنصارًا للعلم والإسلام، ثم نشكر لسائر المشتركين الذين يؤدون الحقوق في
أوقاتها وفاءهم في زمن قل فيه الوفاء وعظم فيه الشح في طريق الحق والخير، من
حيث عظم السرف والتبذير في سبيل الترف والشهوات. وندعو للمماطلين
المسوفين بأداء قيمة الاشتراك - بعذر أو بغير عذر - بأن يوفقهم الله تعالى لما فيه
خير أنفسهم وصلاحها من الوفاء والاهتمام بالأعمال العامة والتعاون على البر
والتقوى. ونختم هذا المجلد بالصلاة والسلام على خاتم النبيين. والحمد لله رب
العالمين.
* * *
شرط الاشتراك في المنار
كل مَن يقبل الجزء الأول من السنة السابعة (1322) يعد مشتركًا إلى نهاية
السنة ويجب عليه دفع قيمة الاشتراك كاملة، وإن رد المجلة بعد ذلك مَن لم يرضَ
بهذا الشرط فليرد إلينا الجزء الأول. وعلى مَن لا يصل إليه بعض الأجزاء أن
يطلبه في مدة 20 يومًا من موعد صدوره يرسل إليه، فإن طلبه بعد ذلك فعليه أن
يرسل ثمنه قرشين ونصف قرش، والإدارة غير مكلفة بإعطاء بدل المفقود ولو
بالثمن، والحكم في مراعاة ما تقدم للذمة والأمانة.
__________(6/960)
المجلد رقم (7)(7/)
غرة المحرم - 1322هـ
18 مارس - 1904م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة السنة السابعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النشور {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} (الحج: 66) أحيانا بتلك الروح التي نفخها في
البلاد العربية، ثم أماتنا بالإعراض عن تلك الهداية السماوية، أحيانا بضع قرون
وأماتنا بضع قرون، فنسأله إتمام وعده المشار إليه في الآية الكريمة بأن يؤيدنا
بروح منه، وينزل علينا السكينة، ونصلي ونسلم على محمد عبده ورسوله رسول
الرحمة، ومعلم الحكمة، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بتأييد دعوته، ونصرة
حزبه.
وبعد , فقد دخل المنار في العام السابع من حياته، وهو سن التمييز في الحياة
الشخصية، ولعل حياته تكون في هذا الطور خيرًا منها فيما قبله إن شاء الله تعالى،
فإذا كان في طفوليته قد نجا من الماكرين، وانتصر على المعارضين , وقابل ما
صادفه من الوثبات بكل صبر وثبات. فالرجاء بفضل الله وعنايته أن يجعله في
طور التمييز أحسن هداية ورشدًا، وأقوى ناصرًا، وأكثر مددًا، وما بلغ المسلمون
من الضعف والتخاذل أن لا تعيش لهم صحيفة مفيدة , وأن حاجتهم إليها لا بد مع
حاجتهم إلى الصحف السياسية، كيف وهم يرون الأمم التي هي دونهم في الاعتصام
بالدين، وفوقهم في الاشتغال بالدنيا، وقد سبقتهم في إنشاء الصحف الدينية. ففي
مصر وبيروت، كثير من هذه الصحف باللغة العربية فما بالك بسائر اللغات،
وهي لغات القوم الأصلية.
بل إن جميع الأمم والشعوب قد سبقوا المسلمين في جميع الأعمال الاجتماعية
التي ملاكها التعاون لا في الصحف الملية فقط.
والتعاون فرض في ديننا مأمور به في كتابنا، ولكن أين نحن من الكتاب
وفرائضه. فيا ليت الذين لا يعاونون العاملين منا للأمة لا يخذلونهم، ولا يعارضونهم
في أعمالهم ومشروعاتهم , كلا إننا نحن أعداء أنفسنا، وإننا نحن مرض أمتنا،
وإننا نحن آفة نجاحنا، ولو غفل الذين يشكون من الأجانب لشكوا من قومهم، ولو
شعر الذين يشكون من أخوتهم لشكوا من أنفسهم.
أرأيت هذا المنار الذي أنشئ لخدمة الأمة، والدفاع عن الملة. إنه ليطالب
الذين ينكرون فائدته، أو يدعون مضرته بأن يبينوا له وجه الضر ليتقيه، ووجه النفع لينتحيه، وأنه لا يطالب الذين يقولون: إنه نافع، ولا الذين يقولون: إنه أنفع
ما يكتب للمسلمين في هذا العصر بأن يتبرعوا له بمال لتوسيع دائرته، أو لزيادة
مادته، وإنما يرضى منهم أداء حقه، وحقه على جميع قرائه أداء قيمة الاشتراك التي
هي قوام العمل، وأداته التي لا يوجد إلا بها، وحقه على الخواص منهم
الدعوة إليه والترغيب فيه عندما تسنح لهم الفرص، ويخاطبون من يتوسمون فيه
الاستشهاد.
لست أعني بالخواص الأغنياء ولا كبار الموظفين، فإن منهم من يملك
الألوف وعشرات الألوف من الفدادين أو الدنانير، وهو يماطل في دفع قيمة
الاشتراك عدة سنين، وإنما أعني بهم كل من له عقل يتفكر به في مصلحة الأمة،
وقلب يشعر بمعنى الشرف والفضيلة؛ أولئك هم خواص الأمم الذين لم تنجح أمة
إلا بكثرتهم فيها.
لا يكثر في الأمة العقلاء المفكرون إلا بالتعليم العالي، وأَنَّى لنا به، ولم
ترتق هذه البلاد إلى أن يكون فيها، مدرسة كلية، ولا يكثر في الأمة أهل الشمور
بالصرف حتى ترتقي التربية النفسية فيها وأَنَّى لنا بذلك ولم ترتق معارف الناس
إلى أن يفصلوا بين التعليم وبين التربية، فترى كبراءنا وأذكياءنا يخصون بلقب
التربية نفرًا من الناس تلقوا شيئًا من التعليم المصري الناقص، وأعلاهم تربية في
عرفهم مَنْ دخل في مدارس أوربا، وإن كان أكثرهم كما يعرف العارفون في
أخلاقهم وأعمالهم لا سيما الذين تعلموا في فرنسا منهم.
إن ارتقاء الفكر والشعور لا يعرف إلا بأثره في العمل للأمة؛ فإذا قلنا: إن
خواص الأمة هم العاملون لها المخلصون في خدمتها، الذين لا يشترون مصلحتهم
بمصلحتها فكم رجلا نُعد من هؤلاء فينا؟ هل نُعد منهم من يَرَى منتهى الشرف أن
يشتري رتبة يتزيا بحلتها، وأوسمة يتزين بحليتها؟
هل نعد منهم سماسرة الرتب والأوسمة الذين يأخذون عليها الأجور من أهل
الدثور، ثم يطرونهم بالأماديح قائلين: إنهم ما وصلوا إلى هذه الحلي والحلل، إلا
بإخلاصهم للبلاد ولسيد البلاد وممثل الأمة؟
هل نعد منهم الذين يقولون ويكتبون ما يراه غيرهم حسنًا، وإن رأوه قبيحًا،
ويدعون إلى ما يشعر غيرهم بفائدته أو لذته، وإن كانوا يشعرون بغائلته ومرارته؟
هؤلاء هم الذين ورد في أمثالهم {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} (الأعراف:
179) وإنما يعقلون بقلوب من ينتفعون منهم {وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} (الأعراف: 179) وإنما يسمعون بآذان من باعوهم حواسهم ومشاعرهم، كما باعوهم
قلوبهم وأفكارهم {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ} (الأعراف: 179) لأنهم
خرجوا عن قانون فطرتهم بما أوتوه من الدهاء والأنعام لم تخرج عن الفطرة؛ ولأن
في الأنعام منافع للناس وهم ضارون للناس {أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف:
179) عما يحل بأمتهم وينزل بها من المصائب بإفسادهم لأخلاقها، ومحوهم لوجدان
الفضيلة والشرف الحقيقي منها، ويا حسرة على أمة تعد هؤلاء من خواصها ومن
مرشديها.
الخواص: هم أصحاب الأخلاق والعزائم، وهم الذين ينهضون بالأمم في كل
عمل نافع، فاللهم أكثر عددهم فينا، ووفقنا اللهم جميعًا للإحسان في العمل،
والتعاون على البر والتقوى والإخلاص لك في السر والنجوى، عسى أن نكون من
المفلحين.
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________(7/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كلمة ثانية في أهل الذمة
هذه المقالة منقولة عن الجزء الثالث من تاريخ (أشهر مشاهير الإسلام) لرفيق
بك العظم، وهو تحت الطبع، وله كلمة أخرى في حسن معاملة الإسلام لأهل الذمة
في الجزء الثاني من الكتاب، وقد أورد هذه الكلمة بمناسبة كتاب من عمر بن
الخطاب إلى عمرو بن العاص يوصيه فيه بأهل العهد والذمة، ويذكره بوصية النبي
بهم عامة، وبالقبط خاصة، ومن ذلك حديث (من ظلم معاهدًا، أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة) .
هذا الكتاب يمثل لنا سيرة عمر بن الخطاب مع أهل الذمة، ويبين شدته على
العمال في منعهم عن إيذاء أهل الكتاب؛ اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وعملاً بأمره، ومن تكون هذه سيرته مع أهل الذمة، أفيعقل أن يريد بهم أذى بقول
أو فعل؟ كلا، إن العقل والبديهة يرفضان نسبة أي قول أو فعل إليه يَشْتَمُّ منه
ولو رائحة الجفاء، فضلاً عن امتهان الذمي أو ظلمه.
وإذ علم هذا فالذي يدعو إلى العجب هو غفلة نقلة الأخبار، ورواتها عن
مقاصد عمر - رضي الله عنه - التي هي مقاصد الشرع الإسلامي الذي جاء للتأليف
بين القلوب وعدم استحيائهم، وعدم جمع المتناقضات من الأخبار، ونقلهم
الموضوعات منها بلا تمحيص لصحيحها من كاذبها، وبدون ترو في النافع والضار
منها.
كتبنا في الجزء الثاني فصلاً عن أهل الذمة نقلنا فيه رواية لابن الجوزي في أن
عمر تقدم إلى أحد عماله بختم رقاب أهل الذمة بالرصاص [1] ، وأبنا ثمة وجه
الضعف في هذا الخبر، وعجبنا من مثل ابن الجوزي كيف ينقل مثل ذلك الخبر، مع
أنه ليس في الدرجة التي تؤلم النفس؛ إذ لو صح لحمل على قصد سياسي أو إداري
على تعبير المتأخرين يراد به ضبط إحصاء أهل الجزية من الذميين لا امتهانهم
اقتداء بالدول الفاتحة قبل الإسلام، كالرومان والفرس الذين ثبت أنهم كانوا يضربون
على الرعية الجزية، وربما كانت هذه العادة متبعة عندهم في إحصاء أهل الجزية،
وقد زاد عجبنا أضعافًا الآن؛ إذ رأينا هذا الخبر في الخطط نقله صاحبها المقريزي
عن ابن عبد الحكم بزيادة أحر بها أن تكون محض افتراء على عمر بن الخطاب
- رضي الله عنه - وإذ قلنا بوهن الرواية الأولى في جانب العقل، وهي لأحد حفاظ
الحديث فما أحرانا بتكذيب الرواية الثانية. وإليكها بنصها مع الزيادة التي أوردها
المقريزي قال:
كان عمرو بن العاص يبعث إلى عمر بالجزية بعد حبس ما كان يحتاج إليه،
وكانت فريضة مصر لحفر خلجها، وإقامة جسورها، وبناء قناطرها، وقطع
جزائرها مائة ألف وعشرين ألفًا (أي: من العمال) معهم الطور، والمساحي والأداة
يعتقبون ذلك لا يدعون ذلك صيفًا ولا شتًاء.
ثم كتب إليه عمر أن تختم في رقاب أهل الذمة بالرصاص، ويظهروا
مناطقهم، ويجزوا نواصيهم، ويركبوا على الأكف - جمع أكاف وهو البردعة -
عرضًا، ولا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي، ولا يضربوا على
النساء، ولا على الولدان ولا يتشبهوا بالمسلمين.
فانظر أيها العاقل إلى هذا الكتاب، وقابله بكتاب عمر الذي يوصي فيه عمرو
بن العاص بأهل الذمة، هل تجد بينهما التئامًا بالوجهة؟ أم بينهما من البون البعيد ما
بين الحق والباطل، وقد أوضحنا في الجزء الثاني ضعف أمثال هذه الأخبار بما فيه
الكفاية، وإنما عدنا إليها الآن لأمر ظهر لنا بعد البحث والروية، وهو: أن واضعي
هذه الأخبار إنما ألجأهم لوضعها أمران:
الأمر الأول: أن الشئون الإدارية - وأهمها دواوين الخراج - كانت تناط في
أكثر الأوقات بأهل الذمة، بل استمرت تكتب بلغتهم أيضًا إلى عهد عبد الملك بن
مروان فكانوا يستطليون أحيانًا على رجال الدولة، وأهل المكانة وربما تحرج منهم
أحيانًا بعض الفقهاء، فوضعوا لهم أمثال تلك الأخبار تنقيصًا، لهم وحطًّا من
مكانتهم عند الخلفاء والملوك، وإبعادًا لهم عن مناصب الدولة، وإنما ألجأهم إلى نسبة
هذه الأخبار إلى عمر كونه كان - رضي الله عنه - قدوة فيما لم يرد بخصوصه شيء
في الشرع.
وهذا بلا ريب يعد من أولئك الوضاعين تناهيًا في ضعف الرأي، لا سيما إذا
علموا بأحوال أهل التقى والعدل من الخلفاء، ومعاملتهم الجميلة لأهل الذمة كعمر ابن
عبد العزيز، ومن حذا في ذلك حذوه من الخلفاء، وبالأخص الخلفاء من بني
العباس الذين كان أكثرهم متفقهًا في الدين، واقفًا على أخبار السلف كالمنصور
والمهدي والرشيد والمأمون وأمثالهم ممن أتى بعدهم؛ فكانوا يوسدون كثيرًا من شؤون
الدولة إلى أهل الذمة، ويقربونهم منهم لا سيما الأطباء والكتاب؛ بلا أدنى
تحرج في الدين، وأي حرج في الدين يمنع من محاسنة الذميين، وعدم إيذائهم
بمثل ذلك الامتهان المشين من كلام الوضاعين، ومن وقف على أخبار
ماسويه، وحنين بن إسحق وأضرابهما مع المأمون والمتوكل يعلم هذا. وكذلك كان
حالهم مع خلفاء الفاطميين في مصر؛ فكان القبط أرباب الكلمة العليا عند
الخلفاء، وكانوا - كما نقل المقريزي - يتولون دواوين الخراج، ويركبون البغال
الفارهة، ويتصرفون بأموال الدولة، بل بلغ بالخلفاء أن كانوا يعطون ألقاب التشريف
الخاصة بالعلماء والملوك - وهي الألقاب المضافة إلى الدين - للأطباء والكتبة من
النصارى واليهود وما نذكره من هؤلاء الشيخ موفق الدين ابن البورى الكاتب
النصراني، والحكيم موفق الدين بن المطران، وغيرهما ممن لم تحضرني أسماؤهم
الآن.
هذا هو السبب الأول , وأما السبب الثاني لوضع تلك الأخبار فمنشؤه نزوع
بعض الأمراء إلى إجهاد الرعية من مسلمين وذميين بالضرائب، ونكث عهود هؤلاء
القديمة، ولما لم يروا في الشريعة مخرجًا لهم يتوصلون به إلى الاستبداد بالرعية،
وتحميل الذمي فوق ما حدده الشرع من الخراج والجزية كما حملوا المسلم - لا سيما
والأخبار النبوية آمرة بالوفاء معهم بالعهد، والمحافظة على ما لهم من حقوق الذمة
والجوار- وأنهم أهل ذمة الله وذمة رسوله - مهدوا لأغراضهم السبيل بالإيعاز إلى
بعض مقربيهم بوضع مثل ذلك الخبر مقدمة لاستباحة امتهانهم، ثم إجهادهم
بالضرائب يدلك عليه ما حدث في عهد المروانيين من الاجتراء على استزادة الخراج
والجزية في مصر وغيرها من غير حقها، كما ستراه مبسوطًا في محله إن شاء الله.
على أن سيرة الصحابة، ورجال الفتح في الصدر الأول مع أهل الذمة وحدها
كافية لدحض أمثال تلك الأقوال الواهية، حتى إنهم افتتحوا بحسن السيرة وجميل
المجاورة والمعاملة ما لا يقوى عليه الحسام، ويخرج عن طوق عددهم القليل بالنسبة
لبقية الأقوام [2] ، وحسبك من أدبهم مع أهل الذمة من الكتابيين أن ما روي عنهم من
أخبار الحروب مع الروم لم يستعملوا فيه لفظ الكافرين والمشركين ألبتة مع أنهم كانوا
يعبرون عن مجوس الفرس ووثنيي العرب - قبل الإسلام - بالمشركين، ويقولون
عن أولئك: الروم والقبط - مثلاً كانهزام الروم، وقاتل القبط ونحوه - يؤيد هذا كتب
التاريخ التي نقلت إلينا أخبار الفتح بالرواية كالطبري وأشباهه، ولو فرض وجود
شيء من تلك الألفاظ فيها فإنه نزر يسير، وهو من حشو النساخ، وأما كتب
المتأخرين أو المقلدين فإن أصحابها لم يراعوا فيها ما راعاه السلف من الأدب،
وحسن الأداء؛ لما وقر في نفوسهم من التعصب الذي حدث في القرون الوسطى، ولم
يكن له أثر في النفوس في صدر الإسلام؛ لعلم أهل ذلك الصدر أن الإسلام جاء
للتأليف والوئام، لا للتفريق بين الأقوام، وأن اختلاف الأديان لا يوجب الفرقة
والخصام لقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) ولأن القرآن نطق
بأن أهل الكتاب أقرب مودة للمؤمنين، وذلك في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم
مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ
يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة: 82) ولهذا سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بانتصارهم على مجوس الفرس كما ذكرنا ذلك في الجزء الثاني في حكاية هرقل
مع الفرس، وهي القصة التي جاءت في قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} (الروم
: 1-2) الآية، فلتراجع في محلها.
هذا ما أردنا بسطه ليكون فيه ذكرى للذاكرين، وإنما أطلنا الكلام في هذا الباب
إظهارًا لبراءة عمر - رضي الله عنه - مما عزي إليه، وتنبيها لأوُلي النُهى من
المسلمين إلى أن دينهم يأمر بمحاسنة الذميين، وينهى عن مخاشنة الكتابيين، وأن
مرض التعصب الذميم إنما طرأت أعراضه على الأمة تدريجًا سيما على عقب
الحروب الصليبية، وإن من آثار ذلك التعصب القبيح ما يلاقيه المسلمون لهذا العهد
من ضروب الإهانة، والعسف من الدول المسيحية التي حكمت بعض الممالك
الإسلامية، ولم تراع في حكم المسلمين حقوق الإنسانية ولا الدين بحجة الانتقام
للمسيحية.
والمسيحية والإسلام يبرآن إلى الله من ظلم البشر بعضهم لبعض ,
ولكن ما الحيلة والإنسان مهما ترقت مداركه، وسمى عقله فإنه لا يزال يتقاصر
دون الوصول إلى مرتبة العلم الكامل الذي يجعل البشر كلهم بالإضافة إلى وجوب
التعاون والاجتماع سواء، وإن اختلفوا في المذاهب والأهواء؛ إذ كل امرئ مسؤول
عن اعتقاده عند الله. وإنه سبحانه يبين آياته للناس , فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل
فعليها، ولكن إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. اهـ
__________
(1) المراد بختم رقاب أهل الذمة بالرصاص هو: حمل طوق فيه علامة من الرصاص كما في بعض التواريخ.
(2) قد كان المسلمون كلهم كعمر من حيث العمل بمراعاة أهل الذمة , ولزوم تجنب إيذائهم بالقول أو الفعل خصوصًا عماله يدلك عليه ما ذكره في سراج الملوك في حكاية طويلة لا محل لذكرها هنا،وخلاصتها أن عمير بن سعد عامل عمر على حمص وفد عليه مرة فسأله عن أشياء , ثم قال له: عد إلى عملك. فقال عمير: أنشدك الله ألا تردني إلى عملي فإني لم أسلم منه حتى قلت لذمي: أخزاك الله, ولقد خشيت أن يخصمني له محمد صلى الله عليه وسلم ولقد سمعته يقول: (أنا حجيج المظلوم فمن حاججته حججته) ولكن ائذن لي إلى أهلي. فأذن له فأتى أهله ... إلى آخر الحكاية فإذا كان مثل عمير بن سعد يستعفي من عمله لكلمة قالها لذمي وخاف أن يخصمه رسول الله عليها لأنه قال: (من ظلم ذميًّا فأنا خصمه يوم القيامة) فهل يسوغ العقل أن يؤذي عمر وعماله الذميين بمثل جز النواصي والركوب على الأكف ونحو ذلك من أنواع الإيذاء الذي لا شيء بالنسبة إليه قول عمير للذمي: أخزاك الله. فاللهم إنا نبرأ إليك مما كتبه الوضاعون، وأخذ به الفقهاء على غير روية ولا تحكيم للعقل.(7/11)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهات النصارى وحجج المسلمين
سوريا والإسلام
سوريا في حاجة شديدة إلى اتفاق عناصرها لا سيما المسلمون والنصارى , فإذا
لم يتفقوا فلا عمران في سوريا ولا حياة. المسلم في سوريا محتاج إلى مسالمة
النصراني , وربما كان هذا أحوج منه إلى هذه المسالمة، النصارى في سوريا
أجدر من المسلمين بالسعي في الوفاق والمسالمة؛ لأنهم سبقوهم إلى العلم، فكان يجب
أن يسبقوهم بإحساس حاجة بعضهم إلى بعض، ولأن الحاجة إذا لم تكن متساوية
في الفريقين فالأضعف يكون هو الأحوج كما أشرنا إليه آنفًا، وهذا ما آنسته من
أكثر فضلاء النصارى الذين ذاكرتهم في المسائل الاجتماعية.
نرى عقلاء المسلمين وطلاب الإصلاح فيهم يكتبون في صحفهم ومؤلفاتهم ما
يقنع المسلمين بأن دينهم يرشدهم إلى محاسنة أهل الكتاب ومسالمتهم , ويفرض
عليهم مساواتهم في الحقوق , ويحرم عليهم إيذاءهم , ويخص النصارى بأنهم أقرب
مودة إلى المسلمين من غيرهم , وبأن مصلحة البلاد تقضي مع ذلك باتفاقهم في
الأعمال الدنيوية، وتعاونهم في الكسب إلى غير ذلك من الإرشاد , وبينا نحن نطبع
تاريخ رفيق بك العظم - وفيه ما رأيت (في النبذة السابقة) من الكلام الحسن في أهل
الذمة - إذا نحن بجريدة (المناظر) ترد علينا بمقالات غريبة عن موضوعها عنوانها
(سوريا والإسلام) ينفث فيها صاحبها من سموم التعصب الأعمى، والقدح في
الإسلام والمسلمين ما يحول دون التأليف والتوفيق , ويدفع في صدور طالبي
الإصلاح فيردهم على أعقابهم.
قلنا: إن هذه المقالات غريبة عن موضوع (المناظر) فإن هذه الجريدة قد
سبقت جميع الجرائد العربية في العناية بالدعوة إلى الوطنية الصحيحة النافعة ,
وترك التعصب الذميم الذي يلقي الشقاق بين أهل البلاد حتى يحل بها الدمار وتكون
طعمة للأغيار، وقد عجبنا من قبوله لهذه المقالات التي تخالف خطته الحسنة.
ما راعى الكاتب المصلحة , ولا صدق التاريخ، ولكنه اقتبس جذوة من جذى
دعاة الحروب الصليبية فألقاها في الأمة التي صوَّح التعصب نجمها وشجرها
فصيره هشيمًا , وناهيك بما تفعل النار بالهشيم.
* * *
(1)
كلمة جديدة
جاء الكاتب بملخص من سيرة الإسلام وسريرته في (كلمة جديدة) له لا
يعرفها الإسلام ولا المسلمون. لا يعرفها القرآن ولا السنة الصحيحة. لا يعرفها
التاريخ ولا الفقه الإسلامي , ولكن يوشك أن يكون عرفها أو ادعاها أو مثلها بطرس
الراهب، أو أعضاء محكمة التفتيش، أو قسوس أسبانيا في القرن السادس عشر , وقد
أنصف الكاتب إذ اعترف بأن كلمته في الإسلام جديدة!
نعم إنها جديدة لم يقل بها قبله أحد فيما نعرف , ولو أردنا أن نبرئ الإسلام
مما رماه به الكاتب - وهو بريء منه - ونبرئ التاريخ مما أسنده إليه بغير رضاه ولا
معرفته؛ لما بقي من تلك المقالات الطويلة إلا رأي الكاتب. فملخص
تلك المقالات أن الكاتب يرى أو يحب أن يرى قومه أن الإسلام في طبيعته ,
والمسلمين خاصتهم وعامتهم منابع للتعصب كذلك كانوا في ماضيهم , وكذلك هم في
حاضرهم , وكذلك يكونون في مستقبلهم فلا يطمعن المسيحيون في وفاقهم والاتحاد
معهم على ترقية سوريا أو غيرها ولكن ماذا يعملون بالمسلمين؟
للكاتب أن يرى ولغيره أن يقبل أو يرفض , ونحن لا يهمنا إلا أن نبين
الحق وندعوا إلى الخير والوفاق ما استطعنا, ولا نسمح بكثير من صحائف المنار للرد
عليه، بل نكتفي بالإشارة فنقول:
* * *
(2)
لماذا ظهر الدين الإسلامي؟
مهد لجواب هذا السؤال تمهيدًا من التاريخ خالف فيه مؤرخي الأمم كلها
صور بتمهيده الأمم التي أظلها الإسلام بجناحيه في أول ظهوره بصور بهية سنيعة
انتهت إليها الحضارة والمدنية في سوريا ومصر، ولكن جميع المؤرخين يصورونها
بصورة شنيعة قبيحة , لا سنيعة ولا مليحة , ويقول المتعصبون منهم على الإسلام:
إنه لولا ذلك الفساد في الأخلاق والعقائد والأعمال , ولولا ذلك الاستبداد في الأحكام
والاستعباد للأقوام , ولولا تلاشي العلم والمدنية في مصر وفارس والشام لما
نجحت في هذه الممالك دعوة الإسلام , ولما تيسر لتلك الأمة الأمية أن تسود في
بضع سنين على جميع أمم القوة والمدنية.
ونحن نقول لهؤلاء: نعم إن الإسلام لم ينتصر إلا لأنه الحق قذف به على
الأباطيل، ونور الهدى المشرق في ظلمات الأضاليل.
ونقول لكاتبنا ومؤرخنا الجديد: إذا كان المسلمون على بداوتهم وبعدهم عن
العلوم والمعارف والحق والعدالة (بزعمك) قد انتصروا (على التمدن الفينيقي
ينشئ المستعمرات على الشطوط الأفريقية، والتمدن المصري يفغر فاه ليبتلع
سورية) واصطادوا (النسر الروماني يظلل بجناحيه القارة الأوربية والقسم الأعظم
من الأسيوية) فلا شك أن انتصارهم هذا أعجوبة سماوية قد حدثت بمحض
العناية الإلهية، ويقول الكاتب: إن انتشار النصرانية في بلاد العرب كان السبب
الوحيد لتغير حالة البدو وطلبهم المحافظة على حريتهم واستقلالهم , فالإسلام لم
يظهر إلا بسبب المبادئ النصرانية.
ونقول له: إن حوادث الزمان التي أعدت العرب لظهور دين المدنية
والعلم فيها - على أميتها - كثيرة , فإذا كان منها خوفهم من النصارى المعتدين على
استقلالهم كما قال؛ فلا يصح أن تجعل النصرانية هي السبب الوحيد لظهور
الإسلام , ولا يقول ذلك إلا الغالي في التعصب والتحمس الديني، وإن للحرية نشوة
كنشوة الخمر، وطغيانًا كطغيان الغنى , وإنها لأعظم ثروة وأكبر لذة. فللمتمتع بها
أن يقول ويكتب ما يلذ له ويطيب.
* * *
(3)
النبي العربي
ذكر الكاتب ههنا ملخصًا لتاريخ النبي عليه الصلاة والسلام فقال: إنه (ولد
بين سنة 570 و578 للمسيح) والصواب أنه ولد في نيسان (أبريل) سنة 571.
وقال: إن أباه مات بعد ولادته بشهر. والصواب أنه مات قبل ولادته. وقال: إن
عمه أبا طالب سافر به وهو ابن اثنتي عشرة سنة. والصواب أنه كان ابن تسع
سنين. وقال: إنه بعد ذلك كان يسافر إلى الشام من وقت الى آخر. والصواب أنه
ما سافر بعد ذلك إلا مرة واحدة مع ميسرة غلام خديجة. وقال: إنه تزوج خديجة (سنة 595) حين بلغ العشرين. والصواب أنه تزوج بها وله خمس وعشرون سنة
وشهران وأيامًا قيل: عشرة , وقيل: خمسة عشر. وكل هذه الأغلاط في سطور
لا تُكَوّن صفحة واحدة من المنار. ومن الاختصار الذي أشرنا إليه أن لا نستقصي
أمثال هذه الأغلاط التاريخية , وإنما نعنى بالآراء والنتائج الجوهرية , ومنها في
هذه النبذة إشارة الكاتب إلى أن ما جاء في القرآن من الكلام في المسيح، وإثبات أن
مريم ولدت بشرًا لا إلهًا قد أخذه النبي من النساطرة إذ عرج به عمه على ديرهم في
سفره به إلى الشام , وقد علم القارئ أنه كان يومئذ في التاسعة من عمره , فلا
عجب عند كاتبنا أن يحفظ ابن تسع بعض كلام الرهبان، ويسره في نفسه زيادة عن
ثلاثين سنة لا ينطق به في صباه ولا في شبابه، ثم يبني عليه دينًا عظيمًا!! إن
هذا الاستدلال يشبه ما قاله بعض الظرفاء من كتاب المحاكم في قصيدة نظمها شاعر
بليغ: إنه سرق قصيدته مني؛ لأنه جاء فيها:
سليل بني الزهرا ولله نسخة ... لقد قوبلت بالأصل في اللفظ والفحوى
قال: فإننا نكتب على ما نبيضه من الصحف أنه قوبل بالأصل! ! . أو يشبه قول
بعض ملاحدة أوربا: إن مواعظ الإنجيل الحسنة مأخوذة من حكم كونفشيوس
الصيني، وبعض فلاسفة اليونان، وأورد أمثلة في ذلك منها: الأمر بأن يعامل
المرء الناس بما يحب أن يعاملوه به , فإنها مأثورة عن كونفشيوس , ومن الخطأ
العظيم قول الكاتب: إن الإسلام ثبت في البادية بالسيف , وإن النبي أجبر اليهود
والنصارى على الإسلام. كيف والله تعالى يقول فيه: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: 45) ويقول: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) وأما الحرب فقد
كانت بعد قوة الإسلام وانتشاره بالدعوة لمدافعة المعتدين على أهله، والمهددين
لدعوته , وسنبين هذا بمقال مسهب في فرصة أخرى.
* * *
(4)
أمؤسس شريعة أم مؤسس مملكة؟
قال الكاتب في جملته الرابعة التي رأيت عنوانها: (لقد صور لنا التاريخ
محمدًا نبيًّا ومؤسس شريعة؛ أما العقل فيصوره سلطانًا ومؤسس مملكة؛ لأنه لا يرى
فيه غير صورة مؤسسي الدول والممالك , وليس صورة بوذه وكونفشيوس والمسيح، التاريخ يرى وضع الإسلامية لأجل هداية قبائل العرب وردهم عن الوثنية، أما
العقل فسيرى أنه أبقاها على ما كانت عليه في زمن الجاهلية) نعوذ بالله من مكابرة
الحس.
ثم استدل على أن الإسلامية ليست بملة جديدة ولا شريعة وبأن العقل - أي:
عقله وحده - يحكم بأن التاريخ كاذب , وبأن محمدًا أخذ التوحيد عن النساطرة ,
وأضاف إليه كثيرًا من التقاليد والعوائد النصرانية واليهودية! وقال: إنه إذا تجرد
عن كل غاية - أي: إلا غاية التعصب الذي يعمي ويصم - فإنه يحكم بأن تصوير
العقل - أي: عقله - هو الحقيقي دون تصوير التاريخ. ولخص الإسلام كله
بالتوحيد. وقال: إنه عن النساطرة , وكذلك إنكار ألوهية المسيح , وتعيين أوقات
الصلوات الخمس! ! وبالختان والغسل قبل الصلاة , وقال: إنهما عن اليهود ,
وبتعدد الزوجات وقال: إنه عن العرب! ! أي: فلم يبق في الإسلام شيء من
الإسلام! ! يا أرض اشهدي , ويا سماء شاهدي هذا الكاتب البريء من كل غاية
الذي يعيب التعصب على المسلمين، فيسمي الضياء ظلامًا، والنهار ليلاً لأن الشمس
طلعت عليهم فغمرهم ضياؤها.
ثم قال: ولو أن غاية محمد دينية فقط - لو أنها سامية كغايات جميع مؤسسي
الأديان لوضع التعاليم التي قام يبثها ويبشر بها بالسيف على أسس الإخاء والحب
والحرية والمساواة , ولما كان عوَّل قبل وفاته على الزحف إلى سوريا. ثم زعم أن
الغاية سياسية , وهي حب الرئاسة والسلطة , وتفيهق في ذلك بما أملاه عليه
إحساس التساهل والبراءة من كل غاية! !
أظن أن الذين يكتبون الينا دائمًا بوجوب استقصاء شبهات النصارى المصوبة
إلى الإسلام من كل صوب لا يسمحون لي بأن أبين خطأ كل كلمة من هذا الكلام؛
لأنه ليس من قبيل الشبهات وإنما هو على حد: الشمس مظلمة , والسماء تحتنا ,
والأرض فوقنا. لكنني أستأذنهم بأن أسأل الكاتب المنصف: لماذا لم يذكر في
مؤسسي الشرائع موسى مع أن شريعته هي شريعة المسيح الذي يعبده , وفيها: قال
المسيح كما تروى أناجيله: (ما جئت لأنقض الناموس) وهذا الناموس هو بعينه
الذي يأمر بإفناء جميع الذكور من المحاربين , واغتنام النساء والأولاد من أهل
المدن البعيدة , ويأمر بإبادة الشعوب القريبة كبارًا وصغارًا رجالاً ونساءً كما في
سفر تثنية الاشتراع من توراتهم (20: 10 - 16) فهل ينكر التوراة وموسى
لأجل الطعن بمحمد؟ وإذا هو فعل هذا فمن أين يأتي بشبهة على ألوهية المسيح أو
على نبوته , والعقل الذي يحكمه لا يتصور أن يكون بشرًا إلهًا خالقًا لمن كانوا قبل
ولادته ولمن يكونون بعد موته! ! فحجته إنما تقوم على صحة دين بوذه فقط.
إن مسألة الطعن في الإسلام لمشروعية الجهاد فيه مسألة سياسية , وقد بينا في
المنار غير مرة أن الجهاد في الإسلام ما شرع إلا للمدافعة عن الحق وأهله وتأمين
الدعوة وحرية الاعتقاد. وقد نشرت جريدة المناظر الغراء في ذلك ما كتبه إمامنا
الحكيم في مقالات (الإسلام والنصرانية) ولكن شره الكاتب على الطعن في الإسلام
ينسيه ما يقرأ , أو يحمله على رفضه والاكتفاء بما يصوره له تعصبه فقط. ولولا
السياسة لما أكثروا من ذم الإسلام بالجهاد , وكتابهم التوراة يحكم بما تقدم آنفًا,
وتؤيد ذلك أناجيلهم بروايتها عن المسيح أنه قال: (لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا
على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا) (متى 10-34) وقال: (أما أعدائي
الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) (لوقا 19-
27) وهو صريح في أن المسيح طالب ملك , وأنه يبيح دم من لا يقبلون ملكه
عليهم , ثم إن تاريخهم ملطخ بالدماء لأجل الإكراه على الدين. وآية الجهاد في
القرآن هي: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} (الحج: 39) إلخ , ولعلنا نفي
بوعدنا بتفصيل القول في تخطئة قول الذين يدعون أن الإسلام قام بالسيف , وأن
الجهاد فيه مطلوب لذاته.
ثم انتقل من الاستدلال بالوهم والتخيل إلى الاستدلال بشيء له أصل في
التاريخ , ولكنه لا يدل على ما استدل به عليه. استدل على كون غاية محمد صلى
الله عليه وسلم سياسية بتنازع الصحابة على الخلافة , ويصح لنا أن نحتج بهذا على
نقيض زعمه , وهو أنه لو كان الغرض من الإسلام تأسيس الملك لوضع المؤسس
قاعدة للحكومة , وجعل الملك في أسباطه وأبنائهم , ولكنه فوض ذلك إلى الأمة بعد
بيان الأصول التي لا يضل متبعها ما اتبعها كقاعدة (الشورى) ومنع الخروج على
الأمير.
ولو أوصى بالملك لذريته لما نازعهم أحد. وأمر الملك دنيوي مبني على
القوة والعصبية. ولما اتسعت فتوحات الإسلام , ودخل الناس في الدين أفواجًا أمكن
لمثل معاوية أن يتخذ لنفسه عصبية في الشام , ورأى أنه أهل لهذه السلطة فتصدى
لها , وكان من الواجب على أمير المؤمنين أن يقاومه ويحاربه عند عدم الخضوع؛
لئلا تتفرق الكلمة , فهل يقول عاقل بأن طمع معاوية في السلطة والملك يكون دليلاً
على أن محمدًا (عليه الصلاة والسلام) كان طالب ملك , وهو الذي كان يعيش
عيشة المساكين , ويفيض بجميع ما يملك على الناس , ويقيد من نفسه (أي: يمكن
الناس من القصاص منه) ولا ينتقم لها إلخ إلخ؟ ؟
(للرد بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(7/17)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تأييد علماء الآفاق للفتوى
بحل طعام الكتابي ولباسه
نشرنا في الجزء الرابع والعشرين من السنة الماضية مقالين في ذلك لعالمين
من علماء المغرب الأدنى (تونس) ، والمغرب الأقصى (مراكش) ، وذكرنا في مقدمتها أننا رأينا في الجرائد الهندية مقالات في الموضوع، وعلمنا أن بعض القراء يودون لو يعرب شيء منها للمنار، ولكننا نعتذر لهم بأن الأكثرين قد اكتفوا بما كتبناه في المسألة وأهل المشرق الهند وغيرها كأهل المغرب مقتنعون بما قلناه، ومؤيدون له ولكننا نذكر المقدمة الوجيزة التي افتتحت الكلام بها في الموضوع جريدة المسلمين في (عليكده) منبع الحياة العلمية، وموطن النهضة الإسلامية في الهند , فقد جاء في العدد الصادر من تلك الجريدة في 8 فبراير سنة 1904م ما تعريبه:
(هل ولد السيد أحمد خان ثانية في مصر، وظهرت جريدته (تهذيب الأخلاق)
بشكل المنار؟)
إن الله وهب للمرحوم السيد أحمد خان طبعًا سليمًا، ودماغًا عجيبًا فبينا العلماء
الأعلام، والفقهاء الكرام يشتغلون عامة بوسائل التقليد، وطرقه، وينهمكون في
البحث بعبارات أمثالهم كان السيد يبحث في أصول الدين، ومقاصده بحث المجتهد
المحقق، وانبرى بهمة (أسدية) قوية لإظهار الإسلام بصورته الأصلية الأولى
بنزع لباس التقليد عنه وإزالة شوائبه منه؛ إذ كان شيوخ الملة المقيدين بقيود
التعصبات والأوهام قد جعلوا أحكام الحنيفية السمحة البريئة من الحرج في غاية
الضيق والشدة، وحكموا فيها الرسوم والعادات فجعلوها مذهبًا، وشريعة.
عنى السيد بتحقيق العقائد والأحكام، وبيان الحق، ولم يخف في مخالفة
الجمهور لومة لائم ففصل بين العادة والعبادة، وبين الرسوم الموضوعة والأحكام
المشروعة؛ ليخرج المسلمين من تلك الأوهام، ويعود بهم إلى أصل الإسلام، ولما
أنشأ يطبع تحقيقاته، وينشرها علت الجلبة والضوضاء، وصاح مع العامة العلماء
والفقهاء: قد كفر قد كفر.
وطلبوا من الحرمين الشريفين الفتوى بتكفير السيد، والغالب أنه لم يكن في ذلك
الوقت أحد من المسلمين في الهند إلا وهو ينظر إلى أفكار السيد وتصوراته بعين
الحيرة والتعجب.
لعل أكثر الناس يتذكرون ذلك الزمان الذي أجاز السيد فيه لباس الإنكليز،
وأباح الأكل معهم، وقال: إن اللباس ليس من الأمور الدينية، بل من الرسوم
والعادات، ولم يحكم الشرع بالتزام زي يختص به المسلمون، وأما الأكل فهو حل
بنص الآية القرآنية , ويتذكرون كيف هب العلماء للرد عليه، واستدلوا بحديث:
(من تشبه بقوم فهو منهم) ، وكفروا السيد، ولكن الأقوال التي قالها السيد منذ ثلاثين
سنة يقولها الآن أشهر العلماء في الممالك الإسلامية، والأفكار التي أظهرها السيد
في الماضي يظهرها في هذا الوقت مفتي الديار المصرية بالحرية التامة،
و (النظافة) ، ونحن الآن نترجم الفتوى بحل طعام أهل الكتاب ولباسهم، ولكن لا
ندري ماذا يقول الناس في هذا؟ - اتفاق الحاضر مع الماضي - فإن كان المسلمون
قائلين بالتناسخ؛ فليقولوا ضرورة بأن السيد قد ولد (ثانية) في مصر، وظهرت
جريدته (تهذيب الأخلاق) في شكل (المنار) اهـ المقدمة.
(المنار)
لتعتبر الجريدة المحدثة بأقوال علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فإن كانت كتبت ما كتبته من الطعن في الفتوى عن جهل، وكانت تريد باستنجاد مسلمي الآفاق بيان الحق؛ فهاهم أولاء قد أيدوا الفتوى، فعليها أن تعترف بخطئها،
وتتوب إلى ربها، ويا ليت أصحاب الجمود ودعاة التأخير يعلمون أن الأستاذ الإمام وحزبه هم الذين يخدمون الإسلام والمسلمين في هذه البلاد دون سواهم، وأن عقلاء المسلمين في جميع الأقطار معهم، ومؤيدون لدعوتهم، ومرتبطون معهم
بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم، فلا يغتر حزب التأخير، بمال
فلان الغني، وجاه فلان الأمير، فإن الحق يعلو ولا يُعْلى , وإن حزب الله هم
الغالبون.
__________(7/23)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السؤال والفتوى
الزي والدين
(س1) الزي والدين ر. ع: بالقاهرة
إن بعض الكتابيين من أهل إنكلترا وأمريكا أسلموا، ولم يغيروا زيهم في
اللباس (كالبرنيطة والبنطلون) ، فهل يصح إسلامهم أم لا؟ فإن قلتم: لا يصح؛
فهل من دليل نقلي على ذلك؛ إذ ما نعلمه من التاريخ أن الشعوب التي أسلم منها
من أسلم في العصور الأولى ما كان يشترط في إسلامهم تغيير الزي، وما كانوا
يلبسون لباسًا مخصوصًا بأهل الإسلام؟ وإن قلتم: يصح إسلامهم، ويقرون على
لبس البرنيطة والبنطلون؛ فكيف جاز لبعض الناس لهذا العهد القول بحرمة لبس
البرنيطة على المسلم، مع أن حرمتها - على ما أعتقد - يقتضي أن يكون الإسلام
بالزي لا بالعمل أو بكليهما معا؟ وإذا كان ذلك كذلك فإسلام من أسلم من أهل
أمريكا وإنكلترا غير صحيح ما لم يغيروا أزياءهم، وهذا من الإشكال في
الدرجة القصوى، كما لا يخفى على بصير؛ إذ ربما كان ذلك مدعاة لعدم انتشار
الإسلام بين الأقوام الذين تقضي عوائدهم بعدم التخلي عن لبس البرنيطة وما شابهها،
وأمر آخر وهو أَنَّا نرى عشرات الملايين من المسلمين يلبسون لباس الإفرنج
(بنطلون) فإذا صح قولهم بعدم جواز هذا اللبس، وأن الإسلام بالأزياء أو
بالأزياء والأعمال فما حكم هؤلاء؟ هل يعتبرهم القائلون بهذا مرتدين مع
أن المسلمين لم يكونوا يذكرون ذلك في دعوتهم إلى الإسلام؛ بل كانوا يكتفون
بالشهادتين فيه , وورد في الحديث: (من قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله
ودمه إلا بحقه وحسابه على الله) وهؤلاء المسلمون الذين يلبسون البنطلون يقولون:
(لا إله الله. ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) ، فما رأيكم في هذا كله؟ نرجو
الجواب ولكم الثواب.
(ج) لا يوجد دليل في الكتاب، ولا في السنة، ولا في أقوال الأئمة على
اشتراط زي مخصوص للمسلم، بل هناك أدلة على عدم الاشتراط كما رأيتم في
المقالات التي نشرناها في الموضوع , والذين قالوا ما قالوا في منافاة لبس قلانس
النصارى (البراطل أو البرانيط) للإسلام لا يعرفون من الإسلام إلا التقاليد العامة
التي يعرفها الحوذي.
قلتم: إن الذين أسلموا في الصدر الأول لم يشترط عليهم تغيير
أزيائهم، ونزيدكم على هذا أن الصحابة كانوا يلبسون الثياب التي يغنمونها من
المشركين والمجوس وأهل الكتاب، بل النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس من
لبوسهم أيضًا كما ذكرنا من قبل، ولو أراد الله أن يتعبدنا بزي مخصوص لاختار
زيًّا وألزمنا به، فإن لم يكن الزي الإسلامي مخترعًا جديدًا من الشارع فموافقته لزي
أهل الكتاب أولى من موافقته لأزياء المشركين؛ لأن الإسلام يفضل الكتابي الرومي
أو الروسي على المشرك الهاشمي القرشي، هذا وإن المسلمين لم يلتزموا زيًّا واحدًا
في عصر من الأعصار، فأي أزيائهم كان زي الدين، وأيها كان زي الكافرين أو
المرتدين.
وما ذكرتم من مفاسد جعل الزي داخلاً في مفهوم الإسلام صحيح، وأهمه
امتناع من يصعب عليهم تغيير أزيائهم من قبوله، وأقول: إن كل أمة من الأمم
التي تعقل تهزأ بدين يجعل الزي ركنًا من أركانه، أو عملاً من أعماله فلو قيل
لأهل أوربا أو أمريكا: إن الإسلام يشترط أن يلبس الداخل فيه (فرجية) واسعة
الأكمام، وجبة طويلة الأذيال، وحذاء أصفر يظهر منه معظم الرِّجْل لقالوا: إن
هذا دين لا يليق إلا بالكسالى والبطالين من أهل البلاد الحارة، وما قاربها، ولا ينبغي
لأهل العمل والنشاط، ولا يرضى به ذو عقل ولا ذوق.
أما حديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) فهو غير صحيح، ولو صح لما أفاد
المشاغبين في مسألة، فإن معناه أن من تكلف أن يكون شبيهًا بقوم؛ فإنه يلتحق
بطبقتهم، فإن تشبه بالكرام في أخلاقهم وأعمالهم عُدَّ منهم، وإن كان متكلفًا والعكس
بالعكس، ومثل هذا التشبه لا يحصل إلا بتكلف السجايا الخاصة بالقوم، فإن من
يلبس لباس الشجعان أو الأسخياء لا يعد منهم، فالحديث إذن في معنى قول الشاعر
الذي اقتبسه:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام فلاح
* * *
زيارة المسلم لغير المسلم
(س2) ح. ح في الجبل الأسود معلوم عند جنابكم أننا تحت تصرف
حكومة نصرانية، وأن النصارى يزوروننا يوم عيدنا للتهنئة بالعيد، ويطلبون منا
مثل هذه الزيارة في أعيادهم، فهل نحن معذورون إذا زرناهم أم لا؟
(ج) ثبت في الحديث الصحيح عند أحمد والبخاري وغيرهما أن النبي
صلى الله عليه وسلم عاد غلامًا يهوديًّا كان يخدمه قبل مرضه وقد استكبر الغلام،
وأبوه الفقير هذه العناية، ودعا النبي الغلام الى الإسلام فقال له أبوه: أطع أبا
القاسم. فأسلم، والحديث يدل على مشروعية الابتداء بالزيارة. قال الماوردي: (عيادة الذمي جائزة والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة)
- أي: إن العيادة في المرض ومثلها الزيارة جائزة، ولكنها لا تكون عبادة يتقرب بها
إلى الله إلا إذا اقترن بها شيء مما هو مطلوب في الشرع كحرمة الجوار والقرابة -
وحسبك أن تكون الزيارة في العيد وغيره مباحة. على أن القواعد الإسلامية ترشدنا
إلى أن حسن النية في الأعمال المباحة تلحقها بالعبادات.
هذا وأنت تعرف الفرق بين الذمي الداخل في حكمنا وبين من نحن داخلون
في حكمهم , فإذا صح لنا أن نجامل من نحكمهم عملاً بمكارم الأخلاق التي هي
أساس ديننا، أفلا يصح لنا أن نجامل من يحكموننا من غيرنا، ونحن أحوج إلى
مجاملتهم؛ لأجل مصالحنا، كما أننا نرى أنفسنا أحق منهم بمكارم الأخلاق؟
وكأني بمتعصب يقول: قال ابن بطال: (إنما تشرع عيادة المشرك إذا رجي
أن يجيب إلى الإسلام) .
وأقول أولاً: إن كلامه في العيادة المشروعة؛ أي: المطلوبة شرعًا، ونحن
نتكلم في العادات المباحة.
وثانيًا: إن الحديث السابق لا يدل على الاشتراط، وقد أورد الحافظ ابن حجر
كلامه في شرح البخاري ثم قال: (والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد،
فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى) ، وظاهر أن مصالح أهل الوطن الواحد مرتبطة
بمحاسنة أهل بعضهم بعضًا، وأن الذي يسيء معاملة الناس يمقته الناس فتفوته
جميع المصالح، لا سيما إذا كان ضعيفًا وهم أقوياء، وإذا أسند سوء المعاملة إلى
الدين، يكون ذلك أكبر مطعن في الدين؛ فلك أيها السائل ولغيرك من المسلمين أن
تزوروا النصارى في أعيادهم، وتعاملوهم بمكارم الأخلاق أحسن مما يعاملونكم،
ولا تعدوا هذا من باب الضرورة؛ فإنه مطلوب لذاته مع حسن النية واتقاء
مشاركتهم في المحرمات كشرب الخمر مثلاً والله أعلم وأحكم.
* * *
صوم يوم عرفة
(س3) ومنه: هل وردت أحاديث صحيحة في صوم يوم عرفة؟ ولماذا يصومه المؤمنون؟
(ج) ورد في حديث أبي قتادة عند البخاري وغيره ما يدل على استحباب
صوم يوم عرفة، ووردت أحاديث أخرى في النهي عن صومه أصحها حديث عقبة
بن عامر عند أحمد وأبي داود والترمذي وصححه وغيرهما، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب) . وورد النهي عنه للحاج بخصوصه وعللوه بأنه يضعفه
عن الأذكار المشروعة في ذلك اليوم للواقف بعرفات , وحمل أكثر العلماء حديث
أبي قتادة على هذا التخصيص , وقالوا: إنه يستحب صومه لغير الحاج، وقال
بعضهم: يستحب إفطاره. فأما علة الإفطار فلكونه ملحقًا بأيام العيد، وأما علة
الصوم عند القائل به فلعلها مشاركة الحجاج بالعناية بالعبادة الممكنة في ذلك اليوم،
فيصوم غير الحاج ويكثر من التكبير؛ فيكون ذلك مذكرًا له بعبادة الحج ومشوقًا
إليها حتى تتيسر له إن شاء الله تعالى.
* * *
صندوق التوفير في إدارة البريد
وبيان حكمة تحريم الربا
(س4) مصطفى أفندي رشدي المورلي بنيابة الزقازيق: ما هو رأي
سيادتكم في صندوق التوفير بعد تعديله الأخير؟ وهل يجوز الادخار فيه وأخذ
أرباحه شرعًا؟ ولا يخفى على حضرتكم فوائده سيما أنه يربي ملكة الاقتصاد في
الإنسان وهو ما يؤيده الشرع في ذاته أفيدونا آجركم الله.
(ج) : إن التعديل الذي تعنونه قد كان برأي لجنة من علماء الأزهر جمعها
أمير البلاد لأجل تطبيق إيداع النقود في الصندوق على قواعد الفقه المعروفة، وقد
كتبوا في ذلك ما ظهر لهم وأرسلته (المعية) إلى الحكومة فعرضته على المفتي،
وبعد تصديقه عليه أمرت بالعمل به. هذا ما اشتهر ونحن لم نقف على ما كتبوه
فنبدي رأينا فيه , ولكننا مع ذلك لا نرى بأسًا من العمل به؛ لأننا إنما ننتقد من الحيل
على علماء الظاهر أو علماء الرسوم - كما يقول الغزالي - وينافي مقاصد الشرع
الثابتة بالكتاب والسنة، كالحيلة في منع الزكاة والحيلة في الربا الحقيقي، الذي
علل القرآن تحريمه بقوله تعالى: {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279)
والذي فصل بينه وبين التجارة بقوله - عز وجل -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبَا} (البقرة: 275) فالتعاقد في عمل يفيد الآخذ والمعطي ببيع أو تجارة،
والذي يفهم سبب تحريمه من قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً
مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: 130) وذلك أنه: كان في المدينة وغيرها من اليهود
والمشركين من يقرض المحتاج بالربا الفاحش كما نعهد من اليهود والخواجات في
هذه البلاد، وفي ذلك من خراب البيوت ما فيه.
فالحكمة في تحريم الربا إزالة نحو هذا الظلم , والمحافظة على فضيلة التراحم
والتعاون أو فقل: أن لا يستغل الغني حاجة أخيه الفقير إليه - كما قال الأستاذ
الإمام - وهذا هو المراد بقوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ
تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) ولا يخفى أن المعاملة التي ينتفع ويرحم فيها الآخذ
والمعطي والتي لولاها لفاتتهما المنفعة معًا لا تدخل في هذا التعليل {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ
تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) ؛ لأنها ضده على أن المعاملة التي يقصدها البيع
والإتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع لا من قسم استغلال حاجة المحتاج،
ولا يخفى أن إدارة البريد هي مصلحة غنية من مصالح الحكومة , وأنها تستغل
المال الذي يودع في صندوق التوفير فينتفع المودع والعمال المستخدمون في
المصلحة والحكومة فلا يظلم أحدهم الآخر؛ فالأرجح أن ما قالوه ليس من الحيل
الشرعية وإنما هو من قبيل الشركة الصحيحة؛ من قوم المال ومن آخرين
الاستغلال؛ فلا مانع إذن في رأينا من العمل بتعديلهم، على أن العبرة في نظر
الفقه بالعقد؛ ولذلك يحتال بعض علماء الرسوم في الربا الحقيقي فيأكلونه بلا عقد،
ويقولون: إن ذلك من قبيل البيوع الفاسدة، وهي صغيرة أو مكروهة، وهذا شيء
لا يحل ولا نقول به، والحاصل أن المسألة قد أحلوها من طريق الفقه الظاهر،
والباحث في الفقه الحقيقي، وهو حكمة الشرع وسره لا يرى ما ينافي حلها بناء
على ما تقدم، والتضييق في التعامل يفقر الأمة، ويضعفها ويجعلها مسودة للأمم،
والله أعلم وأحكم.
__________(7/24)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نظام الحب والبغض
تابع
حب القوة.. رابطة المدنية
(تمهيد)
(ما اجتمع اثنان فأكثر اجتماعًا تراد به المصلحة إلا احتاجوا في انتظام
شملهم وتحصيل مصلحتهم إلى ناموس، إما فطري بشيء من التعليم، وإما تعليمي
مشوب بمقتضيات الفطرة) لتحفظ هذه الكلمة، فإننا نحسبها أصل الأصول في
الأخلاق والشرائع. ولكن لا يحيط بها سريعًا إلا ذهن الذين سيروا تلك الأصول
وسيجدونها عينًا صغيرة تتفجر منها مياه كثيرة أو عينًا صغيرة تنطبع فيها
محسوسات كبيرة. أو مرآة صغيرة تقابلها أشكال متعددة فترى فيها صورها، وأما
غيرهم فيناسبهم شرح هذه الكلمة.
فافرضوا أن المجتمعين أربعة: امرآن وامرأتان , وافرضوا أن مصلحتهم
الأولى من الاجتماع أن يحفروا لهم غارًا ليسكنوا فيه ويأمنوا العوادي من حر وبرد
ووحش، ويجمعوا أقواتهم فيه.
هذا القدر، افرضوا فقط فإنكم ستروننا نشرح لكم في هذا الاجتماع إجمال
كثير مما يدعو علماء الأخلاق والشرائع أن يبحثوا فيه. وإليكم هذا النموذج من
بيان ذلك:
(الأول) مما يلزم لأولئكم قبل مباشرة حفر الغار محبة كل منهم ذاته إذ لو
كانوا بحيث لا يحب كل منهم ذاته لما كانوا ليقدموا على هذا العمل الذي تحصل به
لجميعهم مصلحة لكل منهم حصة من فوائدها. ولو كان واحد منهم لا يحب ذاته
لنكف وحده عن العمل (امتنع أو عدل) فيكون الثلاثة قد خسروه وما خسروا إلا
معينًا، ولو نكف اثنان لخسر الآخران معينين ولو نكف ثلاثة لعمت المصائب
الأربعة.
