الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهات المسيحيين
وحجج المسلمين
{ ... يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ ... } (النساء: 46) .
قد علم قرّاء المنار أننا لم نفتح هذا الباب للطعن في دين النصارى أو غيره
ابتداءً، وإنما فتحناه لرد شبهاتهم التي ربما تشكك الجاهل بالإسلام في الدين مطلقًا
فتفسد أخلاقه ويكون مصيبة على نفسه وعلى الناس، ولا غرض لطعن الطاعنين
بالإسلام إلا هذا التشكيك الذي يحل الرابطة الإسلامية ويضعف المسلمين؛ لأنه
يخرجهم عن كونهم أمة فيكونون أفرادًا مقطعين، لا جنسية لهم ولا دين، ولو أنهم
كانوا يطمعون في تنصيرهم لكان لهم عندنا بعض العذر، ولكن التجربة أفادت
التاريخ أن الملايين من النصارى صاروا مسلمين ولا يوجد بإزاء كل مليون من
هؤلاء واحد من المسلمين تنصّر إلا ما كان من أفراد ليس لهم من الإسلام إلا وراثة
الاسم من آبائهم الأولين.
قيل للسيد جمال الدين الأفغاني الحكيم الشهير - رحمه الله تعالى -: ما سبب
الدعوة إلي مذهب الدهريين في الهند وعدم الاقتصار على الدعوة إلى النصرانية؟
فقال: إن المسلم يستحيل أن يكون نصرانيًّا؛ لأن الإسلام نصرانية وزيادة فهو
يأمر بالاعتقاد بنبوة عيسى وحقيّة دعوته ويرفض الخرافات والبدع التي زادتها
الجمعيات النصرانية في دينه، فلما جرب الذين يبتغون حل الرابطة الإسلامية
بالدعوة إلى النصرانية فلم تنجح، عمدوا إلى تشكيكهم في أصل الدين المطلق
بالدعوة إلى الدهرية.
وكذلك رأى مثل صاحب الجامعة أن تشكيك المبشرين بالنصرانية لم ينجح في
المسلمين من الطريق الديني فانبرى لتشكيكهم من الطريق العلمي وبذل جهده
لإقناعهم (1) بأن دينهم كغيره عدوّ للعقل والعلم و (2) أن أئمتهم في العقائد
(المتكلمين) ينكرون الأسباب و (3) أن جمع السلطة الدينية والسلطة السياسية
المدنية في خليفة الإسلام ضارّ بالمسلمين وسبب لتأخرهم، ومن رأي صاحب
الجامعة أن المسلمين إذا أرادوا الرقيّ والنجاح فلا بد لهم من سماع نصيحته وهي:
(1) أن يضعوا دينهم في جانب من العقل والعلم؛ لأنهما قاضيتان بهدمه كقضائهما
بهدم النصرانية، فإذا حاولوا الجمع بين الدين والعلم كما ينصح لهم بعض أئمتهم
بما ينشر في المنار وغيره فإنما يحاولون محالاً بل إنما يهدمون دينهم فيخرجون بلا
علم ولا دين، و (2) أن يعتقدوا أن سُنّة الله تعالى في الأسباب والمسببات مطردة
في الواقع خلافًا لما يحكم به الدين وعلماء الكلام، فإذا صدقوا بالواقع فعليهم أن
يكذبوا أئمتهم والعكس بالعكس، و (3) أن يجعلوا خليفتهم حاكمًا مدنيًّا يخترع
الشرائع والأحكام ويتركوا ما شرعه الله لما شرعه السلطان ويجعلوا الدين خالصًا
بالعبادة لله تعالى، أي إنه يجب على المسلمين في رأي صاحب الجامعة أن يتركوا
نصف دينهم وهو أحكام المعاملات الدنيوية ويجعلوا النصف الثاني لمن يريد أن
يترك العقل والعلم والأسباب لأجل العبادة، هذا ملخص نصح صاحب مجلة الجامعة
للمسلمين ولأجل أن يجعله مقبولاً أورد لهم كلمات عن بعض أئمتهم حرّفها عن
معناها ليخدع البسطاء بها، وإننا نشرح هذه المسائل ونبين الحق فيها ليكون حجة
على هؤلاء المعتدين الذين {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ
كَرِهَ الكَافِرُونَ} (الصف: 8) .
***
الأسباب أو سنن الله تعالى في الخلق
وإثبات الإمام الغزالي لها
ذكر صاحب الجامعة في كتاب لَفَّقَهُ أننا أوردنا قوله تعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ
اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) لإثبات أن النواميس الطبيعية لا تتغير ولا تتبدل
ثم قال: (مع أنه لو قام حجة الإسلام الإمام الغزالي من قبره وسمع هذا القول
لكسر قلم صاحب تلك المجلة وضحك من بساطته وعدم اطلاعه على الشئون التي
يبحث فيها؛ لأنه استشهد بتلك الآية للغرض الذي ذكره مع أنها لم ترد في القرآن
لهذا الأمر بوجه الإطلاق) .
يقول هذا صاحب الجامعة تمهيدًا لخلابة المسلمين بأن ما يتحكم هو فيه من
الحكم بتفسير كتاب الله برأيه الأفين مقتبس من الإمام الغزالي الذي حرف قوله عن
موضوعه ولم يفهم مراده منه.
إذا كان الغزالي يضحك من (بساطة) من أخذ معظم علمه في الدين من كتابه
إحياء العلوم اعتقادًا وعملاً ودرسه من أول نشأته المرة بعد المرة كما درس كل ما
اطلع عليه من كتبه بإمعان وإخلاص - فهل يضحك أو يبكي من (تركيب) جاحد
معاند يلتمس من كلامه كلمة يحرفها عن موضعها ليغش المسلمين بشيء يخالف
دينهم محتجًّا بكلام إمام من أئمتهم ولا موضع للاحتجاج؟ نترك مثل هذا ونسرد
مذهب الغزالي في الأسباب وسنن الله تعالى ونبين الحق في المسألة التي اشتبه
فهمهما على كثير من الناس حتى صار التشكيك فيها متيسرًا لمثل صاحب الجامعة
مع عوام المسلمين الذين لا يزال فيهم من يقرأ ما يكتبه ذهابًا مع سماحة الإسلام.
مذهب الغزالي: قال حُجة الإسلام في الفصل الثالث من كتاب التوكل ما
نصه: (الأسباب التي يجلب بها النافع على ثلاث درجات: مقطوع به ومظنون ظنًّا
يوثق به وموهوم وهمًا لا تثق النفس به ثقة تامة ولا تطمئن إليه، (الدرجة الأولي)
المقطوع به، وذلك مثل الأسباب التي ارتبطت المسببات بها بتقدير الله ومشيئته
ارتباطًا مطردًا لا يختلف كما أنّ الطعام إذا كان موضوعًا بين يديك وأنت جائع
محتاج ولكنك لست تمد اليد إليه وتقول: أنا متوكل، وشرط التوكل ترك السعي،
ومدُّ اليد إليه سعي وحركة، وكذلك مضغه بالأسنان وابتلاعه بإطباق أعالي الحنك
على أسافله؛ فهذا جنون محض وليس من التوكل في شيء، فإنك إذا انتظرت أن
يخلق الله فيك شبعًا دون الخبز أو يخلق في الخبز حركة إليك أو يسخر ملكًا
ليمضغه لك ويوصله إلي معدتك فقد جهلت سنة الله تعالى، وكذلك لو لم تزرع
الأرض وطمعت في أن يخلق الله نباتًا من غير بذر أو تلد زوجتك من غير وقاع
كما ولدت مريم عليها السلام فكل هذا جنون، وأمثال هذا مما يكثر ولا يمكن
إحصاؤه) اهـ بحروفه.
وبعد أن قرر أن هذه الدرجة لا يأتي فيها التوكل بترك العمل تكلم عن الدرجة
الثانية وهي ما كان السبب فيها مظنونًا وبين أن التوكل لا يأتي فيها أيضًا قال ما
نصه: (فإذا التباعد عن الأسباب كلها مراغمة للحكمة وجهل بسنة الله تعالى
والعمل بموجب سنة الله تعالى مع الاتكال على الله عز وجل دون الأسباب لا
يناقض التوكل) .
هذا التفصيل في جانب المنافع وقد أورد مثله في منعها وفي دفع المضرات
التي أسبابها قطعية أو ظنية وبين أن التوكل إنما يكون في ترك الأشياء الوهمية
كالرقية والطيرة والكيّ التي ورد بها الحديث، ومما صرح فيه بذكر السنة الإلهية
هنا قوله: (وكذلك في الأسباب الدافعة عن المال فلا ينقضي التوكل بإغلاق باب
البيت عند الخروج ولا بأن يعقل البعير؛ لأن هذه أسباب عرفت بسنة الله تعالى إما
قطعًا وإما ظنًا، ثم أورد الشواهد من الكتاب والسنة وهي مشهورة.
وقال في الكلام على التداوي، وهو من منع المضار (هذه الكلمة الجليلة
ليس من التوكل الخروج عن سنة الله أصلاً) وقال أيضًا في تداوي النبي صلى الله
عليه وسلم (وإنما لم يترك الدواء جريًا على سنة الله تعالى وترخيصًا لأمته فيما
تمس إليه حاجاتهم) .
وأظهر من هذا قوله بعد شرح طويل للأسباب: (فبهذا تبين أن مسبب
الأسباب أجرى سنته بربط المسببات بالأسباب إظهارًا للحكمة والأدوية أسباب
مسخرة بحكم الله تعالى كسائر الأسباب، فكما أن الخبز دواء الجوع، والماء دواء
العطش فالسكنجبين دواء الصفراء والسقمونيا دواء الإسهال لا يفارقه إلا في أحد
أمرين أحدهما أن معالجة الجوع والعطش بالماء والخبز جليٌّ واضح يدركه كافة
الناس ومعالجة الصفراء بالسكنجبين يدركه بعض الخواص، فمن أدراك ذلك
بالتجربة التحق في حقه بالأول، والثاني أن الدواء يسهل والسكنجبين يسكن
بشروط آخر في الباطن وأسباب من المزاج ربما يتعذر الوقوف على جميع شروطها
وربما يفوت بعض الشروط فيتقاعد الدواء عن الإسهال، وأما زوال العطش فلا
يستدعي سوى الماء شروطًا كثيرة، وقد يتفق في العوارض ما يوجب دوام العطش
مع كثرة شرب الماء لكنه نادر، وإختلال الأسباب أبدًا ينحصر في هذين الشيئين
وإلا فالمسبب يتلو السبب لا محالة مهما تمت شروط السبب) اهـ بحروفه.
فأي نص في التلازم بين الأسباب والمسببات أقوى من هذه الجملة الأخيرة؟
فهذا هو الإمام الغزالي الذي يوهم المسلمين صاحب الجامعة بأنه ينكر الأسباب
وينكر أن معنى سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول الأسباب وارتباطها بالمسببات،
فهل بعد هذا يوثق بقول صاحب الجامعة أو بحسن قصده؟ وهل يجوز لغير العالم
الراسخ أن ينظر في قول هذا المشكك الذي يريد أن يفسد على عوامّ المسلمين
عقائدهم؟ ؟
***
التوفيق بين هذا وبين ما قاله
في تهافت الفلاسفة
مسألة الأسباب التي شرحها الإمام الغزالي في كتاب التوحيد والتوكل هي ما
يعتقده المسلمون، وإنما كتبها للمسلمين لأنه بين في هذا الكتاب مقام التوكل الذي
هو أعلى مقامات الإيمان، وله كلام آخر في هذه المسألة مع الفلاسفة لا مع
المسلمين، وكلامه هناك يجب أن يكون بلسان يخالف هذا اللسان ولكن لا يناقضه
ذلك أنه هنا يشرح الواقع الذي يدل عليه الوجود وينطق بموافقته الشرع وهناك
يتكلم على العلل والتأثيرات الحقيقة في الإيجاد والإعدام وما قاله في الموضعين هو
الحق الذي لا محيد عنه كما نبينه.
ولا بد قبل الخوض في القسم الثاني من كلمة تمهيدية في الموضوع وهي أن
المغرورين بالظواهر من الفلاسفة المتقدمين كانوا ينزلون الأسباب العادية الظاهرة
منزلة العلل العقلية القاطعة وينسبون إليها التأثير ويزعمون أنها مطردة اطرادًا
ضروريًّا يستحيل انفكاكه، ولو نهضت لهم الحجة البالغة على ذلك لما خالفهم
المسلمون؛ لأن القاعدة المتفق عليها عند المتكلمين هي أن قدرة الله تعالى وإردته لا
تتعلقان بالمستحيل وإنما تتعلقان بالممكن فقط، ولكن لا حجة لهم على ذلك وإنما
هي شبهات كشف الحجاب عنها الغزالي وغيره، وتلك الأسباب التي مر القول في
اطرادها ممكنة فهي مطردة بفعل الله تعالى.
ولو سلَّم الناس بقول أولئك الفلاسفة لوقفت حركة العلم عند تلك الظواهر
التي كانوا يرون تغييرها محالاً عقليًّا وإنما المحال العقلي شيء واحد وهو اجتماع
النقيضين أو الضدين المساويين للنقيضين أو ارتفاعهما، ولو أن هذه الغرائب التي
كشفها العلم في عصرنا ذكرت لأولئك الفلاسفة القاصرين لجزموا باستحالتها
وأوردوا على ذلك من الشبهات النظرية مثلما أوردوه على القول ببعث الأجساد،
وأمثلة بعث الأجساد ظاهرة اليوم لعلماء الكيمياء ظهورًا تامًّا، قال الإمام الغزالي
في كتاب تهافت الفلاسفة ما نصه: (هذا ما أردنا أن نذكره في العلم الملقب عندهم
بالإلهيّ، أما الملقب بالطبيعيات فهي علوم كثيرة نذكر أنواعها لتعرف أن الشرع
ليس يقتضي المنازعة فيها ولا إنكارها إلا في مواضع) وأنبه القارئ إلى عطفه
الإنكار على المنازعة لتغايرهما، فالإنكار هو القول ببطلان الشيء مرة واحدة
والمنازعة هي المباحثة في دليله ليظهر الصواب مأخوذة من منازعة الثوب بين
اثنين، ثم قال الإمام بعد سرد أنواع العلوم الطبيعية المعروفة إلى ذلك العهد:
وإنما نخالفهم من جملة هذه العلوم في أربع مسائل:
(الأولى) حكمهم بأن هذا الاقتران المشاهد في الوجود بين الأسباب
والمسببات اقتران تلازم بالضرورة فليس في المقدور ولا في الإمكان إيجاد السبب
دون المسبب ولا وجود المسبب دون السبب وأثر هذا الخلاف يظهر في جميع
الطبيعيات، إلى أن قال ما نصه: وإنما يلزم النزاع في الأولى من حيث إنه ينتفي
عليها إثبات المعجزات الخارقة للعادة من قلب العصا ثعبانًا وإحياء الموتى وشق
القمر، ومن جعل مجاري العادات لازمة لزومًا ضروريًّا أحال جميع ذلك، وأولوا
ما في القرآن من إحياء الموتى وقالوا: أراد به إزالة موت الجهل بحياة العلم وأولوا
تلقف العصا لسحر السحرة بإبطال الحجة الإلهية الظاهرة على يد موسى شبهات
المنكرين، وأما شق القمر فربما أنكروا وجوده00 وزعموا أنه لم يتواتر) اهـ
بنصه.
ولينظر طلاب الحقيقة إلي تحريف صاحب الجامعة النصرانية قول الإمام
كيف كان، الإمام قال (وإنما يلزم النزاع في الأولى من حيث إنه ينتفى عليها
إثبات المعجزات) ومعناه أن محل النزاع في المسألة الأولى هو انتفاء إثبات
المعجزات بجعلها من المحالات العقلية التي لا يمكن وجودها ولا تتعلق قدرة الله
بها، وصاحب الجامعة يقول على لسان هذا الإمام ما نصه: ثم قال: وإنما يجب
علينا إنكار هذا القول؛ لأنه ينتفي به إثبات المعجزات) فجعل (الإنكار) محل
(النزاع) وزاد عليه جعله واجبًا وقد بيَّنا الفرق بين الإنكار والنزاع آنفًا، فإذا كان
نقل صاحب الجامعة عن رينان وعن غيره على هذا النحو من الفهم والأمانة فإننا نهنئ من يقرأ ما يكتبه بأن علمه عين الجهالة، وهدايته نفس الضلالة، ثم قال الإمام الغزالي في بيان الحق في المسألة من طريق العلم المؤيد لما يعتقده المسلمون
ما نصه (الاقتران بين ما يعتقده في العادة سببًا وما يعتقد مسببًا ليس ضروريًّا عندنا
بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر
ولا نفيه متضمن لنفي الآخر فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر ولا من
ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر مثل الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق
ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء،
وإسهال البطن واستعمال المسهل، وهلمّ جرًّا إلي كل المشاهدات من المقترنات
في الطب والنجوم والصناعات والحرف، وأن اقترانها لما سبق من تقدير الله
سبحانه لخلقها على التساوي لا لكونه ضروريًّا في نفسه غير قابل للفرق بل في
المقدور خلق الشبع دون الأكل وخلق الموت دون جز الرقبة وإدامة الحياة مع جز
الرقبة وهلمّ جرًّا إلي جميع المقترنات وأنكر الفلاسفة إمكانه وادعوا استحالته، ثم
ضرب لذلك مثالاً واضحًا حاجة لذكره.
وما ذكره الإمام الغزالي هنا هو ما عليه فلاسفة هذا العصر فإنهم لايقولون بأن
شيئًا من هذه الأشياء عندهم ممكن، انفكاك التلازم وقع كثيرًا ويسمون ما لا يعرفون
له منه علة (فلتات الطبيعة) وبعض الانفكاك كان بما اكتشفه العلم من أسرار الكون
ويتوقعون بهذه الاكتشافات ما لم يقع كإحياء الموتى ولو كان في نظرهم محالاً لما
توقعوه، ولكن صاحب الجامعة لا يميز بين الضروري والممكن فيخلط المسائل
بعضها ببعض، وقد صرح الغزالي فيما تقدم آنفًا بأن المتلازمَيْن في العقل تلازمًا
يثبت به أحدهما بثبوت الآخر وينتفي بانتفائه هما اللذان يستحيل انفكاك تلازمهما لأن
قدرة الله تعالى لا تتعلق بالمستحيل.
***
الوفاق بين قولي الغزالي ومذهب باكون
تقدم أن الغزالي قال في كتاب التوكل أن سنة الله في نظام الكون هي أن
الأسباب مرتبطة فيه بالمسببات ارتباطا كليًّا لا يختل إلا إذا لم تستوف الشروط التي
يتحقق بها السبب حتى قال إن السبب يتلو المسبب عند عدم المانع (لا محالة)
وفسر مثل قوله تعالى {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الفتح: 23) بهذا النظام في
الارتباط بين الأسباب والمسببات وهو التفسير المتعين، وقال في كتاب تهافت
الفلاسفة: إن هذا الارتباط بين الأسباب والمسببات العادية على اطراده ليس
بضروري في نظر العقل وعدمه ليس محالاً وإنما هو ثابت في الواقع ونفس الأمر
بحكمة خالق الكون ومدبره وإذا كان الله قد أحكم بحكمته الروابط بين حوادث الكون
فينبغي للناس أنْ يبحثوا عنها ويهتدوا بها في مصالحهم ومنافعهم ولا يتوقف هذا
الاهتداء على كون كل ما يظهر في العادة سببًا لشيء أن يكون انفكاكه عنه محالاً
عقليًّا.
ويعلم الناظر في فلسفة القدماء أنهم كانوا يعتمدون على الأدلة النظرية في
الحكم باستحالة الشيء أو وجوبه عقلاً فالغزالي وغيره من أئمة علم الكلام بينوا أن
المستحيل العقلي هو ما كان بمعنى اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما أو اجتماع
الضدين بمعنى النقيضين. وقالوا: إن المستحيل والواجب الضروري في نظر العقل
لا تتعلق بهما قدرة الله تعالى وإنما تتعلق قدرة الله تعالى بالممكن فقط، فكانت فائدة
قول المتكلمين في أمرين عظيمين هما أساس لترقي البشر (أحدهما) أن ما ثبت
أنه ضروريّ (واجب) أو مستحيل لا يطمع فيه الطامع لا من جهة الكسب ولا من
جهة الالتجاء إلى الله تعالى لأنه لا يتغير.
(ثانيهما) أن للممكنات سننًا منتظمة ينبغي للإنسان أن يعرفها وينتفع بها،
ولكن لا ينبغي أن يوقف حركة استعداده، عند ما يظهر له بادي الرأي أنه لا يتغير بل
عليه أن يبحث لعله يقف على سنة إلهية أخرى تكون السنة التي ظهر له اطرادها
مشروطة بها فيجمع بين الانتفاع بالسنتين معًا، مثال ذلك أن السنة الإلهية الظاهرة في
النار أنها تحرق ما يقبل الاحتراق، فلا ينبغي للإنسان أن يجزم بأنه لا يمكن أن ينتفي
هذا الاحتراق؛ لأنه ضروري بل عليه أن يبحث لأن الاحتراق ممكن وربما يكون
حصوله مشروطًا بانتفاء وجود مادة من المواد لو عرفت يمتنع الاحتراق بها، وقد
اكْتُشِفَ الآن ما يمنع الاحتراق في الجملة وانتفع به في وقاية المكاتب العمومية.
فبهذا التقرير أتى حجة الإسلام على تلك الفلسفة النظرية من القواعد (وإن
أساء ابن رشد في فَهْمِ بعض قوله وكابره في بعضه) وأظهر حكم الدين الإسلامي
في إطلاق العقل الإنساني من تلك القيود النظرية ليسبح في فلك الله مهتديًا بسنن الله
فيه وقد جرى (باكون) على هذا الأثر فقرر أن الأدلة النظرية لا يعتمد عيها في
إثبات المسائل العلمية ما لم تؤيد بالتجربة والاختبار، قال باكون هذه الكلمة التي
يعدونها أساس النهضة العلمية الجديدة في أوربا وقد كانت معروفة عند المسلمين من
قبله (كما تقدَّم في مقالات الإسلام والنصرانية) وما كانت عنده أكثر جلاءً
ووضوحًا لأنه كان يعتقد بخلافها كالتنجيم والكيمياء القديمة وحجر الفلاسفة وهي
أمور وهمية لا ترتقي إلى أن تكون نظرية مظنونة، ولكن أوربا كانت مستعدة
بارتقاء العلم فيها إلى الأخذ بما قال من وجوب الاعتماد على التجربة والاختبار
فعملوا بذلك وارتقى العلم به وعُدَّ باكون إمام هذه الطريقة التي قررها المسلمون
وعملوا بها من قبله.
والنتيجة أن صاحب الجامعة أخطأ في زعمه أن الإمام الغزالي أنكر الأسباب،
وفي زعمه أن مذهبه في السنن الإلهية غير ما قلناه في (المنار) وندعو إليه
دائمًا، وفي زعمه أن بينه وبين قاعدة باكون سورًا عاليًا، وفي زعمه أيضًا أن
التلازم بين الأسباب والمسببات أو النواميس إذا لم يكن ضروريًّا (أي واجبًا عقليًّا
يستحيل عدمه) تصير النواميس فوضى فإن خالق الكون وواضع نواميسه إذا كان
حكيمًا لا يفعل شيئًا إلا بنظام كما دلَّ على ذلك كتابه العزيز ودل عليه الوجود
فكيف يكون الأمر فوضى، ومن قال: إنَّ النظام في الكون مشروط بكونِ الله تعالى
غير قادر وغير حكيم؟ ما قال بهذا إلا صاحب الجامعة النصرانية يثبت أن مذهب
المتكلمين المسلمين باطل في نفسه ومؤدٍّ إلى إنكار حكمة الله تعالى وقدرته، ولم نر
من المنكرين على الدِّينِ أشد تهافتًا في طعنه بالإسلام وأئمته الأعلام مثل هذا الكاتب
الجديد الذي حاول الشهرة والنجاح من غير طريقهما كما فعل ذلك المعتوه الذي
تخلّى في مذبح تلك الكنيسة العظيمة ليشهر اسمه، فبئست الشهرة بمكابرة الحق
وتحريف كلام الأئمة لأجلِ دريهمات تجيء من عدو للإسلام يحب أن يتشفى من
أهله ولو بزور الكلام، وهو أعلى من أن تعرج إليه الأوهام.
__________(5/759)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاجتماع الثامن لجمعية أم القرى
في مكة المكرمة يوم الخميس الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 1316.
في صباح ذلك اليوم انتظمت الجمعية وقرأ البليغ الإسكندري ضبط اليوم السابق علي العادة المألوفة وأذن الأستاذ الرئيس للسيد الفراتي بإتمام بحثه.
فقال (السيد الفراتي) : إنَّ من أعظم أسباب الفتور في المسلمين غرارتهم
أي عدم معرفتهم كيف يحصل انتظام المعيشة؛ لأنه ليس فيهم مَن يُرشِدُهم إلى شيء
من ذلك بخلاف الأمم الأخرى فإنَّ من وظائف خدمة الأديان عندهم رفع الغرارة أي
الإرشاد إلى الحكمة في شئون الحياة، وأما الأقوام الذين ليس عندهم خدمة دين أو
الشراذم الذين لا ينتمون لخدمة دينهم فمستغنون عن ذلك بوسائل أخرى من نحو
التربية المدرسية والأخذ من كتب الأخلاق وكتب تدبير المنزل ومفصلات فن
الاقتصاد والتواريخ المتقنة والرومانات الأخلاقية والتمثيلية أي الحكايات الوضعية
نحو ذلك مما هو مفقود بالكلية عند غير بعض خاصة المسلمين.
على أن الخاصة السالمين من الغرارة علمًا لا يقوون غالبًا على العمل بما
يعلمون لأسباب شتى منها بل أعظمها جهالة النساء المفسدة للنشأة الأولى وقت
الطفولية والصبوة ومنها عدم التمرن والألفة [1] ومنها عدم مساعدة الظروف المحيطة
بهم للاستمرار علي نظام مخصوص في معيشتهم.
ثم قال: ولا أرى لزومًا للاستدلال على استيلاء الغرارة علينا؛ لأنها مدركة
مسلمة عند الكافة وهي ما ينطوي تحت أجوبتنا عند التساؤل عن هذه الحال بقولنا:
إن المسلم مصاب، وإن الله إذا أحب عبدًا ابتلاه، وإن أكثر أهل الجنة البُلْهُ،
وحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، وإن غيرنا مستدرجون، وإنهم كلاب الدنيا،
وإنهم يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، وإنهم في غفلة عن الموت وغفلة عن أنّ
الدنيا شاخَتْ.
ثم قال فمن (الغرارة) في طبقاتنا كافة من الملوك إلى الصعاليك أننا لا نرى
ضرورة للإتقان في الأمور، وقاعدتنا أن بعض الشيء يغني عن كله، والحق أن
الإتقان ضروري للنجاح في أي أمر كان بحيث إذا لم يكن مستطاعًا في أمر يلزم
ويتحتم ترك ذلك الأمر كليًّا والتحول عنه إلى غيره من المستطاع فيه إيفاء حق
الاتقان.
(ومن الغرارة) توهمنا أن شئون الحياة سهلة بسيطة فتظن أن العلم بالشيء
إجمالاً ونظريًّا بدون تمرن عليه يكفي للعمل به فيقدم أحدنا مثلاً على الإمارة بمجرد
نظره في نفسه أنه عاقل مدبر قبل أن يعرف ما هي الإدارة علمًا ويتمرن عليها
عملاً ويكتسب فيها شهرة تعينه على القيام بها.
ويقدم الآخر منا على الاحتراف مثلاً ببيع الماء للشرب بمجرد ظنه أن هذه
الحرفة عبارة عن حمله قِرْبة وقدحًا وتعرضه للناس في مجتمعاتهم ولا يرى لزومًا
لتلقي وسائل إتقان ذلك عمن يرشده مثلاً إلى ضرورة النظافة له في قربته وقدحه
وظواهر هيئته ولباسه وكيف يحفظ برودة مائه وكيف يستبرقه (كذا) ويوهم
بصفائه ليشهي به، ومتى يغلب العطش ليقصد المجتمعات ويتحرى منها الخلية له
عن المزاحمين، وكيف يتزلف للناس ويوهم بلسان حاله أنه محترف بالإسقاء كفًّا
لنفسه عن السؤال إلى نحو هذا من دقائق إتقان الصنعة المتوقف عليها نجاحه فيها
وإن كانت صنعته بسيطة حقيرة.
ومن الغرارة ظننا أن الكياسة في (أدْرِي وأقدرُ) جوابًا للنفس في مقاصد
كثيرة شتى، والحقيقة أن الكياسة لا تتحقق في الإنسان إلا في فن واحد فقط يتولع
فيه فيتقنه حق الإتقان كما قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الأحزاب: 4) فالعاقل من يتخصص بعمل واحد ثم يجاوب نفسه عن كل شيء
غيره: لا أدري ولا أقدر؛ لأن الأول يتكلف أعمالاً لا يحسنها فتفسد عليه كلها،
والثاني يتحرى لكل عمل لازمه من يحسنه فتنتظم أموره ويهنأ عيشه.
فالملك مثلاً وظيفته النظارة العامة وانتخاب وزير يثق بأخلاقه ويعتمد على
خبرته في انتخاب بقية الوزراء والسيطرة عليهم في الكليات، فالملك مهما كان
عاقلاً حكيمًا لا يقدر على إتقان أكثر من وظيفته المذكورة، فالملك إذا تغرر وتنزل
للتداخل في أمور السياسة أو الإدارة الملكية أو الأمور الحربية أو القضاء فلا شك
أنه يكون كربّ بيت يُداخل طبّاخه في مهنته، ويشارك بستانيه في صنعته؛ فيفسد
طعامه ويبور بستانه فيشتكي ولا يدري أن آفته من نفسه.
ومن (الغرارة) اللوث في الأمور أي تركها بلا ترتيب، والحكمة قاضية
على كل إنسان ولو كان زاهدًا منفردًا في كهف جبل فضلاً عن سائس رعية أو
صاحب عائلة أن يتخذ له ترتيبًا في شئونه وذلك بأن يرتب:
(أولاً) أوقاته حسب أشغاله ويرتب أشغاله حسب أوقاته والشغل الذي لا
يجد له وقتًا كافيًا يهمله بالكلية أو يفوضه لمن يفي حق القيام به عنه.
(ثانيًا) يرتب نفقاته على نسبة المضمون من كسبه، فإن ضاق دخله عن
المبرم من خرجه يغير طرز معيشته ولو بالتحول مثلاً من بلده الغالية الأسعار أو
التي مظهره فيها يمنعه من الاقتصاد إلى حيث يمكنه ترتيبها على نسبة كسبه.
(ثالثًا) يرتب تقليل غائلة عائلته عند أول فرصة ملاحظًا إراحة نفسه من
الكد في دور العجز من حياته فيربي أولاده ذكورًا أو إناثًا على صورة أن كلا منهم
متى بلغ أشده يمكنه أن يستغني عنه بنفسه معتمدًا على كسبه الذاتي ولو في غير
وطنه.
(رابعاً) يرتب أموره الأدبية على نسبة حالته المادية، أعني يرتب أموره
الدينية ولذاته الفكرية وشهواته الجسمية ترتيبًا حسنًا فلا يحمل نفسه منها ما لا تطيق
الاستمرار عليه.
(خامسًا) يرتب ميله الطبيعي للمجد والتعالي على حسب استعدادة الحقيقي
فلا يترك نفسه تتطاول إلى مقامات ليس من شأن قوته المادية أن يبلغها إلا بمحض
الحظ أي المصادفة، وخلاصة البحث أن الغرارة من أقوى أسباب الفتور الشخصي
ليس من عقيمات الأمور.
ثم قال إن لانحلال أخلاقنا سببًا مهمًا آخر أيضًا يتعلق بالنساء وهو تركهن
جاهلات على خلاف ما كان عليه أسلافنا حيث كان يوجد في نسائنا كأم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها التي أخذنا عنها نصف علوم ديننا وكمئات من الصحابيات
والتابعيات راويات الحديث والمتفقهات فضلاً عن ألوف من العالمات والشاعرات -
اللاتي في وجودهن في العهد الأول بدون إنكار- حجة دامغة ترغم أنف الذين
يزمعون أن جهل النساء أحفظ لعفتهن فضلاً عن أنه لا يقوم لهم برهان على ما
يتوهمون حتى يصح الحكم بأن العلم يدعو للفجور وأن الجهل يدعو للعفة، نعم،
ربما كانت العالمة أقدر على الفجور من الجاهلة ولكن الجاهلة أجسر عليه من
العالمة، ثم إن ضرر جهل النساء وسوء تأثيره في أخلاق البنين والبنات أمر
واضح غنيّ عن البيان، وإنما سوء تأثيره في أخلاق الأزواج فيه بعض خفاء
يستلزم البحث فأقول:
إن الرجال ميالون بالطبع إلى زوجاتهم، والمرأة أقدر مطلقًا من الرجل في
ميدان التجاذب للأخلاق ولا يتوهم عكس ذلك إلا من استحكم فيه تغرير زوجته له
بأنها ضعيفة مسكينة مسخرة لإرادته حال كون حقيقة الأمر أنها قابضة على زمامه
تسوقه كيف شاءت، وبتعبير آخر يغره أنه أمامها وهي تتبعه فيظن أنه قائد لها
والحقيقة التي يراها كل الناس من حولهما دونه أنها إنما تمشي وراءه بصفة سائق لا
تابع، وما قدَّر قدْر دهاء النساء مثل الشريعة الإسلامية حيث أمرت بالحجب
والحجر الشرعيين حصرًا لسلطتهن وتفرغهن لتدبير المنزل فأمرت باحتجابهن
احتجابًا محدودًا بعدم إبداء الزينة للرجال الأجانب وعدم الاجتماع بهم في خلوة أو
لغير لزوم، وأمرت باستقرارهن في البيوت إلا لحاجة ولا شك أنه ما وراء هذه
الحدود إلا فتح باب الفجور، وما هذا التحديد إلا مرحمة بالرجال وتوزيعًا لوظائف
الحياة.
والصينيون وهم أقدم البشر مدنية التزموا تصغير أرجل البنات بالضغط عليها
لأجل أن يعسر عليهن المشي والسعي في إفساد الحياة الشريفة ذاك الشرف الذي هو
من مقاصد الشرقيين بخلاف الغربيين الذين لا يهمهم غير التوسع في الماديات
والملذات.
وقد أمرت الشريعة برعاية الكفاءة في الزوج وذلك أيضًا مرحمة بالرجال
ولكن الأئمة المجتهدين أغفلوا لزوم تحري الكفاءة في جانب المرأة للرجل وأوجبوا
أن يكون هو كفؤًا لها فقط لكيلا تهلكه بفخارها وتحكمها على أن لرعاية الكفاءة
في المرأة بالنسبة إلى الرجل أيضًا موجبات عائلية مهمة منها التخير للاستسلام
والتخير لتربية النسل، وللتساهل في ذلك دخل عظيم في انحلال الأخلاق في المدن؛
لأن للتزوج بمجهولات الأصول أو الأخلاق أو بسافلات الطباع والعادات أو
بالغربيات جنسًا أو الرقيقات مفاسدَ شتى؛ لأن الرجل ينجر طوعًا أو كرهًا لأخلاق
زوجته فإن كانت سافلة يتسفل لا محالة، وإن كانت غريبة بَغَّضَتْ إليه قومه
وجرته إلى موالاة قومها والتخلق بأخلاقهم ولا شك أن هذه المفسدة تستحكم في
الأولاد أكثر من الأزواج.
وربما كان أكبر مسبب لانحلال أخلاق الأمراء من المسلمين أتاهم من جهة
الأمهات والزوجات السافلات؛ إذ كيف يُرجى من امرأة نشأت سافلة رقيقة ذليلة [2]
أن تترك بعلها وهو في الغالب أطوع من خلخالها أن يجيب داعي الشهامة أو المروءة
أو أن تغرز في رءوس صبيتها مقاصد سامية أو تحمسهم على أعمال خطرة! كلا،
لا تفعل ذلك أبدًا، إنما تفعله الشريفات اللاتي يجدن في أنفسهن عزة وشهامة [3] وهذا
هو سر أن أعاظم الرجال لا يوجدون غالبًا إلا من أبناء وبعول نسوة شريفات أو
بيوت قروية، وهذا هو سبب حرص أمراء العرب والإفرنج على شرف الزوجات.
(ثم قال السيد الفراتي) أيضًا: وإني أرى أن هذا الفتور بالغ في غالب
أهل الطبقة العليا من الأمة ولا سيما في الشيوخ مرتبة (الخور في الطبيعة) لأننا
نجدهم ينتقصون أنفسهم في كل شيء ويتقاصرون عن كل عمل ويحجمون عن كل
إقدام ويتوقعون الخيبة في كل أمل، ومن أقبح آثار هذا الخور نظرهم الكمال في
الأجانب كما ينظر الصبيان الكمال في آبائهم ومعلميهم فيندفعون لتقليد الأجانب
وأتباعهم فيما يظنونه رقة وظرافة وتمدنًا وينخدعون لهم فيما يغشونهم به كاستحسان
ترك التصلب في الدين والافتخار به فمنهم من يستحي من الصلاة في غير الخلوات،
وكإهمال التمسك بالعادات القومية فمنهم من يستحي من عمامته، وكالبعد عن
الاعتزاز بالعشيرة كأن قومهم من سقط البشر، وكنبذ التحزب للرأي كأنهم خلقوا
قاصرين، وكالغفلة عن إيثار الأقربين في المنافع، وكالقعود عن التناصر والتراحم
بينهم كي لا يشم من ذلك رائحة التعصب الديني وإن كان على الحق - إلى نحو ذلك
من الخصال الذميمة في أهل الخور من المسلمين الحميدة في الأجانب؛ لأن الأجانب
يموهون عليهم بأنهم Hkkkkkkkkkkkيحسنون التحلي بها دونهم.
وهؤلاء الواهنة يحق لهم أن تشق عليهم مفارقة حالات ألفوها عمرهم كما قد
يألف الجسم السقم فلا تلذ له العافية فإنهم منذ نعومة أظفارهم تعلموا الأدب مع الكبير
يُقبّلون يده أو ذيله أو رجله، وألفوا الاحترام فلا يدوسون الكبير ولو داس رقابهم،
وألفوا الثبات ثبات الأوتاد تحت المطارق، وألفوا الانقياد ولو إلى المهالك، وألفوا
أن تكون وظيفتهم في الحياة دون النبات ذاك يتطاول وهم يتقاصرون، ذاك يطلب
السماء وهم يطلبون الأرض كأنهم للموت مشتاقون، وهكذا طول الألفة على هذه
الخصال قلب في فكرهم الحقائق وجعل عندهم المخازي مفاخر فصاروا يسمون
التصاغر أدبًا والتذلل لطفًا والتملق فصاحةً واللكنة رزانةً وترك الحقوق سماحة
وقبول الإهانة تواضعًا والرضاء بالظلم طاعةً كما يسمون دعوى الاستحقاق غرورًا
والخروج عن الشأن الذاتي فضولاً ومد النظر إلى الغد أملاً والإقدام تهورًا والحمية
حماقةً والشهامة شراسةً وحرية القول وقاحةً وحب الوطن جنونًا.
ثم قال وليعلم أن النَّشْءَ الذين تعقد الأمة آمالها بأحلامهم عسى يصدق منها
شيء وتتعلق الأوطان بحبال همتهم عساهم يأتون فعلاً مذكورًا هم أولئك الشبان
ومن في حكمهم المحمديون المهذبون الذين يقال فيهم: إن شاب رأى القوم عند
شبابهم الذين يفتخرون بدينهم فيحرصون على القيام بمبانيه الأساسية نحو الصلاة
والصوم ويتجنبون مناهيه الأصلية نحو الميسر والمسكرات الذين لا يقصرون بناء
قصور الفخر على عظام نخرها الدهر ولا يرضون أن يكونوا حلقة ساقطة بين
الأسلاف والأخلاف الذين يعلمون أنهم خلقوا أحرارًا فيأتون الذل والإسارة، الذين
يودون أن يموتوا كرامًا ولا يحيون لئامًا، الذين يجتهدون أن ينالوا حياة راضية
حياة قوم كل فرد منهم سلطان مستقل في شئونه لا يحكمه غير الدين وشريك أمين
لقومه يقاسمهم ويقاسمونه الشقاء والهناء وولد بارّ بوطنه لا يبخل عليه بجزء طفيف
من فكره ووقته وماله، الذين يحبون وطنهم حب من يعلم أنه خلق من ترابه، الذين
يعشقون الإنسانية ويعلمون أن البشرية هي العلم، والبهيمية هي الجهالة، الذين
يعتبرون أن خير الناس أنفعهم للناس الذين يعرفون أن القنوط وباء الآمال، والتردد
وباء الأعمال، الذين يفقهون أن القضاء والقدر هما السعي والعمل، الذين يوقنون
أن كل ما على الأرض من أثر هو من عمل أمثالهم البشر فلا يتخيلون إلا المقدرة
ولا يتوقعون من الأقدار إلا خيرًا.
وأما النَّشء المتفرنج فلا خير فيهم لأنفسهم فضلاً عن أن ينفعوا أقوامهم
وأوطانهم شيئًا وذلك لأنهم لا خلاف لهم تتجاذبهم الأهواء كيف شاءت لا يتبعون
مسلكًا ولا يسيرون على ناموس مطرد؛ لأنهم يحكمون الحكمة فيفتخرون بدينهم
ولكن لا يعلمون به تهاونًا وكسلاً [4] ويرون غيرهم من الأمم يتباهون بأقوامهم
ويستحسنون عاداتهم ومميزاتهم فيميلون لمناظرتهم ولكن لا يقوون على ترك
التفرنج كأنهم خلقوا أتباعًا [5] ويجدون الناس يعشقون أوطانهم فيندفعون للتشبه بهم
في التشبيب والإحساس فقط دون التشبث بالأعمال التي يستوجبها الحب الصادق،
والحاصل أن شئون النشء المتفرنج أيضًا لا تخرج عن تذبذب وتلون ونفاق يجمعها
وصف (لا خلاق لهم) والواهنة خير منهم؛ لأنهم متمسكون بالدين ولو رياءً
وبالطاعة ولو عمياء على أنه يوجد في المتفرنجة أفراد غيورون كالراسخين من
أحرار الأتراك الملتهبين غيرة يقتضي احترام مزيتهم.
ثم قال (السيد الفراتي) : إن الخور المبحوث فيه علة معدية تسري من
الشيوخ إلى الشبان ومن الطبقة العليا إلى العامة وليت الشيوخ والكبراء يرضون بما
كتبه الله عليهم من الذلة والمسكنة والخمول وسقوط الهمة والدناءة والاستسلام
فيتركوا أهل النشأة الجديدة وشأنهم لا يستهزئون ولا يعطلون ولا يسفهون ولا
يثبطون وما أظنهم بفاعلين ذلك أبدًا إلا أن تتصدى لهم جرائد مخصوصة تقابلهم
باللوم والتبكيت وتتساقط عليهم أقلام الأدباء وألسنة الشعراء بوضع أهاجي وأناشيد
بعبائر بسيطة محلاة بنكت مضحكة لكي تنتشر حتى على ألسنة العامة، وبمثل هذا
التدبير تثور حرب أدبية بين النشء والواهنة لا تلبث أن تنتهي بانكسار الفئة الثانية
أولئك البائسين المتفاشلين المتواكلين المتقاعسين المتخاذلين المتشاكسين العاجزين
عن كل شيء إلا التعطيل.
ومن راجع تواريخ الأمم التي استرجعت نشأتها والدول التي جددت عصبيتها
يجد من حكمائها ونجبائها مثل حسّان قريش وكُميت العباسيين ولوثر الألمانيين
وفولتيير الفرنساويين قد تغلبوا على الفكر الواهن وأنصاره من الأشراف
والشيوخ وأهل العناد والفساد بحمل لواء النشء، وإثارة حرب أدبية حماسية بين
الفئتين على أننا نحن تكيفنا الضوضى ولا نحتاج قط للفوضى؛ لأن واهنتنا أضعف
من أن تحوجنا أن ننتظر أم حسان تلد حسانًا ورب حيلة أنفع من قبيلة. وهذا أنجع
دواء والله ولي النيات.
ثم ختم (السيد الفراتي) كلامة بقوله هذا ما سنح لي في هذا المرام وقام
وتبادل مع الفاضل الشامي والبليغ الإسكندري المقام.
قال (الأستاذ الرئيس) : إن مباحث الجمعية قد استوفت حقها وكفاني السيد
الفراتي تلخيص أسباب الفتور منها ولا أرى لزومًا لتلخيص بقية المباحث الدينية.
وقد أعطاني أخونا المدقق التركي رئيس لجنة القانون (السانحة) التي
وضعتها اللجنة مطبوعة في نسخ على عدد الإخوان لتوزع عليهم فيطالعها كل منهم
ويدققها قبل وضعها في اجتماعنا غدًا في موقع المذاكرة حيث يبحث فيها قضيةً
فقضية بدون جزاف، وأما اليوم فقد حل أوان الانصراف.
بادر (السيد الفراتي) وفرق على كل واحد من أعضاء الجمعية نسخة من
سانحة القانون فأخذوها وتفرقوا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كما يتربى أولاد أكثر أمرائنا على أيدي الآلات أو الخادمات وما أدراك ما تلك الحيوانات اهـ من هامش الأصل.
(2) كالكرجيات الأرمنيات والرقيقات الجركسيات أمهات أكثر الأمراء وزوجاتهم.
(3) كبنات بيوت المجد الحريصات على الفخر وبنات أهل البادية والقرى الأَبِيَّات النفوس، اهـ من هامش الأصل.
(4) أكبر ما يشق عليهم ويتكاسلون عنه الصلاة وهي عماد الدين ولنخاطبهم بلسانهم فنقول: إن الطهارة والوضوء هما عين (التواليت) أو بعضه وتمكن بدقيقتين أو ثلاث وأفعال الصلاة هي عين (الجمنستيك) وأكمل منه؛ لأنها موزعة ولا تستغرق الركعة منها أكثر من دقيقة، فأطول صلاة تطول عشر دقائق، بناء عليه فليبك على نفسه مَن يَقْصر نَشَاطه عن الصلاة والصوم الَّلذَيْنِ لو لم يكن فيهما حكمة غير أنهما شعار يعرف بهما المسلم لكفى.
(5) هذه حكمة الشرع في حظره وترك سنة الأسلاف وتقليد الأغيار ولو في اللباس وهذه الأمم الإفرنجية تنفر من التقليد حتى في القياسات والموازين.(5/771)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
الشذرة العاشرة من جريدة الدكتور أراسم [*]
(التقليد والذاكرة)
مثل هاتين القوتين في فتنة العقل والتغرير به كمثل الفتانات الخرافية التي
كانت تظهر في بحر صقلية وتستهوي الملاحين بشجي صورتها فتوردهم في شعابه
مورد الهلكة فإنهما بعلو مكانتهما وجلال خطرهما في دراسة اللغات وبخداعهما
العقل أحيانًا في آدابها بما يأخذانه عن الغير من محاسن القول وطرائفه يأكلان
الاستعداد الحقيقي أكلاً، وقد يكون الذنب في ذلك على المربين دونهما لما ينهجونه
من طريقة التربية فإن أحدًا لا يرتاب في كون تينك القوتين من المواهب الخلقية
الميمونة، بيد أن هذا لا ينبغي أن يكون سببًا للإفراط في تنميتها فإنك ترى التلميذ
الذي تربى على طريقتنا يصف لك بما قرأه في الكتب أشياء لم يرها في حياته
ويفوه أمامك بجمل من القول المنثور أو المنظوم تدل على ضروب من الوجدان
وهو لم يشعر بشيء منها قط ويبدي من الهيج والانفعال في بعض أحوال لا علاقة
له بها من حياة غيره ما لا أثر له في نفسه ولو أنك سألته أن يتغنى بذكر الأشجار
وظلالها والأنعام ورعاتها والربيع وأزهاره لوجد فيما يذكره من محفوظاته جميع ما
قاله فيها فرجيل [1] وهوارس [2] من النعوت والأوصاف ومع أنه قد يكون خيرًا له أن يذهب إلى
المزارع ويرى بنفسه ما يحصل فيها وكيف يحصل تراه شديد الاحتراس من
موافاتها خشية أن يخسر فيها وما تواضع عليه الأقدمون من الصور اللفظية لتأدية
ما كان يعرض لأذهانهم من المعاني والأفكار وإذا استوصفته قتالاً انبرى يصف لك
ما استعمل فيه من الآلات وكيف كان اصطدام الجيشين بألفاظ مطنطنة وعبارات
مجلجلة وهو لم يشهد شيئًا من ذلك أبدًا فإذا كان مرادك اختباره في محاصرة العدو
وجدته قد انتهى من حصاره كما انتهى فرتوت [3] ولقد عرفت فيما سبق تلميذًا كان
يبدو عليه كثير من مخايل النجابة نال إكليلاً مكافأةً له على قرضه شعرًا وصف فيه
زجّ سفينة في البحر وهو لم ير في عمره سفينة ولا بحرًا.
نعم إن الشبان في هذه الأيام لا يكادون ينفلتون من المدارس إلا وهم رافضون
لآثار السلف نابذون لها ظهريًا غير أنه لا معنى لهذا إلا أنهم يعتاضون عن مثل
الغابرين ومُثُل الحاضرين لأن محو طيّات التقليد وغضونه من النفس وإرجاعها إلى
صقالتها الفطرية ليس من السهولة بالمقدار المتوهم فإننا كل يوم نقرأ في وصف
الكتاب والشعراء المبتدئين قول واصفيهم في الواحد منهم أنه نابغة يفتش على نفسه
فليقلْ لي بربه هذا الفتّاش أين أضلّ نفسه حتى أصبح ينشدها.
إن تربيةً تكون بدايتها إضلال وجدان الاستقلال إلى حد أنه ينبغي لأجل
الاهتداء إليه تلمسه سنين طويلة لمن الغرابة بمكان.
أنا لا أشتهي ولا أرجو أن يكون (أميل) ميّالاً إلى وقف نفسه على دراسة
آداب اللغة ولو أني وهيلانة دأبنا في تحبيبها إليه وأفلحنا في حجب حالة عقله
بزخارف الذاكرة لأخفقنا في مسعانا إلى غايتنا المطلوبة، فاتقاء لهذا الخطر تراني
مصمّمًا على إرجاء تعليمه اللغات القديمة وإقرائه كتب مؤلفيها وقد جعلت له مشاهدة
الأشياء مقدمة على علم الألفاظ فأصبحت علومه على ما فيها من النقص لها أصول
في الخارج ترجع إليها ودعائم في الواقع تستقر عليها وسعيت في إيتاءه من آلات
الضبط والدقة العقلية ما هو لازم للإنسان في بحثه عن الحسن والحق أكثر جدًّا من
سعيي في الإفضاء إليه بما لي أو ما لغيري من المعاني.
وقبل أن أجعل البحث في مثل الأقدمين في مكنته سأعني كل العناية بتنبيهه
إلى أنَّ مثل هذه المثل لا تقلد فإنه من السخف المحقق أن نباري الغابرين مباراة
نحن على يقين من غلبنا فيها من قبل أنْ ندخلها، وكيف لا نكون مغلوبين لهم ونحن
نرضى لأنفسنا طريقتهم في الكلام والكتابة والذي لا غضاضة علينا في أخذه عن
كتاب اليونان والرومان إنما هو روح آداب لغتهم وما يناسب كل زمان وكل قوم من
أساليب الإنشاء وترتيب المعاني والدقة في التعبير عنها إنتقاد الألفاظ اللائقة بها فكما
أن من يعاشر بعض خواصّ الأجانب يقتبس شيئًا من خصائصهم بغير أنْ يكون ذلك
موجبًا لمشابهته لهم بحال من الأحوال كذلك معاشرة الأقدمين بواسطة ما تركوه من
آثارهم توحي إلينا شيئًا من عوائد العقل واللسان المناسبة لكافة الأقوام المستضيئين
بضياء العرفان.
التقليد الخسيس سواء قُلِّد فيه الغابرون أو الحاضرون لا يقتصر سوءُ أثره
على إضعاف الذوق والميل إلى الفنون بل إنه يسلب الناشئين شرف النفس وكرامتها
فلشَدَّ ما ينخدعون بما تؤديه لهم الألفاظ والجمل تفعل في نفوسهم ما يفعله السحر
الحقيقي فتراهم يتوهمون أنهم يتفكرون فيما يقولون ويكتبون والحق أنهم يرددون ما
فكر فيه المفكرون ولعمري إن هذا هو أصل بعض الأباطيل التي تحاول من قرون
عديدة إطفاء نور العقل، ذلك أن ضروب الاستعباد متلازمة فمن قبل واحدًا منها فقد
أخذ على نفسه الرضوخ إلى جميعها ألا ترى الشابّ المتعلم الذي اعتاد تقليد ما
يصفه المقلدون بالمُثل الحسنة يصاحبه في سيرته وأطواره روح اللين والانقياد الذي
ألّفه من التقليد فنجده يجبن ويفزع عند كل عزيمة ذاتية.
نعم إنه قد يخاطر بحياته في براز أو يعرضها للهلكة في ساحة قتال لأنه يرى
ذلك مستحسنًا في نظر الناس ولكنه إذا دعي إلى مقاومة عادة بربرية أو تأييد حق
قل ناصروه ورأى أن من وراء ذلك الاستهداف للسخرية والزراية عليه نكص على
عقبيه نكص الجبان وفر فرار الرعديد.
مثل هؤلاء المخلوقين المجردين عن ذواتهم يجدون طريق عيشهم ذلولاً
ويأتيهم رزقهم بلا نصب لكن ما أكثر ما يسومون أنفسهم من الخسف وما أحط ما
يسفلون بها إليه من دركات الذل، عرفت امرأة بَرْزَةً [4] محبوبةً حسنةَ المظهر
وكانت أرملة ولها ولد كان قبلة آمالها، فبدا لها في يوم من الأيام أن تنشئه على
أحسن آداب المواضعة المعروفة فرأت أن الاستشهاد بأقوال الكتاب اللاتينيين في
المقامات المناسبة من المحاورة والتمثيل بأشعارهم وإيراد أمثالهم من الأمور التي لا
بأس بها بل إنه يكسو المحاور إذا كان حسنًا بردًا من الخطر ويلقي عليه مسحة من
جلال القدر فأرسلت ولدها إلى المدرسة فغادرها كيوم كدخلها خفيف العقل لم يستفد
من العلم إلا قشورًا محبوبة عند الناس ولكونه أوتي ذاكرة مباركة كان يتكلم في
كل موضوع ويناقش في كل شيء ولا يبدي رأيًا إلا قوبل بالاستحسان لأنه يسهل
على كل إنسان أن يرضي الناس عنه إذا سلم لهم ما يقولون ولم يعارضهم في شيء
من آرائهم فكان ثرثارًا عديم الخلق حسن الصورة عقيم الفكر أرادت والدته أن
تصيّره رجلاً من الأكياس أو نائبًا لأحد الحكام أو معتمدًا سياسيًّا لحكومته في بعض
البلدان وإن أحببت أن تعرف ماذا صيرته قلت إنها صيرته طفيليًّا.
إن طريقتنا في التربية تظهر بادي الرأي سخيفة مضحكة وإن جاز أن تكون
مما يتعاصى على الأفهام إدراكه وربما لا تطابق أي طريقة غيرها مطابقتها لمقاصد
حكامنا ونظامنا السياسي.
التلامذة في مدارسنا مقترعون مدنيون تبكر الحكومة بتأهيلهم لوظيفتهم على
نظام معنوي يشف عن حذق واضعه، فأنت ترى القائمين على تربيتهم يوزعون
عليهم متاعًا من الآراء والعلوم التي يجب عليهم تقلدها في مستقبلهم مراعين في ذلك
الدقة العسكرية التي تراعى في توزيع متاع الجند وينادونهم: (الهوينا) أيها
الأحداث، وإياكم أن تحيدوا عن الخطة المضروبة لكم، نعم إن منهم من يولونهم
أدبارهم ولا يصغون إلى ندائهم وإن كثيرًا من هؤلاء يتحيزون إلى فئة الآخذين
بحرية النظر ويتضاعف عددهم كل يوم ولكن لشدة ما يلاقون على ذلك من العقاب
يحرمون من تقلد الوظائف العلمية في المدارس الجامعة ومن القيام بالوظائف
الإدارية في الحكومة فلا يولَّى أحدهم شيئًا منها وفوق ذلك تراهم إن لم يسيروا سيرة
مرضية وقد أخذت الحكومة على نفسها تعليمهم كيف يسيرون بما تتابعه لهم من
ضروب الإيذاء وما تبلوهم به من العقوبات والنكبات السياسية ولا جرم، فإنهم في
قبضة ماهر، والذنب عليهم في أنهم لم يعرفوا من قبل أن لهم واليًا يقوم عليهم
وأستاذًا يرشدهم.
ولمّا لم يكن هذا هو الفلاح الذي أرجوه (لأميل) وكان الذي يعنيني من أمره
قبل كل شيء إنما هو حفظ كرامته وشرفه من حيث هو إنسان كان نصيب هذه
الطريقة مني محض الإعجاب بها دون أن أرضاها لتربيته.
***
الشذرة الحادية عشرة
في المؤلفات المفيدة للناشئين واختيارها
أجد في نفسي انبعاثا كثيرًا إلى اعتقاد أنه لا شيء أضر على كتاب الأقدمين
وأدعى إلى هجر مؤلفاتهم من إطراء المعلمين إياهم واعتيادهم الإعجاب بما كتبوا،
ذلك أن هؤلاء بإلزامهم الطفل حفظ ما يختارونه له من هذه المؤلفات وإرشادهم إياه
إلى ما يجب عليه أن يراه فيها من ضروب المحاسن خشية أن يقصر في احترام
آثار سلفه وإكراههم له على ملاحظة جميع ما فيها حتى علامات الفصل والوصل
بذلك كله لا يفلحون غالبًا إلا في أن يكرهوها إليه وهي أحسن أعمال عقل الإنسان.
فالإفراط في الوقاية من جانب المُعلِّم يصير سببًا للضعف من جانب المُعلِّم
وإفراط ذلك في إعجابه بما يعلمه يذهب بالحمية من نفس هذا فيما يتعلمه.
والمقصود من التعليم على أي حال إنما هو إنشاء القوة الحاكمة في نفس
الطفل، أنا في شك من بلوغ هذه الغاية بالجري على تلك الطريقة فإنه على فرض
وجود التلامذة الذين يكون فيهم من الامتثال ما يكفي لأن يروا الحسن فيما يمدح لهم
والقبح فيما يذم (وفي التلامذة من هم كذلك) لا تكون أذواقهم من أجل ذلك أسلم من
أذواق غيرهم ولا أكثر منها دربة بل إن هذا مما يدعو إلى سلبهم قوة تمييزهم
الأمور بأنفسهم؛ فتكون همتهم في مستقبلهم مصروفة إلى النظر في الأمور والحكم
عليها حكمًا مستقلاً.
سأدع ابني وشأنه في انتقاء كتبه فلا أجتنب إلا ما يكون منها ضارًّا بالأخلاق
لأنّي أود أن يكون هو صاحب الخيار فيما يفضل في نظره من كتب الآداب فإذا
ضلّ ذوقه في الاختيار عَوّلت في ردّه إلى الصراط السويّ على ضروب نمو عقله
لا على ما يدعو إليه كدري من أنواع التوبيخ والتأنيب ومع كوني لا أضن عليه
بالإرشاد متى سألني إياه تجدني أقصد أن يلتمس في ما يطالعه تنمية أفكاره وتربية
ضروب وجدانه الذاتي.
نعم إني قد أشتهي أن أقدم له بعض كتب مخصوصة وأغتبط لو أنه اتفق معي
في التأثر بما فيها غير أني لا أجدني مُحقًّا في اقتضاء ذلك منه لأن الإعجاب
بالشيء من أجل أن يكون مفيدًا لا بد أن يتصدر عن نفس المعجب ولأن الإنسان في
كل طور من أطوار حياته منفردًا كان أو مجتمعًا يتصور للحسن كمالاً يطابق
بالضرورة بعض أحوال تتعلق بنفسه أو بوظائف أعضائه، يدلك على أننا لا نكاد
نعرف الآن ما قرأناه في عهد شبيبتنا من الكتب ولا مؤلفيها ولا نحس بشيء من
الميل إلى كتب الأدب التي طالعناها في ذلك الزمن، ولم يبق من الشعراء والكُتَّاب
الذين كانوا أساتذة فيه بكتبهم من يصحبنا في شيخوختنا إلا النزر اليسير.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرب من كتاب أميل القرن التاسع عشر.
(1) راجع عدد 1 من تعليقات الشذرة التاسعة.
(2) هوارس شاعر لاتيني مشهور ولد سنة 67 ومات سنة 8 قبل المسيح.
(3) فرتوت هو أسقف مؤرخ من الفرنجة ولد سنة 1655 ومات سنة 1735 ق م وهو مؤلف كتاب الفتنة السويدية والفتنة الرومانية وتاريخ الأشراف الكرام والمؤرخ يلمح إلى واقعة لهذا المؤرخ وهي أنه كان يكتب تاريخًا لحصار رودس وانتظر طويلاً ورود أنباء صحيحة له عنه فلم تحضر فأتم تأريخه قبل ورودها ثم قال إنني متكدر من ذلك ولكن قد انتهيت من حصاري.
(4) البرزة المرأة الجليلة التي تظهر للناس ويختلف إليها القوم.(5/778)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية
لقد أقبل الناس على هذا الكتاب إقبالاً لم يعهد في هذه البلاد وأمثالها حتى إننا
لنتوقع نفاذ نسخه المطبوعة كلها في زمن قريب جدًّا، وقد قدمنا نسخة منها إلى
رئيس علماء الدين في مصر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر فتقبلها بأحسن
قبول وأظهر لنا غاية الارتياح لطبعه وأثنى بما هو أهله ثم إنه لم يرض إلا أن
كافأنا بما هو أضعاف ثمن الكتاب وألزمنا بقبول المكافأة وحسبنا رضاه عن هذا
الأثر أدامه الله نصيرًا للإسلام، وقد نشرنا في آخر الكتاب أبياتًا من قصيدة في
تقريظه لأحمد أفندي الكاشف وإننا ننشرها أيضًا في المنار وهي:
سلامًا حجة الإسلام فينا ... ورضوانًا رجاء المسلمينا
عنيت بما كتبت فكان وحيًا ... يؤيد وحي ملهمك المبينا
فلم تترك لمتهم مكانا ... يرى فيه المزاعم والظنونا
فما بطل يخوض الحرب فردًا ... فما يدعو بآخر مستعينا
جهادًا في سبيل الله يفدي ... بمهجته المواطن أن تهونا
بأبقى منك آثارًا وذكرًا ... وقدرًا في قلوب العالمينا
وكان يراعك المنصور سيفًا ... وكان كتابك الدرع الحصينا
ملكت به معاقل عاليات ... نبت عنها سيوف الفاتحينا
وما ضرَّ الضلالُ الخلق حتى ... نفعتهم وأوضحت اليقينا
فرفقًا بالمكابر قد كفاه ... مجادلة وأوشك أن يدينا
ودعه في تأمله عساه ... يجيئك باعتراف المهتدينا
__________(5/783)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(رحلة صادق باشا العظم إلى صحراء إفريقية الكبرى)
الفريق صادق باشا المؤيد العظم أحد حُجّاب مولانا السلطان عبد الحميد خان
كاتب أديب وقائد شجاع وأمين عند مولاه يبعثه في المهمات السياسية والفنية والعملية،
فكان عهد إليه بأمر مد الأسلاك البرقية في الحجاز ثم بأمر النظر في سكة حديد
الحجاز من الأمور الفنية عهد إليه من قبل بالرحلة إلى صحراء أفريقيا واكتناه
شؤونها عامة وشؤون السنوسي وجماعته خاصة فقام بذلك وعهد إليه من بعد بالذهاب
مع بعثة إلى روسيا لمقابلة فيصرها في أمر سياسي، أما سفره إلى الصحراء بأمر
السلطان فقد كان مرتين وكتب فيها ما شاهد في المرة الثانية رحلة باللغة التركية
أودعها وصف ما رآه واختبره من أحوال المكان والسكان، وقد عرب الرحلة جميل
بك العظم طبعت في كتاب مستقل بعد طبعها في جريدة (معلومات) ولا شك أن
قراء العربية كلهم يحبون الاطلاع على مثل هذه الرحلة إلا من لا يحب التاريخ ولا
يحفل بما يبنى عليه من أحوال السياسة الحاضرة، والرحلة تطلب من إدارة مجلة
المنار بمصر.
***
(الإسلام في عصر العلم)
كتاب جديد يشتغل بتأليفه وطبعه محمد أفندي فريد وجدي، وقد جعله ثلاثة أقسام أحدها في (الإنسان) وثانيها في (المدنية) وثالثها في (ما وراء المادة) ورابعها في (حياة النبي صلى الله عليه وسلم) والغرض من الكتاب تأييد الدين الإسلامي بمباحث العلوم على ما انتهت إليه في هذا العصر.
الغرض شريف وحاجة المسلمين إليه شديدة فإن المفتونين منهم بمدنية أوربا
يخطف أبصارهم كل شيء يرونه من آثارهم ويختلب أفئدتهم كل ما يسمعونه من
علومها وعقولهم تتبع أفئدتهم وأبصارهم، فترى الكثيرين منهم في شك من دينهم
الذي انتموا إليه ولم يعرفوه حق المعرفة لاعتقادهم أن أولئك الذين تلك المدنية
مدنيتهم وتلك العلوم علومهم لا يعتقدون بصحة الدين، ومنهم الضعيف الواهن الذي
يكفي لإيقاعه في الشك أن تخفى حقية مسألة واحدة مما يعزى إلى دينه أو يراها
مخالفة لما يقول أولئك الخاطفون لبصره والمختلبون لفؤاده وربما تكون تلك المسألة
ليست من الدين بل من التقاليد اللاصقة بأهله أو تكون من الأمور الواردة فيه لا على
سبيل القطع أو يكون لها معنى غير ما يفهم أو يكون المخالف للمسألة هو المخطئ
ولكن من فتن باعتقاد عظمة إنسان لا يخطر له أنه يخطئ، التقليد يفتك بعقل المقلد
حتى يجعله أسيرًا لكل من يعتقد عظمته يسلم له بكل شيء تسليمًا.
أمثال هؤلاء يجب أن يعرفوا نسبة هذه العلوم وهذه المدنية إلى الإسلام وما
يؤيده منها ومن علومها، ولن يجدوا حاجاتهم هذه على طرف التمام إلا إذا انصرفت
همة الباحثين للتأليف فيها وهذا ما توخاه صديقنا محمد فريد وجدي في كتابه هذا
فنسأل الله تعالى أن يوفق إخواننا المسلمين لمساعدته على عمله بالإقبال عليه، وقد
اختار هو أن يصدر الكتاب لمن يشترك فيه منجمًا تنجيمًا في كل شهر 64 صفحة
من القطع الصغير اللطيف، وقيمة الاشتراك في السنة 30 قرشًا صحيحًا تدفع سلفًا
أو على ثلاثة نجوم، وهو يطلب من مؤلفه بالسويس.
***
(قاموس ألماني عربي)
إن الحاجة التي تسوق الأمم إلى الاقتراب من الأمة الألمانية ودراسة لغتها
أصبحت متأكدة وتزداد من يوم إلى آخر ذلك بأنها من حرب السبعين إلى اليوم
وصلت في علومها وصنائعها وتجارتها وسائر ضروب المدنية إلى درجة أبهتت
العالم فأخلت الأمم لها المحل الأول وصار الكثيرون من المتكلمين يدرسون لغتها
ويرحلون إليها في طلب الكمال وقد أخذ عدد من الشرقيين ليس بالقليل في دراسة
هذه اللغة يبتغون أن يصيبوا من هذا ما يصيبه غيرهم وسينمو هذا العدد من غير
شك تبعًا لامتداد العلائق بين البلاد الألمانية وبلادهم وازدياد المتكلمين وطلاب
الحقائق في هذه البلاد، هذا قول حق نلفت به القراء منهم إلى قاموس ألماني عربي
ظهر في هذا العهد، ألف هذا الكتاب العالم الفاضل اللغوي المؤرخ الدكتور أرنست
هردر المحرر بإحدى الجرائد الشهيرة التي تصدر ببرلين (بَحْلشْ رُنْد شَوْ)
والقاموس المذكور مشتمل على ثلاث وثمانمائة صفحة جمعت نحو ثمانية عشر ألف
كلمة مُرَاعى في جمعها حاجة المتكلم والقارئ في الكتب الأدبية سواء كانت جرمانية
الأصل أو دخيلة شائعة في اللغة، إن هذا الدكتور- وقد عاشرته زمنًا طويلاً - بعيد
أن يضع للكلمة الألمانية أخرى عربية بإزاءها إذا لم يكن المعنى واحدًا بل يعمد إذا
لم يصب الكلمة المطلوبة إلى التعبير عن المعنى في جملة يصيب بها الغرض قدر
ما يمكن ساعده على أداء هذه المهمة التي يعمل لها منذ عهد بعيد معرفته باللغة
المصرية الدارجة والفصحى وقد وضع فيها آجُرُّومِيَّة باللغة الألمانية سنة 1898
(بمطبعة هيدلبرج) وصادفت إقبالاً طيبًا، قد يضع المؤلف لغرض ما إزاء الكلمة
الألمانية أخرى من اللغة الدارجة مع التنبيه على ذلك، لم يوجد من قبل قاموس ألماني
عربي إلا واحد لحضرة البروفيسور فارمولد النمساوي إلا أنه غير واف بالغرض؛
ومن هذا أن كلماته لا تزيد على الثلث من ألفاظ الكتاب الجديد، إن هذه الخدمة
الجليلة التي قام بها هذا المؤلف هي في منفعة الناطقين باللغة العربية أكبر منها في
صالح قومه ولهذا نشكر له هذا العمل ونسأل له دوام التوفيق للعمل على الصالح
العام.
ومن أراد أن يكاتب حضرة المؤلف في أمر يخص كتابه أو نحو هذا فليتفضل
بالاستفهام عن طريقة ذلك من حضرة السيد الفاضل صاحب هذه المجلة (أحد القراء) .
(مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر) صدر الجزء الأول من هذا
الكتاب لمؤلفه المؤرخ المنصف جرجي أفندي زيدان صاحب مجلة الهلال وهو
خاص بتراجم الملوك والأمراء والقواد ورجال الإدارة والسياسة ولم نتمكن من مطالعة
شيء منه ولكننا نعلم أن طريقته في الهلال بل هو قبسة من نور الهلال، وصفحاته
264 وفيه 72 رسمًا وثمنه 15 قرشًا صحيحًا ويطلب من مكتبة الهلال بمصر.
***
(الحال بين العامة)
رسالة دينية أدبية تهذيبية اجتماعية، ألفها عبد العزيز أفندي فتحي
الجورجستاني وقال في مقدمتها إن أكبر داع دعاه إلى تأليفها هو أنه سمع من الشيخ
محمد عبده مفتي الديار المصرية كلمة قالها للناس بعد صلاة الجمعة في بلده (محلة
نصر) وهي: يكاد قلبي يقطر دمًا عندما أرى بدعة أسندها مبتدعها
إلى الدين: وتلا الأستاذ قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً} (الأعراف:
51) الآية، أما فصول الرسالة فهي: (1) الصدق والأمانة وضدهما (2)
الاقتصاد وبعض ما ورد في مدحه وذم ضده و (3) الإصلاح والمعاونة. (4)
حسن المعاملة وطاعة أولي الأمر. (5) النميمة والغيبة والحسد. (6) نشر
المعارف وفضل العلم. (7) العمل وترك الكسل. (9) المفاسد في الموالد.
(10) الطريق.
وختم الرسالة في انتقاد الوعاظ، ولا شك أن مطالعة العامة لهذه الرسالة
نافعة لأنها تنفر عن المنكرات وتحث على المعروف والخير، ولكن اسمها لا يطابق
مسماها إلا في كلمات من الفصول الأخيرة لأن سائر الفصول لا تشرح من أحوال
العام ما ينبغي شرحه فعسى أن يوفق المؤلف إلى كتابة ما يعرفه من
المنكرات الفاشية بين العامة بالتفصيل، ولم يعتن بتصحيح الرسالة كما يجب وذلك
لا يمنع من الانتفاع بها.
***
(النخبة)
ديوان شعر جديد لناظمه رشيد أفندي بن حنا مصوبع اللبناني وقد عرفنا الناظم
شابًّا متوقِّد الذكاء ومن أحسن شعره قصيدة يصف بها سوق إحسان أقامها سرب
من العذارى الإسرائيليات في فندق (كونتننتال) بمصر قال فيها:
حي في مصر أربع الغادات ... ومغاني الحسان والحسنات
أربع قد حوين كل صنيع ... من جميل وأوجه سافرات
يتجارى الفتيان فيه إلى البذ ... ل بإغراء أعين الفتيات
آنسات صيرن من كان في القو ... م بخيلاً يجود بالمكرمات
يستبيه لحظ الحسان فلا يلـ ... بث أن يبذل اللُّهى والهبات
كل خود للسحر في مقلتيها ... عقد خلبن بالنَّفَثَات
أخذت للفقير منا زكاة ... قابلتها من حسنها بزكاة
وغدا الزهر غالي السعر إذ قد ... كان يعطي من تلكم الراحات
ينثر الورد حولنا من يديها ... فنخال الخدود منتثرات
وتعير النسيم من صدرها أن ... فاس طيب نردها زفرات
إلى أن قال:
سوق حسن للعاشقين وسوق ... من جميل للبائسين العفاة
أنشأتها أيدي الكواعب منهـ ... ن ويا حسنهن من منشئات
ما كفننا محاسن العين حتى ... ملكتنا الحسان بالهبات
هكذا يجعل الجمال لفعل الـ ... خير لاللخلاب والمنكرات
هكذا تشفق الحسان وتغدو ... للذي رام قربها قاسيات
هكذا يكرم المتيم بالور ... د ولكن يُحْمَى عن الوجنات
هكذا يعرض الجمال مُحَلَّى ... بجميل الأفعال والغايات
هذا ما أردنا نشره من هذه القضية الرشيقة لتكون أحسن مثال للديوان، طبع
الشاعر ديوانه هذا وأهداه إلى نقولا بك توما المحامي لما شاهد من حبه للأدب وأهله.
***
(حديث ليلة)
قصة فكاهية غرامية تأليف القصصي الفرنسي الشهير إسكندر دياس الكبير،
وقد عربها الشيخ نجيب الحداد الذي كان أحسن كتاب هذا الوقت تعريبًا للقصص
في مطبعة المعارف التي هي في مقدمة المطابع المصرية إتقانًا للطبع فاجتمعت
في هذه القصة محاسن التأليف والتعريب والطبع ولذلك يرجى لها الانتشار بالطبع.
***
(المجلة المدرسية)
مجلة علمية أدبية وتصدر في كل شهر شمسي مرة، مديرها ومحررها سيد
أفندي محمد ناظر المدرسة التحضيرية الأهلية وقد صدر الجزء الأول منها في أول
يناير سنة 1903 في 16 صفحة وهو مصدر برسم سمو الخديو المعظم وفيه نبذة من
تاريخ سموه ونبذَّة بعدها في الكلام على الأسد كأن المراد بوضعه بعده مراعاة
النظير، وتشبيه الأسد بالأمير، في القسم الأدبي منه مقالة في (اللغة) وفي
ختامه خطب وجيزة لتلامذة المدرسة التحضيرية.
نحن نعرف من سيد أفندي محمد شابًّا غيورًا على الأمة والملة مجتهدًا في
تهذيب تلامذة مدرسته وقد أنشأ لهم جمعية في المدرسة يتمرنون فيها على الخطابة
والبحث بالقول ثم أنشأ لهم هذه المجلة ليتمرنوا بها على البحث بالكتابة والقراءة
فنرجوا له النجاح ونحث تلامذة سائر المدارس على قراءة مجلته ومساهمة
إخوانهم في مباحثها ولعله لا يعدم من محبي العلم والأدب في غير المدارس تنشيطًا
وإسعادًا، وقيمة الاشتراك في المجلة المدرسية 15 قرشًا صحيحًا في السنة.
***
(العلم الصناعي)
مجلة علمية صناعية تاريخية تصدر في كل شهر مرة لمنشئها عبد الرحيم
أفندي وفوزي وحسن فهمي أفندي أحمد المتخرجين في مدرسة الفنون والصنائع
الخديوية، صدر الجزء الأول منها في هذا الشهر في 16 صفحة مطبوعًا طبعًا
جميلاً بمطبعة الشعب على ورق جيد، وهي مفتتحة بمقالة في تاريخ الصناعة
وتأثيرها في (العمران) وتتلوها مقالة في سيرة مخترع القلم الأمريكاني مصدرة
برسمه وفيها نبذ أخرى في النتائج الصناعية، وقد كتب على غلاف المجلة
أن مراسلاتها تكون بعنوان (الشركة الصناعية بمصر والسودان بشارع محمد علي)
فإذا كان هناك شركة تصدر المجلة فإن النجاح يرجى لها بقدر رسوخ تلك الشركة
وثباتها وإلا فلا بد من تنويع مباحثها ليقبل عليها صنوف القراء لأنَّ البلاد لم ترتق
إلى حيث يكون فيها لكل نوع من أنواع الفنون والعلوم جريدة أو مجلة خاصة،
وقيمة الاشتراك في هذه المجلة عشرون قرشًا فعسى أن تصادف إقبالاً ورواجًا
لتحبب الصناعة إلى أهل هذه البلاد الذين هم في أشد الحاجة إليها.
***
(النبات)
جريدة إسبوعية علمية أدبية تهذيبية بشكل الجريدة الرسمية تصدر كل 15 يومًا
الآن وقد صدر العدد الأول منها منذ أيام وفيه مقالات في (شبان الغرب وشبان
الشرق) ونبذة في محاسن الأخلاق وأخرى في أشهر ملوك العالم، أما صاحبها فقد
كتب اسمه عليها هكذا (ا. عبد الحميد) ولكنه أرسل إلينا مع العدد الأول رقيمًا علمنا
منه أن الألف إشارة إلى (إبراهيم) فانتقدنا ذلك منه ولعله يصرح باسمه في الأعداد
الآتية، وأما قيمة الاشتراك فيها فهي 15 قرشًا صحيحًا في السنة، فنتمنى له التوفيق
ولجريدته الانتشار.
__________(5/784)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إعجاز أحمدي
أو سخافة جديدة لمسيح الهند
كل يوم تبتدي صروف الليالي ... خلقًا من أبي سعيد غريبا
وأبو سعيد هذا الزمان هو غلام أحمد القادياني المفتون بنفسه. المغلوب على
عقله وحسه، فهو كل يوم يأتينا بخلق غريب. وخَلْق من إفكه عجيب، ففي الشهر
الماضي أرسل إلينا قصيدة من المخزيات، ولكنه نظمها في سلك ما يّدعيه من
المعجزات، وجعل لها مقدمة هذيانية. ولكنها باللغة الأوردية، وأرسل لنا معها
منشورًا باللغة الإنكليزية، يقول فيه أنه أوتي من البلاغة في العربية ما لم يؤته أحد
من العالمين، وأنه يتحدى بقصيدته هذه جميع المطلعين، ومن يعارضها في الهند
من شعراء العربية يُعطى عشرة آلاف روبية، ولم يذكر لنا الحاكم الناقد، الذي
تعرض عليه القصائد ليميز بين سحر البيان، وبين اللغو والهذيان، وقد أخرنا
الكتابة في هذه السخافة الجديدة لأننا كنا عازمين على قراءتها كلها وإظهار ما فيها من
الأغلاط اللغوية والنحوية والصرفية والعروضية والتنبيه على ما فيها من السرقات
الشعرية، التي سلخها من كلام فحول الرجال، ومسخها ولا غَرْوَ أن يظهر المسخ
على يد المسيخ الدجال، ثم بدا لنا أن هذه الانتقادات ليست بضرورية، عند العارفين باللغة العربية، فإنَّ عَرْضَ القصيدة عليهم يكفي لمعرفة دركها في السخافة،
وأما المخدوعون به من الأعجمين في الهند فلا يفهمون انتقادنا إذا هو وصل إليهم
لذلك نذكر هنا أبياتًا من القصيدة ونترك للقراء الضحك منها ومن غرور المستدل بها
على دعوى المسيحية قال:
أيا أرض مُدٍّ قد دفاك مدمر وأرداك ضلّيل وأغراك موغر
دعوتِ كذوبا مفسدًا صيدي الذي ... كحوت غدير أخذه لا يعزّر
وجاءك صحبي ناصحين كإخوة ... يقولون لا تبغوا هوًى وتصبّروا
فظل أُسارى كم أسارى تعصب ... تريدون من يعوي كذئب ويختر
فجاءوا بذئب بعد جهد أذابهم ... ونعني ثناء الله منه ونظهر
فلما أتاهم سرهم من تصلف ... وقال افرحوا إني كميّ مظفر
وقال استروا أمري وإني أردهم ... أخاف عليهم أن يفروا ويدبروا
وأرضى اللئام إذا دنا من أرضهم ... على النار مشاهم وقد كان يبطر
ومنها في هجو منكر عليه:
فلما اعتدى وأحس قومي أنه ... يصرّ على تكذيبه لا يقصر
دعوه ليبتهلن لموت مزوّر ... مضل فلم يسكت ولم يتحسر
وكذب إعجاز المسيح وآيه ... وغلطه كذبًا وكان يزور
ثم قال هذه الأبيات التي كتب بإزائها في الهامش أنها وحي من الله تعالى:
فقد سرني في هذه الصور صورة ... ليدفع ربي كلما كان يحشر
فألفت هذا النظم أعني قصيدتي ... ليخزي ربي كل من كان يهذر
وهذا على إصراره في سؤاله ... فيكف بهذا السُّئل أغضى وأنهر
وليس علينا في الجواب جريمة ... فنهدي له كالأكل ما كان يبذر
فإن أك كذابًا فيأتي بمثلها ... وإن أك من ربي فيغشى ويثبر
وهذا قضاء الله بيني وبيهم ... ليظهر آيته وما كان يخبر
قطعنا بهذا دابر القوم كلهم ... وغادرهم ربي كغصن نجذر
أرى أرض مُدّقد أريد تبارها ... وغادرهم ربي كغصن تجذر
أيا محسنى بالحمق والجهل والرٌّغا ... رويدك لا تبطل صنيعك واحذر
أتشتم بعد العون والمن والندى ... أتنسى ندى مدٍّ وما كنت تنصر
ترى كيف أغبرت السماء بآيها ... إذا القوم آذوني وعابوا وغبّروا
فلا تتخير سبل غيّ وشقوة ... ولا تبخلن بعد النوال وفكر
***
سخافة أخرى لمسيخ الهند الدجال
قلنا إنه أرسل إلينا في الشهر الماضي قصديته الإعجازية، ونقول أيضًا: إنه
أرسل إلينا في هذا الشهر رسالة باللغة الإنكليزية، وكتبها باسم ملك الإنكليزلا باسم
الله، وجعلها خدمة للدولة الإنكليزية - في زعمه ووهمه -، ولكن لم يكتب في
الحقيقة ما هو أضر منها على السياسة الإنكليزية. وهذا شأن الصديق الأحمق يريد أن
ينفع فيضر.
من سياسة هذا المسيخ الدجال أنه نسخ حكم الجهاد في الإسلام لكيلا تعارضه
الدولة الإنكليزية في دعوته ظنًا منها أنه يؤلف عصبية دينية للخروج عليها في الهند
كما يفعل أمثاله الدجالون الذين يَدَّعي كل خارج منهم أنه المهدي المنتظر، وقد كتب
في هذا المعنى كثيرًا، وإنما كانت كتابته في هذه الرسالة وأمثالها ضارّة ومناقضة
للسياسة الإنكليزية؛ لأنه يقول فيها: إن جميع علماء المسلمين يقولون بوجوب
الجهاد الديني، وأنهم جهلاء مخطئون في هذه الدعوى. فإذا انتشرت هذه الرسالة،
وقرأها الناس فربما تتحرك نفوسهم إلى الأمر الذي تصرح الرسالة بأن العلماء
مُجْمِعون عليه ولا تلتفت إلى تخطئة خارجي مثل غلام أحمد القادياني لهم.
وأما الرأي الأفين الذي أشار به على الحكومة الإنكليزية وهو جمع مؤتمر من
العلماء للنظر في مسألة الجهاد واستقراء أدلتها في الكتاب والسنة ليظهر لهم أنه غير
واجب فيقرروه - فهو رأي لا ترضى به سياسة حكيمة كالسياسة الإنكليزية ولا هي
محتاجة إليه. أمّا عدم رضاها به فلأنه إذا قرر العلماء خلاف ما يقول غلام أحمد
الدجال فيخشى من وقوع فتنة عظيمة، وأما عدم حاجتها إليه فلأن أهل الهند
راضون من حكومتهم ولا يخطر في بالهم الخروج عليها وحسبها هذا منهم. ولو
كان هذا الدجال يتجنب هذه الأوحال، لكان أسلم له على كل حال.
__________(5/789)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(الحج في هذا العام)
أمرت حكومة تونس وحكومة الجزائر الفرنسية بمنع الحج في هذا العام لئلا
يحمل الحجاج من بلاد الحجاز جراثيم الوباء الموهوم إلى بلادهم فَتَيْبَأ بهم وأرادت
حكومة مصر أن لا يحج في هذا العام إلا الأغنياء القادرون على الاحتياطات
الصحية؛ إذا نزل البلاء ووقع الوباء واحتيج إلى النفقة الواسعة. فأمرت بإلزام كل
مَن يريد الحج بدفع خمسين أو سبعين جنيهًا للحكومة تكون أمانة عندها تنفق عليه
منها ما تنفقه بقدر الحاجة وترد إليه ما يبقى بعد عودته إذا عاد وبقي من المال بقية.
ضمنت الحكومة للحجاج بإزاء ذلك القيام بجمع شؤونهم في السفر. وقد استكثر
الناس هذا القدر من المال واعتقد الأكثرون أن الغرض منه التنفير من الحج والتمهيد
لمنعه ولذلك طلب مجلس الشورى من الحكومة أن تنقص منه فلم تقبل، والناس في
استياء عظيم من جراء ذلك، وقد كتبوا من جهات متعددة يشكون للحكومة بل
لمستشاريها ومديريها من الإنكليز ثقل ذلك المال المفروض، وأكثر الشكوى كانت
لمستشار نظارة الداخلية ولكنها لم تغن شيئًا. على أن الوقت لم يفت واللورد كرومر
صاحب النقض والإبرام في السودان.
ولقد كان في هذا العمل فرصة للإنكليز يمكنون بها ميل المصريين عامة إليهم
لو اغتنموها وخففوا من المال المفروض شيئًا. ولعل الذي يمنعهم من تلبية الأهالي
وسماع شكاويهم هو لغط أحداث السياسة بالمسألة، ونشر تلك الشكاوي في بعض
الجرائد المتطرفة على ما فيها من الطعن بالحكومة الإسلامية التي فرضت ذلك المال
بالاتفاق. فكأن مستشار الداخلية خجل من أن يطلب من هذه الحكومة الرجوع عن
شيء قررته، وكان هو راضيًا به لأن الأمة التجأت إليه وحده دون الأمير ودون
نظار حكومته، بل مع التعريض بذمهم والطعن بدينهم.
ولو أراد المصلحة من أشرنا إليه من أحداث السياسة لما نشر في جريدته كلمة
من شكاوي الأهالي الجارحة لثلاثة أمور:
(أحدها) أن نشرها يثبت أن قلوب الأهالي انحرفت عن الحكومة الخديوية
الإسلامية، ولم يبق لها رجاء تتيممه في مصلحة من مصالح دينها ودنياها إلا
المحتلون.
(ثانيها) أن نشرها يكون صادًّا للمحتلين عن إغاثة الناس؛ لعلمهم بأن ذلك
يتضمن إهانة الحكومة على لسان من يفتخر دائمًا بالطعن في الحكومة وفي المحتلين
بسبب وبدون سبب، ويرمي الجميع بسوء القصد. فلا يرضى المحتلون أن يغيثوا
الأهالي ليفتخر ذلك الحدث الصغير بأنه كان الحامل لهم على ذلك بما لجريدته من
قوة التأثير.
(ثالثها) أن نشرها في الجرائد ينتهي بإقرار من نشرها وتسجيله كون
المحتلين هم الغوث الوحيد للمسلمين، والقائمون بمصالحهم الدينية والدنيوية دون
حكومة الأمير الإسلامية، هذا لو أَشْكَوْا الأهالي وأجابوا طلبهم، وعند ذلك لا يبقى
للأحداث سبيل إلى الطعن فيهم وهو بضاعتهم التي يعيشون منها.
ولذلك تعجب الناس من نشر تلك الشكاوي المفصحة عن تعلق قلوب مسلمي
مصر بالإنكليز من جريدة الأحداث التي تتَّجر بذمهم. قالوا: إذا كانت الجريدة لا
ترجو نفع تلك الشكاوي فهي ساعية في هدم سياستها الأولى، وهي لا يمكن أن
تنجح بغيرها، وإن كانت لا ترجو نفعها، وإنما تنشر صور تلك الشكاوي لعلمها
بأن نشرها يغيظ المحتلين، ويحملهم مع الحكومة على الإصرار؛ فهي لا تقصد نفع
المسلمين ولا تسعى في تسهيل الحج عليهم. وأصحاب الرأي يعلمون أن تلك
الجريدة لا يهمها كَثُرَ الحجاج أو قلُّوا، وإنما سبب الصياح والعويل شيء واحد وهو
جذب قلوب الأهالي إلى الجريدة وإيهامهم أنها أشد غَيْرة عليهم وعلى دينهم من
غيرها، وهذا مقصد يتلاشى أمامه التفكير في نتيجة النشر هل تكون تسجيل مدح
الإنكليز والطعن بحكومة الأمير أو تكون الإصرار على تنفيذ ما أمرت به الحكومة.
والذي لا ريب فيه أن نشر تلك الشكاوي الجارحة كلها كان ضارًّا وما كان يتصوَّر
له وجه منفعة قط.
أما نحن الذين لا يهمنا إلا تسهيل سبيل الحج لأنه عبادة لله تعالى - ونحن
دعاة دين لا دعاة سياسة - فلم ينقطع أملنا من سمو الأمير ومن حكومته لأننا نعلم
أنهم لم يأمروا بما أمروا به ليصدُّوا الناس عن سبيل الله. كيف وحكومة مصر لا
تقاس بحكومة إسلامية أخرى كحكومة تونس مثلا؛ لأن أكبر شرف لها عند
المسلمين أنها تسيّر ركبًا مخصوصًا للحج وتقدم كسوة الكعبة فهي مساهمة للدولة
العلية في خدمة الحرمين الشريفين وهي جارة البلاد المقدسة. فحكومة عزيز مصر
لا يسهل عليها أن يخدش هذا الشرف ولا أن ينتقص. ولكنها أمرت بما أمر به
لتمنع الفقراء عن الحج خوفًا عليهم وعلى البلاد في هذا العام فإذا لاحظت الآن أن
الأغنياء قلّما يحجون لأنهم مشتغلون بتمتعهم، وهم أحرص الناس على حياة وأن
الخير في جميع الأمم إنما يكون غالبًا في الطبقة المتوسطة، وأن أهل هذه الطبقة هم
أقرب إلى الصحة من الأغنياء لقلة الإسراف وقلة الوهم والوساوس، ولكن يثقل
على الأكثرين منهم أن يعطي أحدهم الحكومة خمسين جنيهًا أو سبعين غير ما يأخذه
معه وما يتركه لأهله وعياله من النفقة - وإذا لاحظت مع هذا أيضًا أن الأمة كلها
مستاءة من ثقل هذه الفريضة، وتشكو منها وتطلب تخفيفها وكل الحكومات العادلة
والدستورية تحترم الرأي العام - فلا غرو أن يأمر مولانا الأمير - أعزه الله -
باجتماع مجلس النظار ثم يصدرون أمرًا آخر بتخفيف ما فرض أوّلاً إلى نصفه مثلا،
والنسخ معهود في الشرائع السماوية وفي القوانين الوضعية بالأولى. يجب أن
يكون الأمير وحكومته محل الرجاء وغاية ما نرجو من حرية المحتلين أن لا
يعارضوا في مثل هذا الأمر الديني وما كانوا معارضين.
إذا كان غرض الحكومة أن يكون ركب الحج في هذا العام مؤلفًا من أهل
اليسار فما كان أجدر الموسرين بالانتظام في هذا السلك الدريّ الذي لا خرز بين
درره ولآلئه، ونخص بالذكر المترفين الذين يؤخرون الحج لما يكون فيه من الزحام
وقلة العناية بالنظافة لصعوبتها مع كثرة السواد من الفقراء. ولو هزّت الأريحيّة
الإسلامية بعض النظّار إلى الحج لكان فيمن يحج منهم هذا العام أسوة حسنة لكثير
من الأغنياء ولكان أجره بذلك عند الله مضاعفًا ومقامه في نفوس المصريين رفيعًا
مشرفًا، وإذا لم يبادر عدد كبير من الأغنياء إلى الحج لإحياء شعائره وحفظ شرف
مصر الديني فلا سلام على الأغنياء. ولا زادهم الغنى إلا تعاسة وشقاء.
***
(الجامعة الدينية والجامعة الوطنية)
بينا رأينا في الجامعتين مرات كثيرة وأحسن ما كتبناه في ذلك وأوضحه مقالة
مسهبة في المجلد الثاني من المنار عنوانها (الجنسية والدين الإسلامي) أثبتنا فيها
بالبرهان المعقول أن تمسك المسلمين بدينهم واعتصامهم بعروة جامعته هو المؤلف
الوحيد بين مصالحهم ومصالح من يساكنهم في بلادهم، والحامل لهم على موادّة من
ليس على دينهم ففيه معنى الوطنية التي يطلبها بعض عقلاء المسيحيين في الشرق
لعلمهم بأن سعادته في تأليف بين شعوبه المتفرقين في الدين تفرقًا كثيرًا. ومن
هؤلاء العقلاء بعض أصحاب الجرائد السوريّة المسيحية في سوريا ومصر وأمريكا
ومما نعتقد فيه الإخلاص من هذه الجرائد (المناظر) ، ويعرف أصدقاؤنا في مصر
أننا كثيرًا ما فضلناها على غيرها من الجرائد العربية، ونوّهنا بموضوعاتها
النافعة.
ومن الناس المشتغلين بالصحافة من يلغط بالوطن والوطنية بغير علم ولا هدى
منهم الذي يلقب في المنار بحدث السياسة؛ فإنه خلق وطنية لا يعرفها أحد سماها
(الوطنية الحقة) ومعناها أن يبغض المصريُّ المسلم كل من ليس مصريًّا؛ لأنه ليس
وطنيًّا وإن كان كالمصري في لغته ودينه وجنسيته السياسية، وهي (العثمانية)
وأن لا يحبَّ القبطيَّ المصري لأنه مسلمًا. فهذه الوطنية الباطلة التي لا يتصور فيها
العاقل إلا المَضَرَّة هي التي تحمل عليها في المنار حملاتنا المعروفة، وإننا نرى
جميع الكتاب من المسلمين والمسيحيين يوافقوننا على محاربة هذا الهذيان
الضار.
وقد اتفق لبعض الكاتبين السوريين في البرازيل أنْ كتب في (المناظر) كتابة
في الدعوة إلى الوطنية، ونبذ التعصبات الدينية، ثم اتفق له أن رأى في المنار كلمة
في (حدث السياسة) ووطنيَّته فظن أنه المَعْنيُّ وطفق يرد علينا ملقبًا إيانا (بكهل
السياسة) وعساه يطلع على هذه النبذة فعلم أنه ليس المَعْنيّ بالحدث وإننا لسنا من
السياسة في شيء، وإننا إن كنا ندعو المسلمين إلى النهوض باسم الإسلام، فإنما
ندعوهم إلى العلم والتعليم والتربية التي تقضي بها حالة العصر لا على السياسة
وأحزابها وعصبياتها وملوكها وأمرائها، نرى المسلم في تركيا وروسيا والهند
والجلوه ومصر وتونس والجزائر وفي سائر الأقطار متأخرًا في العلم والتهذيب
والعمل النافع. ونرى أن للتقاليد تأثيرًا في هذا التأخير فهو يتوهم أن ذلك من الدين
ونحن نعلم أن الدين ضده فنحن ندعوه باسم الإسلام الحقيقي إلى نبذ الوهم أو
تحصيل العلم ليجاري مجاوريه في سبيل الحياة، ولا يمكن أن ندعوه هذه الدعوة
باسم الوطنية بأن مجلتنا ليست سياسية ولا تجارية ولا زراعية لتحث أهل الوطن
الواحد على الاتفاق في ترقية هذه الأمور باسم الوطن، على أننا لا نقصر في
الدعوة إلى التأليف، بل هو أمر عرفنا به ولا نعرف كاتبًا عربيًّا كتب فيه
ما كتبنا.
***
(التعصب الديني والجرائد والمجلات)
التعصب الديني بمعنى الاعتصام به، والاستمساك بعروته فضيلة هي أُم
الفضائل، والتعصب بمعنى إيذاء المتدين لمن يخالفه في دينه رذيلة تتولد منها
مصائب كثيرة لا سيما إذا أنشئت لهذا التعصب جرائد ومجلات تدعو إليه وتحركه،
والتعصب بالمعنى الأولى قوي عند المسلمين لا يساويهم فيه أحد حتى في هذا الطور
الذي هم فيه الآن طور الضعف والتأخر، والتعصب بالمعنى الثاني لا يسلم منه أهل
مِلَّة ولكنه عند المسلمين أضعف منه عند غيرهم ولا سيما النصارى.
انظر ترى المسلمين أكثر من تسعة أعشار أهل القطر المصري، ولكنه ليس
لهم جريدة دينية ولا مجلة مِلِّية إلا المنار وهو حديث العهد فيهم. والنصارى لهم فيه
عدة جرائد ومجلات دينية على قلة عددهم. واقرأ هذه الجرائد والمجلات تجدها
ملأى بدعوة المسلمين إلى النصرانية والطعن بالإسلام ولا ترى في (المنار
الإسلامي) دعوة للنصارى إلى ترك دينهم والدخول في الإسلام، وقد مرّت عليه
ثلاث سنوات من أول نشأته وهو مُعْرِض عن الرد على المعترضين والقادحين في
الإسلام، على كونهم يرسلون إليه كتبهم وجرائدهم؛ لأننا لم نكن نرى المسلمين
مبالين بها فأحببنا بقاء ذلك السكون بالسكوت عنهم. ولكننا لما رأينا سوء تأثير
بعض الكتب والمجلات فتحنا في المنار بابًا لرد شبهات المسيحيين، التزمنا فيه
الأدب والحجة وما كنا معتدين.
أليس عجيبًا أن تسعة ملايين من المسلمين في مصر ومئات من الملايين في
غيرها لا تعرف لهم إلا مجلة دينية واحدة، ويوجد في كل قطر من أقطارهم جرائد
ومجلات كثيرة لأولئك الشراذم الذين يساكنونهم وهم أقل منهم عددًا ومالاً وتمسكًا
بالدين؟ نعم، إن هذا عجيب وأعجب منه أن جرائد الشراذم الصغيرة تعتدي على
تلك الملايين الكثرة، وتطعن بدينهم وتدعوهم إلى تركه واتِّبَاع دينها. وإن تعجب
فهناك ما هو أعجب من الأمرين، وهو أن المسلمين يشتركون بتلك الجرائد
ويعضدونها بإقبالهم عليها! ! وهم يعلمون أن النصارى لا يكادون يشتركون بجريدة
صاحبها مسلم إن لم تكن دينية إلا لغرض شخصي ونحوه! ! وأما المجلة الدينية
الإسلامية الوحيدة وهي (المنار) فليس لها من المشتركين المسيحيين إلا اثنان من
القبط (وكان لهم ثالث اشترك ثلاث سنين ولم يدفع شيئًا من قيمة الاشتراك فرمج
اسمه) وخمسة من السوريين، وفي ذلك عبرة للمعتبرين.
ومن العبر التي هي إحدى الكُبَر، ما جاءت به (الجامعة) في الأيام الأُخر،
وهو أنها تصدت للطعن في الإسلام، وفي أئمته الأعلام، من طريقة خدمة العلم
دون الدين، ودعوى إرادة النصيحة للمسلمين، وهي تجد مع هذا من يشترك فيها
منهم بل يزعم صاحبها أنه كان بين أنياب الفقر، ومخالب الضنك والعسر، إلى أن
تحرش بالمسائل الإسلامية، وناطح بقرنه أعلام المِلَّة الحنيفية، فأقبل عليه
المسلمون، وهم من كل حَدَب ينسلون، ومازالت تتوالى عليه منهم (الاشتراكات) ،
حتى زال عَنْهُ بمالِهم (الضنك والعسرات) ، والعبرة في هذا على تقدير صدقه
ظاهرة، وأما العبرة على تقدير تمويهه وتعظيمه لشأن نفسه وبراعته في الإعلان
عن جامعته فهي أن المسلمين في اعتقاد هذا الرجل قد بلغوا من الجهل والحماقة
مبلغًا يستزلهم فيه بمثل هذا الكلام إلى مكافئته على الطعن بدين الإسلام.
وأكبر من هذا وأعجب مما سبقه كُله أن من جرائد المسلمين في مصر وسوريا
من قرّظ كتابه الذي لَفَقَهُ في الطعن بالإسلام وأئمته، ووجه أنظار المسلمين إليه،
وحثهم عليه، أليس من الألغاز والمعمَّيات التي يصعب حلّها على الأكثرين أن
جريدة بيروتية إسلامية تقرظ كتابًا يطعن في الإسلام ويحرف كلام أئمته ليقنع
المسلمين بما يقول ويزعم أن الجمع بين الرياسة الدينية والمدنية في خليفة المسلمين
قاض بهدم الإسلام وتأخر أهله عن جميع الأمم ويُصرّح بأنه يجب على المسلمين
إزالة هذا المعنى في الخلافة وجعل السلطان رئيسًا مدنيًا كملوك أوربا، إلى آخر ما
أشرنا إليه في باب الشبهات وسنوضحه بمقالة مخصوصة؟ بلى إن هذا من عجيب
(غرارة) المسلمين المشروحة في الاجتماع الثامن لجمعية أم القرى المنشور في هذا
الجزء أو من عجائب تساهلهم.
مع هذا كله يقولون إننا متعصبون وإنهم متساهلون، كأنه يتعذر علينا أن
نرضيهم ونحن مسلمون، {وَلَن تَرْضَى عَنكَ ... } (البقرة: 120) ولا ننكر أن
أصحاب الصحف المعتبرة كالهلال والمقتطف والمقطم والأهرام غير راضين عن
خطأ الجامعة وفتحها أبواب التعصب على المسلمين وهم يبعدون عن جعل صحفهم
دينية.
***
(الفلسفة القديمة وابن رشد)
فلسفة المتقدمين من اليونان والعرب الذين جروا على آثارهم قد نسخت
بالفلسفة الحديثة، ولم يبق للبشر حاجة فيها إلا من الجهة التاريخية فلا ينبغي تضييع
الوقت بالاشتغال بنظرياتها العقيمة إلا لأفراد يتفرغون لحفظ تاريخ العلوم ليعرفوا
نسبة الماضي إلى الحاضر وهؤلاء الأمراء لا يوجدون إلا في الأمم الراقية التي
أحاطت بالعلوم والفنون العصرية التي عليها مدار العمران لأن حفظ سلسلة الفلسفة
والعلم من الأمور التي يسمونها كمالية وأمامها مرتبتا الأمور الضرورية والأمور
الحاجيّة.
ولا يخفى أن أهل هذه البلاد لا يزالون في المرتبة الأولى فلا يجوز أن تشتغل
أفكارهم بالمرتبة الكمالية لأن ذلك تضييع للوقت وإفساد للفكر، فالاشتغال بنشر
فلسفة ابن رشد وأمثاله بين القارئين وترغيبهم فيها ضارٌّ بهم ولو كان ضروريًا أو
حاجيًّا لطلبوه بسائق المنفعة وقرروه في مدارسهم.
نعم إن ابن رشد عالم متكلم إسلامي كما هو فيلسوف، فما كتبه في نسبة
الفلسفة إلى الدين ينبغي أن يطلع عليه المشتغلون بعلم الكلام في الأزهر وغيره من
المدارس الدينية وذلك هو كتابه (فصل المقال) المطبوع بمطبعة المؤيد، ولا بأس
للمتوغل في علم الكلام من النظر في كتابه تهافت التهافت بعد النظر في كتاب
تهافت الفلاسفة للإمام الغزالي وكلاهما مطبوع بمصر في كتاب واحد وثمنه بخس.
ولا يصح لعاقل أن يعتمد في فلسفة ابن رشد - إذا هو أرادها - على تلخيص
مثل صاحب الجامعة من كلام رنان أو من الكتب العربية فإن صاحب الجامعة شاب
لم يتعلم إلا مبادئ علوم المدارس في مدرسة كفتين فهو لا يفهم هذه الفلسفة ولا هو
حسن القصد في بيان ما يفهمه كما علم من مقالة (الأسباب والسنن) المنشورة في
هذا المنار، ويعلم مما سننشره في إثبات أن دين الإسلام مبني على العقل كما صرح
القرآن الكريم وقد زعم صاحب الجامعة أن الإمام الغزالي وابن رشد يقولان بخلاف
ذلك أي بخلاف ما ينطق به كتاب الله تعالى (حاش لله) .
***
(القوى الأدبية في الشرق)
يقول من يدعي القيام بإحياء الآداب في الشرق بلسان صديق له مجهول: إن
الشرق في حاجة إلى القوى الأدبية، ولم يبين ما هي تلك القوى بالنص ولكنه بينها
بالفحوى، وهي الكذب وسوء الظن والخوض بالأعراض ومكافأة المحسن بالإساءة
والنميمة والبهتان للتفريق بين الصديق وصديقه، والرصيف ورصيفه، والأستاذ
وتلميذه.
أما الكذب فمنه نسبته ما كتبه في هذا الموضوع لغيره من أن العبارة والأسلوب
والفحوى تشهد كلها بأن ذلك له، وإلا فمن هو ذلك الكاتب الذي يسمع عندنا القول
من فلان، ويسمع نقيضه منه عند ذلك المدعي؟ ومنه أنه حكى عنا من الطعن في
بعض الأصحاب والرصفاء ما نعلم أنه لم يقع، ونقيس عليه ما حكاه عنهم فنعلم أن
كل ما قاله كذب.. إلخ.
وأما سوء الظن فمنه أنه جزم بأن الذي أفشى سره المنبئ بسوء قصده وبعزمه
على الاستمرار في عمله السيئ هو ذلك الأديب الذي ينوّه به ويمدحه ويدافع عنه
والحقيقة أن السر إنما ظهر من قطر غير القطر المصري فكان على محبي الآداب
في الشرق أن لا يجاري ظنه السيئ في صديق له، ويحمل عليه تلك الحملة المنكرة.
وأما الخوض في الأعراض؛ فمنه أنه أوهم أن صديقه الذي أساء الظن به
كان مستخدمًا قبل ما هو فيه الآن من العمل التجاري في موضع لا ينبغي التصريح
به وإنما يشار إليه بالنقط...... مع أن الرجل لم يكن مستخدمًا إلا في شركة
الأسواق.
وأما مكافأة المحسن بالإساءة فمنها - وهو أظهرها - معاملته المشار إليها آنفًا
مع صديقه الذي كان متفانيًا في مساعدته، ومنها معاملة غيره من المحسنين بما لا
حاجة إلى التصريح به ويعرفه من يعرف الرجل وسيرته.
وأما النميمة والبهتان فمنها زعمه أن فلانا كان يقول في فلان كذا ويذم عمله
وكذلك الآخر ولو كان كل ذلك صحيحًا لوجب كتمانه، فكيف يصرح به محبي آداب
الشرق وهو إفك صريح وبهتان عظيم، وهذه النميمة والبهتان قد عزيت إلى أسماء
صريحة.
***
(أحوال العالم الإسلامي)
الدولة العلية في اضطراب من زلازل الفتن في مكدونية، وإلحاح الدول عليها
بوجوب الإصلاح، ومن مطالبة إنكلترا لها بالإذن لسفنها الحربية أن تمر في
الدردنيل والبوسفور عند الحاجة كما أذنت لبعض السفن الروسية.
والدولة المراكشية في خطر عظيم من خارج يُدعى (أبا حمارة) خرج على
السلطان يحاول نزع الملك منه. وقد كَبُرَتْ فتنةُ هذا الخارج وقويت عصبيته لأن
الأهلين نفروا من السلطان عبد العزيز لما يرون من ميله إلى الأجانب وتنافسه في
زخرف مدنيتهم. ولا شك أن السلطان عبد العزيز لم يسلك طريق الحكمة فيما وجه
إليه وجهه من تغيير حال بلاده أو صلاحها كما يقولون، وقد كنا نصحنا له
ولحكومته بالاستعانة بالدولة العلية على الإصلاح العسكري والعلمي بطلب رجال من
العثمانيين المسلمين يقومون بالإصلاح - والمنار يرسل دائمًا إلى ناظر خارجيته
ولكن هذا التقاطع بين ملوك المسلمين وأمرائهم هو أصل كل بلاء ابتلوا به.
هاتان الدولتان الإسلاميتان مضطربتان وبقية البلاد الإسلامية وَادِعَةٌ ساكنة
ليس فيها شيء يؤثر، ولا حادث يذكر، اللهم إلا الهند ومصر، فأما الهند فقد احْتُفِلَ
فيها من عهد قريب بتتويج ملك الإنكليز وتسميته إمبراطور الهند وهذا الاحتفال
يسمونه (الدربار) ويكون في مدينة (دلهي) عاصمة الهند الأولى، وتلا هذا
الاحتفال احتفال آخر بمؤتمر التربية الإسلامية وهو خير ما يعمله المسلمون في هذا
العصر لأنه أنفع الأشياء لهم، وأما مصر فقد احتفل فيها ثلاثة احتفالات عظيمة في
مدة قريبة أحدها الاحتفال بدار الآثار والعاديات المصرية، وثانيها الاحتفال بالخزان
الذي بني في أسوان وثالثها احتفال المؤتمر الطبي الدولي المصري وإننا نتكلم عن
الأخيرين بموجز من القول.
***
(المؤتمر الطبي الأول بمصر)
الغرض من هذا المؤتمر دراسة أمراض البلهاريسيا ولا شك أن مصر خير
مكان يصلح أن يؤمه أطباء أوربا لهذا البحث، وقد اشتركت فيه الدول العظيمة
رسميًّا، وأرسلت مندوبين عنها يحضرونه، وقد افتتح المؤتمر عزيز مصر العباس
في الملهى الخديوي (الأوبرا) في 19 رمضان (19ديسمبر) الماضي فخطب
خطبة فرنسية رحب فيها بأعضاء المؤتمر وشكر الحكومات والمجامع العلمية التي
لبّت دعوة حكومته وأرسلت مندوبيها إلى المؤتمر ومما قاله: (يجدر بي أن أفتخر
بأن بلادي قد اهتمّت اهتمامًا حقيقيًّا بالسير في سبيل التقدم وفيما هو صالح ونافع
لنوع الإنسان ولذلك جعلت مساعيَّ مواجهة دائمًا إلى المحافظة على سيرها في هذا
السبيل) .
وقد تكلم الناس في أمرين: أحدهما كون خطبة الأمير بالفرنسية دون لغة
حكومته الرسمية (العربية) ، وجهل هؤلاء أن هذا الاحتفال لو كان في روسيا لما
خطب القيصر فيه إلا بالفرنسية التي يفهمها كل الذين يخاطبهم، وثاني الأمرين أن
مختار باشا الغازي لم يحضر المؤتمر ولم ترسل الدولة العلية مندوبًا آخر من
الأطباء، ويقال إن هذا المؤتمر لا يرضي الدولة العلية لأن من شأن مثله أن يكون
في البلاد المستقلة وكأنها ترى أو الواجب أن يكون المؤتمر ** إلا بدعوة الحكومة
المصرية بنفسها.
***
(الخزان - أو - سدّ أسوان)
إقامة السدود على الأنهار لحفظ الماء الذي يحتاج إليه في ريّ الأرض قديم في
البشر، وكان العرب من السابقين إليه تصوّرًا وعملاً فسد مأرب في بلاد سبأ
مشهور أمره، وكان في دولة العبيديين في مصر من تصوّر بناء سدٍّ للنيل، ولم
يبرز ذلك للفعل، ثم إن نابليون الأول تصور هذا العمل وأراده وتكلم فيه من بعده
كثير من المهندسين، ولم يتم إلا في زمن هذا الأمير (العباس) وبأيدي الموظفين
في حكومته والمقاولين في بنائه من الإنكليز، وقد وضع الحجر الأول من سد
أسوان في 12 فبراير (شباط) سنة 1899 وضعه دوق كنوت أخ ملك الإنكليز
ووضعت زوجته الحجر الأخير منه في 10ديسمبر (ك1) سنة 1902 وقد كتب
على كل من الحجرين بالإنكليزية اسم واضعه والتاريخ وكون السنة سنة كذا من حكم
سموّ (الخديوي عباس حلمي) .
طول السد من الشرق إلى الغرب ألفا متر، وسمكه من أسفله نحو ثلاثين مترًا
ومن أعلاه 7 أمتار، ويزيد ارتفاعه عن سطح الماء عند انخفاضه على 20مترًا،
وفيه 180مصبًّا للماء سعة المصب نحو 3 أمتار من الأمام ومتران من الوراء في
الغالب ولها أبواب تفتح وتغلق بحسب الحاجة لحبس الماء وإطلاقه، ويبلغ ما يمسكه
السد من الماء مليارًا و 65 مليون متر مكعب أو مليار أو 140 مليون طن، وهي
تفتح وتغلق بالآلات الكهربائية، وأما منافع السد المقدرة فهي عظيمة جدًّا منها إحياء
أرض واسعة تقدر بمئات الألوف من الفدادين، ومنها التمكن من زرع نحو نصف
مليون فدان مرتين في العام، وذلك مما لا يزرع الآن إلا مرة واحدة ومنها سد العجز
الذي يكون من انخفاض النيل في بعض السنين.
ومن تتمة منفعة هذا السد أنه بني في أسيوط قناطر كالقناطر الخيرية عددها
111 قنطرة عرض كل قنطرة خمسة أمتار وارتفاعها من قاع النهر إلى السطح 12
متر ونصف، وسمكها عند القاعدة 26 مترًا وفائدتها إصلاح الري فيما تحت أسيوط
من الوجه القبلي.
أما الاحتفال بفتح الخزان فقد كان في رمضان الماضي، ودعت الحكومة إليه
وكلاء الدول وكبار الموظفين والوجهاء وكثيرًا من الإفرنج، وكان الأمير دعا دوق
كنوت وزوجه، وابتدأ الاحتفال ناظر الأشغال العمومية حسين فخري باشا بخطبة
فرنسية ذكر فيها وجه الحاجة إلى السد بالإجمال والعناية في بنائه فأجابه الأمير
بخطبة فرنسية وجيزة اعترف فيها بعظمة العمل وأثنى على الناظر وأعوانه
الموظفين الذين شكر لهم همتهم في مساعدته وقال (وإنه ليسرني كثيرًا أن أرى
حكومتي تتبع أعز رغائبي وأخص أملي فتبذل كل الجهد في جلب الخير والسعادة
للبلاد) .
__________(5/791)
غرة ذو القعدة - 1320هـ
30 يناير - 1903م(5/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإسلام دين العقل
كنا ولا نزال نصرح بأن دين الإسلام هو دين العقل وحجتنا الكتاب والسنة
وكلام الأئمة، ولكننا ابتلينا بمن يشكك المسلمين في دينهم وفي الدعاة إليه بإيهامهم
أن ما نقول ليس من الدين وأنه ضار به؛ ولأن الإسلام يجب أن يكون كسائر
الأديان التقليدية عدوًّا للعقل وأن بناءه على العقل مُؤذن بهدمه كغيره، وأنه لو كان
معقولاً لكان علمًا ولم يكن دينًا إلى غير ذلك من التشكيك، وإنما نأخذ ديننا عن الأدلة
العقلية والنقلية من كتاب ربنا لا عن المخالفين المشككين.
***
بسم الله الرحمن الرحيم
{حم تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ * إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ
الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ
وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيُلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا
كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الجاثية: 1-8) .
فهذا كتاب الله يقيم الأدلة والبراهين مطالبًا بها أهل العقل باليقين في الإيمان؛
واليقين لا يكون إلا بالبرهان، ومعرفة الشيء ببرهانه هو أعلى العلم وأقواه، ولذلك
قال تعالى بعد آيات ذَكَرَ فيها أهل الكتاب: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ
فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الجاثية: 18) .
وقال بعد آية {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية: 20)
والبصائر جمع بصيرة وهي الحجة توصل إلى اليقين، ثم قال في الجاحدين
تقليدًا {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) فنفى عنهم العلم وبيّن أن الظن لا ينفع
في الدين، لأن المطلوب فيه علم اليقين، كما في سورة أخرى {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ
إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} (النجم: 28)
تلك آيات من سورة قصيرة تدل على أن الإسلام دين العقل وأنه علم وأنه
يطلب فيه اليقين ولا يكتفى بالظن في الإيمان بأصوله كوحدانية الله تعالى وعلمه
وقدرته، وبعثة الأنبياء ورسالة خاتمهم عليه وعليهم السلام، وقد جاء في القرآن
كلمة (يعقلون) بالياء والتاء نحو خمسين مرة، وفيه ذكر العقل والعقلاء في الخطاب
وإقامة الآيات على الإيمان بغير هذا الحرف كالنُّهى واللّب فلفظ الألباب جاء في بضع
عشرة آية، لهذا كان العلم بالكون طريق الإيمان والإسلام، قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ
أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ
وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ
كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر: 27-28)
فديننا ولله الحمد علم، وكل علمنا دين لأنه يزيدنا إيمانًا ومعرفة بالله سبحانه، وقد
ورد في الحديث (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) ، وأما قول
المشككين إن العلم محصور في المحسوسات فكل ما لا تحس به لا يقال في عرف
الفلاسفة إنك عالم به فهو من المغالطة أو الجهل فإنه لا علم يعتصم باليقين كعلم
الرياضيات وبراهينها معقولة غير محسوسة.
* * *
(تعارض الدليل العقلي مع الدليل النقلي)
ذكرنا في المنار غير مرة أن الذي عليه المسلمون اليوم من أهل السنة وغيرهم
من الفِرَق المعتد بإسلامها أن الدليل العقلي القطعي إذا جاء في ظاهر الشرع ما
يخالفه فالعمل بالدليل العقلي متعين، ولنا في النقل التأويل أو التفويض وهذه
المسألة مذكورة في كتب العقائد التي تُدَرَّس في الأزهر وغيره من المدارس
الإسلامية في كل الأقطار كقول الجوهرة:
وكل نصّ أوهم التشبيها ... أوّلْه أو فوّضْ ورُمْ تنزيها
قال الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) عند ذكر التأويل: (إنه قد ثبت أنه متى وقع التعارض من القاطع
العقلي والظاهر السمعي؛ فإما أن يصدقهما وهو محال لأنه إبطال للنقيضين،
وإما أن يكذب القاطع العقلي ويرجح الظاهر السمعي وذلك يوجب تطرق الطعن في
الدلائل العقلية، ومتى كان كذلك بطل التوحيد والنبوة والقرآن، وترجيح الدليل
السمعي يوجب القدح في الدليل العقلي والدليل السمعي معًا، فلم يبق إلا أن يُقطع
بصحة الدلائل العقلية ويحمل الظاهر السمعي على التأويل) اهـ ثم إنه أقام الدليل
بهذا الوجه على المعتزلة في مسألة التكليف لأنهم يتفقون مع أهل السنة فيه.
هذه المسألة مشهورة عند علماء المسلمين لا تحتاج إلى تأييدها بنقول ولكن
فشت بيننا في هذا العصر مطبوعات المشككين في الدين؛ فإذا نقل المسلم عبارة من
أصول دينه يقولون: إن هذا من عنده ولا يبعد أن يوجد من الجاهلين من يغتر
بأقوالهم، وقد تقدم في مقالات (الإسلام والنصرانية) أن الأصل الثاني للإسلام
تقديم العقل على النقل عند التعارض، وهذا دليله من القرآن ومن كلام بعض الأئمة
ولو أردنا سرد النقول من المواقف والمقاصد وسائر كتب الكلام والتفسير ومن كتب
المتأخرين كحواشي الباجوري والرسالة الحميدية لأطلنا الكلام في معنى واحد.
* * *
(الشكوك في المسألة)
فإن قيل: إن الإمام الغزالي بعد أن أظهر تهافت الفلاسفة في أدلتهم النظرية في
علم الله تعالى قال: (فإذن ليس ينفك فريق منهم عن خزي في مذهبه وهكذا يفعل
الله بمن ضل عن سبيله، وظن أن الأمور الإلهية يستولي على كنهها بنظره وتخيله)
فهل يدل هذا القول على أن الدين غير مقبول أم لا؟
فالجواب: أنه ليس من مقتضى الدين ولا من مقتضى الفلسفة الوقوف على
كُنْه الخالق وحقيقته، وكُنْه صفات البارئ وحقيقتها، وإذا عجز الحكماء والعلماء
عن معرفة كُنْه الأجسام المشاهدة فكيف يطمع الطامعون بمعرفة كُنْه خالق الأجسام
بأدلة نظرية وتخيلات شعرية؟! هذا شيء لم يكلفنا به الدين، فيكون قول الغزالي
بإنكاره على الفلاسفة دليلاً على أن الإسلام يكلف الناس بغير المعقول كما يزعم
المشكك.
ومثل هذا قوله في هذا البحث (بحث العلم الإلهي) مخاطبًا للفلاسفة بعد
إظهار عجزهم وتهافتهم: (المقصود تعجيزكم عن دعواكم معرفة حقائق الأمور
بالبراهين القطعية وتشكيككم في دعاويكم، وإذا ظهر عجزكم ففي الناس من يذهب إلى
أن حقائق الأمور الإلهية لا تُنال بنظر العقل بل ليس في قوة البشر الاطلاع عليها
ولذلك قال صاحب الشرع صلوات الله عليه: (تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في
ذات الله) اهـ.
فهذه الجملة من الإمام الغزالي كالجملة السابقة خاصة ببيان عجز البشر عن
إدراك حقيقة البارئ وحقائق صفاته.
وقد مرت القرون والأجيال وستمر قرون وأجيال أخرى إلى أن ينقضي عمر
البشر ولا يصلون إلى معرفة حقيقة الله وحقيقة علمه وسائر صفاته، وهكذا
قال صاحب مقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) قال (ص544 من
المنار) : لا بد أن ينتهي أمر العالم إلى تآخي العلم والدين، على سنة القرآن والذكر
الحكيم؛ ويأخذ العالمون بمعنى الحديث الذي صح معناه، (تفكروا في خلق الله ولا
تفكروا في ذات الله) وعند ذلك يكون الله قد أتم دينه ولو كره الكافرون، وتبعهم
الجامدون القانطون (فكلام الإمام الغزالي وكلام هذا الإمام واحد لا فرق بينهما، ولو
كان الإسلام كلفنا بأن نعرف كنه ذات الله تعالى وكنه صفاته لكان مكلفًا لنا بما لا يُعقل ولا يستطاع ولكن الله يقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) .
هذا وإن الإمام الغزالي لم يقصد بكتاب (تهافت الفلاسفة) الذي نقلنا منه تينك
الجملتين بيان القواعد الإسلامية، وإنما قصد بيان فساد نظريات الفلاسفة في الأمور
الإلهية وقد يُدفع الفاسد بالفاسد ولذلك قال قبل الجملة الثانية بأسطر (ص45) :
(نحن لم نخص في هذا الكتاب خوض الممهدين، بل خوض الهادمين المعترضين،
ولذلك سمينا الكتاب (تهافت الفلاسفة) لا (تمهيد الحق) فلا يصح أن يؤخذ من هذا
الكتاب مذهبه في العقائد ولا في غيرها كما نبهنا على ذلك في مقالة الأسباب
والمسببات في الجزء التاسع عشر والعشرين، وإنما يؤخذ مذهبه من كتبه في العقائد
والأصول وهو فيها موافق لسائر أئمة السنة من أن العقل أصل الإسلام، وأن
براهينه القطعية لا ترد فإن قيل: قد علمنا أن أئمة المسلمين في العقائد والأصول لم
يختلفوا في أن دين الإسلام هو دين العقل، فهل تعلم أن الفلاسفة الإسلاميين خرجوا
عن هذا الأصل وفصلوا بين العقل والدين؟ فالجواب: كلا، إن الفلاسفة أحرص
على التوفيق بين العقل والشرع من غيرهم، وقد ألف فيلسوف الإسلام أبو الوليد بن
رشد - رحمه الله تعالى - كتابًا في هذه المسألة أثبت فيها ما أثبته أهل السنة من
قبله، ذلك الكتاب هو (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال) ففي
هذا الكتاب أثبت أن الشرع الإسلامي أَوْجَبَ النظر بالعقل وجعله أساسًا للعقائد ثم
قال (في ص 8) ما نصه:
(وإذا كانت هذه الشرائع حقًا وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق؛ فإنا
معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النص البرهاني إلى مخالفة ما ورد به
الشرع، فإن الحق لا يبطل الحق، بل يوافقه ويشهد به، وإذ كان هذا هكذا فإن أدى
النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون
قد سكت عنه في الشرع أو ورد به، فإن كان مما سكت عنه فلا تعارُض هناك وهو
بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي، وإن كانت
الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقًا لما أدى إليه البرهان فيه أو
مخالفًا، فإن كان موافقًا فلا قول هناك، وإن كان مخالفًا طلب هناك تأويله.
ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية
من غير أن يخلّ في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه
أو سببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عهدت في تعريف
أصناف الكلام المجازي، وإذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية
فكم بالحري أن يفعل ذلك صاحب العلم بالبرهان، فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني
والعارف عنده قياس يقيني.
ونحن نقطع قطعًا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع أن
ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه القضية لا يشك فيها
مسلم ولا يرتاب فيها مؤمن، وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى
وجرّبه، وقصد من الجمع المعقولَ والمنقول، بل نقول إنه ما من منطوق به في
الشرع مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان إلا إذا اعتُبِرَ الشرع وتُصُفّحت سائرُ
أجزائه وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل أو يقارب أن يشهد،
ولهذا المعنى أجمع المسلمون على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على
ظاهرها ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل) اهـ المراد منه بحروفه.
نقول: الله أكبر، لمع الحق وبهر، وظهر أن علماء المسلمين متكلميهم
وفلاسفتهم ومفسريهم وفقهاءهم لم يختلفوا في أن الإسلام دين العقل، على العقل بُني
شرعه، والعقل هو المخاطب به (لا القلب وحده) ، وظهر أن ما قاله ذلك الإمام
في مقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) في تعارض الأدلة العقلية
والنقلية، هو المُجتمَع عليه في المِلَّة الحنيفية، وهذا ما يدعو إليه المنار جهارًا،
وكبر على أعداء الإسلام فمكروا مكرًا كبارًا، ولن يجدوا لهم من دون الله أنصارًا.
فإن قيل: إن لابن رشد كلامًا آخر في (تهافت التهافت) يشبه أن يكون مخالفًا
لقوله هنا كقوله: (الفلسفة تفحص عن كل ما جاء في الشرع فإن أدركته استوى
الإدراكان، وكان ذلك أتم في المعرفة، وإن لم تدركه أعلمت بقصور العقل الإنساني،
وأن يدركه الشرع فقط كقوله: (أما الكلام في المعجزات فليس فيه للقدماء من
الفلاسفة قول؛ لأن هذه كانت عندهم من الأشياء التي لا يجب أن يتعرض للفحص
عنها وتجعل مسائل، فإنها مبادئ الشرائع، والفاحص عنها أو المشكك فيها يحتاج إلى
عقوبة عندهم مثل من يفحص عن سائر مبادئ الشرائع العامة مثل هل الله تعالى
موجود؟ وهل السعادة موجودة؟ وهل الفضائل موجودة؟ وإنه لا يشك في
وجودها، وإن كيفية وجودها هو أمر إلهي معجز عن إدراك العقول الإنسانية،
والعلة في ذلك أن هذه هي مبادئ الأعمال التي يكون بها الإنسان فاضلاً ولا سبيل
إلى حصول العلم إلا بعد حصول الفضيلة، فوجب أن لا يتعرض للفحص عن
المبادئ التي توجب الفضيلة قبل حصول الفضيلة، وإذا كانت الصنائع العملية لا
تتم إلا بأوضاع ومصادرات يسلمها المتعلم أولاً فأحرى أن يكون ذلك في الأمور
العلمية) اهـ بحروفه.
فالجواب أن هذا الكلام لا ينافي ذاك ولا يخالفه، بل هو مؤيد لقوله الأول
ولقول جميع أئمة المسلمين من السابقين عنه واللاحقين به إلى صاحب مقالات
(الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) ولو فرضنا أن بين القولين مخالفة لكان
الواجب اعتبار الأول لأنه مُبَيِّن لمذهبه واعتقاده هو وسائر المسلمين على سبيل
القطع، وأما قوله هنا فهو حكاية عن الفلاسفة الأولين، ولا يضرنا مخالفتهم لنا
مادمنا واثقين بأننا على الحق المؤيَّد بالبرهان، على أن ابن رشد يقول هنا: إن
الفلاسفة الأولين لا يعارضوننا في هذه المسائل - أي أن مقتضى مذهبهم ذلك - وإلا
فقد صرح بأن ليس لهم كلام في هذه المسائل، أي التي ذكرها فالخلاف بينه وبين
الغزالي في هذا المقام محصور في نقل إنكار الفلاسفة في المِلِّيين مسألةَ المعجزات
ومبادئ الفضائل فالغزالي يسنده إليهم على الإطلاق، وابن رشد يقول: إنه لم يبحث
ذلك إلا ابن سينا والخطب سهل.
أما الوفاق فإنك تراه بُديًّا يتكلم عن رأي الفلاسفة في الأديان ومبادئها لا في
الإسلام الذي هو أَرْقَاها وهو مع ذلك يعترف بأمور لا تجعل الدين (المطلق) فوق
العقل، بمعنى أن فيه ما يُحيله العقلُ ويقطع بعدم صحته (منها) أن ما لا تدركه
الفلسفة بنظرياتها فهو دليل على أن العقل الإنساني قاصرٌ عن الوصول إليه بنفسه
فهو محتاج فيه إلى إرشاد الشرع، ولا شك أن العقل الإنساني قاصر حتى اليوم عن
إدراك كل ما بين يديه؛ فهو يستخدم الكهرباء وينتفع بها ولا يعرف حقيقتها فكيف
يعرف أمور الآخرة والنشأة الثانية؟
وليس معنى قولنا: إن دين الإسلام معقول أن كل مسائله يمكن أن تعرف
بالعقل استقلالاً بل معناه أنه ليس فيه شيء يحكم العقل باستحالته ككون الواحد ثلاثة
والثلاثة واحدًا، وكون الإله يتّحِد بالبشر، ولولا أن هذا هو المراد لكان العقل يستقل
بوضع الدين ولا يحتاج فيه إلى الوحي.
و (منها) قوله: إن مبادئ الدين كالمعجزات أمور موجودة لا يُشك في
وجودها، والموجود لا يكون محالاً لأن المحال لا يقبل الوجود، وقوله عنهم: إن
كيفية وجود أمر إلهي تعجز عن إدراكه العقول الإنسانية؛ لا يستلزم أن الدين غير
معقول أو أن فيه شيئًا محالاً في نظر العقل؛ لأن هذه الموجودات التي نحس بها ولا
نشك فيها قد عجزت عقولنا عن معرفة كيفية إيجادها؛ فعجزها عن معرفة كيفية
وجود المعجزات أَوْلى، ويسهل على كل عاقل أن يميز بين ما هو مستحيل لا
يتصور العقل وجوده، وبين ما لا يشك في وجوده لكنه لم يصل إلى معرفة كيفية
حدوث هذا الوجود.
و (منها) أن هذه المبادئ الدينية الموجودة الثابتة يجب أن تؤخذ بالتسليم
والتقليد للشرع (لا لآراء الناس) من غير أن نسلط النظريات الفلسفية على البحث
في إمكانها، وفي كيفية وجودها؛ لأن هذا البحث سفه وضارٌّ، وأي سفه وضرر
أكبر من التشكيك في شيء موجود نافع للناس لصدِّهم عن الانتفاع به بنظريات لا
قيمة لها، أي سفه أكبر من سفه من كان يماري بالموجود الثابت بالمشاهدة أو
التواتر (كالمعجزات) أو يُلْزم الإنسانَ بأن لا يسلك طريق الفضيلة حتى يبحث
بالدلائل النظرية الفكرية في إمكانها وفي كيفية حصولها، وهو يرى ويشاهد أنها
تحصل بالفعل، وأن طريق حصولها هو العمل لا النظريات الفكرية؟ !
وما أحسنَ ما أورده الفيلسوف في هذا المقام أيضًا وهو:
وأما ما نسبه (أي ما نسبه الغزالي إلى الفلاسفة) من الاعتراض على معجزة
إبراهيم عليه السلام فشيء لم يقله إلا الزنادقة من أهل الإسلام، فإن الحكماء من
الفلاسفة ليس يجوز عندهم التكلم ولا الجدل في مبادئ الشرائع، وفاعل ذلك عندهم
محتاج إلى الأدب الشديد، وذلك أنه لما كانت كل صناعة لها مبادئ وواجب على
الناظر في تلك الصناعة أن يسلم مبادئها ولا يتعرض لها بنفي ولا إبطال كانت
الصناعة الشرعية هي أحرى بذلك لأن المشي على الفضائل الشرعية هو ضروري
عندهم ليس في وجود الإنسان بما هو إنسان بل وبما هو إنسان عالم، ولذلك
يجب على كل إنسان أن يسلم مبادءها الشريعة وأن يقلد فيها ولا بد من هذا الوضع
لها، فإن جحدها والمناظرة فيها مبطلان لوجود الإنسان ولذلك وجب قتل الزنادقة،
فالذي يجب أن يقال فيها أن مبادئها هي أمور إلهية تفوق العقول الإنسانية فلا بد أن
يعترف بها مع جهل أسبابها ولذلك لا تجد أحدًا من القدماء تكلم عن المعجزات مع
انتشارها وظهورها في العالم؛ لأنها مبادئ تثبيت الشرائع، والشرائع مبادئ
الفضائل، ولا فيما يقال فيها بعد الموت، فإذا نشأ الإنسان على الفضائل
الشرعية كان فاضلاً بإطلاق، فإن تمادى به الزمان والسعادة إلى أن يكون من
العلماء الراسخين في العلم فعرض له تأويل في مبدأ من المبادئ فيجب عليه أن لا
يصرح بذلك التأويل، وأن يقول فيه كما قال الله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} (آل عمران: 7) ، هذه حدود الشرائع وحدود العلماء) اهـ
بحروفه من (ص 129) .
حقًا أقول: إن هذا ما يصح أن يسند إلى الحكماء العقلاء، وإننا نوضحه
بمثال آخر طالما ذكرناه في مباحثنا مع الإخوان وهو أن الطب علم قد ثبتت فائدته
للناس بالتجربة والمشاهدة، فمن الحماقة وسفه الرأي أن يقال للمريض عليك أن لا
تقبل من الطبيب علاجًا حتى تبحث أولاً عن مبادئ الطب وتثبت بالأدلة النظرية أنه
نافع ومفيد، ثم تعرف الدواء الذي يصفه لك الطبيب ما هو وما نسبة بعض أجزائه
إلى بعض وكيف يؤثر في مقاومة المرض، وما الدليل العقلي على تأثيره، وما أشبه
ذلك.
كذلك يكون أفين الرأي من يقول للناس عليكم أن تبحثوا قبل الإيمان عن أسباب
المعجزة الثابتة التي رأيتموها أو نقلت إليكم بالتواتر حتى كأنكم كنتم حاضريها،
كيف أوجدها الله تعالى ثم تبحثوا أيضًا عن كل ما جاء في الشرع لتعلموا بالدليل
النظري لِمَ كان كذلك، وكيف كان وبعد ذلك كله آمِنُوا إذا عرفتم كل المسائل بالدليل
النظري، ولا تؤمنوا إذا لم تعرفوها.
يفتك المرض بمريض الجسد حتى يكون حَرَضًا أو يكون من الهالكين، ولا
يقدر أن يقف على دقائق الطب بالنظر والتجربة، وكذلك تفتك الرذائل والعقائد
الباطلة بمريض النفس فتجعله مصيبة على نفسه وعلى الناس، ولا يصل بالنظر
إلى هذه الكيفيات، فبقي أن الصواب ما قرره الإسلام وهو أن النظر واجب في
الأصول التي تَثْبت بها معرفة الله تعالى وصحة النبوة، ومتى اعتقدنا بقدرة الله
وإرادته وعلوه، وكونه أَوْحَى إلى بعض عبيده وألهمهم إرادة الناس إلى ما يسعدهم
في حياتهم الأخرى فإنه يسهل علينا أن نسلم بكل ما يقول المُوحَى إليهم (الأنبياء
عليهم السلام) تسليمًا، فإن وجدنا فيه شيئًا يخالف ظاهره الدليل العقلي القطعي نرده
إليه بالتأويل أو نفوض الأمر فيه إلى الله مع الأخذ بالدليل العقلي، هذا ما أجمع
عليه أئمة المسلمين كما تقدم وهو كافٍ في كون الإسلام دين العقل؛ لأن المسلم لا
يترك الدليل العقلي القاطع بحال من الأحوال.
وقد أحسن ابن رشد في رأيه أن لا تنشر التأويلات التي تظهر للراسخين في
العلم بل تبقى خاصة بأهلها فلا تكون سببًا لفتح باب الجدل على العامة فيما لا تصل
إليه أفهامهم من حقائق العلوم، والجدل مدعاة الشكوك ولذلك يجب تأديب المشككين
والإعراض عن المجادلين.
* * *
ارتقاء الأديان، وختمها بالإسلام
جاء في (رسالة التوحيد) للأستاذ الإمام ما نصه:
جاءت أديان والناس في فهم مصالحهم العامة بل والخاصة في طور أشبه
بطور الطفولية للناشئ الحديث العهد بالوجود لا يألف منه إلا ما وقع تحت حِسه،
ويصعب عليه أن يضع الميزان بين يومه وأمسه، وأن يتناول من المعاني ما لا
يَقرب من لمسه، ولم يَنْفُثْ في روعه من الوجدان الباطن ما يعطفه على غيره من
عشيرة أو ابن جنسه، فهو من الحرص على ما يقيم بناء شخصه في هَمّ شاغل عما
يُلْقَى إليه فيما يصله بغيره، اللهم إلا يدًا إلى فمه بطعام؛ أو تسنده في قعود أو قيام،
فلم يكن من حكمة تلك الأديان، أن تخاطب الناس بما يَلْطُفُ في الوجدان؛ أو يُرْقى
إليه بسلم البرهان، بل كان من عظيم الرحمة أن تسير بالأقوام وهم عيال الله سَيْر
الوالد مع ولده في سذاجة السن لا يأتيه إلا من قِبَل ما يُحِسّه بسمعه أو ببصره،
فَأَخَذَتْهُمْ بالأوامر الصادعة، والزواجر الرادعة، وطالبتهم بالطاعة، وحملَتهم فيها
على مبلغ الاستطاعة، كلفتهم بمعقول المعنى جليّ الغاية، وإن لم يفهموا معناه، ولم
تصل مداركهم إلى مرماه، وجاءتهم من الآيات بما تطرف له عيونهم؛ وتنفعل به
مشاعرهم، وفرضت عليهم من العبادات ما يليق بحالهم هذه [1] .
ثم مضت على ذلك أزمان عَلَتْ فيها الأقوام وسقطت، وارتفعت، وجرّبَتْ
وكسبت، وتخالفت واتفقت، وذاقت من الأيام آلامًا، وتقلبت في السعادة والشقاء
أيامًا وأياما؛ ووَجدَتْ الأنفُس بنفث الحوادث؛ ولقن الكوارث، شعورًا أدقّ من
الحس وأَدْخَل من الوجدان؛ لا يرتفع في الجملة عمّا تشعر به قلوب النساء أو تذهب
معه نزعات الغلمان؛ فجاء دين يخاطب العواطف، ويناجي المراحم، ويستعطف
الأهواء، ويحادث خطرات القلوب، فشرّع للناس من شرائع الزهادة ما يصرفهم
عن الدنيا بجملتها ويوجه وجوههم نحو الملكوت الأعلى، ويقتضي من صاحب
الحق أن لا يطالب به ولو بحق، ويغلق أبواب السماء في وجوه الأغنياء؛ وما ينحو
نحو هذا مما هو معروف، وسَنَّ للناس سننًا في عبادة الله تتفق مع ما كانوا عليه،
وما دعاهم إليه؛ فلاقى مِن تعلُّق الناس بدعوته ما أصلح من فاسدها،
ثم لم يمض عليه بضعة أجيال حتى ضعفت العزائم البشرية عن احتماله،
وضاقت الذرائع عن الوقوف عند حدوده والأخذ بأقواله، ووقر في الظنون أن اتباع
وصاياه ضرب من المُحال، فهب القائمون عليه أنفُسُهم لمنافسة الملوك في السلطان،
ومزاحمة أهل الترف في جمع الأموال، وانحرف الجمهور الأعظم منهم عن
جادّته بالتأويل، وأضافوا إليه ما شاء الهوى من الأباطيل، هذا كان شأنهم في
السجايا - نسوا طهارته، وباعوا نزاهته، أما في العقائد فتفرقوا شيعًا، وأحدثوا
بدعًا، ولم يستمسكوا من أصوله إلا بما ظنوه من أشد أركانها، وتوهموه من أَقْوَى دعائمها؛ وهو حرمان العقول من النظر فيه وفي غيره من دقائق الأكوان،
والحظر على الأفكار أن تَنْفذ إلى شيء من سرائر الخلقة، فصرحوا بأن لا وفاق
بين الدين والعقل؛ وأن الدين من أشد أعداء العلم، ولم يَكُفَّ الذاهب إلى ذلك أن يأخذ به نفسه، بل جدّ في حمل الناس على مذهبه بكل ما يملك من حول وقوة،
وأفضى الغلو في ذلك بالأنفس إلى نزعة كانت أشأم النزعات على العالَم الإنساني
وهي نزعة الحرب بين أهل الدين للإلزام ببعض قضايا الدين، فتقوّض الأصل؛
وتحرّمت العلائق بين الأهل، حلت القطيعة محل التراحم، والتخاصم مكان
التعاون، والحرب محل السلام؛ وكان الناس على ذلك إلى أن جاء دين
الإسلام [*] .
كان سَن الاجتماع البشري قد بلغ بالإنسان أَشُدَّه، وأعادته الحوادث الماضية
إلى رشده؛ فجاء الإسلام يخاطب العقل؛ ويستصرخ الفهم واللُّب؛ ويشركه مع
العواطف والإحساس في إرشاد الإنسان إلى سعادته الدنيوية والأخروية، وبيَّن للناس
ما اختلفوا فيه، وكشف لهم عن وجه ما اختصموا عليه، وبرهن على أن دين الله
في جميع الأجيال واحد، ومشيئته في إصلاح شئونهم وتطهير قلوبهم واحدة، وأن
رسم العبادة على الأشباح، إنما هو لتجديد الذكرى في الأرواح، وإن كان لا ينظر
إلى الصور ولكن ينظر إلى القلوب، وطالب المكلَّف برعاية جسده كما طالبه
بإصلاح سره، ففرض نظافة الظاهر كما أوجب طهارة الباطن، وعدّ كِلا الأمرين
طهرًا مطلوبًا، وجعل روح العبادة الإخلاص، وأن ما فُرض من الأعمال إنما هو
لما أوجب من التطبع بطاهر الملكات: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَر} (العنكبوت: 45) ، {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ
الخَيْرُ مَنُوعًا * إِلاَّ المُصَلِّينَ} (المعارج: 19-22) ورفع الغنيّ الشاكر إلى مرتبة
الفقير الصابر، بل ربما فضله عليه، وعامل الإنسان في مواعظه معاملة الناصح
الهادي للرجل الرشيد، فدعاه إلى استعمال جميع قواه الظاهرة والباطنة؛ وصرح
بما لا يقبل التأويل أن في ذلك رضاء الله وشكر نعمته، وأن الدنيا مزرعة الآخرة،
ولا وصول إلى خير العُقبى إلا بالسعي في إصلاح الدنيا.
(ثم قال) : (كشف الإسلام عن العقل غمة من الوهم فيما يعرض من
حوادث الكون الكبير (العالم) والكون الصغير (الإنسان) فقرَّر أن آيات ألله الكُبر في
صنع العالم إنما يجري أمرها على السنن الإلهية التي قدَّرها الله في علمه الأزلي لا
يغيرها شيء من الطوارئ الجزئية، غير أنه لا يجوز أن يغفل شأن الله فيها، بل
ينبغي أن يحيي ذكره عند رؤيتها، فقد جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم:
(إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك
فاذكروا الله) [2] وفيه التصريح بأن جميع آيات الكون تجري على نظام واحد لا
يقضي فيه إلا العناية الأزلية على السنن التي أقامته عليها.
ثم أماط اللثام عن حال الإنسان في النعم التي يتمتع بها الأشخاص أو الأمم
والمصائب التي يرزؤن بها، ففصل بين الأمرين فصلاً محكمًا، ثم بعد أن ذكر حال
الأفراد وأن ما يصيبهم قد يكون بكسبهم وقد يكون بغير ذلك قال: (أما شأن الأمم
فليس على ذلك فإن الروح الذي أودعه الله جميع شرائعه الإلهية من تصحيح الفكر
وتسديد النظر، وتأديب الأهواء، وتحديد مطامح الشهوات، والدخول إلى كل أمر
من بابه، وطلب كل رغيبة من أسبابها، وحفظ الأمانة، واستشعار الأخوة،
والتعاون على البر، والتناصح في الخير والشر، وغير ذلك من أصول الفضائل
ذلك الروح هو مصدر حياة الأمم ومشرق سعادتها في هذه الدنيا قبل الآخرة)
{وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} (آل عمران: 145) ، ولن يسلب الله نعمته ما
دام هذا الروح فيها، يزيد الله النعم بقوته وينقصها بضعفه، حتى إذا فارقها ذهبت
السعادة على أثره، وتبعتها الراحة إلى مقرِّه، واستبدل الله عزة القوم بالذل، وكثرتهم
بالقل، ونعيمهم بالشقاء، وراحتهم بالعناء، وسلط الله عليهم الظالمين أو العادلين
فأخذهم بهم وهم في غفلة ساهون: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا
فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (الإسراء: 16) أمرناهم بالحق ففسقوا عنه
إلى الباطل، ثم لا ينفعهم الأنين ولا يجديهم البكاء، ولا يفيدهم ما بقي من صور
الأعمال ولا يستجاب منهم الدعاء، ولا كاشف لما نزل بهم إلا أن يلجؤوا إلى ذلك
الروح الأكرم فيستنزلوه من سماء الرحمة برسل الفكر والذكر والصبر والشكر {إِنَّ
اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) - {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ
خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) ، وما أجلَّ ما قاله
العباس بن عبد المطلب في استسقائه: (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يرفع
إلا بتوبة) على هذه السنن جرى سلف الأمة فبينما كان المسلم يرفع روحه بهذه العقائد
السامية ويأخذ نفسه بما يتبعها من الأعمال الجليلة، كان غيره يظن أنه يزلزل
الأرض بدعائه، ويشق الفلك ببكائه، وهو ولع بأهوائه، ماض في غلوائه، وما كان
يغني عنه ظنه من الحق شيئًا) اهـ المراد هنا من رسالة التوحيد.
* * *
تشبيه التعليم الديني بتعليم المدارس
هذا ما قاله الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد التي طُبعت سنة 1315 وقرر
مجلس إدارة الأزهر تدريسها رسميًا في الجامع الأزهر، ومعلوم أن رئيس هذا
المجلس هو شيخ الجامع فهو مع سائر العلماء أعضاء المجلس بل وسائر علماء
الأزهر متفقون على ما في هذه الرسالة، ومما تقدم عنها يُعلم معنى كون دين
الإسلام هو دين العقل، والقرآن يشهد بهذا في عشرات ومئات من الآيات، ويُعلم
أيضًا أن المسلمين يعتقدون بحقيقة الديانة المسيحية وكونها جاءت إصلاحًا للناس
ولكن إلى أجل محدود قد انتهى واستُغْنِيَ عنه بالدين الأخير.
تقدم أن دين الله واحد {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (البقرة: 285) وأن
خطاب الوحي كان يختلف باختلاف استعداد الناس؛ فالشريعة المُوسَوية وما شاكلها
مما كان قبلها ودرَس كالمدرسة الابتدائية، والديانةُ المسيحية كالمدرسة التجهيزية،
والديانة الإسلامية كالمدرسة العالية التي هي التعليم الأخير. وهذا لا يتضمن
انتقاص اليهودية والمسيحية، كما أن وجود المدارس العالية لا يقتضي انتقاص
المدرسة الأولى أو الثانية لأن كلا منهما لا بد منه والغرض من الجميع واحد، ولا
تنس أن التشبيه بالنسبة إلى مجموع البشر في الجملة، فلا يقال ينبغي أن يكون كل
فرد من الناس يهوديًا ثم نصرانيًا ثم مسلمًا، وهذا الذي قلناه مؤيَّد بما أرشد إليه العلم
الصحيح من سنة الارتقاء البشري وقد جرى الناس على ذلك بحكم تلك السنة فدخل
الملايين من اليهود والنصارى في الإسلام أفواجًا وكانوا في ذلك كمن انتقل من
مدرسة إلى مدرسة أعلى منها، ولولا الرؤساء الذين جعلوا الدين تقليديًا وجعلوا
عليه سياجًا من القوة الحسية والوهمية، ولولا الطوارئ التي طرأت على سير
الإسلام بواسطة الرؤساء من الملوك والأمراء، وفتنتهم للعلماء والفقهاء، لما بقي
للأديان الأولى من الأتباع ما يكونون به أمما كبيرة.
__________
(1) المعروف إلى الآن من هذه الأديان دين اليهود ومن قرأ كتبه المقدسة التي يسمون مجموعها (التوراة) يتجلى له انطباق الوصف عليهم ففيها أن الرب كان يُلقب شعب إسرائيل بالشعب (الغليظ الرقبة) أي العريض القفا والمراد البليد الجافي وكان يريه الآيات والمخاوف فيخضع ثم يعود إلى تمرده وكان يعلل له الأحكام بالوقائع الخاصة كإنجائه من المصريين، وكان يعاقبه على ترك أي حكم بأشد العقوبة ومنها أن من يعمل يوم السبت عملا يُقتل قتلا.
(*) يرى الناظر أن الأستاذ الإمام يلصق جميع ما ابتدع في النصرانية وكان شؤمًا على الإنسانية بالرؤساء الذين خرجوا من زهادة المسيح ويدعون أنهم نوابه إلى مزاحمة الملوك والاستعلاء عليهم، فلا يتوهمن أحد أن مسلمًا يعتقد أن في دين المسيح نفسه شيئًا كان ضارًّا بذاته فيمن خوطبوا به.
(2) كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - فظن بعض الناس أنها كسفت لموته فقاله رواه البخاري وغيره.(5/807)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاجتماع التاسع لجمعية أم القرى
ويتبعه الاجتماع 10 و 11
(في مكة المكرمة يوم السبت السابع والعشرين من ذي القعدة سنة 1316)
في صباح اليوم المذكور انعقدت الجمعية وقرأ كاتبها السيد الفراتي ضبط
مفاوضات اليوم السابق حسب الأصول المرعية.
قال (الأستاذ الرئيس) : إننا نقرأ اليوم قانون الجمعية، وقد علم الإخوان من
مطالعة السانحة التي وضعتها اللجنة أن هذا القانون هو الآن في حكم قانون مؤقت إلى
أن تتشكل الجمعية الدائمة إن شاء الله وتزاول وظائفها فهي تعيد النظر فيه وتعتني
بتطبيقه على الموجبات والتجربات ثم تعرضه على الجمعية العامة التي سيأتي
ذكرها فيه، فإذا أمضته صار حينئذ قانونًا راسخاً.
فلْنقرأ الآن قضايَا القانون فقرة فقرة حتى إذا كان لأحد الإخوان ملاحظة على
بعض الفقرات منه فلْيبدها عند قراءتها وبعد المناقشة إما أن تُقبل أو ترد أو تعدل
بالأكثرية، وعلى كل حال تضبط المناقشة في سجل مخصوص يكون كشرح
للقضايا يرجع إليه عند اللزوم.
ثم أمر (الأستاذ الرئيس) بقراءة سانحة القانون فقُرِئَتْ وجَرَتْ على بعض
القضايا وبعض الفقرات منها مناقشات وتولى المدقق التركي رئيس اللجنة إعطاء
الإيضاحات اللازمة عن المقاصد التي لاحظتها اللجنة فيه فقبل أكثر قضاياه وعدل
بعضها وضبطت المناقشات على حدة.
وقد استغرقت مباحث القانون جلسة ذلك اليوم وكذلك جلسة الاجتماع العاشر
المنعقد يوم الأحد الثامن والعشرين من الشهر وجلسة الاجتماع الحادي عشر المنعقد
مساء الأحد أي ليلة الإثنين.
***
الاجتماع الثاني عشر
(في مكة المكرمة يوم الإثنين التاسع والعشرين من ذي القعدة سنة 1316)
في صباح اليوم المذكور انتظمت الجمعية حسب معتادها.
أمر (الأستاذ الرئيس) بقراءة القانون الذي تقررفي الاجتماعات الثلاث السابقة متنًا
مجردًا فقُرئ وهذه صورته.
***
قانون جمعية تعليم الموحِّدين
(المقدمة)
قد تقرر في الجمعية المنعقدة في مكة المكرمة في ذي القعدة سنة ست عشرة
وثلاثمائة وألف المسماة (جمعية أم القرى) النتائج التالية:
(1) المسلمون في حالة فتور مستحكم عامّ.
(2) يجب تدارك هذا الفتور سريعاً وإلا فتنحل عصبيتهم كليًا.
(3) سبب الفتور تهاون الحكماء ثم العلماء ثم الأمراء.
(4) جرثومة الداء الجهل المطلَق.
(5) أضرُّ فروع الجهل الجهل في الدين.
(6) الدواء هو إنارة الأفكار بالتعليم أولاً وإيجاد شوق للترقي في رؤوس
... الناشئين ثانيًا.
(7) وسيلة المداواة عقد الجمعيات التعليمية القانونية.
(8) المكلفون بالتدبير هم حكماء ونجباء الأُمة من السُراة والعلماء.
(9) الكفاءة لإزالة الفتور بالتدريج موجود في العرب خاصة.
(10) يلزم تشكيل جمعية ذات مكانة ونفوذ في دائرة القانون الآتي البيان
... باسم (جمعية تعليم الموحِّدين) .
***
الفصل الأول
في تشكيل الجمعية
(قضية 1) تتشكّل الجمعية من مائة عضو منهم عشرةٌ عاملون وعشرةٌ
مستشارون وثمانون فخريون ويرتبط بالجمعية أعضاء محتسبون لا يتعين عددهم.
(قضية 2) يجب أن يكون الأعضاء كلهم متّصفين بست صفات عامة وهي:
(1) سلامة الحواسّ وكون السن بين الثلاثين والستين ابتداءً.
(2) الإسلام من أي مذهب كان من مذاهب أهل القبلة.
(3) العدالة بحيث يكون غير متجاهر بمعصية شرعية إجماعية ولا متلبس
أو معروف بخلة منافية للمروءة.
(4) المَزِيَّة بعلم أو جاه أو ثروة [*] .
(5) الكتابة بإتقان في لغة ما ولو عامية.
(6) النشاط بأن يكون ذا همة ونجدة وحمية.
(قضية 3) يشترط في الأعضاء العاملين والمستشارين زيادة أربع صفات
على ما سبق وهي:
(1) القدرة على التكلم والكتابة بالعربية.
(2) إمكان الإقامة ثمانية أشهر في مركز الجمعية وهي ما عدا ذا الحجة
ومحرمًا وصفرًا وربيعًا الأول.
(3) تفرُّغ العاملين للحضور في نادي الجمعية أربع ساعات في كل يوم ما
عدا الجمعة وأيام الأعياد.
(4) تفرُّغ المستشارين لحضور جلسة يوم واحد في كل أسبوع.
(قضية 4) يشترط في الأعضاء الفخريين زيادة ثلاث صفات وهي:
(1) القدرة على الكتابة في إحدى اللغات الأربع وهي العربية والتركية
والفارسية والأوردية.
(2) الاستعداد لمراسلة الجمعية بإحدى هذه اللغات في كل شهر مرة بمقالة
أو رسالة أو فصل من تأليف يُقْترح موضوعه من قبل الجمعية أو هو يَتخيَره
والجمعية تستصوبه وتقرره.
(3) الإذعان لانتقادات، وتنقيحات الجمعية وتصحيحها [1] .
(قضية 5) تتشكل جمعية عامة في كل سنة مرة في أوائل ذي القعدة يُدعى
إليها جميع الأعضاء حتى المحتسبون فيحضرها الأعضاء العاملون مطلقًا ومَنْ شاء
من الباقين.
(قضية 6) الجمعية العامة بالمذاكرة والانتخاب الخفي والأكثرية المطلقة
تُميّز المترشحين للهيئة العاملة ثم المترشحين للهيئة المستشارة.
(قضية 7) الهيئتان العاملة والمستشارة تجتمعان وبالمذاكرة وأكثرية الثلثين
تميزان المترشحين منهم للرئاسة ولنيابة الرئاسة وللكتابة الأولى وللكتابة الثانية
ولأمانة المال، ثم تنتخبان من المترشحين رئيسًا لأجل سنة ونائب رئيس لأجل سنتين
وكاتبًا أول لأجل ثلاث سنين وكاتبًا ثانيًا وأمين مال لأجل أربع سنين.
(قضية 8) الهيئتان العاملة والمستشارة يدققون في صفات الذين يراد أن
يكونوا من الأعضاء الفخريين أو المحتسبين، ثم بالانتخاب الخفي والأكثرية
المطلقة يُقبلون أو يُردون.
(قضية 9) للهيئتين العاملة والمستشارة أن يرفعوا صفة العضوية عمن يُعلم
وقوع حالة منه تستوجب ذلك وتتحقق خفيًا وتصدق بأكثرية الثلثين.
(قضية 10) الجمعية العامة تقوم بأربع وظائف وهي:
(1) تدقيق إجمالي في جميع الأعمال التي أجرتها الجمعية في السنة
الماضية.
(2) التدقيق في حساباتها الماضية.
(3) تقرير ما يلزم التشبث به من الأعمال الكبيرة في السنة المقبلة.
(قضية 11) المركز الرسمي للجمعية مكةُ المكرمة ولها شعبات في
القسطنطينية ومصر وعدن وحائل والشام وتفليس وطهران وخيوه وكابل وكلكته
ودلهي وسنغابور وتونس ومراكش وغيرها من المواقع المناسبة.
(قضية 12) يكون تشكيل الشعبات على نمط تشكيل الجمعية المركزية
مصغرًا وتكون مرتبطة تمامًا بالجمعية فيما عدا ماليتها وجزئيات أمورها فإن لها
الخيار أن تكون مستقلة المالية والإدارة.
(قضية 13) تتشكل الشعبات على التراخي ويعطى للبعض المناسب الموقع
منها هيئةٌ تصلح معها؛ لأن تُتّخذ عند مسيس الحاجة هي المركز الأصلي [1] .
***
الفصل الثاني
في مباني الجمعية
(قضية 14) الجمعية لا تتدخل في الشئون السياسية مطلقًا فيما عدا
إرشادات وتنبيهات بمسائل أصول التعليم وتعميمه.
(قضية 15) ليس من شأن الجمعية أن تكون تابعة أو مرتبطة بحكومة
مخصوصة على أنها تقبل المعاونة أو المعاضدة من قبل السلاطين العظام والأمراء
الفخام المستقلين والتابعين بصفة حماة فخريين.
(قضية 16) لا تنتسب الجمعية إلى مذهب أو شيعة مخصوصة من مذاهب
وشِيَع الإسلام مطلقًا.
(قضية 17) توفق الجمعية مسلكها الديني على المَشْرَب السلفي المعتدل،
وعلى نبذ كل زيادة وبدعة في الدين، وعلى عدم الجدال فيه إلا بالتي هي أحسن.
(قضية 18) يكون شعار الجمعية القولي: [لا نعبد إلا الله] ، وشعارها
الفعلي: التزام (المصافحة) على وجه السنة ووجهتها (الغيرة على الدين قبل
الشفقة على المسلمين) ، وأهم أعمالها (تعليم الأحداث وتهذيبهم) . تراجع قضية
46 و47 و48) .
(قضية 19) أعضاء الجمعية لا يتكلفون التناصر والتعاون فيما هو ليس
من مقاصد الجمعية أي التعاون بالمال أو الجاه فيما بينهم إلا لِمَنْ يصاب ويتضرر
بسبب الجمعية.
(قضية 20) تتكفل الجمعية بكفاية عدد مخصوص من أصحاب المزايا
العلمية الخاصة أو العزائم الخارقة العادة بشرط أن يكونوا مجرَّدين لا عيال لهم أو
شبيهين بالمجرَّدين.
***
الفصل الثالث
في بيت مال الجمعية
(قضية 21) نفقات الجمعية تُبْنى على غاية البساطة والاقتصاد وهي تسعة
أنواع:
(1) إكمال كفاية الهيئة العاملة بما لا يزيد على ستين ذهبًا إنكليزيًّا لكل
واحد في السنة.
(2) رواتب الكُتّاب والمترجمين والخدم.
(3) أجرة محلات المركز والشعبات غير المستقلة مالية.
(4) نفقات البعوث المتجولة.
(5) نفقات المطبوعات.
(6) نفقات التحرير والتأليف.
(7) نفقات البريد والرسائل.
(8) كفاية المذكورين في (القضية 20) .
(9) النفقات المتفرقة.
(قضية 22) تعتمد الجمعية في الحصول على نفقاتها على جهتين فقط
النصف من ربح مطبوعات الجمعية أي طبع المؤلفات الآتي ذكرها في الفصل
التالي من نحو طبع المصحف الشريف بصورة متقنة للغاية تستوجب الاختصاص
بطبعه والنصف الآخر من إعانات أصحاب الحمية والنجدة من أمراء وأغنياء الأمة
وبعض الأعضاء المحتسبين.
(قضية 23) أمين المال يكون من أغنياء التجار المشهورين المقيمين في
مركز الخدمة حسبة لربه ودينه ويكون المال في يده بوجه مضمون.
(قضية 24) أمين المال يُعطِي وُصُولات بمقبوضاته تكون مطبوعة
مرفوعة مرقومًا عليها عدد متسلسل في جانب منها مجموع الوارد ومجموع
المصروف في تلك السنة باعتبار غاية الشهر العربي المنصرم.
(قضية 25) أمين المال لا يصرف شيئًا إلا بورقة صرف مطبوعة عليها
عدد متسلسل ومُوقَّع عليها من القابض وكاتب الجمعية ورئيسها.
***
الفصل الرابع
في وظائف الجمعية
(قضية 26) الهيئتان العاملة والمستشارة بالاتفاق أو أكثرية الثلثين تعيدان
النظر في قانون الجمعية مرة ابتداءً، ثم كل ثلاث سنين مرة وتنظمان القوانين التي
تُلتزم ويجب مطلقًا أن يكون ترتيب القوانين تابعًا لقواعد التروي والتدقيق والتأمين
وترتبط كل قضية بشرح مفصل مسجل يُرجَع إليه، ولا يصير القانون دستورًا
للعمل إلا بعد قراءته في الجمعية العامة السنوية وقبوله، ويجوز للهيئتين عند
الضرورة تقرير العمل بالبعض من أحكام تلك القوانين مؤقتًا، ثم تعرض على
الجمعية العامة الأسباب المُجْبِرَة على التعجيل.
(قضية 27) إيقاظ فكر علماء الدين إلى الأمور الخمسة الآتية وتنشيطهم
للسعي في حصولها ومساعدتهم بإرَاءَةِ أسهل الوسائل وأقربها إليها وهي:
(1) تعميم القراءة والكتابة مع تسهيل تعليمهما.
(2) الترغيب في العلوم والفنون النافعة التي هي من قَبِيل الصنائع مع
تسهيل تعليمهما وتلقِّيهما.
(3) تخصيص كل من المدارس والمدرسين لنوع واحد أو نوعين من
العلوم والفنون ليوجد في الأمة أفراد نابغون متخصصون.
(4) إصلاح أصول تعليم اللغة العربية والعلوم الدينية وتسهيل تحصيلها
بحيث يبقى في عمر الطالب بقية يصرفها في تحصيل الفنون النافعة.
(5) الجِدّ وراء توحيد أصول التعليم وكتب التدريس.
(قضية 28) السعي في تأليف متون مختصرة بسيطة واضحة على ثلاث
مراتب:
(1) لتعليم المبتدئين أو المكتفين بالمبادئ.
(2) لتعليم المنتهين الطالبين الإتقان.
(3) لتعليم النابغين الراغبين في الاختصاص.
(قضية 29) الاهتمام في جعل المعلمين على أربع مراتب:
(1) العامة ومعلموهم أئمة المساجد والجوامع الصغيرة.
(2) المهذبون ومعلموهم مدرسو المدارس العمومية الكبيرة.
(3) العلماء ومعلموهم مدرسو المدارس المختصة بالعلوم العالية.
(4) النابغون ومعلموهم الأفاضل المتخصصون.
(قضية 30) السعي لدى أمراء الأُمة بمعاملة كافة طبقات العلماء معاملة
الأطباء أي بالحجر رسمًا على من يتصدر للتدريس والإفتاء والوعظ والإرشاد ما لم
يكن مُجازًا من قبل هيئة امتحانية رسمية موثوق بها تقام في العواصم.
(قضية 31) التوسل لدى الأمراء أن يعطوا لأحد العلماء الغيورين في كل
بلدة صفة محتسب ديني على جماعة المسلمين في تلك البلدة ويجعلوا له مستشارين
منتخبين من عقلاء الأهالي وتكليف هذه الجمعية الاحتسابية بأن تقوم بالنصيحة
للمسلمين بدون عنف وبتسهيل تعميم المعارف والمحافظة على الأخلاق الدينية.
(قضية 32) التوسل لنيل العلماء ما يستحقون من رزق وحرمة ومنعهم عن
كل ما يُخِلّ بصفتهم وشرفهم [2] .
(قضية 33) التوسل لحمل أهل الطرائق على الرجوع إلى الأصول
الملائمة للشرع والحكمة في الإرشاد وتربية المريدين، وتكليف كل فرقة منهم
بوظيفة مخصوصة يخدمون بها الأمة الإسلامية من نحو اختصاص فرقة كالقادرية
مثلاً بعول وتعليم الأيتام وأخرى بمواساة المساكين وأبناء السبيل وجماعة بتمريض
الفقراء والبائسين وفئة بالتشويق إلى الصلاة وغيرها بالتنفير عن المسكرات ونحو
ذلك من المقاصد الخيرية الشرعية فيكون عملهم هذا عوضًا عن العطل والتعطيل.
(قضية 34) حمل العلماء والمرشدين وجمعيات الاحتساب على السعي
لإرشاد أفراد الأمة خصوصًا أحداثها إلى قواعد معاشية وأخلاقية متحدة الأصول
تلائم الإسلام والحرية الدينية وتفيد ترويض الأجسام وتقوية المَدَارك وتثمر النشاط
للسعي والعمل وتولد الحَمِيّة والأخلاق الشريفة.
(قضية 35) تعتني الجمعية بصورة مخصوصة بوضع مؤلفات أخلاقية
ملائمة للدين وللزمان وتكون على مراتب من بسيطة ومتوسطة وعالية بحيث تقوم
هذه المؤلفات مَقام مُطوّلات الصوفية، وتقوم بوضع مؤلفات للغة وسطى عربية لا
مُضرية ولا عاميّة، وجعلها لغة لبعض الجرائد ولمؤلفات الأخلاق ونحوها مما يهم
نشره بين العَوَامّ فقط [3] .
(قضية 36) تعتني الجمعية في حمل العلماء وجمعيات الاحتساب على
تعليم الأمة ما يجب عليها شرعًا من المجاملة مع غير المسلمين وما تقتضيه الإنسانية
والمزايا الإسلامية من حسن معاشرتهم ومقابلة معروفهم بخير منه ورعاية الذمة
والتأمين والمساواة في الحقوق وتجنب التعصب الديني أو الجنسي بغير حق.
(قضية 37) تنشر الجمعية رسالة دينية عربية في كل شهر يكون حجمها
نحو مائة صفحة بحيث يتألف منها كتاب في كل عام وتكون مباحثها ثمانية أنواع
يخصص لكل بحث قسم منها وهي:
(1) مقرّرات الجمعية وأعمالها وخلاصة المهم من مراسلاتها مع شعباتها.
(2) مباحث دينية في موضوع سماحة الدين ومزاياه السامية ودفع ما يُرْمَى
به من منافاته للحكمة والمدنية.
(3) قواعد أخلاقية ونصائح معاشية.
(4) فصول في العلوم والفنون النافعة والترغيب فيها وإراءة طرائق تلقينها
وتلقيها.
(5) المقالات المفيدة التي يحررها الأعضاء الفخريون وغيرهم من فضلاء
الأُمة.
(6) الأخبار والإعلانات الخاصة بالنهضة العلمية الإسلامية.
(7) الأسئلة والأجوبة المهمة.
(8) مباحث وفوائد شتى.
(قضية 38) تكون الأبحاث والمقالات الدينية في الرسالة الشهرية
مُلاحظًا فيها إجماع السلف أو الموافقة لمذهبين فأكثر من المذاهب المدونة المتبعة،
ويتعين في المسائل المهمة الخلافية بأن يقرها بعض المشهورين عن علماء
الهداية من المذاهب المختلفة.
(قضية 39) تكون قيمة الرسالة معتدلة قريبة من نفقات تحريرها وطبعها
فقط وترسل إلى المدارس والعلماء المشهورين بدون عوض على حساب الأمراء
والمحتسبين.
(قضية 40) تعتني الجمعية غاية الاعتناء في إيصال الرسالة إلى المرسلة
إليهم بصورة منتظمة وفي إدخالها البلاد المأهولة بالمسلمين رغمًا عن كل مانع
فترسل ولو برًّا مع رواد على نجائب تخترق آسيا وأفريقيا إلى أقاصيهما ولا تَعْدَم
الجمعية وسائل كثيرة للاتصال.
(قضية 41) تخصص الجمعية لمنشوراتها وإعلاناتها أربع جرائد من أشهر
الجرائد الإسلامية السياسية: 1عربية في مصر. 2 تركية في القسطنطينية. 3
فارسية في طهران. 4 أوردية في كلكته.
(قضية 42) تسعى الجمعية في تأسيس مدرسة جغرافية دينية في مركز
الجمعية لأجل تثقيف تلامذتها وتأهيلهم للسياحة والبعوث.
(قضية 43) ترسل الجمعية بعوثًا جغرافية وعلمية تتجول في البلاد
الإسلامية القريبة والبعيدة للاطلاع على أحوال البلاد وأهلها من حيث الدين
والمعارف ولإرشادهم إلى ما يلزم إرشادهم إليه في ذلك حسبما تقتضيه الأخوة
الدينية بدون تعرُّض للأحوال السياسية قطعيًّا.
(قضية 44) تسعى الجمعية بعد مضي ثلاث سنين من انعقادها في إقناع
ملوك المسلمين وأمرائهم بعقد مؤتمر رسمي في مكة المكرمة، ويحضره وفود من
قبلهم ويترأّسه مندوب أصغر أولئك الأمراء ويكون موضوع المذاكرات في المؤتمر
السياسية الدينية.
(قضية 45) إذا صادفت الجمعية معارضة في بعض أعمالها من حكومة
بعض البلاد التي هي تحت استيلاء الأجانب فالجمعية تتذرع أولاً بالوسائل اللازمة
لمراجعة تلك الحكومة وإقناعها بحسن نية الجمعية، فإذا وُفِّقَتْ لرفع التعنت فيها
وإلا فتلجأ الجمعية إلى الله القادر الذي لا يعجزه شيء.
***
خاتمة
(قضية 46) (سياسة الجمعية) جلب قلوب مَنْ تتخير جَلْبهم ببذل
المعروف محاباةً فتتحرى مواساة الإنسان عند مصابه وتنقّب عن أهم حاجاته أو
غاياته فتعينه عليها.
(قضية 47) (مظهر الجمعية) العجز والمسكنة فلا تقاوم ولا تقابل إلا
بأساليب النصحية والموعظة الحسنة وتلاطف وتجامل جهدها مَنْ يعادي مَقْصِدها
ولا تلجأ إلى الإلجاء إلا في الضروريات.
(قضية 48) (قوة الجمعية) الإخلاص في النية، وعمدتها الثبات على
العمل، ومسلكها تذليل العقبات واحدة فواحدة وحصنها الدين الحنيف، وسلاحها
العلم والتعليم، وجيشها الأحداث والضعفاء، وقوادها حكماء العلماء والأمراء،
ورايتها القدوة الحسنة، وغنيمتها بث الحياة في الموحدين، وغايتها خدمة المدنية
والإنسانية وثمرة أعضائها وأنصارها لذّة الفكر والفخر ونيل الأجر من الله.
... ... ... ... ... ... ... ... (تم القانون)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) ليس المقصود من الثروة ذاتها بل إعانتها صاحبها على بعض الأخلاق الشريفة.
(1) (قضية مؤقتة) يبتدئ تشكيل الجمعية حسبما يتسهل للمؤسس وهو يرأسها مؤقتًا وله أن ينيب عنه من شاء وعندما يبلغ عدد الأعضاء المكتتبين قدرًا كافيًا يجمعهم لينتخبوا الهيئة العاملة والهيئة المستشارة.
(2) (قضية مؤقتة) مركز الجمعية يكون في السنين الأولى في بور سعيد أو الكويت ثم ينتقل إلى مكة بعد الرسوخ أو عند إقامة مراكش وأفغان وغيرها كآلات سياسية لها في مكة وعلى كل حال يكون للجمعية يد فعلية في مكة.
(3) كالقعود في محلات القهوة والتجول في المجتمعات وركوب الحمير ونحو ذلك مما لا يُقْدِم عليه أمثالهم في الملل الأخرى.
(4) كالاكتفاء بالسين عن الثاء وبالزاي عن الذال والاقتصار على التثنية بالياء والجمع بالواو والنون والقصر بالألف وكقبول الوضع العامي المشهور، من هامش الأصل، [المنار] : هذا خطأ لا حاجة إليه إذ يمكن الوصول إلى المقصود باللغة الصحيحة السهلة.(5/825)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أحوال العالم الإسلامي
(المؤتمر الإسلامي في الهند)
أشرنا في الجزء الماضي إلى انعقاد مؤتمر التربية الإسلامية في الهند ونذكر
الآن مجملاً من خبره.
انتخب المسلمون في هذه السنة رئيسًا لمؤتمرهم (السير آغاخان) وهو شاب
من الكبراء الذين يقرن باسمهم لقب (السمو) وقد اشتهر بالذكاء والنبل، والعلم
والفضل، ولهذه المزايا اختارته طائفة الإسماعيلية رئيسًا لها، وهي الطائفة
الباطنية المعروفة بالتروي في اختيار الرؤساء ولذلك كان أمرها منتظمًا في كل
البلاد إلى اليوم، ولا توجد طائفة تنتمي إلى الإسلام في هذا العصر أشد من هذه
الطائفة تعاونًا وتحابًّا والتئامًا ونظامًا.
والفائدة الكبرى التي استفدتها من خبر مؤتمر هذه السَّنة هي انتخاب هذا
الأمير رئيسًا للمؤتمر الذي معظم رجاله من أهل السُّنة، بل هذا هو الدليل القاطع
عندي على أن إخواننا مسلمي الهند قد ارتقوا عنا وعن سائر المسلمين الذين نعرف
أخبارهم، ذلك أن أَدْوَأ أدواء المسلمين التفرق في الطوائف وعدم معرفة قيمة
النابغين لا سيما إذا خالفوا الجماهير في بعض تقاليدهم - وهذه الخلة لازمة للنابغين
لا تفارقهم - ذلك بأن مبدأ النهوض في كل أمة منحطة هو ظهور أفراد فيها كبار
العقول أقوياء القلوب يوجهون عزائمهم إلى الخدمة القومية، فإذا ظهروا في أمة
مستعدة للنهوض تشعر الأمة بفضلهم وتقدرهم حق قدرهم وتعطيهم مكانة الهامة من
الجسد فيدبرونها ويعرجون بها إلى ما هي مستعدة له من الارتقاء، وإذا ظهروا قبل
استعداد الأمة للاستفادة من مواهبهم ترى الجماهير من خواصّ قومهم يمقتونهم
ويُنفّرون العامة منهم ويتوكئون على ما لا يخلو نابغ عنه من المخالفة للجماهير في
تقاليدهم وعاداتهم وأعني بالخواص الرؤساء والأغنياء الذين يعبر عنهم القرآن
بالمُتْرَفين، وهم الذين كانوا أعداء الأنبياء والمرسلين، وكانوا ولا يزالون أعداء
الإصلاح والمصلحين.
أما قولنا: إن بعض النابغين الذين يتوجهون إلى إصلاح الأمم لا بد أن
يخالفوا قومهم في بعض عادهم واعتقادهم، فليس معناه أنهم يتحرَّوْن المخالفة طلبًا
للشهرة أو الامتياز وإنما ذلك أمر طبيعي لازم، وبيانه أن الفساد إنما يضرب
بجرانه في الأمة ويفتك بها لفسادٍ يطرأ على العقول فتأخذ بالاعتقادات الباطلة،
وفسادٍ يلم بالنفوس فتستبدل الأخلاق الذميمة بالأخلاق الفاضلة، وتتولد من الفسادين
العادات الضارة ويفتك كل ذلك بالأمة فتكًا.
فالنابغ الذي يتصدى للإصلاح يعرف بما ميزه الله تعالى به من نفوذ البصيرة
منشأ الفساد في الأعمال، وينفر بما خصه به من كرامة النفس وزكائها عن كل ما
يعتقده فاسدًا ويرى أثره ضارًّا، فهو بهذا وذاك يكون مخالفًا للأمة في بعض اعتقاداتها
وعاداتها حتمًا بغير تكلف ولا تصنع بل يوجد من محبي الإصلاح من يتكلف إخفاء
المخالفة وإظهار الموافقة في بعض الأمور لأجل أن يقبل منه غيرها.
ليس هذا موضع الإطالة في أخلاق المصلحين مع أقوامهم ولكني أقول: إن
أكثف الحُجُب بين المصلح وبين قومه هو أن يُنبز بأنه مخالف لهم في بعض الأمور
الدينية أو مقصر فيها فإذا وصلت الطبقة المتوسطة في قوم إلى أن يعرفوا درجة
المستعد للإصلاح وأن لا يصدهم عن الانتفاع به كونه مخالفًا لهم في بعض المسائل
الدينية أو غيرها؛ لأنهم يعرفون كيف ينتفعون، وبم ينتفعون وهم واثقون بأنفسهم
لا يخافون من شذوذ رئيسهم في بعض المسائل أن يتعدى إليهم ومنهم إلى الأمة
بأسرها فأولئك هم القوم الذين أَذِنَ الله بترقيتهم ونجاحهم.
خطب رئيس المؤتمر وذكر أمراض المسلمين التي هبطت بهم إلى الدَّرك
الذي هم فيه بين الأمم، فذكر أن جراثيم هذه الأمراض أربع:
(1) عقيدة الجبر التي حلت العزائم وأَلْصَقَ تبعتها بالإمام أبي الحسن
الأشعري (رحمه الله) .
(2) اعتقاد أن ترك الشئون العامة والاشتغال عنها بالعزلة والعبادة من
مهمات الدين وزعم أن منشأ ذلك اعتزال بعض الصحابة (عليهم الرضوان)
الحرب بين عليّ ومعاوية وقولهم: إن هذا أَسْلَم للدين.
(3) إهمال تعليم النساء وتربيتهن لِمَا حال دون ذلك من التشدد في الحجاب
والخروج به عما جاء به الشرع وأثبت أن هذه المعضلة الاجتماعية قد سرت
عَدْوَاها من مُتْرَفي الفرس إلى بني العباس وبسببهم رسخت في الأمة الإسلامية
وكان من أثرها حبس نصف المسلمين في السجن الأبديّ والقضاء عليه بالجهل
والخمول. ويرى القارئ في كل مسألة من هذه الثلاث نزعة يصح أن تكون تَوَلَّدَتْ
في دماغه من التمكن في مذهبه الذي أصله الغلو في التشيع إلى ادعاء الحلول في
بعض أئمة آل البيت ورمي عظماء المسلمين من الصحابة فَمَن بَعْدَهم بالإضرار
بالدين ولو عن غير عمد.
لو قام مثل هذا الخطيب الذي يفتخر به مسلمو الهند اليوم وخطب خطبته هذه
في مصر لشتموه، أو في الشام لضربوه، أو في تونس لنَفوه وأبعدوه، أو في
الجزائر أو مراكش لقتلوه، فلنا أن نقول: إنه لم يرتقِ في البلاد الإسلامية إلا
مسلمو الهند الذين أَثْنَوْا على هذا الخطيب ووقروه؛ لأن له مزايا ينتفع بها في العمل
المِلّي الذي تيمموه فإذا اعتقد أهل السنة منهم أنه أخطأ في تعليل جعل اعتزال
الأعمال العامة من الدين بأنه الاقتداء بفضلاء الصحابة وأخطأ بإسناد عقيدة الجبر
إلى الإمام الأشعري فهم يعذرونه بأنه قال ما يعتقد بإخلاص ولا يمكن أن تظهر
الحقائق في قوم لا حُرية عندهم للعالم بإظهار اعتقاده، ومن الغريب أن ترى البلاد
التي يدعي أهلها اتباع السنة قد اعتصم علماؤها بُحُبْوَة التَّقِيَّة التي يعيبون بها
إخوانهم الشيعيين ويحتجون عليهم بأن من يقول بالتقيَّة لا يوثق بعلمه ولا بدينه؛ إذ
يجوز أن يكون كل ما يُظْهره مخالفًا لما يعتقده عملاً بالتقية، ومن تراهم يتقون؟
يتقون العوام الجاهلين المقلدين لهم، أليس من أعجب العجائب أن العالم يتبع
الجاهل فَيُؤَوِّل له تقاليده وخرافاته ليكون راضيًا عنه ويبقى معظِّمًا ومكرمًا له؟ ؟
قد علم أن المرض الأول من الأمراض التي ذكرها رئيس المؤتمر يتعلق
بالاعتقاد، والمرض الثاني يتعلق بالأخلاق والأعمال والمرض الثالث يتعلق بالعادات
والأعمال؛ ولذلك رتبناها هذا الترتيب المخالف لترتيب الخطيب، أما المرض
الرابع فهو خاصّ بالسياسة وهو احتكار الخلافة والإمارة في بيت مخصوص
يتوارثها أفراده، وقد صبّ إثم هذه الجريمة على بني العباس الذين مزقوا شمل
الأمويين ثم العلويين، وكادوا يفنونهم أجمعين، والقارئ يرى في هذا من الظنة ما
يرى فيما سبقه، ولكن مجموع الخطبة يبرئ الخطيب من سوء القصد في كلامه كله
فقد أثنى على عمرو بن العاص الذي كان عضد معاوية وساعده ويده التي تناول بها
الخلافة وساد على العلويين من أول الأمر - نعم إنه لم يثن عليه بهذا العمل ولكنه
أثنى عليه بالسياسة الحكيمة التي لا يُغْمِض حقه فيها بصيرٌ وإن كان مثلي من
صميم العلويين، بَلْهَ ثناءه على الخليفة الثاني وعلى الصحابة كلهم في الجملة.
وحاصل القول أن الخطيب أحسن في كلامه وأبان به عن عقل وبصيرة
واستعداد لرياسة المؤتمر وإن كان في بعض القول مجال لمن لا شغل لهم إلا القيل
والقال وهم بمعزل عن الأعمال.
أما نتيجة المؤتمرالتي وجه عنايته إليها فهي إنشاء مدرسة كلية عامة كمدرسة
أكسفورد الإنكليزية أو جعل مدرسة عليكدة كذلك، وقد قدّر الرئيس في خطبته نفقة
إيجاد هذه المدرسة بعشرة ملايين روبية (666.666 جنيه إنكليزي وكسور)
وما أجلَّ قول الخطيب: ألا تشترون يا قوم مجد الإسلام بعشرة ملايين روبية؟
أهذا الثمن كثير؟ ؟ ومن بعد فكره وصائب رأيه أنه ذكر في هذا المقام صلة مسلمي
الهند بالعثمانيين والإيرانيين والأفغانيين، وأشار بوجوب جعل المدرسة الكلية كعبة
العلم لجميع المسلمين، كأنه لم يخطر في باله نزعات شيطان (الوطنية الحقة)
التي يدعو إليها بعض الأحداث في مصر وهي قطع صلات الأمة الإسلامية ومجافاة
بعض شعوبها لبعض حتى الذين تجمعهم لغة واحدة وينتسبون إلى دولة واحدة! !
هذا الرأي الحميد رأي توقف نجاح الأمة على المدارس الكلية الجامعة قد
نوَّهْنا به من قبل وطالبنا به عقلاء المصريين وأصحاب التأثير فيهم قولاً وكتابة،
وإذا يسر الله تعالى ووفق المسلمين إلى إنشاء كليتين واحدة في الهند وأخرى في
مصر فذلك منتهى السعي الحميد في إحياء المسلمين وإعادة مجدهم ولا توجد بلاد
إسلامية غنية والتعليم الأهليّ فيها حرّ إلا البلاد الهندية والبلاد المصرية، ولا يتم
هذا العمل في مصر إلا بسعي مثل السعي الذي في الهند وهو أن يتألف مؤتمر
ويكون جميع أفراده دعاة إلى هذا العمل ساعين في جمع المال له من كل مكان،
نعم، يظهر أن أهل مسلمي مصر أقل استعدادًا من مسلمي الهند بالنسبة إلى
المجموع ولكن في مصر رجالاً ربما لا يوجد خير منهم في بلاد إسلامية أخرى ولهم
أن يجعلوا كليتهم في أول الأمر صغيرة ثم يوسعوا دائرتها بالتدريج، وقد سمعت
أكبر مرجوّ فيهم لمثل هذا السعي يقول: إنه يمكن الإقدام على العمل إذا تيسر جمع
مائة ألف جنيه فقط، ولو اعتبر أغنياء مصر بالسر كاسل الإنكليزي الذي بذل من
ماله أربعين ألف جنيه لأجل دراسة مرض الرمد في مصر لتيسر لهم بذل ما ينشئ
مدرسة كلية تكون حياةَ قومهم وأمنهم، ومنشأ عزهم وسعادتهم.
* * *
(تونس - أو حادثة صفاقس)
بينا مسلمو الهند يصفقون لرئيس مجمعهم وخطيب مؤتمرهم الإسماعيلي
المذهب رجوعًا إلى تساهل الإسلام في الصدر الأول أيام كان الحافظ البخاري يتلقى
الحديث عن عمران بن حطّان الخارجي وإذا بمسلمي البلاد التونسية يهيجون
ويحتمون على مدرس من أهل مذهبهم في الأصول والفروع؛ لأنه أنكر عليهم
بعض البدع التي أَلِفوها وألصقوها بالدين وتكلفوا لهذا الإلصاق ضروبًا من التأويل
تصادمها نصوص الكتاب والسُّنة، تلك البدعة أو البدع هي التي أقام (المنار) بها
القيامة على أهلها وكتب فيها أكثر من سبعين مرة وهي ما يفعله الجهلاء عند قبور
الأولياء من التضرع والدعاء، والاستغاثة والاستجداء، والطواف والاعتكاف،
والتذلل والاستعطاف، والقيام والقعود، والركوع والسجود، وما رخص الدين في
زيارة القبور بعد النهي عنها ليُدعى أربابها من دون الله، ويقول المأول {هَؤُلاءِ
شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) ولا لينسخ بهم قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) وقوله: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18) . إلخ إلخ.
الواقعة هي أن عالِمًا مدرسًا في مسجد صفاقس اسمه (الشيخ محمد شاكر)
كان يقرأ عقيدة التوحيد فلما انتهى إلى وحدانية الأفعال التي يكاد يكون الكلام عليها
في بعض كتب العقائد جبرًا محضًا نهى عن بدع القبور، والاستعانة بأهلها
والتقرب إليهم بتقديم النذور، فَكبُر ذلك على الذين يأكلون تلك النذور فوشوا ومَحَلُوا
وحرّفوا وتمحلوا، ورفع الأمر إلى المحكمة الشرعية، ثم إلى العامل المدني في
صفاقس، ثم إلى الوزارة في الحاضرة (تونس) فحكم بعزله من التدريس في
جامع صفاقس والتطويع في جامع الزيتونة، وقد ذكرت الواقعة بعض الجرائد
المصرية نقلاً عن جرائد فرنسية، وذكرت أن قاضي تونس ومفتيها هما اللذان طلبا
من الوزارة عزله وما نظن ذلك صحيحًا، وإذا كان القاضي والمفتي وشيخ الجامع
الأعظم لم يسعوا بعزل هذا المدرس الذي قرر التوحيد ونهى الناس أن يستعينوا
بغير الله على أمور دنياهم، أفما كان يجب عليهم أن ينصروه ويعززوه؟ بلى،
ومن هنا نعرف الفرق بين تونس والهند، بل بينها وبين مصر؛ فإننا قررنا هذه
المسألة وشددنا فيها النكير في المسجد الحسيني، وكان يحضر درسنا كثير من
العلماء والفضلاء فما انتصر أحد ممن حضر وممن لم يحضر لبعض جهلة العوام
الذين كبر عليهم ما قررناه ولا سمعنا كلمة تخطئة من شيخ الأزهر ولا من مفتي
الديار المصرية ولا من غيرهما من كبار العلماء.