فأنتم ترون أن حب الإنسان ذاته هو أول ما يلزم للمجتمعين وهو أول ما
يبحث فيه فلاسفة الأخلاق؛ إذ هو الأصل الأعظم في صلاح الأخلاق إن صلح،
وفي فسادها إن فسد، وهو موجود في الفطرة ولكن لطروء المرض يحتاج لطب
التعليم.
(الثاني) مما يلزم لهؤلاء محبة كل منهم غيره؛ إذ محبة الغير هي الأصل
في تحصيل مصالح الذات وهي الأصل الأعظم في اجتماع المتعددين , ولولاها
لكان هؤلاء الأربعة متنافرين متناحرين، لا متضافرين متناصرين.
(الثالث) مما يلزم لهؤلاء العدل، ومعناه إعطاء المرء لغيره عدل ما أعطاه
أي شيئًا يعادله. فإذا عمل كل واحد من هؤلاء مثل ما يعمل صحبه كان ذلك من
دواعي محبة بعضهم بعضًا ومما يطِد اجتماعهم. وأما إذا أراد أحد منهم أن يفضل
نفسه عليهم فلا يعمل معهم كما يعملون ويريد أن ينتفع بما عملوا، أو أن ينتفع
بنصيب هو أكبر من أنصبائهم، فربما أوجب أن ينقموا منه ذلك؛ لأن (بدل الأصل
سبب الوصل، وبدل الفضل سبب الفصل) .
(الرابع) مما يلزم لهؤلاء الإحسان، ومعناه: رضا النفس بإيجاد الحسن
ولو من غير بدل أو ببدل أقل مما هو عدله. فإذا كان أحد هؤلاء أضعف من
الباقين فيحسن بهم أن يحسنوا فيعملوا عمل الأقوياء، ويقبلوا من الضعيف عمل
الضعفاء، على أنهم في النصيب سواء وفي الإحسان مباحثات ومحاورات ليس هذا
محلها , وربما أتينا بها في محل آخر. والذي لا خلاف فيه بين المعتدلين هو أن
الإحسان لا يجب وجوبًا كالعدل بل يحسن بالإنسان التحلي به وقد يشتد لزومه في
المجتمعين القليلين.
(الخامس) مما يلزم لهؤلاء المعرفة، إذ كل عمل لا يكون إلا بعلم فإن
صلح العلم صلح العمل، وإن فسد العلم فسد العمل. ومعنى العلم وجدان الذهن: ما
هو الشيء؟ أو كيف هو؟ أو أين هو؟ أو لم هو؟ أو متى هو؟ أو كم هو؟ أو
بم هو؟ فيلزم هؤلاء أن يعرفوا أين يحفرون؟ وكيف يحفرون؟ وبم يحفرون؟
وكم يحفرون؟
(السادس) مما يلزم لهؤلاء التعريف. ومعناه: إحضار ما وجده العارف
بقوة ذهنه بغير واسطة إلا الإلهام إلى ذهن من لم يجد ذلك بواسطة الدلالات على
اختلافها. ومن البديهي أن الأذهان مختلفة في قبول الفائضات، ولا يتم العمل
اللازم للكثيرين إلا بتعليم من علم لمن لم يعلم، ومن ثمة عندما تكثر اللوازم ويقل
العالمون بها يعد تعليمها أو تعليم الوسائل المؤدية إليها عملاً عظيمًا يعادل أكبر عمل
من أعمال الموجدين للوازم.
هذا وبينما كان هَمُّ هؤلاء واحدًا ومصلحتهم واحدة أي تعاونهم في حفر الغار
ليأووا إليه؛ إذ حدثت لهم بعد حفر الغار مصالح أخرى منها: حراسة المنزل خشية
أن يطرقه طارق من وحش؛ إذا خرجوا جميعًا، ومنها: الاشتراك في تحصيل
القوت رجاء أن يكونوا باجتماعهم أقوى إذا انفردوا، ومنها التراضي في أمر الوقاع؛ لأن في فطرة كل من المرء والمرأة اقتضاء الوقاع، وإن ترك هذا الأمر بلا
قاعدة بينهم يتراضون بها يؤدي إلى تفرقهم أو تجادلهم أو تذابحهم، وهم أشد من في
الأرض احتياجًا للاجتماع والتآلف والتناصر، فهم في هذه المصالح المتعددة (وهي
من أولى المصالح) محتاجون الى تدبيرها. وفي تدبيرها محتاجون على الأقل إلى
ثلاثة أشياء: (1) اقتسام الأعمال، و (2) نظام العائلة , و (3) نظام التساكن.
فاقتسام الأعمال هو اللازم (السابع) وهو عبارة عن أن يعمل كل واحد عملاً
يحتاجه الكل على أن يكون له نصيب في عمل الآخر. فمن قام في المنزل حارسًا
فله حق بما يأتي به من سار للقوت محصلاً.
ونظام العائلة هو اللازم الثامن (الثامن) وهو عبارة عن العهد الذي يقيمه
المرء مع المرأة على أن يكون كل منهما للآخر زوجًا بشرط كذا وكذا.. على ما
يظهر لهما من المعاهدة.
ونظام التساكن هو اللازم (التاسع) وهو عبارة عن السبيل الحسن الذي
يسير عليه جماعة أقامتهم الحاجة في منزل واحد، ثم بينما هم في حاجة لأفراد
آخرين ليتم بهم تعاونهم على مشاق الأعباء التي لا يستطيعون وحدهم تحملها لما
يصادفهم من الطوارئ الخارجية كغلبة الوحوش , والداخلية كالضعف بنحو مرض
أو تغير قلوب متحدة، أو اختلال نظام عائلة أو نظام تساكن؛ إذ جبر نقصهم،
وسدت حاجتهم بالأنسال التي أخذت تتزايد في كل عام.
ولكن هل يوجد خير غير مشوب بما يقابله من ضد؟ كلا: إن هؤلاء لما
أصابهم هذا الخير الذي هو توفير العدد لإتمام العدد أصابهم في مقابلته شر هو
توسع الفرق والتفاوت بين أفراد المجتمعين، فأصبحوا كثيرين بينهم الضعفاء من
صغار، ومرضى مثلاً، وأصبح الأقوياء فيهم منهم عارف بقيمة الحي (وإن كان
صغيرًا، فإنه يكبر وإن كان مريضًا فإنه يصح) ، ومنهم غير عارف، ومنهم
محسن، ومنهم غير محسن، ومنهم واف بالعهود، ومنهم غير وافٍ، وبالجملة
أصبحت تلك الوحدة ممزقة، وهاتيك الأوضاع متغيرة، أو ضاق بهم ذلك الوطن
الواحد فاضطروا إلى تعديد الوطن وبتعديده انقلب شكل تلك الوحدة فبينما كانوا
أربعة يتفكرون بتدبير مصالح لهم مشتركة باتحاد القلوب وتعادل الأعمال إذ صاروا
أربعين مثلاً، وبينما كان غار واحد إذ صارت غيران عشرة مثلا.
وبينما كان العمال متعادلين صار العمال متفاوتين , وبينما كانوا يضربون
في جهة واحدة لتحصيل القوت صاروا يضربون في جهات متعددة، وبينما
كانوا يخافون من الوحوش فقط، صاروا يخاف بعضهم من بعض؛ لأنه وجد بينهم
غير العادل وغير الوافي بالعهود، ولولا أن وجد هؤلاء لكان مليار من البشر
المتناسلين من أولئك المفروضين أولاً على وتيرة واحدة في كل شيء، فلا أريد مليارًا
على هذا النحو، ولا مليونًا، ولا مائة ألف، ولا عشرة آلاف، ولا ألفًا، ولا
مائة أريد اثني عشر إنسانًا ليس فيهم مخادع.
التفاوت بين البشر أمر طبيعي - أي: من جملة سنة الله في خلقه - ومن
اقتضاء التفاوت أن يكون التضاد، ومن اقتضاء التضاد أن تكون المنازعات، ومن
اقتضاء المنازعات أن يتعاون المتقاربون -في أكثر الأشياء المحسوسة والمنصورة-
على المتباعدين عنهم - المتقاربين أيضًا في أكثر الأشياء - ومن اقتضاء
الاجتماع تقارب المنازل. ومن اقتضاء تقارب المنازل اقتسام الأعمال , ومن اقتضاء
العدل التراضي بتعيين الحدود والمقادير، ومن اقتضاء التراضي تكون
نظام، ومن اقتضاء النظام وجوب حفظه، ومن اقتضاء حفظه إيجاد قوة حافظة له،
ولا بد للقوة من مركز ومحور لحركتها، ولا بد من أن يكون هذا المركز حيًّا سميعًا
بصيرًا عليمًا مريدًا قادرًا متكلمًا - أي: إنسانًا بالغًا سن الرشد والقوة سالمًا من
نواقص الجسد والعقل.
انظروا كم ترون في هذه الحالات من حاجات. كل هذه الحاجات مرت على
الإنسان، وكل حلقة من هذه الحلق بقيت محفوظة في هذه السلسلة حتى هذا اليوم ,
وفي هذه الحاجات والمقتضيات كانت تحدث لهؤلاء المجتمعين القليلين صناعات
يتبادلونها فيما بينهم , ويغلب في الظن أن صنع آلات الدفاع والهجوم له حظ من
التقدم، ويظهر أن أول ما صنع الإنسان من هذا القبيل - بعد حفر الغيران التي
هي معاقل - هو ترقيق شبا الصلد من الحجارة بواسطة حجارة أخرى، حتى يقطع
بها ما شاء.
ربما صنعت هذه المدى الصوانية لأمر، ثم تبين أن لها نفعًا في أمور أخرى
كثيرة، ويظهر أنه بها نجر الشظايا من الأشجار على هيئات مختلفة لمقاصد متعددة، فكان لهم من تلك الشظايا مغزل يفتلون به أوبار الحيوانات التي يصطادونها،
وكان لهم منها منسج يجمعون عليه الخيوط المفتولة، حتى تكون كسفًا، وكان لهم
منها مخيط يضمون به بعض الكسف إلى بعض ليكون لهم من مجموع ذلك أكسية (يستبدلونها بما كانوا يكتسونه من جلود المصيدات من الحيوانات، أو المنسوج من
الأعواد ولحاء الأشجار أو بعض الأوراق) وأخبية (يستبدلونها بما كانوا يختبئون
فيه من الغيران الطبيعية أو الصناعية) ، ولا يخفى أن الحاجة كانت هي الدافعة
بهم إلى استبدال الأكسية والأخبية المنسوجة من الأوبار بالجلود والغيران؛ إذ
الجلود ثقيلة مثقلة للحركة، ولا تفي بستر البدن على الوجه الكافي , وهذه الأكسية
الجديدة - التي شرح وصفها - يتكون منها لباس كاف واف بالحاجة. منه الرقيق
والصفيق، ومنه الطويل والقصير , ومنه الصغير والكبير؛ وإذا تراكمت عليه
الأوضار كانت تنحيتها متيسرة , وهذه الأخبية الجديدة يتكون منها مآوٍ كافية وافية
بالحاجة للظعن والإقامة فإذا استوبلوا أرضًا تركوها ونزلوا فيما استطابوا لا
يحتاجون الى حفر مآو جديدة.
ومما يغلب في الظن أيضًا أنهم شعروا باحتياجهم لادخار زوائد من المكسوبات
اللازمة للقوت والكساء والخباء والزينة، نعم، إن الادخار للمجتمعين لابد منه
ليكون بالزوائد المحفوظة غناء يوم لا يغني سعيهم في الكسب شيئًا.
وقد سمي الزائد المدخر - في لغتنا - مالاً كأن أهل هذا اللسان سموه بهذا
الاسم المشتق؛ لأن النفوس تميل إليه بالفطرة أو بحسب التجربة والاحتياج , وهم
يقولون لمن حوى مكسوبات زائدة تمول.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(7/29)
الكاتب: سائح بصير
__________
بلرم صقلية
(4)
(دور الآثار وبساتين النبات)
لا تبخس أهل سيسليا (صقلية) حقهم فإنهم فهموا مسألة لا بأس بفهمها ,
وأظنهم عرفوا ذلك من إخوانهم أهل شمالي إيطاليا وبقية الأوربيين، وهي المحافظة
على الآثار القديمة والجديدة، أما القديمة فتحفظ بذواتها , وأما الجديدة فتحفظ ولو
بنموذج منها.
بنوا ملعبًا في بلرم فصنعوا له مثالاً من الخشب ووضعوه في دار
الآثار. مدينة بلرم لها مثال مجسم رسمت فيه البساتين والجبال والكنائس مجسمة
مصغرة بألوانها الطبيعية وألوان الأرض نفسها , وذلك المثال في دار الآثار.
حفظوا لباس امرأة مسلمة من مسلمي صقلية وهو زي يشبه الأزياء الأوربية مع
ساتر للوجه يدل على أن ستر الوجه كان عامًّا حتى في صقلية، وإن كان ذلك قد
يغضب قاسم بك أمين فإنه يجد له أضدادًا في مسلمي أوربا فضلا عن مسلمي آسيا
وأفريقيا.
يحفظ القوم في متاحفهم هذه كل ما يوجد من آثار المتقدمين من مصنوعات،
وأشجار، وأحجار، ولا يدخرون جهدًا في حفظ ذلك حتى إذا وجدت اسم شيء في
كتاب تاريخ مثلاً أو عرض لك اسم في علم من العلوم كان يدل على معنى في
الزمن السابق؛ أمكنك أن تعرف المدلول بالعيان والمشاهدة، وتتحقق صحة الوصف
والتعريف فما استعمله الأقدمون من آلات وأدوات، وأنواع ثياب، وضروب
مراكب، ونحو ذلك تجد شيئًا منه في متحف من المتاحف , أو في قصر من
القصور، أو في كنيسة من الكنائس، أو في داهية من الدواهي التي هناك.
وهذا مما يفيد في تحقيق المعاني التاريخية واللغوية فائدة لا يعرف مقدارها
إلا من يسمع اسم اللأمة، والدلاص، والدرع والخوذة، والعمامة (عمامة الحرب)
ونحو ذلك من الألفاظ العربية الكثيرة الاستعمال، ثم يراجعها في القاموس أو
غيره من كتب المعجمات، وبعد ذلك لا تستقر في خياله صورة لمدلول من مدلولات
هذه الألفاظ، وقد يتخيل صورة لا مناسبة بينها وبين الحقيقة، وهو جهل باللغة
فاضح، وكثير منا يأكلون اللوز والجوز، وينطقون باسمه في البيت، وعند البائع؛
إذا طلبوا شراء شيء منه , وهم إذا رأوا شجرة الجوز أو اللوز لا يميزون بينها وبين
شجرة الجميز أو الفلفل، أما الجماعة فعندهم في بساتين النبات جميع هذه الأنواع
من الأشجار، وما لا تناسبه درجة الحرارة في الهواء يحدثون له جواء
تناسبه بالتسخين أو التبريد حتى يعيش في جو مثل جوه ولكل من يريد معرفة
شيء أن يذهب ويعرفه بعينه ذلك. وقد رسموا صور هذا كله فيما كتبوا من كتب
اللغة ومعجمات العلوم , ويتيسر للحاذق أن يعرف هذه الأشياء بصورها المرسومة
في تلك الكتب؛ أما إذا قال لك صاحب القاموس: الجوز شجرم؛ أي: معروف فماذا
تستفيد من هذا وأنت في مصر وليس في قرب الأزهر شيء من شجر الجوز بل ولا
في الأزبكية نفسها، فكيف يصير هذا عندك معروفًا؟ وكيف يمكنك أن تحدث عن هذا
الشجر إذا كنت كاتبًا أو شاعرًا أو طبيبًا أو عالمًا أو أديبًا.
* * *
الصور
والتماثيل وفوائدها وحكمها
لهؤلاء القوم حرص غريب على حفظ الصور المرسومة على الورق والنسيج،
ويوجد في دار الآثار عند الأمم الكبرى ما لا يوجد عند الأمم الصغرى كالصقليين
مثلاً، يحققون تاريخ رسمها، واليد التي رسمتها، ولهم تنافس في اقتناء ذلك
غريب حتى إن القطعة الواحدة من رسم روفائيل مثلاً ربما تساوي مائتين من
الآلاف في بعض المتاحف، ولا يهمك معرفة القيمة بالتحقيق، وإنما المهم هو
التنافس في اقتناء الأمم لهذه النقوش، وعد ما أتقن منها من أفضل ما ترك المتقدم
للمتأخر، وكذلك الحال في التماثيل، وكلما قدم المتروك من ذلك كان أغلى قيمة،
وكان القوم عليه أشد حرصًا، هل تدري لماذا؟
إذا كنت تدري السبب في حفظ سلفك للشعر، وضبطه في دواوينه، والمبالغة
في تحريره خصوصًا شعر الجاهلية، وما عني الأوائل - رحمهم الله - بجمعه
وترتيبه؛ أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم على هذه المصنوعات من
الرسوم والتماثيل؛ فإن الرسم ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع , والشعر
ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى.
إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشئون المختلفة،
ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات
والأحوال البشرية. يصورون الإنسان أو الحيوان في حال الفرح والرضى
والطمأنينة والتسليم، وهذه المعاني المدرجة في هذه الألفاظ متقاربة لا يسهل عليك
تمييز بعضها من بعض، ولكنك تنظر في رسوم مختلفة فتجد الفرق ظاهرًا باهرًا
يصورونه مثلاً في حالة الجزع والفزع والخوف والخشية، والجزع والفزع مختلفان
في المعنى، ولم أجمعهما ههنا طمعًا في جمع عينين في سطر واحد؛ بل لأنهما
مختلفان حقيقة، ولكنك ربما تعتصر ذهنك لتحديد الفرق بينهما وبين الخوف
والخشية , ولا يسهل عليك أن تعرف متى يكون الفزع ومتى يكون الجزع؟ وما الهيئة
التي يكون عليها الشخص في هذه الحال أو تلك؟
أما إذا نظرت الى الرسم وهو ذلك الشعر الساكت؛ فإنك تجد الحقيقة بارزة
لك تتمتع بها نفسك، كما يتلذذ بالنظر فيها حسك إذا نزعت نفسك إلى تحقيق الاستعارة
المصرحة في قولك: رأيت أسدًا: تريد رجلاً شجاعًا فانظر إلى صورة
أبي الهول بجانب الهرم الكبير؛ تجد الأسد رجلاً أو الرجل أسدًا، فحفظ هذه الآثار
حفظ للعلم في الحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة على الإبداع فيها إن كنت فهمت من
هذا شيئًا فذلك بغيتي، أما إذا لم تفهم فليس عندي وقت لتفهيمك بأطول من هذا،
وعليك بأحد اللغويين أو الرسامين أو الشعراء المفلقين ليوضح لك ما غمض عليك؛
إذا كان ذلك من ذرعه.
ربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي: ما حكم هذه الصور في
الشريعة الإسلامية؛ إذا كان القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر في
انفعالاتهم النفسية أو أوضاعهم الجثمانية، هل هذا حرام أو جائز أو مكروه أو
مندوب، أو واجب؟ فأقول لك: إن الراسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها،
ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محي من الأذهان؛ فإما أن تفهم الحكم
من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالاً إلى المفتي وهو يجيبك مشافهة؛
فإذا أوردت عليه حديث: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون، أو ما في
معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك: إن الحديث
جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببين: الأول: اللهو،
والثاني: التبرك بمثال من ترسم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين،
والثاني مما جاء الإسلام لمحوه. والمصور في الحالين شاغل عن الله، أو ممهد
للإشراك به؛ فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة كان تصوير الأشخاص
بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات، وقد صنع ذلك في حواشي
المصاحف وأوائل السور، ولم يمنعه أحد من العلماء مع أن الفائدة في نقش
المصاحف موضع النزاع أما فائدة الصور فمما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذكر [1]
وأما إذا أردت أن ترتكب بعض السيئات في محل فيه صور طمعًا في أن الملكين
الكاتبين، أو كاتب السيئات على الأقل لا يدخل محلاًّ فيه صور كما ورد فإياك أن
تظن أن ذلك ينجيك من إحصاء ما تفعل؛ فإن الله رقيب عليك، وناظر إليك حتى
في البيت الذي فيه صور، ولا أظن أن الملك يتأخر عن مرافقتك إذا تعمدت دخول
البيت لأن فيه صورًا، ولا يمكنك أن تجيب المفتي بأن الصورة على كل حال
مظنة بالعبادة فإني أظن أنه يقول لك: إن لسانك أيضًا مظنة الكذب، فهل يجب
ربطه مع أنه يجوز أن يصدق كما يجوز أن يكذب.
وبالجملة إنه يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة
من أفضل وسائل العلم بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين لا من جهة العقيدة
ولا من وجهة العمل. على أن المسلمين لا يتساءلون إلا فيما تظهر فائدته ليحرموا
أنفسهم منها وإلا فما بالهم لا يتساءلون عن زيارة قبور الأولياء، أو ما سماهم بعضهم
بالأولياء، وهم ممن لا تعرف لهم سيرة ولم يطلع لهم أحد على سريرة، ولا
يستفتون فيما يفعلون عندها من ضروب التوسل والضراعة وما يعرضون عليها من
الأموال والمتاع، وهم يخشونها كخشية الله أو أشد , ويطلبون منها ما يخشون أن لا
يجيبهم الله فيه، ويظنون أنها أسرع إلى إجابتهم من عنايته سبحانه وتعالى، لا شك
أنه لا يمكنهم الجمع بين هذه العقائد، وعقيدة التوحيد، ولكن يمكنهم الجمع بين
التوحيد، ورسم صور الإنسان والحيوان لتحقيق المعاني العلمية، وتمثيل الصور
الذهنية.
هل سمعت أننا حفظنا شيئًا حتى غير الصور والرسوم مع شدة حاجتنا إلى
حفظ كثير مما كان عند أسلافنا؟ لو حفظنا الدراهم والدنانير التي كان يقدر بها
نصاب الزكاة ولا يزال يقدر بها إلى اليوم أفما كان يسهل علينا تقدير النصاب
بالجنيهات والفرنكات، ونحو ذلك ما دام المثال الأول موجودًا بين أيدينا؟ ولو حفظ
الصاع والمد وغيرهما من المكاييل أفما كان ذلك مما ييسر لنا معرفة ما يصرف في
زكاة الفطر وما تجب فيه الزكاة من غلات الزرع بعد تغيير المكاييل؟ وما كان
علينا إلا أن نقيس مكيالنا بتلك المكاييل المحفوظة فنصل إلى حقيقة الأمر بدون
خلاف؟ أظنك توافقني على أنه لو حفظ درهم كل زمان وديناره ومده وصاعه لما
وجد ذلك الخلاف الذي استمر بين الفقهاء يتوارثونه سلفًا عن خلف كل منهم يقدر
للمكيال والميزان بما لا يقدره به الآخر حتى جاء في آخر الزمان أحمد بك الحسيني
يخطئ بعضهم ويوفق بين أقوال البعض الآخر بدون أن يكون بين يديه صاع ولا
مد من تلك الآصع والأمداد، وما أصعب التخطئة والتوفيق؛ إذا لم يكن العيان هو
المميز بين فريق وفريق.
لو نظرت إلى ما كان يوجب الدين علينا أن نحافظ عليه لوجدته كثيرًا لا
يحصى عده ولم نحفظ منه شيئًا فلنتركه كما تركه من كان قبلنا , ولكن ما نقول في
الكتب وودائع العلم هل حفظناها كما كان ينبغي أن نحفظها أو أضعناها كما لا
ينبغي أن نضيعها؟ ضاعت كتب العلم وفارقت ديارنا نفائسه؛ فإذا أردت أن تبحث
عن كتاب نادر، أو مؤلف فاخر، أو مصنف جليل أو أثر مفيد فاذهب إلى خزائن
بلاد أوربا تجد ذلك فيها. أما بلادنا فقلما تجد فيها إلا ما ترك الأوربيون ولم يحفلوا
به من نفائس الكتب التاريخية والأدبية والعلمية , وقد تجد بعض النسخة من الكتاب
في دار الكتب المصرية مثلاً وبعضها الآخر في دار الكتب بمدينة كمبردج من البلاد
الإنكليزية، ولو أردت أن أسرد لك ما حفظوا وضيعنا من دفاتر العلم لكتبت لك في
ذلك كتابًا يضيع كما ضاع غيره وتجده بعد مدة في يد أوربي في فرنسا أو غيرها
من بلاد أوربا.
نحن لا نعنى بحفظ شيء نستبقي نفعه لمن يأتي بعدنا, ولو خطر ببال أحد
منا أن يترك لمن بعده شيئًا جاء ذلك الذي بعده أشد الناس كفرًا بتلك النعمة، وأخذ في
إضاعة ما عني السابق بحفظه له , فليست ملكة الحفظ مما يتوارث عندنا وإنما الذي
يتوارث هو ملكات الضغائن والأحقاد، تنتقل من الآباء إلى الأولاد حتى تفسد
العباد وتخرب البلاد ويلتقي بها أربابها على شفير جهنم يوم المعاد.
(للرحلة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: إن الذين رسموا الصالحين والأنبياء إنما أرادوا التبرك بصورهم وتعظيمها إكرامًا لها، وهذا التعظيم يسمى في كل اللغات عبادة , وجميع الصور والتماثيل التي كانت عند العرب كانت معظمة للدين؛ ولذلك سمي في القرآن تعظيمها عبادة وكذلك النصارى كانوا يصرحون أن تعظيم الأيقونات ونحوها من الصور عبادة فلما عارض المصلحون في ذلك صار بعض المصرين عليه يسمي تعظيمها إكرامًا وأصر بعضهم على تسميته عبادة، وإن النهي عن التصوير في الإسلام لم يزد على النهي عن تعظيم القبور وتشريفها وبناء المساجد عليها وإيقاد السرج عليها , وقد فعل المسلمون هذا مع بقاء علته وهم يتركون التصوير وفوائده مع انتفاء علة النهي عنه أفنؤمن بظاهر بعض الدين ونكفر بحقيقة بعض.(7/34)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(الاشتراك في المنار)
كل من قبل هذا الجزء من المنار يعد مشتركًا إلى سنة كاملة ويجب عليه دفع
قيمة الاشتراك كاملة، وإن رد المجلة في أثناء السنة فمن لم يرض بهذا الشرط
فليرجع إلينا الجزء. ونرجو أن لا يطلب أحد منا الاشتراك بدون القيمة المقررة.
* * *
(الأسطول العثماني)
بشرتنا أنباء الآستانة بأن سيجهز أسطول عثماني مؤلف من السفن الجديدة
التي ابتاعتها الدولة العلية من عهد قريب، ومن السفن القديمة التي أصلحتها في
أوربا حقق الله الآمال.
* * *
(منشور شيخ الإسلام في تفليس)
كتب شيخ الإسلام في تفليس عاصمة بلاد القوقاس الروسية منشورًا ينصح
فيه للمسلمين بالطاعة والإخلاص لدولتهم، وبذل النفس والنفيس في مساعدتها على
حرب دولة اليابان الوثنية، وقد أحسن فيما فعل , ونوافقه عليه في جملته، وكان
في عزمنا أن ننشر في المنار الماضي نصيحة لمسلمي روسيا بأن يفترضوا الحرب
لإقناع دولتهم بإخلاصهم لها؛ لأن هذا هو الذي ينفعهم، ولا يغتروا ببعض اليهود
والأرمن الشامتين بدولتهم، فالغدر والخيانة يحرمهما الإسلام في كل حال، هذا وإن
النصرانية أقرب إلى الإسلام من الوثنية، وما قلناه من ميل المسلمين إلى اليابان
فسببه سياسي لا ديني.
* * *
(تغاير العلماء في روسيا)
كتب إلينا فيض الرحمن أفندي أحمد القزاني المجاور رسالة ملخصها أن أحد
علماء (خان كرمان) تلقى العلم في الآستانة، ولما رجع إلى وطنه سعى بإنشاء
مدرسة خيرية وكان يعلم فيها حتى وشى عليه بعض المعممين إلى الحكومة بأنه
يستميل التلامذة إلى تركيا بتعليمه على الطريقة التركية فأقفلت الحكومة المدرسة ,
ثم سعى فاستصدر أمرًا بفتحها فعاد أصحاب العمائم إلى الوشاية حتى أقفلوها، ولا
شك أن أولئك السعاة الوشاة هم أكبر بلاء على أمتهم وملتهم، وقد خجلنا من ذكر
صنيعهم مع كثرة ثنائنا على أخلاق مسلمي تلك البلاد، فعسى أن يتوبوا إلى ربهم،
ويثوبوا إلى رشدهم.
* * *
(استعمار مصر ومراكش)
إنكلترا وفرنسا تتباحثان في وسائل الوفاق في المسائل الاستعمارية بينهما،
ومنها: مسألة مصر التي تستعمرها إنكلترا بدون نطق بكلمة حماية أو امتلاك إلا ما
لونت به رسم مصر في خريطة أفريقية، وهو لون بلاد السودان وبلاد الترنسفال
وبلاد الكاب أو رأس الرجاء الصالح، ومسألة مراكش التي تريد فرنسا أن تستعمرها
هذا النوع من الاستعمار، ويوشك أن تتفق الدولتان على أن إحداهما لا تنازع
الأخرى في مسألتها، ولكن ماذا يفعل سلطان مراكش وأمير مصر في هذه الأيام؟
أما أمير هذه البلاد فلا نبحث في أعماله، وأما سلطان مراكش فلم يكتف بما عنده
من آلات اللهو الأوربية، وما اجتلبه من حور الآستانة وولدانها حتى أرسل يطلب
من مصر جوقة من المطربين والمطربات، وشاع هنا أن محمد بن شعرون سافر
بالجوقة، وهي تسعة رهط، وفيها بعض الراقصات المشهورات وتعهد لها بدفع
1500 جنيه في الشهر، وقيل أقل، ومعلوم أن السلطان يقترض المال من فرنسا،
وأن الدين هو أوسع الأبواب لدخول أوربا في البلاد، وإننا ندعو الله تعالى أن
يوفقه وسائر أمراء المسلمين إلى ما فيه الخير الحقيقي للأمة والبلاد كيفما جاء، ومن
أيِّ طريق جاء.
* * *
(مسألة الرتب والأوسمة)
قد وصل الإتجار بالرتب في الآستانة إلى حد التزوير فصار السماسرة
مزورين، وقد حوكم من عهد قريب طاهر بك صاحب جريدة (معلومات) وغيرها
متهمًا بتزويرها، وقد اقتدت مصر بالآستانة فصار المقربون من الأمير ومنهم
بعض أصحاب الصحف يتوسلون إليه بهذه الرتب والأوسمة حتى علم الخاص
والعام أن أكثر من نالها من غير الحكومة قد اشتراها بالمال، وقد انتهى الأمر
بدخول اللورد كرومر في الأمر، وتقرر إلغاء بعض الرتب والأوسمة التي أنعم بها
على المرتكبين والمزورين، وفي ذلك عبرة للمعتبرين.
__________(7/39)
16 المحرم - 1322هـ
2 إبريل - 1904م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
موعظة للمسلمين بآيات الكتاب المبين
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ
الغَرُورُ} (فاطر: 5) ، {مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ
هُوَ يَبُورُ} (فاطر: 10) {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا
لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا
الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ المَصِيرُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى
وَالْبَصِيرُ * وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ
وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ} (فاطر:
18-22) ، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا
وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ
وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ *
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ
تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر:
27-30) .
لك الحمد اللهم أن أنزلت هذه الآيات البينات بلسان عربي مبين على عبدك
ورسولك محمد خاتم النبيين، وإمام المصلحين، فأنرت بها وبأمثالها تلك الظلمات،
وأحييت بها أولئك الأموات، فأقاموا ما أنزلت من الكتاب والميزان [1] وأدبوا
بالحديد من أباهما من أهل الطغيان، حتى تزلزلت في الممالك تلك التقاليد، وألقت
اليهم الأمم بالمقاليد فكانوا وهم الأميون أئمة أهل الكتاب والحكمة، وسادة أهل
السلطان والقوة؛ فصل وسلم اللهم على ذلك النبي المرشد الحكيم {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ
رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) .
ثم خلف من بعد هذا السلف الصالح خلف كفروا بنعمة آياتك فاستبدلوا بها
مذاهب وتقاليد هم بها عاملون {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) وغرتهم الحياة الدنيا فطغوا بالميزان , وغرهم بالله
الغرور فانحرفوا عن صراط القرآن، وطلبوا العزة بالكلم الخبيث دون العمل
الصالح والسعي الحثيث؛ فكانت عزتهم ذلاًّ وكثرهم قلاً، ومكروا السيئات فقادوا
العلماء والفقهاء بسلاسل سياسة السلاطين والأمراء، وأوهموا الوازرين والخاطئين
بأن سيحمل أثقالهم عنهم نفر من صلحاء الميتين؛ ففسدت الأعمال والنيات، واتكل
الأحياء على شفاعة الأموات، وتبع ذلك تفرق الكلمة بالباطل، وعدم الاجتماع على
نصرة الحق؛ فخلا الجو للأمراء الظالمين والرؤساء الغارِّين، وفسد بذلك على الأمة
أمر الدنيا والدين.
طغوا في الكتاب ففضلوا الأعمى على البصير، وطغوا في الميزان، فاختاروا الظلمات على النور؛ وأخرجوا الأمة من الظل إلى الحرور , وفقدوا حياة العمل والتعاون فاستمدوا المعونة من أصحاب القبور.
جهلوا آيات الله في الأكوان , وحكمه في اختلاف الأوضاع والألوان،
ورغبوا عن معرفته تعالى بآياته في الآفاق وفي أنفسهم كما أرشدهم القرآن،
وحاولوا معرفته بنظريات فلسفة اليونان فتماروا بالبيان، وقلدوا في الدليل
والبرهان؛ فكانوا بلا علم ولا عرفان، ولا خشية ولا إذعان؛ وإنما هي دعاوي يلوكها اللسان، وأماني يسولها الشيطان.
وجملة القول أنهم أضاعوا مقاصد القرآن كلها، وإن شئت قلت: أضاعوا
دين الإسلام كله فإن الإسلام هو القرآن وما جاء في بيانه من سنة النبي - عليه
الصلاة والسلام - قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كان شيء من أمر دينكم
فإليَّ؛ وإذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه
عن أنس، والأخير عن عائشة، وقال أيضًا: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) رواه مسلم
عن أنس وعائشة.
وقد حرم علينا الخلف الطالح الاهتداء بالقرآن والسنة في أمر ديننا، ولم
يعطونا حرية للعمل في أمر دنيانا، وزعموا أن الدين هو حكم بذلك التحريم،
وبسلب هذه الحرية. فإذا احتجت عليهم بالكتاب والسنة على أن طريقتهم هي
المخالفة للدين؛ قالوا: إنما نحن وإياك من المقلدين. وإذا استدلت عليهم بالعقل؛
قالوا: إنما أنت من الملحدين، ولا يرضيهم إلا اتباع آرائهم وآراء بعض المؤلفين
الميتين. على هذا جرى علماء الرسوم مع الحكام والسلاطين فهدموا ذلك البناء المتين
وما زالوا هادمين، وكذلك أهلك الله من أهلك من الأمم باستبداد الرؤساء المترفين.
ليت هذه الأمة التي نكبت بهؤلاء الرؤساء في دينها ودنياها تعلم ما هي قوتهم
التي يستعينون بها عليها. ليتها تعلم أنها هي قوتهم التي بها يعتزون، وأنها هي
معاولهم التي بها يهدمون، وإنها هي قوتهم التي بها يحتجون، ذلك بأنهم إذا قالوا:
إن وضع كتب الشريعة بصفة سهلة كوضع كتب القوانين بدعة منكرة، قالت العامة: بدعة منكرة. وإن أدى هذا القول إلى استبدال القانون الفرنسي بالشريعة. وإذا
قالوا: إن العلوم الطبيعية والرياضية كفر أو طريق إلى الكفر قالت العامة: هي
كفر وأي كفر، وإن حرمت الأمة بذلك من مجاراة الأمم الحية، وصارت تحت
أقدام الأمم التي يسمونها كافرة فاجرة، فيا ليت هذه الأمة تعلم من أضاع شريعتها
ودينها ومن أفسد عليها أمر دنياها، ويا ليتها تعلم أنهم ما قدروا عليها لولاها.
طال زمن الهدم في هذه الأمة لاتفاق رؤساء الدين مع رؤساء الدنيا عليه،
ولكن قد تباينت الرغائب في هذا العصر لا سيما في البلاد الهندية والعثمانية
والمصرية؛ فقد دخلت في الأمم بعض العلوم العصرية، والأعمال المدنية؛
فانقسمت الأمم إلى قسمين عظيمين: قسم يريد المحافظة على التقاليد والعادات
القديمة باسم الدين، وسلاحه موافقة العامة، وقسم يريد الانسلاخ منها، وأكثر أهله
من الخاصة. وأهم ما استفاد هذا القسم من التعليم الجديد حرية الفكر؛ لذلك تولد من
بين هذين الزوجين قسم ثالث يريد التوفيق بينهما وإقناع الجميع بأن الإسلام دين
الفطرة والمدنية ودين العلم والعقل، والمنار إنما أنشئ لهذه الدعوة وتأييد هذا
الحزب وتنميته، والرجاء بالله أن يكون هذا الحزب هو الفائز والعاقبة له {فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) .
__________
(1) قال تعالى: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ] (الحديد: 25) والمراد بالميزان: البرهان العقلي في العقائد والعدل في الأحكام.(7/48)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطبة من خطب عمرو بن العاص
منقولة من الجزء الثالث من كتاب أشهر مشاهير الإسلام
رأينا في تاريخ ابن عساكر خطبة نفيسة لعمرو بن العاص من أحسن أقواله،
يوصي بها الناس بالقصد، وعدم السرف، وحسن معاملة القبط، وصرف العناية إلى
خيل الجند بالقيام على تربيتها وسمنها، وغير ذلك من الوصايا الجميلة النافعة رواها
ابن عساكر عن بُحَير بن داخر المعافري قال:
ركبت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة، وذلك آخر الشتاء بعد حمم (كذا)
النصارى بأيام يسيرة فأطلنا الركوع؛ إذ أقبل رجال بأيديهم السياط يؤخرون الناس
فذعرت، فقلت: يا أبت من هؤلاء؟ قال: يا بني هؤلاء الشُّرَط. وأقام المؤذن
الصلاة فقام عمرو بن العاص على المنبر فرأيت رجلاً قصير القامة أدعج أبلج [1]
عليه ثياب موشية (أو موشاة) كأن بها العقيان [2] تتألق عليه وعمامة وجبة , فحمد الله
وأثنى عليه حمدًا موجزًا، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ووعظ الناس
فأمرهم، ونهاهم فسمعته يحض على الزكاة وصلة الرحم وينهى عن الفضول وكثرة
العيال، وقال في ذلك:
يا معشر الناس إياي وخلالاً أربعًا فإنها تدعو إلى النَّصَب بعد الراحة، وإلى
الضيق بعد السعة وإلى الذلة بعد العز؛ إياي وكثرة العيال، وانخفاض الحال
وتضييع المال، والقيل بعد القال في غير دَرَك ولا نوال، ثم إنه لا بد من فراغ يؤول
المرء إليه في توديع جسمه والتدبير لشأنه، وتخليته بين نفسه وبين شهواتها، فمن
صار إلى ذلك؛ فليأخذ بالقصد [3] والنصيب الأقل، ولا يضيع المرء في فراغه
نصيب نفسه من العلم، فيكون من الخير عاطلاً، وعن حلال الله وحرامه عادلاً، يا
معشر الناس قد تدلت الجوزاء وركبت الشعرى، وأقلعت [4] السماء وارتفع الوفاء
وطاب المرعى، ووضعت الحوامل، ودرجت السمائم [5] وعلى الراعي حسن النظر. فحي بكم على بركة الله على ريفكم، فتناولوا من خيره ولبنه ومرافقه وصيده ,
وأربعوا بخيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها فإنها جنتكم [6] من عدوكم وبها
تنالون مغانمكم، وتحملون أثقالكم، واستوصوا بمن جاورتم من القبط خيرًا. وإياي
والمومسات [7] المفسدات؛ فإنهن يفسدن الدين، ويقصرن الهمم، حدثني عمر أمير
المؤمنين، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله سيفتح عليكم
بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرًا فإن لكم منهم صهرًا وذمة) فكفوا أيديكم،
وفروجكم وغضوا أبصاركم فلأعلمن ما أتاني رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه [8]
من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك , واعلموا أنكم في رباط الى يوم القيامة؛
لكثرة الأعداء حولكم، ولإشراف قلوبهم إليكم وإلى داركم، معدن الزرع والمال
والخير الواسع والبركة التامة. حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: (إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندًا كثيفًَا فذلك الجند
خير أجناد الأرض) فقال له أبو بكر: ولِمَ ذاك يا رسول الله؟ قال: (لأنهم في
رباط إلى يوم القيامة) . فاحمدوا ربكم معشر الناس على ما أولاكم وأقيموا في ريفكم
ما بدا لكم. فإذا يبس العود، وسحق العمود، وكثر الذباب، وحمض اللبن،
وصوَّح [9] البقل، وانقطع الورد، فحي على فسطاطكم على بركة الله , ولا يقدمن أحد
منكم على عياله إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطلق من سعته أو عسرته) اهـ.
(المنار)
هكذا كانوا يخطبون الناس يعلمونهم ما به صلاح دينهم ودنياهم،
ويرشدونهم إلى حسن العمل في المعايش، وحسن المعاملة مع الموافق والمخالف،
فليعتبر بهذا خطباء التقليد في هذا العصر إن كانوا يفقهون. و (السمائم) نوع من
الطير: و (السماسم) النمل و (الشعرى) الكوكب الذي يطلع في الجوزاء، وذلك
عند إقبال الحر فهو يقول: ذهب الشتاء وجاء وقت العمل والحرث. والوصية من
النبي وعمر وبالمرابطة في مصر تدل على أن هذه البلاد لا تحفظ من اعتداء الأجانب
إلا بالقوة الجندية الدائمة، فإنها مقصودة من الفاتحين لخيرها وضعف أهلها، ولكن
المسلمين المتأخرين والمتوسطين لم يفهموا ما يؤثر عن الأولين.
__________
(1) الأدعج: أسود العينيين، والأبلج: المضيء المشرق.
(2) العقيان: الذهب الخالص.
(3) أي: بالاعتدال.
(4) وأقلعت السماء أي: كفت وهو كناية عن انقطاع المطر.
(5) كذا في الأصل ولعلها: السوائم وهي الماشية.
(6) الجنة هي: الوقاية.
(7) العواهر.
(8) جواب قسم محذوف أكد بالنون الثقيلة، وما: مصدرية؛ أي: فوالله لأعلمن إتيان رجل موصوف بما ذكر وفي طيه من الترهيب البليغ ما لا يخفى، وقد بين بعد جزاء من فعل ذلك بقوله فمن أهزل فرسه إلخ.
(9) صوح؛ أي: يبس أعلاه.(7/52)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السؤال والفتوى
البعث الجثماني
(س5) عبد الرحيم أفندي محمد القناوي الحسيني بمدرسة الحقوق
بمصر تحادثت مرة مع صديق عن كيفية البعث والنشور , وهل الحشر والحساب
يكونان بالأجسام التي نحن بها في عالم الدنيا كما جاء في أصول الشريعة، أم بغير
ذلك، فأنكر عليَّ أن الحشر يكون بالأجساد , وعد ذلك من المستحيلات مستندًا في
رأيه على ما درسه من علوم الطبيعة حيث تقرر بها أن العلم التجريبي أثبت أن
المادة لا تزيد ولا تنقص ولا تنعدم مطلقًا، وأن جميع الكائنات من نبات وجماد
وحيوان تتداخل وتتناسخ، فإذا مات الإنسان وصار رفاتًا تحلل جسمه إلى العناصر
البسيطة الأولية التي يتركب منها كالكربون والأزوت، وقد ذهب بعض علماء
الكيمياء إلى أن الجسم يتركب من سبعين عنصرًا مختلفة، فهذه العناصر التي
يتركب منها الجسم حال وجوده لا تنعدم بعد فقده، وإنما تحلل تحليلاً كيماويًّا،
وينفرد كل عنصر على حدته، ثم يمتزج بما يلائمه من المواد الأخرى، ومن
ذلك تتكون الأسمدة والأسبخة التي تتغذى منها النباتات والأشجار، ومنها يأكل
الإنسان؛ فيتغذى جسمه وينمو، وبهذه الواسطة تتكون الأجسام الحية من
ثمرات البالية المندثرة , وهكذا تتقدم تلك الأجسام الحية وتتكون منها أجسام أخرى
حتى يأذن الله؛ إذا تقرر ذلك نتج بلا شك أن جثمان أحد معاصرينا مثلاً مركب
من عدة أجسام تحللت , وقد دخلت في تكوينه بواسطة الطريقة المتقدمة؛ فإذا
سلمنا بأن الحشر سيكون بالأجساد التي نحن بها في الدنيا فكيف يمكن حشر هذه
العناصر إذا جاء يوم الحساب؟ بل كيف يمكن حشر العالم بأجمعه منذ خلق الدنيا؛
لأن المادة الموجودة لا تكفي لذلك؟ فدعتني الحالة إلى تحرير ذلك إليكم؛ لتزيلوا
بفضل علمكم كل شبهة تتعلق بهذا الموضوع، والسلام عليكم.
(ج) إن علم الكيمياء قد قرب بارتقائه مسألة حشر الأجساد من العقل، وأدناها
من التصور حتى صرنا نبحث في كيفيتها بحثًا علميًّا. على أن أمور الآخرة من
عالم الغيب التي يكتفى فيها بالتسليم الإجمالي من غير بحث في الكيفية، وإنما
يشترط فيها أن تكون من غير المحال عقلاً؛ فليس لنا أن نبحث عن كيفية البعث،
ولا عن كيفية الحساب، ولا عن كيفية الجزاء في دار النعيم ودار العذاب متى علمنا
أنها ممكنة.
أما شبهة محادثك التي صورت له البعث بالروح والجسم معًا محالاً فهي واردة
على أقوال بعض العلماء أو أكثرهم؛ إذ زعموا أن البعث إنما يكون بالجسم الذي
عمل به الإنسان أعماله التي يجازى عليها. ولم يرد هذا القول في النصوص
الإلهية؛ وإنما هو شيء استنبطوه بأقيستهم، وفلسفتهم النظرية؛ إذ قالوا: لا يجوز
أن يقع الجزاء إلا على الجسم الذي تلبس بالعمل لئلا يكون الجزاء على غير العامل.
ويا ليت شعري! ماذا يقول هؤلاء إذا اطلعوا على ما أثبته العلم حديثًا من تبدل
مادة جسم الإنسان في كل بضع سنين مرة؟ ! بمعنى أن الأجسام التي نعيش بها
اليوم ليست عين الأجسام التي كانت لنا قبل هذه المدة. أيقولون فيمن ارتكب ما
يوجب الحد وغاب مدة يثبت العلم أنه قد تحلل فيها كل جسمه الذي زاول به ذلك
العمل السيء أنه لا حد عليه، ولا جزاء؛ لأن الجسم الذي عمل قد ذهب وحل
محله جسم آخر؟
إن الدين قد أثبت أن للناس حياة أخرى بعد هذه الحياة، وإنما الناس خلق
مركب من جسد وروح؛ وسيكونون في الحياة الثانية ناسًا كما كانوا في الحياة
الأولى؛ إلا أن تلك الحياة أرقى من هذه الحياة للراقين، وأسفل منها للمتسفلين.
فمن عرف ما هو الإنسان بحسب العلم الحديث سهل عليه أن يقبل هذا الاعتقاد؛ لأنه
يعلم أن الحياة صفة لازمة للروح وأن ظهور الأرواح في الصور المادية هو الذي
يعطي المادة الحياة، وبهذه الحياة تأخذ من عناصر الطبيعة ما يكون ممدًّا للجسم
الذي تظهر فيه , وعوضًا عما يتحلل منه ويندثر كل آن، وبها يكون الجديد كالقديم
في وضعه، وصفاته الصورية والمعنوية بحيث لا يكون الإنسان المعين بتحلل جسمه
الأول وحدوث جسم جديد له إنسانًا آخر.
وإذا فهمنا هذا نفهم أنه لا يشترط في تحقق الحياة الثانية أن تكون مادة الجسم
هناك عين مادته هنا مادة ثابتة مستقرة بذاتها وعينها، وإنما هي مواد معينة بالتعيين
النوعي دون الشخصي؛ فالعناصر البسيطة لا تشخص في أجزائها ما يميز جزءًا عن
جزء، وإنما هي كالثياب تتجدد على كل حي ويبق هو هو {وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ
تَعْلَمُونَ} (الواقعة: 61) .
والقول بأن كل جزء من أجزاء العناصر دخل في بدن إنسان لا بد أن يعود بعينه
في الآخرة إليه فلسفة باطلة، وهو محال كما قال محدث السائل؛ لأن هذه الأجزاء
كما دخلت في بدن زيد دخلت في أبدان الألوف وألوف الألوف من الناس والحيوان
والنبات؛ ولأن هذا القول يقتضي أن يكون كل شخص في الآخرة كبير الجرم جدًّا
إلى درجة لم تخطر على بال أحد، حتى الذين قالوا: إن طول الإنسان في الجنة يكون
ستين ذراعًا.
ولا يقال: إن مادة الأرض لا تكفي لأجسام جميع من عاشوا عليها إذا عادوا
كلهم أحياء في ذلك اليوم الآخر؛ لأن الحياة الأخرى ليست على هذه الأرض وإنما
تكون {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَات} (إبراهيم: 48) وإنما يكون
خراب العالم باصطدام الأرض بأحد الأجرام السماوية، ثم بانتثار الكواكب
ورجوعها هباء (أو سديمًا) كما كانت قبل هذا التكوين {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجاًّ *
وَبُسَّتِ الجِبَالُ بَساّ} (الواقعة: 4-5) أي: تفتت {فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثاًّ} (الواقعة:
6) ، {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} (الانفطار: 1-2) وفي
معنى هذه الآيات آيات كثيرة فالنشأة الآخرة تكون في كوكب أو عالم أكبر من هذا
العالم، والأرواح الخالدة تأخذ منه مادتها؛ ويكون الناس هم هم كما يتبدل جسم
الإنسان في الدنيا عدة مرات ويبقى هو هو في عقائده وأخلاقه وعاداته، والله أعلم
وأحكم.
* * *
علم الغيب للأنبياء
ومسألة كتابة عمر للنيل
(س6 و7) الدكتور نصر أفندي فريد بالمنصورة: جمعنا مجلس
علمي تناقشنا فيه مع أحد أفاضل الأزهريين إذ تنبأ أن المحكمة ستبرئ متهمين في
قضية , فقلنا له: لا يعلم الغيب إلا الله. فقال: إن لي حجة في قوله تعالى: {إِلاَّ
مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 27) قلنا: لست برسول. فقال: يقصد
برسول هنا في اللغة ما يعم، لا النبي المرسل المصطلح عليه فقط. فحاججناه فلم
يقتنع , ثم دار بنا الحديث على مسألة كتابة عمر - رضي الله عنه - ورقة للنيل في
مسألة الفيضان المعلومة. فقلنا له: إنها خرافة وثنية مخالفة للدين , وقد كنا قرأنا
ذلك في مناركم الأغر لكننا لم نعثر عليه الآن فنرجو نشر ذلك مع الفتوى في
مناركم الأغر إحقاقًا للحق وإزهاقًا للباطل حتى لا تعم هذه الخرافات التي أضرت
بالدين الحنيف.
(ج) قوله تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ
ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26-27) يراد بالرسول فيه: النبي المرسل المبلغ
عن الله تعالى دينه بدليل قوله تعالى في الآية التي بعد هذه: {لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا
رِسَالاتِ رَبِّهِم} (الجن: 28) فقول الأزهري: إن لفظ الرسول هنا عام يشمل
النبي المرسل وغيره باطل لا وجه له ويا ليتكم سألتموه عن هذا العموم اللغوي أيدخل
فيه كل رسول أرسله إنسان في حاجة له أم يشمل بعض رسل الناس دون بعض؟
وما معنى العموم حينئذ؟ وإننا لنعلم أن كثيرًا من الذين أخذوا بعض قشور العلم
يحرفون كل كلام حتى كلام الله تعالى ليؤيدوا دعاويهم أمام الناس , وأن هذا من أكبر
أبواب الفساد الذي طرأ على العلم والدين , ولكنهم كانوا يحرفون ويأولون ما يحتمل
ذلك بحسب اللفظ في الجملة. وما رأينا أحدًا تجرأ مثل أزهريكم على تحريف
القطعي تفسيرًا للقرآن برأيه وهواه نعوذ بالله , ولو صح أن يكون مثل هذا رسولاً
لما كان ممن ارتضى الله.
ثم إن المراد بالغيب الذي يظهر الله من ارتضى من رسله عليه هو: عالم
الآخرة فقد أظهرهم على أمر الحساب والجزاء، وأعلمهم بأن هناك دارًا للنعيم، ودارًا
للعذاب وأطلعهم على عالم الملائكة ... إلخ، ما أبلغوه من رسالات ربهم كما هو
منصوص في الكتاب العزيز، وليس معناه أن الله تعالى يطلع الرسل على ما غاب من
أمر العباد وما يجري لهم في الدنيا من رزق ونعيم وبلاء وغير ذلك، والدليل على أن
هذا غير مراد ما أمر الله تعالى خاتم النبيين أن يبلغه للناس عن نفسه بقوله: {وَلَوْ
كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) وما حكاه أيضًا عن غيره من رسله، كقوله عن لسان
نوح عليه السلام: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي
مَلَكٌ} (هود: 31) ... إلخ، وأمر نبينا بمثل هذا في سورة الأنعام.
وأما مسألة النيل فقد كان من وثنية قدماء المصريين الاعتقاد بأن النيل مقدس أو
إله، وأن عمر بن الخطاب عليه الرضوان أبطل خرافة إلقاء البنت العذراء فيه كما
نقل، والقصة مبسوطه مع تأويلها في مجلد المنار الثاني فلتراجع في مبحث الكرامات
المأثورة (ص 550) .
* * *
البدعة الدينية والبدعة الدنيوية
(س 8) ا. ش. التتاري بروسيا: إيش معنى البدعة والمحدثة في قول
النبي صلى الله عليه وسلم: (وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في
النار) ومعنى السنة الحسنة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة
حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها) ؟ وقد قسم بعض العلماء البدعة إلى حسنة
وسيئة وبعضهم يقول: إن كل بدعة سيئة، وضلالة كما في الحديث والمراد من السنة
الحسنة الشيء الآخر فكيف العمل دام فضلكم؟
(ج) كل ما أحدثه الناس في أمر الدين ولم يأخذوه من كتاب الله أو سنة
رسوله المبينة لكتابه فهو بدعة سيئة وضلالة يستحق متبعها العقوبة في النار، وإن لم
يصح في الحديث زيادة: (وكل ضلالة في النار) فقد أتم الله الدين وأكمله فمن
زاد فيه كمن نقص منه كلاهما جان عليه وغير راض بما شرعه الله، وأعني
بالدين هنا: مسائل العقائد والعبادات والحلال والحرام دون الأحكام الدنيوية التي
فوض الشرع أمرها إلى أولي الأمر ليقيسوها على الأصول العامة التي وضعها
لها. ذلك أن الجزئيات لا تنحصر فيحددها الشرع؛ بل تختلف باختلاف العرف
والزمان والمكان؛ فمن ابتدع طريقة لتسهيل التعامل أو التقاضي غير ما كان
عليه السلف؛ وكانت نافعة غير منافية للأصول الشرعية العامة كبعض نظام
المحاكم الجديد؛ كان له أجر ذلك.
وأما ما يعتقد في الله واليوم الآخر , وما يتقرب إلى الله تعالى به من العبادة فهو
لا يختلف ولذلك لا يقبل رأي أحد فيه , بل يؤخذ كما ورد عن الشارع من غير زيادة
ولا نقصان، وإننا لنعجب من الذين زادوا في العبادات أحكامًا وأذكارًا، وأورادًا كيف
غفلوا عن تقصير الناس في القيام بما ورد فقاموا يطالبونهم بأكثر منه , وقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأعرابي الذي حلف أنه لا يزيد على ما فرض الله
عليه شيئًا , ولا ينقص منه شيئًا: (أفلح الأعرابي إن صدق) وهذه أذكار
القرآن وأدعيته لا نكاد نرى مسلمًا من أهل الأوراد يدعو بها كلها، فهل كانت أدعية
شيوخهم المخترعة خيرًا منها؟ على أن الدعاء بغير ما ورد لا يعد بدعة إلا إذا كان
مخالفًا لما ورد، أو كان معه بدعة أخرى كاتخاذه شعارًا دينيًّا والتزامه في مواقيت
معينة.
وأما السنة الحسنة والسنة السيئة في الحديث الآخر فهي تشمل كل ما يخترعه
الناس من طرق المنافع والمرافق الدنيوية أو طرق المضار والشرور , فمن اخترع
طريقة نافعة؛ كان مأجورًا عند الله تعالى ما عمل الناس بسنته، وله مثل أجر كل
عامل به؛ لأنه السبب فيه، وكذلك حكم مخترعي طرائق الشرور والمضار،
كالضرائب والغرامات والفواحش عليهم وزرها ما عمل الناس بها كما تقدم، ونظن أن
قد سبق لنا الإلمام بهذا المعنى , وقد أوضحناه أتم الإيضاح في كتابنا (الحكمة
الشرعية) فعسى أن نوفق لطبعه.
وقالوا: بدعة حسنة وبدعة سيئة وهو يصح في البدعة اللغوية أو الدنيوية،
ومن قال من العلماء: إن البدعة لا تكون إلا سيئة أراد البدعة الشرعية - أي:
الابتداع في الدين - وقد ذكر نحو هذا ابن حجر في الفتاوى الحديثية.
* * *
كيفية زيارة قبور الصالحين
(س 9) محمد أفندي صدقي بزفتى طالعنا ما نشرتموه في شأن البدع التي
تحصل عند زيارة مقامات الأولياء مما تكافئون عليه من الله بأحسن الجزاء،
ونسأل الله أن يوفقكم إلى تربيتنا وهدينا إلى سواء السبيل، ونرجو أن ترشدونا إلى
ما يحسن اتباعه عند زيارة هذه المقامات خصوصًا مقامات آل البيت ولكم الشكر.
(ج) لم يرد في الكتاب ولا السنة التي يحتج بها شيء في زيارة قبور
الصالحين خاصة , بل كان النهي عن زيارة القبور في أول الإسلام مقصودًا به إبعاد
المسلمين عن مظنة تعظيم قبور الصالحين، ولما أذن النبي بعد ذلك بالزيارة
للرجال , وعلل ذلك بأنها تذكر بالموت أو بالآخرة ظل ينهى عن تشريف
القبور وبناء المساجد عليها، وعن الصلاة بالقرب منها , وعن إيقاد السرج عليها
وكان يلعن فاعلي ذلك , وقال في بعض هذه الأحاديث: (أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا ... إلخ) كما في مسند أحمد وصحيحي
البخاري ومسلم وغيرها من الكتب. فعلم من هذه الأحاديث أن زيارة قبور الصالحين هي مظنة الفتنة وتعظيم ما لم يأذن الله بتعظيمه، لا سيما إذا كانت هذه القبور
محاطة بالبدع كبناء المساجد عليها , وإيقاد الشموع عندها، والصلاة بالقرب منها،
والتمسح بأحجارها ونحاسها، والتماس الخير ودفع الشر منها بالاستقلال أو
الواسطة. فهذه البدع والمنكرات تجعل زيارة قبور الصالحين دون زيارة سائر
القبور التى تقل عندها المنكرات إلا إذا كان من يحضر عند تلك القباب والمساجد
يأمر بالمعروف وينهى عن كل منكر يراه. فإن كان لا يفعل هذا فأي فائدة له من حمل حرمة السكوت على المنكرات الكثيرة لأجل فائدة الزيارة التى لم تفرض عليه , ولم تسن له، ولم تعهد من الصحابة عليهم الرضوان، وغاية ما فيها أن النبى صلى الله عليه وسلم أذن بها لأجل الاعتبار بعد النهي والمنع، والأمر الوارد على منهي عنه يفيد الإباحة وأكثر ما فيه أن يقال: هو مستحب إذا خلا من
كل منكر.
على أننا مع العلم بهذا كله قد اهتدينا لحكمة ومنفعة خاصة لزيارة قبور
المعروفين بالعلم والصلاح، وبيناها فى المنار من قبل، وهى تذكر تاريخهم
وسيرتهم الحسنة، وما يبعث فى النفس حب التأسي بهم فى طاعة الله، وخدمة الحق،
وخذلان الباطل، وهذا المعنى هو المراد من قول بعض العلماء: إن فى زيارة قبور
العلماء العاملين والصالحين بركة، فإن البركة هي الزيادة، والزيادة لا بد أن تكون
فى شيء مزيد فيه، ولا شيء في مقام الزيارة موضع للمزيد إلا الاعتبار المقصود
من الزيارة شرعًا. ويستحب للزائر أن يسلم ويدعو للمزور، كما ورد فيقف متأملاً
معتبرًا داعيًا مستعبرًا. فهذه هى الزيارة المحمودة، والأحاديث صريحة في أن
الرخصة فى زيارة القبور خاصة بالرجال فلا تجوز للنساء.
* * *
(تشييع الجنازة)
(س10) ومنه: نرجو الإفادة عما يجب اتباعه في تشييع جنازة الميت وهل
يجوز ما هو شائع الآن من قراءة القرآن والأذكار والصلوات وغير ذلك في الشوارع
والأسواق أم لا؟ والله المسؤول أن يبقيكم ويجعلكم خير مرب للأمة آمين.
(ج) الذي يستفاد من الأحاديث الصحيحة أنه يستحب الإسراع بالجنازة،
ويحرم اتباع المصحوبة بنائحة، وقد ذكرنا من قبل أن هذه الأذكار والأشعار والترانيم
التي يصيح بها المسلمون أمام الجنازة مبتدعة، وأنها سرت إليهم من الملل الأخرى ,
وأظن أن أكثر الناس لا يزالون يعرفون هذا فإننا نسمعهم يقولون فى الجنازة التى لا
أصوات معها: إنها على السنة. وإن لكل حالة عبادة تناسبها ولا أفضل لمشيع
الجنازة من التفكر فى الموت وما بعد الموت.
__________(7/54)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نظام الحب والبغض
تابع
حب القوة.. رابطة المدنية
ويظهر أن أول مال تموله الإنسان هو ما أسره من الحيوانات الكثيرة التي سهل
عليه أسرها وتأنيسها؛ أي: جعلها أنيسة غير نافرة ولا عادية. وبهذه الحيوانات التي
طفقت تتناسل وتتزايد في ظل حمايته ورعايته وعنايته قد استغنى أولئك الأوائل
بعض الاستغناء عن الكد في الصيد. فإن الفاطر أوحى إليهم أن يجربوا ألبان
الحيوانات المأسورة فرأوا أن ألبان البعض منها غذاء طيب ساد عن كل شيء ,
ووجدوا بعد هذا أن اللحوم أمر زايد يجنحون إليها إذا ما وجدوا في أنفسهم سآمة من
الألبان.
ولا يبعد أنهم قبل أن يتمولوا هذا المال كانوا يجتزءون بالعشب والحبوب يوم
لا يجدون مصيدًا؛ ولذلك بقوا يحنون إلى بعض الأعشاب التي استطابوها بعد أن
جربوا هذا الغذاء الكافي. وربما كان تخصيص بعض الحبوب والنباتات بالأكل تطلبًا
بوحي وإلهام، ثم اعتادوها دائمًا حتى صاروا يدخرونها؛ ولذلك يجوز لنا أن نظن أن
المال الثاني الذي تموله النوع هو ما اعتاد أكله الإنسان مما تخرج الأرض من نباتها
وحَبها؛ فكأن طفق فريق منهم يجمعونها ويدخرونها، ثم وجدوا حرجًا في جمعها حبة
حبة مثلاً من كل بقعة فرأوا أن يبذروها في بقاع خاصة فحدثت لهم صناعة الحرث
والزرع، ولا تنسوا تلك المدى الصوانية فهي التي نجرت لهم المحراث الذي
يبحثون به في الأرض ليدفنوا به الحبوب , وهي التي نجرت المدق لاستخراج
الحبوب.
ولما كان المزروع يستدعي الحفظ من الحيوانات طواعم الأعشاب , وادخار
الحبوب ليوم البذار؛ ليستدعي أماكن يؤمن فيها من البلل الضار بها؛ احتاج الذين
عنوا بهذا المال الثاني إلى الإقامة بجوار الأرضين التي يبذرون فيها، واحتاجوا إلى
اتخاذ بدل عن تلك الأخبية التي لا تقي الحبوب الكثيرة من البلل، فرأوا أن يقلدوا
الغيران، ويتخذوا لهم ولحبوبهم أماكن ثخينة يؤلفونها من الحجر والتراب، أو من
الأعواد والتراب، وليس ببعيد أن يكونوا تعلموا صنعة البناء من الحيوانات الصغيرة
التي تدخر الحبوب كالنمل مثلاً كما تعلموا صنعة النسيج من الحيوانات التي تنسج
كالعنكبوت مثلاً، ولكن الأقرب أن يكونوا تعلموا كل أوائل الأشياء بإلهام من الفاطر
كما أن الحيوانات كلها تعلمت ما تحتاج إليه بحسب خلقتها بإلهام منه - جل وعلا -
ثم عجز هؤلاء الزراع عن أن يتمولوا الكثير من الحيوانات المأسورة؛ لأن
العناية بها تقتضي الرحيل الدائم لأجل تتبع الأرضين التي فيها الكثير من العشب
الطبيعي , وعجز أولئك الرعاة عن أن يتمولوا الكثير من تلك الحبوب التي تقتضي
الإقامة، والاشتغال بالحرث وتوابعه؛ فانقسم الذين كانوا مجتمعين إلى فريقين: فريق
المتمولين من الحيوانات، وفريق المتمولين من الحبوب. واختار كل من الفريقين ما
مالت إليه نفسه من المال، ودأب يسعى في تنميته والإثراء منه، وبحسب هذا
الانقسام انقسم الوطن إلى قسمين، وطن الرحَّل، ووطن المقيمين. وأصبح كل من
الرحل والمقيمين محتاجين في الحقوق والمعاملات التي بينهم أنفسهم إلى ناموس.
ومحتاجين إلى ناموس آخر في الحقوق والمعاملات التي بينهم وبين الآخرين.
ويمكننا أن نسمي الأول بالسياسة الداخلية، والثاني بالسياسة الخارجية.
وههنا حان لنا أن نأتي القراء بالإشارة إلى أقسام النظامات التي تندرج تحت
تينكم السياستين؛ لتعلموا أن الشرائع كتربية الأخلاق قديمة جدًّا ينتهي قدمها إلى
أوائل المجتمعين من البشر، وذلك لا يعلمه إلا الذي خلق. وبذلك تعلمون قدم عهد
المدنيات التي بسطنا هذا الكلام لتشريح شيء من بنيتها التي عظمت جدًّا. والخالق
أعلم بما سيكون.
فمن تلكم الأقسام نظام المبادلات والمعادلات , وبدون هذا النظام لا يتم اجتماع
صالح للنمو والأمن والتميز على الحيوانات، وفيه أقسام:
(1) شريعة البيوع، وهو اللازم العاشر.
(2) شريعة الإجارات وهو اللازم الحادي عشر.
(3) شريعة القسمة: وهو اللازم الثاني عشر.
و (4) شريعة القروض والودائع والعواري، وهو اللازم الثالث عشر.
و (5) شريعة الغصب والإتلاف، وهو اللازم الرابع عشر.
ومنها نظام المواريث , وهو اللازم الخامس عشر، وهذا أيضًا من
الضروري؛ لأنه إذا مات الواحد لابد من أن يأخذ ماله الأحياء فمن هو الأحق بأخذه.
ومنها نظام الجزاء: وهو اللازم السادس عشر فبدون الجزاء يتمادى المعتدي
وينتفي الأمن.
ومنها نظام حماية الضعفاء: وهو اللازم السابع عشر فبدون تي الحماية يؤول
الأمر إلى عدم تكاثر القليلين، وهم إلى ذلك محتاجون.
ومنها نظام المعاهدات الخارجية: وهو اللازم الثامن عشر فبدونه لا يتسنى
لسكان الأرض من البشر أن يستريحوا طرفة عين، ولولاه لما نما البشر , ولما أخذ
النوع حظه من التميزات، والارتقاء البديع.
ومنها نظام إحداث القوة وهو اللازم التاسع عشر.
وفي هذا أقسام:
(1) ركز القوة في مركز؛ أي: إقامة الرئيس ونصبه.
(2) طاعة المرءوسين للرئيس.
(3) تسليم القوة للرئيس.
(4) شروط الرئيس والرئاسة والطاعة , واستلام القوة والتصرف بالقوة،
وحدود كل من المذكورات ومقاديرها.
ومنها نظام وضع النظامات. وهو اللازم العشرون. وما أخرناه في الذكر إلا
لأنه يتأخر حدوثه في المجتمعين؛ لأنهم يضعون النظامات أولاً من غير نظام
فيظهر فيها خلل ما قليل أو كثير؛ فيحتاجون لنظام النظامات، قانون القوانين
ناموس النواميس، شريعة الشرائع.
هذه الشرائع والنظامات، أو هذه اللوازم والمقتضيات هي جُل، أو كل
الأصول التي يخوض في جداول فروعها علماء الأخلاق وعلماء الشرائع. وإن
كنت قد نسيت شيئًا فليس على من قرأ هذا النموذج أن يحصي ما نسيت مع ما
ذكرت.
وكل ما أحصيناه يحتاج إليه الفريق الرحَّل كالفريق المقيمين غير أن الرحَّل
الرعاة بما جمدوا على ذلك المال الواحد , وبما رضوا من الحياة البسيطة التي لا
زينة فيها؛ بقوا في أمر هذه الشرائع على سذاجة الفطرة أو ما هو قريب منها،
وأما المقيمون فإنهم ما زالوا يتقلبون في الحاجات التي يسوقهم إليها حب الزينة
(الذي يألف المقيمين وينيخ لديهم) حتى توسعوا في الحياة؛ فاحتاجوا أن يتوسعوا
في أمر الشرائع. ويظهر أن هؤلاء المقيمين بعد أن اختاروا الإقامة لأجل زرع
الحبوب وحفظها، وما هو من بابها بدأوا يطلعون بواسطة البحث في الأرض للبذر
فيها على ما في خزائن الأرض مما نسميه (المعدن) وهو المال الثالث , ثم أخذوا
يصطنعون من المعدن، وبواسطة المعدن مصنوعات كثيرة زائدة وهي المال الرابع.
ولا مجال للظن في معرفة أول معدن اطلع عليه البشر، وعرفوا خاصته
ولكن يمكننا أن نظن أن الإنسان بقي في أبسط الحالات حتى اكتشف سر النار ,
وأنه لم ينفعه شيء من المعادن مثل ما نفعه الحديد؛ لأن الحديد أبو الآلات كلها ,
ففي اليوم الذي عرف الإنسان خاصة الحديد دخل في دور جديد؛ وذلك لأن
اجتماع مائة إنسان مثلاً في أرض واحدة، وتجاورهم في المساكن يقضي عليهم أن لا
يكونوا متحدين في الصنعة لوجوه كثيرة.
منها: أن قواهم البدنية تختلف فمنهم من يستطيع الحرث، ومنهم من لا
يستطيع، أفيترك من لا يستطيع الحرث سدى أم يعمل شيئًا آخر؟ وماذا يعمل؟
ومنها: أن قواهم العقلية تختلف فمنهم من يجد ذهنه أعمالاً غير الحرث، فهل
يجبر على الحرث أم يعمل كما وجد ذهنه؟ وما هو؟
ومنها: أن قواهم القلبية تختلف فمنهم من يقنع بحالة واحدة , ولا يغرم بالزينة ,
ومنهم من لا يقنع ويكلف بها. أفيموت قهرًا؛ لأنه لم يجد ما يقنعه؟ أم يتفكر
بإيجاد ما يقنعه؟ وما هو؟
ومنها: أن المال الواحد إذا عمل الكل على تنميته؛ نما جدًّا حتى يتعسر حفظه،
أو يصير العمل بتنميته على الدوام مع كثرته الهائلة عبثًا، فهل يشتغلون بالعبث؟ أم
يتفكرون بمال آخر؟ وما هو؟
هذه الوجوه المبينات هي الحاكمة على مائة مجتمعين معًا أن يتفكروا فيجدوا
بأذهانهم ما هي تلك الأشياء المسئول عنها من الأعمال والصنائع اللازمة، وبعد أن
يجدوا بأذهانهم يعمل كل واحد منهم في العمل الذي استعد له بحسب بدنه، بحسب
عقله، بحسب قلبه؛ وإذا كان عشرة من المائة يكفونهم جميعهم الهم في تحصيل
الحبوب اللازمة مع الزيادة، فماذا يصنع التسعون؟ ثم إذا وسعنا هذا المقياس نرى
أن ألف ألف من البشر يكفيهم في الحرث مائة ألف مثلاً فماذا يصنع (900000) ؟
ليس شيء أسهل من أن يقول السامع: يشتغل هذا العدد بصناعات متعددة.
نعم، ولكن بم يصنعون؟ أبأيديهم اللحمية؟ أم بآلاتهم الأولى الخشبية؟ أم بمداهم
الأولى الصوانية؟
لا يسهل الجواب عن هذا إلا من بعد معرفة خاصة الحديد والاستفادة منه ,
فإنه في ذلك اليوم الذي عرف فيه الحديد تعددت المصانع، فاتسعت المزارع،
فتوفرت المتاجر، فتعظمت الشرائع.
وإننا لنعلم أنه ليس لأحد غير الخالق علم بكل ما تقلب فيه الإنسان من
الأطوار لا سيما التي في بدء أمره، ولكن جرأنا على هذه الظنون اعتقادنا أن هذا
النوع لم تخلق له كل العلوم والصنائع التي نراها اليوم مثلاً يوم خلق، وحملنا
عليها اعتقادنا أن الاجتماعات العظيمة في النوع إنما كانت على التدرج , واعتقادنا
أن لكل اجتماع خواص تقتضي ظهور أمور جديدة، فتتبعها تلك المقتضيات وتظهر
بسرعة أو بطء على قدر الاقتضاء.
على أننا إذا لم نجل الخاطر فيما جرى للأولين لا يكمل تفقهنا في أحوال
الحاضرين، ولا نكون قد أخذنا لأنفسنا حظًّا من لذة النظر في مرائي الكون
الإنساني التي تتجلى فيها الصور على أنحاء شتى بعضها في نظرنا أجمل من
بعض، ولاحَظَّ من فائدة التفكر لوجدان أسباب معقولة لمسببات محسوسة، ووجدان
حلق مجهولة تتصل بها الحلق المعلومة.
نحن اليوم في قرى ومدن، وبين أيدينا ما لا يحصي من مزارع ومصانع
ومعادن وحيوانات، ونحن اليوم جماعات كثيرة بعضنا لبعض عدو، وبعضنا
لبعض ظهير، أفخلقنا هكذا؟ أم أوصَلَنَا إلى هذا الحاضر ماضٍ طويل؟ أجيِّد لنا
هذا الحاضر؟ أيوجد أجود منه؟ هل الأجود في الحاضر؟ إن كان في الماضي فما
محاه؟ إن كان في الآتي فكيف يأتي ومتى؟
يا إخوان القراءة ألا تخطر في بالكم هذه الأسئلة؟ ألا تهيئ شئون هذه الحياة
الاجتماعية الملفقة من لبنات متعددة الألوان؟
وكيف يمكننا الجواب عنها إذا لم نجل الخاطر يمنة وشمالاً في التقلبات
الماضية؟
من أجل ذلك تكلمنا في (رابطة القومية) على نبذة من ماضي الإنسان في
تناسله وتقاربه وتباعده حتى بينا أن تلك الرابطة نافعة غير أن نفعها أبتر، وأنه قد
ينقلب نفعها ضررًا؛ إذا قاومت بأحكامها ما هو أنفع منها , ثم تكلمنا في (رابطة
الدين) على نبذة من ماضي الإنسان في احتياجاته للمصطفين الأخيار الذين يوحى
إليهم أن يعلموا البشر أعظم أركان الحكمة، وأصل الأصول في مصلحة النفس في
انفرادها واجتماعها , وبينا فوائدها في شئون نظام الاجتماع من حيث هو.
وبالجملة قد بينا في الاثنتين الأسباب التي تدعو إليهما، والنتائج التي تنتج
منهما , وبديهي لمن قرأ أنهما كلتيهما لم تنتج عنهما وحدهما هذه البزة الحاضرة
للبنية الاجتماعية. أفلا يقال: ما أحدثتها؟
إن أقل: إنما أحدثها (حب الزينة) و (حب التميز) ؛ فما كان الصواب
ليعدوني في هذه القولة، وقد قلتها من قبل في مناسبة أخرى، ولكن هل يكفي حب
الشيء في تحصيله من غير آلات؟ إن ذلك لم يكن قط. فالآلات التي تحصل
للنوع (أفرادًا ومجموعًا) ما به الزينة - على حسب اعتبار كل - وما به التميز (على حسب تصور كل) هي أعضاء هذه البنية. وحب الزينة وحب التميز روح
حركتها. والنظام الناموس، القانون، الشريعة، المنهاج روح تَعَظُّمِها وتكملها
وانبساطها.
ونسمي المجموع (رابطة المدنية) أو (رابطة الوطنية) و (رابطة
الاجتماع) أو (رابطة الحكومات) ، وقد اخترنا الأول واقتصرنا عليه؛ لأنه أظهر
دلالة بحسب اللغة والاصطلاح والحقيقة. وللكلام في هذه الرابطة التي تحدث قوة
كبرى للأمم المجتمعة نحرر هذه النبذة، وقدمنا بين يديها هذا التمهيد عسى أن يكون
موقظًا للتفكر؛ فإنما يسطع العلم في الأفكار المتهيئة.
(لها بقية)
... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(7/61)
الكاتب: أحد علماء الشيعة الأماجيد
__________
تقريظ المنار ورسالة التوحيد
لأحد علماء الشيعة الأماجيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه، وسيد أنبيائه ورسله
وعلى آله، وصحبه أجمعين.
لَمْ أكن منذ تصديت لاكتساب المعارف، والنظر في علوم الدين أرغب في
الاطلاع على جريدة، أو صرف مدة في إمعان النظر في مجلة لما انغرس في
فكري من قلة الفائدة بذلك، وتضييع الوقت حتى ملأت مسمعي ضوضاء المجلات
وتعرضها للدين. كل على حسب أغراضه ودواعيه فتاقت نفسي لمطالعة بعضها
وتفريغ وقت لتسريح النظر فيها، وأولها وقع في يدي كراريس وصحف متفرقة من
مجلة الإسلام في عصر العلم فأعجبني من منشئها الفاضل الحمية للإسلام، وعلو
همته، وتعلقه بأمور عالية يعم نفعها، وتكثر حاجة الوقت إلى بسطها ونشرها،
ونسأله تعالى أن يمده بسعة الباع، وكثرة الأعوان، وعوز الاطلاع، وقد رأيته
يدور حول مركز لا يعدوه، ويقرع بابًا ربما يفتح له إن أدمن، وإلا فحسبه ثواب
حسن النية، ولكل امرئ ما نوى، وقد انقطع صوته عني منذ برهة. وعسى أن
تفتح له أبواب مقاصده، ويتسع عليه مجاله، وتزول العوائق عن سير مجلته،
وينفع الخاصة والعامة بما يهتدي إليه ويهديه للأمة من دواء دائها العضال.
ومنذ أيام أتحفت بالمجلد الخامس من مجلتكم الغراء حسنة هذه الأيام، ونتيجة
سعد هذا الدور (منار الإسلام) بل النور الساطع في كافة الأنام، والماحي بلألائه
حنادس الظلام، ولا بدع إذا انبثق من فرع زيتونة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه
نار، وغصن شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ومن طابت أرومته وزكت
جرثومته , فهو الجدير بأن يحلو جناه، وتعرب عن طيب أصله أقواله وسجاياه.
مما استعذبته - وكلها عذب سائغ - تأليفكم بين فرق الإسلام، ورفع الوحشة
التي نشأت عليها أحداث الأمة في الأعصر الأواخر، وفشت بين العامة والخاصة
حتى فتت في عضد الاجتماع، وحلت عرى الارتباط , وخيل للسواد أن لا جامع
ولا رابط، وأن البون بعيد المسافة، والقرن مبتول ومنفصم، وجعلوا لكل فرقة
نبزًا تمتاز به، ونسبة تنحاز إليها، وما هي إلا فتنة ألقحها من الماضين حب تشتت
الرأي في ذوي الآراء، وإلجائهم للمناظرة واستحكام شبهة للبعض، حتى أصر كل
على رأيه، ولم يكن في شيء من دعائم الدين، ولا في الضروريات من أصوله،
ولا في أمهات فروعه، أترى فيهم حاشاهم من يشك في التوحيد، أو ينازع في
النبوة أو يخالف في المعاد، أو يتأمل في وجوب الصلاة , أو ينتظر في افتراض
الزكاة , أو يناقش في الحج، أو يثبط عن حفظ بيضة الإسلام وحوزته؟ كلا،
وإنما ذاك في أمور، وربما يعذر المخطئ بها بل يؤجر بعد الاجتهاد، وبذل الوسع
والطاقة في النظر بالمقدمات التي يتوقف عليها البرهان، وإتقانها وأحكامها حسب
الجهد والإمكان {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) وما هو إلا
كاختلاف الأئمة - رضوان الله عليهم - (الذي هو رحمة للأمة) في فروع لم تعلم
من نص الكتاب ولا من السنة المتواترة، ولا من إجماع الأمة والأصحاب. على
أن ذلك في الكثير يسير، وفي الباقي لفظي يئول إلى الوفاق في المقصد، والاتحاد
في المراد، وإن اختلف التعبير.
وحسبك في ذلك ما يقتبس من رسالة التوحيد لأستاذ الكل ووحيد هذا العصر
أو من نظيره قل , عليم العلوم الذي عم مده، الشيخ محمد عبده كثر الله في الأمة
أمثاله، وزاد بين الورى إعظامه وإجلاله، فكم له فيها من حز أصاب المفصل
ورمية لم يخط بها الغرض، وإن خفي على المتأمل، وتحقيق كشف به الحُجَّاب
لأولي البصائر والألباب، ولم يدع بعده عذرًا لمنكرٍ ولا مرتاب , وحاشا أن تخلو
الأرض من عامل يعمل فيها بخير وهدى، وداع يدعو فيها إلى طريق نجاة ورشاد
للورى، فكم دافع عن الإيمان بلسان أمضى من السنان، وعن الإسلام بأقلام أمض
وقعًا في الكفر من مريشات السهام، وعن الحنيفية البيضاء بمسود مداد أقطع من
البيض الحداد، أوضح مع الإيجاز أدلة التوحيد بعد إثبات الواجب بما لا يطلب
المتأمل بعده من مزيد , وجال جولة في بيان ما يمكن الوصول إليه من الصفات -
أغنى بها المنصف عن اللجاج والتعرض للهلكات - وأوجز في صفتي الكلام
والبصر ما فيه البلاغ والعبر، وتكلم في أفعاله تعالى بما يسبق إلى القلوب اعتقاده،
وألف بين الفريقين كما هو حري أن يتبع، وقرب ما توهم استبعاده، وسلك في
الجبر والاختيار جادة الاعتدال، ومال في مبحث حسن الأفعال إلى أحسن الأقوال،
وبسط القول في النبوة والرسالة حتى أوضح الحق وقمع الجهالة , وألف في مبحث
الرؤية بين الفريقين، ورفع الوحشة، وأزال النزاع من البين , وذلك الفضل من الله
يؤتيه من عبادة من يشاء , ويمنحه من سبقت له العناية فيه منذ فطر الأشياء؛
فجدير بمصر أن تفتخر بمن فيها من أفاضل العصر , وحقيق بحملة العلم في كل
قطر أن ترفع أيدي الابتهال لعزة ذي الجلال بالدعاء لكم بدوام التأييد والمجد ,
والتوفيق لنصرة الدين، وإيضاح الحق، ودحض الباطل، وإرشاد الضال , وجمع
الكلمة وإحكام الألفة بين المسلمين. إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير آمين آمين.
(لها بقية)
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(7/66)
الكاتب: حافظ إبراهيم
__________
الفتاة اليابانية والحرب
لا تلم كفي إذا السيف نبا ... صح مني العزم والدهر أبى
رب ساع مبصر في سعيه ... أخطأ التوفيق فيما طلبا
مرحبا بالخطب يبلوني إذا ... كانت العلياء فيه السببا
عقني الدهر ولولا أنني ... أوثر الحسنى عققت الأدبا
إيه يا دنيا اعبسي أو فابسمي ... لا أدري برقك إلا خلبا
أنا لولا أن لي من أمتي ... خاذلاً ما بت أشكو النوبا
أمة قد فت ساعدها ... بغضها الأهل وحب الغربا
وهي والأحداث تستهدفها ... تعشق اللهو وتهوى الطربا
لا تبالي لعب القوم بها ... أم بها صرف الليالي لعبا
ليتها تسمع مني قصة ... ذات شجو وحديثًا عجبا
* * *
كنت أهوى في زماني غادة ... وهب الله لها ما وهبا
ذات وجه مزج الحسن به ... صفرة تنسي اليهود الذهبا
حملت لي ذات يوم نبأ ... لا رعاك الله يا ذاك النبا
وأتت تخطر والليل فتى ... وهلال الأفق في الأفق حبا
ثم قالت لي بثغر باسم ... نظم الدر به والحببا
نبأوني برحيل عاجل ... لا أرى لي بعده منقلبا
ودعاني موطني أن أغتدي ... علني أقضي له ما وجبا
نذبح الدب ونفري جلده ... أيظن الدب أن لا يغلبا
قلت والآلام تفري مهجتي ... ويك ما تصنع في الحرب الظبا
ما عهدناها لظبي مسرحا ... يبتغي ملهى به أو ملعبا
ليست الحرب نفوسًا تشترى ... بالتمني أو عقولا تستبى
أحسبت القد من عدتها ... أم ظننت اللحظ فيها كالشبا
وتقحمت الردى في غارة ... أسدل النقع عليها هيدبا
قطبت ما بين عينيها لنا ... فرأيت الموت فيها قطبا
جال عزرائيل في أنحائها ... تحت ذاك النقع يمشي الهيدبى
فدعيها للذي يعرفها ... والزمي يا ظبية البان الخبا
فأجابتني بصوت راعني ... وأرتني الظبي ليثًا أغلبا
إن قومي استعذبوا ورد الردى ... كيف تدعوني أن لا أشربا
أنا يابانية لا أنثني ... عن مرادي أو أذوق العطبا
أنا إن لم أحسن الرمي ولم ... تستطع كفاي تقليب الظبى
أخدم الجرحى وأقضي حقهم ... وأواسي في الوغى من نكبا
هكذا (الميكاد) قد علمنا ... أن نرى الأوطان أما وأبا
ملك يكفيك منه أنه ... أنهض الشرق فهز المغربا
وإذا مارسته ألفيته ... حوَّلا في كل أمر قلبا
كان والتاج صغيرين معًا ... وجلال الملك في مهد الصبا
فغدا هذا سماء للعلا ... وغدا ذلك فيها كوكبا
بعث الأمة من مرقدها ... ودعاها للعلا أن تدأبا
فسمت للمجد تبغي شأوه ... وقضت من كل شئ مأربا
... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... محمد حافظ إبراهيم
__________(7/69)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(الخلافة أو الترك والعرب)
ما رأينا جريدة بينها وبين مشرب صاحبها من البون مثل ما نراه في جريدة
الجوائب المصرية فإن صاحبها خليل أفندي المطران لا يرى منه جليسه إلا الأدب
والذكاء، ونبذ التعصب والتحمس الديني , ولكنه يرى من جريدته أحيانًا ما يخالف
هذه المزايا. ذلك أن هذه الجريدة كانت أيام فتنة بيروت نارًا تتلظى من التعصب
على المسلمين , ولو كانت منتشرة في سوريا لما خمد لهيب الفتنة إلى اليوم، وإلى ما
شاء الله تعالى.
والشاهد المقصود لنا بالذات ما كتبه في مسألة (دعوى الخلافة) التي ناقشنا
فيها جريدة ترك الغراء. إذ ادعت أن العرب في جميع البلاد وسائر الشعوب
الإسلامية تحسد الترك على لقب الخلافة , ويدعي كل منها أنه أحق بالخلافة من
الترك , وإذ قامت تفاخر هذه الشعوب بتفضيل الترك عليهم , ولمَّا كنا على علم
يقيني بأن النداء باسم الجنسية والتفاخر بها والتعصب لها مما لا يبيحه دين الإسلام,
ومما يفرق كلمة المسلمين ويجعل بأسهم بينهم شديدًا؛ أنكرنا على رصيفتنا هذه
الخطة , وأكدنا لها القول بأنه لا يوجد إسلامي يفكر في منازعة الترك السلطة لأجل
لقب الخلافة , وأن العرب في الحجاز ونجد والشام ومصر وغيرها من الأقطار
يتمنون لو تدوم سلطة الدولة العثمانية مؤيدة بالقوة والعدل ما دامت الأرض والسماء ,
وأنه لا يضر هذه السلطة شيء مثل المفاخرة بالجنس التركي واحتقار سائر
الشعوب الإسلامية لإثبات فضله عليها. وقد قلنا: إن جميع من لقيناهم من كبار
رجال الترك الفضلاء قد وافقونا على اعتقادنا هذا.
فتطفلت جريدة الجوائب المصرية على الجريدتين الإسلاميتين , وافتاتت علينا
بالحكم , فكتبت في العدد الـ 354 الصادر في 12 المحرم نبذة افتتحتها بقولها:
(تشغل الخلافة أفكار المسلمين في جميع الأقطار لكثرة ادعاء الملل الإسلامية بها
فالعرب والترك يتزاحمون عليها) إلخ ما قاله مناقضًا لقولنا في الرد على جريدة
(ترك) .
وقد جعل ملة الإسلام الواحدة مللاً متعددة فكنا نداوي علة اختلاف الجنس
بمرهم الاتحاد الملي , فحكمت علينا جريدة الجوائب المصرية الغراء بأنه ملل
متعددة لا ملة واحدة , فما هذا الافتئات؟ وما هو الغرض منه يا ترى؟
ومن العجب أن هذه الجريدة على تحكمها قد تبرأت من التحكم , وزعمت أن
كلامنا ومناقشتنا تنتج التفريق الضار بجميع الأمم الشرقية فانتحلت لنفسها القصد
الذي دفعنا إلى الكلام , وكلامها ينتج نقيضه إذ أثبتت أن التنازع بين الترك والعرب
واقع بالفعل , فإذا صدقها الشعبان فإن كلاًّ منهما يعتقد أن الآخر خصمه , وإنما
نحاول نحن إقناع الفريقين بأن هذا التنازع وهمي أو خيالي لا وجود له إلا على
ألسنة أفراد من المنافقين.
ثم استدلت الجريدة على أن الترك أحق من العرب بالخلافة بدليل يثبت نقيض
المدعى , وهي أبلغ المطاعن في السلطان عبد الحميد قالت: (لا بأس أن نذكر
كلمة تنسب لجلالة السلطان الأعظم عبد الحميد فقد أوصل إليه بعض المقربين
لجلالته صوت تشكي الحجاج عمومًا من عون الرفيق باشا شريف مكة، وظلمه
واستبداده الفائقي التصور والحد طمعًا بأن يصدر جلالته إرادته السنية بعزله وتعيين
خلف له , فدرى جلالته بالغرض من التشكي وقال: إنني لا أعزل عون الرفيق
باشا ولن أعزله كل حياتي , بل أتركه عبرة ومثالاً للذين يستثقلون ظلم خليفة الترك
لأريهم كيف يكون ظلم خليفة العرب) اهـ كلام الجوائب المصرية بحروفه.
فهذه الجريدة تريد أن تقنع قراءها من العرب بأن ظلم الشريف الذي يشكون
منه مع غيرهم إنما هو جزء من ظلم السلطان التركي؛ لأنه على قولها قد أقامه هناك
ليظلم، ولن يردعه عن ظلمه في الحرم لغرضه السياسي في ذلك, وكل الناس يعلمون
أن أمراء مكة يربون في الآستانة على ما تحب الدولة العثمانية وترضى , وأنهم
عمال للحكومة العثمانية، فإن أساءوا وظلموا فالإساءة والظلم ينسبان إلى من ولاهم
وأقرهم على ظلمهم
ومن يربط الكلب العقور ببابه ... فكل بلاء الناس من رابط الكلب
هذا ما تنشره هذه الجريدة , وأصحاب جريدة ترك الفضلاء يطبعون جريدتهم
في مطبعتها فيعلمون ما هنالك , ولا يردون عليها، ولا يدافعون عن جنسهم وسلطانهم
إلا الأوهام التي يسندها الجواسيس ودعاة الفتنة إلى العرب فحسبنا الله ونعم الوكيل.
كتبنا هذه الكلمات بمداد الثأثر مما كتبت جريدة الجوائب الغراء، ويغلب على
ظننا أن هذه النبذة المردودة ليست من قلم صاحب الجريدة، ولا اطلع عليها قبل
نشرها لما لنا من حسن الظن بقصده وأدبه , فعسى أن نرى فيها بعدما يحقق حسن
ظننا.
عرف قراء المنار أن من منهجه الدعوة إلى الوحدة , والنهي عن الفرقة،
والتسليم لذوي السلطة , وقد كتبنا في السنة الأولى مقالات في الخلافة والخلفاء مثلنا
فيها تاريخ الإسلام ومناشئ علله وأمراضه من هذه الجهة كما مثلناها في مقالات
أخرى في العلماء والمرشدين , وقد قلنا في فاتحة المقالة الأولى ما نصه: (كما في
العدد (33 ص 257) :
(ليس من غرضنا في الكلام على الخلافة بيان شرطها وانطباقها على القائم
في مقام الخلافة الآن أو عدم انطباقها , فإن هذه المباحث إنما يأتيها أرباب
الأغراض الدنيوية، بل الأمراض الروحية الذين يثيرون رواكد الأوهام، ويسرون في دياجير الظلام , ونقول قبل الدخول في المبحث: إن كل من يحاول إشراب الأفهام
وجوب نزع الإمامة من بني عثمان فهو عامل على الإجهاز على السلطة
الإسلامية، ومحوها من لوح الوجود , وما لهؤلاء النوكى تكأة يتكئون عليها إلا
قولهم: (الخلافة في قريش) وغفلوا أو أغفلوا الشروط المهمة التي لا تكاد
توجد اليوم في قرشي , كالعدالة على شروطها الجامعة , والعلم المؤدي إلى الاجتهاد
في النوازل والأحكام , والرأي الصحيح المفضي إلى سياسة الرعية، وتدبير
المصالح، وجمع الكلمة) .
وكل الذين توسوس لهم أمانيهم بالخلافة , وتطريهم جرائدهم باستحقاقهم لها
عراة من هذه الصفات التي هي أركان بناء الخلافة , وما جعل النبي صلى الله عليه
وسلم الخلافة في قريش إلا لما كان لهم من المكانة في النفوس التي من أثرها
اجتماع القلوب عليهم , والإذعان لسلطانهم عن رضى واختيار , وقد نال هذا
المعنى آل عثمان فحصل المقصود الشرعي به) .
هذا ما كتبناه من بضع سنين , ولم يكن قد مضى علينا في هذه البلاد الحول ,
فكنا نتوهم صدق بعض أقوال المرجفين , ونحاول إقفال هذا الباب وإيئاس الناس
منه لما فيه من الضرر.
وكتبنا في تقريظ جريدة اللواء كما في (ص702) من السنة الثانية ما نصه:
(وقد انتقدنا عليها (أي: جريدة اللواء) أمرًا ذا بال وهو الإرجاف بأن بعض
الناس في مصر يسعون في إقامة خلافة عربية , كأن الخلافة من الهنات الهينات
تنال بسعي جماعة أو جماعات , ولا يمكن احتقار مقام الخلافة الأعلى بأكثر من هذا
الإرجاف.
مقام الخلافة أسمى من أن يتطاول إليه أحد , وقد سلم السواد الأعظم من
المسلمين زمامه لبني عثمان تسليمًا. والرابطة بين الترك والعرب هي (كما قال
المرحوم كمال بك الكاتب الشهير) موثقة بالأخوة الإسلامية والخلافة العثمانية , فإن
كان أحد يقدر على حلها فهو الله وحده , وإن كان أحد يفكر في ذلك فهو الشيطان.
ويعلم كل خبير بحال هذا الزمن أنه لا يرجف بالخلافة إلا رجلان: رجل اتخذ
الإرجاف حرفة للتعيش وأكل السحت أو التحلي بالوسامات والألقاب الضخمة ,
ورجل اتخذه الأجانب آلة لخداع بسطاء المسلمين بإيهامهم أن منصب الخلافة
ضعيف متزعزع يمكن لأي أمير أن يناله , ولأية جمعية أن تزحزحه عن مكانه
ليزيلوا هيبته من القلوب , ويقنعوا نفوس العامة الأغرار بإمكان تحويله في وقت
من الأوقات , وبأن المسلمين ليسوا راضين من الخلافة العثمانية جميعًا.
(كان مصطفى كامل أفندي يوم ألف كتاب المسألة الشرقية ينسب هذا الطمع
الأشعبي للإنكليز , واليوم نرى مصطفى كامل بك يلقي القول فيه على عواهنه في
خطبته وجريدته , ويدع نفوس البسطاء تذهب فيه كل مذهب , وإذا سئل الإفصاح
وبيان المجمل؛ يجمجم ويغمغم. فإن كان على رأيه الأول فليصرح به ليرجع
العامة عن أوهامهم، والخاصة عن سوء الظن به , وأنه أحد الرجلين اللذين ذكرناهما
آنفًا , ولا نظنه إلا على مذهبه الأول وعلى اللواء في البيان المعول) اهـ.
فيرى القارئ أننا في عبارة السنة الأولى كنا مغترين بكلام بعض المرجفين ,
وأننا في السنة الثانية علمنا حق العلم أن مسألة الخلافة لا يلغط بها من أصحاب
الأغراض كما قلنا في مقالة (دعوى الخلافة) ويرى أن لهجتنا قوية في الإنكار
على كل من تكلم في هذه المسألة، لاعتقادنا بضرر الخوض فيها , فقد عادانا صاحب
جريدة اللواء لتشديدنا في الإنكار على ما كتبه بذلك في أول ظهورها , وما قاله في
خطبة له تلاها في ذلك العهد. وقد كنا في غنى عن إحراج مثله بعدما كان راضيًا
عنا وعن المنار حتى إنه كان يهنئنا على بعض المقالات , ويقول: إن هذه الخطة
أنفع ما يكتب للمسلمين. فليعذرنا أصحاب جريدة ترك , وصاحب جريدة الجوائب
فإننا لا يمكننا السكوت عن الإنكار على كل من يذكر الناس بما يوجب التفرق
والخلاف لأجل لقب الخلافة المشئوم , أو اختلاف الجنسية اللغوية , فحسبنا ما منينا
به من المصائب والنوائب واستبداد الحكام وسلطة الأجانب.
* * *
(أخبار الحجاز والحجاج في هذا الموسم)
كتب إلينا كاتب مرافق للمحمل المصري بمثل ما كتب إلينا آخر من سوريا
عن فقد الأمن، وعموم المخاوف في بلاد الحجاز، وما حل بالحجاج في هذا الموسم
من القتل والسلب والنهب، وكتب كاتب مصري مع المحمل من ينبع إلى صديق له
في مصر كتابًا في تسع خلون من المحرم، قال فيه ما نصه:
(الحج في هذا العام لم يطرأ عليه أي طارئ وبائي فضلاً عن كثرة الحجاج
وازدحامهم وقذارة الطرق وإهمال موظفي الصحة العثمانية.
الأمن مفقود في كل بلدة مر بها الحجاج , والعربان مسلحون بسلاح جيد،
وأغلبه مكتوب عليه بالحروف الإفرنجية (س. إيتمنس) والأهالي مجردون من
السلاح، والحكومة تمنع حمل السلاح بكل تدقيق إلا الأعراب، كما أنها لا تحرك
ساكنًا؛ إذا وقع أمامها أيّ مقتلة , وقد حدث ليلة نزولنا عن عرفة قتال بالبنادق أمام
مركز الحكومة الحميدية بمكة بقرب الحرم المكي الذي يقول الله فيه: {وَمَن دَخَلَهُ
كَانَ آمِناً} (آل عمران: 97) وقتل في تلك الليلة بجهة خيام المحمل (ديده بان)
من العسكر المصري أثناء تأدية وظيفته , ولابد أن تكونوا عرفتم تفصيل الحادثة؛
لأن أمير الحج بادر بإخبار الحكومة المصرية بذلك بالبرق وبالبريد، وإلى الآن لم نر
من الحكومة العثمانية نتيجة.
قتل وجرح وسلب عدد ليس بالقليل من الحجاج الذين لم يكونوا مرافقين
للمحمل على الطريق بين جدة ومكة , ومن وصل من الجرحى لم تسعفهم الحكومة
ولا بشربة ماء إلى أن وصل المحمل وأسعفهم بالقوت والعلاج. لجأ واحد منهم إلى
بيت الشريف، فلم يسمع له قول، وحتم عليه أن يفصل واقعته على ورق تمغة
وهو أمامهم مجروح مجرد , ولو كان معه ثمن ورقة تمغة لسد به رمقه، وستر به
بدنه.
تعدد خروج الحجاج المسافرين من مكة وكانت الجمالة تقتل بعض الركاب
معهم , وتسلب أمتعة الجميع وتهرب بالأجرة وبما سلبت، ولما طالب أمير الحج
الوالي ولو برد الأجرة (أي: الثابتة عند حكومة الحجاز رسميًّا) وعد بالنظر، ولم
يكن لوعده أقل فائدة!
أخذ المطوفون من الحجاج إعانة لسكة الحديد الحجازية، ومن تأخر عن الدفع
كانوا يشيرون بحبسه، والذي يأمر بالحبس يكفي أن يكون واحد من عبيد الشريف
بحيث تعددت السلطة ومصادرها، فلا يدري الإنسان من يخافه ومن يتقيه!
الباعة في الأسواق، والمطوفون في الحرم، وأعوان الشريف في كل مكان،
وكل من في مكة إلا القليل عبارة عن منصر حرامية (زعماء لصوص) يسلبون
الناس أموالهم بحيث يهلك الفقير جوعًا؛ لأن الأسعار غالية جدًّا، والشيء الذي
كانت قيمته في مكة خمسة قروش وصل إلى ريالين ذلك؛ لأن كل ما يرد من
المأكولات وما يذبح يلتزمه أحد (محاسيب) الشريف، ويبيعه بالثمن الذي يرضيه
للباعة , وأولئك قوم من جهة يشترون بأغلى الأثمان , ومن جهة أخرى يستوفون
من الناس أضعاف القيمة. والفقير حائر كيف يقتات , وهو مجبور على الإقامة
أيامًا معدودات.
بماذا أحدثك أيها الأخ (الشفوق) ؟ أين المنصفون من أصحاب النظر
يشاهدون ما شاهدناه، ويعودون إليكم شارحين الحال واصفين بلسان المقال؟
تعددت الشكاوي إلى أمير الحج المصري، فكتب وتوجه بنفسه إلى الوالي
والشريف فاعترف الأول بالكتابة بأن المطوفين يحبسون الحجاج، والثاني كذب.
ولما أراد سعادة أمير الحج إثبات الأمر رسميًّا خاطبه الشريف بقوله: (يا حضرة
الباشا ما لكم حق في التداخل) وكررها مرارًا. خاطبت واحدًا من التجار الأجانب:
هل يعاملونكم كما يعاملون باقي التجار المكيين؟ فقال: لا، وإنما نتيجة السلب
واحدة فإننا ندفع أجرة نقل بضائعنا بين جدة ومكة أضعافًا. قلت: أما تشكون
لقناصلكم؟ فقال لي: كأنهم متحدون مع السالب تمام الاتحاد، فالسلب عام من
الجميع، والكيفية مختلفة.
سمعت أن بائعي السبح قد منعوا من بيعها أولاً , وكانوا قد استعدوا على
كميات وافرة منها فساءهم هذا الأمر , ولكنهم أدركوا المقصود فجمعوا مبلغًا من
المال وقدموه فألغوا تنبيههم الأول وأباحوا لهم بيع السبح , وانظر بعد ذلك أثمان
السبح …
آه! لو سمعت (الفرمان العلي الشأن) وهو يتلى في صيوان الشريف ثاني
العيد ذلك الفرمان الطويل العريض مملوء بعبارات الثناء العاطر , وتعديد صفات ما
سمعت تركيًّا وصف بها نبيًّا من الأنبياء. ولو رأيت النياشين المرصعة في صدر
الشريف، والخلع التي ألبسها في هذه الحفلة بعضها فوق بعض , والوزراء
والأمراء والوجهاء واقفون وقوفهم للصلاة وكذلك العسكر، ولو رأيت ما حوله من
الجياد المطهمة عليها السرج المثقلة بالذهب الخالص الوهاج، ولو نظرت جميع
الحاضرين يقبلون يد الشريف أو ثيابه (إلا أنا فإنني - ولله الحمد - لم أسلم عليه
ولا بالإشارة) وهو لا يتحرك لأكبرهم؛ لاستكبرت الأمر واستنكرته , وعلمت أن
المسلمين في غفلة أينما كانوا في كل قطر وفي ظل كل دولة لكن بؤسهم يتفاوت
بحسب حال دولهم.
لا شك أننا وصلنا إلى حال يتبرأ منها الدين، ويحل بنا غضب الله بسببها.
كيف نصدق فرمان خليفة المسلمين وشاهد الحال يناقضه في نفس الحفلة؟ كيف
نسمع أن الشريف مؤمن الطرق وقاطع الأشرار، والسالك نهج آبائه الأطهار، وأنه
مقيم الدين، وناشر لواء شريعة سيد المرسلين - أي هذه بعض الألقاب التي
يوصف بها في الفرمان وهي عشر معشار ألقاب رئيسه السلطان - أين أثر الدين
فيما شاهدنا، والإسلام يتبرأ من هذا الذي رأينا، أين الهداة الداعون إلى الإسلام؟
هل ألغي حكم آية: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .
خاطبت واحدًا - قيل لي: إنه من علماء مكة - في شأن ما أشاهده وما حل
بالحجاج فقال: لا يهولنك الأمر فقد ورد في القرآن في حق الحرم {وَيُتَخَطَّفُ
النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت: 67) (كذا) وقال لي آخر: {لَّمْ تَكُونُوا
بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} (النحل: 7) ألفاظ لا يعون لها معاني، ولن ترى أمامك إلا
عمائم لا تفضل أمثالها في باب المزينين فما دونه! وحدث عن الوثنيات هنا بما لا
تحتمله الروايات، واسمع من المطوفين ما يثقل على الآذان خرافات وموضوعات
تخرج الضعيف من الإسلام، إلى عقائد أولئك الجهلة الطغام والجهل سائد عام،
والضال المضل سيد وإمام.
يأسف الإنسان على بلاد كانت مشرق شمس الإسلام، وفيها بيت الله الحرام،
ويكون هذا مصيرها. أريد الكلام ويمنعني أنك سريع التأثر , ولكن القلب والقلم
يحتمان عليَّ الكتابة، لعلك تنيبني عنك في صدقة مقبولة هي في مقدمة الصدقات ,
ألا أصرف على حسابك ما تجود به نفسك على عسكر الدولة الأنفار الصابرين
الذين هم يبيعون الأشياء التافهة على الحجاج وحالهم أسوأ حال.
كنا نسمع عن دراويش التعايش أنهم يلبسون المرقعات، ولكن الفرق بين
مرقعاتهم وكساوي عسكر الدولة أن مرقعات الدراويش تخاط من أول أمرها،
وثياب العسكر هنا من أرثِّ ما يكون مرقعة في أغلبها رقعًا متراكمة فوق بعضها
مختلفة الألوان، وهي بجملتها في أشد حالات البلى والرثاثة، وهم مع ذلك من
أصبرالناس على هذه الحال، وأمرهم في ذلك معروف، وبأسهم الحرب موصوف ,
والذي سمعته أن ذلك لم يكن من تقتير الدولة، بل من سلب رؤسائهم حقوقهم.
وملبسهم سواء يوم الاستعراض والأيام المعتادة، وكثير منهم يلبس النعال القديمة أو
(المراكيب) الحمر بدل (الجزم) حتى وقت (التشريفة الكبرى) .
قد رافق المحمل الشامي من المدينة إلى مكة (البيجم) وهي ملكة بهوبال
التابعة للحكومة الإنكليزية، وكاد العرب يقتلونها وهي في ركب المحمل طمعًا في
المال , لولا أن هربوها من تحتها في شقدف كواحدة من الناس، ولولا أن أمير
الحج الشامي أرضاهم لفتكوا بها إن لم تعطهم كل ما طلبوا , وقد قتل أحد
اليوزباشية الأتراك , وجرح بيكباشي في هذه الواقعة. وقد قابلني ابنها الثاني (أي:
ابن الملكة) الذي يلقبونه بالنواب , وكنت أنا وسعادة أمير الحج على سطح الحرم
المكي ودعانا إلى بيته، ثم دعا بعض رجال المحمل معنا , وتوجهنا إلى مقر
(البيجم) فأكرمونا , ثم ألقت علينا خطابًا من خلف ستار ترجمه لنا (فليس) قنصل
الإنكليز بجدة، وقد أجاب عليه سعادة أمير الحج، ومتى عدت إلى مصر أعدت إليكم
أكثر ما شاهدته , وقد سافرت (أي: الملكة) إلى بلادها ساخطة على فقد الأمن،
وبلغني أنها شافهت الشريف بعبارات شديدة، وقد انتقد ابنها على شهامة العرب
قائلاً: كيف يتعدون على امرأة؟
رافقنا من مكة إلى ينبع الصدر الأعظم السابق لدولة إيران لنزور المدينة معًا,
فلما وصلنا إلى ينبع تعنت الأعراب معنا , ومنعونا المرور للأسباب التي
سأذكرها لكم بعد، ولما كان يهمه دخول المدينة باكرًا ليحضر بها يوم عاشوراء
(والقوم أمثال القوم) اتفق مع العرب على دفع خمس جنيهات عن كل نفر معه جُعْلاً
للعرب نظير المرور فقط، لا في نظير خدمة، وترك مرافقة المحمل وسافر ,
ورافقنا من مصر وزير المغرب الأقصى إلى ينبع، ورافقنا من مكة أمير حج ابن
دينار وجماعة , فقال عنهم الأعراب: إن معكم سلطان مراكش، وسلطان دارفور لا
تمرون إلا بما يناسب مقام الدولة، ومقام ذينك السلطانين.
وصلنا إلى ينبع يوم السبت الماضي , ولا نزال بها إلى اليوم ننتظر عودة
سعادة أمير الحج من جدة الذي ذهب ليخابر الحكومة المصرية بالتلغراف بما يرغبه
الأعراب لخلو ميناء ينبع من التلغراف، ومحصل مسألتهم أنهم في العام الماضي
طلبوا من أمير الحج أن يصرف لهم مرتبات لم تصرف إليهم منذ ثلاثين سنة،
وهي آلاف من الريالات فقال لهم: إني لا أعلم بأثر من مرتباتكم هذه، ولكن لكم
أن تكتبوا طلبًا إلى الحكومة بها، وأن تتنازلوا عن الماضي إلى الآن , ومتى وجد
لمرتباتكم أثر تصرف إليكم من جديد، عاد بطلباتهم واستكشف عنها فلم يجد لها
أثرًا فأعادوا الطلب منه الآن، وامتنعوا عن التنازل عن ما مضى , وأغلظوا القول،
وبعثوا إليه الكتاب بالتهديد والإنذار والممانعة من المرور، وليتنا رأينا فيهم رشيدًا،
بل هم أراذل أدنياء قليلو الأدب يكذب بعضهم بعضًا، ويحتقر أحدهم الآخرين،
كثيروا اللغط بلا فائدة، ومع محاسنتنا لهم , وتعب أمير الحج والمحافظ معهم سرًّا
وعلانية لم يفد كل ذلك فيهم فاضطر إلى السفر إلى جدة للمخابرة , ولا بد أنكم
تعلمون النتيجة قبل أن نعلمها هنا.
التلغراف: في هذه البلاد يؤخذ فيه عن كل كلمة ثلاثة فرنكات تقريبًا , وواو
العطف كلمة، ولو كانوا قومًا يفقهون لرخصوا الأجرة فيقبل الحجاج عليهم
ويتخاطبون مع أهليهم بتلغرافات عديدة، ولربحوا الأموال الطائلة. غريبة في كل
أحوالها التي لا تتفق مع المعقول، ولا أمان فيها على المراسلات حتى إنني لا
أدري أيصل إليكم هذا أو يصل إلى الشريف؟ وقد كتبته وكلا الأمرين مفيد عندي.
رأيت وأنا على جبل عرفات عربية على رأسها برنيطة فقلت لها: بيعيني مظلتك
هذه. فقالت: الشمس تؤذيني. قلت: هذه شمسيتي الثمينة خذيها فهي أنفع وتعبت
معها حتى أقنعتها وسأحضرها معي. اهـ المراد منه.
(المنار)
قد كتب بمعنى هذا الكتاب كثيرون من الحجاج إلى أهليهم وأصدقائهم، وأعجب
شيء فيه عندي تحريف ذلك الجاهل المعمم في مكة لقوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا
جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت: 67) فإن الله يمتن
بهذه الآية على من في الحرم بأنه وهبهم الأمن في بلاد المخاوف فهم آمنون ,
والبلاد التي وراء الحرم من كل ناحية أي: التي حوله لا أمن فيها , وقد جعل ذلك
الجهول الآية مثبته لنفي الأمن من الحرم نفسه , ومثله في الجهل من حرف امتنان
الله تعالى على أهل مكة والناس عامة بالأنعام؛ إذ جعل من منافعها أنها تحمل
أثقالهم إلى البلاد التي لا تبلغ لولاها إلا بشق الأنفس فجعلها مثبتة لوجوب إهانة
الحجاج والتعدي عليهم. ويقصد الكاتب بأمثالهم في باب المزينين أهل الأزهر، وقد
رأى القراء في باب السؤال والفتوى نموذجًا من تحريف بعضهم لكتاب الله تعالى.
اللهم إن بني إسرائيل لم يحرفوا كتابك التوارة بأكثر مما تحرف هذه العمائم كتابك
الفرقان فافرق بينهم وبين عبادك المعذورين بغرورهم بهم , وافصل بينهم بالحق
وأنت خير الفاصلين (انتظر الكلام على الحج في الجزء الآتي) .