ولا بد أن يكون تشديد الوزير في ذلك مبنيًّا على سبب مدني كأن يكون درس
ذلك المدرس أحدث شغبًا وهيجانًا في العامّة، والسياسة مبنية على مراعاة أمر العامة
بالحق وبالباطل، ولكن الذي يعجب منه هو رضاء الحكومة الحامية (الفرنسية)
باضطهاد رجل مصلح كهذا المدرس، يحاول هدم مناشئ الخرافات التي نشأت منها
تعصبات أهل الطريق الذين يهددون الحكومات في أفريقيا وهم خطر دائم عليها
وعلى قومهم ولا علاج لهم إلا الإرشاد الديني الصحيح الذي يهدم تلك السلطة أو
يرشد أهلها إلى الحق الذي يعرفون به أنفسهم فلا يكلفونها من العمل ما ليست أهلاً
له، وقد جاءتنا جريدة فرنسية تونسية تشرح مسألة صفاقس وتبين خطأ الحكومة
فيها وسننشر تعريبها في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
* * *
(ثورة مراكش ونبأ عظيم)
لا تزال الثورة مشتعلة في بلاد مراكش ولفرنسا على الحدود جيش جرار وقد
أرسلت بعثة عسكرية إلى سلطان مراكش فقوي بذلك نفوذها عنده على نفوذ إنكلترا،
أما النبأ العظيم الذي حدث أخيرًا فهو أن البرقيات أفادتنا اليوم أن حكومة المغرب
الأقصى قد اقترضت من مصرف (بنك) فرنسا والبلاد الواطئة (هولندا) سبعة
آلاف ألف وخمسمائة ألف فرنك (7ملايين ونصف) بفائدة ستة في المائة، قال:
(روتر) : ولما كان السلطان هو الكافل لهذا القرض، فالمتبادر أنه حيلة سياسية
يقصد بها زيادة نفوذ فرنسا عنده: هذا وإن الحكومة الشرقية التي تقترض من دولة
أوربية ينقرض حكمها باليد التي تعطيها المال، وكأن هذه الحكومات الجاهلة لا بد أن
تهدم سلطانها بأيديها، وكأن بلادها لا تحيى إلا إذا ماتت موتتين، وكأن الله قضى أن
لا تكون حياتها إلا على أيدي من تسميهم عِداتها، لا على أيدي كبرائها وساداتها،
ولا يشترط أن تكون إماتة الأجنبي لنا مقصودًا بها الإحياء، فيقال: إننا أحسنّا الظن
بالأعداء.
* * *
(المنار في السودان)
كان المنار يرسل إلى بلاد السودان فلا يلقى معارضة ولا منعًا، وفي أثناء هذه
السنة (الخامسة) صار يشكو إلينا بعض قرائه من احتجاب بعض أجزائه ووصول
بعض، ثم كتب إلينا بعض مَنْ طلب الاشتراك وأرسل القيمة أنه لم يصل إليه شيء
من الأجزاء، فقابلنا صاحب السعادة حاكم السودان العام السردار السرونجت باشا
وشكونا إليه ذلك شفاهيًا وقدمنا مع ذلك عريضة إلى وكيل حكومة السودان بالشكوى
الرسمية فصدر الأمر في أول رجب من هذه السنة بالإذن للمنار في دخول السودان
وعدم معارضته وكنا أَمْسَكْنا عن إرساله فعدنا إليه، وكنا نظن أنه يصل في أوقاته
ولكن لم نلبث أن علمنا من بعض من طلب الاشتراك في تلك البلاد وأرسلنا إليه
المنار أنه لم يصل إليه فكتبنا ثانية إلى وكيل حكومة السودان نُعلمه بذلك لأنه ظهر
لنا أن الحكومة السودانية لم تأمر مكاتب البريد بعدم المعارضة، فورد إلينا الجواب
الآتي بنصه: نمرة 2184/8 إدارة وكيل حكومة السودان في 26 - 1 - 903
حضرة العلاَّمة الفاضل منشئ جريدة المنار الغراء:
(عُلم ما أوضحتموه بجوابكم المُؤَرَّخ فى22 يناير الجاري ونفيد حضرتكم بأنه
(قد صدرت الإشعارات اللازمة لعموم الجهات بعدم منع جريدتكم (المنار الغراء)
(من الدخول إلى السودان فاقتضى ترقيمه للإحاطة)
... ... ... ... (الإمضاء) ... ... ...
* * *
(هبة الإنكليزي الجواد)
نوهنا في النبذة التي كتبناها عن مؤتمر التربية الإسلامي في الهند بأن السر
كاسل الإنكليزي تبرع بأربعين ألف جنيه لتُنْفَقَ على دراسة مرض الرمد في مصر.
ونقول الآن: إن هذا السخيَّ الجواد قد تحدى بهبته هذه أغنياء المصريين إذ قال:
إنه تبرع بذلك ليفتح لهم باب البذل في هذا المشروع الذي يفيد هذه البلاد التي يكثر
هذا المرض فيها.
ولكن أغنياء المصريين مشغولون بالبذل في سبيل السرف والمخيلة، عن البذل
في المشروعات النافعة الجليلة، فهم يقلدون الأوربيين في شر ما عليه سفهاؤهم، ولا
ينظرون إلى ما يفعله كرماؤهم، ويتوهّمون أن مدنية القوم بالفجور، ومعاقرة
الخمور، وحب الذات ولو فيما يضر الجمهور، وأنّى لهم أن يعقلوا أن الأوربيين ما سادوا على العالمين، إلا بسخاء أولئك المتبرعين، الذين في أموالهم حقوق لتأييد
العلم، ونشر ألوية السيادة والحكم، ولعل التقليد يُفْضِي ببعض أغنيائنا إلى فهم هذه
القضية، والتأسي بهذه الأريحيَّة، فنحتسي من كأس التقليد رحيقًا ممزوجًا بتسنيم،
بعد ما تجرعنا شراب الحميم.
* * *
(المسلمون في سوريا)
ننوه بحال المسلمين في جميع أقطار الأرض وقلَّما نذكر شيئًا عن مسلمي
بلادنا السورية، وماذا عسانا نذكر عنهم غير البؤس والحرمان من الترقي في العلم
والعمل، وقد كتب بعض كُتَّابهم الفضلاء جملة تقريظ كِتَاب (الإسلام والنصرانية
مع العلم والمدنية) بلغ بها شأوًا بعيدًا في فن الاحتراس عندما أثنى على الكتاب
وكاتبه وناشره وطابعه، فدلّنا ذلك على الفرق البعيد بين مسلمي مصر ومسلمي
سوريا.
* * *
(مأثرة حميدية)
أمر مولانا السلطان الأعظم (أيده الله تعالى) بمنع المسلمين من الجلوس في
الحانات والمجاهرة بشرب الخمر وأوجب معاقبة المخالف، فعسى أن يعتني الحكام
والشرطة بتنفيذ هذا الأمر بالدقة والإحكام.
* * *
(حج سلطان زنجبار)
تَوجّه في هذه السنة سلطان زنجبار الجديد إلى الحجاز لأداء فريضة الحج
فندعو الله تعالى بأن يوفق سائر السلاطين والأمراء لمثل ما وُفِّق إليه، وأن يكتب
له السلامة في هذا السفر الشريف الذي امتاز به على أقرانه.
__________(5/833)
16 ذو القعدة - 1320هـ
14 فبراير - 1903م(5/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رد الشبهات عن الإسلام
السلطتان الدينية والمدنية
نحن المسلمين نعتقد أن دين الله تعالى واحد في جوهره وأن البيان والهدى فيه
إنما يختلفان باختلاف الأزمنة وأن الناس كانوا في كل زمان يأخذون من هداية الدين
بقدر استعدادهم، وأن حالة الاجتماع في الأمم السابقة كانت قاضية بإضاعة كتب
الدين كلها أو بعضها إذا طال الأمد على من جاء بها، وأن أقرب الملل ظهورًا من
الإسلام لم تسلم من هذه الإضاعة، وأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي حفظ كتابه
كله وظهر في وقت ارتقت فيه حالة الاجتماع حتى يمكننا أن نحكم بأنه لم تتلاش
ثمرة من ثمار العقول بعد الإسلام ولن تتلاشى فهو مبدأ تاريخ جديد في البشر.
قلنا: إن أقرب الملل زمنًا من الإسلام لم تسلم من الضياع، وظاهر أننا نعني
اليهودية والنصرانية فكل من الفريقين قد فقد السند المتصل لكتبه المقدسة فهو غير
موجود قولاً ولا كتابة، وهذا هو المراد بقوله تعالى فيهم: {أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ
الكِتَابِ} (آل عمران: 23) وقوله عز وجل في كل منهما: {فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا
ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) والحظ بمعنى النصيب أي أنهم حفظوا بعض ما أوتوه
ونسوا بعضه، ومتى ذهب بعض الدين صار الباقي غير موثوق به وإن سلم من
التحريف فيه والإضافة إليه، فكيف إذا لم يسلم، وقد أنزل الله تعالى القرآن
{مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (المائدة: 48) والمراد بالكتاب
الجنس والمهيمن المراقب الذي عنده نبأ ما يرقبه، فما صدقه القرآن من تلك الكتب
فهو من النصيب الذي أوتوه، وما أخبر به وليس موجودًا فهو من الحظ الذي نسوه،
وما كذبه فهو مما زادوه وأضافوه فهو الحكم العدل، وإنه لقول فَصْل وما هو
بالهزل، وكان الواجب أن يُحكموه فيما شجر، وينتهوا عما نهى ويأتمروا بما أمر،
وكذلك فعل المُوفَّقون، وصد عنه الآخرون، والسبب في الصدود هو السلطة
الدينية التي جعل ذووها الدين لمصلحتهم تقليديًا محضًا؛ عقود عقائده بأيدي الرؤساء
مثل الأحبار والأساقفة يقلدونها الناس ويحمونهم سواها وينشئون الأحداث، من
الذكران والإناث على اعتقاد وجوب التسليم لهم، والرجوع في كل أمر الدين إليهم،
ولا يزال أثر هذه التنشئة ظاهرًا فيمن يتربَّى في مدارس القسيسين فتراه يناظرك
في المسألة فإذا قامت عليه حُجّتك قال إن هذا الذي تقول ظاهر في نفسه ومعقول،
ولكنه من أمر الدين والقسيس يقول بخلافه ولا قول في الدين إلا ما يقول القسيس
ولا يشترط أن يكون قوله معقولاً ولا مفهومًا! !
فإذا قال النصراني: إن السلطة الدينية مثار التعصب الذميم، ومبعث العداوة
والبغضاء بين الجيران والأقربين، والحجاب دون المساواة بين أهل الوطن الواحد
في الحقوق، والقيد الذي تُقَيَّد به الإرادة والعزيمة، والغل الذي يغلل به العقل
والفكر، فالمسلم يصدقه ولا ينازعه يصدقه حامدًا لله تعالى أن ليس في دينه طائفة
جعل لها الإسلام حق السيطرة على العقول والأرواح تودع فيها ما تشاء وتحرمها
مما تشاء، وتتصرف في المسلمين باسم الدين كما تشاء، ثم يلتفت فيرى أن المسلمين
الذين قلدوا الرؤساء الروحيين عند النصارى لم يبلغوا أن صار لهم سلطة حقيقية
منتظمة يحاسبون بها الأفكار على خواطرها والعقول على معارفها بل هؤلاء هم
الذين كانوا يتسامحون مع الفكر والخيال ما لا يتسامح غيرهم ويعدون كل معرفة
تقرب من الله تعالى؛ لأنهم يقولون: إن لله طرائق بعدد أنفاس الخلائق، ثم يلتفت
من جانب آخر فيرى أن هؤلاء المقلدين في السلطان الروحاني لا تعظم سلطتهم إلا
حيث يصغر العلم بالدين، ولا يقوى نفوذهم إلا حيث يضعف نفوذ الحكم الإسلامي،
وما عز لهم سلطان في مكان، إلا وكان وبالاً على المسلمين والإسلام، فإن كنت
نسيت حوادث مَهْدِيّ السودان، فأمامك حادثة خارجي مراكش الآن.
للعلماء والعقلاء والكُتّاب والخطباء أن يقولوا في السلطة الدينية النصرانية ما
شاءوا، ولهم أن يسعوا في فصلها وإبعادها عن السلطة المدنية ما استطاعوا، فإنها
سلطة كانت ولا تزال ضارّة حيث وُجِدَتْ وتوجد، وكان معظم ضررها أيام كانت
مقرونة بالسلطة المدنية، لهم أن يسموها سلطة فإن لها في كل مملكة رئيسًا عامًّا
يولي سائر الرؤساء في المملكة، وهؤلاء الذين هم أركان سلطته منبثون في كل
مدينة وفي كل قرية ولا يوجد حكام مدنيون في جميع القرى والمزارع كما يوجد
هؤلاء الحكام الروحانيون، ولهم أن يعادوا هذه الحكومة ويقاوموها، ولهم أن
يضعفوا من شوكتها ويضعفوا من صولتها، ولهم أن يعذروا الأمة الفرنسية إذا
حاولت اصطلام هذه السلطة بالكلية، فالمسلم يعذرهم في كل هذا؛ لأنه من
الإصلاح الذي جاء به الإسلام كما ألمعنا في صدر هذا المقال فمن لم يأخذه من
الإسلام مباشرة فله أن يأخذه من نظام الفطرة إذا هداه العلم إليه، وما الإسلام
إلا دين الفطرة الهادي إلى نظامها وسنن الله فيها.
ومن الظلم البين أن نرمي الإسلام نفسه بتقرير السلطة الدينية المعروفة عند
النصارى، والإسلام هو الذي أبطل كل سلطة يكون بها فريق مسيطرًا على روح
فريق وحاكمًا على حريته في غير ما يحرمه الشرع على كل رئيس ومرؤوس أو
يطالب به كل رئيس مرؤوس، إن الذين اتبعوا سنن من قبلهم وقلدوهم في مثل هذا
الأمر لم يتقنوا التقليد، وكان روح الإسلام مانعًا أن يبلغوا منه كل ما أرادوا، ولكن
الإسلام لم يسلم من أعداء يلصقون به كل عيوبهم ويقولون عليه الكذب وهم يعلمون،
نعم إنهم يعلمون أنهم يخلقون عليه إفكًا؛ لأنهم اطلعوا على ما كتبنا وكتب بعض
الأئمة في بيان نفي هذه السلطة، ثم يفتؤون يعيبون الإسلام بها ولهم غرض
يرمون إليه وراء تشكيك المسلمين في دينهم وتنفيرهم منه، وقد أشرنا إليه في
مقال مضى ووعدنا ببيان الحق فيه كما بيناه في غير ذلك من شكوكهم وشبهاتهم.
* * *
(شاهد في الموضوع الأول)
صدّرنا العدد 22 من منار السنة الأولى بمقالة في (سلطة مشيخة الطريق
الروحية) قلنا أولها: (لقد أتى على الإنسان في طور اجتماعه، ومرت عليه
أجيال وأعصار، وهو مغلول الإرادة ومقيد الجوارح بسلطتين عظيمتين قويتين
للقائمين عليهما النفوذ التامّ في أفراده، والتصرف المطلق في آحاده، وهما سلطة
الدين وسلطة السياسة - أو كما يقول أهل العصر - السلطة الروحية والسلطة
الزمنية) .
ثم قلنا بعد كلام في حال هاتين السلطتين وتأثيرهما وحال الأمة التي تحكم
بهما ما نصه:
(وبالجملة إن أُمَّة هذا شأنها تكون دائمًا متقلقلة كقِدْح الراكب لا تثبت على
حال ولا تستقر على شأن، وجميع ما انتاب الأمم من رفعة وضِعَة وعلم وجهل
وسعادة وشقاء فقد كان مرجعه إلى تصرف الأمراء والحاكمين، والرؤساء الروحيين،
ولقد كان الشرّ أغلب على الأمم من الخير والشقاء أشمل لها من السعادة؛ لأن
الرئيس الفاضل الحكيم لا يأمن من العثار، وإذا عثر عثرت معه الأمة وهوت
وقد يهدم الرئيس الجاهل الغويّ في مدة قليلة ما بنته الحكماء في الأجيال
الطويلة.
ولهذا كانت سعادة البشر موقوفة في نَيْلها أو كمالها على تحديد القوانين
والشرائع الروحية والزمنية (المدنية) وجعل الناس فيها شرعًا (أي سواء) لا
مزية لرئيس على مرؤوس إلا بما يمتاز به المرؤوسون بعضهم على بعض وبما لا
تقوم الرياسة بدونه كوجوب الطاعة للسلطان ولا طاعة لأحد على أحد فيما وراء
الشريعة والقانون، ولكن لم تأتِ شريعة سماوية ولم يوضع قانون بشري لهذا
التحديد والمساواة حتى جاءت الديانة الإسلامية فحدّدت الشريعتين (المدنية
والروحية) معًا وجعلت الناس فيهما سواءً، لا فضل لأحد على أحد إلا بالعلم
والعمل، واقتلعت جذور الطاعة العمياء وبينت أن الدعوة إلى الحق لا تكون إلا
بالحُجة والبرهان بمثل قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا
وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) فسّر العلماء البصيرة بالحجة الواضحة، وقوله
تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) .
(وبناءً على هذا كان الصحابة يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم الرأي
قائلين: هل هذا شيء قلته مِنْ عندك يا رسول الله أو نزل به وحي؟ فإن قال: هو
من عندي جاءوا بما عندهم من الرأي، وربما رجع النبي إلى رأيهم كما جرى في
بعض الغزوات (منها بدر وأحد) وأوقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الإمام
عليًّا مع رجل من آحاد يهود للمحاكمة، وعاتبه عليٌّ بعد المحاكمة بأنه لم يساوِ بينه
وبين خصمه؛ لأنه كنَّاه وسمَّى خصمه وفي التكنية تعظيم وتعظيم أحد الخصمين
ولو بمثل هذا مُنافٍ للعدالة والمساواة، وراجعت امرأةٌ عمرَ وهو على المنبر في
مسألة تحديد المهر محتجة عليه بآية {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} (النساء: 20) فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر.
وأَبْلَغُ من هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام طعن سواد بن غزية بقدح (سهم لا
نصل له ولا ريش) في بطنه وهو مكشوف ليستوي في الصف يوم بدر فقال: قد
أوجعتني فأقْدِني: فكشف له عن بطنه ليقتص منه فطفق يتمسّح به، وكان ذلك منه
توسُّلاً للتوصل إلى هذا الشرف العظيم وآذن الناسَ قبل موته بأن من له حق عنده
فليطلبه، وإذا كان نحو ضرب فليقتص منه وأَذِنَ لرجل أن يضربه حين ادّعى أنه
ضربه يومًا فقال الرجل: إنني كنت عاري الكتف أو الظهر: (شك من الراوي)
فألقى له الرداء عن عاتقه الشريف وكان شأنه في ذلك شأن سواد بن غزية.
(والنتيجة أن الإسلام قرَّر العبودية لله وحده والحرية في ضمن دائرة
الشريعة والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات وإطلاق الإرادة والفكر من
سلطة كل زعيم وسيطرة كل رئيس روحي، ومقتضى ذلك أن يكون المسلم عبدًا
كاملاً لله حرًّا كاملاً بالنسبة لِمَا سواه) .
هذا بعض ما قلناه في المسألة من نحو خمس سنين وبعده كلام في سلطة
مشيخة الطريق كيف ظهرت وماذا أعقبت.
* * *
(مجمل الدلائل على نفي السلطة الدينية في الإسلام)
(1) أَقْوَى الدلائل على أنه لا سلطة دينية في الإسلام كما في النصرانية
تحديد وظيفة الرسول في القرآن بأنه مُبَلّغ لا مسيطر ولا وكيل ولا جبار على
الناس قال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ} (الشورى: 48) وقال عز وجل:
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (البقرة: 272) : وقال عز اسمه:
{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: 45) وقال تبارك شأنه: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: 56) وقال تعالى جَدّه: {فَذَكِّرْ
إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) وقال جل جلاله:
{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (الأنعام: 107) فأين هذا كله من ملة يدّعي رؤساؤها
أنهم وكلاء الله في الأرض؟ هل يقاسُ النقيض على النقيض؟ ؟
(2) سيرة النبي عليه السلام فقد سمعت آنفًا أنه كان يَقيد من نفسه ويرجع
عن رأيه إلى رأي أصحابه، وأَعْجبُ من هذا أنه رجّح الرأي الموافق لرأيه في
مسألة أسرى بدر وكان الرأي الآخر هو الأصلح فعاتبه الله عتابًا شديدًا حتى بكى
عليه الصلاة والسلام.
(3) سيرة الخلفاء الراشدين كما سمعت آنفًا عن عمر، ويُؤْثَر مثله عن
سائرهم ولم تكن سيرتهم في المساواة وفي تحكيم الأمة بأنفسهم من مزاياهم
الشخصية، وإنما هو شيء أخذوه من القرآن ومن السيرة النبوية كما علمت وإنما
مَزِيَّتهم أنهم فهموا الإسلام كله وكانوا أشد من غيرهم غيرة عليه وعملاً به.
(4) لو كان الإسلام شرع هذه السلطة المعروفة في الملل السابقة عليه من
البوذيين والبراهمة والإسرائيليين والنصارى أو أجازها لوُجِد لها في المسلمين
نظام ورؤساء كما وُجِد عند غيرهم ولكن شيئًا من ذلك لم يوجد وإنما وُجِدَتْ طائفة
تصدت للتربية والإرشاد ثم انقسمت إلى طوائف وجماعات ولم يكن لهم سلطة على
أحد وإنما يتبعهم مَنْ شاء باختياره ولم يسلموا مع ذلك من رمي الفقهاء لهم
بالانحراف عن الدين ومن تفريق الحُكَّام شملهم، ولذلك لم يكن لهم ظهور إلا حيث
يضعف علم الدين وحكمه كما قلنا آنفًا، وأما لقب (شيخ الإسلام) فهو من اختراع
الملوك والأمراء الذين بعدوا عن المظهر الديني فاستعانوا بمن له هذا المظهر لأجل
التأثير في نفوس العامة المقلدين.
نعم إن السلطة الدينية وجدت على حقيقتها في طائفة الباطنية، ثم وجدت لهذه
الفكرة حكومة مدنية في العبيديين (الفاطميين) ولكن مذهب الباطنية ليس من
الإسلام في شيء ولذلك لم يستطع العبيديون أن يؤيدوه بسلطتهم تأييدًا ظاهرًا فيقال:
إن السلطة الدينية قد اجتمعت مع السلطة المدنية في طائفة تنتمي إلى الإسلام في
الجملة، فعُلِمَ مما تقدم أنه ليس في الإسلام سلطة دينية فما هذا الذي يعيب الإسلامَ
به بعضُ كُتَّاب النصارى وما هذه النصائح التي توجهها تلك الأقلام إلى الأمة
الإسلامية لتقنعها بوجوب الفصل بين السلطتين الدينية والمدنية؟ الجواب: أن
المراد بذلك أن يترك المسلمون شريعتهم كما يُعْلم من الفصل الآتي.
* * *
(الشريعة والدين في الإسلام)
جرى عُرْف الكُتّاب الأوربيين ومن تبعهم من الشرقيين لا سيما كتاب
النصارى بأن يطلقوا اسم الدين على ما يتعلق بالاعتقاد بالله وبالوحي وما يعد به من
أمور الغيب وما يفرضه من العبادة ويخصوا كلمة الشريعة بما يتعلق بالمعاملات
والأحكام القضائية والمدنية والسياسية، وكل باحث في التاريخ من هؤلاء الكتاب
يعلم أن الإسلام جاء بدين وشريعة ومن ذلك قول بعضهم: إن محمدًا (عليه الصلاة
والسلام) كوّن في عشرين سنة أُمّة وجاءها بدين وشريعة ولم يتفق لغيره في العالم
الجمعُ بين هذه الأمور الثلاثة: فهؤلاء يعلمون أن الشريعة قسيمة الدين في الإسلام
وأن ما يدين به المسلمُ ربَّه وما يعامل به الناس كله مقتبس من نور واحد وهو نور
الوحي الذي أوحاه الله إلى محمد عليه الصلاة والسلام.
لا فَرْق في الإسلام بين القسم الديني البحت والقسم الشرعي إلا في شيء واحد
وهو أن الاعتقاد والعبادة لمّا كانا لا يختلفان باختلاف الزمان والمكان وأحوال الأمم
وجب الاعتماد فيهما على الوحي في الجملة والتفصيل والكليات والجزئيات، وأما
المعاملات الدنيوية فَلاخْتلافها باختلاف ما ذكر قد وضع الإسلام لها قواعد كلية
وأصولاً عامة وفوّض استنباط الجزئيات التي تحدث إلى أولي الأمر العارفين
بمقاصد الإسلام وبأصوله العامة وقواعده الكلية فهم يبيّنون الأحكام بالشورى في كل
ما يحدث للناس من المصالح استنباطًا من تلك الأصول والقواعد، قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء:
59) فذكر أولي الأمر بصيغة الجمع، وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي
الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) ذكر أولي الأمر بصيغة
الجمع أيضًا وأناط بهم استنباط الحكم الذي يُحتاج إليه أو يُتنازع فيه.
ثم إن الأحكام الشرعية المنصوصة أو المستنبطة تحتاج إلى منِّفذين ولا بد أن
يكون لهؤلاء رئيس لئلا تكون الأمور فوضى، وقد سمي الرئيس الأول في الإسلام
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم خليفة له، وسمي مَنْ بعده أمير المؤمنين
واستمر هذا اللقب.
ووظيفة هذا الرئيس حماية الدين وتنفيذ أحكام شريعته فليس هو مسيطرًا على
الناس في دينهم ولا مستقلاً بوضع الأحكام الشرعية لهم وإنما هو حافظ للنظام ومنفذ
للأحكام، وسلطته هذه كما نرى شُورِيّة لا مطلقة ولا استبدادية، ولكنّ الإسلام أوجب
عليه أن يعمل بالشرع وحرم عليه أن يكون شارعًا بنفسه وأوجب طاعته بالمعروف،
كما أوجب على الأمة إزالة سلطانه إن حَمَلَها على غير المشروع؛ فصح بهذا الاعتبار
أن يقال: إن السلطة المدنية في الإسلام مستندة إلى الدين أو إنها سلطة دينية،
ولكن لا يصح أن تشبه بالسلطة الدينية عند غير المسلمين ولا أن يجعل صاحبها
جامعًا بين سلطتين إحداهما على الأرواح والعقول والثانية على الأجسام والأعمال.
هذا هو ديننا وهذه هي سلطته فبماذا يطالبنا ذلك الكاتب النصراني،
وبماذا ينصح لنا؟ هو يطالبنا بأن نجعل رئيسنا المدني شارعًا ومنفِّذًا لما يشرعه لنا
من الأحكام، وينصح لنا بأن نترك شريعتنا القائمة على أصول ديننا ويزعم أن بناء
الشريعة على قواعد الدين وجَعْل الحُكّام حماة للدين ومنفذين له هو الذي أزال الدولة
العباسية، وفرق شمل الأمة الإسلامية، ومن رأيه أن المسلمين لا ينجحون ولا تقوم
لهم قائمة ما دام سلطانهم مكلفًا بالعمل بشريعتهم الدينية وتنفيذها! ! ! .
لو جمعت كل ما ورد من الكلم في جميع اللغات ليدل على معنى التعجب
وأضفت إليه كل أمارات التعجب ودلائله في الحركات والإشارات العضوية والقلمية
وقدرت على تصوير جميع انفعالات المتعجبين وتأثراتهم النفسية وألصقت ذلك كله
بهذه النصيحة النصرانية للأمة الإسلامية لما وفيت حق البيان في كونها عجيبة
غريبة مدهشة للمتعجبين! ! ! .
* * *
(شبهات المشكِّك)
(1) يقول هذا الناصح الأمين، أو المشكك في الدين: إن غرض الدين في
الأرض مناقض لغرض الحكومة في الأرض، فكيف يجمع الإسلام بين النقيضين؟
ونحن نقول له: إن الإسلام جاء للإصلاح في الأرض وكل ما يناقض الإصلاح
فهو إفساد تجب إزالته، فالواجب أن يكون غرض الحكومة الإسلامية موافقًا لغرض
الدين الإسلامي، ومما لا خلاف فيه بين فقهاء الإسلام أن أحكامه الشرعية كلها
مبنية على قاعدة (درء المفاسد وجلب المصالح) فأي حاكم من حكامنا يقدر أن
يأتينا بشرع أصلح من هذا الشرع إذا نحن تركناه عملاً بنصيحتك وجعلنا الحاكم هو
الشارع؟ ؟ ؟ .
(2) يقول الناصح الأمين، أو المشكك في الدين: إن من التناقض بين
وظيفة الدين ووظيفة الحكومة أن الدين وضَع قواعد وتقاليد للعقل وطرقًا لسير الفكر
فقيّد بذلك الحرية العلمية، والحكومة لا تكلف الإنسان بأن يسير في فكره على
طريق مخصوص، وإنما هي حامية لحرية النفس وما يتبعها من المال والدم
والشرف. ونحن نقول: إذا كان دينك كذلك؛ فدين الإسلام مناقض له غيرُ مناقض
لوظيفة الحكومة التي ذكرتها، وذلك أنه تقرّر فيه حرية العقل فلا يخرج المسلم عن
حكمه في عقائده (كما بينا ذلك في الجزء الماضي) . وتَقرّر أن أحكامه ترجع إلى
خمس قواعد يسمونها الكليات الخمس، وقد جمعها صاحب عقيدة الجوهرة بقوله:
وحفظ دين ثم نفس مال نسب ... ومثلها عقل وعرض قد وجب
(3) يقول الناصح الأمين، أو المشكك في الدين: يجب أن تكون الحكومة
مساوية بين من تحكمهم، وإن اختلفت أديانهم، وأن تكون حامية لهم على السواء
أيضًا والدين مناقض لها في ذلك، ونحن نقول: إذا كان دينك كذلك فديننا مناقض
له لا لما يجب أن تكون عليه الحكومة، وذلك أن المساواة من أصوله، وقد أشرنا
في الفصل السابق من هذا المقال إلى مساواة عُمَر بين الإمام عليّ ورجل من آحاد
اليهود ومطالبة عليّ له بالمساواة في اللقب أيضًا وهذه مساواة لم تصل إليها حكومة،
ولن تصل إليها حكومة إلا أن تكون مقيمة للإسلام على حقه.
وأما الحماية فمن الأصول المأثورة في ديننا هذه الكلمة الجليلة (وأن نحميهم
مما نحمي منه أنفسنا) وهذه الكلمة الفُضْلى (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) .
(4) يقول الناصح الأمين، أو المشكك في الدين: إنه ليس من شأن
السلطة الدينية الدخول في الأمور الدنيوية؛ لأن الأديان شُرِعَت لتدبير الآخرة لا
لتدبير الدنيا. ونحن نقول: إذا كان دينك كذلك فديننا ليس كذلك فإنه شرع لبيان
مصالح الدارَيْن، والإرشاد إلى طرق السعادتين، فكيف تحكم على الأديان كافة بما
تعتقده في دينك؟ وهل كنت أنت الواضع للأديان كلها فتقولَ: إنني وضعت دين
الإسلام هكذا أيضًا وأهله قد زادوا فيه فأنا الآن أطالبهم بالرجوع إلى الأصل؟ إن
المسلمين لا يقبلون ذلك؛ لأن أئمتهم عرفوا الدين بأنه وضع إلهيّ سائق لذوي
العقول السليمة باختيارهم إلى ما فيه صلاحهم في الحال، وفلاحهم في المآل.
(5) يقول الناصح الأمين، أو المشكك في الدين: إن الجمع بين السلطتين
يُضْعف الأُمة ضعفًا مستمرًا؛ لأنه يقتضي اضطهاد العقل والذكاء ويعرّض الحكومة
لثورة الأمة بإغراء عدوّ يثيرها عليها، ويكون سبب الشقاق الديني بين الطوائف التي
تتألف منها الشعوب ويعرّض الدين لأكاذيب السياسة ومفاسدها، ونحن نقول: إن كل
هذا قد وقع في دينه فلا ننكره وإنما ننكر قياس ديننا عليه وهو مباين له، وحسبنا
أن الذي وقع عندنا هو نقيض ما وقع عندهم فإن الحكومة الإسلامية التي يسميها
جمعًا بين السلطتين (وقد فهمت معناها) قد أعطت الأمة قوة لم يقاوها فيها أحد في
زمنها، وما ضعفت الأمة الإسلامية إلا بضعف الشرع وعدم إقامته وهذا أمر لا
خلاف فيه.
وكذلك لم يُضْطَهد العقل والذكاء في الإسلام في عصر إقامة شريعة الإسلام
وإنما وقع شبه اضطهاد بعد ضعف الشرع والتهاون في تنفيذه، أما الثورات
التي يخافها الناصح على الحكومات الإسلامية إذا بقيت على شريعتها فهي أجدر
بالوقوع إذا خرجت الحكومات عن الشريعة؛ لأن الخروج على السلطان لا يجوز
في الإسلام إلا إذا خرج السلطان من الإسلام بترك الشريعة وإذا أخطأ فالواجب أن
ترجعه الأمة عن خطئه بالمعروف: قال صاحب عقيدة الجوهرة:
وواجب نصب إمام عدل ... بالشرع فاعلم لا بحكم العقل
فليس ركنًا يعتقد في الدين ... فلا شذّ عن حكمه المبين
إلا بكفر فانبذن عهده ... فالله يكفينا أذاه وحده
وأما الشقاق الديني بين الطوائف والمِلَل فلم يعهد في بلاد الإسلام أيام إقامة
الشريعة والعمل بها بل كانت الطوائف في هُدُون وسلام؛ لأن الدين يوجب ذلك
وكان معمولاً به، والذي يوجب الشقاق هو جَعْل الدين مصلحة لرؤساء مخصوصين
يناهض كل رئيس بطائفته سائر الطوائف فهو ألصق بالفصل بين السلطتين وجَعْل
كل واحدة مستقلة لها رؤساء يديرونها منه بالجمع بينهما خصوصًا جمع الإسلام
بالمعنى المتقدم.
وقد ذاقت الأمة النصرانية بأس هذه الرياسة وكانت هي التي
ابتدعت الحرب بين طائفتين من أهل دين واحد للخلاف في الدين، ولو لم يكن لكل
طائفة رؤساء مخصوصون لما وقع شيء من ذلك، وقد سرت عدوى النصرانية إلى
غيرها وأصاب المسلمين شرر تلك النيران فحدث بين أصحاب المذاهب شيء من
الشقاق لتعصب كل طائفة لإمام مخصوص وعلماء مخصوصين، وقد علمت أن
رجال الدين لم تنتظم لهم في المسلمين رياسة لأن طبيعة الإسلام تأبى ذلك ولهذا لم
يعظم النفور والشقاق بين أصحاب المذاهب الإسلامية كما عظم بين أرباب
المذاهب النصرانية على أن المذاهب المتعددة في الدين هي مخالفة لوضع
الدين؛ لأنها تفرق فيه والله يقول: {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى:
13) ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} (الأنعام
: 159) ولكن جاءنا من كتاب النصارى في هذا العصر من يقول: إن التفرق إلى
شِيع من طبيعة ديننا ولا علاج لهذا إلا ترك حكامنا لشريعتنا! ! !
وأما تعريض الدين لأكاذيب السياسة ومفاسدها إذا كانت الشريعة مستمدَّة من
الدين فهو نقيض المعقول وخلاف الواقع فإن السياسة كما قال الكاتب مبنية على
الرياء والمخاتلة ولا علاج للرياء إلا الدين، وقد شدد فيه الإسلام حتى سماه
(الشرك الأصغر) فإذا بُنِيَتْ السياسة على قاعدة الدين سلمت وسلم معها الدين،
وإذا انفصلت من الدين فسدت وأفسدت الدين ولذلك استعاذ منها الإمام كاتب مقالات
(الإسلام والنصرانية) بما استعاذ ووصفها بما وصف، وقد قلب الحقيقة الناصح
أو المشكك فجعل انفصال الحكومة من الدين هو سبب السلامة! ! !
* * *
(الوَحْدة الدينية، والوطنية)
يقول الناصح الأمين، أو المشكك في الدين: إن الوحدة الدينية التي يطلبها
الإسلام مستحيلة الوقوع، ومحاولتها كان أكبر أسباب الفتن التي حدثت في الإسلام
والمسيحية، ويزعم أن البشر قد ارتقوا عن طلب الوحدة الدينية التي كانت عامة
فيهم إلى الوحدة الوطنية وتدحرج في البيان إلى ذكر فرنسا التي ارتقت فيها هذه
الوحدة الجديدة التي حصر فيها سعادة البشر حتى حكمت بإبطال مدارس الرَهْبنات
وحتى حرمت على رئيسها ذِكْر اسم الله تعالى أو ذكر العناية الإلهية في خطبه،
وههنا شعر بأن هذا التدحرج قد انهار به في هُوَّة الباطل فعاد يعترض على هذه
(الطريقة الجديدة) ويذكر من مفاسدها، وهكذا شأن مَنْ يَهْرِف بما لا يعرف، وقد
استدلّ على استحالة الوحدة الدينية بما كان في أوربا من المفاسد والفتن بسببها بعدم
نجاح البابا فيها وبسعادة أوربا بعد إقامة السد بينه وبين الأحكام، ثم جرى على
عادته في تشبيه الإسلام بالنصرانية فزعم أن الذي أسقط دولة العباسيين هو عجزهم
عن حفظ المملكة بالوحدة الدينية وعدم اهتدائهم إلى الوحدة الوطنية! ! ! سبحان الله،
ما أَعْلَمَ هذا الكاتبَ بالتاريخ وما أَقْدَرَهُ على استخراج طبائع الملل منه! ! !
خبّرونا أيها المؤرخون والمطلعون على كتب التاريخ، أيّ مؤرخ قال: إن
سبب سقوط بني العباس هو حكمهم بالشريعة الإسلامية، أو قال: إن أصحاب
الملل المختلفة في بلادهم كانوا ساخطين على الحكم بالشريعة وطالبين أن تستبدل
بها قوانين غيرها يضعها الحكام أو المحكومون وأنهم لذلك ثاروا على الدولة حتى
أسقطوها بالحروب الأهلية التي مثارها العصبات الدينية؟ لم يقل بذلك عالم ولا
جاهل وإنما هو زعم افتحره وافتجره واخترعه وابتدعه ناصح المسلمين الأمين أو
مشككهم في الدين.
لسقوط دولة العباسيين أسباب أهمها أمران: ذكرهما مؤرِّخ الدولة العثمانية
الأكبر جودت باشا ناظر العدلية (رحمه الله تعالى) قال بعدما ذكر فضل المأمون
في ترويج العلوم وتوسيع نطاق المدنية ما تعريبه (إلا أنه أخطأ خطأ بيّنا في أمر يتعلق بتدبير المملكة وهو أنه أعطى ولاية خراسان لرجل يسمى طاهرًا مكافأةً له على
قتل أخيه الأمين فاتخذ نيسابور عاصمة لها، وجعلها موروثة له ولأعقابه من بعده
فكان ذلك باعثًا على إزالة رهبة الخلافة من صدور العمال، وسببًا في الخروج
عن الطاعة والنزوع إلى الاستقلال، ثم جاء بعده الخليفة المعتصم فجمع بعض الأحْداث من الترك وجعلهم عسكرًا خاصًا به، ولما اشتد ساعدهم خرجوا عن طاعته
وأحدثوا ثورات هائلة كما وقع قديمًا في عسكر قياصرة روميّة.
وظاهرٌ أن ما عمله المأمون مخالف للشريعة الإسلامية ومنافٍ للوحدة الدينية،
وأن ما عمله المعتصم كان لإخلاله بأصول الأحكام الإسلامية من الشورى وكفالة
الأُمة للإمام، والتحري في اتخاذ البطانة فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} (آل عمران: 118) .
الآية , وللمفسرين وجهان في قوله: {مِّن دُونِكُمْ} (آل عمران: 118) قيل:
هم المنافقون، وقيل: الكافرون، وكان أولئك الأحْداث أحد الفريقين فإنهم اتخذوا
بطانة ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم كما علم من مقالات (الإسلام والنصرانية) وقد
تحقق فيهم قوله تعالى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} (آل عمران: 118)
ولكن ناصحنا الأمين حرّف قول الإمام في هذا المقال إلى فتنة سياسية، فزعم أن
مراده الحكم بأن الترك والفرس لا يعتد بإسلامهم وأن الدين خاص بالعرب أي أنه لا
يعتد بإسلام مثل البخاري ومسلم وأبي حنيفة والغزالي، إلخ! ! ! نعوذ بالله،
نعوذ بالله.
يا حسرةً على أعداء الشريعة الإسلامية التمسوا لها عيبًا فيها فأعياهم
وأعوزهم، فالتمسوه في المقيمين لها (كأبي بكر وعُمَرَ) فأعياهم وأعجزهم؛
فنقبوا عنه فيمن انحرفوا عن صراطها فنكبوا فأصابوه وألصقوه بها وقالوا: إنها
شريعة ضارة يجب تركها واختراع شريعة بدلها! ! !
كانت رابطة الوحدة في الاجتماع البشري محصورة في البيوت (العائلات)
ثم اتسعت فصارت في القبائل، ثم اتسعت بناموس الترقي فكانت الشعوب والأمم
الكبيرة التي وحدتها الجنسية باللغة أو الدين أو البلاد (الوطن) وكان الدين خاصًّا
لا يتعدّى الشعب الذي وجد فيه إلى أن ظهر الإسلام فإن في الأناجيل المعتمدة عند
النصارى إلى اليوم أن المسيح عليه الصلاة والسلام قال:
(لم أُرْسَل إلا إلى خراف إسرائيل الضالة) وقال: (ما جئت لأنقض الناموس
وإنما جئت لأتمم) والناموس هو شرع الإسرائيليين الخاصّ بهم وتتميمه ببيان الحق
فيما اختلفوا فيه منه وفي بيان أسراره والتوسع في القسم الرَّوحاني منه، وأما ما
ينقلونه عنه من أنه قال: (اكرزوا بالأناجيل في الخليقة كلها) فهو مخالف لما تقدم
في الظاهر ويمكن أن يتفق معه بجعل (أل) في الخليقة للعهد أي الخليقة المعهودة
وهي الأمة الإسرائيلية حيث كانت وأين وجدت.
بعد هذا استعد البشر بناموس الارتقاء إلى وحدة أوسع من كل ما تقدم - إلى
وحدة يمكن أن تدخل فيها جميع الشعوب والقبائل والأمم والأجناس المختلفين في
البلاد واللغات والأديان - إلى وحدة لها رابطتان (إحداهما) جثمانية اجتماعية
عُمْرانية دنيوية، وهي أن يُحْكَمُوا بشريعة عادلة تساوي بينهم في الحقوق لا يمتاز
فيها كبير على صغير ولا غني على فقير ولا عربي على عجمي ولا متدين بدين
على متدين بغيره. (وثانيتهما) روحانية أخوية أخروية تختص بمن يجمعهم
الاعتقاد الصحيح المبني على البرهان الصريح، وهذه الوحدة هي الوحدة التي جاء
بها الدين الإسلامي وعمل بها المسلمون في الصدر الأول فكان المخالفون لهم في
الدين يفضلون حكمهم على حكم المتحدين معهم في الدين واللغة والوطن، ولم توجد
المساواة ولا العدالة الصحيحة إلى اليوم إلا في الإسلام، فهذه الدول الأوربية الراقية
بالوطنية لا تساوي بين أبنائها وأهل مستعمراتها في الأحكام، بل ألزمت الحكومات
الضعيفة في غير بلادها بالخروج عن العدل والمساواة وتمييز أجناسها على رعايا
كل حكومة من تلك الحكومات، فالمصري يُقْتَل في مصر إذا قَتَلَ أجنبيًّا ولكن
الأجنبيّ لا يُقْتل بالمصري، وقد كنا أوضحنا هذا المبحث في مقالة عنوانها
(الجنسية والدين الإسلامي) فلتراجع في هذا المجلد الثاني من المنار، وفي سائر
مجلدات المنار مباحث كثيرة تؤيد هذه المسائل المتفرقة وتعضد القضايا المتعددة في
هذا المقال.
فتبين بمجموع ما تقدم أن الوحدة التي جاء بها الإسلام هي أعلى ما يترقبه
البشر , وأفضل ما يتوجهون إليه ولكن الرياسة الروحية في الديانة النصرانية التي
جعلت الدين مصلحة من المصالح ينتفع بها الرؤساء، وخروج الحكام المنتسبين
للإسلام عن قواعدها هما السَّدَّان المانعان من انتفاع البشر بها وسَتَدُكّ الحرية السدَّيْنِ،
ويَجمع البشر بالإسلام بين السعادتين.
__________(5/841)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة الاجتماع الثاني عشر لجمعية أمُّ القُرَى
قال (الأستاذ الرئيس) : ها نحن أولاً قد استوفينا قراءة القانون للمرة الثانية
ولم يستدرك عليه أحد من الإخوان شيئاً فهل أنتم مُقِرُّوه؟ فأجاب جميع الأعضاء:
نعم نُقرّه.
قال (العلامة المصري) : إني بالنيابة عن هيئة الجمعية أشكر لحضرة
الأستاذ المكي الرئيس براعته في حسن إدارة الجمعية، كما أنني أقدر للمدقق
التركي ورفقائه وَاضِعي سانحة القانون قدر فضلهم وحُسْن إحاطتهم.
وإني لأرى في هذا القانون أشبه نور بين القضايا والسطور نور يشرق
على المنارات فيبدر الأهلة ويبهر النسور، نور معقود اللواء لنشأة جديدة وحياة
حميدة وعاقبة سعيدة، نور يمزق دَيْجور القبور ويحيي ميت الشعور، وما ذلك على
الله بعزيز.
قال (المحقق المدني) : بمناسبة أني جار النبي صلى الله عليه وسلم أرى
كأن رسول الله مسرور بكم أيها الإخوان الكرام، يتضرع إلى ربكم أن يوفقكم في
مشروعكم خدمة لدينه وأُمّته خدمة تُلْحِقُكم بالمجاهدين الصديقين الأولين.
قال (الأستاذ الرئيس) إذا تقرر أن يكون تأسيس الجمعية الدائمة ابتداءً في
بور سعيد أو الكويت بصورة غير علنية في الأول فأرى أن نفوض اتخاذ أسباب
هذه المهمة للعلاّمة المصري والسيد الفراتي فهما بعد ستة أشهر يجتمعان في مصر،
وبعد تهيئة الأسباب وترتيب ما يلزم ترتيبه يسعيان أولاً بطبع هذه المذاكرات مع
القانون ثم يهتمان بترجمة ذلك إلى بقية أمهات اللغات الإسلامية التركية والفارسية
والأوردية فيطبعانها وينشرانها ذكرى وبشرى للمؤمنين.
ثم بعد استطلاعهما ما يلزم استطلاعه من آراء وأفكار ذوي الهمم السامية،
يباشران أسباب تشكيل الجمعية مع التروي والتأني اللازمَيْنِ حكمة، وربما لا
يساعدهما الزمان فيحتاجان لترقب الفرصة ولو تأخر الأمر إلى اجتماعنا الثاني،
وأخونا السيد الفراتي يعدنا بأنه لا يقطع عنا سائله وإعلامنا بسير المسألة والأمل
بعنايته تعالى أن نجد في اجتماعنا الثاني بعد ثلاث سنين الجمعية الدائمة متشكلة
على أحسن نظام.
ثم قال (الأستاذ الرئيس) : وإني على أمل أن الجمعية الدائمة ستُلْحِقنا
بأعضائها الفخريين فنخدم مقاصدها الجليلة المتعلقة بإعزاز ديننا وإخواننا وأنفسنا
فننال بذلك أجر المجاهدين وشرفًا عظيمًا نفتخر به نحن وأحقابنا من بعدنا إلى يوم
الدين.
ثم قال: وإن جمعيتنا هذه قد اختارت أن تجعل مركزها المؤقت في مصر،
ومصر دار العلم والحرية وكانت أخذت في العمران بسرعة ولولا تهاون سعيد
وتطاول إسماعيل، وسقوط نفوذ الفرنسيين بحرب السبعين، وانفراد الإنكليز ويأسهم
من قبول المريض التمريض وتهاتر قوات الدول بتوازنها لبقيت تلك الحركة
العمرانية مستمرة ولما رجع الشيخ إلى دور الانحلال، ولا وقع الابن في دور
الاحتلال.
ثم خاطب (السيد الفراتي) هيئة الجمعية فقال: أيها السادة لا غَرْو أن أكون
أكثر الإخوان سرورًا بإنتاج سعيي وسياحتي هذه الخطوة الكبيرة في هذا السبيل
وإني مستبشر من تسهيل المولى تعالى البداية أن يسهل السير إلى النهاية ولا يعز
على الله شيء والعزائم لا شك تذلل العظائم.
وإني أيها الإدارة سأريكم إن شاء الله بمهمات ما يحصل ويتم ولا أستغني أن
توفدوني بآرائكم ولو عن بُعد وتسعفوني بأدعيتكم بالتوفيق، وليس هذا اليوم آخر
عهد جمعيتنا بل يلزم أن نجتمع أيضًا في هذا المحفل رابع أيام التشريق فتكون تلك
جمعية الوداع، وفيها يكاشفكم حضرة الأستاذ الرئيس ببعض تدابير وبشائر يجب
إسرارها فتُوقَرُ في الصدور لا تسجل ولا تذاع، وفي ذاك اليوم يتم بتسهيل الله طبع
سجل مذاكرات جمعيتنا إلى هذه الساعة (بمطبعة الجلاتين) فيوزع عليكم نسخ منها
كما يعطى لكم نسخ من ضبط المناقشات على القانون ونسخ جديدة من مفتاح الكتابة
الرمزية والمفتاح المختصر الأول مذيلاً بتراجم الإخوان بصورة أكثر تفصيلاً من
الأولى وعلى الله التيسير.
ثم قال (السيد الفراتي) : أخبركم أيها السادة بأني أخذت بالأمس رسالة من
أخينا الأديب البيروتي الذي لم يمكنه القدر من موافاة الجمعية كما بينت ذلك قبلاً
فهو يقرئكم السلام ويدعو للجمعية بالتوفيق ويطلب أن أتلو عليكم قصيدة له يخاطب
بها المسلمين.
فقال (الأستاذ الرئيس) وعليه السلام وأمر بقراءة القصيدة فقرئت وأُثْبَت منها
بإشارة الأستاذ الرئيس بعضُ أبيات وهي:
غيَّرْتُمُوا يا حيارى ما بأنفسكم ... فغير الله عنكم سابغ النعم
الله لا يهلك القرى إذا كفرت ... وأهلها مصلحون في شؤونهم
ترك التآمر بالمعروف أورثكم ... ما حاق من نُذُر يا زلة القدم
يا قومنا صححوا توحيد بارئكم ... بدون إشراك أحياء ولا رمم
ونقحوا الشرع من حشو ومخترع ... رُجْعَى إلى دين أسلاف ذوي ذمم
خذوا بمحكم آيات منزلة ... وسنة بينت في الفعل والكلم
دعوا البدائع في الدين وإن حسنت ... ولا يغرنكم تأويل محتكم
سماحة الدين مَنَّ الله خالقكم ... بها عليكم دعوا الكفران بالنعم
وحافظوا ملة بيضاء ساطعة ... وسمحة قد حبتكم كل مغتنم
راقت فضائلها في كل فلسفة ... قوامها حكمة تفضي إلى شمم
هَذِي وسيلتكم لا غيرها أبدا ... فاسعوا لنهضتكم يا خيرة الأمم
في غير جامعة التوحيد لن تجدوا ... من جامع لكمو لستم ذوي رحم
سياسة الدين أولى ما تساس به ... شتى الخلائق من عرب ومن عجم
فيها الحياة وفيها حفظ رايتكم ... خضراء سوداء حول الركن والحرم
* * *
ذيل
قررت الجمعية في اجتماع الوداع المنعقد في رابع أيام العيد بعض أمور مهمة
ينبغي أن تُسرّ ولا تذاع غير أنها رأت أن يلحق منها بهذا السجل ما يأتي فقط.
* * *
قرار عدد 6
إن الجمعية بعد البحث الدقيق، والنظر العميق في أحوال وخصال جميع
الأقوام المسلمين الموجودين وخصائص مواقعهم والظروف المحيطة بهم واستعدادهم
وجدت أن لجزيرة العرب ولأهلها بالنظر إلى السياسة الدينية مجموعة خصائص
وخصال لم تتوفر في غيرهم، فرأت الجمعية أن حفظ الحياة الدينية متعينة عليهم لا
يقوم فيها مقامهم غيرهم مطلقًا وأن انتظار ذلك من غيرهم عبث محض. على أن
لبقية الأقوام أيضًا خصائص ومزايا تجعل لكل منهم مقامًا مهما في بعض وظائف
الجماعة الإسلامية. مثل أن معاناة حفظ الحياة السياسية ولا سيما الخارجية متعينة
على الترك العثمانيين [1] ومراقبة حفظ الحياة الدينية التنظيمية يليق أن تناط
بالمصريين، والمقام بمهام الحياة الجندية يناسب أن يتكفل بها الأفغان وتركستان
والخزر والقوقاس يمينًا ومراكش وإمارات أفريقيا شمالاً، وتدبير حفظ الحياة
العلمية والاقتصادية خير من يتولاها أهل إيران وأواسط آسيا والهند وما يليها.
ولما كانت الجمعية لا يعنيها غير أمر النهضة الدينية رأت من الضروري أن
تربط آمالها بالجزيرة وأهلها العرب عمومًا وذلك لأجل رفع التعصب السياسي أو
الجنسي ولأجل إيضاح أسباب ميل الجمعية للعرب فنقول:
1- (الجزيرة) : هي مشرق النور الإسلامي.
2- (الجزيرة) . فيها الكعبة المعظمة.
3- (الجزيرة) فيها المسجد النبوي وفيه الروضة المطهرة.
4- (الجزيرة) أنسب المواقع لأن تكون مركزاً للسياسة الدينية لتوسطها بين
أقصى آسيا شرقًا وأقصى أفريقيا غربًا.
5- (الجزيرة) أسلم الأقاليم من الأخلاط جنسية وأديانًا ومذاهب.
6- (الجزيرة) أبعد الأقاليم عن مجاورة الأجانب.
7- (الجزيرة) أفضل الأراضي لأن تكون ديار أحرار لبُعْدها عن الطامعين
والمزاحمين نظرًا لفقرها الطبيعي.
8- (عرب الجزيرة) هم مؤسِّسو الجامعة الإسلامية لظهور الدين فيهم [2] .
9- (عرب الجزيرة) مستحكم فيهم التخلق بالدين لأنه مناسب لطبائعهم
الأهلية أكثر من مناسبته لغيرهم.
10- (عرب الجزيرة) أعلم المسلمين بقواعد الدين؛ لأنهم أعرفهم فيه
ومشهود لهم في أحاديث كثيرة بالمتانة في الإيمان.
11- (عرب الجزيرة) أكثر المسلمين حرصًا على حفظ الدين وتأييده
والفخار به، والعصبية النبوية لم تزل قائمة بين أظهرهم في الحجاز واليمن وعمان
وحضرموت والعراق وأفريقيا.
12- (عرب الجزيرة) لم يزل الدين عندهم حنيفًا سلفيًّا بعيدًا عن التشديد
والتشويش.
13- (عرب الجزيرة) أقوى المسلمين عصبية وأشدّهم أنفة لما فيهم من
خصائص البدوية [3] .
14- (عرب الجزيرة) أمراؤهم جامعون بين شرف الآباء والأمهات
والزوجات فلم تَخْتَل عزتهم.
15- (عرب الجزيرة) أقدم الأمم مدنية مهذبة بدليل سعة لغتهم وسمو
حكمتهم وأدبياتهم.
16- (عرب الجزيرة) أقدر المسلمين على تحمّل قشف المعيشة في سبيل
مقاصدهم وأنشطهم على التغرّب والسياحات، وذلك لبعدهم عن الترف المذلّ أهله.
17- (عرب الجزيرة) أحفظ الأقوام لجنسيتهم وعاداتهم فهم يخالطون ولا
يختلطون.
18- (عرب الجزيرة) أحرص الأمم الإسلامية على الحرية والاستقلال
وإباءِ الضَيْم [4 {.
19- (العرب على الإطلاق) لغتهم أغنى لغات المسلمين في المعارف
ومصونة بالقرآن الكريم من أن تموت.
20- (العرب) لغتهم هي اللغة العمومية بين المسلمين البالغ عددهم 300
مليون.
21- (العرب) لغتهم هي اللغة الخصوصية لمائة مليون من المسلمين وغير
المسلمين.
22- (العرب) أقدم الأمم اتباعًا لأصول تساوي الحقوق وتقارب المراتب
في الهيئة الاجتماعية.
23- (العرب) أعرق الأمم في أصول الشورى في الشؤون العمومية [5 {.
24- (العرب) أهدى الأمم لأصول المعيشة الاشتراكية.
25- (العرب) من أحرص الأمم على احترام العهود عزة واحترام الذمة
إنسانية واحترام الجوار شهامة وبذل المعروف مروءة [6 {.
26- (العرب) أنسب الأقوام لأن يكونوا مرجعًا في الدين وقوة للمسلمين فإن
بقية الأقوام قد اتبعوا هديهم ابتداءً فلا يأنفون من اتباعهم أخيرًا.
فهذه هي الأسباب التي جعلت جمعية أمّ القرى تعتبر العرب هم الوسيلة
الوحيدة لجمع الكلمة الدينية بل الكلمة الشرقية، والجمعية تسأل الله تعالى أن يوفق
ملوك المسلمين وأمراءهم للتصلب في الدين والحزم والعزم عساهم يحفظون عزهم
وسلطانهم إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها وأن يحميهم من التعصب السيئ
للسياسات والجنسيات ومن الكبر والأنفة، ومن التخاذل والانقسام ومن الانقياد إلى
وساوس الأجانب الأضداد لئلا ينتابهم الخطر القريب المحدق بهم وتتخاطفهم النسور
المحلقة في سمائهم، والله الموفق وإليه ترجع الأمور.
وهكذا تمت الاجتماعات وختمت المذاكرات وانفضّ الجمع على وعد التلاقي.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) لأنهم متقنون فن (الديبلوماتيك) أي المراوغة في المقال والتلون في الأحوال.
(2) وكذلك من يتبعهم من العشائر القاطنة بين الفرات ودجلة والنازحين إلى أفريقيا.
(3) وبقوة ذلك لا يزالون يأخذون خراجًا ممن يأخذون باسم هدية.
(4) هذا هو سبب عدم انقياد أهل اليمن ومَنْ يليهم للعثمانيين.
(5) يشهد لهم بذلك القرآن في قصة بلقيس مع سليمان عليه السلام إذ قالت تخاطب الملأ أي المستشارين الأشراف: [قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} (النمل: 32) [قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} (النمل: 33) [قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (النمل: 34) .
(6) يكفي برهانًا على ذلك مجاملة أهل الجزيرة لسياح الإفرنج - ما عدا تلك الفعلة التي اندفع إليها ابن صباح ونال عليها بعد عامين رتبة باشا- وترجيح اليهود الهجرة للبلاد العربية وعدم اشتراك البلاد العربية العثمانية في حوادث الأرمن الأخيرة كالموصل وماردين وسعر ذي نصيبين والمدن العربية من ولاية حلب وأما حوادث لبنان والشام وحلب في القرن السابق فما كانت متولِّدة من تعصب ديني أو جنسي محض بل من غرور جماعة من الدروز بالإنكليزية وجماعة من المسيحيين بنابليون الثالث. اهـ(5/859)
الكاتب: عبد العزيز محمد
__________
أميل القرن التاسع عشر
الشذرة الثانية عشرة [*]
(لا يسلم وجه الشمس من كلف)
قضية لا محيص من تسليمها فإننا في طور الانتقاد الذي لا ينفلت من تحليله
وتفتيشه شيء فقد تناول الأديان وآداب اللغات والتاريخ والأوضاع القومية فلا تجد
عبادة من العبادات إلا وقد وجه إليها العلم ضروبًا من البحث لا قِبل لها بمقاومتها
وأصبح ما كان يُخِلّه الناس من اللغات والنقوش البرمائية والحروف معميات لا
سبيل إلى الاهتداء إلى معانيها وقد نبذت مغاليقها وألقت بين يدي العلم مقاليدها
وأسلمت إليه أسرارها ولم يُغنِ عن الأغاليط التي شيبها مرّ الدهور أنها تفلح في
التغرير بالعقل بما لها من القدم فقد عرف سبب حدوثها وكشف الستار عما كانت
ترتعد له فرائص الأقدمين من المجردات الخيالية، فعرف الإنسان نفسه وكله دهش
واستغرب لخوفه وفزعه؛ لأنه قد عرف اليوم كيف نشأت الآلهة [1] ورأى مذاهب
كان لها ما للبديهيات من القوة والرسوخ تلاشت أمام العلم بالنواميس الكونية التي
كان يتوهم أن هذه المذاهب فوقها وأبصر أسرارًا مستغلقة كانت تعاصت على العقل
أذعنت إليه الآن فمضى بحكم فيها يكشف أصلها وبيان منشئها.
من الظلم والإجحاف عدم اعتبار هذه الحركة العلمية في تربية الناشئين فكيف
يصح أن لا يدخل المدارس ما وصل إليه العلم من نتائج بحثه إلا بعد قرون من
ظهوره لو دخلها.
***
انتقاد آداب اللغتين اليونانية واللاتينية
أنا لا أريد الآن أن أشتغل من وجوه الانتقاد إلا بما يتعلق بآداب اللغتين
اليونانية واللاتينية، وأقول: قد اعتاد المعلمون أن يفردوا هذه الآداب بالدرس دون
بقية آثار الأقدمين كما لو كانت آداب كل لغة فرعًا مستقلاًّّ عن تلك الآثار ولا أراهم
يستندون في ذلك إلا إلى وهْم عُنيتُ من قبل بدحضه، ولهذا تراني ذكرت (لأميل)
أسماء آلهة عُمَيْر وما ورد من صفاتهم في أساطير الهنود، وقصصت عليه أَشْهَر
وقائعهم وسيكونون من معارفه القدماء ولم يبقَ عليه إلا أن يعرف كيف أنهم كانوا
يواصلون الأسفار ويجوبون الأقطار، وكيف أن الواحد منهم كان يظهر في صور
مختلفة ويبدو في هيئات متباينة وهو أمر لمّا يجئ وقته.
ذكرت من شعراء الأقدمين عمير، ولهذه المناسبة أود لو أدري ما الذي يعود
على التلامذة من تفهيم المعلمين إياهم أن ديوانَيْهِ الموسوم أحدهما بالعِلْياد (الإليازة)
والثاني بالعُدِيسي هما من ابتكار رجل من الغابرين إذا كان جميع الناس اليوم
يعلمون كيف تولدت القصص الشعرية الحماسية في الأمم القديمة والحديثة.
لا ريب أن في هذه القصص محاسن كبرى وعبرًا جليلة غير أني سأتحامى
كل التحامي أن أجعل سيرة أشيل [2] مثلاً نموذجًا (لأميل) يحتذيه في سيرته فإن
هذا البطل الذي عبث ولها عن مصلحة أمته وقعد عن منازلة أعدائها في حومة
الوغى أبى عليه قومه جارية رقيقة كانت محلاً لأطماعه، وكان بهذا سببًا في طول
مدة رزايا الحرب وشدائدها، لم يكن حقيقًا برضاء الآلهة عنه، وميلهم إليه فهمْ
باشتغالهم به وإعانتهم إياه على خصمه لشجاعته غير مراعين إغفاله لواجبه قد
جعلوا عاقبة الحرب عبرة سيئة وهي ظفره بهكتور [3] أي ظفر الطيش الحربي
بالوطنية الصحيحة.
لم يقتصر الأقدمون فيما جهلوا من الأمور على نكرهم بعض الأصول التي
هي الآن أساس وجدان الإنسان بل إنهم تركوا لنا ميراثًا من الأباطيل والمذاهب
الفاسدة التي تدعو دراسة كتبهم إلى بقائها إن لم يقارنها الاحتراس والحذر فإن سحر
ما يحفظ الناس من آثارهم قد حمى كثيرًا من المظالم القومية قرونًا عديدة من وثبات
العقل، ولا يزال يذودها عنها، وإن المُغرم منا بالمطالعة المفرط في المعيشة بين
كتبه المفرط فيها بين أبناء وقته يُرى في أكثر أوقاته قليل التأثر جدًا بما شاع في
الناس من العادات السيئة الكثيرة التي يرجع أصلها إلى أخلاق الأقدمين وعوائدهم.
إن الحضارة اليونانية كان لها من وجوه الحسن ما يثير الإعجاب بها ولو أن
(أميل) كلف بدراستها صادقًا لما كنت إلا في غاية الرضى عن ذلك ولكني لا أحب
أن يكون خدعة التشدد في ميله إليها لما فيها من وجوه القبح أيضًا فلشَدَّ ما احتقر
فيها الرقيق وبُخِسَتْ قيمته ونسيت حقوق البؤساء والمغلوبين فلم يحض عليها أحد
اللهم إلا صيحتين أو ثلاثًا انبعثت من أعماق وجدان الإنسان ووصلت إلينا بعد
اختراق حُجُب ما مر من الأزمان، ولَكَمْ هلك في سبيل تلك الحضارة من أجيال
وبادَ مِنْ إنسان ولم يكن فيها أحد، يُعنى بتخفيف مضض البؤس الذي كانت تقاسيه
الدَّهْماء ولم يكن العمل يستوجب للعامل أدنى حق من الحقوق؛ لأنه لم يكن يصلح إلا
لأيدي الطغام، نعم إن ظاهرها ومنظرها كان مؤنَّقًا، فإن ما ازدانت به من الفنون
والشعر والدين السمح والآلهة الباسمين في وجوه الأبطال كان يكسو تلك الأُمة
المغتبطة بُرُودًا جمعت كل ما للكمال المنشود من ضروب العظم والبهاء ولكن
العبرة بالمَخْبَر لا بالمنظر.
التاريخ الروماني هو دون التاريخ اليوناني بكثير لا لأن رومة لم تنتج
رجالاً كبارًا بل لأنها كانت تفرط في عبادة القوة، وقد لاقت جزاء هذا الإفراط
فإنها بعد أن استعبدت غيرها من الأمم آلَ أمرها إلى استعباد نفسها، فلتقل لي هذه
الأمة الفاتحة وقد أظهرت للعالم ما للفتح من النتائج اللازمة: ما هي الأمم التي
علمتها والشعوبُ التي أصلحت شؤونها؟ أرى الناس تتميلهم أخبار غزواتها وتهزهم
أحاديث نصراتها ولا أرى أحدًا منهم يستقصي أسباب مصائبها ليشفى من جنون
الحرب ويبرأ من هوس القتال.
إني إذا أقرأت (أميل) اليونانية واللاتينية وفجرت له بذلك ينبوع الآداب
القديمة والتاريخ كان قصدي منه ولا شك توسيع عقله وتنمية إدراكه بَيْد أني أرمي
إلى غاية أخرى أمكن في نفسي من هذا وهي أن أنشئ في نفسه الاستعداد للسلوك
في هذا الكون، ذلك لأن ما تتضمنه تلك الآداب من أسى الإقدام النفسي
والإخلاص في العمل وحب الوطن أشد في قلب اليافع تأثيرًا وأبلغ في نفسه موعظة
من جميع ما يقوله الخطباء ويوصي به الحكماء بل إن في نفس التحمس الذي يبدو
منه في استحسانها بذلاً لنفسه؛ لأنه يخرجها من معقل امتناعها ويخلعها عن عرش
صلفها ليسويها بمن استحق الحياة استحقاقًا صحيحًا، وإني لأقنط من فلاح الطفل
الذي لا يروقه شيء، وأما مَنْ آنس من نفسه التأثر بما لغيره من بهاء العظمة
ورونقها فذلك الذي أُوتِيَتْ نفسه سرًّا من أسرار الله، إن فضائل الغابرين أبلغ من
فضائل الحاضرين في خلب الخيال بما عليها من مُسْحة القوة والبسالة، وأعمال
اليونان والرومان لبُعْدها عنا بحسب ترتيب الأزمان يحليها البعد والغرابة ببعض
السمات التي قد تغالي بها فتجعل لها من القيمة فوق ما تستحقه ولكن ذلك لا يزيدها
إلا لَجَاجة في دعوة الناشئين إلى إجلالها وإعظام قدرها، وإذ علمت ذلك رأيتني
غير مخطئ في التعويل على تأثير الأقدمين في ترقية أفكار ولدي وتهذيب خلقه.
على أني أعلم حق العلم أن جميع ما خلفوه لنا لا يدعو إلى الإعجاب على
السواء فما سيبيون [3] الذي جندل أنيبال [4] ودمر قرطاجة [5] مثلاً بالبطل الذي
سأسترعي إلى سيرته ذهن (أميل) كلا، بل إني سأوجه كل همتي إلى تفهيمه أن
ما يلاقي من الهزائم إجلالاً لوجدان الحق أعلى منزلة وأعظم خطرًا من الانتصار
ببيض الصفاح سمر الرماح وأن المجد الصحيح إنما هو في علو النفس وشرفها،
وسأقول له أرأيت اليوم الذي انتصرت فيه رومة على قرطاجة فذلك اليوم الذي وفّى
فيه ريجولوص [6] بعهده فانطلق إلى إفريقيا وحده لا يُثْنِيه عنه لَجَاجة زوجته
وأولاده ولا دعاء إخوانه وأصدقائه مع علمه بأنه ملاقٍ حتفه وساع إلى هلاكه، في
ذلك اليوم ظهر أن رومة قد برزت على قرطاجة في صدقها ووفائها ولم يكن
تبريزها عليها في غير هاتين الفضيلتين إلا أمرًا مرتهَنًا بوقته إذ كان لا بد لقرطاجة
من الغلب والقهر.
لا مِراء في أن الجمهورية الرومانية أيام مجدها وعلوها كانت تسفر عن أخلاق
شريفة وطباع كريمة وليس كذلك حالها في عصر تَدَلّيها واضمحلالها، ولو أني
أردت تبصير (أميل) علة هذا التدلّي له لحصرتها في إعواز الفضائل الجمهورية
إعوازًا كان سببًا لنجاح الحكم المطلق في رومة وطول مدته، فلست أخشى على
الحرية ما قد ينتابها من الأخطار المادية ولا أرهب على رومة أن يقف بأبوابها
التركينيون [7] أو بورشينا [8] يبتغون الاستيلاء عليها ما دام فيها أمثال موشيوس
سيفولا [9] وإنما الذي نعاني منه اليوم هو خسة الضمائر ولؤم السرائر.
نفوسنا هي مواطن الظلم ومكامن البغي، فالذي علينا هو أن نحاربه فيها
ونجليه عنها قبل محاربة الملوك الظالمين وإجلاء الجبابرة الغاشمين، ومن أجل هذا
لم يك ينفع بروتس وأنصاره أن بقروا بطن القيصر، فإن قلب رومة كان مقروحًا
بالداء القيصري كان أولى بذلك الرجل وقد أراد أن ينزع تاج الملك ممن كان
مستعدًا له أن يرجع أولاً إلى قلبه فينزع منه كِبْر الأشراف وأنفة السُّراة، ثم ينزع
إن استطاع من نفوس قرنائه ما علق بها من الرذائل والنقائص التي تقتضي وازعًا
يرد من جماحها ويكفّ من ثوراتها ولولا تقصيره في ذلك لاستحق ما آتاه من
الأعمال الدالة على الشهامة والبسالة أن تبيض به صحف التاريخ بل إن هذه
الأعمال كان من شأنها أن تؤخر استقرار حكم الاستبداد، ولكنها لا تستطيع أن
تقوم بالأمة من وَهْدة انحطاطها.
أُحْدِثَتْ في أخريات أيام الجمهورية الرومانية أحداث كثيرة شوهت محاسنها
كالنظام العسكري الوحشي وإهدار الدماء وضروب التعذيب والأطماع الخسيسة وبيع
الضمائر بتناوب إرسال الضعفاء والأوغاد والتعلق بعجلة الظافر على أنه كان لا
يزال يظهر في جهات مختلفة من قرارة الدهماء المنهوكين المنحطين بعض الأخلاق
الفاضلة ظهور الصخور التي تشرف على ما حولها من المياه المنخفضة.
ولا قنوط من ارتفاع شأن الحرية ما بقي في الناس أُباة للضيم موقنون
بظفرهم في الذود عنها فإن هؤلاء يشهدون الجهاد في سبيلها وقد يلاقون الهزيمة فيه
ولكنهم لا يشهدون اندثارها اندثارًا لا قيام منه وإنما تزهق روح الأمل من
حياتها متى انحازت العقول بعد كلالها، وهي صامتة إلى حكومة مطلقة لكنها ساكنة
مطمئنة تلين للمحكومين كلما شعرت بازدياد أمنها وزوال مخاوفها، فأضرّ نظام
سياسي على أمة من الأمم إنما هو الحكم الاستبدادي المجرد من الصرامة والقسوة،
وكذلك كان حكم أغسطس للرومان.
كان عُجْب الأمة في ذلك الحكم لا يزال يتغذى ببعض ضروب من الغرور
غريبة ككونها لا تزال خير أمة بل أميرة الأمم وكون أعلامها وألويتها لا تزال
مبجَّلة في الخارج، وكونها تنتصر على المتوحشين من حين إلى حين وكونها
صاحبة الآلهة وتحف الكائنات والفنون الجميلة والآثار الفخمة التي تروق الأجانب
وكونها جددت بناء رومة وهي المدينة الأبدية من قواعدها إلى سقوفها - كل هذا
صحيح ولكن واحسرتاه، فليست تعبئة الجيوش ولا إنشاء القلاع والحصون ولا
بناء المعابد مما يُغْني عن الأمة من سقوطها شيئًا فقد بقي معبد المشتري المسمى
بالقابلتول في رومة بعد فناء الرومان.
ليس لي كلمة أقولها في شعراء عصر أغسطس وهي أن أَحْسَن هؤلاء
الشعراء قطعًا في نظر المعلِّمين فرجيل وهوراس فهما اللذان أحب أن تجعل كتبهما
في أيدي الناشئين أكثر من غيرهما، وإن كان كلاهما قد تجرد في معظم ما كتب
من شرف النفس وكرامتها، ألم يلاحظ مَنْ قرأ عِنَيْنيَّة [10] فرجيل أن نفس مغزاها
مَلَكي وهو مغزى ما كان يَرِد - على ما أرى - في ذهن شاعر زاهر الخيال في
أيام الجمهورية الجميلة فقد وصف فرجيل ممدوحه المسمّى (عني) بالإنسان الذي
تجلت فيه العناية الإلهية وتوحدت في شخصه الأُمة وأنه المنجي لأمته المؤسس
لجيله، ومثل هذه المعاني يرى عليها أنها موسومة بمِيسم الملك الذي برزت في عهده، ومطبوعة بطابع القرن الذي ظهرت فيه وسواء كانت حسنة أو قبيحة من
حيث الفن فهي تشف عن حالة العقول في ذلك العصر وتسفر عن الخطة التي
رسمتها لنفسها الحكومة الذاتية حتى في نفوس الخيار من الأمة.
إن أجود الأشعار وأحسنها ليس في استطاعته أن يحجب دناءة النفس ولا أن
يستر خسة الطبع، ولقد كان شعراء اللاتينيين قدوة سيئة لخلفهم بما كان يصدر
عنهم من ضروب التمليق الخسيسة وأنواع المدائح التي كانوا يطرون بها أغسطس
تحقيقًا لأغراضهم ونيلاً لأمانيهم فأسسوا به في الدنيا من حيث لا يشعرون وظيفة
الكُتّاب والشعراء المتزلفين على أن فرجيل وهوراس كانا أميري هذه الصناعة ولم
يكن غيرهما فيها إلا من أتباعهما.
ألخص لك ما تقدم فأقول: إن دراسة آثار الأقدمين تختلف ثمراتها باختلاف
الطريقة التي تُبَاشر بها، فإجلال هؤلاء بلا قيد ولا تمييز ولا نقد يؤدي إلى ما
تؤدي إليه جميع ضروب الوثنية وهو صَغَار النفس وضعتها ذلك بأن ما يُؤْثَر عنهم
من المحفوظات والخرافات والكتب والأشعار الحسنة له من الظلم والتحكم في
النفوس ما لا تقل الخشية منه على الناشئين عن خشية ظلم الحكام الغاشمين وتحكم
الطغاة المستبدين، وبهذا يبطل التعجب من أنه وُجِد اليوم من تلامذة اليونان
والرومان من يلتمسون في العلوم وسائل للذود عن مصالح الغابرين ومغالطتهم
ومنهم من يرومون منها دُروعًا حصينة للحرية تكفّ عنها عوادي الباغين.
نحن على ما فينا من النقائص كلها أحسن من الأقدمين حالاً وأرفع شأنًا، وإن
جاز علينا الانحطاط كما جاز عليهم ذلك؛ لأن فينا قوة النهوض والارتفاع ما
انحططنا منه، وإن كان لنا عليهم فضلاً كبيرًا بسمو وجداننا، فكأننا بتأخرنا عنهم
في الوجود قد أخذنا على أنفسنا أن نكون خيرًا منهم؛ لأن وجدان الواجب كوجدان
الحق ينمو ويرتقي بمرور الزمان، ولعَمْرِي، إنه لا ينكر ما للتمدن العصري من
ضروب التأثير في النفوس والعقول إلا مكابر خبيث الطوية، ولست أريد بما قلته
أننا أصبحنا بهذا التمدن أكثر من الأقدمين أخلاقًا فاضلة وطباعًا باسلة ومعارف
واسعة وتحمسًا في الميل إلى الحسن، كَلاّ ثم كلا، بل أريد أن معاني العدل
واحترام حق الغير قد شاعت فينا ورسخت في نفوسنا فصرنا أكثر منهم اهتمامًا بأن
يخالفونا في العناصر والأحوال القومية والأقاليم وألوان الجلود، فنحن الآن من
حيث كوننا من بني الإنسان أقل من اليونان والرومان بُعدًا عن كل ما له مساس
بالإنسانية. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) معرّب من كتاب أميل القرن التاسع عشر في التربية.
(1) يشبه كلام المؤلف هاهنا أن يكون تقريرًا لمذهب الماديين ويدل بفحواه على أنه لا يعتقد بالله ولا بملائكته ولا بصحة المذاهب الدينية في هذين المعنيين وينسب إلى النواميس الكونية كل ما كان وما يكون ويزعم أن العلم قد هداه إلى أصل معنى الألوهية وهذا كله من غرور العقل نعوذ بالله منه ومن الغلو في النظر وما يؤدي إليه من الأشر والبطر كيف يصل العقل إلى كُنْه الإله وهو لم يصل إلى كنه نفسه تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا والعذر له ولأمثاله أنهم نشؤوا على دين مناقض للعقل.
(2) أشيل في أساطير اليونان هو بطل يوناني أبواه تيتيس وبيلي قتله باريس في حصار طروادة.
(3) هكتور في هذه الأساطير هو ابن بريام وعقيبة وزوج أندروماك ووالد أستيناكس قتله أشيل أخذًا بثار ياتروقل.
(4) سيبيون واسمه إيميلبان الملقب الأفريقي الثاني كان رابع أولاد بولس أميل ولد في سنة 185 ومات في سنة 129ق م تبناه عمه الذي هو ابن الأفريقي الأول من أسرة سيبيون وكان على يده انتهاء الحرب الثالثة بين رومة وقرطاجة فكانت هي خاتمة هذه الحروب فإنه أخذ قرطاجة في
سنة 146ق م.
(5) أينبال هو قائد قرطاجة تولى قيادة الجيش في الحرب الثانية التي حصلت بين قرطاجة ورومة وبعد انتصاره في مواقع كبيرة هزم سيبيون فانتخر بالسم تخلصًا من انتقام الرومانيين.
(6) قرطاجة مدينة أفريقية قديمة.
(7) ريجولوص قائد روماني قتله القرطاجيون لأنه أُرْسِل من قبلهم إلى رومة للمفاوضة في المبادلة بالأسرى فتكلم في مجلس الشيوخ بما ينافي هذا الطلب وعاد إلى قرطاجة فمات صبرًا.
(8) التركينيون هم بعض ملوك رومة الأولين.
(9) بورشينا هو ملك أثروريا حاول إعادة التركينيين إلى ملك رومة فهدده موشيوس سيفولا فولى مذعورًا.
(10) موشيوس سيفولا هو رجل روماني أراد أن يقتل بورشنا ملك أتروريا فأخطأه وقتل كاتم أسراره وأراد أن يظهر لهذا الملك ثبات الرومانيين فوضع يده اليمنى في جذوة نار مستعرة.(5/864)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة الشيخ محمد شاكر
جاء في العدد 5545 من جريدة الدبيش تونيزيين تحت هذا العنوان ما نصه:
نشرت جريدة الدبيش تونيزيين الصادرة بتاريخ 30 نوفمبر الأخير فصلاً إضافيًّا
ببيان حادثة الشيخ محمد شاكر أحد أساتذة جامع صفاقص الذي استحضرته الحكومة
بناء على شكوى قدمها إليها قاضي تلك المدينة ومفتيها ويهددوه بالعزل من وظيفة
التدريس.
وقد أوردنا في ذلك الفصل موضوع هذه الشكوى إذ قلنا: إن الشيخ كان في
خلال دروسه بالمسجد يطعن في التقاليد وينكر المعتقدات الباطلة والظواهر
الخارجية المقتبسة من خرافات العجائز وتخرصاتهن، وأوردنا مثلاً عليها زيارة
قبور الأولياء المصحوبة بتقديم النذور على اعتقاد الحَظوة بواسطة هؤلاء الأولياء
في تحصيل المنافع ووقاية الذات من طوارئ الحدثان، وقلنا: إنه نسب هذه
الأضاليل إلى ما انزلق في دين الإسلام الصافي المنهل من بقايا عقائد الوثنيين وقال: إن كثيرًا من التقاليد التي تسير عليها بعض الطرق الإسلامية كالعيسوية مثلاً
مناقضة كل المناقضة للقواعد التي بني عليها الدين الإسلامي.
ولا يخفى ما ينجم عن تلك العادات والمعتقدات من إعاقة الأمم عن النهوض
من كبوة التأخر ومنعها عن بلوغ الشأْو البعيد من التقدم والارتقاء وإسدالها ظلمات
الجهل الذي يزيد تلك الأمم وأمثالها مصابًا على مصابها.
فمن الواجب - والحالة هذه - إنقاذ طبقات الناس من ظلمات التقاليد
والبدع والمعتقدات الفاسدة التي لا غرض لأصحابها غير التذرع بها لتحصيل سعادة
الدنيا بحمل البسطاء والسُّذّج على الاعتقاد بأنها من الدين وما هي من الدين في شيء
بل الدين منها بَراء، وقد ختمنا ذلك الفصل يومئذ بقولنا: (فإذا كان ما ذكرناه قد وقع
فعلاً فلنا الأمل الوطيد في أن تقلع الحكومة التونسية عن متابعة أهواء القائمين
بأمور الشرع في صفاقس من قاضٍ ومُفتٍ وأن تطلب منهما بُعدًا في النظر وسعة في
الصدر) .
وكنا نظن أنه يكفينا مجرد سرد وقائع تلك الحادثة كي تكفل الوقاية من
الاضطهاد لرجل فاضل لا عيب له سوى أنه فاق على أشباهه فوقًا عظيمًا، ببُعْد
النظر وحرية اللسان وصدق القول، وكان ينبغي أن يجازى على هذه المزايا
بالتشجيع والتعضيد.
نأسف الأسف المُرّ لكون أن الحكومة التونسية لم توضح معنى ما دعوناها إليه
حتى انقادت في تصرفاتها إلى تغريرات المغرورين مما لا نرى منه مندوحة عن
البحث في عواقبه ونتائجه.
فإنها لم تكتفِ بفصل الأستاذ عن وظيفته بقرار من الوزير الأول بل سلبت
منه لقب مطوع الذي يفيد أنه حائز على إجازة لنبوغ في العلوم والفنون في الجامع
الأعظم؛ ولذا رأينا أن لا نجر ذيل التغافل والسكوت عن هذا الحادث الذي يوجب
الكدر والأسف.
لم يكن الشيخ محمد شاكر الذي فُصل من وظيفته من الطاعنين في العمر كما
قلناه خطأ، وإنما هو شاب في مقتبل العمر، ومع كونه كفيف البصر كان في مقدمة
طلبة الجامع الأعظم نباهةً وذكاءً ونال إجازة العالمية التي استُردت منه ظلمًا
وعدوانًا، وكان ذلك الشيخ الشاب يتلقى غير الدروس المعتادة في الجامع الأعظم
علوم المدرسة الخلدونية [1] ونجاهر هنا بأعلى صوتنا بأن الفضل الأول لهذه
المدرسة التي اقتبس منها تلك الأفكار العالية التي انقضت عليه بسببها صواعق
غضب الطبقة العتيقة من المسلمين.
ويضاف إلى ما تقدم أن ذلك الشاب مُلِمٌّ بما يحدث الآن في القطر المصري
من التقدم العلمي وهو في مقدمة المعجبين بالشيخ محمد عبده قاضي القضاة في
مصر [2] الذي هو من أكابر المسلمين ذوي الأفكار النيرة التي توافق المدنية ومن
ثقاتهم وله مؤلفات وفصول في الجرائد تشهد بسعة اطلاعه يقصد بها إعادة الإسلام
إلى ما كان عليه من الرونق وتطهيره من التقليد والبدع التي من شأنها أن تغرس
في القلوب التعصب الديني وعدم الاحتمال والتسامح وتجعل بين العالم الإسلامي
والمدنية سدًا منيعًا.
هذه الخطة تسير عليها جريدة مصرية تُدعى (المنار) يكتب فيها الشيخ
محمد عبده بدون أن يذيِّل كتاباته بإمضائه وهي حريصة على ملازمة خطتها هذه
حرصًا يزداد كل يوم.
إن النشء الإسلامي في هذا العهد - ومنه الناشئون في تونس - قد أيقنوا أن
لا تكون نهضة للسلالة العربية إلا ببث مثل تلك الأفكار؛ ولهذا تَلَقَّتْ كتابات الشيخ
محمد عبده ومقالاته بالصدر الرحيب، ومن واجبات الحكومة التونسية في هذا
الوقت الذي تنبه التعصب فيه من سباته بالبلاد المراكشية وزعزع عرش سلطان
متهم بشدة الميل إلى الحديث أن تساعد بما في وسعها من الجهد الأفكار التي من
شأنها بث مبادئ الاحتمال والتسامح بين طبقات العالم الإسلامي ولكنها بدلاً عن ذلك
عاملت الرجل الذي لم يخشَ بأسًا بالمجاهرة بأفكاره معاملة الساعي في غرس بذور
الفتنة بل معاملة أحقر الناس وأدناهم؛ إذ طردته طرد الأشقياء فأصبح على قارعة
الطرقات لا مال في يده ولا أمل في قلبه.
ولو أن هذا الرجل حاول أن يقلب معالم الدين الإسلامي أو لو أنه أبدى من
الأفكار والخواطر ما يخالف مبادئ وقواعد هذا الدين لقلنا: إن الحكومة التونسية
رامت المحافظة على الأمن العام والسلام بين الناس فاتخذت قبله وسيلة من وسائل
الشدة والجبروت لتكون العبرة الزاجرة، ولكنها اضطهدته اضطهادًا ديني الصبغة
في حين أن حماية فرنسا على تونس تفيد تصدي دولة متمدنة لإفاضة أنوار العلوم
على جموع من الناس في حاجة إلى التعلم والترقي وأي جناح على رجل لجأ إلى
الأحاديث النبوية الشريفة مستشهدًا بها على فساد ما تذهب إليه العامة من ضرورة
إرسال الهدايا إلى أضرحة الأولياء لكي تنال المنافع بحسن تأثرهم في أحوال
المعيشة اليومية.
قال النبي (صلى الله عليه وسلم) في حديث له (لا تتخذوا قبري وثنًا) .
وحقيقة الأمر أن ذنب الشيخ محمد شاكر الذي لا يغتفر ولا يعفى عنه بسببه.
هو تجرؤه على المسّ بعادات يتخذها مشايخ الزوايا والمستفيدون منها مصدرًا من
مصادر الكسب ويرون أن سيئول أمرها إلى النضوب إذا سادت الأفكار التي يسعى
الشيخ في بثها بين طبقات العامة.
قلنا: إن الشيخ محمد شاكر كان أستاذًا في صفاقس وإن الزاوية التي كان يقوم
فيها بوظيفته تسمى بزاوية سيدي (كراي) التي يرى العامة في الولي المدفون بها أنه
الحامي لتلك البلدة والتي قد استفادت سلالته بشهرته فعكفوا إلى الآن فيها يستأثرون
بالنذور التي تقدم إليه وهم يعيشون بواسطتها في نعيم ورخاء فلمّا اطلعوا على ما
كان يلقيه الشيخ محمد شاكر للطلبة من الأفكار المغايرة لمصلحتهم ثارت عليه
ثورتهم فبدؤوا أولاً برفع الشكوى إلى كل من القاضي والمفتي اللذين استدعيا إليهما
الأستاذ وأنّبوه على الخطة التي انتهجها في التدريس فأراد الشيخ أن يقيم لهم الدليل
على أنه لم يمس الدين بشيء مستشهدًا بالكتب مؤيدًا حجته بأقوال السلف الصالح
ولكنه عبثًا جَاهَدَ في هذا السبيل؛ لأن المناقشة بينه وبين القاضي انتهت بقول
هذا الأخير له إن الضوء لا يأتي من أعمى فأجاب الشيخ محمد شاكر: (وأنا أدعو
أن يخلص الناس من عمايتهم) فاعتبر القاضي أن هذه الإجابة شبه فاضحة له
استلزمت استدعاءه إلى الوزارة حيث حاول التبرّؤ من الذنب الذي عُزِيَ إليه ولكنه
لم يكن أمامها أسعد حظًّا من أمام القاضي) .
ولكن من الأسف أن الحكم عليه كان صادرًا من قبل؛ لأن للقاضي والمفتي
الصفاقسَّيين أركانًا في الحكومة يستندان إليهم فطلبوا الإقرار على العزل بالرغم عن
المساعي العديدة التي بذلت لديهم في صالح المعزول، وقد أمضى الوزير الأول هذا
القرار بدون أن يكون مقتنعًا بصحة السند الذي أفضى إليه.
هذا تفصيل شرح حادثة الشيخ محمد شاكر أستاذ مسجد سيدي كراي قضي على
هذا الرجل؛ لأنه تجاسر على القول بأن الأباطيل والبدع والتقاليد صواعق الأمة
وأن أرباب الطرائق الدينية يعيشون من سذاجة الأفراد وسرعة اعتقادهم، وبهذه
المثابة يبثون التعصب في نفوسهم.
ولا ننسى أن حوادث مرغريت ومشاكل مراكش الحديثة ليست في الحقيقة
سوى نتيجة من نتائج التعصب الذي ما دام كامنا في أفئدة المسلمين فلا بد لنا أن
نتوقع حدوث أمثال تلك الحوادث فلا غرابة إذا عجبنا بعد ذلك من اضطهاد رجل لا
ذنب له إلا الوعظ لإنقاذ أبناء دينه من ربقة الجهل الذي قوّس ظهورهم منذ أجيال
ومنعهم من المشاركة في التقدم الذي يدفع بالإنسانية إلى الأمام. اهـ
__________
(1) المدرسة الخلدونية في تونس تشبه مدرسة دار العلوم في مصر يتعلم فيها بعض طلبة جامع الزيتونة العلوم العصرية.
(2) المراد بقاضي القضاة المفتي الأكبر لأنه يفتي للقضاة وقد وضع له هذا اللقب ابتداءً.(5/871)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(عربي كريم وولي حميم)
في أوائل هذا الشهر جاءنا نبأ برقي من بومبي (الهند) يقول فيه مرسله:
إن صديقكم (محمد عبد الوهاب باشا شيخ دارين) قد سافر اليوم إلى الحجاز في
باخرة (الإمبراطور) وسيعرج على السويس، وقد علمت أن باخرة الإمبراطور
تصل إلى السويس مساء الأربعاء (11 فبراير) فيممت السويس في ذلك اليوم
للقاء صديق مخلص أحبني وأحببته على البُعد - أحبني في الله بحبه للمنار ورضاه
عن خدمته وإعجابه به وعمله بما يرشد إليه ويفتي به في أمر الدين- وأحببته في
الله لما تنسمته في كتبه إلي من الغيرة الدينية والإخلاص في كل ما يقول.
لقيته فلقيت منه الفضائل العربية، والأخلاق الإسلامية، الأناة والوقار
والشهامة وكرم النفس واليد، ومن كرمه أنك ترى منه أبا القِرى، يقصد أمُّ القُرَى،
فهو يسير إليه بركب يبلغ ثلاثين رجلا أكثرهم من جماعته وحاشيته العرب الكرام،
وبعضهم من مسلمي الهند، ومن كرمه أنه يمد لكل غداء وعشاء الخوان، وينصب
الجفان، وفيها ما شئت من الألوان، ومن كل فاكهة زوجان، ومن كرمه أنه رأى
في السويس كثيرًا من الفقراء الغرباء يبغون الحج ويلتمسون المساعدة عليه بأن
يُحْملوا بغير أجرة في سفينة الخاصّة الخديوية فارتاح إلى حملهم على نفقته وأرسل
يطلب من محافظ السويس بيان عددهم وأسماءهم وإن كثروا، ومن كرمه أنه لم
يمض عليه في السويس يوم أو يومان، حتى عرف منزله فقراء البلد فانتحَوه من
كل مكان، فألفوه لا يرد سائلا، ولا يخيب آملا، حتى إننا عذلناه على بسط يده لهم،
عندما كاد يتعذر علينا أن ننفذ معه من بينهم، ولعَمْري إن هذا الجواد قد أرانا
خير نموذج من كرم خلفاء العرب وأمرائهم الأولين الذين حفظ التاريخ مناقبهم وخلد
مآثرهم.
وقد اختار أن يسافر بجماعته في باخرة الخاصة الخديوية (البحيرة) إذ رأى
معنا ما فيها من النظافة وتيسير العبادة وأخبرناه أن سموّ عزيز مصر قد أنشأ هذه
الباخرة لتسهيل سبيل الحج على المسلمين وأنه يَسُرّه أن تكون العبادة متيسرة فيها
للمسافرين؛ ولذلك جعل مستخدميها من المسلمين فسُرّ صاحبنا بذلك ورفع إلى سمو
العزيز رسالة برقية يشكر لسموه عنايته بإنشاء هذه الباخرة لتسهيل الحج بها على
الفقراء ويشكر حفاوة حكومته به لا سيما محافظ السويس ووكيل المحافظة ويعتذر
بضيق الوقت عن عدم التشرف بزيارة سموه وتقديم الشكر الشفاهي، فأجابه سموه
بالبرق جوابًا لطيفًا هذا نصه:
(سراي عابدين)
حضرة الأمير الجليل محمد بن عبد الوهاب أمير دارين تحت لواء نجد
بالسويس، نشكر حضرتكم خالص الشكر على التلغراف الذي أرسلتموه إلينا ونتمنى
لكم حجًّا مبرورًا وصحة وسلامة في السفر والإقامة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (عباس حلمي)
***
(موكب الحجّ المصري وضعف الدين في مصر)
احتفل في هذه السنة بموكب الحج المصري أو المحمل المصري كما كان
يحتفل في غيرها من السنين، وما المحمل وموكبه إلا تعظيم وإشهار لركب الحج،
ومن العار العظيم والخزي القبيح على مصر، وهي المملكة الإسلامية الثانية التي
للحاج فيها موكب رسمي أن يكون الحجاج منها أقل من حجاج قرية من قرى سائر
البلاد الإسلامية أو أقل من الركب الذي جاء به صديقنا الفاضل الهُمَام محمد عبد
الوهّاب باشا من بلده الصغيرة (دارين) .
يتشدق الذين دِينُ ألسنتهم وأقلامهم قويّ متين، ودين عقولهم وقلوبهم ضعيف
مهين، يقولون: لا لوم ولا عار على الأمة المصرية إن لم يخرج إلى الحجّ منها
في هذه السنة إلا 27 رجلاً، فإن الأغنياء الذين يستطيعون دفع ما فرضته الحكومة
والخروج إلى الحج إنما تركوه احتجاجًا على الحكومة (فالعار محصور في الحكومة!
وهذه الحجة أضعف من حجة من جاء المسجد فوجد الباب مغلقًا فترك الصلاة
معتذرًا بأن المسجد لم يقبله! وإنما كان عذر القاعدين عن الحج من الأغنياء أضعف؛
لأن باب الحرم أو باب الطريق غير مغلق في وجوههم، وإذا فرضنا أن المتشدق
بما ذُكِرَ غيدار (الغيدار هو الرجل يسيء الظن فيصيب) وكانت الحكومة تحب أن
تصدّ الناس عن الحج في باطنها أو بإلجاء المحتلين لها على ذلك فهل تقضي قوة
الدين بأن تضعف الأمة أمامها. وتجعل دينها هدفًا لسهامها، أم الواجب عليها بذل
النفس والنفيس في مقاومتها وحفظ شعار الدين، وإقامة هذا الركن الركين، الأمر
ظاهر ولكن ممن يلمز بالحكومة من هو أشد تنفيرًا وتثبيطًا عن إقامة ركن الإسلام
الذي يدعي الدفاع عنه فحسبنا الله ونعم الوكيل.
***
(سكة حديد الحجاز - وضريبة لها جديدة)
تعلقت إرادة مولانا السلطان بأن يؤخذ قرش صحيح عن كل ورقة تقدم
للحكومة في العدلية وغيرها من الدوائر سواء كانت الورقة مستقلة أو تابعة لأوراق
أخرى كالأوراق التي يحتج بها الخصماء في الدعاوى (المستندات) والمال الذي
يجمع من هذه الضريبة مخصوص بسكة حديد الحجاز لأن نفقاتها تزيد كل يوم
باتساع العمل.
وفي هذا المقام ننّوه بغيرة إخواننا مسلمي الهند واهتمامهم بهذا المشروع
الإسلامي الكبير، ونخص بالذكر الأستاذ الهمام الملا عبد القيوم فإن الجرائد الهندية
توافينا دائمًا بذكر تجواله في البلاد وخطبه المؤثرة في الحث على جمع مال الإعانة
للسكة، ولم نسمع بأن عالمًا مصريًّا أو تونسيًّا نبس بكلمة خير في هذا الموضوع،
نعم إن الحرية الممنوحة للمصريين لم تقدر أن تنقذ قلوبهم من الاستعباد للحكومة،
فلو أن حكومتهم أرادت جمع إعانة لأرادوا أو لو ظنوا أنها تريد ذلك لبادروا إليه
كما امتنعوا عن الحج لأنهم ظنوا أن حكومتهم لا تريد أن يحجوا في هذا العام (هذا
وما فكيف لو) .
***
(إصلاح لبنان - لائحة للمتصرف الجديد)
أهدتنا جريدة المناظر الغراء التي تصدر في البرازيل رسالة مطبوعة أو
(لائحة) من جماعة اللبنانيين المهاجرين إلى صاحب الدولة مظفر باشا متصرف
لبنان وهي رسالة جليلة صادرة عن فكر حيّ نقتطف منها ما يأتي:
(مولاي: الأمة اللبنانية مستقلة في شؤونها الداخلية فهل استقلت على سبيل
الاستعداد؟ ينبئنا التاريخ وتدلنا الحالة الحاضرة على أن الأمة لا تتحرك فيها عاطفة
الاستقلال إلا متى أَنِفَتْ من الرضوخ للسلطة الأجنبية، وأنها لا تأنف من هذا
الرضوخ إلا متى شعرت بطاقتها على أن تحكم نفسها، فالأمة اللبنانية لم تستقل
على سبيل الاستعداد.
(قد تقدم الاستقلال الداخلي اللبناني شيء مما يتقدم الاستقلال غالبًا تقدمته
دماء ولكن ليست كالدماء التي جرت في أمريكا سنة 1775 وما يليها إلى سنة
1783 تقدمته معارك ولكنها ليست كالمعارك التي حدثت في بولونيا سنة 1830،
تقدمه جهاد ولكن ليس كالجهاد الذي حدث في جنوبي أفريقية في السنوات الثلاث
الأخيرة إنما الدماء التي تقدمت استقلالها كلها دماء لبنانية لم تمتزج بها نقطة من
دماء جيوش الدولة المتسلطة ولا دار في خلد اللبناني في السنوات التي تقدمت
استقلاله أن يخرج على الدولة التي كان ولا يزال يرفع رايتها، والمعارك التي حدثت
قُبَيْل الاستقلال كلها أهلية نَازَل فيها اللبناني أخاه اللبناني، والجهاد الذي حدث لم
يخالطه من الروح الوطني ولا نسمة دماء تعصب ومعارك صليبية وجهاد طائفي، تلك
مقدمة الاستقلال اللبناني أو مقدمة المؤتمر الدولي الذي التأم في بيروت في حزيران
سنة 1861 وقرر للبنان حالته السياسية الحاضرة.
(فانظر يا مولاي ما هي مقدمات الاستقلال اللبناني الداخلي؛ تعلم سر
اختلال اللبناني في حكومة نفسه سر اختلال اللبناني في حكومته لنفسه أو سر
الاختلال السياسي في لبنان هو الفساد الاجتماعي الذي كان مصدرًا لمقدمات
الاستقلال. فالإصلاح في لبنان يجب أن يكون اثنين: إصلاحًا اجتماعيًّا ينتهي
بالإصلاح السياسي الاختياري وإصلاحًا سياسيًّا يستمر حتى تستقر نتيجة الإصلاح
الأول. ما استقلت (يا مولاي) الأمة اللبنانية وهي قادرة على سيادة نفسها ولكنها
استقلت فيجب أن تجعلها أهلاً لهذه السيادة) .
ثم قال الكاتب بعد أن ذكر أن المصلحة العامة لم تربط اللبنانيين ولم تربطهم
وحدة اللغة بل قال: إنه ليس لهم حتى الآن مصلحة عمومية، وإنهم ما داموا كذلك فهم
في حكم العدم، وبعد أن أوجب البحث في سبب ذلك وجزم بأنه أهم ما يقال في
الفساد الاجتماعي، قال:
مولاي: الأرض التي يسكنها الدرزي اللبناني يسكنها المسيحي اللبناني،
الهواء الذي يتنشقه الواحد يتنشقه الآخر، اللغة التي يتكلم بها هذا يتكلم بها ذاك.
إذا راجت سوق الحاصلات اللبنانية في الخارج استفاد كلاهما معًا وإذا كسدت
تضرّرا معًا فلماذا وعَلامَ اقتتلا؟
مولاي: ما هو الفرق بين الأرثوذكسي والماروني وبين كل منهما والملكي،
وبين كل منهم والمسلم وبين كل من هؤلاء والشيعي في كل ما هو لبناني دنيوي
على الإطلاق؟ لا تستطيع يا صاحب الدولة أن تجد مِنْ فَرْق فما هو سبب استقلال
كل واحدة من طوائف لبنان عن الأخريات فيما هو دنيوي.
لا يوجد في لبنان إلا أربع مدارس دينية. والمدارس الدينية مشروعة
الاستقلال. فهل اقتصر الاستقلال عليها؟ كلا يا صاحب الدولة إن الاستقلال
الطائفي تناول كل مدارس الجيل الاستعدادية والعالية. فما هي مشروعية هذا
الاستقلال الطائفي في مدارس نقول أن تعاليمها دنيوية.
الإحسان لا ينكره دين ما فما سَوَاغِية انفراد أبناء هذه الطائفة عن أبناء تلك في
المشروعات الخيرية والآداب والعلوم المشتركة، فما معنى اصطباغ الجمعيات
الأدبية والعلمية بالصبغات الطائفية.
إذا أنعمت الحضرة العالية السلطانية على ابن هذه الطائفة بوسام أو رتبة عاليين
سر أبناء الطائفة نفسها واستاء أبناء الطوائف الأخرى.
المؤلف يشفع اسم في صدر كتابه بنسبته الطائفية، ومؤلَّفه عندئذ مفيد عند
طائفته غير مفيد عند الطوائف الأخرى.
الطبيب الدرزي طبيب الدروز، والمحامي الماروني محام للمارونة، والعالم
الأرثوذكسي موضوع ثقة الأرثوذكس فقط، والكاتب الملكي معتبر عند الملكيين
فقط.
فما هو سبب هذا التدافع، هذه المواربة، هذا التناقض، هذا الاستقلال في قوم
تجمعهم المصلحة الطبيعية واللغة؟ هو التعصب الديني يا صاحب الدولة - التعصب
الذميم الذي يُزَيِّن لكل طائفة في لبنان أنها مستقلة بمصلحتها عن الطوائف الأخرى،
ولا مصلحة لها في الحقيقة يصح أن تُسمَّى مصلحة طائفية عموميَّة، ولا فائدة من
استقلالها في مثل ما قدمنا من الأمثلة إلا فائدة رؤسائها الزمنية - فائدة استخدام هذا
الاستقلال فيما يفيد الرئيس وأنسباءه وأصدقاءه باسم الطائفة - فائدة استخدام الدين في
المنافع الذاتية، التعصب الديني هو سبب الاستقلال الطائفي، وهذا الاستقلال هو
سبب انتفاء المصلحة العمومية، فكيف نلاشي هذا الاستقلال لتستتب لنا تلك
المصلحة.
ثم بُيِّنَ بعد ذلك في اللائحة كيفية الملاشاة وسنذكرها في الجزء الآتي إن شاء
الله تعالى.
***
(المنار في البلاد الإسلامية)
جاءنا من طهران كتاب يقول فيه مرسله أن للمنار ذكرًا سائرًا في مجالس
العلماء والمجتهدين وأن الإمام العلام، ملاذ الأنام، السيد محمد الطباطبائي المجتهد
المشهورة (قد بالغ في مجلسه الغاص بالعلماء في تقريض مجلتكم والثناء عليكم) وأن
الفاضل القمقام، علامة علماء الإسلام، الحاج الشيخ زين الدين، الملقب بملك
الواعظين؛ لأنه أول واعظ ومتكلم على المنبر في هذه الأقطار، كان يعظ في شهر
رمضان في أحد جوامع طهران الموسوم بالجامع المروزي، وهو جامع كبير
معروف، وفيه مدرسة كبيرة للفقه وسائر العلوم..... (وقد أثنى عليكم وقرض مجلة
المنار على منبر الجامع أثناء الوعظ والمسجد مملوء بجماهير الناس من الخاص
والعام.
والمنار يفتخر بصداقة هذين العلمين في الأمة المحمدية، ولا غرو فالبلاد
الفارسية جديرة بهذه الأريحية، فإنها كانت ينبوع العلم والاجتهاد وستبقى كذلك إلى
يوم التناد.
وجاءنا من تونس أن الجزء الواحد من المنار يدار على عشرات من الناس.
وجاءنا من بلاد أخرى عربية أن أهلها لا يرجحون على فتوى المنار فتوى
وأن بعض القضاة الشرعيين يعتمد على المنار في حجج بعض الأحكام ويحتج به
وهذا دليل على حياة العلم هناك لأننا لا نقول في الدين إلا بالدليل فهم يأخذون به لا
بقولنا.
وجاءنا من بعض المدرسين في بلاد روسيا أنه سمع كثيرًا صدى المنار
وخدمته للإسلام وأحب أن يطلع عليه ولكنه لم يعرف اسم صاحبه فاكتفى بأن يكتب
إلينا باسم (المنار في مصر) طالبًا إرسال المنار إليه. فنشكر لهؤلاء الفضلاء
الأعلام تنشيطنا على هذه الخدمة المِلّية ومساعدتنا عليها بالدعوة إليها والتنويه بها.
***
(انتقاد المقتطف الأغرّ)
قرّظ المقتطف الأغرّ كتاب الإسلام والنصرانية وانتقد علينا ما أوردناه في
مقدمته من تمثيل الإسلام بينبوع تفجر في أرض ثم فاض في أرض أخرى فأنشأ به
أهلها حدائق ذات بهجة إلخ، وتلطف كاتب الانتقاد الفاضل فأورد النقد بصفة سؤال
سنجيب عنه في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
***
(تنبيه لقراء المنار)
قد أصدرنا الجزء التاسع عشر الذي موعده غرة شوال مع الجزء العشرين في
نصف شوال فجعلناهما جزءًا واحدًا مؤلفًا من عشر كراسات فلم تنقص
المشتركين من حقهم شيئًا، وقد غفل عن كِبَر الجزء وعما كتب عليه من العدد
(19، 20) بعضهم فكتبوا يطلبون منا الجزء التاسع عشر.
***
(إزالة وهم)
يتوهم بعض الناس أن مما ينشر في المنار غير معزوّ إلى أحد ما هو بقلم
الأستاذ الإمام أو بإيعازه وقد تذكرنا هذا عند نشر تعريب (مسألة الشيخ محمد شاكر)
وبهذه المناسبة نذكر أن كل ما ينشر في المنار غير معزوّ أصلاً فهو لصاحب
المنار فكرًا أو عبارة، وهذا لا ينافي أننا اقتبسنا كثيرًا من المسائل العلمية التي
ننشرها من معارف الشيخ في الدروس والمذاكرات ولكن الذي نودُّ بيانه أن منشئ
المنار مستقلّ في عمله استقلالاً تامًّا لا دَخْل لأحد فيه.
__________(5/875)
غرة ذو الحجة - 1320هـ
28 فبراير - 1903م(5/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة النساء
مضار تربية النساء الاستقلالية في الإفرنج
(تمهيد) للأمم طريقان تسير عليهما في حياتها الاجتماعية طريق الهداية
الدينية مع النظر والتجربة وطريق النظر والتجربة بدون استعانة بهداية الدين. ولا
يعرف التاريخ أمة من الأمم ارتقت في الحياة الاجتماعية دون دين ولكن كثيرًا من
قادة الإفرنج في السياسة والعلم قد مرقوا من النصرانية واستدبروا تعاليمها
الاعتقادية والأدبية والعلمية في طريق مدنيتهم مقررين أنه لا يعتمد في شؤون الحياة
إلا على النظر والتجربة معًا دون ما عداهما فاشتهر في العالم أن الإفرنج مرقوا من
الدين في الواقع وإنما ينصرونه ويتعصبون له لأجل السياسة الخارجية وأنهم لم
يرتقوا إلى فئة حضارتهم هذه إلا بهذا المروق والاستدبار. وهذه شبهة أو حجة
على بطلان النصرانية إذا كان الدين كما يقول المسلمون سائقا إلى إصلاح الدارين
وسعادة الحياتين، ولكننا رأينا من كُتاب النصاري من يقول: إن الدين خاص
بطلب الدار الآخرة، ومراعاة تعاليمه في أمور الدنيا مفسد لها.
وقد خدع بمثل هذه الأقوال والأحوال بعض المسلمين الجغرافيين الذين لا
يعرفون من الإسلام إلا بعض ما يرون ممن عاشوا معهم فحسبوا أن المسلمين لا
يرتقون إلا بمثل ما ارتقى به الإفرنج من استدبار الدين والاعتماد على النظر
والتجربة اللذين هما طريق تمحيص العلم. يقيسون دينًا على دين يخالفه في حقيقة
معناه وفي تعاليمه الاعتقادية والأدبية والعملية وفي آثاره الاجتماعية والمدنية ولا
حجة لهم إلا أن الإفرنج باستدبار الدين ناجحون والمسلمين في الواقع ونفس الأمر
خاسرون، ولو أبصروا لرأوْا أن هذا الخسار، إنما تولد من المروق والاستدبار.
وأن قياسهم إنما هو قياس الضد على الضد، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
لقد سبَح القلم إلى ما ليس من موضوعنا في هذا التمهيد والذي نريد أن نقوله
هو أن الإنسان على كونه أرقى الأحياء في هذه الأرض لم يستغن ولن يستغني
بنظره وتجاربه عن هداية الدين وإرشاده، ولدين وثني خير له من ترك التدين
بالمرة.
وأن كل أصول الارتقاء التي بُني عليها عمل مُستَدْبري النصرانية في أوروبا
مستفادة من الدين إما من بقايا دينهم تقليدًا وإما مما وصل إليهم من الإسلام اجتهادًا.
وأنه يجب على المسلمين الذين وجهوا وجوههم للحضارة الإفرنجية بالتربية والتعليم
أن يترووا في نظام هذه التربية وقوانينها فلا يجعلوها تقليدية خالصة. وأنه يجب
أن يكون أول هذا التروّي تقوية الرابطة الملية التي كانوا بها أمة لئلا تكون التربية
مفرقة لاجتماعهم ممزقة لشملهم فيكونوا كالباحث عن حتفه بظلفه، وأنه يجب إقامة
ما قرره الدين على سبيل القطع والتروّي والاجتهاد فيما وكله إلى الناس والاعتماد
فيه على النظر والتجربة والاعتبار بسِيَر الأمم ونتائجه. وأن أكبر العبر ما وقع فيه
الإفرنج من الأمراض الاجتماعية بشذوذهم عن هداية الدين في كثير من المسائل
وإن انتفعوا نفعًا عظيمًا في أمور أخرى إذا خالفت النصرانية فإنها توافق الإسلام بل
هي لا بد ترجع إلى أصل من أصول هدايته كما تقدمت الإشارة إليه آنفًا.
مسألة النساء: وبعد هذا التمهيد نقول: إن لدينا الآن مسألة كبيرة وهي
مسألة النساء، كيف يُعلَّمن، وكيف يُربَّيْن ليكن عونًا للرجال على الارتقاء ومجاراة
الأمم الحية؟ .
إن طلاب تغيير سير الأمة بالتربية والتعليم قد وضعوا نصب أعينهم أوربا
وارتقاءها فمنهم من يطلب محاكاتها وهم الحكام وبعض العقلاء، ومنهم من يستحب
تقليدهم تظرفًا وتزلفًا وهم الذين أخذوا قشورًا من العلوم المصرية في مدارس أوربا
أو مدارس بلادهم التي أنشئت لهذه العلوم وفتنوا بزخرف المدينة الأوربية
وبهرجها. كانت فرنسا هي القبلة الأولى للأستانة ومصر في طلب هذا التحول؛
لأنها أم هذه المدنية الجديدة في الغرب والشرق. ثم إن مصر وجهت وجهها في هذه
السنين إلى إنكلترا بحكم طبيعة الاحتلال الإنكليزي ومثلها الهند في هذا التوجه.
ويرى هؤلاء أن الإنكليز أَقْوم تربية من الفرنسيس، ولذلك نورد لهم ما استفدناه
بالمذاكرة والمناظرة مع بعض أهل العلم والخبرة التامة من الإنكليز في مسألة النساء
ليعلموا أن التروي الذي قلنا بوجوبه في التمهيد لا بد منه. ثم ننتقل إلى الحكم
بضرورة اتباع الهداية الإسلامية في مسألة النساء والتربية القويمة التي تنطبق عليها
ليتبين لهم أن طريقة النظر والتجربة في هذا القرن لم تُغن عن الهداية التي جاءت
على لسان نبي أمي منذ ثلاثة عشر قرنًا ونيفًا.
الغرض من التربية والتعليم سعادة الأمة بهناء المعيشة وشرف المنزلة وإنما
يطلب الهناء والشرف للحي النامي، فإذا كانت طريقة التربية والتعليم تؤدي إلى قلة
النسل وعدم نموه فتلك هي الطريقة السوءى، وسلوكها هو الجناية الكبرى على
البشر.
وتربية الإناث تربية استقلالية كما يتربى الذكور سواء مخل بوظيفة
النساء الفطرية ومؤدّ إلى تلك النتيجة المخيفة قلة النسل المؤذنة بهلاك البشر.
أنتجت هذه التربية في إنكلترا النتائج الآتية:
(1) اعتماد النساء على أنفسهن في المعيشة والكسب.
(2) توجههن إلى الأعمال الخارجية، أي التي تكون خارج البيوت وتنافي
تدبير المنزل.
(3) رغبة الكثير منهن عن الزواج بالمرة، وقال بعض أطباء الإنكليز: إنه
عرف بالاختبار أن نحو أربعين في المائة من النساء كذلك. وقال بعض أطباء
فرنسا: إن إناث البشر كإناث سائر الحيوانات، الأصل فيهن الرغبة عن مباشرة
الرجال إلا في وقت مخصوص وهو وقت الاستعداد لقبول التلقيح، وإن ما عدا هذا
فهو عارض على البشر وبين أسبابه وذكر أن هذا العارض يكون في بعض الأفراد
مرضًا من نوع (الهستيريا) وليس هذا محل شرح أقواله.
(4) أن أكثر النساء المتعلمات المتربيات يكرهن الأمومة إما لما في الحبَل
والولادة من المشقة والتعب وإما لإضطرارهن إلى ملازمة البيوت في معظم مدة
الحبَل والرضاعة إذا هن أرضعن أولادهن، والبيوت صارت في نظرهن كالسجون
لتعودهن على كثرة الخروج. وإما لاحتياجهن في ذلك إلى نفقات كثيرة تعوزهن أو
يفضلن التوسع بها في الترف. ومنهن من يذهب في ذم الأمومة مذهب الخيال الذي
يلتبس عليهن بنظريات الفلسفة أو تقاليد الدين المسيحي في جعل الإنسان ملكوتيًا
فيقلن: إن الحبل والولادة من صفات الحيوانات فينبغي الترفع عنه. وهذه جهالة
بمعنى الإنسان وما هو إلا حيوان أَرْقى من سائر الأنواع في جنسه. وليس في
استطاعة الخيال أن يخرجه عن كونه حيوانًا وإن استند إلى الفلسفة أو الدين.
(5) أنه قد نشأ في النساء تناول الأدوية لمنع العلوق وللإسقاط بعد تحققه.
(6) أن البنت قلما تتزوج في أول طور الاستعداد للأمومة وهذا التأخير من
أسباب عسر الولادة؛ لأن الأعضاء في طور الحداثة تكون مرنة تتمدد بسهولة فإذا
كبر السن قلَّت هذه المرونة المسهلة للولادة. ويزيد العسر عسرًا ضعف الأجسام
بالإفراط في الترف والنعيم فصار من الضروري أن لا تلد المرأة إلا وهي مخدرة
بالكلوفورم وبمساعدة الأطباء.
(7) أن الولادة قلما تنتهي بسلامة من مرض خطر، فهذه سبع نتائج
بعضها سبب لآخر ونضيف إليها نتيجتين عامتين في النصارى وهما:
(8) أن المرأة ملزمة في عرف النصارى بأن تدفع لمن ترغب في التزوج
به مهرًا، وكثيرًا ما يعسر عليها ذلك فتضطر إلى التبتل أو البِغاء.
(9) أن الرهبانية مشروعة للنساء كالرجال ومعدودة في الفضائل الدينية
عند أكثر النصارى. فهذه تسع أسباب من أسباب قلة النسل ومقدمات انقراض الأمم.
وما عدا الأخيرين منها فهو من آثار التربية الأوربية. ولما كانت فرنسا هي
السابقة في هذه التربية النسائية ظهر فيها قلة النسل وأطباؤها وساستها في حيرة من
أمره. وستتبعها إنكلترا في ذلك بعد سنين، وإن خفي ذلك على المعجبين بتربيتها
من الشرقيين.
وإذا التفتنا إلى جانب الرجال نراهم في إنكلترا يأخذون إخذ الذين سبقوهم
بهذه المدنية الفاسقة في فرنسا، فأكثر الشبان يرغبون عن الزواج بالمسافحة
والمخادنة، ولا يكاد أحدهم يتزوج حتى يناهز الأربعين سنة أو يجاوزها، ثم هو لا
يود أن يكون له ولد كثير وإنما يبتغي وليًّا يرث ماله ويحفظ اسم بيته إن كان من
أصحاب البيوتات ولا يكره أن يكون له ثانٍ يخلف الأول إذا هو درج فإن عُزِّر
بثالث احتمله وكره كرهًا شديدًا أن يزيد ولده عن عدد (الأقانيم الثلاثة) ويتفق مع
زوجه على الإجهاض إذا كانت ودودًا ولودًا.
ولا تحسبن هذا الصياح والعويل من ساسة فرنسا وبعض كُتَّابها في الشكوى
من قلة النسل عامة في الأمة بل الأكثرون يرون ذلك شرطًا في سعادة الأمم كما
يرونه شرطًا في سعادة البيوت فإن الأمة التي يتضاعف سكانها في مدة قريبة لا
تلبث أن تضيق بها بلادها وتضطر إلى المهاجرة إلى بلاد دونها لتعمرها وتغالب
أهلها عليها وفي ذلك من الشقاء استبدال الدار الخربة بالدار العامرة. ويقولون: إن
الدولة لا تشكو من قلة النسل حبًا في الأُمة ولكن طمعًا في مباراة الدول المستعمرة،
فالسبب في ذلك طمع المُلْك الذي لا يكتفون ببذل رفاهة الأمة في سبيله وإنما يبذلون
أيضا أموالها ودماءها. لهذا يعسر على مثل فرنسا أن تعالج هذا الداء الاجتماعي
القاتل مادامت على هذه الطريقة في التربية والتعليم وفساد العقيدة وحرية الفسق
والفجور.
بقي علينا أن نلتفت لفتة ثالثة إلى البيوت لننظر كيف يعيش الزوجان اللذان
نظرناهما منفردين أو وصفناهما من حالهما منفصلين. يتوهم المفتونون بمدنية أوربا
أن السعادة المنزلية ونعيم المعيشة الزوجية، يوجدان في الغرب حيث توجد العلوم
العالية والتربية المشتركة بين الصنفين. ويتوهم أكثر الذين قرأوا ذلك الوصف البليغ
المؤثر للحياة الزوجية السعيدة في كتاب (تحرير المرأة) أنه وصف منتزع من
البيوت الأوربية، فمنهم من يتمنى مثله بتربية مثل تلك التربية وتعليم مثل ذلك
التعليم، ولا مانع لنا منه كما يقول الكتاب. ومنهم من يرى أن المسلمين محجوبون
عن تلك السعادة بحجاب النساء وأنه لا سبيل إليها فما لنا إلا أن نسأل الله أن يعوضنا
عنها في الآخرة ما هو خير منها.
الحق الذي لا مِرْية فيه أن هناء المعيشة الزوجية لا يتحقق إلا بتحقيق أمور:
(أحدها) إذعان المرأة بأن الرجل هو سيد المنزل ورئيسه وأنها هي تابعة
ومرءوسه له. ولا تذعن في نفسها هذا الإذعان إلا إذا تربت عليه واعتقدته دينًا.
(ثانيها) ثقة الزوجين بالاختصاص بأن يعتقد الرجل أنه لا يشاركه أحد في
زوجه وتعتقد المرأة أن زوجها لا يختلف إلى غيرها من خدن أو بغيّ. وهذان
الأمران متحققان في الشرق بالدين أكثر من تحققهما في الغرب. ولا أستثني من
الشرق مصر التي هي أفسق بلاد الشرق وأكثرها فسادًا في البيوت (العائلات) .
(ثالثها) المشاكلة في الطباع والمقاربة في السجايا والأفكار. وهذا الامر
ظاهر في الغربيين وهو في الشرقيين كذلك في الغالب. ومن غير الغالب بعض
المتعلمين من المصريين فإنهم لا يجدون في النساء من يقاربهم في أفكارهم. وهم
الذين يشكون من حال النساء ويطلبون تغييرها بتربية وتعليم جديدين وإن لرغبتهم
تأثيرًا كبيرًا في الأمة؛ لأنها موافقة لرغبة الحكومة وسعيها. والعمل على هذا وإن
أنكره بالقول الأكثرون.
نعم يجب أن يكون النساء على مقربة من الرجال في الأفكار والأخلاق
والمقاصد والرغبات، فالبلاد التي انتشر فيها تعليم البنين ينبغي أن ينتشر فيها تعليم
البنات حتى لا تتسع مسافة الخُلف بين الصنفين ولما في التربية والتعليم من الفوائد
الكثيرة، ولكن يجب علينا أن لا نتبع خطوات الأوربيين قدمًا بقدم وأن لا نحتذي
شاكلتهم حذو القذة للقذة بل علينا أن نتوقى من أول السير كل ما رأيناه سيئ العاقبة
فيهم وذلك يرجع إلى أصول أهمها تربية الأنثى تربية استقلالية تامة وتعليمها كل ما
يتعلمه الذكور، فهذان الأمران ينافيان إذعانها لسيادة الرجل باطنًا وظاهرًا ويبغضان
إليها ملازمة البيوت وهي وظيفتها الطبيعية الشرعية التي ليس لها تركها إلا لسبب
مُقْتَضٍ كما أنهما يعرّضانها لتدنيس عِرْضها وإهانة شرفها الذي لا تسمو عند الرجل
ولا تملك قلبه إلا به.
وحسبي أن أقول في التربية النافعة للنساء: يجب أن تكون إسلامية وأن أقول
في تعليمهن الأول: إنه كتعليم الرجال أي ينبغي أن يعرفن مبادئ العلوم المدرسية
كلها، وأما ما وراء هذا فيجب أن لا يتوسعن إلا فيما يلزم للبيوت من تدبير ونظام
وتربية أطفال. ومن ذلك صنائع اليد والخياطة.
فعُلِمَ مما تقدم أنه يجب علينا التروّي في تربية البنات وتعليمهن وأن لا نقلد
فيهما الغربيين تقليدًا أعمى لا سيما فيما يَحْظره علينا ديننا فقد تبين بسير العلم
والتجربة في أوربا عدة قرون أن كل ما خالفوا فيه الإسلام كان ضارًّا فقد رجعوا
إلى الطلاق الذي كانوا يعدّونه من أضرّ الأمور في الاجتماع البشري فصاروا
يعدونه مِثْلنا من ضروراته وقد بدأوا يشعرون بأن تعدد الزوجات من ضرورات
الاجتماع أيضا ووجد من نسائهم داعيات إليه لا سيما في بلاد الإنكليز حيث يزيد
عدد النساء على الرجال ضِعْفين فيكثر الزنا ويكثر عدد النساء اللواتي لا عائل لهن
كما بيّناه في مقالة مستقلّة بالنقول والشواهد عن جرائد إنكلترا (راجع 481 م4)
ولنا أن نعتبر أن تأييد سير العمران وحوادث الزمان لأحكام الاجتماع في الإسلام
من جملة الدلائل والبراهين على صحة أصله وكونه وحيًا من الله تعالى لا وضعًا
من حكماء البشر كما يتوهم الملحدون. وقد طال بنا الكلام، والمسألة تحتاج زيادة
في البسط نُرْجئه إلى فرصة أخرى.
__________(5/881)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إحياء الإسلام لمدينة اليونان والرومان والمصريين
ذكرنا في آخر الجزء الماضي أن المقتطف الأغرّ قرَّظ كتاب (الإسلام
والنصرانية مع العلم والمدنية) وانتقد في تقريظه التمثيل الذي أوردناه في مقدمة
الكتاب مُوردًا انتقاده في صورة سؤال يستحب أن يسمع جوابه إن كان عندنا جواب،
وها نحن أولاء نوافيه بما يجب بعد إيراد السؤال أو الانتقاد. قال الكاتب الفاضل
بعد ذكر اسم الكتاب ونسبته إلى من نسب إليه: (وهو مقالات نشرت في مجلة
المنار الإسلامي، ثم جمعت على حدة في كتاب. قال حضرة الأستاذ الفاضل السيد
رشيد رضا صاحب مجلة المنار في تمهيد وضعه لها ما نصه:
(ينبوع تفجر في أرض وفاض ماؤه على غيرها فأحيا الأرض بعد موتها
ولكن القائمين على حراسته وتعاهده وضعوا فوقه أنقاضًا من خرائب جيرانهم
فَغِيضَ الماء وما بقي منه صار مستنقعات تُحتوى، ولم يلبث بعدما غاض أن فاض
منه شيء في مواضع أخرى فانتفع أهلها به وحافظوا عليه ولكن الأكثرين منهم لا
يعرفون مِنْ أين جاءهم كما أن أكثر أهل الينبوع المنتسبين إليه لا يعرفون أن ذلك
الماء الذي تفجر من تلك المواضع فأنشأ أهلها به حدائق ذات بهجة وهو من ماء
ينبوعهم وأنهم لو أزالوا عنه تلك الأنقاض لفاض ورجع إليهم به خصبهم ونماؤهم
كأحسن ما كان؛ لأنهم تعلموا من غيرهم كيف يُسْتَخْدَمُ الماء للإحياء. ذلك مثل
المسلمين اليوم مع الأمم الغربية الحية الراقية، أخذ الغربيون من الإسلام كل أصول
الإصلاح الذي هم فيه) .
(ثم قال الكاتب بعد نقل هذه الجملة ما نصّه) : (ويا حبذا لو بيّن لنا
حضرة الأستاذ الفاضل من أين أتى الماء الذي أحيا مدنية اليونان والرومان
فأنشؤوا به الحدائق والجنات والماء الذي أحيا مدنية المصريين الأقدمين
فبقيت آثارهم الصناعية إلى الآن لم يقوَ ملوك العرب على محوها مع ما بذلوا في
ذلك من العناء وآثارهم الأدبية مرسومة في صفائح الصخور تُعلّم أسمى الفضائل
وأفضل الآداب) .
* * *
(جواب المنار)
كنا بالأمس أو بالأُمُوس نردّ شبهات بعض المتطفلين على موائد العلم
والمتهجمين على الطعن في الإسلام بغير فهم، ونحن اليوم إنما نذاكر عالمًا غزير
المادة واسع الاطلاع، ونناظر أديبًا ذكي الفؤاد، دقيق الانتقاد إلا أن قلمه عثر في
هذا الميدان وقد يكبو الجواد.
من حسنات المقتطف أنه ينتقد الكتب التي يقرظها ولا يتبع سنن الجرائد في
مدح كل ما يهدى إليه من كل وجه وإن كان مذمومًا من وجوه كثيرة، وانتقاد الكتب
التي تنشر بين الناس أمر نافع ولكنه وعر المسلك؛ لأن وقت كتاب المجلات
والجرائد قصير يضيق عن قراءة كل ما يهدى إليهم من المطبوعات لانتقاده، ولأن
أصحاب تلك المطبوعات من المؤلفين أو الناشرين يألمون من الانتقاد وإن كان حقًّا
ومقنعًا، وبعض الانتقاد يؤلم الجماهير من الناس إذا كانوا على خلاف رأي المنتقد،
فالتصدي للانتقاد مع هذه الوعورة في طريقه يُعدّ فضيلة توجب الثناء والشكر
على من يعرف فوائد الانتقاد في تجلي الحقائق وتحري الصواب وتنقيح العلوم
والفنون، ولقد قلت من قبل قولاً في ذلك كشف به عما في نفسي وهو: سواء
عندي مَنْ مدح قولي ومن انتقده؛ لأنني في حاجة إلى معرفة ما يستحسن منه وما
يستقبح على سواء بل ربما كنت أَحْوَج إلى معرفة موضع النقد، مني إلى معرفة
موضع الحمد؛ لأن هذا أبعث على إصلاح العمل، وأهدى إلى توقي الزلل.
أما عثرة المقتطف فهي ظاهرة لأول وهلة في تحويل التمثيل عن موضعه
فإنه صريح في كون الكلام في (المسلمين أو مع الأمم الغربية الحية الراقية) لا مع
المصريين الأولين، ولا مع اليونانيين والرومانيين، وصريح في كون الأمم الحية
أخذت من ينبوع الإسلام كل أصول الإصلاح الذي هم فيه، وهذه المسألة المجملة
في مقدمة الكتاب مفصلة بعض التفصيل في الكتاب نفسه؛ ولذلك لم يطلب المنتقد
بيانها؛ لأنه طلب تحصيل الحاصل، أما مدنية المصريين واليونان والرومان فالناقد
يعلم أنها قد ماتت قبل ظهور الإسلام وإن بقي لها آثار تدل عليها ويعلم أن الإسلام
أحياها بعد موتها فأنشأ أهله - لا أهلها - بها حدائق العلم والعمل في بغداد ومصر
وقرطبة أو في الشرق والغرب والوسط، ومن هذه البلاد انتقل العلم والمدنية إلى
الأمم الغربية الحية بلا نزاع.
ولم يكن الكلام في ذلك التمثيل في المدنية الصناعية وإنما كان في الإصلاح
البشري أي الإصلاح الذي ارتقت به عقول البشر وتهذبت نفوسهم وتوثقت روابطهم
الاجتماعية وعرف بعضهم لبعض حق الإنسانية، فإذا كانت تلك الأمم التي سبقت
الإسلام بالمدنية الصناعية وبنى أهلها أهرامًا لم يَبْنِ مثلها المسلمون، فالإسلام قد أفاد
البشر ما لم تفده تلك الصناعة أفادهم ارتقاء في العقول، علّمهم أن تلك الأهرام وما
يشابهها قد بُنِيَتْ باستعباد البشر وأَسْر أرواحهم وأشباحهم وتسخير الملايين منهم
لخدمة شهوة ملك من الملوك الظالمين أو لخدمة وساوسه الدينية.
علمهم أن تلك المدنية كانت تسخر بعلمها المحصور في طبقة مخصوصة
أبصار الأُمة وتخيل للناس ما ليس له حقيقة فتسترهبهم وتحملهم على الخضوع
الأعمى لأولئك الرؤساء الضالين المضلين، الغارّين المغرورين.
علمهم كيف يحكمون على اليونانيين بفساد الفكر في الخضوع لآلهة لا وجود
لها إلا في الخيال وتحكم تلك الأوهام في مدنيتهم وحربهم وصناعتهم فهيكل
جوبيتيير الذي يدهش الناظرين بديع صناعته هو آية على أن تلك المدنية الصناعية
كانت مقترنة بضلال العقل وفساد الفكر في المسائل التي يمتاز بها البشر على
النحل والنمل والعنكبوت وهي حشرات أتقنت أعمالاً من الصناعة كانت فيها من
أساتذة الإنسان كما يقول بعض العلماء.
علمهم كيف يحكمون على شرائع تلك الأمم وقوانينها بالظلم وهَضْم حقوق
الإنسان بما يفضلون شعوبهم على سائر الشعوب في الحقوق فإنه لم توجد شريعة
وَضْعية ولا سماوية معروفة قبل الإسلام تساوي بين أهلها وبين جميع من يقبل
حكمها من المخالفين وإن كانوا قومًا مُعادِين {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8) وهذه الآية من سورة المائدة التي هي آخر القرآن نزولاً ومعناها لا تحملَنَّكم معاداة قوم على ترك معاملتهم بالعدل فإن العدل واجب مع الولي والعدو؛
لأنه من تقوى الله الخبير بالأعمال والمجازي عليها، والمصريون كانوا يستحلّون
ظلم غير المصري بل يُعبّدونه تعبيدًا لمَلِكهم كما فعلوا بالإسرائيليين، وكذلك
اليونان والرومان وهذا تاريخ اليهود شاهد بأن الرومان قد ظلموا الإسرائيليين ظلمًا
يضاهي ظلم المصريين لهم، فأين هؤلاء وأولئك من معاملة الإسلام لليهود، تقدمت
الذكرى في الجزء الماضي بمساواة عمر بين علي بن أبي طالب (وما أدراك مَنْ
هو) ورجل من آحاد اليهود، وعندنا ما هو أعظم من ذلك وأشرف:
روى الطبراني وابن حبان والحاكم والبَيْهَقِيّ وغيرهم (عن زيد بن سَعْنَة
وكان من أحبار اليهود أنه ابتاع من النبي صلى الله عليه وسلم تمرًا إلى أجَل
وأعطاه الثمن، فلما كان قبْل الأجل بيومين أو ثلاثة أتاه يطالبه بالتمر (قال) :
فأخذْتُ بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت: ألا تقضيني يا
محمد حقّي فوالله إنكم يا بني عبد المطلب مُطْلٌ. فقال عمر: أي عدو الله , أتقول
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، فوالله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي
رأسك. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليّ في سكون وتُؤدة وتبسم ثم قال:
أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك- يا عمر - أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره
بحسن التقاضي اذهب به فاقضه وزده عشرين صاعًا مكان ما رُعته) ففعل ثم أسلم
هذا الحبر الجليل وقال بعد ذلك: إنه فعل ليختبر أخلاق النبوة وعلاماتها فلما رآها
كملت فيه عليه السلام آمن به.
وجملة القول أن الإسلام علم البشر أصول السعادة الحقيقية التي لم تكن
معروفة عند المصريين ولا اليونان ولا الرومان أهمها:
(1) صقل العقول بصقال التوحيد الخالص وتطهيرها من صدأ الخرافات
والأوهام ليكون الفكر مستقلاًّ فيما يعتقد يرفض التقليد ويعتمد على البرهان.
(2) بيان أن للكون سننًا ونواميس ثابتة ينبغي أن يهتدي بها الإنسان في
سيره العلمي والعملي.
(3) توسيع دائرة الجنسية بجعل شريعته تساوي بين جميع الأمم والملل إذا
قبلوا حكمها، وقد كانت جنسية المصريين مصر واليونانيين أثينا والرومانيين
رومية.
(4) القصد في المعيشة فقد أسرف القوم في الشهوات إسرافًا صاروا بها
شرًّا من البهائم.
ولو شئت أن أسرد محاسن الإسلام وأعدد مساوئ تلك المدنيات القديمة
لخرجت من جواب سؤال إلى تأليف أسفار كبيرة، وقد نشرنا في الجزء الماضي
نبذة معربة من كتاب أميل القرن التاسع عشر في انتقاد آداب اليونان والرومان
وفيها عبرة لمن اعتبر.
فإن قيل: إن النصرانية قد سبقت الإسلام إلى إخراج اليونان والرومان من
ظلمة الوثنية أقول أولاً: إن النصرانية لم تنتشر في تينك الأمتين إلا بعدما داخلتها
هي الوثنية ولكنها قربتهم من التوحيد؛ لأنها نقلتهم من عبادة مخلوقات كثيرة إلى
عبادة مخلوق واحد على أن فيه معنى من الألوهية مركبًا من ثلاثة أقانيم، وثانيًا أن
النصرانية لم تجتمع مع مدنية الأمتين وإنما أجهزت عليها حتى محت تلك العلوم
قبل أن تبلغ كمالها، وطمست تلك الأعمال الصناعية وشوهت جمالها، وما زالت
في تدل وانحلال، حتى جاء الإسلام فانتشلها من براثن الاضمحلال، ذكر
المؤرخون أن المسيحية تمكنت في أثينا أثناء القرن الخامس، وفي أول القرن
السادس قطع يوستنيانوس أجرة المعلمين العموميين في أثينا ومنع تعليم الفلسفة؛
لأن المدارس كانت مضرة بالنصرانية، ومن ذلك الوقت أخذت أثينا بالانحطاط.
ونختم القول بنتف من التاريخ في مساوئ وخرافات اليونان والرومان الذين
يباري المقتطف بهم الإسلام، قال في برهان البيان: (بينما كان الرومانيون
محتفلين بعمل موسم تشريف لروح قيصر؛ إذ ظهرت نجمة ذات ذنب طويل
ومكثت سبعة أيام فظنت الأمة الرومانية أن روح قيصر صعدت إلى السماء
وتصورت بهذه الصورة وانتظمت في سلك العالم العلوي) ! !
فلولا وجد من الرومانيين من يقول كما قال النبي الأمي عليه الصلاة والسلام
لقومه عندما كسفت الشمس يوم مات ولده إبراهيم وظنوا أنها كسفت لموته: (إن
الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته) .
وجاء في ذلك التاريخ أيضًا: كان من ثوابت عادات اليونان وأهل آسيا بناء
هياكل للملوك، بل ولكبار الحكام ليكون ذلك أقوى في الدلالة على الانقياد والعبودية،
وأما الرومانيون فكانوا يعبدون أسلافهم في معابدهم الخاصة فقط: ثم ذُكر أنه من
عهد رومولوس إلى عهد قيصر لم ينتظم أحد في سلك الآلهة التي لها هياكل ومعالم
عامة.
ومن ظلمهم أن طيباريوس اتخذ القانون القاضي بعقوبة كل من يُهْدي إلى
الأمة الرومانية آلة للانتقام كما يشتهي، وكانت الأمة استعدت لذلك من زمن
أغسطس الذي سلب الأمة حق التشريع والحكم في الجنايات فتفاقم الشر واستشرى
الفساد في عهد طيباريوس الذي سلب الأمة حق الانتخاب أيضًا؛ لأنه كان يعاقب
كل من يتهم بقول أو عمل إشارة تعد انتقادًا على الأمة، وكل الأمة كانت عيوبًا ولا
بد للناس من التبرم من الشر الواقع بالقول والفعل أو الإشارة، بل كانوا يحاسبون
الناس على خواطرهم ويعاقبونهم ولم يكن القضاة يتوقفون في الحكم على المتهم
بأدنى الشبه. وكانوا يعاقبون على أمور لا تخطر في بال أحد من أهل الممالك
المستبدة التي فيها ما يشبه تلك المظالم إلى اليوم، من ذلك أن طيباريوس آخذ رجلاً
باع بيته وكان فيه صورة الإمبراطور، وأن دومنيانوس حكم بالقتل على امرأة علم
أنها نزعت ثيابها أمام صورته! ! فهل كانت تلك المدنية محتاجة في إصلاحها إلى
ينبوع العدالة الإسلامية التي يستوي فيها الخليفة مع أدنى السُّوقة من غير المسلمين
في الحقوق؟ نعم، إنها كانت في أشد الحاجة إليه؛ ولذلك انتشر نور الإسلام بسرعة
البرق.
وقال صاحب برهان البيان: ولما كان الرومانيون متعودين على التلاعب
بالطبيعة البشرية في أولادهم وأرقائهم كما يعلم ذلك بالوقوف على قوانين الرومانيين
المتعلقة بحكم الآباء والأمهات على أولادهم كان لا يمكنهم غالبًا معرفة ما نسميه
إنسانية وهي فضيلة الرفق.. .. وإذا كانت عادة الملة الجبر والقسوة في الحالة
الداخلية الملكية، فكيف ينتظر منها الرفق والعدالة الطبيعية، وكثيرًا ما يطلع
القارئ في تاريخ القياصرة على قتل أناس كثيرين لقصد مجرد ضبط أموالهم للدولة،
ثم قال: ومن نظر في مرآة تاريخ الرومانيين رأى فيها صور الأشياء البشرية
فيجد في هذا التاريخ كثيرًا من الحروب الواقعة والدماء المسفوكة والأمم المدمرة
والوقائع الجسيمة، والنصرات العظيمة، والتدابير الجمة، والحكمة البالغة،
والاحتراس والثبات والشجاعة. ويجد فيه أيضًا تصميم النية على التغلب على كل
شيء، وأنه حصل كما ينبغي واستمر وانتهى كذلك، وأنه لم يترتب عليه إلا إسعاد
خمسة رجال أو ستة من الأشرار:
نقول: فهل كانت مثل هذه المدنية محتاجة إلى ينبوع العدالة الإسلامية
لإصلاحها وإحياء النفوس التي أماتها الظلم والجبروت؟ نعم، كانت في أشد الحاجة
إلى هذا الإصلاح؛ ولذلك قبلت الإسلام بسهولة. ونسكت الآن عن الكلام في فساد
أخلاق الرومانيين وتهتكهم في الخلاعة والفسق وانغماسهم في الترف والملاذّ، وفساد
أخلاقهم الشخصية فقد أوغلوا في ذلك إيغالاً مدهشًا يثبت أن أرواحهم ماتت وكانت
محتاجة للإحياء. وهنا يخطر في بال القارئ أن النصرانية هي التي سبقت
لإصلاح نفوسهم وإحياء مدنيتهم التي أماتها الظلم والفسق، ونقول: إن النصرانية
مهدت بعض التمهيد للإسلام، ولكنها لم تكن محيية بل كانت مجهزة على تلك المدنية
كما أشرنا إلى ذلك في مسألة مدنية اليونان.
* * *
تأثير النصرانية في المدنية الرومانية
جاء في تاريخ القرون المتوسطة أن النصرانية لم تكد تنتشر وتقوى في بلاد
اليونان والرومان، ومنها بلاد مصر حتى رأى رؤساؤها وجوب هدم الهياكل وكسر
التماثيل ومحو الصور اليونانية والرومانية؛ لأنها آثار الوثنية فقاموا لهذا الواجب
حتى محوا آثار صناعة البناء والفنون الجميلة أو كادوا ولولا أن بعضهم رأى تحويل
بعض الهياكل إلى كنائس لما بقي لتلك الأمم أثر في الوجود. وقد أصدر تاودسيوس
أمرًا رسميًّا بهدم الهياكل وتكسير الصور سنة 390 للميلاد. ثم رأوا أن في علوم
تلك الأمم خطرًا على النصرانية فطفقوا يحرقونها في كل مكان فقد أحرقت مكتبة
الإسكندرية بأمر تاودسيوس سنة 390 للميلاد وأحرقت مكتبة أوكتوغونه في
القسطنطينية سنة 476 للميلاد، وحملت الحمية الدينية لاون اللوزرياني على
تحريق ما بقي من الكتب سنة 730، وكان في هيكل أبولون بلاتين بمدنية رومية
مكتبة فيها أنفس كتب الآداب من عهد أغسطوس فكانت غَيْرة البابا أغرغاوار وتقواه
عاملتين على إحراقها وحرمان الناس من تلك الوديعة التي جعلها العالم وارون في
حماية إله الشعر وكنفه. (على اعتقادهم) .
والأمر الذي لا خلاف فيه هو أن انحطاط الأمة الرومانية كان مقارنًا لانتشار
النصرانية فيها. فالوثنيون الرومانيون كانوا يقولون: إنها هي السبب في ذلك
الانحطاط والنصارى يقولون: إن ذلك كان لأسباب سابقة ولكن، لماذا أجهزوا على
تلك المدنية ولم يصلحوها وينقوها من أَوْضَارها بدلاً من محوها وطمس معالمها؟
وماذا أبقى النصارى للعرب؟ ما أبقوا لهم إلا نزرًا من الكتب أَحْيَوْها به.
أما تمهيد النصرانية للإسلام الذي أشرنا إليه فهو إضعاف تلك الوثنية
وإضعاف تلك الحمية الجاهلية، وذلك السرف في الترف بالغلوّ في الزهادة
والانقطاع إلى العبادة، ثم إضعاف الأمة بالخلاف في الدين والتنازع بين دولة
القياصرة ودولة الرهبان والأساقفة وانتصار هؤلاء وتحكمهم بخرافاتهم في الأمة،
فالذي مكّن المسلمين من الإغارة على صقلية والاستيلاء على سيراقوسة هو إلزام
القسيسين القيصر باسيله الأول المقدوني بأن يشغل الجيش ببناء كنيسة القديس
ميخائيل وكذلك ألزموا خلَفه القيصر ليون بأن يشغل عسكر الأسطول بمثل ذلك
فتيسر بذلك للمسلمين الاستيلاء على جزيرة لمنوس.
وأما خلافهم في عبادة الصور وما نشأ عنه من التنازع والفشل فحدّثْ عنه ولا
حرج فثبت بذلك أن النصرانية قد زادت اليونان والرومان جهلاً ووهنًا فكانوا بذلك
في أشد الحاجة إلى ذلك الينبوع الذي فاض في أرض العرب، وتفجر ماؤه على
غيرها فأحيا البلاد والعباد. كما هو شأن الأنهار والينابيع تفيض من مكان وتحيي
ما تسير إليه. وصح تمثيلنا حتى على الوجه الذي صرفه إليه الدكتور الفاضل
محرر المقتطف الأغرّ. وهذا جواب سؤاله بالاختصار.
__________(5/889)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
لاحقة سجل جمعية أم القرى
يقول (السيد الفراتي) : إنه بعد تفرق الجمعية بنحو شهرين ورَدَ إليّ من
الصاحب الهندي كتاب يذكر فيه أنه بعد مفارقته مكة المكرمة اجتمع بأمير جليل
فاضل من أعاظم نبلاء الأمة ورجال السياسة. فاستطلع رأي الأمير في شأن
النهضة الإسلامية، وبعد أن دار بينهما حديث طويل تحقق من خلاله سمو فكر
الأمير والتهاب غيرته، ذكر له اطلاعه على سجل جمعية أم القرى وأشياء من
مذاكراتها ومقرراتها فأظهر الأمير سروره من الخبر وشديد شوقه للاطلاع على
السجل الذي ذكره له فعندئذ وعده إعارته نسخة من السجل، ثم أرسلها إليه
وبعد أيام تلاقيا فدارت بينها المحاورة الآتية:
قال الأمير: أشكر لك أيها الصاحب هذه الهدية العزيزة ويا لذة ليلة أَحْييتُها
في مطالعة تلك المذاكرات الغنية التي لم أتمالك أن أتركها تلك الليلة حتى أتيت على
آخرها ثم في الأيام التالية أعدت النظر فيها بالتدقيق.
قال الصاحب: يظهر من عبارة مولاي الأمير استحسانه كيفية تشكل الجمعية
وامتنانه من مجرى مذاكراتها.
قال الأمير: كيف لا أعجب بذلك ولطالما كنت أتمنى انعقاد جمعية يتضافر
أعضاؤها على مثل هذا المقصد، وتكون فيهم المزية التي ظهرت على رجال هذه
الجمعية. الذين حَلُّوا المشكلة حلاًّ سياسيًّا ودينيًّا معًا، وكنت أستبعد وجود أكفاء
كهؤلاء، وأعظم إعجابي هو في هذا الرجل الملقب بالسيد الفراتي، كيف اهتدى
في رحلة قصيرة مع إقامته أيامًا قلائل في مكة لانتخاب هؤلاء الأعضاء الأجلاء.
قال الصاحب: لا بد أن يكون هذا الرجل مخلصًا في قصده فأعانه الله عليه
كما ورد في الخبر: إذا أراد الله أمرًا هيّأ أسبابه: فلعل في الأقدار شيئًا آن أوانه.
قال الأمير: نعم للأقدار دلائل، ولنعم البشائر.
قال الصاحب: أود أن أستفيد من مولاي الأمير وجوه إعجابه بهذه الجمعية
ومذاكراتها لأصحح رأيي في بعض انتقادات تختلج في فكري القاصر، فإن أذن لي
أعرضها عليه مسألة مسألة.
قال الأمير: قل، ولعلي أقف على ما لم أنتبه إليه.
قال الصاحب: يظهر أن أعضاء الجمعية ليس بينهم بعض من السياسيين
المحنكين، فلو وجد ربما كانت تأتي المقررات أشد إحكامًا.
قال الأمير: لا أظن في الأمراء والوزراء المسلمين المعاصرين من هم أعلى
كعبًا في السياسة من بعض هؤلاء الأعضاء الذين تشفّ آراؤهم عن سعة اطلاع
وسمو فكر وبُعد نظر مع ملاحظات السياسة الدينية والحالة العلمية والتدقيقات
الأخلاقية.
قال الصاحب: أرى أن الجمعية أعطت لمباحث السياسة الدينية الموقع الأول
وقد أصابت، على أن السياسة الإدارية أيضًا جديرة بالاهتمام فتُركت بدون تدبير
كاف.
قال الأمير: لا شك أن السياسة الإدارية مهمة أيضًا، وقد ابتدأت الجمعية بها
ولكن رأت أفضل وسيلة لحصول المطلوب هي رفع علة الفتور إذ أنتجت مباحثاتها
أن علة الفتور هي الخلل الديني فحولت اهتمامها لجهة العلة حتى إذا زالت العلة
زال المعلول، ومع ذلك لم يترك السيد الفراتي في فصل الأسباب الإدارية شيئًا من
أمهات أصول الإدارة إلا وأشار إليه بما يغني عن تفصيله.
قال الصاحب: أليس بعض الأعضاء كالعالم النجدي والمجتهد التبريزي قد
أسهب كثيرًا بما كان بعضه يكفي عن باقيه.
قال الأمير: إن مسألتَيْ التوحيد والاستهداء ركنان مهمان في الدين، وقد
تطرق إليهما الخلل منذ قرون كثيرة فصار إصلاحهما وردهما إلى أصلهما من
أصعب الأمور، وفي مثل ذلك لا بد من الإسهاب في البحث والتعميق فيه أَوَلاَ يرى
ولله المثل الأعلى كيف جاء القرآن الكريم بألف أسلوب في تأييد التنزيه والتوحيد
والحث على اتباع الكتاب والنبي دون التقليد.
قال الصاحب: إني أرى أيضًا بعض مكررات في المذاكرات خلافًا لما قاله
السيد الفراتي أي أنه لو اهتم ذو غَيْرة في اختصارها يكون حسنًا.
قال الأمير: إني لا أوافقك على هذا أيضًا؛ لأنك إذا دققت النظر لا تجد
مكررات وإنما هي آراء فلا بد أن يعاد فيها بعض ما سبق، وعلى كل حال هذا
سجلّ قد ضُبط فيه ما وقع فلا يجوز اختصاره والتصرف فيه وإني أرى من أكبر
محاسن هذه المذاكرات أن جاءت مباحثها متسلسلة مترقية، فكل موضوع فيها يتلوه
ما هو أهم منه فلا يملّ منها سامع ولا مُطالع.
قال الصاحب: ما هو رأي مولانا الأمير في القانون الموضوع؛ لأجل تشكيل
جمعية تعليم الموحدين هل هو قانون محكم الترتيب، وهل هو قابل الإجراء
والتطبيق على الأحوال الحاضرة والمنتظرة.
قال الأمير: القانون هو أهم ما أثمرته الجمعية وقابل الإجراء مع الصعوبة.
قال الصاحب: لا أدري هل أصابت الجمعية أم أخطأت في تعليق أكبر أملها
في إعزاز الدين بالعرب دون دولة آل عثمان وملوكها العظام.
قال الأمير: لا يفوتك أن مطمح نظر الجمعية منحصر في النهضة الدينية فقط
وتؤمل أن يأتي الانتظام السياسي تبعًا للدين ولا شك أن لا يقوم بالهدي الديني ويغار
على الدين أمة مثل العرب.
قال الصاحب: أليس دولةٌ راسخة الملك إدارة وعسكرية وسياسة وافرة القوى
مالاً وعُدّة ورجالاً تكون أقدر على تمحيص الدين وإعزازه من العرب الضعفاء من
كل وجه. وإذ قد ألفت الأمة سماع لقب خدمة الحرمين قديمًا ولقب الخلافة أخيرًا
في حضرة السلطان العثماني فلا تستنكف عن الإذعان الديني له بسهولة.
قال الأمير: إن حضرة السلطان المعظم يصلح أن يكون عضدًا عظيمًا في
الأمر، أما إذا أراد أن يكون هو القائم به فلا يتم قطعًا؛ لأن الدين شيء، والملك
شيء آخر، والسلطان غير الدولة.
قال الصاحب: ما فهمت المراد من أن الدين غير الملك، وأن السلطان غير
الدولة، فهل يتفضل مولاي الأمير بإيضاح ذلك؟
قال الأمير: أريد أن احترام الشعائر الدينية في أكثر ملوك آل عثمان هي
ظواهر محضة، وليس من غرضهم بل ولا من شأنهم أن يقدموا الاهتمام بالدين
على مصلحة الملك وهذا مرادي بأن الدين غير الملك وعلى فرض إرادتهم تقديم
الدين على الملك لا يقدرون على ذلك ولا تساعدهم الظروف المحيطة بهم؛ لأن
دولتهم مؤلفة من لفيف أهل أديان ونِحل مختلفة كما أن الهيئة التي تتشكل منها الدولة
أعني الوزراء هم كذلك لفيف مختلفة الأديان والجنسيات وهذا مرادي بأن السلطان
غير الدولة. فخدمة الحرمين ولقب الخلافة ورسوخ الملك ووفرة القوى كلها لا
تكفي للمرجع في الدين نعم؛ إذا بذل آل عثمان العظام قوتهم في تعضيد وتأييد من
يقوم بذلك يأتون بفضل عظيم.
قال الصاحب: قد وجد في هذا البيت الكريم بعض أعاظم خدموا إعزار الدين
خدمًا كبيرة كالسلطان محمد الفاتح والسلطان ياوز سليم والسلطان سليمان والسلطان
محمود والسلطان الحالي المعظم فهم أولى وأجدر بالخلافة من غيرهم.
قال الأمير: أرجوك لا تنظر للمسألة بنظر العوام بل بنظر حكيم سياسي فأبعد
النظر ماضيًا ومستقبلاً وقلب صفحات التاريخ بدقة؛ تجد أن إدارة الدين وإدارة
المُلك لم تتحدا في الإسلام تمامًا إلا في عهد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز
فقط رضي الله عنهم واتحدتا نوعًا ما في الأمويين والعباسيين. ثم افترقت الخلافة
عن الملك، وأما سلاطين آل عثمان الفخام فإني أذكر لك أنموذجًا من أعمال لهم
أتوها رعاية للملك وإن كانت مصادمة للدين، فأقول: هذا السلطان محمد الفاتح
وهو أفضل آل عثمان قد قدم الملك على الدين فاتفق سرًا مع (فرديناند) ملك
(الأراغون) الإسبانيولي ثم مع زوجته (إيزابيلا) على تمكينهما من إزالة ملك
بني الأحمر آخر الدول العربية في الأندلس ورضي بالقتل العام والإكراه على
التنصر بالإحراق وضياع خمسة عشر مليونًا من المسلمين بإعانتهما بإشغاله أساطيل
أفريقية عن نجدة المسلمين وقد فعل ذلك في مقابلة ما قامت له به رومية من خذلان
الإمبراطورية الشرقية عند مهاجمته مكدونيا ثم القسطنطينية. وهذا السلطان سليم
غدر بآل العباس واستأصلهم حتى إنه قتل الأمهات؛ لأجل الأجنة، وبينما كان هو
يقتل العرب في الشرق كان الإسبانيول يحرقون بقيتهم في الأندلس. وهذا السلطان
سليم ضايق إيران حتى ألجأهم إلى إعلان الرفض. ثم لم يقبل العثمانيون تكليف
نادرشاه لرفع التفرقة بمجرد تصديق مذهب الإمام جعفر كما لم يقبلوا من أشرف
خان الأفغاني اقتسام فارس كي لا يجاورهم ملك سني. وقد سعَوْا في انقراض
خمس عشرة دولة وحكومة إسلامية ومنها أنهم أغروا وأعانوا الروس على التتار
المسلمين وهولانده على الجاوة والهنديين. وتعاقبوا على تدويخ اليمن فأهلكوا إلى
الآن عشرات ملايين من المسلمين يقتل بعضهم بعضًا لا يحترمون فيما بينهم دينًا
ولا أخوة ولا مروءة ولا إنسانية حتى إن العسكر العثماني باغت المسلمين مرة في
صنعاء وزبيد وهم في صلاة العيد.
وهذا السلطان محمود اقتبس عن الإفرنج كسوتهم وألزم رجال دولته وحاشيته
بلبسها حتى عمت أو كادت ولم يشأ الأتراك أن يغيروا منها الأكمام رعاية للدين؛
لأنها مانعة من الوضوء أو معسرة له وهذا السلطان عبد المجيد رأى من مؤيدات
إدارة ملكه إباحة الربا والخمور وإبطال الحدود. ورأى مصلحة في قهر الأشراف
وإذلال السادات بإلغاء نفوذ النقابات ففعل.
وفي هذا المقدار كفاية لإيضاح قاعدة أن مؤيدات الملك عند السلاطين مُقدَّم
على المحافظة على الدين. أما صفة خدمة الحرمين وأُلفة مَسَامع العثمانيين للقب
الخلافة فهذا كذلك لا يفيد الدين وأهله شيئًا وليس له ما يتوهم البعض من الإجلال
عند الأجانب.
ولو أن السطان المعظم أخذ على نفسه تأييد الدين بما أمدّه الله به من القوة
المادية بدون استناد إلى صبغة معنوية لتمكن من أن يخدم دينه وملكه حقًّا خدمًا مقبولة
عند الله مشكورة عند المؤمنين كافة ولَرُفِعَتْ له راية الحمد في شرق الأرض
وغربها واحترمه الأبيض والأحمر وعظمه المسلم والكافر. وأظن أنه قد قرب
اليوم الذي يتنبه فيه فيتروّى في الأمر فيعدل عن الاعتماد على غيرالماديات
ويضرب على فم بعض الغشاشين المتملقين الخائنين الذين ينسبون حضرته إلى ما لم
ينتسب هو إليه ويُشيعون عنه دعوى ما ادّعاها قَطّ أحد من أجداده العظام بوجه
رسمي.
وهؤلاء العثمانيون يُغْرُونَ حضرة السلطان بهذه الدعوى بما يُهْرِفُون به عليه
وبما يؤلفونه هم وأعوانهم من الكتب والرسائل التي يعزون بعضها لأنفسهم وبعضها
لغيرهم من المنافقين أو لأسماء يسمونها أو كتب يختلقونها فيجعلون تارة آل عثمان
العظام يتصلون نسبًا بعثمان بن عفان رضي الله عنه، وأخرى يرفعون نسبهم إلى
أعالي قريش ويعطونه حق الخلافة مرة بالتنازل والإدلاء من العباسيين وأخرى
بالاستحقاق والوراثة وآونة بالعهد وأخرى بالبيعة العامة، وحينًا بخدمة الحرمين
الشريفين ووقتًا بحفظ المخلفات النبوية. وكأن هؤلاء الغشاشين يريدون بهذه
الدسائس أن يجعلوا حضرة السلطان نظيرهم دعيّ نسب كاذب كدعواهم لأنفسهم
السيادة ومتسنِّم مقام موهوم كدَعْواهم الولاية والقُطْبانية في أنفسهم وآبائهم وأجدادهم
فيحشون في تلك المؤلفات أنسابًا انتحلوها لأنفسهم مقرونة بنسب السلطان
ويستطردون لحكايات كرامات لأجدادهم ملفقة مخترعة لا يعترف بها لهم أحد من
المسلمين يدسّونها بين حكايات وقائع الخلفاء والسلاطين.
ومن المعلوم عند أهل الوقوف أن التلقب بالخلافة أو الإمامة الكبرى أو إمارة
المؤمنين في أل عثمان العظام حدث في عهد المرحوم السلطان محمود؛ إذ صار
بعض وزرائه يخاطبونه بذلك أحيانًا تفننا في الإجلال وغلوًّا في التعظيم. ثم توسع
استعمال هذه الألقاب في عهد ابنَيْه وحفيديه إلى أن بلغ ما بلغه اليوم بسعي أولئك
الغشاشين الذين يدفعون ويقودون السطان الحاضر للتنازل عن حقوق راسخة
سلطانية؛ لأجل عنوان خلافة وهمية مقيدة في وضعها بشرائط ثقيلة لا تلائم أحوال
الملك ومعرضة بطبعها للقلقلة، والانتزاع والخطر العظيم، ولذلك لا يزال السلاطين
أنفسهم إلى الآن يأبون التلقب بالخلافة رسميًا في منشوارتهم ومسكوكاتهم وإنما
تمضغها أفواه البعض فيلوكها التركي تعظيمًا لقومه، والعربي نفاقًا لسلطانه
والمصري اتباعًا للمرائين، والهندي اعتزازًا بالوهم، والأجنبي هُزُؤًا ومكرًا
بخلاف سلطان مراكش وأمير عمان وإمام اليمن المتنازعين في هذا المقام رسما
المتقاطعين لأجله على أنهم قد شعروا أو كادوا يشعرون بضررهم السياسي في ذلك
ولا نعلم متى يخلق الله من يسعى في إقناعهم جميعًا بترك هذه الدعوى الداعية
للانفراد والتخاذل ويرتب بينهم قواعد محافظة الاستقلال السياسي ومراسم
التشريفات والمخاطبات وروابط التعاون والاتحاد بصفة سلاطين وأمراء كما آل
الأمر على عهد الخلفاء العباسيين مع السلاطين الخارزمية والدَّيْلم والأيوبيين
وغيرهم.
ثم قال الأمير: وقد حملتني إشارات السيد الفراتي في كلامه على
الجامعة الدينية تحت لواء الخلافة أن أفكر في القواعد الأساسية التي ينبغي أن
يبنى عليها ذلك فلاح لي ما قيدته في هذه المفكرة وأخرج من جيبه ورقة قرأها،
وعند ختام مجلسنا استنسختُها منه وهذه صورتها.
(1) إقامة خليفة عربي قريشي مستجمع للشرائط في مكة.
(2) يكون حكم الخليفة سياسة مقصورًا على الخطة ومربوطًا بشورى
خاصة حجازية.
(3) الخليفة ينيب عنه مَنْ يترأس هيئة شورى عامة إسلامية.
(4) تتشكل هيئة الشورى العامة من نحو مائة عضو منتخبين مندوبين من
قِبَل جميع السلطات والإمارات الإسلامية، وظائفها منحصرة في شؤون السياسة
العامة الدينية فقط.
(5) تجتمع الشورى العامة مدة شهر في كل سنة قبل موسم الحج.
(6) مركز الشورى العامة يكون مكة عندما يصادف الحج موسم الشتاء
والطائف في موسم الصيف.
(7) تقترع الشورى يوم افتتاح كل اجتماع على انتخاب نائب الرئيس
ويعينه الخليفة.
(8) تتعين وظائف الشورى العامة بقانون مخصوص تضعه هي، ويصدق
عليه من قِبل السلطان والإمارات.
(9) ترتبط بيعة الخليفة بشرائط مخصوصة ملائمة للشرع بناءً على أنه إذا
تعدى شرطًا منها ترتفع بيعته وفي كل ثلاث سنين يعاد تجديد البيعة.
(10) انتخاب الخليفة يكون منوطًا بهيئة الشورى العامة.
(11) الخليفة يُبلّغ قرارات الشورى ويراقب تنفيذها.
(12) الخليفة لا يتدخل في شيء من الشئون السياسية والإدارية في
السطلنات والإمارات مطلقًا.
(13) الخليفة يُصَدِّق على تولية السلاطين والأمراء التي تجري احترامًا
للشرع على حسب أصولهم القديمة في وراثاتهم للولاية.
(14) الخليفة لا يكون تحت أمره قوة عسكرية مطلقًا، ويذكر اسمه في
الخطبة قبل أسماء السلاطين ولا يذكر في المسكوكات.
(15) يُناط حفظ الأمن في الخطة الحجازية بقوة عسكرية تتألف من ألفين
إلى ثلاثة آلاف من جنود مختلطة ترسل من قبل جميع السلطنات والإمارات.
(16) تكون القيادة العامة للجنود الحجازية منوطة بقائد من قبل إحدى
الإمارات الصغيرة.
(17) يكون القائد تحت أمر هيئة الشورى مدة انعقادها.
(18) هيئة الشورى تكون تحت حماية الجنود المختلطة.
أما وظائف الشورى العامة فيقتضي أن لا تخرج عن تمحيص أمهات
المسائل الدينية التي لها تعلُّق مهم في سياسة الأُمة وتأثير قوي في أخلاقها ونشاطها.
وذلك مثل فتح باب النظر والاجتهاد تمحيصًا للشريعة وتيسيرًا للدين وسد أبواب
الحروب والغارات والاسترقاق اتباعًا لمقتضيات الحكمة الزمانية، وكفتح أبواب
حسن الطاعة للحكومات العادلة والاستفادة من إرشاداتها وإن كانت غير مسلمة وسد
أبواب الانقياد المطلق ولو لمثل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وكفتح باب أخذ
العلوم والفنون النافعة ولو عن المجوس، وسد باب إضاعة الأوقات بالعبث ونحو
ذلك من أمهات المنجيات والمهالك.
ثم قال الأمير: وبمثل هذا الترتيب تنحل مشكلة الخلافة ويستهل عقد اتحاد
إسلامي تضامني تعاوني يقتبس ترتيبه من قواعد اتحاد الألمانيين والأمريكانيين مع
الملاحظات الخاصة، وبذلك تأمن الحكومات الإسلامية الموجودة على حياتها
السياسية من الغوائل الداخلية والخارجية فتتفرغ للترقي في المعارف والعمران
والثروة والقوة بما لا بد منه للنجاة من الممات، وما أَجْدَرَ إمارات الجزيرة بالسبق
إلى مثل هذا االاتحاد.
قال الصاحب: يستشف من ظاهر فكر مولاي الأمير أنه لا يجوز الاتكال
على الملوك العثمانيين العظام في أمر الخلافة علاوة على السلطنة.
قال الأمير: إني أحب العثمانيين للطف شمائلهم وتعظيمهم الشعائر الدينية
ولكن النصيحة للدين تستلزم قول الحق، وعندي أن آل عثمان العظام أنفسهم إذا
تدبروا لا يجدون وسيلة لتجديد حياتهم السياسية أفضل من اجتماعهم مع غيرهم على
خليفة قرشي.
قال الصاحب: أخبَرَني أيها الأمير أحدُ أعضاء الجمعية العامة أنه لمَّا رأى
السيد الفراتي يميل للتنقيب عن سياسة العثمانيين واستمالة الجمعية عليهم لا لهم ذكر
له مرة ذلك متلوّمًا، وقال له: ألا ينبغي ستر أحوالهم والمدافعة عنهم؛ لأنهم أعظم
دولة إسلامية موجودة؟
فأجابه بأن ذلك لولا أن فيه تغرير المسلمين وتَرْكهم متكلين على دولة ما
توفَّقتْ لنفع الإسلامية بشيء في عنفوان شبابها بل أضرتها بمحو الخلافة العباسية
المُجمع عليها، وتخريب ما بناه العرب وإفناء الأمة بفتوحاتها شرقي أوربا
ومدافعاتها عنه وأنه لا يقصد بكشف الحقيقة وإظهارها غير إزالة الغرور والاتكال
المُسْتَولِيَيْنِ على جماهير المسلمين بسبب عدم التأمل. ثم قال له: أليس الترك قد
تركوا وفود الملتجئين يعودون خائبين، وتركوا المستنصرين بها عُرْضة للمنتقمين
وتركوا ثلثَيْ مُلكهم طُعْمَة للمتغلبين؟ أفما آن لهم أن يستيقظوا ويصبحوا من النادمين
على ما فرطوا في القرون الخالية فيتركوا الخلافة لأهلها والدين لحماته ويحتفظوا
هم على بقية سلطنتهم ويكتفوا بشرف خدمة نفس الحرمين، وبذلك يتقون الله في
الإسلام والمسلمين؟
وقال أيضًا: إنه غير متعصب للعرب وإنما يرى ما لا بد أن يراه كل حر
مدقق يتفحص الأمر من أن الغيرة على الدين والاستعداد لتجديد عز الإسلام
منحصران في أهل المعركة البدوية من العرب إذ يرى أن المشيئة الإلهية قد حفظتهم
من تلك الأمراض الأخلاقية التي لا دواء لها كفالج الحرية في الحواضر باعتقاد
أهلها أنهم خلقوا أنعامًا للأمراء، وكجذام التربية في المدن بوضعهم النساء في مقام
ربائط للاستمتاع، وكطاعون الحياة في بعض الأقوام بألفتهم اللواط المميت للأخلاق
الشريفة دفعة الذي جزى الله أهله بخسف الأرض بهم تطهيرًا لها منهم، وكوباء
النشاط في أهل الأراضي الخصبة حيث يسهل أن يغنوا فيبطروا فتفسد أخلاقهم
فيخسروا الدنيا والآخرة.
قال الأمير: نعم الرأي ونعم التدقيق.
قال الصاحب: إن ما ذكر مولاي من حصر صفة الخلافة في خليفة قرشي في
مكة ترتبط به جميع السلطنات والإمارات الإسلامية ارتباطًا دينيًّا، وما وصف من
تشكيل الشورى العامة المؤيدة لهذا الارتباط الديني لأمر عظيم جدًّا، والغالب أن
الدول المسيحية التي لها رعايا من المسلمين أو المجاورة للمسلمين تتحذر من أن
يجرّ جمع الكلمة الدينية إلى رابطة سياسية تولد حروبًا دينية فتعمد هذه الدول إلى
عمل الدسائس والوسائل لمنع حصول هذا الارتباط بالمرة فما هو التدبير الذي
يقتضي اتخاذه أمام تحذر الدول من ذلك.
قال الأمير: لا يفكر هذا الفكر غير الفاتكان وأحزابه الجزويت وأمثالهم أما
رجال السياسة في إنكلترا وروسيا وفرنسا وهي الدول العظام التي يهمها التفكر في
هذا الشأن فقد علمتهم التجارب النتائج الآتية وهي:
(1) أن المسلمين لا ينتصرون أبدًا لا سيما في زمان يبتعد فيه النصارى
عن نصرانيتهم.
(2) أن المسلمين المستنيرين أفرادًا وجموعًا أبعد عن الفتن من الجاهلين.
(3) أن العرب من المسلمين أقرب من غيرهم للألفة وحسن المعاملة
والثبات على العهد. فإذا أُرْشِد أولئك السياسيون لأن يضموا إلى معرفتهم هذه
علمهم أيضًا بالأحكام الإسلامية في مسألة الجهاد التي يتهيبونها علمًا يستخرجونه مما
عندهم من تراجم القرآن الكريم لا من مؤلفات متعصبي الفريقين، حيث يجدون
نحوًا من خمسين آية بأساليب شتى كلها تنهى عن الإلحاح في الهداية إلى الدين
فضلاً عن التشديد والإلزام بالقتال كقوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} (القصص: 56) {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) {لَسْتَ عَلَيْهِم
بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 22) ويجدون آيتين في التشديد إحداهما {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر: 94) والأخرى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (الحج: 78) ،
وبمراجعة أسباب نزول هاتين الآيتين يعلمون أنهما نزلتا في حق المشركين
والكتابيين من العرب، ولا يوجد في القرآن مُلْزِمٌ لاعتبار عمومية حكمها. وإذا
دققوا البحث يجدون أن ليس في علماء الإسلام مطلقًا من يحصر معنى الجهاد في
سبيل الله في مجرد محاربة غير المسلمين، بل كل عمل شاق نافع للدين والدنيا،
حتى الكسب لأجل العيال يسمى جهادًا. وبذلك يعلمون أن قِصَر معنى الجهاد على
الحروب كان مبنيًّا على إرادة الفتوحات والتوسل للتشجيع حين كان مجال للفتوحات،
كما أعطي اسم الجهاد مقابلة لاسم الحروب الصليبية التي أشعل نارها المسيحيون.
ثم بعطف نظرهم إلى التاريخ يجدون أن العرب منذ سبعة قرون لم يأتوا
حربًا باسم الجهاد، وما كانت تعديات أساطيل إمارات الغرب إلا من قبيل القرصان
الذي كان مألوفًا عند جميع إمارات الأرخبيليين الصقلي واليونان وكلهم نصارى. أما
غارات التتار على شمالي أوربا وغارات الترك على شرقها؛ فكذلك ليست من نوع
الجهاد ولا من الحروب الدينية وإنما هي من ملحقات غارات البرابرة الشماليين
على أوربا. ويجدون أنهم كما أغاروا على أوربا أغاروا على البلاد الإسلامية. ثم
أسلم التتار وحسنت أخلاقهم.
أما الترك فإذا دقق الأوربيون في سياستهم يجدونهم لا يقصدون بالاستناد
للدين غير التلاعب السياسي وقيادة الناس إلى سياستهم بسهولة وإرهاب أوربا باسم
الخلافة واسم الرأي العام. وعدم اشتراك البلاد العربية في المذابح الأرمينية
الأخيرة برهان كافٍ على أن الإسلامية بمعزل عن المجافاة؛ لأن العرب يفهمون
معنى القرآن الكريم فيدينون به، وقد يندهش الأوربيون إذا علموا أن السياسة
التركية لم يوافقها أن تترجم القرآن إلى اللغة التركية إلى الآن.
ولدى رجال السياسة دليل مهم آخر على أن أصل الإسلامية (لا يستلزم
الوحشة بين المسلمين وغيرهم بل يستلزم الألفة) ، وذلك أن العرب أينما حلّوا من
البلاد جذبوا أهلها بحسن القدوة والمثال لدينهم ولغتهم، كما أنهم لم ينفروا من الأمم
التي حلت بلادهم وحكمتهم فلم يهاجروا منها كعدن وتونس ومصر بخلاف الأتراك،
بل يعتبرون دخلوهم تحت سلطة غيرهم من حكم الله، لأنهم يذعنون لكلمة ربهم
تعالى شأنه {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140) (كذا) فإذا
علم السياسيون هذه الحقائق وتوابعها لا يحذرون من الخلافة العربية، بل يَرَوْن من
صوالحهم الخصوصية، وصوالح النصرانية، وصوالح الإنسانية، أن يؤيدوا قيام
الخلافة العربية. بصورة محددة السطوة، مربوطة بالشورى على النسق الذي قرأته
عليك.
ثم على فرض أن الدول - ولو المسلمة - أرادت عرقلة هذا الأمر فهي لا
تقوى عليه؛ لأن أفكار الأمم لا تقاوم ولا تصادم على أني لا أظن بمثل فرنسا أن
تنخدع لرأي أنصار الجزويت لا سيما بعد أن تعلمت من الإنكليز كيف تسوس
المسلمين فأبقت لتونس أميرها فاستراحت مما عانته قبلاً في الجزائر بسبب السياسة
التعصبية الخرقاء.
قال الصاحب: أستشف من كلام مولاي الأمير أن أمله ضعيف في تشكيل
جمعية تعليم الموحدين مع أنه معجب بإتقان التدبير.
قال الأمير: إن دون تشكيل الجمعية عوائق مالية شتى، وأرجو الله تعالى أن
يزيلها.
قال الصاحب: إنني أجاهد في الوقوف على خبر السيد الفراتي، ولعلي أظفر
بمعرفته فأجتمع به أو أكاتبه، فهل لمولاي الأمير رأي أو أمر أبلغه إياه إذا ظفرت
به.
قال الأمير: نعم إذا ظفرت بمعرفته فأقرئه مني السلام وبلّغه عني هذه الجمل
وهي أني على صدق عزيمته. وعلى حسن انتخابه رفقاءه وأوصيه بالثبات والإقدام
ولو طال المطال. وأن يحرص على إبقاء علاقته مع أعضاء جمعية أم القرى
باستمراره على مكاتبتهم. وأن لا يقنط من مساعدة القسطنطينة أو مصر أو مراكش
أو طهران أو كَابُل أو حائل أو عمان لا سيما بعد انعقاد جمعية تعليم الموحدين
ورسوخها.
قال الصاحب: إذا ظفرت به إن شاء الله بشره بتحية مولاي الأمير وأبلغته
كل ما أمر به.
(انتهت المحاورة)
***
يقول (السيد الفراتي) : قد ألحقت هذه المحاورة بسجل المذاكرات وكتبت بها
إلى باقي الإخوان تنويهًا بشأن حضرة الأمير المشار إليه وشكرًا على غيرته،
وتبصراته، وافتخارًا بحسن ظنه ونظره في هذا العاجز، وتبشيرًا لجنابه
وللمسلمين بأن جمعية أم القرى قد أحكم تصورها وتأسيسها، فهي بعناية الحي
القيوم الأبدي حية قائمة أبدًا.
***
(تَذْكِرة)
ربما يتأخر تشكيل جمعية تعليم الموحدين مدة، فالمأمول من الجمعيات
الإسلامية الموجودة في الهند وقازان والقرم ومصر وغيرها أن لا تأنف من تنوير
أفكارها بمباحث هذا السجلّ فتقتبس منه ما يناسبها، وتتخذ القانون والوظائف مثالاً
وذكرى.
***
(رجاء)
مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر وعنده شمّة حمية ومروّة؛ فلا يتجسس عن
جمعية أم القرى وأعضائها بقصد إيصال سوء إليها، ولْيعلمْ أن يده وإن طاولت
الأفلاك أقصر عن الإضرار بها؛ لأن الجمعية في أمان الإخلاص ولا يحيق المكر
السيئ إلا بأهله.
***
(تهوين)
ليعلم أُسَراء التقليد وورثة الأوهام ومعظمو العظام ومؤلهو الطَّغَام أن تألمهم
من صدمة بعض هذه المباحث لما ألفوه عمرهم؛ هو تألم مباغت لا يلبث أن يزول
متى خلوا بعقولهم وحكموا الحكمة والإنصاف وتأملوا حق الإيمان، وناطق القرآن،
وحينئذ ينجلي لهم الحق ويندمون كما ندم قبلهم الأولون، فيتوبون ويتوب الله عليهم
والله يهدي من يشاء.
***
(إعلان)
من أحب أن ينجد مقاصد جمعية أم القرى برأي فائق أو عمل مهم أو رغب
في تعضيدها بجاه أو مال وأراد مراسلة الجمعية أمكنه أن يُرَاسل وكالة الجمعية
بدون اسم، بل بإرسال كتاب مُعَنْون إلى مدينة.... . إلى صندوق البوستة عدد
.... . وإذا أراد التخفي يمكنه أن يكاتبها أولاً باسم له مختلق، ثم بعد أخذه الجواب الأول يستعمل الكتابة الجفرية الموضحة في الجدول المذيل به هذا السجل.
والذين يُرجى منهم تعضيد مهم كحضرات الأمراء العظام والأغنياء الكرام فلهم
أن يطلبوا رسولاً من قِبَل الجمعية ليوضح لهم ما يستوضحون...... (انتهى)
***
(المنار)
قد انتهى كتاب سجل جمعية أم القرى وما ألحق به، وقد كنا اتفقنا مع جامعه
السيد الفراتي (تغمده الله برحمته) على نشره في المنار بتصرف يختص بتصحيح
عبارته وحذف مساوئ الدولة العلية (أيدها الله تعالى) منه، ثم استحسن فضلاء
القراء عدم حذف شيء منه فللمطلعين على ما نشرناه من أول سنة المنار إلى الآن
أن يثقوا بأنهم اطلعوا على هذا السجل كله بعبارة أصح إلا جملة واحدة ذُكِرَ فيها
خديو مصر بأنه مرجو لمساعدة الجمعية وإلا جدول المخاطبة الرمزية.
__________(5/899)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة
أحوال الآخرة
(س1) علي أفندي مهيب بتفتيش التلغرافات بمصر: جاء في كتاب
الإحياء للإمام الغزالي في باب العقائد من الجزء الأول أنه لا يُقْبل إيمان العبد حتى
يؤمن بالأمور الآتية وهي:
(1) سؤال منكر ونكير.
(2) عذاب القبر.
(3) وزن الأعمال يوم الحساب. بميزان ذي كِفَّتين وصِنَج.
(4) صراط ممدود على متن جهنم أدق من الشعرة وأحد من السيف.
(5) حوض مورود لمحمد صلى الله عليه وسلم.
(6) شفاعة الأنبياء والعلماء والشهداء.
(7) فضيلة النبي عليه الصلاة والسلام على جميع الناس ومن بعده أبو بكر
ثم عمر ثم عثمان ثم علي. فهل كل ذلك صحيح ثابت الرواية عن النبي
صلى الله عليه وسلم كما يقول صاحب الإحياء؟ أفيدونا أثابكم الله، ونفعنا بعلمكم.
(ج) إنما ذكر الغزالي ما ذكره في أصول الاعتقاد على الوجه الذي عليه
الأشاعرة وأشار إلى الرد على مخالفيهم من المعتزلة وبعض أهل السنة الذين أولوا
ما ورد في بعض ذلك. والغزالي لا يقول بكفر أولئك المخالفين للأشاعرة بل صرح
في مواضع من كتبه (لا سيما كتاب إلجام العوام عن علم الكلام) بأن المؤمن إذا
عاش ومات ولم يعلم بتلك المسائل التي اختلف فيها المتكلمون من الأشاعرة
والمعتزلة وغيرهم لا يخل ذلك بإيمانه. ومن تلك المسائل الخلاف في صفات الله
تعالى، هل هي عين الذات أو غير الذات؟ والخلاف المعروف في كلام الله تعالى
إلخ.. فكيف يكفر أهل القبلة بعدم الإيمان بالمسائل التي ليست من أصول الدين
وعقائده. كالتفاضل بين الصحابة. فقوله إن لا يتقبل إيمان أحد حتى يؤمن بما
أخبر به (النبي) بعد الموت صحيح، فإن أركان الإيمان ثلاثة: الإيمان بالله
وصفاته، والإيمان بالنبوة، والإيمان بالآخرة.
وأحوال الآخرة تعرف بالسمع، فكل ما صح بالتواتر وجب الإيمان به قطعًا،
وكان إنكاره كفرًا بشرطه، ويؤخذ على ظاهره المفهوم من أسلوب اللغة إذا لم يكن
مُحالاً عقليًّا، فإن كان ظاهره مُحالاً، فاعتقاد المُحال غير مكلف به في الإسلام،
فلك أن تأول، ولك أن تفوّض. وإن كان ما ورد غير متواتر مجمع عليه معلوم من
الدين بالضرورة فلا يكفر منكره، ومن ثبت عنده الحديث وجب عليه الإيمان
بمضمونه، وله أن يأوله إذا كان ظاهره غير مقبول حتى ينطبق على وجه معقول.
وأما ما فَصَّله الغزالي بعد تلك الكلمة الصحيحة في إجمالها فلا يريد به أن هذا
التفصيل شرط في تقبل الإيمان، وإنما يريد أن هذا هو الراجح عند أهل مذهبه.
ولذلك أشار إلى توجيهه والرد على مخالفيه في ركن السمعيات في الفصل
الثالث لوامع الأدلة، ولم يذكر هناك الحوض، وفيه أحاديث صحيحة، وأما وصف
الصراط بما ذكر فقد رواه مسلم عن أبي سعيد موقوفًا عليه فإنه قال: بلغني (لم
يرفعه) إلى النبي صلى الله وعليه وسلم ولكن رفعه أحمد من حديث عائشة
والبيهقي في الشُّعَب والبَعْث من حديث أنس وضعَّفه، والمأولون يقولون: إن الصراط
هو صراط الدين أي طريقه، ورد عليهم بقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ
الجَحِيمِ} (الصافات: 23) ولكن الآية لا تدل على أن المراد بالصراط ما كان
بذلك الوصف.
وأما الميزان فلم يرد في وصفه بما وصفوه به من الكفتين واللسان والصنج
أحاديث صحيحة. وفي القرآن الكريم ذكر الوزن والموازين، قال بعض المفسرين:
إنها جمع موزون، والأكثرون على أن هناك وزنًا حقيقيًّا، وذهب بعض إلى أنه
تمثيلٌ المراد به العدل قال تعالى: {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ
نَفْسٌ شَيْئاً} (الأنبياء: 47) روى الطبري من طريق أبي نجيح عن مجاهد أنه
قال: (إنما هو مَثل كما يحرر الوزن، كذلك يحرر الحق) ومن طريق ليث بن
أبي سليم عنه أنه قال: (الموازين العدل) ، وقد نقل هذا القول عن غيره من
السلف كالضحاك والأعمش.
ولما أخذ المعتزلة بهذا القول عرف بهم، وصار ينسب من يقول به إلى
الاعتزال، حتى قال أبو داود عن أبي سلمة عثمان بن مقسم البري المُحَدِّث الثقة
الصدوق: إنه قدري معتزلي: وما كان معتزليًّا إلا أنه أنكر الميزان، والمقصود
من هذه النقول أنهم لا يقولون بكفر من خالف الجمهور في هذه المسائل، فتبيَّن بهذا
أن ما ذكره الجمهور في وصف أحوال يوم القيامة بالتفاصيل المعروفة ليس شرطًا
في صحة الإيمان بحيث يكفر من لا يعتقده، وما ورد فيها ليس كله قطعي الثبوت
والدلالة، والأسلم في الأمور الغيبية أن لا يبحث الإنسان في كيفيتها، بل يُسلِّم بما
ثبت في النصوص القطعية، ويفوض الأمر في الكيفيات إلى عالم الغيب والشهادة
ولا يعتقد مُحالاً عقليًّا.
***
الجهر والإسرار بالصلاة
وخطبة الجمعة والعيدين
(س2) و. ز في سوريا: لماذا شرع الجهر بالقراءة في الفجر والركعتين
الأوليين من المغرب والعشاء، ولماذا كانت خطبة الجمعة قبل صلاتها وخطبة
العيدين بالعكس، أفيدونا لازلتم ملجأ للإسلام؟
(ج) إنما الجهر في الصلاة الليلية التي تصلى في وقت الظلام غالبًا، فقد
جاءت السنة الصحيحة بأنهم كانوا ينصرفون من صلاة الصبح ولا يكاد يَرى
بعضهم بعضا. ومن المعهود أن الإنسان في وقت الظلام لا يخلو من أحد حالين،
النعاس أو الخواطر الكثيرة ورفع الصوت، يُعين على طرد النعاس ودفع الخواطر
والوسواس، كما ورد في الأثر عن سيدنا عمر رضي الله عنه، فالأقرب عندي أن
هذه هي حكمة الجهر في هذه الصلوات، وفي معناها اهتداء داخل المسجد ليلاً إلى
معرفة المصلي ليأتم به. وللصوفية وغيرهم في ذلك أقوال غير جلية، وأما تقديم
خطبة الجمعة فللاهتمام بها؛ لأنها هي المقصود الأول في ذلك الاجتماع؛ ولذلك
قصرت صلاة الظهر لأجلها، وأما خطبة العيد فهي مقصود ثانٍ حتى إن صحة
الصلاة لا تتوقف عليها بخلاف الجمعة كما أنها إذا قدمت على الصلاة تجزي عند
بعض الأئمة، وقد فعل ذلك مروان فأنكر عليه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه،
وقال له: خالفت السنة، ولكنه لم يقُل بأن الصلاة لم تصحّ ولا طالبه بإعادة الخطبة،
والأثر في البخاري وغيره وفيه أن سبب تقديم مروان الخطبة أنه رأى الناس
ينصرف كثير منهم بعد الصلاة - كما يفعلون الآن - ولا ينتظرون سماع الخطبة
فلعل هذه البدعة أقدم البدع في ترك السنة.
***
الحشيش والأفيون
(س3) الشيخ محمد البهي بفاقوس: ثبت عن الفقهاء أن الحشيش ومثله
الأفيون يجوز تعاطي القليل منه، مع أن القاعدة الأصولية أن ما أسكر كثيره فقليله
وكثيره حرام، والحشيش يسكر كثيره فكيف العمل بهذه القاعدة مع تجويز العلماء
لما قل منه، أرجوكم أن تتفضلوا بالجواب الشافي عن ذلك جُزيتم عن الدين أحسن
الجزاء.
ج - لا أذكر أن أحدًا من الفقهاء الذين يُعتد بأقوالهم أجاز قليل الحشيش
على أن قول العالم: إذا خالف أصول الشريعة وقواعدها الثابتة لا يُلتفت إليه
ما لم يذكر دليلاً يثبت به أن قوله لا ينافي تلك الأصول، وتحريم ما أسكر القليل
منه ثابت بالأحاديث الصحيحة. وقد استحسنتُ أن أنقل هنا عبارة أوردها ابن
حجر الهَيْتَمِيّ في كتابه الزواجر لابتلاء الناس في هذه البلاد بالحشيش وهي:
(واعلم أن الحشيشة المعروفة حرام كالخمر من جهة أنها تُفسد العقل والمِزاج
إفسادًا عجيبًا، حتى يصير في متعاطيها تخنّث قبيح، ودِياثة عجيبة، وغير ذلك
من المفاسد فلا يصير له من المروءة شيء ألبتة، ويشاهد من أحواله خنوثة الطبع
وفساده، وانقلابه إلى أشر من طبع النساء، ومن الدياثة على زوجته وأهله فضلاً
عن الأجانب ما يقضي العاقل منه بالعجب العُجاب. وكذا متعاطي نحو البَنج والأفيون
وغيرهما مما مر قُبَيْل البيع، والخمر أخبث من جهة أنها تفضي إلى الصَّيال على
الغير وإلى المخاصمة والمقاتلة والبطش، وكلاهما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
(ورأى آخرون من العلماء تعزير آكلها كالبنج، ومما يقوي القول بأنه يُحدّ
أن آكلها ينتشي ويشتهيها كالخمر وأكثر حتى لا يصبر عنها وتصده عن ذكر الله
وعن الصلاة مع ما فيها من تلك القبائح، وسبب اختلاف العلماء في الحد فيها وفي
نجاستها كونها جامدة مطعومة ليست شرابًا، فقيل: هي نجسة كالخمر وهو
الصحيح عند الشافعية، وقيل: المائعة نجسة والجامدة طاهرة (قال) وهي على
كل حال داخلة فيما حرم الله ورسوله من الخمر المُسْكِر لفظًا ومعنى.