__________(7/70)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رزء الشام بالشيخ محمد علي أفندي مسلم
وافانا نبأ وفاة هذا النابغة قبيل طبع الصحيفة الأخيرة من هذا الجزء. عاجلته
المنية بالأمس عن أربعين سنة أي: عندما بلغ أشده، واستوى، وصار يرجى منه
في تحمل أعباء الدعوة إلى الإصلاح أكثر مما سبق له؛ فكان ألم المصاب به
عامًّا، وأشد وقعة على أنصار العلم والإصلاح الذي فقدوا بفقده ركنًا ركينًا، وأخًا
كريمًا. وقد قال صديقه رفيق بك العظم هذه الأبيات المؤثرة في رثائه رحمه الله
وأحسن عزاءنا فيه:
أيها الموت كم هززت نفوسًا ... طالما هزت الخطوب الجساما
نحن كنا كالصلد إن مسه الخطـ ... ـب ورت ناره وأذكت ضراما
فاصطلمت الجلادة اليوم منا ... فغدا القلب يشتكي الآلاما
وتجاوزت غاية الصبر حتى ... قد فقدنا السكون والاحتشاما
مذ صدعت القلوب بالنبأ الفا ... جع صدعًا لن يقبل الالتئاما
ورميت الصديق منك بسهم ... دأبه أن يصيب منا الكراما
قد كفانا بالأمس فقد همام ... فلم اليوم قد فقدنا هماما
عمرك الله ما نطيق حياة ... بعد ذا الخطب أو نريد سلاما
كلما أنعم الزمان بفرد ... ورجونا أن ينفع الإسلاما
فجعتنا به المنون كأن الـ ... ـموت يفدي بالأكرمين الطغاما
أم كأن المنون حاكم قوم ... مستبد يصادر الأحلاما
يا عليا بت العلي وإنَّا ... لم نزل بالدنا نعاني السقاما
ما رعينا فيك الذمام وإلا ... لتبعناك لو رعينا الذماما
مذ رأيت الحياة في الشرق أضحت ... نكدًا يؤلم النفوس العظاما
كبرت نفسك العظيمة حتى ... ما تطيق الدنيا ولا الأجساما
فمضت للسماء تطلب فيها ... عالم الروح منزلاً ومقاما
حبذا منزلا ولكن في عيـ ... ـشك للناس حاجة ومراما
كنت للحق والفضيلة ركنًا ... فتداعى وللثبات قواما
ولقيت الخطوب ممن يعادي الـ ... ـعقل والعلم أو يحب الخصاما
فلك اليوم في النفوس مقام ... نلت فيه محبة واحتراما
فعليك العيون تبكي دماء ... وعليك السلام يتلو السلاما
__________(7/80)
غرة صفر - 1322هـ
17 إبريل - 1904م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سوريا والإسلام
(2)
(5)
سوريا قبل الفتح العربي
أراد صاحب مقالات (سوريا والإسلام) أن يثبت أن التعصب لم يكن في
سوريا قبل الفتح الإسلامي , فذكر أن تلك الشعوب العظيمة التي عاشت هناك منذ
أول عهد التاريخ حتى انقراض الدولة الفينيقية كانت الحروب بينها وبين الفراعنة
مستمرة، وكانت سجالاً , والغالبة تأخذ الجزية من المغلوبة، ولكن لم يكن ذلك
لأجل الدين، بل لأجل السلطة والعظمة.
ثم ذكر أن الإسرائيليين الذين هجموا على فلسطين هجوم العرب على سوريا
(حاولوا) أن يلبسوا حروبهم صبغة دينية , لكن قبائل الكنعانيين والحيثيين
والأموريين واليبوسيين وغيرها حاربهم دفاعًا عن الوطن، وعن الحرية
والاستقلال. ثم ذكر أن (هذا التعصب والثوب الديني الذي (حاول) الإسرائيليون
أن يلبسوه لحروبهم , وأن يضموا به جامعتهم وينهضوا مملكتهم) ما لبث أن تمزق
بعد سليمان، ثم بلي.
ما أعجب شأن هذا الكاتب، وما أشد تعصبه لما يعلم أو لما لا يعلم! كان
بالأمس يمثل بديانة بوذه للدين الصحيح الذي لا حرب فيه، ويستدل على أنه شارع
محق، ولا يذكر موسى ولا شريعته عند التمثيل للديانات الصحيحة، بل يعرض بأنها
باطلة , وهو اليوم يفضل تلك القبائل الهمجية الوثنية التي كانت تقيم في سوريا قبل
الفينقيين على شعب إسرائيل شعب الله كما يفضل عليهم فراعنة مصر وأهلها
الوثنيين، ويفضل عليهم أيضًا تلك القبائل الوثنية التي كانت في بلاد فلسطين ,
وإن كان الله قد فضل شعب إسرائيل على هؤلاء أجمعين ونجاه من سلطة بعضهم ,
وجعل له السيادة على الآخرين. كل هذا يخالف دينه واعتقاده وهكذا يفعل الغلو في
التعصب حتى يجني الغالي على ما يتعصب له! !
أي مزية لقبائل (نيفليم) و (أميم) و (رفايم) و (زوزيم) و (عناقيم)
و (زمزوميم) تلك الحيوانات الوثنية على بني إسرائيل سلالة النبيين وحملة الكتاب
والدين. إنه قد أثبت لليهود عين ما ينسبه إلى الإسلام، ولم يتلطف معهم إلا بكلمة
(حاولوا) وهي لغو حيث وضعها فإن كان ينكر الديانة الموسوية لأجل الإنكار على
الديانة المحمدية لشرهه وإسرافه في بعض هذه؛ أفلا يتذكر أنه يهدم بذلك الديانة
المسيحية أيضًا؟ ؟
وإن كان لا يبالي بهدم الأديان السماوية بغضًا بالمسلمين فليجعل المفاضلة بين
الديانة الوثنية وديانة التوحيد الإلهية. وإن كان يرى تحريم الحرب لأجل حرية
الدين ونشره وهو ما لا يفعله الآن أحد إلا المسيحيون - وإن سبقهم به اليهود
والمسلمون - هو الذي يفضل به دين دينًا فلا شك أن الوثنية أفضل من المسيحية
وغيرها من الديانات السماوية فما باله يخص المسلمين بالذم والقدح؟
هذا الكاتب نصراني في الظاهر، ولكنه في الواقع إما وثني وإما معطل يحكم
العقل فقط. فإن كان وثنيًّا؛ فلا كلام لنا معه إلا بعد المناظرة في أصل الوثنية ,
فإن أثبتها؛ فله الفلج فيما يتفرع عنها , وإلا فكلامه ساقط. وإن كان يحكم العقل
فكيف ساغ له أن يعد الحرب السياسية لأجل (توسيع الحدود وبسط السلطة
والعظمة) جائزة وخيرًا ونافعة , والحرب لأجل حرية الدين ونشر دعوة الحق التي
يعتقد صاحبها أن فيها سعادة الدارين ممنوعة وشرًّا وضارة؟ وكيف ذكر بعبارة
الرضى والاستحسان إغارة البابليين على الإسرائيليين، وسبيهم، وتخريب هيكلهم ,
وزحف الرومانيين إلى سوريا وإحراق الهيكل بعدما بني ثانية، وتدمير المدينة بفعل
طيطس؟ أليس هذا اضطهادًا للدين لم يفعل مثله المسلمون؟
ثم ذكر أن الرومانيين قد قضوا على بقية تعصب اليهود في سوريا بما فعله
طيطس الوثني الظالم , وأنه لم يظهر التعصب في سوريا بعد ذلك إلا بعد الفتح
العربي، وطوى في هذه الدعوة تاريخ النصرانية، وما كان منها من التعصب الذي
تقشعر منه الجلود، والذي جعل اليهود من أنصار المجوس على النصارى تشفيًا
وانتقامًا، ثم انتصار المسلمين عليهم أيضًا ليستنشقوا في ظل هذا الدين نسيم الحرية
الدينية الرطب اللطيف بعد النجاة من رمضاء التعصب النصراني وسمومه التي
تلفح القلوب دون الجلود. وهذا الذي نومئ إليه مدون بالبسط في كتب أحرار
الإفرنج المنصفين وغيرهم، الذين لهم الفضل على محبي الحقائق في كل زمان
ومكان.
قال الكاتب المؤرخ: إن التعصب الإسرائيلي زال من سوريا بعد تدمير
طيطس مدينة أورشليم سنة 70 بعد المسيح.
ولكن التاريخ يقول بغير ما قال هذا المؤرخ، يقول التاريخ: إن اليهود قد
حقدوا زمنًا وكتموا تعصبهم عجزًا، ثم دفعهم الحقد إلى ثورة عظيمة ادعى زعيمها
بعزة قوشير أنه هو المسيح فاجتمع عليه اليهود , واشتعلت نار الحرب بينهم
وبين الرومانيين على عهد الإمبراطور هارديان ثلاث سنين حتى قتل الزعيم.
ويقال: إنه قتل في هذه الحرب من الإسرائيليين خمس مائة ألف ونيف، وأمر
هارديان بمحو خرائب أورشليم، وطمس أطلالها ورسومها وأن تبنى هناك مدينة
جديدة تسمى عاصمة إيليا، فكان ذلك في سنة 132 للمسيح، وأباح للمسيحيين
الوثنيين الإقامة في هذه المدينة، وأخرج اليهود منها , ثم لم يبح لهم الرومان الدخول
فيها إلا في القرن الرابع وإنما أذن لهم أن يدخلوها مرة واحدة في السنة زائرين من
شاء منهم فكانوا يدخلونها باكين نادبين. وقد اضطهد النصارى هؤلاء اليهود
في وطنهم أشد الاضطهاد ومنعوهم من كثير من بلادهم لا من مدينتهم
المقدسة فقط.
ولما زحف الفرس في عهد خسرو على سوريا وفلسطين كان اليهود أنصارًا
لهم حتى إذا ما فتحوا أورشليم ذبحوا سكانها النصارى، واصطلموهم اصطلامًا ولما
انتصر هرقل على الفرس وأجلاهم عن سوريا ومصر انتقم من اليهود شر انتقام،
وعاملهم بقانون هارديان، ومنه أنه يجب أن يكونوا على بعد ثلاثة أميال من
أورشليم على الأقل , وكان الإسلام قد ظهر والمسلمون قد زحفوا على سوريا
وفلسطين.. إذن إن التعصب الديني بين اليهود والنصارى كان على أشده في سوريا
عند ظهور الإسلام ولم يكن قد زال قبل النصرانية كما زعم الكاتب الذي جنى
تعصبه على التاريخ والدين؛ لأجل تمكين العداوة في سوريا بين النصارى
والمسلمين. ولولا أن اشترطنا الاختصار لأطلنا في بيان هذا التعصب بين اليهود
والنصارى في سوريا وبيَّنا أن الإسلام أضعفه، بل أضعف التعصب المطلق، بل
أماته حتى أحيته الحروب الصليبية التي أضرمها تعصب النصارى.
* * *
(6)
سوريا والفتح العربي
يقول الكاتب: إن التعصب ظهر بعد فتح المسلمين أورشليم، وعقد المعاهدة
بينهم وبين النصارى في البيت المقدس، وذكر نص المعاهدة نقلاً عن المؤرخ
الإيطالي قيصر كنو وهي مزورة على نسق المعاهدات الأوربية مؤلفة من 15
مسألة (بند) ، ولا شك أن هذه المعاهدة مختلفة من الإيطالى أو غيره من غلاة
التعصب، وكل من قرأها من العارفين باللغة العربية وأساليبها والعارفين بحال الناس
في ذلك العصر يعرف أنها مكذوبة بالبداهة. وإننا نذكر نص المعاهدة التي أوردها
إمام المؤرخين والمحدثين ابن جرير الطبري في تاريخه، ثم ما أورده هذا الكاتب
المتعصب عن أساتذته متعصبي أوربا ليقارن صاحب جريدة المناظر الغراء
وأمثاله من فضلاء النصارى المنصفين بين الروايتين، ويعلموا من أين جاءنا
النزاع والخصام، أما نص ما في الطبري فهو:
(عهد سيدنا عمر لأهل بيت المقدس)
(بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم
أمانًا لأنفسهم ولكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها وسائر ملتها أن لا تسكن كنائسهم،
ولا تهدم، ولا ينقص منها، ولا من حيزها، ولا من حليهم ولا من شيء من أموالهم ,
ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود
وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن , وعليهم أن يخرجوا
منها الروم واللصوص فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم.
ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان (كذا ولعله تحريف) فمن شاء منهم
قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية , ومن شاء سار مع الروم , ومن شاء
رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا
الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم
من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن
عوف ومعاوية بن أبى سفيان. وكتب وحضر سنة 15. اهـ وفيه دليل على ما
نقلناه من التاريخ من منعهم اليهود من سكنى بيت المقدس، وأما المعاهدة المكذوبة
التي أوردها الكاتب المتعصب في جريدة المناظر فهي:
1- يسمح للمسيحيين الذين سلموا للمسلمين أن يبقوا في مدينتهم المقدسة ,
وأن يقيموا فروض ديانتهم وطقوسهم كما يشاءون , ولكن لا يسمح لهم أن ينشئوا
معابد، ولا كنائس جديدة لا في المدينة، ولا في نواحيها.
2- يجب على المسيحيين أن يتركوا أبواب كنائسهم مفتوحة أوان الصلاة
واستعمال الطقوس، ويباح للمسلمين الدخول إليها عندئذ لمراقبة ما يصنعون خوفًا
من أن يتآمروا سرًّا على المسلمين.
3- يجب أن تكون أبواب المسيحيين مفتوحة لجميع ضيوف المسلمين.
4- يجب على المسيحيين أن يقدموا للمسلمين الذين يأتون لزيارة المدينة
المقدسة (أعني أورشليم) طعامًا ليوم واحد فقط بدون أن يأخذوا ثمنه , وإذا مرض
أحد أولئك الضيوف التزموا بخدمته حتى يبرأ.
5- لا يجوز للنصارى أن يمنعوا أولادهم من تعلم القرآن، ولا يجوز لهم أن
ينهوهم عن اعتناق المذهب الإسلامي إذا أرادوا.
6- يجب أن يعتبر المسيحيون المسلمين أسيادًا لهم، وأن يكون لهم فيه المقام
الأول في كل شيء.
7- لا يجوز للمسيحيين أن يلبسوا لباس الاسلام، ولا أن يتسموا بأسمائهم ,
ولا أن يتصفوا بصفاتهم، بل يجب أن يكونوا على خلاف منهم في كل شيء.
8- يجب على المسيحيين إذا أرادوا أن يركبوا أن لا يركبوا خيلاً، ولا نوقًا،
بل حميرًا وبغالاً، ولا يجوز لهم أن يقلوا سلاحًا، ولا أن يستعملوه في بيوتهم،
وكذلك لا يجوز أن تكون منازلهم مزينة بمثل الزينة والتحف والأشياء التى يزين
بها المسلمون منازلهم، حتى ولا براذع حميرهم يجوز أن تكون كبراذع حمير
المسلمين.
9- لا يجوز للمسيحيين أن يبيعوا خمرًا، ولا كحولاً ألبتة، ولا أشربة
روحية ما إلا بإذن الخليفة أو ممثليه فقط، ولا يجوز لهم أن يتركوا خنازيرهم
ومواشيهم تسرح في الأسواق.
10- يجب على المسيحيين أن يلبسوا ثياب الحداد دائمًا، وأن يشدوا وسطهم
بسيور من جلد سواء كانوا في المدينة أم في الخارج.
11- لا يجوز للمسيحيين أن يرفعوا صلبانًا فوق الكنائس، ولا أن يدقوا
جرسًا، والأجراس والصلبان الموجودة حالاً متى وقعت لا يجوز أن يوضع غيرها
في مكانها.
12- لا يجوز للمسيحيين أن يطلوا على المسلمين في معابدهم.
13- يجب أن يقدموا الجزية في أوانها، ولا يتأخروا عن جمع الضرائب
التى يفرضها عليهم المسلمون.
14- يجب أن يحترموا الخلافة الاسلامية والمسلمين كسادة للبلاد وأصحابها،
ولا يتآمروا عليهم ألبتة.
15- يلتزم الخليفة بتأمين النصارى الطائعين والخاضعين لجميع شروط
ونصوص هذه المعاهدة.
ومما ينتقد من هذه المعاهدة أن المسلمين لم يكونوا يقولون: (مدينتهم المقدسة)
ولا كلمة (الطقوس) ولم يكونوا يرحلون لزيارة تلك البلدة، ولم يكن لهم لباس
مخصوص، بل كانوا يلبسون ملابس الروم التى يغنمونها، ولم يكونوا يزينون
بيوتهم، ولم يكن في زمانهم شيء يسمى (الكحول) ، ولا الأشربة الروحية، وإنما
كانوا يسمون كل مسكر خمرًا إلا النبيذ، إذا صار يسكر. ويمتنع شرعًا أن يقيد بيع
الخمر بإذن الخليفة، ولم يكن لهم معابد يمنعون المسلمين من الإشراف عليها، ولم
يضربوا على أهل تلك البلدة ضرائب، ولم يكونوا يعبرون عن السلطة بالخلافة
الإسلامية، ولا عن عمر بالخليفة، هذا ولم يكونوا يخافون من المؤامرة عليهم ,
فإنهم غلبوا القوم، وهم مستعدون للقتال، ومعهم الروم فكيف يخافونهم بعد ذلك ,
ولو خافوا أو احتاطوا لم يكن ذلك معيبًا ولا منتقدًا ولا باعثًا للتعصب، فإنه أمر
طبيعي معهود من جميع الفاتحين , والسيادة بطبيعتها للفاتح فلا معنى لاشتراطها،
ولم يكن من فائدتهم المنع من التشبه بهم، ورؤية عباداتهم، وتعلم كتابهم والتسمي
بأسمائهم.
فالظاهر أن المعاهدة وضعت في هذا العصر؛ لأن أسلوبها واصطلاحاتها كلها
عصرية. فأين المنصفون يميزون بين تساهل المسلمين وتعصب غيرهم. إنهم
ليختلفون على سلفنا حتى في هذا العصر عصر الحرية والعلم؛ ليعيبونا، وينفروا
قومهم وسائر الناس منا فهل فعلنا نحن شيئًا من مثل هذا؟ ؟
أكتفي بهذه الإشارات في تفنيد مسائل هذه المعاهدة المختلقة، ولكني أقول:
إنني لا أنكر أن منها ما له نظير في بعض كتب المسلمين، ولكن لا ثقة بروايته
ومن المأثور في ذلك ما رواه البيهقي من طريق حزام بن معاوية قال: كتب إلينا
عمر: (أدبوا الخيل، ولا يرفع بين ظهرانيكم الصليب، ولا تجاوركم الخنازير) ،
ولكن إسناده ضعيف، ولو صح لأمكن حمله على جماعة المسلمين على أن أقوال
الصحابة ليست حجة في الدين عند جمهور علماء الأصول، إلا أن يجمعوا عليها،
أو ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو يكون لها حكم المرفوع بأن يكون هناك
دليل على أنها ليست من اجتهادهم بل سمعوها عن الشارع صلى الله عليه وسلم.
ومنها ما رواه البيهقى عن ابن عباس: (كل مِصْرٍ مَصَّرَه المسلمون لا تبنى
فيه بيعة ولا كنيسة، ولا يضرب فيه ناقوس، ولا يباع فيه لحم خنزير) ، وفي
إسناده حنش، وهو ضعيف على أن المسلمين أحرار في مصْرٍ مَصَّروه لأنفسهم أن
يمنعوا غيرهم من الإقامة معهم فيه مطلقًا أو بشروط، وكذلك أهل الذمة، إذا كانت
لهم أرض وجعلوها بلدًا، ولم يقبلوا أن يبيعوا منها شيئًا لمسلم فإن الإسلام لا يكرههم
على بيعها، ولو لأجل المسجد. ومفهوم كلام ابن عباس أنه لا يمتنع بناء الكنائس في
غير المصر الذي مصره المسلمون كالأمصار القديمة , وما مصره غيرهم ولو
بشركته معهم.
ولو صحت هذه المعاهدة التي نقلها لما كانت أبعد مما يعامل به أهل أوربا
المسلمين وغيرهم في مستعمراتهم لا سيما في أثناء الفتح إذ تكون السياسة عسكرية
بل هي أخف منه. وقد أعجبني قول إلياس أفندي الحداد من وجهاء نصارى
طرابلس الشام جوابًا عن قول آخر: إن بعض الأحكام التي عامل بها المسلمون
أهل الذمة قاسية.
قال إلياس أفندي: إن هذه سياسة عسكرية وهى ضرورية في أثناء الفتح
لا بد منها لكل فاتح مهما كان عادلاً ومتساهلاً. وأقول: إنها مع كونها عسكرية
كانت أعدل وأرحم سياسة - كما قال بعض فلاسفة أوربا - (راجع علوم العرب
واكتشافاتهم في المجلد الخامس من المنار أو ص 105 من كتاب الإسلام
والنصرانية) . ثم إننى لم أر في كتب الحديث والمغازي المأثورة شيئًا في معاملة
أهل الذمة. قال راويه: إن الصحابة اتفقوا أو أجمعوا عليه رأيًا إلا ما رواه ابن
عساكر عن الوليد عن عمر وغيره وهو:
(إن عمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمع رأيهم على إقرار
ما كان بأيديهم من أرضهم يعمرونها ويؤدون منها خراجها إلى المسلمين , فمن أسلم
منهم؛ رفع عن رأسه الخراج، وصار ما كان في يده من الأرض وداره بين
أصحابه من أهل قريته يؤدون عنها ما كان يؤدي من خراجها، ويسلمون له ماله
ورقيقه وحيوانه، وفرضوا له في ديوان المسلمين، وصار من المسلمين له ما لهم،
وعليه ما عليهم، ولا يرون أنه - وإن أسلم - أولى بما كان في يده من أرضه
من أصحاب من أهل بيته وقرابته، ولا يجعلونها صافية للمسلمين. وسموا من ثبت
منهم على دينه وقريته ذمة للمسلمين، ويرون أنه لا يصلح لأحد من المسلمين شراء ما
في أيديهم من الأرضين كرهًا لما احتجوا به على المسلمين من إمساكهم كان عن قتالهم
وتركهم مظاهرة عدوهم من الروم عليهم. فهاب لذلك أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وولاة الأمر قسمهم وأخذ ما في أيديهم من تلك الأرضين،
وكره أيضًا المسلمون شراءها طوعًا؛ لما كان من ظهور المسلمين على البلاد
وعلى من كان يقاتلهم عنها , ولتركهم كان البعثة إلى المسلمين وولاة الأمر في طلب
الأمان قبل ظهورهم عليهم. قال: وكرهوا شراءها منهم طوعًا لما كان من إيقاف
عمر وأصحاب الأرضين محبوسة على آخر الأمة من المسلمين المجاهدين لا تباع
ولا تورث قوة على جهاد من لم يظهروا عليه بعد من المشركين , ولما ألزموه
أنفسهم من إقامة الجهاد) اهـ بحروفها كما في (كنز العمال) .
وأغرب ما في هذه الرواية أن يسلم الذمي فتنزع منه أرضه وتعطى لأصحابه
الذميين من ذوي قرباه، ويفرض له بدل ذلك من بيت مال المسلمين. فليقارن
المنصف بين هذا وبين انتزاع أعظم دول أوربا وطنية وحرية ومدنية أرض
المسلمين من أيديهم حتى أوقافهم الدينية، وذلك بوسائل لا مروج لها إلا القوة
القاهرة والبلاد التى يجري فيها ذلك قريبة منا، ويعرف ما فيها العارفون.
(للرد بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(7/94)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تنوير الأفهام في مصادر الإسلام
تفنيد الكتاب بكلمة
نشرت الجمعية الإنكليزية المكلفة بالدعوة إلى النصرانية كتابًا سُمي بهذا الاسم
خاضت في أمره الجرائد الإخبارية، ويا ليتها لم تخض، فإنها بتهويلها تشوق
الناس إلى الاطلاع على هذا الهزء والتمويه الباطل من حيث لا تزيل تمويهه ولا
تبين هزؤه، حتى إنه ربما علقت ببعض الأذهان الضعيفة بعض شبهه وإن كانت
سخيفة، وقد رمينا بالبصر إلى جمل منه في مواضع متفرقة؛ فرأيناه قد سلك في
الرد على الإسلام المسلك الذي جرى عليه بعض علماء أوربا في هدم الديانتين
اليهودية والنصرانية؛ إذ ألفوا كتبًا بينوا فيها مصادر كتب العهد العتيق المُسَّمَى
بالتوراة، وكتب العهد الجديد المُسَّمَى بالإنجيل أو الأناجيل، ورسائل الرسل.
يعرف الناظرون في كتب العهد الجديد أن مؤلفيها لم يستدلوا على الدين
المدون فيها بأدلة عقلية نظرية أو كونية وإنما يقيمون أساسه على كلمات انتزعوها
من العهد العتيق على أنها بشارات أنبياء بني إسرائيل فهذا الدين الذي يسمونه
مسيحيًّا ونسميه نحن وبعض فلاسفتهم وعلمائهم (كتولستوي الروسي (بولسيا) ؛
مبني على كتب العهد العتيق، وينهدم بهدمها، وتبطل الثقة به بظهور بطلان الثقة
بها. وقد قال الحكيم الأفغاني ما مثاله: إن الناظر في كتب العهدين يتراءى له أن
مؤلفي كتب العهد الجديد قد فصلوا ثوبًا من كتب العهد العتيق، وألبسوه للمسيح بما
زعموا من انطباقه عليه.
ماذا فعل هؤلاء العلماء في بيان مصادر اليهودية والنصرانية؟ بينوا بالدلائل
التاريخية والأثرية واللغوية مصدر عقائد هذه الكتب، ومآخذ أحكامها من ديانات
الأولين وتقاليدهم، وأثبتوا أن الأسفار المنسوبة إلى موسى قد كتبت بعده، وكذلك
سائر الأسفار قد كتبت بعد من نسبت إليهم أو زيد فيها بعدهم، فهم يقولون مثلاً:
إن السفر الفلاني فيه كلمة كذا وكذا من اللغة البابلية، وهي لم تدخل اللغة العبرانية
إلا بعد السبي الأول أو الثاني، وفيه حكم كذا، وهو من تقاليد البابليين دون
العبرانيين بدليل كذا وكذا. وقد وضع بعض علماء الألمان جدولاً للكلام الدخيل في
الكتاب الذي يلقبونه بالمقدس، وبين ذلك بالتاريخ تحديدًا أو تقريبًا. فهذه المطاعن
في الكتاب الذي ظهر بالبراهين أنه غير مقدس، لا معارض لها؛ لأن هذا الكتاب
مؤلف من كتب كثيرة لم تعرف أزمنة تأليفها , ولم تنقل بالتواتر، وكانت عرضة
للتغيير والتبديل والتحريف من الرؤساء الذين كانوا مستقلين بها في الأزمنة
الماضية، إذ لم تكن مما يتناوله سائر الناس.
ونحن معاشر المسلمين نعتقد أن منها ما هو وحي من الله في الأصل، وقد
وفقنا في المجلد السادس للجمع بين شهادة القرآن لها وبين ما أثبته العلم من كونها
وضعيه مقتبسة من أديان الأمم السابقة؛ فليراجع ذلك في مقالة (النبأ العظيم) التي
شرحنا فيها اكتشاف شريعة حمورابي التي ظهر أن معظم التوارة الحاضرة مأخوذ
منها.
صدم القسيسون ودعاة النصرانية بهذا النحو من الطعن بدينهم وهو ما يسميه
علماء أوربا - الانتقاد العالي أو الأعلى - فكانت صدمة صادعة حاروا فيها
فأرادوا أن يحاربوا الإسلام بالسلاح الذي حوربوا به , وجهلوا الفرق بين الزجاج
الملون والياقوت، والفرق بين بيت الحديد وبيت العنكبوت. فالإسلام أصلب من
الياقوت، وأقوى من الحديد؛ لأن كتابه قد ظهر على لسان النبي الأمي الأمين ,
وحفظ من حوادث التاريخ وعبث العابثين.
نشرت جمعية التبشير أو التنصير الإنكليزية الكتاب الذي تبحث فيه عن
مصادر الإسلام فرأينا أن مؤلفيه قد أخذوا ألفاظًا وردت في الكتاب والسنة مما كان
مستعملاً عند العرب أو غيرهم من الأمم، ودخلت في اللغة العربية قبل الإسلام،
وألفاظًا قريبة في اللفظ من ألفاظ أعجمية أخرى، ولكن لم يعرف أن العرب نقلوها
عنها وجعلوا هذه وتلك دلائل على أن دين الإسلام نفسه مأخوذ عن الأمم التي وجد
في الكلم العربي ما هو معرب عنها، أو يشبه أن يكون معربًا، فهذا أصل من أصول
مطاعنهم في ذلك الكتاب، وهناك أصل آخر وهو أن ما أقره الإسلام مما كانت
عليه العرب وسواها قد عد دليلاً على أن الإسلام مأخوذ عن الجاهلية ومن هم على
مقربة من الجاهلية في اصطباغ أديانهم بصبغة الشرك وإن كان لبعضها أصل
صحيح.
وإنني أذكر قبل الكلمة الموعودة مثالاً من الأمثلة التي وردت في الكتاب؛
ليعرف سخافته من لم يره من أولي الألباب؛ فمن ذلك زعمه أن الإسلام أخذ حكم
توحيد الله تعالى عن العرب؛ لأنه ورد اسم (الله) واسم (الإله) في أشعارهم قبل
البعثة، وأورد شواهد منها قول النابغة:
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم ... من الجود والأحساب غير موارب
محلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب
وقد جهل المؤلف المسكين أن كل الأمم تعتقد بالله تعالى، ولكنها تشرك به
وتزعم أنه له أبناء أو أولياء يعمل بواسطتهم فهو غير مستقل بإرادته تمام الاستقلال،
ولا يقدر أن يكفر خطيئة آدم مثلاً بدون خطيئة صلب المسيح! ! فما كل من عرف
اسم الله موحدًا لله، وأنه هو يعرف هذا الاسم، ولكنه لا يعرف التوحيد، ولينظر
قول النابغة: (محلتهم ذات الإله) وكان يغنيه عن التعب في استخراج الاسم
الكريم من أشعار العرب استخراجه من القرآن في إثبات اعتقاد العرب وغيرها بالله
مع الاحتجاج على نفي الشرك {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ *
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ
عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ} (المؤمنون: 84-92) ، وأمثال هذه الآيات التي تثبت لهم الإيمان
بالله والشرك به جميعًا مع إقامة البراهين على التوحيد، والاعتقاد الصحيح كثيرة
جدًّا فهل كان مثل هذا عند العرب أو عند النصارى؟ !
أراد مؤلف الكتاب أن يقلد علماء أوربا في هذه المسألة فأساء التقليد، فإن
أولئك قد بينوا أن كلمة الإله والآلهة في التوراة مأخوذة من لغة أخرى، وأن
العبرانيين استعملوها كما كانت مستعملة في الملة التي أخذوها منها , ولعلنا نفصل
ذلك في فرصة أخرى بترجمة ما قالوه، ولكن صاحبنا أساء التقليد , وشبهته أن
الإسلام وافق الجاهلية في تسمية خالق الكون، وهل ينطق النبي إلا بلسان قومه أم
جاء نبي بلغة جديدة لا يعرفها أحد فأفاد الناس بها؟ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ
بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) .
مثل هذا المؤلف في صنيعه هذا كمثل الذي قلد جوابًا فأساء التقليد، سمع
جماعة رجلاً ينادي: يا عبد الله. فقال له أحدهم: كلنا عبيد الله فمن تعني؟ وكان
فيهم رجل بليد سمع مرة أخرى رجلاً ينادي: يا حمزة. فأجابه: كلنا حماميز الله
فمن تعني؟ ورأى أمير على غلام مخايل الذكاء والنجابة فامتحنه بأسئلة منها: ما
أطيب الدجاج؟ قال: جلدها؛ فأجازه جائزة حسنة , وكان له أخ بليد فحسده
وتعرض للأمير قائلاً: سلني كما سألت أخي، فقال له الأمير: ما أطيب شيء في
الجاموسة؟ قال: جلدها؛ فأمر بجلده.
أما الكلمة التي أهدم بها هذا الكتاب فهي أن محمدًا النبي الأمي بعث ليهدي
الناس إلى صراط الفطرة السليمة بإصلاح ما أفسدوا من دين الأنبياء وإقامة الدين
على أساس الاستدلال والعلم دون التقليد للرؤساء , وهذا الكتاب يثبت للنبي الأمي
الاطلاع على جميع أديان الأمم وتقاليدها، وعاداتها، ولغاتها، وانتخاب قواعد
الإسلام وأحكامه منها كأنه كان ناشئًا في مكتبة كمكاتب باريس وبرلين ولندره
حيث الكتب في جميع اللغات والعلوم والفنون تأتي طالبها بآلات كهربائية كلمح
البصر مع أنه لم يقرأ، ولم يكتب، ولا نشأ بين قوم قارئين كاتبين , وإنما كان أميًّا
ناشئًا في أمة جاهلية لا كتب عندها ولا علوم. ثم إن هذا الكتاب لا يعتبر الدين
صحيحًا إلا إذا كانت أحكامه كلها مخالفة لما عليه البشر، وإن كان حقًّا وخيرًا
وفضيلة كأنه يشترط في الدين أن يكون مصادمًا للفطرة في كل شيء حتى إذا ما
أقرَّ شيئًا من الخير الذي لا يخلو من الناس كان فاسدًا ومقتبسًا كله من الناس.
فجميع طعن هذا الكتاب في الإسلام لا يعدو موافقة بعض أحكامه لما كان عند الناس
وإن كان عندهم فاسدًا فأصلحه أو ناقصًا فأتمه , وقد رأيت مثالاً من طعنه ,
وسنريك غيره فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(7/101)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رأي في سلب الأمن من الحجاز
تواترت الأخبار تواترًا حقيقيًّا أصوليًّا باختلال الأمن في بلاد الحجاز، وبأن
حكومة الحجاز التي ألقي زمامها بيد أمير مكة ووالي الحجاز قد كانت من عوامل هذا
الخلل. ظهر للناس كلهم من سبب ذلك الطمع في مال الحجاج الذي كانت الحكومة
تسلبه منهم وتنهبه باسم إعانة سكة الحديد الحجازية، واسم زيادة أجرة الجمال،
وبأسماء أخرى سمَّتها ما أنزل الله بها من سلطان، والسبب الخفي الذي يعتقده بعض
الخواص دون بعض هو أن كل ما قد جرى، فإنما جرى بتمهيد وإيعاز من الآستانة،
ولا نبحث في أدلتهم على ذلك الآن، وإنما نقول: إنه لا يبرئ الدولة العثمانية من
هذه الجناية الكبرى إلا عزل أمير مكة وواليها، ومحاكمتهما، ومجازاتهما، وعزل
وكيلهما أيضًا؛ فإن فعل السلطان ذلك فقد استبرأ لدينه ومنصبه، وإلا ثبت لجميع
مسلمي الأرض ما يتهامس به بعضهم الآن من أن كل ما جرى مُوعز به من
الآستانة، وأن الغرض منه منع الحج بالمرة , أو منع خواص المسلمين وعلمائهم من
زيارة تلك البلاد لئلا يتآمروا هناك، وينصبوا لهم خليفة بالانتخاب الشرعي، وذلك أن
الخواص وأهل العلم هم الذين يعلمون أن الفريضة تسقط عنهم عند عدم الأمن على
الأرواح أو الأموال , وهم الذين يحافظون على حياتهم كما يجب, وهم الذين
تخشى جانبهم سياسة التفريق التي يصعب عليها أن يجتمع اثنان أو ثلاثة من
أهل العلم والرأي، ولو في بلد غمره الاستبداد وتغلغلت فيه العيون والجواسيس.
فكيف يسهل عليها أن يجتمع العلماء والفضلاء من جميع الأقطار في موقف مقدس
يتمتعون مع ذنب الاجتماع بالأمن على أرواحهم وأموالهم؟ وأكبر أمانينا أن يُكَذِّب
سلطاننا - وفقه الله - هذه الظنون بما ذكرنا، ويعين للحجاز أميرًا وواليًا
آخرين يجعل عليهما تبعة كل المصير في حفظ الأموال والأرواح في تلك البلاد
المقدسة؛ لأجل لقب الخلافة هو الذي ينزع منه اللقب العظيم، وينفر من الدولة
قلوب جميع المسلمين.
ليس أمر العبث بالأمن في الحجاز كأمر العبث بالأمن في بلاد مكدونية
وأرمينية , ولا الإلحاد في الحرم كالإلحاد في بلاد الروم وإن كانت باية إستانبول
العلمية - أعلى في قانون الدولة من - باية الحرمين؛ فإن ملاك هذا الأمر الذي
يسمونه الخلافة هو في اعتقاد أكثر المسلمين القائلين به حفظ الحرمين وتسهيل إقامة
هذا الركن الديني , فإذا صار مهددًا بالهدم برضاء السلطان أو بعجزه فأي عمل من
أعمال الخلافة يبقى له؟
وظيفة الخليفة إقامة الدين وحفظه فإذا كان المرتد لا يقتل، وإذا كان الألوف
من المسلمين يكلفون بترك صلاة الجمعة للوقوف أمام الجامع الحميدي عند
صلاتها؛ وإذا كان ركن الزكاة قد هدم , والسلطان العثماني لا يبالي بهدمه كما
بالى الخليفة الأول؛ إذ حارب مانعي الزكاة بإقرار الصحابة , وإذا كان الصوم
سرًّا بين العبد وربه؛ فهل بقي من ركن من الخمسة تطلب فيه عناية سلطان
المسلمين غير الحج؟ وهل يطلب منه في ذلك شيء أقل من حفظ الأمن، ومنع تعدي
العمال وأعوانهم من الأعراب على أنفس الحجاج وأموالهم؟ ألم ير السلطان كيف
أقبل المسلمون على إعانة سكة الحديد الحجازية بالألوف وألوف الألوف مع إهمالهم
فضيلة التعاون على الأعمال العمومية في هذا الزمان؟ ألم يعلم أن السبب في هذا هو
اعتقادهم بأن هذه السكة تسهل لهم طريق الحجاز؟ فإذا رأوها آلة لسلب الأمن على
المال والأنفس في الحال، فكيف يصدقون أن الغرض منها حفظ الأمن في الاستقبال؟
ألا يعلم السلطان أن كل مسلم يسائل نفسه اليوم: هل السلطان قادر على تأمين
الحرمين الشريفين أم لا؟ وأنهم لا يجدون في أنفسهم إلا أحد جوابين: إما أنه قادر
ولكنه يريد سلب الأمن، وإما أنه غير قادر. فأي الجوابين يرضيه إذا لم يبادر إلى
معاقبة أمير مكة وواليها وعزلهما مع وكيلهما, ووضع آخرين مسؤولين عن الأمن في
موضعهما وإعلام جميع الأقطار بذلك.
أيظن أن المسلمين في مشارق الارض ومغاربها ينخدعون بقول جرائد الآستانة
وجرائد بيروت: إن أمير الحجاز وواليه قد حفظا الأمن أتم حفظ، وأن الحجاج كانوا
في غاية الرفاهة والراحة لا شغل لهما إلا تكرار الدعاء للخليفة الأعظم والسلطان
الأفخم كما جاء في المنشور الرسمي الذي أرسلاه إلى الآستانة حسب العادة المتبعة في
كل عام؟ كيف ينخدع من يرى هذه الجرائد - وقليل ما هم - بقولها وقد انبث
في الأقطار مائتا ألف حاج، وكلهم يخبرون بكذبها؟ إذا حدث كل حاج عشرة من
الناس بما رأى وسمع وقاسى وعانى يكون مجموع العارفين مليونين، وكم يخبر كل
واحد من هذين المليونين؟ إن هذا أمر ليس كسائر الأمور فينفع فيه تضليل الجرائد
التي ينخدع بها الجاهلون بسلطة السياسة عليها. على أن الجرائد الحرة في مصر
وغيرها أكثر من تلك الجرائد انتشارًا وأصدق أخبارًا، وقد أجمعت على تمثيل فَقْد
الأمن في الحجاز لا سيما بعدما ورد تقرير أمير الحج المصري على الحكومة
ونشرته في الجريدة الرسمية، وفيه من تمثيل المخاوف والاعتداء على الأموال
والأنفس ما يؤكد رسائل الحجاج الكثيرة.
يسند بعض المنافقين من أصحاب الجرائد وغيرهم كل إلحاد في الحرم إلى
شريف مكة، وجريدة (ترك) تملأ ماضغيها بذم العرب والأشراف مستدلة بسوء
سيرة الشريف، ولكن العاقل والجاهل يعلم أن الشريف أحد عمال السلطان، ويذهب
كثير من الناس إلى صحة ما قالته جريدة الجوائب المصرية، كما في الجزء الماضي
أن السلطان قد أقامه هناك وأقره على الظلم؛ ليكون حجة على العرب والشرفاء أمام
المسلمين، ولكن هذا غير معقول فإن الناس يعرفون أن السلطان قادر على عزله
وعلى تأديبه في كل آن، ويعرف الكثيرون أن الشريف لم يكن له أمر ولا نهي على
عهد عثمان باشا والي الحجاز السابق، بل كان ذلك الوالي قد ألجأه إلى تَرْكِ المقام
في مكة، فأقام في المدينة المنورة حتى عزلت الدولة عثمان باشا عن الحجاز. وكان
أول عمل كسر به شرته أن أمر فرقتين من العسكر بحمل مدفعين والإحاطة ببيت
الشريف، وطلب جانٍ التجأ إليه منه وقال لهم: إن أبى تسليمه فضعوا الحديد في يد
الشريف نفسه , وأحضروه إلى هنا بالقوة.
وقد بادر البكباشي إلى إخبار الشريف بذلك فأرسل الجاني حالاً، وكان يهزأ
قبل ذلك بالحكومة إذ تطلبه منه.
لعل بعض القراء يمتعض من شدة إنكارنا لميله مع ريح السياسة أكثر من ميله
إلى خدمة الدين، وربما يسبق إلى وهمه أن للنفس هوى في هذه الكتابة لما تعود عليه
من كتابة أهل السياسة. ولي أن أقول لهذا الواهم: إنني - ورب الكعبة - أتمنى لو
أحج , وإنني - ورب الكعبة - لا آمن على نفسي، بل أعتقد أن الحج حرام عليَّ
ما دام هؤلاء الحكام على سيرتهم هذه في الحجاز , وإنني - والله - أتمنى لو تصلح
حكومة الدولة العثمانية فتكون خير حكومة في الأرض، ولكنني أحب صلاح الدولة
لأجل الإسلام , لا إنني أحب الإسلام لأجل الدولة.
إن الله تعالى امتن علينا بجعل البلد الحرام والبيت الحرام أمنًا للناس كما نطق
بذلك القرآن الكريم، وما نحن من تفسير بعض آياته في ذلك ببعيد , منها قوله تعالى:
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} (آل عمران: 97) ،
وقوله - عز وجل - {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج:
25) .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته بعرفة يوم النحر من حجة
الوداع: (فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في
بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد،
فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مُبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب
بعضكم رقاب بعض) رواه أحمد والبخاري فجعل حرمة الدماء والأموال مشبهًا ,
وحرمة البلد الحرام والشهر الحرام مشبهًا به كأنه أبلغ في التحريم، فكيف صارت
الأموال والدماء تباح في البلد الحرام في الشهر الحرام، ولا يوجد من يسأل عنها؟
وكيف يحرم الله في ذلك المكان والزمان قتل القمل والحشرات، وقلع النبات،
وتحلل الحكومة العثمانية قتل النفوس المنيبة إلى ربها اللاجئة إلى بيته الداخلة في
ضيافته وسلب الأموال المحرمة كذلك , ثم ندهن لها ونكون من المؤمنين!
إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده
فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه أحمد
ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم، ونحن قادرون على الإنكار بألسنتنا فكيف نسكت،
والواجب على المسلمين أنَّى خرجوا عن طاعة هذه الحكومة إذا ثبت أنها تتهاون
بأمر الأمن في الحجاز، ولا تمنع الظلم منه , فإن سكتوا ورضوا كانوا ملعونين في
القرآن , ويوشك أن يسلط الله عليهم من ينزع منهم ما بقي بأيديهم يعيثون فيه فسادًا
حتى الحجاز {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78-79) .
هذا وإننا إنما نشدد في الإنكار رجاء التأثير، ونسأل الله تعالى أن يوفق هذه
الدولة إلى المبادرة إلى تلافي هذا الأمر بطريقة تقنع القريب والبعيد، والذكي
والبليد، بأن الأمن قد عاد إلى تلك البلاد المقدسة، وإلا فإن العاقبة تنذر بخطر
عظيم يشعر به المتفكرون، وإن عمي عنه الطامعون، وتغافل عنه المنافقون،
وجهل مثاره الغافلون، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء:
227) .
__________(7/105)
الكاتب: سائح بصير
__________
بلرم صقلية
(5)
أمير وأميرة من الأسرة الخديوية
البحر هادئ والهواء عليل. وقد قرب الغروب واليوم آخر أيام السفر، وأنا
محبوس في هذا المكان الضيق لتحرير هذه الأحرف إجابة لطلب بعض الناس،
وبودي لو أستنشق الهواء لكن بقيت عليَّ قصة أقصها ولو تركتها اليوم، لم يعد
إليها القلم في يوم.
صعدت إلى المركب من مسينا وجلست أنتظر مسيره، وبينا أنا كذلك وإذا
بأمير من أعضاء العائلة الخديوية يصعد من السلم إلى السطح فنهضت للسلام عليه
وتساءلنا عن مراحل أسفارنا، وفهمت منه أن معه حرمه، وهي من أعضاء العائلة
الخديوية كذلك. فقلت: أمير جليل رُبِّي على الطريقة الأوربية، وتعود السفر إلى
بلاد أوربا مع حَرَمِهِ وهي كذلك قد ربيت على العظمة والحرية فلا ريب أن نرى
الأميرة مع الأمير، ولا يقدح ذلك في كرامة واحد منهما فإن الأميرات المصونات
قد يرين الناس من حيث لا يراهن الناس لا لأنهن من عالم غير عالمهم، ولكن لأن
الناس يغضون الطرف احترامًا لهن، ولا حظر عليهن في رؤية من لا يراهن.
لكني مكثت مع الأمير إلى وقت العصر، ثم تركته وذهبت إلى محل الأكل لأتناول
شيئًا مما يتناول في هذا الوقت فكان جلوسي مع بعض أرباب البيوت من الفرنسيين
المقيمين في الإسكندرية. فبدؤوني بالكلام فتكلمت، وامتد بي وبهم الحديث إلى حالة
المركب وازدحامه بالركاب وضيقه عنهم , فقال قائل أو قالت قائلة: ما أسوأ ما
صنعت الشركة مع البرنسيس فإنها وضعتها في قُمْرَةٍ ضيقة لا شباك لها، وهي
ملازمة لها ليلها ونهارها، ولو كانت ممن يخرجن ويستنشقن الهواء لسهل الأمر،
ولكن الأميرة لا تخرج أبدًا؛ لأنها لم تخرج قط من يوم ركبت المركب، ومن
القُمرات ما هو أفضل من قُمْرَتِها وأوسع. فسألت: هل بها شيء تألم له لو خرجت؟
فقيل لي: لا , الظاهر أنها في غاية الصحة، وكمال العافية غير أنها لا تحب أن
تخرج، والقُمرة مقفلة في جميع الأوقات.
أمكنني بعد ذلك أن أسأل حتى يتم سروري بما فرحت لأوله فعلمت أن الأميرة
كانت في أوربا تسدل على وجهها نقابًا أزرق على نحو ما يسدل نساء الآستانة أو
سوريا بحيث لا يميز الناظر شيئًا من وجهها، ومتى ركبت المركب لزمت قُمرتها ,
وأغلقتها عليها إلى أن تصل إلى غاية سفرها، وكل ذلك تفعله حرصًا منها على
كرامتها، ومحافظة على المعروف من عوائدها من حيث هي أميرة مسلمة. فقلت:
مَثَلٌ صالح لا بد من ذكره، والثناء عليه، حتى يتعلم أولئك المقلدون أن من أمرائهم
وأميراتهم من هم أَوْلَى بتقليده، وأن خيرًا لهم أن يقلدوا أميرًا مصريًّا من العائلة
الخديوية الكريمة من أن يقلدوا جماعة من الأوربيين غير معروفين لهم، ولا
يحسون بتقليدهم، ولا يستفيدون من حذوهم إلا تجردهم مما يميزهم من حيث هم
مصريون أو مسلمون، واختفاءهم في غمرة أولئك الأوربيين لا يتميزون عن
عامتهم في شيء، وسريان ما يشكو منه القوم من الفساد إلى أنفسهم أو أنفس نسائهم
فبارك الله في الأمير والأميرة، وأرشد الله شبابنا إلى التأسي بهما إن كان لا بد
لنسائهم أن يذهبن إلى أوربا لمداواة علة، أو إيناس في غربة.
لعلك تسأل: مَنْ هذا الأمير، ومَنْ هذه الأميرة؟ فإني أقول لك: الأمير هو:
الأمير عباس باشا حليم والأميرة هي: الأميرة خديجة أخت أفندينا الخديوي عباس
باشا حلمي ومما يسرك - إن كنت مثلي تحب العفة، ووضع الشيء موضعه -
أن الأمير لا ينفق في سفره إن كان وحده أكثر من ثلاث مائة وخمسين جنيهًا، وإذا
كان مع الأميرة فلا ينفق أكثر من ستمائة جنيه في مدة شهرين ونصف، وهو
يعيش عيشة الأمراء.
تقول: لعله يقتصد ليكتنز، ويوفر ليستكثر، فأقول لك: إني علمت أنه ينفق
من ماله في تربية تلامذة في مصر، وفي الآستانة وفي إنكلترا يتعلمون العلوم
العالية في المدارس الحربية أو مدارس الطب أو الزراعة. فما قولك في نفقة مثل
هذه بدل النفقة في الشهوات وفوائت اللذات؟ ألست توافقني على أنه من أفضل
الأمراء عملاً، ومن أنبلهم قصدًا فإنه يربي أناسًا يقومون بشئون بيوتهم أعرف
بعضهم وأجهل بعضًا، ألا يكسب بهذا حسن الأحدوثه وتخليد الذكر خصوصًا إذا
استزاد من هذا الخير فإنه بذلك يقوي عناصر العلم في البلاد , وهو الأصل الذي
نحتاج إليه، لا سيما إذا انضم إليه حُسن التربية كما هو مقصد الأمير. ولو اقتدى
به الأمراء لأصبحنا في ثروة من العلم، ولم تصب حضراتهم بالإفلاس من المال.
بعد الإفلاس من الكمال، وفقه الله وأرشدهم , والسلام. اهـ
(المنار)
تمت ملاحظات السائح البصير في تعريجه على صقلية وقد كتبت النبذة الرابعة
في الجزء الـ 24 من السنة الماضية ثالثة (3) ولعله يتكرم علينا بشيء من
ملاحظاته النافعة في البلاد الأخرى التي ساح فيها ليعلم السائحين الكثيرين من
أمته كيف ينتفع البصير بالسياحة، وكيف يأمن مضرتها ومن أجدر من سائحنا
بهذا الإرشاد.
__________(7/109)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(تقريظ المنار لعالم غير مقلد)
قال بعد رسوم الخطاب:
منارك مرغوب المؤمن المحب لربه , ولما أبدع ربه من الوجود البديع
الواقف عند حدود سنته , وجدير بمن أكرمه الله بالمرغوب أن يأخذ بحظ وافر من
ذكره سبحانه الذكر المتعاقب الذي لا يلبث معه النسيان إلا خلسًا قليلة. ذلك ذكر الله
الذي تطمئن به القلوب، ويتوحد به المحبوب، ولا يفوت معه مرغوب، اللهم أعنا
على ذكرك.
نشكرك وأنت العليم بذات الصدور- يا من أكرمتنا بكتاب (المنار) المنير.
نشكرك أن أتممت على ظهوره السنة السادسة سائرًا سيرته التي نعتقد أنها ترضيك.
نشكر لك الفضل، ولك الحمد، ولك المنة، ومنك العون، ومنك التوفيق.
ويا صاحب المنار , لقد قمت فينا مقام المصلحين. فعليك منا الثناء نعلنه لك
ليكون من آيات إثمار غرسكم النافع. ومن آيات حبنا إياك في الصراط المستقيم
الذي نرجو أن نصل فيه إلى المجد الحقيقي والسعادة التي لا ينكرها أحد- ولا
السوفسطائية.
انتهت السنة السادسة , أما أشواق الملأ إلى بدائع ما تحيون من السنن؛ فلما
تنته , ولما ينهها خاطر من الخواطر , بل هنالك حداة بها يزيدون في سيرها. تلك
أشواق الذين ذاقوا كنه الأمور فأصبحوا يميزون بين الحقائق والأوهام، كالتمييز
بين وقائع اليقظة والأحلام.
وهذه السابعة أقبلت فعسى أن يكون مباركًا إقبالها , وعسى أن يزيد المنار فيها
إشراقًا يستنير به المخلصون المنصفون، ويشرق به الحسدة والمعاندون.
وإليك أرسلنا هذا الكتاب نصف فيه مسرتنا بأننا من محبي المنار المتمنين
دوام سطوع أضوائه. وفي كل حرف حررناه نطق للفؤاد بأدعية خالصة بها
تضرعنا للقوي سبحانه أن لا يخيب أملنا , وأن يخلص إليه عملنا، وأنت اللهم ولي
المؤمنين.
***
(الجزء الثالث من كتاب أشهر مشاهير الإسلام)
قد صدر الجزء الثالث من هذا التاريخ الاسلامي الوحيد في بابه , وهو في
سيرة أشهر قواد الخليفة الثاني وعماله - أبي عبيدة عامر بن الجراح فاتح الشام،
وسعد بن أبي وقاص فاتح بلاد الفرس، وعمرو بن العاص فاتح مصر، وقد جرى
مؤلفه (رفيق بك العظم الشهير) في تراجمهم على الطريق التي جرى على تراجم
من سبقهم أعني طريق التمحيص والتحقيق , وبيان أسباب الحوادث ونتائجها ,
والإرشاد إلى وجوه العبر فيها , وبسط الكلام في موضوعات استطرادية نافعة يعبر
عنها بالكلمات، فمنها كلمة في العمال وكلمة في القبور , وقد سبق لنا نشرها في
المنار , وكلمة ثانية في أهل الذمة، وقد نشرناها أيضًا.
ومعظم الكتاب في ترجمة عمرو بن العاص فإنه أعظم عمال عمر دهاءً
وسياسةً وأعمالاً , وإن كان أبو عبيدة أعظمهم أمانة واستقامة وورعًا وديانة , ويليه
في ذلك سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وقد اعتذر المؤلف عن عمرو أن زج
نفسه في غمرة الفتنة بين أمير المؤمنين علي ومعاوية بأنه لم يسعه على حبه
للرياسة والتقدم في الأمور ما وسع النفر المعتزلين من حب السلامة؛ بل رأى أن
انتفاع فريق من أولئك المختلفين برأيه ربما كان فيه تعجيل بإطفاء شواظ الفتنة
وحسم لمادة الاختلاف الذي أهريق فيه دم الأمة , وأنه في ذلك كغيره من الصحابة
الذين دخلوا مدخله، وأنه أراد أن يجعل معاوية وسيلة يعمل به , ثم يعمل لنفسه
إذ كان يطمع في الخلافة، وأنه في ذلك كعظماء الدين في هذا الزمان وفي كل
زمان , فإن كثيرًا من الملوك قتلوا إخوتهم أو أولادهم لأجل الملك , ولم يطعن
الناس في أصل دين أحد منهم وأكثر ما يقال فيهم: إنهم عصوا الله إذ رجحوا
دنياهم على دينهم. وبين المؤلف أن عَمْرًا كان يعتقد أن معاوية على الخطأ , وقال
بعد ذلك: (وهذا يدل على أن عليًّا رضي الله عنه لو تألف عَمْرًا واستدناه إليه
لانتفع به ولصدقه الخدمة أكثر منها لمعاوية , ولكن إغراق علي في حب الفضيلة
دعاه إلى ترك الحيلة بمثل عمرو كما دعاه إلى عدم قبول إشارة من أشار عليه
بتأليف معاوية وتثبيته على ولاية الشام كما سترى بعد) اهـ. وهذا يؤكد أن تلك
الأعذار عين الذنوب.
أما الكتاب فهو في غنى عن التشويق إليه والترغيب فيه فإنه قد راج رواجًا
عظيمًا حتى إنه ليوشك أن يعاد طبع الأجزاء السابقة , وطبع هذا الجزء في مطبعة
المنار , وهو أحسن من سابقيه طبعًا وتصحيحًا. وثمن النسخة منه خمسة قروش
صحيحة , وأجرة البريد قرش ونصف , ويطلب من مؤلفه، ومن مكتبة المنار بشارع
درب الجماميز وغيرها من المكاتب المشهورة.
***
(الدولة العلية وماليتها)
رسالة نافعة مفيدة لكاتب عثماني غيور رمز إلى اسمه بحرفي (م. ق) بَيَّنَ
فيها النفقات الرسمية القانونية التي تنفقها الدولة في الوزارات والمصالح وغير
الرسمية , وقد كان الكاتب أرسلها إلينا لننشرها تباعًا في المنار , فنشرنا منها نبذة،
ثم رأينا بعد إشارة غير واحد من القراء عدم نشر الباقي , ولكن الكاتب لم يرد أن
يحرم الأمة من الانتفاع بها فطبعها على حدتها. ومن هذه الرسالة يعلم أن كبار
رجال الدولة يأخذون رواتبهم الشهرية مضاعفة ويزادون من المكارم السلطانية ما لا
حصر له. وأما صغار العمال والجند فإنهم لا يصلون إلى رواتبهم القليلة إلا في كل
أشهر مرة. وقد اقترح الكاتب في آخر رسالته عشرين أمرًا رأى أن إصلاح الدولة
بدونها محال وهي:
1- تنقيح دوائر الحكومة , وتقليل المرتبات التي لا لزوم لأربابها، وإرجاعها
لأصل القانون العثماني , والتخفيض من ذلك الجيش الجرار الموجود في تلك
المجالس المشكلة في الآستانة كما تقدم ذكره إلى عدد لا يتجاوز ما نص عليه في
القانون.
2- إحالة أغلب القواد الحائزين على رتبة المشيرية والفريق الذين لا ينتظر
منهم خدمة حقيقية على المعاش , والإقلال من الإنعام بهذه الرتب السامية ذات
المرتب , وجعل عدد كل من الرتبتين لا يتجاوز حدًّا معلومًا أسوة بباقي الدول.
3- إحالة قسم من الياوران على الجيش , وخصم راتب الكوردون , والاكتفاء
براتب الرتبة كما هي الحالة المتبعة عند الدول الأجنبية.
4- قطع المرتبات عن الجرائد.