(قال أبو موسى - رضي الله عنه - يا رسول الله، أفتنا في شرابين كنا
نصنعهما باليمن (البِتْع) وهو من العسل يُنبذ حتى يشتد، و (المِزْر) وهو من
الذرة والشعير يُنبذ حتى يشتد، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
أُعطيَ جوامع الكلم بخواتيمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر
حرام) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) ،
ولم يفرق صلى الله عليه وسلم بين نوع ونوع ككونه مأكولاً أو مشروبًا. على أن
الخمر قد يُتأدّم بها بالخبز، والحشيش قد تذاب، فكل منهما يؤكل ويشرب، وإنما لم
يذكرها العلماء؛ لأنها لم تكن على عهد السلف الماضين، وإنما حدثت في مجيء
التتار إلى بلاد الإسلام وما أَحْسَنَ ما قيل:
فآكلها وزاعمها حلالاً ... فتلك على الشقيّ مصيبتان
فو الله ما فرح إبليس بمثل فرحه بالحشيشة؛ لأنه زينها للأنفس الخسيسة) اهـ
__________(5/911)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(الجواهر الكلامية، في العقيدة الإسلامية)
الشيخ طاهر الجزائري هو أشهر العلماء ودعاة الإصلاح في بلاد الشام وقد
كان ألّف عقيدة مختصرة لتلامذة المدارس أيام كان مفتش معارف ولاية سوريا
تحرَّى فيها السهولة وجعلها أسئلة وأجوبة، فكانت أمثل المختصرات للتلامذة
المبتدئين وفيها ما لا يوجد في غيرها من العقائد كبيان اعتقاد المسلمين في التوراة
والإنجيل والزبور الموجودة الآن وما هي من المذكورة في القرآن، وفي العقيدة
بعض المسائل الخلافية التي كنت أودّ لو لم توجد وهي قليلة وما ذكره فيها هو
المشهور عن الجمهور.
***
(الجوهرة الوُسْطى)
ثم إنه لما رأى في هذه السنة إقبال المدارس على عقيدته نقحها وألف رسالة
أخرى سماها الجوهرة الوسطى سلك فيها مسلكًا لطيفًا في التبصرة والاستدلال ينبغي
أن يختص بتلامذة المدارس الثانية أو العالية، وقد طبعت الرسالتان معًا بحرف
دقيق في شكل صغير فكانتا 120 صفحة فننصح لمدارس مصر الأهلية بأن تقرأ
هذه العقيدة في مدارسها، وثمنها قرشان صحيحان.
***
(كتاب (لسان الصدق) جواب للكتاب المسمى
(ميزان الحق) في الرد على النصارى)
تأليف الشيخ علي البحراني أحد علماء الإمامية الأعلام في الهند وهو كتاب
جليل في بابه محكم الوضع، قوي الحُجة حسن الترتيب فيه مقدمة في إثبات
الصانع وصفاته وإثبات الرسالة أشار فيها إلى ضعف مذهب الأشعرية وغيرهم في
بعض المسائل ويتلو المقدمة ثلاث مقالات في كل مقالة مقدمة وعدة مناطق يرد بها
القسيس مؤلف كتاب (ميزان الحق) ومن مباحث المقالة الأولى إثبات النسخ في
الشرائع والتحريف في التوراة والإنجيل، وبيان كون القرآن يغني عنهما، ومن
مباحث المقالة الثانية تفنيد دَعْواهم اتفاق اليهود والنصارى في ما عدا الاعتقاد
بالمسيح وبيّنا تناقض الأناجيل وإبطال ألوهية المسيح. ومن مباحث الثالثة تفنيد
مطاعنهم في القرآن وفي النبي عليه الصلاة والسلام، وبيان بشارات كتبهم به
والكلام في الأحاديث النبوية، وبالجملة إنه لم يترك مطعنًا من مطاعنهم إلا وفنده
وأزال شبهتهم فيه، ثم ختم الكتاب بخاتمة في إثبات مذهب الإمامية، وجعل في
آخرها قصيدة أشار فيها إلى مطالب الكتاب ومباحثه. وذلك أن فرقة الشيعة أشد
عناية في سائر المسلمين بالدعوة إلى مذهبهم.
وقد كان الكتاب طبع في الهند طبعًا سقيمًا كسائر المطبوعات الهندية، فانتدب
الكُتَبِيّ الغيور الشيخ محمد المليجي وأعاد طبعه بمطبعة الموسوعات في مصر فكان
طبعًا متقنًا نظيفًا وبلغت صفحاته 475 من القِطْع المتوسط وهو يُطْلب من مكتبته
بقرب الأزهر وغيرها فنحث أهل العلم والفضل على مطالعته.
***
(وقاية الشبان، من المرض الإفرنجي والسيَلان)
كتاب جديد ألفه الدكتور سعيد أبو جمرة مؤلف كتاب
(حياتنا التناسلية) أما حاجة أهل هذه البلاد التي فشا فيها الفسق إليه فظاهرة،
وأما كون الكتاب وافيًا بهذه الحاجة فلنا أن نحكم به أو نستأنس له بتوجيه همة
المؤلف وعنايته إلى هذه المباحث حتى إنه ألَّف فيها كتابين، وطبع هذا الكتاب
كسابقه في مطبعة الهلال وصفحاته زهاء مئتين، وثمنه 12 قرشًا وأجرة البريد
قرشان ويطلب من مكتبة الهلال بمصر.
***
(الراوي)
جريدة يومية سياسية تجارية أنشأها في العاصمة يوسف بك طلعت وأنشأ لها
مطبعة خاصة واختار لها عدة محرِّرين من كُتَّاب السوريين المشهورين بالاشتغال
بالصحافة فَنَوَّدَ لو تصادف رواجًا ونجاحًا، ولكنَّ رجاءنا في ذلك ضعيف إلا أن
تسلك الجريدة مسلكًا تمتاز به ولا يجده القراء في سائر الجرائد الإخبارية، وما ذاك
إلا أن تتبرَّأ من الميل إلى إحدى القوتين الموجودتين في البلاد، وتصبر زمنًا
طويلاً على قول الحق الخالص من غير نظر إلى مرضاة الناس وغضبهم وأعني
بهذا أن تكون تاريخية لا سياسية، وبعد ذلك تكون موضع ثقة جميع العقلاء
والفضلاء.
__________(5/914)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(العربي الجواد، وهل سلم من سعاية وانتقاد)
ذكرنا في الجزء الماضي خبر تعرج صديقنا محمد باشا عبد الوهاب شيخ
دارين (وأشهر تجار اللؤلؤ في خليج العجم) على السويس في طريقه إلى الحج
وكيف بسط يديه بالنوال، حتى صار كل من لقف خبره يذكر كرم أمراء العرب
الأولين، وعطايا الخلفاء والسلاطين، ونقول الآن: إنه بعد أن وزع الصدقات
على الفقراء، وأهدى الهدايا للأغنياء، وبعد أن بذل المساعدة للمدارس الإسلامية
والقبطية والأجنبية، وبعد أن أخذ على نفقته نحو مائة وعشرين حاجًّا من الفقراء،
وبعد أن ظهر امتعاضه لأن سائر قاصدي الحج رجعوا خائبين لأن سفينة (البحيرة)
لم تسَعْهم وأوصى من كان قائمًا بشئونه (وهو السيد النسيب مصطفى هاشم) وكان
الباشا في السويس بصفة ضيف ونزيل في هذا البيت الكريم) بأن يجمع من بقي
من الفقراء، وهم يعدون بالمئين، ويرسلهم على نفقته في أول وابور يحمل حجاجًا
من السويس، وبعد أن جاء في بعض الجرائد أن السيد المذكور وَفَّى بما عُهِدَ إليه؛
فاستأجر سفينة مخصوصة من بواخر شركة ليمتد (بواخر البوسطة الخديوية)
فحمل عليها الحجاج الباقين، بعد هذا بعضه أو كله كافأ بعض الناس في مصر هذا
المحسن الجواد، بالسعاية والانتقاد.
بَيْنَا كُنَّا نسمع بعض الوجهاء في السويس يقول: إنه لم يبق بيت في هذه
المدينة لم يصبه نوال هذا الأمير العربي؛ إذا ببعضهم يقول: إن أكثر هذه العطايا
في غير موضعها، ولو كان بنى بهذه الأموال جامعًا - مثلاً - لكان أفضل وأبقى
لذكره! ! فأجابه كاتب هذه السطور: إن الكرم على قسمين: كرم العقل، وكرم
النفس. فالأول: يجري فيه الحساب والتقدير واختيار الطريق الذي يوصل إلى
نباهة الذكر أو زيادة النفع، وهذا الكرم يكون في الغالب مكتسبًا بالتربية والتعليم،
وأما الثاني: فهو سَجيَّة في النفس يكون لصاحبها أريحيّة وهزة تبعثه على البذل متى
وجد له طريقًا ما، ولا يأتي فيها الحساب والتقدير، ولا توخي نباهة الذكر ولا حسن
المصير، وكرم صاحبنا من هذا النوع، ومنه كرم سائر الأجواد المعروفين كحاتم
الطائي وكعب بن مامة ومَعْن بن زائدة.
ثم رأينا جريدة مصباح الشرق تسأل سؤال قضاة التحقيق عن تاريخه، ونسبه،
وحدود بلاده، وعدد رعيته، ومقادير العطايا التي جاد بها، وعن الحجاج الذين
حملهم، هل دفع عنهم التأمين الذي فرضته الحكومة على الحجاج المصريين وعن
منابع ثروته، واستنتجت من ذلك تَوْهين خبر الجرائد! ونحن نجيب بأن رواة
الجرائد، كتبوا إليها ما رَأَوْه بأعينهم وسمعوه بآذانهم، فلم يكن لهم حاجة في
تصديق الخبر بإمساك هذا الرجل عن عمل البر وإشغاله بإملاء تاريخه وتاريخ
بلاده عليهم؛ لأنه يوجد في مصر جريدة ساء ظنها بالناس حتى إنها تكتفي في مقام
الذم بأضعف الشبهات، وتكتفي في مقام المدح بالمشاهدة حتى يؤيدها جميع ما
يخطر بالبال من النظريات.
قلنا: إن الرجل أمير أي أنه أمير في نفسه وقومه، لا أنه سلطان ذو مملكة
ورعية، وقلنا: إنه شيخ دارين أي أنه رئيس تلك الجهة، وإن شئت قلت إنه
أميرها؛ ولكن العرب هناك يفضلون كلمة (شيخ) على كلمة (أمير) فيقولون
شيخ الكويت وشيخ البحرين، وأما دارين فهي ميناء نَجْد على خليج العجم من زمن
الجاهلية وفيها قال الشاعر العربي ما يُعْرف في شواهد كتب النحو وهو:
يمرون بالدهنا خفافًا عيابهم ... ويرجعن من (دارين) بُجْرَ الحقائب
وقد كانت عفت فأحيا معالمها محمد عبد الوهاب هذا، وأما ينبوع ثروته
التي استكثرها صاحب المصباح فهو تجارة اللؤلؤ وقد جاء فيها ما نصه:
(وإليك بيان كمية اللؤلؤ الذي صيد في هذا العام: جهزت سواحل الخليج
420 سفينة فيها 7560 غائصًا فاصطادوا ما قيمته 840.000 روبية (الروبية
فرنك واحد و 68 سانتيما) فاشترى هذا الصيد كله تاجر واحد من جزيرة داريان
(الصواب من دارين) وجهز من البحرين سبعمائة سفينة، فيها اثنا عشر ألف رجل
فعادوا بما قيمته 200.000 روبية، هذا ما كان من المَغَائص المشهورة، وأما ما
أخرج في غيرها من المَغائص فلم تزل قيمته مجهولة) اهـ.
ونحن قد علمنا من صاحبنا أنه يجهز السفن، وأنه يعطي الغوّاصين الدراهم
في أثناء السنة، ويحاسبهم عليها عند إخراج اللؤلؤ، فتفنيد مصباح الشرق قول
بعض الجرائد إنه جهز ثلاث مئة حاجّ بقوله: إن ذلك يقتضي أن يكون قد دفع
عنهم تأمينًا للحكومة قدره خمسة عشر ألف جنيه على الأقل، وقوله عنه إذا كان
(قد بذل من خزائنه مثل هذه القدر العظيم من المال الذي يكاد يكون أَبْلَغَ ثروة تُدخر
بين ساكني نجد وتهامة من أول الزمن إلى هذا العهد فهو بلا شك حاتم هذا الزمان
وقارون هذه الأيام) ! !
كلاهما غير سديد، وقد ذهل صاحب المصباح عند كتابة الكلمة الأولى عن
كون التأمين الذي تطلبه الحكومة المصرية عن كل حاج في هذا العام هو خاص
بالمصريين الذين لا يباح لهم السفر إلى الحج بعد سفر المحمل، وقد سافر هذا
الأمير بفقراء الحجاج بعد سفر المحمل بأيام، هذا وجه خطأ عبارته الأولى، وأما
استكبار ثروة الرجل، وقوله فيها، فقد عُلِمَ أيضًا أنه في غير محله، ونؤكد له
القول بأن ثروته أكبر مما استكبره على أهل نجد وتهامة من أول الزمن إلى هذا
العهد.
وبقي أن نشير إلى معنى كلمة (السعاية) التي أشرنا في العنوان إلى أن هذا
المحسن لم يسلم من إساءة أهلها. وذلك أننا علمنا أن عقارب بعض السعاة المحَّالين
الذين يُسمَّوْن هنا (جواسيس الآستانة) قد دبت إلى مرجعها، ودبرت حيلة لإيذاء
هذا الرجل المحسن في بيت الله وحرمه الآمن بواسطة من هم أهل لذلك في الآستانة
وكادوا له كيدًا، فنسأل الله أن يرد كيدهم في نحورهم {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ} (يوسف: 64) .
***
(إصلاح لبنان)
ذكرنا في الجزء الماضي نبذة عن اللائحة التي قدمت إلى متصرف جبل لبنان
على أنها من جماعة المهاجرين اللبنانيين، وعلم من تلك النبذة أن الغرض منها
إثبات أن سبب تأخر لبنان وانحطاطه هو التعصب الديني في طوائفه، أو (الاستقلال
الطائفي) الذي ينافي الاستقلال الوطني الذي تعمر به البلاد، وبقي علينا أن نشير
إلى رأي اللائحة في ملاشاة الاستقلال الطائفي الذي هو شرط الاستقلال الوطني
المطلوب.
بدأ كاتب اللائحة رأيه بتخطئة القانون اللبناني في جعل وظائف الحكومة
مقسمة بحسب المذاهب الدينية وقال: إن هذا يزيد التعصب ثم أتبعها بنبذة افتتحها
بكلمة واشنطون محرر أميركا في أول خطاب أرسله إلى الندوة بعد استقلال
الولايات المتحدة وهي (يجب أن نُوَحّد مبدأ الشعب الأميركي المستقبل بالمدرسة)
ثم قال بعد تمهيد:
(يجب أن نجعل الشعب لبنانيًّا ولا سبيل لنا إلى هذه الأمنية إلا بإعداد رجال
المستقبل، فكيف نعدهم؟ بالمدرسة جعل واشنطون العظيم الشعب الأميركي بمبدأ
واحد، وبالمدرسة جعله هكذا عظيمًا، وبالمدرسة الحرة جعله هكذا حرًّا) .
بالمدرسة يقول بسمرك: إنه استطاع أن يتغلب على فرنسا، بالمدرسة
استطاعت اليابان أن تخرج من الظلمة الأسيوية الحالكة المدلهمة، إن الأفكار
القديمة لا تجد لها مانعًا دون عقول الصغار إلا المدرسة، فبالمدرسة فقط يستطيع
الشعب اللبناني أن يصير وطنيًّا، وأن يَتَّحِد على مصلحته الطبيعية.
(مولاي قد قال الشارع الفرنسي في نظام التعليم الإلزامي: من حق الحكومة
حامية المنافع العمومية أن تحتاط بكل وسيلة لئلا يكون في الشعب أفراد يجهلون
حقوقهم وواجباتهم؛ فلتكن المدرسة من حق الحكومة التي ترأسونها ومن واجباتها
أيضًا.
(إن المدرسة التي نرجو أن تكون حاجزًا بين صغارنا وأفكارنا القديمة
ليست المدرسة الفرنسية، ولا الإنكليزية، ولا الأميركية، ولا الألمانية، ولا
الإيطالية، لأننا لا نريد أن يكون صغارنا مثلنا أوربيين وأميركيين في لبنان،
وليست المدرسة الجزويتية؛ لأننا لا نريد أن يكون صغارنا مثلنا متواكلين ضعفاء
خبثاء، ولا المدرسة الطائفية لأننا لا نريد أن يكون صغارنا مثلنا موارنة ودروزا
وأرثوذكسا وملكيين ومتأوِّلة وإسلامًا -، ولا المدرسة الدينية لأننا لا نريد أن
يكون صغارنا مثلنا لاهوتيين يتجادلون على ما لا يعلمون. إن هذه المدارس
موفورة لنا وحالتنا الاجتماعية لا تزداد إلا فسادًا وتقهقرا.
فالمدرسة التي نرجو أن تكون لنا بابا إلى الحياة الجديدة هي المدرسة الوطنية
الحرة، هي المدرسة التي تتولاها حكومة منفصلة عن الكنيسة كالحكومة اللبنانية)
اهـ، باختصار قليل، ثم بَيَّن طريق إيجاد المدارس الحرة، والنفقة عليها، وبحث
عن عيوب الحكومة، وبَيَّن سبيل الإصلاح.
ونحن نقول: إن هذه هي (الوطنية الحقة) لا التي يَلْغَط بها بعض أحداث
المصريين في مصر، بغير فَهْم ولا شعور؛ ولذلك كان هذا اللَّغَط منه سخرية عند
جميع الطوائف في مصر. وإننا نعترف بصحة رأي اللائحة، ونجزم بأن بلادًا
فيها للكنيسة سلطان على الحكومة والأمة لا يمكن أن تنجح، ولا أن يتفق أهلها
على ترقيتها.
ولْيعلمْ رصيفنا الفاضل صاحب جريدة المناظر؛ أن ما قاله في المقالة التي رد
فيها على مقالة السيد البكري (المستقبل للإسلام) من أن في مصر فريقين أحدهما
يدعو إلى الوحدة الوطنية، والآخر يدعو للوحدة الإسلامية، وأن قوة الأول حملت
السيد البكري على الانتصار للثاني، كل ذلك غير واقع، وإنما الوطنية التي نَرُدُّها
ونسفّه دائمًا أحلام أَحْدَاثِها؛ هي وطنية خاطئة كاذبة اتُّخِذَت في وقت ما وسيلة
للحطام، وبقي الكلام فيها أحيانًا بناموس الاستمرار، وصاحب هذه الوطنية يمقت
طائفة من سكان بلاده الذين هم أَعْرَف منه بالوطنية، ويمقت مَنْ هاجروا إلى هذه
البلاد واتخذوها وطنًا وصارت سعادتهم بسعادتها، ومصلحتهم بمصلحتها، وإن
كانت لغته لغتهم، وحكومته حكومتهم، ودولته دولتهم، بل وإن كان دينه دينهم،
فهل تستطيع أيها الوطني الصادق أن تجيز لنا هذه الوطنية الكاذبة؟
***
(ملجأ الأيتام واللُّقطاء)
يسرنا أن جمعية المكارم في الإسكندرية قد شرعت في عمل نافع عظيم وهو
إنشاء ملجأ للأيتام وللقطاء، وهم الآن يسعون في جَمْعِ المال بطريقة الاكتتاب
المألوفة، وقد افتتح التبرع سمو الأمير بمئة جنيه، ثم إن صاحبة الدولة والدة سموه
تبرعت بخمسين جنيهًا، وتبرع كثيرون من الأغنياء والوجهاء بما دون ذلك.
ولا شك أن سير الاكتتاب بهذا البطء والشحّ لا يبشر بنجاح يذكر، وكأني
بكثير من الأغنياء لا يجودون بما يليق بثروتهم من السَّعَة احتجاجًا بأن الأدب
يقضي بأن لا يدفع أحد مثل ما دفع الأمير؛ فمن كان أقل بذلاً كان أكثر أدبًا مع
سموه وما هذه إلا حجة البخلاء، فلو صح أن الأدب في التقصير عما بذل الأمير
لكانت زيادة الأدب على حسب نسبة النقص والتقصير؛ فمن دفع قرشًا كان أكمل
أدبًا ممن يدفع جنيهًا! !
الأمير يقصد بما يعطيه إظهار رضاه عن المشروع، فلنا أن نقول: إن من كان
أكثر عطاءً كان أقرب إلى ما يرضيه، وأكمل فضلاً وأدبًا في نظره، على أن
الواجب في هذه المقام طلب مرضاة الله تعالى، وملاحظة المنفعة لعيال الله تعالى،
ولكن البخيل ينتحل لنفسه أضعف الأعذار في الإمساك والشحّ؛ فمن كان جازمًا بأن
من الأدب مع الأمير أن لا يبلغ مَبْلَغه في البذل، فليكتف من الأدب بنقص جنيه
واحد عنه، ولو أن كل غني في مصر يشعر بالحاجة إلى هذا العمل يلاحظ هذا ولا
يبعد في النسبة؛ لنجح العمل والله الموفق.
__________(5/916)
16 ذو الحجة - 1320هـ
14 مارس - 1903م(5/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رأيٌ في إصلاح المسلمين
أو رأيان
كتب إلينا وكيل للمنار في بعض الأقطار رأيه في طريقة إصلاح المسلمين في
خاتمة جواب يتعلق بأمر الاشتراك والمشتركين؛ فأحببنا أن يطلع عليه القراء لِمَا
فيه من دقة النظر، وبُعْد الغَوْر، قال حياه الله:
(رأيك بالعناية في إصلاح النفوس والعقول والأفكار والأخلاق لا أظن أنه
يوجد من يخالفك فيه على شرط أن تجمع من أيدي الناس كتب التصوّف النظري،
وكتب العقائد التي أُلِّفت على طريقة أرسطو (لا كتب أرسطو نفسها) والتفاسير
التي ألبسها أصحابها لِبَاس الفلسفة اليونانية، وكذا الكتب الفقهية التي كتبها الأعاجم
ومَنْ احتذى حَذْوهم، لا الكتب التي كتبت بطريق الرواية كالموطأ وغيره، وطرح
القواعد التي دوّنها الأصوليون، وجعلوها من أصول تعاليم الدين، وتحويل تَكَايا
الطرق إلى مدارس تُعلَّم فيها العلوم الكونية بأسرها، على شرط أن تكون إدارتها
بيد أُناسيّ من علماء أمم أوربية صغيرة كسويسرة والبلجيك ويعزل الشباب
المتعلمون عن الأمة حتى يمتنع سريان عدوى الأخلاق التي أَرْزَأَت أمم الإسلام من
الأسلاف إلى الأخلاف، وبعد أن تندرس هذه الرمم التي صارت مع طول الزمن
رُكام أقذار مُفسِد للتمدن؛ يتسنّى للمصلحين أن يشيدوا على أنقاضها معاقل
إصلاح.
وهيهات هيهات أن يفوز المصلحون بتلك المطالب العسيرة التي أعيت هممًا،
وبيضت لِمَمًا، وأشفت أمما، ظهر كونفوشيوس قبل عصرنا هذا بإحدى وعشرين
قرنًا لمعاناة إصلاح مذهب سكياموني، وتجديد ما تداعى من بنيانه العتيق الذي
كرت عليه الدهور الدهارير، وبالرغم من مساعيه الكبيرة وهمته القَعْساء، وعزمه
الصارم بقيت آراء سكياموني كما هي محتكرة في الهياكل لكهنة الشعب، ولم يزدها
ذلك المصلح بقارعته العظمى إلا ثباتًا وتمكينًا، وهذا المسيح قام ليعدل سلطة
أكليروس اليهود وليجدّد ما اخلولق من مذهب التوراة فلم يقبل له رأيا إلا من خذله
في أداء الشهادة وقت المحاكمة.
وما عسى أن أقول ونبينا الكريم عليه السلام قد أرسله الله مهيمنا على الكتب،
ومجددًا لشرائع الكون التي اقتضت سنة العمران تجديدها بتجدد المقتضيات فلم
يقبل دعواه من أرباب تلك الأديان إلا مَن نكَّب عن فئته، وانحاز لغير بيئته، وهكذا
شأن كل مصلح يفلت من أسر العادة وينسلت من قيود المصطلحات، وتؤثر في
نفسه الحقائق، وتشعل بصيرته المشاهدات الصحيحة يستنكر ما يستحسنه الناس
ويستحسن ما استنكروه فيسفه أحلامهم، ويبين أوهامهم، إلى أن يثوبوا إلى رجعة
الهدى، أو يكوِّن نَشْأ جديدًا، ودون ذلك خَرْط القَتاد على فرض سلطة الظروف
المحيطة.
على أن هناك مَهْيَعًا آخر أقرب إلى السلامة، وأضمن للنتيجة، وهو سبيل
رجالات أوربا الكبار، ودهاقنها العظام، وبيانه أن يشتغل المصلح بعد ترقية نفسه،
وترتيب منزله، وتنظيم معيشته، وتدبير مأكله، بتنمية ثروته بالطرق القانونية
ويختار له منها الطريق الأضمن على شرط أن يحتذي مذهب الصدق ويتقيل نمط
الأمانة، ولا يعتمد إلا على نفسه فلا يمر عليه غير زمن قليل حتى يكون من أكبر
المُثْرين في العالم مثل مرجان وسيسل رود وغيرهم، فلا يصعب عليه بعد تكوين
الثروة تأسيس المشروعات، وعقد الشركات وإنشاء المدارس، وفتح المعامل،
وإرسال الفُلْك تمخر عُباب اليمّ تجمع له كنوز المخلوقات.
وأما طريقة إصلاح الأمم أو النفوس بإلقاء الخطب، وكتابة المقالات، فلا
تفيد المسلمين في شيء، اللهم إلا من كان له هَوَس منهم فيهما؛ لأن العالم والصانع
والزارع والصراف والتاجر في البلاد المربلة [1] لا يُصِيخُون الأسماع للخطب، ولا
يعيرون الأبصار للمقالات إلا في أوقات الفراغ من الأعمال فهي عندهم بمثابة
المسليات والمنبهات، والذي يُصيخ وينظر في بلادنا القاحلة هو المِكْسال المتقاعس
عن حير نفسه ونفع جنسه؛ وإذا تنبه لبُّه واستنارت بصيرته فلا يكون منه غير
التأوه على الإسلام، والبكاء على المسلمين، ولهذا اتفقت كلمة العمرانيين على أن
ترقي الأمم لا يفيد إلا إذا كان ماديًّا بحتًا، مطهيًا على أثافي الصناعة والزراعة
والتجارة، وطهاته الإقدام والحزم والعزم والنشاط والثبات، وحققوا أنه لا يتوقف
على دين، ولا يحتاج إلى بعثة رسول، وإنما تدعو إليه الحاجة، ويبعث إليه
اختلاط العناصر المختلفة ببعضها) .
يدين سكان الجابون بدين وثني، أخمد نفوس أهله آلاف السنين، وأبقاهم
خاملين تحت سُجُف طقوسه الواهنة، حتى ذاق أفراد منهم عُسَيْلة الإثراء؛ فانبرت
نفوسهم ساعية وراء التأسيسات النافعة، وما فتئوا يفكرون حتى تنبه لهم الأقران؛
فتلاحقوا بهم ثُبى، وما كادت تتنبه لهم الحكومة حتى اضطرها تفاقم المساعي إلى
التنازل عن كثير من حقوقها المكللة بطيلسان الكهنوتية المقدس، وأتاحت لهم بغير
عناد حكومة مقيدة باحتساب الأمة عليها، وقد صارت الآن تضارع أعظم الأمم
شوكة واقتدارا، وما دين المسيحية بأصفى منهلاً من المنبع البوذيّ، وهذا مبتدع
وذاك مخترع، والمنزع القديم في الغالب مقتبس ومتبع (كذا) ومع ما هو عليه من
التشويش والتشويه والتبلس بتلك الحجب التي حاكتها يد المجامع المقدسة لم يزل
دينًا للأمم الراقية ذات الطول والحَوْل والمَنَعَة والعزة رغمًا عن النهضة العلمية
والأخلاقية.
لا أحاول الجدال، ولا أريد الحوار، وإنما غايتي أن أطلعك على فكري
الخاص في إصلاح الأمة الإسلامية بالوسائل الصحيحة التي لا تستلزم زمنًا طويلاً
ولا تكلف تعبًا كبيرًا، وهي أن نترك القادري يَعْمُه في قادريّته، والرفاعيّ يعشو
في رفاعيته، كما تركنا النصراني يتخبط في ظلام نصرانيته والوثني يهرف في
وثنيته، ونسعى مع الجميع متكاتفين لنحصل فرنكًا واحدًا عن كل شخص من
المسلمين، ذاك لروح شيخه، وهذا باسم وَلِيّه، وذا في سبيل النهضة، وهذا باسم
الوطنية، إلى أن نتمكن من جمع مال كثير؛ فنؤسس به مشروعًا يكون جزيل
الفائدة، كبير العائدة، وما علينا والصراخ في الهواء، والنداء في الأجواء،
والاحتراس من السياسة، والتوقي من الرياسة، فذاك في مذهبي شيء لا يجدي
والسلام) .
***
رأي المنار في الموضوع
لقد أحسن الكاتب النبيل القصد في قوله ولكن فيه إجمالاً يحتاج إلى بيان
ونظرٍ في بعض الجزئيات، وما كان الإجمال منه إلا لأنه كتبه لمن يغنيه الإجمال
عن التفصيل، وفرق بين ما كُتِب ليُطْوَى وما كتب لينشر، ولقد سرَّنا توارد
الخواطر وتلاقي الأفكار بيننا وبين الكاتب النبيل، والوكيل الأصيل، في وجوب
عزل المتعلمين عن الأمة؛ لأن قِوام التربية بالقدوة والمحاكاة المتولدتين من
المعاشرة والمخالطة، وقد بدأ الله تعالى تربية نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله
وسلم) بعزله عن الناس فحبب إليه الوحدة، وألهمه الانزواء والعزلة، ثم علمه
بالوحي ما شاء أن يعلّمه، ولقد قال: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) فعلينا أن نستفيد
من هذه الحكمة، مع من منحه الله العصمة، وموافقة أخرى في الرأي وهي
الاستعانة على تعليم الفنون والعلوم الكونية، بأساتذة من أصغر الشعوب الأوربية،
لأن هؤلاء أبعد عن السياسة التي تفسد كل صلاح، وتحول دون كل نجاح.
الذي لاح لي من كلام الكاتب في إخفاق رجال الإصلاح المعنوي هو أن
غرضه منه تحويل وجوه المتعلمين عنه؛ ليتولوا شطر الإصلاح المادي الذي يراه،
وإلا فإن كل واحد من المصلحين الذين ذكرهم قد كان له تأثير كبير في أنواع
الانقلاب الذي حدث في العالم المرة بعد المرة، وليس من شرط النجاح في
المشروع أن يأخذ به كل أحد، ولا أن يكمل فيه كل من أخذ به.
فإذا كان الإصلاح المعنوي لم يعم أفراد الأمم التي ظهر فيها فكذلك الإصلاح
المادي، والسبب في هذا وذاك أن الاستعداد في البشر متفاوت تفاوتًا كبيرًا وكل
يعمل بحسب استعداده؛ ففي أوربا من يملك ألوف الألوف وفيها من يموت جوعًا
وكأيَّنْ من عالم يطلب الثروة، وتعوزه الكِسْرة والحُسْوَة، وليس هذا مقام بيان تأثير
أولئك المصلحين العظام في الأمم، والكاتب يعرفه ولكن غرضه ما ذكرنا.
والقول في تأثير الخطب والمقالات يتصل بالقول في تأثير رجال الإصلاح
المعنوي؛ لأن الخطباء والكتّاب الداعين إلى الإصلاح هم ورثة الأنبياء والشارعين
وهم أركان الإصلاح الاجتماعي والسياسي، ومَنْ ينكر أن لِلُوثر وأشياعه وميرانو
وأضرابه تأثيرًا عظيمًا في تحويل أوربا عما كانت عليه، ونقلها إلى ما انتهت إليه،
ومن ينكر تأثير تلك المقالات والرسائل التي كانت تنشر في فرنسا قبل الثورة
الكبرى، وأن ذلك التأثير هو الذي ثلّ عرش الملك، وسلط الصعاليك على الأمراء
والنبلاء؟ فالإصلاح في جميع الأمم إنما جرى على أيدي الفقراء والمتوسطين؛
بباعث معنوي، ولم يوجد إصلاح في الأرض بدأ به الأغنياء؛ بتأسيس
المشروعات المادية النافعة، وإن شئت فقل إنه لم يوجد إصلاح ماديّ بحت، ولكن
كل إصلاح يُرَقِّي البشر ينتج العمران، والعمران المادي إنما يكون في النهاية لا في
البداية.
كل هذا يعرفه الكاتب الفاضل، ولكن الرأي الذي أبداه؛ إنما هو في اختيار
أقرب الطرق، ولَعَمْري إنه لطريق أُمم، لولا أن فيه من العقبات الكؤود ما يتعذر
معها سلوكه على الضعفاء المحتاجين إلى الإصلاح كالمسلمين.
فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
يقول: إن الواجب على مريدي إصلاح المسلمين أن يسلكوا سبيل (سسل
روس) بعد إصلاح شؤون منازلهم وتنظيم طرق معيشتهم. مَنْ هم هؤلاء المريدون
للإصلاح، وما هي طبيعة بلادهم التي يعيشون فيها؟ هم نفر من وسط الناس سلمت
فطرتهم، وصَفَتْ فكرتهم، وحسنت في الجملة وبالمصادفة تربيتهم، وامتازوا
بالميل إلى البحث في الأمور العامة والاهتمام بأمر الأمة والملة، ولم يكن لهم
شيء من هذه الخصائص بواسطة تعليم وتربية أُودِعَا في نفوسهم؛ إذ لا يوجد
للمسلمين مدرسة في قُطْر من الأقطار تذكر فيها مصلحة الأمة، أو توجه نفوس
تلامذتها في تعليم كل علم وفن إلى أن المراد به الإصلاح وإنقاذ الأمة مما هي فيه،
وإنما هو الاستعداد الفطري مع مساعدة التوفيق الذي يعبرون عنه بالظروف
والمصادفات، ولو أن هؤلاء اشتغلوا بغير البحث في الأمور العامة، وطرق
الإصلاح؛ لضعف استعدادهم فيه؛ لأنه لم يتربَّوْا عليه، ولم يتعلموا طرقه
تعلمًا فيكون همّهم بعد المدرسة السعي في اتخاذ الوسائل لما وَجّههم إليه
المربون والمعلمون.
وأما طبيعة بلادهم فهي كما يعلم الكاتب ليس فيها موارد قريبة للثروة الواسعة
من الطرق القانونية كالثروة التي جمعها سسل رود. والأعمال الكبيرة التي يتوقف
عليها إيجاد الموارد لا تكون إلا مِنْ قوم تعلَّموا طرقها وفنونها، وتربَّوْا تربية
صاروا بها محلاَّ للثقة في إناطة الأعمال بهم، وأنَّى لبلاد المسلمين بهؤلاء العاملين
العالمين! !
وجملة القول أن الذين يفكرون في الإصلاح من المسلمين ليس عندهم استعداد
لجمع الثروة الكبيرة، وأن بلادهم ليس فيها الآن منابع لهذه الثروة مفجَّرة
يسهل عليهم ورودها وأن الأُمة التي يعيشون فيها ليس لها استعداد لتفجير ينابيع
الثروة الطبيعة التي خصّ الله بلادهم بها؛ لجهلهم وفساد تربيتهم، ونسكت عن حال
حكوماتها وما يُنْتظر أن يلاقيه منهم مريد الإصلاح إذا حاول سلوك الطريق
المشروعة الشريفة لجمع المال.
إن العمران المادي كان نتيجة للإصلاح المعنوي وكذلك يكون.
أما الجابون (اليابان) فلم يكن السائق لهم إلى الإصلاح طلب الثروة، ولم
يكن تقدُّمهم ماديًّا بحتا لا شائبة فيه للدين، بل كان السائق إليه هو صاحب السلطة
الدينية المقدسة والسلطة المدنية القائمة على أساس الدين، وهو عاهلهم ومليكهم
(الميكادو) فهذا العاهل العظيم هو الذي قيد سلطة نفسه بعد أن كانت حكومته
استبدادية مقدسة، وهو الذي دعَّ أمته إلى العلوم والفنون دعًّا، ولا نقول إنه دعاها
دعاء، ولقد كانت التقاليد الدينية مساعدة للسلطة الدينية في عمران اليابان الحاضر
كما يعلم من المقالات التي نشرت في المقتطف الأغرّ معرَّبة عن أصل
إنكليزي لبعض كبار الكُتَّاب السياسيين، ويذكر العارفون بالتاريخ أن أول عاهل
(إمبراطور) اشتغل بالإصلاح في أوربا هو (شارْلمان) كان مندفعًا بدافع
معنوي مَشُوبٍ بالاعتقاد الديني، ولولا الإصلاح الديني الذي قام به زعماء
البروستنت لحبط عمله وكان هباءً منثورًا.
والقول الفصل في الإصلاح الإسلامي هو أن الواجب على العقلاء الذين
يتألمون من ضعف الأمة وهوانها أن يسعوا في إصلاح العقول والنفوس بتعليم
الصغار وتربيتهم بالمدرسة، ووعظ الكبار وتنبيههم بالخطابة والكتابة ليكثر بذلك
حزبهم ولا بد لهم في سلوك هذه السبيل من مُسَالَمَة القوة، سواء كانت أهلية أو
أجنبية.
فعُلِمَ من هذا أن أول واجب على من يشعر بالحاجة إلى الإصلاح في بلد من
البلاد الإسلامية أن يشتغل بالدعوة إلى ما يعتقده في ذلك؛ ليكوّن له حزبًا والدعوة
خطابة وكتابة؛ فإذا صار له حزب فالواجب عليه وعليهم السعي في التربية المِليَّة
والتعليم الذي يعد الناشئين لأعمال العمران والاستعانة على ذلك بالأساتذة المَهَرة
الذين ليس بيننا وبينهم مطامع سياسية، وهذا يختلف باختلاف البلاد الإسلامية،
وأَتمُّها استعدادًا الآن بلاد الهند وبلاد مصر وقد بدأ مسلمو الهند يسعون في التعليم
الأهلي، وشعروا بأنه لا يكون تامًّا نافعًا إلا بإنشاء المدارس الكلية، فاقترح مؤتمر
التربية الإسلامي في هذا العام جمع ألف ألف روبية لإنشاء مدرسة كلية، والمرجو
أن يتم لهم ذلك في وقت قريب، وأن تكون التربية في هذه المدرسة مِليّة إسلامية،
كما وافق على ذلك كبراء الإنكليز هناك، ولا بد لمسلمي مصر أن يتلوا تلوّ مسلمي
الهند في ذلك عن قريب إن شاء الله تعالى، وسيكون للخطب والمقالات تأثير عظيم
في جمع المال اللازم لذلك، فإن الجرائد كالحُدَاة ولا حُدَاء إلا أن يكون مسيرٌ كما، قلنا
في العدد الثاني من منار السنة الأولى ولا يرجى من الذين اتخذوا من دون الله
أولياء، وربطوا قلوبهم بقبور الأموات وقيدوا عقولهم بخرافات الأحياء، أن
يساعدوا على إنشاء مدارس للعلوم الكونية، وهم يشعرون بأنها القاضية على
تقاليدهم الوهمية.
هذه هي الطريقة المثلى للإصلاح ولا يجد المصلحون من الأمة غيرها، أما
الملوك والأمراء فإن لهم إذا أرادوا الإصلاح عملاً آخر وهو أن يبدؤوا بالقوة
العسكرية؛ فيعززوها ما استطاعوا لتكون الدولة آمنة من اعتداء الأعداء الذين
يشغلونها عن الإصلاح الداخلي متى آنسوا منها الضعف ثم يوجهون الأمة إلى تعميم
التربية والتعليم، وتنمية الثروة بالزراعة، والتجارة، والصناعة، ويقيمون حكومة
الشورى، ويجتهدون في توثيق الصلات بينهم وبين أمثالهم من الأمراء والسلاطين،
ولكل حكومة إسلامية ضرب من السير في الإصلاح يختصّ بها، ولا تبلغ الغاية
بدونه. وقد أخطأ سلطان مراكش ما يليق بحاله من السير في طريق الإصلاح
فزلّت قدمه، وكان الواجب عليه قبل كل شيء إصلاح الجندية - كما سبق لنا القول
في غير هذا الجزء - ليأمن العدوان الداخلي والخارجي، ثم يشرع في تعليم الأمة
وتربيتها مستعينًا في أول الأمر بالمسلمين، كالمصريين الموافقين لأهل بلاده في
اللغة، ثم بالأجانب الذين لا طمع لهم في بلاده عندما تستعد بلاده لذلك فلا تأنف
منه.
على أن أملنا في جميع حكام المسلمين ضعيف، بل نحن أقرب إلى اليأس
منهم منا إلى الرجاء فيهم. وهكذا شأن الملوك الذين أَلِفُوا الاستبداد، وما كان عمل
عاهل اليابان؛ إلا فلتة من فلتات الزمان، والظاهر لنا أن كل ما هو مخبوء في
الغيب من الخير لهذه الأُمة؛ فإنما يكون بسعي بعض العقلاء من أفرادها دون
الملوك والأمراء، ولله في غيبه شؤون، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
__________
(1) يقال رَبَلَ الناس إذا كثروا ونموا ولا أعرف له رباعيًّا، وأَرْبلَتْ الأرض أنبتت الربل، وهو شجر لا معنى لهذا هنا.(5/921)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مدنية العرب
النبذة السادسة
تابعة لما نشر في الجزء 23 من المجلد الثالث
ينبغي للإنسان أن يجتنب الوعد ما استطاع، وأن يجتنب تحديد الوعد بزمان
أو مكان، إذا هو وعد إلا إذا اضطر إلى ذلك اضطرارًا، وقلما يأتي الاضطرار
في الأمور العامة، كُنَّا شرعنا في السنة الثالثة للمنار بكتابة مقالات في مدنية
العرب أو مدنية الإسلام في عهد الدول العربية، فكتبنا خمس نُبَذ في منشأ تلك
المدنية، وكونها قامت على أساس الدين وتولدت من تعاليمه، ثم في اشتغال العرب
بالعلوم الكونية، وما اكتشفوه واخترعوه في علم الفلك وسائر العلوم الرياضية
كالحساب والجبر والهندسة، ووعدْنا بأن نتم هذا المبحث في السنة الرابعة، فمرت
السنة الرابعة ولم يتح لنا فيها الوفاء بالوعد، ولكننا استأنفنا وعدًا آخر في آخرها
بأننا نتم ذلك في هذه السنة، وقد مرت السنة حتى لم يبق منها إلا هذا الجزء ولم
نتمكن من إنجاز الوعد لأن المقالات المتسلسلة زادت في هذه السنة عما قبلها بنشر
مقالات جمعية أم القرى ومقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) التي كان
فيها شيء إجمالي من موضوع مدنية العرب، وقد رأينا أن نختم هذا الجزء بنبذة
سادسة وفاءً بالوعد بقدر الإمكان فنقول:
***
الجغرافيا الرياضية
وتقويم البُلْدان
أشهر كتب الجغرافيا اليونانية كتاب بطلميوس وأَزْياجه وقد كانت آراء
بطليموس تؤخذ على عِلاتها؛ لأن العلم صار تقليديًّا حتى تناوله اجتهاد العرب؛
فطَفِقوا من عهد المأمون يصححون أغلاط اليونان في الفلك وسائر الرياضيات -
كما تقدم -، ومن ذلك أنهم صححوا أرصاد المجسطي بالزِّيج الجديد، وأعادوا
تحديد أطوال الأرض فكان أتمها تصحيحًا تحديد بلاد العرب والخليج الفارسي
والجزيرة وبلاد فارس والبحر المتوسط، ولما اشتغل الأوربيون بهذا العلم ظلوا
زمنًا طويلاً مغرورين بكتاب بطليموس حتى ظفروا بكتب العرب وتصحيحهم
لأغلاط بطليموس.
بدأ العرب بتصحيح أَزْياج بطليموس في أول القرن الثالث على عهد المأمون،
ولكن ذلك التصحيح لم يكن تامًّا، فإن البيروني في أول القرن السابع هو الذي
صحح الغلط في حساب أطوال بلاد الروم، وما وراء النهر، والسند، وألف قانونًا
جغرافيًّا، كان قدوة للمشتغلين بالقسموغرافية من بعده.
وأتم عمر الخيّام حساب جداول التقويم السنوية (الروانامه) في سنة
469 و 470 وحدد مدة السنة الفلكية أصح تحديد وصنع الشريف الإدريسي في
أوائل القرن السادس خريطة جغرافية من الفضة لملك صقلية حفر فيها باللغة
العربية صور جميع الممالك المعروفة في ذلك العهد، وألَّف كتابًا في الجغرافية
بَيَّن فيه أول نقطة تماس بين جغرافية اللاتينيين وجغرافية المدارس الإسلامية،
وقد عكف رسامو الخرائط الجغرافية في أوربا على مُؤَلَّفِهِ ثلاثة قرون ونصف،
يتقلدونه كما هو لا يزيدون فيه ولا ينقصون منه، وكان من علماء هذا الفن في
المغرب أبوالحسن علي المراكشي في أول المئة السابعة للهجرة الشريفة، وقد قال
سيديو: إن كتابه كان أجلّ الآثار العلمية فيما عليه العرب من علم الجغرافية،
وكان لعلم الجغرافية خرائط بحرية أيضًا عثر الأوربيون على بعضها في أول
المئة التاسعة للهجرة، ووجدوا خريطة بحرية أخرى من رسم عمر العربي سنة
1684م أي سنة 1058 هـ.
أما الجغرافية الوصفية أو التخطيطية فقد عرفها العرب قبل الجغرافية
الرياضية، واتسعت معرفتهم بها باتساع فتوحاتهم وتجارتهم، قال سيديو: إنهم
حين امتدّت مملكتهم من المحيط الأطلانطيقي إلى تُخُوم مملكة الصين أنشؤوا
بالتدريج أربع طرق عظيمة تجارية توصل بين مدينتي قادس وطَنجة إلى أقصى
آسيا.
(إحداها) تخترق أسبانيا وأوربا وبلاد سلاوونة إلى بحر جرجان ومدينة
بَلْخ وبلاد تجزجز.
(والثانية) تخترق بلاد المغرب ووادي النيل ودمشق والكوفة وبغداد والبصرة
والأهواز وكرمان والسند والهند.
(والثالثة والرابعة) تعبران البحر الأبيض المتوسط وتتجه إحداهما من الشام
والخليج الفارسي والأخرى من الإسكندرية والبحر الأحمر للتوصل إلى بحر الهند،
فكثرت بهذه الطرق السياحات ونقل السياحون إلى أقصى البلاد ما عند العرب من
الأفكار والتمدن واستفاضت الأخبار الجليلة الفوائد؛ فنورت أذهان الملاحين
وعرفتهم الأخطار التي يخشى عليهم الوقوع فيها؛ إذا سافروا في ولايات غير
مكتشفة تمام الاكتشاف، واشتملت الأزياج التي حررها البتاني بالرَّقَّة سنة تسعمائة
(287هـ) وابن يونس في القاهرة سنة ألف (390هـ) على كتاب رَسْم
الأرض بلا تغيير كبير، وأما ابن حوقل والإصطخري والمسعودي المشهورون في
نصف القرن العاشر من الميلاد فوصفوا في كتبهم صورة الاكتشاف الجديد،
وحسب العلامة الكومي سنة 1067 الأطوال من ابتداء الطرف الشرقي من الأرض
القارة.
وزعم بعض الفرنج أن العرب كانوا متَّبعين في أول عصر بني العباس
الرواياتِ الهندية مع أن كتاب مبادئ الفلك المسمى (بسند هند) إن صح نقله إلى
المنصورة سنة 775 (158) لم يكن له عظيم اعتبار عند العرب؛ فإنهم ظفروا
عما قليل برسالات يونانية وتركوه لا يتفوّهون باسمه إلا ليبينوا ما فيه من الغلط،
ولم يعولوا في شيء من الجغرافية على كتب توضح أن شبه جزيرة هندستان في
مركز العالم وأن خط نصف النهار الذي يبين نقطة وسطها يخترق مدينة أوجين
وجزيرة سيلان، وبحث العرب في كتبهم عن خط نصف نهار القبة الأرضية، وهي
فيه عرين للتنصيص على الأطوال، فظن بعض الفرنج أن المراد من (عرين)
مدينة أوجين وهو خطأ فادح، فإن القبة المنسوبة إلى عرين هي نقطة تقاطع
الدرجة التسعينية من حساب بطلميموس مع خط الاعتدال على بعد متساوٍ من
الجهات الأربع الأصلية، وليست هي قبة أوجين فإن العرب كانوا يعرفون حق
المعرفة محل أوجين الجغرافي وأما (عرين) فكلمة اصطلاحية أرادوا بها جزيرة
موهومة بين هندستان وبلاد الحبشة سماها المؤرخ ديودور الصقلي جزيرة
أورانوس، وبدل العرب خط نصف نهار عرين أو قبة الأرض بخط نصف النهار
المار بالجزائر الخالدات فاتُّبِعَ ذلك من ابتداء القرن الحادي عشر إلى الثالث
عشر. اهـ
وقد ألف العرب كتبًا مخصوصة في مسالك البلدان حتى صار علمًا مستقلاً
وفي أسماء البلاد والأماكن ككتاب مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع
ومعجم ياقوت والمشترك، وتقويم البلدان للملك المؤيد صاحب حُمَاه وتقويم البلدان
للبلخي كتاب (أوضح المسالك إلى معرفة البلدان والممالك) (وهذا أُلِفَ في عهد
الدولة العثمانية وأهداه مؤلفه محمد بن علي الشهير بسباهي إلى السلطان مراد
الثالث 980 ثم اختصره بالتركية.
***
العلوم الطبيعية
الكيمياء والصيدلة:
قد ارتقت العلوم الطبيعية عند العرب، واتسعت مذاهبها، وكثر الاكتشاف
والاختراع فيها، على أن حظها كان دون حظ العلوم الرياضية؛ لأن العمدة في
العلم الرياضي العقل والعمل مؤيد له، والعمدة في العلم الطبيعي العمل والعقل
مساعد له، وما يتوقف الارتقاء فيه على العمل لا يرتقي إلا بالزمن الطويل،
كانت العلوم الطبيعية من عهد أستاذها الأول أرسطاليس ضئيلة ضاوية، ثم ماتت
بضعفها، ولمَّا أحياها العرب بإحياء الإسلام لهم تنكبوا طريق النظر المحض فيها،
واعتمدوا على التجربة؛ فحولوا الكيمياء الوهمية إلى حقيقية واشتقوا منها فن
الصيدلة (تركيب الأدوية) ، وانتقلوا إلى التاريخ الطبيعي فاكتشفوا بذلك خواص
نبات بلادهم وصموغها البلسمية، وأفادوا بها الطب والصناعة فوائد جليلة، قال
سيديو: إن البحث عن الجواهر الطبية الذي مدحه ديوسقوريدس لأهل مدرسة
الإسكندرية كان من مخترعات العرب، فإنهم هم المنشئون للصيدليات
(الأجزخانات) الكيماوية والموروث عنهم ما يسمى الآن بقواعد تحضير الأدوية
الذي انتشر بَعْدُ من مدرسة سالرنة في الممالك التي في جنوب أوربا:
ومن مخترعات العرب في الكيمياء، الكحول أو الغُول، الذي صار قِوَام
الأعمال الكيمياوية والصيدلية، وتركيب حمض الكبريت، والماء الملكي، والماء
المعشر، والجلاب، وغير ذلك من الأدوية والمعاجين والمربيات والهلامات.
قال في دائرة المعارف: (وهم أول من اخترع السواغات لإذابة الأصول
الفعالة للأدوية سواء كانت معدنية أو نباتية أو حيوانية، واخترعوا الأنبيق والتقطير
والتسامي ووضعوا في أيام الخلفاء قانونًا أقرباذينيا، كانت جميع التراكيب
الأقراباذينية المذكورة فيه مثبتة من طرف الحكومة لا يجهز خلافها) أي أنهم هم
الذين جعلوا عمل الصيدلة رسميًّا بمعرفة الحكومة.
وأشهر العلماء المخترعين في الكيمياء والأقراباذين (الصيدلة) أبو بكر
الرازي صاحب كتاب (الترتيب) فيها، والكتب الكثيرة في الطب والفلسفة (توفي
سنة311هـ) وهو المخترع للمسهلات اللطيفة، ولاستعمال كثير من النبات في
الطب، والرئيس أبو علي بن سينا فيلسوف الشرق وأكبر أطبائه، وابن رشد
فيلسوف الغرب، وأكبر أطبائه، وقد ترجم الأوربيون أكثر كتب هذين الفيلسوفين،
وانتفعوا بها كما انتفعوا بكتب الشيخ أبي بكر الرازي ويشهدون للجميع بالتبريز في
العلوم.
***
الطب:
لا يعرف التاريخ أُمة أقدم عهدًا في صناعة الطب من المصريين فهم
أساتذة اليونانيين وأئمتهم، ولكن طبهم كان ممزوجًا بالأوهام والتقاليد الخرافية
كاعتقادهم أن الصرع يكون بدخول عفريت من الجن في جسم الإنسان، وكانوا
يعالجونه بالرُّقى والعزائم، وإنما برعوا في فرع واحد من فروع الطب، وهو
التحنيط، وكان التشريح مذمومًا عندهم، والأطباء من غير الكهنة محتقرين يعاقبون
إذا مات من يعالجون، ثم لمَّا دالت دولة العلم إلى اليونان بعد انحلال المصريين
عنوا بالطب، فكان علمًا محترمًا، ثم قضى الرومانيون على علم اليونان، كما
قضوا على دولتهم، وكانت عنايتهم في المعالجة مقصورة على الرُّقَى والطلاسم
ومجربات العامة التي يتناقلونها، ثم أحوجتهم الحضارة إليه فأجلوا الأطباء بعد
احتقارهم، ولكن الرومان أنفسهم لم ينبغوا في الطب وفنونه، بل احتقروه في أول
دولتهم واحترموه في عنفوانها، ثم عفا وانحلّ بانحلال دولتهم حتى إذا نهض
الإسلام بالعرب لم تكن لهذه العلوم سوق نافقة في الأرض فأحيوها بعد موتها.
دائرة المعارف: ولما كانت فتوحات العرب، وضربوا في طول البلاد
وعرضها كان الطب كسائر العلوم في أسفل دَرْك الهوان والخمول؛ فنهضوا به
نهضة جديدة، والتقطوا مسائله من كتب اليونان وغيرهم وأودعوه كتبهم مع زيادة مما
توسعوا فيه بالبحث والتحري، وأجادوا بتعريفه ووصفه وتقسيمه:
(ثم قال) : ولم يكد يفرغ الخلفاء ومَن وَلِيهم من بني أمية من بسط جناح
الإسلام حتى أخذ الخلفاء يلِجون باب العلم كما ولجوا باب الفتوحات فكان للطب علم
وافر، واستعانوا بعلماء اليهود والنصارى عملاً بالحديث القائل (استعينوا على كل
صنعة بصالح أهلها) فكانت للأمويين من ذلك بعض الآثار، ولكن الآثار المشيدة
والمساعي الحميدة، إنما كانت للعباسيين في بغداد ومن ثم للأندلسيين فاتخذ السفَّاح
العباسي أطباء ماهرين أقام بختيشوع النسطوري رئيسًا عليهم وطبيبًا خاصًّا له كما
كان جويه اليهودي عند عمر بن عبد العزيز الأموي:
ثم ذكر بعض كبار أطباء العرب ومؤلفاتهم واكتشافاتهم، وقال:
(وعلى هذا كانت دولة العرب عُرْوَة الوصل بين طب المتقدمين وطب
المتأخرين، ولولاهم لانتثر العقد، وعفا الكثير من معالم العلم والعرفان، فإن معظم
ما تناوله الإفرنج من علم الأقدمين قبل فتح القسطنطينية إنما كان عند العرب،
وظل اشتغال العرب مدة مديدة منحصرًا في النقل والتقليد لا يأخذون إلا بما ينقلون
ويذهبون مذهب الأقدمين، فبينما تراهم عالمين بالأمزجة والأغذية وباحثين في
الداء والدواء؛ وإذا بهم يقولون بالتنجيم والعزائم، والرُّقى والطلاسم، وكان هذا
شأنهم إلى أن نبغ منهم علماء حكماء، فاستجلوا كثيرًا من الحقائق العلمية وأبقوا
للخَلَف من مبتكراتهم وتوسعاتهم مباحث واكتشافات، فهم أول من دقق البحث في
الحُميات النفاطية كالجُدري والحصبة والحمى القرمزية، وحسبنا من ذلك رسالة
الرازي وهم الذين لطفوا المسهّلات، وأشاروا باستعمال المن، والسنا،
والتمرهندي، والراوند، والكافور، وغير ذلك. وإن كانوا عرفوا منافع أكثر تلك
المواد بما ترتب لهم من العلائق التجارية مع الصين والهند فليس في ذلك ما يخفض
من قدرهم ويقلل من فضلهم، وهم الذين حسنوا صناعة التقطير والتخمير وتشكيل
الأواني المعدنية، وكانت لهم اليد الطُّولى في فن الصيدلة فوضعوا أسسه ووطدوا
أركانه فأفادوا العالم فائدة خلدها لهم التاريخ.
ثم قال الكاتب: وفوق اشتغالهم بطب البشر عنوا بعض العناء (كذا)
بالبيطرة، وهي طب الخيل والزردقة، وهي طب الطيور، وسائر العلوم التي لها
علاقة صريحة أو غير صريحة بالطب كالبزدرة، وهي صناعة الغرس والطبيعيات:
(إلى أن قال) : ولهذا قبضوا على ناصية الطب كما استقلوا بأزِمَّة العلم من فلك،
وهندسة، ونبات، وكيمياء، ومنطق، وطبيعيات وما وراء الطبيعيات، ولبثوا
أربعة قرون متوالية مستودع المعرفة وملجأ الحكمة أي منذ تولي الرشيد في بغداد أو
قبيل توليه إلى موت ابن رشد، ولا عبرة بالفترة التي حصلت بعد وفاة ابن سينا
فإن العلم لم يمت في خلالها.
(قال) : والعجب كل العجب أنه قامت بعد ذلك للمسلمين دول شتى ذات
قوة وشأن عظيم فكان منها العرب، والعجم، والترك، والتتر، ولم تفلح دولة منها
هذا الفلاح، وإن لذلك بلا ريب أسبابًا نضرب عنها صفحًا لخروجها عن دائرة
بحثنا. اهـ
نقول: إن المدة التي ذكرها هي التي كان فيها العلم العربي في عنفوان شبابه،
وقد ولد قبلها ومات بعدها بزمن، وابن رشد مات في 595هـ، ولم يكن بعد
ذلك للعرب دولة قوية بروح الدين وحياة الخلافة الإسلامية، وإن كان لدولة الترك
من القوة الحربية، ما لم تصل إليه دولة سواها، ولم تكن حياة العلم في دول
العرب بالقوة الحربية وإنما كانت بالقوة الأدبية التي جاءتهم من الإسلام، ولم يُقم
الإسلام غيرهم كما يجب أن يقام، وقد ظهرت الدولة العلية بعد موت ابن رشد
بنحو مائة سنة فإن انقراض الدولة السلجوقية كان سنة 699هـ وعلى أنقاضها بنى
السلطان عثمان الأول بناء سلطنته خلدها الله تعالى بتوفيق القائمين على سريرها
للعدل والإصلاح. آمين
(للمقالات بقية)
__________(5/930)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الكرامات والخوارق
المقالة السابعة
تابعة كما في العدد 41 من المجلد الثاني
نشرنا في منار السنة الثانية مقالات في كرامات الأولياء ذكرنا في مقدمة
المقالة الأولى منها (2: 26) أن النظر في هذه المسألة من وجوه حقيقتها،
والحكمة فيها. حجج القائلين بجوازها ووقوعها. حجج المنكرين لها، ادعاء جميع
الأمم لها، منفعة الاعتقاد بها ومضرّته، تمحيص الحقيقة فيما نقل من الكرامات،
وقد بَيَّنا هذه الوجوه والمباحث إلا مبحث منفعة الاعتقاد بالخوارق ومضرته فقد كنا
عازمين على أن نرجئه إلى أن ننقل طائفة من الخوارق التي تُؤْثَر عن كهنة
الوثنيين والكتابيين؛ إيضاحًا لما جاء في عرض القول من أن جميع الأمم تدعي
لرؤساء دينها الخوارق والكرامات، ولما كان هذا يتوقف على مراجعة كتب الدين
لتلك الملل، وذلك لا يتيسر إلا في وقت الفراغ ظللنا نتربص هذا الوقت فمرت
السنة الثالثة ولم نُصِبْه فيما بعدها؛ فوعدنا في آخرها بأن سنتم في الرابعة مبحث
الخوارق، ومبحث مدنية العرب، ومرت الرابعة مختومة بوعد آخر لم نر بدًّا من
الوفاء به مع الإيجاز كما بدأنا الوفاء بمبحث مدنية العرب، ونسأل الله تعالى أن
يتوب علينا من الوعود المحدودة؛ وإن كانت آجالها ممدودة.
اضطررنا إلى الوفاء بهذا الوعد (إكمال مبحث الكرامات) الذي ضاق عنه
حولان كاملان في أضيق الأوقات علينا وأكثرها شواغل - في جزء آخر سنة تقدمه
عيد لا عمل فيه، وانحراف في المزاج من النزلة الوافدة (الإنفلونزا) وزاحمه مع
الأعمال الإدارية والحسابية الاشتغال بالانتقال من المنزل الذي نحن فيه إلى منزل
آخر مجاور له والاشتغال بتأسيس مطبعة المنار، وهذه عاقبة من عواقب التسويف
السيئة ذكرناها تأديبًا لنفسنا ولغيرنا ولتكون لنا في الاختصار والإيجاز في موضوع
كنا نود التطويل فيه؛ لأن للاعتقاد بالخوارق تأثيرًا في الأخلاق والآداب والعادات
وشئون المعيشة والكسب، وإن شئت فقل: إن لها التأثير العظيم في سير الأمم،
فرسوخ هذا الاعتقاد في قوم وزِلْزاله أو زواله من نفوس قوم هو من علل ما عليه
الأقوام من التقدم والتأخر في السيادة والثروة وضدهما.
***
(الخوارق عند الوثنيين)
كانت الأديان الوثنية كلها قائمة بخوارق العادات، وكان لقدماء المصريين
منها النصيب الأوفر ولا يزال وَثَنِيُّو الهند إلى اليوم يأتون بخوارق مدهشة، ومن
أغرب خوارق البراهمة الجلوس في الهواء، ولكن الأوربيين تمكنوا بصناعتهم من
محاكاة هذه الخارقة، ومن خوارقهم أنهم يضعون النار في أفواههم، فلا تضرهم
على أنهم يلفظونها غير مطفأة، ومنها أنهم يظهرون أشياء من العدم، ومنها أنهم
يستنبتون الشجر من البِزْرة في مدة قليلة خارقة للعادة، ومنها أنهم يذبحون الإنسان
ثم يحيونه، ومنها أنهم يخبرون عن المغيّبات فيصيبون، ومن أحقرها ملاعبة
الأفاعي والثعابين والتعرض للسعها.
وقد نشرت جريدة الأهرام من مدة قريبة بعض العجائب والخوارق التي تظهر
على أيدي هؤلاء الهنود، والهنود معروفون بهذه الخوارق من قديم الزمان، وقد
اعترف لهم بعض المتصوفة بشيء مما وصل إليهم، وعللوا ذلك بأنه أثر
الرياضات الشديدة التي تكون منهم (راجع كتاب الجواهر والدرر للشَّعْرَانيّ وغيره)
ومن هذا التعليل يعلم أن أصحاب تلك الخوارق لم يكونوا كلهم من الأشرار، أو
الذين يتعرضون لإيذاء الناس فتأتي التفرقة التي يُفرق بها بعض المتكلمين بين
المعجزة والسحر، بل الكثيرون منهم عباد زهّاد نُسّاك متسمكون بدينهم أتم
الاستمساك، أما التفرقة الحقيقية بين السحر وآيات الأنبياء فقد تقدمت في بحث
الآيات من الأمالي الدينية.
***
(الخوارق عند النصارى)
كل ما ذكره الذين ألفوا الكتب منا في مناقب الصالحين، وكل ما يتناقله الناس
فيما بينهم من كرامات، أولئك الصالحين أحياءً وأمواتا؛ يوجد مثله في كتب
النصارى، وفي رواياتهم اللسانية التي يدعون أنها عن مشاهدة أو ترتقي إلى
المشاهدة، ومن ذلك ظهور المسيح ووالدته عليهما السلام للعباد في اليقظة والمنام،
وظهور غيرهما من القديسين.
ومنه استجابة الدعاء، والإخبار بالمغيبات الذي يسميه المسلمون كَشْفًا،
ويسمونه نبوّة، ومنه طيّ الأرض، وتقريب المسافات البعيدة، ومنه إشراق
الوجوه بالأنوار وقت العبادة، ومنه نزول المصائب والرزايا بمن يؤذي القديس،
ومنه قضاء الحاجات، والفوز بالخيرات لمن يتوسل بأحد القديسين والرهبان
المتوحدين ويتخذه شفيعًا عند الله، ومنه شفاء المرضى والمجانين ببركات القديس
الحي إذا لمس المريض أو صلى له (أي دعا) . والقديس الميت إذا زار المصاب
قبره، ومنه حَبَل النساء العواقر بالبركة والزيارة، ومنه إخراج الشياطين من
المصروعين، ومنه ظهور الملائكة للقديسين ومصاحبتهم ومساعدتهم إياهم في
بعض الشئون، ومنه الصبر عن الأكل والشرب زمنًا طويلاً، ولكن الذي ينقل عن
الهنود من هذه الخارقة لم ينقل مثله عن غيرهم؛ فإن أحدهم يدفن في الأرض نحو
شهر أو أكثر ثم يخرج منها حيًّا، وينقلون من كرامات القديسين ما هو أعظم مما
ذكر، ويدّعون في بعضها التواتر، فقد جاء في كتاب (العيشة الهنية في الحياة
النسكية) أن من عجائب القديس أغناطيوس التي تزيد على مائة عجيبة ما هو ثابت
بشهادة ستمائة وسبعين رجلاً.
هذا تواتر حقيقي، والتواتر حجة عقلية باتفاق علماء المسلمين وغيرهم،
والذين يدعون هذه الدعوى للقديس أغناطيوس يسهل عليهم أن يسردوا أسماء أولئك
الشاهدين ومَنْ نََقَل عنهم، فلا يبقى للمنكر عليهم إلا أن يلجأ إلى تأويل تلك
الخوارق، وإثبات أنها خوارق وَهْمية لا حقيقية، وهنا يَحْكُم العقل السليم من
شوائب التحيز والتعصب، الذي ينظر إلى الأمم نظرًا واحدًا لا يريد منه إلا
استجلاء الحقائق بأن التأويل إذا جاز فيما ينقل عن قديسي النصارى وكهنة البراهمة
جاز ينقل عن شيوخ المسلمين، فإذا كانت طرق النقل عند جميع الأمم واحدة؛ فإما
أن نصدق الجميع، وإما أن نكذب الجميع، وإما أنْ نُؤَوِّل الجميع ولا رابع لهذه
الوجوه، ومن قال من هذه الفِرَق: إنني أثق بنقل قومي دون غيرهم لأنني عالم
بحسن سيرتهم، يقال له: وغيرك كذلك فليس لك أن تحتج بأن ما ينقل عن صالحي
ملتك دليل على صحتها لأن هذا الدليل هو الذي يسميه علماء النظر مشترك الإلزام.
وإذ ذكرنا القديس أغناطيوس - وهولويولا مؤسس (طُغْمة الجزويت) التي
يستغيث من طمعها سائر فرق النصرانية - فإننا نشير إلى بعض عجائبه أو خوارقه
على سبيل النموذج، قال القَسُّ أفرام في ترجمته عند ذكر رياضته الأولى بعد تركه
الجندية ودخوله في الإكلركية: (وقد اتفق له مرة أنه نهض لممارسة رياضته هذه
الاعتيادية فتقدم إلى أيقونة والدة الله (تعالى الله عن الوالدة والولد) وجثا أمامها
بأقوى ما يكون من العبادة، وقدم نفسه للسيد المسيح بواسطتها وخصص حياته
لخدمة الابن ووالدته المجيدة، واعدًا إياهما بكل نشاط نفسه أنه يخدمهما خدمة دائمة،
وفي انتهاء صلاته هذه سمع صوتًا عظيمًا، وتزلزل المكان الذي كان فيه وانكسر
كل زجاج النوافذ حتى إن حائط المكان انشق أيضًا، وأظهر الله تعالى بذلك سروره
بتقدمة عبده نفسه لخدمته عز وجل) اهـ.
وكأني بإخواني المسلمين وقد ضحكوا من هذه الأعجوبة ونظموها في سِمْط
الخوارق التي سماها المتكلمون خذلانًا، وتلوا قوله عز وجل: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقًّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي
لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} (مريم:90-92) ولكني أذكر لهم مالا يمكن أن يعدوه
خذلانا.
قال القَسُّ أفرام:
(وقد شاء ابن الرجل الذي كان أغناطيوس مقيمًا بمنزله، أن يعرف كيف يقضي
الليل فرآه مرة ساجدًا متأملا بوجه ملتهب مبتلّ بالدموع ومرة أخرى أبصره مرتفعًا
من على وجه الأرض ولامعًا بالنور كالشمس متنهدًا وقائلاً مرارًا كثيرة: (يا إلهي
يا حبيب قلبي وسرور نفسي، ليت الجميع يعرفونك حتى لا يجسر أحد منهم أن
يغيظك، فيا ما أعظم جودك ورحمتك لأنك تحتمل خاطئًا مثلي) وكأني بهم يقولون:
إن هذه رواية آحاد أو وِلْدان لا يعتد بها في هذا المقام وإن صحت: وإنني أرضى
بهذا القول بشرط أن لا يقبل قائله مثل هذه الروايات الآحادية عن صالحي قومه لأن
ما جاء على خلاف سنن الكون لا يُقْبل إلا بالدليل القاطع الذي لا يقبل النقض
كمعجزات الأنبياء عليهم السلام.
ومن قبيل هذه الأعجوبة قول القَسّ المذكورِ عنه أنه حينما كان يومًا يتلو
صلوات الكنيسة لإكرام مريم العذراء الجليلة رأى بغتة صورة ربه الثالوث الأقدس
وهذه الرؤيا نوّرته وعزته جدا حتى إنه لم يقدر في ذلك النهار كله أن يكف عن
ذرف الدموع، ولم يتكلم إلا عن الثالوث الأقدس بنوع جلي سام بحيث كان يذهل
بخطابه عقول أجلّ علماء اللاهوت مع أنه كان لا يعرف حينئذ إلا القراءة والكتابة،
ومرة أخرى رأى في القداس حقيقة وجود جسد المسيح ودمه في القربان المقدس)
اهـ. ولهم أن يقولوا في الكلام اللاهوتي الذي قاله من غير تعلم إنه ليس من
الخوارق؛ لأن الأذكياء إذا توجهوا إلى شيء واعتنوا به، فلا يبعد أن يقولوا فيه
قولاً غير منتظر ممن في درجتهم العلمية، وليس في درجتهم العقلية، ثم إننا لا
نعرف ما هو ذلك القول لنحكم أنه محل للإعجاب في الجملة فكيف نحكم بأنه علم
لَدُنيّ إلهي جاء بغير تعلم، وربما كان في الواقع خطأ، نعم إن أهل العلم والعقل من
المسلمين يقولون هذا، ولكن فينا كثيرًا من المدعين للولاية ليس لهم كرامة إلا الأقوال
التي يسمونها علومًا لدنية، وما هي إلا من اللغو والجهالة، ومنهم دجال الزقازيق
الذي يدعي أنه يفسر القرآن بالإلهام، ويعتقد صدقه الجمّ الغفير فيقصدونه من كل
جانب بالهدايا والنذور ومثله كثير.
وأما رؤية جسد المسيح ودمه في القربان، فهي دعوى بغير برهان، ومثل
ذلك دعوى ظهور الشيطان له بزي ملك النور وحثه على الرياضات والعبادة ليصرفه
عن العلم عندما قلل العبادة واشتغل بالعلم (قالوا) : ولكنه عرفه ولم ينخدع. ولكن
عندنا مثل هذه أيضاً فقد ذكروا أن الشيطان ظهر للشيخ عبد القادر الجيلي بصورة
نورانية وقال له إنه رفع عنه التكاليف فعرفه عبد القادر وقال: اخسأ يا ملعون. فعند
ذلك تحول إلى ظلمة، وقال له نجوت مني بعلمك يا عبد القادر وإنني قد فتنت بهذه
الحيلة كذا من العباد وذكر عددًا كثيرًا.
ومن عجائب أغناطيوس وخوارقه التي دونوها، أنه عندما رجع من القدس
إلى أوربا طلب من ربان سفينة (الربان رئيس الملاحين) أن يحمله إلى إيطاليا
حبًّا في الله؛ فأبى وحمله ربان آخر فانكسرت سفينة الذي أبى؛ ونجت سفينة الذي
حمله، ومثل هذه أنه رأى مرة جماعة يلعبون (فطلب منهم الصدقة؛ فنظر إليه
واحد من الجمهور وهتف قائلاً نحو القديس: ليحرقني الله حيًّا إن كان هذا الرجل
لا يستحق أن يحرق حيّا، وفي ذلك النهار عينه حضر فرجة دنيوية مبهجة، وكان
واقفًا على برميل ممتلئ بارودًا؛ وإذا بشرارة ملتهبة وقعت على ذلك البرميل
فاشتعل البارود حالاً وأحرق الرجل حيًّا) . وعجيبة أخرى من هذا القَبِيل وهي أنه
لما جمع (ينسي) بأمره الرهبان في مكان ليقرأ عليهم قوانينه التي وضعها لهم بعد
الخروج من المائدة، واجتمعوا انهدم الرواق الذي كانوا يتذاكرون فيه بعد الأكل
ولولا هذا لانهدم عليهم الرواق، وههنا يقول القارئ: إن هذه الوقائع هي التي نقلها
الكثيرون وعَدّوها عجيبة متواترة وما هي بعجيبة وإنما هي وقائع حدثت بأسبابها
وكان حدوثها بعد ما ذكر من باب المصادفة والاتفاق لا أن سر القديس كان سببًا في
حدوثها، ومثل ذلك يتفق لكل أحد ولكن الناس لا يلتفتون إلى هذه المصادفات إلا إذا
كان هناك من يعتقدون صلاحه، وهذا القول صحيح وهو ما يصدق فيما ينقله قومنا
من مثل ذلك عن معتقديهم من الأحياء والأموات.
ألم يقل كثير من الناس: إن الشيخ محمد عبده اتُّهِمَ في هذه المسألة العُرابية
وحبس وهو بريء، لأن الشيخ عليشًا غاضبًا عنه؛ فكان ذلك كرامة للشيخ عليش،
ولم يلتفتوا أن الشيخ عليشًا قبض عليه وحبس أيضًا، ولم يقولوا إن ذلك
كرامة للشيخ محمد عبده؛ لأن الشيخ عليشاً سمع فيه وشاية وحاول إيذاءه.
وذلك أن الشيخ محمد عبده كان متهمًا بالعقل والحكمة لأنه أول من قرأ في الأزهر
كتاب العقائد النسفية وبعض كتب المنطق والحكمة، التي لم تكن تقرأ لذلك العهد ثم
صارت تقرأ بعد ذلك بلا نكير، ألم يقل بعض الناس إن ابن الشيخ الظواهري أخذ
شهادة التدريس لأن والده يخدم ضريح السيد البدوي فتلك كرامة للسيد؟ وقد أخذ
مثل هذه الشهادة كثيرون ولم يعد ذلك كرامة لأحد، بل قال بعض الحمقى في هذه
الأيام إن الشيخ عليًّا البيلاوي صار شيخًا للأزهر بسر سيدنا الحسين (عليه الرضى
والسلام) لأنه كان خادمًا للمسجد الذي فيه الضريح المنسوب له! وقد خدم هذا
المسجد غيره ولم يكافئهم سيدنا الحسين بهذه المكافأة ونال مشيخة الأزهر كثيرون لم
يخدموا المسجد الحسيني فلمْ يعدَّ ذلك من الكرامات وخوارق العادات! ! !
ذكرنا هذه الشواهد المتعلقة برجال معروفين من أهل الطبقة العليا في
المسلمين، ويعرف كل واحد من الناس مالا يحصى من أمثال هذه الشواهد التي
يلهج بها الناس في كل مكان وهي عندهم أقوى من كل برهان، بل أقوى من الحس
والعيان والإحساس والوجدان، بل هي ركن الإسلام والإيمان، ويخشى بعض
الخواص من تشكيكهم فيها أن يمرقوا من الدين وينفلتوا من جماعة المسلمين، وقد
نقلنا هذا الرأي فيما سبق عن بعض كبار الشيوخ، وهو أنه يجب التأني في بيان
الحق في مسألة الاعتقاد بالأولياء، والتِمَاس المنافع، ودفع المضار من أصحاب
القبور، وجَعْل ذلك تدريجيًّا؛ لئلا نفسد اعتقاد العامة الذين لا يعرفون من دلائل
الدين غير ذلك، وقد تقدم في مقالات البحث في إثبات الكرامة، وسنذكر في الجزء
الآتي الحق الصريح الذي ينبغي تلقينه للناس في المسألة، وبيان منافع هذا الاعتقاد
ومضارّه، ووجوه تأويل ما ينقل عن جميع الأمم من الخوارق، فلا يعجلَنَّ القارئ
المغرم بهذه المسائل بالحكم حتى يقرأ المقالة الآتية مفصلة تفصيلاً.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(5/938)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة
المَلَكانِ ومسائل عبد الله بن سلام
(س 1) ا. ز. ع بالسويس: سأل عبد الله بن سلام النبي صلى الله عليه
وسلم قبل إسلامه وكان اسمه أشماويل ألفًا وأربعمائة مسألة وأربع مسائل من
غوامض التوراة، أذكر منها سؤالاً نصه: (أخبرْني أين مقعد الملكين من العبد وما
قلمهما وما لوحهما ومدادهما؟ فقال صلى الله عليه وسلم: مقعدهما بين كتفيه،
وقلمهما لسانه، ودواتهما ريقه، ولوحهما فؤاده، يكتبان أعماله إلى مماته. فقال
صدقت يا محمد) إلخ.
وقرأت حديثًا في مجلة مكارم الأخلاق الإسلامية أُتِيَ به لسؤال عنوانه
(القضاء والقدر) وهذا معناه: (كل يوم ينزل على العبد مَلَكان مع كل منهما
صحيفتان إحداهما بيضاء والأخرى مكتوب فيها أعمال العبد من حسنات وسيئات،
فيكتبان في الصحيفتين البيضاويتين ما عمله طول يومه، حتى إذا انتهى النهار طالع
الملكان الصحيفتين اللتين كتباهما على الأُخْرَيَيْنِ فيجدانهما مثل بعضهما حرفًا
بحرف) إلخ، فهذان الحديثان ينافي أحدهما الآخر ففي الأول أن لوحهما فؤاد العبد
وفي الثاني أنه صحيفتان ينزلان بهما فالرجاء الإفادة هُديتم للهدى.
(ج) كل من الحديثين غير صحيح، ولا يجوز لكم أن تأخذوا بحديث
ترونه في كتاب أو مجلة أو جريدة، إلا إذا كان موصولاً بذكر من خرجه من أئمة
الحديث، حتى تسهل مراجعته، ومعرفة صحته من عدمها إن لم يذكر مخرجه ذلك
ولم يكن في الصحيحين، وهذه القصة المؤلفة في مسائل عبد الله بن سلام المذكورة
في جريدة العجائب - جعبة الكذب - قصة موضوعة الذي في صحيح البخاري أن
عبد الله بن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاث، عن أول الساعة،
وعن الولد ينزع لأبيه وأمه، والرواية هكذا في غير البخاري، وفي كتب
السير، قالوا وكان اسم ابن سلام الحصين فلما أسلم سمّاه رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم (عبد الله) .
***
ما رُؤِيَ في الإسراء
مستقر الأرواح. عذاب القبر
(س2) منصور أفندي رفعت بمصر، ماذا رأى نبينا محمد في ليلة
الإسراء؟
(ج) {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} (النجم: 18) .
***
(س3) ومنه: أين تستقر أرواحنا بعد الممات؟
(ج) لم يرد في هذا نص صريح قطعي، والعلماء مختلفون فيه، والراجح
عندنا اتباع طريقة السلف في تفويض الأمر لله تعالى في الأمور الغيبية، وعدم
البحث فيها. وحَسْبنا أن ما ورد جائز عقلاً وقد أخبر به المعصوم.
***
(س4) ومنه: ما هو عذاب القبر المنصوص عليه وهل هو عذاب
مستمر أو وقتي وهل يقع على الروح فقط أو الجسم فقط أو هما الاثنين؟
(ج) الإحساس بالألم أو اللذة من شأن الأحياء، والجسد لا حياة له إلا
بالروح، فإذا كانت الروح في الجسد وصل إليها الألم بواسطته، يصح أن يقال إن
هذا الألم ألمَّ بالروح والجسد، وإن كان الشعور للروح وحدها، وإذا كان الروح
خلقًا مستقلاً مدركًا كما نعتقد، فلا شك أنه يجوز أن يدركه الألم في حال تجرده،
كما كان يدركه في حال تقيده بالجسد؛ فعلم بهذا أن قول العلماء: إن عذاب القبر -
أي الألم الذي ينزل بالإنسان بعد الموت وإن لم يقبر- يكون على الروح والجسد:
يتضمن القول بأنه يبقى للروح بعد الموت علاقة، واتصال بمادة الجسد الذي كانت
فيه وإن تفرقت هذه المادة وانحلت إلى أجسام كثيفة وغازات لطيفة، ويستلزم هذا
القول أحد أمرين: إما عدم فناء مادة الجسم، وإما انقطاع العذاب بفنائها،
والمشهور عن المتكلمين الأشاعرة أن الجسم ينعدم على الراجح كما قال اللقاني:
وقلْ يعاد الجسم بالتحقيق ... عن عَدَم وقِيلَ عن تفريق
والقول بالتفريق - أي بعدم تلاشي مادة الجسم - هو الراجح عند متكلمي
المعتزلة وبعض الأشاعرة، وهو الموافق لرأي الفلاسفة القائلين باستحالة العدم،
والراجح عندنا ما قلناه في جواب السؤال السابق من تفويض أمر عالم الغيب إلى
عالم الغيب سبحانه وتعالى.
***
تأثير العين
(س5) أحمد أفندي كمال الكاتب بمحكمة شبين الكوم.
جاء في القرآن الكريم وغيره من كتب الشرائع والديانات وكذا الأمثال قديمة
وحديثة ما أثبت وبرهن على وجود العين الحاسدة، وتأثيرها في المحسود فأرجو
بيان حقيقة تلك المؤثرات التي تخرج من العينين أو القلب، وكيفية تأثيرها في
المحسود من جماد ونبات وإنسان بطريقة شرعية.
(ج) ليس في القرآن الكريم ما يثبت العين، ولكن ذكر المفسرون مسألة
العين وجهًا في تفسير قوله تعالى {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا
سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} (القلم: 51) والمعنى المتبادر أنهم كانوا
ينظرون إليه نظر الغيظ والحنق، وفي آية أخرى في المنافقين {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ
نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ} (محمد: 20) .
قد ورد في حديث الشيخين وغيرهما (العين حق) أي أمر ثابت عند الناس وواقع فيهم، ولم يرد في بيان كيفية تأثير العين شيء في الشرع، وإنما ورد ما يدل
على أنها تؤثر ولا حاجة في فهم هذا التأثير إلى أكثر من المعرف المشهور، فإن
لبعض الناس استعدادًا نفسيًّا قويًّا في التأثير. ولبعضهم مثله في التأثُّر، ومن ذلك
صناعة التنويم المغناطيسي المعروفة عند الغربيين، وانتقال مطلق التأثير من
نفس إلى نفس معهود في جميع الناس أو أكثرهم فقلَّ مَنْ ينظر صاحب تأثُّر شديد
بحزن أو خوف إلا ويجد في نفسه أثرًا من ذلك.
***
المسألة المأمونية
(س6) شيخ العرب إبراهيم جلبي بالسعدين: نرجو من سيادتكم أن تفيدونا
عن المسألة المأمونية التي سأل الخليفة المأمون يحيى بن أكثم عنها حين ولاه
القضاء ما هي وما جوابها.
(ج) المسألة المأمونية مسألة في الفرائض، وهي: أبوان وابنتان لم تقسم
التركة حتى ماتت إحدى البنتين، وتركت من في المسألة، وقد سأل المأمون عنها
يحيى عندما وُصف له، وأراد توليته القضاء فقال: يا أمير المؤمنين الميت الأول
رجل أم امرأة؟
فعلم المأمون من هذا السؤال أنه قد فهم المسألة؛ لأن الإشكال فيها كان إبهام
الميت الأول الذي مات عن أبوين وبنتين، وبيان الجواب: أن الميت الأول إذا
كان رجلاً تصح المسألتان من أربعة وخمسين، وإن كانت امرأة لم يرث الجَدّ في
الثانية فتصح المسألتان من ثمانية عشر.
__________(5/945)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وصية بطرس الأكبر قيصر روسيا
(ننشر هذه الوصية تمهيدًا لمقال سنكتبه في فتنة مكدونيا وحال الدولة العلية
وروسيا وأوربا) .
المادة الأولى - من اللازم أن تقاد العساكر دائمًا إلى الحرب، وينبغي
للأمة الروسية أن تكون متمادية على حالة الكفاح لتكون أليفة الوغى، وترْك وقت
لراحة العساكر، أو لأجل إصلاح المالية وتوفيرها، وإن كان ضروريًّا يلزم معه أن
يكون تنظيم المعسكرات متعاقبًا وتكون مراقَبَة الوقت الموافق للهجوم متصلة. وعلى
هذه الصورة ينبغي لروسيا أن تتخذ زمن الصلح والأمان وسيلة قوية للحرب،
وهكذا من الحرب للصلح وذلك لأجل زيادة قوتها وتوسيع دائرة منافعها.
المادة الثانية - في وقت الحرب ينبغي اتخاذ جميع الوسائل الممكنة
لاستجلاب ضباط للجنود من بين الملل والأقوام الذين هم أكثر علمًا منا في أوربا،
وكذلك في زمن الصلح يتعين استجلاب أرباب العلم والمعارف منهم أيضًا ويلزم
الاعتناء بما يجعل الأمة الروسية تستفيد من منافع سائر الممالك ومحسناتها بحيث
لا تضيع فرصة للسعي في تحصيل المحسنات المخصوصة بمملكتها.
المادة الثالثة - عند سُنوح الفرصة ينبغي وضع اليد والمداخلة في جميع
الأمور والمصالح الجارية في أوربا وفي اختلافاتها ومنازعاتها، وعلى
الخصوص في شئون ممالك ألمانيا الممكن الاستفادة منها بلا واسطة بسبب
شدة قربها.
المادة الرابعة - ينبغي استعمال ضروب من الرشوة لأجل إلقاء الفساد
والبغضاء والحسد دائمًا في داخلية ممالكهم وتفريق كلمتهم واستمالة أعيان
الأمة ببذل المال واكتساب النفوذ في مجلس الحكومة حتى نتمكن من المداخلة في
انتخاب الملك، وبعد الحصول على انتخاب مَن هو مِن حزب روسيا من تلك الأمة
ينبغي حينئذ دخول عساكر روسيا في البلاد لأجل حمايتهم والتعصب لهم
باحتلال العساكر المذكورة مدة مديدة هناك إلى أن تحصل الفرصة لاتخاذ وسيلة
تمكننا من الإقامة، وعندما تظهر مخالفة في ذلك من طرف الدول المجاورة
فلأجل إخماد نار الفتنة مؤقتًا ينبغي أن نقاسم المخالفين في ممالكهم، ثم
نترقب الفرص لاسترجاع الحصص التي تكون قد أُعطيتْ لهم.
المادة الخامسة - ينبغي الاستيلاء على بعض الجهات من ممالك أسوج
بقدر الإمكان ثم نسعى في اغتنام وسيلة لاستكمال الباقي منها ولا نتوصل إلى ذلك
إلا بوجه تضطرب فيه تلك الدولة إلى أن تعلن الحرب على دولة روسيا وتهاجمها.
والذي يلزم أولاً هو أن نصرف المساعي والهمَّة لإلقاء الفساد والنُّفرة دائمًا بين
أسوج والدانمرق بحيث يكون الاختلاف والمراقبة بينهم دائمَيْنِ باقيين.
المادة السادسة - يجب على الأسرة الإمبراطورية الروسية أن يتزوجوا
دائمًا من بنات العائلة الملوكية الألمانية وذلك لتكبير روابط الزوجية والاتحاد
بينهم ومشاركتهم في المنافع بهذه الصورة يمكن إجراء نفوذهم في داخل ألمانيا
ويربطون أيضًا الممالك المذكورة لجهة منافعنا ومصلحتنا.
المادة السابعة - أن دولة إنجلترا هي الدولة الأكثر احتياجًا إلينا في
أمورها البحرية، ولهذه الدولة فائدة عظيمة جدًا أيضًا في أمر زيادة قوتنا البحرية؛
فلذلك كان من الواجب ترجيح الاتفاق معها في أمر التجارة على سائر الدول
وبيع حاصلات ممالكنا كالأخشاب وسائر الأشياء إلى إنجلترا وجلب الذهب من
عندهم إلى ممالكنا واستكمال أسباب الروابط والصلات الدائمة بين تجار وملاحي
الطرفين فيتوسع بهذه الوسيلة أمر التجارة وسير السفن في ممالكنا.
المادة الثامنة - على الروسيين أن ينتشروا يومًا فيومًا شمالاً في سواحل
بحر البلطيق وجنوبًا في سواحل البحر الأسود.
المادة التاسعة - ينبغي التقرب بقدر الإمكان من إستانبول والهند وإن
من القضايا المسلَّمة أن من يحكم على إستانبول يمكنه أن يحكم على الدنيا بأسرها
من اللازم إحداث المحاربات المتتابعة تارة مع الدولة العثمانية وتارة مع
الدولة الرومانية وينبغي الاستيلاء على بحر البلطيق أيضًا؛ لأنه خير موقع
لحصول المقصود والتعجيل بإضعاف بل ومَحْو دولة إيران لنتمكن من الوصول
إلى خليج البصرة وربما نتمكن من إعادة تجارة الممالك الشرقية القديمة إلى
بلاد الشام والوصول منها إلى بلاد الهند التي هي بمثابة مخزن للدنيا، وبهذه
الوسيلة نستغني عن ذهب إنجلترا.
المادة العاشرة - ينبغي الاهتمام بالحصول على الاتفاق والاتحاد مع
دولة أوستريا والمحافظة على ذلك، ومن اللازم التظاهر بترويج أفكار الدولة المشار
إليها من جهة ما نبتغي إجراءه من النفوذ في المستقبل في بلاد ألمانيا، وأما
الباطن فينبغي لنا فيه أن نسعى في تحريك عروق حسد وعداوة سائر حكام
ألمانيا لها وتحريك كل منهم لطلب الاستعانة والاستعداد من دولة روسيا، ومن
اللازم إجراء نوع حماية للدول المذكورة بصورة يتسنَّى لنا فيها الحكم على تلك
الدول في المستقبل.
المادة الحادية عشرة - ينبغي تحريض العائلة المالكة في أوستريا على
طرد الأتراك وتبعيدهم من قطعة الروملي، وحينما نستولي على إستانبول يجب علينا
أن نسلط دول أوربا القديمة على دولة أوستريا لتأخذها حربًا أو نُسكن حسدها
ومراقبتها لنا بإعطائها حصة صغيرة من الأماكن التي نكون قد أخذناها من قبل،
وبعد ذلك نسعى بنزع هذه الحصة من يدها.
المادة الثانية عشرة - ينبغي أن نستعمل جميع المسيحيين الذين هم من
مذهب الروم المنكرين رياسة البابا الروحية والمنتشرين في بلاد المجر والممالك
العثمانية وفي جنوبي ممالك (له) ونلجئهم إلى أن يتخذوا دولة روسيا مرجعًا
ومعينًا لهم، ومن اللازم قبل كل شيء إحداث رياسة مذهبية حتى نتمكن من
إيجاد نوع من الحكومة الرهبانية عليهم فنسعى بهذه الواسطة لاكتساب أصدقاء
كثيرين ذوي غيرة نستعين بهم في كل ولاية من ولايات أعدائنا.
المادة الثالثة عشرة - حينما يصبح الأسوجيون مشتتين والإيرانيون
مغلوبين واللاهوتيين محكومين والممالك العثمانية مضبوطة لنا أيضًا تجتمع
معسكراتنا في محل واحد مع المحافظة على البحر الأسود وبحر البلطيق بقواتنا
البحرية، وعلى ذلك نظهر أولاً لدولة فرنسا كيفية مقاسمة حكومات الدنيا بأسرها
بيننا لدولة أوستريا وبعرض ذلك على كل من الدولتين المشار إليهما كل منهما على
حِدَة بصورة خفية جدًا لقبول ذلك، وإذ كان لا بد من أن إحداهما تقبل هذه الصورة
فعند ذلك ينبغي مداراة واحترام كل منهما، ونجعل من كانت منهما قابلة بما عرضناه
عليهما واسطة لتشكيل الأخرى. وإذ تكون دولة روسيا حينئذ قد استولت على
جميع الممالك الشرقية، ويكون مثل ذلك أَعْظَم قطع أوربا حديثة الدخول في يد
تصرفها فعنده يسهل عليها أن تقهر وتُنكِّل فيما بعد أية دولة بقيت في الميدان
من الدولتين المذكورتين.
المادة الرابعة عشرة - على فرض المُحَال أن كلا من الدولتين المشار إليهما
لم تقبل بما عرضته عليهما روسيا، فينبغي حينئذ لروسيا أن تصرف الأفكار
لمراقبة ما يحدث من النزاع والخلاف بينهما، فإذا وقع ذلك فلا بد أن أحد الفريقين
يشتبك مع الآخر ويضعف كل منهما، وفي ذلك الوقت يجب على روسيا أن
تنتظر الفرصة العظيمة وتسوق حالاً معسكراتها المجتمعة أولاً بأول على ألمانيا
فتهجم على تلك الجهات، ثم تُخْرِج قسمين كبيرين من السفن أحدهما من بحر
أزق المملوء بالعساكر الوافرة المجتمعة من أقوام الأناضول المتنوعة، والثاني
من ليمان أرخازكل في البحر المتجمد الشمالي فتسير هذه السفن وتمر في
البحر الأبيض والبحر المحيط الشمالي مع الأسطول المقيم في البحر الأسود وبحر
البلطيق وتهجم كالسيل على سواحل فرنسا، وأما ألمانيا فإنها تكون إذ ذاك مشغولة
بحالها، وبما ذكرناه تصبح المملكتان الواسعتان المذكورتان مغلوبتين على هذه
الصورة، فالقطعة التي تبقى من أوربا تدخل بالطبع تحت الانقياد بسهولة وبدون
محاربة وتصير جميع قطعة أوربا قابلة للفتح والتسخير.
__________(5/947)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام)
سمعنا بأن أحد أعضاء المحكمة الشرعية العليا بمصر ألف كتابًا أو رسالة،
وأنها توزع في جميع المحاكم الشرعية، وعلى جميع مأذوني الشرع بالثمن،
فتشوَّفت نفوسنا للاطلاع عليها ظانين أنها في إصلاح هذه المحاكم التي يشكو الناس
من سوء سيرها، وقد استحضرنا نسخة منها، وهي كراسة للسيد محمد بخيت
المشهور في مسائل اختلف الناس فيها هل هي بدعة ينبغي تركها أم لا؟ وقد مهد
المؤلف لها بكلام في السُنة والبدعة، أما المسائل المقصودة بها فهي الترقية التي
اعتادها المسلمون في المساجد يوم الجمعة، وكذلك قراءة سورة الكهف في المسجد
الجامع عند اجتماع الناس لصلاة الجمعة والاجتماع لقراءة قصة المعراج والمولد،
وفضائل ليلة النصف من شعبان، ورفع أصوات المشيعين للجنازة بنحو ذكر وغير
ذلك، وقد كان شيخ الجامع الأزهر السابق الشيخ سليم البشري سئل عن الترقية وما
في معناها فأفتى بأنها بدعة تجتنب، ولكن ديوان الأوقاف صاحب السلطة على
المساجد لم يعمل بهذه الفتوى؛ لأن السلطة الإدارية لا تنفذ كل ما يُفتي به رجال
الدين، وإن كانت رياستهم الرسمية من قبل رئيسها، وفي الكراسة على صغرها
فوائد كثيرة منها ما يُسلَّم، ومنها ما هو منتقد، ولما كان المؤلف من كبار علماء
الأزهر الذي يُعتنى بكلامهم وجب علينا الاعتناء بكلامه والبحث فيه فنقول: ذكر
المصنف بعد سرد الأسئلة التي كتب رسالته جوابًا عنها أن الأصل في الأحكام
الشرعية الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس الصحيح وأن كل ما استند إلى أصل من
هذه الأصول فهو حكم الله وشرعه، وأن كل ما لم يكن مأخوذًا من واحد منها فهو
بدعة وضلالة وإحداث ما ليس من الدين فيه، قال: وليس كل ما يفعل في عهده
صلى الله عليه وسلم بدعة شرعية مذمومة، بل إذا حدث فعله بعد زمنه عليه
الصلاة والسلام كان بدعة لغوية وحينئذ تعتريها الأحكام الخمسة.
ونقول: إن ما ذكره هو المعروف عن العلماء وذكره ابن حجر في فتاواه
الحديثية، وسبقه الحافظ في الفتح، وفيه إجمال يحتاج إلى بيان، وهو أن ما حدث
بعد زمن التشريع إن كان داخلاً فيما لا قياس ولا اجتهاد فيه كالأمور الاعتقادية
والتعبدية فهو بدعة وضلالة قطعًا لا سميا إذا اتخذ شعارًا دينيًا، وإلا لجاز لنا أن
نزيد في الدين عبادات وشعائر كثيرة يُعْرف بها المسلمون وهي مما لم يعرف عن
الله ورسوله، وإنما نخترع لها أقيسة نسميها بها بدعًا مستحسنة، فيلحفظ القارئ
هذا.
وكما انتقدنا الإجمال في هذا الموضع ننتقد فيه التمثيل فقد مثل للبدعة
الشرعية المخالفة للأدلة القطعية بالقول بفرضية المَسْح على الرِّجْلين دون غسلهما
وعلله بالمخالفة (لنص الكتاب) ، وما جاء في الكتاب ليس نصًا فيما قال لا يحتمل
سواه، بل إن قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ} (المائدة: 6) على قراءة الجر (وهي قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو
وعاصم أي: أكثر السبعة) ، ظاهر في وجوب المسح، ولذلك أوله العلماء القائلون
بعدم الاكتفاء بالمسح بأن الجر في الرِّجْلين للمجاورة، وقد ردَّه القائلون بالمسح بأنه
قد عُدّ لحنًا؛ لأنه لم يرد إلا شاذًّا في الشعر الذي يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره
لمكان الوزن وبأنه على شذوذه لم يرد بالعطف كما في الآية وبأنه يشترط فيه الأمن
من الالتباس ولا أمن هنا. وكلام الله المعجز ببلاغته ينزه عن الشذوذ والالتباس.
وتأويل قراءة النصب بالعطف على المحل أقرب من هذا التأويل، نعم: إن الغسل
مسح وزيادة وإنه ثبت في السنة الصحيحة وعليه الجماهير إلا الشيعة وإنه أحوط،
ولكن هذا كله لا يصحح تعليل المؤلف، بأن القول بفرضية المسح بدعة لمخالفة
نص الكتاب.
ثم ذكر البدعة المكروهة وعدَّ منها زخرفة المساجد بغير الذهب والفضة،
وقال كما قال ابن حجر (وإلا كانت من القسم الأول) أي المحرم، ثم ذكر البدعة
الواجبة فقال: (وتارة يكون بدعة واجبة كنصب الأدلة للرّد على أهل الفِرق
الضالة وتعليم العلوم التي يتوقف عليه فَهْم الكتاب والسنة) ولا أدري كيف ساغ لهم
عدّ نصب الأدلة للرد على الفرق الضالة من البدع والقرآن الكريم طافح بهذه الأدلة،
نعم، إن المتكلمين سلكوا فيها غير مسلك القرآن بعنايتهم في الأدلة النظرية
المحضة وأكثر أدلة القرآن مستندة إلى المحسوسات ولكن الإتيان بأدلة جديدة لا
يقتضي أن يكون أصل نصب الأدلة بدعة، فإن البدعة في اللغة ما كان على غير
مثال سبق.
ثم طفق يستدل على أن البدعة تنقسم إلى الأقسام المذكورة فذكر أمورًا منتقدة
أولها إخراج الصحابة اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وثانيها قتالهم غير
العرب من الكفار، والثاني منصوص في الكتاب والأول جاءت به السنة أخرج
أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث عمر
(إن عشت لأُخرجَنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أترك فيها إلا
مسلمًا) وأخرج الترمذي والحاكم من حديثه أيضًا (لئن عشت، إن شاء الله
لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب) وأخرج أحمد وأبو يعلى في مسنده
والحاكم في الكنى وغيرهم عن أبي عبيدة قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال (أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا
أن شر الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ، وأخرج أحمد من حديث عائشة
(لا يبقى في جزيرة العرب دينان) وبقيت أحاديث بمعنى ما ذكر.
وقد أحسن المؤلف في قوله: (نَعَمْ ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم مع
وجود مقتضٍ لفعله كان تركه سُنّة وفعله بدعة مذمومة، ولذلك كره أصحابه عليه
الصلاة والسلام استلام الركنين الشاميين، والصلاة عقب السعي بين الصفا والمروة
إرضاء للنبي صلى الله عليه وسلم لذلك مع أنه كان يعلِّم المناسك للناس) نقول:
وكذلك يقال في جميع العبادات والشعائر الدينية؛ لأنها مبنية على الاتباع المحض
ولا مجال لاجتهاد الناس فيه؛ لأنها ليست مما يختلف باختلاف الزمان والمكان، وتقدم
إيضاح هذه المسألة في غير هذا الجزء من المنار هذا ما نقوله في تمهيد هذه
الرسالة، ولنا قول آخر في المسائل المقصودة منها بالذات نرجئه للجزء الآتي.
***
(الإسلام في عصر العلم)
صدر الجزء الثاني من هذا الكتاب، وهو مؤلَّف من أربع كراسات [كل
كراسة 16 صفحة صغيرة] الأولى في الفصل الأول من الباب الأول من مبحث
الإنسان، وهو في معرفة الإنسان نفسه، والثانية في تمهيد للبحث في حياة النبي
صلى الله عليه وسلم، والثالثة في البحث عما وراء المادة وعظيم شأنه عند علماء
أوربا المشتغلين بمسألة استحضار الأرواح، والرابعة في ملحق الكتاب الموضوع
للبحث في داء الأمة ودوائها، وقد اختار المؤلف أن يصدر في كل جزء كراسة من
كل باب من أبواب الكتاب لئلا يطول على القراء الكلام في المقدمات فيملُّوا.
وهاهنا نذكر رأيًا رآه غير واحد، وهو أن المؤلف الذي عُني أشد العناية
بتتبع أقوال الباحثين في استحضار الأرواح ويرى أنها الذريعة الوحيدة لإثبات الدين
ينبغي له أن لا يكتفي بالاطلاع على أقوال المثبتين لهذه المسألة وتعريبها، بل الذي
ينبغي له هو أن يشتغل بالمسألة عملاً ويثبتها بالتجربة والاختبار طريق العلم في هذا
العصر، وعسى أن تنهض به الهمة إلى السفر إلى أوربا والاجتهاد بتحقيق هذه
الأمنية، وههنا نعيد الترغيب في الإقبال على كتابه مساعدة له على هذه الخدمة.
***
(مذهب تولستوي)
كتاب باللغة الروسية عرَّبه سليم أفندي قبعين وهو (يحتوي على مختصر
ترجمة الفيلسوف تولستوي وآدابه وفلسفته وآرائه الدينية، وحرم المجمع المقدس
له واعتراضه واحتجاج زوجته على مضمون الحرم، ثم ردود رجال الدين الروسي
على آرائه الدينية (مزيّنا برسمه) وقد طبع الكتاب على نفقة إبراهيم أفندي فارس
صاحب المكتبة الشرقية بمصر وأهدانا نسخة منه، ولما نتمكن من مطالعته، ويعلم
القراء أن للفيلسوف تولستوي يدًا في الحركة العلمية في بلاد روسيا، ولذلك كان
هذا الكتاب جديرًا بأن يُقرأ، وهو يطلب من المكتبة الشرقية.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(5/951)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(فكاهة بدوية في أخبار البلاد العربية)
تفكه القراء بنص كتاب أرسله بدوي نجدي إلى مثله من النجديين الذين
يختلفون إلى هذه الديار للتجارة ونصه:
(ورد علينا جواب من بمباي ويذكر فيه بأن ابن سعود كان على ابن سبهان
وابن جراد على النبقي، ومعهم سبعة أسلاف من شَمَّرَ وحروب وقحاطين
وصليلات، وقطعهم قطعًا ومعهم جميع ذخرة ابن رشيد وجيشه، والذي سلم منهم
زَبَنَ بريدة وابن رشيد نازل على الحفر، ويوم جاءه الخبر شدّ وشمّل. ويذكر صالح
الحسن وأهل القصيم معهم قيمة 200 ذلول نازل البطان وجابر ابن صباح وقومهم
على الصبيحة، هذا الذي ورد علينا والكون في 28 شوال) .
***
(تفسير الغريب)
ابن سبهان وابن جراد قائدان من قواد ابن رشيد، والنبقي واد في أرض
القصيم، والأسلاف الطلائع الذين يتقدمون الجيش، وله أصل في الفصيح، قال
في الأساس: وسَلَف القوم تقدموا سُلوفًا، وهم سَلَف لمن وراءهم وهم سُلاف
العسكر: وحروب يريد به طوائف من بين حرب، وعلى هذا النحو جمع قحطان
وصليلة. والذُّخرة مؤنث الذُّخر بمعنى الذخيرة. وقوله: (زَبَنَ بريدة) أي لجأ
إليها وهي قرية من قرى القصيم الكبيرة، والزبن في اللغة الدفع ومنه سُمي
الشرطة وأعوان النار زبانية؛ لأنهم يدفعون الناس ويدعُّونهم، وجاء في كلامهم
(تحته جمل يزبن المطيّ بمنكبيه) أي يسبقها. كأن البدوي هنا يريد أنهم لجؤوا
إلى بريدة مدفعوعين بقوة أعدائهم.
والحفر بين البصرة وبلاد نجد كما يقولون. وشمّل سار إلى جهة الشمال.
وفي الفصيح: شمل به: أخذ ذات الشمال، والبطان - وقال لنا من أرسل إليه
الكتاب: الصواب البطانيات - مياه ينزلون عليها في جهة الدهناء، والذَّلول الناقة
المذللة عربية فصيحة. والصبيحة بالقرب من الكويت، وهي منسوبة إلى ابن
صُباح، وجابر هذا هو ابن مبارك الصُّباح شيخ الكويت. (والكون) يريد به
الغزو الذي ذكره.
***
(مشيخة الجامع الأزهر ونقابة الأشراف)
قضت إدارة الأمير بعزل الشيخ سليم البشري من مشيخة الأزهر، وقد
استشار نظاره هذه المرة فيمن يولي بدلاً منه، فكان لهم في كل واحد من كبار
الشيوخ المرشحين من سموه لهذا المنصب علة تحول دون توليته إياه حتى إذا رشح
السيد الشيخ علي الببلاوي نقيب الأشراف اتفقوا عليه فأصدر العزيز أمره بتوليته
فنهنئه بهذه الثقة، ونسأل الله تعالى أن يجعل أيامه أيام إصلاح يتقدم فيها الأزهر
تقدمًا مبينًا، وإن لنا مع هذا الدعاء رجاء فإننا نعهد بالسيد الرفق وهو عنوان الخير،
والله يحب الرفق في الأمر كله كما في حديث عائشة عند أحمد والشيخين
والنسائي وابن ماجه. وقال صلى الله عليه وآله وسلم (ما كان الرفق في شيء إلا
زانه، ولا نزع من شيء إلا شَانَهُ) رواه عبد بن حميد والضياء عن أنس، وأما
الخُرْق (ضد الرفق) فإن صاحبه يشغله الغرور عن الإحساس بالحاجة إلى
الإصلاح. وإن لنا لَعودة إلى الكلام في الأزهر إن شاء الله تعالى.
ثم قضت إرادة الأمير بأن يعيد منصب نقابة الأشراف إلى نصابه الأول،
وهو بيت البكري الشهير فأمر بإعادة النقابة إلى صاحب السماحة السيد محمد توفيق
أفندي البكري شيخ مشايخ الطرق، وكانت تحولت عنه من بضع سنين، وعهد إلى
ديوان الأوقاف العمومية بالنظر في أوقاف الأشراف وإدارتها وكان النقيب هو الذي
يديرها.
***
(مدرسة ماهر)
كنا استبشرنا عندما علمنا بأن المرحوم عثمان باشا ماهر أوقف أرضًا واسعة
على إنشاء مدرسة إسلامية، ونوهنا بذلك تنويهًا حسنًا، ولكن قد خاب أملنا في هذه
المدرسة منذ علمنا أنه عُيِّنَ في الوقفية لكل معلم يعلِّم فيها راتب لا يزيد على أربع
مائة قرش في الشهر، وما كان لأحد يحسن التعليم أن يرضى بهذا الراتب في
مصر وإنما فائدة المدرسة بالمعلمين، ولقد كان الذي أشار بهذا التعيين هو الذي
أحبط عمل الواقف بما جعله صورة بغير معنى، وإن هذا لَمِنَ البراهين المثبتة
لرَأْينا بأن نجاح الأمة لا يُعْوزه المال وإنما يُعْوزه الرجال، فالمال كثير والرجال
قليل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
***
(إصلاح حروف المطابع العربية)
للحروف العربية شكل في الإفراد وشكل في تركيب الكلمات، بل أشكالٌ
فائدتها الاختصار فإن الكلام إذا كتب بالحروف المفردة يشغل من مساحة الورق
أكثر مما يشغله إذا كتب بهذا التركيب المعروف، وبهذا يَفْضُل خطنا خطوط اللغات
الإفرنجية ولكن له سيئة في الطباعة وهي كثرة أشكال الحروف التي تتألف منها
الكلم وقد زاد هذه السيئة سوءاً واضعو أشكال حروف الطبع، فإنهم جعلوا أشكالها
بضع مئين؛ لأنهم جعلوا للحرف الواحد أشكالاً مفردة وأشكالاً مركبة مثنى وثُلاث
ورُباع فبلغت أشكال الحروف في مطبعة بولاق الأميرية تسعمائة شكل وهي في
غيرها من مطابع أوربا والأستانة والشام أقل من ذلك ويزعمون أن كثرة الأشكال
لحفظ جمال الخط العربي، ولكننا نرى أن أكثر هذه المطابع أشكالاً أقلُّها جمالاً.
وقد ارتقت الطباعة العربية في الأستانة والشام وقلت أشكال الحروف
الإستامبولية ووجدت هذه الحروف في مصر فحسنت بها الطباعة وصار طبع
المطبعة الأميرية - وهي أشهر المطابع العربية في الدنيا - أقبح الطبع، وإن كانت
لا تزال ممتازة بالتصحيح لذلك توجهت عناية نِظَارة المالية إلى إصلاح هذه
المطبعة فألفت لجنة للبحث في طرق الإصلاح رئيسها إبراهيم باشا نجيب وكيل
الداخلية وأعضاؤها الشيخ حمزة فتح الله مفتش في نظارة المعارف وشيلو بك ناظر
المطبعة الأهلية والجرائد الرسمية وأمين سامي بك ناظر مدرسة الناصرية وأحمد
زكي بك الكاتب الثاني لأسرار مجلس النظَّار، وكان عمل هذا النظر في اختصار
صندوق الطباعة وتسهيل جمع الحروف فاختبر حال المطابع العربية في الآستانة
وأوربا فوجد أن أقل المطابع حروفًا مطبعة أكسفورد في إنكلترا، فأشكال حروفها
282 شكلا، وبعد البحث والتدقيق اهتدى إلى جعل هذه الحروف 112 يضاف إليها
بعض الحروف الأعجمية المستعملة في اللغات الشرقية التركية والفارسية والهندية
والجاوية والماليزية، وبعض المركبات والأرقام والعلامات التي لا بد منها فتكون
178 وَفاتَهُ أن يضيف علامات العلوم الرياضية أيضًا.
وذكر أن فوائد هذه الطريقة تقليل أدوات الطباعة والاقتصاد في المال والوقت
والعمال، والتناسق الهندسي في السطور، وقد كتب مذكرة في رأيه فقبلتها اللجنة
وسمحت نظارة المالية بثمانية آلاف جنيه ونيف لتنفيذ الإصلاح.
وأهل الصناعة يتنازعون في بعض الفوائد ولكنهم لا ينكرونها من أصلها وقد
أضافوا إلى زعمهم أن هذا الاختصار يذهب ببعض جمال الخط الذي يحفظ الطبع
صورته بسبب حذف بعض الأشكال واستبدال المفضول بالأفضل ولو اتَّخذت
المطبعة الأميرية صندوقًا أو أكثر من الأشكال التي قضي بحذفها وخصتها بكتابة
العناوين ورقاع الزيارة والدعوة ونحو ذلك لأحسنت عملاً. الاقتصاد في الوقت
يظهر بادئ الرأي ولعله لا يتم تجربة لأن العامل يمد يده إلى الصندوق الذي كل
حروفه مفردة بعدد حروف الكلمة وإلى ما فيه حروف مركبة أقل من ذلك. ومن
الجلي أنه لا اقتصاد في ثمن الحروف لأن قلة الأشكال لا يقتضي قلة عدد الحروف.
ولكن قلة الحروف مسهلة لتعليم جمع الحروف وسرعة التمرن بل هي مسهلة لتعليم
القراءة والكتابة أيضًا.
***
(تنبيه للمشتركين)
يرى القراء من الخاتمة الآتية أننا سنزيد المنار إتقانًا، ولكننا لم نزد ثمنه
إلا قليلا بالنسبة إلى خارج البلاد المصرية، فكل مَنْ قَبِلَ العدد الأول من السنة
السادسة في القطر المصري فهو يعد مشتركًا إلى نهاية السنة ويلزم بدفع خمسين
قرشًا صحيحًا، وقيمة الاشتراك في خارج القطر 18 فرنكا وفي الهند 10 روبيات
وفي روسيا 7 ريالات (روبل) .
__________(5/954)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة السنة الخامسة للمنار
قد تمت بهذا الجزء سَنَة المنار الخامسة وكان انتشاره فيها فوق ما كنا نرجو
ونتوقع فقد زاد عدد المشتركين عما كنا نقدر بالقياس على السنين السابقة زيادة
صالحة تجاوزت عدد جميع المشتركين في النسة الأولى والثانية. ثم إن نموّه
المعنوي قد زاد أيضًا وتضاءل حزب الشيطان المعارض تضاؤلاً أو انحل انحلالاً
وتنبه المسلمون إلى أن لهم مجلة دينية تخدم ملتهم بحق كما أن لسائر الأمم مجلات
وجرائد دينية تخدم مللهم ونحلهم المتفرقة، نعم صار المنار موضع ثقة العلماء
والفضلاء والعامة في بلاد العرب والعجم، وقد سبق القول بأنه صار يخطب به
على المنابر، ويحتج به في المحاكم ويعتمد عليه في رد شبهات المعترضين على
الدين، وإقامة حججه للمسترشدين.
أشرنا فيما سبق إلى شهادات بعض أعلام المسلمين العارفين بالمصالح العامة
كوزير مصر الأكبر رياض باشا وكمحسن عبد الملك بهادر وسيد مهدي علي خان
ناظم مدرسة العلوم في عليكيده (الهند) وبعض المجتهدين والعلماء في إيران،
ونقول الآن: إن المنار ظفر برضاء كبار شيوخ الطريقة أصحاب النفوذ ونذكر
كلمة لأشهرهم في بلاد مصر والسودان وهو الشيخ علي الميرغني زعيم الطائفة
الميرغنية الكبيرة فقد كتب إلينا في 29 ذي القعدة الماضي كتابًا يقول فيه:
(ويسرنا أن نبلغكم مزيد سرورنا وارتياحنا لهذه المجلة القائمة بالخدمات الصادقة
الجليلة للإسلام والمسلمين ونسأل الباري أن يكلل عملكم المفيد بالنجاح والفلاح.
ولا شك عندنا في أن هذا أثر الإخلاص وحسن النية في العمل فهذه هي
بضاعتنا التي لا ربح لنا في سواها والتي نرجو أن تكون مكفِّرة لجميع سيئات
ضعفنا في العلم والتحرير وما يلزم عنهما من الخطأ والتقصير فإننا نتبرأ من حَوْلِنا
وقوتنا إلى حول الله وقوته وهو نعم المولى ونعم النصير.
كما نذكر تقريظ الفضلاء عملنا تحدثًا بنعم الله وشكرًا له ولعباده الأخيارالذين
ينوهون بالمنار ويرغِّبون الأمة فيه نذكر انتقاد أهل الفضل مع الثناء والشكر أيضًا
لأن حاجتنا إلى الأمرين واحدة إذ الفائدة واحدة وهي زيادة البصيرة في العمل، فإذا
كان رياض باشا يثني على المنار في غيبتنا على مسمع الملأ ويقول في محفله
الحافل: ينبغي لكل ذي إحساس ديني أن يقرأ المنار ويساعده فهو يذكر لنا إذا خَلَوْنَا
به كل ما يراه منتقدًا وقد انتقد مما نشر في هذه السنة أمرين أحدهما الكلام في محمد
علي باشا الكبير والثاني لاحقة سجلّ جمعية أم القرى التي فيها ما فيها من مساوئ
الدولة العلية (أيدها الله) وقال: إن ذلك ليس من موضوع المنار ولا ينبغي له.
وإذا كان الشيخ محمد محمود الشنقيطي ينوه بالمنار كثيرًا وسبق له تقريظه
بقصيدة فهو يذكر لنا ما يراه أحيانًا منتقدًا وقد كنا ذكرنا انتقاده كلمة (الاستلفات)
وتعدية التعزية بالباء داخلة على المعزَّى عنه، ونذكر الآن أنه انتقد ما ورد في تفسير
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} (البقرة: 34) من حكاية قول للعلماء
في أن الملائكة الموكلين بالعوالم الحية هم مِنْ قبيل القوى أو أرواح يكون بها نظام
حياة تلك الأحياء ومن ذلك خواطر الخير في الإنسان، كما أن خواطر الشر من
أرواح خبيثة تسمَّى الشياطين، نقلنا هذا القول من تفسير الأستاذ الإمام، وذكرنا في
الهامش كلمة في المسألة للإمام الغزالي في كتاب شرح عجائب القادر، وقد سمى
الأستاذ الإمام هذا الرأي في هذا النوع من الملائكة تأويلاً، بل ذكر ما يقتضي أنه من
باب الإشارة إذ قال: (فيه إيماء إلى الخاصَّة) إلخ، ولم يجعله العمدة في تفسير
الملائكة، وقد اشتبه هذا القول على كثيرين وتعلَّقوا به وغفلوا عن تصريح الأستاذ
الإمام، بأن الواجب اعتقاده أن الملائكة خلق غيبي مستقل وأنهم فرق كما دلّ
عليه قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ} (الصافات:
165-166) وأول سورة الصافات والمرسلات والنازعات، ونرى أن سبب انتقاد
الشنقيطي نقل ذلك القول - وإن كان من الإشارة إلى الخواصّ (وهو منهم) - هو
أنه مثار لأوهام العوام وهو مصيب في ذلك.
وانتقد مما نشر في هذه السنة أيضًا تشبيه النساء المهذبات بالملائكة الذي ورد
في نصيحة للنساء (ج15 - 5) وقد سرى هذا التشبيه إلينا من كتاب العصر الذي
يكثرون منه، وهو تشبيه قديم كما يدل قوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ
كَرِيمٌ} (يوسف: 31) وإنما ينكره الأستاذ في الكوافر.
وانتقد منه أيضًا افتتاح مقالة في الرد على كاتب نصراني بقوله تعالى:
{يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} (المائدة: 13) إلخ، والآية نزلت في اليهود
باتفاق، وإنما قُصِدَ بها الاقتباس لا التفسير.
وقد فاتنا أن نذكر من قبل انتقاده ما جاء في بعض مقالات المحاورة بين
المصلح والمقلد التي نشرت في المجلدين الثالث والرابع من ترجيح أحد المتناظرين
حِلّ المتعة وقد رغب إلينا الأستاذ بأن ننشر احتجاج القاضي يحيى بن أَكْثَم على
المأمون عندما أباحها ورجوع المأمون عن ذلك وسنفعل إن شاء الله تعالى، وعسى
أن يتحفنا الأستاذ دائمًا بما يراه منتقدًا في المنار ونعده بأننا نتقبل ذلك بقبول حسن
ونشكره أفضل الشكر.
وههنا ننبه جميع العلماء إلى القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر التي كاد يضيع الدين بإهمالها ولا ترجى حياته إلا بالقيام بها، وندعو من
يطلع على المنار منهم إلى تنبيهنا على ما يرونه خطأ بالقول أو الكتابة، ومَنْ أحب
منهم أن ينشر انتقاده معزوًّا إليه؛ فإننا ننشره له مقرونًا برأينا فيه مع الأدب والشكر
وليس من شأن أهل الدين أن ينكر الإنسان عمل أخيه في غيبته، ويكتمه عنه،
وإننا نسمع عن بعض الذين يطروننا ويطرون المنار أمامنا كلامًا لا يُرضي، هذه
شَنْشَنْة المنافقين وشرّ الناس يوم القيامة عند الله ذو اللسانين الذي يأتي هؤلاء بوجه
وهؤلاء بوجه كما في حديث أحمد والشيخين.
من الناس مَنْ يعتذر عن نفسه في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بأن الناس لا يقبلون أو بأنهم يؤذون من يأمرهم وينهاهم بالقول أوالفعل، وها نحن
أُولاء نقول على رؤوس الأشهاد: (إن أمنّ الناس علينا وأحقَّهم بالشكر منا من يدلنا
على ما يراه خطأ في المنار فمن يدعي أن في المنار خطأ في المسائل الدينية أو
غيرها، ولم يذكره لنا قولاً أو كتابة فهو فاسق بتركه فريضة النهي عن المنكر من
غير عذر وعلى الناس أن يستدلُّوا من قوله على أنه فاسق أو منافق ومن كان كذلك
لا يقبل له قول في العلم والدين) .
روى ابن عدي والحاكم عن أنس وغيرهما عن غيره أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال: (إن هذا العمل دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) ، وقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا
عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) .
لا نلحّ هذا الإلحاح في حمل الناس على انتقاد المنار إعجابًا به وتوهمًا أنه
يعلو عن الانتقاد، ولكن حرصًا على بيان الحق الذي نطلبه واستعانة عليه بأنصاره،
والراغبين في إعلاء مناره، ونقول هنا ما قاله الأستاذ الإمام: (إنه ما من أحد
بأصغر من أن يُعِين ولا أكبر من أن يُعان) .
ونَعِد القراء بأن سنزيد المنار إتقانًا في السنة السادسة فنجعل ورقه أجود من
هذا الورق ونتحرى المباحث التي نراها أكبر فائدة وأكثر نفعًا. وفي النية العَوْد إلى
التوسع في باب العقائد وباب (آثار السلف عبرة للخلف) وفي مباحث آداب اللغة
مع الاستمرار على نشر التفسير المقتبس من مفتي الديار المصرية والعود إلى باب
(البدع والخرافات والتقاليد والعادات) وربما نجعل البحث في شئون النساء، وما
يتعلق بهن من أمر الزواج والبيوت بابًا يطرق في أكثر الأجزاء.
وإن أجلَّ تحفة نتحفهم بها في السنة الجديدة تلك المقالة أو المقالات التي وعد
بها ذلك الإمام الحكيم صاحب مقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) التي
يبين فيها كيف تكون البدع التي رجعت بالمسلمين القهقرى هي السبب في حياتهم
الملية المستقبلة.
ونختتم المجلد الخامس بحمد الله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله، وآله
وصحبه ومَنْ والاه.
__________(5/957)
المجلد رقم (6)(6/)
غرة المحرم - 1321هـ
30 مارس - 1903م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة السنة السادسة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين،
وإمام الهداة والمصلحين، وعلى آله وصحبه الراشدين المهديين، وعلى من تبعهم
بهديهم إلى يوم الدين.
وبعد:
فقد بلغ المنار - بفضل الله وتوفيقه - السنة السادسة وهذا أول جزء منها،
ولله مزيد الشكر والثناء أن أعطانا فوق ما تعلق به الأمل والرجاء، وزادنا على ما
كنا نتوقع من زيادة القراء والمشتركين، عددًا صالحًا يدخل في عقود المِئِين، من
غير دعاة مندوبين، ولا وكلاء مُسْتَخْدَمين؛ إلا ترغيب أهل الغيرة الملية، وتنبيه
ذوي الأريحية الإسلامية، صادفًا من قلوب إخواننا المسلمين شعورًا ينمو، ووجدانًا
يسمو، وعلمًا بالحاجة الشديدة إلى توثيق الرابطة الدينية، وإحكام عقدة العقائد
الإسلامية، والجمع بين مجاورة الأمم المعاصرة، وحفظ ما فيه حياة الدار الآخرة،
من العقائد الصحيحة، والأخلاق الفاضلة، والأعمال النافعة، وهذا ما أنشئ المنار
للدعوة إليه، وهو عين ما يدعو إليه الإسلام، ما زدنا فيه ولا نقصنا منه، وإنما
نتوخى بيانه، ونقيم برهانه، بما يناسب حال الزمان، وما انتهى إليه رُقِيُّ
الإنسان.
لقد أتى على المسلمين حِينٌ من الدهر وهم في مرض اجتماعي يشبه داء
السكتة، تعيث في جامعتهم جراثيم المرض وهم لا يشعرون، وتهددهم بالفناء
والزوال ولا يعلمون، حتى إذا فار التنور، وجاء القدر المقدور، تخرق حجاب
الغرور، وطفق يدب دبيب الشعور؛ ولكنه شعور يظهر أنه زاد الأمة مرضًا،
حتى كادت تكون حَرَضًا، شعور هبط ببعض ذويه في مهاوي الإياس، وطوح
ببعضهم إلى موامي الوسواس؛ فكان انتقالاً من طور الخدر والسبات، إلى طور
الحيرة والشتات، ولَحيرةٌ في الفكر وشتات في الأمر خير من خدر الحواس،
وفقد الإحساس؛ لأن هذا من أمارات العدم والزوال، وذاك من علامات الحياة على
كل حال.
ذهب أقوام في هذه الحيرة إلى أن وقاية المسلمين من الخطر إنما تكون
بالاعتماد على الأمراء والسلاطين، والاستماتة في الخضوع لهم وتقديس سلطتهم؛
ولأن الخطر إنما ينذرنا من الجانب الغربي جانب القوة القاهرة، والمدنية الساحرة
وملوكنا - وإن جاروا - هم القابضون على بقايا ما عندنا من القوة التي نكافح بها
تلك القوى، فلا بد من تعزيزهم وتعزيرهم، وإجلالهم وتوقيرهم؛ بل لا بد لنا من
تنزيههم وتقديسهم بكرة وأصيلاً!
وذهب آخرون إلى أن الملوك والأمراء قد استبدوا بسياسة الأمة بدون
مشاورتها قرونًا طويلة فما كان منهم إلا أن أوقعوها في هذا الضعف والهوان،
والفقر والخذلان، والجهل بأمر الدنيا والدين؛ لأجل الخضوع الأعمى لهم وإن
كانوا ظالمين، وإذا كانوا هم مصدر الشرور والفتن , ومثار البلايا والمحن، فأول
واجب على الأمة مقاومة استبدادهم، ومقاومة استعبادهم، وإلزامهم بالمشاورة في
الأمر، وتقييد السلطة في الحكم، وإعلامهم بأنهم أجراء الرعية، كما قال أبو العلاء
حكيم الشعراء:
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها ... فعدَوْا مصالحها وهم أُجراؤها
وبذلك يصلح الحال، وتتحقق الآمال، ونثق من حسن الاستقبال، وأما دوام
الاستماتة في الخضوع للمستبدين فإنه يردينا في أسفل سافلين، فهم الذين يُجْهِزُونَ
على ما أبقى أسلافهم من قوى الأمة الحسية والمعنوية، وهم الذين يسلمون بقية
بلادها للدول الأجنبية، إلا أن الفريق الأول أكثر عددًا، وأغزر مددًا، والفريق
الثاني أكثر علمًا، وأبعد فهمًا، ولكل منهما صحف منشَّرة، وجرائد محررة؛ ولكن
جرائد حزب القوة أعز أنصارًا، وأكثر دينارًا والنجاح من حجج القوة على الضعف
وما كل ناجح محق، وما كل خائب مظلوم.
وقد فات حزب المحافظين أنهم يطلبون بناءَ ما كان على ما كان. فإذا طلب
أحدهم إصلاحًا فإنما يطلبه في فرع من الفروع، ولا إصلاح إلا بصلاح الأصول.
(متى يستقيم الظل والعود أعوج؟ !) .
وفات حزب المعارضين أنهم لا يدرون من يطالبون، ولو دروا لعلموا أنهم
يلغون ويعبثون، فإنه لا يقوِّم الحكام إلا الأمة المتعلمة المهذبة، فالسعي في تكوين
أمة عالمة مهذبة هو الواجب الأول على الذين شعروا بمُصَاب المسلمين وأبصروا
من وراء الحجاب ما كمن لهم من الغوائل والرزايا.
ولا طريق لهذا التكوين إلا التربية الملية الصحيحة والتعليم العام، ولا يكمل
هذا إلا في المدارس الكلية كما سبق لنا القول.
هذا رأي لا يختلف فيه أهل البصيرة من عقلاء المسلمين؛ ولكن هؤلاء لم
يبلغوا أن تكون لهم صحف تنشر، وجرائد تدعو - على أن كل الصحف عون لهم -
حتى إذا ما أنشئ المنار كان هو صحيفتهم؛ لأنه لم ينشأ لمقاومة سلطة ولا
حكومة ولا لمدح سلطان أو أمير ولا لذمهما وإنما أنشئ لمساعدة العقلاء على السعي
في (تكوين الأمة) من طريق التربية الملية والتعليم النافع؛ ولذلك قلنا في مقدمة
العدد الأول: إن الغرض الأول من المنار الحث على التربية والتعليم، لا الحط على
الأمراء والسلاطين.. إلخ. وقلنا في أواخر مقالة نشرت في العدد 16 من السنة
الأولى عنوانها (إلى تربية وتعليم نحن أحوج) - بعد كلام في تعلم الفنون
العصرية بصبغة أوربية - ما نصه:
(فيجب على العلماء والكُتاب الشرقيين أن يوجهوا عنايتهم الكبرى إلى هذا
الأمر - تكوين الأمة -، ويجتهدوا فيه قولاً وعملاً، ويجب على مؤسسي المكاتب
والمدارس الوطنية ومعلميها وأساتذتها أن يجعلوه نصب أعينهم وأهم ما تدور عليه
تعاليمهم بحيث يغرسون في قلب كل تلميذ أن حياته كلها لأمته وبلاده وأن علمه
وعمله لا شرف له فيهما إلا إذا صرفهما لمنفعة الأمة والبلاد..) إلخ.
في طريق هذه التربية وهذا التعليم عقبة في طريق المسلمين يتعسر اقتحامها
وهي سوء فهم الدين وتقليد الجاهلين بعضهم بعضًا فيه، لهذا كان الذي جمع بين
مصالح الدارين. وليس المراد من جعْل المنار دينيًا إلا بيان ما هو الدين على وجهه
الحق والتفرقة بينه وبين ما ليس من الدين في شيء وكيفية الجمع بين مصالح
الروح والجسد، وكل هذا مما يتقبله جميع المسلمين بالإجمال، وفي التفصيل مزلة
الأقدام، ومضلة الأقوام.
ومن مقدمات الإصلاح إحياء اللغة؛ إذ لا أمة بدون لغة حية ومنها إزالة
حجب الغرور عن حقائق الأمور، ومن هذا القبيل ما ينشر أحيانًا من النبذ الأدبية
والتاريخية ومن جوائب الأخبار، التي تتضمن العظة والاعتبار.
هذا هو موضوع المنار نشير إليه على رأس كل سنة، لا ينازع حزبًا من
الأحزاب في مشربه ولذلك سالمه أصحاب الجرائد السياسية، من وقف نفسه منهم
على مدح الأمراء والسلاطين ومن وقفها على ذمهم، ومن رضي بنفوذ الحكومات
الأجنبية في البلاد التي يسكنها ومن سخط عليها. وسالمه أيضًا أصحاب المجلات
العلمية والدينية وسالمهم، إلا مَن استهواه الغرور فطعن في أصول الإسلام
الاعتقادية أو الأدبية أو العلمية فردَّ المنار طعنه، وأخرج ضغنه.
وجملة القول: إن المنار قد جاء بمشرب جديد استعذبه الأقلون، ومجّه
الأكثرون، استعذبه من ذاقه فعرفه، ومجّه من جهله فما أنصفه، أولئك أسرى
التقليد، ينفرون من كل جديد إلا أن يكون بدعة دينية، ويفرون من كل داعٍ إلا أن
يدعو إلى لذة بهيمية يألمون مما هم فيه، ويتنكبون طريق تلافيه، يطلبون النجاة
من الشقاء ويصرون على أسباب البلاء؛ يهرب مدعي العلم فيهم من المناظرة،
وينبري المعترف بالجهل منهم إلى المماراة والمهاترة، يتبرأ زعيمهم من الدليل
المعقول والمنقول ويحاول أن يقلّد في كل ما يقول، حجتهم استبداد الأمراء،
واعتقاد الدهماء، وقد سحل مرير هذا الاعتقاد وانتكث فتل ذلك الاستبداد؛ وتقلص
ظل ذلك الزمان؛ الذي كان يحتكر فيه الدين والإيمان، وخلّى بين العقول
والاستقلال، وبين الإرادة والأفعال، فساء صباح المقلدين، وأذن مؤذن بينهم
{هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) ، فخذل الجاهلون {أُوْلَئِكَ
حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) .
هذا ما كان في كثير من بلاد المسلمين، وهذا ما سيكون في باقيها بعد حين،
ولحرّيةٌ تبيح بعض المنكر ولا تمنع شيئًا من المعروف أهون من عبودية تنهى
عن المعروف وتأمر بالمنكر، فالعبوية تطفئ نور الفطرة البشرية، والحرية تظهر
مبلغ استعداد القوى الإنسانية.
فيا حسرة على سلطة تهدم بمعاول الاستبداد والاستعباد، ويا ضيعة لحرية
يفسدها سوء الاختيار وضعف الاستعداد، ويا طوبى لمن اغتنم فرص الزمان؛
فعمل في نفسه لنفسه، وعمل في أمته لأمته، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) .
__________(6/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الكرامات والخوارق
المقالة الثامنة في
(منفعة الاعتقاد بها ومضرته)
يذهب كثير من الناس إلى أن جميع الأديان وثنية وسماوية قائمة على قواعد
الخوارق فإذا تزلزلت هذه القواعد في دين انقضّ الجدار وخر السقف وذهب بناء
الدين حتى لا يبقى له أثر.
قول يقوله الملاحدة، ويوافقهم عليه رجال كل دين على حدة، فهو حجة الدين
عند أهله، وهو الحجة عليه عند أعدائه، وتلك عضلة العقد، ومحك المنتقد، يقول
كل ذي دين: إن الخوارق التي نعتقد بها قد ثبتت عندنا بالمشاهَدة بالنسبة إلى قوم،
وبالنقل عن الثقات بالنسبة إلى آخرين وقد بلغ عدد الناقلين في بعضها مبلغ التواتر
الحقيقي وفي بعضها الآخر مبلغ التواتر المعنوي أو الاستفاضة أو الشهرة بين
الآحاد الثقات على الأقل.
وأما ما يدعيه أهل الملل الأخرى فهو كذب وافتراء، أو شعوذة وسيمياء،
ويقول الملحد - لا سيّما إذا دُعي إلى الدين -: إنه ليس من العدل، ولا من
مقتضى العقل أن ينظر طالب الحقيقة في قول أحد المدعين، ويغفل أقوال الآخرين؛
بل الصواب أن ينظر في جملتها ليتسنى له الترجيح، وقد فعلنا ذلك فألفينا أن
الآية الكبرى في كل دين هي دعوى الخوارق لزعماء الدين. وإننا لنعلم أن كل دين
من هذه الأديان يحرم الكذب، ونعلم أن من أهل كل منها الأخيار والأشرار فلا وجه
لترجيح أحدها على الآخر فلم يبق إلا تصديق الجميع أو تكذيب الجميع!
والتصديق يستلزم التكذيب؛ إذ لو قلت: كل واحد من هؤلاء صادق لدخل في
تصديق كل واحد تكذيب الآخرين؛ لأنه يدعيه وهو صادق فتكون النتيجة أن كل
واحد صادق كاذب في حال واحد وهو محال فتعين إذن تكذيب الجميع.
ثم إن هؤلاء المنكرين يقولون أيضًا: إن من ينشأ في دين يجوِّز وقوع
الخوارق آنًا بعد آن من كبار المتمسكين يكون عقله دائمًا متقلقلاً أسير الأوهام
والخرافات؛ بل يكون ألعوبة في أيدي الدجالين والمشعوذين، الذين يلبَسون ثياب
الصالحين، أو الذين يتخذون الدين حرفة يعيشون بها في سوق الغرور والغفلة.
ولذلك نرى هذه الخوارق التي يدعونها تكثر ويكثر مدعوها في البلاد التي
خيَّمت فيها الجهالة، وعُرِفَ أهلُها بالغباوة والبلادة، وإننا نعرف كثيرًا من البلاد
الأوربية كان أهلها يدعون كثيرًا من هذه العجائب ويزعمون أنهم يروون ما يرون
بأعينهم ويسمعون بآذانهم ويحسون في أنفسهم، ومن ذلك زعمهم أن القديسين
والشهداء يخرجون من قبورهم في صورة نورانية فيطوفون في الأرض ويأتون
بعض الأعمال، ثم لما تقشعت عنها سُحُب الجهل، وأشرقت عليها شمس العلم
بطلت هذه الدعاوى، وانتقضت هاته القضايا، وطاحت تلك الإشارات، وذهبت
هاتيك العبارات، ومحيت آيات الليل بآية النهار، وصار النور بدلاً من الظلام
شرطًا في الإبصار.
ويقولون أيضًا: إن العلم قد كشف الستار عن أكثر هذه الخوارق للعادات،
وعرف علة ما أدركه من هذه العجائب والكرامات، وقد حاكى العلماء بعض ما
رأوه من مدهشات سحرة إفريقيَّة وكهنة الهنود وعرفوا علة بعض وإن لم يحاكوه
فمنهم من توصل إلى الجلوس في الهواء بحيلة صناعية ومنهم من أظهر للملأ أنه
أطاح رأس إنسان عن بدنه، ثم أعاده إليه.
فتبين من استقراء هذه الأمور والبحث فيها أن منها ما له أسباب علمية
صحيحة كان يعرفها بعض الناس فيكتمها عن الآخرين لما يكون له بها من
السلطان عليهم. ومنها ما هو حيل وشعوذة يخيل المتمرنون عليها إلى الناس أنهم
يوجدون أشياء وما هم بموجديها ولكنهم قوم يخدعون.
وقد رأى هؤلاء الناس ما كتب كثير من القسيسين في إنكار نبوة نبينا - عليه
الصلاة والسلام - واحتجاجهم بأنه لم يكن يحتج على نبوته إلا بما جاء به من العلم
والهدى في الكتاب وهو أمي لم يقرأ ولم يكتب وزعمهم أن هذا لا يكفي في إثبات
النبوة، وأنه لا بد من إظهار الخوارق الكونية، فضحكوا من احتجاجهم وزعمهم
وقالوا: إن صح ما ذكرتموه فهو أقوى البراهين على صدقه وبراءته من الغش
والتمويه الذي كان يتيسر له لو أراده لعلو فكره وقوة ذهنه. وقال بعض فلاسفة
فرنسا منهم: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن محتاجًا إلى عمل العجائب
لمثل ما كان يحتاجها الأنبياء من جذب النفوس إلى الإيمان به فإنه كان يقرأ
القرآن باسم الله في حال وَجْد ووَلَه روحاني ينتقل تأثيره من نفسه إلى نفوس من
يسمعه فيكون ذلك جاذبًا لهم إلى الإيمان بجاذبَيْ الإذعان والوجدان إيمانًا يملك على
النفس أمرها حتى لا يمكنها الانسلال منه، وإن قاست في سبيله من الأهوال ما
يشيب النواصي، ويدك الصَّيَاصِي، فأين هذا الإيمان من إيمان قوم رأوا أعجوبة لا
يدركون سرها فخضعوا لصاحبها وسلموا بما يقول، وإن لم تدرك فائدته العقول،
حتى إذا ما غاب عنهم برهة من الزمان عبدوا ما يصوغون من الأوثان، فإذا كانت
فائدة المعجزات جذب النفوس إلى الإيمان فلا شك أن هذه الفائدة أظهر في القرآن منها
في سائر المعجزات؛ لذلك كان إيمان المسلمين أشد من إيمان جميع أتباع الأنبياء
الآخرين.
وقال أحد القسيسين العلماء: إننا نفضل الإنجيل بما فيه من كثرة الخوارق
والعجائب المنسوبة إلى صاحبه على أن القرآن لم يسند إلى من جاء به عجيبة واحدة
وإنما ذكرت فيه العجائب حكاية عن السابقين ويقول في جواب الذين طالبوا محمدًا
بالآيات: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: 51) ،
(قال) : ولكننا صرنا إلى عصر تعد فيه الخوارق من العقبات في طريق الإيمان،
ويفضل فيها القرآن على الإنجيل بذلك!
هذا مجمل اعتقاد خواص الناس في الأقطار الغربية في الخوارق والعجائب
وهو اعتقاد أكثر الذين يتعلمون على طريقهم في البلاد المشرقية، وهذا الصنف
المتعلم هو صاحب السلطة على غير المتعلم وإنَّا لنراه لا يوجد في بلاد إلا وينمو نموًّا
مستمرًّا بطيئًا كان أو سريعًا ونرى أهله يتسللون من الدين لِوَاذًا ويمرقون
منه زُرافات وأفذاذًا؛ ولهذا رسخ في أكثر الأذهان أن العلم والدين ضدان، وصار
المستمسكون بالدين ينفرون من العلم؛ ولكن أهله يسودون عليهم تارة بالحرب
وتارة بالسلم، ولهذا يظن الناظرون في سير الإنسان أن العلم يفتأ يفتك بالدين،
حتى يمحوه من لوح الوجود ولو بعد حين، وما لهؤلاء الظانين من علم بأن في
العالم دينًا حل جميع المشكلات، وأزال جميع الشبهات وهو دين العلم والعرفان
إلى آخر الزمان.
فعُلم - مما شرحناه - أن أهل الأديان يرون للخوارق التي تجري على أيدي
رجال الدين فائدة عظيمة وهي تأييد الدين بها في أثنائه، كما قام بها في أول ظهوره؛
ولذلك قال بعض علمائنا: إن كرامات الأولياء شعبة من معجزات الأنبياء فيخشى
على منكر الفرع أن ينكر الأصل , وقد شرحنا هذا أتم شرح في المقالة الأولى
فلتراجع في المجلد الثاني، ويذكرون لها فائدة أخرى وهي انتفاع الناس بالكرامة فإنها
إما أن تكون جلب منفعة لإنسان، أو دفع مضرة عنه، أو إيقاع سوء بمنكر أو فاسق
ليرتدع غيره.
وعُلِم أن من غوائل الاعتقاد بالخوارق ومضراتها تنفير خواصِّ أهل الدنيا من
الدين وهذه غائلة تتبعها غوائل أشرنا إليها آنفًا وهي تتطرق إلى معجزات الأنبياء
كما تقدم، ولم يكن ذلك من موضوعنا هنا وقد سبق لنا القول في إثبات آيات الأنبياء
فليراجع في الأمالي الدينية من المجلد الرابع. ونزيد الآن أنها كانت في أزمنة
تحقق فيها أن البشر كانوا في أشد الحاجة إليها، وثبت أنهم انتفعوا بها في عقولهم
ونفوسهم وفي أعمالهم ومعايشهم؛ ذلك لأنهم كانوا لم يرتقوا إلى معرفة العقائد
ببراهينها وكانوا ألاعيب في أيدي السحرة والدجالين يتصرفون في عقولهم ونفوسهم
وأموالهم فأنقذهم الأنبياء بإذن الله تعالى وتأييده من ذلك كله، وعلموهم أن أولئك
السحرة قوم مبطلون وأنه ليس لهم من الأمر - الذي يزعمونه - شيء وأن
التصرف فيما وراء الأسباب التي يقدر على الوصول إليها الناس خاص بالله تعالى
وحده وأن تلك الأعمال التي يظهر بادي الرأي أنها عن اقتدار إنما هي {كَيْدُ
سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (طه: 69) ، ولولا أن جاء كل نبي
بمعجزة أو أكثر لما تسنَّى له جذب أولئك القوم الغلف القلوب، الغلاظ الرقاب،
الضعاف الاستعداد.
والدليل على أن المراد من بعثة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - تطهير
العقول من لوث الخرافات والأوهام وعتقها من أسر السحرة والدجالين وأن الآيات
الكونية كانت هي الآلات الجاذبة لهم إلى الإيمان بالتوحيد الذي هو المطهر الأكبر
للعقول، وأنه لو أمكن جذبهم بالآيات العلمية الأدبية لما خرق الله على أيديهم شيئًا من
الأمور العادية هو بناء نبوة خاتم النبيين على الآية العلمية الكبرى. والهداية الأدبية
العظمى وهي القرآن الحكيم، المنزل على النبي الأمي اليتيم، الذي علَّم به
الأميين الكتابَ والحكمةَ وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. ومكَّن به لهم في
الأرض وجعلهم أئمة وارثين، وبلّغ رسالة ربه الأممَ المجاورةَ وأَمرَ بأن يبلغ
الشاهدُ الغائبَ.
ومن أصول دينه أن زمن الوحي والمعجزات قد انتهى به فلن يعود، وأن لله
في الخلق سننًا لن تتغير ولن تتبدل، وأن الأمور تُطلب بأسبابها، وأنه ليس وراء
الأسباب شيء إلا معونة الله تعالى وتوفيقه، فليس لمؤمن أن ييئس إذا تقطَّعت به
الأسباب من خير يتطلبه أو النجاة من سوء يترقَّبه، فثبت بهذا أن الدين القيم الذي
يمكن أن يتفق مع العلم في كل زمان هو هذا الدين الذي يحكم بأن زمن المعجزات
قد مضى ولا يُكَلَّف الآخذ به بأن يعتقد بخارقة على يد أحد الناس بعد الأنبياء - عليهم
الصلاة والسلام -.
أما البحث في آيات الأنبياء كيف وجدت وهل كانت كلها بمحض قدرة الله
تعالى التي قامت بها السماوات والأرض أم كانت لها سنن روحانية خفية عن
الجمهور خصَّهم الله تعالى بها كما خصهم بالوحي الذي هو علم خفي عن الجمهور؟
فكل ذلك مما لا يفيد البحث فيه بل ربما كان ضارًّا. ومبلغ العلم فيها أنها كما قال
ابن رشد: قد وجدت ونقلت نقلاً متواترًا اعترف به المؤمنون بهم والكافرون الذين
سموها سحرًا لجهلهم بالتفرقة بينها وبين تلك الشعوذات والحيل الباطلة، وفي شرح
المواقف أن (المعجزة كل ما يراد به إثبات النبوة وإن لم يكن من الخوارق) .
فعلم بهذا أن آيات الأنبياء - عليهم السلام - مصونة من إنكار
المنكرين، واعتراض الواهمين، وأنها قد انتهت فلا يُخشى أن يضر الاعتقاد بها في
الزمن الحاضر وما بعده، كما أنه لم يكن ضارًّا في الماضي، وإنما كان نافعًا.
وبقي القول في كرامات الأولياء ومقتضى ما تقدم أن الاعتقاد بها يضر كما
يضر الاعتقاد بالخوارق عند كهنة الوثنيين وقدّيسي المسيحيين. والمنفعة التي
تدعيها كل الطوائف من الاحتجاج بهذه الخوارق على صحة الدين أو الاستعانة بها
على تمكين اعتقاد المؤمنين، ممنوعة بأنها من المشترك الإلزام كما تقدم في الجزء
الماضي.
فإذا دعوت إنسانًا إلى دينك بحجة أن من قومك من يعمل العجائب وتظهر
على يديه الخوارق يلزمك بأن في قومه أيضًا مَن له مثل ذلك أو ينازعك في
دعوته داعٍ آخر يحتج بمثل هذا الاحتجاج.
ووجه آخر للدفع وهو أن أهل العلم والبحث يرون دعوى الخوارق من الأدلة
على بطلان الدين كما سبق آنفًا، وأما العوام فإنهم أسرى التقليد ولذلك يصدقون ما
يسمعون من قومهم من الأخبار ويكذبون ما تدعيه لقومك، هذا وإن دعوة الإسلام قد
انتشرت في الأرض انتشارًا لم يعرف ما يقاربه في دين آخر، وما ذاك إلا أن
الدعاة إليه ما كانوا يعتمدون في الدعوة إلا على كون ما يدعون إليه صوابًا، عقائده
معقولة، وأحكامه مقبولة، ولم يُعْرَف أنه كان للإسلام دعاة قد استحوذوا على
النفوس بما أدهشوها بالكرامات والخوارق كما هو المنقول عن دعاة النصارى
وغيرهم، نعم، إنه قد نقل عن بعض الأولياء من الكرامات أضعاف ما نقل عن
المسيح وتلامذته وعن جميع الأنبياء والمرسلين؛ ولكن أولئك الأولياء لم يعرف في
التاريخ الصحيح أنهم كانوا دعاة وأن الناس آمنوا بكراماتهم، اللهم إلا بعض الحكايات
التي توجد في بعض كتب المناقب وقلما يوثق بشيء من رواياتها لا سيما إذا
انفردت بها.
ووجه آخر للدفع: وهو أن أمر الخوارق صار عند العامة من جميع الأمم
كالصناعة المحترمة لشدة الحاجة إليها ولا ينظر فيها إلى الدلالة على صحة دين مَن
ظهرت على يديه لا سيما بعد موته؛ ولذلك ترى كثيرًا من عامة النصارى يقصدون
من اشتهر من أولياء المسلمين لقضاء الحاجات ببركاتهم وهم على نصرانيتهم. ولقد
كان عم والدي (السيد الشيخ أحمد رحمه الله تعالى) مشهورًا بالصلاح والبركة
فكان يرد عليه وفود الناس من المسلمين والنصارى يلتمسون بركته بالرُّقَى والتمائم
ويأخذون منه البشارات.
وقد كدت أكون خليفة له رغم أنفي لأمور اتفقت لي في سن الحداثة، من ذلك
أن بعض الأعراب أخذوا مني ورقة فعلقوها على كبش في غنم موبوءة فزعموا
أن الموت أدبر والصحة أقبلت منذ عُلِّقت الورقة على الكبش! ومن ذلك أن
إنسانًا كان يُصْرع ويرى نفرًا من الجن يضربونه فدُعِيت إليه فأبيت مؤكدًا لهم
أنه لا فائدة من زيارتي له ألبتَّة فألحوا وتوسلوا بالوالدة فعدت مريضهم فشفي.
واتفق لي أمثال هذه الوقائع من كثير من المسلمين والنصارى فانتشر خبرها
وكدت أكون مقصودًا بها كعم الوالد الذي كنت أنكر عليه (رحمه الله تعالى) لولا
أن بادرت إلى محاربة هذه الاعتقادات وعدم إجابة القاصدين إلى ما يطلبون.
وكذلك نرى كثيرًا من المسلمات والمسلمين يقصدون بعض الأديار وقبور
القديسين بالزيارة، ويحملون إليها النذور كما يحملونها إلى قبور الأولياء متوسلين
بهؤلاء وأولئك وطالبين منهم قضاء الحاجات! ومن ذلك دير مَار جرجس في
مصر العتيقة، والمير تادرس بكنيسة القبط بحارة الروم، وغير ذلك مما لا يُحصَى.
وكذلك يقصد بعض المسلمين والمسلمات بعض القسيسين الذين يشتهرون في
قومهم بالعجائب وقضاء الحاجات. ولا يكاد يعتقد أحد من هؤلاء وأولئك بصحة
دين غير دينه الذي نشأ عليه. وذلك أن الخوارق صارت عندهم من قبيل الصناعة
والدين صار من قبيل الجنسية.
وقد طال بنا المقال أكثر مما كنا نتوقع فنرجئ إتمام المبحث على الجزء الآتي
وفيه نبين وجود التأويل ومناشئ القال والقيل. وما ينبغي اعتقاده في الكرامات التي
أثبتناها في المقالات الأولى وقد سئلنا عن الثابت من معجزات نبينا غير القرآن
وسنجيب عنها في الجزء الآتي أيضًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/12)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وفد بني تميم
عن جابر قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم وخطيبهم إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم -، فنادوه: يا محمد، اخرج إلينا؛ فإن مدحنا زَيْن، وإن سبنا شَيْن. فسمعهم
النبي صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم وهو يقول: إنما ذلكم الله عز وجل فما
تريدون؟ قالوا: نحن ناس من بني تميم جئناك بشاعرنا وخطيبنا لنشاعرك
ونفاخرك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بالشعر بُعثنا ولا بالفخار أُمرنا
ولكن هاتوا. فقال الأقرع بن حابس لشاب من شبابهم: قم فاذكر فضلك وفضل
قومك. فقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء،
فنحن من خير أهل الأرض وأكثرهم عددًا وأكثرهم سلاحًا، فمَن أنكر قولنا فليأتِ
بقول هو أحسن من قولنا وبفَعَال (كرمٍ) هو أفضل من فعالنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس الأنصاري -
وكان خطيبه -: (قم فأجبْه) فقام ثابت فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأؤمن به
وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده
ورسوله، دعا المهاجرين من بني نمر أحسن الناس وجوهًا وأعظم الناس أحلامًا
فأجابوه، الحمد لله الذي جعلنا أنصاره ووزراء رسوله وعزًّا لدينه، فنحن نقاتل الناس
حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فمَن قالها منع منا ماله ونفسه ومن أباها قاتلناه وكان
رغمه في الله علينا هينًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات.
قال الزبرقان بن بدر لرجل منهم: يا فلان قم واذكر أبياتًا تذكر فيها فضلك
وفضل قومك، فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... نحن الرؤوس وفينا يقسم الربع
ونطعم الناس عند المحل كلهم ... من السديف إذا لم يؤنس الفزع [1]
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد ... إنَّا كذلك عند الفخر نرتفع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليَّ بحسان بن ثابت. فذهب إليه
الرسول فقال: وما يريد مني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإنما كنت عنده آنفًا.
قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم وخطيبهم، فتكلم خطيبهم فأمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثابت بن قيس، فأجابه , وتكلم شاعرهم فأرسل رسول الله صلى الله
عليه وسلم إليك لتجيبه. فقال حسان: قد آن لكم أن تبعثوا إلى هذا العود (والعود
الجمل الكبير) . فلما أن جاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حسان، قم
فأجبه. فقال: يا رسول الله مُره فليُسمعْنِي ما قال. قال: أسمعْه ما قلت. فأسمعه،
فقال حسان:
نصرنا رسول الله والدين عنوة ... على رغم باد من معدٍّ وحاضر
بضرب كإيزاع المخاض مشاشه ... وطعن كأفواه اللقاح الصوادر [2]
وسلْ أُحدًا يوم استقلت شعابه ... بضرب لنا مثل الليوث الخوادر [3]
ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى ... إذا طاب ورد الموت بين العساكر؟ !
ونضرب هام الدارعين وننتمي إلى حسب من جِذم غسان قاهر [4]
فأحياؤنا من خير مَن وطئ الحصى وأمواتنا من خير أهل المقابر
فلولا حياء الله قلنا تكرُّمًا على الناس بالخيفين هل من منافر؟ [5]
فقام الأقرع بن حابس فقال: إني - والله - يا محمد لقد جئت لأمر ما جاء له
هؤلاء، إني قد قلت شعرًا فاسمعْه. قال: هاتِ. فقال:
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا ... إذا اختلفوا عند اذِّكار المكارم
وأنَّا رؤوس الناس من كل معشر ... وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وأن لنا المرباع في كل غارة ... تكون بنجد أو بأرض التهايم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا حسّان فأجبه. فقام وقال:
بني دارم لا تفخروا إن فخركم ... يعود وبالاً بعد ذكر المكارم
هُبلتُم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خَوَلٌ ما بين قِنٍّ وخادم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد كنت غنيًّا يا أخا بني دارم أن
نذكر منك ما قد كنت ترى أن الناس قد نسوه منك "، فكان قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم أشد عليه من قول حسان ثم رجع حسان إلى قوله:
وأفضل ما نلتم من الفضل أنكم ... ردافتنا من بعد ذكر المكارم
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا لله ندًّا وأسلموا ... ولا تفخروا عند النبي بدارم
وإلا - ورب البيت - مالت أكفّنا ... على رأسكم بالمراهفات الصوارم
فقام الأقرع بن حابس فقال: يا هؤلاء ما أدري ما هذا الأمر؟ ! تكلم
خطيبنا؛ فكان خطيبهم أرفع صوتًا وأحسن قولاً، وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أرفع
صوتًا وأحسن قولاً، ثم دنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا
الله وأنك رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يضرك ما كان قبل هذا) ا. هـ رواه الروياني وابن منده وأبو نعيم وابن عساكر. وقد طعنوا بالمعلى
بن عبد الرحمن بن الحكيم الواسطي راويه، حتى رماه الدارقطني بالكذب، ولا
يستلزم هذا أن يكون الحديث بطوله غير واقع فإن احتمل أن فيه زيادة أدرجها
المعلى فذلك لا يمنع أن يستفاد من الحديث ما فيه من الأدب والعبرة، وإنما يمنع
الاحتجاج به في إثبات الأحكام ورُوي في السير بألفاظ أخرى.
__________
(1) السديف: شحم السنام.
(2) قال - في التاج عند قول القاموس -: والتوزيع القسم والتفريق كالإيزاع، وبه يروى شعر حسان رضي الله عنه * بضرب كإيزاع المخاض مشاشه * جعل الإيزاع موضع التوزيع، وهو التفريق، وأراد بالمشاش هنا البول، وقيل: هو بالغين المعجمة وهو بمعناه اهـ.
(3) الليث الخادر: المقيم في خدره، وهو أشد بأسًا منه خارج العرين لمكان الحماية ومنع الأشبال.
(4) جذم غسان: أصله وهو بكسر الجيم ويُفتح.
(5) نافره منافرة: حاكمه في الحسب والنسب، وقيل: فاخره مطلقًا.(6/20)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ورع أبي بكر رضي الله عنه
عن زيد بن أرقم قال: كان لأبي بكر مملوك يغلّ عليه فأتاه ليلة فتناول منه
لقمة، فقال له المملوك: ما لك كنت تسألني كل ليلة ولم تسألني الليلة؟ قال:
حملني على ذلك الجوع من أين جئت بهذا؟ قال: مررت بقوم في الجاهلية فرقيت
لهم فوعدوني فلما أن كان اليوم مررت فإذا عرس لهم فأعطوني. قال: أفٍّ لك
كدت أن تهلكني. فأدخل بيده في حلقه فجعل يتقيأ وجعلتْ لا تخرج فقيل له: إن
هذا لا يخرج إلا بالماء. فدعا بعسّ [1] من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها.
فقيل له: يرحمك الله، كل هذا من أجل هذه اللقمة؟ قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي
لأخرجتها؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل جسد نبت من
سُحت فالنار أولى به) فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة. رواه
الحسن بن سفيان وأبو نعيم في الحِلية والدِّينوري في المجالسة بهذا السياق.
وروى أحمد في الزهد من طريق ابن سيرين والبيهقي عن زيد بن أرقم ما يؤيد
الواقعة.
وعن أبي بكر حفص بن عمر قال: جاءت عائشة إلى أبي بكر وهو ما يعالج
الميت ونفسه في صدره فتمثلت هذا البيت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر
فنظر إليها كالغضبان ثم قال: ليس كذلك يا أم المؤمنين (وفي رواية: ليس
كما قلت يا بنية) ؛ ولكن: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كَنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (ق: 19) ، إني كنت قد نحلتك حائطًا وإن في نفسي منه شيئًا فرُدِّيه على
الميراث قالت: نعم. فَرَدَّتْهُ، أما إنَّا منذ وُلِّينا أمر المسلمين لم نأكل دينارًا ولا
درهمًا ولكن قد أكلنا من جريش طعامهم [2] في بطوننا، ولبِسنا من خشن ثيابهم على
ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي وهذا
البعير الناضح وجرد هذه القطيفة [3] فإذا متّ فابعثي بها إلى عمر وأبرئيني منهن.
ففعلت فلما جاء الرسولُ عمرَ بكى حتى جعلت دموعه تسيل على الأرض وجعل
يقول: رحم الله أبا بكر لقد أتعب مَن بعده , يا غلام، ارفعْهن. فقال عبد الرحمن
بن عوف: سبحان الله تسلب عيال أبي بكر عبدًا حبشيًّا وبعيرًا ناضحًا وجرد
قطيفة ثمنه خمسة دراهم؟ ! قال: فماذا تأمر؟ قال: تردهن على عياله. قال:
لا والذي بعث محمدًا بالحق لا يكون هذا في ولايتي أبدًا ولا يخرج أبو بكر منهن
عند الموت وأردهن أنا على عياله. الموت أقرب من ذلك، رواه ابن سعد.
(المنار)
هكذا تكون خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه هي السيرة التي كان
يجب على المسلمين أن يُلزموا بها ملوك بني مروان وبني العباس الذين سموا
أنفسهم خلفاء، وكذلك غيرهم من الملوك. والله ما نكل بالإسلام وأوقع المسلمين في
هذا الهوان إلا استبداد أولئك الملوك بالسلطة وجعلهم الرعية وأموالها ملكًا لهم
يتوارثونها ويتصرفون فيها بما شاؤوا، حتى إذا ظهر فيهم عادل يحاول وضع
الحق موضعه - كمعاوية الأصغر وعمر بن عبد العزيز والمأمون - ألزموه بقوة
العصبية على أن يجري في طريقهم أو يخلع من الملك. ولقد تعب عمر بن عبد
العزيز فيما قدر عليه من العدل تعبًا عظيمًا.
نعم، إن هذه السُّنَّة التي سنَّها أبو بكر متعبة لا يقدر عليها إلا مثل عمر
ويظهر أنه كان يعتقد أن ما فرض له من الانتفاع من بيت المال (كما ذكرنا في
السنة الماضية) يجب أن يكون مشروطًا بمدة عمله للمسلمين، وأنه إذا بقي منه بقية
يجب أن ترد إلى بيت المال ولا يجوز لورثته التمتع بها؛ لأنهم لا يعملون للمسلمين
ما كان يعمله.
وإنَّا لنتمنى اليوم أن يأخذ أمراؤنا وملوكنا أضعاف كفايتهم، وأن يورث عنهم ما
بقي عن نفقاتهم بشرط أن يكفوا عن تبذير ما في خزائن الأمة من الأموال والتحف
والإفضاء بها إلى أوليائهم بمجرد شهواتهم وأهوائهم، وقد سبق لنا القول في السنة
الرابعة بأن في خزائن الدولة العلية من الذخائر والجواهر ما يكفي بعضه للقيام
بإنشاء الأساطيل البحرية وترقية القوة الحربية، بحيث تقاوم بها أعظم الدول القوية،
وهذه الذخائر كغيرها تحت تصرف شخص السلطان، ولا يكاد يسمح بشيء منها
إلا لقيصري الروس والألمان.
__________
(1) العُسّ: بالضم: القدح الكبير.
(2) الجريش: الدقيق الغليظ، معروف والمِلح لم يطيب.
(3) القطيفة: دثار مخمل أي: له زغب وجرد قطيفة: يريدون به خلق قطيفة، وأصله شيء جرد أي خَلِق.(6/23)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ديوان الرافعي
مصطفى أفندي صادق الرافعي يعرف شعره قراء المنار؛ فلا حاجة لتعريفهم
به، وقد جمع منظوماته في ديوان يطبع الآن، وإننا ننشر كلمة له فيه تنويهًا به
وترغيبًا فيه وهي:
كلمة الناظم
أول الشعر اجتماع أسبابه، وإنما يرجع في ذلك إلى طبع صقلته الحكمة،
وفكر جلا صفحة البيان، فما الشعر إلا لسان القلب إذا خاطب القلب، وسفير
النفس إذا ناجت النفس، ولا خير في لسان غير مبين، ولا في سفير غير حكيم.
ولو كان طيرًا يتغرد لكان الطبع لسانه، والرأس عُشه، والقلب روضته،
ولكان غناؤه ما تسمعه من أفواه المجيدين من الشعراء، وحسبك بكلام تنصرف إليه
كل جارحة، ويجني من كل شيء حتى لتحسب الشعراء من النحل تأكل من كل
الثمرات، فيخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس.
وكأنما هو بقية من منطق الإنسان اختبأت في زاوية من النفس، فما زالت بها
الحواس حتى وزنتها على ضربات القلب، وأخرجتها بعد ذلك ألحانًا بغير إيقاع،
ألا تراها ساعة النظم كيف تتفرغ كلها، ثم تتعاون كأنما تبحث بنور العقل عن
شيء غاب عنها في تفنن الشعراء، حتى لكأن الحُطيئة يعوي في أثر القوافي في
عواء الفصيل في أثر أمه.
وترى المجيد من أهل الغناء إذا رفع عقيرته يتغنى ذهب في التحرك
مذاهب، حتى كأنما ينتزع كل نغمة من موضع في نفسه، فيتألف من ذلك صوت
إذا أجال حلقه فيه وقعت كل قطعة منه في مثل موضعها من كل مَن يسمع فلا يلبث
أن يستفزه طربه، كأنما انجذب قلبه، وتصبو نفسه كأنما أخذ حسّه، لا فرق في
ذلك بين أعجمي وعربي، ومن أجل هذا ترى أحسن الأصوات يغلب على كل طبع،
وإنما الشاعر والمغني في جذب القلوب سواء، وفي سحر النفوس أكْفَاء، إلا أن
هذا يوحى إلى القلب، وذاك ينطق عنه، وأحدهما يفيض عليه، والثاني يأخذ منه،
والويل لكليهما إذا لم يطرب هذا، ولم يعجب ذاك.
والشعر موجود في كل نفس من ذكر وأنثى، فإنك لتسمع الفتاة في خدرها،
والمرأة في كِسر بيتها، والرجل وقد جلس في قومه، والصبي بين إخوته يقصون
عليك أضغاث أحلام، فتجد في أثناء كلامهم من عبق الشعر ما لو نسمته لفغمك،
وحسبك أن تكسر وسادك تتحدث إليهم؛ فتراه طائرًا بين أمثالهم وفي فلتات ألسنتهم،
وهو كأنما قد ضل أعشاشه، ولقد نبغ فيه من نساء هذه الأمة شموس سطعن في
سماء البيان، وطلعن في أفق البلاغة، ولا يزال الناس إلى اليوم يروون للخنساء
وجنوب وعلية وعنان ونزهون وولاّدة وغيرهم وبحسبك قول النواسي: ما قلت
الشعر حتى رويت لستين امرأة منهن الخنساء وليلى.
ولو كان الشعر هذه الألفاظ الموزونة المقفَّاة لعددناه ضربًا من قواعد الإعراب،
لا يعرفها إلا مَن تعلمها؛ ولكنه يتنزل من النفس منزلة الكلام، فكل إنسان ينطق
به، ولا يقيمه كل إنسان، وأما ما يعرض له بعد ذلك من الوزن والتقفية، فكما
يعرض للكلام من استقامة التركيب والإعراب، وإنك إنما تمدح الكلام بإعرابه،
ولا تمدح الإعراب بالكلام.
ولم أقرأ أجمع فيه من قول حكيم العصر وإمام الإفتاء في مصر: (لو سألوا
الحقيقة أن تختار لها مكانًا تُشرف منه على الكون لما اختارت غير بيت من
الشعر) ، ولا فيما قالوه في الشعراء أجمع من قول كعب الأحبار: (الشعراء
أناجيلهم في صدورهم، تنطق ألسنتهم بالحكمة) .
ولم يكن لأوائل العرب من الشعراء إلا الأبيات يقولها الرجل في الحاجة
تعرض له، كقول دويد بن زيد، حين حضره الموت، وهو من قديم الشعر
العربي:
اليوم يبنى لدويد بيته ... ولو كان للدهر بلى أبليته
أو كان قرني واحدًا كفيته
وإنما قُصِدَت القصائد على عهد عبد المطلب أو هاشم بن عبد مناف، وهناك
رفع امرؤ القيس ذلك اللواء، وأضاء تلك السماء التي ما طاولتها سماء، وهو لم
يتقدم غيره إلا بما سبق إليه مما اتبعه فيه مَن جاء بعده، فهو أول مَن استوقف على
الطلول ووصف النساء بالظباء والمهى والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعِصي،
وفرق بين النسيب وما سواه من القصيدة، وقرب مآخذ الكلام وقيد أوابده وأجاد
الاستعارة والتشبيه، ولقد بلغ منه أنه كان يتعنت على كل شاعر بشعره.
ثم تتابع القارضون من بعده، فمنهم من أسهب فأجاد، ومنه من أكب كما
يكبو الجواد، وبعضهم كان كلامه وحي الملاحظ، وفريق كان مثل سهيل في
النجوم يعارضها، ولا يجري معها، ولقد حدوا في ذلك حتى إن منهم مَن كان يظن
أن لسانه لو وضع على الشعر لحلقه، أو الصخر لفلقه.
ذلك أيام كان للقول غرر في أوجه ومواسم؛ بل أيام كان من قدر الشعراء أن
تغلب عليهم ألقابهم بشعرهم، حتى لا يعرفون إلا بها كالمرقش والمهلهل والشريد
والممزق والمتلمس والنابغة وغيرهم، ومن قدر الشعراء كانت القبيلة إذا نبغ
فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن
بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، وأيام كانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر
ينبغ أو فرس تنتج، وكانت البنات ينفقن بعد الكساد إذا شبَّب بهن الشعراء.
ولم يترك العرب شيئًا مما وقعت عليه أعينهم أو وقع إلى آذانهم أو اعتقدوه
في أنفسهم إلا نظموه في سَمْط من الشعر، وادخروه في سفط من البيان؛ حتى إنك
لترى مجموع أشعارهم ديوانًا فيه من عوائدهم وأخلاقهم وآدابهم وأيامهم وما
يستحسنون ويستهجنون حتى من دوابهم، وكان القائل منهم يستمد عفو هاجسه
وربما لفظ الكلمة تحسبها من الوحي وما هي من الوحي ولم يكن يفاضل بينهم إلا
أخلاقهم الغالبة على أنفسهم، فزهير أشعرهم إذا رغب، والنابغة إذا رهب،
والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا كلب، وجرير إذا غضب، وهلم جرًّا.
ولكل زمن شعر وشعراء ولكل شاعر مرآة من أيامه؛ فقد انفرد امرؤ القيس
بما علمت واختص زهير بالحوليات واشتهر النابغة بالاعتذارات وارتفع الكميت
بالهاشميات وشمخ الحطيئة بأهاجيه، وساق جرير قلائصه وبرز عدي في صفات
المطية وطفيل في الخيل والشماخ في الحمير، ولقد أنشد الوليد بن عبد الملك
شيئًا من شعره فيها فقال: ما أوصفه لها، إني لأحسب أن أحد أبويه كان حمارًا!
وحسبك من ذي الرمة رئيس المشبهين الإسلاميين أنه كان يقول: (إذا قلت
(كأن) ولم أجد مخلصًا منها، فقطع الله لساني) ! ! وقد فتن الناسُ ابنُ المعتز
بتشبيهاته، وأسكرهم أبو نواس بخمرياته، ورقت قلوبهم على زهديات أبي العتاهية
وجرت دموعهم لمراثي أبي تمام، وابتهجت أنفسهم بمدائح البحتري،
وروضيات الصنوبري ولطائف كشاجم.
فمن رجع بصره في ذلك وسلك في الشعر ببصيرة المعري، وكانت له أداة
ابن الرومي، وفيه غزل ابن ربيعة وصبابة ابن الأحنف وطبع ابن برد وله اقتدار
مسلم، وأجنحة ديك الجن ورقة ابن الجهم وفخر أبي فراس وحنين ابن زيدون وأنفة
الرضي وخطرات ابن هانئ، وفي نفسه من فكاهة أبي دلامة ولعينه بصر ابن خفاجة
بمحاسن الطبيعة وبين جنبيه قلب أبي الطيب، فقد استحق أن يكون شاعر دهره،
وصناجة عصره.
ولا يهولنّك ذلك إذا لم تستطع عد الشعراء الذين انتحلوا هذا الاسم ظلمًا،
وألحقوه بأنفسهم إلحاق الواو بعمرو، فكلهم أموات غير أحياء وما يشعرون.
وأبرع الشعراء مَن كان خاطره هدفًا لكل نادرة، فربما عرضت للشاعر
أحوال مما لا يعني غيره، فإذا علق بها فكره تمخضت عن بدائع من الشعر؛
فجاءت بها كالمعجزات وهي ليست من الإعجاز في شيء، ولا فضل للشاعر فيها
إلا أنه تنبه لها، ومَن شدَّ يده على هذا جاء بالنادر، من حيث لا يتيسر لغيره، ولا
يقدر هو عليه في كل حين.
وليس بشاعر من إذا أنشدك لم تحسب أن سمعه مخبوء في فؤادك، وأن عينك
تنظر في شغافه، فإذا تغزل أضحكك إن شاء وأبكاك إن شاء، وإذا تحمس فزعت
لمساقط رأسك، وإذا وصف لك شيئًا هممت بلمسه، حتى إذا جئته لم تجده شيئًا.
وإذا عتب عليك جعل الذنب لك ألزم من ظلك، وإذا نثل كنانته رأيت مَن
يرميه صريعًا، لا أثر فيه لقذيفة ولا مدية، وإنما هي كلمة فتحت عليها عينه، أو
ولجت إلى قلبه من أذنه، فاستقرت في نفسه، وكأنما استقر على جمر.
وإذا مدح حسبت الدنيا تجاوبه، وإذا رثى خفت على شعره أن يجري دموعًا،
وإذا وعظ استوقفت الناس كلمته وزادتهم خشوعًا، وإذا فخر اشتم من لحيته
رائحة الملك؛ فحسبت إنما حفت به الأملاك والمواكب.
وجماع القول في براعة الشاعر أن يكون كلامه من قلبه؛ فإن الكلمة إذا
خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان.
ولقد رأينا في الناس مَن تكلف الشعر على غير طبع فيه، فكان كالأعمى
يتناول الأشياء ليقرها في مواضعها، وربما وضع الشيء الواحد في موضعين أو
مواضع وهو لا يدري!
وأبصرنا فيهم كذلك مَن يجىء باللفظ المونق والوشي والنضر، فإذا نثرت
أوراقه لم تجد فيها إلا ثمرات فجة.
ورأينا في المطبوعين مَن أثقل شعره بأنواع من المعاني، فكان كالحسناء
تزيدت من الزينة، حتى سمجت فصرفت عنها العيون بما أرادت أن تلفتها به!
على أن أحسن الشعر ما كانت زينته منه وكل ثوب لبِسته الغانية فهو معرضها.
وهو عندي أربعة أبيات: بيت يُستحسن، وبيت يسير، وبيت يندر، وبيت
يجن به جنونًا، وما عدا ذلك فكالشجرة التي نقض ثمرها، وجني زهرها، لا
يرغب فيها إلا محتطب.
أما مذاهبه التي أبانوها من الغزل والنسيب والمدح والهجاء والوصف والرثاء
وغيرها - فهي شعوب منه، وما انتهى المرء من مذهب فيه إلا إلى مذهب، ولا
خرج من طريق إلا إلى طريق {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} (الشعراء:
225) وما دامت الأعمار تتقلب بالناس فالشعر أطوار، آونة تخطر فيه نسمات
الصبا ما بين أفنان الوصف إلى أزهار الغزل، ويتسبسب فيه ماء الشباب من نهر
الحياة إلى مشرعة الأمل، وطورًا تراه جم النشاط تكاد تصقل بمائه السيوف،
وتفرق بحده الصفوف، وحينًا تجده وقد ألبسه المشيب ثوب الاعتبار، وجمَّله
بمسحة من الوقار، وهو في كل ذلك يروي عن الأيام وتروي عنه، وما أكثر فنون
الشعر إذا رويت عن أفانين الأيام.
وأما ميزانه فاعمد إلى ما تريد نقده فرده إلى النثر، فإن استطعت حذف شيء
منه لا ينقص من معناه أو كان في نثره أكمل منه منظومًا؛ فذلك الهذر بعينه أو
نوع منه، ولن يكون الشعر شعرًا حتى تجد الكلمة من مطلعها لمقطعها مفرغة في
قالب واحد من الإجادة، وتلك مقلدات الشعراء، إليك مثلاً قول ابن الرومي -
يصف منهزمًا -:
لا يعرف القرن وجهه ويرى ... قفاه من فرسخ فيعرفه
فقلِّبْ نظرك بين ألفاظه وأجِلْه في نفسك، ثم ارجع إلى قول ذلك الخارجي،
وقد قال له المنصور: أخبرني أي أصحابي كان أشد إقدامًا في مبارزتك؟ فقال: ما
أعرف وجوههم ولكن أعرف أقفاءهم، فقل لهم: يديروا أعرفك، ألست ترى في ذلك
النظم من كمال المعنى وحلاوة الألفاظ ما لا تراه في هذا النثر.
ولقد بقي أن قومًا لم يهتدوا إلى الفرق بين منثور القول ومنظومه، والذي أراه
أن النظم لو مد جناحيه وحلق في جو هذه اللغة ثم ضمهما لما وقع إلا في عش النثر
وعلى أعواده، ولن تجد لمنثور القول بهجة إلا إذا صدح فيه هذا الطائر الغرد، بل
لو كان النثر ملِكًا لكان الشعر تاجه، ولو استضاء لما كان غيره سراجه.
ومازال الشعراء يأتون بجمل منه كأنها قطع الروض إذا تورَّد بها خد الربيع،
وهذا ابن العباس وكتبه، وابن المعتز وفصوله والمعري ورسائله، وانظر إلى قول
بشار وقد مدح المهدي فلم يعطه شيئًا، فقيل له: لم تجد في مدحه، فقال: (والله
لقد مدحته بشعر لو قلت مثله في الدهر لما حتف صرفه على حر، ولكني أكذب في
العمل فأكذب في الأمل) ، وبشار هو ذلك الغواص على المعاني الذي يزعم ابن
الرومي أنه أشعر مَن تقدم وتأخر، وهو القائل في شعره مفتخرًا:
إذا ما غضبنا غضبة مُضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلة ... ذرى منبر صلى علينا وسلما
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُعد، وأوسع من أن تُحد.
ولا تجد الناظم وقد أصبح لا يحسن هذا الطراز إلا إذا كان جافي الطبع، كدر
الحس غير ذكي الفؤاد، لم تجتمع له آلة الشعر وهو إذا كان هناك وجاء من
صنعته بشيء، فإنما هو نظام وليس بشاعر.
أما الفرق بين المترسلين والشعراء، فإن كان كما يقول الصابي: (إن
الشعراء إنما أغراضهم التي يرتمون إليها وصف الديار والآثار، والحنين إلى
الأهواء والأوطار، والتشبيب بالنساء والطلب والاجتداء، والمديح والهجاء، وأما
المترسلون فإنما يترسلون في أمر سداد ثغر، وإصلاح فساد، أو تحريض على
جهاد، أو احتجاج على فئة، أو مجادلة لمسألة، أو دعاء إلى ألفة، أو نهي عن
فرقة، أو تهنئة بعطية، أو تعزية برزية، أو ما شاكل ذلك، فذلك زمن قد درج
فيه أهله، وبساط طوي بما عليه، ولم يعد أحد يحذر مؤاخاة الشاعر؛ لأنه يمدحه
بثمن ويهجوه مجانًا، وإنما الفرق بين الفريقين أن مسلك الشاعر أوعر ومركبه
أصعب وأسلوبه أدق، وكلامه مع ذلك أوقع في النفس وعلى قدر إجادته يكون
تأثيره، فالمجيد من الشعراء أفضل من غيره في صناعة الكلام، وإنك إنما تزين
النثر بالشعر، ولا تزين الشعر بالنثر.
وفي الحديث الشريف: (إنا قد سمعنا كلام الخطباء وكلام أبي سُلمى، فما
سمعنا مثل كلامه من أحد) ، وقال الشافعي - في كتاب (الأم) -: (الشعر كلام
كالكلام، فحَسَنه كحسنه، وقبيحه كقبيحه، وفضله على سائر الكلام أنه سائر في
الناس يبقى على الزمان، فينظر فيه) .
هذا، وإن من الشعر حكمة: {وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا
يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) .
__________(6/25)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة تقريظ
(أحسن الكلام)
أورد المصنف - بعد مقدمته تلك - حديث أبي هريرة الصحيح في النهي عن
الكلام وقت خطبة الجمعة وهو (إذا قلتَ لصاحبك يوم الجمعة: أنصتْ. والإمام
يخطب فقد لغوتَ) ، وقال: إنه قد أخرجه الستة، ونقول: إن ابن ماجه لم يخرجه.
وأورد بعده احتجاج أبي حنيفة بأقوال الصحابة على منع الكلام من وقت
خروج الإمام، وأن صاحبيه خالفاه؛ لأنهما لا يحتجّان برأي الصحابي؛ لأن
المجتهد لا يقلد مجتهدًا، واستنتج من ذلك أن الترقية المتعارفة في زماننا جائزة عند
الصاحبين ما لم تشتمل على تغنٍّ وتلحين مخل، قال: (وإلا فهي مكروهة اتفاقًا) ،
ثم قال: إنه لا وجه للإنكار على الترقية مع هذا الخلاف بين المجتهدين، (وإنما
يجب الإنكار فيما اتفق الكل، وأجمعوا على عدم جوازه) .
ونقول: الظاهر أن مصنف الرسالة هو الذي استنبط هذا الجواز من قواعد
الصاحبين، فإن كان يدعي أن بدعة الترقية كانت في عهدهما، وأنهما نصَّا على
جوازها فليدلنا على النص، وإذا كان هو المستنبط للجواز فلنا في استنباطه
إشكالات:
أحدها: إنه ليس لمثله أن يستنبط ولا أن يرجح، وإنما هو من الطبقة التي لا
يُقبل منها إلا نقل نصوص المذهب كابن عابدين، ولا يدعي أنه فوق طبقة ابن
عابدين الذي صرح بأنه لا يُقبل منه إلا النقل لنصوص المذهب المرجحة، بل قالوا:
إن أبحاث الكمال بن الهمام لا يعمل بها إذا خالفت نصوص المذهب.
ثانيها: إذا فرضنا أنه ادّعى أنه فوق الكمال في الفقه، وأن له أن يستنبط من
نصوص أئمته فلماذا لا يستعمل هذه الموهبة في وظيفة ويزحزح عن المحكمة
بعض قيود الفقهاء الذين ضيقوا مذهب الحنفية؟! وأكثرهم من الذين لم يبلغوا هذه
الدرجة - درجة الاستنباط من أصول المذهب - وإذا كان المؤلف وصل إليها فلا
يجوز له التقيد بأقوال مَن هم دونه من الفقهاء، وأي نعمة على المحاكم الشرعية في
مصر؛ بل على مذهب الحنفية من وجود مجتهد فيه ينقحه، ويسهل وعورته،
فيصلح به حال هذه المحاكم التي يحتج قضاتها بأنهم ممنوعون عن الإصلاح بقيود
الفقهاء التي كُلفوا بالجمود عليها، وعدم التصرف فيها كأنما ألفاظها قرآن تعبّدوا به
تعبدًا.
ثالثها: أن ما يُنقل عن الصحابة عليهم الرضوان إن كان من قبل الرأي فهو
الذي لا يكلف المجتهد باتباعهم فيه إلا إذا وافق دليله دليلهم، وأما إذا كان مما لا
مجال للرأي فيه كالعبادات، فله حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
والأقرب أن مسألتنا من هذا القسم، فإن لم يسلم بأنه الأقرب فلا أراه ينكر أنه
الأحوط.
رابعها: أن الكلام الذي أجازوه في المسجد في غير وقت الخطبة ليس فيه
شبهة التعبد به، واتخاذه شعارًا لازمًا، كما هو الشأن في الترقية المعروفة في هذه
الأزمنة، فقياس الترقية على الكلام قياس مع الفارق، على أن ما كان من قبيل
الشعائر الدينية والتعبد لا يجوز القياس فيه، كما تقدم في النبذة الماضية؛ لأنه مما
يجب فيه الوقف عند نص الشارع؛ فثبت بهذا أن الترقية بدعة منكرة لا وجه
لجوازها في مذهب من المذاهب.
خامسها: أن الترقية المسؤول عنها مشتملة على التغني والتلحين المخل،
فهي منكرة حتى في رأي المصنف؛ ولكن إيراد قياسه على تقدير خلوها من ذلك
والحكم بأنه لا وجه لإنكارها يوهم من يطلع على الرسالة من غير أهل التدقيق أنه
بذلك القياس يجيز ما عليه الناس، وهو إنما أجاز صورة من صور الترقية غير
موجودة، وخلاصة القول إن هذه الرسالة لا تبيح الترقية المعهودة الآن، وإنما تبيح
ترقية مشروطة بشرط غير موجود بناءً على قياس في غير محله.
ثم تكلم المصنف في حكم قراءة سورة الكهف، فقال: (إنها جائزة اتفاقًا،
ولا وجه للقول بمنعها) ، ثم ذكر أنها عبادة لم يرد النهي عنها بخصوصها، (ولم
يدخل ذلك تحت نهي عام، واستثنى من ذلك القراءة وقت الخطبة، أو عند خروج
الإمام على الخلاف المار) ، ثم صرح بأن قراءتها برفع الصوت في المسجد لا
تمنع، وأورد حديث: (لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) ، وقال: إنه على
فرض صحته لا يصلح حجة للمنع وكذلك حديث: (لا ضرر ولا ضرار) قال:
(وعلى فرض وجود مصلٍّ لنحو تحية مسجد وقت قراءتها فلا يحصل من ذلك
تشويش عليه) ، ثم قال: (إنه ورد أحاديث كثيرة بطلب قراءتها) ، وأورد منها
حديثين، ثم نفى أن يكون الاجتماع الخاص في المسجد لسماعها بدعة لدخوله في
عموم الترغيب في الاجتماع للذكر.
نقول: إن في هذا الاستدلال نظرًا ظاهرًا، لا سيما على قواعد الحنفية الذين
يقلدهم المصنف، فإنهم نصوا في كتبهم على أن قراءة (الم.. السجدة)
و (الإنسان) في فجر الجمعة مكروهة، مع أن الأحاديث فيها صحيحة ليست
كأحاديث قراءة سورة الكهف، وعللوا الكراهة بأن فيها هجرًا لباقي القرآن، بل
قالوا باتجاه التحريم في ذلك، فإن قيل: إنهم قالوا بذلك لأن النبي - صلى الله عليه
وسلم - لم يلتزم قراءة (الم.. السجدة) و (الإنسان) في فجر الجمعة؛ بل
ورد أنه قرأ غيرهما أيضًا، فقالوا بكراهة المواظبة عليهما، نقول: إن ما ورد
فيهما أصح مما ورد في غيرهما، ويدل على التكرار، ولم يرد حديث صحيح في
قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، والناس يواظبون عليها مع الاجتماع والتوقيت،
حتى كأنها من شعائر الإسلام المنصوصة، مع أنها معارَضة بأحاديث منها ما رواه
الطبراني في الأوسط عن ابن عباس مرفوعًا: (مَن قرأ السورة التي يُذكر فيها آل
عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته، حتى تحجب الشمس) ، ومنها ما
رواه ابن مردويه عن كعب مرفوعًا بسند صحيح: (اقرؤوا سورة هود يوم
الجمعة) ، نعم، إنه مرسل، ولكن الحنفية يحتجون بالمرسل، وإن لم يحتج به
مصنف الرسالة في منع الكلام عند خروج الإمام إلى الجمعة، ومنها حديث
الطبراني في الكبير عن أبي أمامة: (مَن قرأ حم.. الدخان في ليلة الجمعة أو يوم
الجمعة بنى الله له بيتًا في الجنة) ، ومنها أحاديث في قراءة سورة في ليلة الجمعة.
وأما الأحاديث التي اختارها مما ورد في قراءة سورة الكهف فهي كما ذكرها
بالنص، قال: منها ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعًا: (مَن قرأ
سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عَنان السماء، يضيء
له إلى يوم القيامة، وغُفر له ما بين الجمعتين) . وما رواه غير واحد عن أبي
سعيد الخدري: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه
وبين البيت العتيق) .
أقول: قد طعن في سند كل منهما، بل قال الحافظ ابن حجر في تخريج
أحاديث الأذكار: إن أقوى ما ورد في قراءة سورة الكهف حديث أبي سعيد عند الحاكم
في التفسير والبيهقي في السنن: (مَن قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له
من النور ما بين الجمعتين) ، وقد أورده الحاكم من طريق نعيم بن حماد عن هشيم
عن أبي هاشم وصححه؛ ولكن قال الذهبي في الميزان: بل نعيم بن حماد ذو
مناكير، وقد ورد في قراءة آيات مخصوصة من الكهف بدون ذكر الجمعة روايات
قوية، وبعضها في صحيح مسلم.
وأما تشويش هؤلاء القراء في المساجد على المصلين فهو مما لا شك فيه،
وما فرضه صاحب الرسالة من وجود المصلين وقت قراءة سورة الكهف في المسجد
أمر واقع مشاهَد؛ ولكن هؤلاء الفقهاء يتكلمون بالفروض كأنهم في كون مفروض
غير موجود.
وكون التشويش على المصلين غير جائز مما لا ينبغي أن يشك فيه، والصلاة
هي المقصودة من المساجد بالذات؛ ولذلك صرح الفقهاء بمنع الجهر بالتلاوة في
المسجد إذا كان فيه مَن يصلي. وقد أوَّل المصنف حديث: (لا يجهر بعضكم على
بعض بالقراءة) ورواه (بالقرآن) بأن معناه الظاهر: (لا يذم أحد أحدًا بالقرآن،
أو لا يشتم بعضكم بالقرآن انتصارًا على البعض الآخر) ، ولم يعلم أنه عُلل بإيذاء
المصلي، رواه الخطيب عن جابر.
وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري: (اعتكف رسول الله صلى الله عليه
وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر، وقال: ألا إن كلكم
مناجٍ لربه، فلا يؤذِ بعضكم بعضًا، ولا يرفعْ بعضكم على بعض في القراءة) ؛
ولكن أكثر المشتغلين بالفقه لا يطلعون على كتب السنة إلا قليلاً. ولا يخفى أن
إيذاء من يجهر لمَن يسر بالصلاة أو القراءة أشد من إيذائه لمن يجهر مثله؛ لأن
الجهر يُدفع بالجهر. فسقط جميع استدلال المصنف، وثبت أن قراءة سورة الكهف
في المسجد يوم الجمعة - في الوقت الذي يجتمع الناس فيه للصلاة - بدعة
محظورة، لا سُنة مطلوبة.
(للتقريظ بقية)
__________(6/31)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ
... ...
(كتاب إصابة السهام فؤادَ مَن حاد عن سنة خير الأنام)
أهدانا الشيخ محمود محمد أحمد خطاب السبكي أحد علماء الأزهر نسخة من
كتاب له جديد سمّاه بهذا الاسم، وهو في بيان البدع والمنكرات الفاشية بين أهل
العلم والدين، وفي المساجد وحلقات الدروس وغير ذلك، ولم تتيسر لنا مطالعته،
وإنما أخذناه الآن في يدنا، وقرأنا جملة من فهرسه، فإذا فيها:
(مطلب تحريم القراءة إذا لزم عليها تشويش خلافًا لمن قال بالكراهة) ، فراجعنا
هذا المطلب، وأحببنا أن ننقل منه تأييدًا لما ذكرنا آنفًا في الانتقاد على رسالة الشيخ
بخيت ما يأتي، قال المصنف - في سياق الكلام على المنكرات الفاشية في الجامع
الأزهر ومنها التشويش على المصلين برفع الصوت بالنية - ما نصه:
(قال ابن العماد: لو توسوس المأموم من تكبيرة الإحرام على وجه يشوش
على غيره من المأمومين حرم عليه ذلك، كمن قعد يتكلم بجوار المصلي، وكذا
تحرم عليه القراءة جهرًا على وجه يشوش على المصلي بجواره) . اهـ
وقوله: (من المأمومين) : يعني مثلاً، وكذا قوله: (على المصلي) ، وإلا
فالتشويش حرام، ولو على النائم، وأما قول ابن حجر بكراهة القراءة عند التشويش،
وردّه قول ابن العماد بالحرمة فهو المردود، وكيف لا، وقد أضر بقراءته المتعبدين،
ورسوله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار) . اهـ
ثم رأيت فيه مبحث قراءة سورة الكهف في المساجد فأحببت نقله أيضًا، وهو:
ومنها - أعني البدع التي اخترعوها في الجامع الأزهر ونحوه - قراءة سورة
الكهف يوم الجمعة بصوت مرتفع وترجيع، والمسجد ممتلئ من الناس ما بين راكع
وساجد وذاكر وقارئ ومتفكّر إلى غير ذلك، ومع ذلك يرتبون للقارئ لها أجرة من
الوقف، وذلك ممنوع من وجوه:
(الأول) كونه مخالفًا لما كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وزمن
أصحابه والسلف، والخير كله في الاتباع، والشر كله في الابتداع والأحاديث في
ذلك معلومة.
(الثاني) أن فيه تشويشًا على مَن بالمسجد متلبّسًا بعبادة، وقد تقدم غير مرة
أن التشويش ممنوع بالإجماع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ملعون مَن
ضارَّ مؤمنًا) .
(الثالث) فيه صرف المال في غير مصرف شرعي؛ بل هو منكر، وهو
ممنوع، ولا سيّما من مال الوقف.
(الرابع) أن ذلك كان سببًا في اعتقاد العوام أن قراءة السورة المذكورة بهذه
الصفة من معالم الدين، فأدخلوا في الدين ما ليس منه، وتقدّم أنه ممنوع بنص
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(الخامس) فيه رفع الأصوات في المسجد لغير ضرورة شرعية، وقد ورد
النهي عن ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يجهر بعضكم على بعض في
القراءة) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (يا عليُّ، لا تجهر بقراءتك ولا بدعائك
حيث يصلي الناس؛ فإن ذلك يفسد عليهم صلاتهم) .
وقال في الدر المختار للسادة الحنفية: (يحرم رفع الصوت في المسجد بذكر
إلا للمتفقهة) . اهـ.
ولعل موضوعه فيما إذا كان في تشويش، وقال ابن العماد الشافعي: (تحرم
القراءة جهرًا على وجه يشوش على نحو مصلٍّ) اهـ ومر.
ويأتي النص على أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهون
رفع الصوت بالذكر والقرآن، ولا سيّما في المساجد، فإذًا عند التشويش لا يشك
في التحريم، نعم، ورد النص على فضل قراءة هذه السورة ليلة الجمعة ويومها،
ولكن ليس كما اعتاده هؤلاء الناس، بل يقرأ لنفسه في بيته مطلقًا، أو في المسجد
بدون رفع صوت؛ حذرًا من التشويش، وعبارة (قرة العين) مع شرحها (فتح
المعين) للعلامة زين الدين المليباري الشافعي نصها: (وسُن قراءة سورة الكهف
يوم الجمعة وليلتها لأحاديث فيها، وقراءتها نهارًا أوكد، وأولاها بعد الصبح
مسارعة للخير، وأن يكثر منها ومن سائر القرآن فيهما، ويكره الجهر بقراءة
الكهف وغيرها إن حصل به تأذٍّ لمصلٍّ أو نائم، كما صرّح به النووي في كتبه)
وقال شيخنا في شرح الباب: (ينبغي حرمة الجهر بالقراءة في المسجد، وحمل
كلام النووي بالكراهة على ما إذا خِيفَ التأذي، وعلى كون القراءة في غير المسجد)
اهـ.
قال محشيّه السيد علوي قوله: (.. لأحاديث) فقد صح أن من قرأها
ليلتها أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق. اهـ
وفي فتاوى قاضي خان: (رجل يقرأ وبجنبه رجل يكتب الفقه لا يمكنه أن
يستمع كان الإثم على القارئ؛ لأنه قرأ في موضع يشتغل الناس بأعمالهم، ولا
شيء على الكاتب) . اهـ
فما بالك بمَن كان مشغولاً بنحو صلاة، ويشوش القارئ عليه كالحاصل
بقراءة سورة الكهف يوم الجمعة، ونحوه في الفتح عن الخلاصة قال: (وعلى هذا
لو قرأ على السطح والناس نيام يأثم) . اهـ، قال ابن عابدين: (أي لأنه يكون
سببًا لإعراضهم عن استماعه، أو لأنه يؤذيهم بإيقاظهم) ، ثم قال: (يجب على
القارئ احترام القرآن بأن لا يقرأه في الأسواق ومواضع الاشتغال، فإذا قرأ فيها
كان هو المضيع لحرمته، فيكون الإثم عليه دون أهل الاشتغال دفعًا للحرج)
اهـ
(وكذا في مذهب السادة الحنبلية وغيرهم، فتحصل أن قراءة السورة
المذكورة بهذه الكيفية التي اعتادها كثير من الناس ممنوعة بإجماع المسلمين،
وكيف لا وهي من الحدث في الدين لمخالفتها لما كان عليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم وآله وأصحابه وصالح السلف، ومعلوم أن كل ما خالف ذلك فهو في
شَرَك الوبال والتلف) . اهـ.
هذا ما رأينا نقله الآن من كتاب السبكي من غير بحث فيه، وسنعود إلى
النقل عن هذا الكتاب الذي نودّ أن يطلع عليه جميع المسلمين، ونشكر لمؤلفه
عنايته بخدمة الدين.
***
(تقويم المؤيد)
صدر تقويم المؤيد للسنة الهجرية الجديدة، وفيه من الفوائد والمباحث العلمية
والتاريخية والسياسية والأدبية ما جمع - على اختصاره - بين الفائدة واللذة، وقد
توسع فيه بالكلام عن مصر والسودان، حتى إنه يُغني عن كتاب (دليل مصر)
لما فيه من بيان أحوال البريد والسكك الحديد ... وذكر في باب وفيات الأعيان
ملخص تراجم كبار الرجال الذين ماتوا في العام الماضي، ومنهم باي تونس والسيد
الكواكبي، وذكر في باب القضاء أهم المسائل التي يحتاج إلى معرفتها المتخاصمون
في المحاكم المصرية مرتبة على حروف المعجم، وفي باب الإحصاء طلبة العلم
والعلماء بمساجد مصر، البريد المصري، سكك الحديد في العالم، الأمم المدمنة
السكر، نسبة المتعلمين في الأمم، العائلات وضعف التناسل، الجرائد في العالم،
سكان الأرض، السفن، اللغات، الزنا في فرنسا، النساء في الولايات المتحدة،
أعمار النساء، وغير ذلك.
وجملة القول في هذا التقويم: إنه نديم المقيم، ورفيق المسافر، وقاموس العلم،
ومكتبة الحبيب، وهو يُطلب من مؤلفه محمد أفندي مسعود المحرر بالمؤيد، ومن
المكاتب الشهيرة، وثمنه خمسة قروش.
***
(النخبة الأزهرية في تخطيط الكرة الأرضية)
كتاب حافل في تقويم البلدان يدخل في أربعة أجزاء:
الجزء الأول: عموميات على الدنيا، الجزء الثاني: مصر والحكومة
السودانية، الجزء الثالث: إفريقيا وأوربا، الجزء الرابع: آسيا وأمريكا
والأقيانوسية والأقاليم القطبية، وفيه 47 خريطة ملونة و66 صورة وشكلاً، ومؤلفه
إسماعيل أفندي علي الموظف بنيابة الاستئناف الأهلية، ومدرس علم تقويم
البلدان بالجامع الأزهر الشريف.
هذا ملخص التعريف بالكتاب، ونقول إن قُراء العربية في أشد الحاجة إلى
كتب مطولة في هذا الفن ومن العجيب أن وُجدت كتب مطولة في أكثر العلوم
العصرية دون هذا العلم الذي يجب أن يكون عامًّا، ومن الفضائح أن يجهله ذكر أو
أنثى، فمن نعم الله تعالى على قراء العربية أن سخر لهم رجلاً من أوسعهم اطلاعًا
وتدقيقًا فيه، فوضع لهم هذا الكتاب، وهو مؤلفه إسماعيل أفندي علي الذي زاول
تعليمه في المدارس الأميرية أعوامًا طويلة، ثم لا يزال يعلّمه في الأزهر إلى
اليوم.
ومن شكر النعم أن يبادورا إلى اقتناء الكتاب والاستفادة منه؛ لأن الشكر إنما
يكون بوضع النعمة في موضعها الذي وجدت لأجله، ومن آيات الجهل الفاضحة أن
يحبس هذا الكتاب الجليل في مكاتب الباعة زمنًا طويلاً، ومن الإساءة أن ينفق هذا
المؤلف زمنًا طويلاً من وقته في التعريب والتأليف ووضع الخرائط بالعربية، ثم
يصرف مبلغًا كبيرًا من ماله في نفقات طبع الكتاب، ولا تكون أقل مكافأة له من
الأمة سرعة الإقبال على كتابه.
أما صفحات الكتاب فهي 640 من الشكل الكبير جدًّا، وثمنه أربعون قرشًا
صحيحًا، ومَن لاحظ الصعوبة في طبع الخرائط الملونة بالألوان الكثيرة، وصعوبة
وضعها يعلم أن ثمن الكتاب رخيص بصرف النظر عن فائدته.
إننا تصفحنا بعض الكتاب بالإجمال، وإنما نثق به لثقتنا بسعة اطلاع مؤلفه
على كتب الإفرنج الحديثة، وله العذر إذا وقع فيه شيء من الخطأ في إحصاء
أهالي بلاد كالبلاد العثمانية، لا يتيسر له الوقوف على كتب حديثة فيها كما يتيسر
له في غيرها، وقد كان أول مَن انتقد ذلك في الكتاب هو أول المعجبين به صديقنا
رفيق بك العظم، قال: (إنه اعتمد على الإحصاءات القديمة) ، كقوله - عن
سكان دمشق - إن عددهم 60 ألفًا، مع أن الإحصاء الجديد الوارد ذكره في سلنامة
الولاية الرسمية هو 143321، وفي الحقيقة إنه يزيد عن هذا العدد أيضًا؛ إذ يقدر
العارفون سكان دمشق بمائة وستين ألفًا، وعلى هذا يقاس ما ذكره عن عدد نفوس
بقية البلدان الكبيرة في الزيادة والنقصان كحلب وبيروت وحماة وغيرها، ولو
اعتمد في النقل على سلنامات الدولة الرسمية لكانت خدمته العظيمة أتم، ووضعه
الجميل أكمل، وانتقد عليه أيضًا عدم تعيينه درجات العرض للبلدان الكبيرة
بالتفصيل، أو الأقطار بالإجمال، ولو فعل لأغنى المطالع عن مراجعة الخرائط
الموجودة في الكتاب لمعرفة عرض كل بلد أو قطر، كما فعل غيره في كتب أصغر
من كتابه، وانتقد أيضًا اختصار الكلام في المملكة العثمانية، وهو يرجو - كما
نرجو - أن يضع لها كتابًا مخصوصًا.
__________(6/34)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدولة العلية ومكدونية
نجم من عدة أشهر ناجم من الثورة في بلاد مكدونية فشخصت له أوربا
وأسرعت روسيا والنمسا إلى الدولة العلية بالنصيحة والحث على تلافي الأمر
والمسارعة إلى إصلاح البلاد ووضعتا للإصلاح (لائحة) عرَّفتا بها سائر الدول ثم
قدمتاها إلى الدولة ملحّتين في المبادرة إلى قبولها فلم تلبث الدولة أن قبلتها على
عِلاَّتها خلافًا لعادتها في التريث والليِّ.
ومن موضوع اللائحة وجوب استعمال الأوربيين في الإصلاح؛ لأنه لا ثقة
لأوربا برجال الدولة وقد ساء هذا معشر الألبانيين ولم يقع موقعه من نفوس معاشر
المسيحيين؛ لأن نفوسهم طمعت بالاستقلال، فكل ما دونه يعد عندهم من ألاعيب
الأطفال.
كان في أثر ذلك أو معه حركة في البلغار وهزة في (السرب) ، وطاف في
الأذهان أن هذه الفتنة ستعم بلاد البلقان، وظهرت من بعض الدول العظام أمارات
الاتفاق مع روسيا والنمسا، ومن بعضهن علائم السكوت وعدم المعارضة،
واختلفت الظنون في نية روسيا فجنح بعضٌ إلى ترجيح كفة السلم من جانبها؛ بدليل
نصائحها المتتابعة للبلغاريين وغيرهم من شعوب البلقان بأن يخلدوا إلى السكينة
ويتفيّؤوا ظلال الهدوء والمسالمة، ومال بعض إلى ترجيح كفة الحرب بدليل التقاليد
القديمة التي وضعها بطرس الأكبر في وصيته (التي نشرناها في الجزء الماضي)
وما يصدق ذلك من أخبار استعدادها الحربي في هذه الأيام.
الحق أن لكل من الرأيين وجهًا وجيهًا، وأن سياسة روسيا أصبحت دقيقة
المسالك مشتبهة الأعلام فبينا ترى قيصرها ينادي بوجوب تعميم الأمن والسلام،
ومد ظلاله على رؤوس جميع الأنام، تراه يستعد للكفاح استعدادًا صوريًّا ومعنويًّا.
فأما الصوري فبإنشاء الأساطيل وتكثير الأسلحة وإتقان العلوم العسكرية، وأما
المعنوي: فبمحالفة بعض الدول القوية ومسالمة بعض. ولقد كان الإنكليز عون الدولة
العثمانية على روسيا فحال لوْن السياسة الجامعة بينهما وتغير شكلها وتبدل السلطان
عاهل الألمان بالإنكليز، وهو ملك يَطْعَمُ ولا يُطْعِمُ شديد الجشع، قوي الطمع إذا رأى
روسيا وقد جدَّ جدها يكتفي منها بلقمة كبيرة يلتهمها ويتركها بعد ذلك وشأنها، ولا
يطوف في خاطر عاقل أنه يسمح بجندي ألماني واحد لصديقه السلطان إذا نزل مع
الروس في ميدان الطعان!
كانت قلوب المسلمين في العيدين محوّمة فوق بلاد مراكش تؤلمها فتنة الخارج،
كما تسوءها سيرة المالك، وقد دخلت عليها السنة الجديدة فاستقبلها همّ أكبر من
هم مراكش، همّ الدولة المسلمة الكبرى (وقاها الله تعالى) ولا خوف عليها إلا من
روسيا. فإذا كانت لا تريد سوءًا فدع البلقان يضطرم بنيران الثورة اضطرامًا ولا
تخش مغبته فالدولة قادرة على تأديبه. وأسوأ عاقبة تنتظر حينئذ استقلال مكدونية
أو وضعها تحت حماية الدول الكبرى على المذهب الجديد في سير أوربا بالمسألة
الشرقية مذهب التفكيك وتحليل العناصر، وهذا المذهب خير لدول أوربا وأسهل
طريقًا من حرب الدولة لأجل الفتوح والتغلب؛ لأن هذا يعوزه الاتفاق على ما
يتعسر الاتفاق عليه ويقتضي بذل أموال غزيرة، وسفك دماء عزيزة هو خير
للشرقيين أو المسلمين، وأسهل عليهم أيضًا؛ لأن كل عنصر ينحل من عناصر بلادهم
وكل قطعة تنتقص من أرضهم تفيدهم عبرة كبرى وتعلمهم كيف يحفظ الباقي فإذا لم
يتعلموا بتكرار النُّذر وأنواع العبر، وكانوا يُفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا
يتوبون ولا هم يذَّكَّرون، فهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيَّان يبعثون!
مسألة مكدونية مسألة عشواء والحكم فيها غامض لما تقدم؛ ولأن النصارى فيها
وفي جميع ما بقي تحت حكم العثمانيين من بلاد أوربا وما يدانيها كبلاد الأرمن قد
توجهت نفوسهم إلى الاستقلال واعتقدوا أن أوربا نصيرة لهم وأن الذريعة الوحيدة
لإثارة نعرتها عليهم وتصدِّيها لفصلهم من جسم الدولة الثورات التي تضطر
الأتراك إلى سفك قطرات من دمائهم تأديبًا لهم ولعل أوربا في مجموعها وروسيا
حاضنة جراثيم فكر الاستقلال في البلقان في خاصتها تعجز عن ضبط حركة هذه
الثورة التي تولدت وتأصلت ورسخت واندفعت عن بصيرة أو غير بصيرة.
هذا ما يُخشى على تقدير إرادة روسيا إطفاء الثورة والاكتفاء بما طلبت من
الإصلاح فكيف إذا كانت تريد شيئًا آخر؟ !
وماذا يجب على الدولة أن تفعله في هذه الفتنة وماذا يجب عليها أن تفعله في
نفسها لأجل مستقبلها؟
أما الأول: فالظاهر أن الذي تعمله الآن من إجابة طلب روسيا والنمسا إلى
الإصلاح الذي طلبتاه بدون تحوير ولا تأخير ومن اختيار الموظفين الأوربيين
للإصلاح من الأمم الأوربية الضعيفة ومن الاستعداد للكفاح إذا طرأ ما هو أعظم من
ذلك هو الواجب الذي لا يمكن غيره.
وأما الثاني: فإن الجواب عنه لا يفهم ويقبل إلا بعد العلم بأمور كثيرة أهمها
(مالية الدولة) وإن لدينا رسالة مطولة أو كتابًا صغيرًا في ذلك لأحد الكُتاب
العثمانيين مستقًى من الينابيع الرسمية وإننا ننشره تِبَاعًا في أجزاء المنار ليصح
للقارئين معرفة الدولة وما يجب أن تعمله لتنجو من الخطر.
وإن فهم حقيقة الدولة مما لا بد منه للمشتغلين بمسألة الإصلاح الإسلامي لما
لهذه الدولة من المكانة في الوجود ومن المكانة في نفوس المسلمين في جميع أقطار
الأرض. ولهذا أخذنا على أنفسنا أن نكتب في كل جزء من منار هذه السنة شيئًا
عن الدولة العلية من بيان حقيقة وجودية ورأي معقول نرجو الانتفاع به. ونتجنب
في ذلك المدح والذم للأشخاص المعينين.
__________(6/38)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سلطان زنجبار والأمير العربي
نحمد الله تعالى أن حفظ البلاد المقدسة في هذه السنة من الوباء والأمراض، وقد
كتب إلينا من مكة المكرمة بأن صديقنا الأمير العربي الكريم محمد باشا عبد الوهاب
شيخ دارين قد كان له من الحفاوة والاحترام عن سيادة الشريف ودولة والي الحجاز ما
يليق بمقامه، وأنه قد وُفِّقَ إلى توزيع ألف وخمسمائة جنيه على علماء الحرم الشريف
وخدمته وغمر بصدقاته الفقراء والمعوزين، وأنه تبرع بمئة جنيه وعشرة جنيهات
إعانة لسكة حديد الحجاز وأن سلطان زنجبار تبرع لهذه السكة أيضًا بمئة جنيه وخمسة
جنيهات ووزع على المجاورين والمستخدمين في الحرم الشريف ست مئة ريال
(بوم) .
(تنبيه)
كل مَن قبل هذا الجزء من المنار فهو مشترك إلى آخر السنة ويجب عليه دفع
القيمة المعينة على غلاف المجلة. ونستثني عمال البريد خاصة، فنقبل منهم نصف
القيمة.
__________(6/40)
16 المحرم - 1321هـ
مايو - 1903م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الكرامات والخوارق
المقالة التاسعة
فيما ينبغي عليه التعويل
علم مما تقدم أن الأمور الغريبة التي تسمى خوارق عادات وعجائب منقولة
عن جميع الأمم فهي واقعة حتمًا، ومنقولة بالتواتر اللفظي وبالتواتر المعنوي، وإن
ادعاها كثيرون من الناس كذبًا وتعمَّلوا للاشتهار بها تعملاً. ثم إن هذه الأمور على
ضربين: ضرب عرف عن أهله أنه صناعي يتوصل إليه بالعلم والعمل كالسحر
والشعوذة، فهو من الخوارق بالنسبة إلى الذين لا يعرفون طريقه ولم يقفوا على عِلَله
قال تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (البقرة: 102) وقال عز وجل: {يُخَيَّلُ
إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66) أي: والحقيقة خلاف ذلك التخيل وقال:
{سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوَهُمْ} (الأعراف: 116) وقال - حكاية عن
فرعون -: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} (طه: 71) وضرْبٌ عُرِفَ عن
أهله أنه ليس له طريق صناعي يوصل إليه العلم، وإنما هو وراء الأسباب والثابت
القطعي من هذا القسم آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتقدم الكلام عليها في
المقالة الأولى وفي الأمالي الدينية ومنه ما يدعيه أو يُدَّعى لكبار رجال الدين من أهل
الملل والكلام فيه، والمقصود منه بالذات ما عندنا معشر المسلمين وقد ذكرنا حجج
مثبتي الكرامات وحجج منكريها وأوردنا ما رواه المثبتون من الكرامات المأثورة
عن الصحابة والتابعين، وبينا ما صح منها وما لم يصح فليراجع كله في المجلد الثاني
من المنار.
وإننا نختم القول في مبحث الكرامات بمسائل أكثرها مستفاد من المقالات
السابقة، وهذه المسائل هي خلاصة رأينا في الموضوع فمن أنكر علينا منها شيئًا
فليكتب إلينا مدليًا بحجته، ونعده بأننا ننشر ما يكتب بمعناه أو بلفظه إذا كان صحيحًا
ومختصرًا وغير خارج عن محل النزاع استطرادًا إلى مسائل أخرى. فإن كانت
الحجة ناهضة سلمنا وإن كانت داحضة بيَّنَّا. ولا ينبغي لأحد أن يرد علينا في
الموضوع إلا بعد الاطلاع على المقالات التسع؛ لئلا يبحث في شيء سبق بيانه
فيُهمَل كلامه:
(المسألة الأولى) إن الأصل في كل ما يحدث في الكون أن يكون له سبب
وأن يجري على سنة من سنن الله تعالى في الخلق، وهذه الأسباب مطردة متى تمت
شروطها (كما قال الغزالي) وتلك السنن ثابتة لا تبدل ولا تحول كما علم بالمشاهدة
والاختبار وبنص القرآن، فهي مسألة اتفق فيها الحس والعقل مع نصوص الشرع،
فهي قطعية.
(المسألة الثانية) إن من قضايا العقول - التي نصها علماء الأصول - أن
الظن الراجح لا يعارض العلم اليقين وأيد هذا القرآن أيضًا بمثل قوله تعالى: {إِن
يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} (النجم: 28) وقوله عز وجل:
{وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) وغير ذلك من الآيات
الواردة في إبطال عقائد أهل الزيغ والجحود.
(المسألة الثالثة) أجمع العلماء من الأصوليين والمحدثين على أن روايات
الآحاد العدول الثقات كالصحابة وأئمة التابعين المعروفين ومن عُرف بالصدق
وحسن السيرة مثلهم لا يفيد أكثر من الظن، وأجمعوا على أنه إذا روي عنهم ما
يخالف المعقول القطعي والمنقول القطعي كنص القرآن فإنه لا يعتد بالرواية ولا
يعول عليها إلا أن يوفق بينها وبين القطعي منقولاً كان أو معقولاً فقط.
(المسألة الرابعة) إن العجائب والخوارق قد نقلت عن جميع الأمم فليس من
الصواب التفاضل بينها وادعاء أن بعضها على حق وبعضها على باطل بسبب ذلك
وإنما يجب تمحيص النقول وتحريرها فإن الناس مولعون أشد الولع بالغرائب،
وأكثر ما يتحدثون به منها كاذب.
(المسألة الخامسة) كما يجب تمحيص النقل والرواية يجب تمحيص المرويّ
المنقول من الغرائب؛ ليعلم أنه واقع حقيقة ولم يكن تخييلاً للأنظار أو خداعًا
للأبصار أو الأفكار.
(المسألة السادسة) قد كشف العلم أسبابًا لأمور كثيرة كانت تسمى خوارق
وكرامات، فإذا علم بعد تمحيص الرواية والمروي أن شيئًا من هذه الغرائب وقع لا
محالة، فينبغي الرجوع لالتماس الأسباب من مظانها في العلم الطبيعي وعلم النفس
فإن لم يظهر له سبب يحمل عليه، ولا وجه يمكن أن يؤوَّل إليه فهو الذي يصح
أن يسمى خارقة أو أعجوبة والنظر فيه من وجهين: حال مَن ظهر على يده، وإمكان
قياسه على غيره.
(المسألة السابعة) لثبوت الخارقة - على ما ذُكر - طريقان: الحسّ السليم
والتواتر الصحيح وكلاهما عسر جدًّا؛ لأن الحواس تُخدع حتى تكذب صاحبها فيما
ترى وتسمع، وأمر التواتر أبعد في العسر وصعوبة التحقق فإن من شرطه أن
ينتهي إلى حس محقق باليقين، وقد علمت أن الحس يخدع في هذا المقام.
ومنها أن يكون الناقلون لذلك الخبر المحسوس جمعًا يستحيل في العقل السليم
تواطؤهم على الكذب وانخداعهم بما أدركوه بحسهم وأن ينقل عنهم مثلهم في كل
طبقة من الطبقات وإنك ترى أكثر الناس يسمون الأمور المشهورة بينهم متواترة، لا
سيما إذا كثر تحدث الناس بها فإذا استقريت حلقات سلاسل الروايات وجدتها كلها
معلقة في آخرها بحلقة واحدة أو حلقتين أو ثلاث مثلاً.
وما انتهى إلى واحد أو آحاد فهو خبر يحتمل الصدق والكذب لذاته، وربما
رجحتَ الكذب في أكثر الغرائب المشهورة التي يسمونها متواترة.
الحق أن الإنسان متهم طبعًا بإذاعة كل غريب لا سيما إذا صادف هوى في
النفس أو طابق التقاليد والاعتقادات المسلّمة. فالحمد لله الذي جعل آية نبينا بينة
قائمة على وجه الدهر محفوظة من المعارضة والنقض مادامت السموات والأرض.
(المسألة الثامنة) إنك إذا بحثت في حال الذين يدعون الخوارق تجدهم
طلاب مال، وطلاب جاه وأنهم يقصدون بما يأتون استرهاب الناس بما يوهمونهم من
قدرتهم على إيذائهم متى شاءوا أو تعليق آمالهم بهم وإيهامهم أن بأيديهم مقاليد الرزق
ومفاتح الخير، أو الجمع بين الأمرين حتى إنهم جعلوا إرادة الله تابعة لإرادتهم! كما
قالوا في الكلمة المأثورة عن الربانيين منهم وهي:
(إن لله عبادْ، إذا أرادوا أرادْ) ! (هكذا يقولونها بالوقف على العباد على لغة
ربيعة) .
وينقلون عنهم من مثل هذه الجرأة على الله تعالى كلمات كبيرة وأشعارًا
وأغانٍ تختلب قلوب العامة. وفي كتب العقائد التي تُقرأ في الأزهر وغيره من
المدارس الدينية (كحواشي الباجوري على الجوهرة والسنوسية) أن خوارق
العادات تظهر على أيدي جميع أصناف الناس حتى الكفار والفساق، وتسمى إذا
صدرت من هؤلاء على نحو ما يحبون (استدراجًا) ؛ لأنها تغرهم بما هم فيه من
الباطل فيسترسلون فيه حتى لا مطمع في هدايتهم، وإذا ظهرت على يد مستور الحال
تسمى (معونة) . ويخصون اسم الكرامة بالخارقة التي تكون للمتمسك بالشريعة
اعتقادًا وتخلقًا وعملاً في الظاهر والباطن.
وإننا نقول لمن يأخذون أقوال هؤلاء العلماء بالتسليم: إذا كانت الخوارق تقع
على أيدي جميع طبقات الناس فلا يجوز الاستدلال بها على أن من تظهر على يديه
محق في اعتقاده أو مرضي عند ربه، وإنما يعرف ولي الله تعالى والصالح من عباده
بأمر واحد وهو مطابقة اعتقاده للحق المؤيد بالبراهين الصحيحة، وموافقته في أخلاقه
وسجاياه وأعماله السرية والجهرية لما أرشد إليه الدين والعقل من الفضائل والمنافع
العامة والخاصة بقدر الاستطاعة.
ونحن نرى العامة يبيحون لمن يجري على يديه شيء من الغرائب جميع
المنكرات، فهم يحكّمون خوارقه في حاله من الاعتقاد والعمل، والعلماء يحكّمون
حاله في خوارقه، فقد تناقض اعتقاد العامة مع اعتقاد العلماء ولا نرى أحدًا منهم
ينكر على الآخر ولا يجذبه إليه؛ لأن حرية الإسلام قد انقلبت إلى فوضى بعد
ذهاب منصب الخلافة وتولية الجاهلين بالدين أمور المسلمين!
(المسألة التاسعة) مَن رأى بعينه خارقة للعادة أو نُقلت إليه بطريقة التواتر
الصحيح وعرف أنها لم تكن خداعًا ولا تخييلاً وعلم أن من ظهرت على يديه ليس
من أهل التلبيس والشعوذة، ولا من طلاب المال والجاه واستمالة القلوب إلى الاعتقاد
به، وصعب عليه أن يحملها على وجه من وجوه التأويل الآتية - فإن له أن يقيسها
على ما عرف تأويله بأن يقول: إن كثيرًا من الغرائب وخوارق العادات المألوفة قد
كان يظن أنها خارجة عن نظام الخليقة وسنن الكون ومنتثرة من سمط الأسباب التي
تنتظم بها المسببات ثم ظهر أنها لم تكن شاذة عن تلك السنن الإلهية، ولا نادَّة من
دائرة الأسباب الكونية، وهذا الذي أراه الآن هو مثل تلك في ذاك الزمان، فيجوز
أن يظهر له مثل ما ظهر لها من السبب، وتزول الغرابة ويبطل العجب، وهذا
الرأي هو الذي عليه جميع العقلاء والحكماء في هذا العصر وإنهم ليتوقعون ظهور
علل جميع الغرائب التي حدثت في العالم حتى معجزات الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام.
(المسألة العاشرة) إذا فرضنا أن العلم أظهر لما يُؤثَر من المعجزات عللاً
روحانية وأسبابًا خفية فلا يَهِمَنَّ واهِمٌ أن ذلك قدح في النبوة، أو ظهور لبطلانها. كلا، إنه إن تحقق فلا يبعد أن يكون تحققه مظهرًا لحقية النبوة؛ كأن يتبين أن
الأرواح العالية تتصل بالعالم الأعلى وتستمد من عالمه الذي يسمى الملائكة قوة العلم
والهداية وقوة الأعمال الغريبة كإحياء الموتى وقلب العصا حية. فإن لم يتبين به
صدقها فلا وجه لظهور عدمه؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما كانوا يدَّعون أن
الآيات التي يؤيدهم الله تعالى بها خارجة من سننه الظاهرة والخفية، وما كانوا
يدعون أن لهم سلطانًا في ملك الله تعالى يتصرفون فيه بمشيئتهم وإرادتهم متى
شاءوا وكيفما شاءوا وإنما كانوا يتبرؤون من حولهم وقوتهم ويسندون ما يؤيدهم الله
سبحانه به إليه، ويقولون: إنه واقع بإذنه، وقد كان اعتمادهم في دعوتهم
إلى الله على البرهان وكانوا لا يُعطون الآيات إلا بعد معاندة ومجاحدة من قومهم
وإلحاح في طلب آية لا يعرف مثلها عن البشر في أفعالهم السببية، وكان الله تعالى
يقيم عليهم الحجة التي يطلبونها، ولم تكن هي العمدة في إثبات الدعوة إلى الله وبيان
وحدانيته وقدرته وعلمه ووحيه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ
وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي
أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ
رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ
وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا
كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ
اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (إبراهيم: 9 - 11) .
فهذه هي سنة الله في الأنبياء والأمم، يدعو النبي قومه إلى الله بالبينة وهي
كل ما يتبين به الحق من برهان عقلي ودليل إقناعي فيطلبون منه آية كونية فيتبرأ
من حوله وقوته إلى حول الله وقوته فيعطيه آية يخوفهم بها فيخضع له المستعد
لقبول ذلك ويعاند الآخرون فتحق عليهم كلمة العذاب قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ
بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} (الإسراء: 59) فإذا فرضنا أن العلم أظهر سببًا معقولاً لآيات
موسى عليه السلام فهل ينافي ذلك أنها كانت تخويفًا لفرعون وقومه، وجاذبة لبني
إسرائيل إلى طاعة موسى بالإرهاب اللائق بأمثالهم في بلادتهم وجفوتهم؟
نعم، إن ما يتوقع كشفه بالعلم سيكون القاضي على بقايا دين لا يُحْتَج على
صحته إلا بالعجائب وليس لأصحابه برهان على عقائدهم، ولا سند متواتر في
صحة كتابهم، أولئك الذين ينعقون في كل بلاد إسلامية: إن القرآن لم يُثبت لمحمد
(عليه أفضل الصلاة والسلام) العجائب والخوارق فهو ليس بنبي ودعوته ليست
صحيحة، فالعلم الإلهي والشرائع الدينية والمدنية والحربية والسياسية وتكوين الأمم
وتربيتها من رجل أمي تربى يتيمًا في جاهلية جهلاء وأمة أمية لا يرونه تأييدًا إلهيًا،
وبرهانًا على صدقه قطعيًا، وإنما البرهان عندهم تلك الحكايات التي ينقلونها في
عجائب مقدسيهم وينقل الوثنيون عن كهنتهم أعظم منها.
(المسألة الحادية عشرة) يؤيد ما ذكرناه في معني آيات الأنبياء، وكونها لم
تكن براهين لإثبات الدين ما جاء في الباب الثالث عشر من تثنية الاشتراع آخر
أسفار التوراة التي بين أيدي اليهود والنصارى وهو:
(1) إذا قام في وسطك نبي أو حالم حُلمًا وأعطاك آية أو أعجوبة.
(2) ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلاً لنذهب وراء آلهة
أخرى لم تعرفها ونعبدها.
(3) فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم؛ لأن الرب إلهكم يمتحنكم
لكي يعلم هل تحبون الرب من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم.
وما جاء في الباب السابع من إنجيل متى وهو: (كثيرون سيقولون لي في
ذلك اليوم: يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك
صنعنا قوات كثيرة (23) فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط اذهبوا عني يا
فاعلي الإثم) .
وفي الباب (24) منه: (لأنه سيقوم مُسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات
عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا) .
فعلم من هذا أن اليهود والنصارى يجب أن يوافقوا علماء الكلام من المسلمين
على أن الخوارق الكونية ليست دلائل برهانية قطعية على أصول الدين وعقائده
وصدق دعاته كما أوضحنا ذلك في الدرسين 29 و30 من الأمالي الدينية (راجع
ص371 و688، م4) وقد اختلف المتكلمون في دلالة المعجزة على النبوة هل هي
عادية أو عقلية أو وضعية؟ وقد رجح الأخير بناءً على أنها بمعنى تصديق الله لهم
بالقول.
(المسألة الثانية عشرة) سبق في المقالات الأولى أن أصحابنا فرقوا بين
معجزة النبي وكرامة الولي بأن الأولى لا بد أن تكون مقرونة بدعوى النبوة، وطلب
المعارضة الذي يسمونه التحدي. والثانية لا تكون كذلك وبأن الأولى يجب إظهارها
لإقامة الحجة، والثانية يجب إخفاؤها خوف الفتنة، وزاد بعضهم كالقشيري من
أئمة الصوفية والسبكي في الطبقات الكبرى أن الكرامة لا تبلغ مبلغ المعجزة
كإحياء الموتى، وإنما تكون فيما دون ذلك كشفاء مرض ومكاشفة خلافًا للقول
المشهور (ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي) ! ، ولقائل أن
يقول جمعًا بين القولين: إذا جاز ذلك في تصور العقل فإنه ما وقع ولا يقع بالفعل.
(المسألة الثالثة عشرة) قال الشيخ محيي الدين بن عربي أحد أئمة الصوفية
إن خارق العادة لا يتكرر فإن كل ما يتكرر يكون معتادًا سواء عرف سببه أو لم
يعرف. وهذا القول معقول وهو يقضي القضاء المبرم على تلك الزحوف والفيالق
من حكايات الكرامات التي يحارب بها العامة عقلاء الناس الذين لا يستخذون
ويخنعون لأولئك الجهال الذين يدعون الولاية بحجة أنهم في كل يوم يخبرون الناس
بالمغيبات ويبرؤون المرضى من الأسقام ببركاتهم ونحو ذلك. ويسمون هذا على
تكراره كل يوم كرامة وما هو بكرامة وإنما بعضه كذب واختلاق وبعضه واقع
بالأسباب التي سننبه عليها؛ ولكنه أسند إلى غيرها أو ادَّعى فيه الكرامة.
... ... ... ... (للمسائل بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/54)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دعوى صلب المسيح
(1)
جاء في الجزء الأخير من الجريدة البروتستنتية نبذتان في الطعن بالإسلام:
إحداهما محاورة في صلب المسيح، والثانية طعن في القرآن وقيح، وقد كانت هذه
المجلة تطعن في الإسلام وكتابه ونبيه مع شيء من الأدب ونراها في هذه المدة
هتكت ستار الأدب وتجاوزت حدوده، مع أننا كنا نرجو أن تزيد في تحريه بعدما
أسند تحريرها إلى نقولا أفندي روفائيل الذي نعرفه دمثًا لطيف الشمائل، ولكنها نشوة
الحرية في مصر، والشعور بضعف نفوس المسلمين في هذا القطر فَعَلا في
نفوس هؤلاء الدعاة إلى النصرانية ما لا تفعل الخمر، فصار الواحد منهم إذا نسب
الافتراء إلى سيد الأنبياء بالتصريح وكتبه ونشره يرى نفسه كأنه قد جلس على
كرسي ميناس الأول أو رعمسيس الأكبر.
ونحن نقول: إن الحرية تنفع الحق ولا تضره، وإن سوء الأدب يضر صاحبه
ولا ينفعه وإن الشعب الضعيف قد يقوى بشدة الضغط المعنوي عليه فيتنبه إلى
التمسك بحقه والدفاع دونه وعند ذلك تزهق الأباطيل. وإننا لم نطلع على ما ذكر
إلا بعد تهيئة أكثر مواد هذا الجزء من المنار فاختصرنا مقالة الخوارق والكرامات
وكتبنا بدل تتمتها هذه الكلمات، ونرجئ تفنيد أقوالهم في القرآن إلى الجزء الثالث
من المنار، ونخص كُليماتنا هذه في مغامز ذلك الحوار.
ذكرت المجلة أن الحوار كان في مكتبة البروتستان في السويس بين محررها
وبعض المسلمين، وأن المسلم احتج بالقرآن على نفي الصلب فأجابه المحرر:
هبْ أنك كنت معاصرًا للمسيح وممن يعرفونه شخصيًّا وحضرت في مشهد
الصلب خارج أورشليم فماذا كنت ترى؟ قال: كنت أرى - ولا شك - المسيح
مصلوبًا كما رآه الجمهور، قلت: وماذا يكون إيمانك ويقينك حينئذ؟ قال: كنت
أوقن وأؤمن وأشهد أنه صُلب حقًّا كما أبصرت بعيني وأبصر الجمهور في رائعة النهار.
قلت: افرض أنك فيما أنت مؤكد بهذا التأكيد عن صلب المسيح وإذا برجل
أمي من العرب - أولئك القوم المشركين - يقول لك: أنت المؤمن وقد مضى على
حادثة الصلب نحو سبعمائة سنة عبارة القرآن هذه: (وما صلبوه وما قتلوه) (كذا)
فهل تستطيع أن تكذب عيانك وعيان الجمهور وتصدق خبر هذا الأمي؟ وهل الخبر
أصدق من العيان؟ قال: إذا كنت أعلم أن هذا الأمي المكذب للصلب رسول الله
فأصدق خبره وأكذب عياني وعيان الجمهور؛ لأن الله أعلم منا بحقائق الأمور.
قلت: وهل علمت أنه رسول الله وأن هذه العبارة من وحي الرحمن لا من
تلقين الشيطان؟ قال: نعم علمت ذلك بدون شك، أجبت: كيف علمته؟ قال: إن
محمدًا (صلى الله عليه وسلم) لما بعث رسولاً أيده الله بالمعجزات الباهرة.
قلت: ليس لمحمد معجزة بدليل قوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن
كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) ولكن هب أن له معجزة وأنت رأيتها فبأي
حق تُرجح حكم حسك في رؤية معجزات محمد على حكمه في رؤية صلب المسيح
أَوَ لست تعلم أنه إذا أرى اللهُ الناسَ شيئًا على خلاف حقيقته ثم كذَّب ما أراهم إياه لا
يعود الناس يصدقونه إذا أراهم شيئًا على حقيقته! تعالى الله عن ذلك التلاعب، وهل
هذا هو الدليل القرآني الذي تحاول أن تنفي به حقيقة شهدت لها الكتب المقدسة من
قبل ومن بعد، وأثبتها التاريخ والآثار وعاينها جمهور عظيم من كل أمة تحت
السماء؟ !
وعند سماعه حجتي لم يكن عنده رد عليها وأمسك عن الكلام وخرج هو
وأصحابه!
وعدا ذلك اعلم - أيها القارئ العزيز - أن عبارة القرآن: {وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157) منقولة عن بقايا فرقة صغيرة من النصارى قد مرقت عن الحق
يقال لها (الدوسيتيين) الذين اعتقدوا بلاهوت المسيح تمامًا كما تعتقد النصارى
اليوم ومن البدء؛ ولكنهم أنكروا ناسوته وزعموا أن الجسد الذي ظهر به المسيح إنما
كان صورة فقط لا حقيقة له أشبه بالظل والخيال وأوَّلوا الآيات الإنجيلية التي تثبت
كون جسده كسائر الأجساد ما عدا الخطيَّة فقالوا عن نموه في القامة: ما كان ينمو
ولكن شبه لهم وعن تناوله الطعام قالوا: ما كان يأكل ولا يشرب؛ ولكن شبه لهم،
وعن نومه وسائر أعماله الجسدية المشار إليها في الإنجيل قالوا: لم تكن حقيقية بل
شبهت لهم وعن صلبه وموته قالوا: (ما صلبوه وما قتلوه ولكن شبه لهم) فمحمد
إذ سمع مقالتهم بصلب المسيح صورة دون الحقيقة ولم يكن يعلم المبدأ الذي ترتب
عليه هذا القول بادر بالمصادقة عليه رغبة في تنزيه المسيح عن الموت المهين
ونكاية في اليهود، والدليل على ذلك أن مقالة التشبيه هذه لا يمكن أن تخطر مباشرة
على بال عاقل ما لم يكن لها مبدأ كالذي ذكرناه اهـ.
هذه هي المحاورة التي أوردها بحروفها ونقول له في الجواب:
إن الإسلام سيهدم الوثنية التي غشيت جميع الأديان السماوية حتى يرجع
الناس إلى الدين القيم دين التوحيد القائم على أساس الفطرة المطابق للعقل حتى
يعترف الناس أن الوثنية السفلى كعبادة الحجر والشجر مثل الوثنية العليا، وهي عبادة
البشر، فهو يهدم كل دين بالبراهين الراجحة، فكيف تقوى عليه هذه السفسطة
الفاضحة؟ !
إذا فرضنا أن أجوبة المسلم له كانت قاصرة في معناها على ما كتبه فلا شك
أن ذلك المسلم عامي غِرٌّ، والظاهر أنه زاد في القول ما شاء وحرَّف فيه ما شاء
كما هي عادتهم، وكما تدل عليه المبالغة في تأكيد الصلب من المسلم بناءً على ذلك
الفرض ككلمة (كنت أرى ولا شك) وكلمة (كما رآه الجمهور) وكلمة (كنت
أوقن وأؤمن وأشهد) ومن عادة المنكِر إذا أقر بشيء على سبيل التسليم الجدلي
الفرضي أنه لا يؤكده بمؤكد ما فكيف نصدق أن ذلك المسلم انسلَّ من هذه العادة
الطبيعية العامة وغلا كل هذا الغلو في تأكيد الصلب ثم انقطع عن المناظرة وتوهم
أنه رأى المسيح مصلوبًا حقيقة وحار في التطبيق بين مشاهدته، وقول مَن قام
البرهان على عصمته؟ ! ونحن نذكر للكاتب البارع جواب المسلم العالم بدينه عن
هذه المسائل.
أما الجواب عن السؤال الأول: فكل من يعرف الإسلام يقول فيه: إنني لو
كنت في زمن المسيح وكنت أعرف شخصه لجاز أن يشتبه عليَّ أمر تلك الإشاعة
كما اشتبه على غيري، فالنصارى أنفسهم لا ينكرون أنه وقع خلاف في الصلب، وأن
بعض الأناجيل التي حذفتها المجامع بعد المسيح بقرون كانت تنفي الصلب ومنها
إنجيل برنابا الذي لا يزال موجودًا رغمًا عن اجتهاد النصارى في محوه من الأرض
كما محوا غيره. وإذا كانت المسألة خلافية وكان الذين اختلفوا فيه ما لهم به من
علم إلا اتباع الظن فما علينا الآن إلا أن نأخذ بما قاله عالِم الغيب والشهادة في كتابه
المنزل على نبيه المرسل. وبهذا الجواب سقط السؤال الثاني وجوابه وكذلك السؤال
الثالث. ومع هذا نقول: إن السؤال الثالث غير وارد بحال فإنه ليس عندنا مسألة
مشاهَدة وجاءنا رجل أمي من المشركين يكذبها ولو وقع هذا لكذبنا المشرك الأمي
وصدقنا بصرنا.
وإنما عندنا مسألة تاريخية اختلف فيها الناس وظهر فينا نبي أمي باتفاق جميع
الأمم؛ ولكنه علمنا الكتاب والحكمة وهدم الشرك والوثنية من معظم الممالك بقوة إلهية
أعطاه الله إياها. ومما جاء به حل عُقد الخلاف بين الملل الكبيرة ومنها هذه العقدة
فوجب اتباعه في ذلك.
وعجيب من نصراني يبني دينه على التسليم بأقوال مناقضة للحس والعقل في
كتب ليس له فيها سند متصل ثم يحاول هدم كتاب سماوي منقول بالتواتر الصحيح
حفظًا في الصدور والسطور بمعول وهمي، وهو فرض أننا رأينا المسيح مصلوبًا وما
رأيناه مصلوبًا، والفرض الموهوم لا يمس الثابت المعلوم، يقول هذا النصراني: إن
التوراة التي يحملها هي كتاب موحى من الله تعالى وكله حق. وفي هذه التوراة
مسائل كثيرة مخالفة للحس والبرهان العلمي فكيف يؤمن بها؟ كيف يؤمن بقولها إن
الرب قال للحية: (وترابًا تأكلين كل أيام حياتك) وهذه العبارة تفيد بتقديم المفعول
أنها لا تأكل غير التراب وقد ثبت بالمشاهدة أنها تأكل غير التراب كالحشرات
والبيض ولا تأكل التراب مطلقًا، وكيف يؤمن بأن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، وأن
كلاً من هذه الوحدة وهذا التعدد حقيقي؟ وأمثال ذلك كثير في الكتابين.
وأما السؤال الرابع فجوابه أننا علمنا أن محمدًا رسول الله، وأن ما جاء به
وحي من الله بالبراهين القطعية، ومنها ما أشرنا إليه آنفًا في مقالات الكرامات
والخوارق (راجع المسألة العاشرة) ، وقررناه بالتفصيل في مقالات سابقة، وأثبتنا
آنفًا من نص توراتكم وإنجيلكم أن الآيات والعجائب الكونية لا تدل على النبوة وأنها
تصدر على أيدي الكذبة والمضلين.
هذا إذا سلمنا أن النبي e لم يؤتَ إلا آيات الكتاب العلمية، وما كان على يديه
من الهداية العملية وكلاهما يدل على نبوته كما تدل المؤلفات النفيسة في علم الطب
والمعالجات الناجعة النافعة على أن صاحبها طبيب بخلاف عمل العجائب، إذا جعل
دليلاً على أن صاحبه طبيب؛ لأنه لا ينخدع به إلا الجاهلون؛ لأنه لا علاقة بين
معرفة الطب وبين عمل الأعجوبة وللمسلم أن يقول: إن النبي الأعظم e قد أُوتي
آيات كونية كثيرة ولكنه لم يجعلها هو ولا أتباعه من بعده عمدة في الدعوة إلى دينه؛
لأن دلالة هذا النوع من الآيات أضعف ولأن خاتم النبيين جاء يخاطب العقول ويؤيد
العلم ويحدد الأسباب ويبطل السحر والكهانة والعرافة والدجل؛ ليرتقي الإنسان بعلمه
وعمله ولا يستخذي لعبد من عبيد الله تعالى.
وأما قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) فهو مخصوص بالآيات التي تقترحها الأمة، فتعريف الآيات فيه
للعهد بدليل ما رواه أحمد والنسائي والحاكم والطبراني وغيرهم في سبب نزوله وهو
أن قريشًا اقترحت على النبي e أن يجعل لهم الصفا ذهبًا وأن ينحّي عنهم الجبال
فيزرعوا! ولا يخفى أن هذه أسئلة تعنت وعناد وإلا فالآية أو الآيات التي أيده الله
تعالى بها بينة لم يقدروا على معارضتها ولا نقضها. ولما طلبوا آية غير معينة كما
هنا نزل قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: 51) .
وأما قول النصراني: إن محمدًا أخذ إنكار الصلب عن الدوستيين. فهو من اللغو
الذي يعرض عنه المسلم؛ ولكننا نذكر بمناسبته خليقة من خلائق هؤلاء المعتدين من
دعاة النصارى وطريقتهم في الاعتراض على القرآن وهي أنهم يقولون فيما ورد
فيه عن الأنبياء والأمم مما هو معروف ويعترف به أهل مذهبهم: إنه أخذه عنا
وليس وحيًا من الله. وفيما هو معروف عند غيرهم ولم يوافق أهواءهم: إنه مأخوذ
عن الطائفة الفلانية الكاذبة الضالة المبتدعة وليس وحيًا! وفيما لا يعرف عندهم ولا
عند غيرهم كالأمور التي جهل تاريخها واندرست رسومها: إنه غير صحيح ولا
وحي؛ لأنه لا يعرفه أحد، ولا يخلو الكلام في الأمم من هذه الأقسام، والنبي الأمي
لم يتعلم من أحد مذاهب الأمم وآراء الفرق المختلفة؛ لأنه لم يكن في بلاده من
يعرفها؛ ولأنه لم يكن يعرف غير لغة قومه الأميين الجاهلين؛ ولأنه لم يوافق طائفة
في كل ما تقول وتَدين بل اتبع الوحي المنزل عليه من الله والله علام الغيوب.
وإن لنا في هذا المقام تنبيهًا آخر: وهو أن اعتداء هؤلاء المعتدين على الإسلام
وتصدينا للرد على أباطيلهم عقبة في طريق الدعوة إلى الاتفاق، وإزالة الضغن
والشقاق والتعاون على عمارة البلاد؛ فإن المسلمين يعلمون أن هؤلاء الطاعنين في
الإسلام مستأجَرون من قِبل الجمعيات الدينية؛ لتشكيك عامة المسلمين في دينهم
وإهانة كتابهم ونبيهم، وأن هذه الجمعيات تنفق على دعاتها في كل سنة أكثر من
ثلاثة ملايين جنيه لأجل هذا الغرض، ونتيجة هذا أن النصارى بمجموعهم لا يمكن
أن يرضوا عن الأمة الإسلامية حتى تتبع ملتهم؛ فالذنب في كل عداوة وشقاق على
النصارى دون المسلمين.
وأما ردنا عليهم وتصدينا لبيان أباطيلهم فلا ينبغي أن يكون له تأثير سيئ في
النصارى؛ لأنه دفاع لا اعتداء فإن رد الشبهات الواردة على الدين فريضة دينية على
جميع المسلمين إذا لم يقم بها أحد كانوا جميعًا عصاة لله تعالى فاسقين عن أمره،
فنحن ندفع الحرج عن نفسنا وعن جميع المسلمين في هذه البلاد بحكم الاعتقاد
المالك لروحنا والمتصرف في إرادتنا وهم ليسوا كذلك.
ومن البلاء أن هؤلاء الطاعنين لا يؤثر فيهم البرهان؛ لأنهم لا يطلبون الحق
وإنما يطلبون المال فإذا استطعنا إسكات غيرهم ممن يكتب لمنفعة شخصه فلا يتيسر
لنا إسكاتهم لأن منفعتهم الشخصية مرتبطة بهذا الطعن؛ ولذلك نضطر إلى الرد
عليهم دائمًا عملاً بالواجب المحتم علينا في الدين فلا يلومنا عقلاء النصارى الذين
عرفوا مضرة التعصب الذميم بل يجب عليهم أن يساعدونا عليهم بتخطئتهم في
سيرهم. وإن كانوا راضين منهم فهم أنصارهم وأولياؤهم. والله وليّ المؤمنين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/62)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
معجزات نبينا عليه السلام
(س) علي أفندي مهيب بتفتيش عموم التلغرافات بمصر: أرجو أن تبينوا
لنا كل المعجزات الثابتة لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير القرآن الشريف؛ لأن
الناس في اختلاف كثير فيما جاء عن معجزاته عليه الصلاة والسلام وسيكون قولكم
هو الفصل في هذا الموضوع. جزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
(ج) إن آيات النبوة أعم من المعجزات، فمن آيات نبوته بشائر الأنبياء
السابقة وهي لا تسمى معجزات، وإن في مكتبة الفاتكان برومية إنجيلاً مكتوبًا بالقلم
الحِمْيَري قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وفيه هذه العبارة بحروفها:
{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: 6) ، ثم إن معجزة القرآن
تتضمن معجزات كثيرة، كما علم من مباحث المنار السابقة، وسنبين ذلك في
الأمالي الدينية والرد على شبهات النصارى.
والظاهر أنكم تسألون عن المعجزات الكونية لا العلمية والأدبية، وهذه كثيرة
جدًّا ومستفيضة؛ ولكنها لم تُجعل عمدة في الدعوة إلى الإسلام وطريق إثباته للحكمة
التي بيناها في مقالات متعددة آخرها المقالتان الثامنة والتاسعة من الكرامات
والخوارق وأوضحها مقالة (الآيات البينات على صدق النبوات) في المجلد الرابع
ولهذا لم يعتنِ بنقلها الصحابة والتابعون لتنقل عنهم بالتواتر، وإنما اشتهرت ثم
تواترت من بعدهم وتنتهي أسانيدها إلى أفراد فنقْلها شبيه بنقل معجزات المسيح
عليه الصلاة والسلام من حيث استفاضت على ألسنة المتأخرين ولم تؤْثر إلا عن
أفراد من أهل القرآن الأول.
إلا أن نقل معجزات نبينا الكونية أضبط وأصح من نقل معجزات المسيح
(عليهما السلام) لأن لها أسانيد متصلة، أشخاصها معروفون؛ إذ وضع لهم كتب
مخصوصة في تاريخهم؛ ولذلك ترى المحدثين يقولون: إن سند هذه المعجزة صحيح
وسند هذه ضعيف وهذه ثابتة وهذه مكذوبة أو واهية؛ لأن في سندها فلانًا الذي كان
يكذب في بعض الأحيان، أو فلان الذي كان كثير النسيان، وليس للنصارى مثل
هذه الأسانيد المتصلة، أما استقصاء ما كان سنده صحيحًا أو حسنًا وما كان مختلفًا
فيه لترجيح أحد الوجهين فليس جواب السؤال بمحل له على أنه غير ضروري
ويتوقف على مراجعة جميع ما نقل بأسانيده وتاريخ رجالها، وهو كثير جدًّا حتى إن
بعض المتأخرين ألَّف في المعجزات كتابًا يدخل في ثمان مائة صفحة ونيف.
ومن المروي في الصحيحين خبر انشقاق القمر روياه كغيرهم عن جماعة من
الصحابة، ودفع العلماء ما اعترض به من أن ذلك لو وقع لعرفه أهل الآفاق ونقلوه
بالتواتر، وإن لم يذكروا سببه بأنه كان لحظة وقت نوم الناس وغفلتهم وأن القمر لا
يُرى في جميع الأقطار في وقت واحد لاختلاف المطالع، وإن بعض المشركين لما
قالوا: هذا سحر ابن أبي كبشة فانتظروا السُّفَّار وانتظروهم جاؤوا فأخبروا بأنهم
رأوا القمر من ليلتهم تلك قد انشق ثم التأم وبأنه يجوز أن يكون رآه غيرهم وأخبر
به فكذبه من أخبرهم أو خشي أن يكذبوه فلم يخبر، وليس بضروري أن يراه في تلك
اللحظة علماء الفلك على قِلتهم في الجهة التي رؤي فيها. ولكنني لا أذكر أن أحدًا
أجاب عن كون هذه المعجزة كانت مقترحة مع أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم لم يعطِ الآيات المقترحة؛ لأنها سبب نزول العذاب بالأمم إذا لم يؤمنوا.
وقد روي أن انشقاق القمر كان بطلب بكفار قريش ولا أذكر لهم أيضًا جمعًا
بين آية {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) ، وآية {وَمَا مَنَعَنَا أَن
نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) ولا بد من تأويل
إحداهما وقد أوّل بعضهم الأولى فقط وليس هذا المقام مقام التطويل في هذه المباحث.
ومن المعجزات الواردة في الصحيح أيضًا إطعامه عليه السلام النفر القليل من
الطعام القليل جدًّا رواه الشيخان وغيرهما من حديث جابر ومن حديث أنس وقد وقع
ذلك مرات كثيرة. ومنها نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم حتى كفى
الجيش وقد تكرر هذا أيضًا وبعض رواياته في الصحيحين. وقالوا: إن هذه المعجزة
أعظم من انفجار الماء من الحجر على يد موسى عليه السلام فإن من شأن المياه أن
تنبع من الأحجار، ومنها الإخبار بالغيوب في وقائع كثيرة جدًّا وبعضها في
الصحيحين وغيرهما كقوله: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية) قال السيوطي في
الخصائص: هذا متواتر رواه من الصحابة بضعة عشر وقد قتلته فئة معاوية عند
خروجها على علي أمير المؤمنين - عليه السلام - ولما ذكر لهم الحديث لم ينكروه؛
لأن منهم مَن كان يرويه قبل هذه الفتنة كعمرو بن العاص، وإنما أوَّلوه بتأويل
سخيف فقالوا: إنما قتله مَن أخرجه ويلزم من هذا أن يكون النبي عليه الصلاة
والسلام هو القاتل لعمه حمزة ولسائر أصحابه الذين دافعوا معه عن الدين، وتُروى
هذه الحجة عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه.
ومن اللطائف في هذا الباب ما رواه ابن سعد في الطبقات من طريق عمارة
بن خزيمة بن ثابت قال: شهد خزيمة الجمل وهو لا يسل سيفًا، وشهد صفين وقال:
أنا لا أضل أبدًا حتى يقتل عمار، فأنظر مَن يقتله؛ فإني سمعت رسول الله e
يقول: (تقتله الفئة الباغية) ، قال: فلما قتل عمّار، قال خزيمة: قد بانت لي
الضلالة، ثم اقترب فقاتل حتى قُتل.
ومن قبيل حديث عمّار قوله صلى الله عليه وسلم في الحسن عليه السلام:
(ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) رواه أحمد
والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي والطبراني عن أبي بكرة عن الحسن
ومع هذا قد بحث بعضهم في سماع أبي بكرة عن الحسن؛ لأن بعض المحدثين
أنكره، والصحيح أنه سمع والمثبت مقدم على النافي.
ومنها حنين الجذع الذي كان يخطب عليه رواه البخاري وغيره، وقال التاج
السبكي: إنه متواتر كانشقاق القمر، روي عن نحو عشرين صحابيًّا من طرق
صحيحة وتفصيل للوقائع التي كانت فيها هذه الآيات يطول فليطلب من مواضعه
ومنها إبراء كثير من العاهات والأمراض باللمس أو التفل.
ولو أردنا أن نذكر طعن المحدثين في بعض أسانيد المعجزات التي لم تصح -
كقول ابن كثير في حديث إحياء البنت الميتة: إنه منكر جدًّا. وقول ابن الجوزي في
حديث نطق الحمار: إنه موضوع. وقول المُزني في حديث نطق الضب: لا
يصح لا سندًا ولا متنًا.. إلخ - لكانت عبرة للموافق والمخالف في تحري المسلمين
وتثبُّتهم في نقل معجزات نبيهم.
فليأتنا المخالفون بضبط كهذا الضبط وأسانيد كهذه الأسانيد فيما يروون عن
رسلهم ومقدسيهم ثم ليتبجحوا على عامتنا بعجائبهم وغرائبهم.
وفرق أكبر من هذا بيننا وبينهم، وهو أنهم إذا عجزوا عن إثبات عجائبهم لا
يبقى لهم شيء ونحن عندنا آيات الله الكبرى (القرآن) والعلم الأعلى من الأمي وما
يتبع ذلك وبهذا القدر كفاية.
__________(6/67)
الكاتب: مؤرخ عثماني
__________
الدولة العلية وماليتها
بقلم المؤرخ العثماني صاحب التوقيع الرمزي
إن بالمال قوام الدول وعزها وقد كثر الكلام في إصلاح الدولة العلية ما كان
منه وما يجب أن يكون، وأكثر المتكلمين في ذلك على جهل بحقيقة الحال فرأينا أن
نكتب في مالية الدولة وأحوالها كتابًا نستقي مسائله من الموارد الرسمية.
لا يظن ظانٌّ أن الخلل في مالية الدولة حديث بل هو قديم يصعد تاريخه إلى
أواسط حكم السلطان عبد العزيز، وإنما زاد في الأدوار الأخيرة الإسراف والترف من
جهة وسوء سلوك المستخدمين بتحصيل الأموال من جهة أخرى، فسرى داء الخلل
في سائر فروع الحكومة حتى استعصى الداء وعز الدواء.
وأضحت الخزينة العثمانية يضرب بها المثل في الإفلاس، وصارت تؤخر دفع
رواتب المستخدمين أشهرًا متصلة فكان لذلك ضرر عظيم حتى على سياسة
السلطنة؛ إذ لو كانت الحكومة تدفع رواتب المستخدمين في أوقاتها كباقي
الحكومات المنظمة لما كان الظلم وصل إلى هذا الحد، ولما كان ظهر هذا التألم
العام والشكوى من الحكومة وأعمالها ولما كان للأجانب منفذ للتداخل في شؤون الدولة
الداخلية ويا ليتهم يتداخلون لمصلحة جميع رعايا الدولة بدون تفريق بين الملل
والأجناس إنما يتداخلون انتصارًا لفئة دون أخرى، فإذا كان المستخدم لا يقبض
راتبه في السنة سوى شهرين أو ثلاثة شهور فلا بد أن يظلم العباد لسلب أموالهم حتى
يسد رمقه ورمق عياله وأولاده، على أن أكثر صغار المستخدمين في الحكومة
العثمانية هم من أفقر الناس لا يملكون شروى نقير سوى الراتب الرسمي الذي
تجده قليلاً جدًّا بالنسبة إلى الوظيفة.
وكثيرًا ما نسمع بأن الحكومة ألفت لجنة لإيجاد طريقة تعطي بها الرواتب
لأربابها، وبعد أن تعقد تلك اللجنة بضع جلسات وتنشر بعض شذرات عن أعمالها
في الجرائد يختفي أثرها ولا نعود نسمع لها ذكرًا حتى تنقضي شهور فتزف الجرائد
حينئذ إلينا بشرى تأليف لجنة أخرى بناءً على إرادة سنية ولم نَرَ حتى الآن نتيجة
تلك اللجان الكثيرة العدد.
تقسم دواوين الحكومة من حيث دفع الرواتب في عاصمة الدولة إلى ثلاثة
أقسام:
قسم تغطي رواتب مستخدميه كل شهر بصورة منظمة مثل نظارة البوستة
والتلغراف وأمانة الرسومات (الجمارك) وما يتبعها من الفروع ونظارة الدفتر
الخاقاني وصندوق الدين العثماني والبنك الزراعي؛ ولهذا السبب يتهافت طلاب
الاستخدام على الدواوين المذكورة تهافت الجياع على القصاع.
وقسم يقبض ثمانية أو تسعة شهور في السنة ومن هذا القسم وزارة المعارف
ووزارة العدلية (الحقانية) وأمانة الشهر (مشيخة المدينة) .
والقسم الثالث لا يقبض إلا أربعة شهور أو أقل مثل وزارة المالية والخارجية
والداخلية ويستثنى من هذه مصلحة النفوس ذات الريع؛ لأنها تدخل في القسم الأول
وشورى الدولة ونظارة الضبطية ومستخدمي المابين الهمايوني ووزارتي البحرية
والحربية، وهذه الأخيرة هي أسوأ حالاً من جميع الوزارات لكثرة المطالب عليها
واتساع نفقاتها وكثرة عدد الضباط العظام.
أما الحالة المالية في الولايات، فهي أسوأ منهما بالعاصمة؛ لأن الولاة
يضطرون إلى امتثال الأوامر التي تصدر دائمًا من الآستانة قاضية بإرسال كل ما
جمع عندهم من الدراهم قليلاً كان أو كثيرًا إلى الآستانة، وإذا لم يتمكن الوالي من
سرعة الامتثال يأتيه التوبيخ وراء التوبيخ حتى يعزل من وظيفته شر عزلة؛ فلذا
ترى الولاة يتسابقون إلى إرسال الدراهم إلى العاصمة ولا يبقون عندهم لدفع
الرواتب أو للمشروعات المفيدة شيئًا.
وقد كانت الحكومة في السنين الأخيرة اتخذت طريقة زعمت أنها ترضي
الناس فما كان منها اتساع دائرة الخلل اتساعًا عظيمًا واشتداد الأزمة المالية وهذه
الطريقة هي إرضاء كل من يشكو أو يتألم من شيء أو ينتسب إلى أحد العظماء
بوظيفة عضو في أحد المجالس أو بإعطائه راتبًا كبيرًا يقبضه وهو جالس في منزله
والإنعام بالرتب ذات الرواتب الكبيرة جزافًا بدون تفريق بين المستحق وغير
المستحق. والجدول الآتي المستخرج من سجلات الحكومة العثمانية الرسمية لسنة
1218 هجرية يظهر صدق ما نقول.
* * *
شورى الدولة
هذا المجلس ينقسم إلى ثلاثة فروع: الأول دائرة الملكية، والثاني دائرة
التنظيمات، والثالث دائرة المحاكمات.
ودائرة المحاكمات هذه تنقسم إلى محاكم ابتدائية استئنافية ويحاكَم فيهما أكابر
المستخدمين الذين يرتكبون ما يحط بقدر وظيفتهم، أو يخل بمواد القانون.
وكان الأعضاء في مجالس شورى الدولة الثلاثة قبلاً لا يتجاوزون الأربعين
أما الآن فإن عددهم يزيد على مئة وخمسين بينهم 7 برتبة وزير و5 برتبة بالا
وواحد برتبة صدر روم إيلى وواحد برتبة صدر أناطولي و20 برتبة أولى من
الصنف الأول و12 برتبة روم إيلي بكلر بكي و20 برتبة أولى من الصنف الثاني
والباقون من أصحاب رتبة المتمايز فما دونها.
ولا يخفى أن عضو شورى الدولة الذي هو أعظم مجالس الدولة الحائز لرتبة
وزير أو بالا أو روم إيلي بكلر بكي لا يمكن أن يكون راتبه أقل من مائة
وخمسين جنيهًا في الشهر وليس بين أعضاء هذا المجلس من يقبض أقل من
عشرين جنيهًا في الشهر فإذا فرضنا لكل عضو في المجلس - ومنهم أصحاب
الرتب السامية وهم الأكثرون - 40 جنيهًا شهريًّا يكون المجموع 6000 جنيه، هذا
أقل ما يمكن تصوره للأعضاء ويزيد عليه رواتب المستخدمين من الرؤساء والكُتَّاب
وغيرهم.
* * *
وزارة المعارف
يوجد في وزارة المعارف مجلسان يقال لأحدهما مجلس المعارف والآخر
يسمى (أنجمن تفتيش) وكان هذا قبل أن تعطى الوظائف جزافًا يتألف من بضعة
أعضاء مقتدرين ذوي أهلية واستعداد لإدارة معارف السلطنة بخلاف ما نرى عليه
أعضاءهما الآن، ولا نخوض غمار هذا الباب؛ لأنه ليس من خصائص رسالتنا هذه
وربما عدنا إليه في رسالة أخرى.
أعضاء المجلسين اليوم هم خمسة وستون ماعدا الرؤساء وكتبة أقلامهما
وراتب كل منهم لا يقل عن 15 ج ولا يزيد عن 50 ج في الشهر فإذا فرضنا لكل
منهم 10 جنيهات يكون المجموع 650 ج شهريًّا ولا يدخل في هذا الحساب رواتب
الكتبة والرؤساء.
والمدارس التابعة لوزارة المعارف كثيرة جدًّا وأغلبها مجانية وهذا هو سبب
الإقبال عليها. ويوجد في الآستانة وحدها 42 مدرسة تتبع الوزارة المذكورة منها
ست عالية، وهي المكتب الملكي ومكتب الحقوق ومكتب الطب الملكي ودار الشفقة
ودار المعلمين ومدرسة الفنون الجميلة وخمس تجهيزية، واحدة منهن خاصة
بالتجارة. وللبنات ثلاث عشرة مدرسة واحدة منها عالية وهي مدرسة المعلمات
وثلاث للصنائع وتسع ابتدائية.
أما مدرسة الصنائع للذكور فإنها تتبع ديوان الأشغال كما أن كثيرًا من
المدارس عالية وتجهيزية وابتدائية تتبع ديوان المعارف العسكري التابع لوزارة
الحرب، وسيجيء بيانه في الكلام على الوزارة المذكورة. ولهذه الوزارة في أغلب
عواصم الولايات وبعض حواضر الألوية (اللواء في الولايات كالمديرية في مصر)
مدرسة تجهيزية ماعدا بعض الولايات الآسيوية ومدارس ابتدائية وأما مراكز
القضاء فقلما يوجد فيها مدارس.
والتعليم في المملكة العثمانية إجباري قانونًا لا عملاً وكل من لا يعلم ابنه أو
بنته يعاقَب حسب المادة الواردة في نظام المدارس فيجب - والحالة هذه - على
الدولة أن تعتني اعتناءً تامًّا بإدارة هذه المدارس المهمل أمرها وتختار لها أساتذة
مقتدرين ذوي كفاءة تامة، وتحور بروجراماتها وتجعلها على أساس متين كمدارس
أوربا مع العناية بالعلوم الدينية والعقائد وتنفذ أحكام القانون القاضي بإجبار الناس
على تعليم أولادهم وتنشئ مدارس ابتدائية في كل مركز قضاء ومدارس تجهيزية
في حواضر الألوية وتكثر من مدارس الصنائع والتجارة في عواصم الولايات ولا
بأس من فرض مبلغ جزئي على تلميذ نظير أجرة التعليم ليساعد على نفقات
المعارف.
ولهذه الوزارة حصة معلومة من أعشار الدولة قدرها اثنان في المئة غير
إيراداتها الخاصة بها. فلو أُنفقت هذه الأموال في الوجوه الموضوعة لها لعادت
على الأمة بالنفع العظيم.
... ... ... ... ... ... ... ... (العثماني) (م. ق.) ...
(لها بقية)
__________(6/70)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب من صديق إلى صديق في هذه الديار
يصف له فيه حال بعض الأقطار
سيدي الأخ.. إذا تذكرت مصر فلا أذكرها إلا بك، وإذا جنحت إليها فلا أجنح
إلا إليك، قلبي يهواك، ولساني يذكرك؛ لأنك مطلب الروح ومبتغى النفس. فإن
كرمك وحلمك وفضلك وعلمك ونبلك وفخرك - تلك نياشين المجد - جعلت لك سناءً
يخطف أبصار عشاق الخلال الكاملة وإن لم يروك فما بالك مولاي وأنا ذاك الذي مَلَّكك
قلبه على بينة بعد درس جدك ونشاطك وعزمك وحزمك وعفتك ونزاهتك وغيرتك
على دينك، وشدتك في الحق ونزوعك إلى نصرته خلال تفوق عدد رمال الدهناء،
وتربو على نجوم السماء، فكيف أتبين منك هذه الخلال العظيمة وأستطيع مع البعد
سلوًا؟
هذا وإنني بين قوم تتعالى نفوسهم عن الحق، وتتجافى جنوبهم عن مضاجع
الصدق، لا هم ماتوا فاستراحوا، ولا هم انتبهوا فأراحوا، غشيهم طائف من
الجهل جعلهم يخبطون في بعضهم بعض [1] كالذي يتخبطه الشيطان من المس حتى
اضطررت أن أعتصم بحبل العزلة وأنزوي في ركن بيتي على خلاف عادتي التي
تعرفها. أستقذر - والله - مخاطبة واحد من هؤلاء القوم لما هم عليه من الغباوة
الزائدة والجهل المطبق والحمق الشديد والعياذ بالله تعالى فلا بلاهة المصري، ولا
غباوة السوري ولا استبداد التركي ولا جهل الأعجمي [2] ولا غطرسة الأفغاني بأشد
على نفوس العقلاء من تمخرق هؤلاء.. [3] فإن أولئك القوم مع ما هم عليه قد
نجب فيهم أحرار أبرار يفرد واحدهم بأمة كاملة فحيا الله بلادًا وسقيًا لها ورعيًا
تنجب أمثال عبده وعثمان [4] والكواكبي ورفيق ورشيد وكمال ومدحت
وعالي وفؤاد والباب وقرة العين وجمال الدين وسحقًا لأمة ... [5] .
مولاي: لا يستطيع القلم أن يصف لك ولو شيئًا قليلاً مما رُزئتْ به هذه البلاد
من نكد الطالع وجهل بأمر وطيش حلم وافن رأي بهذه الورقة الصغيرة؛ ولكن لا
أظنه ينحل عليك ببيان رؤوس منها ومنها تعلم البقية.
(لنا علماء) ولكنهم جاهلون متكبرون متغابنون متغابون وهم آلهتنا (يريد
أنهم عبَّدوا الناس باستعلائهم) ، حديثهم بطونهم وتدقيقاتهم ومباحثهم خاصة بعجائب
التكايا وكرامات القبور، وعلمهم كعلم آلهة الآشوريين لا يزيد ولا ينقص ولا يتجدد
ولا ينعدم وهو محصور في تصريف: أكل يأكل أكلاً! وفي إعراب هذه الجملة:
ليت لي قنطارًا من الذهب فأحجَّ به، وهو عندهم من تمني ما لا طمع فيه أو ما فيه
عسر، وفي اكتشاف متعلق الجار والمجرور في إعراب البسملة، وفي فرض وجه
للحكم في عدة زوج الممسوخ هل تعتد عدة طلاق أو عدة وفاة، وفي جواز تزوج
الجني بالإنسية والإنسي بالجنية أو عدمه، وفي اختراع نكت في التفسير في معنى
تفاخر فرعون بجريان الأنهار من تحته في حكاية القرآن فغاصت أفكارهم في النهر
ولم يوقف لهم فيه على أثر! !
إذا قلت لهم: إن هذه أوهام في أوهام زمجروا واستكبروا ومزقوا ثيابهم
وطمبروا [6] وصخبوا ونعبوا وبكوا وانتحبوا وقالوا: هذا آخر الزمان، ووشوا
عنك أنك كافر، لا تؤمن باليوم الآخر، واستعانوا عليك بخلطاء العامة فيسكتونك
إما طوعًا وإما كرهًا - طوعًا إذا وثقت بعجزك عنهم وكرهًا إذا وثقوا بقدرتك عليهم
فاستعملوا معك سلطة الحكومة [7] التي لا ينحل بها عليهم الدخلاء - وربما كان ذلك
من مقتضى سياستهم؛ لأنهم لا يودون أن يتبصر الناس ولا أن يرفعوا رؤوسهم من
شبكة الاستبداد. وهناك يتحكم القضاء. ويجري البلاء. وأين الصابرون الذين
يوفون أجرهم بغير حساب؟ !
(لنا حكام) ولكنهم أميون جبناء متخاذلون إرادتهم شريعة قاهرة، وحكمهم
سلطان نافذ، لا رادّ لقولهم ولا ممانع لحكمهم، فالحاكم منهم يجمع في شخصه
ثلاث سلطات فهو مشرع منفذ مراقب كأنه المسيح عند النصارى يجمع في شخصه
ثلاثة أقانيم. أستغفر الله من أين للمسيح المقهور أن ينال سلطة من السلطتين
الأخيرتين ولو نالها لتمكن بها على الأقل من تخفيف وطأة أكليروس اليهود. آهٍ!
دعني أنفث الآهات حتى يفرغ الصدر فإن الناس عندنا أرقاء وأسواق المحاكم
أسواق الاسترقاق، فلا قانون يزَع ولا مسؤولية تردع.
حكامنا إما قضاة شرعيون، وإما حكام سياسيون فالقضاة الشرعيون يتولون
الخطة بعد دراسة تلك الكتب القديمة التي أخنى عليها الذي أخنى على لبد فيعطي
أحدهم راتبًا قليلاً فيمد يده بسائق الضرورة إلى الرشوة ويستعمل الغبن في وظيفته
ويجور، ويعبد الدرهم والدينار لا يكتفي بأحدهم فلا يمر عليه زمن قليل حتى تتعدد
مركباته بعدد أنواعها وتكثر قصوره بعد مواقعها ويكثر خدمه وحشمه وعبيده
وجواريه فلا الخديوي في مركبه، ولا السلطان في موكبه، بأعظم من قاضٍ شرعي
في بلاد إذا تمشَّّى في الأسواق أو دخل المحكمة. هذا والعامة والخاصة يعتقدون أنهم
سجادة الرسول وشرع المصطفى، وأن ما يحكمون به في الأرض يبرم في السماء
وإذا تظلم منهم مظلوم تقوم على رأسه القيامة، وتأتي عليه الآخرة بعذابها. أولئك
يشيعون أنه مارق من الدين لا يرضى بالشرع ولا يقبل حكم الله فيه فتكفره العامة -
وأنت أدرى بعاقبة هذا التكفير -. على أن أهل الحل والعقد لا يجدونه نفعًا [8]
ابتغاء مرضاة القضاة حتى يفشو الاختلال في الشريعة وتأنف الأمة من نفسها التقاضي
لدي حكامها وتطلب استبدال الشريعة بالقانون [9] .
وليس رجال محاكمنا الأهلية بأقل خطرًا على الأمة من قضاة الشريعة؛ لأن
مصدر تربيتهم واحدة.. فأعمالهم بالطبع تكون متقاربة متشابهة ولا يكون هناك
فرق بينهم اللهم إلا في الشكل فإن القاضي الشرعي يتردى بأردية الإهمال والكسل،
والآخر يلبَس لبوس النشاط والعمل، وهذه غاية الفرق بينهم.
أما الأحكام: فالقاضي الشرعي يرجع فيها إلى قواعد مشتتة متضاربة متخالفة
يطبقها على القضايا بحسب ما يراه، والقاضي الأهلي يعتمد فيها العادات
والاصطلاحات التي جرت عليها السياسة السالفة بدون أن يكون لديه قانون يرجع
إليه، أو دستور يعول عليه، فالطريقة الأولى كسيت صبغة الشرع اسمًا، وهذه
أعطيت لقب القانون رسمًا، وفي الواقع لا شرع ولا قانون.
(أحداثنا) هم مطمح آمالنا وزهرة حياتنا وهم ينقسمون إلى قسمين: قسم
عامة وهم لا كلام عليهم. وقسم خاصة وعددهم لا يزيد على رُبع! عُشر! تسع!
ثمن! سدس! خمس! معشار الأربعين من مجموع الأمة وهم ينقسمون على أنفسهم
إلى قسمين: قسم تربى في المعهد الديني.. وأهل هذا القسم عبارة عن مختصر
أزهري فهذا أيضًا لا كلام عليه. بقي الكلام على القسم الثاني وهو المراد من قولنا:
(أحداثنا هم مطمح آمالنا) : فإن هذا القسم مع قلة عدده وضعف مدده ليس بكامل
التربية، هذا إن لم نقل إنه لا تربية له؛ لأنه لم يتعلم شيئًا يرقي ذهنه عن أفراد قومه
وغاية ما تلقنه من التربية قشور عارية عن اللب كدرس اللغة الأجنبية ومبادئ تقويم
البلدان وقواعد من الطبيعة وشيءٍ من الحساب، وكل ذلك لا يخرج عن درس الأشياء
التي يتلقاها تلامذة المدارس الابتدائية في البلاد المتمدنة ولا حظ له من تعلم اللغة
العربية مطلقًا حتى يعرف أن لديه لغة وافرة المواد كثيرة المصادر لديها من ألفاظ
موسعات العلوم ما يكفي لتلقيح نهضة جديدة إذا أفرغت في قوالبها الحقائق المكتشفة
والاختراعات المتجددة. وعلى فرض وجود من درس هذه اللغة فإن معلوماته لم
تتجاوز الحلقة الضيقة من التعليم الابتدائي فضلاً عن الثانوي والعالي فهل معرفته
لها والحالة هذه تجدى نفعًا؟ !
فهذا القسم الذي نظن فيه خيرًا ونعلق عليه آمالاً هو من العامة ولا شك (وأي
نفع من العامة؟ !) وإن ضرره أكبر من نفعه. ما ظنك بشاب دخل المدرسة ولا
يدري أبواه ما سيتعلمه فيها، وما سيكون من أمره فخرج منها متعودًا التأنق في
الملبس والمأكل والمشرب وحب الرياضة مع العوانس والأبكار والجلوس في
المحلات العمومية للمقامرة والتسلي بالمشروبات الغولية، وذلك بلا ريب يستلزم
كثرة الأموال واتساع نطاق المكاسب فإن كان غنيًّا بعثر المال واستنزف الدينار
استنزافًا، وإن كان فقيرًا أهراق ماء الحياء وعبث بشرفه واستهان بناموسه وراء
دريهمات يسد بها حاجات تربيته الجديدة الناقصة. ومن يهُن عليه العبث
بشرف نفسه فشرف أمته لديه أهون ولا شك.
وهذا لا يعزب عنك أن هذه المفقِدات لجامعة الأمة والمحللات لعناصرها إذا
كانت تدفعها يد ماهرة كيد الدخلاء فإنها تلم بها من طرق مجهولة كثيرة الشعاب
وخطرها متوقع لا محالة. وهذه الأخطار الحافة بهؤلاء القوم المساكين ليست بنت
زمن ولا منشأ سبب بل هي نتيجة اشتركت في تربية مقدماتها الأزمان والأسباب
وصعب على عاجز مثلي أن يُفهم هؤلاء القوم خطر موقفهم مادامت النفس غير
قابلة والقلوب واهنة والبصائر مطموسة والحواس مغشوشة وثائرة الجهل قائمة،
فعبثًا أحاول إصلاح ما فسد من أخلاقهم وتجديد ما اخلولق من خلائقهم.
ما يجدي الإصلاح في قوم يعتقدون أن كل كلمة طيبة (هرتقة) وكل كلمة
حادة زندقة، وكل خلق جدير كفر، وكل سعي إلى الأمام خطوة من خطوات
الشيطان، ماذا يجدي الإصلاح في قوم ينتظرون خروج الدابة وقيام الدجال وظهور
المهدي، ونزول المسيح وطلوع الشمس من مغربها ونفخة إسرافيل، وهذه
أشراط الساعة والساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق! ماذا يجدي الإصلاح في قوم
خلقوا أشرارًا فجارًا فساقًا ضُلالاً كتب الله عليهم أن يكونوا عائثين في الأرض مفسدين
في السماءلإنشاء دولة وتكوين أمة أهون على نفوس العانين بالإصلاح من
إصلاح أمة من الإسلام!
عفوًا يا مولاي فإني قد أطلت عليك وحمَّلتك همًّا على همّك وزدتك غمًّا على
غمك فلا تلُمني فصدري ضاق على اتساعه وحمل همومًا ناءت أمة كاملة بحملها
فكيف يستطيع حملها ذلك الشكل الصنوبري؟ فسل لأخيك قرب المخرج من هذه
الديار فإن العيش على شوك السيال في منقطع العمران لأهون عليَّ من معاشرة
قومي ما تنكر شخص قومه كما تنكرتهم وما بئس ساعٍ لرشد كما يئست. قوم لو
حاولت أن أحصي لك العقلاء فيهم لما أكملت شناتر اليد عدًّا. أليس هذا من بواعث
اليأس ودواعي البأس؟ اهـ. المراد منه.
(المنار)
هذا كتاب رجل كنا نَصفُه أيام كان بيننا بأكثر مما وصف به نفسه من سعة
الصدر. كنا نصفه بأنه لو تفطَّرت السموات وانشقت الأرض وخرت الجبال هدًّا
لما بالى ولا اهتم وها هو يشكو هذه الشكوى المُرة من حال بلاده.
أليس في هذا عبر لمن يعقل، أليس دالاًّ على الفرق بين هذه البلاد وغيرها
فأين شكر النعمة من المنعَم عليهم؟ وأين الاعتبار بالبلاء ممن حل بهم؟ !
وقد ختم الكتاب بأن الرأي الوحيد في تحريك أذهان قومه نشر المجلات
والجرائد النافعة والكتب المفيدة.
نجَّح الله مقاصده وهيأ له من المصطفَيْن الأخيار مَن يشد عضده.
__________
(1) كان الصواب أن يقول: يخبط بعضهم في بعض.
(2) يريد بالأعجمي: العجمي وهو من جنسه العجم ويراد منهم الفرس وأما الأعجمي فهو نسبة من الأعجم وهو مَن لا يفصح في القول وإن كان عربيًّا وينسب إلى نفسه مبالغة وظاهر أن هذه الأوصاف لا تنطبق كلها على الموصوفين بها.
(3) ورد: مخرق الرجل: أي موه وكذب واختلف في أصالته في العربية ولم أجد تمخرق ولكنه مستعمل في الكلام العرفي الذي قلما تخلو منه الرسائل الشخصية الآن.
(4) ظاهر أنه يعني بعبده الأستاذ الإمام وأما عثمان فهو الدكتور عثمان بك غالب العالم الطبيعي المشهور وقد فصل بين المضاف والمضاف إليه بالعطف على العامل في الثاني.
(5) ذكر هنا حادثة رأينا السكوت عنها على فظاعتها إخفاءً لتلك الأمة.
(6) لا أعرف هذه الكلمة إلا في كلام العامة ومعناها: انتفخوا.
(7) كان ينبغي أن يقول: فاستعانوا عليك بسلطة الحكومة.
(8) المعروف: (ما يجدي عنه) .
(9) الصواب: استبدال القانون بالشريعة: أي جعل القانون بدلاً عنها وهذا مما يغلط فيه أكثر الكُتاب تبعًا للجرائد.(6/74)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(الدولة العلية والحرب)
تستعد الدولة العلية للحرب؛ لأن الفتنة في بلادها لا تزال تزداد وقد كنا في
خوف عظيم من روسيا حتى أعطتنا الجوائب الأوربية بعض الاطمئنان من جهة
روسيا نفسها ومن جهة الدول العظمى. أما روسيا فقد قررت ترك منشوريا بسبب
العسر المالي والمعسر لا يضرم نارًا للحرب مختارًا لا سيما إذا كان خصمه من
أقرانه في ميادين الكفاح. وأما أوربا فإننا نرى إنكلترا تتقرب من فرنسا، وفرنسا
تقبل تقربها بقبول حسن ولا نرى سببًا لزيارة ملك الإنكليز للجمهورية الفرنسية إلا
إقناعها بعدم إعانة روسيا على حرب تركيا؛ بل عدم إجازتها على الحرب لما في ذلك
من الخطر العظيم على أوربا كلها. أما الحركات العسكرية التي تجريها روسيا
فليست أكبر مما يعتاد في أيام السلم من الاستعداد والتمرين ولله في غيبه شؤون.
فإذا كان استمرار بغاة مكدونية على بغيهم وتماديهم في ثورتهم اتكالاً على
البلغار والصرب فلا خطر على الدولة من ذلك، وهي قادرة على تدويخهم وإن لم
تستفد من ذلك شيئًا لما علمناه من تعصب أوربا عليها، واتفاق الدول الكبرى على
منع المسلمين من الانتفاع من النصارى أو التسلط عليهم ولو بحق، والناس يوجسون
خيفة من تألب الألبانيين وخروجهم لعدم الرضى بمطالب أوربا. وروسيا والنمسا
تلحان على الدولة بوجوب كبحهم وإخضاعهم دون المكدونيين؛ لأنهم مسلمون،
ولعل حكمة مولانا السلطان تكفي الدولة مغبتهم بالتي هي أحسن.
***
(ثورة مراكش)
لا يزال أمر الخارج على سلطان مراكش في استفحال وقد طمع في الملك
وتجرأ على خطاب بعض الدول بالاعتراف بكونه السلطان الرسمي لمراكش ويقال
إنه سيزحف على فاس وهذه عواقب الجهل والإهمال، وسننشر في جزء تالٍ
شروط الصلح بين صاحب مراكش ولويس السادس عشر ملك فرنسا؛ ليعلم مَن لم
يقرأ التاريخ أن عهد مراكش بالعزة والقوة غير بعيد.
***
(فرنسا والجزائر)
كنا كتبنا مقالة عنوانها (فرنسا والإسلام) ، نصحنا فيها لهذه الدولة العظيمة
بأن تعامل مسلمي مستعمراتها بالحسنى لتملك قلوبهم وتأمن غائلتهم.
ونحن نعلم أن فرنسا لم تكن مرتاحة إلى تلك المعاملة القاسية التي كانت تعامل
بها مسلمي الجزائر ولكنها كانت ترى أنها هي الطريقة المتعينة، وأنه يجوز أن
يظهر لها خير منها. وفي هذه الأيام قد زار الجزائر رئيس الجمهورية وبشر
الأهلين بأن هذه الزيارة مبدأ معاملة جديدة مرضية وبالغ في استمالة القلوب وطلب
الائتلاف، ولولا العزم على حسن الفعل لما صدر عنه مثل هذا القول وما جزاء
الإحسان إلا الإحسان!
***
(المدرسة القضائية في السودان)
علمنا أن حكومة السودان قد قررت إنشاء مدرسة لتخريج القضاة الشرعيين
واشترطت في تلامذتها أن يكونوا قبل الدخول فيها معروفين بالاستمساك بالدين
تخلقًا وعملاً، وأن يكونوا عارفين ما تجب معرفته من العقائد الإسلامية والعبادات
وصاحِبِِي إلمام بأحكام المعاملات. ومدة الدراسة أربع سنين والعلوم التي تعلم فيها
هي الخط والإملاء والحساب والهندسة وتقويم البلدان والتجويد والتوحيد والمنطق
والحديث والتفسير والفقه وأصوله، والنحو والصرف والبلاغة والإنشاء وتاريخ
الإسلام والآداب الدينية، وحكمة التشريع والتمرينات القضائية والتوثيقات ونظام
المحاكم، ومما يدرس فيها كتاب إحياء العلوم وكتاب حجة الله البالغة.
وإننا نتمنى لو يبادر أولياء الأمر في مصر إلى مثل العمل الذي كنا اقترحناه
على مشيخة الأزهر من نحو أربع سنين، فإن داء المحاكم الشرعية في مصر لا
يمكن برؤه إلا بتربية القضاة تربية تؤهلهم للقيام بأعبائه كما صرح به اللورد
كرومر في تقريره وكما يعلمه كل عاقل بصير. وهذه الدولة العلية لها مدرسة
مخصوصة لتخريج القضاة (مكتب النواب) وهي غير مدرسة الحقوق فالواجب
على أولي الأمر في مصر العمل بما كنا اقترحناه من انتخاب طائفة من نابغي
الأزهر يعلمون فيه التعليم القضائي ليكون قضاة فإن كان هناك مانع من تعصب
المشيخة فالمتعين إنشاء مدرسة مخصوصة لذلك.
وإننا لنتنسم من حكومة السودان أنها ستحمي الإسلام في تلك الأقطار وتقيم
أحكامه فإن هي فعلت فلا شك أنها تمتلك جميع ما بقي مستقبلاً من الممالك السودانية؛
لأن المسلمين في تلك الأقطار شديدو التمسك بدينهم والتعصب له كأهل الجزائر فإذا
قيدوا به سلسوا للانقياد. وإلا أصروا على العدوان والعناد. وإن لدينا نبأ من تقرير
قاضي قضاة السودان عن المحاكم الشرعية يبشر بسير حسن وعاقبة حميدة، ونية
للحكومة سليمة وسننشره في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
***
(تنبيه)
ضاق هذا الجزء عن باب التقريظ ومنه تتمة الكلام في انتقاد رسالة الشيخ
محمد بخيت ولدينا انتقاد على عبارة في التفسير وموعدنا في ذلك الجزء الآتي إن
شاء الله تعالى.
__________(6/78)
غرة صفر - 1321هـ
مايو - 1903م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
النبأ العظيم
آثار جديدة. هدم دين أو دينين. ملك أم إله. مذهب جديد في النصرانية،
قيصران أم نبيان. خطوة من أوربا. وثبة إلى الإسلام. ظهور آية من آيات
القرآن.
حيَّا الله التاريخ والمؤرخين فكم كَشَفا من خفايا الأكوان، وأظهرا من خبايا
الأزمان، وكم أضل الجهل بالتاريخ من إمام كبير، وعالم نحرير، فانحرف عن
سبيل، وأخطأ محجة تأويل، فقد كان مثل الإمام فخر الدين الرازي يتوهم أن
التوراة منقولة بالتواتر، ويحيل لذلك أن يكون وقع في ألفاظها التحريف والتبديل
ويصرف الآيات الواردة في ذلك إلى التحريف المعنوي، وسبقه إلى هذا الرأي مثل
الحافظ البخاري قياسًا على نقل المسلمين لكتابهم وما كان ينبغي لأمثال هؤلاء أن
يضعوا الأقيسة النظرية، حيث يجب أن تكون البراهين اليقينية؛ ولذلك خالفهم
الأكثرون. وإننا لنسمع في كل يوم ناعقًا من دعاة النصرانية يصيح محتجًّا على
عوام المسلمين بقول فلان وفلان من علمائهم أن التوراة التي بين الأيدي سالمة من
التحريف اللفظي محفوظة من التبديل. وكيف نقبل قول أحد في أمر عندنا فيه
الحكم العدل، والقول الفصل، وهو كتاب الله تعالى. ولسان الوجود أفصح مفسر
لكتاب الله تعالى.
كان علماء المسلمين يحكمون على التوراة والإنجيل ولا يطلعون عليهما فلما
اطلعوا سددوا وقاربوا؛ ولكن لم يتجلَّ حكم القرآن إلا بعلم علماء أوربا وبحثهم عن
آثار الأولين، ووقوفهم على تاريخ الأقدمين.
بيَّن هؤلاء العلماء أن كلام التوراة في الخليقة مخالف لما أثبته العلم في مسائل
كثيرة فقام أهل التأويل يقولون: إن العلم غير الدين، وإن كتب الدين إذا تكلمت عن
الخليقة فإنما تتكلم بما هو معروف عند الناس؛ لأنه ليس من غرضها بيان حقائق
الموجودات وإنما غرضها إصلاح القلوب، وهذا الكلام صحيح ولكنه ليس عذرًا
مقبولاً عند العلماء عن ذكر أمور مخالفة للواقع لا حاجة إليها في إصلاح القلوب
وإذا سكتوا لهم على هذا فبأي تأويل يدفعون ما أظهرته الاكتشافات الأثرية من
مخالفة تاريخ التوراة للآثارات التي حفظها بطن الأرض للأمم؟ ! أم كيف يدفعون تلك
القوارع التي تظهر من علماء الألمان قارعة بعد قارعة؟ ! وبها استبان أن التوراة
مقتبسة من البابليين بعد السبي حتى شرائعها وأحكامها.
كتب بعض هؤلاء العلماء كتابًا حديثًا أودعه جداول أحصى فيها ما وقف عليه
من الكلمات البابلية في كتب العهد القديم التي يطلق على مجموعها لفظ (التوراة)
وبيَّن أن تلك الكلمات التي مازجت لغة هذه الكتب العبرية لم تكن معروفة على عهد
موسى (عليه السلام) واستنتج من مباحثه أن هذه الكتب أُلفت بعد أن سبى البابليون
بني إسرائيل بأزمنة مختلفة؛ ولعل هذا الكتاب النفيس يُنقل إلى العربية في زمن
قريب فإن اعتداء دعاة البروتستانت قد أعد النفوس للعناية بمثل هذه الكتب فكانوا
نافعين للإسلام والمسلمين، خلافًا لما يتوهم بعض الغافلين!
بعد هذا ظهر من علماء الألمان نبأ أخص من هذا وهو أنه وُجد في الآثار
التي اكتشفت من عهد قريب في خرائب سوس من بلاد بابل شريعة (حمورابي) أو
(ملكي صادق) منقوشة على عمود من صم الصفا (الصوان) فإذا هي متفقة مع
شريعة التوراة في أكثر الأحكام فجزم الباحثون بأن الإسرائيليين قد اقتبسوا شريعتهم
التي يسمونها التوراة من هذه الشريعة أيام كانوا في أسر البابليين. وكانت النتيجة
عند هؤلاء العلماء أن موسى لم يكن نبيًّا وشريعة قومه لم تكن وحيًا! ! اشتبه عليهم
الباطل بالحق والحق بالباطل وإننا نجلِّي الحقيقة في هذا المقال بما هو لب اللباب،
والعجب العُجاب.
حمورابي أو ملكي صادق
يقول علماء ألمانيا الأعلام كغيرهم: إن حمورابي هذا هو أمرافل المذكور في
الفصل الرابع عشر من سفر التكوين في قصة لا تنطبق تمامًا على الاكتشافات
الحديثة وهو هو (ملكي صادق) ؛ لأن معنى هذه الكلمة العبرانية (ملك البر أو
ملك السلام) وهو يلقب نفسه بهذا اللقب في شريعته المذكورة آنفًا، ومما جاء في
الفصل الرابع عشر من سفر التكوين أن ملكي صادق هذا قد بارك على إبراهيم
(عليه الصلاة والسلام وعلى آله الكرام) وأن إبراهيم أعطاه العشور. قال بعد ذكر
محاربة إبراهيم لكدر لعومر واسترجاعه الأسرى ومنهم لوط أخوه: (17 فخرج
ملك سدوم لاستقباله بعد رجوعه من كسرة كدر لعومر والملوك الذين معه إلى عمق
شوى الذي هو عمق الملك 18 وملكي صادق ملك شاليم أخرج خبزًا وخمرًا وكان
كاهنًا لله العلي 19 وباركه وقال: مبارك إبرام من الله العلي مالك السموات
والأرض 20 ومبارك الله العلي الذي أسلم أعداءك في يدك، فأعطاه عشرًا من كل
شيء) .
وقال بولس زعيم الديانة النصرانية المعروفة لهذا العهد في آخر الفصل
السادس وأول الفصل السابع من الرسالة إلى العبرانيين ما نصه: (19 حيث دخل
يسوع كسابق لأجلنا صائرًا على رتبة ملكي صادق رئيس كهنة إلى الأبد (1) لأن
ملكي صادق هذا ملك ساليم كاهن الله العلي استقبل إبراهيم راجعًا من كسرة الملوك
وباركه (2) الذي قسم له إبراهيم عشرًا من كل شيء. المترجم أولاً ملك البر ثم
أيضًا ملك ساليم أي ملك السلام (3) بلا أب بلا أم بلا نسب لا بداءة أيام له ولا
نهاية حياة بل هو مشبه بابن الله. هذا يبقى كاهنًا إلى الأبد (4) ثم انظروا ما
أعظم هذا الذي أعطاه إبراهيم رئيس الآباء عشرًا أيضًا من رأس الغنائم) .
هذا هو ملكي صادق بشهادة العهدين العتيق والجديد فإذا كان الله - تبارك
وتعالى - يحل في الأجسام كما يقول النصارى فمَن أجدر بهذا الحلول من ملكي
صادق وهو يمتاز على المسيح بكونه من غير أم ولا أب وكونه بلا بداية ولا
نهاية؟ ! وهو الذي بارك إبراهيم أبا الأنبياء وهو واضع الشرائع التي اقتبست
منها التوراة والنتيجة أنه بشهادة العهدين أعظم من إبراهيم وموسى وعيسى وإن
شئت فقل: إن بولس نزهه عن البشرية، ووصفه بأخص صفات الألوهية، والتاريخ
يشهد أنه وثني أفليست هذه الكتب أيضًا كتبًا وثنية؟ !
***
هذه التوراة
لا خلاف ولا نزاع بين أهل الكتاب في أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام
قد فُقدت. ثم وجد عندهم غيرها وفقد ثم وجد غيره. والأخبار عندهم في ذلك معمَّاة
وطرقها مشتبهة الأعلام، حالكة الظلام، جاء في الفصل الرابع والثلاثين من
أخبار الأيام الثاني: (14 وعند إخراجهم الفضة المدخلة إلى بيت الرب وجد
(حلقيا) الكاهن سِفر شريعة الرب بيد موسى 15 فأجاب حلقيا وقال لشافان
الكاتب: قد وجدت سفر الشريعة في بيت الرب وسلم حلقيا السفر إلى شافان 16
فجاء شافان بالسفر إلى الملك..) إلخ.
وفي دائرة المعارف أنهم ادعوا أن هذا السفر الذي وجده حلقيا هو الذي كتبه
موسى (قال) : ولا دليل لهم على ذلك.
وأقول: إن ادعاء شخص بمثل هذه الدعوى لا يوثق به فإنه مهما كان عادلاً لا
يزيد خبره عن كونه مظنون الصدق محتمل الكذب. ثم إن هذه النسخة التي وجدوها
قد فُقدت أيضًا، والمعتمد عليه عندهم أخيرًا هو ما كتبه عزرا كما فصلناه من قبل في
المجلد الرابع من المنار. ففي الفصل السابع من سفر عزرا ما نصه: (وبعد هذه
الأمور في ملك أرتحشستا ملك فارس عزرا بن سرايا بن عزريا بن حلقيا 2 بن
شلوم بن صادوق بن أخيطوب 3 بن أمريا بن عزريا بن مرايوث 4 بن زرحيا بن
عزي بن يقي 5 بن أبيشوع بن فينحاس بن العازار بن هرون الكاهن الرأس 6
عزرا هذا صعد من بابل وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله
إسرائيل. وأعطاه الملك حسب يد الرب إلهه عليه كل سؤاله - إلى أن قال - (8
وجاء إلى أورشليم في الشهر الخامس في السنة السابعة للملك 9 لأنه في الشهر
الأول ابتدأ يصعد من بابل وفي أول الشهر الخامس جاء إلى أورشليم حسب يد الله
الصالحة عليه 10 لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعلم بها وليعلم إسرائيل
فريضة وقضاءً) .
وذكر بعد هذا صورة الكتاب الذي كتبه هذا الملك لعزرا الكاهن بالإذن لبني
إسرائيل بالعودة إلى أورشليم معه من شاء منهم وفيه ما نصه: (25 أما أنت يا
عزرا فحسب حكمة إلهك التي بيدك ضع حكامًا وقضاة يقضون لجميع الشعب..)
- إلى أن قال - (16 وكل من لا يعمل شريعة إلهك وشريعة الملك فليقضَ عليه
عاجلاً إما بالموت..) إلخ.
بهذه العبارة يستدلون على أن عزرا كتب التوراة بعد فقدها وهو لا يدل على
زعمهم وأنَّى له أن يكتب التوراة كما أنزلت وقد مضت القرون عليها وهي مفقودة
ولم ينقل أن أحدًا حفظها كما يحفظ المسلمون القرآن في صدورهم. نعم، لا يعقل
أن أمة تُؤْتَى شريعة وتعمل بها وتساس بأحكامها ثم تنساها بالترك كلها بحيث لا
تحفظ منها شيئًا بل المعقول أن العمل من أسباب الحفظ فالإسرائيليون - وإن طال
عليهم أمد السبي وحُكموا زمنًا طويلاً بغير شريعتهم - لا بد أن يكون أهل الفهم
والبصيرة منهم قد ظلوا يذكرون كثيرًا من تلك الأحكام الإلهية فلما رحمهم أرتحشستا
ملك بابل وأذن لهم بالعودة إلى بلادهم وأمر كاهنهم عزرا بأن يضع لهم قضاة
وحكامًا يعملون بشريعة إلههم وشريعة الملك كتب لهم عزرا هذه التوراة الحاضرة
وأودعها ما كان لا يزال يحفظه من وصايا الرب وأضاف إليه ما حفظه من شريعة
الملك فجاءت هذه التوراة الحاضرة وأضاف إليه ما حفظه من شريعة الملك فجاءت
هذه التوراة مزيجًا من الشريعتين كما تبين بالاكتشافات الجديدة. وكتب العهد العتيق
التي يسمون مجموعها التوراة تؤكد كون الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى عليه
السلام قد كُتبت بعده بزمن طويل كما بيناه في الجزء التاسع عشر من المجلد الرابع،
ومن ذلك ما جاء في الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع ونصه: (24
فعندما كمل موسى كتابة هذه التوراة في كتاب إلى تمامها 25 أمر موسى اللاويين
حاملي تابوت عهد الرب قائلاً 26 خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد
الرب..) إلخ.
ومنه ذكر وفاة موسى في الفصل الأخير من هذا السفر المنسوب إليه، وقول
كاتبه بعد ذلك (ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم (ثم قوله) ولم يقم بعدُ نبي في
إسرائيل مثل موسى) وهاتان الجملتان تدلان على أن هذه التوراة قد كتبت بعد موت
موسى واندراس قبره بزمن طويل.
وقد ذكرنا في ذلك الجزء أن علماء بروتستانت لم يسعهم إلا الاعتراف بفقد
توراة موسى وأن صاحب كتاب (خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة
المسيحية) صرح بفقدها وانقطاع عبادة الله الحقيقية بين الإسرائيليين في مدة ملك
منسا وأمون وأنه قال بعد ذلك (والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في
الوجود إلى الآن ولا نعلم ماذا كان من أمرها. والمرجح أنها فُقدت مع التابوت لما
خرب بختنصَّر الهيكل وربما كان ذلك سبب حديث كان جاريًا بين اليهود على أن
الكتب المقدسة فُقدت وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيًّا جمع النسخ المتفرقة من الكتب
المقدسة وأصلح غلطها وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية) هذا نص عبارته
بالحرف. وقد علمت أن ليس في سفر عزرا ذكر نسخ ولا كتب وإنما قصارى ما
يفهم منه أن الملك البابلي أمره بتعيين حكام لإسرائيل يحكمون بما يعرف من شريعة
إلهه وشريعة الملك.
ونتيجة ما تقدم كله أن أسفار التوراة الحاضرة نفسها تؤيد الاكتشافات الحديثة
وأنه ثبت بمجموع الأمرين أن التوراة الحاضرة ليست توراة موسى وإنما فيها شيء
منها لاستحالة أن تكون نسيت كلها وذلك كافٍ في هدم الديانة اليهودية والديانة
المسيحية المبنية على كتبها.
* * *
زلزال النصرانية في أوربا
أنس النصارى واليهود بما في كتبهم من الدلائل على عدم الثقة بنقل التوراة
والإنجيل وكابروا أنفسهم والناس بدعوى تواترهما، إن شرط التواتر أن ينتهي سند
الرواة الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب لكثرتهم إلى من جاء بالكتاب كأن ينتهي
تواتر التوراة إلى موسى نفسه لا إلى عزرا الذي لا يعلم أحد من أين جاء بما جاء
به هل هو من البابليين أم هو مزيج مما حفظ عن أجداده واقتبس عن ساداته
البابليين؟ ! أم هو مزيج مما حفظ عن أجداده واقتبس عن ساداته البابليين. ولكن
القيامة اليوم قائمة في أوربا لاكتشاف شريعة حمورابي (ملكي صادق) وبيان أنها
توافق هذه التوراة في أحكامها وتخالفها بعض المخالفة في تاريخها؛ لأنهم لم يروا
مجالاً في هذا للمكابرة والمواربة.
وقد حكم العلماء بأن إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) هو الذي حمل نسخة
هذه الشريعة من بابل إلى فلسطين عند قدومه إليها وأن موسى (عليه الصلاة
والسلام) قد اقتبس منها كل ما رآه يصلح لسياسة بني إسرائيل كما اقتبس بعض
ذلك من الشريعة المصرية التي تربى في بيت ملكها وبذلك تكون هذه الشريعة التي
يفتخر اليهود والنصارى بأنها إلهية مقتبسة من الشرائع الوثنية ويكون موسى مزورًا
بادعاء أنها أوحيت إليه من الله! (حاشاه حاشاه) .
خطب العلامة اللاهوتي الأثري (دليتش) أحد أعضاء (جمعية الشرق) في
هذا الموضوع خطبة مطولة في برلين حضرها قيصر الألمان والقيصرة وجماهير
العلماء والكبراء وقال في خطبته على رؤوس الأشهاد: إن شرائع التوراة منقولة
عن الشرائع البابلية وليست وحيًا من الله واستنتج من ذلك أنه لا حاجة إلى دين
وراء وجدان الخير المغروس في الفطرة؛ وذلك أنه ختم الخطابة بقوله: إننا نضع
أيدينا على قلوبنا ولا نحتاج إلى وحي غير الوحي الذي يصدر عنها! .
قرع هذا العالِم النصرانية بهذا القارعة في ذلك الملأ العظيم فتزلزلت هي ولم
تزلزل مكانته من نفوس القوم وإن كان فيهم مَن استاء منه؛ لأن تقاليد الدين مطبوعة
في وجدانه فهو يأنس بانطباعها، ويتألم لانتزاعها، أو لأن السياسة تقضي
بالمحافظة على الدين وإن زلزله العقل، وزعزعه النقل، فقد نقلت الجرائد أنه بعد
خطابه جلس إلى القيصر والقيصرة يحادثهما ويحادثانه بكل طلاقة وقبول. وقد
عجب بعض الناس أن رأوا غليوم الثاني الذي أقام أوربا وأقعدها ثم دعاها إلى
محاربة الصين دعا أن أهانت بعض دعاة الدين يلاطف عالمًا لاهوتيًّا أثريًّا بعد
أن قضى على هذا الدين القضاء المبرم. ولا عجب فإن الدين عند هذا القيصر
وأمثاله من آلات السياسة ولا يصح أن تكون السياسة عدوة للعلم الذي هو أقوى
آلاتها.
* * *
المذهب الجديد
بعد هذا اجتمع القيصر بهذا الخطيب مرة أخرى ثم أعلن رأيه في المسألة
فلاح لذهنه الوقاد أن يضع للنصرانية مذهبًا جديدًا يستبقي به كونها آلة سياسية
تنتفع بها أوربا في مقاومة الشرق ويقطع به لسان العلم عن المحاجة والمجادلة فكتب
إلى صديقه الأميرال (هولمن) كتابًا يقول فيه ما تعريبه باختصار قليل جدًّا:
(إن الأستاذ دليتش دخل مع القيصرة والوكيل العام (درياندر) في بحث
استمر عدة ساعات وما كنت أنا إلا من السامعين. ومن سوء الحظ أن الأستاذ انتقل
من البحث التاريخي في المسائل الدستورية إلى مسائل دينية لا محل لها فلبثت
مصغيًا حتى إذا ما انتهى إلى الخوض في العهد الجديد عرفت رأيه فإنه قال في
مخلِّصنا أقوالاً شاذة مناقضة لما أرى وأعتقد؛ ذلك أنه لا يعتقد بلاهوت المسيح
ويرى أن ليس في التوراة شيء من الوحي والنبوة عن يسوع بأنه المسيح.
فهنا يفنى الأستاذ دليتش المؤرخ الأثري في الأستاذ دليتش اللاهوتي فيبقى
هذا اللاهوتي ماثلاً بما فيه من النور والظلام معًا. إنني أنصح له بأن يخطو في
هذه السبيل خطوة بعد خطوة لائذًا بجانب التأني والحذر وأن يختص بهذه الآراء
الدينية رصفاءه اللاهوتيين ويودعها كتبهم وأن يكفينا الخارجين عن هذه الدائرة مثلنا
مؤنة البحث في هذه المسائل ولا سيما (جمعية الشرق) التي لم تنشأ لتكون ندوة
للبحث في جميع الآراء وإنما نبعثر الأرض [1] ونقرأ ما كتب على الآثار
المستخرجة منها لمساعدة العلم والتاريخ لا لتأييد الآراء الدينية أو تفنيدها. ويا ليت
دليتش لم يتجاوز في هذا العام الحد الذي وقف عنده في العام الماضي وهو
الاستدلال بما تستخرجه جمعيتنا من الآثار الشرقية على ما كان للمدينة البابلية
القديمة من التأثير في مدنية الإسرائيليين لنعرف العادات والأخلاق والشرائع التي
أخذوها من البابليين ونرى هل يوجد فيها ما يزكي البابليين مما تصفهم به التوراة
من الأوصاف التي لا شك في كونها شنيعة وغير عادلة، هذا هو حد شرطه الأول
وكان غرضه منه كبيرًا يجب علينا أن نشكره له؛ ولكنه من سوء الحظ قد تجاوزه في
هذه المرة.
(ولو أنه شرح المسألة وترك للسامعين استخراج النتائج الدينية منها لنالت
خطبته استحسان جميع السامعين؛ ولكنه طفق يناقش في مسألة الوحي فأنكرها
بالجملة والتفصيل ثم ظن أنه قادر على إثبات كون أصلها بشريًّا محضًا فارتكب
خطأً عظيمًا بما دمر على النفس [2] في باطنها وعبث بهيكلها المقدس في غير واحد
من سامعيه الذين تختلف عقولهم باختلاف طبقاتهم. سواء كان مخطئًا أو مصيبًا في
الواقع ونفس الأمر فإنه قد نكس في نفوس كثيرين أنفس الصور والاعتقادات
المقدسة عندهم وزلزل أساس إيمانهم إن لم نقل إنه نسفه في اليم نسفًا. وهذا عمل لا
يجسر عليه إلا أصحاب القرائح الملتهبة والعقول الكبيرة) .
***
أقيصران أم نبيان؟ !
(أما الوحي فهو في اعتقادي الذي كاشفتك به أنت وغيرك من قبل نوعان:
أحدهما تاريخي، وهو مستمر لا ينقطع. وثانيهما ديني خاصّ وكان تمهيدًا
لمجيء المسيح. أما الوحي الأول فهو أن الله يظهر دائمًا في الجنس البشري الذي هو
خليقته وصنيعته فإن نفخ في الإنسان من روحه أعني منحه شيئًا من ذاته [3] إذ أعطاه
نَفْسًا حية. وهو يراقب نمو الجنس البشري بعناية الأب ليحسن أحواله فيظهر تارة في
رجل عظيم هنا، وتارة في رجل آخر هناك سواء كان ذلك الرجل كاهنًا أو ملكًا
وسواء كان بين الوثنيين أو اليهود أو النصارى [4] وقد كان (حمورابي) من هؤلاء
الرجال كما كان موسى وإبراهيم وهوميروس وشارلمان ولوثر وشكسبير وجوته
وقَنْت والإمبراطور غليوم الكبير.
فإن الله اختار هؤلاء ورآهم أهلاً لأن يعملوا بحسب إرادته أعمالاً عظيمة
دائمة خدمة لأممهم، سواء كان ذلك العمل روحانيًّا أو عالميًّا، وكثيرًا ما كان جدي
يقول: إنه لم يكن إلا آلة بيد الله. ولا شك في أن ظهور الله تعالى في الأشخاص
يكون على حسب استعداد أممهم ودرجتها في الحضارة، ولا يزال يظهر هذا الظهور
حتى في عصرنا هذا (كأنه يومئ إلى أنه ظهر فيه الآن كما ظهر في جده من
قبل) .
(أما النوع الثاني من الوحي وهو الديني الروحاني الخالص فقد ابتدأ من
زمن إبراهيم ببطء وحكمة ولولاه لقضي على النوع البشري وقد نما وتسلسل نسل
إبراهيم على الاعتقاد بإله واحد وقد حفظته عناية الله تعالى بحفظه هذا الإيمان حتى
ختم هذا الوحي وانتهى بظهور المسيح الذي كان أعظم مظهر لله تعالى في هذا
العالم. ذلك أن الله ظهر يومئذ في شخص الابن بصورة بشرية (تعالى الله عن هذه
الوثنية) وهو مخلصنا الذي يملأنا حماسة ويدعونا إلى اتباعه وإننا لنشعر بناره
تأجج في أحشائنا، وبرحمته تعزينا. وإننا باتباع وصاياه نقتحم كل شيء لا نبالي
بالتعب ولا بالازدراء ولا بالحزن ولا بالفقر ولا بالموت؛ لأننا واثقون بالنصر
لسماعنا منه الوحي الإلهي الذي يصدق دائمًا.
(هذا هو رأيي في المسألة فإن (الكلمة) عندنا معشر البروتستنت بمنزلة
كل شيء وذلك بفضل (لوثر) علينا. وكان على (دليتش) أن لا ينسى ما كان
يعلمنا إياه لوثرنا العظيم وهو: (يجب عليكم أن تبقوا على الكلمة) .
(ومن البديهي عندنا أن التوراة تحتوي على عدة فصول تاريخية هي من
البشر لا وحي الله. ومن ذلك الفصل الذي ورد فيه أن الله اعتبر تلك الشريعة
موحى بها من الله إلا اعتبارًا شعريًّا رمزيًّا؛ لأن موسى قد نقل تلك الشرائع عن
شرائع أقدم منها على الأرجح وربما كان أصلها مأخوذًا من شرائع (حمورابي)
ويوشك أن يجد المؤرخ اتصالاً بين شرائع حمورابي صاحب إبراهيم الخليل وبين
شرائع بني إسرائيل باللفظ والفحوى وذلك لا يمنع قطعيًّا من الاعتقاد بوحي الله
لموسى وظهوره لبني إسرائيل بواسطته. وإنني أستنتج مما تقدم ما يأتي:
(1) إنني أومن بإله واحد.
(2) إننا معاشر الرجال نحتاج في معرفة هذا الإله إلى شيء يمثل إرادته
وأولادنا أشد احتياجًا منا إلى ذلك.
(3) إن الشيء الذي يمثل إرادة الله عندنا هو التوراة التي وصلت إلينا
بالتقليد.
وإذا فندت الاكتشافات الأثرية بعض رواياتها وذهبت بشيء من رونق تاريخ
الشعب المختار - شعب إسرائيل - فلا ضير في ذلك لأن روح التوراة يبقى سليمًا
مهما طرأ على ظاهرها من الاعتلال والاختلال وهذا الروح هو الله وأعماله!
(إن الدين لم يكن من محدثات العلم فيختلف باختلاف العلم والتاريخ وإنما
هو فيضان من قلب الإنسان ووجدانه بما له من الصلة بالله.
هذا وإنني مع الشكر والثناء أظل دائمًا صديقك المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... غليوم
... ... ... ... ... ... ... ... ... إمبراطور وملك
(المنار)
هذا هو كتاب عظيم الألمان وهو على ما فيه من التمويه والمواربة والتعارض
والتناقض والميل مع ريح السياسة يدل على فهم ثاقب وفكرة وقادة وينبّئ عن بُعد
غور. ومجمل ما يقال فيه: إنه مذهب جديد أو دين جديد ويظهر أن هذا القيصر
يعتقد أو يدَّعي بأن الله جل وعلا قد ظهر فيه كما ظهر في جده غليوم الأول فكانا
نبيَّين أرسل أحدهما لتكوين الوحدة الألمانية، وثانيهما لحفظ مجدها وإطلاع كوكب
سعدها، وقد غمط حق من كان أحق منه ومن جده بهذا الظهور الإلهي المدعى وهو
البرنس بسمرك الذي كان آلة في يد الله وكان جده غليوم الأول آلة بيده. ولئن
غمط حق بسمرك فقد غمط حق من هو أعظم منه ومن إبراهيم وموسى وعيسى
وهو (محمد) عليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام فهو الذي جاء عن الله
تعالى بعلوم وعمل بعناية الله تعالى أعمالاً لم يسبق ما يقاربها لغيره ولن يلحقه بما
يقاربها غيره، فشريعته أعدل من شريعة التوراة ولا يمكن أن يوجد اكتشاف يظهر
أنها مستفادة من شريعة أخرى والوحدة التي كونها بنفسه أحوج إلى المعونة الإلهية
المحضة من الوحدة التي كونها بسمرك وغليوم الأول؛ لأن تفرق قبائل العرب
وشعبها كان أشد ولم يكن عندهم من العلوم والمعارف والمدنية التي تقرب بعضهم
من بعض مثلما كان عند الولايات الجرمانية. ثم إن الوحدة العربية قد استتبعت من
الفتوحات ونشر العلم والمدنية في الممالك ما لم يكن مثله أو ما يقاربه للوحدة
الألمانية على أن تبرير هذه الأمة في العلوم غير مجهول؛ ولكن الفرق بين الأمتين أن
ظهور هذه كان في عصر العلوم والاكتشافات والاختراعات وظهور تلك كان في
بداوة وجاهلية وأمة أمية. فأيهما كان بالأسباب العادية، وأيهما كان بمحض العناية
الإلهية؟ !
* * *
الحكم العدل في الكلام
وخطوة أوربا أو وثبتها إلى الإسلام
في كتاب القيصر أفلاذ من الذهب النضار، وفيه كثير من الحصا وقطع
الفخار، وقد كاد يصل بذكائه إلى الحق ولكن بقي دونه حجاب نكشفه بعد بيان
نتائج كتابه وهي:
(1) أن للعالم إلهًا واحدًا يدبره بقدرته، ويخص بعض العباد بمزيد معونته.
(2) أن البشر في حاجة شديدة إلى معرفة الله تعالى بأن يكون بينهم وبينه
عهد وصلة ليعرفوا بذلك ما يريد بهم وما يرضاه منهم.
(3) أن الله تعالى قد وهب البشر هذه الحاجة بالوحي الديني.
(4) أن حقيقة الوحي هي ظهور الله تعالى في البشر بأن ينفخ فيهم من
روحه - أي يعطيهم شيئًا من ذاته - وهو قسمان: ديني محض، وغير ديني
محض.
هذه أربع نتائج عامة كلها مستفادة من كلامه وهي صحيحة إلا الأخيرة منها
فإنه قارب فيها الحق ولكنه لم يصل إليه. والصواب أن فاطر السموات والأرض لا
تتجزأ ذاته وأن البشر - وإن كانوا مكرمين ومفضلين على كثير من المخلوقات - لا
يخرجون عن كونهم جندًا صغيرًا من جنوده التي لا تحصى فليس من العقل ولا من
الحكمة أن نغتر بأنفسنا حتى نحصر الذات الإلهية في أفراد منا دون هذا العالم
الكبير الذي تعد أرضنا كتلة صغيرة منه، وجميع ما فيها من الأحياء كالذرات
الصغيرة التي نراها تعيش في كتلة من هذه الأرض.
ولكن هذا العالم العظيم الذي يدهش الواقفين على بعض أسراره بنظامه
وإحكامه لم يكن هذا النظام العام فيه بفعل هذه الأجسام التي نعرفها بحواسنا؛ ولكن
الله تعالى بث فيه عالمًا روحانيًّا غير منظور جعله علة لهذا الإحكام والنظام. وقد
لمحت عقول البشر هذا العالم في طور وثنيتهم فسموه عالم الآلهة، وزعموا أن لكل
أمر عام إلهًا خاصًّا يدبره. ولكن الأنبياء سموه عالم الملائكة. وقولهم هو الحق
لأنهم عرفوا ذلك بالوحي.
والوحي عبارة عن اتصال روح النبي بروح من هذه الأرواح واستفادته نوعًا
من العلم منه.
الروح الذي يفيض العلم على الأنبياء يسمى بلسان الدين الروح الأمين وروح
القدس عبر عن اتصاله بروح النبي لإفادة العلم بلفظ النزول قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ
الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: 193-194) وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} (الشورى: 52) وأما العلم الذي يستفيدونه من هذا الوحي
فأهمه معرفة الله تعالى على الوجه الصحيح ومعرفة الحياة الآخرة، ويلي ذلك بيان
الأعمال النفسية والبدنية التي تؤيد هذا الاعتقاد وتقويه وترقي النفس الإنسانية.
والفرق بين علم الأنبياء الذي يسمي وحيًا وبين علم هوميروس وشارلمان ولوثر
وشكسبير وبسمرك وغليوم الأول وغليوم الثاني وأمثالهم أن علم الأنبياء لم يكن
مكتسبًا وإنما كان يقع لهم بواسطة الروح الذي ينزل على قلوبهم، وأن موضوعه ما
ذكرنا من أمر الإيمان وحفظ الصلة بين العبد وربه.
وأما علم أولئك الملوك والشعراء فقد كان كسبيًّا وموضوعه ليس متعينًا فهو
خيالات وتصورات وحكايات وسياسات منها الحق والباطل، ومنها الحالي والعاطل،
ولا معنى للقول بأن كل نابغ في شيء من الأشياء يسمى نبيًّا وعلمه وعمله وحيًا
إلا إذا أردنا أن نجعل الوحي أمرًا عاديًّا كما يقول الذين أنكروا الوحي في أوربا
لسقوط ثقتهم بالكتب المنسوبة للأنبياء والقيصر أرقى عقلاً أن يقول بذلك وما قلناه
قريب من قوله ولعله لو وقف عليه لقال به.
وأما النتائج الجزئية في كلامه فهي:
(1) أن الوحي الديني الروحاني المحض قد بدئ بإبراهيم وانتهى بالمسيح.
(2) أن ظهور الله في المسيح كان أعظم ظهور له في هذا العالم.
(3) أن اتّباع وصاياه كافية لاقتحام كل شيء ثقة بالنصر.
(4) أن ما في التوراة من التاريخ والشرائع والأحكام بشري مستفاد من
البشر وليس وحيًا من الله ولا يمنع ذلك كون موسى نبيًّا.
(5) أنه ليس عندنا شيء نتخذه عهدًا بيننا وبين الله تعالى فنعرف به مراده
بنا وما يرضاه لنا إلا هذه التوراة. وإن ما فيها من الكذب على الله تعالى بنسبة
الشرائع إليه ومن الكذب في التاريخ المقدس لا يحول دون ذلك!
وهذه النتائج كلها غير صحيحة فإن التوحيد قد عرف عند الأمم قبل إبراهيم
وبعث قبله أنبياء دعوا إلى مثل ما دعا إليه هو والأنبياء من ذريته؛ ولكنهم انقرضوا
وعفت آثارهم، وإن ظهور الله - عنايته ووحيه - في المسيح كان دون ظهوره في
موسى فإنه كان متبعًا شريعته مع إصلاح قليل؛ ولذلك قال: (ما جئت لأنقض
الناموس) وإن ظهوره في محمد كان أعظم من ظهوره في إبراهيم وموسى والمسيح
فمَن دونهم من البشر؛ لأنه هو الذي صدق عليه وحده القول المأثور عن المسيح عليه
السلام:
(12 أن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا
الآن 13 وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم
من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية 14 ذاك يمجدني لأنه يأخذ
مما لي ويخبركم) (16 يو) .
فقد صرح بأن الناس لم يكونوا مستعدين في ذلك العصر لمعرفة كل الحقائق
الدينية، وقد علّم محمدٌ الناسَ جميع الحق في العقائد المبنية على البرهان والعبادات
المؤثرة في الروح والأخلاق المبنية على الاعتدال والأحكام المبنية على العدل.
وأسس دينًا - هو وإن ضعف زعماؤه - أرسخ الأديان وأقواها، وشريعة هي - وإن
قل أنصارها - أعدل الشرائع وأعلاها، وأمة كانت باتباعه أعز الأمم وأنماها، نعم،
إنها الآن مريضة ولكنها ستبل إبلالاً، وتعود لها السيادة الأولى إن شاء الله تعالى.
هذه إشارة إلى بطلان النتيجة الأولى والثانية.
وأما الثالثة فبطلانها أظهر؛ لأن هذا القيصر وأمته أبعد الناس عن وصايا
المسيح التي تدور على الزهد المطلق والذل وترك الانتصار للنفس ولو اتبعوا
وصايا الإنجيل لضربتهم فرنسا عن الخد الأيمن (الإلزاس) فأداروا لها الخد
الأيسر (اللورين) .
وأما الرابعة فقد جمعت بين النقيضين، وهما كون موسى يدعي أن شريعته
وحي من الله وما هي بوحي من الله، وإنما نقلها عن شرائع الأمم الوثنية وكونه مع
ذلك نبيًّا موحًى إليه من الله! ولا ندري ما هو هذا الوحي المبهم إذا لم تكن الشريعة
وحيًا ثم لا ندري ما هو الدليل على هذا الوحي؟ ! . هذا رأي يمكن أن يُقبل في
حيز السياسة لا في حيز الدين، ويمكن أن يقال باللسان، ولا يمكن أن يستقر في
الجَنان.
ومن العجائب أن البابا وافق على رأي قيصر الألمان في كون شريعة التوراة
وتاريخها من وضع البشر لا من وحي الله كما جاء في بعض الصحف؛ ولكن ماذا
يصنع البابا إذا لم يجد منفْذًا لدفع الشبهة ولا طريقة لحل الإشكال؟
ماذا يصنع وقد أقنعه بذلك العلم والاكتشافات التي لا يكاد يخفى عليه شيء
منها وهو في الدرجة العليا علمًا وعقلاً وسياسةً؟ لعله لا يوجد في الأرض مَن هو
أحرص من البابا ومن غليوم الثاني على المحافظة على التوراة وتقديسها ولا من هو
مثلهما علمًا، وقد أعياهما حل هذا الإشكال مع طول باعهما وسعة اطلاعهما وكثرة
أتباعهما من العلماء والحكماء.
* * *
آية جديدة للقرآن
وإن تعجب فأعجب العجائب أن القرآن منذ ثلاثة عشر قرنًا قد نطق بما أثبته
العلم وأيدته الاكتشافات في هذا العصر، وحل الإشكال حلاًّ لا بد أن يرجع إليه جميع
العلماء في وقت قريب. وهذه معجزة ظاهرة، أو نبوة باهرة - كما يقولون - ولا
غرو فالقرآن لا تنتهي عجائبه، وهو حجة الله على العالمين منذ أُنزل إلى يوم
الدين، حكم القرآن بأن بني إسرائيل نسوا حظًّا من الوحي الذي ذكرهم الله تعالى به
على لسان موسى عليه الصلاة والسلام وحفظوا حظًّا آخر وقع فيه شيء من
التحريف والكذب. قال تعالى (في سورة آل عمران 23) : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم
مُّعْرِضُونَ} (آل عمران: 23) وقال في (سورة النساء) : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا * مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن
مَّوَاضِعِهِ} (النساء: 44-46) إلخ. وقال بعد آيات: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} (النساء: 51) ، وقال تعالى (في سورة المائدة 13) بعد
ذكر أخذ الميثاق على بني إسرائيل: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجعَلْنَا قُلُوبَهُمْ
قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًًا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى
خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (المائدة: 13) .
وهذا الحكم هو المعقول وإنما ظهر صدقه وكونه معقولاً في هذا العصر فصح
قول المسلمين في القرآن (لا تنقضي عجائبه، ولا تتناهى غرائبه) فيا له من
معجزة تفيض بالمعجزات الكبيرة، ويا له من آية بينة تنطوي على آيات كثيرة،
أنَّى لأمي نبت في أرض جاهلية، وتربى في أمة أمية أن يحكم على شريعة كانت
أم الشرائع، وتاريخ أمة كانت أشرف الأمم حكمًا لم يعرف عن علماء
الشرائع والقوانين، ولا عن مدوني القصص والتواريخ، فيحز في المفصل،
ويقول القول الفصل، ويأتي بكلمتين ثنتين لا تبلغ مساحتهما في الكتابة سطرًا
واحدًا: {فَنَسُوا حَظًًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) ، {.. أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ
الكِتَاب} (آل عمران: 23) ؟ تتمخض الأيام والسنون، وتمر الأجيال والقرون،
ثم لا تظهر حقيقة تأويلهما إلا بعد أن تنبث دفائن الأرضين، وتستخرج منها آثار
الغابرين، ليتم قول الكتاب أيضًا: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) وقوله:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت:
53) . {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا
كَثِيرًا} (النساء: 82) أفلا يتأملون في قوله للنبي الأمي الذي أنزل عليه: {وَمَا
كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48) .
فإلامَ الشك والارتياب، وقد ظهرت آياته لأولي الألباب؟ !
بهذا الحل يتبرأ موسى عليه السلام من شبهة الكذب على الله تعالى وتتبرأ
شريعته من شبهة الاقتباس من الشرائع البشرية لأن هذه الشريعة لو كانت موجودة
بالنص الذي كتبه موسى عن الوحي الإلهي لظهر الفرق بينها وبين شريعة
(حمورابي) وتبين أن المشابهة بينهما قليلة لا تصلح شبهة على اقتباس المتأخرة
من المتقدمة. على أن التوافق بين الشرائع في بعض المسائل أمر طبيعي سواء
كانت سماوية أو بشرية أو بعضها سماوي وبعضها بشري؛ لأن الوفاق في الطبائع
وحال الاجتماع يقضي بالوفاق في الأحكام. ومازالت تتوارد خواطر العلماء
والشعراء على بُعد الدار، واختلاف الأعصار، وإذا كنا لا نرى دليلاً أو أمارة
على أن أحدهما أخذ عن الآخر فلا يجوز لنا أن نحكم بهذا الأخذ. والدليل على أن
التوراة الحاضرة قد اقتبس بعضها من البابليين واضح مما في سفر عزرا ومما
أظهرته الاكتشافات. ويدل سفر عزرا وغيره أيضًا على ما يقضي به العقل من عدم
نسيان بني إسرائيل شريعة الرب فتعين أن يكون الحاضر مزيجًا. فقد اتفق في
المسألة العقل ونقل كتب العهد العتيق والتاريخ والآثار على تصديق القرآن في
حكمه على بني إسرائيل وشريعتهم.
فعلى عظيم الألمان ومقدس الكاثوليك (البابا) أن يرجعا إلى حكم الله تعالى
في المسألة فهو أفضل من حكمهما الذي يزيل ثقة جميع النصارى بالوحي وكتبه
ويجعلهم إباحيين مفسدين للعمران. وليعلم الزعيمان العظيمان أن دين الله تعالى
واحد، وأن تلك الأديان قد نسي بعضها ونسخ الباقي؛ لأن الله تعالى أراد أن يعطي
البشر ما هو أكمل منها كما قال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 106) فعليهما أن يتركا
التعصب لقومهما وأن يكونا زعيمين للبشر كافة لا للألمان والكاثوليك أو النصارى
خاصة، وذلك بأن يأخذا بجوهر الدين الخالص الذي بيَّنه القرآن وهو الكتاب
المحفوظ الذي لا ريب فيه الذي جاء بالحق وصدق المرسلين وإذا تأملاه بإخلاص
فلا شك أن نور الحق يشرق عليهما كما أشرق على كثير من أهل العلم في أوربا.
جاء في كتاب (ديانات الأمم وعقائدهم) للأستاذ ليننز ما خلاصته:
(إن دين الإسلام دين يوافق الناس كافة ويجعلهم أمة واحدة وإنني أؤمل أن
أرى النصارى بعد حين آخذين بدرس هذا الدين والتدين به وموالاة محمد - عليه
الصلاة والسلام -؛ لأن دينه الدين القويم المبين) (راجع 5 الصفحة 292-300
من هذا الكتاب المطبوع في لندن سنة 1901 ومثل هذا القول أقوال كثيرة) .
وقد بينا في مقالة (مسير الأنام ومصير الإسلام) بعض المبشرات التي تدل
على خطوات أوربا إلى الإسلام من حيث تدري ولا تدري وإننا نعد هذا الاكتشاف
الجديد الذي أيد القرآن وما قاله عظيم الألمان وحبر أحبار الرومان فيه خطوة من
تلك الخطوات، بل وثبة من الوثبات.
... ... ... والعاقبة للمتقين، والله ولي المؤمنين.
__________
(1) بعثر الشيء: استخرجه فكشفه وبعثره أثار ما فيه وهو استخراج نحو المدفون والخفي وإظهاره لمعرفة حقيقته ومنه قوله تعالى: [وَإِذَا القُبُورُ بُعْثِرَتْ] (الانفطار: 4) .
(2) دمر: دخل بدون استئذان و (ما) مصدرية.
(3) يتوهم أهل الحلول مثل هذا منشأ وثنيتهم وذات الله تعالى لا تتجزأ وإنما هي عنايته يمنحها من شاء من عباده.
(4) انظر كيف لم يعد المسلمون أمة منفردة وما كان ذلك جهلاً ولكنه التعصب.(6/87)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الكرامات والخوارق
المقالة العاشرة
(فيما ينبغي عليه التعويل)
(المسألة الرابعة عشرة) استدل منكرو الكرامات من المعتزلة وبعض علماء
السنة كالأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني والحليمي ومن على رأيهم بسبع حجج على
نفي الجواز، وتقدم بسطها وما قالوه في الجواب عن بعضها في المقالة الثالثة
(449-2) واستدل المثبتون بأربع حجج كما ذكر السبكي في الطبقات الكبرى
وهي ترجع إلى شيء واحد هو أنها وقعت بالفعل كما يعلم من بعض قصص القرآن
والآثار المروية عن الصحابة.
وتقدم في المقالة الرابعة بيان أن تلك القصص لا دليل فيها يصلح حجة في
هذا المقام إلا على ما يسمونه الإلهام وما في معناه من مكالمة الملائكة، وكان ذلك لأم
موسى وأم عيسى عليهما السلام (راجع 481-2) وفي المقالة الخامسة والسادسة
أنه لم يثبت بسند صحيح من الكرامات المأثورة عن الصدر الأول إلا مثل ذلك
الإلهام أيضًا، واستجابة الدعاء والبركة في الطعام (راجع 545-2و657-2) .
(المسألة الخامسة عشرة) أن ما يقال عن الصحابة (عليهم الرضوان) من
هذه الكرامات - ما صح سنده منه وما لم يصح - يعد على الأنامل لقلته وصار
المسلمون كلما بَعُد الزمان وقل العلم وكثر الفسوق والعصيان يكثر فيهم القول بهذه
الكرامات حتى إنهم يعدون لبعض الشيوخ المتأخرين ما يكاد يتجاوز عقد المئين. وهم
متفقون على أن الصحابة أفضل ممن بعدهم من الأولياء بلا قيد ولا استثناء. وقد
أجاب بعضهم عن هذا بأن المسلمين كانوا في عصر الصحابة وما يقاربه أقوياء
الإيمان فلم يكونوا محتاجين إلى كرامات وخوارق تقوي إيمانهم. وهذا الجواب مبني
على قاعدتهم التي ذكرها السبكي وغيره وهي أنه لا يجوز إظهار الكرامة إلا عند
ضرورة شديدة كتقوية إيمان شاك، وصواب القول في الجواب أن أهل الصدر الأول
من الصحابة والتابعين كانوا لقوة إيمانهم ويقينهم لا يكذبون ولا يخادعون الناس
بالوهم ولذلك لم يدَّعوا هذه الخوارق التي ربما كانوا أحوج إليها ممن بعدهم لإقامة
الحجة على المشركين والكافرين الذين كانوا مشتغلين بدعوتهم ومجاهدتهم. ولكنهم
لرسوخهم في معرفة مقاصد الإسلام كانوا يكتفون بالحجج المعقولة ولا يعتمدون على
شيء من الخوارق الكونية التي يضل فيها الفهم، ولا يهتدي فيها الوهم، وهذه
المسألة كنا وعدنا ببيانها في المقالة السادسة.
(المسألة السادسة عشرة) أن ما يصح أن يسمى كرامة من هذه الغرائب التي
تظهر على أيدي الناس هو ما كان ثمرة لارتقاء الروح، وصفاء النفس؛ بل هذا هو
معنى ما ذكروه في كتب العقائد كما تقدم في المسألة الثامنة. وإذا كان الأمر كذلك
فالواجب أن تبقى هذه الثمرة معلقة بهذه الشجرة أي: يجب أن لا تتجاوز هذه
الخصوصية أهلها الخواص. فإذا تجاوزتهم إلى من لا يعرف منشأها كانت فتنة له
وضارة به؛ ولذلك قال كبار الصوفية والمتكلمين المثبتين للكرامات بوجوب إخفائها
لأنها فتنة للناس وضارة بهم ومن مبالغتهم في ذلك القول المأثور عن الشيخ أحمد
الرفاعي: إن الولي يستتر من الكرامة كما تستتر المرأة من دم الحيض! .
(المسألة السابعة عشرة) أكبر ضرر وأعظم فتنة في فشو الاعتقاد
بالكرامات بين العامة وكونها عند الصالحين صناعة من الصناعات، وأنها زلزلت
قاعدة العقائد الكبرى وهي توحيد الله تعالى وأوقعت الناس في ضروب من الشرك
الأصغر والأكبر. وليس زلزال التوحيد محصورًا في اعتقاد تعدد الخالقين
للسموات والأرض المشتركين في الإيجاد والتكوين وإنما الشرك في التماس المنافع
أو دفع المضرات من غير الله تعالى، وبواسطة غير سننه التي أقام بها نظام الكون
وجعل الانتفاع بها عامًّا لجميع خلقه.
بل ورد في الأحاديث تسمية الرياء في العبادة شركًا فكيف لا يكون دعاء
غير الله تعالى شركًا. روى أحمد وابن ماجه وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم
وصححه من حديث شداد بن أوس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يبكي
فقلت: ما يبكيك؟ ! فقال: (إني تخوفت على أمتي الشرك أما إنهم لا يعبدون
صنمًا ولا شمسًا ولا قمرًا ولا حجرًا ولكنهم يراؤون بأعمالهم) ! وإنما سمي الرياء
شركًا؛ لأن المرائي يطلب منفعة من المرائَى والمنافع لا تطلب إلا من الله تعالى ومن
الطرق والأسباب التي سنها لها. والغرض من العبادة طبع ملكة الاعتماد على الله
تعالى في القلب لتقوية التوحيد فإذا لوحظ بها الناس وفعلت رئاءهم فقد قطعت
طريق التوحيد ودلت على عدم تمكنه من النفس. فما بالك بمن يعتمد على غير الله
تعالى ابتداءً ويجعله حجابًا بينه وبين الله يزعم أنه يقربه إليه زلفى.
ولو كان الشرك عبارة عن تعدد الخالقين لما كان فيه ما هو أخفى من دبيب
النمل.
روى ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد والطبراني من حديث أبي موسى
الأشعري قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: (أيها الناس
اتقوا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل) فقالوا: كيف نتقيه وهو أخفى من دبيب
النمل يا رسول الله؟ قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه
ونستغفرك لما لا نعلمه) وروى غيرهم عن غيره أحاديث بمعناه منها حديث ابن
عباس عند الحكيم الترمذي: (الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا) .
إذا عدت عيناك عما تشاهد كل يوم من العامة لا سيما في أضرحة
الصالحين. ونبا سمعك عما تسمع منهم من دعاء غير الله، والاستغاثة والاستعانة
بغير الله، وطلب الحوائج ورد البلاء من غير الله والتماس الصدقات (على قبول
فلان وفلانة) من دون الله، وقلت كما قال بعض علماء الأزهر: إن هؤلاء العامة
لا يعقلون التوحيد وإن الإمام محمدًا صاحب أبي حنيفة قال في عامة زمنه وهم خير
منهم: (لو كانوا عبيدى لأعتقتهم وأسقطت حق الولاء) فهل تعدو عينك عما ترى
في الكتب المنتشرة كانتشار الجهل في العبارات الشركية التي تقشعر منه جلود
الموحدين، كقولهم في كتاب ترياق المحبين وكتاب طبقات الوتري وغيرهما من كتب
الرفاعية: (إن عبد الرحيم الرفاعي كان يميت ويحيي ويفقر ويغني ويسعد ويشقي)
وقولهم إن أحمد الرفاعي وصل إلى مرتبة صارت السموات السبع في رِجْله
كالخلخال! . ولهم في هذين وغيرهما أقوال أخرى يتبرأ منها حتى دين بولس ودين
بوذا!
وقد ذكرنا في المسألة الثامنة كلمتهم التي يجعلون إرادة الله تعالى فيها تابعة
لإرادتهم. وإنك لتجد من حَمَلَة العمائم من يصحح مثل هذه الأقوال ويحرف كلام
القرآن عن مواضعه للتوفيق بينه وبينها.
وإذا بحثت عن سبب هذا الغلو كله تجده الاعتقاد بالكرامات بغير قيد ولا حد
ولا حساب. قالوا: يجوز إظهار الكرامة لتقوية الإيمان؛ ولكننا نرى إظهارها كان
أكبر جناية على أساس الإيمان. وأما هؤلاء العامة الذين قوي إيمانهم بأصحاب
القبور المشرفة (خلافًا لنهي الشارع عن تشريفها) فلو لم يعلموا بشيء من هذه
الكرامات لما كان إذعانهم وتسليمهم بالدين ينقص ذرة؛ لأن الدين عندهم تقليدي في
أحكامه وفروعه، وجداني فطري في أصله.
(المسألة الثامنة عشرة) من مضرات فشو الاعتقاد بالكرامات إباحة
الموبقات وتحريم الواجبات، وذلك أنه استقر عند العامة وأكثر الذين يعدون من
الخاصة أنه لا يجوز الإنكار على الأولياء وما الأولياء عندهم إلا من تظهر على
أيديهم العجائب والخوارق؛ لأن المعصية التي تشاهد منهم لا بد أن تكون صورية لا
حقيقية ولذلك يجب تأويلها. فإذا رأيت أحدهم يشرب الخمر فاعتقد أنها انقلبت
عينها كرامة له فصارت لبنًا أو عسلاً أو شربًا آخر من الأشربة المباحة، وإذا رأيته
يترك الصلاة فاعتقد أنه يصلي بمكة أخذًا من قول السيد البدوي في الرد على الذين
اتهموه بذلك:
وفي طندتا قالوا صلاتي تركتها ... ولم يعلموا أني أصلي بمكة
أصلي صلاة الخمس في البيت دائمًا ... مع السادة الأقطاب أهل الطريقة
ولهم في هذه التأويلات حكايات غريبة يسخر العقلاء من بعض المستفيض
منها، كزعمهم أن بعضه رؤي يأتي الفاحشة ثم تبين أن سفينة كانت خرقت في البحر
وأشرفت على الغرق فبادر ذلك الولي إلى سد الخرق بما كان منه!
(المسألة التاسعة عشرة) من مضرات فشو الاعتقاد بهذه الكرامات عدم ثقة
جماهير المعتقدين بها بالعقل وقضاياه ونظام الكون وسننه فهم دائمًا أسرى الأوهام،
وعبيد الخيالات والأحلام، فضعفت بذلك المدارك، وانقلبت في التصور الحقائق،
وصار معظم الناس يخضع للدجالين، ويؤمن بالمشعوذين والعرافين، ومن أنكر
عليهم شيئًا من ذلك اتهموه بالفلسفة ورموه بفساد العقيدة؛ فالعرافة والكهانة عندهم
إيمان، والحكمة (الفلسفة) كفر أو عصيان، والله تعالى يذكر في كتابه أنه بعث
رسوله ليعلم الناس الحكمة: {وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة:
269) ، ويقول نبيه فيما علّمنا من الحكمة: (مَن أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما
يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) رواه أحمد والحاكم عن أبي هريرة. وروى
أحمد ومسلم في صحيحه عن بعض أمهات المؤمنين أن النبي e قال: (من أتى
عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل صلاته أربعين يومًا) نعم، إنهم لا يسمون هؤلاء
المخبرين عما وقع وعما يتوقع كهانًا وعرافين لما كان من الخلل في اللغة، والعبرة
بالحقائق لا بالأسماء. فإذا كان العراف يخرج عن كونه عرافًا بتسميته وليًّا مكاشفًا
فالخمر تخرج عن كونها خمرًا بتسمية بعض أصنافها كونياك أو شمبانية. ومثل
هذا يقال في تسميتهم الاستعانة بغير الله توسلاً وما أشبه ذلك.
وإن وراء الخضوع للدجالين والعرافين الذين يدعون الكرامات مفاسد لا يكتنه
كنهها ولا تحصي أنواعها وأفرادها فمن الناس من يبذل لهم المال، ومنهم من
يحكمهم في النساء والعيال، وإننا لنعرف أشخاصًا من هؤلاء الدجالين قد اشتهر أن
النساء يتجردن لهم فيكتبون من طلاسمهم وحروفهم على بطونهن ما يزعمون أنه
ينفع لحبل العاقر، أو يحبب البغيض منهن إلى زوجها أو غيره ممن تهوى. ومنهم
من يخلو بالنساء متى شاء من ليل أو نهار برضى أزواجهن الذين يعتقدون أن
هؤلاء من المقربين عند الله تعالى فلا يمكن أن تقع منهم الفاحشة فالرجل يكون ديوثًا
وصاحب الكرامة فاجرًا أو قَوَّادًا وكل ذلك ببركة الاعتقاد بالخوارق والكرامات
ولولاها لما كان شيء من ذلك بهذه الصور.
(المسألة العشرون) من مضرات الاعتقاد بهذه الكرامات ترك مجموع الأمة
الاهتمام بأمورها العامة اعتقادًا بأن هذه الأمور قد وكلها الله تعالى إلى رجال الغيب
فلا يجري في الأمة شيء إلا ما قرروه في الديوان الأعلى، وما قرروه قضاء لا مرد
له إلا أن يكون بتصرفهم. وفي كتب الصوفية كلام كثير عن هذا الديوان ومحله
ورياسته وأعضائه ولغتهم وأعمالهم. وقد كان من أسباب خضوع بعض البلاد
الإسلامية المعروف عن أهلها الشجاعة والأنفة للأجانب قول بعض المعتقدين من
أهل الطريق: إنه علم من أهل الله أن الله قد سلط الأجانب على تلك البلاد عقوبة
لها!
وينقلون أن أهل الشام رغبوا إلى ولي كبير كان عندهم أن يدفع عنهم إغارة
تيمور لنك فخرج فوجد الخضر على مقدمة جيشه، فقال: أنت معه؟ فقال: نعم
أنا وربك! فعلموا أن مقاومته عبث؛ لأنها محاربة لله تعالى!
وقد أشيع في إثر الاحتلال الإنكليزي في هذه البلاد أن بعض الصالحين
استغاث بأهل البيت وبالسيد البدوي لإخراجهم، فكشف عنه الحجاب فرآهم مقيدين
بسلاسل وقيل له: إنهم حاولوا إخراجهم فقُيدوا؛ لأن الله تعالى أراد هذا الاحتلال!
أمثال هذه الحكايات تسري في الأمة سريان الأوبئة، تظهر الحكاية اليوم في
بلد فيسمعها في اليوم التالي أهالي مئة بلد ولا يمر أسبوع إلا وتراها قد عمت
الديار، وجابت الأقطار وقال الأول للآخر: إنها منقولة بالتواتر!
(المسألة الحادية والعشرون) من مضار الاعتقاد بهذه الكرامات أنها حجاب
دون العلوم الكونية في نظر الدهماء وذلك أنهم يرون الذين يأخذون بهذه العلوم
يحتقرون الدجاجلة الذين يدَّعون هذه الكرامات ويحتقرون الذين يخضعون لهم
ويعتقدون بهم فينسبون ذلك إلى العلم ويعدونه من ثماره وهو شر الثمار عندهم،
ويمقتون العلم ومنهم من يجعله يريد الكفر؛ لأجل ذلك وكفى بذلك ضررًا لا سيما في
هذا الزمن الذي بُنيت فيه السيادة والسلطة على العلم.
(المسألة الثانية والعشرون) من مضار الاعتقاد بالكرامات على الوجه
المعروف ومشايعة العلماء للعامة على جميع مظاهرها وما يتعلق بها ولهجهم
بحكاياتها واحترامهم لدعاتها وأدعيائها أنها نزلت منزلة العقائد الدينية والقواعد
الأساسية للدين، وصار غير الراسخ في العلم يعتقد أن منكر هذا الحكايات فيها كافر
وكانت نتيجة هذا أن الذين تعلموا على الطريقة الأوربية وعقلوا فعلموا أن هذه
الحكايات إما دجل وشعوذة، وإما أكاذيب ملفقة صاروا يشكُّون في الدين من أصله
لاعتقادهم التقليدي أن الدين مبني عليها، وما بُني على الفاسد فهو فاسد وقد صرّح
غير واحد من علماء الاجتماع وطبائع الملل بأن العقبة الكبرى في طريق الإيمان
لهذا العهد هي عقيدة كون الخوارق أصل الدين الأساسي. وقد تقدم في المسألة الحادية
عشرة أن ذلك غير صحيح حتى في أديان الشعوب المنحطَّة التي كانت تمهيدًا لدين
الارتقاء (الإسلام) فكيف تكون أصلاً له؟ !
(المسألة الثالثة والعشرون) لا نعرف شعبًا من الشعوب دخل في الإسلام
بسبب هذه الكرامات، وإذا كان وجد في الناس مرتابون أزال ريبهم مشاهدة الكرامات
فلا نظن أنهم يبلغون عشر معشار الذين فسدت عقائدهم بسبب جعل هذه الغرائب
من الدين. وإذا فرضنا التساوي فلنا أن نقول: مصلحة بمفسدة وتبقي مفاسد أخرى
ليس بإزائها مصالح وقد ذكرنا أهمها آنفًا فتكون النتيجة أن إثم هذه الاعتقاد أكبر من
نفعه!
(المسألة الرابعة والعشرون) أن الذي ينبغي أن يعول عليه هو تحكيم قاعدة
(درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وتعلم الأمة عدم الثقة بهذه الخوارق وعدم
تصديق المنتحلين لها والمبالاة بهم. فإن كانوا من أولياء الله وأصفيائه فحسبهم
عناية الله بهم وكفايته لهم فمن كان وليًّا لله فالله ولي له ومن لم يكتفِ بولاية الله
تعالى عن التعرض للناس فهو ولي الشيطان:
من عرف الله فلم تغنه ... معرفة الله فذاك الشقي
وإذا كان لهؤلاء الأصفياء مزايا روحانية أكرمهم الله تعالى بها فالواجب كما
قال أئمتهم أن لا يفشوا سر الربوبية وعلى غيرهم من المسلمين أن يعتقد فيهم ذلك
فينكر خلافه.
وهنا نرجع إلى مذهب جمهور أهل السنة فنقول: إن الكرامة جائزة ولكن لا
يجب على أحد أن يعتقد بكرامة معينة لأحد معين، وهذا المذهب موافق لقاعدة
كتمان الكرامة. ونتيجته أن هذه الحكايات التي تُثبت لأشخاص معينين كرامات لا
نهاية لها لا يوثق بها ولا يعول عليها والصواب أن تقاس على أمثالها عند أهل الملل
الأخرى فإن سنة الله فيهم وفينا واحدة. فإن صحت عنده رواية شيء منها بعد
التحري الذي أشرنا إليه في المقالة السابقة فليعرضه على وجوه التأويل في المقالات
اللاحقة.
__________(6/109)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دعوى صلب المسيح
(2)
تكلمنا في الجزء الماضي عن تمويه محرر مجلة البروتستانت على بعض
عوام المسلمين في هذه المسألة وأقوى ما يخادعون به أنه لا يعقل أن رجلاً مشهورًا
كالمسيح يشتبه على اليهود وشرطة الرومان فلا يميزونه من غيره. وفاتنا أن نذكر
أن في الأناجيل عبارات كثيرة تدل على أن الاشتباه حصل بالفعل. وقد كتب إلينا
من السويس كاتب في ذلك فرأينا أن ننقل عبارته بنصها وهي:
(قد اطَّلعت على ما جاء في المنار ردًّا على بشائر السلام في مسألة صلب
المسيح) .
ولما كنت قد كتبت على المجلة المرسلة إليَّ من نقولا كتابة في هذا الشأن
ورددتها إليه رأيت أن أطلع حضرتكم على مضمون ما كتبت فلعلك تجد فيه ما
يناسب المنار، وإن كان ما كتبته موجزًا فعلى المنار الإيضاح والمراجعة والتفصيل.
قلت عند قوله: (قال المفسرون إن الله ألقى شبهه.. إلخ) إن المفسرين
قسمان قسم يفسر من طريق الإيمان على سنة المسيحية وهم الذين نقلت قولهم، وقسم
يفسر من طريق العلم والعقل على سنة الإسلام وقد فسروا هذه الآية بما لا يبعد عما
ورد في أناجيلكم التي تقرؤونها ولا تفهمونها، ورد في الإنجيل أن المسيح قال
لتلامذته: إنكم ستنكرونني قبل أن يصيح الديك.. إلخ (أنكرت الشيء لم أعرفه)
وورد أيضًا فيه أن المسيح خرج من البستان فوجد أعداءه فقال لهم: مَن تطلبون؟
فقالوا: المسيح. فقال: هو أنا ذا فقالوا: إنما أنت بستاني ولست بالمسيح وهكذا
كانوا كلما وجدوه أنكروه وخانتهم أبصارهم في رؤيته وعمي عليهم واشتبه منظره
(وخيانة النظر ثابتة قطعًا) فلما أعيتهم الحيل استأجروا يهوذا الإسخريوطي بثلاثين
درهمًا ليدلهم عليه لتمكُّّّنه منه فلا يشتبه عليهم، وهذا في الإنجيل أيضًا فهذه الحيرة
المفضية إلى استئجار دليل يدل عليه مع ملاحظة أنه رُبِّيَ في وسطهم وكانوا
يعجبون بفصاحته وحكمته كما هو وارد في الإنجيل أيضًا تدل بأجلى بيان وأوضحه
على أنهم كانوا في شك منه، وكان يشبه لهم بغيره فكلما اجتمعوا عليه اشتبه عليهم
وعمي في نظرهم وخانتهم أبصارهم وظنوه غيره وما حصل لهم حصل لدليلهم
(يهوذا) وقد ورد في الإنجيل أنهم حينما ساقوه للصلب كانوا يستحلفونه: هل أنت
المسيح؟ فكان يقول: هذا ذا فمنه يعلم أنهم كانوا لم يزالوا في شكهم حتى بعد
الاستئجار ووجود المرشد والدليل، فلما أعياهم الأمر عمدوا إلى مَن غلب على ظنهم
أنه هو المسيح والمسيح في السحابة البيضاء مع موسى كما في الإنجيل أيضًا ثم
صلبوا ذلك الرجل الذي كانوا يستحلفونه، وغلب على ظنهم أنه هو المسيح فهل كل
هذا كان لظهور المسيح واضحًا لهم أو لأنهم كلما طلبوه شُبه لهم وألقى شبه غيره
عليه وعمي عليهم وخانتهم أبصارهم فعمدوا إلى يهوذا واستأجروه ليدلهم عليه، فما
كان بأمثل منهم في ذلك وأدتهم خاتمة المطاف إلى أخذ من غلب على ظنهم أنه هو
وصلبوه، وما هو منه بشيء بل المسيح ساخر منهم ضاحك عليهم يقول: أنا المسيح!
فيقولون: لست هو، حتى قتلوا غيره وصلبوه وهو محجوب عن أنظارهم
مشتبه عليهم قد شُبه لهم بالبستاني مرة وبغيره أخرى وبذلك نجَّاه الله من كيدهم فما
نالوه بسوء {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ
مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّن} (النساء: 157) المبني على إرشاد يهوذا
المشكوك فيه كما علمت من نص الإنجيل {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (النساء: 157) .
هل فهمت يا حضرة المبشر الآية وكيف كانت عبارات الإنجيل حجة للإسلام
لا عليه؟ . فاقرؤوا الأناجيل وافهموها؛ فقد وسع الله لكم على يد البروتستانت ولا
تكونوا كالذي يحمل أسفارًا اهـ.
أركان الدين الصحيح
ضاق هذا الجزء عن رد شبهات النصارى على القرآن وغير ذلك مما كنا
وعدنا به لطول مقالة (النبأ العظيم) أكثر مما كنا نتوقع، وقد صدر الجزء الخامس
من المجلة البروتستنتية قبل صدور هذا المنار قرأنا فيها نبذة في أركان الدين
الصحيح يقول فيه الكاتب الذي ينتمي إلى المسيح ما نصه:
وإن المذهب الذي يجب على كل فرد أن يختاره لنفسه هو أكثر المذاهب
مشابهة لروح الآلهة وأقربها لصفاتهم.. إلى آخر ما قاله وكرر فيه لفظ (الآلهة)
ثم فسر هذا المذهب بقوله: (ذلك المذهب الذي ينادي: أن يا قوم أحسنوا إلى مَن
أساء إليكم فتلك صفات الله، ذلك المذهب إنما هو مذهب إلهي بلا مراء) ، ثم ذكر
أن المذهب إذا قال لتابعيه جاهدوا في سبيل الله ودافعوا عن أنفسكم في سبيل الله
يكون بريئًا من الله والله بريئًا منه؛ لأن العزة الإلهية لا تأمر بالقتال مهما كان
الغرض شريفًا. وأجاب عن أمر التوراة بني إسرائيل بإبادة بعض الأمم
المجاورين لهم (بأنه) كان أمرًا وقتيًّا لازمًا للتوصل إلى المسيحية ديانة السلام
والمحبة) ! .
ثم ذكر اعتراض الناس على هذا المذهب بكون محبة الأعداء وترك المدافعة
عن النفس مستحيل، واعترف بأن هذا صحيح بالنسبة إلى معارف البشر الآن وقال:
إن معارفهم سترتقي في المستقبل إلى فهمه.
فملخص هذا الدين الإلهي:
(1) أنه يوجد آلهة متعددة وأن أخلاقهم متفقة على محبة أعدائهم ولا شك
أن أعداءهم هم الذين لا يؤمنون بهم، ولا معنى لمحبتهم إلا عدم مؤاخذتهم على الكفر
فالنتيجة أن هذا الدين دين إباحة ومبطل لنفسه ولغيره.
(2) أنه يأمر بمحبة الأعداء وترك المدافعة وذلك مستحيل بحسب ما
وصلت إليه معارف البشر إلى القرن العشرين من ظهوره؛ ونتيجة هذا أنه لم يتبعه
أحد حتى الآن.
و (3) أن هذا المذهب يخالف قول المسيح: (وهذه هي الحياة الحقيقية أن
يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك. ويسوع المسيح الذي أرسلته) (يوحنا 17)
وقوله: (لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا؛ بل
سيفًا؛ فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها
وأعداء الإنسان أهل بيته) (متّى 10-34و35) وقوله: (جئت لألقي نارًا على
الأرض) (لوقا 13-94) وقوله: (إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض أباه وأمه
وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا)
(لوقا 14-26) وقوله: (أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا
بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) (لوقا 19-27) وأمثال ذلك.
فأي الدينين دين المسيح عليه السلام؟ !
__________(6/116)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قتل بني إسرائيل أنفسهم
وبعثهم بعد موتهم
جاءنا من حضرة المحامي الشهير صاحب الإمضاء ما يأتي:
رأينا فيما أوردتموه بأحد أعداد المجلة في تفسير قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى
بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنْفُسَكُم..} (البقرة: 54) إلى قوله جل شأنه: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ
بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 56) أن سيدنا موسى دعا من يرجع إلى
الرب من قومه، فأجابه بعضهم فأمرهم بأن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضًا
ففعلوا، وقتل منهم نحو ثلاثة آلاف. وإن البعث بعد الموت عبارة عن كثرة نسلهم
والبركة في أحفادهم تعويضًا لهم عن قتل آبائهم، على أننا لو أعدنا التأمل نرى أن
الأمر والإرشاد للتوبة لا يستلزمه قتل نفوس التائبين وكذلك البعث بعد الموت لا
يكون معناه زيادة النسل.
وحينئذٍ يكون الأقرب هو أن قتل النفس معناه إماتتها عن الفساد والمعصية
بسيف التوبة والندم ليبعثها الله بعد هذا الموت المعنوي إلى عالم الفلاح والتقوى، وأن
البعث هنا معناه هو الوصول إلى الحقيقة بعد ذلك الضلال الذي ماتت عنه عواطفهم.
فأرجوك أيها الصديق الفاضل إنعام النظر في ما أوضحته وإرشادي إلى
الحقيقة. ودمتم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل عاصم
(المنار)
تقدم في تفسير الآيات أن سؤال بني إسرائيل رؤية الله تعالى الذي عوقبوا
عليه بالصاعقة كان في واقعة مستقلة غير واقعة اتخاذ العجل الذي عوقبوا بالقتل
وقوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} (البقرة: 56) وارد على غير الذين
قتلوا أنفسهم بالتوبة، فإذا اعتبر الخطاب لمجموع الأمة فلا فصل فهي التي قتلت
وهي التي صعقت، وهي التي بعثت وهذا ما عليه الأستاذ الإمام في إسناد الله تعالى
أعمال سلف بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل الذين كانوا
في زمن التنزيل، وعليه لا إشكال في إسناد] بَعَثْنَاكُم [إلى الذين ماتوا بالصاعقة أو
غيرها ولا بعد في تفسير هذا البعث بعد الموت بكثرة النسل لا سيما مع ملاحظة أن
المخاطَبين بهذا كله هم اليهود الذين كانوا معاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.
أما قتل بعضهم بعضًا في التوبة فهو المنقول في كتبهم المقدسة والذي يتناقلونه
خلفًا عن سلف، وبه قال جماهير المفسرين، وذهب القاضي عبد الجبار من المعتزلة
إلى أن القتل هنا مجاز وما كان الله ليكلف الناس بالقتل؛ لأن التكليف لمصلحة العبد
ولا مصلحة في القتل لمن يقتل. ووجه الآية توجيهًا مقبولاً في اللغة وأساليبها وهو
نحو ما في السؤال لم يحصل بالفعل وإن كان يجوز التكليف به.
قال الآلوسي: ومن الناس من جوَّز ذلك إلا أنه استبعد وقوعه فقال (معنى
اقتلوا: ذللوا) ومن ذلك قوله:
إن التي عاطيتني فشربتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
ولولا أن الروايات على خلاف ذلك لقلت به تفسيرًا، ونقل عن قتادة أنه قرأ
(فاقتلوا أنفسكم) والمعنى أن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله تعالى بهذا الفعل
العظيم الذي تعاطيتموه وقد هلكت فاقتلوها بالتوبة والتزام الطاعة وأزيلوا آثار تلك
المعاصي بإظهار الطاعات اهـ.
وقال في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} (البقرة: 56)
بعدما أورد القول المشهور: ومن الناس من قال: كان هذا الموت غشيانًا وهمودًا لا
موتًا حقيقة كما في قوله تعالى: {وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} (إبراهيم: 17) ومنهم من حمل الموت مجازًا كما في قوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ
مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (الأنعام: 122) وقد شاع ذلك نثرًا ونظمًا ومنه قوله:
أخو العلم حي خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماشٍ على الثرى ... يظن من الأحياء وهو عديم
ومعنى البعث على هذا التعليم أي: ثم علمناكم بعد موتكم اهـ.
فما ورد في السؤال معقول وجيه ولم أذكره في تفسير الآيات؛ لأنني لم أتذكر
أن الأستاذ الإمام أورده على أنه ما كان ليغفل مثل هذه الوجوه المعقولة ولعلي نسيت
وسبحان مَن لا ينسى.
__________(6/119)
16 صفر - 1321هـ
مايو - 1903م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استدراك
ذكرنا في هامش صفحة 123 أننا لا نتذكر في أي موضع من التوراة ذُكر
ذلك الحكم الذي أشار إليه الأستاذ الإمام في تفسير الآية ثم ذكرنا أنه في أول الفصل
الحادي والثلاثين من سفر تثينة الاشتراع ونصه:
(إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعًا في الحفل
لا يعلم مَن قتله 2 يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل 3
فالمدينة القربى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث فيه ولم
يزرع ويكسرون عنق العجلة في الوادي 5 ثم يتقدم الكهنة بنو لاوي؛ لأنه إياهم
اختار الرب إلهك ليخدموه ويباركوا باسم الرب وحسب قولهم تكون لك خصومة
وكل ضربة 6 ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على
العجلة المكسورة العنق في الوادي 7 ويصرحون ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم
وأعيننا لم تبصر 8 اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب، ولا تجعل دم بريء
في وسط شعبك إسرائيل فيغفر لهم الدم) اهـ. وقد ذكر معنى ذلك الأستاذ الإمام
في الدرس؛ ولكن جاءت عبارتنا عنه غير كافية، فأوضحناها بهذا الاستدراك.
__________(6/130)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإنجيل الصحيح
(مقدمة كتاب الفيلسوف تولستوي الروسي الذي سماه الأناجيل)
(تمهيد)
ينعق دعاة النصرانية فينا دائمًا: أن القرآن شهد بأن الإنجيل كتاب الله المنزل
على المسيح وأنه حق، فإذا لم تكن هذه الأناجيل الأربعة التي في أيدينا هي كتاب
المسيح فأين هو كتابه؟ وقد سبق لنا في المنار الجواب عن هذا السؤال وبيان أن
إنجيل المسيح - في اعتقاد المسلمين - هو مجموع المواعظ والحكم والأحكام التي
جاء بها المسيح وعلمها بني إسرائيل مع تصديقه للتوراة وأن ذلك لم يحفظ كله، وإنما
حفظ منه شيء ونسيت أشياء كما قال تعالى في أهله {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى
أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظُّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) وما كانوا يعترفون
بهذا ولكن الله عرف نبيه الأمي به فعلم الناس ما لم يكونوا يعلمون.
كانت تعاليم الدين محسوبة في هذه الأمة عند الرؤساء؛ ولكن ما أحدثه
البروتستنت من حرية البحث فيه وما كتبه مؤرخو أوربا الأحرار في التاريخ العام
قد أظهر لنا تفسير قول الله في الإنجيل فكان ذلك من دلائل نبوة نبينا صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم؛ لأنه ضرب من ضروب إعجاز القرآن وآية من آياته
البينات. فإن التواريخ الكنيسية وغير الكنيسية أظهرت لنا أن أتباع المسيح في
زمنه كانوا من العوام الجاهلين، وأنهم مُزِّقوا من بعده في الأرض كل ممزق وكانوا
مُضطهَدين من اليهود والرومان جميعًا حتى قضت السياسة على الملك قسطنطين
بالدخول في النصرانية واتخاذ عصبة جديدة منها. فلما صار لهذه الديانة سلطة
طفقت تنشئ المجامع وتجمع الآثار فظهر عندها أناجيل كثيرة تحكَّم فيها الرؤساء
كما شاءوا وأقروا منها أربعة وحكموا ببطلان ما عداها. وإن كانت هذه الأربعة إلا
تواريخ للمسيح فيها بعض كلامه المأثور عنه منقولاً عن آحاد لا يجزم العقل بصحة
روايتهم كلها ولا بكذبها كلها؛ فالذي يمكن الوثوق به في الجملة أن فيها حظًّا من كلام
المسيح وبقي حظ آخر هو الذي نسوه وليس فيها كلمة تدل على أن أحد مؤلفيها
يدعي أنه جمع فأوعى كل ما قال المسيح؛ بل كانت آخر جملة في الرابع منها قول
يوحنا مؤلفه: (وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن
أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة) اهـ.
وإننا بغض الطرف عن الغلو في العبارة نقول: إن الأفعال الكثيرة المرادة لا بد
أن تكون مصحوبة بأقوال وتعاليم تُركت كتابتها كما تركت كتابة الأفعال، ولعلنا في
جزء آخر نورد بعض أقوال مؤرخي أوربا في ذلك. ونقول الآن: إن العقول المطلقة
من أسر تقليد الكنيسة قد اهتدت إلى ما حكم به الإسلام في الجملة. ومن أكبر هذه
العقول عقل الفيلسوف تولستوى الروسي الشهير فقد ألف كتابًا أرجع فيه الأناجيل
الأربعة إلى إنجيل واحد وحذف منها ما لا يوثق به من الأقوال التاريخية والخوارق
الكونية، وإن كان بعضه صحيحًا. وإننا ننشر في المنار مقدمة كتابه هذا معربة عن
الفرنسية لتكون عبرة للعقلاء وإن كنا لا نسلم بكل ما فيها تسليمًا.
ذكر في أول المقدمة أن كتابه هذا (واسمه الأناجيل) ملخص ارتقائه في
الفكر الذي أعانه على معرفة الحق والصواب في التعاليم المسيحية كما يعتقد الآن.
وثانيها في خلاصة المذهب المسيحي المعروف عند الكنائس لخصه مما يؤثر
عن الحواريين والمجامع وجمهور القسيسين وأضاف إليه شرحًا (يوضح فساد تلك
التعاليم الكنائسية) وثالثها في خلاصة الأناجيل الأربعة وجعلها إنجيلاً واحدًا يحتوي
على التعاليم المسيحية الصحيحة - بحسب ما وصل إليه اجتهاده - ورابعها خلاصة
عامة للمعنى الحقيقي الذي تدل عليه التعاليم النصرانية وللأسباب التي أوجدتها
والنتائج التي تستلزمها.
(قال) : وهذا الكتاب الذي أنشره الآن على رؤوس الأشهاد هو خلاصة
القسم الثالث. ثم قال: (ولقد حاولت في القسم الثالث من مؤلَّفي الكبير الذي سبقت
إليه الإشارة أن أترجم وأنشر الأناجيل الأربعة جملة جملة لا أغفل منها سطرًا واحدًا؛
ولكن رأيت من الواجب أن أتعمد في هذه الخلاصة حذف كل العبارات التي ترتبط
بهذه الموضوعات وهي: الحمل بالمسيح وميلاد القديس يوحنا المعمدان وسجنه
وقطع رقبته وميلاد المسيح ونسبه وهروبه إلى مصر، والمعجزات التي حصلت في
كانا وكفر ناحوم والعزائم لإخراج الجن من أجساد الناس والسير على سطح البحر
ولعن شجرة التين والقيامة وكل ما يشير إلى النبوات التي جاء مصداقها في حياة
المسيح) .
طويت كشحًا عن هذه العبارات لأنها لا تحتوي على شيء مما يتعلق بالتعاليم
المسيحية وإنما لها علاقة ببيان الحوادث التي حصلت قبل تصدر المسيح للتعليم
وفي أثنائه وبعده فليس فيها فائدة في إيضاح حقيقة التعاليم التي جاء بها المسيح بل
يسوغ لنا أن نقول: إنها موجبة للتشويش في فهمها والارتباك في إدراكها ومهما كانت
الوسيلة في ترتيب المعاني على هذه الموضوعات فإنها لا تغير تعاليم المسيح نقضًا
ولا إثباتًا وإنما الغرض منها إقناع الذين لا يعتقدون بألوهية عيسى المسيح ولذلك لم
يكن فيها أقل فائدة لرجل لا يؤثر حكايات الخوارق والعجائب في إقناعه فضلاً عن
كون في نفس تعاليم المسيح الدلائل الكافية على ثبوت ألوهيته) .
(ثم قال) : (وأقول بوجه العموم فيما يتعلق بمخالفة ترجمتي في بعض
المواضع للنص الرسمي المعتمد في الكنيسة: إن القارئ لا ينبغي له أن ينسى أنه من
الخطأ الفاحش والكذب الصراح أن يقال: إن الأناجيل الأربعة هي كتب مقدسة في
جميع آياتها وفي جميع مقاطع كلماتها وإنها مقدسة بحيث يحرم تبديل شيء منها فلا
يصح للقارئ أن ينسى أن عيسى لم يؤلف كتابًا قط كما فعل أفلاطون وفيلون
ومارك أوريل، وأنه لم يلقِ تعاليمه مثل سقراط على رجال من أهل العلم والأدب
وإنما عرضها على قوم من الجهال قد خشنت طباعهم، كان يصادفهم في طريقه.
وإنما جاء بعد مماته بزمان يقارب المئة عام رجال أدركوا مكانة كلماته فخطر ببالهم
أن يدونوها بالكتابة ولا ينبغي للقارئ أن ينسى أن مثل هذه المدونات كانت كثيرة وقد
ضاع معظمها وإن منها ما كان محشوًّا بالخطأ والغلط وأن النصارى قد استخدموا كل
هذه المدونات في أول الأمر حتى اختاروا منها مع توالي الأيام ما ظهر لهم أنه أقرب
للكمال وللصواب - وإن الكنائس حينما اختارت أحسن الأناجيل بين مئات الألوف
من المصنفات التي جادت بها قرائح المشتغلين بالعلم في أوائل النصرانية وقعت
فيما يقوله المثل الروسي: (لا يخلو القضيب من العقد) فأخذت عقدًا كثيرًا من هذه المجامع وأن الغلط في الأناجيل القانونية هو بقدر الغلط في الأناجيل
المهملة لاعتبارها محلاًّ للشك والارتياب. وإن هذه الأناجيل المتروكة تشتمل على
أشياء جميلة قد تعادل ما تضمنته الأناجيل الرسمية! . لا ينبغي للقارئ أنه ينسى
أن تعاليم المسيح هي المقدسة وأن ذلك التقديس لا يتعدى إلى عبارات مسطورة
وكلمات مرقومة وأن اعتبار بعض الكتب مقدسة لا يكفي في إحاطة التقديس بكل ما
جاء فيها إلى آخر سطر منها. فليس الآن في عالم المدنية من يجهل أعمال النقد
التاريخي منذ مئة عام سوى جمهور الناس في بلادنا الروسية فإنهم لا يزالون يعتقدون
بهذا الرأي الساذج وهو أن أناجيل متّى ومرقس وبولس قد كُتبت كما هي الآن وأن
المؤلفين المنسوبة إليهم قد كتب كل واحد منهم ما كتبه على حدته دفعة واحدة.
لا ينبغي للقارئ أن ينسى أن هذا الرأي المبني على الجهل بالمباحث العلمية
إنما تعادل قيمته اليوم قول أسلافنا في القرن الماضي: إن الشمس تدور حول
الأرض.
ولا ينبغي للقارئ أن ينسى أن الأناجيل المجملة المندمجة في بعضها إنما هي
ثمرة المباحث الطويلة ونتيجة سلسلة من أعمال الحذف والزيادة وأنها أثر من
آثار ما أوحاه الخيال على آلاف من الرجال وأنها ليست بنتيجة ما نطق به الروح
القدس على لسان الإنجيليين كما يزعمون.
ولا ينبغي للقارئ أن ينسى أن الأناجيل بشكلها الحاضر لا تتضمن ألبتة شهادة
الحواريين وتلامذة عيسى مباشرة وأن القول بذلك من الخرافات التي لا تصبر على
محك الانتقاد فضلاً عن عدم بنائها على أدنى أساس سوى رغبة نفوس أرباب
التقوى والورع في أن تكون كذلك. فقد توالت القرون والناس يدونون الأناجيل
ويهذبون موضوعاتها، ويتوسعون في عباراتها، ويشرحون أقوالها، فإن أقدم
النسخ التي وصلت إلينا قد تمت كتابتها في القرن الرابع للميلاد وهي مكتوبة على
نسق واحد من أولها إلى آخرها أي بلا فواصل ولا غير ذلك من الإشارات التي
تستعمل لإيضاح الكلمات وبيان الجمل؛ ولذلك دعت الضرورة حتى بعد القرنين
الرابع والخامس إلى تفسيرها بطرائق متخالفة من كل الوجوه وصارت نسخ هذه
الأناجيل تقارب الخمسين ألفًا!
بل يجب على القارئ أن يستحضر في ذهنه كل هاتيك الاعتبارات حتى لا
يعول على هذا الرأي السائد فيما بيننا وهو أن الأناجيل وصلت إلينا صادرة مباشرة
عن الروح القدس بشكلها الحاضر ويجب عليه أيضًا أن يسلم معنا بأنه ليس من
المحرم علينا أن نحذف من الأناجيل العبارات التي لا فائدة فيها وأن نستعين ببعض
معانيها على بيان معاني البعض الآخر بل إن الحرام والكفر كل الكفر هو عدم
التجاسر على فعل ذلك! ! ! وأن نعتقد بتقديس بعض العبارات، وطائفة من
الكلمات، بحيث نرى أنه لا يجوز مساسها على الإطلاق.
هذا، وإنني أسال القارئ الكريم أن يتذكر أنني إذا كنت لا أعتبر الأناجيل
كتبًا مقدسة قد نزلت علينا من السماء مباشرة بوحي من الروح القدس الذي جعلها لنا
عهدًا ووصية، فإنني لا أذهب أيضًا إلى أن هذه الأناجيل ليست إلا آثارًا تاريخية
تدل على حالة التأليف في العلوم الدينية بل إنني مصدق بما حوته من التصور
الديني والتاريخي؛ ولكنني أتصورها بطريقة أخرى ولذلك أرجو من القارئ الكريم
الذي يمعن نظره في ترجمتي بأن لا يترك نفسه في أثناء تلاوتها تسير في طريق
الضلال من حيث الوجهة الدينية أو من حيث الوجهة التاريخية اللتين أقر عليهما
أرباب الآداب وعنوا بهما في هذه الأيام فلست أذهب إلى واحدة منهما دون الأخرى،
فكلاهما في نظري سواء.
لا جرم أنه يستحيل عليَّ أن أعتبر النصرانية وحيًا لا يشوبه شيء أو مظهرًا
مجردًا من مظاهر التاريخ في هذا الوجود؛ ولكنني أذهب إلى أن النصرانية هي
النحْلَة الوحيدة التي تجعل معنى لهذه الحياة ولم يدفعني اللاهوت ولا التاريخ إلى
اعتناق النصرانية! ولكن الأسباب التي حملتني على قبول هذا المذهب هي ما
يأتي: ... ... ... ... ...
(لها بقية) ... ... ... ...
((يتبع بمقال تالٍ)) ... ... ... ... ... ... ... ... ...
__________(6/131)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة تقريظ رسالة الشيخ محمد بخيت
قال المؤلف بعد ما تقدم: ومن هذا القبيل بلا شبهة الاجتماع للصلاة على
النبي صلى الله عليه وسلم لأنها جماع الخير ومفتاح البركات بإجماع المسلمين.
أقول: إن الصلاة على النبي والدعاء له مشروع ولكن لم يقل أحد من السلف
ومن ينظر إلى قوله من الخلف بمشروعية الاجتماع لها وكونها شعارًا دينيًّا يُعيَّن له
وقت مخصوص وصيغ مخصوصة واجتماع مخصوص. وإذا كان الشعار لا يثبت
إلا بشرع كما تقدم فعلى المصلين أن يتحاموا ذلك وليصلوا ويدعوا مجتمعين وفرادى
ما تحاموا جعل ذلك شعارًا. ولا معنى لهذا الإجماع الذي ذكره. فالذين ينعقد بهم
الإجماع لم يُنقَل عنهم هذا القول: (إنها جماع الخير ومفتاح البركات) وإن أراد
أنهم قالوا ما هو بمعناه قلنا: إن معناه غير محدد متعين وما ذاك الذي قالوه بمعناه ومن
الذي نقله بالإجماع؟ الذي يقوله كل مسلم إنها مشروعة وكل مشروع خير نافع
ومفيد وبهذا القدر كفاية.
بدع المواسم:
ثم قال: ومن هذا القبيل الاجتماع لقراءة وسماع نحو قصة المعراج وفضائل
ليلة النصف من شعبان وليلة القدر في لياليها المشهورة؛ لأن الأولى سيرة النبي
وأحاديثه الصحيحة والثانية والثالثة آيات قرآنية وأحاديث نبوية جاءت في فضل
الليلتين وبيان معاني ذلك مما يرغّب في العمل الصالح.
ونقول: الاجتماع لهذه القصص صار له كيفية مخصوصة، ووقت مخصوص
ويكون في المساجد ويقتضي نفقات كثيرة تؤخذ من أوقاف المسلمين بغير حق
فيكثرون فيه إضاءة القناديل والشموع في المساجد والمنائر وتدار في بعض المساجد
أقداح الشراب الحلو على الحاضرين وقد تكون هذه الأقداح من الذهب أو الفضة
وذلك حيث يكون الأمراء ومن يتبعهم من الحكام والعلماء وبعض القصص التي تقرأ
فيها تشتمل على الأحاديث المكذوبة والواهية، لا سيّما قصة المولد التي تدخل في
كلامه بمقتضى كلمة (نحو) .
ثم إن هذا الشعار المبتدع يستتبع بدعًا أخرى كاجتماع أهل اللهو الباطل
المصبوغ بصبغة الدين بطبولهم ومزاميرهم في المسجد يعزفون ويغنون ويصفقون
ويهزأون بأسماء الله تعالى إذ يذكرونها في لهوهم هذا ويجتمع عليهم في بعض
المساجد (كمسجد القلعة) الغوغاء والإفرنج نساءً ورجالاً فيكونون في نظر هؤلاء
سخرية وآية على أن دين الإسلام دين المجانين والحمقى (حاشاه) .
هذا بعض وصف هذه الاجتماعات التي جعلت شعائر إسلامية تقام في بيوت
الله تعالى، ومن يقرأ رسالة المؤلف لا يفهم منها إلا كون هذا الاجتماع المعروف
مشروعًا في الإسلام ومن القرائن أن الناس يرون العلماء يحضرون هذه الاحتفالات،
نعم، إنه قال في جملة أخرى: لا يجوز التكلف في تغيير الصوت في الذكر
والصلاة على النبي e كما يفعله العوام فيمنع، ثم قال: وكذا يمنع كل منكر وكل
شيء اشتمل عليه مجلس الذكر والخير دون نفس الذكر والخير، وهذا القول يشبه
أن يكون احتراسًا من الانتقاد فإن الاجتماعات التي ذكرها معظمها بدع ومنكرات
حتى صار الأقرب أن يؤمر بتكريم ذكر الله أن يكون فيها احترامًا له فإن هذه
الاجتماعات قد تكونت هكذا من المنكرات فلا سبيل إلى إجازتها وجعلها مشروعة
واعتبار المنكرات عرضًا لاحقًا بها يخص بالإنكار دونها. وهذه الآيات وتفسيرها
والأحاديث وشرحها تقرأ في مجالس العلم ولا يخطر في بال أحد أن يقول إنها منكرة.
بل نقول: إن مجالس العلم في نحو الأزهر لا تخلو من منكر في الغالب ولكن ذلك
هو المنكر العارض والأصل في المجلس والاجتماع إفادة العلم واستفادته.
بدع الجنائز:
وقد أحسن المصنف عقيب ذلك في الجزم بحظر ما يكون في الجنائز من
(رفع أصوات المشيعين للجنازة بنحو قرآن أو ذكر أو قصيدة بردة أو يمانية) وعده
ذلك من البدع المذمومة وعلل ذلك بأن النبي e تركه مع قيام المقتضى لفعله قال:
(فيكون تركه سنة وفعله بدعة مذمومة) كما هو الحكم في مثله بل نقل حديثًا رواه
أبو داود مرفوعًا وهو: (لا تتبع الجنائز بصوت ولا نار) . ثم ذكر أن بعض
المتأخرين جوز رفع الصوت بالذكر (مخالفة لأهل الكتاب؛ لأنهم يمشون في الجنائز
ساكتين) رد عليه هذا القول بوجهين: أحدهما اتباع النص الناهي عنه والنافي أن
العلة ممنوعة فإن أهل الكتاب يرفعون أصواتهم في الجنائز لهذا العهد ونزيد عليه
أن هذه العادات سرت إلى المسلمين منهم. ثم قال ما نصه: (وأما ما يفعل في
زماننا أمام الجنائز من الأغاني ورفع الصوت بالبردة واليمانية على الوجه الذي
يفعل في هذا الزمان والمشي بالمباخر فلا يقول بجوازه أحد) ثم بيَّن أن عرف
الناس لا يعتبر في هذا الزمان كما صرح به فقهاؤهم.
أقول قد أحسن في القول بحظر هذه البدع ومثل هذا الذي ذكره في كونه مبتدعًا
مذمومًا ما تقدم الكلام فيه من الاجتماع لقصة المعراج وليلة النصف وليلة القدر وليلة
المولد. وأما العرف المحكم شرعًا فلا معين لاشتراط كونه جرى في عهد الصحابة
وإلحاقه بالإجماع كما قال، وإنما هو العرف الذي يجري في المعاملات الدنيوية
ويتواطأ الناس عليه لموافقته لمصلحتهم وهو لا يخالف نص الكتاب والسنة ولا
يتعلق بالأمور الدينية المحضة.
لا عبرة بسكوت العلماء على المنكر:
وأحسن أيضًا كل الإحسان في قوله بعد إبطال عرفهم فيما ذكر: (وكذا ما
تعارفوه من التغني أي بمدح السلاطين والترضي وغير ذلك وقت الخطبة فإن كل
ذلك ممنوع اتفاقًا يثاب من منعه أو أمر بمنعه كما أن فعل شيء مما علم أنه بدعة
مذمومة شرعًا في بعض المواضع التي يكون بها العلماء كالجامع الأزهر مع
سكوتهم عليه لا يصلح دليلاً على الحل؛ لأن المعول عليه في الأحكام الشرعية هو ما
ذكرنا من الأدلة الأربعة) ، فليتأمل قول هذا العالم الأزهري أولئك العوام الذين
يحتجون على المنار في إنكار بدع الموالد والمساجد بأن العلماء يشاهدونها ولا
ينكرونها بل يقرون الناس عليها. وهذا آخر ما أردنا كتابته في تقريظ هذه الرسالة
الوجيزة انتقادًا واستحسانًا وذلك عناية منا بمؤلفها فما كل مَن كتب يبالى بكلامه.