5- حل جيوش الجواسيس واقتصاد رواتبهم.
6- إلغاء الوظائف التي لا عمل لها , وإبطال إسدائها لغير مستحقها لانتمائه
لبعض الكبار المعبر عنه بالمحسوبية.
7- زيادة رواتب صغار المستخدمين , ورواتب ضباط الجيش من رتبة الصاغ
وما تحتها.
8- قطع دابر الرشوة من دواوين الحكومة.
9- ترتيب الترقي في الخدمات الأميرية على الخطة الجارية في أوربا.
10- عدم عزل الموظف إلا بعد محاكمته , وعدم استخدام من يعزل لثبوت
جريمة عليه.
11- عدم إعطاء امتيازات ذات ضمان للأجانب؛ بل حصرها في أهل البلاد.
12- تنشيط التجارة والزراعة , وتأليف شركت تجارية وصناعية.
13- وضع رسم قليل على كل تلميذ يتعلم بالمدارس الأميرية للاستعانة بذلك
على توسيع دائرة التعليم.
14- إعطاء الحرية للجرائد والمطبوعات.
15- إصلاح المكاتب العمومية (الكتبخانات) بالآستانة أو جمعها بمكتبة
واحدة , وفتحها دائمًا للمطالعة , ويوضع رسم طفيف على كل داخل إليها.
16- قطع المرتبات التي تعطى من البلديات إلى المنفيين أو بعض
(المحاسيب) .
17- إعطاء الوزارة الحرية بالعمل.
18- عمل ميزانية سنوية ونشرها في الجرائد.
19- تنفيذ أحكام القانون بالمساواة واستقلال القضاء عن الإدارة والسياسة وهو
الأهم.
وفي الرسالة فوائد كثيرة وكلام في مستقبل الدولة , وثمن النسخة منها قرش
واحد، وتطلب من مكتبة المنار.
***
(تقويم المؤيد لسنة 1322)
أصبح هذا التقويم أشهر من نار على علم، وهو يزداد فائدة عامًا بعد عام حتى
يقول الناظر فيه: ليت شعري! أي شيء جديد يكون فيه بعد هذا، وهو الآن
مؤلف من خمسة عشر بابًا يدخل في كل باب من الفوائد ما هو سمير السامر،
وأنيس المسافر، وفي باب التاريخ من هذه السنة تراجم سلاطين آل عثمان ,
وتاريخ أشهر الممالك الأوربية , وكلام في مستعمراتها , وجداول لتاريخ الملوك
والرؤساء من كل أمة. وفي بابي أحوال مصر والسودان ما لا يستغنى عن
معرفته، وفي باب القضاء معجم يشرح فيه الاصطلاحات القضائية. وفي باب
المعاهدات والسياسة كلام طويل في المسألة المكدونية والمسألة المراكشية والمسألة
اليابانية الروسية وغير ذلك. وفي باب تدبير المنزل ما يفيد كل منزل , وفي سائر
الأبواب من الفوائد ما لا محل هنا للإشارة إليه. ولكننا نقول كلمة واحدة في تقريظ
هذا التقويم وهي: (إنه مكتبة في الحبيب) وهو مجلد تجليدًا جميلاً , وثمن النسخة
منه خمسة قروش صحيحة فقط , ويطلب من مؤلفه محمد أفندي مسعود المحرر
بجريدة المؤيد.
***
(تقويم العرب)
يطبع في مصر كثير من التقاويم المختصرة التي يسمونها (النتائج) وهي
لمعرفة تاريخ الشهور الهجري مع الإفرنجي والقبطي , ويزيد بعضها العبري. وقد
جرت عادتهم بأن يكتبوا بإزاء الأيام ما يكون فيها، أو يحسن من احتفال ملي أو
عمل زراعي وغير ذلك. ويسمون ذلك بالتوقيعات , والكثير من هذه التوقيعات يدخل
في باب العادات المنتقدة والأوهام الضارة. وقد وضع محمد أفندي حسين
مساعد سكرتير شركة طبع الكتب العربية تقويمًا جديدًا لهذه السنة بمساعدة خضر
أفندي إبراهيم. رغب فيه عن توقيعات العادات العمومية المعتادة إلى ذكر أشهر
الوقائع والحوادث التاريخية , ولم يهمل ذكر الأعمال النافعة في أوقاتها كابتداء
زراعة القطن وغيره. فهذا التقويم على صغره تاريخ إسلامي وجيز فيه ذكر مواليد
أعظم رجال الإسلام ووفياتهم وأشهر الوقائع.
وقد طبعته شركة طبع الكتب على نفقتها , ونرجو أن يفوق سائر النتائج في
الرواج والاشتهار ولو بعد حين. وثمن النسخة منه قرش واحد.
__________(7/111)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(خطر علينا وعلى الدين)
نشر المقتطف مقالة بهذا العنوان لعبد القادر أفندي حمزة المحامي بالإسكندرية
أعجبني منها نظم الكلام وأسلوبه وترتيبه , وتنسمت منه الغيْرَة، وحسن القصد،
فخطر لي عند القراءة أن أكتب إلى صاحب المقالة مُبينًا له رأيي فيها، ثم رأيت أن
أكتب ذلك في المنار بالإسهاب اللائق بالموضوع فلم تسمح لي الموضوعات
العارضة مع ما لا بد منه في كل جزء كالتفسير من كتابة ما أردت في الجزءين
السابقين، وقد كاد يتم هذا الجزء أيضًا، ولم يبق منه ما يسع كل ما أريد فأكتفي
ببعضه.
قال: إن الأمة إذا كانت متأخرة جاهلة لا تخطو إلى الإمام إلا بعد التقلب في
أدوار طبيعية، أولها: أن يكثر فيها الناصحون والمرشدون. وحكم بأن الأمه
المصرية في هذا الدور، والقاعدة صحيحة كما قال، ولكن المرشدين لم يكثروا إلا
أن نقول: إن المراد بالمرشدين من يتصدى للنصح على أن كثرتهم مرجوة، فنحن
في هذا الدور.
ثم قال الكاتب: إن هذه الأمة - على كثرة الصائحين فيها من
المرشدين - لا تفقه كلمة من عشر كلمات مما يلقون عليها، ولا تدري إلى أين تساق.
وهذه جملة مسلمة أيضًا , فإنك كنت تجد المتعلمين يصدقون الأحداث إلى الأمس
فيما يخبرون عن مستقبل مصر، وإخراج فرنسا الإنكليز منها , ويصدقون صاحب
الخمارة في أن العالم الفُلاني أخطأ في بحث القضاء والقدر! !
ثم انتقل الكاتب إلى مسألة الدين فزعم أن جميع المرشدين المختلفين في كل
شيء، متفقون على دعوة الأمة إلى الدين , وأن الأمة متفقة معهم في ذلك فإذا
اختبرت الناس في كل بلد، وإذا راقبت معلمي المدارس، ومربي الأطفال، وإذا
نظرت إلى المؤلفات الجديدة، وإذا همت في أودية الشعر مع أهله , وإذا تلوت
الجرائد والمجلات؛ فإنك لا تجد في هذا كله إلا دعوة الدين وإقناع النفوس بأن
النجاح والترقي لا يكون إلا به.
وهذه دعوى غير مسلمة قد غلا الكاتب فيها غلوًّا كبيرًا، فلو درت في البلد
واختبرت حال الناس؛ لقلت: إنهم لا دين لهم، ولا هَمَّ لهم في الدين , ولكنك تجد
عند الفلاحين شيئًا من التقاليد المنسوبة إلى الدين , وأكثرها ليس منه في شيء،
وهؤلاء لا ينظر إليهم في هذه المسألة؛ لأنهم لا رأي لهم وهم لم يأخذوا ذلك عن
المرشدين في هذا الدور.
ولو عرفت حالة معلمي المدارس لما رأيت فيهم عشرة في المائة، أو في
المجموع يؤدي الواجب عليه في قانون الحكومة من تعليم الدين، بل إن منهم من
يشغل وقت درس الدين بتعليم العربية، ويقول للتلامذة: هذا أنفع لكم؛ لأن درس
الدين لا شأن له في (نمر الشهادة) وقد اقترح واحد من الذين عهدت إليهم نظارة
المعارف بالنظر في قانونها (البروغرام) أن يضاف إليه درس ديني في القسم
التجهيزي فرفض طلبه بأكثر الآراء! ! ولو علم الناس ما علل به الرافضون
رفضهم لقضوا عجبًا! !
ولو التفت إلى الشعراء وطلاب الخيال لوجدتهم لا ينظمون شيئًا في ترقي
الأمة، ولا يذكرون ذلك إلا أن يحثوا الأمة على الفناء في حب الأمير وتفويض الأمر
كله إليه، والتعويل في السعادة عليه. أما المصنفات فالديني منها قليل جدًّا.
وأما الجرائد والمجلات، فليس فيها ما هو ديني إصلاحي إلا (المنار) ولا
أدري هل قلب صحائفه من قلب الدعوة الدينية على جميع وجوهها حولين كاملين أم
لا؟ ولا أنكر أنه يوجد أحيانًا في الجرائد كلام أَوْكلم في الدين، ولكنه يوجد عرضًا
يرمون به غرضًا لا أعرف جريدة لها دعوة دينية، أو رأي في الإصلاح الديني
تحاول إقناع الناس به , فإن كان الكاتب يعرف فأرجو أن يدلني على هذه الجريدة
لأستعين بها في عملي.
من هذه الجرائد المعروفة ما هي للأمير خاصة تدور معه حيث دار، فإذا
حضر الأمير احتفالات الموالد والمواسم المبتدعة في الإسلام قامت تنادي بإحياء هذه
الأمور خدمة للإسلام، وإذا احتفل بمرقصه السنوي، وفيه ما فيه من شرب الخمور،
وهصر الخصور؛ قامت تنوه بفضل هذا الاحتفال وتعده من أصول المدنية
والعمران، ومرقيات الأمة، ومنهم ما لا هم لصاحبه إلا المال والفخفخة فهو يسلك
لأجله كل مسلك، ويسير في كل فج، ناصبًا للمال والجاه كل فخ، ومن ذلك
إظهار الغيرة على الدين عند سنوح الفرص وحدوث الحوادث، ويقل فيها ما يكتب
لمجرد الغيرة على الدين، وإن خالف أهواء العامة والحاكمين، ثم إن وجد هذا أحيانا
فإنه لا يلتزم دائمًا.
وهذا الذي قلناه قد اعترف به الكاتب , وقال: إنهم يتاجرون بكلمة
الدين، ويتخذونها مطية للتغرير والتضليل، ولكننا نذكره بأنه لا يوجد واحد منهم
رسم لنفسه خطة، وفرض على نفسه الدعوة. إذًا لا يوجد فيهم من يشغل الأمة
بالدين عن أي عمل من أعمال الترقي فلا خطر علينا ولا على الدين منهم.
ثم انتقل إلى مسألة (ميراثنا الديني) فأحسن وأصاب في قوله: إن أهم
أسباب ما نحن فيه من الخلل الديني التقليد، ولكنه غلا في تمثيل إرثنا بعض
الشيء، ولا حاجة للبحث فيه , وإنما ننتقل معه إلى البحث في النتيجة.
قال: (إن في الداء بالدين اليوم، وهو كما هو من الانحراف عن صورته
الأصلية خطرًا عليه لا يبعد إذا لم تتداركه أن ينتهي بانحلاله وضياع أصله في قليل
من السنين) .
ثم استدل على ذلك بسوء حال طلاب المدارس، وعلماء الشرع
وسائر طبقات المسلمين، وبَيَّن بُعْد الجميع عن الدين. وهذا صحيح، ولكنه لا
ينتج ما قال أولاً؛ لأن هذا ليس أثرًا لنداء المرشدين أو المتصدين للإرشاد بالدين،
وإنما هو أثر التقاليد المتبعة بالعمل قبل أن تدخل الأمة في هذا الطور أو الدور الذي
قال أولاً: إنه أول أدوار ترقي الأمم , فليس الخطر علينا وعلى الدين إذًا من هذا
النداء الجديد - إن كان - وإنما الخطر كل الخطر في بقائنا على التقاليد الموروثة
بالتربية والعمل أو (بالبدع والخرافات والتقاليد والعادات) التي لها باب مخصوص
في المنار، فإننا لا نقوى بها على معارضة المدنية الجديدة، ولا على مجاراتها،
ولا نقدر أن نكون بها أمة عزيزة قوية.
ثم ضرب لنا مثلاً ما كان من الانقلاب الديني في أوربا , وفي سياقه مجال
للبحث، ولكنه غير جوهري فهو لا يشغلنا عن الحقيقة البيضاء النقية في قوله: (ألا
فلنعرف جيدًا ولو ساءتنا هذه المعرفة أننا بجهلنا الأعمى وتشيعنا الكاذب أوصلنا
الدين اليوم إلى حال إن استمرت ولم نقف في طريقها؛ أدت ولا محالة إلى زواله)
ثم بين الكاتب طريق تلافي الخطر المتوقع بالإجمال فقال:
(لا يقولن مندفع أني أريد بهذا أن يترك الدين جانبًا! ! فمعاذ الله، ثم
معاذ الله أن أريد ذلك، أو أن يخطر على فكري شيء منه. إنما أريد أن يلبس
الدين بيننا ثوبه الحقيقي، ذلك الثوب الأبيض الطاهر الذي تنظره الأبصار فيعجبها
جماله، وتسرها حقيقته، أريد أن ترمى تلك التقاليد والعادات الموروثة التي تلبست
بالدين بعيدًا ليعود خاليًا من الشوائب يتسع المجال فيه للفهم السليم، والنظر
الصحيح، أريد أن تحفظ للدين كرامته، فلا يجعل هدفًا لكل متشدق مغرور يتجر
بالمناداة به على جهل ولغير داع، أريد أن تمحى من بيننا آثار التغالي والتشيع؛
فنعلم أن القرآن لم ينزل إلا بقواعد عامة للناس جميعًا، فلنا ولكل أمة أن تتصرف
في مدلولاتها بما يناسب الزمان والمكان دون تقييد، أو حجر على الأفهام، إلا ما
يخرج عن الدين، أريد أن لا يؤتى بكلمة الدين أمام العلم ليقال: إن آية أو حديثًا
يعارض معناهما شيئًا من العلم، فإن الدين لم ينزل ليعلم الناس العلم، أو لينافي
العقل في شيء حتى يعارضهما، ولو في بعض الأحايين، أريد أخيرًا أن لا نكثر
من الصياح باسم الدين؛ حتى لا تلتفت العقول الناشئة إليه قبل أن يظهر في ثوبه
الحقيقي لئلا تنفر منه , ونكون قد جنينا من حيث طلبنا الفائدة) . اهـ
نقول: هذا هو صفوة المقالة، وجوهرها، ونحن نسلم له بكل ما يريد مع
بحث في الأمر الأخير المبني على المقدمات التي منعناها. وقلنا ونقول الآن: إن
الذين ينادون باسم الدين على قلتهم فيما نعلم وكثرتهم فيما قال - لا يضرون الدين
ولا أهله وإن كان الدين على غير وضعه؛ إذ لا نعرف بدعة جديدة حدثت بهذا
النداء، بل منه ما زعزع كثيرًا من البدع والتقاليد التي يريد الكاتب محوها، ثم
نقول له: كيف السبيل إلى الرغائب التي يريدها، ويريد أن لا يذكر الدين معلم،
ولا مُرَبٍّ، ولا كاتب، ولا مؤلف قبل وجودها؟
هل يريد ذلك إرادة حقيقية أم هي خواطر سنحت عند الكتابة، أو عند تصور
موضوعها؟ إن (المنار) يدعو منذ بضع سنين إلى مثل ما دعا إليه الآن، وكل ما
ذكره فهو إشارة إلى موضوعات مجملة، نشرت في المنار مبينة مفصلة، منها
ما هو لصاحب المنار، ومنها ما هو لأكبر المسلمين المعروفين عقلاً، وعلمًا كالأستاذ
الإمام وصاحب سجل جمعية أم القرى. فهل نظر في ذلك أم لا؟ إن كان لم ينظر
فيه فكيف يصح قوله: إنه لم يكتب في الموضوع إلا بعد أن قلبه، وعرف ظاهره
وباطنه، وإن كان نظر فيه فما هو رأيه في هذه الدعوة؟ إن كان يقول بها؛
فكيف اقترح إسكات كل متكلم بالدين؟ وإن كان يراها كغيرها مع تضمنها
لمراداته فما هي السبيل إلى هذه المرادات؟ أم هي أمانٍ ميئوس منها؟ عن هذه
الأسئلة نطالبه بالجواب، ولم نخاطبه ونطالبه إلا لأننا رأيناه بحث في أصول
دعوتنا بعقل نعترف به بالإجمال، ولذلك عنينا بكلامه على أننا قلما نتم قراءة شيء
مما يكتبه أكثر الكاتبين في هذه المسألة لأننا نراه من اللغو. ولعلنا لا نعدم من هذا
الكاتب الباحث رأيًا جديدًا، وإرشادًا مفيدًا. فإنه بذلك جدير، {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ
وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
* * *
(الوفاق الفرنسي الإنكليزي)
أصبحت الممالك الاسلامية بفضل ملوكها وأمرائها طعمة للأمم لا يصرفها عن
ابتلاعها صارف إلا التنازع وكالأرض الموات، مَنْ سبق إلى شيء منها مَلَكَه وقد
سبق الإنكليز إلى احتلال مصر بطلب من أميرها ليحمونه من أمته، وبرضى من
السلطان ليكفوه شر الحكومة الخديوية التي طالما نازعته في سلطته، وقد كان
لمصر من الأمل الوهمي أن حقوق الدول المالية في مصر تحول دون استئثار
إنكلترا بالسلطة فيها. فما زال هذا الأمل يذوب ويضمحل بفضل السلوك الذي سلكه
الأمير مع المحتلين، وهو مصادمة الضعيف للقوي أولاً، واستسلامه له ثانيًا حتى
فني بالمرة بالمعاهدة الأخيرة.
حقوق الدول في مصر مالية وبها يراقبون على مالية مصر؛ فلا تستطيع أن
تقوم بمشروع مالي دون إذن من صندوق الدين الرقيب من قبل أوربا على المالية
والمال المقصود من الاستعمار، وقد حمل مستشار المالية السابق دكريتو من الأمير،
وسافر الى أوربا لا يدري أحد ماذا يريد إلا الأمير واللورد كرومر والنظار،
وعلى هذا الدكريتو بني الاتفاق الجديد على مسألة مصر بين فرنسا وإنكلترا،
وبمقتضى هذا الوفاق صارت إنكلترا حرة في جميع تصرفاتها في مصر، فهي
تنفق باسم الحكومة الخديوية جميع الملايين المتوفرة، والتي تتوفر من مالية مصر
في المشروعات التي تراها، وبمقتضى هذه المعاهدة صار الاحتلال الإنكليزي غير
موقت، ولا يطلب توقيته. عاهدت فرنسا إنكلترا على هذا، وعلى مساعدتها في
إرضاء الدول , وأعطتها إنكلترا مراكش بدلاً عن حقوقها في مصر! ! وفرنسا أكثر
الدول حقوقًا، فروسيا حليفتها راضية تبعًا لرضاها وإيطاليا وديدة الإنكليز راضية،
وكذلك النمسا راضية وألمانيا لا تشذ عن أوربا كلها فقد قضي أمر المسألة
المصرية من جهة الدول والأريكة الخديوية، ولم يبق للأمة رجاء إلا بعناية الله
تعالى، واستعدادها للارتقاء؛ فاذا صارت أمة فالمستقبل لها؛ وإذا بقيت لاهية
بالشهوات؛ فهي مستعبدة إلى ما شاء الله تعالى.
* * *
يطلب منا كثير من الناس أن نحط عنهم بعض قيمة الاشتراك، ولو علمنا من
هؤلاء الطالبين العجز عن دفع عشرة قروش، أو عشرين في السنة مع شدة الرغبة
في المطالعة كما يقولون لحططنا عنهم القيمة كلها كما حططناها عن قوم آخرين ,
ولكن ما يثقل بذله كل سنة في مثل هذه السبيل يخف بذله وبذل أضعافه كل يوم في
السُبل الأخرى.
وإن الذي يريد أن ينقصنا بعض الثمن، أو كله لا يفكر في كثرة أمثاله وفي
أن الكثير ينهض بالواحد، والواحد لا يقدر على النهوض بالكثير.
إن المنار أرخص المجلات العربية المنتشرة ثمنًا، وكم من مجلة وقد زادت
في قيمة اشتراكها عما قررته في أول إنشائها، ومنها ما قارن الزيادة في ثمنها
نقص في مادتها. وقد زدنا في مادة المنار وتحسينه مع بقاء قيمة الاشتراك على
أصلها. وإنا لنعلم أن طلب النقص لا بد منه سواء علينا أزدنا في القيمة أم نقصنا
فلو جعلناها ثلاثين لقال باذلها الآن: إنني لا أقدر على أكثر من عشرين: ولو
جعلناها ثمانين لجادت يده بالأربعين.
__________(7/115)
16 صفر - 1322هـ
2 مايو - 1904م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(الوجه الخامس والخمسون)
قولكم: قد قال أُبَيٌّ: (ما اشتبه عليك فكله إلى عالمه) ، فهذا حق وهو
الواجب على من سوى الرسول؛ فإن كل أحد بعد الرسول لا بد أن يشتبه عليه
بعض ما جاء به، وكل من اشتبه عليه شيء وجب عليه أن يكله إلى من هو أعلم
منه فإن تبين له صار عالمًا مثله، وإلا وكله إليه، ولم يتكلف ما لا علم له به.
فهذا هو الواجب علينا فى كتاب ربنا وسنة نبينا، وأقوال أصحابه، وقد جعل الله -
سبحانه - فوق كل ذي علم عليمًا، فمن خفي له بعض الحق فوكله إلى من هو أعلم
منه فقد أصاب , فأي شيء في هذا من الإعراض عن القرآن والسنن، وآثار
الصحابة، واتخاذ رجل بعينه معيارًا على ذلك، وترك النصوص لقوله، وعرضها
عليه، وقبول كل ما أفتى به، ورد كل ما خالفه، وهذا الأثر نفسه من أكبر الحجج
على بطلان التقليد، وإن أوله: (ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه عليك فكله
إلى عالمه) ، ونحن نناشدكم الله إذا استبانت لكم السنة هل تتركون قول من قلدتموه
لها وتعملون بها، وتفتون أو تقضون بموجبها، أم تتركونها وتعدلون عنها إلى قوله ,
وتقولون: هو أعلم بها منا، فأَُبَيُّ رضي الله عنه مع سائر الصحابة على هذه
الوصية، وهي مبطلة للتقليد قطعًا، وبالله التوفيق.
ثم نقول: هلا وكلتم ما اشتبه عليكم من المسائل إلى عالمها من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ هم أعلم الأمة، وأفضلها، ثم تركتم
أقوالهم، وعدلتم عنها، فإن كان من قلدتموه ممن يوكل ذلك إليه، فالصحابة أحق
أن يوكل ذلك إليهم.
(الوجه السادس والخمسون)
قولكم: كان الصحابة يفتون ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حي
بين أظهرهم، وهذا تقليد للمستفتين لهم، فجوابه أن فتواهم إنما كانت تبليغًا عن
الله ورسوله، وكانوا بمنزلة المخبرين فقط. لم يكن فتواهم تقليدًا لرأي فلان وفلان
وإن خالفت النصوص، فهم لم يكونوا يقلدون في فتواهم، ولا يفتون بغير
النصوص، ولم تكن المستفتين [1] لهم تعتمد إلا على ما يبلغونهم إياه عن نبيهم
فيقولون: أمر بكذا، أو فعل كذا ونهى عن كذا.
هكذا كانت فتواهم فهي حجة على المستفتين لهم فى ذلك، إلا في الواسطة
بينهم وبين الرسول وعدمها. والله ورسوله وسائر أهل العلم يعلمون أنهم وأن
مستفتيهم لم يُعَلِّمُوا إلا بما علموه عن نبيهم وشاهدوه وسمعوه منه؛ هؤلاء بواسطة ,
وهؤلاء بغير واسطة، ولم يكن فيهم من يأخذ قول واحد من الأمة يحلل ما حلله
ويحرم ما حرمه، ويستبيح ما أباحه. وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم-
على من أفتى بغير السنة منهم، كما أنكر على أبي السنابل وكذبه، وأنكر على
من أفتى برجم الزاني البكر، وأنكر على من أفتى باغتسال الجريح حتى مات،
وأنكر على من أفتى بغير علم كمن يفتي بما لا يعلم صحته، وأخبر أن إثم
المستفتي عليه. فإفتاء الصحابة فى حياته نوعان: أحدهما كان يبلغه ويقرهم عليه
فهو حجة بإقراره لا بمجرد إفتائهم. الثاني: ما كانوا يفتون به مبلغين له عن نبيهم
فهم فيه رواة لا مقلَّدون ولا مقلِّدون.
(الوجه السابع والخمسون)
قولكم: وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ
فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (التوبة:
122) فأوجب قبول نذارتهم، وذلك تقليد لهم؛ جوابه من وجوه:
(أحدها) أن الله سبحانه إنما أوجب عليهم قبول ما أنذروهم به من الوحي
الذي ينزل فى غيبتهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فى الجهاد فأين في هذا
حجة لفرقة التقليد على تقديم آراء الرجال على الوحي.
(الثاني) أن الآية حجة عليهم ظاهرة؛ فإنه سبحانه نوع عبوديتهم وقيامهم
بأمره إلى نوعين أحدهما: نفير الجهاد، والثاني: التفقه في الدين، وجعل قيام الدين
بهذين الفريقين وهم: الأمراء والعلماء أهل الجهاد، وأهل العلم , فالنافرون يجاهدون
عن القاعدين، والقاعدون يحفظون العلم للنافرين؛ فإذا رجعوا من نفيرهم استدركوا
ما فاتهم من العلم بإخبار من سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
وهنا للناس فى الآية قولان أحدهما: إن المعنى: فهلا نفر من كل فرقة طائفة
تتفقه وتنذر القاعدة، فيكون المعنى في طلب العلم، وهذا قول الشافعي وجماعة
من المفسرين , واحتجوا به على قبول خبر الواحد؛ لأن الطائفة لا يجب أن يكون
عدد التواتر.
والثاني: إن المعنى؛ فلولا نفر من كل فرقة طائفة تجاهد لتتفقه
القاعدة، وتنذر النافرة للجهاد إذا رجعوا إليهم ويخبرونهم، بما نزل بعدهم من
الوحي، وهذا قول الأكثرين وهو الصحيح؛ لأن النفير إنما هو الخروج للجهاد كما
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وإذا استنفرتم فانفروا) وأيضًا فإن
المؤمنين فى المقيمين مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والغائبين عنه
والمقيمون مرادون، ولا بد فإنهم سادات المؤمنين، فكيف لا يتناولهم اللفظ؛ وعلى
قول أولئك يكون المؤمنون خاصًّا بالغائبين عنه فقط.
والمعنى: وما كان المؤمنون لينفروا إليه كلهم؛ فلولا نفر إليه من كل فرقة
منهم طائفة، وهذا خلاف ظاهر لفظ المؤمنين , وإخراج للفظ النفير عن مفهومه فى
القرآن والسنة، وعلى كلا القولين فليس فى الآية ما يقتضي صحة القول بالتقليد
المذموم، بل هى حجة على فساده، وبطلانه فإن الإنذار إنما يقوم بالحجة؛ فمن لم
تقم عليه الحجة لم يكن قد أنذر.
كما أن النذير من أقام الحجة فمن لم يأت بحجة فليس بنذير , فإن سميتم ذلك
تقليدًا؛ فليس الشأن في الأسماء، ونحن لا ننكر التقليد بهذا المعنى فسموه ما شئتم،
وإنما ننكر نصب رجل معين يجعل قوله عيارًا على القرآن والسنن , فما وافق قوله
منها قبل، وما خالفه لم يقبل، ويقبل قوله بغير حجة، ويرد قول نظيره أو أعلم
منه والحجة معه. فهذا الذي أنكرناه، وكل عالم على وجه الأرض يعلن بإنكاره وذمه
وذم أهله.
(الوجه الثامن والخمسون)
قولكم: إن ابن الزبير سئل عن الجد والإخوة فقال: أما الذي قال رسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم -: (لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذته
خليلاً) يريد: أبا بكر - رضي الله عنه - فإنه أنزله أبًا. فأي شيء في هذا مما يدل
على التقليد بوجه من الوجوه، وقد تقدم من الأدلة الشافية التي لا مطمع في رفعها
ما يدل على أن قول الصديق في الجد أصح الأقوال على الإطلاق، وابن الزبير لم
يخبر بذلك تقليدًا، بل أضاف المذهب إلى الصديق لينبه على جلالة قائله، وإنه
ممن لا يقاس غيره به لا ليقبل قوله بغير حجة، ويترك الحجة من القرآن والسنة
لقوله.
فابن الزبير وغيره من الصحابة كانوا أتقى لله، وحجج الله وبيناته أحب إليهم
من أن يتركوها لآراء الرجال، ولقول أحد كائنًا من كان، وقول ابن الزبير: إن
الصديق أنزله أبًا متضمن للحكم والدليل معًا.
(الوجه التاسع والخمسون)
قولكم: وقد أمر الله بقبول شهادة الشاهد وذلك تقليد له: فلو لم يكن فى آفات
التقليد غير هذا الاستدلال لكفى به بطلانًا، وهل قبلنا قول الشاهد إلا بنص كتاب
ربنا وسنة نبينا، وإجماع الأمة على قبول قوله، فإن الله سبحانه نصبه حجة يحكم
الحاكم بها، كما يحكم بالإقرار، وكذلك قول المقر أيضًا، حجة شرعية، وقبوله
تقليد له، كما سميتم قبول شهادة الشاهد تقليدًا فسموه ما شئتم , فإن الله سبحانه أمرنا
بالحكم بذلك، وجعله دليلاً على الحكام , فالحاكم بالشهادة والإقرار منفذ لأمر الله
ورسوله، ولو تركنا تقليد الشاهد لم يلزم به حكمًا، وقد كان النبي صلى الله عليه
وآله وسلم يقضي بالشاهد وبالإقرار، وذلك حكم بنفس ما أنزل الله لا بالتقليد
فالاستدلال بذلك على التقليد المتضمن للإعراض عن الكتاب والسنة وأقوال
الصحابة، وتقديم آراء الرجال عليها، وتقديم قول الرجل على من هو أعلم منه،
وإطراح قول من عداه جملة من باب قلب الحقائق، وانتكاس العقول والأفهام،
وبالجملة فنحن: إذا قبلنا قول الشاهد لم نقبله لمجرد كونه شهد به؛ بل لأن الله
سبحانه أمرنا بقبول قوله، فأنتم معشر المقلدين إذا قبلتم قول من قلدتموه قبلتموه
لمجرد كونه قاله , أو لأن الله أمركم بقبول قوله، وطرح قول من سواه.
(الوجه الستون)
قولكم: وقد جاءت الشريعة بقبول قول القائف، والخارص، والقاسم،
والمقوم، والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد، وذلك تقليد محض، تعنون به أنه
تقليد لبعض العلماء فى قبول أقوالهم، أو التقليد لهم فيما يخبرون به؟ فإن عنيتم
الأول؛ فهو باطل؟ وإن عنيتم الثاني؛ فليس فيه ما تستروحون إليه من التقليد
الذي قام الدليل على بطلانه! وقبول قول هؤلاء من باب قبول خبر المخبر والشاهد
لا من باب قبول الفتيا في الدين من غير قيام دليل على صحتها، بل لمجرد إحسان
الظن بقائلها مع تجويز الخطأ عليه، فأين قبول الإخبار والشهادات والأقارير من
التقليد في الفتوى؟ والمخبر بهذه الأمور يخبر عن أمر حسي طريق العلم به إدراكه
بالحواس والمشاعر الظاهرة والباطنة، وقد أمر الله سبحانه بقبول خبر المخبر به
إذا كان ظاهر الصدق والعدالة، وطرد هذا ونظيره قبول خبر المخبر عن رسول
الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بأنه قال أو فعل، وقبول خبر المخبر عمن أخبر
عنه بذلك، وهلم جرًّا. فهذا حق لا ينازع فيه أحد، وأما تقليد الرجل فيما يخبر به
عن ظنه فليس فيه أكثر من العلم بأن ذلك ظنه واجتهاده. فتقليدنا له في ذلك بمنزلة
تقليدنا له فيما يخبر به عن رؤيته وسماعه وإدراكه، فأين في هذا ما يوجب علينا
أو يسوغ لنا أن نفتي بذلك، أو نحكم به، وندين الله به، ونقول: هذا هو الحق،
وما خالفه باطل ونترك له نصوص القرآن والسنة وآثار الصحابة، وأقوال من عداه
من جميع أهل العلم.
ومن هذا الباب تقليد الأعمى فى القبلة، ودخول الوقت لغيره. وقد كان ابن أم
مكتوم لا يؤذن حتى يقلد غيره فى طلوع الفجر، ويقال له: أصبحت أصبحت،
وكذلك تقليد الناس للمؤذن في دخول الوقت، وتقليد مَنْ في المطمورة لمن يعلمه
بأوقات الصلاة، والفطر، والصوم، وأمثال ذلك. ومن ذلك التقليد في قبول
الترجمة، والرسالة، والتعريف، والتعديل، والجرح كل هذا من باب الأخبار التى
أمر الله بقبول المخبر بها إذا كان عدلاً صادقًا.
وقد أجمع الناس على قبول خبر الواحد فى الهدية، وإدخال الزوجة على
زوجها، وقبول خبر المرأة ذمية كانت أو مسلمة فى انقطاع دم حيضها لوقته،
وجواز وطئها وإنكاحها بذلك، وليس هذا تقليدًا فى الفتيا والحكم، وإذا كان تقليدًا
لها فالله سبحانه شرع لنا أن نقبل قولها، ونقلدها فيه، ولم يشرع لنا أن نتلقى
أحكامه عن غير رسوله؛ فضلاً عن أن نترك سنة رسوله لقول واحد من أهل العلم ,
ونقدم قوله على قول من عداه من الأمة! ! !
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كذا في الأصل ولعل كلمة سقطت كقوله (جماعة) أو (فئة) قبل المستفتين.(7/121)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سوريا والإسلام
(7)
نهوض الدولة العربية وسقوطها
ما ناقشنا أحدًا وكنا عند الرد على كل جملة من كلامه نلوم النفس على
التصدي له إلا كاتب مقالات (سوريا والإسلام) فإن من كان يخلق ما يقول ,
ويفتحر له علله ونتائجه افتحارًا لا ينبغي إضاعة الوقت في الرد عليه , وإن ساء
تأثير قوله، وقد خطر لنا الآن أن نترك الرد عليه لولا أننا لا نحب أن نشرع في
شيء وندع إتمامه مختارين.
قال: إن سبب تأسيس تلك المملكة العربية العظيمة هي:
(1) كون جنات عدن لا يدخلها إلا المجاهدون. وهذا الحصر غير صحيح
في الإسلام.
(2) والغنائم والتحف التي كانت ترسل من سوريا إلى بلاد العرب. وهذا
هذيان ظاهر , فإن كل فاتح يغنم، وما كل من غنم أسس مثل ذلك الملك العظيم،
ثم إن إرسال الغنائم من الفاتحين بالفعل إلى المقيمين في بلاد العرب لا ينبغي أن
يزيد في همتهم إنما يزيد فيها استئثارهم بما يغنمون.
(3) وتولية كل قائد على البلاد التي يدوخها، وهذا غير صحيح , وإذا
صح فهو لا يصلح سببًا؛ لأن القائد في العرب لم يكن حاكمًا مستبدًّا مستعبدًا لجيشه
يسيرهم لمصلحته، ولأن أكثر أولئك القواد الكرام لم تكن لهم عناية بالولاية.
والسبب الصحيح لتأسيس الدولة العربية هو أن الأمم التي فتحت العرب
بلادها كانت كلها فاسدة الدين والأخلاق، مختلة النظام، معتلة الأحكام، فجاء
الإسلام وجمع كلمة العرب المتفرقة على الاعتقاد الصحيح، والتهذيب الكامل،
والعدل الشامل؛ فكانوا بذلك سادة لتلك الأمم التي سبقتهم بالمدنية، وبكل مقومات
الأمم قبل انحطاطها وتقدمهم.
وقد جاءت في كلامه كلمة فيها روح الحق لو فهم ما ترمي إليه لما كتبها؛
وهي أن العرب قنعوا أولاً بامتلاك سوريا، ولولا أن رأوا أنفسهم مهددين بالروم
الذين يحيطون بهم من كل جانب؛ لما تصدوا لافتتاح غيرها. وروح الحق في هذه
الجملة هو أن السبب الصحيح في زحف المسلمين إلى سوريا هو اعتداء أهلها من
العرب المتنصرة وغيرهم على من يدخل في الإسلام , وقطع الطرق عليهم ومنعهم
من التجارة، وإنما شرع الجهاد في الاسلام لأجل تأمين الدعوة؛ ليكون الإنسان
على الدين الذي يختاره بلا إكراه ولا إجبار , ثم إنهم بعد ذلك صاروا محاربين
للروم الحاكمين على سوريا ومصر وغيرهما من الأقطار، ومثل هذه الحرب لا
تنتهي إلا بتدويخ إحدى الطائفتين الأخرى.
ومثل هذا المقام يشتبه على الأكثرين، وسنبينه في المقال الموعود به في
تاريخ الحرب وإصلاح الإسلام فيه.
ثم أراد الكاتب أن يبين أسباب سقوط الدولة العربية فذكر أمورًا:
(أحدها) أن ما بني على الظلم مهدوم , فإن الأمم التي خضعت للعرب
كرهًا كانت كالماء المحصور بسد عظيم يطلب ثغرة ينفجر منها، ولو كان سقوط
الدولة العربية بخروج السوريين والمصريين والفرس عليها، وإشعالهم نيران
الثورات والفتن الأهلية في بلادهم لإسقاطها، أو إزالة ظلمها؛ لكان لقوله وجه،
ولكن شيئًا من ذلك لم يكن إذ لم ير أهل هذه الممالك أرحم ولا أعدل من دولة
العرب فهذا السبب مخترع من مخيلة الكاتب المتعصب كما ترى.
(ثانيها) أن اتساع المملكة، وعدم وجود رابطة بين أممها غير الدين كان
يجزئها، ولهذا وجه يشرح بغير ما قرره.
(ثالثها) عدم مهادنة دولة الروم، وهو كما ترى لا قيمة له.
(رابعها) أن إطلاق الخلفاء لحكام المقاطعات والولايات الحرية التامة في
تدبير شئون ولاياتهم؛ حمل هؤلاء على الاستبداد والاستقلال عند ضعف الدولة.
وهذا سبب صحيح مسطور في الكتب لا ينازع فيه , ولكنه لا يبرد غليل تعصب
الكاتب.
(خامسها) وهو المهم عنده: أن التعصب الديني واضطهاد المسلمين لتلك
العناصر المختلفة والتضييق عليهم في كل شيء بسبب الاختلاف الديني حمل هذه
العناصر على كره الإسلام وخلفائهم وولاتهم، وحمل مسيحيي سوريا على الأخص
على مد يد الاستغاثة إلى إخوانهم في أوربا حتى جروا على المسلمين الحروب
الصليبية المشهورة.
وهذا كما ترى مكرر مع الأول لا يزيد عليه إلا في ذكر نتيجة كراهة نصارى
سوريا للمسلمين، وقد أنسى الكاتب تعصبه أن الحروب الصليبية ما حدثت إلا بعد
انحطاط الدولة العربية، فكيف يكون الشيء سببًا لما وجد قبله؟ !
التاريخ الصحيح يشهد للعرب بأنهم كانوا أعدل الحاكمين، والحروب
الصليبية لم تحدث بسوء معاملتهم، ولكن بتعصب نصارى أوربا. وذكر كُتَّابُ
النصارى العارفون بالتاريخ أن الذين أساءوا معاملة زوار القدس هم السلجوقيون،
وإن تعصب أوربا إنما ثار لذلك. جاء في دائرة المعارف أن زوار النصارى كانوا
يفدون إلى بيت المقدس على عهد الدولة العربية ويذهبون (بأمان وطمأنينة، ولا
سيما في زمن العباسيين، حتى قيل: إن هارون الرشيد الذي استحكمت الصداقة
بينه وبين معاصره شرلمان بعث إليه بمفاتيح بيت المقدس تأمينًا لقلوب الزوار
وتطييبًا لخواطرهم. فكان القبر المقدس وكنيسة القيامة في أيديهم يتمتعون بزيارتها
بلا معارض , ولا يدفعون إلا اليسير من المال. ولما انتقلت الخلافة إلى الفاطميين،
واستولوا على القدس سنة 972م ساروا على أثر العباسيين، وظلوا يحسنون إلى
المسيحيين وزوارهم إلى أن قام الخليفة الحاكم بأمر الله فضيق على النصارى،
وشوه الأمكنة المقدسة عندهم، وآذى الزوار، فقلقت أوربا لذلك، ولكنها ما لبثت أن
عادت إلى السكون؛ لأن خلفاء الحاكم رجعوا فأحسنوا السياسة.
ولما استولى السلاجقة على بلاد فلسطين ظلموا النصارى، وضايقوا زوارهم؛
فهاجت الخواطر في أوربا..) إلخ، فقد رأيت ما اعترف به مؤلف الدائرة، وهو
نصراني عالم بالتاريخ يقل نظيره في كتاب العربية. اعترف بأنه لم يظلم النصارى
أحد من ملوك العرب إلا الحاكم العُبيدي، وقد كان مجنونًا يظلم النصارى يومًا،
والمسلمين يومًا، ويحرم أكل الملوخية يومًا، ويحلها يومًا.. .
ولا يسع هذا الموضع ذكر الشواهد التاريخية على حسن معاملة العرب
للنصارى وسائر الملل بالعدل والمساواة، وكيف كان هؤلاء يفضلون سلطتهم على
سلطة أبناء دينهم لا سيما في أول الإسلام؛ إذ كان العمل بالدين دون السياسة. ولا
يسع أيضا ذكر الأكاذيب التي افتراها قسوس أوربا على الإسلام والمسلمين ليهيجوا
شعوبهم على غزو البلاد السورية، وإبادة المسلمين منها. فقد خلقوا لنا من العقائد
الوثنية والتقاليد الكفرية، والعيوب الدينية والخلقية ما تقشعر منه الجلود، ولا
يخطر على بال أحد من البشر أن يخترعه إلا أمثال هؤلاء المتعصبين الذي خلفوا
لنا من بعدهم (رفول سعادة) فورث تعصبهم وقرائحهم القادرة على الاختراع.
ومن شاء أن يرى العجب العُجاب من ذلك؛ فليقرأ كتاب (الإسلام- خواطر
وسوانح) لكونت كستري الفرنسي الذي عربه أحمد فتحي بك زغلول رئيس محكمة
مصر.
ولد التعصب الدينى الذميم في أوربا وتربى فيها، وساح إلى الشرق فأفسده
على أهله، ولم يكن قبل حرب الصليب غلو في التعصب على المخالف في الدين
يذكر بعدما علم العرب الناس التساهل بالعدل والمساواة بينهم وبين غيرهم؛ فسكن
بذلك ما كان بين اليهود والنصارى من قبل. وكل ما كان يقع من النزاع والخلاف
بين المختلفين في الدين فقد كان يقع مثله بين أهل الدين الواحد، والجنس الواحد
ومن شاء زيادة البيان في هذا فليراجع مقالات (التعصب) التي نشرناها في السنة
الأولى للمنار , فقد كانت موضع إعجاب النصارى والمسلمين.
افتات رفول سعادة على العرب , وجردهم من مزية العدل والإنصاف التي
شهد لهم بها العالم أجمع، ولم يكتف تعصبه بهذا، بل جردهم أيضًا من سائر
المزايا العلمية فقال: (وهكذا سقطت الدولة العربية، ولا أسف عليها؛ لأنها لم تترك
أثرًا صالحًا إلا نشرها اللغة العربية في أطراف المعمورة. ولو سأل مؤرخي
الفرنجة وفلاسفتها وعلمائها عن آثارهم؛ لقالوا له: إن العرب أحيوا العلم بعد موته،
والفلسفة بعد دفنها، والفنون بعد تلاشيها، وأنهم أساتذتنا في كل العلوم والمعارف
فيا أسفى على دولتهم، ويا أسفى على أيامهم، ويا ليتها دامت أو طالت , وبلغت
من السعي في الفضل ما أرادت؛ ليأخذ العالم عنها كل شيء كاملاً. ليقرأ تاريخ
.... [*] المؤرخ , وكتاب الفيلسوف جيون , وغيرها من الكتب الإفرنجية، بدلاً
من رسائل ذلك الراهب , وخطبه التحمسية التعصبية , فذلك خير له إن كان
يريد أن يكتب كلامًا مقبولاً عند العقلاء، ويخدم سوريا العربية التي يملك معظمها
المسلمون.
إن الكاتب يفتخر بالسوريين الأصليين الذين انقرضوا وبادوا , وصارت
سوريا بعدهم عربية خالصة فليخبرنا أي أًثَارَةٍ من علم تركها السوريون الأصليون؟
وهم قبائل نيفليم وأميم ورافاييم وزوزيم وعناقيم. وإن ذَكَرَ الفنيقيين؛ أَقُلْ له: إنهم
جاءوا سوريا من جبال كردستان، وليسوا بسوريين أصليين، فهم فاتحون كالعرب ,
ولم يكن لهم من الآثار العلمية مثل ما للعرب، وإنما كانوا أصحاب ملاحة وتجارة.
أعود في آخر هذه النبذة إلى معاتبة نفسي على تفنيد كلام مخترع ككلام هذا
المتعصب الغالي الذي غرني بأوائله نشر جريدة المناظر محبة الإنصاف له , ولعلها
تنشر الرد عليه؛ ليكون هذا كفارة لذلك، والله يتولى هدانا أجمعين.
للرد بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) بياض بالأصل لم نقف عليه بعد البحث عنه.(7/134)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السؤال والفتوى
الدليل على وجود الله تعالى
(س 11) أحمد أفندي الألفي في ميت سمنود: ما هو الدليل العقلي على
وجود الله سبحانه وتعالى الذي لا يمكن لمشكك أن يشتبه فيه؟
(ج) إن الناس قد اشتبهوا في المشاهدات وغيرها من المحسوسات، وأنكر
السوفسطائية منهم حقائق الأشياء، وطفقوا يشككون الناس في ذلك قائلين: كيف
نثق بما نراه، وقد ظهر لنا الغلط في بعضه، ويجوز على بعض المتساويين ما جاز
على الآخر. مثلاً إننا نرى العود مستقيمًا خارج الماء ونراه معوجًّا في الماء، ونرى
النجم صغيرًا وكلنا يعلم أنه كبير، ويذوق من يسمونه الصفراوي العسل مرًّا ويذوقه
غيره حلوًا، ويرى المحموم أو النائم أمامه أشياء كثيرة يقول من في حضرته: إنها
لا وجود لها. فأمثال هؤلاء إذا كانوا يشكون أو يشككون في وجود الله تعالى لا
ينفع معهم دليل ولا برهان. وأما طالب الحقيقة فهو الذي لا يشتبه في الحق إلا
لعارض يصرفه عن الدليل؛ فإذا نبه إليه تنبه ورجع.
ومن الناس من يسهل تنبيهم وهم أصحاب الأفكار المستقلة، ومنهم من يتعذر
أو يتعسر تنبيهه على حسب بعده من التقليد وقربه من استقلال الفكر. وفي
المشتغلين بالعلم والفلسفة من المقلدين نحو ما في المشتغلين بعلم الدين فإن أحدهم
يسمع أو يقرأ أن فلانًا الفيلسوف، الذي يعجب به قال: إنه لم يثبت عندي دليل
على وجود الله تعالى , فيقول هذا المقلد له: لو كان هناك دليل قطعي لما خفي على
ذلك الفيلسوف. ويكلف نفسه بأن تشك، وترتاب أو تنكر وتفند كل دليل من هذا
القبيل.
ذهب بعض العلماء والحكماء إلى أن معرفة الله تعالى فطرية في البشر لا
حاجة بهم إلى إقامة الدليل عليها لولا ما أحدثته الاصطلاحات العلمية من البحث في
الضروريات والبديهيات كعلم الإنسان وشعوره ووجدانه. واستدلوا على ذلك بأن
جميع أصناف البشر من أرقاهم كالأنبياء والحكماء إلى أدناهم كالقبائل الضاربين في
معامي الأرض وأغفالها كلهم يعتقدون بقوة غيبية وراء الطبيعة سواء منهم من تعلم
شيئًا من صفات ذي القوة , وما يجب له من العبادة ومن لم يتعلم، وبأن المعطلين
نفر قليل يعدون من الشواذ، ويحال شذوذهم على مرض عرض على هذا الشعور
الفطري كما يعرض للإحساس بالحلاوة مرض يمنع من إدراكها، وكما يعرض
لبعض مراكز المخ شيء يحول دون إدراك بعض المعلومات مع سلامة سائر
المدارك، فقد ثبت أن بعض الناس نسي بعض أرقام الحساب، فكان لا يحسن
عملية حسابية هي فيها، ويحسن غيرها، ومثل هذا كثير فلا يقال: إن من
المعطلين من لا يشك أحد بسلامة عقولهم , فإن من الناس من يضعف إدراكه لشيء
واحد وإن كان قويًّا في غيره، ولم يعرف أحد قويت مداركه في كل فرع من أنواع
الإدراك.
وذهب بعضهم إلى أن المسألة نظرية، وأنه لا بد من إقامة البراهين على
إثبات وجود البارئ تعالى؛ لأن الأنبياء والحكماء قد استدلوا وأقاموا الحجج على
ذلك. ونقول جمعًا بين القولين: إن المسألة فطرية في الحقيقة، وإن إقامة الأنبياء
والحكماء الحجج عليها هي لإصلاح فطرة من عرضت لهم الشبه فيها، كما تعرض
في غيرها من الأمور الفطرية والضرورية، ولإزالة غلط المعتقدين بتلك القوة
الغيبية، أو بالله تعالى في بعض صفاته، وفي نسبة المخلوقات إليه؛ إذ أشركوا به
وجعلوا له وسطاء وشفعاء كالملوك الظالمين؛ لذلك قال الله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ
فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (إبراهيم: 10) ... إلخ فأشار أولاً إلى أن الإيمان به
أمر ثابت في الفطرة لا موضع للشك فيه، ثم ذكر بعض صنعه الدال على قدرته،
وانفراده بالتأثير، والتدبير وهو كونه فطر السموات والأرض؛ أي: شق وفصل
بعضها من بعض بعد أن كان الجميع مادة واحدة ... إلخ ما جاء في الآية.
وإنني وجدت أقرب الدلائل تنبيهًا، وإقناعا لعقول المشتغلين بالعلوم العصرية
كما ثبت لي بالتجربة والمناظرات معهم هو أن جميع ما نعرفه من الموجودات
حادث عندهم، حتى إنهم ليقدرون للأرض والشمس والكواكب أعمارًا لقطعهم
بحدوثها، ثم إنهم قاطعون بأن الموجود لا يصدر عن نفسه، ولا عن معدوم كما قال
تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ} (الطور: 35) فتعين أن
يكون لهذه الموجودات كلها مصدر وجودي، ثم إنهم قاطعون بأن مصدر الكائنات
والأصل الذي وجدت منه غير معروف في ذاته , وإنما يجب أن يكون موجودًا ذا
قوة، فالمادي منهم يقول: المادة مع القوة هي أصل الموجودات كلها؛ فإذا سألته:
ما هي المادة التي تعنيها؟ يقول: إن حقيقتها غير معروفة , فكأنه اختلف مع غيره
في التسمية، واتفق الجميع على أن هذه الكائنات كلها قد صدرت عن موجود ذي
قوة حقيقية غير معروفة الكنه , وهو ما عليه المسلمون؛ ولذلك قلنا في المنار: إن
الفلاسفة الأوربين الذين أنكروا إلههم ما أنكروا إلا إله الكنيسة؛ أي: الإله الذي تصفه
الكنيسة بصفات غير معقولة ككونه مركبًا من ثلاثة أقانيم وكون أحدها حل في
أحشاء امرأة فأولدها إلهًا كاملاً، وإنسانًا كاملاً إلى غير ذلك من الصفات التي لا
يقبلها عقل.
هذا الاعتقاد هو الذي صرح به سسل رود الذي قالوا: إنه كان غير مؤمن
بالله، وهو الذي كان يعتقده هكسلي وسبنسر وغيرهم من الفلاسفة الذين نقل عنهم
التعطيل، {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
***
البيع في الذمة والسلم
أو المضاربة العصرية
(س 12) محمد أفندي حسن وبعض تجار البورصة بالإسكندرية:
ما قولكم - دام فضلكم - في رجل من المسلمين اشترى من القطن ألف قنطار
مثلاً موصوفة في ذمة البائع بثمن معلوم في شهر المحرم مثلاً، على أن يستلمها
منه في أجل معلوم شهر ربيع الأول كذلك، ودفع بعض الثمن عند التعاقد وأجل
باقيه إلى الاستلام. فهل للمشتري قبل قبض المبيع، وقبل حلول الميعاد أن يبيع
ذلك القطن الموصوف في الذمة، ويكون تمكين البائع للمشتري من البيع في أي
وقت من أوقات الميعاد قبضًا وتخلية، حتى يكون ذلك البيع صحيحًا؛ لأنه معرض
للربح والخسران الذي هو قانون البيع، ويكون ما عليه المسلمون اليوم في تجاراتهم
من المضاربة، وبيع الكنتراتات جائزًا في دين الله تعالى، أم يكون ذلك بيعًا فاسدًا
وعملاً باطلاً مشابهًا للميسر كما يزعمه بعض الناس؟ وإذا كان باطلاً فأي فرق بين
قبضه بنفسه، وبين إذن البائع له بالبيع في أي وقت؟ وما السر في ذلك؟ وأين
اليسر في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة:
185) ، بل هو عين الحرج في البيع والشراء وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) أم كيف يحرم المسلمون من منفعة هذه
التجارة العظيمة التي تعود على الكثير منهم؟ نطلب من حضرتكم الجواب الموافق
لكتاب الله وسنة رسوله ودينه الصحيح من غير تقيد بمذهب من المذاهب مفصلاً
مبنيًّا، فيه سند الجواز أو المنع على لسان مجلتكم الغراء التي أخذت على عاتقها
خدمة الإسلام والمسلمين؛ لأن الإجابة على هذا السؤال بما يوافق الشرع أعظم
شيء يستفيده التجار المسلمون من أمر دينهم، وكلهم بلسان واحد يطلب من حضرتكم
الإجابة في أقرب وقت على صفحات المنار سواء كانوا بالإسكندرية أو غيرها
وفيهم مشتركون في مجلة المنار الغراء، والكل مشتاق إليها اشتياق الظمآن للماء
ليطمئن الجميع، نسأل الله تعالى أن يعلي شأنكم، ويعضد عملكم , ويجعلكم
ملجأ للقاصدين.
(ج) نهى الكتاب العزيز عن أكل أموال الناس بالباطل؛ أي: بغير حق
يقابل ما يأخذه أحد المتعاوضين، وأحل التجارة، واشترط فيها التراضي فقط،
ومن أكل أموال الناس بالباطل ما ورد في الأحاديث من النهي عن بيع الغرر، وعن
الغش، وعن بيع ما لا يملك لعله لا يقدر عليه، وقد ورد في حديث ابن عمر في
الصحيحين وغيرهما أنهم كانوا يتبايعون الطعام جزافًا بأعلى السوق، فنهاهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يحولوه، وفي رواية: ينقلوه. وقال: (من
ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه) وفي رواية لأحمد: (من اشترى طعامًا بكيل أو
وزن فلا يبعه حتى يقبضه) .
وروى أحمد ومسلم من حديث جابر: (إذا ابتعت طعامًا فلا تبعه حتى
تستوفيه) وهذه الأحاديث خاصة بالطعام، وبالتجارة الحاضرة تدار بين التجار
كما يدل عليه كونهم كانوا يفعلون ذلك في السوق، وأُمروا بالتحويل. وفي حديث
حكيم بن حزام عند أحمد والطبراني قال: قلت: يا رسول الله إني أشتري بيوعًا فما
يحل لي منها وما يحرم؟ قال: (إذا اشتريت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه) وهو عام
ولكن في سنده العلاء بن خالد الواسطي ضعفه موسى بن إسماعيل. وهناك حديث زيد
بن ثابت عند أبي داود وابن حبان والدارقطني والحاكم قال: إن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تباع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم.
وقد خص بعض العلماء النهي بالطعام، واستدلوا على ذلك بأحاديث أخرى تدل
على صحة التصرف بالمبيع قبل القبض، ومن هذه التصرفات ما هو مجمع عليه،
كالوقف، والعتق قبل القبض. وقد علل ابن عباس النهي بأن الشيء الحاضر إذا
تكرر بيعه ولم يقبض؛ كان ذلك بمنزلة بيع المال بالمال - أي: فإن المال ينتقل من
يد إلى يد - والشيء حاضر لا يمس كأنه غير محتاج إليه ولا مراد. رواه الشيخان،
قال مسلم: إنه قال لما سأله طاووس عن ذلك: ألا تراهم يبتاعون بالذهب والطعام
مرجأ، وحاصل هذا التعليل أن النهي لمنع الاحتيال على الربا، ولا بد في التجارة
أن تكون السلع هي المقصودة فيها لا سيما , فإذا كانت حاضرة فما معنى شراء فلان
السلعة الحاضرة بعشر جنيهات وبيعها من آخر بخمس عشرة، وهي حاضرة وهم
حاضرون إلا الحيلة على الربا؟ وأي فائدة للناس في حل مثل هذا اللعب بالتجارة،
وإننا نعلم أن بيع البورصة ليس من هذا القبيل، ولكن أحببنا أن نورد أصل مآخذ
العلماء في تحريم بيع الشيء قبل قبضه؛ ليميز المسلم بين البيوع التي تنطبق
عليها الأحاديث وغيرها.