__________(6/137)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آثار علمية أدبية
(مختصر جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله)
كنا نسمع بكتاب العلم لحافظ المغرب الإمام أبي عمر يوسف بن عبد البر
ونرى النقل عنه في كتب الحديث والأثر فنشتهي أن نراه ونتمنى لو يطبع. وقد
أعطانا الله ما نتمنى، إذ أظفر الشيخ أحمد عمر المحمصاني البيروتي الأزهري
المعروف بحسن اختيار الكتب بنسخة من هذا الكتاب ووفقه لاختصارها وطبعها.
وما كان اختصاره إلا حذف الأسانيد والمكرر. وقد ذيّله بهوامش فسر بها الغريب
من الكلم، ونوه ببعض الفوائد والحكم وجعل في آخره فهرسًا للأعلام ذكر فيه جميع
أسماء الصحابة والعلماء الذين جاء ذكرهم فيه مبينًا مواضعها من الصفحات
والأسطر، وقد بلغت صفحات الكتاب 232 وهو بشكل المنار وطبع بحروف
كحروفه الصغيرة ولا أجد قولاً أقرظه بعد شهرته وبعد صيت مؤلفه إلا أن أتحف
القراء ببعض فوائده وسيكون ذلك في غير هذا الجزء؛ ولكنني أعجل بالنصيحة لأهل
العلم الإسلامي ومحبيه بأن يقرؤوا هذا الكتاب ويقتنوه وثمن النسخة منه خمسة
قروش صحيحة وهو يطلب من مؤلفه بالأزهر ومن إدارة مجلة المنار. ومن جميع
المكاتب الشهيرة في مصر وغيرها.
***
(إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان
وطريق الهجرتين وباب السعادتين)
كتابان جليلان للإمام الحجة شمس الدين محمد بن أبي بكر الحنبلي المعروف
بابن قيّم الجوزية، موضوعهما النهي عن البدع والمحرمات والكلام في الأخلاق
والآداب الدينية والمواعظ والرقاق والاعتصام بالكتاب والسنة، ومثل هذا الإمام
الحافظ هو الجدير بالتأليف في ذلك؛ فقد كان هو وشيخه؛ بل شيخ الإسلام وعلم
الأعلام أحمد ابن تيمية أعلم أهل الأرض بالكتاب والسنة وعندي أنه لا يستغني أحد
يطلب علم الدين عن الاطِّلاع على كتبهما وأن هذين الكتابين يصلحان لإفادة العوام
وإن كان لا يستغني عنهما الخواص. وقد طبع الثاني منهما في هامش الأول وبلغت
صفحات المجلد الذي جمعهما 423 من القطع الكامل وهو يطلب من مطبعة
ومكتبة الحلبي بمصر.
***
(غنية المؤدبين في الطرق الحديثة للتربية والتعليم)
كان حديث الوضع والطبع ألفه الشيخ عبد العزيز شاويش أحد مفتشي نظارة
المعارف العمومية بدأه بمقدمة في تاريخ التربية وجاء فيه بفصول في علم النفس
وفصول في التربية على اختلاف ضروبها، وفصول في أساليب التعليم ونظام
المدارس وفي هذه الفصول فوائد ومسائل لا تكاد توجد في كتاب عربي؛ لأنها
مقبوسة من علوم العرب - وقد تربى المؤلف في أحسن مدرسة لهم وهي مدرسة دار
العلوم بمصر - ومن علوم الإفرنج - وقد تخرج في مدرسة من أحسن مدارس
الإنكليز - وقد تصفحنا صفحات من الكتاب فاستحسنا وضعه ورجونا نفعه ولم ننتقد
فيه شيئًا يضع لذاك الوضع أو يحول دون هذا النفع، وإنما هي كلمات نبت عن
مواضعها، وقضايا لا تؤخذ على إطلاقها.
أما الكلمات فبعضها من تحريف الطبع وبعضها من استعمال المدارس ككلمة
(تخته) فإنها فارسية معناها (الخشب) وتعريبها (تخت) وهو وعاء تصان فيه
الثياب وسرير من خشب أو غيره غلبت في عرش السلطان، واستعمال المؤلف في
اللوح الذي يكتب عليه ومنها ضرب من ضروب التجوز أو التوسع في الكلام بنحو
التعدية والتقديم والتأخير كقوله: (كفى لهم معلم واحد) وقوله في ابتداء كلام:
(كانت تعلم اليهود القراءة) يريد كانت اليهود تعلم. ونحو ذلك من الجمل التي تنكر
بعضها البلاغة وإن عرفها النحو، ومثلها كثير في كلام المعاصرين من الكتاب
والمؤلفين الذين يغفر لهم ما لا يغفر لمعلمهم فن التربية والتعليم مثل صديقنا مؤلف
كتاب (غنية المؤدبين) .
وأما القضايا التي يتنقد إطلاقها فمثل ما حكاه في أول الكتاب عن التربية عند
اليهود وعند العرب فقد ذكر أن التربية كانت عند الإسرائيليين إلى سنة 64 قبل
الميلاد منزلة دينية قال: (فيربو الطفل وليس في قلبه شيء غير الله وجلاله)
وهذه نتيجة فيها مبالغة عظيمة ولا بد أن يكون المؤلف نقلها عن كتاب أوربي
يطري اليهود، والتاريخ يدل على أنهم لم يكونوا في عصر من الأعصار آخذين
بروح الدين بمثل هذه العناية. ومثل ما حكاه عن طريق التعليم عند العرب فإنه إنما
ذكر رأي ابن خلدون في ذلك ولم يذكر ما يذكر ما كان عليه العرب في نفس الأمر.
ومثل هذا لا ينافي كون الكتاب لا نظير له في بابه وأنه ينبغي للمعلمين
والمربين الاستعانة به والاستفادة منه. ويا ليت أهل الأزهر يقرأونه ويطلعون على
ما كتبه واحد كان منهم ثم تعلم بعد علومهم ما لم يتعلموا وقد قال بعض أفاضل
المشتغلين بتعليم فن التربية والتعليم في تقريظ هذا الكتاب كلمة ينبغي أن تكون
فصل الخطاب وهي: إنني كنت إذا أردت إلقاء الدرس في هذا الفن لا أجد ما أقول
إلا بعد بحث واستقصاء وجهد وعناء فلما طبع هذا الكتاب نظرت فيه فأصبت في
كل فصل من فصوله ما ينبغي أن يلقى في الدرس الذي يبحث ذلك الفصل في
مسائله مع زيادات لا يستغنى عنها، ولا بد للمعلم منها، والكتاب يطلب من مكتبة
المؤيد ومكتبة الشعب بمصر.
* * *
(المنتحل للإمام أبي منصور الثعالبي)
الثعالبي من أئمة اللغة والأدب المعروفين وله الكتب النافعة فيهما ومنها هذا
الكتاب الذي أودعه مفردات ومقاطيع من مختار الشعر في ضروب الكلام وشجونه
مما يحسن إيراده في الرسائل والفصول الأدبية والأخلاقية والاجتماعية. ولقد كان
سرًّا مضمرًا في خاطر الدهر حتى وقعت نسخة منه للشيخ أحمد أبي علي أمين
مكتبة البلدية في الإسكندرية وهو من أهل العلم والأدب، وعشاق الفنون فأذاعه بما
حرص على نشرها بالطبع بعد عناء في تصحيحها وتعليق شرح وجيز عليها جعله
كالطراز على مطارف بعض الصحائف.
* * *
(المنتخل في تراجم شعراء المنتحل)
كتاب لطيف لشارح المنتحل وطابعه رتب فيه أسماء الشعراء الذين ألف
المنتحل من مختار كلامهم على حروف المعجم وذكر سيرهم مختصرة مفيدة فكانت
صفحات الكتابين معًا 360 والكتاب طِلْبة المتأدبين وقد طبع على ورق جيد وضبط
ما يستحق الضبط من كلِمه بالشكل وثمن النسخة منه 20 قرشًا صحيحًا وأجرة
البريد قرشان وهو يطلب من طابعه ومن إدارة مجلة المنار بمصر، وإننا نذكر
نموذجًا منه ونبدأ بباب الأمثال والحكم والآداب.
قال امرؤ القيس بن حجر الكندي:
الله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل
* * *
لقد طوقت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
* * *
فإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب
* * *
وجرح اللسان كجرح اليد ...
* * *
وقال طَرَفَة بن العبد:
كفى واعظًا للمرء أيام دهره ... تروح له بالواعظات وتغتدي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً ... على المرء من وقع الحسام المهندِ
إذا ما رأيت الشر يعقب أهله ... وقام جناة للشر فاقعدِ
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزودِ
***
يا راقد الليل مسرور بأوله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
***
كلهم أروغ من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارحة
***
لنا يوم وللكروان يوم ... تطير البائسات ولا تطير
***
وأعلم علمًا ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
***
وقال الأفوه الأودي واسمه صلاة بن عمرو:
تهدي الأمور بأهل الرأي ما صلحت ... وإن تولت فبالأشرار تنقادُ
والبيت لا يُبتنى إلا على عَمَد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتادُ
فإن تجمع أوتاد وأعمدة ... وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا [1]
***
وقال محمد بن مناذر:
يا عجبًا من حاله كيف لا ... يخطئ فينا مرة بالصواب
***
وقال أبو نواس:
كفى حزنًا أن الجواد مقتر ... عليه ولا معروف عند بخيل
***
وأوبة مشتاق بغير دراهم ... إلى قومه من أعظم الحدثان
***
وقال محمود الوراق:
وإذا غلا شيء عليَّ تركته ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
***
ولم أر بعد الدين خيرًا من الغنى ... ولم أر بعد الكفر شرًّا من الفقر
وقال علي بن الجهم:
وعاقبة الصبر الجميل جميلة ... وأفضل أخلاق الرجال التفضل
ولا عار إن زالت عن الحر نعمة ... ولكن عارًا أن يزول التجمل
***
وقال أبو تمام:
ومن لم يسلم للنوائب أصبحت ... خلائقه طرًّا عليه نوائبا
***
وقال أبو الطيب المتنبي:
أهمّ بشيء والليالي كأنما ... تطاردني عن كونه وأطارد
وحيد من الخلان في كل بلدة ... إذا عظم المطلوب قل المساعد
***
إنا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال
***
وقال آخر:
فيا نفس صبرًا إنما عفة الفتى ... إذا عفَّ عن لذاته وهو قادر
دع الوطن المألوف رابك أهله ... وعد عن الأهل الذين تكاشر
فأهلك من أصغى وعيشك ما صفا ... وإن نزحت دار وقلت عشائر
وكيف يُنال المجد والجسم وادع ... وكيف يحاز الحمد والوفر وافر
وهل تحجب الشمس المنيرة ضوءها ... ويستر نور البدر والبدر زاهر
***
وقال آخر:
وكنت إذا خاصمت خصمًا كببته ... على الوجه حتى خاصمتني الدراهم
فلما تنازعنا الخصومة غلبت ... عليَّ وقالوا قم فإنك ظالم
ولما التقينا لجلجت في حديثها ... ومن آية الشر الحديث الملجلج
***
إن الأمير هو الذي ... يضحَى أميرًا بعد عزله
إن زال سلطان الولا ... ية فهو في سلطان فضله
***
شعار الفتى ذم الزمان الذي أتى ... ومن شأنه مدح الزمان الذي مضى
***
(مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر)
صدر الجزء الثاني من هذا الكتاب لمؤلفه جُرجي أفندي زيدان منشئ مجلة
الهلال الشهيرة وهو خاص بتراجم رجال العلم والأدب والشعر ومنهم كُتَّاب الجرائد،
وطريقة المؤلف في التأليف وذوقه في تحرير التاريخ مما لا يحتاج إلى تنويه. ولا
يكاد يوجد قارئ بالعربية إلا ويجب أن يطلع فيه على ترجمة فيلسوف الشرق السيد
جمال الدين الأفغاني وغيره من رجال العلم والأدب كالدكتور فانديك والسيد أحمد
خان وبطرس البستاني والشيخ أحمد أفندي فارس وكمال بك نامق ومحمود باشا
الفلكي وأمثالهم.
نعم، قد انتقد عليه أنه ذكر بعض الأدباء الذين لا يعدون من رجال النهضة
والذين يوجد لهم نظائر وأمثال كثيرون.
والكتاب يطلب من مكتبة الهلال وثمنه 15 قرشًا صحيحًا.
***
(ديوان الرافعي)
لم ينسَ القراء أننا نشرنا مقدمة هذا الديوان في الجزء الأول وقد تم طبع
الديوان مذيلاً بشرح وجيز لشقيق الناظم محمد كامل أفندي الرافعي. ومَن أراد أن
يعرف مكانة هذا الديوان في دواوين الشعر والأدب فلينظر ما قرظه به فرسان هذا
الميدان كمحمود باشا سامي البارودي والشيخ عبد المحسن البغدادي وحافظ أفندي
إبراهيم وغيرهم وإننا ننشر تقريظ هذا الأخير لاختصاره قال:
قد قرأنا نظيمكم فقرأنا ... حكمة كهلة وشعرًا فتيّا
وتلونا نثيركم فشهدنا ... كاتبًا بارع اليراع سريّا
خاطر يسبق العيون إلى القلـ ... ب ويطوي منازل البرق طيّا
ومعانٍ كأنها الروح في الصـ ... يف تهز النفوس هز الحميّا
من بنات المحار يصبو إليها ... تاج كسرى وتشتهيها الثريّا
إيه يا رافعي أحسنت حتى ... لا أرى محسنًا بجنبك شيّا
أنت والله كاتب بدوي ... إن عددناك شاعرًا بدويا
ولا غَرْوَ، فهذا الشاعر في بدايته قد فاق كثيرًا من شيوخ الشعراء في نهايتهم
فنتمنى لو يقبل الناس على ديوانه تنشيطًا للأدب وأهله.
(ورقة الآس)
هي القصة الرابعة عشرة من قصص (مسامرات الشعب) الشهرية كتبها
أحمد بك شوقي شاعر الأمير وقد قرأتها فألفيتها أحسن ما قرأت من هذه القصص
عبارةً وأسلوبًا وتأثيرًا حتى كدت أقول: إنها هي القصة الأولى والأخيرة من هذه
المسامرات. وقد صدر بعدها قصة مصارع الشهوات وقصة الفتاة اليابانية وهي
الأخيرة ومؤلفها حسن أفندي رياض وقد نظرت في التي قبلها فلم أحمد أوائلها وربما
كان ختامها مسكًا.
***
جرائد ومجلات جديدة
(المغرب)
جريدة سياسة اقتصادية علمية أدبية تصدر في مدينة الجزائر باللغة العربية
مرتين في الأسبوع صاحب امتيازها موسيو بيير فونطانا وقيمة الاشتراك فيها
عشرة فرنكات في الجزائر و15 في غيرها وهي على قبح ورقها وسوء طبعها
نافعة للجزائريين المحرومين من الصحف الوطنية العربية التي تعرّفهم بعض
أحوال العالم وشؤون الاجتماع. فنتمنى لها دوام الاعتدال والقصد والرواج في تلك
البلاد.
(الأفكار)
جريدة وطنية إخبارية صحية أسبوعية أنشأها في سان باولو بالبرازيل
الدكتور سعيد أبو جمره صاحب كتابي (حياتنا التناسلية) و (وقاية الشبان) وقيمة
الاشتراك فيها 200 قرش برازيلي في البرازيل وعشرون فرنكًا في سائر الممالك.
وهي جريدة ترجى فائدتها، فعسى أن يتحقق الرجاء.
(الفضيلة)
مجلة أدبية تصدر في مصر آخر كل شهر شمسي لمنشئها سليم أفندي العضم
وقيمة الاشتراك فيها أربعون قرشًا في القطر المصري وثلاثة عشر فرنكًا في غيره
وثلاثون قرشًا لرجال وطلاب العلم. وقد صدر منها جزآن، ثانيهما في شهر أبريل.
(حب العلوم)
مجلة علمية دينية تاريخية انتقادية تصدر بزفتى مرتين في كل شهر لمنشئها
الشيخ عبد الفتاح جاب الله (هكذا) وقيمة الاشتراك فيها خمسة عشر قرشًا ولطلبة
الأزهر وأساتذة المدارس عشرة قروش، وقد أنشئت في أول المحرم من
هذه السنة.
(الصيحة)
جريدة أسبوعية تصدر في طنطا صاحبها محمود أفندي الشاذلي وقيمة
الاشتراك فيها مئة قرش (جنيه مصري) .
(القاهرة)
جريدة تصدر في مصر لصاحبها بشير أفندي يوسف، قيمة الاشتراك فيها
ثلاثون قرشًا وهي تصدر في الشهر مرتين.
(السياسة)
جريدة أسبوعية تصدر في مصر لصاحبها يوسف أفندي كسّاب وقيمة
الاشتراك فيها 60 قرشًا في القطر المصري 25 فرنكًا في سائر الأقطار.
__________
(1) المنار: كاد الأمر: حاول طلبه.(6/140)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(شرف العرب وفضلهم على الأمم)
صدر الجزء الصادر في هذا الشهر من المقتطف بمقالة في عمران العراق
أورد الكاتب فيها ملخص مقالة لجريدة التيمس في شريعة حمورابي (وضبطه
همورابي) جاء فيها أن هذا الملك الشارع العظيم الذي يرى العلماء في أوربا أن
معظم التوراة مستمدة من شريعته - هو من أسرة عربية الأصل. قال: (فالعرب هم
الذين وضعوا تلك الشريعة) ، فحسب العرب فخرًا وشرفًا أن أقدم شريعة عُرفت
في الأرض إلى هذا العهد هي منهم وآخر شريعة وجدت في الأرض وهم ساسة
الأمم ومهذبوها في القديم والحديث.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع
نعم، إنهم قد هضموا أنفسهم منذ قرون فهضمت حقوقهم الأمم حتى صار
يلغط المتطفلون على موائد العلم والكتابة بذمهم والقول بأنهم لا استعداد فيهم للسياسة ,
ولا للحضارة فصدق عليهم قول شاعرهم:
ومَن لم يكرم نفسَه لا يُكرم
ولا طريق لتكريم النفس إلا بالعلم والتهذيب، فأما التهذيب فأهل البداوة منهم
أرسخ الناس عرقًا في أصول الفضائل وهي الشجاعة والشهامة والمروءة والنجدة
والسخاء والوفاء والنصفة. وأهل الحضارة منهم أقوى الناس استعدادًا له. وأما
العلم فآلته الذكاء والعقل، والعرب أذكى الناس أفئدة وأكبرهم حلومًا، ولكن للعلم في
كل زمن طريقًا، فلا بد للعرب كغيرهم من التوصل إلى العلم الدنيوي من الطريق
الذي سار عليه الإفرنج قبلهم فسادوا واعتزوا. وأما علم الدين فهو منهم على طرف
الثمام، فإذا عقل سراتهم هذا فلا يعدون وسيلة لإشراع هذا الطريق وبالله
التوفيق.
***
(البيوت)
المحبة الزوجية
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189) وقال: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} (البقرة: 228) ،
وهي السيادة، فالرجل والمرأة زوجان من نفس واحدة، سعادتهما في سكون كل
منهما إلى الآخر، وشقاؤهما في نفور أحدهما من الآخر. هذا السكون فطري في
البشر والحيوان وإن شئت قلت في الأكوان؛ ولكن البشر أُعطوا علمًا واختيارًا في
التصرف بالفطرة فتارة يكون تصرفهم جاريًا على سننها ونظامها فيرقيها. وتارة
يكون منحرفًا عنه فيفسدها ويدليها، فكل ما تراه من الشقاء في البيوت فسببه فساد
التربية وسوء الاختيار. وقد يصحب هذا الفساد شيء من العلم فيموهه، وقد يكون
مع الجهل فيشوهه، وقد ينتهي الجهل إلى قلب الطباع، وتغيير الأوضاع.
الرجل يسكن إلى الأنثى سكونًا فطريًّا لأنها أنثى وهي تسكن إليه لأنه رجل
وللرجولية صفات تتبعها أعمال كلما قويت في الرجل كان جديرًا بزيادة ميل المرأة
إليه، وللأنوثة صفات تتبعها أعمال كلما قويت في المرأة كانت خليقة بزيادة ميل
الرجل إليها.
فصفات الرجولية الشجاعة والنجدة والسيادة ومن أعمالها الحماية والمدافعة
والكفالة ونحو ذلك، وصفات الأنوثة اللطف والرقة والحياء والدماثة ومن أعمالها
التربية والخدمة كتربية الأطفال وتمريض المرضى؛ ولذلك قلنا في مقالة عقدناها
لبيان مضار تربية النساء الاستقلالية: إن هذه التربية تقرب المرأة من صفات
الرجولية فتفسد فطرتها وتضعف وساطتها بين الأطفال والرجال في نقل الطفل
بالتدريج من طفوليته وإعداده للرجولية؛ وبذلك يقل ميل الرجل وسكونه إليها لأن
الرجل لا يسكن هذا النوع من السكون إلى الأنثى من حيث هي أنثى تمتاز بصفات
مخصوصة تمثل الأنوثة بما يفصلها عن الرجولية.
سكون كل من الصنفين إلى الآخر طبيعي لا يزول ولكن الصفات الطبيعية
المذكورة تزيده قوة وتحفظه برسوخها وتفسده أو تضعفه بضعفها. وقد صارت
الخشونة والزينة من عادة الشبان في المدن التي لا تربية فيها كمصر، فصار
النساء يملن إلى ذلك في الرجال ولو بصرت المرأة التي تحب شابًّا مخنثًا متورنًا
(كثير الزينة والطيب) شابًّا شهم الجَنان شجاع القلب مفردس الصدر ضخم
الكراديس شثن الكفين، سبط الزندين لفضَّلته على حبيبها المخنَّث تفضيلاً! . (هذا
وما، فكيف لو) ولو تربت تربية صحيحة لظهر هذا الميل فيها أقوى فقد جاء في
المقتطف المفيد ما نصه:
ما تستحسنه المرأة في الرجل
(ألقي هذا الموضوع على كثيرات من نخبة الكاتبات الإنكليزيات، فكتبت
سارة يولي تقول: إن المرأة تُعجب بشجاعة الرجل واستقلاله وتود أن يكون زوجها
متسلطًا عليها، ولقد كان ذلك شأنها منذ العصور الغابرة، وإن كان العمران
الحاضر قد ساوى بين الرجل والمرأة في الحقوق؛ لكن الإعجاب بقوة الرجل لا
يزال ديدن المرأة؛ ولذلك تراها تعجب بالجنود لأنهم يمثلون القوة البدنية، وبخَدَمَة
الدين؛ لأن لهم سلطة أدبية ودينية.
وكتبت للياس داندصن: إن المرأة ضعيفة، فتعجب بقوة الرجل سواء كانت
جسدية أو عقلية أو أدبية وهي تطلب رجلاً يسود عليها، فإذا وجدته خضعت له،
وقد غُرس هذا الخلق في فطرتها؛ ولذلك تصف الرجال بما ينقصها، وتعبدهم
ولا يعبأ النساء بالوجه الجميل، ولا ينفرن منه إذا لم يكن جميلاً؛ لأن ليس فيهن
ذوق خاص بالجمال كما في الرجل، وقد خصت الطبيعة الرجل بحب الجمال
وخصت المرأة بالجمال؛ لكي يكون جاذبًا له إليها، وكذلك خص الرجال بالقوة،
فصارت قوتهم جاذبًا للنساء إليهم وهن يُعجبن بالشجاعة والقوة والصبر على
المكاره، هذه هي الفضائل التي تود المرأة أن يكون زوجها متصفًا بها، وهي لا
تسامحه إذا فقد هذه المزايا؛ ولكنها تسامحه إذا فقد غيرها.
وكتبت إدلين سرجنت: إن القوة الجسدية تجذب المرأة والقوة العقلية تسحرها،
والقوة الروحية تتسلط عليها، وسبب ذلك واضح وهو ضعف المرأة، فلا شيء
يستولي على قلبها مثل الاعتقاد بأن زوجها قوي الإرادة أو قوي الذراع.
وكتبت سارة دودني: إن المرأة تعجب بقوة الرجل، ونظرة واحدة إلى رجل
قوي تنسينا مائة وجه جميل، وخطاب فصيح، إلا إذا كانت لنا عيون لا تبصر!
وأقول بالاختصار: إن الشيء الذي تعجب به أكثر من غيره هو القوة والعظمة
مع الميل إلى الحِلم.
وكتبت ماري كنور ليتن: إنه إذا كان في رجل دليل على أنه يفعل فعل
الجبابرة حينما تدعو الحال إلى ذلك فهو الذي تعجب به المرأة أكثر من غيره
وتفضله على غيره، وما من امرأة تعجب بجبان أو تحبه، وليس لجمال المنظر
شأن كبير في عيون النساء.
وكتبت مس إليصابات بنكس: إن الشجاعة والحلم أسمى مناقب الرجال في
عيون النساء، وكل امرأة تحب أن يكون زوجها سيدًا عليها.
وكتبت السيدة ميد: إن المرأة تتبع الرجل إذا كان قويًّا، وتعبده إذا كان مع
قوته كريم الأخلاق.
وكتبت مس أثل هدل: إن كرم الأخلاق خير الصفات التي يتصف بها الرجل.
والكاتبات خمس عشرة من أشهر كاتبات الإنكليز، وقد كدن يتفقن كلهن على
أن المرأة تفضل الشجاعة على غيرها من أوصاف الرجال) اهـ.
وقد سُر القراء بما كتب المقتطف، وكتب إلينا صاحب الإمضاء ما يأتي:
حضرة العلامة المِفضال منشي المنار الزاهر
طالعت في الأخبار العلمية من (مقتطف) شهر مايو الجاري سؤالاً وجهه أحد
علماء الإنكليز لجماعة النساء عن ما تستحسنه المرأة في الرجل، فأجاب عن هذا
السؤال خمس عشرة كاتبة من فُضليات نسائهن، وقد كدن أن يتفقن على أن المرأة
تفضل الشجاعة والقوة على غيرهما من أوصاف الرجل، وقد ذهب بعضهن إلى
ذكر أوصاف لا تخلو من حقيقة، وهو بحث يحق للإنكليزيات أن يفتخرن به؛ إذ
طابق ما جاء في كتابنا الحكيم حكاية عن موسى وابنتي شعيب عليهما السلام في
سورة القصص {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ} (القصص: 26) ؛ ذلك بعد أن سألهما موسى عليه السلام عند الماء عن سبب
ذود غنمهما، {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ
* فَسَقَى لَهُمَا..} (القصص: 23-24) برفْعه الصخرة عن فُوَّهَة البئر
بذراعيه القويتين، وهذا مما يدل على ما كان عليه موسى عليه السلام من القوة
والشجاعة؛ ولذلك أُعجبت إحداهما به، وأرادته زوجًا لها على فقره، وعدم
معرفتها أصله ونسبه، وهذا مما يثبت لنا أن قرآننا الحكيم لم يترك صغيرة ولا
كبيرة إلا أحصاها من أمر هذا الكون العظيم من أخلاق وعادات بني الإنسان، وما
تجري عليه سنن جميع المخلوقات، فسبحان الله العلي العظيم!
ومن موجبات الأسف أنه يوجد بين أيدينا هذا الكتاب الكريم شاملاً لجميع
المطالب، ونحن المسلمين في لهو عنه، وعن محكم آياته، وغيرنا يبحث وينقب
عن الحقائق حتى يجدها، ولو اشتغلنا بما في كتابنا لوجدنا فيه من الفوائد الجليلة
المنافع ما به رفع شأننا دنيا وأخرى، وما كان لأحد أن يسبقنا في مضمار العلوم
والمعارف مادمنا عاكفين عليه؛ ولكن هو الكسل والتقليد الأعمى قد ألقيا على
بصائرنا غشاوة كثيفة لا يزيلها إلا الحض على التعليم الصحيح، دون التفات إلى
ما في المجلدات الضخمة، بل العمل بمقتضى الحال ومجاراة الأمم الراقية بعقول
أفرادها، فإذا نحن جاريناهم في مباحثهم ومطالبهم - وبين أيدينا هذا المرشد
الصادق - فلا شك أننا نصبح على درجة عالية لا يصلها إلا مَن اتبعنا، وعمل
بمقتضى شريعتنا، والسلام. ... ... ... ... ... ... (حسين العقاد)
__________(6/147)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال بمدرسة الشوربجي في كفر الزيات
احتفل في يوم الجمعة الماضي بافتتاح مدرسة مصطفى بك الشوربجي التي
أنشأها في كفر الزيات احتفالاً حضره الجم الغفير من وجهاء العاصمة في مقدمتهم
مفتي الديار المصرية وبعض العلماء وعدلي باشا يكن محافظ مصر وبعض
الأعيان، ومن أصحاب الجرائد صاحب المؤيد وصاحب الوطن وصاحب الجوائب
المصرية وصاحب الرائد المصري وبعض وجهاء الإسكندرية وطنطا وغيرهما من
مدن القطر. وقد سبق لنا ذكر الاحتفال بتأسيس هذه المدرسة في شعبان الماضي
وقد تم بناؤها في نحو ستة أشهر لما للمنشئ - حيَّاه الله تعالى - من الهمة العالية
والعناية الصحيحة في هذا العمل العظيم.
بُدئ الاحتفال بتلاوة آيات شريفة من سورة الفتح وبإنشاد التلميذات والتلامذة
بعض الأناشيد والخطب في فضل العلم والتعليم، ومنهم حفيد وحفيدة لصاحب
المدرسة فخرًا بجدهما وحَقَّ لهما الفخر به.
ثم بعد ذلك دُعي كاتب هذه السطور إلى الخطابة، فقمت، وقلت - بعد
البسملة والحمدلة والتصلية - ما خلاصته:
كنت حضرت الاحتفال بتأسيس هذه المدرسة ودعيت إلى الخطابة فقلت كلمة
شكر وكلمة ترغيب وقد دعيت الآن لقول كلمة أخرى إلا أني أراني في موقفي هذا
غيري في موقفي الأول، أراني في حاجة إلى الاعتذار وما كنت معتذرًا، أعتذر
عن ذنب التقصير قبل ملابسته فإنني أتوقعه؛ لأنه يتنازعني الآن شعوران ملكا
على نفسي أمرها شعور السرور والابتهاج بسماع الكلام العربي الفصيح من
التلميذات، على حين أننا نرى العجائز لا يصححن قراءة الفاتحة، هذا الشعور قد
أبكاني من حيث كان ينبغي أن يضحكني سرورًا ولكن الجو الذي نعيش فيه مملوء
بالمبكيات ولكن تكسرت النصال على النصال، فجفَّت العيون بعد ما كانت تبكي
وصارت لا تجود بالدمع إلا في موقف السرور. والشعور النافي هو أن في هذا
المجلس روحًا عالية تفيض العلم والعرفان في هذه البلاد، وأنا ممن يستمد منها؛
لذلك الخجل أن أعرض شيئًا من العلم في مجلس تحضره هذه الروح العالية.
أعود إلى ذكر الشعور الأول فأقول: إنه منبعث عن روح البر والخير التي
أنشأت هذه المدرسة لإفادة العلم وهي روح مصطفى بك الشوربجي الزكية قد كنت
قلت في كلمتي الأولى: إن إنشاء المدارس أفضل من إنشاء المساجد من حيث إن
المصلي في المسجد إذا كان جاهلاً تكون عبادته فاسدة، وذلك ذنب يستحق العقاب
وفي المدارس يزاح الجهل وتصح أعمال الدين وأعمال وصاحبها يستحق أفضل
الثناء والشكر فيجب أن نشكر لهذا الرجل الجليل عمله والله تعالى يشكره له ويجزيه
عليه أفضل الجزاء.
ثم انتقلت إلى حث الأغنياء على إنشاء المدارس ونشر العلم فقلت: لا أدري
أي فضل وأي فائدة للمال إذا كان صاحبه لا ينفق من فضل ماله في هذا السبيل
وهي أفضل السبل. ثم بينت فساد رأي من يجمع المال لأجل اللذات الحسية وقلت:
لا أرى مثلاً لمن يجمع المال لكنزه في الصناديق أظهر مما ضربه به الإمام
الغزالي للمرابي الذي يجعل المال مقصودًا لذاته في العمل والكسب؛ إذ قال: إنه مثله
مثل من يحبس القاضي العادل الذي يفصل في الخصومات وينصف المظلوم من
الظالم ويترك الناس فوضى يتناهبون ويتواثبون. وإن الذي يقدر على نشر العلم ثم
يقصر فيه أجدر بهذا المثل فإن أهل التعدي ومرتكبي الجرائم إنما يجترحون
السيئات بإغواء الجهل وفساد التربية فإن المربي العالم بما لغيره عليه من الحقوق لا
يسرق ولا يعتدي فإثم جميع الجرائم التي تقع في البلاد على عاتق الأغنياء بل
عليهم تبعة جميع ما نحن فيه من التأخر في العلم والكسب والشئون الاجتماعية.
وإذا كانوا يجمعون المال لأجل الشرف وارتفاع المكانة فقد زال ذلك الزمان
الذي كان يعد فيه التوسع في الإنفاق على احتفالات الأفراح والمآتم والموالد من
الشرف وصارت هذه النفقات منتقَدة ومنظورة بعين السخط من العقلاء والفضلاء.
وأما الإنفاق في طريق العلم فقد كان ولا يزال هو الشرف الأعلى وصاحبه هو
المحمود عند الله وعند الناس بل هو أفضل الناس إذا قام بحقوق المال مع سائر
الحقوق وهو الذي يسمى الغني الشاكر.
يتوهم قوم أن الزهد - الذي يستحبه الدين - عبارة عن اختيار الفقر وتفضيله
والرغبة عن الكسب وهو توهم باطل فإن النبي e فضَّل الأخ المكتسب على الأخ
المنقطع للعبادة. أزيد على هذا أن الحديث الذي استدل به بعض العلماء على أن
الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر قد استدل به نفسه آخرون على أن الغني
الشاكر أفضل، الحديث هو أن بعض الفقراء شكوا للنبي صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم سبق الأغنياء لهم بالخير والأجر؛ لأنهم يصلون مثلهم ويتصدقون بفضول
أموالهم فأمرهم بالذكر والتسبيح والتحميد فرضوا ثم عادوا وقالوا إنهم يفعلون ذلك
فقال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} (المائدة: 54) ، والمتبادر أن الإشارة
إلى المال الذي ينفق في سبيل الله - وسبيل الله هو كل ما فيه فائدة ومنفعة للناس -
وإنما الزهد المحبوب هو أن لا يكون الإنسان عبدًا للمال، وهو زهد النفس.
هذا هو الغني الذي يجمع للإنسان بين خيري الدنيا والآخرة. ويظن بعض
الناس أن عمل الخير لأجل الشرف والمحمدة مذموم في نظر الدين ولا ثواب
لصاحبه عند الله تعالى بل هو مؤاخَذ كما يؤخذ من كتب الصوفية. إن هذا الظن
غير صحيح وما كان الله ليؤاخذ الإنسان على شيء أودعه في فطرته وجعله سائقًا
له إلى كماله وهو حب المحمدة الحقة. وأما المذموم عند الله تعالى وعند الناس هو
حب المحمدة الباطلة والثناء الكاذب ما توعد الله الذين يحبون أن يحمدوا بما فعلوا،
وإنما توعد الذين {وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} (آل عمران: 188) ،
كيف يكره الله تعالى للعاملين حب الثناء بالحق ورفعة الذكر، وقد امتنَّ بذلك على
أفضل العاملين وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال تعالى في خطاب خاتم النبيين:
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشرح: 4) ، وقال تعالى في كل من إبراهيم وموسى
وهارون وغيرهم من الأنبياء: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} (الصافات: 78) ،
أي: تركنا عليه الثناء الحسن.
حب المحمدة الحقة لا ينافي كون العمل الصالح لوجه الله تعالى بل هو معنى
من معانيه. وإننا لن نبلغ نفع الله فننفعه ولن نبلغ ضره فنضره كما ورد وإنما كُلفنا
بعمل الخير لأجلنا لا لأجله؛ فابتغاء وجه الله في العمل هو إرادة المنفعة الباقية به
فإن لكل شيء في هذه الدنيا وجهين: وجهًا إلى الحظوظ الجزئية الفانية ووجهًا إلى
المنافع الكلية الباقية وهذا هو وجه الله تعالى والذي يرضيه ويثيب عليه. والثناء
عليه حق. {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
إذا عرف الناس للعامل المحسن فضله وشكروا له علمه يكون ذلك باعثًا للهمم
إلى المباراة والمسابقة في ميادين الأعمال النافعة، وإن تقدم الأمم وارتقاءها على قدر
مباراة أفرادها في الأعمال النافعة ومسابقتهم في ميادينها. وإذا كان الملوك والأمراء
هم الذين يحفلون بما يكون من أفراد رعاياهم ويقدرون المحسنين قدرهم فلا تسلْ
عن مبلغ تأثير ذلك في تقدم الأمة وارتقائها. أذكر أن السلطان ملكشاه السلجوقي قد
احتفل بعالم نبغ في عصره لا أذكر اسمه الآن وكان من عاداتهم أن يقودوا في
موكب الاحتفال الخيل المسوّمة أمام المحتفَل به وعليها المياثر المونقة. وكان من
عناية السلطان أن مشى في الموكب مشيًا ووضع على عاتقه وظهره ميثرة من
المياثر التي توضع على الخيل، فلامه وزيره نظام الملك في نفسه على هذه
المبالغة في التواضع، وسأله عن السر في ذلك فقال له: سأجيبك عن هذا السؤال
بعد بضع سنين، فلم تمر السنون المعينة إلا وقد نبغ في تلك البلاد عدد عظيم من
العلماء الأعلام، فقال السلطان للوزير: هذا هو جواب سؤالك.
قلت: وأجدر أمراء المسلمين بالعناية بأمر العلم في هذا العصر أمير هذه
البلاد فإنه أعرفهم بقيمة العلم؛ لأنه قد تربى في المدارس العالية وأخذ من العلوم
حظًّا لا نعرف أميرًا مسلمًا يساهمه فيه. فإذا هو أظهر رضاه واغتباطه بمثل هذا
العمل الجليل فلا نلبث أن نرى الأغنياء والوجهاء يتبارون في مثله (قلت هذا
وأمامي مندوب من الأمير يحمل الوسام العثماني من الدرجة الثالثة لمصطفى بك
الشوربجي كما يأتي) .
ثم بعد ختم الكلام بالحث والترغيب دُعي إلى الخطابة إبراهيم بك الهلباوي
فقام واعتذر بمثل ما اعتذرت به وزاد عذرًا ثالثًا وهو أنه لم يكن يتوقع الخطابة ثم
قال إنه يوافق الخطيب الأول في قوله إلا أنه لا يرى حوله إلا ما يسر من الإقبال
على العلم وافتتاح المدارس وذكر حال البلاد قبل ثلاثين سنة وما كانت عليه من
الرغبة عن العلم والتعليم، لا سيما تعليم البنات وقال: إن الأهالي كانوا يعتقدون أن
تعليم العلوم إذا لم يكن مذمومًا بلسان الدين فإنه ليس محمودًا وإن حال العلماء كان
يقوي هذا الاعتقاد فيهم وإن من تحوُّل الحال أن صرنا نرى كبار العلماء تؤسس
المدارس وتحضر احتفالاً وأن أكثرهم يرسلون أولادهم إلى المدارس لابسي
الطرابيش والسراويل الضيقة كسائر أبناء العصر الجديد وخص بالذكر مفتي الديار
المصرية ركن العلم الركين ورئيس الجمعية الخيرية الإسلامية التي تدير عدة
مدارس منتظمة في تأسيسها. وكذلك مدارس جمعية العروة الوثقى. واستطرد من
ذكر الجمعيات إلى الثناء على صاحب الاحتفال مصطفى بك الشوربجي وقال: إنه
صار فينا الفرد يعمل عمل الجمعية كهذا الرجل الفاضل الذي وجه عنايته إلى
تأسيس المدارس المتعددة.
ثم قام بعده جندي أفندي إبراهيم صاحب جريدة الوطن الغراء خطيبًا وقال في
فاتحة كلامه: إن الخطيبين السابقين اعتذرا بما اعتذرا به عن التقصير الذي تقتضيه
مهابة روح العلم الحاضرة وإنه أجدر بالاعتذار لولا أن جرَّأه اعتقاده بحلم العلماء
وإغضائهم ثم قال: إن الخطيبين تكلما في فضل العلم والحث عليه وإنه اختار أن
يجعل معظم كلامه في مكارم الأخلاق فإن العلم لا يفيد بدون مكارم الأخلاق شيئًا
وأطنب في ذلك ما شاء وأثنى على المحتفل بما هو أهله.
ثم رغب مدير الاحتفال إلى الأستاذ الإمام بأن يشنّف الأذان بدُرَر كَلِمه ويحلي
العقول بعقود الجوهر من حِكَمه، فقام واقفًا ولما وقف اضطرب الجمع وطفقوا
يقتربون حتى كادوا يكونون عليه لِبدًا. ولما تكلم امتدت الأعناق، وشخصت
الأبصار. وأصاخت الآذان وخشعت الأصوات، وأمر العازفون بالموسيقى بالكف
عن عزفهم. ولكن الأستاذ كان - لسوء الحظ - قد عرض له شبه بحّة منعته من
رفع الصوت والاسترسال في الكلام حتى ترك لها الدرس في الجامع الأزهر فلم
يُطل القول كما كان يحب هو ويحب الناس وساوى في الاعتذار الخطباء الذين
اعتذروا بمهابته وإجلاله عن الاسترسال في القول والإجادة في الخطابة.
اعتذر بما ذكر وقال إن هذا العذر كاد يمنعه حضور الاحتفال بالمرة كما منعه
الإجابة إلى حضور الاحتفال التأسيسي؛ ولكنه تحمل المشقة للترغيب والتنشيط في
إنشاء بيوت العلم ورؤية هذا الرجل الموفق للخير المسوق إليه بوازع الفطرة
السليمة.
قال: إنني من زمن بعيد كنت أشتهي أن أرى الخير الفطري البسيط في
الإنسان وما كنت أظفر به، رأيت كثيرًا من الأخيار ولكنني كنت أرى الخير فيهم
مركبًا من الاستعداد الطبيعي والتأديب الصناعي لا بسيطًا ساذجًا حتى إذا رأيت
اليوم هذا الرجل مصطفى الشوربجي، رأيت جمال الفطرة الإنسانية في بساطتها
وسذاجتها، رأيت هذا الرجل مسوقًا إلى عمل الخير بسائق حب الخير لا ينبغي به
حمدًا ولا شكرًا إلا وجه الله ومرضاته وإنني أراه مدفوعًا إلى مثل الاحتفال.
ولولا ذلك لم يكن يخطر له ببال على أني موافق على ما قال الخطيب الأول
في حب المحمدة الحقة ولكن هذه مرتبة أخرى لا تكاد توجد إلا في الفطرة السليمة.
رُزق هذا الرجل مالاً فاهتدى إلى إنفاقه في أفضل وجوهه ووضعه في أشرف
مواضعه وليس هذا بالأمر الصغير فقد قال علماء الاقتصاد: إن الدراية والعناية التي
يحتاج إليها في إنفاق المال تزيدان عما يحتاج إليه في جمعه عشرة أضعاف فقلما
يحسن إنفاق المال مَن لم يتعلم هذا العلم في المدارس العالية. ولكننا نرى أكثر
الذين تقلبوا في المدارس وتوسعوا في درس علم الاقتصاد السياسي من أهل بلادنا
هم أشد الناس إسرافًا في المال وتبذيرًا له وقلما يضعون منه شيئًا في موضعه ونرى
هذا الرجل العامي البحت - الذي تربى في الغيطان والمزارع لا في المدارس، فلم
يسمع بهذا العلم - قد وُفق إلى عمل العلماء الراسخين فيه ثم قام يعلم المتعلمين
بحاله كيف ينفقون ويعلم غير المتعلمين بما ينشئ لهم من المدارس كيف يعملون!
ثم قال: أما العلم وفضله والترغيب في نشره فقد تكلم فيه الخطباء وأنا موافق
لهم فيما قالوا لا خلاف بينهم في الواقع فإن الأول تأسف لتأخرنا في العلم بالنسبة
إلى ما نحن في أشد الحاجة إليه واعتبار أن ما عندنا لا يقع أدنى موقع من حاجتنا.
والثاني أظهر السرور والاستبشار من حالنا العلمية بالنسبة إلى ما كنا فيه ولا شك
أنه يوجد فينا حركة نحمد الله عليها (أي إن الخطيب الأول نظر إلى الحال مع
المستقبل والخطيب الثاني نظر إلى الحال مع الماضي وهذا هو الواقع منا حقيقة)
وأما الثالث فقد تكلم عن مكارم الأخلاق وكون العلم لا يفيد بدونها شيئًا. ولا شك أن
مكارم الأخلاق من لوازم العلم الصحيح الذي مدحه الخطباء. ويمدحه جميع العقلاء،
فإنهم يعنَوْن بالعلم ما كان ملكة في النفس والملكة من مادة الملك فمعناها أن يكون
العلم مالكًا للنفس مصرفًا لها في شؤونها.
ولا معنى لمكارم الأخلاق إلا أن تكون إرادة الإنسان تابعة للعلم الصحيح
بوجوه المصالح والمنافع.
فالعلم ومكارم الأخلاق متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر. ومن أطلق العلم
على غير هذا المعنى الذي قلته وقال إنه لا تأثير له في الأعمال ولا في النفس فهو
متجوز أي منتقل عن الحقيقة إلى نقيضها وإن شئت قلت إنه كاذب ولم يفهم معنى
العلم.
ثم ذكر الأستاذ أن الجناب الخديوي قد أرسل مندوبًا من قِبَله لحضور هذا
الاحتفال عناية بصاحبه وإن عنايته بمثل هذا الأمر لها من التأثير في الناس ما
يساوي عناية أمة كاملة به.
قال: وسيكون كلامه هو خاتمة الكلام.
وعند ذلك نهض المندوب وقال الناس وذكر أن مولاه أرسله ليحضر هذا
الاحتفال ويبلِّّّغ صاحبه مصطفى بك الشوربجي أنه مسرور ومغبوط بهذه الخدمة
الجليلة للبلاد ويقلده الوسام العثماني من الدرجة الثالثة وكان الوسام في يده
ومصطفى بك الشوربجي واقف فأعطاه إياه فأخذه ووضعه في جيبه. ولو قلده إياه
تقليدًا لكان أجمل وأكمل. والمزيَّة في هذا الوسام من وجه واحد وهو أن الأمير
أرسله مع مندوب من قبله حضر الاحتفال باسمه فكان كما قال الناس بمثابة حضور
الأمير بنفسه ولولا ذلك لما كان له كبير شأن؛ فإن الرتب والوسامات في مصر
صارت أكثر ابتذالاً منها في الآستانة.
ثم ختم الاحتفال بقراءة آيات من الكتاب العزيز وكان ذلك قبل الظهر، ثم
نُصبت بعده الموائد، فتغدَّى الجموع، وانصرفوا حامدين شاكرين.
__________(6/151)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإصلاح الشرعي في السودان المصري
يتمشى الإصلاح في السودان كتمشي البُرء في السقم ومن فضل الله تعالى
على هذه البلاد أن كان الشيخ محمد شاكر هو قاضي القضاة فيها وحسبك أنه موضع
إعجاب اللورد كرومر فمن دونه من رجال السياسة والإدارة والقضاء الإنكليز الذين
قلما يشهدون لشرقي في هذا الزمن، ولا شك عندي أن رضاء اللورد كرومر وحاكم
السودان العام من هذا الرجل وثناءهما عليه والعناية بإجابة اقتراحاته وتنفيذ
مشروعاته - ولو بالتدريج - من دلائل حسن النية في عمران السودان وإقامة
الشرع الإسلامي فيه إقامة لا نظير لها في بلاد إسلامية في عصرنا هذا.
ذكرنا في الجزء الثاني أن الحكومة السودانية قررت إنشاء مدرسة قضائية
لتخريج القضاة الشرعيين وما ذلك إلا مشروع من مشروعات قاضي القضاة ثم إننا
علمنا مما وصل إلينا من أنباء تقريراته التي رفعها إلى الحكومة آراءً سديدة في
إصلاح المحاكم بجميع فروعها وأعمالها الإدارية والشرعية والمالية. ولم يكتفِ
بهذا حتى اقترح على الحكومة نشر العلم الإسلامي، وعمارة المساجد، وإقامة الشعائر
الدينية.
وقال: إن البلاد السودانية الآن في حاجة إلى بناء خمسين مسجدًا وأن للحكومة
أن تستعين على بنائها بديوان الأوقاف العمومية في مصر. واقترح تعيين رواتب
للعلماء الذين تفلَّتوا من الفتنة السودانية وإعانة تلامذتهم المشتغلين بطلب العلوم
الدينية لتنفخ في الأمة روح الميل إلى العلوم الحقيقة؛ وليكون من هؤلاء التلامذة
طائفة تصلح في المستقبل للوعظ والإرشاد وتعليم العامة وقال في بيان فوائد ذلك ما
معناه:
إن من يتتبع الحوادث المشؤومة الماضية ويسندها إلى عللها وأسبابها الحقيقية
يعلم أن مثارها الأكبر خلط التعاليم الدينية بالتلبيس على العامة والشعوذة والدجل
وإيهام البسطاء بذلك أن أولئك الدجالين المحتالين أولياء الله وأن اتِّّّباعهم واجب
وطاعتهم مفروضة، فعلى الحكومة أن تستأصل جراثيم هذه الخرافات بالتعليم
الإسلامي الصحيح الذي يطهر القول منها تطهيرًا.
ومن الإصلاح الذي سبقت إليه محاكم السودان - ونرجو أن تلحقها فيه محاكم
مصر - الطلاق على الغائب والمعسر؛ فقد كانت المحكمة الكبرى نشرت في سائر
المحاكم منشورًا تأذنها فيه بالحكم في ذلك على مذهب الإمام مالك (رضي الله عنه) .
وقد جاء في تقرير لقاضي القضاة بيان فائدة هذا الحكم، وهو إنقاذ النساء
الضعيفات اللاتي يتركهن أزواجهن بلا نفقة ولا عائل حتى يلجأن إلى خدمة دنيئة
أو تكفف الناس أو ما هو شر من ذلك وهو الكسب بأعراضهن. وفيه أن القضاة قد
طلقوا على الغائبين والمعسرين في مائتي قضية أو أكثر؛ ولكن بعضهم لجهله
وغباوته لم يتحرَّ في الأمر كما يجب فطلقوا في وقائع يعرف فيها مكان الزوج
ويسهل على الحكومة إخباره (إعلانه) بالمحاكمة. وذكر أن مثل هذا الخطأ كثير
في كل فروع القضايا لجهل القضاة ووعد بأن سيتبع المنشور الأول بمنشور آخر
يعلم القضاة فيه الغرض من هذا الطلاق ليسهل عليهم الوقوف عند حدود الحق فيه.
وقال - في مقدمة التقرير الذي قدّمه إلى الحاكم العام وطلب فيه تعميم
المحاكم - ما مثاله: إنني أوجه نظر سعادتكم أولاً إلى أن القضاء عند الأمم الحية
لا يعد من موارد الكسب كغيره من مصالح الحكومة التي يقصد أن يكون ريعها أكثر
مما ينفق فيها، وإنما هو من المصالح الكمالية الضرورية؛ لأنه عبارة عن
إقامة العدل في الأمة ولولا اعتبارات خاصة لما ساغ لحكومة أن تضرب على
إقامة العدل في الرعية ضريبة تحت ستائر الرسوم القضائية؛ فوظيفة المحاكم
الحقيقية هي إقامة العدل وفصل الخصومات لا جباية الأموال وتحصيل الضرائب،
ثم قال: (وإنه ليسرني أن سعادتكم أول من نظر إلى القضاء بعين الرعاية
والعناية، ولا أزال أكرر بمزيد السرور تلك الكلمة التي سمعتها من سعادتكم وهي:
أن الدين الإسلامي غير مقام في البلاد بسبب قلة الدوائر القضائية) ، ثم اقترح
تعميم المحاكم.
وربما عدنا إلى الكلام في ذلك بعد حين.
__________(6/158)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المنار
كتب إلينا محسن الملك سيد مهدي خان ناظم مدرسة العلوم في عليكره وأحد
أركان النهضة الإسلامية في الهند كتابًا، ذكر فيه المنار بما يقتضيه الحب وتنظره
عين الرضى فقال ما نصه:
(قرأنا خاتمة المنار للسنة الخامسة بفرحة وامتنان لا مزيد عليهما. وقد
سرَّنا ما علمنا من أن المنار الإسلامي قد ازداد شهرة وقبولاً في جميع أنحاء الكرة
الأرضية، وصار موضع ثقة العلماء والفضلاء في البلاد العجمية والعربية. ولا
غَرْوَ، فإننا نقطع قطعًا أن مجلتكم هي المجلة الوحيدة التي تخدم الأمة المحمدية
والديانة الإسلامية بجد ونشاط وعزم وثبات وعقل وتدبر وإن مقالاتها الطنانة الرنانة
البالغة حد الإعجاز ما كتب مثلها على ما نعلم عرب ولا عجمي. ولا يستطيع كاتب
هندي أن يصف المجلة حق وصفها مهما أوتي من الفصاحة وحسن البيان فغاية ما
نقول: جزاكم الله خير الجزاء. ومَن قال ذلك فقد أبلغ بالدعاء وبلغ غاية الثناء.
لا شك أن المنار في هذه السنة قد نما نموًّا عجيبًا وانتشر انتشارًا غريبًا في
البلاد المصرية، غير أن شهرته وانتشاره في البلاد الهندية لا يقل عن شهرته
وانتشاره في مصر؛ فإن مئات من مقالاته الحكمية والإسلامية نقلناها في لغتنا
الهندية ونشرناها في جريدتنا الأسبوعية (على كدة أنسيثيوت كزت) ، ثم تناقلتها
الجرائد الإسلامية؛ فقرأها ألوف من قرائنا وقراء سائر الجرائد وحازت رضى
العلماء والفضلاء في المدارس والجوامع والمساجد. ومن غريب الاتفاق أن مترجم
مقالاتكم لجريدتنا هو أيضًا سمي حضرتكم اسمه رشيد أحمد الأنصاري وهو من
محرري جريدتنا ومن مشاهير الكُتاب والمترجمين المجيدين في الهند.
يسرنا أن الحرية التي حلت في ربوع مصر بواسطة الاحتلال لا شك أنكم
تعرفون قيمتها وتقدرونها حق قدرها لاقتصاركم على المباحث الدينية الإسلامية
والمقالات العلمية والفضائل الأخلاقية، واجتنابكم المسائل السياسية، وإننا تجزم
جزمًا أن هذه الخطة التي رسمتموها للمنار هي أسلم له وأضمن للوصول إلى
الغرض المقصود وأوفق وأفيد للمسلمين من الخطة التي سار عليها بعض كُتاب
الجرائد المصرية. الإسلام يأمرنا بالمسالمة والمجاملة وحسن القصد مهما كانت
الظروف والأحوال. فلا ينبغي لمسلم أن يكون عليه سلطان (لعفريت الوطنية
الكاذبة) ، وينبذ بها أوامر دينه ومصالح أمته وراء ظهره. وفق المسلمين لما يحب
ويرضى.
__________
(تنبيه) : لم ننشر في هذا الجزء شيئًا من الكرامات وشبهات المسيحيين؛ لأنه صدر مما قبله.(6/159)
غرة ربيع الأول - 1321هـ
28 مايو - 1903م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العقائد من الأمالي الدينية [*]
الدرس (37)
في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام
(المسألة ال103) حكمة ظهور الإسلام في العرب:
نذكر هنا كلمة من مقالة (إعادة مجد الإسلام) التي كتبناها في الجزء الرابع
من المجلد الثالث هي:
كان العالم الإنساني قبل ظهور الإسلام في غمرة من الشقاء والتعاسة وظلمات
من الفتن وفساد الأخلاق وتداعي أركان المدنية السابقة وصدع بنيانها فأراد الحي
القيوم أن يحيي هذا النوع حياة طيبة ويقيم بناء مدنيته على أساس من الحكمة ليثبت
ويبقى إلى ما شاء الله تعالى، ويبلغ به الإنسان كماله المستعد هو له في أصل الفطرة
القويمة، فأظهر له - جل ثناؤه - الإسلام في الأمة العربية فحملته وطافت به العالم
المستعد لقبوله بما سبق له من المدنية فما كان إلا كلمح البصر أو هو أقرب، حتى
عم نوره المشرق والمغرب، ودخل الإنسان في طور جديد وأقام أركان مدنيته على
أسس جديدة ثابتة لا تتزعزع ولا تتزلزل مادامت الأرض أرضًا والسماء سماءً.
وكيف تتزلزل نواميس الفطرة أو تزول سنن الخليقة وقد أخبر مبدعها الحكيم
الخبير بأنها محفوظة من التبديل والتحويل.
لماذا اختار الله الأمة العربية لهذا الإصلاح على سائر الأمم؟
اختارهم وهو أعلم لأسباب ووجوه:
(أحدها) أنها كانت وسطًا بين الأمم التي سبقت لها المدنية والبلاد التي أقيم
فيها من قبل بناء الحضارة وهي بلاد مصر وسوريا والجزيرة والعراق وفارس،
حيث كان التمدن الكلداني والآشورى والبابلي والفارسي والفينيقي والمصري
واليوناني والروماني فيسهل عليها بذلك أن ترمي بذور المدنية في الأرض القابلة
وتلقي مبادئ الإصلاح في النفوس المستعدة.
(ثانيها) أنها كانت - ولا مدنية لها سابقة (معروفة) - أشد استعدادًا من
تلك الأمم التي سبقت لها المدنية لمبدأ الإصلاح الإسلامي الجديد ووضع أساسه
الأول، وهو استقلال الإرادة واستقلال الفكر والرأي؛ لأنه لم يكن لها رؤساء في
الدين والسياسة يحكمونها بالجبروت والاستبداد فتفنى إرادتها في إرادتهم، وتتلاشى
آراء أفرادها في آرائهم، فلا يرجع إليهم أحد قولاً، ولا يملك لنفسه من دونهم ضرًّا
ولا نفعًا، وأما تلك الأمم فقد كان المرؤوسون فيها ذائبين في رؤساء الدين والدنيا
حتى لم تبق لهم إرادة ولا فكر ولا رأي إلا ما ينفذ إرادة الرؤساء ويمثل أفكارهم
وآراءهم (ومن هنا نفهم حكمة ظهور الإسلام بمظهر السيادة وعناية خلفائه بالفتح
والاستيلاء وهي إزالة ذلك السلطان الغاشم والاستبداد القاهر ليكون الناس أحرارًا
فيما يعتقدون ولهم بعد ذلك الخيار في الإسلام وعدمه إذ {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الغَيّ} (البقرة: 256) وزال المانع من طريق الإدراك والفهم) .
(ثالثها) أن رقة الوجدان وقوة الفهم والإدراك كانتا بالغتين فيها درجة الكمال
بمجرد سلامة الفطرة، وأمة هذا شأنها تكون أقبل الأمم لدين الفطرة الذي جاء يخاطب
العقل والوجدان معًا ويمحو من الكون أثر التقليد الأعمى ويطمس رسومه، وتكون
أسرع انفعالاً بالمؤثرات، وأشد تمسكًا بالمعتقدات.
(رابعها) أنه كان عندها من عزة النفس وشدة البأس وكمال الشجاعة
والحرية الشخصية وما يتبع هذا من الفضائل ما يحملها على حفظ ما تعتقده حقًّا
والاستماتة في المدافعة عنه على حين أمات نفوس الأمم الأخرى وذهب بإرادتها -
ما تواتر عليها من الظلم والاضطهاد أحقابًا طويلة - حتى سهل عليها مشايعة الظالمين
على خذل الحق وتأييد الباطل كما هو واقع في غير أهل البادية من المسلمين لهذا
العهد. وهذا الوجه يقرب في المعنى من الوجه الثاني.
(خامسها) أنه لم يكن عند العرب من التقاليد الدينية شيء يستندون فيه على
وحي سماوي على سلف من الأنبياء أو الحكماء والربانيين فيدافع ما جاء به الإسلام
أو يزاحمه. وإنما كان عندهم الشرك في العبادة الذي يسهل إبطاله بالبرهان، على
وجه يقبله العقل وينفعل له الوجدان، إذا وجد استقلال الفكر والرأي وكذلك كان اهـ.
ونزيد الآن سببًا سادسًا هو السبب الأظهر، والوجه الأنور، ونذكره على
النسق السابق فنقول:
(سادسها) كون العرب أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب ولم تمارس الأحكام
السياسية والمدنية والقضائية. وبيان هذا من وجهين:
(أحدهما) ما فهم من الأسباب السابقة وهو وجوب كون الإصلاح الجديد
الذي احتاجته الأمم كلها غير مشوب بشيء من أمشاج الأديان والمدنيات السابقة؛
لأن تلك الأديان قد انطمست وجوهها وتلك المدنيات قد انقلبت إلى ترف مفسد
وبهيمية محضة. فلو ظهر الإصلاح في أهلها لصدهم عنه ما هم فيه ولضاع الزمن
الطويل في مكافحة الجديد للقديم وكانت الأقوام قد تقيدت بما هي فيه حتى لا طريق
لخروجها منه إلا قارعة من دونهم تحل بهم فتزلزل ما هم فيه زلزالاً!
كانت تلك الأمم تقيم بناء مدنيتها على أركان الدين والعلم والسياسة المنتظمة
وأحكامها، وهذه هي أركان السعادة البشرية في هذه الحياة ولكنها أساءت استعمالها
فلفحها هجير الشقاوة فكانت من تلك الأركان في ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا
يغني من اللهب، بل كان كل ما حل بها من الشقاء هو من دخان ذلك الظل الذي
ذهب بكل نور، فالأديان كانت قد انقلبت وثنية تضل العقول، وتذل النفوس،
والعلوم كانت وسائل الترف، وذرائع السرف، والأحكام كانت سوط البغي والعتو،
وسيف القهر والعلو، فكانت جميع آلات الرقي آلات للتدلي والهويّ.
وكانت العرب في إبان ذلك خلوًا من كل ذلك ولكنها كانت على جهلها وفساد
أخلاقها ترتقي في بداوتها ارتقاءً فطريًّا، وتستعد لقبول الهداية استعدادًا طبيعيًّا،
حتى إذا جاءها العلم والإصلاح كانت كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبًا خاليًا فتمكَّنا
(والوجه الثاني) وهو أوجه الوجوه وأظهر الأسباب والحكم، ظهور الآية
الكبرى والحجة العظمى، ظهور العلم الأعلى، والتعليم الأجلى، على يد أمي نشأ
في الأميين، وتربى بين الجاهلين، ولو نشأ في أمة من تلك الأمم لقيل إنه عالم
نقح العلوم وهذبها، وحرر الشرائع وشذبها، وحكيم نظر في تاريخ البشر فاستخرج
منها الحكم والعبر: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا
لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48) .
(م 104) حال النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته:
لم يكتب الكاتبون في هذا المقام مثل ما كتبه في رسالته الأستاذ الإمام ذلك أنه
بيَّن ما كانت عليه الأمم قبل البعثة من الفساد والشرور ثم قال:
أفلم يكن من رحمة الله بأولئك الأقوام أن يؤدبهم برجل منهم يوحي إليه رسالته،
ويمنحه عنايته، ويمده من القوة بما يتمكن معه من كشف تلك الغمم، التي أظلت
رءوس جميع الأمم؟ نعم، كان ذلك ولله الأمر من قبل ومن بعد.
في الليلة الثانية عشرة من ربيع الأول عام الفيل (20 أبريل سنة 571 من
ميلاد المسيح عليه السلام) ولد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي
بمكة. ولد يتيمًا توفي والده قبل أن يولد، ولم يترك له من المال إلا خمسة جمال
وبعض نعاج [1] وجارية ويروى أقل من ذلك، وفي السنة السادسة من عمره فقد
والدته أيضًا فاحتضنه جده عبد المطلب وبعد سنتين من كفالته توفي جده فكفله من
بعده عمه أبو طالب وكان شهمًا كريمًا غير أنه كان من الفقر بحيث لا يملك كفاف
أهله. وكان صلى الله عليه وسلم من بني عمه وصبية قومه كأحدهم على ما به من
يُتم فقد فيه الأبوين معًا وفقر لم يسلم منه الكافل والمكفول ولم يقم على تربيته مهذِّب،
ولم يُعنَ بتثقيفه مؤدب، بين أتراب من نبت الجاهلية، وعشراء من حلفاء الوثنية،
وأولياء من عبدة الأوهام، وأقرباء من حفدة الأصنام، غير أنه مع ذلك كان ينمو
ويتكامل بدنًا وعقلاً وفضيلةً وأدبًا حتى عرف بين أهل مكة وهو في ريعان شبابه
بالأمين، أدب إلهي لم تجرِ العادة بأن تزين به نفوس الأيتام من الفقراء خصوصًا
مع فقر القَوَّام. فاكتهل e كاملاً والقوم ناقصون، رفيعًا والناس منحطون، موحدًا
وهم وثنيون، سلمًا وهم شاغبون [2] ، صحيح الاعتقاد وهم واهمون، مطبوعًا
على الخير وهم به جاهلون، وعن سبيله عادلون.
ومن السنن المعروفة أن يتيمًا فقيرًا أميًّا مثله تنطبع نفسه بما تراه من أول
نشأته إلى زمن كهولته ويتأثر عقله بما يسمعه ممن يخالطه لا سيّما إن كان من ذوي
قرابته وأهل عصبته، ولا كتاب يرشده، ولا أستاذ ينبهه، ولا عضد إذا عزم
يؤيده فلو جرى الأمر فيه على جاري السنن لنشأ على عقائدهم. وأخذ بمذاهبهم إلى
أن يبلغ مبلغ الرجال، ويكون للفكر والنظر مجال، فيرجع إلى مخالفتهم إذا قام له
الدليل على خلاف ضلالاتهم، كما فعل القليل ممن كانوا على عهده [3] ولكن الأمر
لم يجرِ على سنته بل بُغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره، فعاجلته طهارة العقيدة،
كما بادره حسن الخليقة، وما جاء في الكتاب من قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} (الضحى: 7) ، لا يفهم منه أنه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد أو على
غير السبيل القويم قبل الخُلق العظيم، حاش لله؛ إن ذلك لهو الإفك المبين، وإنما
هي الحيرة تلم بقلوب أهل الإخلاص، فيما يرجون للناس من الخلاص، وطلب
السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين، وإرشاد الضالين، وقد هدى الله نبيه
إلى ما كانت تتلمسه بصيرته باصطفائه لرسالته، واختياره من بين خلقه لتقرير
شريعته.
وجد شيئًا من المال يسد حاجته - وقد كان له في الاستزادة منه ما يرفه
معيشته - بما عمل لخديجة رضي الله عنها في تجارتها وبما اختارته بعد ذلك زوجًا
لها وكان فيما يجتنيه من ثمرة عمله غناءً له وعونًا على بلوغه ما كان عليه أعاظم
قومه؛ لكن لم ترقه الدنيا ولم تُغْرِهِ زخارفها، ولم يسلك ما كان يسلكه مثله في
الوصول إلى ما ترغبه الأنفس من نعيمها، بل كلما تقدم به السن زادت فيه الرغبة
عما كان عليه الناس كافة ونما فيه حب الانفراد والانقطاع إلى الفكر والمراقبة
والتحنث بمناجاة الله تعالى والتوسل إليه في طلب المخرج من همه الأعظم في
تخليص قومه ونجاة العالم من الشر الذي تولاه، إلى أن انفتق له الحجاب عن عالم
كان يحثه إليه الإلهام الإلهي، وتجلي عليه النور القدسي، وهبط عليه الوحي من
المقام العلي، في تفصيل ليس هذا موضعه.
لم يكن من آبائه ملك فيطالب بما سلب من ملكه وكانت نفوس قومه في
انصراف تام عن طلب مناصب السلطان، وفي قناعة بما وجدوه من شرف النسبة
إلى المكان، دل عليهما ما فعل جده عبد المطلب عند زحف أبرهة الحبشي على
ديارهم. جاء الحبشي لينتقم من العرب بهدم معبدهم العام، وبيتهم الحرام، ومنتجع
حجيجهم ومستوى العلية من آلهتهم، ومنتهى حجة القرشيين في مفاخرتهم لبني
قومهم، وتقدم بعض جنده فاستاق عددًا من الإبل فيها لعبد المطلب مئتا بعير وخرج
عبد المطلب في بعض قريش لمقابلة الملك فاستدناه وسأله حاجته فقال: هي أن ترد
إليَّ مئتي بعير أصبتها لي، فلامه الملك على المطلب الحقير، وقت الخطب
الخطير، فأجابه: أنا رب الإبل أما البيت فله رب يحميه، هذا غاية ما ينتهي إليه
الاستسلام وعبد المطلب في مكانه من الرياسة على قريش فأين من تلك المكانة
محمد صلى الله عليه وسلم في حالة من الفقر ومقامه في الوسط من طبقات أهله
حتى ينتجع ملكًا أو يطلب سلطانًا؟ ، لا مال، لا جاه، لا جند، لا أعوان، لا
سليقة في الشعر، لا براعة في الكتاب، ولا شهرة في الخطاب، لا شيء كان عنده
مما يُكسب المكانةَ في نفوس العامة، أو يرقى به إلى مقامٍ ما بين الخاصة.
ما هذا الذي رفع نفسه فوق النفوس، ما الذي أعلى رأسه على الرؤوس، ما
الذي سما بهمته على الهمم، حتى انتدب لإرشاد الأمم وكفالته لهم كشف الغمم بل
وإحياء الرمم؟ ما كان ذلك إلا ما ألقى الله في روعه من حاجة العالم إلى مقوم لما
زاغ من عقائدهم، ومصلح لما فسد من أخلاقهم وعوائدهم، ما كان ذلك إلا وجدانه
ريح العناية الإلهية ينصره في عمله، ويمده في الانتهاء إلى أمله، قبل بلوغ أجله،
ما هو إلا الوحي الإلهي يسعى نوره بين يديه فيضيء له السبيل، ويكفيه مؤنة الدليل،
ما هو إلا الوعد السماوي، قام لديه مقام القائد والجندي، أرأيت كيف نهض
وحيدًا فريدًا يدعو الناس كافة إلى التوحيد، والاعتقاد بالعلي المجيد والكل ما بين
وثنية مفرقة ودهرية وزندقة.
نادى في الوثنيين بترك أوثانهم ونبذ معبوداتهم وفي المشبهين المنغمسين في
الخلط بين اللاهوت الأقدس وبين الجسمانيات بالتطهر من تشبيههم وفي الثنوية
بإفراد إله واحد بالتصرف في الأكوان ورد كل شيء في الوجود إليه، أهاب
بالطبيعين ليمدوا بصائرهم إلى ما وراء حجاب الطبيعة فيتنورا سر الوجود الذي
قامت به، صاح بذوي الزعامة ليهبطوا إلى مصاف العامة في الاستكانة إلى سلطان
معبود واحد هو فاطر السموات والأرض والقابض على أرواحهم في هياكل كل
أجسادهم. تناول المنتحلين منهم لمرتبة التوسط بين العباد وبين ربهم الأعلى فبين
لهم بالدليل وكشف لهم بنور الوحي أن نسبة أكبرهم إلى الله كنسبة أصغر المعتقدين
بهم وطالبهم بالنزول عما انتحلوه لأنفسهم من المكانات الربانية إلى أدني سلم من
العبودية، والاشتراك مع كل ذي نفس إنسانية في الاستعانة برب واحد يستوي
جميع الخلق في النسبة إليه لا يتفاوتون إلا فيما فضل به بعضهم على بعض من علم
أو فضيلة.
وخز بوعظه عبيد العادات وأُسراء التقليد ليعتقوا أرواحهم ما استعبدوا له،
ويحلوا أغلالهم التي أخذت بأيديهم عن العمل، وقطعتهم دون الأمل، مال على
قراء الكتب السماوية والقائمين على ما أودعته من الشرائع الإلهية فبكّت الواقفين
عند حروفها بغباوتهم، وشدد النكير على المحرفين لها الصارفين لألفاظها إلى غير ما
قصد من وحيها اتباعًا لشهواتهم. ودعاهم إلى فهمها، والتحقق بسر علمها، حتى
يكونوا على نور من ربهم. ولفت كل إنسان إلى ما أودع فيه من المواهب الإلهية
ودعا الناس أجمعين ذكورًا وإناثًا عامة وسادات إلى عرفان أنفسهم وأنهم من نوع
خصه الله بالعقل وميزه بالفكر وشرفه بهما وبحرية الإرادة فيما يرشده إليه عقله
وفكره، وأن الله عرض عليهم جميع ما بين أيديهم من الأكوان وسلطهم على فهمها
والانتفاع بها بدون شرط ولا قيد إلا الاعتدال والوقوف عند حدود الشريعة العادلة
والفضيلة الكاملة. أقدرهم بذلك على أن يصلوا إلى معرفة خالقهم بعقولهم وأفكارهم
بدون واسطة أحد إلا مَن خصهم الله بوحيه. وقد وكل إليهم معرفتهم بالدليل كما كان
الشأن في معرفتهم لمبدع الكائنات أجمع والحاجة إلى أولئك المصطفَين إنما هي في
معرفة الصفات التي أذن الله أن تعلم منه، وليست في الاعتقاد بوجوده.
وقرر أن لا سلطان لأحد من البشر على آخر منه إلا ما رسمته الشريعة
وفرضه العدل ثم الإنسان بعد ذلك يذهب بإرادته إلى ما سخرت له بمقتضى الفطرة،
دعا الإنسان إلى معرفة أنه جسم وروح وأنه بذلك من عالمين متخالفين وإن كانا
ممتزجين وأنه مطالَب بخدمتهما جميعًا وإيفاء كل منهما ما قررت له الحكمة الإلهية
من الحق. دعا الناس كافة إلا الاستعداد في هذه الحياة لما سيلاقون في الحياة
الأخرى وبيّن لهم أن خير زاد يتزوده العامل هو الإخلاص لله في العبادة والإخلاص
للعباد في العدل والنصيحة والإرشاد.
قام بهذه الدعوة العظمى وحده ولا حول له ولا قوة، كل هذا كأنه منه والناس
أحباء ما ألفوا وإن كان خسران الدنيا وحرمان الآخرة أعداء ما جهلوا وإن كان
رغد العيش وعز السيادة ومنتهى السعادة. كل هذا والقوم حواليه أعداء أنفسهم
وعبيد شهواتهم لا يفقهون دعوته. ولا يعقلون رسالته. عقدت أهداب بصائر العامة
منهم بأهواء الخاصة. وحجبت عقول الخاصة بغرور العزة عن النظر في دعوى
فقير أمي مثله لا يرون فيه ما يرفعه إلى نصيحتهم والتطاول إلى مقاماتهم الرفيعة
باللوم والتعنيف.
لكنه في فقره وضعفه كان يقارعهم بالحجة ويناضلهم بالدليل ويأخذهم
بالنصيحة ويزعجهم بالزجر وينبههم للعبر ويحوطهم مع ذلك بالموعظة الحسنة كأنما
هو سلطان قاهر في حكمه، عادل في أمره ونهيه أو أب حكيم في تربية أبنائه شديد
الحرص على مصالحهم رؤوف بهم في شدته رحيم في سلطته.
ما هذه القوة في ذلك الضعف؟ ما هذا السلطان في مظنة العجز؟ ما هذا العلم
في تلك الأمية؟ ما هذا الرشاد في غمرات الجاهلية؟
إن هو إلا خطاب الجبروت الأعلى، قارعة القدرة العظمى نداء العناية العليا.
ذلك خطاب الله القادر على كل شيء الذي وسع كل شيء رحمة وعلمًا، ذلك نداء
أمر الله الصادع يقرع الآذان ويشق الحجب ويمزق الغلف، وينفذ إلى القلوب على
لسان من اختاره لينطق به واختصه به وهو أضعف قومه ليقيم من هذا الاختصاص
برهانًا عليه بعيدًا عن الظنة بريئًا من التهمة؛ لإتيانه على غير المعتاد بين خلقه.
أي برهان على النبوة أعظم من هذا؟ أمي قام يدعو الكاتبين إلى فهم ما
يكتبون وما يقرءون، بعيد عن مدارس العلم، صاح بالعلماء ليمحّصوا ما كانوا
يعلمون، في ناحية عن ينابيع العرفان جاء يرشد العرفاء، ناشئ بين الواهمين هب
لتقويم عوج الحكماء. غريب في أقرب الشعوب إلى سذاجة الطبيعة وأبعدها عن
فهم نظام الخليقة والنظر في سننه البديعة أخذ يقرر للعالم أجمع أصول الشريعة
ويخط للسعادة طرقًا، لن يهلك سالكها ولن يخلص تاركها.
ما هذا الخطاب المفحم؟ ما ذلك الدليل الملجم؟ أأقول: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ
هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يوسف: 31) لا، لا أقول ذلك؛ ولكن أقول كما أمره الله
أن يصف نفسه: إِن هو بشر مثلكم يوحى إِلَيه: نبي صدّق الأنبياء، ولكن لم يأتِ
في الإقناع برسالته بما يلهي الأبصار أو يحير الحواس أو يدهش المشاعر؛ ولكن
طالب كل قوة العمل فيما أعدت له واختص العقل بالخطاب، وحاكم إليه الخطأ
والصواب، وجعل في قوة الكلام وسلطان البلاغة وصحة الدليل مبلغ الحجة وآية
الحق الذي {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) . ا. هـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) نشر الدرس السادس والثلاثون في الكراسة 42 من المجلد الخامس (ص331) وشُغلنا بعد ذلك بمقالات الإسلام والنصرانية - وأم القرى مع التفسير - عن تتابع مقالات العقائد وكان ذلك الدرس في نبوة خاتم النبيين والحاجة إلى عمومها والاستعداد العام لها، ووعدنا فيه ببيان حكمة كونه من العرب وبيان ارتقاء الدين من كلام الأستاذ الإمام، وهذا الثاني قد ذكرناه في غير الأمالي؛ فلا نعيده.
(1) قيل: خمس وقيل تسع.
(2) استشهد له بقصة اختلاف القبائل أيهم يضع الحجر الأسود في موضعه يوم بناء الكعبة، وكادوا يقتتلون لولا أن أصلح بينهم بما أرضاهم جميعًا.
(3) كأمية بن أبي الصلت وعمرو بن نفيل.(6/173)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الكرامات والخوارق
تتمة المقالة العاشرة
(المسألة الخامسة والعشرون) ذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته أن الكرامة
على قسمين: كرامة حسية كالمشي على الماء، وكرامة معنوية وهي التوفيق لكمال
المحافظة على حدود الشريعة ظاهرًا وباطنًا وما ينشأ عن ذلك من العلوم والمعارف
الإلهية. وذكر أن الأكابر لا يحفلون بالكرامات الحسية وأن أعظم كرامة عندهم
العلم بالله تعالى والدار الآخرة وما تستحقه الدار الدنيا وما خُلقت له ولأي شيء
وُضعت حتى يكون الإنسان من أمره على بصيرة من حيث كان فلا يجهل من نفسه
ولا من حركاته شيئًا. بل قال: إن الكرامة ليست إلا العلم. أما المعنوية فظاهر أن
العلم بمداها وثمرتها وأما الحسية فإنه يشترط أن تكون بتعريف إلهي وهو عين العلم.
ونقول: إن هذه الكرامة المعنوية لا ينكرها أحد وكلها نفع وليس فيها ضرر ولا
خداع فإن العلم نور لا ظلمة فيه. والولي المحمدي لا يليق به التعويل على غير
هذه الكرامة فإن آية نبيه الكبرى معنوية والكرامة قبس من نور المعجزة كما يقولون.
(المسألة السادسة والعشرون) ذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته أيضًا أن
الخوارق التي تحصل على أيدي الصالحين قد يكون فيها مكر خفي واستدراج،
وشرط لصحة كونها كرامة أكرم الله بها العبد لا مكرًا به ولا استدراجًا له أن تكون
ناتجة عن استقامة أو منتجة لاستقامة وأن تكون بتعريف إلهي. هذا ما اشترطه
شيخ الصوفية الأكبر، وهو مخالف لما في كتب علماء الظاهر من كون الكرامة هي
الأمر الخارق للعادة الذي يظهر على يد عبد ظاهر الصلاح. ولو اعتبر بهذا وما
قبله الذين يعتدون المصادفات الغريبة كرامات وإن ظهرت على أيدي المستورين أو
الفاسقين لكفوا من غلوائهم.
(المسألة السابعة والعشرون) أن الكرامة في عرف العامة هي الفصل الذي
يميز طائفة من الناس يسمونهم الأولياء والولي في اللغة الناصر والمتولي للأمور
وقد نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من دونه أولياء وقال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} (البقرة: 257) ، وأولياء الله هم أنصار دينه والمميز لهم كمال الاتباع المعبر عنه
بالتقوى، فكل مؤمن تقي ولي وليس عمل الغرائب ولا صدور الخوارق دليلاً على
التقوى ولا على الولاية؛ قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ
يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس: 62-63) ، وفي الباب السادس
والثمانين بعد المئة من الفتوحات المكية أن تارك الكرامات هو المتحقق باتخاذ الحق
وكيلاً له امتثالاً لقوله تعالى: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} (المزمل: 9) .
(المسألة الثامنة والعشرون) يستدل العامة على ثبوت وقوع الكرامات
للأولياء بقوله تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} (الزمر: 34) وهي جراءة
على تحريف القرآن فاشية فيهم، وإنما الآية في أهل الجنة في الجنة وقد اختزلوا
منها هذه الجملة فكان استدلالهم بها على أن الأولياء يعطيهم الله في الدنيا ما يشاؤون
من الخوارق كاستدلال بعض المتلاعبين على تحريم الصلاة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ ... } (النساء: 43) وترك القيد وهو قوله: { ...
وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (النساء: 43) ، وأكثر الذين رأيناهم يستدلون على الكرامة بما
ذُكر جاهلون بما عدا تلك الكلمة من الآية؛ ولهذا نكتبها لهم بتمامها، وهي {تَرَى
الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي
رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ ... } (الشورى
: 22) ، ثم قال بعدها: { ... ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ} (الشورى: 23) ...
إلخ، فأنت تراها بشارة للمؤمنين العاملين بما سيكون لهم من الجزاء في الآخرة،
فهي كقوله تعالى - بعد ذكر الجنة ودخول المتقين فيها -: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا
وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (ق: 35) ، فأين ذلك من حديث الخوارق في الدنيا؟ !
(المسألة التاسعة والعشرون) أن الاعتقاد بالكرامة ليس من أصول الإيمان،
التي يكلف المؤمن باعتقادها كما تقدم وإنما ذكروها في كتب الدين؛ لما تقدم من
الاستدلال على وقوعها بالكتاب في قصة أم موسى وأم عيسى عليهما السلام. وقد
علم من المقالة الرابعة أن قصارى ما يدل عليه الكتاب هو الإلهام الصحيح للأولى
وتمثل الملك الروح الثانية ومكالمتها وذلك من مقدمات نبوة ولديهما كحبل مريم بنفخ
الروح فيها. فمثل هذا لا يقاس عليه لأنه آية لم تأتِ على قياس؛ لأن زمن النبوة قد
انقطع فلم يبق إلا تحكيم العلم في مسألة الخوارق فما أثبته فهو الثابت وما نفاه فهو
المنفي وما توقف فيه فالوقف حتم إلى أن يتجلى فيه شيء.
(المسألة الثلاثون) لنا أن نجعل الدين معينًا للعلم في البحث عن الخوارق
التي تحقق وقوعها وذلك أن الدين علمنا أن وراء العالم المحسوس عالمًا غيبيًّا لا
تستقل الحواس بإدراكه. ومن حكم الدين في الأخبار بهذا توجيه همة الإنسان إلى
شيء أرقى من هذه المحسوسات التي تشاركه فيها البهائم والحشرات حتى لا يقف
باستعداده غير المحدد عند هذه الحدود القريبة. وإن للعالم الغيبي اتصالاً بعالم
الشهادة المحسوس ومنها أرواحنا التي بها نحيا وندرك.
وهذه المسألة تنفعنا في تعليل كثير من الوقائع التي تسمى خوارق وهي
خوارق عادات حقيقة؛ ولكنها ليست خوارق للسنن الإلهية فإذا لم تظهر لها سنة
حسية جليلة فإن لها سنة معنوية خفية. وهذه التعليلات والتأويلات الآتية من قبيل
تعليل علماء المادة كثيرًا من الظواهر الطبيعية بالأثير يسندون إليه الآثار وإن لم
تدركه الأبصار بل هي أظهر منها وإننا نجعل هذه المسألة آخر المسائل التي نجلي
بها مبحث الخوارق والكرامات. فعلم من هذا أنه ليس في الدين دليل على وقوع
الخوارق لغير الأنبياء إلا في وقائع متصلة بهم ومتعلقة بظهورهم وأن المعول عليه
فيما وراء ذلك هو العلم والاختبار.
وسترى أنواع الخوارق في المقالات التالية وحكم العلم والاختبار فيها.
* * *
المقالة الحادية عشرة
في أنواع الكرامات وضروب التأويل
ما رأيت أحدًا توسع في الكلام على الكرامات كالتاج السبكي في الطبقات
الكبرى؛ ولذلك جعلنا كلامنا في المقالات الأولى معه. وقد تكلم في أنواع الكرامات
وقال: إن بعض المتأخرين عدد أنواع الواقعات من الكرامات فجعلها عشرة وهي
أكثر من ذلك وأنا أذكر ما عندي فيها، ثم ذكر خمسة وعشرين نوعًا لا تخلو من
تكرار وتداخل ثم قال: وأظن أن أنواع كراماتهم تبلغ المئة، وقد زدت عليه في
خاتمة كتاب (الحكمة الشريعة في محاكمة القادرية والأحمدية) أنواعًا مشهورة
عنهم. وإننا نسرد هذه الأنواع المشهورة ونحرر القول فيها. ونشير إلى وجوه
التأويل التي تعتريها فنقول:
(النوع الأول: إحياء الموتى)
ذكر السبكي فيه حكايات في إحياء نحو دابة ودجاجة وحدأة وطفل صغير وقع
من سطح فمات ثم قال: لا يثبت عندي أن وليًّا حيي له ميت مات من أزمان كثيرة
بعد ما صار عظمًا رميمًا ثم عاش بعدما حيي زمانًا كثيرًا، هذا القدر لم يبلغنا ولا
أعتقده وقع لأحد من الأولياء ولا شك في وقوع مثله للأنبياء عليهم السلام. فمثل هذا
يكون معجزة ولا تنتهي إليه الكرامة فيجوز أن يجيء نبي قبل اختتام النبوة بإحياء أمم
انقضت قبله بدهور ثم إذا عاشوا استمروا في قيد الحياة أزمانًا. ولا أعتقد الآن أن
وليًّا يحيي لنا الشافعي وأبا حنيفة حياة يبقيان معها زمنًا طويلاً كما عمّرا قبل الوفاة
ولا زمانًا قصيرًا يخالطان فيه الأحياء كما خالطاهم قبل الوفاة. اهـ كلامه.
أقول: إذا كان يعترف بأن الشيخ عبد القادر الجيلي أحيا الدجاجة بعد أكلها
مطبوخة! ، فلماذا يستنكر على مثله إحياء الشافعي وأبي حنيفة وبماذا يفرق بين
الإحياءين؟ ! إن كان الكلام في الجواز وعدمه فهو حكم عقلي لا يختلف باختلاف
الأشخاص، وإن كان الكلام في الوقوع فهو يتوقف على المشاهدة أو السماع من
المعصوم أو النقل بالتواتر الصحيح عن أحدهما ولا شيء من ذلك بثابت إلا ما حكى
الله تعالى من قول عيسى عليه السلام: {وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران
: 49) ، ولم يقل إنه أحيا ميتًا أو أمواتًا مضى على موتهم من الزمن الطويل؛
حتى صاروا رممًا بالية ثم عاشوا بين الناس وحدثوهم بما كان من أمرهم بعد الموت،
ولو فعل هذا لما بقي أحد إلا وآمن به.
ولسنا نريد أن عدم النص والتصريح بأنه أحيا الموتى بالفعل يقتضي أنه لم يقع
منه إحياء حقيقي بالفعل أو أن المراد بالموتى موتى الجهل والكفر وبالإحياء الهداية
إلى الإيمان والحق كما قال المأوِّلون وإنما نريد أن السبكي لا يجد نصًّا يؤيد به
دعواه وأنه متحكم، وإن كان مصيبًا في قوله وِفاقًا للقشيري: إن الكرامة لا تبلغ
مبلغ المعجزة ويظهر أن الميزان الذي يزن به هذه الأحكام هو عظمة الأشخاص أو
الأصناف في نفسه فلما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعظم الناس قدرًا أعطاهم
إحياء العظام الرميم وكون من يحيونه يعيش الزمن الطويل، وأعطى الأولياء إذا
كانوا دونهم إحياء الطيور والأطفال!
كان للنصارى غرام بنقل الآيات والخوارق والأمر الغريب إذا اشتهر بين
الناس لا ينسى وإن كان سنده واهيًا أو موضوعًا. ولم ينقل القوم عن المسيح أنه أحيا
العظام الرميم بل روى لوقا في آخر الفصل الثامن من إنجيله أن ابنة رئيس المجمع
ماتت وأن المسيح قال: (لا تبكوا لم تمُت لكنها نائمة 53 فضحكوا عليه عارفين
أنها ماتت 54 فأخرج الجميع خارجًا وأمسك بيدها ونادى قائلاً: يا صبية قومي،
فرجعت روحها وقامت في الحال) اهـ. وروى يوحنا في الفصل الحادي عشر
من إنجيله قصة إحياء (لعازر) أخي مريم ومرثا وكان المسيح يحبه ويحبهما
وكان مرض فأخبر المسيح تلاميذه بأنه نام وأنه يريد إيقاظه ويعني أنه مات فجاء
معهم من أورشليم إلى قرية بيت عينا، حيث كان لعازر وأختاه وكان قد مات
ووضع في مغارة منذ أربعة أيام فجاءها وأمر برفع الحجر ورفع هو عينيه إلى فوق
وقال: أيها الأب أشكرك؛ لأنك سمعت لي وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي
ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتني، ولما قال هذا صرخ
بصوت عظيم لعازر هلم خارجًا فخرج الميت ... إلخ.
هذا ما رووه وهو على انقطاع إسناده ليس في شيء مما قال السبكي. أما حكاية
البنت فيحتمل أنها كانت في نوم حقيقي كما هو ظاهر قوله. وأما الحكاية الثانية
فإننا معشر المؤمنين نسلم بها إذا صح نقلها بالتواتر وإن كان ملاحدة النصارى قالوا
فيها باحتمال المواطأة بين المسيح ولعازر على ما كان (نعوذ بالله من كفرهم)
وباحتمال أن يكون ذلك من قبيل النوم الطويل فقد ثبت أن من الناس من ينام عدة
أسابيع أو عدة أشهر ثم يستيقظ بسبب أو بدون سبب، ولولا ما ثبت في القرآن من
نبوة المسيح وتأييد الله تعالى له بإحياء الموتى لكان التأويل متعينًا فليس عندنا نقل
متواتر يعتد به.
هذا، وإننا خرجنا عن الموضوع بإدخال المعجزة في البحث. والذي نقوله
في هذا النوع من حيث عدُّه في الكرامات إنه لم يثبت والأصل عدمه. وإن ما أورده
السبكي من الحكايات ينطبق على القاعدة التي قررها في طبقاته وهي عدم جواز
إظهار الكرامة إلا لأمر عظيم يضطر إليها حتى إنه انتحل تطبيق ما أورده من
الكرامات المأثورة عليها. وكان ينبغي له أن يطبقها على قاعدته الأخرى وهي عدم
بلوغ الكرامة مبلغ المعجزة فيقول: إن إحياء الموتى لا يكون من الكرامات ولا عبرة
بتلك القصص والحكايات.
هذا، وإن المشعوذين في أوربا وغيرها يخيلون للناس أنهم يذبحون الإنسان
فيبينون رأسه عن جثته ثم يحيونه ويطمع العلماء بأن يرتقي العلم بالناس إلى
مستوى يهتدون فيه إلى إعادة الحياة لمن تفارقه بعد زمن قريب! ومنهم طائفة من
الروحيين تشتغل بالبحث عن طريق مناجاة أرواح الموتى ولا يبعد أن يجيء يوم
يظهر لهم فيه أن ما روي من إحياء سيدنا عيسي للبنت ولعازر.
وإحياء سيدنا محمد لابن جابر قد كان بسُنة إلهية خفية وهو إمداد الأرواح
القوية العلوية للأرواح الضعيفة السفلية حتى تعود بإذن الله إلى التصرف بالجسد
وإذا لم يطل على مفارقته الأمد. وقد سبق الإلماع إلى أن آيات الأنبياء عليهم السلام
إذا كانت جارية على سنن إلهية روحانية يكون ذلك أليق بكمال الله عز وجل مما إذا
كانت بمحض القدرة لما فيه من اتفاق القدرة على النظام والحكمة وذلك كمال في
القدرة لا نقص فيها.
* * *
(النوع الثاني: تكليم الموتى ورؤية الأرواح)
قال السبكي: هو أكثر من النوع الذي قبله وروى مثله عن أبي سعيد الخزاز
رضي الله تعالى عنه ثم عن الشيخ عبد القادر رضي الله تعالى عنه وعن جماعة
من آخرهم بعض مشايخ الشيخ الإمام الوالد ولست أسميه.
ونقلت في كتاب (الحكمة الشرعية) عن الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي
ما حكاه عن نفسه في الفتوحات المكية (باب 311) وهذا نصه: (ولقد كنت
انقطعت في القبور مدة منفردًا بنفسي فبلغني أن شيخنا يوسف بن يخلف الكرمي قال:
إن فلانًا وسماني ترك مجالسة الأحياء وراح يجالس الموتى، فبعثت إليه وقلت: لو
جئتني لرأيت من أجالس، فصلى الضحى وأقبل إليَّ وحده ما معه أحد، فطلب علي
فوجدني بين القبور قاعدًا مطرقًا وأنا أتكلم على من حضرنى من الأرواح فجلس إلى
جانبي بأدب قليلاً قليلاً فنظرت إليه فرأيته قد تغير لونه وضاق نفسه وكان لا يقدر
يرفع رأسه من الثقل الذي عليه وأنا أنظر إليه وأتبسم، فلا يقدر أن يتبسم لما هو فيه
من الكرب فلما فرغت من الكلام وصدر الوارد خفف عن الشيخ واستراح ورد وجهه
إليَّ فقبل بين عيني فقلت له: يا أستاذ مَن يجالس الموتى أنا أو أنت؟ ! قال: لا
والله بل أنا أجالس الموتى والله لو تمادى علي الحال فطست. وانصرف وتركني
فكان يقول: من أراد أن يعتزل عن الناس فليعتزل مثل فلان) اهـ.
وأقول الآن: إن مثل هذه الحكاية منقول عن الصوفية بكثرة وهو من
خوارق العادات المألوفة المعروفة؛ ولكنه ليس خارجًا عن السنن الإلهية، ولا
خارقًا للنواميس الكونية. ولا علاقة له بالأمور الدينية، وإنما الروح الإنساني مستعد
في أصل الفطرة لإدراك عالمه؛ ولكنه يشغل عنه بعالم الجسد الذي يكون كل شغله
به من أول النشأة وهذا الاستعداد يكون قويًّا في بعض الناس فإذا اهتدى من يكون
قويًّا فيه إلى استعماله يزداد قوة حتى يتمكن من رؤية الأرواح المجردة أي: التي
تفارق الأجساد ويقوى على خطابها وللإفرنج في هذه السنين عناية بهذا الأمر
واشتغال به كبير، ويروى عنهم في استحضار الأرواح ومكالمة الموتى أضعاف ما
روي عن الصوفية من الوقائع؛ ولكنهم مع ذلك لم يبلغوا فيه مبلغ الصوفية فيما أظن
ولا يبعد أن يسبقوهم في يوم من الأيام؛ لأن جد هؤلاء الإفرنج ومثابرتهم على
الأعمال التي يهتدون إلى طريقها من الغرابة بمكان.
هذا ما يقال في التأويل لمن صحت عنده الروايات عن الأولين والآخرين. ومن
الناس من يقول: إن كل ما يروى في هذا المقام غير حقيقي وإنما هو من ضروب
الشعوذة والسيمياء يخيلون فيه للناس ما لا حقيقة له في الواقع وقد ذكر الصوفية أن
بعض المشاهد الروحية يكون في عالم الخيال، وبعضها يكون في عالم المثال، وقد
أطلنا هذا البحث في كتاب (الحكمة الشرعية) فكتبنا فيه 35 صفحة، ومنه: قال
حجة الإسلام الغزالي (رحمه الله تعالى) في كتابه (المنقذ من الضلال) في الثناء
على الصوفية: (حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون
منهم أصواتًا ويقتبسون منهم فوائد) وفي المواهب اللدنية للقسطلاني أن الغزالي قال
في تفسير حديث: (مَن رآني في المنام فقد رآني حقًّا) وحديث: (مَن رآني في
المنام فسيراني في اليقظة) ، ليس معنى قوله: (فقد رآني) أنه رأى جسمي
وبدني وإنما المراد أنه رأى مثالاً صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في
نفسي إليه. وكذلك قوله (فسيراني في اليقظة) ليس المراد أنه يرى جسمي وبدني
(قال) : والآلة تارة تكون حقيقة وتارة تكون خيالية والنفس غير المثال المتخيل،
فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا شخصه، بل
هو مثاله على التحقيق، فعلم بهذا أن الغزالي يريد برؤية الأرواح رؤية مثل
متخيلة لها؛ ولكنه قال في المنقذ بعد ما تقدم: ثم يرتقي الحال من مشاهدة الصور
والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق الناطق.
وذكر الشعراني في كتابه (اليواقيت والجواهر) جماعة كانوا يرون النبي e
في اليقظة منهم الشيخ قاسم المغربي، ونقل عن الشيخ قاسم المذكور أنه قال:
وأكثر ما تقع رؤية النبي e يقظة بالقلب ثم تترقى إلى رؤية البصر (قال) :
وليست رؤية النبي e كرؤية بعضنا بعضًا وإنما هي جمعية خيالية وحالة برزخية
وأمر وجداني لا يدرك حقيقته إلا من به باشره اهـ.
ففهم أن الإنسان لا يزال يفكر في الميت الذي تتوجه إليه نفسه ويعمل في
إخطاره على قلبه حتى يتخيل أنه يراه معه؛ لأنه يغيب عن عالم الحس ويستغرق في
عالم الخيال.
وذكر الشعراني في ميزانه عن شيخه علي الخواص أن الأئمة المجتهدين كانوا
يرون النبي e يقظة ويسألونه عن الأحكام المشكلة. ولو كانت هذه الرؤية حقيقة
مطردة لما اختلفوا؛ إذ لا يمكن أن يجيبهم بأجوبة مختلفة في المسألة الواحدة؛ ولما
توقفوا في بعض المسائل، فإن صح قوله فهي الجمعية الخيالية وهي لا تزيد
الإنسان على ما في نفسه على أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ادعى ذلك.
وفي الذهب الأبرز (ص44 و45) من النسخة المطبوعة بمصر سنة
(1292) أن ابن المبارك سأل الشيخ عبد العزيز الدباغ عن استحضار صورة النبي
e في ذهن المؤمن هل هي من عالم الروح أو من عالم المثال أو من عالم الخيال؟
قال: فأجاب رضي الله عنه بأن ذلك الاستحضار من روح الشخص وعقله فمن
توجه بفكره إليه صلى الله عليه وسلم ووقعت صورته في ذهنه فإن كان ممن يعلم
صورته الكريمة لكونه صحابيًّا أو من العلماء الذين عنوا بالبحث عنها ثم حصلوها
فإنها تقع في فكره على ما هي عليه في الخارج. وإن كان من غير هذين فإنه
يستحضره في صورة آدمي في غاية الكمال في خلقه وخلقه فقد توافق الصورة التي
في فكره ما في الخارج وقد تخالفه، والحاضر في الفكر هو صورة ذاته صلى الله
تعالى عليه وسلم لا صورة روحه عليه الصلاة والسلام فإن الذي شاهده الصحابة
رضي الله تعالى عنهم وأخبر عنه العلماء هو الذات لا الروح الشريفة ولا يجول
الفكر إلا فيما يعلمه الشخص ويعرفه. فقولكم: هل هو من عالم الروح؟ إن أردتم
به الاستحضار فهو من عالم الروح أي: من روح المتفكر. وإن أردتم به الحاضر
أي: فهل الحاضر في أفكارنا روحه صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فقد سبق أنه ليس إياها، وأما المحادثة والمكالمة إذا حصلت لهذا المتفكر فإن كانت ذاته طاهرة
وتحبها روحه ولم تحجب عنه أسرارها وكانت معه كالخليل مع خليله فالمحادثة
معصومة وهي حق وإن كانت الذات على العكس فالأمر على العكس والله الموافق
اهـ.
وما ذكره أخيرًا من الحكم في المحادثة فيه غموض ولا أقول هنا كما قلت في
الحكمة الشرعية: إن فيه وقفة ظاهرة.
ثم قال ابن المبارك: إنه ذكر لشيخه رجلاً من الصالحين كان يذكر الله مع
جماعة من أصحابه فما كان من أحدهم إلا أن تبدل لونه وتغير حاله وبدل جلسته هل
هذه المشاهدة التي وقعت لهذا الرجل مشاهدة فتح أو مشاهدة فكر؟ فقال: مشاهدة
فكر لا مشاهدة فتح ومشاهدة الفكر وإن كانت دون مشاهدة الفتح إلا أنها لا تقع إلا
لأهل الإيمان الخالص والمحبة الصافية والنية الصادقة. وبالجملة فهي لا تقع إلا
لمن كمل تعلقه بالنبي e وكم واحد تقع له هذه المشاهدة فيظنها مشاهدة فتح وإنما
هي مشاهدة فكر. وهذا القسم الذي يقع له هذه المشاهدة وهو غير مفتوح عليه إذا
قيس مع عامة المؤمنين كانوا بالنسبة إليه كالعدم ويكون إيمانهم بالنسبة إليه كلا
شيء والله أعلم.
قال ابن المبارك: ومما يؤكد هذه المشاهدة الفكرية وأنها تقع لغير المفتوح
عليه كونها تقع لمن كملت محبته في شخص، وإن كان غير النبي e ولقد أخبرني
بعض الجزارين أنه مات له ولد كان يحبه كثيرًا وأنه لم يزل شخصه في فكره حتى
أن عقله وجوارحه كلها معه فكان هذا دأبه ليلاً ونهارًا إلى أن خرج ذات يوم إلى
باب الفتوح أحد أبواب (فاس) حرسها الله تعالى لشراء الغنم على عادة الجزارين
فجال فكره في أمر ولده الميت فبينما هو يجول فكره إذ رآه عيانًا وهو قادم إليه
حتى وقف إلى جنبه. قال: فكلمته وقلت له: يا ولدي خذ هذه الشاة - لشاة اشتريتها
-حتى أشتري أخرى، وقد حصلت غيبة قليلة عن حسي فلما سمعني مَن كان قريبًا
أتكلم مع الولد قالوا: مع مَن تتكلم أنت؟ فلما كلموني رجعت إلى حسي وغاب الولد
عن بصري فلا يدري ما حصل في باطني من الوجد عليه إلا الله تبارك وتعالى اهـ.
وقلت بعد إيراد هذا في (الحكمة الشرعية) : وظاهر أن هذا الرجل قد
انطبعت صورة ولده في خياله , ولشدة اشتغاله به وضعف شأن المحسوس الذي هو
آخذ به بالنسبة إليه غاب عن حسه وتلاشى تحت قوة سلطان خياله فتمثلت له صورة
ولده المطبوعة في خياله بشرًا سويًّا فحدثه وهْمُه بأنه يراه حقيقة فخاطبه بما خاطبه
به حتى إذا تنبه بتنبيه آخر لم يَرَ شيئًا. وهذه الرؤية من قبيل الأحلام المنامية.
وقد رأيت امرأة مخبولة تخاطب الأموات وتخبر عن حالهم عند ما يمرون في خيالها:
هذا فلان يقول كذا هذا فلان يقول كذا، وكثيرًا ما تكون الغيبة عن الحس للعشاق
باستحواذ الخيالات والأوهام عليهم حتى إن أحدهم لفرط شغفه واشتغال فكره
بمعشوقه يمثله له خياله فيتوهم أنه موجود أمامه حقيقة فيقابله بما يليق به من الآداب،
ويرفع إلى أعتاب جنابه ما شاء من العتاب وفي ذلك قال قائلهم:
يمثلك الشوق الشديد لناظري ... فأطرق إجلالاً كأنك حاضر
ومنه الحكاية عن عاشقة تقول:
فليس نومًا خفض رأسي إنما ...
أسجد للطيف الذي قد سلّما ...
فإنني استزرته توهما ...
فزارني ورقّ لي ترحما ... لما رأى في الجفن فعل السهدِ
وقال لي بالله ما أضناكي ...
قد كلّ عنك نظر الإدراكِ ...
نامي بجفني فاقصدي مناكي ...
كما تريه أنت أو يراكي ... فليس لي بغير ذا من جهدِ
ومثل هذا في كلامهم كثير وفيه يقال: الجنون فنون، وكل حزب بما لديهم
فرحون!
(النتيجة)
إن ما نقل عن كثير من عباد المسلمين والنصارى وغيرهم من رؤية الأنبياء
والأولياء والرؤساء الروحيين صحيح فإن حال الأشخاص في الرائين والناقلين في
بعض الوقائع ليس فيها شائبة الكذب؛ ولكن هذا ليس من الخوارق الحقيقية ولا تلك
المشاهدات دليل على أن صاحبها على الحق وإنما هو تأثير الحب والشغف وكثرة
الفكر والتخيل في الشيء مع تأثير الوجدان به يضعف الحواس، ويقوي الوسواس،
فيغيب صاحبه عن حاله، ويحضر مع خياله. ومن الناس من كان يستعين على
إثارة رواكد الخيال بما يضعف الحواس والعقل من المخدرات كالحشيشة المعروفة
فقد كان أول من استعملها الباطنية والمتصوفة ولذلك كانت تسمى حشيشة الفقراء
كان شيوخهم يشغلون فكر المريد ببعض الأموات المعتقدين أو بالجنة مثلاً ويناولونه
شيئًا من الحشيشة فتخدر حواسه فيتجسم ما في خياله من الصورة التي كان وجَّهه
الشيخ إليها فتتمثل له في صورة بديعة وما كان المريدون يعلمون بأن لما تناولوه من
الحشيشة تأثيرًا فيما رأوه وإنما كانوا يعتقدون أنه تصرف روح الشيخ في عوالم
الملكوت وإدناء بعض ما فيها من عالم الملك.
وأنت ترى أن هذا الذي قلناه في تفسير رؤية الأرواح ومكالمتها مأخوذ من
كلام كبار الصوفية ولم نفتحره افتحارًا. وإنني أعترف بأن ما قاله الشيخ عبد
العزيز الدباغ فيه هو كرامة من كراماته المعنوية فإنه كان رجلاً أميًّا وفتح الله عليه
بالمعارف العالية وأكرمه بحل كثير من المشكلات الفلسفية كهذه المسألة والمشكلات
الدينية أيضًا على أنني لا أسلم بكل ما نقل عنه ولا أقول إنه معصوم أو محفوظ من
الخطأ. وما قاله في إيمان من يرى النبي e رؤية فكرية خيالية لا ينافي ما قلناه
آنفًا من كون هذه المشاهدات لا تدل على حقية اعتقاد صاحبها فصاحب الإيمان
الصحيح في الأصل تجعل إيمانه إيمانًا وجدانيًّا فيكون أقوى من إيمان غيره.
وكذلك صاحب الاعتقاد الباطل فهي تقوى في نفس صاحبها ما هو فيها حقًّا كان أو
باطلاً كما فعلت بإيمان الذين تمثلت لهم السيدة مريم عليها السلام وهم يعتقدون أنها
أم الله - تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا - فثبت بهذا أن هذا النوع ليس من الخوارق في
شيء.
ورأيت أن كلام الصوفية الذي حل الإشكال يشير أو يصرح بأن وراء هذه
المشاهدات الخيالية والمكالمات الوهمية شيئًا آخر أعلى منه وهو إدراك الأرواح
إدراكًا صحيحًا، والاستفادة منها استفادة حقيقية لم يكن يعلمها المرء من قبل وهذا
شيء لا يمكن أن يعرفه إلا مَن ذاقه وهو جائز، وإن لنا من الثقة بصدق بعض
المخبرين به أكثر مما لأهل هذا العصر من الثقة بأهل أوربا إذ يصدقونهم بكل
شيء غريب يقطعون بثبوته وإن لم يعرف دليلهم هؤلاء المصدقون.
وإذا ثبت هذا النوع لبعض الأولياء والأصفياء لاستعداد فيهم قوَّاه استعماله
وسمي كرامة لهم فلا ينبغي أن تعتقد أنه جاء مخالفًا للسنن الإلهية في الخلق ولا أن
تصدق أحدًا من الناس بخصوصه يدعيه؛ لأنه مما لا يمكن إثباته لغير من ذاقه ومن
ادعى ما لا يمكن إثباته فهو أحمق أو مجنون لا يبالَى به وهذا الذي قررناه حجاب
دون اغترار العامة ببعض الدجَّالين وهو غرضنا الأول من كل ما كتبناه في
الخوارق والكرامات.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/184)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اليهود والماسونية وحَدَثُ الوطنية
اليهود
لا يوجد شعب في الدنيا كشعب إسرائيل في تمسكه بالرابطة الملِّية، والعصبية
الجنسية، فهم يحبون ويحاولون أن يحولوا جميع منافع الشعوب الذين يعيشون
معهم إليهم. ولولا أنهم يعتقدون أن دينهم خاص بهم لا يجب عليهم الدعوة إليه
لحاولوا إرجاع جميع الأديان إليه بالهمة التي يحاولون بها تحويل قوى الشعوب كلها
إلى منفعة بني إسرائيل وكل هذا - لولا غلو فيه - من الفضائل التي يحمد صاحبها
عليها؛ ولكن الغلو في حب الذات كالتقصير فيه كلاهما من الأمور الضارة بصاحبها؛
لهذا نرى هذا الشعب مضطهَدًا من جميع الشعوب والأمم لا يتسع له صدر إلا
صدر المسلمين، ألم تَرَ أن الذين تطردهم الممالك وتخرجهم من أرضها لا يجدون في
الغالب ملجأً إلا بلاد الدولة العلية حتى بلاد فلسطين التي يطمعون أن يستقلوا بها
ويحدثوا فيها ملكًا جديدًا.
* * *
الماسونية
جمعية سياسية سرية تكونت في أوربا - خلافًا لما يزعمون من قدمها -
لمقاومة استبداد رؤساء الدنيا من الملوك والأمراء ورؤساء الدين من البابوات
والقسيسين الذين كانوا متضافرين على استعباد الناس وحرمانهم من نور العلم
والحرية، وقد اتفق على تكوينها اليهود والنصارى؛ ولذلك جعلوا
رموزها وإشاراتها منتزعة من الكتاب المشترك الذي يسمى الكتاب المقدس وأسندوها
إلى بناة الهيكل المقدس هيكل سليمان عليه السلام وهو المسجد الأقصى. وقد قامت
هذه الجمعية بعملها على أحسن وجه ولم يعد لها الآن عمل في تلك البلاد وإذ كان
منشئوها والمنشأة لهم من غير المسلمين كان فيها أمور متعددة تخالف الإسلام، وكان
الداخل فيها عرضة لمخالفة دينه إلا أن يكون عالمًا متمكنًا!
ثم إن الإفرنج عندما تغلغلوا في الشرق ورأوا مزاج السيادة الإسلامية لا يقبل
مشاركًا له في حكمه فهو يجيش انفعال جميع المسلمين لنبذ سلطة كل من يحاول
السيادة عليهم استعانوا بالماسونية على إضعاف هذا المزاج وتوسلوا إلى بعض
كبراء المسلمين وأغنيائهم بما توسلوا واستعانوا عليهم بنصارى بلادهم ويهودها
فأدخلوا طائفة منهم وبقي أكثر المسلمين إلى اليوم يعد الماسونية نزغة من نزغات
الكفر أو وسيلة إليه، إلا أن الشعب المصري سريع الانقياد إلى التقليد؛ ولذلك كثر
الداخلون في هذه الجمعية من أهله على أن أهلها يتنصلون من الأديان ويدعون عدم
التعرض لها بحال.
ولما هاجر السيد جمال الدين حكيم الشرق وموقظه إلى هذه البلاد رأى من
استبداد إسماعيل باشا الخديوي الأسبق ما يزيد على ما كان في أوربا من الاستبداد
ورأى أن الجمعية الماسونية تجر هذه البلاد إلى أوربا بخيوط سياسية خفية؛ ولكنها
متينة قوية فهي كالخيوط التي يربط بها المشعوذ التماثيل التي يلعب بها وراء الستار
فيحسب الصبيان أنها هي التي تلعب بنفسها، وكذلك كانت مصر ألعوبة في أيدي
الأوربيين. فأراد السيد رحمه الله أن يربي فيها رجالاً يعرفون كيف يحفظون بلادهم
وأنفسهم فوجَّه همته إلى استخدام الماسونية في تعليم تلامذته ما لا يمكن التصريح به
إلا في جمعية سرية فدخل في الماسونية ودخل معه تلامذته النابغون فجعل بهم قوة
للمصريين وصار رئيس محفلهم، ولكنه كان غاليًا في مضادة الإنكليز لما كان من
زحفهم على بلاده ولما كان يعتقد من طمعهم في مصر وقد صرّح به كتابةً فقاوموه
حتى اضطروه إلى ترك الماسونية مع كبار حزبه ولم يكن للماسونية عمل في مصر
لمصر إلا في تلك المدة، ثم إن الماسونية صارت في مصر آلة لبعض زعمائها في
جلب المنافع ثم كثر فيها الغوغاء حتى قلّ احترامها وانطلقت الألسنة بالطعن فيها
وليس هذا مما يعنينا الآن.
* * *
حدث الوطنية
شاب يعرف قراء المنار أنه يلغط بالوطنية على غير هدى وإن له جريدة
أنشأها لتعظيم شخصه باسم الوطنية وللانتقام لشخصه بكل اسم. يمقت كل مَن ليس
مصري الأصل لأجل مصر، ويمقت من المصريين الأصلاء من ليس مسلمًا
لأجل المسلمين، ويمقت كل مصالح المسلمين لأجل شخصه فهو لنفسه علة
العلل. في كل قول له وعمل، وإليك هذا الشاهد العادل:
مفتي الديار المصرية مصري الموطن ويشغل في مصر أكبر الوظائف الدينية
ويرأس جمعية خيرية ليس لها ثانية لخدمة مسلمي مصر وهو في علوم الدين والدنيا
وفي كبر العقل وقوة الإرادة مفخر المسلمين ومفزعهم يرجعون إليه في الدفاع عن
دينهم وفي قضاء حوائجهم ويرون أكبر خدمة قام بها للإسلام تفسير القرآن الشريف
على طريقة روحية عمرانية تظهر أن القرآن الحكيم ينبوع السعادة الدينية والمدنية
في كل عصر.
ولكن هذا الرجل خلق من طينة الجد فهو لا يقيم وزنًا للأحداث المتنفجين
فينزلهم منزلة العدم، لا يحترمهم ولا يحتقرهم. وحدث الوطنية يحب أن يدهن له
كل عظيم فهو لا يحب مفتي الديار المصرية. وكان ينبغي أن يعامله بالمثل لا
يعظمه ولا يتطاول ويتسلق ويتعالى لغمط حقه فإذا لم يستطع صبرًا فلينتظر له هفوة
يتيسر له التلبيس بها على العامة بأنها تضر بالوطن الذي يدعي حبه أو الإسلام
الذي يتألف حزبه؛ ولكن من الناس من يبلغ من نفسه مبلغًا لا يصل أحد إليه إلا
بخذلان من الله! ! !
انظر الفرص التي ينتهز مثلها حدث الوطنية: كان مفتي الإسلام في جماعة
من (كبار الوطن العزيز) قد ركبوا مركبة مما أعدته الحكومة للمدعوين لحضور
احتفال خزان أسوان فحاول أحد الخَدَمة من الإفرنج إنزالهم منها ليركب فيها نساء
من قومه فانتهره المفتي فعاد خائبًا. ولما علم بذلك زعيم الوطنية بزعمه بادر إلى
إرسال رسالة برقية إلى جريدته جعل عنوانها (إهانة المفتي) وحكى القصة على
غير وجهها، فهذه هي الوطنية الحقة التي يتنفج بها يفتخر بأن خادمًا أجنبيًا أهان
أكبر رجال (الوطن المحبوب) وما أهانهم ولكنه يفتخر بما يفتجر ويفتحر.
وإن تعجب فاعجب مما قصصناه من فرصة هذا الوطني التي اغتنمها لخدمة
الوطن ما نقصّه الآن من فرصة هذا المسلم التي اغتنمها لخدمة الإسلام بل لتأييد
بعض ماسون اليهود في الاحتجاج على تفسير القرآن:
إن نبذة التفسير التي نشرناها في الجزء الثاني من منار هذه السنة هي مأخوذة
من الدرس الذي ألقاه المفتي في 6 ذي القعدة سنة 1317 أي منذ ثلاث سنين
وشهور وقد نقلتها عنا جريدة الرائد العثماني التي قامت تندد في هذه السنة بسيئات
اليهود حتى أنهم حاكموا صاحبها وحكم عليه بشدة علم بها أن الحكومة انتصرت لهم
وما كانوا مهضومين ولا مظلومين. توهم بعضهم أن مفتي الديار المصرية صاحب
النفوذين الديني والأدبي كتب الآن يساعد تلك الجريدة بقلمه المؤثر فوجلوا ووجموا
ولجأوا إلى جمعيتهم الماسونية وكتبوا بقلم الطيش والعجلة احتجاجًا باسم الماسونية
على مفتي الديار المصرية الذي يفسر القرآن العزيز في الأزهر باسم الله الرحمن
الرحيم وطلبوا إيقافه عند حده. وأرسلوا نسخًا من احتجاجهم إلى أمير البلاد وإلى
اللورد كرومر وإلى رئيس النظار وإلى جميع الجرائد اليومية فلم يحفل أحد
باحتجاج هذا المحفل إلا رئيس الماسونية العام في هذه الديار (عطوفتلو) إدريس
بك راغب فإنه كتب محتجًّا على الاحتجاج مبينًا للمحفل أنه خالف قانون الجمعية.
ولكن حدث الوطنية نشر صورة الاحتجاج في جريدته وقام ينتصر لعثرة
عثرها بعض يهود الماسون على مفتي الإسلام من حيث هو مفسر للقرآن وسوَّل
إليه غروره أن ذلك انتقام من المفتي فما كان إلا زيادة في إجلاله وتعظيمه حضر
رئيس ذلك المحفل الماسوني من الإسكندرية مخصوصًا لزيارة المفتي في الأزهر
والاعتذار له ثم كتب هذا الرئيس رسالة نشرها في الجرائد المشهورة في ذلك أثنى
فيها بما أثنى وزاره في الأزهر أيضًا الرئيس الأعظم للمحافل الإفريقية إدريس بك
راغب وكتب بعض أدباء اليهود في الجرائد يبين خطأ الاحتجاج ونشره وأثنى على
المفتي بما أثنى وكتبت الجرائد المعتبرة مقالات في ذلك بأقلام كتابها وأقلام غيرهم
من الفضلاء سفهوا فيها منشور الاحتجاج والجريدة التي نشرته وفي مقدمة هذه
الجرائد المؤيد والأهرام والمقطم والبيراميد ولولا أن كان جميع الكاتبين متفقين على
الاعتذار عن المحتجين بسوء الفهم والاعتراف بأن مفتي الديار المصرية لهذا العهد
هو روح الوفاق والوئام وداعية الاتحاد والالتئام وأنه لا يرضيه أن يهضم حق فرد
من الأفراد ولا طائفة من الطوائف لأن الشريعة التي هو أحد أئمتها - قضت بالعدل
والمساواة حتى كان خلفاؤها الراشدون يساوون آحاد اليهود بأكبر كبرائهم - لولا هذا
لأحدث ذلك المنشور ثورة فكرية قلمية على اليهود سيئة المغبة وكان إثم ذلك على
من كتب المنشور بسوء الفهم. ومن نشره بسوء القصد.
{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى} (الروم: 10) وأي شيء أسوأ ممن
أرضى نفسه وأغضب اليهود الذين انتصر لهم بما كاد يوقعهم فيه من الفتنة
وأغضب المسلمين؛ لأنه انتصر لليهود عليهم في أمر ديني محض، وأغضب الله
تعالى؛ لأنه انتصر لأفراد من اليهود على كتابه العزيز وأراد أن يساعدهم على
إيقاف من يبينه للناس عند حده وما هو إلا منعه من بيانه للناس ونقض ميثاق الله
الذي أخذه على العلماء {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187) .
وههنا نكته لطيفة وهي أن اليهود قد كتبوا ما كتبوا معتزين بالحرية التي في
مصر الآن كما صرحوا بذلك في منشورهم، وحدث الوطنية يتبجح دائمًا بذم هذه
الحرية؛ لأن منبعها الاحتلال الإنكليزي فهل كانت هذه الحرية جديرة بالمقت والذم
من حيث رفعت أثقال الظلم عن كاهل الأمة المصرية وصارت جديرة بالرضى
والمدح من حيث يراد بها منع تفسير القرآن من الجامع الأزهر؟ ! كلا، إن تلك
الحرية ما كانت مذمومة عنده من جهة الأحكام إلا لأنه لم يقدر أن يكون فيها حاكمًا
وصارت ممدوحة عند الاستعانة بها على منع كتاب الله إلا لأن مفسره لا يدهن له
ولا يعتبره زعيمًا للوطن فثبت بهذا أن حدث الوطنية لا يخدم إلا شخصه مباشرة
واسم الوطنية والإسلام إنما يُذكران إذا صلحا للاستخدام!
فعلم مما تقدم أنه لم يكن من مصلحة اليهود أن يطرقوا هذا الباب - دعوى
تحامل المسلمين عليهم وكراهتهم لهم - لئلا يُفتح فيعجزوا عن إغلاقه هم والحرية
التي استنجدوا بها وهي العون عليهم ما لم يخالف أحد القانون في اعتدائه.
والمسلمون أقرب الناس إلى مسالمتهم بما يرشد إليه الإسلام والتاريخ شاهد عدل في
الماضي والحاضر؛ ولكن أهل هذه البلاد يؤثر فيهم القول والوهم فإذا صدقوا أن مفتي
الإسلام قد برى قلمه للنيل منهم يعتقدون أنهم خطر كبير على المسلمين أو
المصريين. ومن يقدر على إزالة اعتقاد العامة بعد رسوخه؟ قدر بعض الأحداث
على تحريك أضغان المصريين على السوريين بكلمات هذوا بها فكان من أثرها أن
الألوف من الناس يعتقدون أن السوري بلاء على مصر، على أن السوريين
موافقون لهم في اللغة والجنسية العثمانية ومنهم من هم على دينهم وليس لهم امتياز
يثقل عليهم كامتياز الأجانب. ثم إنهم أقل الشعوب التي هاجرت إلى هذه البلاد كسبًا
فاليهود والأرمن واليونان وجميع الشعوب الأوربية تفوقهم ثروة ومن هؤلاء من
أفسدوا البلاد بالخمور ولا ترى مع هذا جريدة مصرية تذكر أحدًا منهم بما تذكر به
السوريين مما لا يرضي. والسوريون هم الذين خدموا العلم والأدب خدمة لم يدركهم
بها المصريون إلى الآن، نعم، إن فيهم بعض السفهاء وفاسدي الآداب والجنسية.
وأي شعب ليس منه الصالح والطالح والمصلح والمفسد؟ ! فإذا كان أولئك الأحداث قد
أثروا هذا التأثير بمعونة الاستعداد للشر فما بالك بهذا الإمام الكبير؟ !
كان من حظ اليهود أنهم طرقوا الباب فلم يفتح؛ لأن المفتي وجميع ما يتصل
به من حملة الأقلام لا يحبون فتحه ولو فتح لما أغنت عن اليهود الماسونية شيئًا،
أما كون الماسونية خرجت في هذه المسألة عن حدها فلا نزاع فيه بعدما علمنا من
احتجاج أستاذها الأعظم على كاتبي المنشور. وكل مخطئ قد رجع عن خطئه إلا
حدث الوطنية فعلم أنه هو الذي كان سيء القصد دون اليهود وغيرهم.
__________(6/196)
16 ربيع الأول - 1321هـ
يونيو - 1903م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
باب العقائد من الأمالي الدينية
(الدرس 37)
آية الله الكبرى (القرآن)
نبدأ هذا البحث الجليل بما كتبه القاضي عياض في الشفاء من وجوه الإعجاز
وبعد ذلك نذكر ما هو أقوى منها أو أوضح، قال رحمه الله تعالى:
(فصل في إعجاز القرآن)
اعلم - وفقنا الله وإياك - أن كتاب الله العزيز منطوٍ على وجوه من الإعجاز
كثيرة، وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه:
م 105: (أولها) حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إيجازه وبلاغته
الخارقة عادة العرب، وذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن وفرسان الكلام، قد
خُصوا من البلاغة والحكم بما لم يخص به غيرهم من الأمم. وأوتوا من ذرابة
اللسان ما لم يؤت إنسان. ومن فصل الخطاب ما يفيد الألباب، جعل الله لهم ذلك
طبعًا وخلقة وفيهم (غريزة) وقوة، يأتون منه على البديهة بالعجب ويدلون به إلى
كل سبب. فيخطبون بديهًا في المقامات وشديد الخطب، ويرتجزون به بين الطعن
والضرب، ويمدحون ويقدحون ويتوسلون ويتوصلون ويرفعون ويضعون، فيأتون
من ذلك بالسحر الحلال، ويطوقون من أوصافهم أجمل من سَمْط اللآل. فيخدعون
الألباب، ويذللون الصعاب. ويذهبون الإحن ويهيجون الدمن. ويجرّئون الجبان
ويبسطون يد الجعد البنان ويصيرون الناقص كاملاً. ويتركون النبيه خاملاً. منهم
البدوى ذو اللفظ الجزل والقول الفصل والكلام الفخم، والطبع الجوهري والمنزع
القوى ومنهم الحضري ذو البلاغة البارعة والألفاظ الناصعة والكلمات الجامعة،
والطبع السهل. والتصرف في القول القليل الكلفة الكثير الرونق الرقيق الحاشية.
وكلا البابين فلهما في البلاغة الحجة البالغة. والقوة الدامغة والقدح الفالج والمهيع
الناهج، لا يشكُّون أن الكلام طوع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم. قد حووا فنونها.
واستنبطوا عيونها. ودخلوا من كل باب من أبوابها، وعلوا صرحًا لبلوغ أسبابها.
فقالوا في الخطير والمهين. وتفننوا في الغث والسمين، وتقاولوا في القل والكثر.
وتساجلوا في النظم والنثر. فما راعهم إلا رسول كريم بكتاب عزيز {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) ، أُحكمت آياته
وفصلت كلماته وبهرت بلاغته العقول. وظهرت فصاحته على كل مقول.
وتضافر إيجازه وإعجازه وتظاهرت حقيقته ومجازه. وتبارت في الحسن مطالعه
ومقاطعه وحَوَت كل البيان جوامعه وبدائعه. واعتدل مع إيجازه حسن نظمه
وانطبق على كثرة فوائده مختار لفظه. وهم أفسح ما كانوا في هذا الباب مجالاً
وأشهر في الخطابة رجالاً وأكثر في السجع والشعر سجالاً، وأوسع في الغريب
واللغة مقالاً، بلُغتهم التي بها يتحاورون ومنازعهم التي عنها يتناضلون، صارخًا
بهم في كل حين، ومُقرعًا لهم بضعًا وعشرين عامًا على رؤوس الملأ أجمعين
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ} (يونس: 38) ، {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِّن مِّثْلِه ... } (البقرة: 23) إلى قوله: {.. وَلَن تَفْعَلُوا ... } (البقرة: 24) ،
و {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ ... } (الإسراء:
88) الآية [1] و {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} (هود: 13) ، وذلك أن
المفترَى أسهل، ووضع الباطل والمختلق على الاختيار أقرب. واللفظ إذا تبع المعنى
الصحيح كان أصعب، ولهذا قيل: فلان يكتب كما يقال له وفلان يكتب كما يريد
وللأول على الثاني فضل وبينهما شأوٌ بعيد.
فلم يزل يقرعهم صلى الله عليه وسلم أشد التقريع ويوبخهم غاية التوبيخ
ويسفه أحلامهم ويحط أعلامهم ويشتت نظامهم ويذم آلهتهم وآباءهم، ويستبيح
أرضهم وديارهم وأموالهم [2] وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، محجمون
عن مماثلته ويخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب، والإغراء بالافتراء وقولهم:
{ ... إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} (المدثر: 24) ، و {سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} (القمر:
2) ، و {إِفْكٌ افْتَرَاهُ} (الفرقان: 4) ، و {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (الأنعام: 25)
والمباهتة والرضا بالدنيئة، كقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} (البقرة: 88) ، و [3] {فِي
أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} (فصلت: 5) ،
و {لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) ، والادعاء مع
العجز بقولهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} (الأنفال: 31) ، وقد قال لهم الله:
{ ... وَلَن تَفْعَلُوا} (البقرة: 24) فما فعلوا ولا قدروا. ومن تعاطى ذلك
من سُخفائهم كمسيلمة كشف عواره لجميعهم، وسلبهم الله ما ألفوه من فصيح كلامهم،
وإلا فلم يخفَ على أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم، ولا جنس بلاغتهم
بل ولوا عنه مدبرين وأتوا مذعنين من بين مهتدٍ وبين مفتون؛ ولهذا لما سمع الوليد
ابن المغيرة من النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ... } (النحل: 90) الآية قال: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق،
وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر. وذكر أبو عبيد أن أعرابيا سمع رجلاً يقرأ:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر: 94) ؛ فسجد، وقال: سجدت لفصاحته، وسمع
آخر رجلاً يقرأ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًا} (يوسف: 80) ؛ فقال:
(أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام) وحكي أن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه كان يومًا نائمًا في المسجد فإذا هو بقائم على رأسه، يتشهد شهادة الحق،
فاستخبره فأعلمه أنه من بطارقة الروم ممن يحسن كلام العرب وغيرها، وأنه سمع
رجلاً من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم، فتأملتها، فإذا قد جُمع فيها ما
أُنزل على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة وهي قوله: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} (النور: 52) الآية، وحكى الأصمعي أنه سمع كلام
جارية، فقال لها: قاتلك الله، ما أفصحك! فقالت: أوَ يُعد هذا فصاحة بعد قول الله
تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} (القصص: 7) الآية [4] ، فجمع
في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
فهذا نوع من إعجازه منفرد بذاته غير مضاف إلى غيره على التحقيق
والصحيح من القولين، وكون القرآن من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أتى به
معلوم ضرورة وكونه صلى الله عليه وسلم متحديًا به معلوم ضرورة وعجز العرب
عن الإتيان به معلوم ضرورة وكونه في فصاحته خارقًا للعادة معلوم ضرورة للعالمين
بالفصاحة ووجوه البلاغة.
وسبيل من ليس في أهلها علم ذلك بعجز المنكرين من أهلها عند
معارضته واعتراف المفترين بإعجاز بلاغته. وأنت إذا تأملت قوله تعالى:
{وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179) ، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلاَ
فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} (سبأ: 51) ، وقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34) ، وقوله: {وَقِيلَ يَا
أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} (هود: 44) الآية، وقوله: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ
فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً000} (العنكبوت: 40) الآية وأشباهها من الآي،
بل أكثر القرآن حققت ما بينه في إيجاز ألفاظها وكثرة معانيها وديباجة عبارتها
وحسن تأليف حروفها وتلاؤم كَلِمها وأن تحت كل لفظة منها جملاً كثيرة وفصولاً جمة
وعلومًا زواخر مُلئت الدواوين من بعض ما استفيد منها وكثرت المقالات في
المستنبطات عنها.
ثم هو في سرد القصص الطوال وأخبار القرون السوالف التي يضعف في
عادة الفصحاء عندها الكلام ويذهب ماء البيان - آية لمتأمله من ربط الكلام بعضه
ببعض والتئام سرده وتناصف وجوهه كقصة يوسف على طولها. ثم إذا ترددت
قصصه اختلفت العبارات عنها على كثرة ترددها حتى تكاد كل واحدة تُنسي في
البيان صاحبتها وتناصف في الحسن وجه مقابلها، ولا نفور للنفوس في ترديدها،
ولا معادة لمعادها.
* * *
فصل
م 106 (الوجه الثاني من إعجازه) صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب
المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليها ووقفت مقاطع
آيه وانتهت فواصل كلماته إليه. ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ولا استطاع أحد
مماثلة شيء منه بل حارت فيه عقولهم، وتدلهت دونه أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله
في جنس كلامهم من نثر أو نظم أو سجع أو رجز أو شعر. ولما سمع كلامه صلى الله
عليه وسلم الوليد بن المغيرة وقرأ عليه القرآن رق فجاءه أبو جهل منكرًا عليه قال:
والله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا. وفي خبره
الآخر حين جمع قريشًا عند حضور المواسم وقال: إن وفود العرب ترد فأجمعوا فيه
رأيًا لا يكذب بعضكم بعضًا. فقالوا: (نقول كاهن) قال: والله ما هو بكاهن ما هو
بزمزمته ولا سجعه. قالوا: (مجنون) قال: وما هو بمجنون ولا بخنقه ولا
وسوسته. قالوا: (فنقول شاعر) قال: ما هو بشاعر قد عرفنا الشعر كله رجزه
وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه وما هو بشاعر. قالوا: (فنقول: ساحر)
قال: وما هو بساحر ولا نفثه ولا عُقده. قالوا: (فما نقول؟) قال: وما أنتم بقائلين
في هذا شيئًا إلا وأنا أعرف أنه باطل وإن أقرب القول أنه ساحر فإنه سحرٌ
يفرق به بين المرء وابنه [5] والمرء وأخيه والمرء وزوجه والمرء وعشيرته.
فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس فأنزل الله تعالى في الوليد: {ذَرْنِي
وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً 000} (المدثر: 11) الآيات.
وقال عتبة بن ربيعة حين سمع القرآن: (يا قومي قد علمتم أني لم أترك
شيئًا إلا وقد علمته وقرأته والله لقد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط ما هو
بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة) وقال النضر بن الحرث نحوه. وفي حديث إسلام
أبي ذر ووصف أخاه أنيسًا فقال: والله ما سمعت بأشعر من أخي أنيس لقد ناقض
اثني عشر شاعرًا في الجاهلية أنا أحدهم، وأنه انطلق إلى مكة وجاء إلى أبي ذر
بخبر النبي صلى الله عليه وسلم قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر، كاهن
ساحر، لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أقراء الشعر فلم يلتئم
على لسان أحد بعدى [6] أنه شعر وإنه لصادق وإنهم لكاذبون.
والأخبار في هذا صحيحة وكثيرة والإعجاز بكل واحد من النوعين الإيجاز
والبلاغة بذاتهما والأسلوب الغريب بذاته كل واحد منهما نوع إعجاز على التحقيق
لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما؛ إذ كل واحد خارج عن قدرتها مباين
لفصاحتها وكلامها وإلى هذا ذهب غير واحد من أئمة المحققين. وذهب بعض
المقتدى بهم إلى أن الإعجاز في مجموع البلاغة والأسلوب وأتى على ذلك بقول
تمجه الأسماع. وتنفر منه القلوب. والصحيح ما قدمناه والعلم بهذا كله ضرورة
وقطعًا. ومن تفنن في علوم البلاغة وأرهف خاطره ولسانه أدب هذه الصناعة لم
يخْفَ عليه ما قلناه.
وقد اختلف أئمة أهل السنة في وجه عجزهم عنه فأكثرهم يقول: إنه ما جمع
في قوة جزالته ونصاعة ألفاظه وحسن نظمه وإيجازه وبديع تأليفه وأسلوبه لا يصح
أن يكون في مقدور البشر، وأنه من باب الخوارق الممتنعة عن إقدار الخلق عليها
كإحياء الموتى وقلب العصا وتسبيح الحصا، وذهب الشيخ أبو الحسن إلى أنه مما
يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر ويقدرهم الله عليه، ولكنه لم يكن هذا ولا
يكون، فمنعهم الله هذا وعجزهم عنه. وقال به جماعة من أصحابه. وعلى الطريقين
فعجز العرب عنه ثابت، وإقامة الحجة عليهم بما يصح أن يكون في مقدور البشر
وتحديهم بأن يأتوا بمثله قاطع، وهو أبلغ في التعجيز وأحرى بالتقريع، والاحتجاج
بمجيء بشر مثلهم بشيء ليس من قدرة البشر لازم، وهو أبهر آية وأقمع دلالة.
وعلى كل حال فما أتوا في ذلك بمقال بل صبروا على الجلاء والقتل وتجرعوا
كاسات الصغار والذل. وكانوا من شموخ الأنف وإباء الضيم بحيث لا يؤثرون
ذلك اختيارًا ولا يرضونه إلا اضطرارًا. وإلا فالمعارضة لو كانت من قدرهم والشغل
بها أهون عليهم وأسرع بالنجح وقطع العذر وإفحام الخصم لديهم وهم ممن لهم قدرة
على الكلام وقدوة في المعرفة به لجميع الأنام وما منهم إلا من جهد جهده واستنفد ما
عنده في إخفاء ظهوره وإطفاء نوره، فما جلوا في ذلك خبيئة من بنات شفاههم ولا
أتوا بنطفة من معين مياههم مع طول الأمد وكثرة العدد وتظاهر الوالد وما ولد، بل
أبلسوا فما نبسوا ومنعوا فانقطعوا، فهذان النوعان من إعجازه.
* * *
فصل
م 107 (الوجه الثالث من الإعجاز) ما انطوى عليه من الأخبار المغيبات
وما لم يكن ولم يقع فوجد كما ورد وعلى الوجه الذي أخبر كقوله تعالى {لَتَدْخُلُنَّ
المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (الفتح: 27) ، وقوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ
غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (الروم: 3) وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33)
وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} (النور: 55) ، الآية. وقوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (النصر: 1) ...
إلى آخرها، فكان جميع هذا كما قال، فغلبت الروم فارس في بضع سنين، ودخل
الناس في الإسلام أفواجًا، فما مات صلى الله عليه وسلم وفي بلاد العرب كلها
موضع لم يدخله الإسلام واستخلف المؤمنين في الأرض ومكن فيها دينهم وملّكهم
إياها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب كما قال صلى الله عليه وسلم:
(زُويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي
منها) .
وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) فكان
كذلك، لا يكاد يعد من سعى في تغييره وتبديل محكمه من الملحدة والمعطلة، لا سيّما
القرامطة، فأجمعوا كيدهم وحولهم وقوتهم إلى اليوم نيفًا على خمس مئة عام فما
قدروا على إطفاء شئ من نوره ولا تغيير كلمة من كلامه، ولا تشكيك المسلمين في
حرف من حروفه والحمد لله.
ومنه قوله: {سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر: 45) ، وقوله:
{قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} (التوبة: 14) الآية. وقوله: {هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} (التوبة: 33) الآية، {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن
يُقَاتِلُوكُمْ..} (آل عمران: 111) الآية فكان كل ذلك.
وما فيه من كشف أسرار المنافقين واليهود ومقالهم وكذبهم في حلفهم وتقريعهم
بذلك، كقوله: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} (المجادلة: 8) ،
وقوله {يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ} (آل عمران: 154) ، الآية.
وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} (المائدة: 41) الآية وقوله: {مِنَ
الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ
وَرَاعِنَا لَيًًا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} (النساء: 46) ، وقد قال مبديًا ما قدَّره
الله واعتقده المؤمنون يوم بدر: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ
غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} (الأنفال: 7) ، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ
المُسْتَهْزِئِينَ} (الحجر: 95) ، ولما نزلت بشر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
أصحابه بأن الله كفاه إياهم، وكان المستهزؤن نفرًا بمكة ينفرون الناس عنه ويؤذونه
فهلكوا. وقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) فكان كذلك على كثرة
من رام ضره وقصد قتله، والأخبار بذلك معروفة صحيحة.
* * *
فصل
م 108 (الوجه الرابع) : ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة
والشرائع الداثرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب
الذي قطع عمره في تعلُّم ذلك، فيورده النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه ويأتي به
على نصه، فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه. وأن مثله لم ينله بتعليم وقد علموا
أنه صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا اشتغل بمدارسة ولا مثافنة ولم يغب
عنهم. ولا جهل حاله أحد منهم، وقد كان أهل الكتاب كثيرًا ما يسألونه صلى الله عليه
وسلم عن هذا فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكرًا كقصص الأنبياء مع
قومهم وخبر موسى والخضر ويوسف وإخوته وأصحاب الكهف وذي القرنين ولقمان
وابنه وأشباه ذلك من الأنباء، وبدء الخلق وما في التوراة والإنجيل والزبور وصحف
إبراهيم وموسى مما صدقه فيه العلماء بها، ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها، بل
أذعنوا لذلك، فمن موفق آمن بما سبق له من خير ومن شقي معاند حاسد. ومع هذا
لم يحكَ عن واحد من النصارى واليهود على شدة عداوتهم له وحرصهم على
تكذيبه وطول احتجاجه عليهم بما في كتبهم، وتقريعهم بما انطوت عليه مصاحفهم،
وكثرة سؤالهم له صلى الله عليه وسلم وتعنيهم إياه عن أخبار أنبيائهم وأسرار علومهم،
ومستودعات سيرهم، وإعلامه لهم بمكتوم شرائعهم، ومضمنات كتبهم مثل سؤالهم
عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف وعيسى وحكم الرجم وما حرم إسرائيل
على نفسه وما حُرم عليهم من الأنعام ومن طيبات كانت أُحلت لهم، فحُرمت عليهم
ببغيهم، وقوله: {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ} (الفتح: 29) وغير ذلك
من أمورهم التي نزل فيها القرآن، فأجابهم وعرفهم بما أوحي إليه من ذلك أنه أنكر
ذلك أو كذبه، بل أكثرهم صرح بصحة نبوته وصدق مقالته، واعترف بعناده وحسده
إياه، كأهل نجران وابن صوريا وابني أخطب وغيرهم. ومن باهت في ذلك
بعض المباهتة، وادعى أن فيما عندهم من ذلك لما حكاه مخالفة دُعي إلى إقامة
حجته، وكشف دعوته، فقيل له: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 93) - إلى قوله: (الظالمون) ، فقرّع ووبخ، ودعا إلى إحضار
ممكن غير ممتنع، فمن معترف بما جحده، ومتواقح يلقي على فضيحته من كتابة
يده، ولم يؤثر أن واحدًا منهم أظهر بخلاف قوله من كتبه، ولا أبدى صحيحًا ولا
سقيمًا من صحفه، قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ
كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (المائدة: 15) (الآيتين) .
(المنار)
بقي لقول القاضي في شفائه بقية تُذكر في الدرس التالي.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تتمَّتها: [لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] (الإسراء: 88) .
(2) أي يفعل ذلك بهم بعد ما فعلوا أشد منه به وبمن تبعه، من القتل والنفي والتمثيل، حتى إنه لم يبدأهم بعدوان وإنما كان مدافعًا، حتى أظفره الله تعالى.
(3) أي: [وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ] (فصلت: 5) .
(4) تتمتها: [فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ] (القصص: 7) .
(5) في نسخة: (وأبيه) .
(6) لعل الصواب: (يدَّعي) .(6/209)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
باب شبهات النصارى
وحجج المسلمين
طعنهم في القرآن العزيز
قل للذين لا يرون الجذوع في عيونهم ويعيبون الكحل (بالتحريك) في عيون
الناس: إذا كان كتاب دينكم لم يُكتب في عهد نبيكم، وإذا كان الذين كتبوا تاريخه من
بعده بأزمنة مختلفة يروون عنه روايات مختلفة لا سند لها بالمرة، وإذا كانت
مجامعكم قد تحكمت بذلك المكتوب بأهوائها وأهواء الرؤساء السياسيين، فحذفت ما
شاءت وشاؤوا وأبقت ما شاءت وشاؤوا ونقحت ما شاءت وشاؤوا، وأنتم تقبلون ذلك
وتعدُّونه أصلاً للدين! فما بالكم لا تخجلون من الكلام في كتاب لم يوجد في العالم
إلى اليوم كتاب مثله، نُقل عن صاحبه بالتواتر الصحيح حفظًا وكتابةً وروايةً ودرايةً
وأداءً، وهو القرآن العزيز: {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ
حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) .
نرى العالم الشهير والفيلسوف الكبير يؤلف كتابًا في عاصمة من عواصم
أوربا، فتطبع منه مئات الألوف من النسخ ويثق الناس بإسناده إلى صاحبه، وإنما
يكون صاحبه أعطاه إلى صاحب مطبعة أو ملتزم طبع في خلوته، فأخذه وطبعه،
فيكون رواية واحد عن المؤلف، وقد كان الصحابة لا يقبلون رواية الواحد عن
النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من القرآن، وإن كان في نواصيهم علمًا وعدالة
وحفظًا ودراية، وبعد هذا كله تتكلمون في نقل القرآن وجمعه ولا تخجلون من
أنفسكم ولا من الناس. ولا تعلمون أن هذا يزيد المؤمنين إيمانًا بكتابهم، وبحثًا عن
كتابكم، وهذه هي الفضيحة الكبرى!
نشرت مجلة (البروتستنت) المصرية في الجزء الرابع من المجلد الثالث -
نبذة في الطعن بالقرآن نقلتها عن كتاب لهم يقال أن للشيخ إبراهيم اليازجي يدًا في
تصحيحه أو تأليفه أو ترجمته والزيادة فيه، وهو عندهم أقوى طعن في الإسلام على
ما فيه من الكذب والسخافة والتحريف. وإننا نستقصي شبهاته ونبين بطلانها.
قال الكاتب: زعم أهل السنة والجماعة - متابعة لنبيهم - أن القرآن كلام
الله نفسه لفظًا ومعنى وأنه معجز في الفصاحة والبلاغة، إلا أن ذلك باطل
ولنا على بطلانه أدلة متعددة، ثم طفق يسرد تلك الأدلة، وإننا نذكرها ونجيب
عنها بالاختصار اكتفاءً بما نكتبه في دروس الأمالي. وقد بدأ بالطعن في
طريقة كتابته وجمعه، فذكر أمورًا نأتي عليها واحدًا واحدًا، فنقول:
اعلم أولاً أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يُلقِي ما ينزل عليه من
الوحي إلى المؤمنين، فيحفظه الجم الغفير من الرجال والنساء، ويأمر بكتابته،
فيكتبه الكاتبون. وقد حفظ القرآن كله جماعة من الصحابة وقرءوه على النبي صلى
الله عليه وآله وسلم، إلا أنهم لم يجمعوه في مصحف واحد إلا على عهد أبي بكر
رضي الله تعالى عنه؛ وذلك أن عمر رضي الله تعالى عنه أشار على أبي بكر
بجمْعه في مصحف يأخذ عنه الناس، لما خشي أن يستحرّ القتل بالقراء في قتال
الردة فيقل عدد من يلقن الناس القرآن، فجمعوا ما كان كتبه الكاتبون وهم يعرفونه؛
لئلا يقع شيء من الغلط باستقلال فرد أو أفراد منهم بإملائه. وكانوا يعرفون ما
يوجد عند كل واحد من أولئك الكاتبين حتى الآية والآيتين من السورة، يقولون إن
آية كذا عند فلان فاطلبوها منه، فيطلبونها وإن كانوا حافظين لها؛ زيادة في التثبت
ومنعًا لما عساه يحدث بعدُ من إبراز منافق آية أو سورة فيها زيادة أو نقص يشكك
به الناس، ومع هذا كله كانوا يطالبون مَن يأتي بشيء منه بالشهود؛ يشهدون أنه
كتبه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ورد في كل هذا الذي ذكرناه
روايات مسندة، ربما نذكرها مَعْزُوَّة إلى مخرجيها بعد.
إذا علمت هذا فاسمع ما قاله ذلك الكاتب النصراني في الاستدلال على طعنه
بجمع القرآن وحفظه:
(الدليل الأول) : حديث: (رحم الله فلانًا؛ لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت
أسقطتهن) ، ويُروى (أُنسِيتهن) . عزاه إلى (الشفاء) ، وهو فيه غير مسنَد ولا
مخرَّج.
والذي أعرفه أن هذا الإسقاط أو النسيان كان في الصلاة، وربما تعدد، وهو
أنه كان يقرأ سورة فلا يتمها فيسأله بعض الصحابة عن ذلك فيقول نحوه. وقد
يكون الإسقاط عمدًا؛ إذ ليس بواجب على مَن بدأ بسورة في الصلاة أو غير الصلاة
أن يتمها، فإذا ترك من السورة آية أو آيات عمدًا للاختصار، أو لاختبار حفظ
السامعين، أو نسيانًا لمثل هذه الحكمة، أو لما يعرض للبشر عادة، فأي حرج في
ذلك وتلك الآيات قد بُلِّغت وحُفظت في الصدور والسطور؟ وأي دليل في ذلك على
ترك شيء من القرآن الذي بلغه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحفظه عنه
الجماهير في الصدور والمصاحف؟
نعم، إن نسيان التبليغ غير جائز على الأنبياء عليهم السلام، ولكن مثل هذا
النسيان الذي يعرض أحيانًا لما هو محفوظ ومقرر - لا يخل بالتبليغ، وقد أطال
القاضي في (الشفاء) القول في تقرير عصمة الأنبياء من النسيان في التبليغ وفي
حفظ القرآن وعدم ضياع كلمة أو حرف منه، ولكن طلاب الباطل يعمون عن الحق،
ويأخذون بأقل شبهة على تقرير باطلهم.
(الدليل الثاني) قال: (وكذلك ثبت أن الصحابة حذفوا من القرآن كل ما
رأوا المصلحة في حذفه) ، وعزا هذا إلى مقدمة الشاطبية.
والشاطبية قصيدة في القراءات ليس فيها شيء من هذا البهتان. ومَن علم أن
أفسق المسلمين لا يتجرأ على حذف حرف من القرآن لاعتقاده أن متعمد ذلك يخرج
من الدين، ويعد من شرار الكافرين - يتيسر له أن يعرف مكان هذه الفِرْية.
روى مسدّد عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: (أي سماء
تُظلُّنِي وأي أرضي تُقلُّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أسمع) ، وروى نحوه البيهقي
عنه، ورُوي مثل ذلك عن علي كرَّم الله وجهه. ونحن نعلم من التاريخ أنه لم
يُعرف في الناس أشد إيمانًا من الصحابة لا سيما السابقين الأولين، فهؤلاء أصحاب
موسى لم تُغْنِ عنهم مشاهدة آياته عن الميل إلى الوثنية، وإعناته في قبول الشريعة
السماوية، حتى إنهم اتخذوا العجل بأيديهم وعبدوه وهو حي يناجي الله تعالى.
وهؤلاء أصحاب عيسى عليه السلام تشهد عليهم أناجيلهم بأنهم خانوه في وقت
الضيق، حتى إنه طرد أكبرهم وأفضلهم وسمّاه شيطانًا. وأما أصحاب محمد عليه
السلام فقد عرَّضوا أنفسهم للقتل، ورضوا بالنفي والذل. ولم يزحزحهم ذلك شبرًا
عنه، فكيف يصدق مع هذا قول كافر بدينهم يجيء في آخر الزمان، ويدعي أنهم
حذفوا ما شاءوا من القرآن، ولا بينة له ولا برهان؟ !
ولقد نعلم أن الذي ذكَّره بأن يفتري هذه الفرية - هو ما رواه الكثيرون من أن
الصحابة قد تحاموا أن يكتبوا في المصاحف ما ليس قرآنًا كأسماء السور وكلمة
(آمين) في آخر الفاتحة، وكلمة (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في أولها،
وكالتفسير المأثور عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، روى ابن أبي شيبة
عن عامر الشعبي، قال: كتب رجل مصحفًا وكتب عند كل آية تفسيرها، فدعا به
عمر، فقرضه بالمقراضين. وإنما فعلوا هذا خشية أن يشتبه بعض التفسير بالقرآن
على بعض الناس، وقد كان هذا التشديد سببًا في قلة ما رُوي صحيحًا من التفسير.
فهذا معنى حذفهم ما رأوا المصلحة في حذفه من القرآن، إن صح أن أحدًا عبر بمثل
هذا التعبير.
وقد نقل الكاتب عن عبد المسيح الكندي أن عليًا (عليه السلام) حذف من
القرآن آية المتعة وكان يضرب مَن يقرؤها، وأن عائشة (رضي الله عنها) كانت
تشنع عليه بها وقالت: إنه بدَّل القرآن وحرَّفه. وأن منه ما كان يرويه أُبيّ بن كعب
وهو قوله: (اللهم إنا نستعينك ونستغفرك..... إلخ الوتر) .
ونقول: إن عبد المسيح لم يتقن الأكذوبة الأولى، ولم يقدر على تمويهها،
كما موَّه غيرها من أباطيله؛ فإن أتباع علي وآل بيته (الشيعة) هم الذين يقولون
بالمتعة دون سائر المسلمين، ولو كان علي هو المشدد في منعها وعائشة هي المثبتة
لها لما كانوا إلا أبعد الناس عنها، وإن الآية التي يستدلون بها على المتعة هي قوله
تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} (النساء: 24) ، وهي
لم تُحذف، ولكن يُروى أن أُبيًّا كان يزيد فيها: ( ... إلى أجل مسمى) ولم يثبت
هذا بالتواتر، فعُدَّ من قبيل التفسير، وهو مثبَت في كتب التفسير والحديث لم يسقط،
ولو تواتر لأُثبت في المصحف، وكان نصًّا في المسألة. وأما صيغة القنوت التي
أولُها: (اللهم إنا نستعينك ... ) فقد روي عن أبيٍّ أنه كان يعدها قرآنًا، وكأن هذا
جاءه من قراءة النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لها في الصلاة، ولكن سائر
الصحابة علموا منه عليه السلام أنها ليست بقرآن، وهي لم تسقط ولم تحذف، بل هي
موجودة يحفظها الصبيان، ويقرؤها في الصلاة الملايين من الناس.
(الدليل الثالث) قال: (إن كثيرًا من آيات القرآن لم يكن لها من قيد
سوى تحفظ الصحابة لها، وكان بعضهم قد قُتلوا في مغازي محمد وحروب خلفائه
الأولين وذهب معهم ما كانوا يتحفظونه من قبل أن يوعز أبو بكر إلى زيد بن ثابت
بجمعه؛ فلذلك لم يستطع زيد أن يجمع سوى ما كان يتحفظه الأحياء) .
ونقول: إن هذه دعوى باطلة، أقامها مقام الدليل على دعوى أخرى وهي
متهافتة بنفسها كأنها من كلام الصبيان؛ فإن خلفاء محمد عليه الصلاة والسلام هم
أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والأول منهم هو الذي جمع في أول خلافته القرآن
في مصحف واحد، وكان مكتوبًا كله في عهد النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم،
ومحفوظًا لكثيرين ممن قُتلوا في يوم اليمامة، وممن كانوا في المدينة وفي غيرها
من البلاد، ولم يخرجوا إلى تلك الحرب. روى ابن أبي شيبة عن محمد بن كعب
القرظي قال: (جمع القرآن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة نفر
من الأنصار: معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي بن كعب وأبو الدرداء
وأبو أيوب) وروى ابن سعد ويعقوب بن سفيان والطبراني والحاكم عن الشعبي
مرسلاً أن ممن جمعه من الأنصار أيضًا زيد بن ثابت وسعيد بن عبيد وأبو زيد،
وأكثر هؤلاء قد عاشوا بعده، وبعد جمع أبي بكر وكتابة عثمان زمنًا طويلاً. وقد
وجه عمر ثلاثة منهم إلى بلاد الشام، يعلّمون الناس القرآن، كما سنفصله بعد،
وروى هؤلاء أيضًا أن مجمع بن جارية كان قد أخذه إلا سورتين أو ثلاثًا. وإنما
يعنون بالجمع الجمع بالكتابة، وأما الحفظ فأهله كثيرون جدًّا، وإنما قالوا إن أبا
بكر جمعه، يعنون بين اللوحين، وقد كان جمع مَن ذكرنا من الأنصار، ومن لم
نذكر من المهاجرين في صحف منشرة. وقد روى ابن الأنباري في (المصاحف) من
عدة طرق أن الذين قتلوا من قراء القرآن يوم اليمامة أربعمائة رجل، فهل يجد
النصارى عندهم رواية عن واحد فقط حفظ إنجيل المسيح كله أو أكثره أو ما هو
دون ذلك؟ !
(الدليل الرابع) : قال: (أما ما كان مكتوبًا منه على العظام وغيرها فإنه
كان مكتوبًا بلا نظام ولا ضبط، وقد ضاع بعضها، وهذا ما حدا بالعلماء إلى الزعم
بأن فيه آيات قد نُسخت حرفًا لا حكمًا، وهو من غريب المزاعم) .
ونقول: إن هذه دعوى مفتراة أيضًا وقد عُلم كذبها مما تقدم. ويا ليت شعري
هل اطَّلع هذا النصراني على تلك العظام وغيرها، فرآها بغير نظام؟ ! وهل كان
عدَّها في أيدي كتاب الوحي في زمنه، ثم عدها في زمن أبي بكر فوجدها قد
نقصت؟ وهل يفقه أن ضياع بعضها لا يضر مع تعدد الكاتبين والحافظين؟ إلا إذا
ثبت أن سورة أو آية بخصوصها قد أضاعها كل مَن كتبها ومن حفظها؟ وأنَّى يثبت
هذا؟
رُوي بأسانيد صحيحة أن المكتوب وافق المحفوظ، ولم يفقدوا منه شيئًا إلا آية
آخر التوبة وجدوها مكتوبة عند واحد فقط، على أنها كانت محفوظة مقروءة في
الصلاة، وأما النَّسْخ الذي قاله فقد أنكره قوم، ومَن أثبته لم يعلله بما ذكر.
(الدليل الخامس) قال: (ولما قام الحجاج بنصرة بني أمية لم يُبقِ
مصحفًا إلا جمعه، وأسقط منه أشياء كثيرة كانت قد نزلت فيهم، وزاد فيه أشياء
ليست منه، وكتب ستة مصاحف جديدة بتأليف ما أراده، ووجه بها إلى مصر
والشام ومكة والمدينة والبصرة والكوفة، وهي القرآن المتداول اليوم) ، ثم زعم
أنه أتلف سائر المصاحف تزلُّفًا إلى بني أمية؛ حتى لا يبقي في القرآن ما يسوءهم!
ونقول: إننا نتخذ مثل هذا الكذب فرصة لتعليم الناس ما كان من عناية هذه
الأمة بحفظ كتابها، ولولا ذلك لكان من اللغو الكلام مع مَن لا يستحي من الكذب.
إن الحجاج لم يكن حاكمًا عامًّا له سلطان على جميع البلاد الإسلامية، فيحاول جمع
القرآن منها وتبديله، على حين يعتقد أهلها أن التصرف بحرف واحد منه كفر
صريح، ولو فرضنا أنه كان حاكمًا عامًّا، فهل كان يستطيع أن يجمع المصاحف
التي لا عدد لها ولا يمكن أن يعرف مواضعها؟ ولو فرضنا أنه قدر، فهل يقدر
على محوه من الصدور، كما يمحوه من السطور؟ لقد حفظ القرآن الألوف،
وانتشروا في الأرض قبل ملك بني أمية، فلماذا لم يوجد إلى اليوم حافظ يخالف
حافظًا في هذا المصحف المروي بالتواتر من كل وجه كما قدمنا. حفظه أولئك
الألوف بباعث الإيمان واليقين، ورغبة في الأجر الذي كتبه الله تعالى لحَفَظَة
القرآن وحَمَلته، كما ورد في الأحاديث الصحيحة. ثم إن الخلفاء كانوا فوق هذا
يرغِّبون الناس في الحفظ. روى أبو عبيد عن سعد بن إبراهيم أن عمر كتب إلى
بعض عماله أن أعطِ الناس على تعلم القرآن، فكتب إليه: إنك كتبتَ أن أعطِ الناس
على تعلم القرآن، فتعلمه مَن ليست له رغبة إلا رغبة الجند، فكتب إليه: أن أعطِ
الناس على المودة والصحابة. وروى البيهقي عن علي قال: مَن وُلد في الإسلام،
فقرأ القرآن، فله في بيت المال في كل سنة مائتا دينار، إن أخذها في الدنيا وإلا
أخذها في الآخرة، وروى أيضًا عن سالم بن أبي الجعد أن عليًا فرض لمَن قرأ
القرآن ألفين ألفين، أرأيت هذا الترغيب في الأجر الدنيوي فوق الأجر عند الله
تعالى، هل يبقي معه أحد لا يحفظ القرآن إلا القليل النادر؟ !
وكتب عمر إلى عامله في بعض البلاد يسأله عن عدد مَن يحفظ القرآن عنده،
فأجاب أنهم ثلثمائة، وقد نسيت اسم البلد، وأراني لم أنسَ العدد. فإذا كان العاقل
يتصور أن يقع - مع هذه العناية التي أشرنا إليها - تحريف أو تصحيف أو نقص
أو زيادة، فبأي كتاب أو بأي شئ يمكن أن يثق؟ ! مثل هذه العناية لم تتفق ولن
تتفق.
(الدليل السادس) أو الفِرية السادسة - وهي كالثانية - قوله: (إن
الخلفاء تصرفوا فيما دعوه كتاب الله تصرف المالك في ملكه) ، وذكر هنا في
الهامش أن ابن عباس أنكر كون المعوذتين من القرآن، ثم ختم لغوه بذم القرآن ذمًّا
شعريًّا، بأنه مبتور؛ لا نظام له، ولا تأليف، ولا معنى يتسق.
فأما دعواه في الخلفاء فلا أرى إلا النصارى واليهود والمجوس والذين أشركوا
يسخرون منها. وأما زعمه أن ابن عباس أنكر كون المعوذتين منه فهو كذب،
وإنما روي هذا عن ابن مسعود وحده، ولكن الجم الغفير من الصحابة رووها
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرآنًا، فعدم رواية ابن مسعود لها لا ينافي
التواتر عن غيره، كما رواه أحمد والحميدي والبخاري ومسلم والنسائي وابن حبان،
وأما ما قاله في النظم والتأليف فإننا - بعد الثقة بأن سيكون سخرية لكل مَن شم
رائحة البلاغة العربية - نحيل القارئ على ما تقدم نقله عن القاضي عياض، ونتمثَّل
بقول شاعرنا الحكيم:
إذا وصف الطائي بالبخل مادر ... وعير قسًّا بالفهاهة باقل
وقال السهى للشمس أنت خفية ... وقال الدجى للصبح لونك حائل
فيا موت زُر إن الحياة ذميمة ... ويا نفس جدّي إن دهرك هازل
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/217)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أي الفريقين المتعصب: المسلمون أم النصارى؟!
نشرت إحدى الجرائد السورية التي تصدر في نيويورك مقالة في أخلاق
(الألبان) وعوائدهم، جاء فيها ما نصه:
(ومن أشد متاعس البلقان وجود الأرناؤوط من النصارى والمسلمين في أرض
واحدة تجمع بينهم لغة واحدة ووطن واحد ونسب يرجع إلى أصل واحد وهم - مع
ذلك - منقسمون على بعضهم بعضًا متطرفون في التعصب الديني وأولئك
المتعصبون من المسلمين هم نصارى من الأصل انقلبوا عن النصرانية ودخلوا في
دين محمد فخلعوا عنهم بذلك الانتقال رداء اللين المسيحي وتقمصوا بقميص القساوة
التركية! وذلك لأن الحياة التي اعتنقوها حديثًا هي ديانة قامت بالسيف مبنية على
أساس الجهاد ولا ثبوت لها إلا بالقوة القاهرة. ومن الغريب أننا نرى أشد المسلمين
تعصبًا وقساوة هم المتحدرون من سلالة نصرانية، فإن أشد الأكراد ضراوة وهمجية
وتعصبًا بين إخوانهم الأكراد القائمين على حدود بلاد العجم هم الأولى تحدَّروا من
نسل نصارى الأرمن وأضرى مسلمي البلغار المقيمين في جبال رودوب هم
المتحدرون من نسل النصارى وكذلك نرى أن مسلمي القراوطين والسرب وأهل
البشناق من المتسلسلين من عيال نصرانية أشد مسلمي تلك البلاد تعصبًا وشرًّا.ا. هـ
بحروفه.
(المنار)
من عجائب تأثير التقليد أنه يجعل نتيجة الدليل الموجبة سالبة والسالبة موجبة
ويجمع لصاحبه بين النقيضين، فيستدل على إقبال الليل بطلوع الشمس وعلى
إقبال النهار بغروبها. شاع بين الناس أن دين الإسلام قام بالسيف وهي قضية
بديهية البطلان، فإن الداعي إلى هذا الدين قام يدعو إليه وحده ولا سيف معه
ولو كان معه سيف لكان من المُحال أن يغلب به سيوف العالمين الذين جاء
لدعوتهم إلى دينه، ثم إنه بعد ثلاث عشرة سنة من بعثته هاجر مستخفيًا من بلده وليس
معه إلا رجل واحد وذلك لأنه كان على خطر من قومه، ولولا حفظ الله وعنايته
لقتلوه هو وتلك الفئة القليلة التي آمنت به وهربت من مكة مهاجرة إلى الحبشة
لنجاة أرواحها.
ثم إنه لما صار له في مهاجره أتباع يتيسر لهم المدافعة كانوا يدافعون
المشركين ولم يعتدوا عليهم في قتال قط اتباعًا لقوله تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) ، ولا سعة
في هذا الرد لتطويل في شيء سبق القول فيه، ونرجو أن نوضحه بعدُ أتم الإيضاح
وإنما نقول: إن الناس قلد بعضهم بعضًا في تلك القضية الكاذبة حتى المسلمين، كما
قلد بعضهم بعضًا في أن الدين المسيحي انتشر بالدعوة، مع أن التاريخ يشهد أنه لم
ينتشر لا سيما في أوربا إلا بالقوة القاهرة. كان من تأثير هذا التقليد أن تشاهد القسوة
وشدة التعصب في النصارى أضعاف ما هي في المسلمين حتى أن الجنس الواحد يوجد
فيه العريق في الإسلام والحديث العهد به فيكون الثاني أشد تعصبًا من الأول ويلاحظ
هذا أهل البحث والذكاء ويثبتونه بالكتابة ثم يقرنون به القول بأن شدة التعصب قد
لابست نفوس هؤلاء الداخلين في الإسلام بتأثير الإسلام وكونه دين قسوة وجهاد! ألم
يكن الأقرب إلى الإنصاف أن يقال إن هؤلاء المرتقين إلى الإسلام عن النصرانية قد
حملوا ما كان عندهم من شدة التعصب في دينهم القديم إلى دينهم الجديد وبذلك امتازوا
في التعصب على الأصلاء فيه الذين ورثوا التساهل وتربوا على الدين القاضي باللين
والمجاملة، فلم يكن عندهم شيء من ذلك التعصب الذميم؟ ولكن التقليد يحول دون
هذا الحكم العادل.
__________(6/223)
الكاتب: بعض الأفاضل
__________
سؤال في التثليث
لبعض الأفاضل
سؤال للمسيحيين أرجو ... إجابتهم عليه مع اليقين
هل التثليث في المولى قديم ... أم الأقنوم أُحدث بعد حين
وليس على الحدوث يقر قوم ... وعن قدم القديم تجاوبوني
أموسى كان يجهل أم بمين ... أتى أم غيروا أركان دين
وليس بجهله أحد مقرًّا ... ولا بالمين يرمى والمجون
فقولوا قومه نقصو وزادوا ... بذلك صح قرآن الأمين
وأما كون موسى قد دعاهم ... على قدر العقول فسامحوني
وإن الحق يغلب كل ظن ... دعوا تثليثكم أو جاوبوني
شرح السؤال
أرجو قبل كل شيء من المسيحيين عمومًا - وأخص ذوي العقول السامية
والأفكار الراقية خصوصًا - أن يجاوبوا بما يطمئن إليه فؤادهم وترتاح إليه
ضمائرهم، ويسكن إليه خاطرهم، ولمنع سوء التفاهم أو التجاهل سأشرح السؤال
شرحًا كافيًا، وهو:
هل التثليث في ذات الله سبحانه مع الأقانيم حادث أو قديم؟ فإن كان حادثًا
لزم الغِيَر في ذات الله، وهو مُحال باتفاق، وإن كان قديمًا فمن المعلوم أن الله
أرسل قبل المسيح عليه السلام رسلاً أو آباء - كما تسمون - بشرائع مخصوصة،
نخص من بينهم موسى عليه السلام؛ لوجود بقية من أتباعه، ولاعتراف المسيح
بناموسه وإقراره بأصل شريعته، وأنه مكمل لها فقط، ولو سألنا قومه عن
أصل شريعتهم وعن اعتقادهم في الله المبني على دعوة موسى - لأجابوا
بالتوحيد المطلق المجرد عن التثليث والأقانيم أحد من كتبهم. فهنا نقول: هل
هذه هي دعوة موسى، وأنها كانت للتوحيد المطلق أو أن قومه غيروها وكانت
بالتثليث؟ فإن قالوا بالأخير صدق القرآن في أنهم يغيرون ويبدلون، ويحرفون
الكلم عن مواضعه، وما صدق على أحد المثلين يصدق على الآخر، فلا ثقة إذا في
الديانة المسيحية وكتبها ولا داعي لاعتقاد صحتها، بل يجب أن تكون الثقة
في الموثوق به وهو القرآن المجيد. وإذا أجابوا بالأول وأن دعوة موسى كانت
للتوحيد قلنا: هل كان موسى يجهل ما يجب اعتقاده في مولاه الذي أرسله واصطفاه
من بني إسرائيل المصطفين على العالمين؟ أو كان يكذب على قومه
فيدعوهم إلى أن الله واحد فقط وهو يعلم أنه ثلاثة في واحد أو واحد في ثلاثة أقانيم
؟ أو كان يستعمل التورية في أساس الرسالة؛ إذ معرفة الله أصل كل دين وأساس
كل رسالة وشريعة سماوية، سيقولون: إنه كان يعلم أنه واحد في ثلاثة (أي يعلم
التثليث) ولكن لم يؤمر بتبليغه؛ لأن الشرائع تأتي علي قدر العقول.
ولكن نقول لهؤلاء: إن المعهود في تاريخ البشر هو ميلهم إلي الوثنية والتعدد
وهؤلاء قدماء المصريين ووارثوهم اليونان وبعدهم الرومانيون الذين بنيت دولتهم
بأنقاض دولة اليونان كان تعدد الآلهة فيها وقبلها آخذًا حده - ولعل سر التثليث جاء من
هنا - فلو أتي موسى قومه ودعاهم علي قدر العقول لكان الأليق به أن يدعوهم إلى
التثليث ويقلل تعدد الآلهة نوعًا ما خصوصًا وقد كان ظهوره في مدة مجد المصريين،
وتعدد الآلهة عندهم أشهر من أن يذكر - فهذا قول لا يقوله عاقل.
وإن قالوا: إن قضية التثليث غير معقولة فيجب الإيمان بها اتباعًا للوحي
نقول: فلِمَ لَمْ يدعُ إليها موسى والأنبياء وهي لا يشترط فيها العقل ولا الاستعداد؟ !
والنتيجة أن التثليث ليس بحادث ولا قديم وكل ما كان كذلك فهو باطل، فالتثليث باطل
لأنه لو كان حادثًا للزم التغير في ذات الله وهو باطل، فالتثليث ليس بحادث ولو كان
قديمًا لقال به موسى عليه السلام والأنبياء ولكنهم لم يقولوا به فهو ليس بقديم. ولا
يعقل أن موسى عليه السلام كان جاهلاً أو كاذبًا أو مورِّيًا في أصل الدعوة والمعقول
أنه لم يكن تثليث فثبت ما تقدم من نفيه.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (س ن. ان)
__________(6/225)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإنجيل الصحيح
(النبذة الثانية من مقدمة كتاب الأناجيل للفيلسوف تولستوي)
قال: لما قضيت الخمسين من عمري سألت الحكماء الذين عرفتهم عن كوني
الخاص وعن معنى حياتي. فكان الجواب أنني عبارة عن ذرات اجتمعت ببعضها
وأن حياتي خلو من المعنى بل إنها رديئة. فداخلني اليأس من هذا الجواب وكاد
يحملني على الانتحار ولكنني ذكرت حالتي في عهد الطفولية حينما كان الإيمان
راسخًا في قلبي وكان للحياة معنى عندي، ثم نظرت فرأيت جمهور الناس حولي
راضين بالإيمان ولم يبطرهم المال فيجرهم إلى الفساد؛ فلذلك يعيشون عيشة حقيقية
مملوءة بالمعاني فكان بعد ذلك كله أنني بدأت أرتاب في الجواب الذي أوحت به إلي
حكمتي وحكمة أمثالي وعاودت النظر كرّة أخرى عساني أدرك الجواب الذي تجيب
به النصرانية أولئك القوم الذين كنت أراهم عائشين عيشة حقيقية.
فطفقت حينئذٍ أدرس النصرانية كما كنت أراها في حياة الناس وشرعت في
مقابلة هذه النصرانية المعمول بها على الأصول المنبعثة عنها. وهذه الأصول إنما
هي الأناجيل، وقد وجدت فيها هذا المعنى الذي يسمح للناس أن يعيشوا عيشة
حقيقية. ولكني رأيت فيما آلت إليه النصرانية في هذه الأيام كما يرى الناظر في
الينبوع. رأيت ماءً صافيًا مشوبًا بالأكدار والأوحال، وهذه الشوائب هي التي حالت
بيني وبين رؤية صفاء هذا الماء إلى الآن. رأيت حينئذ أنني خلطت بين سمو
العقيدة النصرانية وبين العقيدة العبرانية والعقيدة الكنائسية وأن كلتا هاتين العقيدتين
أجنبيتان عنها بل مخالفتان لها. فشعرت بما يجده الرجل الذي يعطونه كيسًا من
التراب ولكنه بعد الكد والكدح والتعب والنصب يعثر فيه على بضع لآلئ تعلو
قيمتها الوصف والتقدير، فمثل هذا الإنسان لا يرى أنه قد أذنب في نفوره من التراب
وكذلك الذين جمعوا تلك اللآلي مع بقية ما حواه والكيس وحفظوه بما فيه من ثمين
ومبتذل ليسوا أيضًا بمذنبين، بل يستحقون الإجلال في محل الإكرام والإجلال. ثم
هو يتساءل بعد ذلك عما يجب عليه فعله بهذه الدراري الغالية التي وجدها مختلطة
بالأوحال والرمال. وهذا لعمري موقف حرج. ولقد لبثت فيه إلى أن أدركت في
أحد الأيام أن هذه الأحجار الكريمة لم تكن دائمًا مختلطة بما يشوبها من الأكدار وأنه
يتسنى تخليصها منها وتمييزها عنها.
لم يكن لي علم بماهية النور وكان يخطر ببالي أن هذه الحياة ليس فيها أدنى
حقيقة على الإطلاق ولكنني لما أدركت أن النور وحده هو حياة الناس طفقت أبحث
عن مطالع النور وقد عثرت عليها في الأناجيل بالرغم مما أدخلته الكنائس فيها من
شوائب التوفيق والتطبيق. فلما وصلت إلى هذه المشارق التي ينبعث منها النور
انبهرت من شدة ضيائها ثم وجدت فيها بعد ذلك الجواب السديد عن المسائل التي
كانت تخالج فؤادي فيما يتعلق بمعنى حياتي وحياة سائر الناس، وقد ألفيت هذا
الجواب مطابقًا من كل الوجوه للجواب الذي نالته الأمم الأخرى بل هو في نظري
يزيد عليه زيادة عظيمة، ولقد كنت أبحث عن ماهية الحياة وعن حل مسألة لاهوتية
أو تاريخية ولذلك لم يكن يعنيني العلم بالذي كتب الأناجيل ولا بوقت تسطيرها ولا
بما إذا كانت هذه الأسطورة أو تلك الأمثولة صادرة عن المسيح نفسه أم لا. وإنما
الأمر المهم عندي هو ذلك النور الذي أرسل شعاعه على الناس منذ ألف وثمان مئة
عام والذي استضأت به ولا أزال أستضيء به أيضًا. أما الاسم الذي يليق بمطلع
هذا النور والعناصر التي يتألف منها موجده، فكل هذه أمور لم يكن لها نصيب من
عنايتي على الإطلاق.
ثم أخذت أنظر إلى هذا النور وأراقب وأدرس كل ما يستضيء به، فكنت كلما
تقدمت في هذا السبيل تتضح لي زيادة الفرق المتعاظم على التوالي بين الحق
والكذب، وفي مبادئ عملي كان الشك لا يزال عالقًا بنفسي وكنت أحاول فنونًا من
التأويلات الصناعية، ولكنني كلما واليت البحث كانت الحقيقة تتراءى لي في ثوبها
الناصع الجميل.
وكان مثلي حينئذ كمن يجمع قطع التمثال المتكسر، فإنه في أول الأمر يتشكك
ويسائل نفسه: هل هذه القطعة مما يجب وضعه في الساق أو في الذراع؟ ولكنه متى
تسنى له إعادة الساق تامة كاملة يتحقق أن تلك القطعة ليست من الساق في شيء
ومتى وجد في الذراع نقصًا تنطبق عليه تلك القطعة تمام الانطباق فإنه لا يتردد
لحظة واحدة في تعيين المكان الذي كان مخصصًا في أول الأمر لهذه القطعة من
التمثال. فكنت كلما تقدمت في عملي يزداد هذا الشعور تمكنًا في نفسي. وإذا لم
يكن الجنون قد استولى على عقلي فلا شك أن القارئ يجد في نفسه أيضًا مثل هذا
الوجدان حينما يقرأ ترجمتي الكبيرة للأناجيل، فإن كل نظرية من نظرياتي مشفوعة
بالدليل اللغوي وبمقارنة النصوص المختلفة ببعضها وبانطباقها تمام الانطباق على
الفكرة الأساسية التي بني عليها تعليم المسيح.
وربما ساغ لي الوقوف عند هذا الحد واختتام المقدمة بما أوردته إلى الآن إذا
كانت الأناجيل من الكتب التي عثر عليها الباحثون حديثًا أو كانت التعاليم المسيحية
لم تصادفها على الدوام من ألف وثمان مائة عام سلسلة متوالية من الأباطيل في
التأويل.
ولكي يفهم الناس في هذه الأيام حقيقة دين المسيح كما كان يدركها هو نفسه
أرى من الواجب التنبيه على الأسباب الجوهرية التي أوجبت تلك التأويلات الفاسدة
وتلك التصورات الكاذبة التي جرتها على أثرها. إن السبب الأصلي لهذه التأويلات
الباطلة التي يصعب علينا معها اليوم العثور على حقيقة دين المسيح هو أن هذا
الدين قد اختلط بمقالات وطقوس الفارسيانيين وبما جاء في العهد القديم من الآراء
والمذاهب وكان ذلك منذ أيام بولس الذي لم يدرك قط حقيقة دين المسيح [1] والذي
لم تخطر على باله أيضًا بصيغتها التي عرفها الناس بها من بعده على مقتضى
إنجيل متى، فقد جرت العادة على اعتبار بولس كرسول الوثنيين وكالرسول القائم
بالاحتجاج (البروتستانتي) ولقد كان كذلك في الواقع ونفس الأمر ولكن فيما يتعلق
بالصيغ الخارجية فقط كالختان وغيره. بل هو الذي أدخل في النصرانية تعاليم
اليهود وسننهم بضمّه العهد القديم إلى العهد الجديد وقد كانت هذه التعاليم المشوبة
بسنن اليهود السبب الأساسي في تشويه العقيدة المسيحية وتأويلها على غير وجه
الحق.
فمن عصر بولس كان ابتداء ذلك التلمود المسيحي الذي هو اليوم عبارة عن
تعاليم الكنيسة، ومن ذلك الوقت أصبح دين المسيح لا يعتبر واحدًا وكاملاً وإلهيًّا، بل
مجرد حلقة من حلقات سلسلة الوحي العظيمة التي تبتدئ من يوم الخليقة وتمتد حتى
تصل إلى الكنيسة في أيامنا هذه.
وبنى على هذا التأويل الباطل تسمية المسيح بالإله ولكن الاعتراف بألوهية
المسيح لا يلزم (كما يظهر) على تعليق أدنى أهمية على كلمته الإلهية أكثر من
اهتمامه بكلمات التوراة والمزامير وأعمال الرسل ورسائلهم والرؤيا، بل بقرارات
المجامع وكتابات الآباء [2] .
وهذا التأويل الباطل لا يسوغ مع تصور العقيدة المسيحية إلا إذا كانت موافقة
لكل ما جاء به الوحي قبل المسيح وبعده بحيث يكون الغرض من هذا التأويل هو
التوفيق بقدر الإمكان بين كتب مختلفة يناقض بعضها بعضًا مثل التوراة والمزامير
والأناجيل والرسائل والأعمال وسائر الكتب المعتبرة مقدسة.
ومن البديهي أنه إذا كان المبدأ بهذه الصفة لا يجوز لإنسان أن يطمع في
إدراك تعليم المسيح كما ينبغي. وهذا المبدأ الفاسد هو الذي أوجب تعدد الآراء
واختلافها الكثير في حقيقة معنى الأناجيل. إذ لا يخفى أنه يمكن حدوث عدد غير
محدود من أمثال هذه التأويلات التي لا يقصد منها البحث عن الحقيقة، بل توفيق
النقيضين اللذين لا يتفقان وهما العهد القديم والعهد الجديد. وفي الحقيقة أن هذه
التفاسير لا تدخل تحت حصر ولأجل إظهار هذه التفاسير في مظهر يشابه الحقيقة
اضطر أصحابها إلى الالتجاء إلى وسائل خارجية مثل الخوارق ونزول الروح
القدس عليهم ونحو ذلك.
وقد اجتهد كل واحد منهم - ولا يزال يجتهد - في التوفيق على ما يراه ثم ترى
كلاً منهم يدعي بأن توفيقه هو آخر وحي صادر عن الروح القدس. مثال ذلك ما جاء
في رسائل بولس وفي قرارات المجامع التي تبتدئ بهذه العبارة: (قد وافقنا ووافق
الروح القدس) ومثال ذلك أيضًا الأوامر الصادرة عن الباباوات وعن المجامع
المقدسة للأرثوذكسيين والبولسيين وكل هؤلاء المفسرين الكاذبين في دعوى بيان فكر
المسيح. فكلهم يلتجئون إلى هذه الرسائل الشاذة المستنكرة لتأييد صحة ما يذهبون
إليه من التوفيق، فهم يجزمون بأن هذا التوفيق ليس من نتائج أفكارهم الشخصية
وإنما هو شهادة صادرة عن الروح القدس مباشرة.
ولسنا نحاول البحث والتنقيب في هذه الديانات المتنوعة التي يزعم أصحاب
كل واحدة منها أنها هي الحق دون سواها ولكننا نقول بأننا نرى مع ذلك أنها كلها
تبتدئ بتقديس الكتب الكثيرة التي تضمنها العهد القديم والعهد الجديد وأنها توجب
بنفسها على نفسها حدوث عقبة لا تزول في فهم الدين المسيحي الحقيقي ويترتب
على ذلك حتمًا تعدد الشيع المتناقضة تعددًا لا يدخل تحت حصر.
ولكن هذا التعدد الذي لا يتناهى إنما نشأ عن التزام القوم التوفيق بين عدد
عظيم من آثار الوحي المتعدد فإن تفسير مذهب الشخص الواحد الذي يعتبرونه كإله
لا يمكن أن يستوجب اختلاف النِّحل والشيع مطلقًا إذ لا يصح القول بتفسير التعليم
الذي جاء به إله قد نزل على الأرض ويكون هذا التفسير بطرق مختلفة.
فإذا كان الله نزل على الأرض لإظهار الحق للناس فأقل ما كان يصنعه أنه
يبين لهم هذا الحق بطريقة يفهمها الجميع بلا التباس ولا اشتباه، فإذا لم يكن قد صنع
هذا فذلك دليل على أنه لم يكن إلهًا!!!
وإذا كانت الحقائق الربانية هي بحيث لم يقدر الإله نفسه على إبرازها في
صورة يدركها الناس، فمن الطبيعي أن الناس لا يتمكنون أيضًا من الوصول إلى
هذا الغرض.
ومن جهة أخرى نقول: إذا كان المسيح ليس هو الله وإنما هو من عظماء
الرجال ونوابغهم فإن تعليمه لا يترتب عليه أيضًا كثرة الشيع المتناقضة؛ لأن مذهب
الرجل العظيم لا يكون عظيمًا إلا لكونه أوضح بصفة صريحة واضحة ما قاله غيره
بطريقة مبهمة بعيدة عن الإدراك. وكل ما كان غير مفهوم في خطاب الرجل
العظيم لا يمكن أن يكون عظيمًا فإن مذهب الرجل العظيم ينبغي أن يجمع الناس
كلهم على حقيقة واحدة يشتركون فيها على السواء وإنما التأويل الذي يزعم صاحبه
أنه صادر عن وحي من الروح القدس وأن فيه الحق وحده - هو الذي يثير البغضاء
في النفوس ويوجب اختلاف الشيع والمذاهب ولا عبرة بما يقوله أصحاب بعض
المذاهب من أنهم لا يحكمون بالضلال على من يخالفهم وأنهم لا يودون لهم السوء
وليس في أنفسهم حفيظة عليهم، فإن ذلك مما لا يمكن أن يكون له نصيب من
الحقيقة. فمنذ عهد آريوس لم يوجد مذهب واحد ولدته غير الرغبة في معارضة
المذهب الذي يناقضه! وأقصى درجات الغرور والجنون أن يقال بأن هذه العقيدة هي
صادرة عن الوحي ومقتبسة من الروح القدس ومن منتهى الغرور أن يقول
الإنسان بأن ما يصدر عنه من الآراء إنما هو من قول الله نفسه على لسانه. ولا
أرى أكذب من ذلك الذي يجيب مثل هذا الإنسان بقوله: (كلا، إن الله لم يتكلم
بلسانك، بل بلساني وإنه يقول ما يناقض ما نسبته إليه على خط مستقيم) وهذه
لعمري طريقة المجامع كلها والكنائس بلا استثناء والشيع على اختلاف مقالاتها
وآرائها، وهذا هو الذي أوجب ويوجب الشرور في العالم باسم الدين، هذا هو
العيب الخارجي العظيم، والشيع كلها تتألم من عيب آخر داخلي. يمنعها أن تكون
لها صبغة واضحة مضمونة معينة.
وهذا العيب يتولد من قيام هذه الشيع بإثبات تأويلاتها الفاسدة والقول بأنها
منتهى ما جاء به الوحي عن الروح القدس وهي مع ذلك لا تُعنَى ببيان جوهر هذا
الوحي ولا معناه بطريقة صريحة حاسمة لكل جدال مع أنها تدعي بأنها تلقته عن
الروح القدس وأنها متممة لهذا الروح وهي تسمي هذه التأويلات بالدين المسيحي.
فالمؤمنون الذين يسلمون بصدور الوحي عن الروح القدس إنما يسلمون في
الحقيقة ونفس الأمر بثلاث جهات للوحي، ومثلهم في ذلك مثل المسلمين؛ فإنهم
يعتقدون بالوحي إلى موسى وعيسى ومحمد. والمؤمنون من المسيحيين يعتقدون
بالوحي إلى موسى والمسيح والروح القدس. ولكن الديانة الإسلامية تقول بأن
محمدًا هو آخر الأنبياء وأنه وحده قد فسر بطريقة نهائية الوحي الذي جاء به موسى
وعيسي وقد توَّجهما بإضافة الوحي الذي تلقاه. أما حالة الكنائس المسيحية فهي
على نقيض ذلك بالمرة، فإنها بدلاً من أن تسمي دينها باسم الوحي الأخير الصادر لها
أعني (دين الروح القدس) فإنها تقول وتؤكد بأن دينها هو دين المسيح وأنه مبني
على تعليم المسيح بحيث إنها في الحقيقة ونفس الأمر تقدم لنا تعاليمها الخاصة بها
وتزعم أنها تؤيدها باسم المسيح وبشهادته!
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: هذا هو ما كنا نعتقده، وصرَّحنا به مرارًا، وقد سبق أن سمينا الديانة النصرانية المعروفة بالديانة البولُسية، ولا غَرْوَ فالذين يطلبون الحق كثيرًا ما تتلاقى أفكارهم، وما آفة الحق إلا التقليد.
(2) هكذا جاءت هذه الجملة في الترجمة، فلتُنظر.(6/226)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الباب وقرة العين
يرى بعض الفضلاء أن من حقوق قراء المنار علينا إذا نحن نشرنا شيئًا من
كلام غيرنا أن ننتقد ما نراه فيه منتقدًا في اللفظ أو الفحوى، سواء كان ذلك مرسلاً
إلينا أو منقولاً من الكتب أو الجرائد والمجلات. ولم نَرَ أحدًا التزم مثل هذا ونظن
أن أكثر الناس لا يقول به إلا في موضوع يقصد صاحب المجلة إلى إثباته فيجيء في
الكلام المنقول ما ينفيه، فينبغي له حينئذٍ أن يحتج لرأيه ولكن لا يجب عليه أن
يصل كل ما ينشره لغيره بمقال ينتقده فيه مطلقًا إذا هو وجد ما يصح أن ينتقد.
ومما انتقد علينا بالنص سكوتنا على ما جاء في ذلك المكتوب المنشور في
الجزء الثاني من ذكر الباب وقرة العين في النابغين الذين يُعَد واحدهم بألف، قال
المنتقد: إن الباب رجل مبتدع دجال لم يأتِ بشيء يرفعه إلى مصاف النابغين وأما
قرة العين فهي بَغي أباحت نفسها للناس وفتنتهم بجمالها وقد عاقبتها الحكومة
الإيرانية بأن ربطتها في أذناب الخيل فعدَتْ بها حتى مزقتها كل ممزق.
ونحن نوافق المنتقد ونظن أن عذر الكاتب عدم الوقوف على كل ما يعرفه
أمثاله؛ فإن هذا إيراني وذلك مغربي، يسمع أن الباب أنشأ مذهبًا تبِعه فيه خلق
كثير وأن قرة العين كانت من دعاة مذهبه وكانت عالمة خطيبة مؤثرة وهذا هو ما
كنا نسمعه قبل الاختبار وتمام الاطلاع. ولا أقول أن الكاتب يعتقد صحة مذهب
الباب، بل أنا أعتقد أنه لا يشك في بطلانه. ومن قدر على إنشاء مذهب باطل
يتبعه فيه ناس كثيرون فهو نابغ في استعداده الفطرى ولكنه وجه استعداده إلى الباطل،
ولو وجهه إلى الحق لنفع نفعًا عظيمًا؛ لأن قوة استعداده تؤيَّد بقوة الحق.
ونعيد هنا ما كنا قلناه من قبل وهو أن البابية أو البهائية لم يأتوا بمذهب جديد
في الإسلام، وإنما أحدثوا دينًا جديدًا كالنصرانية سواء، وأن أتباعهم ليسوا من
الكثرة كما يدعون. وإنما هم قوم يوهمون ويموهون.
__________(6/232)
الكاتب: أحمد علي ضيف
__________
الطلاق على الغائب والمعسر في السودان
حضرة الأستاذ الفاضل صاحب مجلة المنار الإسلامي:
اطلعت في المنار الأخير على مدحكم خطة قاضي قضاة السودان وما أدخله
من الإصلاح في المحاكم الشرعية وغيرها، فكنت أشارككم في الشكر له حتى انتهيت
إلى عبارة استوقفت نظري، فكنت محتاجًا لشرحها منكم بأجلى بيان وهي قولكم:
(ومن الإصلاح الذي سبقت إليه محاكم السودان ونرجو أن تلحقها فيه محاكم مصر
الطلاق على الغائب والمعسر فقد كانت المحكمة الكبرى نشرت في سائر المحاكم
منشورًا تؤذنها فيه بالحكم في ذلك على مذهب الإمام مالك) ولقد أردت فهم هذه الجملة
على وجه الوضوح فلم أتمكن وذلك لأن قاضي قضاة السودان مأذون من قاضي مصر
النائب عن الإمام في الحكم على مذهبه فهو حينئذٍ ملزم بأن يحكم ويأمر بالحكم على
مذهب الإمام وأيضًا كثير من هؤلاء القضاة من هو حنفي المذهب فيكون مضطرًّا
لأن يحكم على غير مذهبه ومن المقرر في الفقه أنه إذا قضي القاضي بغير مذهب
الإمام وقد اشترط عليه أن يحكم به يكون حكمه لاغيًا وهو معزولاً من منصبه وكذلك
إذا حكم غير المجتهد بغير مذهب يكون أيضًا حكمه لاغيًا. فكيف يكون حكم هؤلاء
القضاة وهم مأذونون من قاضي مصر النائب عن الإمام وفيهم من هو حنفي
المذهب وليسوا بمجتهدين؟ الرجا توضيح هذه المسألة؛ ليكون لكم الفضل وعظيم الأجر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه أحمدعلي ضيف
... ... ... ... ... ... ... ... بالأزهر
(المنار)
إن ما قاله الفقهاء من اشتراط كون القاضي الذي ينفذ حكمه منصوبًا من قبل
الإمام أو السلطان ليس أمرًا تعبديًّا فرضه الله تعالى علينا في كتابه أو على لسان
رسوله لنعبده به، وإنما هو أمر لا بد منه لأجل وحدة الأحكام وتنفيذها. والسلطان أو
الإمام عندهم هو من ينفذ الأحكام الشرعية فإذا كان عاجزًا عن ذلك بالفعل فهو ليس
بسلطان ولا إمام. وأنتم تعلمون أن السلطان الذي نصب قاضي القضاة في مصر لا
يقدر على تنفيذ الأحكام الشرعية في السودان بالفعل، وأنتم تعرفون الذي يقدر على
ذلك. وإنما للسلطان العثماني حق الحكم في السودان بالتبعية لمصر، والإنكليز قد
احتلوا مصر بإذنه لمنع الفتن التي كانت فيها فلا يصح لهم أن يتغلبوا على جزء من
أملاكها باسم الفتح لأن يدهم على البلاد يد أمانة. وهذه مسألة سياسية تتبعها رسوم
معروفة، فإذا لم تقل: إن الأحكام في السودان كالأحكام في الهند، فقل: إنها تشبه
الأحكام في الجزائر أو تونس التي تعتبرها الدولة العلية من بلادها إلى الآن أو في
كريد.
الحق أنه ليس للمسلمين الآن إمام قادر على تنفيذ الأحكام الشرعية في بلادهم
كلها حتى البلاد التي ليس فيها أعلام أجنبية. فهذه مصر تحكم محاكمها الشرعية
ببعض الأحكام فلا تنفذ والخديو وقاضي مصر نائبا السلطان صاحب السيادة
(الاسمية الرسمية) على مصر يعلمان ذلك. لأجل هذا نرى بعض المعتقدين
بصحة قول الحنفية أنه يشترط في صلاة الجمعة أن تكون في بلاد تنفذ فيها الأحكام
الشرعية - لا يصلون الجمعة في بلاد مصر ولكنهم يصلون الظهر. وكان الواجب
على كل المعتقدين بهذا المذهب أن يسعوا في تنفيذ الأحكام الشرعية في مصر كحكم
قاضي (أبي كبير) وغيره بإلحاق زوجات الداخلين في الإسلام من القبط بأزواجهم
وأن لا يصلوا الجمعة حتى يتم لهم ذلك.
نرى السائل قد اضطرنا إلى ذكر أمور يجهلها الأكثرون ويستنكرها
المغرورون، وإنما ذكرناها لنذكره أين هو وأين السودان من السلطان. وإننا نرجع
بعد هذا إلى الحجة البيضاء الناصعة وهي أن جميع أئمة المسلمين قد اشترطوا أن
يكون القاضي مجتهدًا يحكم بما يرى فيه المصلحة، ولم يقل بجواز كونه مقلدًا إلا
بعض المقلدين الذين لا يعتد بأقوالهم، ونذكر هنا ما كتبناه في مقدمة طبع (تقرير
مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية) وهو:
(الأمر الثالث) أن تؤلف لجنة من العلماء لاستخراج كتاب في أحكام
المعاملات الشرعية ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر لا سيما الأحكام التي
هي من خصائص المحاكم الشرعية يكون سهل العبارة لا خلاف فيه كما عملت
الدولة العلية في مجلة الأحكام العدلية. ولا يكون هذا الكتاب وافيًا بالغرض واقيًا
للمصالح إلا إذا أخذت الأحكام من جميع المذاهب الإسلامية المعتبرة ليكون اختلافهم
رحمة للأمة. ولا يلزم من هذا التلفيق الذي يقول الجمهور ببطلانه كما لا يخفى. وقد
أشير في صفحتي 38و40 من التقرير إلى عدم التقيد بالمذهب الحنفي وتوهم بعض
الناس أن هذا يمس حقوق مولانا الخليفة وأن الأحكام بغير مذهب الحنفية لا تصح
ولا تنفذ لهذا، ونجيب عنه بأمور:
(1) جاء في كتاب الأحكام السلطانية ما نصه (فلو شرط المولي وهو حنفي
أو شافعي على من ولاه القضاء أن لا يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة فهذا
على ضربين: أحدهما أن يشترط ذلك عمومًا في جميع الأحكام، فهو شرط باطل
سواء كان موافقًا لمذهب المولي أو مخالفًا له، وأما صحة الولاية فإن لم يجعله شرطًا
فيها وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي وقال: قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب
الشافعي رحمه الله، على وجه الأمر أو لا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه
النهي - كانت الولاية صحيحة والشرط فاسدًا سواء تضمن أمرًا أو نهيًا، ويجوز أن
يحكم بما أداه إليه اجتهاده سواء وافق شرطه أو خالفه، ويكون اشتراط المولي لذلك
قدحًا فيه إن علم أنه اشترط ما لا يجوز ولا يكون قدحًا إن جهل، لكن لا يصح مع
الجهل أن يكون موليًّا ولا واليًا، فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية فقال:
قد قلدتك القضاء على أن لا تحكم فيه إلا بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة - كانت
الولاية باطلة؛ لأنه عقدها على شرط فاسد، وقال أهل العراق: تصح الولاية ويبطل
الشرط اهـ المراد منه.
(2) لا يعدل عن مذهب الحنفية إلا في الأحكام التي لا تنطبق على مصلحة
الناس في هذا العصر إذا حكم فيها بمذهبهم وهذه حالة ضرورة أو حاجة تنزل منزلة
الضرورة، وبهذا الاعتبار تكون من مذهبهم لأن الحكم الذي تمس إليه الحاجة أو
يضطر إليه يصير متفقًا عليه. اهـ المراد هنا، ومنه يعلم الجواب والاجتهاد يتجزأ
على الراجح.
__________(6/233)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
الاجتهاد والتقليد
(س1) : م. غ. بالأزهر: طالعت في مجلتكم الغراء (م4) بحث
الوحدة الإسلامية والاجتهاد والتقليد والرجوع إلى بساطة الدين الأولى بأخذ الأحكام
الدينية من الكتاب والسنة اللذين من تمسك بهما نجا ومن حاد عنهما هلك. وقد عثرت
على كتاب (كشف الغمة) للشيخ الشعراني، فإذا هو كتاب في الحديث مرتب
كترتيب كتب الفقه ذكر فيه أدلة الأئمة كلهم ولم يتعصب لمذهب من المذاهب وإذا
تعارض حديثان صحيحان من جهة التخفيف والتشديد حمل أحدهما على الرخصة
والآخر على العزيمة ولا يحكم بنسخ حديث إلا بحديث آخر مصرح بنسخ الأول
كقوله عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأسقية فانتبذوا في كل
وعاء ولا تشربوا مسكرًا) فهل أحاديث هذا الكتاب صحيحة، فنعتمد عليه في
العمل؟ وإذا عرض لنا حكم لم نجده فيه ولا في غيره من كتب السنة الصحيحة
كالكتب الستة ومسانيد الأئمة الأربعة فهل يجوز لنا أن نأخذ هذا الحكم من مذهب
أي إمام غلب على ظننا صحة قوله أم يجب علينا أن نجتهد لنأخذ ذلك الحكم؟
أفيدوا تؤجروا.
(ج) هذا الكتاب أحسن ما كتب الشعراني والخلط فيه قليل جدًّا وليست
أحاديثه كلها صحيحة ولا حسنة بل فيها ما لا يصح الاستدلال به. وأحسن منه
في هذا الباب كتاب (نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار) فإن مؤلفه الإمام
الشوكاني يخرج أحاديث المنتقى ويأتي بما قاله أهل الجرح والتعديل في أسانيدها
وباستنباط الأئمة منها، فهو أفضل كتاب يهدي إلى فهم السنة في أحكام العبادات
والمعاملات. أما ما يعرض للإنسان من المسائل التي لا ذكر لها في الكتاب
والمعروف من السنة فالواجب عدم البحث عنها عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم:
(وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) وإنما يأتي هذا في أحكام
العبادات خاصة التي تمت على عهده صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى في ذلك
قوله: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) ؛ فالعبادات لا اجتهاد فيها ولا
استنباط إلا الاجتهاد في التمييز بين الصحيح وغيره من الأخبار وفي تحصيل مَلَكَة
العربية لفهم ذلك والاجتهاد الحقيقي إنما يكون في الأحكام الدنيوية التي يتنازع فيها
الناس ولا تنازع في عبادة الله تعالى. وعندنا أن من يعرف الحق في هذه باقتداره
على الاستنباط يعمل به ومن لم يعرفه أو عرفه وكان له خصم لا يقبل حكمه،
فالواجب عليه رده إلى أولي الأمر، قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي
الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) وأما السؤال عن الأخذ
بقول من يغلب على الظن صحة قوله ففيه أن غلبة الظن لا تأتي إلا من الاطلاع
على الدليل والوقوف على وجه ترجيحه على مخالفه، إن كان هنالك مخالف وهذا لا
نزاع فيه، وصاحبه لا يسمى مقلدًا.
***
مأتم عاشوراء
(س2) ر. ع. بمصر: كنا نتوقع منكم أن تكتبوا في شهر المحرم شيئًا
في انتقاد ما يفعله إخواننا الشيعة من المنكرات في عاشوراء كضرب رؤوسهم
بالسلاح حتى تسيل منها الدماء على وجوههم وثيابهم وما يتبع ذلك مما هو مشاهَد.
وليس المنار خاصًّا بأهل السنة حتى تنتقدوا كل المنكرات الفاشية فيهم وتتركوا
إخوانهم من أهل الشيعة، وإنما هو منار عام. فإن كنتم تجدون لهم وجهًا يسوغ ما
يفعلون فتفضلوا بإعلامنا به.
(ج) لقد صدق السائل في حكمه بأن المنار عام وقد جاءنا بعد ورود هذا
السؤال كتاب من بعض الفضلاء في (تبريز) يقول فيه: إن الأمة الإسلامية أحوج
إلى مثل هذا (المنار) منها إلى سائر المعارف وأنه ينبغي أن يكتب فيها ما يرشد أهل إيران والهند ولا يصح أن يكون خطابه مع أهل مصر خاصة.
ونقول: إن مباحث المنار كلها عامة إلا ما يتعلق ببعض المسائل الجزئية
وأحوال المسلمين فيها متشابهة فالعبرة فيها عامة. وما منعنا أن نتكلم في شؤون
البلاد الإسلامية البعيدة إلا قلة الوقوف على تفصيلها وتأثيرها، وزِد على ذلك قلة
القراء في البلاد الإيرانية على أن قليلهم لا يقال له قليل لأنهم من كبار العلماء
والأمراء أصحاب النفوذ الروحي والاجتماعي. أما ما يفعلونه في عاشوراء من
ضرب أنفسهم وجرحها بالسيوف فهو منكر تقشعرّ منه الجلود ويجعل المسلمين في
نظر الأجانب كالوحوش أو المجانين على أنه لا فائدة فيه مطلقًا. نعم، كان يتصور
أن يفيد لو كان لأولئك الذين قاتلوا آل البيت عليهم السلام عصبية موجودة وشوكة
نافذة وهم على ظلمهم وهضمهم؛ لأن مثل هذه الأعمال تحيي في النفوس شعور
العداوة والانتقام وتوطّنها على سفك دماء أولئك الأعداء، ولكن أولئك الظالمين قد
خضدت شوكتهم، وذهبت سلطتهم؛ بل مُحي اسمهم من لوح الوجود حتى لا نكاد
نرى من ينتسب إليهم. فكان ينبغي الاكتفاء في عاشوراء بمثل ما كنا ارتأيناه في
المولد النبوي والمولد الحسيني وهو أن يخطب الخطباء في سيرة صاحب المولد وما
كان عليه من الخلق العظيم وما وفقه الله تعالى له من العمل النافع مع توجيه النفوس
للتأسي والاقتداء به فإذا كنا لسنا في حاجة إلى الانتقام، وإذا كنا قد ذقنا فعرفنا جناية
سلّ الحسام، وإذا كنا مهددين في كل أرض لأن ديننا الإسلام وإذا كنا - كما نعلم -
على خطر لا ينجي منه إلا الاتحاد والالتئام، وإذا كان هذا الاتحاد متعذرًا من جهة
وحدة السلطة والأحكام - أفلا يجب علينا أن نلتمسه من جهة الوحدة الدينية في العقائد
المتفق عليها والأخلاق التي لا خلاف فيها. والأخوة التي دعانا القرآن إليها؟
أفلا ينبغي أن تتخذ هذه المواسم مذكرات بأفضل ما كان من سلفنا، وأنفع ما
كان من أئمتنا، ونجتهد في أن نجعل شعورنا واحدًا حتى يصدق علينا قول نبينا
صلى الله عليه وسلم: (ترى المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا
اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه الشيخان عن النعمان
بن بشير وفي رواية عنه لمسلم: (المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى
كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله) .
***
حبس النساء بالجوع والعري
(س3) أ. ع. بالأزهر: يذكر بعض الناس حديثًا أوله: (أجيعوا المرأة)
ويظهر أنه غير صحيح وإن استشهد به بعض مَن كتب في النساء فالمرجو بيان
ذلك.
(ج) جاء في آخر كتاب النكاح من كتاب (اللآلى المصنوعة في الأحاديث
الموضوعة) للحافظ السيوطي ما نصه:
(ابن عدي) : حدثنا محمد بن داود بن دينار حدثنا أحمد بن يونس حدثنا
سعدان بن عبدة حدثنا عبيد الله بن عبد الله العتكي عن أنس مرفوعًا: (أجيعوا
النساء جوعًا غير مضر وأعروهن عريًا غير مبرح؛ لأنهن إذا سمنَّ واكتسين
فليس شئ أحب إليهن من الخروج وإن هن أصابهن طرف من العري والجوع فليس
شئ أحب إليهن من البيوت وليس شيء خيرًا لهن من البيوت) لا يصح. العتكي
عنده مناكير، قال ابن عدي: وسعدان مجهول وشيخنا محمد بن داود يكذب. وقال
الشوكانى في فوائده: لا أصل له وكذا (أعروا النساء يلزمن الحجال) لا أصل له،
وكذا: (استعينوا على النساء بالعري) .
أقول: ومثل هذه الأحاديث المفتراة حديث: (لا تسكنوهن الغرف ولا
تعلموهن الكتابة وعلموهن المغزلة وسورة النور) رواه الخطيب عن عائشة مرفوعًا
وفي إسناده محمد بن إبراهيم الشامي كان يضع الحديث. وقد أخرجه الحاكم من
غير طريقه وقال: إنه صحيح الإسناد. وما أسرع الحاكم في الحكم بالتصحيح،
وتعقبه الحافظ ابن حجر في أطراقه فقال: إن في إسناد الحاكم عبد الوهاب بن
الضحاك وهو متروك.
***
الاقتداء بالمخالف وطهارة الكلب
(س4) السيد محمد طه في بربر: ما قولكم دام فضلكم في رجل شافعي
المذهب اقتدى بإمام مالكي توضأ بماء دون القلتين ولغ فيه كلب فهل هذه القدوة
صحيحة؟ وما حكم هذا الماء المنجس بفم الكلب؟
(ج) إن المسائل الاجتهادية يعذر فيها كل مجتهد بما يراه ولا يجوز أن
يكون اختلاف الرأي سببًا في التفريق بين المسلمين، فإن كنت تتصور أن الإمام
الشافعي يحرم الاقتداء بشيخه الإمام مالك فحرم أنت الاقتداء بمن يتبع مالكًا اتباعًا
للشافعي، ومعاذ الله أن يظن مسلم ذلك في الأئمة بعد قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ، نعم، إن
للفقهاء في هذه المسألة قولين مصححين: أحدهما الذي قلنا، والثاني أن القدوة غير
صحيحة ورجحه بعض المتأخرين سامحهم الله تعالى والحق ما قلنا.
وأما الماء الذي ولغ فيه كلب فقد ذهب الشافعي إلى نجاسته لما ورد من الأمر
بغسل الإناء وتتريبه وغيره يقول بأن الأمر بالغسل سبع مرات مع التتريب ليس
لأجل النجاسة؛ إذ المقصود من غسل النجاسة إزالتها وليس للولوغ تأثير تتوقف
إزالته على التسبيع والتتريب، ومال بعضهم إلى أن الأمر تعبدي وذهب بعض
الصوفية إلى أن له سببًا معنويًّا وهو أن شراب سؤره يقسي القلب، ولا يبعد أن
يكون السبب هو التوقّي من داء الكلب القتّال. ومهما كان السبب فلا يجب على
المسلم أكثر مما ورد في الحديث؛ لأنه إذا لم يظهر السبب يكون الأمر تعبّديًّا لا
يقاس عليه وإن ظهر السبب وقفنا عنده لا نتعداه.
***
أجرة التعدية
(س5) ومنه: إذا كان الحاكم مستوليًا على البحر أو النهر وأذن للناس
بالعبور على المراكب ونحوها من ناحية إلى أخرى وجعل على أصحاب المراكب
ضريبة فهل يجوز للمسلم أن يتخذ له مركبًا يعبر الناس عليه والبهائم بالأجرة؟
(ج) : نعم.
_______________________(6/236)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مأثرة للمنشاوي
أحمد باشا المنشاوي من أكبر المصريين ثروة ووجاهة وقد وجه في هذه
الأيام نفسه إلى التبرع وحبس الأراضي على معاهد العلم فأوقف على مدرسة محمد
علي الصناعية مائتي فدان، اشترط أن تسلم إليها بعد إنشائها بالفعل. وأوقف ثمانين
فدانًا على طلاب العلم في الجامع الأحمدي بطنطا وتبرع بالقسم السفلي من دار له
فسيحة في طنطا لمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية فيها. ويقال أنه عزم على
إنشاء مدرسة للبنات في القسم العلوي ويا حبّذا لو أنفذ هذا وعهد بإدارتها إلى
الجمعية الخيرية.
بل يتحدثون عنه بما هو أعظم من هذا يتحدثون عنه بأنه عازم على إنشاء
مدرسة كلية وهذا هو العمل العظيم الذي نحلم به في الليل ونتمناه في النهار ونرى
أن سعادة هذا القطر متوقفة عليه وأن الأمة الإسلامية بمجموعها لم تستعد في مصر
للقيام به تمام الاستعداد. فإذا وفق الله هذا المثري الكبير لإنفاذه فلنا أن نسميه محيي
مصر وعظيمها وصاحب الفضل الكبير عليها.
__________(6/240)
غرة ربيع الثاني - 1321هـ
27 يونيو - 1903م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العقائد من الأمالي الدينية
(الدرس 39)
آية الله الكبرى (القرآن)
فصل [*]
(م109) : (هذه الوجوه الأربعة من إعجازه بينة لا نزاع فيها ولا مرية
ومن الوجوه البينة في إعجازه من غير هذه الوجوه آي وردت بتعجيز قوم في
قضايا وإعلامهم أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا على ذلك، كقوله لليهود: {قُلْ إِن
كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً} (البقرة: 94) ، الآية قال أبو إسحاق
الزجَّاج: في هذه الآية أعظم حجة وأظهر دلالة على صحة الرسالة لأنه قال:
(فتمنوا الموت) وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبدًا فلم يتمنه واحد منهم، وعن النبي صلى
الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يقوله رجل منهم إلا غص بريقه) يعني
يموت مكانه، فصرفهم الله عن تمنيه وجزعهم ليظهر صدق رسوله وصحة ما أوحي
إليه إذ لم يتمنه أحد منهم، وكانوا على تكذيبه أحرص لو قدروا ولكن الله يفعل ما
يريد، فظهرت بذلك معجزته، وبانت حجته.
قال أبو محمد الأصيلي: من أعجب أمرهم أنه لا يوجد منهم جماعة ولا واحد
من يوم أمر الله بذلك نبيه يقدم عليه ولا يجيب إليه، وهذا موجود مشاهد لمن أراد
أن يمتحنه منهم.
وكذلك آية المباهلة من هذا المعني حيث وفد عليه أساقفة نجران وأَبَوا الإسلام
فأنزل الله تعالى آية المباهلة بقوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ 000} (آل عمران: 61)
الآية فامتنعوا منها ورضوا بأداء الجزية وذلك أن (العاقب) عظيمهم قال لهم: قد
علمتم أنه نبي وأنه ما لاعن قومًا نبي قط فبقي كبيرهم ولا صغيرهم، ومثله قوله:
{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (البقرة: 23) إلى قوله: {فَإِن لَّمْ
تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا} (البقرة: 24) ، فأخبرهم أنهم لا يفعلون كما كان [1] وهذه
الآية أدخل في باب الإخبار عن الغيب ولكن فيها من التعجيز ما في التي قبلها.
* * *
فصل
(م110) : ومنها الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه
والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله وإنافة خطره، وهي على المكذبين به
أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه ويزيدهم نفورًا - كما قال تعالى - ويودون
انقطاعه لكراهتهم له، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن القرآن صعب مستصعب
على من كره وهو الحكم) وأما المؤمن فلا تزال روعته به وهيبته إيَّاه مع تلاوته
تُولِّيه انجذابًا وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه وتصديقه به. قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ
جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: 23) ،
وقال: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ 000} (الحشر: 21) الآية، ويدل على
أن هذا شيء خص به أنه يعتري من لا يفهم معانيه ولا يعلم تفاسيره، كما روي عن
نصراني أنه مر بقارئ فوقف يبكي فقيل له: مِمَّ بكيت؟ قال: للشجا والنظم،
وهذه الروعة قد اعترت جماعة قبل الإسلام وبعده، فمنهم من أسلم لها لأول وهلة
وآمن به ومنهم من كفر. فحكي في الصحيح عن جبير بن مطعم قال: سمعت النبي
صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ
شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ 000} (الطور: 35) إلى قوله {000 المُسَيْطِرُونَ} (الطور: 37) كاد قلبي أن يطير للإسلام. وفي رواية: وذلك أول ما وقر الإسلام
في قلبي. وعن عتبة بن ربيعة أنه كلم النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من
خلاف قومه فتلى عليه (حم فصلت) إلى قوله: {000 صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ
عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت: 13) فأمسك عتبة بيده على فِي النبي صلى الله عليه وسلم
وناشده الرحم أن يكف. وفي رواية: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ وعتبة
مُصغٍ مُلقٍ يديه خلف ظهره معتمد عليهما حتى انتهى إلى السجدة فسجد النبي صلى الله
عليه وسلم وقام عتبة لا يدري بما يراجعه ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قومه حتى
أتوه فاعتذر لهم وقال: والله لقد كلمني بكلام والله ما سمعت أذناي بمثله قط فما
دريت ما أقول له.
وقد حكي عن غير واحد ممن رام معارضته أنه اعترته روعة وهيبة كف بها
عن ذلك فحكي أن ابن المقفع طلب ذلك ورامه وشرع فيه فمر بصبي يقرأ: {وَقِيلَ
يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} (هود: 44) ، فرجع فمحا ما عمل وقال: (أشهد أن هذا لا
يعارَض وما هو من كلام البشر) ، وكان من أفصح أهل وقته. وكان يحيى بن حكم
الغزال بليغ الأندلس في زمنه فحكي أنه رام شيئًا من هذا فنظر في سورة الإخلاص
ليحذو على مثالها وينسج بزعمه على منوالها (قال) : فاعترته خشية ورقّة حملته
على التوبة والإنابة.
* * *
فصل
(م111) : ومن وجوه إعجازه المعدود كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا
مع تكفل الله بحفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:
9) وقال {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42) ، الآية
وسائر معجزات الأنبياء قد انقضت بانقضاء أوقاتها فلم يبقَ إلا خبرها. والقرآن
العزيز الباهرة آياته الظاهرة معجزاته على ما كان عليه اليوم مدة خمس مائة عام
وخمس وثلاثين سنة لأول نزوله إلى وقتنا هذا حجته قاهرة ومعارضته ممتنعة
والأعصار كلها طافحة بأهل البيان حملة علم اللسان وأئمة البلاغة وفرسان الكلام
وجهابذة البراعة، والملحد فيهم كثير، والمعادي للشرع عتيد. فما منهم من أتى
بشيء يؤثر في معارضته. ولا ألف كلمتين في مناقضته ولا قدر فيه على مطعن
صحيح. ولا قدح المتكلف من ذهنه في ذلك إلا بزند شحيح بل المأثور عن كل من
رام ذلك إلقاؤه في العجز بيديه، والنكوص على عقبيه.
* * *
فصل
(م112) : وقد عد جماعة من الأئمة ومقلدي الأمة في إعجازه وجوهًا
كثيرة منها أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة
وترديده يوجب له محبة. لا يزال غضًّا طريًّا، وغيره من الكلام ولو بلغ في الحسن
والبلاغة مبلغه يمل مع الترديد ويعادَى إذا أعيد، وكتابنا يُستلذ به في الخلوات
ويؤنس بتلاوته في الأزمات، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك، حتى أحدث
أصحابها لحونًا وطرقًا يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها، ولهذا وصف
رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن بأنه لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي
عبره، ولا تفنى عجائبه، هو الفصل ليس بالهزل ولا يشبع منه العلماء ولا تزيغ
به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة هو الذي لم تنتهِ الجن حين سمعته أن قالوا:
{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ 000} (الجن: 1-2) .
(م 113) : ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد العرب عامة ولا محمد
صلى الله عليه وسلم قبل نبوته خاصة بمعرفتها ولا القيام بها ولا يحيط بها أحد من
علماء الأمم. ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم، فجمع فيه من بيان علم الشرائع
والتنبيه على طريق الحجج العقلية، والرد على فرق الأمم ببراهين قوية وأدلة بينة
سهلة الألفاظ موجزه المقاصد. رام المتحذلقون بعده أن ينصبوا أدلة مثلها فلم يقدروا
عليها. كقوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ
مِثْلَهُم} (يس: 81) ، {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (يس: 79) ،
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) إلى ما حواه من علوم السير،
وأنباء الأمم، والمواعظ والحكم. وأخبار الدار الآخرة. ومحاسن الآداب والشيم.
قال الله جل اسمه: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 38) ، {وَنَزَّلْنَا
عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ 000} (النحل: 89) ، {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي
هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} (الروم: 58) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله
أنزل القرآن آمرًا وزاجرًا وسنة خالية ومثلاً مضروبًا، فيه نبأكم وخبر ما كان قبلكم،
ونبأ ما بعدكم وحكم ما بينكم، لا يخلقه طول الرد. ولا تنقضي عجائبه، هو
الحق ليس بالهزل، من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن خاصم به فلج ومن
قسم به أقسط ومن عمل به أجر ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم، ومن
طلب الهدى من غيره أضله الله، ومن حكم بغيره قصمه الله، هو الذكر الحكيم
والنور المبين والصراط المستقيم وحبل الله المتين والشفاء النافع، عصمة لمن
تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي
عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد) ونحوه عن ابن مسعود وقال فيه: (ولا يختلف
ولا يتشانأ [2] فيه نبأ الأولين والآخرين) وفي الحديث قال الله تعالى لمحمد صلى
الله عليه وسلم: (إني منزل عليك توراة حديثة، تفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًّا،
وقلوبًا غلفًا، فيها ينابيع العلم، وفهم الحكمة وربيع القلوب) وعن كعب: عليكم
بالقرآن فإنه فهم العقول ونور الحكمة، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (النمل: 76) وقال: {هَذَا بَيَانٌ
لِّلنَّاسِ وَهُدًى} (آل عمران: 138) الآية فجمع فيه مع وجازة ألفاظه وجوامع
كلمه أضعاف ما في الكتب قبله التي ألفاظها على الضِّعف منه مرات.
(م114) : ومنها جمعه فيه بين الدليل ومدلوله وذلك أنه احتج بنظم القرآن
وحسن وصفه وإيجازه وبلاغته وأثناء هذه البلاغة أمره ونهيه ووعده ووعيده،
فالتالي له يفهم موضع الحجة والتكليف معًا من كلام واحد وسورة منفردة.
(م115) : ومنها أن جعله في حيز المنظوم الذي لم يعهد ولم يكن في حيز
المنثور؛ لأن المنظوم أسهل على النفوس وأوعى للقلوب وأسمح في الآذان وأحلى
على الأفهام. فالناس إليه أميل والأهواء إليه أسرع.
(م116) : ومنها تيسيره تعالى حفظه لمتعلميه وتقريبه على متحفظيه. قال
الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلْذِكْرِ} (القمر: 17) وسائر الأمم لا يحفظ
كتبها الواحد منهم فكيف الجماعة على مرور السنين عليهم والقرآن ميسر حفظه
للغلمان في أقرب مدة [3] .
(م117) : ومنها مشاكلة بعض أجزائه بعضًا وحسن ائتلاف أنواعه والتئام
أقسامها. وحسن التخلص من قصة إلى أخرى والخروج من باب إلى غيره على
اختلاف معانيه، وانقسام السورة الواحدة إلى أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد
وإثبات نبوة وتوحيد وتفريد وترغيب وترهيب إلى غير ذلك من فوائده دون خلل
يتخلل فصوله. والكلام الفصيح إذا اعتوره مثل هذا ضعفت قوته. ولانت جزالته.
وقل رونقه وتقلقلت ألفاظه. فتأمل أول سورة (ص) وما جمع فيها من أخبار الكفار
وشقاقهم وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم وما ذكر من تكذيبهم بمحمد صلى الله
عليه وسلم وتعجبهم مما أتى به، والخبر عن اجتماع ملئهم على الكفر، وما ظهر
من الحسد في كلامهم، وتعجيزهم وتوهينهم ووعيدهم بخزي الدنيا والآخرة. وتكذيب
الأمم قبلهم وإهلاك الله لهم ووعيد هؤلاء مثل مصابهم، وتصبير النبي صلى الله
عليه وسلم على أذاهم. وتسليته بكل ما تقدم ذكره، ثم أخذ في ذكر داود وقصص
الأنبياء، كل هذا في أوجز كلام وأحسن نظام.
ومنه الجملة الكثيرة التي انطوت عليها الكلمات القليلة وهذا كله وكثير مما
ذكرنا، أنه ذكر في إعجاز القرآن إلى وجوه كثيرة لم نذكرها إذ أكثرها داخل في باب
بلاغته فلا نحب أن يعد فنًّا منفردًا في إعجازه إلا في باب تفصيل فنون البلاغة.
وكذلك كثير مما قدمنا ذكره عنه يعد في خواصه وفضائله لا إعجازه. وحقيقة
الإعجاز الوجوه الأربعة التي ذكرنا فليعتمد عليها وما بعدها من خواص القرآن
وعجائبه التي لا تنقضي، والله ولي التوفيق. اهـ كلام القاضي عياض رحمه الله
تعالى.
__________
(*) تتمة كلام القاضي عياض في الشفا.
(1) لعل الأصل: فكان كما قال.
(2) المنار: تشانؤوا: تباغضوا، ولا يظهر هنا. والذي أعرفه في الرواية (يتشانّ) من تشان الجلد: إذا يبس وتشنج، أي أنه يبقى على جدته وبهائه ورونقه دائمًا.
(3) الإعجاز في إلهام المسلمين حفظه، حتى حفظ به الدين، وهذا لم يُعهد في العالمين.(6/247)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهات النصارى
وحجج المسلمين
الشبهة الثانية على القرآن
زعمهم التعارض في كلامه
استشهد ذلك الكاتب على سخافته هذه بأمور نأتي عليها واحدة واحدة ونبين
الصواب كما فعلنا في الشبهة الأولى:
(الشاهد الأول) زعم أن وجود الآيات المتشابهات فيه ينافي كونه مبينًا.
وهذا دليل على أنه لم يفهم معنى المتشابهات ولا معنى البيان فهذا المسيح عليه
السلام يزعم المنتقد أنه إله وقد كان الكثير من كلامه مع تلاميذه وهم الراسخون في
دينه - غير مفهوم لهم فهل يرى هذا دليلاً على عجز مقام الألوهية عن البيان أم
يستدل بالشيء في مكان ويترك الاستدلال به في مكان؟ ولم ينقل عن الراسخين من
الصحابة شئ من الاشتباه في القرآن كما ينقل النصارى عن تلاميذ المسيح
(رضي الله عن الجميع) .
المتشابهات في القرآن آيات تشابهت وجوه دلالتها على معانيها القريبة
والبعيدة حتى ليتسنى لأصحاب الزيغ تأويلها بالباطل وصرفها إلى غير الصواب،
وهذا أمر لا مندوحة عنه؛ لأنه ضروري في ذاته وذلك أن أهم ما يجيء به
الوحي هو العلم بالله تعالى وبعالم الغيب لترتفع بذلك مدارك العقول وتعلو همم
النفوس، ومن المعلوم أن الناس وضعوا ألفاظ اللغات لما يعرفون من المعاني في
هذا العالم فيتعين على من يريد إخبارهم بشيء مما لا يعرفون أن يستعير بعض
ألفاظهم الموضوعة لما يعرفون وينصب القرائن لمنع الاشتباه، ولا شك أن أفهام
الناس تختلف في فهم القرائن وأن الذي يريد الفتنة يسهل عليه أن يتبع ما تشابه من
القول لأن له معنى يدل على ما وضع له في الأصل ومعنى آخر تناوله بالكناية أو
الاستعارة وغيرها من ضروب التجوز وهو المراد فيحمله على غير المراد ويضل
به الناس فإذا أطلق النبي على الله تعالى لفظ (الأب) في مقام بيان الرحمة والعناية
حمله أهل الزيغ على الأبوة الحقيقية وقالوا: إنه أبوه الذي ولده، ويصرفون من
يفتنونهم عن القرائن العقلية التي تحيل الأبوة الحقيقية على الله تعالى، والقرائن
القولية التي تطلق لفظ الأب على غير النبي كقول المسيح عليه السلام - إن صح
النقل -: (إني ذاهب إلى أبي وأبيكم) وكذلك يقال في لفظ الابن إذا أطلقه النبي
على نفسه يحمله أهل الزيغ على البنوة الحقيقية مع قيام القرائن العقلية واللفظية
على إحالته كسابقه، ومن ذلك إطلاقه على صانعي السلام فيما ينقلونه عن المسيح
عليه السلام.
وإذا أراد المعترض أن يعرف الفرق بين بيان القرآن وبيان الإنجيل وبين
أتباعهما، فلينظر إلى أثر المتشابهات في الأمتين، يجد أن قومه (النصارى) كلهم
قد اتبعوا ما تشابه مما حفظوا من كتابهم ابتغاءَ تأويله. وأن المسلمين قد اتبعوا
المحكم وردوا المتشابه إليه فجمعوا بين العقل والنقل إلا فريقًا منهم لا يقام له وزن
كالباطنية والمجسمة.
(الشاهد الثاني) زعم أن قوله تعالى في سورة الأعراف {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ
بِالْفَحْشَاءِ} (الأعراف: 28) ، وقوله: عز وجل في سورة الأنعام: {ذَلِكَ أَن
لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الأنعام: 131) يناقضان قوله
جل شأنه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ
فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) قال: لأنه أثبت فيها الأمر بالفسق وهو أمر
بالفحشاء، وإهلاك أهل قرية لأن مترفيهم فسقوا فيها كما أمروا ظلم.
لا أقول إن صاحب هذا القول سيئ الفهم إلى هذه الدرجة ولكنني أرجح أنه
متعمد للتحريف فإن من له أدنى شمة من فهم اللغة والعقل لا يستجيز أن يعمد إلى
قول سيد في عبده: إنني أمرت عبدي فخرج عن طاعتي فعاقبته، فيفسره بأنه أمره
بالخروج عن طاعته فخرج فعاقبه على الامتثال. الفسوق في اللغة: الخروج عن
الشيء يقال: فسقت الرطبة عن قشرها وفسقت الفأرة عن جحرها، والفسوق عن
أمر الله هو الخروج عنه وعدم امتثاله. أما حذف معمول (أمرنا) فهو ما تقتضيه
البلاغة هنا؛ لأن المقام مقام بيان جزاء الفسوق عن أمر الله تعالى أيًّا كان، لا بيان
ضروب التكليفات الشرعية، وما يأمر الله تعالى به معروف بالإجمال. ولا يخطر
على بال عاقل أن يقدِّر أحد هذا المعمول بنقيض ما تقضي به الضرورة فيقول: إن
الله قال أنه أمر هؤلاء الناس ولم يقل بماذا أمرهم، ونقول نحن: إنه أمرهم
بالفسوق! ! هذا غير معقول في نفسه ثم إن العبارة تنافيه بذاتها فإن الفسوق يقتضي
أن يكون هناك شئ يفسق عنه، فإذا كان الأمر متعلقًا بالفسوق نفسه يكون أمرًا بلا
شيء، مثاله أن تقول لرجل: أمرتك بأن تخرج، ولم يكن في شيء يخرج عنه
حين أمرته لا حسي كبيت ولا معنوي كعمل.
فإن قيل: إن الأمر في الآية ينصرف إلى الفسوق عما هم فيه مما يختص بهم
في الجملة، نقول إن ما كانوا فيه هو الترف فيكون معنى قوله في الآية (ففسقوا
فيها) أنهم خرجوا من الترف ورجعوا إلى القصد وهذا نقيض ما تدل عليه الآية
بالبداهة وهو أن الاستمرار على الترف بعد الأمر بما جرت عادة الله تعالى أن ينزل
وحيه به من الأمر بالقصد والاعتدال في الأخلاق والأعمال هو الذي يكون سبب
التدمير، وينتهي بالآثم إلى شر مصير.
هذا الذي قلناه متبادر إذا تجلى لأي عامي في لغته يتيسر له أن يفهمه بلا
توقف، وليس هو من المتشابهات التي تبتغى بها الفتنة بالتأويل والتحريف. وللآيات
وراء هذا معانٍ عالية، وفيها معارف سامية، وهي أرفع من أن يدركها ذلك
الطرف الحسير، أو يتطاول إليها ذلك الفهم القصير، ذلك أن آية (الأنعام) وآية
(الإسراء) تهديان إلى أنفع سنن الله في نظام نوع الإنسان ونواميس الاجتماع
البشري. تدل آية (الأنعام) على أن الأمم لا تهلك بمجرد التلبس بظلم تكون
عليه مادام أهلها غافلين عما يجب عليهم الأخذ به من ضده، لا ينذرهم به منذر ولا يدعوهم إلى الحق داعٍ. فإذا جاء النذير وقذف بحقه على باطلهم وبعدله على
ظلمهم يدمغه؛ فإذا هو زاهق وإذا بالأمة في عداد الهالكين وفي آية أخرى:
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) ؛ والمراد
بالظلم: الشرك، كما روي من حديث ابن مسعود مرفوعًا عن أحمد والبخاري
ومسلم والترمذي في تفسير قوله تعالى في سورة الأنعام: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} (الأنعام: 82) يعني أن الأمم لا تهلك وإن كانت مشركة
بالله تعالى مادامت مُصلحة في أعمالها وأحكامها. ويطابق هذا قوله تعالى:
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً 0000} (الإسراء: 16) الآية، فهذه الآيات
تعلمنا أن سعادة الأمم أو شقاءها في هذه الحياة إنما هو نتيجة سيرتها في أعمالها.
لا أن السعادة هبة إلهية على ما لا يُعلم سره والشقاوة نقمة إلهية على ما جُهل أمره،
وتعلمنا أيضًا أن الباطل إنما يطول أمده وتُبطئ نتيجته في الإهلاك، إذا لم يكن هنالك
حق يصادمه. ومن هنا أخذ الأستاذ الإمام كلمته الحكيمة: إنما بقاء الباطل في غفلة
الحق عنه، ومن هنا نفهم السر في استيلاء الإفرنج على الأمم الشرقية وهو أنهم
مصلحون في أعمالهم، وقد أوضحنا هذه المسائل من قبل في مقالات متعددة. وحسبنا
هذا في الرد على شبهة المحرفين.
(الشاهد الثالث) زعم أن قوله تعالى في فرعون {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ
جَمِيعاً} (الإسراء: 103) يناقض قوله عز وجل فيه: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ
لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (يونس: 92) ، وقد شنع هنا على المسلمين أنهم أوَّلوا
الآية وهو يزعم أنه نجا ببدنه وروحه وإن كانت الآية ناطقة بأن بدنه هو الذي
ينجو. ومحل الشبهة عنده في لفظ (ننجيك) فإن ظهور الجثة بعد الموت بالغرق لا
يسمى تنجية، وفاته أن هذا التعبير للتهكم على حد {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران: 21) ومن تتبع ضروب التجوز في كلام البلغاء وحاول حملها على
الحقيقة - وهي لا تصح عليها - يمكنه أن يموه بأن أكثر الكلام البليغ كذب، على أن
الذي ينجو من الغرق يطلق عليه اسم الغريق فلو فرضنا أن الله تعالى نجى فرعون من
الغرق الذي ألمَّ به وبقومه لما كان قوله (أغرقناه) مناقضًا لقوله (ننجيك) فقد
يغرق إنسان إنسانًا ويريه خطر الهلاك ثم ينتشله وينجيه، ولكن هذا ليس مرادًا هنا.
الحكمة في ظهور بدن فرعون موسى بعد الغرق ظاهرة فإنه استعبد الناس
وادعى الألوهية بما موّه على الجاهلين بسحره. ولو لم يظهر بدنه لادعى
المغرورون فيه ما يدعي عبَدَة الحاكم العُبَيدي إلى اليوم - من أنه قد عرج إلى عالم
أعلى. وارتقى إلى مقام أسمى. فهذا هو معنى قوله تعالى {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ
لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (يونس: 92) ولو نجا بروحه وبدنه لما كان في ذلك
آية على انتقام الله منه لكفره بنبيه وإيذائه لقومه.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/252)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الكرامات والخوارق
المقالة الثالثة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التأويل
(النوع الثالث: انفلاق البحر وجفافه والمشي على الماء)
قال السبكي: وكل ذلك كثير وقد اتفق مثله لشيخ الإسلام وسيد المتأخرين تقي
الدين بن دقيق العيد، وأقول: يا ليت لنا من هذا الكثير الذي يدعيه واقعة واحدة
منقولة بالتواتر الصحيح المستوفي الشروط التي يذكرها السبكي في جمع الجوامع
الذي ألفه لكد الأفهام، لا لتُراعَى أحكامه في مثل هذا المقام. وفي خاتمة الفتاوى لابن
حجر الهيتمي قال في الرسالة عن بعضهم: كنا في مركب فمات رجل منا فأخذنا في
جهازه فلما أردنا أن نلقيه في البحر جف، فحفرنا له قبرًا ودفناه فارتفع الماء
والمركب وسرنا.
وكل ما في المباحث حكايات عن مثل هذا البعض المجهول وأصحاب المراكب
المجهولين. ولو حكَّمنا فيها أصول المسلمين لعددناها من الموضوعات أو الواهيات،
وإن رويت على أنها من المعجزات لانقطاع أسانيدها، وجهالة رواتها، وأضف إلى
ذلك هنا شبهة الهوى ومخالفة شروطهم في الكرامة، فقد علمت ما قاله السبكي من
اشتراط الضرورة والخفاء وأين هما مما نحن فيه؟ نعم، إن قبول هذه الحكايات
يليق بأهل دين لا سند لهم في أصوله ولا في فروعه، وإنما هي الثقة العمياء بأن
روح القدس حل في رؤسائهم وقدّيسيهم فعملوا العجائب، ووجب قبول كل ما يؤثر
عنهم وإن تناقضت قضاياه، واستحال مغزاه.
إذا ثبت انفلاق البحر ثبوتًا قطعيًّا فلا شك أنه يكون من الخوارق التي يتعذر
تأويلها وتعليلها. وأما المشي على الماء فيحتمل التلبيس والتأويل بحسب الأشخاص
والمواقع والأزمنة، ففي بعض البلاد يجمد ماء النهر لشدة البرد مدة ثم يسيل، ويقال
أن الإفرنج اخترعوا أحذية يمشون بها على الماء. بل الذي يعول عليه حقيقة في
تعليل المشي على الماء إذا فرضنا أنه ثبت ثبوتًا قطعيًّا لا يحتمل التأويل هو
غلبة الروحانية التي يخف معها الجسد خفة عجيبة على نحو ما يحكونه عن
المشتغلين باستحضار الأرواح في أوربا، فإن لهم في ذلك حكايات تقرب من بعض
حكايات الصوفية، على أن هؤلاء إنما يوجهون نفوسهم إلى الأرواح يكلمونها
ويرونها ولم يعنوا بأن يكونوا هم روحانيين كما يفعل الصوفية في رياضاتهم. نعم،
إن من الناس من لا يصدق ما ينقل عن هؤلاء وعن أولئك ومن الناس من يصدق لأن
تشابه الحوادث وتصور العلة العامة لها يقربها من العقل.
وما نبغي إثبات ما ينقل ولا نفيه وإنما نبغي إقناع من يصدق لثقته بالناقلين أو
من يشاهد شيئًا من أعمال الحاضرين بأن ذلك غير خارج عن سنن الله تعالى في
الخلق وأنه ليس من الخوارق الحقيقية وإنما هو من الخوارق الإضافية أي التي تعد
خوارق بالإضافة إلى من لا يعرف طريقها كالأعمال الصناعية التي لا يعرفها إلا
بعض الناس. أرأيت إذا تعلم بعض الناس التخاطب (بتلغراف ماركوني) الذي
يكون التخاطب به بدون واسطة الأسلاك وذهبوا إلى بلد أو مملكة وجعلوا يتخاطبون
به على البعد الشاسع، ألا يعد ذلك الناس منهم أكبر الخوارق؟
وقد ذكروا أن الواسطة الذي يحضر الروح يخف وزنه مدة حضور الروح إلى
نصف ما كان ومن كان بهذه الخفة يمشي على الماء بسهولة، وسيأتي أن بعضهم
كان يطير في الهواء، ونقل مثل هذا أيضًا عن بعض الفلاسفة وسنوسع القول في
الأمور الروحية في موضع آخر.
(النوع الرابع: انقلاب الأعيان)
قال السبكي: حكي أن الشيخ عيسي الهتار اليمني أرسل إليه شخص مستهزئ
إناءين ممتلئين خمرًا فصب أحدهما في الآخر وقال (بسم الله كلوا) فإذا هو سمن لم
يُر مثل لونه وريحه (قال) وقد أكثروا في ذكر نظير هذه الحكايات.
أقول: لا يوجد نوع من الأنواع يأتي فيه التلبيس والشعوذة مثل هذا النوع ولذلك
ترى أكثر أعمال المشعوذين منه، وهو على ضربين: أحدهما الخفة والمهارة في
إخفاء شيء وإحضار غيره. وثانيهما: الاستعانة بالأعمال الكيماوية. فمن غرائبهم
في الضرب الأول أن أحدهم يأخذ ماءً من البحر في كوب ويعطيه آخر فيشربه، فإذا
هو شراب سكري. والحيلة فيه أن يكون تحت إبط المشعوذ أو الدجال (مدعي
الولاية) إناء من الجلد أو الكاوتشتك له أنبوبة دقيقة تصل إلى يده فإذا غمس الكوب
في البحر يوهم الرائي أنه ملأه ماءً - وما ملأه - ويفرغ فيه الشراب من الأنبوبة
بلطف، وقد أخبرني بعض الناس أن رجلاً من المعتقدين تناول كوبًا من زيت
البترول وسقاه فإذا هو ماء فيه سخونة وما جاءت السخونة إلا من حرارة إبطه حيث
كان الماء.
ومن الضرب الثاني أن بعض الدجاجلة الفسّاق الذين يخدعون الناس بانتحال
الكرامات أخذ أمام بعض العامة كوبًا زجاجيًّا فيه شيء من الخمر فوضعه على فيه،
فإذا هو في أعينهم لبن أبيض. والحيلة فيه أن الخمر التي كانت فيه هي من النوع
الذي يسمونه (عرقي الزبيب) ولونها كالماء حتى إذا مزجت بالماء ابيضت وصار
لونها كلون اللبن الممزوج وقد كان الماء في فم الدجال فمجه في الكأس بلطف. ولو
أردنا أن نملأ المنار بمثل هذه الوقائع التي تستغرب قبل كشف الستار عن وجه
التلبيس فيها لفعلنا، فنقل أمثالها إذا صح سنده فهناك ما يمنع من التصديق بمتنه
لاحتمال دخول الغش والتلبيس فيه على الناقلين، وأنت ترى أن هذا النوع كان من
أبواب الفسق والدجل والشعوذة والحيل.
(النوع الخامس: انزواء الأرض أو طيّها)
قال السبكي: حكوا أن بعض الأولياء كان في جامع طرسوس فاشتاق إلى
زيارة الحرم فأدخل رأسه في جيبه ثم أخرجه وهو في الحرم (قال) : والقدر
المشترك من الحكايات في هذا النوع بالغ مبلغ التواتر ولا ينكره إلا مباهت. أقول:
إن السبكي تحمس هنا فرجع إلى كتابه جمع الجوامع وتقلد حججه في الاستدلال
فزعم أن الحكايات في انزواء الأرض متواترة تواترًا معنويًّا، أي أن كثرتها تدل على
أن لها أصلاً وإن كانت كل حكاية منها لم تثبت بخصوصها وستعلم ما فيه، واعلم
أنهم لا يقصدون بانزواء الأرض وطيها أن أطرافها تجتمع وتطوى كالثوب، وإنما
يعنون بذلك قطع المسافة في زمن قصير وهو مجاز صحيح واستعمله الشعراء
وغيرهم قال:
وكنت إذا ما جئت ليلى أزورها ... أرى الأرض تُطوى لي ويدنو بعيدها
وما ذكره السبكي من حكاية ولي جامع طرسوس ليس من هذا النوع وإنما تلك
زيارة خيالية أو روحانية لأنه لم يكن فيها مسير وإنما قبع ذلك الولي في مكانه
كالقنفذ فرأى نفسه في الحرم كما يرى ذلك في الحلم، فإذا كان مثل صاحب جمع
الجوامع قد اشتبه عليه الأمر فعدَّ في هذا النوع ما ليس منه فكيف تثق بسائر الناقلين
لهذه الحكايات وهم في العادة الغالبة من جهلة العوام؟ ! وإذا لم تكن الوقائع
صحيحة بالمرة فكيف يتألف من غير الصحيح دليل صحيح فنقول: إن في مجموع
الحكايات تواترًا معنويًّا؟ !
ثم إن في أنباء قطع المسافات البعيدة في الزمن القريب مواضع للتلبيس
والإيهام؛ فإن الحكايات في ذلك تؤْثر عن السائحين المتجردين، وأكثر هؤلاء خفاف
سراع أهون سيرهم الوجيف، فإذا مر أحدهم بمكان ثم رؤي في مكان آخر لا يكفي
الزمن لبلوغه إياه في السير المعتاد يتناقل الناس هذا ويعدونه كرامة ويبالغون فيه
ويغلون وينتشر الخبر لغرام الناس بنقل مثله. وعلى هذا النحو تكثر هذه الأخبار
حتى يدعي مثل التاج السبكي أنها كرامة متواترة تواترًا معنويًّا. ويدعي من لا يفهم
مثله معنى التواتر أنها متواترة تواترًا حقيقيًّا، وينسى هؤلاء أنه يوجد في البوادي
من يسابق عتاق الخيل وعشار النياق فيسبقها. والناس يعلمون أن هذا النوع من
المعاول التي هدمت الدين، فإن كثيرًا من الدجالين الذين يدعون الولاية يتركون
الصلاة ويزعمون أنهم لا يصلون إلا في حرم مكة فيصدقهم الجاهلون المخدوعون.
هذه إشارة إلى طريق التأويل والتلبيس التي تقل معها الثقة بالنقل. وأما
التعليل بعد الاختبار الصحيح والثقة التامة بأن إنسانًا انتقل بجسمه من قطر إلى آخر
في زمن قصير لا يكفي لبلوغه إياه وإن كان أسرع من العتاق السبق، والجياد القرّح
فهو أن يقال: إن ذلك المنتقل من الروحانيين الذين تحمل أرواحهم أبدانهم فتمر بها مر
النسيم، وذلك داخل في السنن الروحية. وربما تكون في يوم من الأيام مشهورة جلية
فيعذر من كان في غير هذه الأوقات ينظمها في سمط الخوارق والكرامات ويظهر
فضل الدين بأن الروح والنفس لها وجود مستقل وسنن غير سنن الحس.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/255)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإنجيل الصحيح
(النبذة الثالثة من مقدمة كتاب الأناجيل للفيلسوف تولستوي)
على هذا المنوال جرت تلك الديانات الصادرة عن الروح القدس وكل واحدة
منها تؤكد لنا أن ختام الوحي ونسخ الديانات السابقة بطريقة حاسمة قاطعة مما
تقضي بهما كتابة الرسول بولس أو قرارات بعض المجامع أو أوامر الباباوات أو
الإلهام الشخصي لبعض الناس، وكلها تحاول بلا طائل الاستناد في آخر الأمر على
الوحي الهابط على آباء الكنيسة أو على (الكاتشزم) الذي ألفه لوثير أو فيلارتيوس
وتأبى أن تعنون نِحلتها باسم أولئك المشيدين لدعائمها وتعاند في القول بأن المسيح
هو الذي أوحى إليهم بهذه التعاليم وتصر على ذلك إصرارًا لو صدقناها فيه لذهبنا
معها إلى أن المسيح نفسه هو الذي أوحي إلى أصحابها بأنه افتدى بني الإنسان بعد
سقوطهم بسبب خطيئة آدم وأن الله يتألف من ثلاثة أشخاص وأن الروح القدس هبط
على الحواريين وأن المسح باليد (في تناول الأسرار) نقله إلى القسيسين وأن
تقديس الأرواح سبع مرات مما لابد منه للحياة المسيحية وغير ذلك. وهم يحملوننا
على الظن بأن هذه الأمور كلها من تعاليم المسيح، على أننا إذا بحثنا في تعاليم
المسيح لا نجد فيها أقل إشارة إليها ولا إلى بعضها. لا جرم أن الكنائس التي تقول
بهذه الأشياء ينبغي لها أن تجهر بأنها من تعاليم الروح القدس وليست من تعليم
المسيح، فإنما المسيحيون هم الذين يعتبرون الوحي الأخير الذي جاء به المسيح كما
هو وارد في الأناجيل طبقًا لما قاله المسيح: لن يكون لكم أستاذ غيري [1] .
ربما ظن بعض الناس أن هذه المسألة ليست بذات بال وأنها من الأمور التي
لا تستحق البحث فيها ولكن مما لا مراء فيه أن القوم قد أهملوا النظر إليها بعين
الاعتبار إلى يومنا هذا، وبدلاً من بذل نهاية المجهود في تنقية تعليم المسيح من
شوائب علاقته الصناعية بالعهد القديم التي لا ترى ما يزكيها ويؤيدها، وتصفيته
من تلك الإضافات التي ألصقتها به الأهواء باسم الروح القدس - لا يزال القوم حتى
يومنا هذا يوجهون همتهم كلها إلى تقوية هذه الروابط التي لا أصل لها. ومن
غرائب المشاهدات أننا نرى الاتفاق سائدًا في هذه المسألة بين الخصمين المتعاندين
وأعني بهما المتحزبين للكنائس وأرباب الأفكار الحرة من أصحاب التاريخ.
فأما أحزاب الكنائس الذين يقولون بأن المسيح هو ثاني شخص في الثالوث
فلا يريدون أن يفهموا تعليمه إلا تطبيقه على الوحي الموضوع على لسان ثالث
الثلاثة (أي الروح القدس الذي نطق بلسان الرؤساء) كما هو وارد بالعهد القديم
وفي أوامر المجامع وقرارات آباء الكنيسة. وتراهم ينادون ويبشرون بأمور هي
منتهى الحماقة ويؤكدون مع ذلك بأنها من دين المسيح.
وأما الآخرون - أي أولئك الذين يمتنعون من اعتبار المسيح إلهًا - فهم أيضًا
يدركون عقيدته، لا كما أتى هو نفسه بها ولكن على الوجه الذي صوّرها فيه بولس
وغيره من المفسرين، فأولئك العلماء مع اعتبارهم المسيح فردًا من أفراد البشر لا إلهًا
يحرمونه من الحق الطبيعي الذي لكل واحد من الناس، ألا وهو أن يكون مسؤولاً عن
أقواله فقط وغير مؤاخَذ بما يقوله عنه غيره.
وحينما حاولوا إيضاح تعليم المسيح نسبوا إليه أفكارًا لم تخطر قط على باله
وهو في قيد الحياة. فإن القائمين بهذا المذهب وفي مقدمتهم (رنان) المحبوب عند
الجمهور لم يروا وجهًا لإجهاد أنفسهم في التمييز بين ما قال به المسيح وبين ما
نسبه إليه مفسرو كلامه زورًا وبهتانًا. ولعدم زيادتهم على الكنائس في الاهتمام
بالتعمق في فهم تعليم المسيح الصحيح انساقوا إلى البحث في حوادث حياته وفي
الحوادث التاريخية التي وقعت في عصره لمعرفة أسباب نفوذه وشيوع أفكاره. على
أن هذا المبحث هو كما يظهر آخر خطأ يجوز للمؤرخين ارتكابه فإن المسألة التي كان
عليهم السعي في حلها هي ما يأتي:
منذ ثماني عشرة مائة من السنين كان رجل فقير يعيش في بعض الجهات
وكان يصدر عنه بعض الأقوال، فاضطهده الناس وشنقوه ثم نسيه العالم كله كما
نسي آلافًا من الحوادث المماثلة لأمره، فلم يذكره أحد من العالمين ولكن يظهر أن
بعضهم بقيت في ذاكرته كلمات هذا الإنسان، فأعادها على مسمع من ثانٍ فثالت،
ومازالت آخذة في الشيوع والانتشار، حتى أن ألوف الألوف من الناس سواء
فيهم العقلاء والمجانين والعالمون والجاهلون اعتقدوا اعتقادًا مطلقًا بأنه هو الله
وحده! [2] وهذا من غرائب مظاهر الكون فكيف يكون تفسير ذلك؟ !
قالت الكنائس: إن هذا الرجل - أي المسيح - هو الله حقيقة. والأمر واضح
في هذه الحال لا يحتاج إلى بيان؛ ولكنه إذا لم يكن هذا الإنسان هو الله فكيف نفسر
اعتبار الناس له إلهًا دون سواه؟ !
أما علماء المذاهب التاريخية فقد عنوا عناية بالغة بجمع الخصائص المتعلقة
بحياة ذلك الإنسان، وهم في الحقيقة لم يجمعوا منها ولا واحدة سوى ما وجدوه في
الأناجيل وفي تاريخ (فلافيوس يوسيفوس) ولم يتفطنوا إلى أنهم لو توصلوا إلى
الوقوف على هذه الخصائص كلها، ووفقوا إلى إعادة حياة المسيح تامة بأصغر
تفاصيلها بحيث عرفوا ما أكله في يوم كذا ويوم كذا وعرفوا في أي منزل أمضى
تلك الليلة - لكان هذا السؤال الجوهري يبقى قائمًا ولا جواب عليه وهو: لماذا كان
لعيسى لا لغيره هذا التأثير في الناس أجمعين؟ ! [3] . الجواب المطلوب لا يأتي
من العلم بالطريقة التي ولد بها عيسى أو كانت تربيته على مقتضاها أو غير ذلك
ولا يستنبط من العلم بالحوادث التي وقعت في رومية في ذلك العصر وكانت داعية
الأمم إلى الاعتقاد بالخرافات والأضاليل ونحو ذلك. وإنما يُنال الجواب بالبحث في
أمر واحد وهو معرفة التعليم الذي جاء به المسيح علمًا مؤكدًا يقينيًّا ومعرفة كُنه هذا
التعليم الذي حمل كثيرًا من الناس على جعل الرجل فوق سائر الناس واعتباره إلهًا
منذ ثماني عشرة مائة من الأعوام.
الباحث الذي يريد حل هذه المعضلة يجب عليه قبل كل شيء أن يجتهد في
إدراك تعليم المسيح وأعني به تعليمه الصحيح دون تلك التفاسير الغامضة الشاذة
التي ذهب إليها بعض الناس، وهو أمر أهمله الباحثون إلى الآن، فإن علماء التاريخ
من أهل النصرانية فرحون بما ذهبوا إليه من أن المسيح ليس هو الله ولذلك تراهم
لا ينفكُّون يسردون الدلائل على أنه لم يكن فيه شيء من الألوهية ولكن لا يتفكرون
في أمر بسيط لا يصح أن يغيب عن الأذهان وهو أن الاحتجاج على كون المسيح
واحدًا من الناس مجردًا من كل صفات الألوهية يزيد المسألة غموضًا وبعدًا عن
الأفهام. [4] مثل ذلك صاحبنا رنان أو الموسيو (هافيت) فقد لاحظ بسذاجة لطيفة أن
المسيح لم يكن فيه قط شيء (مسيحي) ! أما الموسيو سوري فقد أظهر ما ليس
فوقه شئ من الابتهاج والارتياح حينما ذهب إلى أن المسيح (كان رجلاً بغير تثقيف
وأنه كان من ذوي العقول الساذجة) !
ليس الأمر الجوهري هو إثبات عدم ألوهية المسيح ولا أن تعليمه ليس إلهيًّا
ولا إيراد الدلائل على أن المسيح لم يكن كاثوليكيًّا وإنما هو فهم عناصر هذا التعليم
الذي ظهر للناس في أسنى المظاهر وأجلاها وأعلاها وأغلاها حتى قالوا ولا يزالون
يقولون بأن الرجل الذي قال به إنما هو الله. هذا هو الأمر الذي حاولت البحث فيه
والذي نجحت في الوصول إليه والوقوف عليه وذلك بالنسبة إلى شخصي على الأقل،
وهو ما أريد إبلاغه إلى إخواني.
يخيل إليَّ أن القارئ لهذا الكتاب إنما هو فرد من ذلك المجتمع العظيم الذي
يتألف منه فريق المتمدنين الذين تهذبوا ودرجوا على الاعتقاد بقول إحدى الكنائس
ومنعوا أنفسهم على الدوام من الجهر بالانفصال عنها مع ما ثبت لهم من مناقضة
تلك العقائد لما أرشدتهم إليه عقولهم. وأوحت به ضمائرهم. سواء كان ذلك مبنيًّا
على صبابة باقية من الحب والاحترام لذلك التعليم المسيحي أو لاعتبارهم النصرانية
كلها خرافة، فهم لا يرتبطون بها إلا في الظاهر. إذا كانت هذه حال القارئ فإني
أرجوه أن يعمل بالمثل السائر: (ألقِ بالخلعة في النار إذ صارت مباءة للقُمَّل) !
ولكنني أرجوه من باب أولى أن يتفكر أن الذي نفر منه طبعه وسمعه وظهر له بمظهر
الخرافات ليس هو التعليم الصادر عن المسيح، وأنه من الظلم مؤاخذة المسيح
بالحماقات التي علقها الناس بعده على تعليمه. وغرضي الوحيد إنما هو تحديد تعليم
المسيح في شكله الخاص به كما وصل إلينا أي بواسطة الأقوال والأفعال التي بلغنا
بطريق التواتر أنها أقوال المسيح وأفعاله [5] ومن كان من القراء من الصنف الذي
سبق لي وصفه فإن كتابي يريه أن النصرانية ليست مزيجًا من الأمور العالية
والأمور المبتذلة وأنها ليست من الخرافات بل إنها عبارة عن التعليم بما وراء
الطبيعة الذي توصلت إليه الإنسانية إلى الآن بطريقة أخلاقية تهذيبية وطيدة الأركان
ثابتة البنيان صافية من الشوائب مكملة من كل جانب، وأنها التعليم الذي ترتكز
عليه بغير إدراك جميع مظاهر الإنسانية العالية في السياسة والعلم والشعر والفلسفة.
أما إذا كان القارئ من تلك الفرقة القليلة التي لا تزال في كل يوم آخذة في
الاضمحلال وأعني بها أولئك المتمدنين الذين ما لبثوا مرتبطين بتعاليم الكنيسة
ويقبلون الدين لراحتهم الداخلية لا لغرض خارجي فإنني أرجو هذا القارئ أن يسائل
نفسه عن أعز الأمرين لديه: أراحته أم الحقيقة؟ فإن اختار الراحة سألته أن يقفل
هذا الكتاب، وأما إذا جنح إلى الحقيقة فإنني أسأله أن يعتبر تعليم المسيح المبسوط في
هذا الكتاب يناقض كل ما علَّمه إياه الناس وأنه بإزاء هذا التعليم في موقف المسلم
بإزاء النصرانية، فليس عليه بعد ذلك أن تكون العقيدة المشروحة في هذا الكتاب
توافق عقيدته أو تخالفها بل أن يعلم أيهما أكثر انطباقًا على عقله وقلبه، أعقيدة
كنيسته أم عقيدة المسيح الممحضة؟ وعليه بعد ذلك أن يختار لنفسه أحد الأمرين:
الرضى بقبول العقيدة الجديدة أو البقاء على عقيدة كنيسته.
وأما إذا كان القارئ من أولئك الذين يذهبون إلى احترام عقيدة إحدى الكنائس
والتسليم بها في الظاهر لا لصحة هذه العقيدة ولكن بالنظر إلى اعتبار المنافع التي
يجدونها فيها، فهذا القارئ يجب عليه أن يقول لنفسه بأنه ليس من المتهِمين (بكسر
الهاء) بل من المتهَمين (بفتحها) مهما كان عدد الذين يماثلونه في الرأي ومهما
كانت سطوتهم ومهما كانت تيجان الملوك معهم، وشهادات الأكابر منهم مصدِّقة لما
بين أيديهم، وليس يكون ذلك القارئ من الذي تقع عليهم التهمة أمامي بل أمام
المسيح، وينبغي لهذا القارئ أن يقول لنفسه إنه لن يطالَب (بفتح اللام) بأي
برهان مما يمكنه الإتيان به من الدلائل، فقد جاء بها السابقون عليه بزمان طويل وأنه
لو أتى بألف حجة على براءته لما كان في موقف يضطره إلى تزكية نفسه.
نعم، إنه يبقى عليه أن يزكي نفسه أولاً من وصمة الكفر والتدنيس اللذين
ارتكبهما بجعل عقيدة المسيح الذي هو الله (تعالى الله عن هذا الزعم) كعقيدة
اسدراس والمجامع وثاوفليكتس وإفراغه كل قواه العقلية لتبديل كلمات الله حتى
يجعلها موافقة لكلمات البشر. ثم يجب عليه أن يزكي نفسه ثانيًا من التجديف الذي
ارتكبه بحمل كل ما في قلبه من الخرافات على (حساب) المسيح الذي هو الله
(سبحان الله) ثم يبقى عليه في آخر الأمر أن يزكي نفسه أيضًا من الخيانة التي
ارتكبها بإخفائه عن الناس دين الله الذي جاء إلى الدنيا ليأتي لنا بالخلاص والسلام
وبدسّه دين الروح القدس بدل هذا الدين وحرمانه ألوف الألوف من الناس من
الخلاص الذي جاء به المسيح لأجل الناس وبإيجاده الخلاف في الشيع والمقالات
وبحكم بعضها على بعض وغير ذلك من ألوف الشناعات التي يسترها بالاسم
المقدس اسم المسيح.
لذلك أقول ليس للقراء الذين من هذا الفريق إلا أن يختاروا أحد أمرين: إما أن
يتوبوا بخضوع وخنوع توبة نصوحًا ويرجعوا عن أكاذيبهم. وإما أن يضطهدوا ذلك
الذي جاء ليلقي عليهم التهمة بما كسبوه من السيئات التي لا يزالون سببًا في وقوعها،
إذا لم يعدلوا عن أكاذيبهم فليس لهم سوى أمر واحد هو اضطهادي أنا، وهذا هو ما
أنتظره بنشر كتابي هذا. وإنني لأنتظره بفرح عظيم لا يخالجه سوى مكنون
الخوف من ضعفي لأنني فرد من بني الإنسان. اهـ
(المنار)
لقد أظهرت لنا هذه المقدمة قوة كاتبها في أعلى درجها كما أظهرت لنا ضعفه
في أسفل دركه. أما قوته فهي أنه أدرك بذهنه الوقاد وعقله المطلق من أسر التقليد
والاستعباد أن إنجيل المسيح لم ينقل نقلاً صحيحًا ولم يحفظ كله وأن الأهواء
تلاعبت أيضًا بتفسير ما نقل فأفسدت ما بقي فيه من ذماء الإصلاح والحق وأن أشد
الناس عبثًا في تعليم المسيح بولس زعيم النصرانية.. إلخ ما قرأت في المقدمة.
وأما ضعفه فهو أنه نظر في سن الكبر وطور الزهد واليأس إلى تلك المواعظ
التي قارع بها المسيح مترفي اليهود ومتنطِّعيهم وتأمل في غلو النصارى في المسيح
وادعاء الألوهية له بإغراء بولس ومن دخل فيه من الوثنيين فرأى في المواعظ قوة
إلهية وهي قوة الوحي ورأى الناس فُتنوا بالمسيح فاستدل بذلك على أنه هو الله! !
(تعالى الله عن ذلك) .
هذا، وقد وقع في س8، ص229 لفظ: (الفارسيانيين) وصوابه
(الفِرِّيسيين) وفي س21، ص229 جملة: (لا يلزم - كما يظهر - على تعليق) ،
وصوابها: (لا يلزمه - كما يظهر - تعليق) .
__________
(1) المنار: الخطاب خاص بتلاميذه الذين تنقل الكنائس عنهم أن تلقوا تعليمًا آخر من الروح القدس، ولهم أن يردوا على الفيلسوف بأن الروح القدس ليس غيره؛ لأنه على اصطلاحهم عينه؛ لأن كل واحد من الأقانيم الثلاثة عين الآخرين.
(2) المنار: إن الناس لم يقولوا هو الله لأجل الكلمات التي ينقلونها عنه؛ فقد نقل أحسن منها عن سليمان ولم يقولوا إنه إله ومنهم من لم يقل إنه نبي وإنما ذلك بولس وأمثاله قالوا هذا القول وادعوا أن روح القدس يملي عليهم والخوارق تؤيدهم فصدقهم الناس لاستحواذ الوثنية عليهم وشاع ذلك والفيلسوف ينكر عليهم إملاء روح القدس ويجحد خوارقهم ولكن إعجابه بكلمات المسيح عليه السلام أنسته أكبر سيئاتهم؛ فوقع في الأوهام! .
(3) المنار: إنه لم يكن للمسيح تأثير في الناس أجمعين كما زعم، وإن المعتقدين ببوذا أكثر من المعتقدين بالمسيح على الوجه المعروف عند النصارى.
(4) قضى الله أن تكون السخافة حليفة لكل مَن يتكلم في الدين من غير طريق الإسلام وإن ارتقى بعلمه إلى درجة الفلاسفة العظام، فهذه المسألة محلولة بمثل قوله تعالى: [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] (الكهف: 110) ، فالمسيح بشر كسائر الناس إلا أنه امتاز بأن الله تعالى أوحى إليه والوحي لا يرتقي بالموحَى إليه إلى مقام الألوهية ولا يعطيه شعبة منها على أنها ليست متشعبة بل هي الوحدة الحقيقية.
(5) المنار: إن أقوال الفيلسوف السابقة في هذه المقدمة تنفي هذا التواتر؛ فإنه قال: إن أقوال المسيح لم تنقل في عهده برمتها بالكتابة ولا بالحفظ، وإنما كان يحفظ بعضها الواحد فيلقيه إلى ثانٍ ثم يشتهر بعد زمن، وإنما يتحقق التواتر بنقل العدد الكثير عن المسيح نفسه ونقل مثلهم عنهم طبقة بعد طبقة بلا انقطاع.(6/259)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة والأجوبة
صخرة بيت المقدس
(س1) : السيد أحمد منصور الباز بطوخ القراموص:
ما رأي سيادتكم في الصخرة الموجودة ببيت المقدس هل هي مرفوعة في
الهواء كما يزعم بعضهم وهل رفْعها كان معجزة للنبي؟ نرجوكم إظهار الحقيقة
ورفع الّلبس.
(ج) : إننا قد زرنا المسجد الأقصى ورأينا الصخرة وعرفنا منشأ الشبهة في
أقاويل الناس فيها، على أنها ليست مرفوعة في الهواء. ذلك أن الداخل في الحرم
يرى في صحنه الفسيح بناءً مرتفعًا يصعد إليه بالسلالم وسطح هذا البناء الواسع
مرصوف بالبلاط وفيه قباب أعظمها وأكبرها وأكثرها زخرفا قبة الصخرة وبالقرب
منها قبة يسمونها قبة المعراج يقولون إن النبي e عرج منها، والصخرة موضوعة
في قبتها وقد جعلت سقفًا لمغارة صناعية تحتها لها باب ينزل إليه بسلم قصير. فهم
يقولون إن الصخرة كانت في الهواء حيث هي الآن، وإن الناس بنوا تحتها هذا
البناء ووصلوه بها، وشبهتهم أن الصخرة مرتفعة عن أرض الحرم التي هي الآن
سطح الحرم الأصلي الذي تحت الأرض. وفاتهم أن رفع الصخرة من أرض الحرم
الذي في الأرض أو سطحه الذي هو صحن المسجد لهذا العهد متيسر للإنسان ويوجد
له نظائر في مباني الغابرين والحاضرين.
***
حجارة الوقود بجوار الكليم
(س2) : ومنه هل في الحجارة التي بجوار سيدنا موسى معجزة له أن تكون
وقودًا في تلك الأرض وإذا نقلت منها تكون كسائر الحجارة لا تشتعل؟
(ج) : إنه لا يوجد في الدنيا حجارة تشتعل تكون وقودًا إلا بسبب طبيعي
ولا معنى لهذه المعجزة الآن والناس متَّهَمون جميعًا بنقل الغرائب فيجب التحري
التام فيما ينقلون منها فمن تحرى عَلِمَ ومن لم يتحرَّ وهم.
***
شمهورش قاضي الجن
(س3) السيد حسين السبلجي بمصر: يزعمون أنه كان للجن قاضٍ يقال له
شمهورش وأنه كان يتلقى العلوم بالأزهر وكان يحضر دروس الشيخ الباجوري
ويسأله عن بعض المسائل التي تشكل عليه على مرأى من الناس ومسمع، وقد
حضرت مناظرة في ذلك بين فريقين منكر ومصدق، فأبى المصدق أن يرجع إلا
بفتوى دينية وهي ما ننتظره من المنار الأنور.
(ج) : إن الجن من العوالم الغيبية واسمهم يدل على خفائهم واستتارهم وقال
الله في إبليس وهو من الجن: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) وقد نقل عن الإمام الشافعي تشديد عظيم على من يدعي رؤيتهم
حتى قيل أنه أفتى بكفره لهذه الآية. وقد اختلف النقل عن الصحابة في رؤية النبي
صلى الله عليه وآله وسلم لهم، فروي عن ابن مسعود أنه رآهم، وروي عن ابن
عباس أنه لم يرهم، وأنه لو رآهم لما قال الله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ
نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ} (الجن: 1) وقال بعض العلماء: إن ابن عباس قال بما يدل عليه
القرآن وابن مسعود قال بما ثبت عنده ولا منافاة بينهما.
وادَّعى بعضهم أن رؤيتهم تكون كرامة للأولياء وسيأتي البحث فيه في موضعه
من مقالات الخوارق والكرامات ولكن لم يقل أحد من المسلمين ولا من غيرهم: إن
الجن يظهرون ويسألون العلماء على مرأى من الناس ومسمع. وإن للناس من
الحكايات عن الجن في كل قطر وكل شعب ما يكاد يصل بهم إلى حد الجنون. والله
يعلم إنهم لكاذبون.
***
الدليل على وجود الجن
(س4) بكير بن سماية بالجزائر: هل يوجد دليل على وجود الجن؟
(ج) إن وجود أي شيء من الموجدات لا يعرف بالأدلة العقلية وإنما يعرف
بالحس أو بالخبر الصادق، فإننا نعتقد بوجود كثير من الحيوانات والنباتات والمعادن
ولم نرها. أما العقل فإنه يدلنا مع الاختبار بأن في هذا الكون موجودات كثيرة لا
نعرفها وترون في أصغر الكتب الطبيعية (كالنقش في الحجر) للدكتور فانديك أن في
هذا الكون عوالم لا نعرفها لأنها لا تدرَك بحواسنا هذه ولو خلق لنا حواس غيرها
لأدركنا ما لا ندركه الآن.
الجن عالم خفي أو غيبي أخبرنا بوجوده الأنبياء المؤيدون من خالق الكون
بالوحي والإلهام فوجب التصديق بذلك. وإننا نرى الاعتقاد بوجودهم فاشيًا في جميع
الأمم والشعوب الهمجية والممدنة الوثنية والموحدة والملحدة. وإننا نعد من نوع الجن
هذه الأحياء الصغيرة التي لا ترى إلا بالنظارات المكبرة فاللفظ اللغوي (جن)
يتناولها وفي الحديث القائل بأن الطاعون من وخز الجن ما يدل على ذلك والله أعلم.
***
الإيمان بخاتم النبيين
(س5) عبد الحميد أفندي نجيب بنيابة الزقازيق: هل يكون إيمان المسلم
صحيحًا إذا اعتقد أن رحمة الله تعالى لا تسع مَن لا يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه
وسلم ومات على ذلك وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف: 156) .
(ج) إن رحمة الله تعالى وسعت كل شيء حتى المشركين فإنهم إنما يعيشون
برحمته ويتمتعون بفضله ومن رحمته بالعالمين أن أرسل إليهم خاتم النبيين يعلمهم
الكتاب والحكمة ويزكيهم. ولا توجد طريقة لترقية الروح وتزكيتها تزكية تستوجب
بها الرحمة الخاصة في الآخرة إلا شريعته وملته ولذلك قال عز وجل - بعد بيان أن
رحمته وسعت كل شيء -: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا
يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ} (الأعراف: 156-157) الآية.
فمن بلغته دعوة هذا النبي الكريم على وجهها وأعرض عنها فلا يعتد بإيمانه.
ولكن إذا بلغته على غير وجهها أو نظر بإخلاص وبحث فلم يظهر له صدقها فهو
معذور وتقدَّم بسط هذا المعنى في (المنار) غير مرة.
***
ترجمة القرآن
(س6) رضاء الدين أفندي قاضي وعضو الجمعية الشرعية في أوفا
(الروسية) : نشكر لكم بما لا مزيد عليه ما كتبتم في المنار جوابًا عن سؤالي في
مسألة حدوث العالم فإنا طالعناه مع الأحباب والعلماء الكرام بمزيد الشوق وعجبنا من
سعة اطلاعكم وبتبحركم في الفنون. ثم إني أعرض على حضرتكم سؤالاً آخر وهو:
هل يجوز ترجمة القرآن الشريف إلى اللغات الأعجمية كالفارسية والتركية
وغيرهما؟ ونسمع أن بعض الهند نقله إلى لغة الأوردو فهل ذلك صحيح وما حكم
الشريعة في ذلك؟ نرجو من حضرتكم الجواب في أحد أعداد المنار لتكون الفائدة
عامة لنا ولغيرنا.
(ج) إن هذا القرآن عربي {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ
آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (فصلت: 44) ومن مقاصد الإسلام العالية جمع البشر
على دين واحد ولغة واحدة لتكمل وحدتهم. وتتحقق أخوتهم. وقد بينا هذه الحكمة
من قبل ولا سبيل إليها إلا بتحتيم بقائه عربيًّا. وأن بقاءه عربيًّا داخل في معنى حفظ
الله له. فترجمته غير جائزة وغير متيسرة فإنه معجز في بلاغته وتأديته للمعاني
ولن يستطيع أن يترجمه إلا من يصل إلى درجة الإعجاز في اللغة التي يحاول نقله
إليها ويكون مع هذا في فهم الأساليب العربية منقطع القرين، وفي فهم الإسلام
ومعرفة حقائقه آية في العالمين، كلا إنني موقن بأن ترجمة القرآن مستحيلة ولا
يوجد في البشر من يستطيع أن ينقله إلى لغة أخرى بحيث يَفهم قارئ الترجمة كل ما
يمكن أن يفهم من القرآن العربي المبين، وإن من أكبر الجرائم والجناية على
الدين أن يحاول المسلمون هذا الأمر فيكون عند التركي قرآن تركي وعند الفارسي
قرآن فارسي وهلم جرّا. وقد عثر بعض العلماء فقال بجواز القراءة بالفارسية لمن
عجز عن العربية ولكن طبيعة الإسلام لفظت هذا القول وتركته كالشيء اللقا، ولم
يعمل به أحد من المسلمين، مع احترام قائله؛ لأنه لم يكن سيئ القصد. ولو أخذ
الناس بهذا القول لما انتشرت اللغة العربية في الأقطار الإسلامية ولصدم الإسلام
صدمة أرجعته إلى جزيرة العرب وحبسته فيها.
أقول هذا على تقدير أن المراد من السؤال ترجمة القرآن وحسبان الترجمة
قرآنًا باعتبار أن العبرة بالمعاني كما قال بعض العلماء والاكتفاء بذلك. وأما إذا
ترجم شيء من القرآن بقصد جعله وسيلة للدعوة إلى الإسلام فلا بأس بذلك، لا سيما
إذا كان من تُراد دعوتهم كالإفرنج الذين يبحثون عن أصول الأديان ولا يكتفون
بعرض آراء علمائها عليهم لأنهم يعتقدون أن علماء كل دين تصرفوا فيه باجتهادهم
أو بأهوائهم. ومن يترجم القرآن بعضه أو كله لهذا الغرض فعليه أن يبين في مقدمة
الترجمة أنه نقل إلى لغة كذا ما فهمه هو من القرآن إن كان يعتمد على فهمه أو ما
فهمه فلان المفسر ويذكر من اعتمد على تفسيره، وإذا اعتمد على غير واحد من
المفسرين فليذكر أسماءهم وإذا أشار في هامش الترجمة إلى عزو كل قول إلى قائله
فذلك أفضل وأكمل.
وحسب المسلمين من الأعجمين تقصيرًا في حق القرآن أن فسروه بلغاتهم وكان
الواجب عليهم أن يجتهدوا في تعميم اللغة العربية ويفهموه بالعبارة العربية التي أنزل
بها. ولولا الصدمات السياسية التي صدمت الإسلام لظل أهل فارس ومن يجاورهم
إلى هذا الزمن ينطقون بالعربية كما كانوا في القرون الأولى للإسلام، بل لكانت بلاد
الهند والأفغان والترك وجزء عظيم من بلاد الصين كبلاد سوريا ومصر لهذا العهد
ولكان في ذلك للإسلام سياج من الوحدة لا يخرق. وإذا لم يسع المصلحون في تلك
البلاد وأمثالها بتعميم اللغة العربية فما هم بمصلحين ولا عاملين للإسلام. وليعلموا
أن اعتصامهم بالجنسية اللغوية لا يمنعهم من ابتلاع أوربا لهم في يوم من الأيام، أما
ترجمة أحد علماء الهند القرآن بلسان الأوردو فلم نسمع به ونرجو من قراء المنار
في الهند إعلامنا بالحقيقة.
_______________________(6/266)
الكاتب: للعالم العالم ع. ز.
__________
نظام الحب والبغض
رسالة في علم النفس وفلسفة الأخلاق
للعالم العامل ع. ز.
(تمهيد)
(1) إن للشرور أسبابًا معظمها ناتج من أوهام باطلة. فيجب إحياء الحقائق
وإزهاق الأوهام.
(2) إن للأوهام أبوابًا معظمها ناشئ من الجهل - البسيط والمركب -
فيفرض تنوير الأذهان بقدر العلم وإن كان قليلاً.
(3) إن للجهل أسبابًا معظمها آتٍ من قلة القراءة والكتابة الصحيحتين.
فيلزم السعي في تكثير القراء الذين يفقهون ما يكتب - كتابة صحيحة - والكُتاب
الذين يعرفون كيف يكتبون.
(4) إن لقلة القراءة والكتابة - الصحيحتين - أسبابًا، معظمها صادر عن
رداءة أصول التعليم. فيتحتم الدلالة على الأصول النافعة وتعويد الناس عليها.
(5) إن لرداءة أصول التعليم أسبابًا جُلها من التقليد الأعمى وإهمال الفكر
فلا بد من النصح والتناصح بالتفكر.
(6) إن للتقليد الأعمى أسبابًا أكثرها ناجم عن اختلال شئون النفوس في
حبها وبغضها فيتعين وصف علاجات تشفي من هذا الاختلال ولو قليلاً.
هذه الفرائض المشروحة لا يشك في وجوبها عاقل ولكن مَن هم المكلفون بها؟
أنتم يا علماء النفس مكلفون بهذه الفرائض. ومنذ كلفت نفسي أن تتشرف بالدخول
في زمرتكم طفقت أطالع صفحات كتاب الوجود بعين البصيرة وأقيد النتائج في دفتر
الذاكرة. فهذا ما شجعني اليوم على أن أشارككم في أعمالكم. ومن أجل هذه
المشاركة حررت فصولاً لتأدية بعض هذه الفرائض، أكثرت فيها من التوضيح
وأقللت الفضول وتوخيت أسهل العبارات وأجمل الإشارات وراعيت فيها فهم
الصغير (من حيث القراءة لا من حيث السن) والكبير. ووهم الجليل والحقير،
وعدلت عن قيل زيد وعبيد واستمسكت بما أرسل الله لأبصارنا وبصائرنا من
الأمثال.
وإليكم يا قراء المنار الزاهر أقدم هديتي هذه (نظام الحب والبغض) بمساعدة
منشئه العلّامة المرشد، أعلى الله مناره وأيَّده بعنايته.
قطبان في الإنسان عليهما تدور أحوال نفسه هما: الحب والبغض. فهل
يمكن إدخالهما تحت أحكام نظام؟
(الجواب)
في هاتين القوتين المتنافرتين تكلم الأنبياء والمرسلون. والحكماء المتبعون،
والعلماء المعلمون، والشعراء الواصفون والأدباء المحاضرون، وبهما تقارب الناس
وتباعدوا، وتحازبوا وتحاربوا، واجتمعوا وتفرّقوا، وتعاونوا وتخاذلوا؛ ومن
أجلهما طغوا واعتدلوا، وأنصفوا وجاروا.
تكلم الناس كلهم في الحب والبغض ولكن اختلفت الاصطلاحات، وتنوعت
المقاصد، واختلفت المشارب، فتعددت الأسماء، وكثرت الكلمات، وتوفرت
المعارضات والمجادلات.
فكلام الناس فيهما الدائر على ما يجب أن يُحب وما يجب أن يُبغض يلوح
ويصرح بأنه من الممكن إدخال هذين المؤثرين تحت حكم (نظام) .
وعلى هذا نكون سالمين من الخطأ في تعبيرنا عن علم النفس وأخلاقها بنظام
الحب والبغض. بل نكون قد أصبنا عبارة هي أوضح من أخواتها في الدلالة على
هذا العلم النفيس المفيد.
هذا - أي إمكان دخول الحب والبغض تحت نظام - رأي طوائف العالم
على اختلافهم، به تشهد الأديان والعقول، وله تؤيد المشاهدة والتجربة. ولآخرين
قليلين رأي آخر هو عدم الإمكان.
وسيرى الذين يخالفون بيانًا شافيًا في هذا المقال. وسيذّكر فيه الموافقون.
(ما هو الحب وما هو البغض؟)
إن لحياة الإنسان (كسائر الحيوانات) نظامًا عرف بعد وجوده ولم يعرف
مبتدأ وجوده. وقد عرف أن هذا النظام شبيه بنظام مملكة كثيرة الأجزاء بعض
أفرادها مهم جدًّا، خلوها منه يوجب خللاً كبيرًا فيها. وبعضها من قبيل الخدم
والأعوان لا يوجب خلوها منه خللاً يذكر. وقد احتاج الناس من قديم الزمان لأجل
التعريف بمعروفاتهم إلى تسمية الأشياء بأسماء يتواضعون عليها. فأما التي يشيع
عرفها بين الناس فتصير أسماؤها من قبيل مفردات اللغة التي يتكلمون بها، بمعنى أن
استعمالها العام لمعناها المشهور يجعل معناها اللغوي المشهور عامًّا. وأما التي لا
يشيع عرفها إلا بين العلماء منهم فتصير أسماؤها من قبيل مفردات العلوم التي
يتداولونها، بمعنى أن استعمالها الخاص يجعل معناها المقصود عند العلماء خاصًّا.
مثاله: (1) كلمة (المبتدأ) معناها العام (الأول) ومعناها الخاص عند علماء
النحو: الكلمة المسند إليها حكم من الأحكام. ومثاله: (2) كلمة (المجاز) معناها
العام (الممر) ومعناها الخاص عند علماء البيان: العدول في كلمة عن معناها
الأصلي.
والأجزاء التي يتكون منها نظام الحياة قد سمي كل منها باسم وجرى على كل
منها الاستعمال العام، أما مجموع ما به نظام الحياة فسماه القدماء من أهل لغتنا
(النفس) لكن هذه الكلمة لدلالتها على مدلول عظيم شأنه قد اتخذه العلماء لمعنى
غير الذي يفقهه منها العامة من الناس. ومن ثمة كانت جديرة أن نقول (إنها كلمة
علمية) بمعنى أن لها معنى خاصًّا عند العلماء بخواصها وأحوالها.
(والحب والبغض) من هذا القبيل أي أنهما في اعتبار العامة كلمتان من
جملة ما هو مشهور المعنى من مفردات لغتهم. وفي اعتبار العلماء - علماء النفس -
هما كلمتان مدلولاهما تحت النظر والبحث يتساءلون فيما بينهم عن تعريفهما.
على أنه يجب أن نصرح بأن العلماء من حيث الجملة كثيرًا ما يعرفون
المعروفات ويوضحون الواضحات. وكثيرًا ما ينتج من كثرة كلماتهم واصطلاحاتهم
في توضيح الواضحات إيهامات يشغلون بها أذهان القارئين على غير جدوى. هذه
حقيقة يجب أن لا نتغافل عنها. وأن لا نغفل ذكرها. وهي تفرض علينا أن لا
نقلدهم في كل أبحاثهم وأن لا نشاركهم في الكلمات التي ابتدعوها في أكثر المواضع
لا لشيء إلا حب توسيع مسافة الفرق بينهم وبين العامة.
ولكن لهذا الأمر مستثنيات هي التي تفتح لحسن الظن بنيَّاتهم بابًا كبيرًا،
وهذان الحرفان اللذان نحن بصددهما من مستثنيات هذا الأمر. فكلنا نحب ونبغض
ولكن في الحقيقة ما كل واحد منا يعرف ما هو الحب وما هو البغض. ومن ثم
اختلفت تعاريفهما أيضًا بلسان العلم.
والتعريف الموافق هو أن الحب اعتقاد خير، راجع أو مناسب للنفس المحبة من
الجهة المحبوبة [*] والبغض ضده فهو اعتقاد شر - إلى آخر التعريف وبهذا
التعريف يمكننا بغاية السهولة أن نعرف العلة ونجيب عن هذا السؤال: (لماذا نحب
ونبغض؟ !)
وهذا التعريف الحقيقي هو الذي سهل لنا الحكم بأن دخولهما تحت حكم (نظام)
ممكن لأن الاعتقاد قد يكون صوابًا وقد يكون خطأً شأن كل اعتقاد، فكما أمكن
بواسطة العلم إرجاع كثير من الناس عن خطأهم في أشياء كثيرة يمكن إرجاع معتقد
الخير والملاءمة أو الشر والمباينة في جهة من الجهات عن ذلك الاعتقاد، فبينما
المرء يحب إذا هو يبغض. وإذا سلمنا التعسر أحيانًا لا نقول بالتعذر وسيوضح هذا
أمثلة كثيرة.
حب الذات
وعلى حسب التعريف السابق للحب وضده، وعلى حسب التعليل المتقدم
(لماذا نحب - لماذا نبغض) يظهر أن الإنسان لا يحب غيره إلا لأجل ذاته، فهو
بهذا الحب لم يخرج عن حب ذاته إلا بحسب الصورة فقط، فهل هذا صحيح؟ وما
الدليل عليه؟ وهل محبة الذات أمر نافع أم أمر ضار؟
نعم، إن الإنسان لا يحب غيره إلا لأجل ذاته، وهذه الحقيقة دقيقة جدّا
يدركها البعض بالبداهة ولا يدركها البعض إلا بالإيضاح، ونحن نجمل الكلام ونذكر
رؤوس المباحث التي تتعلق بأذيالها، ونشرحها قضية قضية موجزين:
1- الإنسان يحب ذاته.
2- حب الذات في أصله طبيعي نافع.
3- ذات غيرنا كذاتنا فلا بد من حد في الحقوق لنا ولغيرنا، فحب الذات له
حدود.
4- إذا تجاوزنا الحدود في حب الذات صار ضارًّا.
5- إذا لم نحب غيرنا لا نقدر أن نقف عند الحدود.
6- إذا لم نحب ذاتنا لا نقدر أن نحب غيرنا.
7- بغض الذات مرض.
8- قد يكون هذا المرض نافعًا إذا سلمت به النفوس من الشرور.
9- متى كان الحب والبغض ناشئين عن فكر سليم كانت السعادة.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) المنار: إدراك النفس قسمان: فكر ووجدان. والاعتقاد من الأول والحب من الثاني وكذلك البغض، فالحب شعور وجداني بأمر يلائم النفس؛ لأنه خير لها في نظرها والخير هو النافع واللذيذ، والنفع يعرف بالفكر واللذة تعرف بالوجدان، فوجدان الحب معلول لأحدهما أو كليهما.(6/270)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتابة القرآن بالحروف الإنكليزية
كتب بعض المسلمين في الترنسفال إلى جريدة في مصر ثلاثة أسئلة لتعرضها
على بعض علماء الأزهر، فعرضتها على الشيخ محمد بخيت فأجاب عنها ونشرت
الجريدة أجوبته. أحد الأسئلة عن التزوج بأخت الرضيعة وجوابه معروف وهو أنه
لا يحرم على الرجل إلا مَن رضعت هي وإياه من امرأة وأما أخت الرضيعة فلا
تحرم. والسؤال الثاني يتعلق بالاقتداء بالمخالف وبينَّا الراجح فيه عندنا في آخر
الجزء الماضي وأن في المسألة قولين مصححين، ولكن الشيخ ذكر أن الأصح خلاف
ما رجحناه وهو المذكور في كتب الفقه وهم أسرى تلك الكتب.
وأما السؤال المهم فهو ما جعلناه عنوانًا لهذه النبذة وقد أجاب عنه الشيخ
بجواب ننقله عن تلك الجريدة مع السؤال ثم نبين رأينا فيه وهو:
سؤال: ما قولكم علماء الإسلام ومصابيح الظلام أدام الله وجودكم: هل
يجوز كتابة القرآن الكريم بالحروف الإنكليزية والإفرنسية مع أن الحروف
الإنكليرية ناقصة عن الحروف العربية ومعلوم أن القرآن الكريم أنزل على لسان
قريش فالإنكليزي مثلاً إذا أراد أن يكتب مصر بالإنكليزية تُقرأ (مسر) أو أحمد
تكتب (أهمد) ويكتب (شيك) بمعنى شيخ لا سيّما وإخواننا المسلمون في مصر
يعرفون اللغة الإنكليزية وغيرها والبعض من المسلمين في جنوبي إفريقيَّة في جدال
عنيف، منهم من يجوّز ومنهم من يقول غير جائز.
أفيدونا ولكم الأجر والثواب من الله تعالى.
جواب:
اعلم أن القرآن هو النظم، أي اللفظ الدال على المعنى لأنه الموصوف بالإنزال
والإعجاز وغير ذلك من الأوصاف التي لا تكون إلا للفظ. وأما المعنى وحده فليس
بقرآن حقيقة. وقيل: إن القرآن حقيقة هو المعنى ويطلق على اللفظ مجازًا. والحق
هو الأول، وعليه فلا يجوز قراءة القرآن بغير العربية لقادر عليها وتجوز القراءة
والكتابة بغير العربية للعاجز عنها بشرط أن لا يختل اللفظ ولا المعنى، فقد كان تاج
المحدثين الحسن البصري يقرأ القرآن في الصلاة بالفارسية لعدم انطلاق لسانه
باللغة العربية. وفي (النهاية والدراية) أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي أن
يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتب فكانوا يقرأون ما كتب في الصلاة حتى لانت
ألسنتهم. وقد عرض ذلك على النبي e ولم ينكر عليه. وفي (النفحة القدسية في
أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية) ما يؤخذ منه حرمة كتابة القرآن بالفارسية
إلا أن يكتب بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته، ويحرم مسه لغير الطاهر
اتفاقًا، وفي كتب المالكية أن ما كتب بغير العربية ليس بقرآن بل يعتبر تفسيرًا له.
وفي (الإتقان) للسيوطي عن الزركشي أنه لم ير كلامًا لعلماء مذهبه في كتابة القرآن
بالقلم الأعجمي وأنه يحتمل الجواز لأنه قد يحسنه من يقرأه بالعربية. والأقرب المنع،
كما تحرم قراءته بغير العربية ولقولهم: القلم أحد اللسانين. والعرب لا تعرف قلمًا
غير العربي وقد قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 195) .
فتلخص من ذلك أن المنصوص عند الحنفية جواز القراءة والكتابة بغير
العربية للعاجز عنها بالشروط المار ذكرها وأن الأحوط أن يكتبه بالعربية ثم يكتب
تفسير كل حرف وترجمته بغيرها كالإنكليزية. اهـ.
(المنار)
عندنا مسألتان: إحداهما ترجمة القرآن إلى لغة أعجمية، أي التعبير عن معانيه
بألفاظ أعجمية يفهمها الأعجمي دون العربي وهذه هي التي سأَلَنا عنها الفاضل
الروسي ونشرنا السؤال والجواب في هذا الجزء. والثانية كتابة القرآن العربي
بحروف غير عربية، وهذه هي التي يسأل عنها السائل الترنسفالي. وقد رأى
القراء أن جواب المجيب عنها مضطرب والنقول التي نقلها مضطربة، لذلك رأينا
أن ننقله ونحرر القول في المسألة تحريرًا.
المقصود من الكتابة أداء الكلام بالقراءة فإذا كانت الحروف الأعجمية
التي يراد كتابة القرآن بها لا تغني غناء الحروف العربية لنقصها كحروف اللغة
الإنكليزية فلا شك أنه يمتنع كتابة القرآن بها لما فيها من تحريف كَلِمه ومن رضي
بتغيير كلام القرآن اختيارًا فهو كافر. وإذا كان الأعجمي الداخل في الإسلام لا
يستقيم لسانه بلفظ محمد فنطق بها (مهمد) وبلفظ خاتم النبيين فيقول (كاتم النبيين)
فالواجب أن يجتهد بتمرين لسانه حتى يستقيم، وإذا كتبنا له أمثال هذه الكلمات
بحروف لغته فقرأها كما ذكر فلن يستقيم لسانه طول عمره. ولو أجاز المسلمون
هذا للرومان والفرس والقبط والبربر والإفرنج وغيرهم من الشعوب التي دخلت في
الإسلام لعلة العجز لكان لنا اليوم أنواع من القرآن كثيرة ولكان كل شعب من
المسلمين لا يفهم قرآن الشعب الآخر.
وإذا كانت الحروف الأعجمية التي يراد كتابة القرآن بها مما تتأدى بها القراءة
على وجهها من غير تحريف ولا تبديل كحروف اللغة الفارسية مثلاً، ففي المسألة
تفصيل والذي نقطع به أن الكتابة بخطها لا تكون إخلالاً بأصل الدين ولا تلاعبًا به
وإن هو خالف الخط العربي، فالفرق بين الخط العربي والخط الكوفي أبعد من الفرق
بين الخطين العربي والفارسي ونرى علماء المذاهب متفقين على هذه الخطوط كلها
ولكنهم يعتدونها عربية. وإذا قيل: إنها مختلفة اختلافًا لا يكفي لمتعلم أحدها أن يقرأ
الآخر كالكوفي والفارسي - نقول: قصارى ما يدل عليه ذلك أن كل خط جائز
بشرطه، ولكن عندنا ما يدل على أنه ينبغي الاتفاق علي خط واحد. فهم المسلمون
هذا من روح الإسلام فكانوا متحدين في كل عصر على كتابة القرآن بخط واحد
يتبع فيه رسم المصحف الإمام لا يتعدى إلا إلى زيادة في التحسين والإتقان. ذلك
من آيات حفظ الله له وهو عندي واجب فإن القرآن هو الصلة العامة بين
المسلمين والعروة الوثقى التي يستمسك بها جميع المؤمنين. ومن التفريط فيه أن
يفد المسلم القارئ على مصر قادمًا من الصين فلا يستطيع القراءة في مصاحفها،
وكذا يقال في سائر الشعوب وتصريح كثير من الأئمة بأن خط المصحف توقيفي
وأنه لا يجوز التصرف فيه يؤيد ما ذهبنا إليه.
ولقائل أن يقول: إن في هذا الرأي تضييقًا على نشر القرآن وتوسيع دائرة
الدعوة إلى الإسلام، وإننا نرى النصارى قد ترجموا أناجيلهم إلى كل لغة. وكتبوها
بكل قلم، حتى إنهم ترجموا بعضها بلغة البرابرة. فما بال المسلمين يضيقون
وغيرهم يتوسعون؟ ولنا أن نقول في الجواب: إننا جوَّزنا ترجمة القرآن لأجل
الدعوة عند الحاجة إلى ذلك ولا شك أن الترجمة تكتب باللغة التي هي بها؛ ولكن
المسلم الذي يقرأ القرآن بالعربية لا يحتاج إلى كتابته بحروف أعجمية إلا في حالة
واحدة وهي تسهيل تعليم العربية على أهل اللسان الأعجمي الذين يدخلون في
الإسلام وهم قارئون كاتبون بحروف ليست من جنس الحروف العربية.
وإذا وجد للإسلام دعاة يعملون بجد ونظام كالدعاة من النصارى فلهم أن يعملوا
بقواعد الضرورات ككونها تبيح المحظورات وكونها تتقدر بقدرها. فإذا رأوا أنه لا
ذريعة إلى نشر القرآن واللغة العربية إلا بكتابة الكلام العربي بحروف لغة القوم
الذين يدعونهم إلى الإسلام ويدخلونهم فيه فليكتبوه به ماداموا في حاجة إليه ثم
ليجتهدوا في تعليم من يحسن إسلامهم الخط العربي بعد ذلك ليقووا رابطتهم بسائر
المسلمين.
وكما يعتبر هذا القائل بترجمة القوم لكتبهم فليعتبر بحرص الأمم الحية منهم
على لغاتهم وخطوطهم. اللغة الإنكليزية أكثر اللغات شذوذًا في كلمها وخطها ونرى
أهلها يحاولون أن يجعلوها لغة جميع العالمين وهم يبذلون في ذلك العناية العظيمة
والأمور الكثيرة فما لنا لا نعتبر بهذا؟ !
وفي جواب الشيخ محمد بخيت مباحث ليس من غرضنا الإحفاء فيها، ونكتفي
بأن نقول إن ما يصح أن ينظر فيه من نقوله هو ما ذكره عن السلف، فأثر سلمان إن
أريد به أنه كتب لهم ترجمة الفاتحة بلغة الفرس فكيف يكون ذلك وسيلة للين ألسنتهم،
وهم لم يقرءوا إلا بلغتهم؟ ! وإن أريد به أنه كتبها بالخط الفارسي فالخط الفارسي
قريب من العربي ولا دخل له أيضًا بلين الألسنة، والصواب أن الأثر غير صحيح.
وأما الحسن البصري الذي ذكره فما هو الحسن التابعي المشهور وكأنه أحد
الفرس الحنفية، ولا حجة في قوله فكيف يحتج بعمله؟ على أن فيه ما في الذي قبله
وهو أن القراءة بالفارسية لا يلين بها اللسان للعربية إلا أن يقال: كان يقرأ الترجمة
حتى تمرن لسانه على العربية باستعمالها وممارسة الكلام فيها.
__________(6/274)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب البؤساء
هو أشهر ما كتبه شاعر فرنسا الحكيم وأديبها العظيم (فيكتورهيجو) وهو هو
الكتاب الذي رفع به ذكره، وعلا في عالم المدنية قدره، حتى صارت فرنسا تفاخر
به العالمين. وتحتفل لشيخوخته ولوفاته احتفالات لا يعهد مثلها للملوك والسلاطين،
وقد نقلت جميع الأمم الحية هذا الكتاب إلى لغاتها وهمّ به بعض المشتغلين بالتعريب
فما أطاقوه وكأنهم هابوا بلاغته في لغته؛ لأنه في الذروة العليا مما كتب بالفرنسية
حتى أقدم عليها محمد حافظ أفندي إبراهيم المشهور برسوخ العرق في العربية
وآدابها وطول الباع في التنقيح والتحرير، والإجادة في المنظوم والمنثور، فشرع
فيه وسلخ في تعريب الجزء الأول منه اثني عشر شهرًا - كما قال في المقدمة -
وهو نحو 150 صفحة. وقد قدّم الكتاب إلى الأستاذ الإمام وحكيم الإسلام، فشكر
له الأستاذ ذلك بكتاب بليغ نستغني بنشره عن الكلام في مكانة التعريب من البلاغة،
ومحله من الفائدة. ونبدأ بما كتبه حافظ أفندي في أول النسخة المطبوعة وهو:
إلى الأستاذ الإمام..
إنك موئل البائس ومرجع اليائس وهذا الكتاب - أيدك الله - قد ألمَّ بعيش
البائسين، وحياة اليائسين، وضعه صاحبه تذكرة لولاة الأمور وسماه كتاب البؤساء
وجعله بيتًا لهذه الكلمة الجامعة وتلك الحكمة البالغة (الرحمة فوق العدل) .
وقد عنيت بتعريبه لما بين عيشي وعيش أولئك البؤساء من صلة النسب.
وتصرفت فيه بعض التصرف، واختصرت بعض الاختصار ورأيت أن أرفعه إلى
مقامك الأسنى. ورأيك الأعلى لأجمع في ذلك بين خلال ثلاث: أولها التيمن باسمك
والتشرف بالانتماء إليك. وثانيها ارتياح النفس وسرور اليراع برفع ذلك الكتاب إلى
الرجل الذي يعرف مهر الكلام ومقدار كد الأفهام. وثالثها امتداد الصلة بين الحكمة
الغربية والحكمة الشرقية بإهداء ما وضعه حكيم المغرب إلى حكيم المشرق.
فليتقدم سيدي إلى فتاه بقبوله والله المسؤول أن يحفظه للدنيا والدين وأن
يساعدني على إتمام تعريبه للقارئين اهـ.
فأجابه الأستاذ الإمام بهذا التقريظ وهو:
لو كان بي أن أشكرك لظنٍّ بالغت في تحسينه أو أحمدك لرأي لك فينا أبدعت
في تزيينه - لكان لقلمي مطمع أن يدنو من الوفاء بما يوجبه حقك ويجري في الشكر
إلى الغاية مما يطلبه فضلك، لكنك لم تقف بعرفك عندنا بل عممت به مَن حولنا،
وبسطته على القريب والبعيد من أبناء لغتنا.
زففت إلى أهل اللغة العربية عذراء من بنات الحكمة الغربية سحرت قومها،
وملكت فيهم يومها. ولا تزال تنبه منهم خامدًا وتهز فيهم جامدًا؛ بل لا تنفك تحيي
من قلوبهم ما أماتته القسوة وتقوّم من نفوسهم ما أعوزت فيه الأسوة، حكمة أفاضها
الله على رجل منهم فهدى إلى التقاطها رجلاً منا فجردها من ثوبها الغريب وكساها
حلة من نسج الأديب وجلاها للناظر وحلاها للطالب بعد ما أصلح من خلقها وزان
من معارفها حتى ظهرت محببة إلى القلوب شيقة إلى مؤانسة البصائر تهش للفهم
وتبش للطف الذوق وتسابق الفكر إلى مواطن العلم، فلا يكاد يلحظها الوهم إلا وهي
من النفس في مكان الإلهام.
حاول قوم من قبلك أن يبلغوا من ترجمة الأعجم مبلغك فوقف العجز بأغلبهم
عند مبتدأ الطريق ووصل منهم فريق إلى ما يحب من مقصده ولكنه لم يعنَ بأن يعيد
إلى اللغة العربية ما فقدت من أساليبها ويرد إليها ما سلبه المعتدون عليها من متانة
التأليف وحسن الصياغة وارتفاع البيان فيها إلى أعلى مراتبه. أما أنت فقد وفيت من
ذلك ما لا غاية لمريد بعده ولا مطمع لطالب أن يبلغ حده. ولو كنت ممن يقول
بالتناسخ لذهبت إلى أن روح ابن المقفع كانت من طيبات الأرواح فظهرت لك اليوم
في صورة أبدع ومعنى أنفع، ولعلك قد سننت بطريقتك في التعريب سُنة يعمل عليها
من يحاوله بعد ظهور كتابك ويحملها الزمان إلى أبناء ما يستقبل منه فتكون قد
أحسنت إلى الأبناء كما أجملت في الصنع مع الآباء وحكمت للغة العربية أن لا
يدخلها بعدُ من العجمة سوى ما هو في الأسماء - أسماء الأماكن والأشخاص لا
أسماء المعاني والأجناس - ومثلي مَن يعرف قدر الإحسان إذا عم ويعلي مكان
المعروف إذا شمل ويتمثل في رأيه بقول الحكيم العربي:
ولو أني حييت الخلد فردًا ... لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي ... سحائب ليس تنتظم البلادا
فما أعجز قلمي عن الشكر لك وما أحقك بأن ترضى من الوفاء باللقاء.
تقول: إن الذي وصل سببك بسر صاحب الكتاب ووقف بك على دقائق من
معانيه اشتراكك معه في البؤس ونزولك منزلته من سوء الحال، وربما كان فيما تقول
شيء من الحقيقة، فإن كان البؤس قد هبط على صاحبه بتلك الحكمة ثم كان سببًا في
امتيازك من بين المترفين بتلك النعمة - سألت الله أن يزيد وفرك من هذا البؤس حتى
يتم الكتاب على نحو ما ابتدأ وأن يجعلك في بؤسك أغنى من أهل الثراء في
نعيمهم. والسلام. ... ... ... ... ... ... ...
(محمد عبده)
وقد طبع الكتاب بمطبعة التمدن على نفقة صاحب السعادة أحمد حشمت باشا
مدير الدقهلية وهي أريحية لا يعرفها أهل العربية في أنفسهم إلا ما كان أيام سلفهم
وثمن النسخة من الكتاب عشرة قروش أميرية وأجرة البريد قرش واحد وهو يطلب
من إدارة المؤيد ومن مطبعة التمدن بمصر، فنحث أهل العلم والأدب على اقتنائه
ونعدهم بنشر نموذج منه.
__________(6/278)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إعانة سكة الحديد الحجازية
نتذكر أننا ذاكرنا صاحب الدولة مختار باشا الغازي في مسألة إعانة هذه السكة
عندما بدؤوا بجمعها فقال: كان من رأيي أن يفرض على كل مسلم مبلغ قليل في
كل سنة من سني العمل فيكون ذلك مع الموارد الأخرى المخصصة لنفقات السكة
ريعًا ثابتًا مقدرًا، ويمكن معه تقدير الأعمال ولا يثقل على أحد من الناس. وكنت
استحسنت هذا الرأي وقد ظهر لنا الآن أن مولانا السلطان لم يكن غافلاً عنه ولكنه
أطلق عنان الإعانة أولاً ليظهر كرم المسلمين في أول نشأة العمل ثم رجع إلى هذا
الآن فأصدر أمره بتعيين مبلغ أقله خمسة قروش على كل مسلم، وأي مسلم يعسر
عليه دفع خمسة قروش في السنة؟ ! ويسرنا أن مسلمي مصر قد اندفعوا إلى تأليف
اللجان وجمع الإعانات ونرجو أن يسبقوا غيرهم في هذا المضمار وإن كره لهم ذلك
أصحاب السعادة النظار، فإن كراهتهم لا أثر لها في جلب منفعة ولا دفع مضرة
{وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} (التوبة: 72) وليعلموا أنهم أكثر مسلمي الأرض
رخاءً وهناءً وسعة إلا أن يكون في الصين من يفضلهم في ذلك من حيث لا ندري، ثم
إنهم قد ذاقوا مرارة صدهم عن بيت الله وإقامة العقبات في وجوه مريدي الحج إليه
ولا يدرون ما هو مخبَّأ لهم في المستقبل، فليبادروا إلى تسهيل سبيل بيت الله.
وأجرهم على الله وهو لا يضيع أجر المحسنين.
__________(6/280)
16 ربيع الثاني - 1321هـ
12 يوليو - 1903م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الكرامات والخوارق
المقالة الرابعة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التأويل والتعليل
(النوع السادس: كلام الجمادات والحيوانات)
قال السبكي: ولا شك فيه وفي كثرته ومنه ما حكي أن إبراهيم بن أدهم جلس
في طريق المقدس تحت شجرة رمان فقالت له: (يا أبا إسحاق أكرمني بأن تأكل
مني شيئًا) قالت ذلك ثلاثًا وكانت شجرة قصيرة ورمانها حامضًا فأكل منها رمانة
فطالت وحلا رمانها وحملت في العام مرتين وسميت رمانة العابدين! ! ! وقال
الشبلي: عقدت أن لا آكل إلا من حلال فكنت أدور في البراري فرأيت شجرة تين
فمددت يدي لآكل منها فنادتني الشجرة: (احفظ عليك عقدك ولا تأكل مني فإنني
ليهودي) فكففت يدي. هذه حكايات السبكي التي بنى عليها نفي الشك في هذا النوع
وإن لم تتفق مع أصله وشروطه ولم تروَ بطرق صحيحة وأسانيد معروفة. وإذا
صح أن ابن أدهم والشبلي قد قالا ما نقل عنهم في ذلك، فالأقرب أنهما كانا يعنيان
القول بلسان الحال، فحمله بعض الناقلين على لسان المقال حبًّا في الإغراب أو غلوًّا
في تعظيم الصالحين، على أن من الصوفية من يقول بأن صفة الحياة سارية في جميع
المخلوقات حتى الأحجار والمعادن ويمرون قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ} (الإسراء: 44) ، على ظاهره فيقولون: إنه تسبيح حقيقي قولي، لا لسان
حال ودلالة على أثر مؤثر، والقضية ممكنة في ذاتها ولا يبعد أن يكون لكل صنف
من المخلوقات حياة تليق به بل هذا هو اللائق بالإبداع الإلهي والنظام العام. ولكن
البعيد أن يكون الجماد والنبات عالمين بسائر الشؤون وناطقين بجميع اللغات فيكلمان
هذا بلسانه ويفصحان لذاك عن بعض شأنه، وأبعد من هذا البعيد أن لا يكون ذلك
الكلام المزعوم سنة عامة بأن يكون خروجًا عن السنن الإلهية لتحقق لابن أدهم
شهوته وللشبلي عزيمته، ومثل هذه الخارقة مما نقل عن عُباد النصارى
(كاسبيريدون العجائبي) وحكاياتهم فيها شبيهة بحكاياتنا، وكل حزب بما لديهم
فرحون!
* * *
(النوع السابع: إبراء العلل)
أشار السبكي في الكلام على هذا النوع إلى حكاية الرجل الذي لقيه السرِي
السَّقَطي ببعض الجبال يبرئ الزمنى والعميان والمرضى. وإلى ما روي عن الشيخ
عبد القادر الجيلي من أنه قال لصبي مقعد مفلوج أعمى مجذوم: قم بإذن الله، فقام
معافى لا عاهة به. أقول وقد ذكر الشيخ علي القاري هذه الحكاية مفصلة في كتابه
(نزهة الخاطر الفاتر في مناقب السيد عبد القادر) وأوردتها في كتاب (الحكمة
الشرعية) وقفّيت من بعدها بحكاية أخرى لصاحب هذا الكتاب. وأمثال هذه
الحكايات كثير عن الصالحين جدًّا، ولا شك عندي في أن الكثير منها صحيح لا شبهة
فيه، وينقل مثله أيضًا عن رجال الدين المعتقدين من النصارى والوثنيين وقد وقع
على يدي شيء من ذلك في بعض الأمراض العادية، وليس في ذلك شذوذ عن
السنن الطبيعية.
إن الوهم يفعل في شفاء الأمراض العصبية ما لا يفعل العلاج، ولا يوجد
مثار للوهم أقوى من اعتقاد المعتقدين بالسلطة الروحانية والقوى الغيبية يؤتاها
بعض رجال الدين. ويكفي في توثيق عرى هذا الاعتقاد في المستعدين له ما ينقل
إليهم بلسان زيد وعمرو، وهند ودَعْد. من الحكايات الغريبة، والوقائع العجيبة،
وإذا رأى أحدهم بعينه واقعة منها أو بعض واقعة أو شبهة على واقعة كأن يرى
فلانًا الذي كان مريضًا قد شفي بعد رقية رقي بها، أو تميمة علقت عليه. فهناك
الجزم بأن كون الشيخ فلان يشفي المرض بالسر. ويبرئ العلل بالبركة من القضايا
اليقينية الأولية، لا يتسرب إليه الشك. ولا يحوم حوله الريب. وأن من ينكره فهو
مريض الاعتقاد، أو من أهل الجحود والإلحاد.
عرف هذا الأطباء والعقلاء فاستعانوا بالإيهام على معالجة الأمراض العصبية
فنجحوا نجاحًا عظيمًا، وهم يتفننون في تصوير الوهم بالصور المناسبة لحال
المرضى في اعتقاداتهم، بل يخلقون لهم اعتقادات ببعض الأشخاص أو ببعض
الأدوية ويبالغون في تعظيم شأنها حتى يشغلوا خيال المريض بها ثم يسلطونها على
مرضه. وإنك لترى حكيمًا من الحكماء يدعو إلى منزله دجالاً من الدجاجلة الذين
يدَّعون التصرف في الجان والسلطة على العفاريت الذين يمَسُّون الأناسي - يدعوه
ليعالج بإيهاماته الدجلية امرأة عنده مصابة بمرض عصبي مما يسميه الأطباء
(الهستريا) بعد أن يعجز عنها الأطباء. ويخيب فيها كل دواء فتشفى برؤية زيّه
وبزته وشم بخوره وسماع رقيته، ويعترف له ذلك الحكيم بأنه يفعل بكلماته
وعزائمه ما لا يفعل الطبيب بأدويته ومراهمه. أتقول: إن هذا الحكيم يعتقد بحقية
هذا الخرافات، ويَدين بأن ذلك الدجال من أهل الخوارق والكرامات، أم تقول: إنه
سلط الوهم على الوهم. كما يدفع في الجدل الرأي الفاسد بالدليل الفاسد، وأنه يرى
المريض في عصبه كالمريض في عقله. ذلك يتأثر بأوهام الدجل وهذا يقتنع
بمغالطات الجدل؟
الأمراض العصبية التي تفعل فيها الأوهام ضروب مختلفة، منها بعض فنون
الجنون ومنها مقدماته، ومن المصابين بها من يعتقد بالشيطان يخالط روح الإنسان
ويعتقد بأن لبعض الناس سلطانًا على الشياطين بطريقة صناعية كالبدعة الذميمة
التي يسمونها (الزار) ، وهي منبع المآثم والأوزار أو بطريقة روحانية كبركات
الشيوخ ورُقاهم وعزائمهم.
وتجد الذين ينتحلون هذا الأمر بسلوك كل من الطريقتين يعيشون في مثل هذه
البلاد بأكل أموال الناس بالباطل، فكثيرًا ما يوهمون من يرونه مستعدًّا لهذه الأمراض
من النساء والرجال بأنه مصاب بها وما هو بمصاب فيؤثر قولهم في نفسه فيمرض
ويحكِّمهم في نفسه يعالجونها كيف شاؤوا؛ بل يحكمهم في حاله وشرفه أحيانًا. وكثيرًا
ما يزيدون الداء إعضالاً بحمقهم وسوء سلوكهم.
جاءتني جريدة (المؤيد) وأنا أكتب في هذا النوع فرأيت في رسالة الإسكندرية
منها كلامًا في انتشار وباء الزار في تلك المدينة وفعله في النفوس والأعراض ما لم
يفعل الطاعون في الأجسام. وفي الأموال والعروض ما لم يفعل القمار والمدام.
وقد رأيت أن أنقل ما كتب الكاتب بنصه فاقرأه تحت عنوان (بدعة الزار) .
* * *
(مضار بدعة الزار)
أصدرت محافظة ثغرنا في الأسبوع الماضي أمرها إلى أقسام المدينة بمراقبة
النسوة المشتغلات بالزار لأن جمعياتهن كثرت برواج خزعبلاتهن فألحقن بربات
البيوت أضرارًا أدبية ومادية لا يحسن التغاضي عنها وعهدت المحافظة أمر تجسس
هذه المحرمات إلى مشايخ الحارات ظنًّا منها أنها تستفيد من دقة مراقبتهم وتضرب
بواسطة نفوذهم على أيدي أولئك النساء الشريرات.
أما نحن فنقول: إن أوامر نظارة الداخلية الصادرة من عشر سنين ونيف
والمصدق عليها من مجلس علماء الأزهر الشريف وإفتائه بتحريم استعمال بدعة
الزار الشنيعة لم تكن في حاجة إلى أوامر جديدة وهمة حديثة ليقال معها أن حكومتنا
اليوم التفتت إلى ضرر لتلافيه، ونظرت إلى محرم فلاحقته بعدلها بل يجب أن
تصرح بأنها أغضت زمنًا عن واجب مقدس ثم تنبهت إلى نظام موضوع من أجله
فهبت الآن لتلافي الشر ووقاية هاته العيلات وثروتها وآدابها بها من نتائجه الكثيرة
التي منها الإملاق والجنون والطلاق والمروق عن جادة الاستقامة والعفاف وغير
ذلك من الأضرار الظاهرة التي لا تحتاج إلى استطلاع وفلسفة.
أما الإملاق والجنون فيكفي أن نشير إليهما بحادثة امرأة أشفقت على ابنتها
المصابة بمرض عصبي (هستيريا) فلجأت إلى الزار فصارت تبذل لهن مطالبهن
الكثيرة من ذهب وطعام وغنم ودجاج حتى احتاجت إلى المال فباعت (كنها)
الوحيد الذي يستظلون به ويلجأون إليه وكانت النتيجة جنون الفتاة وموت أمها غمًّا
وقهرًا؛ لأن ألعاب الزار وأوهامه من شأنها أن تثير العواطف وتنبَّه الأعصاب إلى
ما كمن من الداء فيظهر بشدة حينئذٍ ويصبح على التوالي ملكة لا يرضيها غير هذه
الأعمال الخيالية النفسانية فبدلاً من تسكين لاعجه يزداد شرًّا على شر ويكون من
نتائجه الجنون وكفى بالفقر مُذهبًا للرشاد ومضيعًا للعقول.
وكم من زوج طلق عروسه لتبذيرها ونبذها طاعته في سبيل هذا الزار الذي
استحكم فصار عادة بين النساء وموضع افتخار بعضهن. وقليل من العقل والروية
يكفي لنبذ الرجل زوجته إن والت معاندته والعمل على إساءته وهي لا تدري أنه
البر الرؤوف بها في منعها عن الانغماس في حمأة هذه الأوضار؛ بل تظن به الشح
والوسواس والكفر والكراهة إلى غير ذلك من الظنون السخيفة التي تزرعها نساء
الزار في رؤوس البسيطات من هؤلاء الأمهات والفتيات، فيقضين على راحتهن
ومستقبلهن قضاءً مبرمًا بالتفرقة والخراب وكفى بهذه النتائج المحزنة داعيًا إلى
التفات الحكومة ومطاردتها للمشتغلات بهذه الدنايا والرزايا.
أما المروق عن جادة الاستقامة والعفاف فهذا كثير، فإن لقهرمانات الزار فنونًا
وحيلاً ينفر منها إبليس ويستعيذ بسلبها منهن بالله لأنها فوق قدرته لو أبنَّاها في هذه
العجالة وقليلها يكفي للإشارة إلى سوء الحال وشر المآل.
حُكي أن امرأة تعشَّقها سفيه دنيء فاحتال للوصول إليها كثيرًا حتى لجأ إلى
نساء الزار فلعبن دورهن مع المرأة حتى أثَّّرن عليها بأنها ملموسة بروح شريرة مما
يعبرن عنه (بأن عليها شيخ) وعندما ملكنها بهذه الخزعبلة قلن لها: إن شيخك
يحب شابًّا صفته كذا وكذا.. إلخ إلخ. ولا سبيل لسكون هذا القادر إلا
باجتماعهما.
وما زلن بها حتى رضيت بالشاب فكان من اجتماعهما ما كان من سكون
لواعج النفس بطرد حركة الشيخين وكثيرًا ما يجمع النسوة الشريرات مدبرات الزار
الرجال بالنساء ويمهدن سبل الدنايا والموبقات على أشكال وضروب لا يليق بيانها
وبذلك تتقوض أسس المحبة الزوجية فتكون العواقب أشد وخامة على الذرية التي لم
تجنِ ما جناه الأبوان من جهلهما وتساهلهما.
والغاية من رسالتي هي أني أريد إفهام الحكومة أن تكليفها مشايخ الحارات
بمراقبة المشتغلات بالزار ومنازل طلابهن ومريديهن لا خير فيه ولا فائدة لأنها
تفتح لهؤلاء المشايخ المراقبين باب رزق وسيع، فإنهم يسعون الآن باحثين منقبين
على من يحيي ليالي الزار وأيامه ليستفيدوا أتاوة الصمت والتغاضي وهو ربح حسن
يفضل الأرباح العائدة عليهم من المخافر والضمانات وغيرها، وبذلك يزيد الزار
انتشارًا وضررًا. اهـ بنصه.
(المنار)
إن ما رآه الكاتب في مشايخ الحارات صحيح، فإنهم قوم لا خلاق لهم. وإذا كان
وجهاء الناس والذين يظن فيهم العقل والأدب والدين ينخدعون للنساء المنتحلات
لبدعة الزار الضارة ويعتقدون نفعها فماذا عسى ينتظر من مشايخ الحارات
وأكثرهم من التحوت والغوغاء الذين يشترون بالآداب والأعراض ثمنًا قليلاً؟ ولو
جعلت الحكومة لمن يدلها على ذلك جُعْلاً ولو قليلاً لما خفي عليها شيء، ولتيسر لها
أن تستأصل هذه البدعة الضارة استئصالاً.
ومن العجائب أن الرجال يسمعون بآذانهم ويقرؤون بألسنتهم ويشاهدون
بأعينهم مفاسد الزار وفتكه بالأموال والأعراض وإفساده للأخلاق والعقائد، وهم مع
ذلك يسمحون لنسائهم بعمله وبحضوره فأيُّ شرفٍ وأي نخوة بقي عند هؤلاء
الرجال السفهاء الأحلام الميتي الإرادة؟ والله لو صلح الرجال لما فسد النساء، ووالله
ما أفسد النساء إلا الرجال، فلعن الله مَن لا غيرة له، ولعن الله من لا نخوة له،
ولعن الله من لا شرف له.
***
لكل قوم نصيب من الوهم يليق بحالهم واعتقادهم، وقد ألمعنا إلى بعض شأن
الذين يعتقدون بالأرواح الخيرة والشريرة، وأما الماديون والروحيون الذين يعتقدون
أن الأرواح أمور غيبية لا سلطان لها إلا في أبدانها التي تحيا بها، وأن لجميع
الأمراض أدوية يعرفها من يعرفها ويجهلها من يجهلها (كما ورد في الحديث) فإن
للوهم منافذ أخرى إلى نفوس المصابين بالأمراض العصبية منهم كالاعتقاد
ببراعة الأطباء واكتشافاتهم واختراعاتهم، وبأخبار الذين شفوا بمعالجاتهم، وأن
كثيرًا من أطباء أوربا وأمريكا ليعالجون أمثال هؤلاء المرضى بالأدوية الوهمية.
حكي أن امرأة منهم أعضل داؤها، وعز شفاؤها، فجاء بعض الأطباء الذين كانوا
يعالجونها وقال: إن كل تلك الأدوية التي كانت تداوَى بها من المسكنات وإنه لم
يبق إلا علاج سام خطر هو الشافي قطعًا ولكن لا يمكنني أن أعطيها منه إلا
بشروط منها أن لا تزيد عن المقدار الذي أعينه نقطة من السائل ولا مقدار ذرة من
الجامد، ومنها أن تأخذه في المواقيت المعينة لا تتقدم دقيقة ولا تتأخر دقيقة ومنها
أن نكتب كتابة ونسجلها في المحكمة بأنه لا تبعة عليّ ولا مطالبة إذا هي ماتت
مسمومة؛ لأنني لا آمن من مخالفتها في المواقيت أو المقادير. وقد تردد أهل
المريضة في قبول الشروط ولكنها هي قبلت بها؛ لأن المرض كان منعها المنام
والراحة فما زالت تلح عليهم حتى قبلوا وكان شفاؤها في ذلك الدواء، ولم يكن إلا
الدقيق والسكر والماء!
عرف الناس تأثير قوة الاعتقاد الوهمي فضربوا لها المثل: (لو اعتقد أحدكم
بحجر لنفعه!) ويظن بعض العامة أن هذا حديث لأنه مؤدٍّ للمعنى العام بعبارة
وجيزة، وبذلك امتازت الأحاديث النبوية.
ثم إن الجهل بأمور الدين والدنيا معًا فسره لأهل هذا العصر بغير معناه وإن
شئت قلت بنقيضه. فهم يزعمون أن فيما يعتقد - وإن حجرًا - نفعًا حقيقيًّا ثابتًا له لا
ينفكّ عنه، فهم يتمسحون ببعض الأحجار، ويتعلقون ببعض الأشجار، ويتبركون
بمياه بعض الآبار، ويعتقدون أن فيها خواص تشفى الأمراض، وتقضى الحوائج
والأغراض، ثم إنهم يلصقون ذلك بالدين ورجالاته، ويعدونه من دلائل صدقه
وآياته، ويغفل أهل كل ملة عن مشاركة أهل الملل الأخرى لهم فيما يدعون،
واستدلالهم بمثل ما يستدلون.
كتبنا غير مرة في مفاسد الاعتقاد بهذه الجمادات والأشجار كعمود الرخام في
المسجد الحسيني وباب المتولي وشجرة الحنفي ونعل الكلشني وغير ذلك، ولم ينس
قراء المنار - بل أهل مصر كلهم - ما كان منذ سنتين ونيف في المسجد الحسيني
من الجلبة والضوضاء في آخر الدرس الذي كنا نلقيه هناك، إذ نهينا الناس عن
التمسح بالعمود الذي يسمونه عمود السيد استشفاءً به وطلبًا للبركات منه، فاحتج
علينا بعضهم بالمثل الذي جعله الجهل حديثًا نبويًّا، ولما بينا لهم معنى المثل وكونه
غير حديث وأنه لو كان حديثًا وكان معناه كما زعموا لكان حجة على نفع عبادة الأصنام قبل ذلك الجماهير. وكان في الصفوف البعيدة من حاضري الدرس من لم
يفهم القول فطفقوا يتساءلون: ماذا قال في الحديث ماذا قال في الحديث؟ فأجاب
بعض الذين وعوا القول بالصواب ودس بعض المرجفين أقوالاً كانت مثار اللغط
والضوضاء كقولهم: إنه أنكر حديث رسول الله (بمعنى كذَّبه) وقولهم: إنه قال:
إن سيدنا الحسين صنم لا ينفع ولا يضر وأمثال ذلك.
أليست هذه الفتن والبدع والعقائد الفاسدة المفسدة للعقول والأرواح ناشئة كلها
عن الاعتقاد بهذا النوع من الخوارق الوهمية التي دخلت في الدين من تلك الأقاويل
التي أثبتها مثل التاج السبكي من غير بينة ولا بيان، ولا حجة ولا برهان، إلا
زعم فلان ودعوى فلان؟ بلى، هذا وجه من وجوه تعليل ما نقل في هذا النوع
وهو معقول مقبول وعليه أكثر العقلاء.
وبقي وجه آخر يقول به بعض الناس في بعض الوقائع، ونعني بالناس أهل
العلم والبحث وهو تأثير النفس في النفس ويعبر عنه الصوفية بتأثير الهمة ويثبتونه
لغير المسلمين حتى الوثنيين وهو ثابت عند حكماء اليونان والعرب وغيرهم وحكى
ابن خلدون وقائع منه.
معهود عند جميع الناس رؤية أشخاص يرفعون قنطارًا (مصريًّا) عن
الأرض وقل من رأى بعينه أشخاصًا يرفعون عدة قناطير. فإذا قيل لهؤلاء: إن
قيصر روسيا السابق كان يأخذ كرتين من الحديد كل منهما عدة قناطير ويقذفهما في
الجو واحدة بعد أخرى ثم يتلقى كل واحدة بيدٍ قاذفًا إياها في الجو ويعيد ذلك المرة
بعد المرة زمنًا طويلاً - ينكر أكثر المعروفين بالعقل والروية هذه الرواية؛ لأن في
الناس المولع بإنكار الغرائب التي لا يعهد مثلها كما أن منهم المولع بنقل الغرائب التي
لا يعهد لها نظير.
ويعهد جميع الناس أن يروا حزينًا فتؤثر فيهم حالته حتى يمتعضوا وربما بكى
فأبكى، ويعهد قليل من الناس من تأثير بعض الوعاظ ما توجل له القلوب وتذرف منه
العيون ويحمل كثيرًا من الناس على الرجوع عن حال إلى حال، وعلى الخروج
من العقار والمال، وليس هذا تأثير الكلام خاصة وإنما العمدة فيه على تأثير النفس،
وقد كان بعض الوعاظ الصالحين يعظ فيتوب قوم ويبكي ناس ويموت آخرون
فقيل له: إن فلانًا أفصح منك في التذكير لسانًا، وأوضح بيانًا فما بال كلامه لا
يؤثر، ولا يستتيب ولا يستعبر؟ ! فقال: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجَرة!
يريد أن التأثير بالحال، لا بزخرف المقال، وإذا قلت لهؤلاء الناس: إن في الناس
أفرادًا لهم قوة نفسية، وهمة روحانية، إذا وجهوها إلى نفس أخرى فإنها تؤثر فيها
التأثير الذي يريدونه متى صح التوجه - ينغضون رؤوسهم، وينكر أكثر أهل البحث
والروية هذه الرواية، وإذا دام أهل العلم في الغرب على بحثهم في الأمور الروحية
فإن هذه المسألة ثبتت عندهم بالتجرِبة التامة. وكما يكون هذا التأثير في شفاء
المرضى يكون في إحداث الأمراض ولبعض الناس في كل أمة استعداد قوي له إذا
استعملوه زاد قوةً وتأثيرًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/287)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهات النصارى
وحجج المسلمين
(تتمة الكلام في الشبهة الثانية على القرآن)
(الشاهد الرابع) زعم المعترض أن ما في سورة (المؤمن) من أن موسى
أرسل إلى فرعون وهامان وقارون يدل على أن قارون من قوم فرعون فهو
مناقض لقوله تعالى في سورة القصص: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى
عَلَيْهِمْ} (القصص: 76) .
ونقول في الجواب: إن كون قارون من قوم موسى مجمع عليه عند المسلمين
سلفهم وخلفهم كما قال ابن عطية، وقالوا: إنه من ذوي القربى لموسى عليه السلام
ولكنهم اختلفوا في جهة القرابة، فنقل عن ابن عباس وغيره أنه كان ابن خالته، وقيل
غير ذلك مما لا يعنينا. ولم يفهم أحد من العرب ولا ممن بعدهم من أهل اللغة ما فهم
هذا النصراني في آخر الزمان.
قال تعالى في سورة (القصص) أن رجلاً اسمه قارون كان من قوم موسى
وكان طاغيًا بطرًا بماله، فبغى على قومه بني إسرائيل فأنذروه عاقبة البغي ونصحوا
له بأن يبتغي بماله الدار الآخرة إلى ما يتمتع به من الدنيا فلم يقبل، وكل هذا يدل
على أنه كان كافرًا طاغيًا جاحدًا من قوم سبق لهم إيمان وكتاب.
وقال في سورة (المؤمن) أنه أرسل موسى إلى فرعون وهامان وقارون فذهب
بعض المفسرين إلى أن قارون هذا كان مصريًّا وكان قائدًا لجند فرعون، وذهب
بعض إلى أنه قارون الإسرائيلي، ولكنه ذكره مع فرعون ووزيره هامان لأنه كان
رئيسًا باغيًا مثلهما وهؤلاء الرؤساء الطغاة البغاة هم الذين يحُولون بين الرسل
والأمم، وإنما أرسل الله تعالى موسى لهداية بني إسرائيل كما علم من النص ومن
الواقع، ولما كان بنو إسرائيل مستعبَدين مقهورين لفرعون وكبار أعوانه كهامان
وقارون ابتدأ موسى بدعوة هؤلاء بأمر الله تعالى حتى أراهم آياته وكانت العاقبة
إخراج بني إسرائيل من مصر وإيتاءهم الشريعة.
لا دليل بل لا شبهة على التناقض في قول من القولين. أي مانع يمنع أن يكون
هناك قارونان في زمن واحد أو زمنين مختلفين، فإن قارون قوم موسى ذكر ولم يذكر
في قصته أن موسى نصح له أو دعاه إلى شيء، بل جاء فيها أن قومه هم الذين
نصحوا له: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ} (القصص: 76) ، إلى آخر الآيات
فيجوز بل يقرب أنه كان بعد موسى. ثم أي مانع يمنع أن يتخذ فرعون لنفسه رجلاً
إسرائيليًّا باغيًا فسق عن تقاليد قومه وصار لا يهمه إلا بيع مصالحهم بما ينفع
شخصه، ويجعله عونًا له على الإسرائيليين ويحكمه فيهم لأنه أعلم بدخائلهم، وأدرى
بمقاتلهم؟ أليس من المعهود في كل زمان أن يستعين الذين يحكمون أقوامًا غير قومهم
بأفراد أولئك الأقوام يبيعون مصالح قومهم للحكام الأجانب بالمال والجاه لأشخاصهم؟
فلماذا يستنكر أن يصطنع فرعون لنفسه طاغية من الإسرائيليين يكون واسطة بينه
وبينهم فيما يريد من ضروب الاستبداد والاستعباد؟ ثم إذا فرضنا أنه لم يكن عاملاً
لفرعون ولا صنيعة له وإنما كان أغنى بني إسرائيل وأقواهم سلطانًا وأنفذهم شوكةً
كما تدل عليه سورة (القصص) أفليس هذا مسوغًا لأن يذكر مع فرعون وهامان
وقد استنَّ بسنتهما وجرى على طريقتهما؟ بلى ولكن الذي يتلمس التناقض في القرآن لا يظفر إلا بمثل هذا الخذلان! .
(الشاهد الخامس) زعم أن قوله تعالى في موسى: {فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ
عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} (غافر: 25) يناقض
قوله تعالى: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ} (طه: 38-39) فإن هذا القذف لم يكن إلا هروبًا من أن يقتله قوم فرعون
فدل ذلك على أنهم كانوا يقتلون الأطفال قبل بعثته.
ونقول في الجواب:
أولاً: إن هذه الآية لم تعلل بهذا التعليل، وإنما ذكرت غايتها المقصودة منها
بالنص، وهي قوله تعالى: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} (طه: 39) أي
أن الغاية من قذفه في اليم أن يأخذه فرعون ويربيه فيكون من أمره بعد ذلك ما يكون.
وثانيًا: إن الأمر بقتل الأبناء أولاً لا ينافي إعادته ثانيًا لأجل التأكيد والتشديد
عند وجود المقتضي. ومثال هذا حاضر بين أيدينا - نُظار الحكومة المصرية كانوا
نهوا جميع المستخدمين في الحكومة أن يجمعوا مالاً لإعانة سكة الحديد الحجازية أو
يساعدوا الجامعين، وكان ذلك من عدة سنين ثم أعادوا هذا النهي الآن بمناسبة توجه
الناس إلى الإعانة بعد أن أمر السلطان بمطالبة المسلمين كافة بإعانة اختيارية،
أقلها خمسة قروش على الشخص، وأكثرها غير محدود، وقد ذكرت الجرائد هذا
وذاك، فهل يقال: إن النهي الثاني مناقض للنهي الأول؟ كذلك كان فرعون قد أمر
القوابل بأن يقتلن أبناء بني إسرائيل ليقل نسلهم، فلما ظهر موسى ودعاه إلى اتباعه
وإلى إرسال بني إسرائيل معه - أكد الأمر الأول وأعاده وأمر بما هو أشد منه وهو
أن يُقتل الأبناء جهرًا. هذا الأمر موافق لذلك لا مناقض له، فإن التناقض أن تكون
إحدى القضيتين موجبة والأخرى سالبة، كقول يوحنا في الفصل الخامس من إنجيله
حكاية عن المسيح عليه السلام: (31 إن كنت أشهد لنفسي فليست شهادتي حقًّا)
مع قوله في الفصل الثامن: (14 أجاب يسوع وقال لهم: وإن كنت أشهد لنفسي
فشهادتي حق) ! أرأيت أيها القارئ المنصف لو كان يوجد في القرآن أمثال هذا
التناقض ماذا كان يقول ويكتب هؤلاء الجاحدون الذين يسمون الحكاية عن الأمر
بمعنى الأمر تناقضًا ويسمون اختلاف القضيتين في الإيجاب والسلب توافقًا يدل
على الألوهية؟ !
(الشاهد السادس) زعم المعترض أن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) وقوله عز وجل:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) مناقضان لقوله
تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) . وقوله عز شأنه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} (التوبة: 73) وقوله تبارك اسمه: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ
لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (البقرة: 193) .
ونقول في الجواب: إن للمعترض بعض العذر إن لم يفهم هذه الآيات حتى توهَّّم أنها متناقضة، وإن كانوا يقولون: إن الذي كتبها أو صححها هو
أعلم النصارى بالعربية (الشيخ إبراهيم اليازجي) ، فإن هؤلاء ينظرون في كتاب
الله ليعترضوا لا ليفهموا ولو ابتغوا الفهم لفهموا، على أن منهم من يفهم ويكابر
نفسه ويماري الناس، فيقول غير ما يعتقد.
معنى الآيات ظاهر، وإن كان للمفسرين في فهم بعضها وجهان، فأمّا الآية
الأولى فمعناها أن كل أمة من الأمم المؤمنة بالوحي والأنبياء لا تكون آمنة ناجية
بمجرد انتمائها إلى دين النبي الذي بُعث فيها ولكن الناجين منها هم الذين يصح
إيمانهم بالله وباليوم الآخر ويكون على وجه الحق ويعملون الصالحات. وهذا حكم
لا يعارض كون الدين اختياريًّا لا إكراه فيه ولا إلزام، ولا يعارض الإذن بمحاربة
المعتدين من الكافرين والمنافقين ولا البغاة من المؤمنين، فإن الله تعالى أمر بقتال
الطائفة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله.
وأما الآية الثانية فمعناها أن الدين يقوم بالدعوة، والدعوة تؤيد بالحجة وبيان
الرشد في الإيمان من الغي في الكفر.
وأما الآية الثالثة فمعناها أن الإسلام هو دين الأنبياء الذي كان عليه إبراهيم
وموسى وعيسى وغيرهم ولا يقبل الله تعالى دينًا غيره في الآخرة، ولم يكن يعني من
الإسلام الذي دعي إليه الناس في القرآن ما سيكون عليه الطوائف الذين يسمون
أنفسهم مسلمين كيفما كانت عقائدهم وتقاليدهم حتى المجسمة والباطنية والنُّصَيرية،
وإنما معناه الدين الذي روحه إسلام الوجه (القلب) إلى الله تعالى والإخلاص له في
العبادة والطاعة كما قال: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} (آل عمران:
20) وقال: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ} (الحج: 78) ، وقال:
{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ
وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (البقرة: 132) ، فعلم من هذه الآيات وأمثالها أن المراد بالإسلام
دين الأنبياء من إبراهيم إلى محمد عليهم السلام. ولقد كان الأنبياء من قبل إبراهيم
على دينه ولكن إبراهيم أقدم الأنبياء الذين لم يمت ذكرهم ولم ينقطع التوحيد من
ذريته، وهذا المعنى مطابق لمعنى الآية الأولى مطابقة تامة.
وأما الآية الرابعة الآمرة بجهاد الكفار والمنافقين فليس فيها كلمة تومئ إلى أن
الجهاد لأجل الإكراه على الدين، كيف والمنافقون كانوا متلبِّسين بالدين في الظاهر
وكان النبي يعاملهم معاملة المسلمين، حتى إن المفسرين قالوا: إن الجهاد لا يصح هنا
إلا إذا كان بمعنى المحاجّة بالبرهان، فإن الجهاد في اللغة ليس بمعنى القتال وإنما هو
بذْلُك الجهد في مقاومة شيء، ولذلك أُمرنا بجهاد أنفسنا أي بذل الجهد في مقاومة
شهواتها. ويصح أن يكون الأمر بجهاد الكافرين والمنافقين معًا بمعنى مقاتلتهم إذا
كانت الآية نزلت في مثل غزوة الأحزاب التي اتحد فيها طوائف المشركين مع
اليهود والمنافقين من الفريقين على استئصال المسلمين، وفيها هدد الله المنافقين
بقوله: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ
لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً} (الأحزاب: 60) .
نعم، إن القتال شرع في الإسلام لمقاومة المعتدين وتأمين المؤمنين الذين كانوا
يُفتنون عن دينهم في أنفسهم وأهليهم ويدل على كونه مأذونًا فيه للضرورة الآيات
الواردة فيه. أول هذه الآيات نزولاً آية السيف وهي قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ
حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ
وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 39-41) ولا تنس قوله تعالى:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) .
وأما الآية الخامسة وهي قوله تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ
الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: 193) فهي مطابقة لهذه الآيات والمعنى الذي قلناه في حكمة
الإذن بالقتال، أي قاتلوا هؤلاء المعتدين عليكم لأنكم مؤمنون، والذين يفتنونكم عن
دينكم ليردوكم إلى دينهم إن استطاعوا حتى تزول هذه الفتنة والاعتداء لأجل الدين
ويكون الدين خالصًا لله لا يكره عليه أحد ولا يفتن عنه أحد، أي لا ينتفي الإكراه
بالإلزام به والإرجاع عنه وتكون الدعوة إليه أمينة لتظهر الحجة. هذا هو معنى
الآيات لا يقبل تأويلاً وهي ملتئمة يؤيد بعضها بعضًا.
(الشاهد السابع) زعم المعترض أن قوله تعالى حكاية عن المسيح:
{وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وَلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَياًّ} (مريم: 33) مناقض
لقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} (النساء: 157) إلى قوله: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ
إِلَيْهِ} (النساء: 158) والجواب أن الله تعالى ذكر في آية أخرى أن الرفع
يكون بعد الموت وهي قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران: 55) فنفي القتل والصلب لا يستلزم نفي الموت؛ بل جرى عرف
اللغة على أن لا يعبر بالوفاة والموت عن القتل والصلب بل عمن يموت
حتف أنفه.
وبهذا وما قبله تبين أن شواهد المعترض على تعارض القرآن وتناقضه
ظاهرة البطلان ويبعد أن يكون مثل ذلك المؤلف (الإنكليزي) والمصحح
(الشامي) والناقل (القبطي البروتستنتي) معتقدين بها وإنما هم سيئو القصد
يحبون أن يشككوا عامة المسلمين في دينهم ليجذبوهم بحبال الأوهام الدنيوية إلى
ذلك الدين الذي يضم الشاكّين والملحدين، ويؤلف منهم عصبية لمقاومة المسلمين!
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/294)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
(1) الإنسان يحب ذاته - قضية يؤيدها الحس وبها تعلل كل أعماله وكل
محباته، ومن محبته لذاته تحمُّله الأتعاب العظيمة والآلام الشديدة في العاجل لأمله أن
تبقى ذاته وتنال خيرًا في الآجل، وهذا أعظم الأمثلة لمحبة الإنسان ذاته.
(2) حب الذات في أصله طبيعي ونافع - هذه المحبة تخلق مع الإنسان من
قبل أن يعرف نفسه وغيره، ومن قبل أن يعرف النافع والضار، والدليل على ذلك
أنه منذ يبدأ أن يعرف النافع والضار من طريق الحس يبدأ أن يحب مرضعته قبل
سواها. وهل يقتدر أحد أن يعلل محبة الطفل لمرضعته بشيء غير طبيعي؟ وهل
ذلك الشيء الطبيعي أمر غير محبة الإنسان ذاته بحسب الجبلة؟ ولا ريب في أن
هذا الشيء الطبيعي نافع لازم. أما كونه لازمًا فقد يدلنا عليه كونه طبيعيًّا؛ لأنه
من المجرب عند قراء سنن الوجود أن الشيء متى كان وجوده لازمًا من اللوازم
العامة كان طبيعيًّا. وأما كونه نافعًا فلأنه الأساس الأعظم في حفظ الشخص وبقاء
النوع. وستأتون على تفصيل هذا الإجمال مرات كثيرة. ومن المجرب المحقق أن
محبة المرء ذاته تنمو فيه على التدريج منذ طفوليته إلى أن تكمل رجوليته. ونفعها
ينمو على هذا الوجه وأعظم آثارها شيئان طبيعيان متضادان تنشأ عنهما آثار
متضادة أيضًا، هما: شهوة تجذب، وغضب يدفع.
(3) ذات غيرنا كذاتنا، فلا بد من حد في الحقوق لنا ولغيرنا - فحب
الذات له حدود قل أن نجد قضية مستغنية في ذاتها عن قيود وشروط فقولنا (محبة
الذات نافعة) قضية لا تسلم من الجرح إلا إذا ساعدناها وقيدناها بقيد. وهذا الشرط
مشروح بكلمة (ذات غيرنا كذاتنا) وتوضيحه أننا إذا لم نضع لذاتنا حدًّا لا يضع
غيرنا لذاته حدًّا. فما نطلبه لذاتنا يطلبه غيرنا لذاته. ويظهر من هذا أن محبة
الذات لا تكون نافعة إلا إذا كانت تابعة لنظام وواقفة عند حد وينتج ذلك ما ترى.
(4) إذا تجاوزنا الحدود في حب الذات صار ضارًّا. كيف لا وجميع ما
نسميها شرورًا إنما منشؤها مجاوزة الحدود في محبة الذات؛ لأنه لا معنى للشر إلا
الاعتداء على الحقوق، وهل هذا الاعتداء شيء غير مجاوزة الحدود؟ ولا فرق
بين أن تكون أنت المعتدي على غيرك لأجل ذاتك وأن تكون يعتدي عليك غيرك
لأجل ذاته، فالأول شر لأنك لا تسلم فيه من جزاء ما، وقد يكون الجزاء طبيعيًّا
كجزاء الشرِه، والثاني شر لأنك فقدت حقك لأجل شره غيرك فيه.
الصنعة بديعة كاملة أتقنها حكيم عليم قد جعل لكل شيء سنة، ناموسًا،
طبيعة خاصة، نظامًا (قل ما شئت أن تقول وسمِّ ما أردت أن تسمي، لا تناقش
باحثًا في لفظ يؤدي إلى معنى يؤديه لفظك أو قريبًا منه) مزج ما تبتغيه النفس بما
تنفر منه، وعلمها السبل في الوصول إلى المبتغَى، وجعل للسبل حدودًا عن يمين
وشمال. فمن تعدَّى الحدود فاته المقصود. وربما وقع في المكروه. ومن لم يتعدها
فاز ونجا، وتم له الرضى. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 229) .
(5) إذا لم نحب غيرنا لا نقدر أن نقف عند الحدود. إذا كان لكل داء دواء
فلا علاج لداء الشرور إلا محبة الناس محبة تابعة لنظام. وهذا العلاج لا يتخلف
نفعه أي أنه متى استعمل ينفع، فنحن نستطيع أن نقول: إن هذا العلاج يستأصل
الداء لمن استعمله ولكن لا نستطيع أن نقول: إنه يعم استعماله وتستأصل الشرور
كلها. وليس فيها مستحيلاً عقلاً ولكن التجربة تجعلنا لا نطمع فيه على أننا إذا لم
نرجُ أن تستأصل الشرور نرجو أن تخف ونجتهد في أن نعلّم الناس محبة الناس؛
كذلك كان الناس من قبل فهدى العلم بعضًا ببعض، كما أضل الجهل بعضًا ببعض،
ولا يزال العلم يجاهد الجهل إلى أن ينصره الملك القدوس السلام على أيدي رجاله
الأعلام.
(6) إذا لم نحب ذاتنا لا نقدر أن نحب غيرنا. من لطف العناية الأزلية أن
كان استعمال هذا العلاج سهلاً إذ ثبت في الفطرة أن من لوازم محبة الذات محبة
الغير، فلا جناح علينا أن كان حب غيرنا لأجل ذاتنا؛ لأن هذا هو العلاج في
محبة الغير وهذا الثاني هو العلاج في تخفيف داء الشرور، ولكن الجناح علينا إذا
لم نتبع نظامًا في محبة الذات ومحبة الغير، وهنالك الشر.
(7) بغض الذات مرض. يظهر مما تقدم أن لمحبة الذات نفعين: أحدهما
يرجع إلى الذات والآخر يرجع إلى الغير. وينتج أن لبغض الذات ضررين:
أحدهما للذات والآخر للغير. وإذا ثبت هذا فلا شك في أن بغض الذات مرض
مشوه للفطرة السليمة. وشائن لصاحبه يؤديه إلى نوع رديء من أنواع الرذائل وإثم
كبير من الآثام التي يناقش عليها المجتمع.
مبغض ذاته بالطبع يبغض غيره، وتكثر حيرته، يعترض على الصانع
الحكيم في صنعته، وعلى الإنسان العليم في علمه، عاطل معطل، طائش مطيش،
غر مغرر، مخبول مخبل، ناقم على الأحياء، متأفف من الحياة، جانٍ على
الاجتماع، قليل الرغبة، قليل الرهبة، قليل الحياء، قليل المروءة، قليل الغيرة،
عديم الهمة، عديم النشاط، عديم الفلاح، عديم السعادة. وإن شئت أن تعرف
مبغضي ذواتهم فأولئك هم مخالفو الفطرة التي فطرت عليها النفوس، وأذعنت
لحكمتها العقول، أقول هذا ولا أزيدكم شرحًا لتقدحوا زند ذكائكم، وتعلموا من
أشرنا إليهم بصفاتهم متى رأيتموها في إنسان. وزيدوا عليهم طوائف المستعبدين.
هذا وقد نسأل ويقال لنا: لماذا نرى بعض الحكماء قد يوصون ببغض الذات
ويأمرون بمنابذة اللذات المشروعة وإيثار الآلام؟ فالجواب:
(8) قد يكون هذا المرض نافعًا إذا سلمت به النفوس من الشرور، كما إذا
كان امرؤ لا يملك أن يتزوج ويريد أن يستعمل قوة باهه في غير ما خلق لأجله
كوطء بهيمة أو دبر أو استمناء بيد أو تسلط على عِرض فيه حق الغير - يؤمر في
هذه الحالات أن يجوّع نفسه لتضعف قوة باهه. فإن فسرت تجويع نفسه ببغض ذاته
وسميت هذا البغض المتعمد لحكمة مرضًا، قلنا: إن هذا المرض لمثل هذه النفس نافع
* وربما صحت الأجسادُ بالعللِ *
وإن سميت هذا التجويع حمية أو علاجًا فلا إشكال، وكما إذا كان يكنز النقود
الكثيرة لا يتاجر بها ولا ينفق منها على نفسه، يؤمر أن ينفقها على غيره ولو افتقر؛
لأن حاله قبل الإنفاق على غيره هي عين حال الفقراء فالفقر بعد الإنفاق قد تسلم
به نفسه من شر عظيم مؤلف من الجهل وبغض الغير وهو كنز تلك الحجارة التي لا
معنى لها إلا المبادلة وتسهيل معاملات الناس. وكما إذا كان كثير الاعتداء على
النفوس بقتلها ويؤذيها، يؤمر بالتوبة وتسليم النفس للقصاص. وهل من معنى لتسليم
النفس للقصاص غير بغض الذات؟ وليس يرتاب أحد بأن من كان كثير الاعتداء
على النفوس إذا مرض ببغض الذات إلى درجة يسلم بها نفسه للقصاص كان مرضه
نافعًا له ولغيره. وأمثلة هذا كثيرة قيسوا على ما ذكرت ما يظهر لكم.
(تنبيه مهم) إذا قلنا: إن الله أحب إلينا من أنفسنا، يجب علينا أن نفهم
معنى هذا الكلام حتى نكون على بينة وصدق مما نقول، وإلا كان كلامًا يراد به
تزكية النفس بمجرد إيراد حروفه. وسيأتي نحوه من تفسير هذا الكلام أو تفسيره،
ولكن أحببت ههنا أن أبادر إلى كلمة واحدة من تفسيره قد تغني الأذكياء. وما هذه
المبادرة إلا لأن هذه الكلمة من علائق الصدد: إن معنى محبة الله اتباع الحدود
ورعاية حقوق الغير وبذل وسع النفس في هذا الشأن وكل فروعه. وليس من
بغض الذات تجريعها الصبر في هذه السبيل الحميدة البالغة بها أسنى المقامات
وأسمى السعادات. بل هو من محبتها فإذا أحببت معلمك أكثر من محبتك لنفسك لا
تكون أبغضت ذاتك بل أحببتها حبًّا جعلك تحب كل ما يرقيها ويصلح شأنها حبًّا
شديدًا.
(9) متى كان الحب والبغض ناشئين عن فكر سليم كانت السعادة.
هذه المسألة كنتيجة لما تقدم وكفاتحة لما يأتي لأن كل علوم الناس وأعمالهم
وأقوالهم مقصود بها تحصيل السعادة التي هي فائدة هذه الحياة عند القائلين بوجود
السعادة. وعلم النفس في انفرادها واجتماعها هو العلم الوحيد الذي يهدي الحائر في
هذه المهامه.
وعندنا أن السعادة موجودة ممكن تحصيلها، ومن السعادة اعتقاد وجودها وهذا
المبحث المهم يحتاج فضل بيان، أما ههنا فأكتفى بتقرير هذه القاعدة لتحفظ في الذهن
وتتوجه النفس إلى شرحها وهي: (متى كان الحب والبغض ناشئين عن فكر سليم
كانت السعادة) لأن سعادة النفس في أحوال ثلاث (تصورها وطلبها وفوزها)
فمتى كان التصور صافيًا سليمًا قويًّا التذت النفس وانبعثت للطلب ومتى كان الطلب
مشروعًا نظاميًّا التذت النفس وأشرفت على الفوز، فإن فازت فذاك هو وإن لم تفز
فسعادتها أنها لم تقصر في الطلب، على أن الطلب في نفسه لذيذ وفي الأكثر يفيد
فائدة ما مما تبتغيه النفس إذا جدَّت وثبتت.
وقلّ مَن جدّ في أمر يحاوله ... ولازم الصبر إلا فاز بالظفر
هذا والفكر السليم هو الذي يميز بين الخير والشر والنفع والضر.
... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز.)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/298)
الكاتب: أحد طلبة الطب بمصر
__________
تحريم الخنزير ونجاسة الكلب
حضرة الأستاذ الفاضل / صاحب مجلة المنار الأغر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(وبعد) فإني أتيت بهذه المقالة راجيًا نشرها في مجلتكم الغراء، حتى
تتبين للناس الحكمة في اعتبار الشريعة الإسلامية أن الكلب نجس وفي تحريمها
لحم الخنزير معتمدًا فيما أقول على المباحث العلمية الطبية الحديثة التي أثبتتها
التجارب الحسية حتى لا يبقى عند أحد ريب في صحة ما أتت به هذه الشريعة
الغراء والعمل بموجبه، فإنها أحكم من أن تضع حكمًا عبثًا وأجلُّ من أن تسن قانونًا
لا فائدة للناس فيه، ومهما خفي سببه في بادئ الأمر فلا بد أن تتجلى فائدته عاجلاً أو
آجلاً، فأقول:
لتحريم لحم الخنزير أسباب كثيرة أجلها ثلاثة قبل أن أتكلم على هذا السبب
الأول يجب أن أقدم مقدمة في (علم الديدان) حتى لا يعسر على أحد فهم ما أقول.
(الأول ومقدمته)
قد يوجد في أمعاء الإنسان عدة أنواع من الديدان قلّ أن يخلو منها أحد، ومضار
هذه الديدان متفاوتة فمنها ما ضرره عظيم ومنها ما ضرره حقير ومن هذه الأنواع
ما يسمى بالديدان الشريطية. أذكر منها الدودة الوحيدة بتفصيل يسير لأن لها صلة
بموضوعنا وأشير إلى غيرها فيما بعد. تسمى هذه الدودة (تينيا سوليم) وهي كلمة
يونانية ومعناها (الشريط الوحيد) سماها الواضع بهذا الاسم لظنه أنه لا يوجد منها
في الأمعاء إلا واحدة فقط وهذا خطأ فقد يوجد منها أحيانًا اثنتان أو ثلاث، وطولها
يختلف من 7 أقدام إلى عشرة أقدام وهي مقسمة إلى عدة أقسام تبلغ 850 وفي
الأقسام الخلفية توجد أعضاء التناسل فتجد أن كل قسم منها فيه أعضاء الذكر
والأنثى، فإذا تممت هذه الأعضاء وظيفتها وتكونت البويضات في داخل الرحم
انمحت الأعضاء إلا الرحم فتبقى البويضات محفوظة فيه فإذا سقطت هذه الأقسام
المشتملة على البويضات من دبر الإنسان وقت التخلي كما يحصل كثيرًا لمن كان
مصابًا بها ووصلت هذه البويضات إلى معدة الخنزير أثناء تقممه القاذورات وأكلها
ذاب قشرها بواسطة العصير المعدي وخرجت الأجنة فتثقب الغشاء المخاطي للمعدة
وتصل إلى أوعية الدم الذي يحملها إلى العضلات وغيرها وهناك تنتقل إلى طور
جديد تصل به إلى تمام نموها. وهذا الطور هو أن تكوّن هذه الأجنّة حويصلات
صغيرة واحدها قدر حجم الحمصة في داخل اللحم وبعد ذلك يبرز في داخل هذه
الحويصلات هنات مخروطية الشكل، كل هنة منها رأس لدودة جديدة فإذا أكل
إنسان هذا اللحم خرجت هذه الرؤوس من حويصلاتها وعلقت بالغشاء المخاطي
للأمعاء وكونت كل واحدة دودة طويلة تامة النمو وتسبب من وجودها في الأمعاء
أعراض كثيرة فيحصل للمصاب بها مغص أو قيء وربما صار نَفَسه كريه الرائحة
ويصاب بالإقهاء (فقد شهوة الطعام) أو النهم الشديد وقد يصاب بآلام في رأسه أو
دوار أو إغماء ويشعر بضعف عام في جسمه وتضطرب أفكاره وأحيانًا تنتابه
نوبات صرعية وتشنجات عصبية قوية. وليس هذا كل الضرر الذي ينشأ عن هذه
الدودة، بل هناك خطر آخر عظيم وذلك أن بعض الأقسام قد يتلف وهو في الأمعاء
فيجرح البويضات مع البراز، فإذا أصابت ملابسه أو يده أو غير ذلك ووصلت إلى
معدته أثناء أكله أذاب العصير المعدي قشورها وخرجت الأجنة وتطورت بذلك
الطور الذي ذكرناه في الخنزير فتتكون الحويصلات المذكورة سابقًا في أعضائه،
وكثيرًا ما تصيب عينه فتتلفها أو بعض أجزاء مخه فتفسدها وتبطل عملها،
فيحصل له شلل في بعض أعضائه أو غير ذلك مما يتسبب عن إصابات جوهر المخ
وقد تصيب أعضاءً أخرى فتعمل فيها ما عملته في العين والمخ ويصير الإنسان منبعًا
لعدوى غيره فإذا صافح آخر وانتقلت إليه البويضة تعمل فيه ما عملته في الأول.
وكثيرًا ما يتخلى أهل الأرياف وغيرهم في المزارع أو في مياه الشرب فتنقل بسبب
ذلك الحويصلات إلى أناس كثيرين، ولولا الخنزير لما أصاب الإنسان شيء من
ذلك فإنها لا توجد في حيوان يؤكل سوى الخنزير، وقد توجد في الكلب أيضًا
والقرد.
واعلم أنه لا توجد دودة تتم طور الحويصلات في الإنسان سوى هذه وأخرى
نذكرها فيما بعد وحويصلات هذه الدودة تقاوم الحرارة في درجة 60 سنتجراد نحو
نصف ساعة على الأقل إذا كانت توجد في داخل لحم الخنزير وهو موصل رديء
للحرارة فإذا غلي الماء الذي حوله أثناء الطبخ حتى صارت درجته 100 فلا تصير
درجة ما في داخل اللحم 60 أو 70 إلا بعد زمن ثم ترتفع شيئًا فشيئًا حتى تصير
100 ولهذا تجد أن كثيرًا من الأوربيين مصابون بها وذلك لصعوبة قتلها بالحرارة
وكلما ازداد الإنضاج للثقة بقتلها عسر هضم اللحم لتجمد المواد الزلالية.
هذا ولما كان اختيار أخف الضررين هو الواجب عند الاحتياج إلى ارتكاب
أحدهما - ولا يخلو لحم من مضار - وجب أن نختار ما هو أخف أذى، قلت ذلك
لأن الحيوانات الأخرى المأكولة كالضأن أو غيره لا تخلو من ديدان أخرى شريطية
كالسابقة. من ذلك دودة (تينيا ساجنيتا) التي توجد حويصلاتها في البهائم التي تؤكل
ولكن هناك فرقًا بين هذه وتلك لأن الحويصلات في هذه إذا وصلت إلى معدة
الإنسان وتكونت منها الدودة التامة وفيها البويضات فلا يمكن إذا ازدرد الإنسان
البويضات ثانيًا أن تكوّن طور الحويصلات فيه مطلقًا؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا دودة
الخنزير وبذلك يكون الإنسان مطمئنًا على عينه وعلى مخه وغير ذلك من الأعضاء
الرئيسة ولا يكون منبعًا لعدوى غيره وذلك لأن هذه البويضات يلزم لها حيوان آخر
غير الإنسان حتى تتم طور الحويصلات فيه وبعد ذلك تنتقل منه إلى الإنسان فتكون
في أمعائه الدودة التامة البالغة النمو.
وفي الحقيقة إن أعظم الأخطار هو تكوّن الحويصلات في أعضاء الإنسان
الرئيسة وأما في الأمعاء فربما لا ينشأ عنه شيء مضر به وإذا حصل بعض
الأعراض التي ذكرت كالقيء والإسهال والصداع فإزالة الدودة بكثير من الأدوية
سهل جدًّا، ولكن إزالتها وهي في طور الحويصلات من المخ وغيره عسير بل
مستحيل. ويا ليت هذا هو ضرر الخنزير الوحيد؛ بل هناك مضار أخرى فاسمع
الغرائب الآتية:
(الثاني)
كثيرًا ما يأكل الخنزير الفيران الميتة التي كثيرًا ما تكون عضلاتها محلاًّ لأجنة
دودة تسمى (تريكينا اسبايرالس) أي الشعرة الحلزوينة؛ لأنها دقيقة جدًّا وملتوية
على شكل حلزوني فإذا وصل هذا اللحم إلى معدة الخنزير هضم وخرجت
الأجنة من أغشية الأمعاء المخاطية وتصل إلى عضلات الخنزير فإذا أكلها إنسان ولم
يكن قد عرضها بالطبخ لحرارة كافية لإماتتها نمت في أمعائه إلى أن تلد أجنة كثيرة
تنفذ إلى عضلات الإنسان وخصوصًا عضلات التنفس وكذلك القلب، وحينئذ
يصاب بمرض شديد فترتفع حرارته ويعتريه إسهال وقيء وتلتهب جميع عضلاته
فلا يقدر على تحريكها ويصير لمسها مؤلمًا فلا يمكنه أن يمضغ أكله فيمتنع عنه
ويصعب عليه أن يتنفس لالتهاب عضلاته، ولا يقوى على تحريك عينيه وبعد ذلك
يحصل له ارتشاح في جميع جسمه فيرم وتسرع حركات نبضه وحركات تنفسه
بطيئة جدًا حتى يموت! وهذه الأعراض لا يمكن علاجها مطلقًا؛ إذ لا يمكن إزالة
هذه الديدان من عضلاته بعد تحصنها فيها.
وهذا المرض كثيرًا ما يحصل في البلاد الأوروبية بسبب أكل هذا اللحم
المشئوم ولا يتسبب عن أكل لحم سواه كالضأن وغيره لأنها لا تأكل الفيران الميتة
إلا إذا أُلقي في غذائها أو وقع فيه بالاتفاق وأكلته بالتبع له، فحينئذ تصاب بما
يصاب به الخنزير، ولكن هذا نادر جدًّا، والنادر لا حكم له، بخلاف الخنزير؛
فإن حبه للفيران الميتة يوقعه في ذلك مرارًا عديدة، ولعل هذا السبب أيضًا هو أحد
الحِكَم في تحريم لحوم الحيوانات التي تأكل اللحم لأنه عرضة للإصابة بهذا المرض
كثيرًا.
(الثالث)
لحم الخنزير هو أعسر اللحوم هضمًا باتفاق، وذلك لأن أليافه العضلية
محاطة بخلايا شحمية عديدة أكثر من الحيوانات الأخرى المباح أكلها وهذه الأنسجة
الدهنية تحول دون العصير المعدي فلا تسهل عليه هضم المواد الزلالية للعضلات
فتتعب المعدة ويعسر الهضم ويحس الإنسان بثقل في بطنه ويضطرب القلب؛ فإن
ذرع الآكل القيء وإلا تهيجت الأمعاء وانطلق البطن بالإسهال فمن لم يتعود أكله
تعب منه كثيرًا ومن تعوده وكان قوي المعدة كان الأولى له صرف قوتها في الأغذية
الجيدة النافعة وإن لم يكن قوي المعدة ناله من شر هذا اللحم ما يستحق.
والخلاصة:
أن من ابتعد عن أكله أمن من الإصابة بالدودة الوحيدة أو حويصلاتها ولم
يكن سببًا في عدوى غيره وسلم من الإصابة بمرض دودة الشعرة الحلزونية، الذي
ربما فاق الحمى التيفودية، فإنه من أصابه لا يرجى شفاؤه ولا بد من موته - وحفظ
معدته من التعب وعسر الهضم وأسباب القيء والإسهال وضعف تغذية الجسم إلى
غير ذلك من المضار التي سبق شرحها.
أما اللحوم الأخرى فإنها أسهل هضمًا ولا يتسبب عنها عادة مرض الشعرة
الحلزونية ولا حويصلات في أعضائه الرئيسة يتلفها وإن نشأ عنه دودة شريطية
فعلاجها سهل ولا تحدث أعراضًا مهمة. فعلى قاعدة ارتكاب أخف الضررين يجب
أن نقول: لا تأكلوا لحم الخنزير فإنه رجس وكلوا غيره مما أبيح شرعًا.
الدين الإسلامي لم يأتِ لإصلاح الروح فقط بل لإصلاح الروح والجسم معًا
فأتى بما ينفعنا في دنيانا وآخرتنا وأنفسنا وأبداننا ولم يترك ضارًّا لأحدهما إلا ونبه
عليه تصريحًا أو إجمالاً على حسب شيوعه وعدمه بين الناس، فلو ترك التكلم في
المأكولات ونحوها لما كان مرشدًا للأنام في جميع أحوالهم الضرورية، فلو لم يحرم
لحم الخنزير مثلاً لمضى زمن طويل حتى يهتدي الناس إلى ضرره. ولو اهتدى
إليه بعض الأمم لما علمه فيها إلا الخاصة فقط ويمضي الزمن الطويل حتى تعلمه
العامة ولو علمته العامة لما قويت على ترك ما اعتادته وعهدت اللذة فيه بخلاف
الأمر الديني فإن كل الأمم المؤمنة به تخضع له في أقرب وقت، تخضع له العامة
كما تحترمه الخاصة ويعمل في نفوس الجميع ما لا يعمله قول الخطباء ولا نصح
النصحاء؛ ولذلك تجد أن شرب الخمر في أوروبا شائع بين سائر الطبقات وكلٌّ
يعلم ضرره ومع ذلك لا يمتنعون عنه لا بقول خطيب ولا بقول عالم، فكم خطبت
الخطباء ونصحت العلماء ولكن أين مَن يسمع؟ ! فلو لم يكن للدين التأثير الأقوى
في أهل الشرق لفاقوا أهل الغرب في الشرب وسبقوهم في تربية الخنزير وأكله
ولولا أنهم أخذوا يقلدونهم الآن لما وجدت بينهم شارب خمر ولا آكل خنزير إلا
نادرًا ولَمَا سمعت بمرض مما ينشأ عنهما فيهم. فأي إنسان يمكنه الآن أن يعترض
على الدين ويقول: (ما له يتكلم في المأكول والمشروب؟ !) وفاته أنه لم يأتِ إلا
للإصلاح العام في كل ما يمكن إصلاحه. فلم يتكلم في العقائد فقط بل في المعاملات
أيضًا وكما أمر بإصلاح القلب وطهارته أمر بحفظ صحة الجسم ونظافته، فأنعِمْ به
من دين جمع فأوعى وأحكِمْ به من صراط سوي مستقيم.
بقي علينا أن نتكلم في نجاسة الكلب، لا نقول: إن السبب في ذلك هو أنه
عرضة للإصابة بداء الكلب فإن هذا الداء لا يصاب به الكلب وحده بل قد تصاب به
الهرة والبقرة والحصان وغيرها، ومتى أصيب الكلب به عرفه الناس وقتلوه فإنه
متى أصيب به شل سريعًا عن الحركة وسهل قتله ومجرد لمسه في هذه الحالة لا
يعدي بل لا بد من العض ودخول لعابه في جلد الإنسان. فلماذا يعتبر الكلب نجسًا في
جميع أحواله ولا تعتبر البقرة والحصان كذلك؟
السبب في ذلك ما يأتي: في أمعاء أكثر الكلاب دودة شريطية صغيرة جدًّا
طولها 4 ملليمترات تسمى (تينيا إيكينوكوكس) فإذا راث الكلب خرجت البويضات
بكثرة في الروث فيلصق كثير منها بالشعر الذي بالقرب من دبره فإذا أراد الكلب أن
ينظف نفسه بلسانه كما هي عادته تلوث لسانه وفمه بها وانتشرت في بقية شعره
بواسطة لسانه أو غيره، وهذا ما يحصل في كل نوبة وبتكراره يصير جميع سطح
جسمه ملوثًا بهذه البويضات كما شوهد ذلك بالنظارات المكبرة.
فإذا ولغ الكلب في إناء أو شرب ماءً أو قبَّله إنسان كما يفعل الإفرنج أو لمس
جسده بيده أو بلباسه علقت بعض هذه البويضات بتلك الأشياء وسهل وصولها إلى
فمه أثناء أكله أو شربه فتصل إلى معدته، وتخرج منها الأجنة فتثقب جدر المعدة
وتصل إلى أوعية الدم فتصل إلى أعضاء الجسم الرئيسة وغيرها وهناك تتم طور
الحويصلات، ولكن هذه الحويصلات كبيرة فتسمى هنا أكياسًا وهي تصيب الكبد
كثيرًا وأحيانًا تصيب الأعضاء الأخرى كالمخ والقلب والرئة، ووجود هذه الأكياس
يُحدث أعراضًا عديدة فما يصيب منها الكبد قد يولد استسقاءً زقيًّا بضغطها على
الوريد البابي أو يرقانًا وقد يتقيح السائل الذي في قلب الكيس ويولد خراجًا في الكبد
وربما انفتح هذا الخراج في تجويف البريتون فينشأ عنه التهاب بريتوني حاد
فيموت الشخص بسببه وإذا انفتح في تجويف البلوري تسبب عنه التهاب مع
انسكاب. إلى غيره ذلك من المضار، وإذا حصل هذا الكيس في المخ نشأ عنه صداع
شديد وقيء متوالٍ وفقد شعور وإحساس وتشنجات وشلل بعض الأعضاء على
حسب موضعه من المخ وإذا أصاب القلب ربما كان سببًا في تمزقه فيموت الشخص
في الحال.
كل ما قلناه ليس تخيلات شعرية ولا تصورات وهمية؛ بل هي أشياء شاهدها
أطباء أوربا في بلادهم وعلموا سببها بالحس والمشاهدة. ونصحوا للناس بالابتعاد
عن الكلب ولكن أين مَن يسمع ولا أمراً دينيًّا يعتقد عندهم، فينهاهم؟
هذا ولما كان تمييز الكلب المصاب بهذه الدودة من غيره عسير جدًّا لأنه
يحتاج إلى زمن وبحث دقيق بالمنظار المكبر الذي لا يعرف استعماله إلا قليل من
الناس - كان اعتبار الشارع إياه نجسًا هو عين الحكمة والصواب، فتبتعد الناس عنه
وتأمن من شره.
فالحمد لله الذي جعل ديننا هاديًا لنا في جميع أمورنا وأيده ويؤيده كل يوم
بالبراهين الحسية حتى يتضح للناس أن الدين عند الله الإسلام ويظهر تأويل قوله
تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) .
... ... ... ... ... ... ... ... م. ت. ص
... ... ... ... ... ... ... ... أحد طلبة الطب بمصر
__________(6/302)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(ميزان الأفكار)
كتاب في مهمات القوانين المنطقية وضعه (أحمد أفندي الهادي المقصودي)
أحد علماء قزان (روسيا) بأسلوب جديد في اللغة العربية، وترتيب وتبويب لم يعهد
في كتبها المنطقية، وأدخل فيه فوائد ومسائل ليست من هذا الفن ولكنها تتصل بنسبه،
وتدلي بسببه، وترغب فيه الباحثين، وتزيد نشاط المشتغلين. فقد أصبح المنطق في
العلوم العربية شبيهًا بالأعضاء الأثرية، تُقرأ مسائله، وتهمل في العمل تعاريفه
ودلائله؛ لأن العلوم العقلية التي وضع لها قد انطوى بساطها وتقلص ظلها.
بدأ المؤلف كتابه بتمهيد عنوانه (علم الروح وعلم المنطق) وبين بعده فائدة
المنطق وكونه فطريًّا في الإنسان، ووجه الحاجة إلى تعميمه وذكر أشهر علمائه
القدماء من اليونان والعرب والمتأخرين من الإفرنج، ثم تكلم في مقدمة الكتاب عن
الوجود والعدم والواجب والممتنع والممكن والجوهر والعَرَض ومقولات الأعراض
والعناصر والمواليد والحواس الظاهرة والباطنة والعلم وتحصيله بالتفكر والاستدلال
ثم انتقل إلى الدلالات، ومباحث الألفاظ ثم إلى سائر المباحث وجاء فيها بضروب
من التقسيم والبحث غير معهودة إلا في كتب الإفرنج. فالكتاب جامع بين المنطق
القديم والمنطق الحديث.
وقد طبع المؤلف كتابه وجعله ذكرى لمرور عشرين سنة على خدمة (إسماعيل
بك الغصفري) محرر جريدة (ترجمان) في بلدة (باغجه سراي) الروسية. فنثني
على المؤلف ونهنئ رصيفنا الكامل (إسماعيل بك) بلسان المنار (كما هنأناه بلسان
البرق) على خدمته للمسلمين بجريدته ومطبوعاته وبما وفق له من إنشاء المدارس
حتى كان ركن النهضة الإسلامية، في بلاد القِرْم بل في البلاد الروسية، ونسأل الله
تعالى أن يكثر في المسلمين من أمثاله.
***
(القصائد الهاشميات)
الكُميت بن يزيد الأسدي الكوفي أحد الشعراء والأدباء الأولين ولد سنة 60
ومات سنة ست وعشرين ومئة وأحسن شعره (القصائد الهاشميات) التي سارت
بها الركبان. وقد عني في هذه الأيام الشيخ محمد شاكر الخياط النابلسي أحد مجاوري
الأزهر المجدين بطبعها بعد ما صححها على إمام أهل الأدب في هذا العصر الشيخ
محمد محمود الشنقيطي. ومن سوء الحظ أن عاثت المطبعة في ذلك التصحيح
فأفسدت فيه ما شاءت، ولكنه عاد فأصلح بعض غلط الطبع بالقلم فجزاه الله خير
الجزاء. أما الذي طبعه على نفقته فهو الشيخ محمد توفيق الخياط النابلسي أحد
المجاورين المجتهدين فنشكر للطابع وللمصحح عنايتهما بهذا الأثر النافع ويا ليتهما
يعيدان طبعه مصححًا. ونحث طلاب آداب العربية على حفظ هذه القصائد أو كثرة
قراءتها.
***
(هناك وهنا)
كان أحمد حافظ أفندي عوض قد كتب في جريدة المؤيد بعض مقالات عنوانها
(هناك وهنا) شرح فيها تاريخ استيلاء إنكلترا على الهند وسياستها فيها وعلاقة
مسلمي الهند ونهضتهم الأخيرة بالطوائف الأخرى ومن ذلك الكلام في المجاعات
وفي التجارة وفي النفقات الحربية والتعليم. وقد طبعت هذه المقالات على حدتها
بمطبعة الشعب فبلغت 76 صفحة من القطع الصغير وهي جديرة بالمطالعة.
***
(القول السديد في حرب الدولة العلية مع اليونان)
كتاب جديد ألفه علي بك شاكر نجل المرحوم محمد شاكر باشا الفريق
الطوبجي، صفحاته زهاء مائتين وهو مزين برسوم القواد والمواقع الحربية، ولم
نوفق لمطالعة شيء منه ولكننا نظن أن الروح التي تجول فيه هي تعظيم شأن
الدولة العلية وتوجيه القلوب إلى حبها لأننا نرى المؤلف مغرمًا بدولته لاهجًا
دائمًا بمحاسنها ومدح مولانا السلطان عبد الحميد أيد الله دولته ووفقه لخدمة الإسلام.
وثمن الكتاب 30 قرشًا صحيحًا إلا للجنود فثمنه لهم 20 قرشًا، وهو يطلب من
مطبعة الموسوعات بمصر.
هذا ما كنا كتبناه لجزء مضى ولم يتيسر نشره إلا في هذا الجزء ثم رأينا في
بعض الجرائد أن المؤلف جعل الثمن 20 قرشًا لجميع الناس ووعد بجعله إعانة
لسكة الحديد الحجازية، فصار يطلب لذاته وللإعانة معًا وكفى بذلك ترغيبًا.
***
(ألف ليلة وليلة)
أتمت مطبعة الهلال الجزء الثالث من هذا الكتاب مزينًا كسابقيه بالصور
والرسوم، منزهًا عن الفحش والمجون، وصفحاته 216 وثمنه 10 قروش وأجرة
البريد قرشان وهو يطلب من مكتبة الهلال بمصر.
***
(كتاب الخدمة المدرسية في تسهيل قواعد العربية)
ألف هذا الكتاب جرجس أفندي الخوري المقدسي (ب. ع) مدرس اللغة
العربية في المدرسة الأميركية بطرابلس الشام وطبع هناك وقد سلك فيه مسلك
السهولة وأكثر فيه من الأمثلة، فعسى أن يلتفت إليه نظار المدارس ويختاروه للتعليم
في مدارسهم إذا رأوه أمثل من الكتب التي فيها وأسهل.
***
(ارتياح الفكرة من جهة الكُلَره)
كتيب وضعه أحمد أفندي رفعت في الفيوم أيام وباء الهيضة من العام الماضي
وطبعه بعد ذلك، وعبارة الكتاب أقرب إلى العامية وإننا لم نقرأه ولكننا نذكر المسائل
التي يبحث فيها بعبارته لعل أحدًا يريد أن يعرف رأيه فيها وليعذرنا القراء في
حكمنا على عبارته قال: قد جئت بالبحث والإيضاح عن السبعة أوجه التي يهم كل
إنسان الوقوف على حقيقتها وهي:
أولاً: هل يوجد كلرا حقيقة كما يقولون؟ البعض بالإثبات والبعض بالنفي.
ثانيًا: هل ينفع فيها العلاج واستشارة الأطباء لتدارك الشفاء أم لا؟
ثالثًا: هل الاحتياطات الصحية في ذلك مما يجب مراعاته والأخذ به أم
طرحه ظهريًّا؟
رابعًا: هل مسألة الإصابة بالعدوى صحيحة أم غير صحيحة؟
خامسًا: هل سير رجال الصحة في عمل الاحتياطات موافق للشرع الشريف
أم مخالف له؟
سادسًا: هل ما يشاع من وجود من يقصدون تعمد وضع أشياء مسممة
للناس في الأطعمة والمياه حق أم باطل لا أصل له؟
سابعًا: هل أصدق بقولي إن الكلرا الثانية الآتي بيانها هي أشد وطئًا وأعبأ
ثقلاً على الناس أم لا؟ اهـ. بحروفه، وصفحات الكتيب 72 ويطلب من أكثر
المكتبات الشهيرة.
***
(مسامرات الشعب)
صدرت القصة السابعة عشرة واسمها (اليتيم) ومؤلفها حافظ أفندي عوض
وقد كان طبعها الطبعة الأولى من نحو خمس سنين وقرأناها فحمدنا التأثير، وانتقدنا
التقصير في التحرير، وصدرت القصة الثامنة واسمها (شهداء الآباء) ومؤلفها
مصطفى أفندي إبراهيم وهي تمثل سوء عاقبة ما عليه أولاد الأغنياء في مصر من
فساد الأخلاق واتباع الشهوات. وفاتنا أن نذكر من قبل قصة (الفتاة اليابانية)
وهي قصة موضوعها مفيد قرأناه بارتياح وودنا لو يطالعها تلامذة المدارس
المصرية عسى أن يميزوا بين التعليم الحي وتعليم المحاكاة التقليدية، ومؤلفها حسن
أفندي رياض وهي القصة السادسة عشرة من المسامرات.
__________(6/308)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجمعية الخيرية الإسلامية
الاحتفال بمدرستها في القاهرة
احتفلت الجمعية الخيرية الإسلامية في يوم الأربعاء الأسبق بمدرستها في
القاهرة احتفالاً رأسه مفتي الديار المصرية وحضره كبار العلماء والوجهاء وفي
مقدمتهم شيخ الأزهر ومدير الأوقاف. وقد كان الاحتفال على نحو الاحتفالات
السابقة حسنًا ونظامًا وموضع إعجاب بما امتاز به تلامذة الجمعية على سائر
المتعلمين من أمثالهم، وهو أنهم لا يحفظون شيئًا بدون فهم ولذلك كان رئيس الجمعية
والاحتفال يناقش التلامذة في كل ما يسألون عنه فيحسنون الجواب. ولما أراد
الرئيس توزيع الجائزة التي باسم المرحوم علي باشا مبارك ذكر من خدمته للمعارف
ثلاثة أمور عظيمة: أحدها تعميم المدارس في المديريات وثانيها إبطال الضرب من
المدارس وكان الضرب فيها مفروضًا رسميًّا، فالتأديب فيها كان (بالكرباج) كتأديب
المذنبين والمجرمين في شريعة محمد علي باشا وقوانينه. وقد قال الأستاذ الرئيس
في هذا المقام كلمة جليلة وهي: إن علي باشا مبارك أبطل بمنع ضرب التلامذة
التربية بالإهانة والقسوة وجعل التعليم مقرونًا بكرامة النفس وهي قوام التربية، فإن
المعاقبة على الذنب بالإهانة والقسوة لا تؤدب النفس؛ لأنها تخفي الأخلاق الذميمة
ولكنها لا تمحوها بل تزيدها وتقويها فتكون كامنة حتى إذا تسنى لها الظهور تظهر
في أقبح الصور. وأمّا الذي يمحو الأخلاق الذميمة فهو الإقناع بقبحها وضررها
وحسن المعاملة وتكريم النفس حتى تتكرم عن الشوائن وتأنف من كل ما ينافي
الشرف.
وأما الأمر الثالث فهو إنشاء مدرسة دار العلوم التي تسمى الآن (مدرسة
المعلمين الناصرية) قال: إن تلامذة هذه المدرسة يؤخذون من طلاب العلم في
الأزهر فيضمون إلى العلوم الأزهرية جملة صالحة من العلوم الكونية التي تقرأ في
المدارس.
وقد تخرج في هذه المدرسة كثيرون خدموا المعارف في مصر خدمة نافعة،
فمنهم معلمو العربية في جميع مدارس الحكومة وبعض المدارس الأخرى ومنهم
المشتغلون في المعارف بالتفتيش في المدارس والكتاتيب وهم محافظون على زيهم
المصري زي أهل العلم الديني، ولهذه المحافظة تأثير عظيم في التربية العربية.
وبعد ذلك وزعت المكافأة السنوية التي يتبرع بها الشيخ عبد الرحيم الدمرداش
للنابغين من تلامذة مدرسة الجمعية في القاهرة وهي ألف قرش. ثم انفض القوم
بختم الاحتفال داعين للمدرسة بزيادة النجاح وللجمعية ببلوغ الكمال.
__________(6/311)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المحسن المصري العظيم منشاوي باشا
ذكرنا في جزء مضى أن صاحب السعادة أحمد باشا المنشاوي الشهير تبرع
بمائة فدان من أطيانه لمدرسة الصنائع التى تنشئها جمعية العروة الوثقى في
الإسكندرية.