ثم إن علماء المسلمين كافة يجيزون إرجاء الثمن أو إرجاء القبض، ولكن
أكثرهم يمنع بيع الشيء قبل قبضه مطلقًا؛ فإن احتجوا بالأحاديث المذكورة آنفًا فقد
علمت أنها لا تدل على هذا الإطلاق، وإن قالوا: إن بيع ما في الذمة لا يخلو من
غرَر، وربما يتعذر تسليمه، نقول: إن هذا رجوع إلى القواعد العامة التي وضعها
الدين للمعاملات، وكلها ترجع إلى حديث: (لا ضرر ولا ضرار) فكل ما ثبتت
مضرته، ولم يكن في ارتكابه منع ضرر أكبر منه؛ فهو محرم، وإلا كان حلالاً،
وهذا ينطبق على قاعدة بناء الشريعة على اليسر ودفع الحرج، ولا شك أن في
مبايعات البورصة ما هو ضار وما هو نافع، وتحرير ذلك بعد العلم بأصول الأحكام
التي ذكرناها متيسر للتاجر المتدين.
وقد جاء في الصحيح النهي عن بيع المخاضرة، وهو بيع الثمار والحبوب
قبل بدو صلاحه، وذلك لما كثر تشاكيهم، ودعوى البائعين أن الآفات والجوائح
أصابت الثمر قبل بدو صلاحه، وإنما هذا في ثمر شجر معين؛ لقوله صلى الله
عليه وسلم: (إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ !) والحديث في
البخاري. ولا يدخل في هذا بيع كذا قنطارًا من القطن قبل بدو صلاحه إذا لم يعين
شجر القطن، ويدل على ذلك جواز السلم الذي يدخل في جميع شروطه وأحكامه
المشروحة في كتب الفقه؛ فنذكر حقيقة ما جاء فيه في الأحاديث الصحيحة فيه إنارة
للموضوع؛ فإننا غير واقفين على تفصيل ما يجري في البورصة من البيوع فنكتفي
بالكلام فيها.
روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن من حديث ابن عباس قال: قدم النبي
صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين؛ فقال: (من
أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم) فالكيل المعلوم أو
الوزن المعلوم شرط؛ لأنهم كانوا يسلفون في ثمار نخيل بأعيانها، وفيه غَرَر
وخطر كما علم مما تقدم.
وأما الأجل؛ فقالت الشافعية: إنه ليس بشرط، وإن الجواز حالاً أولى، وهو
الراجح وإن خالفهم الجمهور، وأقل التأجيل عند المالكية ثلاثة أيام. وروى أحمد
والبخاري من حديث عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى، قالا: (كنا
نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأتينا أنباط من أنباط
الشام فنسلفهم في الحنطة، والشعير، والزيت إلى أَجَلٍ مُسَمَّى، قيل: أكان لهم
زرع أو لم يكن؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك) ، وفي رواية لأحمد وأبي داود
والنسائي وابن ماجه (وما تراه عندهم) أي: المسلم فيه، وهو دليل على أنه لا
يشترط في المُسَلَّمِ فيه أن يكون عند المُسَلَّمِ إليه. قال ابن رسلان: وأما المعدوم
عند المسلم إليه وهو موجود عند غيره فلا خلاف في جوازه: وأجاز الجماهير السَلَم
فيما ليس بموجود عند العقد خِلافًا للحنفية، ويدل عليه حديث ابن عباس السابق،
فإن السلف في الثمار إلى سنتين نص فيه؛ إذ الثمار لا تمكث سنتين.
وروى أبو داود وابن ماجه من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره) وفي إسناده عطية بن
سعد العوفي قال المنذري: (لا يحتج بحديثه) وإذا كان هذا الحديث غير صحيح
ولا حسن , فلا يوجد حديث غيره يدل على امتناع جعل المسلم فيه ثمنًا لشيءٍ قبل
قبضه أو امتناع بيعه قبل القبض. ثم إن بيعه قبل القبض ليس فيه شيء مما لم
يكن في العقد الأول فيحال عليه الفساد فهو جائز.
فعلم من هذا كله أن بيع ما في الذمة جائز كالحوالة فيه إلا إذا كانت التجارة
غير مقصودة، بل حيلة للربا أو المقامرة، أو كان في ذلك غش أو تغرير، ومنه
أن يبيع الإنسان ويشتري، وليس له مال ولا سلع تجارية، وإنما يخادع الناس فإن
ربح طالبهم، وإن خسر لا يأخذون منه شيئًا. فليحاسب مؤمن بالله نفسه بعد العلم
بأحكام دين الله، والله الموفق والمعين.
***
سادة أصناف البشر
وآية الكرسي
(س 13) محمد أفندي حلمي كاتب سجون حلفا:
جاء في كتاب المخلاة ما نصه: قال صلى الله عليه وسلم: (سيد البشر آدم،
وسيد العرب محمد ولا فخر، وسيد الفرس سلمان، وسيد الروم صهيب، وسيد
الحبشة بلال، وسيد الجبال الطور، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام القرآن،
وسيد القرآن سورة البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي) ثم أورد في هذا الموضوع
فضائل آية الكرسي بكثرة، فهل ذلك حقيقي أرجو منكم إرشادي إلى الحقيقة، ولكم
مزيد الشكر والأجر.
(ج) هذا الحديث تشهد عبارته وأسلوبه والغلو فيه بأنه موضوع، ولكن
المحدثين قالوا: إنه ضعيف. وفي إسناده مجالد بن سعيد قال فيه الإمام أحمد: إنه
ليس بشيء وهو في الديلمي وابن عساكر. وقد ورد في سورة البقرة أحاديث
أمثلها حديث أبي هريرة عند الترمذي: (لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة
البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن - آية الكرسي) .
***
قضاء الفوائت في النار
(س14) ومنه: رجل بلغ من العمر نحو ثلاثين سنة وفي خلالها لم
يؤد الصلوات المفروضة عليه , وابتدأ في تأدية الفريضة بعد هذه المدة , هل هو
ملزم شرعًا بأن يعوض ما مضى في الدنيا؟ وإن كان لم يعوضها في الدنيا فهل
يؤديها يوم القيامة؟ أفيدونا بالصريح، ولجنابكم الثواب.
(ج) قضاء الصلوات الفائتة واجب، وما يتناقله العوام والصبيان من أن
من عليه فائتة يقضيها على بلاط جهنم غير صحيح لقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن
سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} (القلم: 42) إلى قوله: {وَقَدْ
كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} (القلم: 43) .
***
القرآن لقضاء الحوائج
(س15) ومنه: ما قولكم - أدام الله النفع بكم للإسلام - فيما هو متبع،
وشائع، ومعلوم لكل إنسان من تلاوة بعض الآيات طلبًا للنجاة، أو السلامة فمنها ما
يقرأ قبل النوم، ومنها ما هو عند ركوب البحر، وللدخول أمام الحكام، وكذا
استعمالها لمداواة بعض الأمراض، مثل: وجع الرأس، والجنون، والحفظ من
الشيطان ... إلخ، وكل هذا عمل بالحديث المتداول بين الناس وهو: (خذ من
القرآن ما شئت) فهل هو صحيح؟ أرجو التكرم بالإفادة , ولكم الفضل.
(ج) لا أذكر أنني رأيت هذا الحديث في الكتب التي يعول عليها، وقد
راجعت عنه الآن في مظانه فلم أجده، وما أظنه إلا من اختراع أصحاب العزائم
والنشرات التي ورد في حديث جابر وغيره أنها من عمل الشيطان. فقد حول
هؤلاء فائدة القرآن إلى غير ما أنزل لأجله من الهداية، وجعلوه آلة لأكل أموال
الناس بالباطل؛ فإنك لتجد الذي يكتب لك ما تتقرب به إلى الحكام عاجزًا عن
التقرب إليهم، والقبول عندهم، وتجد الذي يكتب لك ما تغنى به من أفقر الناس إلا
حيث يروج الدجل، ويبذل المال الكثير في الوسائل الوهمية؛ فإن البارع في
الإيهام والدجل قد يستغني في أمثال هذه البلاد، ولكن ببركة جهل الناس لا بتأثير
عزائمه ونشراته، وكذلك الذين يكتبون لشفاء الأمراض تجدهم أو عيالهم غير
مُمَتعين بالصحة. ولو صح الحديث؛ لكان معناه: (خذ من القرآن ما شئت من
آيات الهداية والعبر لما شئت من أمراض النفس وعلل القلب) ، فإنه كما قال الله:
{وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُور} (يونس: 57) لا شفاء لما يقول الدجالون من أمراض
العظام والجلود.
***
المهدي المنتظر
(س16) ومنه: مشهور بين الكافة من أهل الإسلام على مر الأعصار أنه
لابد في آخر الزمان من ظهور رجل يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون،
ويستولي على الممالك الإسلامية، ويُسَمَّى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما
بعده من أشراط الساعة الثابتة بعده، وأن سيدنا عيسى - عليه السلام - ينزل من
بعده؛ فيقتل الدجال أو ينزل معه ... إلخ - وإني نظرت ذلك في متن صحيح
البخاري - فرأيت أن أكتب لجنابكم في هذه المسألة لكي تتكرموا علينا بالإفادة
ولحضرتكم الأجر.
(ج) ليس في متن البخاري ذكر صريح للمهدي، ولكن وردت فيه أحاديث
عند غيره منها ما حكموا بقوة إسناده، ولكن ابن خلدون عني بإعلالها وتضعيفها
كلها. ومن استقصى جميع ما ورد في المهدي المنتظر من الأخبار والآثار،
وعرف مواردها ومصادرها؛ يرى أنها كلها منقولة عن الشيعة، وذلك أنه لما استبد
بنو أمية بأمر المسلمين وظلموا وجاروا وخرجوا بالحكومة الإسلامية عن وضعها
الذي يهدي إليه القرآن وعليه استقام الخلفاء الراشدون، وهو المشاورة في الأمر،
وفصل الأمور برأي أهل الحل والعقد من الأمة، حتى قال على المنبر - مَنْ يُعَد
مِنْ خِيَارِهم - وهو عبد الملك بن مروان: (من قال لي: اتق الله ضربت عنقه) لما
كان هذا، كان أشد الناس تألمًا له، وغَيْرَةً على المسلمين - آل بيت النبي عليه
وعليهم السلام - وكانوا يرون أنهم أولى بالأمر، وأحق بإقامة العدل، فكان من
تشيع لهم يؤلفون لهم عصبية دينية يقنعونها بأن سيقوم منهم قائم مبشر به يقيم العدل،
ويؤيد الدين، ويزيل ما أحدث بنو مروان من الاستبداد والظلم، وعن هذا
الاعتقاد صدرت تلك الروايات، والناظر في مجموعها يظهر له أنهم كانوا ينتظرون
ذلك في القرن الثاني، ثم في الثالث، وكانوا يعينون أشخاصًا من خيار آل البيت
يرجحون أن يكون كل منهم القائم المنتظر فلم يكن. وكان بعضهم يسأل من يعتقد
أنه صاحب هذا الأمر فيجيبه ذاك بأجوبة مبهمة، ومنهم من كان يتنصل ويقول:
إن الموعد ما جاء ولكنه اقترب، ومنهم من كان يضرب له أجلاً محدودًا، ولكن
مرت السنون والقرون، ولم يكن ما توقعوا أن سيكون.
وقد جرت هذه العقيدة على المسلمين شقاءً طويلاً؛ إذ قام فيهم كثيرون بهذه
الدعوى، وخرجوا على الحكام، فسفكت بذلك دماء غزيرة، وكان شر فتنها فتنة
البابية الذين أفسدوا عقائد كثير من المسلمين، وأخرجوهم من الإسلام ووضعوا لهم
دينًا جديدًا، وفي الشيعة ظهرت هذه الفتنة - وبهم قامت - ثم تعدى شرها إلى
غيرهم، ولا يزال الباقون منهم ومن سائر المسلمين ينتظرون ظهور المهدي،
ونصر الإسلام به، فهم مستعدون بهذا الاعتقاد لفتنة أخرى، نسأل الله أن يقيهم
شرها.
ومن الخذلان الذي ابتلي به المسلمون أن هذه العقيدة مبنية عندهم على القوة
الغيبية، والتأييد السماوي؛ لذلك كانت سببًا في ضعف استعدادهم العسكري
فصاروا أضعف الأمم بعد أن كانوا أقواها، وأشدهم ضعفًا أشدهم بهذه العقيدة تمسكًا
وهم مسلمو الشيعة في إيران، فإن المسألة عندهم اعتقادية أما سائر المسلمين فالأمر
عندهم أهون، فإن منكر المهدي عندهم لا يعد منكرًا لأصل من الدين. ولو كانوا
يعتقدون أنه يقوم بالسنن الإلهية والأسباب الكونية لاستعدوا لظهوره بما استطاعوا
من قوة، ولكان هذا الاعتقاد نافعًا لهم.
وجملة القول أننا لا نعتقد بهذا المهدي المنتظر، ونقول بضرر الاعتقاد به ,
ولو ظهر ونحن له منكرون لما ضره ذلك إذا كان مؤيدًا بالخوارق كما يقولون. وقد
بينا ذلك في كتابنا (الحكمة الشرعية) وفي هذه الأيام ألف أحد علماء الفرس
(زعيم الدولة الدكتور ميرزا محمد مهدي خان رئيس الحكماء) المقيم بالقاهرة كتابًا
في تاريخ البابية يطبع عندنا الآن واسمه (مفتاح باب الأبواب) ، وقد ذكر فيه
أصل هذا الاعتقاد وما ورد فيه وتاريخ من ادعى المهدوية مجملاً , وماذا كان من
أثر ذلك فلينتظر صدوره محبو التفصيل فإن العاقل يستنبط منه ما سكت المصنف
عن استنباطه عمدًا.
__________(7/138)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
حب القوة.. رابطة المدنية
(تمهيد ثان) البر وطن البشر، يسبحون فيه كما تسبح الحيتان في البحر.
يوجد في الأرض بران عظيمان: أحدهما عُرف قديمًا، والآخر عرف أخيرًا (سنة
898هـ - 1492م)
البر القديم قطع ثلاث كبرى: أوربا في الغرب الشمالي، وأفريقية في
الغرب الجنوبي، وآسيا في الشرق من الشمال إلى الجنوب: والبر الجديد قطعة لا
شرقية ولا غربية.
وفي البحار قطع متجاورات من الجزائر صغيرة وكبيرة تتبع في اصطلاح
المقسمين لواحد من هذه البرور، إلا الجزائر التي تقع في الأوقيانوس الجنوبي فإنها
تحسب قطعة وحدها. على أنه حيث كان البر مهما عظمت مساحته فهو جزيرة في
البحر. وإذا كانت البرور كلها جزائر فأول بشر في أية جزيرة وجد؟ وكيف انتقل
البشر من جزيرة إلى أخرى؟ وفي أي الجزائر حدثت له مراقي المدنية؟ فلبيان
هذه المسائل حررت هذا التمهيد الثاني:
يلهج كثيرون بقولهم: إن آسيا مهد البشر، ولكن لا دليل على ذلك، بل لا
دليل على أن هذا النوع وجد بادىء بدء في البر القديم مطلقًا، كما لا دليل على أنه
وجد بادىء بدء في البر الجديد. وإنما لهج الناس بهذه القولة؛ لأن ما حفظه التاريخ
يدل على قدم سكان آسيا، ويدل على أن سكان أوربا أتوها مهاجرين من جهات
آسيا.
وفريق من الحكماء تقدست أفكارهم عن الجمود فراموا نبأ عن البشر قبل
العهد الذي حدثت فيه صناعة الكتابة، ولم يعبأوا بكثير من أساطير الأولين. ومنهم
من أوحى إليهم الروح الطاهر أن يستهدوا بطبقات الأرض فاهتدوا بها إلى معرفة
أنواع من الحيوانات كانت فبادت. وهدوا إلى معرفة العهد الذي وجد فيه الإنسان.
فمن هؤلاء يرجى أن نقتبس المعرفة في هذه المسألة. فسائلوهم إن حرصتهم على
هذه المعرفة، ولكن أوصيكم لا تقنعوا منهم بجواب مجرد عن الدليل، واعلموا أنه
لا يتم لهم دليل حتى يثبتوا أنهم نقبوا في كل جزيرة في كل طبقاتها. أما الآن فلتبق
هذه المسألة مجهولة لدينا، والله بكل شيء عليم.
ومن الناس من يزعمون أن البشر ينتهون إلى أصول متعددة وجدت في
جزائر متعددة وهو وَهْمٌ نَاجم من عدم التدقيق، ومن جمود الفكر على بعض
المحسوسات، وما أقبح جمودًا ينتهي بصاحبه إلى جهل يظنه علمًا. ويصرفه عن
علم يخاله جهلاً.
وإننا قدَّمنا إشارات نافعة إلى كيفية تحكم الحاجات على الإنسان مع مشاركة
فطرته لها بالتحكم، ومنها علمتم كيف تحدث له الصنائع والأعمال، على قدر
الحاجات والآمال.
والآن نبني على ما قدمنا فنقول: إن من فطرة الإنسان، وجملة خواصه
الحرص على ادخار الزوائد عن حاجته، وإن الحرص يحمله أن لا يقف موقفًا
واحدًا في اجتلاب المكسوبات والمدخرات، ففريق الرُّحَّل يحتاجون في توفير
الحيوانات المأسورة والاستكثار منها إلى التنقل الدائم في المراعي، ومتى كثروا
وكثرت أموالهم تلك؛ يحتاج كل طائفة منهم إلى ديار واسعة يتنقلون فيها في
الصيف والشتاء والاعتدالين، ولا يزالون يستولون على الديار ويتقاتلون من أجلها
حتى تضيق بهم؛ ويحتاج الأضعفون منهم أن يرحلوا إلى ديار لا ديَّار فيها من
الأقوين.
وفريق المقيمين يحتاجون في توفير الحبوب، والمعادن، والمصنوع من
المعادن إلى المبادلات الدائمة؛ فلا تزال طوائف منهم يضربون في الأرض يبتغون
أن يبدل بعضهم من بعض ما صنعوا وملكوا، ومتى كثروا وكثرت أموالهم - كثرت؛
على هذه النسبة - مقراتهم، ثم اضطروا أن يتغالبوا على أحسن الديار وأوسعها
ليتخذوا فيها أوطانهم. ولا يزالون يتغالبون حتى يضطر الأضعفون للرحيل إلى ديار
أخرى يتخذونها وطنًا. وعلى هذا الوجه حدث ما نسميه القُرى أو البلاد , وتباعدت
بينها المسافات، وصار السفر للمقيمين ضربًا من اللوازم يقوم به طوائف منهم
على نسبة اقتسام الأعمال، وكثرة الأموال والآمال.
فافرضوا على هذا الوجه أن طائفة من الأضعفين القريبين من البحار ضايقهم
الأقوون من جيرانهم حتى اضطروهم إلى الرحيل، ولم يبق أمامهم إلا الموت أو
تجربة الحياة على متن ما كانوا قد جربوه فرأوه يطفو في البحر (وهم جيرته) من
ألواح الأخشاب، فأي الأمرين يختارون؟ أفلا يختارون أن يركبوا ما جربوه من
الطوافي، ويجربوا على ظهره كيف يحيون، ويأملوا أن يتاح لهم من الغيب ما به
يحيون؟
افرضوا أنهم سلموا أنفسهم للبحر على متن الألواح آملين ما هم آملون،
وبينما هم كذلك؛ إذ أشرفوا على بر في بحر، ودنت بهم الألواح حتى نزلوا إلى
ذلك البر، ووجدوا فيه ما كان يجده أوائل البشر من رزق، أفلا يصيرون أمة كما
صار من الزوج الأول أمم لا تحصى.
هكذا افرضوا إن أبيتم أن تقولوا: إن نفرًا من جيران البحر أولئكم جربوا
السير في البحر على الألواح من غير ضرورة ألجأتهم؛ كالتي مثلناها، بل أوحي
إليهم أن يجربوا تلك التجربة، وفي سيرهم وجدوا برًّا في بحر، ثم أحبوا أن
يتخذوا لهم وطنًا لِمَا وجدوا فيه من رَغدِ زائد على ما في وطنهم الأول. على أي
الوجهين بنى الباني يمكنه أن يقول: هكذا كان أول سير في البحر. وهكذا كان
أول انتقال من جزيرة إلى أخرى.
وهكذا عرف البشر أن في البحر برورًا؛ فصاروا يتنقلون حسب الحاجات أو
حسب الآمال من جزيرة إلى أخرى، حتى ملئت الجزائر بشرًا وملئوا بها.
أما الجزيرة الأولى التي حدثت فيها للنوع مراقي المَدَنية بادىء بدء؛ فلا يبعد
أن تكون هي البر المعروف قديمًا، ثم لا يبعد أن تكون قطعة آسيا منه هي مهد
المدنية وفرق بين قولنا: مهد البشر، وبين قولنا: مهد المدنية.
(ثمة بقية)
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. ز
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(7/147)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(تاريخ التمدن الإسلامي)
صدر الجزء الثاني من هذا التاريخ المفيد الذي يجب على الناطقين بالضاد
الاعتراف لمؤلفه جرجي أفندي زيدان بفضل السبق إلى خدمتهم به، ويا ليتهم
يتحدونه ويتلون تلوه فيه. صدر هذا الجزء من نحو تسعة أشهر، وقد أرجأنا الكلام
عليه لنطالعه كله، وننتقده إجابة لطلب المؤلف , ولم نجد سعة في كل هذه المدة
لمطالعته على شدة الشوق، وصدق الرغبة فرأينا أن لا بد من التنويه به شكرًا لمؤلفه
، وتوجيهًا للنفوس إليه، وإن لم نقرأ منه إلا قليلاً.
الجزء في ثروة الدولة الإسلامية وأسباب تكونها وانحطاطها، وثروة المملكة
مدنها وقُراها. وقد أحسن المؤلف أن أشار في أخريات صفحات الكتاب إلى عزو
النقل إلى الكتب التي أَخَذَ عنها عملاً باقتراح بعض الفضلاء، ولكن الطريقة التي
جرى عليها، وسبقه بها غيره لا تخلو من إيهام وإبهام؛ فإنه يذكر أمرًا، ويضع
في آخره رقمًا يصنع مثله في أسفل الصفحة تحت خط أفقي، ويذكر عند الرقم اسم
الكتاب أو المؤلف الذي أخذ عنه، فيتوهم القارئ أن ذلك الأمر كله من ذلك الكتاب،
وربما كان المراد بعضه كما يظهر لك من أول عزو في الكتاب، وستراه قريبًا.
قسم المؤلف ثروة الدولة الإسلامية إلى خمسة أدوار أو أعصار، عصر النبي
صلى الله عليه وسلم، وعصر الخلفاء الراشدين، وعصر الأمويين، وعصر
العباسيين الأول، وعصرهم الثاني؛ فقال في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ما
نصه:
(إذا كان المراد بثروة الدولة ما يزيد من دخلها على خرجها، أو ما تختزنه
بعد نفقاتها من الأموال ونحوها، فالدولة الإسلامية في عصر النبي صلى الله عليه
وسلم لم يكن عندها ثروة حقيقية؛ لأنهم لم يكونوا يختزنون مالاً، ولا كان عندهم
بيت مال، بل كانوا إذا أصابوا غنيمة فرقوها فيما بينهم، وكذلك الصدقات؛ فإنها
كانت تفرق في أولها؛ وإذا ظل منها شيء؛ استبقوه لحين الحاجة إليه. وكان
النبي صلى الله عليه وسلم يتولى ذلك بنفسه، وأكثر الصدقات من الماشية والإبل
والخيل فكان يسمها بميسم خاص بها، تمتاز بها عن سواها.
(فكانت ثروة الدولة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن بقايا
الزكاة من إبل أو خيل أو ماشية، وتمتاز عن أموال سائر الناس بمراع خاصة
كانت تحبس فيها بالبقيع قرب المدينة يعبرون عنها بالحمى [1] , وبميسم كان النبي
صلى الله عليه وسلم نفسه يسمها به [2] , وبلغت الأموال في أيام النبي صلى الله
عليه وسلم نحو 40.000 بين إبل وخيل وغيرها [3] ومن هذه الأموال وما يلحق
بها من مال الصدقة النقد كانوا ينفقون على غزواتهم، وعلى تحصيل الزكاة، وإعالة
الفقراء ونحوهم) اهـ.
فترى أنه أشار عند الرقم (1) إلى النقل عن الماوردي فتتوهم أن الجملة من
قوله: (فكانت ثروة الدولة) إلى الرقم معزوة إلى الماوردي، والصواب أن
المأخوذ عن الماوردي هو تسمية المراعي بالحمى، وأنها كانت بالبقيع وقد وقع في
هذا السهو أيضًا كما تعرفه من عبارة الماوردي نفسها قال: (وحمى الموات - أي:
الأرض التي لا ملك لها - هو المنع من إحيائه أملاكًا ليكون مستبقى الإباحة لنبت
الكلأ، ورعي المواشي قد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وصعد
جبلاً بالبقيع، قال أبو عبيد: (هو النفيع بالنون) ، وقال: هذا حماي، وأشار بيده
إلى القاع , وهو قدر ميل في ستة أميال حماه لخيل المسلمين من الأنصار
والمهاجرين) : اهـ بنصه (ص 176) .
وعبارة صاحب التاريخ تفيد أن الخيل من مال الزكاة , والصواب أنه لا زكاة
فيها والمراد بالخيل في عبارة الماوردي: خيل المسلمين المملوكة لهم. ومثل هذا
الغلط لا يسلم منه من يأخذ العلم عن الكتب من غير تلقي كل علم عن أهله.
فالمصنف جعل الخيل من مال الزكاة، وجعل الحمى خاصًّا بإبل الزكاة وخيلها
وماشيتها، وكلا الأمرين غلط كما رأيت. ثم قال في عصر الخلفاء ما نصه:
(هذا هو عصر الإسلام الذهبي، عصر العدل والتقوى، كانت الحكومة
جارية فيه على سنن العدل والاستقامة والغَيْرة الحقيقية على الدين، ونبذ الدنيا،
وهو العصر الذي اتخذه المسلمون منوالاً ينسجون عليه، وكلما حادت دولة من
دولهم عن جادة الحق، طلبوا إليها الرجوع إليه، والسير على خطوات الخلفاء
الراشدين؛ لأن الحكومة انتقلت بعدهم إلى طور جديد، وانقلبت من الخلافة الدينية
إلى الملك السياسي، ونشأت في الخلفاء والعمال المطامع، وأخذوا في حشد الأموال
بأية وسيلة كانت) اهـ.
فليتأمل قول هذا المؤرخ المنصف صاحب مقالات (سوريا والاسلام) ، وكم
في أبناء ملته من حجة مثله عليه ثم قال:
(فلما كثرت الأموال في أيام عمر، ووضع الديوان؛ فرض الرواتب للعمال،
ومنع ادخار المال، وحرم على المسلمين اقتناء الضياع والزراعة أو المزارعة؛
لأن أرزاقهم وأرزاق عيالهم تدفع لهم من بيت المال، حتى إلى عبيدهم ومواليهم -
أراد بذلك أن يبقوا جندًا على أهبة الرحيل، لا يمنعهم انتظار الزرع، ولا يقعدهم
الترف والقصف؛ فإذا أسلم أحد من أهل الذمة سكان البلاد الأصليين صار ما كان
في يده من الأرض وداره إلى أصحابه من أهل قريته تفرق بينهم، وهم يؤدون
عنها ما كان يؤدي من خراجها، ويسلمون إليه ماله ورقيقه وحيوانه، ويفرضون له
راتبًا في الديوان مثل سائر المسلمين) ... إلخ ما ذكره في هذا المقام نقلاً عن ابن
عساكر، وهو موافق لما نقلناه في الجزء الماضي ردًّا على صاحب مقالات سوريا
والإسلام. ثم ذكر أن الخلفاء الراشدين لم يتأثلوا مالاً، ولا عقارًا؛ لما كانوا عليه
من الزهد، وشدة التمسك بالدين. وذكر أن أكثر عمالهم كانوا كذلك، فليعتبر بهذا
ذلك المتعصب الذي ينسب إلى المسلمين في الصدر الأول ما هم براء منه بشهادة
جميع العلماء من جميع الملل.
ثم ذكر أن رأي عمر بعدم اختزان المال، ينافي المبدأ الأساسي الذي تقام
عليه الدول، وتتأيد به السلطات، وأن سببه النزعة الدينية، وأن المسلمين عادوا
بعد ذلكم إلى الأصل الطبيعي في الدول، فجمعوا الأموال في عهد بني أمية، حتى
إنهم بدءوا في زمن عثمان لتساهله مع عماله منهم، وأن معاوية اقتنى الأرضين ,
واقتدى به الناس في الاقتناء والبيع.
وبعد أن ختم الكلام بمثل ما بدأه من الثناء على الراشدين انتقل إلى عصر بني
أمية، وذكر ما كان فيه من اقتدائهم بالروم والفرس في الترف، وبسطة العيش
وما جرهم ذلك إليه من الظلم والجور، ولكن معظم ثروتهم كانت تنفق في الحروب
وأنهم ابتدعوا ضرائب جديدة، وظلموا الرعية حتى جاء عمر بن عبد العزيز
العادل فيهم فرد المظالم، وأنصف الناس مؤمنهم وكافرهم من أهله وولده وسائر
الناس، وعزل الولاة الظالمين، ثم قال: (فترى مما تقدم أن القواعد الأساسية
التي قام عليها الإسلام تدعو إلى الإنصاف والرفق، ولكنها تختلف مظاهرها
باختلاف الذين يتولون شئونها. ولو أتيح لعمر بن عبد العزيز أن يعيدها إلى ما
كانت عليه في عهد ابن الخطاب؛ لامَّحت مظالم بني أمية، ولكن جاء في غير
أوانه فذهب سعيه هدرًا، ولما مات عادت الأمور إلى مجاريها ورافقها رد الفعل)
... إلخ.
ونقول: إن السبب الصحيح في تمكن بني أمية من الظلم هو هدم قاعدة
الشورى، وسيطرة الأمة على الحكام التي صرح به أبو بكر في خطبته يوم ولي
الخلافة، ثم صرح بها عمر كذلك يوم ولي (راجع المنار ص 234م4) . وقالها
عثمان يوم قام الناس عليه، قال على المنبر: (أمري لأمركم تبع) وقد تمكن بنو
أمية من هدم هذا الركن الركين بعصبتهم المؤلفة من الموالي وغيرهم ممن لم يتمكن
الإسلام من نفوسهم، واستعانوا على ذلك بالمال الذي يأخذوه من غير حقه، كما هو
مفصل في الكتاب الذي نقرظه , ثم انتقل إلى الكلام على بني العباس، فأسهب
وأفاد، ولعلنا نعود إلى مطالعة ما كتبه واقتباس بعض فوائده , وصفحات هذا الجزء
190 وثمنه 15 قرشًا، ويطلب من مكتبة الهلال.
***
(السعادة العظمى)
صدرت في تونس مجلة عربية جديدة بهذا الاسم، وهي مجلة علمية أدبية
إسلامية تصدر في غُرة كل شهر عربي، وفي سادس عشرة لمنشئها عبده محمد
الخضر بن الحسين المحصل على رتبة التطويع العلمية بجامع الزيتونة الأعظم ,
وقيمة الاشتراك فيها بالمملكة التونسية 8 فرنكات في السنة وبالجزائر وطرابلس
الغرب عشرة فرنكات، وبالممالك الشرقية ومراكش 12 فرنكًا والعدد منها يتألف من
كراستين، وهو مطبوع على ورق جيد بالحرف الإستانبولي. وقد سَرَّنَا من هذه
المجلة أنها دلت على تساهل من دولة فرنسا مع المسلمين في نشر العلم كما توقعنا،
وعلى توجه المشايخ المشتغلين بالعلوم الاسلامية إلى الصحافة؛ فنسأل الله تعالى أن
يوفقنا، ويوفق صاحب هذه المجلة إلى خدمة الإسلام الخدمة النافعة، وأن يُنَجِّح عملنا
وعمله آمين.
__________
(1) الماوردي.
(2) البخاري 190 ج 1.
(3) شرح الموطأ.(7/149)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التعليم الإسلامي في سيراليون
جاء في مجلة سيراليون الأسبوعية الإنكليزية (عدد 29م 20) تحت هذا
العنوان ما يأتي:
يخضع سكان هذه المستعمرة منذ بدء استعمارها أتم الخضوع للحكومة
الإنكليزية، وقد كان السير تشارلس ماك كارثي حاكم سيراليون - بين ثمانين
وتسعين سنة مضت - أول من وجه أنظار الحكومة الإنكليزية إلى فائدة تسهيل
المواصلات مع المسلمين القاطنين في البلاد الواقعة شرق سيراليون وسنغال ,
وكان يومئذ حاكم المقاطعتين إذ كانت سنغال من الأملاك الإنكليزية، وهو أول من
حول تجارة مقاطعات البربر إلى الشاطئ الغربي، وذلك بما كان يبديه من الكرم
والمجاملة لزعماء القبائل المحمدية الذين كانوا يأتون إلى الشاطئ تباعًا تلبية
لدعوته.
ولكن أعمال السير تشارلس ماك كارثي كانت تجارية بحتة؛ فإنه لم يحلم بأن
سيصبح أولئك الأقوام جزءًا من الإمبراطورية الإنكليزية في وقت من الأوقات،
وأنهم يحتاجون حينئذ إلى الدرية العلمية والسياسية ليكونوا عضوًا عاملاً في جسم
المملكة.
ولم يكن إلا في الثلاثين سنة الأخيرة أي منذ تولى السير أرثور كنيدي إدارة
تلك البلاد، أن اعتنى بتوسيع دائرة التعليم في المستعمرة لكي تضم المسلمين إليها.
وقد كان السير أرثورك كنيدي وخلفه السير جون بوب هنيسي ميالين أشد الميل إلى
تعليم المسلمين العلوم الغربية؛ لأنهما رأيا فيهم نشاطًا يُمَكِّن الحكومة من الاعتماد
عليهم في أعمالها الداخلية، وقد لحظا أن المسلمين هم الشعب الوحيد المستنير بنور
المدنية، والذي يؤلف هيئة اجتماعية في تلك الأقطار المظلمة، وأنه يمكن
بواسطتهم إخضاع جميع القبائل العظيمة في داخلية البلاد.
وفي عهد هذين الرجلين تمهدت الطرق للإنكليز في جميع المقاطعات الواقعة
بين سيراليون وسوكوتو، وكان في إمكانهم إنشاء مراكز سياسية، ودورًا علمية
متصلة بعضها ببعض بين سيراليون وهوسالاندر , ولكن ذلك أصبح مستحيلاً الآن
لدخول القوات الأجنبية , ومدها نفوذها في تلك الجهات. ومع ذلك فإن الساسة
الإنكليز يرون أن انتشار التعليم بين المسلمين في سيراليون لا يخلو من التأثير فيما
بقي من الأراضي الواقعة وراء المستعمرة في قبضة الإنكليز. ولا شك في أن إقامة
مدرسة للمسلمين ينطبق تعليمها على معتقدهم تجذب إلى المستعمرة جميع أهل
وطنهم والمتدينين بدينهم في قلب القارة.
ولكن أهم ما حمل الحكومة على إنشاء مدارس إسلامية أساسية في سيراليون
هو أن هذه المستعمرة التي هي المستعمرة الإنكليزية الوحيدة على الشاطئ، والتي
يتكلم باللغة الإنكليزية في جميع أنحائها يجب أن تكون قاعدة لمدرسة جامعة يعلم
فيها الشبان المسلمون العلوم العالية من علوم الإنكليز والغرب، وقد أشار الحاكم
ناتان إلى شيء من هذا القبيل في خطابه الذي ألقاه في 7 أغسطس 1899؛
إذ افتتح المدرسة الإسلامية في مدينة فوله قال:
إني أعتقد أن فتح هذه المدرسة سيكون فجر يوم باسم في التعليم الإسلامي ,
وأنه لا يمضي بضع سنين حتى يكون في سيراليون مدرسة جامعة تنبعث منها
الحكمة والمعرفة، وتنبسطان فوق جميع أرجاء غربي أفريقيا.
وهذا القول الذي فاه به الحاكم المذكور في ذاك الحين قد رددت صداه السياسة
الإنكليزية في الوقت الحاضر، وذلك بالنظر إلى ما تراه من التبعة الملقاة عليها
إزاء العدد العديد من الشعب الإسلامي الذي يقطن غربي أفريقيا وقلبها.
وقد انتبه الرأي العام الإنكليزي إلى أهمية تعليم مسلمي أفريقيا العلوم الغربية
على أثر قيام اللورد كتشنر ومناداته بطلب المال لتأسيس مدرسة جامعة في
الخرطوم لتعليم النشء الإسلامي.
وقد قال اللورد كتشنر في مخاطبته الشعب الإنكليزي: (إن علينا تبعة كبيرة
ملقاة على عواتقنا؛ فإن على الفاتح أن يهذب ويمدن. والعمل الذي قامت العقبات
في سبيله بعد موت غوردون يجب أن يجدد الآن؛ ولذلك أقترح أن تؤسس في
الخرطوم مدرسة جامعة بمال الإنكليز تنسب إلى اسم غوردون لإحياء ذكره، ولتدل
على أننا لا نزال نذكر هذا الرجل العظيم، ولنحقق أمانيه التي كان يسعى إلى
الحصول عليها، ولا يلزمني أن أضيف إلى قولي هذا أنه لا يجب أن نتداخل بعملنا
هذا في دين القوم، والمدرسة التي اقترحت إنشاءها ستوضع لها خطة تعليمية بحتة،
ولا يجب أن يدخل عليها شيء من الدروس الدينية. وسنجلب إليها التلامذة من
مسلمي السودان، وإني واثق بأن اتخاذ المدرسة للتعاليم الدينية يذهب بالفائدة
المطلوبة منها) .
وقد اقترح اللورد كتشنر هذا الاقتراح بعد ستة أشهر من إلقاء الماجور ناتان
لخطابه عند افتتاح مدرسة فوله.
فغربي أفريقيا في حاجة الآن إلى مدرسة جامعة كالمدرسة التي أسسها اللورد
كتشنر. فالحكومة الإنكليزية أنشأت خمس كليات في الهند على طراز كلية لندره.
وهذه الكليات أنشئت في كلكوتا ومِدْرَاس وبومباي والله أباد وبنجاب. ومن
الأسف أن يقال: إنه رغم التسهيلات الكبيرة التي أوجدت للتعليم في تلك الجهات
مدة جيلين على الأقل لم يكن للتلامذة حتى الذين حازوا قصب السبق منهم أدنى إلمام
بالحياة العملية، والحالة هناك سائرة من سيئة إلى سوءى.
والوطنيون الأذكياء قد شعروا بهذه الحالة السيئة منذ سنين عديدة. وجميع
حكام المستعمرة انتقدوا الخطة التي تسير عليها المدارس، والسير أرثور كنيدي
شعر بهذا الاحتلال بين عامي 1868 و1872. وفي عام 1872 تقدم بعض زعماء
الوطنيين بقيادة المرحوم المستر ويليام غرانت من السير جون بوب هنيسي الذي
كان حاكمًا على المستعمرة يومئذ، ورفعوا إليه عريضة يطلبون فيها من الحكومة
إنشاء كلية لغربي أفريقيا في سيراليون، فأعجب الحاكم بشعورهم هذا، ووافق
على مشروعهم، وأبدى آراء عديدة بهذا الشأن أدرجت في ذاك الحين في جريدة
(النيجرو) ، ولم يفكر في إنشاء كلية للأشراف وذوي الثروة، بل كان من رأيه
تأسيس كلية جامعة في غربي أفريقيا غير مختصة بأولاد الرؤساء وذوي اليسار،
بل يدخلها أيضًا أبناء الفقراء الذين فيهم قابلية للعلم ليتغذوا بلبان العلوم أسوة بأبناء
الكبار، كما كانت الحالة في كليات أيرلندا وفي كليات أوربا. وقد كتب الحاكم بهذا
الشأن إلى اللورد كمبرلي الذي كان وزير المستعمرات في ذاك الحين؛ ولم يعارض
الوزير في هذا الأمر، ولكن الحاكم كنيسي الذي كان مصممًا على إنفاذ هذا
المشروع غادر المستعمرة في أثناء المناقشات التي كانت جارية بهذا الصدد فأهمل
المشروع يومئذ , ولكن تأثير هذه المناقشات ظل سائرًا، وقد لوحظ أن إلحاق
مدرسة خليج فوره العليا بكلية درهام كانت نتيجة ذلك المشروع.
ولا يوجد بلاد في العالم أحوج إلى التعليم من هذه البلاد؛ لأن عليه وحده
يتوقف الإصلاح. فالآراء التي تحكم العالم في هذه الأيام تتشعب جذورها ببطء،
ولكن تشعب الجذور في هذه البلاد أبطأ منه في غيرها، فالرجل الذي يُرجى منه
أن يكون معلمًا أو مُصْلِحًا في هذه البلاد يجب أن يعامل بمنتهى الصبر والأناة.
ولكن النتيجة لابد أن تكون مرضية، ولو بعد حين، ولذلك لا يجب أن يهمل
أي مشروع يكون من ورائه النجاح عاجلاً أو آجلاً. ففي الختام نزف التهاني إلى
السير تشارلس كنج هارمان حاكم المستعمرة الذي قام بهذا المشروع العظيم، ولا
شك أن مسلمي تلك البلاد يقدرون أعماله حق قدرها. اهـ وكتبت المجلة في هذا
العدد أيضا ما يأتي:
***
افتتاح مدرسة إسلامية
جديدة أميرية في سيراليون
بعد ظهر الاثنين في 14 مارس احتفل حاكم مستعمرة سيراليون السير
تشارلس كنج هرمان بافتتاح مدرسة إسلامية أميرية بحضور جم غفير، وقبل
الموعد المحدد اجتمع عدد كبير من المسلمين وغيرهم في الشوارع منتظرين قدوم
الحاكم وأتباعه، وعند قدومه أحاط به القوم تتقدمهم (البالانجاي) وهي موسيقى
وطنية فأخذ بعض مشاهير العازفين يعزفون عليها، وانتخب اثنتان من نساء
(البللي) لتنشدا مديح الحاكم، واللاِّدي كنج هارمان اتباعًا لعادة بعض قبائل البلاد
الداخلية، وهي أنه عند إقبال أحد الرجال العِظَام عليهم يَأْتُون ببعض النساء
المغنيات ليعدوا مآثره بالنشيد. وقد أحدثت هاتان المغنيتان تهييجًا بعبارات الإطراء
التي فاهتا بها. ولما دخل الحاكم غرفة المدرسة التي كانت الطريق المؤدية إليها
مزدانة بالأعلام وبأغصان النخل، نهض الأولاد وأنشدوا نشيد الملك، ثم مشى
الحاكم وجماعته وصعدوا إلى فسحة مرتفعة حيث كانت الكراسي معدة للزائرين.
وقد كانت غرفة المدرسة قبلاً قذرة وغير منتظمة، ولكنها أُصْلِحت الآن،
وأصبحت آية في النظام والرونق.
وقد أنشئت هذه المدرسة بناءً على مشروع جديد أُريد به ضم مدرستي
ماندينفو وفوله وجعلها مدرسة واحدة، وانتخب لها ناظر مدرب، ومعلمون ذوو
كفاءة. وقد كان تحاسد القبيلتين حائلاً دون هذا الضم والوحدة في العمل، ولكن ما
أُلقي على زعمائهما من الوعظ والإرشاد جعلهم يقدرون الاتحاد والتعاضد حق قدره
فنبذوا التباغض والتحاسد وراء ظهورهم، وتوافقوا على المنفعة العامة لأولادهم.
وبعد استقبال الحاكم بدأ الإمام عبد العزيز بالدعاء , ثم رتل التلامذة ترنيمة
إسلامية باللغة العربية، ثم تلا الألفا إسكندر تقرير مدرسة الماندينغو، وعقبه الألفا
الحسين بتقرير المدرسة الإسلامية، وقدم التقريران إلى الحاكم، ثم قام الحاكم
لإبداء ملاحظاته , فقوبل بأصوات الابتهاج. وبدأ أولاً بشكر الجمع الحاضر من
مسلمين ومسيحيين على حسن استقبالهم له وللاِّدي كنج هارمان، وأبدى لهم عظيم
ارتياحهما إلى المهمة التي أتيا من أجلها، وهي ضم المدرستين، وجعلهما مدرسة
واحدة. وقال: إن مدرسة الماندينغو أسسها الحاكم ناتان في عهد توليته إدارة
المستعمرة، وأراد بتأسيسها تعليم أولاد القبائل الداخلية اللغتين العربية والإنكليزية،
وقال: إنه لما زار المدرسة في أبريل العام الماضي وجد فيها ما لا يسر الخاطر،
فبدلاً من أن تكون مدرسة إسلامية وجدها مدرسة مسيحية خلافًا لما كانت تنويه
الحكومة من إنشائها. فرأى إذ ذاك أن يسحب من متولي المدرسة رخصة الحكومة؛
لأنهم لم يسيروا بموجبها، وسرَّ بأن عمله هذا أدى إلى نتيجة حسنة. وقد عاش
بينهم مدة طويلة، وعرف الطرق التي تعود عليهم بالمنفعة من وراء التعليم , فبينما
كانت الحكومة راغبة في تعليمهم ما ينطبق على دينهم كانت أيضًا راغبة في
تعليمهم اللغة الإنكليزية التي تساعدهم على العمل والارتزاق. وإنه ليدهش حين
يرى قسمًا منهم يعارض في تعليم اللغة الإنكليزية , فلا يبرحن أذهانهم أنهم مع
كونهم مسلمين فهم أيضًا رعايا الحكومة الإنكليزية، وتعلم اللغة الانكليزية يوصلهم
إلى معرفة ما هو جار من الأعمال العظيمة في العالم، وليس في نية الحكومة أن
تبدل جنسيتهم فتجعلهم إنكليزًا، بل تريد أن يبقوا أفريقيين، ولكن تعلم اللغة
الإنكليزية يساعدهم على حياتهم القومية، وعلى أعمالهم.
ثم أبدى أسفه لوفاة ناظر المدرسة الأول سانا جاوارا فقد كان رجلاً طيب
القلب، وصديقًا له، ولكنه سُرَّ بعد وفاته أن رأى الوسائل متخذة لإصلاح حالة
التعليم في المدرستين، وأنهم عولوا على إزالة النفور من بينهم , وعلى العمل يدًا
واحدة لمنفعة أولادهم. فلا يتمكن شعب من الشعوب من السعي في خير وطنه إلا
بتكاتف أعضائه، والمباراة تعود بالربح في بعض الأحيان، ولكنها إذا أفضت إلى
سفك الدماء؛ فلا تكون عاقبتها إلا الخراب والدمار. وإنه ليسر بأن يراهم الآن
متعاضدين، ويشتغلون يدًا واحدة للنفع العام.
وفي الختام حرضهم الحاكم على التمسك بالطرق المعدة لهم الآن، واتخاذها
وسيلة لإصلاح حالهم، وقال إنه واثق بأن كل فرد منهم يسعى في جعل المدرسة
مركزًا للنور تنبعث منه الأشعة إلى القبائل التي يتألف منها الشعب، ثم أعلن الحاكم
فتح المدرسة.
وبعد ذلك أديرت المرطبات، ثم أخذ التلامذة ينشدون الأناشيد , وانصرف
الجمع في الساعة الخامسة ونصف، وصحبت الموسيقى والمغنيتان الحاكم وقرينته
إلى دار الحكومة.
وقد كان في جملة الذين جلسوا مع الحاكم الإمام جامبوريا والألفا دارامي،
وعبد العزيز، والمستر باكارد، والمس باكارد، والمستر جونسون، وقرينته،
والمستر توماس، ورئيس الشمامسة ماكولي والمستر كومبر مدير عموم سكة حديد
سيراليون، والمستر ماي. وقام بإعداد معدات هذه الحفلة الدكتور بليدن مدير
المدارس الإسلامية. اهـ
(المنار)
إننا نوهنا في مجلد المنار الرابع (ص 707) بافتتاح مدرسة فوله في
سيراليون، وقلنا في فاتحة الكلام: (إنه لا توجد بلاد إسلامية أعطي أهلها من
حرية التعليم ما أعطي البلاد التي استعمرها الإنكليز. فعلى مسلمي تلك البلاد أن
يهتموا بالتعليم بالعربية، والإنكليزية، وأن يتركوا التنازع المبيد. ولنا عودة
لنصحهم إن شاء الله تعالى.
***
المنار
وجاء في العدد 30 من مجلة سيراليون أيضًا تحت هذا العنوان ما تعريبه:
هذا اسم مجلة عربية تطبع في القاهرة. وقد ورد علينا عدد فبراير منها، وفيه
مقالة ضافية الذيول عن مسلمي سيراليون يتضمن إلماعًا إلى بدء نشر التعليم
الإنكليزي بينهم. وفي هذه المقالة أيضًا إشارة إلى كتاب الدكتور بليدن عن
النصرانية والإسلام، والجنس الأسود مع إبداء الأسف والتصريح بأن هذا العمل لم
يعد معروفًا عند مسلمي الشرق.
وقد علمنا أن كاتب هذه المقالة هو مسلم شرقي متوطن في فريتون، وعلمنا
أيضًا أنه كان حاضر افتتاح المدرسة الإسلامية الجديدة في يوم الاثنين 14 مارس،
ولابد أن ينشر بعض مقالات أخرى في المجلة المذكورة.
وقد ذكرت المنار وصول هارون الرشيد إلى القاهرة منذ بضعة أشهر، وهو
شاب مسلم من مدينة فوله في هذه البلاد.
وقد تمكن الشاب المذكور من دخول الأزهر بمساعدة صاحب المجلة، وهذا
الجامع لا يزال يجذب إليه الطلبة من جميع أقطار العالم الإسلامي، وحبذا لو أمكننا
الحصول على معلمين من ذاك الجامع الشهير ليقوموا بتعليم تلامذتنا التعاليم
الإسلامية. اهـ
__________(7/153)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
النساء المسلمات في الهند
قد سبقت الهند مصر وغيرها من بلاد المسلمين في المدنية الحديثة حتى صار
النساء فيها يخطبن في الأندية العامة على الملأ من الرجال والنساء. وقد تُلي في
مؤتمر التربية الإسلامية في هذا العام خطاب كتبته عَقيلة من فضليات نساء
المسلمين، وتلته عقيلة أخرى بالنيابة عنها لغيبتها.
أما الكاتبة فهي صبيحة زوج المير سلطان محيي الدين صاحب النائب
السياسي في مِدْرَاس، وأما التي خطبت به فهي فاضلة تسمى كابراجي. والخطاب
متضمن لتذكير الرجال بما منح الإسلام للنساء من الحقوق، وما حث عليه من
تعليمهن وتربيتهن، وشكر أعضاء المؤتمر على (تجديد السنة الإسلامية) بقبول
دخول النساء فيه , واشتراكهن مع الرجال في البحث والائتمار بوسائل ترقي
المسلمين، وقالت عن هذه المزية: إنها كادت تجدد عندنا الإسلام لأول ظهوره،
وما أعطيت المرأة فيه من الحرية التامة فلا يعزب عن أذهانكم هدي هذا الدين
ووصاياه , بل مثلوا عظمته وارتفاع شأنه وسعة ممالكه في أذهانكم وأحيوا أحكامه،
وانصروا برهانه فقد أمسى لهذا العهد على عظمته وقوته كالأسد المحتضر. ثم
اقترحت أن ينشئ المؤتمر معرضًا في وسط البلاد تعرض فيه مصنوعات أيدي
النساء ترغيبًا لهن في الصناعة، وتبرعت لذلك بخمسين روبية على أن تكون
فاتحة اكتتاب للعمل إذا أمكن , وإلا فهي للمؤتمر.
***
رأي فاضلة هندية
في العرب والعربية
وخطبت في احتفال المؤتمر فاضلة تسمى (نفديدا) خطبة ضافية عن حال
الإسلام والمسلمين، ومن الأفكار العالية التي تكلمت فيها توسيع الإسلام دائرة
الوفاق والتأليف بين البشر بإلغاء الجنسية النسبية والوطنية، وجعل المؤمنين إخوانًا
حيث كانوا، وأين حلوا.
وأطنبت في الكلام عن العرب وما قاموا به من خدمة العلم والمدنية،
وإحيائهما بعد موتهما، وقالت ما معناه: إن الهند التي عاشت بالعلم بعد الدخول في
الإسلام إنما حُييت بإرشاد العرب، بل بامتزاج دم العرب بدم الهنود، حتى قالت:
إن الدم العربي لا يزال يجري حارًّا في عروقنا، وهو الذي يحركنا إلى الترقي
الآن، ووصفت الإسلام بأنه دين الفطرة والاستقلال والعلم وأنه يمشي معه الترقي
حيث مشى. وقالت: إن العلة في قلة انتشاره في الهند هو جهل الهنود باللغة
العربية فإنها أقل في الهند انتشارًا منها في سائر البلاد الإسلامية. قالت: ومن
البعيد أن نرجو تقدمًا في ديننا مع عدم التمكن من لغته، ولنا الرجاء في الوصول
إلى مقصدنا قريبًا بمساعدة المسلمين من أهل البلاد العربية بالرأي والعمل خدمة
للإسلام.
فلله در هذه الفاضلة! ! التي يقل نظيرها في علمائنا المدرسين في مصر
والهند، وقد سبق لنا من بيان فوائد ما دار عليه خطابها المفيد ما يمنع من العود إليه
الآن. أكثر الله من أمثالها في رجالنا ونسائنا فإننا لا نحيا إلا بأمثال الذين على هذا
المثال.
***
الجمعية الخيرية الإسلامية
دعا رئيس هذه الجمعية جميع المشتركين فيها للاجتماع في 29 المحرم
الماضي لعرض أعمال مجلس الإدارة عليهم وإطلاعهم على مشروع أعمال سنة
1322هـ وميزانيتها، وانتخاب خمسة أعضاء لمجلس الإدارة؛ فلبى الطلب بعض
واعتذر بعض، وتخلف الأكثرون. وقد بَيَّن الرئيس فائدة الحضور، ومضرة
التخلف، ومنه أن إشراف الجمهور على أعمال البعض يَحمِل على الإتقان
والنشاط , ويُعوِّد الناس على الأعمال المشتركة والتعاون , وبه قوام الأمم. ومن
مشروعات الجمعية الجديدة إنشاء مدرسة في المحلة الكبرى، وسنتكلم عليها في
الجزء القادم.
__________(7/159)
غرة ربيع الأول - 1322هـ
16 مايو - 1904م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب تنوير الأفهام
كلمة ثانية في هدم الكتاب
ذكرنا في الجزء الثالث كلمة هادمة لذلك الكتاب الذي زعم أنه بيَّن مصادر
الإسلام وليس للإسلام إلا مصدر واحد وهو الوحي، وذكرنا هنالك أننا لم نقرأ من
الكتاب إلا جملة قليلة. ثم إننا عدنا إليه؛ فألفيناه يبتدىء الكلام في الإسلام ابتداء
مَن يتوهم أنه عرفه، وأنه يتكلم في قواعده وأصوله، ولكن لم نلبث أن رأينا فيه
من الجهل والافتئات على الإسلام ما أثبت لنا أن واضعه كغيره من الطاعنين لم
يكتب ما يرى ويعتقد , ولم يعتقد ما عرفه وعَلِمَه، بل خبَّط خبط عشواء فظلم
نفسه، وأتعب عقله وحسه، وكان بعد ذلك من الخاسرين.
انظر تعلم أننا نَصفه لا نَشْتُمه - ذكر أن أساس الدين القرآن والسنة أو
الحديث كما قال , وذكر أن الحديث مُبَيِّن للقرآن فإن خالفه لا يقبل؛ لأن القرآن هو
الأصل، وذكر أن كُتب الحديث المعتمدة عند أهل السنة ستة، وعَدَّ منها المُوطأ
وأهمل سُنن النَّسائي، ولا بأس بذلك، وذكر الكتب المعتمدة عند الشيعة كذلك، ثم
بَنَى طَعْنَه في القرآن على ما فسره به من الحديث بزعمه , وههنا الخلط والاختراع
وسُوء القَصْد كما ترى فيما نورد عنه من الشواهد.
أول مثال أورده لبيان القرآن بالسنة آية {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} (الإسراء:
1) فزعم أن حديث المعراج مُبَيِّن لها فأَوْهَمَ القارئين أن ما ورد من عروج النبي
صلى الله عليه وسلم إلى السماء - بروحه فقط كما عليه قوم من المسلمين أو بروحه
وجسده كما عليه آخرون - مُفَسِّر ومُبَيِّن لآية من القرآن، مع أن المسلمين مجمعون
على أن المعراج مأخوذ من الحديث لا من القرآن، ولذلك لا يقولون بكفر منكره،
بل نقلوا أن من الصحابة من أنكره بالمرة حتى السيدة عائشة زوج النبي - صلى
الله عليه وآله وسلم -.
وأردف هذا المثال بآخر فقال: (وكذلك لولا الحديث لما فهم أحد معنى: (ق)
وهو اسم إحدى سور القرآن؛ فالأحاديث هي التي أوضحت أن المراد بالحرف (ق)
اسم جبل قاف؛ ولهذا عزمنا بحوله تعالى طلبًا للاختصار أن لا نورد في هذا
الكتاب شيئًا مختصًّا بمصادر الإسلام من عقيدة إسلامية، أو تعليم إلا ما كان له
أصل وأساس في القرآن ذاته، ويكون ورد له تفسير وشرح في الأحاديث المشهورة
المتواترة بين كل المسلمين سواء كانوا من أهل السنة أو الشيعة.
انظر إلى ما اشترطه على نفسه في الاعتماد على الأحاديث المُبَيِّنَة والمُفَسِّرَة
للقرآن؛ اشترط أن تكون الأحاديث مشهورة متواترة بين كل المسلمين، مع أن
تفسير حرف (ق) بأنه اسم جبل لم يرد في حديث مرفوع لا متواتر، ولا مشهور
ولا آحادي صحيح، ولا ضعيف، ولم يذكر في كتاب من الكتب الستة التي ذكر أن
أهل السنة وهم القسم الأكبر من المسلمين يعتمدون عليها. فكيف يوثق بكلام مؤلف
ويصدق بأنه التزم ما اشترطه على نفسه في هذا الكتاب.