وقد كتب رئيس الاكتتاب لإعانة المدرسة صاحب الدولة مصطفى رياض باشا
كتاب شكر إلى هذا المحسن العظيم وأرسلت الجمعية طائفة من أعضائها إلى داره
في الشرقية يشكرون له بأنفسهم هذا الإحسان. ولما كان الشكر مدعاة المزيد هزته
أريحية الكرم فتبرع بوقف ثلاث مائة فدان على هذه الجمعية الخيرية فكتب إليه
رياض باشا كتاب شكر آخر ترغيبًا في الإحسان وإسعادًا على الترغيب فيه وهو:
سعادتلو أفندم أحمد منشاوي باشا حضرتلري:
سلام وثناء عليك يا مَن عرفت كيف تصرف الأموال وكيف تخدم الأوطان
وكيف تتقدم البلاد، إنني كثيرًا ما تمنيت الخير وكثيرًا ما حببت فيه وكثيرًا ما ناديت
الأمة المصرية إلى جمع الأموال لتأسيس المدارس العلمية والصناعية وبعد أن
أوشك اليأس أن يستولي عليَّ رأيتك أيها الشهم الكريم وقفت مائة فدان على مدرسة
محمد علي الصناعية. فعملك هذا جدد فيَّ الآمال وحببني في الأمة المصرية
بأجمعها لوجود مثلك وجعلني أعتقد بأن أغنياء الأمة سيقتدون بك في هذا العمل
الجليل الذي قمت به لتعلمهم ما يجب على الأغنياء نحو وطنهم وكتبت لسعادتكم من
آيات الشكر ما تستحقه من الله والأمة ثم جاءني كتاب من سعادتك ينبئني بأنك أيها
البار بوطنك وقفت ثلاث مائة فدان على جمعية العروة الوثقى، فالحق يقال. إن حبك
لبلادك وكرم نفسك وسخاء يدك أدهشني إعجابًا بهمتك العالية وحسن عاطفتك للخير
نحو أمتك لأنني لم أر مصريًّا جاد بما جدت به وستشكرك الأجيال المستقبلة على
فضلك هذا كما شكرتك الأمة بأسرها. وأهلاً بزيارتك التي وعدت بها في خطابك.
نسأل الله أن يمد في أجلك لإحياء بلادك ولتكون قدوة حسنة لغيرك. والسلام
عليك أيها المفضال.
(رياض)
في 3 ربيع آخر سنة 1321
فحق علينا أن نعترف الآن بأن أحمد باشا المنشاوي هو أول غني يفتخر
المصريون بكرمه الحميد وإحسانه النافع بل هو مفخرة لجميع المسلمين الذين صار
أغنياؤهم في هذه القرون يبخلون بالدرهم في طريق المعارف وما دون المعارف من
الخير ويبذلون القناطير المقنطرة في الإسراف والمخيلة والتمتع بالشهوات التي
تفسد الأخلاق والآداب وتضعف الأمة بذهاب ثروتها والإدلاء بها إلى الأجانب.
وإننا لننتظر من محسننا العظيم نفحة من هذه النفحات لأخت جمعية العروة
الوثقى وشقيقتها الكبرى وهي الجمعية الخيرية الإسلامية، ولعله يخبئ لها إنشاء
المدرسة الكلية التي لا تتحقق أمنيتها إلا بكرمه وجوده ومما لهجت به الجرائد في
هذه الأيام أن محسننا العظيم تبرع بألفي ليرة عثمانية إعانة لسكة الحديد الحجازية
وبخمس مائة ليرة باسم قرينته، فجزاه الله أفضل الجزاء بمنّه وكرمه.
__________(6/312)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جمعية الفضائل الإسلامية
ألَّف نفر من ذوي الغيرة الملّية في الفيوم جمعية سموها بهذا الاسم وفرضوا على
كل داخل فيها خمسة قروش في الشهر على أن يشتروا بما يجتمع في كل شهر نسخًا
من المنار وبعض مؤلفات الأستاذ ويوزعوها على الناس. وهؤلاء النفر الكرام:
محمد رمزي وإبراهيم أبوعيشة وأحمد نصار وحسن ناصر وعبد الجواد حسن
وإبراهيم الصعيدي. فحيَّاهم الله ونمَّاهم.
__________(6/313)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قراء الصحف المنشرَّة
يقرأ هذه الصحف التي تسمى المجلات والجرائد جميع أصناف الناس في
جميع البلاد، فأصحاب الصحف الرائجة المشهورة أجدر الناس بمعرفة حال الناس
في المعاملة مطلاً ووفاءً. وقد علمنا بالاختبار أن لكل صنف خلقًا ولأهل كل قطر
خلقًا فمسلمو بلاد روسيا أحسن خلق الله وفاءً. أكثرهم يرسل مع طلب الاشتراك
أوراقًا مالية بقيمته وأوراقًا مطبوعًا عليها عنوانه ثم يرسلون القيمة في أول كل سنة
ومن أرجأ الإرسال عن أول السنة فلا يرجئه إلا قليلاً، ويليهم أهل جزيرة العرب.
وأسوأهم معاملة وأكثرهم مطلاً وإهمالاً مسلمو الهند ويليهم أهل الجزائر، فإن كثيرًا
من المشتركين في هذين القطرين لَيقرأ المجلة أو الجريدة عدة سنين ولا يخطر بباله
أن يرسل إلى صاحبها شيئًا. ومن العجيب أن السلائل العربية في كل بلاد يتبوأونها
يحافظون على أكثر أخلاق العرب الفاضلة، فتجار العرب في الهند وجاوه
وسنغافوره هم الذين يرسلون قيم الاشتراك من غير مطالبة ولا تذكير، وأهل
المغرب الأقصى كأهل الجزائر إلا أفرادًا في مدينة فاس يشبهون مسلمي روسيا في
الوفاء. والحق أنه ليس لنا أن نحكم على أهل تلك البلاد لأن القراء فيهم قليلون
وأصلهم في الغالب مجهول، وأما أهل تونس فهم وسط، أكثرهم إذا طولب يدفع
وإذا سُكت عنه يسكت وقليل منهم يرسل وإن لم يطالب، ولا أعرف أحدًا منهم إلى
اليوم طولب فمطل حتى لا يرجونه، إلا أن الوكيل طلب منع المنار عن نفر قليل؛
لأن الحق لا يخرج منهم إلا نكدًا وأظن أنهم دفعوا وليس عندهم شيء وسيتبين هذا
بعد قليل، لأن المحصل لا يزال يشتغل بالتحصيل، فإن قيل إن علي بن زنين
الذي كان وكيلاً للمنار قد جمع طائفة من الاشتراكات وثمن كتب أرسلتموها إليه
بطلبه كتقرير مفتي الديار المصرية وكتاب الدروس الحكمية وماطلكم في ذلك عدة
سنين، نقول: إننا لا نزال نرجوه وقد كان بعض الناس يكتب إلينا يحذرنا منه فلم
نحفل بذلك والذي تحققناه أنه ماطل ولا نقول إنه لا ذمة له ولا أمانة إلا إذا كتب
إلينا الوكيل الذي كلفناه بمحاسبته ومطالبته - أنه لا يدفع مختارًا أو تقاضاه في
المحكمة. هذا وإن الوكيل هناك يشكو من عناء التحصيل ولعل ذلك لكرم نفسه
وعدم اختباره الناس في حرصهم على المال.
هذا إيماء إلى ما كان من اختبارنا، فإذا أردنا أن نعلل ذلك بتأثير الحكومات
بأن نقول: إن الأمة التي تظلمها حكومتها تتعلم والأمة التي تحكم بالعدل تجري على
العدل - خاننا التعليل وإن كان له وجه وجيه؛ إذ يصعب علينا أن نفضل حكومة
روسيا على حكومة الهند. والصواب أن حسن المعاملة تابع لحسن الخلق والأخلاق
آثار الوراثة والتربية في النفس إذا رسخت وانطبعت. ولا شك أن الأمم المحكومة
تؤثر كيفية الحكم في أخلاقها ولكن أخلاق الأمم تنطبع في الزمن الطويل ولا تتغير
إلا في الزمن الطويل، ولذلك لا يصح الحكم على أخلاق الأمة بحال حكومتها
الحاضرة الحادثة فإن الذين يفعل الاستبداد والاستذلال في نفوسهم عدة قرون لا
يتطهرون من تلك الآثار الخبيثة في عشرات من السنين لا سيما إذا انتقلوا من
عبودية ذلك إلى حرية مجون وخلاعة. ومسلمو روسيا لم يكونوا أذلاء ولا مُجَّانًا من
قبل حكمها وهي لم تظلمهم إلا بالتضييق على المعارف زمنًا ثم أعطتهم حرية ما في
التعليم والتربية فهم يجدُّون فيها ويجتهدون على بصيرة يفضلون فيها سائر
المسلمين، وأهل الهند كانوا أذلاء بالاستبداد ثم كانت لهم حرية فاسقة مع تضييق
في أمور المعارف ثم صارت لهم حرية تامة لم تؤثر فيهم تأثيرها لقصر
الزمن.
وأما أهل المغرب الأقصى فهم على بداوتهم في ظلمات من الفوضى والجهل
لا يبصرون ولذلك قلنا إن الحكم عليهم غير صحيح، ونظن أن الأخلاق في الجزائر
لم تفسد بالمرة وأنها هناك خير منها في تونس لأن الجزائريين أبعد من التونسيين
عن الخلاعة والترف وقد كانوا من قبل حكم فرنسا أقرب في حضرهم إلى
البداوة ولم يؤثر حكمها في أخلاقهم إلا قوة الاعتصام برابطة الدين والجنس لأنها
أزالت منهم السلطة الإسلامية، ولا يستطيع إفساد المسلمين إلا الحكام الطغاة من
المسلمين؛ إذ لا يفل الحديد إلا الحديد. والبلاد العثمانية نزلت عليها آية الحجاب
فلا كلام فيها.
بقي الكلام على بلاد مصر، كانت هذه البلاد ولا تزال أم العجائب وفيها من
المماطلين والخائنين والهاضمين للحقوق ما لا يوجد في غيرها، كما أن فيها من
الفضلاء وأهل الكرم والوفاء نفرًا يعز وجود أمثالهم في سواها. في هذه البلاد رأينا
من الفروق بين الأصناف كما يرى الراؤون بين الأشخاص، وأظن أن غير العالم
المختبر يحسب أن أحسن الناس وفاءً، وأسهلهم قضاءً علماء الدين أو قضاة
الشرع أو القضاة عامة؛ لأنهم هم الذين يعملون لإقامة العدل وأداء الحقوق إلى
أهلها وهم أعلم الناس بآثار الليِّ في الحقوق ومضراته؛ لأنها ممثلة كل يوم أمام
أعينهم في أقبح صورها وأشكالها. وليس هذا الحسبان بصحيح ولعل القارئ لا
يتوقع أن أقول أحسن الناس وفاءً وأطهرهم ذمة المهندسون. ولعل السبب في ذلك
تأثير العلوم الرياضية في نفوسهم كما تؤثر في عقولهم فإنها هي العلوم التي ليس
فها أوهام ولا ظنون فاسدة ولا خرافات ولا مسائل تؤخذ بالتقليد الأعمى.
أما المُطل فهو على أشده في أهل البطالة ثم في كتاب الدواوين وغيرها لأن
أكثرهم لا همّ له من حياته إلا أن يكون له رزق مضمون يتمتع به وإن كان قليلاً،
أعني أنهم لا تهمهم الأمور العامة وليس لهم مقاصد عالية وإنما يذكرون لفظ الملة أو
الوطن حكاية للألفاظ التي تكثر في الجرائد. ومن يشترك في الجرائد منهم فإنما
يشترك تشبهًا بالوجهاء والرؤساء. هذا كلامنا في الأكثرين، ومنهم أفراد من أرباب
البيوت التي لها سلف في حسن الأخلاق أو التي لها قرب من سذاجة الفلاحين الفطرية
التي لم يطغَ عليها طوفان فساد ما يسمونه (التمدن) فأولئك يشتركون ليستفيدوا
وليكونوا عونًا للصحيفة التي يعتقدون نفعها، وقليل ما هم.
ومن العجيب أن يكثر المطل والليُّ وهضم حقوق العلم والأدب في رجال
القضاء وأعوانهم من رجال (النيابة) فإن في قضاة الاستئناف الذين يرون أنفسهم
فوق جميع رجال الحكومة عدلاً وعدالة وعفة واستقامة مَن يدافعون محصل الجريدة
من شهر إلى شهر حتى تصير هذه الشهور سنين فما بالك بمَن دونهم؟ !
أما أهل العلم الديني ومنهم قضاة الشرع ومعلمو المدارس فهم أحرص على
المال وأضن من جميع الناس إلا أنهم قلما يشتركون في الجرائد ولكن يطلبها
الوجهاء منهم على أن تكون هدية ومن أراد الاشتراك من غير الوجهاء، فإنه يجتهد
في أن ينقص من قيمة الاشتراك المعينة شيئًا، النصف فما دونه، ويلحّ في ذلك
إلحاحًا ثم إنهم بعد ذلك لا يتنزهون عن المطل والتسويف ولكنهم قلما يستحلون أكل
قيمة الاشتراك وهضمها بالمرة كما يفعل بعض كتاب الدواوين وبعض التجار
والفلاحين والعُمَد.
هؤلاء العمد يحبون الجرائد ويكرهون المجلات، يحبون الجرائد لما يتوقعون
من مدحها إياهم ودفعها عنهم فيما يتهمون به؛ ولذلك يدفعون لها الاشتراك،
ويزيدونها عطاءً ومساعدةً، ويكرهون المجلات لأنهم لا يتوقعون منها ذلك ولا
يفهمونها وليس عندهم روح حب العلم والأدب وقد اعتاد أكثرهم على الظلم وهضم
الحقوق حتى إن الأستاذ الإمام يضرب المثل في الدرس ببلادتهم. وليس هذا الحكم
عامًّا فإنني أعرف نفرًا منهم يحبون العلم والأدب منهم المتعلم في المدارس النظامية
ومنهم من له حسب عريق وأخلاق موروثة. وإنما قلت ما قلت في العمد عن سماع
لا عن اختبار فإن المشتركين منهم في المنار قليلون وإنني شاكر لهم لا شاكٍ منهم
ولا أستثني إلا اثنين لا أذكرهما بالاسم ولا بالوسم؛ لأن هذا ليس من شأن المنار
تجرَّءا على هضم حقه.
ومن الناس من يحتال على قراءة الصحف المنشرة بالانتداب لخدمتها بالمكاتبة
أو الدعوة إليها وتكثير سواد قرائها وقد عانينا من هؤلاء المحتالين ما عانى غيرنا
ولم يبق لأحد يعرف المنار مطمع في مكاتبته؛ لأن مائدته لا تقبل المتطفلين ولكننا
نتلقى في كل حين كتابًا ممن يصفون أنفسهم بالغيرة على العلم والدين، والرغبة في
إسعاد الكتاب والمنشئين، وبعد إطرائنا وإطراء أنفسهم يطلبون أن يكونوا وكلاء.
وقد أجبنا طلب كثير منهم بإرسال المجلة إليهم وحثهم على نشرها فلم يصدُق أحد
منهم وإنما كانوا يخادعوننا في أول الأمر بطلب المجلة لواحد أو اثنين ويشهدون
لمن يطلبون له الأمانة والاستقامة ويعدون بأخذ قيمة الاشتراك منه في أثناء السنة
فتمر السنة ولا يفي أحدهم بوعده ومن يدري أأخذ من المشترك أم لا. وقد كان لنا
من أرجى هؤلاء العاضدين للأدب بالوكالة أن حبانا مشتركًا في أول العهد بوكالته
(في السنة الماضية) ثم إن ذلك المشترك كتب إلينا بأنه لم يرضَ أن يكون عونًا
للمجلة بالاشتراك فقط وإنما هو مستعد لنشرها وطلب وصولات لأجل التحصيل
ممن يدعوهم إلى الاشتراك فكتبنا إليه نطالبه فلم يرسل إلينا مالاً. ولم يرجع إلينا
قولاً، فرجعنا إلى الوكيل الذي أمر بإرسال المجلة إليه فكتب أنه طالبه فادعى أن
المجلة ترسل إليه على أنه وكيل لها، لا أنه مشترك فيها! ! ثم طلبها لمشترك
جديد ... فكتبنا إليه: إنك كنت وكيلاً على مشترك واحد فلما صار هو وكيلاً
صرتما وكيلين على لا شيء! وأنت الآن تطلب المجلة لآخر، ونخشى أن يصير
في آخر السنة وكيلاً، فيكون لنا ثلاثة وكلاء على لا شيء ثم يتجدد هذا في كل عام
وما يدرينا أننا إذا أطعنا هذا الوكيل يصير خبره إلى جميع المشتركين
فيختارون أن يكونوا وكلاء، يتحكم كل منهم بإرسال المجلة إلى مَن شاء! ! !
__________(6/314)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نحن واليازجي
الشيخ إبراهيم اليازجي في الطبقة الأولى من أدباء نصارى بلاد الشام، وقد
اشتهر بالعناية والبحث في اللغة العربية وانتقاد ما يكتب بها وإن قومه ليجلون قدره.
ولكننا كنا نراهم على فخرهم به يشكون من عجبه وصلفه، ويألمون من غروره
وتنفجه، ويقولون: إن هذه الخلال حالت دون انتفاعه بعلمه وانتفاع الناس به،
وأنها تحمله على أن يغمط العلماء والفضلاء الذين لا يدانيهم في علمهم
(كمنشئ المقتطف) لما قد يقع في كلامهم أحيانًا من كلمة دخيلة أو عامية، أو
عبارة تخالف بعض قواعد العربية، على أن كلامه لا يسلم من مثل ذلك، ولكنه
لانصرافه بكل همته إلى التنقيح يقل في كلامه الغلط والشذوذ، وللقوم شغل بالعلوم
يأخذ من همتهم حظًّا هو أشرف ما تصرف إليه الهمم، ومما سمعناه عنه في بلاد
الشام وفي هذه البلاد أن غروره بنفسه في فهم اللغة جرَّأه على الطعن في القرآن
العظيم الذي خضعت له أعناق البلغاء وسجدت له جباه الفصحاء، أيام كانت
البلاغة في أوج سلطانها، والفصاحة في ريعان شبابها، فكان لهذا الرجل في خيالنا
صورة منتزعة من سيرته المسموعة غير جميلة لذلك لم تتوجه النفس إلى طلب
معرفته؛ لأننا من قوم يفضلون الأخلاق الكريمة على العلوم العقلية والكونية، بله
الفنون اللغوية، ثم إن كلاً منا يشتغل بالصحافة؛ ولكن ليس بيننا وبينه مبادلة، فلا
نحن نطَّلع على مجلته ولا هو يطَّلع على مجلتنا إلا أن يكون ذلك مصادفةً واتفاقًا.
ثم كان في العام الماضي أن جمعية الكتاب المصرية ضمتنا في بعض جلساتها
فرأينا صورة أجمل من تلك الصورة الخيالية رأينا لطافة ودماثة وأدبًا كدنا نكذب به
كل ما سمعنا مما لا يرضى، لولا أن هذا اللقاء لا يصح أن يسمى اختبارًا يحكم به
على الأخلاق. على أن اعتقادنا فيه حسن ورجحنا أن في قول الناس فيه مبالغة
حتى اتفق لنا ما كشف الستار، من حيث لا نحتسب.
رأى القراء أننا حين شرعنا في رد شبهات النصارى على القرآن قلنا أن
المجلة البروتستنتية نقلت هذه الشبهات من كتاب لهم يقال أن للشيخ إبراهيم
اليازجي يدًا في تصحيحه أو تأليفه أو الزيادة فيه وهو عندهم أقوى طعن في القرآن.
معتقدين صدق الذين قالوا لنا ذلك لنبين لصاحب تلك المجلة وغيره أن آخر سهم في
كنانتهم طائش وأن ما ارتضاه أعلمهم باللغة وعدّه طعنًا في القرآن ليس بأمثل مما
يهذي به أجهلهم، فهو دليل على سوء قصده وإلا فعلى جهله، ولكنني حفظت
لليازجي حق ذلك الاجتماع القليل، فأوردت الرواية بصيغة المجهول التي تُشعر
بالشك (يقال) ثم إنني لم أكن راضيًا عن نفسي تمام الرضى بما نشرته وأنا أشبَه
بالمضطر مني بالمختار لأن مدافعة المشاغبين الذين يطعنون في الدين من الفروض
الإسلامية الكفائية إذا لم يقم بها أحد يكون جميع المسلمين العارفين عاصين لله تعالى
وقد لقيت بعد أيام من صدور المنار صاحبًا لي وللشيخ إبراهيم فأخبرني بأنه استاء
مما كتبت وأنكر ما نُسب إليه. فقلت له إن أحب شيء إليَّ أن أجد سندًا لإعلان
براءته وحسبي في ذلك ما نقلت أنت عنه وإنني سأبرِّئه في أول جزء يصدر من
المنار فقال: لا تعجل حتى ترى ما يكتب فإن الذي أطلعه على المنار أغراه بالرد
عليه والإغلاظ له ثم جاءني صاحب آخر بما كتبه فإذا هو قد أعاد لي تلك الصورة
التي صوَّرها الناقلون الأولون.
أكبر الرصيف أمر تلك الكلمة (يقال ... ) إكبارًا حتى مثّلها لقارئ كلامه
بصورة جبل عظيم يريد أن ينقضّ على العالم فتنقض معه المعاقل والصياصي،
وتشيب لهوله النواصي. وعدها من (الفوضى القلمية في هذا القطر وانقطاع كل
عقال فيه حتى أصبح كل شيء مباحًا وصار الكاتب إذا هجس في صدره خاطر
متخرص (كذا) أو مر بسمعه قول مرجف لا يلبث أن ينشره بغير تثبت ولا
فحص، يشوش به الأفكار ويجعله مصدرًا للقيل والقال) . كأنه يرى أن ما كتبه
أصحاب الجرائد الأسبوعية في الأئمة الأعلام، وفي كبار الأمراء والحكام لا يُذكر
في جانب تلك الكلمة في مقامه ولا تصل به الحرية إلى حال الفوضى القلمية وكأنه
يتوهم أن أبناء الملتين الكبيرتين (الإسلامية والنصرانية) ينتظرون سماع اسمه
ونقل كلمة عنه حتى إذا ما قيل إن الشيخ إبراهيم قال كذا تضطرب الأفكار،
وتجيش الصدور، وتستعر نيران الجدال، وتكون كلمته موضوع القيل والقال؛
ولكن الكلمة قد قيلت ولم يحفل بها أحد. وأما المنار فإنما رد عليه كما رد من قبل
على ما كتبه ذلك القبطي الذي لا يُعرف اسمه إلا مكتوبًا على غلاف تلك المجلة فلا
هو من العلماء ولا من الكتاب ولكنه من المشاغبين الذين ينشرون شبهات المشككين.
وقال بعد نقل الكلمة أنه وقف يقلب الطرف في هذا الكلام ويتمثل أيامه
وأحلامه الماضية ليتذكر عهد اشتغاله بالمناقشات الدينية. ثم استدل من الكلمة على
شدة حرصنا على إلصاق التهمة به وعلى أنه مأخوذ بها إما من جهة التأليف أو من
ناحية التصحيح أو من جانب الزيادة. ثم قال أننا بينا هذا الحرص وهذا الحكم
بالأخذ على شهادة (يقال) وهي شهادة ما أنزل الله بها من سلطان. وكتب ما شاء
أدبه من الطعن والهجو.
ولعمري إن استنباط هذه المعاني كلها من كلمة (يقال) ثم ادعاء أنها هي
نفسها إنما جعلت شاهدًا على المستنبطات ثم الاعتراف بأنها شهادة لا تدل على
شيء من ذلك - كل ذلك يناسب فهم ذلك المنتقد على القرآن الذي عمد إلى الآيات
المتناسبة الواردة في تأييد حقيقة واحدة فجعلها متعارضة مناقضة. سبحان الله! إننا
لم نكتب عنك - يا عَلاَّمة اللغة - إلا تلك الكلمة (يقال ... ) فإذا كانت لا تدل
على ثبوت شيء فمن أين استنبطت كل هذه المعاني؟ لعلك استنبطتها من الطريقة
التي فسرت بها القرآن بهواك. فسبحان مَن أعطاك. أو من التمرن على مجادلة
(الجزويت) . فلله أنت ولله ما أوتيت.
ثم قال أننا كنا نستطيع أن نستثبت ذلك منه مشافهة وأنه كان يعتقد إلى الساعة
التي علم فيها بالكلمة أننا من أصدقائه - وإن لم تثبت مع التعصب صداقة - وأن
ذلك يكفينا إعنات النفس في الاستخبار والاستطلاع أو كدّ المخيلة في الحدس
والتكهن (كذا) .
ما أشبه هذه الأقوال بتلك في الخطل والعسلطة. أيظن الرصيف اللغوي أن
تلك الكلمة (يقال ... ) لم تأتِ إلا من إعنات النفس في سؤال الكثير من الناس: هل
كان لليازجي يد في كتاب كذا أم لا؟ أو من كدّ المخيلة في التكهن؟ إن هذا الظن
من أعجب وحي الغرور. وأعجب منه أن يظن رجل مثله شاخ في اختبار الناس
أن فلانًا صديقه وهو لم يختبره في شيء وإنما رآه مرتين أو ثلاثًا ولم يتحدث معه
إلا بعض دقائق!
أما قوله بأنه كان ينبغي لنا الاستثبات منه فهو صواب لكنه محتفٍ بغروره إذ
كلفنا أن نجيئه وهو يعلم أننا لا نعلم في أي ناحية من مصر يقيم وأن أوقاتنا لا
تسمح لنا بزيارة جميع أصدقائنا الذين يزوروننا، فضلاً عن إضاعة الأوقات في
السؤال عن غيرهم، ولعمر الحق أنه لو خطر في بالنا ذلك عند الكتابة لكتبنا إليه
وإن كان الوقت قصيرًا وأنه لو كتب بعد ذلك رقعة يبرئ بها نفسه لبادرنا إلى
تبرئته ولكن هذا الغيظ الذي استولى عليه حتى كتب ما كتب مما كنا نجله عنه يدل
على أن ما قيل عنه صحيح وإن بالغ في تنزيه نفسه عن المناقشة في الأديان فإن
الإنسان لا يتألم مثل هذا الألم إلا إذا كان ما قيل فيه حقًّا.
أما الصداقة فنؤكد له القول بأنه قلما يوجد في بلاد سوريا ومصر مَن له
أصدقاء يخلص لهم ويخلصون له مثلنا، وأن أصدقاءنا من فضلاء النصارى
يعرفون حرصنا الحقيقي على الوفاق بين المِلَل وأن مدافعتنا ما يفتريه أو يموه به
القسيسون والمبشرون وأعوانهم على الإسلام مما يعيننا على الدعوة إلى الوفاق
والوئام.
__________(6/318)
غرة جمادى الأول - 1321هـ
26 يوليو - 1903م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الخوارق والكرامات
المقالة الخامسة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التعليل والتأويل
(التنويم المغناطيسي)
بقية بحث إبراء العلل
قلنا إن من وجوه التعليل في إبراء العلل تأثير النفس الذي يعبر عنه الصوفية
بتأثير الهمة، وقد كان هذا فاشيًا فيهم؛ لأنهم كانوا يعرفون تربية الهمة النفسية أي: تربية الإرادة والعزيمة، وقلنا: إنهم لم يكونوا يقصرون هذا على أنفسهم بل
كانوا يعترفون بوقوعه للوثنيين كالهنود وغيرهم، وإنما سرى هذا إلى المسلمين من
الهنود، ونقول الآن: إن هذا التأثير قد ظهر في هذا العصر - عصر
الصناعات والعلوم الطبيعية - بشكل صناعي يعبرون عنه بالتنويم المغناطيسي الذي
شاع ذكره واشتهر أمره وكثرت فيه الدعاوي ومن أغربها أن المنوم إذا سأل المنوم
عن شيء من الأمور الغيبية التي لم يسبق له بها علم يجيبه عنه لأن روحه بغيبتها
عن الحس تطلع على ما وراءه، ومنه أن المنوم إذا قال للمنوم: إنك قد برئت من
علتك وشفيت من مرضك، وهو مريض - فإنه يبرأ حالاً وإذا قال: إن الجو بارد
ينتابه البرد حالاً ويقفقف وإن كان الحر شديدًا وكذلك إذا قال له إن الحر شديد في
إبان البرد القارس فإنه يسرع إليه العرق مما يجد من الحر!
ومن العلماء من ينكر هذه الدعاوي ويعد منتحليها من المشعوذين. والمحققون
من الأطباء الطبيعيين يقولون: إن الذي يثبت بهذا التنويم شيء واحد وهو تأثير
النفس في النفس وحكم الإرادة القوية على الإرادة الضعيفة، وهذا هو الذي كان
معروفًا عند القدماء من الصوفية وغيرهم على ما علمت من الجزء الماضي. وقد
جاءنا بعد صدوره العدد 22 من جريدة (الأفكار) التي يصدرها في سان باولو
البرازيل (أمريكا الجنوبية) الدكتور سعيد أبو جمرة، فرأينا فيه مقالة في ذلك رأينا
أن ننشرها هنا لما نعلم من تشوف أكثر القراء إلى الوقوف على آراء العلماء
المحققين في هذه المسألة قال بعد العنوان ما نصه:
كانت أمامنا مجلة نيويورك الطبية عدد 18 نيسان الماضي وبها مقالة بديعة
عن التنويم المغنطيسي تتضمن أحدث الآراء وأدق المعاني عن مسألة هامة
شغلت عقول العلماء والأطباء مدة طويلة، وإلا ورد علينا سؤال من صديق عزيز
علينا يسألنا إبداء رأينا في استعمال التنويم طبيًّا في إحدى الحالات المرضية فاخترنا
إذ ذاك تلخيص هذه المقالة حبًّا بإفادة القراء، وهي خطاب لأشهر طبيب أمركاني
(الدكتور هاورد) ألقاه أمام عمدة مدرسة الأطباء والجراحين في مدينة بلتيمور.
وهاك فحواه مع بعض التصرف والاختصار:
أيها السادة. كثر الدجالون القائلون الآن باستعمال التنويم المغنطيسي في كل
الأمراض تقريبًا، وكثر الناس الذين - لسوء الحظ - يصدقون بأقوالهم
المزخرفة وبراهينهم السطحية السفسطية حتى صار صبيان الأزقة عندنا
يقولون: (المغنطيس الحيواني والهستيريا والمغنطيس) وهلم جرّا. وإننا لسوء الحظ
نقول: إن بعض هؤلاء الدجالين هم أطباء قانونيون مثلنا. ولكنهم يستعملون هذا
السلاح الحاد بدون معرفة وبلا تمييز حتى صِرْتُ أَوَدّ من كل قلبي أن تختفي المعرفة
عن التنويم فإني أرى أضرارها أكثر من منافعها في يدي هؤلاء المشعوذين والسحرة.
وإني لا أخفي عليكم رأي شَارْكو شيخ الأطباء الحاليين في كل العالم من هذا
القبيل، أعني قوله لي في وسط مكتبه وعلى مسمع من عشرات من أطباء الأرض
يقصدون باريس سنويًّا للاستفادة من شَارْكو ذلك البحر الزاخر قال لي: إن التنويم
والهستيريا فرعان لأصل واحد! أي: إن المريض المهستر يقبل التنويم، والذي يقبل
التنويم يكون مهسترًا أو ضعيف العقل والإرادة والعكس بالعكس. وهذا هو عين
الواقع أيها الرصفاء.
وعلى هذا قد صادق الدكاترة برنهاين وليبول في أوروبا وأنا في أمريكا بعد
إحصاءات عديدة حسية في المستشفيات هنا وفي مكتبي الخاص أيضًا. ولما كان
هذا الخطاب لأجل الحقائق لا لأجل تقديم الآراء فإني أنتقل بغتة إلى التجارب
الحسية أمامكم لإقناعكم بصحة قول شاركو وقولي. انظروا هذه الدجاجة على
الطاولة أمامي ها إني الآن أنومها (فَنَوَّمها فمدت ساقيها وذبلت جفنيها ونامت
مغنطيسيًّا حالاً) بإشارة صغيرة. وعلى الطرف الآخر انظروا هذه الحمامة. ها قد
نامت أيضًا. والآن تقدمي يا مس.. . (ونادى سيدة كهلة عزباء مصابة بمرض
تتطبب عنده) فترون أيها السادة الرصفاء أن كلمة صغيرة إلى مس.. تجعلها تحت
تسلط إرادتي. نامي.. أقول لك: أنت الآن نائمة. لا تشعرين. لا تنظرين. لا
تسمعين.. فها قد نامت هذه السيدة مثل الدجاجة والحمامة حالاً. ولكنكم إذا أتيتم
بشاركو وكل أطباء الأرض وعلمائها فإنهم لا يقدرون أن ينوموني.
(ضحك واستحسان ( ...
وهذا يأتي بنا طبعًا إلى هذا السؤال المهم وهو: مَن هم الناس الذين ينامون
وما هي ماهية التنويم؟ فعن الأول أجيب: إن الناس الذين ينامون هم كل الذين
يشكون من ضعف ما في مراكز العقل والإرادة، وهؤلاء كثار العدد خلاف ما
تتصورون. وعلى ما أظن أنهم 30 بالمائة في العالم المتمدن وأكثر من نصف
الناس في غيره. ولكن أنواع التنويم وهيئاته مختلفة. فإني إذا نومت زيدًا وقلت له
لا تشعر بالألم فإنه لا يشعر وإذ ذاك فأقدر أن أعمل عملية جراحية صغيرة عليه
وهو كأنه تحت البنج. ولكني إذا فعلت ذلك مع عمرو لا أنجح بل أنجح إذا قلت
مثلاً إنك لا تسمع أو لا تبصر أو لا تبرد مع أن الماء المثلج يسقط على بدنه العاري.
أما عن الثاني أي: ماهية التنويم فأقول بالاختصار: إنها غير معروفة تمامًا.
سوى أن المظنون هو حكم إرادة قوية على إرادة ضعيفة بمظهر كبير. وعلى هذا
القياس نقدر أن نقول: إن من يستولي على عقول الناس وأميالهم وأفكارهم ليس سوى
منوم وما الناس الذين يقادون له إلا مصابون بنوع من أنواع الضعف العقلي (أو
الدماغي) حتى أصبحوا عرضة لأن يُنَوَّموا بالتنويم المغنطيسي ولو بمظهر بسيط
وبهيئة دارجة عادية قلما يعلق عليها الناس كبير أهمية.
ولهذا السبب لا تعجبوا إذا قلت لكم: إن نصف العالم عرضة للتنويم المغنطيسي
بأحد أنواعه هذا إذا لم أقل نصف المتمدنين (استغراب وهمس في الحضور) .
استعماله طبيًا:
أما دائرة استعماله العلمي فضيقة لكنها مفيدة للغاية في يد منوم شريف عفيف
عالم. ومضرة للغاية أيضًا في يد المحتال محب المال الدجال الساحر الغاشم الكافر.
ورأي شاركو في استعمال التنويم هو: يحسن (أي لا يجب) بنا أن نستعمله إلا في
أمرين فقط وهما: (1) عند وجوب تحقيق أو تشخيص أمراض الدماغ والعصب
للتمييز بين الأمراض العقلية منها وبين أمراض مادة الدماغ ذاتها أي: للتمييز بين
الأمراض الوظائفية والأمراض الآلية. مثلاً إذا جن زيد فيجب علينا تحقيق سبب
الجنون هل هو ناتج عن خلل في إحدى وظائف الدماغ أم عن مرض أصاب الدماغ
ذاته كنزيف أو احتقان أو ضغط عظم جمجمة مكسورة وهلم جرا. و (2) عند
تخفيف الآلام ومعالجة الأرق أو قلة النوم التي تضنك الجسم وتسبب له الضعف
الشديد والتعرض للجنون بأحد أنواعه، وعلى هذا فاستعملوه في آلام الحمى
الروماتزمية (داء المفاصل الحاد) . في الأرق المستديم. في الأمراض العصبية
التي تأتي بالألم الشديد ليلاً. في بعض أنواع الفالج وما أشبه من الحالات. أما في
الهستيريا وهو المرض الذي يكثر به احتيال الدجالين فاستعملوه نادرًا وبحذر تام؛
أي أنه يحسن بنا أن نستعمله في الهستيريا إذا كانت المهسترة أو المهستر متألمًا جدًّا
من ارتجاف الأعضاء أو تقلصها أو انكماشها أو شللها أو التوقف عن عمل وظائفها
الطبيعية كحبس البول، أو الامتناع عن الأكل والشرب والنوم وما شاكل ذلك من
العوارض التي إذا دامت مع العليل تؤذيه، وتأتي له بأمراض ثانوية مضنكة. ولا
بأس من استعماله في حالات السُّكر إذا كان السكران عرضة لأن يضر ذاته أو
غيره، وكذلك في حالات المانيا (نوع من الجنون) الحادة أو الملانخوليا التي تجعل
المصاب عرضة للانتحار , وفي كل هذه الظروف فليكن استعماله بحذر تام
وباعتدال لحد الإمساك. ... ... ... انتهى باختصار وتصرف. ا. هـ
(المنار)
نكتفي بهذا البحث في هذا الجزء وسنعود في الأجزاء الآتية إلى الكلام في بقية
أنواع الخوارق وتعليلها المعقول إن شاء الله تعالى. وقد نقلنا عبارة الأفكار بحروفها
وفيها من النقد في اللغة والأسلوب ما يعذرنا القراء على عدم التعرض له.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/327)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهات النصارى
وحجج المسلمين
النبذة الثالثة في رد شبهاتهم على القرآن
(الشاهد التاسع على تناقض القرآن بزعمهم) قوله تعالى في سورة الأنعام:
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ *
ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى
أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (الأنعام: 22-24) مع قوله تعالى في
سورة النساء: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ
يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} (النساء: 42) ، والجواب عنه من وجهين: أحدهما أن لفظ
(يوم) له إطلاقان إطلاق بمعنى مدة بياض النهار أو مجموع ليل ونهار، وإطلاق
بمعنى الوقت مطلقًا، وإذا أضيف إلى حادثة وقعت أو قدر وقوعها في المستقبل يراد
به الإطلاق الثاني، ومنه أيام العرب المشهورة لا يريدون باليوم منها بياض نهار ولا
مجموع نهار وليل وإنما يريدون الوقت، وإن كان ساعة واحدة أو أيامًا طويلة بحسب
الإطلاق الأول.
ومنه أيضًا ما عبَّر عنه في القرآن الكريم بكلمة يومئذ أو يوم يكون كذا كقوله:
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} (الأنعام: 22) ، وقوله {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
000} (النساء: 42) ، إلخ. ومثلهما كثير جدًّا لا سيّما في سياق الكلام على
الآخرة التي ليس فيها أيام تتعاقب مع الليالي فمعنى (يوم) في كل آية: وقت
يحدده الفعل الذي تعلق هو به في آية أو المضاف إليه كيوم الحسرة.
إذا تمهد هذا فاعلم أن الآيتين اللتين زعم النصراني تناقضهما تنبئان بأمرين
يكونان في يومين أي: وقعتين مختلفتين أحدهما حشر المشركين وسؤالهم عن الشرك
وقد أخبر أنهم يومئذ ينكرون كما في آية الأنعام، وثانيهما: إتيان الله بعد ذلك
الإنكار بالشهداء يشهدون عليهم وفي ذلك الوقت (أو اليوم) يضطرون إلى
الاعتراف فيعترفون ولا يكتمون كما في آية النساء. وقد حذف المعترض الآية التي
قبل قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا 000} (النساء: 42) إلخ، وهي التي
تدل على أن عدم الكتمان إنما يكون بعد شهادة الشهداء، وهي قوله عز وجل {فَكَيْفَ
إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} (النساء: 41) ،
ومجموع الآيات يمثل لنا محاكمة في الحساب الأخروي ينكر فيها الخصم جريمته
أولاً ثم يضطر إلى الاعتراف بعد شهادة الشهداء وإقامة البينة كما يعهد في الدنيا،
والحكمة في هذا ردع العصاة وإنذارهم عاقبة الفضيحة في تلك المحاكمة التي لا
يظلم فيها أحد، فالآيات متوافقة متطابقة وما أظن أن ذلك العلاَّمة اللغوي الذي حرر
الاعتراض يجهل ذلك، وإنما هو مكابر ومشاغب. هذا هو الوجه الأول في الجواب.
وأما الوجه الثاني فهو ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن الواو في قوله:
{000 وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} (النساء: 42) ، واو الحال وليست واو العطف
فتدل على عدم الكتمان ومعنى الآية حينئذ: أن أولئك الكافرين العاصين تأخذهم
الرهبة ويحيط بهم الوجل فلا يتجرأون على الكذب على الله تعالى وإنكار ما كان
منهم، بل يودون أن يكونوا ترابًا فتسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا، يعلمون
أنه محيط به وأنه لا يعزب عن علمه، كما تقول: أود أن أُقتل ولا أغشك، أي
أنني أستحب الموت وأفضله على غشك. وبهذا التفسير تكون هذه الآية بمعنى
الأولى، وهو لا يأباه النظم ولا ينبذه الإعراب ولا ترفضه البلاغة والفصاحة، وما
هو بتأويل. ولا انحراف عن السبيل، ولو شاء المجيب أن يُكثِر من الوجوه لفعل فإنه
يشترط في تحقق التناقض الاتحاد في الموضوع والمحمول والزمان والمكان، إلى
آخر ما يسمونه الواحدات الثَّمان فكما أن الجواب الأول أَبَانَ عدم التناقض لعدم الاتفاق
في الزمان (والجواب الثاني في الخلاف بالمرة) فلنا أن نجيب جوابًا ثالثًا باختلاف
الموضوع فنقول: إن التناقض غير متحقق لاختلاف القضيتين في الموضوع فإن
إحداهما تحكي عن المشركين والأخرى عن الذين كفروا وعصوا الرسول، وتشمل
الموحدين الذين لم يشركوا ولكن كان كفرهم برفض الإيمان بالنبي عليه الصلاة
والسلام كما تشمل الذين آمنوا برسالته، ولكن عصوه في هدايته، وهذه آيات القرآن
تصف اليهود بالكفر دون الشرك، ثم إن لنا أن نجيب جوابًا رابعًا بمنع التناقض
لاختلاف المكان، فإن ليوم القيامة مواقف كما ورد فيحتمل أن ينكر المشركون
والكافرون جميعًا في بعضها، ويعترفوا في بعض آخر، والجواب الأول هو العمدة
ويليه في القوة الثاني.
(الشاهد العاشر) قوله تعالى في سورة فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي
خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 9) (إلى قوله) : {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن
فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ *
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 10-12) زعم المعترض أن هذا
الكلام يفيد أمرين: أحدهما أن خلق الأرض والسموات في ثمانية أيام والآخر أنه
خلق السماء بعد الأرض لا قبلها، لكن الأول منقوض في سبعة مواضع من
القرآن بما معناه أن خلقهما وما بينهما في ستة أيام لا في ثمانية، والثاني منقوض
بقوله في سورة النازعات: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا *
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (النازعات: 27-
30) ، ونقول في الجواب عن الأمر الأول: إن من المستعمل الشائع عند العرب
أن يقال مثلاً: سرت من القاهرة إلى طنطا في يومين وإلى الإسكندرية في أربعة
أيام، ويراد في يومين آخرين كانا مع ما قبلهما أربعة أيام ولذلك لم يتوقف أحد من
الصحابة في فهم الآية، ولم ير مفسروهم كابن عباس وغيره أن هذه الآية تحتاج إلى
بيان، وإنما اختلف في إعرابها وإعراب أمثالها النحاة فقدر بعضهم مضافًا
محذوفًا للقرينة فقال المعنى: (في تتمة أربعة أيام) كما قدروا في مثل (واسأل
القرية) كلمة (أهل) أي: اسأل أهل القرية، وذهب الزمخشري إلى أن
الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف يفيد أن العمل أو السفر كان في أربعة أيام على
طريق الفذلكة ولما كان المعترض مطلعًا على هذا ومقتنعًا بحسنه في قلبه لم ير
سبيلاً لصرف الوجوه عنه إلا شتم قائليه بتسمية ذلك تأولاً من عبث الولدان، وقد
زين له تعصبه أن يقول: إنه لو صح هذا (للزم منه أن يقول بعد ذلك عن السموات
فقضاهن سبع سموات في ستة أيام لا في يومين كما قال) واحتج على ذلك بزعمه
فقال: إن موضع الفذلكة آخر الكلام لا أوله.
وقد تجاهل أن الآية التي تنطق بخلق الأرض قد تمت وجاءت الفذلكة في آخرها
وأن الكلام في خلق السموات جاء في آية أخرى ابتدأت بثم التي تستعمل في
التراخي في الزمن، أو في رتبة العمل ونوعه بصرف النظر عن زمنه كما في قوله:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (الأعراف: 189) ، وهكذا
شأن أهل العنت والبهت والتعصب الذميم.
وأما الأمر الثاني فقد أخذه المعترض من اختلاف المفسرين في خلق السموات
والأرض أيهما أسبق لاختلاف فهمهم في الآيتين وله بعض العذر - وهو ينظر بعين
السخط والنقد - إذا آنس فيهما خلافًا أو شبهة خلاف فتشبث بها وصرف ذهنه عن
الجمع بينهما بما جمع به المفسرون. وإنني أقول: إن جميع المفسرين قد قصروا في
تفسير أمثال هذه الآيات التي تتكلم في أمور المبدأ والمعاد، وغير ذلك من الأمور
الغيبية ولهم العذر فإن هذه الأمور لم تذكر في الكتب المنزلة لشرح حقائقها وبيان
كنهها بالتفصيل ولا لبيان تاريخها، وإنما يذكر الخلق والتكوين للاستدلال على قدرة
الله وعلمه وحكمته، ولتوجيه الأنظار إلى الاعتبار بما في المخلوقات والمكونات
من العلوم والحِكَم ووجوه المنافع. وقد أجاز بعض علماء اللاهوت من النصارى أن
يجيء في الكتب المقدسة من العبر والدلائل الصحيحة ما يُبنى على اعتقاد الأمم
المخاطَبة بها، وإن خالف الحقيقة لأن شرح الحقائق الكونية ليس من موضوع الدين
وإنما موضوعه الهداية إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وإنما أجازوه
لأنه كثير في كتبهم.
ومن عجائب القرآن وضروب إعجازه أن يصوغ الحقائق في قوالب العبر
فترى العبرة بادية يستفيد منها العوام والخواص، والحقائق كامنة فيها يستخرج منها
أصحاب القرائح والفهوم ما ينتهي إليه استعدادهم في كل زمن بحسب ارتقاء العقول
وتقدم العلوم فيه. كان الناس يتلون فيه آيات التكوين منذ ثلاثة عشر قرنًا فيهتدون
بدلائلها ويتعظون بعبرها، ولا يرون فيها شيئًا مخالفًا للحقائق الكونية التي كشفها
العلم. ثم ارتقى العلم الكوني في آخر هذه المدة وقرر أهله أشياء في أمور الخلق
والتكوين تؤيد القرآن من حيث لا يعلمون. قالوا إن السموات والأرض قد خُلقتا من
مادة تشبه الضباب سماها بعضهم (سديمًا) كانت مادة واحدة فانفطرت أو انفتقت
فكان منها أجسام كرية الشكل، انفصل منها كرات أخرى، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك
في القرآن بمثل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (فصلت:
11) وقوله: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} (الأنبياء: 30) ، وقوله: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (الأنعام: 14) .
وقالوا: إن هذه الأرض لم تخلق هكذا ابتداءً وإنما خلقت أطوارًا فكانت نارية ثم
مائعة ثم يابسة ليس فيها نبات ولا حيوان، ثم صار فيها الحيوان والنبات، وما حدثت
هذه الأطوار إلا بالتدريج الطويل، كل طور في زمن يليق به. وهذا التفصيل الذي
قالوه يفسر الإجمال في قوله عز وجل: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ} (فصلت: 9) ، والمعنى: أن أصل التكوين تم في زمنين (ولا تنس ما
تقدَّم شرحه من استعمال كلمة) يوم (في مطلق الزمان) ، ولا يأبى ذلك أن تكون في
أحدهما كرة نارية، وفي الثاني مائعة، ثم قال: إنه بارك فيها وقدر فيها الأقوات
حتى صارت صالحة للسكنى وارتفاق الأحياء في يومين تتمة أربعة أيام وذلك صريح
أو كالصريح في طور اليابسة التي ظهرت في الماء وطور الأحياء التي ظهرت في
اليابسة. ثم انتقل بعد هذا البيان إلى ذكر خلق السماء فذكر أنها كانت دخانًا وأنه
خلقها في يومين أي: في زمنين كل منهما تم فيه طور خاص، فكان خلق
السماء وتكوينها كخلق الأرض ولم يخبرنا بما قدر فيها بعد ذلك ولا بعدد الأزمنة التي
تدل على عدد الأطوار؛ لأن العبرة والاستدلال المقصودين من ذكر التكوين لا يتمان
إلا فيما للإنسان فيه علم ما وإن لنا علمًا بوجود السموات والأرض فذكر لنا خلقهما
وعلمًا بما في الأرض من الأقوات والخيرات فذكر لنا خلق ذلك.
فأنت ترى أنه لا يراد بالأيام التي خلقت فيها السموات والأرض أزمان
متعاقبة بينهما، ولا غير متعاقبة، وإنما يراد بها الإشارة إلى الأطوار، ومن
شأن الأطوار أن تتعاقب في كل شيء بحسبه {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح: 14) ،
فلو فرضنا أن الزمنين اللذين خلقت فيهما الأرض هما الزمنان اللذان خلقت فيهما
السماء بعينهما كما أن الطورين متحدان لما لزم من ذلك شيء يعترض به على
التعبير، إذ ليس المراد بيان التقديم والتأخير، ومن هنا تعلم أن قوله بعد ذكر خلق
الأرض {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (البقرة: 29) لم يقصد به الترتيب في الزمن بل
الترتيب في الذكر كأنه قال: إننا سقنا لكم هذه الآية من آيات قدرتنا وحكمتنا، ثم إننا
نسوق لكم آية أخرى، واستعمال (ثم) في الترتيب الذكري كثير في القرآن وفي كلام
العرب والمولدين.
وأما قوله تعالى بعد ذكر السماء في سورة النازعات: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ
دَحَاهَا} (النازعات: 30) فلا يدل على أن خلق الأرض كان بعد خلق السماء ولا
قبله؛ إذ ليس معنى الدحو الخلق والتكوين وإنما معناه تمهيدها للسكنى في نهاية الطور
الرابع ولذلك وصل كلمة (دحاها) بتفسيرها، فقال: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا
وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} (النازعات: 31 -33) ،
ولا شك أن هذا كله كان بعد خلق السماء ووجود الليل والنهار الذي عبر عنه
بقوله: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} (النازعات: 29) ، فظهر
أنه لا تناقض ولا تنافي ولا تخالف بين آيات (فصلت) وآية النازعات. وثَمَّ
وجوه أخرى ذكرها المفسرون تنطبق على اللغة وإنما ذكرنا ما هو الراجح عندنا
بحسب ما وصل إليه علمنا وفوق كل ذي علم عليم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/330)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
ما هو الخير والشر؟
هاتان الكلمتان (الخير والشر) وما رادفهما يرد ذكرهما كثيرًا في العلم
الباحث عن أحوال النفس ومعاملاتها، بل عليهما مدار هذا العلم في أوامره ونواهيه؛
لأن الإنسان في محبته طالب خير وفي بغضه هارب من شر. وهذا هو ديدن
الإنسان مدة حياته. وكل واحد يعتقد في الجهة التي يطلبها الخير لنفسه وفي الجهة
التي يهرب منها الشر (اللهم إلا مبغضي ذواتهم!) ، وكل واحد ينبسط للخير
وينقبض من الشر. ولكن هل كل واحد يعرف ما هو الخير وما هو الشر، وهل كل
من اعتقد في جهة من الجهات الخير أو الشر مصيب؟ لو كان كل واحد عارفًا بهما
لكان كل واحد مصيبًا في طلبه وهربه، ولو كان كل واحد مصيبًا لتضاءل الشر
وتبارك الخير.
هذه القضايا مسلمة، وبناءً عليها نسأل ويقال لنا: من ذا الذي يتولى للناس
تعريف هاتين الكلمتين؟ فنقول: هم الباحثون في أحوال النفس. فنسأل مرة أخرى
ويقال لنا: من هم أولئك الباحثون؟ هل هم إلا أناس أمثالنا؟ وفي هذا السؤال
رائحة الإباء والاستنكاف فيجب أن يكون في الجواب رائحة الرفق والأناة فنقول:
الباحثون في علم النفس أناس أمثال غيرهم من حيث الصور الجسدية، وكذلك
الباحثون في كل علم.
ولكن لكل امرئ في هذه الحياة عمل تتفق له فيه إجادة لا تتفق لغيره سيما إن
كان ذلك الغير ليس من أرباب ذلك العمل. مثاله الشاعر هو رجل وأنت يا أيها
الفلاح رجل فلِمَ أنت عاجز عما يعلمه ويعمله هو؟ أليس لأنك لم تعانِ الشعر؟
(بلى) وإني أبشرك بأنه هو عاجز أيضًا عما تعلمه وتعمله أنت؛ لأنه لم يعانِ ما
عانيته. كذلكم قولوا في الصائغ هو عاجز عما يعلمه ويعمله الخياط، والثاني عاجز
عما يعلمه الأول.
وكذلكم قولوا في أرباب العلوم والصنائع كلها. ويومئذ لا يصعب عليكم أن
تقولوا: إن الذي يعانيه علماء النفس من التفكر والتذكر واختبار الأحوال وتجربة
الأمور ربما لا يتفق لغيرهم أن يعانوه. فإذا كانوا أمثالهم من جهة صورة الجسد لا
يلزم أن يكونوا أمثالهم من جهة صورة الفكر. ولعمركم إن ابن خلدون والغزالي
لا يحصى مشابهوهما في الخلقة، ولكن مشابهوهما ومقاربوهما في صنعتيهما يعدون
على الأصابع، وربما لا يبلغون عدد أصابع الكفين.
فإذا علم السائل هذا وسهل عليه أن يعرّف له علماء النفس (في انفرادها
واجتماعها) الخير والشر، فليصغِ إلى ما اقتبسناه منهم بفكر خالص من الوهم
والتقليد، وليتأمله بعقله المستفاد لا بعقله المستعار.
(الخير هو استعمال الإنسان ما خلق الله له من القوى والاستعدادات فيما
خلقت لأجله استعمالاً مشروعًا (أي: تابعًا لشرع) يراعى فيه حق الغير) ، والشر
ضده أي: عدم الاستعمال مطلقًا أو الاستعمال في غير ما خلقت لأجله أو الاستعمال
الذي ليس بتابع لشيء.
هذا التعريف وافٍ جامع لكن التعاريف في الحقيقة لا يستغني بها الناس عن
الشروح والإيضاحات والأمثلة (اللهم إلا أذكى الأذكياء) ، فكأنها إنما تسطر لتكون
قاعدة وأصلاً للشروح، ولتحفظ عبارتها الجامعة بعد أن يحيط الناس خبرًا بالمسألة
من الإيضاحات والأمثلة.
إن الله جل ثناؤه قد خلق في الإنسان قوى واستعدادات بعضها نصيبها مباشرة
المحسوس، وبعضها نصيبها ملاحظة المعقولات فكل ما يستعمل فيه الإنسان قواه
ويناله يلتذ به، وكل ما يلتذ به الإنسان خير إلا لذة تؤدي إلى ألم، أو لذة يغصب فيها
حق الغير. وكل ما يمنع الإنسان عن استعمال القوى فهو شر.
(مثال أول) أنت إذا أكلت فمعناه:
(1) أنك تمكنت من أن تأكل وهو دليل عدم مرضك وعدم حرمانك من
حصول الطعم.
و (2) أنك استعملت القوة المخلوقة لك لأجل الأكل لحكمة حياتك، وهو دليل
محبتك لذاتك؛ لأنك لو لم تستعملها لم تحي. ودليل أنك وافقت الفطرة التي فطرك
الله عليها.
و (3) أنك تلذذت في أكلك وهو دليل سلامة حواسك، وكل هذه الأشياء في
كونها خيرًا. أما إذا أكلت فوق الشبع فإنك سوف تتألم إما عاجلاً وإما آجلاً. وقد
عطلت في هذا الأكل القوة التي تستطيع بها أن تأكل. وقللت لذلك فيما بعد.
وخالفت الأدب، وكل هذه شر، وكذلك إذا تعديت في أكلك على حق الغير كأن
غصبت الذي أكلته من غيرك فإن هذا يؤدي إلى أن يشاجرك عليه، وقد يقوى عليك
بقوته، أو القوة المؤلفة لحفظ الحقوق (قوة الحكومات) وإذا قوي عليك، فقد يغصب
منك ما تحتاج إليه، وقد يعمل فيك أعمالاً تمنعك عن الالتذاذ بالأكل، وكذلك إذا
استعملت القوة في غير ما خلقت لأجله كما إذا أكلت سمًّا أو ترابًا. أو لم تستعملها
ألبتة كبعض الذين يعملون ذلك، ويجوعون أيامًا عمدًا، فكل هذه المذكورات شر.
(مثال ثانٍ) وأنت إذا واقعت فمعناه: (1) أنك تمكنت من الوقاع ولم
يمنعك مانع، و (2) أنك استعملت القوة المخلوقة فيك لأجل الوقاع لحكمة بقاء
النوع، و (3) أنك وافقت الفطرة، و (4) أنك أحببت غيرك , و (5) أنك
تلذذت.
وكل هذه المذكورات دليل سلامة حواسك وسلامة فطرتك وسلامة عقلك ودليل
أمنك في الموانع الغيرية كالموانع الذاتية، وكلها خير إذا كان وقاعك تابعًا لنظام،
أما إذا أفرطت في الوقاع إفراطًا يعطل القوة، أو استعملت القوة في غير ما خُلقت
لأجله، كأن واقعت بهيمة أو دبرًا أو أهملت الوقاع المشروع من غير مانع، فإن
هذه الأشياء عين الشر.
(مثال ثالث) وأنت إذا اكتسيت فمعناه: (1) أنك حصلت ما تتقي به
الحر والبرد، و (2) أنه أحبك الغير إذ عمل لك ما تلبس، وأحببت الغير إذ سترت
عن عينه ما ربما يكره أن يراه، و (3) أنك أحببت ذاتك إذ وقيتها أو زينتها، وكل
هذه خير. أما إذا لبِست ما لا عدل فيه كلبس ما لا يلائم عملك كديباج وأنت تعمل
في الطين، أو قنب غليظ وأنت حاكم أو بزاز، وكلبس شيء يليق بالإناث دون
الرجال وكالتزين بشيء يحتاجه الناس للمبادلة أشد الاحتياج. أو أبغضت ذاتك فلم
تلبَس، أو لبِست ما يلائم عملك، أو لبست ما لا يلائم الزمان، كلبس أخف الثياب
في أشد الأيام بردًا وبالعكس. فكل هذه وما أشبهها من الأشياء التي لا عدل
فيها شر.
(مثال رابع) وأنت إذا أويت إلى مبيت وبت في أمان فمعناه: (1) أنك
نلت حاجة لا يعلو فيها عليك الملوك إلا بالزخرف. و (2) أنك نلت من فوائد
اشتراكك مع الهيئة المجتمعة؛ لأنك ما وجدت هذا المبيت إلا بفضل اجتماعهم، ولا
وجدت هذا الأمان إلا بفضل التكافل المشروط طبعًا ووضعًا وشرعًا، ولولا ما ذكرنا
لما كان مبيتك أفضل من جحر الوحش، ولا كنت بآمن من حمام بين صقور. ولا
آنس من حي بين موتى القبور، فقدر هذا الخير بنظرك لتعلم فضل غيرك على
ذاتك، ولتعلم أن لذاتك فضلاً على غيرك به استوجبت فضله عليك. ولتعلم من هذا
أن الأمر تكافؤ وتكافل. لا تطول وتفضل. وأن الفضل كله لله وحده. وأن
الخيرات لا تعدونا طرفة عين، ولكننا غافلون نجلب الشر على أنفسنا بأنفسنا حنينًا
منا إلى جهالات سبقت، ونحن لها متوارثون إلى أن يأذن الله بتقشعها رويدًا رويدًا.
أما إذا استوحشت نفسك وتشبهت بالوحوش في مساكنها ومعايشها فمعناه أنك
أهملت الاستعداد الذي فيك وخالفت الفطرة، وأبغضت ذاتك فلا شك بأن هذه الحالة
من الشر.
(مثال خامس) وأنت إذا تفكرت في خواصّ المحسوسات وعجائب
المعقولات فأنت يومئذ الخَيِّر العظيم يوم يُنْتِجُ تفكرك علمًا، وعلمك عملاً، وعملك
نفعًا عميمًا وشرفًا للنوع عظيمًا. بربكم قولوا لنا: إذا استثنينا من هذا النوع أُولي
الألباب من الأنبياء، وذوي الأفكار من الحكماء والمخترعين والمعلمين فأية مزية
تبقى في الباقين وأي شرف لهم؟ أولئك هم مفاتح أبواب الخير ومصادر الشرف الأعلى لهذا النوع. أما من أساء استعمال التفكر كأن تفكر بالعدوان وأساليبه فهو
الشرير العظيم. ومثله أو قريب منه من أهمل الفكر؛ لأنه يصعب علينا أن نفرق بين
عامل بالشر، وحامل عليه؛ لأنه تفكر وبين واقع في الشر، ومحمول عليه؛
لأنه لم يتفكر.
نسأل الله السلامة لأفكارنا من أن نهملها، ومن أن نعملها في باطل، ومن أن
نعميها بالتقليد.
هذا ويرى القارئ أننا تساهلنا أو سهلنا العبارة، وتنازلنا بالتمثيل إلى أمور ليس
إدراكها بالصعب، فربما ظن أننا نكتب كتابًا لقراءة المبتدئين. وهذا الظن قد ينشأ
من أمرين: الأول الأسلوب الذي التزمناه لزيادة التوضيح وعدلنا به عن سرد الكلام،
والثاني استصغار هذه الأمور التي مثلنا بها. ولما كان الواقع يكبر هذه الأمور التي
سَبَكْنَا نضار حقائقها بقالب سهل المأخذ وجب أن نزيدها تبيانًا ونزيد الخير والشر
تعريفًا.
إن الإنسان هذا المخلوق العظيم، صاحب العقل المنير، صاحب الرأي
والتدبير، صاحب السلطان على مخلوقات الأرض، والإشراف على مصنوعات
السماء، صاحب التمدين والاجتماع، صاحب الإبداع والاختراع، صاحب المنطق
المفيد، والعزم الشديد. صاحب الصورة التامة، والروح العالية، صاحب المآثر
والآثار، كاشف الخواص والأسرار، هذا السائد بالفكر الممتاز به لم يخرج في كل
مزاياه التي عددناها وغيرها مما يعجز القلم عن تصويرها تصويرًا شعريًّا خياليًّا أو
حقيقيًّا عن كونه حيوانًا محتاجًا كالحيوانات إلى طعام وشراب ومأوى مسوقًا من
طبيعة خلقته إلى الوقاع ومعالجة ألم البأة. فهب أننا سميناه قطب هذا الوجود،
وصفوة السر من كل موجود، وهب أننا رفعنا علومه فوق الشمس مقامًا وضياءً.
وأحللنا فضائله فوق التصور درجة واستقصاءً، ونوهنا بمنزلته عند خالقه،
وعظمنا الاعتبار للطبيعي من خلائقه، أفنستطيع أن نقول: إنه مقدس عن المطعم
والمأوى والمنكح، بعدما اختبرناه دهورًا دهارير، وبلوناه فذًا وفي العير والنفير.
هل علمنا منه غير كونه هلوعًا، إذا مسه الخير مما يغذوه ويكسوه كان منوعًا،
وإذا مسه الشر من جوع وعري كان جزوعًا، هل عهدنا به إلا التقاتل من طمع
أفراده وحبهم الاستئثار؟
هذا هو الإنسان الذي يعرفون ماضيه وما أنتم عن حاضره بغافلين. هذا هو
المخلوق الذي فطره خالقه محتاجًا ويسّر له ما يحتاج إليه، وخلق فيه سائقًا يسوقه
نحوه وجاذبًا يجذبه ودافعًا يدفع ما يرى استغناءه عنه. أفتسمي هذا التركيب الذي
ركّبه الصانع شرًّا. أم عمل المخلوق بحسب التركيب. أم تيسر الحاجة التي لا بد
منها. أم اللذة الطبيعية في نيل هذه الحاجة؟ وإذا لم تكن هذه شرًّا فهل بقي إلا
الخير؟
سيقول قائلون: إن هذا الاحتياج لا يدفعه الإنسان عن نفسه بتحصيل الحاجة
إلا بكد ونصب، وقصارى الأمر في حصول الحاجة أنها تسكن ألمًا تقدم الحصول،
فهب أننا سمينا تلك الأمور خيرًا، أفليس الشر قبلها وبعدها؟
هذا كلام له وجه ظاهر ولكن ههنا اعتقادان في حياة الإنسان، أحدهما أن
الإنسان يستفيد منها، والآخر أنه لا يستفيد، فإن كان السائل ممن يعتقدون
استفادة الإنسان من الحياة فجوابنا له أن الألم السابق الذي يسكنه نيل الحاجة وتعقبه
بهذا النيل اللذة ليس شرًّا، بل هو لتعرف به اللذة ويشعر بها، ولو كانت دائمة لما
أحس بها المرء، وهذا كسبق العدم على الوجود، والجهل على العلم، والضعف في
الطفولية على القوة في الرجولية ونظائر ما ذكرنا.
على أنه إذا سمينا تلك الآلام وما يتبعها من لزوم الكد والنَّصَبِ والمجاهدة
شرورًا فلا ضير فيها إذا كانت الخيرات تدفعها وتهونها، ويدلنا على ذلك استعذاب
الحياة مع كل المرارات التي تصادف في سبيلها، وما ذلك إلا لأن الخيرات لا يطول
احتجابها، كالشمس إذا حجبها الدجى واستأنف النهار يشرق بضيائها. وإن كان
السائل ممن لا يقولون باستفادة الإنسان من الحياة فجوابنا له: إذا كانت الحياة من
أصلها حملاً ثقيلاً، والأحوال فيها متضادة ومتعاقبة يعقب الضِّدُّ فيها الضِّدُّ فمهما
صادفنا الضد الذي نرتاح به زمنًا من الأزمان كان جديرًا بنا أن نفضله على ضده
الذي يتعبنا. وهذا هو معنى الخير والشر اللذين هما ضدان. على أنك يا منكر
الاستفادة من الحياة يشم منك رائحة اتباع الخيالات الفاسدة، ويتفرس فيك أنك
مبغض أو ستبغض ذاتك، ويتوقع بك كل شر فدعني منك.
إن هذا الإنسان البديع خلقه لم يخلقه الخالق عبثًا وأنه خلق لأمر عظيم. وأنه
سائر إلى كمال بديع. وأنه شاء أو أبى يحيا في هذه الدار محبًّا للحياة. ويكد فيها
غير مالٍّ من الكَدِّ. وأن الصانع خلق له ما في الأرض جميعًا، وقسم بين أفراده
الأعمال. وخصَّ كل عامل بما يناسب عمله من طعام ولباس ومبيت. وأعان كل
عامل على عمله. وعلَّمه ما لم يعلم. وأتحفه بهذا الفكر العجيب. الذي به امتيازه
العالي. فانقسم الإنسان بحسب جسده وفكره بين جهتين تتعاور عليه فيهما الخيرات
والشرور التي جعلها الصانع ممتزجة ببعضها. وجعل للجسد من الخيرات لذات
المطاعم والمشارب والمناكح والمساكن. وللفكر من الخيرات لذات الإدراك للأمور
البعيدة والاختراعات العجيبة والتأثيرات المعنوية الغريبة. وجعل الخيرات متيسرة،
ولكن تجاوز الحدود هو الذي يوفر الشرور. وتجاوز الحدود أكثر ما ينشأ من قلة
التفكر وعدم العلم بنظام الحب والبغض أي: بأحوال النفوس في انفرادها واجتماعها.
ومن أحب ذاته حق المحبة هيهات أن يظلمها. ومن أراد أن يظلم نفسه فليحازب من
لا يظلمون غيرهم وليحارب من يظلمون. فلا جناح علينا أن نبيع الحياة وهي أغلى
شيء في جهاد الذين يظلمون غيرهم لعلنا نحيا لا نظلم ولا نُظلم. أو يحيا أبناؤنا
من بعدنا على هذه الشاكلة. لعلنا نحيا عالمين أن ذوات غيرنا كذاتنا فنأخذ ما لنا
وندع لهم ما لهم. لعلنا نحيا متعاونين، فنحن كلنا إخوة سواء بالحياة والممات سواء
بالحاجة للأكل والشرب والنكاح، سواء بالتكلم والتفكر اللذين يميزانِنَا عن العجماوات
سواء بالفرح والألم إذا فزنا أو خبنا، سواء بالخوف والرجاء في يومنا وغدنا.
ونحن سواء بالتفكر والعنا ... بتحصيل ما نحتاج في كل معمل
ترى أعجزنا إن نسالم بعضنا ... لنسلم من عدواننا والتقلقل
نرى أعجزنا أن نعاف رذائلا ... ونهجر أوهامًا رمتنا بأحبل
اللهم ألهمنا رشدنا وأعنا في استثمار الخيرات الموهوبة لأفكارنا، إنك مفيض
الخير، وأنت المستغني وحدَك عن الغير. ... ... ... ...
(ثمة بقية)
... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز.)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/335)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نموذج من دلائل الإعجاز [*]
تمتاز كتب الإمام عبد القاهر الجرجاني واضع فنون البلاغة (رحمه الله
تعالى) - على سائر الكتب التي أُلفت من بعده بعدة مزايا: منها أَنَّ عبارتها بليغة
وأساليبها رشيقة، ومنها تصوير المعاني شخوصًا تامة سوية، حتى كأن العقولات
ملموسة مرئية، ومنها كثرة إيراد الشواهد والأمثلة على الوجه الذي اختاره
الأوربيون ومقلدوهم في كتب التعليم لهذا العهد. وإننا نورد هنا نموذجًا من كتاب
دلائل الإعجاز في علم المعاني، وذلك من حيث انتهينا في الطبع بمطبعتنا
(الكراسة أو الملزمة 44) . بيَّن - رحمه الله - في فصول متعددة فساد رأي الذين
ذهبوا إلى أن الفصاحة والبلاغة صفة للفظ دون النظْم والأسلوب، باعتبار تصوير
المعنى، ثم ختم ذلك بفصل في الموازنة بين المذهبين، فقال:
* * *
فصل
قد بلغنا في مداواة الناس من دائهم، وعلاج الفساد الذي عرض في آرائهم
كل مبلغ، وانتهينا إلى كل غاية، وأخذنا بهم عن المجاهل التي كانوا يتعسفون فيها
إلى السَّنن اللاحب، ونقلناهم عن الآجن المطروق إلى النمير الذي يشفي غليل
الشارب، ولم ندَع لباطلهم عِرقًا ينبض إلا كويناه، ولا للخلاف لسانًا ينطق إلا
أخرسناه. ولم نترك غطاءً كان على بصر ذي عقل إلا حسرناه، فيا أيها السامع لما
قلناه، والناظر فيما كتبناه، والمتصفح لما دوَّنَّاه، إن كنت سمعت سماع صادق
الرغبة في أن تكون في أمرك على بصيرة، ونظرت نظر تام العناية في أن يورد
ويصدر عن معرفة، وتصفحت تصفح مَن إذا مارس بابًا من العلم لم يقنعه إلا أن
يكون على ذروة السنام، ويضرب بالمعلى من السهام، فقد هُديت لضالتك، وفتح
لك الطريق إلى بُغيتك، وهيئ لك الأداة التي بها تبلغ، وأوتيت الآلة التي معها
تصل، فخذ لنفسك بالتي هي أملأ ليديك، وأعْوَد بالحظ عليك، ووازن بين حالك
الآن - وقد تنبهت من رقدتك، وأفقت من غفلتك، وصرت تعلم (إذا أنت خضتَ
في أمر اللفظ والنظم) معنى ما تذكر، وتعلم كيف تورد وتصدر - وبينها [1] وأنت
من أمرها في عمياء، وخابط خبْط عَشْواء. قصاراك أن تكرر ألفاظًا لا تعرف
لشيء منها تفسيرًا. وضروب كلام للبلغاء إن سئلت عن أغراضهم فيها لم تستطع
لها تبيينًا، فإنك تراك تطيل التعجب من غفلتك، وتُكثر الاعتذار إلى عقلك من
الذي كنت عليه طول مدتك، ونسأل الله تعالى أن يجعل كل ما نأتيه، ونقصده
وننتحيه، لوجهه خالصًا، وإلى رضاه عز وجل مؤديًا، ولثوابه مقتضيًا، وللزلفى
عنده موجبًا بمنَّه وفضله ورحمته.
ثم عقد فصلاً لكشف شبهة الذين جعلوا الفصاحة والبلاغة للألفاظ، فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أنه لما كان الغلط الذي دخل على الناس في حديث اللفظ كالداء الذي
يسري في العروق، ويفسد مزاج البدن - وجب أن يتوخَّى دائبًا فيهم ما يتوخاه
الطبيب في الناقِه، من تعهده بما يزيد في مُنَّته، ويُبقيه على صحته، ويؤمنه
النكس في علته، وقد علمنا أن أصل الفساد وسبب الآفة هو ذهابهم عن أن من شأن
المعاني أن تختلف عليها الصور، وتحدث فيها خواص ومزايا من بعد أن لا تكون،
فإنك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل، فصنع فيه ما يصنع الصانع الحاذق إذا
هو أغرب في صنعة خاتم، وعمل شنف، وغيرهما من أصناف الحلي. فإن جهلهم
بذلك من حالها هو الذي أغواهم واستهواهم، وورَّطهم فيما تورطوا فيه من
الجهالات، وأداهم إلى التعليق بالمُحالات؛ وذلك أنهم لما جهلوا شأن الصورة
وضعوا لأنفسهم أساسًا، وبنوا على قاعدة، فقالوا: إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا
ثالث، وإنه إذا كان كذلك وجب إذا كان لأحد الكلامين فضيلة لا تكون للآخر، ثم
كان الغرض من أحدهما هو الغرض من صاحبه - أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى
اللفظ خاصة، وأن لا يكون لها مرجع إلى المعنى، من حيث إن ذلك - زعموا -
يؤدي إلى التناقض، وأن يكون معناهما متغايرًا وغير متغاير معًا.
ولما أقروا هذا في نفوسهم حملوا كلام العلماء في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى
اللفظ على ظاهره، وأبوا أن ينظروا في الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى
اللفظ، مثل قولهم: لفظ متمكن غير قلق ولا نابٍ به موضعه، إلى سائر ما ذكرناه
قبل، فيعلموا أنهم لم يوجبوا للفظ ما أوجبوه من الفضيلة، وهم يعنون نطق اللسان
وأجراس الحروف، ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا اللفظ وهم
يريدون الصورة التي تحدث في المعنى، والخاصة التي حدثت فيه، ويعنون الذي
عناه الجاحظ، حيث قال: وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني، والمعاني
مطروحة وسط الطريق، يعرفها العربي والعجمي والحضري والبدوي، وإنما
الشعر صياغة [2] وضرب من التصوير، وما يعنونه إذا قالوا: إنه يأخذ الحديث
فيشنفه ويقرطه، ويأخذ المعنى خرزة، فيرده جوهرة، وعباءة فيجعله ديباجة،
ويأخذه عاطلاً فيرده حاليًا، وليس كون هذا مرادهم، بحيث كان ينبغي أن يخفى هذا
الخفاء، ويشتبه هذا الاشتباه، ولكن إذا تعاطى الشيء غير أهله، وتولى الأمر
غير البصير به - أُعضل الداء، واشتد البلاء، ولو لم يكن من الدليل على أنهم
لم ينحلوا اللفظ الفضيلة، وهم يريدونه نفسه، وعلى الحقيقة إلا واحد، وهو
وصفهم له بأنه يزين المعنى، وأنه حلي له -لكان فيه الكفاية؛ وذاك أن الألفاظ
أدلة على المعاني، وليس للدليل إلا أن يعلمك الشيء على ما يكون عليه، فأما أن
يصير الشيء بالدليل على صفة لم يكن عليها، فما لا يقوم في عقل، ولا يتصور
في وهم.
ثم ذكر الأخذ والسرقة وبيَّن أن التفاضل يكون بالأسلوب لا بالألفاظ، ثم أورد
الأمثلة فقال:
ثم إن أردت مثالاً في ذلك فإن من أحسن شيء فيه ما صنع أبو تمام في بيت
أبي نُخَيْلَة، وذلك أن أبا نخيلة قال - في مَسلمة بن عبد الملك -:
أمسلم إني يا ابن كل خليفة ... ويا جبل الدنيا ويا واحد الأرضِ
شكرتك إن الشكر حبل من التقى ... وما كل مَن أوليته صالحا يقضي
وأنبهت لي ذكري وما كان خاملاً ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعضِ [3]
فعمد أبو تمام إلى هذا البيت الأخير، فقال:
لقد زدت أوضاحي امتدادًا ولم أكن بهيمًا ولا أرضي من الأرض مجهلا [4]
ولكن أياد صادفتني جسامها أغرّ فأوفت بي أغر محجَّلا
وفي كتاب الشعر والشعراء للمرزباني فصل في هذا المعنى حسن، قال:
ومن الأمثال القديمة قولهم: (حرًّا أخاف على جاني كمأة لا قُرًّا) يضرب مثلاً للذي
يخاف من شيء، فيسلم منه، ويصيبه غيره مما لم يخفه، فأخذ هذا المعنى بعض
الشعراء، فقال: [5]
وحذرت من أمر فمرَّ بجانبي ... لم يَنْكِنِي ولقيت ما لم أحذر
وقال لبيد:
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السماك والأسد [6]
قال: وأخذه البحتري، فأحسن وطغى اقتدارًا على العبارة، واتساعًا في
المعنى، فقال:
لو أنني أُوفي التجارب حقها ... فيما أرت لرجوت ما أخشاه
وشبيه بهذا الفصل فصل آخر من هذا الكتاب [7] أيضًا، أُنشد [8] لإبراهيم بن
المهدي:
يا مَن لقلب صِيغَ من صخرة ... في جسد من لؤلوء رطبِ
جرحت خديه بلحظي فما ... برحت حتى اقتصَّ من قلبي
ثم قال: قال علي بن هارون أخذه أحمد بن أبي فنن معنًى ولفظًا، فقال: [9]
أدميت باللحظات وجنته ... فاقتص ناظره من القلب
قال: ولكنه بنقاء عبارته، وحسن مأخذه قد صار أولى به، ففي هذا دليل لمَن
عقل أنهم لا يعنون بحسن العبارة مجرد اللفظ، ولكن صورة وصفه وخصوصية
تحدث في المعنى، وشيئًا طريق معرفته على الجملة العقل دون السمع، فإنه على
كل حال لم يقل في البحتري: إنه أحسن، فطغى اقتدارًا على العبارة من أجل
حروف: (لو أنني أوفي التجارب حقها) ، وكذلك لم يصف ابن أبي فنن بنقاء
العبارة من أجل حروف: (أدميت باللحظات وجنته) .
* * *
ثم عقد فصلاً للموازنة بين نظم المعنى المتحد
في اللفظ المتعدد
فقال: وقد أردت إن أكتب جملة من الشعر الذي أنت ترى الشاعرين فيه قد
قالا في معنى واحد، وهو ينقسم قسمين: قسم أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى
بالمعنى غفلاً ساذجًا، وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتعجب، وقسم
أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى وصوَّر.
وأبدأ بالقسم الأول الذي يكون المعنى في أحد البيتين غُفْلاً، وفي الآخر
مصوّرًا مصنوعًا، ويكون ذلك إما لأن متأخرًا قصر عن متقدم، وإما لأن هدي
متأخر لشيء لم يهتدِ إليه المتقدم، ومثال ذلك قول المتنبي:
بئس الليالي سهرتُ من طربي ... شوقًا إلى مَن يَبيت يرقدها
مع قول البحتري:
ليلٌ يصادفني ومرهفة الحشا ... ضدين أسهره لها وتنامُهُ
وقول البحتري:
ولو ملكت زَمَاعًا ظل يجذبني ... قَوْدًا لَكَانَ نَدَى كفَّيْك من عُقُلي [10]
مع قول المتنبي:
وقيدت نفسي في ذُراك محبة ... ومَن وجد الإحسان قيدًا تقيَّدا
وقول المتنبي:
إذا اعتلَّ سيف الدولة اعتلت الأرضُ ... ومَن فوقها والبأس والكرم المحضُ
مع قول البحتري:
ظللنا نعود الجود من وعكك الذي ... وجدت وقلنا اعتلَّ عضو من المجدِ
وقول المتنبي:
يعطيك مبتدِئًا فإن أعجلته ... أعطاك معتذرًا كمَن قد أجرما
مع قول أبي تمام:
أخو عَزَمَات فعلُه فعلُ محسنِ ... إلينا ولكن عذرُه عذرُ مذنبِ
وقول المتنبي:
كريمٌ متى استوهبت ما أنت راكبٌ ... وقد لقحتْ حربٌ فإنك نازلُ [11]
مع قول البحتري:
ماضٍ على عزمه في الجود لو وهب الشَّـ ـم باب يوم لقاء البيض ما ندما [12]
وقول المتنبي:
والذي يشهدُ الوغى ساكنُ القلـ ... ـبِ كأن القتالَ فيها ذِمامُ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) إن هذا النموذج نموذج للطبع أيضًا؛ فالكتاب يُطبع بهذه الحروف.
(1) قوله: (وبينها) عطف على قوله: (بين حالك الآن) .
(2) أي: كلامنا الآن في أنهم إلخ مبتدأ وخبر.
(3) وفي رواية: (ونوهت لي باسمي) .
(4) الأوضاح: جمع وضح وهو البياض.
(5) وقيل في هذا المعنى:
نرى الشيء مما يُتَّقَى فنهابه ... وما لا نرى مما يقي الله أكثر.
(6) أربد هو أخو لبيد، قتلته الصاعقة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مع عامر بن الطفيل يريدان قتله عليه الصلاة والسلام.
(7) يريد كتاب المرزباني.
(8) أي المرزباني.
(9) قد أكثر الشعراء تجاذب هذا المعنى، وحسَّنه بعضهم بالاقتباس، فقال:
إلى الله أشكو عشق ظبي مهفهف ... رماني وما لي من يديه خلاص
جرحت بعيني خده وهو جارح ... بعينيه قلبي والجروح قصاص
وأوردته - في مورد الاحتجاج - إحدى الحسان، فقالت:
ألحاظنا تجرحكم في الحشا ... ولحظكم يجرحنا في الخدود
جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا ... فما الذي أوجب جرح الصدود
(10) أراد من الزماع: العزم على الرجوع إلى أهله.
(11) لقحت الحرب: هاجت بعد سكون، ويقال لقحت العداوة بمعناه.
(12) الظاهر أنه يريد بالبيض: النساء الحسان، وإن تخيل هبة الشباب في ذلك اليوم لأبعد شوط، وآخر غاية ينتهي إليها خيال الشاعر.(6/341)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البابا لاون الثالث عشر - ترجمته
في يوم الإثنين الماضي (20 يوليو) توفي عظيم النصرانية ورئيس الطائفة
الكبرى فيها بابا رومية عن ثلاث وتسعين سنة، قضى جُلها في خدمة مذهبه
الكاثوليكي منها خمس وعشرون سنة، أو ربع قرن في منصب البابوية، وقد كان
لسياسته من التأثير في عالم النصرانية والمدنية ما لم يكن في حسبان أحد من
العالمين، وكاتب هذه السطور يعتقد أنه كان أعقل رجال أوربا وأعلاهم كعبًا
في السياسة. وإننا نذكر من ترجمته ما فيه العبرة للمسلمين كما يليق بمجلة
إسلامية مثل المنار، فلا تقل - أيها المسلم - ما لهذه المجلة الإسلامية ولزعماء
النصرانية؟ !
الكاثوليك أكثر فرق النصارى عددًا، واعتقادهم في البابا كاعتقاد أكثر المسلمين
في الخليفة أو أمير المؤمنين من حيث الرياسة الدينية والدنيوية في الجملة، وكاعتقاد
بعض الفرق الإسلامية في وجوب عصمة الإمام الحق، ثم إنه يُنتخب من طائفة
مخصوصة ولا يأخذ هذا المنصب بالوراثة، وتلك سنة الإسلام في انتخاب الإمام من
طائفة مخصوصة.
قال ياقوت في معجمه: (والبابا رئيس الفرنج هو عندهم نائب المسيح كما
هو أمير المؤمنين عند المسلمين ينفذ أمره في جميع ما يتعلق بالدين في جميعهم) ،
وقال الشريف الإدريسي في كتابه نزهة المشتاق: (وفي مدينة رومة قصر الملك
المسمى البابة، وليس فوق البابة فوق في القدر والملوك دونه، ويقيمونه مقام الباري
جل وعز! !) إلى أن قال: (وحكمه نافذ ماضٍ على جميع ملوك الروم، ولا يقدر
أحد منهم يرد عليه) وقال أبو الفداء في كتاب تقويم البلدان عن أهل بيزة: (وليس
لهم ملك، وإنما مرجعهم إلى الباب خليفة النصارى) وقال عن رومية: (وهي مدينة
مشهورة ومقر خليفة النصارى المسمى بالباب) ، وقد تكلم ابن خلدون عن هذه
الرياسة وصاحبها بإيضاح تام؛ ولهذا كله قال بعض علماء أوربا: إن البابوية
أو النصرانية مقتبسة من الإسلام!
جلس لاون الثالث عشر على كرسي هذه الخلافة (سنة 1778م) ، وأوربا
بقضّها وقضيضها وعلومها وصنائعها ومدنيتها معادية للكاثوليك أشد من معاداتها
للإسلام؛ لأنها تعتقد أن الكاثوليك والبابوية من الأمراض الباطنية التي أصابت
الوطن في القلب والكبد والرئتين، فهي تفتأ تفتك به، حتى تبيده، فالكثلكة خطر في
الباطن تحارب خوفًا وحذرًا من شرها، وأما الإسلام فهو عدو على البعد يحارب طمعًا
في أرضه ودياره. ولكن البابا لاون الثالث عشر حول بسياسته ودهائه ذلك العداء إلى
ولاء، وذلك الاستخفاف والاحتقار واعتبار، والفضل في ذلك لحسن الانتخاب
والاختيار، إذ لو كان هذا المنصب وراثيًّا لما ارتقى إليه مثل هذا الرجل.
ولد ليون الثالث عشر (وكان اسمه قبل البابوية بتشي) في 2 مارث سنة
1810م في بلدة كاربنتو من إيطاليا، وتعلم التعليم الابتدائي في مدرسة للجزويت
ببلدة فيترب، وجاء رومية سنة 1824 وأتم دروسه بمدرسة الجزويت فيها،
ثم بمدرسة رومية الجامعة، وعني أولاً بالعلوم الطبيعية والكيمياء حتى نبغ فيها،
ثم اشتغل بآداب اللغة اللاتينية حتى عد من الكتاب البلغاء والشعراء المجيدين، ثم
درس علوم الفلسفة واللاهوت فأتقنها ومنح لقب (دكتور) في الفلسفة. ثم وجه
عنايته إلى علم الحقوق فبرع حتى أخذ الشهادة العالية فيه من مدرسة رومية
الجامعة.
وفي سنة 1837 عين قسًا ونائبًا عن البابا في بعض البلاد، وفي سنة 1843
عين رئيسًا لأساقفة دمياط، ثم وكيلاً للبابا في بروكسل عاصمة بلجيكا فأقام في تلك
البلاد ثلاث سنين منحه ملكها في آخرها وسام (ليوبولد) من الدرجة الأولى وهو
من أعلى الوسامات عنده، وفي سنة 1846 عين رئيسًا لأساقفة بيروز. وقد لبث في
منصب الأسقفية 32 سنة كان فيها حسن السلوك يستتيب اللصوص والبغاة المعتدين
حتى خلت منهم السجون التي كانت ممتلئة بهم قبل عهده. وفي سنة 1877 صار
كردينالا ومديرا في الفاتيكان والكنيسة الرومانية، وفي سنة 1878 توفي البابا بيوس
التاسع فانتخب خلفًا له.
وقد ذكرنا هذه النبذة الوجيزة في تعليمه وتقلبه في الأعمال الدينية لأجل
المقابلة بين تربية رؤسائهم ورؤسائنا حتى لا يعجب أحد من تقدمهم وتأخرنا.
إذا سأل المسلم عن كيفية تربية رئيس أمته العام من أمير وسلطان أو ولي
عهدهما أو الرئيس الخاص كشيخ الإسلام في الآستانة وشيخ الأزهر في مصر،
وسأل: ماذا تعلم هؤلاء من العلوم التي لا بد منها للأمة التي يرأسونها، وما
هي الأعمال والمناصب التي تقلبوا فيها فظهر استعدادهم لخدمة الأمة فرشحوا لها
بسببها فماذا يكون جواب هذا السائل؟ لعل الأكثرين يجيبونه بأن الواجب علينا أن
نقبل رياستهم من غير سؤال عن استعدادهم، وعن علومهم وأعمالهم، ومن تحدث
بشيء من ذلك فهو عدو للملة والدين. وفتنة لجميع المسلمين، وذلك أن الأمة في
طور الضعف لا يرضيها إلا أن يمدح منها كل شيء، وذلك أنها تشعر بفقد مقومات
السعادة بالفعل فتحب أن تخادع نفسها بالمدح كما يتكبر الوضيع ويتنفج ليظهر في
مظهر الكبراء.
فقد الكاثوليك السلطة الدنيوية، سلبها الملوك من البابا الذي كان يفيضها عليهم
ولو تسنى لهم في أي يوم من الأيام إرجاعها لوجدوا في الفاتيكان رجالاً يديرونها
أحسن مما يديرها ملك إيطاليا، وحكومته في جميع أصولها الإدارية والمالية
والقضائية والعسكرية؛ لأن رجال الدين عندهم يتعلمون كل شيء.
أرأيتك هؤلاء الذين يسمون رجال الدين في الإسلام إذا قيل لهم - وهم يشكون
من خروج الأحكام عن الشرع إلا ما يسمونه الأمور الشخصية ومحاكمها على
خطر -: تعالَوْا فأديروا أعمال الحكومة الكلية من إدارية ومالية وحربية
وقضائية وسياسية (خارجية) وغير ذلك، أيجدون في الأزهر من يحسن عملاً
من هذه الأعمال كما يجد الكاثوليك في الفاتيكان؟ أنَّى وهم إلى اليوم يتنازعون
بينهم: هل علم تقويم البلدان يقطع على الطالب طريق الدين أم لا؟ الجمهور على
أنه يقطع وأنه ينبغي أن لا يُقرأ في الأزهر. وهل الحساب العملي والهندسة العملية
يفسدان العقل حتى يضعف استعداده لفهم العلوم الدينية أم لا؟ الجمهور على أنه يفسد
العقل وينبغي أن لا يدرس في الأزهر كما صرح بذلك الشيخ (ثابت بن منصور)
والشيخ محمد راضي البحراوي من كبار المدرسين هنالك في مقالاتهما المنشورة في
المؤيد. ثم أَنَّى يجدون في الأزهر مَن يحسن عملاً ما وليس فيه من يعد لعمل
ما إلا القضاء الشرعي، وهؤلاء القضاة الخارجون منه تبكي من سيرة أكثرهم
السماء والأرض وتستغيث العدالة بلسان المظلومين المهضومين بأن ينقذها الله منهم
ويرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكَّرون! !
ولقد كان رجال الكاثوليك في يوم مضى مثل رجال الأزهر يعدون كل علوم
العمران حجابًا دون الدين حتى كأن الدين آلة الخراب والدمار، وكان أكثر عامتهم
على رأي رجال الدين كما هو الشأن عندنا حتى اليوم، ولكنهم لم يلبثوا أن علموا
على أن بقاء الدين محال ما لم تجعل علوم العمران نصيرة له فعكفوا على العلوم حتى
برعوا في جميع فنونها، فمدارسهم جامعة تفوق غيرها نظامًا وإحكامًا،
وعلماؤهم من القسيسين وغير القسيسين مستعدون لكل عمل يرتقي فيه العمران.
فمتى يعود قومنا إلى هذا وهم أحق به من كل أحد؟
أنت يا رب مسئول بتوفيق العقلاء للسعي وإليك وحدك المشتكى.
قلنا: إن لاون الثالث عشر قد ولي البابوية والأخطار محدقة بها من كل جانب
فقد كان في عهد سلفه بيوس التاسع ما كان من الثورات والانقلاب حتى نشر على
عهده في باريس (إعلان) في تحريض بلاد إيطاليا على إنشاء جمهورية إيطالية، لا
يكون فيها بابا ولا دين بالمرة. وأصابت البلاد سَنة فذهب الجماهير إلى أن المحل
والقحط من شؤم السلطة البابوية، وقد أشاع المرجفون على عهده بأن النمسا تعضد
مؤامرة سرية على خلع البابا، وإقامة حكومة عسكرية في البلاد البابوية كلها
فاضطربت رومية، وكثر فيها الهرج، وعجزت الحكومة عن ضبط النظام؛ إذ كانت
المدينة غاصة بجماهير المسلحين من الأهلين. ثم فتح مجلس الشورى فطلب إناطة
الأعمال الإدارية بالعوام (يطلق لفظ العوام في مقابل لفظ (الأكليروس) في
اصطلاحهم) وحرية المطابع وطرد اليسوعيين (الجزويت) وإعتاق اليهود، وكان
الشعب الثائر يؤيد طلب المجلس. ثم عم الهياج بلاد إيطاليا من شمالها إلى جنوبها،
وكان على أشده في رومية، وتوقع الناس سقوط الدولة البابوبة من الأرض، وقلّ
احترام البابا في البلاد الأجنبية حتى ما كان يجد نصيرًا.
ونقول بالاختصار: إنه لم يستقر للسلطة البابوية قرار من بعد ثورة فرنسا سنة
1848، بل كانت الفتن تتفاقم يومًا بعد يوم، وقد أظهر البابا بيوس التاسع من حب
الإصلاح وإرادة الخير للشعب ما لا مزيد عليه، ولم ينقص ذلك من قوة الحزب
الجمهوري شيئًا. ولقد بلغ من الاستهانة بالبابا أن كتب إلى إمبراطور النمسا يلتمس
إخراج عساكره من إيطاليا فكان كتابه سخرية في فينا بعد أن كان لا مرد لأمره، ولا
معقب لحكمه. وحدث في هذه السنة من الأحداث ما زعزع الكرسي البابوي من
الشعب الذي كان يقول: إن هذا الكرسي هو كرسي بطرس الرسول نائب المسيح.
ومن ذلك اتفاق الشعب والحرس المدني والعساكر المنظمة والجيش الروماني على
محاصرة الكويرنال وقتل أمين أسرار البابا، وإكراهه بعد ذلك على قبول وزارة
إصلاحية وجعْله كالأسير في قصره تاركًا الأحكام الدينية والمدنية جميعًا، حتى
اضطر إلى الفرار متنكرًا بهيئة قسيس إلى غايتا. ثم اشتعلت نيران الفتن والثورات
في جميع البلاد التابعة له كما أشرنا إليه آنفًا؛ حتى خسر سلطته في تلك البلاد،
وسنذكر نبذة من سلوك لاون الثالث عشر في مقاومة الأخطار، وصرف التيار،
وما في ذلك من العظة والاعتبار.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/348)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الخديو وجمعية المسلمين في لوندره
زار عزيز مصر في هذا الصيف عاصمة الإنكليز بصفة غير رسمية، فلقي من
حفاوة ملك الإنكليز وكبار أسرته ورجال حكومته ما كان فوق الحسبان. وقد زار
سموه في تلك العاصمة وفد من جمعية الاتحاد الإسلامي فيها رئيسه السيد علي
البلجرامي الهندي الشهير، فخطب خطبة بلسان الوفد رحب فيها بالعزيز، وذكر
مقصد الجمعية وسعيها في ترقية المسلمين والتأليف بين شعوبهم، ووصف الأمير
بتأييد العلم وافتخر بالأزهر، وذكر ما سمع من عود الحركة العلمية إليه بعد سكونها.
فأجابه الأمير بأنه قد سرَّه أن تكون هذه الجمعية جامعة لأفراد من طوائف
المسلمين المتفرقة على الاتحاد، وقال كلمة كبيرة وهي: (إن الإسلام دين اشتراكي
يأمر بالمساواة بين الغني والفقير، والكبير والصغير) ، ثم ذكر استياءه من قلة عدد
المجاورين الهنديين في الأزهر، وأنه يرجو أن يزيدوا في مستقبل الأيام، ثم ذكر
الحج والحجاج، وقال: إنه يحب أن يسهل الحج على مسلمي كل الأقطار؛ لأنه من
أركان الدين (فإذا أهمل المسلمون فريضته حلت بهم الأرزاء لإهمال دين قويم
يعتقده 300 مليون من الناس) .
وعندنا أن اجتماع أمرائنا برجال هذه الجمعيات مفيد جدًّا للمسلمين. وعسى أن
يعتبر بكلمة الأمير بعض الأحداث من رعيته الذين يكتبون ويخطبون للتفريق بين
المسلمين باسم الوطنية، ويسمون المسلم السوري في مصر دخيلاً. وأما إقبال الهنود
وغيرهم على الأزهر فهو موقوف على ترقية التعليم فيه، وذلك بيد الأمير وفقه الله
تعالى. وإلا فإننا لا نأمن أن ينفر المصريون منه بعد حين إلا فارًّا من العسكرية، أو
عاجزًا عن الكسب فيتخذه له تكية!
__________(6/352)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(لائم مليم)
تألم مما كتبناه عن قراء الصحف رجل هضم حقوق المنار سنتين أو ثلاثًا كان
يعد ويمطل، ثم صرح بأنه لا يجوز أخذ قيمة الاشتراك منه؛ لأنه كاتب وأديب ولم
نعرف عن غيره أن تعريف الأديب أو خاصته هضم حقوق خدمة العلم والدين
والآداب. تألم فكان طول ليله يحسو كؤوس المُدام، ويسدد إلينا سهام الملام،
ويحرض سمَّاره (الأدبا) ، على اتباع سنة صاحب اللواء، في معاداة الذين
يسميهم الدخلاء، بأن ينفروا عن المنار وصاحبه؛ لأنه ذكر المصريين في مقال يذكر
فيه معاملة الأمم وأصناف الناس لقراء الصحف فضَّل فيه بعض البلاد على بعض،
وبعض الأصناف على بعض، وقال: إن هذا يعد شتمًا للمصريين.
ونعيد بهذه المناسبة ما كنا كتبناه من قبل، وهو أن أكثر المشتركين في المنار
من أهل الفضل والدين، والكثيرون منهم يدفعون قيمة الاشتراك من غير مطالبة حتى
أنه لا يكاد توجد جريدة أو مجلة منتشرة مثل المنار ليس لها وكلاء إلا في بلدين أو
ثلاثة بلاد. ولم نكتب ما كتبناه تألمًا منهم، ولكن عظة وذكرى، وإنا لنحن المقصرون
إذ تمر السنة بعد السنة ولا نطالب الواحد منهم بشيء. نعم إن فيهم من يمطل
ولكن لا يكاد يوجد فيهم من يهضم إلا تسعة رهط، نحن منهم في شك وعسى أن
يصلح الله حالهم.
***
(جريدة المناظر، إبطالها)
سبق أن نوهنا بهذه الجريدة التي يصدرها في سان باولو (البرازيل) نعوم
أفندي لبكي السوري، وسبق أن افتخرنا بنهضة السوريين المهاجرين إلى أمريكا في
الآداب لأجلها؛ فإننا كنا معجبين بحرية هذا الجريدة وإنصافها وشدة غيرة منشئها
على قومه وحبه لجنسه ولوطنه، وحسن اختياره فيما يكتب وتوخيه النفع فيه. ومن
دلائل طفولية الشعوب الشرقية (حاشا اليابان) أن يضطر صاحب هذه الجريدة
النافعة إلى إبطالها بعد جهاد بضع سنين. أقول الحق ولا أستحي من رصفائي
الفضلاء: إنه إذا صح الاستدلال بفحوى الكلام ولحنه على قصد المتكلم وغرضه،
فإن صاحب المناظر في مقدمة المخلصين في قصدهم الذين يقدمون نفع قومهم حتى
على مصلحة أنفسهم. ويظهر أن أكثر قراء العربية هناك يجهلون أقدار أهل الإخلاص
وأصحاب الوجدان الشريف، ولا همّ لهم من الجرائد إلا أن يتلذذوا بمدح أنفسهم أو ذم
أعدائهم.
كتب صاحب المناظر نشرة يودع بها الصحافة ووزعها على قراء جريدته.
قال في أولها: (غدًا تنضب دمعة وتذرف دمعة، تنضب دمعة هذا القلم، وتذرف
دمعة هذا الكاتب، غدًا يودع الصاحبان بعضهما بعضًا، لا يرجوان التقاءً حيث
اجتمعا على مكتب الصحافة) وأقول: إن كل ذي شعور بقيمة أهل الوجدان الشريف
يشارك هذا الكاتب في ذرف الدموع، ولكن ما أقل الذين يشعرون!
وقال: إنه دخل باب الصحافة لثلاثة أغراض: مقاومة فساد الأمة حيث الكلمة
حرة، وترقية المهاجرين السوريين، وتمكين علاقتهم بوطنهم لئلا تبتلعهم الأمة
التي هاجروا إليها. وأنا أعتقد أنه صادق في دعواه وأحترم أغراضه، وأحترمه على
البُعد؛ لأني أعتقد أنه يريد نفع الناس، ولكن أكثر رجالنا كالأطفال يحبون من يسعى
في لذتهم، لا من يسعى في منفعتهم، ولقد كان يجل كل كلام جليل نافع للناس، وإن
لم يكونوا ممن أنشأ لهم جريدته. ومن آية هذا أنه كان ينقل عن المنار مثل مباحث
جمعية أم القرى ومقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) نعم إنه نشر
ردًّا لبعض الكتاب على الثانية في شيء من التحامل، ولكن لا أقول إنه هو كان
متحاملاً.
وقال في سبب إبطال الصحيفة: إنه كان يعلم أن من يكتب لتلك الأغراض لا
يكون موضوعًا للإقبال، ولكنه لم يكن يحسب أنه يهمل ويقاوم حتى يعجز عن النفقة
عليها؛ لأنه يقصر في مدح الذين يتجنسون بغير جنسيتهم (السورية) وفي ذكر
حركات المشتركين، وتقلبهم في البلاد. وقد لقي ما لم يكن في الحسبان.
وبالجملة: إن إبطال هذه الجريدة خسارة على السوريين لا عوض عنها،
فعسى أن يوجد من أهل الغيرة والنجدة من يسعى في إعادتها من حيث يجدّون في
مساعدتها.
***
(كتاب دلائل الإعجاز)
نشرنا نموذجًا من هذا الكتاب الجليل في البلاغة بالحروف والهوامش التي
نطبعه فيها ومنه يرى القراء أن المطبعة قد استكملت أنواع الحروف حتى الشكل،
وصارت مستعدة لطبع الكتب وغيرها. أما الاشتراك في الكتاب فهو 15 على كبره
وحسن ورقه وطبعه، وسيكون ثمنه بعد تمام الطبعة عشرين قرشًا.
***
(كيفية جمع إعانة سكة حديد الحجاز)
أخبرَنا شاهدا عدلٍ أن أحد مختاري القرى في سوريا جمع من كل رجل من
قريته ريالاً للإعانة، ولكنه لم يدفع مما جمعه إلا نحو ثلثيه، فإذا كان المتصرف
يأخذ ثلث الباقي أيضًا ويرسل إلى الولاية ثلثيه، وكان الوالي يفعل هكذا فيما يرسله
إلى الآستانة فإن الذي يبقى للآستانة نحو الخمس، حتى كأن المال غنيمة لا يصل إلى
بيت المال منه إلا خُمسه. والسبب في وقوع هذه الخيانة من مثل ذلك المختار -
الذي لا ذمة له ولا أمانة - هو عدم نشر كل ما يدفعه الناس هناك في الجرائد، وعدم
طبع وصولات مسلسلة الأعداد يحاسب بها الجامعون للإعانة. فعسى أن تتنبه
الحكومة العثمانية في جميع الولايات لتلافي ذلك، وأن تأمر بإصدار صحف تابعة
للجرائد الرسمية في كل ولاية يبين فيها كل ما يدفعه الناس، وترسل كل صحيفة إلى
الجهة التي ذكر أسماء أهلها فيها. وأن لا يجمع شيء من الإعانة التي يأمر بها
السلطان أخيرًا إلا بوصولات مختومة مسلسلة الأعداد.
هذا وقد كثر الذين يجمعون الإعانة في هذه البلاد، ومنهم من لا يوثق بأمانته
فيجب على كل أحد أن يحتاط فيما يتبرع به فلا يضعه إلا في يد أمين كإدارة المؤيد
في مصر، واللجنة الكبرى التي يرأسها أحمد باشا المنشاوي في الغربية.
__________(6/354)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عود إلى سرد الأحاديث الموضوعة
مناقب الصديق
(1) حديث إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم قال: (يا أبا بكر ألا
أبشرك؟ قال: بلى فداك أبي وأمي، قال: إن الله عز وجل يتجلى للخلائق يوم
القيامة عامة ويتجلى لك خاصة) رواه الخطيب عن أنس مرفوعًا، وقال: لا أصل له
وضعه محمد بن عبد بن عامر، وله طرق منها أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال
لأبي بكر: (أعطاك الله الرضوان الأكبر) فقال بعض القوم: يا رسول الله وما
الرضوان الأكبر؟ قال: (يتجلى الله في الآخرة لعباده المؤمنين عامة ويتجلى لأبي
بكر خاصة) رواه أبو نُعيم عن جابر مرفوعًا، وفي إسناده محمد بن خالد الختلي وهو
كذاب، ولا يَغُرنك ذِكْر الحاكم له في مستدركه فكم في المستدرك في الأحاديث
الموضوعة والواهية.
(2) حديث إن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني كنت معك في
الصف الأول فكبرت وكبرت فاستفتحت بالحمد فقرأتها فوسوس إليَّ شيء من
الطهور، فخرجت إلى باب المسجد فإذا أنا بهاتف يهتف بي وهو يقول: وراءك،
فالتفت فإذا أنا بقدس من ذهب مملوء ماء، أبيض من الثلج وأعذب من الشهد
وألين من الزبد عليه منديل أخضر مكتوب عليه: لا إله إلا الله. الصديق أبو بكر،
فأخذت المنديل فوضعته على منكبي وتوضأت للصلاة وأسبغت الوضوء ورددت
المنديل على القدس، ولحقتك وأنت في ربع الركعة الأولى فتممت صلاتي معك
يا رسول الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أبشر يا أبا بكر الذي وضأك
للصلاة جبريل، والذي مندلك ميكائيل، والذي مسك ركبتي حتى لحقت للصلاة
إسرافيل. هو موضوع ومحمد بن زياد المذكور في إسناده كذاب، وقد روى نحو هذا
لعلي بن أبي طالب، وفيه ذكر المنطل والمنديل، والكل كذب موضوع.
ونقول: يا ليت عزرائيل انتقم من واضع هذا الحديث؛ لأنه لم يجعل له حظًّا
في هذه الخدمة فأخذ روحه الخبيثة قبل أن تصل أكاذيبه إلى الناس. وإن الممارس
للسنة الفقيه في الدين ليعرف فيه الكذب وإن لم يطلع على نقلنا عن المحدثين في
وضعه وكذب مخترعه، ولكن جهلة العامة يُفتنون بمثله وينظمونه في سلك الكرامات
والخوارق.
(3) حديث إن الله لما خلق الأرواح اختار روح أبي بكر الصديق من بين
الأرواح، فجعل ترابها من الجنة، وماءها من الحيوان، وجعل له قصرًا في الجنة
من درة بيضاء ... إلخ رواه الخطيب عن عائشة مرفوعًا، وقال: لا يثبت وقد اتهم
به هارون بن أحمد العلاف المعروف بالقطان. وقد جزم الذهبي في ترجمته
من الميزان بأن هذا باطل، وفي معناه أحاديث نترك ذكرها، فلتقس عليه.
(4) حديث أن يهوديًّا قال لأبي بكر: والذي بعث موسى وكلمه تكليمًا إني
أحبك، فلم يرفع أبو بكر له رأسًا تهاونًا به فهبط جبريل وقال: (يا محمد إن العلي
الأعلى يقرئك السلام ويقول لك: قل لليهودي الذي قال لأبي بكر: إني أحبك - إن
الله قد أحاد عنه في النار خلتين: لا توضع الأنكال في عنقه ولا الأغلال في عنقه
لحبه أبا بكر ... ) ... إلخ رواه ابن عدي عن أنس مرفوعًا وهو موضوع في
إسناده وضَّاعان.
(5) حديث: (إن الله جعل أبا بكر خليفتي على دين الله ووحيه فاسمعوا
له تفلحوا وأطيعوه ترشدوا) رواه الخطيب عن ابن عباس مرفوعًا، وهو موضوع
للاحتجاج به على الشيعة، بل كل هذه الأحاديث قد وضعت لمثل هذا الغرض فقد
كانت سوق الرواية رائجة في أيام الفتن والخلاف، فوضع الكذابون من كل قوم
من الأحاديث ما شاءوا، ينصرون بها مذهبهم فما كان أشأم تلك المذاهب على
الإسلام! ! !
(6) حديث: بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع جبريل إذ مرَّ أبو بكر
فقال: (هذا أبو بكر) قال: (أتعرفه يا جبريل؟) قال: (نعم، إنه لفي السماء
أشهر منه في الأرض وإن الملائكة لتسميه حليم قريش، وإنه وزيرك في حياتك
وخليفتك بعد موتك) رواه ابن حبان عن أبي هريرة مرفوعًا، وفي إسناده إسماعيل
ابن محمد بن يوسف كذاب. وذكر له صاحب (اللآلئ المصنوعة في الأحاديث
الموضوعة) طريقًا أخرى فيها وضاع. وقال الذهبي: إسناده مظلم، وتعقبه ابن
حجر في لسان الميزان بأن رجاله معروفون بالثقة، وليس فيهم من ينظر في حاله إلا
المعلَّى بن الوليد، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. قال في الفوائد المجموعة مستدركًا
على ابن حجر: بل في إسناده إسماعيل بن محمد وهو كذاب، وقد قال الحاكم: إنه
يروي الموضوعات. فلينظر القارئ كيف يشتبه في مثل هذا الحديث الحافظ ابن
حجر، وينسى إسماعيل الذي حكم عليه بالوضع الحاكم على تساهله ووقوعه في
رواية الموضوعات بحسن ظنه.
__________(6/355)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البيوت
منكراتها وعاداتها
تهتك النساء
تبتدع نساء المسلمين في مصر كل يوم زيًّا جديدًا من أزياء الخلاعة والتهتك،
فلم يكتفين عند الخروج بإظهار بعض الرأس ومعظم الوجه وصفحتي العنق والنحر
حتى جعلن في هذه الأيام أكمامهن قصيرة واسعة فهن يمشين في الأسواق،
وسواعدهن بارزة من وراء معاصمهن المطوقة بالأَسْوِرة، فلم يبق من الزينة شيء إلا
وقد أبدينه حتى وقعن في مخالفة نص القرآن الذي لا خلاف فيه وهن مع هذا كله
معدودات من أهل الحجاب. فأين أهل الغيرة؟ أين أهل الصيانة؟ أين الذين ملؤوا
أرض مصر صراخًا وعويلاً أن قال قاسم بك أمين ينبغي أن نربي المرأة ونعلّمها ثم
نأذن لها بعد ذلك بأن تميط هذا المنديل عن أنفها لتستنشق الهواء النقي، ثم لتستر مع
ذلك رأسها ونحرها وصفحتي عنقها وسائر بدنها؟ أليس ما قاله أهون بشرطه وبغير
شرط مما عليه نساء أولئك الصائحين النائحين الذين ينكرون الكلام. ولا ينكرون
الموبقات العملية التي يشاهدونها في كل آن؟ !
الخدم في البيوت
يعلم كل مقيم في مصر أن الناس يبيحون للخدم من الرجال الخلوة بالنساء في
جميع الحالات، فالخادم يساعد سيدته في المطبخ حاسرة عن رأسها وذراعيها، كاشفة
عن صدرها وساقيها، ومنهن من تلبس في حال غسل الثياب الأخلاق الممزقة فيبدو
منها ما لم يكن يبدو. ويصعد معها إلى السطح يساعدها على نشر الثياب وهي في
مثل ما ذكرنا من ثياب البذلة، ويدخل معها في بيت الدواجن لإطعامها، وربما أغلق
الباب عليهما لئلا يطير الحمام أو يفر الأرنب. ورب البيت يعرف كل هذا ولا
يبالي به ولا يتأثم منه، وإن كان في خادمه من الشباب والفتاء ما ليس فيه! وليس
هذا المنكر مما تدعو إليه ضرورة المعيشة بل لا حاجة إليه ولو كان محتاجًا إليه
لكانت الموانع التي تمنع منه أولى بالترجيح من الحاجة التي تدعو إليه؛ لأن درء
المفاسد مقدم على جلب المصالح في نظر الشرع والعقل معًا.
وإننا لنعجب من أمر هؤلاء الرجال الذين نبذوا الشرع آدابه وأحكامه، وحرموا
ثمرة العقل من البصيرة والاحتياط كيف أفسدت عليهم عادات البلد السوأى وجدان
الغيرة، فسمحوا لهؤلاء الخدم - الذين هم أضل سبيلاً من الأنعام بخبث طينتهم وسوء
تربيتهم - أن يمازجوا نساءهم في الخلوات والجلوات، والدين لم يسمح بهذا لأطفالهم
في جميع الحالات. إذ أمر تعالى بأن يستأذنوا في بعض الأوقات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ
صَلاةِ الفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ
لَّكُمْ} (النور: 58) ؛ فإذا كان الله لا يسمح لأولادكم أن يروا النساء في الأوقات
التي هي مظنة التساهل في الستر لئلا ينقش في ذهن الولد من رؤية العورات ما
يشتغل به خياله. وتسوء في الآداب حاله، فكيف تسمحون لهؤلاء الرجال الأشرار
بما لا يسمح به الشرع للأطفال الصغار؟ !
الفقيون في البيوت
يطلق أهل هذه البلاد على حافظ ألفاظ القرآن لفظ (فَقِي) ويجمعونه على
(فُقَهَا) ، وإن كانوا في الغالب لا يكادون يفقهون حديثًا، وما ذكرناه في العنوان من
الجمع هو أولى من جهتي اللفظ والمعنى معًا. ومن العادات الضارة في هذه البلاد
- وإن صبغت بصبغة الدين - أن أكثر البيوت يعين لها فقيون يجيئونها في ساعة
من ليل أو نهار فيقرءون شيئًا من القرآن، حيث يكون النساء وينصرفون. وإنهم
ليخلون بالنساء كثيرًا والخلوة محرمة بإجماع المسلمين سواء كان الرجل والمرأة
بصيرين أو أعميين أو أحدهما أعمى فقط. وقد سمعنا من أهل النقد والبصيرة
حكايات كثيرة في مفاسد هذه الخلوات بل حدثنا غير واحد من أهل النقد بأن من
هؤلاء الفقيين من يتوسل بكلام رب العالمين إلى الصلة بين المعشوقات والعاشقين،
فكأن هؤلاء العميان يكافئون صنف المبصرين الذين يقودونهم بعمل من جنس
عملهم، فكل صنف يساعد الآخر على ما لا وصول إليه بدونه، ويقوده في
المسالك التي يحتاج فيها إلى قيادته.
وليت شعري ماذا يريد الذي يعين فقيًا أعمى يقرأ لامرأته في بيته ما لا تفهمه
ولا تعقله؟ أيريد تقوية دينها بقراءة ذلك المأجور؟ كيف وهو لم يلقنها عقيدة
المسلمين، ولم يرضها بشيء من أخلاق الدين، ولم يعلمها الصلاة بالقول، ولم
يمرنها على أدائها بالعمل، ولم يذكرها يومًا من الأيام بالدار الآخرة، ولم يحدثها
في ليلة من الليالي بالحساب والعقاب، فأي فائدة لها في سماع نغمات ذلك الرجل
المأجور الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً؟ نعم، إن هؤلاء الفقيين لا كسب
لهم، وإن أكثرهم مستحق للصدقة فمن تصدق عليهم فلا يجعل صدقته أجرًا لهم عن
التغني بكتاب الله في بيته والوقوف على عورات أهله، وإن أمن فتنتهم فكيف به إذا
لم يأمنها.
فإن قيل: إن المسلمين يحسنون الظن بحَمَلَة القرآن، وأنت تحملهم على إساءة
الظن بهم - أقول: روى أحمد وأبو داود والترمذي (وصححه) والنسائي وابن
حبان من حديث أم سلمة قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة
فأقبل ابن أم مكتوم حتى دخل عليه، وذلك بعد أن أمر بالحجاب فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (احتجبا منه) فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا
يعرفنا؟ ! فقال: (أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟ !) وقد علل المحققون النهي
بأن الأعمى قليل العناية بالستر. فإذا كان هذا قول النبي لأزواجه اللواتي أذهب الله
عنهن الرجس وطهرهن تطهيرًا في شأن ابن أم مكتوم الذي عاتب الله النبي في
الإعراض عنه لدعوة سادات قريش وقال في شأنه: {وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى *
وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (عبس: 8-10) فماذا تقولون أنتم في عميان
مصر، دار الفسق في هذا الزمن الذي فشا فيه الفجور وفار التنور؟ فاتقوا الله أيها
المسلمون. وطهروا بيوتكم واستعينوا بذلك على تربية أولادكم، وإلا هلكتم وأهلكتم
بلادكم.
وأقبح من خلوة الفقيين بالنساء في البيوت، خلوتهم بهن في (أحواش) القبور،
فإن هذه الخلوة أتم من تلك؛ لأن البيوت لا تخلو في الغالب من الأولاد والخدم،
فالخلوة الصحيحة فيها متعسّرة على أن في الجلوة من المفاسد ما فيها.
وإن الشافع لجميع ما يكون في المقابر من البدع والمنكرات استحباب زيارة
القبور أو الإذن فيها لأجل الاعتبار بالموت. فيستباح لأجل هذا الاستحباب من
المحرمات ما يستباح، ويعد كله قربة إلى الله تعالى وإن كان كله فسادًا لا شيء من
العبرة والعظة فيه. هذا وإن الأحاديث الصحيحة تدل على أن الإذن بزيارة القبور
بعد النهي عنه خاص بالرجال، ولقد لعن صلى الله عليه وسلم زائرات القبور. هذا
ما ننصح به لإخواننا المسلمين، وإن سمّاه ذلك (الكاتب الأديب) شتمًا للمصريين،
فإن النهي عن المنكر فريضة؛ {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات:
55) .
طلب الزواج بلسان الصحف
رأينا في بعض المجلات والجرائد عادة جديدة قلد المصريون فيها الأوروبيين
وهي طلب الزواج بلسان الصحف، يكتب الفتى شيئًا في ترجمة نفسه ومورد معاشه
ثم يذكر الصفات والنعوت والحالات التي يحبها فيمن يريد التزوج بها، ثم رأينا
أكثرهم بطلب أن ترسل إليه صورتها الشمسية (الفوتُغرافية) وطلب بعضهم أن يأذن
له أبواها أو غيرهما من أوليائها برؤيتها في حضرتهم، وهذا طلب شرعي، ولا
بأس به إذا كان أهل الفتاة راضين مِن أخلاق مَن يخطب إليهم وواثقين بأنه يمنعه
أدبه أن يذكر ذلك إذا لم يتم الاتفاق على الزواج. وأما طلاب الصور فلا شك أنهم
من النابتة المتفرنجة الذين لا يخطر في بالهم أدب الدين ولا أحكامه، ولو تفكروا في
ذلك لعلموا أن تصوير الفتيات يتوقف على بروزهن للمصوّر سافرات حاسرات كما
هي العادة. ولا يتوهم أن أحدًا يطلب صورة امرأة ملفوفة في ملاءتها متبرقعة لا
يظهر منها إلا الحدق! سبحان مقلب القلوب والأبصار قد صار شبان المسلمين
يشترطون فيمن يريدون التزوج بها أن تكون ممن تبرز أمام المصورين، وكانوا
يغارون على النساء من الأهل والأقربين!
__________(6/357)
16 جمادى الأولى - 1321هـ
10 أغسطس - 1903م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الكرامات والخوارق
المقالة السادسة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التعليل والتأويل
(النوع الثامن: طاعة الحيوانات والجمادات)
استشهد السبكي للأول بحكاية الأسد مع أبي سعيد بن أبي الخير ومع إبراهيم
الخواص من قبله، وللثاني بحكاية الشيخ عز الدين بن عبد السلام مع الفرنج. فأما
حكاية الأسد فلا أعرفها، وأما حكاية الريح فهي كما في ترجمة الشيخ عز الدين
(رحمه الله تعالى) من طبقات السبكي أن الفرنج وصلوا إلى المنصورة في المراكب
واستظهروا على المسلمين فنادى الشيخ بأعلى صوته: يا ريح خذيهم، (عدة مرار)
فعادت الريح على مراكب الفرنج، وكسرتها، وكان الفتح، وغرق أكثر
الفرنج وصرخ من بين المسلمين صارخ: الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد صلى
الله تعالى عليه وسلم رجلاً سخَّر الله تعالى له الريح.
أخذ السبكي من هاتين الحكايتين أن الحيوانات والجمادات تطيع الأولياء،
وتمتثل أمرهم، وإنما الطاعة عمل بإرادة واختيار يقصد به امتثال أمر المطاع، فهو
يبني هذا على قول بعض الصوفية: إن للجمادات حياة وإدراكًا، ولولا ذلك لسمي ما
كان من الريح تسخيرًا من الله تعالى كما قال ذلك الصارخ. وتسخير الله الريح لا
يستلزم أن يكون بقدرة لا حكمة معها، ولا نظام، بل ذلك مُحال على الحكيم العليم،
وإنما يكون ذلك بتوفيق الله تعالى بين أسباب هبوب الريح وأسباب خروج الفرنج
كأن يكونوا خرجوا في وقت سبقته أو قارنته حرارة شديدة في هذا الإقليم، فاشتدت
حرارة الهواء فصعد إلى الحار منه بتمدده وخفته إلى الجو، فتحرك الهواء لأجل
الموازنة فكان عاصفة أغرقت الفلك بمن فيها من الفرنج. ووافق ذلك قول الشيخ تلك
الكلمة فعدَّ الحادث كرامة له؛ لأن الله ألهمه ذلك القول في ذلك الوقت.
يعلم كثيرون من القراء أن البارجة (فيكتوريا) أعظم بوارج الأسطول
الإنكليزي في البحر المتوسط قد غرقت عند دخول الأسطول ميناء طرابُلس الشام
منذ بضع سنين أو أكثر، وقد اتفق عند ذلك أن رجلاً من الظرفاء في طرابلس كان
مع جماعة في منتزه التل من تلك المدينة يتفرج على الأسطول فقال: إذا تصرفت
لكم بهذا الأسطول فأغرقت بعض بوارجه أتشهدون لي بالولاية والكرامة؟ قالوا:
كيف لا وأنت أهل للتصريف؟ ! فقال ما معناه أنه تصرف، ولم يمض ِإلا قليل من
الوقت حتى رأوا كأن الأسطول قد نقص بارجة فشكّوا في ذلك حتى علموه اليقين.
ولو كان ذلك الرجل وسخ الثياب كثير الهذر والدعوى بحيث يعتقد العامة فيه الولاية
والبركة لسارت الركبان بأن غرق البارجة كان كرامة له!
وأما طاعة الحيوانات فالحكايات فيها كثيرة عند جميع الأمم لما يقع من
الحوادث التي يعدها المعتقدون بولاية شخص كرامة له، ولو وقعت بعينها لغيره ممن
لا يرونه أهلاً للكرامة لما عدّوها إلا مصادفة لا تتعدى حدود المعتاد، فإن الحيوانات
لا تعرف لحركاتها في إقبالها وإدبارها وهجومها على الشيء وانصرافها عنه أسباب
مطردة. وقد وقع لكثير من جُوّاب الآفاق أن يصادفوا السباع في بعض الفيافي
مقبلة عليهم، ثم لا تلبث أن تنصرف عنهم بغير سبب يعرف. وعدم العلم بالسبب لا
ينفي وجود السبب فربما تذكّر السبع في الساعة التي انصرف فيها شيئًا حمله على
الانصراف عمن كان يقصده، كأن شم رائحة أو سمع صوتًا من الجهة التي فيها
أشباله فخاف عليها عدوان عادٍ. وقد اتفق لفصيلة من العساكر المصرية في
السودان أن سارت ليلة مقمرة، فاعترضهم الأسد في الطريق، فذعروا وحاروا
لا يدرون ما يصنعون، ولكن الأسد لم يلبث أن زأر وعدا كالسهم، وسمعوا في أثناء
ذلك عواء كثير فعلم بعضهم بما سبق له من الاختبار أَنَّ عرجلة من الضباع هجمت
على لبؤة ذلك الأسد من شدة الخوف، فشعر بذلك الأسد فذهب لنصرتها.
قد علم مما ذكرناه في المسائل أن الحكايات التي يتناقلها الناس لا ثقة بها فمنها
الإفك المبين، ومنها جعل ما هو معتاد ليس خارقًا للعادة، ومنها ما يضاف إلى غير
سببه، ويعلل بغير علته. ولو شئنا لذكرنا من هذا النوع حكايات كهذه الحكايات
أسندها غير المسلمين إلى من يعتقدون لهم الكرامة وعمل العجائب. وإذا جاءنا
السبكي أو غيره بحكاية منقولة بالتواتر لا تحتمل التأويل، فإننا نجزم بأنها خارقة،
وما كان ينبغي لمثله في العلم أن يقول: إن هبوب الريح وإغراقها للمراكب من
خوارق العادات، وما زال الناس في كل زمان يشاهدون مثل ذلك بأعينهم في جميع
البحار والأنهار التي تجري فيها السفن. وكلمة الشيخ عز الدين رحمه الله تعالى لا
تجعل المعتاد خارقًا للعادة. فإن قال: إن الكرامة لا يشترط أن تكون خارقة للعادة
ومخالفة للسنن الكونية، وإنَّ توفيق الله تعالى بين حوادث الطبيعة ومصلحة المؤمنين
عند دعاء بعض الصالحين أو بشارته يصح أن يسمى كرامة لذلك العبد الصالح - فلا
منازع له في قوله، ولا معارض له في حكمه؛ لأن التسليم بهذا لا يفسد عقول
العامة فيحول دون الاعتقاد بحكمة الله واطراد سننه، ولا يغرهم بالأشخاص فيطلبوا
الشيء بغير سببه ومن غير معدنه، وما نريد بالبحث في الخوارق إلا المدافعة عن هذا
الاعتقاد، والحرص على إزالة هذا الغرور.
* * *
(النوعان التاسع والعاشر: طي الزمان ونشره)
قال السبكي: وفي تقرير هذين القسمين عسر على الأفهام، وتسليمه لأهله
أَوْلَى بِديِن الإيمان، والحكايات فيهما كثيرة:
أقول: يريدون بطي الزمان أن تمضي الأيام الكثيرة على المرء، ولا
يشعر بمرورها، فيمر الشهر عليه كأنه يوم أو بعض يوم. ويعنون بنشر الزمان: أن
تكون الساعة الواحدة كالسنين الطويلة. ومن الحكايات التي استحيا السبكي من
سردها أن بعضهم أحدث وهو في المسجد الجامع يوم الجمعة والإمام يخطب، فوضع
بعضهم عليه عباءته وقال: اذهب فتوضأ فذهب إلى مكة فتوضأ ثم عاد! والإمام يخطب ومنهم من رأى نفسه في مثل هذه الحالة في بلاد فمكث فيها عدة سنين وتزوج ورُزق بأولاد، ثم عاد فرأى الناس في مجلسهم الذي فارقهم فيه. وهم
يزعمون أن مثل هذا واقع حقيقة لا تخيّلاً، ولذلك قال: إن في تقريره عسرًا , وأي
الخوارق قرر فكانت قريبة من الفهم، سهلة القبول في نظر العقل؟ ويا ليته قرر
ما عنده، ولم يذكر (دين الإيمان) فيما لم يرد في كتاب ولا سنة، وما أرى
عنده إلا التسليم والتقليد.
ويا ليت شعري ما هي الفائدة للأمة - التي يشترطها السبكي لإظهار الكرامة
- في هذين النوعين. على أن هذا شيء لا يظهر لأنه لا يقع وإنما ادعي ادعاءً بلا
بينة ولا برهان، فيكف جاز لهم ادعاؤه وأمر الكرامة مبني - كما قال - على
الكتمان؟
قالوا وأكثروا فإذا كان العقل والدين يقضيان بأن لا يصدق المرء بكل ما يسمع
وأن عليه أن يتثبَّت في الأخبار التي تسند إلى الحس، ويستشهد فيها الناس فكيف
يسلم العاقل بما هو غريب عن العقل والعادة، ولا حجة على قول مدعيه إلا نفس
دعواه فقوله هو الدليل وهو المدلول. رأى الدجالون أن الناس يسلمون لمدعي
الولاية بالتظاهر بالصلاح كل ما يقول، فطفقوا يدعون كل ما يخطر ببالهم، وقد كان
العلماء يفندون أقوالهم فصاروا في مقدمة الخاضعين لهم المسلِّمين بكل ما يقولون. فإن
كان في أهل الصدق من قال بطي الزمان ونشر الزمان، فلا نظنه يعني به أن ذلك قد
وقع حقيقة في عالم الحس، وإنما يعنون - والله أعلم - ما يكون لهم من الأحوال التي
يغيبون فيها عن الحس ويطيرون في جو الخيال، ويجولون في عالم المثال،
فيكونون أيقاظًا وكأنهم في منام، فأما طي الزمان فغيبة تامة، وأما نشره فرؤى
وأحلام، وقد يسمى القوم التصور تطورًا، والأحوال النفسية عوالم غيبية، وإذا
صح أن الأرواح تتجرد قبل الموت كما يقولون، وتكون في عالم وسط بين عالم
الملك وعالم الملكوت، فمن الحماقة أن يحدث الناس كافة بشيء يفوق إدراكهم،
ويعلو على أفهامهم، وليس فيه من الفائدة إلا أنه فتنة لهم، ولو لم يدخلوه في الدين
لكانت الفتنة أهون، بل لكان فيه فائدة للخواص؛ لأنهم يجتهدون في كشف حقيقة هذا
الأمر، فإن كانت هناك عوالم حقيقية، طريقها الرياضة الروحانية، يسلكون إليها
طريقها، ويدخلون عليها من بابها، ولكنهم الآن يقولون: إنَّ هذا من خوارق
العادات، وإنَّه لا يكون إلا بالخصائص والعنايات، وهذا السبكي أحد علماء الأصول
يقول فوق ذلك: إنَّه يعلو الأفهام، وإنَّ التسليم به أولى في دين الإيمان وشريعة
الإسلام، والعامة من ورائه تستخذي لمدعي هذه الكرامات، وتنظم تعظيمهم في
سلك العبادات، وتطلب منهم ما لا يُطلب إلا من الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/369)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
النرد والشطرنج ونحوهما
(س1) النرد - الشيخ أحمد محمد الألفي بطوخ القراموص: ما هو النرد
وتاريخه ومخترعه وما سبب اختراعه، وما حكم الشرع فيه؟ وما حكمة ذلك؟ وإذا
الشارع حرمه فهل قال أحد من الأئمة الأربعة أو غيرهم بحله إذا خلا عن الرهن؟
وكذا نرجو الإجابة على هذا النحو على الشطرنج والضُّمنة والكُتشينة، وهي أوراق
مزوقة بالصور، وما هي القاعدة الفاصلة بين الحل والحرمة وما حكمتها؟
(ج)
(النرد) : هو ما يسمونه اليوم (الطاولة) ، وهذا يغني عن وصفه
ووصف اللعب به، على أننا رأيناه ولكن لا نعرف كيفية اللعب به، وهو من
وضع الفُرس ويقول صاحب القاموس المحيط وغيره: إن واضعه أردشير بن بابك
أحد ملوكهم قال: ولهذا يقال له النردشير، وأردشير هذا هو مؤسس الدولة الساسانية
في الفرس التي هي الطبقة الرابعة من ملوكهم، وذلك في سنة 226م، وقبل موته
توج ابنه سابور وولاه واختار هو العزلة ومات من سنته وهي 240م، ويظن أنه
اخترع النرد في تلك العزلة للتلهي به، وإن كان مشغولاً بالعبادة في بيوت النيران فإنه
هو الذي أرجع في تلك المدة مذهب زرادشت المجوسي إلى الفرس. وفي شرح
القاموس أن سبب تسمية أردشير هو أن (شير) اسم الأسد، وقد نُقل أن الأسد شمه
وهو طفل ولم يأكله. وقال الماوردي: قيل إنه وضعه على البروج الاثني عشر
والكواكب السبعة؛ لأن بيوته اثنا عشر كالبروج ونقطه من جانبي القصر سبع
كالكواكب السبعة فعدل به إلى تدبير الكواكب والبروج، وقال البيضاوي في شرح
المصابيح: يقال أول من وضعه سابور بن أردشير ثاني ملوك الساسان ولأجله
يقال له النردشير، وشبّه رقعته بالأرض، وقسمها أربعة أقسام تشبيهًا بالفصول الأربعة.
أما حكم الشارع في النرد بخصوصه فالحظر؛ فقد روى أحمد ومسلم وأبو
داود وابن ماجه من حديث أبي موسى مرفوعًا: (من لعب بالنرد فقد عصى الله
ورسوله) ومن حديث بريدة (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير
ودمه) ، وأما الحكمة في ذلك فهي أنه كالأزلام يعول فيه على ترك الأسباب
والاعتماد على الحظ والبخت فهو عبث يخشى ضره ولا يرجى منه نفع. قال
النووي في شرح مسلم عند الكلام على الحديث: وهذا الحديث حجة للشافعي
والجمهور في تحريم اللعب بالنرد. وقال أبو إسحاق المروزي: يكره ولا يحرم.
وقيل: وسبب تحريمه أن وضعه على هيئة الفلك بصورة شمس وقمر وتأثيرات
مختلفة تحدث عند اقترانات أوضاعه ليدل بذلك على أن أقضية الأمور كلها مقدرة
بقضاء الله، ليس للكسب فيها مدخل، ولهذا ينتظر اللاعب ما يُقضى له به.
وقد اختلف فقهاء الشافعية في درجة حظره، فذهب الأكثرون إلى أنه من الكبائر
ترد الشهادة بالمرة الواحدة منه، وقيل: هو من الصغائر، وقال بعضهم
بكراهته لقول الشافعي في المختصر: وأكره اللعب بالنرد للخبر، وردوه بأنه كثيرًا
ما يقول مثل هذا في المحرمات واختلف النقل عن (الأم) . ونقل الموفّق الحنبلي في
مُغنيه الإجماع على تحريم اللعب، وكأن الذين قالوا بالكراهة لم يعتدوا بهذا النقل،
وعندي أن تحقق الإجماع في غير الأمور العملية المتواترة كهيئة الصلاة وعددها
عزيز. ولكن أقل ما في نقل الموفق أنه لم يقل أحد من الأئمة المشهورين بحِلّه.
(الشطرنج) وأما الشطرنج فهو معروف. والمشهور في كتب التاريخ
والأدب أن واضعه أحد حكماء الهند القدماء، ويزعم بعض الإفرنج أن اليونانيين هم
الذين وضعوه في أثناء حرب ترواده الشهيرة. وأما سبب وضعه فقد قالوا فيه: إنَّ
الحكيم صيصه بن داهر الهندي رأى أن ملك زمانه فتى مستعد للخير والعدل في
الرعية، ولكن بطانته قد حببوا إليه اللهو واللعب والترف والمخيلة، وصرفوه
في حظوظهم وأهوائهم، ورأى أن الملوك يثقل عليهم سماع النصح الصريح
فأحسن الحيلة في إيصال النصيحة إلى الملك في صورة اللعب باختراع الشطرنج
الذي مبناه على أن بقاء الملك ببقاء الرعية، وأنه في نفسه ليس بشيء، وهو
بهم كل شيء. ولما اخترعه وعلم به الملك استقدمه ليعلّمه اللعب به فكان يلاعبه
ويشرح له في ضروب اللعب ما يمثل له حالته، وما يتوقع من أخطارها، ففهم
النصيحة، وعمل بها فحسنت الحال.
ويقال: إنه أراد أن يكافئه فقال له تمنَّ عليَّ واقترح، فاقترح أن يوضع في بيت من بيوت الشطرنج حبة قمح واحدة، وتضاعف في البيت الذي بعده،
ثم تستمر المضاعفة بأن يضاعف في كل بيت ما قبله إلى آخر البيوت وعددها
64 ويعطى مجموع ذلك، فاحتقر الملك هذا المطلب ثم علم أن خزائنه لا تفي به.
وقد عنى بعضهم بضبط العدد الحاصل من هذه المضاعفة، قال ابن السمان الدمشقي:
إنَّ جملته ثمانية عشر ألف ألف ألف ألف ألف ألف - ست مرات - وأربع
مائة وسبعة وأربعون ألف ألف ألف ألف ألف - خمس مرات - وسبع مائة وأربعون
ألف ألف ألف ألف - أربع مرات - وثلاثة وسبعون ألف ألف ألف - ثلاث مرات -
وسبع مائة وتسعون ألف ألف - مرتين - وخمس مائة وواحد وخمسون ألف وست
مائة وخمس عشرة.
وقدر بعضهم أن هذا العدد يملأ 16384 مدينة في كل مدينة 1024 بيتًا في
كل بيت 17476 مكيالاً من القمح، كل 32768 حبة.
أما حكمه فقد اختلف فيه الفقهاء والأكثرون على أنه غير محرم , أباحه قوم
بشرط أن لا يدخل في القمار، وأن لا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة وبديهي أن
الإكثار من اللعب به وبغيره يُسقط المروءة، ولا يرضاه العاقل لنفسه، فهو مكروه
كراهة شديدة. وقد رووا في تحريمه أحاديث لا يصح منها شيء بل هي إلى
الوضع أقرب منها إلى الضعف، ومنها حديث: ملعون من لعب بالشطرنج، رواه
الديلمي عن أنس، ورواه غيره بزيادة: والناظر إليها كآكل لحم الخنزير، وروى من
حديث واثلة: أن الله تعالى ينظر في كل يوم ثلاث مائة وستين نظرة لا ينظر
فيها إلى صاحب الشاه: يعني الشطرنج. ورواه الخرائطي بلفظ آخر، وروى
البيهقي وابن عساكر عن عمار بن أبي عمار أن عليًّا عليه السلام مر بقوم يلعبون
بالشطرنج فوثب عليهم فقال: (أما والله لغير هذا خُلقتم ولولا أن تكون سنة
لضربت بها وجوهكم) ، وروى الثاني عنه أنه قال: لا تسلم على أهل النردشير
والشطرنج , وروايته ضعيفة. وقد روى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد - كلاهما
من شيوخ البخاري - وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي وابن المنذر وابن أبي حاتم
والبيهقي عن علي كرم الله وجهه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: (ما هذه
التماثيل التي أنتم لها عاكفون لأن يمس أحدكم جمرًا حتى يطفئه خير له من أن
يمسها) وفي (الزواجر) أن ابن عمر (رضي الله عنهما) سئل عن الشطرنج
فقال: (هي شر من الميسر) وقال الإمام مالك: هي كالنرد. وروي عن ابن عباس
(رضي الله عنهما) أنه ولي مالاً ليتيم فوجدها في تركة والد اليتيم فأحرقها، ولو
كان اللعب بها حلالاً لما جاز إحراقها. وقال النووي في فتاويه: الشطرنج حرام
عند أكثر العلماء وكذا عندنا إن فوت به صلاة عن وقتها أو لعب به على عوض
فإن انتفى ذلك كره عند الشافعي وحرم عند غيره، قال ابن حجر في الزواجر: فإن
قلت: ما الفرق عندنا بين النرد والشطرنج؟ قلت: فرق أئمتنا بأن التعويل في النرد
على ما يخرجه الكعبان فهو كالأزلام، وفي الشطرنج على الفكر والتأمل، وأنه ينفع
في تدبير الحرب. وقد أحببت أن أختم الكلام في النرد والشطرنج بما جاء في كتاب
(الصادح والباغم) فيهما؛ لما فيه من الفكاهة والحكمة. قال - في سياق
حكاية -:
ثم بدا لي فرأيت رجلاً ... شيخًا يناجي صاحبًا مكتهلا
قد أكثرا الخصام والجدالا ... وأعلنا الشجار والمقالا
وافتخرا وكثرة المفاخره ... تدعو إلى العناد والمشاجره
فكان قول الشيخ قومي الهند ... الحكماء العلماء اللّد
لهم علوم وحلوم وفطن ... وحكمة بالغة إذ تمتحن
لو لم يكن من فضلهم إذ يختبر ... فضل الرجال منصف ويعتبر
إلا الذي أبدوه في الشطرنج ... للناس من علم سديد النهج
جد عظيم لقبوه هزلا ... يصير الرأي الأفين جزلا
فيه إشارات إلى مواعظ ... نافعة لكل واعٍ حافظ
قد رسموها للهدى مثالا ... إن الحكيم يضرب الأمثالا
يعنون أن العيش في التدبير ... وليس بالقسمة والتقدير
والمرء للأفعال مستطيع ... محكم يحفظ أو يضيع
وذلك العدل بلا خلاف ... لو وفق الرجال للإنصاف
قال له الكهل وقومي الفرس ... الحكماء ما بذاك لبس
لهم سياساتٌ وتدبيرٌ حسنْ ... كالشرع عدلاً في الفروض والسننْ
وملكهم معتضد بالحكمه ... كأنهم قد أُيدوا بالعصمه
لا نعبد الأصنام والأوثانا ... ولا نرى الظلم ولا العدوانا
والعيش بالرزق وبالتقدير ... وليس بالرأي ولا التدبير
وقد وضعنا النرد للمثال ... لو فطنت بصائر الرجال
وما قصدنا بالفصوص اللعبا ... حاشا لنا لكن قصدنا الأدبا
وإنما سمي لعبًا حيله ... تخفى به ما فيه من فضيله
وإنما يعشقه الرجال ... لأنه لعب كما يقال
ولو دروا أن المراد الأدبُ ... بوضعه وصنعه ما لعبوا
فالحق قد تَعْلَمَهُ ثقيلُ ... يأْباه إلا نفرٌ قليلُ
وإنما أخفيت المصالح ... وموّه القول الشفيق الناصح
ودلست بظاهر اللذات ... كم راحة تكمن في أذاة
كمثلما ركبت الألحان ... ووضعت للحكمة العيدان
يظنها الجاهل لهوًا ولعب ... ولو درى بوضعها ماذا طلب
من راحة الروح وبسط النفس ... وهزها لطبعها بالأُنس
لم يستمع قط الغناء ونفر ... عنه لأن الحق ما فيه وطر
قال له الهندي هذه حجتي ... سلكت فيما جئته محجتي
شطرنجنا لمثل هذا وُضعا ... أول فن في العلوم اختُرعا
وفضله بادٍ بغير مَيْن ... ما أوضح الصبح لذي عينين
وإن برهاني فيه ظاهر ... والحق لا يدفعه المكابر
أما الضمنة فهي لعبة حديثة فيما أظن، وأما الكتشينة فهي نوع من اللعب
بالورق الذي سماه الفقهاء (الكتحفة) ، وكلاهما يعلم من القاعدة التي نذكرها لتكون
فصل الخطاب وهي:
قاعدة في حكم الملاهي
إن العلة في تحريم كل حرام هي المضرة في الدين أو النفس أو العقل أو
العِرْض أو المال، فما لا ضرر فيه لا يحرم، وما ورد في النرد فسببه الأول أنه
شبيه بالأزلام التي كانوا يلقونها في الجاهلية لمعرفة الخير والشر؛ فإن المعوَّل في
النرد على البخت الذي يخرجه الكعبان (يأخذ كل لاعب كعبين يسمونها الآن
الزهر) ، كما أن المعول في الأزلام على البخت الذي تخرجه القداح، وقد حرم
الاستسقام بالأزلام لما فيها من التغرير بالعقل، وبناء الأمور على الوهم، وإهمال
الفكر والنظر، ونهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن النرد لما فيه من معنى
الأزلام ومن التذكير بها، وأحب لكل مسلم أن يجتبنه وإن انتفت العلة عنده بأن كان
لا يعتقد بالبخت، ولا يبني حكمًا إلا على سبب صحيح، احترامًا للنهي الصريح.
وأما الشطرنج فقد قالوا: إنه لم يكن معروفًا على عهد النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، وذلك من دلائل وضع ما ورد فيه مرفوعًا، وأما الآثار فمنها القوي، ومنها
الضعيف، فمَن لم يحتج بها فليحكم قاعدة دفع الضرر في كل لعب، وقد قال بعض
أئمة الشافعية: إن اللعب الذي فيه حساب وفكر يباح، وما لا حساب فيه ولا فكر فهو
مكروه، أي: إن لم يضر، وإلا فهو حرام، أقول: ومن اللعب ما يفيد رياضة البدن
وتحريك الدم فيه، وينبغي أن يكون محمودًا محبوبًا، لا مذمومًا ولا مكروهًا، وأي
حرج - ليت شعري - على مَن أنهك بدنه أو عقله التعب من شغله، فحاول ترويح
نفسه، أو ترويض جسمه ببعض الألعاب التي تنفعه ولا تضر غيره، ولا تخل
بمروءته.
أقول: إن ترك مثل هذه الرياضات يضر أحيانًا، فإذا ظن ضرر تركها كان
الترك مكروهًا، وإذا تحقق الضرر كان الترك حرامًا، وإذا لم يكن في الفعل ولا
في الترك ضرر فالفعل مباح، ما لم يخل بالمروءة، كانكباب أهل الهيئات ورجال
العلم والأحكام على اللعب في بيوت اللهو (القهاوي) ، فإن ذلك مكروه شرعًا
وعقلاً بلا نزاع، والله أعلم وأحكم، وإليه المرجع والمصير.
__________(6/373)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
علم الهيئة والقرآن
(س2) ومنه: كيف ينطبق علم الهيئة الجديد من أن هناك عوالم شمسية
لا يحصي عددَها سوى خالقها غير عالمنا الشمسي، وأنها ممتلئة بالمخلوقات على
قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} (الجاثية: 13) وأن نبينا صلى الله عليه وسلم مرسل لكافة الخلق، وأنه سيد
الوجود على الإطلاق؟
(ج) السموات هي الأجرام السامية فوقنا، وهي كثيرة جدًّا فمنها سبعة كواكب
تابعة لشمسنا وهي نبتون وأورانوس وزحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد
وهذه الكواكب سيارة، ولها أقمار تتبعها كقمر الأرض، ومنها شموس لها عوالم تابعة
لها لا نعرف حقيقة أمرها، ولكننا نعرف أن جميع هذه السموات التي فوقنا مسخرة
بقدرة الله تعالى لنا ننتفع بنورها الذي هو من أسباب الحياة في الأرض، ونهتدي بها
في ظلمات البر والبحر كما قال في آية أخرى مبينة للإجمال في الآية الواردة
في السؤال {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالْبَحْرِ} (الأنعام: 97) ويصح أن يكون من وجوه التسخير وضروب الانتفاع ارتباط
بعضها ببعض بالسنة الإلهية التي يعبرون عنها بالجاذبية العامة؛ إذ لولا بقاء هذه
الجاذبية لاصطدم بعض هذه الأجرام ببعض، وخرب العالم كله كما أنه لولا النور
المنبعث منها لما عاش حيوان ولا نبات في الأرض. فهي مسخرة لنا بهذه
الاعتبارات.
وأما بعثة نبينا لجميع المخلوقات في جميع العوالم فلا دليل عليها في عقل ولا
نقل، أما العقل فلا معنى عنده لكونه مرسلاً لقوم يسكنون في كوكب آخر، وهو في
كوكب الأرض وهو الوجه في السؤال، وأما النقل فقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ
كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28) أما ذكر العالمين في قوله تعالى: {وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) ؛ فيراد به من أرسل إليهم للجمع بين
الآيتين ولما عهد في تفسير مثل هذا التعبير، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ
وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} (آل عمران: 33) وأما كونه سيد
الوجود فهذا اللقب لم يرد في كتاب ولا سنة، وإنما ورد في كلام بعض المتأخرين،
ولكن ورد في الحديث الصحيح: (أنا سيد ولد آدم) قال الشيخ محيي الدين بن
عربي: إنَّه لولا هذا الحديث لما فضلناه على غيره من الأنبياء. فإن هذا التفاضل لا
يُعرف إلا بالنص الصريح عن المعصوم؛ لأنه لا ذوق لنا في مقامات الأنبياء، وهو
يرد ما قاله بعض المتكلمين من تفضيل خمسة على الجميع، وجعْل الفضيلة بين
الخمسة على ترتيب الذكر في هذا البيت:
محمد إبراهيم موسى كليمه ... فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلمِ
ويعد هذا مجازفة وتحكمًا. وقد سبق لنا الاستدلال في (المنار) على تفضيله
عليه السلام بأدلة معقولة، والحق الذي لا مرية فيه أن سيد الوجود على الإطلاق هو
الله تعالى وحده، ومن غرور الإنسان أن يفضل جنسه على جميع خلق الله على جهله
بهم، والله تعالى يقول في بني آدم:] وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاًَ [
الإسراء: 70) وأن هذه الأرض التي يسكنها الإنسان إذا نُسبت إلى ملك الله
الواسع كانت كذرة من جبل أو نقطة من بحر؛ بل كانت أقل من ذلك {وَمَا يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} (المدثر: 31) .
والله أعلم وأحكم. والسكوت عما لا يعلم المرء أسلم.
***
السعدية والرفاعية
(س3) الشيخ قاسم محمد غدير بأسيوط: ما قولكم دام فضلكم فيما تفعله
طائفتا السعدية والرفاعية من ضرب بعضهم بعضًا بالسيوف، والاتكاء عليها من غير
أن يصيبهم ضرر، هل هذا كرامة لشيخهم أم لا، وإن كان الثاني فما وجه عدم
الضرر؟
(ج) إن هذه إلا ضُرُوب من اللعب يتمرنون عليها، ويوجد في أوربا من
الولدان والبنات الحسان من يفوقهم في ذلك، والذكي الفطن لا يخفى عليه من أمرهم
شيء إذا هو تأمل. رأيت بعيني رجلين رفاعيين قابضين على سيف من طرفيه،
فجاء ثالث فوضع بطنه على السيف مكشوفًا يوهم الناس أن ثقله كله على السيف،
وهو في الواقع معتمد بيديه على الرجلين بحيث يتمكن من إلقاء الثقل على السيف بقدر
الحاجة، ولو كان هذا اللعب من الكرامات لكان كرامة لفاعليه لا لشيوخهم و (تلك
العصا من هذه العُصَيَّة) .
***
دخول الفرن
(س4) ومنه: قرأت في (المؤيد) المؤرخ في 26 ربيع الأول لمكاتبه
الإسكندري أنه علم أن شخصًا من ذرية سيدي عبد السلام الأسمر بالغرب جاع
بمريوط، واستُطعم فلم يُطعَم، فدخل فرنًا هناك فيه لحم يشوَى فأكله فما هذا؟
(ج) سترون الجواب في مقالات الكرامات والخوارق، واعلموا أن رواة
الجرائد ليس فيهم شروط العدالة التي يعتبرها المحدثون في الرواة الذين تفيد
روايتهم الظن، فكيف نعتمد عليها فيما يُطلب في اليقين كالذي نحن فيه؟ !
***
قراءة الفاتحة
(س5) ومنه: ما حكم قراءة الفاتحة في الاتفاق على أمر، أهي بمنزلة
اليمين أم لا، وما جزاء مَن لم يعمل بما قُرئت الفاتحة لأجله؟
(ج) جرت عادة الناس في هذه البلاد، وفي بلاد غيرها بأن يقرأ المتعاقدان
على شيء الفاتحة بعد إبرام الاتفاق، يجعلونها علامة على إبرام العقد والوفاق تفاؤلاً
بأن يكون ما اتفقا عليه خيرًا، ويتم بخير، وليس لقراءة الفاتحة حكم خاص في هذا
المقام، ولا أعرف له أصلاً في الدين، ولكن التعاقد على شيء يجب الوفاء به إن لم
يمنع من ذلك مانع شرعي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) .
__________(6/379)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نموذج من دلائل الإعجاز
(تابع لما في الجزء الماضي من الموازنة)
مع قول البُحتري:
لقد كان ذاك الجاش جاش مسالم ... على أن ذاك الزي زي محارب
وقول أبي تَمَّام:
الصبح مشهور بغير دلائل ... من غيره ابتغيت ولا أعلام
مع قول المتنبي:
وليس يصح في الأفهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
وقول أبي تمام:
وفي شرف الحديث دليل صدق ... لمختبر على شرف القديم
مع قول المتنبي:
أفعاله نسب لو لم يقل معها ... جدي الخصيب عرفنا العرق بالغصن
وقول البحتري:
وأحب آفاق البلاد إلى فتى ... أرض ينال بها كريم المطلب
مع قول المتنبي:
وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب
وقول المتنبي:
يقر له بالفضل من لا يوده ... ويقضي له بالسعد من لا ينجِّم
مع قول البحتري:
لا أدعي لأبي العلاء فضيلة ... حتى يسلمها إليه عداه
وقول خالد الكاتب:
رقدت ولم ترثِ للساهر ... وليل المحب بلا آخر
مع قول بشار:
لخديك من كفيك في كل ليلة ... إلى أن ترى ضوء الصباح وساد
تبيت تراعي الليل ترجو نفاده ... وليس لليل العاشقين نفاد
وقول أبي تمام:
ثوى بالمشرقين لهم ضجاج ... أطار قلوب أهل المغربين [1]
وقول البحتري:
تناذر أهل الشرق منه وقائعًا ... أطاع لها العاصون في بلد الغرب [2]
مع قول مسلم:
لما نزلت على أدنى ديارهم ... ألقى إليك الأقاصي بالمقاليد
وقول محمد بن بشير:
أُفرغْ لحاجتنا ما دمت مشغولاً ... فلو فرغت لكنت الدهر مبذولا
مع قول أبي علي البصير:
فقل لسعيد أسعد الله جده ... لقد رث حتى كاد ينصرم الحبل
فلا تعتذر بالشغل عنا فإنما ... تناط بك الآمال ما اتصل الشغل
وقول البحتري:
من غادة منعت وتمنع وصلها ... فلو انَّها بُذلت لنا لم تبذل
مع قول ابن الرومي:
ومن البلية أنني ... عُلقت ممنوعًا منوعا
وقول أبي تمام:
لئن كان ذنبي أن أحسن مطلبي ... أساء ففي سوء القضاء لي العذر
مع قول البحتري:
إذا محاسني اللاتي أُدل بها ... كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
وقول أبي تمام:
* قد يُقدم العَيرُ من ذعرٍ على الأسد *
مع قول البحتري:
فجاء مجيء العير قادته حيرة ... إلى أهرت الشدقين تدمَى أظافره [3]
وقول معن بن أوس:
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل
مع قول العباس بن الأحنف:
نقل الجبال الرواسي من أماكنها ... أخف من رد قلب حين ينصرف [4]
وقول أمية بن أبي الصلت:
عطاؤك زين لامرئ إن أصبته ... بخير وما كل العطاء يزين
مع قول أبي تمام:
تُدعى عطاياه وفرًا وهي إن شهرت ... كانت فخارًا لمن يعفوه مؤتنفا [5]
ما زلت منتظرًا أعجوبة عننًا ... حتى رأيت سؤالاً يجتني شرفا [6]
وقول جرير:
بعثن الهوى ثم ارتمين قلوبنا ... بأسهم أعداء وهن صديق
مع قول أبي نواس:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق
وقول كُثير:
إذا ما أودت خلة أن تزيلنا ... أبينا وقلنا الحاجبية أول [7]
مع قول أبي تمام:
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
وقول المتنبي:
وعند مَن اليوم الوفاء لصاحب ... شبيب وأوفى من ترى أخوان [8]
مع قول أبي تمام:
فلا تحسبا هندًا لها الغدر وحدها ... سجية نفس كل غانية هند
وقول البحتري:
ولم أَرَ في رنْق الصَّرَى لي موردًا ... فحاولت ورد النيل عند احتفاله [9]
مع قول المتنبي:
ق0واصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقل السواقيا
وقول المتنبي:
كأنما يولد الندى معهم ... لا صغر عاذر ولا هرم
مع قول البحتري:
عريقون في الإفضال يؤتنف الندى ... لناشئهم من حيث يؤتنف العمر
وقول البحتري:
فلا تغلين بالسيف كل غلائه ... ليمضي فإن الكف لا السيف تقطع
مع قول المتنبي:
إذا الهند سوت بين سيفي كريهة ... فسيفك في كف تزيل التساويا
وقول البحتري:
سامَوْك من حسد فأفضل منهم ... غير الجواد وجاد غير المفضل
فبذلت فينا ما بذلت سماحة ... وتكرمًا وبذلت ما لم تبذل [10]
مع قول أبي تمام:
أرى الناس منهاج الندى بعد ما عفت ... مهايعه المثلى ومحّت لواحبه [11]
ففي كل نجد في البلاد وغائر ... مواهب ليست منه وهي مواهبه
وقول المتنبي:
بيضاء تطمع فيما تحت حلتها ... وعز ذلك مطلوبًا إذا طلبا
مع قول البحتري:
تبدو بعطفة مطمع حتى إذا ... شغل الخلي ثنت بصدفة مؤيس [12]
وقول المتنبي:
إذكار مثلك ترك إذكاري له ... إذ لا تريد لما أريد مترجما
مع قول أبي تمام:
وإذا المجد كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التقاضي
وقول أبي تمام:
فنعمت من شمس إذا حجبت بدت ... من خدرها فكأنها لم تحجب
مع قول قيس بن الخطيم:
قضى لها الله حين صورها م الخالق أَلَّا تكنها سدف
وقول المتنبي:
راميات بأسهم ريشها الهُد ... ب تشق القلوب قبل الجلود
مع قول كثير:
رمتني بسهم ريشه الكحل لم يجز ... ظواهر جلدي وهو في القلب جارح [13]
وقول بعض شعراء الجاهلية ويُعزى إلى لبيد:
ودعوت ربي بالسلامة جاهدًا ... ليُصِحَّنِي فإذا السلامة داء
مع قول أبي العتاهية:
أسرع في نقص امرئ تمامه ... تدبر في إقبالها أيامه
وقوله:
أقلل زيارتك الحبيـ ... ـب تكون كالثوب استجده
إن الصديق يمله ... أن لا يزال يراك عنده
مع قول أبي تمام:
وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد
وقول الخريمي:
زاد معروفك عندي عِظَمًا ... أنه عندك محقور صغير
تتناساه كأن لم تأته ... وهو عند الناس مشهور كبير
مع قول المتنبي:
تظن من فقدك اعتدادهم ... أنهم أنعموا وما علموا
وقول البحتري:
ألم تر للنوائب كيف تسمو ... إلى أهل النوافل والفضول
مع قول المتنبي:
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن ... يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
وقول المتنبي:
تذلل لها واخضع على القرب والنوى ... فما عاشق من لا يذل ويخضع
مع قول بعض المحدثين:
كن إذا أحببت عبدًا ... للذي تهوى مطيعا
لن تنال الوصل حتى ... تلزم النفس الخضوعا
وقول مضرس بن ربعي:
لعمرك إني بالخليل الذي له ... عليَّ دلال واجب لمفجَّع
وإني بالمولى الذي ليس نافعي ... ولا ضائري فقدانه لممتَّع
مع قول المتنبي:
أما تغلط الأيام فيَّ بأن أرى ... بغيضًا تُنائي أو حبيبًا تقرب
وقول المتنبي:
مظلومة القد في تشبيهه غصنًا ... مظلومة الريق في تشبيهه ضربا
مع قوله:
إذا نحن شبهناك بالبدر طالعًا ... بخسناك حظًّا أنت أبهى وأجمل
ونظلم إن قسناك بالليث في الوغى ... لأنك أحمى للحريم وأبسل
***
ذكر ما أنت ترى فيه في كل واحد من البيتين صنعة وتصويرًا وأستاذية على الجملة فمن ذلك، وهو من النادر قول لبيد:
وأكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل
مع قول نافع بن لقيط:
وإذا صدقت النفس لم تترك لها ... أملاً ويأمل ما اشتهى المكذوب
وقول رجل من الخوارج أُتي به الحَجّاج في جماعة من أصحاب قَطَرِيٍّ فقتلهم
ومنَّ عليه ليد كانت عنده، وعاد إلى قَطَرِيٍّ فقال له قَطَرِيٍّ: عاود قتال عدو الله
الحجاج، فأبى، وقال:
أأقاتل الحجاج عن سلطانه ... بِيَدٍ تقر بأنها مولاته
ماذا أقول إذا وقفت إزاءه ... في الصف واحتجت له فعلاته
وتحدث الأقوام أن صنائعًا ... غرست لديَّ فحنظلت نخلاته [14]
مع قول أبي تمام:
أسربل هجر القول من لو هجوته ... إذن لهجاني عنه معروفه عندي [15]
وقول النابغة:
إذا ما غدا بالجيش حلَّق فوقه ... عصائب طير تهتدي بعصائب
جوانح قد أيقنَّ أن قبيله ... إذا ما التقى الصفان أول غالب [16]
مع قول أبي نواس:
وإذا مَجَّ القنا علَقًا ... وتراءى الموت في صُوَره
... راح في ثنيي مفاضته ... أسد يدمى شبا ظُفره [17]
... يتأيَّي الطير غدوته ... ثقة بالشبع من جَزره [18]
المقصود البيت الأخير.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الضَّجَّاج بالفتح وبالضم كالضجيج وهو صياح الفزع مما يخاف منه.
(2) تناذر الناس أنذر بعضهم بعضًا وخوفه الشيء.
(3) أهرت الشدقين واسعهما.
(4) في رواية: نفس بدل قلب وتنصرف بدل ينصرف.
(5) أي لمن يسأله مبتدئًا والأحسن جعل مؤتنفًا اسم مفعول صفة للفخار كتبه الأستاذ الإمام.
(6) عننًا أي معترضة تأتي بلا سبب.
(7) يريد بالحاجبة عزة.
(8) يريدان شبيبًا وأوفى الورى أخوان في الغدر إذ لا وفاء عند أحد و" من " استفهامية.
(9) الصرى: اسم نهر.
(10) أراد أنهم من الحسد أخذوا يسامونه في العطاء فبذلوا ولا جود عندهم فكان بذله بذلين بذل السماحة الصادر منه مباشرة وبذل هؤلاء البخلاء الذي صدر عنهم بسببه كتبه الأستاذ الإمام.
(11) محت لواحبه بمعنى عفت مهايعه أي بليت طرقه الواضحة وواحد اللواحب: لاحب.
(12) الصدفة المرة من الصدف وهو الإعراض عن الشيء.
(13) وفي نسخة: يصب بدل يجز.
(14) يقال حنظلت الشجرة أي صار ثمرها مرًّا كالحنظل.
(15) الكلام استفهام إنكاري حذفت من (أسربل) همزة الاستفهام.
(16) الرواية: الجمعان بدل (الصفان) .
(17) المفاضة: الدرع الواسعة.
(18) يتأيى: يتحرى ويترقب والضمير في جزره للطير وجزر الطير وجزر السباع هو اللحم الذي تأكله.(6/381)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الحديثة
(كيمياء السعادة)
رسالة في علم النفس والأخلاق أو التصوف لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي
طُبعت في مطبعة المنار عن نسخة خطية قديمة، وصححها بالمقابلة على نسخة
خطية أخرى بدار الكتب المصرية ملتزم طبعها الشيخ إبراهيم إسماعيل خاطر، أحد
المجاورين في الأزهر، وجعل ثمن النسخة الواحدة من الورق الجيد قرشًا صحيحًا
ومن ورق متوسط نصف قرش، وكفى بعزوها إلى حجة الإسلام ترغيبًا فيها، وهي
تُطلب من ملتزم طبعها، ومن إدارة مجلة المنار بمصر، وأجرة البريد مليمان.
***
(كتاب اللؤلؤ المرصوع فيما لا أصل له أو بأصله موضوع)
ألف الحفّاظ والمحدثون كتبًا كثيرة في الأحاديث الموضوعة التي عزيت إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذبًا عمدًا أو جهلاً محضًا حتى إن المقلد لكل متقدم
ليظن أنهم لم يدعوا لمتأخر مقالاً، ولم يتركوا له في التأليف مجالاً، ولكن من يتوجه
إلى الإفادة بإخلاص قلب يفتح الله عليه ما يفيد به. فهذه الكتب المؤلفة في
الموضوعات لا تكاد تجد لها قارئًا واحدًا في الألف من طلاب العلم. ونظن أن
كتاب (اللؤلؤ المرصوع) الذي طبع في هذه الأيام سيكون حظه عند أهل هذا
الزمن أكبر من حظ تلك الكتب؛ لأن مؤلفه هدى بإخلاصه فجمع فيه كثيرًا من
الأحاديث الموضوعة التي تدور على ألسنة الناس وفي بعض الكتب ورتبها على
حروف المعجم فكانت كتابًا تزيد صفحاته عن المائة.
مؤلف الكتاب الشيخ محمد أبو المحاسن القاوقجي الطرابلسي أحد شيوخنا في
الحديث. وكفى بذكر القاوقجي تعريفًا فإنه قد اشتهر بصلاحه في هذه البلاد وغيرها
ومريدوه يعدون بالألوف رحمه الله تعالى رحمة واسعة. وقد طبع الكتاب على نفقة
الحاج عبد الله العطار من مريدي المؤلف، وصححه الشيخ محمد كمال الدين
القاوقجي الأزهري نجل المؤلف، وطبعت في آخره رسالة الحافظ الصغاني في
الموضوعات. فنحث جميع القراء على مطالعته كيلا يغتروا بما اشتهر من تلك
الأحاديث المكذوبة.
***
(ديوان الكاشف)
أحمد أفندي الكاشف شاعر قوي السليقة بعيد من الصنعة مشهور بما نُشر له
من القصائد في الجرائد، وقد جمع شعره من سنة 1315 إلى سنة 1320 وطبعه
في ديوان سمّاه (ديوان الكاشف) وصدَّره بمقدمة في ترجمة نفسه بلغت 30
صفحة، وبلغ الديوان بها 160 صفحة. وقد سلك في الترجمة مسلك الحرية فذكر ما
يمدح وما يذم وباح بأسرار الخواطر والهواجس. ويعلم منها أنه كان موكولاً إلى
نفسه، مسترشدًا بوجدانه وحسه، يُبتلى فيستسلم لدواعي الأحزان، ويتحمس فيسلك
مسالك الشجعان، ويعشق فيسترسل في طاعة الغرام، ولم يصبر على مرارة
التعليم، ولم يسلس قياده لنظار المدارس، فاكتفى ببعض المبادئ ورضي من ثمرة
العلم والأدب بالشعر يوحيه الذوق وتنظمه السليقة. وهو دموي المزاج حادُّه محب
للفخر والعلو ويرى أن الشعر كافٍ في رقي صاحبه إلى ذرى المعالي، وحسبانه في
عداد النابغين، كتب ما كتب في مقدمته وشعر بأنه جاء فيها ما يعتذر منه فقال في
آخرها: إن له ثلاثة أعذار: المرض وضيق الوقت وفقد النصير. افتتح الديوان
بعد المقدمة بتقديمه إلى الله تعالى فقال:
رب هذا شعري وهذا بياني ... شهدا لي بصحة الإيمانِ
لي داعٍ من فطرتي قبل أن أَتْـ ... ـلُوَ كتابًا إلى اليقين هداني
من يكن قام بالعقائد تقليـ ... ـدًا فإني استقمت بالبرهانِ
مسلمًا عشت لا لإسلام أمي ... وأبي والأمير والسلطانِ
أنا لو كنت ناشئًا ومقيمًا ... بين قوم من عابدي الأوثانِ
لم أجد غير دين أحمد أولى ... باتباعٍ من سائر الأديانِ
ثم قدمه إلى النبي بأبيات لا تشعر بالتقديم، ثم إلى أمير المؤمنين، ثم إلى مصر
ثم إلى قومه، ثم إلى الشعراء. وجعل الديوان أبوابًا في مدح السلطان ومدح أمير
مصر ومدح العظماء والإخوان. وفي السياسة والتاريخ ومن هذا الباب قصيدة في
فتح السودان، وقصيدة في ذكر الثورة العرابية. وفي التربية والتعليم والأخلاق
والآداب والحكم والفكاهات وفي الوطنية وفي الشكوى والعتاب، وفي الخصوصيات
والأغراض، وفي حوادث الغرام، وفي المراثي والتعازي، وثمن النسخة من الديوان
عشرة قروش في بلاد مصر و15 قرشًا في غيرها من البلاد، فعسى أن يلقى هذا
الديوان من إقبال القراء ما تقر به عين الناظم.
***
(فتح الأندلس)
قصة تاريخية غرامية هي الحلقة السابعة من سلسلة (روايات تاريخ الإسلام)
تتضمن تاريخ أسبانيا قبيل الفتح، ووصف أحوالها الإدارية والسياسية والدينية
وعلاقة بعضها ببعض، وبسط عادات القوط والرومان هناك، والفرق بين طبقات
الناس، وقدوم طارق بن زياد لفتحها، والسبب الذي دعاه إلى ذلك - إلى مقتل
رودريك ملك القوط في واقعة وادي ليتة سنة 93هـ (هذا ما لخص به الرواية
مؤلفها جُرجي أفندي زيدان، وهي كما قال، رغب إلينا المؤلف في قراءة القصة
قبل تقريظها حبًّا في النقد الذي لا يحبه إلا الواثق بحسن عمله، الراغب في تكميله
فقرأناها بلذة عظيمة، وشهدنا له بحسن تصنيف القصص، فإن القارئ لا ينتهي من
فصل من فصولها إلا بشوق يلح به، ويحفزه إلى قراءة ما بعده حتى ينتهي بالفصل
الأخير.
وننتقد عليه أن المقصود من القصة بيان تاريخ الإسلام كسوابقها، وليس فيها
منه إلا ذكر الفتح بغاية الإيجاز. وانتقد غيرنا من نبهاء المسلمين على هذه القصص
أنها تصوِّر للقارئ أن انتصار المسلمين في الفتوحات لم يكن إلا بسبب ما كان ألمَّ
بالأمم التي فتحوا بلادها كالرومانيين والفرس والمصريين والبربر والقوط من فساد
الأخلاق واختلاف المذاهب الدينية، وتفرق الكلمة. ويرى هؤلاء المنتقدون أن هذا
غمْط لحقوق المسلمين وعدم اعتراف بشجاعتهم وعناية الله تعالى بهم حمل المؤلف
عليهما التعصب الديني. ونحن ننكر عليهم هذا الرأي كتابة كما أنكرناه قولاً، فإن ما
ذكره من فساد دين الأمم وأخلاقها وتفريق كلمتها هو السبب الأول في قهر أولئك
الشراذم من المسلمين لتلك الأمم القوية العظيمة السلطان بل لولا ذلك الفساد العام لما
أرسل الله تعالى ذلك المصلح العام كافة للناس بشيرًا ونذيرًا (صلى الله عليه وسلم)
وأيده بعنايته فجمع له كلمة الأمة العربية التي لا يعرف لها التاريخ اجتماعًا، فأدبها
وأدب بها - على بداوتها - أمم العلوم والمدنية، على أن المؤلف نوه بشجاعة
العرب وفضلهم وعدلهم، ولم ينقصهم منه شيئًا.
أما عبارة القصة فقد كنت أتوقع أن تكون خيرًا مما سبقها فإذا هي كغيرها في
السلاسة، ولكن فيها كلمات وعبارات عامية لم أَرَ مثلها في كتابة قبلها للرصيف
فجزمت بأنه متعمد ليسهل فهم كتابته على العوام، وعندي أن سلاسة عبارته كافية
في الوصول إلى هذا المرام، وصحة العبارة لا تحول بين المعنى والأفهام.
***
(فتاة غسان)
قصة تاريخية غرامية أخرى لجرجي أفندي زيدان أيضًا كتب على ظهرها
بعد ذكر اسمها (تشرح حال الإسلام من أول ظهوره إلى فتوح العراق والشام مع
بسط عوائد العرب في آخر جاهليتهم وأول إسلامهم ووصف أخلاقهم وأزيائهم
وسائر أحوالهم) أهدانا المؤلف نسخة من الجزء الأول منها طبع ثانية قبل إهداء
(فتح الأندلس) ، فلم ننظر فيه؛ لأن وقتنا قصير، وعملنا كثير فلما طالعنا هذه
إجابة لطلب المودة ساقتنا اللذة إلى مطالعة الأخرى، فكانت اللذة فيها لا تقل عن اللذة
في أختها، وعبارتها أسلم من عبارتها، وفائدتها في التاريخ الإسلامي أكبر من
فائدتها، وإن كانت لم تشرح حال الإسلام كما قال شرحًا، ولم تبسط عوائد
العرب وأخلاقهم وسائر أحوالهم بسطًا، فإنه ذكر جملة صالحة من ذلك كان يجهلها
السواد الأعظم من القراء لأن أكثرهم من العوام وإن تعلم الكثيرون منهم في
المدارس الابتدائية فإن مدارس مصر لا حظ لها من تاريخ الإسلام. ولذلك كنت
أناظر جماعة من أهل العلم يدعون أن قراءة هذه القصص ضارة وأدعي أنا أنها نافعة.
يحتج هؤلاء بأن في هذه القصص أغلاطًا تاريخية حتى في الأمور المشهورة
ومثل هذا لا يسلم منه كتاب، منها قوله: إن أمير العرب على فتح العراق هو (سعد
بن مالك) وهو إغراب، وكان يُدْعَى سعد بن أبى وقاص وإن كان اسم أبيه مالكًا،
ويعدون عليه مسائل كهذه جزئية منها ما يستند هو فيه إلى نقل صحيح كهذا أو
ضعيف، فمن الأول قوله: إن أبا سفيان حيَّا هِرَقْل بقوله: (أبيت اللعن) وهم
ينكرون ذلك محتجين بأنها تحية الحِمْيريين للملوك دون المُضريين، وله أن يحتج هو
بإطلاق بعض علماء اللغة والتاريخ أنها تحية الملوك في الجاهلية.
ومن الثاني نص كتاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى هرقل، فإنه نقلها
عن (الأغاني) هكذا: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل
عظيم الروم. السلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن
توليت فإن إثم الأكابر عليك) .
والرواية الصحيحة في البخاري وغيره: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد
عبد الله ورسوله (وفي رواية رسول الله) إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من
اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين
فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين (وفي رواية الأكارين - لا الأكابر - وكلاهما
بمعنى الفلاحين، يريد: رعيته أهل الحرث) و {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى
كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا
أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64) ،
هذا هو نص الكتاب، ولا شك أن المؤلف قصر في اعتماده على كتاب أدبي دون كتب
الحديث وكتب السير في أهم شيء من موضوع قصته.
وذكر في آخر الكتاب صورة خاتم النبي صلى الله عليه وسلم نقلاً عن الواقدي
وهي أن لفظ (محمد) في السطر الأعلى، ولفظ (رسول) في السطر الأوسط،
ولفظ الجلالة (الله) في السطر الأدنى، والمشهور العكس، والواقدي يروي
الموضوعات وقصته في فتوح الشام مملوءة بالكذب وهذه المسألة أهون من غيرها.
أما ما ذكره مؤلف القصة عن أبي سفيان من سيرة النبي صلى الله عليه وآله
وسلم فأبو سفيان لم يقلها، ولا هو ينقله عنه بالرواية، وإنما جمع المؤلف أقوالاً
من الكتب، وألفها مع بعض آرائه وأسندها إلى أبي سفيان لأنهم يستجيزون ذلك
في القصص؛ لأن العبرة عندهم بالمسائل لا بالرواية وإن سمى أهل العربية
هذه القصص روايات كذبًا ومينًا والمعروف في الصحيح أن أبا سفيان لم يتجاوز أجوبة
أسئلة هرقل.
ومن المسائل الباطلة التي حكاها المؤلف عن أبي سفيان مسألة الغرانيق.
رآها في الطبري، فنظمها في سلك الحكاية، وقال: إن أبا سفيان قال: إن محمدًا
ذكر آلهتهم (أي بخير) فيما نزل عليه، ثم رجع عن ذلك (وأبدل هذه الفقرة بفقرة
تزيدنا نفرة منه، فقال: (إن تلك إنما ألقاها الشيطان على لسانه) ، ثم ذكر آلهتنا
بكل سوء فقال: (إنها أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) إلى غير ذلك مما زادنا نفورًا
وبُعدًا) . هذه العبارة بين الهلالين منقولة من القصة بحروفها، وهي توهم أن جملة
(إن تلك.. إلخ) مروية عن النبي عليه السلام، وذلك غير صحيح وفيها تحريف
للآية الكريمة: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} (النجم: 23) ... إلخ.
والسبب في ذلك اعتياد القوم على التساهل في النقل، والاعتماد على المعنى
الذين يفهمونه، ويحسبون هذا التساهل هينًا حتى في الأمور الدينية، وهو عند
المسلمين عظيم. وقد نشرنا في المجلد الثالث من (المنار) مقالة طويلة للأستاذ
الإمام يفند فيها مسألة الغرانيق ويبين بطلانها. وللمؤلف المسيحي العذر في تصديق
مسألة ذكرها بعض علماء المسلمين، وسكت عليها فلم يكذبها، وهذه القصة وُضعت
بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم تكن معروفة في عهده لمؤمن ولا لمشرك.
***
(بشارة بَحيرا الراهب بالنبي صلى الله عليه وسلم وشبهتهم فيه)
ومما أسنده المؤلف إلى أبي سفيان قوله: إن أبا طالب كان يصطحب محمدًا في
أسفاره فينزل الديور (كذا) ، ويجالس الرهبان والعلماء، وذكر هنا أن بحيرا الراهب
أنبأه بأمور كثيرة من مستقبل حياته وأوصى عمه أن يعتني به ويخاف عليه اليهود.
وقوله: إن محمدًا كان إذا عاد من سفره يقضي معظم ساعات نهاره في الكعبة
يحدث الناس، ويجادلهم ويطارحهم، ويُعجَبون لذكائه وقوة برهانه (قال) : فقد كان
على صغر سنه ذكي الفؤاد واسع الاطلاع بما اكتسبه من مجالسة عمه ومخالطة
الناس في أسفاره مع أنه أمي لا يعرف القراءة! ونقول: إن هذا غير صحيح فإنه ما
كان معروفًا بالفصاحة، ولا بسعة الاطلاع، ولا كان يجادل الناس ولم يقل بالمجادلة
جهلاء المسلمين الذين أرادوا أن يعظموه بأكثر مما عظمه الله تعالى به فوضعوا
أحاديث واخترعوا حكايات جاءت بنقيض المطلوب منها قولهم عنه: (أنا أفصح
مَن نطق بالضاد) قال المحدثون: إنه لا أصل له وقال شيخنا القاوقجي في (اللؤلؤ
المرصوع) : والعجب من الجلال المحلّي ذكره في شرح جمع الجوامع من غير
تنبيه، وكذا زكريا الأنصاري في شرح المقدمة الجزرية:
أما قصة بحيرا الراهب فقد ذكرها أصحاب السير في البشارات بالنبي صلى
الله عليه وآله وسلم، ونظموها في سمط الخوارق التي رووا أنها كانت محتفة بها
ولكن النصارى نظموها في سلك آخر، فزعموا أن بحيرا كان معلمًا للنبي صلى الله
عليه وآله وسلم، وعظموا من شأنه، ووسعوا دائرة رواية المسلمين في شأنه
فأخذ صاحبنا جرجي أفندي زيدان خلاصة مما قرأه وسمعه من الفريقين وأودعها
قصته هذه (فتاة غسان) ونوه بها في غيرها، وأنا أعتقد بما لي من حسن الظن فيه
أنه كتب ما يعتقده وإن كان مخطئًا فيه، أوهمت عبارته الماضية أن أبا طالب كان
يسافر بابن أخيه قبل النبوة كثيرًا فينزل الأديار ويجالس الرهبان والعلماء ...
والصواب أنه لم يسافر مع عمه إلا مرة واحدة، وكان ابن تسع وكان سبب خروجه
معه تعلقه به وحبه إياه لما كان يعامله به من الكرامة والإحسان، وفي هذه المرة رآه
الراهب بحيرا وبشر ولم يره بعدها. وقد سافر مرة ثانية إلى الشام في عِير لخديجة
مع غلامها ميسرة، وكان ابن 25 سنة على الأرجح، وفي هذه المرة رآه نسطورا
الراهب، ورأى من علامات النبوة ما أنطقه بأنه هو الذي بشر به المسيح وغيره من
الأنبياء ولم ير بحيرا في هذه المرة.
وقد ذكر المؤلف رأيه في بحيرا في الفصل الثامن من القصة وملخصه:
(1) أن اسم بحيرا (يوحنا) عزا ذلك إلى الكِندي أي: إلى ذلك الكتاب
الطاعن في الإسلام، المنسوب إلى رجل على عهد المأمون اسمه إسحق الكندي
والكتاب لبعض المتأخرين لا شك عندي في ذلك. وفي السيرة الحلبية وغيرها أن
اسمه جرجيس وقيل سرجيس.
و (2) أن سلمان الفارسي كان تلميذًا له نقل ذلك عن الدائرة ولم يُعرف في
ترجمة سلمان عند المحدثين.
و (3) أنه كان على مذهب آريوس.
و (4) أنه كان عالمًا بالفلك والنجوم والطوالع وسائر علوم تلك الأيام.
و (5) أنه كان حسن الفراسة ولكنهم كانوا يعتقدون أنه ساحر.
و (6) أنه سافر في آخر عهده إلى مكان مجهول في جزيرة العرب ثم عُلم
أن اليهود قتلوه غيلة.
و (7) أن المظنون في سبب ذهابه إلى بلاد العرب قصد الحجاز لحادثة جرت
معه.
ثم ذكر المؤلف في بيان هذه الحادثة قصة عن لسان راهب كان تلميذًا لبحيرا
وملخصها:
أن القوافل القادمة من بلاد العرب كانت تقف عند دير بحيرا بالقرب من مدينة
بُصْرَى، وكان بحيرا يخرج إليهم ويعلِّمهم عبادة الله تعالى إذا كانوا وثنيين، وأنه كان
يعتقد أن الله ظهر له في الرؤيا وأنبأه بأنه سيكون واسطة لهداية بني إسماعيل، ثم
رأى في رؤيا أخرى: (أن فتى جميل المنظر شهمًا مولده ببرج الثور والزهرة مع
قران المشتري وزُحل سيهدي بني إسماعيل إلى معرفة الله وأن به يقوى أمرهم
ويشتد أزرهم وتجتمع كلمتهم فيذللون أبناء عمهم بني إسحق ويتسلطون عليهم مدة
كما أشار إليه دانيال في نبوته وأنه يخرج من العرب اثنتا عشرة دولة) .
ثم ذكر المؤلف بلسان الراهب أن قافلة جاءتهم من قريش فشاهد بحيرا فيهم غلامًا
جميلاً علم أنه هو الذي بُشر به في المنام وأوصى به عمه أن يحذر عليه اليهود،
(قال) : ثم كانوا كلما مروا بنا أقاموا عندنا كالعادة.
أقول في هذه الحكاية أغلاط يبنى عليها أحكام فاسدة وهو لم يروها عن أحد
وإنما استنبطها من قريحته ليصور فيها ما كان يعتقده في النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، وهو أنه اقتبس آراءً من ذلك الراهب في التوحيد وغير التوحيد وطفق
يستعد لتحقيق بما بشره به، وكان يختلف إليه للاستفادة منه ثم إن الراهب بعد ذلك
رحل إليه. وحاصل القول إن دين الإسلام بُني على معارف ذلك الراهب
وبشارته. ويظهر أن المؤلف رجع عن هذا الرأي الذي يؤخذ من كلامه في بحيرا
وصار يعتقد أن النبي عليه السلام لم يكن متصنعًا ولا متكلفًا؛ بل كان يعتقد في نفسه
أنه مرسل من الله تعالى ويفهم هذا الرجوع مما كتبه بعد ذلك في الجزء الأول من
(تاريخ تمدن الإسلام) .
أما الأغلاط المهمة التي جاءت في حكايته المخترعة:
فأحدها: قوله: إن كان يعلّم العرب الذين كانوا ينزلون بجوار الدير والصواب
أنه ما كان يخرج إليهم ولا يكلمهم قال في السيرة الحلبية: (وكانت قريش كثيرًا ما
تمر على بحيرا فلا يكلمهم حتى إن ذلك العام صنع لهم طعامًا كثيرًا، وقد كان رأى
وهو بصومعته رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركب حين أقبلوا، وغمامة تظله
من بين القوم ثم لما نزلوا في ظل شجرة نظر إلى الغمامة قد أظلت الشجرة
وتهصرت - أي مالت - أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
استظل تحتها.. ثم أرسل إليهم: قد صنعت لكم طعامًا يا معشر قريش، وأحب أن
تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم. فقال له رجل منهم - لم أقف
على اسم هذا الرجل -: يا بحيرا، إن لك اليوم شأنًا ما كنت تصنع هذا بنا وكنا
نمر عليك كثيرًا فما شأنك اليوم؟ فقال: صدقت ... القصة) وفيها أن النبي لم
يحضر معهم أولاً فسألهم عمن تخلف؛ لأنه لم يَرَ الغمامة على أحد منهم فقالوا له:
ما تخلف عن طعامك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنًّا، فطلبه
فجاء والغمامة فوقه. فلما أكل القوم وتفرّقوا قام إليه بحيرا فقال له: أسألك باللات
والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا
تسألني باللات والعزى شيئًا، فوالله ما أبغض شيئًا قط بغضهما، فقال بحيرا:
فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له: سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن
أشياء من حاله، من نومه وهيئته وأموره ويخبره فيوافق ما عنده من صفته أي
صفة النبي المبعوث آخر الزمان، وذكر أنه أوصى به عمّه، وليس في رواية من
الروايات أنه علَّمهم في تلك الدعوة أو غيرها شيئًا أو دعاهم إلى توحيد أو غيره.
ثانيها: خبر الرؤيا والنظر في النجوم وقد علمت أن سبب البشارة به في
الرواية المأثورة هو ما رآه من النعوت والآيات، وما كان يحفظ من البشارات،
فالرؤيا المنامية دعوى اختراعية. وبناء البشارة على معرفته بالتنجيم حكاية خرافية
فإن قالوا: إنهم لا يسلمون بما في الرواية الإسلامية من تظليل السحابة والشجرة نقول
سواء علينا أرددتم هذا وحده أم رددتم الرواية من أصلها وأرحتمونا من ذكر
بحيرا الذي عظمتم أمره، وهو واحد من ألوف كانوا يعتقدون بأن نبيًّا يُبعث
من آل إسماعيل كما بشرت التوراة والإنجيل.
ثالثها: قوله: وأقام الركب عندنا مدة، ورابعها: قوله: ثم كانوا كلما مروا
بنا أقاموا عندنا كالعادة، وكلاهما غير صحيح كما علمت.
وجملة القول أنه لا توجد شبهة ما على أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم رأى بحيرا غير تلك المرة، ولا توجد شبهة ما على أنه استفاد منه علمًا يُذكر،
أو حكمًا يُؤثر، وماذا عسى يستفيد ابن تسع من مجلس جلسه إلى عالِم؟ ! وكيف
يصدق عاقل أن ذلك الغلام يخزن هذه العلوم زمنًا يزيد على ثلاثين سنة ثم يفيضها
على الناس بحكمة باهرة وسياسة عالية؟ ! وكيف عجز الراهب مفيض العلوم عن
هداية رجل واحد كالراهب الذي يحكي عنه في القصة، وقدر ذلك الغلام المستفيض
على هداية الشعوب والقبائل وقلب نظام العالم بتطهيره من الشرك والوثنية والظلم
والتهتك في الشهوات؟ ! إن في ذلك لآياتٍ. وإنما أطنبت في قصة بحيرا إطنابًا ما
كان يتسع له تقريظ قصة؛ لأنني كنت أسمع من رهبان هذا الزمان وبعض عوام
النصارى كلامًا كثيرًا في دعوى تعليمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما كنت
أظن أن خواصهم يحفلون بذلك حتى رأيت في هذه القصص ما رأيت، ولا أزال
أعتقد أن رصيفنا الفاضل جرجي أفندي زيدان ليس له قصد شيء يحمله على كتابة
ما لا يعتقد.
وأقول: إنه لا يجوز لمسلم أن يثق بغير العلماء الراسخين من أهل الدين
في نقل الأمور الدينية؛ إذ لا يعرف الصحيح المعتمد عليه غيرهم.
__________(6/389)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المحسن العظيم منشاوي باشا
أبو الوطن لا الإسكندريةوحدها
زار صاحب السعادة والفضل أحمد باشا المنشاوي مدارس العروة الوثقى
الخيرية في الإسكندرية، فتلقاها أعضاء الجمعية الكرام بما يليق بمقامه في فضله
وإحسانه، وكانوا قد أمروا بأن تزين المدارس حفاوة به، فابتدأ بزيارة مدرسة عباس
الأول للذكور وهناك قدموا له كتابًا مصفحًا بالذهب ذكرى شكر على إحسانه وعند
ختام الاحتفال وتلاوة الخطب والأناشيد، وعد التلامذة بأنه أوقف حياته لتربيتهم. ثم
زار مدرسة إسماعيل الأول للبنات، ثم مدرسة كوم الشقافة ومدرسة عباس الثاني
ومدرسة توفيق الأول والمكتب العباسي، ثم مدرسة عباس الأول للبنات فمدرسة
إبراهيم الأول، وكانت كل مدرسة تقدم له ذكرى تليق بها.
وقد هزته الأريحية لما شاهده من حال هذه المدارس والمكاتب وحال التلامذة
والتلميذات الذين كانوا يتدفقون بزيارته بِشرًا وشكرًا، فأمر بأن تكون كسوة تلامذة
المكاتب على نفقته، ووعد بأنه سيوقف أطيانًا يخص ريعها بتجهيز بنات الفقراء
المتعلمات في هذه المدارس عند زواجهن. وذكرت مدرسة جمعية الحمالين
(الشيالين) في الكمرك فوعد بمساعدتها. ثم أمر بصرف راتب شهر لكل واحد
من معلمي هذه المدارس.
ننشر خبر هذه الزيارة وإن كنا نغفل ذكر زيارات الملوك والأمراء الحاكمين
للمعاهد العامة والخاصة لأن شأن الإسعاد على العلم لا يعلوه عندنا شأن، وإننا لنفتخر
بهذا المحسن العظيم الذي طوق الإسكندرية بفضله وإحسانه حتى قال بعض الأدباء:
يجب أن نكنيه بأبي الإسكندرية، ونحن نتوقع أن يطوق بفضله القطر كله
بمساعدة الجمعية الخيرية الإسلامية العامة كما طوق الإسكندرية بمساعدة جمعية
العروة الوثقى الخاصة فيكون أبا الوطن كله لا أبا الإسكندرية وحدها.
أدام الله توفيقه. وألهم سائر أغنيائنا أن يسلكوا طريقه.