نعم، إن في كتب التفسير التي لا يكاد يخلو واحد منها من سرد الأقوال
الإسرائيلية أثرًا في ذكر جبل قاف، وقد قال القرافي - من محققي الأمة -: إنه لا
يعول عليه، ولا يصح، وإن هذا الجبل لا يوجد، ولا يهمنا أن بعض عشاق
الروايات الكثيرة سلَّم به، وإنما نقول: إنه شيء لم يصح في الكتاب، ولا في السنة،
ولم يوجد في الكتب المعتمدة الذي ذكرها، ولا في غيرها مرفوعًا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم إن للإسرائيليات منبعًا آخر في غير كتب التفسير - هو أغزر مادة أو أكثر
رواية -: وهو كُتب القَصص الخُرافية التي أسندت إلى مؤلفين لا شأن لهم ككتاب
(عرائس المجالس) وغيره في قَصص الأنبياء، و (خريدة العجائب) ، وأمثالها،
وهي كتب طافحة بالمَوْضُوعات والأكاذيب، كما نَبَّه على ذلك حُفَّاظُ الحديث،
حتى كان الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - يقول: (لا يصح في التفسير
شيء) ، وعلى أمثال هذه الكتب يَعْتَمِدُ صاحب كتاب (تنوير الأفهام في تفسير
القرآن) ، وبيانه مع ما علمت من شَرْطه الخادع. ومن ذلك ما أورده في الصفحة
(42) وما بعدها من قصة إبراهيم - عليه السلام - أخذها من (عرائس المجالس)
ينبوع الكذب، واستدل منها على أن القرآن يستمد أحكامه وأخباره من كتب
اليهود، ثم اعترف بأن ما في القرآن، وعرائس المجالس غير مطابق لما في كتبهم،
وسببه بزعمه أن محمدًا أخذها عن اليهود مشافهة، ولم يرها في كتبهم! ! على
أن موافقة القرآن نفسه أو الحديث الصحيح لبعض ما في كتب اليهود دون بعض لا
يدل على أنه أخذ عنهم، وإنما يدل على أن الله تعالى بيَّن له حق كلامهم من باطله،
وصدقه من كذبه، فإن كتبهم كأقوالهم لا يعتمد عليها كلها لظهور الكذب والتناقض
فيها إلى اليوم، ولظهور تلفيقها واقتباسها من الأمم الأخرى كما بيَّنَّا ذلك مرارًا فهي
ككتب القصص عندنا فيها شيء من القرآن والسنة، ولكنه ممزوج بالأكاذيب
والآراء المقتبسة من الأمم. ولا شيء يعول عليه في صحة بعض أقوال كتب
اليهود دون بعض، بعدما طرأ عليها من الضياع والتحريف والخلط إلا الوحي،
وقد ثبتت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالدلائل الساطعة، والآثار النافعة، وهم
يقولون: إن المسيح فَرَّقَ بين الأنبياء الصادقين، والأنبياء الكذبة بآثارهم وثمارهم،
فوجب الاعتماد على ما جاء به هذا النبي الكريم دون غيره. والبحث بأنه سمع
أو اطلع من الهذيان. وأَنَّى يعول النبي الذي لا ينكر الكافرون رجحان عقله على
قول أولئك اليهود الذين شرح للناس مكرهم وكذبهم , وتلطَّف في شأن ما يَعْزُونه
إلى الوحي، فأمر أصحابه بأن لا يصدِّقوهم فيه ولا يكذِّبوهم!!
كذلك تراه قد اعتمد على (عرائس المجالس) في قصة سليمان مع ملكة سبأ
(كما في ص 61) ، وفي قصة (هاروت وماروت) (كما في ص64) وقد مرَّ
تفسير القصة في المجلد السادس من المنار بما يكذب القَصاصين، كصاحب
(عرائس المجالس) وغيره ومَنْ على رأيهم من المفسرين (راجع ص 443 من
المجلد المذكور) ، وفي (سبع دركات الأرض) (كما في ص 85) واعتمد على
كتاب (قَصص الأنبياء) في وصف اللوح المحفوظ بناء على أنه تفسير لقوله
تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (البروج: 21-22) ذكر ذلك
في (ص 93) وعبر عنه بمعلومات المسلمين التي استفادوها من أحاديثهم. ثم
رَجَّحَ في الصفحة الـ 99 أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتبس هذه الكلمة من
اليهود حين سمعهم يقولون: إن الوصايا التي أعطاها الله لموسى كتبت في لوحين.
كأنه يرى أن محمدًا - عليه أفضل الصلاة والسلام - ما كان يعرف هذا اللفظ (لوح
محفوظ) لولا أنه سمعه من اليهود، وإن كان اللفظ عربيًّا، والسورة التي ورد فيها
مكية أنزلت قبل أن يعرف النبي أحدًا من اليهود؛ إذ كانوا في المدينة لا في مكة.
ثم رَجَّحَ بناءً على تحكمه هذا أن المسلمين لم يفهموا معنى قوله (لوح محفوظ)
فكذَّبُوا له تلك الكذبة المذكورة في قَصص الأنبياء! !
وليت شعري! كيف لم يفهموا هذه الكلمة وهي من لسانهم، والكتابة في
الألواح معهودة عندهم؟ وكيف اختص النبي بالسماع من اليهود دونهم؟ مع أنه كان
يراهم ويحاجهم إذ يدعوهم إلى الإسلام والمسلمون حاضرون، ولم يُعْرَفْ أنه كان
يخلو بهم! ! نعم إن ما ذكره صاحب قصص الأنبياء يجوز أن يكون بسوء فَهْم،
وأن يكون بسوء قَصْد، ثم عاد إلى تفصيل القول في تفسير (ق) بجبل قاف ناقلاً
عن (عرائس المجالس) ، وقصص الأنبياء، وذكر موافقة ما فيهما لما قاله أحد
اليهود في كتابٍ لهم اسمه (حكيكاه) .
ويا ليت مؤلف الكتاب كان سأل أحد علماء المسلمين عن كتاب (عرائس
المجالس) ، وكتاب (قصص الأنبياء) قبل أن يطالعهما، ويستخرج منهما تفسير
القرآن: هل هذان الكتابان معتمدان عندكم في التفسير وغيره؟ وهل تعدُّ روايتهما
صادقة؟ إذن لأجابه بما كان يكفيه مؤنة التعب والعناء بمطالعة تلك الخُرافات
والأكاذيب، وتلخيص الأخبار منها. إننا نشفق عليه من مطالعة كتب يحرم
المسلمون قراءتها لما فيها من الكذب والكفر؛ إذا كان قد طالعها ظانًّا أنها معتمدة
يحتج بها، ولكن الراجح أنه يعلم أنها كتب خرافية، بدليل أنه ذكر كتب الحديث
المعتبرة عند المسلمين وإن كانوا لا يحتجون بجميع ما فيها، ولكنه مع وعده بأنْ
سينقل منها المشهور والمتواتر؛ لم ينقل منها حتى ما لم يشتهر ولم يتواتر. لماذا؟
لأنه يريد أن يشكك عوامّ المسلمين في دينهم بإيهامهم أنه يعرف كتبهم المعتمدة،
وينقل عنها وينتقدها، وعند ذلك يتسنى له أو لغيره من شيعته أن ينصر بعض
هؤلاء العوام الجهال بعد تشكيكهم مرغبًا لهم بمنفعة دنيوية، كما عهد من المبشرين
في دعوة المسلمين. ولم يعلم المسكين أن من عرف من الإسلام شيئًا يصعب أن
يهين نفسه بالنصرانية ويعبد البشر (المسيح) من دون الله ويقول: إن الله مولود
من أنثى.
إن كتاب (عرائس المجالس) و (قصص الأنبياء) على شحنهما بما يخالف
عقائد الإسلام وأخباره وأحكامه هما أمثل من كتب النصرانية , ولا يرضى لنفسه من
لم يعرف من الدين والعلم شيئًا غير خرافاتهما أن يستبدل بها عقيدة النصارى الوحيدة
التي هي مناط الخلاص عندهم، وهي أن الإله عجز عن التوفيق بين صفتَيْه
المتناقضتين من الأزل وهما العدل والرحمة فلم يهتد وسيلة لذلك إلا منذ 1904؛ إذ
رأى أن يحل في بطن امرأة ويولد منها فيكون إنسانًا , ثم يصلب كارهًا راضيًا
ويجعل نفسه ملعونًا لأجل أن يخلِّص الناس؛ بحملهم على تصديق هذه القصة التي لا
تعقل , ويجعل من يصدق بها من أهل الإباحة , له الملكوت وإن كان أفسق
الفاسقين وأظلم الظالمين! ! ! هل يمكن لمَن له ذرة من العقل أن يفضل هذا
الاعتقاد الخرافي على خرافات عرائس المجالس وقصص الأنبياء؟ لا، لا، لا.
هذا نموذج من الشواهد التي زعم مؤلف الكتاب أن القرآن أخذها من كتب
اليهود بناءً على تفسير الأحاديث المتواترة المشهورة في كتب المسلمين على زعمه
وما هي إلا في كتب الخرافات كما علمت.
وقد ذكرنا لك في الجزء الثالث شاهدًا مما طعن فيه بالقرآن من حيث اقتباسه
من العرب، ونذكر لك الآن شاهدًا آخر على سبيل الفُكاهة لتعرف مبلغ علم هذا
المؤلف بالعربية وأساليبها، كما عرفت مبلغ علمه بالأحاديث المتواترة، وهي
عند المسلمين ما رواه جَمْع عظيم في كل زمن من عهد النبي صلى الله عليه وسلم
إلى الآن، وما أورده لم يروه جمع ولا واحد.
جاء في الصفحة الرابعة والعشرين وما بعدها عقيب الكلام في التوحيد الذي
مَرَّ الشاهد فيه، وفي الختان - الذي لم يذكر في القرآن - ما نصه:
(قال المعترضون: وبصرف النظر عن كل هذا؛ فإن بعض آيات القرآن
مقتبسة من القصائد التي كانت منتشرة ومتداولة بين قريش قبل بعثة محمد،
وأوردوا بعض قصائد منسوبة إلى امرىء القيس مطبوعة في الكتب باسمه لتأييد
قولهم هذا. ولا شك أنه ورد في هذه القصائد بعض أبيات تشبه بل هي عين آيات
القرآن على حد سواء، أو تختلف عنها في لفظة أو لفظتين، ولكنها لا تختلف عنها
في المعنى مطلقًا. وهاك الأبيات التي يوردها المعترضون وقد أشرنا على العبارات
التي اقتبسها القرآن بوضع علامة تحتها كهذه ـ:
دنت الساعة وانشق القمر ... عن غزال صاد قلبي ونفر
أحور قد حرت في أوصافه ... ناعس الطرف بعينيه حور
مر يوم العيد في زينته ... فرماني فتعاطى فعقر
بسهام من لحاظ فاتك ... فتركني كهشيم المحتظر
وإذا ما غاب عني ساعة ... كانت الساعة أدهى وأمر
كتب الحسن على وجنته ... بسحيق المسك سطرًا مختصر
عادة الأقمار تسري في الدجى ... فرأيت الليل يسري بالقمر
بالضحى والليل من طرته ... فرقه ذا النور كم شيء زهر
قلت إذ شق العذار خده ... دنت الساعة وانشق القمر
وله أيضًا:
أقبل والعشاق من خلفه ... كأنهم من حدب ينسلون
وجاء يوم العيد في زينته ... لمثل ذا فليعمل العاملون
لولا أن في القراء بعض العوامّ؛ لما كنت في حاجة إلى التنبيه على أن هذه
القصيدة يستحيل أن تكون لعربي، بل يجب أن تكون لتلميذ أو مبتدئ ضعيف في
اللغة من أهل الحضر المخنثين عشاق الغِلمان، فهي في ركاكة أسلوبها وعبارتها
وضعف عربيّتها، وموضوعها بريئة من شعر العرب لا سيما الجاهليين منهم،
فكيف يصح أن تكون لحامل لوائهم، وأبلغ بلغائهم، هب أن امرأ القيس زير
النساء كان يتغزل بالغلمان - وافرضه جدلاً - ولكن هل يسهل عليك أن تقول: إن
أشعر شعراء العرب صاحب (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) يقول:
أحور قد حرت في أوصافه ... ناعس الطرف بعينيه حور
وتضيق عليه اللغة فيكرر المعنى الواحد في البيت مرتين؛ فيقول: أحور
بعينيه حور. أتصدق أن عربيًّا يقول: انشق القمر عن غزال، وهو لغو من القول؟
وما معنى: دنت الساعة في البيت؟ وأي عيد كان عند الجاهلية يمر فيه الغلمان
متزينين؟ وهل يسمح لك ذوقك بأن تصدق أن امرأ القيس يقول: فرماني فتعاطى
فعقر، وأي شىء تعاطى بعد الرمي، والتعاطي: التناول , ومعناه في الآية
{فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} (القمر: 29) أنه تناول رمحًا، أو خنجرًا،
فعقر الناقة به، والإبل تعقر في نحورها، والعُشَّاق إنما يرمون باللحاظ في قلوبهم،
فهل يقول العربي - بعد ما قال: إن محبوبه رماه -: إنه تعاطى بعد ذلك فعقر؟
وهل يقول امرؤ القيس: لحاظ فاتك؟ فيصف الجمع بالمفرد. وهل يشبه العربي
طلوع الشعر في الخد بالسُرى في الليل؟ مع أنه سير في ضياء كالنهار؟ وكيف
تفهم وتعرب قوله:
بالضحى والليل من طرته ... فرقه ذا النور كم شيء زهر
وهل يقول عربي، أو مستعرب فصيح في حبيبه: إن العذار شق خده شقًّا؟ !
أما البيتان الآخران فهما أبعد عن ذوق العرب وعباراتهم، وأذكر أنني رأيت
من عزاهما إلى بعض المولِّدين، لا أدري هل هو ابن حُجَّة أو غيره على أنهما
اقتباس من القرآن. على أن في الإشارة إلى موضع الاقتباس هنا خطأ نحو الخطأ
في القصيدة ففي الآية {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} (الأنبياء: 96) .
وأنت ترى أن المعنى في البيت لا يستوي، فإن الحدب هو النَّشْز؛ أي:
المرتفع من الأرض , والعشاق لم يكونوا يسرعون مقبلين من ذلك المحل الذي يشبهه
مثل هذا الشاعر بالحدب، وإنما يصح أن يكونوا مقبلين إليه! ! أما مخالفة
لفظ القرآن في البيت الثاني ففي استبدال ذا بهذا وانظر وزنه المجروح.
بعد هذه الإشارات الكافية في بيان أن الشعر ليس للعرب الجاهليين، ولا
للمخضرمين، وإنما هو من خنوثة وضعف المتأخرين، أسمح لك بأن تفرض أنه
لامرىء القيس إكرامًا واحترامًا للمؤلف، ولكن هل يمكن لأحد أن يكرمه ويحترمه
فيقول: إن الكلمات التي وضع لها العلامات هي عين آيات القرآن؟ أما البيتان فقد
رأيت ما فيهما، وأما ما في البيت الأول من القصيدة فهو دون جملة ولا يستقيم له
معنى. وليس في القرآن (فرماني فتعاطى فعقر) وقد ذكرنا لك الآية آنفًا. وقوله:
(تركني كهشيم المحتظر) مثله , وإنما الآية الكريمة: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً
وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ} (القمر: 31) فالمعنى مختلف والنظم مختلف،
وليس في البيت إلا ذكر المشبه به، وهو فيه في غير محله؛ لأن تشبيه الشخص
الواحد بالهشيم يجمعه صاحب الحظيرة لغنمه لا معنى له، وإنما يحسن هذا التشبيه
لأمة فُنيت وبادت كما في الآية، ولعل في الأصل تركتني بدل (فتركني) وبها
يستقيم اللفظ والمعنى في الشطر. وليس في القرآن أيضًا: كانت الساعة أدهى
وأمر، وإنما فيه {سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ
أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر: 45-46) ، فههنا وعيدان شرهما الساعة المنتظرة فصح
أن يقال: إنها أدهى وأمر، وليس في البيت شيء يأتي فيه التفضيل على بابه.
واعلم أن هذا الشعر من كلام المولدين المتأخرين هو أدنى ما نظموا في
الاقتباس، ولم ينسبه إلى امرىء القيس إلا أجهل الناس.
ثم إن المعنى مختلف، والنظم مختلف، فكيف يصح قول المؤلف: إن هذه
الكلمات من آيات القرآن، وإنها لا تختلف عنها في المعنى، ولو فرضنا أن هذه
الكلمات العربية استعملت في معنى سخيف في الشعر ليس فيه شائبة البلاغة، ثم
جاءت في القرآن العربي بمعان أخرى وأسلوب آخر، وكانت آيات في البلاغة كما
أنها في الشعر عِبرة في السخافة، فهل يصح لعاقل أن يقول: إن صاحب هذا
الكلام البليغ في موضوع الزجر والوعظ مأخوذ من ذلك الشعر الخنث في عشق
الغلمان، وأن المعنى واحد لا يختلف؟ فمن كان معتبرًا باستنباط هؤلاء الناس
وتهافتهم في الطعن والاعتراض على القرآن فليعتبر بهذا، ومن أراد أن يضحك من
النقد الفاضح لصاحبه الرافع لشأن خصمه فليضحك. ومن أراد أن يزن تعصب
هؤلاء النصارى بهذا الميزان فليزنه , وإنه ليرجح بتعصب العالمين. ومن أراد أن
يقيس سائر ما قاله هذا المؤلف في الاستشهاد على كون القرآن مقتبسًا من كلام
العرب وعقائدهم بعد ما أعياهم أمره، وقلَّب طباعهم هديه، ومن كتب سائر الملل
في مشارق الأرض ومغاربها، وإن لم يسمع بها، بهذا الشاهد وبالشاهد الذي سبق،
فله أن يقيس فإن كل مزاعمه من هذا القبيل.
وإن لنا كلمة أوضح في الرد عليه نؤخرها لجزء آخر، وهي فصل الخطاب
إن شاء الله تعالى.
__________(7/161)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السؤال والفتوى
قصص القرآن
(س 17) الشيخ محمد نجيب بالمدرسة الشمسية بتونتار (روسيا) :
هل القَصص الواردة في القرآن أنزلت لأجل الاعتبار والاتعاظ؟ أم هي
وقائع تاريخية؟ أم على التبعيض؟ أرجو بيان هذه المسألة المهمة في أحد أعداد
المنار ولكم الأجر والمنة.
(ج) تقدم الإلماع في التفسير غير مرة إلى أن قصص القرآن لا يراد بها
سرد تاريخ الأمم أو الأشخاص وإنما هي عبرة للناس كما قال تعالى في سورة هود
بعد ما ذكر موجزًا من سيرة الأنبياء عليهم مع أقوامهم: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ
عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (يوسف: 111)
ولذلك لا تذكر الوقائع والحوادث بالترتيب، ولا تستقصى؛ فيذكر منها الطمّ
والرمّ، ويؤتى فيها بالذرة، وأذن الجرة كما في بعض الكتب التي تسميها الملل
الأخرى مقدَّسة. وللعبرة وجوه كثيرة، وفي تلك القصص فوائد عظيمة، أذكر أنني
كتبت منها نحو ثلاثين؛ إذ وجهت نفسي للبحث عن فوائد التكرار فيها , وهذه
الوجوه تذكر مفصلة في مواضعها من التفسير الذي ننشره في المنار. وأفضل
الفوائد وأهم العبر فيها التنبيه على سنن الله تعالى في الاجتماع البشري، وتأثير
أعمال الخير والشر في الحياة الإنسانية، وقد نبه الله تعالى على ذلك في مواضع
من كتابه كقوله: {ِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} (الحجر: 13) , وقوله: {سُنَّتَ
اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ} (غافر: 85) يذكر أمثال
هذا بعد بيان أحوال الأمم في غمط الحق والإعراض عنه والغرور بما أوتوا ونحو
ذلك، فالآية الأولى جاءت في سياق الكلام عن المعرضين عن الحق لا يلوون عليه،
ولا ينظرون في أدلته لانهماكهم في ترفهم وسرفهم وجمودهم على عاداتهم
وتقاليدهم. والآية الثانية جاءت في سياق مُحَاجَّة الكافرين والتذكير بما كان من
شأنهم مع الأنبياء، وبعد الأمر بالسير في الأرض والنظر في عاقبة الأمم القويّة
ذات القوة والآثار في الأرض، وكيف هلكوا بعدما دعوا إلى الحق والتهذيب، فلم
يستجيبوا لما صرفهم من الغرور , وبما كانوا فيه، ولم ينفعهم إيمانهم عندما نزل
بهم بأس الله وحَلَّ بهم عذاب التفريط والاسترسال في الكفر وآثاره السوءى.
وليس المراد بنفي كون قصص القرآن تاريخًا أن التاريخ شيء باطل ضار
ينزه القرآن عنه. كلا , إن قصصه شذور من التاريخ تُعَلِّم الناس كيف ينتفعون
بالتاريخ، فمثل ما في القرآن من التاريخ البشري كمثل ما فيه من التاريخ الطبيعي
من أحوال الحيوان والنبات والجماد، ومثل ما فيه من الكلام في الفلك - يراد بذلك
كله التوجيه إلى العبرة والاستدلال على قدرة الصانع وحكمته، لا تفصيل مسائل
العلوم الطبيعية والفلكية التي مكَّن الله البشر من الوقوف عليها بالبحث والنظر
والتجربة، وهداهم إلى ذلك بالفطرة وبالوحي معًا، ولذلك نقول: لو فرضنا أن
المسائل التاريخية والطبيعية المذكورة في الكتاب ليست مطابقة إلا لما يرى، أو
يعتقد الناس كلهم أو بعضهم في زمن التنزيل؛ لِمَا كان ذلك طعنًا فيه؛ لأن هذه
المسائل لم تقصد بذاتها، بل المراد منها توجيه النفوس لطريق الاستفادة بما أشرنا
إليه فتنبه.
* * *
المذاهب الاسلامية في الأصول وطريقة المنار
(س 18) أحمد أفندي صبحي بأشمون: إننا نود , وغيرنا من إخوانكم
المسلمين يودّون من حضرتكم أن تدرجوا في المجلة طريقة كل مذهب من المذاهب
الأخرى مثل الشيعة والزيدية والوهَّابية والجبرية، وغيرهم لنطلع على ذلك،
ولنعرف ما عليه هذه المذاهب؛ فإن البعض من إخوانكم المسلمين يعتقدون أنهم
مسلمون، وعلى الكتاب الشريف، والبعض يقول غير ذلك.
(ج) كل هؤلاء الذين ذكرتم مسلمون، وأصل الدين عندهم كتاب الله تعالى
ويقرون بوحدانية الله، وبرسالة خاتم النبيين، وكون ما جاء به حقًّا ويقيمون
الصلاة، ويُؤْتون الزكاة، ويصومون رمضان، ويحجُّون البيت الحرام، ويصبرون
على ظلم الحكومة العثمانية فيه. ولكنهم يختلفون في تأويل بعض الآيات وبيان
المراد منها , وفي رواية الحديث وسيرة السلف اختلافًا قريبًا أو بعيدًا من الحقِّ،
فللشيعة ومنهم الزيدية روايات غير معروفة، أو غير معتمدة عند أهل السنة،
وبذلك اختلفوا في مسائل كثيرة أغلبها في فروع الأحكام، ولهم أيضًا طرق في
الاستنباط يخالفون في بعضها طرق فقهاء المذاهب الأخرى، وأما الوهابية فليس لهم
كتب تعتمد في الحديث غير كتب أهل السنة، وهم أقرب إلى العمل بالسنة من
جميع المسلمين على غلوّ في بعضهم، وليس من موضوع المنار تفصيل مسائل
الخلاف، وإنما هو مجلة المسلمين عامة يخاطبهم ويعظهم بالأصل المتفق عليه عند
الجميع، وهو كتاب الله تعالى، والسنة العملية التي كان عليها السلف الصالح بلا
خلاف، ويدع لهم كل ما اختلفوا فيه حتى يفيئوا إلى أصل الوفاق إن شاء الله تعالى.
فالدين واحد، والكتاب واحد، والله يقول فيه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا
شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ويقول في قوم غير مرضيين عنده:
{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: 14) ,
ولم يَسْلَم المسلمون مما جرى لمن قبلهم من الأمم باختلاف التأويل والروايات الآحادية
وأهواء الرؤساء والتعصب للمرشدين، ونرجو أن يعودوا بتربية الزمان القاسية إلى
الوفاق بالعود إلى الأصل المجمع عليه، وهو الكتاب والسنة العملية المتفق عليها،
ويعذر بعضهم بعضًا في الروايات القولية الآحادية , مع البحث والمجادلة بالتي هي
أحسن حتى يفيء المخطئ إلى أمر الله الذي لا خلاف فيه.
هذه هي الطريقة المثلى في إرشاد المسلمين في رأينا، وقد أخطأها الوهابية
فحاولوا بغرارة البداوة، وقسوتها أن يرجعوا المسلمين عن البدع بالقوة القاهرة
فكانوا من الخائبين، وأساء الظن فيهم سائر المسلمين، ومن العجائب أن عند
المسلمين إحساسا عامًّا بأنه لا يصلح حالهم، ويعود مجد دينهم إلا بإبطال المذاهب
كلها، والرجوع إلى الأصل الأول، والإمام المبين، وهو القرآن إذ اتفق سنيهم
وشيعيهم على أن المصلح المسمى بالمهدي سيبطل المذاهب كلها؛ أي: أن الإصلاح
لا يكون إلا بذلك، ولكنهم جعلوا طريق ذلك غير معقول , وهو شخص مخصوص
يظهر بالخوارق دون السنن كما تقدم في الجزء الماضي.
***
إثبات الولاية بالرؤى والأحلام
(س 19) أمين أفندي عبد الكريم بالزقازيق: ما هو رأي المنار فيما رواه
مُكاتب إحدى جرائد العاصمة (اللواء) بمركز ميت غمر تحت عنوان (ميت
يتكلم) وخلاصة روايته تنحصر في أنه رأى في منامه كأن شخصًا يخبره بأنه
مدفون في جزيرة بقريتهم، ويسأله تكليف العمدة بنقله لقبر آخر , فقصّ الرجل
على العمدة رؤياه، وهذا قال له: من أين لنا معرفة محله؟ وفي الليلة التالية رأى
من أتاه أولاً في نومه، يقول له: أخبر عمدتكم أن اسمي (عمرو بن وهب)
وسأجعل لكم علامة على قبري فانقلوني , فكان بعد ذلك أنهم وجدوا علامتين
عرفوا بهما محل القبر ففتحوه ووجدوا فيه ميتًا نظيف الثياب أسود اللحية؛ فنقلوه
إلى قبر في غير الجزيرة إلى آخر ما في رسالة المكاتب.
هذا ملخص تلك الرواية المدهشة التي نطلب من المنار الزاهر أنه يفيض
القول عليها من جهة مطابقتها للعلم، سواء كان شرعيًّا أو وضعيًّا، مع مراعاة
الجواب على تصور وضع العلامتين، وعدم طروء التحليل على هيكل ذلك الجسم،
ووجه الاتصال بين الروح والجسد، وسماع صوت من جانب الميت على ما
ورد في رسالة أخرى بتلك الجريدة جاءت تصديقًا للرواية الأولى، وذلك أن ناقلي
الميت عندما رأوا جثته ذعروا، وولوا مدبرين فسمعوا (أقبلوا أقبلوا فإن الجنة هي
المأوى) ومن هو (عمرو بن وهب) في سير السابقين إن صح في رأي حضرتكم
أن المسألة خوارق العادات، وتنطبق على الدين الحنيف من جهة إمكان وقوعها
ولكم الفضل.
(ج) أصابت الشمس جرة ماء فسخن جانبها الذي أصابته فجاء الفيلسوف
فحول الجرة، وجعل الجانب الساخن إلى جهة الأرض والجانب البارد إلى الشمس ,
ثم نادى تلامذته وسألهم يمتحنهم عن العلة في كون الجانب المقابل للشمس باردًا
والجانب الملاقي للأرض الباردة سخنًا؟ فطفقوا ينتحلون العلل، وهو يردها ويبيِّن
فسادها حتى اعترفوا بالعجز، وسألوه بيان العلّة الصحيحة، فقال لهم: إن الواجب
أن يتثبت في معرفة الشيء أولاً، ثم يبحث عن سببه، وعلّته، وما سألتكم عنه
غير حقيقي، وإنما قلبت الجرة لأختبر فطنتكم.
وهكذا نقول: أثبت لنا أن الأمر وقع حقيقة بلا حيلة، وسل بعد ذلك: هل
يصح أن نعتقد بأن الميت الذي رأوه أولاً في المنام، ثم كلمهم في اليقظة، هو من
الأولياء؟ وما هو تاريخه؟ أمثال هذه الحكايات تكثر في الأمم الجاهلة المستعبدة
للخرافات، ولقد روي أمثالها عن أهل أوربا في القرون المظلمة، حتى كان في
بعض بلاد فرنسا موضع يسمونه (الشهداء) كانت الأموات تظهر فيه جهارًا
لا سيما في الليل، ولماعقل الناس لم تعد تظهر! ! فمن الناس من يكذب في هذه
الحكايات المنقولة، ومنهم من يظهر غريبة من هذه الغرائب بالمواطأة مع أشخاص
آخرين لمنفعة ما، ومنهم من تعرض له شبهات في ذلك نعرف كثيرًا منها، وليس
هذا موضع شرحها، ولكننا سنذكر بعض الشواهد.
أما حكم الرُؤى والأَحْلام في الشرع فهو أنه لا يُبْنَى عليها حُكم، ولا يثبت بها
شيء من الأشياء، حتى صرّح العلماء بأن من يرى النبي - صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم - في الرؤيا ويتلقى منه أمرًا أو نهيًا لا يجوز له في اليقظة أن يعتمد
على ذلك؛ لعدم الثقة بضبطه لِمَا يرى وانتفاء اختلاط الأمر عليه فيه، ولأن الله
تعالى لم يتوف نبيه إليه إلا بعد أن أتم الدين على يديه، ولم تبق حاجة إلى بيان
آخر فيه (إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في القرآن) كما ورد، ولكن عوامَّ المسلمين
وجهالهم كجهال سائر الملل يرون أن الرؤى والأحلام من أَرْكان العلم والعِرْفَان،
لا سيما إذا كان موضوعها الخرافات والأوهام.
وأما القول ببقاء أجساد الأولياء بعد الموت فهو من القول بغير دليل مع تكذيب
الحسِّ لذلك، ومخالفته لسنة الله تعالى في تحليل الأجساد {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) وورد في الأنبياء حديث عند أحمد وغيره , ولا يفيد
القطع فيعارض الحس والنصّ؛ لأنه من الآحاد، وورد ما يخالفه في يوسف - عليه
السلام - فقد أخرج الطبراني والحاكم من حديث أبي موسى والخرائطي في مكارم
الأخلاق من حديث عليّ أن موسى - عليه السلام - استخرج عظام يوسف من قبره
بأمر من الله قبل خروجه من مصر، وصيغة الأمر هكذا: (إنك عند قبر يوسف
فاحمل عظامه معك) , وفيه أنهم أخرجوا عظام يوسف والناس يزورون قبر يوسف
في جامع الخليل بفلسطين مع العلم بأنه دُفِنَ في مصر اعتمادًا على هذا الحديث،
وأن موسى أحضر عظامه ودفنها هناك؛ فإذا بحثوا في سند الحديث، أو قالوا: لا
يعتمد عليه لأنه من الآحاد، نقول: نعم، ولكنه موافق لسنة الله والحديث الآخر
على كونه من الآحاد معارض بسنة الله في الخلق التي قال في كتابه، وأثبت النظر
في خليقته أنها لا تتبدَّل، ولا تتحوَّل؛ فإنْ لم تأخذ به فلنترك كل ما يقال في ذلك،
ونهدم ذلك القبر، حتى لا نكون مزورين.
وكذلك كلام الموتى مخالف لسنن الكون الثابتة بالعقل والنقل قطعًا، فلا نقول
به إلا بدليل قطعيٍّ، كأنْ نشاهد بأعيننا ميتًا قد ثبت موته قطعًا، ثم تكلم، ونحن
نسمع منه من غير مظنة شعوذة ولا تلبيس. أما طرق التلبيس في هذا المقام
فكثيرة نذكر حادثتَيْنِ منها على سبيل النموذج.
في طرابلس الشام قبر وليّ يسمى (سيدي عبد الواحد) في حجرة عند باب
مسجد منسوب إليه، وقد كانت الحكومة أسكنت في هذا المسجد طائفة من مهاجري
الشركس بعد الحرب الروسية العثمانية الأخيرة، وقد حدث ذات ليلة أن فر أولئك
المهاجرون من الجامع بنسائهم وأولادهم ومتاعهم زاعمين أنهم رأوا السيد
عبد الواحد الولي خرج من قبره بهيئة نورانية , وصعد المنبر ووجْهه يتلألأ نورًا،
وطردهم من هناك. اعترف بهذه الكرامة كبيرهم وصغيرهم وذكرهم وأنثاهم،
وكانت شهادة حالهم أقوى دلالة على صدقهم من لسان مقالهم؛ إذ لولا ذلك لما
خرجوا من ذلك المأوى الكثير المرافق , المتدفق الأمواه بتلك الهيئة المنكرة.
حقًّا إنهم قد رأوا رجلاً خرج من القبر يتألق وجهه نورًا محسوسًا , وصعد
المنبر وأشار بطردهم من المسجد، ولكن من هو ذلك الرجل؟ هل هو السيد
عبد الواحد المدفون هناك من عدة قرون كما ينقلون؟ كلا، إنه الشيخ أحمد المغربي
إمام المسجد وخطيبه، وابن ناظره ضاق بوساختهم ذرعًا، ولم يجد حيلة لطردهم
من المسجد إلا هذه الطريقة؛ لأن العوام عبيد الخرافات والأوهام، وقد استحضر مادة
فسفورية , واختبأ بحيلة لم يدركوها تحت تابوت الخشب الموضوع على القبر
من أول الليل وكان أخبر بعض أصحابه بما دبره من الكيد. فلما جنَّ الليل وأخذ القوم
مضاجعهم مسح وجهه بالمادة النيِّرة، ثم أحدث في مرقده اضطرابًا وصوتًا نبههم فهبوا
وأسرعوا إلى جهة الحجرة فرأوا التابوت قد ارتفع، وخرج من الأرض رجل
يزهر وجهه بالنور فولوا مذعورين وفتح هو الباب الذي كان يظنُّونه مقفلاً، ولكن
مفتاحه كان معه وابتدر المنبر وأشار إليهم بوجوب الخروج من المسجد فلبوا
خاضعين خاشعين. وقد سمعت هذا الحديث منه كما سمعه كثيرون.
وحدثني إلياس أفندي الحداد الطرابلسي المقيم في القطر المصري أنه مرَّ في
عهد الحداثة بمقبرة ليلاً فرأى رجلاً خرج من أحد القبور ومشى أمامه على بعد ,
ورأى معه نورًا فلم يشك في أنه أحد القديسين أو الشهداء لأن اعتقاد عوامّ النصارى
في ذلك كاعتقاد عوامّ المسلمين أخذ هؤلاء عن أولئك ما أخذوه عمّن قبلهم بالتقليد لِمَا
يسمعون من العجائز والبله. فملكه الرعب ولم يكن له مندوحة عن السير، حتى إذا
قرب من العمران الذي يقصده نبح كلب على هذا الرجل النوارني الذي كان يمشي
بالنور أمام إلياس أفندي فأجابه هذا بالنُباح؛ فإذا هو كلب، وإذا بالموضع الذي
خرج منه قبر منبوش، وإنما مثله الخيال رجلاً لأن الرائي لم يكن يعرف أن
الكلاب ونحوها تبرق أعينها في الليل، وكانت الخرافات متمكنة من خياله، فلَمَّا
رأى شيئًا غير معهود؛ إذ خرج من بطن الأرض بنور معه لم يشك في أنه مثال
لتلك الحكايات التي كان سمعها من بعض الجاهلين، وغلب خياله على حسِّه فكان
من الواهمين.
أمثال هَذَيْنِ الشاهدَيْنِ يحار فيهما العقل الصغير قبل أن يسمع تأويلهما، وبيان
الحقيقية فيهما، ولكن ذلك لا يمنعه أن يصدق ما يشابههما من الحكايات مما لا يظهر
له تأويله إلا إذا نضب ينبوع الخرافات من خياله، وزال سلطان الوهم من قلبه.
وهكذا يقيس الجاهل ما لا يعرف سببه على ما لم يعرف سببه، كما يرد العاقل ما
لا يعرف إلى ما يعرف.
وقد حدث مثل هذا الحُلم لرجل من أغنياء مديرية الجيزة رأى في نومه وليًّا
أخبره أنه مدفون في مكان كذا، وأخبره بنسبه فاشترى قطعة من الأرض بثمن غال
وبنى له فيها قبرًا مُشْرِفًا، وقبة عظيمة فخسر بذلك من دينه وعقله أضعاف ما
خسر من ماله.
ومن المصائب أن الجرائد التي من وظيفتها محاربة الأوهام، هي في مصر
تزيد الناس غِشًّا؛ فقد سمعنا أن جريدة (اللواء) لما نشرت خرافة السؤال أقرَّتْها.
فمثل هذه الجرائد كمثل رؤساء الأديان المضلِّين الذين يوافقون العامة على أهوائها
لأجل الانتفاع بما عندها من الحُطَام، ولتمكين الجاه في نفوسها، فلا حول ولا قوة
إلا بالله العلي العظيم.
_______________________(7/181)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
المدنية وما هيه؟
للمدنيَّة تعريفان: أحدهما يُبَيِّن حقيقتها، والآخر يصف من مزاياها خواصَّها،
وآثارها وثمراتها، وللقارىء هنا حظه من التعريفين:
كلمة المدنيَّة من الكلمات المحدثة عند المتمدنين، والمقصود منها: (التعاون
في العلوم والأعمال لاكتساب المطالب التي تقتضيها حياة الإنسان النوعية) ، هذا
هو القول الشارح لحقيقتها.
المطالب آلام في آمال، وهي طبيعية للحياة النوعية من جملة سنة الله في
الإنسان، والمدنية طِبُّ هذه الآلام، وقد وهم مَنْ يزعمون أن المدنية هي مجلبة تلك
الآلام، بل الآلام طبيعية من اقتضاء الآمال التي لا تقف عند حدٍّ، وهي من
اقتضاء الفطرة.
وما المدنيَّة إلا علاج تلك الآلام، وتسكين ما هنالكم من الانزعاجات التي
يثيرها الطلب الحثيث لما فوق الحاجات. فلا تُقلدوا الواهمين، ولا يلفتنكم شعر
أولئكم الذين يهجون الحياة النوعية - التي يمتاز بها الإنسان - ويمدحون الحياة
الجنسية - التي للبهائم وغيرها - فإن الله ورسله والحكماء براء من الذين يحبون
أن لا تظهر فطرة الإنسان بأبهى مظاهرها.
المدنيَّة: هي التعاون في العلوم والأعمال. والإنسان مدني بالطبع، ولكن
مدنيَّة كل إنسان على مبلغه من العلم والعزم، ومدنية كل أمة على مبلغ أفرادها
النوابغ من النَّصَبِ في سبيل أمتهم. وكم من امرىء يعيش بين المتمدنين لا حظ له
من الشعور بالمدنيَّة وأسبابها إلا تقليد القوم بمآتيهم، ومآخذهم وشعاراتهم في كل
شيء، بل هذا حظ الجمهور الآن في كل المشرق. وكم من امرىء يعيش بين
المتوحشين فلا يلبث إلا قليلاً حتى ينهض بهم في المدنية إلى الدرجات العُلى.
علم أسباب المدنيّة يقال له: (طِبُّ الاجتماع) , والعالم بهذا العلم يقال له:
(سياسي) ، وللسياسيين تأثير في العالم كل بقدر، وهم الذين يغيرون بإذن الله
أطوار الأمم من هبوط إلى رِفْعَة، ومن رِفْعَة إلى هبوط؛ ولذلك كان مدار التاريخ
في الغالب على أحبار السياسيين، فالذين أخلصوا لله في مصنوعاته وأحسنوا عملاً
رَفَعُوا أُممهم، وأُممًا مع أُممِهم إلى منازل السعادة، وأوردوهم مناهل السيادة،
أولئك تزدان بهم سور الحمد في كل سفر من أسفار الأمم، وكل عصر من
أعصارهم، وكل مَصْرٍ من أَمْصَارِهم، يمجدهم الجمهور الأعداء كالأولياء،
والوضعاء كالأعلياء، والذين حادُّوا الله وحَادُوا في مصنوعاته عن حدود الإخلاص
والإصلاح هَووْا بأممهم وأمم مع أممهم إلى مهاوي البوار، وثَووْا معهم في مثاوي
النار، لا تخفف عنهم الأحمال، ولا توزن لهم الأعمال، ولا يبلغون في شيء
الآمال، ومن أخسر عملاً مِمَّنْ كفر بالنِّعَم فأضاعها، وأحاطت به خطيئته؟
المدنيَّة: جمال معقول مع جمال محسوس، عدل وإحسان، أدب وعرفان،
صنائع وبدائع، أموال وبضائع، أفهام وأوهام، آمال وأعمال، جمال وتجمل،
مجد وتمجد، ميزة وتميز.
المدنيَّة: مواهب الإنسان تتجلى للعيان، يشكرها أولو الألباب السليمة،
وينكرها أولو الأذهان السقيمة.
المدنيَّة: رابطة يحشر السياسيون تحت لوائها أقوامًا كثيرين مختلفين
بالأنساب، مختلفين بالأديان، فهي الرابطة التي يتجلّى نفوذها وتأثيرها في حفظ
نظام الاجتماع.
وللرابطتين المارتين - رابطة القومية ورابطة الدين - فضل في تعظيم شأنها
وتكبير سلطانها، وفضل آخر في تهديدها إذا طغت في الميزان، وأسرفت بالإثم
والعدوان، وهي الرابطة التي بواسطتها قامت هذه البنية الحاضرة للاجتماع
البشري العظيم. فاذكروا أيها البشر إذ كنتم في الأوجار، تأكلون الأعشاب
وتخصفون من ورق الأشجار، وإذ فَرَّق بَيْنَكُم شيطان الشهوات، وأوقعكم في
البغضاء والعداوات، وإذ أنتم اليوم في المدن الزاهرة، والمظاهر الباهرة، ترجون
ما فوق الزرقاء، ويرهبكم ما تحت الغبراء، قد ألفت بينكم قرابة الآمال
والمعاملات، أكثر مما ألفت قرابة الأبدان واللغات، يرحم الكبير الصغير،
والصحيح المريض، وابن البلد ابن السبيل، والآسر للأسير.
واذكروا ما أنتم فيه من الوابور، والبالون، والشمندفر، والتليفون،
والتلغراف، والفونوغراف، والفوطغراف، والليطوغراف، والتلسكوب،
والمكرسكوب، وما هنالكم مما لم نحصه، لتعلموا ما فعلت لكم المدنيَّة من خير وما
رفعت لكم من قَدْر على الأنعام.
في أقصى المشرق تأخذون نبأً عن أقصى المغرب في لحظة من الزمن لا
تتجاوز أن يطعم الواحد غداءه. من المسافات البعيدة يسمع أحدكم صوت صاحبه
كأنه في حضرته.
إلى حين من الدهر يُحفظ صوت أحدكم , ثم يؤديه المستحفظ كما استودعه.
في الدقيقة الواحدة ينسخ لكم ألوف من الصحف السيارة التي تنقل إليكم أنباء
المَسْكُونَة وسكانها.
في البر تقطعون مسافة الأيام الكثيرة بساعات قليلة على مَتْن ذلول من الحديد
لا يَكِل، يطوي بكم البيد طيًّا.
في البحر على متن الوابور أَنَّى شِئْتُم تسيرون.
في الجو في بطن البالون حَيْثُ رُمْتُم تطيرون.
الأرض ألقت إليكم من أفلاذها ما لم تكونوا تعلمون، السماء عرفتم من أسرار
كونها كثيرًا مما كنتم تجهلون.
العُمْي في عَهْدِكُم يقرأون، والصُّم البكم يكتبون، ومن العجماوات عوارف
لما تقولون، فواعل لما تَأْمُرون، توارك لما تنهون وتزجرون.
هذه آثار المدنيَّة، وهذه ثمراتها، ولكن هل بلغ الإنسان فيها الكمال؟ كلا،
فإن كثيرين مِنَ البشر لم تدخل المدنيَّة في عَهْدِنا هذا ديارهم، وفي ديار المدنيَّة
يوجد كثيرون غير متمدنين حَق التمدن. والمتمدنون أنفسهم لا يزالون سائرين في
طرق التكمل. فلا المدنية عَمَّتْ كل الأرض، ولا المتمدنون بلغوا الكمال.
وقد عمر الأرض من قبلنا كثير من الأمم كان لهم نصيب من المدنيَّة، ثم
أبادهم ومدنيّاتهم إفساد السياسيين، وأقام غيرهم مقامهم إصلاح السياسيين. ولَمْ
توجد أُمة خلقها الخالق مُتَمدّنة، وإنما هو التَّدرج تراه في كل شيء. سنة الخالق
في خلقه.
فإذا رأيتم اليوم في إحدى الجزائر قومًا متوحشين (التوحش يقابل التمدن)
وقد غُبّيَ عليكم تاريخهم؛ فلكم أن تظنوا أن التمدن لم يدخل جزيرتهم قط؛ لأن
التوحش سابق دائمًا، ولكم أن تظنوا أنهم كانوا قد تمدنوا يومًا من الأيام، ثم أبادهم
وتمدنهم فِسْقَهم عن الناموس والنظام، كذلك عاقبة الظالمين.
يوجد الآن في الأرض أقوام كثيرة متوحشة، لا يزالون على ما هو قريب من
الأطوار الأولى للبشرية؛ إذا شئتم أن تجدوا فرقًا بينهم وبين الحيوانات العليا
يصعب عليكم أن تجدوا ذلك الفرق وذلك أعظم سيئات التوحش.
يوجد أولئكم المتوحشون هذا التوحش في كثير من مجاهل أفريقيا التي لم
تدخلها جيوش الفاتحة الإسلامية، ويوجدون في كثير من فدافد أمريكا التي لم تختلط
بعد بالمكتشفة الأوربية، ويوجدون في مجاهل أوستراليا (الجزائر الأوقيانوسية) ،
وفي جوار القطبين توجد هذه الضالة التي ينشدها محبو السذاجة.
أما الأمم الآسياوية الحاضرة - وفي حكمهم أمم أفريقيا الشمالية - فأكثرهم
وارثون لأسلاف متمدنين. ولكنهم أضاعوا ذلك التراث، ولم يرعوه حق رعايته
فلولا التمدن المستعار الذي وجد بواسطة الأوربيين لصحّ لنا أن نقول: إن آسيا لا
تفضل أفريقيا في التمدن إلا ببقية من تراث الأولين معرضة للزوال.
فمن أخذته الحمية الآسياوية، وكان حريصًا على أن يدّعي للآسياويين مقامًا
بين المتمدنين يجب عليه أن يرد العواري، ثم لينظر هل يجد ثمّة إلا العوار؟
إن يكن في آسيا تمدن غير مستعار؛ فإنه ناقص جدًّا. الأديان من التمدن وقد
ضعفنا بها علمًا وعملاً. الحكومات من التمدن وقد خسرنا بها حسًّا ومعنًى.
الزراعات من التمدن ونحن لا نتقنها. الصناعات من التمدن ولا خبرة لنا بأنواعها
الكثيرة، التجارات من التمدن وإننا فيها متأخرون، الزينة من التمدن وإننا فيها
مرضى الأذواق، العلوم من التمدن وهي عندنا كاسدة، الآداب من التمدن وهي
لدينا فاسدة، القوانين من التمدن ونحن فيها جامدون، الأعمال العظيمة من التمدن
ونحن فيها خامدون، الاختراعات من التمدن ولكننا فيها موتى، الاكتشافات من
التمدن ولكن لا تسمعون لنا فيها صوتًا.
فأعلموني يا رفاقي الآسياويين ما هو تمدننا المحلي الذي نقصه ليس بفاحش
وأنتم بعد ذلك غير محاسبين على النقص القليل؟
ثم هلموا ننظر نظرة في مدنيَّة أوربا وما أوربا؟ - أوربا الزاهرة ذات المدن
الباهرة، والصناعة الفاخرة الماهرة، مقر العلوم العالية، والأعمال الفائقة مهبط
السياسة السامية، وملتقى الساسة الناميّة.
هنالكم الاختراعات النافعة، والاكتشافات الهادية، على يدهم ظهرت الأرواح
الباطنة، فأصبحت أسرارها سارية في الأجسام الجامدة والجارية , منهم ظهرت
الآلات المنبئة، وبهم تأتيكم أنباء الأمم النائية في اللحظة الواحدة، صحفهم ناشرة
للأنباء الجائبة، والأفكار الدائبة، أولئك هم السابقون في المدنية الرافعة.
هذه أوربا وهذا مجدها , وأنا أريكموها من تلك الجهة الثانية جهة النواقص
التي فيها:
الاستبداد الذي حاربوه، وأهرقوا في سبيل محوه كثيرًا من دمائهم لا يزال له
أثر كامن في صدور العلية منهم ومقلديهم من الدهماء. ومن آثاره أنواع التعصبات
الباقية.
الجهل الذي حاربوه بأنفسهم وأموالهم لا يزال بين كثير من طبقاتهم، ومن
آثاره شيوع الفحشاء والرذائل المتنوعة.
الفقر الذي يدأبون وراء إبعاده عن ديارهم لا يزال آخذًا بتلابيب أكثر الأفراد
وليس أولو الثروات العظيمة إلا نفرًا قليلين في بعض المدن الكبيرة.
ثم إذا صرفنا النظر عن مراقي الحياة النوعية فبم يمتاز الأوربيون؟ هل
طالت أعمارهم؟ هل صرفت عنهم الأسواء من أسقام وآلام؟ هل خفت عنهم أعباء
الحياة التي تقتضي الكد والكدح؟ هل تقدسوا عن البغضاء فيما بينهم؟ هل ترفعوا
عن سفساف الأمور؟ هل استغنوا عن المشرق ألبتة؟ هل بلغوا بعلومهم أن يخرقوا
نواميس الوجود؟ هل بلغوا بها أن يكون عيش أحدهم كله كما يتمنى؟ هل بلغوا
بها أن يرتقوا لعيشة روحية محضة لا نصب فيها ولا لغوب؟ هل بلغوا بها أن
يستغنوا عن الحروب التي هي أليق بالعجماوات منها ببني الإنسان؟ هل بلغوا بها
أن يستخدموا بين الأرواح المدركة كهربائية للإنباء والاستنباء؟
إذا شئت أن أَعُدَّ كل ما هو من النواقص يطول بي العدّ والسرد. وفي الذي
ذكرت إشارات كافية للمتبصر تنبهه إلى أمثلة نقصان المدنية الأوربية التي لا يوجد
اليوم للبشر مثلها عند غيرهم من المشارقة والمغاربة الآخرين.
نعم، هم لم يبلغوا الكمال، ولكنهم ساعون لا يألون جهدًا بالاكتشاف
والاختراع والبحث والتفكر. ونحن مع نقصنا الفاحش غير ساعين، فهل يليق ذلك
بنا ونحن أبناء الذين ابتدأوا التمدن؟ أليست هذه آسياكم التي ربّت في حضنها أشهر
مشاهير الرجال؟
كلا، إن ذلك لا يجدر ولا يَحْسُن بأبناء تلك الأم التي أحسنت تربية كل
المؤسسين الأولين. بل علينا اليوم أن نتفقه في (رابطة المدنية) كما تفقه أسلافنا
من قبل، وكما يتفقه جيراننا ومعاملونا الأوربيون الذين نعدهم أجانب ومبغضين ,
ولا ينفعنا الجمود، ومعاداة كل أشياء الأجنبي باسم الوطن؛ فإن الوطن للبشر واحد
هو دار الأعمال والتكاليف التي تطلب من الكل، وتوزع على الكل، ويتبادلها الكل.
وليس حب الوطن هو الكزّ على عادات الأسلاف أو الحرص على اللبث في
مساقط الرؤوس كما يفسره جمهور العوام، ولا الإقدام على مجاهدة الذين يريدون
أن تكون لهم سلطة فيه، وإن كانت أنفع من السلطة الأولى كما يفسره جمهور
السياسيين ومقلديهم , فإن كلا المعنيين بعيدان عن الحقيقة التي يحبها الحكماء أولو
الفضيلة وإخوانهم المخلصون من السياسيين. وكم ينشىء السياسيون أشعار حماسة
تفعل في عقول الجمهور فعل الأمراض العصبية، وقد تحقق للعلماء استعداد العامة
الذين لم يأخذوا حظًّا وافرًا من العلم لتلك الأمراض، وما هو على شاكلتها من
الانفعالات للتوهيمات الشعرية والخطابية.
وسوف يرون - حين نفيض في حب الوطن - أن الوطن هو سبيل الله،
وسبيل الله هو الوطن، وتعالى الله عن أن يكون محدودًا يؤدي إليه سبيل، أو
محسوسًا يدنو منه قبيل دون قبيل، فسبيله الذي يؤدي إلى القرب من منحه القدسيّة
التي يتسامى ويتكمل بها الإنسان هو استعمال الفكر مبلغ الاستطاعة في تفهم أسرار
الفائضات والمصنوعات الربانيّة، وإفراغ خواصّها وفوائدها في قوالب
المصنوعات الإنسانية، ليكون كل فرد عابدًا للصانع الحكيم بمعرفة شيء من
أسرار حكمته، وشاكرًا على مواهب نعمته، باستعمال القوى التي في فطرته فيما
خُلِقت لأجله، من عمل الصالحات لنفسه وإخوته بَني نوعه، والله غني حميد.
وهنالكم سنبين كيف اشتبه على الأقوام شكل الحقيقة في الوطن، وكيف
وَهِمُوا - تقليدًا للسياسيين - في حب شيء ليس بجدير أن يحب، كمساعدة حكومات
جائرة مفسدة على حكومات عادلة مُصلحة باسم الوطن الموهوم.
هذا، ولا ينفعنا أيضًا تقليد كل أشياء الأجانب باسم التمدن , فإنه لا عصمة
لأمة من الخطأ، ولا يستحق أحد أن يقلد تقليدًا محضًا، بل علينا أن نستعمل التفكر
ونستهدي بالتجارب، ونساعد في تأييد أنفع الروابط، وإسقاط أضر الروابط للتكمل
البشري.
يومئذ تنقسم الأرض الطبيعية غير هذا الانقسام الصناعي , ويصافح المشرقي
المغربي، والشمالي الجنوبي، على أنهم إخوان متعاونون في العلوم، متقاسمون
للأعمال في دار واحدة فسيحة، يحكم بينهم منتخبون منهم متعددون بنسبة التقسيم
ومتحدون بنسبة التنظيم، لا يحارب بعضهم بعضًا باسم القوميات، ولا باسم الأديان،
ولا باسم الديار والأقاليم، وإنما تحارب قوتهم العامة من فسق منهم عن أمر العهد
العام، والنظام الشامل.
هذه نسخة من صورة الكمال للتمدن؛ فانظروا ما أجملها! وتفكروا فيها إن
كنتم تحبون الجمال والكمال، وأما الصور الحاضرة فلا والله لا ألفي في واحدة
منهن جمالاً، ولا أتصور فيهن كلهن كمالاً، ولا تطمئن بهن قلوب صحيحة، ولا
تميل إليهن أفكار سليمة.
وإذا كان ميزان هذا الأمر بيد السياسيين فلا يحسن بالناس تركهم أن يفعلوا ما
يشتهون، بل ليكن شرع وقانون، ليكن رقباء عارفون، ليكن نواب محاسبون،
ليكن إخاء عام وتعاون عام، وعهد عام، ونظام عام، ووطن عام، وسِلْم عام، في
ظل قوة عامة {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال:
25) واعلموا أن الإنسان بتلك النعمة جدير، والله على كل شيء قدير.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. ز
__________(7/187)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(أخبار بلاد العرب)
عقد النصر لواءه في نجد لآل سعود أمرائها الأولين , وغلب ابن الرشيد
أميرها الحالي على أمره حتى خرج معظم البلاد والقبائل من يده، وأكثر الأهالي
في جذل وفرح لَمَا قاسوا من ظلم ابن الرشيد، وما يعهدون من عدل آل سعود
واستقامتهم.
إذا تمت لهؤلاء النعمة، ودالت لهم الدولة، فإنهم يكونون للدولة العلية خيرًا
مما كان ابن الرشيد في الولاء - إذا هي شاءت ذلك -، ولم تساعد عليهم عدوهم
الآن، ولم ترهقهم من أمرهم عسرًا فيما بعد، فإن هؤلاء لا يرضون بالظلم، ولا
يجارون عليه. وقد شاع أن الدولة العلية أمدت ابن الرشيد بالمال والرجال، وما
نخال الخبر صحيحًا، ولئن صح ليكونن شرًّا على الدولة؛ إذ يخشى أن يستنجد
آل سعود إذا غلبهم جند الدولة بإنكلترا التي تخطب ودّهم فتمدهم بالجنود الهندية،
ويكون الخطب كبيرًا، وقد قيل: إن الأمير عبد الرحمن فيصل أنذر بذلك وَالي
البصرة ليعرضه على السلطان، ففعل ووَعد السلطان بأنه لا يحارب آل سعود
بالجنود العثمانية، والله أعلم بالمصير.