__________(6/398)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مدرسة المعلمين الإلهامية
وفق الله تعالى صاحبة الدولة والدة الجناب الخديوي فألهمها بأن تنشئ مدرسة
لتخريج معلمي المدارس الابتدائية، وتجعلها تذكارًا لوالدها (إلهامي باشا) وقد وُضع
جدول الدروس واتخذ للمدرسة مكان موقت، وستُبنى لها دار فسيحة في الحلمية على
نفقة المنشئة أثابها الله تعالى. وقد عين عابدين أفندي خير الله ناظرًا لهذه المدرسة.
أما العلوم التي تُقرأ في المدرسة فهي تجويد القرآن الكريم وتفسيره والنحو
والصرف والبلاغة والإنشاء قولاً وكتابةً والفقه والتوحيد والحساب والهندسة وتقويم
البلدان والخط، وتقبل المدرسة ثلاثين طالبًا مجانًا بشروط معرفة القراءة والكتابة
وحفظ القرآن الكريم والصحة، وكون السن لا تزيد على 18 ولا تنقص عن
12 سنة.
العلم المقصود جليل، ولكنه لا يتم بالدار الفسيحة والنفقة الواسعة من كرم
الإمارة، وإنما يتم بانتقاء المعلمين الفضلاء الأَكْفَاء الذين يحسنون التربية أولاً
والتعليم ثانيًا، فإذا لم يكن المعلمون مربين فلا فائدة لهم ولا جدوى. وفق الله ناظر
هذه المدرسة لانتقاء الرجال، كما وفق منشئتها الكريمة لبذل المال.
__________(6/399)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وفاء قراء الصحف ومطلهم
كتبنا مقالة أخلاقية في وفاء قراء الصحف المنشَّرة ومطلهم بالنسبة إلى البلاد
وإلى الأصناف، بنينا الحكم فيها على اختبارنا الخاص، فأخذ (المقتطف) الأغر
خلاصتها، وقال: إنها ذكرته بحثًا مثل بحثنا للفيلسوف سبنسر الشهير ظهر له منه أن
خدمة الدين أقل وفاءً بالحقوق من غيرهم. ثم ذكر إحصاءً لأصناف المشتركين في
(المقتطف) و (المقطم) من حيث الوفاء والمطل كانت نتيجته موافقة لنتيجتنا.
ظهر من إحصاء المقتطف أن أصحاب الأملاك يتأخر عندهم سبعة في المائة من
حقوق الجرائد والمجلات، ويتأخر عند العلماء 9 في المائة وعند التجار 15 في المائة
وعند المحامين 25 في المائة وعند القضاة 30 في المائة وعند الموظفين 40 ونصفًا
في المائة.
قال الكاتب:
(وهذه النتيجة تنطبق على نتيجة صاحب المنار إلا من حيث العلماء، ولعل
سبب ذلك أننا جمعنا معهم المعلمين. أما موظفو الحكومة فأكثرهم من المستخدمين
الصغار، لا من الموظفين الكبار. ومن الغريب أن يدخل حضرات القضاة والمحامين
في باب المطل ولو لم تكن النتيجة التي وصلنا إليها نحن مطابقة للنتيجة التي وصل
إليها صاحب المنار لظننا حسابنا خطًا) .
أما ما ذكره في علة اختلاف الحسابين في العلماء فصحيح؛ لأن المعلمين في
المدارس يقل فيهم الماطلون، وقد قلنا هذا فلا خلاف، أما المحامون فقد نسينا أن
نذكرهم في تلك المقالة وهم أحسن وفاءً من القضاة وإن كنا نسمع القضاة يتبرمون
منهم. ونحن لا نشكو إلا من المحامين الشرعيين فإن أكثرهم يمطلون، وأما
المحامون في المحاكم الأهلية فكلهم يؤدون حق المنار، ويقل فيهم مَن يخرج منه
الحق نكدًا.
ومن عجيب ما وقع لنا من القضاة الأهليين أن أحدهم اجتمع عنده اشتراك
ثلاث سنين فطلب منا أن نعطيه ثلاث مجلدات من المنار بثمنها ونعطيه وصولاً بما
يطلب منه من غير أن يدفع قرشًا واحدًا واحتجَّ بأنه ينقصه بعض الأجزاء، فيا
حرمان مَن يتقاضى عند مثله.
__________
(تنيبه) : ضاق هذا الجزء عن شبهات النصارى وتتمة ترجمة البابا.(6/400)
غرة جمادى الأول - 1321هـ
24 أغسطس - 1903م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الكرامات والخوارق
المقالة السابعة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التعليل والتأويل
(النوع الحادي عشر: استجابة الدعاء)
قال السبكي: وهو كثير جدًّا وشاهدناه من جماعة. أقول: هذه مسألة من أكبر
المسائل التي وقع فيها الخلاف بين المذاهب الإسلامية ويذكرونها في العقائد
والمشهور أن أهل السنة يقولون بنفع الدعاء والمعتزلة ينكرونه.
قال اللقاني في الجوهرة:
وعندنا أن الدعاء ينفع ... كما من القرآن وعدًا يسمع
وقد تقدم في مقالات الكرامات الأولى أن جمهور أهل السنة يقولون بجواز وقوع
الكرامة والخوارق، والمعتزلة ينكرون ذلك. وقد عدَّ السبكي وغيره استجابة الدعاء
من الكرامات والخوارق ويلزم من ذلك أن يكون الخلاف في الدعاء فرع الخلاف
في الكرامات، ولكنك تراهم يخصونه بالذكر ويعدونه مسألة مستقلة ويرون الخلاف
فيه أقوى، ويشنعون فيه على المعتزلة ما لا يشنعونه في مسألة الكرامات. ولقد
انقرض المعتزلة وذهبت كتبهم ولكن المسائل التي اختلفوا فيها مع الأشعرية لا يزال
الكثير منها حيًّا يقول فيه بقولهم كثير من الناس فنحمد الله أن جعل أئمة الفريقين
أرقى عقلاً ودينًا من أن يكفّر بعضهم بعضًا، فلو كفر أبو الحسن الأشعري وكبار
أصحابه منكري نفع الدعاء وجواز الكرامات أو وقوعها لرأيت المسلمين اليوم في
شقاق شر من ذلك الشقاق، ولامتنع أهل العلم والدين من الصلاة على موتى أكثر
المتعلمين من أبناء هذا العصر. على أن الباحثين في هذه المسائل لا يسلمون من
تكفير غلاة المقلدين ولكنه تكفير باللسان لا يعدو الشتم ولا يتجاوز الشاتمين، وإذا
مات المرمي بالكفر صلوا عليه ودفنوه بين المسلمين، ثم إنه شتم قلما يقع من
المطلعين على المذاهب والعالمين بما يؤْثَر عن العلماء من الخلاف.
الحق أقول: إن الخلاف في الدعاء أقوى من الخلاف في الكرامات، فإن مسألة
الكرامات ليست من أصول الدين ولا من فروعه، ولا يوجد في الكتاب والسنة دليل
على طلب حصولها، ولا على مطالبة الناس بالإيمان بها. وأما الدعاء فهو مطلوب
بلا خلاف، والآيات والأحاديث الصحيحة التي يذكر فيها كثيرة جدًّا. ويعجبني
جعلهم محل الخلاف في نفع الدعاء، لا في استجابته، خاصة وأنه لم يقل أحد أئمة
المسلمين بأن الدعاء يستجاب حتمًا ولا أن الأصل أو الأكثر أنه يستجاب، ولكنهم
قالوا إن الدعاء ينفع سواء استجيب أم لم يستجب، وهذا القول حق كما سنبينه. ولو
كانوا يرون أن الدعاء يستجاب من كل داع تحققت فيه الشروط التي ذكروها لما
كان لعدّهم استجابة الدعاء من الكرامات والخوارق معنى.
وردت آيات في الدعاء ولكن يراد بها في الأكثر العبادة، ومن غير الأكثر
مجرد الطلب، كقوله تعالى حكاية عن بنت شعيب: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ
مَا سَقَيْتَ لَنَا} (القصص: 25) وأقرب الآيات إلى ما نحن فيه من دعاء الله
تعالى وطلب الحاجة منه توقعًا للإجابة بقضائها قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) ، وقريب منها قوله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي
عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: 186) .
ولكن ورد في الصحيح تفسير الدعاء في الأولى بالعبادة. روى أحمد وأبو
بكر بن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن الأربعة وابن حِبَّان
في صحيحه والحاكم وغيرهم من حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: (الدعاء هو العبادة) ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْْ} (غافر: 60) وفسرت الاستجابة على هذا بقبول العبادة، ومن
العلماء من فسر الدعاء في الآية بطلب الحاجات والاستجابة بقضائها.
وفسرت الآية الثانية بمثل ما فسرت به الأولى من الوجهين. وقد علم أن
الآيتين ليستا نصًا في موضوع الخلاف فيحتج بهما على المعتزلة ومَن على رأيهم
من أهل هذا العصر؛ ولهذا لم يكفروا من قال بأن الدعاء لا تأثير له في قضاء
الحاجات وإنما عدوه مخالفًا للسنة لما ورد في الدعاء من الأحاديث الصحيحة.
ورد في الصحيح أن لكل نبي دعوة مستجابة. وقد قال العلماء: إن المراد أنها
مستجابة قطعًا وما عداها من دعوات الأنبياء فهو محتمل للإجابة ولعدمها. أي أن
الحديث لا يُفهم منه أن الله لا يستجيب لنبي إلا دعوة واحدة. وورد الأمر بالدعاء
وعدم الاستعجال بالاستجابة. وترى العلماء متفقين على أن الاستجابة تكون بإحدى
ثلاث وردت في الحديث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن تدخر له في الآخرة، وإما
أن تدفع عنه من السوء مثلها. وللحديث طرق بعضها ضعيف وبعضها قد صحح
الحاكم إسناده، ولم يروه من أصحاب الصحاح والسنن إلا الترمذي وقال: حسن
صحيح غريب، والسبكي يجعل الأولى من الثلاث - إن أُعطيها الداعي - كرامة
وتعريفنا للكرامة لا يأباه ولكن يأباه قول من يجعل الكرامة من الخوارق التي تأتي
على خلاف السنن الإلهية في الخلق. ونحن لا نشك في أن كثيرين من الداعين قد
استجيب دعاؤهم بأن سخر الله لهم من الأسباب ما لم يكن في أيديهم تسخيره، ولم
يكن يخطر لهم على بال كيف يجابون وقد وقع لنا مثل ذلك وحمدنا الله عليه، ولكننا
لا نقول إلا أنه جاء موافقًا لسنن الله تعالى في الأسباب والمسببات على ما فيه من
العناية الخفية والتوفيق الإلهي.
وقد اشترطوا في الدعاء شروطًا منها أن لا يدعو بمحال عقلاً ولا شرعًا ولا
عادة، وإذا كان الدعاء بالمحال في العادة ممنوعًا وغير جدير بالإجابة؛ لأنه من إساءة
الأدب مع الله تعالى كأن الداعي يقول: اللهم أبطلْ حكمتك في نظام خليقتك وبدّل
سننك في خلقك لأجلي فكيف يتحقق في الدعاء أمر خرق العادة؟ هذا تنافٍ بين
أقوالهم.
* * *
وعندي أن الدعاء على قسمين: اضطراري واختياري فأما الاضطراري فهو
الالتجاء إلى القوة الغيبية عند تقطّع الأسباب بالإنسان وسد منافذ الرجاء بالسعي.
وكل مؤمن بقوة غيبية يرى نفسه ملتجئة إليها عند اشتداد البأس، والخطر المشرف
بها على اليأس، فيدعو صاحب القوة العليا، ويستغيث به، وعند ذلك تُفتح في
وجهه أبواب الرجاء، وتنزل عليه السكينة بعد الاضطراب، وهذه فائدة كبرى
للدعاء تتلوها فوائد أظهرها أن اليائس ينقطع عن السعي فإذا اشتد به الضيق فربما
يبخع نفسه انتحارًا بيده؛ ولذلك يكثر الانتحار في قوم لا يؤمنون، فالرجاء الذي
يحدثه الالتجاء بالدعاء يعطي المضطر قوة جديدة، ويهديه إلى طرق جديدة يسلكها في
إعادة السعي حتى ينجو من الخطر، أو يبلغ بعض الوطر، ويقول الأستاذ الإمام:
قلما وله قلب المؤمن إلى الله تعالى داعيًا مخلصًا في حال اضطرارية كهذه إلا وأجاب
الله دعاه، وهذا الفرع من الدعاء هو ميزان الإيمان ومعيار التوحيد الخالص، فإن الله
تعالى جعل أعمال الإنسان في الأسباب والمسببات، فالمؤمن الكامل يذكر الله عند كل
سبب، ويزداد إيمانًا بزيادة العلم بالأسباب لما فيها من الحكمة والنظام العجيب،
والغافلون تحجبهم الأسباب عن رؤية حكمة واضعها وإن كانوا مؤمنين حتى تكون
الشدائد هي التي تذكرهم بما تقطَّع من الأسباب التي يعرفونها، فيرجعوا إلى مَن بيده
ملكوت كل شيء وواضع كل سبب فيدعوه بإخلاص {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: 65) ،
وفي آية أخرى: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} (لقمان: 32) ؛ وإنما كان الدعاء في حالة الاضطرار معيارًا للإيمان؛ لأن
من يعتقد بقوة غيبية وراء الأسباب لغير الله تعالى فهو يلجأ إليه في تلك
الحالة بطبعه، وينطق لسانه بدعاء صاحبها وندائه. ولا توجد أمارة على الشرك
أظهر من هذه الأمارة وإن استهان بها الذين يدعون في الشدائد فلانًا وفلانًا
ويستغيثون بهم من صميم أفئدتهم ويولهون إليهم، لا يلاحظون أنهم وسطاء بين الله
تعالى وبينهم يقربونهم إليه زلفى كما يزعم أهل التأويل؛ لأن القلب في مثل تلك
الحالة لا يسع شيئين فمن يدعو فلانًا من المعتقدين في وقت الشدة لا يخطر في
باله غيره، ولا يدعوه إلا وهو يعتقد أنه هو الذي يفرج كربه، فهو موحد له من
دون الله تعالى. وإذا وسع قلبه قوتين إحداهما مؤثرة في الأخرى تحملها على
العمل فتعمل فهو مشرك شركًا ظاهرًا لا خفيًا.
وإذا كان - ليت شعري - هؤلاء الوسطاء المزعومون أسبابًا خفية كما يدعي
بعض المأولين، وجوزنا أن يلجأ إليهم في وقت الضيق ففي أي وقت نوجب على
المؤمن أن يلجأ إلى الله تعالى وحده دون سواه؟ ألا يوجد عند هؤلاء الذين يمتاز
دينهم بالتوحيد الخالص حال يجب على العبد أن يتوجه فيها إلى الله تعالى وحده، لا
يكون في قلبه سواه من عبيده الضعفاء؛ {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} (النساء:
28) ؟ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره
الكافرون.
فعلم مما شرحناه أن هذا الدعاء أثر من آثار الإيمان بقوة وراء الطبيعة، فمن
كان يعتقد أن مع صاحبها من يحمله على الفعل أو الترك فهو المشرك، وهذا الأثر
الذي ذكرناه هو روح العبادة، وأكبر مظاهرها؛ لأنه الأثر الطبيعي للإيمان؛ ولذلك
فسر الدعاء في القرآن بالعبادة في جميع الموضوعات الدينية وورد في الحديث:
(الدعاء مخ العبادة) رواه الترمذي، وتقدم حديث (الدعاء هو العبادة) فكل من
يدعى وينادى عنه شدة الحاجة وتعسر الأسباب الكسبية فهو معبود لمن ناداه ودعاه
{وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18) .
وأما القسم الثاني من الدعاء وهو الاختياري فإنه من الأعمال التي تزيد في
الإيمان، وتمده وتدعمه كسائر العبادات المطلوبة في الدين، وليس أثرًا طبيعيًّا له،
ولولا ذلك لما كان للتكليف به معنى إذا قال العبد: اللهم وسع عليَّ في الرزق، يتذكر
أن سعيه في طلب الرزق من أسبابه التي هداه الله تعالى إليها بالحواس، والعقل
يتوقف على حفظ قواه، وعلى توفيق الله بين سعيه وبين الأحوال والأمور الخارجية
التي يتوقف عليها النجاح، فيزداد إيمانه بهذا الذكر، ويزداد نشاطه باعتقاده أن الله
يعينه ما راعى سننه في خليقته، وأتى البيوت من أبوابها. وإذا قال: اللهم اغفر لي.
يتذكر أنه عرضة للهفوات والخطايا، وأن الغفران الإلهي له طريق بيَّنها الكتاب
العزيز بمثل قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (طه:
82) فإن لم يتذكر الآية فإنه يتذكر معناها إلا إذا كان جاهلاً بالدين مكتفيًا منه بما
يسمعه ممن يعيش بينهم من الجاهلين، وإذا تذكر أن الدين علَّم البشر أن للذنوب
والخطايا آثارًا سيئة في النفس، وأن غفرها ومحوها إنما يكون بالرجوع عن الذنب
وعمل طاعة من جنسه تؤثر في النفس ضد أثره فإنه يكون قريبًا من العمل الصالح
قال تعالى: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114) وقال عليه الصلاة
والسلام: (وأتْبع السيئة الحسنة تَمْحُهَا) .
أقول: هذا تمهيدًا لبيان أن هذا النوع من الدعاء هو أحد خصال الإيمان.
والإيمان كما يورد في الأحاديث الصحيحة: قول باللسان واعتقاد بالجَنان وعمل
بالأركان، فهذا الدعاء لا يكون صحيحًا إلا إذا وافق اللسان فيه القلب والعمل. أعني
أن يطلب المؤمن الرزق في الدنيا والمغفرة في الآخرة ونحوهما بتوجه القلب والقيام
بالعمل الذي جعله الله وسيلة للرزق وسببًا في المغفرة. ويستلزم هذا ما قالوه من
عدم جواز طلب المحال أو المحرم شرعا؛ لأن الأول ليس له وسيلة تتوجه النفس
إليها وتطلب بالعمل منها، والثاني لا يطلب من الله تعالى وإنما يطلب بالعمل في حال
الغفلة عن الله عز وجل. ومن طلب من الله تعالى شيئًا بالتوجه النفسي الصحيح
وصدق العزيمة وإعمال الفكر مع الجد في السعي من الطرق التي سنها الله تعالى
والأسباب التي ربط بها المسببات، وكان دعاؤه باللسان مترجمًا عن إيمانه بأن
المسخر الأسباب والموفق بينها هو الله تعالى فإن الله تعالى يستجيب دعاءه، ويسهل
له الأسباب ويمنحه التوفيق.
هذا هو الدعاء المطلوب شرعًا، وفائدته في تهذيب النفس وتسديد الفكر وتقوية
العزيمة ظاهرة بالبداهة، والوصول به إلى المقاصد التي يطلبها الداعي ثابتة
بالتجربة وقريبة من المعقول. وما أظن المعتزلة ينكرون ذلك، وإنما أنكروا - فيما
أرى - فائدة الدعاء القولي البحت، والمحققون من أهل السنة يوافقونهم على هذا، لا
سيما الصوفية علماء النفس والأخلاق. قالت رابعة العدوية رحمها الله تعالى:
استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير، وقال الشيخ محي الدين بن عربي:
بذكر الله تزداد الذنوب ... وتنطمس البصائر والقلوب
وإنما يعني الذكر مع الغفلة فإنه كالاستهزاء بالله تعالى. وورد هذا المعنى في
الآثار عن السلف، قال الفُضَيل بن عياض رحمه الله تعالى: الاستغفار بلا إقلاع توبة
الكذابين، وفي (الإحياء) عن بعض الحكماء: مَن قدم الاستغفار على الندم كان
مستهزئًا بالله عز وجل وهو لا يعلم، وقال الربيع بن خيثم رحمه الله تعالى: لا يقولنَّ
أحدكم أستغفر الله وأتوب إليه فيكون ذنبًا وكذبًا إن لم يفعل ولكن ليقل اللهم اغفر لي
وتب عليَّ.
وجملة القول أن الدعاء مخ العبادة وروحها وميزان الإيمان ومعيار الإخلاص
وسلامة التوحيد وأن فائدته في الدنيا مشهورة، وأن المحرومين منه لحرمانهم من
سعادة الإيمان الخالص عرضة للانتحار، إذا استولت عليهم الهموم والأكدار، وأن
فائدته في الآخرة أعظم، وأن استجابته إن وُجد على حقيقته التي شرحناها - كثيرة
يعرفها المؤمنون الصادقون، وينكرها الملحدون والشاكون، وأن هذه الاستجابة
ليست من الخوارق الحقيقية، ولكنها من التوفيق الإلهي والعناية الربانية، وإذا كان
أمر العناية فيها غريبًا في صورته غير معهود يصح أن تسمى كرامة. وقد بسطنا
هذه المسألة فلم نقصر البحث فيها على موضوعنا لما نعلم من اشتباه الأمر فيها على
الذين يحبون أن يعقلوا الدين ويفقهوه، ومن جهالة المقلدين الذين يسلمون بكل ما
ينقل عن الميتين وإن لم يفهموه، ونرجو أن يقبل كلامنا هذا كل مؤمن بأن للكون
فاعلاً مختارًا؛ وأن للناس حياة بعد هذه الحياة، كما نرجو أن يراجعنا من يتوقف
في صحة شيء مما كتبناه، أو في فقهه وفهمه، والله الموفق للصواب.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/406)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهات النصارى
وحجج المسلمين
النبذة الخامسة
في رد شبهاتهم على القرآن العزيز
(الشاهد الحادي عشر) : قال المعترض - الذي كتب ما لا نعتقد -: وعدّ
في جملة هذه المنقاضات مائة وخمسًا وعشرين آية متفرقة في ثلاث وستين سورة
منه تأمر بالصفح والتولي والإعراض والكف عمن لم يكن مسلمًا، وقد نقضتها كلها
آية السيف وهي قوله في سورة التوبة: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا
المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ وَخُذُوَهُمْ وَاحْصُرُوَهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} (التوبة:
5) (قال) : وهذا في زعمهم كلام الله يأمرهم في مائة وخمسة وعشرين موضعًا
من (كتابهم) بالصفح عمن خالفهم في الدين، ثم يبطل ذلك كله اعتباطًا، ثم هذى
بعد ذلك بما يعد شتمًا، لا اشتباهًا فنُعرض عن ذلك عملاً بإحدى تلك الآيات التي
أشار إليها ونخص الكلام بدفع الشبهة فنقول:
نعوذ بالله من الغلو في التعصب الذي يعمي ويصم ويوقع المرء في مثل
الفضيحة التي وقع فيها هذا الكاتب المعترض، فقد جمع آيات الفضائل العالية
والآداب السامية، وحسد المسلمين عليها، ولم يجد سبيلاً إلى الاعتراض عليها إلا
بزعمه أنها منقوضة بآية سيف، والتناقص إنما يكون في القضايا الخبرية، لا في
الأوامر والنواهي التهذيبية، ونحوها من الجمل الإنشائية، وإذا قيل: إنه لا يعني
بالتناقض ما هو مقرر في علم المنطق وإنما يعني به أن آية السيف التي ذكرها
تنافي تلك الآداب والفضائل نقول: إن هذا زعم باطل، وكأن قائله شعر بضعفه
وتداعيه، فدعمه بأكذوبة افتراها من عنده إذ زعم أن الأمر بقتال المشركين كان
(اعتباطًا) أي: ظلمًا لا قصاصًا ولا مدافعة عن حق. وأصل الاعتباط ذبح البهيمة
من غير علة، وقالوا: اعتبط فلانًا: أي قتله ظلمًا لا قصاصًا. يزعم هذا المتعصب
أن المسلمين هم الذين اعتدوا على المشركين وحاربوهم ابتداءً وتناسى أن المشركين
هم الذين كانوا يرمون النبي عليه الصلاة والسلام بالحجارة، ويلقون عليه فرث
الكرش وهو يصلي وأخرجوه هو ومن آمن معه من ديارهم وأموالهم وأهليهم، وكانوا
يوقعون بكل من ظفروا به منهم. ثم لما كانت بينه وبينهم معاهدة الحديبية عاملهم
بكل ما تأمر به تلك الآيات من الحلم والتساهل، وهو قوي لا ضعيف حتى رضي
بأن يُرجع إليهم من يجيئه منهم مسلمًا، وأن لا يرجعوا من يجيبهم من عنده، وبعد
ذلك كله كانوا هم الغادرين الناكثين للعهد، وتناسى أيضًا الآية التي قبل الآية التي
أوردها وزعم أنها هدمت جميع الفضائل (اعتباطًا) وهي قوله عز وجل: {إِلاَّ
الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا
إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ} (التوبة: 4) وقوله تعالى - بعد
آيات - {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ إِنَّهُمْ
لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم
بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ 000} (التوبة: 12-13) . فالمعترض قد قرأ كل هذه الآيات
التي تحيط بالآية التي ذكرها من أمامها وورائها، وعلم أن المشركين هم الذين
نكثوا، العهد وهم الذين بدأوا المسلمين بالعدوان، وهو مع هذا كله يكتب بلا حياء ولا
خجل زاعمًا أن المسلمين قاتلوهم (اعتباطًا) .
ثم إنه تناسى الآيات الأخرى التي تنهى عن الاعتداء في القتال كقوله تعالى:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِين َ} (البقرة: 190) وقوله جل وعز وهو أول ما نزل في الإذن بالجهاد دفاعًا عن الحق
والأنفس التي تُظلم وتهان لأنها تمسكت به، وتركت عبادة الأصنام والأوثان وذلك
قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ *
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ 000} (الحج: 39-
40) الآيات وفيها من بيان حكمة هذا الإذن بمدافعة أولئك المعتدين من عُباد الأصنام
أنه لولا هذه المدافعة لهدمت معابد أهل الكتاب كلهم، وأنه يشترط على المؤمنين
المأذون لهم بالمدافعة - إذا مكَّنهم في الأرض - أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة
مواساة للفقراء ونحوهم من المستحقين، ويمنعوا المنكرات الضارة، ويأمروا
بالمعروف. فهل تعد هذه المدافعة لعباد الحجارة الباغين المتعدين هدمًا للفضائل
وظلمًا للعباد، ويمتنع أن تكون بوحي من الله تعالى؟ وهل كانت المسوغات لموسى
ويوشع وسائر أنبياء بني إسرائيل (عليهم السلام) حين حاربوا الأمم المشركة أظهر
من هذه المسوغات؟ وهل اشترط عليهم - كما اشترط الإسلام - أن لا يبدأوا بالعدوان
ولا ينقضوا لمشرك عهدًا، وأن يصلحوا في الأرض بمشاركة الناس في أموالهم
وإزالة المنكرات من الأرض؟
جاء في الفصل العشرين من سِفْر تثنية الاشتراع (التوراة) ما نصه: (10
حين تقرب من مدينة لتحاربها استدعها إلى الصلح 11 فإن أجابتك إلى الصلح
وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك 12 وإن لم
تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرْها 13 وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب
جميع ذكورها بحد السيف 14 وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل
غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك 15 هكذا تفعل
بجميع المدن البعيدة منك جدًّا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا 16 وأما مدن
هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تستبق منها نسمة ما) أليس من
العار والفضيحة على من يعتقد أن هذا وحي من الله تعالى أن ينكر تلك الآيات
الكريمة الرحيمة التي أذنت بمدافعة المعتدين بقدر الضرورة؟ أليس من رحمة الله
تعالى بعباده أن تُنسخ هذه الأحكام القاسية الآمرة بإهلاك الأمم التي لها حق الجوار
حتى لا يبقى منها امرأة ولا طفل بشريعة تحرم قتل النساء والأطفال ورجال الدين
وكل من لا يعتدي ولا يقاتل؟ بلى ولكن تعصب هؤلاء ووقاحتهم من المدهشات!
علم مما ذكرناه أن الآية التي ذكرها وسمّاها آية السيف وزعم أنها نقضت
جميع الفضائل التي بنتها الآيات الكثيرة؛ إذ أمرت بقتل المشركين (اعتباطًا)
تتقدمها آيات، وتتلوها آيات تبطل ما زعم. وما هي إلا إذن بقتال المشركين الذين
نكثوا العهد كما في الآيات التي قبلها وبعدها. وذلك أن المسلمين عاهدوا مشركي
العرب من أهل مكة وغيرهم عهدًا فنكثوا إلا بني ضمرة وبني كنانة، فأمر الله تعالى
بأن ينبذ للناكثين عهدهم ويمهلوا أربعة أشهر إلى آخر المحرم من الأشهر الحرم، فإن
تابوا وإلا قوتلوا، قال البيضاوي في تفسير الآية ما نصه - مع اختصار قليل
يتعلق بالألفاظ -: (فإذا انسلخ) : انقضى، (الأشهر الحرم) التي أبيح للناكثين أن
يسيحوا فيها (فاقتلوا المشركين) : الناكثين، (حيث وجدتموهم) من حل وحرم
(وخذوهم) وأسروهم؛ والأخذ: الأسر (واحصروهم) واحبسوهم أو حيلوا بينهم
وبين المسجد الحرام (واقعدوا لهم كل مرصد) كل ممر لئلا يتبسطوا في البلاد.
ا. هـ. فأين الأمر بقتل جميع المشركين ظلمًا وعدوانًا كما زعم المعترض؟ !
وروى أصحاب الصحاح وأهل السير والتاريخ أن رسول الله صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم عاهد قريشًا عام الحديبية عهدًا كاد يخالفه لأجله المسلمون لما رأوا
من الغضاضة عليهم في تساهله مع المشركين، وكان أهم ما في العهد أن يضعوا
الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ودخلت خزاعة في عهده، وبنو بكر في عهد
قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالت منها وأعانتهم قريش بالسلاح حتى
تظاهروا عليهم، وفي ذلك يقول عمرو الخزاعي فيما أنشده يخاطب به النبي صلى
الله عليه وآله وسلم:
إن قريشًا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي من كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذل وأقل عددا ... هم بيتونا بالحطيم هُجدا
وقتلونا رُكَّعًا وسُجدا ...
وقد كان هذا الغدر سببًا في فتوح مكة، وآذنهم قبل ذلك بأن لا يطوف بالبيت
عُريان، وأن يتم لكل ذي عهد عهده، وأرسل أبا بكر ثم عليًّا إلى مكة فقرأ عليهم
نحو أربعين آية من صدر سورة (براءة) وفيها الآيات التي تقدم ذِكرها. ثم كيف
كانت معاملته للمشركين عندما فتح مدينتهم العظمى؟ هل أبادهم كما أمرت التوراة
التي يعتقد بها المعترض النصراني فلم يُبقِ منهم نسمة، أم عاملهم بما أرشدته إليه
الآيات الـ 125 الآمرة بالصفح وحسن المعاملة؟ كان رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قد أعطى رايته سعد بن عُبادة فبلغه أنه قال قبل أن يصلوا إلى مكة: اليوم يوم
الملحمة اليوم تُستحَل الحرمة، اليوم أذل اللهُ قريشًا، فأمر بنزع الراية منه وأعطاها
لابنه، وقال عليه الصلاة والسلام: (اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله قريشًا) ودخل مكة لم يسفك دمًا، وإنما كانت ساعة قتال بين خالد بن الوليد وبين الذُّعر من
قريش الذين حاولوا صدّه فقُتل من جيشه اثنان، ومن المشركين أربعة وعشرون. ثم
دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الكعبة فاجتمع الناس فقال: (يا
معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ !) قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال:
(اذهبوا فأنتم الطلقاء) ! أفيرى المعترض أن هذه المعاملة مناقضة للرفق والصبر
والصفح عن المخالفين في الدين؟ إن كان يرى ذلك فليصور لنا معاملة أفضل منها
وأرحم!
ثم إننا نعود إلى آيات الصفح والصبر وحسن المعاملة والرفق والحلم فنقول:
إنها وردت في ضروب من السياق مختلفة، منها تسلية النبي صلوات الله عليه
عندما كان يضيق صدره لإعراض الناس عن الحق وعدم إصغائهم إليه. ومنها
تقبيح جهلهم وبيان أن الكمال في الإعراض عنه لا في مقابلته بمثله. ومنها بيان أن
الأنبياء عاجزون عن هداية الناس بالفعل، وأن القادر على ذلك هو الله تعالى الذي
وضع السنن على أساس الحكمة والنظام. ومنها بيان أن وظيفة الأنبياء البيان
وحسن التبليغ وأن الإيمان لا يكون بالإكراه، وإنما يكون بالإقناع، وهذا قريب مما
قبله ولكنه غيره. كقوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (الطور: 48)
وقوله: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199)
وقوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (الزخرف: 89) وقوله:
{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) وقوله:
{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: 45) وقد كانت هذه الآيات تقرن بآيات أخرى
تشعر بأن الله ينصر رسوله، ويجعل العزة والغلبة لحزبه، كقوله تعالى في سورة
الصافات وهي مكية: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ
* وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} (الصافات: 171-175) وإنك لتجد من التهديد والوعيد في السور المَكِّية التي
نزلت في زمن الضعف ما لا تجد مثله في السور المدنية التي نزلت في زمن القوة،
والمعترض يوهم خلاف ذلك، وما أراه إلا متعمدًا للإيهام إذ لم يبلغ به الجهل أن
يعتقد بما يقول، ولكن بلغ به التعصب أن يقول ما لا يعتقد!
أما زعمه أن المسلمين لمَّا رأوا التناقض في هذه الآيات زعموا أنها منسوخة
فباطل، فإن أحكامها ثابتة، وكان العمل عليها لم ينقطع بالقتال الذي كان للضرورة
وبمقدار الضرورة مع الرحمة والعدل ورعاية حقوق الإنسان بقدر الإمكان. وقد علم
مما أشرنا إليه من الشواهد أن الآيات الآمرة بالصفح والتولي عن المشركين لجهلهم
على العموم لم يترك العمل بها، وأما ما كان متعلقًا بالمدافعة والمقاومة فقد كان موقتًا
كقوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} (الصافات: 174) وقوله: {فَاعْفُوا
وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (البقرة: 109) ، نعم إن من المؤلفين من زعم
أن هذه الآيات منسوخة بآية السيف، وقد رد العلماء المحققون هذا القول وأنكروه كما
يعلم من كتاب (الإتقان) ومن كتب التفسير.
والذي يحمل المؤلفين على أمثال هذه الجهالة هو حب الإعراب وملء
الصحائف، فإن الرجل يخطر في باله أن يؤلف كتابًا في موضوع ضيق لا تتسع
مسائله لأن تكون كتابًا فيُدخل فيها ما ليس منها لأدنى شبهة. وقد حقق الإمام
الشوكاني أن الآيات المنسوخة سبع لا تزيد، وكان الحافظ السيوطي عدَّها عشرين.
ومن العلماء المحققين من ينكر النسخ في القرآن دون السنة، ويفسر الآيات التي قالوا
بنسخها تفسيرًا يبين به أحكامها. والنسخ في كتب اليهود والنصارى - التي يسمون
مجموعها (الكتاب المقدس) - كثير جدًّا وقد عقد له الشيخ رحمه الله في كتاب
(إظهار الحق) بابًا أورد فيه الشواهد الكثيرة من تلك الكتب.
وربما يستغرب القارئ إحصاء هذا المعترض النصراني لهذه الآيات، ويتوهم
أنه قرأ القرآن واستخرج منه ما تقدم. والأمر ليس كما يظن وإنما استخرج هو
وأمثاله جميع مطاعنهم من كتب المسلمين كالإتقان والناسخ والمنسوخ، فإنك ترى في
الإتقان فصلاً في مشكل القرآن وموهم التناقض فيه، فالخصم يأخذ ما يوهم التناقض
من هذه الكتب فيسميه متناقضًا ليسرّ به قومه ويشكك المسلمين ويشفي غليل تعصبه
منهم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(6/412)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نموذج من دلائل الإعجاز
تتمة ما سبق من الموازنة الشعرية
رأيت أبا نواس ينشد قصيدته التي أولها: * أيها المنتاب من عفره * فحسدته
فلما بلغ إلى قوله:
يَتَأَيَّى الطير غدوته ... ثقة بالشبع من جزره
قلت له: ما تركت للنابغة شيئًا حيث يقول: إذا ما غدا بالجيش.. البيتين
فقال: اسكت فلئن كان سبق فما أسأت الاتباع، وهذا الكلام من أبي نواس دليل بيِّن
في أن المعنى يُنقل من صورة إلى صورة، ذاك لأنه لو كان لا يكون قد صنع
بالمعنى شيئًا لكان قوله: فما أسأت الاتباع محالاً؛ لأنه على كل حال لم يتبعه في
اللفظ. ثم إن الأمر ظاهر لمن نظر في أنه قد نقل المعنى عن صورته التي هو
عليها في شعر النابغة إلى صورة أخرى، وذلك أن ههنا معنيين: أحدهما أصل وهو
علم الطير بأن الممدوح إذا غزا عدوًّا كان الظفر له وكان هو الغالب، والآخر فرع
وهو طمع الطير في أن تتسع عليها المطامع من لحوم القتلى، وقد عمد النابغة إلى
الأصل الذي هو علم الطير بأن الممدوح يكون الغالب - فذكره صريحًا، وكشف عن
وجهه واعتمد في الفرع الذي هو طمعها في لحوم القتلى، وأنها لذلك تحلق فوقه على
دلالة الفحوى. وعكس أبو نواس القصة فذكر الفرع الذي هو طمعها في لحوم
القتلى صريحًا فقال - كما ترى -: * ثقة بالشبع من جزره * وعول في الأصل -
الذي هو علمها - بأن الظفر يكون للممدوح على الفحوى، ودلالة الفحوى على علمها
أن الظفر يكون للممدوح هي في أن قال: (من جزره) وهي لا تثق بأن شبعها
يكون من جزر الممدوح حتى تعلم أن الظفر يكون له، أفيكون شيء أظهر من هذا
في النقل عن صورة إلى صورة؟ ارجع إلى النسق، ومن ذلك قول أبي العتاهية:
شِيَم فتّحت من المدح ما قد ... كان مستغلِقًا على المُدَّاح
مع قول أبي تمام:
نظمت له خرز المديح مواهب ... ينفثن في عقد اللسان المقحم
وقول أبي وجزة:
أتاك المجد من هَنَّا وهنا ... وكنت له كمجتمع السيول
مع قول منصور النمري:
إن المكارم والمعروف أودية ... أحلك الله منها حيث تجتمع
وقول بشار:
الشيب كُره وكره أن يفارقني ... أعجب بشيء على البغضاء مودود
مع قول البحتري:
تعيب الغانيات عليَّ شيبي ... ومَن لي أن أمتع بالمعيب
وقول أبي تمام:
يشتاقه من كماله غده ... ويكثر الوجد نحوه الأمس
مع قول ابن الرومي:
إمام يظل الأمس يُعمل نحوه ... تلفت ملهوف ويشتاقه الغد
لا تنظر إلى أنه قال: (يشتاقه الغد) ، فأعاد لفظ أبي تمام، ولكن انظر إلى قوله:
(يعمل نحوه تلفت ملهوف) .
وقول أبي تمام:
لئن ذمت الأعداء سوء صباحها ... فليس يؤدي شكرها الذئب والنسر [1]
مع قول المتنبي:
وأنبت منهم ربيع السباع ... فأثنت بإحسانك الشامل
وقول أبي تمام:
ورب نائي المغاني روحه أبدًا ... لصيق روحي ودانٍ ليس بالداني
مع قول المتنبي:
لنا ولأهله أبدًا قلوب ... تلاقَى في جسوم ما تلاقى
وقول أبي هِفَّان:
أصبح الدهر مسيئًا كله ... ما له إلا ابن يحيى حسنه
مع قول المتنبي:
أزالت بك الأيام عَتبي كأنما ... بنوها لها ذنب وأنت لها عذر
وقول علي بن جبلة:
وأرى الليالي ما طوت من قوتي ... ردته في عظتي وفي أفهامي
مع قول ابن المعتز:
وما ينتقص من شباب الرجال ... يزد في نُهاها وألبابها
وقول بكر بن النطاح:
ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتقِ الله سائله
مع قول المتنبي:
إنك من معشر إذا وهبوا ... ما دون أعمارهم فقد بخلوا
وقول البحتري:
ومَن ذا يلوم البحر إن بات زاخرًا ... يفيض وصوب المُزْن إن راح يهطل
مع قول المتنبي:
وما ثناك كلام الناس عن كرم ... ومن يسدُّ طريق العارض الهطل
وقول الكِنْدي:
عزوا وعز بعزهم من جاوروا ... فهم الذرى وجماجم الهامات
إن يطلبوا بتراتهم يعطوا بها ... أو يطلبوا لا يدركوا بترات
مع قول المتنبي:
تفيت الليالي كل شيء أخذته ... وهن لما يأخذن منك غوارم
وقول أبي تمام:
إذا سيفه أضحى على الهام حاكمًا ... غدا العفو منه وهو في السيف حاكم
مع قول المتنبي:
له من كريم الطبع في الحرب منتضٍ ... ومن عادة الإحسان والصفح غامد
ثم احتج المصنف بهذه الأمثلة على أن البلاغة والفصاحة إنما تكون بالنظم
والأسلوب، دون خفة اللفظ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) أي: لا يستطيع الذئب والنسر أن يقضيا حق شكرها لكثرة ما أكلا مما قتلت.(6/418)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قصة بقرة بني إسرائيل
ليس فيها معجزة
حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الغراء،
دام بقاه.
بعد السلام، رأيت فيما أوردتموه بالعدد الرابع من المجلة في تفسير قوله
تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (البقرة: 73) تفسير الأستاذ الأكبر مولانا الشيخ محمد عبده أنه لم يستحسن
قول المفسرين الذين قالوا: إنهم ضربوا المقتول فعادت إليه الحياة، وقال: ضربني
أخي أو ابن أخي فلان إلى آخر ما قالوه، وقال: والآية ليست نصًّا في مجمله،
فكيف بتفصيله، والظاهر أن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند
التنازع فيمن القاتل إذا وجد القتيل بين بلدين كما قدمنا ليعرف الجاني من غيره، فمَن
غمس يده في الدم وفعل ما رسم لذلك في الشريعة برئ من الدم ومن لم يفعل ثبتت
عليه الجناية، ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء إلى آخره، على هذا ما
معنى استغراب بني إسرائيل الأمر بذبح البقرة كما تقدم في تفسير الأستاذ مع قوله:
(إنَّ ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء..) إلى آخره، وما الثمرة التي
نتجت من الضرب حتى أمر الله به، وما الذي منع الجاني من أن يغمس يده في الدم
حتى لا تثبت عليه الجناية؟ وقد سكت الأستاذ الإمام عن تفسير قوله تعالى:
{وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} (البقرة: 73) فما معناه على هذا التأويل؟ فأرجوك أيها الأستاذ
الفاضل إرشادي إلى الحقيقة ودمتم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الإسكندرية
... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... مصطفى محمد الإسكندراني
(المنار)
وجه الاستغراب ظاهر، فإن الأمر بذبح بقرة لا علاقة له في بادي الرأي
بالفصل في قضية قتيل تنازع فيه طائفتان حتى كادت إحداهما توقع بالأخرى،
والظاهر أن هذه الواقعة كانت هي السبب الأول في اشتراع تلك الطريقة للفصل في
الدماء المتنازع فيها مثلها، وقد أشرنا إلى ذلك في تفسير الآيات. وأما الذي يمنع
الجاني من وضع يده في الدم، وتلاوة الدعوات فهو الإيمان والاعتقاد الذي يمنع
الجاني المؤمن من اليمين الكاذبة، فإن المؤمن إنما يُقْدِم على الجريمة ناسيًا أو مغلوبًا
بانفعال النفس ثم يرجع على نفسه باللائمة، ويصعب عليه أن يحلف بالله كاذبًا، وقد
كانت تلك الهيئة التي يأتيها بنو إسرائيل من اجتماع الشيوخ الأشراف ووضع أيديهم
في الدم وتلاوة الدعوات مؤثرة جدًّا حتى أن الجاني ليضطرب إذا أقدم عليها منكرًا
للحق وربما يظهر عليه الاضطراب، ولو كان شاكًّا في الدين. وكثيرًا ما يحتال
القضاة في كل زمان بالمؤثرات القولية والفعلية على حمل المجرمين على الإقرار
بجرائمهم فيقرون.
وأما تفسير {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} (البقرة: 73) : فهو ظاهر، ولا أدري أكان
الأستاذ الإمام سكت عنه أم ذكره، ونسيته أنا أو ذهلت عنه لظهوره. السائل يعلم أن
لفظ الآيات يطلق على ما ينزله الله تعالى من الأحكام فتوهَّمه أن معنى (الآيات)
في هذا المقام (المعجزات) مبني على اعتقاده بأن هناك معجزة ظهرت، ومن
المصادرة أن يلزم من لم ير ذلك بأن يفسر الآيات هذا التفسير. وإننا نذكِّره بقرن
القرآن مثل هذا التعبير بآيات الأحكام الشرعية من سورة البقرة نفسها. قال تعالى
- بعد ذكر أحكام الصيام -: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (البقرة: 187) وقال - بعد بيان تحريم الخمر والميسر -:
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (البقرة: 219) وقال - بعد بيان
أحكام النساء في الطلاق وغيره -: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (البقرة: 242) .
__________(6/421)
الكاتب: أحد المشتركين
__________
تحرير يوم مولد النبي عليه الصلاة والسلام
أستاذنا الأجل السيد محمد رشيد رضا صاحب ومحرر مجلة المنار الغراء..
أفتتح كتابي هذا بالشكر الذي يجب على كل مسلم أنه يقدمه لسيادتكم على ما
لكم من الأيادي البيضاء، والهمة الشماء في منافع المسلمين، وتخليص الدين من
شوائب المضلين، فالله ينفع بكم البلاد والعباد، ويوفق الكل للعمل بتعاليمكم المفيدة.
أما بعد: فيا أيها السيد جاء في العدد الخامس من مجلد هذه السنة ضمن كلام
للأستاذ الإمام (نفعنا الله به وبعلومه) : أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلد ليلة
الاثنين 12 ربيع الأول عام الفيل (20 أبريل سنة 571 ميلادية) وقد اطلعت على
رسالة لصاحب السعادة محمود باشا الفلكي وضعها باللغة الفرنساوية، أثبت فيها أن
ميلاده -عليه الصلاة والسلام - ليلة الاثنين 9 ربيع الأول عام الفيل - 20 أبريل سنة
517 أيضًا وأورد على ذلك أدلة كثيرة استنتج منها أن ليلة الولادة لا بد أن تكون
ليلة الاثنين 8 أو 10 أو 12 ربيع الأول حسبما جاءت به روايات الأئمة الأعلام.
وبعد الحساب الدقيق وجد أن أول الشهر المذكور وقع في 11 أبريل سنة
571م، حيث كان الاجتماع الحقيقي للقمر، وعليه لا يكون يوم اثنين بين 8 و12
منه إلا يوم 9 منه وجاء في نهاية عبارته: (يتلخص من ذلك أن النبي صلى الله
عليه وسلم وُلد ليلة الاثنين 9 ربيع الأول عام الفيل - 20 أبريل م، فاحرص على
هذا التحقيق) .
وأنا مع اعتقادي بأن منار المسلمين لا يجب عليه البحث في مثل هذا
الموضوع إلا بما تسمح به الظروف لكني آنست منه أن نرشد فيه إلى سواء السبيل؛
لذا جئت بهذا راجيًا الإفادة عما يلزم أن نعتقده، أو كيف يمكن الجمع بين القولين
والسلام.
... ... ... ... ... ... ... (أسيوط) - أحد المشتركين
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (أ. ف.)
(المنار)
في تعيين تاريخ مولده عليه السلام أقوال أرجحها أنه ولد ليلة الاثنين لثمانٍ
خلون من ربيع الأول، وأشهرها لاثنتي عشرة ليلة خلت منه، وترجيح الأول هو
المعروف عند علماء الحديث والتاريخ 9، قال في (السيرة الحلبية) : (وقيل لثمان
مضت منه، قال ابن دحية: وهو الذي لا يصح غيره، وعليه أجمع أهل التاريخ،
وقال القطب القسطلاني: هو اختيار أكثر أهل الحديث أي: كالحميدي وشيخه ابن
حزم) .
وظاهر أن معناه أنه ولد في اليوم التاسع من الشهر (لا فرق بين ليله ونهاره)
لأن التاسع هو الذي يتلو الثمان التي خلت من الشهر. ولجهل كثير من أهل هذا
العصر بأسلوب العرب في التاريخ كقولها في أول الشهر: لثمان خلت ونحوه
وقولها في أواخره لثمان بقين مثلاً يظنون أن معنى (ولد لثمان خلت من الشهر)
أنه ولد في الثامن منه. ومن آية ترجيح هذه الرواية موافقتها للحساب الذي نقلتموه
وقد جمع الأقوال كلها بعضهم فقال: ولد عام الفيل يوم الإثنين (ولا خلاف في
هذين) لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، أو لليلتين خلتا منه، أو لثمان أو
لعشر خلون منه. أقوال (خاتمة مجمع بحار الأنوار) وهناك أقوال أخرى ذكرها
أهل السير، ولا عبرة بها بعد تصحيح النقل بما يوافق الحساب الدقيق.
الخلاف في تحديد اليوم الذي ولد فيه عليه الصلاة والسلام لا يترتب عليه
حكم شرعي ولا دنيوي ولذلك يتساهل العلماء فيه، ويحتفلون مع المحتفلين بتذكار
المولد في الثاني عشر من الشهر وهم يعتقدون أن المولد كان في التاسع على الراجح
فيحتمل أن يكون قد كتب الأستاذ الإمام ما كتب تعمدًا لهذا التساهل ويحتمل أن يكون
قد جرى قلمه بالمشهور سهوًا. ولا محل للعجب من اشتهار القول المرجوح في هذه
المسألة فإذا كان الخلاف في مولد نبينا بأيام فالغلط في مولد المسيح بعد بالسنين كما
في كتاب (تقريب التقويم) تأليف يعقوب باشا أرتين وكيل المعارف في مصر،
وفانتر باشا باشمهندس الدائرة السنية. وقد عرَّب هذا الكتاب محمد أفندي
كامل المدرس بالمدرسة الحربية، وقرأنا في (المقتطف) الأغر نقلاً عنه ما يأتي:
(إذا جعلنا مبدأ جميع الأزمان الماضية من التاريخ المسيحي 16 يوليه
سنة 622 يوليانية تجنبنا كل إشكال، فإن من المعلوم أن طريقة حساب السنين
بالابتداء من ميلاد المسيح وُضعت سنة 526 بمعرفة ديونيسيوس أحد قسس (أي:
قسوس) بعض الأديرة (أي: الأديار) برومة، وقد أخطأ في حسابه بجعله مبدأ
التاريخ المسيحي متأخرًا بنحو خمس سنوات؛ لأنه بموجب حساب أمهر المؤرخين
المؤسَّس على مؤلَّفات القدماء مثل يوسيفوس ورديون كسيوس، كان ميلاد المسيح في
25 ديسمبر سنة 6 قبل التاريخ المسيحي، وليس 25 ديسمبر سنة 1 قبل التاريخ
المذكور كما يظنه العوام. وهو خطأ لا يزول، لما يترتب على تصحيحه من
الارتباك المهول) اهـ.
(المنار)
من العبر في هذا التحرير أن ما يشتهر على ألسنة العوام لا قيمة له وإن
وافقهم الخواص سكوتًا، وأن اتفاق الملايين من العوام على أمر لا يصلح دليلاً على
جعله متواترًا، فإن نقل التواتر لا بد أن يكون في كل طبقة من الناقلين حتى ينتهي
في الطبقة الأولى إلى الحس الذي لا شبهة فيه.
__________(6/423)
الكاتب: عبد الله نصوحي
__________
الرد على شبهات النصارى وترجمة البابا
حضرة الأستاذ الكامل
إن ما ينشره البروتستنت ضد الدين الحنيف وضد القرآن ما كان يدري به أحد
من المسلمين لولا ما تنشرونه تباعًا في مناركم في باب شبهات النصارى وحجج
المسلمين؛ فإن كتاباتهم ومجلاتهم الدينية لا يقرؤها إلا هُم، ولم يكن لها مشتركون
إلا منهم، ولا بد أن يكون فرحهم بنشركم خزعبلاتهم، والرد عليها أكثر من
سرورهم من نشرها في جرائدهم.
بالله وما مناسبة ذكر ترجمة البابا لاون الثالث عشر في مناركم الأخير، هل
قصدكم إظهار فضله وورعه ومناقبه للمسلمين، ألا يكفي في ذلك جرائدهم؟ هداكم
وهدانا الله لما فيه خير المسلمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإسكندرية
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله نصوحي
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحد قرائكم
(المنار)
لم يكن هذا الانتقاد جديرًا بالنشر لضعفه في كلتا المسألتين، ولكننا نشرناه
لنُطمِع كل قارئ للمنار بانتقاد ما يراه فيه منتقدًا، ولتوقًُّع أن يكون في القراء مَن
ينتقد ما ذُكر لاتفاقه مع هذا المنتقد في الرأي.
أما الجواب عن الأول، فمن وجوه:
(أحدها) أننا نخبر المنتقد بأن المجلة التي نرد عليها تُرسل إلى شيخ الجامع
الأزهر وطائفة من كبار شيوخه، فمنهم مَن يردها، ومنهم من يقبلها لعلمه بأنه لا
يطالَب باشتراكها، وتُرسل إلى غيرهم من المسلمين، فإذا لم يرد عليها أحد فإن
ناشريها يحتجون فيما بينهم، ويحتجون على عوام المسلمين الذين يحضرون
مجالسهم في المكتبة الإنكليزية وغيرها - بأن علماء المسلمين قد عجزوا عن دفع
تلك الشُّبَه؛ لأنها أُرسلت إليهم، ولو كانوا قادرين على الرد فيها لفعلوا. وهذا باب
من أبواب تشكيك العوام في الدين، يجب علينا إغلاقه.
(ثانيها) أن هذه الشبه منشورة في كتب لهم مطبوعة، تباع للمسلمين
وغيرهم، ويطَّلع عليها بعض المسلمين في المجلة التي تنقل من الكتب. ومتى
أظهر المخالفون الاعتراض على الإسلام فالواجب على المسلمين مدافعتهم، وبيان
فساد شبههم، فإذا لم يفعل ذلك أحد يكون جميع المسلمين العالمين بذلك عصاة فساقًا،
على أن هذه المطاعن في أصل الدين فهي من الكفر، ولعلكم تعرفون حكم مَن
يسكت على ذلك، ويقره، وهو قادر على إبطاله.
(ثالثها) أننا ننشر تلك الشبهات مع ردها بالدلائل الناصعة التي نرى قراء
المنار - حتى من النصارى - مقتنعين بأنها أزالت كل شبهة، وكشفت كل غمة،
فكيف يتوهم المنتقد مع هذا أن يفرح المنتقدون ببيان جهلهم وإظهار بهتانهم؟ ! إن
هذا وهم عجيب إلا ممن لم يقرأ تلك الأجوبة السديدة.
(رابعها) أن كثيرين من المسلمين يطالبوننا بالرد على هذه الشبهات،
وكثيرًا ما ترد إلينا نسخ المجلة البروتستنية من جهات مختلفة في البريد، فنعلم أنه
لا غرض لمرسليها إلا الرد على ما فيها، ومتى سُئل العالِم في أمر الدين يحرم
عليه الكتمان بلا خلاف.
(خامسها) إذا فرضنا أن ما يكتبه القوم لا يعدوهم، وأنهم هم الذين يقرؤونه
دون سواهم - فإننا نرى من الواجب أن نزيل من أمام أعينهم الشبه التي تحجب
عنهم محاسن الإسلام، وتحملهم على سوء الاعتقاد به، وتجعل لهم حجة يحتجون
بها على البقاء فيما هم؛ فإن شيوع هذ الشبهات بينهم مانعة من تحقُّق بلوغهم دعوةَ
الإسلام على حقيقتها، وهي أن تكون الدعوة على وجه يحرك إلى النظر والبحث،
والدعوة الصحيحة واجبة على المسلمين، والجرائد والمجلات خير وسيلة لها.
ولا نرى للمسلمين جريدة ولا مجلة تنشر محاسن الإسلام وأصوله وأحكامه على
وجه يحرك إلى النظر؛ ولذلك جعلنا أشرف مقاصد المنار إحياء هذه الفريضة
الإسلامية التي يأثم المسلمون كلهم بتركها.
وإنني أخبر المنتقد بما كنت أحب أن أكتمه، وهو أنه جاءني في الأسبوع -
الذي كتب إليَّ فيه - كتاب من أحد المشتركين في (أنشاص الرمل) ، يقول فيه
مرسله: إنه اجتمع بأحد المتنصِّرين، فسأله عن سبب تنصره، فأخرج له الكتاب
الذي تنقل عنه المجلة البروتستنية الطعن في القرآن، وقال له: إن قراءة هذا الكتاب
هي السبب في ذلك، لا ضيق المعاش ونحوه من الأسباب التي تُخرج بعض جهلة
المقلدين عن دينهم أحيانًا.
وقد سألني مَن كتب إليَّ بذلك أن أرشده إلى كتاب يرد على ذلك الكتاب
المضل؛ ليطَّلع عليه ذلك المتنصر، لعله يعود إلى هداه، وإنني لا أعرف أن أحدًا
ردّ عليه، فما على السائل إلا أن يُطْلع ذلك المتنصر على مقالات المنار في الرد؛
لعله يهتدي بما أظهرناه من جهل مؤلف الكتاب، ومن تحريفه وكذبه وسوء فهمه
وقصده، ويقيس على ما رددناه ما سنزيده، حتى يتم الرد كله، وبالله التوفيق.
وأما سؤاله عن سبب ترجمة البابا في المنار فجوابه صريح في النبذة التي
كتبناها، والظاهر أنه رأى الترجمة فأنكرها ولم يقرأها، نرغب إليه أن يقرأها،
وإننا رأينا الفضلاء في مصر قد سُروا بهذه الترجمة سرورًا عظيمًا، وذهب بعضهم
إلى أنها من أنفع ما كُتب في المنار، وقال بعضهم: وددنا لو يموت في كل يوم بابا
لنسمع موعظة مثل هذه الموعظة! {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) .
__________(6/425)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ
(مجلة الأحكام الشرعية)
أتمت هذه المجلة سنتَها الأولى ودخلت في الثانية وأصدرت فيها أربعة
أعداد. وإننا نهنئ منشئها حسن بك حمادة بما وفق له من النجاح في عمله وانتشار
مجلته على خصوصية موضوعها، وآية هذا النجاح الكبرى أن نظارة الحقانية قد
اشتركت في نسخ من المجلة بعدد المحاكم الشرعية في القطر المصري، وأذنت
لصاحب المجلة بأخذ صور الأحكام التي تبحث في المبادي القضائية من كل محكمة
مجانًا والتزم هو نشر الإعلانات الإدارية لهذه المحاكم مجانًا. وآية أخرى أن بعض
كبار رجال القضاء يكتبون في هذه المجلة انتقادات على بعض المرافعات وصور
الأحكام، نعم، إنهم يكتمون أسماءهم ولكنهم يجهرون بأفكارهم.
***
(عروس النيل)
مجلة أدبية اجتماعية عمومية أنشأها في القاهرة سليم أفندي قبعين، يدخل كل
عدد منها في 24 صفحة يتبعه ذيل أربع صفحات ينشر فيه قصة (البعث)
للفيلسوف تولستوي معربة عن اللغة الروسية. وقد صدر العدد الأول في أول
أغسطس مصدرًا برسم المرحوم علي باشا رفاعة، وتأبينه، ويتلو ذلك مقدمة المجلة
وبعدها مقالة لمحمد أفندي فاضل الأزهري موضوعها: (الاستقلال) ، يتلوها لغز
فكاهي يتبعه نبذة في سكة حديد الحجاز، من ورائها كلمة في التعليم، فنبذة في مقتل
الملكين (ملك الصرب وزوجه) وبعض المقاطيع الشعرية. وقيمة الاشتراك في
المجلة سبعون قرشًا صحيحًا في السنة.
***
(الأوقاف المصرية)
مجلة جديدة أسبوعية صاحبها محمد غالب أفندي فطين، ويظهر أن صاحبها
اكتفى باسمها في الدلالة على موضوعها، فلم يكتب تحته في غلافها وصفًا يشعر بذلك
وقد التمسنا بيان تحديد الموضوع في مقدمتها فلم نر فيها إلا فاتحة كفواتح
(الوقفيات) تذم الدنيا وتمدح الصدقة، ثم قرأنا بعدها (معذرة لتأخير مقدمة الجريدة)
نذكرها بنصها لما فيها من الدلالة على مكانة المجلة في التحرير والفكر قال:
(اكتفاءً بالخطبة وبناءً على طلب حضرات الأصدقاء النبهاء ممن لا تسعنا
مخالفتهم لعلو منزلتهم لدينا، وهم أرقى منا فكرًا ورأيًا وعقلاً قد أخرنا درج المقدمة
في هذا العدد للعدد الآتي، وعذر حضراتهم في ذلك أن الخطبة بحسب أفكارهم العالية
كادت بفضل الله تغني عن الإيضاح وأن المواد أصبحت دارة الجريدة كثيرة جدًّا
بحيث تكفي لأعداد مقبلة، فبناءً عليه نلتمس ونرجو من حضرات القراء الكرام قبول
المعذرة والمسامحة وعدم الملام، والموعد قريب إن شاء الله) اهـ.
ثم قرأنا عنوانات المجلة فإذا هي (مقابلة مع سعادة مدير الأوقاف) بلَّغ
صاحب المجلة فيها المدير أنه مستعد لنشر إعلانات الأوقاف مجانًا و (مقابلة مع
سيدة مصرية) وقيمة الاشتراك في المجلة 75 قرشًا صحيحًا في السنة.
***
(الانتقام)
هي القصة العشرون من مسامرات الشعب، عرَّبها أحمد حافظ أفندي عوض عن الإنكليزية، وليست بشيء لولا أنها مقدمة لقصة أخرى تتصل بها.
__________(6/427)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدولة العلية ومكدونية
ورأي في الإصلاح
كتبنا في الجزء الأول والجزء الثاني من هذه السنة نبذتين عن الثورة التي
نجمت في بلاد مكدونية قلنا في الأولى: إن المسألة عشواء، والحكم فيها غامض؛
لأن أهل هذه البلاد وغيرهم من النصارى في بلاد الدولة طامعون بالاستقلال،
وأوربا عون لهم، ولأن غرض روسيا غير معروف، وعليه المدار في هذه المسألة.
وقلنا في الثانية: إننا اطمأننا من جهة روسيا بعض الاطمئنان، وبنينا ذلك على ما
كان نقل من ترك روسيا لمنشوريا بسبب الحاجة إلى المال. وتوقعنا من تقرب إنكلترا
إلى فرنسا وزيارة ملك الأولى لرئيس الثانية أن يتفقا على عدم إسعاد روسيا على
حرب تركيا إذا كانت تريد ذلك وتمهد له بالثورة. وقلنا أيضًا: إنه إذا كان اتكال
بغاة مكدونية على البلغار والصرب فلا خطر على الدولة العلية؛ لأنها قادرة على
تدويخ هاتين بسهولة، وإن هي لم تستفد من تدويخهما شيئًا لتعصب أوربا.
ثم تحولت الأحوال، وظهر لنا من الوقائع ما لم نكن نحتسب. ظهر لنا أن
روسيا لا تترك منشوريا وهي أول ثمرة تذكر بتلك الملايين التي أنفقتها في مد
خطوط الحديد إلى الشرق الأقصى، ووراءها من المقاصد الاستعمارية والتجارية ما
وراءها. ثم علمنا أن توجيه عناية الروس الكبرى إلى تلك البلاد، ومزاحمة اليابان
بالمناكب في ربوعها قد حرك في نفوس اليابانيين الإباء والحميَّة فصاروا يهجسون
بمحاربتها حتى قال قائلهم: إننا قد جارينا أوربا في كل علم وكل عمل وجاريناها
في القوى البرية والبحرية حتى صرنا في مقدمة دولها العظمى، وهي مع ذلك ترانا
دونها ذهابًا مع التقاليد الماضية التي تفضل الجنس الأبيض على الجنس الأصفر فلا
وسيلة لإقناع أوربا بمساواة الجنسين إلا بمحاربة روسيا، فإظهار شرفنا ببرهان
ساطع يخطف أبصار أمم المدنية لا يكون إلا بهذه الحرب، وما أرى هذه الهواجس إلا
من وسوسة الإنكليز الذين يعتمدون عليها في إغراء بعض الشعوب ببعض، وكانت
أنفع لهم من أساطيلهم التي يفاخرون بها.
هذا شاغل كبير لروسيا عن القصد إلى حرب الدولة العثمانية، فإن محاربة
الترك تضطر روسيا إلى توجيه جميع قواها إلى الشرق الأدنى، وهي لا تأمن حينئذ
من اليابان، ولكنها إذا وجهت جميع قواها إلى الشرق الأقصى لمحاربة اليابان فإنها
لا تخاف من الترك اعتداءً، ولا تخشى لأنهم أمسوا كما قال الشاعر العربي:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون مَن ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانًا
كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الخلق إنسانا
فهذا هو السبب فيما ظهر لنا من رغبة روسيا أولاً وآخرًا في مبادرة الدولة إلى
الإصلاح، وفي سكوتها عن عقاب قاتل قنصلها الأول؛ لأن قاتله من الألبانيين الذين
كانوا متمردين على الدولة، وفي اكتفائها بعقاب قاتل قنصلها الثاني، ومن عاونه بأشد
العقوبات، ونفي والي موناستير إلى طرابلس الغرب، وفي نصحها للبلغار بعدم
مساعدة الثائرين. ولو كانت تريد سوءًا لوثبت إليه بما فتح لها من المنافذ وما
أشرعت لها الفتنة من الطرق. ويقال: إن بين السلطان والقيصر اتفاقًا سريًّا نذكر
موضوعه بعد.
يعجب الواقفون على أخبار الثورة من سلوك البلغار مع سلوك روسيا فإنهما
يسيران متدابرين فيما يتراءى للناظرين، روسيا تسعى في إطفاء النار، والبلغار
تذكيها وتحضها وتمد االبغاة في غيهم حتى أن ضباط عساكرها ينسلون من
معسكرهم لإدارة الثورة إدارة عسكرية منتظمة، وذلك لا يكون إلا بإيعاز من حكومتهم
أليس في هذا السلوك مثار للريب؟ أيعقل أن تنحرش بلغاريا الضعيفة بالأسد
التركي إلا إذا كانت واثقة بأن وراءها أسدًا أو أسودًا؟ إذا لم يكن الأسد الروسي
الذي أعطى هذه البلاد استقلالها هو الذي يحميها من قرنه التركي فعلى أي الأسود
تعتمد؟ الأقرب عندي أن يكون الخوف اليوم في موضع الرجاء بالأمس. فإننا لما
كنا نسيء الظن بروسيا أحسنَّا الظن بالإنكليز حتى توقعنا أن يكون الغرض من
زيارة ملكهم لفرنسا الاتفاق معًا على عدم الرضى من روسيا بمحاربة تركيا لكيلا
تساعدها فرنسا على ذلك، ولما ترجح عندنا الآن أن روسيا لا تريد حربًا ولا تضمر
غدرًا انعكس الرأي الأول، وظننا السوء بإنكلترا، وتوقعنا أنها قد اتفقت مع فرنسا
على النفخ في نار الثورة، وإغراء البلغار بإمدادها، ووعدها بالمساعدة على ضم
مكدونية إليها كلها أو بعضها. وهل يتيسر لهما الوفاء بالوعد إذا لم تكن روسيا
والنمسا معهما؟ لا حاجة لنا بالبحث في الجواب، ولكننا في حاجة إلى التأمل في
معاملة أوربا لنا، وماذا يجب علينا.
إن سلوك أوربا الجديد في حل المسألة التي يسمونها الشرقية ويعنون بها
الإسلامية سلوك عجيب، وأعجب صوره، وأغرب أشكاله ما كان من نتيجة محاربة
الدولة العلية لليونان، فقد جعلت أوربا الدولة البادئة بالعدوان المغلوبة في ميدان
الطِّعان - هي الفائزة بالنتيجة إذ جعلت ولي عهدها حاكمًا على ولاية عظيمة من
بلاد الدولة المنتصرة (وهي جزيرة كريت) على أن تكون هي الحافظة والحامية
لتلك الولاية. وما يدرينا لعلهم يريدون الآن سلخ ولايات مكدونية من الدولة بمثل
تلك الطريقة. وهكذا يقطعون في كل مرة عضوًا من جسم الدولة يغذون به من
يرونه أولى به حتى لا يبقى إلا الرأس والقلب فيسهل على الرؤوس الاتفاق على
الإيقاع به.
إننا نرى دول أوربا عابثة في كل حين باستقلال الدولة، ففي كل حادثة لهم
أوامر تُطاع ومناهي تُجتنب، والدولة راضية، وكل ما تجنيه من الظفر في بعض
الأحيان لا يخرج عن مراوغة في تنفيذ بعض الأوامر أو إرجائها، وكلما تم للدولة
ضرب من ضروب هذا الظفر الوهمي هتف المغرورون مع الغارين: نحن
أصحاب السياسة المثلى والكلمة العليا، فإذا انتهى أجل الإرجاء، وحل اليأس محل
الرجاء، سكتوا واجمين. أو خادعوا أنفسهم معتذرين.
يقول الأوربيون: إن الذي أذل تركيا وذللها لهم هو ظلمها لمَن ليس على
دينها من رعيتها لا سيما النصارى: ولنا أن نقول: إن وجدنا سامعًا: إذا كانت هذه
الدولة تظلم المخالفين لها في الدين فلماذا يهرب اليهود من مشرق أوربا (روسيا)
ومغربها (أسبانيا) إلى بلادها؟ أمن المعقول أن يهرب الناس من ظل العدل إلى
هاجرة الظلم؟ وإذا زعمتم أنها تظلم النصارى خاصة فكيف يعقل أن تظلم المخالف
الذي يجد أنصارًا أقوياء ينتقمون له، وتدع من لا ولي له ونصير؟ وإذا كانت أوربا
تعبث باستقلال الدولة وتقتات عليها في سياستها الداخلية حبًّا بالعدل بالمظلومين، فما
بال هذه الرحمة لا تحرك لهم عاطفة على اليهود الذين يستحر القتل فيهم بأيدي
النصارى لأنهم يهود؟ ليس موقفنا مع أوروبا موقف جدال وحجاج، ولكنه موقف قوة
وضعف فالقوة تفعل والضعف ينفعل.
لماذا كنا ضعفاء وعندنا جيش يشهد له الأعداء بأنه في مقدمة جيوش الأمم
الحربية بسالة وشجاعة وتدريبًا؟ يقول قوم: إن ضعفنا محصور في قلة المال،
ونقول: إن عند الدولة من الذخائر ما يساعد على كل عمل تريده، وعندها من موارد
الثروة ما إن أحسنت استغلاله واستعماله كانت من أغنى الدول. ويقول آخرون: إن
ضعفنا محصور في الجهل دون سواه، ونقول إن الأمة جاهلة ولكن عند الدولة من
الرجال من لا ينقصهم شيء من علوم الإدارة والسياسة، والصواب أن ضعفنا كله
معلول لعلة واحدة وهي السلطة المطلقة.
صاحب السلطة المطلقة أقدر على الإصلاح إذا هو علم وأراد، ولكنه قلما
يريد. ولم نر أمة من الأمم صلح حالها وارتفع شأنها بسرعة كالأمة اليابانية التي
نهضت بهمة عاهلها (الميكادو) على أنها هي الأمة الوحيدة التي ارتقت بملكها
وسائر الأمم المرتقية إنما نهضت بأنفسها، وأصلحت حال حكامها وأوقفتهم عن
حدودهم.
قد بينا في السنة الأولى أركان الإصلاح التي يجب على الدولة العلية إقامتها
بعد بيان أسباب الضعف ومناشئ الخلل من تاريخ الدولة الرسمي (تاريخ جودت
باشا) ، ويعتذر بعض الناس عن السلطان بأن مداراة دول أوربا في الخارج
ومناهضة حزب الترك الأحرار في الداخل لم يدعا له وقتًا يصرفه في إصلاح
المملكة. ونقول في الجواب: أما حزب الأحرار فالصادقون من أهله تؤمن غائلتهم
بمجرد الشروع في الإصلاح، والمحتالون على المناصب والرواتب علاجهم
الإعراض عنهم وعدم المبالاة بهم مهما قالوا وفعلوا.
وأما دول أوربا فلا مفر من عدوانها وافتئاتها على الدولة وعبثها باستقلالها في
بلادها إلا بالقوة. فأول عمل يجب على السلطان وجوبًا فوريًّا هو الإسراع بإصلاح
القوة البحرية، وزيادة القوة البرية حتى تكون القوتان في المكانة الأولى، ولا أستحيي
أن أقول: إنه يجب أن يكون قصده في عمله هذا إلى جعل قوة الدولة في البر والبحر
كقوة دولة فرنسا سواء. ولا يمكن القصد إلى هذا العمل العظيم إلا بعد السماح ببيع
تلك الكنوز من ذخائر الملوك الذهبية والجوهرية إلا ما كان أثرًا تاريخيًّا يفيد بقاؤه
العلم. فإذا أنف السلطان من بيع تلك القناطير المقنطرة من أواني الذهب والفضة
ومن الجواهر التي لا صناعة فيها يضن بها التاريخ، وكان لا يجد المال لهذا
الإصلاح إلا ببيعها فإن دولته ستفقدها من يوم من الأيام، ويكون قد أبى بيعها بعز
الدولة لبيعها بذُلّها وهوانها (لا قدر الله تعالى) .
ومن الناس من يزعم أن دول أوربا لا تمكن السلطان والدولة من زيادة القوة
وإبلاغها درجة الكمال، فإذا هي شعرت بأنه يقوي البحرية ويعمم التعليم العسكري
في الولايات فإنها لا تمهله أن تقتسم بلاده وتعجله بحل عقدة المسألة الشرقية.
ونحن نقول: إذا كان من الثابت عند السلطان أن أوربا لا تمكنه من الإصلاح؛ لأنها
تريد أن تحتج بالخلل على تمزيق الدولة وتقطيعها قطعًا يسهل عليها ابتلاعها، وأنه
إذا حاول تقوية دولته لتتمكن من الاستقلال ظاهرًا وباطنًا، فإن دولها تتفق حينئذ على
الإيقاع بها مرة واحدة، فأي مرجح للرضى بالتقطيع إربًا إربًا على الاستبسال
والتعرض لإحدى الحُسنيين: حفظ الاستقلال أو موتة الأبطال؟
يقال: إنه كان من رأي رجل الدولة العظيم فؤاد باشا أن تمنح الدولة العلية
جميع ولاياتها النصرانية في أوربا استقلالاً إداريًّا وأنه صرح في وصيته المشهورة
بأن هذه الولايات لا بد أن تفصل من جسم الدولة في المستقبل، فإذا أعطتها
الاستقلال الإداري النوعي باختيارها فإنها تقبل مع الشكر والحمد كل ما تشترطه
عليها الدولة، وإلا فإن كل ولاية منها لا تنفصل إلا بعد أن تسفك الدولة في سبيلها
دماءً عزيزة، وتنفق أموالاً غزيرة فيكون انفصال كل منها ضعفًا على ضعف، وقد
علمت الدولة صدق هذه الفراسة باليقين، وذاقت مرارتها بالفعل، فما بالها تُلدغ من
الجُحر الواحد مرتين؟ !
يجب على الدولة أن تهتم بالإصلاح اهتمامًا صادقًا، وأن تنشر لواء العدل
والمساواة في الحقوق على رءوس جميع رعاياها، وأن تبدأ بما قلناه من ترقية قوتيها
البحرية والبرية، وتبذل في سبيل ذلك كل رخيص وغال، فإن علمت أن أوربا تحُول
دون ذلك وأنها قادرة على أن تحول، وأنه لا يرضيها الآن ما كان يرضيها من قبل
كالعمل بالقانون الأساسي فليس أمامها إلا سلوك إحدى طريقتين لحفظ حياتها
المستقبلة:
(الطريقة الأولى) : أن تجعل ولاياتها كالولايات المتحدة في أمريكا تستقل
كل ولاية في إدارتها الداخلية ويكون حكامها منها، ولا مجال هنا للخوض في كيفية
هذا الاستقلال وشروطه، فالدولة والسلطان أعلم منا به وبسعادة البلاد المتمتعة به.
نعم إن الحكم المطلق ألذ وأشهى؛ ولذلك لم نطلب من السلطان ترك هذه اللذة
والتنازل عن هذه الشهوة إلا إذا كان غير واثق بدوامهما.
(الطريقة الثانية) : أن يتفق مع روسيا - إذا رضيت - على أن تعيد إليه
بمساعدة فرنسا مصر والسودان، وتحالفه محالفة حربية على الاستقلال التام في
الولايات التركية والعربية، وأن يعطيها في مقابلة ذلك الآستانة وما شاءت من
الولايات المسيحية في أوربا، ويعدها بالمساعدة المعنوية على امتلاك الهند، ثم يجعل
التخت في دمشق الشام، ويعتني بعد ذلك ويجدّ في عمران البلاد العربية التي أهملها
أو خربها سلفه من السلاطين ويجعل اللغة العربية لغة الدولة الرسمية، ويجتهد في
استعراب الترك أجمعين، ويؤلف منهم ومن عرب العراق ونجد والحجاز قوة
عسكرية منتظمة ويقيم الشرع. فإذا هو فعل ذلك يكون له ملك عظيم وعز منيع
ويأمن غائلة الخارجين بدعوى الخلافة. فإذا لم ترض فرنسا بإعادة مصر عثمانية
محضة فليكتف ببلاد الأناطول والأكراد والعراق وسوريا وبلاد العرب. فإذا
وفقت دولته لترك الجنسية التركية والتعصب لها وأصلحت هذه البلاد وعززتها فإن
ملكها يكون بها عظيمًا، ويتيسر لها بعد ذلك القيام بعمل عظيم.
وإذا بقيت الدولة على حالها فخير مستقبلها مع أوربا أن يتركوا لها بلاد الترك
الخُلص المسلمين تحكمها باستقلال أو تحت حماية، وشرها (وقاها الله من شرها)
أن يُمحى أثرها بالتدريج حتى لا يبقى لها عين ولا أثر.
__________(6/428)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البابا لاون الثالث عشر - تتمة ترجمته
بينا في النبذة الأولى التي نشرناها في الجزء التاسع أن الأخطار كانت محدقة
بكرسي البابا عندما جلس عليه لاون الثالث عشر، ووعدنا بالإلماع إلى سلوكه في
مقاومتها، وما كان من نجاحه فيه، فنقول: إن الدول الكاثوليكية - التي يَدين أكثر
رعاياها بالخضوع إلى البابا كفرنسا والنمسا وإيطاليا - كانت عاملة على محو
سلطته، فما بال روسيا الأرثوذكية، وإنكلترا وألمانيا البروتستنتيتين لا يَكُنَّ من
أعدائه العاملات على محوه، ومحو طائفته من الأرض، وقد كان بين أهل مذهبه
ومذهبهن من الخلاف وسفك الدماء ما كان؟!
سلطة البابا رسمية دولية، وللدول عنده وكلاء كالسفراء عند الملوك، وقد كان
أول عمله استمالة الملوك العظام، والتوسل إليهم بالرفق بالكاثوليك، فنجح في ذلك،
حتى عاد إليه اعتباره، وتيسر لطائفته السير في طرق الترقي في كل مملكة كانوا
مهددين فيها، حتى تقدموا تقدمًا مبينًا. ولم تبقَ حكومة لم تسالمه ويسالمها إلا
إيطاليا التي أزالت ملكه، ونزعت سلطته المدنية (أو الزمنية) ، واستولت على
أملاكه، وفرضت له مبلغًا عظيمًا من المال بدلاً عنها، فلم يقبله، ومَن يبيع المُلك
بالمال؟ ! ولكنه على استمراره على عداوة الحكومة لم يقصر في استمالة الشعب
الإيطالي، ومن ذلك أنه بعث وفدًا دينيًّا إلى ملك الحبشة، يسأله إطلاق الأسرى
الذين أسرهم من جند إيطاليا في الحرب المعروفة.
سياسته مع الدول الكاثوليكية:
قد كان من إساءة فرنسا والنمسا في معاملة بيوس التاسع، والإنحاء على
كرسيه ما أومأنا إليه في الجزء التاسع، وقد استطاع أن يسالمهما مع حفظ حقوقه،
فكان يحث الكاثوليك على الخضوع للحكومة الجمهورية التي اختارتها الأمة لنفسها،
على أن أكثر أعدائها منهم. وكذلك جامل النمسا بقدر الإمكان، وأحسن في تعزية
عاهل النمسا والمجر جوزيف عند وفاة ولي عهده والتجائه إليه، حتى قيل: إنه لم
يرد الزيارة لملك إيطاليا حلفه مصانعة للبابا والتماسًا لرضاه. وقد كانت الصلات
السياسية تقطعت بين بلجكا والفاتيكان، فأعاد رابطتها، حتى صارت حكومة البلاد
إلى وزارة كاثوليكية. وأما سياسته مع الدول غير الكاثوليكية فهي السياسة المثلى،
وإننا نتوسع بعض التوسيع فيها، فنقول:
سياسته مع ألمانيا:
يعرف التاريخ ما كان في ألمانيا من اضطهاد الكاثوليك بعد سفك تلك الدماء
في التنازع الديني بينهم وبين البرتستنت، فإن ألمانيا مهد لوثر مؤسس المذهب
الثاني الذي كان مبدأ كل ما كان. وقد كان البرنس بسمارك داهية السياسة يبغض
الكاثوليك ويناصبهم. فلما ولي المترجَم كان أول عمله العناية بمسالمة ألمانيا
واستمالتها، وجمع كلمة الكاثوليك فيها، فكتب إلى عاهل الألمان بتوليته. ثم رأى
البرنس بسمارك اتحاد الكاثوليك وارتباطهم بالبابا، ورأى نفسه محتاجًا إليهم في
مقاومة الاشتراكيين في مجلس النواب، فلم يَرَ بُدًّا من استبدال الملاينة بالمخاشنة،
فكتب إلى البابا رقيمًا أطراه فيه إطراءً لم يكن يخطر بالبال، وكان من اعتبار
ألمانيا للبابا أن حكَّمته في الخلاف بينها وبين أسبانيا على جزائر كارولين، فكان
من حكمته ودهائه أن تمكن من إرضاء الفريقين معًا بما حكم به.
ثم إنه أسلس لألمانيا حتى أطمع عاهلها بلينه في إرضائه بأن تكون دولته
حامية الكاثوليك في الشرق؛ ولهذا الطمع زاره غليوم الثاني مرتين سنة 1888
وسنة 1893، ولكنه لم ينل منه هذه الأمنية، ولم ييأس منها. ولولا دهاؤه لسلب
فرنسا التي قاومته، وقاومت الدين أشد مقاومة هذه المزية - حماية الكاثوليك -
وهي أقوى آلتها السياسية في الشرق، ومنحها لعدوتها (ألمانيا) ، ولكنه لم يحب
أن يزيد الخرق اتساعًا بينه وبينها.
سياسته مع إنكلترا:
لم يكن حظ الكثلكة في إنكلترا مع الإصلاح بأمثل من حظها في ألمانيا؛ فقد
اضطُهِد الكاثوليك في تلك الجزائر وسفكت دماؤهم وسِيموا خسفًا وهوانًا في القرون
الثلاثة: السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، وكذلك الثلث الأول من القرن
التاسع عشر، حتى قل عددهم، وانطمست رسومهم في تلك البلاد، فلم يبق من
الإنكليز على مذهب الكنيسة الرومانية إلا نحو 160 ألفًا.
أحسن ليون الثالث عشر التودد لملكة الإنكليز، واختار لرياسة الكنيسة في
بلادها بعض رجاله الدهاة، حتى حسنت الحال، وصارت الملكة تتلقى الكرادلة
الوافدين عليها من قِبَله بالحفاوة العظيمة، بل صاروا يتقدمون في قصرها على
رئيس أساقفة (كنتربري) رئيس الكنيسة الإنكليكانية الرسمي، الذي يتوج ملوك
الإنكليز، وأُعطي الكاثوليك حرية من الحكومة الإنكليزية، لم تكن تصل إليها
أمانيهم، فارتقوا ارتقاءً مبينًا، وزاد عددهم، حتى صار البروتستنت يرجعون إلى
الكثلكة، وحتى طلب بعض قسوسهم رجوع الكنيسة الإنكليكانية إلى رسوم
الرومانية، فطمع البابا المترجَم باتحاد الكنيستين، وكتب يدعو إلى ذلك. ويقول
العارفون: إنه لو قدر على ترك بعض الرسوم والتقاليد - التي لا يمكن أن يطيقها
أهل مذهب الإصلاح بعدما تفصوا من عُقلها - لتم له ما يريد.
أرأيت الكاثوليك الذي كانوا في أول القرن التاسع عشر يعدون في إنكلترا
بالألوف، إنهم صاروا يعدون بالملايين؛ فقد جاء في إحصاء سنة 1891 أن عدد
الكاثوليك في إنكلترا نفسها مليون ونصف، وفي أيرلاندة 3.549.956 وفي
سكوتلنده 356000، وتبع هذا التقدم والنمو في بلاد الإنكليز التقدم والنمو في
مستعمراتها، حتى علم من ذلك التقويم أن عددهم في البلاد والمستعمرات يزيد على
عشرة ملايين ونصف، وأن لهم فيها من كراسي رؤساء الأساقفة 28، ومن
كراسي الأساقفة 105.
ونخص الهند بالذكر فنقول: إن عدد الكاثوليك في الهند لم يكن يزيد في أوائل
القرن التاسع عشر على نصف مليون، ولم يكن لهم إلا ثلاثة أساقفة، وقد تبين من
الإحصاء - الذي أشرنا إليه - أن عددهم صار يزيد على مليونين، وأن لهم 33
كرسيًا أسقفيًا و800 كاهن أوربي، و650 كاهنًا هنديًّا و600 راهبة أوربية و200
راهبة هندية و200 راهب من جمعية الإخوة (فرير) و70 مدرسة كبرى،
و2200 مدرسة ابتدائية، وتلامذة هذه المدارس مائة ألف، وإن لهم مدرسة دينية
خاصة (على أن جميع مدارسهم دينية) ، فيها ستة آلاف تلميذ، يكونون كلهم دعاة
للدين ورهبانًا وقِسِّيسين. وإن لهم أيضًا 98 ملجأً للأيتام، فيها 5800 ولد. وقد
زار ملك الإنكليز البابا في هذه السنة. ولما مرض مرض الموت كتب إليه بخطه،
يسأله عن صحته، كما كتب إليه عاهل ألمانيا بخطه.
سياسته مع روسيا:
الخلاف بين الكنيسة الرومانية والكنيسة الشرقية - التي يحميها قيصر روسيا
وأكثر رعيته من أتباعها - قديم كان ولم يكن في الدنيا بروتستانت، وقد كانت
روسيا في سرور عظيم من قيام أوربا بمناهضة البابا وكنيسته، ولم تقصر في
اضطهاد كاثوليك بلادها. وكانت الصلات السياسية قد تقطَّعت بين هذه الدولة وبين
الفاتيكان في عهد البابا بيوس التاسع، فلما جاء بعده ليون الثالث عشر كان أول
شيء عمله في تلافي ما سبق أن أرسل كتابًا بخط يده إلى القيصر، يخبره فيه
بتوليته، ولما كاد النيهلست للقيصر وحاولوا اغتياله سنة 1879 و1880، فنجا
من كيدهم - كتب إليه البابا يهنئه بذلك، فكان لهذه المجاملة من التأثير ما حمل
القيصر على التساهل في تعيين الأساقفة للكاثوليك في بلاده، وأعيد أسقف ورسو
من منفاه في سيبريا. وكتب البابا إلى أساقفة بولندا يأمرهم بالخضوع لحكام بلادهم
وقوانينها، وبِحَثّ العوام على ذلك، وأرسل سفيرًا من قِبَله لحضور تتويج القيصر
الحالي سنة 1896.
سياسته مع الدولة العلية:
إن هذه الدولة تختلف مع البابا في أصل الدين لا في المذهب، ولكن التساهل
الذي تقضي به طبيعة الإسلام جعل الكاثوليك في بلادها أحسن حالاً منهم في جميع
البلاد الأوربية أيام ذلك الاضطهاد، والتسافك في الدماء، وقد قابل البابا السياسي
هذه المعاملة الحسنة بالشكر، فازدادت المودة بينه وبين السلطان العثماني.
وقد أرسل السلطان مندوبًا خاصًّا إلى رومية لتهنئة ليون الثالث عشر بمنصبه،
وقد اجتهد السلطان أيضًا بالفصل في الخلاف الذي كان من الأرمن الكاثوليك،
والشقاق الذي كان من الكلدان الكاثوليك، فكان البابا يعلن الشكر له على ذلك. ولما
احتفل بعيد البابا الكهنوتي (يوبيله الفضي) سنة 1887، أرسل السلطان عبد
الحميد يهنئه بهدية نفيسة، وهي خاتم من جوهرة يتيمة، كبيرة الحجم، بيضية
الشكل، تنبعث منها أشعة تنعكس أنوارها على الزوايا، فيخال الناظر إليها أنها
مجموع أحجار كريمة تتراءى فيها ألوان الطيف التي في قوس السحاب، وكانت
هذه الجوهرة من النفائس المحفوظة في خزائن سلاطين آل عثمان. وقد وضع
الخاتم في غلاف من الذهب الوهَّاج على هيئة تاج ملكي يضيء الخاتم من خلال
فروجه.
ولما احتفل بعيد البابا الأسقفي (يوبيله الذهبي) سنة 1792، أهداه السلطان
هدية كانت عنده، وعند أهل ملته أنفس من الأولى، وهي الكتابة التي يقولون إن
القديس أبرقيوس - أسقف هيرا بوليس، وتلميذ يوحنا الحبيب - نقشها في أواسط
القرن الثاني الميلادي على صفيحة أوصى بأن تُجعل فوق ضريحه.
ولو أردنا أن نذكر ما خدم به ملته وأمته في الصين واليابان والحبشة، وفي
سائر البلاد لخرجنا إلى التطويل الذي ليس من موضوعنا ولا من غرضنا؛ لأن
العبرة التي نقصدها تتم لنا بالقليل الذي يغني عن الكثير، فكيف بنا إذا حاولنا
إحصاء المكاتب والمدارس، والأديار والكنائس، والملاجئ والمستشفيات،
والرهبان والراهبات، والأطباء والممرضات، والمبشرين والمربيات، والمعلمين
والمعلمات، والمتنصِّرين والمتنصرات؟ !
هل من الحكمة والرأي أن نجهل ما يفعله القوم من خدمة دينهم ونشره، وأن
نكتم ما يتفق لنا علمه؛ لأنه مما يُمدحون عليه؟ هل تقضي علينا الغيرة الدينية بأن
نسمي جهلنا علمًا، وتقصيرنا تشميرًا، وضعفنا قوة، وأن نسمي حذقهم بلادة،
ونشاطهم كسلاً، وعلمهم جهلاً، وقوتهم ضعفًا؟ !
منزلة ما خلتها يرضى بها ... لنفسه ذو أدب ولا حِجى
لا شيء أنفع من معرفة الحقيقة والواقع، ولا شيء أضر من الجهل بالحقيقة
والواقع، ومَن أنهكه المرض حتى صار حَرَضًا، وأشرف على الهلاك، ويئس من
روح الله - لا يرضيه إلا أن يغش نفسه بالمدح الكاذب، ويكابر حسّه وعقله،
فيذم من مناظريه ما يراه محمودًا.
وإننا نبدئ هذا القول ونعيده، ثم إننا نجد ممن يطلعون عليه من يقول: إن
محبنا الذي ينصح لنا هو مَن يمدحنا ويمدح رؤساءنا ولو بالباطل، وينكر حقوق
من يخالفنا، ويذمهم ولو كاذبًا. والعلة في هذا أن هؤلاء الضعفاء لا غرض لهم من
حياتهم إلا اللذة، والحق مر في ذائقة المبطلين، والجد مملول عند الهازلين.
إليكم عنّا يا عشّاق اللذة الباطلة، ومحبي الجهالة القاتلة، لسنا نكتب لكم،
وإنما نكتب لقوم استعدوا لقبول العلم النافع، وهو - كما قال الأستاذ الإمام -: (ما
يعرفك مَن أنت ممن معك) ، فإلى هؤلاء نسوق هذه الترجمة، ونقول: أين
علماؤكم الأعلام، أين الذين تلقبونهم بمشايخ الإسلام، أين الأمراء الذين انتحلوا
لأنفسهم الرياسة الدينية، وزعموا أنهم أولو الأمر الذين تجب طاعتهم على الرعية،
خبِّرونا ماذا تعلموا وماذا عملوا حتى استحقوا هذه الرياسة، وهل كان للأمة رأي في
اختيارهم لها، وبماذا خدموا الإسلام فيها، هل يعرف شيخ الإسلام حدود بلاد
المسلمين، هل وقف على شيء من أحوال شعوبهم في الدنيا والدين، هل سعى لهم
بإنشاء مدرسة كلية أو جزئية، هل أرسل إلى بعض بلادهم بعثة دينية، هل كشف
لهم شبهة اعتقادية، هل حل لهم مشكلة سياسية، هل كَاتَبَ العلماء في غير بلاده،
هل حاول أن يصل ودادهم بوداده، هل خطر بباله أن يعد طائفة من العلماء للقيام
بمثل هذه الأعباء؟ !
كلا، إن المسلمين ليس لهم جمعيات دينية ولا دنيوية تنتخب لهم شيخًا مستعدًّا
لخدمة الإسلام فتسميه (شيخ الإسلام) ، ويكون مطالَبًا من المسلمين، وإنما اخترع
هذا اللقب الأمراء الذين استقلوا بالزعامة الدينية والدنيوية؛ فثقل عليهم الجمع بين
شعار رؤساء الدين، وبين التمتع بالشهوات وحضور مجالس اللهو والشرب
والرقص؛ فجعلوا هذا الشعار لبعض العلماء الرسميين الذين يأخذون شعار العلم
والدين من الأمير أو السلطان، فالأمير يصل إلى مقاصده الدينية بعمامة (شيخ
الإسلام) وجُبته، ويتمتع هو بما شاء بزي السياسة، وشيخ الإسلام وسائر
أصحاب المناصب الدينية من القضاة والمفتين والمدرسين الرسميين والخطباء وأئمة
المساجد - يعترفون للأمير بالرياسة الدينية الكبرى بما يمنحهم من الرتب والرواتب،
والأوسمة والمناصب، فما لهؤلاء ولخدمة الإسلام والمسلمين؟ !
إذا أراد الحاكم - الذي يولي شيخ الإسلام وغيره من المشايخ مناصبهم، ويزين
صدورهم وأكتادهم وعمائمهم بالنسيج الفضي يتلألأ عليهم في أيام الأعياد - أن
يكلفهم بعمل ينفع الإسلام، فإنهم يجتهدون في القيام به ما استطاعوا كما اجتهدوا في
خدمة هؤلاء الحكام فيما يضر ولا ينفع، وأوَّلوا لهم ما أولوا، حتى غيروا ما
غيروا، وبدلوا ما بدلوا، وإذا لم يُرِد الحاكم لا يريد شيخ الإسلام؛ فإن الإنسان
مادام محرومًا من الاستقلال يكون تابعًا لمَن يرى بيده منفعته ومضرته، ولو كان
المسلمون هم الذين ينصبون (شيخ الإسلام) - كما عُهد إليهم أن ينصبوا السلطان
والإمام - لكان شيخ الإسلام تابعًا لإرادتهم، وعاملاً بمشاورتهم لمصلحتهم.
وسنكتب نبذة خاصة في كيفية انتخاب البابا، ونبين فيها حكم الانتخاب عند
المسلمين.
__________(6/434)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهيضة الوبائية في سوريا
انتشرت الهيضة الوبائية في سوريا حتى كادت تعمها. ظهرت أولاً في ولاية
الشام، ثم في ولاية بيروت، وأصابت بلادًا من فِلَسطين وولاية حلب. وأن فتكها في
طرابلس والشام وحِمْص أشد منه في سائر البلاد، وقد بلغنا أن أكثر أهالي طرابلس
هلعوا وجزعوا وفرّ نحو ثلثهم إلى لبنان قبل انتشار الوباء، وأكثر الفارين من
النصارى. ومن بقي في البلدة ومينائها فهم فريقان متناقضان في العلم والعمل -
الفريق الأول أكثر المسلمين، وهم يعتقدون أن الوباء سوط سماوي يصب على بعض
الناس بدون سبب لقبول المزاج له أو لوقوعه بمن يصاب به، وإنما يكون لمحض
الإرادة الإلهية الخفية فلا تنفع طرق الوقاية ولا يفيد الاحتياط شيئًا - هذا مبلغهم من
العلم، وأما عملهم فهو أنهم يأكلون ما ينهى الأطباء عن أكله ويمتنعون عن اتخاذ
الأدوية التي تضاد العفونات وتقتل جنة الهيضة ونحوها المعبر عنها بالميكروبات.
والفريق الثاني عقلاء المسلمين وأكثر النصارى أو كلهم، وهم يعتقدون أن كل شيء
في هذا العالم جارٍ على سنة الله تعالى في الأسباب والمسببات، وأن لكل داء دواءً
وأن التخمة وأكل المواد التي يسرع إليها التعفن كالفاكهة والبقول التي لم يحسن
إنضاجها بالطبخ من أسباب استعداد البدن لفتك الهيضة، وأن النظافة والقصد في
الأكل وشرب الماء بعد غليه وتبريده من الأسباب التي تحول دون فتك هذا المرض
في أمعاء الآكلين الشاربين فهم يعملون بذلك، وقد علم بالاختبار أن الوباء فتك
بالفريق الأول دون الثاني {اعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
__________(6/441)
16جمادى الثانية - 1321هـ
8 سبتمبر - 1903م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهات النصارى
وحجج المسلمين
النبذة السادسة في رد شبهاتهم على القرآن
(الشاهد الحادي عشر) قال المعترض: ومما يقضي بالعجب أن يناقض
القرآن نفسه في القدر الذي هو من الإيمان، وركن مهم من أركان الإسلام فقال:
{لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} (القدر: 3-4) أي: من كل أمر قُدر في تلك السنة كما عليه جمهور المفسرين،
وقال أيضًا: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} (الدخان: 3) وهي عندهم ليلة
القدر التي تفصل فيها الأقضية، ويُفْرَقُ أي: يقدر كل أمر يقع ذلك العام من حياة أو
موت أو غير ذلك إلى مثلها من قابل، وهذا يترتب عليه أن أمور الخلق تقدر عامًا
عامًا. لكن ذلك منقوض بقوله في سورة الحديد: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي
الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا} (الحديد: 22) أي: إلا
مكتوبة في اللوح المحفوظ مثبتة في علم الله من قبل أن تخلق، وأنت تعلم أن هذا
اللوح قد كُتبت فيه بزعمهم كل الأمور، وقدرت من قبل أن تكون ليلة القدر. وزاد
ذلك إيضاحًا فقال:
{وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} (الإسراء: 13) أي: ألزمناه عمله
وما قُدر له وعليه منذ ميلاده حتى لزمه لزوم الطوق للعنق. ويترتب على هذا أنه
قُدر على الإنسان دفعة كل ما يعمله في عمره، لا ما يعمله في عامه فقط، وهذا
تناقض بيِّن في أركان الإيمان لا يصح وقوعه في كتاب جميع ما فيه كلام الله.ا. هـ
قوله بحروفه إلا كلمة (أنفسكم) من الآية الكريمة بدلها بنفوسكم فكتبنا الأصل
الصحيح.
ونقول في الجواب: إننا كتبنا كل ما كتبه في تقرير هذه الشبهة، وحسبه ما
كتبه فضيحة ودلالة على سوء القصد، وتعمد التمويه، ولو قلنا: إنه يزعم أن بين
تلك الآيات تناقضًا ولم نذكر ما قرر وشرح به ذلك التناقض لما أفاد القول إلا أنه
جاهل لم يفهم تلك الآيات، وهذا عار عليه أكبر وخلاف الواقع.
أما كونه خلاف الواقع فهو أنه اطَّلع على تفسير الآيات وفهمها، وأما كونه أكبر
عارًا فذاك أن الجهل عار عند جميع الناس من أهل ملته وغيرهم، وأن قومه
يعدونه من كبار الكُتاب والبلغاء، فإذا ظهر لهم أنه لا يفهم هذه الآيات فإنهم يحتقرونه
وينزعون عنه لباس تلك الخصوصية فيكون عاريًا من كل مزيَّة، وليس في سوء
القصد وسلوك السبيل المغالطة في تشكيك عوام المسلمين بدينهم إلا احتقار العقلاء
والفضلاء من جميع الطوائف وأهل الإنصاف من قومه النصارى خاصة، وأما
المتعصبون منهم مثله فإنه ليرضيهم الطعن بالإسلام والمسلمين، وإن جاء صاحبه
بالإفك المبين.
هذه الشبهة لا تحتاج إلى جواب من حيث هي شبهة على القرآن؛ لأن محلها
في زعمه أن بعض الآيات نص في أن أمور الخلق تقدر عامًا فعامًا، وبعضها نص
في أنها تقدر دفعة واحدة، وليس شيء منها كما قال. فقوله تعالى: {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ
وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} (القدر: 4) لا يدل على أن أمور الخلق
تقدر عامًا عامًا كما زعم، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى بيان؛ إذ ليس فيها ذكر للتقدير
ولا للسنين والأعوام. وقوله جل وعز: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ..} (الحديد:
22) الآية ليس نصًّا في أمور المخلوقات تقدر دفعة واحدة كما ادعى، وإنما تدل
على أن المصائب في الآفاق وفي الأنفس معلومة قبل وقوعها لله تعالى علم الأمر
المحصي في الكتاب أو هي مكتوبة كتابة تناسب عالم الغيب وتليق به، وليس فيها
أن تلك الكتابة التي ذكرت على سبيل التمثيل أو المجاز أو الحقيقة الغيبية حصلت
دفعة واحدة، أو بالتدريج أو أنها كانت في أول العام، أو قبل خلق الأنام. ولكن
العقل والنقل يدلان على أن علم الله تعالى قديم لا تدريج فيه؛ لأن التدريج لا يكون إلا
في الحوادث، وهو يستلزم الجهل فتعين أن يقال: إن ما يقع من المصائب وغيرها
معلوم لله تعالى في الأزل. فإن أريد بالكتابة العلم الإلهي فظاهر، وإن أريد أن هناك
كتابة فلا شك أنها تكون للملائكة الموكلين بالأعمال الذين جعل الله بهم قوام السنن
العامة، والنواميس الكلية، والذين يسميهم المحجوبون قوى ونواميس طبيعية. وعند
ذلك يصح أن تكون الكتابة في كل عام، ولكن الآية ليست نصًّا في هذا فلا يمكن
الاعتراض عليها بحال. وكذلك قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} (الإسراء: 13) ليس نصًّا في كون أعمال الإنسان قدرت عليه دفعة واحدة، ولا
منافيًا لكونها تقدر عليه في كل عام كما هو ظاهر، وإنما معناه أن الإنسان رهين
بعمله ومطوق به لا يستطيع أن يتفلت من تبعته لما له في التأثير في نفسه، فإن
الأعمال تطبع الملكات وتكوّن الأخلاق التي هي صفات النفس، فآثارها لازمة
للإنسان لزوم الطوق للعنق، فأين هذا المعنى الظاهر مما زعمه المعترض، وكيف
السبيل إلى القول بتناقضه مع تلك الآية لو فرضنا أنها نص فيما فسرها؟
بقي أن يقال: إن المعترض بنى حكمه على قول المفسرين في ليلة القدر أنها
الليلة المباركة الموصوفة في سورة الدخان بقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) وقد فسر الفرق بالتقدير، وقال جمهورهم بأن المراد تقدير أمور
العام، ونقول في الجواب:
(أولاً) إنَّه قد علم مما شرحناه أن آية الحديد وآية الإسراء لا تناقضان هذا
التفسير؛ لأن المطلق لا ينافي المقيد، ولا يناقضه، ولعلماء الأصول في مقابلة
المطلق بالمقيد قولان:
أحدهما: أن المطلق يجري على إطلاقه، والمقيد يجري على قيده. فلو فرضنا
أن معنى الآيات ما ذكر لما كان من مانع لأن يقال: إن هناك تقديرًا أزليًّا وهو ما في
علم الله الأزلي، وتقديرًا سنويًّا يحدد في كل عام لحكمة من الحكم ككون الملائكة
المدبرات للأعمال والشؤون تجري عليه.
ولا شك أن الملائكة لا يعلمون كل ما في علم الله تعالى، ولا يستطيعون أن
يعلموا كل ذلك، فالله تعالى يُعْلمهم بما تقضي حكمته أن يعلموه. وإذا صح هذا فيشبه
في عالم الشهادة أن الفلكي يكتب تقويمًا للسنة، ثم يستخرج منه في كل شهر تقويمًا
لغرض من الأغراض كسهولة المراجعة مثلاً. ومن الناس من كتب تقويما لألوف
من السنين، فإذا كتب تقاويم أخرى للأعوام عامًا عامًا أو للشهور شهرًا شهرًا وقال
قائل: إن فلانا كتب تقويمًا لخمسة آلاف عام، ثم قال في سياق آخر: إنه كتب
تقويمًا للسنة فهل يقال: إن هذين القولين متناقضان؟ كلا إنما يقول ذلك الجاهل الذي
يفهم معنى التناقض.
وثاني قولي الأصوليين أن المقيد يقيد المطلق كما قالوا في الأمر بإعتاق القاتل
رقبة مؤمنة أنه يقيد أمر الحانث باليمين بإعتاق رقبة لم تقيد بأنها مؤمنة. ومن
أمثلة ذلك أن يكتب المؤرخ أو صاحب الجريدة أن فلانًا صار عالمًا، وألف كتابًا
نفيسًا ثم يكتب في وقت آخر: إن فلانًا قد ألف كتابًا في علم البيان: فيحمل هذا
على ذاك، ويقال: إنه أراد بالكتاب المطلق البيان. والأمثلة من القولين كثيرة
ويختلف الترجيح باختلاف الوقائع والأحوال.
ثم نقول (ثانيًا) : إنه لا يصح للعاقل أن يجعل رأي بعض المفسرين، ولا
جمهورهم حاكمًا على الكلام الذين يفسرونه إذا كان يرى أن الكلام لا يدل عليه،
وظاهر لكل من يعرف العربية أنه لا يوجد في آية من الآيات ما يدل على التقدير
السنوي لا بمنطوق الآيات، ولا بمفهومها، ولكن جرت عادة المفسرين بأن يذكروا في
كل موضوع ما يتعقبه من الآراء أو الأحكام المروية عن السلف وأئمة المذاهب،
مرفوعة أو موقوفة، صحيحة أو ضعيفة كما يذكرون آراء النحاة في إعراب الآيات
فمن يتعلق برأي أو رواية مما يوردونه في التفسير يرى آية أخرى تنافيه فيجعل
هذا شاهدًا على تناقض القرآن نفسه فهو كمن يتعلق برأي من آراء النحاة التي
يوردونها يمنع أو يجيز حكمًا في الإعراب، لا ينطبق ذلك الحكم على آية أخرى غير
التي أوردوه في إعرابها ثم يقول: إن هذه الآية مخالفة لتلك في الإعراب فهي غلط
أو لحن، ما هي بمخالفة إلا لرأي ذلك النحوي!
وبعد هذا كله نقول: إن (القدر) في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ} (القدر: 1) معناه: الشرف، وهو المتبادر منه وليس معناه: التقدير، وقد
قدم البيضاوي القول الأول في تفسيره، وذكر الثاني بصفة التمريض (قيل)
ومعنى الشرف فيها ظاهر فإنها الليلة التي بدئ فيها نزول القرآن، فهي شرف للنبي
عليه الصلاة والسلام ولقومه ولجميع المؤمنين كما قال تعالى في القرآن: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَّكَ وَلِقَوْمِك} (الزخرف: 44) : أي: شرف لكم. وأي شرف أعظم من هذه
الهداية الإلهية العظمى. وأما قوله تعالى: {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن
كُلِّ أَمْرٍ} (القدر: 4) فمعناه: أنهم يتنزلون من أجل أمر من أمور الوحي لا من
أمور الخلق؛ لأن سياق الكلام فيه لا في التكوين.
وأما قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} (الدخان: 3) - إلى
قوله -: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) فمعناه: أنه أنزل القرآن في
ليلة مباركة، والبركة فيها ظاهرة كما أن الشرف فيها ظاهر فهي ليلة القدر خلافًا
لبعض المفسرين الذين قالوا: إنها ليلة النصف من شعبان، وقوله تعالى: {فِيهَا
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) معناه: أنه يفصل فيها، ويبين كل أمر من
أمور الوحي لا من أمور الخليقة بدليل أن سياق الكلام في إنزال القرآن، وبدليل الآية
التي بعدها وهي: {أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} (الدخان: 5) فبيَّن أن هذه
الأمور هي التي تختص بإرسال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
واعلم أنه قد ورد في تفسير هذه الآية أن الملائكة تكتب فيها الأقدار، ولكن هذا
ليس منصوصًا في الكتاب العزيز، ولا في الحديث المتواتر، فيكون قطعيًّا والاعتقاد
به محتمًا ولا في الأحاديث المرفوعة الصحيحة الأحادية، فيكون ظنيًّا والاعتقاد به
من الاحتياط، وإنما ورد عن بعض الذين اشتهروا بالتفسير من السلف ورويت
عنهم فيه الموضوعات والأكاذيب حتى قال الإمام أحمد: إنَّه لا يصح في التفسير
شيء، وأقوى ما رُوي في ذلك ما رواه عبد الرزَّاق وغيره عن مجاهد وعكرمة
وقتادة.
وقد علمت أن المعترض قد سقط بشبهته سواء صح ذلك عن هؤلاء المفسرين
أم لم يصح.
{فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} (الأعراف: 118-119) .
__________(6/457)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بيان القرآن وبلاغته
وما يوهم غير ذلك
(س1) الشيخ أحمد محمد الألفي بطوخ القراموص: كيف الجمع بين
قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (النساء: 79) ، وقوله تعالى:
{وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} (الكهف: 28) .
(ج) راجعوا ما كتبه الأستاذ الإمام في الجمع بين الآية الأولى، وبين قوله
تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78) في الصفحة 157 من مجلد المنار
الثالث.
***
(س2) ومنه: كيف الجمع بين قوله تعالى في أوائل السور: حم، الر،
ن، ق، وقوله: {عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (النحل: 103) ، وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ
الْمُبِينِ} (يوسف: 1) ، {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (الزمر: 28) .. إلخ.
(ج) إنَّ (حم) ونظائرها أسماء للسور على الراجح عند المحققين، ودلالة
الاسم على المسمى بينة لا عوج فيها، وأنتم تعلمون أن: (الأسماء لا تعلَّل) فلا
يقال: لماذا سميت السورة المعلومة (ن) فإن كانت سميت به لذكر الحوت
فيها والنون من أسماء الحوت فلماذا سمي غيرها بأسماء حروف مفردة ومركبة لا
يعرف لها معنى غير تلك الحروف؟ لا يقال هذا؛ لأننا إذا جوزنا أن يقال لقيل في
جميع الأسماء ولذلك قالوا: الأسماء لا تعلل، وأما الذين يقولون بأن لتلك الحروف
إشارات لمعانٍ سامية تعلو أفهام العوام، ولا يعرفها إلا الراسخون من العلماء
الربانيين، فقولهم هذا - إذا صح - لا ينافي أنها أسماء للسور، وأن القرآن مبين
وظاهر يتيسر لكل من يعرف اللغة العربية مفرداتها وأساليبها أن يفهمه ويهتدي به.
ومثال هذا في المحسوسات الأهرام، فإن جميع المؤرخين والقارئين للتاريخ
يعرفون الغرض منها، ثم إن الرياضي منهم يستخرج من مساحة أضلاعها وهيئة
أوضاعها ما لا يعرفه غيره ممن عرف معناها والغرض منها، ولم يعلم أن تلك
الأطوال والعروض وضعت بالمقادير المخصوصة لتدل على مقاييس البلاد في
الزمن الذي بنيت فيه وغير ذلك.
فكل ما يمكن استخراجه من القرآن بطريق معقول فلا ينبغي أن يتوقف في
قبوله؛ لأنه لم يهتدِِ إليه إلا بعض الخواص. وأما الذي لا يقبل فهو ما كانت دلالته
على معناه غير وضعية ولا عقلية كاستخراج المعاني من هذه الحروف بالعدد الذي
يسمونه حساب الجُمل. وهذا المعنى الذي قلناه ظاهر عند أهله في العلوم العالية
المشروحة في القرآن وأعني العلوم الإلهية والغيبية فإن آياتها ظاهرة للعارف باللغة
فهي في غاية البيان ووراءها معانٍ أخرى يعرفها بعض الخواص، وهي توافق
المعاني الظاهرة، وتزيد عليها بما لا يخالفها ولكنه يَدِقُّ عن أفهام العامة. وهذا
ضرب من ضروب إعجاز القرآن لعلنا نوفق لشرحه في وقت آخر. نعم إن كون
القرآن مبينًا لا يمكن أن يجامع القول بالتقليد الذي يزعم أهله أن الكتاب والسنة
المبينة له لم يفهمها إلا نفر ماتوا، ولا يمكن أن يوجد بعدهم من يفهمهما!
***
(س3) ومنه: أن كثيرًا من المسيحيين لهم القدح المعلَّى في اللغة والبلاغة
ومع ذلك لم يعترف بإعجاز القرآن مع ما فيه من أسرار البلاغة وضروب
الأحكام والحكم وبديع المعاني والبيان، مما جعل عرب زمن التنزيل في دهشة منه
واعترفوا بإعجازه، ومن كفر فإنما كفر عن حسد وعناد. ومع ذلك ترى هذا المسيحي
الأديب الفصيح متمسكًا بالنصرانية فيقول: لا ريب أن المسيح (عليه السلام) الإله
وإنسان، وخالق ومخلوق، وعابد ومعبود، ورب وعبد، ومخلِّص
ومصلوب، وبارّ وملعون [1] وآب وابن وروح قدس، فهو ثلاثة حقيقة وواحد
حقيقة، إلى غير ذلك من ضروب المتناقضات فهل لذلك من سبب؟ ثم هو ينظر
إلى الكتاب المقدس نظر المَغْشِي عليه، فيغض الطرف عن تناقضه واختلافه
وانقطاع إسناده ومخالفته لصريح العقل ومقبول النقل وفساد آدابه، ثم يفتح عينيه
لانتقاد القرآن الحكيم فيأتي بالمضحك والمبكي المحزن للإنسانية والفضيلة والعدل
والحرية في القول والعمل، فهل لذلك من سبب أيضًا؟
(ج) السبب في هذا وذاك أن مَن ذكرتم قد اتخذوا الدين جنسية ورابطة
اجتماعية سياسية، فهم يحافظون على العقائد والتقاليد والعادات المِلية التي تربطهم
بعامة أهل ملتهم؛ إذ لو أهملوها لانحلت جامعتهم وصاروا بغير أمة وغير ملة.
ولم ينظروا في الإسلام نظر إنصاف فيفهموه من أصوله؛ لأن المسلمين الذين اتخذوا
الدين جنسية أيضًا قد عادوهم عداوة لم يأذن بها الإسلام فكانت هذه المعاداة سببًا في
بحث كل فريق عن عيوب الآخر فقط، لا عن حقيقة ما عنده. وأنتم تعلمون أن
البدع والمنكرات الفاشية في المسلمين كافية لأن تكون حجابًا دون محاسن الإسلام
حتى تحجبَ العاقل المنصف، بله المعاند المتعسف، فالعارفون بفنون البلاغة من
النصارى قلما ينظرون في القرآن نظر إنصاف، ومن نظر ولاح له أنه معجز فإن
العداوة الجنسية تمنعه من قول الحق لا سيّما إذا كان يرى أن كون القرآن معجزًا
ببلاغته لا يدل على كونه منزلاً من عند الله تعالى، وجلهم أو كلهم يرون ذلك. وقد
وجد من أهل العلم والإنصاف منهم من صرح بأن القرآن قد بلغ حد الإعجاز في
بلاغته، كالمعلم جبر أفندي ضومط أستاذ البلاغة في المدرسة الكلية الأمريكانية في
بيروت، فإنه قد صرّح بذلك في فاتحة كتابه (الخواطر الحسان في المعاني والبيان) .
هذا، وقد علمنا بالاختبار أن أكثر المتعلمين العقلاء من النصارى لا يعتقدون
بالتثليث، ولا بشيء من الخرافات المعروفة عند قومهم، بل منهم المتطرفون الذين لا
يعتقدون إلا بالمحسوسات والبديهيات المعقولة، ولو أن المسلمين الذين يعيش معهم
هؤلاء النصارى أهل نظر وبرهان، واطلاع على علوم هذا الزمان، لا أهل تقليد
للأموات، وتسليم بالخرافات، وكانوا يعاملونهم بالإنصاف، ويجادلونهم بالتي هي
أحسن - لرأيت كثيرين منهم دخلوا في الإسلام، ولرأيت من لم يدخل فيه يعترف
بفضله ولا يعاديه، وإنني أرى أننا أحوج إلى حسن معاملتهم والقسط إليهم في هذا
العصر منا إلى ذلك العصور السابقة، وأن هذا خير لنا ولهم في الدين والدنيا فعسى
أن يوجد في عقلاء المسلمين كثيرون يسعون في هذه السبيل.
***
(س4) محمد أفندي عمر السمان بمصر: اختلف المفسرون في تفسير
آيات القرآن الشريف اختلافات شتّى، وبين كل واحد لها معنى قلما يتفق مع الآخر
وأغلبهم من علماء العربية بأسرارها ودقائقها، فما معنى بلاغة القرآن مع انبهام
معانيه حتى على الخاصة الذين هم أولى الناس بفهمه، وهل يعد كلام بليغًا إذا انبهم
معناه على سامعيه، واختلفوا في فهم المراد من طرائق شتى؟ نرجو أن تفيدوا
في مناركم الوضاح جواب هذا السؤال بعبارة يفهم كل القراء معناها، ولا يخفى
على الخاصة منهم مغزاها ولكم الفضل.
(ج) نقول قبل كل شيء: إن السائل قد غلا في تقرير الخلاف في فهم
الآيات حتى زعم أن الاتفاق بين المفسرين العارفين بأسرار العربية قليل، والصواب
أن الخلاف بين المحققين العارفين هو القليل، وأن الأكثر متفق عليه، ثم إن الجواب
يتجلى في مسائل نذكرها بالاختصار فنقول:
(1) إنَّ الغرض من البلاغة أن يبلغ المتكلم ما يريد من نفس المخاطب
وهو الفهم والتأثير، وقد بلغ القرآن من نفوس من دعوا به إلى الإسلام مبلغًا لم يعهد
مثله لكلام آخر عربي ولا عجمي، وما ذلك إلا أنهم فهموا معانيه بدلائلها وبراهينها
وتأثروا بحِكَمه ومواعظه حتى تركوا عقائدهم وتقاليدهم وعاداتهم التي كانوا
يفاخرون بها، وأُنشِئوا خلقًا جديدًا، وحتى كان المشاغبون المعاندون منهم لم
يروا وسيلة للتخلص من تأثيره إلا بالإعراض عن سماعه، واللغو واللغط عند تلاوته
حتى لا يصل منه شيء إلى نفوسهم كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) ولم ينقل عن
العرب من آمن منهم، ومن لم يؤمن أنهم اختلفوا في فهمه كما اختلف من بعدهم وإنما
كان الراسخون في العلم كالخلفاء لا سيما رابعهم، وكالعبادلة فهم أعلى من فهم سائر
الناس كما فهم ابن عباس من سورة النصر أن النبي عليه الصلاة والسلام قد دنا أجله،
وأن قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه} (النصر: 3) نعي له وأقرّه النبي
على ذلك. ولا شك أن سائر الصحابة قد فهموا معنى السورة كما فهمها ابن عباس،
وهي على بلاغتها، وهذا الفهم الجديد من ابن عباس مزيد في البلاغة ودليل على
أن لها مراتب متفاوتة، ولا يمكن أن يكون الناس المتفاوتون في فهم كل شيء، والعلم
به يتفقون في فهم القرآن، والعلم به وهو أعلى كلام وأجمعه للمعارف العالية الإلهية
والنفسية والشرعية (راجع جواب السؤال الثاني) .
(2) إنَّ علماء اللغة والبلاغة اختلفوا في فهم كل كلام بليغ غير القرآن
كالمعلقات السبع وغيرها مما يؤثَر عن البلغاء في الجاهلية والإسلام، فلو كان
اختلاف الأفهام في الكلام ينافي بلاغته لما كان لنا أن نقول إن في الكلام بليغًا إلا
بعض الجمل البديهية من العامة الجهلاء كقولهم: أكلت رغيفًا وشربت كوزًا من
الماء، وقد يختلفون في فهم ما عدا البديهي من كلام العامي كما يختلفون في فهم
البديهي من كلام العالم بحمله على الكناية أو المجاز. وإذا قرأت القرآن على عامي
عرف العربية ولو ممزوجة باللحن والدخيل، وأنشدته قصيدة من شعر امرئ القيس
أبلغ شعراء العرب لرأيته فهم من القرآن ما لم يفهم من القصيدة، وكان للقرآن في
نفسه الأثر الذي ليس للقصيدة ما يدانيه، ومن هنا تعلم أن بيان القرآن عجيب،
وأن لكل من يعرف العربية منه نصيب:
ولكن تأخذ الأذهان منه ... على قدر القرائح والفهوم
(3) إنَّ أكثر ما تعهد من الخلاف في التفسير سببه أن المتخلفين لم يحاولوا
فهم القرآن بذاته، وإنما حاولوا تطبيقه على مذاهبهم في النحو والبلاغة والكلام والفقه
حتى كأن مذاهبهم هي الأصل الثابت، ولا بد من تطبيق القرآن عليه، ولو حاولوا
فهمه بذاته، وأعدوا له مزاولة أساليب اللغة، ومعرفة متنها والاطلاع على السنة من
غير تقيد بمذهب مخصوص؛ لأن القرآن فوق المذاهب والآراء - لكان خلافهم أقل
ووفاقهم أكثر، ولكان رجوع أحد المختلفين إلى الوفاق بعد النظر في دليل الآخر قريبًا،
فالتقليد في الدين وفي قوانين اللغة هو منشأ البلاء الأعظم في الخلاف. وله
أسباب أخرى مفصلة في كتاب (الإنصاف في أسباب الخلاف) وهو كتاب نفيس
يطلب من إدارة المنار، وثمنه 3 قروش، وأجرة البريد نصف قرش.
فعلم ما قلناه أن الخلاف دون ما قال السائل، وأنه لا ينافي البلاغة قل أو أكثر.
ولو كان الخلاف في الكلام هل هو صحيح أو غير صحيح، وهل هو بليغ أو غير
بليغ، وكان كل ذي قول يورد الأدلة على تأييد رأيه لكان للجاهل أن يشك في
بلاغته؛ لأنه علم أن أهل الشأن اختلفوا فيها، وهو غير قادر على الترجيح. والأمر
في القرآن على غير ذلك، فقد أجمع بُلغاء العرب - من آمن منهم ومن لم
يؤمن - على إعجازه، وكذلك العلماء بالعربية الذين أخذوها بالصناعة، فلم يبق
للجاهل عذر بعد العلم بأن هذه مسألة لا نزاع فيها عند العارفين بهذا الشأن، والله
أعلم.
__________
(1) في التوراة: ملعون كل من يُصلب على خشبة، ويزعم النصارى أن المسيح قبِل اللعنة لأجل خلاص الناس.(6/461)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مضار تربية النساء الاستقلالية
كتبنا من قبل في بيان مضار استقلال النساء بتربيتهن كتربية الرجال
وإقناعهن بأنهن مساويات لهم من كل وجه، فإن هذا أمر مخالف لسنن الفطرة التي
بينها دين الفطرة في كتابه السماوي فقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) أي: أن المساواة بين الزوجين واجبة
في الحقوق مع حفظ حق سيادة المنزل للرجل. وقد أوردنا الشواهد والأمثلة عن
أهل أوروبا لا سيما نساء الإنكليز على وجوب جعل المرأة تحت سيادة الرجل
وعلى كون التربية عندهم صارت تعارض ذلك. وقد رأينا عنهن شاهدًا جديدًا في
هذه الأيام، وهي أن النساء الكاتبات الفاضلات اللواتي تربين وتعلمن في هذا العصر
طفقن يكتبن في الجرائد منتقدات شاكيات من تربية بناتهن تربية جعلت همهن
محصورًا في الزينة والولوع بصرف الأوقات في المنتزهات، حتى صار يثقل
عليهن مساعدة أمهاتهن في تدبير المنزل! وقد نقل المقطم نبذة من ذلك إلى العربية
عنوانها (حرب سجال) نوردها ها هنا تأييدًا لقولنا وهي:
في إنكلترا الآن حرب أقلام ثار عجاجها على صفحات الجرائد الإنكليزية بين
الأمهات وبناتهن، ورُب قلم أحدّ من السنان وأمضى من الحسام. وقد كانت الأمهات
البادئات بالعداء فإن أمًّا منهن رأت من بناتها تقصيرًا في قضاء الواجبات المنزلية
المفروضة عليهن وميلاً إلى عصيان كل أمر تصدره إليهن، فهالها طغيانهن وتهاملهن
وضاقت ذرعًا عن كبح جماحهن، فاستغاثت بالجرائد وبعثت برسالة إلى إحدى
الجرائد المشهورة بإمضاء (أم خائبة الأمل) ! وهذا نصها بعد الديباجة:
أريد أن أعلم آراء قراء جريدتكم في هذه المسألة. فإن لي ثلاث بنات عمر
الصغرى منهن 17، والكبرى 21، وقد تعلمن في مدارس معروفة، وأكملن
دروسهن ولَزِمْنَ البيت. وزوجي متقلد منصبًا حسنًا فلا حاجة بهن إلى احتراف
حرفة يرتزقن منها. ولكن أملي بهن خاب لما يبدين من الميل إلى الحرية
والاستقلال فبدلاً من أن يساعدنني ويتفكرن فيَّ تراهن لا يتفكرن في غير أنفسهن
وملاذهن كالألعاب الرياضية وغيرها مما هو خارج عن دائرة الأشغال المنزلية،
ويكرهن البقاء في المنزل أيام استقبال الزائرين ورد الزيارات معي قائلات: إن ذلك
من قبيل إضاعة الوقت، وهن يسخرن بأذواقي، ويعددنها أذواقًا قديمة ليست
حسب الأذواق الحديثة، ولا يزلن يتعلمن الموسيقى إلى الآن فيقضين نصف
النهار في التمرن عليها.
(هذا وإني لست أريد معارضتهن في كل شيء، ولكني أريد أن أعلم إنْ كانت
بنات الناس كذلك، ومما لم أستحسنه فيهن استعمالهن كلمات زقاقية وعبارات اللغو
والمبالغة في حديثهن. فهل توافقني سائر الأمهات على أن هذه هي (مُودَة) هذا
الزمان) .
وكأن هذه الرسالة جرَّأت الأمهات على ما لم يجترئن عليه قبلها فبعثن
بالرسائل تباعًا إلى إدارة الجريدة يشكون أمورًا كثيرة يأتيها بناتهن مما ينكرنه
عليهن، فنذكر بعضًا للتفكُّه:
قالت إحداهن: (إني أوافق على كل ما قالته صاحبة الرسالة بإمضاء) الأم
الخائبة الأمل (فإننا كلنا في الهوى سوى) وأن للبنات حرية زائدة هذه الأيام في
العمل والكلام، فإذا قاطعتهن انتقمن لأنفسهن برد جوابات فيها ما فيها من الصلف
والوقاحة. وهذا اختبار أم أخرى خاب أملها) .
وقالت غيرها: (أخشى أن ما تشعر به (الأم الخائبة الأمل) يكون مطابقًا
لشعور الأمهات في جميع العالم، وهو دليل على انحطاط الشعور القديم من نحو
العائلة، وانتشار (المودة) الجديدة، وهذا آفة على التهذيب القديم الذي كان أمهاتنا
يعتقدن بقوة تأثيره فينا) .
وقالت أخرى: إني أشارك الأم الخائبة الأمل في ما تراه وتشعر به، وأقول: إن
تمرد البنات شر متفاقم تشعر الأمهات بضرره الشديد. فإن الأمهات حاولن تربية
بناتهن على مثل ما ربين عليه أيام كانت الحشمة الحقيقية ناتجة عن رقة الشعور
واحترام الآخرين. ولكن تلك الأفكار أمست قديمة مبتذلة الآن فبات البنات لا
يحترمن أمهاتهن ولا يخضعن لهن. بل يفعلن ما يردن غير مكترثات لآراء والديهن،
فما هي نتيجة ذلك يا تُرى؟ وكيف تربي أولئك البنات أولادهن متى تزوجن؟
هذا مثال الرسائل التي أرسلها الأمهات يعترضن فيها على سلوك بناتهن
ووافقهن أخ أرسل رسالة بإمضاء (أخ مشمئز) قال فيها: (إن هذا العصر هو ما
يسمونه عصر (التقدم) و (تساوي الجنسين) وغير ذلك من الأسماء فكانت
نتيجته (المرأة الجديدة) التي نراها الآن بعيوبها الكثيرة!
وما كادت هذه الرسائل تُنشر حتى استشاطت البنات حنقًا، وأرسلن الرسائل
تترى إلى الجريدة المذكورة جوابًا على شكاوى الأمهات، ونصرهن بعض الآباء
والأمهات كما سيأتي. وهاك أجوبة بعض البنات:
قالت إحداهن بإمضاء (ابنة مضطربة) :
(أنا ابنة مدركة سن الرشد وأحوالي على ما وصفت (الأم الخائبة الأمل)
في رسالتها، ولا شيء يسرني مثل مساعدة والدتي على تدبير المنزل، وتخليصها من
همومه الكثيرة، ولكنها لا تعتمد عليَّ في عمل من أقل الأعمال؛ لأنها تعتقد أن لا أحد
يحسن عملاً إلا إذا كانت يدها فيه وهي تراقب عمله. وعليه عدلت عن الاهتمام
بتخليصها من عناء الأشغال والأعمال المنزلية لأني وجدت الاهتمام يضيع سدى.
فكيف تؤمل الأمهات أن تثق بناتهن بهن ما دمن لا يثقن ببناتهن، وهل يستغرب من
البنات الاهتمام بما هو خارج البيت إذا كُنَّ لا يجدن فيه من يهتم بهن ويعطف
عليهن) .
وكتبت بنت كتابًا طويلاً بالأصالة عن نفسها والنيابة عن أخواتها قالت فيه ما
ملخصه:
إن معظم بنات هذه الأيام يقضين عدة سنوات في المدارس يلعبن فيها ألعابًا
مختلفة لترويض أجسادهن، ومتى خرجن منها ودخلن البيت ينتظر أمهاتنا منا أن
نكون رفيقاتهن، وأن لا نعمل عملاً سوى الاهتمام بشئون المنزل، فشتان ما
بين جلوسنا في غرفة الاستقبال نسمع انتحاب أمهاتنا وزائراتهن من فساد أمر البنات
في هذا الزمان، وحديثهن الدائم عن الخدمة والخادمات، وبين التنزه على ضفة
النهر أو لعب الألعاب الرياضية، ولسنا نقصد أن نكون محبات لأنفسنا ونقضي العمر
بالتمتع بنعيم هذه الحياة فقط، بل إننا ندخل البيوت مشتاقات إلى مساعدة أمهاتنا
مستعدات لتعلم الأعمال والأشغال البيتية، ولكننا نريد أن نقوم بالواجب علينا على
الطريقة التي نحبها ونهواها. فكل يوم نرى شيئًا جديدًا نحب اقتباسه وإدخاله إلى
منزلنا، ولكن أمهاتنا يعارضننا بدلاً من أن يوافقننا على أذواقنا قائلات: إن العجب لا
يعجبنا وإننا لا نستحسن شيئًا في البيت، بل نجد عيبًا في كل شيء، ونرى منازل
الآخرين أحسن من منازلنا.
مثال ذلك أن أكثر البنات مولعات بترتيب الأزهار التي تُوضَع على مائدة
الطعام وفي غرف الاستقبال، فيرتبنها وينظمنها على أذواقهن، ولكن أمهاتهن
يغتنمن فرصة غيابهن ويقحمن بين تلك الأزهار الجميلة المتناسقة أزهارًا ذات
ألوان لا توافق الذوق السليم فيضيع تعب البنات سدى!
وأكثرنا ينتظر بسرور مجيء اليوم الذي نصبح فيه ربات منازل مستقلة فتكثر
همومنا ومشاغلنا، ويأتي دورنا للزيارات وردها فلماذا هذه العجلة الآن؟
أما الأمهات اللواتي انتصرن لبناتهن فمنهن أم كتبت كتابًا بإمضاء (أم
مسرورة شكورة) قالت فيه:
(لما قرأت كتاب (الأم الخائبة الأمل) حزنت عليها فقد مرت بي سِنُو هَمٍّ
وشقاءٍ من شراسة زوجي، ولكن بنتي كانت تعزيتي وقوتي على احتمال مصيبتي وقد
عرض كثيرون من الأصدقاء والأقارب أن يأخذوها معهم في أسفارهم للتنزه
ومشاهدة هذا العالم، واتهموني بحب الذات؛ لأني لا أسمح لها بالابتعاد عني،
ولكنني أؤكد لكم أنني لم أجبرها على عمل شيء، بل تركتها تفعل ما تشاء) .
ومنهن أم كتبت رسالة بإمضاء (أم راضية) قالت فيها: (إن لي أربع بنات
لا يتأخرن عن مساعدتي حينما أشاء، ولكنني لا أطلب منهن الشيء الكثير؛
لأن للشباب مطالب لا يصح الإغضاء عنها، فبعض الأمهات يطلبن من بناتهن
أمورًا كثيرة، وقلما يخطر ببالهن أن الألعاب والملاهي لازمة لهن وعندي أنَّه يكفي
البنات أن يشتغلن بجمع الأزهار وتنسيقها وترتيبها ونفض أثاث البيت من الغبار
إلا إذا اضطرت الحال إلى أكثر من ذلك) .
أما الأب الذي انتصر للبنات فقد عدل في حكمه، ولم يجُر فاعترف بإهمال
البنات وتطرفهن، ولكنه نسب ذلك إلى إهمال الأمهات حيث قال:
(لو عرفت الأم الخائبة الأمل كيف تعلم بناتها عمل الواجب عليهن لما
احتاجت إلى كتابة رسالتها، فإن البنات يربين هذه الأيام تربية مطلقة من كل قيد
ويعطين كل ما تشتهيه نفوسهن، فينكر الوالدون أنفسهم حبًّا بهن، ولكنهن لا يفهمن
معنى إنكار النفس فيشببن وقد تعودن طلب كل شيء بالأمر والنهي كأن لهن حقًّا
شرعيًّا فيه بدلاً من أن يطلبنه طلبهن للمعروف. فأي حق لفتاة سنها 17 سنة في
الاعتراض على شيء من الأشياء، إنما يجب عليها أن تفعل ما يطلب منها، وأما
الألعاب فإذا رأى الوالدون أقل ضرر منها لم يصعب عليهم منع أولادهم من لعبها
بالامتناع عن إعطائهم الدراهم لمشترى لوازمها، ويحسن بهم أن يهدوا تلك الألعاب
إلى ذوي السلوك الحسن من أولادهم ويعوِّدوهم أن يحصلوا عليها بتعبهم بدلاً من أن
يأخذوها كأنها حق طبيعي من حقوقهم) . اهـ المراد، وبقي في المقطم قول
لبعض الشعراء أهملناه.
(المنار)
يجب أن تربَّى البنت لتكون زوجة، ويجب أن تكون زوجة لتكون أمًّا
وهي لا تكون زوجة إلا إذا أراد الرجل، ومن مصلحة الرجل أن تكون زوجته
أمًّا، ولا تصلح أن تكون أمًّا إلا إذا تربت على الأعمال المنزلية وتربية الأطفال
والمدرسة الطبيعية التي تربيها وتعلمها أعمال الأمهات هي بيت أبيها الذي تدبر
أعماله أمها. فالبنت التي ترى الحرية والاستقلال يبيحان لها ترك البيت وصرف
الأوقات في الملاهي والمنتزهات ومخالفة والدتها في ما تأمرها به بلسان المقال أو
بلسان الحال من القيام بالأمور المنزلية هي كالتلميذ الذي يستبيح أن يترك المدرسة إذا
شاء، ويتعلم فيها ما شاء ويعصي ناظرها وأساتذتها متى شاء، فمن يقول: إن هذا
التلميذ يفلح في اتباع هواه، فليقل: إن تلك البنت تفلح في اتباع هواها.
غلط الإفرنج في محاولة جعل النساء كالرجال في تمام الاستقلال، ومغبة غلط
الأمم لا تظهر إلا بعد زمن طويل، وها هو قد نجمت نواجمه في قلة النسل، وفي
إهمال النساء والبنات البيوت إهمالاً يفسد شأنها، وفي كثرة طلب الطلاق، وفي قلة
التزوج والاستغناء عنه بالفسق. ومن أعجب أنواع هذا الظهور شكوى الأمهات من
البنات مع شدة حبهن لهن وعنايتهن برفاهتهن وراحتهن، ومع مبالغتهن في إظهار
محاسنهن وإخفاء مساويهن. ولا بد أن تحمل هذه المضرات القوم على تدارك الأمر
والاجتهاد في جعل البنت تحت سيطرة أمها وأبيها في البيت ليكون ذلك مقدمة
لسيطرة زوجها عليها من غير أن يثقل ذلك عليها.
أما ما قرأت من مدح بعد الأمهات لبناتهن فهو موافق لانتقاد الشاكيات من
الحرية وتمام الاستقلال. هكذا تظهر الحوادث بعد تجارب القرون أن تهذيب القرآن
وتعليمه فوق كل تهذيب وتعليم، وما ذلك إلا لأنه تنزيل من لدن حكيم عليم.
__________(6/466)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نموذج من دلائل الإعجاز
قال المصنف في سياق إثبات أن البلاغة والفصاحة للنظم لا للكلم المفردة ما
نصه:
وهذه جملة من وصفهم الشعر وعمله وإدلالهم به:
(أبو حية النُّمَيْري)
إن القصائد قد علمن بأنني ... صنع اللسان بهن لا أتنحل [1]
وإذا ابتدأت عروض نسج ريض ... جعلت تذل لما أريد وتسهل [2]
حتى تطاوعني ولو يرتاضها ... غيري لحاول صعبة لا تقبل
(تميم بن مقبل)
إذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى ... لها قائلاً بعدي أطبّ وأشعرا
وأكثر بيتًا سائرًا ضربت له ... حزون جبال الشعر حتى تيسرا
أغر غريبًا يمسح الناس وجهه ... كما تمسح الأيدي الأغر المشهرا
(عدي بن الرقاع)
وقصيدة قد بت أجمع بينها ... حتى أقوّم ميلها وسنادها
نظر المثقف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثِقافه منآدها [3]
(كعب بن زهير)
فمَن للقوافي شانها من يحوكها ... إذا ما توى كعب وفوّز جرول [4]
يقومها حتى تلين متونها ... فيقصر عنها كل ما يتمثل
(بشار)
عميت جنينًا والذكاء من العمى ... فجئت عجيب الظن للعلم موئلا
وغاص ضياء العين للعلم رافدًا ... لقلب إذا ما ضيع الناس حصلا
وشعر كنور الروض لاءمت بينه ... بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا [5]
(وله)
زور ملوك عليه أبهة ... يغرف من شعره ومن خطبه [6]
لله ما راح في جوانحه ... من لؤلؤ لا ينام عن طلبه
يخرج من فيه للنديّ كما ... يخرج ضوء السراج من لهبه [7]
(أبو شريح العمير)
فان أهلك فقد أبقيت بعدي ... قوافي تعجب المتمثلينا
لذيذات المقاطع محكمات ... لو أن الشعر يُلبَس لارتدينا
(الفرزدق)
بلغن الشمس حين تكون شرقًا ... ومسقط قرنها من حيث غابا
بكل ثنية وبكل ثغر ... غرائبهن تنتسب انتسابا [8]
(ابن ميادة)
فجرنا ينابيع الكلام وبحره ... فأصبح فيه ذو الرواية يسبح
وما الشعر إلا شعر قيس وخِندف ... وشعر سواهم كلفة وتملُّح
وقال عقال بن هشام القيني يرد عليه:
ألا بلغ الرماح نقض مقالة ... بها خطل الرماح أو كان يمزحُ
لقد خرق الحي اليمانون قبلهم ... بحور الكلام تستقي وهي طفحُ
وهم علموا من بعدهم فتعلموا ... وهم أعربوا هذا الكلام وأوضحوا
فللسابقين الفضل لا تجحدونه ... وليس لمسبوق عليهم تبجحُ
(أبو تمام)
كشفت قناع الشعر عن حر وجهه ... وطيرته عن وكره وهو واقع
بغر يراها من يراها بسمعه ... ويدنو إليها ذو الحجى وهو شاسع
يود ودادًا أن أعضاء جسمه ... إذا أنشدت شوقًا إليها مسامع
(وله)
حذّاء تملأ كل أذن حكمة ... وبلاغة وتدر كل وريد
كالدر والمرجان ألف نظمه ... بالشذر في عنق الفتاة الرود
كشقيقة البرد المنمم وشيه ... في أرض مهرة أو بلاد تزيد
يعطي بها البشرى الكريم ويرتدي ... بردائها في المحفل المشهود
بشرى الغني أبي البنات تتابعت ... بشراؤه بالفارس المولود
(وله)
جاءتك من نظم اللسان قلادة ... سمطان فيها اللؤلؤ المكنون
أحذاكها صنع الضمير يمده ... جفر إذا نضب الكلام معين [9]
أخذ لفظ الصنع من قول أبي حية:
... ... ... ... .. بأنني ... صنع اللسان لا أتنحل
ونقله إلى الضمير وقد جعل حسان أيضًا اللسان صنعًا وذلك في قوله:
أهدى لهم مِدَحًا قلب مؤازره ... فيما أحب لسان حائك صنع
ولأبي تمام:
إليك أرحنا عازب الشعر بعدما ... تمهل في روض المعاني العجائب
غرائب لاقت في فنائك أنسها ... من المجد فهي الآن غير غرائب
ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت ... حياضك منه في السنين الذواهب
ولكنه صوب العقول إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب
(البحتري)
ألست الموالي فيك نظم قصائد ... هي الأنجم اقتادت مع الليل أنجما
ثناء كان الروض منه منورًا ... ضحى وكان الوشي منه منمنما
(وله)
أحسنْ أبا حسن بالشعر إذ جعلت ... عليك أنجمه بالمدح تنتشر
فقد أتتك القوافي غب فائدة ... كما تفتح غب الوابل الزهر
(وله)
إليك القوافي نازعات قواصد ... يسير ضاحي وشيها وينمنم [10]
ومشرقة في النظم غر يزينها ... بهاءً وحسنًا أنها لك تنظم [11]
(وله)
بمنقوشة نقش الدنانير يُنتقى ... لها اللفظ مختارًا كما ينتقى التبر
(وله)
أيذهب هذا الدهر لم ير موضعي ... ولم يدرِ ما مقدار حلي ولا عقدي
ويكسد مثلي وهو تاجر سؤدد ... يبيع ثمينات المكارم والمجدِ
سوائر شعر جامع بِدَد العلى ... تعلقن من قبلي وأتعبن مَن بعدي
يقدر فيها صانع متعمل ... لأحكامها تقدير داود في السرد
(وله)
لله يسهر في مديحك ليله ... متململاً وتنام دون ثوابه
يقظان ينتحل الكلام كأنه ... جيش يريد أن يلقى به
فأتى به كالسيف رقرق صيقل ... ما بين قائم سِنخه وذبابه [12]
ومن نادر وصفه للبلاغة قوله:
في نظام من البلاغة ما شك م امرؤ أنه نظام فريد
وبديع كأنه الزهر الضاحك ... في رونق الربيع الجديد
مشرق في جوانب السمع مايخـ ... ـلقه عوده على المستعيد
حجج تخرس الألد بألفا ... ظ فرادى كالجوهر المعدود
ومعانٍ لو فصَّلتها القوافي ... هجنت شعر جرول ولبيد
حزن مستعمل الكلام اختيارًا ... وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدركـ ... ـن به غاية المراد البعيد
كالعذارى غدون في الحلل الصفـ ... ـر إذا رحن في الخطوط السود
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يقال لمن سرق شعر غيره: تنحله وانتحله.
(2) العروض: الناقة التي لم ترض وعروض الشعر معروف والريِّض بتشديد الياء المكسورة الدابة أول ما تراض وهي صعبة يستوي فيه المذكر والمؤنث.
(3) المثقف بكسر القاف المشددة: مقوم الرماح والثقاف بالكسر: آلته الخشبية التي يثقف بها والمنآد: المائل المنحني والسناد في البيت الأول: عيب القافية قبل الروي.
(4) شانها: عابها وتوى: هلك، وفوّز: مات، وجرول: لقب الحُطيئة الشاعر الهجَّاء، وجملة: (شانها مَن يحوكها) دعاء.
(5) أحزن: صار في الحزَن وهو بالفتح ضد السهل، وأسهل ضد أحزن.
(6) الزور: الزائر يستوى فيه المذكر والمؤنث والمفرد وغيره لأنه مصدر في الأصل.
(7) الندي كالنادي: مجلس القوم للحديث نهارًا.
(8) الثنية: واحدة الثنايا وهي الأسنان الأربع وطريق العقبة والثغر: الفم أو الأسنان في منابتها وكل فرجة في جبل أو بطن واد وطريق مسلوك ثغر يقول: إن قوافيه طافت الخافقين فبلغت مطلع الشمس ومغربها ولم تدَع طريقًا في عقبة أو جبل إلا سلكته، ولا واديًا إلا هبطته، فأي مكان أشرفت عليه رأيتها فيه تنتسب إليه، أو يقول: إن كل فم ينشدها، وكل ثغر يتزين بالتمثل بها، ويريد من الثغر الفم.
(9) أحذاكها: أعطاكها والجفر: البئر.
(10) يسير: يجعل كوشي السيراء وهي ضرب من الحلل.
(11) وفي نسخة: يزيدها بدل يزينها.
(12) سِنخ السيف بالكسر: طرف سيلانه والسيلان بالكسر: ما يدخل منه في القراب، وذبابه: حده الذي يضرب به.(6/471)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(الاحتفال بتذكار عيد الجلوس السلطاني)
في يوم الثلاثاء الماضي زُينت حديقة الأزبكية احتفالاً بتذكار جلوس مولانا
السلطان عبد الحميد خان على عرش السلطنة العثمانية - أيدها الله تعالى - وكان
رئيس لجنة الاحتفال أحمد باشا المنشاوي، وقد أذاعت الجرائد بأن المال الذي
يُجمع لأجل الاحتفال ينفق منه على الزينة، ويصرف ما بقي منه إلى إعانة سكة
الحجاز، فأقبل الناس على البذل، وعلى شراء ورق الدخول في الحديقة، وتبرع
إسكندر أفندي فرح - صاحب جوقة التمثيل العربي - بأن يمثل في الحديقة رواية
صلاح الدين مجانًا، وتبرع كذلك الحاج حسن النوتي، الذي تولى إقامة معالم
الزينة بنصف الأجرة؛ لهذا ولقلة العناية بالزينة يُرجى أن يكون ما بقي من المال
لإعانة السكة عظيمًا جدًّا - فإن الجمعية الخيرية الإسلامية تنفق أضعاف ما أنفقت
اللجنة على زينتها، ويبقى لها من الربح زيادة عن ألف ومئين من الجنيهات في كل
عام.
* * *
(الأستاذ الإمام في أوربا)
يسافر أكثر أمراء المصريين وكبار الموظفين منهم كل عام إلى أوربا
مصطافين، فيقضون أشهر الصيف هناك في لهو ولعب وتمتع باللذَّات، وخيرهم من
يسافر لغرض صحيح كترويض جسمه بالاستحمام في الحمامات المعدنية وصعود
الجبال، أو لاختبار يفيده في صناعته التي بها قوام منافعه الشخصية، ولم نسمع عن
أحد منهم أنه سافر لاختبار حال التربية والتعليم في تلك البلاد التي أجمع علماؤها
وعقلاؤها على أنهم ما سادوا الأمم إلا بالتربية والتعليم، والاستفادة من ذلك
لتكميل نفسه والاستعانة على نفع قومه إلا الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية فإنه
قد سافر من قبل غير مرة لتعلُّم أفصح لغات القوم (الفرنسية) فتعلمها، وأحسنها،
ووقف بها على أهم معارفهم التي تعينه على ترقية أمته. وقد وّلَّى وجهه في
هذه السنة شطر المدارس الكلية التي يتخرج فيها كبار الرجال ليختبر شؤونها حتى
إذا حقق الله تعالى رجاءه بإيجاد مدرسة جامعة في هذه البلاد يكون على بصيرة
في كيفية تأسيسها ونظامها كما يرشد إليه قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ
فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (الحج: 46) وكما قال
الشاعر:
قد سلك الطريق ثم عادا ... ليخبر القوم بما استفادا
وقد سبق له رؤية المدارس الفرنسية العالية، وكان في بعض أسفاره قد أخذ إذنًا
من ناظر معارف فرنسا بأن يزور أي معهد من معاهد العلم في أي وقت شاء. ولما
كانت التربية ونظام التعليم في البلاد الإنكليزية مفضَّلين عند علماء هذا الشأن من
الفرنسيين على مثلهما في سائر الممالك الأوربية سافر في هذه السنة لزيارة أعظم
مدارس هذه الدولة العظيمة، وأعظمها كلية أكسفورد وكلية كمبردج.
وقد ذكرت جرائد لوندرة هذه الزيارة وما كان من احتفال رجال العلم في
المدرستين، وإجلالهما للأستاذ، وأثنت الجرائد عليه بما هو أهله من العلم
الواسع والعقل الكبير والهمة العالية، وذكرت غير ذلك من تقلبه في البلاد كزيارته
للفيلسوف سبنسر أعظم فلاسفة أوربا الاجتماعيين، ونزوله ضيفًا كريمًا على المستر
ويلفرد بلنت في قصر (كرايت بارك) . وقالت: إن المستر كوكرنل قد صحب
فضيلته في زيارة مدرسة أكسفورد، وأن الأستاذ بويل المؤلف الشهير كان دليلاً له؛
لأنه من معلمي التاريخ في تلك المدرسة، وقالت: إنه لما زار مدرسة كمبردج خرج
لاستقباله في المحطة طائفة من أساتذتها، وإن المستر إدوار براون قد دعاه
فيها إلى طعام الغداء، ودعا لأجله طائفة من الأساتذة وبعض المستشرقين وكبار
المستخدمين، وإنه تناول طعام العشاء في قاعة المدرسة الكبرى. وذكرت تفصيل
الزيارة بما لا حاجة لي بيانه هنا، وقد لخصته الجرائد اليومية المصرية، وذكرت
ثناء الجرائد الإنكليزية على معارف الأستاذ الواسعة.
وقد كتب الدكتور إدوارد براون أستاذ اللغتين العربية والفارسية في كلية
كمبردج رسالة إلى جريدة المؤيد ذكر فيها خبر الزيارة بنحو التفصيل الذي جاء في
الجرائد الإنكيلزية، ومما جاء في رسالته قوله كما في العدد 4042 من المؤيد:
(ولقد كان كل مَن في المدرسة فرِحًا مسرورًا بزيارة هذا الرجل العالم
العظيم، وأعجب بعلمه وفضله وسمو آرائه جميع العلماء والعظماء، وتمنوا لو أقام
بينهم زمنًا طويلاً وفي اعتقادي أن فضيلة المفتي قد شرَّف الشرق وعلماءه في هذه
الديار) ! اهـ.
فالحمد لله الذي جعل فينا مَن نفتخر به أمام كبار رجال العلم في أوربا الذين
يرون الشرق وأهله في ظلمات من الجهل لا يبصرون!
وقد ذكرت الجرائد الإنكليزية أن المفتي سافر من إنكلترا قاصدًا فرنسا ليسافر منها
إلى تونس والجزائر، وهذا ما كنا علمناه من هنا قبل سفره، وقد كان عازمًا على
أن ينتهي إلى بلاد أسبانيا (الأندلس) حيث كانت الدولة العربية التي أفاضت العلوم
على أوربا، فانتقم منها التعصب فأفناها عن آخرها، ولا ندري هل بقي من
زمن إجازته ما يكفي لذلك أم يعود من تونس إلى بلاده التي ظمئت لمعارفه؟ ! كان
الله له وأيده بروحه حيث كان، ومد في أجله حتى يرتقي بهذه الأمة إلى أعلى ما في
عالم الإمكان.
* * *
(مكانة القسطنطينية بمكانها)
لهذه المدينة بموقعها ومكانها امتياز على سائر بقاع الأرض، وهي أنها ملجأ
وحصن بحري طبيعي، لا نظير له في بحار الدنيا، فطبيعة المكان توجب على
صاحبه أن يكون صاحب قوة بحرية لا تساويها قوة كما توجب طبيعة الأرض الخصبة
على صاحبها أن يكون غنيًّا بزراعته، وصاحب الأرض المعدنية أن
يكون غنيًّا بتجارته. فإذا أهمل صاحب الأرض الخصبة زراعتها واشتغل عنها
بشيء آخر فإن شريعة العمران تقضي بنزعها منه، وقاضي الزمان ينفذ حكمها عند
حلول الأجل الموافق له. وكذلك كل مَن قصر في استعمال ما وهبته له طبيعة
الوجود.
أُعطيت مُلكًا فلم تحسن سياسته ... كذلك من لا يسوس الملك يُنزَعه
لهذا قلنا في المقالة التي كتبناها في الجزء الحادي عشر: إنه يجب على الدولة
العلية أن تكون في مقدمة الدول البحرية بأن تكون أساطيلها كأساطيل فرنسا، وقلنا:
إنها إذا عجزت عن ذلك فإنها لا فائدة لها من هذا الحصن فتتركه طوعًا بفائدة لئلا
تتركه كرهًا بدونها. وإذا هي وُفقت لذلك ولو بعد حين من شروعها الذي يجب أن
يكون عاجلاً فإنها بذلك تحفظ مجدها، بل تعيد ما فقدت منه حتى تكون في مقدمة دول
الأرض (إن شاء الله) ؛ لأن أساطيل كأساطيل فرنسا لها حصن عظيم، كبحر
مرمرة يسهل أن يكون صاحبها مالك البرين (بَرَّي أوربا وآسيا) والبحرين
(الأبيض والأسود) ، ويصعب على مَن له قوة كقوته في البحر أن يناوئه، فإن
صاحب الحصن البحري العظيم يلجأ عند الضيق بأساطيله إلى حصنها حتى يأخذ
أهبته فيخرج مهاجمًا، ومَن لا حصن له لا ملجأ له فهو إما مغلوب وإما غير غالب.
* * *
(موسيو روا الكاتب العام للدولة التونسية)
جاءنا من تونس أن قد صدر الأمر بثبيت موسيو (روا) في منصبه السامي
بعدما أشيع بأنه سينقل من تونس، وقد سرت النابتة التونسية، وجميع عقلاء
المسلمين من تثبيته، بل كتب إلينا أن جميع التونسيين قد سروا بذلك، ولا غَرو فإن
هذا الرجل قد خُص بمزيَّة عظيمة وهي القدرة على الجمع بين مصلحة أمته الحامية،
وبين رضاء الأمة المحمية فهو على صدقه في خدمة فرنسا يخدم تونس وأهلها
الخدمة التي ترضيهم عنه، وعن قومه، وتؤلف بين القلوب.
ولو أن عند فرنسا كثيرًا من مثله في الجزائر لانحلت بحكمتهم المسألة التي
يبحثون دائمًا عن طريقة مرضية لحلها، وهي: كيف يكون كل فريق راضيًا من
الآخر مرضيًّا عنده. وقد بينا في مقالة سابقة أنه لا طريقة لذلك إلا حسن المعاملة
والجمع بين المصلحتين، وقد بلغنا أن موسيو (روا) يسلك هذا المسلك الحميد،
فنهنئ به تونس وفرنسا جميعًا.
* * *
(البابية في بلاد فارس)
جاء في بعض الجرائد الأوربية أن المسلمين في بلاد فارس قد احتموا على
طائفة البابية، وطفقوا يفتكون بهم، ويسفكون دماءهم لأجل الخلاف الديني بينهم
وشبهت جريدة التيمس الإنكليزية هذا التعصب بتعصب الروسيين على اليهود
وذكرت من وصف البابية أنهم يقربون في عقائدهم من الأوربيين، وشنعت على
الحكومة الإيرانية لتقصيرها في حمايتهم.
ونقول: إن قياس التيمس البابية على اليهود قياس غير صحيح، فإن اليهود
أصحاب دين قديم تعترف به جميع الأمم، ولكن النصارى والمسلمين يقولون: إن
المسيح ومحمدًا عليهما السلام نسخا بعض أحكامه، وأقرا بعضها فيجب عليهم الأخذ
بآخر هداية جاء بها الوحي.
وأما البابية فإنهم قوم ارتدوا عن الإسلام، وأحدثوا لأنفسهم دينًا وضعيًّا مؤلفًا
من أمشاج الوثنية والمدنية، وهم يستخفون به ويظهرون في مظاهر النفاق ليتمكنوا
من تشكيك أهل كل دين في دينهم، ولا يزال دينهم سريًا ولذلك يتمكنون من مخادعة
أهل كل دين، ولإقناعهم بأنهم منهم، ولكنهم يريدون إصلاحهم. ولقد علمنا من شابين
غَويين في مصر انخدعا لهذه الطائفة أنهم لا يطلعون أحدًا على كتبهم الأساسية
كالبيان للباب والكتاب المسمى بالكتاب الأقدس للبهاء حتى الداخل فيهم جديدًا.
وكيف تطالب حكومة إيران بأن تطلق الحرية لقوم يثيرون شغب الأهالي
بادعائهم الإسلام في الظاهر، ودعوة الناس للاعتقاد بألوهية البهاء وعبادته في
الباطن، إذا كانت الحرية الدينية في نظر التيمس محمودة فهل تنكر التيمس أن
بعض أفراد الحرية في بعض البلاد تأتي بأعظم المضرات. بماذا تحتج إنكلترا على
عدم إطلاق الحرية في بلاد زنجبار؟ أليست حجتها أضعف من حجة إيران في
عدم إطلاق الحرية لهذه الطائفة التي تشكك العوام في عقائدهم وتثير إحنهم وتخرج
أضغانهم، بحيث يخشى أن تقع البلاد في الفتن والثورات الداخلية؟ بلى ولكن
التيمس لم تقل ما قالت حبًّا في الحرية، وإنما أرادت تنبيه حكومتها إلى أن لها بابًا
مفتوحًا يسهل عليها أن تدخل منه إلى ما عساها تحب الدخول فيه.
إذا كان للخبر حقيقة فلا أرى إلا أن منشأه المشاغبة بين دعاة الدين الجديد
وعوام المسلمين كأن يقول البابي للمسلم: إن ربك البهاء دفين عكا فيحتمي عليه
ويقول: كلا؛ بل ربي الله الحي الذي لا يموت ولا يدفن، وتنتهي المكالمة بالملاكمة
فينتصر قوم هذا لهذا وطائفة ذاك له، فكيف ترضى الحكومة بهذا؟ وكيف تحاول
جريدة التيمس أن تطالب الفارسي المتدين بأخلاق الإنكليزي أو الفرنسي الذي لا
يبالي بالدين؟
ومن هنا علمنا أن فرقًا آخر بين اليهود والبابية وهو أن اليهود لا يعرضون
لتفنيد دين آخر، ولا لدعوته إلى دينهم بخلاف البابية فإنهم يعيبون على الناس دينهم
وليس من مصلحة الحكومة أن تبيح لهم ذلك من جهة السياسة فكيف والدين يوجب
عليها منعهم من تشكيك عوام المسلمين في الإسلام، وقد علمنا بعد كتابة ما مر أن
سبب الفتنة أن بعض البابية سب النبي عليه السلام علنًا فأفتى العلماء بقتله وهاج
الناس ولجأ هو إلى قنصل روسيا فمنعه من الناس، ولكن الحكومة طلبته فسلمه
القنصل وشُنق، وكان ذلك مبدأ الفتنة.
أما زعم بعض الجرائد الأوربية أن دينهم منتشر، وأن أتباعه صاروا يعدون
بالملايين فهو من الكذب الذي يُنقل عن البابية أنفسهم، فإننا رأينا أحد دعاتهم في
مصر يزعم أن منهم ملايين في إيران، وملايين في الهند وقد سألنا بعض الإيرانيين
والهنديين عن ذلك فأنكروه وقالوا إنهم في الهند يزعمون أن أتباعهم في مصر يعدون
بالألوف! وأننا لم نر ولم نسمع أن أحدًا من أهل مصر اتبعهم، وإنما رأينا شابين
من شذاذ الآفاق يمدحانهم ويلهجان ببعض هذيانهم، ولكنهما ينكران الدخول في دينهم
فهما من منافقيهم، لهذا الكذب نرى بعض الناس في شك من عددهم ومن كيفية نشأتهم
فيا ليت أحد القراء الواقفين على تاريخهم من أهل إيران أو غيرهم يكتب لنا مجملاً في
تاريخهم من غير تجريح ولا ترجيح كما هو شأن المؤرخ المنصف.
وإننا نود أن نكتب مقالات مفصلة في بيان بطلان هذه الديانة، ولكننا لا نُقْدم
على ذلك إلا بعد مطالعة كتابيهما اللذين أشرنا إليهما آنفًا إذ لا يصح أن نبني الحكم
على ما سمعنا منهم؛ لأنهم في كل يوم يغيرون ويبدلون، فيا ليت أحد القراء في الهند
وإيران يمن علينا بهذين الكتابين.
__________(6/486)
غرة رجب - 1321هـ
22 سبتمبر - 1903م(6/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الكرامات والخوارق
المقالة الثامنة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التأويل والتعليل
(النوع الثاني عشر: إمساك اللسان عن الكلام وانطلاقه)
لم يذكر السبكي أمثلة لهذا النوع ولو ذكر شيئًا منها لوضح الحق من خلاله
أشد من وضوحه بالبحث فيه من غير ذكر للوقائع التي سماها كرامات وخوارق
عادات. والظاهر أنه يعني بإمساك اللسان وانطلاقه أن بعض الناس يحضر مجلس
الرجل الصالح فيريد الكلام فيحصر وتأخذ الحبسة لسانه لما يعروه من الهيبة
والإجلال ثم يزول ذلك بالأنس أو المباسطة. وهذا أمر يقع كل يوم من المعتقدين
مع الصالحين ومن المرؤوسين مع الرؤساء ومن أفراد الرعايا المهضومين مع
الأمراء. وما يقع منه بين رجال الأديان، ومَن يعتقد رياستهم الروحانية من المقلدين
كثير في كل أمة وملة ولكن كل فريق يعد هذا مزية له وكرامة من كراماته يجهل
حال الآخر؛ إذ العارف بأحوال الملل وشئون الناس لا يغتر ولا يستسلم للنصارى
وأهلها فالآفة الكبرى هي الجهل والجهل سياج الدجَّالين، ولذلك تراهم في كل ملة
يعادون العلم وينهون عنه ويزعمون أنه حجاب دون الدين، ومفسد لعقائد المؤمنين،
ويصدقهم في ذلك الجاهلون، ويتعصبون لهم على الذين يعلمون والذين يتعلمون.
* * *
(النوع الثالث عشر: جذب القلوب النافرة)
لم يذكر السبكي لهذا مثالاً أيضًا، وهو نحو الذي سبقه وأضعف منه؛ فإن
كثيرًا من أهل الشهرة ما نالوا شهرتهم إلا بجذب القلوب؛ وذلك أن في كل صنف
من الناس مَن له هذه الخاصية فمنهم من يختلب القلوب بمهابته، ومنهم من يسحر
الألباب ببلاغته، ومنهم من يستحوذ على النفوس بقوة روحه وتوجيه إرادته، ومنهم
من يخدع بعض البسطاء بزيه وشارته وقد رأيت بعيني كثيرًا من الناس ناقمين على
رجل من أهل الفضل منكرين عليه نافرين منه مسيئي الاعتقاد به وقد حضروا
مجلسه واحدًا بعد واحد وما منهم إلا وقد انجذب قلبه إليه وامتلأ هيبةً وإعظامًا له
وصار من المتعصبين له اللاهجين بالثناء عليه. والسبب في ذلك أن النفور الأول
كان لسوء ظنٍ أحدثه سماعُ كلام الحاسدين، ولما شاهدوا الرجل رأوه بالضد مما كانوا
سمعوا، رأوا فضلاً كبيرًا وعلمًا واسعًا وأمارات تنطق بحسن القصد وإخلاص
القلب من حيث كانوا يتوهمون خلاف ذلك فتحولت قلوبهم مرة واحدة. فهل نقول
إن هذا مِن باب الخوارق وننظمه في سلك الكرامات والسبب فيه معروف والعلة
ظاهرة؟ !
حَسْبُ العاقل دليلاً على فتنة الناس بمسألة الكرامات أن يرى العالم الأصولي
منهم (كالتاج السبكي) يعد ميل القلب إلى شخص بعد النفرة منه كرامة له، كأن
الفتنة قد سحرت النفوس وأفسدت العقول وأعمت الأبصار وأصمت المسامع
وساوت بين العَالِم والجاهل والذكي والغبي في عدم التمييز بين المعتاد وخارق
العادة والغفلة عن الوقائع المتشابهة المتماثلة في مثل هذا الأمر التي تقع لمن
يعتقدون كرامتهم ومَن يعتقدون كفرهم أو ابتداعهم، وفي طبقات السبكي كثير من
هذه الوقائع يحكيها هو والمؤرخون عن زعماء الفتن ودعاة البدع، ومؤسسي
المذاهب الباطلة والطرق المعوجة الملتوية، وما رأيت في التاريخ أشد جذبًا
بالنفوس، وتلاعبًا بالعقول من رجال طوائف الباطنية فلقد كانوا يفعلون بالألباب ما
لا تفعل الخمر، ويؤثرون في النفوس ما لا يؤثر عن فعل السحر.
فإن قال قائل: إن جذب أئمة الكفر وزعماء البدع قلوبَ بعض أتباعهم أو
بعضَ الضعفاء المستضعفين لقبول ضلالتهم هو من باب الاستدراج والإملاء
ليسترسلوا في غيهم حتى يأخذهم الله تعالى بالانتقام في الدنيا أو بالموت الذي
يسوقهم إلى الانتقام في الآخرة. وأما أولياء الله تعالى فإنهم يجذبون القلوب إلى
الحق ويؤثِّرون فيها تأثير الخير النافع، وبهذا كان جذبهم من الكرامة دون جذب
غيرهم.
ونقول في الجواب إننا نسلّم بأنَّ ما ذكرتم يصح أنْ يعد كرامة إذا سلمتم معنا
بأنَّ الكرامة ليست من الخوارق الحقيقية وإنما هي من الخصائص الشريفة النافعة
فإنَّ أمرًا يُعقل سببه وتعرف علته ويقع من جميع أصناف الناس ومن أهل كل ملة
ودين لا يصح للعاقل أنْ يجعله من خوارق العادات التي على غير النظام المعهود
والسنن المطردة ولكم بعد ذلك أن تأولوا ما يقع من ذلك للصالحين من أهل الملل
الأخرى فإنه يوجد في كل أمة الصالح والطالح كما لا يخفى على المنصف الخبير.
وإننا نختم الكلام في هذين النوعين - المهابة التي تمنع الكلام وجذب القلوب-
بشيء من العبرة بما كان لرؤساء الباطنية من الاحترام الروحي في نفوس
أتباعهم ولم يصل الصوفية الصادقون إلى مثل ذلك. قال المؤرخون: إنَّ الحسن
بن الصباح زعيم الإسماعيلية قد استهوى قلوب أتباعه واستحوذ على نفوسهم حتى
كانوا يطيعونه في السر والجهر ولو بما يذهب بأرواحهم. ولقد كان مِن أمره لمّا
أرسل السلطان يطلب منه الطاعة أنْ دعا نفرًا مِن أتباعه وقال لأحدهم: اقتلْ نفسك،
ففعل بدون توقف ولا تردد! وقال لآخر: ارمِ بنفسك مِن هذا الحصن، فرمى
بنفسه ومات! ثم التفت إلى رسول السلطان وقال له: قل لمولاك هكذا يطيعني
سبعون ألفًا من الرعايا الأمناء، فمَن كان هذا شأنه وهذه منزلته في نفوس أتباعه
فكيف تكون مهابته في نفس مَن يحضر مجلسه وكيف يكون انجذاب القلوب المعتقدة
بفضله أو المستعدة لقبول عقيدته إليه وتحويمها عليه؟
الصوفية الذين ينقل عنهم جذب القلوب والتسلط على نفوس المجالسين بالهيبة
والوقار كانت سيرتهم على مقربة من سيرة زعماء الباطنية؛ بل هم فرقة منهم
وتأثيرهم من نوع تأثيرهم، فالمؤرخ لا يكاد يفصل بين هذا وهذا إلا بالانتماء للمذاهب
المعينة كالإسماعيلية وغيرهم، وأما كلامهم في الدين وتفسيرهم للقرآن والحديث فإنه
متشابه؛ لأنهم يقولون فيه أقوالاً تنكرها اللغة وأساليبها وتأباها سيرة السلف الصالح
من الصحابة والتابعين وحجة الفريقين فيها واحدة وهي الاطلاع على الحقائق
الخفية، والوقوف على أسرار الدين الروحانية وقد سلم الناس لهم بذلك تسليمًا لا سيّما
بعد موت العلم بحمل الناس على التقليد وحظر الأخذ بالدليل عليهم، فمَن لا دليل له
يسلم لكل مَن يعظم الناس أمره. وما رأيت في أمر الذين يسمى صنفهم صنف
علماء الدين أعجب من تسليمهم لهؤلاء الباطنية الذين يدعون الولاية كل ما يقولونه
وإن لم توافق تقاليدهم فهم يسلمون لهم القول المخالف بغير دليل ويحجرون على
غيرهم المخالفة بالدليل. وأنت تعلم أنَّ مبنى علومهم كلها على الكشف وسيأتي الكلام
عليه مفصّلاً في النوع الرابع عشر، ولذلك جعلنا هذه المقالة مختصرة حتى نتمكن من
جعل الكلام في الكشف في جزء واحد.
هذا وقد كنت قرأت في بعض الجرائد أنَّ رجلاً دخل على أحد علماء الكهرباء
وهو في عمله وبين يديه الآلات والبطاريات فحدث في الكهربائية تأثُّر بدخوله لم
يبق في ذهني ما هو ذلك التأثر الذي شوهد في الآلات فقال العالم للرجل: أقبلْ
فأقبل ثم قال له: أدبرْ فأدبر فكان التأثر بإقباله غير التأثر بإدباره؛ إذ كان أحدهما
في الكهربائية الإيجابية والآخر في السلبية وكان لقربه أشد التأثير. فإذا صحت
الرواية فلا بد أنْ يكون هذا الاكتشاف مفتاحًا لمعرفة أسرار كثيرة كسر الحب
والبغض والتأثير في النفوس؛ فإن في كل أحد كهربائية ويظهر أنها في بعض
الناس أقوى منها في بعض فلا عجب إن كان صاحب الكهربائية القوية يؤثر في
صاحب الكهربائية الضعيفة وأن يكون لتوجيه الإرادة والهمة عملاً في قوة التأثير
ولا مانع مِن أنْ يكون لاختلاف الكهربائية في الشخصين شأن في الحب والبغض
فقد يبصر الإنسان الجمال البارع في شخص ويمقته بلا سبب ظاهر مع اعترافه
بجماله وقد يعشق ولا جمال. ومن الناس أفراد يستثقلهم كل أحد وأفراد يحبهم كل
مَن عرفهم ويعبّر الناس عن سبب الحب في هؤلاء بالجاذبية يقولون: فلان ذو
جاذبية وفلانة ذات جاذبية ويصفونهم بخفة الروح وخفة الدم. ومن الناس من
يهابهم كل من يجالسهم؛ وإنْ كان من أقرانهم ولعلَّ للكهربائية أثرًا في كل ذلك
تُظهره الأيام ويكشفه العلماء. فأين حديث الخوارق الكونية من هذه العلل
الطبيعية؟ !
ولا يهولنّ القارئ تأثير الإنسان في الآلات الكهربائية فقد ثبت أن للسنانير
تأثيرًا عجيبًا فيها، تنبهوا إلى هذا حين ثبت أنَّ قطًا وقف على سلك من أسلاك
المسرة (التليفون) فأبطل عمله. فإن قلت: إنه ما أثر فيه إلا باتصاله به فكيف
يؤثر الإنسان في كهربائية لم يتصل بآلاتها؟ أقول: لا يبعد أن ينتقل التأثير
بواسطة كهربائية الجو أو الهواء أو الأثير ونحن في عصر يتخاطب الناس فيه
بالكهربائية من غير واسطة الأسلاك وهو ما يسمونه (تلغراف ماركوني) فهل يليق
بأهل هذا العصر أن يقلّدوا الميتين من بضع مئين من السنين أو أكثر في مزاعم
غريبة عن العقل غير قريبة من الشرع، ويقولوا مع ذلك إن عقولهم أرقى من
عقولنا، وعلومهم أغزر من علومنا، كلا، إنما يرضى بهذا مَن احتقر نعمة الله
على أهل عصره، وسجل الخِزْيَ والخَسار على نفسه، فأنكر كرامة الله له ليثبت
كرامته لآخرين، وخسر بجهله الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.
__________(6/496)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
لما نشرنا تلك المحاورات بين المصلح والمقلد في بحث الاجتهاد والتقليد
ووحدة الأمة الإسلامية في المجلدين الثالث والرابع من المنار كتب إلينا بعض
الفضلاء من قراء المنار في البحرين يسألنا: هل اطَّلعتم على كتاب (إعلام
الموقعين) للإمام ابن القيم؟ فأجبناه أننا لم نطّلع عليه ولكننا رأينا في بعض الكتب
نقلاً عنه عرفنا به مكانته. فكتب إلينا ثانيًا أنَّ فيه مناظرة بين مقلد وصاحب دليل
كالمناظرة التي نشرتموها وأننا سنرسل إليكم نسخة منه، ولم يلبث أن أرسلها وكانت
مقالات المحاورات قد تمَّت. وقد رأينا الآن أنْ ننشر هذه المناظرة أيضًا لأن هذا
المبحث أهم المباحث، والاجتهاد ركن من أركان الإصلاح بل هو أقوى أركانه.
ولقد أورد المصنف شبه المقلد كلها سردًا ثم ذكر حجج متبع الدليل الناهضة
والناقضة لأقوال المقلد وشبهة واحدة بعد واحدة ولذلك نترك شبهات المقلد خشية
التكرار ونبتدئ بالحجج فنقول: قال المؤلف رحمه الله تعالى ونفعنا به:
(قال أصحاب الحجة) عجبًا لكم معاشر المقلدين الشاهدين على أنفسهم مع
شهادة أهل العلم بأنهم ليسوا من أهله ولا معدودين في زمرة أهله كيف أبطلتم
مذهبكم بنفس دليلكم فما للمقلد وما للاستدلال وأين منصب المقلد من منصب
المستدل وهل ذكرتم من الأدلة إلا ثيابًا استعرتموها من صاحب الحجة فتجملتم بها
بين الناس وكنتم في ذلك متشبعين بما لم تُعطوه، ناطقين من العلم بما شهدتم على
أنفسكم أنكم لم تؤتوه، وذلك ثوب زور لبِستموه، ومنصب لستم من أهله غصبتموه،
فأخبرونا هل صرتم إلى التقليد لدليل قادكم إليه، وبرهان دلكم عليه، فنزلتم من
الاستدلال أقرب منزل، وكنتم به عن التقليد بمعزل، أم سلكتم سبيله اتفاقًا وتخمينًا
من غير دليل، وليس إلى خروجكم من أحد هذين القسمين سبيل، وأيُّهما كان فهو
بفساد مذهب التقليد حاكم، والرجوع إلى مذهب الحجة منه لازم، ونحن إن
خاطبناكم بلسان الحجة قلتم لنا لسنا من أهل هذه السبيل، وإنْ خاطبناكم بحكم التقليد
فلا معنى لِما أقمتم من الدليل.
والعجب أن كل طائفة من الطوائف وكل أمة من الأمم تدّعي أنها على حق
حاشا فرقة التقليد فإنهم لا يدّعون ذلك ولو ادّعوه لكانوا مُبطلين فإنهم شاهدون على
أنفسهم بأنهم لم يعتقدوا تلك الأقوال لدليل قادهم إليه، وبرهان دلَّهم عليه، وإنما
سبيلهم محض التقليد. والمقلد لا يعرف الحق من الباطل، ولا الحالي من العاطل.
وأعجب من هذا أن أئمتهم نهوهم عن تقليدهم فعصوهم وخالفوهم وقالوا نحن
على مذاهبهم وقد دانوا بخلافهم في أصل المذهب الذي بنوا عليه فإنهم بنوا على
الحجة ونهوا عن التقليد وأَوْصُوهم إذا ظهر الدليل أنْ يتركوا أقوالهم ويتَّبعوه
فخالفوهم في ذلك كله وقالوا نحن من أتباعهم، تلك أمانيُّهم وما أتباعهم إلا مَن سلك
سبيلهم واقتفى آثارهم في أصولهم وفروعهم. وأعجب من هذا أنهم مصرّحون في
كتبهم ببطلان التقليد وتحريمه وأنه لا يحل القول به في دين الله ولو اشترط الإمام
على الحاكم أن يحكم بمذهب معين لم يصح شرطه ولا توليته ومنهم مَن صحَّح
التولية وأبطل الشرط. وكذلك المفتي يَحْرُم عليه الإفتاء بما لا يعلم صحته باتفاق
الناس، والمقلد لا علم له بصحة القول وفساده؛ إذ طريق ذلك مسدودة عليه. ثم
كل منهم يعرف من نفسه أنه مقلد لمتبوعه لا يفارق قوله ويترك له كل ما خالفه من
كتاب أو سنة أو قولِ صاحبٍ أو قولِ مَن هو أعلم من متبوعه أو نظيره وهذا من
أعجب العجب.
(وأيضًا) فإنا نعلم بالضرورة أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد
اتخذ رجلاً منهم يقلده في جميع أقواله فلم يسقط منها شيئًا، وأسقط أقوال غيره فلم
يأخذ منها شيئًا، ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في التابعين ولا تابعي التابعين
فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما حدثت هذه الفتنة في القرن الرابع
المذموم على لسانه صلى الله عليه وآله وسلم فالمقلدون لمتبوعيهم في جميع ما قالوه
يبيحون به الفروج والدماء والأموال ويحرمونها، ولا يدرون أذلك صواب أم خطأ
على خطر عظيم ولهم بين يدي الله موقف شديد يعلم فيه مَن قال على الله ما لا يعلم
أنه لم يكن على شيء.
(وأيضًا) فنقول لكل من قلد واحدًا من الناس دون غيره: ما الذى خص
صاحبك أن يكون أولى بالتقليد من غيره؟ فإن قال: لأنه أعلم أهل عصره. وربما
فضَّله على مَنْ قبله مع جزمه الباطل أنه لم يجئ بعده أعلم منه. قيل له: وما
يدريك - ولست مِن أهل العلم بشهادتك على نفسك - أنه أعلم الأمة في وقته فإن
هذا إنما يعرفه مَن عرف المذاهب وأدلتها وراجحها ومرجوحها، فما للأعمى ونقد
الدراهم! وهذا أيضًا باب آخر من القول على الله بلا علم.
ويقال له (ثانيًا) فأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن
مسعود وأُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وعائشة وابن عباس وابن عمر رضي
الله عنهم أعلم من صاحبك بلا شك فهلاّ قلدتهم وتركته بل سعيد بن المسيب
والشعبي وعطاء وطاوس وأمثالهم أعلم وأفضل بلا شك فلِمَ تركت تقليد الأعلم
والأفضل والأجمع لأدوات الخير والعلم والدين ورغبت عن أقواله ومذاهبه إلى مَن
هو دونه فإنْ قال: لأن صاحبي ومن قلدته أعلم به مني فتقليدي له أوجب على
مخالفة قوله لقول من قلدته؛ لأن وفور علمه ودينه يمنعه من مخالفة مَن هو فوقه
وأعلم منه إلا لدليل صار إليه هو أولى مِن قول كل واحد من هؤلاء، قيل له: ومِن
أين علمت أنَّ الدليل الذي صار إليه صاحبك الذي زعمت أنت أنه صاحبك أولى من
الدليل الذي صار إليه مَن هو أعلم منه وخير منه أو هو نظيره، وقولان معًا
متناقضان لا يكونان صوابًا بل أحدهما هو الصواب ومعلوم أن ظفر الأعلم الأفضل
بالصواب أقرب مِن ظفر مَن هو دونه، فإن قلت: علمت ذلك بالدليل فههنا إذًا فقد
انتقلت عن منصب التقليد إلى منصب الاستدلال وأبطلت التقليد.
ثم يقال لك (ثالثًا) هذا لا ينفك شيئًا ألبتة فيما اختلف فيه فإنَّ مَن قلّدته ومَن
قلَّده غيرك قد اختلفا وصار مَن قلده غيرك إلى موافقة لأبي بكر وعمر أو علي وابن
عباس أو عائشة وغيرهم دون مَن قلدته فهلاّ نصحت نفسك وهُدِيتَ لرشدك وقلت:
هذان عالمان كبيران ومع أحدهما مَن ذكر من الصحابة فهو أولى بتقليدي إياه.
ويقال له (رابعًا) إمام بإمام ويسلم قول الصحابي فيكون أولى بالتقليد.
ويقال (خامسًا) إذا جاز أن يظفر مَن قلدته بعلم خَفِيَ على عمر بن الخطاب
وعلى علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود ودونهم فأحق وأحق فأجوز وأجوز
أن يظفر نظيره ومَن بعده بعلم خُفِيَ عليه هو فإن النسبة بين مَن قلّدته وبين نظيره
ومَن بعده أقرب بكثير مِن النسبة بين مَن قلّدته وبين الصحابة. والخفاء على مَن
قلّدته أقرب من الخفاء على الصحابة.
ويقال (سادسًا) إذا سوغت لنفسك مخالفة الأفضل الأعلم بقول المفضول فهلاّ
سوغت لها مخالفة المفضول لمن هو أعلم منه وهل كان الذي ينبغي ويجب إلا
عكس ما ارتكبت؟ !
ويقال (سابعًا) هل أنت في تقليد إمامك وإباحة الفروج والدماء والأموال
ونقلها عمن هي بيده إلى غيره موافق لأمر الله أو رسوله أو إجماع أمته أو قول أحد
من الصحابة؟ فإن قال: نعم، قال: ما يعلم الله ورسوله وجميع العلماء بطلانه
وإن قال: لا، فقد كفانا مؤنته وشَهِدَ على نفسه بشهادة الله ورسوله وأهل العلم عليه.
ويقال (ثامنًا) تقليدك لمتبوعك يحرم عليك تقليده فإنه نهاك عن ذلك وقال لا
يحل لك أنْ تقول بقوله حتى تعلم مِن أين قاله ونهاك عن تقليده وتقليد غيره مِن
العلماء فإن كنت مقلدًا له في جميع مذهبه فهذا مِن مذهبه فهلاّ اتبعته فيه؟ !
ويقال (تاسعًا) هل أنت على بصيرة في أنَّ مَن قلدته أولى بالصواب من
سائر مَن رغبت عن قوله من الأولين والآخرين أم لست على بصيرة؟ فإن قال:
أنا على بصيرة، قال ما يعلم بطلانه. وإنْ قال: لست على بصيرة وهو الحق
قيل له: فما عذرك غدًا بين يدي الله حين لا ينفعك مَن قلّدته بحسنة واحدة ولا
يحمل عنك سيئة واحدة إذا حكمت وأفتيت بين خلقه بما لست على بصيرة منه هل
هو صواب أم خطأ؟
ويقال (حادي عشر) هل تقول إذا أفتيت وحكمت بقول مَن قلّدته: إنَّ هذا
هو دين الله الذي أرسل به رسوله وأنزل به كتابه وشرعه لعباده ولا دين له سواه؟
أو تقول: إنَّ دين الله الذي شرعه لعباده خلافه؟ أو تقول: لا أدري؟ ولا بد لك
مِن قولٍ مِن هذه الأقوال ولا سبيل لك إلى الأول قطعًا فإنَّ دين الله الذي لا دين له
سواه ولا تسوغ مخالفته [1] وأقل درجات مخالفه أن يكون من الآثمين والثاني لا
تدعيه فليس لك ملجأ إلا الثالث. فيالله العجب كيف تستباح الفروج والدماء
والأموال والحقوق وتحلل وتحرم بأمر أحسن أحواله وأفضلها (لا أدري) :
فإنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ ... وإنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالمُصِيبَةُ أَعْظَمُ
ويقال (ثاني عشر) على أي شيء كان الناس قبل أن يولد فلان وفلان وفلان
الذين قلدتموهم وجعلتم أقوالهم بمنزلة نصوص الشارع وليتكم اقتصرتم على ذلك بل
جعلتموها أولى بالاتباع من نصوص الشارع؟ أفكان الناس قبل وجود هؤلاء على
هدى أو على ضلالة؟ فلابد من أن تقرّوا بأنهم كانوا على هدى فيقال لكم فما الذي
كانوا عليه غير اتباع القرآن والسنن والآثار وتقديم قول الله ورسوله وآثار الصحابة
على ما يخالفها والتحاكم إليها دون قول فلان أو رأي فلان؟ وإذا كان هذا هو الهدى
فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنَّى تؤفكون؟ فإن قالت كل فرقة من المقلدين وكذلك
يقولون: صاحبنا هو الذي ثبت على ما مضى عليه السلف واقتفى منهاجهم وسلك
سبيلهم، قيل لهم: فمن سواه من الأئمة هل شارك صاحبكم في ذلك أو انفرد
صاحبكم بالاتباع، وحُرِمَهُ مَن عداه فلا بد من واحد من الأمرين؟ فإن قالوا بالثاني
فهم أضل سبيلاً من الأنعام وإن قالوا بالأول فيقال: فكيف وقفتم لقبول قول صاحبكم
كله ورد قول مَن هو مثله أو أعلم منه كله فلا يرد لهذا قول ولا يقبل لهذا قول
حتى كأن الصواب وقف على صاحبكم والخطأ وقف على مَن خالفه ولهذا أنتم
موكلون بنصرته في كل ما قاله وبالرد على ما خالفه في كل قاله وهذه حال الفرقة
الأخرى معكم.
ويقال (ثالث عشر) فمن قلدتموه من الأئمة قد نهوكم عن تقليدهم، فأنتم أول
مخالف لهم، قال الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل،
يحمل حزمة حطب، وفيه أفعى تلدغه، وهو لا يدري! وقال أبو حنيفة
وأبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه؟ وقال أحمد:
لا تقلد دينك أحدًا.
ويقال (رابع عشر) هل أنتم موقنون بأنكم غدًا موقوفون بين يدي الله
وتُسألون عما قضيتم به في دماء عباده وفروجهم وأبشارهم وأموالهم وعما أفنيتم به
في دينه محرّمين ومحللين وموجبين؟ فمَن قولهم نحن موقنون بذلك. فيقال لهم:
فإذا سألكم من أين قلتم ذلك فماذا جوابكم؟ فإن قلتم جوابنا أنا حلّلنا وحرّمنا وقضينا
بما في كتاب الأصل لمحمد بن الحسن مما رواه عن أبي حنيفة وأبي يوسف من
رأي واختيار، وبما في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم من رأي واختيار،
وبما في الأم من رواية الربيع من رأي واختيار، وبما في جوابات غير هؤلاء
من رأي واختيار، وليتكم اقتصرتم على ذلك أو صعدتم إليه أو سَمَت همتُكم نحوه،
بل نزلتم عن ذلك طبقات، فإذا سُئلتم: هل فعلتم ذلك عن أمري أو أمر رسولي فماذا
يكون جوابكم إذًا؟ فإنْ أمكنكم حينئذٍ أنْ تقولوا: فعلنا ما أمرتنا به وأَمَرَنا به رسولك
فزتم وتخلصتم , وإنْ لم يمكنكم ذلك فلا بد أنْ تقولوا لم تأمرنا بذلك ولا رسولك
ولا أئمتنا ولا بد من أحد الجوابين وكأنْ قد.
ويقال (خامس عشر) إذا نزل عيسى ابن مريم إمامًا عدلاً وحكمًا مقسطًا
فبمذهب مَن يحكم وبرأي مَن يقضي، ومعلوم أنه لا يحكم ولا يقضي إلا بشريعة
نبينا صلى الله عليه وآله وسلم التي شرعها الله لعباده، فذلك الذي يقضي به أحق
وأولى الناس به عيسى ابن مريم هذا الذي أوجب عليكم أن تقضوا به وتفتوا. ولا
يحل لأحد أن يقضي ولا يفتي بشيء سواه ألبتة. فإن قلتم: نحن وأنتم في هذا
السؤال سواء. قيل: أجل؛ ولكن نفترق في الجواب فنقول: يا ربنا إنك لتعلم أنا لم
نجعل أحدًا من الناس عيارًا على كلامك وكلام رسولك ونرد ما تنازعنا فيه إليه،
ونتحاكم إلى قوله ونقدم أقواله على كلامك وكلام رسولك وكلام أصحاب رسولك
وكان الخلق عندنا أهون أنْ نقدم كلامهم وآراءهم على وحيك بل أفتينا بما وجدناه
في كتابك وبما وصل إلينا مِن سنة رسولك وبما أفتى به أصحاب نبيك وإن عدلنا
عن ذلك فخطأ منا لا عمد. ولم نتخذ من دونك ولا دون رسولك ولا المؤمنين وليجة،
ولم نفرق ديننا ونكن شيعًا، ولم نُقَطِّعْ أمرنا بيننا زُبرًا. وجعلنا أئمتنا قدوة لنا
ووسائط بيننا وبين رسولك في نقلهم ما بلّغوه إلينا عن رسولك فاتبعناهم في ذلك
وقلدناهم فيه إذ أَمَرْتنا أنت وأمرنا رسولُك بأنْ نسمع منهم ونقبل ما بلغوه عنْك وعن
رسولك فسمعًا لك ولرسولك وطاعة [2] ، ولم نتخذهم أربابًا نتحاكم إلى أقوالهم
ونخاصم بها ونوالي ونعادي عليها؛ بل عرضنا أقوالهم على كتابك وسنة رسولك،
فما وافقهما قبلناه، وما خالفهما أعرضنا عنه وتركناه، وإنْ كانوا أعلم منا بك
وبرسولك فمَن وافق قوله قول رسولك كان أعلم منهم في تلك المسألة فهذا جوابنا.
ونحن نناشدكم اللهَ: هل أنتم كذلك حتى يمكنكم هذا الجواب بين يدي مَن لا
يبدَّل القولُ لديه، ولا يروج الباطل عليه.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ)) ...
__________
(1) هكذا الأصل ولعله سقط شيء هنا كقوله: (هو كتابه وسنة رسوله) .
(2) المنار: يريد أن الذي يؤخذ عن الأئمة هو ما ينقلونه عن الشارع لا آراؤهم.(6/500)