سبق لنا نشر رسالة من عدن في (ص 758) من المجلد السادس وردت في
رمضان الماضي فيها أن إنكلترا تحاول الاستيلاء على جهات جبل يافع المشهور
وأنها أرسلت شرذمة من جندها بالضالع إلى جبل شيب ولم تلبث أن عادت أدراجها
لشعورها بالخطر من العرب. وأن المناوشات بين الإنكليز والعرب على الحدود
مستمرة ... إلخ. وقد كتب إلينا أخيرًا من عدن كتاب مؤرخ في 12 صفر الماضي
يقول فيه مرسله:
قد رجع أمير المكلا عن محاربة حجر بدون نتيجة، ووصل كثير من عساكره
إلى عدن قافلين إلى جبل يافع، ومن أجل ما خسره في تجهيز هذه الحملة والتي
قبلها قد ابتدع ضرائب، وضاعف المكوس، وستؤثر هذه السياسة الخرقاء بزيادة
الهلاك، وربما عجلت تداخل الإنكليز في تلك النواحي.
وقد أرجع الإنكليز كثيرًا من عسكرهم إلى الضالع لإتمامهم التحديد مع الترك
حسب زعمهم، أو لترقب فرصة أحسن لهم حسب عادتهم ولهم عناية باستمالة
صاحب نصاب والعوالق، ويتحدثون بمد سكة حديد من عدن تخترق جزيرة العرب
إلى الكويت، ثم قال: وقد وصل إلى عدن بعض الجند الإنكليزي من السومال إذ
انجلى الإنكليز عنها لتعسر هضمها الآن، وسيخلون بين الملا القائم وأرضه لعله
يَبْطُر ويظلم؛ سكرًا بنشوة السلطة والسيادة كما فعل خليفة مُتَمَهِّدي السودان، ثم
يكرون عليه إذا أبغضه قومه واختلفت القلوب. والله المسؤول أن يوفق المسلمين
لانتهاز الفرص والعمل السديد، ثم قال: إن في عدن كثيرًا من دعاة النصرانية،
أضجروا الأهالي، وملأوا آذانهم بالسب والشتم والحكومة معضدة لهم، ونقول: إن
هذا من سوء السياسة والجهل بالأمم , فإن العرب لا يتنصرون، ودعاتهم
للنصرانية لا ينتصرون.
* * *
(الجمعية الخيرية الاسلامية)
صدر تقرير هذه الجمعية عن أعمالها وحسابها في سنة 1321هـ، ومشروع
أعمالها وميزانيتها، ومحضر جلستها العمومية في سنة 1322هـ، وقد جاء فيه أن
إيراد الجمعية من الاشتراكات والمساعدات السنوية قد بلغ 1162 جنيهًا وأربعين
قرشًا، ومن ريع الأطيان (وهي 80 فدانًا وكسور) 1223 جنيهًا وتسعة وخمسون
قرشًا ونصف، ومن الاحتفال السنوي 1634 جنيهًا وثلاثة وسبعون قرشًا ,
وهنالك إيرادات متفرقة نحو ما تقدم. والعبرة فيما ذكرنا أن الأصل في
الجمعيات الخيرية هي الاشتراكات والمساعدات السنوية. ومن العار العظيم على
أغنياء مصر ووجهائها من المسلمين , وهم الأكثرون عددًا ومددًا أن يكون اشتراك
الجمعية الخيرية الوحيدة لهم بهذه الدرجة من القلّة. وأن تكون ليلة من ليالي اللهو
خيرًا لفقرائهم ولجمعياتهم من كرم جميع كرمائهم فيما يتفضلون به مدة سنة عن
روية وإخلاص لا لعب فيه ولا لهو. وإن كان معظم إيراد ليلة الاحتفال منهم أيضًا.
وللقارىء أن يجعل الجميعة الخيرية ميزانًا لترقي مسلمي مصر في الحياة
الاجتماعية، ومن البلية أنه يُرى كثيرين من المشتركين وهم خيار القوم لا يخرج
الحق منهم إلا نكدًا، ويرى مجلس إدارة الجمعية يمحو في كل سنة أسماء كثير من
المشتركين الأغنياء لمطلهم وليِّهم وتعذيب المحصل بالتردد عليهم المرة بعد المرة
عدة سنين (فيا للخجل ويا للعار) .
على أننا لا ننكر أن في مصر نسمة خفيفة من الحياة، ولكن ما أتعب الذين
يحاولون نفخها في سائر الأجسام المنفوخة من قبل بحب الفخفخة الباطلة، واللذة
القاتلة، ولعل التعب يفيد، ولو بعد أجل بعيد.
وجاء في قسم النفقات أن ما أُنفق في السنة الماضية على التعليم بلغ 2459
جنيهًا وكسور، وعلى إعانة الفقراء نحو 373 جنيهًا. ولو بذل كل مصري قرشًا
وحدًا لهذه الجمعية كل سنة، وتحمل الأغنياء ما يفرض من ذلك على الفقراء -
على أنه لا يصعب على أحد بذل قرش في السنة -؛ لسهل على الجمعية أن تُعمِّم
مدارسها حتى لا يخلو منها مركز من المراكز، ولكن أين الشعور الذي يدفع الناس
لجمع المال والتعاون على البر والتقوى؟ ! أما المخصص للتعليم في الميزانية
الجديدة فهو 3600 جنيه مصري، وأما المخصص لإعانة الفقراء فيها فهو نحو
655 جنيهًا.
* * *
(مدرسة الجمعية في المحلة الكبرى)
أشرنا إلى هذه المدرسة في الجزء الماضي، وقد جاء في آخر التقرير عنها
ما نصه:
(بعد تحرير هذه الميزانية ورد مبلغ 1333 جنيهًا و810 مليمات من أعيان
مدينة ومركز المحلة الكبرى جمعوه بالاكتتاب الذي عمل فيما بينهم على ذمة (كذا)
إنشاء مدرسة بالمحلة الكبرى بمعرفة الجمعية مثل مدارسها , وقد لبت الجمعية
طلبهم، وستباشر فتح المدرسة من أول السنة المكتبية المقبلة. وعليه يجب إضافة
المبلغ المذكور على إيرادات التعليم على ذمة مدرسة المحلة الكبرى.
ونزيد على ذلك أن وجوه المحلة قد دعوا رئيس الجمعية للاحتفال بتأسيس
المدرسة فأجاب الدعوة هو وحسن باشا عاصم وكيل الجمعية ومدير مدارسها
وحسن باشا عبد الرازق أحد أعضائها , فقوبلوا بالحفاوة اللائقة، وحضر الاحتفال
الألوف من الناس، وكان ذلك لخمس بقين من المحرم سنة 1322هـ، وتليت
الخطب، وأنشدت القصائد في مدح العلم والأستاذ الإمام ناشره وناصره. وقد
أعجب الفضلاء من خطبة الشيخ محمد بسطويسي بركات التاجر بالمحلة قوله:
(أيها الأستاذ الإمام قد جادلتنا فأحسنت جدالنا، حتى أجبنا دعوتك للعلم والدين،
وجاهدتنا في الله حتى محوت آية الجهل بالدليل، وجعلت فينا آية العلم مبصرة
باليقين، وها نحن (أولاء) الواقفون بباب علومك نرى أن قيامك بأمر الدين في
وقت امتزجت العادات فيه بالعبادات كِبْر إلا على العارفين - كبر على من أشربوا
حب التقليد وتعظيم من في القبور- كبر على من ورثوا حب الشرك الظاهر عن
آبائهم، وإن حُجُّوا أو طولبوا بالدليل قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِمْ مُّقْتَدُونَ} (الزخرف: 23) ... ) إلخ.
وإننا نثني أطيب الثناء على وجهاء المحلة الكبرى، ونخص بالذكر محمد
أفندي البهلوان من أعيان الدواخلية؛ إذ تبرع ببيت من بيوته مدة خمس سنين لتنشأ
فيه المدرسة إلى ما أنفق على إصلاحه زيادة على ما تبرع به مع المتبرعين،
ونرجو أن يسري روح حب العلم في سائر المراكز فتتبارى سماحة الأغنياء وأهل
الغيرة في إنشاء المدارس , وأن يعتمدوا في ذلك على الجمعية الخيرية الإسلامية
التي تسلك بهم الطريقة المثلى بمعارف رئيسها الإمام، وأعضائها الأعلام.
* * *
(مراكش)
ذكرنا في آخر صحيفة من الجزء الثالث نبذة عن الوفاق الفرنسي الإنكليزي
وأنه قُضي فيه على مصر بسوء سياسة الأمراء والحاكمين الذين استبدوا في الأمة
وأذلوها، حتى فقدت الاستقلال الشخصي والقومي، وهو قوة الأمم والدول وعدتها
ثم سلطوا عليها أوربا , وأعطوها من الامتيازات ما شاركتهم فيه بالحكم، حتى
صار لكل مصري في بلاده ألوف من المستعبِدِين.
وأما مراكش فالذي قضى عليها هو الجهل الفاضح في حكامها ومحكوميها؛
فقد اختاروا أن يَبْقَوْا على البداوة والهمجية أمام أوربا التي تسير في المدنية والقوة
مع البرق، ولا أقول مع البرق على سبيل التشبيه كما كان يقول الأولون، بل
أقوله على سبيل الحقيقة، كما يعرف المتأخرون، فإن الإفرنج قد استخدموا أمَّ
البرق هي وولدها , وما أمه إلا الكهربائية التي تنار بها الأسواق والبيوت والمساجد
والحوانيت الكثيرة، حتى في بعض بلاد الشرق كمصر.
نقول: إن الجهل قد قضى على مراكش، ولا نعني بها أن حالها بعد دخول
فرنسا في شؤونها ستكون شرًّا من حالها قبله، كلا إننا صرحنا في مقالة نشرت في
آخر الجزء الخامس عشر من السنة الماضية بأن كل حال تنتقل إليها البلاد فهي
خير من حالها الحاضرة، ولكننا نعني بذلك فقد الاستقلال الذي هو موت الدول
والأمم، على أن مراكش لم تكن حيّة فتموت، وإنما كانت مستعدة لحياة طيِّبة لو وجد
لها حُكَّام عارفون بطرق ترقّي الأمم.
لقد أنذرنا حكومة مراكش بسوء المصير كما أنذرها غيرنا، وأول نبذة كتبناها
في ذلك مضى عليها ست سنين؛ إذ نشرت في العدد الخامس عشر من السنة
الأولى للمنار الصادر في 9 خلون من صفر سنة 1316هـ، وقلنا هناك ردًّا على
جريدة قالت: إن مراكش يصعب على الأوربيين الاستيلاء عليها: إن الأوربيين لا
تقف أمامهم المصاعب، والأمم الهمجية لا تقدر على مقاومة الأمم المتمدنة. وإذا
دام أهل مراكش على جهلهم بالفنون العصريّة التي عليها مدار العمران اليوم تقليدًا
لآبائهم، وإبقاءً لِمَا كان على ما كان؛ فلا بد أن يغمرهم طوفان أوربا كما غمر
جيرانهم، ثم نبهنا السلطان عبد العزيز إلى ترك التقليد، والاعتبار بما بين يديه
وما خلفه، والاتعاظ بما عن يمينه وشماله، والاندفاع بهمته كلها إلى التربية
والتعليم، وأن يستعين بالسلطان العثماني على التعليم العسكري والمدني
والاقتصادي، وقلنا: إنه إذا فعل ذلك يرجى أن يندفع ذلك الطوفان الذي يتهدد
بلاده، وما هو إلا النفوذ الأجنبي الذي غمر جيرانه.
ومن البلاء أنه ترك التقليد لمن قبله بخير ما كانوا عليه، وقلد الأوربيين بشر
ما يوجد عليه سفهاؤهم، وسفهاء غيرهم، وهو التفنن في الشهوات واللهو الباطل
والزينة. وقد اجتمعنا بعد كتابتنا تلك بوجيه مراكشي يلقب بالدكتور - أي أنه عالم
فكلمناه في الموضوع، فقال: إنكم لا تعرفون حال مراكش؛ ولذلك تكتبون ما
تكتبون.
إن تلك البلاد أمنع من جبهة الأسد، وعندها من القوة والمنعة ما تصادم به
أوربا كلها؛ إذا زحفت عليها، فقلنا له: وأين السلاح الجديد والفنون العسكرية؟
فقال: إنها متوفرة، وتقدر الدولة على زيادة ما تشاء؛ فإن عندها من كنوز الأموال
مددًا لا ينفد، وهي أغنى دولة على وجه الأرض، ثم إن لها قوة أعلى من كل
القوى، وهي ما فيها من قبور الأولياء الحامين لها! ! ! .
هذا نموذج من غرور القوم بدنياهم ودينهم، وجهلهم بالأمرَيْنِ، فهم لم يَعُدُّوا
لأعدائهم ما استطاعوا من قوة المدافع والبنادق، والعلم والنظام كما أمر الله، ولم
يعتمدوا فيما وراء الأسباب على الله القوي القدير، وإنما يعتمدون على أصحاب
القبور الذين لا يملكون لهم ولا لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا. فهل يمكن أن تنزلهم فرنسا
عن هذه الدركة، وتدفنهم في حفرة أعمق من هذه الحفرة، كلا إنها ستعلمهم رغم
أنوفهم ما يرقيهم - لا بالمدارس تنشئها لهم، ولكن بالأعمال والسيرة التي تسلكها
فيهم سواء كانت قاسية أو ليّنة - ولا ينبغي لعاقل أن يكره التربية والنظام،
ويعادي وسائل العمران، وإنما الإنسان يحب أن يجيء الخير لأمته على أيدي
رؤسائها؛ فإذا كان الرؤساء هم المفسدون الذين يُخْرِبُون بُيوتهم بأيديهم، فماذا يفعل
المرؤوسون ولا جامعة لهم، ولا علم؟
ظهرت غاية قوة مراكش الحربية والمالية بعجزها عن إخماد ثورة داخلية
واضطرارها بها , وبثوران شهوة السلطان إلى اقتراض المال من فرنسا، وهذا
المال سيكون ثمن تلك السلطة الجائرة الجاهلة. وقد عرج على مصر وزير حربها
السابق (المنبهي) قاصدًا الحج فسأله أرباب الجرائد عن حال الثورة والقائم،
فحدثهم عن ضعف القائم وقوة النائم (السلطان عبد العزيز) بمثل ما حدثني
الدكتور، أو بما يقرب منه، وكذب جميع ما نقله البرق وبريد أوربا من خبر
الخارج، وقوته على الحكومة! ! ! وقد عاد من الحج ونود أن يسأل عن الوفاق
الفرنسي الإنكليزي لنسمع ماذا يقول.
* * *
(المولد النبوي)
يحتفل المسلمون في هذا الشهر بتذكار المولد النبوي الشريف، ويقرؤون قصة
المولد في احتفالهم، وما هي بقصة واحدة، وإنما هي قصص، لم نر منها ما يخلو
من الكذب والوضع، إلا قصة جديدة ألفها الشيخ جمال الدين القاسمي من علماء
دمشق الشام سماها (شذرة من السيرة المحمدية) اقتبسها من كُتب الحديث المعتمدة؛
فنحث جميع الذين يقرأون تلك القصص على قراءتها لما فيها من الفائدة، وعلى
ترك القصص الكاذبة، وثمن النسخة منها اثنى عشر مليمًا، مع أجرة البريد،
وتباع بمكتبة المنار.
* * *
(المحكمة الشرعية بمصر)
كلما عَلَتْ شكوى الناس من هذه المحكمة، ومن سائر المحاكم الشرعية بناتها ,
وكلما ألحوا في طلب إصلاحها؛ يلح رجالها الذين يُشْكَى منهم في غَيّهِم، ويُسْرِفُون
فِي أعمالهم التي هي مثار الشكوى، وأصل البلوى. وقد أكثر الخواص في هذه
الأيام من الخوض في سيرة المحكمة العليا، لا سيما بعدما علموا بما نشره المؤيد
في يوم الخميس الماضي من إذن القاضي لابن رجل مُنع من دعوى فِي وَقْفٍ لعدم
جواز سماعها بمضي المدة الشرعية، بأن يخاصم في الدعوى التي مُنِعَ منها أبوه
في المحكمة نفسها، مع أنه لو صحت دعوى أبيه؛ لكان مستحقًّا في الوَقْفِ وأما
الوليد فليس بمستحق، وليس موضوع الدعوى مصلحة عامة، بل المراد إخراج
الوقف عن كونه خيريًّا وجعله أهليًّا. ويتحدثون بأن الابن قد طلب من بلد آخر،
وكلف برفع القضية بناءً على الإذن الذي ناله بعد طلب كلف به، ويقولون: إن
العلّة في هذه السنة السيئة ونحوها من الخلل بعض أعضاء المحكمة العليا، وأن
هذا هو الذي يعنيه المؤيد بقوله: إنه (علة العلل) لأمراض المحكمة العليا، ولعلنا
نسهب القول في وجوب إصلاح هذه المحاكم في جزء آخر.
* * *
(الحرب المضطرمة في الشرق)
ابتدأت الحرب في البحر فكان الفلج فيها لليابانيين، وتبين أن أسطولهم أتم
استعدادًا، وبحَّارتهم أوسع معرفة ودراية، وقد ألزم أسطول هؤلاء أسطولي روسيا
بأن يستعصم كل منهما في مينائه إلى أن حصرهما في المدة الأخيرة بسد مدخل
ميناء بور أرثر , واكتفاء شر خروجه في غيبة الأسطول الياباني، ووقوفه
لأسطول فلاديفستك بالمرصاد. ولما ظهر فوز اليابان في البحر؛ قالوا: هي دولة
بحرية، ولكن لا يستطيع أولئك الأقزام الصُّفر أن يثبتوا أمام الجنود الروسية من
فرسان القوزاق، ومشاة الآفاق، ولَمْ يكن من بوادر الوقائع البرية إلا الفوز الباهر
المقرون بالشجاعة الكاملة، وحسن التدبير، وطول الباع في الفنون العسكرية. وقد
كانت الجرائد الإنكليزية تصف اليابانيين بذلك، والجرائد الفرنسية تشكك فيه،
حتى إذا أثبته العمل اتفق عليه المختلفون واعترفت أوربا وأميركا بأن الجيش
الياباني في مقدمة جيوش العالم، بل صرح بعضها حتى في ألمانيا بأنه أحسن
جيوش العالم. ولم يبق من منازع في ذلك إلا جريدة عربية في مصر برعت في
التأويل، حتى إن ما تكتبه لا يخطر على بال أحد في روسيا نفسها. نعم، إن ظفر
اليابان في البر والبحر لم يصل بالروسيين إلى هاوية اليأس بل يجوز أن ينتصروا
بعد بالكثرة. وقد خفي عن جريدتنا المصرية أن جريدة روسيا قامت تنذر أوربا
بالخطر الأصفر، وتحاول إقناعها بأن اليابان يوشك أن تنظم عسكرية الصين،
وتستولي بها على أوربا، بل على العالمين، وفي ذلك من تعظيم شأنها من عدوتها
ما لا تعظيم وراءه والفضل ما شهدت به الأعداء.
أما السبب في هذا الرقيِّ التام الذي أدهشت اليابان العالم به؛ فهو عزة نفوس
اليابانيين، وعلو أخلاقهم بسبب سلامة استقلالهم ألوفًا من السنين، لم يتسلط عليهم
فيها من يذلهم ويفسد بأسهم؛ فليعتبر بذلك حكامنا وقومنا إن كانوا معتبرين.
__________(7/194)
16 ربيع الأول - 1322هـ
1 يونيه - 1904م(7/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
علماء الأزهر والمحاكم الشرعية
{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2)
قعد أهل الأزهر عن إجابة طلب إسماعيل باشا الخديو تأليف كتاب في
الحقوق والعقوبات موافق لحال العصر سهل العبارة مرتب المسائل على نحو
ترتيب كتب القوانين الأوربية. وكان رفضهم هذا الطلب هو السبب في إنشاء
المحاكم الأهلية واعتماد الحكومة فيها على قوانين فرنسا، وإلزام الحُكَّام بترك
شريعتهم وحرمانهم من فوائدها، وفي توجيه عزائم الكثيرين من نابتة الأمة إلى
درس تلك القوانين في مصر وأوربا وبذل النفقات العظيمة من الحكومة ومنهم
لأجل تحصيلها. ولولا جمود أهل النفوذ من علماء الأزهر لكانت كل هذه المحاكم
شرعية آهلة بالعمائم التي يتحاسد حملتها على الشيء اللقا ويتنافسون فيما يرغب
عنه غيرهم لقلة ذات يدهم. ولكانت تلك العمائم موضع الاحترام والإجلال، كما يليق
بها لا كما هي اليوم في نظر أكثر الناس، ثم إنك تجد بعض أصحاب هذه العمائم
يتشدقون بتلاوة: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة:
45) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44)
يُعَرِّضون بأهل المحاكم الأهلية ثم إنهم يتحاكمون إليهم عند الحاجة ويتملقون لهم في
المجامع.
ليس إبطال هؤلاء العلماء للشريعة بعدم إجابة طلب إسماعيل باشا السابق
بأعجب من اعتذارهم عنه وتعللهم فيه، إنهم تعللوا بل احتجوا بأنهم يحافظون بذلك
على الشرع وطريقة سلفهم الأزهري في كيفية التأليف , وهو أن يكون الكتاب مؤلفًا
من متن وشرح وحاشية وعند زيادة البيان والتحقيق تضاف إليه التقارير- فهذه هي
سنة المشايخ المألوفة، وتأليف كتاب أو كتب يقتصر فيها على القول الصحيح
ويجعل بعبارة سهلة مقسمًا إلى مسائل تسرد بالعدد على كيفية كتب القوانين من
البدع الهادمة لتلك السنة التي جرى عليها الميتون من عدة قرون.
حدثني علي باشا رفاعة قال: إن إسماعيل باشا لما ضاق بالمشايخ ذرعًا
استحضر والده رفاعة بك , وعهد إليه بأن يجتهد في إقناع شيخ الأزهر وغيره من
كبار الشيوخ بإجابة هذا الطلب , وقال له: إنك منهم ونشأت معهم فأنت أقدر على
إقناعهم , فأخبرهم أن أوربا تضطرني إذا هم لم يجيبوا إلى الحكم بشريعة نابليون.
فأجابه رفاعة: إنني يا مولاي قد شخت ولم يطعن أحد في ديني , فلا تعرضني
لتكفير مشايخ الأزهر إياي في آخر حياتي , وأقلني من هذا الأمر؛ فأقاله. وكان
إنشاء هذه المحاكم التي يرى المشايخ أنها مؤسسة على الكفر والظلم والفسق أثر
المحافظة على الدين، وصونه من عبث الحاكمين، وما هذا الدين الذي حافظوا
عليه إلا بدعة سيئة وهي كيفية التأليف التي ألفوها كما تقدم , ولم ينزل بها كتاب ,
ولا وردت بها سنة , ولا جاءت في أثر عن الصحابة والتابعين. والكيفية التي
دعوا إليها فحسبوها خرقًا في الإسلام هي أفضل وأنفع مما حافظوا عليه , فالنتيجة
أنهم أضاعوا الشريعة لأجل الجمود على هذه الكتب الحديثة الضارة المضيعة للعلم
فكانوا من الخاطئين , وأعني بما أقول جمهورهم لا كلهم كما لا يخفى.
حدثت المحاكم الأهلية فكانت قسيمة للمحاكم الشرعية , ولكن ظهر للناس
بالاختبار أن المحاكم التي يحكم فيها بقانون فرنسا أضمن للحقوق وأقرب للإنصاف
من المحاكم التي تسند شريعتها إلى الوحي السماوي حتى كان شيوخ الأزهر
يتحاكمون إليها فالشيخ العباسي رفع إليها بعض القضايا , وكان شيخ الأزهر ومفتي
الديار المصرية. وكذلك شيخ الأزهر السابق الشيخ سليم البشري تحاكم إليها في
قضية تتعلق بأوقاف الأزهر وكان له مندوحة عن ذلك. فكانت جنايتهم على
الشريعة أنهم كانوا السبب في إضاعة القسم الأكبر منها , وأنهم سلكوا في القسم
الثاني الذي بقي للمحاكم الشرعية طريقة سوء ذهبت بثقتهم وثقة سائر الناس منها -
وكل ذلك بحجة حماية الدين وحفظ الشريعة الذي هو فخرهم ولو بالباطل ينالون به
الزلفى في نفوس عامة المسلمين المقلدين لهم الذين لا يعلمون بماذا يقلدون.
تكاد حماية الدين والمحافظة على الشريعة عند هؤلاء تذهب برسومها كما
ذهبت بروحهما , فإن السماء والأرض تستغيثان من خلل المحاكم الشرعية وتلجآن
إلى الحكومة طلبًا لإصلاحها , ولكن الشيوخ عقبة في طريق كل إصلاح , وحجتهم
الوهمية المحافظة على الدين الذي لا يعرفه سواهم , وقوتهم غرور العامة بهم
وتصديق دعاواهم , والحكومات تحترم دائمًا عقائد العامة وعاداتها وتقاليدها حقًّا
كانت أو باطلة؛ لئلا تهيج عليها الرأي العام , ولذلك كان صلاح حال العامة
بالتربية الصحيحة والتعليم النافع مفضيًا إلى صلاح حال الحكومة بالطبع لأن رأي
الأمة يكون حينئذ صحيحًا وقوة الأمة لا تقاوم لأن يد الله مع الجماعة.
هذا بعض آثار التقليد الأعمى للميتين والجمود على العادات الموروثة , وليس
كل علماء الأزهر على هذا الجمود بل السواد والدهماء منهم , وإنما العامة مع
الأكثرين حتى يظهر خطأهم الزمان والذي لا يعلو حكمه حكم إنسان، هذا أحدهم
الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية اليوم قد رأى منذ زمن طويل فساد هذه
المحاكم التي كثر تألم الناس منها وشكواهم للحكومة , فأرشده الشيخ لذلك التقرير
فطلبه من أحد حاشية الأمير واستفاد منه واضعو اللائحة الحديثة كثيرًا من الفوائد ,
ولكنها لم تكن كافية.
وفي سنة 1899 م حاولت الحكومة المصرية عمل شيء في المحاكم الشرعية
على أنه من الإصلاح , فقامت قيامة العلماء والجرائد , وتهيجت العامة لاعتقاد
الجميع أن ما كان يحاول غير جائز شرعًا (وفي الحقيقة أنه لم يكن هو الإصلاح
المطلوب للمحاكم) ولكنهم لم يطلبوا شيئًا غيره يجوز عندهم شرعًا. وكنا قبل هذه
الفتنة قد كتبنا في المنار الصادر آخر سنة 1316هـ مقالة في (التعليم القضائي)
بينَّا فيها أن إصلاح المحاكم الشرعية لا يكون إلا بقضاة صالحين للقيام بأعباء
القضاء , وأن هذا لا يتم إلا بتعليم خاصٍّ بيَّنا طريقه , واقترحنا على شيخ الأزهر
ومجلس إدارته تنفيذه , ولكن أنَّى ينفذ , وحماة الدين من مشايخ الأزهر أصحاب
النفوذ لا يرضون بشيء جديد غير ما اتبعوا عليه آباءهم إلا الشيخ محمد عبده وهو
صاحب هذا الرأي , لكن لا موافق له منهم عليه في مجلس الإدارة إلا الشيخ عبد
الكريم سلمان وأكثر الآراء كانت على ضد ما يطلبان.
انتهت فتنة المحاكم بسكوت الحكومة عن المشروع الذي أعدته , ولكن
المتقاضين لم يسكتوا على حقوقهم تضيع. في أثرها عهد بمنصب إفتاء الديار
المصرية للرجل الذي كان أول ساع في الإصلاح والمشهود له بأنه أعرف الناس
بطرقه , فكلفته الحكومة تفتيش هذه المحاكم , ووصف خللها , وبيان ما يحتاجه من
العلاج؛ ففعل ووضع في ذلك تقريره المشهور الذي أجمع الناس على استحسانه ,
حتى إن الذين يعادون الإصلاح باسم الدين لم يجهروا بنقده ولا بالاعتراض عليه.
ثم ألفت الحكومة لجنة للنظر فيما يمكن العمل به من التقرير , رئيسها ناظر الحقانية
وكان في أعضاء اللجنة مع المفتي قاضي مصر السابق , وشيخ الأزهر واخترمت
المنية القاضي في تلك الأثناء فوقف سير اللجنة , واستمر على وقوفه وعذر
الحكومة في ذلك العامة , وبلاء العامة العلماء , وهاك ما قاله اللورد كرومر عن
هذه المحاكم في تقريره عن سنة 1902 وهو:
المحاكم الشرعية
(يقول المفتشون من العلماء التابعين لنظارة الحقانية: إن أحكام قضاة
المحاكم الشرعية في الأحوال الشخصية وإنجازهم للقضايا قد تحسنت بعض التحسن
ولا ريب أن زيادة إنفاق المال تقضي إلى إصلاح مهم في هذه المحاكم , ولكن لا
ينتظر أن يجري حتى يلح الأهالي في طلب الإصلاح من أنفسهم وذلك يكون بتقدم
العلم والمعرفة. والشكاوي الآن كثيرة , ولكن المعارضة شديدة في كل تغيير مهما
كان لازمًا وخاليًا من الضرر. والغالب أن تلك المعارضة تنجح بدعوى أن
الإصلاحات مخالفة للشريعة أو لعادة القوم) اهـ
فانظر؛ تجد أن هذا السياسي الواقف على حالة البلاد أتم الوقوف يصرح بأن
الإصلاح لا يمكن إلا بعد ان تتحول العامة عن اعتقاد ما يقوله المشايخ في مقاومة
الإصلاح , وأوضح منه ما قاله في تقريره عن سنة 1903 الماضية. وإنك لتجد
شيوخنا يطلعون عليه ويعرفون ما يقول الناس في جمودهم , ولا يرجعون عنه
رحمة بالشريعة التي انتحلوا حملها وبأنفسهم , وهذا هو نصه:
المحاكم الشرعية
هذه ترجمة محضر مأخوذ عن الجريدة الرسمية وهو يتعلق بأعمال مجلس
شورى القوانين في جلسة حديثة العهد، والحديث فيها بين أحمد بك يحيى من أعيان
المصريين وحضرة الشيخ حسونة النواوي وهو عالم جليل من علمائهم تولى
منصب الإفتاء فيما مضى.
(حضرة أحمد بك يحيى: إن الطريقة المتبعة حتى الآن في المحاكم
الشرعية في أمر المرافعات وتأجيل القضايا أوجبت شكاوي كثيرة , فلذا أقترح على
مجلس شورى القوانين تأليف لجنة تدرس هذه الأمور وتضع فيها تقريرًا.
(فضيلة الشيخ حسونة النواوي: إني لا أعلم أن المحاكم الشرعية تحتاج
إلى الإصلاح في أمر من أمورها.
(تقرير بالأغلبية التصديق على رأي الشيخ حسونة النواوي) انتهى.
فهذه الأعمال مشددة للعزائم؛ لأنها تدل على أن في مجلس شورى القوانين نفسه
بعضًا من الأعضاء الأذكياء الذين يشعرون بوجوب الإصلاح للمحاكم الشرعية.
أما كون الإصلاح ضروريًّا تتشوق إليه النفوس، فذلك أمر ثابت لا شك فيه إذ
ليس للناس أقل ثقة بهذه المحاكم الشرعية، وقد علا الضجيج من أعمالها، وكثرت
شكاوي المتقاضين بين يديها , وحجتهم عليها ترجح يومًا عن يوم. والإصلاح
يطلب من وجه معروف لا يختلف فيه , وهو بسيط سهل المنال , وذلك أن الشرع
نفسه لا يمكن أن يطرأ عليه تغيير مطلقًا، فغاية ما يطلب إذًا هو أن يقضى به بين
الناس بطريقة معقولة على يد قضاة جمعوا من العلم والاستقلال ما يمتنع معه تأثير
كل مؤثر خارجي أيَّا كان مصدره.
وكانت الحكومة قد شرعت منذ خمس سنوات تقريبًا في معالجة هذا الداء
ولكنها عدلت عنه؛ لأن الغرض الذي كانت تقصده من الإصلاح إنما هو صيانة
المصريين أنفسهم فلم تجد منهم التأييد الكافي فأغفلته. أما الحكومة البريطانية فلا
تبدأ بالسير في هذا السبيل، ولكنها تنظر بعين الرضى إلى كل إصلاح يبدأ به ذوو
الشأن أنفسهم الذين يعنيهم أمر المحاكم الشرعية أكثر من سواهم وتؤيدهم وتشدد
عزائمهم. ورأيي الخصوصيِّ هو أن مجلس شورى القوانين يحسن صنعًا بالعودة
إلى هذا الموضوع وإيفائه حقه من البحث لا سيما أن التعجيل في إصلاح هذه
المحاكم خير من التأجيل , ففي مصر جيل جديد يختلف عن أجداده في أمور كثيرة،
فيمكن أن تحدثه نفسه يومًا بأن يمد إلى تلك الأركان القديمة يدًا لا تعرف حرمة
القديم، فتكون أشد عليها من يد حكومة تمدها اليوم طبقًَا لإرشاد قوم لا شأن لهم في
الأمر لأنهم لا يدينون بالدين الإسلامي.
فإذا كان لهذا الحساب نصيب من الصواب فالأجدر بأبناء اليوم أن يشرعوا في
الإصلاح ويتلافوا الأمر قبل حلوله، وعسى أن المصلحين من أبناء القطر لا تضعف
عزيمتهم لأول فشل حل بهم , فإن الرأي العام لأبناء دينهم هو في جانبهم وهو ينمو
ويزداد وإن كانوا لا يجاهرون به، فعليهم الثبات إذن لا سيما إذ لم يكن أحد
ينتظر أن الناس تتغلب على أميالها , وتوافقهم على مرادهم بعد أول حملة.
ويجدر بي أن أذكر في هذا المقام أن مجلس شورى القوانين اقترح على
الحكومة في الملحوظات التي أبداها على ميزانية السنة الحاضرة أن تزيد مصروف
المحاكم الشرعية , فرفضت الحكومة هذا الاقتراح. وعندي أنها أحسنت في
رفضها؛ لأن كل زيادة في هذا الباب تعد تبذيرًا لأموال الأمة حتى يجيء الوقت
الذي تباشر فيه مسألة الإصلاح بالجد والاهتمام، اهـ كلام اللورد.
قبل أن يظهر تقرير اللورد هذا اجتمعت الجمعية العمومية المؤلفة من نظار
الحكومة وأعضاء شورى القوانين ومندوبي البلاد المصرية , واقترح غير واحد من
أعضائها مطالبة الحكومة بإصلاح المحاكم الشرعية. فأحيل الطلب على مجلس
شورى القوانين , فأجمع الشيوخ أمرهم وأرادوا أن يدافعوا عن الحاضر حسب
عادتهم، فأتمر من يعنيهم الأمر مع أنصارهم في مجلس الشورى وكبيرهم
قاضي مصر الذي خلق في بلاد الروم مصريًّا، وتعلم في الآستانة ولكنه كأنه تخرج
أزهريًّا، وكثر السعي قبل الجلسة واتفقوا على شيء يدافع به القاضي الأكبر.
ولما طرحت المسألة في المجلس قال القاضي الأكبر كلمته المروّزَة وهي:
(قد سمعنا المقترحات المتعلقة بالمحاكم الشرعية ونقول: إن أعمال تلك
المحاكم ترجع أولاً إلى الشرع الشريف , وهذا لا يُمَكِّن مسلمًا أن يقول إنه يحتاج
إلى إصلاح , وثانيًا إلى قضاة يحكمون بذلك الشرع، وهؤلاء تنتخبهم لجنة من كبار
العلماء الخبيرين تُشَكَّل بنظارة الحقانية بحضور ناظرها , وطبعا إنما تنتخبهم من
العلماء الأكفاء , وثالثًا: إلى لوائح سنتها الحكومة بعد أخذ رأي مجلس شورى
القوانين، فإن كان هناك اعتراضات توجهت أو تتوجه في المستقبل فطبعًا إنما هي
متوجهة على تلك اللوائح , ولو رجعت الحكومة في جميع أعمال المحاكم الشرعية
إلى قواعد الشرع ونَفَّذت بالطرق الشرعية جميع ما صدر من تلك المحاكم من
الأحكام لم يوجد أدنى اعتراض , فلذلك أطلب استلفات الحكومة إلى ما ذكر.
هذا نص ما كتب، وتناقل الناس عن قاضي مصر يومئذ زيادةً منها أنه قال
في الجلسة: إن القضاة يدرسون علومهم في الأزهر ويمتحنون فيه بحضور جماعة
من كبار العلماء , وأنه لم يعرف عن أحد من قضاة المحاكم ما يشكى منه , وجاء
في آخر كلامه: أما إذا أرادت الحكومة تكميل المرشحين للقضاء بإضافة بعض
دروس مثل: أدب القاضي , وشيء من التمرين فلا بأس، وذكرت جريدة المؤيد
يومئذ أنه قال ما ينبغي لمثله في مقامه أن يقوله، وكان له حزب مستعد لتأييد رأيه
ولكن مفتي الديار المصرية تعقبه بعد ما أمر الكاتب بكتابة جميع ما قاله وقرر
المفتي ما ملخصه:
أما كون الشرع نفسه لا يحتاج إلى إصلاح فَمُسَلَّمٌ، لكنه في كتبه التي في أيدي
الناس بعيد عن أفهام الخصوم فهو في أشد الحاجة إلى التقريب من الأفهام فيجب
النظر في ذلك , ولا نطلب فيه إلا عملاً سبقتنا إلى مثله الدولة العثمانية في كتاب
المجلة التي عليها العمل في محاكمها المسمّاة (بالعدلية) وفي المحاكم الشرعية في
أبواب المرافعات جميعها , ولم يقل أحد: إن الدولة في عملها ذلك قد خرجت عن
الدين (عند هذا قال الشيخ حسونة النواوي: كتاب الأحوال الشخصية الذي وضعه
قدري باشا موجود وهو من أحسن ما يكون) .
وأما مسألة امتحان القضاة في لجنة من علماء الأزهر وانتخابهم بلجنة فيها
كبار العلماء، فيجب بيان ما فيها لهيئة المجلس لأنني من اللجنتين - لجنة الامتحان
ولجنة الانتخاب - أما الامتحان فيجري في موضوعات خاصة من عدة فنون يبتدأ
فيها بالأصول فالمعاني فالبيان وهكذا , ولا يأتي الفقه إلا في آخر الدروس عندما
يكون الممتحن قد ملّ السؤال , والطالب قد مل الجواب , فيكتفي الأساتذة من
الطالب ببعض كلمات ثم ينقلونه إلى فن آخر , على أن الامتحان في الفقه كان
ولا يزال في أبواب العبادات مثل التيمم ونحوه , وقد ألحّ في المدة الأخيرة على لجنة
الامتحان لتعين مواضع الامتحان في المعاملات فحصل ذلك , لكن كثيرًا ما يرجع
عنه، فهل مثل هذا الامتحان له علاقة بالقضاء الشرعي , وهل تعرف به درجة
القاضي إن كان أهلاً للقضاء أو غير أهل.
(قال) أنا عضو في اللجنتين كما قلت لكم , وربما كنت أعرف الناس بمن
ينتخبون للقضاء , ولكني أقول لكم: إننا نعمل في الانتخاب على قاعدة ارتكاب
أخف الشرين فنختار أخف القاصرين قصورًا وكثيرًا ما تكون الأغلبية على انتخاب
المتقدم في الزمان , وإن كان متأخرا في العلم والاستعداد.
(قال) وأما لوائح المحاكم التي يتوهم من لم يعرف تاريخها أن الحكومة
وضعتها من عندها فهي بعيدة عن الشرع ومذاهبه , فأنا أذكر لكم حقيقة أمرها،
كانت الحكومة في عهد أمراء مصر السابقين تاركةً للمحاكم الشرعية تمام الاستقلال ,
وكان الناس يستغيثون من خللها وظلمها وشيوع الرشوة فيها , فلما أقلقوا الحكومة
أمر سعيد باشا بوضع لائحة لسير هذه المحاكم , وقد كان ذلك بإقرار لجنة من
علماء الأزهر مؤلفة من علماء المذاهب الأربعة، فاللائحة الأولى كان متفقًا عليها من
علماء الشرع، طال الزمان وظهر أن اللائحة لم تأت بالمطلوب واستمرت الشكوى
من أعمال المحاكم , فوضعت اللائحة الثانية بمعرفة الشيخ العبَّاسي شيخ الأزهر
ومفتي الديار المصرية لذلك العهد. وأما اللائحة الأخيرة فقد عرضت كذلك على
شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية , وأقرّها كما أقرها قاضي مصر السابق.
فاللوائح لا تعاب إذن بمخالفة الشرع , ولكنني أقول مع هذا: إنها قاصرة وفي
حاجة إلى الإصلاح فتعين أن المحاكم الشرعية في حاجة إلى الإصلاح من كل
جهة , وهذا الإصلاح ينحصر عندي في خمسة أمور وهي:
(أولها) تقويم طريقة التعليم لعمال المحاكم الشرعية من قضاة وكَتَبَةٍ
وإضافة ما تحتاج إليه وظائف القضاء الشرعي وما يتعلق بها من المعلومات إلى ما
يتعلمون الآن , وذلك يكون بإنشاء فرقة خاصة بهذا الغرض من طلبة الجامع
الأزهر بالجامع الأزهر، ثم تكميل قاعدة انتخابهم بما يكفل التحقق من كفاءتهم.
(ثانيها) تعديل لوائح المحاكم الشرعية على وجه يكفل انتظام سيرها وسرعة
الفصل في قضاياها , وإزالة كل ما يشتكى منه بشرط المحافظة على الشرع.
(ثالثها) الاتفاق مع جماعة من شيوخ الحنفية على إيجاد طريقة لتقريب فهم
الأحكام الشرعية التي يتقاضى الناس على حسبها حتى يمكن للخصوم أن يعرفوا
إلى أية قاعدة شرعية يرجع الحكم فيما يتخاصمون فيه ويسهل على القضاة أنفسهم
خصوصًا في بدء أمرهم الرجوع إلى ما يحكمون بمقتضاه ويكون ذلك شاملاً
جميع أبواب المعاملات من الفقه.
(رابعها) وضع قاعدة لتنفيذ الأحكام الشرعية تكفل انتفاع المحكوم له
بالحكم ضد أي شخص كان بما لا يخالف الشرع.
(خامسها) ترقية مرتبات عُمّال المحاكم الشرعية , وإلحاقهم بباقي موظفي
الحكومة.
اقترح المفتي هذا , وأمر بكتابته , فكتب وظهرت على المجلس أمارة
الإعجاب والرضى به , فقال بعض المؤتمرين: إن هذا لا ينافي قول القاضي ,
والرأي ما رآه القاضي. قال المفتي: لك أن تقول: إن رأيك موافق لرأي القاضي ,
وليس لك أن تقول هذا عن غيرك , وإن كان القاضي يقر هذا الرأي فهو ما نبغي
ولا فرق بين أن ينسب إليَّ أو إليه. فقال ذلك العضو: لا بأس بموافقة القاضي
على هذا , ولكن تحذف المقدمات. قال المفتي: وتحذف مقدمات القاضي أيضًا.
قال بعض الأعضاء: الأَوْلَى إبقاء المقدمتين , والموافقة على الرأي الأخير (رأي
المفتي) مع اتفاق القاضي. وبعد ذلك استقر الرأي على أن يمحى ما كتب عن
القاضي والمفتي , ويستبدل به: أن المجلس يقترح على الحكومة الإصلاح بالأوجه
الخمسة المذكورة وكذلك كان.
هذا ملخص ما كان في الجلسة , ولهج به الناس يومئذ، كتبناه كما سمعناه من
كثير من الأعضاء ومن يجتمع بهم، ولكن الجرائد خلطت في المسألة , ومنها
ما نسب الاقتراح للقاضي , وإنما كان ردًّا عليه , ثم إنه لم ير بُدًّا من موافقة المجلس.
والذي يهمنا أننا وصلنا بعد جهاد المجاهدين في سبيل الإصلاح إلى أن مجلس
الشورى طلب باتفاق الآراء أن تبادر الحكومة إلى إصلاح هذه المحاكم , فليس لها
بعد هذا عذر بالإرجاء وهو أقصى أو فوق ما كان يتمنى اللورد كرومر.
أرأيتك هؤلاء القضاة الشرعيين؛ هل اعتبروا بإجماع أهل الرأي والحل
والعقد وغيرهم على فساد أمرهم وسوء سيرتهم؟ كلا إنهم لم يزدادوا إلا غيًّا وتماديًا،
حتى إن المحكمة العليا التي تشرف على جميع مجاري العبر هي أَوْغَل من محاكم
الواحات في الغرور والخلل والزلل، ومن أعجب ما صدر عن قاضي مصر في
هذه الأيام ببركة مستشاره أو مشيره؛ التصدي لمنع ديوان الأوقاف من تنفيذ لائحة
المساجد التي وضعها مفتي الديار المصرية , وأقرّها مجلس الأوقاف الأعلى بعد
مباحثات طويلة.
* * *
لائحة المساجد
ماهي لائحة المساجد وما وجه الحاجة إليها؟ هي لائحة تدور على جعل أئمة
المساجد وخطبائها من أهل العلم بالدين ليؤدوا الفرائض على وجهها , وجعل
مؤذنيها وخدمتها من أهل الكفاءة للقيام بعملهم على وجهه. ولا يجهل أحد أن أكثر
الأئمة في هذا العهد من الجُهّال حتى بأحكام الطهارة والصلاة , وأكثر الخطباء
يغلطون على المنبر حتى بآيات القرآن , ويأتون في وعظهم بما يتبرأ الدين منه في
الغشّ والكذب على الله ورسوله ودينه بسرد الأحاديث الموضوعة والخرافات
المصنوعة. أليس من العجائب أن يوجد في المسلمين من يحافظ على هذه
المنكرات ويطلب بقاءها وعدم إزالتها باسم الدين , وهو يعدّ مع هذا من علماء
المسلمين؟ بلى وإنهم ليحتجون بأنهم يحافظون على شروط الواقفين، وهل وجد
واقف اشترط أن يكون الأئمة والخطباء من الجاهلين؟ ربِّ أعوذ بك من همزات
الشياطين.
أوقاف المسلمين تزداد ريعًا ونموًّا , ومساجد المسلمين في خراب حسيٍّ
ومعنويٍّ إلا ما عمرت جدره , وزخرفت سقفه لجنة الآثار العربية ليتمتع بالنظر
إليها السائحون من الإفرنج الذين يحبون الاطلاع على مباني الأولين، وراتب
الخطيب والإمام اليوم كما كان منذ قرن أو قرون , إذ كان مالك الألف يعدّ غنيًّا
كبيرًا، والألف لا تشبع في سنتنا الحمار شعيرًا، لهذا يضطر ديوان الأوقاف أن
يجعل الجاهلين الكسالى المعدمين أئمةً وخطباءً؛ إذ لا يرضى العالم الفاضل أن ينقطع
لعمل لا يزيد راتبه في الشهر على مائة قرش , وقد يكون خمسين قرشًا. هذا وإن
مساعدة أهل العلم والدين على معايشهم من أفضل المبرات التي تنشأ لها الأوقاف
الخيريّة - لهذا كان من موضوع لائحة المساجد أن يجعل للإمام والخطيب راتب
يتراوح بين خمسمائة قرش وثمانمائة قرش , وللمؤذن والخادم راتب يرتقي إلى
ثلاثمائة قرش , وذلك بعد انتقائهم بحسب الشروط التي تؤهلهم للقيام بعملهم على
أكمل وجه، وقد رفضت اللائحة بحال الحاضرين على ما بهم فلم تقض بعزل أحد
منهم , وإنما جعلت مبدأ الإصلاح فيمن يتجدد.
بهذه اللائحة تصرف أموال الأوقاف المكنوزة في أفضل مصارفها، بهذه
اللائحة تقام صلاة الجماعة على وجهها، بهذه اللائحة تكون الخطابة مؤدية للحكمة
التي شرعت لأجلها، بهذه اللائحة تكون بيوت الله نظيفة طاهرة كما يليق بها، بهذه
اللائحة ينمو علم الدين بما وجد لأهله من المعاش الطبيعي الذي يليق بكرامتهم بعد
أن أقفلت في وجوه المنقطعين له أبواب الرزق واحتقرهم الناس ولو بغير حق، ومع
هذا كله تجد في أصحاب العمائم من يسعى في إلغاء اللائحة بحجة أنها مخالفة للدين
وأنها وضعت للإفساد، وهم من المصلحين يحاولون إلغاءها بسلطة المحكمة الشرعية
التي ضجت السماء والأرض من فساد حالها وشدة اختلالها، فلماذا لا يصلحونها
ويقيمون حكم الله فيها إن كانوا صادقين؟
كتب قاضي مصر إلى مدير الأوقاف يطلب اللائحة لينظر فيها , ويأمر بتنفيذ
ما يرى تنفيذه منها , وإلغاء ما يرى إلغاءه , وذكرت الجرائد أنه هدّد المدير بعزله
إذا لم يفعل، فعرض المدير كتابته على مجلس الأوقاف الأعلى، فقرر المجلس إجابة
القاضي بأن هذا أمر لا يعنيه وأنه ليس في اللائحة أمر مخالف للشرع كما قرر
مفتي الديار المصرية وأن الأمر العالي الصادر في سنة 1291 يجيز للمجلس سنِّ
أمثال هذه اللائحة ولهذا يرفض المجلس طلب القاضي , ويأمر بتنفيذها كما قررها.
هكذا ورد في جريدة الأهرام , وقد أنذرت القاضي بأن لا يلعب بالنار ونعم ما
فعلت , فإن الأمر خطير كما ذكرت.
هذا نموذج من سيرة هذه المحكمة بعد ماعمّت البلوى , وعظمت الشكوى
يلعب أهلها بالنار ويسخطون الديار ويفقدون الأنصار , ولا تسمع من علماء الأزهر
كلمة إنكار بل يُخْرِبُون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار.
__________(7/212)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(الوجه الحادي والستون)
قولكم: وأجمعوا على جواز شراء اللحمان والأطعمة والثياب وغيرها من
غير سؤال حلها، اكتفاءً بتقليد أربابها. جوابه: إن هذا ليس تقليدًا في حكم من
أحكام الله ورسوله من غير دليل، بل هو اكتفاء بقبول قول الذابح والبائع، وهو
اقتداء واتباع لأمر الله ورسوله، حتى لو كان الذابح والبائع يهوديًّا أو نصرانيًّا أو
فاجرًا؛ اكتفينا بقوله في ذلك، ولم نسأله عن أسباب الحل، كما قالت عائشة رضي
الله عنها: يا رسول الله , إن ناسًا يأتوننا باللحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم
لا؟ فقال: (سمّوا أنتم وكلوا) فهل يسوغ لكم تقليد الكفار والفُسَّاق في الدين كما
تقلدونهم في الذبائح والأطعمة؟ ؟
فدعوا هذه الاحتجاجات الباردة وادخلوا معنا في الأدلة الفارقة بين الحقّ
والباطل؛ لنعقد معكم عقد الصلح للأمّة على تحكيم كتاب الله وسنة رسوله،
والتحاكم إليهما، وترك أقوال الرجال لهما، وأن ندور مع الحق حيث كان، ولا
نتخير إلى شخص معين غير الرسول، ونرد قول من خالفه كله، وإلا فاشهدوا بأنَّا
أول منكر لهذه الطريقة وراغب عنها، وداع إلى خلافها، والله المستعان.
(الوجه الثاني والستون)
قولكم: لو كلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء، ضاعت مصالح
العباد، وتعطلت الصنائع والمتاجر، وهذا مما لا سبيل إليه شرعًا وقدرًا! !
فجوابه من وجوه:
(أحدها) إن من رحمة الله - سبحانه - بنا ورأفته أنه لم يكلفنا بالتقليد , فلو
كلفنا به؛ لضاعت أمورنا، وفسدت مصالحنا؛ لأنَّا لم نكن ندري مَنْ نُقَلِّد من
المُفْتِين والفقهاء، وهم عدد فوق المئين، ولا يدري عددهم في الحقيقة إلا الله , فإن
المسلمين قد ملأوا الأرض شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالاً، وانتشر الإسلام بحمد الله
وفضله، وبلغ مبلغ الليل، فلو كلفنا بالتقليد لوقعنا في أعظم العَنَت والفساد، ولكلفنا
بتحليل الشيء وتحريمه، وإيجاب الشيء وإسقاطه معًا؛ إن كلفنا بتقليد كل عالم.
وإن كلفنا بتقليد الأعلم فالأعلم؛ فمعرفة ما دل عليه القرآن والسنن من الأحكام أسهل
بكثير كثير من معرفة الأعلم الذي اجتمعت فيه شروط التقليد، ومعرفة ذلك مشقة
على العالم الراسخ فضلاً عن المقلد الذي هو كالأعمى. وإن كلفنا بتقليد البعض ,
وكان جعل ذلك إلى تشهينا واختيارنا؛ صار دين الله تبعًا لإرادتنا واختيارنا
وشهواتنا وهو عين المحال، فلا بد أن يكون ذلك راجعًا إلى أمر الله ورسوله باتباع
قوله وتلقي الدين من يديه، وذلك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله
وأمينه على وحيه، وحجته على خلقه. ولم يجعل الله هذا المنصب لسواه بعده أبدًا.
(الثاني) إن بالنظر والاستدلال صلاح الأمور لا ضياعها , وبإهماله وتقليد
من يخطىء ويصيب إضاعتها وفسادها كما الواقع شاهد به.
(الثالث) إن كل واحد منا مأمور بأن يصدق الرسول فيما أخبر به ويطيعه
فيما أمر، وذلك لا يكون إلا بعد معرفة أمره وخبره، ولم يوجب الله سبحانه من ذلك
على الأمة إلا ما فيه حفظ دينها ودنياها، وصلاحها في معاشها ومعادها، وبإهمال
ذلك تضيع مصالحها، وتفسد أمورها، فما خراب العالم إلا بالجهل، ولا عمارته
إلا بالعلم، وإذا ظهر العلم في بلد أو محلة قلّ الشرّ في أهلها، وإذا خفي العلم هناك؛
ظهر الشر والفساد، ومن لم يعرف هذا فهو ممن لم يجعل الله له نورًا، قال
الإمام أحمد: (لولا العلم كان الناس كالبهائم) . وقال: (الناس أحوج إلى العلم
منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو
ثلاثًا , والعلم يحتاج إليه في كل وقت) .
(الرابع) إن الواجب على كل عبد أن يعرف ما يخصه من الأحكام، ولا
يجب عليه أن يعرف ما لا تدعوه الحاجة إلى معرفته، وليس في ذلك إضاعة
مصالح الخلق، ولا تعطيل لمعاشهم؛ فقد كان الصحابة - رضي الله - عنهم
قائمين بمصالحهم ومعاشهم، وعمارة حروثهم، والقيام على مواشيهم، والضرب في
الأرض لمتاجرهم، والصفق بالأسواق، وهم أهدى العلماء الذين لا يشق في العلم
غبارهم.
(الخامس) إن العلم النافع هو الذي جاء به الرسول دون مقدرات الأذهان
ومسائل الخرص والألغاز، وذلك بحمد الله تعالى أيسر شيء على النفوس تحصيله
وحفظه وفهمه، فإنه كتاب الله الذي يسره للذكر، كما قال - تعالى -: {وَلَقَدْ
يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: 17) قال البخاري في صحيحه:
قال مطر الوراق: (هل من طالب علم فيعان عليه؟) , ولم يقل: فتضيع عليه
مصالحه، وتتعطل عليه معايشه، وسنة رسول الله وهي - بحمد الله - مضبوطة
محفوظة، أصول الأحكام التي تدور عليها نحو خمسمائة حديث. وفرشها
وتفاصيلها نحو أربعة آلاف. وإنما الذي هو في غاية الصعوبة والمشقة مقدرات
الأذهان، وأغلوطات المسائل، والفروع والأصول التي ما أنزل الله بها من سلطان
التي كل ما لها في نمو وزيادة وتوليد , والدين كل ما له في غربة ونقصان، والله
المستعان.
(الوجه الثالث والستون)
قولكم: قد أجمع الناس على تقليد الزوج لمن يهدي إليه زوجته ليلة الدخول،
وعلى تقليد الأعمى في القبلة والوقت، وعلى تقليد المؤذنين , وتقليد الأئمة في
الطهارة وقراءة الفاتحة، وتقليد الزوجة في انقطاع دمها ووطئها وتزويجها؛ فجوابه
ما تقدم أن استدلالكم بهذا من باب المغاليط، وليس هذا من التقليد المذموم على لسان
السلف والخلف في شيء، ونحن لم نرجع إلى أقوال هؤلاء لكونهم أخبروا بها، بل
لأن الله ورسوله أمر بقبول قولهم، وجعله دليلاً على ترتيب الأحكام، فإخبارهم
بمنزلة الشهادة والإقرار. فأين في هذا ما يسوغ التقليد في أحكام الدين.
والإعراض عن القرآن والسنن، ونصب رجل بعينه ميزانًا على كتاب الله
وسنة رسوله؟ ؟
(الوجه الرابع والستون)
قولكم: أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عقبة بن الحرث أن يقلّد
المرأة التي أخبرته بأنها أرضعته وزوجته. فيالله العجب! !
فأنتم لا تقلّدونها في ذلك، ولو كانت إحدى أمهات المؤمنين ولا تأخذون
بهذا الحديث، وتتركونه تقليدًا لمن قلدتموه دينكم، وأي شيء في هذا مما يدل
على التقليد في دين الله؟ وهل هذا إلا بمنزلة قبول خبر المخبر عن أمر حسي يخبر
به , وبمنزلة قبول الشاهد؟ وهل كان مفارقة عقبة لها تقليدًا لتلك الأمة أو
اتباعًا لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حيث أمره بفراقها؟ فمن بركة
التقليد أنكم لا تأمرونه بفراقها، وتقولون: هي زوجتك حلال وطئها! ! ! وأما نحن
فمن حقوق الدليل علينا أن نأمر من وقعت له هذه الواقعة بمثل ما أمر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم لعقبة بن عامر سواء، ولا نترك الحديث تقليدًا
لأحد.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(7/222)